داود، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: (صليت خلف ابن عمر، فلم يكن يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى من الصلاة خاصة) ، فلم يترك ابن عمر الرفع فى خفض ورفع، وقد رأى الرسول يفعله، إلا وقد فهم أن ذلك من فعله على الإباحة والتخيير، يدل على ذلك ما روى مالك، عن أبى جعفر القارئ، ونعيم المجمر أنهما أخبراه أن أبا هريرة كان يصلى بهم، ويكبر كلما خفض ورفع، وكان يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، ويقول: والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فلما روى ذلك كله عن الرسول لم يكن فى ذلك شىء أولى من حمل الآثار على الإباحة إن لم يثبت فيها النسخ. والدليل على ذلك أن من رفع لم ينكر عليه من لم يرفع، غير أنه يرجح القول بفعل الخليفتين بعد النبى، عليه السلام، عمر، وعلى بن أبى طالب، وإن كان قد اختلف فيه عن على، فلم يختلف فيه عن عمر، قال الطحاوى: بل قد ثبت ذلك عنه، أفترى عمر خفى عليه أن نبى الله كان يرفع يديه فى الركوع، وعلم ذلك من هو دونه أو من هو معه يراه يفعل غير ما كان رسول الله يفعله ولا ينكر ذلك عليه؟ هذا محال، فهذا وجهه من طريق الآثار. قال الطحاوى: وأما وجهه من طريق النظر، فإنهم أجمعوا أن تكبيرة الافتتاح معها رفع، وأن التكبير بين السجدتين لا رفع معه، واختلفوا فى تكبيرة النهوض وتكبيرة الرفع، فقال قوم: حكمها حكم تكبيرة الافتتاح فى الرفع، وقال آخرون: حكمها حكم التكبير بين السجدتين فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها، ورأينا تكبيرة الافتتاح(2/355)
من صلب الصلاة، ولا تجزئ الصلاة إلا بإصابتها، فرأينا التكبير بين السجدتين ليس كذلك؛ لأنها لو تركها تارك لم تفسد صلاته، فأشبه تكبير الركوع فى ذلك لإجماعهم أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة، فكانتا كهى فى أنه لا رفع فيهما كما لا رفع فيها. قال المهلب فى معنى رفع اليدين فى افتتاح الصلاة: إنما هو علم للتكبير؛ ليرى حركة اليدين من لم يسمع التكبير، فيعرف أن الإمام كبر، فيوقع إحرامه بعد إمامه، وأما غير ذلك من التكبير فهو بحركات فيستوى الناس كلهم فيها. واختلفوا إلى أين يرفع المكبر يديه، فقال مالك: يرفعهما حذو منكبيه، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث ابن عمر، وقال أبو حنيفة: يرفع يديه حذو أذنيه، واحتجوا بما رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب قال: (كان نبى الله إذا كبر للافتتاح رفع يديه حتى تكون إبهاماه قريبًا من شحمتى أذنيه) ، ورواه مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر عن الرسول. قال ابن القصار: فيحمل حديث ابن عمر على الاختيار وحديث البراء على الجواز. وقال الطحاوى: إنما كان الرفع إلى المنكبين فى حديث ابن عمر وقت كانت يداه فى ثيابه بدليل ما رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: (أتيت النبى، عليه السلام، فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه إذا كبر، ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها، وأشار شريك إلى صدره) ، فأخبر وائل أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت فى ثيابهم، وأن رفعهم أيديهم إلى آذانهم كان حين كانت(2/356)
أيديهم بادية، ولم يجز أن يجعل حديث ابن عمر وما أشبهه، الذى فيه الرفع إلى المنكبين، كان واليدان باديتان، لئلا تتضاد الآثار، وحملها على الاتفاق أولى، ويكون حديث وائل من رفعه إلى أذنيه فى غير حال البرد.
74 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ
/ 108 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَفَعَه إِلَى النَبِيِّ عليه السلام. ورَوَاهُ عبيد الله وأَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عن نافع. والرفع عند القيام زيادة فى هذا الحديث على ما رواه ابن شهاب، عن سالم فيه، يجب قبولها لمن يقول بالرفع، وليس فى حديث ابن شهاب، ما يدفعها بل فيه ما يثبتها، وهو قوله: وكان لا يفعل ذلك بين السجدتين، فدليله أنه كان يفعلها فى كل خفض ورفع ما عدا السجود، وكان أحمد بن حنبل لا يرفع بين السجدتين، ولا عند القيام من الركعتين، وهو ممن يقول بالرفع فى كل خفض ورفع، فيمكن أن يرد عليه البخارى بهذا الحديث.
75 - باب وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ
/ 109 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: لا أَعْلَمُهُ إِلا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى رسول الله.(2/357)
اختلف العلماء فى هذا الباب، فممن روى عنه وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة: أبو بكر الصديق، وعلى بن أبى طالب، وهو قول الثورى والكوفيين، وقال ابن حبيب: سألت مطرفًا، وابن الماجشون عن ذلك فقالا: لا بأس به فى المكتوبة والنافلة، وروياه عن مالك، ورواه أشهب، وابن نافع، وابن وهب، عن مالك أيضًا، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو من باب الخشوع. وقال عطاء: من شاء فعل ذلك، ومن شاء تركه، وهو قول الأوزاعى. ورأت طائفة إرسال اليدين فى الصلاة، روى ذلك عن ابن الزبير، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، ورأى سعيد بن جبير رجلاً يصلى واضعًا يمينه على شماله، فذهب ففرق بينهما. وروى ابن القاسم عن مالك قال: لا أحبه فى المكتوبة ولا بأس به فى النوافل من طول القيام. وحجة أهل المقالة الأولى حديث سهل بن سعد، وقد روى ابن مسعود، ووائل بن حجر، ووالد قبيصة، عن النبى، عليه السلام، مثل حديث سهل بن سعد، وقال على بن أبى طالب: ذلك من السنة، وقال فى قوله تعالى: (فصل لربك وانحر) [الكوثر: 2] ، قال: وضع اليمين على الشمال فى الصلاة تحت الصدور، وروى أن ابن عمر كان يفعله. قال ابن القصار: ووجه قول من كره ذلك أنه عمل فى الصلاة، وربما شغل صاحبه، وربما دخله ضرب من الرياء، وقد علم النبى،(2/358)
عليه السلام، الأعرابى الصلاة ولم يأمره بوضع اليد على اليد، فإن قيل: إن وضعها من الخشوع، قيل: الخشوع لله، تعالى، الإقبال عليه والإخلاص فى الصلاة. وقوله: ينمى يعنى يرفع.
76 - باب الْخُشُوعِ فِي الصَّلاةِ
/ 110 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ ، وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ، وَلا خُشُوعُكُمْ، وَإِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءَ ظَهْرِي) . / 111 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ: (أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي - وَرُبَّمَا قَالَ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي - إِذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ) . قال المؤلف: مدح الله تعالى، من كان خاشعًا فى صلاته مقبلاً عليها بقلبه، قال تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون) [المؤمنون: 1، 2] ، وقال على بن أبى طالب: الخشوع فى القلب وأن لا تلتفت فى صلاتك، وقال ابن عباس: (الذين هم فى صلاتهم خاشعون (، يعنى: خائفين ساكنين. فإن قال قائل: الخشوع فرض فى الصلاة. قيل له: بحسب الإنسان أن يقبل على صلاته بقلبه ونيته ويريد بذلك وجه الله ولا طاقة له فيما اعترض من الخاطر، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنى لأجهز جيشى فى الصلاة، رواه حفص بن غياث، عن عاصم، عن أبى عثمان النهدى، عن عمر.(2/359)
وروى حفص عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: إنى لأحسب جزية البحرين وأنا فى صلاتى. قال المهلب: وفى حديث هذا الباب النهى عن نقصان الركوع والسجود لتوعد الرسول لهم على ذلك. وفيه: دليل أن الطمأنينة والاعتدال فى الركوع والسجود من سنن الصلاة وليس من فروضها؛ لأن الرسول لم يأمر هؤلاء الذين قال لهم: (لم يخف على ركوعكم ولا سجودكم) ، بالإعادة، ولو كان من فروض الصلاة ما سكت عن إعلامهم بذلك؛ لأن فرضا عليه البيان لأمته، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى باب أمر النبى الذى لا يتم ركوعه بالإعادة فى أبواب الركوع بعد هذا، إن شاء الله.
77 - باب مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ
/ 112 - فيه: أَنَسِ: (أَنَّ نَّبِيَّ الله، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاةَ بِ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة 2] ) . / 113 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَ الرَسُولُ كان يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً - قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: هُنَيَّةً - فَقُلْتُ: بِأَبِي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: (أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) . قال المؤلف: حديث أنس حجة لمن قال: لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فى صلاة فى أول فاتحة الكتاب، وهو قول مالك والأوزاعى.(2/360)
وقال ابن أبى ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هى آية من فاتحة الكتاب. ومن حجة أهل المقالة الأولى: أن الطريق إلى إثبات آية من السورة كالطريق إلى إثبات السورة بعينها، وقد حصل لنا العلم الضرورى بنقل الكافة أن الحمد سورة من القرآن ولم يقع لنا العلم الضرورى أن بسم الله الرحمن الرحيم آية منها، فلا يجوز إثبات قرآن إلا بنقل الكافة، ووجدنا أهل المدينة بأسرهم ينفون كونها من فاتحة الكتاب مع اتصال القارئ بقراءتها فى كل صلاة، وسائر الأئمة على إقامة الصلوات من لدن رسول الله إلى وقتنا هذا وليس هذا مما يُنسى أو يقع فيه قلة ضبط؛ لأن هذا أشهر من الأجناس وزكاة الخضر والمُدّ والصاع الذى يحتج به مخالفنا فى هذه المسألة على مخالفته؛ ألا ترى قول أنس أن الرسول وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وقوله: كانوا يفتتحون إخبار عن فعل دائم، وقد قال عروة بن الزبير، وعبد الرحمن الأعرج: أدركنا الأئمة وما يفتتحون الصلاة إلا بالحمد لله رب العالمين. قال الطحاوى: وقد رأيناها مكتوبة فى فواتح السور فى فاتحة الكتاب وفى غيرها وكانت فى غير فاتحة الكتاب ليست بآية، فثبت أنها أيضًا فى فاتحة الكتاب ليست بآية. وأما حديث السكتة فى حديث أبى هريرة، فإن الأوزاعى، والشافعى، وأحمد بن حنبل يقولون بها، وقال الشافعى: أحب للإمام أن يكون له سكتة بين التكبير والقراءة، ليقرأ فيها المأموم بالحمد لله رب العالمين. وقال مالك والكوفيون: لا شىء بعد التكبير إلا قراءة فاتحة الكتاب، وحديث أبى هريرة يرد العلة التى علل بها الشافعى هذه السكتة؛ لأن أبا هريرة سأل الرسول عنها فقال: أقول: (اللهم باعد(2/361)
بينى وبين خطاياى. . .) ، الحديث، ولو كانت ليقرأ من وراء الإمام فيها لقال عليه السلام، إنى أسكت لكى يقرأ من ورائى: (الحمد لله رب العالمين) ، فبين عليه السلام أن السكتة لغير ما قال الشافعى، واستحب أبو حنيفة، ومحمد أن يسبح بعد التكبير، وقال أبو يوسف: يسبح ويقول: (وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض) [الأنعام: 79] الآية، وقال الشافعى: يقول: وجهت وجهى ولا يسبح. وقال مالك: إنما يجب التكبير، ثم القراءة ولو كانت هذه الإسكاتة مما واظب عليها النبى، عليه السلام، لم يخف ذلك، ولنقلها أهل المدينة عيانًا وعملاً، فيحتمل أن يكون عليه السلام، فعلها فى وقت ثم تركها تخفيفًا عن أمته، فتركها واسع. والهُنَيَّة: كل شىء صغير ندر من شىء، قال الفسوى: يقال: هن يهن من الدهر وهننى هنة. وقوله: هنيةً من الدهر مصروف إلى هننى. قال ثعلب: هنية، قال: وهو الأكثر فى كلامهم؛ لأنهم يؤقتون هذا الحد، فيقولون: مضت برهة من الدهر وحقبة، قال الفسوى: وقد يجوز أن يكون هنيهة، والأجود هنيّةً، فأما هنيئة فبالهمز.
78 - باب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى الإمَامِ فِي الصَّلاةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رسول الله فِي صَلاةِ الْكُسُوفِ: (فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ) .(2/362)
/ 114 - فيه: خَبَّابٍ: (كَنَا نعرف قراءة رَسُولُ اللَّهِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ) . / 115 - وفيه: الْبَرَاءُ: (أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا مَعَ الرسول، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامُوا قِيَامًا، حَتَّى يَرَوْنَهُ قَدْ سَجَدَ) . / 116 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَصَلَّى، فقَلُنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، قَالَ: (رَأَيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأكَلْتُ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا) . اختلف العلماء أى موضع ينظر المصلى فى صلاته، فقال الكوفيون، والشافعى، وإسحاق، وأبو ثور: ينظر إلى موضع سجوده. وروى ذلك عن إبراهيم، وابن سيرين، وقال الشافعى: هو أقرب إلى الخشوع، وقال مالك: ينظر إلى إمامه وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم، ولا يحد فى موضع نظره حدًا، وأحاديث هذا الباب حجة لمالك. قال المهلب: لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه السلام، ما رأوا تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلوا بذلك على قراءته، ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله ما تناول فى قبلته حين مثلت له الجنة، ومثل هذا الحديث قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ؛ لأن الائتمام به لا يكون إلا بمراعاة حركاته فى خفضه ورفعه. قال غيره: وإنما لم يأخذ العنقود، والله أعلم، لأنه كان من طعام الجنة، وطعام الجنة لا يفنى، ولا يجوز أن يؤكل فى الدنيا إلا ما يفنى؛ لأن الله خلقها للفناء، فلا يكون فيها شىء من أمور البقاء.(2/363)
79 - بَاب رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاةِ
/ 117 - فيه: أَنَسَ: قَالَ رسول الله: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ) . العلماء مجمعون على القول بهذا الحديث وعلى كراهية النظر إلى السماء فى الصلاة، وقال ابن سيرين: كان رسول الله مما ينظر إلى السماء فى الصلاة، فيرفع بصره حتى نزلت آية إن لم تكن هذه فما أدرى ما هى: (الذين هم فى صلاتهم خاشعون) [المؤمنون: 2] ، قال: فوضع النبى رأسه. وقال شريح لرجل رآه رفع بصره ويده إلى السماء: اكفف يدك واخفض بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله. وذكر الطبرى عن إبراهيم التيمى أنه قال: كان يكره أن يرفع الرجل بصره إلى السماء فى الدعاء، يعنى: فى غير الصلاة.
80 - بَاب الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ
/ 118 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاةِ، فَقَالَ: (هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاةِ الْعَبْدِ) . / 119 - وفيه: عَائِشَةَ أَنَّ نَّبِيَّ الله صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَقَالَ: (شَغَلَتْنِي أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ) .(2/364)
الالتفات فى الصلاة مكروه عند العلماء، وذلك أنه إذا أوما ببصره وثنى عنقه يمينًا وشمالاً ترك الإقبال على صلاته، ومن فعل ذلك فقد فارق الخشوع المأمور به فى الصلاة، ولذلك جعله النبى اختلاسًا للشيطان من الصلاة، وأما إذا التفت لأمرٍ يَعِنُّ له من أمر الصلاة أو غيرها فمباح له ذلك وليس من الشيطان، والله أعلم. وقال المهلب: قوله: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) ، هو حض على إحضار المصلى ذهنه ونيته لمناجاة ربه، ولا يشتغل بأمر دنياه، وذلك أن العبد لا يستطيع أن يخلص صلاته من الفكر فى أمور دنياه؛ لأن الرسول قد أخبر أن الشيطان يأتى إليه فى صلاته، فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا؛ لأن موكل به فى ذلك، وقد قال عليه السلام: (من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له) ، وهذا لمغالبته الإنسان، فمن جاهد شيطانه ونفسه وجبت له الجنة، وقد نظر عليه السلام، إلى أعلام الخميصة وقال: (إنها شغلتنى) ، فهذا مما لا يستطاع على دفعه فى الأعم، وقد اختلف السلف فى ذلك فممن كان لا يلتفت فى الصلاة أبو بكر وعمر، وقال ابن مسعود: إن الله لا يزال مقبلاً على العبد ما دام فى صلاته ما لم يحدث أو يلتفت. ونهى عنه أبو الدرداء، وأبو هريرة، وقال عمرو بن دينار: رأيت ابن الزبير يصلى فى الحجر، فجاءه حجر قدامه فذهب بطرف ثوبه، فما التفت. وقال ابن أبى مليكة: إن ابن الزبير كان يصلى بالناس، فدخل سيل فى المسجد فما أنكر الناس من صلاته شيئًا حتى فرغ منها. وقال الحكم: من تأمل من يمينه أو شماله فى الصلاة(2/365)
حتى يعرفه فليست له صلاة، وقال أبو ثور: إن التفت ببدنه كله أفسد صلاته. وقال الحسن البصرى: إذا استدبر الرجل القبلة استقبل صلاته، وإن التفت عن يمينه أو شماله مضى فى الصلاة. ورخصت فيه طائفة، فقال ابن سيرين: رأيت أنس بن مالك يشرف إلى الشىء فى صلاته ينظر إليه. وقال معاوية بن قرة: قيل لابن عمر: إن ابن الزبير إذا قام فى الصلاة لم يتحرك ولم يلتفت فقال: لكنا نتحرك ونلتفت، وكان إبراهيم يلحظ يمينًا وشمالاً، وكان ابن معقل يفعله. وقال عطاء: الالتفات لا يقطع الصلاة، وهو قول مالك، والكوفيين، والأوزاعى. وقال ابن القاسم: وإن التفت بجميع جسده لا يقطع الصلاة. والحجة لنا أن نبى الله لم يأمر منه بالإعادة حين أخبر أنه اختلاس من الشيطان، ولو وجبت فيه الإعادة لأمرنا بها؛ لأنه بعث معلمًا، كما أمر الأعرابى بالإعادة مرة بعد أخرى.(2/366)
81 - باب هَلْ يَلْتَفِتُ لأمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ أَوْ يَرَى شَيْئًا أَوْ بُزَاقًا فِي الْقِبْلَةِ
وَقَالَ سَهْلٌ: الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَأَى النَّبِيَّ عليه السلام. / 120 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: رَأَى رسول الله نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ انْصَرَفَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ، إِذَا كَانَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلا يَتَنَخَّمَنَّ أَحَدكم قِبَلَ وَجْهِهِ فِي الصَّلاةِ) . / 121 - وفيه: أَنَسُ: (بَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلا رَسُولُ اللَّهِ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، لِيَصِلَ لَهُ الصَّفَّ، فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخُرُوجَ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي الصَلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ (صلى الله عليه وسلم)) . الالتفات فيما ينوب المصلى ويحتاج إليه إذا كان خفيفًا لا يضر الصلاة عند العلماء، وقد قال النخعى: إذا دخل على الإمام السهو، فليلمح من خلفه ولينظر ما يصنع. وموضع الترجمة من حديث أنس هو أنهم التفتوا إليه عليه السلام، حين كشف الستر ونظر إليهم فى الصلاة، والدليل على التفاتهم إليه قول أنس: فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ولولا التفاتهم إليه ما رأوا إشارته. قال المهلب: وفى حديث ابن عمر أن النبى، عليه السلام، حَتَّ النخامة فى الصلاة، وتكلم بعد الصلاة، وقد يأتى فى بعض(2/367)
الطرق ما يدل على أنه حَتَّها بعد انقضاء الصلاة، وكيف كان فإنه عمل يسير يجوز فى الصلاة وهو كبزاقه فى ثوبه فى الصلاة، ورد بعضه على بعض، وكإباحته البصاق تحت قدمه وحكه، وهو كله متقارب، قال المهلب: وقد أخبر عليه السلام، بمعنى كراهية التنخم قِبَلَ الوجه وهو أن الله قبل وجهه، فوجب أن يكون التنخم قبل الوجه سُوء أدبٍ.
82 - باب وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلإمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالِقرَاءَةِ وَمَا يُخَافَتُ
/ 122 - فيه: جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، فقَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ رَسُولِ اللَّهِ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأولَيَيْنِ، وَأُخِفف فِي الأخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَلكَ الظَّنُّ بِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلا أَوْ رِجَالا إِلَى الْكُوفَةِ، يَسَأَلَ عَنْهُ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، فقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، فقَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ مقام رِيَاءً وَسُمْعَةً،(2/368)
فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُالْمَلِكِ بن عمير: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَت حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فيَغْمِزُهُنَّ. / 123 - وفيه: عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . / 124 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى الرسول فَرَدَّه، وَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، قالها: ثلاثًا، ثم قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. . .، الحديث. اختلف العلماء فى وجوب القراءة فى الصلاة فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وجمهور الفقهاء: قراءة فاتحة الكتاب للإمام والمنفرد واجبة لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال أبو حنيفة: الواجب فى القراءة فى الصلاة ما تناوله اسم القرآن، وذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة كآية الدَّيْن، من أى سورة شاء، واحتج بقوله عليه السلام للذى رده ثلاثًا: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، قال: ولم يخص سورة من غيرها، فإذا قرأ ما تيسر عليه فقد فعل الواجب، وقال أصحابه: قوله: (لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب) ، معناه: لا صلاة كاملة، كقوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد) ؛ لإجماعهم أن صلاته جائزة فى داره أو حيث صلاها، فنفى عنه الكمال، فكذلك هاهنا.(2/369)
قالوا: وحديث عبادة ليس على العموم؛ لأن المأموم لا تجب عليه قراءة فيما جهر فيه الإمام عند مخالفنا، ويحملها الإمام عنه فيما أسرّ فيه إذا نسيها المأموم. وحجة من أوجبها قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، فنفى أن تكون صلاة لمن لم يقرأ بها فهو على ظاهره إلا ما خصته الدلالة. وأما قوله عليه السلام للذى رده ثلاثًا: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، فهو مجمل، وحديث عبادة مفسر، والمفسر قاض على المجمل، فكأنه قال: اقرأ ما تيسر معك من القرآن، أى: اقرأ فاتحة الكتاب التى قد أعلمت أنه لا صلاة إلا بها فهى ما تيسر من القرآن. واختلفوا فى قوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، إن كان على العموم أو الخصوص، فقالت طائفة: هو على العموم، ويجب على المرء فى كل ركعة قراءة فاتحة الكتاب صلاها منفردًا أو مأمومًا، أو إمامًا فيما يجهر فيه الإمام أو يسر، هذا مذهب الأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وإلى هذا أشار البخارى فى قوله: وجوب القراءة للإمام والمأموم. وقالت طائفة: قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، على العموم إلا أن يصلى خلف الإمام فيما يجهر فيه الإمام ويسمع قراءته، فإنه لا يقرأ لقوله: (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] ، ولا يختلف أهل التأويل أن المراد بهذه الآية سماع القرآن فى الصلاة، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا فى صلاة الجهر؛ لأن السر لا يستمع إليه ولقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) ، وقد صححه أحمد بن حنبل، هذا قول مالك، وأحمد، وإسحاق.(2/370)
وقالت طائفة: قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ، على الخصوص، وإنما خوطب بذلك من صلى وحده، فأما من صلى مع الإمام فليس عليه أن يقرأ لا فيما جهر ولا فيما أسرّ، هذا قول الثورى، والكوفيين. واختلفوا أيضًا هل القراءة واجبة فى الصلاة كلها أو فى بعضها، فقال مالك: من ترك القراءة فى ركعة من الصبح أو فى ركعتين أو أكثر من سائر الصلوات أعاد الصلاة وتجزئه فى ترك القراءة فى ركعة من غير الصبح سجدتا السهو قبل السلام. وقال ابن الماجشون: من ترك القراءة من ركعة من الصبح أو أى صلاة كانت تجزئه سجدتا السهو. وقال ابن أبى زيد: روى عن المغيرة فيمن لم يقرأ فى الظهر إلا فى ركعة منها تجزئه سجدتا السهو قبل السلام. وقال الشافعى، وجماعة، وأحمد: القراءة واجبة على الإمام والمنفرد فى كل ركعة، والشافعى يقول ذلك فى المأموم أيضًا. وقال أبو حنيفة، والثورى: القراءة واجبة فى ركعتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، وليس واجبة فى باقيها، واحتجوا بأن القراءة لو كانت واجبة فى الأخريين لكان عليه أن يجمع بين فاتحة الكتاب وسورة معها كالأوليين. والحجة عليهم قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، فهو على عمومه إلا ما قامت عليه الدلالة، ولما كانت الركعة الواحدة صلاة بإجماع أن الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل(2/371)
ركعة بفاتحة الكتاب، وأيضًا قول جابر: كل ركعة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فلم تصل إلا وراء إمام. وأما ذكر حديث سعد فى هذا الباب فوجهه أنه لما قال: أركد فى الأوليين وأخفف فى الأخريين علم أنه أراد: أطيل القراءة فى الأوليين وأقصرها فى الأخريين؛ لأنه لا خلاف بين الأمة فى وجوب القراءة فى الركعتين الأوليين. وقوله: (أركد) ، أى: أديم القيام وأثبت فيها، والركود: الثبوت والدوام عند أهل اللغة، ومنه نهيه عن البول فى الماء الراكد، أى: الدائم. وقوله: (أحذف فى الأخريين) ، أى: أقصرهما، وأصل الحذف من الشىء النقص منه. وقوله: (لا أخرم عنها) ، أى: لا أنقص صلاتى من صلاة رسول الله، وأصل الخرم: قطع بعض وترة الأنف، يقال إذا قطع ذلك من الرجل: أخرم، والمرأة: خرماء، ثم يستعمل ذلك فى كل منتقص منه. وفى حديث سعد من الفقه: أنه من شُكى به من الولاة أنه يسأل عنه الإمام فى موضع عمله أهل الفضل منهم، ألا ترى أن عمر إنما كان يسأل عنه فى المساجد عمارها وأهل ملازمة الصلاة فيها. وفيه: أن الوالى إذا شكى به أنه يعزل إذا رأى ذلك الإمام صلاحًا له، ولمن شكا به وإن كذب عليه فى الشكاية؛ لأن سعدًا أثنى عليه أهل الكوفة خيرًا غير شيخ منهم، فعزله عمر ورأى ذلك صلاحًا للرعية والسياسة لها، لئلا يبقى عليهم أمير وفيهم من يكرهه، فيتعذب الكاره والمكروه، وربما يؤدى ذلك إلى ما تسوء عاقبته، وقول عمر لسعد: (ذلك الظن بك) ، يدل أنه لم يقبل قول الشاكى(2/372)
عليه، وقد صرح بذلك عمر حين طعنه العلج فقيل له: أوص يا أمير المؤمنين، فقال لهم: ما أحد أحق بهذا الأمر من النفر الذين توفى رسول الله وهو عنهم راض، فسماهم ثم قال: إن أدركت الإمارة سعدًا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة، ذكره البخارى فى باب مناقب عثمان، رضى الله عنه. روى الطبرى عن سعد أن الرسول دخل عليه يعوده فى مرضه بمكة، فرقاه وقال: (اللهم أصح جسمه وقلبه واكشف سقمه، وأجب دعوته) .
83 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ
/ 125 - فيه: جابر بن سمرة: قال سعد: (كنت أصلى بهم صلاة رسول الله صلاتى العشى لا أخرم عنها، بحيث أركد فى الأوليين وأحذف فى الأخريين، قال عمر: ذلك الظن بك) . / 126 - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ فِي الأولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، يُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ) . / 127 - وفيه: خَبَّاب قيل له: أَكَانَ رسول الله يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذلك؟ قَالَ: بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. قال المؤلف: إنما ساق البخارى هذه الآثار؛ لأنه قد روى عن ابن عباس ما يعارضها، وذلك ما روى أبو ذر، عن شعبة مولى(2/373)
ابن عباس، عن ابن عباس أنه سأله رجل أفى الظهر والعصر قراءة؟ فقال: لا. وروى عنه عكرمة قال: قرأ رسول الله فى صلوات وسكت، فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت، فقيل له: فلعله كان يقرأ فى نفسه، فغضب، وقال: تتهم رسول الله. قال الطحاوى: فذهب قوم إلى ما روى عن ابن عباس، فقالوا: لا نرى لأحد أن يقرأ فى الظهر والعصر البتة، وهو قول سويد بن غفلة. وقال الطبرى، قال الآخرون: فى كل صلاة قراءة، غير أنه يجزئ فيما أُمر المصلى أن يخافت فيه بالقراءة قراءته فى ركعتين منها، وله أن يسبح فى باقيها، وروى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، فجعل أهل هذه المقالة سكوت رسول الله على الخصوص، وقالوا: إنما سكت عن القراءة فى الأخريين، وأما الأوليين فإنه كان يقرأ فيهما؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه كان يقرأ فيما يجهر فيه من الصلوات فى الأوليين قالوا: فحكم ما خافت فيه الإمام بالقراءة حكم ما جهر فيه، فى أن فى الأوليين قراءة وترك القراءة فى الأخريين، هذا قول الكوفيين. وقال آخرون: لم يكن النبى، عليه السلام، ترك القراءة فى شىء من صلاته، ولكنه كان يجهر فى بعض ويخافت فى بعض، هذا قول أهل الحجاز، وأحمد، وإسحاق، وأنكروا قول ابن عباس، وقالوا: قد روى عنه خلاف ذلك بإسناد أصح من إسناد الخبر عنه بإنكار القراءة فى الظهر والعصر. وقال الطبرى: وذلك ما حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (قد علمت السنة كلها، غير أنى لا أدرى(2/374)
أكان رسول الله يقرأ فى الظهر والعصر أم لا) ، ولا يندفع العلم اليقين بغير علم. قال الطحاوى: وقد روى عن ابن عباس من رأيه خلاف ما تقدم عنه، روى إسماعيل ابن أبى خالد، عن العيزار بن حريث، عن ابن عباس قال: (اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب فى الظهر والعصر) ، فهذا ابن عباس قد قال من رأيه: أن المأموم يقرأ خلف الإمام فى الظهر والعصر، وقد رأينا الإمام يحمل عن المأموم ولم نر المأموم يحمل عن الإمام شيئًا، فإذا كان المأموم يقرأ فالإمام أحرى بذلك. وإذ قد صح عنه أنه قال: لا أدرى أقرأ رسول الله أم لا؟ فقد انتفى ما قال من ذلك؛ لأن غيره قد حقق قراءة رسول الله فيهما، وهو نص حديث أبى قتادة ودليل حديث خباب، وسعد وقد روى عن يحيى فى حديث أبى قتادة: أن النبى كان يقرأ فى الظهر فى الأوليين بأم القرآن وسورتين، وفى الأخريين بأم الكتاب، وهو قاطع للخلاف، ذكره البخارى فى باب يقرأ فى الأخريين بفاتحة الكتاب بعد هذا. وروى سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبى هريرة قال: (فى كل الصلاة قراءة فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم، وما أخفاه عنا أخفيناه عنكم) . وروى شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله يقرأ فى الظهر بسبح اسم ربك الأعلى) . وحماد بن سلمة، عن سماك، عن جابر بن سمرة: (أن نبى الله كان يقرأ فى الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج) .(2/375)
وقال الطبرى: وليس فى خبر ابن عباس إنكاره القراءة فى الظهر والعصر خلاف فيما ثبته عن النبى، عليه السلام، أنه قرأ فيها؛ لأن ابن عباس لم يذكر أن النبى، عليه السلام، قال له: لا قراءة فى الظهر والعصر، وإنما أخبر أنه سكت فيهما، وغير نكير أن يقول إذا لم يسمعه يقرأ أنه سكت، فيخبر بما كان من حاله عنده، والذى أخبر ابن عباس أن النبى لم يقرأ كان الحق عنده، والذى أخبر أنه قرأ فإنه سمع قراءته. فمن سامع منه الآية ومن سامع منه سورة، ومن سامع منه أمره بالقراءة فى الصلاة، فوجه ذلك إلى أنه أمر بالقراءة فى جميع الصلاة، ووجهه غيره إلى أنه أمر بذلك فى بعض الصلاة، ومن رآه يحرك شفتيه فى الظهر والعصر، فوجهه إلى أنه لم يحركهما إلا بقراءة القرآن، فكل أخبر بما عنده، وكل كان صادقًا عند نفسه. والمصيب عين الحق أخبر أنه كان يقرأ فى الظهر والعصر وذلك أن فى خبر أبى قتادة أنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فالشاهد إنما يستحق أن يسمى شاهدًا فيما أخبر عن سماع أو رؤية. فأما من أخبر أنه لم يسمع ولم ير فغير جائز أن يجعل خبره خلافًا لخبر من قال: رأيت أو سمعت؛ لأن من قال: رأيت أو سمعت فهو الشاهد، ومن قال: لم أسمع، فقد أخبر عن نفسه أنه لا شهادة عنده فى ذلك، والنفى لا يكون شهادة فى قول أحد من أهل العلم. وقال الطحاوى: وأما النظر فى ذلك، فإنا رأينا القيام والركوع والسجود فرائض لا تجزئ الصلاة إذا ترك شيئًا منها، وكان ذلك فى سائر الصلوات سواء، فرأينا القعود الأول سنة فى الصلوات كلها(2/376)
سواء، ورأينا القعود الآخر فيه اختلاف بين الناس، منهم من يقول: هو سنة، ومنهم من يقول: هو فرض، وكل فريق منهم قد جعل ذلك فى كل الصلوات سواء، فكانت هذه الأشياء ما كان منها فرضًا فى صلاة كان كذلك فى كل الصلوات، فلما رأينا القراءة فى الصبح والمغرب والعشاء واجبة فى قول المخالف لابد منها، كان كذلك فى الظهر والعصر، وهذه حجج قاطعة على من نفى القراءة فى الظهر والعصر ويراها فرضًا فى غيرها. وفى قول أبى قتادة: وكان يسمعنا الآية أحيانًا: دليل أنه كان ذلك من فعله على القصد إليه والمداومة عليه. وفيه حجة لقول ابن القاسم أنه من جهر فيما يسر فيه أنه لا سجود عليه إذا كان يسيرًا، وروى عن مالك: إذا جهر الفذ فيما يسر فيه جهرًا خفيفًا فلا بأس به، وقد اختلف فيمن أسر فيما يجهر فيه عامدًا، وروى أشهب عن مالك أن صلاته تامة، وقال أصبغ فيمن أسر فيما يجهر فيه أو جهر فى الإسرار عامدًا: فليستغفر الله ولا إعادة عليه. وقال ابن القاسم: يعيد لأنه عابث، وقال الليث: إذا أسر فيما يجهر فيه فعليه سجود السهو، وقال الكوفيون: إذا أسر فى موضع الجهر أو جهر فى موضع السر وكان إمامًا سجد لسهوه، وإن كان وحده فلا شىء عليه، وإن فعله عامدًا فقد أساء وصلاته تامة، وقال ابن أبى ليلى: يعيد بهم الصلاة إذا كان إمامًا، وقال الشافعى: ليس فى ترك الجهر والإسرار سجود.(2/377)
قال المؤلف: ومن لم يوجب السجود فى ذلك أشبه بدليل هذا الحديث؛ لأنه لما كان السر والجهر من سنن الصلاة وكان عليه السلام، قد جهر فى بعض صلاة السِّرِّ ولم يسجد لذلك كان كذلك حكم الصلاة إذا جهر فيها؛ لأنه لو اختلف الحكم فى ذلك لبينه عليه السلام، ووجب بالدليل الصحيح أن يكون إذا أسرَّ فيما يجهر فيه أيضًا لا يلزمه سجود، إذ السرُّ والجهر فى المعنى سواء، ولا وجه لتفريق الكوفيين بين حكم الإمام والمنفرد فى ذلك؛ إذ لا حجة لهم فى كتاب ولا سنة ولا نظر. وفيه: أن الحكم فى السر أن يسمع الإنسان نفسه، وفى حديث خباب الحكم بالدليل؛ لأنهم حكموا باضطراب لحيته عليه السلام، أنه كان يقرأ.
84 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْعَصْرِ
/ 128 - فيه: حديث خباب، وأبى قتادة المتقدمين فى الباب قبل هذا. وقد تقدم الكلام فى معنى هذا الباب فأغنى عن إعادته، غير أنا نذكر فى هذا الباب من قرأ فى الظهر والعصر من السلف. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وأبى الدرداء، وخباب، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمر، وأبى هريرة، وعائشة، رضى الله عنهم أجمعين. وقال أبو العالية: العصر على النصف من الظهر، وقال إبراهيم: تضاعف الظهر على العصر أربع مرات، وقال الحسن البصرى: القراءة فى الظهر والعصر سواء، وقال حماد: القراءة فى الظهر والصبح سواء.(2/378)
85 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ
/ 129 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ) . / 130 - وفيه: مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: أَن زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ له: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارٍ المفصل، وَقَدْ سَمِعْتُ الرسول يَقْرَأُ بِطُولَ الطُّولَيَيْنِ. وترجم له: (باب الجهر فى المغرب) . / 131 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يقَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ بحديث أم الفضل وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت وقلدوها، وخالفهم فى ذلك آخرون وقالوا: لا ينبغى أن يقرأ فى المغرب إلا بقصار المفصل، وقالوا: قد يجوز أن يكون يريد بقوله: قرأ بالطور، قرأ ببعضها وذلك جائز فى اللغة، يقال: فلان يقرأ: إذا قرأ بشىء منه. والدليل على صحة ذلك ما روى هشيم عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قدمت على النبى لأكلمه فى أسارى بدر فانتهيت إليه، وهو يصلى بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقول: (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) [الطور: 7، 8] ، فكأنما صدع قلبى.(2/379)
فبين هشيم القصة على وجهها، وأخبر أن الذى سمعه) إن عذاب ربك لواقع (لا أنه سمع الطور كلها، وكذلك قول زيد بن ثابت لمروان: لقد سمعت رسول الله يقرأ بطول الطوليين، يجوز أن يكون قرأ ببعضها، والدليل على ذلك ما رواه حماد عن أبى الزبير، عن جابر أنهم كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون. وروى حماد، عن ثابت، عن أنس قال: (كنا نصلى المغرب مع النبى، عليه السلام، ثم يرمى أحدنا فيرى مواقع نبله) ، فلما كان هذا وقت انصراف رسول الله من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك، وقد قرأ فيها الأعراف أو نصفها. قال المؤلف: وقد جاء هذا بينًا فى حديث عائشة أن الرسول قرأ فى صلاة المغرب بسورة الأعراف فَرَّقَهَا فى ركعتين، خرجه النسائى من حديث شعيب بن أبى حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قال الطحاوى: وقد أنكر الرسول على معاذ بن جبل حين صلى العشاء بالبقرة وقال له: (أفتان أنت، اقرأ بسورة والليل إذا يغشى، والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، والشمس وضحاها) ، وكره له أن يقرأ فى العشاء مع سعة وقتها، فصلاة المغرب مع ضيق وقتها أحرى بذلك. فإن قال قائل: فهل روى عنه عليه السلام أنه قرأ فى المغرب بقصار المفصل؟ . قيل: نعم، روى ابن أبى شيبة عن زيد بن الحباب قال: حدثنا الضحاك بن عثمان قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن سليمان(2/380)
بن يسار، عن أبى هريرة، قال: كان رسول الله يقرأ فى المغرب بقصار المفصل. وروى الشعبى عن ابن عمر: أن رسول الله قرأ فى المغرب بالتين والزيتون، فهذا أبو هريرة يخبر عن النبى أنه كان يقرأ فى المغرب بقصار المفصل، فلو حملنا حديث ابن جبير، وزيد بن ثابت على ما حمله المخالف لتضادت تلك الآثار وحديث أبى هريرة هذا، وإن حملناه على ما ذكرنا ائتلفت، وأولى أن نحمل الآثار على الاتفاق لا على التضاد، فينبغى على هذا أن يقرأ فى المغرب بقصار المفصل وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وجمهور العلماء. وأما طول الطوليين، فإن العلماء قالوا: هى سورة الأعراف، ذكر ذلك النسائى فى حديث زيد بن ثابت من رواية ابن وهب، ومن رواية ابن جريج. وقال أبو سليمان الخطابى: طولى تأنيث أطول، والطوليين تثنية الطولى يريد أنه كان يقرأ فيها بأطول السورتين يعنى الأنعام والأعراف. قال غيره: فإن قيل: هى البقرة لأنها أطول السبع الطوال. قيل: لو أراد البقرة لقال: بطول الطول، فلما لم يقل ذلك دل أنه أراد الأعراف، وهى أطول السور بعد البقرة، ويحتمل أن يكون قرأها فى الركعتين من المغرب؛ لأنه لم يذكر أنه قرأ معها غيرها. وفى حديث جبير من الفقه: أن شهادة المشرك بعد إسلامه مقبولة فيما علمه قبل إسلامه؛ لأن جبيرًا كان يوم سمع رسول الله مشركًا، قدم فى أسارى بدر.(2/381)
86 - بَاب الْجَهْرِ فِي الْعِشَاءِ
/ 132 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أنه قَرَأ فِى الْعَتَمَةَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ، فَقيل لَهُ: فَقَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. / 133 - وفيه: الْبَرَاءَ: (أَنَّ الرسول كَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَرَأَ فِي الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) . وترجم لحديث البراء: باب (القراءة فى العشاء بالسجدة) ، وباب (القراءة فى العشاء) . سنة العشاء الجهر بها كالمغرب سواء، وقراءته عليه السلام، فيها بإذا السماء انشقت، وبالتين والزيتون، يدل أنه لا توقيت فى القراءة فى الصلوات لا يجزئ غيره، إلا أنه حين قرأ فى العشاء بالتين والزيتون كان فى سفر، وأما فى الحضر فإنه كان يقرأ: (إذا السماء انشقت) ، ونحوها، وأطول منها، وقد قرأ عمر بن الخطاب فى إحدى الركعتين بالتين والزيتون، وترجم لحديث البراء: باب القراءة فى العشاء بالسجدة، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى: اقرأ بالناس فى العشاء الآخرة بوسط المفصل، روى سليمان بن يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره أشهب، وقرأ فيها عثمان بن عفان بالنجم، وقرأ ابن عمر بالذين كفروا والفتح، وهى أطول المفصل، وروى على بن زياد، عن مالك قال: يقرأ فيها بالحاقة ونحوها. وأجاز العلماء للمسافر إذا أعجله أصحابه أو استغيث به(2/382)
لميت يموت أن يقرأ سورة قصيرة، كما قرأ الرسول بالتين والزيتون فى السفر، وهو قول مالك، وقد قرأ أبو هريرة فى العشاء بالعاديات، ويحتمل أن يكون فى سفر أو يكون أعجلته حاجة لذلك، والله أعلم. وأما القراءة بالسجدة فى العشاء وسائر المكتوبات فأجازه من العلماء من قال بالسجود فى المفصل، وقد اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك، ففى المدونة: كره مالك للإمام ان يتعمد قراءة سورة فيها سجدة، لئلا يخلط على الناس، فإن قرأها فليسجد، وأكره أن يتعمدها الفذ، وروى عنه أشهب أنه إذا كان مع الإمام قليل من الناس لا يخاف أن يخلط عليهم فلا بأس بذلك، وروى عنه ابن وهب أنه قال: لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة.
87 - باب يُطَوِّلُ فِي الأولَيَيْنِ، وَيَحْذِفُ فِي الأخْرَيَيْنِ
/ 134 - فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: لَقَدْ شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلاةِ، قَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَمُدُّ فِي الأولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأخْرَيَيْنِ، وَلا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ. قال الطبرى: فيه البيان أن السنة من الرسول مضت فى صلاة الفريضة أن تكون الركعتان الأوليان أطول من الأخريين أو ركعته الآخرة إن كانت المغرب، وذلك أن سعدًا أخبر عمر أنه يركد فى الأوليين(2/383)
ويخفف فى الأخريين وأنه مُقْتد برسول الله فى ذلك، فإذا كان كذلك فالذى ينبغى لكل مصل مكتوبة أن يفعل كذلك. فإن قيل: أفرأيت إن خالف ذلك فأطال فى ركعتيه الأخريين وخفف فى الأوليين. قيل: نقول: إنه خالف فى ذلك سنة الصلاة غير أن صلاته ماضية لا خلاف بين الجميع فى جوازها، ولو لم يقرأ فى جميعها إلا فاتحة الكتاب، وذلك تسوية بين جميعها فى التخفيف، فإذا كان ذلك غير مفسدها فالواجب أن تكون المخالفة بينهما بإطالة الأخريين وتخفيف الأوليين غير مفسدها. وفى (المختصر) ، عن مالك قال: لا بأس أن يقرأ فى الثانية بأطول من قراءته فى الأولى، وقال الطحاوى: ذهب الثورى ومحمد إلى أنه يطيل فى الركعة الأولى من الصلوات كلها. وفى (الواضحة) قال: والصبح والظهر نظيرتان فى طول القراءة ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يطول الركعة الأولى من صلاة الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء، قال الطحاوى: ولم نجد فى ذلك عن مالك نصًا، وتقدير القراءة يدل أنه كان يرى التسوية دون التفضيل، وحديث سعد يدل على تسوية الأوليين من الظهر والعصر، وقد ذكر البخارى فى باب (القراءة فى الظهر) ، حديث أبى قتادة أن نبى الله كان يقرأ فى الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب، وسورتين يطول فى الأولى ويقصر فى الثانية وهو فى العصر كذلك، وهو الحجة للثورى ومحمد أن الركعة الأولى فى كل الصلوات أطول(2/384)
من الثانية، وهو رد لقول أبى حنيفة، وأبى يوسف أن ركعتا الظهر سواء. وقوله: لا آلو: لا أقصر، تقول العرب: ما آليت فى حاجتك وما آلوتك نصحًا: ما قصرت بك عن جهدى، فى كتاب الأفعال.
88 - باب الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَرَأَ رسول الله بِالطُّورِ. / 135 - وفيه: أبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ، قَالَ: (كَانَ رسول الله يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ، وَيَرْجِعُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَلا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ، فَيَبصر جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا، مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) . / 136 - وفيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: فِي كُلِّ صَلاةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَاه عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ. اتفق العلماء على أن أطول الصلوات قراءة الفجر، وبعدها الظهر إلا أن البخارى لم يدخل غير حديث أبى برزة: أن نبى الله كان يقرأ فى الصبح ما بين الستين إلى المائة، وذكر عن أم سلمة: (أن الرسول قرأ(2/385)
بالطور) ، وذكره فى الباب بعد هذا، وذكر فيه ابن عباس: (أنه عليه السلام قرأ: قل أوحى) ، وذكر ابن أبى شيبة: سماك، عن جابر بن سمرة: (أن قراءة الرسول فى الفجر كانت ب (قاف) ، ونحوها) . واختلفت الآثار عن الصحابة فى ذلك، فروى عن أبى بكر الصديق أنه قرأ بسورة البقرة فى الركعتين. وعن عمر بن الخطاب: أنه قرأ بيونس وبهود، وقرأ عثمان بيوسف وبالكهف، وقرأ على بالأنبياء، وقرأ عبد الله بسورتين الآخرة منها بنو إسرائيل، وقرأ معاذ بالنساء، وقرأ عبيدة بالرحمن ونحوها، وقرأ إبراهيم بياسين وأشباهها، وقرأ عمر بن عبد العزيز بسورتين من طوال المفصل. فدل هذا الاختلاف عن السلف أنهم فهموا عن الرسول إباحة التطويل والتقصير فى قراءة الفجر وأنه لا حدَّ فى ذلك لا يجوز تعديه، ويمكن والله أعلم، أن يكون من طول القراءة فيها من الصحابة علم حرص من خلفهم على التطويل وأما اليوم فينبغى التزام التخفيف؛ لأن فى الناس السقيم والكبير وذا الحاجة كما قال عليه السلام، لمعاذ، ألا ترى قول أبو هريرة: (إن لم تزد على أم القرآن أجزأت، فإن زدت فهو خير) ، فدل ذلك أنه لا حد فى ذلك، وقد قال مالك فى الرجل يبادر التجارة أو يستغاث به أو يدعى لميت وهو فى الصبح والظهر: أن يقرأ بالسورة القصيرة وكذلك المسافر يعجله أصحابه.
89 - باب الْجَهْرِ بالقِرَاءَةِ في صَلاةِ الْفَجْرِ
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: طُفْتُ وَرَاءَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ يُصَلِّي، وَيَقْرَأُ بِالطُّورِ.(2/386)
/ 137 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (انْطَلَقَ رسول الله فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ بِنَخْلَةَ، عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن 1، 2] ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) [الجن 1] ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ) . / 138 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (قَرَأَ الرسول فِيمَا أُمِرَ، وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم 64] : و) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21] ) . الجهر فى الفجر هى السنة وقد تقدم فى الباب قبل هذا مذاهب العلماء فى القراءة فى الفجر. فإن قال قائل: إن حديث ابن عباس يدل أن الشهب إنما رميت فى أول الإسلام من أجل استراق الشياطين السمع. قيل: رمى الشهب لم يزل قبل الإسلام وعلى مرِّ الدهور، وروى معمر وغيره عن الزهرى، عن على بن حسين، عن ابن(2/387)
عباس فى قوله تعالى: (يجد له شهابًا رصدًا) [الجن: 9] ، قال: (بينا الرسول جالس فى نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال: (ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا فى الجاهلية؟) قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، قال: (فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى، إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء، ثم يستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى ينتهى الخبر إلى السماء الدنيا ويخطف الجن السمع، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه) ، قلت للزهرى: أو كان يرمى بها فى الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا) [الجن: 9] ، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث الله النبى، عليه السلام) . وأما قول ابن عباس: (سكت رسول الله فيما أمر) يريد أسرَّ بما أُمِرَ، بدليل قول خباب: أنهم كانوا يعرفون قراءة رسول الله فيما أسر فيه باضطراب لحيته، فسمى السرَّ: سكوتًا، ولا يظن بالرسول أنه سكت فى صلاة صلاها؛ لأنه قد قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) .(2/388)
90 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ، وَالْقِرَاءَةِ بِالْخَوَاتِيمِ، وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ، وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ السَّائِبِ: (قَرَأَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمُؤْمِنُينَ فِي الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ، فَرَكَعَ) . وَقَرَأَ عُمَرُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ الْمَثَانِي. وَقَرَأَ الأحْنَفُ بِالْكَهْفِ فِي الأولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأنْفَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ، أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ: كُلٌّ كِتَابُ اللَّهِ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ، افْتَتَحَ بِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بسُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لا نَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا، وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، فإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: (يَا فُلانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟ ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟) فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ: (حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) . / 139 - فيه: أَبَو وَائِلٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ(2/389)
فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رسول الله يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. اختلف العلماء فى جمع السورتين فى كل ركعة، فأجاز ذلك ابن عمر، وكان يقرأ بثلاث سور فى ركعة، وقرأ عثمان بن عفان، وتميم الدارى القرآن كله فى ركعة. وكان عطاء يقرأ سورتين فى ركعة أو سورة فى ركعتين فى المكتوبة، وقال مالك فى المختصر: لا بأس بأن يقرأ السورتين وثلاث فى ركعة، وسورة أحب إلينا ولا يقرأ بسورة فى ركعتين، فإن فعل أجزأه، وقال مالك فى المجموعة: لا بأس به وما هو من الشأن، وأجاز ذلك كله الكوفيون. وممن كره الجمع بين سورتين فى ركعة زيد بن خالد الجهنى، وأبو العالية، وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث، وأبو عبد الرحمن السلمى وقال: احظ كل سورة حظها من الركوع والسجود. وروى عن ابن عمر أنه قال: إن الله فَصَّل القرآن لتعطى كل سورة حظها من الركوع والسجود، ولو شاء لأنزله جملة واحدة، والقول الأول أولى بالصواب لحديث ابن مسعود: أن النبى، عليه السلام، كان يقرن بين سور المفصل سورتين فى ركعة. قال الطحاوى: وقد قال عليه السلام: (أفضل الصلاة طول القيام) ، فذلك حجة على من خالف ذلك، ودليل واضح أن الأفضل من الصلوات ما أطلت فيه القراءة، ولا يكون ذلك إلا بالجمع بين السور الكثيرة فى ركعة وقد فعل ذلك الصحابة والتابعون، وثبت عن(2/390)
ابن عمر أنه فعله بخلاف ما روى عنه، وأما من جهة النظر فإنا رأينا فاتحة الكتاب تقرأ هى وسورة غيرها فى ركعة، ولا بأس بذلك، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك سائر السور. وأما القراءة بالخواتيم وبأول سورة، فروى ابن القاسم وعلى عن مالك: إذا بدأ بسورة وختم بأخرى فلا شىء عليه، وقد كان بلال يقرأ من غير سورة، وقد قرأ، عليه السلام، المؤمنين فى الصبح فأخذته سعلة فى ذكر عيسى فركع، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال. وأما قراءة سورة قبل سورة ففى (المختصر) عن مالك: أنه لا بأس أن يقرأ فى الثانية بسورة قبل التى قرأ فى الأولى وقراءة التى بعدها أحب إلينا، وروى عنه ابن القاسم ذلك كله سواء ولم يزل ذلك من عمل الناس. وأما تردد سورة واحدة فى الركعتين، ففى (الواضحة) ، عن مالك: لا بأس به، وروى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) ، أنه سئل عن تكرير (قل هو الله أحد) فى النافلة، فكرهه وقال: هذا مما أحدثوا، ومعنى كراهته لتكريرها يريد فى ركعة واحدة يكررها مرارًا. وفى حديث أنس حجة لمن أجاز تكريرها فى الفريضة فى كل ركعة؛ لقوله عليه السلام للذى كان يكررها: (حبك إياها أدخلك الجنة) ، فدل ذلك على جواز فعله ولو لم يجز لبين له ذلك؛ لأنه بعث(2/391)
معلمًا، وقد روى البخارى مثل حديث أنس عن عائشة: (أن الرسول بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه فى صلاتهم فيختم: ب (قل هو الله أحد) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبى، عليه السلام، فقال: سلوه لأى شىء يصنع ذلك، فقال: لأنها صفة الرحمن، فقال عليه السلام: (فأخبروه أن الله يحبه) ، ذكره فى باب الاعتصام فى باب دعاء النبى، عليه السلام، أمته إلى توحيد الله، تعالى. وقد روى فى الذى كان يقرأ: قل هو الله أحد، أنه كان يرددها فى صلاة النافلة ولا يقرأ غيرها رواه الدارقطنى من حديث مالك، عن عبد الله بن أبى صعصعة، عن أبيه، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (وحدثنى أخى قتادة بن النعمان أن رجلاً قام من الليل يقرأ: قل هو الله أحد، يرددها لا يزيد عليها، فجاء رجل إلى الرسول فأخبره، وكان يتقالها، فقال: (إنها لتعدل ثلث القرآن) . ففيه حجة لمن أجاز تكرارها فى ركعة واحدة فى النافلة. وروى وكيع، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد بن كعب القرظى، قال: من قرأ فى سبحة الضحى: قل هو الله أحد، عشر مرات بنى له بيت فى الجنة. قال المهلب: وأما إنكار ابن مسعود على الرجل قراءة المفصل فى ركعة، فإنما فعل ذلك ليحضه على تدبر القرآن؛ لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد: 24] ، لا أنه لا تجوز قراءة المفصل فى ركعة، فقد تجوز قراءة القرآن بغير تدبر، وقد جاء فى الحديث:(2/392)
أن الله جعل فى كل حرف منه عشر حسنات، فإن تدبره أعظم لأجره إلى ما لا نهاية له من تفضل الله تعالى. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قول ابن مسعود: (لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين فى كل ركعة) ، فدل أن صلاته بالليل عليه السلام، كانت عشر ركعات، وكان يوتر بواحدة. وقوله: قرأ عمر بسورة من المثانى، فقال شيبان النحوى: المثانى: ما لم تبلغ مائة آية، وقال طلحة بن مصرف: المثانى: عشرون سورة، والمئون إحدى عشرة سورة، وروى عن ابن مسعود مثله، قال أهل اللغة: إنما سميت مثانى؛ لأنها ثنت المئين، أى: أتت بعدها، والمفصل سمى مفصلاً لكثرة السور فيه، والفصول، يعنى: بسم الله الرحمن الرحيم، عن ابن عباس.
91 - باب يَقْرَأُ فِي الأخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
/ 140 - فيه: أَبو قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ، عن النَّبِيَّ عليه السلام: (كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الأولَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ بِأُمِّ القرآن، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى، مَا لا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ) . وقد تقدم معنى هذا الباب فى باب القراءة فى الظهر، ونزيده هاهنا بيانًا وذلك أن حديث أبى قتادة هذا من رواية همام بيّن(2/393)
فى ردِّ قول الكوفيين ومن وافقهم أن الركعتين الأخريين إن شاء قرأ فيهما وإن شاء سبح؛ لأن همامًا بيَّن فى روايته لهذا الحديث أن النبى، عليه السلام، قرأ فى الركعتين الأخريين من الظهر بفاتحة الكتاب، وقال: إنه كان يسمعهم الآية أحيانًا، فثبت قول من أوجب القراءة فى كل ركعة وسقط قول من قال بالتسبيح فى الأخريين من الظهر والعصر؛ لأنه مخصوص بالسُّنَّةِ الثابتة، وأيضًا فإنه عليه السلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، ولما كانت الركعة الواحدةُ صلاةً، بإجماع أن الوتر ركعة وهى صلاة، دل أن القراءة واجبة فى كل ركعة بفاتحة الكتاب. وفيه: أن الركعتين الأوليين أطول من الأخريين فى كل صلاة؛ لأنه إذا قرأ فى الأوليين بأم القرآن وسورة، وقرأ فى الأخريين بأم القرآن وحدها، دل أن الأوليين أطول من الأخريين. وترجم له: (باب إذا أسمع الإمام الآية) ، وقد تقدم القول فيه. وترجم له: (باب يطول فى الركعة الأولى) ، وذلك بَيِّن فى الحديث.
92 - باب جَهْرِ الإمَامِ بِالتَّأْمِينِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ، دُعَاءٌ أَمَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ وَرَاءَهُ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةٌ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُنَادِي الإمَامَ: لا تَفُتْنِي بِآمِينَ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَدَعُهُ، وَيَحُضُّهُمْ عليه، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا.(2/394)
/ 141 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا أَمَّنَ الإمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: (آمِينَ) . اختلف العلماء فى الإمام يقول: آمين، فروى مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن الإمام يقول: آمين كالمأموم على حديث أبى هريرة، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا يقول الإمام: آمين، وإنما يقول ذلك من خلفه، وإن كان وحده قالها، هذا قول مالك فى المدونة، وقاله المصريون من أصحابه. وحجة هذا القول قوله، عليه السلام: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين) ، قالوا: فلو كان الإمام يقول آمين، لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين، ووجدنا فاتحة الكتاب دعاء، فالإمام داع والمأموم مؤمن، وكذلك جرت العادة أن يدعو واحد ويؤمن المستمع، وقد قال تعالى فى قصة موسى وهارون: (قد أجيبت دعوتكما) [يونس: 89] ، فسماهما داعيين، وإنما كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فدل ذلك أن الإمام داع بما فى فاتحة الكتاب والمأموم مستجيب؛ لأن معنى آمين فى اللغة: استجب لنا. واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا) ، قالوا: وذلك يدل أن الإمام يقول: آمين، ومعلوم أن قول المأموم هو: آمين فكذلك ينبغى أن يكون قول الإمام.(2/395)
قالوا: وكذلك قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين يدل أن الإمام يقول: آمين؛ ألا ترى قول ابن شهاب: كان رسول الله يقول: (آمين) . واختلفوا فى الجهر بها، فذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى الجهر بها، وروى ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك أن الإمام يُسر بها وهو قول الكوفيين، وروى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وعن النخعى، والشعبى، وابن أبى ليلى. وحجة من جهر بها قوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا) ، وها يدل أنه ينبغى أن يكون قولهم بعد قوله كتكبيرهم بعد تكبيره، فلو أن الإمام يُسرُّ بها لم يمكن من وراءه أن يؤمنوا بتأمينه. وقد قال عطاء: كنت أسمع الأئمة يقولون على إثر أم القرآن: آمين، هم ومن وراءهم حتى إن للمسجد لَلَجَّة. ووجه الإخفاء بها قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعًا وخفية) [الأعراف: 55] ، وقد مدح الله زكريا بقوله: (إذ نادى ربه نداء خفيا) [مريم: 3] ، وقال ابن وهب: عن مالك لم أسمع فى الجهر بها للإمام إلا حديث ابن شهاب، ولم أره فى حديث غيره. واللّجة: اختلاط الأصوات، وأَلَجَّ القوم: إذا سمعت لهم لجة، أى: صوتًا، والتجت الأصوات: اختلطت، من كتاب العين. قال المؤلف: معنى قول أبى هريرة للإمام: لا تسبقنى بآمين، أى: لا تحرم فى الصلاة حتى أفرغ من الإقامة لئلا تسبقنى بقراءة أم القرآن(2/396)
فيفوتنى التأمين معك، وهو حجة لمذهب الكوفيين لأنهم يقولون: إذا بلغ المؤذن فى الإقامة إلى قوله: قد قامت الصلاة وجب على الإمام الإحرام، والفقهاء على خلافهم، لا يرون إحرام الإمام إلا بعد تمام الإقامة وتسوية الصفوف، وقد تقدم بيان هذا فى باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان.
93 - باب فَضْلِ التَّأْمِينِ
/ 142 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . وقال المهلب: كان أبو محمد الأصيلى يقول فى معنى الموافقة فى هذا الحديث أن تقول الملائكة: آمين، كما يقول المصلون، ولا يراعى موافقة المؤمن؛ لأنه قد يقول القائل: وافقت فلانًا على قول كذا إذا قال مثله وسواء قاله قبله أو بعده، وإنما يأجر الله تعالى، على الاتفاق فى القول والنية لا على وقوع الكلام فى زمن واحد. قال المهلب: والذى يشتق من ظاهر هذا الحديث أن يكون قول الملائكة وقول المصلين فى زمن واحد. قال غيره: وتأمين الملائكة هو استغفارهم للمصلين ودعاؤهم أن يستجيب الله منهم كما قال تعالى: (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلمًا فاغفر للذين تابوا) [غافر: 7] الآية، فإذا كان تأمين العبد مع تأمين الملائكة يرتفعا إلى الله فى زمن(2/397)
واحد، وتأمين الملائكة مجاب وشفاعتهم يوم القيامة مقبولة فيمن استشفعوا له، فلا يجوز فى تفضل الله أن يجاب الشفيع إلا وقد عم المشفوع له الغفران، والله أعلم، وهذا أولى بتأويل الحديث.
94 - باب جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ
/ 143 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: قوله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، فقولوا: آمين) ، خطاب للمأمومين أن يقولوا: آمين، دون الإمام قالوا: وهذا ظاهر الحديث ولم يرو للإمام قول آمين، وهى رواية ابن القاسم عن مالك. وقالت طائفة أخرى: معناه: إذا بلغ الإمام موضع التأمين وهو قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، وقال: آمين، فقولوا: آمين. واحتجوا بما رواه معمر، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) . وبما رواه الليث، عن خالد بن يزيد، عن أبى هلال، عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبى هريرة فقرأ بأم القرآن، فلما بلغ: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين (، قال:(2/398)
آمين، وقال الناس: آمين، فلما سلم قال: والله إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، فهذا فعل أبى هريرة وهو راوى الحديث عن الرسول، وأقسم أنه أشبههم صلاة برسول الله، فعلى هذا ينتفى التعارض من هذا الحديث، وبين قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا. وقد جمع الطبرى بين الحديثين فقال: ليس فى أحدهما دفع لصاحبه؛ لأن الحديثين كلاهما عن أبى هريرة، وذلك أن التأمين فى الصلاة ليس من الأمور التى لا يجوز تركها، وإنما المصلى مندوب إليه إمامًا كان أو مأمومًا، فأخبر عليه السلام، أن المأموم إذا أمن بعد فراغ الإمام من فاتحة الكتاب فله من الأجر ما ذكر، وكذلك إذا أمن بعد تأمين الإمام فله من الأجر مثل ذلك، وليس فى أحد الحديثين معنى يدفع ما فى الآخر، بل فى كل واحد منهما ما فى الآخر من وجه، وفيه ما ليس فى الآخر من وجه، فالذى فيه ما ليس فى الآخر أمر من خلف الإمام بالتأمين إذا أمن القارئ، والذى فى الآخر أمرٌ لهم بالتأمين إذا قال الإمام: (ولا الضالين (، وإن لم يؤمن الإمام، فذلك زيادة معنى على ما فى الحديث الآخر، وأما ما هما متفقان فيه ما لقائل ذلك من الثواب، وهذا المراد من الحديث سواء أمن الإمام أم لا. وأما جهر المأموم بالتأمين فليس بينا فى الحديث؛ لأن قوله عليه السلام: (فقولوا آمين) ، لا يقتضى الجهر دون السر، لكن لما كان الإمام يجهر بالتأمين، ولولا ذلك ما سمعه المأموم، وكانوا مأمورين باتباع الإمام فى فعله وجب على المأموم الجهر بها كما جهر بها الإمام، هذا وجه الترجمة.(2/399)
وقد اختلف العلماء فى ذلك فقال عطاء، وعكرمة: لقد أتى علينا زمان إذا قال الإمام: (ولا الضالين (سمعت لأهل المسجد رجة من قولهم: آمين. وقالت طائفة: يُسرُّ بها المأموم، وقال الطبرى: والخبر بالجهر بآمين والمخافتة بها صحيحان، وقد عمل بكل واحد منهما جماعة من علماء الأمة، وذلك يدل أنه مما خيرهم رسول الله فى العمل بأى ذلك شاءوا، ولذلك لم ينكر بعضهم على بعض ما كان منهم فى ذلك، وإن كنت مختارًا خفض الصوت بها؛ إذ كان أكثر الصحابة والتابعين على ذلك.
95 - باب إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ
/ 144 - فيه: أَبو بَكْرَةَ: (أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عليه السلام، فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلا تَعُدْ) . اختلف العلماء فيمن ركع دون الصف، فروى عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، أنهما ركعا دون الصف ومشيا إلى الصف ركوعًا، وفعله سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة، وعطاء، وقال مالك، والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف ويمشى إلى الصف إذا كان قريبًا قدر ما يلحق به. وقال أبو حنيفة، والثورى: يكره للواحد أن يركع دون الصف(2/400)
ثم يتقدم، ولا يكره ذلك للجماعة، ذكره الطحاوى، قال: وأجاز مالك، والكوفيون، والليث، والشافعى صلاة المنفرد دون الصف وحده، قال مالك: ولا يجذب إليه رجلاً، وقال الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر: إن ركع وحده دون الصف بطلت صلاته، واحتجوا بقوله عليه السلام لأبى بكرة: (زادك الله حرصًا ولا تعد) ، فدل أن صلاته غير صحيحة. قالوا: وقد قال أبو هريرة: لا تكبر حتى تأخذ مقامك من الصف. قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى أن أبا بكرة ركع دون الصف، فلم يأمره النبى بإعادة الصلاة، ولو كان من صلى خلف الصف وحده لا تجزئه صلاته لكان من دخل فى الصلاة خلف الصف لا يكون داخلاً فيها، فلما كان دخول أبى بكرة فى الصلاة دون الصف دخولاً كانت صلاة المصلى كلها دون الصف صحيحة. فإن قيل: فما معنى قوله: (ولا تعد؟) . قيل: له عندنا معنيان: أحدهما: لا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم فى الصف كما روى ابن عجلان، عن الأعرج، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله: (إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه منه) . والثانى: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيًا يحفزك فيه النفس، كما روى حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبى(2/401)
بكرة قال: (جئت ورسول الله راكع، وقد حفزنى النفس، فركعت دون الصف. . .) ، وذكر الحديث. قال ابن القصار: فجاء يلهث وكان عليه السلام، أمرهم أن يأتوا الصلاة وعليهم السكينة. قال الطحاوى: ولا يختلفون فيمن صلى وراء إمام فى صف، فخلا موضع رجل أمامه أنه ينبغى له أن يمشى إليه، وفى تقدمه من صف إلى صف هو فيما بين الصفين فى غير صف، فلم يضره ذلك ولم يخرجه من الصلاة. فلو كانت الصلاة لا تجزئ إلا لقائم فى صف لفسدت على هذا صلاته لما صار فى غير صف، وإن كان ذلك أقل القليل، كما لو أن من وقف على موضع نجس أقل القليل وهو يصلى أفسد ذلك عليه صلاته، فلما أجمعوا أنهم يأمرون هذا بالتقدم إلى ما قد خلا أمامه من الصف، ولا يفسد ذلك عليه كونه فيما بين الصفين فى غير صف، دل ذلك أن من صلى دون الصف أن صلاته تجزئه.
96 - باب إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الرسول، فِيهِ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ. / 145 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنٍ: أنه صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَقَالَ: ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ، وَكُلَّمَا وَضَعَ.(2/402)
/ 146 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَكَبِّرُ، كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: إِنِّي لأشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ. وترجم لحديث عمران: (باب إتمام التكبير فى السجود) . / 147 - وزاد فيه: (فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ) . وترجم لحديث أبى هريرة: (باب التكبير إذا قام من السجود) . / 148 - وزاد فيه: عن أَبَى هُرَيْرَةَ: (أَنَ النبى، عليه السلام، كان يكبر إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا، ثم يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ) . / 149 - وذكر فيه حديث عِكْرِمَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، فَقُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَحْمَقُ، فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ. قال المؤلف: هذه الآثار تدل على أن التكبير فى كل خفض ورفع لم يكن مستعملاً عندهم، ولولا ذلك ما قال عمران: ذكرنا على صلاة رسول الله، ولا قال أبو هريرة: إنى لأشبهكم صلاة برسول الله، ولا أنكر عكرمة على الذى كبر اثنتين وعشرين تكبيرة، ولا نسبه إلى الحمق، وهذا يدل أن التكبير فى غير الإحرام لم يتلقه السلف على أنه ركن من أركان الصلاة، وقد فعله جماعة من السلف وتركه جماعة، ولم يقل أحد ممن فعله للذى لم يفعله إن صلاتك لا تتم إلا به. فممَّن كان يُتم التكبير ولا ينقصه فى الصلاة فى كل خفض ورفع: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، وابن الزبير، ومن التابعين: مكحول،(2/403)
والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، وعوام العلماء. وممن كان ينقص التكبير: ذكر الطبرى قال: سئل أبو هريرة: من أول من ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية. وعن عمر بن عبد العزيز، والقاسم، وسالم، وابن سيرين، وسعيد بن جبير مثله، واحتجوا بما رواه شعبة عن الحسن بن عمران، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه قال: صليت خلف النبى فكان لا يتم التكبير، وكان ابن عمر ينقص التكبير، قال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكبر، وإذا أراد أن يسجد الثانية من كل ركعة لم يكبر، وقال سعيد بن جبير: إنما هو شىء يزين به الرجل صلاته. وقال قوم من العلماء: التكبير إنما هو إذن بحركة الإمام وليس بسنة إلا فى الجماعة، فأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر. وقال أحمد بن حنبل: كان ابن عمر لا يكبر إذا صلى وحده، واختلف أصحاب مالك فيمن ترك التكبير فى الصلاة، فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث تكبيرات من الصلاة فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، فإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسى تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد السهو قبل السلام، فإن لم يفعل فلا شىء عليه. وروى عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من نسيها. وقال عبد الله بن عبد الحكم وأصبغ بن الفرج: ليس على من سها عن التكبير فى الصلاة كلها شىء إذا كبر للإحرام إلا سجود السهو، فإن لم يفعل حتى تباعد فلا شىء عليه، واختاره ابن المواز، وابن حبيب، وآثار هذا الباب تدل على صحة هذا القول، ولا سجود فيه(2/404)
عند الشافعى، قال ابن القصار: وعلى أصل أبى حنيفة فيه السجود، وحكى الطحاوى خلاف هذا القول قال: أجمعوا أن من ترك تكبير الركوع والسجود فصلاته تامة. وقال الطبرى: الحسن بن عمران مجهول، ولا يجوز الاحتجاج به، غير أنه وإن كان كذلك فإنا لا نرى صلاة من ترك شيئًا من التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام فاسدة، وإن كان مخطئًا سنته عليه السلام، لإجماع سلف الأمة وخلفها أن صلاة من فعل ذلك غير فاسدة. وفى تكبير أبى هريرة كلما خفض ورفع من الفقه أن التكبير ينبغى أن يكون من الخفض والرفع من الفعل سواء، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فهذا قول أكثر العلماء، ذكره الطحاوى عن الكوفيين، والثورى، والشافعى، قالوا: ينحط للركوع والسجود وهو مكبر، وكذلك يفعل فى حال الرفع، وفى حال القيام من الجلسة الأولى، يكبر فى حال القيام وكذلك قال مالك، إلا فى حال القيام من الجلسة الأولى فإنه يقول: لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، هذا قوله فى المدونة، وفى (المبسوط) : روى ابن وهب عن مالك: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىَّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فأرجو أن يكون فى سعة. قال الطحاوى: فأخبر فى هذا الحديث أن التكبير كان فى حال الخفض والرفع، ولما اتفقوا فى الخفض والرفع أن الذكر مفعول فيه وجب أن يكون كذلك حال القيام من الجلسة الأولى. وسأذكر وجه قول مالك أنه لا يكبر حتى يعتدل قائمًا، فى أبواب السجود فى باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين، إن شاء الله.(2/405)
97 - باب وَضْعِ الأكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: أَمْكَنَ الرسول يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ. / 150 - فيه: مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ قال: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي، وَقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ، فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِينَا عَلَى الرُّكَبِ. اتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وجماعة من التابعين، وكان عبد الله بن مسعود، والأسود بن يزيد، وأبو عبيدة يضعون أيديهم بين ركبهم إذا ركعوا، وقال ابن مسعود: هكذا فعل النبى، عليه السلام. قال الطحاوى: وما روى عن ابن مسعود فى ذلك منسوخ بحديث سعد؛ ألا ترى قوله: كنا نفعله فنهينا عنه، وروى شعبة عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن قال: قال عمر:. . .، فقد سُنَّتْ لكم الركب، قال الطحاوى: ثم التمست ذلك من طريق النظر، فرأيت التطبيق فيه التقاء اليدين، ورأيت وضع اليدين على الركبتين فيه تفرقهما، فأردنا أن ننظر فى حكم ذلك كيف هو؟ فرأينا السنة جاءت عن الرسول بالتجافى فى الركوع والسجود، وأجمع المسلمون على ذلك، وكان ذلك تفريق الأعضاء، وكان من قام إلى الصلاة أمر أن يراوح بين قدميه، وقد روى ذلك عن ابن مسعود، وهو الذى روى التطبيق، فلما رأينا تفريق الأعضاء أولى من إلزاق بعضها إلى بعض، واختلفوا فى إلصاقها وتفريقها فى الركوع كان النظر على ذلك أن(2/406)
يكون ما اختلفوا فيه من ذلك معطوفًا على ما أجمعوا عليه، ولما كانت السنة تفريق الأعضاء كان فيما ذكرنا أيضًا، فثبت نسخ التطبيق ووجوب وضع اليدين على الركبتين.
98 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ
/ 151 - فيه: حُذَيْفَةُ: أنه رَأَى رَجُلا لا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلا السُّجُودَ، قَالَ: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ، مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهَا. قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى (باب الخشوع فى الصلاة) ، فأغنى عن إعادته، قال المهلب: نفى عنه الفعل بما انتفى عنه من التجويد، وهذا معروف فى لسان العرب، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يزنى الزانى وهو مؤمن) ، نفى عنه بِقِلَّةِ التجويد للإيمان اسمهُ، وكذلك قول حذيفة للرجل: ما صليت، أى: صلاة كاملة، ولو متَّ متَّ على غير فطرة محمد، وسمى الصلاة فطرة؛ لأنها أكبر عُرى الإيمان. وسأذكر اختلاف أهل العلم فيمن لم يتم الركوع فى باب أمر الرسول الذى لا يتم ركوعه بالإعادة، إن شاء الله تعالى.
99 - باب اسْتِوَاءِ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: رَكَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ.(2/407)
0 - باب حَدِّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالاعْتِدَالِ فِيهِ وَالطُّمَأْنِينَةِ
/ 152 - فيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ عليه السلام، وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، مَا خَلا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. قال المهلب: هذه الصفة أكمل صفات صلاة الجماعة، وأما صلاة الرجل وحده، فله أن يطول فى الركوع والسجود أضعاف ما يطول فى القيام بين السجدتين وبين الركعة والسجدة، وأما أقل ما يجزئ من ذلك فما قال ابن مسعود، قال: إذا أمكن الرجل يديه من ركبتيه، فقد أجزأه، وكانت ابنة سعد تفرط فى الركوع تطأطئًا منكرًا، قال لها سعد: إنما يكفيك إذا وضعت يديك على ركبتيك، وقاله ابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وهو قول عامة الفقهاء. وروى أبو الجوزاء عن عائشة قالت: كان النبى، عليه السلام، إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، كان بين ذلك. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: كان عليه السلام، لو صُبَّ بين كتفيه ماء لاستقر، وقال أبو هريرة: اتق الحنوة فى الركوع والحدبة، وهذا هو هصر الظهر. وقال صاحب (العين) : هصرت الشىء: إذا جذبته وكسرته إليك من غير بينونة، وقال صاحب (الأفعال) : هصر الشىء هصرًا: أخذ بأعلاه ليميله إلى نفسه، وهصر الأسد فريسته: كسرها.(2/408)
1 - باب أَمْرِ الرَّسُولِ الَّذِي لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ بِالإعَادَةِ
/ 153 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ، فَرَدَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَيْهِ السَّلامَ، فَقَالَ: (ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، ثَلاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا) . قال المؤلف: استدل بهذا الحديث جماعة من الفقهاء، فقالوا: الطمأنينة فى الركوع والسجود فرض، لا تجزئ صلاة من لم يرفع رأسه، ويعتدل فى ركوعه وسجوده ثم يقيم صلبه، وقالوا: ألا ترى أن الرسول قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، ثم علمه الصلاة وأمره بالطمأنينة فى الركوع والسجود، هذا قول الثورى، وأبى يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وابن وهب صاحب مالك قال: من لم يعتدل قائمًا من ركوعه حتى يسجد فلا يعتد بتلك الركعة. وفيها قول آخر، روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) قال: من رفع رأسه من الركوع فلم يعتدل قائمًا حتى يسجد يجزئه ولا يعود، وقاله ابن القاسم فى كتاب سحنون، وروى ابن وهب عن مالك مثل ذلك فى (العتبية) .(2/409)
وروى عيسى عن ابن القاسم فيمن رفع رأسه من السجود، فلم يعتدل جالسًا حتى سجد: يستغفر الله ولا يعود. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم مثله، وهو قول أبى حنيفة، ومحمد. وكذلك اختلفوا فيمن خرَّ من ركوعه ساجدًا، ولم يرفع رأسه، فروى عيسى عن ابن القاسم أنه لا يعتد بتلك الركعة، واستحب مالك أن يتمادى ويعيد الصلاة، وفى (المجموعة) روى على بن زياد، عن مالك أن من فعل ذلك ساهيًا، فليسجد قبل السلام وتجزئه تلك الركعة، وفى (الواضحة) عن ابن كنانة: تجزئه تلك الركعة، واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لهذا القول أن النبى، عليه السلام، أمر هذا الرجل حين لم يكمل الركوع والسجود بالإعادة، ولم يأمر الذين نقصوا الركوع والسجود بالإعادة حين قال لهم: (إنى أراكم من وراء ظهرى) ، فدل ذلك من فعله أن الطمأنينة لو كانت فريضة، لما ترك الذين قال لهم: لا يخفى علىّ خشوعكم حتى يبين لهم ذلك؛ لأنه بُعث معلمًا. قال المهلب: والدليل على صحة هذا القول أنه لما أمر الذى لم يحسن صلاته بالإعادة مرة بعد أخرى، ولم يحسن قال له: والله ما أحسن غير هذا فعلِّمنى، فوصف له عليه السلام هيئة الصلاة، ولم يأمره أن يعيد الصلاة التى نقصها مرة أخرى على الصفة التى علمه، ولم يقل له: لا يجزئك حتى تصلى هذه الصلاة على هذه الصفة، وإنما علمه كيف يصلى فيما يستقبل.(2/410)
واحتج الرازى لأبى حنيفة بحديث رفاعة بن رافع فى تعليم الأعرابى أن النبى، عليه السلام، قال له: (ثم ارفع فاعتدل قائمًا. . .) ، وذكر الحديث قال: إذا صليت على هذا فقد أتممتها، وما أنقصت من ذلك فإنما تنقص من صلاتك، فجعلها ناقصة يدل على الجواز.(2/411)
2 - باب الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ
/ 154 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) . وترجم له: (باب التسبيح والدعاء فى السجود) ، وزاد فيه بعد قوله: (اللهم اغفر لى) ، (يتأول القرآن به) . قال الطحاوى: اختلف العلماء فيما يدعو به الرجل فى ركوعه وسجوده، فقالت طائفة: لا بأس أن يدعو الرجل بما أحب، وليس عندهم فى ذلك شىء موقَّت، قالوا: وقد رويت آثار كثيرة عن الرسول أنه كان يدعو بها. منها: حديث موسى بن عقبة، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبى رافع، عن على بن أبى طالب قال: كان رسول الله يقول فى ركوعه: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربى، خشع سمعى وبصرى، ومخى وعظمى، وعصبى لله رب العالمين) ، ويقول فى سجوده: (اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وأنت ربى، سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) . ومنها: حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: فقدت النبى، عليه السلام، ذات ليلة، فظننت أنه أتى جاريته، فالتمسته فوقعت يدى على صدور قدميه وهو ساجد، وهو يقول: (اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) . إلا أن مالكًا كره الدعاء فى الركوع، ولم يكره فى السجود، واقتصر فى الركوع على تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، أظنه(2/412)
ذهب إلى حديث على عن النبى، عليه السلام، قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا فيه فى الدعاء) ، فجعل فى هذا الحديث الركوع لتعظيم الله، تعالى، وإن كانت قراءة القرآن أفضل من ذكر التعظيم، فلذلك ينبغى أن يكون فى كل موضع ما جعل فيه، وإن كان غيره أشرف منه. ويؤيد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعى قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. وروى ابن عيينة عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحويرث، قال: (يقول الله: إذا شغل عبدى ثناؤه علىّ عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين) ، فلهذه الآثار كره مالك الدعاء فى الركوع، واستحبه فى السجود، والله أعلم. وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الرب والثناء عليه عند العرب دعاء، قاله ابن شهاب وهو حجة فى اللغة، وقد ثبت فى حديث عائشة المذكور فى هذا الباب الدعاء فى الركوع والسجود فلا معنى لمخالفة ذلك. وقالت طائفة: ينبغى له أن يقول فى ركوعه: سبحانك ربى العظيم ثلاثًا، وفى سجوده: سبحان ربى الأعلى ثلاثًا، واحتجوا بما رواه موسى بن أيوب عن عمه إياس بن عامر، عن عقبة بن عامر الجهنى، قال: لما نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة: 74] ، قال عليه السلام: (اجعلوها فى ركوعكم) ، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الواقعة: 96] ،(2/413)
قال: (اجعلوها فى سجودكم) . وروى مرة إياس بن عامر، عن على بن أبى طالب، وذكر مثله، هذا قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، إلا أنهم لم يوجبوا ذلك، وقالوا: من ترك التسبيح فى الركوع والسجود فصلاته تامة، وقال إسحاق، وأهل الظاهر: إن ترك ذلك عليه الإعادة، وقال: حديث عقبة ورد مورد البيان فوجب امتثاله. فيل لهم: البيان إنما ورد فى المجمل، والركوع والسجود مفسر فلا يفتقر إلى بيان، فحمل حديث عقبة على الاستحباب بدليل تعليمه الأعرابى الصلاة وليس التسبيح منها، فلو وجب فى الركوع والسجود ذكر معين لا تجزئ الصلاة دونه لبيَّن ذلك النبى لأمته؛ لأنه قد بيَّن لهم فروض الصلاة وسننها، ولأخبرهم أن ما كان روى عنه من ضروب الدعاء والذكر فى الركوع منسوخ بحديث عقبة، فلما لم يثبت ذلك سقط قول أهل الظاهر وقول من شرط فى ذلك ذكرًا معينًا أيضًا. قال ابن القصار: لو قال: سبحان ربى الجليل، أو الكبير، أو القدير لكان معظمًا له، وإذا ثبت أن نفس التسبيح ليس بواجب، فتعيينه والعدول عنه إلى ما فى معناه جائز. وقوله: يتأول القرآن، يعنى: يتأول قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا) [النصر: 3] ، حين أعلمه الله بانقضاء أجله. وقال الخطابى: أخبرنى الحسن بن خلاد قال: سألت الزجاج عن(2/414)
قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، والعلة فى ظهور الواو؟ قال: سألت عنه المبرد فقال: سألت عنه المازنى، فقال: المعنى: سبحانك اللهم بجميع آلائك، وبحمدك سبحتك، وقال: ومعنى سبحانك: سبحتك، وسبحان الله معناه: سبحت الله ونزهته عن كل عيب، ونصبه على المصدر.
3 - باب القراءة فى الركوع والسجود وما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع
/ 155 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ) . ترجم له البخارى: (باب القراءة فى الركوع والسجود) ، ولم يُدخل فيه حديثًا بجواز ذلك ولا بمنعه. وقد روى عن النبى، عليه السلام، أنه نهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود، ذكره الطبرى قال: أخبرنا عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا داود بن قيس، عن إبراهيم بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، عن على قال: (نهانى حبيبى (صلى الله عليه وسلم) أن أقرأ راكعًا وساجدًا) .(2/415)
واتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا الحديث، وخالفه قوم من السلف وأجازوه، روى أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخى سليمان بن ربيعة وهو ساجد، وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ، ثم يجىء، وهو ساجد لفعل، وقال عطاء: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع فى المكتوبة، وأجازه الربيع بن خثيم، وقال إبراهيم النخعى فى الرجل ينسى الآية فيذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع. قال الطبرى: وهؤلاء لم يبلغهم الحديث بالنهى عن ذلك عن الرسول، أو بلغهم فلم يَرَوْهُ صحيحًا، ورأوا قراءة القرآن حسنة فى كل حال، قال الطبرى: والخبر عندنا بذلك صحيح، فلا ينبغى لمصل أن يقرأ فى ركوعه وسجوده من أجله، وعلى هذا جماعة أئمة الأمصار. واختلف العلماء فيما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، فذهبت طائفة إلى الأخذ بحديث سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، وقال: ينبغى للإمام أن يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، يجمعهما جميعًا، ثم يقول المأموم: ربنا ولك الحمد خاصة، هذا قول أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى، وابن نافع صاحب مالك، إلا أن الشافعى خالفهم فى المأموم، فقال: يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، كالإمام سواء. وقالت طائفة: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده دون المأموم،(2/416)
ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد، هذا قول مالك والليث وأبى حنيفة، واحتجوا لهذا القول بحديث مالك عن سُمى، عن أبى صالح، عن أبى هريرة: (أن نبى الله قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) . قال ابن القصار: فأفرد الإمام بغير ما أفرد به المأمومين، ولو كان الإمام يجمع الأمرين لقال عليه السلام: إذا قال الإمام: ربنا ولك الحمد، فقولوا: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، حتى يكون ابتداء قولهم بعد انتهاء قوله، كما قال: وإذا كبر فكبروا، ولم يكن للفرق بينهما معنى، وحديث أبى صالح قاضٍ على حديث المقبرى ومبيِّن له، ويحتمل أن يكون عليه السلام، يقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد إذا كان منفردًا فى صلاته، وإنما سقط سمع الله لمن حمده للمأموم لاختلاف حاله وحال الإمام فى الصلاة، وأن الإمام مجيب للدعاء، كما قسم عليه السلام الذكر بين العاطس والمشمت، فكذلك قسم هذا الذكر بين الإمام والمأموم، وقول الإمام: سمع الله لمن حمده استجابة لدعاء داع، وقول المأموم: ربنا ولك الحمد على وجه المقابلة؛ لأنه لا حامد له غير المؤتم به فى هذه الحال، فلا يشرك أحدهما صاحبه. وقال أهل المقالة الأولى: ليس فى قوله عليه السلام: (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ، دليل على أن ذلك يقوله الإمام دون غيره، ولو كان كذلك لاستحال أن يقولها من ليس بمأموم، فقد رأيناكم تُجمعون على أن المصلى وحده يقولها مع(2/417)
قوله: سمع الله لمن حمده، فلما قالها المنفرد ولم ينتف ما ذكرنا من قوله عليه السلام، كان الإمام كذلك يقولها أيضًا، ولا ينفى ما قال رسول الله، واحتجوا أيضًا بما رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهرى، عن سعيد وأبى سلمة، عن أبى هريرة قال: (كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة يكبر ويرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد. . .) الحديث. وبه قال ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: (خسفت الشمس فى حياة رسول الله فصلى بالناس، فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) . قال الطحاوى: هذا من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن المنفرد يقول ذلك، فأردنا أن ننظر فى الإمام هل حكمه حكم من يصلى وحده أم لا، فوجدنا الإمام يفعل فى صلاته كلها من التكبير والقراءة مثل ما يفعله المنفرد، ووجدنا أحكامه فيما يطرأ عليه كأحكامه، وكان المأموم فى ذلك بخلاف الإمام والمنفرد، وثبت باتفاقهم أن المصلى وحده يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثبت أن الإمام يقولها أيضًا كذلك.
4 - باب فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ
/ 156 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (إِذَا قَالَ الإمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،(2/418)
فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا ولَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) . / 157 - وقال أبو هُرَيْرَةَ: لأقَرِّبَنَّ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ، وَصَلاةِ الْعِشَاءِ، وَصَلاةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ. / 158 - وفيه: رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: (كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ الرسول، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ) . وقد تقدم كلام العلماء فى حديث أبى هريرة فى الباب قبله، فأغنى عن إعادته. وفيه: أن القنوت كان فى صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح، ثم ترك فى الظهر والعشاء. وفى حديث رفاعة: ثواب التحميد لله، تعالى، والذكر له وما عند الله أكثر وأوسع، قال الله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) [السجدة: 17] . وفيه: دليل على جواز رفع المذكر صوته بالتكبير والتحميد فى المساجد الكثيرة الجمع ليسمع الناس، وليس ذلك بكلام تفسد به الصلاة، وكيف يفسدها، رفع الصوت أم لم يرفع، وهو مندوب إليه فيها، وكما لا يجوز لأحد أن يتكلم فى الصلاة بكلام الناس، وإن لم يرفع صوته، فكذلك لا يضره رفع الصوت بالذكر؛ يدل على ذلك حديث معاوية بن الحكم عن الرسول أنه قال: (إن(2/419)
صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الناس، وإنما هو التهليل والتكبير، وقراءة القرآن) ، فأطلق أنواع الذكر فى الصلاة، فلهذا قلنا: إن المذكر إذا رفع صوته ب (ربنا ولك الحمد) ، وسائر التكبير لا يضره، وقد خالف ذلك بعض المتأخرين بلا دليل ولا برهان، وقد تقدم ذكر ذلك فى باب من أسمع الناس تكبير الإمام قبل هذا.
5 - باب الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: رَفَعَ النَّبِيُّ عليه السلام، رأسه حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ. / 159 - فيه: أَنَسٌ: نعَتُ صَلاةَ رسول الله، فَكَانَ يُصَلِّي: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ، حَتَّى نَقُولَ: قَدْ نَسِيَ. / 160 - وفيه: الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رُكُوعُ الرسول وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. / 161 - وفيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه أراهم صَلاةُ رسول الله - وَذَلكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ - فَقَامَ، فَأَمْكَنَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْصَبَ هُنَيَّئةً، فَصَلَّى بِنَا صَلاةَ شَيْخِنَا أَبِي يزيد. . .، الحديث. قال المؤلف: هذه الصفة فى الصلاة حسنة لمن التزمها فى خاصة نفسه، غير أن فعل أنس ومالك بن الحويرث، ونعتهما صلاة رسول الله بهذه الصفة يدل أنهم كانوا لا يبالغون فى الطمأنينة فى الرفع من الركوع ولا بين السجدتين مثل ما ذكر فى الحديث عن(2/420)
الرسول، فأراهم أنس ومالك بن الحويرث ذلك، ولم يقولا لهم: إن صلاتكم هذه التى تقصرون فيها عن بلوغ هذا الحد من الطمأنينة لا تجوز، وإن كانت هذه الصفة أفضل لمن قدر عليها. وقد قال أبو أيوب فى باب المكث بين السجدتين بعد ذلك: وقد كان أبو يزيد يفعل شيئًا لم أرهم يفعلونه، وكذلك قال ثابت: عن أنس فى ذلك الباب أنه كان يصنع شيئًا لم أراكم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسى، وبين السجدتين كذلك، فدل أن الذى كانوا يصنعونه فى ذلك من خلاف هذه الآثار جائز أيضًا؛ إذ لا يجوز أن يتفق الصحابة على صفة من الصلاة إلا وهى جائزة. هذا المفهوم من هذه الآثار، وقد ترجم لحديث مالك بن الحويرث، ولحديث البراء، ولحديث أنس: (باب المكث بين السجدتين) .
6 - باب يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ. / 162 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أنه كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا. . .، الحديث.(2/421)
/ 163 - وفيه: حديث أَنَسَ: أن النبى، عليه السلام، ركب فَرَسًا - فَجُحِشَ شِقُّهُ، فَصَلَّى قَاعِدًا. . .، إلى قوله: (وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا) . وقد تقدم معنى هذا الباب: أن التكبير فى الصلاة كلها مع الخفض والرفع، فى (باب إتمام التكبير فى الركوع) ، فلا معنى لإعادة القول فيه، ولا خلاف فيه بين الفقهاء إلا فى تكبير القيام من ثنتين، وسيأتى ذلك فى (باب يكبر وهو ينهض بين السجدتين) ، إن شاء الله. واختلفوا فى وضع اليدين قبل الركبتين فى السجود، فذهب مالك، والأوزاعى إلى ما روى فى ذلك عن ابن عمر، رواه أبو مصعب عن مالك فى (المبسوط) ، قال: وهو أحسن فى سكينة الصلاة ووقارها، والحجة لذلك ما رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة أن النبى قال: (إذا سجد أحدكم فليضع يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير) ، ذكره إسماعيل بن إسحاق، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يضع أيهما شاء قبل صاحبه، وذلك واسع، ذكره ابن حبيب. وقالت طائفة: يضع ركبتيه قبل يديه روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وهو قول الثورى والكوفيين، وذكر ابن شعبان عن مالك مثله، وبه قال ابن وهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وحجتهم حديث وائل بن حجر: (أن النبى، عليه السلام، بدأ فوضع ركبتيه قبل يديه) . قال الطحاوى: اتفقوا أنه يضع رأسه بعد يديه وركبتيه، ثم يرفعه قبلهما، ثم كانت اليدان متقدمتين فى الرفع، فوجب أن تكون مؤخرتين فى الوضع.(2/422)
7 - باب فَضْلِ السُّجُودِ
/ 164 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (هَلْ تُمَارُونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟) ، قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟) ، قَالُوا: لا، قَالَ: (فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا، فَلْيَتَّبِعْه، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلا الرُّسُلُ، وَكَلامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟) ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بقدر بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ. . .) ، وذكر باقى الحديث. قال المؤلف: قوله عليه السلام: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود) ، يدل أن الصلاة أفضل الأعمال لما فيها من الركوع والسجود، وقد قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا(2/423)
سجد) ، وقرأ: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ، ولعن الله إبليس، لإبائه عن السجود، لعنةً، أبلسهُ بها وأيأسهُ من رحمته إلى يوم القيامة. وقال ثوبان لرسول الله: دُلَّنى على عمل أكون به معك فى الجنة قال: (أكثر من السجود) . وقيل فى قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] ، هو أثر السهر والصفرة، وقيل: الصلاة والخشوع والوقار، وقيل: هو ما يتعلق من التراب بموضع السجود، وقيل فيها غير هذا وسأذكر ذلك فى الباب بعد هذا، وأذكر فيه من كره آثار السجود فى الوجه ومن رخص فيها. قال المهلب: وفيه إثبات الرؤية لله، تعالى، نصًا من كلام رسول الله، وهو تفسير لقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23] ، يعنى: مبصرة لله تعالى، ولو لم يكن هذا القول للنبى بالرؤيا نصًا لكان لنا فى قوله تعالى ما فيه كفاية لمن أنصف، وذلك أن النظر إذا قرن بذكر الوجه لم يكن إلا نظر البصر، وإذا قرن بذكر القلب كان بمعنى اليقين، فلا يجوز أن ينقل حكم الوجوه إلى حكم القلوب. فإن اعترض معترض علينا بقوله تعالى: (ولا تدركه الأبصار) [الأنعام: 103] ، وأن ذلك على العموم. قيل: يحتمل أن يكون على العموم لولا ما خصه من قوله عليه السلام: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر والشمس وليس دونهما سحاب) .(2/424)
وقوله: (فيها منافقوها) ، يدل أن المنافقين يتبعون محمدًا لما انكشف لهم من الحقيقة رجاء منهم أن ينتفعوا بذلك، ويلتزموا الرياء فى الآخرة كما التزموه فى الدنيا حتى تُبينهم الغُرَرُ والتحجيل من أثر الوضوء عند الحوض، فيتبين حينئذ المنافق؛ إذ لا غرة له ولا تحجيل، ويؤخذ بهم ذات الشمال فى جملة من ارتد بعده عليه السلام فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقًا سحقًا. وقوله: (فيأتيهم الله) ، الإتيان هاهنا إنما هو كشف الحجب التى بين أبصارنا وبين رؤية الله؛ لأن الحركة والانتقال لا تجوز على الله؛ لأنها صفات الأجسام المتناهية، والله تعالى، لا يوصف بشىء من ذلك، فلم يبق من معنى الإتيان إلا ظهوره تعالى إلى أبصار لم تكن تراه ولا تدركه. والضحك: هو صفة من صفات الله، ومعناه عند العلماء: الاستبشار والرضا، لا ضحك بلهوات وتعجب كما هو منا، وسأستقصى القول فى رؤية الله تعالى، وسائر معانى هذا الحديث وتفسير اللغة والعربية فى (كتاب الاعتصام) ، فى (باب قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23] ، إن شاء الله. تفسير الغريب: قوله: (منهم الموبق بعمله) ، قال صاحب (الأفعال) : وبق الرجل: إذا هلك بذنوبه. وقوله: (ومنهم من يخردل) ، قال صاحب (العين) : خردلت اللحم: فصلته، وخردلت الطعام: أكلت خياره. وقال غيره: خردلته: صرعته، والجردلة بالجيم، الإشراف على السقوط والهلكة.(2/425)
وقوله: (قد امتحشوا) ، المحش: إحراق الجلد، من كتاب (العين) . وقوله: (قشبنى ريحها) ، قال صاحب (الأفعال) : تقول العرب: قشبت الشىء: قذرته، وقشب الشىء، بكسر الشين، قشبًا: قذر، وقال ابن قتيبة: قشبنى ريحها، هو من القشيب، والقشيب: السم، كأنه قال: سمنى ريحها، ويقال لكل مسموم: قشيب. وقال الخطابى: يقال: قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه وكانت ريحه طيبة، وأصل القشب خلط السم بالطعام، يقال: قشبه: إذا سمه، وقشبتنا الدنيا: أى فتنتنا، فصار حبها كالسم الضار، ثم قيل على هذا: قشبه الدخان، وقشبته الريح الزكية: إذا بلغت منه الكظم. ومنه حديث عمر أنه كان بمكة فوجد ريح طيب فقال: من قشبنا؟ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، دخلت على أم حبيبة فطيبتنى.
8 - باب يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ
/ 165 - فيه: ابْنِ بُحَيْنَةَ (أَنَّ رسول الله كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ) . وهذه صفة مستحسنة عند العلماء، ومن تركها لم تبطل(2/426)
صلاته، وقد اختلف السلف فى ذلك، فممن روى عنه أنه كان يجافى فى سجوده: على بن أبى طالب، والبراء، وأبو مسعود، وأبو سعيد الخدرى، وابن عمر، ذكره الطبرى، وقال الحسن: حدثنى أحمر صاحب النبى، قال: (إن كنا لنأوى لرسول الله مما يجافى بمرفقيه عن جنبيه) ، وفعله الحسن، وقال النخعى: إذا سجد فليفرج بين فخذيه. وممن رخص أن يعتمد بمرفقيه، قال ابن مسعود: هيئت عظام ابن آدم للسجود فاسجدوا حتى المرافق. وأجاز ابن سيرين أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه فى سجوده، وقال نافع: كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد، وسأله رجل: هل يضع مرفقيه على فخذيه إذا سجد؟ قال: اسجد كيف تيسر عليك. وقال أشعث بن أبى الشعثاء، عن قيس بن سكن: كل ذلك كانوا يفعلون ينضمون ويجافون، كان بعضهم ينضم، وبعضهم يجافى. وروى ابن عيينة، عن سُمى، عن النعمان بن أبى عياش، قال: (شكى إلى رسول الله الإدغام والاعتماد فى الصلاة، فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه) ، ذكر هذا كله ابن أبى شيبة فى (مصنفه) . وإنما كان يجافى عليه السلام، فى سجوده ويفرج بين يديه حتى يبدى بياض إبطيه، والله أعلم، ليخف على الأرض ولا يثقل(2/427)
عليها، كما ذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح، أنه قال: خفوا على الأرض. قال أبو عبيد: وجهه أنه يريد ذلك فى السجود، يقول: لا ترسل نفسك على الأرض إرسالاً ثقيلاً، فيؤثر فى جبهتك، ويبين ذلك حديث مجاهد أن حبيب بن أبى ثابت سأله قال: إنى أخشى أن يؤثر السجود فى جبهتى؟ قال: إذا سجدت فتخاف، يعنى: خفف نفسك وجبهتك على الأرض، وبعض الناس يقولون: فتجاف، والمحفوظ عندى بالخاء. وقد ذكر ابن أبى شيبة من كره ذلك ومن رخص فيه، ذكر عن ابن عمر: أنه رأى رجلاً قد أثر السجود فى جبهته، فقال: لا يشينن أحدكم وجهه، وكرهه سعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، والشعبى، وعطاء. وممن رخص فى ذلك: قال أبو إسحاق السبيعى: ما رأيت سجدة أعظم من سجدة ابن الزبير، ورأيت أصحاب على، وأصحاب عبد الله وآثار السجود فى جباههم وأنوفهم، وقال الحسن: رأيت ما يلى الأرض من عامر بن عبد قيس مثل ثفن البعير. وقد روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة فى تأويل قوله تعالى: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] ، قالا: هو التراب وكذا الطهور. وروى ابن وهب، عن مطرف، عن مالك أنه ما تعلق بالجبهة من أثر الأرض وهذا يشبه الرخصة فى هذا الباب. وفى الآية أقوال أخر قيل: صلاتهم تبدو فى وجوههم يوم القيامة، عن ابن عباس.(2/428)
وقال عطية: مواضع السجود أشد بياضًا يوم القيامة، وهو قول الحسن ومقاتل. وعن ابن عباس: هو السمت الحسن فى الدنيا، وقال مجاهد: هو سيما الإسلام وسمته وتواضعه. وقال الحسن: هو الصفرة التى تعلو الوجه من السهر والتعب. والضبعان: العضدان، واحدهما: ضبع، ومنه الاضطباع فى اللباس، ويقال: ضبعت: إذا مددت يدى ومنه قول الشاعر: ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا أى: حتى تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف ونمد أضباعنا، عن ابن قتيبة، وفى كتاب العين: المضبعة: اللحمة التى تحت الإبط. وقوله: إن كنا لنأوى لرسول الله، قال صاحب العين: أويت له: رفقت له.
9 - باب يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ
قَالَهُ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. لا يختلف العلماء فى استحباب هذه الصفة فى السجود، وكذلك يستحبون أن يستقبل الساجد بأنامل يديه القبلة فى سجوده، وإن فعل غير ذلك فصلاته جائزة عندهم.(2/429)
0 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ سُجُودَه
قد تقدم فى الجزء الأول من الصلاة، فأغنى عن إعادته.
1 - باب السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
/ 166 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أُمِرَ الرسول أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلا يَكُفَّ شَعَرًا، وَلا ثَوْبًا: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ) . / 167 - ورواه عبد الله بن طَاوُسٍ، عن أبيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: قَالَ رسول الله: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ، عَلَى أَنْفِهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يكْف الشَّعَرَ وَالثِّيَابَ) . / 168 - وفيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ الرسول، فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ جَبْهَتَهُ عَلَى الأرْضِ) . اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم أن السجود على الوجه فريضة، فقالت طائفة: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه، روى ذلك عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس، والحسن، وابن سيرين، والقاسم، وسالم، والشعبى، والزهرى، وهو قول مالك، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى فى أحد قوليه، وأبى ثور، والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته، وقالت طائفة: يجزئه أن يسجد على أنفه دون جبهته، هذا(2/430)
قول أبى حنيفة، وروى مثله عن طاوس، وابن سيرين، وذكر أبو الفرج، عن ابن القاسم مثله. وأوجب قوم من أهل الحديث السجود على الأنف والجبهة جميعًا، روى ذلك عن النخعى، وعكرمة، وابن أبى ليلى، وسعيد بن جبير، وهو قول أحمد، وطائفة، وهو مذهب ابن حبيب، وقال ابن عباس: من لم يضع أنفه فى الأرض لم يصل. وقالت طائفة: لا يجزئه إن ترك السجود على شىء من الأعضاء السبعة، وهو أحد قولى الشافعى، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مذهب ابن حبيب، وأظن البخارى مال إلى هذا القول، وحجته حديث ابن عباس أن النبى، عليه السلام، أمر أن يسجد على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على بعضها إلا بدلالة. وحجة من أوجب السجود على الجبهة والأنف جميعًا أنه قد روى فى بعض طرق هذا الحديث، أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء، منها الوجه، فلا يخص بالجبهة دون الأنف. وبهذا الحديث احتج أبو حنيفة فى أنه يجزئ السجود على الأنف خاصة، وقال: ذكره للوجه يدل على أنه أى شىء وضع منه أجزأه، وإذا جاز عند من خالفنا الاقتصار على الجبهة دون الأنف جاز الاقتصار على الأنف دون الجبهة؛ لأنه إذا سجد على أنفه، قيل: قد سجد على وجهه، كما إذا اقتصر على جبهته. وحجة أهل المقالة الأولى أن الأحاديث إنما ذكر فيها الجبهة ولم يذكر الأنف، فدل على أن الجبهة تجزئ، وأن الأنف تبع.(2/431)
فإن قيل: فقد روى ابن طاوس، عن أبيه فى هذا الحديث أنه عليه السلام قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده على أنفه) . قال المهلب: فالجواب أن الأنف غير مشترط فى ذلك؛ لأنه إنما أشار بيده على أنفه إلى جبهته، فجعل الأنف تبعًا للجبهة، ولم يقل إلى أنفه. قال ابن القصار: وإجماع الأعصار حجة، ووجدنا عصر التابعين على قولين: فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف، ومنهم من جوز الاقتصار على الجبهة، فمن جوز الاقتصار على الأنف دون الجبهة خرج عن إجماعهم، قال: ويقال لمن أوجب السجود على الآراب السبعة: إن الله ذكر السجود فى كتابه فى مواضع، فلم يذكر فيها غير الوجه، فقال: (يخرّون للأذقان يبكون) [الإسراء: 109] ، وقال: (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) [الفتح: 29] . وقال عليه السلام: (سجد وجهى للذى خلقه وشق سمعه وبصره) ، فلم يذكر غير الوجه، وقال للأعرابى الذى علمه: (مكن جبهتك من الأرض) ، ولم يذكر ركبتيه ولا رجليه، ولو كان حكم السجود متعلقًا بذلك لكان مع العجز عنه ينتقل إلى الإيماء كالرأس، فلما كان مع العجز يقع الإيماء بالرأس حسب، ولا يؤمى بالركبتين والقدمين واليدين، علمنا أن الحكم تعلق بالوجه حسب. فإن قيل: قد قال عليه السلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) .(2/432)
قيل: لا يمتنع أن يؤمر بفعل الشىء ويكون بعضه مفروضًا وبعضه مسنونًا، ولا يكون وجوب بعضه دليلاً على وجوب باقيه، إلا بدلالة الجمع بين ذلك، وقد خصصناه بدلالة الكتاب والسنة.
2 - باب السُّجُودِ عَلَى الأنْفِ فِى الْطِينِ
/ 169 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ العَشْرَ الأوَلِ مِنْ رَمَضَانَ. . .) ، وذكر الحديث إلى قوله: (وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ عليه السلام، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث حجة لمن أوجب السجود على الأنف والجبهة، وقالوا: هذا الحديث مفسِّر لقوله: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) ، فذكر منها الوجه، وأبان فى هذا الحديث أن سجوده كان على أنفه وجبهته. واحتج من قال: يجزئه السجود على جبهته، بأن قال: إنما أمر الساجد أن يمس من وجهه الأرض ما أمكنه إمساسه محاذيًا به القبلة، ولا شىء من وجه ابن آدم يمكنه إمساسه منه غير جبهته وأنفه، فإذا سجد على جبهته وأنفه، فقد فعل أكثر ما يقدر عليه، فإن قصَّر عن ذلك وسجد على جبهته دون أنفه، فقد أدى فرضه، وهذا إجماع من جمهور الأمة. وفى الحديث: أن المصلى فى الطين يسجد عليه، وهذا عند العلماء إذا كان يسيرًا لا يمرث وجهه ولا ثيابه؛ ألا ترى أن وجهه كان سالمًا(2/433)
من الطين، وإنما كان منه شىء على جبهته وأرنبته، فإذا كان الطين كثيرًا، فالسنة فيه ما روى يعلى بن أمية عن الرسول أنه صلى بإيماء على راحلته فى الماء والطين، وبه قال أكثر الفقهاء. واختلف قول مالك فى ذلك، فروى أشهب عنه فى العتبية أنه لا يجزئه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على حسب ما يمكنه؛ استدلالاً بحديث أبى سعيد، وقال ابن حبيب: مذهب مالك أنه يُؤمى، إلا عبد الله بن عبد الحكم، فإنه كان يقول: يسجد عليه ويجلس فيه إذا كان لا يعم وجهه ولا يمنعه من ذلك إلا إحراز ثيابه. قال ابن حبيب: وبالأول أقول؛ لأنه أشبه بِيُسْر الله فى الدين، وأنه لا طاعة فى تلوث الثياب فى الطين، وإنما يؤمى فى الطين إذا كان لا يجد المصلى موضعًا نقيًا من الأرض يصلى عليه، فإن طمع أن يدرك موضعًا نقيًا قبل خروج الوقت لم يجزه الإيماء فى الطين.
3 - باب عَقْدِ الثِّيَابِ وَشَدِّهَا
قد تقدم فى أول (كتاب الصلاة) ، فأغنى عن الإعادة.
4 - باب لا يَكُفُّ شَعَرًا ولا ثوبًا فِي الصَّلاةِ
/ 170 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ عليه السلام، قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، ولا نَكُفُّ شَعَرًا وَلا ثَوْبًا) . قال الطبرى: فيه البيان أنه غير جائز للمرء أن يصلى عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، يرفع أسافله من الأرض أو يشمر أكمامه، فإن صلى(2/434)
وهو عاقص شعره أو كاف ثوبه، فقد أساء ولا إعادة عليه لإجماع الأمة على ذلك، ورواية عن الرسول على أنه لا إعادة عليه، وممن روى عنه ذلك من السلف: على، وابن مسعود، وحذيفة، وابن عمر، وأبو هريرة، وكان ابن عباس إذا سجد يقع شعره على الأرض، وقال ابن عمر لرجل رآه يسجد معقوصًا شعره: أرسله يسجد معك. وقال ابن المنذر: على هذا قول أكثر أهل العلم غير الحسن البصرى، فإنه قال: من صلى عاقصًا شعره أو كافًا ثوبه، فعليه إعادة الصلاة. وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وحجة الجماعة ما رواه يحيى بن أبى كثير، عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: (أن نبى الله نهى أن يكشف الثوب عن يده إذا سجد) . وقال الحسن: كان أصحاب الرسول يسجدون وأيديهم فى ثيابهم، ذكره ابن أبى شيبة، وإجماع الأمة على جواز السجود على الركبتين مستورتين. وحجة من كره ذلك أن اليدين حكمهما حكم الوجه لا حكم الركبتين، وقياسًا على أن اليدين من المرأة تبع للوجه فى كشفهما فى الإحرام، فكذلك اليدان تبع للوجه فى كشفهما فى السجود، واحتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز السجود على كور العمامة فقال: قال عليه السلام: (أُمرت أن أسجد على سبعة آراب) ، ولو سجد على ركبتيه ويديه ورجليه وهى مستورة جاز، وكذلك السجود على(2/435)
الجبهة وهى مستورة، وقد تقدم اختلاف العلماء فى السجود على كور العمامة فى باب السجود على الثوب فى شدة الحر فى أبواب اللباس فى الصلاة قبل هذا. وقوله: ولا أكف شعرًا، ولا ثوبًا، يعنى: ولا أضمهما، ويروى ولا أكفت ثوبًا، والمعنى واحد، وفى الحديث: (اكفتوا صبيانكم عند فحمة العشاء، فإن للشيطان انتشارًا وخطفة بالليل) ، ومنه قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا) [المرسلات: 25، 26] .
5 - باب لا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: سَجَدَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا. / 171 - فيه: أَنَسِ، قَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: (اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ) . قال الطبرى: فيه أن الحق على المصلى أن يجافى عن جنبيه ويعلى صدره عن الأرض، ولا يفترش ذراعيه، وذلك أنه إذا افترشهما لم يبد وضح إبطيه كما كان يبدو من رسول الله على نحو ما تقدم قبل هذا. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثكم به ابن سنان، عن أبى عاصم، عن ابن جريج، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلى فيضم يديه إلى جنبيه.(2/436)
قيل له: جائز لم يفعل ذلك ابن عمر إلا عند ازدحام الناس وتضايق المكان حتى لا يقدر على التجافى فيه؛ لأن المعروف عنه ما حدثنا أبو كريب: حدثنا عمر بن عبيد الطنافسى، عن آدم بن على قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فافترشت ذراعى، فقال لى: (لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وأبد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك) ، فإذا كان ابن عمر قد روى عنه الوجهان، فالحق أن يوجه كل واحد منهما إلى أولى الأمور بها، وأشبهها بالسنة، وقد تقدم فى (باب يبدى ضبعيه ويجافى فى السجود) ، إلا أنه لا إعادة عند جميع العلماء على من ترك ذلك لاختلاف السلف فيه.
6 - باب مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ ثُمَّ نَهَضَ
/ 172 - فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ عليه السلام، يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالسًا) . ذهب جمهور العلماء إلى ترك الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة من الركعة الأولى والركعة الثالثة ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وقال النعمان بن أبى عياش: أدركت غير واحد من أصحاب الرسول إذا رفع رأسه من السجدة فى الركعة(2/437)
الأولى والثالثة قام كما هو ولم يجلس، وكان النخعى يسرع فى القيام فى ذلك، وقال الزهرى: كان أشياخنا يقولون ذلك. وقال أبو الزناد: تلك السنة، وبه قال مالك، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا، وذكر عن عمر، وعلى، وعبد الله. وذهب الشافعى إلى الأخذ بهذا الحديث فقال: يقعد فى وتر من صلاته ثم ينهض. قال الطحاوى: وحجة الجماعة على الشافعى ما حدثنا على بن سعيد بن بشر قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا حسن بن الحُرِّ، حدثنى عيسى بن عبد الله بن مالك، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عباس بن سهل الساعدى: كان فى مجلس فيه أبوه، وكان من أصحاب الرسول وفى المجلس أبو هريرة، وأبو أسيد، وأبو حميد الساعدى من الأنصار، وأنهم تذاكروا الصلاة، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله قالوا: فأرنا، فقام يصلى، فقام فكبر ورفع يديه فى أول التكبير، ثم ذكر حديثًا طويلاً فيه أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية فى الركعة الأولى قام ولم يتورك. فلما جاء هذا الحديث كما ذكرنا وخالف حديث مالك بن الحويرث احتمل أن(2/438)
يكون ما فعله رسول الله فيه لعلة كانت به فقعد من أجلها، لا لأن ذلك من سنة الصلاة، كما كان ابن عمر يتربع فى الصلاة، فلما سئل عن ذلك قال: إن رجلاى لا تحملانى، فكذلك احتمل أن يكون ما فعله رسول الله من القعود كان لعلةٍ أصابته حتى لا يضاد حديث مالك ابن الحويرث، وهذا أولى بنا من حمل ما روى عنه على التنافى والتضاد. وحديث أبى حميد أيضًا حكاه بحضرة جماعة من أصحاب الرسول فلم ينكر عليه ذلك أحد منهم، فدل أن ما عندهم فى ذلك غير مخالف لما حكاه لهم فى حديث مالك ابن الحويرث من قول أيوب أن ما كان عمرو بن سلمة يفعله من ذلك لم ير الناس يفعلونه، وهو قد رأى جماعة من جلة التابعين، فذلك حجة فى دفع حديث مالك بن الحويرث أن تكون سنة. ثم النظر يوافق ما رواه أبو حميد، وذلك أنا رأينا الرجل إذا خرج فى صلاته من حال إلى حال استأنف ذكرًا، من ذلك أنا رأيناه إذا أراد الركوع كبر وخر راكعًا، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، وإذا خر من القيام إلى السجود قال: الله أكبر، وإذا رفع رأسه من السجود قال: الله أكبر، وإذا عاد إلى السجود فعل ذلك أيضًا، وإذا رفع رأسه لم يكبر من بعد رفعه رأسه إلى أن يستوى قائمًا غير تكبيرة واحدة، فدل ذلك أنه ليس بين سجوده وقيامه جلوس، ولو كان بينهما جلوس لاحتاج إلى أن يكون يكبر بعد رفعه رأسه من السجود للدخول فى ذلك الجلوس، ولاحتاج إلى تكبيرة أخرى إذا نهض للقيام، فلما لم يؤمر بذلك، ثبت أن لا قعود بين الرفع من السجدة الآخرة والقيام إلى الركعة التى بعدها؛ ليكون ذلك وحكم سائر الصلاة مؤتلفًا غير مختلف.(2/439)
7 - باب كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأرْضِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَةِ
/ 173 - فيه: أَبو قِلابَةَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا، وَقَالَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، لَكِنى أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رسول الله يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوبُ: قُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلاتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنَا هَذَا عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ، فقَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ قَامَ. اختلف العلماء فى اعتماد الرجل على يديه عند القيام، فروى عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا أراد القيام، ويروى مثله عن مكحول، وعطاء، ومسروق، والحسن، وهو قول الشافعى، وأحمد، والحجة لهم هذا الحديث، وأجازه مالك فى العتبية، ثم كرهه. ورأت طائفة أن لا يعتمد على يديه إلا أن يكون شيخًا كبيرًا أو مريضًا، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وبه قال النخعى، والثورى، وكره الاعتماد ابن سيرين، وقال الشافعى: كان عمر، وعلى وأصحاب رسول الله ينهضون فى الصلاة على صدور أقدامهم، وعن ابن مسعود مثله.(2/440)
8 - باب يُكَبِّرُ، وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ. / 174 - فيه: أَبُو سَعِيد: أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ، وَحِينَ قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ فعل. / 175 - وفيه: مُطَرِّفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ أَنَا وَعِمْرَانُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَكَانَ إِذَا سَجَدَ كَبَّرَ، وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ، وَإِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قال عِمْرَانُ: لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلاةَ رسول الله. وقد تقدم فى (باب إتمام التكبير فى الركوع) ، أن مذهب أكثر العلماء أن التكبير فى القيام من الركعتين مع قيامه كسائر تكبير الصلاة، التكبير فى حال الخفض والرفع على ما جاء فى حديث هذا الباب. واختلف فيه قول مالك، فروى ابن وهب عنه أنه قال: إن كبر بعد استوائه فهو أحب إلىّ، وإن كبر فى نهوضه بعد ما يفارق الأرض فهو فى سعة، وذكر فى (الموطأ) عن أبى هريرة، وجابر، وابن عمر: أنهم كانوا يكبرون فى حال قيامهم. وقال فى (المدونة) : لا يكبر حتى يستوى قائمًا، ويحتمل أن يكون وجه هذه الرواية إجماعهم على أن تكبير افتتاح الصلاة هو بعد القيام، فشبه القيام إلى الثنتين الباقيتين بالقيام فى أول الصلاة، والله أعلم، إذ كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد فيها ركعتان، فجعل افتتاح الركعتين المزيدتين كافتتاح المزيدة عليهما، وقوله الذى وافق فيه الجماعة أولى وهو الذى تشهد له الآثار.(2/441)
9 - باب سُنَّةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ
وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ تَجْلِسُ فِي صَلاتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ، وَكَانَتْ فَقِيهَةً. / 176 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه تَرَبَّعُ فِي الصَّلاةِ فى جَلَوسَه، فَفَعَلْهُ ابنه عبد الله، وَهو يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ، فَنَهَاه ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاةِ أَنْ تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَتَثْنِيَ الْيُسْرَى، فَقُلْتُ: إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ رِجْلايَّ لا تَحْمِلانِي. / 177 - وفيه: أَبُو حُمَيْدٍ: أنه حكى صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ فى نفر من أصحابه، وقال: أَنَا أَحْفَظَكُمْ لذلك، رَأَيْتُهُ عليه السلام، إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَو مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ مَكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى، حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ إِلَى مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى أصابع رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ. اختلف العلماء فى صفة الجلوس فى الصلاة، فذهب قوم إلى حديث ابن عمر وقالوا: سنة الجلوس فى الصلاة كلها وبين السجدتين أن ينصب رجله اليمنى ويثنى اليسرى، ويقعد على وركه الأيسر حتى يستوى قاعدًا، هذا قول مالك وروى عن النخعى، وابن سيرين. وذهب آخرون إلى حديث أبى حميد وقالوا: أما القعود فى آخر الصلاة، فكما قال أهل المقالة الأولى؛ لأن الجلسة الآخرة فيه مقاربة لما قال ابن عمر، وأما القعود فى الجلسة الأولى فعلى الرجل اليسرى(2/442)
على ما فى حديث أبى حميد، هذا قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وذهب الثورى، والكوفيون فى الجلوس كله إلى الجلسة الأولى من حديث أبى حميد، وهو أن يجلس على رجله اليسرى مبسوطة تحته، وينصب قدمه اليمنى، وحجة أهل المقالة الأولى، قول ابن عمر: إن ذلك سنة الصلاة والصاحب إذا ذكر السنة، فلا تكون إلا سنة الرسول إما بقول منه أو بفعل شاهده. وحجة أهل المقالة الثانية: أن أبا حميد أراهم صلاة النبى، عليه السلام، فى نفر من الصحابة ولم ينكروا عليه، فدل أن فعله سنة. واحتج الكوفيون بحديث وائل بن حجر، أن النبى كان إذا جلس فى الصلاة فرش رجله اليسرى ثم قعد عليها، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصفات كلها يجوز العمل بأيها شاء المصلى؛ لأنها مروية عن النبى، عليه السلام، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يقعدون متربعين فى الصلاة كما كان يفعل ابن عمر، منهم ابن عباس، وأنس، وفعله سالم، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد، وأجازه الحسن فى النافلة، وكرهه ابن مسعود، وقال: لأن أصلى على رضفتين أحب إلى من أن أتربع فى الصلاة، وكرهه الحسن، والحكم. واختلفوا فى جلوس المرأة فى الصلاة فرأت طائفة أن تقعد قعود الرجل كفعل أم الدرداء، وهو قول النخعى، ومالك بن أنس. ورأت طائفة أن تقعد كيف شاءت إذا اجتمعت، هذا قول عطاء والشعبى، وهو قول الكوفيين والشافعى، وكانت صفية تصلى متربعة،(2/443)
وكان نساء ابن عمر يفعلن ذلك، وقال بعض السلف: كن النساء يؤمرون أن يتربعن إذا جلسن فى الصلاة، ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن فيتقى أن يكون منهن الشىء.
0 - باب مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ وَاجِبًا لأنَّ نَبِيَّ الله قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَرْجِعْ.
/ 178 - فيه: ابْنَ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رسول الله صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ، فَقَامَ من الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ ولَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ، انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ. وترجم له: (باب التشهد فى الأولى) . قال ابن القصار: أجمع فقهاء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، والثورى، والليث، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق على أن التشهد الأول ليس بواجب إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: إنه واجب وحجته أن النبى، عليه السلام، تشهد وعلمهم التشهد، وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: من لم يتشهد فلا صلاة له. والدليل على أنه غير واجب حديث ابن بحينة: (أن النبى، عليه السلام، صلى ركعتين فقام إلى الثالثة، ولم يجلس، فلما تم أربعًا(2/444)
سجد للسهو قبل السلام) ، فلو كان التشهد واجبًا لرجع إليه حين سبح به، ولم ينب منابه سجود السهو؛ لأنه لا ينوب عن الفرض؛ ألا ترى أنه لو نسى تكبيرة الإحرام أو سجدة لم ينب عنها سجود السهو، فثبت أنه غير واجب. وفيه من الفقه: أن الجلسة الأولى سنة؛ لأن سجوده عليه السلام، للسهو ناب عن التشهد وعن الجلوس، فدل أن الجلوس فيهما كالتشهد، وسيأتى تمام القول فى هذه المسألة فى أبواب السهو فى آخر كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
1 - باب التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَةِ
/ 179 - فيه: ابن مسعود قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَّسنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، قُلْنَا: السَّلامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ وَفُلانٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قال المؤلف: ذهب مالك، والأوزاعى، والكوفيون إلى أن التشهد الآخر ليس بفرض، وقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: هو(2/445)
فرض، واحتج الشافعى بقوله عليه السلام: (فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله) ، قالوا: وأمره على الوجوب، فجاوبهم أهل المقالة الأولى فقالوا: ليس كل أمره على الوجوب؛ لأن الدلالة قد قامت على أن التكبير فى غير الإحرام والتسبيح فى الركوع والسجود ليس بواجب، وقد أمر به عليه السلام وفعله، وقال حين نزلت: (فسبح باسم ربك العظيم) [الواقعة: 74 - 96] ، (اجعلوها فى ركوعكم) ، ولما نزلت: (سبح اسم ربك الأعلى) [الأعلى: 1] ، قال: (اجعلوها فى سجودكم) ، وتلقى العلماء والشافعى معهم هذا الأمر على الندب، ولم يقم عنده فرضه بفعله عليه السلام، وأمره به، فكذلك فعله التشهد، وأمره به ليس بفرض؛ لأن كليهما عنده ذكر ليس من عمل بدن، وقد يأمر عليه السلام، بالسنن كما يأمر بالفرائض، وأيضًا فإنه لما ناب سجود السهو عن التشهد فى الأولى وعن الجلوس فيها، فأحرى أن ينوب عن التشهد فى الآخرة إذا جلس فيها وسها عن التشهد. فإن قيل: الجلسة الآخرة فريضة، فكذلك ذكرها، كما الجلسة الأولى سنة وذكرها مثلها. قيل: لا تكون الجلسة الآخرة مقدرة بذكرها وإنما هى للسلام، وقد روى جماعة من السلف أنه من رفع رأسه من آخر سجدة، فقد تمت صلاته، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وإبراهيم، وقال عطاء: من نسى التشهد فصلاته جائزة، وعن الحكم وحماد مثله.(2/446)
وقال الطبرى، والطحاوى: أجمع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة على النبى، عليه السلام، فى التشهد غير واجبة، وشذ الشافعى فى ذلك فقال: من لم يصل على النبى فى التشهد الأخير وقبل السلام فصلاته فاسدة، وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه، ولا سلف له فى هذا القول ولا سنة يتبعها، وتشهد ابن مسعود الذى علمه النبى، عليه السلام، فى هذا الباب ليس فيه الصلاة على النبى، عليه السلام، وقد روى التشهد عن الرسول جماعة كرواية ابن مسعود منهم أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وقال ابن عباس، وجابر: كان النبى يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. وذكر جابر مثل حديث ابن مسعود بزيادة كلمات، وكذلك ذكر ابن عمر مثل حديث ابن مسعود، وقال أبو سعيد الخدرى: كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة، وذكر مثل حديث ابن مسعود بخلاف كلمات، رواه أبو موسى الأشعرى وعبد الله بن الزبير بزيادة ألفاظ ونقصان أيضًا، وقال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان فى الكُتاب، ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود. وقد علم عمر بن الخطاب الناس على المنبر التشهد بحضرة المهاجرين والأنصار وليس فى شىء من ذلك صلاة على النبى، فلم ينكر ذلك عليه منكر، فمن أوجب ذلك فقد رد الآثار وما مضى عليه السلف، وأجمع عليه الخلف، وروته عن نبيها عليه السلام، فلا معنى لقوله.(2/447)
وبتشهد ابن مسعود قال الكوفيون وأكثر أهل الحديث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهب مالك إلى تشهد عمر بن الخطاب، وهو: (التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبى. . .) ، إلى آخر تشهد ابن مسعود، وذهب الشافعى إلى تشهد ابن عباس، وفيه: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله) ، وكلها قريبة بعضها من بعض، ومعنى التحية: الملك لله، والصلوات: هى الخمس، والطيبات: الأعمال الزاكية.
2 - باب الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلامِ
/ 180 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ نَّبِيِّ الله كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا، والْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ) ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) . / 181 - وفيه: أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي، قَالَ: (قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .(2/448)
3 - باب مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
/ 182 - فيه: تشهد ابن مسعود، قَالَ فى آخره: (ثُمَّ ليَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو) . اختلف العلماء فى هذا الباب فقال مالك، والشافعى، وجماعة: لا بأس أن يدعو الرجل فى صلاته بما شاء من حوائج الدنيا، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يدعو فى الصلاة إلا بما يوجد فى القرآن، وهو قول النخعى، وطاوس، واحتجوا بحديث معاوية بن الحكم لما شمت الرجل فى الصلاة، فقال له الرسول: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شىء من كلام الآدميين إنما هى تسبيح وقراءة) . قالوا: ولا يجوز أن يريد جنس الكلام؛ لأن جميع ما يوجد فى الصلاة من الأذكار من جنس الكلام، فوجب أن يكون المراد ما يتخاطبون به فى العادة، وقوله: (يرحمك الله) دعاء، وقد نهى النبى عنه، وهذا يمنع من فعل الدعاء بهذا الجنس. قال ابن القصار: فالجواب لأهل المقالة الأولى أن هذا وشبهه لا يجوز عندنا، وهو أن يوجه دعاءه إلى إنسان يخاطبه به فى الصلاة، وكأنه جواب عندنا على شىء كان منه، فأما أن يدعو لنفسه ولغيره ابتداء من غير أن يخاطب فيه إنسانًا فلا قضاء، وقوله عليه السلام: لا يصلح فيها شىء من خطاب الناس متوجه إلى هذا، أى: لا يتخاطب الناس فى الصلاة. ومن الحجة لهم قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود بعد فراغه من التشهد: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه ويدعو) ، ولم يخص دعاء فى القرآن من غيره ولو كان لا يجوز الدعاء إلا بما فى القرآن ما ترك عليه السلام، بيان ذلك ولقال: ثم ليدعو بما شاء مما فى القرآن، فلما(2/449)
عم جميع الدعاء، لم يُخصَّ بعضه إلا بدليل، واستعاذته فى حديث عائشة من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن المأثم والمغرم ليس شىء منه فى القرآن، وقد روى عن جماعة من السلف مثل ذلك، روى عن ابن عمر أنه قال: إنى لأدعو فى صلاتى حتى لشعير حمارى وملح بيتى، وعن عروة بن الزبير مثله. وكان رسول الله يدعو فى الصلاة فيقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين، واشدد وطأتك على مضر) . فإن قيل: يحتمل أن يكون هذا وقت إباحة الكلام فى الصلاة، ثم نسخ بعد ذلك. قيل: قد روى عن السلف استعمال الحديث، ولا يجوز أن يخفى عليهم نسخه لو نسخ، فكان على بن أبى طالب يقنت فى صلاة على قوم يسميهم، وكان أبو الدرداء يدعو لسبعين رجلاً فى صلاته، وعن ابن الزبير أنه كان يدعو للزبير فى صلاته، فإذا انضاف قول هؤلاء إلى قول عروة، وابن عمر جرى مجرى الإجماع؛ إذ لا مخالف لهم، وقد كان عليه السلام يدعو فى سجوده: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) ، وهذا مما ليس فى القرآن، فسقط قول المخالف، وروى عن ابن سيرين أنه قال: يجوز الدعاء فى المكتوبة بأمر الآخرة، فأما الدنيا فلا، فقال ابن عون: أليس فى القرآن: (واسألوا الله من فضله) [النساء: 32] ؟ ، فسكت. وترجم فى كتاب الدعاء: (باب الدعاء فى الصلاة) ، وسيأتى فيه شىء من الكلام فى حديث أبى بكر، إن شاء الله.(2/450)
4 - باب مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ حَتَّى صَلَّى
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَلا يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ فِي الصَّلاةِ. / 183 - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (رَأَيْتُ النبى، عليه السلام، يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) . استحب العلماء ترك مسح الوجه حتى يفرغ من الصلاة؛ لأنه من التواضع لله، وخفف مالك مسحه فى الصلاة.
5 - باب التَّسْلِيمِ
/ 184 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ. اختلف العلماء فى وجوب التسليم، فذهب جماعة من العلماء إلى أن التسليم فرض لا يصح الخروج من الصلاة إلا به، وممن أوجب ذلك ابن مسعود، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، ذكره الطبرى، وبه قال عطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وغيرهم. وذهب أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، إلى أن السلام سنة، وأن الصلاة يصح الخروج منها بغير سلام، واحتجوا بأن الرسول قال لابن مسعود حين علمه التشهد: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) .(2/451)
قالوا: ولم يذكر له السلام، قالوا: وروى عن على بن أبى طالب أنه قال: إذا رفع رأسه من آخر سجدة، ثم أحدث فقد تمت صلاته، وعن سعيد بن المسيب، والنخعى مثله. واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بأن قوله عليه السلام، لابن مسعود: (فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك) ، يحتمل أن يكون معناه: إذا سَلَّمْت، بدليل سلامه عليه السلام فى كل صلواته، وتعليمه ذلك لأمته عملاً ومعاينة. ويحتمل أن يكون معناه: قد قاربت التمام، كما قال تعالى فى المطلقات: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) [الطلاق: 2] ، وهذا معناه: قاربن بلوغ أجلهن؛ لأنهن لو بلغن الأجل بانقضاء العدة لم يكن لأزواجهن إمساكهن بالمراجعة لهن، وقد انقضت عدتهن. وقال الطبرى: السلام من الأعمال التى علم الرسول أمته العمل به كما علمهم التحريم فيها والقراءة، فمن ضيع ذلك أو تركه عامدًا فهو مفسد؛ لأنه ضيع ما قامت له الحجة بجواز الصلاة معه، وقد روى الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن على، رضى الله عنه، قال: قال النبى عليه السلام: (تحريم الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم) ، فكما لا يجوز الدخول فى الصلاة إلا بالإحرام، فكذلك لا يجوز الخروج منها إلا بالسلام. واختلفوا فى صفة السلام، فقالت طائفة: يسلم تسليمتين عن يمينه، وعن يساره، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر،(2/452)
وعلى، وابن مسعود، وعمار، وروى ذلك عن الشعبى، وعطاء، وعلقمة، والأسود، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بآثار كثيرة رويت عن النبى، عليه السلام، بذلك منها: حديث ابن مسعود، وعمار، وأبى موسى، ووائل بن حجر، وأبى حميد الساعدى، وابن عمر، وجابر ابن عبد الله، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وقبيصة بن ذؤيب، وعدى بن عميرة الحضرمى، ويعقوب بن الحصين، كلهم عن الرسول، أسندها الطبرى كلها. وقالت طائفة: يسلم تسليمة واحدة فقط، روى ذلك عن ابن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، ومن التابعين: سليمان بن يسار، وأبى وائل، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، ودفعوا أحاديث التسليمتين. والحجة لهم ما ذكره محمد بن عبد الحكم، عن عبد الرحمن بن مهدى قال: أحاديث التسليمتين لا أصل لها. وقال الأصيلى: حديث أم سلمة المذكور فى هذا الباب يقتضى تسليمة واحدة، وكذلك حديث ابن بحينة، وحديث ذى اليدين؛ لأن قول أم سلمة: (كان الرسول إذا سلم) ، يقتضى ظاهره أن كل ما وقع عليه اسم السلام يتحلل به من الصلاة. قال المهلب: لما كان السلام تحليلاً من الصلاة، وعلمًا على فراغها دلت التسليمة الواحدة على ذلك، وإن كان فى التسليمتين(2/453)
كمالاً، فقد مضى العمل بالمدينة فى مسجد رسول الله على تسليمة واحدة، فلا يجب مخالفة ذلك. وذكر الطبرى قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا الحجاج بن نصير، أخبرنا أبو عبيدة، حدثنا الحسن ومحمد بن سيرين، قالا: حدثنا أنس ين مالك قال: (صليت خلف رسول الله، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يسلمون تسليمة واحدة) ، وحدثنا محمد بن عبد الله الحجرى، حدثنا يونس، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن أنس مثله. وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى: صليت خلف على بن أبى طالب فسلم واحدة، ذكره ابن أبى شيبة. وقال الطبرى: القول فى ذلك عندنا أن يقال كلا الخبرين الواردين عن الرسول أنه كان يسلم واحدة، وأنه كان يسلم تسليمتين صحيح، وأنه من الأمر الذى كان يفعل هذا مرة وهذا مرة، مُعلم ذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا، كرفعه عليه السلام يديه فى الركوع وإذا رفع رأسه منه، وتركه ذلك مرة أخرى، وكجلوسه فى الصلاة على قدمه اليسرى ونصبه اليمنى فيها مرة، وإفضائه بأليته إلى الأرض، وإدخاله قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى مرة فى أشباه لهذا كثيرة.(2/454)
6 - باب يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الإمَامُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الإمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ. / 185 - فيه: عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. قال المؤلف: الكلام فى سلام الإمام والمأموم كالكلام فى إحرامهما، وقد تقدم فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به فى أبواب الإمامة اختلاف العلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر هاهنا منه طرفًا، وذلك أنه لا يكون المصلى داخلاً فى الصلاة محرمًا بها إلا بتمام التكبير، لا ينبغى للمأموم أن يدخل فى صلاة لم يصح فيها دخول إمامه بعد، والسلام كذلك، ولا ينبغى أن يفعله المأموم إلا بعد فعل إمامه؛ لأنه تحليل، أو بعد تقدمه ببعض لفظ السلام، هذا حق الائتمام فى اللغة أن يكون فعل المأموم تاليًا لفعل الإمام؛ ألا ترى قول عتبان: (صلينا مع الرسول فسلمنا حين سلم) ، وهذا يقتضى أن سلامهم كان بعد تمام سلامه عليه السلام، وهو الذى كان يستحبه ابن عمر.
