ـ[شرح صحيح البخارى لابن بطال]ـ
المؤلف: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: 449هـ)
تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم
دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض
الطبعة: الثانية، 1423هـ - 2003م
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع](1/30)
بسم الله الرحمن الرحيم)
وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]
1 -[كتاب بدء الوحى]
- باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقول الله عز وجل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) [النساء: 163]
/ 1 - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : إنما الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ -. قال المؤلف: قال لى أبو القاسم المهلب بن أبى صفرة، رحمه الله: معنى هذه الآية أن الله تعالى أوحى إلى محمد، عليه الصلاة والسلام، كما أوحى إلى سائر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قبله وحى رسَالةٍ، لا وحى إلهام، لأن الوحى ينقسم على وجوه. قال: وإنما قدم البخارى، رحمه الله، حديث تمت الأعمال بالنيات - فى أول كتابه، ليعلم أنه قصد فى تأليفه وجه الله، عز وجل، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخارى فى تأليفه.(1/31)
وجعل هذا الحديث فى أول كتابه عوضًا من الخطبة التى يبدأ بها المؤلفون، ولقد أحسن العوض من عوَّض من كلامه كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذى ما ينطق عن الهوى. وقال جماعة من العلماء: إن هذا الحديث ثلث الإسلام، وبه خطب النبى (صلى الله عليه وسلم) حين وصل إلى دار الهجرة وشهر الإسلام. وقال أبو عبد الله بن الفخار: إنما ذكر هذا الحديث فى هذا الباب، لأنه متعلق بالآية التى فى الترجمة، والمعنى الجامع بينهما أن الله، عز وجل، أوحى إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) وإلى الأنبياء قبله أن الأعمال بالنيات، والحجة لذلك قول الله، عز وجل: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5] . وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [الشورى: 13] . وقال أبو العالية: فى هذه الآية وصَّاهم بالإخلاص لله، عز وجل، وعبادته لا شريك له. وقال مجاهد فى قول الله تعالى: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) ، قال: أوصاك به وأنبياءه كلهم دينًا واحدًا. وقال أبو الزناد بن سراج: إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر(1/32)
الأشياء فى هذا الحديث، لأن العرب فى الجاهلية كانت لا تزوج المولى العربية، ولا يزوجون بناتهم إلا من الأَكْفَاء فى النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين فى مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفئًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة، ليتزوج بها، حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس. / 2 - وفيه: عَائِشَةَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْىُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّى، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِى، فَأَعِى مَا يَقُولُ -. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. / 3 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا، إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة، َ وَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: اقْرَأْ،(1/33)
قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: 1 - 4] ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: تمت زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى -، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: تمت لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى -، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بخَبَرَ مَا رَأَى،(1/34)
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا، إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ -؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِىَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ. وقَالَ جَابِرَ فِى حَدِيثِهِ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ: قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِى، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر: 1 - 5] فَحَمِىَ الْوَحْىُ وَتَتَابَعَ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ. / 4 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة: 16] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِى صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (قَالَ: وَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة: 16 - 19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ،(1/35)
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا قَرَأَ. قال المهلب: قوله: تمت فى مثل صلصلة الجرس -، يعنى قوة صوت الملك بالوحى، ليشغله عن أمور الدنيا، ويفرغ حواسه للصوت الشديد، فكان (صلى الله عليه وسلم) ، يعى عنه، لأنه لم يبق فى سمعه مكان لغير صوت الملك ولا فى قلبه. قال المؤلف: وعلى هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحى من الله، عز وجل. ذكر البخارى عن ابن مسعود، قال: تمت إذا تكلم الله بالوحى، سمع أهل السماوات -. وقال أبو هريرة فى حديثه: تمت إذا قضى الله الأمر فى السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، قال: فإذا فزع عن قلوبهم وسكت الصوت عرفوا أنه الحق، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق -. وقال أبو الزناد: إنما ذكر (صلى الله عليه وسلم) أنه يأتيه الوحى فى مثل صلصلة الجرس، ويتمثل له رجلاً ولم يذكر الرؤيا، وقد أعلمنا (صلى الله عليه وسلم) أن رؤياه وحى، وذلك أنه أخبرهم بما ينفرد به دون الناس، لأن الرؤيا الصالحة قد يشركه غيره فيها. وأما قول عائشة: تمت أول ما بدء به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الوحى الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح -. قال المهلب: هى تباشير النبوة وكيفية بدئها، لأنه لم يقع فيها(1/36)
ضغث، فيتساوى مع الناس فى ذلك، بل خص بصدقها كلها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحى، وقرأ: (إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] فتمم الله عليه النبوة، بأن أرسل إليه الملك فى اليقظة، وكشف له عن الحقيقة، فكانت الأولى فى النوم، وصحة ما يوحى إليه فيه توشيحًا للنبوة وابتدائها حتى أكملها الله له فى اليقظة تفضلاً من الله تعالى، وموهبة خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاته والله ذو الفضل العظيم. قال غيره: وتزوده (صلى الله عليه وسلم) فى تحنثه يرد قول الصوفية: أن من أخلص لله أنزل الله عليه طعامًا. والرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، كان أولى بهذه المنزلة، لأنه أفضل البشر، وكان يتزود. وقال المهلب: قوله: تمت فغطنى - فيه من الفقه أن الإنسان يذكر وينبه إلى فعل الخير وإن كان عليه فيه مشقة. وقال أبو الزناد: قوله: تمت فغطنى - ثلاث مرات، فيه دليل على أن المستحب فى مبالغة تكرير التنبيه والحض على التعليم ثلاث مرات. وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه كان إذا قال شيئًا أعاده ثلاثًا -، للإفهام، وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمر المؤدب أن لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات. وقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1] يدل على أنها أول ما نزل من القرآن.(1/37)
وقال أبو الحسن بن القصار: فى هذا رد على الشافعى فى قوله: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (آية من كل سورة، وهذه أول سورة نزلت عليه، ولم يذكر فيها) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (. قال غيره: رجوع الرسول فزعًا، فقال: تمت زملونى -، ولم يخبر بشىء حتى ذهب عنه الروع، فيه دليل: أنه لا يحب أن يسأل الفازع عن شىء من أمره ما دام فى حالة فزعه. وكذلك قال مالك وغيره: إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره فى حال فزعه. وقوله: تمت لقد خشيت على نفسى -، يدل أنه من نزلت به ملمة أن له أن يشارك فيها من يثق بنصحه ورأيه. وقولها: تمت كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل - إلى آخر الحديث إنما هو قياس منها على العادات، والأكثر فى الناس فى حسن عاقبة من فعل الخير، وفيه جواز تزكية الرجل فى وجهه بما فيه الخير، وليس بمعارض لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت احثوا التراب فى وجوه المداحين -. وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل، وبما ليس فى الممدوح. وقول يونس ومعمر: تمت بوادره - يعنى: ترجف بوادره مكان رواية من روى: تمت يرجف فؤاده -.(1/38)
وسيأتى تفسير ذلك فى آخر هذا الباب، إن شاء الله تعالى. ومعنى أمره تعالى نبيه لا يحرك بالقرآن لسانه ليعجل به: وعدته له أن يجمعه فى صدره، لكى يتدبره ويتفهمه، وتبدو له عجائب القرآن وحكمته، وتقع فى قلبه مواعظه، فيتذكر بذلك، ولتتأسى به أمته فى تلاوته، فينالوا بركته، ولا يحرموا حكمته. وقد ذكر الله هذا المعنى، فقال: (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29] . وفيه: أن القرآن لا يحفظه أحد، إلا بعون الله له على حفظه وتيسيره، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17] . / 5 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. قال المهلب: معنى ذلك: أنه امتثل، (صلى الله عليه وسلم) ، قول الله وأمره، فى تقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول، الذى كان [الله] تعالى أمر به عباده، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة: 12] ، ثم عفا عنهم لإشفاقهم منه، فامتثل ذلك النبى عند مناجاة الملك، وترداده عليه فى رمضان. فإن قيل: هذا أمر منسوخ، قيل: قد فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى خاصته أشياء منع منها أمته، كالوصال فى الصيام، فإنه (صلى الله عليه وسلم) واصل، ونهى عنه غيره، وقال: تمت أيكم مثلى -؟ وكان يلتزم من طاعة ربه ما لا يقدر عليه غيره، وكان يصلى حتى تتفطر قدماه،(1/39)
ويقول: تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا -؟ وما كانت مدارسته للقرآن إلا لتزيده رغبة فى الآخرة، وتزهدًا فى الدنيا. وفيه: دليل أن الجليس الصالح ينتفع بمجالسته. فإن قيل: فما معنى مدارسة جبريل للنبى (صلى الله عليه وسلم) القرآن وقد ضمن الله لنبيه ألا ينساه بقوله: (سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى (؟ [الأعلى: 6] فالجواب: أن الله تعالى إنما ضمن له ألا ينساه بأن بقرئه إياه فى المستأنف، لأن السين فى) سَنُقْرِؤُكَ (دخلت للاستئناف، فأنجز له ذلك بإقراء جبريل، ومدارسته له القرآن فى كل رمضان. وخص رمضان بذلك، لأن الله تعالى أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا، ولتتأسى بذلك أمته فى كل أشهر رمضان، فيكثروا فيه من قراءة القرآن، فيجتمع لهم فضل الصيام والتلاوة والقراءة والقيام. / 6 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّى، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ،(1/40)
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَبَّعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لا نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّىِّ كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ(1/41)
أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمِ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ الكَلْبِى إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: تمت بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللَّهِ رسول اللَّه إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّين، َ وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم(1/42)
أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} -[آل عمران: 64] . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ، مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَر، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإسْلامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ أسقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّاْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ، فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ، قَالَ: اذْهَبُوا، فَانْظُرُوا، مُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ هِرَقْلُ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى(1/43)
حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ، حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ، يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ الرسول، وَأَنَّهُ نَبِىٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ: إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. قال المهلب: وقوله: تمت فى المدة التى مادَّ فيها رسول الله أبا سفيان وكفار قريش -، فإن أهل السير ذكروا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صالح أهل مكة سنة ست، عام الحديبة، عشر سنين، ثم إن أهل مكة نقضوا العهد الذى كان بينهم وبين الرسول بقتالهم خزاعة حلفاء النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ثم سألو أبا سفيان أن يجدد لهم العهد، فامتنع النبى (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، فأنزل الله تعالى: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة: 13] بعد أن قال تعالى: (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة: 12] فأوجب قتالهم حين نكثوا أيمانهم. وغير جائز أن يترك النبى (صلى الله عليه وسلم) ما أمر به من قتالهم بعد قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة: 14، 15] فأمر بقتالهم وأخبر بما يكون من النصر والتشفى خبرًا لا يجوز أن ينقلب.(1/44)
وفى سؤال هرقل: تمت أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟ - دليل أن أقارب الإنسان أولى بالسؤال عنه من غيرهم من أجل أنه لا ينسب إلى قريبه ما يلحقه به عار فى نسبه عند العداوة كما يفعل غير القريب. وقوله: تمت قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره -، خشى أن يستحى منه أصحابه عند نظرهم إليه إن كذب فى قوله. وقال لهم: تمت كذبنى فكذبوه - وإن صدقنى فصدقوه. وقوله: تمت فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذابًا لكذبت عليه - يدل أن الكذب مهجور فى كل أمة ومعيبًا فى كل ملة. وفيه: أن العدو لا يؤمن عليه الكذب على عدوه، وكذلك لا يجوز شهادته على عدوه. وفيه: أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم الأنساب، لأن من شرف نسبه كان أبعد له من الانتحال لغير الحقائق. وقوله: تمت فى نسب قومها - يعنى: أفضله وأشرفه. وكذلك الإمام الذى هو خليفة الرسول ينبغى أن يكون من أشرف قومه. وفيه: أن الإمام الكاشف وجهه فى الإمامة وكل من حاول مطلبًا عظيمًا إذا لم يتأس بأحد تقدمه من أهله ولا طلب رئاسة سلفه كان أبعد للمظنة به وأبرأ لساحته. وفيه: أن من أخبر بحديث وهو معروف بالصدق أنه يصدق فيه، وإن كان معروفًا بالكذب أنه لا يقبل حديثه. وقوله: تمت أشراف الناس اتبعوه - فإن أشراف الناس هم الذين يأنفون من الخصال التى شرف صاحبهم عليهم بها، ويُحَطُّ شرفهم إلى(1/45)
أن يكونوا تابعين فى أحوال الدنيا، فلذلك قال: إن كان يعاديه أشراف الناس فهى دلالة على نبوته، وأما ضعفاؤهم الذين لا تتكبر نفوسهم عن اتباع الحق حيث رأوه ولا يجد الشيطان السبيل إلى نفخ الكبرياء فى نفوسهم، فهم متبعون للحق حيث سمعوه لا يمنعم من ذلك طلب رئاسة ولا أنفة شرف، وزيادتهم دليل على صحة النبوة، لأنهم يرون الحق كل يوم يتجدد ويتبين لهم، فيدخل فيه كل يوم طائفة. وأما سؤاله عن ارتدادهم، فإن كل من لم يدخل على بصيره فى شىء وعلى يقين منه فقريب رجوعه واضطرابه، ومن دخل على بصيرة وصحة يقين فيمتنع رجوعه. وأما سؤاله عن الغدر، فإن من طلب الرئاسة والدنيا خاصة لم يسأل عن أى طريق وصل إليها، ومن طلب شرف الآخرة والدنيا لم يدخل فيما يعاب ولا فيما يأثم فيه. وقوله: تمت ونحن منه فى مدة لا ندرى ما يكون منه -، قال: تمت ولم تمكنى كلمة أنتقصه فيها غير ما - فيه من الفقه: أن من شك فى كمال أحوال النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فهو مرتاب غير مؤمن به. وسؤاله عن حربهم وقوله: تمت وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة - فتبتلى ليعظم لها الأجر ولمن اتبعها، ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ولو أراد الله إخراج الأمر عن العادات لجعل الناس كلهم له متبعين، ولقذف فى قلوبهم الإيمان به، ولكن أجرى الأمور على العادة بحكمة بالغة؛ ليكون فريق فى الجنة، وفريق فى السعير. وأما قوله لترجمانه: تمت قل له: إنى سألتك عن نسبه - إلى آخر سؤاله، فقال فى كل فصل منها: وكذلك الرسل تبعث فى مثل هذا، فإنما أخبر بذلك عن الكتب القديمة.(1/46)
وأن ذلك كله نعت للنبى (صلى الله عليه وسلم) مكتوبًا عندهم فى التوارة والإنجيل، وكذلك قوله: تمت قد كنت أعلم أنه خارج - إنما علم ذلك من التوارة والإنجيل. وقول هرقل: تمت لو كنت أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه - دون خلع من ملكه، ولا اعتراض عليه فى شىء، وهذا التجشم هى الهجرة، وكانت فرضًا على كل مسلم قبل فتح مكة. فإن قيل: فإن النجاشى لم يهاجر قبل فتح مكة وهو مؤمن فكيف سقط عنه فرض الهجرة؟ . قيل له: هو فى أهل مملكته أعْنَى عن الله، وعن رسوله، وعن جماعة المسلمين منه، لو هاجر بنفسه فردًا؛ لأن أول عنائه حبسه الحبشة كلهم من مقاتلة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والمسلمين مع طوائف الكفار، مع أنه كان ملجأ لمن أوذى من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) وردءًا لجماعة المسلمين، وحكم الردء فى جميع أحكام الإسلام حكم المقاتل، وكذلك فى رد اللصوص والمحاربين عند مالك وأكثر الكوفيين يقتل بقتلهم، ويجب عليه ما يجب عليهم، وإن كانوا لم يحضروا الفعل. ومثل تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد عن بدر، فضرب لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بسهامهم من غنيمة بدر، وقالوا: وأجرنا يا رسول الله؟ قال: تمت وأجركم -. وقوله: تمت أسلم تسلم - هذا التجنيس فى غاية البلاغة، وهو من بديع الكلام، ومثله فى كتاب الله: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: 44] .(1/47)
وقوله: تمت يؤتك الله أجرك مرتين - أى: بإيمانك بعيسى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإيمانك بى بعده. ودعاية الإسلام هى توحيد الله، عز وجل، والإيمان برسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ولم يصح عندنا أن هرقل جهر بالإيمان وأعلن بالإسلام، وإنما عندنا أنه آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق، ولسنا نقنع بالاعتقاد للإسلام دون الجهر به لقوله: تمت أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنى رسول الله -، وقد أرخص الله لمن خاف، وأكره على الكفر أن يضمر الإيمان بقوله: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: 106] ، ولم يبلغنا أن هرقل أكره على شىء من ذلك فيقوم له عذر وأمره إلى الله تعالى. وأما بعثه (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، وآية من القرآن، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو -، وقال العلماء: لا يُمكَّن المشركون من الدراهم التى فيها اسم الله تعالى. وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه فى أول الإسلام، ولم يكن بد من أن يدع الناس إلى دين الله كافة وتبليغهم توحيده كما أمره الله تعالى. وقوله: تمت فإن عليك إثم الأريسيين - يريد الرؤساء المتبوعين على الكفر، وسيأتى اشتقاق هذه اللفظة فى آخر هذا الباب إن شاء الله. قال أبو الزناد: فحذره (صلى الله عليه وسلم) ، إذ كان رئيسًا متبوعًا مسموعًا منه أن يكون عليه إثم الكفر، وإثم من عمل به واتبعه عليه، وقد قال(1/48)
(صلى الله عليه وسلم) : تمت من سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة -. قال المهلب: وأصله فى كتاب الله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) [العنكبوت: 13] . وليس على البخارى فى إدخاله أحاديث عن أهل الكتاب، هرقل وغيره، ولا فى قوله: تمت وكان حزَّاءً ينظر فى النجوم - حرج؛ لأنه إنما أخبر أنه كان فى الإنجيل ذكر محمد، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان من يتعلق قبل الإسلام بالنجامة ينذر بنبوته؛ لأن علم النجامة كان مباحًا ذلك الوقت، فلما جاء الإسلام منع منه، فلا يجوز لأحد اليوم أن يقضى بشىء منه، وكان علم النجوم قبل الإسلام على التظنين والتبحيث يصيب مرة ويخطئ كثيرًا، فاشتغالهم بما فيه الخطأ الغالب ضلال، فبعث الله نبيه محمدًا (صلى الله عليه وسلم) بالوحى الصحيح، ونسخ ذلك العناء الذى كانوا فيه من أمر النجوم، وقال لهم: نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. وقال أبو المعتز فى كتاب الأدب: لا يصلح لذى عقل ودين تعاطى علم النجوم؛ لأنه لا سبيل إلى إيصال الصواب منها، والذى يشبه الصواب منها إنما يتهيأ بالاتفاق، وكيف يرضى العاقل من نفسه أن يكذب مرة ويصدق أخرى، وإنما عمر الإنسان كالساعة التى لا ينبغى أن ينفقها إلا فى علم يزداد بالإيغال فيه بعدًا من الباطل وقربًا من الحق، ولو أمكن ألا يخطئ الناظر فى علم النجوم لكان فى ذلك تنغيص العيش، وتكدير لصفوه، وتضييق لمتفسح الآمال التى بها قوت الأنفس وعمارة الدنيا، ولم يف ما يرجى من الخير بما يتوقع(1/49)
من الشر؛ لأن بعض الناس لو علم أنه يموت إلى سنة لم ينتفع بشىء من دنياه، وهذا لا يشبه بفضل الله وإحسانه ورأفته بخلقه، ولو علم الناظر فيها أنه يعيش مائة سنة فى صحة وغنى لبطر وما انتهى عن فاحشة ولا تورع عن محرم، ولا أتى حنقًا هاجمًا ولزالت نعمه، ولفسدت الدنيا بإهمال الناس لو تركوا أمره ونهيه ولأكل الناس بعضهم بعضًا، ولعل بعضهم كان يؤخر التوبة إلى يوم أو ساعة أو سنة قبل موته متحاذق على ربه، ويدخل الجنة بتوبته، وليس هذا فى حكمة الله وصواب تدبيره، ولا شك أن الخير فيما اختاره الله لنا من طى ذلك عنا، فلله الحمد على جميل صنعه ولطيف إحسانه. وقال أبو الحسن الجرجانى النسابة فى معنى نسبة قريشٍ رسول الله إلى أبى كبشة قال: إنما كانت تدعوه بذلك وتغير اسمه؛ عداوة له إذ لم يمكنهم الطعن فى نسبه المهذب، صلوات الله عليه، وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة أبو آمنة أم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعى: أبا كبشة، وكان عمرو بن زيد بن أسد بن البخارى أبو سلمى أم عبد المطلب يدعى: أبا كبشة، وكان فى أجداده من قِبَل أمه أبو كبشة، وجد ابن غالب بن الحارث وهو أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف أبى آمنة أم الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، وكان أبوه من الرضاعة يدعى: أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدى. وقال ابن قتيبة: إنما نسبه، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى أبى كبشة وهو الحارث بعض أجداد أمه؛ لأنه رجل عبد الشعرى، ولم تعرف العرب عبادة الشعرى لأحد قبله، وجعلوا فعله فى ذلك شذوذًا فى(1/50)
الدين، فلما جاءهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما لا يعرفونه من دينهم ودين آبائهم وشذ عنهم فى ترك عبادة الأوثان، ودعا إلى دين الله ودين إبراهيم؛ شبهوه بأبى كبشة فى شذوذه فى عبادة الشعرى.
ذكر ما فى كتاب بدء الوحى من غريب اللغة
قوله: تمت صلصلة الجرس - الصلصلة والصليل: الصوت. يقال: صلت أجواف الإبل من العطش، إذا يبست ثم شربت فسمعت للماء فى أجوافها صوتًا، والجرس معروف، وهو شبه الناقوس الصغير يوضع فى أعناق الإبل، وأجرس بالجرس صوَّت به، والجرس: الصوت. وقوله: تمت فيفصم عنى -. قال صاحب الأفعال: فصمت الشىء فصما: صدعته من غير أن أبينه، وفصم الشىء عنك: ذهب، وفصمت العقدة: حللتها. ومنه قوله تعالى: (لاَ انفِصَامَ لَهَا) [البقرة: 256] . وفيه لغة أخرى. قال الأصمعى: يفصم: يقلع، ومنه قولهم: أفصم المطر إذا أقلع، فيقال: منه فعل وأفعل. وقوله: تمت يتفصد عرقًا - يعنى: يسيل عرقًا، ومنه الفصد: قطع العرق. وقول عائشة: تمت فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح - يعنى: ضوء الصبح، والفلق: هو الصبح بعينه، وقد قيل فى قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق: 1] ، يعنى به الصبح، وقيل: إن الفلق اسم جبٍّ فى جهنم.(1/51)
وقوله: تمت كان يتحنث -. قال ابن قتيبة: التحنث تفعل من الحنث، وليس بمعنى كسب الحنث؛ إنما هو أن يلقيه عن نفسه، وجاءت ثلاثة أفعال مخالفة لسائر الأفعال يقال: تحنث، وتحوب، وتأثم: إذا ألقى الحنث، والحوب، والإثم عن نفسه، وغيرها من الأفعال إنما يكون تفعل منها بمعنى تكسب. وقوله: تمت فغطنى -. قال صاحب العين: غطه فى الماء يغِطه ويغَطه: غرَّقه. وقوله: تمت يرجف فؤاده -. يقال: رجف الشىء يرجف رجفًا: تحرك. وقول يونس ومعمر: ترجف بوادره. قال أبو عبيدة: البادرة: اللحمة التى بين أصل العنق والمنكب الضاربة. وأنشد غيره: وجاءت الخيل محمّرا بوادرها وقوله: تمت الناموس الذى نزل الله على موسى -. قال ابن دريد: ناموس الرجل: صاحب سره، وكل شىء سترت فيه شيئًا فهو ناموس له. وقال أبو عبيد: الناموس جبريل (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: تمت نصرًا مؤزرًا - أى: قويًا، مأخوذ من الأزر وهو القوة. ومنه قوله عز وجل: (أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى) [طه: 30، 31] أى: قوتى، وقيل: أزرى: ظهرى، خص الظهر؛ لأن القوة فيه. وقوله: تمت ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى - أى: لم ينشب فى شىء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة.(1/52)
وقوله: تمت فحمى الوحى - فتتابع هو، كقوله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين حين اشتدت الحرب وهاجت: تمت الآن حمى الوطيس - والوطيس: النفور. وقال صاحب العين: حميت النار والشمس: اشتد حرها وحمى الفرس إذا سخن وعرق، وأحميت الحديد فى النار. وقوله: تمت فى المدة التى ماد فيها كفار قريش - فهو صلح الحديبية، وتمت ماد -: فاعل من المدة التى اتفق معهم على الصلح مدة ما من الزمان، تقول العرب: تماد الغريمان والمتبايعان إذا اتفقا على أجل ومدة وهى مفاعلة من اثنين. وقوله: تمت الحرب بيننا وبينه سجال -، قال صاحب العين: الحرب سجال، أى: مرة فيها سجل على هؤلاء وسجل على هؤلاء، والسجل مثل الدلو، والمساجلة: المناوأة فى العمل أيهما يغلب صاحبه. وأنشد: من يساجلنى يساجل ماجدًا يملأ الدلو إلى عقد الكرب وأصله من تساجلهما فى الاستقاء. قال المبرد: فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة. وقوله: تمت وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب -، أصل البشاشة: اللطف والإقبال على الرجل، يقال: بششت بشا وبشاشة، وقد تبشبشت، عن صاحب العين، فبشاشة الإيمان على هذا فرح قلب المؤمن به وسروره. وقال الحربى فى تفسير تمت الأريسيين - عن بعض أهل اللغة قال: الأريس الأمير، والمؤرس الذى يستعمله الأمير وقد أرسه، والأصل رأسه، فقلب وغير فى النَسَبٍ، والنَسَبُ يغير له الكلام كثيرًا.(1/53)
قال المؤلف: والصواب على هذا أن يقال: الإِرِّيسيين بكسر الهمزة وتشديد الراء. وذكر المطرز، عن ثعلب، عن عمرو بن أبى عمرو، عن أبيه، قال: الأريس الأكَّار، والصخب الصياح، صخب صخبًا إذا صاح. وقوله: تمت أَمِرَ أَمْرُ ابن أبى كبشة -، يقال: أمر الشىء إذا كثر. وقال ابن الأنبارى: وإنما قيل للروم: بنو الأصفر؛ لأن حبشيا غلب على ناحيتهم فى بعض الدهور فوطئ سبيًا فولدن أولادًا فيهم من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرًا لعسًا، فنسبت الروم إلى الأصفر بذلك. وقوله: تمت ابن الناطور -، قال دريد: الناطور: حافظ النخل والتمر، وقد تكلمت به العرب وإن كان أعجميًا. وقال أبو عبيد: هو الناظور بالظاء المعجمة، والنبط يجعلون الظاء طاء وإنما سمى الناظور من النظر. قوله: تمت وكان حزَّاء -، قال صاحب العين: حَزَا يحزُّ حزوًا: إذا كهن، وحزى يحزى حزيًا وتحذى تحذية. وقوله: تمت فلم يرم حمص -، يعنى: لم يبرح، عن صاحب العين، يقال: ما يريم بفعل كذا، أى: ما يبرح. وتمت الدسكرة - بناء كالقصر حوله بيوت. وقوله: تمت حاصوا حيصة حمر الوحش -، قال أبو عبيد: حاص يحيص وجاص يجيص بمعنى واحد: إذا عدل عن الطريق، وقال أبو زيد: حاص رجع، وجاص: عدل.(1/54)
بسم الله الرحمن الرحيم
- تفسير كِتَابُ الإيمَانِ
- بَاب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بُنِىَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ
وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح: 4] ،) وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف: 13] ،) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم: 76] ،) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد: 17] ،) وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) [المدثر: 31] ،) أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا) [التوبة: 124] ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [التوبة: 124] وَقَوْلُهُ: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) [آل عمران: 173] وَقَوْلُهُ: (وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22] وَالْحُبُّ فِى اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِى اللَّهِ مِنَ الإيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ: إِنَّ لِلإيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، (صلى الله عليه وسلم) : (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البقرة: 260] . وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:(1/55)
الْيَقِينُ الإيمَانُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (شَرَعَ لَكُمْ) [الشورى: 13] أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48] سَبِيلا وَسُنَّةً. 2 - باب دعاؤكم إيمانكم / 1 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت بُنِىَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ -. قال المؤلف: مذهب جماعة أهل السُّنَّة من سَلَف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخارى من كتاب الله من ذكر الزيادة فى الإيمان وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة، فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له. فإن قيل: إن الإيمان فى اللغة التصديق وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [يوسف: 17] أى ما أنت بمصدق، يعنى فى إخبارهم عن أكل الذئب ليوسف فلا ينقص التصديق. قال المهلب: فالجواب فى ذلك أن التصديق وإن كان يسمى إيمانًا فى اللغة، فإن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان من كمال إيمانه، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص.(1/56)
ألا ترى قول عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسُننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول فى الإيمان. وأما التصديق بالله وبرسله فلا ينقص، ولذلك توقف مالك فى بعض الروايات عنه عن القول بالنقصان فيه، إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إن نقص صار شكا، وانتقل عن اسم الإيمان. وقال بعض العلماء: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصى من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السُنَّة، ذكر أحمد بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن محمد، بصنعاء، قال: حدثنا مسلمة بن شبيب، ومحمد بن يزيد، قالا: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثورى، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، والأوزاعى، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة، يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. ومن غير رواية عبد الرزاق، وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعى. وحكى الطبرى: أنه قول الحسن البصرى، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك. فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الإيمان فى اللغة التصديق، وأنه لا ينقص، فكيف يكون الإيمان قولاً وعملاً؟ .(1/57)
قيل: كذلك نقول: التصديق فى نفسه لا ينقص إلا أنه لا يتم بغير عمل، إلا لرجل أسلم، ثم مات فى حين إسلامه قبل أن يدرك العمل فهذا معذور، لأنه لم يتوجه إليه فرض الأمر والنهى ولا لزمه. وأما من لزمه فرض الأمر والنهى فلا يتم تصديقه لقوله إلا بفعله. قال الطبرى: ألا ترى أن من وعد عدة، ثم أنجز وعده وحقق بالفعل قوله، أنه يقال: صدق فلان قوله بفعله، فالتصديق يكون بالقلب وباللسان والجوارح، والمعنى الذى يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه المعانى الثلاثة، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه أنه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من توحيد ربه أنه غير مستحق اسم مؤمن، وكذلك لو أقر بالله وبرسله ولم يعمل الفرائض مؤمنًا بالإطلاق، وإن كان فى كلام العرب قد يجوز أن يسمى بالتصديق مؤمنًا، فغير مستحق ذلك فى حكم الله، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال: 2 - 4] ، فأخبر تعالى أن المؤمن على الحقيقة من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل وضيع ما أمر به وفرط، والحجة لذلك من السُنَّة أيضًا ما رواه الطبرى، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد المكى، قال: حدثنا عبد السلام بن صالح، قال: حدثنا الرضا على بن موسى، عن جعفر، عن أبيه، عن علىِّ بن حسين، عن أبيه، عن علىِّ بن أبى طالب، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وتصديق بالعمل -.(1/58)
وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت بُنى الإسلام على خمس. . . . - إلى آخر الحديث.
قال المهلب: فهذه الخمس هى دعائم الإسلام التى بها ثباته، وعليها اعتماده، وبإدامتها يعصم الدم والمال، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله -، وبهذا احتج الصِّدِّيق حين قاتل أهل الردة حين مَنْعِهِمُ الزكاة، وقال: واللهِ لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واتبعه على ذلك جميع الصحابة. وكذلك ينبغى أن يقاس على فعل أبى بكر، رضى الله عنه، فنقتل من جحد فريضة ومن ضيعها، فيجب عليه قضاؤها، فصح أن الإيمان قول وعمل. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت بُنِىَ الإسلام على خمس -، كان فى أول الإسلام قبل فرض الجهاد، والله أعلم. وأما قول عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع، فإن أعش فسأبينها لكم. إن قال قائل: كيف ظن عمر بأهل العراق أنهم لا يعرفون شرائع الإسلام وعندهم علماء التابعين وكيف أخر تعريفهم بها؟ . فالجواب: أن عمر إنما رأى واجبًا على الإمام أن يتفقد، رعيته ويتخولهم أبدًا بذكر أمور الدين، وألا يدع ذلك على كل حال فيمن عَلِمَ منهم أو جَهِلَ، وفيمن قرب منهم أو بعد، فأراد عمر أن يخرج(1/59)
نفسه مما لزمه من ذلك، وأن يعيد ذكره مرارًا متى استطاع وأخر تعريفهم، لأن تأخير البيان جائز إذا لم تدع إليه ضرورة. وأما قول ابن عباس: تمت دعاؤكم إيمانكم -، فإن المفسرين اختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان: 77] ، فعلى قول ابن عباس يكون معناه: قل: ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم الذى هو زيادة فى إيمانكم، لأنه قد جاء فى الحديث أن الدعاء أفضل العبادة. وقال مجاهد: المعنى ما يفعل بكم ربى لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه، قال: وهو مثل قوله تعالى: (مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) [النساء: 147] وقال ابن قتيبة: المعنى ما يعبأ بعذابكم ربى لولا دعاؤكم غيره، أى: لولا عبادتكم غيره، وقول ابن عباس يوافق مذهب البخارى، لأنه سمى الدعاء إيمانًا، والدعاء عمل.