7 - باب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلامِ عَلَى الإمَامِ، وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاةِ
/ 186 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ أنه قَالَ: صَلِّينا مع النَّبِيُّ عليه السلام، ثُمَّ سَلَّمَ، وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ. هذا الحديث حجة لمن قال: يسلم المأموم واحدة؛ لأن قول عتبان: (وسلمنا حين سلم) ، يقتضى أقل ما يقع عليه اسم سلام، وذلك تسليمة(2/455)
واحدة، وممن كان لا يرد على الإمام، روى جرير بن حازم، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا سلم الإمام قال: السلام عليكم، لم يزد عليها إلا أن يسلم أحد عن يمينه وشماله يرد عليه، فى مصنف حماد بن سلمة. وقال ابن المنذر: قال عمار بن أبى عمار: كان مسجد المهاجرين يسلمون تسليمة واحدة، وكان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، فالمهاجرين لم يكونوا يردون على الإمام. وفيها قول ثانٍ روى النخعى قال: لا أعلم عليه بأسًا أن يرد وإن لم يرد، وممن كان يرى أن يرد على الإمام: ذكر ابن أبى شيبة عن ابن عمر أنه كان يرد السلام على الإمام وهو قول الشعبى، وسالم، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وقال مالك فى (المدونة) : يسلم المأموم عن يمينه، ثم يرد على الإمام فإن كان عن يساره أحد ردَّ عليه، وقد كان من قول مالك فى المأموم: يسلم عن يمينه ثم عن يساره، ثم يرد على الإمام، ومن قال بالرد على الإمام تأوّل فى ذلك أن الإمام يسلم عليهم، فلزمهم الرد عليه كسائر السلام. ومن قال بالتسليمتين من أهل الكوفة يجعلون التسليمة الثانية ردًا على الإمام، وهو عندهم سنة، والأولى هى الفريضة التى بها يخرج من الصلاة. وأظن البخارى، رحمه الله، أراد بهذا الباب ردَّ قول من أوجب التسليمة الثانية، ولا أعلم قال ذلك إلا الحسن بن صالح، وحكى الأصيلى فى الدلائل أنه قول أحمد بن حنبل.(2/456)
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وقال مالك فى المجموعة: كما يدخل فى الصلاة بتكبيرة واحدة كذلك يخرج منها بتسليمة واحدة، وعلى ذلك كان الأمر فى القديم، وإنما حدث تسليمتان مذ كان بنو هاشم.
8 - باب الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ
/ 187 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كان رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، عَلَى عَهْدِ رسول الله، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. / 188 - وقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ مرة: كُنْتُ أَعْلم انْقِضَاءَ صَلاةِ الرسول بِالتَّكْبِيرِ. / 189 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى رسول الله فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: (أَلا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ إلا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ) . / 190 - وفيه: الْمُغِيرَةِ: أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) .(2/457)
قال الطبرى: فى حديث ابن عباس الدلالة على صحة فعل من كان من الأمراء والولاة يكبر بعد فراغه من صلاة المكتوبة فى جماعة ويكبر من وراءه من المصلين بصلاته. قال المؤلف: ولم أجد من الفقهاء من يقول بشىء من هذا الحديث إلا ما ذكره ابن حبيب فى الواضحة قال: يستحب التكبير فى العساكر والثغور بأثر صلاة الصبح، والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس. وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية قال: التكبير خلف الصلوات الخمس بأرض العدو محدث أحدثه المسودة، وكذلك فى دبر الصبح، والمغرب فى بعض البلدان. وقول ابن عباس: إن رفع الصوت بالذكر كان حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد الرسول، يدل أنه لم يكن يفعل ذلك الصحابة حين حدث ابن عباس بهذا الحديث؛ إذ لو كان يفعل ذلك الوقت لم يكن لقوله كان يفعل على عهد رسول الله معنى، وهذا كما كان أبو هريرة يكبر عند كل خفض ورفع يقول: أنا أشبهكم صلاة برسول الله، فكان التكبير بأثر الصلوات مثل هذا مما لم يواظب الرسول عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم فتركوه خشية أن يظن من قصر علمه أنه مما لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه من الفقهاء من كرهه، والله أعلم، وقد روى عن عبيدة أن ذلك بدعة. وفى حديث أبى هريرة، وحديث المغيرة فضل الذكر بعد الصلاة، وأن ذلك من رغائب الخير وسبيل الصالحين، وسأزيد هذا المعنى بيانًا،(2/458)
وأبين اهل الذكر بعد الصلاة أفضل أم قراءة القرآن فى كتاب الدعاء فى باب الدعاء بعد الصلاة، إن شاء الله. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة فضل الغنى نصًا لا تأويلاً إذا استوت أعمالهم بما افترض الله عليهم، فللغنى حينئذ فضل أعمال البر من الصدقة وإحياء الأرماق، وإعانة ابن السبيل، وفك الأسير والجهاد وشبه ذلك، مما لا سبيل للفقراء إليها ولا قدرة لهم عليها، فبهذا يفضل الغنى الفقير، وإنما يفضل الفقير الغنى إذا فضل صاحبه بالعمل، وسيأتى تمام القول فى ذلك فى كتاب الرقائق، إن شاء الله. وفيه: أن العالم إذا سُئل عن مسألة يقع فيها الخلاف بين الأمة أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيبه بنفس التفاضل خوف وقوع الخلاف. وفى (الموطأ) : عن عطاء بن يزيد، عن أبى هريرة زيادة فى حديثه المذكور فى هذا الباب وهو أنه قال: (من سبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وكبر ثلاثًا وثلاثين، وحمد ثلاثًا وثلاثين، وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) . وقوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، قال ابن السكيت: الجد، بفتح الجيم، الحظ والبخت، أى: من كان له جد فى الدنيا لم ينفع ذلك عند الله فى الآخرة، وكذلك فسره أبو عبيد وجميع أهل(2/459)
اللغة، وسأذكر قول الطبرى فى هذه الكلمة فى باب القدر فى باب لا مانع لما أعطى الله، إن شاء الله.
9 - باب يَسْتَقْبِلُ الإمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ
/ 191 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) . / 192 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ. . .، الحديث. / 193 - وفيه: أَنَسِ: (أَخَّرَ الرَسُولُ الصَّلاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ، فصَلَّى، فأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ. . .) ، الحديث. قال المهلب: استقبال الرسول الناس بوجهه هو عوض من قيامه من مصلاه؛ لأن قيامه إنما هو ليعرف الناس بفراغ الصلاة، ولذلك ترجح مالك، يرحمه الله، فقال فى إمام مسجد القبائل والجماعات: لابد أن يقوم من موضعه، ولا يقوم فى داره وسفره إلا أن يشاء. وفى بقاء الإمام فى موضعه تخليط على الداخلين، وأن موضع الإمام موضع خطة وولاية، فإذا قضى صلاته زال منه، وكان على بن أبى طالب إذا صلى استقبل القوم بوجهه، وكان إبراهيم النخعى إذا سلم انحرف واستقبل القوم.(2/460)
0 - باب مُكْثِ الإمَامِ فِي مُصَلاهُ بَعْدَ التَسْلِيمِ
وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي يُصَلِّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ، وَفَعَلَهُ ابن الْقَاسِمُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لا يَتَطَوَّعُ الإمَامُ فِي مَكَانِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ. / 194 - فيه: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَنُرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ مَنْ يَنْصَرِفُ مِنَ النِّسَاءِ. وقالت مرة: فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ، فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللَّهِ. ذهب جمهور العلماء أن الإمام لا يتطوع فى مكانه الذى صلى فيه الفريضة، وذكر ابن أبى شيبة، عن على قال: لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه أو يفصل بينهما بكلام، وكرهه ابن عمر للإمام، ولم ير به بأسًا لغيره، وعن عبد الله بن عمرو مثله، وروى موسى عن القاسم أن الإمام إذا سلم فواسع أن ينتفل فى مكانه، وهذا لم أجده لغيره من العلماء. وأما مكث الإمام فى مصلاه بعد السلام، فقد كرهه أكثر العلماء إذا كان إمامًا راتبًا إلا أن يكون مكثه لعلة، كما فعل عليه السلام من أجل انصراف النساء قبل أن يدركهن الرجال، هذا قول الشافعى، وأحمد بن حنبل، وقال مالك: يقوم ولا يقعد فى الصلاة كلها إذا كان إمام مسجد جماعة، وإن كان إمامًا فى سفر، فإن شاء قام وإن شاء قعد.(2/461)
وقال أبو حنيفة: كل صلاة بعدها نافلة فإنه يقوم لها، وما لا نافلة بعدها كالعصر والفجر، فإن شاء قام وإن شاء قعد، وهو قول أبى مجلز. وقال محمد: ينتقل فى الصلوات كلها؛ ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شىء من الصلاة من سجود سهو ولا غيره. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن مسعود، وعائشة قالا: (كان عليه السلام إذا سلم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) . وقال ابن مسعود أيضًا: كان الرسول إذا قضى الصلاة انفتل سريعًا، فإما أن يقوم وإما أن ينحرف. وقال ابن جبير: شرق أو غرب، ولا تستقبل القبلة. وقال قتادة: كان أبو بكر إذا سلم كأنه على الرضف حتى ينهض. وقال ابن عمر: الإمام إذا سلم قام. وقال مجاهد: قال عمر: جلوس الإمام بعد السلام بدعة، وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الإمام إذا سلم، فإن من صلى خلفه من المأمومين يجوز لهم القيام قبل قيامه إلا رواية عن الحسن، والزهرى، ذكرها عبد الرزاق قال: لا ينصرفوا حتى يقوم الإمام، قال الزهرى: إنما جعل الإمام ليؤتم به، وجماعة الناس على خلافهما. وروى معمر، عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن ابن(2/462)
مسعود قال: إذا فرغ الإمام ولم يقم ولم ينحرف، وكانت لك حاجة، فاذهب ودعه فقد تمت صلاتك. وفى حديث أم سلمة من الفقه: أن خروج النساء ينبغى أن يكون قبل خروج الرجال.
1 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ
/ 195 - فيه: عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ الرسول بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فقَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) . قال المؤلف: مباح للإمام إذا سلم أن ينصرف إن شاء قبل انصراف الناس. وفيه: أن التخطى بما لا غنى بالإنسان عنه مباح فعله. وقال المهلب: التخطى لا يكون مكروهًا إلا فى موضع يشتغل الناس فيه عن الصلاة أو عن الخطبة فحينئذ يكره التخطى من أجل شغل الناس بمن تخطاهم عما هم فيه من الذكر والاستماع، وقد تحضر الإنسان ضرورة حقن أو ذكر حاجة يخشى فوتها، فيستجاز التخطى فى ذلك كالراعف والمحدث يخرج من بين الصفوف. وفيه: أن من حبس صدقة للمسلمين من وصية أو زكاة أو غيرها أنه يخاف عليه أن يحبس بها يوم القيامة فى الموقف، لقوله عليه السلام: (كرهت أن يحبسنى) ، يعنى: فى الآخرة، والله أعلم.(2/463)
وفيه: أن من وجب عليه فرض، فإن الأفضل له مبادرته.
2 - باب الانْفِتَالِ وَالانْصِرَافِ عَنِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ
وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ مَنْ يَتعْمِدُ الانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ. / 196 - فيه: عَبْدُاللَّهِ قَالَ: لا يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لا يَنْصَرِفَ إِلا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ. فالانفتال والانصراف عن اليمين والشمال جائز عند العلماء لا يكرهونه لما ثبت عن الرسول فى هذا الباب، وإن كان انصرافه عليه السلام، عن يمينه أكثر؛ لأنه كان يحب التيامن فى أمره كله، وإنما نهى ابن مسعود عن التزام الانصراف من جهة اليمين؛ خشية أن يجعل ذلك من اللازم الذى لا يجوز غيره، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه (أنه صلى مع الرسول فرآه ينصرف من شقيه) . وقال على: إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجتك، فإن كانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك فخذ نحو حاجتك، وكان على لا يبالى انصرف عن يمينه أو عن يساره، وعن ابن عمر مثله، وهو قول النخعى، واستحب الانصراف عن اليمين: الحسن البصرى، ورأى أبو عبيدة رجلاً انصرف عن يساره فقال: أما هذا فقد أصاب السنة.(2/464)
3 - باب مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النِّئِّ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ
وَقَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا) . / 197 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلا يَغْشَانَا فِي مَسَجِدِنَا) ، قُلْتُ: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ يَعْنِي إِلا نِيئَهُ. / 198 - وفيه: جَابِرَ، عن الرسول: (أَلاَّ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا) . / 199 - وفيه: جَابِرَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا - وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّه عليه السلام، أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا، إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي) . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: عن يونس، عن الزهرى: أُتِيَ بِبَدْرٍ، يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ. / 200 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ عليه السلام: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا يَقْرَبْنَا، ولا يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا) . فى هذا الحديث من الفقه إباحة أكل الثوم؛ لأن قوله: (من أكل) لفظ إباحة، وفى ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة خلافًا لأهل الظاهر الذين يوجبونها، ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها، وقد أكل الثوم جماعة من السلف، واختلف العلماء فى(2/465)
معانٍ من هذا الحديث، فقال بعضهم: إنما خرج النهى عن مسجد الرسول خاصة من أجل ملائكة الوحى. وقال جمهور العلماء: حكم مسجد الرسول وحكم سائر المساجد سواء، وملائكة الوحى وغيرها سواء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام أنه يتأذى منه بنو آدم، وقال: (يؤذينا بريح الثوم) ، ولا يحل أذى الجليس المسلم حيث كان. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: من أكل الثوم يوم الجمعة لا أرى له أن يشهد الجمعة فى المسجد ولا رحابه، وبئس ما صنع من أكل الثوم وهو ممن تجب عليه الجمعة. وفيه: دليل أن كل ما يتأذى به كالمجذوم وشبهه يبعد عن المسجد وحلق الذكر، وقد قال سحنون: لا أرى الجمعة تجب على المجذوم، واحتج بقوله عليه السلام: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا) . وأفتى أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم فى رجل شكا جيرانه أنه يؤذيهم فى المسجد بلسانه، قال: يخرج عن المسجد، ويبعد عنه ونزع بهذا الحديث، وقال: أذاه أكثر من أذى الثوم، وهذا الحديث أصل فى نفى كل ما يتأذى به. وفيه: أن الخضر كانت عندهم بالمدينة، وفى إجماع أهلها على أنه لا زكاة فيها دليل على أن رسول الله لم يأخذ منها الزكاة، ولو أخذ منها لم يخف على جميعهم ولنقل ذلك، وهو قول مالك،(2/466)
والشافعى، وجماعة، وقال المهلب: فى قوله: (أناجى من لا تناجى) ، دليل أن الملائكة أفضل من بنى آدم. وفيه: أن بنى آدم يلزم من بر بعضهم ما لا يلزم لجميعهم؛ ألا ترى أنه لم يؤمر آكل الثوم باجتناب أهل الأسواق ومهنة الناس وباعتهم. قال مالك: ما سمعت فى أكل الثوم كراهية فى دخول السوق، وإنما ذلك فى المسجد، ذكره ابن أبى زيد فى النوادر. وفيه: أنه من ترك طعامًا لا يحبه أنه لا لوم عليه كفعله عليه السلام، فى الضب. وقال الخطابى: فسر ابن وهب البدر أنه الطبق، سمى بذلك لاستدارته واتساقه، ولذلك سمى القمر عند اتساقه بدرًا، ومنه عين بدرة إذا كانت واسعة مستديرة قال امرؤ القيس: وعين لها حَدْرة بَدْرة شُقَّتْ مآقيهما مِنْ أُخُر والبدرة: مسك السخلة، وبه سميت بدرة المال.(2/467)
4 - باب وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ وَالطُّهُورُ وَحُضُورِهِمُ الْجَمَاعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ
/ 201 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّهُمْ، وَصَفُّوا عَلَيْهِ. / 202 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ، قَالَ عليه السلام: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . / 203 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَنَامَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا، ثُمَّ قَامَ فصَلِّي، فَقُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَحَوَّلَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ. . .) ، الحديث. / 204 - وفيه: أَنَسِ: (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَ: قُومُوا فَلأصَلِّيَ بِكُمْ، فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا، قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْيَتِيمُ مَعِي وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ) . / 205 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. / 206 - وفيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ بالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: قَدْ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي إِلا أَهْلِ الْمَدِينَةِ) . / 207 - وقَالَ رَجُل لابْنَ عَبَّاسٍ: شَهِدْتَ العيد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَم، وَلَوْلا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ.(2/468)
قال المهلب: فى هذا الباب وضوء الصبيان وصلاتهم، وشهودهم الجماعات فى النوافل والفرائض، وتدريبهم عليها قبل وجوبها عليهم ليبلغوا إليها وقد اعتادوها وتمرنوا فيها، وأحاديث هذا الباب بَيِّنة فى ذلك؛ لأن ابن عباس صلى مع الرسول على القبر المنبوذ، وإذ بات عند خالته ميمونة وصلى خلف النبى، وإقباله على الأتان، وحديث أنس واليتيم، كان ذلك كله فى حال الصغر، يدل على ذلك قول ابن عباس: ولولا مكانى من الصغر ما شهدته، يريد بذلك حين أتى النساء ووعظهن وابن عباس معه، وذكر البخارى فى فضائل القرآن أنه توفى الرسول وأنا ابن عشر سنين، وذكر ابن أبى شيبة عن الربيع، حدثنا ابن معبد الجهنى، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله: (إذا بلغ الغلام سبع سنين فأمروه بالصلاة، فإذا بلغ عشرًا فاضربوه عليها) . ورواه ابن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبى، وقال به مكحول، ومالك، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وجماعة، وقد روى أشهب عن مالك فى العتبية أنه يضرب على الصلاة لسبع، وقال عروة: يؤمر بالصلاة إذا عقلها، وقال ابن عمر: يعلم الصبى الصلاة إذا عرف يمينه من شماله، وهو قول ابن سيرين. ولم يختلف العلماء أن الاحتلام أول وقت لزوم الفرائض والحدود والأحكام، واختلفوا إذا أتى عليه من السنين ما يحتلم فى مثلها ولم يحتلم على أقوال سيأتى ذكرها فى موضعها من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.(2/469)
5 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ وَالْغَلَسِ
/ 208 - فيه: عَائِشَةَ: (أَعْتَمَ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِالْعَتَمَةِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ. . .) ، الحديث. / 209 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أن نَّبِيِّ الله قَالَ: (إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ، فَأْذَنُوا لَهُنَّ) . / 210 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ: أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، قُمْنَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ قَامَ الرِّجَالُ. / 211 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. / 212 - وفيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنِّي لأقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) . / 213 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ المساجد، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وقوله عليه السلام: (إذا استأذنكم بالليل) ، فيه دليل أن النهار يخالف الليل؛ لنصه على الليل، وهذا الحديث يقضى على قوله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . قال مالك: إنه بلغه عن ابن عمر، عن نبى الله فكأنه قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، يعنى: فى الليل، والغلس فيه معنى الليل، ألا ترى قول عائشة ما يعرفن من الغلس.(2/470)
قال المهلب: أى لا يتميزن إن كن نساءً أو رجالاً، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث قَيْلَةَ، قالت: (قدمت على الرسول وهو يصلى بالناس صلاة الغداة حين انشق الفجر، فصففت مع الرجال وأنا امرأة حديثة عهد بجاهلية، فقال لى الرجل الذى يلينى: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: امرأة) . ففيه دليل أن المرأة لا تخرج إلى المسجد إلا بإذن زوجها أو غيره من أوليائها، وفيه دليل أنه ينبغى له أن يأذن لها ولا يمنعها مما فيه منفعتها، وذلك محمول على الأصول إذا لم يخف الفتنة عليها ولا بها؛ لأنه كان الأغلب من حال أهل ذلك الزمان، وأما حديث عائشة ففيه دليل لا ينبغى للنساء أن يخرجن إلى المساجد إذا حدث فى الناس الفساد. وهذا عند مالك محمول على العجائز، وروى عنه أشهب قال: وللمتجالة أن تخرج إلى المسجد ولا تكثر الترداد، وللشابة أن تخرج إليه المرة بعد المرة، وتخرج فى جنائز أهلها. وقال أبو حنيفة: أكره للنساء شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة، وأرخص للعجوز أن تشهد العشاء والفجر، وأما غير ذلك فلا. وقال أبو يوسف: لا بأس أن تخرج العجوز فى الصلوات كلها وأكرهه للشابة، وقال الثورى: ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا، وقال ابن مسعود: المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله فى قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وكان ابن عمر يقوم بحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من(2/471)
المسجد، وقال أبو عمرو الشيبانى: سمعت ابن مسعود حلف فبالغ فى اليمين: ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله من صلاتها فى بيتها إلا فى حج أو عمرة إلا امرأة قد يئست من البعولة. وقال ابن مسعود لامرأة سألته عن الصلاة فى المسجد يوم الجمعة، فقال: صلاتك فى مخدعك أفضل من صلاتك فى بيتك، وصلاتك فى بيتك أفضل من صلاتك فى حجرتك، وصلاتك فى حجرتك أفضل من صلاتك فى مسجد قومك. وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة، وسئل الحسن البصرى عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن تصلى فى كل مسجد يجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين، فقال الحسن: تصلى فى مسجد قومها؛ لأنها لا تطيق ذلك، لو أدركها عمر بن الخطاب لأوجع رأسها.
6 - باب صَلاةِ النِّسَاءِ خَلْفَ الرِّجَالِ
/ 214 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ عليه السلام، إِذَا سَلَّمَ، قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَيَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ، قَالَ: نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ليَنْصَرِفَ النِّسَاءُ، قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالِ. / 215 - فيه: أَنَسِ: صَلَّى الرسول فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا. هكذا سنة صلاة النساء أن يقمن خلف الرجال، وذلك والله أعلم، خشية الفتنة بهن، واشتغال النفوس بما جبلت عليه من أمورهن عن الخشوع فى الصلاة والإقبال عليها وإخلاص الفكر(2/472)
فيها لله؛ إذ النساء مزينات فى القلوب ومقدمات على جميع الشهوات، وهذا أصل فى قطع الذرائع، وقد روى عن الرسول أنه قال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، رواه سفيان عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبى هريرة، وروى أيضًا من حديث جابر، وروى ابن عباس أن امرأة جميلة دخلت المسجد فوقفت فى الصف الأول من صفوف النساء، فمن الناس من تقدم حتى لا يراها، ومنهم من تأخر فلاحظها، فأنزل الله تعالى: (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) [الحجر: 24] .
7 - باب سُرْعَةِ انْصِرَافِ النِّسَاءِ مِنَ الصُّبْحِ، وَقِلَّةِ مَقَامِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ
/ 216 - فيه: عَائِشَةَ: كَانَ عليه السلام، يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، فَتَنْصَرِفَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، لا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، أَوْ لا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. هذه السنة المعمول بها أن تنصرف النساء فى الغلس قبل الرجال ليخفين أنفسهن، ولا يتبين لمن لقيهن من الرجال، فهذا يدل أنهن لا يُقمن فى المسجد بعد تمام الصلاة، وهذا كله من باب قطع الذرائع، والتحظير على حدود الله، والمباعدة بين الرجال والنساء خوف الفتنة ودخول الحرج، ومواقعة الإثم فى الاختلاط بهن.(2/473)
8 - باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ
/ 217 - فيه: ابن عمر: أن الرسول قال: (إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ فَلا يَمْنَعْهَا) . هذا الحديث معناه العموم، وتقييده بزيادة من زاد فيه بالليل لصلاتهن فى مساجد الجماعة، ويخرج من هذا الحديث أن الرجل إذا استأذنته امرأته إلى الحج لا يمنعها، فيكون وجه نهيه عن منعها المسجد الحرام لأداء فريضة الحج نهى إيجاب، وهو قول مالك، والشافعى أن المرأة ليس لزوجها منعها من الحج، ويكون على الوجه الأول، أعنى الصلوات الخمس فى المساجد، نهى أدب؛ لأنه واجب عليه أن لا يمنعها. وقال الطبرى: فى إطلاقه عليه السلام لهن الخروج إلى المساجد وذلك إباحة لا ندب ولا فرض، دليل أن نظير ذلك الإذن لهن فى كل ما كان مطلقًا الخروج فيه نحو عيادة إحداهن بعض أهلها، وشهودها أعياد المسلمين أو زيارة قبر ميت لها، وإذا كان حقًا عليهم أن يأذنوا لهن فيما هو مطلق لهن الخروج فيه، فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو ندب الخروج إليه أولى، كخروجهن لأداء شهادة لزمتهن، أو لتعرف أسباب دينهن، ولأداء فرض الحج وشبهه من الفرائض، أو لزيارة أمهاتهن وآبائهن وذوى محارمهن.(2/474)
- كِتَاب الْجُمُعَةِ
- باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة 9]
/ 1 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ الله عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ له، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ) . قال المؤلف: قوله: (نحن الآخرون السابقون) ، يريد عليه السلام آخر الأنبياء والرسل، وهو خاتم النبيين لا نبى بعده، وقوله: (السابقون) ، يعنى أن أمته يسبقون سائر الأمم بالدخول فى الجنة، وهو الشافع ليقضى بين الخلائق يوم القيامة إذا اشتد بالناس العرق، وطال بهم الوقوف، فيمشى حتى يأخذ حلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم. وأيضًا فقد أخبر عليه السلام أن أمته أعطوا أجر أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل، فى حديث: (إنما مثلكم فيمن خلا من الأمم قبلكم) . وقوله: (هذا يومهم الذى فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله(2/475)
له) ، ليس فيه دليل أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل والله أعلم، أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وكُل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا فى أىّ الأيام يكون ذلك اليوم، ولم يهدهم الله إلى يوم الجمعة، وذخره لهذه الأمة، وهداهم له تفضلاً منه عليها؛ ففضلت به على سائر الأمم؛ إذ هو خير يوم طلعت فيه الشمس وفضله الله بساعة يستجاب فيها الدعاء. وقوله: (بَيْد) ، معناه: (غَيْر) ، عند الخليل.
- باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ
/ 2 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ) . / 3 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. / 4 - وفيه: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) .(2/476)
قال المؤلف: الغسل يوم الجمعة مرغب فيه مندوب إليه، وقد اختلف العلماء فى وجوبه، فذهبت طائفة إلى أنه ليس بواجب، يروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وجمهور العلماء. وأوجب قوم الغسل فرضًا، روى ذلك عن أبى هريرة، وكعب، وعن سعد وأبى قتادة ما يدل على ذلك، وهو قول أهل الظاهر، واحتجوا بقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) . وقال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى: قول عمر لعثمان: (والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل) ، فدل ذلك أن الغسل الذى كان أمر به لم يكن عندهم على الوجوب، وإنما كان لما ذكرت عائشة، وابن عباس أن الناس كانوا عمال أنفسهم يروحون بهيئتهم، فيؤذى بعضهم بعضًا بالروائح الكريهة، فقيل لهم: لو اغتسلتم، فدل أن الأمر كان من رسول الله بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلةٍ، ثم ذهبت تلك العلة، فذهب الغسل، ولولا ذلك لما تركه عثمان، ولا سكت عمر أن يأمره بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، الذين سمعوا ذلك من النبى كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذى أراده فلم ينكروا عليه من ذلك شيئًا، ولم يأمروا بخلافه، ففى هذا إجماع منهم على نفى وجوب الغسل. قال الطبرى: ودل ذلك أن أمره عليه السلام، بالغسل كان على وجه(2/477)
الندب والإرشاد، وقد جاءت روايات عن النبى، عليه السلام، تدل على ذلك، فروى شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن النبى، عليه السلام، قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) . ومعنى قوله عليه السلام: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعنى: واجب فى السنة وفى الأخلاق الكريمة، كما تقول: وجب حقك وبرك، أى: فى كرم الأخلاق، وقد تأتى لفظة على الوجوب لغير الفرض كما جاء فى الحديث: (الوتر واجب) ، وجمهور الأمة أنه غير فرض. وقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ، يدل أنه لا تجب الجمعة على الصبى، وهذا إجماع، وكذلك أجمعوا أنه لا جمعة على النساء. وقال المهلب: قول عمر لعثمان: (والوضوء أيضًا) ، يدل على إباحة الكلام فى الخطبة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لأنه من باب الخطبة.
3 - باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
/ 5 - فيه: أَبو سَعِيدٍ، أن النبى، عليه السلام، قَالَ: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ) . قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لا؟ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. قوله: (أما الغسل فإنه واجب) ، يعنى: وجوب سنة على ما تقدم من الأدلة على ذلك، قال الطبرى، والطحاوى: لما قرن رسول الله(2/478)
الغسل بالطيب يوم الجمعة، وأجمع الجميع على أن تارك الطيب يومئذ غير حرج إذا لم تكن له رائحة مكروهة يؤذى لها أهل المسجد، فكذلك حكم تارك الغسل؛ لأن مخرج الأمر من النبى، عليه السلام، بهما مخرج واحد، وكذلك أجمعوا أن أمره بالاستنان غير فرض، فكذلك الغسل والطيب، وإن كان العلماء يستحبون الطيب لمن قدر عليه، كما يستحبون اللباس الحسن، وكان ابن عمر يجِمّر ثيابه كل يوم جمعة، وقال معاوية بن قرة: أدركت ثلاثين من مزينة كانوا يفعلون ذلك.
4 - باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
/ 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبى، عليه السلام: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلائِكَةُ، يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) . / 7 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلا أَنْ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ؟) . قال المؤلف: فيه الحض على الاغتسال للجمعة والتبكير إليها،(2/479)
وقوله: (كغسل الجنابة) ، فإنما يعنى: فى العموم والإسباغ لا فى الوجوب لما قدمناه قبل هذا. واختلف العلماء فى الساعات المذكورة فى هذا الحديث التى يكون الرواح فيها، فذهبت طائفة إلى أنها من أول طلوع الشمس، هذا قول الكوفيين، والشافعى، وأجاز الشافعى البكور إليها قبل طلوع الشمس، وقال مالك: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، والذى يقع فى قلبى أنه أراد عليه السلام، ساعة واحدة فيها هذا التفسير. قال الخطابى: وحجة مالك فى أن هذه الساعات كلها فى ساعة واحدة قولهم: جئت من ساعة، وقعدت عند فلان ساعة، يريد به جزءًا من الزمان غير معلوم دون الساعات التى هى أوراد الليل والنهار وأقسامها. واختار ابن حبيب القول الأول، واحتج له بأن ابن عمر سئل متى أروح؟ فقال: إذا صليت الغداة فَرُحْ إن شئت، قال ابن حبيب: وتأويل مالك محال وتحريف لوجه الحديث، وذلك أنه لا تكون ساعات فى ساعة واحدة، والشمس إنما تزول فى الساعة السادسة من النهار وهو وقت الأذان وخروج الإمام إلى الخطبة. وقول ابن حبيب خطأ لا خفاء به؛ لأن أهل العلم بالأوقات والحساب لا يختلفون أن الشمس إنما تزول فى أول الساعة السابعة، وتقع الصلاة إذا فاء الفىء ذراعًا وذلك فى الساعة الثامنة بعد مسير خمسها فى زمن الصيف، وبعد مسير نصفها فى زمن الشتاء. قال المهلب: ومفهوم الرواح فى لسان العرب يرد قول ابن حبيب؛ لأنهم لا يسمون الرواح إلا عند الزوال والغدو فى أول النهار، ولا يسمّون(2/480)
الغدو رواحًا، قال الله تعالى: (غدوها شهر ورواحها شهر) [سبأ: 12] ، فدل أن الغدو خلاف الرواح، والفرق بينهما مستفيض فى كلام الناس، والآثار الصحاح تشهد لقول مالك والفعل بالمدينة؛ لأنه أمر متردد فى كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء، وروى أشهب عن مالك قال: التهجير إلى الجمعة ليس هو الغدو، ولم يكن الصحابة يغدون هكذا. وروى الزهرى عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فالمهجر إلى الجمعة كالمهدى بدنة، ثم الذى يليه كالمهدى بقرة، ثم الذى يليه كالمهدى كبشًا. . .) إلى آخر الحديث. والمهجر: مأخوذ من الهاجرة والهجير، وذلك وقت المسير إلى الجمعة، ولا يجوز أن يسمى عند طلوع الشمس هاجرة ولا هجيرًا، وقال فى الحديث: (ثم الذى يليه) ، ولم يذكر الساعات، فدل على صحة قول مالك. قال المهلب: وفيه دليل على أن المسارع إلى طاعة الله والسابق إليها أعظم أجرًا؛ ألا ترى أنه قد مثل ذلك بهدى البدنة، ثم الرائح بعده كمهدى البقرة إلى البيضة، فأراد عليه السلام أن يرى فضل ما بين البقرة والبدنة، ويدل على تفاوت ما بين السابق والمسبوق فى الفضل، وجعل الرواح إلى خروج الإمام. وقوله: (فإذا خرج الإمام طويت الصحف) ، فدل على أنه(2/481)
من أتى والإمام فى الخطبة أن أجره أقل من أجر من أتى قبله؛ لأن الملائكة لم تكتبه فى صحفها، وإنما يكون له أجر من أدرك الصلاة لا أجر المسارع. وقوله: (حضرت الملائكة يستمعون الذكر) ، يعنى: الخطبة، وقد بين ذلك فى حديث ابن المسيب، عن أبى هريرة، وقال: (يستمعون الخطبة) . وقد احتج بهذا الحديث من فضل البدن على البقر، والبقر على الضأن فى الضحايا، وهو قول الكوفيين والشافعى، واحتجوا بالإجماع على أن أفضل الهدايا: الإبل، وقالوا: ما استيسر من الهدى: شاة، فدل ذلك على نقصان مرتبتها عما هو أعلى منها، وذهب مالك إلى أن أفضل الضحايا: الضأن، وقال تعالى: (وفديناه بذبح عظيم) [الصافات: 107] ، وهو كبش لا جمل ولا بقرة، وقال: لو علم الله حيوانًا هو أفضل من الكبش لفدى به. وقوله: (من راح فى الساعة الرابعة كمن أهدى دجاجة، وفى الساعة الخامسة كمن أهدى بيضة) ، واسم الهدى لا يقع على الدجاجة والبيضة، وأما الغنم فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعضهم: ليست بهدى والأكثرون منهم يجعلونها هديًا، وثمرة هذا الخلاف أن يوجب الرجل على نفسه هديًا، فإذا ذبح شاة أجزأه عن نذره فى قول من رآها هديًا، ولا يجزئه فى قول الآخرين إلا بدنة أو بقرة، ذكره الخطابى. وقوله: (أهدى دجاجة وبيضة) ، فمن المحمول على حكم ما تقدمه من الكلام كقوله: أكلت طعامًا وشرابًا، والأكل إنما(2/482)
يصرف إلى الطعام دون الشراب، إلا أنه لما عطف به على المذكور قبله حمل على حكمه كقولهم: متقلدًا سيفًا ورمحًا، والرمح لا يتقلد إنما يحمل، ومثله: زَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا، أى: كحلن العيونا.
5 - باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
/ 8 - فيه: سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: (لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ الطُهْور، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، ويَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى) . / 9 - وفيه: طَاوُسٌ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، قَالَ: (اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلا أَدْرِي. قال المؤلف: الدهن يوم الجمعة كالطيب لها، وقد تقدم أن العلماء متفقون على استحبابه، وروى فى حديث سلمان أنه عليه السلام، قال: (إذا توضأ الرجل يوم الجمعة ولبس ثيابه، ثم أتى الجمعة وأنصت حتى تقضى الصلاة؛ غفر له من الجمعة إلى الجمعة) ، فذكر مكان الغسل الوضوء رواه جرير بن حازم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن القرثع الضبى، عن سلمان. قال الطبرى: وفيه البيان أن الثواب الذى وصفه النبى، عليه(2/483)
السلام، إنما هو أن يشهد الجمعة بالصفة التى وصفها وأنصت لخطبة إمامه وقراءته فى صلاته دون من لم ينصت. فإن قيل: فإذا كان كما وصفت، فما أنت قائل فيمن كان بهذه الصفة وكان من الإمام بحيث لا يبلغه صوته أو كان بحيث يبلغه صوته لو رفع، غير أن الإمام خفض صوته، فلم يسمع خطبته ولا قراءته، هل يستحق الثواب الذى ذكره النبى، عليه السلام، أم لا؟ . قيل: إذا كان بعض هذه العلل فالله تعالى، أكرم من أن يحرم عبدًا له مطيعًا، انتهى فى أمره إلى ما أمر به، ثواب عمله بسبب مانع منعه إلى ما قصده وأراده. وقوله عليه السلام: (اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبًا) ، فإنه محمول عند الفقهاء على الاستحباب والندب كما تقدم فى باب فضل الغسل يوم الجمعة، وقال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون: يجزئ غسل واحد للجنابة والجمعة. وابن المنذر صاحب (الإشراف) ، هو القائل: وروينا هذا عن ابن عمر، ومجاهد، ومكحول، ومالك، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وقال أحمد: أرجو أن يجزئه، وهو قول ابن كنانة، وأشهب، وابن وهب، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، ورواه عن مالك، وهو قول المزنى. وقال آخرون: لا يجزئه غسل الجمعة عن غسل الجنابة حتى ينويها، هذا قول مالك فى المدونة وذكره ابن عبد الحكم، وذكر ابن المنذر عن بعض ولد أبى قتادة أنه قال: من اغتسل للجنابة يوم الجمعة اغتسل للجمعة. وقال ابن حبيب: لم يختلف قول مالك ومن علمت من أصحابنا، فيمن اغتسل للجنابة وهو ناسٍ للجمعة أن ذلك لا يجزئه عن(2/484)
غسل الجمعة، غير محمد بن عبد الحكم، فإنه قال: غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة، ولا يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة، وقال الأبهرى: إنما لم يجزئ غسل الجمعة عن الجنابة؛ لأن غسل الجنابة فرض، وغسل الجمعة مندوب إليه ليس بفرض وسيأتى معنى قوله: (فلا يفرق بين اثنين) فى بابه.
6 - باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ
/ 10 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ تَلَبِسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) . ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا) ، فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. قوله فى الحلة: (فتلبسها للجمعة) ، يدل أنه كان عندهم معهود أن يلبس الرجل أفضل ثيابه وأحسنها لشهود الجمعة، وقد روى عنه عليه السلام، أنه قال: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبى مهنته) ، من بلاغات مالك عن يحيى بن سعيد. وذكر أهل السير: أن النبى عليه السلام، كان يلبس برده الأحمر يوم الجمعة وأحسن ثيابه، ويمس من الطيب، وكذلك فى العيدين.(2/485)
قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: أدركت أصحاب محمد من أصحاب بدر، وأصحاب الشجرة إذا كان يوم الجمعة لبسوا أحسن ثيابهم وإن كان عندهم طيب مسُّوا منه، ثم راحوا إلى الجمعة. والسيراء: ثياب يخالطها حرير، يقال: سيرت الثوب والسهم: جعلت فيه خطوطًا، من كتاب (العين) .
7 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 11 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ النبى، عليه السلام: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ) . / 12 - وفيه: أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ) . / 13 - وفيه: حُذَيْفَةَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ) . قال المؤلف: إذا كانت الجمعة لها مزية فضيلة فى الغسل لها واللباس والطيب، وكان السواك مستحبًا لكل صلاة مندوبًا إليه، كانت الجمعة أولى بذلك. وقال المهلب: قوله: (لولا أن أشق على أمتى) ، يدل أن السنن والفضائل ترتفع عن الناس إذا خشى منها الحرج عليهم، وإنما أكد فى السواك لمناجاة الله ولتلقى الملائكة لتلك المناجاة فلزم تطهير النكهة، وتطييب الفم.(2/486)
8 - باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ: دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: (أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ) ، فَأَعْطَانِيهِ، فَقَضَمْتُهُ، ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَنَّ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي. وفيه: الترجمة، وفيه: طهارة ريق ابن آدم، وقد تقدم فى كتاب الطهارة.
9 - باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 15 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يوم الْجُمُعَةِ) الم تَنْزِيلُ (، وَ) هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) [الإنسان 1] ) . ذهب العلماء إلى القول بهذا الحديث، وأجازوا أن يقرأ سورة فيها سجدة فى الفجر يوم الجمعة، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عباس واستحبه النخعى، وابن سيرين، وهو قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: هو سنة، واختلف قول مالك فى ذلك فروى ابن وهب عنه أنه لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة فى الفريضة، وروى عنه أشهب أنه كره للإمام ذلك إلا أن يكون من خلفه قليل لا يخاف أن يخلط عليهم. وقال المهلب: القراءة فى الصلاة كلها محمولة على قوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) [المزمل: 20] ، وإنما كره ذلك مالك خشية التخليط(2/487)
على الناس، ولذلك، والله أعلم، ترك النبى، عليه السلام، فى آخر فعله السجود فى المفصل؛ لأنه الذى يقرأ به فى الصلوات الخمس، وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب سجود القرآن، إن شاء الله تعالى.
- باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ
/ 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ، فِي مَسْجِدِ عَبْدِالْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ) . / 17 - وكَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، وهو بِوَادِي الْقُرَى: هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ؟ ، وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ، فَكَتَبَ إليه ابْنُ شِهَابٍ أَنْ يُجَمِّعَ، قال: وحَدَّثَنى سَالِم، عن أبيه، أَنَّ النبى، عليه السلام، قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . أجمع العلماء على وجوب الجمعة على أهل المدن، واختلفوا فى وجوبها على أهل القرى، فقال مالك: كل قرية فيها مسجد أو سوق، فالجمعة واجبة على أهلها، وبه قال الشافعى وجماعة، وقال مالك، والشافعى: لا تجب على أهل العمود، وإن كثروا؛ لأنهم فى حكم المسافرين. وقال أبو حنيفة، والثورى: لا تجب الجمعة إلا على أهل الأمصار خاصة، وأحاديث هذا الباب حجة لمن أوجب الجمعة على أهل القرى. وفى احتجاج ابن شهاب أن الجمعة على أهل القرى بقوله عليه السلام: (كلكم راع ومسئول عن رعيته) ، حجة للكوفيين فى أن(2/488)
الجمعة لا تقوم إلا بالأمراء أو من أَذِنَ له الأمراء، وزعموا أن الإمام فيها شرط؛ لأن النبى، عليه السلام، صلى بهم يوم الجمعة وخلفاؤه بعده، وقال مالك، والشافعى: تقوم الجمعة فى القرى والمدن بِوَالٍ أو غيره. قال ابن القصار: ولو جاز أن يقول إن إقامة الجمعة بالنبى وخلفائه شرط لجاز أن يقول ذلك فى سائر الصلوات؛ لأنه عليه السلام، تولى سائر الصلوات بنفسه واستخلف أبا بكر الصديق، فكان يجب ألا تصلى صلاة إلا بسلطان أو إذنه، والجمعة لابد أن تفعل فى المسجد مع الأئمة، والجماعات فى الجمعة كما هى فى الأعياد والاستسقاء والخسوف والحج، وهى أعلام من الشرائع بكثرة الاجتماع لها، فجرت عادة السلطان بحضورها لمقاماتها، لا أن غير ذلك لا يجوز، كما فعل سائر الصلوات فى المسجد، وتوعد على تركها معه فى المسجد ولم يقل أن غير ذلك لا يجوز.
- باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ. / 18 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قال النبى، عليه السلام: (مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ) . / 19 - وفيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) . / 20 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (. . . نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ. . .) ، إلى قوله: (حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ) .(2/489)
/ 21 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِيِّ عليه السلام: (ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ) . / 22 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ، وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ: فَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ ، قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ: (لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) . قال المؤلف: أما الصبيان فلا يلزمهم غسل الجمعة حتى يحتلموا كما قال النبى، عليه السلام، وقد استحب مالك أن يغتسل من حضر الجمعة من النساء والعبيد والصبيان، وهو قول الشافعى فى غير المحتلمين إذا شهدوا الجمعة، وروى عن طاوس وأبى وائل أنهما كانا يأمران نساءهما بالغسل يوم الجمعة، وأجمع أئمة الفتوى أن الصبيان والنساء لا تلزمهم الجمعة فسقط الغسل عنهم، وكذلك أجمع أئمة الفتوى أن المسافرين لا جمعة عليهم فلا غسل عليهم، وقد روى عن طلحة بن عبيد الله أنه كان يغتسل للجمعة فى السفر، وعن طاوس ومجاهد مثله، وقال أبو ثور: لا يجب ترك ذلك. وقوله عليه السلام: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) ، يَرُدُّ هذا كله؛ لأنه عليه السلام شرط الغسل بشهود الجمعة، فمن لزمته الجمعة اغتسل، ومن سقطت الجمعة عنه سقط عنه الغسل كما قال ابن عمر، وقوله عليه السلام: (ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) ، حجة فى أنه لا جمعة على النساء؛ لأنه عليه السلام جعل لأزواجهن الإذن لهم بالليل إلى المساجد ولا جمعة فى الليل، ولو لزمتهن الصلاة فى المساجد كما تلزم الرجال لما خص الليل دون النهار، ولم يخاطب(2/490)
أزواجهن بالإذن لهن؛ بل خاطبهن آمرًا لهن بذلك، وإن كان إجماع أئمة الفتوى الذين هم الحجة على أن النساء والصبيان لا جمعة عليهم يغنى عن إقامة الدليل عليه. وكذلك حديث امرأة عمر أنها كانت تشهد العشاء والصبح فى جماعة يدل أن الصحابة فهمت إذن النبى، عليه السلام، للنساء بالصلاة فى الجماعة: إنما أريد به الليل والغلس، على ما بوب له البخارى قبل هذا؛ فإن الجمعة لا إذن لهن فيها، والله الموفق. واختلفوا فى وقت غسل الجمعة، وهل الغسل لأجل اليوم أو لأجل الصلاة، فقال أبو يوسف: إذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث فتوضأ، ثم شهد الجمعة لم يكن كمن شهد الجمعة على غسل، قال أبو يوسف: إن كان الغسل لليوم فإن اغتسل بعد الفجر، ثم أحدث فصلى الجمعة بوضوء فغسله تام، وإن كان الغسل للصلاة، فإنما شهد الجمعة على وضوء. وذكر ابن المنذر عن مجاهد، والحسن البصرى، والنخعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، أنه من اغتسل بعد الفجر للجمعة أنه يجزئه من غسل الجمعة، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وقال مالك: لا يجزئه إلا أن يكون غسلاً متصلاً بالرواح ولا يجزئ فى أول النهار. وقال الطحاوى: قوله عليه السلام: (من جاء إلى الجمعة(2/491)
فليغتسل) ، وروى (من راح إلى الجمعة فليغتسل) ، يدل أن الغسل للرواح وقوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ، و (حق على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة أيام يومًا) ، يدل أن المقصود به اليوم لا الرواح، والواجب حمل الأخبار على أن المقصود به الصلاة لا اليوم؛ لأن اليوم إنما ذكره لأن فيه الجمعة حتى تتفق معانى الأخبار؛ ولأنهم متفقون على أنه لو اغتسل يوم الجمعة بعد فوات الجمعة أنه غير مصيب لغسل يوم الجمعة، فدل أن المقصود بالغسل إلى الرواح لا إلى اليوم.
- باب الرُّخْصَةِ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ
/ 23 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أنه قال لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: (أَشْهَدُ أَنَّ لا إلهَ إلا الله، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذلك، فقَالَ: فَعَلَهُ مَنْ كَانَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ) . اختلف العلماء فى التخلف عن الجمعة للمطر، فممن كان يتخلف عنها لذلك: ابن سيرين، وعبد الرحمن بن سمرة، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقالت طائفة: لا يتخلف عن الجمعة للمطر، روى ابن نافع قال: قيل لمالك: أيتخلف عن الجمعة فى اليوم المطير، قال: ما سمعت، قيل له: فالحديث (ألا صلوا فى الرحال) ، قال: ذلك فى السفر.(2/492)
وقد رخص فى ترك الجمعة لأعذار أخر غير المطر، روى ابن القاسم عن مالك أنه أجاز أن يتخلف عن الجمعة لجنازة أخ من إخوانه لينظر فى أمره، قال ابن حبيب عن مالك: وكذلك إن كان له مريض يخشى عليه الموت، وقد زار ابن عمر ابنًا لسعيد بن زيد ذكر له شكواه، فأتاه إلى العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء، والحسن، والأوزاعى، وقاله الشافعى فى الولد والوالد إذا خاف فوات نفسه، وقال عطاء: إذا استصرخ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم إليه واترك الجمعة، وقال الحسن: يرخص فى الجمعة للخائف. وقال مالك فى (الواضحة) : ليس على المريض والصحيح الفانى جمعة، وقال أبو مجلز: إذا اشتكى بطنه لا يأتى الجمعة، وقال ابن حبيب: أرخص النبى، عليه السلام، فى التخلف عن الجمعة لمن شهد الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة لما فى رجوعهم من المشقة لما أصابهم من شغل العيد، وفعله عثمان لأهل العوالى واختلف قول مالك فيه.
- باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ؟ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة 9]
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ، فَنُودِيَ بِالصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا، سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَم لَمْ تَسْمَعْهُ، وَكَانَ أَنَسٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ، وَأَحْيَانًا لا يُجَمِّعُ، وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. / 24 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ، فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ، يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ،(2/493)
فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ عليه السلام: (لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة: تجب الجمعة على من آواه الليل إلى أهله، روى ذلك عن أبى هريرة، وابن عمر، وهو قول عطاء، والأوزاعى، وأبى ثور، وقال الزهرى: يجب على من كان على ستة أميال، وروى عنه أربعة أميال، وهو قول ربيعة، وقالت طائفة: تجب الجمعة على من سمع النداء، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك فى (المجموعة) : عزيمة الجمعة على كل من كان فى موضع يسمع منه النداء، وذلك على ثلاثة أميال ومن كان أبعد فهو فى سعة، وقال فى (المختصر) : من كان على ثلاثة أميال أو زيادة يسيرة لزمتهم الجمعة، وقال الكوفيون: لا تجب الجمعة إلا على أهل المصر، ومن كان خارج المصر فلا تجب عليه، وإن سمع النداء، وقال حذيفة: ليس على من على رأس ميل جمعة. وقال المهلب: نص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب على من سمع النداء، وإن كان خارج المصر وهذا أصح الأقوال. قال ابن القصار: اعتل الكوفيون لقولهم أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر، قالوا: لأن الأذان علم لمن لم يحضر، والأذان بعد دخول الوقت، ومعلوم أن من يسمع على أميال يأخذ فى المشى فلا يلحق، فيقال لهم: معنى قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة) [الجمعة: 9] ، أى: إذا قرب وقت النداء لها بمقدار ما يدركها كل ساع إليها، فاسعوا،(2/494)
وليس على أنه لا يجب السعى إليها إلا حين ينادى لها، والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة كقوله: (إن ابن أم مكتوم لا ينادى حتى يقال له: أصبحت أصبحت) ، أى: قارب الصباح ومثله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) [الطلاق: 2] ، يريد إذا قاربن البلوغ؛ لأنه إذا بلغت آخر أجلها لم يكن له إمساكها، وفى إجماع العلماء على أن من كان فى طرف المصر العظيم، وإن لم يسمع النداء يلزمه السعى دليل واضح أنه لم يرد بالسعى حين النداء خاصة، وإنما أريد قربه، وأما من كان خارج المصر إذا سمع النداء فهو داخل فى عموم قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، ولم يخص من فى المصر أو خارجه. وأما حديث عائشة: أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من العوالى، ففيه رد لقول الكوفيين أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر؛ لأنها أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا ينتابون الجمعة، فدل ذلك على لزومها ووجوبها عليهم. قال محمد بن مسلمة: ومما يبين أن الجمعة لازمة لأهل العوالى إذن عثمان لهم يوم العيد فى الانصراف ولولا وجوبها عليهم ما أَذِنَ لهم. وما روى عن أنس أنه كان مرة يشهد الجمعة من الزاوية وهى على فرسخين من البصرة، ومرة كان لا يشهدها، والفرسخ ثلاثة أميال، ولو كان لازمًا عنده شهودها لمن كان على ستة أميال لما تركها بعض المرات.(2/495)
واختلفوا فى عدد من تلزمهم الجمعة، فروى عن أبى هريرة أنها لا تنعقد إلا بأربعين نفسًا، هذا قول الشافعى، وزعم أن النبى، عليه السلام، جمع بأربعين، وذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، عن مالك أن ثلاثين بيتًا وما قاربهم جماعة. قال ابن القصار: ورأيت لمالك أنها لا تجب على الثلاثة والأربعة، ولكنها تنعقد بما دون الأربعين، وعن ربيعة أنها تنعقد باثنى عشر رجلاً عدد الذين بقوا مع النبى يوم انفضوا إلى العير، قال أبو حنيفة: تنعقد بإمام وثلاثة أنفس، وهو قول الأوزاعى، والمزنى، والثورى، وقال أبو يوسف: تنعقد بإمام ونفسين، وقال الحسن: تنعقد بإمام وآخر معه. وقال ابن القصار: هذا الخلاف كله معارض لقول الشافعى، وليس أحد الأقوال أولى من صاحبه، فوجب الرجوع إلى صفة من خوطب فى الآية، والذين أمر الله بالسعى إليها فهم قوم لهم بيع وشراء، فوجب طلب قوم هذه صفتهم، ولسنا نعتبر عددًا حتى يصيروا به جماعة، ولكنا نقول: كل قوم لهم مسجد وسوق ينطلق عليهم اسم جماعة، فالجمعة واجبة عليهم سواء كانوا خمسة أو أربعين؛ لأن المقادير والتحديدات فى الشريعة لا تثبت إلا من طريق صحيح، وقال المزنى: لا يصح عن أصحاب الحديث ما احتج به الشافعى من أنه حين قدم المدينة جمع أربعين رجلاً؛ لأنه معلوم أن النبى، عليه السلام، قدم المدينة وقد تكاثر المسلمون وتوافروا فيجوز أن يكون جمع فى موضع نزوله قبل دخوله فى نفس المدينة، فاتفق له أربعون نفسًا.(2/496)
- باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَكَذَلِكَ يُذكر
عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. / 25 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ. / 26 - وفيه: أَنَسِ: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ) . / 27 - قال أنس: كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. قال المؤلف: إنما ذكر البخارى الصحابة فى صدر هذا الباب؛ لأنه قد روى عن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال من طريق لا يثبت، رواه وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابى، عن عبد الله بن سَيْدان السلمى قال: شهدت الجمعة مع أبى بكر الصديق، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر وعثمان إلى أن أقول: انتصف النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره. وعبد الله بن سيدان لا يعرف، والصحيح عن الصحابة ما ذكره البخارى، ونحوه ذُكر عن مالك عن عمر فى قصة طنفسة عقيل، وأجمع الفقهاء على أن وقت الجمعة بعد زوال الشمس إلا ما روى عن مجاهد أنه قال: جائز أن تصلى الجمعة فى وقت صلاة العيد؛ لأنها صلاة عيد، وقال أحمد بن حنبل: تجوز صلاة(2/497)
الجمعة قبل الزوال، وهذا القول يرده حديث أنس المذكور فى هذا الباب وعمل الخلفاء بعده. وقال ابن القصار: لا تخلو الجمعة من أن تكون ظهرًا فوقتها لا يختلف، أو بدلاً من الظهر فيجب ألا يختلف أيضًا؛ لأن الأبدال لا تتقدم مبدلاتها، كالقصر فى السفر لا يخرج الصلاة عن أوقاتها. وقوله: كنا نبكر بالجمعة، فإنما يريد أنهم كانوا يصلونها بعد الزوال فى أول الوقت وهو وقت الرواح عند العرب. وقوله: (نقيل بعد الجمعة) ، يعنى أنهم كانوا يقيلون بعد الصلاة بدلاً من القائلة التى امتنعوا منها بسبب تبكيرهم إلى الجمعة، وقد ذكر ابن أبى شيبة فى حديث جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع أنهما قالا: كنا نصلى مع رسول الله الجمعة إذا زالت الشمس.
- باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 28 - فيه: أَنَسَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ برَدَ بِالصَّلاةِ - يَعْنِي: الْجُمُعَةَ) . وقَالَ أَبُو خَلْدَةَ: (صَلَّى بِنَا أَمِيرنا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لأنَس: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي الظُّهْرَ؟) . هذا الباب فى معنى الذى قبله أن الجمعة وقتها وقت الظهر، وأنها تصلى بعد الزوال يبرد بها فى شدة الحر، ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن الوقت، ومدار هذا الباب على ذكر الظهر؛ فإذا صح بهذا أن الجمعة هى الظهر لم يجز أن تصلى قبل الزوال كما زعم مجاهد وأحمد بن حنبل.(2/498)
- باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة 9]
. وَمَنْ قَالَ: السَّعْيُ: الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ؛ لِقَوْل اللَّه تَعَالَى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) [الإسراء 19] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ. / 29 - فيه: عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ، وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) . / 30 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ عليه السلام، يَقُولُ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنتم تَسْعَوْنَ، وَائَتُوهَا تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . / 31 - وقال أَبو قَتَادَةَ: قَالَ عليه السلام: (لا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) . قال المؤلف: السعى فى لسان العرب يصلح للإسراع فى المشى والاشتداد فيه، ويصلح للعمل والترسل فى المشى دون السعى، فمن السعى الذى هو بمعنى الإسراع قوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، أى: تسرعون، وائتوها تمشون عليكم السكينة) ، وممن كان يسعى إذا سمع النداء: أنس بن مالك. وأما السعى الذى هو بمعنى العمل، فقوله تعالى: (وسعى لها سعيها) [الإسراء: 19] ، يعنى: وعمل لها عملها، وقوله: (وإذا تولى سعى فى(2/499)
الأرض ليفسد فيها) [البقرة: 205] ، وقال: (وأما من جاءك يسعى) [عبس: 8] ، هذه الآيات، لما علم أن المراد بها غير الجرى، على صحة هذا القول، وبأن قوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون، وعليكم السكينة) ، أن المراد بقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] ، غير الجرى، وكذلك قال الحسن فى تأويل هذه الآية: أما والله ما هو بالسعى على الأقدام، وقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع. وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء، وهو مذهب البخارى، وكان عمر وابن مسعود يقرأن: (فامشوا إلى ذكر الله) ، وقال ابن مسعود: لو قرأتها (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائى. واختلفوا فى وقت تحريم البيع والشراء، فقالت طائفة: هو زوال الشمس، وروى ذلك عن عطاء، والقاسم، والحسن، ومجاهد، وقالت طائفة: هو عند النداء الثانى والإمام على المنبر، رواه ابن القاسم عن مالك، وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك. واختلفوا فى البيع فروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وروى عنه ابن وهب، وعلى بن زياد: بئس ما صنع ويستغفر الله، وقال عنه على: ولا أرى الربح فيه حرامًا. وقال ابن القاسم: لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح، وإن لم يدخل، ولا تفسخ الهبة، والصدقة، والرهن، والحمالة، وقال أصبغ: يفسخ النكاح، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: البيع صحيح، وفاعله عاصٍ لله؛ لأن النهى لم يقع على البيع، وإنما جرى ذكر البيع؛ لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والمعنى(2/500)
المقصود من ذلك كل ما يمنع من إثباتها، وقد أجمع العلماء على أن المصلى لا يحل له فى صلاته بيع ولا شراء، فلو قال رجل لآخر فى الصلاة: بعنى سلعتك بكذا، فأجابه المصلى بنعم، أو بكلام ينعقد فيه البيع أن البيع جائز، وإن كان عاصيًا؛ لأن البيع معنى والصلاة غيره. وقال الزهرى: إذا سمع المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر، فعليه أن يشهد، قال ابن المنذر: وقد اختلف فيه عنه، وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على مسافر.
- باب لا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 32 - فيه: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ، أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى) . وقوله: (لا يفرق بين اثنين) ، يعنى لا يتخطى رقابهما، يدل على ذلك ما رواه ابن أبى خيثمة قال: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا عباد بن عباد، حدثنا هشام بن زياد، عن عمار بن سعد، عن عثمان بن أبى الأرقم، عن أبيه، وكان من أصحاب النبى عليه السلام، قال: (الذى يتخطى رقاب الناس يفرق بين الاثنين يوم الجمعة بعد خروج الإمام كالجارِّ قصبه فى النار) .(2/501)
وروى ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) . وفى قوله: (لا يفرق بين اثنين) ، حض على التبكير إلى الجمعة؛ ليصل إلى مكان مصلاه دون تخط ولا تفريق بين اثنين. اختلف العلماء فى التخطى، فكرهه أبو هريرة، وسلمان، وكعب، ورواه ابن أبى شيبة عن أبى هريرة قال: لأن أصلى بالحرة أحب إلىّ من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وعن سعيد بن المسيب مثله، وقال كعب: لأن أدع الجمعة أحب إلى من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وقال سلمان: إياك والتخطى واجلس حيث بلغتك الجمعة، وهو قول عطاء، والثورى، وأحمد بن حنبل. وفيه قول ثان: قال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعى: يتخطاهم إلى السعة، وهذا يشبه قول الحسن البصرى قال: لا بأس بالتخطى إذا كان فى المسجد سعة، وقال الشافعى: أكره التخطى قبل دخول الإمام وبعده إلا أن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بأن يتخطى فيسعه التخطى. وفيها قول ثالث: روى عن أبى نضرة قال: يتخطاهم بإذنهم، وكان مالك لا يكره التخطى إلا إذا كان الإمام على المنبر، ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فرج، وذكر الطحاوى عن الأوزاعى مثله، قال: التخطى الذى جاء فيه القول إنما هو والإمام يخطب؛ لأن الآثار تدل على ذلك؛ ألا ترى قوله عليه السلام: (الذى يتخطى رقاب الناس فيفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه فى النار) ، وقوله للذى يتخطى وهو يخطب: (آذيت وآنيت) .(2/502)
- باب لا يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
/ 33 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: نَهَى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ ، قَالَ: الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. قال المهلب: هذا على العموم كما قال نافع، لا يجوز أن يقيم أحد أحدًا من مكانه؛ لأنه من سبق إلى موضع من مواضع الجماعات التى يتساوى الناس فيها فهو أحق به لبداره إليه.
- باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 34 - فيه: السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رسول الله وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ، وَكَثُرَ النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ. وترجم له: (باب المؤذن الواحد يوم الجمعة) ، وزاد فيه. / 35 - عن السَّائِبِ قال: وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ عليه السلام، مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ. اختلف معنى قول مالك فى صفة الأذان يوم الجمعة، فروى عنه ابن عبد الحكم قال: إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادى منع الناس من البيع تلك الساعة، وهذا يدل أن النداء عنده واحد على ما فى هذا الحديث، ونحوه عن الشافعى، وفى المدونة قال مالك: إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون فى الأذان حرم البيع حينئذ، فذكر المؤذنين بلفظ الجمع، ونحوه عن الكوفيين، وقال مالك فى المجموعة: إن هشام بن عبد الملك هو الذى أحدث الأذان بين يديه وإنما الأذان على المنار واحدًا بعد واحدٍ إذا جلس الإمام على المنبر.(2/503)
واحتج الطحاوى بما رواه الزهرى عن ثعلبة بن أبى مالك القرظى أنهم كانوا فى زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذنون، بلفظ الجمع، وهذا كله يدل أنه إن أذَّن مؤذنون أو مؤذن أجزأ فى ذلك، ألا ترى قوله تعالى: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة) [الجمعة: 9] ، أنه يدخل فى معناه أقل ما يقع عليه اسم نداء وهو مؤذن واحد. فإن قال قائل: فإن كان مؤذنًا واحدًا على ما روى الزهرى عن السائب فما معنى قوله فى آخر الحديث: (فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء) ، وهذا يدل أن ثم أذانًا ثانيًا، وآخر الحديث مخالف لأوله. قيل: لا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما كان يؤذن المؤذن ثم يقيم والإقامة تسمى أذانًا، وقد بين ذلك ابن أبى شيبة فى (مصنفه) من رواية ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن السائب: (أن النداء كان أوله على عهد النبى، عليه السلام، وأبى بكر وعمر إذا خرج الإمام، وإذا قامت الصلاة، حتى إذا كان زمن عثمان وكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء، فثبت حتى الساعة) ، فبان بهذا الحديث أن الأذان الثانى المتوهم فى حديث السائب إنما يعنى به: الإقامة، ويشهد لصحة ذلك قوله عليه السلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) ، يعنى بين كل أذان وإقامة صلاة، وقد روى عقيل، عن ابن شهاب، عن السائب: أن التأذين الثانى يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر الناس، ذكره البخارى فى(2/504)
باب الجلوس على المنبر عند التأذين بعد هذا فتكون الإقامة: الأذان الثالث على هذا القول. وقوله: (كان التأذين حين يجلس الإمام على المنبر) ، قال المهلب: إنما جعل التأذين فى هذا الوقت، والله أعلم، ليعرف الناس بجلوس الإمام فينصتون له. والزوراء: حجر كبير عند باب المسجد.
- باب يُجِيبُ الإمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
/ 36 - فيه: مُعَاوِيَةَ: (أنه جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا، فَلَمَّا قَضَى التَّأْذِينَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي) . قال المؤلف: فى هذا الحديث إباحة الكلام للإمام على المنبر قبل أن يدخل فى الخطبة بما فيه تعليم الناس السنن؛ لأن القول مثل ما يقول المؤذن قد حض عليه النبى، عليه السلام، وقد تقدم فى أبواب الأذان اختلاف العلماء فيمن كان فى صلاة هل يقول مثل ما يقول المؤذن؟ .
- باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ
/ 37 - فيه: السَّائِبَ: أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ، حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإمَامُ، رواه عقيل(2/505)
عَنِ الزُّهْرِيِّ، وروى يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبَ: (فَلَمَّا كَانَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا، أَمَرَ بِالأذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ) . الجلوس على المنبر إنما هو لمن يخطب عليه، ومن خطب فى الأرض، فإنما يجلس عند التأذين فى موضع خطبته وهذه الجلسة قبل التأذين وضعت له، وهى سنة عند مالك، والشافعى، وأبى ثور، ولذلك قال العلماء: لا جلوس فى العيد قبل الخطبة؛ لأن العيد لا أذان فيه، وقال أبو حنيفة: لا يجلس الإمام قبل الخطبة، وخالف هذا الحديث.
- باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَقَالَ أَنَسٌ: خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، عَلَى الْمِنْبَرِ. / 38 - فيه سَهْلَ: أن النبى، عليه السلام، قال لامْرَأَةٍ: (مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ، إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَعَمِلَته. . .) ، الحديث. / 39 - وفيه: جَابِرَ قَالَ: كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ عليه السلام، فَلَمَّا وُضِعَ الْمِنْبَرُ، سَمِع لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ عليه السلام، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. / 40 - وفيه: ابن عمر: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام، يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ. قال: إذا كان الخليفة هو الذى يخطب، فسنته أن يجلس على المنبر إذا خطب، وإذا خطب غير الخليفة قام إن شاء على المنبر، وإن شاء على الأرض.(2/506)
قال مالك: ومن لا يرقى على المنبر عندنا، فمنهم من يقوم عن يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه وكل واسع، وروى أن أبا بكر الصديق نزل بعد النبى، عليه السلام، درجةً من المنبر تواضعًا منه، ولم ير نفسه أهلاً لموضع النبى، عليه السلام، وكذلك فعل عمر نزل بعد أبى بكر، فكان يخطب على الأولى، وكان المنبر من ثلاث درجات. وجماعة الفقهاء على أن الخطبة من شرط الجمعة لا تصح إلا بها، ومتى لم يخطب الإمام صلى أربعًا، وشذ الحسن البصرى فقال: تجزئهم جمعتهم خطب الإمام أو لم يخطب، ذكره ابن المنذر عنه، وذكر عبد الوهاب أنه قول أهل الظاهر. ويرد قولهم أن النبى، عليه السلام، لم يجمع قط إلا بخطبة، نقل ذلك الكافة عن الكافة ومن لا يجوز عليه السهو، ولو كانت الجمعة تجزئ بغير خطبة لبين ذلك لأمته، وقد قال عمر بن الخطاب: إنما قصرت الصلاة من أجل الخطبة، وقال سعيد بن جبير: إن الخطبة جعلت مكان الركعتين. وحديث جابر يعارض حديث سهل فى الظاهر؛ لأنه قال عليه السلام، فى حديث سهل: (مُرى غلامك النجار يعمل لى أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس) ، فدل هذا أنه كان يخطب جالسًا، وقال جابر فى حديثه: (كان جذع يقوم إليه النبى، عليه السلام) ، فدل هذا أنه كان يخطب قائمًا، والذى يجمع بين الحديثين وينفى التعارض أنه لم يحفظ عنه، عليه السلام، أنه خطب للجمعة قط إلا قائمًا، وقد قال بعض العلماء فى قول الله تعالى: (وتركوك(2/507)
قائمًا) [الجمعة: 11] ، قال: قائمًا يخطب، فيمكن أن يكون جلوسه فى حديث سهل إذا خطب الناس فى غير الجمعة لوعظ أو تعليم جلس على المنبر، وإذا خطب فى الجمعة قام، ويؤيد هذا حديث ابن عمر، وقد ترجم له باب الخطبة قائمًا. وفى حديث جابر علم عظيم من أعلام نبوته، ودليل على صحة رسالته، عليه السلام، وهو حنين الجماد إليه وذلك بأن الله تعالى، جعل للجذع حياة حَنَّ بها، وهذا لا يجوز إلا أن يكون بفضل الله تعالى، الذى يحيى الموتى، بقوله: (كن فيكون (.
- باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا
وَقَالَ أَنَسٌ: بَيْنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا. / 41 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الآنَ) . اختلف العلماء فى الخطبة قائمًا، فقال مالك، والشافعى: يخطب قائمًا، وقال أبو حنيفة: إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، ذكره ابن القصار عنه. قال المؤلف: وحديث عبد الله بن عمر يدل على صحة قول مالك؛ لأن قوله: كان النبى، عليه السلام، يخطب قائمًا، ثم يقعد، ثم يقوم، يدل على تكرار فعله فى ذلك ودوامه، وأنه لم يخالف ذلك، ولا خطب جالسًا، وذكر ابن أبى شيبة عن طاوس، قال: خطب رسول الله قائمًا، وأبو بكر قائمًا وعمر قائمًا وعثمان قائمًا، وأول من(2/508)
جلس على المنبر معاوية بن أبى سفيان: وقال الشعبى: إنما خطب معاوية قاعدًا حين كثر شحم بطنه. قال المؤلف: رأيت للشافعى أنه إذا خطب قاعدًا ولم يعلموا أنه مريض حملوه على أنه معذور حتى يستيقنوا، فإن تبين لهم أنه خطب قاعدًا من غير عذر بطلت صلاتهم جميعًا، لقوله تعالى: (وتركوك قائمًا) [الجمعة: 11] ، وأن النبى لم يخطب قط إلا قائمًا. قال ابن القصار: والذى يقع فى نفسى أن القيام فى الخطبة واجب وجوب سنة لا أنه إن تركه فسدت الخطبة، ولا أنه مباح إن شاء فعله، وإن شاء تركه كما قال أبو حنيفة.
باب اسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإمَامَ إِذَا خَطَبَ وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ الإمَامَ
. (1) / 42 - فيه: أَبَو سَعِيدٍ: (أنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) . واستقبال الإمام للناس سنة لكل من يقابله، ومن لا يقابله فيصرف إليه وجهه، يدل على ذلك قول أبى سعيد: (وجلسنا حوله) ، ولا يكون جلوسهم حوله إلا وهم ينظرون إليه، ومن أدبر عنه، فليس بمستمع له ولا مقبل عليه. ومعنى استقبالهم له، والله أعلم، لكى يتفرغوا لسماع موعظته وتدبر كلامه ولا يشتغلوا بغير ذلك، وقال الشعبى: من السنة أن(2/509)
يستقبل الإمام يوم الجمعة، وقال ابن المنذر: استقبال الناس الإمام إذا خطب هو قول شريح، وعطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق، وهو كالإجماع، وروى وكيع عن أبان ابن عبد الله البجلى، عن عدى بن ثابت، قال: (كان النبى، عليه السلام، إذا خطب استقبله أصحابه بوجوههم) .
- باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ
رَوَاهُ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. / 43 - فيه: أسماء فى حديث الكسوف. / 44 - وفيه: عمرو بن تغلب. / 45 - وعائشة. / 46 - وأبو حميد الساعدى. / 47 - والمسور بن مخرمة. / 48 - وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (صَعِدَ النَّبِيُّ عليه السلام، على الْمِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ، مُتَعَطِّفًا بمِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ. . .) ، الحديث. وقال فى هذه الأحاديث كلها بعد الثناء على الله: (أما بعد) . قال المؤلف: (أما بعد) من فصيح الكلام، وهو فصل بين الثناء على الله تعالى، وبين ابتداء الخبر الذى يريد الخطيب إعلام الناس به، وقد قال بعض أهل التأويل فى قول الله تعالى، عن داود عليه السلام: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) [ص: 20] ، أنه: أما بَعْد. وقد اختلف العلماء فيما يجزئ من الخطبة، فذكر ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون وأصبغ أنه تجزئه خطبة واحدة، ورواه مطرف عن مالك، وهو قول الأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، وإسحاق،(2/510)
وأبى ثور، قال ابن حبيب: ولو لم يُتم الأولى وتكلم بما خف من الثناء على الله وعلى نبيه عليه السلام، لأجزأه. وروى مطرف عن مالك فى مختصر ابن عبد الحكم: إن سبح أو هلل وصلى على النبى، عليه السلام، فلا إعادة عليه، وقال الشعبى: يجزئه ما قل وكثر، وقال أبو حنيفة: يجزئه إن خطب بتسبيحة واحدة، قال ابن حبيب: روى ابن القاسم عن مالك أنه إن لم يخطب من الثانية ما لهُ بال لم يجزئهم وأعادوا، ونحوه قال الشافعى إلا أنه قال: أقل ما يجزئ من الخطبتين جميعًا أن يحمد الله تعالى، ويصلى على الرسول، ويوصى بتقوى الله، ويقرأ آيات من القرآن فى الأولى، ويحمد الله ويصلى على النبى ويدعو فى الآخرة. وقوله: (عصابة دسمة) ، فذكر أبو عمر المطرز أنها السوداء وذكره عن ثعلب، عن ابن الأعرابى قال: ومنه حديث عثمان بن عفان، أنه مر ببعض طرقات المدينة فرأى صبيًا ومعه حشمة فقال: دسموا نونته لكى لا تصيبه العين، معناه دسموا ذلك الموضع ليرد العين، والنونة: النقبة التى تكون فى ذقن الصبى الصغير، وقال ابن دريد: الدسمة: غبرة فيها سواد، الذكر: أدسم، والأنثى: دسماء، وأنشد: إلى كل دسماء الذراعين والعقب ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب اللباس وقال: عصابة دسماء، وقال أبو عمرو الشيبانى: العصابة: العمامة.(2/511)
قال المؤلف: وإنما سميت العمامة عصابة؛ لأنها تعصب الرأس أى تربطه؛ ألا ترى قول الحجاج: لأعصبنكم عصب السلمة، أى: لأربطنكم ربط الشجرة.
- باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 49 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا) . اختلف العلماء فى الجلسة بين الخطبتين فعند مالك هى سنة، وعند الشافعى واجبة، فإن لم يخطب خطبتين يجلس بينهما صلى الظهر أربعًا، وعند أبى حنيفة إن شاء خطب قائمًا أو جالسًا، وروى عن المغيرة بن شعبة أنه كان لا يجلس فى خطبته. وحجة من قال إنها سنة حديث ابن عمر: (أن النبى، عليه السلام، كان يجلس فى خطبته) ، ولم يقل إنه لا تجزئه الخطبة إلا بالجلوس فيها؛ لأن عليه فرض البيان، ومن قال: إنها فريضة فلا حجة له؛ لأن القعدة فصل بن الذِّكرين، واستراحة للخطيب، وليست من الخطبة فى شىء، والمفهوم من لسان العرب أن الخطبة اسم للكلام الذى يخطب به خاصة لا للجلوس. قال الطحاوى: ولم يقل بقول الشافعى أحد غيره، ولما كان لو خطب خطبتيه جميعًا قاعدًا جازت الخطبة، ولم يقع بينهما فصل، كذلك تجوز إذا قام موضع القعود. قال غيره: ولو كانت فريضة ما جهلها المغيرة بن شعبة، ولو(2/512)
جهلها ما ترك جماعة من بحضرته من الصحابة والتابعين تنبيهه عليها وإعلامه بوجوبها، وقد حُصِرَ عثمان عن الخطبة فتكلم ونزل ولم يجلس، ولم يخالفه أحد فصار كالإجماع، ذكره ابن القصار.
- باب الاسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ
/ 50 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عليه السلام: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ، كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) . استماع الخطبة واجب وجوب سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من جعله فريضة، روى عن مجاهد أنه قال: لا يجب الإنصات للقرآن إلا فى موضعين فى الصلاة والخطبة. وفى استماع الملائكة للخطبة حض على الاستماع إليها والإنصات لها، وقال أكثر العلماء: الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها، وهو قول مالك، وقد قال عثمان بن عفان: للمنصت الذى لا يسمع من الأجر مثل ما للمنصت الذى يسمع، وكان عروة بن الزبير لا يرى بأسًا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة، ذكره ابن المنذر، وقال إبراهيم: إنى لأقرأ حزبى إذا لم أسمع الخطبة، وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. واختلفوا فى وقت الإنصات، فقال أبو حنيفة: خروج الإمام يقطع الكلام والصلاة جميعًا لقوله: (فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر) ، وقالت طائفة: لا يجب الإنصات إلا عند(2/513)
ابتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها هذا قول مالك، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والأوزاعى، والشافعى، وحجتهم قوله عليه السلام: (وينصت إذا تكلم الإمام) ، ذكره فى باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب بعد هذا.
- باب إِذَا رَأَى الإمَامُ رَجُلا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
/ 51 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ عليه السلام، يَخْطُبُ النَّاسَ، قَالَ: صَلَّيْتَ يَا فُلانُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ) . وترجم له: (باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين) . / 52 - وقال فيه: فصل رَكْعَتَيْنِ. اختلف العلماء فى معنى هذا الحديث، فقال قوم بظاهره وقالوا: من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، وذلك سنة معمول بها، روى هذا عن الحسن، ومكحول وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وطائفة من أهل الحديث. وفيه: قول ثان: قال الأوزاعى: من ركعهما فى بيته، ثم دخل المسجد والإمام يخطب قعد ولم يركع، وإن لم يكن ركعهما ركعهما فى المسجد؛ لأنه عليه السلام إنما أمره بالركوع حين ذكر له أنه لم يصل فى بيته. وفيها قول ثالث: قال أبو مجلز: إن شئت فاركع وإن شئت فاجلس. وفيها قول رابع: أنه يجلس ولا يركع وهو قول الجمهور، ذكره(2/514)
ابن أبى شيبة عن عمر، وعثمان، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، ومن التابعين عن عطاء، والنخعى، وابن سيرين، وشريح، وعروة، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين. واحتج بعض أهل هذه المقالة أن النبى، عليه السلام، إنما أمره بالصلاة لبذاذة هيئته؛ فأراد أن يفطن الناس له ويتصدقوا عليه، وروى ذلك ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عن أبى سعيد الخدرى: (أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله على المنبر، فأمره النبى، عليه السلام، أن يدنوا منه، فأمره أن يركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق، ثم صنع ذلك فى الثانية، فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل ذلك فى الجمعة الثالثة، فأمره النبى، عليه السلام، بمثل ذلك، وقال للناس: تصدقوا، فألقى الثياب، فأمره النبى، عليه السلام، فأخذ ثوبين، فلما كان بعد ذلك أمر الناس أن يتصدقوا، فألقى الرجل أحد ثوبيه فغضب رسول الله ثم أمره أن يأخذ ثوبه) . قال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون النبى، عليه السلام، أمر سُليكًا بالصلاة فقطع خطبته ثم استأنف، وقد يجوز أن يكون بنى عليها، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام فى الصلاة، ثم نسخ الكلام فى الصلاة فنسخ أيضًا فى الخطبة، وقد يجوز أن يكون ما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولاً بها، فنظرنا هل روى شىء يخالف ذلك؟ فإذا بحر ابن نصر، حدثنا عن عبد الله بن وهب قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بُسر قال: (جاء رجل فتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله: اجلس فقد آذيت) ، فأمره عليه السلام بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، وهذا(2/515)
يخالف حديث سليك، وكذلك حديث أبى سعيد الخدرى يدل أن ذلك كان فى حال إباحة الأفعال فى الخطبة قبل أن ينهى عنها، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه، والإمام يخطب مكروه وأن مسه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت فى الخطبة مكروه. قال الطحاوى: والدليل على أنه كان وقت إباحة الكلام فى الخطبة أنه ذكر فى حديث أبى سعيد الخدرى: (أن النبى، عليه السلام، أتى بالصدقة فأعطى منها رجلاً ثوبين، فلما كانت الجمعة طرح الرجل أحد ثوبيه فصاح الرسول به، وقال: (خذه، ثم قال: انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة. . .) ، وذكر الحديث، ولا نعلم خلافًا أن مثل هذا الكلام محظور فى الخطبة لقوله عليه السلام: (إذا قلت لأخيك: أنصت والإمام يخطب فى الخطبة فقد لغوت) . ومن طريق النظر، فقد رأيناهم لا يختلفون أن من كان فى المسجد قبل أن يخطب الإمام، فإن الخطبة تمنعه من الصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك من دخل المسجد، والإمام يخطب ألا يصلى؛ لأنه داخل فى غير موضع صلاة، والأصل المتفق عليه أن الأوقات التى تمنع من الصلوات يستوى فيها من كان قبلها فى المسجد، ومن دخل فيها فى المسجد فى المنع من الصلاة. فإن قال قائل: إنما أمره عليه السلام، أن يركع لقوله عليه السلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) . قيل له: إنما هذا لمن دخل فى المسجد فى وقت تحل فيه الصلاة؛ ألا ترى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وفى الأوقات المنهى عن الصلاة فيها أنه لا ينبغى له الصلاة، وليس كمن أمره النبى، عليه السلام، بالركوع لدخوله المسجد.(2/516)
قال غيره: فى حديث جابر حجة لمن أجاز للخطيب يوم الجمعة أن يتكلم فى خطبته بما عرض له من كلام من غير جنس الخطبة بما فيه نفع للناس وتعليم لهم، وقد روى عن على بن أبى طالب ذلك حين تخطى الأشعث بن قيس رقاب الناس، ذكره الطبرى. وفى (المدونة) : جائز أن يتكلم الإمام فى خطبته لأمر أو نهى، ولا يكون لاغيًا، ومن كلمه الإمام فرد عليه لم يكن لاغيًا.
- باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ
/ 53 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: (بَيْنَمَا رسول الله يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْكُرَاعُ، هَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا) . وترجم له: (باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) . / 54 - وزاد فيه: (حتَى سَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ) . رفع اليدين فى الخطبة فى معنى الضراعة إلى الله والتذلل له، وقد أخبر النبى، عليه السلام، أن العبد إذا دعا الله تعالى، وبسط كفيه أنه لا يردهما خائبين من فضله، فلذلك رفع النبى عليه السلام، يديه. وقد أنكر بعض الناس ذلك، فروى الأعمش، عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: رفع الإمام يوم الجمعة يديه على المنبر، فرفع الناس أيديهم، فقال مسروق: ما لهم قطع الله أيديهم، وقال الزهرى: رفع الأيدى يوم الجمعة محدث، وقال ابن سيرين: أول من رفع يديه يوم الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر.(2/517)
وكان مالك لا يرى رفع اليدين إلا فى خطبة الاستسقاء، وسيأتى هذا المعنى مستقصى فى كتاب الاستسقاء، إن شاء الله تعالى، ويأتى فيه تفسير (الجوبة) . وقوله فى هذا الحديث: (حتى سال الوادى قناة شهرًا) ، فمعناه اسم الوادى ولم يصرفه؛ لأنه معرفة بدل من معرفة، وفى أبواب الاستسقاء (حتى سال وادى قناة) غير مصروف أيضًا؛ لأن قناة معرفة، وهى اسم البقعة، والجَوْدُ: المطر الغزير، يقال: جاد المطر جودًا أو جودة: إذا كثر، وسيأتى حكم الاستسقاء فى خطبة الجمعة بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
30 - باب الإنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَقَالَ سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: (يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ
. / 55 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى عليه السلام، قَالَ: (إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالإمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ) . اللغو: كل شىء من الكلام ليس بحسن، عند أبى عبيدة. وقال قتادة فى قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كرامًا) [الفرقان: 72] ، قال: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وجماعة أئمة الفتوى على وجوب الإنصات للخطبة، وفى حديث سلمان حجة لمن رأى الإنصات عند ابتداء الخطبة وقد تقدم هذا،(2/518)
وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا، وروى عن عمر، وابن عمر، وابن عباس أنهم قالوا: من قال لصاحبه اسكت فلا جمعة له، وقال ابن عباس: الذى يتكلم والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ذكره ابن أبى شيبة. وقوله: (لا جمعة له) ، أى لا جمعة كاملة مثل جمعة المنصت؛ لأن جماعة الفقهاء مجمعون أن جمعته مجزئة عنه، ولا يصلى أربعًا. وقال ابن وهب: من لَغَا كانت صلاته ظهرًا ولم تكن له جمعة وحُرِمَ فضلها. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: هل تعلم شيئًا يقطع جمعة الإنسان حتى يجب عليه أن يصلى أربعًا من كلام أو تخطى رقاب الناس أو غير ذلك؟ قال: لا. وقد رخص جماعة من التابعين فى الكلام والإمام يخطب إذا كان من أئمة الجور أو أخذ فى خطبته فى غير ذلك، روى عن النخعى، والشعبى، وأبى بردة، وسعيد بن جبير أنهم كانوا يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا، وروى ابن أبى شيبة أن إبراهيم كُلِّم فى ذلك فقال: إنى كنت قد صليت، ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الخطبة والموعظة أن يتكلم ولا ينصت. وروى ابن وهب، وابن نافع، وعلى بن زياد، عن مالك أن الإمام إذا لغا وشتم الناس فعلى الناس الإنصات ولا يتكلمون، وروى عنه(2/519)
إذا خطب فى أمر ليس من الخطبة، ولا من الصلاة من أمر كتاب يقرؤه أو نحو ذلك، فليس على الناس الإنصات. ورأى الليث إذا أخذ الإمام فى غير ذكر الله والموعظة أن يتكلم ولا ينصت. واختلفوا فى رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب فرخص فى ذلك النخعى، والشعبى، والحسن، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وكره ذلك مالك والكوفيون، والشافعى.
31 - باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
/ 56 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: (فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا، إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا) . اختلف السلف فى هذه الساعة، فروى عن أبى هريرة قال: هى من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. وقال الحسن، وأبو العالية: هى عند زوال الشمس، وقال أبو ذر: هى ما بين أن تزيغ الشمس بشبر إلى ذراع، وقالت عائشة: هى إذا أذن المؤذن بالصلاة، وقال ابن عمر: هى الساعة التى(2/520)
اختار الله فيها الصلاة، وهو قول أبى بردة، وابن سيرين، وقال أبو أمامة: إنى لأرجو أن تكون فى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن، أو إذا جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة. قال الشعبى: هو ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وحجة هذا القول ما روى ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبى بردة بن أبى موسى قال: (قال لى عبد الله بن عمر: سمعت أباك يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى شأن ساعة الجمعة؟ قلت: نعم، سمعته يقول: سمعت النبى، عليه السلام، يقول: (هى ما بين مجلس الإمام إلى تقضى الصلاة) . وروى الأوزاعى عن من حَدَّثَهُ عن أبى الخير، عن على بن أبى طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا زالت الأفْيَاء وراحت الأرواح، فاطلبوا إلى الله تعالى حوائجكم، فإنها ساعة الأوابين، وإنه كان للأوابين غفورًا) . وقال عبد الله بن سلام: هى ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس، وروى مثله عن ابن عباس، وأبى هريرة، ومجاهد، وطاوس. قال المهلب: وحجة من قال: إنها بعد العصر قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم) ، فهو وقت العروج وعرض الأعمال على الله تعالى، فيوجب الله تعالى، فيه مغفرته للمصلين من عباده؛ ولذلك شدد النبى، عليه السلام، على من حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطى بها أكثر؛ تعظيمًا للساعة، وفيها يكون اللعان والقسامة، وقيل فى قوله تعالى: (تحبسونهما من بعد الصلاة) [المائدة: 106] ، أنها بعد العصر.(2/521)
ومعنى قوله: (وهو قائم يصلى) ، قد فسرهُ عبد الله بن سلام لأبى هريرة فقال: ألم يقل رسول الله: (من جلس ينتظر الصلاة فهو فى صلاة) ، فقال أبو هريرة: بلى، فقال: هو ذاك. وروى ابن أبى أويس عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن الثقة، عن صفوان بن سليم، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى قال: قال النبى، عليه السلام: (الساعة التى يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس أغفل ما يكون الناس) .
32 - باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإمَامِ فِي صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَصَلاةُ الإمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ
/ 57 - فيه: جَابِرُ قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا، حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [الجمعة 11] ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث أنهم كانوا فى الصلاة حين أقبلت العير، روى حماد، عن يونس، عن الحسن: أن النبى، عليه السلام، كان يخطب يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فابتدرها الناس، وبقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى نفر يسير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو تتابعتم لسال بكم الوادى نارًا) ، ونزلت هذه الآية. قال الأصيلى: وقد وصف الله تعالى، أصحاب محمد بأنهم(2/522)
) لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) [النور: 37] ، إلا أن يكون هذا الحديث قبل نزول هذه الآية. قال المهلب: يحتمل قول جابر: (بينما نحن نصلى مع النبى، عليه السلام) ، أن يكون فى الخطبة كما قال الحسن؛ لأن من انتظر الصلاة فهو فى صلاة، ولا يظن فى الصحابة إلا حسن الظن. واختلف العلماء فى الإمام يفتتح صلاة الجمعة بالجماعة، ثم يفترقون عنه، فقال الثورى: إذا ذهبوا إلا رجلين صلى ركعتين، وإن بقى معه رجل واحد صلى أربعًا. وقال أبو ثور: إذا بقى معه واحد صلى الجمعة؛ لأنه قد دخل فى صلاة هى له ولهم جمعة، ورآه الشافعى، وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا افتتح الجمعة وكبر للإحرام، ثم نفروا كلهم صلى الجمعة وحده، وقال أبو حنيفة: إذا نفر عنه الناس قبل أن يركع ويسجد سجدة يستقبل الظهر، وإذا نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة. وقال ابن القصار مثله عن مالك، وهو قول المزنى، وقال زفر: إذا نفروا عنه قبل أن يجلس للتشهد بطلت صلاته؛ لأنه يراعى فيها الاجتماع إلى آخرها، وعن الشافعى روايتان: إن بقى اثنان حتى تكون صلاته صلاة جماعة أجزأهم، والقول الآخر: لا تجزئهم حتى يكونوا أربعين رجلاً. وقال إسحاق: إن بقى معه اثنا عشر رجلاً صلى الجمعة ركعتين على ظاهر هذا الحديث؛ لأن الذين بقوا مع النبى، عليه السلام،(2/523)
كانوا اثنى عشر رجلاً، وهذه المسألة فرع على اختلافهم فى عدد من تقوم بهم الجمعة، وقد تقدم. والصحيح قول من قال: إن نفروا عنه بعد عقد ركعة يسجد فيها أنه يصلى الجمعة ركعتين، لقول النبى، عليه السلام: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) ، فبان أن أدنى ما يقع به الاشتراك هو فعل الركعة، ولا يجوز أن يعتبر فى جواز البناء الدخول فى الجمعة وحده؛ لأن الإمام متى كَبَّر حصل دخوله فى الجمعة، وإن لم يصح له البناء عليها إلا بمشاركة المؤتمين، يبين هذا أنهم لو نفروا عنه، وقد كبر ولم يكبروا هم لم يصح أن يبنى الإمام على جمعته، فكذلك إذا نفروا بعد أن كبروا. فإن قيل: إن الجمعة قد استقرت بدخولهم فيها، فلا معتبر بعقد الركعة. قيل: إذا أدرك التشهد من الجمعة هو مدرك لتكبيرة الإحرام مع الإمام ولا يعتد بها، ولا يبنى عليها جمعة فسقط قولهم. واحتج الطحاوى لأصحابه قال: شرط صحة الجمعة الإمام والمأموم، فلما كان المأموم تصح له الجمعة، بأن يدرك بعض الصلاة مع الإمام وإن لم يدرك جميعها، كذلك ينبغى أن يصح للإمام مشاركة المأمومين له فى بعض صلاته.(2/524)
33 - باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا
/ 58 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ النبى، عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) . اختلف العلماء فى الصلاة بعد الجمعة فقالت طائفة: يصلى بعدها ركعتين فى بيته كالتطوع بعد الظهر، روى ذلك عن ابن عمر، وعمران بن حصين، والنخعى، وقال مالك: إذا صلى الإمام الجمعة فينبغى أن يدخل فى منزله ولا يركع فى المسجد، لما روى عن النبى، عليه السلام، أنه كان ينصرف بعد الجمعة ولم يركع فى المسجد، قال: ومن خلفه أيضًا إذا سلموا فأحبّ إلىّ أن ينصرفوا ولا يركعوا فى المسجد، وإن ركعوا فذلك واسع. وقالت طائفة: يصلى بعدها ركعتين ثم أربعًا، روى ذلك عن على، وابن عمر، وأبى موسى، وهو قول عطاء، والثورى، وأبى يوسف، إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين، وقال الشافعى: ما أكثر المصلى بعد الجمعة من التطوع فهو أحب إلىّ. وقالت طائفة: يصلى بعدها أربعًا لا يفصل بينهن بسلام، روى ذلك عن ابن مسعود، وعن علقمة، والنخعى، وهو قول أبى حنيفة، وإسحاق. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر: (أن النبى، عليه السلام، كان لا يصلى بعد الجمعة إلا ركعتين فى بيته) ، قال المهلب: وهما الركعتان اللتان تصلى بعد الظهر فى سائر الأيام.(2/525)
وكرر ابن عمر ذكرها من أجل أنه عليه السلام كان يصليها فى بيته، ووجه ذلك، والله أعلم، أنه لما كانت الجمعة ركعتين لم يصل بعدها صلاة مثلها خشية أن يظن أنها التى حذفت منها، وأنها واجبة، فلما زال عن موطن القصد صلى فى بيته، وقد روى ابن جريج عن عمر بن عطاء بن أبى الخُوار: (أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأله عن شىء رآه منه معاوية فى الصلاة، فقال: نعم صليت معه الجمعة، فلما سلم الإمام قمت فصليت، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْهَا بصلاة حتى تكلم أو تخرج؛ فإن النبى، عليه السلام، أمرنا أن لا نصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج) . وروى الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق قال: كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف، فقال عبد الله: صَلُّوا فى رحالكم لئلا يراكم الناس فيرونها سنة، وقد أجاز مالك الصلاة بعد الجمعة فى المسجد للناس، ولم يجزه للأئمة. وحجة أهل المقالة الثانية ما رواه أبو إسحاق عن عطاء قال: صليت مع ابن عمر الجمعة، فلما سلم قام فركع ركعتين، ثم صلى أربع ركعات ثم انصرف، وما رواه سفيان، عن أبى حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على بن أبى طالب، أنه قال: من كان مصليًا بعد الجمعة فليصل ستًا، ووجه قول أبى يوسف ما رواه(2/526)
الأعمش، عن إبراهيم، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر أن عمر بن الخطاب كره أن يصلى بعد صلاة مثلها. ووجه أهل المقالة الثالثة ما رواه ابن عيينة، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا) . وأما الصلاة قبل الجمعة فقد تقدم اختلاف العلماء فى الصلاة عند استواء الشمس فى أبواب أوقات الصلوات، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والحمد لله.
34 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) [الجمعة 10]
/ 59 - فيه: سَهْلِ قَالَ: (كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَحْقَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا، فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ، ومَا كُنَّا نَقِيلُ وَلا نَتَغَدَّى إِلا بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . وترجم له: (باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ) . / 60 - وزاد فيه: عَنِ أَنَس قال: (كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ) . والفقهاء متفقون على أن معنى قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة(2/527)
فانتشروا فى الأرض) [الجمعة 10] ، الإباحة؛ لأنه ورد بعد تقدم أمره بالسعى إلى الصلاة، وترك البيع؛ فأبان بقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله) [الجمعة: 10] ، زوال ما أوجب عليهم من السعى وترك البيع فى وقت الصلاة، وهذا كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) [المائدة: 2] . وموافقة الحديث للترجمة وهو قوله: (كنا ننصرف من الجمعة فنسلم عليها، فتقرب إلينا ذلك الطعام) ، ألا ترى أن انصرافهم بعد الجمعة لم يكن واجبًا عندهم، وإنما كانوا ينصرفون لما ذكره من الغداء، ثم القائلة عوضًا مما فاتهم من ذلك فى وقته، وهذا الحديث بين فى ردَّ قول مجاهد، وأحمد بن حنبل: أن الجمعة تصلى قبل الزوال استدلالاً، بقوله: (وما كنا نقيل إلا بعد الجمعة) ، ولا يسمى بعد الجمعة وقت الغداء، قبان أن قائلتهم وغداءهم بعد الجمعة إنما كان عوضًا مما فاتهم فى وقته من أجل بدارهم بالسعى إلى الصلاة والتهجير إلى الجمعة، وعلى هذا التأويل جمهور الأئمة وعامة العلماء، فلا معنى للاشتغال بما خالفهم، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك من الحجة فى باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس. وقال صاحب (العين) : الأربعاء الجداول واحدها ربيع. وقوله: (تحقل) مأخوذة من الحقل، والحقل: الزرع المتشعب الورق.(2/528)
35 - باب صَلاةِ الْخَوْفِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ (إلى قوله: (مُهِينًا) [النساء: 101، 102]
/ 61 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلاَم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ، رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) . قال المؤلف: لم يذكر البخارى فى أبواب صلاة الخوف غير حديث ابن عمر هذا، وذكر فى كتاب المغازى حديث مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: (أن طائفة صلت معه وطائفة وِجَاهَ العدو، فصلى النبى بمن معه ركعة ثم ثبت قائمًا، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصَفُّوا وِجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم) . قال مالك: هذا أحسن ما سمعت فى صلاة الخوف، هكذا رواه البخارى عن قتيبة، عن مالك، وكذلك هو فى موطأ القعنبى، وابن بكير، وأبى مصعب، قال مالك: وحديث يزيد بن رومان أحب ما(2/529)
سمعت إلىّ، وفى موطأ يحيى بن يحيى، قال مالك: وحديث القاسم أحبّ ما سمعت إلىّ فى صلاة الخوف. وذكر إسماعيل بن إسحاق، عن ابن وهب، عن مالك قال: حديث يزيد أحب إلىّ، ثم رجع فقال: يكون قضاؤهم بعد السلام أحبّ إلى على حديث القاسم، وذكر البخارى فى المغازى عن مسدد، عن يحيى القطان، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح ابن خوات، عن سهل بن أبى حثمة قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَلِ العدو ووجوههم إلى العدو فيصلى بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين فى مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك فيجىء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين. هكذا رواه مسدد عن القطان، عن يحيى بن سعيد لم يذكر فيه سلام الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها، ولا ذكر سلام الرسول بالطائفة الثانية قبل أن تتم لأنفسها، وذكر مالك ذلك فى روايته عن يحيى بن سعيد، والزيادة من الحافظ مقبولة. وذكر البخارى فى المغازى حديث جابر إلا أنه لم يسنده قال: وقال أبان: حدثنا يحيى ابن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن جابر قال: (كنا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) بذات الرقاع فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبى أربع ركعات وللقوم ركعتان) . وهذه الأحاديث كلها قد قال بها قوم من الفقهاء، وسأذكر أقوالهم بعد ذِكْرِى من قال بأحاديث ابن عمر المتقدمة فى هذا الباب.(2/530)
فى حديث ابن عمر أن الطائفة الأولى التى صلى بها النبى، عليه السلام، ركعة لم تتم ركعتها الثانية إلا بعد سلام النبى، أنهم كانوا فى انصرافهم وِجَاهَ العدو فى حكم الصلاة، كذلك الطائفة الثانية قضوا ركعتهم بعد صلاة النبى أيضًا. وقال بهذا أبو حنيفة، وأشهب صاحب مالك، والأوزاعى، ثم رجع فأخذ بحديث غزوة ذات الرقاع، قاله سحنون، إلا أن أبا حنيفة فرق بين الطائفة الأولى والثانية فى القراءة فى الركعة الثانية التى تقضيها فقال: لا تقرأ الطائفة الأولى فيها؛ لأنها فى حكم صلاة الإمام حتى يصلى بالطائفة الثانية تمام صلاته، وقراءته فيها تُسقط عنهم القراءة، ثم يسلم وينصرف، والطائفة الثانية تقرأ لأنها تقضى بعد صلاة الإمام، ولم يتحمل عنهم القراءة، ولم يكونوا فى حكمه. قالوا: وحديث ابن عمر تشهد له الأصول المجتمع عليها فى سائر الصلوات أن المأموم لا يقضى إلا بعد سلام الإمام، وليس فى الأصول خروج المأموم قبل فراغ إمامه من صلاته التى افتتحها معه، وهم الطائفة الأولى على ما رواه مالك فى حديث ابن القاسم، وذلك يوجب انتظار الإمام فراغ المأمومين من صلاتهم، فيصير الإمام تابعًا لهم، ولا نظير لهذا فى الأصول. قال ابن القصار: فالجواب أن هذه الصلاة نفسها قد خرجت عن الأصول عند أبى حنيفة وعندنا؛ لأنه ليس فى الأصول أن المأموم ينصرف بعد ركعة فيعمل أعمالاً غير عمل الإمام ويذهب ويجىء ويستدبر القبلة حتى يفرغ الإمام من صلاته ثم يجىء فيتم بهم، ويقول إن الله تعالى، أمر نبيه أن يفرق الناس طائفتين، ويجعل(2/531)
لكل طائفة ركعتين، فينبغى أن يسوى بينهما، فلما قلتم وقلنا فى الطائفة الثانية أن ركعتها الثانية تكون خارجة من صلاة الإمام؛ وجب أن تكون الطائفة الأولى كذلك فتكون ركعتها الثانية خارجة عن حكم صلاة الإمام. وقولنا: يؤدى إلى الاحتراز من العدو؛ لأن الطائفة الأولى إذا تمت صلاتها ومرت وجاه العدو واحتاجت إلى القتال فعلته، وهى فى غير صلاة وتمكنت بغير شغل قلب بالصلاة، وعندكم إن رمى واحد منهم بسهم أو قاتل بطلت صلاته، وهذا أضرّ على المسلمين من قولنا، وقد يحترز من العدو بالصياح والكلام ليعلم المصلين ما طرق من الحوادث وهذا خارج الصلاة أمكن، وأما حديث يزيد بن رومان فى أن الطائفة الأولى إذا صلى بها الإمام ركعة، فإنها تتم لنفسها بقية صلاتها وتسلم ثم تنصرف وجاه العدو، ثم تأتى الطائفة الثانية فيصلى بها الإمام ركعة، ثم يثبت الإمام حتى تقضى ركعتها الثانية ويسلم بهم، فقال به الشافعى، واختاره أحمد بن حنبل، وهو الذى رجع عنه مالك. قال الشافعى: والمصير إليه أولى من حديث القاسم؛ لأنه موقوف وحديث يزيد أشبه بظاهر كتاب الله، تعالى، واحتج الشافعى بأن الله تعالى، ذكر استفتاح الإمام ببعضهم بقوله تعالى: (فلتقم طائفة منهم معك (، ثم قال: (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) [النساء: 102] ، وذكر انصراف الطائفتين والإمام من الصلاة معًا بقوله: (فإذا قضيتم الصلاة) [النساء: 103] ، وذلك للجمع لا للتبعيض، ولم يذكر أن(2/532)
على واحد منهم قضاء، قال: وفى الآية دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل فى الصلاة إلا بعد انصراف الطائفة الأولى لقوله تعالى: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ، دليل على أن الطائفة الأولى تنصرف، فلم يبق عليها من الصلاة شىء تفعله بعد الإمام. وقال ابن القصار: يقال للشافعى كلما أمكن أن لا تخرج الصلاة من الأصول فهو أولى، وفى الأصول سلام الإمام قبل أن يقضى المأموم صلاته، ولولا أن الضرورة دعت إلى أن تقضى الطائفة الأولى ما بقى عليها قبل فراغ الإمام لما جوزنا لها ذلك، ولا ضرورة بنا إلى أن تقضى الثانية باقى صلاتها قبل إمامها، ومبادرة الإمام أولى من بقائه لما يحدث ويشغل قلب صاحب الجيش أشد ممن يتبعه فيخفف عليه بالمبادرة بالسلام، وقوله: (فليصلوا معك (، معناه ما بقى من صلاتك، ويقضون ما فاتهم، فأما أن يصلوا معه ما لم يصله معهم فمحال، وقوله: (فإذا قضيتم الصلاة (لايقتضى أن يكون قضاء الجميع معًا، وإنما هو إخبار عما أبيح لهم فعله بعد الصلاة من ذكر الله وغير ذلك كما قال: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله) [البقرة: 200] ، ولم يقتض ذلك بأن يكون قضاء مناسكهم معًا؛ لأن قضاء من تعجل فى يومين قبل قضاء من تأخر، وقد خاطب الله الجميع لا البعض. وأما حديث القاسم فقد قال به مالك، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وفى رواية مالك أن سلام الطائفة الأولى إذا قضت ركعتها، وينصرفون إلى العدو وهم فى غير صلاة، ثم تصلى الطائفة الثانية ركعتها الأولى وراء الإمام، ثم يسلم الإمام ويتمون لأنفسهم بعد سلامه، وهو موافق لحديث يزيد إلا فى سلام النبى قبل أن تتم الطائفة الثانية ركعتها الثانية.(2/533)
قال المهلب: وهذه الصفة، أعنى حديث القاسم، هى الموافقة لكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم (، يعنى الباقين) فإذا سجدوا (، يعنى المصلين) فليكونوا من ورائكم) [النساء: 102، 103] ، يعنى الذين هم مواجهة العدو، فاشترط الله تعالى، أن تكون إحدى الطائفتين فى غير صلاة مواجهين للعدو والثانية فى الصلاة، وقوله: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك (، يدل أن الأولى قد صلت تمام صلاتها، وقوله تعالى: (فليصلوا معك (، يقتضى بقية صلاة النبى، عليه السلام، كلها وإذا اقتضى ذلك وجب أن يسلم؛ لأن آخر صلاته السلام. قال غيره: وهذا أشبه بالأصول؛ لأن المأموم أبدًا إنما يقضى بعد فراغ إمامه وسلامه، فهو أولى على ما بيناه من حديث يزيد بن رومان. وأما حديث جابر فقد حكى عن الشافعى أنه قال به، وقال: صلاة الخوف يصلى الإمام بكل طائفة ركعتين، وهو على أصله فى جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. قال أصحابه: هذا إذا كان فى سفر وهو مخير عنده فى السفر بين القصر والإتمام، ولم يحفظ عن النبى، عليه السلام، أنه صلى صلاة خوف قط فى حضر ولم يكن له حرب فى حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن نزلت صلاة الخوف بعدُ. ودفع مالك، وأبو حنيفة هذا التأويل وقال أصحابهما: إن النبى، عليه السلام، كان فى حضر ببطن النخل على باب المدينة، ولم يكن مسافرًا، وإنما كان خوف فخرج منه محترسًا، ولم ينقل عنه عليه السلام، سلام فى ركعتين بهم.(2/534)
قال ابن القصار: وكذلك نقول: إذا كان الخوف فى حضر أن يصلى بكل طائفة ركعتين، ولو ثبت أنه كان فى سفر فصلى بكل طائفة ركعتين لكان هذا خاصًا للنبى للفضيلة فى الصلاة خلفه. قال المهلب: لا يصح أنه كان فى حضر؛ لأن جابرًا ذكر فى الحديث أنهم كانوا بذات الرقاع، وقد كانت صلاة الخوف نزلت. وقال الطحاوى: ولا حجة لمن قال بهذا الحديث؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك من النبى، والفريضة تصلى مرتين فتكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل فى أول الإسلام ثم نسخ، وقد ذكرت الحديث بذلك فى باب إذا صلى ثم أمَّ قومًا عند حديث معاذ فى أبواب الإمامة قبل هذا. قال المؤلف: وقد روى عن جابر خلاف حديثه هذا المتقدم، روى شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: (صلينا مع النبى، عليه السلام، صلاة الخوف فركع فى الصف المتقدم ركعة، وسجد سجدتين، ثم تأخروا، ثم تقدم الآخرون، فركع بهم ركع واحدة، وسجد سجدتين فكانت للنبى (صلى الله عليه وسلم) ركعتين وللناس ركعة ركعة) ، وقد يجوز أن يكون النبى، عليه السلام، صلى على ما روى جابر مرتين على صفتين. وقد قال أحمد بن حنبل: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها، ويجوز أن تكون فى مرات مختلفة على حسب شدة الخوف، ومن صلى بصفة منها فلا حرج عليه، وهو قول الطبرى وطائفة من أهل الحديث. قال ابن القصار: وحكى عن أبى يوسف والمزنى أنهما قالا: صلاة الخوف منسوخة ولا يجوز أن تصلى بعد النبى، عليه السلام،(2/535)
وقالا: إنما خاطب الله نبيه بذلك، فهو خاص له لا يشاركه فيه غيره؛ لأن فى صلاة الخوف تغيير هيئات لا تجوز إلا خلف النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن كونهم خلفه عوض من تغيير الهيئات، وكانت صلاة الخوف ثابتة فى الشريعة، ثم نسخت بدلالة تأخيره عليه السلام، الصلاة يوم الخندق عن وقتها إلى هوىّ من الليل ثم قضاها دفعةً، ثم قال: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا) ، فلو جازت صلاة الخوف لم يكونوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهذا قول شاذ وجماعة الفقهاء على خلافه. قال الطحاوى: ومما يرد هذا القول قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) [التوبة: 103] الآية، فكان الخطاب هاهنا له، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به من بعده، كما كان يعمل به فى حياته. قال ابن القصار: وما ذكروه من النسخ بدلالة تأخيره يوم الخندق فهو قول من لا يعرف السنن، وذلك أن الله تعالى، أمر نبيه بصلاة الخوف بعد الخندق؛ لأن يوم الخندق كان سنة خمس وصلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع فى سنة سبع، فكيف يُنسخ الآخرُ بالأول وإنما يُنسخ الأول بالآخر، والصحابة أعرف بالنسخ من غيرهم وقد صلوا صلاة الخوف. فأما قولهم: إن فيها تغييرًا وترك الركوع والقبلة، فيقال لهم: فى هذا ما أوجبه القرآن وفعله عليه السلام، ثم إن استدراك فضيلة الوقت مع تغيير الصفات أولى؛ ألا ترى عادم الماء أخذ عليه أن يصلى فى الوقت بالتيمم، ولم يرخص له فى تأخيرها عن وقتها حتى يجد الماء، فسقط قولهم.(2/536)
36 - باب صَلاةِ الْخَوْفِ رِجَالا وَرُكْبَانًا
/ 62 - فيه: نافع، عن ابْنِ عُمَرَ، نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ: إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا) . أما صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، فلا تكون إلا إذا اشتد الخوف واختلطوا فى القتال، وهذه الصلاة تسمى صلاة المسايفة، فيصلى إيماءً وكيف تمكن، وممن قال بذلك ابن عمر ذكره عنه مالك فى الموطأ، إن كان خوفًا شديدًا صلوا قيامًا على إقدامهم أو ركبانًا مستقبلى القبلة أو غير مستقبليها، وهو قول مجاهد، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، والزهرى، وطائفة من التابعين، روى ابن جريج عن مجاهد قال: إذا اختلطوا فإنما هو الذكر والإشارة بالرأس. فمذهب مجاهد أنه يجزئه الإيماء عند شدة القتال كمذهب ابن عمر، وهو مذهب مالك، والثورى، والشافعى. وقول البخارى: وزاد ابن عمر عن النبى، عليه السلام: (وإن كانوا أكثر فليصلوا قيامًا وركبانًا) ، فإنما أراد أن ابن عمر رواه عن النبى، عليه السلام، وليس من رأيه، وإنما هو مسند، وكذلك قال مالك. قال نافع: ولا أرى عبد الله ذكر ذلك إلا عن النبى، عليه السلام. وقول الشافعى فى ذلك: لا بأس أن يضرب فى الصلاة الضربة الخفيفة ويطعن، وإن تابع الطعن أو الضرب أو عمل عملاً يطول بطلت صلاته.(2/537)
قال الطحاوى: وذهب قوم إلى أن الراكب لا يصلى الفريضة على دابته، وإن كان فى حال لا يمكنه فيها النزول، قال: وذهب آخرون إلى أن الراكب إن كان يقاتل فلا يصلى، وإن كان راكبًا لا يمكنه النزول ولا يقاتل صلى. قالوا: وقد يجوز أن يكون النبى يوم الخندق لم يصل؛ لأن القتال عمل، والصلاة لا يكون فيها عمل، وذكر الطحاوى هذين القولين، ورد القول الأول بأن الرسول لم يكن صلى يوم الخندق؛ لأن صلاة الخوف لم تكن نزلت حينئذ، قال: وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، عن سعيد المقبرى، عن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه قال: (صلى النبى (صلى الله عليه وسلم) الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق بعد المغرب بهوى من الليل كما كان يصليها فى وقتها، وذلك قبل أن ينزل الله عليه فى صلاة الخوف) فرجالاً أو ركبانًا (. قال الطحاوى: فأخبر أبو سعيد أن تركهم الصلاة يومئذ ركبانًا، إنما كان قبل أن يباح لهم ذلك ثم أبيح لهم بهذه الآية، فثبت بذلك أن الرجل إذا كان فى الخوف لا يمكنه النزول عن دابته أن له أن يصلى عليها إيماءً، وكذلك لو أن رجلاً كان على الأرض خاف أن يفترسه سبع أو يضربه رجل بسيف فله أن يصلى قاعدًا إن كان يخاف ذلك فى القيام، ويومئ إيماءً، وذلك كله قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد.(2/538)
وقال ابن المنذر: وكل ما فعله المصلى فى حال شدة الخوف مما لا يقدر على غيره، فالصلاة مجزئة عنه قياسًا على ما وضع عنه من القيام والركوع والسجود لعلة ما هو فيه من مطاردة العدو، وهذا أشبه بظاهر الكتاب والسنة مع موافقته للنظر. وروى على بن زياد عن مالك، فيمن خاف أن ينزل عن دابته من لصوص أو سباع، فإنه يصلى عليها الفريضة حيث توجهت به ويومئ، وقاله أشهب.
37 - باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاةِ الْخَوْفِ
/ 63 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ، فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا، وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأخْرَى، فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاةٍ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قال المؤلف: حديث ابن عباس هذا إذا كان العدو فى القبلة من المسلمين، فإنه يجعل الناس صفين خلفه، فيركع بالصف الذى يليه ويسجد معه، والصف الثانى قائمون يحرسون، فإذا قام من سجوده إلى الركعة الثانية تقدم الصف الثانى وتأخر الأولون، فركع النبى بهم وسجد، والصف الثانى يحرسونهم، وهم كلهم فى صلاة، وقد روى هذا الحديث سفيان، عن أبى بكر بن أبى الجهم، عن عبيد الله، عن ابن عباس: (أن الرسول صلى بهم صلاة الخوف بذى قرد، والمشركون بينه وبين القبلة) ، وقد روى نحوه عن أبى(2/539)
عياش الزرقى، وجابر بن عبد الله، عن النبى، عليه السلام، وبه قال ابن عباس: إذا كان العدو فى القبلة أن يصلى على هذه الصفة، وهو مذهب ابن أبى ليلى، وحكى ابن القصار عن الشافعى نحوه. وقال الطحاوى: ذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان فى القبلة فالصلاة هكذا، وإن كانوا فى غير القبلة، فالصلاة كما روى ابن عمر وغيره، قال: وبهذا تتفق الأحاديث، قال: وليس هذا بخلاف للتنزيل؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله تعالى: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ، إذا كان العدو فى غير القبلة، ثم أوحى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا فى القبلة، ففعل الفعلين جميعًا كما جاء الخبران. وترك مالك، وأبو حنيفة العمل بهذا الحديث لمخالفته لكتاب الله وهو قوله: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) [النساء: 102] ، والقرآن يدل على ما جاءت به الروايات فى صلاة الخوف عن ابن عمر وغيره، من دخول الطائفة الثانية فى الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك. وقال أشهب وسحنون: إذا كان العدو فى القبلة لا أحب أن يصلى بالجيش أجمع؛ لأنه يتعرض أن يفتنه العدو ويشغلوه، ويصلى بطائفتين سنة صلاة الخوف.
38 - باب الصَّلاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإيمَاءِ، أَخَّرُوا الصَّلاةَ، حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا(2/540)
صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا، لا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُوهَا، حَتَّى يَأْمَنُوا، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتِحَ لَنَا. قَالَ أَنَسُ: مَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. / 64 - فيه: جابر قال: (جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلاَم: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ، قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ، بَعْدَ مَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا) . وأما الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو فهى صلاة حال المسايفة والقتال التى تقدم ذكرها فى باب صلاة الخوف رجالاً وركبانًا، وحديث جابر فى هذا الباب هو حجة الأوزاعى، ومكحول أنه من لم يقدر على الإيماء أخر الصلاة حتى يصليها كاملة ولا يجزئ عنهم تسبيح ولا تهليل؛ لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أخرها يوم الخندق، وإن كان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، فإن فيه من الاستدلال أن الله تعالى، لم يعب تأخيره لها لما كان فيه من شغل الحرب، فكذلك الحال التى هى أشد من ذلك، إلا أنه استدلال ضعيف من أجل أن سنة صلاة الخوف لم تكن نزلت قبل ذلك.(2/541)
فأما قول الأوزاعى: فإن لم يقدروا صلوا ركع وسجدتين، فقد روى مثله عن الحسن البصرى وقتادة، وهو قول مكحول، ويحتمل أن يقولوا ذلك من حديث أبى عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (صلاة الخوف ركعة) . قال الطحاوى: وهذا الحديث يعارضه القرآن، وذلك أن الله، تعالى، قال فى كتابه: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة (إلى) فليصلوا معك) [النساء: 102] ، ففرض الله صلاة الخوف ونص فرضها فى كتابه هكذا، وجعل صلاة الطائفة الأخرى بعد تمام الركعة الأولى مع الإمام، فثبت بهذا أن الإمام يصليها فى حال الخوف ركعتين بخلاف هذا الحديث، وقد روى عبيد الله عن ابن عباس خلاف ما روى عنه مجاهد، وهذا الحديث الذى فى الباب قبل هذا، وأما التكبير فقد روى عن مجاهد أنه قال: صلاة المسايفة بتكبيرة واحدة. وعن سعيد بن جبير، وأبى عبد الرحمن قال: الصلاة عند المسايفة تهليل وتسبيح وتحميد وتكبير، ذكره الفزارى فى السير، وذكر ابن المنذر عن إسحاق: تجزئك ركعة تومئ بها، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة واحدة؛ لأنه ذكر لله. وقال الحسن بن حى: يكبر مكان كل ركعة تكبيرة. وأما أئمة الفتوى بالأمصار فلا يجزئ عندهم التكبير من الركوع والسجود؛ لأن التكبير لا يسمى بركوع ولا سجود، وإنما يجزئ الإتيان بأيسرهما، وأقل الأفعال الثابتة عنهما الإشارة والإيماء الدال على الخضوع لله فيهما.(2/542)
قال الأصيلى: ومعنى قول أنس: (فلم يقدروا على الصلاة) ، فإنهم لم يجدوا السبيل إلى الوضوء من شدة القتال، فأخروا الصلاة إلى وجود الماء، ويحتمل أن يكون تأخير النبى، عليه السلام، الصلاة يوم الخندق حتى غربت الشمس؛ لأنه لم يجد السبيل إلى الوضوء، والله أعلم.
39 - باب صَلاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً
قَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأوْزَاعِيِّ صَلاةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ الأمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَنَا الْفَوْتُ. وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِه عَلَيهِ السَّلاَم: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. / 65 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحْزَابِ: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ) . اختلف العلماء فى صلاة الطالب على ظهر الدابة بعد اتفاقهم على جواز صلاة المطلوب راكبًا، فذهبت طائفة إلى أن الطالب لا يصلى على دابته وينزل ويصلى بالأرض، هذا قول عطاء، والحسن، وإليه ذهب الثورى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور. وقال الشافعى: إلا فى حالة واحدة، وذلك أن يقطع الطالبون أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين إليهم، فإذا كان هذا هكذا كان لهم الإيماء ركبانًا.(2/543)
وذكر ابن حبيب عن ابن عبد الحكم قال: صلاة الطالب بالأرض أولى من الصلاة على الدواب. وفيها قول ثان قال ابن حبيب: هو فى سعة، وإن كان طالبًا لا ينزل ويصلى إيماء؛ لأنه مع عدوه لم يصل إلى حقيقة أمن، وقاله مالك وهو مذهب الأوزاعى، وشرحبيل. وذكر الفزارى عن الأوزاعى قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال؛ لأن الحديث جاء أن النصر لا يرفع ما دام الطلب. قال المؤلف: وطلبت قصة شرحبيل بن السمط بتمامها لأتبين هل كانوا طالبين أم لا، فذكر الفزارى فى السير عن ابن عون، عن رجاء بن حيوة، عن ثابت بن السمط، أو السمط بن ثابت، قال: كانوا فى سفر فى خوف فصلوا ركبانًا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصلاة، فقال: خالف خولف به، فخرج الأشتر فى الفتنة. فبان بهذا الخبر أنهم كانوا طالبين حين صلوا ركبانًا؛ لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلى إلا راكبًا، وإنما اختلفوا فى الطالب. وأما استدلال الوليد بقصة بنى قريظة على صلاة الطالب راكبًا، فلو وجد فى بعض طرق الحديث أن الذين صلوا فى الطريق صلوا(2/544)
ركبانًا لكان بينًا فى الاستدلال، ولم يحتج إلى غيره، ولما لم يوجد ذلك احتمل أن يكون لما أمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بتأخير العصر إلى بنى قريظة، وقد علم بالوحى أنهم لا يأتونها إلا بعد مغيب الشمس، ووقت العصر فرض، فاستدل أنه كما ساغ للذين صلوا ببنى قريظة ترك الوقت وهو فرض ولم يعنفهم النبى، عليه السلام، فكذلك سوغ للطالب أن يصلى فى الوقت راكبًا بالإيماء، ويكون تركه للركوع والسجود المفترض كترك الذين صلوا ببنى قريظة الوقت الذى هو فرض، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، قاله المهلب. قال: وقوله عليه السلام: (لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة) ، فإنه أراد إزعاج الناس إليها لما كان أخبره جبريل أنه لم يضع السلاح بعد وأمره ببنى قريظة.
40 - باب التَّبْكيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاةِ عِنْدَ الإغَارَةِ وَالْحَرْبِ
/ 66 - فيه: أَنَسِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ رَكِبَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ. . . . .) الحديث. السنة فى صلاة الصبح: التغليس فى السفر كما فى الحضر. قال المهلب: وكانت عادته عليه السلام، التغليس بالصبح ولم يؤخرها عن ذلك إلا اليوم الذى علم الأعرابى الذى سأله عن وقت الصلاة. وفيه: أن التكبير عند الإشراف على المدن والقرى سنة، وكذلك عند رؤية الهلال وولادة الغلام؛ لأنه إعلام بما ظهر.(2/545)
وتفاءل عليه السلام، لخبير بالخراب، من اسمها، على أهلها فكان كذلك، وكذلك كان يتفاءل بالأسماء التى يكون له فيها المحبوب، وكان يكره الطيرة ولم يكن هذا طيرة بالخراب؛ لأن الخراب لخيبر من سعادة النبى، عليه السلام، وأصحابه، فهو من الفأل الحسن.(2/546)
- كتاب صَلاة الْعِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلِ فِيهِمَا
/ 1 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: وَجَدَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: (إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ. . .) ، الحديث. التجمل فى العيدين بحسن الثياب سنة مندوب إليها كل من يقدر عليها. قال المهلب: وكذلك التجمل فى الجماعات والوفود بحسن الثياب مما جرى به العمل، وترك عليه السلام، لباس الجبة زهدًا فى الدنيا، وأراد أن يؤخر طيبات الدنيا للآخرة التى لا انقضاء لها، ورأى أن تعجيل طيباته فى الدنيا المنقطعة وبيع الدائم بها ليس من الحزم، فزهد فى الدنيا للآخرة وأمر بذلك، ونهى عن كل سرف وحرَّمه.
- باب الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النبى، عليه السلام، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (دَعْهُمَا) ، فَلَمَّا غَفَلَ، غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ(2/547)
رسول الله، وَإِمَّا قَالَ: (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟) ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: (حَسْبُكِ) ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاذْهَبِي) . حمل السلاح والحراب يوم العيد لا مدخل له عند العلماء فى سنة العيد، ولا فى هيئة الخروج إليه، ولا استحبه أحد من العلماء، ولا ندب إليه، ويمكن أن يكون عليه السلام محاربًا خائفًا من بعض أعدائه، فرأى الاستعداد والتأهب بالسلاح، وإذا كان كذلك فهو جائز عند العلماء، ولعب الحبشة ليس فيه أن الرسول خرج بها فى العيد، ولا أمر أصحابه بالتأهب بها، ولم تكن الحبشة للنبى، عليه السلام، حشدًا ولا أنصارًا، وإنما هم قوم يلعبون. وفائدة هذا الحديث: إباحة النظر إلى اللهو إذا كان فيه تدريب الجوارح على تقليب السلاح لتخف الأيدى بها فى الحرب. وفيه: ما كان النبى، عليه السلام، عليه من الخلق الحسن وما ينبغى للمرء أن يمتثله مع أهله من إيثاره مسارهم فيما لا حرج عليهم فيه.
- باب سُنَّةِ الْعِيدَيْنِ لأهْلِ الإسْلامِ
/ 3 - فيه: الْبَرَاءِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ عليه السلام، يَخْطُبُ، فَقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ، فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا) . / 4 - وفيه عَائِشَةَ: أن النبى، عليه السلام، دَخَلَ عليها، وَعِنْدِها جَارِيَتَانِ(2/548)
مِنْ جَوَارِي الأنْصَارِ تُغَنِّيَانِ، مِمَا تَقَاوَلَتِ به الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا) . سنة العيدين: الصلاة، قال مالك: وصلاة العيدين سنة لأهل الآفاق لا تترك، وروى ابن القاسم عنه فى القرية فيها عشرون رجلاً: أرى أن يصلوا العيدين، وروى عنه ابن نافع ليس ذلك إلا على من تجب عليه الجمعة، وهو قول الليث وأكثر أهل العلم، وقال ربيعة: كانوا يرون الفرسخ وهو ثلاثة أميال، وقال الأوزاعى: من آواه الليل إلى أهله فعليه الجمعة والعيد، وقال ابن القاسم، وأشهب: إن شاء من لا تجب عليهم الجمعة أن يصلوها بإمام فعلوا، ولكن لا خطبة عليهم، وإن خطب فحسن. وقوله: (أول ما نبدأ به الصلاة) ، يدل أن الخطبة بعدها، وقد جاء هذا منصوصًا بعد هذا. وفيه: أن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة. قال المهلب: وفيه دليل أن العيد موضوع للراحات وبسط النفوس إلى ما يحل من الدنيا والأخذ بطيبات الرزق وما أحل الله من اللعب والأكل والشراب والجماع؛ ألا ترى أنه أباح الغناء من أجل عذر العيد قال: (دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد) ، وكان أهل المدينة على سيرة من أمر الغناء واللهو، وكان النبى، عليه السلام، وأبو بكر على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكر أبو بكر المغنيتين فى بيت(2/549)
عائشة؛ لأنه لم يرهما قبل ذلك بحضرة النبى، عليه السلام، فرخص فى ذلك للعيد وفى ولائم إعلان النكاح. وقوله: (تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث) ، تريد ترفعان أصواتهما بالإنشاد، وكل من رفع صوته بشىء ووالى به مرة بعد مرة، فصوته عند العرب غناء، وأكثره فيما شاق من صوت، أو شجا من نغمة ولحن، ولهذا قالوا: غنت الحمامة، ويغنى الطائر، هذا قول الخطابى. وإنما كانتا تنشدان المراثى التى تحزن وتبعث النفوس على الاتنقام من العدو، وهى مراثى من أصيب يوم بعاث، فأباح النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا النوع من الغناء. وقولها: (وليستا بمغنيتين) ، تعنى الغناء الذى فيه ذكر الخنا والتعريض بالفواحش وما يسميه المُجان وأهل المعاصى غناء مما يكثر التنغيم فيه. قال المهلب: وهذا الذى أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد عن وجهه إلى معنى التطريب بالألحان؛ ألا ترى أنه لم ينكر الإنشاد وإنما أنكر مشابهة الزمير، فما كان من الغناء الذى يجرى هذا المجرى من اختلاف النغمات وطلب الإطراب فهو الذى تخشى فتنته واستهواؤه للنفوس، وقطع الذريعة فيه أحسن، وما كان دون ذلك من الإنشاد ورفع الصوت حتى لا يخفى معنى البيت، وما أراده الشاعر بشعره فغير منهى عنه، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه رخص فى غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء يسمى النصب إلا أنه رقيق. وروى النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن(2/550)
عبد الرحمن، عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر فى الحج حتى إذا كنا بالروحاء كلم القوم رباح بن المعترف، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا: أسمعنا وقصر عنا المسير فقال: إنى أفرق عمر، فقام أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عمر فكلموه، فقال: يا رباح، أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا سحرت فارفع قال: فرفع عقيرته وتغنى) . فهذا وما أشبهه مما يدعى غناء لم ير به بأس، ولم ير فيه إثم؛ لأنه حداء يحث المطى ويقصر المسير ويخفف السفر، وتأتى زيادة فى هذا الباب فى باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله فى آخر كتاب الاستئذان، ويأتى فى فضائل القرآن عند قوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، من أجاز سماع القرآن بالألحان ومن كرهه.
3 - باب الأكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ
/ 5 - فيه: أَنَسِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا. الأكل عند الغدو إلى المصلى سنة مستحبة عند العلماء تأسيًا بالنبى، عليه السلام، وروى عن على، وابن عباس أنهما قالا: من السنة ألا تخرج يوم الفطر حتى تطعم، وهو قول عامة العلماء، وكان(2/551)
بعض التابعين يأمرهم بالأكل فى الطريق، وروى عن ابن مسعود أنه قال: إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وعن النخعى مثله، وقد روى عن ابن عمر الرخصة فى ترك الأكل، وذكر ابن أبى شيبة عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ولا يطعم شيئًا، قال ابن المنذر: والذى عليه الأكثر استحباب الأكل. قال المهلب: إنما كان يؤكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، والله أعلم لئلا يظن ظان أن الصيام يلزم يوم الفطر إلى أن تصلى صلاة العيد، فخشى الذريعة إلى الزيادة فى حدود الله، فاستبرأ ذلك بالأكل، والدليل على ذلك أنه لم يكن يأمر بالأكل قبل الغدو إلى المصلى فى الأضحى. ويجعلن وترًا استشعارًا للوحدانية، وكذلك كان يفعل فى جميع أموره.
4 - باب الأكْلِ يَوْمَ النَّحْرِ
/ 6 - فيه: أَنَسٍ قَالَ عليه السلام: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلْيُعِدْ) ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَم صَدَّقَهُ، فقَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ عليه السلام. / 7 - وفيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ الأضْحَى بَعْدَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلا نُسُكَ لَهُ) ، فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ - خَالُ الْبَرَاءِ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا تُذْبَحُ فِي بَيْتِي، وَتَغَدَّيْتُ،(2/552)
قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاةَ، قَالَ: (شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ؟) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً، هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، فَتَجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . وأما يوم النحر فهو يوم أكل كما قال أبو بردة، إلا أنه لا يستحب فيه الأكل قبل الغدو إلى الصلاة، ولا ينهى عنه؛ ألا ترى أن النبى، عليه السلام، فى حديث البراء لم يحسن أكله ولا عنفه عليه، وإنما أجابه عما به الحاجة إليه من سنة الذبح وعذره فى الذبح لما قصده من إطعام جيرانه لحاجتهم، فلم ير عليه السلام، أن يخيب فعلته الكريمة، وأجاز له أن يضحى بالجذعة وهى لا تجزئ فى الضحايا عن أحد غيره. فبين الفطر والأضحى فى الأكل قبل الصلاة فرقان: الواحد ليفصل بين الصيام وبين الصلاة بالأكل، والثانى فى الأضحى مباح، إن فعل فحسن وإن لم يفعل فحسن؛ لأنه ليس قبله صيام يحتاج إلى فصله. والعناق: الأنثى من المعز، عن الخليل.
5 - باب الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ
/ 8 - فيه: أبو سَعِيدٍ قَالَ: (كَانَ النبى، عليه السلام، يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ، بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ) ، فقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ(2/553)
مَرْوَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي، وَارْتَفَعَ، يَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاةِ، قُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، قَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاةِ. قال المؤلف: قال أشهب فى المجموعة: خروج المنبر إلى العيدين واسع إن شاء أخرج وإن شاء ترك. وقال ابن حبيب: قال مالك: لا يخرج المنبر فى العيدين من شأنه أن يخطب إلى جانبه، فإنما يخطب عليه الخلفاء. قال المهلب: وبنيان كثير للمنبر يدل على أنه لم يكن قبل ذلك. وفيه: أن الصلاة قبل الخطبة، وأن الخلفاء الراشدين كانوا على ذلك. وفيه: مواجهة الخطيب للناس وأنهم بين يديه. وفيه: البروز إلى المصلى والخروج إليها، وأنه من سنتها وأنه لا يصلى فى المسجد إلا من ضرورة، روى ابن زياد عن مالك قال: السنة الخروج إليها إلى المصلى إلا لأهل مكة، فالسنة صلاتهم إياها فى المسجد. وقوله: (غيرتم والله) ، فقد روى عن عثمان بن عفان أنه فعل ذلك فليس بتغيير. وقد اختلف الناس فى أول من قدم الخطبة فى العيدين، فروى ابن نافع عن مالك قال: أول من فعل ذلك عثمان بن عفان، وإنما صنع ذلك ليدرك الناس الصلاة، وروى ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: أول من بدأ(2/554)
بالخطبة قبل الصلاة عثمان، وروى ابن جريج عن ابن شهاب قال: أول من قدم الخطبة قبل الصلاة معاوية، وروى سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة يوم العيدين مروان. وذكر مالك وغيره أن عثمان إنما فعل ذلك ليدرك الناس الصلاة؛ لأنهم كانوا يأتون بعد الصلاة. قال المهلب: وفى هذا من الفقه أنه يحدث للناس أمورًا بقدر الاجتهاد إذا كان صلاحًا لهم، والأصل فى ذلك أن النبى، عليه السلام، خطب قبل الجمعة، فترك عثمان وغيره الصلاة حتى خطبوا لعلَّة أوجبت ذلك من افتراق الناس؛ لِسنته عليه السلام فى تقديمه الخطبة فى الجمعة، فليس بتغيير، وإنما ترك فعل بفعل، ولم يترك لغير فعل الرسول، وإنما كانت الخطبة فى الجمعة قبل الصلاة لقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض) [الجمعة: 10] ، فعلم الرسول من هذه الآية أن ليس بعد صلاة الجمعة جلوس لخطبة ولا لغيرها.
6 - باب الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الْعِيدِ وَالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ
/ 9 - فيه: ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النبى، عليه السلام، كَانَ يُصَلِّي فِي الأضْحَى وَالْفِطْرِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلاةِ) .(2/555)
/ 10 - وفيه: جَابِرِ: (إِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) . / 11 - وأرسل ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ لِلصَّلاَةِ يَوْمَ الْفِطْرِ، إِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاةِ. / 12 - وقال جَابِرِ وابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَلا يَوْمَ الأضْحَى. وسنة الخروج إلى العيدين عند العلماء المشى؛ لأنه من التواضع، والركوب مباح وليس فى أحاديث هذا الباب ما يدل على الركوب، وروى زرّ عن عمر بن الخطاب، أنه خرج يوم فطر يمشى، وعن على بن أبى طالب أنه قال: من السنة أن يأتى العيد ماشيًا، واستحب ذلك مالك، والثورى، والشافعى، وأحمد، وجماعة. وقال مالك: إنما نحن نمشى ومكاننا قريب، ومن بعد عليه فلا بأس أن يركب، وكان الحسن يأتى العيد راكبًا، وكره النخعى الركوب فى العيدين والجمعة. وأما الصلاة قبل الخطبة، فهو إجماع من العلماء قديمًا وحديثًا إلا ما كان من بنى أمية من تقديم الخطبة وقد تقدم ذلك، وروى عن ابن الزبير مثله. وفيه: أن سنة صلاة العيدين ألا يؤذن لها ولا يقام، وهو قول جماعة الفقهاء، وقال الشعبى، والحكم، وابن سيرين: الأذان يوم الأضحى ويوم الفطر بدعة. وقال سعيد بن المسيب: أول من أحدث الأذان فى العيد معاوية، وقال حصين: أول من أذن فى العيد زياد، وقال عطاء: سأل ابن(2/556)
الزبير ابن عباس، وكان الذى بينهما حسن، فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء ما بينهما أذن وأقام.
7 - باب الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ
/ 13 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النبى، عليه السلام، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) . / 14 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ عليه السلام، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) . / 15 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، وَمَعَهُ بِلالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا) . / 16 - وفيه: الْبَرَاءِ أن النَّبِيُّ عليه السلام، قال: (أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ به فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ونَرْجِعَ فَنَنْحَرَ. . .) الحديث. قد تقدم أن الصلاة قبل الخطبة هو إجماع من العلماء، وذكرنا من قدم الخطبة قبل الصلاة من السلف. وقال أشهب فى (المجموعة) : من بدأ بالخطبة قبل الصلاة أعادها بعد الصلاة، فإن لم يفعل أجزأه وقد أساء، قال مالك: والسنة تقديم الصلاة قبل الخطبة، وبذلك عمل رسول الله وأبى بكر، وعمر، وعثمان صدرًا من ولايته.(2/557)
وقد غلط النسائى فى حديث البراء، وترجم له باب الخطبة قبل الصلاة، واستدل على ذلك من قوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى ثم ننحر) ، وتأول أن قوله هذا كان قبل الصلاة؛ لأنه كيف يقول أول ما نبدأ به أن نصلى وهو قد صلى، وهذا غلط؛ لأن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضى؛ فكأنه قال عليه السلام: أول ما يكون الابتداء به فى هذا اليوم الصلاة التى قدمنا فعلها وبدأنا بها، وهو قوله تعالى: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله) [البروج: 8] ، والمعنى: وما نقموا منهم إلا الإيمان المتقدم منهم، وقد بين ذلك فى باب استقبال الإمام الناس فى خطبة العيد فقال: (إن أول نسكنا فى يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة) . والسخاب: قلادة من قرنفل وسُكّ ليس فيها جوهر، قال ابن دريد: والجمع سُخُب.
8 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاحِ فِي الْعِيدِ وَالْحَرَمِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلاحَ يَوْمَ العِيد، إِلا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا. / 17 - فيه: سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنه قَالَ: (كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ، فَنَزَعْتُهَا، وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ، فَجَاء يَعُودُهُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلاحَ فى الْحَرَمَ، وَلَمْ يَكُنِ السِّلاحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ) . / 18 -(2/558)
وقال مرة: (حَمْلِت السِّلاحِ فِي يَوْمٍ لا يَحِلُّ حَمْلُهُ فِيهِ) . قول ابن عمر: (حملت السلاح فى يوم لم يكن يحمل فيه) ، يدل أن حملها ليس من شأن العيد، وحملها فى المشاهد التى لا يحتاج إلى الحمل فيها مكروه؛ لما يخشى فيها من الأذى والعقر عند تزاحم الناس، وقد قال عليه السلام للذى رآه يحمل نبلاً فى المسجد: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها مسلمًا) . فإن خافوا عدوًا فمباح حملها كما قال الحسن. قال المهلب: وقد أباح الله حمل السلاح فى الصلاة عند الخوف، فقال تعالى: (خذوا حذركم وأسلحتكم) [النساء: 71] . وقوله: أمرت بحمل السلاح فى الحرم ولم يكن يُدخل فيه، إنما ذلك للأمن الذى جعله الله لجماعة المسلمين فيه لقوله تعالى: (ومن دخله كان آمنًا) [آل عمران: 97] . وقول ابن عمر: (أنت أصبتنى) ، دليل على قطع الذرائع؛ لأنه لامه على ما أدّاه إلى أذاه، وإن كان لم يقصد الحجاج ذلك.(2/559)
9 - باب التَّبْكِيرِ للعِيدِ
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ بُسْرٍ: إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ. / 19 - فيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ النَّحْرِ فقَالَ: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ) . أجمع الفقهاء أن العيد لا يصلى قبل طلوع الشمس، ولا عند طلوعها، فإذا ارتفعت الشمس وابيضت وجازت صلاة النافلة، فهو وقت العيد؛ ألا ترى قول عبد الله بن بسر: وذلك حين التسبيح، أى: حين الصلاة، فدل أن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم فلا تؤخر عن وقتها لقوله عليه السلام: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا الصلاة) ، ودل ذلك على التبكير بصلاة العيد كما ترجم به البخارى، إلا أن مالكًا قال: وقت صلاة العيد ممتد إلى الزوال. واختلفوا فى وقت الغُدُوِّ إلى العيد، فكان عبد الله بن عمر يصلى الصبح ثم يغدو كما هو إلى المصلى، وفعله سعيد بن المسيب، وقال إبراهيم: كانوا يصلون الفجر وعليهم ثيابهم يوم العيد، وعن أبى مجلز مثله. وفيها قول آخر روى عن رافع بن خديج أنه كان يجلس فى المسجد مع بنيه، فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين، ثم يذهبون إلى(2/560)
الفطر والأضحى، وكان عروة لا يأتى العيد حتى تستقل الشمس، وهو قول عطاء والشعبى. وفى (المدونة) عن مالك: يغدو من داره أو من المسجد إذا طلعت الشمس. وقال على بن زياد عنه: ومن غدا إليها قبل طلوع الشمس، فلا بأس ولكن لا يكبر حتى تطلع الشمس ولا ينبغى للإمام أن يأتى المصلى حتى تحين الصلاة. وقال الشافعى: يرى فى المصلى حين تبرز الشمس فى الأضحى، ويؤخر الغدو فى الفطر عن ذلك قليلاً، وحديث البراء دليل للقول الأول. وقيل قوله: (أول ما نبدأ به فى يومنا هذا أن نصلى) ، يدل أنه لا يجب أن يشتغل بشىء غير التأهب للعيد والخروج إليه، وأن لا يفعل قبل صلاة العيد شىء غيرها.
- باب فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَيذْكُرُوا اسم اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28] أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا، وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ. / 20 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عليه السلام: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ) ، قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ فى سبيل الله؟ ، قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) . وقال المهلب: العمل فى أيام التشريق هو التكبير المسنون، وهو أفضل من صلاة النافلة؛ لأنه لو كان هذا الكلام حضًا على الصلاة والصيام فى هذه الأيام لعارض قوله عليه السلام: (أيام أكل وشرب) ،(2/561)
وقد نهى عن صيام هذه الأيام، وهذا يدل على تفريغ هذه الأيام للأكل والشرب اللذة، فلم يبق تعارض إذا عنى بالعمل التكبير. وقوله: (يخاطر بنفسه) ، يعنى يكافح العدو بنفسه وسلاحه وجواده، فيسلم من القتل أو لا يسلم منه، فهذه المخاطرة، وهذا العمل أفضل فى هذه الأيام وغيرها مع أن هذا العمل لا يمتنع صاحبه من إتيان التكبير والإعلان به. قوله: (فلم يرجع بشىء) ، يحتمل أن لا يرجع بشىء من ماله ويرجع هو، ويحتمل أن لا يرجع هو ولا ماله فيرزقه الله الشهادة، وقد وعد الله عليها الجنة. وقد اختلف العلماء فى الأيام المعلومات فقال بقول ابن عباس: أنها أيام العشر: النخعى، وبه قال الشافعى وقال: وفيها يوم النحر، وروى عن على، وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال مالك، قال الطحاوى وإليه أذهب لقوله تعالى: (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) [الحج: 28] ، وهى أيام النحر. قال المهلب: إنما سميت معلومات؛ لأنها عند الناس كلهم معلومة للذبح فيتوخى المساكين القصد فيها فيُعْطون. وأما المعدودات فعامة العلماء على أنها أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر كما قال ابن عباس، وإنما سميت معدودات، والله أعلم، لقول الله تعالى: (واذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) [البقرة: 203] ، يعنى فمن تعجل فى النفر من منى، فنفر فى(2/562)
يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فنفر فى اليوم الثالث فلا إثم عليه. وقيل: إنما سميت أيام التشريق معدودات؛ لأنه إذا زيد عليها فى البقاء كان حصرًا لقوله عليه السلام: (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) . وأما خروج ابن عمر، وأبى هريرة إلى السوق وتكبير الناس بتكبيرهما، فقالت طائفة به، والفقهاء لا يرون ذلك، وإنما التكبير عندهم من وقف رمى الجمار؛ لأن الناس فيه تبع لأهل منى كما قال مالك. وأما تكبير محمد بن على خلف النافلة، فهو قول الشافعى، وسائر الفقهاء لا يرون التكبير إلا خلف الفريضة.
- باب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ
وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلاة وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ وتِلْكَ الأيَّامَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكانَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ. / 21 - فيه: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنِ التَّلْبِيَةِ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ(2/563)
عليه السلام؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي، لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ لا يُنْكَرُ عَلَيْهِ. / 22 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ. وترجم لحديث أم عطية: (باب خروج الحيض إلى المصلى) ، وباب (اعتزال الحيض المصلى) . وقال المهلب: أيام منى هى أيام التشريق، وتأول العلماء فيها قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة: 185] ، ومعنى التكبير فى هذا الفصل، والله أعلم، لأنه تصل الذبائح لله تعالى. وكانت الجاهلية تذبح لطواغيتها ونُصُبِهَا، فجعل التكبير استشعارًا للذبح لله تعالى، حتى لا يذكر فى أيام الذبح غيره، ومعنى اشتراط التسمية على الذبح لئلا يذكر غيره، ويعلن بذكره حتى تنسى عبادة الجاهلية، استحب العلماء التكبير يوم العيد فى طريق المصلى، وروى عن على ابن أبى طالب أنه كبر يوم الأضحى حتى أتى الجبانة، وعن أبى قتادة أنه كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلى. وعن ابن عمر أنه كان يكبر فى العيد حتى يبلغ المصلى، ويرفع صوته بالتكبير، وهو قول مالك والأوزاعى، قال مالك: ويكبر فى المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطعه ولا يكبر إذا رجع. وقال الشافعى: أحب إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام، وقال أبو حنيفة: يكبر يوم الأضحى يجهر فى ذهابه ولا يكبر يوم الفطر.(2/564)
وفيها قول آخر، ذكر الطحاوى عن سفينة مولى ابن عباس قال: كنت أقود ابن عباس إلى المصلى، فيسمع الناس يكبرون، فيقول: ما شأن الناس أكبر الإمام؟ فأقول: لا، فيقول: مجانين الناس، فأنكر التكبير فى طريق المصلى، وهذا يدل أن التكبير عنده الذى يكبر الإمام مما يصلح أن يكبر الناس معه. قال المؤلف: ولم أجد أحدًا من الفقهاء يقول بقول ابن عباس. قال الطحاوى: ومن كبر يوم الفطر تأول قول الله، تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة: 185] ، وتأول ذلك زيد بن أسلم، قال الطحاوى: ويحتمل قوله تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم) [البقرة: 185] ، تعظيم الله بالأفعال والأقوال كقوله تعالى: (وكبره تكبيرًا) [الإسراء: 111] ، قال: والقياس أن يكبر فى العيدين جميعًا؛ لأن صلاة العيدين لا يختلفان فى التكبير فيهما والخطبة بعدهما وسائر سننهما، كذلك التكبير فى الخروج إليهما. وقال ابن أبى عمران: إن السنة عند أصحاب أبى حنيفة جميعًا فى الفطر أن يكبر فى الطريق إلى المصلى، ولم يعرفوا قول أبى حنيفة. وفى حديث أم عطية: خروج النساء إلى المصلى كما ترجم، وقد فسرت أم عطية إخراج الحُيض فقالت: ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، رجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، ورغبة فى دعاء المسلمين فى الجماعات؛ لأن البروز إلى الله لا يكون إلا عن نية(2/565)
وقصد، فرجاء بركة القصد إلى الله والبروز إليه والجماعة لا تخلو من فاضل من الناس ودعاؤهم مشترك. وقد اختلف الناس فى خروج النساء إلى العيدين، فروى عن أبى بكر وعلى أنهما قالا: على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين، وكان ابن عمر يُخرج من استطاع من أهله فى العيد، وقال أبو قلابة: قالت عائشة: كانت الكواعب تخرج لرسول الله فى الفطر والأضحى، وكان علقمة والأسود يُخرجان نساءهم فى العيد ويمنعانهن الجمعة، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن تخرج المتجالة إلى العيدين والجمعة وليس بواجب، وهو قول أبى يوسف. وكرهت ذلك طائفة، روى عن عروة أنه كان لا يدع امرأة من أهله تخرج إلى فطر أو أضحى، وكان القاسم أشد شىء على العواتق، وقال النخعى، ويحيى الأنصارى: لا يُعرف خروج المرأة الشابة فى العيد عندنا. واختلف قول أبى حنيفة فى ذلك، فروى عنه أنه لم ير خروج النساء فى شىء من الصلوات غير العيدين، وقال مرةً أخرى: كان يرخص للنساء فى الخروج إلى العيدين، فأما اليوم فأنا أكرهه، وقول من رأى خروجهن أصح لشهادة السنة الثابتة له. وفى حديث أم عطية حجة لمالك والشافعى فى قولهما: إن النساء يلزمهن التكبير فى عقيب الصلوات فى أيام التشريق، وأبو حنيفة لا يرى عليهن تكبيرًا، وخالفه أبو يوسف ومحمد قالا بقول مالك: إن التكبير على النساء كما هو على الرجال.(2/566)
وقد ذكر البخارى عن ميمونة زوج النبى، عليه السلام، أنها كانت تكبر يوم النحر، وأن النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، وهذا أمر مستفيض. قال المهلب: وإنما أمر الحُيَّض باعتزال المصلى خشية الاختلاف؛ أن يكون طائفة تصلى وطائفة بينهم لا تصلى، وخشية ما يحدث للحائض من خروج الدم الذى لا يؤمن ذلك منها، فتؤذى من جاورها وتنجس موضع الصلاة.
- باب الصَّلاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ
/ 23 - فيه: ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قُدَّامَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، ثُمَّ يُصَلِّي) . وترجم له: باب حمل العنزة والحربة بين يدى الإمام يوم العيد وقال فيه. / 24 - ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (أن نَّبِيُّ اللَّه كان يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى، وَالْعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ) . حمل العنزة والحربة بين يديه لتكون له سترة فى صلاته إذا كانت المصلى فى الصحراء، ولم يكن فيها من البنيان ما يستتر به، ومن سنته عليه السلام، أن لا يصلى المصلى إلا إلى سترة إمامًا كان أو منفردًا. فإن قيل: فقد صلى عليه السلام، بمنى إلى غير جدار فى حديث ابن عباس نزل من الأتان ومرّ بين يدى بعض الصف. قيل له: هذا يدل من فعله عليه السلام، أن السترة للمصلى ليست بفريضة وأنها سنة مستحبة؛ لأن صلاته بمنى إلى غير السترة كان(2/567)
نادرًا من فعله عليه السلام، والذى واظب عليه طول دهره الصلاة إلى سترة، وقد تقدم ما للعلماء فى هذه المسألة فى باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه.
- باب خُرُوجِ الصِّبْيَانِ إِلَى الْمُصَلَّى
/ 25 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قيل له: (شهدت العيد مع النبى، عليه السلام؟ قال: نعم، لولا مكانى من الصغر ما شهدته، ثم أتى النساء فوعظهن. . .) ، الحديث. خروج الصبيان إلى المصلى إنما هو إذا كان الصبى ممن يضبط نفسه عن اللعب، ويعقل الصلاة، ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى ضبط ابن عباس للقصة، ولإتيانه عليه السلام، النساء ووعظهن وأمرهن بالصدقة، وأخذ بلال ذلك فى ثوبه، فدل ذلك على أنه كان ممن يعقل الصلاة وغيرها. وقال المهلب: وقوله: (ولولا مكانى من الصغر ما شهدته) ، يريد حين أتى النساء فوعظن، فذكر أنه شهد بذلك معه، وقد تقدم هذا المعنى قبل هذا وترجم له: باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، وزاد فيه: عن ابن جريج قلت لعطاء: أترى حقًا على الإمام أن يأتيهن ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم ومالهم لا يفعلونه. قال المؤلف: أما إتيانه عليه السلام، إلى النساء ووعظهن فهو خاص له عند العلماء؛ لأنه أب لهن، وهم مجمعون أن الخطيب لا تلزمه خطبة أخرى للنساء ولا يقطع خطبته ليتمها عند النساء، وفائدة هذا الحديث الرخصة فى شهود النساء والصبيان العيد.(2/568)
والفتخ: خواتم بلا فصوص كأنها حلق، الواحدة: فتخة.
- باب اسْتِقْبَالِ الإمَامِ النَّاسَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ
وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَامَ النَّبِيُّ عليه السلام، مُقَابِلَ النَّاسِ. / 26 - فيه: الْبَرَاءِ: (خَرَجَ النَّبِيُّ عليه السلام، يَوْمَ الأَضْحًى إِلَى الْبَقِيعِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَبْدَأَ بِالصَّلاةِ. . .) ، الحديث. السنة استقبال الإمام الناس فى خطبة العيد والجمعة وغيرها؛ لأن كل من حضر الخطبة مأمور باستماعها، ولا يكون المستمع إلا مقبلاً بوجهه على المسموع منه ليكون أوعى لموعظته.
- باب إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ فِي الْعِيدِ
/ 27 - فيه: حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عن امرأة غزت مع رسول الله فقَالَتْ: كُنَّا نَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَنُدَاوِي الْكَلْمَى، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَلا تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: (لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ المسلمين. . . .) ، الحديث. هذا يدل على تأكيد خروج النساء إلى العيدين؛ لأنه إذا أمرت المرأة أن تلبس من لا جلباب لها، فمن لها جلباب أولى أن تخرج وتشهد دعوة المؤمنين رجاء بركة ذلك اليوم. وقال الطحاوى: وأمره عليه السلام، أن تخرج الحيض وذوات(2/569)
الخدور فى العيد يحتمل أن يكون ذلك فى أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابًا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. قال المؤلف: وهذا التأويل يحتاج إلى معرفة تاريخ الوقت الذى أمر فيه النبى، عليه السلام، النساء بذلك، ونسخ أمره لهن بالخروج إلى العيدين، وهذا لا سبيل إليه، والحديث باق على عمومه لم ينسخه شىء ولا أحاله، والنسخ لا يثبت إلا بيقين، وأيضًا فإن النساء ليس ممن يرهب بهن على العدو، ولذلك لم يلزمهن فرض الجهاد. والعواتق: جمع عاتق، وقال ابن دريد: عتقت الجارية: صارت عاتقًا إذا أوشكت البلوغ، وقال ابن السكيت: العاتق فيما بين أن تدرك إلى أن تعنس ما لم تزوج، والخدور: البيوت. فأمر الملازمات للبيوت المحتجبات بالبروز إلى العيدين بخلاف قول أبى حنيفة.
- باب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمُصَلَّى
/ 28 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، كَانَ يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى) . السنة، والله أعلم، بالذبح فى المصلى لئلا يُتقدم الإمام بالذبح، ولما كانت أفعال العيدين والجماعات إلى الإمام وجب أن يكون متقدمًا فى ذلك والناس له تبع، ولهذا قال مالك: لا يذبح أحد حتى يذبح(2/570)
الإمام، وروى مثل قول مالك أثر انفرد به ابن جريج، وأكثر الآثار على مراعاة الصلاة فقط، ولم يختلفوا أن من رمى الجمرة، فقد حل له الذبح والحلق، وإن لم يذبح الإمام إلا بعد ذلك، فكذلك من صلى عندهم يوم النحر أن المعنى المتعبد به: الوقت لا الفعل، وقد أجمعوا أن الإمام لو لم يذبح يوم النحر أصلاً، ودخل وقت الذبح أن الذبح حلال. قال المهلب: وإنما قال مالك إنه من ذبح قبل الإمام أعاد ليكون للضعفاء وقت يقصدونه للصدقة ولا يجيئون حتى يعم الناس الإفضال، وتستوى بهم الحال، ويكتفى الضعفاء بقية يومهم.
- باب كَلامِ الإمَامِ وَالنَّاسِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، وَإِذَا سُئِلَ الإمَامُ عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ يَخْطُبُ
/ 29 - فيه: الْبَرَاءِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَقَالَ: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَنَسَكَ نُسْكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ. . .) ، الحديث، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، فَقَالَ: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ) ، قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عَنَاقًا فَهَلْ تَجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ) . والكلام فى الخطبة بما كان من أمر الدين للسائل والمسئول جائز، وقد قال عليه السلام، للذين قتلوا ابن أبى الحقيق حين دخلوا عليه يوم الجمعة، وهو يخطب: (أفلحت الوجوه) ، وقال عمر وهو على المنبر:(2/571)
املكوا العجين، فإنه أحد الرَّيْعَيْن، رواه هشام بن عروة، عن أبيه، وقال هشام: أمرهم رحمه الله بما كان يأمر أهله، ورأى أن ذلك حق. وكره العلماء كلام الناس والإمام يخطب، روى ذلك عن عطاء، والحسن، والنخعى، وقال مالك: لينصت للخطبة ويستقبل، وليس من تكلم فى ذلك كمن تكلم فى خطبة الجمعة، وقال شعبة: كلمنى الحكم بن عُتيبة يوم عيد والإمام يخطب.
- باب مَنْ خَالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ الْعِيدِ
/ 30 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ) . وجمهور العلماء يستحبون الرجوع يوم العيد من طريق أخرى، وقال أبو حنيفة: يستحب له ذلك، فإن لم يفعل فلا حرج عليه. ورأيت للعلماء فى معنى رجوعه عليه السلام، من طريق أخرى تأويلات كثيرة، وأَولاها عندى، والله أعلم، أن ذلك ليرى المشركين كثرة عدد المسلمين، ويرهب بذلك عليهم.
- باب إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَمَنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ وَالْقُرَى، لِقَوْلِه عليه السلام: هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الإسْلامِ، وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلاهُمُ ابْنَ أَبِي عُتْبَةَ(2/572)
بِالزَّاوِيَةِ، فَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، فَصَلَّى كَصَلاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَتَكْبِيرِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَهْلُ السَّوَادِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْعِيدِ، يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يَصْنَعُ الإمَامُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. / 31 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنَى، تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَالنَّبِيُّ عليه السلام، مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ) . اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة العيد مع الإمام، فقالت طائفة: يصلى ركعتين مثل صلاة الإمام، روى ذلك عن عطاء، والنخعى، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، والشافعى، وأبى ثور، إلا أن مالكًا قال: يستحب له ذلك من غير إيجاب، وقال الأوزاعى: يصلى ركعتين ولا يجهر بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام وليس بلازم. وقالت طائفة: يصليها إن شاء؛ لأنها إنما تصلى ركعتين إذا صليت مع الإمام بالبروز لها كما على من لم يحضر الجمعة مع الإمام أن يصلى أربعًا، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وبه قال الثورى وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن صلى صلى أربعًا وإن شاء ركعتين، وقال إسحاق: إن صلى فى الجَبَّان صلى كصلاة الإمام، وإن لم يصل فى الجَبَّان صلى أربعًا، وأولى الأقوال بالصواب أن يصليها كما سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو الذى أشار إليه البخارى، واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: (هذا عيدنا أهل الإسلام) ، و (إنها أيام عيد) ، وذلك إشارة إلى الصلاة، وقد أبان ذلك بقوله: (أول نسكنا فى يومنا هذا أن نصلى، ثم ننحر فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا) ، فمن صلى كصلاة الإمام فقد أصاب السنة.(2/573)
واتفق مالك، والكوفيون، والمزنى على أنه لا تصلى صلاة العيد فى غير يوم العيد، وقال الشافعى فى أحد قوليه: أنها تقضى من الغد، واحتج عليه المزنى، فقال: لما كان ما بعد الزوال أقرب منها من اليوم الثانى، وأجمعوا أنها لا تصلى إلا قبل الزوال، فأحرى ألا تصلى من الغد وأبعد.
- باب الصَّلاةِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وكره ابن عباس الصلاة قبل العيد
/ 32 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا) . اختلف أهل العلم فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال، فقالت طائفة بحديث ابن عباس هذا: لا يصلى قبل العيد ولا بعدها فى المصلى، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وحذيفة، وجابر، وابن عمر، والشعبى، ومسروق، والقاسم، وسالم، وهو قول مالك، وأحمد بن حنبل إلا أن مالكًا قال: إذا صليت فى المسجد جاز التنفل قبلها وبعدها، وقالت طائفة: يصلى بعدها ولا يصلى قبلها، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وبه قال علقمة، والأسود، وابن أبى ليلى، والنخعى، والثورى، والكوفيون، والأوزاعى. وقالت طائفة: يصلى قبلها وبعدها كما يصلى قبل الجمعة وبعدها، روى ذلك عن بريدة الأسلمى، وأنس بن مالك، والحسن، وعروة، وبه قال الشافعى. إلا أن السنة الثابتة فى ذلك ما رواه ابن عباس فى هذا الباب أن(2/574)
النبى، عليه السلام، صلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، فثبت أنها ليست كالجمعة، واستخلف على أبا مسعود، فخطب الناس وقال: لا صلاة قبل الإمام يوم العيد، ولم يرو عن غيره خلافه، ومثل هذا لا يقال بالرأى إنما طريقه التوقيف، قاله الطحاوى. أَبْوَاب الْوِتْرِ
- باب مَا جَاءَ فِي الْوِتْرِ
/ 33 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبىِّ عَلَيْهِ السَّلام قال: (صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى) . وكان ابن عمر يسلم بين الركعة والركعتين فى الوتر حتى يأمر ببعض حاجته. / 34 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خالته مَيْمُونَةَ، فقام النبى عليه السلام فصلى نصف الليل اثنى عشرة ركعة ثم أوتر ثم اضطجع. قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإن كلا لواسع أرجو ألا يكون بشىء منه بأس. / 35 - وفيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ (أَنَّ النبى عَلَيْهِ السَّلاَم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صلاة الليل. اختلف العلماء فى صلاة الوتر، فقالت طائفة: الوتر ركعة، روى ذلك عن ابن عمر، وقال: كذلك أوتر النبى، عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وروى عن عثمان أنه كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن يوتر بها، وعن سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، ومعاوية، وأبى موسى، وابن الزبير، وعائشة: الوتر ركعة، وبه قال عطاء،(2/575)
ومالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، إلا أن مالكًا قال: الوتر واحدة، ولا بد أن يكون قبلها شفع ليسلم بينهن فى الحضر والسفر، وروى على عن مالك: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وأوتر سحنون فى مرضه بواحدة، وقال الأوزاعى: إن شاء فصل بينهما، وإن شاء لم يفصل. وقالت طائفة: يوتر بثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وحذيفة، وأبى بن كعب، وابن عباس، وأنس، وأبى أمامة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والفقهاء السبعة بالمدينة، وقال سعيد بن المسيب: لا يسلم فى الركعتين من الوتر، وإليه ذهب الكوفيون، والثورى، وقال الأوزاعى: إن شاء فصل بينهن بسلام، وإن شاء لم يفصل. وتأول الكوفيون حديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة، ورمق صلاته بالليل، فذكر أنه عليه السلام صلى ركعتين ثم ركعتين حتى عَدَّ ثنتى عشرة ركعة قال: ثم أوتر، فيحتمل أن يكون أوتر بواحدة مع اثنتين قد تقدمتاها، فتكون مع الواحدة ثلاثًا، وكذلك تأولوا فى حديث عائشة، أن النبى، عليه السلام، كان يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته بالليل، أن الوتر منها الركعة الأخيرة مع ركعتين تقدمتها، قالوا: ويدل على صحة حديث عائشة أن الرسول كان لا يزيد فى رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلى أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلى أربعًا كذلك، ثم يصلى ثلاثًا فدل أن الوتر ثلاث. وقال أهل المقاللة الأولى: قوله عليه السلام: (صلاة الليل مثنى(2/576)
مثنى) ، يُفسر حديث عائشة أنه كان يصلى أربعًا ثم ثلاثًا، وهى زيادة يجب قبولها، وقوله: (فإذا خشيت الصبح، فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت) ، دليل أن الوتر واحدة؛ لأنه عليه السلام، قال فى الركعة: إنما هى التى توتر ما قبلها، والوتر فى لسان العرب هو الواحد، فلذلك قال عليه السلام: (إن الله وتر) ، أى واحد لا شريك له، والحكم يتعلق بأول الاسم كما أن الظاهر من قوله: (مثنى مثنى) ، أى ثنتين مفردتين، فدل ذلك أن الواحد هى الوتر دون غيرها، وإذا جازت الركعة بعد صلاة ركعتين أو أكثر جازت دونها؛ لأنها منفصلة بالسلام منها. وكان مالك يكره الوتر بواحدة ليس قبلها نافلة، ويقول: أى شىء توتر له الركعة؟ وقد قال عليه السلام: (توتر له ما قد صلى) ، ألا ترى أنه لم يوتر قط، عليه السلام، إلا بعد عشر ركعات أو اثنتى عشرة ركعة على اختلاف الأحاديث فى ذلك، فلذلك استحب أن تكون للركعة الوتر نافلة توترها، وأقل ذلك ركعتان. وإنما ذكر البخارى عن ابن عمر أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين فى الوتر خلافًا لأبى حنيفة، وكل من روى عنه الفصل بين الشفع، وركعة الوتر بسلام، يجيز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شىء، وقال الشعبى: كان آل سعد، وآل عبد الله بن عمر يسلمون فى ركعتى الوتر، ويوترون بركعة. وقوله: (فإذا خشى أحدكم الصبح صلى ركعة) ، يدل أن آخر(2/577)
وقت الوتر انفجار الصبح، فإذا انفجر الصبح، فقد خرج وقت الوتر ولا يعيدها من فاتته حينئذ، روى هذا عن ابن عمر، وعطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير. وقالت طائفة أخرى: وقت الوتر ما لم يُصل الصبح، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس وجماعة، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وقال أبو حنيفة: عليه قضاء الوتر وإن صلى الصبح، وعن الشعبى، والحسن، وطاوس: يصلى الوتر، وإن طلعت الشمس، وبه قال الأوزاعى، وأبو ثور، وعن سعيد بن جبير: يوتر من الليلة القابلة.
- باب سَاعَاتِ الْوِتْرِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ. / 36 - فيه: أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، أُطِيلُ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ؟ فَقَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْغَدَاةِ، وَكَأَنَّ الأذَانَ بِأُذُنَيْهِ) . قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ سُرْعَةً. / 37 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ) . قال المهلب: ليس للوتر وقت مؤقت لا يجوز غيره؛ لأنه عليه السلام، قد أوتر كُلَّ الليل، كما قالت عائشة، وقد اختلف السلف فى ذلك: عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى هريرة،(2/578)
ورافع بن خديج، أنهم كانوا يوترون أول الليل، وكان يوتر آخر الليل: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وجماعة من التابعين، واستحبه مالك، والثورى، والكوفيون، وجمهور العلماء. وقال الطبرى: فإن قال قائل: فإن كان جمهور العلماء على هذا فما وجه أمره عليه السلام، لأبى هريرة بالوتر قبل النوم وأمره واجب، وقول عائشة: كل الليل أوتر رسول الله، خبر عن فعله، وما لم يكن من فعله بيانًا لمجمل القرآن قلنا: الأخذ به وتركه، والأمر ليس كذلك حتى يُبَيِّنَه أمر آخر أنه على غير الوجوب. قيل: كلا الخبرين صحيح وأمره لأبى هريرة اختيار منه له حين خشى أن يستولى عليه النوم فيقع وتره فى غير الليل، فأمره بالأخذ بالثقة، وأن يوتر قبل نومه، وبهذا وردت الأخبار عنه عليه السلام، روى سفيان عن الأعمش، عن جابر، عن عائشة، أن النبى، عليه السلام، قال: (من خاف منكم ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أول الليل) ، ومن علم أنه يستيقظ آخر الليل، فإن صلاته آخر الليل محضورة وذلك أفضل، وروى حماد بن سلمة، عن ثابت البنانى، عن عبد الله بن رباح، عن أبى قتادة، قال: قال رسول الله: (يا أبا بكر، متى توتر؟ قال: أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخر الليل، فقال عليه السلام لأبى بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالقوة) . قال المهلب: وقوله: (كأن الأذان بأذنيه) ، يعنى الإقامة يريد أنه كان يسرع ركعتى الفجر قبل الإقامة من أجل تغليسه بالصبح.(2/579)
- باب إِيقَاظِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَهْلَهُ بِالْوِتْرِ
/ 38 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ - مُعْتَرِضَةً - عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ) . هذا امتثال لقول الله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) [طه: 132] . وفيه: تأكيد الوتر والأمر به والمواظبة عليه.
- باب لِيَجْعَلْ آخِرَ صَلاتِهِ وِتْرًا
/ 39 - فيه: ابْنِ عُمَرَ أن النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم قَالَ: (اجْعَلُوا آخِرَ صَلاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا) . اختلف السلف فى وجوب الوتر، فروى عن على بن أبى طالب، وعبادة بن الصامت أنه سنة، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبى، وابن شهاب مثله، هو قول مالك، والثورى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وعامة الفقهاء. وقالت طائفة: الوتر واجب على أهل القرآن دون غيرهم، لقوله عليه السلام: (أوتروا يا أهل القرآن) ، روى ذلك عن ابن مسعود، وحذيفة وهو قول النخعى، وقالت طائفة: هو واجب لا يسوغ تركه، روى ذلك عن أبى يوسف الأنصارى، وهو قول أبى حنيفة، وهو أنه عليه السلام، أمر بالوتر وأمره على الوجوب، وبقوله: (الوتر حق) ، و (من لم يوتر فليس منا) . وقال الطبرى: الصواب قول من جعله سنة لإجماع الجميع(2/580)
أن عدة الصلوات المفروضات خمس، لو كان الوتر فرضًا لكانت ستًا، ولكان وتر صلاة الليل إحدى الست كما وتر صلاة النهار (المغرب) ، إحدى الخمس، فدل على اختلاف حكم وتر صلاة الليل، وحكم وتر صلاة النهار فى أن أحدهما فرض والثانى نافلة. وقوله: (الوتر حق) ، معناه: حق فى السنة. وقوله: (من لم يوتر فليس منا) ، يقتضى الترغيب فيه، ومعناه: ليس بآخذ سُنتنا ولا مُقْتَدٍ بنا، كما قال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) ، ولم يرد إخراجه من الإسلام. واختلف العلماء فيمن أوتر ثم نام ثم قام فصلى، هل يجعل آخر صلاته وترًا أم لا؟ فكان ابن عمر إذا عرض له ذلك صلى ركعة واحدة فى ابتداء قيامه أضافها إلى تره ينقضه بها، ثم يصلى مثنى مثنى ثم يوتر بواحدة، روى ذلك عن سعد وابن عباس، وابن مسعود، وبه قال إسحاق، وممن روى عنه أنه يشفع وتره: عثمان، وعلى بن أبى طالب، وعن عمرو بن ميمون، وابن سيرين مثله. وكانت طائفة لا ترى نقض الوتر، روى عن أبى بكر الصديق أنه قال: أما أنا، فإنى أنام على وتر، فإن استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح، وروى مثله عن عمار، وسعد، وابن عباس، وقالت عائشة فى الذى ينقض وتره: هذا يلعب بوتره، وقال الشعبى: أمرنا بالإبرام ولم نؤمر بالنقض، وكان لا يرى نقض الوتر: علقمةُ، ومكحول، والنخعى، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور.(2/581)
- باب الْوِتْرِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 40 - فيه: سَعِيدِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ، نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُ ابنْ عُمَر، فَقَالَ لى: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ، فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، فَقَالَ لِى ابْن عُمَر: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ. قال الطبرى: هذا الحديث حجة على أبى حنيفة فى إيجابه الوتر؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه غير جائز لأحد أن يصلى مكتوبة راكبًا فى غير حال العذر، ولو كان الوتر فرضًا ما صلاهُ الرسول راكبًا بغير عذر. فإن قال قائل: فقد روى مجاهد أنه قال: صحبت ابن عمر، فكان لا يزيد فى السفر على ركعتى المكتوبة، ويحيى الليل صلاة على ظهر الدابة، وينزل قبل الفجر فيوتر بالأرض، وقال إبراهيم: كانوا يصلون على إبلهم حيث كانت وجوههم إلا المكتوبة والوتر. قيل: لا حجة فى فعل ابن عمر لأبى حنيفة؛ لأنه يجوز أن ينزل للوتر طلبًا للفضل لا أن ذلك كان عنده الواجب؛ لأنه قد صح عن ابن عمر أنه كان يوتر على بعيره، ذكره ابن المنذر عنه، وهو معنى ما ذكره البخارى عنه، وكان يفعل ذلك على، وابن عباس أيضًا، وعن عطاء مثله. فإن قيل: فما وجه نزول ابن عمر فى ذلك؟ . قيل: لما كان عند ابن عمر من صلاة التطوع، وكان المتطوع بها(2/582)
مخيرًا فى عملها إن شاء راكبًا، وإن شاء نازلاً كان يوتر أحيانًا بالأرض، وهذا وجه فعل ما ذكره النخعى عنه، وهذا كله حجة على الكوفيين. قال الطحاوى: ذكر عنهم أن الوتر لا يصلى على الراحلة، وهو خلاف للسنة الثابت، وقال مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: يصلى الوتر على الراحلة اتباعًا لهذا الحديث.
- باب الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ
/ 41 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلاةَ اللَّيْلِ، إِلا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ) . الوتر سنة مؤكدة فى الحضر والسفر، والسنة لا يسقطها السفر إذا كانت مؤكدة، وقد روى عن ابن عباس، وابن عمر أنهما قالا: الوتر فى السفر سنة، وهذا رد على الضحاك فى قوله: إن المسافر لا وتر عليه، وأيضًا فإن ابن عمر ذكر أن النبى، عليه السلام، كان يتنفل فى السفر على راحلته حيث توجهت به، فالوتر أولى بذلك لأنه أوكد من النافلة. قال المهلب: وهذا الحديث تفسير لقوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144] ، أن المراد به الصلوات المفروضات، وأن(2/583)
القبلة فرض فيها، وبين أن القبلة فى النوافل سنة لصلاته، عليه السلام، لها فى السفر على راحلته حيث ما توجهت به.
- باب الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ
/ 42 - فيه: ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ: أَقَنَتَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَم فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: أَوَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا. / 43 - وقال عاصم: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقُنُوتُ، قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قَالَ: فَإِنَّ فُلانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أُرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا، يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلا إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا، يَدْعُو عَلَيْهِمْ. / 44 - وقال أبو مجلز، عن أنس: (قَنَتَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ) . / 45 - وقال أبو قلابة، عن أنس: (كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ) . وقال ابن المنذر: اختلف العلماء فى القنوت، فقالت طائفة بالقنوت قبل الركوع، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبى موسى، والبراء، وأنس، وابن عباس، وابن أبى ليلى، وبه قال إسحاق. وقالت طائفة: القنوت بعد الركوع روى ذلك عن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وقال أنس: كل ذلك كان يفعله قَبْلُ وبَعْدُ،(2/584)
وبه قال أحمد، وفى (المدونة) : القنوت فى الصبح قبل الركوع وبعده واسع، والذى يستحب مالك فى خاصة نفسه قبل الركوع، وهو حسن عند مالك، وعند الشافعى سنة فى الصبح، وقال: يقنت فى الصلوات كلها عند حاجة المسلمين إلى الدعاء. قال الطحاوى: لم يقل هذا أحد قبله؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يزل محاربًا للمشركين إلى أن توفاه الله، ولم يقنت فى الصلوات. وقالت طائفة: لا قنوت فى شىء من الصلوات المكتوبة، روى ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وقال ابن عمر: هى بدعة، وقال قتادة، وإبراهيم: لم يقنت أبو بكر ولا عمر حتى مضيا. وقال علقمة، عن أبى الدرداء: لا قنوت فى الفجر، وعن طاوس مثله، وهو قول الكوفيين والليث، وقال الكوفيون: إنما القنوت فى الوتر، واحتج هؤلاء بما روى الطبرى، عن أبى كريب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت سعد بن طارق أبا مالك الأشجعى قال: قلت لأبى: صليت خلف رسول الله، وأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى أكانوا يقنتون؟ قال: لا يا بنى، محدثة. وقال الطبرى: والصواب فى ذلك أن يقال إن الخبر قد صح عن الرسول أنه قنت على القراء إما شهرًا أو أكثر فى كل صلاة مكتوبة، ثم(2/585)
ترك ذلك، وثبت قنوته فى الصبح، وصح الخبر عنه أنه لم يزل يقنت فى صلاة الصبح حتى فارق الدنيا، حدثناه عمرو بن على قال: أخبرنا خالد بن زيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازى عن الربيع قال: (سئل أنس عن قنوت النبى، عليه السلام، أنه قنت شهرًا قال: لم يزل يقنت عليه السلام، حتى مات) ، حديث أبى مالك صحيح عندنا أيضًا ولا تعارض بينهما بحمد الله، فنقول: إذا نابت المسلمين نائبة نظيرة التى نزلت بالمسلمين بمصابهم بمن قتل ببئر معونة، فنرى القنوت فى ذلك حسنًا على ما فعله النبى، عليه السلام، حتى يكشف عنهم، وذلك أن أبا هريرة روى أن النبى، عليه السلام، ترك الدعاء عليهم إذ جاءوا تائبين، وروى أنس أنه قنت شهرًا. وذكر الطحاوى بإسناده عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبى سلمة، عن أبى هريرة: (أن النبى، عليه السلام، كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد قنت. . .) ، وذكر الحديث، قال: روى حماد، عن إبراهيم، عن الأسود قال: كان عمر إذا حارب قنت وإذا لم يحارب لم يقنت. قال الطبرى: ولسنا وإن كنا نرى ذلك حسنًا إذا نابت المسلمين نائبة بموجبين على من تركه إعادة لا سجود سهو، وإن تركه عامدًا، وذلك أن المسلمين مجمعون أن من ترك القنوت غير مفسد لصلاته، فإن قنت قانت فبفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمل، وإن ترك تارك فبرخصة رسول الله أخذ، وذلك أنه كان يقنت أحيانًا، ويترك القنوت أحيانًا، فأخبر أنس عنه أنه لم يزل يقنت على ما عهده من فعله ذلك بالقنوت(2/586)
فيها مرةً وترك القنوت أخرى معلمًا بذلك أمته أنهم مخيرون فى العمل بأى ذلك شاءوا من فعله. وأخبر طارق أنه صلى معه، فلم يره قنت، وغير منكر أن يكون صلى معه فى الأوقات التى لم يقنت فيها، فأخبر عنه بما رأى وشاهد، وليس قول: لم أر النبى (صلى الله عليه وسلم) قنت حجة يدفع بها قول من قال: رأيته يقنت، ولا سيما والقنوت أمرٌ المصلى مخير فيه وفى تركه، ولو كان قول من قال: لم أره يقنت دافعًا لقول من قال: رأيته قنت وجب قولُ من قال: رأيته لا يرفع يديه عند الركوع، وعند رفعه منه دافعًا لقول من قال: رأيته يرفع يديه عندهما. وكذلك كان يجب أن يكون كل ما حكى عنه من اختلاف كان منه فى صلاته مما فعله تعليمًا لأمته فى أنهم مخيرون بين العمل له وتركه غير جائز العمل بأحدهما، وفى إجماع الأمة أن ذلك ليس كذلك، وأن رفع اليدين فى حال الركوع والرفع منه غير مفسد لصلاة المصلى، ولا تركه بموجب عليه قضاء إذْ كان من العمل الذى عمله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحيانًا وتركه أحيانًا، فكذلك القنوت مثله سواء، وكذلك القول عندنا فيما روى عن أصحابه عليه السلام، من الاختلاف فى ذلك؛ لأن كُلا شهد بما رأى منه عليه السلام، فى ذلك وكل محق صادق. قال المهلب: ووجه اختيار مالك القنوت قبل الركوع، والله أعلم ليدرك المستيقظون من النوم الركعة التى بها تدرك الصلاة، ولذلك كان الوقوف فى الصبح أطول من غيرها. قال غيره: ووجه قول أنس للسائل: كذب، يريد أنه كذب إن(2/587)
كان قال عنه: أن القنوت أبدًا بعد الركوع، وقد بين الثورى هذا المعنى فى سياقه لهذا الحديث فروى الثورى، عن عاصم، عن أنس قال: (إنما قنت رسول الله بعد الركعة شهرًا، قلت: فكيف القنوت؟ قال: قبل الركوع) ، فبان بذلك أن الذى دام عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) من القنوت كان قبل الركوع كما استحسنه مالك. قال المهلب: ولم يحفظ عن النبى، عليه السلام، أنه تمادى على القنوت فى المغرب بل تركه تركًا لا يكاد يثبت معه أنه لو قنت فيها لترك الناس نقله، إلا أنه روى عن أبى بكر الصديق أنه كان يدعو فى الثالثة من المغرب بعد قراءته أم القرآن: (ربنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) [آل عمران: 8] ، واستحبه الشافعى، وقال مالك: ليس العمل عندنا على هذا، وإنما جاء أن الناس كانوا يلعنون الكفرة فى رمضان فى الوتر. وقال مالك فى (المدونة) : ليس العمل على القنوت بلعن الكفرة فى رمضان، وقال ابن نافع عنه: كانوا يلعنون الكفرة فى النصف من رمضان حتى ينسلخ، وأرى ذلك واسعًا إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقوله: زهاء سبعين: قال صاحب (العين) : الزهاء: القدر فى العدد.(2/588)
الجزء الثالث(3/4)
- كتاب الاسْتِسْقَاءِ
- بابَ خُرُوجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي الاسْتِسْقَاءِ
/ 1 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زيد، قَالَ: (خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) . وترجم له: (باب الاستسقاء فى المصلى) ، وزاد فيه: (خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، إلى المصلى يَسْتَسْقِي) . أجمع المسلمون على جواز الخروج إلى الاستسقاء والبروز إليه فى المصلى عند إمساك الغيث عنهم. واختلفوا فى الصلاة، فقال أبو حنيفة: يبرز المسلمون للدعاء والتضرع إلى الله فيما نزل بهم، وإن خطب مُذكر لهم ومخوف فحسن، ولم يعرف الصلاة فى الاستسقاء، واحتج بهذا الحديث الذى لا ذكر للصلاة فيه، وروى مغيرة عن إبراهيم: أنه خرج مرة للاستسقاء فلما فرغوا قاموا يصلون، فرجع إبراهيم ولم يصل. وقال سائر الفقهاء، وأبو يوسف ومحمد: إن صلاة الاستسقاء سنة ركعتان؛ لثبوت ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وليس تقصير من قصر عنها بحجة على من ذكرها بل الذى رواها أولى؛ لأنها زيادة يجب قبولها.
- باب دُعَاءِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ
/ 2 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ(3/5)
الرَّكْعَةِ الأخِيرَة يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ) ، هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ. / 3 - فيه: عَبْدِاللَّهِ: أنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، قَالَ: (اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ) ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) [الدخان: 15، 16] ، فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَدْ مَضَتِ الْبَطْشَةُ والدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ. فيه: جواز الدعاء على الكفار بالجوع والجهد وغيره، قال المهلب: وإنما دعا عليهم بالسبع سنين، والله أعلم، إرادة أن يضعفهم بالجوع عن طغيانهم؛ فإن نفس الجائع أخشع لله وأقرب للانقياد والتذلل، فأجاب الله دعوته وأعلمه أنهم سيعودون بعد أن يرغبوا فى رد العذاب عنهم. وفيه: الدعاء على الظالم بالهلاك. وفيه: الدعاء لأسرى المؤمنين بالنجاة من أيدى العدو. وفيه: جواز الدعاء فى صلاة الفريضة بما ليس فى القرآن بخلاف(3/6)
الكوفيين، وذكر أبو الزناد فى حديث أبى هريرة أن ذلك كان فى صلاة الصبح. وقال المهلب: والدعاء على المشركين يختلف معناه، فإذا كانوا منتهكين لحرم الدين وحرم أهله، فالدعاء عليهم واجب، وعلى كل من سار بسيرهم من أهل المعاصى والانتهاك، فإن لم ينتهكوا حرمة الدين وأهله وجب أن يُدعَى لهم بالتوبة كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، حين سئل أن يدعوا على دوس فقال: (اللهم اهد دوسًا وائت بهم) ، وقيل: إنما يجب أن يكون الدعاء على أهل المعاصى فى حين انتهاكهم، وأما عند تركهم وإدبارهم عن الانتهاك فيجب أن يُدعى لهم بالتوبة، وروى أن أبا بكر الصديق وزوجته كانا يدعوان على عبد الرحمن ابنهما يوم بدر بالهلاك إذ حمل على المسلمين، وإذا أدبر يدعوان له بالتوبة. وفى قوله: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله) ، الدعاء للمؤمنين بالمغفرة، تَفَاءَل لهما (صلى الله عليه وسلم) ، من أسمائهما فَأْلا حسنًا، وكان يعجبه الفأل الحسن، وقال الخطابى: وقوله: (غفار غفر الله لها) ، فنرى، والله أعلم، إنما خصهم بالدعاء والمغفرة لمبادرتهم إلى الإسلام وبحسن بلائهم فيه، ودعا لأسلم؛ لأن إسلامهم كان سلمًا من غير حرب، ويقال: كان مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين من أسلم أربعمائة ومن غفار مثلها. وقوله: (حَصَّت كل شىء) ، يعنى أذهبته قال صاحب (العين) ، يقال: الحصّ: السنة الجرداء، والحَصّ إذهاب الشعر، والبيضة(3/7)
تحصُّ رأس صاحبها، ومن أمثال العرب: (أفلت وانحصّ الذَنَبُ) ، يقال للذى تفلت من منتشب، وأصله الطائر يفلت من يد الإنسان فيبقى فى يديه من ريش ذنبه بقية.
3 - باب سُؤَالِ النَّاسِ الإمَامَ الاسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا
/ 4 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: (رُبَّمَا ذَكَرْتُ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَسْتَسْقِي: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرَامِلِ فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ لك ميزاب) . / 5 - وفيه: أَنَسِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا، فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. فيه: أن الخروج إلى الاستسقاء والاجتماع والبروز لا يكون إلا بإذن الإمام، وهذه سنن الأمم السالفة قال الله تعالى: (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) [الأعراف: 160] ، وأما الدعاء فى أعقاب الصلوات فى الاستسقاء فجائز بغير إذن الإمام. قال المهلب: وموضع الترجمة من الحديث قول عمر:(3/8)
اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا وهو معنى قول أبى طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، وأما استسقاء عمر بالعباس، فإنما هو للرحم التى كانت بينه وبين النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه، ويتوسل إلى من أمر بصلة الأرحام بما وصلوه من رحم العباس، وأن يجعلوا ذلك السبب إلى رحمة الله تعالى. والثمال: هو الذى يثمل القوم فيكفيهم أمرهم بإفضاله عليهم.
4 - باب تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ
/ 6 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، اسْتَسْقَى وَقَلَبَ رِدَاءَهُ) . / 7 - وقال مرة: (خَرَجَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الْمُصَلَّى، فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) . وكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: عَبْد اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ هُوَ صَاحِبُ الأذَانِ، وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ؛ لأنَّ هَذَا هُوَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ، مَازِنُ الأنْصَارِ. وذهب مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أن الإمام يحول رداءه ويحول الناس أرديتهم بتحويله، وقال الليث، وأبو يوسف، ومحمد بن عبد الحكم يقلب الإمام وحده رداءه، وليس ذلك على من خلفه، وقال محمد بن عبد الحكم: ليس فى الحديث أن الناس حولوا أرديتهم، وكذلك روى عيسى، عن ابن وهب أنه كان لا يرى تحويل الرداء إلا على الإمام وحده.(3/9)
واحتج من قال: يحول الناس بتحويل الإمام بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فما فعل الإمام واجب على المأموم فعله. واختلفوا أيضًا فى صفة تحويله، فروى ابن القاسم عن مالك قال: يحول ما على اليمين على اليسار، وما على اليسار على اليمين، وروى عنه ابن عبد الحكم: إذا فرغ من خطبته استقبل القبلة، وحول رداءه، ما على ظهره منه يلى السماء وما كان يلى السماء على ظهره، وبه قال أحمد، وأبو ثور، وقال الشافعى: ينكس أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. والقول الأول أولى لأنه قد روى سفيان، عن المسعودى، عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عمه (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جعل اليمين على الشمال) ، ذكره البخارى، فى باب الاستسقاء فى المصلى بعد هذا. قال المهلب: وتحويل الرداء إنما هو على وجه التفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه، والله أعلم، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يعجبه الفأل الحسن إذا سمع من القول، فكيف من الفعل؟ . وفيه: دليل على استعمال الفأل من الأمور، وإن لم يقع بالموافقة ووقع استعمالاً. وقوله: (صلى ركعتين) ، هو حجة جمهور أهل العلم أن السنة فى الاستسقاء أن يصلى ركعتين.(3/10)
5 - باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
/ 8 - فيه: أَنَسَ: أَنَّ رَجُلا دَخَلَ المسجد يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أن يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اسْقِنَا، ثلاث مرات. . .) وذكر الحديث. وترجم له: (باب الاستسقاء فى خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) ، وباب (الاستسقاء على المنبر) ، وباب (من اكتفى بصلاة الجمعة فى الاستسقاء) . فيه: الاكتفاء بالاستسقاء فى المسجد الجامع دون بروز إلى المصلى؛ لأن الله تعالى، أجاب دعوة نبيه (صلى الله عليه وسلم) وسقاهم. وفيه: بركة دعائه (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يختلف العلماء أنه إذا استسقى فى خطبة الجمعة أنه لا يستقبل القبلة فى دعائه بالاستسقاء كما يصنع إذا ربز، ولا يحول رداءه فى خطبة الجمعة، وإنما ذلك من سُنَّة البروز إليها. وفيه: إن اجتزءوا بالاستسقاء فى كل جمعة فى المسجد الجامع جاز. وقد أجاز قوم الاستسقاء بغير صلاة، ذكره ابن المنذر عن قيس بن أبى حازم، وأبى حنيفة، قال: ورأى ذلك الشافعى، قال: وكان الثورى يكره ذلك. الإكام: الكُدى واحدتها أكمة، ويقال: آكام، وأكم عن(3/11)
الخليل، والظراب: الجبال الصغار واحدها ظرب عن أبى عبيد، وظرب عن الخليل، والقزع: سحاب صغار تتطاير فى السماء وهى من أحب السحاب إلى الناس، عن أبى حنيفة. و (سَلْع) جبل بقرب المدينة، بإسكان اللام.
6 - باب الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتِ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ
/ 9 - فيه: أَنَسِ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَمُطِرُوا مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَأتْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اللَّهُمَّ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالآكَامِ، وَبُطُونِ الأوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ) . وترجم له: (باب الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا) ، وزاد أنس هذا اللفظ فى حديثه. قال المؤلف: فيه الدعاء إلى الله فى الاستصحاء كما يُدعى فى الاستسقاء؛ لأن كل ذلك بلاء يُفزع إلى الله فى كشفه، وقد سمى الله كثرة المطر أذىً فقال: (إن كان بكم أذىً من مطر) [النساء: 102] ، ولا يحول الرداء فى الاستصحاء إذ لا بروز فيه ولا صلاة تفرد له،(3/12)
وإنما يكون الدعاء فى الاستصحاء فى خطبة الجمعة أو فى أوقات الصلوات وأدبارها. وفيه من الفقه: استعمال أدب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، المهذب وخلقه العظيم؛ لأنه لم يدع الله ليرفع الغيث جملة لئلا يرد على الله فضله وبركته وما رغب إليه فيه، وسأله إياه فقال: (اللهم على رءوس الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر) ؛ لأن المطر لا يضر نزوله فى هذه الأماكن وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا) ، فيجب امتثال ذلك فى نعم الله إذا كثرت ألا يسأل أحد قطعها وصرفها عن العباد. وقوله: (فانجابت) ، تقول العرب: جبت القميص قوَّرت جيبه، عن ابن قتيبة، ومنه قوله تعالى: (جابوا الصخر بالواد) [الفجر: 9] ، قطعوه ونقبوه ونحتوه، ومنه: جبت الرحى إذا نقبت وسطها مثل جيب القميص، فشبه انقطاع السحاب من المدينة بتدوير انجياب الثوب إذا قُوِّر جيبه وفتح.
7 - باب مَا قِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي الاسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
/ 10 - فيه: أَنَسِ أَنَّ رَجُلا شَكَا إِلَى رسول الله هَلاكَ الْمَالِ، وَجَهْدَ الْعِيَالِ، فَدَعَا اللَّهَ أن يَسْتَسْقِي، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَلا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.(3/13)
وقد تقدم أن تحويل الرداء واستقبال القبلة بالدعاء إنما يكون من سنة صلاة الاستسقاء إذا برز لها، وأما فى المساجد فلا يكون ذلك.
8 - باب إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الإمَامِ لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدَّهُمْ
/ 11 - فيه: أَنَسِ: (أَنَّ رَجُلٌ جَاءَ إِلَى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ، فَدَعَا اللَّهَ، فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. . .) الحديث. وفيه: أن على الإمام إذا سئل الخروج إلى الاستسقاء أن يجيب إلى ذلك، لما فيه من الضراعة إلى الله فى صلاح أحوال عباده وأن يأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من الذنوب، وإصلاح نياتهم، ويعظهم، وكذلك إذا سئل الإمام ما فيه صلاح أحوال الرعية أن يجيبهم إلى ذلك أيضًا؛ لأن الإمام راع ومسئول عن رعيته، فيلزمه حياطتهم وتشفيعهم فيما سألوه مما لا بد لهم منه، وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يرد من سأله حاجة.
9 - باب إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ
/ 12 فيه: ابْنَ مَسْعُودٍ: (أَنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنِ الإسْلامِ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ، حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قد هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ فَقَرَأَ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) [الدخان: 10] ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى كُفْرِهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى) [الدخان: 16] يَوْمَ بَدْرٍ) .(3/14)
وَزَادَ أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسُقُوا الْغَيْثَ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا، وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، فَانْحَدَرَ السَّحَابَ عَنْ رَأْسِهِ، فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ) . قال المهلب: استشفاع المشركين بالمسلمين جائز إذا رجى رجوعهم إلى الحق، وكانت هذه القصة والنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بمكة قبل الهجرة. وفيه: دليل أن الإمام إذا طمع بدار من دور الحرب أن يسلم أهلها أن يرفق بهم، ويأخذ عفوهم، ويدعو لهم بالصلاح، ويكف عن ثمارهم وزروعهم، وأما إن يئس من إنابتهم فلا يدعو لهم؛ بل يدعو عليهم، ولا بأس حينئذ بقطع ثمارهم وزروعهم. وفيه: إقرار المشركين والمنافقين بفضل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقرب مكانه من ربه، وأنه المستشفع عنده فيما سأله إياه، وأن تلك عادة من الله عَلِمُوها، ولولا ذلك ما لجئوا إليه فى كشف ضرهم عند إشرافهم على الهلكة، فسألوه أن يكون وسيلة إلى الله فى إزالة ضرهم، وذلك أدل الدليل على معرفتهم بصدقه، ولكن حملهم الحسد والأنفة على معاداته ومخالفته لما سبق فى أم الكتاب من كفرهم، أعاذنا الله من العناد، ومكابرة العيان.
- باب الدُّعَاءِ فِي الاسْتِسْقَاءِ قَائِمًا
/ 13 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الأنْصَارِيُّ: أنه خَرَجَ مَعَ الْبَرَاءُ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَاسْتَسْقَى، فَقَامَ عَلَى راحلته عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ، فَاسْتَغْفَرَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ(3/15)
يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُقِمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السبيعى: وَرَأَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ يَزِيدَ النَّبِيَّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 14 - وفيه: عبد الله بن يزيد: (أَنَّ الرسول خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي لَهُمْ، فَدَعَا اللَّهَ قَائِمًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) . السنة فى الاستسقاء لمن برز إليها أن يدعو الله قائمًا؛ لأنه حال خشوع وإنابة وخضوع، وكذلك لا خلاف بين العلماء أنه لا أذان، ولا إقامة لصلاة الاستسقاء.
- باب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الاسْتِسْقَاءِ
/ 15 - فيه: عبد الله بن زيد: (خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ نحو الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) . السنة المجتمع عليها الجهر بالقراءة فى صلاة الاستسقاء، وإنما اختلف فى قراءة صلاة الكسوف على ما يأتى بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله تعالى. وهذا الحديث يدل أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة؛ لأنه قال فيه أنه استسقى وتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه وصلى ركعتين، و (ثُمَّ) ، للترتيب فى كلام العرب، ويدل أن الثانى بعد الأول. وممن روى عنه أن الخطبة قبل الصلاة فى ذلك عمر بن الخطاب،(3/16)
وابن الزبير، والبراء ابن عازب، وزيد بن أرقم، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول الليث. وقال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى: يبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وحجتهم ما رواه أبو بكر بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج يستسقى فصلى ركعتين وقلب رداءه) ، ذكره البخارى فى باب الاستسقاء فى المصلى فذكر تقديم الصلاة على الخطبة، وفى هذا الحديث أبو بكر بن حزم، وهو أضبط للقصة من ابنه عبد الله الذى ذكر تقديم الخطبة قبل الصلاة. واحتجوا أيضًا بما رواه النعمان بن راشد، عن الزهرى، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، قال: (خرج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يستسقى فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا وصلى) ، والنعمان بن راشد، وإن كان كثير الوهم على الزهرى، فإن رواية أبى بكر بن حزم تشهد لحديثه بالصحة. واحتج الطحاوى لأصحابه فى ذلك فقال: لما اختلفت الآثار فى ذلك نظرنا فوجدنا الجمعة فيها خطبة، وهى قبل الصلاة، ورأينا العيدين فيها خطبة، وهى بعد الصلاة، فأردنا أن ننظر خطبة الاستسقاء بأى الخطبتين هى أشبه، فرأينا خطبة الجمعة فريضة وصلاة الجمعة بها مضمنة لا تجزئ إلا بها، ورأينا خطبة العيدين ليست كذلك؛ لأن صلاة العيدين تجزئ أيضًا وإن لم يكن معها خطبة، ثم رأينا صلاة الاستسقاء تجزىء أيضًا وإن لم يخطب، وإن كان قد أساء بترك الخطبة فيها، فكانت بحكم صلاة العيدين أشبه منها بخطبة الجمعة.(3/17)
- باب كَيْفَ حَوَّلَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، ظَهْرَهُ لَلنَّاسِ
/ 16 - فيه: عبد الله بن زيد قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ خَرَجَ ليَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، يصَلَّى. . .) الحديث. وترجم له: (باب استقبال القبلة فى الاستسقاء) . / 17 - وزاد فيه: (أنه لما دعا أو أراد أن يدعو اسقبل القبلة وحول رداءه) . وسنة من برز إلى الاستسقاء أن يستقبل القبلة ببعض دعائه، وسنة من خطب الناس مُعَلِّمًا لهم وواعظًا أن يستقبلهم بوجهه أيضًا، ثم يعود عند دعاء الاستسقاء فيستقبل القبلة؛ لأن الدعاء مستقبل القبلة أفضل. وقوله: (لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه) ، فإن قول مالك وأصحابه اختلف فى وقت تحويل الإمام رداءه، فروى ابن القاسم، وابن عبد الحكم أنه يحول رداءه إذا فرغ من الخطبة، وروى عنه على بن زياد أنه يقلبه بين ظهرانى خطبته، وقال ابن الماجشون: يقلبه بعد صدر منها، وقال أصبغ: إذا أشرف على فراغ الخطبة قلب رداءه، وهذه الأقوال كلها خارجة من هذا الحديث من أصل شك المحدث فى تحويل الرداء إن كان بعد الدعاء أو قبله، وبالله التوفيق. قال الطحاوى: وقول عبد الله بن زيد أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج يستسقى فاستقبل القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين، ولم يذكر فيه تكبيرًا كتكبير العيدين، وقول الشافعى: إن تكبير الاستسقاء كتكبير العيدين، واحتج بما رواه هشام بن إسحاق عن أبيه،(3/18)
عن ابن عباس: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج فى الاستسقاء متذللا متواضعًا، ودعا وصلى ركعتين كما يصلى فى العيدين) ، قال الطحاوى: وهشام بن إسحاق، وأبوه غير مشهورين بالعلم ولا تثبت بروايتهما حجة. وقوله: (كصلاة العيدين) ، يحتمل أنه صلى ركعتين، فكان التشبيه واقعًا من جهة القَدْرِ لا من جهة التكبير كما قال تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) [الأنعام: 38] ، ولم يكن المراد أنها أمم أمثالنا فى النطق والتعبد، وإنما أراد أمم كما نحن أمم.
- باب الاسْتِسْقَاءِ فِي الْمُصَلَّى
/ 18 - فيه: سفيان، عن المسعودى، عن أبى بكر بن حزم، عن عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ: أَنَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَجَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ. هذا الحديث حجة لمالك ومن وافقه أن الصلاة فى الاستسقاء قبل الخطبة؛ لأنه ذكر فيه أنه صلى قبل قَلْبه رداءه، والعلماء لا يختلفون أن قلب الرداء إنما يكون فى الخطبة، فمنهم من قال بعد تمامها، ومنهم من قال بعد صدر منها، ومنهم من قال عند فراغها، على ما تقدم فى الباب قبل هذا، فإذا كانت الخطبة وقلب الرداء بعد الصلاة فهو الذى ذهب إليه مالك أن الصلاة قبل الخطبة، وهو نص هذا الحديث.(3/19)
وقوله: (ثم جعل اليمين على الشمال) ، قد تقدم ما للعلماء فيه فأغنى عن إعادته. قال المهلب: وفيه دليل على أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يلبس الرداء على حسب لباسنا بالأندلس ولباس أهل مصر وبغداد، وهو غير الاشتمال به؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) ، حول ما على يمينه على يساره، ولو كان لباسه اشتمالاً لما صحت العبارة عنه إلا بأن يقال قلب أسفله أعلاه، أو حل رداءه فقلبه، وهذا بَيِّن لا إشكال فيه. وفى المدونة: أنه لا يخرج إليها بمنبر، وقال أشهب فى المجموعة: واسع أن يخرج إليها بالمنبر أو لا يخرج.
- باب رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الإمَامِ فِي الاسْتِسْقَاءِ
/ 19 - فيه: أَنَسَ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الْمَاشِيَةُ، هَلَكَ الْعِيَالُ، هَلَكَ النَّاسُ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَ رسول الله يَدْعُونَ، قَالَ: فَمَا خَرَجْنَا مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتِ الْجُمُعَةُ الأخْرَى، فَأَتَى الرَّجُلُ إِلَى رسول اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَشِقَ الْمُسَافِرُ وَمُنِعَ الطَّرِيقُ) . وذكر بعد هذا حديث: / 20 - أَنَس قال: (كان النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، لا يرَفَعَ يَدَيْهِ فى شىءٍ من دعائه إلا فى الاستسقاء، وإنه يرفع يديه حَتَّى يرى بَيَاضَ إِبْطَيْهِ) .(3/20)
وترجم له: (باب رفع الأيدى فى الاستسقاء) . قال المهلب: رفع اليدين فى الاستسقاء وغيره مستحب؛ لأنه خضوع وتذلل، وتضرع إلى الله تعالى، وروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (إن الله حيى، يستحيى إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرًا) . وذكر ابن حبيب قال: كان مالك يرى رفع اليدين فى الاستسقاء للناس والإمام، وبطونهما إلى الأرض، وذلك العمل عند الاستكانة والخوف والتضرع وهو الرَّهَبُ، وأما الرغبة والمسألة فتبسط الأيدى، وهو الرَّغَبُ وهو معنى قول الله، تعالى: (ويدعوننا رغبًا ورهبًا) [الأنبياء: 92] ، خوفًا وطمعًا، وروى عن مالك فى المجموعة أنه استحسن رفع الأيدى فى الاستسقاء والحجة له قول أنس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يرفع يديه فى شىء من دعائه إلا فى الاستسقاء. وقال ابن القاسم فى (المدونة) : يرفع يديه فى الاستسقاء ومواضع الدعاء، ومن مواضع الدعاء: الصفا والمروة، وعند الجمرتين، وبعرفات، وبالمشعر الحرام رفعًا خفيفًا ولا يمد يديه رافعًا. وسيأتى اختلاف العلماء فى رفع اليدين فى الدعاء فى باب رفع الأيدى بالدعاء فى كتاب الدعاء، إن شاء الله تعالى. وذكر الرواة فى هذا الحديث: (بشق المسافر) ، بالباء ولم أجد له فى اللغة معنى، ووجدت له فى: (نوادر اللحيانى) : (نَشِقَ) بالنون وكسر الشين وارتبق وانربق، بمعنى نَشِبَ وعلى هذا يصح المعنى لقوله(3/21)
ومُنع الطريق، وقال كراع: نَشِقَ الصيد فى الحِبالة نشقَا: نَشِبَ وكذلك فراشة القفل، وأنشد ابن الأعرابى لبعض بنى نمير: وإن حبلا لم ينشقا فى حبالة وإن يرصدا يومًا يخب مرصداهما وقال المطرز: النشقة: حبالة الصائد، وقال أبو عبيد فى المصنف: الرِّبقة والنشقة: الحلقة التى تشد بها الغنم.
- باب مَا يُقَالُ إِذَا مَطَرَتْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَصَيِّبٍ) [البقرة 19] الْمَطَرُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: صَابَ وَأَصَابَ يَصُوبُ. (1) / 21 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ، قَالَ: صَيِّبًا نَافِعًا) . فيه: الدعاء فى الازدياد من الخير والبركة فيه والنفع به، قال ابن عيينة: حفظناه سيبًا. وقال الخطابى: السَّيْب العطاء، والسِّيب مجرى الماء، والجمع سيوب، وقد ساب يسوب إذا جرى، فأما الصيّب فأصله من صاب يصوب، يقال: صاب المطر يصوب إذا نزل وقال الشاعر: تحدّر من جو السماء يَصُوب وقال المبرد: هو من صاب إذا قصد. وفى كتاب (الأفعال) : صاب صوبًا وصيبًا فأصاب مطره، ويقال: صاب الشىء: إذا نزل من علو إلى سفل، وصاب: إذا قصد.(3/22)
- باب مَنْ تَمَطَّرَ فِي الْمَطَرِ حَتَّى تَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ
/ 22 - فيه: أَنَسُ: (قَدمَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَيْهِ، وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَثَارَ السَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ الأخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الأعْرَابِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلا عَلَيْنَا) ، فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِيهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ، إِلا تَفَرَّجَتْ، وصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلِ الْجَوْبَةِ، حَتَّى سَالَ الْوَادِي، وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، قَالَ: فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ) . فيه: دليل أنه يستزاد من المطر، وإن كان نازلاً فى حين الاستزادة، وأن يصبر للبلل ولا ينكر وقعه فى الثياب وغيرها عند حاجة الناس إليه، وكذلك فى كل نعمة وفضل يستزاد الله منه ويسأل وإن كان فى حين الدعاء دَارا موجودًا. وفيه: بركة دعوة النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وتمطر للمطر معناه: تعرّض، وتفعل عند العرب تأتى بمعنى أخذك من الشىء بعضًا بعد بعض، نحو: تحسيت الحشاء وتنقصته الأيام. وقوله: (حتى صارت المدينة مثل الجوبة) ، قال ابن دريد: الجوبة الفجوة بين البيوت، والجوبة أيضًا قطعة من الفضاء سهلة بين أرضين غلاظ، فيحتمل أن يكون: حتى صارت فى مثل الشىء المنقطع من(3/23)
السحاب، والجواب: القطع والشق، فالمعنى أن السحاب ينقطع حول المدينة مستديرًا وأبيض ما عليها من السحاب وصار كالردع فى بياضه وانقطاعه على قول الخليل، وعلى قول ابن دريد: حتى انكشف عن المدينة وباينت الأرضين المجاورة، كمباينة الجوبة التى هى القطعة السهلة من الأرض لما حولها من الأرضين الغلاظ. وفى هذا الحديث: (وادى قناة) ، على الإضافة غير مصروف؛ لأنه معرفة، وقد تقدم فى كتاب الجمعة: (حتى سال الوادى قناة) ، على البدل غير مصروف أيضًا؛ لأنه بدل من معرفة. والجود: المطر الغزير.
- باب إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ
/ 23 - فيه: أَنَسَ قال: كَانَتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) . وقال المهلب: كان (صلى الله عليه وسلم) ، يخشى أن تصيبهم عقوبة ذنوب العامة كما أصاب الذين قالوا: (هذا عارض ممطرنا) [الأحقاف: 24] . وفيه: تذكر ما نسى الناس من عذاب الله للأمم الخالية، والتحذير من طريقهم فى العصيان خشية نزول ما حلّ بهم، قال الله(3/24)
تعالى: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون (إلى) الخاسرون) [الأعراف: 97 - 99] .
- باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، نُصِرْتُ بِالصَّبَا
/ 24 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) . الصَّبا: هى الريح الشرقية، وهى القبول أيضًا، والريح الدبور: هى الغربية. وفيه: تفضيل المخلوقات بعضها على بعض. وفيه: إخبار المرء عن نفسه بما خصه الله به على جهة التحدث بنعمة الله، والاعترافات بها والشكر له لا على الفخر. وفيه: الإخبار عن الأمم الماضية وإهلاكها.
- باب مَا قِيلَ فِي الزَّلازِلِ وَالآيَاتِ
/ 25 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ) . / 26 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا، قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا، قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا، قَالَ: هُنَاكَ الزَّلازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) .(3/25)
قال المهلب: ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال تعالى: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) فى الرعد: (إنه وعيد شديد لأهل الأرض) ، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصى والإعلان بها؛ ألا ترى قول عمر حين زلزلت المدينة فى أيامه: يا أهل المدينة، ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم. فخشى أن تصيبه العقوبة معهم، كما قالت عائشة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث وإذا هلكت العامة بذنوب الخاصة بعض الله الصالحين على نياتهم) . قال ابن المنذر: اختلفوا فى الصلاة عند الزلزلة وسائر الآيات، فقالت طائفة: يصلى عندها كما يصلى عند الكسوف استدلالاً بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، عز وجل) ، وكذلك الزلزلة والهادّ وما أشبه ذلك من آيات الله، وروينا عن ابن عباس أنه صلى فى الزلزلة بالبصرة، وقال ابن مسعود: (إذا سمعتم هادًا من السماء فافزعوا إلى الصلاة) ، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك، والشافعى، لا يريان ذلك. وقال الكوفيون: الصلاة فى ذلك حسنة، يعنى فى الظلمة والريح الشديدة. قال المؤلف: وقوله فى هذا الحديث: (فإذا رأيتم شيئًا من ذلك) ، تضم الزلازل وجميع الآيات، فهو حجة لمن رأى الصلاة عند جميعها، وحجة مالك والشافعى، قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا رأيتموهما(3/26)
فصلوا) ، يعنى الشمس والقمر المذكورين فى أول الكلام وهما اللذان صلى فيهما (صلى الله عليه وسلم) ، ونقل ذلك من فعله. وأما سائر الحديث فهى أشراط الساعة وعلاماتها، ونحن فى ذلك؛ قد قبض العلم وظهرت الفتن وعمت وطبقت وكثر الهرج وهو القتل، وكثر المال ولاسيما عند أراذل الناس كما جاء فى الحديث عند تقارب الزمان: (يكون أسعد الناس فى الدنيا لكع بن لكع، ويتطاول رعاة الإبل البهم فى البنيان) ، وقد شاهدناه عيانًا، أعاذنا الله من شر المنقلب وختم أعمالنا بالسعادة والنجاة من الفتن، وسيأتى تفسير قوله: (ويتقارب الزمان) ، فى كتاب الفتن، فى باب: ظهور الفتن، فهو موضعه إن شاء الله تعالى. قال أبو الحسن بن القابسى: سقط من حديث ابن عمر (عن النبى، (صلى الله عليه وسلم)) وهو لفظه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن مثل ذلك لا يدرك بالرأى. وقال المهلب: إنما ترك الدعاء لأهل المشرق، والله أعلم، ليضعفوا عن الشَّرِّ الذى هو موضوع فى جهتهم ولاستيلاء الشيطان بالفتن فيها، كما دعا على أهل مكة بسبع كسبع يوسف ليؤدبهم بذلك، وكذلك دعا أن تنقل الحمى إلى الجحفة، وذلك والله أعلم، لما رآه من أرداف السوداء فى المنام فتأول أنهم أحق بمثل هذا البلاء ليضعفوا عما كانوا عليه من أذى للناس.(3/27)
وقرن الشيطان: أمته وحزبه، وروى معتمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن كعب، قال: يخرج الدجال من العراق، وقال: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: يخرج الدجال من كور من الكوفة.
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة 82]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ. / 27 - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ (صلى الله عليه وسلم) ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا، وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) . قال المهلب: تعليق الترجمة بهذا الحديث هو أنهم كانوا ينسبون الأفعال إلى غير الله، فيظنون أن النجوم تمطرهم وترزقهم، فهذا تكذيبهم، فنهاهم الله عن نسبة الغيوث التى جعلها الله حياةً لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرهم أن ينسبوا ذلك إليه؛ لأنه من نعمته وتفضله عليهم، وأن يفردوه بالشكر على ذلك والحمد على تفضله. قال الطبرى: فإن قال قائل: إن كان كما وصفت من نهى الله ورسوله عن نسبة الغيوث إلى الأنواء، فما أنت قائل فيما(3/28)
روى عن عمر بن الخطاب، أنه حين استسقى قال للعباس: يا عم كم بقى من نوء الثريا، فقال العلماء: يزعمون أنها تعترض فى الأفق بعد سقوطها سبعًا، قال: فما مضت سابعة حتى مطروا. قيل: إن ذلك من عمر لم يكن على المعنى المنهى عنه، وذلك أن المعنى المنهى عنه إضافة ذلك إلى أنه من فعل النوء لا من فعل الله، فكان ذلك منهم بالله كفرًا، وأما ما كان من عمر، فإنه كان منه أنه من قبل الله تعالى، عند نوء النجوم كما يقول القائل: إذا كان الصيف كان الحر، وإذا كان الشتاء كان البرد، لا على أن الشتاء والصيف يفعل شيئًا من ذلك؛ بل الذى يأتى بالشتاء والصيف والحر والبرد: الله خالق كل ذلك، ولكن ذلك من الناس على ما جرت عادتهم فيه، وتعارفوا معانى ذلك فى خطابهم ومرادهم، لا على أن النجوم تُحدث نفعًا أو ضرًا بغير إذن الله لها بذلك. قال الطبرى: فإن قال قائل: كيف يكون الرزق بمعنى الشكر؟ . قيل: لذلك مخارج فى اللغة عند العرب: أحدها: أن يراد به: وتجعلون ما جعله الله سببًا لرزقكم من الغيوث أنكم تكذبون به، ثم ترك ذكر السبب، وأقيم الرزق مكانه إِذْ كان مؤديًا عنه كما قال تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) [آل عمران: 175] ، بمعنى يخوفكم بأوليائه؛ إذ كان معلومًا أنه لا يخوف من كان له وليًا، وإنما يخوف من كان له عدوًا فاكتفى بذكر أوليائه. والثانى: أن يكون المراد وتجعلون رِزْقكم الذى رَزَقكم من الغيث الذى به حياتكم ووجب به عليكم شكر ربكم تكذيبكم به، فاكتفى(3/29)
بذكر الرزق من ذكر الشكر؛ إذ كان معلومًا أن من رزق إنسانًا، فقد اصطنع إليه معروفًا يستوجب به الشكر. والثالث: أن يكون الرزق اسمًا من أسماء الشكر، وحُدِّثْتُ عن الهيثم بن عدى أنه قال: من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان فلانًا بمعنى ما شكر.
- باب لا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلا اللَّهُ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ) . / 28 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، لا يَعْلَمُهَن إِلا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأرْحَامِ، وَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدرى أحد متى يجىء المطر) ، يدل على صحة التأويل المتقدم فى الباب قبل هذا أن نسبة الغيث إلى الأنواء كفر؛ لأن النبى قد أخبر أنه لا يدرى متى يجىء المطر إلا الله، ولو كان الغيث من قِبَل الأنواء لعُلم متى يجىء المطر على ما رسمهُ أهل الجاهلية فى الأنواء، وقد وجدنا خلاف رسمهم فى ذلك بالمشاهدة، وذلك أنه من فعل الله وحده لا شريك له، ومصداق هذا الحديث فى قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) [لقمان: 34] ، الآية وهذه الآية مع هذا الحديث تبطل تخرص المنجمين فى تعاطيهم علم الغيب، فمن ادعى علم ما أخبر الله ورسوله أن الله منفرد بعلمه، وأنه لا يعلمه سواه فقد كذب الله ورسوله، وذلك كُفر من قائله.(3/30)
- باب الصلاة فى كسوف الشمس
/ 29 فيه: أَبُو بَكْرَة، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُا، فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ) . وروى أبو مسعود مثل معناه، ورواه ابن عمر، المغيرة بن شعبة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقالا: (لموت أحد ولا لحياته) ، وقال المغيرة فى حديثه: (كسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموته) . سُنَّة صلاة الكسوف أن تُصلى ركعتين فى جماعة، هذا قول جمهور العلماء إلا أن فى حديث عائشة وغيرها: فى كل ركعة ركوعان، وهى زيادة يجب قبولها. وخالف ذلك الكوفيون وقالوا: إنها ركعتان كصلاة الصبح، وظاهر حديث أبى بكرة حجة للكوفيين؛ لأنه حديث مجمل لا ذكر فيه لصفة الصلاة، وإنما قال فيه عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (فصلى بنا ركعتين) . وفيه: أنه ينبغى أن تطول صلاة الكسوف إلى أن تنجلى الشمس،(3/31)
فإن ظن الناس أنه قد قرب انجلاؤها لم يكن عليهم أن يزيدوا ركعتين أخريين، وعليهم الدعاء والتضرع إلى الله حتى تنجلى. وقد استدل قوم من العلماء بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا رأيتموها فصلوا، وادعوا حتى يكشف ما بكم) ، على أنه لا ينبغى أن تقطع صلاة الكسوف حتى تنجلى الشمس. قال الطحاوى: فيقال لهم: قد جاء فى هذا الحديث (فصلوا وادعوا حتى تنجلى الشمس) ، ذكره البخارى فى باب الدعاء فى الكسوف من حديث المغيرة بن شعبة، وروى أبو موسى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (وإذا رأيتم شيئًا من ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره) ، ذكره البخارى فى باب الذكر فى الكسوف، قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدعاء عندهما والاستغفار كما أمر بالصلاة، فدل ذلك أنه لم يرد منهم عند الكسوف الصلاة خاصة، ولكن أريد منهم ما يتقربون به إلى الله من الصلاة والدعاء والاستغفار وغيره. وقد اختلف بعض أصحاب مالك إن تجلت الشمس قبل فراغ الصلاة، فقال أصبغ فى (العتبية) : يتمها على ما بقى من سنتها حتى يفرغ منها ولا ينصرف إلا على شفع، وقال سحنون: يصلى ركعة واحدة وسجدتين، ثم ينصرف ولا يصلى باقى الصلاة على سنة الخوف. وقوله فى حديث أبى بكرة: (فقام النبى يجر رداءه) ، فيه ما كان عليه النبى (صلى الله عليه وسلم) من الخوف لله، والبدار إلى طاعته، ألا ترى أنه(3/32)
قام إلى الصلاة فزعًا وجرَّ رداءه شغلاً بما نزل، وهذا يدل أن جرّ الثوب لا يذم إلا ممن قصد ذلك واعتمده. وفيه: إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من اعتقادهم أن الشمس تنكسف لموت الرجل من عظمائهم، فأعلمهم (صلى الله عليه وسلم) ، أنها لا تنكسف لموت أحد، ولا لحياته وإنما هو تخويف وتحذير. وفيه: رد على من زعم أن النجوم تسقط عند موت أحدٍ.
- باب الصدقة فى الكسوف
/ 30 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كسفت الشَّمْسُ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا) ، ثُمَّ قَالَ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِىَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِىَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) . فيه: أن الإمام يلزمه عند الآيات موعظته للناس ويأمرهم بأعمال البر وينهاهم عن المعاصى، ويذكرهم نقمات الله. وفيه: أن الصدقة والصلاة والاستغفار تكشف النقم، وترفع العذاب، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) ، للنساء: (تصدقن فإنى رأيتكن أكثر أهل النار) . قال المهلب: وفيه دليل أن أكثر ما تهدد (صلى الله عليه وسلم) ، فى ذلك الوقت بالكسوف إنما كان من أجل الغِنَاء، وذلك عظيم فى عهد النبوة(3/33)
وطراوة الشريعة، فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) ، هذا القول فى قوله: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) ، دليل على أنهم كانوا مقبلين على اللهو واللعب، وكذلك كانت عادة الأنصار قديمًا يحبون الغناء واللهو والضحك؛ ألا ترى قول النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لعائشة فى إقبالها من عرس: (هل كان عندكم لهو، فإن الأنصار تحب اللهو) ، فدل هذا أن اتباع اللهو من الذنوب التى يتوعد عليها بالآيات، يشهد لذلك حديث المعازف والقيان.
- باب النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف
/ 31 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمر، لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نُودِىَ: إِنَّ الصَّلاةَ جَامِعَةٌ. فيه: أن صلاة الكسوف لا أذان لها ولا إقامة، وإنما ينادى لها بالصلاة جامعة عند باب المسجد، وكذلك سائر الصلوات المسنونات لا أذان لها ولا إقامة، وإنما ينادى لها: الصلاة جامعة عند باب المسجد ولا خلاف فى ذلك بين العلماء.
- باب خطبة الإمام فى الكسوف
وقالت عائشة وأسماء: خطب النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) . / 32 - فيه: عَائِشَةَ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ. . . .) الحديث.(3/34)
اختلف العلماء فى الكسوف هل فيه خطبة أم لا، فقال الشافعى، وإسحاق، والطبرى: يخطب بعد الصلاة فى الكسوف كالعيدين والاستسقاء، واحتجوا بهذا الحديث. وقال مالك والكوفيون: لا خطبة فى كسوف الشمس، واحتجوا فى ذلك بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما خطب الناس؛ لأنهم قالوا: إن الشمس والقمر كسفت لموت أحدهم، وهو ابن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فعرفهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وأمرهم بالصلاة والدعاء والصدقة. وقال القاضى أبو الطيب: إن قال قائل: أليس رؤية الأهلة، وحدوث الحر والبرد، وكل ما قد أجرى الله العادة بحدوثه على وتيرة واحدة آيات، فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنهما آيتان من آيات الله) ، وأمر بالصلاة والذكر، ولم يقل إن طلوع الشمس والقمر وحدوث الحر والبرد آية من آيات الله؟ . فالجواب: أن كل هذه الحوادث آيات الله تعالى، ودلالة على وجوده وقدمه، غير أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما خص كسوفهما بأنهما آيتان لإخباره لهم عن ربه أن القيامة تقوم وهما منكسفان وذاهبا النور، فلما أعلمهم ذلك أمرهم عند رؤية الكسوف بالصلاة والتوبة والإقلاع والشروع فى صالح الأعمال؛ خوفًا من أن يكون الكسوف لقيام الساعة، ليعدوا لها، فهذا تأويل كونهما آيتان. قال المهلب: وكان هذا قبل أن يعلمه الله بأشراط الساعة، فإن أشراطها كثيرة، وسيأتى ذكرها فى كتاب الفتن.(3/35)
- باب هَلْ يَقُالُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَتْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) [القيامة: 8]
/ 33 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ. . .) الحديث. إنما أراد بهذا الباب رد قول من زعم من العلماء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر لقوله تعالى: (وخسف القمر) [القيامة: 8] ، روى ذلك عن عروة بن الزبير، وفى الآثار الثابتة الكسوف والخسوف مقولان فى الشمس والقمر أنهما: (آيتان من آيات الله لا يخسفان. . .) ، الحديث. وروى ابن عباس، وابن عمر، وأبو بكرة مثل ذلك فى حديثهم عن النبى، وروى (لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ، عن النبى: المغيرةُ بن شعبة، وأبو مسعود الأنصارى، ورواية عن أبى بكر فلا معنى لإنكار شىء من ذلك.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ
، قَالَه أَبُو مُوسَى: عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 34 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ يُخَوِّفُ بِهِمَا الله عِبَادَهُ) . قال المهلب: مصداق هذا الحديث فى قول الله تعالى:(3/36)
) وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا) [الإسراء: 59] ، يدل ذلك أن الآيات تحذير للعباد، فينبغى عند نزولها مبادرة الصلاة والخشوع والإخلاص لله، واستشعار التوبة والإقلاع عن المعاصى، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) ، عُرض عليه فى مقامه الجنة والنار؛ ليتوعد بالنار أهل المعاصى، ويشوق بالجنة أهل الطاعة، وأخبرهم أن الكسوف ليس كما زعم الجهال أنه من أجل موت ابنه إبراهيم، وإنما هو تخويف وتحذير.
- باب التعوذ من عذاب القبر فى الكسوف
/ 35 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِى قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَىِ الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى. . . . .، فذكر صلاة الكسوف، ثم انْصَرَفَ، فَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ: (أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) . وترجم له: (باب صلاة الكسوف بالمسجد) . قوله: (فرجع ضحى، فمر بين ظهرانى الحُجَر ثم قام يصلى) ، فإن العلماء اختلفوا فى وقتها، فقال مالك فى المدونة: إنها إنما تصلى ضحوة النهار، ولا تصلى بعد الزوال، وروى على بن زياد، عنه: لا تصلى بعد العصر، ولكن يجتمع الناس فيدعون ويتصدقون ويرغبون، وروى عنه ابن وهب أنها تصلى فى وقت(3/37)
صلاة، وإن كان بعد الزوال، وقال ابن حبيب: وهكذا أخبرنى ابن الماجشون، ومطرف، وأصبغ، وابن عبد الحكم، وأنكروا رواية ابن القاسم، وبهذا قال الكوفيون: لا تصلى فى الأوقات المنهى عن الصلاة فيها لورود النهى بذلك وتصلى فى سائر الأوقات، وهو قول ابن أبى مليكة، وعطاء، وجماعة. وقال الشافعى: تصلى فى كل وقت نصف النهار وبعد العصر، وبعد الصبح، وهو قول أبى ثور، وقالوا: نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة بعد الصبح والعصر إنما هو عن النافلة المبتدأة لا عن المكتوبات والمسنونات. وعند أهل المقالة الأولى النهى عن الصلاة المسنونة كنهيه عن النافلة المبتدأة. وفيه: أن عذاب القبر حق، وأهل السنة مجمعون على الإيمان به والتصديق، ولا ينكره إلا مبتدع. وأما صلاة الكسوف فى المسجد فهو الذى عليه العلماء، وذكر ابن حبيب أن للإمام إن شاء أن يصليها فى المسجد تحت سقفه أو فى صحنه، وإن شاء خارجًا فى البراز، وقاله أصبغ.
- باب طول السجود فى الكسوف
/ 36 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: (لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نُودِىَ إِنَّ الصَّلاةَ جَامِعَةٌ، فَرَكَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكْعَتَيْنِ فِى سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِى سَجْدَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ. . . .) الحديث.(3/38)
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهَا. اختلف العلماء فى هيئة السجود فى الكسوف، ففى (المدونة) لابن القاسم: أحب إلىّ أن يطيل السجود، وهو قول جماعة من أهل الحديث، روى ذلك عن ابن عمر. وفى (مختصر ابن عبد الحكم) : ليس عليه أن يطيل السجود، ويسجد سجدتين تامتين، وهو قول الشافعى، وأحمد بن حنبل. وقول عائشة: (ما سجدت سجودًا قط كان أطول منها) ، حجة لمن رأى تطويل السجود. وقوله: (ركعتين فى سجدة) ، يريد ركعتين فى ركعة، وقد يعبر بالسجود عن الركعة.
30 - باب صَلاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً
وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِى صُفَّةِ زَمْزَمَ، وَجَمَعَ عَلِىُّ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ جَمَاعَةَ. / 37 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ(3/39)
الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِى مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، ورَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَنْظُر مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ. . . .) ، الحديث. سنة صلاة الكسوف أن تصلى جماعة فى المسجد كما فعل (صلى الله عليه وسلم) ، وإن تخلف الإمام عنها فليقدموا من يجمع بهم، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقد صلى عبد الرحمن بن أبى ليلى، وسليمان التيمى كل واحد منهم بأصحابه. وفى (المدونة) : يصليها أهل القرى والمسافرون بإمام إلا أن يعجل بالمسافرين السير ويصليها المسافر وحده، وتصليها المرأة فى بيتها. وقال أشهب: ومن لم يقدر أن يصليها مع الإمام من النساء والضعفاء، فإنهم يصلونها أفذاذًا أو بإمام. وكره أبو حنيفة، والثورى أن يجمع النساء، وقالا: يصلين وحدانًا، ولا يجمعهن فيها رجل، وقول من استحب الجماعة فيها للنساء وغيرهن أولى؛ لأن سنتها الجماعة لكل من صلاها فكذلك النساء. واختلفوا فى صفة صلاة الكسوف، فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: تصلى ركعتين فى ركعة على حديث ابن عباس، وعائشة، وعبد الله بن عمر.(3/40)
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: تصلى ركعتين كسائر النوافل، إن شاء أطال القراءة، وإن شاء قصرها، واحتج بحديث أبى بكرة. وقد رويت فى صلاة الكسوف أحاديث مختلفة، فقال بها قوم من الفقهاء، وزعم بعضهم أن القول بها كلها جائز؛ لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الكسوف مرات كثيرة وخَيَّر أُمته فى العمل بأى ذلك شاءوا، منها أنه (صلى الله عليه وسلم) ، صلى ثلاث ركعات فى ركعة، ومنها أربع ركعات فى ركعة، ومنها خمس ركعات فى ركعة، ومنها ست ركعات فى ركعة، ومنها ثمان ركعات فى ركعة، قالوا: لأنه (صلى الله عليه وسلم) ، كان يزيد فى الركوع إذا لم ير الشمس تنجلى، فإذا انجلت سجد، فمن هاهنا زيادة الركعات. فيقال لهم: أكثر تلك الأحاديث ضعاف، وأصح ما فى أحاديث صلاة الخسوف ما ذكره البخارى، وما رواه فى موطئه، وبه قال أهل المدينة عملاً، قرنًا بعد قرن. واحتج الطحاوى لأصحابه فقال: رأينا سائر الصلوات من التطوع والمكتوبات مع كل ركعة سجدتان، فالنظر على ذلك أن تكون هذه الصلاة كذلك. قال ابن القصار: فالجواب أن الصلوات قد خُصت بهيئات وصفات تفارق سائرها، كصلاة الخوف والعيدين والجنازة، فصلاة الخوف يجوز فيها زيادة الأفعال من الذهاب والمجىء واستدبار القبلة والقتال، وصلاة العيدين زيد فيها التكبير، وصلاة الجنازة حذف منها الركوع والسجود، ولم يكن هذا إلا لورود الشرع به، فكذلك(3/41)
صلاة الكسوف زيد فى كل ركعة ركوع آخر، لورود الشرع به، ولا مدخل للنظر فى ذلك. وقوله: (فيقرأ نحوًا من سورة البقرة) يدل أن القراءة فى صلاة الكسوف سر، ولو كانت جهرًا ما قال: نحوًا من سورة البقرة، وبالسر فيها قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله تعالى. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى رأيت الجنة والنار) ، فيحتمل أن يمثلا له، فينظر إليهما بعينيه كما مُثل له بيت المقدس حين كذبه الكفار فى الإسراء، فنظر إليه فجعل يخبرهم عنه، قال مجاهد فى قوله تعالى: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض) [الأنعام: 75] ، قال: فُرجت له السموات حتى نظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن. وقوله: (فتناولت منها عنقودًا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) ، فإن العرب تقول فى لو: أنها تجىء لامتناع الشىء لامتناع غيره، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لو كان بعدى نبى لكان عمر) ، ولا سبيل أن يكون بعده نبى كما لا سبيل أن يكون عمر نبيًا. ولو يأخذه (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يأكل منه فى الدنيا؛ لأن طعام الجنة باق أبدًا لا يفنى، ولا يجوز أن يكون شىء من دار البقاء فى دار الفناء، وقد قدر الله أن رزق الدنيا لا ينال إلا بالتعب فيه والنصب، ولا يبدل القول لديه، وأيضًا فإن طعام الجنة إنما شوق الله إليه عباده، ووعدهم نيله جزاءً لأعمالهم الصالحة، والدنيا ليست بدار جزاء، ولذلك لم يصح لهم فى الدنيا أخذه.(3/42)
31 - باب صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف
/ 38 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ، أَىْ نَعَمْ، قَالَتْ: فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِى الْغَشْىُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِى الْمَاءَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَرَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِى هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) - لا أَدْرِى أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ - لا أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُومنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ - لا أَدْرِى أَيَّهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: لا أَدْرِى، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. فيه من الفقه: حضور النساء صلاة الكسوف مع الجماعة فى المساجد، ورخص مالك، والكوفيون للعجائز فى ذلك وكرهه للشابة، وقال الشافعى: لا أكره لمن لا هيئة لها بارعة من النساء ولا للصبية شهود صلاة الكسوف مع الإمام، بل أحبه لهن، وأحب لذات الهيئة أن تصليها فى بيتها، ورأى إسحاق أن يخرجن شبابًا كن أو عجائز، وإن كن حيضًا وتعتزل الحيض المسجد ويقربن منه.(3/43)
وفيه: جواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى صلاة. وفيه: جواز إشارة المصلى بيده ورأسه لمن يسأله مرة بعد أخرى؛ لأن أسماء قالت: (فقلت: آية؟) ، فأشارت عائشة: (أى نعم) ، فإنما أشارت برأسها وقد كانت أشارت قبل ذلك إلى السماء. وفيه: أن صلاة الكسوف قيامها طويل لقولها: (فقمت حتى تجلانى الغشى) ، وهو حجة لمالك، والشافعى على أبى حنيفة فى قوله: إن صلاة الكسوف إن شاء قصرها كالنوافل. وقولها: (فجعلت أصب فوق رأسى الماء) ، فيه دليل على جواز العمل اليسير فى الصلاة. وفيه: أن تفكر المصلى، ونظره إلى قبلته فى صلاته جائز؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من شىء كنت لم أره إلا قد رأيته فى مقامى هذا وأوحى إلى أنكم تفتنون فى القبور) ، وذلك كله فى الصلاة. وفيه: أن فتنة القبور حق كما يقول أهل السنة. وفيه: أن من ارتاب فى تصديق النبى أَوْ شَكَّ فى صحة رسالته، فهو كافر، ألا ترى قول المنافق أو المرتاب: لا أدرى، فهذا لم يؤمن بالنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما دخله من الارتياب والنفاق، ومن لم يدر فقد نفى عن نفسه التصديق، ثم زاد شكه بيانًا بقوله: (سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) ، فأخبر أنه إنما جرى تصديق النبى على لسانه من أجل قول الناس ذلك لا من أجل اعتقاده لصحة ما جرى على لسانه وهذا هو حقيقة الريب أن يقول اللسان ما لا يعتقد صحته القلب. وفيه: أن تمام الإيمان وتمام العلم إنما هو المعرفة بالله ورسله، ومعرفة(3/44)
الدلالة على ذلك؛ ألا ترى أن الرسول نفى الإيمان عمن يقول إذا سئل عن نبيه يقول: (لا أدرى سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) . وفيه: ذم التقليد وأن المقلد لا يستحق اسم العلم التام على الحقيقة. فإن قال قائل: كيف قلت: إن تمام الإيمان، وتمام العلم هو المعرفة بالله ورسوله، ومعرفة الدلالة على ذلك، وقد روى عن السلف أنهم كانوا يقولون عليكم بدين العذارى، والعذارى لا علم عندهن بالدلالة على الإيمان، وإنما عليهن التقليد وأنت قد ذممت التقليد؟ . قيل: قد جاءت هذه الكلمة فى حديث عبيد الله بن عدى بن الخيار حين كلم خاله عثمان بن عفان فى أخيه الوليد بن عقبة، وقال له: (قد أكثر الناس فى شأن الوليد، فحق عليك أن تقيم عليه الحد، فقال: يا ابن أختى، أدركت رسول الله؟ فقلت: لا، ولكن قد خلص إلىّ من علمه ما خلص إلى العذارى فى سترها. . .) ، وذكر الحديث، ذكره البخارى فى كتاب فضائل الصحابة فى باب هجرة الحبشة. ومعنى قولهم: (دين العذارى) ، هو أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بلغ عن ربه دينه حتى وصل ذلك إلى العذارى فى خدورهن، فعلمنه خالصًا لم يُشب، وقد ألزم الله المؤمنين أن يعلموا ذريتهم حقيقة الإيمان بقوله: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ، فكل مؤمن يُعَلِّمُ بنيه فى الصغر خالص الإيمان، وما يلزمه من فرائضه، ولا يعلمه اعتراض الملحدين ولا شبه الزائغين؛ لأن الجدال فيه ربما أورث شكا،(3/45)
فإيمان العذارى التصديق الخالص الذى لا ريب فيه ولا شك، بخلاف أحوال المنافق والمرتاب الذى قال: (لا أدرى سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) . ولم يُرد بقوله: (عليكم بدين العذارى) ، ترك معرفة الاستدلال على حقائق الإيمان والازدياد من العلم، هذا إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، وإنما سأله تعالى زيادة فى العلم ليطمئن بها قلبه، ولم يكن قبلها شاكًا. وهذه عائشة ترد على عبد الله بن عمر فى البكاء على الميت، وغير ذلك وتقول: رحم الله أبا عبد الرحمن إنما أراد رسولُ الله خلاف ما ذهب إليه ابن عمر، وترد على عروة بن الزبير تأويله فى الطواف بين الصفا والمروة، وقالت عائشة أيضًا: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من الفقه فى الدين، فحكمت لهن بالفقه فى الدين، والفقه فى لسان العرب هو معرفة الشىء ومعرفة الدلالة على صحته، فلا خلاف بين شىء من ذلك. وقوله: (تكعكعت) ، يعنى تأخرت يقال: كع الرجل: إذا نكص على عقبيه.
32 - باب من أحب العتاقة فى كسوف الشمس
/ 39 - فيه: أَسْمَاءَ قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْعَتَاقَةِ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ. إنما يخوف الله عباده بالآيات ليتقربوا إليه بالأعمال الصالحة كالصلاة والعتق والصدقة، وجاء أن العتق يفك المؤمن من النار.(3/46)
وقد قرن الله فى كتابه العتق بالصدقة، فقال: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام فى يوم ذى مسغبة) [البلد: 11 - 14] ، وبأعمال البر كلها يدفع الله البلاء والنقم عن عباده.
33 - باب الذِّكْرِ فِى الْكُسُوفِ
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. / 40 فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَزِعًا فَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: (هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِى يُرْسِلُ اللَّهُ لا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ: (يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ) [الزمر 16] فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ) . وترجم له: (باب الدعاء فى الخسوف) ، وقد تقدم أن السنة عند نزول الآيات: الاستغفار والذكر والفزع إلى الله تعالى، بالدعاء وإخلاص النيات بالتوبة والإقلاع، وبذلك يكشف الله تعالى، ظاهر العذاب قال الله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) [الأنعام: 43] . قال المهلب قوله: (قام فزعًا يخشى أن تقوم الساعة) ، يدل أن الكسوف كان بالشمس كلها، ولم يعهد مثله قبل ذلك، وكان ذلك قبل أن يُعلمه الله بأشراط الساعة ومقدماتها، ولم يسرع انجلاؤه ولذلك أطال الصلاة فيه.(3/47)
34 - باب قول الإمام فى خطبة الكسوف: أما بعد
/ 41 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: انْصَرَفَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ) . قد تقدم هذا الباب فى أبواب الجمعة، فأغنى عن إعادته.
35 - باب الصلاة فى كسوف القمر
/ 42 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، فَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا. .) الحديث. اختلف العلماء فى خسوف القمر هل يجمع له للصلاة، فذهبت طائفة إلى أنه يجمع فيه كما يجمع فى كسوف الشمس سواء، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وبه قال النخعى، وعطاء، والحسن، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأهل الحديث، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث: (فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا) ، قالوا: قد عرفنا كيف الصلاة فى أحدهما، فكان ذلك دليلاً على الصلاة عند الأخرى، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته، ولذلك ذكر كسوف الشمس وترجم عليه الصلاة فى كسوف القمر استغناء بذكر أحدهما عن الأخرى. وقال مالك، والكوفيون: لا يجمع فى كسوف القمر، ولكن يصلى الناس فرادى ركعتين ركعتين كسائر النوافل، غير أن الليث قال:(3/48)
هيئة الصلاة فيه كهيئة الصلاة فى كسوف الشمس، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة. وحجة مالك ومن وافقه أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جمع فى كسوف الشمس ولم يجمع فى كسوف القمر، فعلم أن معنى قوله: (فافزعوا إلى الصلاة) ، فى كسوف القمر: فرادى، وفى كسوف الشمس: جماعة. قال ابن القصار: وأهل المدينة بأسرهم على هذا، والمعهود أن كسوف القمر يقع أبدًا ولا يكاد يخلو منه عام، وكسوف الشمس نادر، ومحال أن يكون كسوف القمر مألوفًا، والنبى (صلى الله عليه وسلم) ، يجمع له مدة حياته فيهم، ثم يخفى عليهم ذلك جملة، وبقول مالك: لم يبلغنا ولا أهل بلدنا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جمع لكسوف القمر، ولا نُقل عن أحد من الأئمة بعد النبى أنه جمع فيه. قال المهلب: ويمكن أن يكون مع تركه، والله أعلم، الجمع فى كسوف القمر رحمةً للمؤمنين لئلا تخلو بيوتهم بالليل، فيحطمهم الناس ويسرقونهم، يدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) ، لأم سلمة، ليلة نزول التوبة على كعب بن مالك وصاحبيه، حين قالت له: (ألا أبشر الناس؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : أخشى أن يحطمكم الناس) ، فى حديث آخر: (أخشى أن يمنع الناس نومَهمُ) . وقد قال تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) [القصص: 73] ، فجعل السكون فى الليل من النعم التى عدّدها على عباده، وقد سمى ذلك رحمة، وقد أشار ابن القصار إلى نحو هذا المعنى(3/49)
فقال: خسوف القمر يتفق ليلاً، فيشق الاجتماع له، وربما أدرك الناسَ نيامًا، فيثقل عليهم الخروج لها، ولا ينبغى أن يقاس على كسوف الشمس؛ لأنه يدرك الناس مستيقظين منصرفين، ولا يشق اجتماعهم كالعيدين والجمعة والاستسقاء، ولم نر صلاة جمعة ولا عيد ولا استسقاء جعلت بالليل.
36 - باب الركعة الأولى فى الكسوف أطول
/ 43 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى بِهِمْ فِى كُسُوفِ الشَّمْسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ، الأوَّلُ الأوَّلُ أَطْوَلُ. أجمع العلماء أن القيام الثانى والركوع الثانى من الركوع الأول فى صلاة الكسوف أقصر من القيام ومن الركوع الأول؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (دون القيام الأول ودون الركوع الأول) ، وكذلك أجمعوا أن القيام، والركوع الثانى من الركعة الثانية أقصر من الأول منها. واختلف فى القيام والركوع الأول من الركعة الثانية هل هو دون الثانى من الركعة الأولى أو مثله، وهل يرجع قوله (صلى الله عليه وسلم) : (دون القيام الأول) ، إلى الركعة الأولى، أو إلى الثانية منها، فقال قوم: يرجع إلى الأولى من الركعة الأولى، وقال قوم: بل يرجع إلى القيام، والركوع الثانى من الركعة الأولى، وهذا قول مالك فى المدونة: أن كل ركعة من الأربع أطول من التى تليها، وقوله فى حديث عائشة: (الأولى الأولى أطول) ، حجة لقول مالك، وهذا كله حجة على أبى حنيفة فى قوله: إنها ركعتان كسائر النافلة.(3/50)
37 - باب الجهر بالقراءة فى الكسوف
/ 44 - فيه: الْوَلِيدُ، عَنْ ابْنُ نَمِرٍ، عَنْ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جهر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الكسوف بقراءته. . . الحديث. وَقَالَ الأوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَبَعَثَ مُنَادِيًا أَنَّ الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِى رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ، سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَا صَنَعَ أَخُوكَ فى ذَلِكَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، مَا صَلَّى إِلا رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ؛ إِذْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: أَجَلْ إِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين، عن الزهرى فى الجهر. اختلف العلماء فى القراءة فى صلاة الكسوف، فقالت طائفة: يجهر بها، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وبه قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث سفيان، وابن نمر، عن الزهرى. وقالت طائفة: يُسِرُّ بالقراءة فيها، روى ذلك عن عثمان بن عفان، وابن مسعود، وابن عباس، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، واحتجوا بحديث ابن عباس: (أنه صلى خلف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقرأ قراءة طويلة نحوًا من سورة البقرة) ، وقد تقدم فى باب(3/51)
صلاة الكسوف جماعة، ولو جهر بها لم يقل نحوًا من سورة البقرة، وأما سفيان بن حسين، وعبد الرحمن بن نمر، وسليمان بن كثير، فكلهم ضعيف فى حديث الزهرى، وفيما ساقه البخارى من رواية الأوزاعى عن ابن شهاب، ولم يذكر عنه الجهر ما يردُّ رواية الوليد عن ابن نمر بالجهر، فيبقى سليمان بن كثير، وسفيان بن حسين، وليسا بحجة فى القول عن الزهرى لضعفهما، وقد عارضهما حديث عائشة، وابن عباس، وسمرة. فأما حديث عائشة فرواه ابن إسحاق عن هشام بن عروة، وعبد الله بن أبى سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: (كسفت الشمس على عهد الرسول، فخرج فصلى بالناس فأطال القيام، فَحزَرْتُ أنه قرأ سورة البقرة، قالت: وسجد سجدتين، ثم قام فحزرت أنه قرأ سورة آل عمران) . وأما حديث ابن عباس، فرواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (كنت إلى جنب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاة الكسوف فما سمعت منه حرفًا) . وأما حديث سمرة فرواه سفيان، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد، عن سمرة ابن جندب، قال: (صلى بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلاة الكسوف لا نسمع له صوتًا) . قال ابن القصار: ونقل السر فى صلاة الكسوف أهل المدينة خلف عن سلف نقلاً متصلاً، ولو تعارضت الأحاديث لبقى حديث ابن عباس وهو حجة. وقوله: (أخطأ السنة) ، حجة لمالك والشافعى فى أن السنة أربع ركعات فى ركعتين.(3/52)
38 - باب ما جاء فى سجود القرآن وسنَّتها
/ 45 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَرَأَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِى هَذَا، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا. اختلف العلماء فى سجود النجم لاختلافهم فى سجود المفصل، فروى عن عمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة أنهم كانوا يسجدون فى النجم والمفصل، وهو قول الثورى، وأبو حنيفة، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وابن وهب، وابن حبيب من أصحاب مالك، واحتجوا بهذا الحديث. وقالت طائفة: لا سجود فى النجم ولا فى المفصل، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأبى بن كعب، وابن عباس، وأنس، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وقال يحيى بن سعيد: أدركت القراء لا يسجدون فى شىء من المفصل، وهو قول مالك، واحتج من لم يرَ السجود فى النجم بما ذكره البخارى عن زيد بن ثابت: (أنه قرأ الرسول والنجم، فلم يسجد فيها) ، وبما رواه قتادة عن عكرمة قال: (سجد رسول الله بمكة فى المفصل، فلما هاجر ترك) . واحتج الطبرى لأهل المقالة الأولى، فقال: يمكن أن يكون (صلى الله عليه وسلم) ، لم يسجد فيها؛ لأن زيدًا لم يسجد فيها، وإنما القارئ هو الذى يسجد فيسجد السامع، ويمكن أن يكون ترك السجود فيها؛ ليدل أن سجود القرآن ليس منه شىء واجب، قال الطحاوى: ويمكن أن يكون قرأها فى وقت لا يحل فيه السجود أو لأنه كان على غير وضوء.(3/53)
واحتج ابن القصار لمذهب مالك فقال: إذا اعتبرنا سجود النجم والمفصل وجدناه يخرج من طريق سائر السجدات؛ لأن قوله فى النجم: (فاسجدوا لله واعبدوا) [النجم: 62] ، إنما هو أمر بالسجود، فوجب أن يتوجه إلى سجود الصلوات، فقوله: (اسجد) ، أى: صل، فلم يلزم ما ذكروه. قال الطحاوى أيضًا: والنظر على هذا أن يكون كل موضع اختلف فيه هل هو سجود أم لا، أن ينظر فيه، فإن كان موضع أمر، فإنما هو تعليم فلا سجود فيه، وكل موضع فيه خبر عن السجود فهو موضع سجود التلاوة. قال المهلب: يمكن أن يكون اختيار من اختار من العلماء ترك السجود فى (والنجم) ، والمفصل خشية أن يخلط على الناس صلاتهم؛ لأن المفصل هو أكثر ما يقرأ فى الصلوات، وقد أشار مالك إلى هذا. وأما الذى أخذ كفا من حصى وترك السجود مع الرسول ففيه أنه من خالف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، استهزاءً به: كافر يعاقب فى الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63] ، فكذلك أصاب هذا الشيخ فتنة وكفر، ويُصيبه فى الآخرة عذاب أليم، وقيل: إنه الوليد ابن المغيرة.
39 - باب سجدة تنزيل السجدة
/ 46 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ فِى الْجُمُعَةِ فِى صَلاةِ الْفَجْرِ) الم تَنْزِيلُ) [السجدة 1 - 2] وَ) هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ) [الإنسان 1] . والفقهاء مجمعون على السجود فى سورة تنزيل.(3/54)
40 - باب سجدة ص
/ 47 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (ص) لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ الرسول يَسْجُدُ فِيهَا. اختلف العلماء فى السجود فى ص، فقالت طائفة: لا سجود فيها، روى ذلك عن ابن مسعود، وقال: هى توبةُ نَبِىٍّ، وروى مثله عن عطاء، وبه قال الشافعى. وقالت طائفة بالسجود فيها، روى ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وعقبة بن عامر، وعن سعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والثورى، وقد روى عن ابن عباس مثله، ذكره البخارى فى كتاب الأنبياء عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أَأسْجُدُ فى ص؟ ، فقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان (حتى انتهى: (فبهداهم اقتده) [الأنعام: 84 - 90] ، فقال: نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم، فاحتجاج ابن عباس بالقرآن أولى من قوله: ليس ص من عزائم السجود. وقال مالك: إنها من عزائم السجود، وقال الطحاوى: والنظر عندنا أن يكون فى ص سجدة؛ لأن موضع السجود منها موضع خبر لا موضع أمر، فينبغى أن يرد إلى حكم أشكاله من الأخبار، فيكون فيها سجود. واختلفوا فى عزائم السجود، فقال على بن أبى طالب: عزائم السجود أربع: (ألم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك) .(3/55)
وعن ابن مسعود: (العزائم خمسة: الأعراف، وبنو إسرائيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، وإذا السماء انشقت) . وعن ابن جبير: عزائم السجود ثلاث: ألم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك. وقال مالك: عزائم السجود إحدى عشرة ليس فى المفصل منها شىء، وليس فيها الثانية من الحج. وقال أبو يوسف: أربع عشرة وليس فيها الأولى من الحج، وقال الشافعى: أربع عشرة ليس فيها سجدة ص؛ لأنها سجدة شكر، وفى الحج سجدتان عنده.
41 - باب سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ
. / 48 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قرأ والنَّجْمِ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإنْسُ. ووقع فى نسخة الأصيلى: (وكان ابن عمر يسجد على وضوء) ، وكذلك عند أبى الهيثم عن الفربرى، ووقع فى بعض النسخ (على غير وضوء) ، وهكذا فى رواية ابن السكن بإثبات (غير) والصواب: رواية ابن السكن بإثبات (غير) ؛ لأن المعروف عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء، ذكره ابن أبى شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر، ثنا زكريا بن أبى زائدة قال: حدثنا أبو الحسن، يعنى عبيد بن الحسن، عن رجل زعم أنه كنفسه عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الله بن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء، ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ.(3/56)
وذكر وكيع، عن زكريا، عن الشعبى فى الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء قال: يسجد حيث كان وجهه. وذهب فقهاء الأمصار إلى أنه لا يجوز سجود التلاوة إلا على وضوء، فإن ذهب البخارى إلى الاحتجاج بقول ابن عمر، والشعبى: نسجد مع المشركين، فلا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله والتعظيم له، وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسان الرسول من ذكر آلهتهم من قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) [النجم: 20، 21] ، فقال: تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهم لترتجى، فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم، فلما علم الرسول ما ألقى الشيطان على لسانه من ذلك أشفق وحزن له، فأنزل الله عليه تأنيسًا له وتسلية عما عرض له: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته (إلى) حكيم) [الحج: 52] ، أى: إذا تلا ألقى الشيطان فى تلاوته، فلا يُستنبط من سجود المشركين جواز السجود على غير وضوء؛ لأن المشرك نجس لا يصح له وضوء ولا سجود إلا بعد عقد الإسلام. وإن كان أراد البخارى الرد على ابن عمر، والشعبى بقوله: والمشرك نجس ليس له وضوء، فهو أشبه بالصواب، إن شاء الله تعالى.(3/57)
42 - باب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا
/ 49 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)) وَالنَّجْمِ (فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. هذا الحديث حجة لمالك والشافعى أن سجود القرآن سنة، ولو كان واجبًا كما زعم الكوفيون لم يترك زيد السجود فيها، ولا تركه النبى (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه بعث معلمًا، وحديث زيد هذا يبين حديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين سجد فى (والنجم) ، بمكة أن ذلك كان إعلامًا منه لأمته أن قارئ السجدة بالخيار، إن شاء سجد فيها، وإن شاء لم يسجد، وكذلك فعل عمر فى (النحل) سجد فيها مرةً ولم يسجد فيها أخرى؛ ليُرى أن ذلك غير واجب، وقال: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله تعالى.
43 - باب سَجْدَةِ) إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (
/ 50 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ) إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (فَسَجَدَ فيهَا، فَقَالَ أَبُو سلمة: أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ رسول الله يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُدْ. من قال بالسجود فى المفصل يرى السجود فى هذه السورة، وقد تقدم الاختلاف فى ذلك، واحتج بهذا الحديث من قال بالسجود فى المفصل، وقالوا هذا الحديث يَرُدُّ ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه لم يسجد فى المفصل منذ تحول إلى المدينة؛ لأن أبا هريرة كان إسلامه بالمدينة، وروى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سجد فى (إذا السماء انشقت) ، فكيف يقال إنه بعدما هاجر لم يسجد فى المفصل؟ ،(3/58)
واحتج الكوفيون وقالوا: النظر أن يكون فى (إذا السماء انشقت) ، سجود؛ لأن قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) [الأنشقاق: 20، 21] ، إخبار لا أمر، وسجود التلاوة إنما هو فى موضع الإخبار، وموضع الأمر إنما هو تعليم فلا سجود فيه، وهذا قول الطحاوى. واحتج من قال: لا سجود فى المفصل فقالوا: معنى سجود التلاوة ما كان على وجه المدح والذم، وسجدة (إذا السماء انشقت) ، خارجة عن هذا المعنى؛ لأن قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) [الانشقاق: 20، 21] ، إنما يعنى أى لا يسجدون بعد الإيمان السجود المذكور فى القرآن للصلاة، وهذا ليس بخطاب للمؤمنين؛ لأنهم يسجدون مع الإيمان سجود الصلاة، هذا قول ابن القصار. قال المهلب: وأما قول أبى سلمة لأبى هريرة: (ألم أرَك تسجد) ، يعنى: ألم أرَك تسجد فى سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها، هكذا رواه الليث، عن ابن الهاد، عن أبى سلمة، فهذا يدل أنه لم يكن العمل عندهم على السجود فى (إذا السماء انشقت) ، كما قال مالك وأهل المدينة، فأنكر عليه سجوده فيها، ولا يجوز إنكار ما عليه العمل، فهذا يدل أنها ليست من العزائم.
44 - باب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ
/ 51 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ. وترجم له: (باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة) .(3/59)
أجمع فقهاء الأمصار أن التالى إذا سجد فى تلاوته لزم الجالس إليه المستمع له أن يسجد بسجوده، وقال عثمان: إنما السجدة على من سمعها. واختلفوا فى التالى إذا قرأ السجدة ولم يسجد فيها هل يسجد المستمع لقراءته أم لا؟ ، فقال ابن القاسم فى (المدونة) : على الذين جلسوا إليه أن يسجدوا وإن لم يسجد، وذكر ابن المنذر مثله عن الشافعى قال: إن أحب المستمع أن يسجد فليسجد. وقال ابن حبيب: لم أرَ أحدًا قال بقول ابن القاسم فى ذلك، وسمعت مطرفًا، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ يقولون: لا يسجدوا؛ لأنه إمامهم، قال: وهو الصواب؛ لأن القارئ لو كان فى صلاة ولم يسجد لم يسجد من معه، فكذلك هذا. وفى المدونة: كره مالك أن يجلس قوم إلى قارئ يستمعون قراءته؛ ليسجدوا معه إذا سجد، وأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، قال: وأرى أن يقام وينهى ولا يجلس إليه. وقال ابن شعبان: قال مالك: فإن لم ينته وقرأ لهم فمرّ بسجدة لم يسجد ولم يسجدوا، وقد قال مالك أيضًا: أرى أن يسجدوا معه. قال المهلب: وقوله: (فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته) ، فيه الحرص على فعل الخير والتسابق إليه، وفيه لزوم متابعة أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) على كمالها، ويحتمل أن يكون سجدوا عند ارتفاع الناس وباشروا الأرض، ويحتمل أن يسجد ببلوغ طاقتهم من الإيماء فى ذلك، والله أعلم.(3/60)
45 - باب مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ
وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا، كَأَنَّهُ لا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا تسْجُدُ إِلا أَنْ وَأَنْتَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ، وَأَنْتَ فِى حَضَرٍ، فَاسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلا عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ، وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لا يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ. / 52 - وفيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ، قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ. وَزَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلا أَنْ نَشَاءَ. اختلف الفقهاء فى سجود القرآن، فقال مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى: سجود القرآن سنة، وقال أبو حنيفة: هو واجب، واحتج أصحابه لوجوبه بقوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) [الانشقاق: 21] ، قالوا: والذم لا يتعلق إلا بترك الواجبات، وبقوله: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ، وقالوا: هذا أمر. قال ابن القصار: فالجواب أن الذم هاهنا للكفار بأنهم لا يؤمنون(3/61)
وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، فعلق الذم بترك الجميع؛ لأنهم لو سجدوا ألف مرة فى النهار مع كونهم كفارًا كان الذم لاحقًا بهم، فعلمنا أن الذم لم يختص السجود، ويزيد هذا بيانًا قوله تعالى: (بل الذين كفروا يكذبون) [الانشقاق: 22] ، فلم يقع الوعيد إلا على التكذيب، وقوله: (واسجد واقترب) [العلق: 19] ، هو أمر له بالصلاة وتعليم له، وقد تقدم أن سجود القرآن إنما هو ما جاء بلفظ الخبر، وما جاء بلفظ الأمر إنما هو إعلام له بالصلاة وأمر له بالسجود فيها. وما ذكره البخارى فى هذا الباب عن الصحابة من تركهم السجود ولا مخالف لهم فهو حجة لمن لا يوجبه؛ لأن الفرض لا يجوز تركه، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره فى قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) ، ألا ترى قول عمر: (إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء) . قال المهلب: وفى فعل عمر دليل على أن على العلماء أن يبيِّنوا كيف لزوم السنن إن كانت على العزم أو الندب والإباحة، وكان عمر من أشد الناس تعليمًا للمسلمين كما تأول له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الرؤيا أنه استحالت الذَّنُوب بيده غربًا فتأول له العلم، ألا ترى إلى قول عمر حين رأى أنه قد بلغ من تعليم الناس إلى غاية رضيها قال: قد سُنَّتْ لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، فأعلمنا بهذا القول أنه يجب أن يفصل بين السنن والفرائض.(3/62)
46 - باب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِى الصَّلاةِ فَسَجَدَ بِهَا
/ 53 - فيه: أَبُو رَافِع قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ) إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (فَسَجَدَ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِى الْقَاسِمِ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُ بهَا حَتَّى أَلْقَاهُ. فى هذا الحديث حجة لقول الشافعى، والثورى أنه من قرأ سجدة فى صلاة مكتوبة أنه لا بأس أن يسجد فيها، إلا الذين لا يرون السجود فى المفصل لا يرون السجود فى هذه السورة، فإن فعل فلا حرج عندهم فى ذلك، وقد كره مالك قراءة سجدة فى صلاة الفريضة فيما يجهر به كرة، وفيما لا يجهر به مرة، وأجازه أخرى. وقال ابن حبيب: لا يقرأ الإمام السجدة فيما يسر فيه، ويقرأها فيما يجهر فيه، وروى مثله عن أبى حنيفة، ومنع ذلك أبو مجلز، ذكره الطبرى عنه أنه كان لا يرى السجود فى صلاة الفريضة، وزعم أن ذلك زيادة فى الصلاة ما ليس فيها، ورأى أن السجود فيها غير الصلاة. قال الطبرى: وحديث أبى هريرة شاهد بخلاف قول أبى مجلز، ودليل كاف يقضى بصحة قول الجماعة، وبه عمل السلف من الصحابة وعلماء الأمة. روى عن عمر بن الخطاب أنه صلى الصبح فقرأ: (والنجم (فسجد فيها، وقرأ مرة فى الصبح: (الحج (فسجد فيها سجدتين، وقال ابن مسعود فى السورة يكون آخرها سجدة: إن شئت سجدت بها، ثم قمت فقرأت وركعت، وإن شئت ركعت بها.(3/63)
وقال الطحاوى: إنما قرأ الرسول السجدة فى العتمة والصبح، وهذا فيما جهر فيه، وإذا سجد فى قراءة السر لم يدر الناس لم سجد للتلاوة فى الصلاة أم غيرها أو سجود شكر، فيسجدون من غير علم لما سجدوا له. وفى حديث أبى هريرة حجة لمن قال: إن سجدة: (إذا السماء انشقت (ليست من عزائم السجود، لترك السلف السجود فيها، ولذلك أنكر أبو رافع على أبى هريرة سجوده فيها كما أنكره عليه أبو سلمة. وقول أبى هريرة: (سجدت بها خلف أبى القاسم، فلا أزال أسجد بها) يحتمل أن يكون سجد بها خلفه، ولم يواظب (صلى الله عليه وسلم) على السجود فيها، ولذلك أجمع الناس على تركها، ولو واظب عليه لم يخف ذلك عليهم ولا تركوها.
47 - باب مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مَعَ الإمَامِ مِنَ الزِّحَامِ
/ 54 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِى فِيهَا السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ. قال المؤلف: لم أجد فى هذه المسألة نصا للعلماء، ووجدت أقوالهم فيمن لا يقدر على السجود على الأرض من الزحام فى صلاة الفريضة، فكان عمر بن الخطاب يقول: يسجد على ظهر أخيه، وبه قال: الثورى، والكوفيون، والشعبى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال نافعى، مولى ابن عمر: يومئ إيمًاء. وقال عطاء، والزهرى: يمسك عن السجود فإذا رفعوا سجد. وهو قول مالك وجميع(3/64)
أصحابه، وقال مالك: إن سجد على ظهر أخيه يعيد الصلاة. وذكر ابن شعبان فى مختصره عن مالك قال: يعيد فى الوقت وبعده. وقال أشهب: يعيد فى الوقت لقول عمر: اسجد ولو على ظهر أخيك. فعلى قول من أجاز السجود فى صلاة الفريضة من الزحام على ظهر أخيه فهو أجوز عنده فى سجود القرآن، لأن السجود فى الصلاة فرض وليس سجود القرآن بفرض. وعلى قول عطاء، والزهرى، ومالك الذين لا يجيزون السجود فى الصلاة من الزحام وغيره إلا على الأرض، يحتمل أن يجوز عندهم سجود التلاوة فى الصلاة على ظهر رجل وإيماء على غير الأرض، كقول الجمهور، لما قدمنا من الفرق بين سجود التلاوة وبين سجود الصلاة، ويحتمل خلافهم، واحتمال وفاقهم أشبه بدليل حديث ابن عمر، وهو المقنع فى ذلك، إن شاء الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَبْوَاب تَقْصِيرِ الصَّلاةِ
48 - باب مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ، وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ؟
/ 55 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقَامَ الرَسُول تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ يومًا قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا. / 56 - فيه: أَنَس، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: (أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا) . إنما أقام الرسول تسعة عشر يومًا يقصر، لأنه كان محاصرًا فى(3/65)
حصار الطائف أو حرب هوازن، فجعل ابن عباس هذه المدة حدًا بين القصر والإتمام، لقوله: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا وإن زدنا أتممنا) . قال المهلب: والفقهاء لا يتأولون هذا الحديث كما تأوله ابن عباس ويقولون: إنه كان (صلى الله عليه وسلم) فى هذه المدة التى ذكرها ابن عباس غير عازم على الاستقرار، لأنه كان ينتظر الفتح، ثم يرحل بعد ذلك، فظن ابن عباس أن التقصير لازم إلى تسعة عشر يومًا، ثم ما بعد ذلك حضر تتم فيه الصلاة، ولم يرع نيته فى ذلك. وقد روى جابر بن عبد الله أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. ذكره عبد الرزاق. وروى ابن عيينة عن ابن أبى نجيح أنه سأل سالم بن عبد الله كيف كان ابن عمر يصنع؟ قال: إذا أجمع المكث أتم، وإذا قال: اليوم وغدًا قصر الصلاة، وإن مكث عشرين ليلة. والعلماء مجمعون على هذا لا يختلفون فيه، وتأول الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة لا استيطانًا لها لئلا يكون رجوعًا فى الهجرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا: أما من نوى إقامة عشر ليال أنه يتم الصلاة، وهو قول له آخر خلاف تأويله للحديث، ولا أعلم أحدًا من أئمة الفتوى قال بحديث ابن عباس وجعل تسعة عشر يومًا حدًا للتقصير فهو مذهب له انفرد به، وقد ذكر ابن أبى شيبة عن حفص، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس أن نبى الله أقام سبع عشرة يقصر الصلاة؛ قال ابن عباس:(3/66)
من أقام سبع عشرة قصر الصلاة، ومن أقام أكثر من ذلك أتم، وإنما جاء هذا الحديث، والله أعلم، من الرواة، وروى عباد بن منصور، عن عكرمة تسع عشرة، كما روى البخارى، ولم يقل سبع عشرة أحد من الفقهاء أيضًا إلا الشافعى، فإنه قال: من أقام بدار الحرب خاصة سبع عشرة ليلة قصر. وسأذكره فى هذا الباب، إن شاء الله. وأما حديث أنس فروى عن على، وابن عباس أنه إذا نوى إقامة عشر ليال أتم الصلاة. وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة بعد هذا فى باب كم أقام النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى حجته. وأذكر فيه طرفًا من أقوالهم وحجتهم فى ذلك. وتأويل الفقهاء فى حديث أنس أيضًا أن إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة عشرًا كانت بنية الرحيل، وكانت العوائق تمنعه من ذلك، فما كان على نية الرحيل فإنه يقصر فيه وإن أقام مدة طويلة بإجماع العلماء. وفى حديث ابن عباس من الفقه ما ذهب إليه مالك، وأبو حنيفة وأحد قولى الشافعى: أنه من كان فى أرض العدو من المسلمين ونوى الإقامة مدة يتم المسافر فى مثلها الصلاة أنه يقصر الصلاة، لأنه لا يدرى متى يرحل. قال ابن القصار: والقول الثانى للشافعى الذى خالف فيه الفقهاء، قال: إن كان المقيمون بدار الحرب ينتظرون الرجوع كل يوم فإنه يجوز لهم أن يقصروا إلى سبعة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا، فإذا جاوزوا هذا المقدار أتموا، واحتج بأن الرسول أقام بهوازن هذه المدة يقصر، وقوله الأول الموافق للفقهاء أولى، لأن إقامة من كان بدار الحرب ليست بإقامة صحيحة، وإنما هى موقوفة على ما يتفق لهم من الفتح لأن أرض العدو ليست بدار إقامة للمسلمين.(3/67)
وقد روى جابر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يحارب ويقصر، وأقام أنس بنيسابور سنتين يقصر الصلاة، وفعله جماعة من الصحابة.