3 - باب أُمُورِ الإيمَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. . . . (إلى) الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177] وَقَوْلِهِ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 1] الآيَةَ.
/ 2 - فيه أَبو هُرَيْرَةَ أن رسول الله قَالَ: تمت الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ -.(1/60)
قال المؤلف: فقه هذا الباب كالذى قبله، أن كمال الإيمان بإقامة الفرائض والسنن والرغائب، وأن الإيمان قول وعمل بخلاف قول المرجئة. ومعنى قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ) [البقرة: 177] أى: ليس غاية البرِّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن غاية البرِّ وكماله بِرُّ من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، إلى سائر ما ذكره تعالى فى الآية، فحذف الصفة وأقام الموصوف مقامه، ومثله قوله تعالى: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [لقمان: 28] . قال سيبويه: أراد كخلق نفس واحدة وبعثها. وبالمبالغة فى أفعال البر مدح الله المؤمنين فى قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ (إلى قوله: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1 - 11] . وهذا المعنى مُطابق لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة -، فجعله أشياء كثيرة، ثم قال: تمت الحياء شعبةٌ من الإيمان -، فدل الكتاب والسُّنَّة على خلاف قول المرجئة. قال أبو الزناد: وقوله: تمت الحياء شعبة من الإيمان - يريد، والله أعلم، أن الحياء يبعث على طاعة الله ويمنع من ارتكاب المعاصى، كما يمنع الإيمان، وإن كان الحياء غريزة فالإيمان فعل المؤمن، فاشتبها من هذه الجهة. فإن قال قائل من المرجئة: كيف يجوز أن تسمى أفعال البرِّ كلها إيمانًا، وقد تقدم من قولكم أن الإيمان هو التصديق؟ .(1/61)
قيل: قد تقدم قول المهلب أن أعمال البر إذا انضافت إلى التصديق كمل تصديق صاحبها بها على تصديق من عرى من أعمال البر، وقد تقدم قول الطبرى أن التصديق يكون بالفعل كما يكون بالقول. وقد أجاب أبو بكر بن الطيب أيضًا فى ذلك قال: إن الرسول إنما سمَّى أفعال البرِّ كلها إيمانًا على معنى أنها من دلائل الإيمان وسجايا المؤمنين وأفعالهم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما مدح هذه الأفعال إذا وقعت من عارف بالله، ومصدق به، ولو وقعت من غير عارف به لم تكن قربةً ولا مدح فاعلها، فلما لم تكن قربة دون حصول المعرفة والإقرار بالقلب، سميت إيمانًا باسم الأصل الذى لا يتم الحكم لها بأنها طاعة وقربة دون حصوله.
4 - باب الْمُسْلِمِ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
/ 3 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ -. قال المهلب: يريد المسلم المستكمل لأُمور الإسلام خلاف قول المرجئة. والمراد بهذا الحديث الحض على ترك أذى المسلمين باللسان واليد والأذى كله، ولهذا قال الحسن البصرى: الأبرار هم الذين لا يؤذون الذّر والنمل. وقوله: تمت والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه -. قال أبو الزناد: لما انقطعت الهجرة، وفضلها حزن على فواتها من(1/62)
لم يدركها من أصحاب الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، فأعملهم أن المهاجر على الحقيقة من هجر ما نهى الله عنه، وقال غيره: أعلم المهاجرين أنه واجب عليهم أن يلتزموا هجر ما نهى الله عنه، ولا يتكلوا على الهجرة فقط.
5 - باب أَىِّ الإسْلامِ أَفْضَلُ؟
/ 4 - فيه: أَبو مُوسَى قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الإسْلامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: تمت مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ -. قال: هذا الجواب خرج على سؤال سائل، لأنه قد سُئل، (صلى الله عليه وسلم) ، مثل هذا السؤال، فأجاب بغير هذا الجواب، وذلك تمت أنه سئل: أى الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام -. فدل اتفاق السؤال واختلاف الجواب أن ذلك كله منه، (صلى الله عليه وسلم) ، فى أوقات مختلفة، لقوم شتى، فجاوب كل إنسان بما به الحاجة إلى علمه، وجعل إسلام من سلم المسلمون من لسانه ويده من أفضل الإسلام، وهو خلاف قول المرجئة.
6 - باب إِطْعَامِ الطَّعَامِ مِنَ الإيمان
/ 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تمت تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ -. قال أبو الزناد: فى هذا الحديث الحض على المواساة، واستجلاب(1/63)
قلوب الناس بإطعام الطعام وبذل السلام، لأنه ليس شىء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما، وقد مدح الله المطعم للطعام، فقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان: 8] الآية، ثم ذكر الله جزيل ما أثابهم عليه، فقال: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 11، 12] . قال المؤلف: وصف تعالى من لم يطعمه بقوله تعالى فى صفة أهل النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر: 43 - 45] ، وعاب تعالى من أراد أن يحرم طعامه أهل الحاجة إليه، فذكر أهل الجنة: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (إلى) كَالصَّرِيمِ) [القلم: 17 - 20] ، يعنى المقطوع، فأذهب تعالى ثمارهم، وحرمهم إياها حين أمَّلُوا الاستئثار بها دون المساكين. وفى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف - ندب إلى التواضع وترك الكبر، قال المهلب: وهذا كما يظن العالم أن السائل محتاج إلى علمه، وهو من كمال الإيمان. ومعنى قوله: تمت تقرأ السلام - أى تسلم عليه، قال أبو زيد: أقرأنى خبرًا، أخبرنى به. وقال أبو حاتم: يقال: اقرأ (صلى الله عليه وسلم) وأقرئه الكتاب، ولا يقال: أقرئه السلام إلا أن يكون مكتوبًا فى كتاب، ويقال: أقرئه إياه، ولا يقال: أقرئ السلام إلا فى لغة شنوءة.(1/64)
7 - باب مِنَ الإيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
/ 6 - فيه: أَنَسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ -. قال المؤلف: معناه: لا يؤمن أحدكم الإيمان التام، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وقال أبو الزناد: ظاهره التساوى وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس، فإذا أحب لأخيه مثله، فقد دخل هو فى جملة المفضولين، ألا ترى أن الإنسان يجب أن ينتصف من حقه ومظلمته، فإذا كمل إيمانه وكانت لأخيه عنده مظلمة أو حق، بادر إلى إنصافه من نفسه، وآثر الحق، وإن كان عليه فيه بعض المشقة. وقد روى هذا المعنى عن الفضيل بن عياض، أنه قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أديت لله النصيحة، كيف وأنت تود أنهم دونك. وقال بعض الناس: المراد بهذا الحديث كف الأذى والمكروه عن الناس، ويشبه معناه قول الأحنف بن قيس، قال: كنت إذا كرهت شيئًا من غيرى لم أفعل بأحد مثله.
8 - بَابَ حُب الرسول مِنَ الإيمَانِ
/ 7 - فيه: أبو هُرَيْرَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ -. / 8 - وَقالَ أَنَسٍ فِى حديثه: تمت وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ -.(1/65)
قال أبو الزناد: هذا من جوامع الكلم الذى أوتيه (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه قد جمع فى هذه الألفاظ اليسيرة معانى كثيرة، لأن أقسام المحبة ثلاثة: محبة إجلال وعظمة كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة استحسان ومشاكلة كمحبة سائر الناس، فحصر صنوف المحبة. ومعنى الحديث، والله أعلم: أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول وفضله آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن بالرسول استنقذ الله أُمته من النار وهداهم من الضلال، فالمراد بهذا الحديث بذل النفس دونه (صلى الله عليه وسلم) ، وقال الكسائى فى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64] أى حسبك الله ناصرًا وكافيًا، وحسبك من اتبعك من المؤمنين ببذل أنفسهم دونك.
9 - باب حَلاوَةِ الإيمَانِ
/ 9 - فيه: أَنَسِ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ -. معنى وجود حلاوة الإيمان هو استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات فيما يرضى الله تعالى، ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، رغبة فى نعيم الآخرة، الذى لا يبيد ولا يفنى. وروى عن عتبة الغلام أنه قال: كابدت الصلاة عشرين سنة، ثم تلذذت بها باقى عمرى.(1/66)
ومحبة العبد لخالقه هى التزام طاعته والانتهاء عن معاصيه لقوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران: 31] ، وكذلك محبة رسول الله هى التزام شريعته واتباع طاعته، ولما لم نصل إلى الإيمان إلا بالرسول، كانت محبته من الإيمان، وقد سئل بعض الصالحين عن المحبة ما هى؟ فقال: مواطأة القلب لمراد الرب، أن توافق الله، عزَّ وجلَّ، فتحب ما أحب وتكره ما كره. ونظم محمود الوراق هذا المعنى فقال: تعصى الإله وأنت تظهر حبه لو كان حبًا صادقًا لأطعته هذا لعمرى فى القياس بديع إن المحب لمن يحب مطيع وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أن يحب المرء لا يحبه إلا لله -، فمن أجل أن الله قد جعل المؤمنين إخوة، وأكد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كلامه بقوله: تمت لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن خلة الإسلام أفضل - وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله - فعد منهم: تمت رجلين تحابا فى الله -، والمراد بالحديث: الحث على التحاب فى الله والتعاون على البر والتقوى، وما يؤدى إلى النعيم الدائم. قال الطبرى: فإن قيل: فهل حب المرء اكتساب للعبد أم غريزة وجبلَّة؟ فإن قلت: إن ذلك اكتساب للعبد، إذا شاء أحب وإذا شاء أبغض، قيل: فما وجه الخبر الوارد: تمت أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها؟ - وإن قلت: إن ذلك جبلة وغريزة، فما وجه قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله؟ - فالجواب: أن الله(1/67)
تعالى، وإن كان هيأ القلوب هيئة لا يمتنع معها حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، فإن العبد إنما يلحقه الحمد والذم على ما كلف مما له السبيل إليه من تذكيرها إحسان المحسن وإساءة المسىء إليها، وتنبيها على ما أغفلته من سالف أيادى المحسن إليها والمسىء، فإلى العبد التنبيه والتذكر الذى هو بفعله مأمور إن كان لله، تعالى، طاعة وعن التقدم عليه منهى إن كان له معصية، وذلك أن الرجل إذا تذكر سالف أيادى الله وأيادى رسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، وما منَّ عليه أن هداه للإسلام وأنقذه من الضلالة، وعرفه الأسباب التى توخيه إلى النجاة من عذاب الأبد والخلود فى جهنم، وغير ذلك من النعم التى وصلت إليه به مما لا كفاء لها، ولا استحقها من الله لسابقة تقدمت منه إلا بفضله تعالى، وجب أن يخلص المحبة لله ولرسوله فوق كل شىء من جميع المحاب، وكذلك إذا علم ما فى حب المرء فى الله، عز وجل، من المنزلة عند الله آثرها على أسباب الدنيا، لينال ثوابها يوم القيامة ولم يحبه لأعراض الدنيا الفانية. قال غيره: وقوله: تمت وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار - معناه: أن من وجد حلاوة الإيمان وخالط قلبه علم أن الكافر فى النار، فكره الكفر لكراهيته لدخول النار، وقد ترجم له باب: من كره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يلقى فى النار.
- باب عَلامَةِ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ
/ 10 - فيه: أنس، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ -.(1/68)
/ 11 - وفيه: عُبَادَةَ - وَكَانَ قَدَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: تمت بَايِعُونِى عَلَى ألا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا الله فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ -. فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. قال المهلب: أما قوله: تمت علامة الإيمان حب الأنصار - فهو بَيِّن فى حديث أنس. وأما حديث عبادة فإنما ذكره فى الباب؛ لأن الأنصار لهم من السبق إلى الإسلام بمبايعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما استحقوا به هذه الفضيلة، وهذه أول بيعة عقدت على الإسلام، وهو بيعة العقبة الأولى بمكة، ولم يشهدها غير اثنى عشر رجلا من الأنصار، ذكر ذلك ابن إسحاق. وكذلك قال عبادة: تمت وحوله عصابة من أصحابه -، مع أن المهاجرين بمكة قد كانوا أسلموا ولم يبايعوا مثل هذه البيعة، فصح أن الأنصار المبتدئون بالبيعة على إعلان توحيد الله وشريعته حتى يموتوا على ذلك؛ فحبهم علامة الإيمان، ومجازاة لهم على حبهم من هاجر إليهم، ومواساتهم لهم فى أموالهم كما وصفهم الله، تعالى، واتباعًا بحب الله لهم بقوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران: 31] ، فكان الأنصار ممن اتبعه أولا، فوجبت لهم محبة الله، ومن أحب الله وجب على العباد حبه، وقد مدح الله، تعالى، الذين يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا(1/69)
بالإيمان؛ لأنهم سنوا لنا سُنة حسنة لهم أجرها وآجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ذكر ابن إسحاق قال: حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحى، عن عبادة بن الصامت قال: تمت كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان - وساق الحديث على ما ذكره البخارى. وقوله: تمت فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فى الدنيا فهو كفارة - لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص، لأنا قد علمنا أن من أشرك فعوقب بشركه فى الدنيا فليس ذلك بكفارة له، فدل أنه أراد بقوله: تمت فمن أصاب من ذلك شيئًا - ما سوى الشرك، ومثله فى القرآن كثير كقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ (، [الأحقاف: 25] ) وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ (، [النمل: 23] ومعلوم أنها لم تدمر السموات والأرض ولا جميع الأشياء ولا دمرت مساكنهم، ألا ترى إلى قوله: (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ (، وقوله: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ (، ومعلوم أن بلقيس لم تؤت ملك سليمان. وقوله: تمت من أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه - يرد قول من أنفذ الوعيد على القاتل، وعلى سائر المذنبين من الموحدين، والحُجَّة فى السنة لا فى قول من(1/70)
خالفها، وسأذكر هذه المسألة فى كتاب الديات فى باب قوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا) [النساء: 93] ، أو فى آخر كتاب الطب فى باب: شرب السم، إن شاء الله تعالى.
- باب مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ
/ 12 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ -. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على إباحة الانفراد والاعتزال عند ظهور الفتن، طلبًا لإحراز السلامة فى الدين، خشية أن تحل عقوبة فتعم الكل، وهذا كله من كمال الدين، وقد جاء فى الحديث: تمت أنه إذا فشا المنكر، وكان بالناس قوة على تغييره، فلم يغيروه امتحنهم الله بعقوبة، وبعث الصالحين على نياتهم، وكان نقمة للفاسقين، وتكفيرًا للمؤمنين -. وقد اعتزل سلمة بن الأكوع عند قتل عثمان، وقال له الحجاج: أرتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذن لى فى البدو. وقال أبو الزناد: خص الغنم من بين سائر الأشياء حضًا على التواضع وتنبيهًا على إيثار الخمول وترك الاستعلاء والظهور، وقد رعاها الأنبياء والصالحون، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم -. وأخبر أن السكينة فى أهل الغنم.(1/71)
وشعف الجبال: رءوسها، وشعفة كل شىء أعلاه، عن صاحب العين.
- باب قَوْلِ الرَّسُولِ، (صلى الله عليه وسلم) : أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ -، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة: 225]
/ 13 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا أَمَرَهُمْ مِنَ الأعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر، َ فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِى وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: تمت أَنَا أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ -. قال المؤلف: قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (أى بما اعتقدته وأضمرته، فسمى ذلك الإعتقاد فعلاً للقلب، وأخبر أنه لا يؤاخذ عباده من الأعمال إلا بما اعتقدته قلوبهم، فثبت بذلك أن الإيمان من صفات القلوب، خلاف قول الكرامية وبعض المرجئة: أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب، وإنما أمر أمته (صلى الله عليه وسلم) من الأعمال بما يطيقون ليأخذوها بالنشاط ولا يتجاوزوا حَدَّهم فيها فيضعفوا عنها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى - ضَرَبَه مثلاً فى الأعمال. قال أبو الزناد: وقولهم: تمت لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر -، فإنما قالوا ذلك رغبة فى التزيد من الأعمال، لما كانوا يعلمونه من اجتهاده فى العبادة، وهو(1/72)
قد غفر له ما تقدم من ذنبه، فعند ذلك غضب إذ كان أولى منهم بالعمل، لعلمه بما عند الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28] ، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا -، وفى اجتهاده فى عمله، وغضبه من قولهم دليل أنه لا يجب أن يَتَّكل العامل على عمله، وأن يكون بين الرجاء والخوف. قال المهلب: وفيه من الفقه: أن الرجل الصالح يلزمه من التقوى والخشية ما يلزم المذنب التائب، لا يُؤَمِّن الصالح صلاحه، ولا يوئس المذنب ذنبه ويقنطه، بل الكل خائف راجٍ، وكذلك أراد تعالى أن يكون عباده واقفين تحت الخوف والرجاء اللذين ساس بهما خلقه سياسة حكمه لا انفكاك منها. وقوله: تمت إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا - فيه من الفقه أن للإنسان أن يخبر عن نفسه بما فيه من الفضل لضرورة تدعوه إلى ذلك، لأن كلامه (صلى الله عليه وسلم) بذلك وقع فى حال عتاب لأصحابه، ولم يُرِد به الفخر، كقوله: تمت أنا سيد ولد آدم ولا فخر -.
- باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإيمَانِ فِي الأعْمَالِ
/ 14 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا - أَوِ الْحَيَاةِ شَكَّ مَالِكٌ - فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟ -.(1/73)
وَقَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: تمت خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ -. / 15 - وفيه: أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَىَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ: فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِىَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ -، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت الدِّينَ -. قال المؤلف: تفاضل المؤمنين فى أعمالهم لا شك فيه، وأن الذى خرج من النار بما فى قلبه من مقدار حبة من خردل من إيمان معلوم أنه كان ممن انتهك المحارم وارتكب الكبائر، ولم تفِ طاعته لله عند الموازنة بمعاصيه. ومن أطاع الله وقام بما وَجَبَ عليه وبرئ من مظالم العباد فلا شك أن عمله أفضل من عمل الرجل المنتهك. وقد مَثَّل ذلك (صلى الله عليه وسلم) بالقمص التى كانت تبلغ الثدى، وبقميص عمر الذى كان يجرُّه، ومعلوم أن عمل عمر فى إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثدييه. فإيمانه أفضل من إيمانه بما زاد عليه من العمل، وتأويله (صلى الله عليه وسلم) ذلك بالدين يدل أن الإيمان الواقع على العمل يُسمى دينًا، كالإيمان الواقع على القول. وهذا يرد قول أهل البدع الذين يزعمون أن إيمان المذنبين كإيمان جبريل، وأنه لا تفاضل فى الإيمان، وقولهم غلط لا يخفى، لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وسائر الخلق يملُّون ويفترون. فكيف يبلغ أحدٌ منهم منزلتهم فى العمل، وفى كتاب الله حجةٌ(1/74)
لتفاضل المؤمنين فى الإيمان، وذلك أن إبراهيم سأل ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى، فطلب المعاينة التى هى أعلى منازل العلم التى تسكن النفوس إليها، وتقع الطمأنينة بها، ولا يجوز أن نظن بإبراهيم خليل الله ونبيه أنه حين سأل المعاينة لم يكن مؤمنًا، أو أنه اعترضه شك فى إيمانه. والدليل على صحة هذا قوله لربه حين قال له: (أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البقرة: 260] ، فأوجب لنفسه الإيمان قبل أن يعاين ما طلب معاينته، وعَذَرَهُ الله تعالى فى طلب ذلك، لأن المعاينة أشفى ويهجم على النفوس منها ما لا يهجم من الخبر. ألا ترى أن موسى حين كلمه ربه لم يشك أن الله هو المتكلم له، ولكن طلب ما هو أرفع من ذلك وهى المعاينة، فقال: (رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف: 143] ، فأعلمه ربه أنه لا يجوز أن تقع عليه حاسّة البصر، وأنه لا تدركه الأبصار بما أراه الله من الآيات فى الجبل الذى صار دكًا بتجليه له تعالى. ومما يشبه هذا المعنى أن الله تعالى أخبر موسى عن بنى إسرائيل بعبادة العجل، فلم يشك فى صدق خبره، فلما رجع إلى قومه وعاين حالهم حدث فى نفسه من الإنكار والتغيير ما لم يحدث بالخبر، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه. وقد نبَّه (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، فقال: تمت ليس الخبر كالمعاينة -، والحبّة بذور البقل، ويقال: هو نبت ينبت فى الحشيش، عن صاحب العين.(1/75)
- باب الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ
/ 16 - فيه: ابن عمر، أَنَّ النبِى (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، فَقَالَ: تمت دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ -. قال ابن قتيبة: معنى هذا الحديث أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصى كما يمنعُ الإيمان، فجاز أن يُسمى إيمانًا، لأن العرب تُسمى الشىء باسم ما قام مقامه، أو كان شبيهًا به، ألا ترى أنهم يُسمون الركوع والسجود صلاةً، وأصل ذلك الدعاء، فلما كان الدعاء يكون فى الصلاة سميت صلاة، وكذلك الزكاة هى تثمير المال ونماؤه، فلما كان النماء يقع بإخراج الصدقة عن المال سمِّى زكاةً. قال غيره: وهذا الحديث يقتضى الحضّ على الامتناع من مقابح الأمور ورذائلها، وكل ما يحتاج إلى الاستحياء من فعله والاعتذار منه.
- باب) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5]
/ 17 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّها، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ -. قال المؤلف: قال أنس بن مالك: هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وتوبتهم خلع الأوثان، وعبادتهم لربهم، وإقام الصلاة،(1/76)
وإيتاء الزكاة، ثم قال فى آية أخرى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ) [التوبة: 11] ، فقام الدليل الواضح من هاتين الآيتين أن من ترك الفرائض، أو واحدة منها، فلا يُخلَّى سبيله، وليس بأخٍ فى الدين، ولا يُعصم دمه ومالُه، ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها -، وبهذا حكم أبو بكر الصِّدِّيق فى أهل الردة، وهذا يَرُد قول المرجئة أن الإيمان غير مفتقر إلى الأعمال. وقولهم مخالف لدليل الكتاب والآثار وإجماع أهل السُّنَّة. فمن ضيع فريضة من فرائض الله جاحدًا لها فهو كافر، فإن تاب وإلا قُتل، ومن ضيع منها شيئًا غير جاحد لها فأمره إلى الله، ولا يُقطع عليه بكفر، وسيأتى حكم تارك الصلاة فى كتاب المرتدين فى باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نسبوها إلى الردَّة، ويأتى فى باب دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) الناس إلى الإسلام والنبوة فى كتاب الجهاد، زيادة فى الكلام فى معنى هذا الحديث، إن شاء الله. وقوله: تمت وحسابهم على الله - يدل أن محاسبة العباد على سرائرهم وخفيان اعتقادهم إلى الله دون خلقه، وأن الذى جعل للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإلى الأئمة بعده ما ظهر من أمورهم دون ما خفى يدل على ذلك حديث أبى سعيد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَسم، فقال له رجل: اتق الله، فقال له: تمت ويلك أَوَ لست أحق أهل الأرض أن يتقى الله -؟ فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: تمت لا، لعله أن يكون يصلِّى -، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه(1/77)
ما ليس فى قلبه، فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنى لم أؤمر أن أشق عن قلوب الناس، ولا عن بطونهم -، ذكره البخارى فى المغازى فى باب بعثه علىّ إلى اليمين. وفى هذا الحديث حجة لمن أجاز قبول توبة الزنديق، وسيأتى مذاهب العلماء فى ذلك فى الديات والحدود، إن شاء الله.
- باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الإيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72]
وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93] عَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَقَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] . / 18 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: تمت إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ -، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: تمت الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ -، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: تمت حَجٌّ مَبْرُورٌ -. قال المؤلف: قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] حجة فى أن العمل تنال به درجات الجنة، وأن الإيمان قول وعمل ويشهد لذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) حين سئل أى العمل أفضل؟ فقال: تمت إيمان بالله -، ثم ذكر الأعمال معه فى جواب السائل. فإن قيل: أليس قد تقدم من قولكم أن الإيمان هو التصديق؟(1/78)
قيل: التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يقال له: مؤمنًا مطلقًا، لأن الله تعالى فرض على عباده فرائض وشرع شرائع، لا يقبل تصديق من جحدها، ولم يرض من عباده المؤمنين بالتصديق والإقرار دون العمل لما تقدم بيانه فى غير موضع من هذا الكتاب. هذا مذهب جماعة أهل السُّنَّة، أن الإيمان قول وعمل. قال أبو عبيد: وهو قول مالك والثورى والأوزاعى ومن بعدهم من أرباب العلم والسُّنَّة الذين كانوا مصابيح الهدى، وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم. وهذا المعنى أراد البخارى، رحمه الله، إثباته فى كتاب الإيمان وعليه بَوَّب أبوابه كلها، فقال: باب أمور الإيمان، وباب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وباب إطعام الطعام من الإيمان، وباب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وباب حب الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الإيمان، وباب الصلاة من الإيمان، وباب الزكاة من الإيمان، وباب الجهاد من الإيمان وسائر أبوابه. وإنما أراد الرَّد على المرجئة، لقولهم: إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسُّنَّة، ومذهب الأئمة. وقال المهلب فى حديث أبى هريرة: إنما اختلفت هذه الأحاديث فى ذكر الفرائض، لأنه (صلى الله عليه وسلم) أعلم كل قوم بما لهم الحاجة إليه، ألا تراه قد أسقط ذكر الصلاة والزكاة والصيام من جوابه للسائل: أى العمل أفضل، وهى آكد من الجهاد والحج، وإنما ترك ذلك لعلمه(1/79)
أنهم كانوا يعرفون ذلك ويعملون به، فأعلمهم ما لم يكن فى علمهم حتى تمت دعائم الإسلام والحمد لله.
- باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإسْلامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاسْتِسْلامِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) [الحجرات: 14] وَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ) [آل عمران: 19] .
/ 19 - فيه: سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلاً، هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: تمت أَوْ مُسْلِمًا -، فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، وعاد (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: تمت يَا سَعْدُ إِنِّى لأعْطِى الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ -. قال المهلب: الإسلام على الحقيقة، هو الإيمان الذى هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان، الذى لا ينفع عند الله غيره، ألا ترى قول الله للأعراب الذين قالوا: آمنا بألسنتهم دون تصديق قلوبهم: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا (، فنفى عنهم الإيمان لما عرى من عقد القلب بقوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 14] ، قال أبو بكر بن العربى: وهذه الآية حجة على الكرامية ومن وافقهم من المرجئة فى قولهم: إن الإيمان إقرار باللسان دون عقد القلب، وقد رَدَّ الله قولهم فى موضع آخر من كتابه، فقال: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) [المجادلة: 22] ، ولم يقل: كتب فى ألسنتهم.(1/80)
ومن أقوى ما يرد عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم (إلى قوله: (وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 84] ، فجعلهم كفارًا، وقوله تعالى: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا (يدل على أن الإسلام يكون بمعنى الاستسلام فيحقن به الدم، ولا يكون بمعنى الإيمان لقوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 14] ، فكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانًا، إلا الإسلام الحقيقى، فهو إيمان. قال المهلب: وقول سعد: تمت يا رسول الله، مالك عن فلان؟ فوالله إنى لأراه مؤمنًا - فيه التشفع للصديق والولى عند الأمراء والأئمة فيما ينتفعون به، وفيه مراجعة المسئول وتكرير السؤال فى المعنى الواحد، وفيه رد العالم على المتعلم أن يستثبت ولا يقطع على ما لا يعلم، لأنه لا يعلم سرائر الناس ولا يطلع عليها، وهى من مغيبات الأمور التى لا يجوز القطع فى مثلها، ألا ترى أن الرسول رد على امرأة الأنصارى، وقال: تمت والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يُفعل بى -، فلا نشهد لأحد بالجنة إلا لمن شهد له الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه لا ينطق عن الهوى. قال المؤلف: وقوله: تمت خشية أن يكبه الله فى النار -، يريد من تعاصى على الإسلام ولم يدخل فيه إلا [. . . . . .] (-) فى العطاء، فإن مُنِعَ أبى عن الإسلام، كالمؤلفة قلوبهم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وأصحابه، وسيأتى بيان ذلك فى كتاب الجهاد. وقد اختلف الناس قديمًا واشتد تنازعهم فى قولهم: أنا مؤمن(1/81)
عند الله، وكان أول ذلك أن صاحبًا لمعاذ بن جبل قدم على ابن مسعود، فقال له أصحابه: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، قالوا: من أهل الجنة؟ قال: لا أدرى لى ذنوب فلو أعلم أنها غفرت، لقلت لكم: إنى مؤمن من أهل الجنة، فتضاحك القوم، فلما خرج ابن مسعود، قالوا له: ألا تعجب؟ هذا يزعم أنه مؤمن ولا يزعم أنه من أهل الجنة، قال ابن مسعود: لو قلت إحداهما أتبعتها بالأخرى، فقال الرجل: رحم الله معاذًا، حذرنى زلة العالم، وهذه زلة منك، وما الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار، والبعث والميزان، ولنا ذنوب لا ندرى ما يصنع الله فيها، فلو نعلم أنها غفرت لنا، لقلنا: إننا من أهل الجنة، فقال ابن مسعود: صدقت يا أخى، فوالله إن كان منى لزلة. وذكر أبو عبيد فى كتاب الإيمان، عن إبراهيم النخعى، وابن سيرين، وطاوس، قالوا: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال النخعى: وقال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو إن شاء الله. قال أبو عبيدة: وبهذا كان يأخذ سفيان، قال وكيع: كان سفيان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم، فإذا قيل له: عند الله؟ قال: أرجو. وجماعة يرون الاستثناء فيه، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وابن عبدوس، وأحمد بن صالح الكوفى. قال أبو عبيد: وجماعة من العلماء يتسمون به بلا استثناء فيقولون: نحن مؤمنون، منهم: أبو عبد الرحمن السلمى، وعطاء بن أبى(1/82)
رباح، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وعون بن عبد الله، ومن بعدهم مثل: عمر بن ذر، والصلت بن بهرام، ومسعر بن كدام. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت هذا عندهم على الدخول فى الإيمان لا على الاستكمال، ألا ترى أن الفرق بينهم وبين النخعى وطاوس وابن سيرين أن هؤلاء كانوا لا يلفظون به أصلاً. قال وكيع: وكان أبو حنيفة يقول: أنا مؤمن هاهنا وعند الله، قال أبو بكر بن الطيب: ووجه الاستثناء فى ذلك أنه لا يعلم هل يثبت على الإيمان ويتمسك به باقى عمره أو يضل عنه، ولهذا رغب المسلمون كافة فى حسن العاقبة والخاتمة، وأن يثبتهم الله بالقول الثابت، وأما وجه من قال: أنا مؤمن حقًا ومؤمن عند الله، وإنما يريد حال وجود إيمانه، لأنه مؤمن على الحقيقة فى تلك الحال، وإلى هذا ذهب محمد بن سحنون. قال أبو عبيد: لأن حكمه فى الدنيا حكم الإيمان فى الولاية والموارثة وجميع سنن المؤمنين. قال أبو بكر بن الطيب: وكلا القولين له وجه. قال أبو عبيد: وكان الأوزاعى يرى الاستثناء وتركه جميعًا [. . . . .] ، من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن، إن شاء الله فحسن، لقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ) [الفتح: 27] ، وقد علم أنهم داخلون.(1/83)
- باب السَّلامِ مِنَ الإسْلامِ
وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ جَمَعَ الإيمَانَ: الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ، وَالإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ. / 20 - فيه: ابْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَىُّ الإسْلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تمت تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ -. قال أبو الزناد: جمع عمار فى هذه الألفاظ الثلاث الخير كله، لأنك إذا أنصفته من نفسك، فقد بلغت الغاية بينك وبين خالقك، وبينك وبين الناس، ولم تضيع شيئًا. وبذل السلام هو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف -، وهذا حض على مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس. والإنفاق من الإقتار هى الغاية فى الكرم، وقد مدح الله مَنْ هذه صفته بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9] وهذا عام فى نفقة الرجل على أهله، وفى كل نفقة هى طاعة لله تعالى، ودل ذلك أن نفقة المعسر على أهله أعظم أجرًا من نفقة الموسر، وهذا كله من كمال الإيمان، فقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو فى باب إطعام الطعام من الإيمان.(1/84)
- باب الْمَعَاصِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلا بِالشِّرْكِ باللَّه لِقَوْلِ (صلى الله عليه وسلم) : إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ
- وفيه: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء 48] . وقوله: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين. / 21 - فيه: الْمَعْرُورِ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ -. / 22 - وفيه: الأحْنَفِ، قَالَ: ذَهَبْتُ لأنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، يعنى عليًا، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ -، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: تمت إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ -. قال المؤلف: قوله: تمت إنك امرؤ فيك جاهلية - يريد إنك فى تعييره بأمه على خلق من أخلاق الجاهلية، لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، فجهلت وعصيت الله فى ذلك، ولم تستحق بهذا أن تكون كأهل الجاهلية فى كفرهم بالله تعالى.(1/85)
وغرض البخارى فى هذا الباب الرد على الرافضية والإباضية وبعض الخوارج فى قولهم: إن المذنبين من المؤمنين يخلدون فى النار بذنوبهم، وقد نطق القرآن بتكذيبهم فى غير موضع منه، فمنها قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] ، والمراد بهذه الآية من مات على الذنوب، ولو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الشرك وغيره معنى، إذ التائب من الشرك قبل الموت مغفور له، وقوله: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات: 9] ، فسماهم مؤمنين، وإن وقع التقاتل، واستحق أحد الطائفتين اسم البغى، فبان بهاتين الآيتين أن المؤمن لا يخرجه فسقه ومعاصيه من جملة المؤمنين، ولا يستحق بذلك التخليد فى النار مع الخالدين. وثبت أن حديث أبى بكرة لا يرد به الإلزام والحتم بالنار لكل قاتل ومقتول من المسلمين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) سماهما مسلمين وإن التقيا بسيفيهما وقتل أحدهما صاحبه، ولم يخرجهما بذلك من الإسلام، وإنما يستحقان النار إن أنفذ الله عليهما الوعيد، ثم يخرجهما من النار بما فى قلوبهما من الإيمان وعلى هذا مضى السلف الصالح. حدثنا أبو بكر الرازى، قال: حدثنا الشيخ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بأصبهان، قال: حدثنا أبو بكر الطلحى، قال: حدثنا عثمان بن عبيد الله الطلحى، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحى، قال: حدثنا سعيد بن سلام العبدى، قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بن أبى رباح، بمكة، فسألته عن شىء، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل القرية(1/86)
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا؟ قلت: نعم، قال: فمن أى الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدًا بذنب، قال لى عطاء: عرفت، فالزم. وفى حديث أبى ذر النهى عن سب العبيد وتعييرهم بآبائهم، والحض على الإحسان إليهم، وإلى كل من يوافقهم فى المعنى، ممن جعله الله تحت يد ابن آدم، وأجرى عليه حكمه، فلا يجوز لأحد أن يعير عبده بشىء من المكروه يعرفه فى آبائه وخاصة نفسه، لقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى (فلا فضل لأحد على غيره من جهة الأبوة، وإنما الفضل بالإسلام والتقى، لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] . وروى يونس، عن الحسن، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لأبى ذر: تمت أعيرته بأمه؟ ارفع رأسك، فما كنت بأفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل فى دين -، وقد جاء هذا الحديث فى كتاب الأدب. وقال فيه: تمت كان بينى وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها. . - وذكر الحديث. وقد روى سمرة بن جندب: أن بلالاً كان الذى عيره أبو ذر بأمه. روى الوليد بن مسلم، عن أبى بكر، عن ضمرة بن حبيب، قال: كان بين أبى ذر وبين بلال محاورة، فعيره أبو ذر بسواد أمه، فانطلق بلال إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فشكى إليه تعييره بذلك، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يدعوه، فلما جاءه أبو ذر، قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت شتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمه -؟ قال: نعم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما كنت أحسب أنه بقى فى صدرك من كبر الجاهلية شىء -، فألقى أبو(1/87)
ذر نفسه بالأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: والله لا أرفع خدى من التراب حتى يطأ بلال خدى بقدمه، فوطأ خده بقدمه. وسيأتى ما للعلماء فى إطعام العبيد وكسوتهم فى كتاب العتق، إن شاء الله. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة فى حديث أبى بكرة: انظر حرص المقتول على قتل صاحبه، وأنه لو بقى لقتله وعوقب عليه، عذب الله الذين تقاسموا بالله، على صالح، لنبيتنه وأهله، فأهلكهم كلهم. قال أبو الزناد: ليس هذا بشىء، لأن الذين أرادوا قتل صالح كانوا كفرة فعاقبهم الله بكفرهم، وأن الذى كان حريصًا على قتل صاحبه أوجب له النبى (صلى الله عليه وسلم) النار بنيته ومباشرته للقتل، ولا يعارض هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة -، لأن الذى لم يعمل السيئة ليس كمثل الذى شرع فى القتال مع الإصرار، وسأستقصى الكلام فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا التقى المسلمان بسيفيهما -، فى كتاب الفتن، إن شاء الله.
- باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ
/ 23 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُرِيتُ النَّارَ فَرَأَيْتَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ -، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: تمت يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر، َ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ -. قال المهلب: قال: الكفر هاهنا هو كفر الإحسان، وكفر نعمة(1/88)
العشير، وهو الزوج، وتسخط حاله، وقد أمر الله رسوله بشكر النعم، وجاء فى الحديث: تمت لا يشكر الله من لا يشكر الناس -، وشكر نعمة الزوج هو من باب شكر نعمة الله، لأن كل نعمة فضل بها العشير أهله، فهى من نعمة الله أجراها على يديه، ومعنى هذا الباب كالذى قبله: أن المعاصى تنقص الإيمان ولا تخرج إلى الكفر الذى يوجب الخلود فى النار، لأنهم حين سمعوا رسول الله قال: تمت يكفرن - ظنوا أنه كفر بالله، فقالو: يكفرن بالله؟ قال: تمت يكفرن العشير ويكفرن الإحسان -. فبين لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه أراد كفرهن حق أزواجهن، وذلك لا محالة ينقص من إيمانهم، ودل ذلك أن إيمانهن يزيد بشكرهن العشير وبأفعل البر كلها، فثبت أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل، إذ بالعمل الصالح يزيد، وبالعمل السيئ ينقص. وفيه: دليل أن المرء يعذب على الجحد للفضل والإحسان وشكر المنعم، وقيل: إن شكر المنعم فريضة.
- باب ظُلْمٍ دُونَ ظُلْمٍ
/ 24 - فيه: ابن مسعود، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام: 82] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] . معنى هذا الباب كالذى قبله أن تمام الإيمان بالعمل، وأن المعاصى(1/89)
ينقص بها الإيمان، ولا يخرج صاحبها إلى الكفر، والناس مختلفون فى ذلك على قدر صغر المعاصى وكبرها. وفيه من الفقه: أن المُفَسَّر يقضى على المجمل بخلاف قول أهل الظاهر، ألا ترى أن أصحاب النبى تأولوا قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (على جميع أنواع الظلم، فبين الله أن مراده بذلك الظلم الشرك خاصة بقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (، فوجب بهذا حكم المفسر على المجمل، وهذا قول الجمهور، وقد احتج بهذا الحديث من قال: إن الكلام حكمه العموم، حتى يأتى دليل الخصوص.
- باب عَلامَةِ الْمُنَافِقِ
/ 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَن نبِىّ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ -. / 26 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ -. تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأعْمَشِ. معنى هذا الباب كالأبواب المتقدمة قبله: أن تمام الإيمان بالأعمال، وأنه يدخل على المؤمن النقص فى إيمانه بالكذب، وخلف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور فى الخصام، كما يزيد إيمانه بأفعال البر.(1/90)
قال أبو الزناد: ولم يُرد النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنفاق المذكور فى هذين الحديثين النفاق الذى صاحبه فى الدرك الأسفل من النار، الذى هو أشد الكفر، وإنما أراد أنها خصال تشبه معنى النفاق، لأن النفاق فى اللغة أن يظهر المرء خلاف ما يبطن، وهذا المعنى موجود فى الكذب، وخلف الوعد، والخيانة. فإن قيل: قد قال (صلى الله عليه وسلم) فى حديث عبد الله بن عمرو: تمت كان منافقًا خالصًا -. قيل: معناه خالصًا فى هذه الخلال المذكورة فى الحديث فقط، لا فى غيرها، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48] . وقد ثبت عن الرسول أنه يخرج مِن النار مَن فى قلبه مثقال حَبَّة من خردل من إيمان. قال المهلب: والمراد بالحديث، والله أعلم، من يكون الكذب غالبًا على كلامه، ومستوليًا على حديثه، والخيانة على أمانته، والخلف على مواعيده، فإذا كان هذا شأنه قويت العلامة والدلالة. وأمّا من كان الكذب على حديثه نادرًا فى خبره تافهًا، والخيانة فى أمانته شاذة يدعى العذر فيها، والخلف فى أوعاده، مثل ذلك معتذر بآفات منعته من الإنجاز فلا يقضى عليه بالنادر اليسير، إذ لا يمكن أن يسلم أحدٌ من كذب. وقد سُئل مالك بن أنس، عمن جُرب عليه كذب، قال: أى نوع من الكذب، لعله إذا حدَّث، عن غضادة عيش سلف زاد فى وصفه(1/91)
وأفرط فى ذكره، أو أخبر عَمَّا رآه فى سفره، أعيا فى خبره وأسرف، فهذا لا يضره، وإنما يضر من حدَّث عن الأشياء بخلاف ما هى عليه عامدًا للكذب. وكذلك الخلف فى الوعد، والخيانة فى الأمانة إذا كانت شاذة يدعى فيها العُذر. وذلك مغتفر له غير محكوم عليه فى انفاق أو سوء معتقد، وقد جُرَّب على من سلف من الأئمة بعض ذلك، فلم يضرهم، لأنه كان نادرًا. هذا وجه الحديث إن شاء الله. ويشهد لذلك ما حدثنا به أحمد بن محمد بن عفيف، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، قال: حدثنا محمد بن عمر بن لبابة، حدثنا عثمان بن أيوب، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى رواد، عن أبيه، قال: بلغنى أن رجلاً من أهل البصرة قدم مكة حاجًا، فجلس فى مجلس عطاء بن أبى رباح، فقال الرجل: سمعت الحسن يقول: من كان فيه ثلاث خصال لم أتحرج أن أقول فيه إنه منافق: من إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقال له عطاء: أنت سمعت هذا من الحسن؟ قال: نعم، قال: إذا رجعت إلى الحسن، فقل له: إن عطاء بن أبى رباح يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ما تقول فى بنى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، خليل الله، إذ حدثوا فكذبوا، ووعدوا فاخلفوا، وأؤتمنوا فخانوا، فكانوا منافقين؟ .(1/92)
واعلم أنه لن يعدوا أهل الإسلام أن تكون منهم الخيانة والخلف، ونحن نرجو أن يعيذهم الله من النفاق، وما استقر اسم النفاق قط إلا فى قلب جاحد، وكذلك يقول الله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ (إلى: (يَفْقَهُون) [المنافقون: 1 - 3] . ألا ترى أن الإيمان زال عن قلوبهم، ونحن نرجو أن لا يكون عن قلوب المؤمنين زائلاً، وإن كان فيهم ما سميتهم به، فَسُرَّ بذلك الحسن، وقال: جزاك الله خيرًا، ثم أقبل على أصحابه فقال لهم: ما لكم لا تصنعون ما صنع أخوكم هذا، إذ سمعتم منى حديثًا حدثتم به العلماء، فما كان منه صوابًا فحسن، وإن كان غير ذلك ردوا عَلَىَّ صوابه. وقد روى عن الرسول أن الحديث فى المنافقين، حدثنا أحمد بن محمد بن عفيف، حدثنا عبد الله بن عثمان، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا عبيد بن محمد الكشورى، حدثنا أسوار بن محمد الصنعانى، حدثنا المعتمر بن أبى المعتمر الجزرى، عن مقاتل بن حيان، أنه سأل سعيد ابن جبير عن قوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، ومن كانت فيه خصلة واحدة ففيه ثلث النفاق حتى يدعها -. قال مقاتل: وهذه مسألة قد أفسدت علىّ معيشتى، لأنى أظن أنى لا أسلم من هذه الثلاث، أو من بعضهن، ولن يسلم منهن كثير من(1/93)
الناس، فضحك سعيد بن جبير، ثم قال: أَهَمَّنِى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما فضحكا، وقالا: أهمنا والله يا ابن أخى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتينا النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فسألناه عنه فضحك (صلى الله عليه وسلم) ، وقال: تمت ما لكم ولهن إنما خصصت بهن المنافقين. أما قولى: إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (، [المنافقون: 1] لا يستيقنون نبوتك فى قلوبهم، فأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولى: إذا وعد أخلف، فذلك فيما أنزل الله علىَّ: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ (، إلى: (يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75 - 77] ، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولى: إذا اؤتمن خان، فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ (إلى: (جَهُولاً) [الأحزاب: 72] ، فكل مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة فى السر والعلانية، ويصوم ويصلى فى السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك إلا فى العلانية، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء -.
- باب قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإيمَانِ
/ 27 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا(1/94)
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ وَصَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ -. قال المؤلف: هذا الحديث حجة أيضًا أن الأعمال إيمان؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) جعل الصيام والقيام إيمانًا، ومعنى قوله: تمت إيمانًا وإحتسابًا - يعنى: مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه.
- باب الْجِهَادِ مِنَ الإيمَان
/ 28 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا إِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ -. وهذا الباب كالأبواب المتقدمة حجة فى أن الأعمال إيمان؛ لأنه لما كان الإيمان بالله هو المخرج له فى سبيله، كان الخروج إيمان بالله لا محالة، كما تسمى العرب الشىء باسم الشىء مما يكون من سببه فتقول للنبات: نوء؛ لأنه عن النوء يكون، وتقول للمطر: سماء؛ لأنه من السماء ينزل. وسيأتى معنى هذا الحديث فى كتاب الجهاد. وقوله: تمت انتدب الله - يريد أوجب الله وتفضل لمن أخلص النية لله فى جهاده أن ينجزه ما وعده.(1/95)
ونبه (صلى الله عليه وسلم) بهذه الثلاثة الألفاظ أن المجاهد لا يخلو من الشهادة إن قتل، أو الغنيمة والأجر إن سلم.
- باب الدِّينُ يُسْرٌ وقوله: (أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ
/ 29 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ -. معنى هذا الباب أيضًا أن الدين اسم واقع على الأعمال لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الدين يسر -، ثم بين الطريقة التى يجب امتثالها من الدين بقوله: تمت فسددوا وقاربوا - إلى آخر الحديث. وهذه كلها أعمال سماها (صلى الله عليه وسلم) دينًا، والدين والإسلام والإيمان شىء واحد. قال أبو الزناد: والمراد بهذا الحديث الحض على الرفق فى العمل، وهو كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت عليكم من العمل ما تطيقون -، وقال لعبد الله بن عمر: تمت وإذا فعلت هجمت عينك ونقمت نفسك -. وقوله: تمت أبشروا - يعنى بالأجر والثواب على العمل، وتمت استعينوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة - كأنه خاطب مسافرًا يقطع طريقه إلى مقصده فنبهه على أوقات نشاطه التى يزكو فيها عمله؛ لأن الغدو والرواح والدلج أفضل أوقات المسافر، وقد حض الرسول المسافر على(1/96)
المشى بالليل، وقال: إن الأرض تطوى بالليل، وقال لعبد الله بن عمر: تمت كن فى الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل -، فشبه الإنسان فى الدنيا بالمسافر، وكذلك هو على الحقيقة؛ لأن الدنيا دار نقلة وطريق إلى الآخرة، فنبه أمته أن يغتنموا أوقات فرصتهم وفراغهم، والله الموفق.
- باب الصَّلاةُ مِنَ الإيمَانِ وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة: 143] يَعْنِى صَلاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ المقدس
/ 30 - فيه: حديث البراء حين نسخت القبلة. قال: هذه الآية أقطع الحجج للجهمية والمرجئة فى قولهم: إن الفرائض والأعمال لا تسمى إيمانًا. وقولهم خلاف نص التنزيل؛ لأن الله سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيمانًا، ولا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى صلاتهم إلى بيت المقدس، ومثل هذه الآية قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الأنفال: 2، 3] ، حتى الزكاة، وفى تسميته لهم مؤمنين فإن كانوا للصلاة(1/97)
عاملين وللزكاة مؤدين فما وجب به أن تكون الصلاة والزكاة إيمانًا؛ لأن المسمى مؤمنا بعمله لشىء يوجب أن يسمى ذلك الشىء إيمانًا. ومثله أيضًا قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النور: 62] ، فسماهم مؤمنين بإيمانهم بالله ورسوله، وأن لا يذهبوا إذا كانوا مع نبيهم حتى يستأذنوه، واستئذانهم له عمل مفترض عليهم سموا به مؤمنين كما سموا بإيمانهم بالله ورسوله.
- باب حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ
/ 31 - فيه: أَبُو سَعِيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا -. / 32 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا -. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فحسن إسلامه - قد فسره حين سئل ما الإحسان؟ فقال: تمت أن تعبد الله كأنك تراه - أراد مبالغة الإخلاص لله بالطاعة والمراقبة له. وفى قوله: تمت إلا أن يتجاوز الله عنها - رد على من أنفذ الوعيد(1/98)
على العصاة المؤمنين؛ لأن قوله: تمت إلا أن يتجاوز الله عنها - يدل أنه قد يؤاخذ بها، وقد يتجاوز عنها إذا شاء، وهذا مذهب أهل السنة. وأما حديث أبى سعيد فإن البخارى أسقط بعضه، ولم يسنده، وهو حديث مشهور من رواية مالك فى غير الموطأ، ونص الحديث: قال رسول الله: تمت إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان زلفها، ومحى عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله -. ذكره الدارقطنى فى غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسعة طرق، وثبت فيها كلها ما أسقطه البخارى أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له فى الإسلام كل حسنة عملها فى الشرك، ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء لا اعتراض لأحد عليه، وهو كقوله (صلى الله عليه وسلم) لحكيم بن حزام: تمت أسلمت على ما سلف من خير -، وهو مذكور فى كتاب الزكاة، وكتاب العتق.
- باب أَحَبِّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ
/ 33 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وسلم) دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: تمت مَنْ هَذِهِ؟ - قَالَتْ: فُلانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا، قَالَ: تمت مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ -. قال المؤلف: قول عائشة: تمت وكان أحب الدين إلى الله ما دام - هو معنى الباب؛ لأنها سَمَّت الأعمال دينًا بخلاف قول المرجئة.(1/99)
وقال المهلب وأبو الزناد: إنما قال ذلك (صلى الله عليه وسلم) ، والله أعلم، خشية الملال اللاحق بمن انقطع فى العبادة. وقد ذَمَّ الله من التزم فعل البرِّ ثم قطعه بقوله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد: 27] . ألا ترى أن عبد الله بن عمرو لما ضعف عن العمل ندم على مراجعته رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى التخفيف عنه، وقال: ليتنى قبلت رخصة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يقطع العمل الذى كان التزمه. قال ابن قتيبة: وقوله: تمت فإن الله لا يمل حتى تملوا -، معناه لا يمل إذا مللتم. ومثال ذلك: قولهم فى الكلام: هذا الفرس لا يفتر حتى يفتر الخيل، لا يريد بذلك أنه يفتر إذا فترت الخيل، ولو كان هذا المراد ما كان له فضيلة عليها إذا فتر معها. ومثله: قولهم فى الرجل البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، يعنى لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولا أراد أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له فضل على غيره ولا وجبت له به مدحة. قال الشاعر: صَليتْ مِنَّا هُذَيْلٌ بِحَرْبٍ لا نَمَلُّ الشَّرَّ حَتَّى تَمَلُّوا لم يرد أنهم يملون الشر إذا ملوا، ولو أراد ذلك ما كان لهم فيه مدح، لأنهم حينئذ يكونون فيه سواء كلهم، بل أراد أنهم لا يملون الشر، وإن مَلّه خصومهم.(1/100)
وقال ابن فورك: معناه إن من شأنكم الملل، وليس هو صفات الله تعالى، لأن الملل صفة تقتضى تغيرًا وحلول الحوادث فى من حلت فيه، وهذا غير جائز فى صفة الله تعالى. وذكر الخطابى فيه وجهًا آخر، وهو أن يكون معناه أن الله لا يسأم الثواب ما لم تسأموا العمل، أى لا يترك الثواب ما لم تتركوا العمل. وقوله: تمت مَهْ - زجرٌ وكَفْ.
- باب زِيَادَةِ الإيمَانِ وَنُقْصَانِهِ وقوله تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ
/ 34 - فيه: أَنَسٍ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ -. / 35 - وفيه: ابن عمر، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِى كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَىُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) [المائدة 3] ، وذكر الحديث. قال المؤلف: قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (حجة فى(1/101)
زيادة الإيمان ونقصانه، لأن هذه الآية نزلت يوم عرفة فى حجة الوداع يوم كملت الفرائض والسُّنن واستقرَّ الدِّين، وأراد الله قبض نبيه، فدلت هذه الآية، أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافظ على التزامها فإيمانه أكمل من إيمان من قَصرَّ فى ذلك وضيع. ولذلك قال البخارى: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، وقد تقدم فى أول كتاب الإيمان، أن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأُمة. وقال المهلب: الذَّرة أقل الموزونات، وهى فى هذا الحديث التصديق الذى لا يجوز أن يدخله النقص، وما فى البُرّة والشعيرة من الزيادة على الذرة، فإنما هى زيادة على الأعمال يكمل التصديق بها، وليست زيادة فى التصديق لما قدمنا أنه لا ينقص التصديق. فإن قيل: فإنه لما أضاف هذه الأجزاء التى فى الشعيرة والبُرّة الزائدة على الذرة إلى القلب دَلَّ أنها من زائدة التصديق، لا من الأعمال. فالجواب: أنه لما كان الإيمان التام إنما هو قول وعمل، والعمل لا يكون إلا بنية وإخلاص من القلب، جاز أن يُنسب العمل إلى القلب، إذ تمامه بتصديق القلب، وقد عَبَّر عن هذه الأجزاء من الأعمال مرةً بالخير ومرةً بالإيمان، وكل سائغٌ واسعٌ. وقوله: تمت يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله - يدل أن ما ذكر بعد هذا من الذَّرة والبُرَّة والشعيرة، هى من الأعمال والطاعات، إذ(1/102)
الأمة مجمعة على أن قول لا إله إلا الله هو صريح الإيمان والتصديق الذى شبه بالذرة عمل القلب أيضًا. وقال غير المهلب: ويحتمل أن تكون الذرة والشعيرة والبُّرة التى فى القلب كلها من التصديق، لأن قول: تمت لا إله إلا الله - باللسان لا يتم إلا بتصديق القلب. والناس يتفاضلون فى التصديق على قدر علمهم وجهلهم، فمن قَلَّ علمه كان تصديقه مقدار ذرة، والذى فوقه فى العلم تصديقه بمقدار بُرة وشعيرة. إلا أن التصديق الحاصل فى قلب كل واحد من هؤلاء فى أول مرة لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. فأما زيادة التصديق بزيادة العلم، فقوله تعالى عند نزول السورة: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) [التوبة: 24] فهذه زيادة العلم. وأما زيادة التصديق بالمعاينة، فقول إبراهيم إذ طلب المعاينة، قال له ربه: (أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى) [البقرة: 260] ، فطلب الطمأنينة بالمعاينة، وهى زيادة فى اليقين، وقد قال تعالى: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر: 7] ، فجعل له مزية على علم اليقين، وبالله التوفيق.
30 - باب الزَّكَاةِ مِنَ الإسْلامِ قَوْلُهُ تعالى: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة) [البينة: 5](1/103)
/ 36 - فيه: طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ، وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ -، فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ -، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت وَصِيَامُ رَمَضَانَ -، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ -، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: تمت لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ -، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ -. قال المؤلف: هذا الحديث حجة أن الفرائض تُسمى إسلامًا، ودل قوله: تمت أفلح إن صدق - على أنه إن لم يصدق فى التزامها أنه ليس بمفلح، وهذا خلاف قول المرجئة. فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرض النهى عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتباع النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما سَنَّه لأمته، فكيف يفلح من لم ينته عما نهاه الله، ولم يتبع ما سَنَّه، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد توعد الله على مخالفة نبيه (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] . فالجواب: أنه يحتمل أن يكون هذا الحديث فى أول الإسلام قبل ورود فرائض النهى. ويحتمل أن يكون قوله: تمت أفلح إن صدق - راجعًا إلى قوله: أنه لا ينقص منها شيئًا ولم يزد، أفلح إن صدق فى أن لا يزيد(1/104)
عليها شيئًا من الفرائض والسنن، ولا فرض الحج لم يأت فى هذا الحديث من طريق صحيح، ولا يجوز أن يسقط فرض الحج عمن استطاع إليه سبيلاً، كما لا يجوز أن تسقط عنه فرائض النهى كلها، وهى غير مذكورة فى هذا الحديث، ولا يجوز ترك اتباع النبى (صلى الله عليه وسلم) والاقتداء به فى سنته، لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7] ، فبان بهذا أن قوله: تمت أفلح إن صدق - ليس على العموم. وفيه تأويل آخر: يحتمل أن يكون قوله: تمت والله لا أزيد على هذا ولا أنقص - على معنى التأكيد فى المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شىءٍ من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أمره بأمر مهم عنده: والله لا أزيد على ما أمرتنى به ولا أنقص، أى أفعله على حسب ما حددته لى، لا أخل بشىءٍ منه، ولا أزيد فيه من عند نفسى غير ما أمرتنى به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار. ومن كان فى المحافظة على ما أُمِرَ به بهذه المنزلة، فإنه متى ورد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله فإنه يبادر إليه، ولا يتوقف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلق فى هذا الحديث لمن احتج أن تارك السُّنن غير حَرِجٍ ولا آثمٍ، لتوعد الله تعالى على مخالفة أمر نبيه. وبهذا التأويل تتفق معانى الآثار والكتاب، ولا يتضاد شىء من ذلك.(1/105)
وهذا الرجل النجدى، هو ضمام بن ثعلبة، من بنى سعد بن بكر. وليس فى رواية مالك وإسماعيل بن جعفر فى هذا الحديث ذكر الحج، وقد رواه ابن إسحاق عن محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس، ذكر فيه الحج. وحديث من لم يذكره أصح. وقد احتج برواية ابن إسحاق من قال: إن فرض الحج على الفور. وقالوا: إنه وفد على الرسول سنة تسع، هذا قول ابن هشام فى السير عن أبى عبيدة، وهو قول الطبرى. وقالت طائفة: إن فرض الحج على التراخى. وقالوا: إن قدوم ضمامٍ فى هذا الحديث على النبى (صلى الله عليه وسلم) كان فى سنة خمس، هذا قول الواقدى، وسيأتى اختلاف أهل العلم فى ذلك، فى كتاب الحج، إن شاء الله. ومن حُجَّة الذين قالوا بالتراخى، قالوا: لو صح أن فرض الحج نزل سنة تسع لم يكن فيه حجة لم قال بالفور، إلا أن يدعى أن نزوله كان فى آخر العام وقت الحج، حيث لا يمكن النبى (صلى الله عليه وسلم) أداءه تلك السنة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك. فإن قيل: فلعل قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] أنزلت بعد حديث ضمام. قيل له: سواء نزلت قبله أو بعده لا يسوغ لأحدٍ مخالفة أمر الرسول، فلا تعلق لأحدٍ فى قوله: تمت أفلح إن صدق -.(1/106)
وقد قال مالك فى هذه الآية: نزلت يوم الخندق،) وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور: 62] ، وقال: إن الخندق كان سنة أربع. قال المؤلف: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور: 63] نزلت قبل حديث ضمام على كلا القولين ممن قال: إن فرض الحج نزل سنة تسعٍ أو سنة خمس. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إلا أن يطوع - ندبٌ إلى التطوع. وقوله: تمت أفلح إن صدق -، أى فاز بالبقاء الدائم فى الخير والنعيم الذى لا يبيد. والفلاح فى اللغة: البقاء، وهو معنى قول المؤذن: حى على الفلاح، أى هلموا إلى العمل المؤدى إلى البقاء.
31 - باب اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الإيمَانِ
/ 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنِ تَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ مِنَ الأجْرِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ -. وهذا الباب أيضًا حجة لأهل السُّنة أن الأعمال إيمان، لأنه (صلى الله عليه وسلم) جعل اتباع الجنازة إيمانًا بقوله: تمت من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا -.(1/107)
وقال أبو الزناد: حض (صلى الله عليه وسلم) على التواصل فى الحياة وبعد الممات، والذى حض عليه فى الحياة قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت صِلْ من قطعك وأعط من حرمك -، وقال: تمت لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا -. والذى حض عليه من الصلة بعد الممات فهو تشييعه إلى قبره والدعاء له، فهذا حق المؤمن على المؤمن.
32 - باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا يَشْعُرُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِىُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِى عَلَى عَمَلِى إِلا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَذكَرُ عَنِ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقوله تَعَالَى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135] . / 38 - حَدَّثَنَا زُبَيْدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِى عَبْدُاللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ -. / 39 - وَعَنْ عُبَادَة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ(1/108)
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: تمت إِنِّى خَرَجْتُ لأخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ، خَيْرًا لَكُمُ. . . -، وذكر الحديث. معنى قول إبراهيم: ما عرضت قولى على عملى إلا خشيت أن أكون مكذبًا، فإنما قال ذلك، والله أعلم، لأن الله تعالى ذَمَّ من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقَصرَّ فى عمله، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 2، 3] فخشى أن يكون مكذبًا، إذْ لم تمنيه الغاية من العمل، وأشفق من تقصيره. وهكذا ينبغى أن تغلب الخشية على المؤمن، ألا ترى قول الحسن: ما خافه إلا مؤمن وما أمنه إلا منافق. وقول ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) كلهم يخاف النفاق على نفسه، وإنما هذا، والله أعلم، لأنها طالت أعمارهم حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه، ولم يقدروا على إنكاره، فخشوا على أنفسهم أن يكونوا فى حيز من داهن ونافق. وقوله: ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل، هذا مذهب أهل السُّنة. ذكر الطبرى بإسناده عن أيوب السختيانى، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان رسول الله يبوح بهذا الكلام، يقول: تمت إيمانى كإيمان جبريل وميكائيل -. قال سعيد بن عبد العزيز: هو إذا أقدم على هذه المقالة أقرب أن يكون إيمانه كإيمان إبليس، لأنه أقرَّ بالربوبية وكفر بالعمل.(1/109)
وقال الفضيل بن عياض: يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان، لا والله، لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدى ما افترض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك ألا يتقبل منه. وذكر إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن عائشة، أنها قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60] قال: تمت هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ومفرقون أن لا يتقبل منهم -. قال بعض السلف فى قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47] قال: أعمال كانوا يحسبونها حسنات بدت لهم سيئات، وإنما لحقهم ذلك لعدم المراعاة وقلة الإخلاص، أو لتعديهم السُّنَّة وركوبهم بالتأويل وجوه الفتنة. وغرض البخارى فى هذا الباب رد قول المرجئة: أن الله لا يعذب على شىء من المعاصى من قال: لا إله إلا الله، ولا يحبط عمله بشىءٍ من الذنوب، فأدخل فى صدر الباب هذا أقوال أئمة التابعين، وما نقلوه عن الصحابة أنهم مع اجتهادهم وفضلهم يستقلون أعمالهم، ويخافون ألا ينجون من عذاب ربهم. وبمثل هذا المعنى نزع أبو وائل، حين سُئل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبد الله بن مسعود، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر -، إنكارًا لقول المرجئة، فإنهم لا(1/110)
يجعلون سباب المسلم فسوقًا، ولا قتاله كفرًا، ولا يُفسقون مرتكبى الذنوب، وقولهم مخالف لقول النبى، وليس يريد بقوله: تمت وقتاله كفرٌ - الكفر الذى هو الجحد لله ولرسله، وإنما يريد كفر حق المسلم على المسلم، لأن الله قد جعل المؤمنين إخوةً، وأمر بالإصلاح بينهم ونصرتهم، ونهاهم برسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، عن التقاطع، وقال: تمت المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا -، فنهى عن مقاتلة بعضهم بعضًا، وأخبر أن من فعل ذلك، فقد كفر حق أخيه المسلم. وقد ترجم لهذا الحديث فى كتاب الفتن، باب قول الرسول: تمت لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض -. وقد يحتمل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وقتاله كفرٌ -، أن تكون المقاتلة بمعنى المشاركة والتناول له باليد والتطاول عليه، كما قال فى المار بين يدى المصلى: تمت فليدرأه، فإن أَبَى فليقاتله -، ولم يرد (صلى الله عليه وسلم) قطع الصلاة، واستباحة دَمِّه، وإنما أراد دفعه بالشدة والقوة. على هذا يدل مساق الكلام لذكره معه السباب، والعرب تُسمى المشاركة مقاتلة. والدليل على صحة قولنا: إجماع أهل السُّنَّة أن قتل المسلم للمسلم لا يخرجه من الإيمان إلى الكفر، وإنما فيه القود. فينبغى للمؤمن ترك السباب والمشاركة والملاحاة، ألا ترى عظيم ما حَرَم الله عباده من بركة علم ليلة القدر من أجل تلاحى(1/111)
الرجلين بحضرة النبى، فكان ذلك عقوبة للمتلاحين ولمن يأتى بعدهم إلى يوم القيامة، لأنهم جمعوا مع التلاحى ترك أمر الله، لتوقير الرسول وتعزيزه، لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] ، ولكن قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وعسى أن يكون خيرًا - بعض التأنس لهم. وقال أبو الزناد: إنما يحبط عمل المؤمن وهو لا يشعر، إذا عد الذنب يسيرًا فاحتقره وكان عند الله عظيمًا، وليس الحبط هاهنا بمخرج من الإيمان، وإنما هو نقصان منه، ولا قوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (يوجب أن يكفر المؤمن وهو لا يعلم، لأنه كما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختيار الإيمان على الكفر، والقصد إليه، فكذلك لا يكون المؤمن كافرًا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره، رحمة من الله لعباده، والدليل على صحة هذا قوله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) [التوبة: 115] . فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث أبى بكر الصديق، وأبى موسى أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا -. وهذا يدل على أنه قد يخرج من الإيمان إلى الكفر من حيث لا يعلم، بخلاف ما قلت. قيل له: ليس كما ذكرت، وليس هذا الحديث بمخالف لما شرحناه، بل هو مبيِّن له وموضح لمعناه، وذلك أنه قد ثبت عن(1/112)
الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت اتقوا الرياء، فإنه الشرك الأصغر -. والرياء ينقسم قسمين: فإن كان الرياء فى عقد الإيمان فهو كفر ونفاق، وصاحبه فى الدرك الأسفل من النار، فلا يصح أن يخاطب بهذا الحديث. وإن كان الرياء لمن سلم له عقد الإيمان من الشرك، ولحقه شىء من الرياء فى بعض أعماله، فليس ذلك بمخرج من الإيمان إلا أنه مذموم فاعله، لأنه أشرك فى بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربه، فَحُرم ثواب عمله ذلك. يدل على هذا حديث أبى سعيد الخدرى، قال: تمت خرج علينا رسول الله ونحن نتحدث عن الدَّجال، فقال: إن أخوف عندى من ذلك الشرك الخفى، أن يعمل الرجل لمكان الرجل، فإذا دَعَا الله بالأعمال يوم القيامة، قال: هذا لى، فما كان لى قبلته، وما لم يكن لى تركته -، رواه الطبرى. فلا محالة أن هذا الضرب من الرياء، لا يوجب الكفر، وهذا المعنى فى الحديث. قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل -، ثم قال: تمت يا أبا بكر، ألا أدلك على ما يُذهب صغير ذلك وكبيره، قل: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم -. وفى بعض الطرق يقول ذلك ثلاث مرات. فبان بهذا الحديث أن من كان هذا القدر من الرياء فيه خفيًا كخفاء دبيب النمل على الصفا، أن عقد الإيمان ثابت له، ولا يخرج بذلك(1/113)
الخاطر الفاسد من الرياء، الذى زين له الشيطان فيه محمدة المخلوقين إلى الشرك، ولذلك عَلَّم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمته مداواة ذلك الخاطر بالاستعاذة، مما يذهب صغير ذلك وكبيره، وليست هذه حالة المنافقين ولا صفات الكافرين، وليس هذا بمخالف لما بيَّنا، والله أعلم.