49 - باب الصَّلاةِ بِمِنًى
/ 57 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا. / 58 - وفيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، آمَنَ مَا كُنَا بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ. / 59 - وفيه: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِى بَكْرٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّى مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد، لأنه عندهم فى سفر، إذ ليست مكة دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم يَنْوِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإقامة بمكة ولا بمنى. واختلف الفقهاء فى صلاة المكى بمنى، فقال مالك: يتم المكى بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى يتمون بمنى ويقصرون بمكة(3/68)
وعرفات، وجعل أن هذه المواضع مخصوصة بذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولم يقل: يا أهل مكة أتموا، وهذا موضع بيان، وكذلك عمر بن الخطاب بعده قال لأهل مكة: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وممن روى عنه أن المكى يقصر بمنى: ابن عمر، وسالم، والقاسم، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق. وقالت طائفة: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات، لأنه ليس بينهما مسافة ما تقصر فيه الصلاة. روى ذلك عن عطاء، والزهرى، وهو قول الثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، قالوا: وفى قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: أتموا صلاتكم، ما أغنى أن يقول ذلك بمنى. قال الطحاوى: ليس الحج موجبًا للقصر، لأن أهل منى وعرفات إذا كانوا حجاجًا أتموا، وليس هو متعلقًا بالموضع، وإنما هو متعلق بالسفر، وأهل مكة مقيمون هناك فلا يقصرون، ولما كان المعتمر لا يقصر لو خرج إلى منى كذلك الحاج. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث حارثة بن وهب، قال: (صلى بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ونحن أكثر ما كنا قط وآمنَ بمنى ركعتين) . وحارثة كانت أمه تحت عمر بن الخطاب، فولدت له عبد الله، وكانت دار حارثة بمكة، ولو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال حارثة: وأتممنا نحن، أو قال لنا: أتموا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) يلزمه البيان لأمته فثبت القصر بمنى لأهل مكة بالسنة. وأما إتمام الصلاة فى السفر، فإن العلماء والسلف اختلفوا فى ذلك، فذهبت طائفة إلى أن ذلك سنة، روى ذلك عن عائشة، وسعد بن أبى وقاص أنهما كانا يتمان فى السفر، ذكره عطاء بن أبى رباح عنهما، وعن حذيفة مثله، وروى مثله عن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن(3/69)
ابن الأسود، وعن سعيد بن المسيب، وأبى قلابة، وروى أبو مصعب عن مالك، قال: قصر الصلاة فى السفر سنة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وذهب الشافعى إلى أنه مخير غير أن الإتمام أفضل، وذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مخير غير أن الاستحباب القصر. وقال ابن القصار: وهذا اختيار الأبهرى، واختيارى. وذهبت طائفة إلى أن الواجب على المسافر ركعتان، روى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وهو قول الكوفيين، ومحمد بن سحنون، واختاره إسماعيل بن إسحاق من أصحاب مالك. واحتج الكوفيون عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة ركعتين فى الحضر، والسفر. . . الحديث، وقد تقدم فى أول كتاب الصلاة شىء من معنى هذا الحديث، ونزيده هاهنا بيانًا وإيضاحًا على حسب ما يقتضيه هذا الباب، فنقول: إن الفرض قد يأتى لغير الحتم والإيجاب كما نقول: فرض القاضى النفقة، يعنى قدرها وبيَّنها، وقد قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) [التحريم: 2] ، أى بيَّن لكم كيف تكفرون عنها. وقال الطبرى: يحتمل قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين فى السفر) ، يعنى إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون فرضه أربعًا، فله ذلك. فإن قيل: فهل يوجد فرض بهذه الصفة يكون للمفروض عليه الخيار فى تركه إذا شاء، والعمل به إذا شاء؟ . قيل: نعم، إنا وجدنا تأخر الحاج بمنىً فى اليوم الثانى من أيام(3/70)
التشريق، وتركه النفر فيه إلى اليوم الثالث، فإنه إن اختار المقام به إلى اليوم الثالث فعلى فرضه أقام، وإن نفر فى اليوم الثانى وتعجل فيه فعلى أداء فرضه نفر، وأى ذلك فعل كان صوابًا. وكذلك المسافر، ولو كان فرض المسافر الذى ليس له غيره الركعتين لم يكن له أن يجعلهما أربعًا بوجه من الوجوه، كما ليس للمقيم أن يجعل ظهره مثنى وصلاة الفجر أربعًا، وقد اتفق فقهاء الأمصار على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام، فهذا يدل أنه ليس فرضه ركعتين إلا على التخيير، وبان أن من صلى من المسافرين الظهر أربعًا ففرضه اختار، وأن من صلاها ركعتين فعلى تمام فرضه انصرف. وأما إتمام عثمان الصلاة بمنى فللعلماء فى ذلك أقوال، روى أيوب عن الزهرى، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا، لأن الأعراب كانوا كثروا فى ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربعًا. وقال ابن جريج: إن أعرابيًا ناداه فى منى، فقال: يا أمير المؤمنين، مازلت أصليها مُذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشى عثمان أن يظن جهالُ الناس أن الصلاة ركعتان. وروى معمر، عن الزهرى وجهًا آخر قال: إنما صلى عثمان أربعًا لأنه أزمع على المقام بعد الحاج. وروى عن عبد الله بن الحارث بن أبى ذباب، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب، قال: صلى بنا عثمان أربع ركعات، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إنى تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله(3/71)
(صلى الله عليه وسلم) يقول: (من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليصل أربعًا) . وهذه الوجوه كلها ليست بشىء. قال الطحاوى: وذلك أن الأعراب كانوا بأحكام الصلاة أجهل فى زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلم يتم بهم لتلك العلة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه بهم رءوف رحيم. قال غيره: ألا ترى أن الجمعة لما كان فرضها ركعتين لم يعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود، وقد يجوز أن صلاة الجمعة فى كل مكان ركعتان. وأما ما ذكر عنه أنه أزمع على المقام بعد الحج فليس بشىء، فإن المهاجرين فرض عليهم ترك المقام بمكة، وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلا على راحلته، ويسرع الخروج من مكة خشية أن يرجع فى هجرته التى هاجرها الله. وما ذكر أنه اتخذ أهلاً بمكة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى غزواته وحجه وأسفاره كلها يسافر بأهله بعد أن يقرع بينهن، وكان أولى أن يتأول ذلك ويفعله، فلم يفعله وقصر الصلاة، وكذلك تأولوا فى إتمام عائشة أنها كانت أم المؤمنين، فحيث ما حلت فهو بيتها، وهذا فى الضعف مثل الأول، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أبًا للمؤمنين وهو أولى بهم من عائشة، ولم يتأول ذلك. والوجه الصحيح فى ذلك، والله أعلم، أن عثمان وعائشة إنما أتمَّا فى السفر لأنهما اعتقدا فى قصر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه لما خُير بين القصر(3/72)
والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، وقالت عائشة: ما خير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أمرين قط إلا أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثمًا. فأخذت هى وعثمان فى أنفسهما بالشدة وتركا الرخصة، إذ كان ذلك مباحًا لهما فى حكم التخيير فيما أذن الله تعالى فيه، ويدل على ذلك إنكار ابن مسعود الإتمام على عثمان، ثم صلى خلفه وأتم، ثم كلم فى ذلك، فقال: الخلاف شر. ولو كان القصر فرضًا لم يخف على عثمان، ولم يجز له أن يتم، ولا أتم خلفه ابن مسعود، ولا جماعة الصحابة بالحضرة دون نكير، ولا يجوز على جماعة الصحابة أن يعلموا أن فرضهم ركعتان ويصلوها مع عثمان أربعًا، كما لا يجوز لو صلى بهم الظهر خمسًا والفجر ثلاثًا أن يتبعوه على ذلك. وإنما جاز لهم اتباعه والانقياد له لعلم جميعهم أنه فعل مباحًا جائزًا، وهذه حُجَّة قاطعة، وإنما قال ابن مسعود: الخلاف شر، لأنه رأى أن الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شر. وقد روى ابن أبى شيبة، عن ميمون بن مهران: أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة فى السفر، فقال: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعًا. وذكر عن أبى قلابة أنه قال: (إن صليت فى السفر ركعتين فالسنة، وإن صليت أربعًا فالسنة.
50 - باب كَمْ أَقَامَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّتِهِ
؟ / 60 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: قَدِمَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ يُلَبُّونَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلا مَنْ مَعَهُ الْهَدْىُ.(3/73)
وقال فى كتاب المغازى: بَاب إِقَامَةِ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ. / 61 - فيه: عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَنُّه سأل السَّائِبَ ابْنَ أُخْتِ الْنَّمِرِ: مَا سَمِعْتَ فِى سُكْنَى مَكَّةَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثٌ لِلْمُهَاجِرِ بَعْدَ الصَّدَرِ) . وقال أحمد بن حنبل: قدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكة صبح رابعة من ذى الحجة، فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وهو فى ذلك كله يقصر الصلاة، ثم خرج إلى منى يوم التروية وهو اليوم الثامن فلم يزل مسافرًا فى المناسك إلى أن تم حجه. فجعل أحمد ابن حنبل أربعة أيام يقصر فيها الصلاة إذا نوى إقامتها، وإن قام أكثر من ذلك فهو حضر يتم فيه الصلاة، واستدل بحديث ابن عباس هذا. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: هذا الحديث يدل أنه من أقام عشرين صلاة يقصر الصلاة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى فى الرابع الظهر والعصر، ثم صلى فى الخامس والسادس والسابع خمس عشرة صلاة، ثم صلى الليلة الثامنة المغرب والعشاء والصبح، فذلك عشرون صلاة، ولم يتم، وهو حجة على ابن الماجشون، وسحنون فى قولهما أنه من أقام عشرين صلاة أنه يتم. وذهب مالك، والشافعى، وأبو ثور إلى أنه من عزم على إقامة أربعة أيام بلياليها أنه يتم الصلاة ولا يقصر، وروى مثله عن عمر، وعثمان. قال ابن القصار: وحجة هذه المقالة حديث العلاء بن الحضرمى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، جعل للمهاجر بعد قضاء نسكه [ثلاثًا، ثم](3/74)
يصدر، وذلك أن الله حرم على المهاجرين الإقامة بمكة، الأرض التى هاجروا منها، ولا يستوطنوها، ثم أباح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمهاجر المسافر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام. فبيَّن (صلى الله عليه وسلم) أن ثلاثة أيام سفر لا إقامة، إذ لو كان ما فوق الثلاث سفرًا لما منعهم من ذلك، فدل أنه إقامة، ووجب أن تكون الثلاث فصلا بين السفر والإقامة، ولا وجه لمن اعتبر مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حجته من حين دخوله مكة إلى خروجه إلى منى ولا إلى صدره إلى المدينة، لأن مكة ليست له بدار إقامة ولا لأحد من المهاجرين، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يزل مسافرًا منذ خرج من المدينة وقصر بذى الحليفة إلى أن انصرف إلى المدينة، ولم ينو فى شىء من ذلك إقامة، وليس فى هذه المسألة اختلاف، سوى ما تقدم، يقتضى الباب ذكره، وذلك لأنه ذهب قوم إلى أنه إن نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، روى هذا عن ابن عمر، وهذا قول الكوفيين، والثورى. وذهب قوم إلى أنه إذا نوى إقامة اثنتى عشرة أتم الصلاة، وإن نوى إقامة أقل قصر، هذا قول ابن عمر، أحد أقاويله، وأخذ به الأوزاعى، وذهب قوم أنه إذا عزم على مقام عشر ليال أتم الصلاة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وقد تقدم هذا القول فى حديث أنس فى أول أبواب التقصير. وروى عن ربيعة قول شاذ أنه من نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة. وحجة الليث ما رواه ابن إسحاق، عن الزهرى، عن(3/75)
عبيد الله، عن عبد الله بن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام حيث فتح مكة خمسة عشر يومًا يقصر الصلاة حتى سار إلى خيبر. وحجة الكوفيين ما رواه مجاهد، عن ابن عمر، وابن عباس، أنهما قالا: إذا قدمت بلدًا وأنت مسافر، وفى نفسك أن تقيم خمس عشرة ليلة، فأكمل الصلاة. ولا حجة لمن اعتبر اثنى عشر يومًا ولا لربيعة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأصحابه لم يتم واحد منهم فى هذا المقدار. وأصح الأقوال فى هذه المسألة قول مالك ومن وافقه، وبيان ذلك من حديث ابن عباس مع الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، أن مقام النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بمكة فى حجته كان عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه. وذكر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قدم مكة صبح رابعةٍ من ذى الحجة صبيحة يوم الأحد، صلى الصبح بذى طوى، واستهل ذو الحجة ذلك العام ليلة الخميس، فأقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمكة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس، ثم نهض يوم الخميس ضحوةً إلى منى، فأقام بها باقى نهاره وليلة الجمعة، ثم نهض يوم الجمعة إلى عرفات، فبقى بها نهاره، ودفع منها بعد غروب الشمس من ليلة السبت إلى المزدلفة، فأقام بها باقى ليلته، ثم نهض منها قبل طلوع(3/76)
الشمس من يوم السبت، وهو يوم الأضحى والنفر إلى منى، فرمى جمرة العقبة ضحوةً، ثم نهض إلى مكة ذلك اليوم، فطاف بالبيت قبل الظهر. ثم رجع فى يومه ذلك إلى منى فأقام بها باقى يوم السبت، ويوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم نهض بعد الظهر من يوم الثلاثاء، وهو آخر أيام التشريق إلى المحصب، فصلى به الظهر، وبات فيه ليلة الأربعاء، وفى تلك الليلة اعتمرت عائشة من التنعيم ليلاً، ثم طاف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، طواف الوداع سَحَرًا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء، وهى صبيحة رابعة عشرة، فأقام عشرة أيام كما قال أنس فى حديثه، ثم نهض إلى المدينة، وكان خروجه من المدينة إلى حجة الوداع يوم السبت لأربع بقين من ذى القعدة، وصلى الظهر بذى الحليفة، وأحرم بإثرها، وهذا كله مستنبط من قوله: (قدم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صبيحة أربع من ذى الحجة) ، ومن الحديث الذى جاء أن يوم عرفة كان يوم الجمعة، وفيه نزلت: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3] .
51 - باب فِى كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاةَ؟
وَسَمَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، السفر يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِىَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا. / 62 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاثًا إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ) . / 63 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ) .(3/77)
اختلف العلماء فى قدر المسافة التى يستباح فيها القصر فى الصلاة، فكان مالك يقول: يقصر فى مسيرة يوم وليلة، ثم رجع فقال: يقصر فى أربعة بُرُد، وهى ثمانية وأربعون ميلاً، كقول ابن عمر، وابن عباس، وبه قال الليث، والشافعى فى أحد أقواله، وهو قول أحمد، وإسحاق. وروى أشهب، عن مالك، فيمن خرج إلى ضيعته، وهى على رأس خمسة وأربعين ميلاً، قال: يقصر. وروى أبو زيد، عن ابن القاسم فيمن قصر فى ستة وثلاثين ميلاً، قال: لا يعيد. وقال ابن حبيب: يقصر فى أربعين ميلاً، وهى قريب من أربعة بُرُد. وقال الأوزاعى: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تامٍ، وبه نأخذ. وقالت طائفة: يقصر فى يومين، روى هذا عن ابن عمر، والحسن البصرى، والزهرى، وذكر مثله عن الشافعى. وقالت طائفة: لا يقصر إلا من سافر ثلاثة أيام، روى هذا عن ابن مسعود، وبه قال الثورى، والكوفيون. وقال الأوزاعى: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فى خمسة فراسخ، وذلك خمسة عشر ميلاً. وحُكى عمن لا يعتد بخلافه من أهل الظاهر أنه يجوز فى قليل السفر، وكثيره إذا جاوز البنيان ولو قصد إلى بُستانه، وحكوه عن على بن أبى طالب. قال ابن القصار: والحجة لقول مالك، ومن وافقه حديث أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم(3/78)
الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حُرمة) . فجعل لليوم والليلة حكمًا خلاف حكم الحضر، فعلمنا أنه الزمان الفاصل بين السفر يجوز فيه القصر، وبين السفر الذى لا يجوز فيه، قال: وهذا قول ابن عمر، وابن عباس. واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا مع ذى محرم) ، وقالوا: لما اختلفت الآثار والعلماء فى المسافة التى تقصر فيها الصلاة، وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين، واليقين ما لا تنازع فيه، وذلك ثلاثة أيام. قال ابن القصار: والجواب أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد ذكر اليوم والليلة، ونص عليه فهو أولى من دليل خبركم أن ما كان دون الثلاث فبخلافها، والدليل إذا اجتمع مع النص قُضى بالنص عليه. قال الأصيلى: والدليل على أن المسافر يقصر فى يوم وليلة قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184] ، فما نقل الله المسافر من حال الصيام إلى حال الإفطار فى سفر يوم، كذلك يجب أن ينتقل من التمام إلى القصر فى ذلك. وقال غيره: وأما اختلاف الآثار فى يوم وليلة، وفى ثلاثة أيام، وقد روى فى يومين، فالمعنى الذى تأتلف عليه هذه الأخبار أنها كلها خرجت على جواب سائلين مختلفين، كأن سائلاً سأله (صلى الله عليه وسلم) : هل تسافر المرأة يومًا وليلة مع غير ذى محرم؟ فقال: لا، ثم سأله آخر عن مثل ذلك فى يومين، فقال: لا، ثم سأله آخر عن(3/79)
مثل ذلك فى ثلاث، فقال: لا، فروى عنه (صلى الله عليه وسلم) كلُّ واحد ما سمع وليس بتعارض ولا نسخ، لأن الأصل ألا تسافر المرأة أصلاً، ولا تخلو مع غير ذى محرم، لأن الداخلة عليها فى الليلة الواحدة كالداخلة عليها فى الثلاث، وهى علة المبيت والمغيب على المرأة فى ظلمة الليل، واستيلاء النوم على الرفقاء فيكون الشيطان ثالثهما، فقويت الذريعة وظهرت الخشية على ناقصات العقل والدين، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يخلون رجل بامرأة ليست بذى محرم منه) . وقال: (إنها صفية) . واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر وأبى هريرة، فقالوا: لا يحل للمرأة أن تخرج إلى الحج مع غير ذى محرم، وجعلوا المحرم للمرأة سبيلاً من سبل الحج. وقال مالك وغيره: تخرج فى الرفقة المأمونة مع جماعة النساء، وإن لم تكن لها محرم. وقال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر المرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى محرم) ، مبنى على فرض الله اللازم للنساء من وجوب الحج عليهن. وفى قوله: (لا يحل لامرأة) ، شاهد أنه إنما نهاها عن السفر الذى لا يلزمهن ولهن استحلاله وتركه فمنعهن (صلى الله عليه وسلم) من الأسفار المختارة إلا الضرورية الجماعية التى لا تعدم فيها المرافقة، ألا ترى اشتراط مالك خروجها للحج فى جماعة المرافقين بالغة الدين فى سفر الطاعة لله، واستشعارهم الخشية له، ولذلك سن عليه السلام(3/80)
الحج بأمير أو سلطان محافظ، وإمام معلم يحفظ الضيعة، ويضم القَاذَّة ويرد الشاذّة، ولا ينفرد أحد عن الجماعة، ولا تتفق الأعين كلها على الغفلة، ولا تجتمع على النوم فى وقت واحد، فلابد من وجود المراقبة من الجماعة، فضعف الخوف بحضور الكثرة، وسأزيد هذا المعنى بيانًا فى باب حج النساء فى آخر كتاب الحج، إن شاء الله. وما حكاه الأوزاعى، عن أنس، وقولُ أهل الظاهر فالجماعة على خلافه وفى بيان الحجة لمالك ما ينتظم الرد عليه، لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تسافر امرأة يومًا وليلةً إلا مع ذى حرمة منها) . قد أثبت للسفر حرمة إذا كان يومًا وليلةً، فدل أن ما دونه بخلافه، وإذا لم يكن إلا حضر، أو سفر، ولم يكن لما دون اليوم والليلة حرمة، صح أنه فى معنى الحضر.
52 - باب تقصير الصلاة إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ
وَخَرَجَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى الْبُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْكُوفَةُ، قَالَ: لا، حَتَّى نَدْخُلَهَا. / 64 - وفيه: أَنَس، قَالَ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. / 65 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتِ: الصَّلاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ(3/81)
السَّفَرِ، وَأُتِمَّتْ صَلاةُ الْحَضَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. أجمع فقهاء الأمصار أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية التى يخرج منها، واختلفت الرواية عن مالك فى صفة ذلك، ففى المدونة وكتاب ابن عبد الحكم، عن مالك: لا حتى يبرز عن بيوت القرية، ثم لا يزال يقصر حتى يدنو منها راجعًا، كقول الجماعة، وروى ابن وهب عن مالك فى المبسوط أنه قال: إذا خرج المسافر من المصر الذى فيه أهله فلا أرى أن يقصر حتى يخرج من حد ما تجب فيه الجمعة، وذلك ثلاثة أميال. وروى ابن الماجشون ومطرف، عن مالك: أنه استحب ذلك، لأن الثلاثة أميال مع المصر كَفَرسَخ واحد، وإذا رجع قصر إلى حَدِّه ذلك، وإذا كانت قرية لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بيوتها المتصلة بها، ذكره ابن حبيب. واختار قوم من السلف تقصير الصلاة قبل الخروج من بيوت القرية، قال ابن المنذر: روينا عن الحارث بن أبى ربيعة أنه أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين فى منزله، ومنهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله، وروينا معنى هذا القول عن عطاء ابن أبى رباح، وسليمان بن موسى. وشَذَّ مجاهد، فقال: إذا خرجت مسافرًا، فلا تقصر لو مكثت حتى الليل، ولا أعلم أحدًا وافقه عليه. قال المهلب: إنما يقصر الصلاة من خرج من موضع إذا نوى سفرًا يقصر الصلاة فى مثله على ما تقدم من مذاهب العلماء فى ذلك، لأن(3/82)
مشقة السفر لازمة له من حين خروجه من موضعه، لكن لا يتم إلا بالمبيت والشغل بأمر المعاش المتصل بمشقة السعى مع الاحتراس بالليل وغيره، وكذلك تبقى على الراجع المشقة حتى يحل عن نفسه بوصوله إلى منزله. ومن أجاز من التابعين تقصير الصلاة قبل الخروج من البيوت فقوله مردود بفعله (صلى الله عليه وسلم) حين أتم الظهر بالمدينة، ثم خرج فقصر العصر بذى الحليفة، وإنما لزم التقصير إذا خرج من بيوت القرية لا قبل ذلك، لأن السفر يحتاج إلى عمل ونية، وليس كالإقامة التى تصح بالنية دون العمل. وحديث أنس حجة لجماعة الفقهاء أهل المقالة الأولى، وذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين أتم الظهر بالمدينة، وقصر العصر بذى الحليفة إنما فعل ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان متوجهًا إلى مكة، ذكره البخارى فى بعض طرق الحديث لا أنه كان سفره إلى ذى الحليفة فقط، وبين المدينة وذى الحليفة من ستة أميال إلى سبعة، فلا حجة لمن أجاز التقصير فى قليل السفر، ولمن خرج إلى بستانه، لأن الحجة فى السُّنَّة لا فيما خالفها، وإنما ترك على التقصير، وهو يرى الكوفة حتى يدخلها، لأنه كان فى حكم المسافر فى ذلك الوقت، فلو أراد أن يصلى حينئذ لصلى صلاة سفر، وكان له تأخير الصلاة إلى الكوفة إذا كان فى سعة من الوقت ليصليها صلاة حضر، فاختار ذلك أخذًا بالأفضل واحتياطًا للإتمام حين طمع به وأمكنه.(3/83)
وأما حديث عائشة، فقد تقدم القول فيه قبل هذا فلا معنى لتكريره، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإتمام مثل فعل عائشة، وعثمان. حدثنا المهلب، قال: حدثنا أبو الحسن على بن بندار الفربرى، بمكة، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطنى، حدثنا المحاملى، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبى رباح، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقصر فى السفر ويتم، ويصوم ويفطر. قال الدارقطنى: هذا إسناد صحيح. قال الدارقطنى: وحدثنا أبو بكر النيسابورى، حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى عمرة فى رمضان، فأفطر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصمت، وقصر وأتممت، فقال: (أحسنت يا عائشة) . قال الدارقطنى: وعبد الرحمن قد أدرك عائشة، ودخل عليها وهو مراهق.
53 - باب يُصَلِّى الْمَغْرِبَ ثَلاثًا فِى السَّفَرِ
/ 66 - فيه: ابن عُمَر، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ،(3/84)
يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِى السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ، وَكَان ابن عُمَر يفعله. (وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْمَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: سِرْ، حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ، أَوْ ثَلاثَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. يُقيم الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلا يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ) . أجمعت الأمة على أن المغرب يصلى ثلاثًا فى السفر كما يصلى فى الحضر، وهذا يدل أن قول عائشة: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد فى صلاة الحضر) ، ليس على عمومه فى الصلوات كلها، للإجماع أن المغرب ثلاثًا لا يزاد فيها فى حضر، ولا ينقص منها فى سفر، وكذلك الصبح ركعتان فى السفر والحضر. قال المهلب: ولم تقصر المغرب فى السفر عما كانت عليه فى صلاة الفريضة لأنها وتر صلاة النهار، ولم يزد فى الفجر لطول قراءتها، وقدر وى هذا عن عائشة، رضى الله عنها. وفى تقصير ابن عمر حين استُصرخ على صفية امرأته من الفقه: أن التقصير فى السفر المباح غير الحج والجهاد جائز على ما يذهب إليه جماعة الفقهاء، ورد لقول أهل الظاهر الذين لا يجيزون التقصير إلا فى سفر الحج والجهاد، وذكر أنه مذهب ابن مسعود. وابن عمر روى السنة فى ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وفهم عنه(3/85)
معناها، وأن ذلك جائز فى كل سفر مباح، ألا ترى قول ابن عمر: (هكذا رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا أعجله السير فى السفر) . وهذا عام فى كل سفر، فمن ادعى أن ذلك فى بعض الأسفار دون بعض فعليه الدليل، ويقال لهم: إن الله قرن بين أحوال المسافرين فى طلب الرزق، والمسافرين فى قتال العدو فى سقوط قيام الليل عنهم، فقال: (فتاب عليكم (إلى قوله: (وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله) [المزمل: 20] ، فلما سوى بينهم تعالى فى سقوط قيام الليل وجبت التسوية بينهم فى استباحة رخصة التقصير فى السفر، وهذا دليل لازم. وفيه: دليل على تأكيد قيام الليل، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يتركه فى السفر، فالحضر أولى بذلك.
54 - باب صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّابَّةِ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ
/ 67 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى عَلَى ناقته حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. / 68 - وفيه حديث: أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يُصَلِّى التَّطَوُّعَ، وَهُوَ رَاكِبٌ فِى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. / 69 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنُّه كَانَ يُصَلِّى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، يُخْبِرُ أَنَّ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المهلب: هذه الأحاديث تخص قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144، 150] ، وتبين أن معناه فى المكتوبات، وما كان من(3/86)
النوافل فى الأرض، وتفسر قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) [البقرة: 115] أن ذلك فى النافلة على الدابة. وقد روى عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت فى قول اليهود فى القبلة، وذهب جماعة الفقهاء إلى الأخذ بهذه الأحاديث، وأجازوا التنفل على الدابة فى السفر إلى غير القبلة، وممن روى ذلك عنه: علىّ، وابن الزبير، وأبو ذر، وابن عمر، وأنس، وبه قال طاوس، وعطاء، وإليه ذهب مالك، والثورى، والكوفيون، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، غير أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل القبلة بالتكبير. واختلفوا فى الصلاة على الدابة فى السفر الذى لا تقصر فى مثله الصلاة، فقال الفقهاء الذين تقدم ذكرهم: يصلى فى قصير السفر وطويله، غير مالك فإنه قال: لا يصلى أحد على دابته فى سفر لا تقصر فى مثله الصلاة. والحجة له أن الخبر إنما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يصلى على راحلته فى سفره إلى خيبر، وجائز قصر الصلاة من المدينة إلى خيبر، ولم ينقل عنه أنه (صلى الله عليه وسلم) صلى على دابته إلا فى سفر تقصر الصلاة فيه، كذلك رواه مالك عن عمرو بن يحيى، عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر. وأيضًا فإن ذلك رخصة فى السفر كالفطر والقصر، فينبغى أن تكون هذه الرخص كلها على طريقة واحدة، وأيضًا فإن القبلة آكد، لأن الصلاة تقصر فى السفر، ولا يعدل فيها عن القبلة مع القدرة، فلما كان فى السفر القصير لا يقصر، والقصر أضعف، كان بألا يجوز ترك القبلة أولى.(3/87)
وحجة أهل المقالة الأولى الآثار الواردة بذلك، ليس فيها تحديد سفر، ولا تخصيص مسافة، فوجب حملها على العموم فى كل سفر قصير أو طويل. ومن طريق النظر أن الله تعالى جعل التيمم رخصةً للمريض والمسافر، وقد أجمعت الأمة أن من كان خارج المصر على ميل، أو أقل ونيته العودة إلى منزله لا الشخوص إلى سفر، ولم يجد ماءً أنه يجوز له التيمم، ولا يقع عليه اسم مسافر، فكما جاز له التيمم فى هذا القدر جاز أن يتنفل على الدابة، ولا فرق بين ذلك قاله الطبرى، قال: ولا أعلم من خالف هذا القول من المتقدمين إلا مالك بن أنس.
55 - باب الإيمَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ
/ 70 - فيه ابن عُمَرَ، أَنّه كَانَ يُصَلِّى فِى السَّفَرِ عَلَى دابته أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يَفْعَلُهُ. قال المؤلف: سنة الصلاة على الدابة الإيماء، ويكون السجود أخفض من الركوع، وروى أشهب عن مالك فى الذى يصلى على الدابة، أو المحمل لا يسجد بل يومئ، لأن ذلك من سنة الصلاة على الدابة. وقال ابن القاسم: يصلى فى المحمل متربعًا إن لم يشق عليه أن يثنى رجليه عند سجوده فليفعل ذلك. قال ابن حبيب: وإذا تنفل على الدابة، فلا ينحرف إلى جهة القبلة، وليتوجه لوجه دابته، وله إمساك عنانها وضربها وتحريك رجليه، إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت، ولا يسجد الراكب على قَرَبُوس سرجه، ولكن يومئ.(3/88)
واستحب ابن حنبل، وأبو ثور أن يفتتح الصلاة فى توجهه إلى القبلة، ثم لا يبالى حيث توجهت به. والحجة لهم حديث الجارود بن أبى سبرة، عن أنس بن مالك: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا أراد أن يتنفل فى السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث توجهت ركابه. وليس فى حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة وجابر استقبال القبلة عند التكبير، وهى أصح من حديث الجارود. وحجة من لم ير استقبال القبلة عند التكبير، وهو قول الجمهور أنه كما تجوز له سائر صلاته إلى غير القبلة، وهو عالم بذلك كذلك يجوز له افتتاحها إلى غير القبلة. واختلف قول مالك فى التنفل فى السفينة إلى غير القبلة، فقال فى الواضحة: لا بأس به حيث ما توجهت به كالدابة، وفى المختصر: لا يتنفل فيها إلا إلى القبلة بخلاف الدابة. واختلف قوله أيضًا فى المريض الذى لا يقدر على الصلاة على الأرض إلا إيماءً، هل يصلى الفريضة على الدابة فى محمله؟ وفى المدونة أنه لا يصلى إلا بالأرض، وروى أشهب أنه يصلى على المحمل كما يصلى على الأرض، ويوجه إلى القبلة، وفى كتاب ابن عبد الحكم مثله.
56 - باب يَنْزِلُ لِلْمَكْتُوبَةِ
/ 71 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ عَلَى(3/89)
الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَىِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَصْنَعُ ذَلِكَ فِى الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ. وروى ابن عُمَرَ وَجَابِر مثله. / 72 - وَقَالَ جَابِر: فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. أجمع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى أحد فريضةً على الدابة من غير عذر، وإنه لا يجوز له ترك القبلة إلا فى شدة الخوف، وفى النافلة فى السفر على الدابة، رخصةً من الله لعباده ورفقًا بهم. فثبت أن القبلة فرض من الفرائض فى الحضر والسفر، وفى السنن لمن تنفل على الأرض.
57 - باب صَلاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْحِمَارِ
/ 73 - فيه: أَنَس، أَنّه صَلِّى عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ بِعَيْنِ التَّمْرِ، مقدمه من الشام، فَقَال لَهُ أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلا أَنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ. ولا فرق بين التنفل فى السفر على الحمار والبغل، والبعير، وجميع الدواب عند جماعة الفقهاء على ما تقدم من اختلافهم فى السفر الطويل والقصير، وروى عن أبى يوسف أنه أجاز أن يصلى فى المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد، عن أنس، أنه صلى على حمار فى أزقة المدينة يومئ إيماءً. وجماعة الفقهاء على خلافه.(3/90)
58 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ فِى السَّفَرِ
/ 74 - فيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: صَحِبْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ أَرَهُ يُسَبِّحُ فى السَّفَرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21] . / 75 - وقال: صَحِبْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَكَانَ لا يَزِيدُ فِى السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ. قول ابن عمر: (لم أر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يسبح فى السفر) يريد لم أره يتطوع فى السفر قبل صلاة الفريضة ولا بعدها، يعنى فى الأرض، لأنه قد روى ابن عمر عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يصلى على راحلته فى السفر حيث توجهت به، وأنه كان يتهجد بالليل فى السفر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار عن ابن عمر، وقد جاء هذا المعنى بَيِّنًا عنه. ذكر البخارى فى (صلاة المغرب ثلاثًا فى السفر) ، حديث ابن عمر حين استُصرِخ على صفية زوجته، وأنه جمع بين المغرب والعشاء، وقال: هكذا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى المغرب ثلاثًا، ثم يسلم، ثم قلَّمَا يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف الليل. وذكر مالك فى الموطأ عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت به. فبان أنه أراد بقوله لم أر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسبح فى السفر، التطوع فى الأرض، المتصل بالفريضة، الذى حكمه حكمها فى استقبال القبلة(3/91)
والركوع والسجود، وكذلك كان ابن عمر يقول: لو تنفلت لأتممت، أى لو تنفلت التنفل الذى هو من جنس الفريضة لجعلته فى الفريضة ولم أقصرها. وممن كان لا يتنفل فى السفر قبل الصلاة، ولا بعدها سوى ابن عمر: على بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وليس قول ابن عمر: لم أر النبى (صلى الله عليه وسلم) يسبح فى السفر، بحجة على من رآه (صلى الله عليه وسلم) ، لأن من نفى شيئًا فليس بشاهد، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه تنفل فى السفر مع صلاة الفريضة، وهو قول عامة العلماء. قال الطبرى: يحتمل أن يكون تركُه (صلى الله عليه وسلم) التنفل فى السفر فى حديث ابن عمر تحريًا منه (صلى الله عليه وسلم) إعلام أمته أنهم فى أسفارهم بالخيار فى التنفل بالسنن المؤكدة وتركها، وقد بيّن ذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا جمع فى السفر صلى المغرب، ثم يدعو بعَشَائه، فيتعشَّى، ثم يرتحل، وإذا جاز الشغل بالعَشَاء بعد دخول وقت العِشَاء وبعد الفراغ من صلاة المغرب، فالشغل بالصلاة أحرى أن يجوز، وسأذكر ذلك فى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
59 - باب مَنْ تَطَوَّعَ فِى السَّفَرِ
وَرَكَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى السَّفَرِ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ.(3/92)
/ 76 - فيه: ابْنِ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِى بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. / 77 - وفيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. قد تقدم فى الباب قبل هذا من لم بتطوع فى السفر قبل الفريضة، ولا بعدها، ونذكر فى هذا الباب من تطوع فيه. روى الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى سبرة، عن البراء بن عازب، قال: سافرت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثمانى عشرة سفرة، فما رأيته ترك الركعتين قبل الظهر. وأما صلاته، (صلى الله عليه وسلم) ، الضحى يوم الفتح فإنه صلاها فى بيته بالأرض على غير راحلته فدل ذلك على جواز التنفل فى السفر بالأرض، لأنه لم تكن تلك صلاة الضحى، لقول ابن أبى ليلى: ما أخبرنا أحد أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الضحى. فإنه قد صلاها بالأرض وإلى القبلة فى السفر بخلاف قول ابن عمر، وكذلك صلاته، (صلى الله عليه وسلم) ، ركعتى الفجر فى السفر وتنفله على الراحلة بالليل والنهار فيه دليل على جواز التنفل على الأرض، لأنه لما جاز له التنفل على الراحلة كان فى الأرض أجوز، وقد قال الحسن البصرى: كان أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يسافرون ويتطوعون قبل المكتوبة وبعدها، وهو قول جماعة العلماء.(3/93)
قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر، وعلى، وابن عباس، وجابر، وابن مسعود، وأنس، وأبى ذر، وجماعة من التابعين يكثر عددهم، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو الصحيح، لأنه ثبت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يتنفل فى السفر من غير وجه وليس قول ابن أبى ليلى بحُجة تسقط صلاة الضحى، لأن أكثر الأحاديث يرويها واحد عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يُلجأ إليه فيها، وتصير سنة معمولاً بها، وما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرة اكتفت الأمة بذلك، فكيف وقد روى أبو هريرة، وأبو الدرداء، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه أوصاهما بثلاث، منها ركعتا الضحى.
60 - باب الْجَمْعِ فِى السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
/ 78 - فيه: ابن عُمَر، كَانَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ. / 79 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. / 80 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِى السَّفَرِ. اختلف العلماء فى جمع المسافر بين الصلاتين، فذهب جمهور العلماء إلى أن المسافر يجوز له الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن زيد، وأبى موسى الأشعرى، وابن عمر، وابن عباس، وأسامة(3/94)
ابن زيد، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الحج للمسافر إلا إذا جدَّ به السير، وهو قول مالك فى المدونة، وقول الليث، واحتجوا بحديث ابن عمر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. وبحديث ابن عباس أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير. وكرهت طائفة للمسافر الجمع إلا بعرفة والمزدلفة، هذا قول النخعى، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بأن مواقيت الصلاة قد صحت فلا تترك لأخبار الآحاد. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن أوقات السفر لا تعترض أوقات الحضر، وقد روى جمعُه (صلى الله عليه وسلم) بين الصلاتين فى السفر من طريق تجرى مجرى الاستفاضة، منها حديث ابن عمر، وابن عباس، وحديث معاذ، وقد اتفقنا على جواز جمع أهل مكة وعرفة بعرفة، والمزدلفة، وهم مقيمون، فكذلك يجوز أن يجمعوا بينهما إذا سافروا. وقال الطبرى: قد تظاهرت الأخبار عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجمع بين الصلاتين فى السفر فظاهرها أنه كان يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، فهل بينك وبين من أنكر الجمع بعرفة والمزدلفة، وأجازه فى السفر بالأخبار الواردة عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يجمع فى السفر: فرقٌ، قالوا: ولو لم يأت عنه أنه جمع إلا بعرفة والمزدلفة فقط لكان ذلك دليلاً على جواز الجمع للمسافر. وروى مالك، عن ابن شهاب، قال: سألت سالم بن عبد الله(3/95)
هل يجمع بين الظهر والعصر فى السفر؟ قال: نعم، ألا ترى إلى صلاة الناس بعرفة. وفى حديث أنس جواز الجمع للمسافر من غير أن يجدّ به السير كما قال جمهور العلماء، وكلا الفعلين قد صح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، جمع حين جَدَّ به السير، وجمع دون ذلك، وليس ذلك بتعارض، بل كل واحد حكى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما رأى، وكُل سُنَّة. وقد قال ابن حبيب من أصحاب مالك: يجوز الجمع للمسافر جَدَّ به السير، أو لم يجدّ إلا لقطع السفر، وإن لم يَخَفْ شيئًا، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ بن الفرج. وترجم لحديث ابن عمر، وأنس باب: هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وذكر فيه قول سالم: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ، يُقِيمُ الْمَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ. . . الحديث. قوله: (يقيم المغرب ثم يقيم العشاء) ، يحتمل أن يكون معناه بما تقام به الصلوات فى أوقاتها من الأذان والإقامة، ويحتمل أن يريد الإقامة وحدها على ما جاء فى الجمع بعرفة والمزدلفة من الاختلاف فى إقامتها، وقال ابن المنذر: يؤذن ويقيم، فإن أقام ولم يؤذن أجزأَهُ، ولو ترك الأذان والإقامة لم يكن عليه إعادة الصلاة، وإن كان مسيئًا بتركه ذلك، وقد تقدم اختلاف العلماء فى ذلك فى أبواب الأذان قبل هذا، فأغنى عن إعادته.(3/96)
61 - باب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ
/ 81 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُ، وَإِذَا زَاغَتْ، صَلَّى الظُّهْرَ، وَرَكِبَ. أجمع العلماء أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، فإنه يؤخر الظهر إلى العصر، كُل على أصله من القول بالاشتراك، أو يقدم، واختلفوا فى وقت جمع المسافر بين الصلاتين، فذهبت طائفة إلى أنه يجمع بينهما فى وقت إحداهما، هذا قول عطاء بن أبى رباح، وسالم، وجمهور علماء المدينة: أبى الزناد وربيعة وغيرهم، وحكى أبو الفرج عن مالك مثله، وبه قال الشافعى، وإسحاق، قالوا: إن شاء جمع بينهما فى وقت الأولى، وإن شاء جمع فى وقت الآخرة. وقالت طائفة: إذا أراد المسافر الجمع أخرَّ الظهر وعجلَّ العصر وأخر المغرب، وعجل العشاء، وروى هذا عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وهو قول مالك فى المزنية، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وقال: وجه الجمع أن يؤخر الظهر حتى يدخل وقت العصر، ثم ينزل فيجمع بينهما ويؤخر المغرب كذلك، وإن قدَّم فأرجو ألا يكون به بأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى الظهر فى آخر وقتها، ثم يمكث(3/97)
قليلاً، ثم يصلى العصر فى أول وقتها، ولا يجوز الجمع بين الصلاتين فى وقت إحداهما إلا بعرفة والمزدلفة. وحجة أهل المقالة نَص ودليلٌ، أما الدليل فإن معنى حديث أنس عندهم أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا زاغت الشمس صلى الظهر، ثم ركب، أو صلى الظهر والعصر ثم ركب، لأنه إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس وعلى ذلك تأولوا حديث ابن عباس الذى فى الباب قبل هذا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يجمع بين الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، أن ذلك كان إذا زاغت الشمس. وأما النص كحديث معاذ ذكره أبو داود من حديث الليث: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر. وأما من قال: إن الجمع لا يكون إلا فى آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، فلم يؤخر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الجمع إلى وقت العصر إلا إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس خاصة، وأما إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس فإنه كان يجمع فى أول وقت الظهر، ولا يؤخر الجمع إلى العصر، فقولهم خلاف الحديث، وكذلك قول الكوفيين خلاف الآثار، وأثبتها فى ذلك حديث معاذ: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى غزوة تبوك، إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ترحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فكأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يجمع بينهما مرة(3/98)
فى وقت الظهر، ومرة فى وقت العصر، والمغرب والعشاء، مرة فى وقت المغرب، ومرة فى وقت العشاء، بخلاف قول الكوفيين. وكذلك قال أنس: إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع. مخالف لقولهم أنهم لا يجيزون صلاة الظهر فى وقت العصر فى الجمع بين الصلوات. وحجة أخرى من طريق النظر، لو كان كما قالوا لكان ذلك أشد حرجًا وضيقًا من الإتيان بكل صلاة فى وقتها، لأن وقت كل صلاة واسع، ومراعاته أمكن من مراعاة طرفى الوقتين، ولو كان الجمع كما قالوا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والفجر. ولَمَّا أجمع العلماء أن الجمع بينهما لا يجوز عُلم أن المعنى فى الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء أيضًا، وردت به السنة للرخصة فى اشتراك وقتيهما، فإذا صليت كل صلاة فى وقتها فلا يسمى جمعًا. واحتج أبو الفرج المالكى بما ذكره عن مالك أن له أن يجمع بينهما فى وقت إحداهما أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قدّم العصر إلى الظهر بعرفة، وأخر المغرب إلى العشاء بالمزدلفة، وقال: هذا أصل هذا الباب، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سافر فقصر وجمع بينهما، والجمع للمسافر أيسر خطبًا من التقصير.(3/99)
62 - باب إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ
/ 82 - فيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ، أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ [الشَّمْسُ] قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ، صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ. وقد تقدم فى الباب قبل هذا اختلافهم فى وقت الجمع بين الظهر والعصر، فأغنى عن إعادته، وليس فى حديث أنس تقديم العصر إلى الظهر إذا زاغت الشمس، وذلك محفوظ فى حديث معاذ، ذكره أبو داود، قال: حدثنا يزيد بن خالد، حدثنا المفضل بن فضالة، والليث، عن هشام بن سعد، عن أبى الزبير، عن أبى الطفيل، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى العصر، وفى المغرب والعشاء كذلك. فجاء فى هذا الحديث ما يقطع الالتباس فى أن للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر إذا واغت الشمس، نازلاً كان أو سائرًا، جَدَّ به السير أو لم يجدَّ، على خلاف ما تأوله أبو حنيفة، وهى حجة على من أجاز الجمع، وإن لم يجد به السير، وقد تقدم ذلك.(3/100)
63 - باب صَلاةِ الْقَاعِدِ
/ 83 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. . . .) الحديث. / 84 - وفيه: أَنَس، قَالَ: سَقَطَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عن فَرَسٍ، فَخُدِشَ - أَوْ فَجُحِشَ - شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا قُعُودًا. . . الحديث. / 85 - وفيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَكَانَ مَبْسُورًا، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ صَلاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، فَقَالَ: (إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ) . وترجم له: (باب صَلاةِ الْقَاعِدِ بِالإيماءِ) . أما حديث عائشة ففيه أنه من لم يقدر على صلاة الفريضة لِعِلَّةٍ نزلت به، فإن فرضَهُ الجلوسُ، ألا ترى قولها: (وهو شَاكٍ) ، وكذلك فى حديث أنس أنه سَقَطَ (صلى الله عليه وسلم) من الفرس فَخُدِشَ، أو فَجُحِشَ، شقه فصلى جالسًا. فأراد البخارى أن يدل أن الفريضة لا يصليها أحد جالسًا إلا مَنْ شَكَا ما يمنعُه القيام.(3/101)
والعلماء مجمعون أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلى الفريضة جالسًا، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى باب إنما جعل الإمام ليؤتم به اختلافهم فى إمامة القاعد، فأغنى عن إعادته. وأما حديث عمران فإنما ورد فى صلاة النافلة، لأن المصلى فرضه جالسًا لا يخلو أن يكون مطيقًا على القيام أو عاجزًا عنه، فإن كان مطيقًا وصلى جالسًا فلا تجزئه صلاته عند الجميع، وعليه إعادتها فكيف يكون له نصف فضل مصلى فإذا عجز عن القيام فقد سقط عنه فرض القيام وانتقل فرضه إلى الجلوس، فإذا صلى جالسًا فليس المصلى قائمًا أفضل منه. وأما قوله: (من صلى بإيماء فله نصف أجر القاعد) فلا يصح معناه عند العلماء، لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء وإنما دخل الوهم على ناقل هذا الحديث فأدخل معنى الفرض فى لفظ النافلة، ألا ترى قوله: (كان مبسورًا) وهذا يدل على أنه لم يكن يقدر على أكثر مما أدى به فرضه وهذه صفة صلاة الفرض، ولا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشىء: لك نصف أجر القادر عليه، بل الآثار الثابتة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره، فإنه يكتب له أجر عمله، وهو صحيح، ورواية عبد الوارث وروح بن عبادة، عن حسين(3/102)
المعلم لحديث عمران هذا تدفعه الأصول، والذى يصح فيه رواية إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم على ما يأتى فى الباب بعد هذا، وهو فى صلاة الفريضة. وقد غلط النسائى فى حديث عمران بن حصين وصحفه وترجم له باب صلاة النائم، فظن أن قوله (صلى الله عليه وسلم) ، ومن صلى بإيماء إنما هو ومن صلى نائمًا والغلط فيه ظاهر، لأنه قد ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أن للمصلى إذا غلبه النوم أن يقطع الصلاة، ثم بين (صلى الله عليه وسلم) معنى ذلك، قال: (لعله يستغفر فيسب نفسه) فكيف يأمره بقطع الصلاة وهى مباحة له، وله عليها: نصف أجر القاعد. والصلاة لها ثلاثة أحوال: أولها القيام، فإن عجز عنه فالقعود، ثم إن عجز عن القعود فالإيماء، وليس النوم من أحوال الصلاة.
64 - باب إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ
، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ / 86 - فيه: عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىِّ، - عليه(3/103)
السلام -، عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. هذا الحديث فى صلاة الفريضة، والعلماء مجمعون أنه يصليها كما يقدر حتى ينتهى به الأمر إلى الإيماء على ظهره أو على جنبه كيفما تيسر عليه، فإن صلى على جنبه كان وجهه إلى القبلة على حسب دفن الميت، وإن صلى على ظهره كانت رجلاه فى قبلته ويومئ برأسه إيماء. ومساق إبراهيم بن طهمان لهذا الحديث، ولم يذكر فيه: فله نصف أجر القائم، يدل أنه فى صلاة الفرض، ويدل أن القيام لا يسقط فرضه إلا بعدم الاستطاعة، ثم كذلك القعود، فإذا لم يقدر على القعود انتقل فرضه إلى الإيماء على جنب أو كيف تهيًا له، حتى يسقط عنه ذلك عند عدم القدرة فيصير إلى حالة الإغماء لا يلزمه شىء. وحديث عمران هذا تعضده الأصول ولا يختلف الفقهاء فى معناه وهو أصح معنى من حديث روح بن عبادة وعبد الوارث عن حسين.
65 - باب إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِى
َوَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا وَرَكْعَتَيْنِ قَائِمًا / 87 - فيه: عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى صَلاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، ثُمَّ رَكَعَ. هذه الترجمة فى صلاة الفريضة وأما هذا الحديث فهو فى النافلة،(3/104)
ووجه استنباط البخارى منه حكم الفريضة هو أنه لما جاز فى النافلة القعود لغير علة مانعة من القيام، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقوم فيها قبل الركوع، كانت الفريضة التى لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على القيام أولى أن يلزم القيام فيها إذا ارتفعت العلة المانعة منه. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال ابن القاسم فى المريض يصلى مضطجعًا أو قاعدًا ثم يخف عنه المرض فيجد قوة: أنه يقوم فيما بقى من صلاته، ويبنى على ما مضى منها، وهو قول زفر والشافعى. وقال أبو حنفية، وأبو يوسف، ومحمد: إن صلى ركعة مضطجعًا ثم صح: أنه يستقبل الصلاة ولو كان قاعدًا يركع ويسجد، بنى فى قول أبى حنيفة، ولم يبن فى قول محمد بن الحسن. وقال ابن القصار: الدليل على أنه يبنى أن للمصلى ثلاثة أحوال، أولها: القيام مع القدرة، وثانيها: القعود إن عجز عن القيام، وثالثها: الإيماء إن عجز عن القعود، فقدرته على القعود بعد الإيماء يوجب عليه البناء، فيجب أن تكون قدرته على القيام توجب عليه البناء، لأنه أصل كالقعود. فإن قيل: الفصل بين المومئ والقاعد أن القاعد يقدر على الركوع والسجود، والمومئ لا يقدر عليه، والقاعد معه بدل القيام، والمومئ لا بدل معه منه. قيل: صلاته بالإيماء صحيحة كقدرته على القيام والقعود فقد استوت أحواله، فإذا كان عجزه عن فرض لا يبطل الفرض الآخر ويبنى معه، فقدرته على فرض لا تبطل الفرض الآخر ويبنى معه.(3/105)
فإن قالوا: قد جوزنا معكم إمامة القاعد، ومنعنا إمامة المومئ فثبت الفرق بينهما، لأن القاعد بدل القيام والقعود جميعًا، وقد صح عقده لتكبيرة الإحرام كما تصح فى قيامه وقعوده، وأما التفرقة بينهما فى الإمامة فليس إذا أبطلنا حكم المأموم لعلة فى الإمام، وجب أن تبطل صلاة الإمام، وصلاة المومئ فى نفسه صحيحة، وإن لم يصح الائتمام به، كصلاة المرأة هى صحيحة وإن لم يصح الائتمام بها، والأمى بالقارئ. وكذلك اختلفوا فيمن افتتح الصلاة قائمًا وصلى ركعة، ثم عجز عن القيام وصار إلى حال الإيماء، فعند مالك أنه يبنى عليها قاعدًا وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى. وقال أبو يوسف، ومحمد: تبطل صلاته إلا أن يتمادى قائمًا، والدلائل المتقدمة تلزمه، لأن طرءان العجز بعد القدرة كطرءان القدرة بعد العجز، وأن العجز عن الركن لا يبطل حكم الركن المقدور عليه كما أن القدرة إذا طرأت لم تبطل حكم ما مضى. واختلفوا فى النافلة يفتتحها قاعدًا، هل يجوز له أن يركع قائمًا؟ قال الطحاوى: فكره ذلك قوم، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق العقيلى، عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكثر الصلاة قائمًا وقاعدًا فإذا صلى قائمًا ركع قائمًا، وإذا صلى قاعدًا ركع قاعدًا. وخالفهم آخرون فأجازوا لمن افتتح النافلة قاعدًا أن يركع قائمًا واحتجوا بحديث عائشة المذكور فى هذا الباب، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، وهو قياس قول مالك، وقاله أشهب. وقال الطحاوى: هذا الحديث أولى من حديث ابن شقيق، عن(3/106)
عائشة، لأن فى هذا الحديث أنه كان يركع قائمًا بعدما افتتح الصلاة قاعدًا، وهو نص فى موضع الخلاف، وتماديه على الركوع فى حديث ابن شقيق حتى يركع قاعدًا لا يدل أنه ليس له أن يقوم فيركع قائمًا، وقيامه من قعوده حتى يركع قائمًا يدل أن له أن يركع قائمًا بعد ما افتتح قاعدًا، وهو حكم زائد، والزيادة يجب الأخذ بها، فلذلك جعلناه أولى من حديث ابن شقيق. وقال مالك: من افتتح النافلة قائمًا ثم شاء الجلوس فله ذلك. وخالفه أشهب فقال: إذا أحرم قائمًا فى نافلة فلا يجلس لغير عذر، وقد لزمه تمامها بما نوى فيها من القيام، فإن فعل أعاد إلا أن يغلب فلا قضاء عليه.
66 - باب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) [الإسراء: 79] أى أسهر نافلة لك
/ 88 - فيه: ابْنَ عَبَّاس قَالَ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ(3/107)
لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَوْ لا إِلَهَ غَيْرُكَ) . التهجد عند العرب: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل، والهجود أيضًا النوم، يقال تهجد: إذا سهر، وهجد: إذا نام. وقوله: (نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79] يعنى فضلا لك عن فرائضك. واختلف فى المعنى الذى من أجله خص بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال بعضهم: إنما خص بذلك لأنها كانت عليه فريضة ولغيره تطوع، فقال: أقمها نافلة لك: عن ابن عباس. وقال مجاهد: إنما قيل له ذلك لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئًا من الذنوب، لأن الله كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان له نافلة فضل وزيادة، فأما غيره فهو كفارة له وليس له نافلة. وقال الطبرى: وقول ابن عباس أولى بالصواب، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد كان خصه الله بما فرضه عليه من قيام الليل دون سائر أمته، ولا معنى لقول مجاهد، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أشد استغفارًا لربه بعد نزول قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح: 2] وذلك أن هذه السورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية وأنزل عليه: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1] عام قبض، وقيل له فيها) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 3] فكان يعد استغفاره فى المجلس الواحد مائة مرة، ومعلوم أن الله تعالى، لم يأمره أن يستغفره إلا بما يغفر له باستغفاره فبان فساد قول مجاهد.(3/108)
وقال قتادة نافلة لك: تطوعًا وفضيلة. وفى حديث ابن عباس تهجده (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان يدعو عند قيامه ويخلص الثناء على الله بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده وفيه الأسوة الحسنة. وقوله: (أنت قيم السماوات والأرض) فيه ثلاث لغات يقال: قيام وقيوم وقيم. قال مجاهد: القيوم القائم على كل شىء وكذلك قال أبو عبيد. وقوله: (أنت نور السموات والأرض) أى بنورك يهتدى من فى السماوات ومن فى الأرض. وقوله: (أنت الحق) فالحق اسم من أسمائه وصفة ومن صفاته. (وقولك الحق) يعنى قولك الصدق والعدل. (ووعدك حق) يعنى لا تخلف الميعاد وتجزى الذين أساءوا بما عملوا إلا ما تجاوز عنه، وتجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وقوله: (ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، والإقرار بالجنة والنار، والإقرار بالأنبياء عليهم السلام. وقوله: (لك أسلمت) معناه: انقدت لحكمك وسلمت ورضيت. وقوله: (وبك آمنت) يعنى صدقت بك وبما أنزلت، والإيمان فى اللغة: التصديق. (وعليك توكلت) تبرأ إليه من الحول والقوة وصرف أموره إليه. قال الفراء: الوكيل: الكافى.(3/109)
وقوله: (إليك أنبت) أى أطعت أمرك، والمنيب المقبل بقلبه إلى الله (وبك خاصمت) يقول: بما آتيتنى من البراهين احتججت. (وإليك حاكمت) يعنى إليك احتكمت مع كل من أبى قبول الحق والإيمان، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول عند القتال: (اللهم أنزل الحق) ويستنصر. وقوله: (اغفر لى ما قدمت، وأخرت، وأسررت، وأعلنت) أمر الأنبياء وإن كانوا قد غفر لهم أن يستغفروا الله ويدعوا الله، ويرغبوا إليه، ويرهبوا منه، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقول: (اللهم إنى أستغفرك من عمدى، وخطئى، وجهلى، وظلمى، وكل ذلك عندى) يقر على نفسه بالتقصير، وكان يقول فى سجوده: (اللهم باعد بينى وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقنى من الذنوب كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه، أنهم يجتهدون فى الأعمال لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه، فأمتهم أحرى بذلك. قاله الداوودى. قال المهلب: وقوله: (أنت المقدم، وأنت المؤخر) يعنى أنه قُدّم فى البعث إلى الناس على غيره (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (نحن الآخرون السابقون) ثم قدمه عليهم يوم القيامة بما فضله به على سائر الأنبياء، فسبق بذلك الرسل.
67 - باب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ
/ 89 - فيه: ابْنِ عُمَرَ كَانَ الرَّجُلُ مَنا فِى زمن رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا رَأَى رُؤْيَا(3/110)
قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُ فِى النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِى فَذَهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِىَ مَطْوِيَّةٌ كَطَىِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِى: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ) ، فَكَانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلا. قال المهلب: إنما فسر الرسول هذه الرؤيا فى قيام الليل، والله أعلم، من أجل قول الملك الآخر: لم ترع، أى لم تعرض عليك لأنك مستحقها، إنما ذُكِّرْتَ بها، ثم نظر رسول الله فى أحوال عبد الله فلم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، وعلم مبيته فى المسجد فعبر بذلك، لأنه منبه على قيام الليل فيه بالقرآن، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، رأى الذى علمه القرآن ونام عنه بالليل تشدخ رأسه إلى يوم القيامة فى رؤياه (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: أن قيام الليل ينجى من النار. وروى سنيد: حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (قالت أم سليمان لسليمان: يا بنى لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة) . وذكر الطبرى، قال: حدثنا أحمد بن بشير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها(3/111)
الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، فمن رأى ما يكره فليقم فليصل) . فيه: تمنى الخير والعلم والحرص عليه، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وتفسير النبى لها من العلم الذى يجب الرغبة فيه.
68 - باب طُولِ السُّجُودِ فِى قِيَامِ اللَّيْلِ
/ 90 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرَسُولَ كَانَ يُصَلِّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ؛ الحديث. أما طول سجود النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى قيام الليل فذلك، والله أعلم لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الله، وذلك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إلى الله تعالى، وهو الذى أبى إبليس منه فاستحق بذلك اللعنة إلى يوم الدين والخلود فى النار أبدًا، فكان (صلى الله عليه وسلم) يطول فى السجود فى خلوته ومناجاته لله شكرًا على ما أنعم به عليه، وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفيه: الأسوة الحسنة لمن لا يعلم ما يفعل به أن يمتثل فعله (صلى الله عليه وسلم) فى صلاته بالليل وجميع أفعاله ويلجأ إلى الله فى سؤال العفو والمغفرة، فهو الميسر لذلك عز وجهه، وكان السلف(3/112)
يفعلون ذلك، قال أبو إسحاق: ما رأيت أحدًا أعظم سجدة من ابن الزبير. وقال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره، وما تحسبه إلا جرم حائط.
69 - باب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ
/ 91 - فيه: جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. / 92 - وَقَالَ جُنْدَب: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ فَنَزَلَتْ: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1، 5] . قال المؤلف: روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه من كان له حظ من العبادة ومنعه الله منها بمرض، فإن الله عز وجل يتفضل عليه بهبة ثوابها. وروى أبو موسى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا مرض العبد، أو سافر يكتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا) ، ذكره البخارى فى كتاب الجهاد. وروى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من عبد يكون له صلاة يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة) . قال المهلب: لما لم يقم النبى (صلى الله عليه وسلم) وقت شكواه، ولم تسمعه المرأة يصلى حينئذ ظنت هذا الظن والقصة واحدة رواها جندب. وقد روى: أن خديجة قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) حين أبطأ عنه الوحى:(3/113)
إن ربك قد قلاك، فنزلت: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1، 5] ، فأعطاه الله ألف قصر فى الجنة من لؤلؤ ترابها المسك فى كل قصر ما ينبغى له. ذكره بقى بن مخلد فى التفسير. وقد قيل فى هذا الحديث: من لم يرزء فى جسمه فليظن أن الله قد قلاه. لكن روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا يحزن أحدكم ألا يرانى فى منامه، إذا كان طالبًا للعلم، فله فى ذلك العوض) .
70 - باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى قيام اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ وَطَرَقَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا لَيْلا لِلصَّلاةِ
/ 93 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْن؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا، عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ) . / 94 - وفيه: عَلِىَّ، أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً، فَقَالَ: (أَلا تُصَلِّيَانِ) ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ،(3/114)
وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] . / 95 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ. . . . . الحديث. / 96 - وقالت عَائِشَةَ: صَلَّى رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَننِّى خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِى رَمَضَانَ) . وفى حديث أم سلمة، وحديث على فضل صلاة الليل وإنباه النائمين من الأهل والقرابة، قال الطبرى: وذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أيقظ لها عليًا وبنته مرتين، حثا لهما على ذلك فى وقت جعله الله لخلقه سكنًا، لَمَّا علم عظيم ثواب الله عليها، وشرفت عنده منازل أصحابها، اختار لهم إحراز فضلها على السكون والدعة. قال المهلب: فى حديث على رجوع المرء عما ندب إليه، إذا لم يوجب ذلك، وأنه ليس للإمام والعالم أن يشتد فى النوافل وقوله: (أنفسنا بيد الله) ، فهو كلام صحيح قنع به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من العذر لترك النافلة، ولا يعذر بمثل هذا(3/115)
فى فريضة، وقوله: (أنفسنا بيد الله) ، كقول بلال: (أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك) ، وهو معنى قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) [الزمر: 42] ، أى أن نفس النائم ممسكة بيد الله، وأن التى فى اليقظة مرسلة إلى جسدها، غير خارجة من قدرة الله تعالى، فقنع بذلك النبى (صلى الله عليه وسلم) وانصرف. وأما ضربه فخذه وقوله: (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلا) [الكهف: 54] ، فإنه يدل أنه ظن أنه أحرجهم وندم على إنباههم، وكذلك لا يحرج الناس إذا حُضوا على النوافل، ولا يُضيق عليهم، وإنما يذكروا فى ذلك ويشار عليهم. وقوله: (ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ وماذا أنزل من الخزائن) ؟ قال ذلك لما أعلمه الله من الوحى أنه يفتح على أمته من الغنى والخزائن، وعرفه أن الفتن مقرونة بها مخوفة على من فتحت عليه، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى، خوف التعرض لفتنة المال، وقد استعاذ النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من فتنة الغنى كما استعاذ من فتنة الفقر. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) ، يريد أزواجه (صلى الله عليه وسلم) ، يعنى من يوقظهن للصلاة بالليل، وهذا يدل أن الصلاة تنجى من شر الفتن، ويُعتصم بها من المحن. وقوله: (كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة) ، يريد كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات فى الحقيقة فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرى(3/116)
الذى كانت إليه مائلة فى الدنيا، مباهية بحسنها، فعرف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك حديث كاسيات عاريات أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل أن يريد (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة) النهى عن لباس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة، وسيأتى هذا المعنى مستوعبًا فى كتاب الفتن فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه. وأما حديث عائشة، فظاهره أن من الفرائض ما يفرض الله على العباد من أجل رغبتهم فيها وحرصهم عليها، والأصول ترد هذا التوهم، وذلك أن الله فرض على عباده الفرائض، وهو عالم بثقلها وشدتها عليهم، أراد محنتهم بذلك لتتم الحجة عليهم، فقال: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) [البقرة 45] ، وقال موسى لمحمد، (صلى الله عليه وسلم) ، ليلة الإسراء حين رده الله من خمسين صلاة إلى خمس صلوات: (راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك) . ويحتمل حديث عائشة، والله أعلم، معنيين: أحدهما أنه يمكن أن يكون هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) فى وقت فرض قيام الليل عليه دون أمته، لقوله فى الحديث: (لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أننى خشيت أن تفرض عليكم) ، فدل أنه كان فرضًا عليه وحده. وقد روى عن ابن عباس أن قيام الليل كان فرضًا على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذكره ابن الأدفوى، فيكون معنى قول عائشة: (إن كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدع العمل) ، يعنى إن كان يدع إظهار عمله لأمته(3/117)
ودعاءهم إلى فعله معه، لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلاً، وقد فرضه الله تعالى عليه، أو ندبه إليه، لأنه كان أتقى أمته لله وأشدهم اجتهادًا، ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة، أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة فى بيته. فخشى إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسّوى الله تعالى بينهم وبينه فى حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه، إذ المعهود فى الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم فى الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيها سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة. والمعنى الثانى هو أن يكون خشى من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيًا لله فى مخالفته لنبيه وترك اتباعه، متوعدًا بالعقاب على ذلك، لأن الله تعالى فرض اتباعه، فقال: (واتبعوه لعلكم تهتدون) [الأعراف: 158] ، وقال فى ترك اتباعه: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63] ، فخشى على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه، لأن طاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كطاعة الله، وكان (صلى الله عليه وسلم) رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم. وسيأتى فى باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام زيادة فى هذا المعنى وبيانه، إن شاء الله تعالى. وقال المهلب: فى حديث عائشة أن قيام رمضان بإمام ومأمومين سنة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) صلى بصلاته ناس ائتموا به، وهذا خلاف قول من أزرى فقال: [. . . .] عمر. ولم يتق الله فى مقالته،(3/118)
ولا صدق، لأن الناس كانوا يصلون لأنفسهم أفذاذًا، وإنما فعل عمر التخفيف عنهم، فجمعهم على قارئ واحد يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر. وقد احتج قوم من الفقهاء بقعود النبى (صلى الله عليه وسلم) عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة، أو الرابعة، وقالوا: إن صلاة رمضان فى البيت للمنفرد أفضل من صلاتها فى المسجد، منهم مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وقال مالك: كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا فى بيته. وذكر ابن أبى شيبة، عن ابن عمر، وسالم، وعلقمة، والأسود، أنهم كانوا لا يقومون مع الناس فى رمضان. وقال الحسن البصرى: لأن تفوه بالقرآن أحب إليك من أن يفاه به عليك. ومن الحجة لهم أيضًا حديث زيد بن ثابت: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين لم يخرج إليهم قال لهم: (إنى خشيت أن بفرض عليكم، فصلوا أيها الناس فى بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) . فأخبر أن التطوع فى البيت أفضل منه فى المسجد لاسيما مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مسجده. وخالفهم آخرون، فقالوا: صلاتها فى الجماعة أفضل. قال الليث: لو أن الناس فى رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حتى تترك المساجد، حتى لا يقوم فيها أحد لكان ينبغى أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه، لأن قيام الناس فى رمضان الأمر الذى لا(3/119)
ينبغى تركه، وهو مما سَنَّ عمر بن الخطاب للمسلمين وجمعهم عليه. ذكر ابن أبى شيبة، عن عبد الله بن السائب، قال: كنت أصلى بالناس فى رمضان، فبينا أنا أصلى إذ سمعت تكبير عمر على باب المسجد قدم معتمرًا، فدخل فصلى خلفى. وكان ابن سيرين يصلى مع الجماعة، وكان طاوس يصلى لنفسه ويركع ويسجد معهم، وقال أحمد بن حنبل: كان جابر يصليها فى جماعة. وروى عن على، وابن مسعود مثل ذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال الطحاوى: وممن قال إن الجماعة أفضل: عيسى بن أبان، والمزنى، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبى عمران، واحتج أحمد فى ذلك بحديث أبى ذر: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج لما بقى من الشهر سبع فصلى بهم حتى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بنا السادسة، ثم خرج الليلة الخامسة، فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا، قال: (إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة) ، ثم خرج الليلة السابعة، وخرجنا وخرج بأهله، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، وهو السحور. رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن داود بن أبى هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرشى، عن جبير بن نفير، عن أبى ذر. قال الطحاوى: وكل من اختار التفرد، فينبغى أن يكون ذلك على أن لا ينقطع معه القيام فى المسجد، فأما الذى ينقطع معه القيام فى المسجد فلا. قال: وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل(3/120)
المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبًا على الكفاية فمن فعله كان أفضل ممن انفرد كالفروض التى على الكفاية. قال ابن القصار: أما الذين لا يقدرون ولا يقوون على القيام، فالأفضل لهم حضورها ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة ويقيموا السنة التى قد صارت عَلَمًا.
71 - باب قِيَامِ اللَّيْلَ
قَالَتْ عَائِشَةُ: قام النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ. وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ، انْفَطَرَتْ: انْشَقَّتْ. / 97 - فيه: الْمُغِيرَةَ، إِنْ كَانَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) لَيَقُومُ؛ أو لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ، أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) . قال المهلب: فيه أخذ الإنسان على نفسه بالشدة فى العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، وذلك له حلال، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت، إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا أكون عبدًا شكورًا) ، فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله فى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أفضل الأسوة. وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد أمنوا، لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل(3/121)
استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى شكره تعالى بأكبر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك. ولهذا المعنى قال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى ولكن أصبحوا قانتين وأمسوا تائبين، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28] .
72 - باب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ
/ 98 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرِو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَهُ: (أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا) . / 99 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ أَحَبَّ الْعَمَل إِلَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الدَّائِمُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ) . / 100 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِى إِلا نَائِمًا، تَعْنِى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) . قال المهلب: هذا يدل أن دواد كان يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم فى الوقت الذى ينادى فيه الله تعالى: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح فيه من نصب القيام فى بقية الليل. وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على(3/122)
النفوس التى يخشى منها السآمة والملل الذى هو سبب إلى ترك العبادة، والله يحب أن يديم فضله، ويوالى إحسانه أبدًا، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله لا يمل حتى تملوا) . يعنى أن الله لا يقطع المجازاة على العبادة حتى تقطعوا العمل. فأخرج اللفظ المجازاة بلفظ الفعل، لأن الملل غير جائز على الله تعالى، ولا هو من صفاته. وقول عائشة: (كان يقوم إذا سمع الصارخ) ، فهو فى حدود ثلث الليل الآخر، ليتحرى وقت تنزل الله تعالى، ثم يرجع إلى الاضطجاع للراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول قيام صلاة الصبح، فلذلك كان ينام عند السحر، وهذا كان يفعله (صلى الله عليه وسلم) فى الليالى الطوال، وفى غير شهر رمضان، لأنه قد ثبت عنه تأخير السحور على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله.
73 - باب مَنْ تَسَحَّرَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى الصُّبْحَ
/ 101 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِىُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّيا قُلْت لأنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِى الصَّلاة؟ ِ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. فى هذا الحديث تأخير السحور. وقوله: (كم كان بين فراغهما ودخولهما فى الصلاة) يريد صلاة الصبح، وقد ترجم البخارى لهذا الحديث فى كتاب الصيام، باب قدر كم بين السحور وصلاة الصبح. إلا أنه أول ما قام إليه(3/123)
ركعتا الفجر، لأنه حين [. . . . .] الفجر، وكان بين سحوره (صلى الله عليه وسلم) وصلاة الصبح قدر خمسين آية [. . . .] تلك المدة التى تقدر بخمسين آية صلى ركعتى الفجر، ثم قعد ينتظر الصبح.
74 - باب طُولِ الْقِيَامِ فِى صَلاةِ اللَّيْلِ
/ 102 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) . / 103 - وفيه: حُذَيْفَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. قال المهلب: فيه أن مخالفة الإمام أمر سوء كما قال ابن مسعود، وقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون أمره) [النور: 63] الآية، وكذلك قال (صلى الله عليه وسلم) للذين صلوا خلفه قيامًا، وهو جالس: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، إلى قوله: (فإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون) ، فينبغى أن يكون ما خالف الإمام من أمر الصلاة وغيرها من سيئ الأعمال. وفى حديث ابن مسعود دليل على طول القيام فى صلاة الليل، لأن ابن مسعود أخبر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يزل قائمًا حتى همّ بالقعود، وهذا لا يكون إلا لطول القيام، لأن ابن مسعود كان جلدًا مقتديًا بالرسول محافظًا على ذلك.(3/124)
وقد اختلف العلماء: هل الأفضل فى صلاة التطوع طول القيام، أو كثرة الركوع والسجود، فذهبت طائفة إلى أن كثرة الركوع والسجود فيها أفضل، وروى عن أبى ذر: أنه كان لا يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة) . وروى عن ابن عمر، أنه رأى فتىً يصلى قد أطال صلاته، فلما انصرف قال: من يعرف هذا؟ قال رجل: أنا، قال عبد الله: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إذا قام العبد يصلى أتى بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقيه، وكلما ركع وسجد تساقطت عنه) . وقال يحيى بن رافع: كان يقال: لا تطل القراءة فى الصلاة، فيعرض لك الشيطان فيمنيك. وقال آخرون: طول القيام أفضل، واحتجوا بما روى وكيع، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: سئل رسول الله، أى الصلاة أفضل؟ قال: (طول القنوت) . وهو قول إبراهيم، وأبى مجلز، والحسن البصرى. وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وقال أشهب: هو أحب إلىّ لكثرة القراءة، على سعة ذلك كله. قال الطحاوى: وليس فى حديث أبى ذر ما يخالف هذا الحديث، لأنه قد يجوز أن يكون قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من ركع لله ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحَطَّ عنه خطيئة) . وإن زاد مع ذلك طول القيام كان أفضل، وكان ما يعطيهم الله من الثواب أكثر،(3/125)
هذا أَوْلى ما حُمل عليه معنى الحديث، لئلا يضاد الأحاديث الأُخر، وكذلك حديث ابن عمر ليس فيه تفضيل الركوع والسجود على طول القيام، وإنما فيه ما يعطاه المصلى على الركوع والسجود من حط الذنوب عنه، ولعله يعطى بطول القيام أفضل من ذلك، وحديث ابن مسعود يشهد بصحة هذا القول. قال المؤلف: وأما حديث حذيفة فلا مدخل له فى هذا الباب، لأن شوص الفم بالسواك فى صلاة الليل لا يدل على طول الصلاة، ولا قصرها، كما لا يدل عليه قوله: (لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، أنه أراد طوال الصلوات دون القصار، وهذا الحديث يمكن أن يكون من غلط الناسخ، فكتب فى غير موضعه، وإن لم يكن كذلك فإن البخارى أعجلته المنية عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا تدل على أنه مات قبل تحرير الكتاب، والله أعلم. وفيه: أن السواك من الرغائب وهو من الفطرة، وقال أبو زيد: الشوص: الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء (شَوْصَة) لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه. وقال أبو حنيفة فى كتاب النيات: شاص فاه بالسواك شوصًا، وماصه موصًا.(3/126)
75 - باب كَيْفَ صَلاةُ الليْلِ؟ وَكَمْ كَانَ الرسُول يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ؟
/ 104 - فيه: ابْن عُمَر،: إنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ) . / 105 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِي بِاللَّيْلِ. / 106 - وفيه: عَائِشَةَ، أن صَلاةِ النَّبِىّ بِاللَّيْلِ، سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتِى الْفَجْرِ. / 107 - وقالت أيضًا: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته بالليل مثنى مثنى، على حديث ابن عمر، وقالوا: قوله: (مثنى مثنى) يفيد التسليم فى كل ركعتين ليفصل بينها وبين صلاة أربع، وإلا فلا يفيد هذا الكلام، لأنه على التقدير تكون صلاة الظهر والعصر والعشاء مثنى مثنى، فلما لم يقل لواحدة منها مثنى مثنى علم أن المثنى يقتضى الفصل بالسلام، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى صلاة النهار، وهل هى مثنى مثنى فى بابه بعد هذا، إن شاء الله. وأما عدد صلاته (صلى الله عليه وسلم) بالليل، فإن الآثار اختلفت فى ذلك عن ابن عباس وعائشة، فروى أبو جمرة، عن ابن عباس: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى ثلاث عشرة ركعة. ورواه مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، أنه بات عند خالته ميمونة فذكر أنه صلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إحدى عشرة ركعة بالوتر. فهذا خلاف ما روى مالك، عن مخرمة، عن(3/127)
كريب، ذكره النسائى، وروى شريك ابن أبى نمر، عن كريب، عن ابن عباس، أنه صلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إحدى عشرة ركعة. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. وذكر الطحاوى، عن على بن معبد، قال: حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا يونس بن أبى إسحاق، عن المنهال بن عمر، عن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: أمرنى العباس أن أبيت عند النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقدم إلىّ ألا تنام حتى تحفظ لى صلاته، قال: فصليت معه إحدى عشرة ركعة بالوتر. وأما اختلاف الآثار، عن عائشة أيضًا، فروى مسروق، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة، عن عائشة: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى إحدى عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر. وروى عنها خلاف ذلك من حديث مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلى إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين. وكذلك روى عن زيد بن خالد الجهنى حين رمق صلاة النبى بالليل ثلاث عشرة ركعة بالوتر. وقد أكثر الناس القول فى هذه الأحاديث، فقال بعضهم: إن هذا الاختلاف جاء من قبل عائشة، وابن عباس، لأن رواة هذه الأحاديث الثقات الحفاظ، وكل ذلك قد عمل به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليدل على التوسعة فى ذلك، وأن صلاة الليل لا حدّ فيها لا يجوز تجاوزه إلى غيره وكلٌ سُنَّةٌ.(3/128)
وقال آخرون: بل جاء الاختلاف فيها من قبل الرواة، وأن الصحيح منها إحدى عشرة ركعة بالوتر. قالوا: وقد كشفت عائشة هذا المعنى ورفعت الإشكال فيه لقولها: (ما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزيد فى رمضان ولا فى غيره على إحدى عشرة ركعة) ، وهى أعلم الناس بأفعاله لشدة مراعاتها له، وهى أضبط لها من ابن عباس، لأنه إنما رمق صلاته مرةً حين بعثه العباس ليحفظ صلاته بالليل، وعائشة رقبت ذلك دهرها كله. فما روى عنها مما خالف إحدى عشرة ركعة فهو وهم، ويحتمل الغلط فى ذلك أن يقع من أجل أنهم عدّوا ركعتى الفجر مع الإحدى عشرة ركعة، فتمت بذلك ثلاث عشرة ركعة. وقد جاء هذا المعنى بيانًا فى بعض طرق الحديث، روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بت عند خالتى ميمونة، فقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلى، فتمطيت كراهية أن يرانى أراقبه، ثم قمت ففعلت مثل ما فعل فصلى فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، ثم نام حتى نفخ، فجاءه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ. وروى ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، ويونس، وعمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، أخبرهم عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد سجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر ركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة.(3/129)
فكل ما خالف هذا عن ابن عباس، وعائشة فهو وهم. وقالوا: ومما يدل على صحة هذا التأويل قول ابن مسعود للرجل الذى قال: قرأت المفصّل فى ركعة فقال: هذا كَهَذِّ الشِّعْر، لقد عرفت النظائر التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرن بينهما، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين فى كل ركعة. فدل هذا أن حزبه بالليل عشر ركعات، ثم يوتر بواحدة، قاله المهلب، وأخوه عبد الله. وقال آخرون: الذى تأتلف عليه أحاديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى الصلاة بالليل وينفى التعارض عنها، والله أعلم، أنه قد روى أبو هريرة، وعائشة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان إذا قام من الليل يصلى افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. فمن جعل صلاته بالليل عشر ركعات والوتر واحدة لم يعتد بهاتين الركعتين فى صلاته، ومن عدها جعلها ثلاث عشرة ركعة سوى ركعتى الفجر. وأما حديث أبى هريرة، فرواه ابن عيينة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا قام أحدكم من الليل يصلى فليصل ركعتين خفيفتين يفتتح بهما صلاته) . وحديث عائشة رواه ابن أبى شيبة، عن هشيم، قال: حدثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد(3/130)
بن هشام، عن عائشة، عن النبى مثله. وأما قول عائشة: (إن صلاة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالليل سبع وتسع) فقد روى الأسود عنها أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى من الليل تسع ركعات، فلما أسن صلى سبع ركعات. وروى عنها أنه كان يصلى بعد السبع ركعتين وهو جالس، وبعد التسع كذلك. رواه معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أخبرنا سعد بن هشام، أنه سمع عائشة تقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوتر بتسع ركعات وهو جالس، فلما ضعف أوتر بسبع ركعات وهو جالس. قال المهلب: وإنما كان يوتر بتسع ركعات، والله أعلم، حين يفاجئه الفجر، وأما إذا اتَّسَع له الليل فما كان ينقص من عشر ركعات، للمطابقة التى بينها وبين الفرائض التى امتثلها (صلى الله عليه وسلم) فى نوافله وامتثلها فى الصلوات المسنونة.
76 - باب قِيَامِ النَّبِىِّ بِاللَّيْلِ مِنْ نَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (إلى قوله: (سَبْحًا طَوِيلا) [المزمل: 1 - 7] وَقَوْلُهُ: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ (إلى قوله: (غفور رحيم) [المزمل: 20]
. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ: قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ: (وِطَاءً (قَالَ: مُوَاطَأَةَ للْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ.) لِيُوَاطِئُوا (: لِيُوَافِقُوا. / 108 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ. قال المؤلف: ذكر ابن الأدفوى أن للعلماء فى قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ) [المزمل: 2 - 3] أقوالا منها: أن قوله: (قُمِ اللَّيْلَ (ليس معناه الفرض، يدل على ذلك أن بعده: (نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل: 3 - 4] وليس كذا يكون الفرض وإنما هو ندب وحض.(3/131)
وقيل: هو حتم. والقول الثالث: أن يكون حتمًا وفرضًا على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وحده، روى ذلك عن ابن عباس، وحجة هذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن يفرض عليكم) فهذا يبين أنه لم يكن فرضًا عليهم. ويجوز أن يكون فرضًا عليه وعلى أمته، ثم نسخ بعد ذلك بقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل: 2] وعلى هذا جماعة من العلماء، وحجتهم ما روى النسائى، قال: حدثنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة: أنبئينى عن قيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قالت: إن الله افترض القيام فى أول) يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل: 1] على النبى وعلى أصحابه حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهرًا، ثم نزل التخفيف فى آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة، وقال النحاس: هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم وجماعة. وقال الحسن، وابن سيرين: صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة. قال إسماعيل بن إسحاق: أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ) [المزمل: 20] . وقال الشافعى: سمعت بعض العلماء يقول: إن الله، تعالى، أنزل فرضًا فى الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ) [المزمل: 1 - 3] الآية، ثم نسخ هذا بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ (ثم احتمل قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ (أن يكون فرضًا ثابتًا، لقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) [الإسراء: 79] ،(3/132)
فوجب طلب الدليل عن السُّنَّة على أحد المعنيين، فوجدنا سُنَّة الرسول تدل ألا واجب من الصلوات إلا خمس. وقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل: 2 - 4] التقدير، والله أعلم، أنه منصوب بإضمار فعل كأنه قال تعالى: قم نصف الليل إلا قليلا، فعلم تعالى أن هذا القليل يختلف الناس فى تقديره على قدر أفهامهم وطاقتهم على القيام، فقال: أو انقص من نصف الليل بعد إسقاط ذلك القليل قليلا أو زد عليه، وكأن هذا تخييرًا من الله تعالى، إرادة الرفق بخلقه والتوسعة عليهم.) وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4] أى اقرأه على ترسل، عن مجاهد.) قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل: 5] حلاله وحرامه، عن مجاهد. وقيل: العمل به، عن الحسن) نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) [المزمل: 6] بعد النوم، أى ابتداء عمله شيئًا بعد شىء وهو من نشأ إذا ابتدأ. ابن عباس ومجاهد: هى الليل كله. ابن عمر وغيره: هى ما بين المغرب والعشاء.) أَشَدُّ وَطْئًا) [المزمل: 6] أى أمكن موقعًا. الأخفش: أشد قيامًا. قتادة: أثبت فى الخير، وأشد للحفظ، للتفرغ بالليل. وأصل الوطء الثقل، ومن قولهم: اشتدت وطأة الشيطان(3/133)
ومن قرأ: (وطاء) فالمعنى أشد مهادًا للتصرف فى التفكر والتدبر، عن مجاهد، يواطئ السمع والبصر والقلب.) وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل: 6] أى أثبت للقراءة، عن مجاهد. قال بعضهم: ولهذا المعنى فرض الله صلاة الليل بالساعات جزءًا من الليل لا جزءًا من القرآن، إرادة التنبيه على تفقهه وتدبره والعمل بالقلب، وأنه ليس بهذه الحروف وجريه على اللسان، وأن الثواب بمقدار تمام الساعات التى يقرأ فيها.) سَبْحًا طَوِيلاً) [المزمل: 7] أى فراغاً، عن ابن عباس وغيره. قال المهلب: وحديث أنس يدل أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هى على قدر الإرادة لها والنشاط فيها.
77 - باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ
/ 109 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرَسُولَ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عِنْدَ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ) . / 110 - وفيه: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنِ الرَسُولَ فِى الرُّؤْيَا قَالَ: (أَمَّا الَّذِى يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ) . قال المهلب: قد فسر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، معنى العقد وهو قوله: (عليك ليل طويل فارقد) كأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ إلى حزبه فيعتقد فى نفسه أنه بقيت من الليل بقية طويلة حتى يروم(3/134)
بذلك إتلاف ساعات ليله وتفويت حزبه، فإذا ذكر الله انحلت عقدة، أى علم أنه قد مر من الليل طويل وأنه لم يبق منه طويل، فإذا قام وتوضأ استبان له ذلك أيضًا وانحل ما كان عقد فى نفسه من الغرور والاستدراج، فإذا صلى واستقبل القبلة انحلت العقدة الثالثة، لأنه لم يصغ إلى قوله، ويئس الشيطان منه. والقافية: هى مؤخرة الرأس، وفيه العقل والفهم، فعقده فيه إثباته فى فهمه أنه بقى عليه ليل طويل. (فيصبح نشيطًا طيب النفس) ، لأنه مسرور بما قدم، مستبشر بما وعده الله من الثواب والغفران، وإذا لم يصل (أصبح خبيث النفس) ، أى مهمومًا بجواز كيد الشيطان عليه، و (كسلان) بتثبيط الشيطان له عما كان اعتاده من فعل الخير. قال المؤلف: ورأيت لبعض من فَسَّرَ هذا الحديث، قال: العقد الثلاث هى: الأكل والشرب والنوم، وقال: ألا ترى أن من أكثر الأكل والشرب أنه يكثر نومه لذلك، والله أعلم بصحة هذا التأويل وبما أراد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك. قال المهلب: وقوله فى حديث سمرة: (يأخذ القرآن فيرفضه) ، يعنى يترك حفظ حروفه والعمل بمعانيه، فأما إذا ترك حفظ حروفه وعمل بمعانيه فليس برافض له، لكنه قد أتى فى الحديث أنه يحشر يوم القيامة أجذم أى مقطوع الحجة، والرافض له يثلغ رأسه وذلك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة فى موضع المعصية. وقوله: (ينام عن الصلاة المكتوبة) ، يعنى لخروج وقتها وفواته، وهذا إنما يتوجه إلى تضييع صلاة الصبح وحدها، لأنها هى التى(3/135)
تبطل بالنوم، وهى التى أكد الله المحافظة عليها، وفيها تجتمع الملائكة، وسائرُ الصلوات إذ ضُيعت فحملها محملها، لكن لهذه الفضل.
78 - باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ
/ 111 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ مَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَالَ: (بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنِهِ) . قال المهلب: قوله: (بال الشيطان فى أذنه) على سبيل الإغياء من تحكم الشيطان فى العقد على رأسه بالنوم الطويل، وقال ابن مسعود: كفى لامرئ من الشر أن يبول الشيطان فى أذنه. قال ابن قتيبة: والعرب تقول: بال فى كذا إذا أفسده، قال الفرزدق: وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها معناه: يطلب مفسدتها.
79 - باب الدُّعَاءِ فِى الصَّلاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَقَالَ تَعَالَى: (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات: 17] يَنَامُونَ.
/ 112 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ(3/136)
إِلَى سَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ) . قال ابن فورك: حجة أهل البدع هذا الحديث وشبهه، وقالوا: لا يمكن حمل شىء منه على تأويل صحيح من غير أن يكون فيه تشبيه، أو تحديد، أو وصف للرب تعالى بما لا يليق به، وقد ورد التنزيل، بمعنى هذا الحديث وهو قوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) [الفجر: 22] ، و) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة) [البقرة: 21] ، و) أتى الله بنيانهم من القواعد) [النحل: 26] . ولا فرق بين الإتيان والمجئ والنزول إذا أضيف جميع ذلك إلى الأجسام التى يجوز عليها الحركة والنقلة التى هى تفريغ مكان زشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته عزَّ وجلَّ. فمن ذلك أنا وجدنا لفظة النزول فى اللغة مستعملة على معانٍ مختلفة، فمنها النزول بمعنى الانتقال والتحويل كقوله: (وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا) [الفرقان: 48] ، ومنها النزول بمعنى الإعلام كقوله: (نزل به الروح الأمين) [الشعراء: 193] ، أى أعلم به الروحُ الأمين محمدًا، (صلى الله عليه وسلم) . ومنها النزول بمعنى القول فى قوله تعالى: (سأنزل مثل ما أنزل الله) [الأنعام: 93] ، أى سأقول مثل ما قال، ومنها النزول بمعنى الإقبال على الشىء، وذلك هو المستعمل فى كلامهم الجارى فى عرفهم، وهو(3/137)
أنهم يقولون: نزل فلان من مكارم الأخلاق إلى دنيّها، أى أقبل إلى دنيها، ونزل قدر فلان عند فلان، أى انخفض. ومنها النزول بمعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا فى خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان، أى حكمهم، وكل ذلك متعارف عند أهل اللغة، وإذا كانت هذه اللفظة مشتركة المعنى فينبغى حمل ما وصف به الرب تعالى من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعانى. إما أن يراد به إقباله على أهل الأرض بالرحمة والتنبيه الذى يلقى فى قلوب أهل الخير منهم، والزواجر التى تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة، ويحتمل أن يكون ذلك فعلا يظهر بأمره، فيضاف إليه، كما يقال: ضرب الأمير اللص، ونادى الأمير فى البلد، وإنما أمر بذلك، فيضاف إليه الفعل على معنى أنه عن أمره ظهر، وإذا احتمل ذلك فى اللغة لم ينكر أن يكون لله ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا النداء والدعاء، فيضاف إلى الله. وقد روى هذا التأويل فى بعض طرق هذا الحديث، روى النسائى، قال: حدثنا إبراهيم ابن يعقوب، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبى، عن الأعمش، حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو مسلم، عن الأغر، قال: سمعت أبا هريرة، وأبا سعيد الخدرى يقولان: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا ينادى يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى) . وقد سئل الأوزاعى عن معنى هذا الحديث، فقال: يفعل الله ما يشاء. وهذه إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه تعالى.(3/138)
وقد روى حبيب، عن مالك، أنه قال فى هذا الحديث: ينزل أمره ورحمته، وقد رواه غير حبيب عنه، روى محمد بن على البجلى بالقيروان، قال: حدثنا جامع بن سوادة، قال: حدثنا مطرف، عن مالك بن أنس، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: ذلك تنزل أمره. وقد سئل بعض العلماء عن حديث النزول، فقال: تفسيره قول إبراهيم حين أفل النجم: (لا أحب الآفلين) [الأنعام: 76] فطلب ربا لا يجوز عليه الانتقال والحركات، ولا يتعاقب عليه النزول، وقد مدحه الله بذلك وأثنى عليه فى كتابه، فقال: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين) [الأنعام: 75] ، فوصفه لأنه بقوله هذا، موقن. وفى حديث أبى هريرة أن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار، وقال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) [الذرايات: 18] وروى محارب بن دثار، عن عمه: أنه كان يأتى المسجد فى السحر فيمر بدار ابن مسعود فيسمعه: اللهم إنك أمرتنى فأطعت، ودعوتنى فأجبت، وهذا السحر فاغفر لى. فسئل ابن مسعود عن ذلك، فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: (سوف أستغفر لكم ربى) [يوسف: 98] . وروى الجريرى: (أن داود، (صلى الله عليه وسلم) ، سأل جبريل أى الليل أسمع؟ فقال: لا أدرى، غير أن العرش يهتز فى السحر) . وقوله: (أسمع) يريد أنها أوقع للسمع، والمعنى: أنها أولى بالدعاء وأرجى للاستجابة، وهذا كقول ضماد حين عَرض عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الإسلام، فقال: سمعت كلامًا لم أسمع قط أسمع منه يريد أبلغ منه، ولا أنجع فى القلب. عن الخطابى.(3/139)
وترجم لحديث التنزل فى كتاب الدعاء، باب الدعاء نصف الليل، وسأذكر فيه معنى تخصيص الله ثلث الليل بإجابة الدعاء، إن شاء الله تعالى.
80 - باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ
وَقَالَ سَلْمَانُ لأبِى الدَّرْدَاءِ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ: قُمْ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ سَلْمَانُ) . / 113 - وفيه: الأسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلاةُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ، وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَت بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ. قال المهلب: إنما كان يقوم آخره من أجل حديث التنزل، وهذا كان فعل السلف، روى الزهرى، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القارى، قال: قال عمر بن الخطاب: الساعة التى تنامون فيها أعجب إلىّ من الساعة التى تقومون فيها. وقال ابن عباس فى قيام رمضان: ما تتركون منه أفضل مما تقومون فيه. وفيه: دليل أنه فى رجوعه من الصلاة إلى فراشه قد كان يطأ ويصبح جنبًا، ثم يغتسل، وقد كان لا يفعل ذلك.
81 - باب قِيَامِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِاللَّيْلِ فِى رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ
/ 114 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَزِيدُ فِى رَمَضَانَ وَلا فِى غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى أَرْبَعًا، فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاثًا، قَالَتْ(3/140)
عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَىَّ تَنَامَانِ، وَلا يَنَامُ قَلْبِى) . / 115 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَقْرَأُ فِى شَىْءٍ مِنْ صَلاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِىَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَهُنّ، َ ثُمَّ رَكَعَ. وقد تقدم اختلاف الآثار فى عدد صلاته (صلى الله عليه وسلم) بالليل فى باب كيف كانت صلاته بالليل، وكم كان يصلى بالليل، فأغنى عن إعادته. وقد اختلف السلف فى عدد الصلاة فى رمضان، فذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا يزيد ابن هارون، قال: حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى فى رمضان عشرين ركعة والوتر، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وبه قال: الكوفيون والشافعى، إلا أن إبراهيم هذا هو جد بنى شيبة، وهو ضعيف، فلا حجة فى حديثه، والمعروف القيام بعشرين ركعة فى رمضان عن عمر وعلى. وقال عطاء: أدركت الناس يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة، الوتر منها ثلاثًا. وروى ابن مهدى عن داود بن قيس، قال: أدركت الناس بالمدينة فى زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة، ويوترون بثلاث، وهو قول مالك وأهل المدينة.(3/141)
وأما قول عائشة: يصلى أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، فقد تقدم فى أبواب الوتر أن ذلك مرتب على قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الليل مثنى مثنى) لأنه مفسر وقاض على المجمل، وقد جاء بيان هذا فى بعض طرق هذا الحديث، روى ابن أبى ذئب، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل إحدى عشرة ركعة بالوتر، يسلم بين كل ركعتين. وقيل فى قولها: يصلى أربعًا، ثم أربعًا، أنه كان ينام بعد الأربع، ثم يصلى، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث، فاحتج من قال ذلك بحديث الليث، عن ابن أبى مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة أنها وصفت صلاة رسول الله بالليل وقراءته فقالت: كان يصلى ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلى قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يقوم فيوتر. وقال أبو الحسن القابسى: أما قول عائشة للنبى (صلى الله عليه وسلم) : تنام قبل أن توتر، فإنها توهمت أن الوتر بإثر العشاء لا يكون غيره على ما رأت من أبيها، لأنه كان يوتر بإثر العشاء، فلما أتت النبى ورأته يؤخر وتره إلى الوقت المرغب فيه رأت خلاف ما علمت من فعل أبيها، فسألته (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فأخبرها أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه وليس ذلك لأبيها، وهذه من أعلى مراتب الأنبياء، عليهم السلام، ولذلك قال ابن عباس: (رؤيا الأنبياء وحى) لأنهم يفارقون سائر البشر فى نوم القلب ويساوونهم فى نوم العين. روى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبى، - عليه(3/142)
السلام -، نام حتى سمع غطيطه، ثم صلى ولم يتوضأ، قال عكرمة: كان رسول الله محفوظًا. فإن قيل: فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ من النوم. قيل له: كان يتوضأ لكل صلاة، ولا يبعد أن يتوضأ إذا خامر قلبه النوم واستولى عليه، وذلك فى النادر كنومه فى سفره عن صلاة الصبح، لِيَسُنَّ لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان مغلوبًا بنوم أو نسيان. وفى حديث عائشة الثانى قيامه (صلى الله عليه وسلم) بالليل. قال المهلب: ومعنى قيامه بالليل عند الركوع، والله أعلم، لئلا يخلى نفسه من فضل القيام فى آخر الركعة، وليكون انحطاطه إلى الركوع والسجود من القيام، إذ هو أبلغ وأشد فى التذلل والخضوع لله، عز وجل.
82 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ بَعْدَ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
/ 116 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِبِلال: حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإسْلامِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِي الْجَنَّةِ؟) قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلا أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ. قال المهلب: فيه دليل أن الله يعظم المجازاة على ما ستر العبد بينه وبين ربه مما لا يطلع عليه أحد، ولذلك استحب العلماء أن يكون بين(3/143)
العبد وبين ربه خبيئة عمل من الطاعة يدخرها لنفسه عند ربه، ويدل أنها كانت خبيئة بين بلال وبين ربه أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يعرفها حتى سأله عنها، وفى سؤال النبى عن ذلك دليل على سؤال الصالحين عما يهديهم الله إليه من الأعمال المقتدى بهم فيها، ويمتثل رجاء بركتها. وقوله: (دف نعليك) قال: وقال صاحب العين: يقال: دف الطائر إذا حرك جناحيه، ورجلاه فى الأرض.
83 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ
/ 117 - فيه: أَنَسِ، دَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: (مَا هَذَا الْحَبْلُ؟) قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ به، فَقَالَ: (صلى الله عليه وسلم) : (لا حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) . / - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِى امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟) قُلْتُ: فُلانَةُ، لا تَنَامُ بِاللَّيْلِ، تَذْكُر مِنْ صَلاتِهَا، فَقَالَ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) . إنما يكره التشديد فى العبادة خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله: (خير العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل) وقد قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] وقال تعالى: (وما جعل(3/144)
عليكم فى الدين من حرج) [الحج: 78] فكره (صلى الله عليه وسلم) الإفراط فى العبادة، لئلا ينقطع عنها المرء فيكون كأنه رجوع فيما بذله من نفسه لله، تعالى، وتطوع به، وقد تقدم معنى قوله: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) فى كتاب العلم، ونذكر منه هاهنا طرفًا، والمعنى أن الله لا يقطع الثواب عنكم حتى تقطعوا أنتم العمل به بالملل الذى هو من شأنكم، لأن الملل لا يجوز على الله ولا هو من صفاته، وإنما أخبر بالملل عنه تعالى للمساواة بين قسمى الكلام، كما قال تعالى: (ومكروا ومكر الله) [آل عمران: 54] . وقد اختلف السلف فى التعلق بالحبل فى النافلة عند الفتور والكسل، فذكر ابن أبى شيبة عن أبى حازم: أن مولاته كانت فى أصحاب الصفة قالت: وكانت لنا حبال نتعلق بها إذا فترنا ونعسنا فى الصلاة، فأتانا أبو بكر فقال: اقطعوا هذه الحبال وافضوا إلى الأرض. وقال حذيفة فى التعلق فى الصلاة: إنما يفعل ذلك اليهود، ورخص فى ذلك آخرون، قال عراك بن مالك: أدركت الناس فى رمضان تربط لهم الحبال يستمسكون بها من طول القيام. وفى باب استعانة اليد فى الصلاة بعد هذا من كره الاعتماد على الشىء فى الصلاة ومن أجازه(3/145)
84 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ
/ 119 - فيه: عَبْدُ اللَّه بْنُ عَمْرِو، قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ: (أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ باللَّيْلِ وَتَصُومُ بالنَّهَارِ؟) ، قُلْتُ: إِنِّى أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: (فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلأهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ) . قال المهلب: فيه أن من دخل فى طاعة الله وقطعها فإنه مذموم، وقد عاب الله قومًا بذلك فقال: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) [الحديد: 27] فاستحقوا الذم حين لم يفوا بما تطوعوا به، ولا رعوه حق رعايته، فصار رجوعًا منهم عنه، فلذلك لا ينبغى أن يدخل فى شىء من العبادة ويرجع عنها، بل ينبغى أن يرتقى المرء كل يوم فى درج الخير، ويرغب إلى الله أن يجعل خاتمة عمله خيرًا من أوله، ولذلك كان (صلى الله عليه وسلم) لا يحب من العمل إلا ما دام عليه صاحبه وإن قل. فإن كان قطع العمل بمرض أو شغل وضعف عنه فلا لوم عليه، بل يرجى له من الله ألا يقطع أجره، فقد جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن المريض يكتب له أجر ما كان يعمله فى صحته، وفى كتاب الله ما يشهد لذلك قوله: (ثم رددناه أسفل سافلين) [التين: 5] ، يعنى بالهرم والضعف) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) [التين: 6] ، أى غير مقطوع وإن ضعفوا عن العمل يكتب لهم أجر عملهم فى الشباب والصحة. وقوله: (إن لنفسك عليك حقًا) يريد ما جعل الله، تعالى، للإنسان من الراحة المباحة واللذة فى غير محرم، فإن فى ذلك قوة على طاعة الله ونشاطًا إليها، وكذلك للأهل حق على الزوج أن يوفيهم حقوق الزوجية، وأن ينظر لهم فيما لابد لهم من أمور الدنيا والآخرة.(3/146)
وقوله (هجمت عينك) : غارت، عن أبى عمرو الشيبانى. وقال الأصمعى: هجمت ونفهت: أعيت، ويقال للمُعْيى: نافه ومُنفَّه.
85 - باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى
/ 120 - فيه: عُبَادَةُ، قَالَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلى العظيم، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاتُهُ) . / 127 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لا يَقُولُ الرَّفَثَ) ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ رَوَاحَةَ: وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا يَبِيتُ يُجَافِى جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ / - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ اِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّى لا أُرِيدُ مَكَانًا مِنَ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ وكَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِى أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِى إِلَى النَّارِ، فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ، فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ، خَلِّيَا عَنْهُ. وذكر الحديث. قال المؤلف: حديث عبادة شريف عظيم القدر، وفيه ما وعد الله(3/147)
عباده على التيقظ من نومهم لهجة ألسنتهم بشهادة التوحيد له والربوبية، والإذعان له بالملك، والاعتراف له بالحمد على جزيل نعمه التى لا تحصى، رطبة أفواهم بالإقرار له بالقدرة التى لا تتناهى، مطمئنة قلوبهم بحمده وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بالإلهية من صفات النقص، والتسليم له بالعجز عن القدرة عن نيل شىء إلا به تعالى. فإنه وعد بإجابة دعاء من بهذا دعاه، وقبول صلاة من بعد ذلك صلى، وهو تعالى لا يخلف الميعاد، وهو الكريم الوهاب فينبغى لكل مؤمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه العظيم أن يرزقه حظا من قيام الليل، فلا عون إلا به، ويسأله فكاك رقبته من النار، وأن يوفقه لعمل الأبرار، ويتوفاه على الإسلام. قد سأل ذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله وصفوه من خلقه، فمن رزقه الله حظا من قيام الليل فليكثر شكره على ذلك، ويسأله أن يديم له ما رزقه، وأن يختم له بفوز العاقبة، وجميل الخاتمة. وقوله: (إن أخا لكم لا يقول الرفث) وذكر قول ابن رواحة يدل أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام، وتبين أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا) أنه لا يراد به كل الشعر، وإنما المراد به الشعر الذى فيه الباطل والهجر من القول، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قد نفى عن ابن رواحة بقوله هذه الأبيات، قول الرفث، وإذا لم تكن من الرفث فهى فى حَيِّزِ الحق، والحق مرغب فيه، مأجور عليه صاحبه. وفى حديث ابن عمر أن قيام الليل ينجى من النار، وقد تقدم القول فيه فى باب فضل قيام الليل، وقال صاحب العين:(3/148)
التعارّ: السهر والتقلب على الفراش ليلا مع كلام، أخذه من عرار الطير وهو صوته.
86 - باب الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
/ 123 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْعِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَان رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا. هذا الحديث يدل على فضل ركعتى الفجر وأنهما من أشرف التطوع، لمواظبته (صلى الله عليه وسلم) عليهما وملازمته لهما. روى ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله يسرع إلى شىء من النوافل إسراعه إلى ركعتى الفجر، ولا إلى غنيمة. وروى قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: قال رسول الله: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) . وقال أبو هريرة: لا تدع ركعتى الفجر ولو طرقتك الخيل. وقال عمر: هما أحب إلى من حمر النعم. وقال إبراهيم: إذا صلى ركعتى الفجر ثم مات أجزأه من صلاة الفجر. وقال على: سألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن إدبار النجوم، فقال: (ركعتين بعد الفجر) قال على وأدبار السجود: ركعتين بعد المغرب. وروى مثله عن عمر، وأبى هريرة. واختلف العلماء فى الوقت الذى يقضيهما فيه من فاتته، فقالت(3/149)
طائفة: يركعهما بعد صلاة الصبح، هذا قول: عطاء وطاوس، ورواية عن ابن عمر، ورواية المزنى، عن الشافعى، وأبى ذلك مالك وأكثر العلماء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس) . وقالت طائفة: يقضيهما بعد طلوع الشمس، روى ذلك عن ابن عمر، والقاسم بن محمد، وهو قول: الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، ورواية البويطى، عن الشافعى، وقال مالك، ومحمد بن الحسن: يقضيهما بعد طلوع الشمس إن أحب، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يقضيهما من فاتته، وليسا بمنزلة الوتر. واختلفوا فيمن لم يصلهما وأدرك الإمام فى صلاة الصبح أو أقيمت عليه، فقالت طائفة: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، روى ذلك عن عمر وابن عمر، وأبى هريرة، وبه قال: الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وفيه قول ثان: أنه يصليهما فى المسجد والإمام يصلى، روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الثورى والأوزاعى، إلا أنهما قالا: إن خشى أن تفوته الركعتان دخل مع الإمام، وإن طمع بإدراك الركعة الثانية صلاهما ثم دخل مع الإمام. وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه قال: لا يركعهما فى المسجد. وقال مالك: إن دخل المسجد فلا يركعهما وليدخل معه فى الصلاة، وإن كان خارج المسجد ولم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إن أحب بعد طلوع الشمس.(3/150)
87 - باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ
/ 124 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا صَلَّى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الضجعة بعد ركعتى الفجر سُنَّة يجب بها العمل وممن كان يفعلها: أبو موسى الأشعرى، ورافع بن خديج، ورواية ضعيفة عن ابن عمر ذكرها ابن أبى شيبة، وروى مثله عن ابن سيرين وعروة. وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الضجعة إنما كان يفعلها للراحة من تعب القيام، وكرهوها، وممن كرهها من السلف: ذكر ابن أبى شيبة، قال: قال أبو الصديق الناجى: رأى ابن عمر قومًا قد اضطجعوا بعد ركعتى الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السُّنَّة، فقال ابن عمر: ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة. وعن ابن المسيب قال: رأى ابن عمر رجلا اضطجع بعد الركعتين فقال: احصبوه. وقال أبو مجلز: سألت ابن عمر عنها، فقال: يتلعب بكم الشيطان. وقال ابن مسعود: ما بال أحدكم إذا صلى الركعتين يتمعك كما يتمعك الحمار. وكرهها النخعى. وقال سعيد بن جبير: لا تضطجع بعد الركعتين قبل الفجر، واضطجع بعد الوتر. قال المهلب: واضطجاعه (صلى الله عليه وسلم) بعد الركعتين إنما(3/151)
كان فى الغِبِّ، لأنه كان أكثر عمله أن يصليهما إذا جاءه المؤذن للإقامة.
88 - باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ
/ 125 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا صَلَّى، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِى، وَإِلا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاةِ. قال المؤلف، رحمه الله: هذا الحديث يبين أن الضجعة ليست بسُنَّة، وأنها للراحة، فمن شاء فعلها ومن شاء تركها، ألا ترى قول عائشة: فإن كنت مستيقظة حدثنى وإلا اضطجع، فدل أن اضطجاعه (صلى الله عليه وسلم) إنما كان يفعله إذا عدم التحدث معها ليستريح من تعب القيام، وفى سماع ابن وهب قيل: فمن ركع ركعتى الفجر، أيضطجع على شقه الأيمن؟ قال: لا، يريد لا يفعله استنانًا، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يجعله استنانًا، وكان ينتظر المؤذن حتى يأتيه. فإن قيل: فما وجه تركه (صلى الله عليه وسلم) الاستغفار حين كان يحدثها إذا كانت مستيقظة، وقد مدح الله، تعالى، المستغفرين بالأسحار؟ . فالجواب: أن السحر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعده ومنه قيل للسحور سحورًا، لأنه طعام فى السحر قبل الفجر، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) أخذ بأوفر الحظ من قيام الليل والاستغفار، وقد جاء فى حديث التنزيل: (أن الله، تعالى، ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى(3/152)
فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له) فذكر أن الاستغفار المندوب إليه المرجو بركة إجابته، هو قبل الفجر، وليس المستغفر ممنوعًا من أن يتكلم فى حال استغفاره بما به الحاجة إليه من إصلاح شأنه وعلم ينشره، ولا يخرجه ذلك من أن يسمى مستغفرًا. واختلف السلف فى الكلام بعد ركعتى الفجر، فقال نافع: كان ابن عمر ربما تكلم بعد ركعتى الفجر، وقال إبراهيم: لا بأس أن يسلم ويتكلم بالحاجة بعد ركعتى الفجر، وعن الحسن وابن سيرين مثله. وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير، وكان مالك يتكلم فى العلم بعد ركعتى الفجر، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حتى تطلع الشمس، قال مالك: لا يكره الكلام قبل الفجر، وإنما يكره بعدها إلى طلوع الشمس. وممن كان لا يرخص فى الكلام بعد ركعتى الفجر، قال مجاهد: رأى ابن مسعود رجلا يتكلم بعد ركعتى الفجر، فقال: إما أن تذكر الله وإما أن تسكت، وعن سعيد بن جبير مثله. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الكلام بعد ركعتى الفجر، وهو قول عطاء، وسئل جابر ابن زيد: هل يفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلها بكلام؟ قال: لا، ألا أن يتكلم بحاجة إن شاء. ذكر هذه الآثار ابن أبى شيبة، والقول الأول أولى بشهادة السُّنَّة الثابتة له، ولا قول لأحد مع السُّنَّة. واختلفوا فى التنفل بعد طلوع الفجر، فكرهت طائفة الصلاة بعد الفجر إلا ركعتى الفجر، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، ورواية عن عطاء، وحجتهم حديث موسى بن عقبة،(3/153)
عن نافع، عن ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتى الفجر) ويروى أيضًا من مرسلات ابن المسيب عن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأجاز ذلك آخرون، روى هذا عن طاوس والحسن البصرى، ورواية عن عطاء، قالوا: إذا طلع الفجر فَصَلِّ ما شئت، ذكر هذا عبد الرزاق. [أبواب التطوع]
89 - باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِى ذَرٍّ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِىِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصَارِىُّ: مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلا يُسَلِّمُونَ فِى كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ النَّهَارِ. / 126 - فيه: جَابِر، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِى، وَيَسِّرْهُ لِى، ثُمَّ بَارِكْ لِى فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لِى فِى دِينِى وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى، أَوْ قَالَ: فِى عَاجِلِ أَمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِى، قَالَ: وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ. / 127 - وفيه: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ) .(3/154)
/ 128 - وفيه: أَنَسِ، صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ. / 129 - وفيه ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. / 130 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَخْطُبُ: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ، أَوْ قَدْ خَرَجَ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) . / 131 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِى وَجْهِ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِرَكْعَتَىِ الضُّحَى. وَقَالَ عِتْبَانُ: صَلَّى الرَسُولَ فى بيتى ركعتين. واختلف الفقهاء فى التطوع بالليل والنهار كيف هو؟ فقالت طائفة: هو مثنى مثنى، هذا قول: ابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والشافعى، وأبى ثور، وهو قول: أبى يوسف، ومحمد فى صلاة الليل. وقال أبو حنيفة: أما صلاة الليل فإن شئت صليت ركعتين وإن شئت صليت أربعًا، وإن شئت صليت ستا، وإن شئت ثمانيًا، وكره أن يزيد على ذلك شيئًا. قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا، وحجة أبى حنيفة لقوله فى صلاة الليل حديث عائشة أنها قالت: كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى بالليل أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا. فقال لهم أهل المقالة الأولى: ليس فى حديث عائشة يصلى أربعًا،(3/155)
أن الأربع بسلام واحد، وإنما أرادت العدد فى قولها أربعًا، ثم أربعًا، ثم ثلاثًا، بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا يقتضى ركعتين ركعتين بسلام بينهما على ما قدمناه فى باب كيف كانت صلاة الليل. وقد رد الطحاوى على أبى حنيفة، وقال: قد روى الزهرى، عن عروة، عن عائشة، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يسلم بين كل اثنتين منهن، قال: وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمر به، وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من قوله، ولا من فعله أنه (صلى الله عليه وسلم) أباح أن يصلى بالليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، وهذا أصح القولين عندنا. وأما صلاة النهار فالحجة لأبى حنيفة ما رواه شعبة، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم ابن منجاب، عن قزعة، عن القَرْثَع، عن أبى أيوب الأنصارى، عن الرسول، قال: (أربع ركعات قبل الظهر لا تسليم فيهن تفتح لهن أبواب السماء) وقال إبراهيم: كان عبد الله يصلى قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، لا يفصل بينهن بسلام. وروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا. قال ابن القصار: فالجواب أن حديث أبى أيوب إنما يدل على فضل الأربع إذا اتصلت وفعلت فى هذا الوقت، ولا يدل على أن أكثر من الأربع لا يكون أفضل منها إذا كانت منفصلة، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قد يذكر فضل الشىء ويكون هناك ما لو قاله أو فعله لكان أفضل، ألا ترى أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) أفترى أن ليس رطل تمرٍ(3/156)
أفضل من تمرة، فإنما نبّه بذكره على أربع ركعات على أن الأكثر يكون أفضل، فلو صلى عشرين ركعة يسلم فى كل ركعتين لكان أفضل من أربع متصلة، فسقط قولهم. قال غيره: وما أثبته البخارى من الروايات المتواترة عن الرسول فى صلاته ركعتين من طرق فى الأوقات المختلفة، منها قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين) يدخل فى عمومه إذا دخل المسجد قبل الظهر، وفى جميع أوقات النهار والليل المباحة للتنفل. وكذلك روى ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، فهذا كله يفسر حديث أبى أيوب أن الأربع التى حض عليهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل الظهر إنما أراد اتصالهن ذلك الوقت، لا أَنَّهُ لا سلام بينهن، لما صح من صلاته (صلى الله عليه وسلم) قبل الظهر وبعدها ركعتين، فوجب رد ما خالف هذا المعنى إليه، والله الموفق. وأما حديث جابر أن الرسول، قال: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين) فإنها قصة السليك. قال الأصيلى: وخالف شعبة فيه أصحاب عمرو بن دينار سوى ابن جريج وحماد بن زيد وابن عيينة، فرووه عن عمرو، عن جابر، أن رجلا جاء إلى المسجد والنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يخطب قال له: (أصليت) ؟ قال: لا، قال: (قم فاركع ركعتين) قصة السليك، وكذلك روى أبو الزبير عن جابر، فانفرد شعبة بما لم يتابع عليه، ولم تكن زيادة زادها الحافظ على غيره، بل هى قصة منقلبة عن وجهها. وقال يحيى بن معين: أحق أصحاب عمرو بن دينار بحديثه سفيان بن عيينة.(3/157)
90 - باب الْحَدِيثِ، بَعْدَ رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ
قد تقدم هذا الباب فلا معنى لتكراره.
91 - باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا
/ 132 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى شَىْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ. العلماء متفقون على تأكيد ركعتى الفجر، إلا أنهم اختلفوا فى تسميتها، فذكر ابن أبى شيبة عن الحسن البصرى أنهما واجبتان، وذهبت طائفة من العلماء إلى أنهما سُنَّة، هذا قول أشهب، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأَبَى كثير منهم أن يسميها سُنَّة، قال مالك فى المختصر: ليستا بسُنَّة، وقد عمل بها المسلمون فلا ينبغى تركها، وذكر ابن المواز عن ابن عبد الحكم وأصبغ أنهما ليستا بسُنَّة، وهما من الرغائب. والحجة لمن أوجبهما: ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قضاهما بعد طلوع الشمس يوم نام عن الصلاة لما قضى الفريضة ولم يأت عنه أنه قضى شيئًا من السنن بعد خروج وقتها غيرهما،(3/158)
وحجة من جعلهما سُنَّة: مواظبة الرسول عليهما، وشدة تعاهده لهما، وأن النوافل تصير سننًا بذلك. وحجة من لم يسمهما سُنَّة، قول عائشة: لم يكن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على شىء من النوافل أشد تعاهدًا منه عليهما، فجعلتهما من جملة النوافل، وقد روى ابن القاسم عن مالك: أن ابن عمر كان لا يتركهما فى السفر.
92 - باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ
/ 133 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى بِاللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّى إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. / 134 - وَقَالَتْ عَائِشَةَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّى لأقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهُمَا بِأُمِّ الْكِتَابِ. اختلف العلماء فى القراءة فى الفجر على أربعة مذاهب، فقال الطحاوى: قال قوم: لا يقرأ فى ركعتى الفجر. وقال آخرون: يخفف القراءة فيهما بأم القرآن خاصة. وروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهو قول مالك فى رواية ابن وهب، وعلى بن زياد، قال: وهو الذى آخذ به فى خاصة نفسى. وقالت طائفة: يخفف فيهما القراءة، ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة، وهو قول الشافعى. وروى عن إبراهيم النخعى ومجاهد أنه لا بأس أن يطيل القراءة فيهما، ذكره ابن أبى شيبة. وقال أبو حنيفة: ربما قرأت فى ركعتى الفجر حزبى من القرآن وهو قول أصحابه، واحتج لهم الطحاوى، فقال: لما كانت ركعتا الفجر(3/159)
من أشرف التطوع، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها) كان أولى أن يفعل فيها أشرف ما يفعل فى التطوع من إطالة القراءة فيهما، وهو عندنا أفضل من التقصير، لأنه من طول القنوت الذى فضله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى التطوع على غيره. وأما من قال: لا قراءة فيهما، فإنه احتج بحديثى هذا الباب، والحجة عليه ما رواه شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: سمعت عمتى عمرة تحدث عن عائشة، أن رسول الله كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، أقول: يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟ فهذا خلاف أحاديث عائشة الأُخر، لأنها أثبتت فى هذا الحديث قراءة أم القرآن، فذلك حجة على من نفى القراءة، وهذا الحديث حجة لمن قال: يقرأ فيهما بأم القرآن خاصة، وقد يجوز أن يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب وغيرها، ويخفف القراءة حتى يقال على التعجب من تخفيفه: هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب. وحجة من قال: يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة قصيرة، ما رواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: رمقت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أربعًا وعشرين مرة يقرأ فى الركعتين قبل صلاة الغداة، وفى الركعتين بعد المغرب: (قل يا أيها الكافر (، و) قل هو الله أحد (. وروى أبو وائل، عن عبد الله مثله، وقال: ما أحصى ما سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يقرأ بذلك، وبه كان يأخذ ابن مسعود وذكره ابن أبى شيبة، وقد روى مثله من حديث قتادة عن أنس، ومن حديث جابر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى ركعتى الفجر خاصة.(3/160)
قال المؤلف: وهذه الآثار حجة على أبى حنيفة ومن جوز تطويل القراءة فيهما، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يحفظ عنه خلافها، ولا قياس لأحد مع وجود السُنَّة الثابتة، وقد ذكر لابن سيرين قول النخعى فقال: ما أدرى ما هذا وكان أصحاب ابن مسعود يأخذون فى ذلك بحديث ابن عمر، وبحديث ابن مسعود من تخفيفه القراءة. قال المهلب: وتخفيفه لهما، والله أعلم، لمزاحمة الإقامة، لأنه كان لا يصليهما فى أكثر أحواله حتى يأتيه المؤذن للإقامة، وكان يُغلس بصلاة الصبح.
93 - باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
/ 135 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَفِي بَيْتِهِ. وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ نَّبِىَّ الله كَانَ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيهَا. قال المهلب: قوله: (سجدتين قبل الظهر) الحديث، فإنه أراد ركعتين فعبر عن الركوع بالسجود، وهذا يبين ما روى فى صلاة الكسوف فى حديث عبد الله بن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى حين كسفت الشمس ركعتين فى سجدة، وإنما أراد ركعتين فى ركعة على ما روته عائشة فى ذلك.(3/161)
قال المهلب: وتطوعه (صلى الله عليه وسلم) بهذه النوافل قبل الفرائض وبعدها، لأن أفضل الأوقات أوقات صلوات الفريضة، وفيها تفتح أبواب السماء للدعاء، ويقبل العمل الصالح فلذلك يحييها (صلى الله عليه وسلم) بالنوافل، وليس فى حديث ابن عمر التنفل قبل العصر. قال الطبرى: وقد روى على عن الرسول: أنه كان يصلى قبل العصر أربع ركعات يفصل بينها بسلام، وقد اختلف السلف فى ذلك فكان بعضهم يصلى أربعًا، وبعضهم يصلى ركعتين، وبعضهم لا يرى الصلاة قبلها، فممن كان يصلى أربعًا: على بن أبى طالب، وقال إبراهيم: كانوا يحبون أربعًا قبل العصر. وممن كان يصلى ركعتين: روى سفيان وجرير، عن منصور، عن إبراهيم: قال كانوا يركعون الركعتين قبل العصر، ولا يرونها من السُّنَّة. وممن كان لا يصلى قبلها شيئًا، روى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يصلى قبل العصر شيئًا. وقتادة عن الحسن مثل ذلك وروى فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، أنه رأى إنسانًا يصلى قبل العصر فقال: إنما العصر أربع. قال الطبرى: والصواب عندنا أن الفضل فى التنفل قبل العصر بأربع ركعات، لصحة الخبر بذلك عن على، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حدثنى به موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الحميد الحمانى، عن مسعر، عن إبى إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن على، قال: رأيت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى أربع ركعات قبل العصر. فأما قول ابن عمر: فأما الركعتان بعد المغرب والعشاء ففى بيته، فقد اختلف فى ذلك، فروى عن قوم من السلف(3/162)
منهم زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن عوف أنهما كانا يركعان الركعتين بعد المغرب فى بيوتهما. وقال العباس بن سهل بن سعد: لقد أدركت عثمان، وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلا واحدًا يصليهما فى المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد فيصلونها فى بيوتهم. وقال ميمون بن مهران: كانوا يستحبون تأخير الركعتين بعد المغرب إلى بيوتهم، وكانوا يؤخرونها حتى تشتبك النجوم. وروى عن طائفة أنهم كانوا يتنفلون النوافل كلها فى بيوتهم دون المسجد، روى عن عبيدة أنه كان لا يصلى بعد الفريضة شيئًا حتى يأتى أهله. وقال الأعمش: ما رأيت إبراهيم متطوعًا حياته فى مسجد إلا مرة صلى بعد الظهر ركعتين. وكانت طائفة لا تتنفل إلا فى المسجد، روى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلى سبحته مكانه، وكان أبو مجلز يصلى بين الظهر والعصر فى المسجد الأعظم. وروى ابن القاسم، عن مالك، قال: التنفل فى المسجد هو شأن الناس فى النهار، وبالليل فى بيوتهم، وهو قول الثورى. وقال الطبرى به، وقال: والحجة لهذا القول ما حدثنا به أحمد بن الحسن الترمذى، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال، عن زِرٍّ، عن حذيفة، قال: صليت مع الرسول العشاء الآخرة، ثم صلى حتى لم يبق فى المسجد واحدٌ، وقال: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب،(3/163)
عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) يصلى بعد المغرب ركعتين، ويصليهما حتى يتصدع أهل المسجد، فإنما كره الصلاة فى المسجد لئلا يرى جاهل عالمًا يصليها فيه فيراها فريضة، أو كراهة أن يخلى منزله من الصلاة فيه، أو حذرًا على نفسه من رياء أو عارض من خطرات الشيطان، فإذا سلم من ذلك فإن الصلاة فى المسجد حسنة. وقد بين بعضهم عِلَّة كراهية من كرهه، من ذلك: سفيان عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، قال: كنا نقرأ فى المسجد فنقوم فنصلى فى الصف. قال عبد الله: صلوا فى بيوتكم لا يرونكم الناس فيرونها سُنَّة. والذى يقول: إن حديث حذيفة وما رواه سعيد بن جبير، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاتكم فى بيوتكم إلا المكتوبة) فهى صحاح كلها لا يدفع شىء منها، وذلك نظير ما ثبت أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يعمل العمل ليتأسى به فيه، ثم يعمل بخلافه فى حال أخرى ليعلم بذلك من فعله أن أمره بذلك على وجه الندب، وأنه غير واجب العمل به.
94 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ
/ 136 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا. قد تقدم الكلام فى هذا الحديث وفى اشتراط الصلوات فيه، وأما(3/164)
تركه - عليه السلام - التنقل فيه فالسُّنَّة عند جميع الصلوات ترك التنفل، فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يعلم أمته أن التطوع ليس بلازم، لا يسع تركه، ولذلك كان ابن عمر لا يتنفل فى السفر.
95 - باب صَلاةِ الضُّحَى فِى السَّفَرِ
/ 137 - فيه: مُوَرِّقٍ، قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ:: تُصَلِّى الضُّحَى؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ فَالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: (لا، إِخَالُهُ) . / 138 - فيه: ابْنَ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصَلِّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ الفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. قال المؤلف: أما حديث مورق عن ابن عمر فليس من هذا الباب، وإنما يصلح فى الباب الذى بعد هذا فيمن لم يصلى الضحى، وأظنه من غلط الناسخ، والله أعلم. وأما قول ابن أبى ليلى: ما حدثنا أحد أنه رأى الرسول يصلى الضحى غير أم هانئ فلا حجة فيه تَرُدُّ ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه صلى الضحى وأمر بصلاتها من طرق جمة، وسأذكر منها فى هذا الباب، وفى الباب الذى بعد هذا، إن شاء الله. وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا عن كثير، ويوجد عند الأقل، ولما صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح ثمان ركعات فى وقت الضحى استدل البخارى من ذلك على جواز صلاة الضحى فى السفر، وقد(3/165)
روى ذلك نصا لا دليلا، روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، قال: حدثنى الضحاك بن عبد الله القرشى، عن أنس بن مالك، قال: رأيت رسول الله فى السفر صلى سبحة الضحى ثمان ركعات، وإذا جازت صلاتها فى السفر فالحضر أولى بذلك. وقد ذكر الطبرى آثارًا مختلفة عن الرسول فى عدد صلاة الضحى، فمنها حديث أم هانئ، وحديث أنس هذا، وذكر أن سعد بن أبى وقاص، وأم سلمة كانا يصليان الضحى ثمانيًا، ومنها حديث ابن مسعود أن الرسول قال: (من صلى الضحى عشر ركعات بنى له بيت فى الجنة) . ومنها حديث ثمامة عن أنس بن مالك، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بها قصرًا من ذهب فى الجنة) . ومنها: حديث حميد، عن أنس، أن الرسول كان يصلى الضحى ست ركعات، وحديث جابر مثله، وروى عن عائشة أنها كانت تصلى الضحى ست ركعات. ومنها: حديث على، أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى أربعًا، وعن عائشة مثله، وبه كان يأخذ علقمة والنخعى، وسعيد بن المسيب. ومنها: حديث عتبان بن مالك، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى فى بيته سبحة الضحى ركعتين. ومنها: حديث أنس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى فى بيت الرجل الضحى ركعتين. ومنها: حديث جابر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره أن يصلى سبحة الضحى فصلى ركعتين. ومنها: حديث أبى هريرة، أن الرسول أوصاه بركعتى الضحى، وقال: (من حافظ عليها غفر له ذنوبه وإن كانت(3/166)
مثل زبد البحر) . وعن عبد الله بن عمر، أنه كان يصلى الضحى ركعتين، وعن الضحاك مثله. قال الطبرى: وليس منها حديث يدفع صاحبه، وذلك أنه من صلى الضحى أربعًا جائز أن يكون رآه فى حال فعله ذلك، ورآه غيره فى حال أخرى صلى ركعتين، ورآه آخر فى حال أخرى صلاها ثمانيًا، وسمعه آخر يحث على أن تصلى ستا، وآخر يحث على ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على اثنتى عشرة، فأخبر كل واحد منهم عما رأى أو سمع. ومن الدليل على صحة ما قلناه فى ذلك ما روى عن زيد بن أسلم، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول لأبى ذر: أوصنى يا عم، فقال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عما سألتنى، قال: (من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعًا كتب من العابدين، ومن صلى ستًا، لم يلحقه ذلك اليوم ذنب، ومن صلى ثمانيًا كتب من القانتين، ومن صلى ثنتى عشرة ركعة بنى الله له بيتًا فى الجنة) . وقال مجاهد: صلى رسول الله يومًا الضحى ركعتين، ثم يومًا أربعًا، ثم يومًا ستا، ثم يومًا ثمانيًا، ثم ترك فأبان بهذا الخبر عن صحة ما قلناه من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم قوله، أن يكون إخباره بما أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) فى صلاة الضحى كان على قدر ما شاهده وعاينه. فالصواب إذا كان الأمر كذلك أن يصليها من أراد على ما شاء من العدد، وقد روى هذا عن قوم من السلف، حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: سأل رجل الأسود، قال: كم أصلى الضحى؟ قال: كما شئت.(3/167)
96 - باب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا
/ 139 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يسَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّى لأسَبِّحُهَا. قال المؤلف: أما حديث مورق: قلت لابن عمر: تصلى الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قال: لا، إخاله المذكور فى الباب قبل هذا، فهذا موضعه، ليس ذلك الباب، وأخذ قوم من السلف به وبحديث عائشة، ولم يروا صلاة الضحى، وقال بعضهم: بأنها بدعة. روى الشعبى، عن قيس بن عباد، قال: كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها، فما رأيته مصليًا الضحى. وقال إبراهيم النخعى: حدثنى من رأى ابن مسعود صلى الفجر، ثم لم يقم لصلاة حتى أذن لصلاة الظهر، فقام فصلى أربعًا. روى شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف: أنه كان لا يصلى الضحى. وعن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند باب حجرة عائشة، وإذا الناس يصلون فى المسجد صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وقال مرة: ونعمت البدعة. وقال الشعبى: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى، وقد سئل أنس عن صلاة الضحى، فقال: الصلوات خمس. وقد قيل: إن صلاته (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح ثمان ركعات لم تكن صلاة الضحى، وإنما كانت من أجل الفتح، وأن سُنَّة الفتح أن يصلى عنده ثمان ركعات، ذكره الطبرى فى التاريخ عن الشعبى، قال: لما فتح خالد بن الوليد الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات، ولم يسلم فيهن، ثم انصرف.(3/168)
قال المؤلف، رحمه الله: هذا تأويل لا يدفع صلاة الضحى لتواتر الروايات بها عن الرسول، وفعل السلف بعده. قال الطبرى: وذهب قوم من السلف أن صلاة الضحى تصلى فى بعض الأيام دون بعض، واحتجوا بما رواه الجريرى، عن عبد الله بن شقيق قلت لعائشة: أكان رسول الله يصلى الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجئ من مغيبه، وروى [. . . .] ، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد، قال: كان رسول الله يصلى الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها. ذكر من كان يفعل ذلك من السلف: روى شعبة عن حسين الشهيد، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يصليها يومًا ويدعها عشرة أيام، يعنى صلاة الضحى. وشعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه كان لا يصلى الضحى، فإذا أتى مسجد قباء صلى وكان يأتيه كل سبت. وسفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويصلون ويدعون، يعنى صلاة الضحى. وعن سعيد بن جبير قال: إنى لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها، مخافة أن أراها حتمًا علىّ. قال الطبرى: وحديث عبد الله بن شقيق، عن عائشة، وحديث أبى سعيد لا يضاد ما ثبت من الآثار عنه (صلى الله عليه وسلم) ، بصلاة الضحى، لأنه(3/169)
يحتمل أن يكون كل مخبر إنما أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) بما شاهده وعاينه من فعله. وليس فى قول من نفى صلاة الضحى واحتج بقول عائشة: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى قط، حجة لأنها أخبرت بما علمت لما خالفه، لأن قول القائل: لم يصلها النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، غير مخبر عنه أنه قال: (لم أصلها ولا أصليها) ، فكيف وقد أخبر غير واحد عن عائشة ممن لا يتهم أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يصلى الضحى. وذلك ما حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثنى أبى، عن قتادة، عن معاذة، عن عائشة، أنها سألتها: أكان النبى يصلى الضحى؟ قالت: نعم، ورواه شعبة عن يزيد الرشك، عن معاذة، عن عائشة، قالت: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يصلى الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله. قال الطبرى: فلو لم يدل على وهم الحديث عن عائشة، أن النبى لم يسبح سبحة الضحى، إلا هذه الأخبار المدونة عنها أنه صلاها، فكيف وفى خبر عبد الله بن شقيق عنها أنه كان يصليها عند قدومه من مغيبه؟ . قال غيره: وقد يمكن الجمع بين أحاديث عائشة وغيرها، فيحمل قولها: ما رأيت رسول الله يسبح سبحة الضحى، يعنى مواظبًا عليها ومعلنا بها، لأنه يجوز أن يصليها بحيث لا تراه، وقد روى عن عائشة أنها كانت تغلق على نفسها بابها ثم تصلى الضحى. وقال مسروق: كنا نقرأ فى المسجد فنبقى بعد قيام ابن مسعود، ثم نقوم فنصلى الضحى، فبلغ ابن مسعود ذلك، فقال: لم تحملوا عباد الله ما لم يحملهم الله؟ إن كنتم لابد فاعلين ففى بيوتكم. وكان أبو مجلز يصلى الضحى فى منزله. وكان مذهب السلف الاستتار بها وترك إظهارها للعامة، لئلا يرونها واجبة. وفى قولها: (وإننى لأسبحها) دليل أنها صلاة مندوب إليها(3/170)
مرغب فيها، وقد روى عنها أنها، قالت: لو نشر لى أبواى من قبرهما ما تركتهما، فالتزامها لها لا يكون إلا عن علم عندها من النبى، (صلى الله عليه وسلم) .
97 - باب صَلاةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ
قَالَهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 140 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْصَانِى الرَسُولِ بِثَلاثٍ، لا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ، صَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. / 141 - وفيه: أَنَسَ أَنَّ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، وَكَانَ ضَخْمًا، قَالَ لِلنَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى لا أَسْتَطِيعُ أصَلّى مَعَكَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِىِّ طَعَامًا، ودَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: أَنَس مَا رَأَيْت صَلاةِ الضُّحَى، غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة الترغيب فى صلاة الضحى والحض عليها، لأنه لا يوصيه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالمحافظة على عمل إلا وله فى عمله جزيل الأجر وعظيم الثواب. وقد ذكر الطبرى أحاديث كثيرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاة الضحى سوى هذه، فمن أحسنها ما حدثه أبو كريب، حدثنا وكيع، عن النَّهَّاس بن قَهْم، عن شداد أبى عمار، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من حافظ على ركعتى الضحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) . قال: وحدثنا ابن المثنى، حدثنا حكيم بن معاوية، قال: حدثنا زياد بن عبد الله، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يصلى الضحى ست ركعات. قال: وحدثنا عيسى بن خالد، عن أبى مسهر، حدثنا إسماعيل بن(3/171)
عياش، عن بحير ابن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبى الدرداء، وأبى ذر قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (يقول الله عز وجل: ابن آدم، صَلِّ أربع ركعات أول النهار أكفك آخره) . وحدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهرى، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الإنسان ثلاث مائة مفصل، وستون مفصلاً ففى كل مفصل صدقة) . قالوا: يا رسول الله، ومن يطيق ذلك؟ قال: (أليس ينحى أحدكم الأذى من الطريق، فإن لم يطق ذلك، فإن ركعتى الضحى تجزئ عنه) . وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن مرة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى الضحى. فى أحاديث كثيرة غير هذه تحقق رواية من روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يصلى الضحى، ويندب أمته إليها، وبذلك عمل الصالحون والسلف، ذكر ابن أبى شيبة، عن زيد بن أرقم، قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى) . وكان أبو ذر يصلى الضحى فيطيلها. وسأل رجل الحسن البصرى هل كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلون الضحى؟ قال: نعم، منهم من(3/172)
كان يصلى أربعًا، ومنهم من كان يصلى ركعتين، ومنهم من كان يمد إلى نصف النهار. وقال ابن أبى مليكة: سئل ابن عباس عن صلاة الضحى، فقال: إنها فى كتاب الله، لا يغوص عليها إلا غواص، ثم قرأها: (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) [النور: 36] . ويروى عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، أنه دخل على أم هانئ، فأخبرته أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صلى الضحى فخرج وهو يقول: (قرأت ما بين اللوحين فما عرفت صلاة الضحى إلا الآن) يسبحن بالعشى والإشراق) [ص: 18] ) ، وكنت أقول: وأين الإشراق، وهى هذه.
98 - باب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
/ 142 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِى بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِى بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا. / 143 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ. اختلفت الأحاديث فى التنفل قبل الظهر، وفى حديث ابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ركع ركعتين قبل الظهر، وفى حديث عائشة أنه ركع أربعًا، وقد روى مثل حديث عائشة: أبو إسحاق الهمدانى، عن عمرو بن أوس، عن عنبسة بن أبى سيفان، عن أُم حبيبة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك. وروى(3/173)
عن ابن مسعود، وابن عمر، والبراء، وأبى أيوب أنهم كانوا يصلون قبل الظهر، وعن ابن المسيب مثله. وقال إبراهيم: من السُّنَّة أربع قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر ببيته. وروى من حديث البراء مثل حديث ابن عمر، رواه الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبى بسرة الغفارى، عن البراء، قال: سافرت مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ثمان عشرة سفرة، وكان لا يدع ركعتين قبل الظهر. وقال الطبرى: والصواب أن يقال: كلا الخبرين فى عدد صلاته قبل الظهر صحيح، وهو أنه إنما يكون من روى عنه أربعًا رآه يفعل ذلك فى كثير من أحواله، ورآه ابن عمر وغيره يصلى ركعتين فى بعض الأحوال، فرووا عنه ذلك، وإذا كان ذلك كذلك فللمرء أن يصلى قبل الظهر ما يشاء، لأن ذلك تطوع، وقد ندب الله المؤمنين إلى التقرب إليه بما أطاقوا من فعل الخير، والصلاة بعد الزوال وقبل الظهر كانت تعدل بصلاة الليل فى الفضل، روى هذا عن جماعة من السلف.
99 - باب الصَّلاةِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ
/ 144 - فيه: عَبْدُاللَّهِ الْمُزَنِىُّ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، قَالَ فِى الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ) ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. / 145 - وفيه: مَرْثَدَ الْيَزَنِىَّ، قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِىَّ، فَقُلْتُ: أَلا أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِى تَمِيمٍ، يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، فَقَالَ(3/174)
عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ. اختلف السلف فى التنفل قبل المغرب، فأجازته طائفة، وكرهته طائفة، فممن روى عنه أنه كان يفعله: أُبى بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وقال حميد، عن أنس: إذا أذن المؤذن يبتدرون السوارى فيصلون. قال عبد الرحمن بن أبى ليلى: أدركت أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) يصلون عند كل تأذين. وكان الحسن، وابن سيرين يركعان قبل المغرب، وهو قول أحمد وإسحاق. والحجة لهم من حديث المزنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لمن شاء) . وممن كان يصليها، قال إبراهيم النخعى: لم يصل الركعتين قبل المغرب أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وقال إبراهيم: هما بدعة. قال: وكان خيار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكوفة على، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود، فأخبرنى من رمقهم كلهم، فما رأى أحدًا منهم يصلى قبل المغرب، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى. قال المهلب: والحجة لهم أن هذا كان فى أول الإسلام ليدل على أن وقت التحجير فى صلاة النافلة فى هذا الوقت قد انقطع بمغيب الشمس، وحلت النافلة والفريضة، ثم التزم الناس مبادرة الفريضة، لئلا يتباطأ الناس بالصلاة عن الوقت الفاضل، ويختلف أمر الناس فى المبادرة بالصلاة، إذ المغرب لا يشكل على العامة والخاصة، وغيرها من الصلوات يشكل عليهم دخول أوائل أوقاتها، وفيها مهلة حتى يستحكم الوقت، فلذلك أبيح الركوع قبل غيرها من الصلوات.(3/175)
0 - باب صَلاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً
ذَكَرَهُ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) . / 146 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، أن رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) صَلى فِى بيته ركعتين، فكبر وصففنا خلفه. . . الحديث بطوله. هذا الحديث يدل على جواز صلاة النوافل جماعة، قال ابن حبيب: ولا بأس أن يؤم النفر فى النافلة فى صلاة الضحى وغيرها كالرجلين والثلاثة، وأما أن يكون مشتهرًا جدًا ويجتمع له الناس فلا. قاله مالك. قال ابن حبيب: إلا أن يكون فى قيام رمضان، لما فى ذلك من سُنَّة أصحاب رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) .
1 - باب التَّطَوُّعِ فِى الْبَيْتِ
/ 147 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا فِى بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) . هذا من التمثيل البديع، وذلك بتشبيهه (صلى الله عليه وسلم) البيت الذى لا يصلى فيه بالقبر الذى لا يمكن الميت فيه عبادة، وشبه النائم الليل كله بالميت الذى انقطع منه فعل الخير، وقد قال عمر بن الخطاب: صلاة المرء فى بيته نُورٌ فَنَوِّرُوا بيوتكم. وللعلماء فى معنى هذا الحديث قولان: منهم من قال: إن الحديث ورد فى النافلة دون الفريضة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد سَنَّ الصلوات فى الجماعة، ورغب فى ذلك، وتوعد من تخلف عنها بغير عذر، وقال: (أفضل الصلاة صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) . فبان أن الحديث ورد فى النافلة، لأنها إذا كانت فى البيت كان أبرأ من الرياء والشغل بحديث الناس، فحض (صلى الله عليه وسلم) على النوافل فى(3/176)
البيوت، إذ السِّرُّ فى النوافل أفضل من الإعلان، وعلى هذا التأويل تكون (مِن) زائدة كأنه قال: اجعلوا صلاتكم النافلة فى بيوتكم، كقوله: ما جاءنى من أحدٍ، وأنت تريد ما جاءنى أحدٌ، وإلى هذا الوجه أشار البخارى، وقد روى ما يدل عليه عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . روى الطبرى من حديث عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (نَوِّرُوا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله، ويكثر خيره، وتحضره الملائكة، ويُدحض عنه الشيطان، وإن البيت الذى لا يقرأ فيه القرآن يضيق على أهله، ويقل خيره، وتنفر عنه الملائكة، وتحضره الشياطين) . وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا لا يتطوعون فى المسجد، روى ذلك عن حذيفة، وعن السائب بن يزيد، والنخعى، والربيع بن خثيم، وعبيدة، وسويد بن غفلة. وقال آخرون: هذا الحديث إنما ورد فى الفريضة، و (مِنْ) للتبعيض، كأنه قال: اجعلوا بعض صلاتكم المكتوبة فى بيوتكم ليقتدى بكم أهلوكم، ومن لا يخرج إلى المسجد منهم، ومن يلزمكم تعليمه لقوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6] ومن تخلف عن جماعة لجماعة، وإن كانت أقل منها فلم يتخلف عنها، ومن صلى فى بيته جماعة فقد أصاب سُنَّة الجماعة وفضلها. روى حماد، عن إبراهيم قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، لهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة. وروى أن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وعلى بن المدينى، اجتمعوا فى دار أحمد فسمعوا النداء، فقال أحدهم:(3/177)
اخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنما هو للجماعة، ونحن فى جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا فى البيت.
2 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ فِى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
/ 148 - فيه: أَبُو سَعِيد، وَأَبُو هُرَيْرَة، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) ، والْمَسْجِدِ الأقْصَى) . / 149 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَلاةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) . قال المؤلف: هذا الحديث فى النهى عن إعمال المطى، إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة فى مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة، قال مالك: من نذر صلاة فى مسجد لا يصل إليه إلا براحلة، فإنه يصلى فى بلده، إلا أن ينذر ذلك فى مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فعليه السير إليها. وقال المؤلف: وأما من أراد الصلاة فى مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعًا بذلك، فمباح له قصدها بإعمال المطى وغيره، ولا يتوجه إليه النهى فى هذا الحديث. فإن قيل: فإن أبا هريرة أعمل المطى إلى الطور، فلما انصرف لقيه بَصْرة بن أبى بَصْرة، فأنكر عليه خروجه، وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، سمعت(3/178)
الرسول يقول: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد) . فدل أن مذهب بَصْرة حمل الحديث على العموم فى النهى عن إعمال المطى إلى غير الثلاثة المساجد على كل حال، فدخل فيه الناذر والمتطوع. قيل له: ليس كما ظننت، وإنما أنكر بَصْرة على أبى هريرة خروجه إلى الطور، لأن أبا هريرة كان من أهل المدينة التى فيها أحد المساجد الثلاثة التى أُمر بإعمال المطى إليها، ومن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان، وليس فى الحديث أن أبا هريرة نذر السير إلى الطور، وإنما ظاهره أنه خرج متطوعًا إليه، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل من الطور، لأن مسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس أفضل من الطور. وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة، فنذر المشى إلى بيت المقدس، فقال مالك: يمشى ويركب. وقال الأوزاعى: يمشى ويركب ويتصدق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلى فى مسجد المدينة أو مكة. واحتج أبو يوسف فى ذلك بأن الصلاة فى مكة والمدينة أفضل من الصلاة فى بيت المقدس، فلذلك أجزأُه. وقال سعيد بن المسيب: من نَذَر أن يعتكف فى مسجد إيلياء، فاعتكف فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) فاعتكف فى المسجد الحرام أجزأ عنه، وقال الشافعى: يمشى إلى مسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، إذا نذر ذلك، ولا يتبين لى وجوبه عليه، لأن البر بإتيان بيت الله، عز وجل، فرضٌ، والبر بإتيان هذين نافلة. وقال ابن المنذر: من نذر المشى إلى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، والمسجد الحرام، وجب عليه ذلك، لأن الوفاء به طاعة، ومن نذر المشى إلى بيت المقدس(3/179)
كان بالخيار إن شاء مشى إليه، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام، لحديث جابر: أن رجلاً قال للنبى، (صلى الله عليه وسلم) : إنى نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلى فى بيت المقدس، قال: (صلى هاهنا ثلاثًا) . وقال أبو يوسف: إن نذر أن يصلى فى المسجد الحرام، فصلى فى بيت المقدس لم يجزئه، لأنه صلى فى مكان ليس له من الفضل ما للمكان الذى أوجب على نفسه فيه الصلاة. وحكى الطحاوى عن أبى حنيفة، ومحمد أنه من جعل الله عليه أن يصلى فى مكان، فصلى فى غيره أجزأه. واحتج لهم الطحاوى بأن معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . أن المراد به الفريضة لا النافلة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (خير صلاة المرء فى بيته إلا المكتوبة) ، فثبت فساد ما احتج به أبو يوسف، وثبت أن من أوجب على نفسه صلاة فى مكان، وصلى فى غيره أجزأه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير(3/180)
من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ، فإن العلماء اختلفوا فى تفضيل مكة على المدينة، أو المدينة على مكة، فذهبت طائفة إلى أن المدينة أفضل من مكة، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك، وكثير من أهل المدينة. وذهبت طائفة إلى تفضيل مكة، هذا قول عطاء، والمكيين، وأهل الكوفة، والشافعى. وقال الشافعى: مكة أفضل البقاع. ذكره الساجى، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، وابن حبيب الأندلسى، وكلا الطائفتين نزعت بحديث أبى هريرة. قال المؤلف: وليس فى حديث أبى هريرة حجة لواحدٍ منهما، وإنما يفهم من لفظ حديث أبى هريرة أن صلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، ثم استثنى المسجد الحرام، وحكم الاستثناء عند أهل اللسان إخراج الشىء مما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما، وإدخاله فيما خرج منه هو وغيره بلفظ شامل لهما. وقد مثل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء فى هذا الحديث بمثالٍ بَيَّن فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق، جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلاً وأن يكون مفضولاً، فإن كان مساويًا فقد عُلم فضله، وإن كان فاضلاً أو مفضولاً لم يقدر مقدار المفاضلة بينهما إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنها فيحتاج إلى ذكرها. ومما احتج به أهل المقالة الأولى على ذلك ما رواه ابن عيينة، عن زياد بن سعد، سمع سليمان بن عتيق، سمع ابن الزبير، سمع عمر بن الخطاب، يقول: صلاة فى المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: فقول عمر هذا يفسر قول النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) . فإن مسجدى خير من تسع مائة منه. ومثل هذا التأويل تأول عبد الله بن نافع صاحب مالك حديث أبى هريرة، فكان يقول: الصلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصلاة فى سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصلاة فيه بدون الألف. واحتج أهل المقالة الثانية بما رواه حماد بن زيد، عن حبيب المعلم، عن عطاء بن أبى رباح، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (صلاة فى المسجد الحرام أفضل من الصلاة فى مسجدى هذا بمائة صلاة) .(3/181)
واحتجوا من طريق النظر بأن الله تعالى فرض على عباده قصد بيته الحرام مرة فى العمر، ولم يفرض عليهم قصد مسجد المدينة، قالوا: ومن قول مالك أن من نذر الصلاة فى مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، والمشى إليه ألا يلزمه المشى إليه، وعليه أن يأتيه راكبًا، ومن نذر المشى إلى مكة فإنه يمشى إليها ولا يركب. فدل هذا من قوله أن مكة أفضل، لأنه لم يوجب المشى إليها إلا لتعظيم حرمتها وكبير فضلها.
3 - باب مَسْجِدِ قُبَاءٍ
/ 150 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، أَنّه كَانَ لا يُصَلِّى الضُّحَى إِلا فِى يَوْمَيْنِ: يَوْمَ يَقْدَمُ مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّى حول الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَوْمَ يَأْتِى مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّىَ فِيهِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، ويَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِى يَصْنَعُونَ، وَلا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّىَ فِى أَىِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لا تَتَحَرَّوْا بِصَّلاَتَكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا. وترجم له باب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ. وقَالَ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَأْتِيه كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا. قال أبو جعفر الداودى: إتيان النبى (صلى الله عليه وسلم) مسجد قباء يدل أن ما قرب من المساجد الفاضلة التى فى المصر لا بأس أن يؤتى ماشيًا وراكبًا، ولا يكون فيه ما نهى أن تُعمل المطى. وذكر ابن أبى شيبة من حديث أبى أمامة بن سهل، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (إن صلاة فى مسجد قباء كعمرة) . وروى عن سعد بن أبى وقاص، وابن عمر، أنهما قالا: صلاة فيه كعمرة. وروى وكيع، عن ربيعة بن عثمان،(3/182)
قال: حدثنى عمران بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان فى المسجد الذى أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد المدينة، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتوا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (هو مسجدى هذا) . وروى وكيع، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. وذكر الدارقطنى عن كثير بن الوليد، عن مالك بن أنس، عن أبى الزناد، عن خارجة ابن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وقد يجوز أن يكونا جميعًا أسسا على التقوى. وقد اختلف فيمن نذر الصلاة فى مسجد قباء من المدينة، فذكر ابن حبيب، عن ابن عباس أنه أوجبه فيه، وفى كتاب ابن المنذر: ومن نذر أن يصلى فى مسجد غير الثلاث مساجد فليصل موضعه ولا يأتيه، إلا أن يكون قريبًا جدًا، فليأته فليصل فيه. قال ابن حبيب: قال مالك: إن كان معه فى البلد مشى إليه، وصلى فيه.
4 - باب فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ
/ 151 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) . وعن أَبِى هُرَيْرَة مثله، وزاد: (وَمِنْبَرِى عَلَى حَوْضِى) . قال الطبرى: وقوله: (ما بين بيتى ومنبرى) يحتمل معنيين: أحدهما: بين بيتى الذى أسكنه، وذلك أظهر معنييه، لأن المتعارف من كلام الناس بينهم إذا قال قائل: فلان فى بيته أنه يعنى به بيته الذى يسكنه. وقد روى (ما بين حجرتى ومنبرى) ، وهذا بيِّن.(3/183)
والوجه الثانى: قاله زيد بن أسلم، قال: بيته فى هذا الحديث هو قبره، ويؤيد هذا القول رواية من روى (ما بين قبرى ومنبرى) . قال الطبرى: إذا كان قبره فى بيت من بيوته، كان معلوم بذلك أن الروايات وإن اختلفت ألفاظها صحيحة، لأن معانيها متفقة، لأن بيته الذى فيه قبره هو حجرة من حجره، وبيت من بيوته، وهو قبره أيضًا، وبيته بعد وفاته، فبين بيته الذى فيه قبره وحجرته التى فيها جدثه روضة من رياض الجنة، والروضة فى كلام العرب المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب. وإنما عنى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك الموضع للمصلى فيه، والذاكر الله عنده والعامل بطاعته كالعامل فى روضة من رياض الجنة، وأن ذلك يقود إلى الجنة، وكذلك ما كان يسمع فيه من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من الإيمان والدين يقود إليها أيضًا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ارتعوا فى رياض الجنة) ، قيل: ما رياض الجنة؟ قال: (مجالس الذكر) . فجعل مجالس الذكر فى شرفها وفضلها بمنزلة رياض الجنة، وجعل ذاكر الله فيها كالراتع فى رياض الجنة. وكما قال (صلى الله عليه وسلم) : (الجنة تحت ظلال السيوف) يعنى أنه عمل يوصل به إلى الجنة، وكما قال: (الأم باب من أبواب الجنة) ، يريد أن يره بها ودعاءها له يوصله إلى الجنة، وهذا معلوم فى لسان العرب؛ تسمية الشىئ بما يئول إليه ويتولد عنه. وقوله: (ومنبرى على حوضى) ، يحتمل معنين: أحدهما: أن يكون الله تعالى يعيد المنبر بعينه، ويرفعه فيكون على حوضه،(3/184)
كأنه قال عليه السلام: ولى أيضًا منبر على حوضى أدعو الناس إلى الحوض عليه.
5 - باب اسْتِعَانَةِ الْيَدِ فِى الصَّلاةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِى صَلاتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ. وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِى الصَّلاةِ وَرَفَعَهَا، وَوَضَعَ عَلِىٌّ كَفَّهُ عَلَى رُسْغِهِ الأيْسَرِ إِلا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا. / 152 - فيه: ابْن عَبَّاس، حين بَاتَ عِنْدَ خَالَتُهُ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقام رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يصلى فَقُمت إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى فَفْتِلُهَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى. . الحديث. هذا الباب هو من باب العمل فى الصلاة، ويسيره معفو عنه عند العلماء، والاستعانة باليد فى الصلاة فى هذا الحديث هى وضع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يده على رأس ابن عباس وفتله أذنه، فاستنبط البخارى منه أنه لما جاز للمصلى أن يستعين بيده فى صلاته فيما يحض به غيره على الصلاة، ويعينه عليها، وينشطه فيها، كان استعانته فى أمر نفسه ليتقوى بذلك على صلاته وينشط إليها إذا احتاج إلى ذلك أولى. وقد اختلف السلف فى الاعتماد فى الصلاة والتوكؤ على الشىء، فذكر البخارى عن ابن عباس أنه لم ير بأسًا أن يستعين فى الصلاة بما شاء من جسده، وعن على بن أبى طالب أنه وضع كفه على رسغه الأيسر.(3/185)
وقالت طائفة: لا بأس أن يستعين فى صلاته بما شاء من جسده وغيره، ذكر ابن أبى شيبة قال: كان أبو سعيد الخدرى يتوكأ على عصا، وعن أبى ذر مثله. وقال عطاء: كان أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) يتوكئون على العصى فى الصلاة. وأوتد عمرو بن ميمون وتدًا فى حائط، فكان إذا سئم القيام فى الصلاة، أو شق عليه أمسك الوتد يعتمد عليه، وقال الشعبى: لا بأس أن يعتمد على الحائط، وكرهت ذلك طائفة، روى ابن أبى شيبة، عن الحسن أنه كره أن يعتمد على الحائط فى المكتوبة، إلا من عِلَّة، ولم يَرَ به بأسًا فى النافلة ونحوها. قال مالك فى المدونة: لا يتكئ على عصًا أو حائط، ولا بأس به فى النافلة لطول القيام، وكرهه ابن سيرين فى الفريضة والتطوع، قال مجاهد: إذا توكأ على الحائط ينقص من صلاته بقدر ذلك. وقد تقدم فى باب ما يكره من التشديد فى العبادة زيادة فى هذا المعنى، وقول البخارى: إلا أن يحك جلدًا، أو يصلح ثوبًا، فلا حرج عليه فيه، لأنه أمر عام لا يمكن الاحتراز عنه.
6 - باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْكَلامِ فِى الصَّلاةِ
/ 153 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: (كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ فِى الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِىِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: (إِنَّ فِى الصَّلاةِ شُغْلا) . / 154 - وفيه: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِى الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.(3/186)
قال المهلب: المصلى مناجٍ لربه، فواجب عليه ألا يقطع مناجاته بكلام مخلوق، وأن يُقبل على ربه، ويلتزم الخشوع، ويعرض عما سوى ذلك، ألا ترى قوله، (صلى الله عليه وسلم) : (إن فى الصلاة شغلاً) . وقوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (والقنوت فى هذه الآية الطاعة والخشوع لله تعالى، فينبغى ترك الكلام المنافى للخشوع، إلا أن يكون الكلام فى إصلاح الصلاة، فإنه من الخشوع، لأنه فى تصحيح ما هو فيه من أمر صلاته. وقد أجاز الكلام فى الصلاة عمدًا وسهوًا لمصلحتها طائفة، منهم مالك والأوزاعى، وَمَنع ذلك الكوفيون وزعموا أن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ناسخ لقصة ذى اليدين، وسأذكر اختلاف أهل العلم فى ذلك عند ذكر قصة ذى اليدين بعد هذا، إن شاء الله تعالى، ونذكر هاهنا طرفًا من ذلك فى رد قول الكوفيين، وذلك أن الآثار تواترت عن ابن مسعود أن قدومه من الحبشة على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حين لم يرد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، السلامَ، وقال له: (إن فى الصلاة شغلاً) ، كان بمكة، وإسلام أبى هريرة كان بالمدينة عام خيبر، فكيف ينسخ الأول الآخر، هذا محال. فإن قالوا: فحديث ابن أرقم ناسخ لحديث أبى هريرة فى قصة ذى اليدين، لأن زيدًا كان من الأنصار ولم يصحب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا بالمدينة، وسورة البقرة مدنية. قيل: لا تاريخ عندنا لأى حديث كان منهما قبل صاحبه، غير أن زيدًا أقدم إسلامًا من أبى هريرة، وأبو هريرة أسلم عام خيبر، وصحب النبى (صلى الله عليه وسلم) خمسة أعوام، وإذا لم يعلم أيهما قبل صاحبه، لم يقض بالنسخ لواحد منهما، ويحتمل أن يكون معنى قول زيد ابن أرقم:(3/187)
(فأمرنا بالسكوت) ، يعنى إلا ما كان من أمر الكلام فى مصلحة الصلاة، فهو غير داخل فى النهى عن الكلام فى الصلاة، ليوافق حديث أبى هريرة، فلا يعارض واحد منهما صاحبه. ودل حديث زيد على النوع المنهى عنه من الكلام فى الصلاة، وهو قوله: (كنا نتكلم فى الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته) ، والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الكلام فى الصلاة، وعلى مثل ذلك دل حديث ابن مسعود أنهم كانوا يسلم بعضهم على بعض فى الصلاة فلما قدموا من الحبشة لم يردّ (صلى الله عليه وسلم) عليهم، وقال: (إن فى الصلاة شغلاً) فبان فى الحديثين النوع المنهى عنه من الكلام فى الصلاة، وهو ما ليس من أمر الصلاة، وثبت بحديث ذى اليدين جواز الكلام فى الصلاة لمصلحتها، وهذا التأويل أولى لئلا تتضاد الأحاديث، والله الموفق.
7 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِى الصَّلاةِ لِلرِّجَالِ
/ 155 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ بِلالٌ لأَبِى بَكْر، فَقَالَ: حُبِسَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَؤُمُّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتُمْ، فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَمْشِى فِى الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِى الصَّفِّ الأوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِى التَّصْفِيحِ، فَقَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ قَالَ: هُوَ التَّصْفِيقُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِى صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْتَفَتَ، فَإِذَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ، فَتَقَدَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى.(3/188)
قال المهلب: فيه من الفقه: أن الصلاة لا يجب تأخيرها عن وقتها المختار، وإن غاب الإمام الفاضل. وفيه: أنه لا يجب لأحد أن يتقدم جماعة لصلاة، ولا غيرها، إلا عن رضا الجماعة، لقول أبى بكر: نعم إن شئتم، وهو يعلم أنه أفضلهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: أن الإقامة إلى المؤذن وهو أولى بها، وقد اختلف فيها، فقال بعضهم: من أذن فهو يقيم، وقال مالك والكوفيون: لا بأس بأذان المؤذن وإقامة غيره. والذى ترجم له البخارى فهو [. . . . . .] فى هذا الحديث، وقد تقدم فى أبواب الإمامة فى حديث سهل هذا، وهو أيضًا فى باب رفع الأيدى فى الصلاة لأمر ينزل به بعد هذا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما لى أراكم أكثرتم التصفيق، من نابه شىء فى صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه) ، ففى هذا أن التسبيح جائز للرجال والنساء عندما ينزل بهم من حاجة تنوبهم، ألا ترى أن الناس أكثروا بالتصفيق لأبى بكر ليتأخر للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وبهذا قال مالك والشافعى: أن من سبح فى صلاته لشىء ينوبه، أو أشار إلى إنسان، فإنه لا تقطع صلاته. وخالف فى ذلك أبو حنيفة، فقال: إن سبح أو حمد الله جوابًا لإنسان فهو كلام، وإن كان منه ابتداءً لم يقطع، وإن وطئ على حصاة، أو لسعته عقرب، فقال: بسم الله، أراد بذلك الوجع فهو كلام. وقال أبو يوسف فى الأمرين: ليس بكلام.(3/189)
وقول أبى حنيفة مخالف للحديث، لأن الرسول، قال: (إذا سبح التفت إليه) ، وفهم الصحابة من هذا أنهم إذا سبحوا للإمام ولم يفهم عنهم أن يكثروا ذلك حتى يفهم، ألا ترى أنهم أكثروا التصفيق حتى التفت أبو بكر، ولو لم يكن التسبيح على نية إعلام الساهى ما ردَّدُوه حتى فهم. وقد بَيِّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن الالتفات فى الصلاة إنما يكون من أجل التسبيح، فهو مقصود بذلك. وفيه: أن الالتفات فى الصلاة لا يقطعها. وفيه: أنه لا بأس بتخلل الصفوف والمشى إلى الصف الأول لمن يليق به الصلاة فيه، لأن شأن الصف الأول أن يقوم فيه أفضل الناس علمًا ودينًا، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليلينى منكم ذوو الأحلام والنهى) ، يعنى، والله أعلم، ليحفظوا عنه ويَعُوا ما كان منه فى صلاته، وكذلك يصلح أن يقوم فى الصف الأول من يصلح أن يلقن الإمام ما تعامى عليه من القراءة، ومن يصلح للاستخلاف فى الصلاة، وقد تقدم كثير من معانى هذا الحديث فى أبواب الإمامة، فأغنى عن إعادته. وفيه: دليل على جواز الفتح على الإمام وتلقينه إذا أخطأ، وقد اختلف العلماء فى ذلك فأجازه الأكثر، وممن أجازه: على، وعثمان، وابن عمر، وروى عن عطاء، والحسن، وابن سيرين، وهو قول مالك، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكرهه طائفة، روى ذلك عن ابن مسعود، والشعبى، والنخعى، وكانوا يرونه بمنزلة الكلام، وهو قول الثورى والكوفيبن، وروى عن أبى حنيفة: إن كان التسبيح جوابًا قطع الصلاة، وإن كان من مرور إنسان بين يديه لم يقطع. وقال أبو يوسف: لا يقطع وإن كان جوابًا.(3/190)
واعتلَّ من كرهه، فقالوا: التلقين كلام لا قراءة للقرآن. والقول الأول أولى، لأنه إذا جاز التسبيح جازت التلاوة، لأنه لو قرأ شيئًا من القرآن غير قاصد تلقين أحد لم تفسد بذلك صلاته عند الجميع، فإذا كان كذلك لم يغير ذلك معناه، قصد به تلقين إمامه أو غيره، كما لو قرأ ما أمر بقراءته فى صلاته وعمد بها إسماع من بحضرته ليتعلمه لم تفسد بذلك صلاته، قاله الطبرى. وقال الطحاوى: ولما كان التسبيح لما ينوبه فى صلاته مباحًا، ففتحه على الإمام أحرى أن يكون مباحًا. وقال أبو على البغدادى: صفح الرجل تصفيحًا: مثل صفق.
8 - باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِى الصَّلاةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لا يَعْلَمُ
/ 156 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ التَّحِيَّةُ فِى الصَّلاةِ، وَنُسَمِّى، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِذَا قَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِى السَّمَاءِ وَالأرْضِ) . معنى هذا الباب: أنه يجوز الكلام فى الصلاة إذا كان من شأنها، وهو مثل قوله، (صلى الله عليه وسلم) ، فى الصلاة: (اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين) ، فهو من الكلام الذى يرجى نفعه، وتعم بركته، وقوله: (من سَمَّى قومًا) يريد ما كانوا يفعلونه أولا من مواجهة بعضهم بعضًا ومخاطبتهم قبل أن يأمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم) بهذا التشهد، فأراد البخارى يعرفك(3/191)
أنه لما لم يأمرهم النبى بإعادة تلك الصلاة التى سمّى فيها بعضهم بعضًا، عُلم أنه مَنْ فَعَل هذا جاهلاً أنه لا تفسد صلاته، وقال مالك والشافعى: إن من تكلم فى صلاته ساهيًا لم تفسد صلاته، وقوله: (أو يسلم فى الصلاة على غيره وهو لا يعلم) ، يعنى لا يعلم المسلَّم عليه، ولا يسمع السلام عليه. قال المهلب: وأمره (صلى الله عليه وسلم) بمخاطبته فى التحيات لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (السلام عليك أيها النبى) ، وهو أيضًا خطاب فى الصلاة لغير المصلى، لكن لما كان خطاب النبى (صلى الله عليه وسلم) حيًا وميتًا من باب الخشوع، ومن أسباب الصلاة المرجو بركتها لم يكن بخطاب المصلى لغيره، وفى هذا دليل أن ما كان من الكلام عامدًا فى أسباب الصلاة أنه جائز سائغ، بخلاف قول أبى حنيفة، والشافعى. وإنما أنكر (صلى الله عليه وسلم) تسميتهم للناس بأسمائهم، لأن ذلك يطول على المصلى ويخرجه مما هو فيه من مناجاة ربه إلى مناجاة الناس شخصًا شخصًا، فجمع لهم هذا المعنى فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين) ، فهو وإن خاطب نفسه فقد خاطب أيضًا غيره معه، لكنه مما يرجى بركته فيها، فكأنه منها.
9 - باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
/ 157 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أن النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) . وترجم البخارى لحديث سهل، باب من صفق جاهلاً من الرجال فى صلاته لم تفسد صلاته.(3/192)
أجمع العلماء أن سُنَّة الرجال إذا نابهم شىء فى الصلاة التسبيح، واختلفوا فى حكم النساء، فذهبت طائفة إلى أن إذن المرأة فى الصلاة التصفيق، وإذن الرجل التسبيح على ظاهر الحديث، وروى عن النخعى، وهو قول الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: التسبيح للرجال والنساء جميعًا، هذا قول مالك، وتأول أصحابه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما التصفيق للنساء) أنه من شأنهن فى غير الصلاة، فهو على وجه الذم لذلك فلا تفعله فى الصلاة امرأة ولا رجل. وذكر ابن شعبان فى كتابه: اختلف قول مالك فى ذلك، فقال مرة: تسبح النساء ولا يصفقن، لأن الحديث جاء (من نابه شىء فى صلاته فليسبح) ، وقال مرة أخرى: التصفيح للنساء، والتسبيح للرجال، كما جاء فى الحديث، قال: والأول أحب إلينا. واحتج أهل المقالة الأولى أن التسبيح إنما كره للنساء، لأن صوت المرأة فتنة، ولهذا منعت من الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة فى الصلاة، واحتجوا بما رواه حماد بن زيد، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، فى هذا الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من نابه شىء فى صلاته فليسبح الرجال، ولتصفح النساء) . قالوا: وهذا نص لا تأويل لأحد معه. وقوله فى أول الباب: (من صفق جاهلاً من الرجال لم تفسد صلاته) ، إنما تأول ذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الذين صفقوا بالإعادة، ففيه جواز العمل اليسير فى الصلاة. والتصفيق: الاضطراب وضرب اليد على اليد، وفى كتاب الأفعال: صفق رأسه صفقًا: ضربه باليد، وكذلك صفق عنقه. وقال(3/193)
الأصمعى: صفقت يده بالبيعة: إذا ضربت يدك على يده، وصفق الطائر بجناحيه: ضرب بهما.
0 - باب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِى صَلاتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 158 - وفيه: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِى الْفَجْرِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّى بِهِمْ، فَفَجِئَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِى صَلاتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّىَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وهذا الباب أيضًا من باب العمل اليسير فى الصلاة. وفيه: أن التقدم والتأخر فى الصلاة جائز لما ينزل بالمصلى. وفيه: تفسير لقوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى بكرة حين دبَّ راكعًا: (زادك الله حرصًا ولا تعد) أنه لم يرد بقوله: لا تجزئك صلاتك إذ لا فرق بين مشى القائم ومشى الراكع فى الصلاة، فلما لم تنتقض صلاة أبى بكر بتأخره وتقدمه، عُلم أن الراكع إذا تقدم أو تأخر أيضًا لا تبطل صلاته. وفيه من الفقه: جواز مخاطبة من ليس فى صلاة لمن هو فى صلاة، وجواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى صلاة ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لما أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم سمعوا منه وأكملوا صلاتهم، ولم يضرهم ذلك، وهو قول مالك.(3/194)
1 - باب إِذَا دَعَتِ الأمُّ وَلَدَهَا فِى الصَّلاةِ
/ 159 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِى جَعْفَرُ،، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا، وَهُوَ فِى صَوْمَعَتِةِ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّى وَصَلاتِى، ثلاثًا، قَالَتِ: اللَّهُمَّ لا يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِى وُجُوهِ الْمَيَامِيسِ، وَكَانَتْ تَأْوِى إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ: لَهَا مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِى تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِى؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: الرَاعِى) . البابوس: الصبى الرضيع بالفارسية. قال المؤلف: هذا الحديث دليل أنه لم يكن الكلام فى الصلاة ممنوعًا فى شريعة جريج، فلما لم يأت من إجابتها بما هو مباح له، استجيبت دعوة أمه فيه، وقد كان الكلام فى شريعتنا جائزًا فى الصلاة إلى أن نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238] . وذكر البخارى عن أبى سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلى فى المسجد، فدعانى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، كنت أصلى، قال: (ألم يقل الله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 25] ) ، الحديث. ولا يجوز أن يوبخه النبى (صلى الله عليه وسلم) على ترك الاستجابة إلا وقت إباحة الكلام فى الصلاة، فلما نسخ ذلك لم يجز للمصلى إذا دعته أمه، أو غيرها أن يقطع صلاته، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق) . وحق الله تعالى الذى شرع فيه ألزم من حق الأبوين حتى يفرغ منه، لكن العلماء يستحبون له أن يخفف صلاته ويجيب أبويه.(3/195)
وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حديث مرسل يخالف هذا رواه ابن أبى شيبة عن حفص ابن غياث، عن ابن أبى ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا دعتك أمك فأجبها، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه) ، وقال به مكحول، رواه الأوزاعى عنه، وقال العوام: سألت مجاهدًا عن الرجل تقام عليه الصلاة وتدعوه أمه أو والده، قال: يجيبهما. وفى كتاب البر والصلة، عن الحسن فى الرجل تقول له أمه: أفطر، قال: يفطر وليس عليه قضاء، وله أجر الصوم والبر، وإذا قالت له: لا تخرج إلى الصلاة، فليس لها فى هذا طاعة، هذه فريضة. فدل هذا أن قياس قوله إذا دعته فى الصلاة لا يجيبها، وأما مرسل ابن المنكدر فالفقهاء على خلافه، ولا أعلم به قائلاً غير مكحول، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها، يعنى بالتسبيح وبما أبيح للمصلى الاستجابة به، كما ذكر ابن حبيب، قال: من أتاه أبوه ليكلمه وهو فى نافلة فليخفف، وليسلم ويكلمه، وإذا نادته أمه فليبتدرها بالتسبيح، وليخفف وليسلم. وأما قول مجاهد: إذا أقميت عليه الصلاة ودعاه أبوه، أو أمه فليجبهما، فيحتمل أن يكون أمره بإجابتهما إذا كان الوقت متسعًا، ولم يدخل فى الصلاة، فتجتمع له إجابة أبويه وقضاء الصلاة فى وقتها. وقال المهلب: وفى حديث أبى هريرة دليل أنه من أخذ بالشدة فى أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك، لأن جريجًا رعى حق الله فى التزام الخشوع له فى صلاته، وفضله على الاستجابة لأمه، فعاقبه الله على ما ترك من الاستجابة لها بما ابتلاه به(3/196)
من دعوة المرأة عليه، ثم أراه فضل ما آثره به من مناجاة ربه، والتزام الخشوع له، أن جعل له آية معجزة فى كلام الطفل، فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه. وفى هذا الحديث إجابة دعوة الوالدة فى السراء والضراء. وقوله: (اللهم أمى وصلاتى) ، إنما سأله أن يلقى فى قلبه الأفضل، ويحمله على أولى الأمرين به، فحمله على التزام مراعاة حق الله على حق أمه، وقد يمكن أن يكون جريج نبيًا، لأنه كان فى زمن يمكن فيه النبوة. فإن قال قائل: يحتمل أن يكون حديث أبى سعيد بن المعلى قبل تحريم الكلام فى الصلاة كما قلت، فكيف جاز له ترك مجاوبة النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا كان الكلام مباحًا؟ قيل: يمكن أن يتأول أبو سعيد قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [الأنفال: 25] إذا كنتم فى غير الصلاة، فعذره النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بذلك حين رأى التزام السكوت فى الصلاة تعظيمًا لشأنها، كما تأول أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم الحديبية حين أمرهم بالحلاق ألا يحلقوا لَمَّا لَمْ يبلغ الهدى محله. فإن قيل: فيحتمل أن يدعوه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى وقت تحريم الكلام فى الصلاة، قيل: نعم، يحتمل ذلك وتكون استجابته له بالتسبيح فيوجز فى صلاته، فتجتمع طاعة الله بإتمام الصلاة، وطاعة الرسول بالاستجابة له. وأظهر التأويلين أن يدعوه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقت إباحة الكلام فى الصلاة، وقد احتج قوم من أهل الظاهر بحديث أبى سعيد بن المعلى، وزعموا أن كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يوم ذى اليدين خصوص له، وقالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن الله تعالى قال: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ((3/197)
فلا يتكلم أحد، ولا يجيب غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولا حجة لهم فيه، لأن قوله: (استجيبوا لله وللرسول (معناه بما يستجيب به المصلى من قوله: سبحان الله، وإشارة تفهم عنه كما كان، (صلى الله عليه وسلم) ، يرد السلام على الأنصار إشارةً حين دخلوا عليه فى مسجد قباء، وهو يصلى، وكذلك قوله: (من نابه شىء فى صلاته فليسبح) . قال ابن السكيت: المومس: البغى، قال أبو عبيد: وهى المومسة أيضًا.
2 - باب مَسْحِ الْحَصَا فِى الصَّلاةِ
/ 160 - فيه: مُعَيْقِيبٌ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ فِى الرَّجُلِ يُسَوِّى التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: (إِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَوَاحِدَةً) . قال المهلب: هذا من باب العمل فى الصلاة، وقد تقدم أن قليل ذلك معفو عنه فيها، وقوله: (إن كنت فاعلاً فواحدة) ، يريد تقليل العمل فيها، ووكل الأمر فى ذلك إلى أمانة المصلى، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصى لموضع سجودهم مرة واحدة، وكرهوا ما زاد عليها. وروى ذلك عن ابن مسعود، وأبى ذر، وأبى هريرة، وروى مالك عن يحيى بن سعيد، قال: إن أبا ذر كان يقول: مسح الحصى مرةً واحدةً، وتركها خير من حمر النعم. وهو قول الأوزاعى، والكوفيين، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا أهوى ليسجد مسح الحصى مسحًا خفيفًا. وكان مالك لا يرى بالشىء الخفيف منه بأسًا، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكانوا يشددون(3/198)
فى مسح الحصى لموضع الجبين ما لا يشددون فى مسح الوجه من التراب؟ قال: أجل، وإنما أبيح مسح الحصى مرة وهو يسير، لأن المصلى لا يجوز أن يعمل جوارحه فى غير الصلاة، ومسح الحصى ليس من الصلاة فلا ينبغى له ذلك، ولا أن يأخذ شيئًا، ولا أن يضعه، فإن فعل لم تنتقض صلاته، ولا سهو عليه.
3 - باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِى الصَّلاةِ لِلسُّجُودِ
/ 161 - فيه: أَنَسِ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّى مَعَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) فِى شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ. قال المهلب: هذا الباب أيضًا من باب العمل اليسير فى الصلاة، وهو مستجاز، لأنه من أمور الصلاة، وقد أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالإبراد من أجل الحر، ولئلا يتعذب الناس بفيح النار، ولا يتمكن من السجود، ولا المبالغة فيه فى زمن الحر، إلا أن يتقيه بثوبه لشدة حر الحجارة، وقد ترجم لحديث أنس فى أبواب اللباس فى الصلاة، باب السجود على الثوب فى شدة الحر، وذكرنا فيه اختلاف العلماء فى السجود على الثياب، فأغنى عن إعادته.
4 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ الْعَمَلِ فِى الصَّلاةِ
/ 162 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِى فِى قِبْلَةِ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يُصَلِّى فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِى، فَرَفَعْتُهَا فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَما. / 163 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن الرسُول (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى صَلاةً، فَقَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَىَّ، لِيَقْطَعَ الصَّلاةَ عَلَىَّ فَأَمْكَنَنِى اللَّهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ(3/199)
هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ: (رَبّ هَبْ لِى مُلْكًا لا يَنْبَغِى لأحَدٍ مِنْ بَعْدِى) [ص: 35] فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا) . استخف جماعة العلماء العمل اليسير فى الصلاة، وأجمعوا أن الكثير منه لا يجوز، إلا أنهم لم يحدّوا القليل، ولا الكثير، وإنما هو اجتهاد واحتياط، وغمزُه، (صلى الله عليه وسلم) ، رجل عائشة فى الصلاة هو عمل يسير، إلا أن تكرير ذلك ربما أخرجه عن حَدِّ القليل. وأما حديث الشيطان الذى عرض للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى الصلاة، فقد رواه عبد الرزاق مفسرًا، فقال: (عرض لى فى صورة هرّ) ، فهذا معنى قوله: (فأمكننى الله منه) أى صوره لى فى صورة الهرِّ مشخصًا يمكنه أخذه، فأراد ربطه، ففى هذا جواز العمل فى الصلاة، وربطه إلى سارية عمل كثير قد هم به الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يهم إلا بجائز. ومما استخف العلماء من العمل فى الصلاة أخذ البرغوث والقملة، ودفع المارِّ بين يدى المصلى، والإشارة والالتفات الخفيف، والمشى الخفيف، وقتل الحية والعقرب، وهذا كله إذا لم يقصد المصلى بذلك العبث فى صلاته ولا التهاون بها، وممن أجاز أخذ القملة فى الصلاة وقتلها الكوفيون والأوزاعى. وقال أبو يوسف: قد أساء، وصلاته تامة، وكره الليث قتلها فى المسجد، ولو قتلها لم يكن عليه شىء، وقال مالك: لا يقتلها فى المسجد ولا يطرحها فيه، ولا يدفنها فى الصلاة. وقال الطحاوى: لو حك بدنه لم يكره، كذلك أخذ القملة وطرحها. ورخص فى قتل العقرب فى الصلاة: ابن عمر، والحسن،(3/200)
والأوزاعى، واختلف قول مالك فى ذلك، فمرة كرهه، ومرة أجازه، وقال: لا بأس بقتلها إذا آذته وخَفَّفَه، وكذلك الحية والطير يرميه بحجر يتناوله من الأرض، فإن لم يطل ذلك لم تبطل صلاته. وأجاز قتل الحية والعقرب فى الصلاة: الكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وكره قتل العقرب فى الصلاة: إبراهيم النخعى، وسئل مالك عمن يمسك عنان فرسه فى الصلاة، ولا يتمكن من وضع يديه بالأرض، قال: أرجو أن يكون خفيفًا، ولا يتعمد ذلك. وروى على بن زياد، عن مالك فى المصلى يخاف على صبى بقرب نار فذهب يُنَحِّيه، قال: إن انحرف عن القبلة ابتدأ، وإن لم ينحرف بَنَى. وسئل أحمد بن حنبل، عن رجل أمامه سترة فسقطت، فأخذها فأركزها، قال: أرجو ألا يكون به بأس. فذكر له عن ابن المبارك أنه أمر رجلاً صنع ذلك بالإعادة، قال: لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يكون خفيفًا. وأجاز مالك والشافعى حمل الصبى فى الصلاة المكتوبة، وهو قول أبى ثور. قال الخطابى: وقوله: (فذعته) رواه جماعة بالدال من الدَّعِّ الذى هو الدفع من قوله تعالى: (يدع اليتيم) [الماعون: 2] والأصل فى دع: دعع، فإذا أسندت الفعل إلى نفسك قلت: دَعَعْتُهُ، فإن قلت: دَعَتُّه، لم يجز فى العربية؛ لأنه لا يجوز فى العربية أن تدغم العين فى التاء، وإنما يدغم الحرف فى مثله، أو فيما قارب مخرجه مخرجه، فبطل بذلك أن يكون بالدال. قال الخطابى: والصواب فيه ما حدثنى الخيام عن(3/201)
النسفى، عن البخارى (فذعته) بالذال، وحكى عن ثعلب، عن الأصمعى، قال: الذعت: الخنق: قالا: والذعت أيضًا أن تُمَعِّكَ الرجل فى التراب، فإذا أسندت الفعل من ذعت إليك قلت: ذعتُّه، أذعته، وكان الأصل ذعته، فأدغمت لام الفعل التى هى تاء المتكلم كما تقول متته وسبته من قولك مت الحَبْل، بمعنى مدّ، وسبت رأسه: حلقه، وسبت شعره: أرسله.
5 - باب إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ فِى الصَّلاةِ
قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ، وَيَدَعُ الصَّلاةَ. / 164 - فيه: الأزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: كُنَّا بِالأهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى حَرْف نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّى، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا، قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِىُّ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ، قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ، وَإِنِّى غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سِتَّ غَزَوَاتٍ، أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَوْ ثَمَانِىَ، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّى إِنْ كُنْتُ أرجعَ مَعَ دَابَّتِى، أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا، فَيَشُقُّ عَلَىَّ. / 165 - وفيه: عَائِشَةُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فرغ: (لَقَدْ رَأَيْتُ فِى مَقَامِى هَذَا كُلَّ شَىْءٍ(3/202)
وُعِدْتُهُ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ، حِينَ رَأَيْتُمُونِى جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حِينَ رَأَيْتُمُونِى تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَىٍّ، وَهُوَ الَّذِى سَيَّبَ السَّوَائِبَ) . لا خلاف بين الفقهاء أنه من أفلتت دابته وهو فى الصلاة أنه يقطع الصلاة ويتبعها، وقال مالك فى المختصر: من خشى على دابته الهلاك، أو على صبى رآه فى الموت فليقطع صلاته. وروى عنه ابن القاسم فى مسافر انفلتت دابته وخاف عليها، أو على صبى، أو أعمى أن يقع فى بئر أو نار، أو ذكر متاعًا يخاف أن يتلف، فذلك عذر يبيح له أن يستخلف ولا يفسد على من خلفه شيئًا. وقول أبى برزة للذى أنكر عليه قطع الصلاة واتباع دابته: (شهدت تيسير النبى، (صلى الله عليه وسلم)) ، يعنى تيسيره على أمته فى الصلاة وغيرها، ولا يجوز أن يفعل هذا أبو برزة من رأيه دون أن يشاهده من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قوله: (وإنى إن كنت أرجع مع دابتى أحب إلىّ) إلى آخر قوله، أخبر أن قطعه للصلاة واتباعه لدابته أفضل من تركها، وإن رجعت إلى مكان علفها، وموضعها فى داره، فكيف إن خشى عليها أنها لا ترجع إلى داره، فهذا أشد لقطعه للصلاة واتباعه لها. ففى هذا حجة للفقهاء فى أن كل ما خشى تلفه من متاع، أو مال، أو غير ذلك من جميع ما بالناس الحاجة إليه أنه يجوز قطع الصلاة وطلبه، وذلك فى معنى قطع الصلاة لهرب الدابة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عائشة: (لقد رأيت أريد أن آخذ قطفًا حين رأيتمونى جعلت أتقدم) ، فهذا المشى عمل فى الصلاة، وكذلك (حين رأيتمونى تأخرت) عمل أيضًا، إلا أنه ليس فيه قطع للصلاة، ولا استدبار للقبلة، ولا مشى كثير مثل ما يمشى من انفلتت(3/203)
دابته وبعدت عنه، فدل هذا الحديث إن مشى إلى دابته خطىً يسيرة نحو تقدمه (صلى الله عليه وسلم) إلى القطف، وكانت دابته قريبًا منه فى قبلته أنه لا يقطع صلاته. وقد سئل الحسن البصرى، عن رجل صلى وأشفق أن تذهب دابته قال: ينصرف، قيل له: أفيتم على ما مضى؟ قال: إذا ولى ظهره القبلة استأنف الصلاة، وسئل قتادة عن رجل دخلت الشاة فى بيته، وهو يصلى فيطأطئ رأسه ليأخذ القصبة يضربها؟ قال: لا بأس به.
6 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ النفخِ فِى الصَّلاةِ والبزاق
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سُجُودِهِ فِى كُسُوف الشمس. / 166 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى نُخَامَةً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِى صَلاتِهِ فَلا يَبْزُقَنَّ، أَوْ قَالَ: لا يَتَنَخَّمَنَّ، ثُمَّ نَزَلَ، فَحَتَّهَا بِيَدِهِ) . / 177 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا كَانَ أَحَدِكُمْ فِى الصَّلاةِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ، فَلا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . اختلف العلماء فى النفخ فى الصلاة، فكرهته طائفة ولم توجب على من نفخ إعادة، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، والنخعى، ورواية عن مالك، قال على عن مالك: أكره النفخ فى الصلاة، ولا يقطعها كما يقطعها الكلام. وهو قول أبى يوسف،(3/204)
وأشهب، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: هو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، روى عن سعيد بن جبير، وهو قول مالك فى المدونة، وفيه قول ثالث: أن النفخ إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام، ويقطع الصلاة، هذا قول أبى حنيفة، والثورى، ومحمد. والقول الأول أولى، لما ذكره البخارى عن عبد الله بن عمرو: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفخ فى سجوده) ، وذكر ابن أبى شيبة لأبى صالح أن قريبًا لأم سلمة صلى فنفخ، فقالت أم سلمة: لا تفعل، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لغلام لنا أسود: (يا رباح، ترب وجهك) . وقال ابن بريدة: كان يقال: من الجفاء أن ينفخ الرجل فى صلاته، فدل هذا أن من كرهه إنما جعله من الجفاء وسوء الأدب، لا أنه بمنزلة الكلام عنده، ألا ترى أن أم سلمة لم تأمر قريبها حين نفخ فى صلاته بإعادتها، ولو كان بمنزلة الكلام عندها ما تركت بيان ذلك، ولا فعله رسوله الله (صلى الله عليه وسلم) . ويدل على صحة هذا اتفاقهم على جواز التنخم والبزاق فى الصلاة، وليس فى النفخ من النطق بالفاء والهمزة أكثر مما فى البزاق من النطق بالتاء والفاء اللتين من رمى البصاق، ولما اتفقوا على جواز البزاق فى الصلاة جاز النفخ فيها، إذ ليس بينهما فرق فى أن كل واحدٍ منهما بحروف، ولذلك ذكر البخارى حديث البزاق فى هذا الباب ليستدل به على جواز النفخ، لأنه لم يسند حديث عبد الله بن عمرو، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نفخ فى سجوده، واعتمد على الاستدلال من حديث النخامة والبزاق، وهو استدلال حسن، وأما البزاق اليسير فإنه يحتمل فى الصلاة إذا كان على اليسار، أو تحت القدم، كما جاء فى الحديث، غير أنه ينبغى إرساله بغير نطق بحرف(3/205)
مثل التاء والفاء اللتين يفهمان من رمى البزاق، لأن ذلك من النطق، وهو خلاف الخشوع فيها.
7 - باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّى تَقَدَّمْ أَوِ انْتَظِرْ، فَانْتَظَرَ، فَلا بَأْسَ
/ 168 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِىَ الرِّجَالُ جُلُوسًا. التقدم فى هذا الحديث هو تقدم الرجال بالسجود النساء، لأن النساء إذا لم يرفعن رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، فقد تقدمهن بذلك وصرن منتظرات لهم، وفى هذا من الفقه جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام بمدة، ويصح ائتمامه، كمن زحم ولم يقدر على الركوع والسجود، حتى قام الناس، وفيه جواز سبق المأمومين بعضهم لبعض فى الأفعال، ولا يضر ذلك، وفيه إنصات المصلى لمخبر يخبره، وفيه جواز الفتح على المصلى، وإن كان الذى يفتح عليه فى غير صلاة، لأنه قد يجوز أن يكون القائل للنساء، لا ترفعن رءوسكن فى غير صلاة.
8 - باب لا يَرُدُّ السَّلامَ فِى الصَّلاةِ
/ 169 - فيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِى الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَىَّ، فَلَمَّا رَجَعْنَا، سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، وَقَالَ: (إِنَّ فِى الصَّلاةِ شُغْلا) . / 170 - وفيه: جَابِرِ، قَالَ: بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَاجَةٍ لَهُ، فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، وَقَدْ قَضَيْتُهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، فَوَقَعَ فِى قَلْبِى مَا اللَّهُ بِهِ أَعْلَمُ، فَقُلْتُ فِى نَفْسِى: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَجَدَ عَلَىَّ أَنِّى أَبْطَأْتُ(3/206)
عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَىَّ، فَقَالَ: (إِنَّمَا مَنَعَنِى أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ) . أجمع العلماء أن المصلى لا يرد السلام متكلمًا، واختلفوا هل يرد بالإشارة، فكرهته طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج الطحاوى لأصحابه بقوله: (فلم يرد علىّ، وقال: إن فى الصلاة شغلاً) ، واختلف فيه قول مالك، فمرة كرهه، ومرة أجازه، وقال: ليرد مشيرًا بيده وبرأسه، ورخصت فيه طائفة، روى ذلك عن سعيد بن المسيب، وقتادة، والحسن. وفيه قول ثالث: وهو أنه يرد عليه إذا فرغ من الصلاة، روى ذلك عن أبى ذر، وأبى العالية، وعطاء، والنخعى، والثورى، واحتج الذين رخصوا فى ذلك بما رواه ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: لما قدم عبد الله من الحبشة، وأتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلى، فسلم عليه، فأومأ وأشار برأسه. قال: حدثنا ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، قال: سألت صهيبًا، كيف كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصنع حين يسلم عليه وهو يصلى؟ قال: يشير بيده. وعن ابن عمر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أتى قباء، فجاء الأنصار يسلمون عليه، وهو يصلى، فأشار إليهم بيده. وقال عطاء: سلم رجل على ابن عباس، وهو يصلى، فأخذ بيده فصافحه وغمزه. وقد ثبتت الإشارة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الصلاة فى آثار كثيرة، ذكرها البخارى فى آخر كتاب الصلاة، فلا معنى لقول من أنكر رد السلام بالإشارة. وكذلك اختلفوا فى السلام على المصلى، فكره ذلك قوم، وروى(3/207)
عن جابر بن عبد الله، قال: لو دخلت على قوم وهم يصلون ما سلمت عليهم. وقال أبو مجلز: السلام على المصلى عجز. وكرهه عطاء، والشعبى، ورواه ابن وهب عن مالك، وبه قال إسحاق. ورخصت فيه طائفة، روى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك فى المدونة، وقال: لا يكره السلام على المصلى فى فريضة ولا نافلة. وفعله أحمد بن حنبل.
9 - باب رَفْعِ الأيْدِى فِى الصَّلاةِ لأمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
/ 171 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أن النَّبِىَ، (صلى الله عليه وسلم) ، جاء وَأَبُو بَكْرِ يُصَلِّىَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) بأَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. . . الحديث. رفع الأيدى استسلام وخشوع لله تعالى فى غير الصلاة، فكيف فى الصلاة التى هى موضوعة للخشوع والضراعة إلى الله تعالى، والحجة فى هذا الحديث فى رفع أبى بكر يديه بحضرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولم ينكر ذلك عليه.
0 - باب الْخَصْرِ فِى الصَّلاةِ
/ 172 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُصَلِّىَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا. قال المهلب: إنما كره الخصر فى الصلاة، لأنه يشبه المختالين، والخصر أن يضع الرجل يديه على خاصرتيه، وفيه معنى الكبرياء، فلا يحل القليل منه، فكيف فى الصلاة التى هى موضوعة للخشوع،(3/208)
والخيلاءُ والكبرُ ينافيان الخشوع، وكرهه ابن عباس، وعائشة، والنخعى، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين. ورأى ابن عمر رجلاً وضع يديه على خاصرتيه فى الصلاة، فقال: هذا الصلب فى الصلاة، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى عنه، وقالت عائشة: هو من فعل اليهود، وقالت مرة: هكذا أهل النار فى النار. وقال مجاهد: وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار، وقال الخطابى: المعنى أنه فعل اليهود فى صلاتهم، وهم أهل النار، لا على أن لأهل النار المخلدين فيها راحة، قال تعالى: (لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) [الزخرف: 75] . وقال ابن عباس: الشيطان يخصر كذلك. قال حميد بن هلال: إنما كره التخصر فى الصلاة، لأن إبليس أهبط مختصرًا.
1 - باب يَفَكُر الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ
وَقَالَ عُمَرُ بنْ الخَطَّاب: إِنِّى لأجَهِّزُ جَيْشِى، وَأَنَا فِى الصَّلاةِ. / 173 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) الْعَصْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ سَرِيعًا، ثًمَّ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، وَرَأَى مَا فِى وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ، فَقَالَ: (ذَكَرْتُ وَأَنَا فِى الصَّلاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِىَ، أَوْ يَبِيتَ، عِنْدَنَا، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) . / 174 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أن الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ، فَلا يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى (. / 175 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَلَقِيتُ رَجُلا،(3/209)
فَقُلْتُ: بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْبَارِحَةَ فِى الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِى، قُلْتُ: لَمْ تَشْهَدْهَا، قَالَ: بَلَى، قَقُلْتُ: لَكِنْ أَنَا أَدْرِى، قَرَأَ بسُورَةَ كَذَا وَكَذَا. قال المهلب: الفكر فى الصلاة أمر غالب لا يمكن الاحتراز من جميعه، لما جعل الله للشيطان من السبيل إلى تذكيرنا ما يسهينا به عن صلاتنا، وخير ما يستعمل به الفكر فى الصلاة ما هو فيه من مناجاة ربه، ثم بعده الفكر فى إقامة حدود الله، كالفكر فى تفريق الصدقة كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أو فى تجييش جيش الله، عز وجل، على أعدائه المشركين كما قال عمر. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال عمر: إنى لأحسب جزية البحرين، وأنا فى الصلاة. ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ليحض على الإقبال على الصلاة، وليجاهدوا الشيطان فى ذلك بما رغبهم فيه، وأعلمهم من غفران الذنوب لمن أجهد نفسه فيه، وهذا الانصراف من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لا يدخل فى معنى التخطى، لأن على الناس كلهم الانصراف بعد الصلاة، فمن بقى فى موضعه فهو مختار لذلك، وإنما التخطى فى الدخول إلى المسجد لا فى الخروج منه. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اذكر كذا، اذكر كذا) ، فإن أبا حنيفة أتاه رجل قد رفع مالا، ثم غاب عن مكانه سنين، فلما انصرف نسى الموضع الذى جعله فيه، فذكر ذلك لأبى حنيفة تبركًا برأيه، ورغبة فى فضل دعائه، فقال أبو حنيفة: توضأ هذه الليلة وصل، وأخلص النية فى صلاتك لله، وفرغ قلبك من خواطر الدنيا ومن كل عارض فيها، فلما جاء الليل فعل الرجل ما أمره به، وأجهد أن لا يجرى على باله شىء من أمور الدنيا، فجاءه الشيطان فذكره بموضع المال، فقصده من وقته فوجده فيه، فلما أصبح غدا إلى أبى حنيفة، فأخبره بوجود المال، فقال أبو حنيفة: قدرت أن الشيطان سيرضى أن(3/210)
يشغله عن إخلاص فكره فى صلاته لله تعالى، ويصالحه على ذلك بتذكيره بما فقده من ماله، ليلهيه عن صلاته استدلالا بهذا الحديث، فعجب جلساؤه لجودة انتزاعه لهذا المعنى الغامض من هذا الحديث. وقول الرجل لأبى هريرة: (لا أدرى ما قرأ رسول الله) ، يدل أنه كان مفكرًا فى صلاته، فلذلك لم يدر ما قرأ به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقول أبى هريرة: (يقول الناس: أكثر أبو هريرة) ، ففيه أنه أكثر من يعلم، وكان حافظًا له ضابطًا، لأن الإكثار ليس بعيب، وإنما يكون عيبًا فيه إذا خشى قلة الضبط، فقد يكون من الناس غير مكثر من العلم ولا ضابط له مثل هذا الرجل الذى لم يحفظ ما قرأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى العتمة. وفيه: أنه يجوز أن يُنفى فعل الشىء عمن لم يحكمه، لأن أبا هريرة قال للرجل: لم تشهدها، يريد شهودًا تامًا، فقال الرجل: بلى شهدتها، كما يقال للصانع إذا لم يحسن صنعته: ما صنعت شيئًا، يريدون الإتقان، وللمتكلم: ما قلت شيئًا، إذا لم يعلم ما يقول. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، و (لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد) ، يريد لا صلاة تامة.(3/211)
2 - باب مَا جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَرْضِ
. / 176 - فيه: ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ سَلَّمَ. ورواه يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ الأعْرَجِ، وذكر أنها كانت صلاة الظهر. واختلف العلماء فيمن قام من اثنتين ساهيًا، هل يرجع إلى الجلوس؟ فقالت طائفة بحديث ابن بحينة: إذا استتم قائمًا، واستقل من الأرض فلا يرجع، وليمض فى صلاته، وإن لم يستو قائمًا جلس، وروى ذلك عن علقمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، وهو قول الأوزاعى، وابن القاسم فى المدونة، والشافعى. وقالت طائفة: إذا فارقت أليته الأرض، وإن لم يعتدل، فلا يرجع ويتمادى، ويسجد قبل السلام، رواه ابن القاسم، عن مالك فى المجموعة. وقالت طائفة: يقعد وإن كان استتم قائمًا روى ذلك عن النعمان بن بشير، والنخعى، والحسن البصرى، إلا أن النخعى، قال: يجلس ما لم يفتتح القراءة، وقال الحسن: ما لم يركع.(3/212)
وفى المدونة لابن القاسم، قال: إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السلام، وقال أشهب وعلى بن زياد: قبل السلام، لأنه قد وجب عليه السجود فى حين قيامه، ورجوعه إلى الجلوس زيادة، وعلة الذين قالوا: يقعد، وإن استتم قائمًا القياس على إجماع الجميع أن المصلى لو نسى الركوع من صلاته وسجد، ثم ذكر وهو ساجد أن عليه أن يقوم حتى يركع، فكذلك حكمه إذا نسى قعودًا فى موضع قيام حتى قام أن عليه أن يعود له إذا ذكره. قال الطبرى: والصواب قول من قال: إذا استوى قائمًا يمضى فى صلاته ولا يقعد، فإذا فرغ سجد سجدتى السهو، لحديث ابن بحينة أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) حين اعتدل قائمًا، من أن يذكر بنفسه، أو يذكره من خلفه بالتسبيح، وأى الحالين كان فلم ينصرف النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى الجلوس بعد قيامه، وقد روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاوية، وسعيد، والمغيرة بن شعبة، وعقبة بن عامر، أنهم قاموا فى اثنتين، فلما ذكروا بعد القيام لم يجلسوا، وقالوا: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يفعل ذلك. وفى قول أكثر العلماء: أنه من رجع إلى الجلوس بعد قيامه من اثنتين أنه لا تفسد صلاته إلا ما ذكر ابن أبى زيد، عن سحنون أنه قال: أفسد الصلاة برجوعه، والصواب قول الجماعة، لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع رخصة وتنبيه أن الجلسة الأولى لم تكن فريضة، لأنها لو كانت فريضة لرجع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد سجد عنها، فلم يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سجود ولا غيره، ولابد من قضائها فى العمد والسهو.(3/213)
وقد شذت فرقة فأوجبت الأولى فرضًا، وقالوا: هى مخصوصة من بين سائر فروض الصلاة بأن ينوب عنها سجود السهو كالعرايا من المزابنة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعًا، لا يقاس عليها شىء من أعمال البر فى الصلاة. ومنهم من قال: هى فرض، وأوجب الرجوع إليها ما لم يعمل المصلى بعدها ما يمنعه من الرجوع إليها، وذلك عقد الركعة التى قام إليها يرفع رأسه منها، وقولهم مردود بحديث ابن بحينة، فلا معنى للاشتغال به، وإنما ذكرته ليعرف فساده. وأجمع العلماء أن من ترك الجلسة الأولى عامدًا أن صلاته فاسدة وعليه إعادتها، قالوا: وهى سنة على حيالها، فحكم تركها عمدًا حكم الفرائض، وأجمعوا أن الجلسة الأخيرة فريضة إلا ابن علية، قال: ليست بفرض قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتج بحديث ابن بحينة فى القيام من ثنتين. والجمهور حجة على من خالفهم لا يجوز عليهم جهل ما عليه الشاذ المنفرد، على أن ابن علية يوجب فساد صلاة من لم يأت بأعمال الصلاة كلها سننها وفرائضها، وقوله مردود بقوله، ويرد أيضًا قولَهُ قولُهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وتحليلها التسليم) ، والتسليم لا يكون إلا بجلوس فسقط قولهم. وفى حديث ابن بحينة حجة لمن جعل سجود السهود فى النقص قبل السلام، وقد اختلفوا فى ذلك، فذهبت فرقة إلى أن السجود كله قبل،(3/214)
روى هذا عن أبى هريرة ومكحول، وعن الزهرى، وربيعة، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وقالت فرقة: السجود كله بعد السلام، روى ذلك عن على، وابن مسعود، وعمار، وسعد، وابن عباس، وأنس، وهو قول النخعى، والحسن، والثورى، والكوفيين، واحتجوا من طريق النظر بإجماعهم على أن حكم من سها فى صلاته أن لا يسجد فى موضع سهوه، وإنما يؤخر ذلك إلى آخر صلاته لتجمع له السجدتان كل سهو فى صلاته، ومعلوم أن السلام قد يمكن فيه السهو أيضًا، فوجب أن يؤخر السجدتان عن السلام أيضًا كما يؤخر عن التشهد. وذهب مالك إلى أن سهوه إن كان نقصانًا من الصلاة فسجوده قبل السلام على حديث ابن بحينة، وكل سهو كان زيادة فى الصلاة، فإن سجوده بعد السلام على حديث ذى اليدين، وهو قول أبى ثور، ولا مدخل للنظر مع وجود السنن، فلا معنى لقول الكوفيين.
3 - باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا
/ 177 - فيه: ابن مسعود، أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِى الصَّلاةِ؟ فَقَالَ (وَمَا ذَاكَ) ، قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، بَعْدَ مَا سَلَّمَ. اختلف الفقهاء فى المصلى إذا قام إلى خامسة، فقالت طائفة بظاهر هذا الحديث: إن ذكر وهو فى الخامسة قبل كمالها، رجع وجلس وتشهد وسلم، وإن لم يذكر إلا بعد فراغه من الخامسة، فإنه يسلم، ويسجد للسهو، وصلاته مجزئة عنه، هذا قول عطاء، والحسن، والنخعى، والزهرى، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.(3/215)
وقال أبو حنيفة: إذا صلى الظهر خمسًا ساهيًا نُظر، فإن لم يقعد فى الرابعة قدر التشهد، فإن صلاته الفرض قد بطلت، ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون نافلة ويعيد الفرض، وإن جلس فى الرابعة مقدار التشهد فصلاته مجزئة ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون الخامسة والسادسة نفلا، وإن ذكر وهو فى الخامسة قبل أن يسجد فيها، ولم يكن جلس فى الرابعة رجع إليها فأتمها كما نقول، وسجد بعد السلام. قال ابن القصار: فلا ينفك أصحاب أبى حنيفة فى هذا الحديث من أحد وجهين: إما أن يكون (صلى الله عليه وسلم) قعد فى الرابعة قدر التشهد، فإذا سجد ولم يزد على الخامسة سادسة، أو لم يقعد، فإنه لم يُعد الصلاة، وهم يقولون: قد بطلت صلاته، ولو كانت باطلة لم يسجد (صلى الله عليه وسلم) للسهو، ولأعاد الصلاة. وقوله: (فسجد سجدتين بعد ما سلم) ، هو حجة لمالك فى أن سجود السهو فى الزيادة بعد السلام، وخلاف لقول الشافعى فى أن سجود السهو فى الزيادة قبل السلام، وقول مالك يشهد له الحديث، ومن طريق النظر أن سجود النقص جبران، والجبران يقع داخل الصلاة، فيجعل زيادة فعل مكان ما سقط من الفعل، وتجعل الزيادة التى هى ترغيم للشيطان خارج الصلاة، ولا تدخل زيادة فعل على زيادة فعل، فتكثر الزيادات. وقال المهلب: السجود فى الزيادة إنما هو لأحد معنيين: ليشفع ما قد زاد إن كان زيادة كثيرة، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (إذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين تشفع له ما تقدم) ، وإن كانت زيادة(3/216)
قليلة فالسجدتان ترغيم للشيطان الذى أسهى وأشغل حتى زاد فى الصلاة، فأغيظ الشيطان بالسجدتين، لأن السجود هو الذى استحق إبليس بتركه العذاب فى الآخرة والخلود فى النار، فلا شىء أرغم له منه.
4 - باب إِذَا سَلَّمَ فِى رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِى ثَلاثٍ يَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاةِ أَوْ أَطْوَلَ
/ 178 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى لنَا رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أقصرت الصَّلاة يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ: (أَحَقٌّ مَا يَقُولُ) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ سَعْدٌ: وصلى عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِىَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) . هذه الترجمة رد على أهل الظاهر فى قولهم: أنه لا يسجد أحد من السهو إلا فى الخمسة المواضع التى سجد فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو: السلام من ثنتين على حديث ذى اليدين، والقيام من ثنتين على حديث ابن بحينة، إلا أنه يجعل السجود فى ذلك بعد السلام، أو من صلى الظهر خمسًا على حديث ابن مسعود، وفى البناء على اليقين على حديث أبى سعيد الخدرى، وفى التحرى على حديث ابن مسعود. وجماعة الفقهاء يقولون: إن من سلم فى ثلاث ركعات، أو قام فى ثلاث، أو نقص من صلاته مَالَهُ بَالٌ، أو زاد فيها، فعليه سجود السهو، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، علم الناس فى السلام من ثنتين،(3/217)
والقيام منها، وزيادة خامسة، وفى البناء على اليقين، والتحرى سجود السهو، ليستعملوا ذلك فى كل سهو يكون فى معناه. واحتجوا فى ذلك أيضًا بحديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا شك أحدكم فى الصلاة، فليتحر الصواب، وليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين) ، فأمر بالسجود لكل سهو، وهو عام إلا أن يقوم دليل. وفى قصة ذى اليدين من الفقه أن اليقين لا يجب تركه للشك، حتى يأتى بيقين يزيله، ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على غير تمامها، وأمكن فى ذلك القصد من جهة الوحى، وأمكن النسيان، لزمه أن يستفهم حتى يصير إلى يقين يقطع به الشك، وفيه من الفقه أن من سلم ساهيًا فى صلاته وتكلم، وهو يظن أنه قد أتمها، فإنه لا يضره ذلك ويبنى على صلاته. وقد اختلف قول العلماء فى كيفية رجوع المصلى إلى إصلاح صلاته، فقال مالك فى المدونة: كل من رجع إلى إصلاح ما بنى عليه من صلاته، فليرجع بإحرام. وروى ابن وهب عنه أنه قال: إن لم يكبر فلا يضره ذلك مع إمام كان أو وحده. وقال ابن نافع: إن لم يدخل بإحرام أفسد صلاته على نفسه، وعلى من خلفه إن كان إمامًا. وقال الأصيلى: رواية ابن وهب هى القياس، لأن رجوعه إلى صلاته بنية تجزئه من ابتداء بإحرام، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى حديث ذى اليدين، وليس سلامه ساهيًا مما يخرجه من صلاته. وقال غيره: إن لم يكبر فى رجوعه فلا شىء عليه، لأن التكبير(3/218)
شعار حركات المصلى، وأصل التكبير فى غير الإحرام إنما كان للإمام، ثم صار سُنَّة بمواظبة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عليه وتكبير الصلوات محصور فلا وجه للزيادة فيه، ألا ترى أن الذى يحبسه الإمام عن القيام لا يكبر إذا قام لقضاء ما عليه، لأنها زيادة على تكبير الصلاة، وسلامه ساهيًا لا يخرجه عن الصلاة عند جمهور العلماء، وإذا كان فى صلاة بنى عليها، فلا معنى للإحرام، لأنه غير مستأنف لصلاة بل هو متمم لها، وإنما يؤمر بالتكبير من ابتدأ الصلاة، أو استأنفها. قال ابن القصار: وقول ذى اليدين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله: لم تقصر ولم أنس) ، يدل أنه من تكلم ساهيًا فى الصلاة لم يفسدها، وهو قول مالك والشافعى. والحجة لذلك أنه لما قال ذو اليدين: بل قد نسيت، علمنا أنه لم يكن القصر فى الصلاة، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك ناسيًا، فحصل كلامه (صلى الله عليه وسلم) فى حال نسيان الصلاة غير مفسد لها، ولو كان الكلام يفسدها لابتدأ (صلى الله عليه وسلم) الصلاة ولم يَبْنِ. هذا رد على أبى حنيفة وأصحابه والثورى، فإنهم زعموا أن من تكلم فى الصلاة ساهيًا، أو عامدًا لمصلحتها أنه قد أفسدها. وروى مثل قولهم عن النخعى، وقتادة، وقاله ابن وهب، وابن كنانة من أصحاب مالك. قال ابن وهب: إنما كان حديث ذى اليدين فى بدء الإسلام، ولا أرى لأحدٍ أن يفعله اليوم. وقال ابن كنانة: لا يجوز لأحدٍ اليوم ما جاز لمن كان مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن ذا اليدين ظن أن التقصير نزل، وقد علم الناس كلهم اليوم أن تقصير الصلاة لا ينزل، فعلى من تكلم الإعادة. قال عيسى(3/219)
ابن دينار: فقرأته على ابن القاسم، فقال: ما أدرى ما هذه الحجة، قد قال لهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (كل ذلك لم يكن، قالوا: بلى قد كان بعض ذلك) . فقد كلموه عمدًا بعد علمهم أنها لم تقصر وبَنَوْا. وقال الشافعى: الكلام فى مصلحة الصلاة عمدًا لا يجوز. وقال مالك: الكلام فى مصلحتها عمدًا لا يفسدها، مثل أن يقول لإمامه: بقيت عليك ركعة أو تسليمة، أو يسأله الإمام عن شىء تركه فيجيبه. وقال الأوزاعى: إن تكلم لفرض يجب عليه لم تقسد صلاته، وإن كان لغير ذلك بطلت، والفرض عليه رَدُّ السلام، أو أن يرى أعمى يقع فى بئر، فينهاه. واحتج الكوفيون، فقالوا: حديث ذى اليدين منسوخ، نسخه حديث ابن مسعود، وزيد بن أرقم فى النهى عن الكلام فى الصلاة، وعللوا الحديث، فقالوا: أبو هريرة لم يشهد قصة ذى اليدين، لأن ذا اليدين قتل يوم بدر، قالوا: ويدل على ذلك ما رواه الليث بن سعد، عن نافع، وابن وهب، عن عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذى اليدين، فقال: كان إسلام أبى هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. فعلى هذا معنى قول أبو هريرة: (صلى لنا رسول الله) ، يعنى صلى بالمسلمين، وهذا جائز فى اللغة، كما قال النزال بن سبرة: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنا وإياكم كنا ندعى بنى عبد مناف، وأنتم اليوم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله) ، يعنى لقوم النزال، فهذا النزال يقول: قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو لم يره، يريد بذلك قال لقومنا.(3/220)
ومثله قال طاوس: قدم علينا معاذ بن جبل، فلم يأخذ من الخضروات شيئًا، وطاوس لم يدرك معاذًا، إنما قدم اليمن فى عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يولد طاوس يومئذ، فمعنى قوله: قدم علينا، قدم بلدنا، وهذا الزهرى على علمه بالسنن يقول: إن قصة ذى اليدين كانت قبل بدر. وما ادعاه الكوفيون أن حديث ذى اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود فغير مسلَّم لهم، لما قدمنا فى باب ما ينهى عنه من الكلام فى الصلاة أن حديث ابن مسعود فى تحريم الكلام فى الصلاة كان بمكة، وقت قدومه من الحبشة، وإسلام أبى هريرة كان عام خيبر، وقد صح شهود أبى هريرة لقصة ذى اليدين، وأنها لم تكن قبل بدر. وقولهم: إن ذا اليدين قتل يوم بدر، فغير صحيح، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين، ذكر ذلك سعيد بن المسيب، وجماعة من أهل السير: ابن إسحاق وغيره، قالوا: وذو الشمالين هو عمير بن عمرو، من خزاعة حليف لبنى زهرة، وذو اليدين غير ذى الشمالين المقتول ببدر، وإن المتكلم كان من بنى سليم، ذكر ذلك يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة. وقال عمران بن حصين: رجل طويل اليدين يقال له: الخرباق، وقال الأثرم: سمعت مسددًا يقول: الذى قتل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو، حليف بنى زهرة، وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية، فيجئ فيصلى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وذكر ابن أبى خيثمة أن ذا اليدين عَمَّر إلى زمن معاوية، وتوفى بذى خشب.(3/221)
وقد اضطرب الزهرى فى رواية حديث ذى اليدين، فجعله ذا الشمالين المقتول ببدر، وترك العلماء حديثه، لأنه مرة يرويه عن أبى بكر بن سليمان بن أبى حَثْمَة، قال: بلغنى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وحدث عنه مالك، عن سعيد وأبى سلمة، أنه بلغهما: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى ركعتين ثم سلم، ولم يسجد للسهو. وقال مسلم بن الحجاج فى كتاب التمييز: قول ابن شهاب أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يسجد يوم ذى اليدين خطأ وغلط، وقد ثبت ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن القصار: والدليل على أن كل من تكلم فى صلاته عمدًا لمصلحتها أن صلاته تامة، أن ذا اليدين لما قال للرسول (صلى الله عليه وسلم) : قد كان بعض ذلك، علم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يقصر، وأن النسيان الجائز قد حصل منه فابتدأ عامدًا فسأل الناس، فأجابوه أيضًا عامدين، لأنهم علموا أنها لم تقصر، وأن النسيان قد وقع، وبهذا احتج ابن القاسم. وقال أبو الفرج: لو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث ذى اليدين بتحريم الكلام فى الصلاة، لم يكن لهم فيه حجة، لأنه قد نهى عن التسبيح فى الصلاة فى غير موضعه، وأبيح للتنبيه على غفلة المصلى فى صلاته ليستدركه، فكذلك الكلام. ويدخل على أبى حنيفة والشافعى التناقض فى قولهم فى هذا الحديث، لأنهم يجيزون المشى فى الصلاة عامدًا لإصلاحها، كالراعف يخرج من المسجد يغسل الدم وللوضوء، ولا يجوز ذلك،(3/222)
عندهم فى غير إصلاح الصلاة، فكذلك الكلام يجوز منه لإصلاح الصلاة ما لا يجوز منه لغير ذلك.
5 - باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ
وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لا يَتَشَهَّدُ. / 179 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ) ؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ. وقيل لابن سيرين: فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ. اختلف العلماء فى سجدتى السهو، وهل فيهما تشهد وسلام، فقالت طائفة: لا تشهد فيها، ولا سلام. روى ذلك عن أنس، وطاوس، والحسن، والشعبى. وقالت طائفة: لا تشهد فيهما، وفيهما سلام. روى ذلك عن سعد بن أبى وقاص، وعمار، وابن أبى ليلى، وابن سيرين. وقالت طائفة: فيهما تشهد وسلام. روى ذلك عن ابن مسعود، والنخعى، والحكم، ورواية عن قتادة، واستحسن ذلك الليث، وقاله(3/223)
مالك فى العتبية والمجموعة، وهو قول الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، والشافعى، ذكره ابن المنذر. وحكى الطحاوى، عن الأوزاعى، والشافعى: ليس فيهما تشهد. وفيهما قول رابع: إن سجد قبل السلام لم يتشهد، وإن سجد بعد السلام تشهد، رواه أشهب، عن مالك، وهو قول ابن الماجشون، وأحمد بن حنبل. قال المهلب: وليس فى حديث ذى اليدين تشهد، ولا تسليم، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، تشهد فيهما وسلم، ولم ينقل ذلك المحدث. والثانى: أنه لم يتشهد فيهما، ولا سلم، وألحق المسلمون بهاتين السجدتين الصلاة، لما كانت صلاةً كَبَّرَ الرسول لهما، فأضيف إليهما التشهد، والسلام تأكيدًا لهما. وقال ابن المنذر: التسليم فى سجدتى السهو ثابت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من غير وجه، وفى ثبوت التشهد عنه (صلى الله عليه وسلم) فيهما نظر. وفى حديث ذى اليدين حجة لمالك على الشافعى فى قوله: إن سجود السهو كله فى الزيادة قبل السلام، لأنه (صلى الله عليه وسلم) زاد فى حديث ذى اليدين السلام، والكلام، ثم أكمل صلاته وسجد للسهو بعد السلام.(3/224)
6 - باب مَنْ يُكَبِّرُ فِى سَجْدَتَىِ السَّهْوِ
/ 180 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِحْدَى صَلاتَىِ الْعَشِىِّ - قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّى الْعَصْرَ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِى مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: (لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ) ، قَالَ: بَلَى، قَدْ نَسِيتَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. / 181 - وفيه: ابن بُحَيْنَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) قَامَ فِى صَلاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَكَبَّرَ فِى كُلِّ سَجْدَةٍ، وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِىَ مِنَ الْجُلُوسِ. قال المهلب: التكبير فى سجود السهو ثابت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك ألحق المسلمون فيهما التشهد والسلام. وفى هذا الحديث من الفقه أنه لو انحرف عن القبلة فى صلاته ساهيًا أو مشى قليلاً، أنه لا يخرجه ذلك عن صلاته، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وخرج السرعان، وقالوا: إنه قصرت الصلاة، فلم ينقض ذلك صلاتهم، لأنه كان سهوًا، فدل أن السهو لا ينقض الصلاة، ولا يستعمل اليوم مثل هذا من الخروج من المسجد والكلام [. . . .] إعادة الصلاة، والعمل الكثير فى الصلاة مسقط لخشوعها، فلذلك استحب العلماء إعادتها من أولها إذا كثر العمل مثل هذا. واختلف العلماء فى الذى يسهو مرارًا فى الصلاة، فقال أكثر أهل العلم: يجزئه لجميع ذلك سجدتان، هذا قول النخعى، وربيعة،(3/225)
ومالك، والثورى، والليث، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور، ومنهم من قال: يسجد فى ذلك كله قبل السلام، ومنهم من قال: بعد السلام، على حسب أقوالهم فى ذلك. وفيه قول ثانى: أن على من سها سهوين مختلفين أربع سجدات، هذا قول الأوزاعى. وقال ابن أبى حازم، وعبد العزيز بن أبى سلمة: إذا كان عليه سهوان فى صلاة واحدة، منه ما يسجد له قبل السلام، ومن ما يسجد له بعد السلام، فليسجد قبل السلام، وبعد السلام. قال ابن القصار: وحديث ذى اليدين حجة لأهل المقالة الأولى، وذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سلم وهذا يوجب سجود السهو، ثم مشى إلى خشبة معترضة فى المسجد فاتكأ عليها، وهذا يوجب سجود السهو، ثم تكلم، فقال: (أصدق ذو اليدين) ، وهذا يوجب سجود سهو، ثم سجد لجميع ذلك (صلى الله عليه وسلم) سجدتين، وهذا حجة على من خالفه. وقال مالك: إنه إذا اجتمع سهوان فى الصلاة بزيادة ونقصان فسجودهما قبل السلام. أخذ فى الزيادة بحديث ذى اليدين، وأخذ فى النقصان بحديث ابن بحينة، وبهذا يصح استعمال الخبرين جميعا، واستعمال الأخبار أولى من ادعاء النسخ فيها، والفرق بين الزيادة والنقصان بَيِّن من طريق النظر، لأن السجود فى النقصان إصلاح وجبر، ومحال أن يكون الجبر بعد الخروج من الصلاة والسجود فى الزيادة ترغيم للشيطان، وذلك ينبغى أن يكون بعد الفراغ من الصلاة. وسرعان الناس: أوائلهم، وكذلك سرعان الخيل.(3/226)
7 - باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ
/ 182 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا نُودِىَ بِالصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ الأذَانَ، فَإِذَا قُضِىَ الأذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِىَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا، مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِى كَمْ صَلَّى فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى، ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فأخذ قوم بظاهره، وقالوا: من شك فى صلاته، فلم يدر زاد أم نقص، فليسجد سجدتين، وهو جالس ثم يسلم، وليس عليه ذلك روى ذلك، عن أنس، وأبى هريرة، وعن الحسن البصرى. وقال آخرون: هذا الحديث إنما هو فى المستنكح الذى يكثر عليه السهو ويلزمه حتى لا يدرى أسها أم لا، فمن كانت هذه حاله أبدًا أجزأه أن يسجد سجدتى السهو دون أن يأتى بركعة، وإنما يأتى بركعة الذى لا يعتريه ذلك كثيرًا، قالوا: وبهذا التأويل تسلم الأحاديث من التعارض. وعلى هذا فَسَّرَ الليث بن سعد حديث أبى هريرة، ذكره عنه ابن وهب، وذكره ابن المواز عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم. ولمالك قول آخر فيمن كثر عليه السهو حتى يظن أنه لا يتم صلاته: فَلْيَلْهُ عنه ولا شىء عليه. قال عنه ابن نافع: لا يسجد له، وقال ابن عبد الحكم: من كثر عليه السهو فلا يبنى على شكه، وَلْيَلْهُ عنه،(3/227)
ولو سجد بعد السلام كان أحبَّ إلىَّ، ومن لا يعتريه إلا غبا فَلْيَبْنِ على يقينه، ويسجد بعد السلام. وقال آخرون: حديث أبى هريرة ناقص يفسره حديث أبى سعيد الخدرى، وعبد الرحمن بن عوف، فى البناء على اليقين والإتيان بركعة للشاكِّ، وحديث أبى هريرة فيه مضمر قد ظهر فى حديث غيره فلا يجزئ من شك فى صلاته أن يخرج منها إلا حتى يستيقن تمامها، لأن الفرض لازم عليه بيقين فلا يسقط عنه إلا بيقين. هذا قول ربيعة، ومالك، والثورى، والشافعى، وأبى ثور، وإسحاق. وقال آخرون: الحكم فى الشك أن ينظر المصلى إلى أغلب ظنه فى ذلك، فإن مال إلى أحد العددين بنى على الأقل حتى يعلم يقينًا أنه قد صلى ما عليه، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه. واحتجوا فى ذلك بحديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين) . وقد ذكرت طرفًا من حجة من قال بالبناء على اليقين، ومن حجة من قال بالتحرى فى حديث ابن مسعود فى باب التوجه إلى القبلة حيث كان فى أول كتاب الصلاة، فأغنى عن إعادته. وقال آخرون: إذا لم يدر كم صلى أعادها أبدًا حتى يحفظ. روى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وعن الشعبى، وشريح، وعطاء، وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعى، وحكى عن عطاء، وميمون بن مهران، وسعيد بن جبير قول آخر: أنهم إذا شكوا فى الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا. قال المؤلف: أما هذان القولان الآخران فمخالفان للآثار كلها، لحديث ابن مسعود فى التحرى، ولحديث أبى سعيد، وعبد الرحمن بن عوف فى البناء على اليقين، ولحديث أبى هريرة فى هذا الباب،(3/228)
فلا أعلم له وجهًا إلا من جهة الاحتياط للصلاة، غير أن من كثر شكه ولم ينفك منه إن كُلف أبدًا ما ليس فى وسعه، ولا معنى لمن حَدّ فى ذلك ثلاث مرات أيضًا، وكذلك لا أعلم وجها لرواية ابن نافع عن مالك، أنه لا سجود على من كثر شكه، لأنها خلاف لحديث أبى هريرة. وقد احتج ابن القصار لقول مالك فى الذى يكثر عليه السهو أنه ليس عليه غير السجود فقط، فقال: الذى يكثر عليه السهو ويعتاده لا يتوصل إلى أداء صلاته فى غالب الحال إلا باجتهاد، ولو ألزمناه البناء على اليقين كلما شك أدى إلى أن لا يخرج من صلاته حتى يكثر العمل فيها، وكلما عاد إلى ما عنده أنه يقينُه عاوده الشك، فلحقته المشقة، وأدى إلى خروج الوقت، وفى هذا ما لا يخفى. فحكمه حكم المستحاضة التى يخرج منها الدم، لو أمرناها بالخروج من الصلاة وغسل الدم، والوضوء وهو لا ينقطع أدى إلى أن لا تصلى حتى يخرج الوقت، ولعلها لا تصلى أصلاً، فكذلك من عادته الشك، وكثرة السهو، فينبغى أن يمضى على صلاته، ويشبه هذا قول أبو حنيفة فإنه يقول: من شك فى صلاته فلم يدر كم صلى فإن وقع له ذلك كثيرًا بنى على اجتهاده وغالب ظنه، وإن كان ذلك أول ما عرض له فليستأنف صلاته. فخالفنا فى الذى لا يقع منه السهو أبدًا، فنحن نقول: يبنى، وهو يقول: يبتدئ صلاته والحجة عليه فى هذا حديثُ ابن مسعود أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من شك فى صلاته فليتحر الصواب، وليتم عليه) ، وأبو حنيفة يقول: لا يتم ويستأنف. وهو خلاف الحديث، وقد روى عن مكحول، والأوزاعى أنه من بنى على اليقين(3/229)
فليس عليه سجدتان، ومن لم يبن فليسجد. ذكره الطبرى، وهو خلاف حديث ابن مسعود وغيره فى السجود لمن بنى على اليقين، وخلاف لقول الفقهاء.
8 - باب السَّهْوِ فِى الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ.
/ 183 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّى، جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لا يَدْرِىَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ) . الكلام فى هذا الحديث كالكلام فى حديث الباب الذى قبله، منهم من جعله مبينا على حديث البناء على اليقين، ومنهم من جعله فى المستنكح ومنهم من أخذ بظاهره فى المستنكح وغيره، ولم يوجب الإتيان بركعة على حسب ما تقدم فى الباب قبل هذا، وأما سجود السهو فى التطوع فإن جمهور الفقهاء يوجبون ذلك عليه، إلا ابن سيرين وقتادة، فإنهما قالا: إذا سها فى التطوع فلا سجود عليه. والحجة للجماعة عليهما، قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن أحدكم إذا قام يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدرى كم صلى) . وقوله: (قام يصلى) تدخل فيه جميع الصلوات فرضها ونفلها، فهو عام فى كل ما يسمى صلاة، وقد أوجب (صلى الله عليه وسلم) السجود على الساهى، والسنة حجة على من خالفها فصح قول الجماعة. قال المهلب: وإذا كان الشيطان هو الذى يلبس عليه حتى ينسيه،(3/230)
فليرغم أنفه بالسجود فى السهو، فيرجع راغم الأنف خاسئًا بالسجود الذى حرمه الله فائدته، وخيبه من رحمته بإبائه منه.
9 - باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّى فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ
/ 184 - فيه: كُرَيْبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاةِ الْعَصْرِ، وَقُلْ لَهَا: إِنَّا أُخْبِرْنَا عَنْكِ أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ نبى الله نَهَى عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَليهَا. قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِى، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا: فَرَدُّونِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْهَى عَنْهَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَىَّ وَعِنْدِى نِسْوَةٌ مِنْ بَنِى حَرَامٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِى بِجَنْبِهِ، فَقُولِى لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الركعتين، ورأيتك تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِى عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (يَا بِنْتَ أَبِى أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِى نَاسٌ مِنْ عَبْدِالْقَيْسِ، فَشَغَلُونِى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ) . اختلف العلماء فى الإشارة التى تفهم فى الصلاة، فقال مالك والشافعى: لا تقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تقطع الصلاة، وحكمها حكم الكلام. واحتجوا بما رواه ابن إسحاق،(3/231)
عن يعقوب بن عتبة، عن أبى غطفان بن طريف، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار فى صلاته إشارة، تفهم عنه فليُعد) . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث هذا الباب، وقالوا: قد جاء من طرق متواترة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) بإشارة مفهومة، فهو أولى من حديث أبى غطفان عن أبى هريرة، فليست الإشارة فى طريق النظر كالكلام، لأن الإشارة إنما هى حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد فى الصلاة لا تفسدها، فكذلك حركة اليد. وفى حديث عائشة جواز استماع المصلى إلى ما يخبره به من ليس فى الصلاة، وقد روى موسى عن ابن القاسم، أن من أخبر فى الصلاة بما يسرُّه، فحمد الله، أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبر بشىء فيقول: الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، فلا يعجبنى وصلاته مجزئة. وقد تقدم فى باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها فى كتاب أوقات الصلوات، الجمع بين معنى هذا الحديث، وبين نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة بعد العصر للطبرى، فاطلبه هناك. قال المهلب: وفيه من الفقه أنه ينبغى أن يسأل أعلم الناس بالمسألة، وأن العلماء إذا اختلفوا رفعوا الأمر إلى من هو أعلم منهم وأفقه للمسألة لملازمة سبقت له، ثم يُقتدى به، ويُنتهى إلى فعله، وفيه فضل عائشة وعلمها، لأنهم اختصوها بالسؤال قبل غيرها.(3/232)
قال غيره: وإنما رفعت المسألة إلى أم سلمة، والله أعلم، لأن عائشة كانت تصليهما بعد العصر، وعلمت أن عند أم سلمة من علمها مثل ما عندها، وأنها قد رأت الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصليهما فى ذلك الوقت فى بيتها، فأرادت عائشة أن تستظهر بأم سلمة تقويةً لمذهبها من أجل ظهور نهيه (صلى الله عليه وسلم) عنهما، وخشية الإنكار لقولها منفردة، وقد حفظ عن عائشة أنها قالت: (ما تركهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى بيتى سرًا ولا جهرًا، تريد جهرًا منها، وكان لا يصليهما فى المسجد مخافة أن يثقل على أمته) . وأما الركعتان اللتان صلاهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذلك اليوم فى بيت أم سلمة فهما غير اللتين كان يلتزم صلاتهما فى بيت عائشة بعد العصر، وإنما كانت الركعتان بعد الظهر على ما جاء فى الحديث، فأراد إعادتهما ذلك الوقت أخذًا بالأفضل، لا أن ذلك واجب عليه فى سنته، لأن السنن والنوافل إذا فاتت أوقاتها لم يلزم إعادتها، والله ولى التوفيق.
0 - باب الإشَارَةِ فِي الصَّلاةِ
قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 185 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ يُصْلِّح بَيْنَ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَجَاءَ النبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وأَبُو بَكْرٍ فِى الصلاة، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّىَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، على ذلك. . . . / 186 - وفيه: أَسْمَاءَ، دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِىَ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ(3/233)
النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَقَالَتْ: بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ. / 187 - وفيه: عَائِشَةَ، صَلَّى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِى بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا. . . الحديث. وهذا الباب كله كالذى قبله، فيه الإشارة المعهودة باليد، والرأس، وفيه جواز استفهام المصلى، ورده الجواب باليد والرأس خلافًا لقول الكوفيين، وروى ابن القاسم عن مالك من تكلم فى الصلاة، فأشار برأسه، أو بيده، فلا بأس بما خف ولا يكثر. وقال ابن وهب: لا بأس أن يشير فى الصلاة ب (لا) ، و (نعم) ، وقد اختلف قول مالك إذا تنحنح فى الصلاة لرجل يسمعه، فقال فى المختصر: إن ذلك لكلام. وروى عنه ابن القاسم أنه لا شىء عليه. قال الأبهرى: لأن التنحنح ليس بكلام، وليس له حروف هجاء.(3/234)
كِتَاب الْجَنَائِزِ
- بَاب مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. / 1 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى، أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِى، أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، وَقُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) . / 2 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ دَخَلَ النَّارَ) . وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قال عبد الواحد: فإن قال قائل: ليس ظاهر هذين الحديثين مما يوافق التبويب، قيل له: قد ذكر البخارى حديث أبى ذر هذا فى كتاب اللباس، وقال فيه: إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من عبد، قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) . إلى قوله: (وإن زنا وإن سرق. . . .) الحديث. وفسره بأن قال بأثره: قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله، غفر له، فدل قوله هذا على أن من قال: لا إله إلا الله، وإن بَعُد قوله لها عن وقت موته، ثم مات على اعتقادها أنه ممن آخر كلامه لا إله إلا الله، وداخل فى معنى التبويب إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات. قال المؤلف: وقد روى ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا يعقوب بن عبيد،(3/235)
قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبى عريب، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ، على ظاهر الترجمة. وروى ابن أبى شيبة، حدثنا أبو خالد، عن يزيد بن كيسان، عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) . قال المهلب: لا خلاف بين أئمة المسلمين أنه من قال: لا إله إلا الله، ومات عليها أنه لابد له من الجنة، ولكن بعد الفصل بين العباد ورد المظالم إلى أهلها. وذكر ابن إسحاق، قال: حدثنى عبد الله بن أبى بكر أنه حدث: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين بعث معاذ ابن جبل إلى اليمن وأوصاه أن ييسر ولا يعسر، ويبشر ولا ينفر، وقال: (إنه سيقدم عليك قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة؟ فقل: شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له) . قال غيره: وفى حديث أبى ذر وقول ابن مسعود رد على الرافضة والإباضية، وأكثر الخوارج فى قولهم: إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن أيضًا بتكذيبهم. قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] . وقال أبو عثمان بن الحداد: والحجة عليهم فى أن الله تعالى لا يُخَلِّدُ فى النار من عمل عملاً مقبولاً منه، إذ قبول العمل يوجب ثوابه، والتخليد فى العذاب يمنع ثواب الأعمال، وقد أخبر الله تعالى فى كتابه الصادق به) إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) [النساء: 40] ، وترك المثوبة على الإحسان ظلم، تعالى الله عن ذلك.(3/236)
وقول وهب بن منبه: إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك. فإنما أراد بالأسنان القواعد التى بنى الإسلام عليها، التى هى كمال الإيمان ودعائمه، خلاف قول الغالية من المرجئة والجهمية الذين يقولون: إن الفرائض ليست إيمانًا، وقد سماها الله إيمانًا بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) [البقرة: 143] أى صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) [النور: 62] واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله. قال المؤلف: وقول ابن مسعود أصل فى القول بدليل الخطاب وإثبات القياس، والله الموفق للصواب.
- بَاب الأمْرِ بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
/ 3 - فيه: الْبَرَاءِ، قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: (أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ. وَنَهَانَا: عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ، وَالإسْتَبْرَقِ) . / 4 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) . قال المؤلف: اتباع الجنائز ودفنها والصلاة عليها من فروض الكفاية عند جمهور العلماء، واختلف أصحاب مالك فى ذلك،(3/237)
فذكر ابن المواز، قال عبد الملك: الصلاة على الميت فريضة يحملها من قام بها. وحكى ابن سحنون عن أبيه مثله، وقال أصبغ بن الفرج: هى سُنَّة، وعيادة المرضى ندب وفضيلة. وأما إجابة الداعى فإن كانت الدعوة إلى وليمة النكاح، فجمهور العلماء يوجبونها فرضًا، ويوجبون الأكل فيها على من لم يكن صائمًا إن كان الطعام طيبًا، ولم يكن فى الدعوة منكر، وغير ذلك من الدعوات يراه العلماء حسنًا من باب الألفة وحسن الصحبة. وأما نصر المظلوم ففرض على من يقدر عليه ويطاع أمره، وإبرار القسم ندب وحض إذا أقسم الرجل على أخيه فى شىء لا مكروه فيه ولا يشق عليه، فعليه أن يبرَّ قسمه، وذلك من مكارم الأخلاق، ورد السلام فرض على الكفاية عند مالك والشافعى، وعند الكوفيين فرض معين على كل واحد من الجماعة. وتشميت العاطس واجب وجوب سنة، والشرب فى آنية الفضة واستعمالها حرام على الرجال والنساء، وكذلك آنية الذهب، والتختم بالذهب حرام على الرجال خاصة، مباح للنساء، والحرير المصمت الذى لا يخالطه غيره لا يجوز لبسه للرجال، إلا أنهم اختلفوا فى لباسه للحرب، وحال التداوى للجرب وشبهه، وهو حلال للنساء. وسقط من حديث البراء الخصلة السابعة المنهى عنها، وهى ركوب المياثر، وذكرها فى حديث البراء فى كتاب الاستئذان، وفى كتاب الأشربة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حقى المسلم على المسلم) يعنى حق حرمته(3/238)
عليه، وجميل صحبته له ما لم يكن فرضًا فى الحديث كتشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وهو كقول أبو هريرة: حق على المسلم أن يغتسل كل جمعة، وأن يستاك ويمس من طيب أهله. وليس شىء من ذلك عنده فرضًا، وسيأتى القول فى هذا الحديث مستوعبًا فى كتاب الاستئذان والسلام فهو موضعه، إن شاء الله تعالى، وفى كتاب النكاح فى إجابة دعوة الوليمة.
3 - بَاب الدُّخُولِ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا أُدْرِجَ فِى أَكْفَانِهِ
/ 5 - فيه: عَائِشَةَ أن أَبَا بَكْرٍ دخل عَلَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، لا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. فخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَإِنَّ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ (إِلَى) الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا، حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا سمَعُ بَشَرٌ إِلا يَتْلُوهَا. / 6 - وفيه: أُمَّ الْعَلاءِ، بَايَعَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتِّ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِى أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّىَ، وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِى أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِى عَلَيْكَ، لَقَدْ(3/239)
أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ: النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟) قُلْتُ: بِأَبِى وأمى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ، فَقَالَ: (أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّى لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِى - وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - مَا يُفْعَلُ بِى) ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. / 7 - وفيه: جَابِرَ، لَمَّا قُتِلَ أَبِى، جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أَبْكِى، وَيَنْهَوْنِى عَنْهُ، وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لا يَنْهَانِى فَجَعَلَتْ عَمَّتِى فَاطِمَةُ تَبْكِى، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ مَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ) . قال المهلب: فيه جواز كشف الثوب عن الميت إذا لم يبدُ منه أذى، وفيه جواز تقبيل الميت عند وداعه، ونهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المكامعة، إنما هى فى حال الحياة، فلما ارتفعت فى الميت جاز تقبيله، وقد روى عبد الرزاق عن الثورى، عن عاصم بن عبيد الله، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على عثمان بن مظعون فأكب عليه فقبله، ثم بكى، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه. وفيه جواز البكاء على الميت من غير نوح، وكذلك فى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث جابر: (تبكين أو لا تبكين) إباحة البكاء أيضًا، وسيأتى ذلك فى موضعه، إن شاء الله. وأما قول أبى بكر الصديق: لا يجمع الله عليك موتتين، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن عمر بن الخطاب وغيره قالوا: إن رسول الله لم يمت وسيبعث ويقطع أيدى رجال وأرجلهم، ذكرته عن عمر فى فضائل أبى بكر الصديق، فأراد أنه لا يجمع الله عليه ميتتين فى الدنيا، بأن يميته هذه الميتة التى قد ماتها ثم يحييه، ثم يميته ميتة أخرى. وليس قوله: لا يجمع الله عليك ميتتين، بمعارض لقوله تعالى:(3/240)
) ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) [غافر: 11] ، لأن الميتة الأولى خلقه الله من تراب ومن نطفة، لأن التراب والنطفة موات، والموات كله لم يمت نفسه، وإنما أماته الله الذى خلقه، والموت الثانى الذى يموت الخلق، وأما قوله: (وأحييتنا اثنتين (يعنى حياة الدنيا والحياة فى الآخرة بعد الموت، هذا قول ابن مسعود والسائب بن يزيد وابن جريج، فقوله: لا يجمع الله عليك ميتتين كقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] . وفى الآية قول آخر روى عن الضحاك أنه قال: الميتة الأولى ميتته، والثانية موته فى القبر بعد الفتنة والمساءلة، واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب ميت، وإنما يقال: ميت لمن تقدمت له الحياة، وهذا اعتراض فاسد، قال الله تعالى: (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) [يس: 33] ولم يتقدم لها حياة قط، وإنما جعلها الله جمادًا ومواتًا، وهذا من سعة كلام العرب، والقول الأول هو الذى عليه العلماء. وفيه أن أبا بكر الصديق أعلم من عُمر، وهذه إحدى المسائل التى ظهر فيها ثاقب علم أبى بكر، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه وبارع فهمه، وسرعة انتزاعه بالقرآن، وثبات نفسه، وكذلك مكانته عند الأمة لا يساويه فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد وبدأ بالكلام مال الناس إليه، وتركوا عمر. ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته فى نفوسهم على عمر، وسمو محله عندهم، أخذوا ذلك رواية عن نبيهم، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد أقر بذلك عمر بن الخطاب حين مات أبى بكر، فقال: والله ما أحب أن(3/241)
ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبى بكر، ولوددت أنى شعرة فى صدر أبى بكر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، فقال: والله إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وبيده الدرة، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيرى إذ قال لى: يا ابن عباس، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التى قلت حين مات رسول الله؟ قلت: لا أدرى والله يا أمير المؤمنين. قال: ما حملنى على ذلك إلا قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) [البقرة: 143] فوالله إنى كنت لأظن أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها. وفى تأويل عمر هذه الحجة لمالك فى قوله: فى الصحابة مخطئ ومصيب، يعنى فى التأويل. وقال المهلب: وفى حديث أم العلاء أنه لا يقطع على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، ولكن يرجى للمحسن، ويخاف على المسئ، وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى) ، فيحتمل أن يكون قبل أن يعلمه الله بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد روى فى هذا الحديث (ما يفعل به) وهو الصواب، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يعلم من ذلك إلا ما يوحى به إليه، والله الموافق للصواب. وقال عبد الواحد: فإن قيل: هذا المعنى يعارض قوله فى حديث جابر: (ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) ، قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أن الرسول لا ينطق عن الهوى، فأنكر على أم العلاء قطعها على ابن مظعون، إذ لم يعلم هو من أمره شيئًا، وفى قصة جابر قال بما علمه من طريق الوحى، إذ لا يجوز أن يقطع عليه السلام على مثل هذا إلا بوحى، فسقط التعارض(3/242)
4 - بَاب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ
/ 8 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. / 9 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَفُتِحَ لَهُ) . قال المهلب: هذا صواب الترجمة: باب الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه، وإنما نعى (صلى الله عليه وسلم) النجاشى للناس، وخصه بالصلاة عليه، وهو غائب، لأنه كان عند الناس على غير الإسلام، فأراد أن يعلم الناس كلهم بإسلامه، فيدعو له فى جملة المسلمين ليناله بركة دعوتهم، ويرفع عنه اللعن المتوجه إلى قومه. والدليل على ذلك أنه لم يصل (صلى الله عليه وسلم) على أحد من المسلمين ومتقدمى المهاجرين والأنصار الذين ماتوا فى أقطار البلدان، وعلى هذا جرى عمل المسلمين بعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يصل على أحدٍ مات غائبًا، لأن الصلاة على الجنائز من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت فى البلد التى يموت فيها، ولم يحضر النجاشى مسلمٌ يصلى على جنازته، فذلك خصوص للنجاشى، بدليل إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث. وقال بعض العلماء: إن روح النجاشى أحضر بين يدى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فصلى عليه، ورفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، وعلم يوم موته ونعاه لأصحابه، وخرج فأمهم فى الصلاة عليه قبل أن يُوارَى، وهذه أدلة الخصوص، يدل على ذلك أيضًا إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث، ولم(3/243)
أجد لأحد من العلماء إجازة الصلاة على الغائب إلا ما ذكره ابن أبى زيد، عن عبد العزيز بن أبى سلمة، فإنه قال: إذا استوقن أنه غرق، أو قتل، أو أكلته السباع، ولم يوجد منه شىء صلى عليه كما فعل (صلى الله عليه وسلم) بالنجاشى، وبه قال ابن حبيب. وفى نعى النبى للنجاشى، وقوله: (أخذ الراية زيدٌ فأصيب) جواز نعى الميت للناس بخلاف قول من تأول نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن النعى أنه الإعلام بموت الميت، روى ذلك حذيفة: (أنه كان إذا مات له ميت، قال: لا تؤذنوا به أحدًا، فإننى أخاف أن يكون نعيًا، فإنى سمعت رسول الله ينهى عن النعى) ، وقال بذلك الربيع بن خثيم، وابن مسعود وعلقمة، وحديث النجاشى أصح من حديث حذيفة، وإنما الذى نهى عنه (صلى الله عليه وسلم) فهو نعى الجاهلية وأفعالها، وفيه علمٌ من أعلام النبوة بإخباره عن الغيب بخبر النجاشى، وخبر زيد وأصحابه، وسيأتى القول فى معنى حديث أنس فى كتاب الجهاد، إن شاء الله.
5 - بَاب الإذْنِ بِالْجَنَازَةِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَلا آذَنْتُمُونِى) . / 10 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: (مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِى؟) قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ، وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. الإذن بالجنازة والإعلام بها سُنَّة بخلاف قول من كره ذلك، روى عن ابن عمر أنه كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس، ثم خرج(3/244)
بجنازته. والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وقد روى عن ابن عمر فى ذلك ما يوافق السنة، وذلك أنه نعى له رافع بن خديج، قال: كيف تريدون أن تصنعوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قرى حول المدينة ليشهدوا، قال: نعم ما رأيتم. وكان أبو هريرة يمر بالمجالس، فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته. قال المهلب: وهذا الذى صلى عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد ما دفن إنما فعله لأنه كان يخدم المسجد، وقد روى أبو هريرة فى هذا الحديث: (أن أسود، رجل أو امرأة، كان يكون فى المسجد يقمّه فمات) ، وروى مالك عن ابن شهاب، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف: أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله بمرضها، وكان يعود المساكين، وقال: (إذا ماتت فأذنونى) ، فخرج بجنازتها ليلاً. . . . وذكر الحديث، فإنما صلى على القبر، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان وعد ليصلى عليه ليكرمه بذلك، لإكرامه بيت الله تعالى ليحتمل المسلمون من تنزيه المساجد ما ينالون به هذه الفضيلة، وسيأتى اختلاف العلماء فى الصلاة على القبر بعد ما يدفن فى بابه، إن شاء الله تعالى.
6 - بَاب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ وَقَوْل اللَّهُ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155]
/ 11 - فيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاثٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ) . / 12 - وفيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : اجْعَلْ لَنَا(3/245)
يَوْمًا، فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ) ، قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ) . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) . / 13 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَتوفىَ لِمُسْلِمٍ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ، إِلا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) [مريم: 71] . قال المهلب: هذه الأحاديث تدل على أن أولاد المسلمين فى الجنة، وهو قول جمهور العلماء، وشذت المجبرة فجعلوا الأطفال فى المشيئة، وهو قول مهجور مردود بالسُّنة وإجماع الجماعة الذين لا يجوز عليهم الغلط، لأن يستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته، ولا يوجب الرحمة للأبناء، وهذا بَيِّنٌ لا إشكال فيه. وسيأتى الكلام فى الأطفال بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله تعالى، وقد جاء أنه من مات له ولد واحد دخل الجنة، روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (قال الله عز وجل: ما جزاء عبدى إذا قبضت صفيه من الدنيا فيصبر ويحتسب إلا الجنة) ، ولا صفى أصفى من الولد. قال عبد الواحد: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (واثنان) بعد أن قال: (ثلاثة) يحتمل أنه لما قالت له المرأة: أو اثنان؟ نزل عليه الوحى فى الحين أن يجبيها بقوله: (واثنان) ولا يمتنع نزول الوحى على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أسرع من طرفة العين، ويدل على ذلك ما ثبت عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه لما نزلت عليه: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين) [النساء: 95] قام إليه ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، إنى رجل ضرير البصر، فنزلت: (غير أولى الضرر) [النساء: 95] ، فألحقت بها.(3/246)
وقوله عليه السلام: (إلا تحلة القسم) هو مخرج فى التفسير المسند، لأن القسم عند العلماء قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا) [مريم: 71] هذا قول أبى عبيد يقول: فلا يَرِدُهَا إلا بقدر ما يبرُّ اللهُ قسمهُ. قال الخطابى: وعارضنا ابن قتيبة، فقال: هذا حسن من الاستخراج إن كان هذا قسمًا، قال: وفيه وجه آخر، وهو أشبه بكلام العرب ومعانيهم، وهو إذا أرادوا تقليل مكث الشىء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم، وذلك أن يقول للرجل بعده: إن شاء الله فيقولون: ما يقيم فلان عنه إلا تحلة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، مشهور فى كلامهم، قال: ومعناه أن النار لا تمسه إلا قليلاً كتحليل اليمين، ثم ينجيه الله منها. قال: ولا إشكال أن المعنى ما ذهب إليه أبو عبيد، إلا أنه أغفل بيان موضع القسم، فتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم. وقد جاء ذلك فى حديث مرفوع رواه زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنى، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (من حرس ليلة وراء عورة المسلمين تطوعًا لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم) ، قال الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيا) [مريم: 71] وفى هذا ما يقطع بصحة قول أبى عبيد. قال الخطابى: وموضع القسم مردود إلى قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) [مريم: 68] الآية، وفيه وجه آخر وهو أن العرب تحلف وتضمر المقسم به كقوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها (المعنى: وإن منكم والله إلا واردها، وقال الحسن وقتادة: (حتمًا مقضيا (قسمًا واجبًا، وهو قول ابن مسعود.(3/247)
واختلف العلماء فى هذا الورود المذكور فى الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن عباس: لا يبقى بَر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم. وقال آخرون: الورود الممر على الصراط. وروى ذلك عن ابن مسعود، وكعب الأحبار، ورواية عن ابن عباس. وقال آخرون: هو خطاب للكفار، روى ذلك عن ابن عباس، قال: هو رد على الآيات التى قبلها فى الكفار قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (إلى قوله: (وإن منكم إلا واردها) [مريم: 68، 71] . وقال ابن الأنبارى، وغيره: جائز أن يرجع من مخاطبته الغائب إلى لفظ المواجهة، ومن المواجهة إلى الغائب، قال تعالى: (وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا إن هذا كان لكم جزاءً) [الإنسان: 21، 22] فأبدل الكاف من الهاء، فعلى هذا صلح أن يكون خطابًا للمؤمنين، وقال مجاهد: الحُمَّى حظ المؤمن من النار. ثم قرأ: (وإن منكم إلا واردها (قال: الحُمَّى فى الدنيا الورود، فلا يَرِدُها فى الآخرة. والحجة له ما رواه أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبد الله الأشعرى، عن أبى هريرة، قال: عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا(3/248)
معه مريضًا كان يتوعك، فقال: (أبشر فإن الله تعالى يقول: هى نارى أسلطها على عبدى المؤمن لتكون حظه من نار الآخرة) . وقال صاحب (العين) : بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم، والحنث: الذنب العظيم.
7 - بَاب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ اصْبِرِى
/ 14 - فيه: أَنَس، قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى) . قال المؤلف: إنما أمرها بالصبر لعظيم ما وعد الله عليه من جزيل الأجر. قال ابن عون: كل عمل له ثواب إلا الصبر، قال الله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] ، فأراد (صلى الله عليه وسلم) ألا تجتمع عليها مصيبتان مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذى يبطله الجزع، فأمرها بالصبر الذى لابد للجازع من الرجوع إليه بعد سقوط أجره، وقد أحسن الحسن البصرى فى البيان عن هذا المعنى، فقال: الحمد لله الذى آجرنا على ما لابُدَّ لنا منه، وأثابنا على ما لو تكلفنا سواه صرنا إلى معصيته. فلذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لها: (اتقى الله واصبرى) ، أى اتقى معصيته بلزوم الجزع الذى يحبط الأجر، واستشعرى الصبر على المصيبة بما وعد الله على ذلك، وقال بعض الحكماء لرجل عزاه: إن كل مصيبة لم يُذهِبْ فرحُ ثوابها بألم حزنها لهى المصيبة الدائمة، والحزن الباقى. وفى هذا الحديث دليل على جواز زيارة القبور، لأن ذلك لو كان(3/249)
لا يجوز لما ترك (صلى الله عليه وسلم) بيان ذلك، ولأنكر على المرأة جلوسها عند القبر، وسيأتى بيان هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله.
8 - بَاب غُسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ وَالسَّدْرِ
وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا. وَقَالَ سَعدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ) . / 15 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ، تَعْنِى إِزَارَهُ) . وترجم له: (باب يجعل الكافور فى آخره) . قال ابن المنذر: السُّنة أن يغسل الميت بالماء والسدر غسلاً، ولا معنى لطرح ورقات من السدر فى الماء كفعل العامة، لأن الغسل إنما يقع بالسدر المضروب بالماء، وأنكر أحمد الورقات التى يطرحها العامة فى الماء. جمهور العلماء على أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور، وروى قتادة عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل من أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بماء فيه كافور، ومنهم من يذهب إلى أن الغسلات كلها بالماء والسدر على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك بماء وسدر) ، وهو قول أحمد، ورووا فى حديث: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، غسل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر) .(3/250)
وكان إبراهيم النخعى لا يرى الكافور فى الغسلة الثالثة، وإنما الكافور عنده فى الحنوط، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، ولا معنى لقولهم، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اجعلن فى الآخرة كافورًا) وعلى هذا أكثر السلف. وقيل: إن الكافور بسبب الملائكة. وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) باستعمال الكافور دليل على جواز استعمال المسك، وكل ما جانسه من الطيب فى الحنوط، وأجاز المسك أكثر العلماء، وأمر علىّ بن أبى طالب أن يجعل فى حنوطه، وقال: هو من أفضل حنوط النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستعمله أنس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكرهه عمر بن الخطاب، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وقال عطاء، والحسن: إنه ميتة. وفى استعمال النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، له فى حنوطه الحجة على من كرهه. واختلف الصحابة فى غُسل من غَسَّل ميتًا، فروى عن علىّ بن أبى طالب، وأبى هريرة أنَّ عليه الغسل. وهو قول ابن المسيب، وابن سيرين، والزهرى، وهى رواية ابن القاسم، عن مالك فى (العتبية) ، قال: وعليه أدركت الناس. ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس. وقالت طائفة: لا غسل عليه. روى ذلك عن ابن مسعود، وسعد، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: القاسم، وسالم، والنخعى، والحسن البصرى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والليث، وحكى ابن حبيب، عن مالك أنه لا غسل عليه، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتج ابن حبيب بحديث أسماء بنت عميس: (أنها غسلت أبا بكر الصديق بعد موته، فلما فرغت من غسله سألت من حضر من المهاجرين والأنصار هل عليها غسل؟ قالوا: لا) . قال ابن القصار: واختلف العلماء فى ابن آدم إذا مات، فقالت(3/251)
طائفة: ينجس بالموت. وقالت طائفة: لا ينجس. وليس لمالك فيه نص، وقد رأيته لبعض أصحابه أنه طاهر، وهو الصواب، واختلف فيه قول الشافعى، والدليل على طهارته أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قبل عثمان بن مظعون لما مات والدموع تسيل على خديه، ولو كان نجسًا لم يجز أن يفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا، وخاصة فإن الدموع إذا سالت عليه وهو نجس لم يجز أن تلاصقها بشرة الحى، لأنها تصير نجسة رطبة. وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (المؤمن لا ينجس) ، وهو بعد موته مؤمن كما كان فى حياته، فثبتت طهارته كما قال ابن عباس. قال عبد الواحد: فإن قيل: فقد صح أن المؤمن لا ينجس، وأن المؤمن قد سقطت عنه العبادة بعد موته، فما وجه غسل الميت الذى ليس بنجس ولا متعبَّد، وما معنى غسله ثلاثًا؟ قيل: يحتمل أن يكون معنى غسله، والله أعلم، أنه تنظيف لمباشرة الملائكة إياه، وللقائه لله تعالى، ولذلك يجعل له الكافور ليلقاه طيب الرائحة، وأمر أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، وليس التحديد فى ذلك بواجب، وإنما أريد بالغسل الإنقاء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أو أكثر من ذلك إن رأيتن) . فإن قيل: إن واحدة تكفيه، فما معنى الثلاث والخمس؟ . قيل: للمبالغة فى غسله، ليلقى الله بأكمل الطهارات. فإن قيل: فماذا يطهر إذا لم يعلم به جنابة، ولا حيض بالمرأة، ولا بجسدها نجاسة؟ فالجواب: أنه يجوز أن يكون به جنابة لا نعلمها من احتلام وغيره، ويغشاه الموت فيموت جنبًا، أو يمس جسده فى مرضه شىء من النجاسات، ولا يعلم ذلك، فوجب أن يؤخذ له بالوثيقة ويحتاط له، ليوقن له أنه لقى الله طاهرًا، والله أعلم. وقد قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى: إن كل ميت يجنب،(3/252)
ولو مات وهو طاهر من ذلك كله لكان تطهيره حسنًا، إذ قد يكون به رائحةُ عرقٍ ذفرٍ من المرض، أو مهنة، لبعده عن الغسل، كما أمر الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، بالغسل يوم الجمعة لمن ليس بجنب ولا عليه نجاسة إلا زيادة فى التطهير لمناجاة ربه يوم الجمعة، فالميت أحوج إلى ذلك للقاء الله تعالى، وللقاء الملائكة.
9 - بَاب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا
/ 16 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ونحن نغسل ابنته: اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. . . .) الحديث. وَفِى حَدِيثِ حَفْصَةَ: (اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا) . قال ابن المنذر: فى حديث أم عطية دليل على أن أقل ما يغسل الميت ثلاث، وعلى أن الغاسل إذا رأى غسله أكثر من ثلاث ألا يغسله إلا وترًا، ومعنى أمره بالوتر، والله أعلم، ليستشعر المؤمن فى أعماله أن الله تعالى وحده لا شريك له كما قال (صلى الله عليه وسلم) لسعدٍ حين رآه يشير بأصبعين فى دعائه: (أحِّد أحِّد) . ولا يحفظ ذكر السبع فى حديث أم عطية إلا من رواية حفصة بنت سيرين عنها، ولم يروا ذلك محمد بن سيرين عن أم عطية إلا أنه روى هذه الألفاظ عن أخته، عن أم عطية، وروى سائر الحديث عن أم عطية. وقال مالك، والشافعى: يغسل الميت ثلاثًا أو خمسًا. وقال عطاء: أو سبعًا، وقال أحمد: لا يزاد على سبع. وقال الشافعى:(3/253)
لا يقتصر عن ثلاث. وروى ابن وهب عن مالك أنه ليس لغسل الميت عندنا شىء موصوف، ولكنه يغسل ويطهر، وأحب إلىّ أن يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، كما قال (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو حنيفة: إذا زاد على الثلاثة سقط الوتر. وهذا خلاف للحديث، وذهب الكوفيون، والثورى، ومالك، والمزنى أنه إذا خرج منه حدث بعد تمام غسله غسل ذلك الموضع، ولم يُعد غسله، لأنها عبادة على الحى قد أداها، وليس على الميت عبادة. وقال الشافعى: إن خرج منه شىء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله. وقال أحمد: يعاد غسله إذا خرج منه شىء إلى سبع غسلات، ولا يزاد عليها. والقول الأول أَوْلى، لأنه لو خرج من الحى بعد الغسل حدث لم ينتقض غسله، ولا يكون حكم الميت أكثر من حكم الحى.
- بَاب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ الْمَيِّتِ وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ
/ 17 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا) . واستحب العلماء أن يُبدأ بميامن الميت، ومواضع الوضوء، لفضل الميامن وفضل أعضاء الوضوء، لأن الغرر والتحجيل يكون فيها، وقال ابن سيرين: يبدأ بمواضع الوضوء ثم بميامنه. وقال أبو قلابة: يبدأ بالرأس واللحية، ثم الميامن. واختلف الفقهاء فى وضوء الميت، وفى غسله، فقال مالك: إن وضئ فحسن. وقال أبو حنيفة: لا يوضأ، لأن العبادة ساقطة عنه والتكليف، ولأن المضمضة أن يمج ذلك من فيه، والاستنشاق لمن له نفس يجذبه، والميت لا يقدر على ذلك. وقال الشافعى: يوضأ قبل غسله.(3/254)
قال ابن القصار: والحجة لقول مالك أنه قد ثبت وجوب غسله كالجنب، فلما كان وضوء الجنب عند الغسل مستحبًا، كذلك هذا، ولما كان الحى يتوضأ فى غسله ليلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة، كان فى الميت الذى حصل فى أول منازل الآخرة أولى أن يلقى ربه فى أعلى مراتب الطهارة أيضًا. وقول الكوفيين: إن العبادة ساقطة عنه، وقد تعبدنا نحن بتطهيره، والمضمضة للتنظيف، ونحن نفعلها كما نغسل المواضع الغامضة منه، فإن ترك وضوؤه فلا بأس، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (وأى وضوء أعم من الغسل) .
- بَاب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِى إِزَارِ الرَّجُلِ
/ 18 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قال النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: (فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى) ، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَنَزَعَ إِزَارَهُ مِنْ حِقْوِهِ، وَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) . لا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن تكفن المرأة فى ثوب الرجل، والرجل فى ثوب المرأة، قال ابن المنذر: أكثر العلماء يرى أن تكفن المرأة فى خمسة أثواب. وفى المجموعة قال ابن القاسم: الوتر أحب إلى مالك فى الكفن، وإن لم يوجد للمرأة إلا ثوبان لفت فيهما. وقال أشهب: لا بأس بالأكفان فى ثوب الرجل والمرأة. وقال ابن شعبان: المرأة فى عدد أثواب الأكفان أكثر من الرجل، وأقله لها خمسة. وقال أبو حنيفة وجماعة: أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسُّنة فيها خمسة. وقال ابن المنذر: درع وخمار ولفافتان، لفافة تحت الدرع تلف بها، وأخرى فوقه، وثوب لطيف يشد على وسطها يجمع ثيابها.(3/255)
وقوله: (أشعرنها إياه) أى اجعلنه يلى جسدها، والشعار الثوب الذى يلى الجسد عند العرب، وسيأتى تفسير الحَقْو فى باب الإشعار للميت، إن شاء الله تعالى.
- بَاب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَرْأَةِ. / 19 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ الرَسُول ثَلاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاثَةَ قُرُونٍ. ناصيتها وقرنيها. وترجم له باب: (يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون) ، وباب: (يلقى شعر المرأة خلفها) ، وزاد فيه: (فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناه خلفها) . معنى نقض شعر المرأة، والله أعلم، لكى يبلغ الماء البشرة، ويعم الماء جميع جسدها، وتضفير شعرها بعد ذلك أحسن من استرساله وانتشاره، لأن التضفير يجمعه ويضمه. وقال الشافعى، وأحمد: يضفر رأس المرأة ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها، ثم يلقى خلفها على حديث أم عطية. وهو قول ابن حبيب. وقال ابن القاسم فى العتبية: يلف شعر المرأة، وأما الضفر فلا أعرفه. وقال الكوفيون: يرسل من بين يديها من الجانبين جميعًا، ثم يسدل الخمار عليه. وقال الأوزاعى: ليس مشط رأس الميتة بواجب، ولكن يفرق شعرها وترسله مع خديها. وقول من تابع الحديث أولى، ولا حجة لمن خالفه.(3/256)
- بَاب كَيْفَ الإشْعَارُ لِلْمَيِّتِ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ. / 20 - وفيه: أُمّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: (اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى) ، قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا، أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ) . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلا أَدْرِى أَىُّ بَنَاتِهِ. وَزَعَمَ ابن سيرين أَنَّ الإشْعَارَ: الْفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلا تُؤْزَرَ. وقوله: (أشعرنها إياه) ، فإنه أراد اجعلنه على جسدها، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأنصار شعار، والناس دثار) ، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى أشعرنها إياه، أتؤزر؟ قال: لا أراه إلا: الففنها فيه. كقول ابن سيرين. قال المؤلف: فإذا لفت فيه مما يلى جسمها منه فهو شعار لها، وما فضل منه فتكرير لَفِّه عليها أستر لها من أن تؤزر فيه مطلقًا دون أن يلف عليها ما فضل منه، فلذلك فسر أن الإشعار أريد به لفها فى الإزار، وكان ابن سيرين أعلم التابعين، بغسل الموتى، هو وأيوب بعده. قال المهلب: وإنما أعطاها إزاره تبركًا بالنبى، و (الحَقْوُ) فى اللغة موضع عقد الإزار من الرَّجُل وهو الخصر، وقال صاحب العين: هو الكشح والجمع أَحْقاء، والحقو أيضًا الإزار. روى هذا كله فى الحديث، ففى هذا الحديث سمى الإزار حقوًا.(3/257)
وفى باب: هل تكفن المرأة فى إزار الرجل، سمى الحقو موضع عقد الإزار، فقال: (فنزع من حقوه إزاره) ، فهذا شاهد لأهل اللغة، وقد استدل قوم من هذا الحديث أن غسل النساء للمرأة أولى من غسل زوجها لها، وهذا قول الشعبى، وأبى حنيفة، والثورى. وقالوا: إنما لم يجز غسلها، لأنه ليس فى عدة منها، ولو ماتت هى لم يمتنع من التزويج عقيب موتها، ولو مات هو لمنعت من التزويج حتى تخرج من عدتها. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: يغسل الرجل امرأته إذا ماتت، واحتجوا بأن فاطمة بنت النبى (صلى الله عليه وسلم) أوصت إلى زوجها على أن يغسلها. وكان هذا بحضرة الصحابة، ولم ينكره منهم أحد، فصار إجماعًا. واعتل الكوفيون بأن لزوجها أن يتزوج أختها، فلذلك لا يغسلها، لأنه إذا غسلها وقد تزوج أختها فقد جمع بينهما، وهذا لا حجة فيه، لأنها فى حكم الزوجة بدليل الموارثة، لا فى حكم المبتوتة، ويجوز لكل واحد منهما من صاحبه من النظر والمباشرة ما لا يجوز لغيرهما. وقال ابن القصار: والجمع بين الأختين إنما حرم منه الجمع بينهما بعقد النكاح والنظر إلى كل واحدة منهما بعين الشهوة واللذة، وهذا غير موجود فى مسألتنا، وأما إذا نظر إلى إحداهما على طريق الحرمة المتقدمة، فهو جائز كمن ينظر إلى أختيه من الرضاع، وإلى أختين مملوكتين. وأما غسل المرأة زوجها فهو إجماع لا خلاف فيه. وقول المحدث: لا أدرى أى بناته. فقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت:(3/258)
توفيت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا) ، وقال بعض أهل السير: هى أم كلثوم.
- بَاب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كُفِّنَ فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيها قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ. وترجم له باب: (الكفن بغير قميص) ، وباب: (الكفن بغير عمامة) . قال ابن المنذر: وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير ثيابكم البياض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا بها موتاكم) ، والسحولية: البيض، والسحل: الثوب الأبيض، وقيل: إن (سحول) قرية باليمن تصنع ثياب القطن، وتنسب إليها، والكرسف: القطن، والفقهاء يستحبون فى الكفن ما فى هذا الحديث، ولا يرون فى الكفن شيئًا واجبًا لا يتعدى، وما ستر العورة أجزأ عندهم. قال مالك: ليس فى كفن الميت حدّ، ويستحب الوتر، وقال مرة: لا أحب أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب. وقال ابن القصار: لا يستحب القميص فى الكفن، والسُّنَّة تركه. وبه قال الشافعى. وروى يحيى عن ابن القاسم فى العتبية أنه لا يقمص الميت، ولا يعمم، ويدرج فى ثلاثة أثواب بيض إدراجًا، كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان جابر بن عبد الله، وعطاء لا يعممان الميت. وقالت طائفة: لا بأس بالقميص، والعمامة فى الكفن. روى ذلك عن ابن عمر. وقال ابن حبيب: استحب مالك للرجل خمسة أثواب يعد فيها(3/259)
القميص والعمامة والمئزر، ويلف فى ثوبين، وقال فى المدونة: من شأن الميت أن يعمم عندنا. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يكفن فى قميص. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (ليس فيها قميص ولا عمامة) يدل أن القميص الذى غسل فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) نزع عنه حين كفن، لأنه إنما قيل: لا تنزعوا القميص ليستر به، ولا يكشف جسده، فلما ستر بالكفن استغنى عن القميص، ولو لم ينزع القميص حين كفن لخرج عن حد الوتر الذى أمر به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستحسنه فى غير ما شىء استشعارًا للتوحيد، وكانت تكون أربعة بالثوب المبلول، ويستبشع أن يكفن على قميص مبلول. فإن قيل: فقد روى يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: (كفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ثلاثة أثواب: قميصه الذى مات فيه، وحلة نجرانية) . قيل: هذا حديث انفرد به يزيد بن أبى زياد، وهو لا يحتج به لضعفه، وحديث عائشة أصح، الذى نفت عنه القميص.
- بَاب الْكَفَنِ فِى ثَوْبَيْنِ
/ 22 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) . وترجم له باب: (الحنوط للميت) ، وقال فيه: (فأقصعته، أو قال: فأقعصته) ، وترجم له باب: (كيف يكفن المحرم) . قال المؤلف: قال مالك، وأبو حنيفة: لا أحب لأحد أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب، وإن كفن فى ثوبين فحسنٌ على ظاهر قوله(3/260)
عليه السلام: (كفنوه فى ثوبيه، ولا تمسوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه) ، وإنما ترجم له باب الحنوط للميت، لأنه لما قال فى هذا الحديث: (لا تحنطوه) ، وكان محرمًا استدل البخارى من هذا أنه إذا لم يكن محرمًا أنه يحنط. واختلف العلماء كيف يكفن المحرم، فقال الشافعى، وأحمد بن حنبل: يكفن المحرم، ولا يغطى رأسه، ولا يقرب طيبًا، لأن حكم إحرامه باق. وهو قول علىّ، وابن عباس على ظاهر هذا الحديث. وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعى: يفعل بالمحرم ما يفعل بالحلال. وهو قول عثمان، وعائشة، وابن عمر. قال ابن القصار: والحجة لهذا القول قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . .) ، فدل أن بموته تنقطع العبادة، وقد كفن ابن عمر ابنه، وخمر رأسه يوم مات، وهو محرم، وقال: لولا أنا حرم لطيبناه، وهذا يدل أن الحديث خاص فى ذلك الرجل بعينه. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا) ، كما قال فى الشهداء، فإن الشهيد يبعث يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح مسكٍ، فأخبر عن حال كل من استحق الشهادة، ثم خص جعفر لما قطعت يداه، فقال: (له جناحان يطير بهما فى الجنة) ، ولم يقل ذلك فى غيره ممن قطعت يداه من الشهداء، فلذلك خَصَّ ذلك المحرم الذى وقص دون غيره. ويمكن أن يكون ذلك خصوصًا له من أجل أن الله تقبل حجه، ولا يعلم أحدٌ بعد الرسول هل تقبل الله حج غيره ممن يموت محرمًا؟(3/261)
ولذلك غسل ابن عمر ابنه بالجحفة، وخمر رأسه ووجهه، إذ لم يعلم هل تقبل الله حجهُ؟ ويدل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (كل كَلْمٍ يكلمه المسلم فى سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم فى سبيله) ، فأخبر أن ليس كل مكلوم يأتى جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك، وإنما ذلك لمن خلصت نيته وجهاده لله، لا لجميع المكلومين. وقال ابن المنذر فى قوله: (كفنوه فى ثوبيه) دليل أن الكفن من رأس المال. وقوله: (فوقصته) تقول للعرب: وقص الشىء وقصًا كسر. ولم أجد فى اللغة (أوقصه) اللفظة التى شك فيها المحدث، والقصع: القتل، والماء يقصع العطش، أى يقتله وقصع القملة: قتلها، والقعص: القتل المعجل.