33 - باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ عن الإيمَانِ وَالإسْلامِ وَالإحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ الرسول ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ - فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ لِوَفْدِ عَبْدِ قَيْسِ مِنَ الإيمَانِ، وَقَوْلِهِ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85]
. / 40 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ، (صلى الله عليه وسلم) ، بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُل فَقَالَ: مَا الإيمَانُ؟ قَالَ: تمت الإيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، [وَكُتُبِهِ] وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ -، قَالَ: مَا الإسْلام؟ ُ قَالَ: تمت الإسْلامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ -، قَالَ: مَا الإحْسَانُ؟ قَالَ: تمت أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ -، قَال: َ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: تمت مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ، فِى خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ -، ثُمَّ تَلا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (الآيَةَ [لقمان: 34] ، ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ: تمت رُدُّوهُ -، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: تمت هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ -. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنَ الإيمَانِ. / 41 - وفيه: قصة هِرَقْلَ تمت قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟(1/114)
فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، فَكَذَلِكَ الإيمَانُ حَتَّى يَتِمّ، َ وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ -. قال المؤلف: فيه من الفقه: سؤال العالم العالم عمَّا لا يجهله السائل ليعلمه السامعون، وكل ما سأل عنه من الإسلام والإحسان، فاسم الإيمان والدين واقع عليه، ألا ترى قوله فى حديث هرقل: هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان، فسماه مرةً بالدين ومرةً بالإيمان، فهى أسماء متعاقبة لمعنىً واحدٍ بخلاف قول المرجئة. قال الطبرى: تمت وأشراط الساعة - علاماتها، واحدها شرط، ولذلك سمى الشُرَط شُرطًا لإعلامهم أنفسهم علامات يعرفون بها. قال أوس بن حُجْر: وأشرَطَ فيها نفسه وهو معصم يعنى أعلم نفسه للهلاك. وكان الأصمعى يقول: إن قول الناس أشرط فلان على فلان كذا فى بيعه، معناه جعلوا بينهم علامات. وقوله: تمت إذا ولدت الأمة رَبَّها - فهو أن تلد سرية الرجل الشريف ذى الحسب، منه ابنًا أو ابنةً، فَيُنْسب إلى الأب، وله به من الشرف ما لأبيه، وأمه أَمَة. وإنما قصد (صلى الله عليه وسلم) بذلك: الخبر عن أن من أمارة قيام الساعة: ارتفاع الأَسَافل وغير ذوى الأخطار من الرجال والنساء، فأعلم أن من ارتفاع من لا خطر له من النساء ولا قدر، يحوِّل بنات الإماء بولادة(1/115)
أمهاتهن لهن من ساداتهن رباتٌ أمثال آبائهن، ومن ارتفاع وضعاء الرجال ومن لا خطر له منهم يحوِّل الذين كانوا حفاةً عراةً عالةً من الغنم رعاة أهل الشرف فى البنيان من الغنى وكثرة المال من بعد العَيْلة والفاقة. وهذا نظير قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع - يعنى العبيد والسَّفَلة من الناس. وقوله: تمت الإبل البُهْمُ - يعنى السُّود، وهن أدون الإبل وشرها، لأن الكرام منها الصفر والبيض. ومن روى تمت البَهْم - بفتح الباء فهو خطأ، لأن البهمة ليست من صغار الإبل، وإنما البهمة من ولد الضأن والمعز بعد ما تولد بعشرين يومًا، وجمعها بهم.
34 - باب فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ
/ 42 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمورٌ مُشْتَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِىَ الْقَلْبُ -.(1/116)
قال المهلب، رحمه الله: الوسائط التى بين الحلال والحرام يحتذ بها أصلان من كل الطرفين، فأيهما قام الدليل عليه أضيفت الوسيطة إليه، وقد يقوم دليلان من الطرفين فيقع الاشتباه، ويعسر الترجيح، فهذه الذى من اتَّقَاها استبرأ لعرضه ودينه كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وهى حمى الله الذى حماه ليبعد عن محارمه، ولئلا يُتَذرع إليها فَتُواقع. وهذا الحديث أصلٌ فى القول بحماية الذرائع، وفيه دليل أن من لم يتق الشبهات المختلف فيها وانتهك حرمتها فقد أوجد السبيل إلى عرضه ودينه، وأنه يمكن أن يُنال من عرضه بذلك فى حديث رواه، أو شهادة يشهد بها، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه -. وفيه: أن الراسخين فى العلم يمكن أن يعلموا بعض هذه الشبهات لقوله: تمت لا يعلمها كثير من الناس - فدل أنه يعلمها قليل منهم، كما قال تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] ، وسأتقصى فى الكلام على هذا الحديث فى أول كتاب البيوع، إن شاء الله. وفيه: أن العقل والفهم إنما هو فى القلب وموطنه، وما فى الرأس منه إنما هو عن القلب ومنه سببه.
35 - باب أَدَاءِ الْخُمُسِ مِنَ الإيمَانِ
/ 43 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت مَنِ(1/117)
الْقَوْمُ، أَوْ مَنِ الْوَفْدُ -؟ قَالُوا: رَبِيعَةُ، قَالَ: تمت مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلا نَدَامَى -، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلا فِى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّة، َ وَسَأَلُوهُ عَنِ الأشْرِبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: تمت أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ -؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: تمت شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ -، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ، وَقَالَ: تمت احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ -. معنى هذا الحديث كالأبواب المتقدمة قبله: أن الإيمان واقع على الأعمال، ألا ترى أنه أوقع اسم الإيمان على الإقرار بشهادة التوحيد، وعلى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأداء الخمس، على خلاف قول المرجئة، وإنما نهاهم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت، لأنه سألوه عن الأشربة، وكانت كثيرة عندهم، فأعلمهم بما يحتاجون إلى علمه. وكذلك أعلمهم أن أداء الخمس من الإيمان، لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، وكانوا أهل جهاد ونكاية لهم. فإن قيل: فإنه جاء فى الحديث، أنه أمرهم بأربع، وإنما أمرهم بخمس.(1/118)
فالجواب: أنه (صلى الله عليه وسلم) أمرهم بالأربع التى وعدهم بها، ثم زادهم خامسةً، وهذا غير منكور، لأنه وَفَّى لهم بوعده فى الأربع التى سألوه عنها، ولم يجعل التوحيد، ولا الإيمان بالرسول من الأربع، لعلمهم بذلك، وإنما أمرهم بأربع لم تكن فى علمهم أنها دعائم التوحيد وأصله. وفيه: تحريض العَالِم للناس أن يحفظوا العلم، ويُعلموه. وفيه: أن للرجل أن يعلِّم أهل بيته، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أخبروا بهن من وراءكم -. وقول ابن عباس لأبى جمرة: أقم عندى حتى أجعل لك سهمًا من مالى، فإنما قال ذلك، لأن أبا جمرة كان يتكلم بالفارسية، فأراد أن يجعله ترجمانًا بينه وبين من لا يعرف بالعربية. وفيه: جواز أخذ الأجرة على التعليم.
36 - باب مَا جَاءَ إِنَّ الأعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَدَخَلَ فِيهِ الإيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالأحْكَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) [الإسراء: 84] عَلَى نِيَّتِهِ، وَقَد قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ -. / 44 - فيه: عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى،(1/119)
فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ -. / 45 - وفيه: ابن مَسْعُود، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ -. / 46 - وفيه: سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فَمِ امْرَأَتِكَ -. قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب أيضًا الرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب؛ ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقتصر على قوله: تمت الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى -، وإن كان ذلك كافيًا فى البيان عن أن كل ما لم تصحبه نية من الأعمال فهو ساقط غير معتد به، حتى أكد ذلك ببيان آخر فقال: تمت من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه -. ومثله حديث ابن مسعود: تمت إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها فهو له صدقة -. وحديث سعد: تمت إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أُجرت عليها -، ألا ترى أنه جعل الأجر فى هذين الحديثين المنفق على أهله بشرط احتساب النفقة عليهن، وإرادة وجه الله بذلك. وبهذا المعنى نطق التنزيل، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5] الآية.(1/120)
وقال الطبرى: فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات - فيه من الفقه تصحيح قول من قال: كل عامل عملاً، فإنه بين العامل وبين ربه على ما صرفه إليه بنيته ونواه بقلبه، لا على ما يبدو لعين من يراه، وبيان فساد قول من قال: إذا غسل الغاسل أعضاء الوضوء وهو ينوى تعليم جاهل، أو تبرُّدًا من حَمٍّ أصابه، أو تطهيرها من نجاسة، لا يقصد بغسلها أداء فرض الصلاة عليه، أنه مؤدٍ بذلك فرض الله الذى لزمه. وأن من صام رمضان بنية قضاء نذرٍ عليه، أو نية تطوع، أنه يجزيه عن فرض شهر رمضان. وكذلك من حج عمن لم يحج قبل عن نفسه، فنوى الحج عن غيره أن يجزئه عن فرض الحج عن نفسه، إذ كان (صلى الله عليه وسلم) جعل عمل كل عامل مصروفًا إلى ما صرفه إليه بنيته، وأراده بقلبه فيما بين وبين ربه. فإن كانت هجرته هجرة رغبة فى الإسلام وبراءة من الكفر، فهجرته هنالك لله ورسوله، وإن كانت هجرته طلب دنيا، فليست بالهجرة التى أمر الله عباده. فكذلك الصائم شهر رمضان بنية التطوع، أو قضاء النذر، وغاسل أعضاء الوضوء، والمحرم بالحج عن غيره، كل واحدٍ منهم غير فاعل ما عليه من فرض الله، لأن عمله لِمَا نواه دون ما لم ينوه. وقال غير الطبرى: وقد زعم بعض الفقهاء أن النية غير مفتقر إليها فى بعض الأعمال، كقول زُفَر: إن صيام شهر رمضان لا يحتاج إلى نية، وغيره من الصيام يفتقر إلى نية إلا أن يكون الذى يدركه رمضان مسافرًا أو مريضًا، فإنه لا يصحُ إلا بالنية.(1/121)
فأمَّا الصحيح المقيم فلا يفتقر إلى نية، وهو قول عطاء ومجاهد، واحتجوا أن النية إنما احتيج إليها، لتمييز الفرض عن النفل، وزمن رمضان لا يصح فيه النفل، فلا معنى لاعتبار النية فيه. وكقول الأوزاعى: إن الطهارة والغسل والتيمم لا يحتاج شىء منها إلى نية، ذكره ابن القصار، وهو كقول الحسن بن حى. وكقول الثورى وأبى حنيفة: إن الطهارة لا تفتقر إلى نية، ونَاقَضَا فى التيمم فجعلاه يفتقر إلى نية، وسائر الفقهاء على خلافهم فتركوا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات - وسائر الأحاديث المشروط فيها النية. وزعم الثورى وأبو حنيفة: أن التيمم مفارق للطهارة، لأن الله تعالى قال فى الماء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة: 6] ، ولم يذكر فيه نية، وقال فى التيمم: (فَتَيَمَّمُواْ (والتيمم: القصد فلا يجوز إلا بنية. قال ابن القصار: فيقال لهم: لو سلمنا لكم أن الله نصّ على النية فى التيمم، وأمسك عنها فى الوضوء، لجاز لنا القياس، فنقيس المسكوت عنه على المنصوص عليه، ولما دخلت النية فى التيمم، وهو أقل من الوضوء، كان الوضوء أولى بدخول النية فيه. واحتج الكوفيون أيضًا أن النجاسات يجوز غسلها بغير نية، فكذلك الوضوء، فيقال لهم: الفرق بين غسل النجاسات وبين الطهارة، أن النجاسة قد انخفض أمرها، لأنه عُفى عن اليسير منها يكون(1/122)
فى الثوب والبدن مثل الدم، وسمح بموضع الاستنجاء، وليس كذلك الطهارة، لأنه لم يسمح بترك شىء من الأعضاء فى الوضوء والغسل والتيمم. وفرق آخر: وهو أن الطهارة تجب عن أى حدث كان فى الأربعة الأعضاء، سواء كان الحدث غائطًا أو بولا أو غيره، وليست كذلك النجاسة، لأنه لو أصاب فخذه نجاسة لم يجب عليه غسل يده ورجله، ولو أصابت رجله لم يجب عليه غسل يده، فسقط اعتراضهم أنه لما جاز غسل النجاسة بغير نية أنه يجب مثله فى الوضوء. وقد سئل علىُّ بن أبى طالب عن رجل اغتسل للجنابة ولم ينو، قال: يعيد الغسل، ولا يعرف له مخالف، فصار كالإجماع. وأما قول من قال: إن صيام رمضان لا يفتقر إلى نية، فليس بشىء، لأن قضاءه لا يصح إلا بنية، فوجب أن يفتقر أداؤه إلى النية كالصلاة. وقال بعض العلماء: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات - ليس على العموم، وقد توجد أشياء تصح من غير نية، وإن كانت يسيرة فمنها أن مالكًا والكوفيين والشافعى اتفقوا فى المرأة يغيب عنها زوجها مدة طويلة بموت ولا تعلم بموته فيبلغها ذلك بعد عام، أن عدتها من يوم الوفاة، لا من يوم بلغها موته، وهذه عدة بغير نية. ومنها قول ابن القاسم: أنه إذا أعتق الرجل عبده عن غيره فى(1/123)
كفارة الظهار بغير علمه أن يجزئه من كفارته، والكفارة فرض عليه، وإن كان قد أبى ذلك أبو حنيفة والشافعى وأشهب، فقالوا: لا يعتق عنه بغير علمه، لأنه فرض وجب عليه. ومما يجزئ بغير نية ما قاله مالك: أن الخوارج إذا أخذوا الزكاة من الناس بالقهر والغلبة أجزأت عمن أخذت منه. ومنها: أن أبا بكر الصديق وجماعة الصحابة أخذوا الزكاة من أهل الردة بالغلبة والقهر ولو لم تجز عنهم ما أخذت منهم. واحتج من خالفهم فى ذلك وجعل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنية - على العموم فقال: العدة إنما جعلت للاستبراء، وبراءة الرحم خوف الداخلة فى النسب، وهذه رحم قد حصل لها ما ابتغى من الاستبراء بمضى المدة، وإن كانت المرأة لم تعلم ذلك. وقد أجمعوا على أنها لو كانت حاملا لا تعلم بوفاة زوجها أو طلاقه، فوضعت حملها أن عدتها منقضية. وأما أخذ الخوارج الزكاة من الناس فلا حجة فيه لمن قال: إنه عمل بغير نية، لأن النية لا تنفك عنها من غلبة الخوارج، لأن معنى النية ذكره وقت أخذها منه أنه عن الزكاة، أخذها المتغلب عليه إذا لم يأخذها على غير وجه الزكاة، فلا ينفك علمه من ذلك، وهو كالذاكر للصلاة فى وقت أدائها. وقد قال الله تعالى لنبيه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة: 103] ، وقام الخلفاء بعده فى أخذها مقامه، وقام من بعدهم من فاسق وصالح.(1/124)
معناهم معنى الظالم من الأمراء. ولم يختلف العلماء أن أخذ الظالم لها يجزئه، فالخارجى فى معنى الظالم. وأهل السنة مجمعون على أن المتغلب يقوم مقام الإمام العدل فى إقامة الحدود وجهاد العدو، وإقامة الجمعات والأعياد وإنكاح من لا ولى لها، فكذلك الخوارج، لأنهم من أهل القبلة وشهادة التوحيد. وأما قوله: إن الصديق أخذ الزكاة من أهل الردة بالغلبة فأجزأتهم فليس بشىء، لأن الصديق لم يقصد أخذ الزكاة بعينها منهم، وإنما قصد إلى حربهم وغنيمة أموالهم وسبيهم لكفرهم، ولو قصد إلى أخذ الزكاة فقط لرد عليهم ما فضل عنها من أموالهم. ونحن نقول: إنها لا تجب عليهم بعد كفرهم، ولو أسلموا بعد ذلك. وأما قول ابن القاسم فى الذى يعتق عبده عن غيره فى الظهار، فقد قال الأبهرى: القياس أنه لا يجزئه، لأن المعتق عنه بغير أمره لم ينو عتقه، فالعتق فى الكفارات لا يجزئ بغير نية، وليس ذلك بمنزلة العتق عن الميت فى كفارة عليه، لأن الميت معدوم النية وليس بواجب أن يعتق عنه إذا لم يوص بذلك، والحى غير معدوم النية، ولا يجوز أن تنوب نية غيره عنه، وإلى هذه المسألة رد ابن القاسم مسألة الظهار، ولم يصب وجه القياس على قول مالك. وقد قال أشهب وابن المواز: لا تجوز الكفارة بغير نية. وليس قول مالك والكوفيين فيمن وقف بعرفة بغير نية مغمى(1/125)
عليه أنه يجزئه مما يعترض به فى هذا الباب، لأن من وقف بعرفة مغمى عليه فهو كمن أغمى عليه بعد الفجر فى يوم الصيام والإغماء: مرض، والمرض لا يبطل الصوم إلا أن يفطر فيه، وليس فى الإغماء أكثر من عدم العلم بالصوم، وعدم العلم به بعد الدخول فيه لا يبطله دليله النوم والنسيان فهو باق على حكم صيامه، وكذلك من أحرم وهو صحيح فحدث له الإغماء فهو باق على حكم إحرامه. وقال أبو محمد الأصيلى: النية والقصد عند الإحرام تجزئ كالإحرام للصلاة، فإذا أحرم بنية وقصد فإن غيرت النية تعد مع سائر الامتثال أجزأت الصلاة، وكذلك الوقوف بعرفة، ولا يعترض بالصغيرة تجب عليها العدة، وهى غير مخاطبة بالعبادة، لأنها قد تصح منها النية والقصد إلى القربة، وإن لم تكن مكلفة فوليها مكلف فى حملها عليها، ألا ترى أن المرأة التى حجت بالصبى الصغير، قالت: تمت ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولك أجر - يعنى فى إحجاج الصبى. وكذلك من أوجب الزكاة فى مال الصغير، جعل الزكاة طهرة للمال وحقا فيه، وجعل ولى الصغير مخاطبًا فيه بدليل قوله: تمت ولك أجر -. قال الطبرى فى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الأعمال بالنيات -: فى هذا بيان من الرسول عن أعمال العباد التى يستوجبون عليها من ربهم الثواب والعقاب، وما منها لله تعالى وما منها لغير الله، وإنما يقترف ذلك عند ابتدائه، وفى أول دخوله فيه، فإذا كان ابتداؤها لله لم يضره ما عرض بعد ذلك فى نفسه وخطر بقلبه من حديث النفس ووسواس(1/126)
الشيطان، ولا يزيله عن حكمه إعجاب المرء باطلاع العباد عليه بعد مضيه فيه ولا سروره بذلك، وهذا قول عامة السلف. قال الحسن البصرى: ما عمل آدمى قط عملا إلا سار فى القلب منه سورتان، فإذا كانت الأولى منهما لله لم تهده الأخرى، وإنما المكروه أن يبتدأه بالنية المكروه ابتداؤه بها أو بعمله غير خالص لله، فذلك الذى يستحق عامله عليه العقاب من ربه، وبنحو ذلك قال السلف. وروى الأعمش، عن خيثمة، عن الحارث بن قيس، قال: إذا كنت تصلى فأتاك الشيطان، فقال: إنك ترائى، فزدها طولا. وروى عن الحسن، أن رجلا كان حسن الصوت بالقرآن فقال له: يا أبا سعيد، إنى أقوم الليل فيأتينى الشيطان إذا رفعت صوتى فيقول: إنما تريد الناس، فقال الحسن: لك نيتك إذا قمت من فراشك. وروى أبو داود الطيالسى، قال: حدثنى سعيد بن سنان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، أن رجلاً قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل يسره، فإذا اطلع عليه أعجبه؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لك أجران، أجر السر، وأجر العلانية -. وقد قسم الطبرى هذه المسألة فى موضع آخر على قسمين، فقال:(1/127)
ما كان من الأعمال التى يبتدأ بها لوجه الله، تعالى، لها اتصال كصلاة التطوع التى أقلها ركعة، وكالحج الذى إذا أحرم به فى وقته لم يحل منه إلا وقت طلوع الفجر من يوم النحر برمى الجمرة، والعمرة التى لا يحل منها إلا بالطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة، وشبه ذلك من الأعمال التى لها اتصال بابتداء وانقضاء، فلا تفسد بالعارض فيها من الوسواس من الرياء، وكان عمله على ما ابتدأ من النية، كما أنه لو حدث نفسه بالخروج منها، ولم يفعل فعلا يخرج به منه، لم يكن خارجًا منه، وما كان من الأعمال لا اتصال لها بأول متطاول كالصدقة على المساكين، وتلاوة القرآن، وذكر الله، والتسبيح، وشبهه مما لا تطاول له باتصال، فإن عليه مع كل فعل يفعله من ذلك إحداث نية مجددة، وإرادة منه بها وجه الله غير النية التى سبقت منه للتى قبلها، لأن كل فعلة من ذلك غير التى قبلها والتى بعدها، ولن تفسد الثانية إذا كانت صحيحة بفساد التى قبلها، ولم تصح فهى فاسدة بصحة ما قبلها، والصلاة تفسد الركعة منها بفساد الركعة الأخرى، وتصح بصحتها، ويصح السجود فيها بصحة الركوع، ويفسد بفساده فى بعض الأحوال، وكذلك سائو الأعمال التى لها ابتداء وانقضاء ولها تطاول باتصال.
37 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : - الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ - وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة 91]
/ 47 - فيه: جَرِيرِ، قَالَ: تمت بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ -.(1/128)
/ 48 - فيه: أن جَرِيرًا قَامَ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: تمت عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ الرسول فقلت: أُبَايِعُكَ عَلَى الإسْلامِ، فَشَرَطَ عَلَىَّ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّى لَنَاصِحٌ لَكُمْ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ -. معنى هذا الباب: أن النصيحة تسمى دينًا وإسلامًا، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول ألا ترى أن رسول الله بايع جريرًا على النصح، كما بايعه على الصلاة والزكاة، سوى بينهما فى البيعة؟ . وقد جاء عن الرسول أنه سمى النصيحة دينًا على لفظ الترجمة. رواه ابن عيينة، عن سهيل بن أبى صالح، عن عطاء بن يزيد الليثى، عن تميم الدارى، قال: قال رسول الله: تمت الدين النصيحة - قالها ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: تمت لله، عز وجل، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم -. رواه ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به، ويسقط عن الباقين، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. وأما إن خشى الأذى فهو فى سعة منها.(1/129)
قال أبو بكر الآجرى: ولا يكون ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه، واجتهد فى طلب العلم والفقه، ليعرف به ما يجب عليه، ويعلم عداوة الشيطان له وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إليه النفس حتى يخالفها بعلم. وروى الثورى عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى ثمامة، وكان يقرأ الكتب، قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: من الناصح لله تعالى؟ قال: الذى يبدأ بحق الله قبل حق الناس، فإذا عرض له أمران، أمر دنيا وآخرة، بدأ بعمل الآخرة، فإذا فرغ من أمر الآخرة تفرغ لأمر الدنيا. وقال الحسن البصرى: ما زال لله ناس ينصحون لله فى عباده، وينصحون لعباد الله فى حق الله عليهم، ويعملون له فى الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله فى الأرض. وقال الآجرى: والنصيحة لرسول الله على وجهين: فنصيحة من صَاحَبَهُ وشاهده، ونصيحة من لم يره. فأما صحابته، فإن الله شرط عليهم أن يعزروه ويوقروه وينصروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كل مسلم، فَوَفُّوا بذلك وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة من لم يره: فأن يحفظوا سُنَّته على أمته وينقلوها ويعلموا الناس شريعته ودينه ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا ذلك فهم ورثة الأنبياء.(1/130)
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فهى على قدر الجاه والمنزلة عندهم، فإذا أمن من ضرهم فعليه أن ينصحهم، فإذا خشى على نفسه فحسبه أن يغير بقلبه، وإن علم أنه لا يقدر على نصحهم فلا يدخل عليهم، فإنه يغشهم ويزيدهم فتنة ويذهب دينه معهم. وقد قال الفضيل بن عياض: ربما دخل العالم على الملك ومعه شىء من دينه فيخرج وليس معه شىء، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يصدقه فى كذبه، ويمدحه فى وجهه. وقد روى الثورى، عن أبى حصين، عن الشعبى، عن عاصم العدوى، عن كعب بن عجرة، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت إنه سيكون بعدى أمراء فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى، ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى، وأنا منه، وسيرد علىَّ الحوض -. وأما نصيحة العامة بعضهم لبعض، فواجب على البائع أن ينصح للمشترى فيما يبيعه، وعلى الوكيل والشريك والخازن أن ينصح لأخيه، ولا يحب له إلا ما يحب لنفسه. وروى ابن عجلان عن عون بن عبد الله، قال: كان جرير إذا أقام السلعة بَصَّرهُ عيوبها، ثم خيره، فقال: إن شئت فاشتر، وإن شئت فاترك، فقيل له: إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنا بايعنا رسول الله على النصح لكل مسلم. وقال المهلب فى قول جرير: تمت عليكم بالسكينة والوقار - دليل أنه يجب على العَالِم إذا رأى أمرًا يخشى منه الفتنة على الناس، أن يعظهم فى ذلك ويرغبهم فى الألفة وترك الفرقة.(1/131)
وقوله: تمت حتى يأتيكم أمير - يعنى ليقوم بأمركم وينظر فى مصالحكم. وقوله: تمت استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو - جعل الوسيلة له إلى عفو الله بالدعاء بأغلب خلال الخير عليه، وما كان يحبه فى حياته من العفو عن من أذنب إليه، وكذلك يجزى كل أحدٍ يوم القيامة بأحسن خلقه وعمله فى الدنيا.(1/132)
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَاب الْعِلْمِ
قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة 11] وَقَوْلِهِ: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه 114] . قال المؤلف: جاء فى كثير من الآثار أن درجات العلماء تتلو درجات الأنبياء، ودرجات أصحابهم، والعلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورثوا العلم وبينوه للأمة، وذبوا عنه، وحموه من تخريف الجاهلين وانتحال المبطلين. وروى ابن وهب، عن مالك، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول فى قوله تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء) [يوسف: 76] ، قال: بالعلم. وذكر عن الأوزاعى قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، أى الأعمال أفضل؟ قال: العلم، ثم سأله أى الأعمال أفضل؟ قال: العلم، قال: أنا أسألك عن أفضل الأعمال، وأنت تقول: العلم؟ قال: ويحك، إن مع العلم بالله ينفعك قليل العمل وكثيره، ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره. وقال ابن عيينة فى قوله تعالى: (وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) [مريم: 31] ، قال: معلمًا للخير. وفى فضل العلم آثار كثيرة، ومن أحسنها ما حدثنى يونس بن عبد الله، قال: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا سعيد بن(1/133)
فحلون، قال: حدثنا أبو العلاء عبد الأعلى ابن معلى، قال: حدثنا عثمان بن أيوب، قال: حدثنى يحيى بن يحيى، قال: أول ما حدثنى مالك بن أنس حين أتيته طالبًا لما ألهمنى الله إليه فى أول يوم جلست إليه قال لى: اسمك؟ قلت له: أكرمك الله يحيى، وكنت أحدث أصحابى سنًا، فقال لى: يا يحيى، الله الله، عليك بالجدِّ فى هذا الأمر، وسأحدثك فى ذلك بحديث يرغبك فيه، ويرهدك فى غيره، قال: قدم المدينة غلام من أهل الشام بحداثة سنك فكان معنا يجتهد ويطلب حتى نزل به الموت، فلقد رأيت على جنازته شيئًا لم أر مثله على أحد من أهل بلدنا، لا طالب ولا عالم، فرأيت جميع العلماء يزدحمون على نعشه، فلما رأى ذلك الأمير أمسك عن الصلاة عليه، وقال: قدموا منكم من أحببتم، فقدم أهل العلم ربيعة، ثم نهض به إلى قبره، قال مالك: فألحده فى قبره ربيعة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، وأقرب الناس إليهم محمد بن المنذر، وصفون بن سليم، وأبو حازم وأشباههم وبنى اللَّبِن على لحده ربيعة، وهؤلاء كلهم يناولوه اللَّبِن، قال مالك: فلما كان اليوم الثالث من يوم دفنه رآه رجل من خيار أهل بلدنا فى أحسن صورة غلام أمرد، وعليه بياض، متعمم بعمامة خضراء، وتحته فرس أشهب نازل من السماء فكأنه كان يأتيه قاصدًا ويسلم عليه، ويقول: هذا بَلَّغنى إليه العلم، فقال له الرجل: وما الذى بلغك إليه؟ فقال: أعطانى الله بكل باب تعلمته من العلم درجة فى الجنة، فلم تبلغ بى الدرجات إلى درجة أهل العلم، فقال الله تعالى: زيدوا ورثة أنبيائى، فقد ضمنت على نفسى أنه من مات وهو عالم سنتى، أو سنة أنبيائى، أو طالب لذلك أن أجمعهم(1/134)
فى درجة واحدة فأعطانى ربى حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، وليس بينى وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا درجتان، درجة هو فيها جالس وحوله النبيون كلهم، ودرجة فيها جميع أصحابه، وجميع أصحاب النبيين الذين اتبعوهم، ودرجة من بعدهم فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسيرنى حتى استوسطتهم فقالوا لى: مرحبًا، مرحبًا، سوى ما لى عند الله من المزيد، فقال له الرجل: ومالك عند الله من المزيد؟ فقال: وعدنى أن يحشر النبيين كلهم كما رأيتهم فى زمرة واحدة، فيقول: يا معشر العلماء، هذه جنتى قد أبحتها لكم، وهذا رضوانى قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا وتشفعوا، فأعطيكم ما شئتم، وأشفعكم فيمن استشفعتم له، ليرى عبادى كرامتكم علىَّ، ومنزلتكم عندى. فلما أصبح الرجل حدث أهل العلم، وانتشر خبره بالمدينة، قال مالك: كان بالمدينة أقوام بدءوا معنا فى طلب هذا الأمر ثم كفوا عنه حتى سمعوا هذا الحديث، فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالحزم، وهم اليوم من علماء بلدنا، الله الله يا يحيى جد فى هذا الأمر. قال المؤلف: غير أن فضل العلم إنما هو لمن عمل به، ونوى بطلبه وجه الله تعالى. ذكر مالك أن عبد الله بن سلام قال لكعب: مَن أرباب العلم؟ قال: هم أهله الذين يعملون بعلمهم، قال: صدقت، قال: فما ينفى العلم من صدور العلماء بعد إذ علموه؟ قال: الطمع. وعن ابن عيينة عمن حدثه، عن عبد الله بن المسور، قال: جاء(1/135)
رجل إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: أتيتك لتعلمنى من غرائب العلم، فقال له النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما صنعت فى رأس العلم؟ - قال: وما رأس العلم؟ قال: تمت هل عرفت الرب؟ - قال: نعم، قال: تمت فما صنعت فى حقه؟ - قال: ما شاء الله، قال: تمت هل عرفت الموت؟ - قال: نعم، قال: تمت فما أعددت له؟ - قال: ما شاء الله، قال: تمت فاذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال أعلمك من غرائب العلم -. وعن الحسن البصرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت العلم علمان: علم على اللسان، فتلك حجة الله على ابن آدم، وعلم فى القلب فذلك العلم النافع -. وذكر ابن وهب، عن أبى الدرداء أنه كان يقول: لست أخاف أن يقال لى: يا عويمر، ماذا علمت؟ ولكن أخاف أن يقال لى: يا عويمر، ماذا عملت فيما علمت؟ ولم يؤت الله أحدًا علمًا فى الدنيا إلا سأله يوم القيامة. ومن تعلم الحديث ليصرف به وجوه الرجال إليه، صرف الله وجهه يوم القيامة إلى النار. وقال مسروق: بحسب المرء من العلم أن يخشى الله، وبحسبه من الجهل ألا يخشى الله. وقوله تعالى:: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا) [طه 114] ، قال قتادة: إن الشيطان لم يدع أحدكم حتى يأتيه من كل وجه، حتى يأتيه من باب العلم، فيقول: ما تصنع بطلب العلم؟ ليتك تعمل بما قد سمعت، ولو كان أحد مكتفيًا لاكتفى موسى، (صلى الله عليه وسلم) ، حيث يقول: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66] .(1/136)
وذكر الطبرانى عن ابن عباس: تمت أن موسى سأل ربه، فقال: أى رب، أى عبادك أعلم؟ قال: الذى يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تقربه إلى هدى أو ترده عن ردى -.
- باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ، فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ، ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: تمت أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ - قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تمت فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ -، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟(1/137)
قَالَ: تمت إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ -. قال المهلب: فيه: أن من أدب المتعلم ألا يسأل العالم ما دام مشتغلا بحديث أو غيره، لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم ألا يقطعه عنهم حتى يتمه. وفيه: الرفق بالمتعلم، وإن جفا فى سؤاله أو جهل، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يوبخه على سؤاله قبل كمال حديثه. وفيه: وجوب تعليم السائل والمتعلم، لقوله النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت أين السائل؟ - ثم أخبره عن الذى سأله عنه. وفيه: مراجعة العالم إذا لم يفهم السائل، لقوله: كيف إضاعتها؟ . وفيه: جواز استماع العالم فى الجواب وأن ينتقى منه إذا كان ذلك لمعنى. وقوله: تمت إذا وسد الأمر إلى غير أهله - معناه أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، لقوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته -، فينبغى لهم تولية أهل الدين والأمانة للنظر فى أمر الأمة، فإذا قلدوا غير أهل الدين، واستعملوا من يعينهم على الجور والظلم فقد ضيعوا الأمانة التى فرض الله عليهم. وقد جاء عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت لا تقوم الساعة حتى يؤتمن الخائن ويستخون الأمين، وهذا إنما يكون إذا غلب الجهل، وضعف أهل الحق عن القيام به ونصرته -.
3 - باب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ
/ 2 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وهذا حجة فى جواز رفع الصوت فى المناظرة فى العلم وذكر ابن عيينة قال: مررت بأبى حنيفة وهو مع أصحابه، وقد ارتفعت أصواتهم بالعلم.(1/138)
وقال ابن السكيت: أرهقتنا الصلاة: استأخرنا عنها حتى دنا وقت الأخرى، وأرهقنا الليل: دنا منا، وأرهقنا القوم: لحقونا. وقال المؤلف: إنما ترك أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) الصلاة فى الوقت الفاضل، والله أعلم، لأنهم كانوا على طمع من أن يأتى الرسول ليصلوا معه، لفضل الصلاة معه، فلما ضاق عليهم الوقت وخشوا فواته توضئوا مستعجلين، ولم يبالغوا فى وضوئهم فأدركهم (صلى الله عليه وسلم) وهم على ذلك فزجرهم، وأنكر عليهم نقصهم للوضوء بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار -. ففيه من الفقه: أن للعالم أن ينكر ما رآه من التضييع للفرائض والسنن، وأن يغلظ القول فى ذلك، ويرفع صوته بالإنكار. وفيه: تكرار المسألة توكيدًا لها ومبالغة فى وجوبها.
4 - باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا
وَقَال الْحُمَيْدِىُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ. وَقَالَ أيضًا: سَمِعْتُ من النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَلِمَةً. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.(1/139)
وَقَالَ أَنَسٌ وأَبُو هُرَيْرَةَ مثله. / 3 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِى مَا هِىَ؟ . . . - وذكر الحديث. اختلف العلماء فى هذا الباب، فروى ابن وهب عن مالك أن حدثنا وأخبرنا سواء، وهو قول الكوفيين، وذهبت طائفة إلى الفرق بينهما، وقالوا: حدثنا لا يكون إلا مشافهة، وأخبرنا قد يكون مشافهةً وكتابًا وتبليغًا، لأنك تقول: أخبرنا الله بكذا فى كتابه، وأخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا تقول: حدثنا إلا أن يشافهك المخبر بذلك. فقال الطحاوى: فنظرنا فى ذلك فلم نجد بين الخبر، والحديث فرقًا فى كتاب الله، ولا سنة رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) . فأمَّا كتاب الله وقوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا) [الزمر: 23] ، وقوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة: 4] فجعل الحديث والخبر واحدًا. وقال تعالى: (نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) [التوبة: 94] وهى الأشياء التى كانت منهم. وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) [البروج: 17] ،) وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) [النساء: 42] . قال أبو جعفر الطحاوى: وكأن المراد فى هذا كله، أن الخبر(1/140)
والحديث واحد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت حدثونى عن شجرة مثلها مثل المؤمن -، وقال: تمت ألا أخبركم بخير دور الأنصار -، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أخبرنى تميم الدارى -، فذكر قصة الدَّجال.
5 - باب طَرْحِ الإمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
/ 4 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِى مَا هِىَ -؟ قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِىَ، قَالَ: تمت هِىَ النَّخْلَةُ -. قال المهلب: معنى طرح المسائل على التلاميذ لترسخ فى القلوب وتثبت، لأن ما جرى منه فى المذاكرة لا يكاد ينسى. وفيه: ضرب الأمثال بالشجر وغيرها، وشبه (صلى الله عليه وسلم) النخلة بالمسلم، كما شبهها الله فى كتابه، وضرب بها المثل للناس، فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء (يعنى النخلة التى) تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم: 26] ، وكذلك المسلم يأتى الخير كل حين من الصلاة، والصوم، وذكر الله تعالى، فكأن الخير لا ينقطع منه، فهو دائم كما تدوم أوراق النخلة فيها، ثم الثمر الكائن منها فى أوقاته.(1/141)
6 - باب الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ
، وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِىُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ -، قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ، يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلانٌ، وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ، فَيَقُولُ الْقَارِئُ: أَقْرَأَنِى فُلانٌ. وَقَالَ: سُفْيَانَ وَمَالِكٍ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ. / 5 - فيه: أَنَس، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ - وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ - فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ (صلى الله عليه وسلم) : تمت قَدْ أَجَبْتُكَ -، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : إِنِّى سَائِلُكَ، فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِى الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدْ عَلَىَّ فِى نَفْسِكَ، فَقَالَ: تمت سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ -، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -،(1/142)
قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا، فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت اللَّهُمَّ نَعَمْ -، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِى مِنْ قَوْمِى، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. واختلف العلماء فى هذا الباب، فذهب الجمهور إلى أن القراءة على العالم وقراءته سواء فى استباحة الرواية وجوازها، وهو قول مالك والكوفيين، إلا أن مالكًا استحب القراءة على العالم. ذكر الدارقطنى فى كتاب الرواة عن مالك، عن محمد بن المحبر بن على الرعينى، لما قدم هارون الرشيد المدينة، حضر مالك بن أنس، فسأله أن يسمع منه محمد الأمين والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين، فقال: العلم يؤتى أهله ويوقر، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا إليه، فساروا إليه هم ومؤدبهم، فسألوه أن يقرأ هو عليهم فأبى، وقال: إن علماء هذا البلد، قالوا: إنما يُقرأ على العالم ويفتيهم مثل ما يُقرأ القرآن على المعلم ويرد.(1/143)
سمعت ابن شهاب - بحر العلماء - يحكى عن سعيد، وأبى سلمة، وعروة، والقاسم، وسالك أنهم كانوا يقرءون على العلماء. وذكر الدارقطنى عن كادح بن رحمة، قال: قال مالك بن أنس: العرض خير من السماع وأثبت. وقالت طائفة: نقول فى العرض والقراءة على العالم: أخبرنا ولا يجوز أن نقول: حدثنا، إلا فى ما سمعت من لفظ العالم. وذهب قوم فيما قُرئ على العالم فأقرَّ به أن يقول فيه: قرئ على فلان، ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، ولا وجه لهذين القولين، والقول الأول هو الصحيح، لأن ضمام بن ثعلبة قرأ على النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأخبر بذلك قومه فأجازوه. وما احتج مالك فى الصَّك يقرأ على القوم فيقولون: أشهدنا حجة قاطعة، لأن الإشهاد أقوى حالات الإخبار، وكذلك القراءة على المقرئ. وفى حديث ضمام: قبول خبر الواحد، لأن قومه لم يقولوا له: لا نقبل خبرك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى يأتينا من طريق آخر. وفيه: جواز إدخال البعير فى المسجد، وعقله فيه، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذا لا يُؤمن ذلك فى البعير مدة كونه فى المسجد. وفيه: جواز تسمية الأَدْوَن للأعلى دون أن يكنيه، ويناديه بحطة إلا أن ذلك منسوخ فى الرسول لقوله: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا) [النور: 63] .(1/144)
قال أبو الزناد: وفيه جواز الاتكاء بين الناس فى المجالس. وقال غيره: وقولهم: تمت هذا الأبيض - يجوز أن يُعرَّف الرجل بصفته من البياض والحمرة، والطول والقصر. وقال أبو الزناد: وقوله: تمت إنى سائلك فمشدد عليك -، فيه من الفقه أن يقدم الإنسان بين يدى حديثه مقدمة يعتذر فيها، ليحسن موقع حديثه عند المحدث ويصبر له على ما يأتى منه، وهو من حسن التوصل. قال المهلب: وقوله: تمت أسألك بربك - فيه جواز الاستحلاف على الحق ليحكم باليقين. وقد قال على: ما حدثنى أحد إلا استحلفته، فإذا حلف لى صدقته إلا أبو بكر، وحدثنى أبو بكر، وصدق أبو بكر. وقد جاء فى كتاب الله الحلف على الخبر فى ثلاثة مواضع: قال الله: (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس: 53] ، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ: 3] ، وقال: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن: 7] . قال المؤلف: فوافق هذا الأعرابى مذهب علىِّ فى تصديقه من حلف له على خبره، فكيف وقد كان النبى (صلى الله عليه وسلم) عندهم فى الجاهلية معروفًا بالصدق فى أحاديث الناس، فلم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله كما قال هرقل لأبى سفيان، وجعل ذلك من دلائل نبوته، فلذلك صَدَّقَهُ ضمام.(1/145)
7 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَان
وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ. وَرَأَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِى الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) حَيْثُ كَتَبَ لأمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا، وَقَالَ: تمت لا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا -. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . / 6 - فيه: ابن عَبَّاس، أَنَّ النّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ [أَنَّ] ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. / 7 - وفيه: أَنَس، كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كِتَابًا - أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ - فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: تمت مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -. قال المؤلف: فيه أن المناولة تجرى مجرى الرواية، ألا ترى أن أمير السرية ناوله كتابه، وأمر بقراءته على الناس، وجاز له الإخبار بما فيه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وفيه أن الذين قُرئ عليهم الكتاب يجوز أن يرووه عن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن كتابه إليهم يقوم مقامه، وجائز للرجل أن يقول: حدثنى فلان إذا كتب إليه، والمناولة فى معنى الإجازة، واختلف العلماء فى الإجازة، فأجازها قوم، وكرهها آخرون.(1/146)
وذكر ابن أبى خيثمة، عن ابن معين، قال: حدثنا ضمرة، عن عبد الله بن عمر، قال: كنت أرى الزهرى يأتيه الرجل بالكتاب لم يقرأه عليه، ولم يُقرأ عليه، فيقول له: أروى عنك؟ فيقول: نعم. وهذا معناه أنه كان يعرف ثقة صاحبه، ويعرف أنه من حديثه، وإنما كره الإجازة من كرهها، خشية أن يُحدث الذى أجيز له عن العالم بما ليس فى حديثه، أو ينقص من إسناد الحديث أو يزيد فيه. وروى ابن وهب، وابن القاسم، عن مالك أنه سُئل عن الرجل يقول له العالم: هذا كتابى فاحمله عنى، وحدث بما فيه عنى، قال: لا أرى هذا يجوز، ولا يعجبنى، لأن هؤلاء إنما يريدون الحمل الكثير بالإقامة اليسيرة، فلا يعجبنى ذلك. وفى حديث ابن عباس: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) بعث بكتابه رجلاً، ففقْهُ ذلك: أن الرجل الواحد يجزئ حمله لكتاب الحاكم إلى حاكم آخر إذا لم يشك الحاكم فى الكتاب ولا أنكره، كما لم ينكر كسرى كتاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا شك فيه، وليس من شرط ذلك أن يحمله شاهدان كما يصنع اليوم القضاة والحكام، وإنما حمل الحكام على شاهدين فى ذلك لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط، ونقوش الخواتم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين. وسيأتى زيادة على هذا المعنى فى باب الشهادة على الخط، وكتاب الحاكم إلى عامله، وكتاب القاضى إلى القاضى فى كتاب الأحكام، إن شاء الله. وفى حديث ابن عباس: بركة دعوة الرسول، لأنه استجيب فى كسرى وطائفته، فمزقوا كل ممزق.(1/147)
وفى حديث أنس: أن ختم كتب السلطان والقضاة والحكام، سُنَّة متبعة، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا خوفًا على كشف أسرارهم، وإذاعة تدبيرهم، فصار الختم للكتاب سُنَّة بفعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) . وقيل فى قوله: (إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) [النمل: 29] إنه كان مختومًا.
8 - باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِى بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
/ 8 - فيه: أَبُو وَاقِد اللَّيْثِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ، فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال المهلب: فيه من الفقه: أن من جلس إلى حلقة فيها علم - أو ذكر - أنه فى كنف الله وفى إيوائه، وهو ممن تضع له الملائكة أجنحتها، وكذلك يجب على العالم أن يُؤوى من جلس إليه متعلمًا لقوله: تمت فآواه الله -. وفيه من الفقه أن من قصد العلم، ومجالسه، فاستحيا ممن قصده،(1/148)
ولم يمنعه الحياء من التعلم، ومجالسة العلماء، أن الله يستحى منه فلا يعذبه جزاء استحيائه. وقد قالت عائشة: تمت نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين -، فالحياء المذموم فى العلم هو الذى يبعث على ترك التعلم. وفيه أيضًا أن من قصد العلم ومجالسه، ثم أعرض عنها، فإن الله يعرض عنه، ومن أعرض الله عنه فقد تعرض لسخطه، ألا ترى قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِىَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) [الأعراف: 175] ، وهذا انسلخ من إيواء الله بإعراضه عنه.
9 - باب قَوْلِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) : رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ
- / 9 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَعَدَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ بِزِمَامِهِ - قَالَ: تمت أَىُّ يَوْمٍ هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيَرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ بَيَوْمَ النَّحْرِ -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ بِذِى الْحِجَّةِ -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَأَىُّ بَلد هَذَا -؟ فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: تمت أَلَيْسَ البلدة -؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: تمت فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ -.(1/149)
قال المهلب: فيه من الفقه: أن العالم واجب عليه تبليغ العلم لمن لم يبلغه، وتبيينه لمن لا يفهمه، وهو الميثاق الذى أخذه الله، عزَّ وجلَّ، على العلماء ليُبيننَّهُ للناس ولا يكتمونه. قال المؤلف: وسيأتى بعض شرح هذا المعنى فى باب قوله: ليبلغ الشاهد الغائب بعد هذا، إن شاء الله. قال المهلب: وفيه أنه قد يأتى فى آخر الزمان من يكون له من الفهم فى العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون فى الأقل، لأن تمت رُبّ - موضوعة للتقليل، وتمت عسى - موضوعة للطمع، وتمت ليست - لتحقيق الشىء. وفيه: أن حامل الحديث والعلم يجوز أن يُؤخذ عنه وإن كان جاهلاً معناه، وهو مأجور فى تبليغه، محسوب فى زمرة أهل العلم، إن شاء الله. وقال أبو الزناد: وفيه جواز القعود على ظهور الدواب، إذا احتيج إلى ذلك، ولم يكن لأَشَرٍ، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تتخذوا ظهور الدواب مجالس -، وإنما خطب على البعير ليُسمع الناس، وإنما أمسك إنسان بخطامه ليتفرغ للحديث، ولا يشتغل بإمساك البعير. قال المهلب: وفيه أن ما كان حرامًا، فيجب على العالم أن يؤكد حرمته، ويغلظ فى التحظير عليه بأبلغ ما يجد، بالمعنى، والمعنيين، والثلاثة، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) فى قوله: تمت كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا -.(1/150)
- باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
لِقَوْلِ اللَّهِ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) [محمد: 19] فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وَقَالَ: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43] ) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10] وَقَالَ: (هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9] . وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ -، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّى أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَىَّ لأنْفَذْتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران: 79] حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِىُّ الَّذِى يُرَبِّى النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. قال المهلب: العمل لا يكون إلا مقصودًا لله معنًى متقدمًا، وذلك المعنى هو علم ما وعد الله عليه من الثواب وإخلاص العمل لله تعالى، فحينئذٍ يكون العمل مرجوَّ النفع إذ تقدمه العلم، ومتى خلا العمل من النية، ورجاء الثواب عليه، وإخلاص العمل لله تعالى، فليس بعمل، وإنما هو كفعل المجنون الذى رُفِعَ عنه القلم. وقد بيَّن ذلك (صلى الله عليه وسلم) ، بقوله: تمت الأعمال بالنيات -.(1/151)
قال: وإنما سمى العلماء ورثة الأنبياء، لقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا) [فاطر: 32] . قال أبو الزناد: وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت أتيت بقدح لبن فشربت، ثم أَعْطَيْتُ فضلى عمر بن الخطاب -، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: تمت العلم -. وقول أبى ذر: تمت لو وضعتم الصمصامة على هذه، ثم ظننت أنى أنفذُ كلمةً سمعتها من النبى (صلى الله عليه وسلم) - فإنه يعنى ما سمع من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الفرائض، والسنن، وما ينتفع الناس به فى دينهم مما أخذ الله به الميثاق على العلماء ليُبيننه للناس ولا يكتمونه، وإنما أراد أبو ذرٍ بقوله هذا الحضَّ على العلم والاغتباط بفضله، حين سهل عليه قتل نفسه فى جنب ما يرجو من ثواب نشره وتبليغه. ففى هذا من الفقه أنه يجوز للعالم أن يأخذ فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالشدة، والعزيمة مع الناس، ويحتسب ما يصيبه فى ذلك على الله تعالى، ومباح له أن يأخذ بالرخصة فى ذلك، ويسكت إذا لم يطق على حمل الأذى فى الله، كما قال أبو هريرة: لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله لَقُطِعَ هذا البلعوم. وقال صاحب العين: تمت الربانى - نسبة إلى معرفة الربوبية.(1/152)
- باب مَا كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَىْ لا يَنْفِرُوا
/ 10 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: تمت كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأيَّامِ كَرَاهَيَة السَّآمَةِ عَلَيْنَا -. / 11 - وفيه: أَنَسِ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا -.
- باب مَنْ جَعَلَ لأهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً
/ 12 - فيه: أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِى كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، لَوَدَدْنَا أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا فِى كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِى مِنْ ذَلِكَ أَنِّى أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّى أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. قال ابن السكيت: معنى قوله: تمت يتخولنا بالموعظة - أى يصلحنا ويقوم علينا بها، ومنه قول العرب: إنه لخال مال، وخائل مال، وقد خال المال يخوله: أحسن القيام عليه. قال أبو الزناد: أراد (صلى الله عليه وسلم) الرفق بأمته ليأخذوا الأعمال بنشاط وحرص عليها، وقد وصفه الله بهذه الصفة، فقال: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128] .(1/153)
ومثل هذا الحديث: أمره (صلى الله عليه وسلم) أن لا يصلى أحد وهو ضام بين وركيه، وقوله: تمت ابدءوا بالعَشاء قبل الصلاة -، لئلا يشتغل عن الإقبال على الصلاة، وإخلاص النية فيها. وفى حديث عبد الله: ما كان عليه الصحابة من الاقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) والمحافظة على استعمال سُننه على حسب معاينتهم لها منه، وتجنب مخالفته لعلمهم بما فى موافقته من عظيم الأجر، وما فى مخالفته من شديد الوعيد والزجر.
- باب مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ
/ 13 - فيه: مُعَاوِيَةَ، سَمِعْتُ الرسول يَقُولُ: تمت مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ -. فيه فضل العلماء على سائر الناس. وفيه فضل الفقه فى الدين على سائر العلوم، وإنما ثبت فضله، لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28] وقال ابن عمر - للذى قال له: فقيه -: إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة. ولمعرفة العلماء بما وعد الله به الطائعين، وأوعد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده اشتدت خشيتهم.(1/154)
وقوله: تمت إنما أنا قاسم - يدل على أنه لم يستأثر من مال الله دونهم، وكذلك قوله: تمت مالى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم -، وإنما قال: تمت إنما أنا قاسم -، تطييبًا لنفوسهم، لمفاضلته فى العطاء. وقوله: تمت والله يعطى -، أى والله يعطيكم ما أقسمه عليكم لا أنا، فمن قسمت له قليلاً فذلك بقدر الله له، ومن قسمت له كثيرًا بقدرٍ أيضًا، وبما سبق له فى أمِّ الكتاب، فلا يزاد أحدٌ فى رزقه، كما لا يزاد أحدٌ فى أجله. وقوله: تمت ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله -، يريد أن أمته آخر الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضعف الدين، فلابد أن يبقى من أمته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: تمت لا يضرهم من خالفهم -، وفيه أن الإسلام لا يذل، وإن كثر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد الله الله -، وروى ابن مسعود، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تقوم الساعة إلا على(1/155)
شرار الناس -، رواه شعبة، عن على بن الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبرى: ولا معارضة بينهما بحمد الله، بل يحقق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خرج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحق، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا، لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحق التى توحد الله التى هى شرار الناس. فثبت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحق مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا فى حديث أبى أمامة الباهلى، وحديث عمران بن حصين، قال الطبرى: حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، عن عمرو بن عبد الله الحمصى، عن أبى أمامة الباهلى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم -، قيل: فأين هى يا رسول الله؟ قال: تمت ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس -. وروى قتادة عن مطرف بن الشخير، عن عمران بن حصين، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال -. قال مطرف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام.
- باب الْفَهْمِ فِى الْعِلْمِ
/ 14 - فيه: مُجَاهِدٍ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النِّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِلا حَدِيثًا وَاحِدًا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَأُتِىَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: تمت إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ -، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت هِىَ النَّخْلَةُ -.(1/156)
قال المؤلف: التفهم للعلم هو التفقه فيه، ولا يتم العلم إلا بالفهم، وكذلك قال على: والله ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجل مؤمن. فجعل الفهم درجة أخرى بعد حفظ كتاب الله، لأن بالفهم له تبين معانيه وأحكامه. وقد نفى (صلى الله عليه وسلم) العلم عمن لا فهم له بقوله: تمت رب حامل فقهٍ لا فقه له -. وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله فى القلوب، يعنى بذلك فهم معانيه واستنباطه. فمن أراد التفهم فليحضر خاطره، وبفرغ ذهنه، وينظر إلى نشاط الكلام، ومخرج الخطاب، ويتدبر اتصاله بما قبله، وانفصاله منه، ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، ولا يتم ذلك إلا لمن علم كلام العرب، ووقف على أغراضها فى تخاطبها وأُيِّدَ بِجَوْدَةِ قريحة، وثاقب ذهن، ألا ترى أن عبد الله بن عمر فهم من نشاط الحديث فى نفس القصة أن الشجرة هى النخلة، لسؤاله (صلى الله عليه وسلم) لهم عنها حين أُتى بالجمار، وقوى ذلك عنده بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ) [إبراهيم: 24] . وقال العلماء: هى النخلة، شبهها الله بالمؤمن. وقول مجاهد: تمت إنه صحب ابن عمر إلى المدينة، فلم يحدّث(1/157)
إلا حديثًا واحدًا -، فذلك، والله أعلم، لأنه كان متوقِّيًا للحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وقد كان عَلِمَ قول أبيه، رضى الله عنهما: أَقِلُّو الحديث عن رسول الله، وأنا شريككم.
- باب الاغْتِبَاطِ فِى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ
وَقَالَ عُمَرُ، رضِى اللَّه عنه: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا / 15 - فيه: ابن مَسْعُودٍ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهُوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا -. قال المفسر: هذا الحسد الذى أباحه (صلى الله عليه وسلم) ليس من جنس الحسد المذموم، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) ذلك فى بعض طرق هذا الحديث، فقال فيه: تمت فرآه رجل - يعنى ينفق المال ويتلو الحكمة، فيقول: ليتنى أوتيت مثل ما أوتى ففعلت مثل ما يفعل، فلم يتمنَّ أن يسلب صاحب المال ماله، أو صاحب الحكمة حكمته، وإنما تمنى أن يصير فى مثل حاله، من تفعّل الخير، وتمنى الخير والصلاح جائز وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار، ولهذا المعنى ترجم البخارى لهذا الباب باب الاغتباط فى العلم والحكمة، لأن من أوتى مثل هذه الحال فينبغى أن يغتبط بها وينافس فيها. وفيه من الفقه أن الغنى إذا قام بشروط المال، وفعل فيه ما يرضى الله، فهو أفضل من الفقير الذى لا يقدر على مثل حاله. وقول عمر: تمت تفقهوا قبل أن تسودوا -، فإن من سوده الناس يستحيى أن يقعد مقعد المتعلم خوفًا على رئاسته عند العامة.(1/158)
وقال مالك: كان الرجل إذا قام من مجلس ربيعة إلى خطبة أو حكم، لم يرجع إليه بعدها. وقال يحيى بن معين: من عاجل الرئاسة فاته علم كثير.
- بَاب مَا ذُكِرَ فِى ذَهَابِ مُوسَى (صلى الله عليه وسلم) فِى الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ
وَقَوْلِهِ: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66] / 16 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِىُّ فِى صَاحِبِ مُوسَى، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّى تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِى هَذَا فِى صَاحِبِ مُوسَى الَّذِى سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ: تمت بَيْنَمَا مُوسَى فِى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ -. وذكر الحديث. فيه: من الفقه السفر والرحلة فى طلب العلم فى البرِّ والبحر. وقد ترجم له بذلك، وزاد فيه: تمت أن جابر بن عبد الله رَحَلَ مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى حديث واحد، يعنى حديث الستر على المسلم -.(1/159)
وفيه: جواز التمارى فى العلم إذا كان كل واحدٍ يطلب الحقيقة ولم يكن متعنتًا. وفيه: الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع. وفيه: أنه يجب على العالم الرغبة فى التزيد من العلم، والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، كما فعل موسى ولم يكتف بعلمه. وفيه: أنه يجب على حامل العلم لزوم التواضع فى علمه، وجميع أحواله، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه. وفيه: حمل الزاد وإعداده فى السفر بخلاف قول الصوفية.
- باب قَوْلِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
- / 17 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، ضَمَّنِى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ -. والكتاب هاهنا القرآن عند أهل التأويل، قالوا: كل موضع ذكر الله فيه الكتاب فالمراد به القرآن. وفيه: بركة دعوة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لأن ابن عباس كان من الأخيار الراسخين فى علم القرآن والسنة، أجيبت فيه الدعوة. وفيه: الحض على تعلم القرآن والدعاء إلى الله فى ذلك. وروى البخارى هذا الحديث فى فضائل الصحابة، وقال فيه: تمت اللهم علمه الحكمة -، ووقع فى كتاب الوضوء: تمت اللهم فقه فى الدين -، وتأوَّل جماعة من الصحابة والتابعين فى قوله تعالى:(1/160)
) يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيراً) [البقرة: 269] . وتأولوا فى قوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران: 48] أنها السنة التى سنها الرسول بوحى من الله، وكلا التأويلين صحيح، وذلك أن القرآن حكمة أحكم الله فيه لعباده حلاله وحرامه، وبَيَّن لهم فيه أمره ونهيه، فهو كما وصفه تعالى فى قوله: (وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) [القمر: 4، 5] وكذلك سنن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حكمة، فصل بها بين الحق والباطل، وبيَّن لهم مجمل القرآن، ومعانى التنزيل، والفقه فى الدين، فهو كتاب الله وسنة نبيه، (صلى الله عليه وسلم) ، فالمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
- باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟
/ 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تمت أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ - وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّى بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَىْ بَعْضِ الصَّفوف، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِى الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَىَّ -. / 19 - وفيه: مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: تمت عَقَلْتُ مِنَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) مَجَّةً مَجَّهَا فِى وَجْهِى وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ -. قال صاحب العين: مَجَّ الشَراب من فيه: رمى به.(1/161)
وقال المهلب: فيه جواز سماع الصغير وضبطه للسُّنن. وفيه: جواز شهادة الصبيان بعد أن يكبروا، فيما علموه فى حال الصغر. وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: أخرج البخارى فى هذا الباب حديث ابن عباس، ومحمود بن الربيع، وأصغر سنا منهما عبد الله بن الزبير، ولم يخرجه يوم رأى أباه يختلف إلى بنى قريظة فى غزوة الخندق، فقال لأبيه: يا أبتاه، رأيتك تختلف إلى بنى قريظة، فقال: يا بنى إن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمرنى أن آتيه بخبرهم، والخندق على أربع سنين من الهجرة، وعبد الله أول مولود ولد فى الهجرة. قال المهلب: فيه أن التقدم إلى القعود لسماع الخطبة، إذا لم يضر أحدًا، والخطيب يخطب، جائز بخلاف إذا تخطى رقابهم. وفيه: أن الصاحب إذا فعل بين يدى الرسول شيئًا ولم ينكره، فهو حجة يُحكم به. وفيه: جواز الركوب إلى صلاة الجماعة والعيدين. وفيه: أن الإمام يجوز أن يصلى إلى غير سُترة، وذلك يدل أن الصلاة لا يقطعها شىء. وسيأتى اختلاف العلماء فى المرور بين يدى المصلى، فى كتاب الصلاة، إن شاء الله.(1/162)
- باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
/ 20 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ -. وَقَالَ إِسْحَاقُ: تمت قَيَّلَتِ الْمَاءَ -، مكان تمت قَبِلَت -. قال المهلب: فيه ضرب الأمثال فى الدين، والعلم، والتعليم. وفيه: أنه لا يقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قبله نقيا من الإشراك والشك. فالتى قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطشة إليه، فهى تنتفع به فتحيا فتنبت. فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم حَيَتْ به، فعملت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه. ومن الناس من قلوبهم متهيئة لقبول العلم لكنها ليس لها رسوخ، فهى تقبل وتمسك حتى يأتى متعطش فيروىَ منها ويَرِدُ على(1/163)
منهل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتنبت وتثمر، وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه. تمت ومنها قيعان - يعنى قلوبًا تسمع الكلام، فلا تحفظه، ولا تفهمه، فهى لا تنتفع به، ولا تنبت شيئًا، كالسِّباخ المالحة التى لا تمسك الماء ولا تنبت كلأ. وكان يصلح أن يُخرج تحت هذه الترجمة قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت خيركم من تعلم القرآن وعلمه -. وقوله: تمت أجادب - جمع جدب على غير لفظه، وكان القياس أن يكون جمع تمت أجدب - لو قيل، وقد جاء مثل هذا كثير، قالوا: محاسن جمع حسن، وكان القياس أن يكون جمع تمت محسن - لو قيل. وقالوا: متشابه جمه تمت شبه - على غير لفظه، وكان القياس أن يكون مشتبه. وقول إسحاق: تمت قيَّلت الماء مكان قبلت - فهو تصحيف وليس بشىءٍ.
- باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ
وَقَالَ رَبِيعَةُ: لا يَنْبَغِى لأحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ. / 21 - وفيه: أَنَس، قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِى، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت إِن مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ -. يحتمل(1/164)
قول أنس: تمت لا يحدثكم أحدٌ بعدى -، أن يكون لأجل طول عمره، وأنه لم يبق من أصحاب النبى غيره، ويمكن أن يكون قاله لما رأى من التغيير ونقص العلم، فوعظهم بما سمع من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى نقص العلم أنه من أشراط الساعة، ليحضهم على طلب العلم، ثم أتى بالحديث على نصه. ومعنى قول ربيعة: أن من كان له قبول للعلم وفهم له، فقد لزمه من فرض طلب العلم ما لا يلزم غيره، فينبغى له أن يجتهد فيه، ولا يضيع طلبه فيضيع نفسه.
- باب فَضْلِ الْعِلْمِ
/ 22 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) يقول: تمت بَيْنَما أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ، حَتَّى إِنِّى لأرَى الرِّىَّ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِى، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالُوا: مَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ -. وقد تقدم فى أول تمت كتاب العلم - من فضل العلم ما يرغب فى طلبه، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى تمت كتاب الرؤيا - إن شاء الله.
- باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا
/ - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، تمت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: تمت اذْبَحْ وَلا حَرَجَ. وَجَاءَ آخَرُ. . . - الحديث.(1/165)
فيه من الفقه: أن العالم يجوز سؤاله راكبًا وماشيًا، وواقفًا، وعلى كل أحواله، وقد تقدم أن الجلوس على الدابة للضرورة جائز، كما كان جلوسه (صلى الله عليه وسلم) عليها فى حجته ليشرف على الناس، ولا يخفى عليهم كلامه لهم. وترجم البخارى لهذا الحديث بعد هذا الباب. 23 - باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ / 24 - وذكر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تمت أَنَّ نَبِىُّ اللَّهِ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ، وزاد فيه، فَأَوْمَأَ الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، بِيَدِهِ، وَقَالَ: وَلا حَرَجَ -. / 25 - وذكر: حديث أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت يَكْثُرُ الْهَرْجُ - قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا - كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ. / 26 - وذكر: حديث أَسْمَاءَ فى الْكُسُوفِ: وأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَن نَعَمْ - وذكر الحديث. ففى حديث ابن عباس، وأبى هريرة الإشارة باليد عند الفتوى وفى حديث أسماء الإشارة بالرأس، كما ترجم. قال أبو الزناد فيه من الفقه: أن الرجل إذا أشار بيده أو برأسه، أو بشىء يفهم به إشارته أنه جائز عليه. وفيه: حجة لمالك فى إجازة لعان المرأة الصماء البكماء ومبايعتها ونكاحها، إذ الإشارة تقوم مقام الكلام، ويفهم بها المعنى المقصود، وسيأتى فى كتاب الطلاق، فى باب الإشارة فى الطلاق والأمور، اختلف الفقهاء فى ذلك، ويأتى شىء منه أيضًا فى باب اللعان، إن شاء الله.(1/166)
وفى حديث أسماء أن المؤمنين فى قبورهم، وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان، لأنه لا يمثل به إلا مخلوق.
- باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَفْدَ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ لَنَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ -. / 27 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: تمت إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوُا النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نصل إليك إِلا فِي الشَهْرٍ الحَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. . . -، وذكر الحديث، وَقَالَ: تمت احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوا بهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ -. فيه من الفقه: أن من علم علمًا يلزمه تبليغه لمن لا يعلمه، وهو اليوم من فروض الكفاية، لظهور الإسلام وانتشاره، وأما فى أول الإسلام فكان فرضًا معينًا على كل من علم علما أن يبلغه، حتى يكمل الإسلام ويظهر على جميع الأديان، ويبلغ مشارق الأرض ومغاربها، كما أنذر به أمته (صلى الله عليه وسلم) ، فلزم العلماء فى بدء الإسلام من فرض التبليغ فوق ما يلزمهم اليوم. وفيه: أنه يلزم المؤمن تعليم أهله الإيمان، والفرائض لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وأخبروا به من وراءكم -، ولقوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] ، ولأن الرجل راع على أهله ومسئول(1/167)
عنهم، وقد تقدم الكلام فى حديث وفد عبد القيس فى باب أداء الخمس من الإيمان فى آخر كتاب الإيمان فأغنى عن إعادته، وسيأتى شىء منه فى باب خبر الواحد إن شاء الله.
- باب الرِّحْلَةِ فِى الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ، وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ
/ 28 - فيه: عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِى إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِى تَزَوَّجَ بِهَا، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِى، وَلا أَخْبَرْتِنِى، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ -؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. فيه: الرحلة فى المسألة النازلة، كما ترجم، وهذا يدل على حرصهم على العلم، وإيثارهم ما يقربهم إلى الله تعالى والازدياد من طاعته عز وجل لأنهم إنما كانوا يرغبون فى العلم للعمل به، ولذلك شهد الله لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس. وقال الشعبى: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما بقى من عمره، لم أَرَ سفره يضيع. فيه: فضل المدينة، وأنها معدن العلم، وإليها كان يفزع فى العلم من سائر البلاد. وسيأتى الكلام فى حديث عقبة فى كتاب الرَّضاع، والبيوع وغيره، إن شاء الله.(1/168)
- باب التَّنَاوُبِ فِى الْعِلْمِ
/ 29 - فيه: عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. . - وذكر الحديث. فيه: الحرص على طلب العلم. وفيه: أن لطالب العلم أن ينظر فى معيشته وما يستعين به على طلب العلم. وفيه: قبول خبر الواحد. وفيه: أن الصحابة كان يخبر بعضهم بعضًا بما يسمع من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ويقولون: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ويجعلون ذلك كالمسند، إذ ليس فى الصحابة من يكذب، ولا غير ثقةٍ. هذا قول طائفة من العلماء، وهو قول من أجاز العمل بالمراسيل، وبه قال أهل المدينة، وأهل العراق. وقالت طائفة: لا نقبل مرسل الصاحب، لأنه مرسل عن صاحب مثله، وقد يجوز أن يسمع ممن لا يضبط كوافد وأعرابى لا صحبة له، ولا تعرف عدالته، ألا ترى أن عمر لما وَقَّف أبا هريرة على روايته عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له -، قال: لا علم لى بذلك، وإنما أخبرنيه مخبر، هذا قول الشافعى، واختاره القاضى ابن الطيب.(1/169)
- باب الْغَضَبِ فِى الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ
/ 30 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِىِّ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غَضب فِى مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: تمت أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ -. / 31 - وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: تمت اعْرِفْ وِكَاءَهَا، أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ -، قَالَ: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوْ قَالَ: وَجْهُهُ، وَقَالَ: تمت مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا. . . -، وذكر الحديث. / 32 - وفيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ: سُئِلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: تمت سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ -، قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى؟ قَالَ: تمت أَبُوكَ حُذَافَةُ -، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: تمت أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ -، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وترجم لهذا الحديث: 28 - باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ وذكر باقى الحديث. قال أبو الزناد: قول الرجل: تمت لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان - يدل أنه كان رجلاً مريضًا أو ضعيفًا، فكان إذا طوَّل به الإمام فى القيام لا يكاد يبلغ الركوع والسجود، إلا وقد زاد ضعفًا عن(1/170)
اتباعه، فلا يكاد يركع معه ولا يسجد، وإنما غضب عليه، لأنه كره التطويل فى الصلاة من أجل أن فيهم المريض، والضعيف وذا الحاجة، فأراد الرفق والتيسير بأمته، ولم يكن نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن الطول فى الصلاة من أجل أنه لا يجوز ذلك، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) يصلى فى مسجده، ويقرأ بالسور الطوال، مثل سورة يوسف وغيرها، وإنما كان يفعل هذا، لأنه كان يصلى معه جلةُ أصحابه، ومن أكثر همه طلب العلم والصلاة، وكذلك غضبه حين سُئل عن ضالة الإبل، لأنه لا يخشى عليها ضياع، ففارق المعنى الذى أُبيح من أجله أخذ اللقطة، وهو خوف تلفها. وقول الرجل للرسول: تمت مَنْ أَبِى -؟ فإنما سأله عن ذلك، والله أعلم، لأنه كان نُسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدًا فنسبه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلى أبيه. وفيه: فهم عمر وفضل علمه، لأنه خشى أن يكون كثرة سؤالهم له كالتعنيت له، والشَّك فى أمره (صلى الله عليه وسلم) ألا ترى قول عمر: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فخاف أن تحل بهم العقوبة، لتعنيتهم له (صلى الله عليه وسلم) ولقول الله تعالى: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] . وقد جاء معنى هذا الحديث بَيِّنًا عن ابن عباس، قال: تمت كان قوم يسألون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استهزاءً، فيقول الرجل: من أبى؟ ويقول الرجل يَضل ناقته: أين ناقتى؟ فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ (الآية كلها، ذكره البخارى فى تفسير القرآن.(1/171)
وفيه: أنه لا يجب أن يُسأل العالم إلا فيما يحتاج إليه. وفى بروك عمر عند النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الاستجداء للعالم، والتواضع له، وسيأتى حديث ابن حذافة فى باب التعوذ من الفتنة فى كتاب الفتن، وفى باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنى فى كتاب الاعتصام. فيه شىء من الكلام فى معناه.
- باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا يَزَالَ يُكَرِّرُهَا
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت هَلْ بَلَّغْتُ -، ثَلاثًا. / 33 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا، حَتَّى يُفْهَمَ عَنْهُ، فَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاثًا. / 34 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا، وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلاةَ، صَلاةَ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا. قال أبو الزناد: إنما كان يكرر الكلام ثلاثًا، والسلام ثلاثًا(1/172)
إذا خشى أن لا يفهم عنه، أو لا يسمع سلامه، أو إذا أراد الإبلاغ فى التعليم، أو الزجر فى الموعظة. وفيه: أن الثلاث غاية ما يقع به البيان والإعذار به.
30 - باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ
/ 35 - فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: تمت ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يطأها فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ -. ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِىِّ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وقَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت مؤمن أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين - هو كقوله: تمت إذا أسلم فحسن إسلامه كتبت له كل حسنة كان ذلفها -، وكقوله لحكيم بن حزام: تمت أسلمت على ما سلف من خير -، والعبد المملوك له أجر عبادته لله، تعالى، وأجر طاعته لسيده، وتحمله مضض العبودية، والإذعان لحقوق الرق، والذى يعتق أمته فيتزوجها فله أجر العتق والتزويج، وأجر التأديب والتعليم. ومن فعل هذا فهو مفارق للكبر، آخذ بحظٍ وافرٍ من التواضع، وتارك للمباهاة بنكاح ذات شرفٍ ومنصب.(1/173)
وقول الشعبى: تمت أعطيناكها بغير شىء -، فيه أن للعالم أن يُعرِّف المتعلم منه قدر ما أفاده من العلم، وما خصه به، ليكون ذلك أدعى لحفظه، وأجلب لحرصه. وقوله: تمت وقد كان يرحل فى مثلها إلى المدينة - فيه إثبات فضل المدينة، وأنها معدن العلم وموطنه، وإليها كان يرحل فى طلبه ويقصد فى التماسه. فإن احتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت ثم أعتقها فتزوجها - من قال: إن عتق الأمة صداقها. فيقال له: إن الأمة لما عتقت لحقت بالحرائر. فكما لا يجوز أن تتزوج حرة غير معتقة دون صداق، كذلك لا يجوز أن تتزوج المعتقة بغير صداق، لأن الصداق من فرائض النكاح وإنما لم يذكر فى الحديث للعلم به.
31 - باب عِظَةِ الإمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ
/ 36 - فيه: ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الرَسُولَ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلالٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ النساء، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ.(1/174)
فيه: أنه يجب على الإمام افتقاد أمور رعيته، وتعليمهم ووعظهم، الرجال والنساء فى ذلك سواء، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت الإمام راع ومسئول، ثم عن رعيته - فدخل فى ذلك الرجال والنساء، وأمر النساء بالصدقة لما رآهن أكثر أهل النار، ففيه دليل أن الصدقة تنجى من النار. وقيل: إنما أمرهن بالصدقة، لأنه كان وقت حاجة إلى المواساة، وكانت الصدقة يومئذ أفضل وجوه البِرّ.
32 - باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ
/ 37 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِى عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ -. قال المهلب: فيه أن الحريص على الخير والعلم يبلغ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل، ودقيق المعانى، لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافة يستوى الناس فى السؤال عنها، لاعتراضها فى أفكارهم، وما غمض من المسائل، ولطف من المعانى، لا يسئل عنها إلا راسخ بَحَّاث، يبعَثُه على ذلك الحرص، فيكون ذلك سببًا إلى إثارة فائدة يكون له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.(1/175)
وفيه: أن للعالم أن يتفرس فى متعلميه، فيظن فى كل واحد مقدار تقدمه فى فهمه، وأن ينبهه على تفرسه فيه، ويعرفه ذلك، ليبعثه على الاجتهاد فى العلم والحرص عليه. وفيه: أن للعالم أن يسكت إذا لم يسأل عن العلم حتى يسأل عنه، ولا يكون كاتمًا، لأن على الطالب أن يسأل، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] ، وليس للعالم أن يسكت إذا رأى تغييرا فى الدين إذا علم أن ذلك لا يضره، ثم على العالم أن يبين إذا سئل، فإن لم يبين بعد أن يسأل فقد كتم، إلا أن يكون له عذر فيعذر. وفيه: أن الشفاعة إنما تكون فى أهل الإخلاص خاصة، وهم أهل التصديق بوحدانية الله، ورسله، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت خالصًا من قلبه، أو نفسه -. وقوله: تمت أول منك - يعنى قبلك. وقال سيبويه: هى بمنزلة أقدم منك. وقال السيرافى: يقال: هذا أول منك، ورأيت أول منك، ومررت بأول منك، فإذا حذفوا تمت منك - قالوا: هو الأول، ولا يقولوا: الأول منك، لأن الألف واللام تعاقب منك.(1/176)
33 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ؟
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: تمت انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ، وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلا تَقْبَلْ إِلا حَدِيثَ النَّبِيِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لا يَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا -. / 38 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو، قَالَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا -. قال المؤلف: فى أمر عمر بن عبد العزيز بكتاب حديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، خاصَّة، وأن لا يقبل غيره الحض على اتباع السنن وضبطها، إذ هى الحجةُ عند الاختلاف، وإليها يلجأ عند التنازع، فإذا عدمت السنن ساغ لأهل العلم النظر، والاجتهاد على الأصول. وفيه: أنه ينبغى للعلماء نشر العلم وإذاعته. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الله لا ينزع العلم من العباد -، فمعنى ذلك أن الله لا يهب العلم لخلقه، ثم ينتزعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذى يؤدى إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلُّم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر (صلى الله عليه وسلم) بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى.(1/177)
34 - باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ
/ 39 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، قَالَتِ النِّسَاءُ: يَا رسول اللَّه غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: تمت مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ -، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ قَالَ: تمت وَاثْنَيْنِ -. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تمت يَبْلُغُوا الْحِنْثَ -. فيه: الترجمة. وفيه: سؤال النساء عن أمر دينهن، وجواز كلامهن مع الرجال فى ذلك، فيما لهن الحاجة إليه. وقد أُخِذَ العلم عن أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وعن غيرهن من نساء السلف. وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى كتاب الجنائز فى باب فضل من مات له ولدٌ فاحتسبه، إن شاء الله.
35 - باب لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ
/ 40 - فيه: أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِى أَيُّهَا الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاىَ، وَوَعَاهُ قَلْبِى، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاىَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تمت إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ،(1/178)
وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِى فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ -. فَقِيلَ لأبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لا تُعِيذُ عَاصِيًا وَلا فَارًّا بِدَمٍ، وَلا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. / 41 - وفيه: أَبُو بَكْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ -. قال المؤلف: لما أخذ الله على أنبيائه الميثاق فى تبليغ دينه، وتبيينه لأمتهم، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وجب عليهم تبليغ الدين، ونشره حتى يظهر على جميع الأديان، وقد بينا قبل هذا أن كل من خاطبه (صلى الله عليه وسلم) بتبليغ العلم فيمن كان فى عصره فقد تَعَيَّن عليه فرض التبليغ، وأما اليوم فهو من فروض الكفاية، لانتشار الدين وعمومه. وفى قول أبى شريح لعمرو حين رآه يبعث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير: تمت ائذن لى أحدثك -، فيه من الفقه: أنه يجب على العالم الإنكار على الأمير إذا غَيَّر شيئًا من الدين، وإن لم يسأل العالم عن ذلك. واختلف أبو شريح، وعمرو بن سعيد فى تأويل هذا الحديث،(1/179)
فحمله أبو شريح على العموم، وحمله عمرو على الخصوص، فكلاهما ذهب إلى غير مذهب صاحبه، فذهب أبو شريح إلى أن حُرْمة مكة ثابتة، لا يجوز أن تستباح بفتنة، ولا تُنْصَبُ عليها حرب لقتال أحدٍ أبدًا بعدما حرمها الله عزَّ وجلَّ، لأنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) حين نصب الحرب عليها لقتال المشركين، وفرغ من أمرهم أنها لله حَرَمٌ، ولم تحل لأحدٍ كان قبله، ولا تحل لأحد بعده، وإنما حلت له ساعة من نهار، وهى الساعة التى فتحها، ثم عادت حرمتها كما كانت قبل ذلك. فاحتج أبو شريح بالحديث على وجهه. ونهى عمرو بن سعيد عن بعث الخيل إلى قتال ابن الزبير بمكة خشية أن تستباح حرمتها، وابن الزبير عند علماء أهل السنة أولى بالخلافة من يزيد، وعبد الملك، لأنه بُويع لابن الزبير قبل هؤلاء، وهو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد قال مالك: إن ابن الزبير أولى من عبد الملك. وأما قول عمرو لأبى شريح: تمت أنا أعلم منك، إن مكة لا تعيذ عاصيًا، ولا فارًا بدمٍ، ولا فارًا بخربة -، فليس هذا بجواب لأبى شريح، لأنه لم يختلف معه فى أن من أصاب حدًا فى غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يجوز أن يقام عليه فى الحرم، أم لا؟ وإنما أنكر عليه أبو شريح بعثه الخيل إلى مكة، واستباحة حُرمتها، ونصب الحرب عليها، فأحسن فى استدلاله، وحَاد عمرو عن الجواب، وجاوبه عن غير سؤاله، وهو الرجل يصيب حدًا فى غير الحرم، هل يعيذه الحرم؟ وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحج، إن شاء الله.(1/180)
وأما قول عمرو بن سعيد لأبى شريح: تمت أنا أعلم منك -، فإن العلماء اخنلفوا فى الصاحب إذا روى الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، هل يكون أولى بتأويله ممن يأتى بعده أم لا؟ فقالت طائفة: تأويل الصحابى أولى، لأنه الراوى للحديث، وهو أعلم بمخرجه وسببه. وقالت طائفة: لا يلزم تأويل الصاحب إذا لم يصب التأويل واحتجوا بحديث أبى القعيس فى تحريم لبن الفحل، وقالوا: قد أفتت عائشة بخلافه، وهى راوية الحديث، فكان يدخل عليها من أرضعته أخواتها، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، وهذا ترك منها للقول بما روته من تحريم لبن الفحل، فلم يلتفت مالك ولا الكوفويون، والشافعى إلى تأويلها، وأخذوا بحديثها. وكذلك فعلوا فى حديث ابن عباس، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خَيَّر بريرة بعد أن اشترتها عائشة وأعتقتها. وكان ابن عباس يفتى بأن بيع الأمة طلاقها، وحديثه هذا مخالف لفتواه، لأنه لو كان بيعها طلاقها لم تُخَيَّر وهى مطلقة فى أن تطلق نفسها بعده. وذهب أئمة الفتوى إلى أن بيع الأمة ليس بطلاق لها على ما جاء فى الحديث. وكذلك حديث عائشة: تمت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين -، ترك الكوفيون، وإسماعيل ابن إسحاق فتوى عائشة بخلاف روايتها، وأخذوا بالحديث، وقالوا: القصر فى السفر فريضة، ورواه أشهب، عن مالك.(1/181)
وقالت طائفة: هو مخير بين القصر والإتمام، وهو قول الشافعى، والأبهرى، وابن القصار. وروى أبو مصعب عن مالك، أنه قال: قصر الصلاة فى السفر سُنَّة. ومن روى فى حديث أبى شريح تمت بخُربةٍ - بضم الخاء، فالخربة: الفساد فى الدين، عن صاحب العين. ومن رواه بفتح الخاء، فمعناه السرقة، قال صاحب الأفعال: خرب الرجل خربًا، وخرابة: سرق الإبل. قال الأصمعى: الخرابة: سرقة الإبل خاصة.
36 - باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِىِّ - (صلى الله عليه وسلم)
- / 42 - فيه: عَلىّ بن أَبِى طَالب، قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ -. / 43 - وفيه: ابن الزُّبَيْرِ أنَّه قَالَ لأَبِيهِ: إِنِّى لا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا يُحَدِّثُ فُلانٌ وَفُلانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تمت مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -.(1/182)
/ 44 - وفيه: أَنَس، قَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت مَنْ تَعَمَّدَ عَلَىَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. / 45 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. / 46 - وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَقَوَّل عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ -. قال الطبرى: إن قيل: معنى قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت فليتبوأ مقعده من النار - أهو إلى الكاذب بتبوء مقعده من النار فيؤمر بذلك، أم ذلك إلى الله؟ فإن يكن ذلك إليه فلا شك أنه لا يُبَوِّء نفسه ذلك، وله إلى تركه سبيل. وإن يكن ذلك إلى الله، فكيف أمر بتبوء المقعد، وأمرُ العبدِ بما لا سبيل إليه غَيْرُ جائز؟ . قيل: معنى ذلك غير ما ذكرت، وهو بمعنى الدعاء منه (صلى الله عليه وسلم) على من كذب عليه، كأنه قال: مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به وذلك كثير فى كلام العرب. فإن قيل: ذلك عامٌ فى كل كذب فى أمر الدين، وغيره أو فى بعض الأمور؟ . قيل: قد اختلف السلف فى ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه فى الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا.(1/183)
وقال آخرون: بل كان ذلك منه (صلى الله عليه وسلم) فى رجل بعينه كذب عليه فى حياته، وادَّعى عند قوم أنه بعثه إليهم ليحكم فى أموالهم ودمائهم. فأمر (صلى الله عليه وسلم) بقتله إن وجد، أو بإحراقه إن وُجِد ميتًا. وقال آخرون: ذلك عام فيمن تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، واحتجوا بتهيب الزبير، وأنس كثرة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وبقول عمر: أقلوا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا شريككم. وقالوا: لو كان ذلك فى شخص بعينه لم يكن لاتقائهم ما اتقوا من ذلك، ولا لحذرهم ما حذروا من الزلل فى الرواية والخطأ وجه مفهوم، والصواب فى ذلك أن قوله على العموم فى كل من تعمد عليه كذبًا فى دين أو دنيا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان ينهى عن معانى الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك فى الحرب، والإصلاح بين الناس، وإذا كان الكذب لا يصلح فى شىءٍ إلا فى هذه الثلاث، فالكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أجدر ألا يصلح فى دين ولا دنيا، إذْ الكذب عليه ليس كالكذب على غيره. وأن الدعاء الذى دعا على من كذب عليه لأحق بمن كذب عليه فى كل شىء. وقال الشيخ أبو الحسن بن القابسى: من أجل حديث على، وحديث الزبير هاب من سمع الحديث أن يحدث الناس بما سمع،(1/184)
وهو بيِّن فى اعتذار الزبير من تركه الحديث، لأنهما لم يذكرا عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت متعمدًا -. ولقد دار بين الزهرى وربيعة مُعاتبة، فقال ربيعة للزهرى: أنا إنما أُخبرُ الناسَ بِرَأْى إن شَاءوا أخذوا، وإن شاءوا تركوا، وأنت إنما تخبرهم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فانظر ما تخبرهم به. وإنما امتنع الناس فى الرواية، لما فى حديث أبى هريرة: تمت من كذب علىَّ متعمدًا -، وكرهوا الإكثار لقول أنس: إنه ليمنعنى أن أحدثكم حديثًا كثيرًا. وقد كره الإكثار من الرواية عمر بن الخطاب، وقال: أَقِلُّوا الحديث عن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، وأنا شريككم. قال مالك: معناه وأنا أيضًا أقلِّ الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . رواه ابن وهب عنه. وإنما كره ذلك لما يُخَاف على المُكْثِر من دخول الوهم عليه، فيكون متكلفًا فى الإكثار، فلا يعذر فى الوهم، ولذلك قال مالك لابنى أخته: إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا العلم فأقلا منه، وتفقَّها. وقال شعبة لكتبة الحديث: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ وإنما يريد شعبة عيب الإكثار، لما يدخل فى ذلك من اختلاط الأحاديث. وقد سهل مالك فى إصلاح الحرف الذى لا يشك فى سقوطه، مثل الألف والواو يسقط أحدهما من الهجاء، وأما اللحن فى الحديث فهو شديد.(1/185)
وقال الشعبى: لا بأس أن يعرب الحديث إذا كان فيه اللحن. وقال أحمد بن حنبل: يجب إعراب اللحن، لأنهم لم يكونوا يلحنون، وإنما جاء اللحن بعدهم. وقال ابن القابسى: أخبرنى محمد بن هشام المصرى، أنه سأل أبا عبد الرحمن النسائى، عن اللحن فى الحديث، فقال: إن كان شيئًا تقولُهُ العربُ، وإن كان فى غير لغة قريش فلا يُغَيَّر، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يكلم الناس بلسانهم، وإن كان لا يوجد فى كلام العرب، فرسول الله لا يلحن. واختلفوا فى رواية الحديث على المعنى، فقال أبو بكر بن الطيب: ذهب كثير من السلف إلى أنه لا تجوز رواية الحديث على المعنى، بل يجب تأدية لفظهِ بعينه من غير تقديم ولا تأخير، ولم يفصلوا بين العالم بمعنى الحديث وغيره. وذهب مالك، والكوفيون، والشافعى إلى أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب، ومعانى الألفاظ، رواية الحديث على المعنى. وليس بين العلماء خلاف، أنه لا يجوز ذلك للجاهل. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الواجب على المحدث، أن يروى الحديث على لفظه إذا خاف وقوع لبس فيه متى غَيَّر لفظه، وذلك بأن يكون معناه غامضًا محتملاً للتأويل، فأما إن كان معناه ظاهرًا معلومًا فلا بأس أن يرويه على المعنى.
37 - باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ
/ 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِىِّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لا،(1/186)
إِلا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. / 48 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِى لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ لهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ: تمت إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، أَوِ الْقَتْلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى -، وذكر الحديث. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت اكْتُبُوا لأبِى فُلانٍ -. / 49 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّى، إِلا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلا أَكْتُبُ. / 50 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَجَعُهُ، قَالَ: تمت ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ [كِتَابًا] لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ -، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: تمت قُومُوا عَنِّى، وَلا يَنْبَغِى عِنْدِى التَّنَازُعُ -، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ كِتَابِهِ. قال المؤلف: فى آثار هذا الباب إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن الرسول أمر بكتابه؟ فقال: تمت اكتبوا لأبى فلان -، وقد كتب على الصحيفة التى قرنها بسيفه، وكتب عبد الله بن عمرو.(1/187)
وقد كره قوم كتابة العلم، واعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ. والقول الأول أولى للآثار الثابته بكتابة العلم. ومن الحجة لذلك أيضًا ما اتفقوا عليه من كتاب المصحف الذى هو أصل العلم، فكتبته الصحابة فى الصحف التى جمع منها المصحف، وكان للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كُتَّاب يكتبون الوحى. وإنما كره كتابه من كرهه، لأنهم كانوا حفاظًا، وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه ما بقى منه شىء لنبوِّ طباعهم عن الحفظ، ولذلك قال الشعبى: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو فى الحائط. وقال المهلب: فى حديث علىِّ من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على علىِّ أنه الوصى، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يخص به غيره، لقوله ويمينه: أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله تعالى، ثم أحل على الفهم الذى الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشىء غير ما هو ممكن فى غيره فصح بهذا وثبت من إقراره على نفسه أنه ليس بوصى للنبى (صلى الله عليه وسلم) ، وقد جاء حديث أبى جحفة عند على لفظ العهد، فقال له: هل عهد إليك رسول الله بشىء لم يعهده إلى الناس؟ فأجابه بالحديث. وحديث ابن عباس يشهد لهذا المعنى، لأنه (صلى الله عليه وسلم) رَامَ أن(1/188)
يعهد فى مرضه بقوله: تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم لا تضلوا بعده - فاختلفوا فترك ذلك، فلو كان عند علىٍّ عهد منه أو وصية لأحال عليها، وكشف أمرها. واحتج من قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، دخل مكة عنوة، بقوله: تمت إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين -، وهو قول الجمهور، وإنما خالفه فى ذلك الشافعى وحده. وسيأتى ذكر ذلك فى كتاب الحج عند حديث ابن خطل إن شاء الله. وفى قول عمر: حسبنا كتاب الله، حين قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم - فيه من فقه عمر وفضله أنه خشى أن يكتب النبى أمورًا ربما عجز عنها فاستحق عليها العقوبة، وإنما قال: حسبنا كتاب الله، لقوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) [الأنعام: 38] ، فعلم أن الله تعالى لا يتوفى نبيه حتى يكمل لهم دينهم، لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] ، فقنع عمر بهذا، وأراد الترفيه عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لاشتداد مرضه وغلبة الوجع عليه. فعمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذى أكمل الله فيه الدين، ولم يكتف بذلك ابن عباس، وسيأتى هذا المعنى أيضًا فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته، فى كتاب الاعتصام، إن شاء الله. وفى قوله: تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم - دليل على أن للإمام أن(1/189)
يوصى عند موته بما يراه نظرًا للأمة، وفى تركه الكتاب إباحة الاجتهاد، لأنه أوكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.
38 - باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ
/ 51 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صواحب الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَة -. قال المهلب: فيه دليل أن الفتن تكون فى المال، وغيره لقوله: تمت ماذ أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن -، وكذلك قال حذيفة لعمر: فتنة الرجل فى أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة. وقوله: تمت أيقظوا صواحب الحُجَر - يعنى أزواجه للصلاة والاستعاذة مما نزل ليكونوا أولى من استعاذ من فتن الدنيا. وفيه: أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل لذكر الله وللصلاة، ولا سيما عند آية تحدث، أو مأثور رؤيا مخوفة، وقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من رأى رؤيا مخوفة فكرها أن ينفث عن يساره، ويستعيذ بالله من شرها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132] . وقوله: تمت رب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة - يحتمل أن تكون(1/190)
الكاسيات مما لا يسترهن من واصف الثياب ورقيقه، فهى كاسية عارية، فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرية والفضيحة التى كانت تبتغى فى الدنيا، ويحتمل أن تكون رُبَّ كاسيةٍ فى الدنيا لها المال تكتسى به رفيع الثياب وتكون عارية من الحسنات فى الآخرة، فَنَدَبَهَن إلى الصدقة، وحضهن على ترك السرف فى الدنيا، بأن يأخذن منها بأقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك. وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب تحريض النبى (صلى الله عليه وسلم) على صلاة الليل، وفى كتاب الفتنة، فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه بزيادة فيه، إن شاء الله.
39 - باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ
/ 52 - فيه: ابْنَ عُمَرَ، صَلَّى الرَّسُولُ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: تمت أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ -. / 53 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَكَانَ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الْغُلَيِّمُ - أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا - ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ.(1/191)
فيه: أن السَّمَر بالعلم والخير مباح، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) أخبرهم بعد العشاء أنه لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد إلى رأس مائة سنة، وإنما أراد - والله أعلم - أنه هذه المدة تخترم الجيل الذى هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أنها ليست تطول أعمارهم كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا فى العبادة. وقد سمر السلف الصالح فى مذاكرة العلم. وقد روى شريك، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبى موسى الأشعرى، قال: أتيت عمر أكلمه فى حاجة بعد العشاء، فقال: هذه الساعة؟ فقلت: إنه شىء من الفقه، قال: نعم، فكلمته، فذهبت لأقوم فقال: اجلس، فقلت: الصلاة، فقال: إِنَّا فى صلاة، فلم نزل جلوسًا حتى طلع الفجر. حدثنا به محمد بن حسان، قال: حدثنا محمد بن معاوية القرشى، قال: حدثنا ابن يحيى المروزى، قال: حدثنا عاصم بن علقمة، عن شريك. واختلف قول مالك فى هذه المسألة، فقال مرة: الصلاة أحبُّ إلىَّ من مذاكرة العلم، وقال فى موضع آخر: إن العناية بالعلم أفضل إذا صحت النية. ويذكر عن سحنون أنه قال: يلتزم أثقلهما عليه. وقال أبو الزناد: السَّامِر فى بيت ميمونة، كان ابن عباس. وفيه: من فضل ابن عباس، وحدقه على صغر سِنِّه أنه رصد الرسول (صلى الله عليه وسلم) طول ليلته، يدل على ذلك قوله فى الحديث: تمت فصلى(1/192)
أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغُلَيِّمُ؟ - مستفهمًا لميمونة، وذكر أنه عاين أفعال النبى (صلى الله عليه وسلم) كلها طول ليلته، وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث. ذكر فى كتاب الدعاء، فى باب الدعاء إذا انتبه من الليل، عن ابن عباس، قال: نام النبى (صلى الله عليه وسلم) عند ميمونة، ثم قام فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر، وقد أبلغ فصلى فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أرصده، فتوضأت فقمت عن يساره. . . وذكر الحديث. وقيل: إن العباس كان أوصاه بمراعاة النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ليطلع على عمله بالليل. وإنما يكره السَّمَرُ إذا كان فى غير طاعة، وأحبوا أن يجعلوا الصلاة آخر أعمالهم بالليل، وكرهوا الحديث بعد العتمة، لأن النوم وفاة، فأحبوا أن يناموا على خير أعمالهم. وقد كان ابن عمر إذا تكلم أو قضى شيئًا من أموره قبل نومه قام فصلى ثم نام، ولم يفعل بين نومه وصلاته شيئًا. وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الصلاة. وتمت الغطيط - صوت النائم، قال صاحب العين: غَطّ النائم يَغُطُّ غطيطًا. وقال ابن دريد: غطيط النائم أعلى من النخير، وكذلك المخنوق والمذبوح. وقوله: تمت أو خطيطه - شك من المحدث، ولم أجدها عند أهل اللغة بالخاء، والله أعلم.(1/193)
42 - باب حِفْظِ الْعِلْمِ
/ 54 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى (إِلَى قَوْلِهِ: (الرَّحِيمُ) [البقرة 159 - 160] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ شَغَلَهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ شَغَلَهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ لشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ. (1) / 55 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ، قَالَ: تمت ابْسُطْ رِدَاءَكَ -. فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تمت ضُمَّهُ -. فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ. (2) / 56 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. قال أبو الزناد: فيه حفظ العلم والدءوب عليه، والمواظبة على طلبه، وهى فضيلة لأبى هريرة، فضله (صلى الله عليه وسلم) بها بأن قال له: تمت ابسط رداءك، ثم قال: ضمه -، فما نسى شيئًا بعد. وجاء هذا الحديث فى كتاب البيوع، وقال فيه: تمت فما نسيتُ من مقالته تلك من شىء -، وهذا من بركة النبى (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: فضل التقلل من الدنيا، وإيثار طلب العلم على طلب المال. وفيه: أنه جائز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضله إذا اضطر إلى(1/194)
ذلك، لاعتذار من شىء، أو لتبيين ما يلزمه تبيينه إذا لم يقصد بذلك الفخر. وقوله: تمت وأما الآخر لو بثثته قطع هذا البلعوم -، قال المهلب، وأبو الزناد: يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عرف به (صلى الله عليه وسلم) من فساد الدين، وتغيير الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت يكون فساد هذا الدين على يدى أغيلمة سفهاء من قريش -، وكان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشى على نفسه، فلم يُصَرِّح. وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه فى التصريح أن يُعَرِّض. ولو كانت الأحاديث التى لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها، لأنه قال: لولا آيتان فى كتاب الله ما حدثتكم، ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) [البقرة: 159] . فإن قال قائل: قول أبى هريرة: تمت حفظت من النبى (صلى الله عليه وسلم) وعاءين -، يعارض قوله: تمت ما كان أحد من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أكثر حديثًا منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب -، فقوله: تمت لا أكتب -، خلاف قوله: تمت حفظت وعاءين -، لأن الوعاء فى كلام العرب: الظرف الذى يجمع فيه الشىء. قيل: لقوله هذا معنًى صحيح لا يخالف بعضه بعضًا، وذلك أنه(1/195)
يجوز أن يريد أبو هريرة أن الذى حفظ من النبى من السنن التى حدث بها وحملت عنه لو كتبت لاحتملت أن يملأ منها وعاء، وما كتم من أحاديث الفتن لو حدث بها يخشى أن ينقطع منه البلعوم، يحتمل أن تملأ وعاء آخر، ولهذا المعنى قال: وعاءين، ولم يقل: وعاء واحدًا، لاختلاف حكم المحفوظ فى الإعلام به والستر له. وقال ثابت: البلعوم هو الحلقوم، وهو مجرى النفس إلى الرئة. قال أبو عبيد: هو البَلْعَمُ والبُلْعُوم. قال ثابت: والمرىء مجرى الطعام والشراب إلى المعدة متصل بالحلقوم، وهو المبتلع والمسترط.