- بَاب الْكَفَنِ فِى الْقَمِيصِ الَّذِى يُكَفُّ أَوْ لا يُكَفُّ
/ 23 - فيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ لَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، فَقَالَ: آذِنِّى أُصَلِّى عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ، جَذَبَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِين؟ َ فَقَالَ: (أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ) الحديث. / 24 - وفيه: جَابر، أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. قال المؤلف: فى هذين الحديثين دليل على جواز الكفن فى القميص على ما ذهب إليه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بقصة عبد الله(3/262)
ابن أُبَىّ هذه. وقال أصحاب مالك: إنما دفع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إليه القميص، لأنه كانت لعبد الله بن أُبَىّ يدٌ عند النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك أن يوم بدر أتى بأسارى، وكان العباس فى جملتهم، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، له قميصًا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه، فكساه النبى إياه، قال ابن عيينة: فكافأه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن كفنه فى قميصه رجاء أن يخفف عنه من عذابه ما دام ذلك القميص عليه، ورجاء أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإسلام فينفعه الله بذلك، ويدل على ذلك أن الله إنما أعلمه بأمره، ونهاه عن الصلاة عليه، وعلى غيره بعدما صلى عليه، وأما حين صلى عليه لم يعلم حقيقة أمره ولا باطنه. قال المهلب: وقوله فى الترجمة: الكفن فى القميص الذى يُكفَ أولا يُكفَ. إنما صوابه (يكفى) بإثبات الياء، ومعناه طويلاً كان ذلك القميص أو قصيرًا، فإنه يجوز الكفن فيه، وكان عبد الله بن أُبَىّ طويلاً، ولذلك كسا العباسَ قميصه، وكان العباس بائن الطول.
- بَاب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِىُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنَ الْكَفَنِ. / 25 - فيه: أن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أُتِىَ يَوْمًا بِطَعَام، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا، مِنِّى، فَلَمْ نجد لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ،(3/263)
أَوْ رَجُلٌ آخَرُ، خَيْرٌ مِنِّى، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِى حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى. وترجم له باب (إذا لم يوجد إلا ثوب واحد) . ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفن من رأس المال، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، فقال: إنه من الثلث. يُروى ذلك عن جلاس بن عمرو، وروى فيه عن طاوس شذوذ آخر، قال: إن كان المال كثيرًا فهو من رأس المال، وإن كان يسيرًا فهو من الثلث. وهذا الحكم لا دليل عليه. قال المهلب: والحجة الواضحة للجماعة أن مصعب بن عمير، وحمزة لم يوجد لكل واحد منهما ما يكفن فيه، إلا بردة قصيرة، كفنه فيها رسول الله، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية، ولا وارث، وبدَّاه على ذلك كله، فدل أنه من رأس المال، وقاله ابن المنذر. وفيه: جواز التكفين فى ثوب واحد عند عدم غيره كما ترجم له، والأصل فى ذلك ستر العورة، وإنما استحب لهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، التكفين فى تلك الثياب التى ليست بسابغة لأنهم فيها قُتلوا، وفيها يبعثون إن شاء الله. واختلفوا فى كفن المرأة ذات الزوج تموت، فقال الشعبى، وأحمد بن حنبل: كفنها من مالها. وقال مالك: كفنها على زوجها إن لم يكن لها مال. وقال ابن الماجشون: هو على الزوج، وإن كان لها مال كالنفقة. قال ابن حبيب، عن مالك مثل قول ابن الماجشون. وقال أصبغ: لا يكفنها فقيرة كانت أو مَلِيَّة.(3/264)
وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أن العالم ينبغى له أن يُذَكّر بسير الصالحين، وتقللهم من الدنيا لتقل رغبته فيها، ويبكى من تأخُّر لحاقه بالأخيار ويشفق من ذلك، ألا ترى أنه بكى وترك الطعام. وفيه: أنه ينبغى للمرء أيضًا أن يذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها، ويتخوف أن يُقَاصَّ بها فى الآخرة، ويذهب سعيه فيها. وقال عبد الواحد: إن قال قائل: لِمَ بكى عبد الرحمن وقد ضمن له النبى الجنة، وهو أحد العشرة؟ قيل له: كان الصحابة مشفقين خائفين من طول الحساب والوقوف له، مستصغرين لأنفسهم، راغبين فى إعلاء الدرجات، وإن كانت الجنة قد ضمنت لهم، فلذلك كانوا يبكون خوفًا من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى، ومن طول الحساب، والله أعلم.
- بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلا مَا يُوَارِى به رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ
/ 26 - فيه: خَبَّاب، هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلا بردًا، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا (صلى الله عليه وسلم) أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ.(3/265)
قال ابن المنذر: وفيه دليل أن الثوب إذا ضاق فتغطية رأس الميت أولى أن يبدأ به من رجليه. وقال المهلب: إنما أمره (صلى الله عليه وسلم) بتغطية الأفضل إذا أمكن ذلك بعد ستر العورة، ولو ضاق الثوب عن تغطية رأسه وعورته لغطيت بذلك عورته، وجعل على سائره من الإذخر، لأن ستر العورة واجب فى حال الموت والحياة، والنظر إليها ومباشرتها باليد تحرم إلا من أحل الله له ذلك من الزوجين. وفى هذا الحديث ما كان عليه صدر هذه الأمة من الصدق فى وصف أحوالهم، ألا ترى إلى قوله: (فمنا من لم يأكل من أجره شيئًا) ، يعنى يكسب من الدنيا شيئًا، ولا اقتناه، وقصر نفسه عن شهواتها لينالها متوفرة فى الآخرة، و (منا من أينعت له ثمرته) ، يعنى من كسب المال، ونال من عرض الدنيا. وفى هذا الحديث أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار ودرجات الأخيار. وقوله: (يهدبها) يقال: هدبت الثمرة: جنيتها، وهدبت كل حلوبة: حلبتها بأطراف الأصابع.
- بَاب مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِى زَمَنِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
/ 27 - فيه: سَهْل بن سعد، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِى، فَجِئْتُ لأكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِىُّ، - عليه(3/266)
السلام -، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ قَالَ: إِنِّى وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لألْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِى. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. فيه من الفقه: جواز إعداد الشىء قبل الحاجة إليه، وقد حفر قوم من الصالحين قبورهم بأيديهم ليمثلوا حلول الموت فيهم، وأفضل ما ينظر فيه فى وقت المهل وفسحة الأجل الاستعداد للمعاد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (أفضل المؤمنين إيمانًا أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا) . قال المهلب: وفيه قبول السلطان للهدية من الفقير. وفيه ترك مكافأته عليها بخلاف قول من قال إن هدية الفقير للمكافأة. وفيه أنه يسأل السلطان الفاضل والرجل العالم الشىء الذى له القيمة للتبرك به.
- بَاب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ
/ 28 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى أمامة، وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز، وكره ذلك أبو أمامة، ومسروق، والنخعى، والحسن، ومحمد بن سيرين، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال الثورى: اتباع النساء الجنازة بدعة. وروى جواز اتباع النساء الجنازة عن ابن عباس، والقاسم، وسالم، وعن الزهرى، وربيعة، وأبى الزناد مثله، ورخص مالك فى ذلك، وقال: قد خرج النساء قديمًا فى الجنائز، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير، وهى حامل، وقال: ما أرى بخروجهن بأسًا إلا(3/267)
فى الأمر المستنكر. قال ابن المنذر: وقد احتج من كره ذلك بحديث أم عطية. قال المؤلف: واحتج به من أجاز ذلك أيضًا. وقال المهلب: هذا الحديث يدل على أن النهى من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على درجات، فيه نهى تحريم، ونهى تنزيه، ونهى كراهية، وإنما قالت أم عطية: (ولم يعزم علينا) لأنها فهمت من النبى (صلى الله عليه وسلم) أن ذلك النهى إنما أراد به ترك ما كانت الجاهلية تقوله من الهجر وزور الكلام وقبيحه، ونسبة الأفعال إلى الدهر، فهى إذا تركت ذلك وبدلت منه الدعاء والترحم عليه كان خفيفًا، فهذا يدل أن الأوامر تحتاج إلى معرفة تلقى الصحابة لها، وينظر كيف تلقوها.
- بَاب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا
/ 29 - فيه: أمّ عَطِيَّة، تُوُفِّيَ ابْن لها، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، دَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَتَمَسَّحَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا بِزَوْجٍ. / 30 - وفيه: زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْىُ أَبِى سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ، دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بعَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إِنِّى كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . الإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلى والكحل، وكل ما كان من دواعى الجماع، يقال: امرأة حادّ ومحدّ. وأباح النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن تحد المرأة على غير زوجها من ذوى محارمها ثلاثة أيام، لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من أليم الوجد، ولم يوجب ذلك عليها، وهذا مذهب الفقهاء، وحرم عليها من الإحداد ما فوق ذلك.(3/268)
ومما يدل على أن الإحداد فى الثلاثة أيام على غير الزوج غير واجب إجماع العلماء على أن من مات أبوها، أو ابنها، وكانت ذات زوج، وطالبها زوجها بالجماع فى الثلاثة الأيام التى أبيح لها الإحداد فيها أنه يقضى له عليها بالجماع فيها، ونص التنزيل أن الإحداد على ذوات الأزواج أربعة أشهر وعشرًا واجب.
- بَاب زِيَارَةِ الْقُبُورِ
/ 31 - فيه: أَنَس، قَالَ: مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى) ، قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَتَتْ بَابَ الرسول فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى) . كره قوم زيارة القبور، لأنه روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أحاديث فى النهى عنها، وقال الشعبى: لولا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتى. قال إبراهيم النخعى: كانوا يكرهون زيارة القبور. وعن ابن سيرين مثله. ثم وردت أحاديث بنسخ النهى، وإباحة زيارتها، روى ابن أبى شيبة، عن عبد الرحيم ابن سليمان، عن يحيى بن الحارث، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن زيارة القبور، ثم قال: (زوروها ولا تقولوا هُجرًا) . وروى معمر، عن عطاء الخراسانى، قال: حدثنى عبد الله بن(3/269)
بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة) . وروى من حديث ابن مسعود عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وحديث أنس فى هذا الباب يشهد لصحة أحاديث الإباحة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما عرض على المرأة الباكية الصبر ورغبها فيه، ولم ينكر عليها جلوسها عنده، ولا نهاها عن زيارته، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه، لأن الله تعالى فرض عليه التبليغ والبيان لأمته، فحديث أنس وشبهه ناسخ لأحاديث النهى فى ذلك، وأظن الشعبى والنخعى لم تبلغهم أحاديث الإباحة، والله أعلم. وكان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يأتى قبور الشهداء عند رأس الحول، فيقول: (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) . وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان يفعلون ذلك. وزار النبى (صلى الله عليه وسلم) قبر أمه يوم فتح مكة فى ألف مُقَنَّعٍ. ذكره ابن أبى الدنيا، وذكر ابن أبى شيبة، عن على، وابن مسعود، وأنس بن مالك، إجازة زيارة القبور. وكانت فاطمة تزور قبر حمزة كل جمعة. وكان ابن عمر يزور قبر أبيه، فيقف عليه ويدعو له. وكانت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة. ذكر ذلك كله عبد الرزاق. وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها، والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وفى (المجموعة) : قال على بن زياد: سئل مالك عن زيارة القبور، فقال:(3/270)
قد كان نهى / عليه السلام، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان، ولم يقل إلا خيرًا، لم أر بذلك بأسًا. وروى عنه أنه كان يضعف زيارتها، وقوله الذى تعضده الآثار وعمل به السلف أولى بالصواب، والأمة مجمعة على زيارة قبر الرسول، وأبى بكر، وعمر، ولا يجوز على الإجماع الخطأ، قاله المهلب. وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. رواه معمر، عن أيوب، عن نافع. قال المهلب: ومعنى النهى عن زيارة القبور، إنما كان فى أول الإسلام عند قربهم بعبادة الأوثان، واتخاذ القبور مساجد، والله أعلم، فلما استحكم الإسلام، وقوى فى قلوب الناس، وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نسخ النهى عن زيارتها، لأنها تذكر الآخرة وتزهد فى الدنيا. وقد حدثنا أبو المطرف القنازعى، قال: حدثنا أبو محمد بن عثمان، قال أبو عبد الله الشبلى الزاهد: حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا موسى بن معاوية، عن يحيى بن يمان، عن طاوس، قال: كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام، لأنهم يفتنون ويحاسبون فى قبورهم سبعة أيام. وفى حديث أنس ما كان عليه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من التواضع والرفق بالجاهل، لأنه لم ينهر المرأة حين قالت له: إليك عنى، وعذرها بمصيبتها. وإنما لم يتخذ بوابين، لأن الله تعالى أعلمه أنه يعصمه من الناس. وفيه أنه من اعتذر إليه بعذر لائح أنه يجب عليه قبوله.(3/271)
- بَاب قَوْلِ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) : (يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ
إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: (لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15] وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ) [فاطر: 18] وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) . / 32 - فيه: أُسَامَة، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، ولِلَّه مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ) ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى النبى (صلى الله عليه وسلم) الصَّبِىُّ، وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: (كَأَنَّهَا شَنٌّ) - فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) . / 33 - وفيه: أَنَس، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَاهِ تَدْمَعَانِ، قَالَ: فَقَالَ: (هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: فَانْزِلْ، قَالَ: فَنَزَلَ فِى قَبْرِهَا. / 34 - وفيه: ابْن أَبِى مُلَيْكَةَ، قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بِمَكَّةَ، وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنِّى لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ الْمَيِّتَ(3/272)
لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ، قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِى، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ، فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ، دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِى، يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَىَّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ) هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) [النجم: 43] . قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا. قَالَتْ عائشة: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى يَهُودِيَّةٍ، يَبْكِى عَلَيْهَا، فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِى قَبْرِهَا) . / 35 - وفى كتاب المغازى: قالت عائشة: إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه) . اختلف أهل العلم فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يعذب الميت ببكاء أهله عليه) ، فقالت طائفة: معناه أن يوصى بذلك الميت، فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وإليه ذهب البخارى فى قوله: إذا كان النوح من سنته، يعنى أن يوصى بذلك، وهو قول أهل الظاهر، وأنكروا قول عائشة، وأخذوا بحديث عمر، وابن عمر، والمغيرة أن الميت يعذب بما نيح. وقال آخرون: معناه أن يمدح الميت فى ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية من الفتكات والغارات والقدرة على الظلم، وغير ذلك(3/273)
من الأفعال التى هى عند الله ذنوب، فهم يبكون لفقدها ويمدحونه بها، وهو يعذب من أجلها. وقال آخرون: معناه أن الميت ليعذب ويحزن ببكاء أهله عليه، ويسوؤه إتيان ما يكره ربه، واحتجوا بحديث قَيْلَةَ حين ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنها قالت: بكيتُ ثم قلت: والله يا رسول الله، لقد ولدته حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة، ثم ذهب يمترى لى من خيبر فأصابته حمى فمات. فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو لم تكونى مسكينة لجررناك اليوم على وجهك، أتُغلب إحداكن على أن تصاحب صويحبةَ فى الدنيا معروفًا، حتى إذا حال بينه وبينه من هو أولى به، استرجع، فقال: رب أثبنى بما أمضيت، وأعنى على ما أبقيت، والذى نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكى فتستعين إليه صويحبة، فيا عباد الله، لا تعذبوا أمواتكم) . قال الطبرى: والدليل على أن بكاء الحى على الميت تعذيب من الحى له، لا تعذيب من الله ما رواه عوف عن جلاس بن عمرو، عن أبى هريرة، قال: (إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم ليستخبرون الميت إذا أتاهم: من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته هل تزوجت أم لا) . وروى محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: كان ابن عمر فى جنازة رافع بن خديج بين قامتى السرير، فقال: إن الميت ليعذب ببكاء الحى، فقال(3/274)
ابن عباس: إن الميت لا يعذب ببكاء الحى. وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو أمر مجتمع عليه، لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى () ولا تكسب كل نفس إلا عليها) [الأنعام: 164] . وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء فمعناه النياحة عند العلماء، لأن الله تعالى أضحك وأبكى، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب) . وقال الرسول لعمر إذ نهى النساء عن البكاء: (دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب) . ونهى عن النياحة، ولعن النائحة والمُشِقَّة، وهى عن شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعوى الجاهلية. وفى حديث أسامة، وأنس فى هذا الباب جواز البكاء الخفيف بدمع العين، قال الشافعى: أرخص فى البكاء بلا ندبة، ولا نياحة، وما ذهبت إليه عائشة أشبه بدلائل الكتاب، وما زيد فى عذاب الكافر باستحقاقه لا بذنب غيره، لأنه إذا بُكى عليه بذكر فتكاته وغاراته فهو مستحق للعذاب بذلك، وأهله يَعُدُّون ذلك من فضائله وهو يعذب من أجلها، فإنما يعذب بفعله لا ببكاء أهله، هذا معنى قول عائشة: إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وهو موافق لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى (وتصويب الشافعى لقول عائشة، وإنكارها على ابن عمر يشبه أن يكون مذهب مالك، لدلالة ما فى موطئه عليه لأنه ذكر حديث عائشة، ولم يذكر خلافه عن أحد. وقوله: (ونفسه تقعقع) القعقعة: حكاية أصوات الرعد والجلود اليابسة وما أشبه ذلك، ورجل قعقاع وقعقعان، وهو الذى يسمع لمفاصل رجليه تقعقعًا، عن صاحب (العين) ، والشن: القربة(3/275)
اليابسة، ومن أمثالهم: أَلِمْثِلِى يقعقع بالشأن، يريد أن مثلى لا يفزع بذلك.
- بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ
وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِى سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَةٌ، وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ. / 36 - فيه: الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) ، ورواه عمر عن الرسول. / 37 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ: جِىءَ بِأَبِى يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَدْ سُجِّىَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ: (مَنْ هَذِهِ؟) فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، قَالَ: (فَلِمَ تَبْكِى، أَوْ لا تَبْكِى، فَمَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ) . قال المؤلف: النوح محرم، لأنه من دين الجاهلية، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يشترط على النساء فى مبايعتهن على الإسلام ألا يَنُحْن، وهذا الباب يدل على أن النهى عن البكاء على الميت إنما هو إذا كان فيه نوح، ويدل على جواز البكاء بغير نوح قول عمر: دعهن يبكين ما لم يكن نقع أو لقلقة، فأباح لهن البكاء بغير نوح، وحديث المغيرة حجة لذلك، لشرطه (صلى الله عليه وسلم) فيه أنه يعذب بما نيح عليه، فدليله أن البكاء بغير نوح لا عذاب فيه، وحديث جابر نص فى ذلك، لأن زوجة جابر بكت عليه بحضرة الرسول، فلم يزد على أكثر من تسليتها بقوله: (إن الملائكة أظلته بأجنحتها حتى رفع) ،(3/276)
فسلاها عن حزنها عليه بكرامة الله له، ولم يقل لها أنه يعذب ببكائك عليه. قال عبد الواحد: إن قيل: كيف أباح عمر لنسوة خالد البكاء عليه ما لم يكن نقع، أو لقلقة، ونهى صُهيبًا عن البكاء عليه فى الباب الذى قبل هذا؟ فالجواب: إنما نهى صهيبًا، لرفعه لصوته بقوله: وا أخاه، وا صاحباه، وخشى أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهى عنه.
- بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ
/ 38 - فيه: عَنْ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) . وترجم له باب (ليس منا من ضرب الخدود) ، وباب (ما ينهى عنه من الويل ودعوى الجاهلية) . قال المهلب: قوله: (ليس منا) أى ليس متأسيًا بسنتنا، ولا مقتديًا بنا، ولا ممتثلاً لطريقتنا التى نحن عليها، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ليس منا من غشنا) لأن لطم الخدود وشق الجيوب من أفعال الجاهلية. وقال الحسن فى قوله تعالى: (ولا يعصينك فى معروف) [الممتحنة: 12] ، قال: لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلاً. وقد نسخ الله ذلك بشريعة الإسلام، وأمر بالاقتصاد فى الحزن والفرح، وترك الغلو فى ذلك، وحَضَّ على الصبر عند المصائب واحتساب أجرها على الله، وتفويض الأمور كلها(3/277)
إليه، فقال تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] ، فحق على كل مسلم مؤمن عَلِمَ سرعة الفناء ووشك الرحيل إلى دار البقاء ألا يحزن على فائت من الدنيا، وأن يستشعر الصبر والرضا، لينال هذه الدرجات الرفيعة من ربه، وهى الصلاة والرحمة والهدى، وفى واحد من هذه المنازل سعادة الأبد، وهبنا الله الصبر والرضا بالقضاء إنه كريم وهاب.
- بَاب رِثَاءِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لسعْدَ بْنَ خَوْلَةَ
/ 39 - فيه: سَعْدِ، عادنِى النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى. . . . الحديث إلى قوله: (اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: قوله: (يرثى له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة) من قول سعد فى بعض الطرق، وأكثر الطرق أنه من قول الزهرى، وليس هو من قول الرسول، وسعد بن خولة زوج سبيعة الأسلمية، وإنما توجع له إذا مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، وكان يحب له أن يموت فى مهاجره المدينة، ولذلك قال عمر: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك، ووفاة ببلد رسولك. لأنه حرام على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذى هجره لله، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث) . وكان عثمان وغيره لا يطوفون طواف الوداع، إلا ورواحلهم قد(3/278)
رُحِّلَت، وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين، خلاف قول عيسى بن دينار الذى قال: إنه أسلم ولم يهاجر، وكان من مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا ابن خمس وعشرين سنة، وشهد أحدًا، والخندق، والحديبية، وتوفى بمكة عند زوجته سبيعة الأسلمية فى حجة الوداع وهى حامل، ثم وضعت بعد موته بليال فتمت عدتها، ذكره مسلم عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: توفى سعد بن خولة فى حجة الوداع. وقال الطبرى: مات سعد بن خولة بمكة سنة سبع فى الهدنة التى كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أهل مكة عام الحديبية، فخرج سعد بن خولة مجتازًا لا لحج ولا لجهاد، لأنه لم يفرض حينئذ الحج، وأما سعد بن أبى وقاص، فإنما خرج إلى مكة حاجًا، ولو مات فيها لم يكن فى معنى سعد بن خولة الذى رثى له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه، ولا إثم، ولا يقال له: بائس، ولا يسمى تارك لدار هجرته. وروى عن الأعرج قال: خَلَّف النبى (صلى الله عليه وسلم) على سعد رجلاً، وقال: (إن مات بمكة فلا تدفنه بها) . وقوله: (اللهم امض لأصحابى هجرتهم) ، أى تردهم إلى المدينة دار الهجرة. وقوله: (ولا تردهم على أعقابهم) يقال: لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه: رجع على عقبه وحَارَ، ومنه قوله: أعوذ بك من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، أى من النقصان بعد الزيادة.(3/279)
- بَاب مَا يُنْهَى مِنَ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
/ 40 - فيه: أَبُو مُوسَى، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ. قال المهلب: قوله: (برئ منه) أى لم يرض بفعله فهو منه برئ فى وقت ذلك الفعل، لا أنه برئ من الإسلام، وقال صاحب (الأفعال) : حلقت المرأة عند المصيبة: ولولت، والصلق: شدة الصوت، وفى الحديث: (ليس منا من صلق، أو حلق عند المصيبة) . والحالق: التى تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التى تشق ثيابها.
- بَاب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ، لَمَّا قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: (انْهَهُنَّ) ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: (فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَنَاءِ. / 42 - وفيه: أَنَس، قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ. قال الطبرى: إن قال قائل: إن أحوال الناس فى الصبر متفاوتة، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة فى وجهه بالتغير له، وفى عينيه، بانحدار الدموع، ولا ينطق بالسيئ من القول، ومنهم من يظهر ذلك فى وجهه، وينطق بالهُجْر المنهى عنه، ومنهم من يجمع ذلك كله،(3/280)
ويزيد عليه إظهاره فى مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله فى حال المصيبة، وقبلها سواء، فأيهم المستحق اسم الصبر؟ . قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم: المستحق اسم الصبر الذى يكون فى حال المصيبة مثله قبلها، ولا يظهر عليه خرم فى جارحة ولا لسان. قال غيره: كما زعمت الصوفية، أن الولىَّ لا تقم له الولاية إلا إذا تم له الرضا بالقدر ولا يحزن على شىء. والناس فى هذا الحال مختلفون، فمنهم من طبعه الجَلَد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذى يكون فى طبعه الجزع، ويملك نفسه، ويستشعر الصبر أعظم أجرًا من الذى الجَلَد طبعه، والله أعلم. قال الطبرى: كما روى عن ابن مسعود أنه لما نعى إليه أخوه عتبة، قال: لقد كان من أعز الناس علىَّ، وما يسرنى أنه بين أظهركم الآن حيا، قالوا: وكيف وهو من أعز الناس عليك؟ قال: إنى لأؤجر فيه أحب إلىَّ من أن يؤجر فىَّ. وقال ثابت: إن صلة بن أشيم مات أخوه فجاءه رجل، وهو يطعم، فقال: يا أبا الصبهاء، إن أخاك مات. قال: هلم فكل قد نُعى إلينا إِذَنْ فَكُلْ. قال: والله ما سبقنى إليك أحدٌ ممن نعاه. قال: بقول الله: (إنك ميت وإنهم ميتون) [الزمر: 30] . وقال الشعبى: كان شريح يدفن جنائزه ليلاً يغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح فيسأله عن المريض، فيقول: هدأ، لله الشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا. أخذه من قصة أم سليم. وكان ابن سيرين(3/281)
يكون عند المصيبة كما هو قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت حفصة، رحمها الله، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف فى وجهه. وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. وقال آخرون: الصبر المحمود هو ترك العبد عند حدوث المكروه عليه وبثه للناس، ورضاه بقضاء ربه، وتسليمه لأمره، فأما حزن القلب، وحزن النفس، ودمع العين، فإن ذلك لا يُخرج العبد عن معانى الصابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله، لأن نفوس بنى آدم مجبولة على الجزع على المصائب. قالوا: وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، قالوا: وثواب الله عباده إنما هو على ما اكتسبوه من أعمال الخير دون ما لا صنع لهم فيه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التى جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذى أنشأها. والمحمود من الصبر هو ما أمر الله به، وليس فيما أمر به تغيير جبلة عما خلقت عليه، والذى أمر به عند نزول البلاء الرضا بقضائه، والتسليم لحكمه، وترك شكوى ربه، وكذلك فعل السلف. قال ربيعة بن كلثوم: دخلنا على الحسن، وهو يشكى ضرسه، فقال: رب مسنى الضر، وأنت أرحم الراحمين، وروى المقبرى عن أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشتك إلى عُوَّاده أنشطته من عقال، وبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل) . وقال طلحة بن مصرف: لا تشك ضرك ولا مصيبتك.(3/282)
قال: وأنبئت بأن يعقوب بن إسحاق، عليهما السلام، دخل عليه جاره، فقال: يا يعقوب، ما لى أراك قد تهشمت وفنيت، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك، قال: هشمنى ما ابتلانى به من يوسف، فأوحى الله إلى يعقوب: أتشكونى إلى خلقى؟ قال: يا رب، خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك. فكان إذا سئل بعد ذلك، قال: (إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله) [يوسف: 86] . وقد توجع الصالحون على فقد الرسول وحزنوا له أشد الحزن، قال طاوس: ما رأيت خلقًا من خلق الله أشد تعظيمًا لمحارم الله من ابن عباس، وما ذكرته قط فشئت أن أبكى إلا بكيت، ورأيت على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال أبو عثمان: ورأيت عمر بن الخطاب لما جاءه نعى النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكى. ولما مات سعيد بن أبى الحسن بكى عليه الحسن حولا، فقيل له: يا أبا سعيد، تأمر بالصبر وتبكى؟ قال: الحمد لله الذى جعل هذه الرحمة فى قلوب المؤمنين يرحم بها بعضهم بعضًا، تدمع العين، ويحزن القلب، وليس ذلك من الجزع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد. وقال يحيى بن سعيد: قلت لعروة: إن ابن عمر يشدد فى البكاء على الميت، فقال: قد بكى على أبيه. وبكى أبو وائل فى جنازة خيثمة. فهؤلاء معالم الدين لم يروا إظهار الوجد على المصيبة بجوارح الجسم إذا لم يجاوزوا فيه المحذور خروجًا من معنى الصبر، ولا دخولاً فى معنى الجزع. وقد بكى (صلى الله عليه وسلم) على ابنته زينب، وعلى ابنه إبراهيم،(3/283)
وفاضت عيناه، وقال: (هذه رحمة جعلها الله فى قلوب عباده) ، وبكى (صلى الله عليه وسلم) لقتل جلة الإسلام وفضلاء الصحابة، وتوجع لفقدهم، فإذا كان المتَّبَع به نرجو الخلاص من ربنا، وقد كان حزن بالمصيبة، وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه، وأخبر أن ذلك رحمة جعلها الله فى قلوب عباده، فقد صح قول من وافق ذلك، وسقط ما خالفه.
- بَاب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الحزن: الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86] . / 43 - فيه: أَنَس، اشْتَكَى ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَمَاتَ، وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِى جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: هَدَأ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ، فَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِمَا كَانَ منها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِى لَيْلَتِكُمَا) . قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ. قال المؤلف: أما من لم يظهر حزنه عند المصيبة، وترك ما أبيح له من إظهار الحزن الذى لا إسخاط فيه لله تعالى، واختار الصبر كفعل أم سليم، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر، ممن تقدم ذكره فى الباب قبل هذا، فهو آخذ بأدب الرب فى قوله: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) [النحل: 126] .(3/284)
وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة لمن قدر عليها، وأن ذلك مما ينال به العبد جزيل الثواب ورفيع الأجر. قال المهلب: فى قول أم سليم: (هدأ نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح) التسلية عن المصائب بالتعريض من الكلام الذى يحتمل معنيين، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه، ولكن ورت به عن المعنى الذى كان يحزنها، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس، وأوهمته أنه استراح قلقُه، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها. وفيه: أن المرأة تتزين لزوجها تعرضًا للجماع، لقوله: (ثم هيأت شيئًا) إنما أراد هيأت شيئًا من حالها، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لعله أن يبارك لهما) ، فأجاب الله تعالى قوله. وفيه: أنه من ترك شيئًا لله تعالى وآثر ما ندب إليه وحض عليه من جميل الصبر أنه معوض خيرًا فيما فاته، ألا ترى قوله: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن. قال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: إنما حملت أم سليم حين مات الغلام بعبد الله بن أبى طلحة، والتسعة الذين قرءوا القرآن هم أولاد عبد الله هذا، وروى معمر عن ثابت، عن أنس، أنه لما جامعها قالت له: أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية، ثم بدا له فأخذها، أكنت تجزع؟ قال: لا، قالت: إن الله أعارك ابنك وقد أخذه، فالله أحق أن ترضى بفعله وتُسلم إليه، فغدا إلى الرسول فأخبره بقولها، فقال: (اللهم بارك لهما فى ليلتهما) ، فولدت غلامًا كان اسمه عبد الله، وكان من خير أهل زمانه.(3/285)
ولقد أخذت أم سليم فى الصبر إلى أبعد غاية، على أن النساء أرق أفئدة، لأننا نقول: ما فى النساء ولا فى الجلة من الرجال مثل أم سليم، لأنها كانت تسبق الكثير من الشجعان إلى الجهاد، وتحتسب فى مداواة الجرحى، وثبتت يوم حنين فى ميدان الحرب والأقدام قد زلت، والصفوف قد انقضت، والمنايا قد فغرت، فالتفت إليها الرسول وفى يدها خنجر، فقالت: يا رسول الله، اُقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، فلبسوا بشرٍ منهم.
30 - بَاب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى
وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْعِدْلانِ، وَنِعْمَت الْعِلاوَةُ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156] الآية، وقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45] . / 44 - فيه: أَنَس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى) . إن قيل: قد علمت أن العبد منهى عن الهُجر وتسخط قضاء الرب فى كل حال، فما وجه خصوص نزول الأولى بالصبر فى حال حدوثها؟ . قيل: وجه خصوص ذلك أن للنفس عند هجوم الحادثة محرك على الجزع، ليس فى غيرها مثله، وتلك حال يضعف عن ضبط النفس فيها كثير من الناس، ثم يصبر كل جازع بعد ذلك إلى السكون ونسيان المصيبة، والأخذ بقهر الصابر نفسه، وغلبته هواها عند صدمته إيثارًا لأمر الله على هوى نفسه، ومنجزًا لموعوده، بل السالى عن مُصابه لا يستحق اسم الصبر على الحقيقة، لأنه آثر السلو على الجزع واختاره.(3/286)
وإنما الصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهوتها، وقهرها عن الحزن والجزع والبكاء الذى فيه راحة النفس، وإطفاء لنار الحزن، فإذا قابل سورة الحزن وهجومه بالصبر الجميل، واسترجع عند ذلك، وأشعر نفسه أنه لله ملك، لا خروج له عن قضائه، وإليه راجع بعد الموت ويلقى حزنه بذلك، انقمعت نفسه، وذلك على الحق، فاستحقت جزيل الأجر. قال المهلب: (نعم العدلان، ونعمت العلاوة) فقيل: العدلان: الصلوات والرحمة، والعلاوة: (وأولئك هم المهتدون) [البقرة: 157] ، وقيل: (إنا لله وإنا إليه راجعون) [البقرة: 156] والعلاوة: التى يثاب عليها.
31 - بَاب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول: (تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ) . / 45 - فيه: أَنَس، دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لإبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ) ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) . قال المؤلف: قد تقدم فى الأبواب قبل هذا بيان البكاء والحزن المباحين والمحرمين بما فيه كفاية، لكنا كرهنا أن نخلى هذا الباب من شىء من الكلام فى هذا المعنى، هذا البكاء تفسير البكاء المباح والحزن الجائز، وذلك ما كان بدمع العين ورقة النفس، ولم يكن تسخطًا(3/287)
لأمر الله، إذ الفطر مجبولة على الحزن، وقد قال الحسن البصرى: العين لا يملكها أحد، صبابة المرء بأخيه. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان فى جنازة مع عمر فرأى امرأة تبكى فصاح عليها عمر، فقال النبى: (دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب) . فعذرها (صلى الله عليه وسلم) مع قرب العهد، لأن بعده ربما يكون [. . . . . .] للثكل، وفتور فورة الحزن، فإذا كان الحزن على الميت وفاء له ورقة عليه، ولم يكن سخطًا للقضاء ولا تشكيًا به، فهو مباح كما تقدم قبل هذا، لقوله: (إنها رحمة) . وقال أبو الحسن بن القابسى: قول أنس فى أبى سيف القين: (وكان ظئرًا لإبراهيم) هو الذى يحتج فى أن اللبن للفحل، وقيل: (كان ظئرًا) أى رضيعه وليس بشىء، لأن أبا سيف كان كالربيب، لأن فى نص الحديث ما يدل أن إبراهيم كان عند زوج أبى سيف وهو مريض. فيه: شدة إغراق النساء فى الحزن وجاوزهن الواجب فيه، لنقصهن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وقد روى معمر عن الزهرى، قال: ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا: الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء. وروى عن الحسن البصرى فى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة) [الروم: 21] أن المودة: الجماع، والرحمة: الولد، ذكره ابن وهب.(3/288)
32 - بَاب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ
/ 46 - فيه: ابْن عُمَر، اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: (قَدْ قَضَى) ؟ قَالُوا: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَكَوْا، فَقَالَ: (أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) . وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِى بِالْحِجَارَةِ، وَيَحْثِى التُّرَابِ. قال المهلب: فيه جواز البكاء عند المريض، وليس ذلك من الجفاء عليه والتقريع له، وإنما هو إشفاق عليه، ورقة وحرقة لحاله، وقد بين فى هذا الحديث أنه لا يعذب بدمع العين، وحزن القلب، وإنما يعذب بالقول السيئ ودعوى الجاهلية، وقوله: (أو يرحم) يحتمل معنيين: أحدهما: أو يرحم إن لم ينفذ الوعيد فى ذلك، والثانى: يريد أو يرحمه إذا قال خيرًا، واستسلم لقضاء الله تعالى.
33 - بَاب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ
/ 47 - فيه: عَائِشَة، قَتْلُ جَعْفَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. . .) الحديث إلى قوله: (فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) ، فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْعَنَاءِ. / 48 - وفيه: أُمِّ عَطِيَّة، قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عِنْدَ الْبَيْعَةِ: أَنْ لا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ. . . .) الحديث. قال المؤلف: قد تقدم معنى هذا الباب، وأن النوح والبكاء على(3/289)
سنة الجاهلية حرام قد نسخه الإسلام، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يشترط على النساء فى بيعة الإسلام ألا ينحن تأكيدًا للنهى عنه، وتحذيرًا منه. وفيه: أنه من نُهى عما لا ينبغى له فعله ولم ينته، أنه يجب أن يؤدب على ذلك ويزجر، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) للرجل: (فاحث فى أفواههن التراب) ، حين انصرف إليه المرة الثالثة، وقال: إنهن غلبننا، وهذا يدل أن بكاء نساء جعفر، وزيد الذى نهين عنه لم يكن من النوح المحرم، لأنه لو كان من النوح المحرم لزجرهن حتى ينتهين عنه، لأن الله فرض عليه التبليغ والبيان، ولا يؤمن على النساء عند بكائهن الهائج لهن أن يضعف غيرهن، فيصلن به نوحًا محرمًا، فلذلك نهاهن (صلى الله عليه وسلم) قطعًا للذريعة. وفيه من الفقه: أن للعالم أن ينهى عن المباح إذا اتصل به فعل محذور، أو خيف مواقعته، لأن الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وهذا الحديث يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث (الموطأ) ، حين دخل الرسول على عبد الله بن الربيع يعوده، فصاح به فلم يجبه، فاسترجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: (غلبنا عليك أبا الربيع) ، فصاح النسوة وبكين، فجعل جابر يسكتهن، فقال رسول الله: (دعهن، فإذا وجبت فلا تبكين باكية) ، والوجوب: الموت. فدل أن هذا الحديث على الندب لا على الإيجاب، لأنه لو كان ترك البكاء عليه فرضًا بعد موته لما جاز لنساء جعفر أن يبكين بعد موته، ولوجب أن يقتصرن على السكوت، فلما اعترضت عائشة لرسول الله حين قالت له: والله ما أنت بفاعل. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لكن حمزة لا بواكى له) ، فدل على جواز البكاء على الميت بعد موته.(3/290)
وقول أم عطية: (أخذ علينا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ألا ننوح) يبين أن النوح بدعوى الجاهلية محرم، لأنه لم يقع فى البيعة شىء غير فرض، وقولها: (فما وفت منا امرأة غير خمس) ، يصدق قول النبى فى النساء: (إنهن ناقصات العقل والدين، وإنهن خلقن من ضلع أعوج) ، ومن كان بهذه الصفة يعسر رجوعه إلى الحق وانقياده إليه. وروى معمر، عن الزهرى، قال: ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا: الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء.
34 - بَاب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ
/ 49 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ) . قال المهلب: مضى القيام للجنازة، والله أعلم، على التعظيم لأمر الموت، والإجلال لأمر الله، لأن الموت فزع، فيجب استقباله بالقيام له والجدّ، وقد روى هذا المعنى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وروى محمد بن كثير، عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله: (الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) ، ذكره ابن أبى الدنيا، ورواه ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذ بظاهر حديث عامر بن ربيعة جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء، وسأذكرهم فى الباب بعد هذا، إن شاء الله.(3/291)
ورأت طائفة ألا يقوم للجنازة إذا مرت به، وقالوا: لمن تبعها أن يجلس، وإن لم توضع، واحتجوا بحديث علىّ بن أبى طالب: (أن رسول الله كان يقوم فى الجنازة، ثم قعد بعد ذلك) ، فدل هذا أن القيام منسوخ بالجلوس، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأما حديث علىّ فرواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ ابن أبى طالب، قال: (قام رسول الله فى الجنائز ثم قعد) . رواه شعبة عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ بن أبى طالب، قال: (رأينا رسول الله قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا) ، فثبت نسخ الأخبار الأول بالقيام للجنازة. قال الطحاوى: وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا أنس بن عياض، عن أنيس ابن أبى يحيى، قال: سمعت أبى يقول: كان ابن عُمر وأصحاب النبى يجلسون قبل أن توضع الجنازة. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وقد روى عن عامر بن ربيعة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خلاف ذلك، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما حَدَّث بِهِ عامر بن ربيعة. وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه: أن القاسم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة، ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة أنها قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها ويقولون: فى أهلك ما أنت فى أهلك. فهذه عائشة تنكر القيام أصلاً، وتخبر أن ذلك كان من فعل الجاهلية،(3/292)
وستأتى زيادة فى هذا المعنى بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فى باب من قام لجنازة يهودى.
35 - بَاب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ
/ 50 - فيه: عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أَوْ تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ) . / 51 - وفيه: أبو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ) . قال المؤلف: أخذ بظاهر هذا الحديث طائفة وكانوا يقومون للجنازة إذا مرت بهم، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وأبى سعيد الخدرى، وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف، وسالم بن عبد الله، وقال أحمد وإسحاق: إن قام فلم أعبه، وإن قعد فلا بأس، ذكره ابن المنذر، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن هذا منسوخ، فإن أئمة الفتوى على ترك القيام. قوله: (فإن لم يكن ماشيًا معها) دليل على أن الجنازة من فروض الكفاية. قال ابن المنذر: وممن رأى ألا يجلس من تبع الجنازة حتى توضع عن مناكب الرجال: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والحسن بن على، والنخعى، والشعبى، والأوزاعى.(3/293)
36 - بَاب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ
/ 52 - فيه: أَبُو سَعِيد، كُنَّا فِى جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيد، فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: قُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ. قال ابن المنذر: وممن رأى ألا يجلس ممن تبع الجنازة حتى توضع: الحسن بن علىّ، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، والشعبى، وبه قال الأوزاعى. قال المؤلف: وأما أمر أبى سعيد لمروان بالقيام، فلا أعلم من قال به، وممن روى عنه القيام للجنازة إذا مرت بهم ممن ذكرناهم فى الباب قبل هذا لم يحفظ عن أحد منهم مثل قول أبى سعيد. قال المهلب: وقعود أبى هريرة ومروان دليل على أنهما علما أن القيام ليس بواجب، وأنه أمر متروك ليس عليه العمل، لأنه لا يجوز أن يكون العمل على القيام عندهم ويجلسان، ولو كان أمرًا معمولاً به ما خفى على مروان مثله، لتكرُّر مثل هذا الأمر وكثرة شهودهم للجنائز، والعمل فى هذا على ما روى ابن وهب، عن ابن عمر، وأصحاب محمد، أنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنائز.
37 - بَاب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِىٍّ
/ 53 - فيه: جَابِر، قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا) .(3/294)
/ 54 - وفيه: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، إِنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِىٍّ، فَقَالَ: (أَلَيْسَتْ نَفْسًا) . وكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَيْسٌ يَقُومَان. قال الطحاوى: قد ثبت نسخ هذه الآثار، ومما يبين ذلك ما حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أحمد بن داود، ثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الليث بن أبى سليم، عن مجاهد، عن ابن سخبرة، قال: كنا قعودًا مع على بن أبى طالب ننتظر جنازة، فمرت أخرى فقمنا، فقال علىّ: ما هذا القيام؟ فقال أبو موسى: قال رسول الله: (إذا رأيتم جنازة مسلم، أو يهودى، أو نصرانى فقوموا، فإنكم لستم تقومون لها، إنما تقومون لمن معها من الملائكة) . فقال علىّ: إنما صنع ذلك رسول الله مرة واحدة، وكان يتشبه بأهل الكتاب فى الشىء، فإذا نُهى عنه تركه. فأخر على فى هذا الحديث أن رسول الله إنما كان يقوم على التشبيه بأهل الكتاب، وعلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء، حتى أُمر بالقعود. وحدثنا فهد، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهانى، حدثنا شريك، عن عثمان بن أبى زرعة، عن زيد بن وهب، قال: تذاكرنا القيام إلى الجنازة عند علىٍّ، فقال أبو سعيد: قد كنا نقوم، فقال على: ذلك وأنتم يهود. فمعنى هذا أنهم كانوا يقومون على(3/295)
شريعتهم، ثم نسخ ذلك بشريعة الإسلام. وقد روى أن قيامه (صلى الله عليه وسلم) كان لمعنى آخر. أخبرنا إبراهيم بن مرزوق، أخبرنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عمرو يحدث عن الحسن، وابن عباس، أو عن أحدهما، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مرت به جنازة يهودى، فقام، فقال: (آذانى نتن ريحها) . وذكر الطبرى عن الحسن بن على، أن رسول الله إنما قام لجنازة يهودى حين طلعت عليه، كراهية أن تعلو على رأسه.
38 - بَاب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ
/ 55 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِى، قَدِّمُونىِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ لصَعِقَ) . وترجم له باب: (قول الميت وهو على الجنازة قدمونى) . قال المؤلف: الترجمة تخرج من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (واحتملها الرجال) دليل أن النساء لا يحملنها، لأنهن لا يلزمهن ما يلزم الرجال من المؤن، والقيام بالحقوق، ونصرة الملهوف، وإعانة الضعيف، وقد سقط عنهن كثير من الأحكام، عذرهن الله بضعفهن، فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) [النساء: 98] الآية، وقول بعض الناس فى قوله: (يسمعها كل شىء إلا الإنسان) إن قيل: ينبغى أن يسمعها الحيوان الصامت بدليل هذا الحديث، لأنه إنما(3/296)
استثنى الإنسان فقط. قيل: هذا مما لفظه العموم، والمراد به الخصوص، وإنما معناه: يسمعها كل شىء مميز، وهم الملائكة والجن، وإنما يتكلم روح الجنازة، لأن الجنازة لا تتكلم بعد خروج الروح منها إلا أن يرده الله فيها، فإنما يسمع الروح من هو مثله ويجانسه، وهم الملائكة والجن، والله أعلم، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) المعنى الذى من أجله منع الإنسان أن يسمعها، وهو أنه كان يصعق لو سمعها، فأراد تعالى الإبقاء على عباده، والرفق بهم فى الدنيا، لتعمر ويقع فيها البلوى والاختبار.
39 - بَاب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ: أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فَامْشِوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبًا مِنْهَا. / 56 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُن صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إليه، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) . قال الطحاوى: وقد روى شعبة، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة، أنهم كانوا معه فى جنازة فمشوا بها مشيًا لينًا، فانتهرهم أبو هريرة، وقال: كنا نرمل بها مع رسول الله. فأخذ قوم بهذا، وقالوا: السرعة بالجنازة أفضل. وخالفهم آخرون، وقالوا: المشى بها مشيًا لينًا أفضل. واحتجوا بما رواه شعبة، عن ليث ابن أبى سليم، قال: سمعت أبا بردة يحدث عن أبيه: أن النبى، - عليه(3/297)
السلام -، مر عليه بجنازة وهم يسرعون بها، فقال: (لتكن عليكم السكينة) . وذكر ابن المنذر أنه مذهب ابن عباس. قال الطحاوى: فلم يكن عندنا فى هذا الحديث حجة على أهل المقالة الأولى، لأنه قد يجوز أن يكون فى مشيهم ذلك عنف مجاوز ما أمروا به فى حديث أبى هريرة من السرعة، فنظرنا فى ذلك هل نجد دليلاً على شىء من ذلك، فروى زائدة، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبيه، قال: مر على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بجنازة يسرعون بها فى المشى، وهى تمخض مخض الزق، فقال: (عليكم بالقصد فى جنائزكم) . فيحتمل أن يكون أمرهم بالقصد، لأن تلك السرعة يخاف منها أن يكون من الميت فيها شىء، فنهاهم عن ذلك، وكان ما أمرهم به من السرعة فى الآثار الأول هى أفضل من هذه السرعة، فنظرنا فى ذلك أيضًا هل روى فيها شىء يدلنا على هذا المعنى، فحدثنا أبو أمية، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن يحيى الجابر، عن أبى ماجد، عن ابن مسعود، قال: سألنا نبينا، (صلى الله عليه وسلم) ، عن السير بالجنازة، فقال: (ما دون الخبب، فإن يك مؤمنًا فما عجل فخير، وإن يك كافرًا فبعدًا لأهل النار) . فأخبر رسول الله فى هذا الحديث أن السير بالجنازة هو ما دون الخبب، مثل ما أمر به من السرعة فى حديث أبى هريرة، هذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد. وهو قول جمهور العلماء. وروى عن النخعى أنه قال: انبسطوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى.(3/298)
وقال ابن حبيب: لا تمش بالجنازة الهوينا، ولكن مشى الرجل الشاب فى حاجته، وكذلك قال الشافعى: يسرع بها إسراع سجية مشى الناس. قال غيره: وقد تأول قوم فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أسرعوا بالجنازة) إنما أراد تعجيل الدفن بعد استيقان الموت، واحتجوا بحديث الحصين بن وَحْوَح: (أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه الرسول يعوده، فقال: (إنى لا أرى طلحة إلا وقد حدث به الموت، فآذنونى به وعجلوا، فإنه لا ينبغى لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهرانى أهله) . وكل ما احتمل فليس يبعد فى التأويل. وأما قول أنس: (أنتم مشيعون، فامشوا بين يديها وخلفها) اختلف فى ذلك على ثلاثة مذاهب، فقالت طائفة: يمشى أمامها وخلفها وحيث شاء. هذا قول أنس بن مالك، ومعاوية بن قرة، وسعيد بن جبير، وبه قال الثورى، قال: الفضل فى المشى أمامها وخلفها سواء. وقالت طائفة: المشى أمام الجنازة أفضل. روى ذلك عن ابن عمر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وعن أبى بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة، وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وأبى قتادة، وأبى هريرة، وإليه ذهب القاسم، وسالم، والفقهاء السبعة المدنيون، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأحمد، وقال الزهرى: المشى خلف الجنازة من خطأ السنة. واحتج أحمد بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش، وبحديث ابن عمر، وبعمل الخلفاء الراشدين المهديين. وقال ابن شهاب: ذلك عمل الخلفاء بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى هلم جرا.(3/299)
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعى: المشى خلفها أفضل. وهو قول على بن أبى طالب، واحتجوا بما رواه أبو الأحوص، عن أبى فروة الهمدانى، عن زائدة بن خراش، عن ابن أبزى، عن أبيه، قال: كنت أمشى فى جنازة فيها أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله عنهم، فكان أبو بكر، وعمر يمشيان أمامها، وكان على يمشى خلفها، فقال على: إن فضل الذى يمشى خلف الجنازة على الذى يمشى أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذى أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. قالوا: ومثل هذا لا يقال بالرأى، وإنما يقال بما وقفهم عليه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قالوا: وقد روى عن ابن عمر مثل هذا، روى أبو اليمان، حدثنا أبو بكر بن أبى مريم، عن راشد بن سعد، عن نافع، قال: خرج عبد الله بن عمر إلى جنازة فرأى معها نساء، فوقف، ثم قال: ردهن فإنهن فتنة الحى والميت، ثم مضى فمشى خلفها، قلت: يا أبا عبد الرحمن، كيف المشى فى الجنازة، أمامها أم خلفها؟ فقال: أما ترانى أمشى خلفها. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وهو الذى يروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يمشى أمامها، فدل ذلك أن رسول الله كان يفعله على جهة التخفيف على الناس، لا لأن ذلك أفضل من غيره. وقد روى مغيرة، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون السير أمام الجنازة، وتأولوا فى تقديم عمر بن الخطاب للناس فى جنازة زينب زوج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمام الجنازة أن ذلك كان من أجل النساء اللاتى كُنَّ خلفها، فكره عمر للرجال مخالطتهن، لا لأن المشى أمامها أفضل.(3/300)
وقد روى يونس، عن ابن وهب أنه سمع من يقول ذلك، قال إبراهيم: كان الأسود إذا كان فى الجنازة نساء مشى أمامها، وإذا لم يكن معها نساء مشى خلفها. قال ابن المنذر: ومن تبع الجنازة حيثما مشى منها فليكثر ذكر الموت، والفكر فى صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعد للموت وما بعده، سهل الله لنا الاستعداد للقائه برحمته. وسمع أبو قلابة صوت قاصّ، فقال: كانوا يعظمون الموت بالسكينة. وآلَى ابنُ مسعود ألا يكلم رجلا رآه يضحك فى جنازة. وقال مطرف بن عبد الله: كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه فى الجنازة له عهد عنده، فما يزيده على التسليم، ثم يُعرض عنه كأن له عليه موجدة، اشتغالاً بما هو فيه، فإذا خرج من الجنازة سَائَلَهُ عن حاله. وفى سماع أشهب: قال أسيد بن الحضير: لو كنتُ فى حالتى كلها مثلى فى ثلاث: إذا ذكرت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإذا قرأت سورة البقرة، وما شهدت جنازة قط فحدثتُ نفسى إلا بما يقولُ ويقالُ له إذا انصرف.
40 - بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإمَامِ
/ 57 - فيه: جَابِر، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى عَلَى النَّجَاشِىِّ، فَكُنْتُ فِى الصَّفِّ الثَّانِى أَوِ الثَّالِثِ. الصفوف على الجنازة من سُنَّة الصلاة عليها، وقد روى مالك بن هبيرة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من مسلم يصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب) .(3/301)
قال الطبرى: فينبغى لأهل الميت إذا لم يُخش عليه التغير أن ينتظروا اجتماع قومٍ تقوم منهم ثلاث صفوف لخبر مالك بن هبيرة. وقد روى الطبرى من حديث أبى هريرة، وعائشة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من مسلم صلى عليه مائة من المسلمين إلا شفعوا فيه) . وحديث ابن عباس، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (ما من رجل يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله) . فإن قال قائل: ما وجه اختلاف العدد فى هذه الأحاديث الواردة فيمن يصلى على الميت فيغفر له بصلاتهم؟ . قيل: وجه ذلك، والله أعلم، أنها وردت جوابًا لسؤال سائلين مختلفين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن ينطق عن الهوى، فكأن سائلا سأله من صلى عليه مائة رجل هل يشفعون فيه؟ قال: نعم، وسأله آخر: من صلى عليه أربعون رجلاً؟ فقال مثل ذلك. ولعله لو سُئل عن أقل من أربعين لقال مثل ذلك. وقد بيَّنا فى حديث مالك بن هبيرة ما يدل على أقل من أربعين، لأنه قد يمكن أن تكون الثلاث صفوف أقل من أربعين، كما يمكن أن تكون أكثر، وإنما عَيَّن المائة والأربعين فى الأحاديث المتقدمة وهو من حيز الكثرة، لأن الشفاعة كلما كثر المشفعون فيها كان أَوْكَدَ لها، ولا تخلو جماعة من المسلمين لهم هذا المقدار أن يكون فيها فاضل لا ترد شفاعته، أو يكون اجتماع هذا العدد بالضراعة إلى الله شفيعًا عنده.
41 - بَاب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ
/ 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَعَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِىَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.(3/302)
/ 59 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَصَفَّهُمْ، فَكَبّروا أَرْبَعًا. / 60 - وفيه: جَابِرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (قَدْ تُوُفِّىَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الْحَبَشِ، فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ) ، [قَالَ:] فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَيْهِ وَنَحْنُ مَعَهُ صُفُوفٌ. قال المؤلف: يحتمل أن يترجم البخارى، رحمه الله، هذا الباب والذى قبله خلافًا لعطاء، فإن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أفحق على الناس أن يسوُّوا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها فى الصلاة؟ قال: لا، لأنهم قوم يكبرون ويستغفرون. وروى حميد، عن أنس، قال: لما جاءت وفاة النجاشى للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصلى عليه، قال بعض أصحابه: صَلى عَلَى علج، فنزلت: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم) [آل عمران: 199] الآية.
42 - بَاب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ على الْجَنَازَة
/ 61 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلا، فَقَالَ: (مَتَى دُفِنَ هَذَا؟) قَالُوا: الْبَارِحَةَ، قَالَ: (أَفَلا آذَنْتُمُونِى) ؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ. قال المؤلف: فيه صلاة الصبيان مع الرجال على الجنائز، لأن ابن عباس كان حينئذ صغيرًا. وفيه من الفقه: أنه ينبغى تدريب الصبيان على جميع شرائع الإسلام، وحضورهم مع الجماعات ليستأنسوا إليها، وتكون لهم عادة إذا لزمتهم، وإذا ندبوا إلى صلاة الجنازة، ليدربوا(3/303)
عليها، وهى من فروض الكفاية على البالغين، فأحرى أن يندبوا إلى صلاة الفريضة، التى هى فرض عين على كل بالغ، وقد روى عن الرسول أنه قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرة، وقد تقدم ذلك فى كتاب الصلاة.
43 - بَاب سُنَّةِ الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الرسول: (مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ) ، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) ، وَقَالَ: (صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِىِّ) ، سَمَّاهَا صَلاةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلا سُجُودٌ، وَلا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُصَلِّى إِلا طَاهِرًا، وَلا يُصَلِّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلا غُرُوبِهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ، وَأَحَقُّهُمْ بِالصَّلاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُ لِفَرَائِضِهِمْ، وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ، يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا. وَقَالَ أَنَسٌ: التَّكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاةِ. وَقَالَ تَعالَى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) [التوبة: 84] ، وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ. / 62 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أَنّ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا، فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَمْرٍو، مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ.(3/304)
قال المؤلف: غرض البخارى الرد على الشعبى، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة، قال: لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود، والفقهاء مجمعون من السلف والخلف على خلاف قوله، فلا يلتفت إلى شذوذه. وأجمعوا أنها لا تصلى إلا إلى القبلة، ولو كانت دعاء كما زعم الشعبى لجازت إلى غير القبلة، واحتجاج البخارى فى هذا الباب يكفى بعضه، وهو أن النبى سماها صلاة، وقول السلف الذين ذكرهم فى الباب أن حكمها عندهم حكم الصلاة فى أن لا تصلى إلا بطهارة، وفيها تكبير وسلام، ولا تصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وأن الرسول أَمَّهم فيها وصلوا خلفه، كما فعل فى الصلاة، إلا أنهم اختلفوا فى صلاتها إذا خشى فوتها بالتيمم، فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور: ولا تصلى إلا بطهارة، ولا يجوز التيمم لها، وأجاز التيمم لها إذا خاف فوتها: عطاء، وسالم، والنخعى، والزهرى، وربيعة، والليث، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك. وقال ابن حبيب: الأمر فى ذلك واسع. واحتج هؤلاء بأن صلاة الجنازة لها مزية على سائر النوافل، لأنه قد اختلف فيها، فقيل: إنها فريضة على الكفاية، وقيل: إنها سُنَّة مؤكدة، فإذا خيف عليها الفوت جاز استدراك فضيلتها بالتيمم. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: أجمع أهل العلم على أن من خاف فوت الجمعة، أنه لا يجوز له التيمم مثل أن يدرك الإمام فى الركعة الثانية، فإن تيمم أدركها مع الإمام، وإن توضأ فاتته، فكلهم قال: لا يتيمم وإن فاتته الجمعة فالذى يخاف فوت الجنازة(3/305)
أولى بذلك، لأنها صلاة تفتقد إلى القبلة مع القدرة، وفيها تكبير وسلام، والتيمم طهارة ضرورية، وصلاة الجنازة لا ضرورة إليها، لأنه لا يخلو إما أن يكون وحده فيتوضأ ويصلى، أو يكون مع غيره ممن هو على وضوء، وإن كان ذلك الغير إذا صلى عليها كفى، وسقطت عن غيره، قال ابن القصار: وهذا لازم لها. واختلفوا فى رفع اليدين فى تكبير الجنازة، فقال مالك فى المدونة: لا يرفع يديه إلا فى التكبيرة الأولى، وروى مطرف وابن الماجشون مثله، وإليه ذهب الكوفيون والثورى. وروى ابن وهب عن مالك أنه يعجبه الرفع فى كل تكبيرة. وروى مثله عن ابن عمر، وسالم، وعطاء، والنخعى، ومكحول، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد وإسحاق. وذكر ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لم يكن يرى الرفع فى الأولى ولا فى غيرها، قال ابن أبى زيد: والمعروف عن ابن القاسم الرفع فى الأولى، خلاف ما ذكره عنه ابن حبيب. واختلفوا فى التسليم على الجنازة، فقال كثير من أهل العلم: يسلم واحدة، روى ذلك عن على، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبى هريرة، وأبى أمامة بن سهل، وأنس، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون: يسلم تسليمتين: واختلف قول الشافعى على القولين. وقال مالك فى (المجموعة) : ليس عليهم رَدّ السلام على الإمام، وروى عنه ابن غانم قال: يرد على الإمام من سمع كلامه. وكره أكثر العلماء الصلاة على الجنازة فى غير مواقيت الصلاة، روى ذلك عن ابن عمر أنه كان يصلى عليها بعد العصر حتى تصفر الشمس، وبعد الصبح حتى يسفر، ونحوه عن الأوزاعى، والثورى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، وكرهوا الصلاة عليها عند الطلوع،(3/306)
وعند الغروب، وعند الزوال، زادو وقتًا ثالثًا، وخالفهم الشافعى، فقال: لا بأس بالصلاة عليها أى ساعة شاء من ليل أو نهار، وقال: إنما ورد النهى فى التطوع، لا فى الواجب والمسنون من الصلوات. واحتج الكوفيون بحديث عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نصلى فيها، ونقبر فيها موتانا: عند طلوع الشمس حتى تبيض، وعند انتصاف النهار حتى تزول، وعند اصفرار الشمس حتى تغيب. وقول الحسن: (أحق الناس بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم) . فإن أهل العلم اختلفوا من أحق بالصلاة عليها الولى، أو الوالى؟ فقال أكثر أهل العلم: الوالى أحق من الولى، روى عن علقمة، والأسود، والحسن، وجماعة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. إلا أن مالكًا قال فى الوالى والقاضى: إن كانت الصلاة إليهم فهم أحق من الولى. وقال مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ: ليس ذلك إلى من إليه الصلاة من قاضٍ، أو صاحب شرطة، أو خليفة الوالى الأكبر، وإنما ذلك إلى الوالى الأكبر الذى تؤدى إليه الطاعة. وقال أبو يوسف، والشافعى: الولى أحق من الوالى. واحتج أصحاب الشافعى بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75] فهم أَوْلى من غيرهم فى كل شىء إلا أن تقوم دلالة. وحجة القول الأول ما رواه الثورى، عن أبى حازم قال: شهدت الحسين بن على قدم سعيد بن العاص يوم مات الحسن بن على، رضى الله عنهما، وقال له: تقدم، فلولا السُّنَّة ما قدمتك،(3/307)
وسعيد يومئذ أمير المدينة. وقال ابن المنذر: ليس فى هذا الباب أعلى من هذا، لأن جنازة الحسن شهدها عوام الناس من أصحاب الرسول، والمهاجرون، والأنصار، فلم يُنكرْ ذلك منهم أحد، فدل أنه كان عندهم الصواب.
44 - بَاب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِى عَلَيْكَ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا، وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ. / 63 - فيه: ابْنُ عُمَرَ أَنّه حدث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَقَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا، فَصَدَّقَتْ - يَعْنِى عَائِشَةَ - أَبَا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُهُ. اختلف العلماء فى الانصراف من الجنازة، هل يحتاج إلى أذن أم لا؟ فروى عن زيد ابن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وقتادة، وابن سيرين، وأبى قلابة أنهم كانوا ينصرفون إذا رويت الجنازة، ولا يستأذنون، وهو قول الشافعى، وجماعة من العلماء. ولمالك وأصحابه جواز الانصراف قبل الصلاة عليها، وبعدها دون إذن، سأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى. وقالت طائفة: لابد من الإذن فى ذلك، روى هذا عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأبى هريرة، والمسور بن مخرمة، والنخعى أنهم كانوا لا ينصرفون حتى يستأذنوا. وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال: لا يجب لمن شهد جنازة أن ينصرف عنها حتى يُؤذن له إلا أن يطول ذلك.(3/308)
والقول الأول أَوْلى بالصواب بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من شهد جنازة فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان) لأن قوله: (حتى تدفن) لفظ حَضّ وترغيب، لا لفظ حتم ووجوب، ألا ترى قول زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذى عليك.
45 - بَاب مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ
/ 64 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّىَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ) ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: (مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ) . قد قلنا أن الحديث يدل على أنه لا يحتاج إلى أذن فى الانصراف من الجنازة، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) أن من شهد الصلاة فله قيراط، ومن شهد الدفن فله قيراطان. فوكله (صلى الله عليه وسلم) إلى اختياره أن يرجع بقيراط من الأجر إن أحب، أو بقيراطين، فدل على تساوى حكم انصرافه بعد الصلاة وبعد الدفن فى أنه لا إذن عليه لأحد فيه، حين رد الاختيار إليه فى ذلك، هذا مفهوم الحديث. وقد أجاز مالك وبعض أصحابه لمن شيع الجنازة أن ينصرف منها قبل أن يصلى عليها، فى سماع أشهب، قال: سألت مالكًا: هل يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلى عليها؟ قال: لا بأس بذلك، إن شاء الله. وروى عنه ابن القاسم أنه لا ينصرف قبل الصلاة إلا لحاجة أو علَّة. قال ابن القاسم: وذلك واسع لحاجة أو غيرها، وليست بفريضة، يعنى: إذا بقى من يقوم بها. قال ابن حبيب: لا بأس أن يمشى الرجل مع الجنازة ما أحب، وينصرف عنها قبل أن يصلى عليها. قاله جابر بن عبد الله.(3/309)
46 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ
/ 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) النَّجَاشِىَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، اليَوْمَ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لأخِيكُمْ) . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. / 66 - وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ. قال المؤلف: المصلى موضع يُصلَّى فيه على الجنائز، وإنما ذكر المسجد فى هذه الترجمة لاتصاله بمصلى الجنائز، فلذلك ترجم له. قال ابن حبيب: إذا كان مُصلى الجنائز قريبًا من المسجد أو لاصقًا به مثل مصلى الجنائز بالمدينة، فإنه لاصق بالمسجد من ناحية السوق، فلا بأس بوضع الجنائز فى المصلى خارجًا من المسجد، وتمتد الصفوف بالناس فى المسجد كذلك. قال مالك: فلا يعجبنى أن يصلى على أحد فى المسجد. وهو قول ابن أبى ذئب، وأبى حنيفة، وأصحابه، وروى مثله عن ابن عباس. قال ابن حبيب: ولو فعل ذلك فاعل ما كان ضيقًا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سهيل بن بيضاء فى المسجد، وصلى صهيب على عمر فى المسجد، وهو قول عائشة، وقال ابن المنذر: صُلى على أبى بكر، وعمر فى المسجد، وأجاز الصلاة فى المسجد: الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وقال إسماعيل بن إسحاق: لا بأس بالصلاة على الجنازة فى المسجد إذا احتيج إلى ذلك. وحجة من لم ير الصلاة فى المسجد ما رواه ابن أبى ذئب عن صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، عن الرسول أنه قال: (من صلى على جنازة فى المسجد فلا شىء له) .(3/310)
قال الطحاوى: فلما اختلفت الآثار فى هذا الباب، احتجنا إلى كشف ذلك لنعلم المتأخر، فكان فى حديث عائشة دليل أنهم تركوا الصلاة على الجنائز فى المسجد بعد أن كانت تفعل فيه حتى ارتفع ذلك من فعلهم، وذهبت معرفته على عامتهم. وفى إنكار من أنكر ذلك على عائشة، وهم يومئذٍ أصحاب رسول الله دليل أنهم قد كانوا علموا فى ذلك خلاف ما علمت، وقال الذين احتجوا بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سهيل بن بيضاء فى المسجد: الحجة فى رسول الله، وفيه الأسوة الحسنة، ألا ترى قول عائشة: ما أسرع ما نسى الناس. وليس من نسى علمًا بحجة على من ذكره وعلمه، ولو كان قولها خطأ عندهم لما سكتوا عن تبيينه لها. وقال إسماعيل بن إسحاق: وما روى عن الرسول أنه قال: (من صلى على ميت فى المسجد فلا شىء له) ، فإسناده ضعيف لا يثبت، وقاله ابن المنذر أيضًا.
47 - بَاب مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ
وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ الآخَرُ: بَلْ يَئِسُوا، فَانْقَلَبُوا. / 67 - فيه: عَائِشَةَ، قالت: قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَساجد) . قَالَتْ: وَلَوْلا ذَلِكَ لأبْرَزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنِّى أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. قال المهلب: هذا النهى من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهالُ كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها.(3/311)
روى ابن القاسم عن مالك فى (العتبية) أنه كره المسجد على القبور، فأما مقبرة داثرة يبنى عليها مسجد يُصلى فيه فلا بأس به. فى سماع أشهب قال مالك: أول من ضرب على قبر فسطاطًا عمر، ضرب على قبر زينب بنت جحش زوج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وأوصى أبو هريرة أهله عند موته ألا يضربوا عليه فسطاطًا، وهو قول أبى سعيد الخدرى، وسعيد بن المسيب، ذكره ابن وهب فى موطئه. قال ابن حبيب: ضرب الفسطاط على قبر المرأة أجوز منه على قبر الرجل، فأُجيز وكُره، ومن كرهه فإنما كرهه من جهة السمعة، وضربته عائشة على قبر أخيها، فنزعه ابن عمر، وضربه محمد بن الحنفية على قبر ابن عباس، فأقام عليه ثلاثة أيام. ومعنى ضرب القبة على الحسن حين ضربت عليه: سكنت وصلى فيها، فصارت مسجدًا على القبر، وإنما أورد ذلك دليلاً على الكراهية لقول الصائح: (ألا هل وجدوا. .) القصة.
48 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ من نِفَاسِهَا فقام وسطها
وترجم له بَاب: (أَيْنَ يَقُومُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ) ؟ . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى الأخذ بحديث سمرة، وقالوا: هذا المقام الذى ينبغى أن يقومه المصلى على الجنازة على المرأة والرجل، روى ذلك عن النخعى، وهو قول أبى حنيفة. وخالفهم فى ذلك آخرون، وقالوا: أما المرأة فهكذا يقام عند(3/312)
وسطها، وأما الرجل فعند رأسه. روى هذا عن أبى يوسف، وأحمد بن حنبل. وروى ابن غانم، عن مالك، قال: يقوم عند وسط المرأة ولم يذكر الرجل. والحجة لأبى يوسف، وأحمد ما روى إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا هشام، حدثنا أبو غالب، قال: رأيت أنس بن مالك صلى على رجل فقام عند رأسه، وجىء بجنازة امرأة فقام عند وسطها، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول الله؟ قال: نعم. قال الطحاوى: فبين أنس فى هذا الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقوم من المرأة عند وسطها على ما فى حديث سمرة، وزاد عليه حكم الرجل فى القيام منه للصلاة عند رأسه، فهو أولى من حديث سمرة. وقال أبو يوسف: إنما يقوم من المرأة عند وسطها، لأنها مستورة بالنعش، ومن الرجل حيال صدره، لأنه إن قام وسطه وقع بصره على فرجه، ولعل ذلك أن يبدو. قال الطحاوى: وزعم زاعم أن قيام المصلى عند وسط المرأة إنما كان لعلة أنه لم تكن نعوش، فكان يقوم بحيال عجيزتها يسترها عن القوم، وذلك محال، لأن النعوش قد اتخذت فى خلافة أبى بكر، وكان أول من اتخذت له فاطمة بنت رسول الله، لأنها قالت لهم عند وفاتها: إنى امرأة ضئيلة يرانى الناس بعد وفاتى، فأحب أن يستر نعشى بالثياب. وقالت أم سليم، وأسماء بنت عميس أنهما رأتا فى أرض الحبشة النعوش، وأنها للناس مغطاة، فاتخذ لها نعش، فاتخذت فيه وبقى الناس إلى يومنا هذا على ذلك. وفى المسألة قول ثالث ذكره سحنون فى (المدونة) عن ابن مسعود، قال: يقوم عند وسط الرجل، وفى المرأة عند منكبيها. وذكر ابن المنذر عن(3/313)
الحسن، قال: لا يبالى أين قام من الرجل ومن المرأة. وبه قال ابن شعبان، وهذان القولان خلاف حديث سمرة وحديث أنس، ولا حجة لهما.
49 - بَاب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا
قَالَ حُمَيْدٌ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ. / 68 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ الرسُول نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. وجمهور الفقهاء على أن تكبير الجنازة أربع، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وزيد ابن ثابت، وابن عمر، وابن أبى أوفى، والبراء بن عازب، وأبى هريرة، وعقبة بن عامر، وهو قول عطاء، ومالك، والثورى، والكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، والشافعى. واختلف الصحابة فيها من ثلاث إلى تسع، وما سوى الأربع شذوذ لا يلتفت إليه، وقال النخعى: قبض رسول الله والناس مختلفون، فمنهم من يقول: كبر النبى أربعًا، ومنهم من يقول: خمسًا وسبعًا، فلما كان عمر جمع الصحابة، فقال: انظروا أمرًا تجتمعون عليه، فأجمع رأيهم على أربع تكبيرات، فيحتمل أن يكون ما روى عن الصحابة من خلاف فى ذلك كان قبل اجتماع الناس على أربع، وحديث النجاشى أصح ما روى فى ذلك. وقد صلى أبو بكر الصديق على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فكبر أربعًا، وصلى عمر على أبى بكر فكبر أربعًا، وصلى صهيب على عمر فكبر أربعًا، وصلى الحسن بن علىٍّ عَلَى علىٍّ فكبر أربعًا، وصلى عثمان على جنازة فكبر أربعًا، وعن ابن عباس وأبى هريرة والبراء مثله، فصار الإجماع منهم قولاً وعملاً ناسخًا لما خالفه، وصار إجماعهم(3/314)
حجة، وإن كانوا فعلوا فى عهد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خلافه لأنهم مأمونون على ما فعلوا كما هم مأمونون على ما رووا. فإن قيل: فكيف يكون ذلك ناسخًا، وقد كبر علىّ بعد ذلك أكثر من أربع تكبيرات، على سهل بن حنيف ستًا، وعلى أبى قتادة سبعًا؟ . قيل له: إن عليًا فعل ذلك لأن أهل بدر كان حكمهم فى الصلاة عليهم أن يزاد فيها من التكبير على ما يكبر على غيرهم من سائر الناس، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبى زياد، عن عبد الله بن معقل، قال: صليت مع علىّ عَلَى جنازة، فكبر عليها خمسًا، ثم التفت، فقال: إنه من أهل بدر، ثم صليت مع علىٍّ عَلَى جنائز، كل ذلك يكبر أربعًا. قال الطحاوى: فكان هذا حكم الصلاة على أهل بدر، وقد حدثنى القاسم بن جعفر، حدثنى زيد بن أخزم، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا سليمان بن بشير، قال: صليت خلف الأسود بن يزيد، وهمام بن الحارث، والنخعى، فكانوا يكبرون أربعًا أربعًا، قال همام: وجمع عمر بن الخطاب الناس على أربع إلا على أهل بدرٍ، فإنهم كانوا يكبرون عليهم خمسًا وستًا وسبعًا. قال مالك: وإن صلى خلف من يكبر الخامسة، فلا يسلم إلا بسلامه، ورواه عنه ابن الماجشون، وقاله مطرف. وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أن المأموم يقطع بعد الرابعة، وكذلك فى سماع ابن وهب، وهو قول أبى حنيفة. ولم يحفظ عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه سلم على الجنازة من طريق الرواية، وأجمع الصحابة والتابعون، وأئمة الفتوى بعده على(3/315)
السلام فيها، إلا أن الفقهاء اختلفوا هل يُسلم واحدة، أو اثنتين، وأكثر السلف والخلف على أنها تسليمة واحدة، وروى عن الشعبى أنه يُسلم تسليمتين، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. وقال الثورى: واحدة عن يمينه.
50 - بَاب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا. / 69 - وفيه: طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. واختلف العلماء فى القراءة بفاتحة الكتاب على الجنازة، فروى عن ابن مسعود، وابن الزبير، وابن عباس، وعثمان بن حبيب، وأبى أمامة بن سهل بن حنيف، أنهم كانوا يقرءون فاتحة الكتاب على ظاهر حديث ابن عباس، وهو قول مكحول والحسن البصرى، وبه قال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقالوا: ألا ترى قول ابن عباس: لتعلموا أنها سُنَّة، والصاحب إذا قال سُنَّة فإنما يريد سُنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وذكر أبو عبُيد فى (فضائل القرآن) عن مكحول، قال: أم القرآن قراءة ومسألة ودعاء. وممن كان لا يقرأ على الجنازة وينكر ذلك: عمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبى طالب، وابن عمر، وأبو هريرة، ومن التابعين: عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وسعيد ابن جبير، والشعبى، والحكم، وبه قال مالك والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، قال(3/316)
مالك: الصلاة على الجنازة إنما هو دعاء، وليس قراءة فاتحة الكتاب معمولاً بها ببلدنا. قال الطحاوى: يحتمل أن تكون قراءة من قرأ فاتحة الكتاب من الصحابة على وجه الدعاء لا على وجه التلاوة، وقالوا: إنها سُنَّة، يحتمل أن الدعاء سُنَّة، لما روى عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم أنكروا ذلك، ولما لم يقرءوا بعد التكبيرة الثانية دل أنه لا يقرأ فيما قبلها، لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد فى آخرها دل أنه لا قراءة فيها.
51 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ
/ 70 - فيه: ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مر عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّوْا خَلْفَهُ. / 71 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَسْوَدَ، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرسول بِمَوْتِهِ، فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ ذَلِكَ؟) قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (أَفَلا آذَنْتُمُونِى) ؟ فَقَالُوا: كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، فَقَالَ: (فَدُلُّونِى عَلَى قَبْرِهِ) ، فَأَتَى قَبْرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. اختلف العلماء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة، هل يصلى على قبرها؟ فروى عن علىّ، وابن مسعود، وعائشة أنه أجازوا ذلك، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بأحاديث هذا الباب وغيرها، وقالوا: لا يصلى على قبر إلا قرب ما يدفن، وأكثر ما حَدُّوا فيه شهرًا، إلا إسحاق فإنه قال: يصلى الغائب من شهر إلى ستة أشهر، والحاضر إلى ثلاثة.(3/317)
وكره قوم الصلاة على القبر، وروى عن ابن عمر أنه كان إذا انتهى إلى جنازة قد صلى عليها دعا وانصرف ولم يصل عليها، وهو قول النخعى، والحسن البصرى، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، والليث. وقال ابن القاسم: قلت لمالك: فالحديث الذى جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه صلى على قبر امرأة؟ قال: قد جاء هذا الحديث ليس عليه العمل. وقال أبو الفرج: صلاة النبى على من دُفن خاص له، لا يجوز لغيره، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إن هذه القبور مملوءة ظلمة حتى أصلى عليها) . وقال أبو حنيفة: لا يصلى على قبر مرتين إلا أن يصلى عليها غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها. وقال الطحاوى: يسقط الفرض بالصلاة الأولى إذا صلى عليها الولى، والصلاة الثانية لو فعلت لم تكن فرضًا فلا يصلى عليها، لأنهم لا يختلفون أن الولى إذا صلى عليه لم يجز له إعادة الصلاة ثانية لسقوط الفرض، وكذلك غيره من الناس إلا أن يكون الذى صلى عليها غير الولى، فلا يسقط حق الولى، لأن الولى كان إليه فعل فرض الصلاة على الميت. وما روى عن الرسول فى إعادة الصلاة، فلأنه كان إليه فعل فرض الصلاة، فلم يكن يسقطه فعل غيره، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) تَقَدَّم إليهم أن يُعلموا، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يموت منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتمونى به، فإن صلاتى عليه رحمة) . وقد ذكر ابن القصار نحو هذه الحجة سواء، واحتج أيضًا بالإجماع فى ترك الصلاة على قبر الرسول، ولو جاز ذلك لكان قبره أولى أن(3/318)
يُصلى عليه أبدًا، ثم كذلك أبو بكر وعمر، فلما لم ينقل أن أحدًا صلى عليهم، كان ذلك من أقوى الدلالة على أنه لا يجوز. واختلفوا فيمن دُفن ونُسيت الصلاة عليه، فقال أبو حنيفة ومحمد: يصلى على القبر ما بينهم وبين ثلاث. وقال ابن وهب: إذا ذكروا ذلك عند انصرافهم من دفنه، فإنه لا ينبش وليصلوا على قبره، سمعت هذا. وقاله يحيى بن يحيى، وروى موسى وعيسى، عن ابن القاسم أنه يخرج بحضرة ذلك ويصلى عليه، وإن خافوا أن يتغير. وقاله عيسى بن دينار، وروى موسى، عن ابن القاسم، قال: وكذلك إذا نسوا غسله مع الصلاة عليه. وفى المبسوط: روى ابن نافع عن مالك إذا نسيت الصلاة حتى يفرغ من دفنه لا ينشره، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له، وهو قول أشهب، وسحنون، ولم ير بالصلاة على القبر. وقوله: (يقم المسجد) يعنى يكنسه، يقال: قم فلان بيته يقمه، إذا كنسه، والقمامة: الكناسة، والمقمة المكنسة، ومن قولهم: اقتم فلان ما على الخوان، إذا أكل [. . . .] كالبيت المكنوس، والقميم يبس البقل، وقمت الشاة: رعت، والإقمام: ضرب الفحل الإبل، يقال: أقم الفحل الإبل إذا ضربها. وقال الخطابى: حديث ابن عباس يروى على وجهين: أحدهما: أن يجعل المنبوذ نعتًا للقبر ومعناه أنه قبر منبوذ عن القبور، والوجه الآخر: أن تكون الرواية على إضافة القبر إلى المنبوذ، معناه:(3/319)
أنه مرّ بقبر لقيط فصلى عليه، والمنبوذ الملقوط، وهو المزكوم أيضًا، يقال: زكمت به أمه فهو زكمة فلان.
52 - بَاب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
/ 72 - فيه: أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ فِى قَبْرِهِ، وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ) ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ وِالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ: لا أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الميت: (إنه يسمع قرع نعالهم) ، وكلامه مع الملكين يبين قوله: (وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] أنه على غير العموم. قال المهلب: ولا معارضة بين الآية والحديث، لأن كل ما نسب إلى الموتى من استماع النداء والنوح، فهى فى هذا الوقت عند الفتنة أول ما يوضع الميت فى قبره أو متى شاء الله أن يرد أرواح الموتى ردها إليهم لما شاء) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) [الأنبياء: 23] ، ثم قال بعد ذلك: لا يسمعون، كما قال تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] ،) وما أنت بمسمع من فى القبور (. وفيه: أن فتنة القبر(3/320)
حق، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتى الكلام فيه فى بابه، إن شاء الله. وأما قوله: (يسمعها من يليه) فالذى يليه هم الملائكة الذين يلون فتنته ومسألته فى قبره، والثقلان: الجن والإنس منعهم الله سماع صيحته إذا دفن فى قبره. فإن قال قائل: الجن من الثقلين، وقد منعهم الله سماع هذه الصيحة، ولم يمنعهم سماع كلام الميت إذا حمل، وقال: قدمونى قدمونى، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إن كلام الميت حين يحمل إلى قبره هو فى حكم الدنيا، وليس فيه شىء من الجزاء والعقوبة، لأن الجزاء لا يكون إلا فى الآخرة، وإنما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة، فأسمعها الله الجن، لأنه جعل فيهم قوة يثبتون بها عند سماعه، ولا يضعفون بخلاف الإنسان الذى كان يصعق لو سمعه، وصيحة الميت فى القبر عند فتنته هى عقوبة وجزاء، فدخلت فى حكم الآخرة، فمنع الله الثقلين، اللذين هما فى دار الدنيا، سماعَ عقوبته وجوابه فى الآخرة، وأسمعه سائر خلقه. وقوله: (لا دريت ولا تليت) الأصل فيه تلوت، فردوه إلى الياء ليزدوج الكلام، هذا قول ثعلب. وقال ابن السكيت: (تليت) هاهنا اتباع ولا معنى لها. وقال ابن الأنبارى: إنما قيل للجن والإنس: الثقلان، لأنهما كالثقل للأرض وعليها، والثقل بمعنى الثقيل، وجمعها: أثقال، ومجراهما مجرى قول العرب مِثْل وَمثيل، وشبه وشبيه، وكانت العرب تقول للرجل الشجاع: ثقل على الأرض، فإذا مات أو قتل: سقط ذلك عنها. قالت الخنساء ترثى أخاها: أبعد ابن عمرو من الربذة حلت بها الأرض أثقالها(3/321)
53 - بَاب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا
/ 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِى إِلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ إلَيْهِ عَيْنَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَىْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْفنهُ مِنَ الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأحْمَرِ) . قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنكر بعض أهل البدع والجهمية هذا الحديث ودفعوه، وقالوا: لا يخلو أن يكون موسى عرف ملك الموت، أو لم يعرفه، فإن كان عرفه فقد ظلمه واستخف برسول الله، ومن استخف برسول الله فهو مستخف بالله، وإن كان لم يعرفه فرواية من روى أنه كان يأتى موسى عيانًا لا معنى لها. قال الجهمى: وزعمت الحشوية أن الله لم يقاصص الملك من اللطمة وفقء العين، والله تعالى لا يظلم أحدًا. قال ابن خزيمة: وهذا اعتراض من أعمى الله بصيرته، ولم يبصره رشده، ومعنى الحديث صحيح على غير ما ظنهُ الجهمى، وذلك أن موسى (صلى الله عليه وسلم) لم يبعث الله إليه ملك الموت، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا وابتلاء، كما أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه، ولم يُرد تعالى إمضاء الفعل ولا قتل ابنه، ففداه بذبح عظيم) وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) [الصافات: 104، 105] ولو أراد قبض روح موسى حين ألهم ملك الموت لكان ما أراد، لقوله تعالى: (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [النحل: 40] .(3/322)
وكانت اللطمة مباحة عند موسى إذا رأى شخصًا فى صورة آدمى قد دخل عنده لا يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الرسول فقء عين الناظر فى دار المسلم بغير إذن، رواه بشير ابن نهيك، عن أبى هريرة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من اطلع فى دار قوم بغير إذن، ففقأ عينه فلا دية ولا قصاص) . ومحال أن يعلم موسى أنه ملك الموت ويفقأ عينه، وكذلك لا ينظره إلا بعلمه. وقد جاءت الملائكةُ خليل الله إبراهيم ولم يعرفهم فى الابتداء حتى أعلموه أنهم رسل ربهم، قال تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلامًا قال سلام (إلى) خيفة) [هود: 69، 70] ولو علم إبراهيم فى الابتداء أنهم ملائكة الله لكان من المحال أن يقدم إليهم عجلاً، لأن الملائكة لا تطعم، فلما وجس منهم خيفة، قالوا: لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط، وقد أخبر الله أن رسله جاءت لوطًا فسيئ بهم وضاق بهم ذرعًا، ومحال أن يعلم فى الابتداء أنهم رسل الله ويضيق بهم ذرعًا، أو يسيئ بهم. وقد جاء الملك إلى مريم فلم تعرفه، واستعاذت منه، ولو علمت مريم فى الابتداء أنه ملك جاء يبشرها بغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويكون نبيًا ما استعاذت منه. وقد دخل الملكان على داود فى شبه آدميين يختصمان عنده ولم يعرفهما وإنما بعثهما الله ليتعظ بدعوى أحدهما على صاحبه، ويعلم أن الذى فعله لم يكن صوابًا فتاب إلى الله وندم، قال تعالى: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا) [ص: 24] ، فكيف يُستنكر ألا يعرف موسى ملك الموت حين دخل عليه. وقد جاء جبريلُ النبى (صلى الله عليه وسلم) وسأله عن الإيمان والإسلام فى صورة لم يعرفه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولا أحد من أصحابه، فلما(3/323)
ولَّى أخبر النبى أنه جبريل، وقال: (ما أتانى فى صورة قط إلا عرفته، غير هذه المرة) . وكان يأتيه فى بعض الأوقات مرة فى صورة، ومرة فى صورة أخرى، وأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه لم ير جبريل فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين. وأما قول الجهمى: إن الله لم يقاصص ملك الموت من اللطمة، فهو دليل على جهل قائله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص. ومن أخبره أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه. وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسًا ولم يقاصص الله منه لقتله. وقيل: إذا كانت اللطمة غير مباحة يكون حكمها على كل الأحوال حكم العمد، فيه القصاص، أو تكون فى بعض الأحوال خطأ تجب فيه الدية على العاقلة، وما الدليل أن فقء عين ملك الموت كان عمدًا فيه القصاص دون أن يكون خطأ، وهل تركُ القصاص من موسى لملك الموت لو كان فقأ عين الملك عمدًا، وكان حكم الملائكة مع بنى آدم القصاص كحم الآدميين، إلا كترك القصاص من موسى لقتيله، وكترك القصاص من أحد بنى آدم لأخيه. وقد يأمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأمر على وجه الاختبار والابتلاء، لا على وجه الإمضاء لأمره، كما أمر (صلى الله عليه وسلم) بإقامة الحد على الرجل الذى زعمت المرأة أنه وطئها من غير إقرار الرجل، ولا إقامة بينة عليه، فبان للنبى فى المتعفف من الوطء، وصح عنده أن الذى رمته به المرأة كان زنا، وهذا كأمر سليمان بن داود بقطع الصبى باثنين، وإنما أراد أن يختبر من أمُّ الصبى، لأن الأم أحنى على ولدها وأشفق، فلما رضيت إحداهما بقطع الصبى، ورضيت الأخرى بدفعه(3/324)
إلى الثانية، بان عنده وظهر أن أم الصبى اختارت حياة ابنها، وكذلك بعث الله ملك الموت إلى موسى للابتلاء والاختبار. وقد أخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى لم يقبض نبيًا قط حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره، فلا يجوز أن يؤمر ملك الموت بقبض روحه قبل أن يريه مقعده من الجنة، وقبل أن يخيره، والله ولى التوفيق. ومعنى سؤال موسى أن يدنيه من الأرض المقدسة، والله أعلم، لفضل من دُفن فى الأرض المقدسة من الأنبياء والصالحين، فاستحب مجاورتهم فى الممات، كما يستحب جبرتهم فى المحيا، ولأن الفضلاء يقصدون المواضع الفاضلة، ويزورون قبورها ويدعون لأهلها. قال المهلب: إنما سأل الدنو من الأرض المقدسة ليسهل على نفسه، وتسقط عنه المشقة التى تكون على من هو بعيد منها من المشى وصعوبته عند البعث والحشر. قال غيره: ومعنى بعده منها (رمية بحجر) ليعمى قبره، لئلا يعبد قبره جهالُ أهل ملته، ويقصدونه بالتعظيم، والله أعلم، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أخبر أن اليهود تفعل ذلك بقوله: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ذلك) .
54 - بَاب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلا
/ 74 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: صَلَّى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ، قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَ يسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: (مَنْ هَذَا؟) فَقَالُوا: فُلانٌ، دُفِنَ الْبَارِحَةَ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ. قال ابن المنذر: أجاز أكثر العلماء الدفن بالليل، فممن دفن بالليل أبو بكر الصديق، دفنه عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء، ودُفنت عائشة وعثمان بن عفان بالليل أيضًا، ودفن علىُّ بن أبى طالب زوجته فاطمة ليلاً، فَرَّ بِهَا من أبى بكر أن يصلى عليها، كان بينهما شىء،(3/325)
رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار، أن حسن بن محمد أخبره بذلك، وقال: أوصته فاطمة بذلك. ورخص فى ذلك عقبة بن عامر، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وهو قول الزهرى، والثورى، والكوفيين، وابن أبى حازم، ومطرف بن عبد الله، ذكره ابن حبيب، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكان الحسن البصرى يكره الدفن بالليل، والدفنُ بالليل مباح، لأن الرسول صلى على الذى دفن بالليل، وعلى المسكينة، ولم ينكر ذلك عليهم. وذكر الطحاوى من حديث جابر، وابن عمر، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عن الدفن ليلاً، وقد يكون النهى عن ذلك ليس من طريق كراهية الدفن بالليل، أراد رسول الله أن يصلى على جميع موتى المسلمين لما لهم فى ذلك من الفضل والخير، وروى عن أبى هريرة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، دخل المقبرة فصلى على رجل بعد ما دفن، فقال: (ملئت هذه القبور نورًا بعد أن كانت مظلمة عليهم) . وقيل: إنما نهى عن ذلك لمعنى آخر رواه أشعث عن الحسن، أن قومًا كانوا يسئون أكفان موتاهم، فنهى رسول الله عن دفن الليل. وأخبر الحسن أن النهى عن الدفن ليلاً إنما كان لهذه العلة، وقد روى جابر بن عبد الله نحوًا من ذلك. روى ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبى جعفر، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: خطب بنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن فى كفن غير طائل فدفن ليلاً، فزجر أن يقبر الرجل ليلاً لكى يصلى عليه، إلا أن يضطر إلى ذلك، وقال: (إذا(3/326)
وارى أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . قال الطحاوى: فجمع فى هذا الحديث العلتين اللتين قيل إن النهى كان من أجلهما. قال الطحاوى: وقد فعل ذلك رسول الله، وروى ابن إسحاق، عن فاطمة بنت محمد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى سمعنا بصوت المساحى من آخر الليل ليلة الأربعاء. وقال عقبة بن عامر: (ثلاث ساعات كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهانا أن نصلى فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس إلى الغروب حتى تغرب) . فدل أن ما سوى هذه الأوقات بخلافها فى الصلاة على الموتى ودفنهم.
55 - بَاب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقبور
/ 75 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بالْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ، أُولَئِكِ هم شِرَارُ الْخَلْقِ) . لأنهم كانوا يعبدون تلك القبور، ولذلك نهى (صلى الله عليه وسلم) أن يتخذوا قبره مسجدًا، قطعًا للذريعة فى ذلك لئلا يعبد الجهل قبره، وقد تقدم هذا المعنى فى باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.(3/327)
56 - بَاب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ
/ 76 - فيه: أَنَس، قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: (هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟) فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: (فَانْزِلْ فِى قَبْرِهَا) ، قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: قَالَ فُلَيْحٌ أُرَاهُ يَعْنِى: الذَّنْبَ. قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يقارف الليلة) أراد الجماع، وليس كما قال فليح أنه الذنب، لأن المقارفة أيضًا عند العرب: المجامعة. قال أبو عبيد: فى حديث عائشة (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصبح جنبًا فى رمضان من قراف غير احتلام، ثم يصوم) . قال أبو عبيد: القراف هاهنا: الجماع، وكل شىء خالطته وواقعته فقد قارفته. وقد روى البخارى فى تاريخه ما يشهد لذلك، قال: حدثنا عبد الله بن محمد المسندى، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، قال: لما ماتت رقية، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة) ، فلم يدخل عثمان القبر. قال البخارى: لا أدرى ما هذا والنبى (صلى الله عليه وسلم) لم يشهد رقية، وقال الطبرى: روى أنس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما نزلت أم كلثوم بنت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى قبرها، قال: (لا ينزل فى قبرها أحد قارف الليلة) . فذكرُ رقية فيه وهم، والله أعلم. ولذلك ذكر البخارى فى هذا الباب حديث أنس، قال: (شهدنا بنت النبى. . . .) ، ولم يذكر فيه رقية، ولم يذكر حديث المسندى فى هذا، وهذا يدل على صواب قول الطبرى، والله أعلم. وذكر البخارى أن أم كلثوم كانت تحت عثمان بن عفان بعد رقية ابنة النبى (صلى الله عليه وسلم) .(3/328)
وذهب العلماء إلى أن زوج المرأة أولى بإلحادها من الأب والولد، ولا خلاف بينهم أنه يجوز للفاضل غير الولى أن يلحد المرأة إذا عدم الولى، ولما كان النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولم يجز لأحد التقدم بين يديه فى شىء لقوله تعالى: (لا تقدموا بين يدى الله ورسوله) [الحجرات: 1] لم يكن لعثمان أن يتقدم بين يدى رسول الله فى إلحاد زوجته. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (هل فيكم أحد لم يقارف أهله الليلة؟) فيحتمل أن يستدل على معناه بقوله فى حديث المسندى: (فلم يدخل عثمان القبر) ودل سكوت عثمان وتركه المشاحة فى إلحاد أهله أنه قد كان قارف تلك الليلة بعض خدمه، لأنه لو لم يقارف لقال: أنا لم أقارف فأتولى إلحاد أهلى، بل كان يحتسب خدمته فى ذلك من أزكى أعماله عند الله، وكان أولى من أبى طلحة لو ساواه فى ترك المقارفة. فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يمنعه إلحادها حين لم يمنعه حزنه بموت ابنة رسول الله، وانقطاع صهره منه، عن المقارفة تلك الليلة على طراوة حزنه وحادث مصابه لمن لا عوض منها، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببى ونسبى) . رواه عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو رافع، والمسور، كلهم عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذكرها كلها الطبرى. فعاقبه (صلى الله عليه وسلم) بأن حرمه هذه الفضيلة، وكان عثمان كثير الخدم والمال، وفيه فضل عثمان وإيثاره الصدق حتى لم يَدَّعِ تلك الليلة ترك المقارفة، وإن كان عليه بعض الغضاضة فى إلحاد غيره لزوجته.(3/329)
57 - بَاب الصَّلاةِ عَلَى الشَّهِيدِ
/ 77 - فيه: جَابِرِ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ) ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. / 78 - وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: (إِنِّى فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّى وَاللَّهِ لأنْظُرُ إِلَى حَوْضِى الآنَ، وَإِنِّى أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْضِ، وَإِنِّى وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِى، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) . وترجم لحديث جابر بَاب (دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاثَةِ فِى قَبْرٍ وَاحِدٍ) ، وباب (مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ) ، وباب (مَنْ يُقَدَّمُ فِى اللَّحْدِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال مالك: الذى سمعته من أهل العلم والسُّنَّة أن الشهداء لا يغسلون، ولا يصلى على أحد منهم، ويدفنون فى ثيابهم التى قتلوا فيها، وهو قول عطاء، والنخعى، والحكم، والليث، والشافعى، وأحمد. وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى: يصلى عليه ولا يغسل، وهو قول مكحول. وقال عكرمة: لا يغسل الشهيد، لأن الله قد طيبه، ولكن يصلى عليه. وقال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى: يغسل الشهيد ويصلى عليه، لأن كل ميت يجنب. وحجة مالك، ومن وافقه حديث جابر أنهم لم يغسلوا ولم يُصلى عليهم، وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال فى دم الشهيد: (اللون لون دم، والريح ريح المسك) . وقد روى فى الحديث: (إذا كان يوم القيامة(3/330)
وبعث الله العباد، قام الشهداء من قبورهم، ووثبوا على خيولهم مستشفعين إلى الله بذلك) . فوجب ألا تغير أحوالهم أخذًا بالسُّنة التى رواها جابر فى قتلى أُحُد. قال ابن القصار: ويوم أُحُد قتل فيه سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اللون لون دم والريح ريح مسك) نهى عن الصلاة عليه، لأنه ميت لا يغسل فوجب ألا يصلى عليه، دليله السقط الذى لم يستهل، وإذا سقط فرض الطهارة سقط فرض الصلاة، قال الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] وقال (صلى الله عليه وسلم) : (صلوا على موتاكم) . وقد نفى الله عنهم الموت، وأوجب لهم الحياة، فلا تجب الصلاة عليهم. واحتج أبو حنيفة، ومن وافقه بحديث عقبة بن عامر: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى على أهل أُحُد بعد ثمانى سنين صلاته على الميت) ، وبما روى أنه صلى على حمزة سبعين صلاة، قالوا: فلو لم تجز الصلاة على الشهداء ما صلى عليهم، روى ذلك من حديث ابن عباس، وابن الزبير، فأما حديث ابن الزبير فرواه أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبى بكر بن عياش، عن يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يوضع بين يديه يوم أُحُد عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة، ثم يرفع العشرة، وحمزة موضوع، ثم يوضع عشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة معهم، يكبر عليهم سبع تكبيرات، حتى فرغ) . وحديث ابن الزبير ذكره ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده. وقال أهل المقالة الأولى: يحتمل أن يكون حديث ابن عباس، وابن(3/331)
الزبير أنه صلى على قتلى أُحُد على من حمل فعاش، حتى تستعمل الأحاديث، ويجوز أن يكون صلى عليهم أى: دعا لهم، وعلى هذا يتأول حديث عقبة أنه دعا لهم كما يدعى للميت بالمغفرة والرحمة، لأن الصلاة من النبى لأمته هى بمعنى الدعاء لهم، ألا ترى قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) [التوبة: 103] أن المراد به الدعاء لهم. والدليل على صحة هذا التأويل حديث ابن إسحاق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أخبرنى أبو مويهبة، مولى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: قال لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع) ، فاستغفر لهم ثم انصرف، فقال لى: (إن الله قد خيرنى فى مفاتيح خزائن الأرض، والخلد فيها ثم الجنة، أو لقاء ربى، فاخترت لقاء ربى) . وأصبح رسول الله من ليلته تلك فبدأه وجعه الذى مات فيه، فكأن خروجه إلى البقيع كالمودع للأحياء والأموات، حتى نعيت إليه نفسه، فهذا تفسير حديث ابن عباس، وابن الزبير، وحديث عقبة، وأن الصلاة فيها بمعنى الدعاء والاستغفار، كما دل عليه كتاب الله. وأما صلاته على حمزة فهو خصوص له، لأنه كبر عليه سبع تكبيرت، وهم لا يقولون بأكثر من أربع، وحمزة مخصوص بإعادة الصلاة عليه لو صح ذلك، لإجماع العلماء أنه لا يجوز أن يصلى على قبر لم يصل عليه إلا بحدثان ذلك، وأكثر ما حُدَّ فى ذلك ستة أشهر.(3/332)
وقد عارض حديث ابن عباس، وابن الزبير، ما روى أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن ابن عباس، (أن النبى لم يصل على أحد من قتلى أُحُد غير حمزة) . فصار مخصوصًا بذلك، لأنه وجده فى القتلى قد جرح ومُثل به، فقال: (لولا أن تجزع عليه صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع) ، فكفنه فى نمرة إذا خمر رأسه بدت رجلاه، وإذا خمر رجليه بدا رأسه، ولم يصل على أحد غيره، وقال: (أنا شهيد عليكم اليوم) . ويشهد لهذا المعنى حديث جابر، وهذا أولى ما قيل به فى هذا الباب، لأنه أصح من الأحاديث المعارضة له، وقول سعيد بن المسيب، والحسن مخالف للآثار، فلا وجه له. واختلف الفقهاء إذا جرح فى المعركة، ثم عاش بعد ذلك، أو قتل ظلمًا بحديدة، أو غيرها فعاش، فقال مالك: يغسل ويصلى عليه. وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة: إن قتل ظلمًا فى المصر بحديدة لم يغسل، وإن قتل بغير الحديدة غسل. وحجة مالك ما رواه نافع، عن ابن عمر، أن عمر غُسل وصلى عليه، لأنه عاش بعد طعنته وكان شهيدًا. قال ابن القصار: ولم ينكر هذا أحد من الصحابة. قال: وكذلك جرح علىّ بن أبى طالب، فعاش ثم مات من ذلك، فغسل وصلى عليه، ولم ينكره أحد. قال الطبرى: وفيه من الفقه أن الموت إذا كثر فى موضع بطاعون أو غيره، أو كثر القتل فى معركة حتى تعظم المؤنة فى حفر قبر لكل رجل منهم، أن تدفن الجماعة منهم فى حفرة واحدة، كالذى فعل (صلى الله عليه وسلم) فى جمع مشركى بدر فى قليب واحد، وهم سبعون رجلاً. واختلفوا فى دفن الاثنين والثلاثة فى قبر، فكره ذلك الحسن البصرى، وأجازه غير واحد من أهل العلم، فقالوا: لا بأس أن يدفن الرجل والمرأة فى القبر الواحد، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، غير أن الشافعى وأحمد، قالوا ذلك فى موضع(3/333)
الضرورات. وحجتهم حديث جابر المتقدم، وقال: يقدم أسنهم وأكثرهم أخذًا للقرآن، ويقدم الرجل أمام المرأة. قال المهلب: وهذا خطاب للأحياء أن يتعلموا القرآن، ولا يغفلوه حين أكرم الله حملته فى حياتهم وبعد مماتهم. والفَرط: المتقدم. والنمرة: كساء من شعر أو شقة من شعر. عن الطبرى. وقال ابن السكيت: إذا نسج الصوف وجعل له هدب، فهى نمرة وبرد وشملة.
58 - باب الإذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِى الْقَبْرِ
/ 79 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى وَلا تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى، أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلا لِمُعَرِّفٍ) ، قَالَ الْعَبَّاسُ: إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: (إِلا الإذْخِرَ) . قال المؤلف: اتفق العلماء على جواز قطع الإذخر خاصة من منبته بمكة، وأن غيره من النبات محرم قطعه، وأما الحشيش فإنه الورق الساقط والعشب المنكسر، ويجوز عند العلماء استعماله، وإنما يحرم قطعه من منبته فقط. وفى هذا الحديث جواز استعمال الإذخر وما جانسه من الحشيش الطيب الرائحة فى قبور الأموات، وأهل مكة يستعملون من الإذخر دريره ويطيبون بها أكفان الموتى، ففهم البخارى أن ما كان من(3/334)
النبات فى معنى الإذخر، فهو داخل فى الإباحة، كما أن المسك وما جانسه من الطيب فى الحنوط داخل فى معنى إباحة الكافور للميت، وسيأتى معنى هذا الحديث فى آخر كتاب الحج فى أبواب أحكام الحرم، إن شاء الله تعالى.
59 - باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ
/ 80 - فيه: جَابِر، أَتَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. وَقَالَ أَبُو هَرُيرة: وَكَانَ عَلَى النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِى قَمِيصَكَ الَّذِى يَلِى جِسْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه الصلاة والسلام، أَلْبَسَ عَبْدَاللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ. / 81 - وفيه: جَابِر، لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِى أَبِى مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: مَا أُرَانِى إِلا مَقْتُولا فِى أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله، وَإِنِّى لا أَتْرُكُ بَعْدِى أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَإِنَّ عَلَىَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ(3/335)
فِى قَبْره، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِى أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. قال المهلب: فى هذا الحديث جواز إخراج الميت بعد ما يدفن إذا كان لذلك معنى، مثل أن ينسى غسله أو ما أشبه ذلك. قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى النبش عمن دفن ولم يغسل، فكلهم يجيز إخراجه وغسله، هذا قول مالك، والثورى، والشافعى، إلا أن مالكًا، قال: ما لم يتغير، فى رواية على بن زياد عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا وضع فى اللحد وغطى بالتراب، ولم يغسل، لم ينبغ لهم أن ينبشوه من قبره، وهو قول أشهب، والقول الأول أصح، بدليل حديث جابر. ولذلك اختلفوا فيمن دفن بغير صلاة، قال ابن القاسم: يخرج بحدثان ذلك ما لم يتغير حتى يغسل ويصلى عليه. وهو قول سحنون، وقال أشهب: إن ذكروا ذلك قبل أن يهال عليه التراب، أخرج وصلى عليه، وأن أهالوا عليه التراب، فليترك، وإن لم يُصل عليه، وروى ابن نافع، عن مالك فى (المسبوط) : إذا نُسيت الصلاة على الميت حتى يفرغ من دفنه، لا أرى أن ينبشوه لذلك، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له. ومن كتاب ابن سحنون: وإذا نسوا فى القبر ثوبًا، أو كساءً لرجل، فإنه ينبش ويخرج، وفى العتبية، قال سحنون: ولو ادعى رجل أن الثوب الذى على الكفن له أو كان خاتمًا أو دينارًا، فإن كان ذلك يعرف، أو أقرَّ بِهِ أهل الميت، ولم يَدَّعُوه لهم أو للميت، جعل لهم سبيل إلى إخراج الميت. وفى سماع عيسى عن ابن القاسم: إذا دفن(3/336)
فى ثوب ليس له فلينبش لإخراجه لربه، إلا بأن يطول أو يروح الميت فلا أرى لذلك سبيلاً. وفى قول جابر: (نفث عليه من ريقه) حجة على من قال: إن ريق ابن آدم ونخامته نجس، وهو قول يروى عن سلمان الفارسى، والعلماء كلهم على خلافه، والسنن وردت بردِّه، ومعاذ الله أن يكون ريق النبى نجسًا، وينفثه على وجه التبرك به، وهو صلى الله عليه عَلَّمنا النظافة والطهارة، وبه طهرنا الله من الأدناس. وجماعة الفقهاء يقولون بطهارة ريق ابن آدم ونخامته على نص هذا الحديث، وفيه أن الشهداء لا تأكل الأرض لحومهم، ويمكن أن يكون ذلك فى قتلى أُحُد خاصة، ويمكن أن يشركهم فى ذلك غيرهم ممن خصه الله بذلك من خيار خلقه، ومثل هذا الحديث ما روى مالك فى الموطأ، عن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبريهما، وهما ممن استشهد يوم أُحُد، فحفر عنهما ليُغيَّرا من مكانهما، فَوُجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يداه عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أُحُد وبين يوم حُفر عنهما ست وأربعون سنة. وروى ابن عيينة، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: لما أراد معاوية أن يُجرىَ العَيْنَ بأُحُد، نودى بالمدينة: من كان له قتيل فليأت. قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رطابًا يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع(3/337)
رجل منهم فانفطرت دمًا. وقال سفيان: بلغنى أنه حمزة ابن عبد المطلب، وهذا الوقت غير الوقت الذى أخرج فيه جابر أباه من قبره.
60 - باب الشَّقِّ وَاللَّحْدِ فِى الْقَبْرِ
وسمى اللّحْدِ، لأنه فِى ناحية ملتحدًا معتدلاً، ولو كان مستقيمًا لكان جرفًا. / 82 - فيه: جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟) فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، فَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاءِ. . . . . .) الحديث. قال عيسى بن دينار: اللحد أحب إلى العلماء، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لُحِدَ له، ونصب على لحده اللبن، ولَحَد (صلى الله عليه وسلم) لابنه إبراهيم ونصب عليه اللبن، ولحد لأبى بكر وعمر، وأوصى عمر أهله: إذا وضعتمونى فى لحدى فأفضوا بخدى إلى الأرض. وأوصى ابن عمر أن يلحد له، واستحب ذلك النخعى، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وقالوا: هذا الذى اختار الله لنبيه. وقال عيسى بن دينار: اللحد: أن يحفر له تحت الجرف فى حائط قبلة القبر. وفى سماع ابن غانم: اللحد والشق كل واسع، واللحد أحب إلىّ. وقال الشافعى: إن كانت أرضًا شديدة لُحد لهم، وإن كانت رقيقة شق لهم. وقد روى عن الرسول من حديث جرير وغيره(3/338)
أنه قال: (اللحد لنا، والشق لغيرنا) ، ولهذا الحديث، والله أعلم، كره الشق.
61 - باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِىُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ؟ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِىِّ الإسْلامُ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَقَالَ: الإسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى. / 83 - فيه: ابْن عُمَر، قال: انْطَلَقَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، عِنْدَ أُكُمِ بَنِى مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ: (تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، فَقَالَ لَهُ: (مَاذَا تَرَى؟) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (خُلِّطَ عَلَيْكَ الأمْرُ) ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ: (اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رسول الله: (إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ) . وَقَالَ سَالِمٌ، عن ابْنَ عُمَر: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ النّبِىَ، - عليه السلام -،(3/339)
وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ -[يَعْنِى فِى قَطِيفَةٍ] لَهُ - فِيهَا رَمْرَمةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ - وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ - هَذَا مُحَمَّدٌ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ) ، وَقَالَ شُعَيْبٌ: رَمْرَمَةٌ فَرَصَهُ. / 84 - وفيه: أَنَس، قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِىٌّ يَخْدُمُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) . / 85 - وفيه: ابْنَ عَبَّاس، كُنْتُ أَنَا وَأُمِّى مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّى مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى، وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلامِ، يَدَّعِى أَبَوَاهُ الإسْلام، َ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإسْلامِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّىَ عَلَيْهِ، وَلا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لا يَسْتَهِلُّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ. . . .) الحديث. قال المهلب: يُصلى على الصبى الصغير المولود فى الإسلام، لأنه(3/340)
كان على دين أبويه، وأما الصغير العجمى، فإنه يعرض عليه الإسلام، لعرض رسول الله على ابن صياد بقوله: (أتشهد أنى رسول الله) ؟ ولعرضه الإسلام على الصبى اليهودى الذى كان يخدمه. وقال ابن القاسم: إذا أسلم الصغير وقد عقل الإسلام، فله حكم المسلمين فى الصلاة عليه، ويباع على النصرانى إن ملكه، لأن مالكًا يقول: لو أسلم وقد عقل الإسلام، ثم بلغ فرجع عنه أجبر عليه. قال أشهب: وإن لم يعقله ثم أجبر الذمى على بيعه، ولا يؤخذ الصبى بإسلامه إن بلغ. وأجمع العلماء فى الطفل الحربى يُسبى ومعه أبواه أن إسلام الأب إسلام له، واختلفوا إذا أسلمت الأم، فذهب مالك إلى أنه على دين أبيه، وحجته إجماع العلماء أنه ما دام مع أبويه لم يلحقه، فحكمه حكم أبويه أبدًا حتى يبلغ، فكذلك إذا سبى لا يغير السباء حكمه حتى يبلغ، فيعبر عن نفسه، وكذلك إن مات لا يصلى عليه، وهو قول الشعبى. وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد: إسلام الأم إسلام للابن، كقول الحسن وشريح، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، ويصلى عليه إن مات عندهم. وقال سحنون: إنما يكون إسلام الأم إسلام له إذا لم يكن معه أبوه، وهو على دين أمه. قال عبد الواحد: وقول سحنون يعضده قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه) ، فشرك بينهما فى ذلك، فإذا انفراد أحدهما دخل فى معنى الحديث، وهذا معنى رواية معن عن مالك ومن وافقه. وإنما دعا النبى، - عليه السلام -، اليهودى الذى خدمه إلى الإسلام(3/341)
بحضرة أبيه، لأن الله تعالى أخذ عليه فرض التبليغ لعباده، ولا يخاف فى الله لومة لائم. واختلفوا إذا لم يكن معه أبواه، ووقع فى المقاسم دونهما، ثم مات فى ملك مشتريه، فقال مالك فى المدونة: لا يصلى عليه إلا أن يجيبه إلى الإسلام بأمر يعرف أنه عفله، وهو المشهور من مذهبه. وروى معن: إذا لم يكن معه أحد من آبائه ولم يبلغ أن يتدين أو يُدْعَى، ونوى سيده الإسلام صلى عليه، وأحكامه أحكام المسلمين فى الدفن فى مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشون، وابن دينار، وأصبغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى. واتفق جمهور العلماء على أنه لا يصلى على السقط حتى يستهل، وهو قول مالك والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وروى عن ابن عمر أنه يصلى عليه وإن لم يستهل، وهو قول أحمد وإسحاق، ذكره ابن المنذر، والصواب قول الجمهور، لأن من لم يستهل لم تصح له حياة، ولا يقال فيه أنه ولد على الفطرة، وإنما سن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الصلاة على من مات ممن تقدمت له حياة، لا من لم تصح له حياة. قال المهلب: وفى حديث ابن صياد من الفقه جواز التجسس على من يخشى منه فساد الدين والدنيا، وهذا الحديث يبين أن قوله تعالى: (ولا تجسسوا) [الحجرات: 12] ليس على العموم، وإنما المراد به عن التجسس على من لم يخش منه القدح فى الدين، ولم يضمر الغل للمسلمين، واستتر بقبائحه، فهذا الذى حاله التوبة والإنابة، وأما من خُشى منه مثل ما خُشى من ابن صياد، أو من كعب بن الأشرف وأشباههما ممن(3/342)
كان يضمر الفتك بأهل الإسلام، فجائز التجسس عليه، وإعمال الحيلة فى أمره إذا خُشى منه. وقد ترجم لحديث ابن صياد فى كتاب الجهاد باب (ما يجوز من الاحتيال والحذر على من تخشى معرته) . وفيه من الفقه: أن للإمام أو الرئيس أن يعمل نفسه فى أمور الدين ومصالح المسلمين، وإن كان له من يقوم فى ذلك مقامه. وفيه: أن للإمام أن يهتم بصغار الأمور، ويبحث عنها خشية ما يئول منها من الفساد. قال عبد الواحد: قوله: (إن يكن هو فلن تسلط عليه) ، يعنى إن يكن الدجال فلن تسلط عليه، لأنه لابد أن ينفذ فيه قدر الله. وفيه: أنه يجب التثبت فى أصل التهم، وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين، لقوله: (فإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله) ، وقيل: إن للإمام أن يصبر ويعفو إذا جُنى عليه، أو قوبل بما لا ينبغى، لقول ابن صياد للنبى: (أشهد أنك رسول الأميين) ، ولم يعاقبه. وفيه: أن للإمام والرئيس أن يكلم الكاهن، والمنجم على سبيل الاختبار لما عندهم، والعيب لما يَدَّعُونهُ، والإبطال لما ينتحلونه. وقال صاحب (العين) : الدخ، الدخان، وقوله (صلى الله عليه وسلم) لابن صياد: (اخسأ فلن تعدو قدرك) أى لن تعدو الكهانة، وإنما أنت كاهن ودجال، وقال صاحب (العين) : الزمزمة، أصوات العلوج عند الأكل، والزمزمة من الرعد ما لم يفصح.
62 - باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ
/ 86 - فيه: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لأبِى طَالِبٍ: (أى عَمِّ، قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ(3/343)
بِهَا عِنْدَ اللَّهِ) ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُم: ْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَا وَاللَّهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ. . .) . قال المهلب: إنما تنفع كلمة التوحيد لمن قالها قبل المعاينة للملائكة التى تقبض الأرواح، فحينئذ تنفعه شهادة التوحيد، وهو الذى يدل عليه كتاب الله، قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت) [النساء: 17] ، يعنى حضور ملك الموت، وهى المعاينة لقبض روحه، ولا يراهم أحد إلا عند الانتقال من الدنيا إلى دار الآخرة فَعَلِمَ ما انتقل إليه حين أدركه الغرق، بقوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) [يونس: 90] فقيل له: (الآن وقد عصيت قبل) [يونس: 91] وجاء فى التفسير أنه لما عاين ملك الموت، ومن معه من الملائكة أيقن، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل. حثا جبريل فى فمه الحمأة ليمنعه استكمال التوحيد حنقًا عليه، ويدل على ذلك قوله: (يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) [الأنعام: 158] ، أى لما رأى الآية التى جعلها الله علامة لانقطاع التوبة وقبولها، لم ينفعه ما كان قبل ذلك كما لم ينفع الإيمان بعد رؤية ملك الموت. قال المؤلف: وقد روى عن الرسول أنه قال لعمه عند الموت: (قل لا إله إلا الله، أحاج إليك بها عند الله) ، فإن قال قائل: فأى محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة؟ . فالجواب: أنه(3/344)
يحتمل وجوهًا فى التأويل: أحدها: أن يكون ظن (صلى الله عليه وسلم) أن عمه اعتقد أن من آمن فى مثل حاله لا ينفعه إيمانه، إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه (صلى الله عليه وسلم) أن من قال: لا إله إلا الله، عند موته أنه يدخل فى جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت، وصار فى حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذى قال فيه: أنا على ملة عبد المطلب عند خروج نفسه، فرجا له (صلى الله عليه وسلم) إن قال: لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله فى أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه فى تلك الحال، ويكون ذلك خاصًا لأبى طالب وحده لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى مثل هذا المعنى عن ابن عباس. قال المؤلف: ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) قد نفعه وإن كان مات على غير الإسلام، لأنه يكون أخف أهل النار عذابًا، فنفعه له لو شهد بشهادة التوحيد، وإن كان ذلك عند المعاينة، أحرى بأن يكون، ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصدق معجزاته، ولم يشك فى صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبى. وكان سائر المشركين ينظرون إلى رؤسائهم ويتبعون ما يقولون، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باءوا بإثمهم على تكذيب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرجا له (صلى الله عليه وسلم) المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به فى ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: (أحاج لك بها عند الله) لئلا(3/345)
يتردد فى الإيمان، ولا يتوقف عليه لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه فى أنه كان مضلا لغيره. وقيل: إن قوله: (أحاج لك بها عند الله) كقوله: (أشهد لك بها عند الله) لأن الشهادة المرجحة له فى طلب حقه، ولذلك ذكر البخارى هذا الحديث فى هذا الباب بلفظ (الشهادة) لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله: (أحاج لك بها عند الله) فى قصة أبى طالب فى كتاب مبعث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لاحتمالها التأويل، والله الموفق.
63 - باب الْجَرِيدِة عَلَى الْقَبْرِ
وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ على قَبْرِه جَرِيدَانِ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلامُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: رَأَيْتُنِى وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِى زَمَنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِى يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، حَتَّى يُجَاوِزَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِى خَارِجَةُ، فَأَجْلَسَنِى عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِى عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ. / 87 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِى كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: (لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا) . وترجم له باب: (عذاب القبر من الغيبة والبول) . قال المؤلف: إنما خص الجريدتين للغرز على القبر من دون سائر النبات والثمار، والله أعلم، لأنها أطول الثمار بقاءً، فتطول مدة(3/346)
التخفيف عنهما، وهى شجرة شبهها (صلى الله عليه وسلم) بالمؤمن، وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم، وإنما أوصى بريدة أن يجعل على قبره الجريدتان تأسيًا بالنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وتبركًا بفعله، ورجاء أن يخفف عنه، وقوله: (لعله أن يخفف عنهما) ف (لعل) معناها عند العرب: الترجى والطمع. ومعنى الحديث: الحض على ترك النميمة، والتحرز من البول، والإيمان بعذاب القبر، كما يرحم الله جماعة أهل السّنة، وإنما ترجم له باب (عذاب القبر من الغيبة والبول) ، وفى نص الحديث: (النميمة) فإنه استدل البخارى منه على أن تلك النميمة كان فيها شىء من الغيبة، والنميمة والغيبة محرمتان، وهما فى النهى عنهما سواء. وأما الجلوس على القبور فقد رويت أحاديث فى النهى عن القعود عليها، روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) (ينهى أن يقعد على القبور، أو يبنى أو يجصص عليها) . وعن أبى بكرة، وابن مسعود: (لأن أطأ على جمرة نار حتى تطفأ أحب إلىّ من أن أطأ على قبر) . وأخذ النخعى، ومكحول، والحسن، وابن سيرين بهذه الأحاديث، وجعلوها على العموم، وكرهوا المشى على القبور والقعود عليها، وأجاز مالك، والكوفيون الجلوس على القبور، وقالوا: إنما نهى عن القعود عليها للمذاهب، فيما نرى والله أعلم، يريد حاجة الإنسان. واحتج بعضهم بأن على بن أبى طالب كان يتوسد القبور، ويضطجع عليها، وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، أن زيد(3/347)
ابن ثابت، قال: (هلم يا ابن أختى أخبرك، إنما نهى رسول الله عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط) ، فبين زيد فى هذا الحديث الجلوس المنهى عنه فى الآثار الأول ما هو، وروى مثله عن أبى هريرة، ذكره ابن وهب فى موطئه. قال الطحاوى: فعلمنا أن المقصود بالنهى هو الجلوس للبول والغائط لا ما سواهما، وقد تقدم فى كتاب الطهارة من معنى هذا الحديث ما تعلق بالباب، وسيأتى منه أيضًا فى كتاب الأدب، إن شاء الله تعالى.
64 - باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
/ 88 - فيه: عَلِىٍّ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً) ، فَقَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ: أَفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (الآيَةَ) . قال المؤلف: فيه جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ. قال المهلب: ونَكْتُهُ (صلى الله عليه وسلم) بالمخصرة فى الأرض هو أصل ما أفتى به أهل العلم من تحريك الإصبع فى الصلاة للتشهد،(3/348)
ومعنى النكت بالمخصرة هو إشارة إلى المعانى، وتفصيل الكلام وإحضار القلب للفصول، والمعنى، والمخصرة: عصا، وهذا الحديث أصل لأهل السُّنَّة فى أن السعادة والشقاء خلق لله، بخلاف قول القدرية الذين يقولون: إن الشر ليس بخلق لله، وفيه رد على أهل الجبر، لأن المجبر لا يأتى الشئ إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى قول الرسول: (إن الله تجاوز لى عن أمتى ما استكرهوا عليه) والتيسير هو أن يأتى الإنسان الشىء وهو يحبه، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى.
65 - باب مَا جَاءَ فِى قَاتِلِ النَّفْسِ
/ 89 - فيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قال: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِا فِى نَارِ جَهَنَّمَ) . / 90 - وفيه: جُنْدَب، عن الرسول، قَالَ: (كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَدَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) . / 91 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الَّذِى يَخْنُقُ نَفْسَهُ، يَخْنُقُهَا فِى النَّارِ، وَالَّذِى يَطْعُنُهَا، يَطْعُنُهَا فِى النَّارِ) . أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه أنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويدفن فى مقابر المسلمين، ولم يكره الصلاة عليه إلا عمر بن عبد العزيز، والأوزاعى فى خاصة أنفسهما، والصواب قول الجماعة، لأن الرسول سن الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، فيصلى على جميعهم الأخيار والأشرار إلا الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة.(3/349)
قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (بدرنى عبدى بنفسه، حرمت عليه الجنة) وسائر الأحاديث، فحملها عند العلماء فى وقت دون وقت إن أراد الله أن ينفذ عليه الوعيد، لأن الله فى وعيده للمذنبين بالخيار عند أهل السُّنَّة، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، فإن عذبه فإنما يعذبه مدة ما ثم يخرجه بإيمانه إلى الجنة، ويرفع عنه الخلود والتأبيد على ما جاء فى نص القرآن وحديث الرسول، فالقرآن قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48، 116] ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من قال: لا إله إلا الله، حرمه الله على النار) ، يعنى حرم خلوده على النار. وقوله: (من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال) كاذب لا كافر، ولا يخرج بهذا القول من الإسلام إلى الدين الذى حلف به، لأنه لم يقل ما يعتقده، ولذلك استحق اسم الكذب، فوجب أن يكون كما قال كاذبًا لا كافرًا. قال غيره: ومعنى الحديث النهى عن الحلف بما حلف به من ذلك والزجر عنه، وتقدير الكلام: من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، يعنى فهو كاذب حقًا، لأنه حين حلف بذلك ظن أن إثم الكذب واسمه ساقطان عنه لاعتقاده أنه لا حرمة لما حلف به، لكن لما تعمد ترك الصدق فى يمينه، وعدل عن الحق فى ذلك، لزمه اسم الكذب، وإثم الحلف، فهو كاذب كذبتين: كاذب بإظهار تعظيم ما يعتقد خلافه، وكذب بنفيه ما يعلم إثباته أو بإثبات ما يعلم نفيه. فإن ظن ظان أن فى هذا الحديث دليل على إباحة الحلف بملة غير(3/350)
الإسلام صادقًا لاشتراطه فى الحديث أن يحلف به كاذبًا، قيل له: ليس كما توهمت، لورود نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى فى ذلك الكاذب والصادق، وفى النهى عنه، وسيتكرر هذا الحديث فى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب الأدب، ويأتى هناك من الكلام ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى.
66 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ
/ 92 - فيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ دُعِىَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَىٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: (أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ) ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: (إِنِّى خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا) ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا (إِلَى قَوْلِهِ: (وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84] ، قَالَ: فَتَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال المؤلف: فرض على جميع المؤمنين، متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين، ولا يُستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم لقوله تعالى: (ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين (إلى) الجحيم) [التوبة: 113] ، فإن قيل: إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو كافر،(3/351)
فالجواب: أن الله قد بيَّن عذره فى ذلك، فقال: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) [التوبة: 114] ، فدعا له وهو يرجو إجابته ورجوعه إلى الإيمان) فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه) [التوبة: 114] . ففى هذا من الفقه: أنه جائز أن يُدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته بالهداية ما دام حيا، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما شَمَّتَهُ أحد المنافقين واليهود قال: (يهديكم الله ويصلح بالكم) ، وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار، ويختم له بعمل أهل الجنة. وفيه: تصحيح القول بدليل الخطاب، لاستعمال الرسول له، ذلك أن إخبار الله أنه لا يغفر له ولو استغفر له سبعين مرة، يحتمل أنه لو زاد على السبعين أنه يغفر له لكن لما شهد الله أنه كافر بقوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) [التوبة: 80] دلت هذه الآية على تغليب أحد الاحتمالين، وهو أنه لا يغفر له لكفره، فلذلك أمسك (صلى الله عليه وسلم) عن الدعاء له. قال الطبرى: وفيه الإبانة عن نهى الله ورسوله عن الصلاة على المنافقين، لاعتقادهم وإن كانوا يظهرون الإسلام اعتصامًا به وحقنًا لدمائهم، فأما القيام على قبورهم فغير محرم على غير رسول الله، بل جائز لوليِّه القيام عليه لإصلاحه ودفنه، وبذلك صح الخبر عن الرسول، وعمل به أهل العلم بعده، فدل ذلك أن القيام على قبره كان مخصوصًا بتحريمه رسول الله. والدليل على صحة ذلك ما حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علىّ، قال: لما مات أبو طالب أتيت النبى، فقلت له: إن عمك(3/352)
الضال قد هلك، قال: اذهب فواره، ولا تحدثن شيئًا، فأتيته، فأمرنى أن اغتسل، ودعا لى بدعوات ما يسرنى أن لى بها حمر النعم. وروى الثورى، عن الشيبانى، عن سعيد ابن جبير، قال: مات رجل يهودى وله ابن مسلم، فذكر ذلك لابن عباس، قال: كان ينبغى له أن يمشى معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات وكله إلى شأنه، ثم قرأ: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه) [التوبة: 114] الآية. قال النخعى: توفيت أم الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، وهى نصرانية، فاتبعها أصحاب رسول الله تكرمة للحارث ولم يصلوا عليها. قال المؤلف: وفى إقدام عمر على مراجعة الرسول فى الصلاة عليه من الفقه: أن الوزير الفاضل الناصح لا حرج عليه أن يخبر سلطانه بما عنده من الرأى، وإن كان مخالفًا لرأيه، وكان عليه فيه بعض الجفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه، فإنه لا يلزمه اللوم على ما يؤديه اجتهاده إليه، ولا يتوجه إليه سوء الظن، وأن صَبْرَ السلطان على ذلك من تمام الفضل، ألا ترى سكوت النبى عن عمر، وتركه الإنكار عليه، وفى رسول الله أكبر الأسوة.
67 - باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ
/ 93 - فيه: أَنَس، مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَجَبَتْ) ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: (وَجَبَتْ) ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، ُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ) . / 94 - وفيه: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ(3/353)
لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) ، فَقُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: (وَثَلاثَةٌ) ، فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: (وَاثْنَانِ) ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ. قال أبو جعفر الداودى: معنى هذا الحديث عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق، لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق، فلا يدخلون فى معنى هذا الحديث، والمراد، والله أعلم، إذا كان الثناء بالشرِّ ممن ليس له بعدو، لأنه قد يكون للرجل الصالح العدو، فإذا مات عدوه ذَكَر عند ذلك الرجل الصالح شرًا، فلا يدخل الميت فى معنى هذا، لأن شهادته كانت لا تجوز عليه فى الدنيا، وإن كان عدلاً، للعداوة، والبشرُ غير معصومين. قال عبد الواحد: إن قال قائل: حديث أنس يعارضه قوله (صلى الله عليه وسلم) فى باب ما ينهى عنه من سب الأموات: (لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) . قيل له: حديث أنس هذا يجرى مجرى الغيبة فى الأحياء، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه. فكذلك الميت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين. وفيه وجه آخر: وهو أن حديث: (لا تسبوا الأموات) عام، وسببه ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أمسكوا عن ذى قبر) ، فيحتمل أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أباح ذكر الميت بما فيه من غالب الشر عند موته(3/354)
خاصة، ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار الميت فى قبره وجب الإمساك عنه لإفضائه إلى ما قدم كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، فسقط التعارض. فإن قيل: فلا حجة فى جواز تجريح المحدثين، لأن الضرورة دعت إلى ذلك حياطة لحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فجاز تخصيصهم للضرورة. قيل له: هو مثل الذى غلب عليه الفسق، فوجب ذكر فسقه تحذيرًا من حاله، وهو من هذا الباب، ومثله، مما لا اعتراض لك فيه، ذكره (صلى الله عليه وسلم) للذى يعمل حسنة وهو مؤمن، فبذلك غفر له، فذكره بقبيح عمله إذا كان الغالب على عمله الشرّ انتفع بخشية الله تعالى. قال المؤلف: فإن قال قائل: فإن حديث أنس مخالف لحديث عمر، لأنه لم يشترط فى الذين أثنوا على الجنازة خيرًا وشرًا عددًا من الناس لا يجزئ أقل منهم، وأحال فى ذلك (صلى الله عليه وسلم) ما يغلب على الرجل بعد موته عند جملة من الناس من ثناء الخير والشر، أنه المحكوم به له فى الآخرة، وقد جاء بيان هذا فى حديث آخر: (إن الله إذا أحب عبدًا أمر الملائكة أن تنادى فى السماء: ألا إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يجعل له القبول فى الأرض، وإذا أبغض عبدًا. . . .) كذلك فهو معنى قوله: (أنتم شهداء الله فى الأرض) لأن المحبة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحة هذا قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة منى) [طه: 39] . فإن قيل: فهذا المعنى مخالف لحديث عمر، لأنه شرط فيه أربعة شهداء، أو ثلاثة، أو اثنين، وفى الحديث الأول شرط جملة كثيرة من المؤمنين، وإن لم يحصرهم عدد. قيل: ليس كما توهمت، وإنما(3/355)
اختلف العددان لاختلاف المعنيين، وذلك أن الثناء قد يكون بالسماع المتصل على الألسنة، فاستحب فى ذلك التواتر والكثرة، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب فى ذلك أربعة شهداء، وذلك على ما يكون من الشهادة، لأن الله جعل فى الزنا أربعة شهداء، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه ثلاثة، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه اثنان، وذلك أقل ما يجزئ من الشهادة على سائر الحقوق، رحمة من الله لعباده المؤمنين، وتجاوزًا عنهم حين أجرى أموره فى الآخرة على ما أجراه فى الدنيا، وقَبِلَ شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض فى أحكام الآخرة. روى ابن وضاح، قال: حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية، قال: حدثنا الضحاك بن حُمرة، عن صالح الأملوكى، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (ما من ميت يموت فيشهد له رجلان من جيرته الأدنيين، فيقولان: اللهم لا نعلم إلا خيرًا، إلا قال الله لملائكته: أشهدكم أننى قد قبلت شهادتهم، وغفرت له ما لا يعلمون) .(3/356)
68 - باب مَا جَاءَ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ (إلى) الْهُونِ) [الأنعام: 93]
. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة: 101] ، وَقَوْلُهُ: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (إلى) أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 45] . / 95 - فيه: الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِى قَبْرِهِ أُتِىَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ () [إبراهيم: 27] . وَقَالَ شُعْبَة: نَزَلَتْ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ. / 96 - وفيه: ابْنَ عُمَر، اطَّلَعَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ، فَقَالَ: (وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) فَقِيلَ لَهُ: أتَدْعُو أَمْوَاتًا قَدْ جُيَّفُوا؟ فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لا يُجِيبُونَ) . وقَالَتْ عَائِشَة: إِنَّمَا قَالَ الرسول: (إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ) ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] . وَقد قَالَتْ عَائِشَة: أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ،(3/357)
فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ) ، فَمَا صَلَّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صَلاةً إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. / 97 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَامَ النّبِىّ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الذِّى يَفْتَتِنُ به الْمَرْءُ. / 98 - وفيه: أَنَس، قَالَ الرَسُول: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَان، ِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ له: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ. . . .) ؟ الحديث (فَيُضْرَبُ بِمَطَرِقَة مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلا الثَّقَلَيْنِ) . قال أبو بكر بن مجاهد: أجمع أهل السُّنَّة أن عذاب القبر حق، وأن الناس يُفتنون فى قبورهم بعد أن يُحيوا فيها ويُسألوا فيها، ويثبت الله من أحب تثبيته منهم. وقال أبو عثمان بن الحداد: وإنما أنكر عذاب القبر بشر المريسى والأصم وضرار، واحتجوا بقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] واحتجوا بمعارضة عائشة لابن عمر. قال القاضى أبو بكر بن الطيب وغيره: قد ورد القرآن بتصديق الأخبار الواردة فى عذاب القبر، قال تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) [غافر: 46] وقد اتفق المسلمون أنه لا غدوة ولا عشى فى الآخرة، وإنما هما فى الدنيا، فهم يعرضون مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، قال تعالى: (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر: 46] ، فإذا جاز أن يكون المكلَّف بعد موته معروضًا على النار غدوا وعشيًا، جاز أن يسمع(3/358)
الكلام ويمنع الجواب، لأن اللذة والعذاب تجىء بالإحساس، فإذا كان كذلك وجب اعتقاد رد الحياة فى تلك الأجساد، وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا، ولا يوجب حاجة إلى بلة ورطوبة، وإنما يقتضى حاجتها إلى المحل فقط، فإذا صح رد الحياة إلى أجسامهم مع ما هم عليه من نقص البنية، وتقطع الأوصال، صح أن يوجد فيهم سماع الكلام، والعجز عن رد الجواب. وقد ذكر البخارى فى غزوة بدر بعد قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم، توبيخًا ونقمة وحسرة وندمًا. وعلى تأويل قتادة فقهاء الأئمة وجماعة أهل السُّنَّة، وعلى ذلك تأوله عبد الله بن عمر، راوى الحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . قال القاضى: وليس فى قول عائشة ما يعارض قول ابن عمر، لأنه يمكن (صلى الله عليه وسلم) أن يكون قد قال فى قتلى بدر القولين جميعًا، ولم تحفظ عائشة إلا أحدهما، لأن القولين غير متنافيين، أن ما دعوا الله لا ينفى رد الحياة إلى أجسامهم، وسماعهم للنداء بعد موتهم إذا عادوا أحياء. وقال الطبرى فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) ، اختلف السلف من العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت جماعة يكثر تعدادهم بالعموم، وقالت: إن الميت يسمع كلام الأحياء، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) لأهل القليب ما قال، وقال: (ما أنتم بأسمع منهم) ، واحتجوا بأحاديث فى معنى قوله فى الميت: (إنه ليسمع قرع نعالهم) .(3/359)
ذكْرُ من قال يسمعون كلام الأحياء ويتكلمون، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن عوف، حدثنا عوف، عن جلاس، عن أبى هريرة، قال: (إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم يستخبرون الميت إذا أتاهم من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته أتزوجت أم لا؟ وحتى إن الرجل ليسأل عن الرجل، فإذا قيل له: قد مات، قالوا: هيهات ذهب، فإن لم يحسوه عندهم، قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية) . وروى ابن وهب، عن العطاف بن خالد، عن خالته، وكانت من العوابد، أنها كانت تأتى قبور الشهداء، قالت: صليت يومًا عند قبر حمزة بن عبد المطلب، فلما قمت، قلت: السلام عليكم فسمعت أذناى رد السلام يخرج من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقنى، وما فى الوادى داعٍ ولا مجيب، فاقشعرت كُلُّ شعرة منى. وعن عامر بن سعد: أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه: ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم. وقال آخرون: معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ما أنتم بأعلم أنه حق منهم، ورووا ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وذكروا قول عائشة حين أنكرت على ابن عمر، وقالت: إنما(3/360)
قال عليه السلام: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم الحق. قالوا: فخبر عائشة بين ما قلنا من تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. أنه يراد به ما أنتم بأعلم لا أنه خبر عن أنهم يسمعون أصوات بنى آدم وكلامهم، قالوا: ولو كانوا يسمعون كلام الناس وهم موتى، لم يكن لقوله: (إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] ) وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] معنى. قال الطبرى: والصواب من القول فى ذلك أن كلا الروايتين عن النبى فى ذلك صحيح لعدالة نقلتها، والواجب الإيمان بها، والإقرار بأن الله يُسمع من يشاء من خلقه بعد موتهم، ما شاء من كلام خلقه، ويُفهم ما يشاء منهم ما يشاء، ويُنعِّم من أحب منهم، ويعذب فى قبره الكافر، ومن استحق العذاب كيف أراد، على ما صحت به الأخبار عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وليس فى قوله: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] ، حجة فى دفع ما صحت به الآثار من قوله لأصحابه فى أهل القليب: (ما أنتم بأسمع منهم) ، ولا فى إنكار من أنكر ما ثبت من قوله: (إنه ليسمع قرع نعالهم) إذا كان قوله: (وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] ، و) إنك لا تسمع الموتى) [النمل: 80] محتملاً من التأويل وجهًا سوى ما تأوله من زعم أن الميت لا يسمع كلام الأحياء، وذلك أن يكون معناه: فإنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، إذ كان خالق السمع غيرك، ولكن الله هو الذى يُسمعهم.(3/361)
وذلك نظير قوله: (وما أنت بهاد العمى عن ضلاتهم) [النمل: 81] وذلك بالتوفيق والهداية بيد الله دون من سواه، فنفى عن نبيه أن يكون قادرًا أن يسمع الموتى إلا بمشيئة، كما نفى أن يكون قادرًا على هداية الضلال إلا بمشيئته، وإنما أنت نذير، فبلغ ما أُرسلت به. والثانى: أن يكون المعنى: فإنك لا تسمع الموتى إسماعًا ينتفعون به، لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار العمل إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله وبطاعته، فكذلك هؤلاء الذين كتب عليهم ربك أنهم لا يؤمنون، لا يسمعهم دعاؤك إياهم إسماعًا ينتفعون به، لأن الله قد حتم عليهم ألا يؤمنوا، كما حتم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد كونهم فى القبور عمل، لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هى دار جزاء. وكذلك قوله: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور) [فاطر: 22] الجهال، يريد أنك لا تقدر على إفهام من جعله الله جاهلاً، ولا تقدر على إسماع من جعله الله أصم عن الهدى، وفى صدر الآية ما يدل على هذا، لأنه قال: (وما يستوى الأعمى والبصير) [فاطر: 19] يعنى بالأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن) ولا الظلمات ولا النور) [فاطر: 20] يعنى بالظلمات: الكفر، والنور: الإيمان،) ولا الظل ولا الحرور) [فاطر: 21] يعنى بالظل: الجنة، وبالحرور: النار،) وما يستوى الأحياء ولا الأموات) [فاطر: 22] يعنى بالأحياء: العقلاء، وبالأموات: الجهال، ثم قال: (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور (يعنى: إنك لا تسمع الجهال الذين كأنهم(3/362)
موتى فى القبور، ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلاً للجهال شهداء بدر، فيحتج علينا بهم، أولئك أحياء كما نطق التنزيل. وقال أبو عثمان بن الحداد: وليس فى قوله تعالى: (لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر، فقال: (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] الآية، فلما كانت حياة الشهداء قبل محشرهم ليست برادة، لقوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) [الدخان: 56] ومن أنكر حياة الشهداء بعد موتهم قبل محشر الناس، وادعى أن قوله تعالى: (أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] يوم القيامة أبطل ما اقتضاه قوله: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) [آل عمران: 169] لأن الشهداء وغيرهم من جميع الناس يتوافون يوم القيامة، ويستحيل فيمن وافاه غيره أن يقال فى الذى وافاه أنه سيلحقه، ويقال فيه بأنه خلفه. قال غيره: والأخبار فى عذاب القبر صحيحة متواترة لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شىء من أمر الدين. واختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين) [التوبة: 101] ، قال الحسن، وابن جريج: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وقال مجاهد: القتل والسباء، وأما قوله: (فاليوم تجزون عذاب الهون) [الأحقاف: 20] فى الآخرة. وقال غيره: لما بعثوا وصاروا إلى النار قالت الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون، قال: الهوان.(3/363)
69 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
/ 99 - فيه: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: (يَهُودُ تُعَذَّبُ فِى قُبُورِهَا) . / 100 - وفيه: ابْنَةُ خَالِدِ أم سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. / 101 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْعُو: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) . قال المؤلف: هذه الآثار تشهد للآثار التى فى الباب قبل هذا، أن عذاب القبر حق على ما ذهب إليه أهل السُّنَّة، ألا ترى الرسول استعاذ بالله منه، وقد عصمه الله وطهره، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فينبغى لكل من علم أنه غير معصوم ولا مطهر أن يكثر التعوذ مما استعاذ منه نبيه، ففى أكرم الأكرمين أسوة. فإن قيل: فإذا أخبر الله نبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما وجه استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من شىء قد علم أنه قد أعيذ منه؟ . فالجواب: أن فى استعاذته (صلى الله عليه وسلم) من كل ما استعاذ منه إظهارًا للافتقار إلى الله، وإقرارًا بالنعم، واعترافًا بما يتجدد من شكره عليها ما يكون كفًا لها ألا ترى أنه كان يصلى حتى تتفطر قدماه فيقال له: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) . فمن عظمت عليه نعم الله وجب عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم، وخشيةُ العباد لله(3/364)
على قدر علمهم به. وفى استعاذته مما أُعيذ منه تعليم لأمته، وتنبيه لهم على الاقتداء به واتباع سُنته وامتثال طريقته، والله أعلم.
70 - باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ
/ 102 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال بعض أهل بلدنا: معنى العرض فى هذا الحديث الإخبار بأن الله موضعُ أعمالكم، والجزاء لها عند الله، وأريد بالتكرير بالغداة والعشى تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أن الأجساد بعد الموت والمساءلة هى فى الذهاب وأكل التراب لها والفناء، ولا يعرض شىء على فانٍ، فَبَانَ أن العرض الذى يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة، وذلك أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية إلى أن يصير العباد إلى الجنة أو النار. وقال القاضى ابن الطيب: اتفق المسلمون أنه لا غدو ولا عشى فى الآخرة، وإنما هو فى الدنيا، فهم معروضون بعد مماتهم على النار، وقيل: يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، فمن عرض عليه النار غدوًا وعشيًا أحرى أن يسمع الكلام. قال غيره: واستدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه فى ذلك، لأن الأحاديث بذلك أثبت من غيرها. قال الداودى: ومما يدل على حياة الروح والنفس، وأنهما لا يفنيان قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها (إلى) مسمى) [الزمر: 42] ، والإمساك لا يقع على الفانى.(3/365)
71 - باب كَلامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ
/ 103 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ: قَدِّمُونِى، قَدِّمُونِى، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن روح الميت تتكلم بعد مفارقته لجسده، وقبل دخوله فى قبره، والكلام لا يكون إلا من الروح، وقد جاءت آثار تدل على معرفة الميت من يحمله ويدخله فى قبره، وروى الطبرى، قال: حدثنا محمد بن يزيد الأدمى، حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثى، حدثنا سعيد بن عمرو بن سليمان الزرقى، قال: سمعت رجلاً اسمه معاوية، أو ابن معاوية، قال: سمعت من أبى سعيد الخدرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إن الميت ليعرف من يحمله ومن يغسله ومن يدليه فى قبره) . وحدثنا محمد بن يزيد، حدثنا محمد بن عثمان بن صفوان، حدثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: إذا مات الميت فملك قابض نفسه، فما من شىء إلا وهو يراه عند غسله، وعند حمله حتى يصل إلى قبره.(3/366)
قال عبد الواحد: إن قال قائل: كيف ترجم البخارى باب (كلام الميت على الجنازة) وأدخل حديثًا يدل أن الجنازة: الميت؟ قيل: إنما ترجم ذلك لمعرفته باللغة، قال صاحب العين: الجنَازة، بالفتح: الميت، والجنِازة، بالكسر: خشب السرير الذى يحمل عليه الميت، فإنما أراد كلام الميت على النعش، وبالله التوفيق.
72 - باب مَا قِيلَ فِى أَوْلادِ الْمُسْلِمِينَ
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ) . / 104 - وفيه: أَنَس، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاثَةٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ) . / 105 - وفيه: الْبَرَاء، قَالَ رسُول اللَّه لَمَّا تُوُفِّىَ إِبْرَاهِيمُ: (إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِى الْجَنَّةِ) . وقال بعض العلماء: الثلاثة داخلة فى حيز الكثير، وقد يصاب المؤمن فيكون فى إيمانه من القوة ما يصبر للمصيبة، ولا يصبر لتردادها عليه، فلذلك صار من تكررت عليه المصائب فَصَبَر، أوْلَى بجزيل الثواب، والولد من أجل ما يسر به الإنسان لقد يرضى أن يفديه بنفسه، هذا هو المعهود فى الناس والبهائم، فلذلك قصد رسول الله إلى أعلى المصائب والحض على الصبر عليها. وقد روى عنه أنه قال: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار) ، ومعنى الحِسْبَةِ: الصبر لما ينزل به، والاستسلام لقضاء الله عليه، فإذا طابت نفسه على الرضا عن(3/367)
الله فى فعله، استكمل جزيل الأجر، وقد جاء أنه ليس شىء من الأعمال يبلغ مبلغ الرضا عن الله فى جميع النوازل، وهذا معنى قوله: (رضى الله عنهم ورضوا عنه) [المائدة: 119] يريد رضى أعمالهم، ورضوا عنه بما أجرى عليهم من قضائه، وما أجزل لهم من عطائه. وقوله: (لم يبلغوا الحنث) يريد لم يبلغوا أن تجرى عليهم الأقلام بالأعمال، والحنث: الذنب العظيم. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أنس: (أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) ، هو دليل قاطع أن أولاد المسلمين فى الجنة، لأنه لا يجوز أن يرحم الله الآباء من أجل من ليس بمرحوم، ويشهد لصحة هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) فى ابنه إبراهيم: (إن له مرضعًا فى الجنة) ، وعلى هذا القول جمهور علماء المسلمين أن أطفال المسلمين فى الجنة إلا المجبرة، فإنهم عندهم فى المشيئة، وهو قول مجهول مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز عليهم الغلط، ولا يسوغ مخالفتهم.
73 - باب أولاد المشركين
/ 106 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سُئِلَ عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: (اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ) . / 107 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) .(3/368)
74 - بَاب
/ 108 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟) فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: (مَا شَاءَ اللَّهُ) ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ: (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟) قُلْنَا: لا، قَالَ: (لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخَذَا بِيَدِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ - قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يدخله فِى شِدْقِهِ - حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ، أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، وَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَوا أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ - قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ: وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ - رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ(3/369)
كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِى فِى الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلانِى دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِى مِنْهَا، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِى اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِى عَمَّا رَأَيْتُ، قَالا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بما فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِى الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِى أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلادُ النَّاسِ، وَالَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأولَى الَّتِى دَخَلْتَها دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَإِذَا فَوْقِى مِثْلُ السَّحَابِ، قَالا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِى أَدْخُلْ مَنْزِلِى، قَالا: إِنَّهُ بَقِىَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ) . قال بعض العلماء: جهل قوم معنى الفطرة فى هذا الحديث، وقالوا: إنها الإسلام، فتأولوا فى قوله: (فطرت الله التى فطر الناس عليها) [الروم: 30] يعنى دين الإسلام، روى هذا عن أبى هريرة وعكرمة، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، والزهرى، وقال جماعة من العلماء وأهل اللغة: الفطرة فى هذا الحديث: الخلقة التى خلق عليها المولود المضطرة إلى الإفداء يريد كأنه قال - عليه السلام -: كل(3/370)
مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التى لا تصل بخلقتها إلى معرفة، واحتجوا على أن الفطرة: الخلقة بقوله تعالى: (فاطر السموات والأرض) [الأنعام: 14] يعنى خالقهن، وبقوله: (وما لى لا أعبد الذى فطرنى) [يس: 22] أى خلقنى، وقال: المراد بقوله: (فطرت الله التى فطر الناس عليها) [الروم: 30] الخلقة، بدليل قوله: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] يعنى لا تبديل لخلقته عما خلقه عليه. وقد ثبت عن الرسول قال: (لما خلق الله آدم مسح ظهره بيمينه، وكلتا يديه يمين، ثم قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح الأخرى، وقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون) ، فلما صح عندنا هذا الحديث مع تصديق الله له بقوله: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم (إلى) بلى) [الأعراف: 172] علمنا أن أخذه لهم من ظهر آدم إنما كان للإشهاد عليهم، وكان هذا الأخذ هو الاختراع الأول فى إخراجهم من العدم إلى الوجود، ثم ردهم فى ظهور آبائهم على ما جاء فى الخبر. فبان أن هذه الفطرة هى الخلقة الأولى التى فطر الناس عليها لا تبديل لها، وقد جاء فى الأخبار أنه حين أشهدهم على أنفسهم أو جميعهم على أنفسهم بالعبودية ولله تعالى بالربوبية، لكنه كان إقرار أصحاب اليمين بألسنتهم، وقلوبهم ليتم علم الله بهم، ومراده فيهم، وإقرار الآخرين بألسنتهم دون قلوبهم خذلانًا من الله ليتم مراده، وعلمه فيهم أنهم من أهل النار. فإذا صاروا فى بطون أمهاتهم ظهر فيهم بعض علم الله السابق(3/371)
فيسأل الملكُ الله عن خلقه: الأنثى والذكر، والسعادة والشقاوة، والرزق والأجل، فيكتب ذلك فى بطن أمه، فبان أن الفطرة التى يولد عليها هى الخلقة الأولى التى سبقت له، التى لا يجوز تبديلها، فإن كان فى الفطرة الأولى مؤمنًا ولد مؤمنًا، وإن كان فيها كافرًا ولد كافرًا على ما سبق له فى علم الله، يصدق ذلك قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] لكن لا يظهر عليه شىء من ذلك فى حال ولادته، وإنما يظهر عليه إذا ظهر عمله بالقول والجوارح. فإن قيل: فما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه. . .) الحديث، فينبغى أن يكون سالمًا من اليهودية، أو النصرانية حين تلده أمه، ألا ترى قوله: (كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء، هل ترى فيها جدعاء) . قيل له: فى قوله: (كل مولود يولد على الفطرة) بيان أن الفطرة الإيمان العام، وإنما فيه أنه يولد على تلك الخلقة التى لم يظهر منها إيمان ولا كفر، لكن لما حملهم آباؤهم على دينهم ظهر منهم ما حملوهم عليه من يهودية أو نصرانية، ثم أراد الله إمضاء ما علمه وقدره فى كل واحد منهم بما أجرى له فى بُدِّ الأمر من كفر، أو إيمان، ختم لهم به. يدل على ذلك حديث ابن مسعود أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب الأول فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) . وقال فى أهل النار مثل ذلك. فبان أن الكتاب الأول هو المعمول عليه الذى لا يجوز تبديله، ولو كانت الفطرة: الإسلام لما جاز أن يكون أحدٌ كافرًا لقوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30] لأنه لا يجوز أن يكفر من خلقه الله للإيمان.(3/372)
وقد اختلف العلماء فى أطفال المشركين، فقال أكثرهم: هم فى المشيئة، وتأولوا فى قوله تعالى: (إلا أصحاب اليمين) [المدثر: 39] ، قال: هم أطفال المؤمنين، وقيل: هم أصحاب الملائكة، وقال آخرون: حكم الأطفال حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة، وهم مؤمنون بإيمانهم، وكافرون بكفرهم، واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى أطفال المشركين يصابون فى الحرب: (هم من آبائهم) . وقال آخرون: أولاد الكفار يمتحنون فى الآخرة. وقال آخرون: أولاد المشركين فى الجنة مع أولاد المسلمين، واحتجوا بحديث سمرة ابن جندب، ذكره البخارى فى كتاب التعبير: (وأما الرجل الطويل الذى فى الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال بعض المسلمين: يا رسول الله، فأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين) . وهذه الحجة قاطعة، وهذه الرواية يفسرها ما جاء فى حديث هذا الباب أن الشيخ إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس، لأن هذا اللفظ يقتضى عمومه لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وهذا القول أصح ما فى هذا الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار. فإن قيل: فإذا صح هذا القول فى أطفال المشركين، فما معنى قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين؟) وهذا يعارض حديث سمرة الذى بيَّن فيه حكمهم، أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين. قيل: هذا يحتمل وجوهًا من التأويل: أحدها: أن يكون قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ، قيل: أن يعلمه الله أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما ينطق عن الوحى. ويحتمل قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) أى على أى دين(3/373)
كان يميتهم لو عاشوا فبلغوا العمل، فأما إذ عدم منهم العمل، فهم فى رحمة الله التى ينالها من لا ذنب له. وقيل: قوله: (الله أعلم بما كانوا عاملين) مجمل يفسره قوله: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم) [الأعراف: 172] الآية، فهذا إقرار عام يدخل فيه أولاد المشركين والمسلمين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث ممن أقر الإقرار أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدم لا يقضى له بغيره، لأنه لم يدخل عليه ما ينقضه إلى أن يبلغ الحنث، فسقطت المعارضة بين الآثار، فهذه الوجوه المحتملة. وأما من قال: حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 164] وإنما حكم لهم بحكمهم فى الدنيا لا فى أحكام الآخرة، أى أنهم إن أصيبوا فى التبييت والغارة لا قود فيهم ولا دية، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان فى الحرب. وأما من قال: إنهم يمتحنون فى الآخرة، فهو قول لا يصح، لأن الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، والآخرة دار جزاء ليست دار عمل وابتلاء. وقوله: (كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء) مجتمعة الخلق صحيحة (هل تحس فيها من جدعاء) يقول: هل ترى فيها من جدع؟ أى نقصان حين تنتج، وإنما يصيبها الجدع والنقصان بعد ذلك، فكذلك يُهودُ هؤلاء أبناءهم وينصرونهم بعد أن كانوا على الفطرة كما أن المنتوج من الإبل لولا أن هؤلاء قطعوا أذنه لكان صحيحًا، وذلك كله بقدر الله. وقوله: (بيده كلوب) والكلاب: خشبة فى رأسها عُقَّافَة،(3/374)
وقوله: (تدهده) يقال: دهدهت الحجر، ودهديته إذا دحرجته، أدهدهه وأدهديه دهدهة ودهاهًا ودهدًا.
75 - باب مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ
/ 109 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصديق، فَقَالَ: فِى كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، فَقَالَ لَهَا: فِى أَىِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ؟ قَالَتْ: يَوْمَ الاثْنَيْنِ، قَالَ: فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: يَوْمُ الإثْنَيْنِ، قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ اللَّيْلِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبِى هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَفِّنُونِى فِيهما، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا خَلَقٌ، قَالَ: إِنَّ الْحَىَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ، فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ. قال المؤلف: إنما سأل أبو بكر الصديق ابنته عن أى يوم توفى فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طمعًا أن يوافق ذلك اليوم تبركًا به، وقديمًا أحب الناس التبرك بأثواب الصالحين، وموافقتهم فى المحيا والممات، رغبة فى الخير، وحرصًا عليه، كفعل ابن عمر فى كثير من حركات النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وآثاره التى ليست بسنن، فكان يقف فى الموضع الذى وقف النبى ويدور بناقته فى المكان الذى أدار فيه النبى ناقته، وهذا كله وإن لم يوجب فضلاً، فإن ابن عمر إنما فعل ذلك محبة فى النبى، ومحافظة على اقتفاء آثاره، ومن اقتدى به (صلى الله عليه وسلم) فيما لا يلزم من حركاته كان أحرص على الاقتداء به فيما يلزم اتباعه فيه. وقد اتفق أهل السُّنَّة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولد يوم الاثنين،(3/375)
وأنزل عليه يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس، وذكر مالك فى الموطأ، عن أبى هريرة، أنه قال: (تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين: يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدًا كانت بينه وبين أخيه شحناء) ، فهذه فضيلة يوم الاثنين والخميس. وقد روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيمن مات يوم الجمعة فضيلة، ذكرها ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا أحمد بن الفرج الحمصى، قال: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا معاوية ابن سعيد، عن أبى قبيل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يقول: (من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتان القبر) . وروى ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبى عثمان الوليد بن الوليد، أن أبا عبيدة بن عقبة، قال: (من مات يوم الجمعة أمن فتنة القبر) ، وقال: إنى ذكرته للقاسم بن محمد، فقال: صدق أبو عبيدة. وقوله: (ردع من زعفران) أى لطخ، قال أبو على: يقال: بدا من الزعفران ردعه أى ملتطخه. قال أبو عبيدة: وقوله: (الحى أحوج إلى الجديد) خلاف قول من يقول: يتزاورون فى أكفانهم، فيجب تحسينها، ألا تراه يقول: (فإنما هو للمهلة) ويشهد لذلك قول حذيفة حين أتى بكفنه ريطتين، فقال: لا تغالوا بكفنى، الحى أحوج إلى الجديد من الميت، أى لا ألبث إلا يسيرًا حتى أبدل منهما(3/376)
خيرًا منهما، أو شرًا منهما، ومنه قول ابن الحنفية: ليس للميت من الكفن شىء، وإنما هو تكرمة للحى. وأما من خالف هذا ورأى تحسين الأكفان، فروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة. وعن معاذ بن جبل مثله، وأوصى ابن مسعود أن يكفن فى حلة بمائتى درهم. وروى روح، عن زكريا بن إسحاق، قال: حدثنا أبو الزبير، عن جابر، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه) . قال ابن المنذر: وبحديث جابر قال الحسن وابن سيرين، وكان إسحاق يقول: يغالى بالكفن إذا كان موسرًا، وإن كان فقيرًا فلا يغال به. وقوله: (إنما هو للمهلة) قال أبو عبيد: المهل فى هذا الحديث: الصديد والقيح، والمهل فى غير هذا: كل فلز أذيب كالذهب والفضة والنحاس. وقال أبو عمرو: المهل فى حديث أبى بكر الصديق: القيح، وفى غيره: دُرْدِىّ الزيت. وقال الأصمعى: حدثنى رجل، وكان فصيحًا، أن أبا بكر قال: إنما هو للمهلة والتراب. وقال بعضهم: بكسر الميم يقال للمهلة. وقال ابن دريد: فى هذا الحديث: (إنما هو للمهلة) قال: المهلة: صديد الميت، زعموا، والمهلة: ضرب من القطران، والمهلة: ما سلخت من الحرة من رماد أو غيره.(3/377)
76 - باب مَوْتِ الْفَجْأَةِ بَغْتَةِ
/ 110 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ) . قال المؤلف: الافتلات عند العرب: المباغتة، يقول: ماتت بغتة، وإنما هو مأخوذ من الفلتة. وروى وكيع عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله عن موت الفجأة، قال: (راحة على المؤمن، وأسف على الفاجر) والأسف: الغضب، ويحتمل أن يكون ذلك، والله أعلم، لما فى موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الإعداد للمعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة. وقد روى من حديث يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك، قال: كنا نمشى مع الرسول فجاء رجل، فقال: يا رسول الله، مات فلان، فقال: (أليس كان معنا آنفًا) ؟ قالوا: بلى، قال: (سبحان الله، كأنه أخذه على غصب، المحروم من حرم وصيته) . ذكر هذين الحديثين ابن أبى الدنيا، قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن كعب الأزدى، قال: حدثنا ابن كريز، عن أنس بن مالك، قال: من أشراط الساعة حفز الموت، قيل: يا أبا حمزة، ما حفز الموت؟ قال: موت الفجأة. وقوله: (فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) هو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ينقطع عمل ابن آدم بعد موته إلا من ثلاث: صدقة تجرى بعده، أو علم علمه يعمل به، أو ابن صالح يدعو له) .(3/378)
77 - باب مَا جَاءَ فِى قَبْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ / 111 - فيه: عَائِشَةَ، أَنْ الرَسُول كَانَ يتفقد فِى مَرَضِهِ: (أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا) ، اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِى قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى، وَدُفِنَ فِى بَيْتِى. وَقَالَتْ عَائِشَة: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَرَضِهِ الَّذِى توفى فيه: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَوْلا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِىَأَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا) . وَقَالَ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُسَنَّمًا. وَقَالَ عُرْوَةَ: لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِى زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِى بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: لا وَاللَّهِ مَا هِىَ قَدَمُ النَّبِىُّ مَا هِىَ إِلا قَدَمُ عُمَرَ. وأوصت عَائِشَةَ ابْن الزُّبَيْر: لا تَدْفِنِّى مَعَهُمْ، وَادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى بِالْبَقِيعِ، لا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا. / 112 - وفيه: عُمَر، أنه قَالَ لابنه عَبْدَ اللَّه: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِى فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِى، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا كَانَ شَىْءٌ أَهَمَّ إِلَىَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ، فَاحْمِلُونِى، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِى فَادْفِنُونِى، وَإِلا فَرُدُّونِى إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِى، فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ(3/379)
الْمُؤْمِنِينَ، بِبُشْرَى اللَّهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِى الإسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، فَقَالَ: لَيْتَنِى يَا ابْنَ أَخِى، وَذَلِكَ كَفَافًا لا عَلَىَّ وَلا لِى، أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِى بِالْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا: (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ (أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الحديث، والله أعلم، أن يبين فضل أبى بكر وعمر بما لا يشركهما فيه أحد، وذلك أنهما كانا وزيرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حياته، وعادا ضجيعيه بعد مماته، فضيلة خصهما الله بها، وكرامة حباهما بها، لم تحصل لأحد، ألا ترى وصية عائشة إلى ابن الزبير أن لا يدفنها معهم خشية أن تزكى بذلك، وهذا من تواضعها وإقرارها بالحق لأهله وإيثارها به على نفسها من هو أفضل منها، ولم تر أن تُزَكَّى بدفنها مع الرسول، ورأت عمر بن الخطاب لذلك أهلاً. وإنما استأذنها عمر فى ذلك ورغب إليها فيه، لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها لذلك، فآثرت به عمر، وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلتها على ما فعلت حين رأت ثلاثة أقمار سقطن فى حجرها، فقصتها على أبى بكر الصديق، فلما توفى رسول الله، ودفن فى بيتها قال أبو بكر: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها. فيه من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصالحين فى القبور طمعًا أن تنزل عليهم رحمة فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم فى قبورهم من الصالحين.(3/380)
وقول عمر: (فإذا قبضت فاحملونى، ثم قل: يستأذن عمر) ، ففبه من الفقه: أن من وُعِدَ أنه يجوز له الرجوع فيها، ولا يقضى عليه بالوفاء بها، لأن عمر لو علم أنه لا يجوز لعائشة الرجوع فى عدتها، لما قال ذلك، وسيأتى فى كتاب الهبة ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، واختلاف الناس فيها، إن شاء الله. وفيه من الفقه: أنه من بعث رسولاً فى حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، وقبل إيراده الرسالة عليه، ولا يُعدُّ ذلك من قلة الصبر، ولا يُذُّم فاعله بل هو من الحرص على الخير، لقوله لابنه وهو مُقبلٌ: ما لديك. وفيه: أن الخليفة مباح له أن لا يستخلف على المسلمين غيره، لأن رسول الله لم يستخلف أحدًا، وأن للإمام أن يترك الأمر شورى بين الأمة إذا علم أن فى الناس بعده من يحسن الاختيار للأمة. وفيه: إنصاف عمر وإقراره بفضل أصحابه. وفيه: أن المدح فى الوجه بالحق لا يُذم المادح به، لأن عمر لم ينه الأنصارى حين ذكر فضائله، فبان بهذا أن المدح فى الوجه المنهى عنه إنما هو المدح بالباطل. وفيه: أن الرجل الفاضل ينبغى له أن يخاف على نفسه ولا يثق بعمله، ويكون الغالب عليه الخشية، ويصغر نفسه، لقوله: ليتنى تخلصت من ذلك كفافًا، وقد سئلت عائشة عن قول الله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) [المؤمنون: 60] ، فقالت: نعم، الذين يعملون الأعمال الصالحة ويخافون ألا تتقبل منهم، وعلى هذا مضى خيار السلف، كانوا من عبادة ربهم فى الغاية القصوى، ويعدُّون(3/381)
أنفسهم فى الغاية السفلى خوفًا على أنفسهم، ويستقلون لربهم ما يستكثره أهل الاغترار. فقد ثبت عن عمر أنه تناول تبنة من الأرض، فقال: يا ليتنى هذه التبنة، يا ليتنى لم أك شيئًا، يا ليت أمى لم تلدنى، يا ليتنى كنت نسيًا منسيًا، وقال: لو كانت لى الدنيا لافتديت بها من النار ولم أرها. وقال قتادة: قال أبو بكر الصديق: وددت أنى كنت خضرة تأكلنى الدواب. وقالت عائشة عند موتها: وددت أنى كنت نسيًا منسيًا. وقال أبو عبيدة: وددت أنى كبش يذبحنى أهلى يأكلون لحمى ويحسون مرقى. وقال عمران بن حصين: وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف. ذكر ذلك كله الطبرى، وسيأتى فى كتاب الزهد والرقائق، باب (الخوف من الله) زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله. وفيه: أن الرجل الفاضل والعالم ينبغى له نصح الخليفة، وأن يوصيه بالعدل وحسن السيرة فيمن ولاه الله رقابهم من الأمة، وأن يحضه على مراعاة أمور المسلمين وتفقد أحوالهم، وأن يعرف الحق لأهله. وفيه من الفقه: أن الرجل الفاضل ينبغى أن [. . . . . .] . وفى استبطاء النبى (صلى الله عليه وسلم) يوم عائشة من الفقه: أنه يجوز للرجل الفاضل الميل بالمحبة إلى بعض أهله أكثر من بعض، وأنه لا إثم عليه فى ذلك إذا عدل بينهن فى القسمة والنفقة. وقول سفيان: أنه رأى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم) مسنمًا، فقد روى ذلك عن غيره. قال الطحاوى: وقد قال إبراهيم النخعى: أخبرنى من رأى قبر النبى (صلى الله عليه وسلم)(3/382)
وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض. وقال الليث: حدثنى يزيد بن أبى حبيب أنه يستحب أن يسنم القبر، ولا يرفع، ولا يكون عليه تراب كثير. وهو قول الكوفيين والثورى أن القبور تسنم، وإن رفع فلا بأس. وقال ابن حبيب مثله. وقال طاوس: كان يعجبهم أن يرفع القبر شيئًا حتى يعلم أنه قبر. وقال الشافعى: تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، تكون على وجه الأرض نحوًا من شبر، قال: وبلغنا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) سطح قبر ابنه إبراهيم، وأن مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحة قبورهم. وقال أبو مجلز: تسوية القبور من السُّنة. واحتج أيضًا بحديث القاسم بن محمد، وأنه رأى قبر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصاحبيه لاطية بالأرض مسطوحة بالبطحاء، وقد بَيَّنَت عائشة العِلَّة فى البناء على قبره وتحظيره وذلك خشية أن يتخذ مسجدًا.
78 - باب مَا يُنْهَى عنه مِنْ سَبِّ الأمْوَاتِ
/ 113 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) . قال المؤلف: هذا الحديث مثل قول عائشة: كفوا عن ذى قبر. قال بعض العلماء: معناه من أهل الإيمان، وقد ذكرت عائشة فى هذا الحديث علة الإمساك عن ذى قبر، وهو قولها: فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا، يعنى إلى ما عملوه من حسن أو قبيح، وقد أحصاه الله ونسوه، وقد ختم الله لأهل المعاصى من المؤمنين بخاتمة حسنة تخفى عن الناس، فمن سبهم فقد أثم، وقد جاء أنه لا يجب القطع على أحد بجنة ولا نار، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) فى الميت الذى شهد له(3/383)
بالجنة: (والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى) . فلهذا وجب الإمساك عن الموتى، والله أعلم. قال عبد الواحد: إن قيل: قد ذكر الله عز وجل، فلتات خطايا الأنبياء فى كتابه وهم أموات، وجعلها قراءة تتلى. قيل: لا معارضة لك بذلك؛ لأن الله تعالى إنما ذكر خطاياهم موعظة لخلقه، ليرى المذنبين أنه قد عاتب أنبياءه وأصفياءه على الفلتة من الذنوب، ليحذر الناس المعاصى وليعلموا أنهم أحق بالعقاب من الأنبياء ليزدجروا، وأيضًا فإن لوم تلك الذنوب قد سقط عن الأنبياء بإعلام الله لنا فى كتابه بتوبتهم منها، وغفرانه إياها لهم، وأيضًا فإنه تعالى جعل عقابهم على تلك الفلتات فى الدنيا رحمة لهم، ليلقوه مطهرين من تلك الذنوب، وموتانا بخلاف ذلك لا نعلم ما أفضوا إليه، فلذلك نهينا عن ذكرهم بذنوبهم، وقد تقدم فى باب (ثناء الناس على الميت) إشباع القول فيمن يجب ذكره بذنبه، ومن يجب الإمساك عنه، وبالله التوفيق.
79 - باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى
/ 114 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ أَبُو لَهَبٍ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَنَزَلَتْ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد: 1] . قال المؤلف: ذكر شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز، لأنهم لا شك أنه مقطوع عليهم بالخلود فى النار، فذكر شرارهم أيسر من حالهم التى صاروا إليها، مع أن فى الإعلان بقبيح أفعالهم مقبحًا(3/384)
لأحوالهم وذمًا لهم، لينتهى الأحياء عن مثل أفعالهم ويحذروها، جَنَّبنا الله أفعال الكفار، وأجارنا من النار. قال عبد الواحد: عجبًا من البخارى فى تخريجه لهذا الحديث فى هذا الباب، وإن كان تبويبه له يدل على أنه أراد به العموم فى شرار المؤمنين والكافرين، وأظنه نسى الحديث الذى أورده فى باب (ثناء الناس على الميت) فكان أولى بهذا، وهو حديث أنس: (أنهم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: وجبت. . . .) الحديث، فترك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهيهم عن ثناء الشر، ثم أخبر أنه بذلك الثناء الشر وجبت له النار، وقال: (أنتم شهداء الله فى الأرض) ، فدل ذلك أن للناس أن يذكروا الميت بما فيه من شر إذا كان شره مشهورًا، وكان مما لا غيبة فيه لشهرة شره، وقد تقدم فى باب (ثناء الناس على الميت) الكلام فى الجمع بين هذا الحديث وبين قوله: (لا تسبوا الأموات) ، وبالله التوفيق. وقال صاحب (العين) : تب الإنسان: ضعف وخسر، قال الراجز: أحسن بها من صفقة لم تستقل تبت يدا صافقها ماذا فعل وتب: هلك، وفى القرآن: (وما كيد الكافرين إلا فى تباب) [غافر: 37] ، وتَبَّ الإنسان: شاخ.(3/385)
صفحة فارغة(3/386)
الجزء الثاني من كتاب شرح البخاري تأليف الشيخ الإمام العالم الفاضل أبي الحسن علي ابن خلف بن عبد الملك بن بطال يعرف بابن اللحام من أهل قرطبة رضي الله عنه(3/387)
صفحة فارغة(3/388)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَبِهِ تَوْفِيِقى وَعَلَيهِ أَتَوكْل
- كِتَاب الزَّكَاةِ
- وُجُوبِ الزَّكَاةِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43] . وقال ابن عباس: حدثنى أبو سفيان بن حرب فذكر حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يأمر بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف) . / 1 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (ادْعُوهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ) . / 2 - وفيه: أَبِو أَيُّوبَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَخْبِرْنِى بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِى(3/389)
الْجَنَّةَ؟ قَالَ: (مَا لَهُ، مَا لَهُ) ، وَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَبٌ مَا لَهُ، تَعْبُدُ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ) . / 3 - وفيه: أَبِو هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: (تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ) ، قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) . / 4 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالُوا: مُرْنَا بِشَىْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ: (آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الإيمَانِ بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. . .) الحديث. / 5 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ؟) فَقَالَ: وَاللَّهِ لأقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رأيت أن الله قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.(3/390)
قال المؤلف: فرض الله تعالى الزكاة، بقوله: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [البقرة: 43] وهذه الآية تشهد لصحة هذه الأحاديث. والزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، قال عليه الصلاة والسلام: (بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) فهذه دعائم الإسلام وقواعده، لا يتم إسلام من جحد واحدة منها ألا ترى فهم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، لهذا المعنى وقوله: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال) وأجمع العلماء على أن مانع الزكاة تؤخذ من ماله قهرًا، وإن نصب الحرب دونها قوتل اقتداءً بأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى أهل الردة. وكانت الردة على ثلاثة أنواع: قوم كفروا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، وقوم آمنوا بمسيلمة وهم أهل اليمامة، وطائفة منعوا الزكاة وقالوا: ما رجعنا عن ديننا، ولكن شححنا على أموالنا، فرأى أبو بكر، رضى الله عنه، قتال الجميع، ووافقه على ذلك جميع الصحابة بعد أن خالفه عمر فى ذلك، ثم بان له صواب قوله، فرجع إليه، فسبى أبو بكر، رضى اله عنه، نساءهم، وأموالهم اجتهادًا منه، فلما ولى عمر، رضى الله عنه، بعده، رأى أن يرد ذراريهم ونساءهم إلى(3/391)
عشائرهم، وفداهم، وأطلق سبيلهم، وذلك أيضًا بمحضر الصحابة من غير نكير، والذى رد منهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعذر أبا بكر فى اجتهاده، وهذا أصل فى أن كل مجتهد مصيب. وقال بعض العلماء: حكم أبو بكر فى أهل الردة بالسبى، وأخذ المال وجعلهم كالناقضين، وحكم فيهم عمر بحكم المرتدين، فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم كذرية من ارتد فله حكم الإسلام إلا من تمادى بعد بلوغه، والذين ردهم عمر لم يأب أحد منهم الإسلام، وعلى هذا الفقهاء، وبه قال ربيعة الرأى، وابن الماجشون، وابن القاسم، وذهب أصبغ بن الفرج إلى فعل أبى بكر، رضى الله عنه، أنهم كالناقضين، وتأويل أبى بكر مستنبط من قوله تعالى، فى الكفار: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5] فجعل من لم يلتزم ذلك كله كافرًا يحل دمه وأهله وماله، ولذلك قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) . وقال أبو جعفر الداودى: قال أبو هريرة: والله الذى لا إله إلا هو، لولا أبو بكر ما عبد الله، قيل له: اتق الله يا أبا هريرة، فكرر اليمين، وقال: لما توفى رسول الله ارتدت العرب، وكثرت أطماع الناس فى المدينة وأرادته الصحابة على إمساكه بجيش(3/392)
أسامة، والكف عمن منع الزكاة، فقال: والله لو لم يتبعنى أحد لجاهدتهم بنفسى حتى يعز الله دينه أو تنفرد سالفتى. فاشتد عزم الصحابة حينئذ، وقمع الله أهل المطامع عما أرادوه. قال المؤلف: وهذا كله يشهد لتقدم أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى العلم ورسوخه فيه، وأن مكانه من العلم ونصرة الإسلام لا يوازيه فيه أحد، ألا ترى رجوع جماعة الصحابة إلى رأيه فى قتال أهل الردة، ولا يجوز عليهم اتباعه تقليدًا له دون تبيين الحق لهم، وذلك أنه احتج عليهم أن الزكاة قرينة الصلاة، وأنها من حق المال، وأن من جحد فريضة فقد كفر، ولم يعصم دمه ولا ماله، وأنه لا يعصم ذلك إلا بالوفاء بشرائع الإسلام، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: (فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق) ، أى عرفت أنه على الحق بما بينه أبو بكر من استدلاله على ذلك، فبان لعمر وللجماعة الحق فى قوله، فلذلك اتبعوه. وأما قوله: (لو منعونى عناقًا) فإنما خرج كلامه على التقليل و [. . . .] لأن العناق عند أهل اللغة: الجدية إذا قويت على الرعى(3/393)
قبل أن يأتى عليها حول، ولا تؤخذ فى الصدقة عند أكثر أهل العلم، ولو كانت عناقًا كلها. ومن روى (عقالاً) فاختلف أهل اللغة فى تأويله، فقال أبو عبيد: العقال: صدقة عام. وقال ابن الكلبى: كان معاوية قد بعث عمرو بن عتبة ابن أخيه مصدقًا، فجار عليهم، فقال: سعى عقالا فلم يترك لنا سبدًا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين قال أبو عبيد: فهذا كلام العرب، وقد قيل: هو عقال الناقة، وكان الواقدى يزعم أن هذا رأى مالك بن أنس، وابن أبى ذئب. قال أبو عبيد: والأول أشبه عندنا بالمعنى، والشواهد فى كلام العرب عليه أكثر، وقد روى ابن وهب، عن مالك أن العقال: الفريضة من الإبل. قال أبو سليمان الخطابى: قد خولف أبو عبيد فى هذا التفسير. وذهب غير واحد من العلماء إلى تفسيره على غير هذا الوجه، أنكر العبدى ما ذهب إليه أبو عبيد، وقال: إنما يضرب المثل فى هذا بالأقل فما فوقه، كما يقول الرجل للرجل إذا منعه الكثير من المال: لا أعطيك ولا درهمًا منه. وليس بالسائغ أن يقول: لا أعطيك ولا مائة ألف. وقال: ليس بسائغ فى كلامهم أن العقال صدقة عام. والبيت الذى احتج به ليس بالبيت الذى يحتج به، قال: وأيضًا فإن العرب لم تقل له: لا أعطيك إلا عامًا واحدًا. وإنما منعوا الصدقات على الأبد، فكيف يقول العقال الذى منعوه: صدقة عام، وهم يتأولون أنهم كانوا مأمورين بأدائها إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) دون القائم بعده؟ .(3/394)
وسمعت ابن عائشة يقول: العقال: الحبل. وذلك أن الصدقة كانت إذا هبط بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عُقِلَ بكُلِّ عقال بعيران، ولذلك سمى الحبل الذى يقرن به بين البعير: القرن، بفتح الراء، والقرن أيضًا: البعير المقرون إلى آخر. وفيه قول آخر، قاله النضر بن شميل، قال: العرب تقول: أفرضت إبلكم: إذا وجبت فيها الفريضة وأشنقت، والشنق أن يكون فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان إلى خمس وعشرين، فإذا وجبت فيها ابنة مخاض فهى العقال. وهذا يشبه رواية ابن وهب. وفيه قول آخر، قاله أبو سعيد الضرير، قال: العقال: كل ما آخذ من الأصناف من الإبل، والبقر، والغنم، والثمار التى يؤخذ منها العشر، ونصف العشر، فهذا كله عقال فى صنفه، وسمى عقالاً: لأن المؤدى إليه قد عقل عنه طلبة السلاطين وتبعته، وعقل عنه الإثم الذى يطلبه الله به إذا منع الزكاة، ولذلك سميت العاقلة التى تؤدى دية الخطأ، لأنها إذا فعلت عقلت عن وليها تبعة أولياء المقتول. وفيه قول آخر، قاله المبرد، قال: إذا أخذ المصدق من الصدقة ما فيها، ولم يأخذ ثمنها قالوا: أخذ عقالاً، فإذا أخذ الثمن، قالوا: أخذ نقدًا. وأنشد: أتانا أبو الخطاب يضرب طبله فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدًا(3/395)
وفى أكثر الروايات: (لو منعونى عناقًا) وهو مشاكل لما ذهب إليه العبدى فى معنى العقال، وفى رواية أخرى ذكرها ابن الأعرابى: (والله لو منعونى جديًا أذوط لقاتلتهم عليه) ، قال: والذوط: الصغير الفك والذقن. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم الصلاة، والزكاة. . .) إلى آخر الحديث، فإنما أمره أن يدعو إلى الشهادة من لم يكن أسلم من أهل الكتاب، وقد جاء هذا بينًا فى حديث معاذ فى باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس بعد هذا فى الصدقة: (أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لمعاذ: إنك تأتى أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات) ، وقد تقدم معنى قول الرجل: (والله لا أزيد على هذا) فى كتاب الإيمان، فأغنى عن إعادته، وقد تقدم فيه معنى حديث وفد عبد القيس أيضًا. وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى أيوب: (أرب ما له) ، فإنه يروى بكسر الراء، وفتح الباء، ويروى: (أرَبٌ ما له) بفتح الراء وضم الباء وتنوينها، وفسر ابن قتيبة الرواية بكسر الراء وفتح الباء، فقال: هو من الأراب مأخوذ، والأراب: الأعضاء، واحدها: أرب، ومنه قيل: قطعته أربًا أربًا، أى عضوًا عضوًا، قال: ومعنى قوله: (أرب ما له) أى سقطت أعضاؤه وأصيبت، وهى(3/396)
كلمة مقولة لا يراد بها إذا قيلت وقوع الأمر، كقولهم: عقرى حلقى، أى عقرها الله وحلقها، أى أصابها بوجع فى حلقها، وكقولهم: قاتله الله، وتربت يداك، وأشباه هذا كثير. ومن رواه (أرَبٌ ما له) فمعناه نحو معنى قوله: فى حديث سعد بن الأخرم حين أخذ بزمام ناقته (صلى الله عليه وسلم) بعرفة، وهو يريد أن يسأله، فصاح به الناس من أصحابه، فقال: (دعوه، فأربٌ ما جاء به، فقال: يا رسول الله، دلنى على عمل يقربنى من الجنة، ويباعدنى من النار، فقال: إن كنت أوجزت فى الخطبة، فقد أعظمت وأطولت، فقال: تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحب للناس ما تحب أن يؤتى إليك، وما كرهت أن يؤتى إليك فدع الناس منه، خل عن زمام الناقة) . رواه الأعمش، عن شمر، عن المغيرة بن سعد بن الأخرم، عن أبيه، أو عن عمه، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ويمكن أن تكون هذه القصة هى التى روى أبو أيوب فى حديثه، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكرر قوله: (ما له ما له) إلا أنه أنكر عليه حبسه زمام ناقته أو غير ذلك مما لم يكن له فعله، والله أعلم،(3/397)
وفسر الطبرى قوله: (فأرب ما جاء به) ، وقال معناه: فحاجة ما جاءت به، والأرب: الحاجة، و (ما) التى فى قوله: (ما جاء به) صلة فى الكلام، كما قال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) [النساء: 155] ، والمعنى فأرب جاء به. قال المؤلف: وعلى هذا التقدير تكون (ما) التى فى حديث أبى أيوب فى قوله: (أربٌ ما له) زائدة، كأنه قال: أرب له، هذا أحسن من قول ابن قتيبة. قال عبد الواحد: وقوله فى حديث ابن أخرم: (إن كنت أوجزت فى الخطبة) ولم تكن هناك خطبة، فإن العرب تسمى كل كلام وسؤال: خطبة، لأنه مشتق من الخطاب. قال المهلب: وقوله فى حديث أبى أيوب: (وتصل الرحم) بعد الصلاة والزكاة، يدل أن السائل كان محتاجًا إلى التنبيه على ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقدم تعريف أمته بما هم إليه أحوج.
- باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ
وقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11] / 6 -(3/398)
فيه: جَرِيرُ، بَايَعنا النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قال المؤلف: هذا الباب فى معنى الذى قبله، وقد أخبر الله تعالى فى هذه الآية أن الأخوة فى الدين إنما تستحق بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ودل ذلك أنه من لم يقمها فليس بأخ فى الدين، وفى هذه الآية حجة لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى قتاله لأهل الردة حين منعوا الزكاة، وقد أجمع العلماء فى الرجل يقضى عليه القاضى بحق لغيره فيمتنع من أدائه أن واجبًا على القاضى أن يأخذه من ماله، فإن نصب الحرب دونه وامتنع، قاتله حتى يأخذه منه، فإن أتى القاتل على نفسه فشر قتيل، فحق الله الذى أوجبه للمساكين أولى بذلك وذكر النصح لكل مسلم فى البيعة مع الصلاة والزكاة يدل على حاجة جرير وقومه إلى ذلك، وكان جرير رئيس قومه.
3 - باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ
وَقَوله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ (إلى قوله: (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 34 - 35] . / 7 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَأْتِى الإبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا هُوَ لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَأْتِى الْغَنَمُ(3/399)
عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، إِذَا لَمْ يُعْطِ فِيهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا) ، قَالَ: (وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ) ، قَالَ: (وَلا يَأْتِى أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلا يَأْتِى بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ) . / 8 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِى بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا النّبِىّ: (لا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) [آل عمران: 180] الآيَةَ) . قال المؤلف: تأول العلماء أن قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) [التوبة: 34] الآية، وعيد لمن منع الزماة، ومن أدى زكاة ماله فليس بداخل فى هذه الآية. قال المهلب: فى هذه الآية فرض زكاة الذهب، ولم ينقل عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرض زكاة الذهب من طريق الخبر كما نقل عنه زكاة الفضة، وهو قوله: (فى الرِّقة ربع العشر، وليس فيما دون(3/400)
خمس أواق من الورق صدقة) ، إلا أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته) يدخل فى عمومه الذهب والفضة بالدليل، وإنما لم ترو زكاة الذهب من طريق النص عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، لكثرة الدراهم بأيديهم، وأن بها كان تجارتهم، ولقلة الذهب عندهم، وكان صرف الدينار حينئذ عشرة دراهم، فعدل المسلمون بخمس أواق من الفضة عشرين مثقالاً، وجعلوه نصاب زكاة الذهب وتواتر العمل به وعليه جماعة العلماء أن الذهب إذا كانت عشرين مثقالاً وقيمتها مائتا درهم أن فيها الزكاة نصف دينار إلا ما اختلف فيه عن الحسن أنه قال: ليس فيما دون أربعين دينارًا زكاة وهو شذوذ لا يلتفت إليه. وذهبت طائفة إلى أن الذهب إذا بلغت قيمتها مائتى درهم ففيها ربع العشر، وإن كان أقل من عشرين مثقالاً، وهذا قول عطاء وطاوس والزهرى. واختلفوا فى تأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) فى الإبل: (ومن حقها أن تحلب على الماء) فذهبت طائفة إلى أن فى المال حقًا سوى الزكاة. وقال أبو هريرة: (حق الإبل أن تنحر السمينة، وتمنح الغزيرة، وتقعد الظهر، ويضرب الفحل، ويسقى اللبن، وتأولوا فى قوله تعالى: (والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) [المعارج: 24، 25] ، فقالوا: مثل فك العانى، وإطعام الجائع الذى يخاف ذهاب نفسه، والمواساة فى المسغبة(3/401)
والعسرة. وهو قول الحسن البصرى، والشعبى، وعطاء، وطاوس، وتأول مسروق فى قوله تعالى: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (قال: هو الرجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته صلته، فيجعل حية طوقها، وأكثر العلماء على أن ذلك كله فى الزكاة المفروضة، ولا حق عندهم فى المال سوى الزكاة، وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن حقها أن تحلب على الماء) ، أن ذلك حق فى كرم المواساة، وشريف الأخلاق لا أن ذلك فرض، والحجة لهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من كان له مال، فلم يؤد زكاته مثل له. . .) والزكاة لا يفهم منها إلا زكاة الفرض، وقد بين النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله: (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة (أنه جاء فى مانع الزكاة، وفى هذا الحديث خلاف تأويل مسروق، وقد انتزع ابن مسعود بهذه الآية فى مانع الزكاة أيضًا. قال إسماعيل بن إسحاق: الحق المفترض هو الموصوف المحدود، وقد تحدث أمور لا تحدّ ولا يحدّ لها وقت فتجب بها المواساة للضرورة التى تنزل من ضيف مضطر، أو جائع يعلم أنه مضطر، أو غاز مثله أو ميت ليس له من يواريه فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التى يزول بها حد الضرورة. والشجاع: الحية الذى يقوم على ذنبه، وربما بلغ رأس الفارس، والزبيبتان نقطتان منتفختان فى شدقيه كالرغوة، يقال: إنهما(3/402)
يبرزان حين يهج ويغضب. وقيل: إنهما سوداوان على عينيه، وهى علامة الحية الذكر المؤذى. وقيل: الأقرع الذى أبيض رأسه من كثرة السم. وقوله: (لها يعار) قال صاحب الأفعال: اليعار: صوت المعزى، وقد يعرت تيعر، واليعر: الجدى، واليعور: الشاة التى تبول على حالبها وتَبْعَرُ فيفسد اللبن. وثغت الشاة تثغو ثغاءٌ، ورغاء البعير رُغاءً: صاح.
4 - باب مَا أُدِّىَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ لِقَوْلِ الرسول: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
/ 9 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ له أَعْرَابِىٌّ: أَخْبِرْنِى عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة: 34] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأمْوَالِ. / 10 - وفيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ) . / 11 - وفيه: زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِى ذَرٍّ، فَقُلْتُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِى هذه(3/403)
الآية: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ (قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِى أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فِى ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِى، فَكَتَبَ إِلَىَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَىَّ النَّاسُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِى قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ [الَّذِى] أَنْزَلَنِى هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَىَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. / 12 - وفيه: الأحْنَفِ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِى نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْىِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، فيَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى، فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، وَلا أَدْرِى مَنْ هُوَ، قُلْتُ: لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا مقالتك، قَالَ: إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِى خَلِيلِى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟) قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِىَ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَا أُرَى أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يُرْسِلُنِى فِى حَاجَةٍ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلاثَةَ دَنَانِيرَ) ، وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لا وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ. قال الطبرى: الكنز فى كلام العرب كل شىء مجموع بعضه إلى بعض فى بطن الأرض كان أو على ظهرها، ولذلك تقول العرب للشىء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض، ومنه قول الهُذلى:(3/404)
لا دَرَّ دَرِّىَ إن أطعمت نازلكم قِرْفَ الحَتِىِّ وعندى البُرُّ مكنوز الحتى: سويق المقل. واختلف السلف فى معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، وقالوا: معنى قوله تعالى: (ولا ينفقونها فى سبيل الله) [التوبة: 34] لا يؤدون زكاتها، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن عباس، وعبيد بن عمير، وجماعة. وقال آخرون: الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، وإن أديت زكاته. رواه جعدة بن هبيرة، عن على بن أبى طالب، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، وقال غيره: الكنز ما فضل عن حاجة صاحبه إليه. وهذا مذهب أبى ذر. روى أن نصل سيف أبى هريرة كان من فضة فنهاه عنه أبو ذر، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها) . واتفق أئمة الفتوى على قول عُمر، وابن عمر، وابن عباس، واحتج له الطبرى بنحو ما نزع به البخارى، فقال: الدليل على أن كل ما رأيت زكاته فليس بكنز إيجاب الله تعالى على لسان رسوله فى خمس أواق ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله تعالى على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير(3/405)
من المال، وإن بلغ ألوفًا إذا أديت زكاته فليس بكنز، ولا يحرم على صاحبه اكتنازه، لأنه لم يتوعد الله عليه بالعقاب، وإنما توعد الله بالعقاب على كل مال لم تؤد زكاته، وليس فى القرآن بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذى إذا جمع بعضه إلى بعض استحق جامعة الوعيد، فكان معلومًا أن بيان ذلك إنما يؤخذ من وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو ما بيناه أنه المال الذى لم يؤد حق الله منه من الزكاة دون غيره من المال. قال غيره: وإنما كتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر، لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له، وكان وقع فى جيشه تشتيت من ميل بعضهم إلى قول أبى ذر، فلذلك أقدمه عثمان إلى المدينة، إذ خشى الفتنة فى الشام ببقائه، لأنه كان رجلاً شديدًا لا يخاف فى الله لومة لائم. قال المهلب: وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبى ذر حين كتب إلى السلطان الأعلى يستجلبه، وصانه معاوية من أن يخرجه فتكون عليه وصمة. وقد ذكر الطبرى: أنه حين كثر الناس عليه بالمدينة يسألونه عن سبب خروجه من الشام، خشى عثمان من التشتيت بالمدينة ما خشيه معاوية بالشام، فقال له: تنح قريبًا. فقال: إنى والله لن أدع ما كنت أقوله فسار إلى الربذة، وبينها وبين المدينة ثلاثة أيام.(3/406)
وفى هذا من الفقه: أنه جائز للإنسان الأخذ بالشدة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإن أدى ذلك إلى فراق وطنه. وفيه: أنه جائز للإمام أن يخرج من توقع ببقائه وقوع فتنة بين الناس. وفيه: ترك الخروج على الأئمة، والانقياد لهم، وإن كان الصواب فى خلافهم. وفيه: جواز الاختلاف والاجتهاد فى الآراء، ألا ترى أن عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة لم يردوا أبا ذر عن مذهبه، ولا قالوا له: إنه لا يجوز لك اعتقاد قولك، لأن أبا ذر نزع بحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، واستشهد به، وذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ما أحب أن لى مثل أُحُدٍ ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير) ، وكذلك حين أنكر على أبى هريرة نصل سيفه استشهد على ذلك بقوله، (صلى الله عليه وسلم) : (من ترك صفراء، أو بيضاء كوى بها) . وهذا حجة فى أن الاختلاف فى العلم باق إلى يوم القيامة، لا يرتفع إلا بإجماع. وقد روى ابن أبى شيبة، عن محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلى، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت جالسًا فى مسجد المدينة فأقبل رجل لا تراه حلقة إلا فروا منه حتى انتهى إلى الحلقة التى كنت فيها، فثبتُّ وفروا، فقلت: على ما يفر الناس منك؟ قال: إنى أنهاهم عن الكنوز، قلت: إن أعطياتنا قد ارتفعت وكثرت فتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكنها توشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها. وقال(3/407)
المهلب: وفى قوله: (بشر الكانزين برضف) وجوب مبادرة إخراج الزكاة عند حولها والتحذير من تأخيرها. وقوله: (فنظرت إلى الشمس ما بقى من النهار) فهو مثل لتعجيل الزكاة، يريد ما أحب أن أحبس ما أوجبه الله وحَلَّ وقته بقدر ما بقى من النهار. والرضف: الحجارة المحماة. والنغض: الغضروف من الكتف. الخطابى: نغض الكتف: فرغه، وسمى نغضا، لأنه ينغض من الإنسان إذا أسرع، أى يتحرك. ومنه يقال: نغض الرجل رأسه، إذا حركه. ومنه قوله تعالى: (فسينغضون إليك رءوسهم (] الإسراء: 51] .
5 - باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِى حَقِّهِ
/ 13 - فيه: ابْنِ مَسْعُود، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . قال بعض أهل العلم: إنفاق المال فى حقه ينقسم ثلاثة أقسام: فالأول أن ينفق على نفسه، وأهله، ومن تلزمه نفقته غير مقتر عما يجب لهم، ولا مسرف فى ذلك، كما قال تعالى:(3/408)
) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) [الفرقان: 67] ، وهذه النفقة أفضل من الصدقة، ومن جميع النفقات، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها فِى فىّ امرأتك) . وقسم ثان: وهو أداء الزكاة، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له. وقد قيل: من أدى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل. وقسم ثالث: وهو صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق، وإطعام الجائع، وصدقة التطوع كلها فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (الساعى على الأرملة واليتيم كالمجاهد فى سبيل الله) . فمن أنفق فى هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال فى موضعه، وأنفقه فى حقه، ووجب حسده، وكذلك من آتاه الله حكمته فعلمها فهو وارث منزلة النبوة، لأنه يموت ويبقى له أجر من علّمه، وعمل بعلمه إلى يوم القيامة، فينبغى لكل مؤمن أن يحسد من هذه حاله، والله يؤتى فضله من يشاء.
6 - باب الرِّيَاءِ فِى الصَّدَقَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى) [البقرة: 264] الآية. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (صَلْدًا (لَيْسَ عَلَيْهِ شَىْءٌ. والرياء يبطل الصدقة وجميع الأعمال، لأن المرائى إنما يعمل من(3/409)
أجل الناس ليحمدوه على عمله، فلم يحمده الله تعالى حين رضى بحمد الناس عوضًا عن حمد الله وثوابه، وراقب الناس دون ربه، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم) عن الله عز وجل: (من عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى فهو له، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك) . وجاء فى الحديث أن الرياء الشرك الأصغر. وكذلك المن والأذى يبطلان الصدقة، لأن المنان بها لم يتق الله فيها، ولا أخلصها لوجهه تعالى، ولا ينفع عمل بغير نية، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى) ، وكذلك المؤذى لمن تصدق عليه يبطل إثمُ الأذى أجرَ الصدقة، وقد نهى الله تعالى عن انتهار السائل، فما فوق ذلك من الأذى أَدْخَلُ فى النهى، والله أعلم. قال عبد الواحد: كان ينبغى للبخارى، رحمه الله، أن يخرج فى هذا الباب قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها. . .) الحديث. فهو يشبه التبويب، لأن من ابتغى وجه الله يسلم من الرياء، وابتغاء غير وجه الله هو عين الرياء.
7 - باب لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلا يَقْبَلُ إِلا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263] الآية.(3/410)
استدلال البخارى بهذه الآية صحيح وذلك أنه لما كان حرمانُ السائل، والقولُ المعروف والاستغفار له خيرًا من صدقة يتبعها أذى، صح وثبت أن الصدقة إذا كانت من غلول أنها غير متقبلة، لأن الأذى للمسلمين فى الغلول أشد عند الله من أذى المتصدق عليه وحده. قال عبد الواحد: كان ينبغى للبخارى أن يخرج فى هذا الباب قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) [البقرة: 267] فهو أليق بالترجمة، والحديثُ الذى خرجه فى الباب بعد هذا وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تصدق بصدقة من كسب طيب. . . .) يصلح فيه.
8 - باب الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276] الآية. / 14 - فيه: أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِا، كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أو فصيله، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) . قوله تعالى: (ويربى الصدقات (يعنى يضعف أجرها لربها وينميها، ألا ترى قوله - عليه السلام -: (ثم يربيها كما يربى(3/411)
أحدكم فلوه، أو فصيله) ، ولما كان الربا قد أخبر الله أنه يمحقه، لأنه حرام دلت الآية أن الصدقة التى تربو وتتقبل لا تكون إلا من غير جنس الممحوق، وذلك الحلال، وقد بين ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (ولا يقبل الله إلا الطيب) . وقال ابن الأنبارى: الزكاة فى اللغة أصلها الزيادة، سميت بذلك لأنها تزيد فى المال الذى يخرج منه. يقال: زكا الشىء زكاة، إذا زاد، والزكا بالقصر معناه: زوجان ذكر وأنثى، أو شيئان مصطحبان يجريان مجرى الذكر والأنثى، والمراد بذكر اليمين فى هذا الحديث: التحفى بالصدقة، والرضا عنها، والحض عليها، والله تعالى لا يوصف بالجوارح فيكون له يمين وشمال. قال أبو بكر بن فورك: المراد بوصف الله تعالى باليمين أنه لما وصف باليدين، ويد الجارحة تكون إحداهما يمينًا، والأخرى شمالاً، واليسرى تنقص أبدًا فى الغالب عن اليمين فى القوة، والبطش عرفنا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (وكلتا يديه يمين) كمال صفة الله تعالى أنه لا نقص فيها، وأن ما وصف به من اليدين ليس كما يوصف به ذو الجارحة التى تنقص مياسره عن ميامنه.(3/412)
9 - باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ
/ 15 - فيه: حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِى عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِى الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، فيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلا حَاجَةَ لِى بِهَا) . / 16 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِى يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لا أَرَبَ لِى فيه) . / 17 - وفيه: عَدِىَّ بْنَ حَاتِمٍ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَجَاءَهُ رَجُلانِ أَحَدُهُمَا يَشْكُو الْعَيْلَةَ، وَالآخَرُ يَشْكُو قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ، فَإِنَّهُ لا يَأْتِى عَلَيْكَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ، وَأَمَّا الْعَيْلَةُ، فَإِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ فلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلا تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً، فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً؟ فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) . / 18 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، فلا يَجِدُ من يقبلها، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ) .(3/413)
ففى هذا الباب: الحض على الصدقة، والترغيب فيها ما وُجِد أهلها المستحقون لها، خشية أن يأتى الزمان الذى لا يوجد فيه من يأخذ الصدقة، وهو زمان كثرة المال وفيضه، قرب الساعة. وفى قوله: (فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة) حض على القليل من الصدقة. وقوله: (فإن لم يجد فبكلمة طيبة) حض أيضًا على أن لا يحقر شيئًا من الخير بالقول والفعل، وإن قَلَّ ذلك، وإذا كانت الكلمة الطيبة يتقى بها النار، فالكلمة الخبيثة يستوجب بها النار. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (يرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يَلُذْنَ به من قلة الرجال، وكثرة النساء) ، فهذا والله أعلم يكون عند ظهور الفتن، وكثرة القتل فى الناس، وهذا كله من أشراط الساعة. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عدى: (ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب) ، فإنما هذا على جهة التمثيل ليفهم الخطاب لأن الله تعالى لا يحيط به شىء، ولا يحجبه حجاب، تعالى الله عن ذلك، وإنما يستتر تعالى عن أبصارنا بما وضع فينا من الحجب، والضعف عن الإدراك لنوره فى الدنيا، فإذا كان فى الآخرة، وكشف تلك الحجب عن أبصارنا فقواها حتى تدرك معاينة ذاته كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) .(3/414)
وقوله: (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ، قال صاحب العين: يقال: أهمنى الأمر مثل أغمنى، وهمنى هما: رابنى. وقوله: (بغير خفير) فالخفير: المجير، والخفارة: الذمة.
- باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ
) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ (إلى قوله: (فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 265، 266] / 19 - فيه: أَبُو مَسْعُود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَىْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِى، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79] . قَالَ أَبُو مَسْعُود: كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ، فَيُحَامِلُ، فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ. / 20 - وفيه: عَدِىَّ، سَمِعْتُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) . / 21 - وفيه: عَائِشَةَ، دَخَلَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى(3/415)
شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (مَنِ ابْتُلِىَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) . قال المؤلف: قوله: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) حض على الصدقة بالقليل، وقد تصدقت عائشة بتمرة، وتصدقت بحبة عنب، وقالت: كم فيها من مثاقيل الذر. ومثله قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى تميمة الهجيمى: (لا تحقرن شيئًا من المعروف ولو أن تضع من دلوك فى إناء المستقى) . وفى حديث أبى مسعود ما كان عليه السلف من التواضع، والحرص على الخير واستعمالهم أنفسهم فى المهن والخدمة رغبةً منهم فى الوقوف عند حدود الله، والاقتداء بكتابه، وكانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن إلا للعمل به، فكانوا يحملون على ظهورهم للناس ويتصدقون بالثمن لعدم المال عندهم حينئذ، وقوله: (نحامل) يعنى نحمل لغيرنا، ونحامل وزنه، تفاعل، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين كالمبايعة والمعاملة، ألا ترى أنه حين نزلت) يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة) [المجادلة: 12] شق عليهم العمل بها، فنسخت عنهم بقوله: (فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [المجادلة: 13] . وقال على بن أبى طالب: إن فى كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلى، ولا يعمل بها أحد بعدى، كان لى دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تصدقت بدرهم حتى نفذ، ثم نسخت.(3/416)
وفى حديث عائشة أن النفقة على البنات، والسعى عليهن من أفضل أعمال البر، وأن ذلك ينجى من النار.
- باب فَضْلِ صَدَقَةِ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعَ فِيهِ وَلا خُلَّةَ) [البقرة: 254] ) وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10] . / 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ. فيه: أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشى الفقر، وأمل الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق فى هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه والجوار فى فعله، ولذلك قال ميمون بن مهران حين قيل له: إن رقية امرأة هشام(3/417)
ماتت، وأعتقت كل مملوك لها، فقال ميمون: يعصون الله فى أموالهم مرتين، يبخلون بها، وهى فى أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها.
- بَاب
/ 23 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قُلْنَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّنَا أَسْرَعُ لُحُوقًا بك؟ قَالَ: (أَطْوَلُكُنَّ يَدًا) ، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ. هذا الحديث سقط منه ذكر زينب، لأنه لا خلاف بين أهل الأثر والسير أن زينب أول من مات من أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وروى ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عبد الرحمن بن أبزى، قال: صليت مع عمر بن الخطاب على أم المؤمنين زينب بنت جحش، وكانت أول نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توفيت بعده. وروى ابن أبى خيثمة، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا المسعودى، قال: حدثنا القاسم بن معن، قال: كانت زينب بنت جحش أول نساء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لحوقًا به. وروى مسلم فى كتابه حديث عائشة على خلاف ما ذكره البخارى، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى السينانى، قال: حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :(3/418)
(أسرعكن لحاقًا بى أطولكن يدًا) ، قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، فكانت أطولنا يدًا زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. وذكر مسلم الحديث الطويل الذى فيه إرسال أزواج النبى لفاطمة إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) يسألنه العدل فى بنت أبى قحافة، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم) زينب، وهى التى كانت تسامينى منهن فى المنزلة عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم أر امرأة قط خيرًا فى الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها فى العمل الذى تتصدق به، وتتقرب به إلى الله عز وجل. وقال المهلب: اليد فى هذا الحديث: الإنعام والإفضال، وفيه: أن الحكم للمعانى لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، سبق إليهن أنه أراد طول اليد التى هى الجارحة، فلما لم تتوف سودة التى كانت أطولهن يد الجارحة، وتوفيت زينب قبلهن علمن أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يرد طول العضو، وإنما أراد بذلك كثرة الصدقة، لأن زينب هى التى كانت تحب الصدقة.(3/419)
- باب صَدَقَةِ الْعَلانِيَة
) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة: 274] اختلف العلماء فى المعنى الذى نزلت فيه هذه الآية، فروى مجاهد عن ابن عباس، أنها نزلت فى على بن أبى طالب، كانت معه أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهمًا، وبالنهار درهمًا، وسرًا درهمًا، وعلانية درهمًا. وقال الأوزاعى: نزلت فى الذين يرتبطون الخيل خاصة فى سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار. وروى عن قتادة قول ثالث: أنها نزلت فيمن أنفق ماله فى سبيل الله، لقول الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا عن يمينه، وعن شماله، وقليل ما هم) هؤلاء قوم أنفقوا أموالهم فى سبيل الله الذى افترض وارتضى من غير سرف ولا إملاق، ولا تبذير، ولا فساد. ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله.
- باب صَدَقَةِ السِّرِّ
وَقَالَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) : (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ) . وَقَوْلِهِ: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: 271] الآيَةَ.(3/420)
عند كافة العلماء أن صدقة السر فى التطوع أفضل من العلانية، وتأولوا قوله، (صلى الله عليه وسلم) : (فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) . أن المراد بذلك صدقة التطوع، وروى عن ابن عباس فى قوله: (إن تبدوا الصدقات فنعما هى) [البقرة: 271] الآية. قال: جعل الله تعالى صدقة التطوع فى السرِّ تفضل علانيتها بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفرض علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض، والنوافل فى الأشياء كلها. وقال سفيان: (إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم (قال: سوى الزكاة، وهذا قول كالإجماع. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مثل ضربه فى المبالغة بالاستتار بالصدقة، لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر أن لا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تتصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى: (واسأل القرية) [يوسف: 82] لأن الشمال لا توصف بالعلم. وقوله تعالى: (والله بما تعملون خبير) [البقرة: 271] أى والله بما تعملون فى صدقاتكم من إخفائها وإعلانها، وفى غير ذلك من أموركم ذو خبرة وعلم لا يخفى عليه شىء منه، فهو محيط به مُحْصٍ له على أهله حتى يوفيهم جزاء قليله وكثيره.(3/421)
- باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِىٍّ وَهُوَ لا يَعْلَمُ
/ 24 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ: لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَيْ غَنِىٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ، وَعَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِىٍّ، فَأُتِىَ، فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الْغَنِىُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ) . قال المهلب: قوله فى الحديث: (فأتى فقيل له: أما صدقتك على سارق. . .) إلى آخر الحديث، يعنى أنه أُرى ذلك فى المنام، والرؤيا حق. وقوله: (فلعله أن يستعف عن سرقته) ، فإن لعل من الله على معنى القطع والحتم، ودل ذلك أن صدقة الرجل على السارق والزانية والغنى قد تقبلها الله، لأنها إذا كانت سببًا إلى ما يرضى الله فلا شك فى فضلها وقبولها. واختلف العلماء فى الذى يعطى الفقير من الزكاة على ظاهر فقره ثم تبين غناه، فقال الحسن البصرى: إنها تجزئه. وهو قول أبى حنيفة، ومحمد، قالوا: لأنه قد اجتهد، وأعطى فقيرًا عنده،(3/422)
وليس عليه إلا الاجتهاد. وأيضًا فإن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلمًا بدليل هذا الحديث قاله المهلب. وقال أبو يوسف، والثورى، والحسن بن حى، والشافعى: لا تجزئه، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وقد أخطأ فى اجتهاده كما أنه لو نسى الماء فى رحله، وتيمم لصلاته لم تجزئه صلاته. واختلف قول ابن القاسم: هل تجزئه أم لا، فقال ابن القصار: وقول مالك يدل على هذا، لأنه نص فى كفارة اليمين إن أطعم الأغنياء أنه لا يجزئه، وإن كان قد اجتهد فالزكاة أَوْلَى. وأما الصدقة على السارق والزانية، فإن العلماء متفقون أنهما إن كانا فقيرين فهما ممن تجوز له الزكاة.
- باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لا يَشْعُرُ
/ 25 - فيه: مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ، بَايَعْتُ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَا وَأَبِى وَجَدِّى وَخَطَبَ عَلَىَّ فَأَنْكَحَنِى، وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِى يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِى الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ) . اتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الابن، ولا إلى الأب، إذا كانا ممن تلزم المزكى نفقتهما لأنها وقاية لماله،(3/423)
ولم يختلفوا أنه يجوز له أن يعطيهما ما شاء من صدقة تطوع أو غيرها. والمراد بهذا الحديث عندهم صدقة التطوع. واختلفوا فى دفع الزكاة إلى سائر القرابات المحتاجين الذين لا تلزم النفقة عليهم، فروى عن ابن عباس أنه يجزئه، وهو قول عطاء، والقاسم، وسعيد بن المسيب، وأبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وقالوا: هى لهم صلة وصدقة. وقال ابن المسيب: أولى الناس بزكاة مالى يتيمى ومن كان منى. وروى مطرف عن مالك أنه لا بأس أن يعطى قرابته من زكاته إذا لم يعط من يعول، فقال: رأيت مالكًا يعطى قرابته من زكاته، وهو قول أشهب. وقال الحسن البصرى وطاوس: لا يعطى ذوى قرابته من الزكاة شيئًا. وذكر ابن المواز، عن مالك أنه كره أن يخص قرابته بزكاته، وإن لم تلزمه نفقتهم. قال المهلب: وفيه أن للابن أن يخاصم أباه، وليس بعقوق إذا كان ذلك فى حق، على أن مالكًا قد كره ذلك، ولم يجعله من باب البر. وفيه: أن ما خرج إلى الابن من مال الأب على وجه الصدقة، أو الصلة أو الهبة لله، وحازه الابن أنه لا رجوع للأب فيه، بخلاف الهبة التى للأب أن يعتصرها ولم يكن له أن يقبض(3/424)
الصدقة وكل هبة وصدقة وعطية لله تعالى، فليس له أن يقبضها لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (العائد فى صدقته كالكلب يعود فى قيئه) . وسيأتى حكم الرجوع فى الهبات، ثم الاختلاف فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله.
- باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ
/ 26 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ. . . . . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ. . . . . . . . . .) الحديث. لما كانت اليمين أفضل من الشمال، وكانت الصدقة يراد بها وجه الله، استحب فيها أن تناول بأشرف الأعضاء، وأفضل الجوارح. وقد تقدم فى باب صدقة السر أن إخفاء النوافل والاستتار بها أفضل عند الله من إظهارها، بخلاف الفرائض. قال عبد الواحد: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مثل ضربه بالاستتار بالصدقة لقرب الشمال من اليمين، وإنما أراد بذلك أن لو قدر ألا يعلم من يكون عن شماله من الناس ما تصدق به يمينه لشدة استتاره، وهذا على المجاز كقوله تعالى: (واسأل القرية) [يوسف: 82] لأن الشمال لا توصف بالعلم، وبالله التوفيق.(3/425)
- باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ) . / 27 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا) . وترجم له باب (أجر المرأة إذا تصدقت أو أطعمت من بيت زوجها غير مفسدة) . وترجم له باب (أجر الخادم إذا تصدق بأمر صاحبه غير مفسد) وزاد: عن أبى موسى، قال النبى، (صلى الله عليه وسلم) : (الخازن المسلم الأمين الذى ينفق ما أُمر به كاملاً موفرًا طيبًا نفسه، فيدفعه إلى الذى أُمر له به أحد المصدقين) . قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة: 2] ، فدلت هذه الآية على اشتراك المتعاونين على الخير فى الأجر، وجاء هذا المعنى فى هذه الأحاديث، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتصدق من مال أحد غيره بغير إذنه، لكن لما كانت امرأة الرجل لها حق فى ماله، وكان لها النظر فى بيتها جاز لها الصدقة بما لا يكون إضاعة للمال، ولا إسرافًا، لكن بمقدار العرف والعادة، وما تعلم أنه لا يؤلم زوجها، وتطيب به نفسه. فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنها تؤجر على ذلك، ويؤجر زوجها بما كسب، ويؤجر الخادم الممسك لذلك، وهو الخازن المذكور فى الحديث، إلا أن مقدار أجر كل واحد منهم لا يعلمه إلا الله، غير أن الأظهر أن الكاسب أعظم أجرًا.(3/426)
وقوله: باب من أمر خادمه بالصدقة، ولم يناول بنفسه ينفك من قوله فى الحديث: (وللخادم مثل ذلك) ، لأن الخادم لا يجوز أن يتصدق من مال مولاه إلا بما أمره بالصدقة به، بخلاف الزوجة، لأن الخادم ليس له فى متاع مولاه تصرف، ولا حكم، وإنما هو خازن عليه فقط، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، شرط فى الخازن أن يؤدى الذى أمر به موفرًا طيبًا به نفسه، وكذلك يصح له الأجر، لأن من لم تطب نفسه على فعل الخير فلا نية له فيه، لأنه لا عمل إلا بنية، وكذلك إذا نقص المسكين مما أمر له به فقد خانه، فنقص أجره وخشى عليه الإثم.
- باب لا صَدَقَةَ إِلا عَنْ ظَهْرِ غِنًى
وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ. قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) ، إِلا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، كَفِعْلِ أَبِى بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ آثَرَ الأنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ. وَنَهَى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ كَعْب: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِى(3/427)
أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِى صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) ، قُلْتُ: فَإِنِّى أُمْسِكُ سَهْمِى الَّذِى بِخَيْبَرَ. / 28 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) . / 29 - وفيه: حَكِيمِ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) . وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ. قال بعض أهل العلم: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) دليل على أن النفقة على الأهل أفضل من الصدقة، لأن الصدقة تطوع، والنفقة على الأهل فريضة. وقوله: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) أى لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله، لأن الابتداء بالفرائض قبل النوافل أولى، وليس لأحد إتلاف نفسه، وإتلاف أهله بإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه، وأهله، إذ حق نفسه وحق أهله أوجب عليه من حق سائر الناس، ولذلك قال: (وابدأ بمن تعول) ، وقال لكعب: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) . قال الطبرى: فإن قيل: هذا المعنى يعارض فعل أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، حين تصدق بماله كله، وأمضاه النبى (صلى الله عليه وسلم) . قيل: قد اختلف العلماء فيمن تصدق بماله كله فى صحة بدنه(3/428)
وعقله، فقالت طائفة: ذلك جائز إذا كان فى صحته. واعتلوا بخبر أبى بكر حين تصدق بماله كله، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قَبِلَ ذلك ولم ينكره ولا رَدَّهُ، وهو قول مالك، والكوفيين، والشافعى، والجمهور. وقال آخرون: ذلك كله مردود، ولا يجوز شىء منه. رُوى ذلك عن عمر بن الخطاب أنه رد على غيلان بن سلمة نساءه، وكان طلقهن، وقسم ماله على بنيه، فَرَدَّ عمر ذلك كله. وقال آخرون: الجائز من ذلك الثلث، ويرد الثلثان واعتلوا بحديث كعب بن مالك، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) رَدَّ صدقته إلى الثلث. هذا قول مكحول، والأوزاعى. وقال آخرون: كل عطية تزيد على النصف ترد إلى النصف. روى ذلك عن مكحول. قال الطبرى: والصواب فى ذلك عندنا أن صدقة المتصدق بماله كله فى صحة بدنه وعقله جائزة، لإجازة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، صدقة أبى بكر بماله كله، وإن كنت لا أرى أن يتصدق بماله كله، ولا يجحف بماله ولا بعياله، وأن يستعمل فى ذلك أدب الله تعالى لنبيه، (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) [الإسراء: 29] وأن يجعل من ذلك الثلث كما أمر الرسولُ كعبَ بن مالك وأبا لبابة. وأما إجازته لأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، الصدقة بماله كله، فهو إعلام منه أمته أن ذلك جائز غير مذموم وردُّه على(3/429)
كعب، وأبى لبابة ما رَدَّ، وأمرهُ لهما بإخراج الثلث إعلامٌ منه بموضع الاستحباب والاختيار، لا حَظْرا منه للصدقة بجميع المال، والدليل على ذلك إجماع الجميع على أن لكل مالك مالا إنفاق جميعه فى حاجاته، وصرفه فيما لا يحرم عليه من شهواته، فمثله إنفاق جميعه فيما فيه القربة إلى الله، إذ إنفاقه فى ذلك أولَى من إنفاقه فى شهواته، ولذاته. قال غيره: وأما قوله: وأما من تصدق وعليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه. فهو إجماع من العلماء لا خلاف بينهم فيه. وقوله: إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه. فإنما يرجع هذا الاستثناء إلى قوله: من تصدق وهو محتاج. ولا يرجع إلى قوله: أو عليه دين، للإجماع الذى ذكرنا، ومن بلغ منزلة الإيثار على نفسه، وعلم أنه يصبر على الفقر، ويصبر أهله عليه، فمباح له أن يؤثر على نفسه، ولو كان بهم خصاصة، وجائز له أن يتصدق وهو محتاج، ويأخذ بالشدة كما فعل الأنصار بالمهاجرين، وكما فعل أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، وإن عرف أنه لا طاقة له ولا لأهله على مقارعة الفقر والحاجة، فإمساكه لماله أفضل، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) وقوله: (وابدأ بمن تعول) وقد روى عباد بن العوام عن عبد الملك بن عمير، عن عطاء، عن أبى هريرة، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) لفظ الترجمة وهو معنى قوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) .(3/430)
اليد العليا خير من اليد السفلى) . فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالى الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالى الأمور، وفيه: حض على الصدقة أيضًا. لأن العليا يد المتصدق، والسفلى يد السائل، والمعطِى مفضل على المعطَى، والمفضَّل خير من المفضَّل عليه، ولم يُرِدْ (صلى الله عليه وسلم) أن المفضَّل فى الدنيا خير فى الدين، وإنما أراد فى الإفضال والإعطاء. قال الخطابى: وتفسيره فى هذا الحديث: اليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة تفسير حسن، وفيه وجه آخر أشبه بمعنى الحديث، وهو أن تكون العليا هى المتعففة، وقد روى ذلك مرفوعًا: حدثونا عن علىِّ بن عبد العزيز، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يخطب يقول: (اليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا المتعففة) . ورواه ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا المنفقة، واليد السفلى السائلة) . قال أبو داود: ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مثله، ويؤكد هذا ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، وسعيد بن المسيب، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه، فقال حكيم: ما كنت أظن يا رسول الله(3/431)
[أن] تقصر بى دون أحد. فزاده حتى رضى، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: (ومنى) ، قال: والذى بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، فلم يقبل عطاء ولا ديوانًا حتى مات. قال أبو سليمان: فلو كانت اليد العليا المعطية، لكان حكيم قد توهم أن يدًا خير من يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقوله: (ومنك يا رسول الله) يريد أن التعفف من مسألتك كهو من مسألة غيرك، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (نعم) ، فكان بعد ذلك لا يقبل العطاء من أحد. وروى فى وجه ثالث عن الحسن، قال: اليد العليا المعطية، واليد السفلى المانعة. قال المؤلف: وحديث عروة وسعيد مرسل، والمسند أقطع فى الحجة عند التنازع.
- بَاب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى (الآيَةَ [البقرة: 262] ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى الذى يعطى ماله المجاهدين فى سبيل الله معونة لهم على جهاد العدو، ثم يمن عليهم بأنه قد صنع إليهم معروفًا إما بلسان أو بفعل، والأذى أن يقول: إنهم لم(3/432)
يقوموا بالواجب عليهم فى الجهاد. وشبه ذلك من القول، ومن أخرج شيئًا لله لم ينبغ أن يمن به على أحد، لأن ثوابه على الله تعالى. وروى أبو ذر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذى لا يعطى شيئًا إلا منهُ، والمنفقة سلعته بالحلف، والمسبل إزاره) . ذكره مسلم من حديث سفيان، عن الأعمش، عن سليمان ابن مسهر، عن خراشة بن الحر، عن أبى ذر.
- باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا
/ 30 - فيه: عُقْبَةَ بْن الْحَارِثِ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صلى الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ - أَوْ قِيلَ لَهُ - فَقَالَ: (كُنْتُ خَلَّفْتُ فِى الْبَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ) . فى هذا الحديث: حض وندب على تعجيل الصدقات وأفعال البر كلها إذا وجبت، وإنما عجل (صلى الله عليه وسلم) تلك الصدقة، لأنه خشى أن يكون محتاجًا من وجب له حق فى ذلك التبر فيحبس عنه حقه تلك الليلة، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا فبين لأمته، ليقتدوا به (صلى الله عليه وسلم) .(3/433)
- باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا
/ 31 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، قَالَ: خَرَجَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلا بَعْدُ، ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ، وَبِلالٌ مَعَهُ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ. / 32 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: (اشْفَعُوا، تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) . / 33 - وفيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قَالَ لِىَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (لا تُوكِى، فَيُوكَى الله عَلَيْكِ ولا تُحْصِى فَيُحْصِىَ اللَّهُ عَلَيْكِ) . وترجم لحديث أسماء باب (الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ) ، وزاد فى آخره: (ارْضَخِى مَا اسْتَطَعْتِ) . قال المؤلف: الشفاعة فى الصدقة وسائر أفعال البر، مرغب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اشفعوا تؤجروا) ، فندب أمته إلى السعى فى حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء) أن الساعى مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه) . وقد احتج أبو حنيفة والثورى بحديث ابن عباس، فأوجبوا الزكاة فى الحلى للباس، وقال مالك: لا زكاة فى الحلى، وهو مذهب ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء.(3/434)
قال ابن القصار، والمهلب: ولا حجة فى حديث ابن عباس لمن أوجب الزكاة فى الحلى، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما حَضَّهُنَّ على صدقة التطوع لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تصدقن ولو من حليكن) ، ولو كان ذلك واجبًا، لما قال: (ولو من حليكن) . قال عبد الواحد: ومما يَرُدُّ قول أبى حنيفة أن لو كان ذلك من باب الزكاة لأعطينه بوزن ومقدار، فدل أنه تطوع. قال أبو عبيد: الحلى الذى يكون زينة النساء ومتاعًا هو كالأثاث، وليس كالرقة التى وردت السنة بأخذ ربع العشر منها. والرقة عند العرب الورق ذات السكة السائرة بين الناس، وعلى هذا جرى العمل بالمدينة لا خلاف عندهم أنه لا زكاة فيه، وذكر مالك، عن عائشة، أنها كانت تحلى بنات أخيها يتامى كن فى حجرها بالحلى فلا تخرج منه الزكاة، وكان يفعله ابن عمر. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أسماء: (لا توكى فيوكى الله عليك) ، فإنما سألته عن الصدقة، وقالت له: يا رسول الله، ما لى إلا ما يُدخل علىّ الزبير، أفأتصدق؟ قال: (تصدقى ولا توكى فيوكى الله عليك) . وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن عائشة قالت لخادمها: ما أعطيت السائل؟ فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحصى فيحصى الله عليك) ، ومعنى قوله: (لا توكى فيوكى الله عليك) ، أى لا توكى مالك عن الصدقة، فلا تتصدقى(3/435)
خشية نفاده، فيوكى الله عليك، أى يمنعك كما منعت السائل. دَلَّ هذا الحديث أنَّ الصدقة قد تنمى المال، وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق، فإن الله يوكى عليه، ويمنعه من البركة فى ماله والنماء فيه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ارضخى ما استطعت) ، أى تصدقى ما استطعت. والعرب تقول: رضخ له من ماله رضخًا، أى أعطاه قليلاً من كثير، عن صاحب الأفعال، وقال صاحب العين: القُلْبُ من الأسورة ما كان قلدًا واحدًا. والقُلْب: الحية البيضاء، والخرص حلقة فى الأذن، عن غيره.
- باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ
/ 34 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قول رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِىءٌ، فَكَيْفَ قَالَ؟ قُلْتُ: (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ) . قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: (الصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ) الحديث. قوله: (فتنة الرجل فى أهله وولده وجاره) يريد ما يفتتن به من صغار الذنوب التى تكفرها الصلاة والصدقة وما جاء منه، وسأشبع القول فى تفسير هذا الحديث فى كتاب الصيام، فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله تعالى. قال المهلب: وفيه: ضرب الأمثال فى العلم. وفيه: حجة لما(3/436)
يتكلم به أهل العلم من قطع الذرائع، ويعبرون عنه بغلق الباب وبفتحه كما عبر عنه حذيفة وعمر، وأن ذلك من المتعارف من الكلام. وفيه: أنه قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند العالم المبرز. وفيه: أن العلم قد يرمز به رمزًا ليفهم المرموز له دون غيره، لأنه ليس كل العلم تجب إباحته إلى من ليس بمتفهم له، ولا عالم بمعناه. وفيه: أن الكلام فى الحدثان مباح إذا كان فى ذلك أثر عن النبوة، وما سوى ذلك ممنوع، لأنه لا يصدق منه إلا أقل من عشر العشر، وذلك الجزء إنما هو على غلبة الظن، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيزيد إليها أكثر من مائة كذبة) .
- باب مَنْ تَصَدَّقَ فِى الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ
/ 35 - فيه: حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ) . قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: أن كل مشرك أسلم أنه يكتب له أجر كل خير عمله قبل إسلامه، ولا يكتب عليه بشىء من سيئاته، لأن الإسلام يهدم ما قبله من الشرك، وإنما كتب له الخير، لأنه إنما أراد به وجه الله، لأنهم كانوا مقرين بالله إلا أن علمهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شركهم، فلما(3/437)
أسلموا تفضل الله عليهم، فكتب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيئات، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد) . ومما يدل على صحة ذلك ما رواه عبد الله بن وهب، قال: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه، كتب الله كل حسنة كان زلفها، ومحا عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بَعْدُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله) . قال المهلب: ولعل حكيمًا لو مات على جاهليته أن يكون ممن يخفف عنه من عذاب النار، كما جاء فى أبى طالب أنه أخف أهل النار عذابًا، ومثل ذلك ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها: ثويبة، وكانت قد أرضعت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فرأى أبا لهب بعضُ أهله فى النوم، فسأله فقال: ما وجدت بعدكم من راحة غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة) . وسيأتى فى كتاب العتق فى باب عتق المشرك، اختلاف أهل العلم فى عتق المشرك، إن شاء الله.(3/438)
- بَاب قَوْله تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (إلى) لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10]
/ 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث: الحض على الإنفاق فى الواجبات، كالنفقة على الأهل وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع، والفرض، ومعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، بدليل قوله: (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ومصداق الحديث قوله تعالى: (وما أنفقتم من شىء فهو يخلفه) [سبأ: 39] يعنى ما أنفقتم فى طاعة الله، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ابن آدم، أنفق أُنفق عليك) . واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس: قوله: (وصدق بالحسنى) [الليل: 6] صدق بالخلف من الله تعالى. وقال الضحاك: صدق بلا إله إلا الله. وروى عن ابن عباس أيضًا. وقال مجاهد: صدق بالجنة. وقال قتادة: صدق بموعود الله على نفسه، فعمل به. قال ابن الأدفوى: وأشبه الأقوال عندى قول من قال: وصدق بالخلف من الله تعالى لنفقته، يدل على ذلك قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى (فكان أولى المعانى به أن يكون عقيبه الخبر بتصديقه بوعد الله بالخلف، ويؤيد ما قلناه حديث أبى هريرة، وقول الملائكة: (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا(3/439)
تلفًا) ، وأنزل الله تعالى فى القرآن) فأما من أعطى واتقى (الآية. وقال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية فى أبى بكر الصديق، روى أنه اشترى تسعة كانوا فى أيدى المشركين لله، فأنزل الله هذه الآية. وروى أنها نزلت فى رجل ابتاع نخلة كانت على حائط أيتام، فكان يمنعهم أكل ما سقط منها، فابتاعها رجل منه، وتصدق بها عليهم. وقوله تعالى: (فسنيسره لليسرى) [الليل: 7] يريد الحالة اليسرى، وهى العمل بما يرضاه الله تعالى منه فى الدنيا ليوجب له به الجنة فى الآخرة. وقالوا فى قوله تعالى: (وكذب بالحسنى) [الليل: 9] وكذب بالخلف، عن ابن عباس، وروى عنه أيضًا: كذب بلا إله إلا الله. وقال قتادة: كذب بموعود الله تعالى. وقال مجاهد: (وكذب بالحسنى (الجنة) فسنيسره للعسرى (أى للعمل بالمعاصى. ودلت هذه الآية أن الله تعالى الموفق للأعمال الحسنة والسيئة، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل الشقاء، ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) [الليل: 5، 6] الآية) . وقال الضحاك: العسرى: النار. فإن قيل: التيسير إنما يكون للحسنى فكيف جاء للعسرى؟ . فالجواب: أنه مثل قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) [آل عمران: 21] أى أن ذلك يقوم لهم مقام البشارة.(3/440)
وأنشد سيبويه: تحية بينهم ضرب وجيع وقال الفراء: إذا اجتمع خير وشر، فوقع للخير تيسير، جاز أن يقع للشر مثله.
- باب مَثَلِ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ
/ 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ، فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِىَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ، فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَّسِعُ) . قال المهلب: فيه أن الله تعالى ينمى مال المتصدق، ويستره ببركة نفقته بالنماء فى ماله، ألا ترى ضربه (صلى الله عليه وسلم) المثل بالجبتين، فإن المنفق يستره الله بنفقته من قرنه إلى قدمه، وجميع عوراته بالفعل فى الدنيا وبالأجر فى الآخرة، فماله لا يشتد عليه، وأما البخيل فيظن أن ستره فى إمساك ماله، فمالُه لا يمتد عليه فلا يستر من عوراته شيئًا حتى تبدو للناس فيبقى منكشفًا كمن يلبس جبة تبلغ إلى ثدييه، ولا تجاوز قلبه الذى يأمره بالإمساك، فهو يفتضح فى الدنيا، ويؤزر فى الآخرة.(3/441)
- باب صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ (الآية [البقرة: 267] . قال المؤلف: روى عن ابن عباس فى قوله: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (قال: من أطيب أموالكم وأنفسها. وقال على بن أبى طالب: من الذهب والفضة. وقال مجاهد: من التجارة الحلال. وقال عبيدة السلمانى: سألت على بن أبى طالب عن هذه الآية، فقال: نزلت فى الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه الردئ، فأنزل الله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) [البقرة: 267] وروى هذا القول عن قتادة، والحسن، وعطاء، ومجاهد. وقال آخرون: معنى قوله: (ولا تيمموا الخبيث (من الحرام) منه تنفقون (وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب. هذا قول ابن زيد، والتأويل هو قول الصحابة والعلماء.
- باب عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ
/ 38 - فيه: أَبُو موسى، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ) ، فَقَالُوا: يَا رسول اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ(3/442)
نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ) ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: (فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ) . محمل هذا الحديث عند الفقهاء على الحض والندب على الصدقة، وأفعال الخير كلها، وهو مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (على كل سلامى من الناس صدقة) ، أى أنهم مندوبون إلى ذلك، فإن قيل: كيف يكون إمساكه عن الشر صدقة؟ قيل: إذا أمسك شره عن غيره، فكأنه قد تصدق عليه بالسلامة منه، وإن كان شرًا لا يعدو نفسه، فقد تصدق على نفسه بأن منعها من الإثم.
- باب قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أَعْطَى شَاةً
/ 39 - فيه: أُمّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: بُعِثَ إِلَى نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةِ بِشَاةٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (عِنْدَكُمْ شَىْءٌ) ، فَقُلْتُ: لا، إِلا مَا أَرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ، فَقَالَ: (هَاتِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . اختلف العلماء فى قدر ما يجوز أن يعطى الإنسان من الزكاة، فذكر ابن القصار عن مالك أنه قال: يُعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته وكفاية عياله، ولم يبين مقدار ذلك لمدة معلومة. وعندى أنه يجوز أن يعطيه ما يغنيه حتى يجب عليه ما يزكى.(3/443)
قال المهلب: قد بين المدة فى رواية على، وابن نافع فى المجموعة، قال مالك: يُعطى الفقير قوت سنته، ثم يزيده للكسوة بقدر ما يرى من حاجته. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتى درهم، فإن أعطيته أجزأك. وقال المغيرة: لا بأس أن يعطيه من الزكاة أقل مما تجب فيه الزكاة، ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة. وقال الثورى، وأحمد بن حنبل: لا يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهمًا إلا أن يكون غارمًا. وقال الشافعى: يعطى من الزكاة حتى يغنى، ويزول عنه اسم المسكنة، ولا بأس أن يعطى الفقير الألف، وأكثر من ذلك، لأنه لا تجب عليه الزكاة إلا بمرور الحول. وهو قول أبى ثور. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يعطى من زكاة غنمه للرجل شاة ولأهل البيت الشاتين، والثلاث، وإذا كثرت الحاجة فلا بأس أن يجمع النفر فى الشاة. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (هات فقد بلغت محلها) أى قد صارت حلالاً بانتقالها من باب الصدقة إلى باب الهدية، وهو مثل قوله فى لحم بريرة الذى أهدته لعائشة: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) . وقد ترجم لهذا الحديث بعد هذا باب إذا تحولت الصدقة.(3/444)
30 - باب زَكَاةِ الْوَرِقِ
/ 40 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرَقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. . .) الحديث. قال أبو عبيد: الأوقية اسم لوزن مبلغه أربعون درهمًا كيلاً. ولم يجز أن تكون الأوقية على عهد النبى (صلى الله عليه وسلم) مجهولة القدر، ثم توجب الزكاة فيها، ولا يعلم مقدار وزنها. قال: وكانت الدراهم غير معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، فجمعها وجعل كل عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. وقوله: (كانت الدراهم غير معلومة) يريد لم يكن عليها نقش، وإنما كانت قطع فضة غير مضروبة ودراهم من ضرب الروم، فكره عبد الملك ضرب الروم وردَّها إلى ضرب الإسلام. فى قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) فائدتان: إحداهما: نفى الزكاة عما دون خمس أواق. والثانية: إيجابها فى ذلك المقدار، وما زاد عليه بحسابه هذا يوجبه ظاهر الحديث، لعدم النص على العفو فيما بعد الخمس الأواق حتى يبلغ مقدارًا ما، فلما عدم النص فى ذلك وجب القول بإيجابها فى القليل والكثير. روى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهذا قول النخعى، وعمر بن عبد العزيز،(3/445)
وابن أبى ليلى، ومالك، والليث، والثورى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وقالت طائفة: لا شىء فيما زاد على الخمس الأواق حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا، فإذا بلغتها كان فيها درهم. روى هذا القول عن عمر بن الخطاب، رواه الليث، عن يحيى بن أيوب، عن حميد، عن ابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وطاوس، وعطاء، والشعبى، ومكحول، وابن شهاب، وإليه ذهب أبو حنيفة. قال ابن القصار: واحتجوا بما رواه عبادة بن نُسى عن معاذ بن جبل، أن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره حين بعثه إلى اليمن أن لا يأخذ من الكسور شيئًا، إذا بلغ الورق مائتى درهم، أخذ منه خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى تبلغ أربعين. قال الطبرى: وعلتُهم من طريق النظر القياس على أوقاص البقر، وما بين الفريضتين فى الإبل والغنم أنه لا شىء فى ذلك، فالواجب أن يكون كذلك كل مال وجبت فيه الصدقة أن لا يكون بين الفريضتين غير الفرض الأول. واحتج أهل المقالة الأولى بأن قالوا: إن عبادة بن نُسى لم يسمع من معاذ شيئًا، وراويه: أبو العطوف وهو متروك الحديث، فلا تجوز الحجة به، وعلتهم من طريق النظر القياس على الحبوب والثمار وأن الذهب والفضة معينان مستخرجان من الأرض بكلفة ومؤنة، ولا خلاف بين الجميع أن ما زاد على خمسة أوسق من الحب، وما توصل إليه بمثل ذلك من التمر(3/446)
والزبيب، فيه من الصدقة بحساب ذلك، فالواجب قياسًا أن يكون مثله كل ما وجبت فيه الصدقة مما استخرج من الأرض بكلفة ومؤنة، وهذا القول هو الصواب. قال ابن القصار: ونقول: إن الأموال تختلف بعد إخراج النصاب الأول، فما كان إخراج الزكاة من زيادته لا يشق ويمكن أن يخرج منفصلاً لم يجعل له عفو فيما زاد على النصاب، وما لا يمكن إخراج الحق منه منفصلاً، أو فى وجوب الحق فيه مشقة، لأنه يؤدى إلى الإضرار وسوء المشاركة، ولم يمكن استخلاص حق الفقراء منه إلا بهذه المشقة أُخِّرَ حتى يمكن أخذه منفصلاً، فجعل له نصاب آخر بعد الأول، وأما الدراهم والدنانير والحبوب، فيمكن الأخذ من القليل والكثير منها من غير ضرر للشركة، لاحتمال التجزئة والتبعيض، فاختلف حكمها، وحكم المواشى من هذا الوجه، وقياسهم فاسد، فيما روى عن أبى حنيفة، فى خمسين من البقر مسُنِّة وربع.
31 - باب الْعَرْضِ فِى الزَّكَاةِ
قَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لأهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِى بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ، أَوْ لَبِيسٍ فِى الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأصْحَابِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأَمَّا خَالِدٌ، فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ) ، فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ(3/447)
الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِى خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، فَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ. / 41 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَىْءٌ) . / 42 - وفيه: ابْن عَبَّاس، أن النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خرج إِلى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بالصدقة. . . . .) الحديث. اختلف العلماء فى أخذ العروض والقيم فى الزكاة، فقال مالك والشافعى: لا يجوز ذلك. وجوزه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بما ذكر البخارى من أخذ معاذ للعروض فى الزكاة، وبحديث أنس عن أبى بكر، وقال: وكان معاذ ينقل الصدقات إلى المدينة، فيتولى رسول الله قسمتها، فإن كانت هذه الصدقة نقلها إلى المدينة فى حياة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقسمها بين فقراء المدينة، فلا محالة أنه قد أقره على جواز أخذ البدل فى الزكوات، لأنه قد علم (صلى الله عليه وسلم) أن الزكوات ليس فيها ما هو من جنس الثياب، وأنها لا تؤخذ إلا على وجه البدل، فصار إقراره له على فعله دلالة على الجواز،(3/448)
وإن كان بعد موته فقد وضعها أبو بكر بحضرة الصحابة فى مواضعها مع علمهم أن الثياب لا تجب فى الزكاة، فصار ذلك إقرارًا منهم على جواز أخذ القيم، فتحصل للمسألة اتفاق بين الصحابة، قالوا: وكذلك أمره (صلى الله عليه وسلم) بإخراج بنت لبون، عن بنت مخاض، ويزيد المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، وهذا على طريق القيمة، قالوا: وإذا جاز أن يخرج عن خمس من الإبل شاة وهو من غير الجنس، جاز أن يخرج دينارًا عن الشاة. واحتجوا بما روى عن عمر بن الخطاب، أنه كان يأخذ العروض فى الزكاة ويجعلها فى صنف واحد من الناس، ذكره عبد الرزاق، عن الثورى، عن ليث، عن رجل حدثه عن عمر، ولهذا المذهب احتج البخارى، على كثرة مخالفته لأبى حنيفة، لكن اتباع الأحاديث قاده إلى موافقته. وقول البخارى: فجعلت المرأة تلقى خرصها وسخابها فلم يخص الذهب والفضة من العروض. وموضع الحجة منه أن السخاب ليست من فضة ولا ذهب. قال ابن دريد: السخاب: قلادة من قرنفل أو غيره، والجمع: سُخُب. ومن حلى النساء: الوَقْف، وهو من عاج وذَبْل، ما لم يكن من فضة ولا ذهب، فهو من العروض. فأراد البخارى أنه (صلى الله عليه وسلم) أخذ ذلك كله، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى باب من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده. واحتج المخالفون لهذا المذهب بأن قالوا: حديث معاذ خاص له لحاجة علمها بالمدينة، رأى أن المصلحة فى ذلك، وقامت الدلالة على أن غيره لا يجوز له أخذها، قالوا: وكذلك أخذ عمر العروض(3/449)
على وجه التطوع لا على صدقة الفريضة، وقالوا فى حديث أنس: أنه لم يعمل به أهل المدينة، ولا أمر أبو بكر ولا عمر به السعاة، فوجب تركه لمعنى علموه. واحتج بحديث معاذ من أجاز نقل الصدقة إلى بلد آخر غير البلد الذى جُبيت فيه وستأتى هذه المسألة بعد هذا فى باب (أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى الفقراء) ، إن شاء الله. ووقع فى هذا الباب فى قول معاذ: ائتونى بعرض ثياب خميص بالصاد، والصواب فيه بالسين، كذلك فسره أبو عبيد، وأهل اللغة. قال صاحب العين: الخميس والمخموس: ثوب طوله خمسة أذرع. وذكره أبو عبيد، عن الأصمعى، وقال: عن أبى عمرو الشيبانى إنما قيل له: خميس، لأن أول من أمر بعمله ملك من ملوك اليمن يقال له: الخمس. فنسب إليه، واستشهد بقول أعشى بن قيس يصف نبات الأرض: يوما تَراها كشِبْه أَرْدِيِةَ ال خِمْسِ ويومًا أَدِيمها نَغِلا وقال الطبرى: فى قولهم: (مخموس) يدل أنه مما جاء مجىء ما يصرف من الأشياء التى أصلها مفعول إلى فعيل مثل جريج أصله: مجروح، وقتيل أصله: مقتول.(3/450)
32 - باب لا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ
وَيُذْكَرُ عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مِثْلَهُ. / 43 - فيه: ثُمَامَةُ، أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) . واختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقال مالك فى الموطأ: تفسير قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يجمع بين متفرق) وهو أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة، قد وجب على كل واحد منهم فى غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك، وتفسير قوله: (ولا يفرق بين مجتمع) أن الخليطين يكون لكل واحد منهم مائة شاةٍ وشاةٌ، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا أظَلَّهُما المُصَدِّق، فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة فنهوا عن ذلك. فقيل: لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وإنما يعنى بذلك أصحاب المواشى. وهو قول الثورى، وكذلك قال الأوزاعى: هو خطاب لرب المال، وذلك أن يفترق الخلطاء عند قدوم المصدق، يريدون به بخس الصدقة. قال: ويصلح أن يراد به الساعى يجمع بين مفترق ليأخذ(3/451)
منهم أكثر مما عليهم اعتداء، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، قالا: المراد به رب المال والساعى، فإذا كان لرجل مائة وعشرون شاة، فلا يفرقها أربعين أربعين، ليأخذ ثلاث شياه منها، لأن فيها مجتمعة شاة واحدة، فنهى الساعى عن ذلك. (ولا يجمع بين متفرق) رجل له مائة شاة وشاة، وآخر له مثلها، فإذا تركا على افتراقهما، كان فيها شاتان، وإذا جمعا كان فيها ثلاث شياه، وكذلك أصحاب الماشية يكون لرجلين أربعون شاة، فإذا جاء المصدق فَرَّقَاها على نفسين أو ثلاثة، فلا يكون فيها شىء، ولو تركت كان فيها شاة، أو يكون لثلاثة أربعون أربعون فإذا جاء المصدق جمعوها فتصير لواحد، فيأخذ منها شاة، فهذا لا يحل لرب المال، ولا للساعى. قال الشافعى: والخشية: خشية الساعى أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة، وليس واحد منهما أولى بالخشية من الآخر، فأمر أن يقر كل على حاله إن كان مجتمعًا صَدَّق مجتمعًا، وإن كان مفترقًا صَدَّق مفترقًا. وقال أبو حنيفة: معنى قوله: (لا يجمع بين متفرق) أن يكون بين الرجلين أربعون شاة، فإن جمعاها صارت فيها شاة واحدة، ولو فرقاها عشرين عشرين لم يكن فيها شىء. قالوا: ولو كانا شريكين متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما. قال: ومعنى قوله: (لا يفرق بين مجتمع) أن يكون(3/452)
للرجل مائة وعشرون شاة، ففيها شاة واحدة، فإن فرقها المصدق فجعلها أربعين أربعين ففيهما ثلاث شياه، فنهى عن ذلك. وقال أبو يوسف: معنى قوله: (لا يجمع بين متفرق) أن يكون للرجل ثمانون شاة، فإذا جاء المصدق، قال: هى بينى وبين إخوتى لكل واحد منا عشرون فلا زكاة فيها، أو يكون له أربعون ولإخوته أربعون أربعون، فيقول: هذه كلها لى، وليس فيها إلا شاة واحدة، فهذه خشية الصدقة، لأن الذى يؤخذ منه يخشى الصدقة. قال: ويكون وجه آخر أن يجىء المصدق إلى ثلاثة إخوة، لواحد منهم عشرون ومائة شاة فعليه شاة فيقول: هذه بينكم، لكل واحد أربعون فأنا آخذ منها ثلاث شياه لكل أربعين شاة، أو يكون لهم جميعًا أربعون شاة، فلا يكون عليهم زكاة، فيقول المصدق: هذه لواحد منكم فأنا آخذ منها شاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخلطاء فى الصدقة كغير الخلطاء، لا يجب على كل واحد منهما فيما يملك إلا مثل الذى يجب عليه لو لم يكن خليطًا كالذهب والفضة والزرع، ولا يغير سنة الزكاة خلط أرباب المواشى بعضها ببعض. قال الطبرى وغيره: وما تأوله أبو حنيفة وأصحابه تسقط معه فائدة الحديث، لأن نهيه (صلى الله عليه وسلم) أن يجمع بين مفترق ويفرق بين مجتمع، إنما أراد به: لا يجمع أرباب المواشى ولا المصدق بين المواشى المفترقة بإفراق الأرباب، ولا يفرقوا بين المواشى المجتمعة بخلط أربابها بينها، وأراد (صلى الله عليه وسلم) إقرار الأموال المفترقة(3/453)
والمختلطة على ما كانت عليه قبل لحوق الساعى، ولا يتحيل بإسقاط صدقة بتفريق ولا جمع، ولو كان تفريقها مثل جمعها فى الحكم ما أفاد ذلك فائدة ولا نهى عنه، وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهى عنه، ولولا أن ذلك معناه لما كان لتراجع الخليطين بالتسوية بينهما معنى معقول، لأنهما إذا كانا يصدقان وهما خليطان صدقة المفردين لم يجب لأحدهما قبل صاحبه بسبب ما أخذ منه من الصدقة تباعة ولا تراجع، فلا يجوز أن يخاطب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمته خطابًا لا يفيدهم معنى. وفى أمره (صلى الله عليه وسلم) الخليطين بالتراجع بينهما بالسوية صحة القول بأن صدقة الخلطة صدقة الواحد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة. قال ابن القصار: وقوله: (يتراجعان بينهما) يقتضى أن يكونا اثنين، وهذا لا يجىء على مذهب أبى حنيفة بوجه. قال الخطابى: قوله: (التى فرض رسول الله) معناه: قدرها وبينها، وأصل الفرض: القطع، ومنه أخذ فرض النفقات، وهو بيان مقدارها، وكذلك فرض المهر. قال الله تعالى: (أو تفرضوا لهن فريضة) [البقرة: 236] ، ومثله فرض الجند، وهو ما يقطع لهم من العطاء. قال: وإنما تأولناه على فرض التقدير دون فرض الإيجاب والإلزام؛ لأن فرض الزكاة قد لزم بالكتاب فوقعت به الكفاية، وإنما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيها ما هو بيان لها.(3/454)
33 - باب مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ
قَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلا يُجْمَعُ مَالُهُمَا. وَقَالَ سُفْيَانُ: لا يَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً. / 44 - فيه: قَالَ ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) . قال ابن أبى زيد: قال بعض العلماء من أصحابنا: الخليط فى الغنم الذى لا يشارك صاحبه فى الرقاب ويخالطه فى الاجتماع والتعاون، والشريك المشارك فى الرقاب، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكًا. قال الله تعالى فى الخلطاء من غير شركة: (وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض) [ص: 24] الآية. وفى أول القصة: (إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة) [ص: 23] . ومن المجموعة، وكتاب ابن المواز وغيره عن مالك: الخليط الذى غنمه من غنم صاحبه، والذى لا يعرف غنمه هو الشريك، وله حكم الخليط فى الزكاة. وقال الشافعى: الذى لا أشك فيه أن الخليطين الشريكان إذا لم يقتسما الماشية. قال ابن المنذر: وأما قول طاوس وعطاء: (إذا علم الخليطان مالهما فلا يجمع مالهما) ، فهى غفلة منهما، إذ غير جائز أن يتراجعا بالسوية والمال بينهما لا يَعرف أحدُهما ماله من مال صاحبه. واختلفوا فى ما يوجب الخلطة، فقال مالك: إذا كان الراعى واحدًا والفحل واحدًا والمراح واحدًا فهم خلطاء، وإن(3/455)
افترقوا فى المبيت والحلاب، قال ابن القصار: فذكر مالك ثلاثة أوصاف، وقال مالك فى كتاب ابن المواز: إذا كان الفحل واحدًا، والراعى واحدًا، والمراح واحدًا فهم خلطاء. وإن كان بعض هذه يجزئ من بعض. قال أشهب: ما لم يفترقا فى الأكثر. وقاله ابن القاسم. قال ابن القصار: وكان الأبهرى يقول: إن اجتمع وصفان أيهما كان صحت الخلطة. وحكى عن بعض شيوخه أنه كان يراعى وصفًا واحدًا وهو الراعى، قال: لأنه كالإمام الذى يتميز به حكم الجماعة من حكم الانفراد. وقال أشهب فى المجموعة: لا تكون خلطة بوصف واحد. وعند الشافعى: لا يكونان خليطين إلا بأربعة أوصاف: المسرح، والمبيت، والحوض، والفحل، فمتى أخل بشرط من هذا لم تكن خلطة، وزكى كل واحد زكاة نفسه. قال ابن القصار: والصحيح عندى أن الخلطة تصح بشرطين، ولكن يراعى فيها أكثر ما يدخل الرفق والترفيه على الخليطين، وإذا كان الراعى واحدًا ترفها فى الأجرة، فليس من يرعى لواحد كمن يرعى لاثنين، وإذا كان الفحل واحدًا فكذلك، وإذا كان السقى من حوض، أو بئر يحتاج إلى من يعالجه فكذلك، ففى الغالب أن الأغنام إذا خرجت إلى المسرح لا تكاد تخلو من الاجتماع فى وصف ما، فإذا زاد عليه وصف آخر فيه رفق، وترفيه حصلت الخلطة. وعند أبى حنيفة وأصحابه أن الخلطة لا تغير حكم الانفراد فلم تراع أوصافها، وإنما دفع أبو حنيفة الخلطة، والله أعلم(3/456)
السلام: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) ، وقوله: (ولا فيما دون أربعين من الغنم شىء) ورأوا أن الخلطة تغير هذا الأصل، فلم يقولوا بها، ولم يراع مالك مرور الحول كله على الخلطاء، فإذا خالطه قبل حلول الحول بشهر، أو بشهرين فهو عنده خليط. والشافعى يراعى مرور الحول كله عليهما. قال ابن القصار: وعلة مالك أن الرفاهية بالخلطة قد حصلت، ونقصان الزكاة وزيادتها يعتبر بآخر الحول. وقبل ذلك لم يكن من أهل الزكاة. وقال مالك: فى الخليطين لا يزكيان وكاة الواحد حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، فحينئذ يترادان على كثرة الغنم وقلتها، فإن كان لأحدهما دون النصاب لم يؤخذ منه شىء، ولم يرجع عليه صاحبه بشىء. وهو قول الثورى، والكوفيين، وأبى ثور. وقال الليث، والشافعى، وأحمد: عليهما الزكاة، ولو لم يكن لكل واحد منهما نصاب. واحتج الشافعى فقال: لما لم أعلم خلافًا إذا كان ثلاثة خلطاء لهم مائة وعشرون شاة أن عليهم فيها شاة واحدة وأنهم يصدقون صدقة الواحد فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء، لو تفرق كل واحد منهم لم يجز إلا أن يقال: لو كانت أربعون بين ثلاثة رجال كان عليهم شاة، لأنه لما غيرت الخلطة أصل الفريضة فوجب فى الأربعين ثلث شاة وجب أن يغير النصاب، فيكون النصاب بينهم نصاب الواحد كما تكون زكاة الواحد، قال: وبهذا أقول فى الزرع أيضًا، فلو أن حائطًا كان حبسًا(3/457)
على مائة إنسان لم يخرج إلا عشرة أوسق أخذت منه صدقة كصدقة الواحد، واحتج مالك بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) وقول عمر فى سائمة الغنم: (إذا بلغت أربعين ففيها شاة) . قال الطبرى: فغير جائز أن يوجب فيما نفى النبى أن تكون فيه الصدقة صدقة، لأن ذلك لو جاز جاز لآخر أن يبطل الصدقة فيما أوجبها فيه فأبطلنا الصدقة فيما أبطلها فيه (صلى الله عليه وسلم) ، وجعلنا حكم الخليطين حكم الواحد فيما لم تبطل فيه الصدقة، وإنما الخليطان اللذان عناهما النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من كان فى غنمه ما تجب فيه الزكاة. قال مالك فى كتاب ابن المواز: وإنما يتراد الخليطان بقدر العدد لا بقدر ما يلزم الواحد فى الانفراد، ولولا ذلك ما انتفعا بالخلطة. قال غيره: وذلك أن يكون لأحدهما أربعون شاة وللآخر ثمانون، فعلى صاحب الثمانين ثلثا شاة، وعلى صاحب الأربعين ثلث شاة، ولو كان لأحدهما خمسون وللآخر أربعون، لكان على صاحب الخمسين خمسة أتساع شاة، وعلى الآخر أربعة أتساعها.
34 - باب زَكَاةِ الإبِلِ
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 45 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: (وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ تُؤَدِّى صَدَقَتَهَا؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) .(3/458)
قال المهلب: كان هذا القول منه (صلى الله عليه وسلم) قبل فتح مكة، لأنه لو كان بعده لقال له: لا هجرة بعد الفتح، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) علم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة لشدتها ولأوائها ووبائها، ألا ترى قلة صبر الأعرابى الذى استقاله بيعته حين مسته حُمّى المدينة، فقال للذى سأله عن الهجرة: إذا أديت الزكاة، التى هى أكبر شىء على الأعراب، ثم منحت منها وجبتها يوم ردها من ينتظرها من المساكين، فقد أديت المعروف، من حقوقها فرضًا وفضلاً، فاعمل من وراء البحار، فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل للبيعة، لأنه قد شرط عليه ما يخشى من منع العرب الزكاة التى بها افتتنوا بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الهبات فى باب المنحة، فقال فيه: (فهل تمنح منها؟ قال: نعم، قال: فهل تحلبها يوم وردها؟ فقال: نعم) . وقال بعض العلماء: كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضًا. والدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى سأله عن الهجرة: (إن شأنها لشديد، فهل لك من إبل) ؟ ولم يوجب عليه الهجرة. قال أبو عبيد فى كتاب الأموال: كانت الهجرة على أهل الحاضرة، ولم تكن على أهل البادية.(3/459)
وسيأتى شىء من الكلام فى الهجرة فى باب لا هجرة بعد الفتح فى كتاب الجهاد، إن شاء الله تعالى. قال الخطابى: قوله: (لن يَتِرَك) يعنى لن ينقصك، يقال: وتره يتره ترة، قال تعالى: (ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35] ومثله: (لا يلتكم من أعمالكم شيئًا) [الحجرات: 14] يعنى لن ينقصكم. وفيه لغتان: ألت يألت ألتًا، ولات يليت ليتًا، عن اليزيدى.
35 - باب مَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ
/ 46 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ، وَيُعْطِى شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عنده صَدَقَة بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِى مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ) . قال المؤلف: أما قوله: (من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده) ، فلم يأت ذكره فى هذا الحديث، وذكر فى باب(3/460)
العرض فى الزكاة، وهذه غفلة من البخارى، رحمه الله، قال فيه: (ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعند ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شىء) . قال ابن المنذر: اختلف العلماء فى المال الذى لا توجد فيه السن التى تجب، ويوجد دونها أو فوقها، فكان النخعى يقول بظاهر هذا الحديث: إذا أخذ سنًا فوق سن رد عليهم عشرين درهمًا، أو شاتين، وإذا أخذ سنًا دون سن ردوا عليه عشرين درهمًا أو شاتين. وهو قول الشافعى، وأبى ثور. وفيها قول ثان، روى عن على بن أبى طالب: أن يرد عشرة دراهم أو شاتين. وهو قول الثورى. وفيها قول ثالث: وهو أن تؤخذ قيمة السن التى تجب عليه. وهو قول مكحول، والأوزاعى. وفيها قول رابع: قال أبو حنيفة: تؤخذ قيمة السن الذى وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليهم فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها، وأخذ الفضل دراهم، ولم يعين عشرين درهمًا ولا غيرها وجوز أخذ ابن اللبون مع وجود بنت المخاض إذا كانت قيمتهما واحدة. وقال مالك: على رب المال أن يبتاع للمصدق السن التى تجب عليه ولا ضير فى أن يعطيه بنت مخاض عن بنت لبون، ويزيد ثمنًا، أو يعطى بنت لبون عن بنت مخاض، ويأخذ ثمنًا. وقال(3/461)
ابن القاسم فى المجموعة: لا ينبغى أن يعطى أفضل، ويأخذ ثمنًا، أو أدنى ويؤدى ثمنًا، فإن ترك أجزأه. وقال ابن المواز: قال ابن القاسم، عن مالك فيمن عليه شاة فى خمس ذود فدفع فيها دراهم، قال: لولا خوفى أن يدخل فيه الظلم لم أر به بأسًا، ثم رجع فقال: لا يدفع إلا شاة، فإن دفع دراهم أجزأه، وبه أخذ ابن القاسم، وقاله سحنون. قال أشهب فيمن أدى قيمة صدقته أو أجبره المصدق على ذلك: أنه يجزئه إذا تعجله، للخلاف فيه. وحجة مالك فى منعه أخذ القيم فى الزكاة أنه من ابتياع الصدقة عنده. قال ابن القصار: أخذ مالك فى ذلك بكتاب عمر بن الخطاب فى الصدقة، وفيه: (فى خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين: بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين: ابنة لبون، وفيما فوق ذلك إلى ستين: حقة طروقة الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين: جذعة، وفيما فوق ذلك إلى تسعين: ابنتا لبون، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة: حقتان طروقتا الفحل، فإن زاد على ذلك ففى كل أربعين: ابنة لبون، وفى كل خمسين حقة) . ولم يأخذ مالك بحديث أنس، عن أبى بكر، ولا وجد العمل عليه بالمدينة، وأخذ بكتاب عمر فى الصدقة، وهو معروف مشهور عندهم بالمدينة. قال عبد الواحد: ومن منع أخذ القيم فى الزكاة فاحتج بأن ذلك من ابتياع الصدقة فليست بحجة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد أجاز للمعرى ابتياع عريته، وهى صدقة تَمْر إلى الجداد،(3/462)
فاجتمع فى هذا إجازة ابتياع الصدقة وبيع التمر بالتمر نسيئة إذ لم يكن بد من ذلك للضرر الداخل على المعرى، فكذلك أخذ القيم جائز، وهى أخف من العرية لضرورة استهلاك حق المساكين فى ماله. وقال المهلب: إذا لم يجد السن، وأخذ غيرها، وجعل معها شاتين أو عشرين درهمًا، فليس ذلك من ابتياع الصدقة، لأن الصدقة لم تتعين فيبتاعها، وإنما هى معدومة مستهلكة، فعليه قيمة المستهلك فى إبله من جنس إبله أو غير جنسها، ألا ترى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أوجب فى خمس من الإبل شاة وليست من جنسها، وقال فى الخليطين: فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، والتراجع لا يكون إلا بالتقويم وأخذ العوض. وقال الطبرى: لما جعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، للمصدق إذا وجبت فى الإبل سن، ولم يجدها ووجد دونها أن يأخذ ما وجد ويلزمه دراهم أو غيرها، وإن وجد عنده فوق السن أن يأخذها، ويرد عليه قيمة ذلك دراهم أو غنمًا، وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإنه إن لم يكن بيعًا وشراء فنظير للبيع والشراء، وذلك لأن البيع إنما هو إزالة ملك مالك إلى غيره بعوض، فكذلك المعطى ابنة مخاض وعشرين درهمًا،(3/463)
أو شاتين مكان ابنة لبون لا شك أنه يعتاض بدراهمه فضل ما بين ابنة مخاض، وابنة لبون، التى هى صدقة ماله، وأكثر العلماء على القول بحديث أنس، أو بعضه، ولم أجد من خالفه كله غير مالك ابن أنس.
36 - باب زَكَاةِ الْغَنَمِ
/ 47 - فيه: ثُمَامَةُ، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ:
(بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِى أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا، فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ، فِى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ - يَعْنِى سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ - فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِى كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا أَرْبَعٌ مِنَ الإبِلِ، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإبِلِ، فَفِيهَا شَاةٌ، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِى(3/464)
سَائِمَتِهَا، إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاثِ مِائَةٍ، فَفِى كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَفِى الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) . قال المهلب: قوله فى الحديث: (فما دونها من الغنم) يريد أن من الغنم يصير أخذ الزكاة إلى أربع وعشرين، وليس فى شىء من زكاة الإبل خلاف بين العلماء إلا فى قوله: (فإذا زادت واحدة على عشرين ومائة) ، فإن مالكًا اختلفت الرواية عنه، فروى عنه ابن القاسم، وابن عبد الحكم أن الساعى بالخيار بين أن يأخذ ثلاث بنات لبون، أو يأخذ حقتين على ما يراه صلاحًا للفقراء، وهو قول مطرف، وابن أبى حازم، وابن دينار، وأصبغ، وقال ابن القاسم: فيها ثلاث بنات لبون، ولا يخير الساعى، إلا أن تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة، وابنتا لبون. وهذا قول الزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور. وروى عبد الملك، وأشهب، وابن نافع، عن مالك أن الفريضة لا تتغير عن الحقتين بزيادة واحدة حتى تزيد عشرًا فيكون فيها بنتا لبون وحقة، وهو مذهب أحمد، قال عبد الملك عن مالك: إنما يعنى بقوله فى الحديث فيما زاد(3/465)
على عشرين ومائة، يريد زيادة تحيل الأسنان، ولا تزول عن الحقتين إلى ثلاثين ومائة. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثورى: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة، فيكون فى خمس شاة، وفى عشر شاتان، فإذا صارت مائة وأربعين من الإبل ففيها حقتان وأربع شياه، فإذا بلغت مائة وخمسة وأربعين ففيها حقتان، وبنت مخاض كما كان فى ابتداء الإبل، فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت استأنفت الفرائض كما استأنفت فى أولها. وأما وجه قول مالك فى أن الساعى بالخيار، فلأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما قال: (فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففى كل خمسين حقة) كان فى المائة حقتان بإجماع، فللمصدق أخذها من رب الماشية إذا كانت الزيادة على ذلك قبل أن تبلغ خمسًا وعشرين لا شىء فيها بإجماع، وله أيضًا أن يأخذ ثلاث بنات لبون لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فإذا زادت على عشرين ومائة، ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) كان فى المائة حقتان، فله إذا كان ذلك أن يتخير أفضل المنزلتين لأهل الحاجة. قاله الطبرى. قال غيره: ووجه قول ابن شهاب الذى اختاره ابن القاسم، فلأن أصل العبادات لما كانت مبنية على الاحتياط، وكان اسم الزيادة يقع على الواحد كان من الاحتياط للزكاة أن يتغير الحكم فى العشرين ومائة إذا زادت واحدة فتنتقل عن حكم الحقتين إلى حكم الثلاث بنات لبون، وهذا أحوط، ويعضده رواية الزهرى، عن سالم، عن أبيه، قال: إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون.(3/466)
وكذلك فى كتاب الصدقات لعمرو بن حزم، وقول مالك أقيس، لأن الواحدة من الإبل لا تغير حكم الزكاة فى الأحوال التى تقع زكاتها منها، وإنما هو لغو، ولو غيرت حكمها، ونقلتها من حال إلى حال لوجب أن تؤخذ الزكاة من الواحدة الزائدة كما تؤخذ من العشرين ومائة، فيكون فى كل أربعين وثلث ابنه لبون، ولا يؤخذ من ستين ومائة أربع بنات لبون، لأنها لا تبلغ أربعين وثلثًا، فلما أجمعوا أن هذا لا يجوز دل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) إنما أراد الزيادة التى تجمع بحلولها فى المال الحقة وبنات اللبون، لا ما سواها. قال ابن القصار: ووجه رواية عبد الملك عن مالك ما رواه محمد بن عبد الرحمن الأنصارى، أن عمر بن عبد العزيز طلب كتاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وكتاب عمر فى الصدقة، وفيه: (فإذا بلغت عشرين ومائة فليس فيما زاد فيها مما دون العشرة شىء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، ففيها بنتا لبون وحقة إلى أن تبلغ أربعين ومائة، ففيها حقتان وبنت لبون) . فهذا الخبر مفسر، وفى خبر أنس زيادة مبهمة ومحتملة للواحدة والعشر، ولا ينتقل عن الحقتين إلا بدليل، وفى زيادة العشر تنتقل بيقين، لأن فى ظاهر الخبر ذكر السنين لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين بنت لبون) ، فيحتاج إلى فريضة تجمع الأمرين جميعًا. وقال الطبرى: اختلفت الأخبار فى ذلك، فروى ما يوافق كل طائفة فمن شاء أخذ بقول من شاء منهم. قال ابن القصار: أما قول أبى حنيفة أن الفريضة تستأنف، فهو(3/467)
خلاف حديث أنس عن أبى بكر، وهو المعول عليه فى هذا الباب، وفيه: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففى كل أربعين بنت لبون، وفى كل خمسين حقة) ولم يخص زيادة من زيادة، ولا ذكر استئناف الغنم، وكذلك فى رواية الزهرى عن سالم، عن أبيه، وفى كتاب عمر بن الخطاب، وهذه جملة الأخبار المعمول عليها، وهى مخالفة لقول أبى حنيفة، قال: وأما صدقة الغنم، فلا شىء فيها حتى تبلغ أربعين إلى عشرين ومائة، ففيها شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وهذا إجماع، وإذا زادت واحدة على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففى كل مائة شاة، وهذا قول مالك، وأبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وجماعة أهل الأثر، وهو قول على، وابن مسعود، وروى عن النخعى أنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة وشاة، ففيها أربع شياه، وإذا كانت أربع مائة شاة، ففيها خمس شياه، وبه قال الحسن بن صالح، وهذا القول مخالف للآثار المرفوعة فى ذلك، فلا وجه له. وأجمعوا على أن الزكاة فى السائمة من الإبل والبقر والغنم. والسائمة: هى الراعية، واحتج مالك على ذلك بقول الله تعالى: (ومن شجر فيه تسيمون) [النحل: 10] يقول: فيه ترعون. واختلفوا فى العوامل، فقال مالك والليث: فى العوامل والمعلوفة الزكاة كهى فى السوائم، وهو قول مكحول، وعمر بن عبد العزيز، والزهرى، وروى عن على ومعاذ أنه لا زكاة فيها، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة قائل هذه المقالة القياس على إجماع الجميع ألا صدقة فى(3/468)
العروض التى هى لغير التجارة، لأن أهلها اتخذوها للزينة والجمال لا لطلب الربح فيها بالتجارة، فكذلك حكم عوامل المواشى مثلها لا صدقة فيها، وإنما تجب الصدقة فيما يتخذ منها للنتاج والنسل وارتفع عن أهلها مئونة علفها بالسوم. وفى حديث أنس: (فى سائمة الغنم الصدقة) ، وكذلك فى كتاب عمر بن الخطاب فى (الموطأ) ، فدليله أن غير السائمة لا شىء فيها، فكذلك سائمة الإبل والبقر. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى كل خمس ذود من الإبل شاة) ، ولم يخص سائمة من عاملة، وكذلك قال فى الغنم فى كتاب عمرو بن حزم فى الصدقة: (فى كل أربعين شاة) ولم يخص، وأيضًا فإن العوامل سائمة فى طبعها وخلقتها، وسواء رعت، أو أمسكت عن الرعى، السوم صفة لازمة لها، كما يقال: ما جاءنى من إنسان ناطق، والنطق من حد الإنسان اللازم له سواء سكت أو نطق، قال: وأيضًا فإن المؤنة التى تلزم فى المعلوفة لا مدخل لها فى إسقاط الزكاة أصلاً، وإنما لها مدخل فى التخفيف والتثقيل، كالعشر ونصف العشر فى زكاة الحرث، فإذا لم يدخل التخفيف فى العوامل لأجل المؤنة بقيت الزكاة على ما كانت عليه، لأن النماء موجود فى السائمة من الدر والنسل والوبر والحمل على ظهورها، وقد قال يحيى بن سعيد وربيعة: لم تزل إبل الكراء تزكى عندنا بالمدينة. فإن قيل: إن عاصم بن ضمرة قد روى عن الحارث، عن على أن(3/469)
النبى، - عليه السلام -، قال: (ليس فى العوامل شىء) ، ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قيل: عاصم والحارث ضعيفان، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرسل، وأصحاب الشافعى لا يقولون بالمراسيل. وقال الخطابى: وقوله: (ومن سئل فوقها فلا يعط) يتأول على وجهين: أحدهما ألا يعطى الزيادة، والآخر ألا يعطى شيئًا من الصدقة، لأنه إذا طلب فوق الواجب كان خائنًا، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته. قال المؤلف: وقوله: (وفى الرقة ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شىء) يعنى تسعين ومائة درهم، لأن نصاب الورق الذى تجب فيه الزكاة خمس أواق، وهو مائتا درهم، لأن الأوقية أربعون درهمًا، وقد تقدم بيان ذلك.