41 - باب الإنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
/ 57 - فيه: جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: تمت اسْتَنْصِتِ النَّاسَ -، فَقَالَ: تمت لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ -. قال أبو الزناد: الإنصات للعلماء، والتوقير لهم، لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد أمر الله عباده المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يجهروا له بالقول خوف حبوط أعمالهم، وكان عبد الرحمن بن مهدى إذا قرأ حديث(1/196)
الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر الناس بالسكوت، وقرأ: (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ) [الحجرات: 2] ، ويتأول أنه يجب من الإنصات والتوقير عند قراءة حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) مثل ما يجب له (صلى الله عليه وسلم) ، فكذلك يجب توقير العلماء والإنصات لهم، لأنهم الذين يحيون سنته، ويقومون بشريعته. وقال شريك: كان الأعمش لا يتجاوز صوته مجلسهُ إجلالاً للعلم. وقال مطرف: كان مالك إذا أراد الحديث عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا، ثم تحدث، إجلالاً لحديثه (صلى الله عليه وسلم) . وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: كان يُستحب أن لا يُقرأ أحاديث النبى إلا على وضوءٍ. قال شعبة: كان قتادة لا يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا وهو على طهارة. وحكى مالك عن جعفر بن محمد، مثله. وكان الأعمش إذا أراد أن يحدث، وهو على غير وضوء تَيَمَّمَ. وقال ابن أبى الزناد: ذكر سعيد بن المسيب حديثًا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مريض، فقال: أجلسونى، فإنى أُعْظِمُ أن أحدث حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا مضطجع. وقال ابن أبى أويس: كان مالك إذا جلس للحديث يقول: ليلينى منكم ذووا الأحلام والنهى، فربما قعد الفعنبى عن يمينه، وهذا كله من إجلال النبى (صلى الله عليه وسلم) وتوقيره.(1/197)
42 - باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ أَن يَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
/ 58 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: عن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَطِيبًا فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَثَمَّ هُوَ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ ابْنِ نُونٍ، وَحَمَلا حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا، فَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا -. قال المؤلف: روى عن أُبىّ بن كعب أنه قال: أعجب موسى بعلمه فعاقبه الله بما لقى مع الخضر، وكان ينبغى أن يقول: الله أعْلَمُ أىُّ الناس أعلم، لأنه لم يُحِط علمًا بكل عالم فى الدنيا، وقد قالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا. وسئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الروح وغيره، فقال: لا أدرى حتى أسأل الله تعالى، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] فيجب على من سئل عما لا يعلم، أن يقول: لا أعلم. وقد قال مالك: جُنَّة العالم لا أدرى، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله. قال مالك: وكان الصديق يُسأل فيقول: لا أدرى، وأحدهم اليوم(1/198)
يأنف أن يقول: لا أدرى، فليس المجترئ لحدود الإسلام كالذى يموج ويلعب. وقال مالك: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغى للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدرى، حتى يكون أصلاً فى أيديهم. وقوله تعالى: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) [الكهف: 61] إنما نَسِيَهُ يوشع فتى موسى ومتعلمه، فأضيف النسيان إليهما جميعًا، والدليل على أن فتاهُ نسيهُ قوله: (فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف: 63] كما قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) [الأنعام: 130] ، وإنما الرسل من الإنس. وقوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا) [الكهف: 66] لم يسأله موسى عن شىء من دينه، لأن الأنبياء لا تجهل شيئًا من دينها الذى تعبدت به أمتها، وإنما سأله عما لم يكن عنده علمه مما ذكر فى السورة. قال المهلب: وقوله: (لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ) [الكهف: 74] روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت كان طبع الغلام كافرًا، ولو أدرك أبويه لأرهقهما طغيانًا وكفرًا -، وهو معنى قوله: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) [الكهف: 80] فدل أنه لو بلغ لكان كذلك. فإن قيل: فقد روى البخارى عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وكان أبواه مؤمنين، وكان كافرًا فأوجب الله له الكفر فى الحال. فالجواب: أنه إنما سماه كافرًا لما يئول إليه أمره لو عاش، وهذا(1/199)
جائز فى اللغة أن يسمى الشىء بما يئول إليه، قال تعالى: (إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا) [يوسف: 36] ، وإنما يعصر العنب لا الخمر. ووجه استباحة القتل لا يعلمهُ إلا الله تعالى ولله أن يميت من شاء من خلقه قبل البلوغ وبعده، ولا فرق بين قتله وموته، كل ذلك لا اعتراض عليه فيه، لا يُسأل عما يفعل. قال المؤلف: وفى قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله به خلقه من شريعته ودينه، يجب أن يكون حجة على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام، كان صوابًا فى الظاهر، وكان موسى غير ملوم فى ذلك، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك ومعناه، صار الصواب الذى ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذى ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة فى أنه يجب التسليم لله فى دينه، ولرسوله فى سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة فى شىء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم. ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه من معانى القدر وشبهه، وهذا خطأ منهم، لأن عقول العباد لها نهاية، وعلم الله لا نهاية له، قال الله عز وجل: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فما أخفاه عنهم فهو سِرُّ الله الذى استأثر به، فلا يحل تعاطيه، ولا يُكلَّف طلبه، فإن المصلحة للعباد فى إخفائه منهم، والحكمة فى طَيَّه عنهم إلى يوم تُبلى السرائر، والله هو(1/200)
الحكيم العليم، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71] . وقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى) [الكهف: 82] يدل أنه فعله بوحى من الله بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة، منها: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل، لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها. وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله، لأن ذلك إخبار عن الغيب. وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذى تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحى من الله تعالى. وفى هذا الحديث: أن الخضر أقام الجدار بيده، وفى كتاب الأنبياء، قال سفيان: فأومأ بيده، وهذه آية عظيمة لا يقدر الناس على مثلها، وهى تشبه آية الأنبياء. وهذا كله حجة لمن قال بنبوة الخضر. وذكر الطبرى عن ابن عباس، قال: فكان قول موسى فى الجدار لنفسه، ولطلب شىء من الدنيا، وكان قوله فى السفينة والغلام لله. قال المهلب: وهو حجة لمن قال بنبوة الخضر.(1/201)
وفى هذا الحديث من الفقه استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إذا كان أصغر منه. وفيه: أن العالم قد يكرم، بأن تقضى له حاجة، أو يوهب له شىء، ويجوز له قبول ذلك، لأن الخضر حُمِل بغير أجر وهذا إذا لم يتعرض لذلك. وفيه: أنه يجوز للعالم، والرجل الصالح أن يُعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أن لصاحبه فى ذلك مصلحة. وأما قول أُبىِّ بن كعب لنوف: تمت كذب عدو الله - فإنما خرج ذلك على طريق الغضب، والإبلاغ فى التقريع، لأنه أراد بذلك خروجه عن ولاية الله وعن الدين، وألفاظ الغضب يؤتى بها على غير طريق الحقيقة فى الأكثر، وكان نوف قاضيًا. وذكر سعيد بن جبير: أن نوفًا ابن أخى كعب الأحبار. وقوله: بغير نول، يرد بغير جُعْلٍ، والنول والنَّال، والنَالة، كله الجُعْل، فأما النيل والنوال فإنهما العطية ابتداءً، يقال: رجل نال إذا كان كثير النول، ورجلان نالان، وقوم أنوال، كما قالوا: رجل مال: أى كثير المال، وكبش صاف: كثير الصوف، ويقال: نلت الرجل أنوله نولا، ونلت الشىء أناله نيلا، عن الخطابى. وقال صاحب تمت العين -: أنلته المعروف ونلته ونولته، والاسم: النوال، والنَّيْل، ويقال: نال يَنال منالا، ونَالَهُ، والنَّوْلَة اسم للقبلة.(1/202)
43 - باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا
/ 59 - فيه: أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ؟ ، فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، قَالَ: تمت مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -. فيه: جواز سؤال العالم وهو واقف، كما ترجم، لعذر، أو لشغل، ولا يكون ذلك تركًا لتوقير العالم، ألا ترى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر ذلك عليه، ولا أمره بالجلوس. وجواب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بغير لفظ سؤاله، والله أعلم، من أجل أن الغضب والحمية قد يكونان لله عز وجل، ولعرض الدنيا، وهو كلام مشترك، فجاوبه النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمعنى لا بلفظ الذى سأله به السائل، إرادة إفهامه وخشية التباس الجواب عليه لو قسم له وجوه الغضب والحمية، وهذا من جوامع الكلم الذى أوتيه (صلى الله عليه وسلم) .
44 - باب السُّؤَالِ وَالْفُتوى عِنْدَ رَمْىِ جِمَارِ العَقَبة
/ 60 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ: تمت ارْمِ وَلا حَرَجَ -، قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: تمت انْحَرْ وَلا حَرَجَ -، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلا قَالَ: تمت افْعَلْ وَلا حَرَجَ -.(1/203)
ومعنى هذا الباب أنه يجوز أن يسأل العالم عن العلم ويجيب وهو مشتغل فى طاعة الله، لأنه لا يترك الطاعة التى هو فيها إلا إلى طاعةٍ أخرى.
45 - باب قَوْلِ اللَّه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) [الإسراء 85]
/ 61 - فيه: عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْأَلُوهُ، لا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ: تمت) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (-[الأسراء: 85] قَالَ الأعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا. قال المهلب: هذا يدل على أن من العلم أشياء لم يُطلع الله عليها نبيًا، ولا غيره، أراد الله تعالى أن يختبر بها خلقه فيوقفهم على العجز عن علم ما لا يدركون حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه، ألا تسمع قوله تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) [البقرة: 255] ، فعلم الروح مما لم يشأ تعالى أن يُطْلعِ عليه أحد من خلقه.(1/204)
46 - باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقعُ فِى أَشَدَّ مِنْهُ
/ 62 - فيه: عَائِشَةُ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ منه، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ - فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. قال المهلب: فيه أنه قد يترك شيئًا من الأمر بالمعروف إذا خشى منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه. وفيه: أن النفوس تحب أن تساس بما تأنس إليه فى دين الله من غير الفرائض، بأن يترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها. قال أبو الزناد: إنما خشى أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون أنما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم. وقد روى أن قريشًا حين بنت البيت فى الجاهلية تنازعت فى من يجعل الحجر الأسود فى موضعه، فحكموا أول رجل يطلع عليهم، فطلع النبى (صلى الله عليه وسلم) فرأى أن يجعل الحجر فى ثوب، وأمر كل قبيلة تأخذ بطرف الثوب، فرضوا بذلك، ولم يروا أن ينفرد بذلك واحد منهم خشية أن ينفرد بالفخر. فلما ارتفعت الشبهة فعل ابن الزبير فيه ما فعل، فجاء الحجاج فَرَدَّهُ كما كان، فتركه من بعده خشية أن يتلاعب الناس بالبيت، ويكثر هدمه وبنيانه.(1/205)
وقد استدل أبو محمد الأصيلى من هذا الحديث فى مسألة من النكاح، وذلك أن جارية يتيمة غنية كان لها ابن عم، وكان فيه ميل إلى الصبا فخطب ابنة عمه وخطبها رجل غنى، فمال إليه الوصى وكانت اليتيمة تحب ابن عمها ويحبها، فأبى وصيها أن يزوجها منه ورفع ذلك إلى القاضى وشاور فقهاء وقته فكلهم أفتى أن لا تزوج من ابن عمها، وأفتى الأصيلى أن تزوج منه، خشية أن يقعا فى المكروه، استدلالا بهذا الحديث، فزوجت منه.
47 - باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهَةَ أَلا يَفْهَمُوا
/ 63 - وَقَالَ عَلِىٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. / 64 - فيه: أَنَسُ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) - قَالَ لِمُعَاذِ - وهو رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ: تمت يَا مُعَاذَ -، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلاثًا، قَالَ: تمت مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ -، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُون؟ قَالَ: تمت إِذًا يَتَّكِلُوا -. وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.(1/206)
(1) / 65 - وفيه: أَنَسَ، قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ لِمُعَاذِ: تمت مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ -، قَالَ: أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ تمت لا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا -. قال المهلب: فيه أنه يجب أن يُخَصَّ بالعلم قوم لما فيهم من الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لقصير فهمه، كما فعل (صلى الله عليه وسلم) ، وقد قال مالك بن أنس: تمت من إذالة العالم أن يجيب كل من سأله -، وإنما أراد ألا يوضع العلم إلا عند من يستحقه ويفهمه. وفيه: أن من عِلَمَ علمًا - والناس على غيره من أخذٍ بشدة، أو ميلٍ إلى رخصة - كان عليه أن يودعه مستأهله ومن يظن أنه يضبطه كما فعل معاذ حين حدث به بعد أن نهاه النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أن يخبر به خوف الاتكال، فأخبر به عند موته خشية أن يدركه الإثم فى كتمانه. ومعنى قوله: تمت حرمه الله على النار - أى حرمه الله على الخلود فى النار، لثبوت قوله: تمت أخرجوا من النار من فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان -، ولإجماعهم أنه لا تسقط عنه مظالم العباد، هذا تأويل أهل السنة، والحديث عندهم على الخصوص، وهو خلاف مذهب الخوارج الذين يقولون بتخليد المؤمنين بذنوبهم فى النار. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة -(1/207)
تمت ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة - فروى عن السلف فى تأويله ما ذكر الطبرى، قال: حدثنا محمد بن على بن الحسن ابن شقيق، قال: سمعت أبى يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن الحسين بن عمران، عن الزهرى، أنه سئل عن الحديث تمت من قال لا إله إلا الله دخل الجنة - قال: حدثنى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، أن ذلك كان قبل نزول الفرائض. وذكر أبو عبيد، عن ابن أبى خيثمة، قال: حدثنا أبى، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، قال: سأل هشام بن عبد الملك، الزهرى، فقال: حدثنا بحديث النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق -، فقال الزهرى: أين يذهب بك يا أمير المؤمنين؟ كان هذا قبل الأمر والنهى. وذكر الطبرى، حدثنا ابن حميد، حدثنا حماد بن سلمة، عن الحسن بن عميرة، قال: قيل للحسن: من قال: تمت لا إله إلا الله دخل الجنة؟ - فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفريضتها دخل الجنة. وذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح أنه قيل له: إن فى المسجد عمر بن ذر، ومسلم النحات، وسالم الأفطس يقولون: من زنى، وسرق، وقذف المحصنات، وأكل الربا، وعمل بالمعاصى أنه مؤمن كإيمان البر التقى الذى لم يعص الله، فقال عطاء: أبلغهم ما حدثنى به أبو هريرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا يقتل المؤمن حين يقتل وهو مؤمن، ولا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو(1/208)
مؤمن - فذكرت ذلك لسالم الأفطس وأصحابه، فقالوا: أين حديث أبى الدرداء تمت وإن زنى وإن سرق - فذكرت ذلك لعطاء، فقال: كان هذا ثم نزلت الحدود والأحكام بعد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا إيمان لمن لا أمانة له - وتمت لايفتك مؤمن. . . -. وذكر البخارى حديث أبى الدرداء، وحديث أبى ذر فى كتاب الاستئذان، فى باب من أجاب بلبيك وسعديك، وذكر حديث أبى ذر أيضًا فى كتاب اللباس، فى باب الثياب البيض. قال أبو ذر: قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة - قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: تمت وإن زنى وإن سرق، ثلاث مرات، وإن رغم أنف أبى ذر -، وفسره البخارى قال: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله غفر له. وقول البخارى: تمت إذا تاب - يعنى إذا تحلل من مظالم العباد، وتاب من ذنوبه التى بينه وبين الله تعالى. والتأثم: إلغاء الإثم عن نفسه، وقد تقدم فى كتاب بدء الوحى، وسيأتى ما للعلماء فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يزنى الزانى وهو مؤمن - فى أول كتاب الحدود، إن شاء الله.(1/209)
48 - باب الْحَيَاءِ فِى الْعِلْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْىٍ وَلا مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِى الدِّينِ. / 66 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ -، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ -. / 67 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: تمت مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا هِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِى مَا هِيَ؟ - فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِى بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِى، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى كَذَا وَكَذَا -. قال المؤلف: إنما أراد البخارى بهذا الباب ليبين أن الحياء المانع من طلب العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، وأما إذا كان الحياء على جهة التوقير والإجلال فهو حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقولها: إن الله لا يستحيى من الحق، فإن الاستحياء من الله غير الاستحياء من المخلوقين، وهو من الله تعالى الترك، وكذا قال أهل التفسير فى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً) [البقرة: 26] ، بمعنى لا يترك أن يضرب مثلا، وإنما قالوا ذلك،(1/210)
لأن الحياء هو الانقباض بتغيير الأحوال، وحدوث الحوادث فيمن يتغير به، لا يجوز على الله. وقولها: تمت لا يستحيى من الحق - يقتضى أن الحياء لا يمنع من طلب الحقائق. وفيه: أن المرأة تحتلم، غير أن ذلك نادر فى النساء، ولذلك أنكرته أم سلمة. وقوله: تمت تربت يمينك - هى كلمة تقولها العرب ولا تريد وقوع الفقر فيمن تخاطبه بها إذا لم يكن أهلا لذلك، كما يقول: قاتله الله ما أسعده، وهو لا يريد قتله الله، وسيأتى تفسيرها لأهل اللغة فى كتاب الأدب إن شاء الله. وقوله: تمت فبم يشبهها ولدها - يعنى إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل أشبهها الولد، وكذلك إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، ومن كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام. قال المهلب: فى تمنى عمر، رضى الله عنه، أن يجاوب ابنه النبى (صلى الله عليه وسلم) ، بما وقع فى نفسه فيه من الفقه أن الرجل مباح له الحرص على ظهور ابنه فى العلم على الشيوخ، وسروره بذلك. وقيل: إنما تمنى له عمر ذلك رجاء أن يسر النبى بإصابته، فيدعو له، فينفعه الله بدعائه. وقد كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس، وهو صغير مع شيوخ الصحابة. وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عمر بن الخطاب فنظر إلى ابن عباس قد قرع الناس بلسانه، فقال: من هذا الذى نزل عن القوم فى سنه ومدته وتقدمهم فى قوله وعلمه.(1/211)
وقالت العلماء: العالم كبير وإن كان حدثًا، والجاهل صغير وإن كان شيخًا. وفيه: أن الابن الموفق العالم أفضل مكاسب الدنيا، لقوله: تمت لأن كنت قلتها أحب إلى من كذا وكذا -. وفى سماع أشهب، عن مالك أنه سئل عن المصلى لله يقع فى نفسه أنه يجب أن يعلم، ويجب أن يلقى فى طريق المسجد، ويكره أن يلقى فى طريق غيره، فقال: إذا كان أول فعله لله فلا أرى بذلك بأسا، وإن المرء ليحب أن يكون صالحًا، وإن هذا ليكون من الشيطان مصدق فيقول: إنك لتحب أن يعلم ليمنعه ذلك، وهذا أمر يكون فى القلب لا يملك، فإذا كان أصله لله لم أر بذلك بأسا، قد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت ما شجرة لا يسقط ورقها - فقال ابن عمر: فوقع فى نفسى أنها النخلة، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا، وقال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى) [طه: 39] ، وقال: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) [الشعراء: 84] .
49 - باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ
/ 68 - فيه: عَلِىِّ، كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت فِيهِ الْوُضُوءُ -. إنما استحيا على أن يسأل رسول الله لمكان ابنته، وهذا الحياء محمود، لأنه لا يمتنع به من تعلم ما جهل وبعث من يقوم مقامه فى ذلك، ففيه: الحياء من الأصهار فى ذكر أمور الجماع وشبهه.(1/212)
وفيه: قبول خبر الواحد.
50 - باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ
/ 69 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا سَأَل النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: تمت لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعِمَامَةَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ، وَلا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرانُ أو الْوَرْسُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ -. قال المهلب: فيه من الفقه أنه يجوز للعالم إذا سئل عن الشىء أن يجيب بخلافه، إذا كان فى جوابه بيان ما سئل عنه وتحديده، ألا ترى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سئل عما يلبس المحرم، فأجاب بما لا يلبس؟ إذ معلوم أن ما سوى ذلك مباح للمحرم، فأما الزيادة على سؤال السائل فقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين - فهذه زيادة وإنما زاده لعلمه بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولما يلحق الناس من الحفى بالمشى، رحمة لهم وتنبيهًا على منافعهم، وكذلك يجب للعالم أن ينبه الناس فى المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى ترخيص شىء من حدود الله. ونهيه له عن الوَرْسِ والزعفران، قطع للذريعة إلى الطيب للمحرم لما فيهما من دواعى النساء، وتحريك اللذة والله الموفق. آخر كتاب العلم(1/213)
بسم الله الرحمن الرحيم
4 - كِتَاب الْوُضُوءِ
- باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ
وَقَوْلِ اللَّهِ: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6] . قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلاثًا وَثَلاثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاثٍ، وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) . قال المؤلف: قال الطحاوى وغيره: اختلف أهل العلم فى القيام المذكور فى هذه الآية، فقال بعضهم: كل قائم إلى صلاة مكتوبة فقد وجب عليه الوضوء قبل قيامه إليها، قالوا: وهذا كقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] ، أى إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله. ورووا ذلك عن على بن أبى طالب منقطعًا. وروى شعبة، عن مسعود بن على، أن على بن أبى طالب، كان يتوضأ لكل صلاة ويتلو: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ) [المائدة: 6] الآية. وممن كان يتوضأ لكل صلاة وإن كان طاهرًا: ابن عمر، وعبيد بن عمير، وعكرمة، وابن سيرين.(1/214)
وقال جمهور أهل العلم: ليس على من أراد القيام إلى صلاة مكتوبةٍ أن يتوضأ، إلا أن يكون محدثًا فيتوضأ لحدثه، لأنه إذا كان متوضئًا للصلاة فلا معنى لتوضئه وضوءًا لا يخرجه من حدث إلى طهارة. وممن روى عنه الجمع بين صلوات بوضوء واحد: سعد بن أبى وقاص، وأبو موسى الأشعرى، وأنس بن مالك، وابن عباس. إلا أن بعض قائلى هذه المقالة قالوا: إن الوضوء لكل صلاة نسخ بما رواه الثورى عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: تمت عمدًا صنعته يا عمر -. وبما روى ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن امرأة من الأنصار دعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى شاة مصلية، ومعه أصحابه، فصلى الظهر والعصر بوضوء واحد. وقال أكثر أهل هذه المقالة: إن جَمْع الرسول (صلى الله عليه وسلم) الصلوات بوضوء واحد يوم الفتح، وعند المرأة التى دعته للشاة المصلية، لم يكن ناسخًا لما تقدم من وضوئه (صلى الله عليه وسلم) لكل صلاة، وإنما بيَّن بفعله يوم الفتح أن وضوءه لكل صلاة كان من باب الفضل والازدياد فى الأجر، فمن اقتدى به فى ذلك فله فيه الأسوة الحسنة.(1/215)
قالوا: ومما يدل على صحة ذلك ما رواه ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبى عطية الهذلى، قال: صليت مع ابن عمر الظهر والعصر والمغرب، فتوضأ لكل صلاة، فقلت له: ما هذا؟ فقال: ليست بسنةٍ ولكنى سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: تمت من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات -. فبان بما ثبت عنه (صلى الله عليه وسلم) من سنته أن الوضوء لا يجب إلى القيام للصلوات إلا عن الأحداث الموجبة للطهارة، وهذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى، وعامة فقهاء الأمصار، ومن بعدهم إلى وقتنا هذا. وقوله: تمت وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن فرض الوضوء مرةً مرةً -، وذلك أنه صلى به فَعُلِمَ أنه الفرض، إذ لا ينقص (صلى الله عليه وسلم) من فرضه، وهو المُبَيِّن عن الله لأمته دينهم. ووضوءه (صلى الله عليه وسلم) مرتين وثلاثًا هو من باب الرفق بأمته والتوسعة عليهم ليكون لمن قصر فى المرة الواحدة عن عموم غسل أعضاء الوضوء أن يستدرك ذلك فى المرة الثانية والثالثة، ومن أكمل أعضاءه فى المرة الواحدة فهو مخير فى الاقتصار عليها أو الزيادة على المرة الواحدة. وكان تنويع وضوئه (صلى الله عليه وسلم) من باب التخيير، كما ورد التخيير فى كفارات الأَيْمَان بالله، وعقوبة المحاربين. وقال أبو الحسن بن القصار: نسق الأعضاء فى الآية بالواو بعضها على بعض دليل أن الرتبة غير واجبة فى الوضوء، لأن حقيقة الواو فى لسان العرب الجمع والاشتراك دون التعقيب، والتقديم، والتأخير، هذا قول سيبويه.(1/216)
واختلف العلماء فى ذلك. فروى عن على، وابن مسعود، وابن عباس، أنهم قالوا: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك فى الوضوء، وهذا قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والنخعى، وإليه ذهب مالك، والليث، والثورى، وسائر الكوفيين، والأوزاعى، والمزنى. وقال الشافعى، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور: لا يجزئه الوضوء غير مرتب حتى يغسل كلا فى موضعه، واحتجوا بأن الواو قد تكون للترتيب كقوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج: 77] ، وقوله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ) [البقرة: 58] ، وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت نبدأ بما بدأ الله به -. فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا: إنا لا ننكر إذا صحب الواو بيان يدل على التقدمة أنها تصير إليه بدلالته، وإلا فالظاهر أن موضعها للجمع، ولو كانت الواو توجب رتبة لما احتاج (صلى الله عليه وسلم) إلى تبيين الابتداء بالصفا، وإنما بيَّن ذلك إعلامًا لمراد الله من الواو فى ذلك الموضع، وليس وضوءه (صلى الله عليه وسلم) على نسق الآية أبدًا بيانًا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات، لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان، والصلوات مختلفة مفتقرة إليه، ومما جاء فى القرآن مما لا توجب الواو فيه النسق قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) [البقرة: 196] ، فبدأ بالحج قبل العمرة، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل الحج، وكذلك قوله: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ) [البقرة: 110] جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة فى حين صلاة أن يبدأ بالزكاة، ثم يصلى الصلاة فى وقتها عند الجميع، وكذلك قوله(1/217)
فى قتل الخطأ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) [النساء: 92] لا يختلف العلماء أن من وجب عليه إعطاء الدية، وتحرير الرقبة أن يعطى الدية قبل تحرير الرقبة، ومثله كثير فى القرآن وكلام العرب، لو قال: أعط زيدًا وعمرًا دينارًا تبادر الفهم من ذلك: الجمع بينهما فى العطاء، ولم يفهم منه تقديم أحدهما على الآخر فى العطاء.
- باب لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تُقْبَلُ صَلاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ -. قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. أجمعت الأمة على أنه لا تجزئ صلاة إلا بطهارة، على ما جاء فى الحديث. وأما قول أبى هريرة: تمت الحدث فُساءٌ أو ضُرَاطٌ -، فإنما اقتصر على بعض الأحداث، لأنه أجاب سائلاً سأله عن المصلى يحدث فى صلاته، فخرج جوابه على ما يسبق المصلى من الإحداث فى صلاته، لأن البول، والغائط، والملامسة غير معهودة فى الصلاة، وهو نحو قوله للمصلى إذْ أمره باستصحاب اليقين فى طهارته، أى لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، ولم يقصد به إلى تعيين الأحداث وتعدادها، والأحداث التى أجمع العلماء على أنها تنقض(1/218)
الوضوء سوى ما ذكره أبو هريرة: البول، والغائط، والمذى، والودى، والمباشرة، وزوال العقل بأى حال زال، والنوم الكثير. والأحداث التى اختُلف فى وجوب الوضوء منها: القُبْلَة، والجَسَّة، ومس الذكر، والرعاف، ودم الفصد، وما يخرج من السبيلين نادرًا غير معتاد مثل سلس البول، والمذى، ودم الاستحاضة، والدود يخرج من الدبر وليس عليه أذى. فممن أوجب الوضوء فى القُبلة: ابن عمر، وهو قول مكحول، وربيعة، والأوزاعى، والشافعى. وذهب مالك إلى أنه إن قبلها بالشهوة انتقض وضوءه وهو قول الثورى، وأحمد، وإسحاق. وشرط أبو حنيفة، وأبو يوسف فى القبلة للشهوة الانتشار، وكذلك ينتقض عنده الوضوء، فإن قَبَّل لشهوة ولم ينتشر فلا وضوء عليه. وقال محمد بن الحسن: لا وضوء عليه فى القبلة، وإن انتشر حتى يمذى. وقال ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن: لا وضوء عليه فى القبلة. فأمَّا مَسُّ المرأة، فقال مالك، والثورى: إن مسَّها لشهوة انتقض وضوءه. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لابد مع الشهوة من الانتشار، وإلا فلا وضوء.(1/219)
وقال محمد بن الحسن: لابد أن يمذى مع الانتشار. وقال الشافعى: ينتقض وضوءه بكل حال، وبمسها بكل عضوٍ من أعضائه إذا كان بغير حائل. وأما مس الذكر، فقال مالك فى المدونة: إذا مسه لشهوة من فوق ثوب، أو تحته، بيده أو بسائر أعضائه انتقض وضوءه. وفى العتبية: قيل لمالك: إن مس ذكره على غلالة خفيفة؟ قال: لا وضوء عليه. ومن سماع أبى زيد: سئل مالك عن الوضوء من مسِّ الذكر، فقال: حسن وليس بسنة، وقال مرة أخرى: أحب إلىَّ أن يتوضأ. وذهب الثورى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ينتقض وضوءه على أى حال مسه. وذهب الليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنه إن مسه بباطن يده من غير حائل ففيه الوضوء وإن مسه لغير شهوة، وبه قال إسحاق، وأبو ثور. وأما الأحداث المختلف فيها، فسيأتى مذاهب العلماء فيها فى مواضعها، إن شاء الله.(1/220)
3 - باب فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ
/ 2 - فيه: نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، ثم قَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَقُولُ: تمت إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ -. قال أبو محمد الأصيلى: هذا الحديث يدل أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم. قال غيره: وإذا تقرر هذا بطل ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فقال: تمت هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى -، وهو حديث لا يصح سنده، ومداره على زيد العمى، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر، وزيد ضعيف. وقوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل -، تأوله أبو هريرة على الزيادة على حد الوضوء، فكان يتوضأ إلى نصف ساقيه، وإلى منكبيه، ويقول: إنى أحب أن أطيل غرتى، وربما قال: هذا موضع الحلية. وهذا شىء لم يتابع عليه أبو هريرة، والمسلمون مجمعون على أنه لا يتعدى بالوضوء ما حد الله ورسوله، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو أبدر الناس إلى الفضائل، وأرغبهم فيها، لم يجاوز قط موضع الوضوء فيما بلغنا.(1/221)
ويُحتج على أبى هريرة بقوله تعالى: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1] . وروى سفيان، عن موسى بن أبى عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً سأل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: تمت هكذا الطهور، فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وظلم -. ويحمل قوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته -، يعنى يديمها، فالطول والدوام بمعنى متقارب، أى من استطاع أن يواظب على الوضوء لكل صلاة فإنه يطيل غرته، أى يقوِّى نوره، ويتضاعف بهاؤه، فَكَنَّى بالغرة عن نور الوجه يوم القيامة. وقال أبو الزناد: قوله: تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته - فإنه كنى بالغرة عن الحجلة، لأن أبا هريرة كان يتوضأ إلى نصف ساقيه، والوجه فلا سبيل إلى الزيادة فى غسله، فكأنه، والله أعلم، أراد الحجلة فكنى بالغرة عنها. وفيه: جواز الوضوء على ظهر المسجد، وهو من باب الوضوء فى المسجد، وقد كرهه قوم وأجازه الأكثر، وإنما ذلك تنزيه للمسجد، كما ينزه عن البصاق والنخامة، وحرمة أعلى المسجد، كحرمة داخله، وممن أجاز الوضوء فى المسجد: ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، والنخعى، وطاوس، وهو قول ابن القاسم صاحب مالك، وأكثر العلماء. وكرهه ابن سيرين، وهو قول مالك، وسحنون.(1/222)
وقال ابن المنذر: إذا توضأ فى مكان من المسجد يبلّه ويتأذى به الناس فإنى أكرهه، وإن فحص عن الحصى ورده عليه، فإنى لا أكرهه، وكذلك كان يفعل عطاء وطاوس.