37 - باب لا تُؤْخَذُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ
/ 48 - فيه: ثُمَامَة، عن أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يُخْرَجُ فِى الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ) .(3/470)
عامة الفقهاء على العمل بهذا الحديث، ويذهبون إلى أن المأخوذ فى الصدقات العدل كما قال عمر بن الخطاب، وذلك عدل بين غثاء المال وخياره، قال مالك فى المجموعة: والتيس من ذوات العوار وهو دون الفحل. وقوله: (إلا أن يشاء المصدق) فمعناه عند مالك والشافعى: أن تكون الهرمة، وذوات العوار، والتيس خيرًا للمساكين فى سمنها، أو ثمنها من التى أخرج إليه صاحب الغنم، فأخذ ذلك باجتهاده، والعَوار بفتح العين: العيب كله، والعُوار بضم العين: ذهاب العين الواحدة. وقال الطبرى: جعل النبى المشيئة إلى المصدق فى أخذ ذلك وتركه، فالواجب عليه أن يعمل بما فيه الصلاح لأهل الصدقة ورب الماشية بما يكون عدلاً للفريقين، فيأخذ ذلك إذا كان فى تركه، وتكليف رب الماشية غيرها مضرة عليه، وذلك أن تكون الغنم كلها هرمة، أو جرباء، أو تيوسًا، ويكون فى تكليفه صاحبها غيرها مضرة عليه، فيأخذ منها أو يترك أخذ ذلك إذا كانت الماشية فتية سليمة إناثًا كلها أو أكثرها، فيأخذ منها السليمة من العيوب، وذلك عدل، إن شاء الله، على الفريقين. قال المؤلف: وقد اختلف قول مالك إذا كانت عجافًا كلها أو معيبة أو جرباء أو تيوسًا، فقال فى المدونة: لا يأخذ منها ويلزم صاحبها أن يأتى بما يجوز صحيحة غير معيبة. وذكر ابن المواز أن عثمان بن الحكم سأل مالكًا عن الساعى يجدها عجافًا كلها؟ قال: يأخذ منها ولو كانت ذات عوار كلها، أو تيوسًا فليأت بغيرها.(3/471)
وروى ابن وهب عن مالك، قال: لا تؤخر الصدقة، وإن عجفت الغنم، قال سحنون، وهو قول المخزومى، وابن الماجشون، ومطرف، وذكر ابن المنذر، عن أبى يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعى: إذا كانت جرباء كلها أخذ منها، قال الشافعى: لأنى إذا كلفتُهُ صحيحة فقد أوجبتُ عليه أكثر مما وجب عليه، ولم توضع الصدقة إلا رفقًا بالمساكين من حيث لا يضر بأرباب الأموال. وروى عن أبى حنيفة فى المعيبة أنها تؤخذ. وقد اختلف أهل العلم فيما عدا ما ذكر فى هذا الحديث مما لا يجوز للمصدق أخذه، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال للساعى: عُدّ عليهم البهيمة، حتى تعد السخلة يحملها الراعى على يده ولا يأخذها. وهو قول مالك فى المدونة. وجماعة من العلماء لا يجوزون أخذ السخال وذوات العيوب والهرمة ما وجدوا فى الغنم الثنية والجذعة، وسأذكر اختلافهم فى ذلك فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وقال أبو عبيد: غرا الإبل السخال الصغر، واحدها: غرى. قال غيره: هو ولد الضائنة إذا وضعته أمه ذكرًا كان أو أنثى، وهو بَهْمَة وبهم أيضًا.
38 - باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِى الصَّدَقَةِ
/ 49 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ بِالْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.(3/472)
قال أهل اللغة: العناق: ولد الماعز إذا أتى عليه أربعة أشهر وفصل عن أمه وقوى على الرعى فهو جدى، والأنثى: عناق، والجمع: عنوق وعنق، فإذا أتى عليه الحول فالذكر تيس، والأنثى عنز، ثم يكون التيس جذعًا فى السنة الثانية، ثم ثنيا فى الثالثة. وقال أشهب وابن نافع: الجذع فى الضأن والمعز ابن سنة، وهو الذى يجوز فى الصدقة. وعلى هذا جماعة العلماء إلا النخعى والحسن، والكوفيين، فإنهم قالوا: لا تؤخذ الجذعة فى الصدقة. واختلف أهل العلم فى أخذ العناق فى الصدقة والسخال والبهم إذا كانت الغنم كذلك كلها، أو كانت الإبل فصلانًا والبقر عجولاً كلها. قال مالك: عليه فى الغنم شاة جذعة، أو ثنية، وعليه فى الإبل والبقر ما فى الكبار منها. وهو قول زفر، وأبى ثور. وقال أبو يوسف، والأوزاعى، والشافعى، وإسحاق: يؤخذ منها إذا كانت صغارًا من كل صنف واحد منها. وقال أبو حنيفة، والثورى، ومحمد: لا شىء فى الفصلان، ولا فى العجول، ولا فى صغار الغنم لا منها، ولا من غيرها، ذكره ابن المنذر، وذكر عنهم خلافه فقال: كان أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى، ويعقوب، ومحمد، والشافعى، وأحمد بن حنبل، يقولون: فى أربعين عجلاً مسنة. وعلى هذا القول هم موافقون لقول مالك. قال ابن القصار: والحجة لمالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى(3/473)
كل أربعين شاة شاة) ، والشاة: اسم يختص بالكبير فى غالب العرف، فدل أن الواجب فيها شاة لا سخلة، وأيضًا قول عمر بن الخطاب: اعدد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. وهذا يدل أنها تُعَدَّ، كانت أمهاتها باقية، أو قد عدمت. ومن الحجة لأبى حنيفة فى قوله للذى لم يوجب فى الصغار شيئًا: إذ لم يجز أخذ السخلة من أربعين شاة، كذلك لا يؤخذ من أربعين سخلة شىء فيقال له: هذا لا يلزم لأننا لا نأخذ سخلة من الكبار ولا من الصغار، وإنما نأخذ السن المجعول، فكما نأخذ شاة من أربعين كبارًا، كذلك نأخذ شاة من أربعين صغارًا. فإن احتج من أجاز أخذ الصغار إذا كانت صغارًا كلها بقول الصديق: (والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله) ، فدل أنها تؤخذ فى الصدقة، قيل: تأويل قوله: (يؤدونها) أى يؤدون عنها ما يجوز أداؤه ويشهد لصحة هذا قول عمر: (اعدد عليهم السخلة ولا تأخذها) ، وإنما خرج قول الصديق على التقليل و [. . . . . .] ، ألا ترى أنه روى: (لو منعونى عقالاً) وقد اختلف فى تفسيره على ما تقدم فى أول كتاب الزكاة. ومذهب مالك أن نصاب الغنم يكمل بأولادها كربح المال سواء، وذلك مخالف عنده لما أفاد منها بشراء أو هبة، أو ميراث لا يكمل منه النصاب، ويستأنف به حولاً، وإن كان عنده نصاب، ثم استفاد بغير(3/474)
ولادة زكاة مع النصاب، وهو قول أبى حنيفة، وقال الشافعى: لا يضم نتاج الماشية إلا إلى النصاب، ولا يكمل به النصاب.
39 - باب لا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِى الصَّدَقَةِ
/ 50 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ، تؤخذ من أغنيائِهِم وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) . وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى أول كتاب الزكاة، وقد احتج أصحاب الشافعى لمذهبه فى أن السخال يؤخذ منها ما يؤخذ فى الكبار بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (وتوق كرائم أموال الناس) ، قال: فإذا لم يملك كريم مال فلا يكلف سواه. قال ابن القصار: ويقال له: وكذلك أيضًا نهى عن أخذ الدون، وكلف الوسط، وليس إذا كلف الوسط كلف كريم ماله، ألا ترى أنا نرفه رب المال إذا كانت غنمه كرامًا كلها رُبَّى مواخض ولوابن، وشاة اللحم، والفحل، فلا نأخذ منها، فكذلك نرفه الفقراء بأن لا نأخذ الصغيرة، ونأخذ السن المجعول، وهذا هو العدل بينهم وبين أرباب المواشى، كما قال عمر، رضى الله عنه.(3/475)
40 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَة
/ 51 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ) . قال ابن قتيبة: ذهب قوم إلى أن الذود جمل واحد، وإلى أنه جمع، والذى عندى أن الذود ما بين الثلاث إلى العشر، وهو أول اسم جماعات الإبل، ولو كان الذود واحدًا ما جاز أن يقال: خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب، وخمس درهم، ولكان الوجه أن يقال: خمسة أذواد و: خمسة أثواب. وقال أبو حاتم السجستانى: قالوا تاركين لقياس الجميع: ثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود، كما قالوا: ثلاثمائة وأربعمائة إلى تسعمائة والقياس ثلاث مئين، أو مئات. وقد قالوا: أذواد كثيرة فى العشر، ولا يكادون يقولون: ثلاث مئين، والفقهاء يقولون: الذود جمل واحد، ولا يعرف ذلك أهل اللغة وقد سمى الله الزكاة صدقة، فقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) [التوبة: 103] . وأجمع أهل العلم على أن ما دون خمس ذود من الإبل لا صدقة فيها، وأن فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شباه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس عشرين بنت مخاض، وهذا أول نصاب يؤخذ فيه من الإبل على ما جاء فى(3/476)
كتاب أبى بكر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الصدقة، وقد تقدم فى زكاة الورق، وستأتى صدقة الحبوب والطعام فى موضعها، إن شاء الله.
41 - باب زَكَاةِ الْبَقَرِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لأعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ) . / 52 - فيه: أَبُو ذَرٍّ، انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا حَلَفَ، مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لا يُؤَدِّى حَقَّهَا إِلا أُتِىَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) . فى هذا الحديث دليل على وجوب زكاة البقر، وسائر الأنعام من أجل الوعيد الذى جاء فيمن لم يؤد زكاتها. أما مقدار نصاب زكاة البقر، ومقدار ما يؤخذ منها فهو فى حديث معاذ بن جبل، وهو متصل مسند من رواية معمر والثورى، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن مسروق، عن معاذ بن جبل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة) ، وكذلك فى كتاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لعمرو بن حزم، وفى كتاب الصدقات لأبى بكر، وعمر، وعلى ذلك مضى الخلفاء، وعليه عامة الفقهاء.(3/477)
قال ابن المنذر: ولا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، وفى ذلك شذوذ لا يلتفت إليه، روى عن ابن المسيب، والزهرى، وأبى قلابة فى كل خمس من البقر شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمس عشرة ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا جاوزت فبقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا جاوزت ففى كل أربعين بقرة بقرة. وروى عن أبى قلابة أنه قال: فى كل خمس شاة إلى أن تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع، واعتل قائلوا هذه المقالة بحديث لا أصل له رواه حبيب بن حبيب، عن عمرو بن هرم، أنه فى كتاب عمرو بن حزم، وحجتهم من طريق النظر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد عدلها بالإبل، إذ جعل الواحدة منها تجزئ عن سبعة فى الهدايا والضحايا كما تجزئ الإبل، فإذا كانت تعادلها فزكاتها زكاة الإبل. قالوا: وخبر معاذ منسوخ بكتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى عماله الذى رواه عمرو بن هرم. قال الطبرى: وحديث عمرو بن هرم واه غير متصل، ولا يجوز الاحتجاج بمثله فى الدين والمعروف فى كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الصدقة لآل عمرو بن حزم خلاف ذلك، وجماعة الفقهاء على أنه لا شىء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت(3/478)
ستين ففيها تبيعان، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد، وسئل أبو حنيفة، فقال: ما زاد على الأربعين من البقر فبحسابه، ففى خمسة وأربعين مسنة وثُمُن، وفى خمسين مسنة وربع، وعلى هذا كل ما زاد أقل أو كثر، هذا هو المشهور عن أبى حنيفة، وقد روى أسد بن عمرو، عن أبى حنيفة مثل قول الجماعة، ولا نقول إلا قولهم، لأنهم الحجة على من خالفهم، وفى حديث معاذ أنه قال: (لم يأمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الأوقاص بشىء
. 42 - باب فضل الزَّكَاةِ عَلَى الأقَارِبِ
وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ) . / 53 - فيه: أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : (بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأقْرَبِينَ) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ.(3/479)
/ 54 - وفيه: أَبُو سَعِيد، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فقَالَتْ: يَا رسول اللَّه، إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِى حُلِىٌّ لِى، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ) . قال المؤلف: من روى مال رايح بالياء فمعناه: يروح عليه أجره كلما أطعمت الثمار، ومن روى رابح بالباء، فمعناه: ذو ربح، وذلك أن صاحبه وضعه موضح الربح يوم القيامة، وقال الخطابى: وقوله: رابح، أى ذو ربح، كقولك: ناصب، أى ذو نصب. قال النابغة: كِلينى لهَمٍّ يا أميمةَ نَاصِبِ والرايح: القريب المسافة، الذى يروح خيره، ولا يعزب نفعه. وقوله: (بخ) كلمة إعجاب، وقد تخفف وتثقل، فإذا كررت فالاختيار أن تنون الأول وتسكن الثانى، وهكذا هو فى كل كلام مثنى، كقولهم: صهٍ صهْ، وطابٍ طابْ، ونحوهما، وقال الأحمر: فى بخ أربع لغات: الجزم، والخفض، والتشديد، والتخفيف.(3/480)
وقوله: (وإن أحب أموالى إلى بيرحاء) فيه من الفقه: حب الرجل الصالح للمال، وقد قال أبو بكر لعائشة: ما أحد أحب إلى غنى منك، ولا أعز على فقرًا منك. وفيه: إباحة دخول أجنة الإخوان، والشرب من مائها، والأكل من ثمارها بغير إذنهم إذا علم أن أَنْفُسَ أصحابها تطيب بذلك، وكان مما لا يتشاح فيه. قال المهلب: وفيه أن الصدقة إذا كانت جزلة أن صاحبها يمدح بها ويغبط لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (بخ، ذلك مال رابح) فسلاه (صلى الله عليه وسلم) بما يناله من ربح الآخرة، وما عوضه الله فيها عما عجله فى الدنيا الفانية. وفيه: أن ما فوته الرجل من حميم ماله، وغبيط عقاره عن ورثته بالصدقة أنه يستحب له أن يرده إلى أقاربه غير الورثة، لئلا يفقد أهله نفع ما خوله الله، عز وجل، وفى كتاب الله ما يؤيد هذا، قال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) [النساء: 8] فثبت بهذا المعنى أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس إذا كانت صدقة تطوع، ودل على ذلك حديث زينب امرأة ابن مسعود. وقوله (صلى الله عليه وسلم) لها: (لك أجران: أجر القرابة والصدقة) وقال لميمونة حين أعتقت جارية لها: (أما إنك لو أعطيتها لأخوالك كان(3/481)
أعظم لأجرك) واستعمل الفقهاء الصدقة الفريضة فى غير الأقارب لئلا يصرفوها فى ما يجرى بين الأهلين من الحقوق والصلات والمرافق، لأنهم إذا جعلوا الصدقة الفريضة فى هذا المعتاد بين الأهلين، فكأنهم لم يخرجوها من أموالهم إلا لانتفاعهم بها، وتوقير تلك الصلات بها، فإذا زال هذا المعنى جازت الزكاة للأقارب الذين لا تلزمهم نفقتهم. وقد تقدم اختلاف العلماء فى الزكاة على الأقارب فى باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر فأغنى عن إعادته، ولم يختلف العلماء أن قوله: (فى أقاربه وبنى عمه) أنهم أقارب أبى طلحة لا أقارب النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد روى ذلك الثقات، حدثنا بعض مشايخنا، قال: حدثنا أبو عمرو الباجى، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا محمد بن فطيس، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصارى، حدثنا أبى، حدثنا ثمامة بن عبد الله، عن أنس أنه قال: (كانت لأبى طلحة أرض فجعلها لله، فأتى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال له: (اجعلها فى أقاربك، فجعلها لحسان، وأُبى بن كعب، قال أنس: وكانا أقرب إليه منى) . وفيه: استعمال عموم اللفظ، ألا ترى إلى فهم الصحابة لذلك، وأنهم لم يتوقفوا حتى يتبين لهم بآية أخرى، أو بسنة مبينة لمراد الله تعالى فى الشىء الذى يجب أن ينفقه عباده، لأنهم يحبون أشياء كثيرة، فبدر كل واحد منهم إلى نفقة أحب أمواله إليه، فتصدق(3/482)
أبو طلحة بحائطه، وكذلك فعل زيد بن حارثة، وروى ابن عيينة، عن ابن المنكدر، قال: (لما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) [آل عمران: 92] ، قال زيد: اللهم إنك تعلم أنه ليس لى مال أحب إلىّ من فرسى هذه، وكان له فرس، فجاء به إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: هذا فى سبيل الله. فقال لأسامة بن زيد: (اقبضها منه) ، فكأن زيدًا وجد فى نفسه من ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إن الله قد قبلها منك) . وفعل مثل ذلك ابن عمر، روى أنه كانت له جارية جميلة كان يحبها فأعتقها لهذه الآية، ثم اتبعتها نفسه، فأراد أن يتزوجها فمنعه بنوه، فكان بعد ذلك يقرب بنيها من غيره لمكانها من نفسه، روى الثورى أن أم ولد الربيع بن خثيم، قالت: كان إذا جاءنا السائل يقول لى: يا فلانة، أعط السائل سكرًا؛ فإن الربيع يحب السكر. قال سفيان: يتأول) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (، وفى هذا الحديث فقه من معانى الصدقات والهبات، سيأتى فى موضعه، إن شاء الله.
43 - باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
/ 55 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى فَرَسِهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ) . وترجم له باب (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى عَبْدِهِ صَدَقَةٌ) ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فيه: (فِى عَبْدِهِ) .(3/483)
اتفق جمهور العلماء على أنه لا زكاة فى الخيل، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وهو قول الشعبى، والنخعى، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصرى، والحكم، والثورى، ومالك، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وخالف الجماعة أبو حنيفة وزفر، فقالا: فى كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها، وأعطى من كل مائتى درهم خمسة دراهم. ومن حجتهما ما رواه جويرية، عن مالك، عن الزهرى، أن السائب بن يزيد أخبره، قال: لقد رأيت أبى يقوّم الخيل، ثم يدفع صدقتها إلى عمر. واحتجوا بحديث أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذكر الخيل، فقال: (هى لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما التى هى له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملاً، ولم ينس حق الله فى ظهورها وبطونها فى عسرها ويسرها) . رواه سهيل، عن أبيه، عن أبى هريرة. فاحتج عليهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: لا حجة لكم فى رواية جويرية، لأن عمر لم يأخذ ذلك منهم على أنه واجب عليهم، وقد بين السبب فى ذلك ما رواه مالك فى الموطأ أن أهل الشام، قالوا لأبى عبيدة بن الجراح: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى ذلك، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأبى، ثم كلموه أيضًا، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: إن أَحَبُّوا فخذها منهم، وارددها عليهم، وارزق رقيقهم، وفى إباء عمر، وأبى(3/484)
عبيدة من أخذ الزكاة منهم دليل واضح أنه لا زكاة فيها، ولو كانت واجبة ما امتنعًا من أخذ مال أوجبه الله تعالى لأهله ووضعه فيهم. وروى معمر عن أبى إسحاق أنه قال: لما ألحوا على أبى عبيدة وألح أبو عبيدة على عمر، قال: هذا شىء لم يفعله اللذان كانا قبلى، ولكن انتظروا حتى أشاور المسلمين، فشاور عمر الصحابة فى ذلك، فقال له على بن أبى طالب: لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، فأخذها لبذلهم لها، وطوعهم بها، لا بوجوبها عليهم. قال الطحاوى: فدل هذا الحديث أن ما أخذ عمر منهم لم يكن زكاة، ألا ترى قوله: إن للذين كانا قبلى، يعنى رسول الله، وأبا بكر، لم يأخذا من الخيل صدقة، ولم ينكر على عمر ما قال من ذلك أحد من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ودل قول علىّ لعمر: لا بأس بذلك إن لم تصر بعدك جزية يؤخذون بها، أن عمر إنما أخذ ذلك لسؤالهم إياه، وأن لهم منع ذلك متى أحبوا، ثم سلك عمر بالعبيد فى ذلك مسلك الخيل، ولم يدل ذلك أن العبيد الذين لغير التجارة يجب فيهم الصدقة، وإنما كان ذلك على التبرع من مواليهم بإعطاء ذلك، والأمة مجمعة أنه لا زكاة فى العبيد غير زكاة الفطر إذا كانوا للقِنْيَةِ، فإن كانوا للتجارة فالزكاة فى أثمانهم، ويلزم تقويمهم كسائر العروض التى للتجارة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ولم ينس حق الله فى ظهورها) ، فإنه يجوز أن يكون ذلك الحق حقًا سوى الزكاة، فإنه روى ذلك عن(3/485)
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (فى المال حق سوى الزكاة) ، وتلا: (ليس البر أن تولوا وجوهكم) [البقرة: 177] إلى آخر الآية، فلما رأينا المال قد جعل الله فيه حقًا سوى الزكاة، احتمل أن يكون ذلك الحق هو الذى فى الخيل أيضًا، وحجة أخرى أن الزكاة فى الحديث الذى روى عن أبى هريرة إنما هو فى الخيل المرتبطة لا فى الخيل السائمة، وحجة أخرى أنا رأينا رسول الله ذكر الإبل السائمة أيضًا، فقال: (فيها حق أيضًا، فسئل عن ذلك الحق ما هو؟ فقال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحة سمينها) . حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . فلما كانت الإبل فيها حق سوى الزكاة احتمل أن يكون كذلك فى الخيل، وحديث أبى هريرة أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (ليس على المسلم فى عبده ولا فرسه صدقة) الحجة القاطعة فى ذلك. فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الذين يوجبون فيها الزكاة لا يوجبونها حتى تكون ذكورًا وإناثًا، ويلتمس صاحبها نسلها، ولا تجب الزكاة فى ذكورها خاصة، ولا فى إناثها خاصة، وكانت الزكوات المتفق عليها فى المواشى السائمة تجب فى الإبل والبقر والغنم ذكورًا كانت كلها أو إناثًا، فلما استوى حكم الذكور فى ذلك خاصة، وحكم الإناث خاصة، وحكم الذكور والإناث، وكانت الذكور من الخيل خاصة، والإناث منها(3/486)
خاصة، لا تجب فيها زكاة كان كذلك فى النظر الذكور منها والإناث إذا اجتمعت لا تجب فيها زكاة. وقال الطحاوى، والطبرى: والنظر أن الخيل فى معنى البغال والحمير التى قد أجمع الجميع ألا صدقة فيها، ورد المختلف فيه إلى المتفق عليه إذا اتفقا فى المعنى أولى.
44 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى
/ 56 - فيه: أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: (إِنّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَيَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَلا يُكَلِّمُكَ؟ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، فَقَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ) ؟ فَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: (إِنَّهُ لا يَأْتِى الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حِنْطًا، أَوْ يُلِمُّ إِلا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ، وَبَالَتْ، وَرَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ - أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) - وَإِنَّهُ(3/487)
مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال المهلب: احتج قوم بهذا الحديث فى تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه، بل هو حجة عليهم، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله به من إنفاقه فى حقه، وإذا كسبوه من غير وجهه. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا يأتى الخير بالشر) يعنى المال إذا كسب من وجهه وفعل به ما أمرهم الله، ثم ضرب لهم مثلاً بقوله: (وإن مما ينبت الربيع يقتلُ أو يُلِمُّ) يعنى أن الاستكثار من المال والخروج من حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مسقم، ضرب هذا مثلاً للحريص على جمع المال، المانع له من حقه، والربيع تنبت فيه أحرار الشعب التى تَحْلَوْلَيْهَا الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها فتهلك. وقوله: (أو يلم) يعنى يقرب من الهلاك، يقال: ألم الشىء: قرب، والرحضاء: عرق الحمى، وقد رحض ورحضت الثوب: غسلته، وقوله: (إلا آكلة الخضر) يعنى التى تخرج مما جمعت منه ورعت ما ينفعها إخراجه من البراز والبول، فهذا لا يقتلها ما رعت، فضرب هذا (صلى الله عليه وسلم) مثلاً لمن تصدق، وأخرج من ماله ما ينفعه إخراجه مما لو أمسكه لضره إثمه كما يضر(3/488)
التى رعت لو أمسكت البول والغائط ولم تخرجه، وبين هذا المعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى المال: (فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين وابن السبيل) ، وفى هذا تفضيل للمال. وقال الخطابى: الخضر ليس من أحرار البقول التى تسكثر منها الماشية فتنهكه أكلا، ولكن من الجنبة التى ترعاها بعد هيج الشعب ويبسه، وأكثر ما رأيت العرب تقول: الخضر لما اخضر من الكلأ الذى لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منه سنًا سنًا، فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه، وقد ذكره طرفة، وبين أنه ينبت فى الصيف فقال: كبَنَات المَخْرِ يَمْأَدْنَ إذا أَنْبَتَ الصيف عَسَالِيجَ الخَضِرْ والخضر من كلأ الصيف، وليس من أحرار بقول الربيع، والنعم لا تستوبله، ولا تحبط بطونها عليه، وأما قوله: (وإن هذا المال خضرة) ، فإن العرب تسمى الشىء الحسن المشرق خضرًا تشبيهًا بالنبات الأخضر الغض، قال تعالى: (فأخرجنا منه خضرًا) [الأنعام: 99] ومنه قولهم: اختضر الرجل، إذا مات شابًا، لأنه يؤخذ فى وقت الحسن والإشراق، يقول: إن المال يعجب الناظرين إليه، ويحلو فى أعينهم، فيدعوهم حسنه إلى الاستكثار منه، فإذا فعلوا ذلك تضرروا به كالماشية إذا استكثرت فى المرعى ثلطت والثلط: السلح الرقيق. قال ابن الأنبارى: قوله - عليه السلام -: (إن هذا المال خضرة(3/489)
حلوة) يدل أن المال يؤنث، وقال غيره: ليس بتأنيث، لأن قوله: (خضرة حلوة) لم يأت على الصفة، وإنما أتى على التمثيل والتشبيه، كأنه قال: إن هذا المال كالبقلة الخضرة الحلوة، ونقول: إن هذا السجود حسنة، والسجود مذكر، فكأنه قال: السجود فعلة حسنة. قال المهلب: وفيه: جواز ضرب الأمثال فى الحكمة، وإن كان لفظها بالبراز والبول والكلام الوضيع، وفيه: جواز اعتراض التلميذ على العالم فى الأشياء المجملة حتى يفسر له ما يبين معناها، وفيه: دليل على أن الاعتراض إذا لم يكن موضعه بيّنًا أنه منكر على المعترض به، ألا تراهم أنكروا على السائل، وقالوا له: تكلم النبى، ولا يكلمك؟ إلا أن قوله: (أين السائل) ؟ فكأنه حمده، يدل أن من سأل العالم وباحثه عما ينتفع به، ويفيد حكمه أنه محمود من فعله. وفيه: أن للعالم إذا سئل أن يمطل بالجواب حتى يتيقن أو يطلع المسألة عند من فوقه من العلماء، كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى سكوته عنه حتى استطلعها من قبل الوحى، وفيه: أن المكتسب للمال من غير حله غير مبارك له فيه، لقوله: (كالذى يأكل ولا يشبع) لأن الله تعالى قد رفع عنه البركة، وألقى فى قلوب آكليه ومكتسبيه الفاقة، وقلة القناعة، ويشهد لهذا قوله تعالى: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات) [البقرة: 276] فالمحق أبدًا فى المال المكتسب من غير الواجب.(3/490)
قوله: (يكون شهيدًا عليه يوم القيامة) يعنى، والله أعلم، أنه يمثل له ماله شجاعًا أقرع، ويأتيه فى صورة تشهد عليه بالخيانة، لأنه آية معجزة، ولا أكبر شهادة من المعجزات، وفيه: أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وغيره، وينبههم على مواضع الخوف من الافتتان به، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (إن مما أخشى عليكم) فوصف لهم ما يخاف عليهم، ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة، وهى إطعام المسكين واليتيم وابن السبيل، وقد جاء عن النبى أن الصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب، وسأذكره فى باب فضل من يعول يتيمًا، فى كتاب الأدب، إن شاء الله.
45 - باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأيْتَامِ فِى الْحَجْرِ
قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 57 - فيه: زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْن مسعود، أنها كَانَتْ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِاللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِى حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِاللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِى حَجْرِى مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِى أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِى، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلالٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) : أَيَجْزِى عَنِّى أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِى، وَأَيْتَامٍ لِى فِى حَجْرِى؟ قَالَ: (نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) .(3/491)
/ 58 - وفيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِىَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِى أَبِى سَلَمَةَ، إِنَّمَا هُمْ بَنِىَّ، فَقَالَ: (أَنْفِقِى عَلَيْهِمْ، فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ) . قال ابن المنذر: أجمع العلماء أن الرجل لا يعطى زوجته من الزكاة، لأن نفقتها تجب عليه، وهى غنية بغناه، واختلفوا فى المرأة هل تعطى زوجها من الزكاة؟ فأجاز ذلك أبو يوسف، ومحمد، والشافعى، وأبو ثور، وأبو عبيد، وجوزه أشهب إذا لم يرجع إليها شىء من ذلك، ولا جعلته وقاية لمالها فيما يلزم نفسها من مواساته، وتأدية حقه، فإن رجع إليها شىء من ذلك لم يجزئها. وقال مالك: لا تعطى المرأة زوجها من زكاة مالها. وهو قول أبى حنيفة. واحتج من جوز ذلك بحديث زينب امرأة ابن مسعود، وقالوا: جائز أن تعطيه من الزكاة، لأنه داخل فى جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، وأيضًا فإن كل من لا يلزم الإنسان نفقته فجائز أن يضع فيه الزكاة، والمرأة لا يلزمها النفقة على زوجها، ولا على بنيه قال المهلب: والدليل على أن المرأة لا تلزمها النفقة على بنيها قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [البقرة: 233] . قال الطحاوى: واحتج عليهم أهل المقالة الثانية، فقالوا: إن تلك الصدقة التى فى حديث زينب إنما كانت من غير الزكاة، وقد بين ذلك ما رواه الليث عن هشام بن عروة، عن أبيه،(3/492)
عن عبيد الله بن عبد الله، عن رائطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود، وكانت امرأة صناع وليس لعبد الله بن مسعود مال، فكانت تنفق عليه، وعلى ولده منها، فقالت: لقد شغلتنى والله أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدق معكم بشىء، فسألت رسول الله هى وهو، فقالت: يا رسول الله، إنى امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لزوجى ولا لولدى شىء، فشغلونى فلا أتصدق، فهل لى فيهم أجر؟ فقال: (لك فى ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقى عليهم) . قال الطحاوى: ففى هذا الحديث أن تلك الصدقة لم تكن زكاة، ورائطة هذه هى زينب امرأة عبد الله، لا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها فى زمن رسول الله، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من عمل يدها، وقد أجمعوا أنه لا يجوز أن تنفق على ولدها من زكاتها، فلما كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة، فكذلك ما أنفقت على زوجها ليس من الزكاة، وقد روى أبو هريرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مثل ذلك، حدثنا فهد، حدثنا على بن معبد، حدثنا إسماعيل بن أبى كثير الأنصارى، عن عمر بن نبيه الكعبى، عن المقبرى، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) انصرف من صلاة الصبح يومًا، فأتى على النساء فى المسجد، فقال: (يا معشر النساء، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب بعقول ذوى الألباب(3/493)
منكن، إنى رأيتكن أكثر أهل النار، فتقربن إلى الله ما استطعتن) . وكان فى النساء امرأة ابن مسعود، فانصرفت إلى ابن مسعود، فأخبرته بما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذت حليًا لها، فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحلى؟ فقالت: أتقرب به إلى الله وإلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لعل الله أن لا يجعلنى من أهل النار. قال: هلمى ويلك، تصدقى به عَلىَّ وعلى ولدى. فقالت: لا والله حتى أذهب به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فذهبت به فسألته، فقال: (تصدقى به عليه، وعلى بنيه، فإنهم له موضع) . فبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أراد بقوله: (تصدقى) صدقة التطوع التى تكفر بها الذنوب، لأنه أمرها بالصدقة بكل الحلى، وذلك من التطوع لا من الزكاة، لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه، وهذا دليل على فساد تأويل أبى يوسف، ومن ذهب مذهبه فقد بطل بما ذكرنا أن يكون فى حديث زينب ما يدل أن المرأة تعطى زوجها من زكاة مالها إذا كان فقيرًا.
46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 60]
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِى فِى الْحَجِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِى فِى الْمُجَاهِدِينَ، وَالَّذِى لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلا: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) [التوبة: 60] الآيَةَ، فِى أَيِّهَا أَعْطَيْتَ(3/494)
أَجْزَأَتْ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ) ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى لاسٍ حَمَلَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ. / 59 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَهِىَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا) . اختلف أهل العلم فى تأويل قوله تعالى: (وفى الرقاب (قال ابن عباس: يجوز أن يشترى من الصدقة رقابا فيعتقهم، وهو قول الحسن ومالك فى المدونة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك: لا يشترى إلا مؤمنًا ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين، قال: ولا يعطيها المكاتبين، لأن المكاتب عبد ما بقى عليه درهم، فربما عجز فصار عبدًا، وقال أبو حنيفة، والليث، والشافعى: لا يجزئ أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ومعنى قول الله تعالى: (وفى الرقاب (هم المكاتبون، وهو قول النخعى، وروى ابن القاسم ومطرف، عن مالك لا بأس أن يُعطى المكاتب ما تتم به كتابته.(3/495)
واحتج المخالفون لمالك بأن كل صنف أعطاهم الله الصدقة على سبيل التمليك، فكذلك الرقاب يجب أن يكون المراد به من تملك الصدقة، والعبد لا يملك الصدقة وأيضًا، فإن الله ذكر الأصناف الثمانية، وجمع بين كل صنفين متقاربين فى المعنى، فجمع بين الفقراء والمساكين، وجمع بين العاملين والمؤلفة قلوبهم، لأنهما يستعان بهما إما فى جباية الصدقة، وإما فى معاونة المسلمين، وجمع بين ابن السبيل وسبيل الله، لتقاربهما فى المعنى وهو قطع المسافة، وجمع بين الرقاب والغارمين، فأخذ المكاتب لغرم كتابته كأخذ الغارمين للديون. قال ابن القصار: والحجة لمالك عموم قوله تعالى: (وفى الرقاب (وإطلاق الرقاب يقتضى عتق الرقاب فى كل موضع أطلق ذكرها، مثل كفارة الظهار، قال تعالى فيها: (فتحرير رقبة (وكذلك فى اليمين، ولم يرد بذلك المكاتبين، وإنما أراد العبيد، ولو أراد المكاتبين لكان يكفى بذكر الغارمين، لأن المكاتب غارم، فهو داخل فيهم، وشراء العبد أولاً أولى من المكاتب، لأن المكاتب قد حصل له سبب العتق بمكاتبة سيده له، والعبد لم يحصل له سبب عتق، وأيضًا فلو أعطينا المكاتب، فإن تم عتقه كان الولاء لسيده فيحصل له المال والولاء، وإذا اشترينا عبدًا فأعتقناه كان ولاؤه للمسلمين، فكان أولى وأليق بظاهر الآية. قال غيره: وأما قول الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز، فينبغى أن يجوز على أصل مالك، لأنه يجيز عتق الرقاب من(3/496)
الزكاة، إلا أنه يكرهه لما فيه من انتفاعه بالثناء عليه بأنه ابن حر، ولا يجوز عند أبى حنيفة والشافعى. واختلفوا فى قوله تعالى: (وفى سبيل الله (فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأبو ثور، وإسحاق: هم الغزاة، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه، قالوا: لا يعطى الغازى إلا أن يكون محتاجًا، وقال مالك والشافعى: يعطى وإن كان غنيًا. وقال ابن عباس، وابن عمر: (فى سبيل الله (الحجاج، ولا بأس أن يأخذوا من الزكاة. وقال محمد بن الحسن: من أوصى بثلث ماله فى سبيل الله، فللوصى أن يجعله فى الحاج المنقطع به. واحتج بأن رجلاً وقف ناقة له فى سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج وتركبها، فسألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (اركبيها، فإن الحج من سبيل الله) فدل أن سبل الله كلها داخلة فى عموم اللفظ، رواه شعبة عن إبراهيم بن مهاجر، عن أبى بكر بن عبد الرحمن، قال: أرسل مروان إلى أم معقل يسألها عن هذا الحديث، وإلى هذا ذهب البخارى، ولذلك ذكر حديث أبى لاس: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، حملهم على إبل الصدقة للحج. وتأول قوله: إن خالدًا قد احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله) أنه يجوز أن يدخل فيه كل سبل الله: الحج، والجهاد، وغيره، وذكر قول الحسن أنه أجاز أن يعتق أباه من الزكاة، ويعطى فى المجاهدين والذى لم يحج، وتلا: (إنما الصدقات) [التوبة: 60] الآية، قال: فى أيها أعطيت أجزأت. قال ابن القصار: وحجة من قال هم الغزاة، أن كل موضع ذكر فيه سبيل الله، فالمراد منه الغزو والجهاد، قال الله تعالى:(3/497)
) الذين يقاتلون فى سبيله صفا) [الصف: 4] وقال: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله) [التوبة: 20] ، فكذلك آية الصدقات. وقال أبو عبيد: لا أعلم أحدًا أفتى بأن تصرف الزكاة إلى الحج، وقال ابن المنذر: لا يعطى منها فى الحج، لأن الله قد بيّن من يعطاها، إلا أن يثبت حديث أبى لاس، فإن ثبت وجب القول به فى مثل ما جاء الحديث خاصة، رواه ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبى لاس الخزاعى. وأما قول أبى حنيفة: لا يعطى المجاهد من الزكاة إلا أن يكون محتاجًا، فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: (وفى سبيل الله (فإذا غزا الغنى فأعطى كان ذلك فى سبيل الله، وأما السنة فروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز فى سبيل الله، أو مسكين تُصُدِّقَ عليه منها فأهدى منها للغنى) . قال المهلب: وفى حديث أبى هريرة معان منها: أن ابن جميل كان منافقًا فمنع الزكاة تربصًا، فاستتابه الله عز وجل فى كتابه، فقال: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) [التوبة: 74] ، فقال: استتابنى ربى. فتاب وصلحت حاله، وأما العباس فإنه كان استدان فى مفاداة نفسه ومفاداة عقيل، فكان من الغارمين الذين لا تلزمهم الصدقة. وقال أبو عبيد فى قوله: (فإنها عليه ومثلها معها) نراه،(3/498)
والله أعلم، أنه كان أخر عنه الصدقة عامين من أجل حاجة العباس، فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظر، ثم يأخذها منه بعد، كما أخر عمر بن الخطاب صدقة عام الرمادة، فلما حَيىَ الناس فى العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. وأما الحديث الذى يروى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا قد تعجلنا من العباس صدقة عامين) فهو عندى من هذا أيضًا، إنما تعجل منه أنه أوجبها عليه وضمنه إياها، ولو لم يقبضها منه، فكانت دينًا على العباس، ألا ترى قوله: (فإنها عليه، ومثلها معها) ، وقد روى حجية عن على أن العباس سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يعجل صدقته للمساكين قبل محلها، فأذن له. فيكون معنى قوله فهى عليه صدقة، أى فهى عليه واجبة (فأداها قبل محلها، ومثلها معها) أى قد أداها أيضًا لعام آخر، لأنه قد روى أنها كانت صدقة عامين، وهذا أيضًا معنى رواية من روى (فهى عليه) ، ولم يذكر (صدقة) . وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرنى يزيد بن خالد، أن عمر بن الخطاب، قال للعباس لابّان الزكاة: وأد زكاة مالك، وكان الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، أمره بذلك، فقال: أديتها قبل ذلك. فذكر ذلك عمر للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (صدق قد أداها قبل) ، وروى ورقاء، عن أبى الزناد: (فهى علىَّ) فالمعنى أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يؤديها عنه برًا به، لقوله فى الحديث: (أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه) .(3/499)
(وأما خالد فإنه احتبس أدراعه وأعبده فى سبيل الله) ، فحسب له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ذلك عوضًا من الصدقة التى وجبت عليه وخاصَّهُ بها، هذا على من جعل هذه الصدقة صدقة الفريضة، وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: حُدِّثت حديثًا عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله ندب الناس فى الصدقة. وذكر الحديث، فيكون على هذا معنى قوله: (فهى عليه صدقة ومثلها معها) يريد أنه سيتصدق بها وبمثلها، لأنه لا يمتنع من شىء ألزمه إياه من التطوع، بل هو يعده كاللازم. قال ابن القصار: وهذا أليق بالقصة، لأنه قد أمر بصدقة فنكرها، وأما عذر خالد فإنه واضح، لأنه من أخرج أكثر ماله وأوقفه فى سبيل الله، لا تحتمل حاله صدقات التطوع، ويكون ابن جميل شح فى التطوع الذى لا يلزمه، ولا يظن بواحد منهم منع الواجب. وقد احتج من جعل الصدقة فى حديث العباس صدقة الفريضة بهذا الحديث، فأجاز تعجيل الزكاة قبل محلها، وهو قول النخعى، وقتادة، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهرى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وخالفهم آخرون، وقالوا: لا يجوز تعجيل الزكاة قبل محلها، روى ذلك عن عائشة، وابن سيرين، وهو قول مالك والليث، وقالوا: هو كالذى يصلى(3/500)
ويصوم قبل الوقت، وروى ابن القاسم، عن مالك: أنه لا يجوز تعجيلها قبل الحول إلا بيسير، وقال ابن حبيب: قال من لقيت من أصحاب مالك: لا تجزئه إلا فيما قرب مثل الخمسة أيام أو العشرة قبل الحول، وقال ابن القاسم: الشهر قريب على تزحيف وكره ذلك. قال الطبرى: والذى شبه الزكاة بالصيام والصلاة فليس بمشبه، وذلك أنه لا خلاف بين جميع السلف والخلف فى أن الصدقة لو وجبت فى ماشية رجل فهرب بها من المصدق فظهر عليه المصدق، فأخذ زكاتها وربها كاره، أنها تجزئ عنه، ولا خلاف بينهم أنه لو امتنع من أداء صلاة مكتوبة فأخذ بأدائها كرها فصلاها، وهو غير مريد قضائها أنها غير مجزئة عنه، فبان بذلك أن الصلاة مخالفة للزكاة فى تعجيلها إذ كانت الصلاة لا تجزئ من لزمته إلا بعمل ببدنه ونيته متقربًا بها إلى الله تعالى. والعجب ممن زعم فى الزكاة أنها لا تجزئ عمن قدمها قبل محلها، لأنه متطوع بإعطائها والتطوع لا يجزئ عن الفرائض، وليس كما ظن، لأن الذى يعجله لا يعطيه بمعنى الزكاة، وإنما يعطيه من يعطيه دينًا له عليه على أن يحتسبه عند محله زكاة من ماله، وعلى هذا الوجه كان استسلاف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من العباس صدقته قبل وجوبها فى ماله، فإن ظن ظان أنه غير جائز له احتسابها من زكاته بعد وجوبها عليه، كما غير جائز له أن يصلى الظهر قبل(3/501)
وقتها على أن يحتسبها ظهرًا إذا دخل وقتها، وأن يصوم شعبان على أن يحتسبه من رمضان بعد دخول رمضان، فقد أفحش الخطأ، وذلك لأن الصلاة والصيام من الفروض التى على من وجبت عليه عملها ببدنه، وليست كذلك الزكاة، لأن الزكاة حق أوجبها الله لأهل الصدقات، فهم شركاء لأرباب الأموال فيها إذا وجبت لهم، فإذا وصلت إليهم حقوقهم منها فقد برئ أربابها سواء أدوا ذلك بأنفسهم، أو أداه عنهم مؤدٍ بأمرهم، أو أخذه منهم آخذ أباح الله له أخذه لأهل السهمان برضى رب المال كان أخذه أو بغير رضاه، والدليل على ذلك مال المعتوه واليتيم يؤدى عنه وليه الزكاة، فيجزئ عنه. فإن قيل: فإن حديث أبى هريرة كان فى جواز تقديم صدقة التطوع، لأنه قال فى الحديث: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر بصدقة) فنكرها. وقال ابن جريج فى الحديث: (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ندب الناس فى الصدقة) . قيل: قد صح الخبر عن على: أن العباس سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تعجيل صدقته قبل وجوبها عليه، فرخص له فى ذلك. حدثناه أحمد بن منصور، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن حجاج بن دينار، عن الحكم، عن حجية، عن على، ولا يقال فى التطوع منع إلا من منع صدقة الفريضة. وقد اختلفت الرواية فى قوله: (أدراعه وأعبده) فروت طائفة(3/502)
(أعبده) بالباء، جمع عبد، وروى أبو ذر (أعتده) بالتاء، جمع عتد، وهو الفرس، وفى كتاب مسلم، وأبى داود (أعتاده) بالألف، وهذا شاهد بصحة رواية من روى (أعتده) بالتاء، لأنه لا يقال فى جمع أعبد: أعباد، والمعروف من عادة الناس فى كل زمن تحبيس الخيل والسلاح فى سبيل الله لا تحبيس العبيد، وقال صاحب العين: فرس عتد وعتيد، أى معد للركوب، وكذلك سميت عتيدة الطيب، وقال غيره: الذكر والأنثى فيه سواء، قال سلامة بن جندل: بِكُلِّ مُجَنَّب كالسيد نهدٍ وكُلِّ طُوَالةٍ عتيدٍ نزِاق ومما يدل أنه عَتَد بفتح التاء مجيئه للذكر والأنثى بلفظ واحد، وهذا حكم المصادر.
47 - باب الاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ
/ 60 - فيه: أَبُو سَعِيد، أن نَاسًا مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (مَا يَكُونُ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ) . / 61 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِىَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ) .(3/503)
/ 62 - وفيه: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِى، ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) ، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّى أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّى أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَىْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تُوُفِّىَ. فى حديث أبى سعيد من الفقه: إعطاء السائل مرتين من مال واحد. وفيه: حجة لمن يعطى الفقير باسم الفقر، وباسم ابن السبيل من مال واحد، كذلك سائر سهام الصدقات وقياسه عندهم الوصايا، يجيزون لمن أوصى له بشى إذا قبضه أن يعطى مع المساكين إن كان ذلك الشىء لا يخرجه عن حد المسكنة، وأبى من ذلك ابن القاسم، وطائفة من الكوفيين. وفيه: ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الكرم والسخاء والإيثار على نفسه. وفيه: الاعتذار للسائل إذا لم يجد ما يعطيه. وفيه: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله،(3/504)
وأن الصبر أفضل ما أعطيه المؤمن، ولذلك الجزاء عليه غير مقدر، ولا محدود، قال تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر: 10] . وفى حديث أبى هريرة: الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، وأن يمتهن المرء نفسه فى طلب الرزق وإن ركب المشقة فى ذلك، ولا يكون عيالاً على الناس ولا كَلا، وذلك لما يدخل على السائل من الذل فى سؤاله، وفى الرد إذا رد خائبًا، ولما يدخل على المسئول من الضيق فى ماله إن هو أعطى لكل سائل، ولهذا المعنى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، وكان مالك يرى ترك ما أعطى الرجل على جهة الصدقة أحب إليه من أخذه، وإن لم يسأله. قال المهلب: فى حديث حكيم من الفقه: أن سؤال السلطان الأعلى ليس بعار، وفيه: أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وتخييبه وموعظته، وأمره بالتعفف وترك الحرص على الأخذ كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالأنصار وبحكيم حين ألحفوا فى مسألته مرة بعد أخرى، كلما أعطاهم سألوه، فأنجح الله موعظته ومَحَا بِهَا حرص حكيم، فلم يرزأ أحدًا بعده. وقوله: (فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) يدل أن القناعة وطلب الكفاية والإجمال فى الطلب مقرون بالبركة، وأن من طلب المال بالشره والحرص، فلم يأخذه من حقه لم يبارك له فيه، وعوقب بأن حرم بركة ما جمع. وفى قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فضل المال والغنى(3/505)
إذا أنفق فى طاعة الله، وفيه: بيان أن لا يسأله الإنسان شيئًا إلا عند الحاجة والضرورة، لأنه إذا كانت يده سفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الضرورة. وفيه من الفقه: أن من كان له عند أحد حق من تعامل أو غيره، فإنه يجبر على أخذه إذا أبى، فإن كان مما لا يستحقه أن لا يبسط اليد إليه، فلا يجبر على أخذه خلاف قول مالك، وإنما أشهد عمر على إباء حكيم، لأنه خشى سوء التأويل عليه، فأراد أن يبرئ ساحته بالإشهاد عليه. وفيه: أنه لا يستحق أخذ شىء من بيت المال إلا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وأما قبل ذلك فليس ذلك مستحق له، ولو كان ذلك مستحقًا لقضى على حكيم بأخذه، وعلى ذلك يدل نص القرآن قال تعالى، حين ذكر قسم الصدقات وفى أى الأصناف تقسم: (كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر: 7] ، فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره، وإنما قال العلماء فى أسباب الحقوق فى بيت المال تشددًا على غير المَرْضِىّ من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد منهم إلى أموال المسلمين، والتسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك فتيا مالك فيمن سرق من بيت المال أنه يقطع، ومن ربَّ الجارية من الفىء أنه يحد، ولو استحقه فى بيت المال أو فى الفىء شيئًا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له ذلك لكانت شبهة يدرأ عنه الحد بها، وجمهور الأمة على أن للمسلمين حق فى بيت المال والفىء، ويقسمه الإمام على اجتهاده، وسيأتى ذلك فى كتاب الجهاد، إن شاء الله.(3/506)
48 - باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلا إِشْرَافِ نَفْسٍ
/ 63 - فيه: عُمَر، قَالَ: كَانَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِينِى الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ: (خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَىْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) . قال الطحاوى: ليس معنى هذا الحديث فى الصدقات، وإنما هو فى الأموال التى يقسمها الإمام على أغنياء المسلمين وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يعطاها الناس لا من جهة الفقر، ولكن بحقوقهم فيها، فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر حين أعطاه قوله: (أعطه من هو أفقر إليه منى) لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثم قال له: (خذه فتموله) ، هكذا رواه شعيب عن الزهرى، فدل أن ذلك ليس من أموال الصدقات، لأن الفقير لا ينبغى له أن يأخذ من الصدقات ما ينبغى له أن يتخذه مالاً، كان عن مسألة أو غير مسألة، ثم قال: (إذا جاءك من هذا المال) الذى هذا حكمه (فخذه) . قال الطبرى: اختلف العلماء فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر: (ما جاءك من هذا المال فخذه) بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقال بعضهم: هو ندب من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لكل من أعطى عطية إلى قبولها كائنًا من كان معطيها، سلطانًا أو عاميًا، صالحًا أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته. ذكر من قال ذلك: روى عن أبى هريرة أنه قال: (ما أحد يهدى إلى هدية إلا قبلتها، فأما أن أسأل فلا) . وعن أبى الدرداء مثله،(3/507)
وقبلت عائشة من معاوية، وقال حبيب بن أبى ثابت: رأيت هدايا المختار تأتى ابن عمر، وابن عباس فيقبلانها، وقال عثمان بن عفان: جوائز السلطان لحم ظبى ذكى، وبعث سعيد بن العاص إلى على بن أبى طالب هدايا فقبلها، وقال: خذ ما أعطوك، وأجاز معاوية الحسين بأربعمائة ألف، وسئل أبو جعفر محمد بن على بن حسين عن هدايا السلطان، فقال: إن علمت أنه من غصب أو سحت فلا تقبله، وإن لم تعرف ذلك فاقبله، فإن بريرة تصدق عليها بلحم فأهدته لآل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: (هو عليها صدقة، ولنا هدية) ، وقال: (ما كان من مأثم فهو عليهم، وما كان من مهنأ فهو لك) . وقبلها علقمة، والأسود، والنخعى، والحسن البصرى، والشعبى. وقال آخرون: بل ذلك ندب من النبى (صلى الله عليه وسلم) أمته إلى قبول عطية غير ذى سلطان، فأما السلطان فإن بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها. ذكر من قال ذلك: روى أن خالد بن أسيد أعطى مسروقًا ثلاثين ألفًا، فأبى أن يقبلها، فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك، فقال: أرأيت لو أن لصًا نقب بيتًا ما أبالى أخذتها أم أخذت ذلك. ولم يقبل ابن سيرين ولا أبو رزين ولا ابن محيريز من السلطان، وقال هشام بن عروة: بعث إلىّ عبد الله بن الزبير، وإلى أخى بخمسمائة دينار، فقال أخى: ردها فما أكلها أحد وهو غنى عنها إلا أحوجه الله إليها. وقال ابن المنذر: كره جوائز السلطان: محمد بن واسع، والثورى، وابن المبارك، وأحمد ابن حنبل، وجماعة.(3/508)
وقال آخرون: بل ذلك ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره. وروى عن عكرمة أنه قال: إنا لا نقبل إلا من الأمراء. قال الطبرى: والصواب عندى أنه ندب منه (صلى الله عليه وسلم) أمته إلى قبول عطية كل معط جائز عطيته، سلطانًا كان أو رعية، وذلك أن الرسول قال لعمر: (ما آتاك الله من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فاقبله) ، فندبه (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول كل ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص وجه من الوجوه دون غيره، سوى ما استثناه (صلى الله عليه وسلم) ، وذلك ما جاء من وجه حرام عليه، فلا يحل له قبوله، كالذى يغصب رجلاً مسلمًا ماله ثم يعطيه بعينه آخر، والذى يُعطاه يعلم غصبه، أو سرقته، أو خيانته، فإن قبله كان واجبًا عليه رده. فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من أنه لا يحرم على امرئ قبول عطية أحد يجوز حكمه فى ماله إلا عطية حرم الله قبولها، فما وجه فعل من رد عطايا السلاطين، وامتنع من قبول هدايا الأمراء، وقد ندب (صلى الله عليه وسلم) إلى قبول عطية كل أحد؟ . قيل له: إن من رد من ذلك شيئًا إنما كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أن الأسلم لدينه والأبرأ لعرضه ترك قبوله إذ كان الأمر بالقبول غير حتم واجب، وإنما هو ندب إلى قبول ما لا شك فى حله، فإذا كان فيه لبس فالحق ترك قبوله، وما لم يكن حلالاً يقينًا فلم يدخل فى أمره (صلى الله عليه وسلم) عمر بقبوله، فأحله محل الشبهات التى مَنْ وَاقَعَها لم يُؤمَنْ منه مواقعة الحرام.(3/509)
فإن قيل: فما تقول فيمن قبل ممن لم يتبين من أين أخذ المال ولا فيما وضعه؟ . قيل: ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فما علمت يقينًا أنه حلال فلا أستحب رده، وما علمت يقينًا أنه حرام فلا أستحل قبوله وما لم أعلم وجه مصيره ولا سبب وصوله إليه، فذلك ما قد وضع عنى تكلف البحث عن أسبابه، وألزمنى فى الظاهر الحكم بأنه أولى به من غيره، ما لم يستحقه عليه مستحق، كما أحكم بما فى يد أعدل العدول أنه أولى بما فى يده ما لم يستحقه عليه مستحق، فسوى عز وجل بين حكم أفضل خلقه فى ذلك وأفجرهم، فالواجب على التسوية فى قبول عطية كل واحد منهما وردها من جهة ما يحل ويحرم، وإن اختلفا فى أن البر أحق بأن يسر بقبول عطيته من الفاجر. فإن قيل: يجوز على هذا مبايعة من يخالط، ماله الحرام وقبول هداياه؟ . قيل: قد كره ذلك قوم وأجازه آخرون، فممن كرهه: عبد الله بن يزيد، وأبو وائل، والقاسم، وسالم، وروى أنه توفيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصر فترك ميراثها، وكانت تبيع مولاة للقاسم الفضة بالفضة متفاضلة فترك ميراثها أيضًا، وقال مالك: قال عبد الله بن يزيد بن هرمز: إنى لأعجب ممن يرزق الحلال فيرغب فى الربح فيه الشىء اليسير من الحرام فيفسد المال كله، وكره الثورى المال الذى يخالطه الحرام. وأما الذين أجازوا ذلك، فروى عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال: إن لى جارًا لا يتورع من أكل الربا، ولا من أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه، وتكون(3/510)
لنا الحاجة فنستقرضه؟ فقال: أجبه إلى طعامه واستقرضه، فلك المهنأ وعليه المأثم، وسئل ابن عمر عن أكل طعام من يأكل الربا فأجازه، وسئل النخعى عن الرجل يرث الميراث منه الحلال والحرام، قال: لا يحرم عليه إلا حرام بعينه، وعن سعيد بن جبير أنه مر بالعشارين وفى أيديهم شماريخ، فقال: ناولونا من سحتكم هذا، إنه عليكم حرام ولنا حلال، وأجاز الحسن البصرى أكل طعام العشار والصراف والعامل، وعن مكحول والزهرى، إذا اختلط المال الحلال والحرام فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك الشىء يعرف بعينه، وأجاز ذلك ابن أبى ذئب، قال ابن المنذر: واحتج من رخص فى ذلك بأن الله تعالى ذكر اليهود فقال: (سماعون للكذب أكالون للسحت) [المائدة: 42] وقد رهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) درعه عند يهودى. وقال الطبرى: وفى إباحة الله أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا، أبين الدلالة على أن من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يدرى أمن حرام كسبه أم من حلال، فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطيه، وإن كان لا يبالى اكتسبه من غير حله بعد أن لا يعلمه حرامًا بعينه، وبنحو ذلك قالت الأئمة من الصحابة والتابعين، ومن كرهه فإنما ركب فى ذلك طريق الورع، وتجنب الشبهات، والاستبراء لدينه، لأن الحرام لا يكون إلا بينًا غير مشكل، والله الموافق. وقوله: (غير مشرف) يعنى: غير متعرض ولا حريص عليه بشره وطمع، وأصله من قولهم: أشرف فلان على كذا، إذا تطاول له(3/511)
ورماه ببصره، ومنه قيل للمكان المرتفع: شرف، وللشريف من الرجال شريف لا رتفاعه عمن هو دونه بمكارم الأخلاق. قال المهلب: وفى حديث عمر من الفقه أن للإمام أن يعطى الرجل العطاء وغيره أحوج إليه منه، إذا رأى لذلك وجهًا لسابقة أو لخير، أو لغناء عن المسلمين، وفيه أن ما جاء من المال الطيب الحلال من غير مسألة، فإن أخذه خير من تركه إذا كان ممن يجمل الأخذ منه، وفيه أن رد عطاء الإمام ليس من الأدب، لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7] فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر لله، فكأنه من سوء الأدب.
49 - باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا
/ 64 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِىَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ) . وَقَالَ: (إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ) . قال المهلب: فيه ذم السؤال وتقبيحه، وفهم البخارى، رحمه الله، أن الذى يأتى يوم القيامة لا لحم فى وجهه من كثرة السؤال أنه السائل تكثرًا بغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرًا فهو غنى لا تحل له الصدقة، فعوقب فى الآخرة. قال عبد الواحد: عوقب فى وجهه بأن جاء لا لحم فيه، فجازاه الله من جنس ذنبه حين بذل وجهه وعنده كفاية. قال المهلب: والمزعة: القطعة من اللحم، فإذا جاء لا لحم فى(3/512)
وجهه فتؤذيه الشمس فى وجهه أكثر من غيره، ألا ترى قوله فى الحديث: (إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن) فحذر (صلى الله عليه وسلم) من الإلحاف فى المسألة لغير حاجة إليها، وأما من سأل مضطرًا فقيرًا فمباح له المسألة، ويرجى له أن يؤجر عليها إذا لم يجد عنها بدًا، ورضى بما قسم الله لهن ولم يتسخط قدره. قال الخطابى: معنى الحديث أنه يأتى يوم القيامة ذليلا ساقط القدر، لا وجه له عند الله، فهذا التأويل على المجاز، والأول على الحقيقة. وروى شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة الفزارى، عن سمرة بن جندب، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (للسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو فى أمر لا يجد منه بدًا) .
54 - بَاب قَوْله تَعَالَى: (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273] وَكَمِ الْغِنَى، وَقَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (وَلا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ) ، يقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا) [البقرة: 273]
/ 65 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ الأكْلَةَ وَالأكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِى، أَوْ لا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا) .(3/513)
/ 66 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ بِهِ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ) . / 67 - وفيه: الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. / 68 - فيه: سَعْدٍ، أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ رَهْطًا، وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهِمْ رَجُلا لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: (أَوْ مُسْلِمًا) ، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلا، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ فِيهِ. . الحديث. قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِى النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ) . / 69 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ثُمَّ يَغْدُوَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الْجَبَلِ - فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ، وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ) . قال المؤلف: قال مجاهد فى قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله) [البقرة: 73] هم فقراء المهاجرين بالمدينة خاصة مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بالصدقة عليهم، وقيل: حصروا أنفسهم للغزو ومنعهم فرض الجهاد من التصرف، وقيل: إنها كانت الأرض كلها كفرًا بها وحربًا على أهل البلد وكانوا(3/514)
لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو، فلا يستطيعون تصرفًا فى البلاد ابتغاء المعاشر فيستغنوا به عن الصدقة رهبة للعدو وخوفًا على أنفسهم. وقوله: (لا يسألون الناس إلحافًا) [البقرة: 273] اختلف المفسرون فى تأويله، فقيل: يسألون ولا يلحفون فى المسألة، وقيل: إنهم لا يسألون الناس أصلا، قال ابن الأدفوى: أى لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف كما قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يهتدى لمناره أى: ليس له منار يهتدى بها، والدليل على أنهم لا يسألون وصف لله لهم بالتعفف، ولو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم. قال المؤلف: ويشهد لهذ التأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس المسكين الذى يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذى لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) ، واحتج من أوجب لهم السؤال، ونفى عنهم الإلحاف بقوله فى الحديث الأول: (ولكن المسكين الذى ليس له غنى ويستحى، أو لا يسأل الناس إلحافًا) . قالوا: والمسألة بغير إلحاف مباحة إلى المضطر إليها، يدل على ذلك ما رواه مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بنى أسد، عن رسول الله قال: (من يسأل الناس وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافًا) فدل هذا الحديث أن من لم يكن له أوقية فهو غير ملحف ولا ملوم فى المسألة، ومن لم يكن ملومًا فى مسألته، فهو ممن يليق به اسم التعفف، وليس قول من قال: لو كانوا أهل مسألة لما كان التعفف من صفتهم بصحيح، لأن(3/515)
السؤال المذموم إنما هو لمن كان غنيًا عنه لوجود أوقية أو عدلها. فالحديثان مختلفان فى المعنى لا ختلاف ظاهرهما، فالحديث الأول: نفى فيه الإلحاف، ودل على السؤال، والحديث الثانى: نفى فيه السؤال أصلاً، وانتفى فيه الإلحاف بنفى السؤال، وإنما اختلف الحديثان لا ختلاف أحوال السائلين، لأن الناس يختلفون فى هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن السؤال عند الحاجة ويتعفف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من الله تعالى، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يجد للاستكثار، وهذا هو الملحف الذي لا ينبغى له المسألة، وقد يحتمل أن يكون الحديثنا معناهما واحد فى نفى السؤال أصلا، ويحتمل أن يكونا جميعًا حقيقى المعنى فى إثبات السؤال، ونفى الإلحفاف. فإن قيل: كيف وقد قال فى الحديث الواحد: (لا يقوم فيسأل الناس؟) قيل: فى أكثر أمره وغالب حاله، ويلزم نفسه التعفف عن المسألة حتى تغلبه الحاجة والفقر، ويقع سؤاله فى النادر والشاذ، كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا يضع عصاه عن عاتقه) ومعلوم أنه أراد فى بعض الأوقات، وكما قال: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) وقد يحل له فى بعض الأوقات، ومن كان سؤاله عند الضرورة وفى النادر، فليس بملحف فى المسألة، واسم التعفف أولى به، لدليل حديث عطاء بن يسار. وقوله: (ليس المسكين الذى ترده اللقمة واللقمتان) يريد ليس المسكين المتكامل أسباب المسكنة، لأنه بمسألته يأتيه الكفاف والزيادة عليه، فيزول عنه اسم المبالغة فى المسكنة، وإنما(3/516)
المسكين المتكامل أسباب المسكنة من لا يجد غنى ولا يتصدق عليه كقوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) [البقرة: 177] أى: ليس ذلك غاية البر، لأنه لا يبلغ بر من آمن بالله واليوم الآخر الآية. واختلف أهل اللغة والفقهاء فى الفقير والمسكين، من هو أسوأ حالا منهما؟ فقال ابن السكيت وابن قتيبة: المسكين أسوأ حالا من الفقير، لأن المسكين الذى قد سكن وخشع، والفقير له بعض ما يغنيه واحتجوا بقول الشاعر: أما الفقير الذى كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سَبَدُ فذكر أنه كانت له حلوبة، وجعلها وفقًا لعياله، أى قدر قوتهم، وحكى ابن القصار أنه هذا قول أصحاب مالك وقول أبى حنيفة. وقال طائفة: الفقير أسوأ حالا من المسكين، هذا قول الأصمعى وابن الأنبارى، وهو قو الشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض) [البقرة: 273] الآية، وبقوله: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) [الكهف: 79] فأخبر أن المسكين يملك بعض السفينة. قالوا: والفقر هو استئصال الشىء، يقال: فقرتهم الفاقرة، إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الذى قد انكسر فقار ظهره، ومن صار هكذا فقد حل به الموت، وقد يقال: مسكين لغير الفقير، ولكن لما نقصت حالته عن الكمال فى بعض الأمور كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (مسكين مسكين من لا زوجة له) وقال لقيلة: (يا(3/517)
مسكينة عليك بالسكينة) قالوا: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (اللهم أحينى مسكينًا، وأمتنى مسكينًا، واحشرنى فى زمرة المساكين) وتعوذ بالله من الفقر، فعلم أنه أسوأ حالا وأشد من المسكنة. وقد قالت طائفة من السلف: الفقير الذى لا يسأل، والمسكين الذى يسأل، روى هذا عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، والزهرى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنه قال: الفقير الذى لا غنى له ويتعفف عن المسألة، والمسكين الذى لا غنى له ويسأل. واختلفوا أيضًا كم الغنى الذى لا يجوز لصاحبه أخذ الصدقة، وتحرم عليه المسألة؟ فقال بعضهم: هو بوجود المرء قوت يومه لغدائه وعشائه، وهذا قول بعض المتصوفة الذين زعموا أنه ليس لأحد ادخار شىء لغد، قولهم مردود بما ثبت عن النبى وأصحابه أنهم كانوا يدخرون. وقال آخرون: لا تجوز المسألة إلا عند الضرورة، وأحلوا ذلك محل الميتة للمضطر، وقال آخرون: لا تحل المسألة بكل حال، واحتجوا بما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأبى ذر: (لا تسأل الناس شيئًا) وجعلوا ذلك نهيًا عامًا عن كل مسألة، وبما رواه ابن أبى ذئب عن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، عن ثوبان مولى رسول الله أنه قال (صلى الله عليه وسلم) : (من تكفل لى بواحدة تكفلت له بالجنة) ، قال ثوبان: أنا، قال: (لا تسأل الناس شيئًا، فكان سوطه يقع فما يقول لأحد ناولنيه فينزل فيأخذه) . وقال قيس بن عاصم لبنيه: إياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء، فإن أحدًا لن يسأل إلا ترك كسبه. وقالت طائفة: لا يأخذ الصدقة(3/518)
من له أربعون درهما لقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا) ، وممن قال بذلك أبو عبيد روى عن مالك أنه قال: يعطى من له أربعون درهمًا إذا كان له عيال. وقالت طائفة: لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا، هذا قول النخعى، والثورى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بحديث يروى عن ابن مسعود عن النبى بذلك، وعلله يحيى ابن سعيد وشعبة فقالا: يرويه حكيم بن جبير، وهو ضعيف. وقالت طائفة: من ملك مائتى درهم تحرم عليه الصدقة المفروضة. وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه، ورواه المغيرة المخزومى عن مالك، وقال المغيرة: لا بأس أن يعطى أقل مما تجب فيه الزكاة ولا يعطى ما تجب فيه الزكاة واحتج أصحاب أبى حنيفة بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) فجعل المأخوذ منه الزكاة غير المردود عليه، ومن معه مائتا درهم تؤخذ منه الزكاة، فلم يجز أن ترد عليه لما فيه من إبطال الفرق بين الجنسين بين الغنى والفقير. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله أوقية أو عدلها) منسوخ بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سأل وله خمس أواق، فقد سأل إلحافًا) فجعل هذا حدًا لمن لا تحل له الصدقة. قال بعض العلماء: وكل من حد من الفقهاء فى الغنى حدًا أو لم يحد، فإنما هو بعد ما لا غنى عنه من دار تحمله ولا تفضل عنه، وخادم هو محتاج إليها، ولا فضل له من مال يتصرف فيه، ومن كان هكذا فأجمع الفقهاء أنه يجوز له أن يأخذ من الصدقة ما يحتاج إليه.(3/519)
قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك أن المسألة مكروهة لكل أحد إلا المضطر يخاف على نفسه التلف بتركها، ومن بلغ حد الخوف على نفسه من الجوع ولا سبيل له إلى ما يرد به رمقه ويقيم به نفسه إلا بالمسألة، فالمسألة عليه فرض واجب، لأنه لا يحل له إتلاف نفسه وهو يجد السبيل إلى إحيائها بما أباح الله له إحياءها به والمسألة مباحة لمن كان ذا فاقة وإن كرهناها له ما وجد عنها مندوحة بما يقيم به رمقه من عيش وإن خاف، وإنما كرهناها له لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ولقوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب خير له من أن يسأل الناس) ولا مأثم عليه إلا على سائل سأل من غنى متكثرًا بها ماله فالمسألة عليه حرام. قال المهلب: وفى حديث سعد من الفقه الشفاعة للرجل من غير أن يسألها ثلاثًا فى الصدقات وغيرها، وفيه النهى عن القطع لأحد من الناس بحقيقة الإيمان، وقد تقدم فى كتاب الإيمان. وفيه: أن العالم يجب أن يدعو الناس إلى ما عنده وإلى الحق والعلم بكل شى حتى بالعطاء، وفيه: أن الحرص على هداية غير المهتدى آكد من الإحسان إلى المهتدى، وفيه أنه قد يعطى من المال أهل النفاق ومن على غير حقيقة الإسلام على وجه التألّف إذا طمع بإسلامه، وفى أحاديث هذا الباب كله الأمر بالتعفف والاستغناء وترك السؤال. وقال المؤلف: وفى دليل قوله: (للفقراء الذين أحصروا(3/520)
فى سبيل الله) [البقرة: 273] ودليل قوله (صلى الله عليه وسلم) : (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأله الناس) بيان ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) من قوله: (لا تحل الصدقة لذى مرة سوى) أن معناه الخصوص؛ لأن قوله تعالى: (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربًا فى الأرض (يدل أنه لو زال عنهم الإحصار لقدروا على الضرب فى الأرض، ودل ذلك على أنهم ذو مرة أقوياء، وقد أباح لهم تعالى أخذ الصدقة بالفقر خاصة، وكذلك قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب) يدل على هذا المعنى؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا ذو المرة السوى، ولم تحرم عليه المسألة. قال الطحاوى: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) رواه سفيان عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ورواه أبو بكر ابن عياش، عن أبى حصين، عن سالم بن أبى الجعد، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فذهب قوم إلى الأخذ بهذا الحديث، وقالوا: لا تحل الصدقة لذى مرة سوى، وجعلوه كالغنى. هذا قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، ذكره ابن المنذر، وذكر ابن القصار أنه قول عبد الله بن عمرو، راوى الحديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وخالفهم آخرون فقالوا: كل فقير من قوى وزَمِنٍ فالصدقة له حلال، وتأولوا قوله: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى) لأن معناه الخصوص، هذا قول الطبرى، قال: إنه لا خلاف بين جميع علماء الأمة أن الصدقة المحرمة التى يكون أصلها محبوسًا(3/521)
وغلتها صدقة على الغنى والفقير أنه يجوز للأغنياء أخذها وتملكها، فمعلوم بذلك أن الصدقات التطوع لم تدخل فى هذا الحديث، وإنما عنى بها الصدقات المفروضة للفقراء فى بعض الأحوال، ولذلك أجمعوا على أن غنيا فى بلده لو كان فى سفر فذهبت نفقته، فلم يجد ما يتحمل به إلى بلده أن له أن يأخذ من الصدقة المفروضة ما يتحمل به إلى موضع ماله، فمعلوم بذلك أن الحديث معناه الخصوص، وأنه معنى به من الصدقة المفروضة بعضها لما ذكرناه، ولأن الله قد جعل فى الصدقة المفروضة حقًا لصنوف من الأغنياء وهم المجاهدون فى سبيل الله، والعاملون عليها، وأبناء السبيل الذين لهم ببلدهم غنى، وهم منقطع بهم فى سفرهم، فكذلك ذو المرة السوى فى حال تعذر الكسب عليه، جاز له الصدقة المفروضة، فأما التطوع منها ففى كل الأحوال. وقال الطحاوى: لا تحرم الصدقة بالصحة إذا أراد بها سد فقره، وإنما تحرم عليه إذا أراد بها التكثر والاستغناء، يدل على ذلك ما رواه شعبة عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، قال: سمعت سمرة بن جندب، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل ذا سلطان أو فى أمر لا يجد منه بدًا) قد أباح فى هذا الحديث المسألة فى كل أمر لابد من المسألة فيه، وذلك إباحة المسألة بالحاجة لا بالزمانة. وروى يحيى بن سعيد عن مجالد، عن الشعبى، عن وهب ين خنبش، قال: جاء رجل إلى النبى - عليه السلام -، وهو(3/522)
واقف بعرفة فسأله رداءه، فأعطاه إياه، فذهب به ثم قال النبى: (إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثرى به، فإنه خموش فى وجهه، ورضف يأكله من جهنم، إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير) ، فأخبر (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن المسألة تحل بالفقر والغرم، ولا يختلف فى ذلك حال الزمن والصحيح. وكانت المسألة التى أباحها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، هى للفقر لا لغيره وكان تصحيح الأخبار عندنا يوجب أن من قصد إليه النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (لا تحل الصدقة لذى مرة سوى) هو غير من استثناه فى هذه الأحاديث، وأن الذى تحرم عليه الصدقة من الأصحاء، هو الذى يريد أن يكثر ماله بالصدقة، حتى تصح هذه الآثار وتتفق معانيها، ولا تتضاد، وتوافق معنى الآية المحكمة، وهى قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [التوبة: 60] الآية؛ لأن كل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة التى جعلها الله لهم فى كتابه وسنة رسوله زمنًا كان أو صحيحًا، وهذا الذى حملنا عليه وجوه هذه الآثار هو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد. قال المؤلف: وهو قول مالك أيضًا، وروى المغيرة عنه أنه يعطى القوى البدن من الزكاة ولا يمنع لقوة بدنه، من (المجموعة) .
51 - باب خَرصِ التمرِ
/ 70 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِىَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِى حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) لأصْحَابِهِ:(3/523)
(اخْرُصُوا) ، وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ لَهَا: (أَحْصِى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) ، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ) ، فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَىِّءٍ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ، فَلَمَّا أَتَى وَادِىَ الْقُرَى، قَالَ لِلْمَرْأَةِ: (كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ) ؟ قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِى فَلْيَتَعَجَّلْ) ، فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ: كَلِمَةً مَعْنَاهَا: أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (هَذِهِ طَابَةُ) ، فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا، قَالَ: (هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأنْصَارِ) ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (دُورُ بَنِى النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى عَبْدِالأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِى سَاعِدَةَ، أَوْ دُورُ بَنِى الْحَارِثِ ابْنِ الْخَزْرَجِ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأنْصَارِ، يَعْنِى خَيْرًا) . قال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الثمرة التى يجب فيها العشر تخرص وهى رطب تمرًا فيعلم مقدارها فتسلم إلى أربابها ويملك بذلك حق الله فيها ويكون عليه مثلها مكيلة ذلك تمرًا، وكذلك يفعل بالعنب، واحتجوا بحديث أبى حميد، وفيه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، خرصها وقال لأصحابه: (اخرصوا) ، وأنه بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فخرص عليهم النخل أول ما يطيب الثمر.(3/524)
قال ابن المنذر: ممن كان يرى الخرص: عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد، والحسن البصرى، وعطاء، والزهرى، ومالك، والشافعى، وأبو ثور، وعامة أهل العلم، وخالف ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: ليس فى شىء من الآثار المروية بالخرص أن الثمرة كانت رطبًا فى وقت ما خرصت، وكيف يجوز أن تكون رطبًا، فيجعل لصاحبها فيها حق الله بمكيلة ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة، وقد نهى رسول الله عن ذلك. قال الطحاوى: ووجه الخرص عندنا إنما أريد بخرص ابن رواحة ليعلم مقدار ما فى أيدى كل قوم من الثمار، فيؤخذ منه بقدره وقت الصرام لا أنهم يملكون شيئًا مما يجب لله ببدل، لا يؤخذ منهم ذلك الوقت، ويدل على ذلك حديث أبى حميد الساعدى، وهو قوله: (فخرصها رسول الله وخرصناها عشرة أوسق، وقال: أحصها حتى نرجع إليك، إن شاء الله) ، فدل هذا أنها لم تملك بخرصهم إياها ما لم تكن مالكة له قبل ذلك، وإنما أرادوا أن يعلموا مقدار ما فى نخلها، ثم يأخذون منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما يجب فيها، هذا معنى الخرص عندنا. قالوا: وقد قيل فى الخرص أنه كان فى أول الزمان على ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله فيها، وهى رطب، ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا والمزابنة، قال غيره: وقالوا: إن الخرص لا يوجب العلم والإحاطة، وقد يختلف فهو كالتبخيت والظن اللذين لا يجوز الحكم بهما. قال ابن القصار: وما هرب منه أبو حنيفة من تضمين أرباب(3/525)
الأموال حق الفقراء، فإن أصحاب مالك، وأصحاب الشافعى لا يضمنون أرباب الأموال، لأن الثمرة لو تلفت بعد الخرص لم يضمنهم شيئًا. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن الخارص إذا خرص التمر، ثم أصابته جائحة لا شىء عليه إذا كان ذلك قبل الجداد. قال ابن القصار: لأننا نخرصها حتى يتصرف أصحاب الثمار بالأكل والبيع وغير ذلك إن اختاروا، فحينئذ يضمنون حق الفقراء، لأننا لو منعناهم من التصرف لحقتهم المشقة والضرر، ولو أبحنا لهم التصرف نقص حق الفقراء، فكان الحظ فى خرصها عليهم ليعلم مقدار ما يجب للفقراء، فإن سلمت أخذنا القدر الذى يجب لهم، إلا أن يتصرفوا فيها فحينئذ يضمنون. ومن الحجة لنا أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نهى عن المزابنة، وأرخص فى العرايا أن تباع بخرصها، فأجاز البيع إذا لم يقصد به المزابنة فى الخرص ليعلم حظ المساكين ويحفظ عليهم وليس ببيع، والخرص أولى أن يجوز، وقد ثبت ذلك عن عائشة، فقالت: (خرص النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لئلا يتلف حق المساكين، وليحصى الزكاة قبل أن تؤكل) ، لأنه لو منع رب المال من الاستمتاع بماله لأدى ذلك الإضرار به، فكان فى الخرص رفق برب المال والفقراء. وأما قولهم: فإن الخرص منسوخ بنسخ الربا، فالجواب: أن بعض آية الربا منسوخة بالخرص ومخصوصة به كما خصت الحوالة من بيع الدين بالدين، والقرض من بيع الذهب والفضة بمثلهما إلى(3/526)
أجل، والإقالة والشركة من بيع الطعام قبل قبضه، وكذلك العرية وبيعها من جملة المزابنة حين لم يقصد بها المغابنة والمكايسة، والخرص ليس بربا لأنه لا نبيع شيئًا بأكثر منه، وإنما هو ليعرف حق المساكين، وقد أنفذ الأئمة بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الخراص، وجرى العمل بذلك، فهى سنة معمول بها. وأما قولهم: فإن الخرص ظن، فإن الحكم قد ورد فى الشريعة بغالب الظن كثيرًا مع جواز وقوع الاختلاف فيه، وعدم الإحاطة، ألا ترى أن الحكم بقيم المتلفات إنما هو بالاجتهاد، وكذلك أمور الديانات المستدل عليها من العقليات والشرعيات قد صار أكثرها معرضًا للخلاف ومنازعة العقلاء، ولم يجب مع ذلك بطلان الاستدلال، ولأن اختلاف المستدلين إنما هو لخطأ فى الاستدلال، وكذلك حكم الحاكم قد يجوز مع الخطأ، ولم يجب لذلك بطلان حكمه. وأما خرص العنب فإنما هو بحديث عتاب بن أسيد، رواه عبد الرحمن بن إسحاق، وابن عيينة، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، مرسل عن عتاب بن أسيد، قال: أمرنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخيل تمرًا. وأجمعوا أن الخرص فى أول ما يطيب الثمر ويزهى بصفرة أو حمرة، وكذلك العنب إذا جرى فيه الماء وصلح للأكل، واختلفوا فيما يأكله الرجل من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجداد، هل يُحْسب(3/527)
عليه أم لا؟ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وزفر: يحسب عليه ذلك، وقال الليث، والشافعى: لا يحسب عليه، ويترك له الخارص ما يأكله أهله رطبًا ولا يخرصه، والحجة لهما ما رواه الثورى عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، قال: كان عمر بن الخطاب يأمر الخراص أن يخففوا، وأن يرفعوا عنهم قدر ما يأكلون. قال الشافعى: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] يدل أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد، وحمل مالك ومن وافقه قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده (على العموم، أى آتوا حق جميع المأكول والباقى. قال المهلب: فيه من الفقه: أن الإمام يدرب أصحابه ويعلمهم أمور الدنيا كما يعلمهم أمور الآخرة، وفيه: من علامات النبوة، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن الريح التى هبت قبل كونها، وهذا لا يعلم إلا بالوحى، وفيه: جواز قبول هدايا المشركين، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى كتاب الهبة، إن شاء الله. وقوله: (جبل يحبنا ونحبه) يعنى أهل الجبل، لقوله تعالى: (واسأل القرية التى كنا فيها) [يوسف: 82] يريد أهلها، قال الخطابى: فحمل الكلام على عمومه وحقيقته أولى من حمله على المجاز وتخصيصه من غير دليل، وقد ثبت (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ارتج حراء تحته، فقال: اثبت، فليس عليك إلا نبى أو. . . . . فسكن) . وأخبره اللحم المسموم أنه مسموم، فلم ينكر حب الجبل.(3/528)
52 - باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالْمَاءِ الْجَارِى وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِى الْعَسَلِ شَيْئًا
/ 71 - فيه: ابْن عُمَر، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، وَكَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفَيمَا سُقِىَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ) . قال أبو عبيد: العثرى والعذى ما سقته السماء، وما سقته الأنهار والعيون فهو سيح وغيل، والبعل: ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقى سماء ولا غيرها، والنضح ما سقى بالسواقى، وقال غيره: وأجمع العلماء على القول بظاهر هذا الحديث فى المقدار المأخوذ، وذلك العشر فى البعل وفيما سقت العيون والأنهار، لأن المؤنة فيه قليلة، وما سقى بالدلو فنصف العشر فى الحبوب والثمار التى تجب فيها الزكاة على ما نذكره، إن شاء الله، فأما مقدار المأخوذ منه فهو فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) . واتفق جمهور العلماء بالحجاز والعراق والشام على أن التأويل عندهم فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر) إذا كان الذى سقته السماء خمسة أوسق، وهو مثل قوله: (فى الرقة ربع العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ، لأنا نقضى بالخاص على العام، والعام قوله: (فيما سقت السماء العشر) ، وقوله: (وفى الرقة ربع العشر) ، والخاص قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ليس فيما دون خمسة أوسق(3/529)
صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة) هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال النخعى وأبو حنيفة وزفر: الزكاة فى كل ما أخرجت الأرض من قليل ذلك وكثيره العشر، أو نصف العشر، ولم يعتبروا خمسة أوسق فى مقدار المأخوذ منه، وهذا خلاف السنة والعلماء، وقد تناقض أبو حنيفة فى هذه المسألة، لأنه استعمل المجمل والمفسر فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فى الرقة ربع العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولم يستعمله فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (فيما سقت السماء العشر) مع قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وكان يلزمه القول به. ولا زكاة فى العسل عند مالك والشافعى، وهو مذهب ابن عمر، وقال أبو حنيفة: فيه العشر، وقال ابن المنذر: وليس فى وجوب الزكاة فيه خبر يثبت عن النبى، ولا إجماع، فلا زكاة فيه.
53 - باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
/ 72 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلا فِى أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ) . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ، البخارى: هَذَا تَفْسِيرُ الأوَّلِ؛ لأنه لم يوقت فى الأول، يعنى حديث ابن عمر: (. فيما سقت السماء العشر) ،(3/530)
وبيَّن فى هذا ووقت، فالزيادة مقبولة، والمفسر يقضى على المجمل إذا رواه أهل الثبت، كما روى الفضل بن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يصل فى الكعبة. وقال بلال: قد (صلى) فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل. قال المؤلف: هذا الذى رواه البخارى عليه أئمة الفتوى بالأمصار، وأن الخمسة الأوسق هو بيان المقدار المأخوذ منه العشر، أو نصف العشر، وشذَّ أبو حنيفة وزفر فى ذلك، وقيل: أنهما خالفا الإجماع، فأوجبا العشر أو نصف العشر فى قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، وخالفه صاحباه فى ذلك. وقال ابن القصار: الحجة عليه أن ما طريقه المواساة فى الصدقات يقتضى أوله حدًا ونصابًا كالذهب والفضة والماشية، والنصاب إنما وضع فى المال لمبلغ الحد الذى يحمل المواساة من غير إجحاف لرب المال، ولا تعذر عليه، وخالف أيضًا أبو حنيفة معنى آخر من هذا الحديث، فأوجب العشر أو نصف العشر فى البقول والرياحين والفواكه، وما لا يوسق كالرمان والتفاح والخوخ وشبه ذلك، والجمهور على خلافه لا يوجبون الزكاة إلا فيما يوسق ويقتات ويدخر، قال مالك: السنة عندنا فى الحبوب التى يدخرها الناس ويأكلونها، أن يؤخذ منها العشر، أو نصف العشر إذا بلغ ذلك خمسة أوسق والوسق: ستون صاعًا، والصاع: أربعة أمداد بمد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وما زاد على خمسة أوسق ففيه الزكاة بحساب ذلك، قال: والحبوب التى فيها الزكاة: الحنطة والشعير، والسلت،(3/531)
والذرة، والدُّخْن، والأرز، والحمص، والعدس، والجلبان، واللوبيا، والفول، والجلجلان، وما أشبه ذلك من الحبوب التى تصير طعامًا يؤخذ منها الزكاة بعد أن يصير حبًا ويحصد، والناس مصدقون فيما رفعوه من ذلك، ولا زكاة فى البقول والخضر كلها والتوابل. قال ابن القصار: لم ينقل عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أحد بالحجاز أنه أخذ من البقول والفواكه الزكاة، ومعلوم أنها كانت عندهم بالمدينة، وأهل المدينة متفقون على ذلك عاملون به إلى وقتنا هذا ومحال أن يكون فى ذلك زكاة، ولا تؤخذ مع وجود هذه الأشياء عندهم وحاجتهم إليها، ولو أخذ منها مرة واحدة لم يجز أن يذهب عليهم حتى يطبقوا على خلافه إلى هذه الغاية. 54 - باب أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِىُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ؟ / 73 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ، فَيَجِىءُ هَذَا بِتَمْرِهِ، وَهَذَا بِتَمْرِهِ، حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْ تَمْرٍ، فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ، فَقَالَ: (أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) لا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ) . قال بعض أهل العلم: سنة أخذ صدقة التمر عند جداده، لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] ، فإن أخرجها عند محلها فسرقت(3/532)
أو سقطت فقال مالك وأبو حنيفة: يجزئ عنه، وهو قول الحسن البصرى، وقال الزهرى، والثورى، وأحمد: هو ضامن لها حتى يضعها مواضعها. وقال الشافعى: إن كان بقى له من ماله ما فيه زكاة زَكَّاه، وحجة القول الأول أن إخراجها موكول إليه، وهو مؤتمن على إخراجها، فإذا أخرجها من ماله وجعلت فى يده جعلت يده كيد الساعى، وقد اتفقنا أن يد الساعى يد أمانة، فإذا قبض الزكاة ولم يفرط فى دفعها وتلفت بغير صنعه لم يضمن، فكذلك رب المال، لأن الزكاة ليست متعلقة بذمته، وإنما تجب فى ماله، وإذا أخر إخراج الزكاة، حتى هلكت، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى: إذا أمكن الأداء بعد حلول الحول وفرط حتى هلك المال فعليه الضمان. قال المهلب: وفيه من الفقه: دفع الصدقات إلى السلطان، وفيه: أن المسجد قد ينتفع به فى أمر جماعة المسلمين لغير الصلاة، ألا ترى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جمع فيه الصدقات وجعله مخزنًا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين وأن يبات عليه حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه لعب الحبشة بالحراب، وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملاً لجماعة المسلمين، وإذا كان العمل لخاصة الناس فيكره مثل الخياطة والجزارة، وقد كره قوم التأديب فى المسجد، لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه، وفيه: جواز دخول الأطفال فى المسجد واللعب فيه بغير ما يسقط حرمته إذا(3/533)
كان الأطفال ممن إذا نهوا انتهوا، وفيه: أنه ينبغى أن يجنب الأطفال ما يجنب الكبار من المحرمات، وفيه: أن الأطفال إذا نهوا عن الشىء يجب أن يعرفوا لأى شىء نهوا عنه، ليكبروا على العلم ليأتى عليهم وقت التكليف وهم على علم من الشريعة. وقال الطبرى: وفيه الدليل على أن لأولياء الصغار المعاتبة وتجنيبهم التقدم على ما يجب على الأصحاء البالغين الانزجار عنه، والحول بينهم وبين ما حرم الله على عباده فعله، وذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، استخرج التمرة من الصدقة من فىّ الحسن، وهو طفل لا تلزمه الفرائض، ولم تجر عليه الأقلام، ولا شك أنه لو أكل تمر جميع الصدقات لم تلزمه تبعة عند الله، وإن لزم ماله غرمه، فلم يخله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأكل لا من أجل ما كان يلزمه من ضمن ذلك، ولكن من أجل أنه كان مما حرم الله على أهل التكليف من أهل بيته، فبان بذلك أن الواجب على ولى الطفل والمعتوه إن رآه قد تناول خمرًا يشربها، أو لحم خنزير يأكله، أو مالاً لغيره ليتلفه أن يمنعه من فعله، ويحول بينه وبين ذلك. وفيه: الدليل الواضح على صحة قول القائلين أن على ولى الصغيرة المتوفى عنها زوجها أن يجنبها الطيب والزينة والمبيت عن المسكن الذى تسكنه والنكاح، وجميع ما يجب على البوالغ المعتدات اجتنابه، وخطأ قول من قال: ليس ذلك على الصغيرة اعتلالاً منهم أنها غير متعبدة بشىء من الفرائض، لأن الحسن كان لا تلزمه الفرائض، فلم يكن لإخراج التمرة من فيه معنى إلا من أجل ما كان على النبى من منعه ما على المكلفين الامتناع منه من أجل أنه وليّه.(3/534)
55 - باب مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوِ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَقَوْلُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا) ، فَلَمْ يَحْظُرِ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَت عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ.
/ 74 - وفيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاحِهَا، قَالَ: (حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُها) . / 75 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِىَ قَالَ: ومَا تُزْهِىَ؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ. اختلف العلماء فى هذه المسألة، فقال مالك: من باع أصل حائطه أو أرضه، وفى ذلك زرع أو ثمر قد بدا صلاحه وحل بيعه، فزكاة ذلك التمر على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع، ووجه قوله أن المراعاة فى الزكاة إنما تجب بطيب الثمرة، فإذا باعها ربها وقد طاب أولها فقد باع ماله، وحصة المساكين معه، فيحمل على أنه قد ضمن ذلك ويلزمه. وقال أبو حنيفة: المشترى بالخيار بين إنفاذ البيع ورده، فالعشر مأخوذ من الثمرة من يد المشترى، ويرجع على البائع بقدر ذلك، ووجه قوله فى العشر مأخوذ من الثمرة، لأن سنة الساعى أن يأخذ الزكاة من كل ثمرة يجدها، فوجب الرجوع على البائع بقدر ذلك، كالعيب الذى يرجع بقيمته، وقال الشافعى فى أحد قوليه: إن البيع فاسد، لأنه باع ما يملك وما لا يملك، وهو نصيب المساكين(3/535)
ففسدت الصفقة، وعلى هذا القول رد البخارى بقوله فى هذا الباب فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب، والشافعى منع البيع بعد الصلاح فخالف إباحة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لبيع الثمار إذا بدا صلاحها، واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعى أنه إذا باع أصل الثمرة وفيها ثمر لم يبد صلاحه أن البيع جائز، والزكاة على المشترى لقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) [الأنعام: 141] وأما الذى ورد فيه نهى النبى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها هو بيع الثمرة خاصة دون الأصل، لأنه يخشى عليه أن لا تتم الثمرة، فيذهب مال المشترى فى غير عوض، وإن ابتاع رقبة الثمرة، وإن كان فيها ثمر لم يبد صلاحه، فهو جائز، لأن البيع إنما وقع على الرقبة لا ثمرتها التى لم تظهر بعد، فهذا الفرق بينهما.
56 - باب هَلْ يَشْتَرِى الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ؟ وَلا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِىَ صَدَقَهُ غَيْرُهُ لأنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ
/ 76 - فيه: ابْنَ عُمَر، أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَاسْتَأْمَرَهُ، فَقَالَ:(3/536)
(لا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ) ، فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلا جَعَلَهُ صَدَقَةً. وَقَالَ عُمَر: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِى كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: (لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِى صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِى قَيْئِهِ) . كره أكثر العلماء شراء الرجل صدقته لحديث عمر فى الفرس، وهو قول مالك، والليث، والكوفيين، والشافعى، وسواء عندهم صدقة الفرض أو التطوع، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، والأولى به التنزه عنها، وكذلك قولهم فيما يخرجه المكفر عن كفارة اليمين مثل الصدقة سواء. قال ابن المنذر: ورخص فى شراء الصدقة: الحسن، وعكرمة، وربيعة، والأوزاعى، وقال ابن القصار: قال قوم: لا يجوز لأحد أن يشترى صدقته، ويفسخ البيع، ولم يذكر قائلى ذلك، ويشبه أن يكونوا أهل الظاهر، وحجة من لم يفسخ البيع أن الصدقة راجعة إليه بمعنى غير معنى الصدقة، كما خرج لحم بريرة، وانتقل عن معنى الصدقة المحرمة على النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى معنى الهدية المباحة له. قال ابن القصار: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة) وذكر منهم من اشتراها بماله، ولم يفرق بين أن يكون المشترى لها صاحبها أو غيره، ورواه أبو سعيد الخدرى، وقد تقدم فى باب قوله تعالى: (وفى الرقاب) [البقرة: 177] قبل هذا.(3/537)
وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنه حلال له، وروى سفيان، عن عبد الله ابن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن امرأة جاءت إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت: يا رسول الله، إنى تصدقت على أمى بجارية وإنها ماتت، قال: (وجب أجرك، ورَدَّها عليك الميراث) ، فإن قيل: فلم كرهتم شراءه إياها؟ . قيل: لئلا يحابيه الذى تصدق عليه بها فيصير عائدًا فى بعض صدقته، لأن العادة أن الذى تصدق عليه بها يسامحه إذا باعها، وقد أخبر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى لحم بريرة أنه إذا كانت الجهة التى يأخذ بها الإنسان غير جهة الصدقة جاز ذلك، ومن ملكها بماله لم يأخذها من جهة الصدقة، فدل هذا المعنى أن النهى فى حديث عمر فى الفرس محمول على وجه التنزه لا على التحريم، لأن المتصدق عليه بالفرس لما ملك بيعه من سائر الأجانب، وجب أن يملكه من المتصدق عليه، دليله إن وهب له جاز أن يشتريه الواهب. وقال الطبرى: معنى حديث عمر فى النهى عن شراء صدقة التطوع خاصة، لأنه لا صدقة فى الخيل، فيقال: إن الفرس الذى تصدق به عمر كان من الصدقة الواجبة، وصح أنه لم يكن حبيسًا لأنه لو كان حبيسًا لم يكن ليباع، فعلم أنه كان مما تطوع به عمر. قال غير الطبرى: ولا يكون الحبس إلا لينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى العدو دفعه إليه مع نفقته، على أن يغزو به ويصرفه إليه، فيكون موقوفًا على مثل ذلك، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع، وأما إذا جعله فى سبيل الله وملكه الذى دفعه إليه، فهذا يجوز بيعه.(3/538)
قال الطبرى: والدليل على جواز شراء صدقة الفرض وصحة البيع فيها ما ثبت عن الرسول فيمن وجبت عليه سن من الإبل فلم تكن عنده، وكان عنده دونها أو فوقها أن يأخذ ما وجد ويرد دراهم أو غنمًا، إن كان أخذ أفضل من الذى له، وإن كان الذى وجد عنده دون، أن يأخذه ويلزمه دراهم، أو غنمًا وهذا لا شك أخذ عوض وبدل من الواجب على رب المال، وإذا جاز تملك الصدقة بالشراء قبل خروجها من يد المتصدق بعوض، فحكمها بعد القبض كذلك، وبنحو ذلك قال جماعة من العلماء، حدثنا محمد ابن بزيع، حدثنا بشر بن مفضل، عن الأشعث، أن الحسن حدثهم أن عمر بن الخطاب كان لا يكره أن يشترى الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، وهو قول الحسن، وابن سيرين، فأما إن رجعت إلى المتصدق صدقته بميراث، أو هبة من المتصدق عليه، أو غيره فإنه لا يكره له تملكها، ولا يكون عائدًا فى صدقته لحديث بريرة، وسيأتى الكلام فى حديث عمر فى كتاب الجهاد باب إذا حمل على فرس فى سبيل الله فرآها تباع، وفى كتاب الأوقاف، وفى آخر كتاب الهبات على حسب ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله.
57 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
/ 77 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (كِخْ كِخْ) ، لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: (أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) .(3/539)
قال المؤلف: اختلف العلماء فى الصدقة المحرمة على آل النبى، فقال الطحاوى: قال أبو يوسف ومحمد: يحرم على بنى هاشم صدقة الفريضة والتطوع، وكره أصبغ بن الفرج لهم فيما بينهم وبين الله أن يأخذوا من التطوع. وقال الطحاوى: اختلف فى ذلك قول أبى حنيفة، فروى عنه مثل هذا القول، وروى عنه أن صدقة الفريضة، وسائر الصدقات حلال لبنى هاشم، وقال مالك: الصدقة المحرمة عليهم هى الزكاة لا التطوع، وذكر الطبرى عن أبى يوسف أنه يحل لبنى هاشم الصدقة بعضهم من بعض، ولا يحل لهم من غيرهم، وذكر الطحاوى أن علة أبى حنيفة فى ذلك أن الصدقات إنما كانت محرمة عليهم من أجل ما جعل لهم فى الخمس من سهم ذوى القربى، فلما انقطع عنهم ذلك ورجع إلى غيرهم بموت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حل بذلك لهم ما كان حرم عليهم. قال المؤلف: فأما أهل المقالة الأولى فإنهم أخذوا بعموم النهى، فكرهوا جميع أنواع الصدقات، ولا يصح تأويلهم، لأن هذه التمرة التى أخرج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، من فى الحسن بن على كان من تمر الصدقة المفروضة التى كان يقسمها النبى، (صلى الله عليه وسلم) . قال الطحاوى: وإنما حرم على بنى هاشم من الصدقات لقرابتهم مثل ما حرم على الأغنياء لأموالهم، فأما الصدقة التى يراد بها طريق الهبات، وإن سميت صدقات فلا تدخل فى التحريم، ألا ترى لو أن رجلاً أوقف داره على غنى أن ذلك جائز، ولا يمنعه ذلك غناه، وحكم ذلك خلاف حكم سائر الصدقات من الزكوات والكفارات،(3/540)
وكذلك من كان من بنى هاشم فذلك حلال، وقد روى الطبرى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه حرم الصدقة المفروضة على بنى هاشم وهذا نص قاطع، قال الطبرى: وفى إخراج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، التمرة من فى الحسن فساد قول من زعم أن الصدقة المفروضة حلال لآل النبى، وفساد قول من زعم أنها تحرم عليهم من غيرهم، وأنها حلال لبعضهم من بعض، وذلك أن الأخبار وردت أن الصدقة محرمة عليه وعلى أهل بيته، وبذلك نطق القرآن، وذلك لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة فى القربى) [الشورى: 23] ، وذلك أنه لو حلت له الصدقة فأخذها منهم، وجد القوم السبيل أن يقولوا: إنما تدعونا إلى ما تدعونا إليه لتأخذ أموالنا وتعطيها إلى أهل بينك ولا تدعونا إلى سبيل الرشاد، ولكنه أمر (صلى الله عليه وسلم) بأخذها من أغنياء كل قبيلة وردها فى فقرائهم، ليعلموا أنه إنما يدعوهم إلى مصلحتهم دون عوض يأخذه منهم، وبذلك بعثت الرسل من قبله، فقال نوح إذ كذبه قومه، وقال هود إذ كذبته عاد، وقال صالح إذ كذبته ثمود: (وما أسألكم عليه من أجر) [الشعراء: 145] وإنما سألوا الأجر من الله تعالى. قال المهلب: وإنما حرمت الصدقة عليه وعلى آله، لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة ذل وضعة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، فجعل يد الذى يأخذ السفلى، والأنبياء وآلهم منزهون عن الذل، والضعة، والخضوع، والافتقار إلى غير الله.(3/541)
وقد فرض الله عليه وعلى الأنبياء قبله ألا يطلبوا على شىء من الرسالة أجرًا، فلو أخذ الصدقة لكانت كالأجرة، وكذلك لو أخذها الذين تلزمهم صلته لكان ذلك كالواصل إليه، فلذلك حرمها عليهم، قال الطبرى: وأما الذين حظروا على بنى هاشم أخذ الصدقة المفروضة من غيرهم، وأباحوا أخذها من بعضهم لبعض، فإنهم لا القياس فى ذلك أصابوا، ولا خبر الرسول اتبعوا، وذلك أن كل صدقة وزكاة أوساخ الناس، وغسالة ذنوب من أخذت منه هاشمبًا كان أو نبطيًا، ولم يفرق الله ولا رسوله بين شىء منها بافتراق حال المأخوذ ذلك منه، وصاحبهم أشد قولاً منهم، لأنه لزم ظاهر التنزيل، وهو قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) [التوبة: 60] وأنكر الأخبار الواردة بتحريم الصدقة على بنى هاشم، فلا ظاهر التنزيل لزموا، ولا بالخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) قالوا. قال المهلب: وفى هذا الحديث أن قليل الصدقة لا يحل لآل محمد بخلاف اللقطة التى لا يحرم منها ما لا قيمة له، لقوله (صلى الله عليه وسلم) فى التمرة الملقاة: (لولا أنى أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) . قال المؤلف: واختلف العلماء فى آل النبى (صلى الله عليه وسلم) من هم؟ فقال مالك: هم بنو هاشم خاصة. قال ابن حبيب: ولا يدخل فى آل محمد من كان فوق بنى هاشم من بنى عبد مناف، أو بنى قصى، أو غيرهم، وهكذا فسر ابن الماجشون ومطرف، وحكاه الطحاوى عن أبى حنيفة، وذكر عبد الرزاق عن الثورى، عن يزيد بن حيان التيمى،(3/542)
قال: سمعت زيد بن أرقم، وقيل له: من آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة؟ قال: آل على بن أبى طالب، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وقال الشافعى: آل محمد بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، أخى هاشم أيضًا ممن لا تحل لهم الصدقة. وقال أصبغ بن الفرج: آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة عشيرته الأقربون، الذين ناداهم حين أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [الشعراء: 214] وهم آل عبد المطلب، وآل هاشم، وآل عبد مناف، وقصى، وقال أصبغ: وقد قيل: قريش كلها. وقوله: (كخ كخ) ، قال أبو على البغدادى: يقال للصبى إذا زجروه عن الشىء يريد أكله. كخ كخ بكسر الكاف مرتين.
58 - باب الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - عليه السلام -
/ 78 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، وَجَدَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاةٌ لِمَيْمُونَةَ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (هَلا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا) ، قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) . / 79 - وفيه: عَائِشَةَ، (أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِىَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاءَهَا. . . .) الحديث. (وَأُتِىَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ النّبِىّ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ) . قال المؤلف: اتفق كافة الفقهاء على أن أزواج النبى، - عليه السلام -،(3/543)
لا يدخلن فى آله الذين تحرم عليهم الصدقة، فمواليهن أحرى بالصدقة على ما ثبت فى شاة ميمونة ولحم بريرة. وإنما اختلف العلماء فى موالى بنى هاشم خاصة إن كان لهم حكم بنى هاشم فى تحريم الصدقة عليهم أم لا فذهب الكوفيون، والثورى، وابن الماجشون، ومطرف، وابن نافع إلى أن الصدقة محرمة على موالى بنى هاشم كتحريمها على بنى هاشم، واحتجوا بحديث أبى رافع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا آل محمد لا نأكل الصدقة، وموالى القوم منهم) . وذهب مالك، وابن القاسم، والشافعى، إلى أن موالى بنى هاشم تحل لهم الصدقات وتأولوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : (موالى القوم منهم) على الخصوص، قال ابن القاسم: ومثل الحديث الذى جاء (ابن أخت القوم منهم) قال أصبغ: وتفسير مولى القوم منهم يريد فى الحرمة والبر منهم به، كما جاء فى الحديث: (أنت ومالك لأبيك) يريد فى البر والمطاوعة لا فى اللازم ولا فى القضاء.
59 - باب إِذَا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ
/ 80 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ) ؟ فَقَالَتْ: لا، إِلا شَىْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ الَّتِى بَعَثَتْ بِهَا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: (إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا) . / 81 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أُتِىَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ) .(3/544)
قال بعض العلماء: لما كانت الصدقة يجوز فيها التصرف للفقير بالبيع والهبة، لصحة ملكه لها، وأهدتها نسيبة وبريرة إلى عائشة، حكم لها بحكم الهبة، وتحولت عن معنى الصدقة بملك المتصدق عليه بها، وانتقلت إلى معنى الهدية الحلال للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، لما فى الهدية من تألف القلوب والدعاء إلى المحبة. وجائز أن يثبت عليها بمثلها وأفضل منها فترتفع المنة والذلة، ولا يجوز ذلك فى الصدقة، فافترق حكمهما لافتراق المعنى فيهما، وقال سحنون: لا بأس أن يشترى الرجل كسور السؤال منهم، واستدل على ذلك بقول الرسول فى لحم بريرة: (هو لها صدقة ولنا هدية) . وقال الطحاوى: فى حديث أم عطية، وحديث بريرة دليل على أنه يجوز للهاشمى أن يستعمل على الصدقة، ويأخذ جعله على ذلك، وقد كان أبو يوسف يكره ذلك إذا كانت جعالتهم منها. قال: لأن الصدقة تخرج من ملك المتصدق إلى غير الأصناف التى سماها الله، فيملك المصدق بعضها، وهى لا تحل له، واحتج بحديث أبى رافع، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث رجلاً من بنى مخزوم على الصدقة، فقال لأبى رافع: اصحبنى كيما تصيب منها، فقال: لا حتى أستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأتاها فذكر ذلك له، فقال: إن آل محمد لا تحل لهم الصدقة، وموالى القوم من أنفسهم. وخالف أبا يوسف فى ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس أن يجتعل منها(3/545)
الهاشمى، لأنه إنما يجتعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يَحْرُمُ على الأغنياء يُحَرِّمُ عليهم غناهم الصدقة، كان ذلك أيضًا فى النظر لا يَحْرُمُ على بنى هاشم الذى يُحَرِّمُ عليهم نسبهم الصدقة. وقال الطحاوى: فلما كان ما تصدق به على بريرة جائزًا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أكله، لأنه إنما ملكه بالهدية، جاز أيضًا للهاشمى أن يجتعل من الصدقة، لأنه إنما تملكها بعمله لا بالصدقة، هذا هو النظر عندنا، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف.
60 - باب أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الأغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِى الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا
/ 82 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) .(3/546)
قال المؤلف: قال الله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها (إلى) وابن السبيل) [التوبة: 60] ، واختلف العلماء فى الصدقات، هل هى مقسومة على من سمى الله تعالى فى هذه الآية؟ فقال مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: يجوز أن توضع الصدقة فى صنف واحد من الأصناف المذكورة فى الآية على قدر اجتهاد الإمام، وهو قول عطاء، والنخعى، والحسن البصرى، وقال الشافعى: هى مقسومة على ثمانية أصناف لا يصرف منها سهم عن أهله ما وجدوا، وهو قول عكرمة، وأخذ بظاهر الآية، قال: وأجمعوا لو أن رجلاً أوصى بثلثه لثمانية أصناف لم يجز أن يجعل ذلك فى صنف واحد، فكان ما أمر الله بقسمته على ثمانية أصناف أولى أن لا يجعل فى واحد، ومعنى الآية عند مالك والكوفيين: إعلام من الله تعالى لمن تحل له الصدقة، بدليل إجماع العلماء أن العامل عليها لا يستحق ثمنها، وإنما له بقدر عمالته، فدل ذلك أنها ليست مقسومة على ثمانية أصناف بالسوية، واحتجوا بما روى عن حذيفة، وابن عباس أنهما قالا: إذا وضعتها فى صنف واحد أجزأك، ولا مخالف لهما من الصحابة، فهو كالإجماع، وقال مالك والكوفيون: المؤلفة قلوبهم قد سقطوا ولا مؤلفة اليوم، وليس لأهل الذمة فى بيت المال حق، وقال الشافعى: المؤلفة قلوبهم من دخل فى الإسلام، ولا يعطى مشرك يتألف على الإسلام. واختلفوا فى نقل الصدقة من بلد إلى بلد، فقال الشافعى: لا يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر، وقال مالك: إذا وجد المستحقون(3/547)
للزكاة فى البلد الذى تؤخذ فيه لم تنقل عنه إلى بلد آخر، وذكر ابن المواز، عن مالك لو أن رجلاً بالشام أنفذ زكاته إلى المدينة كان صوابًا، ولو أنفذها إلى العراق لم أر به بأسًا، وقال أبو حنيفة: يجوز نقلها إلى بلد آخر مع وجود الفقراء فى البلد الذى تؤخذ فيه، وإن كنا نكرهه، واحتج الشافعى بحديث معاذ حين بعث إلى اليمن فأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها فى فقرائهم، فأخبر أنها ترد فى فقراء اليمن إذا أخذت من أغنيائهم. واحتج من أجاز نقلها إلى بلد آخر بما روى عن معاذ أنه قال لأهل اليمن: ائتونى بعرض ثياب خميس، أو لبيس فى الصدقة، فإنها أنفع لأهل المدينة، فأعلمهم أنه ينقلها إلى المدينة، وكان عدى بن حاتم ينقل صدقة قومه إلى أبى بكر بالمدينة، فلم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة. وقوله: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . فيه: أن للإمام أن يعظ من ولاه النظر فى أمور رعيته، ويأمره بالعدل بينهم، ويخوفه عاقبة الظلم، ويحذره وباله، قال الله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين (ولعنة الله الإبعاد من رحمته. والظلم محرم فى كل أمة، وقد جاء فى الحديث: أن دعوة المظلوم لا ترد وإن كانت من كافر، ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يرض ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر تعالى أنه لا يظلم الناس شيئًا، فدخل فى عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر.(3/548)
61 - باب صَلاةِ الإمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (إلى قوله: (سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: 103]
/ 83 - فيه: ابْن أَبِى أَوْفَى، قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ) ، فَأَتَاهُ أَبِى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِى أَوْفَى) . قال أهل الظاهر: إذا أخذ الإمام الصدقة من صاحبها وجب عليه أن يدعو له، وقال جميع الفقهاء: إن ذلك غير واجب، واحتج أهل الظاهر بقوله تعالى: (وصل عليهم) [التوبة: 103] قالوا: والأمر يقتضى الوجوب، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد دعا لآل أبى أوفى، وفعله ممتثل، والاقتداء به واجب. قال ابن القصار: حجة الجماعة أنه لا يخلو أن يكون الأمر إذا لم يدع له أن تجزئه الزكاة أم لا؟ فإن قالوا: لا تجزئه دللنا بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة (وهذا قد أعطاها، فإن قالوا: تجزئه، دللنا أن الإمام لا يجب عليه شىء بقوله (صلى الله عليه وسلم) : خذ الصدقة من أغنيائهم وردها فى فقرائهم، ولم يقل: ادع لهم، ولو كان مأمورًا بالدعاء لذكره، ليعلم كما علمنا وجوب الزكاة، ولأمر به السعاة، ولم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك. وأما قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم (فإنما أراد إذا ماتوا، هكذا يقتضى إطلاق الصلاة فى الشريعة، ولو ثبت أنه أراد الدعاء لكان خصوصًا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لقوله: (إن صلاتك سكن لهم (فلا يعلم هذا فى غير النبى، ويجوز أن يحمل على الاستحباب بدليل أن كل حق لله أو للآدميين استوفاه الإمام فلا يجب عليه الدعاء لمن استوفاه منه كالحدود والكفارات والديون.(3/549)
62 - باب مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَىْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِى الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ، فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِى الَّذِى يُصَابُ فِى الْمَاءِ. / 84 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِى إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فِى الْبَحْرِ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، فَرَمَى بِهَا فِى الْبَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأهْلِهِ حَطَبًا. . . . .) ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، (فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ) . اختلف العلماء فى العنبر واللؤلؤ حين يخرجان من البحر هل فيهما خمس أم لا؟ فجمهور العلماء على ألا شىء فيهما، وأنهما كسائر العروض، وهذا قول أهل المدينة، والكوفيين، والليث، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وقال أبو يوسف: فى اللؤلؤ والعنبر وكل حلية تخرج من البحر خمس. وهو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن البصرى، وابن شهاب. قال ابن القصار: وهذا غلط، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (وفى الركاز الخمس) فدل أن غير الركاز لا خمس فيه، والبحر لا ينطلق عليه اسم ركاز، واللؤلؤ والعنبر متولدان من حيوان البحر فأشبها السمك والصدف. قال غيره: وحجة أخرى أن الله فرض الزكاة، فقال: (خذ من(3/550)
أموالهم صدقة} فأخذ الرسول من بعض الأموال دون بعض، فعلمنا أن الله تعالى لم يرد جميع الأموال، فلا سبيل إلى إيجاب زكاة إلا فيما أخذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووقف عليه أصحابه. قال المهلب: فى أخذ الرجل الخشبة حطبًا لأهله دليل أن ما يوجد فى البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شىء فيه، وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب وشبه ذلك، فإذا استحق رد إلى مستحقه، وما ليس له طالب ولم تكن له كبير قيمة، وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به، ولا يلزمه فيه تعريف إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه كاسم رجل معلوم، أو علامة، فيجتهد فيه الفقهاء فى أمر التعريف له. وفيه: أن الله تعالى متكفل بعون من أراد الأمانة ومعينه على ذلك. وفيه: أن الله يجازى على الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع الأجر المدخر لهم فى الآخرة، كما حفظه على المسلف حين رده الله إليه، وهذان فضلان كبيران لأهل المواساة والثقة بالله والحرص على أداء الأمانة. وفيه: دليل على جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة فيه.
63 - باب فِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ، وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ. وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (الْمَعْدِنِ(3/551)
جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) ، وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِى أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لأنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَىْءٌ، فقَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ الشَىْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ، وَقَالَ: لا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ، وَلا يُؤَدِّىَ الْخُمُسَ. / 85 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِى الرِّكَازِ الْخُمُسُ) . قال ابن حبيب: الركاز دفن الجاهلية خاصة، والكنز دفن الإسلام، فدفن الإسلام فيه التعريف ودفن الجاهلية فيه الخمس فى قليله وكثيره، وباقية لمن وجده سواء كان فى أرض العرب، أو أرض عنوة، أو صلح، قاله مطرف، وابن الماجشون، وابن نافع، وأصبغ، ورواه ابن وهب، عن على بن أبى طالب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والليث، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية أنه فرق بين أرض العنوة، والصلح فى ذلك، فقال: من أصابه ببلد العنوة فليس لمن وجده، وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن افتتح تلك البلاد، ولورثتهم إن هلكوا، ويتصدق به عنهم إن لم يعرفوا.(3/552)
وقد رد عمر السفطين اللذين وجدا بعد الفتح وسكنى البلاد، قال: وإن كانت أرض فهو كله لهم، لا خمس فيه إذا عرف أنه من أموالهم، وإن عرف أنه ليس من أموال أهل تلك الذمة ولم يرثه عنهم أهل هذه الذمة، فهو لمن وجده وكذلك إن وجده رجل فى دار صلح من صالح عليها، فهو لرب الدار لا شىء فيه، لأن من ملك شيئًا من أرض الصلح ملك ما تحتها. قال سحنون: فإن لم تعرف أعنوة هى الأرض أو صلح، فهو لمن أصابه بعد أن يخمسه، قال الأبهرى: وإنما جعل فى الركاز الخمس، لأنه مال كافر لم يملكه مسلم، فأنزل واجده بمنزلة الغانم مال الكافر، فكان له أربعة أخماسه، واحتج الطحاوى، فقال: لا فرق بين أرض العنوة وأرض الصلح، لأن الغانمين لم يملكوا الركاز كما أن من ملك أرض العرب لا يملك ما فيها من الركاز، وهو للواجد دون المالك بإجماع، فوجب رد ما اختلفوا فيه من أرض الصلح إلى ما أجمعوا عليه من أرض العرب. قال ابن المواز: واختلف قول مالك فيما وجد من دفنهم سوى العين من جوهر وحديد ونحاس ومسك وعنبر، فقال: ليس بركاز، ثم رجع فقال: له حكم الركاز، وأخذ ابن القاسم بالقول الأول أنه ليس بركاز، قال ابن أبى زيد: وهو أبين، لأنه لا خمس إلا فيما أوجف عليه، وإنما أخذ من الذهب والفضة، لأنه الركاز نفسه الذى جاء فيه النص، وقال مطرف، وابن الماجشون،(3/553)
وابن نافع: إنه ركاز. وبه قال أشهب إلا النحاس، والرصاص، ومن جعل ذلك كل ركازًا شبهه بالغنيمة يؤخذ منها الخمس، سواء كانت عينًا أو عرضًا، واختلفوا فى من وجد ركازًا فى منزل اشتراه، فروى على بن زياد، عن مالك أنه لرب الدار دون من أصابه، وفيه الخمس، وهو قول أبى حنيفة ومحمد، وقال ابن نافع: هم لمن وجده دون صاحب المنزل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف. وقال ابن المنذر: لا خلاف بين العلماء أن فى الركاز الخمس، ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا الحسن البصرى فأوجب فيه الخمس إذا وجد فى أرض الحرب، وأوجب الزكاة فيه إذا وجد فى أرض العرب، قال غيره: وهذا غلط، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (وفى الركاز الخمس) ، وهذا عموم فى كل ركاز سواء كان فى أرض العرب أو غيرها، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يخص أرضًا دون أرض. واختلفوا فى المعدن، فعند مالك، والليث أن المعادن مخالفة للركاز، لأنه لا ينال شىء منها إلا بالعمل، بخلاف الركاز، وفيها الزكاة إذا حصل له نصاب ولا يستأنف له الحول، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، قال مالك: لما كان ما يخرج من المعدن يعتمل وينبت كالزرع، كان مثله فى تعجيل زكاته يوم حصاده، كما قال الله فى الزرع، ولا يسقط الدين زكاة المعدن كالزرع، وما كان فى المعدن من الندرة يؤخذ بغير تعب ولا عمل فهو ركاز، وفيه الخمس.(3/554)
وعند الشافعى فى المعدن الزكاة، إلا أنه اختلف قوله، فقال مرة: الزكاة فى قليله وكثيره، وقال مرة: لا زكاة فيه حتى يبلغ نصابًا، وكذلك اختلف قوله فى الندرة توجد فيه، فمرة قال فيها الخمس، كقول مالك، ومرة قال فيها: الزكاة ربع العشر على كل حال، وذهب أبو حنيفة والثورى، والأوزاعى إلى أن المعدن كالركاز، وفيه الخمس فى قليله وكثيره على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وفى الركاز الخمس) واحتج أبو حنيفة بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازًا، وهو قطع من الذهب تخرج من المعادن، هذا قول صاحب العين. وذكر ابن المنذر، عن الزهرى، وأبى عبيد أن الركاز: المال المدفون والمعدن جميعًا، وفيهما الخمس كقول أبى حنيفة، وهما إمامان فى اللغة ومن حجة مالك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (المعدن جبار، وفى الركاز الخمس) ووجه حجته أنه (صلى الله عليه وسلم) فرق بين المعدن والركاز بواو فاصلة، فصح أن الركاز ليس بمعدن من جهة الاسم، وأنهما مختلفان فى المعنى فدل ذلك أن الخمس فى الركاز لا فى المعدن، وما ألزمه البخارى أبا حنيفة، من قوله: قد يقال لمن وهب له الشىء أو ربح ربحًا كثيرًا، أو كثر ثمره أركزت، فهى حجة قاطعة لأنه لا يدل اشتراك المسميات فى الأسماء على اشتراكهما فى المعانى والأحكام، إلا أن يوجب ذلك ما يوجب التسليم له. وقد أجمعوا على أن من وهب له مال أو أكثر ربحه أو ثمره فإنما يلزمه فى ذلك الزكاة خاصة على سنتها، ولا يلزمه فى شىء منه(3/555)
الخمس، وإن كان يقال فيه أركز، كما يلزمه فى الركاز الذى هو دفن الجاهلية إذا أصابه، فاختلف الحكم، وإن اتفقت التسمية. ومما يدل على ذلك حديث مالك بن ربيعة (أن رسول الله أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية) ولا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة، فلما ثبت أنه لم يؤخذ منها غير الزكاة فى عصر النبى وعصر الصحابة، علم أن الذى يجب فى المعادن هو الزكاة، وأما قول البخارى عن أبى حنيفة، ثم ناقض، فقال: لا بأس أن يكتمه ولا يؤدى الخمس، فهو تعسف منه، وليس بمناقضة، لأن الطحاوى حكى عن أبى حنيفة أنه قال: من وجد ركازًا فلا بأس أن يعطى الخمس للمساكين، وإن كان محتاجًا جاز له أن يأخذه لنفسه، وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقًا فى بيت المال، وله نصيب فى الفىء، فذلك جاز أن يأخذ الخمس لنفسه عوضًا من ذلك، لأن أبا حنيفة أسقط الخمس من المعدن بعد ما أوجبه فيه، فتأول عليه البخارى غير ما أراده، وبالله التوفيق.
64 - بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) [التوبة: 60] وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقِينَ مَعَ الإمَامِ
/ 86 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا مِنَ الأسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. اتفق العلماء أن العاملين عليها هم السعاة المتولون لقبض الصدقة، واتفقوا أنهم لا يستحقون على قبضها جزءًا منها معلومًا سبعًا أو ثمنًا، وإنما للعامل بقدر عمالته على حسب اجتهاد(3/556)
الإمام، ودلت هذه الآية على أن لمن شغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك كالولاة والقضاة وشبههم، وسيأتى قول من كره ذلك من السلف فى كتاب الأحكام فى باب رزق الحكام والعاملين عليها، إن شاء الله. قال المهلب: وفى هذا الحديث من الفقه: جواز محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته. قال غيره: وهذا الحديث هو أصل فعل عمر بن الخطاب فى مقاسمته العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما نالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم نظرًا للمسلمين واقتداء بقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أفلا جلس فى بيت أبيه، وأمه فيرى أيهدى له شىء أم لا) . ومعناه أنه لولا الإمارة لم يهد إليه شىء، وهذا اجتهاد من عمر، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه، وسيأتى فى باب احتيال العامل ليهدى له فى آخر كتاب ترك الحيل زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله، قال المهلب: وفيه من الفقه: أن العالم إذا رأى متأولاً قد أخطأ فى تأويله خطأ يعم الناس ضرره أن يعلم الناس كافة بموضع خطئه، ويعرفهم بالحجة القاطعة لتأويله كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بابن اللتبية فى خطبته للناس. وفيه: جواز توبيخ المخطئ. وفيه: جواز تقديم الأدون إلى الإمارة والأمانة والعمل وثم من هو أعلى منه وأفقه، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قدم ابن اللتبية وثم من صحابته من هو أفضل منه.(3/557)
65 - باب اسْتِعْمَالِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا لأبْنَاءِ السَّبِيلِ
/ 87 - فيه: أَنَس، أَنَّ نَاسًا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ. . . . . الحديث. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، إثبات وضع الصدقات فى صنف واحد ممن ذكر فى آية الصدقة خلافًا للشافعى الذى لا يجوز عنده قسمة الصدقات إلا على ثمانية أسهم، والحجة بهذا الحديث قاطعة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أفرد أبناء السبيل بالانتفاع بإبل الصدقة وألبانها دون غيرهم، وقد تقدم هذا المعنى، قال صاحب العين: اجتويت الأرض إذا لم توافقك. وقال الطبرى: افتعلت من الجوى، والجوى أصله فساد يكون فى الجوف يقال منه: قد جوى الرجل يجوى جوى شديدًا، فلذلك كره العرنيون المدينة لما أصابهم من الداء فى أجوافهم. وقال ابن قتيبة: اجتويت البلاد، إذا كرهتها وإن كانت موافقة لك فى بدنك استوبأتها إذا لم توافقك فى بدنك، وإن أحببتها، وقول صاحب العين أشبه بهذا الحديث، وسيأتى ما فيه من غريب اللغة بعد هذا.
66 - باب وَسْمِ الإمَامِ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ
/ 88 - فيه: أَنَس، قَالَ: غَدَوْتُ إِلَى النّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِعَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ، لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ فِى يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ. قال المهلب: فيه من الفقه: أن للإمام أن يتناول أمور المسلمين بنفسه(3/558)
ويلى أمر الصدقة بيده، وفيه: جواز إيلام الحيوان وبنى آدم، إذا كان فى ذلك منفعة، وكان ألما لا يجحف بهم. قال الطبرى: وقد تظاهرت الأخبار عن الصحابة والتابعين أنهم وسموا البهائم، وروى يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أنه نهى عن الوسم فى الوجه) . وروى ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه لعن من يسم فى الوجه. قال الطبرى: فغير جائز لأحد عرف نهى النبى، (صلى الله عليه وسلم) عن الوسم فى الوجه أن يسم بهيمة فى وجهها، فإن قال: فأى المواضع يجوز الوسم فيه؟ قيل: حيث شاء ربها إذا عدا به وجهها، وإن كان أحب الأماكن أن يسم من الإبل والبغال والحمير جاعرتها، ومن الغنم آذانها، وقد روى شعبة، عن هشام بن زيد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: غدوت إلى النبى بعبد الله بن أبى طلحة ليحنكه، فإذا النبى يسم غنمًا. قال شعبة: وأكبر علمى أنه قال: فى آذانها، وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه وسم الخيل التى حمل عليها فى سبيل الله فى أفخاذها، وروى عنه (صلى الله عليه وسلم) خبر فى إسناده نظر أنه أمر بوسم الإبل فى أفخاذها. قال المهلب: وفيه: أن للإمام أن يتخذ ميسمًا لخيله ولخيل السبيل، ليميز بعضها من بعض، وليس للناس أن يتخذوا مثل خاتمه وميسمه، لينفرد السلطان بعلامة لا يشارك فيها، وفيه: أن الطفل إذا وُلِدَ حَسُنَ أن يُقْصَدَ به أهل الفضل والصلاح ليحنكوه ويدعوا له بالبركة، وتلك كانت عادة الناس بأبنائهم فى زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تبركًا بريقه ودعوته ويده - عليه السلام -.(3/559)
67 - باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً
/ 89 - فيه: ابْن عُمَرَ، أنه قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ. قال المؤلف: ذهب جماعة الفقهاء إلى أن صدقة الفطر فريضة فرضها رسول الله، وقال مالك: هى داخلة فى جملة قوله تعالى: (وآتوا الزكاة (واختلف أصحابه فى وجوبها، فقال بعضهم: هى فريضة، وقال بعضهم: هى سنة مؤكدة، وذكر ابن المواز، عن أشهب، قال: لا أرى أن تُبدأ الزكاة على العتق المعين، ولا تبدأ إلا على الوصايا، وتُبدأ على زكاة الفطر، لأنها فرض وزكاة الفطر سنة، وزكاة الفطر بعد زكاة الأموال، وقال أبو حنيفة: هى واجبة، وليست بفريضة، وكل فرض عنده واجب، وليس كل واجب فرضًا، بل الفرض آكد من الواجب. قال بعض أهل العراق: هى منسوخة بالزكاة وروى عن قيس بن سعد بن عبادة، أنه قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمر بها، ولم ينه عنها، ونحن نفعله) ، وتأول قول ابن عمر: (فرض رسول الله) بمعنى أنه قدر ذلك كما يقال: فرض القاضى النفقة، أى قدرها قالوا: ألا ترى قوله تعالى فى آية الصدقات بعد ذكر الأصناف الثمانية: (فريضة من الله) [التوبة: 60] قالوا: وأهل المدينة وأهل العراق(3/560)
متفقون على أن قوله تعالى: (فريضة من الله (لا يراد بها الفرض، فكذلك قول ابن عمر. قال عبد الواحد: ومما يدل أنها ليست بفريضة إجماع الأمة على أن الرجل يلزمه الأداء عن زوجته وخادمه وولده الفقراء، وقد أجمعوا أن لا زكاة على الفقراء، فدل هذا أن صدقة الفطر خارجة عن باب الفرض، ومن جعلها خارجة من آية الزكاة، يَرُدُّ قَوْلَهُ حديثه (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم) وصدقة الفطر تجب على غير الأغنياء. واحتج من قال أنها فريضة بظاهر قول ابن عمر: (فرض رسول الله) ، واسم الفرض لا يقع إلا على الواجب، ولا يجوز للراوى أن يعبر بالفرض عن السنة ويترك العبارة التى تختص بالسنة مع علمه بالفرق بينهما إلا والمراد اللزوم. واختلف العلماء فى وجوبها على الفقير، واختلف فى ذلك قول مالك، فقال فى المدونة: تجب زكاة الفطر على من يحل له أخذها، وقد قال قبل ذلك: من له أن يأخذها فلا تجب عليه، وهو قول ابن الماجشون، وأبى حنيفة، وروى عنه أشهب: من لم يكن له شىء فلا شىء عليه، وروى عنه ابن وهب: إن وجد من يسلفه فليستسلف، قال ابن المواز: ليس عليه أن يستسلف، وليس هو ممن تجب عليه، وهو قول ابن حبيب. وفى العتبية عن مالك إذا أدَّى الفقير زكاة الفطر، فلا أرى أن يأخذ منها، ثم رجع فأجازه إن كان محتاجًا، وقال الشافعى: إذا(3/561)
فضل عن قوت المرء وقوت عياله مقدار زكاة الفطر، فعليه أن يؤدى، وهو قول أحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس على من تحل له صدقة الفطر إخراجها حتى يملك مائتى درهم، واحتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها فى فقرائكم) ، وهذا فقير فوجب أن تصرف إليه الزكاة، ولا تؤخذ منه، وقال (صلى الله عليه وسلم) : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ، فثبت بهذا نفيها عن الفقير. قال ابن القصار: وحجة القول الأول قول ابن عمر: (فرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدقة الفطر على كل حر وعبد، وذكر وأنثى من المسلمين) ، ولم يخص من له نصاب ممن لا نصاب له، فهو عام. وقال (صلى الله عليه وسلم) : (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) والمخاطب غنى بقوت يومه، ولم يفرق بين أن يكون المأمور غنيًا أو فقيرًا، وأيضًا فإن زكاة الفطر حق فى المال لا تزداد بزيادة المال، ولا تفتقر إلى نصابٍ أصله الكفارة.
68 - باب صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
/ 90 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قال ابن القصار: لم يختلف علماء الأمصار أن على السيد أن يخرج زكاة الفطر عن عبيده المسلمين، وقال أهل الظاهر: إن زكاة الفطر تلزم العبد فى نفسه، وعلى السيد تمكينه من اكتساب(3/562)
ذلك وإخراجه عن نفسه، واستدلوا بقوله: (على كل حر وعبد) وإلى هذا القول ذهب البخارى فى هذا الباب، والدليل للجماعة قول نافع: فكان ابن عمر يعطى عن الصغير والكبير حتى إن كان ليعطى عن بنَىَّ. فهذا يدل أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (على العبد) إنما معناه على سيد العبد، والخطاب للعبد، والمراد مالكه المحتمل لها عنه، لأن العبد لا يملك شيئًا، ألا ترى أن العبد لا تلزمه زكاة ماله، لأن ملكه غير مستقر، ونفقته واجبة على سيده، وإن كان له مال، فإذا أذن له سيده أن ينفق على نفسه من المال ويزكى زكاة الفطر جاز، لأنه يكون كأن سيده انتزع منه ذلك المقدار، و (على) بمعنى (عن) لغة مشهورة للعرب، قال القحيف: إذا رضيت علىَّ بنو قشير لعمر الله أعجبنى رضاها أى رضيت عنى، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: لما فرضت على المملوك كان السيد الغارم عنه، لأنه عبد مملوك لا يقدر على شىء، فكذلك إذا جنى كان الغرم على سيده. واختلفوا فى إخراج صدقة الفطر عن العبد الكافر، فقال سعيد بن المسيب والحسن: لا يؤدى إلا عمن صام وصلى. وهو قول مالك، والشافعى، وأحمد، وأبى ثور، وحجتهم قوله فى حديث ابن عمر: (من المسلمين) فدل أن الكفار بخلاف ذلك. وقال آخرون: يجب على السيد أن يخرج عن عبده الكافر، هذا قول عطاء، ومجاهد، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الثورى، وسائر الكوفيين، وإسحاق، واحتج لهم الطحاوى بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من المسلمين) خطاب متوجه معناه إلى السادة،(3/563)