4 - باب مَنْ لا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ
(1) / 3 - فيه: عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عبد اللَّه بنِ زيد، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الرَّجُلُ الَّذِى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّىْءَ فِى الصَّلاةِ، فَقَالَ: تمت لا تَنْفَتِلْ - أَوْ لا تَنْصَرِفْ - حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ تَجِدَ رِيحًا -. على هذا جماعة من العلماء: أن الشك لا يزيل اليقين، ولا حكم له، وأنه ملغى مع اليقين، وقد اختلفوا فى ذلك، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من شك فى الحدث بعد تيقن الطهارة فعليه الوضوء. وروى عنه ابن وهب أنه قال: أحب إلىَّ أن يتوضأ. وروى ابن نافع، عن مالك أنه لا وضوء عليه. وقال الثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى: يبنى على يقينه، هو على وضوء بيقين، قالوا: وكذلك يبنى على الأصل حدثًا كان أو طهارة، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تنصرف حتى تسمع صوتًا، أو تجد ريحًا -، ولم يفرق بين أول مرة أو بين ما يعتاده من ذلك. قالوا: والأصول مبينة على اليقين، كقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أو أربعًا، فليبن على يقينه -، وكذلك لو شك هل طلق أم لا؟ لم يلزمه الطلاق، لأنه على يقين(1/223)
نكاحه، وهكذا لو شك هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة أم لا؟ فإنه يبنى على يقين طهارته. والحجة لرواية ابن القاسم، عن مالك أنه قال: قد تعبدنا بأداء الصلاة بيقين الطهارة، فإذا طرأ الشك عليها فقد أبطلها، كالمتطهر إذا نام مضطجعًا، فإن الطهارة واجبة عليه بإجماع، وليس النوم فى نفسه حدثًا، وإنما هو من أسباب الحدث الذى ربما كان، وربما لم يكن، وكذلك إذا شك فى الحدث، فقد زال عنه يقين الطهارة. وقال المهلب: لا حجة للكوفيين فى حديث عبد الله بن زيد هذا، لأن الحديث إنما ورد فى المستنكح الذى يشك فى الحدث كثيرًا، ومن استنكحه ذلك فلا وضوء عليه عند مالك وغيره، والدليل على ذلك قوله فيه: تمت شكا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - والشكوى لا تكون إلا من علة، ويؤيد هذا قوله: تمت إنه يخيل إلىَّ -، لأن التخييل لا يكون حقيقة، وقد بين ذلك حماد بن سلمة فى حديث عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت إذا كان أحدكم فى الصلاة فوجد حركة فى دبره فأَشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا -. قال أحمد بن خالد: هذا حديث جيد ذكر القصة كيف هى، إنما هى فى الشك، لأن غيره اختصره، فقال: لا وضوء إلا أن يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، وإنما هذا إذا شك وهو فى الصلاة كما قال هاهنا، لأنه(1/224)
من الشيطان. ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت إن الشيطان يأتى أحدكم فى صلاته، فيأخذ شعرة من دبره فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا -. وقد قال بعض أهل العلم: إن قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا - معارض لقوله، (صلى الله عليه وسلم) : تمت من شك فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أم أربعًا، فليأت بركعة -، لأنه حين أمره أن لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، فقد أمره بالحكم لليقين وإلغاء الشك، وفى حديث الشك فى الصلاة أمره بالحكم للشك وإلغاء اليقين حين أمره بالإتيان بركعة. وليس كما ظنه بل الحديثان متفقان فى إلغاء الشك والحكم لليقين، وذلك أنه أمر الذى يخيل إليه أنه يجد الشىء فى الصلاة أن لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، لأنه كان على يقين من الوضوء فأمره (صلى الله عليه وسلم) بإطراح الشك، وأن لا يترك يقينه إلا بيقين آخر، وهو سماع الصوت، أو وجود الريح، والذى يشك فى صلاته فلا يدرى أثلاثًا صلى، أو أربعًا لم يكن على يقين من الركعة الرابعة، كما كان فى الحديث الآخر على يقين من الوضوء، بل كان على يقين من ثلاث ركعات شاكًا فى الرابعة، فوجب أن يترك شكه فى الرابعة، ويرجع إلى يقين من الإتيان بها، فصار حديث الشك فى الصلاة مطابقًا لحديث الشك فى الحدث، مشبهًا له فى أن اليقين يقدح فى الشك، ولا يقدح الشك فى اليقين، والحمد لله.(1/225)
5 - باب التَّخْفِيفِ فِى الْوُضُوءِ
/ 4 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) تَنَامُ عَيْنُهُ، وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الأنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ قَرَأَ: (إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102] . قال المهلب: قوله: تمت وضوءًا خفيفًا - يريد تمام غسل الأعضاء دون التكثر من إمرار اليد عليها، وهو مرة سابغة، وهو أدنى ما تجزئ به الصلاة، وإنما خففه المحدِّث لعلمه بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ ثلاثًا ثلاثًا للفضل، والواحدة بالإضافة إلى الثلاث تخفيف. وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب التفسير وبينه، فقال: تمت فقام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه -، وذكره فى كتاب الدعاء، وقال: تمت فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر وقد أبلغ -. فهذا كله يفسر قوله: تمت وضوءًا خفيفًا - أنه وضوء تجوز به الصلاة. وقوله: تمت فنام حتى نفخ، ثم صلى - هو مما خص به (صلى الله عليه وسلم) من أنه تنام عينه، ولا ينام قلبه.(1/226)
وفيه: دليل على أن من نام من سائر البشر حتى نفخ لا يصلى حتى يتوضأ، والنوم إنما يجب منه الوضوء إذا خامر القلب وغلب عليه، ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا ينام قلبه، فلذلك لم يتوضأ. وفيه: أنه توضأ بعد نوم نامه، ثم نومًا آخر، ولم يتوضأ، فدل ذلك على اختلاف أحواله فى النوم، فمرة يستثقل نومًا، ولا يعلم حاله، ومرةً يعلم حاله من حدث وغيره. وفيه: جواز العمل الخفيف فى الصلاة. وفيه: رد على أبى حنيفة فى قوله: إن الإمام إذا صلى مع رجل واحد إنه يقوم خلفه لا عن يمينه، وهذا مخالف لفعل النبى (صلى الله عليه وسلم) .
6 - باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الإِسْبَاغُ الإنْقَاءُ
. / 5 - فيه: أُسَامَةَ، قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: تمت الصَّلاةُ أَمَامَكَ -، فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ، فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. قال المهلب: قوله: تمت فتوضأ ولم يسبغ الوضوء -، يريد توضأ مرة(1/227)
سابغة، وقد رواه إبراهيم ابن عقبة، عن كريب، قال: تمت فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ -، وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه أعجله دفعه الحاج إلى المزدلفة، فأراد أن يتوضأ وضوءًا يرفع به الحدث، لأنه كان (صلى الله عليه وسلم) لا يبقى بغير طهارة، ذكره مسلم فى الحديث، وقد جاء فى باب الرجل يوضئ صاحبه هذا الحديث مبينًا. قال أسامة: تمت إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدل إلى الشعب يقضى حاجته، فجعلت أصب عليه ويتوضأ -، ولا يجوز أن يصب عليه إلا وضوء الصلاة لا وضوء الاستنجاء كما زعم من فسر قوله: تمت ولم يسبغ الوضوء - أنه استنجى فقط، وهذا لا يجوز على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، لأنه كان لا يقرب منه أحدٌ، وهو على حاجته، والدليل على صحة ما تأولناه قول أسامة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين صب عليه الماء: تمت الصلاة يا رسول الله -، لأنه محال أن يقول له: الصلاة، ولم يتوضأ وضوء الصلاة. وقوله: تمت الصلاة أمامك -، أى سنة الصلاة لمن دفع عن عرفة أن يصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة، وإن تأخر الأمر عن العادة، ولم يعلم أسامة أن سنة الصلاة بالمزدلفة، إذ كان ذلك فى حجة الوداع، وهى أول سنة سنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، فلما أتى المزدلفة أسبغ الوضوء أخذًا بالأفضل والأكمل على عادته فى سائر الأيام. وقال أبو الزناد: توضأ ولم يسبغ لذكر الله تعالى، لأنهم يكثرون ذكر الله عند الدفع من عرفة. وقال غيره: وقوله: تمت الصلاة يا رسول الله - فيه من الفقه أن الأدون قد يُذَكِّر الأعلى، وإنما خشى أسامة أن ينسى الصلاة لما كان فيه(1/228)
من الشغل، فأجابه (صلى الله عليه وسلم) : أن للصلاة تلك الليلة موضعًا لا يتعدى إلا من ضرورة، مع أن ذلك كان فى سفر، ومن سنته (صلى الله عليه وسلم) أن يجمع بين صلاتى ليله، وصلاتى نهاره فى وقت إحداهما، ولم يختلف العلماء أن الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة سنة مؤكدة لمن دفع مع الإمام أو بعده. قال المهلب: وفيه اشتراك وقت صلاة المغرب والعشاء، وأن وقتهما واحد. وقوله: تمت صلى المغرب والعشاء ولم يصل بينهما - فيه حجة لمن لا ينتفل فى السفر، وكذلك قال ابن عمر: لو تنفلت لأتممت، يعنى فى السفر. وقال غيره: ليس فى ترك التنفل بين الصلاتين فى وقت جمعهما ما يدل على ترك النافلة فى السفر، لأنه إذا جمع بينهما فلا مدخل للنافلة هناك، لأن الوقت بينهما لا يتسع لذلك، ألا ترى أن من أهل العلم من يقول: لا يحطون رواحلهم تلك الليل حتى يجمعوا؟ ومنهم من يقول: يصلون الأولى، ثم يحطون رواحلهم، مع ما فى ترك الرواحل بأوقارها مما نهى عنه من تعذيبها؟ . وأما ترك التنفل فى السفر، فإن ابن عمر لم يتابع على قوله فى ذلك، والفقهاء متفقون على اختيار التنفل فى السفر، وقد تنفل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راجلاً وراكبًا.(1/229)
7 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَ الْوِقَاعِ
/ 6 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ -. هذا الحديث مطابق لقوله تعالى، حاكيًا عن مريم: (وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران: 36] . وفى هذا الحديث حث وندب على ذكر الله فى كل وقت على حال طهارة وغيرها، ورد قول من أنكر ذلك، وهو قول يروى عن ابن عمر أنه كان لا يذكر الله إلا وهو طاهر، وروى مثله عن أبى العالية والحسن. وروى عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله على حالتين: على الخلاء، والرجل يواقع أهله. وهو قول عطاء ومجاهد، قال مجاهد: يجتنب الملك الإنسان عند جماعه، وعند غائطه، وهذا الحديث خلاف قولهم. وفيه: أن التسمية عند ابتداء كل عمل مستحبة، تبركًا بها واستشعارًا أن الله سبحانه هو الميسر لذلك العمل، والمعين عليه. وكذلك استحب مالك وعامة أئمة الفتوى التسمية عند الوضوء. وذهب بعض من زعم أنه من أهل العلم إلى أن التسمية فرض فى(1/230)
الوضوء، وحجة الجماعة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) [المائدة: 6] الآية، ولم يذكر تسمية، فلا توجب غير ما أوجبته الآية إلا بدليل. فإن قيل: فقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: تمت لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه -. قيل: قد قال أحمد بن حنبل: لا يصح فى ذلك حديث، ولو صح لكان معناه لا وضوء كاملاً كما قال: تمت لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد -. وتمت لا إيمان لمن لا أمانة له -. وهذا الذى أوجب التسمية عند الوضوء لا يوجبها عند غسل الجنابة والحيض، وهذا مناقض لإجماع العلماء أن من اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ وصلى أن صلاته تامة.
8 - باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
/ 7 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، تمت أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ منهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ. . .، وذكر الحديث. فيه: الوضوء مرة مرة. وفيه: أن الماء المستعمل فى الوضوء طاهر مطهر، وهو قول مالك،(1/231)
والثورى، والحجة لذلك أن الأعضاء كلها إذا غسلت مرة مرة، فإن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملاً، ثم يمر به على كل جزء بعده، وهو مستعمل فيجزئه، فلو كان الوضوء بالماء المستعمل لا يجوز لم يجز الوضوء مرةً مرةً، ولما أجمعوا أنه جائز استعماله فى العضو الواحد كان فى سائر الأعضاء كذلك، وسنذكر اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى بابها بعد هذا، إن شاء الله.
9 - باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاءِ
/ 8 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ: تمت اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ -. ورواه غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ: تمت إِذَا أَتَى الْخَلاءَ -. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: عَنْ عَبْدُالْعَزِيزِ: تمت إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلاءَ -. قال المؤلف: فيه جواز ذكر الله على الخلاء، وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد (صلى الله عليه وسلم) حتى تيمم بالجدار -. واختلف فى ذلك أيضًا العلماء، فروى عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله عند الخلاء، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبى،(1/232)
وعكرمة، وقال عكرمة: لا يذكر الله فى الخلاء بلسانه، ولكن بقلبه. وأجاز ذلك جماعة من العلماء، وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يذكر الله فى المرحاض. وقال العرزمى: قلت للشعبى: أعطسُ وأنا فى الخلاء، أحمد الله؟ قال: لا، حتى تخرج، فأتيت النخعى فسألته عن ذلك، فقال لى: أحمد الله، فأخبرته بقول الشعبى، فقال النخعى: الحمد يصعد ولا يهبط. وهو قول ابن سيرين، ومالك بن أنس، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك. وذكر البخارى فى كتاب تمت خلق أفعال العباد -: قال عطاء فى الخاتم فيه ذكر الله: لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف، أو يلم بأهله، وهو فى يده لا بأس به. وهو قول الحسن. وذكر وكيع، عن سعيد بن المسيب مثله. قال البخارى: وقال طاوس فى المنطقة تكون على الرجل تكون فيها الدراهم يقضى حاجته: لا بأس بذلك. وقال إبراهيم: لابد للناس من نفقاتهم. وأحب بعض التابعين ألا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله. قال البخارى: وهذا من غير تحريم يصح. وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثل قول عطاء. وأما اختلاف ألفاظ الرواة فى قوله: تمت إذا دخل -، وتمت إذا أراد أن(1/233)
يدخل -، فالمعنى فيه متقارب، ألا ترى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] ، والمراد إذا أردت أن تقرأ؟ غير أن الاستعاذة بالله متصلة بالقراءة، لا زمان بينهما، وكذلك الاستعاذة بالله من الخبث والخبائث لمن أراد دخول الخلاء متصلة بالدخول، فلا يمنع من إتمامها فى الخلاء، مع أن من روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه كان يقول ذلك إذا أتى الخلاء أولى من رواية من روى إذا أراد أن يدخل الخلاء، لأنها زيادة، والأخذ بالزيادة أولى. وأما حديث بئر جمل فإنما هو على الاختيار، والأخذ بالفضل، لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء، قاله الطحاوى. وقال الطبرى: وأما حديث بئر جمل وشبهه، فإن ذلك كان منه (صلى الله عليه وسلم) على وجه التأديب للمُسَلِّم عليه ألا يُسَلِّم بعضهم على بعض على حال كونهم على الحدث، وذلك نظير نهيه وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضًا بقوله: تمت لا يتحدث المتغوطان على طوفهما، فإن الله يمقتهما -. وروى أبو عبيدة الباجى، عن الحسن، عن البراء، أنه سلم على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتوضأ، فلم يرد عليه شيئًا حتى فرغ. وفسر أبو عبيد تمت الخبث والخبائث -، فقال: الخبث يعم الشر، والخبائث الشياطين. وقال أبو سليمان الخطابى: أصحاب الحديث يروونه: الخُبْث، ساكنة الباء، وإنما هو الخُبُث، مضموم الباء، جمع خبائث، والخبائث جمع خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإناثهم، فأما الخُبْث، ساكن الباء، فهو مصدر خَبُثَ الشىء يخبثُ خبثًا، وقد جعل اسمًا.(1/234)
قال ابن الأعرابى: وأصل الخبث فى كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من المِلَلْ فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. وقال الحسن: تمت إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم إنى أعوذ بك من الرجس، والنجس، الخبيث، المخبث، الشيطان الرجيم -. وقال الحسن البصرى: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا خرج أحدكم من الغائط، فليقل: الحمد الله الذى عافانى، وأذهب عنى الأذى -. وقوله: تمت طوفهما -، يعنى حاجتهما.
- باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ
/ 9 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَخَلَ الْخَلاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَقَالَ: تمت مَنْ وَضَعَ هَذَا -؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: تمت اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ -. قال المؤلف: معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنما هو للاستنجاء به عند الحدث. وفيه: رد قول من أنكر الاستنجاء بالماء، وقال: إنما ذلك وضوء النساء، وقال: إنما كانوا يتمسحون بالحجارة. وقال المهلب: فيه: خدمة العالم. قال أبو الزناد: دعا له النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أن يفقهه الله فى الدين، سرورًا منه بانتباهه إلى وضع الماء، وهو من أمور الدين.(1/235)
وفيه: المكافأة بالدعاء لمن كان منه إحسان، أو عون، أو معروف.
- باب لا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلا عِنْدَ الْبِنَاءِ، جِدَارًا أَوْ نَحْوِهِ
/ 10 - فيه: أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ، فَلا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَلا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا -. أما قوله فى الترجمة: تمت إلا عند البناء - فليس مأخوذًا من الحديث، ولكنه لما علم فى حديث ابن عمر استثناء البيوت، بوب فيه، لأن حديثه (صلى الله عليه وسلم) كله كأنه شىء واحد، وإن اختلفت طرقه، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة وإن كثر. قال المهلب: إنما نهى عن استقبال القبلة، واستدبارها بالغائط والبول فى الصحارى، والله أعلم، من أجل من يصلى فيها من الملائكة، فيؤذيهم بظهور عورته مستقبلاً أو مستدبرًا، وأما فى البيوت والمبانى، وما يستتر فيه من الصحارى، وعمن فيها فليس ذلك عليه، ويحتمل أن يكون النهى عن ذلك، والله أعلم، إكرامًا للقبلة، وتنزيهًا لها، كما روى ابن جريج عن عطاء قال: يكره أن ينكشف الإنسان مستقبل القبلة يتخلى، أو يبول، أو يأتزر إلا أن يأتزر تحت ردائه أو قميصه.(1/236)
- باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ
/ 11 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ، بِحَاجَتِهِ، وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ؟ فَقُلْتُ: لا أَدْرِى وَاللَّهِ. قال المؤلف: أما قول ابن عمر: تمت إن ناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس -، فرواه سعيد بن أبى مريم، قال: ثنا دواد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمرو ابن يحيى المازنى، قال: ثنا أبو زيد مولى بنى ثعلبة، عن معقل بن أبى معقل الأسدى، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى أن تستقبل القبلتان بغائط، أو بول. ولم يقل بهذا الحديث أحد من الفقهاء إلا النخعى، وابن سيرين، ومجاهد، فإنهم كرهوا أن يستقبل أحدٌ القبلتين أو يستدبرهما بغائط، أو بول، الكعبة وبيت المقدس. وهؤلاء غاب عنهم حديث ابن عمر، وهو يدل على أن النهى إنما أريد به الصحارى لا البيوت، ولم يرو أحد عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه فعل ذلك فى الصحارى، وإنما روى أنه فعله فى البيوت. وقال أحمد بن حنبل: حديث ابن عمر ناسخ للنهى عن استقبال بيت المقدس، واستدباره بالغائط والبول، والدليل على هذا ما روى مروان الأصفر، عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس، ثم(1/237)
جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهى عن هذا؟ قال: إنما نهى عن هذا فى الفضاء، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شىء يسترك فلا بأس. وروى وكيع، وعبيد الله بن موسى، عن عيسى بن أبى عيسى الحناط، قال: قلت للشعبى: إن أبا هريرة يقول: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها. وقال ابن عمر: كانت منى التفاتة فرأيت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى كنيفه مستقبل القبلة. فقال الشعبى: صدق ابن عمر، وصدق أبو هريرة، قول أبى هريرة فى البَرِّية، وقول ابن عمر فى الكنيف، وأما كنفكم هذه فلا قبلة لها. ودلت هذه الآثار على أن حديث أبى أيوب مخصص بحديث ابن عمر لا منسوخ به، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه الأحاديث فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة عند ذكر حديث أبى أيوب، إن شاء الله. وأما قوله: تمت إن ناسًا يقولون كذا -، ففيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون فى معانى السنن، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هاهنا وقع بينهم الاختلاف. وقال ابن القصار: إن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى مقعد النبى (صلى الله عليه وسلم) ؟ فالجواب: أنه يجوز أن تكون كانت منه التفاتة فرآه، ولم يكن قاصدًا لذلك، فنقل ما رأى، وقصد ذلك لا يجوز كما لا يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، ثم قد يجوز أن تقع أبصارهم عليه، ويجوز أن يتحملوا الشهادة بعد ذلك، وقد يجوز أن يكون ابن عمر قصد لذلك ورأى رأسه دون ما عدا ذلك من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله فنقل ما شاهد(1/238)
وقوله: تمت لعلك من الذين يُصَلُّون على أوراكهم - يعنى الذى يسجد ولا يرتفع عن الأرض لاصقًا بها.
- باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ - وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ - فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِى عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ أنَّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِى حَاجَتِكُنَّ -. قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِى الْبَرَازَ. قال المؤلف: البَراز، بفتح الباء، فى اللغة ما برز من الأرض واتسع، كنى به عن الحدث، كما كنى عن الغائط، والغائط المطمئن من الأرض. وقال المهلب: فيه مراجعة الأدون للأعلى فى الشىء يتبين للأدون. وفيه: فضل المراجعة إذا لم يقصد به التعنيت، وأنه قد تبين فيها من العلم ما يخفى، لأن نزول الآية كان سببه المراجعة. وفيه: فضل عمر، وهذه من إحدى الثلاث الذى وافق فيها ربه. وفيه: كلام الرجال مع النساء فى الطرق.(1/239)
وفيه: جواز وعظ الرجل أمه فى البِرِّ، لأن سودة من أمهات المؤمنين. وفائدة هذا الباب أنه يجوز التصرف للنساء فيما بهن الحاجة إليه، لأن الله أذن لهن فى الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب، فلما جاز لهن ذلك جاز لهن الخروج إلى غيره من مصالحهن، أو صلة أرحامهن التى أوجبها الله عليهن، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) النساء بالخروج إلى العيدين. وفى قوله: تمت قد عرفناك يا سودة - دليل أنه قد يجوز الإغلاظ فى القول والعتاب إذا كان قصده الخير. قال عبد الواحد: فى قول عمر: تمت احجب نساءك - التزام النصحية لله ورسوله.
- باب الاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ
/ 14 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِىءُ أَنَا وَغُلامٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، يَعْنِى يَسْتَنْجِي بِهِ. قال المهلب: قال أبو محمد الأصيلى: الاستنجاء بالماء ليس بالبين فى هذا الحديث، لأن قوله: تمت يعنى يستنجى به -، ليس من قول أنس، وإنما هو من قول أبى الوليد الطيالسى. وقد رواه سليمان بن حرب، عن شعبة، وقال شعبة: تمت تبعته أنا(1/240)
وغلام، معنا إداوة من ماء -، ولم يذكر: فيستنجى به، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه، فقال له أبو عبد الله بن أبى صفرة: قد تابع أبا الوليد النضرُ، وشاذان عن شعبة، وقالا: تمت يستنجى بالماء -، فقال: تواترت الآثار عن أبى هريرة، وأسامة وغيرهما من الصحابة على الحجارة. قال المؤلف: وقد اختلف السلف فى الاستنجاء بالماء فأما المهاجرون فكانوا يستنجون بالأحجار، وأنكر الاستنجاء بالماء سعد بن أبى وقاص، وحذيفة، وابن الزبير، وسعيد بن المسيب، وقال: إنما ذلك وضوء النساء. وكان الحسن لا يغسل بالماء، وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وكان الأنصار يستنجون بالماء، وكان ابن عمر يرى الاستنجاء بالماء بعد أن لم يكن يراه، وهو مذهب رافع بن خديج، وروى ذلك عن حذيفة، وعن أنس أنه كان يستنجى بالخرص، واحتج الطحاوى للاستنجاء بالماء، فقال: قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222] ، فطلبنا تأويل ذلك، فوجدنا السلف قد تأولوا معنى الآية على قولين: فقال عطاء: إن الله يحب التوابين، يعنى من الذنوب، والمتطهرين بالماء، وروى عن على بن أبى طالب مثله. وعن أبى الجوزاء: ففى هذا أن الطهارة التى أحب الله أهلها عليها فى هذه الآية هى الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين من الذنوب.(1/241)
ولما اختلفوا فى التأويل طلبنا الوجه فيه من كتاب الله، فوجدنا الله قال: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108] ، وقال الشعبى: لما نزلت هذه الآية، قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت يا أهل قباء، ما هذا الثناء الذى أثنى الله عليكم -؟ قالوا: ما منا أحد إلا وهو يستنجى بالماء. وروى سفيان، عن يونس بن خباب، عن عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن عبد الله بن خباب، أن أهل قباء ذكروا للنبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الاستنجاء بالماء، فقال: تمت إن الله قد أثنى عليكم فدوموا -. وقال محمد بن عبد الله بن سلام: أما تجدوه مكتوبًا علينا فى التوراة الاستنجاء بالماء -، فدل ذلك أن الطهارة المذكورة فى الآية الأولى هى هذه الطهارة. وقال غيره: روت معاذة، عن عائشة، قالت: مُرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول والماء، فإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يفعله. وروى مالك فى موطأه، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يتوضأ بالماء وضوءًا لما تحت إزاره. قال مالك: يريد الاستنجاء بالماء، وترجم لحديث أنس باب من حمل معه الماء لطهوره، وباب حمل العَنَزَة مع الماء فى الاستنجاء. قال المهلب: معنى حمل العنزة، والله أعلم، أنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، فكانت العنزة لسترته فى الصلاة. وفيه: أن خدمة العالم، وحمل ما يحتاج إليه من إناء وغيره، شرف للمتعلم، ومستحب له، ألا ترى قول أبى الدرداء: أليس(1/242)
فيكم صاحب النعلين والطهور، والوسادة. يعنى عبد الله بن مسعود، فأراد بذلك الثناء عليه والمدح له، لخدمة النبى (صلى الله عليه وسلم) .
- باب النَّهْىِ عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ
/ 15 - فيه: ابن أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِى الإنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلاءَ فَلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ -. قال المؤلف: التنفس فى الإناء منهى عنه كما نُهى عن النفخ فى الإناء، وإنما السنة إراقة القذى من الإناء لا النفخ فيه، ولا التنفس، لئلا يتقذره جلساؤه. وقوله: تمت لا يمس ذكره بيمينه -، فهو فى معنى النهى عن الاستنجاء باليمين، لأن القبل والدبر عورة، وموضع الأذى، وهذا إذا كان فى الخلاء، وأما على الإطلاق على ما روى عن عثمان أنه قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت بها رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) . فهذا على إكرام اليمين، وإجلا النبى (صلى الله عليه وسلم) فى مباشرته، وهذا كله عند الفقهاء نهى أدب. قال المهلب: وفيه: فضل الميامن، وقد قال على: يمينى لوجهى، يعنى للأكل وغيره، وشمالى لحاجتى، وقد نزع لهذا الكلام ابنه(1/243)
الحسن حين امتخط بيمينه عند معاوية، فأنكر عليه معاوية، وقال: بشمالك. وأما الاستنجاء باليمين، فمذهب مالك، وأكثر الفقهاء أن من فعل ذلك فبئس ما فعل ولا شىء عليه. وقال بعض أصحاب الشافعى، وأهل الظاهر: لا يجزئه الاستنجاء بيمينه لمطابقة النهى. والصواب فى ذلك قول الجمهور، لأن النهى عن الاستنجاء باليمين من باب الأدب، كما أن النهى عن الأكل بالشمال من باب أدب الأكل، فمن أكل بشماله فقد عصى، ولا يحرم عليه طعامه بذلك، وكذلك من استنجى بيمينه، وأزل الغائط فقد خالف النهى، ولم يقدح ذلك فى وضوئه ولا صلاته، ولم يأت حرامًا. وترجم الحديث ابن أبى قتادة باب لا يمس ذكره بيمينه إذا بال، وهذا كله من باب الأدب، وتفضيل الميامن، ألا ترى قول عثمان: ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فينبغى التأدب بأدب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وسلف الصحابة، وتنزيه اليمنى عن استعمالها فى الأقذار ومواضعها.
- باب الاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ
/ 16 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: - اتَّبَعْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: تمت ابْغِنِى أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، أَوْ(1/244)
نَحْوَهُ، وَلا تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلا رَوْثٍ -، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ. قال المؤلف: الاستنجاء هو إزالة النجو من المخرج بالأحجار أو بالماء، واختلف العلماء فى ذلك هل هو فرض أو سنة؟ فذهب مالك والكوفيون إلى أنه سنة لاينبغى تركها، فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه، إلا أن مالكًا يستحب له الإعادة فى الوقت، وذهب الشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنجاء فرض، ولا تجزئ صلاة من صلى بغير استنجاء بالأحجار أو بالماء، واحتجوا بأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار، فكل نجاسة قرنت فى الشرع بعدد، فإن إزالتها واجبة، كولوغ الكلب، وسيأتى الكلام على من أوجب العدد فى أحجار الاستنجاء فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فأما غسل الولوغ عند مالك وأصحابه فليس لنجاسة، وسيأتى بعد هذا، إن شاء الله تعالى. والحجة لقول مالك، والكوفيين أنه معلوم أن الحجر لا ينقى إنقاء الماء، فلما وجب أن يقتصر على الحجر فى ذلك مع بقاء أثر الغائط علم أن إزالة النجاسة سنة، وقد سئل ابن سيرين عن رجل صلى بغير استنجاء، فقال: لا أعلم به بأسًا. وقيل لسعيد بن جبير: إزالة النجاسة فرض؟ فقال: اتل علىَّ به قرآنًا. قال ابن القصار: فرأى أن الفرض لا يكون إلا بقرآن، وقد يكون ببيان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمجمل القرآن، فأما ما يبتدئه (صلى الله عليه وسلم) ، فليس بفرض.(1/245)
ومن الاستنجاء بالأحجار جعل أهل العراق أصلاً أن مقدار الدرهم من النجاسات فما دون، معفو عنه، قياسًا على دود الدبر، لأن الحجر لا يزيل أثر الغائط منه إزالة صحيحة. واختلفوا هل يجوز الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الأحجار من الآجر والخزف، والتراب وقطع الخشب؟ . فأجاز مالك، وأبو حنيفة، والشافعى الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الحجارة فى إزالة الأذى ما لم يكن مأكولاً أو نجسًا. وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار، قاله ابن القصار. وحجة الفقهاء أنه (صلى الله عليه وسلم) لما نهى عن العظم والروث دل أن ما عداهما بخلافهما، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهى فائدة. فإن قيل: إنما نص عليهما تنبيهًا أن ما عداهما فى معناهما. قيل: هذا لا يجوز، لأن التنبيه إنما يفيد إذا كان فى المنبه عليه معنى المنبه له وزيادة. فأما أن يكون دونه فى المعنى فلا يفيد كقوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23] دخل فيه الضرب، لأن الضرب فيه أف، وأبلغ منه، ولو نص على الضرب لم يكن فيه التنبيه على المنع من أف، لأنه ليس فى أف معنى الضرب، وقد قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران: 75] ، فعلم أن من أدى الأمانة فى القنطار كان أولى أن يؤديها فى الدينار، ومن لم يؤدها فى الدينار كان أولى ألا يؤديها فى القنطار، وكذلك ما عدا الروث(1/246)
والرَّمة من الطاهرات، لأنه ليس فى الطاهرات معنى الروث والرَّمة، فلم يقع التنبيه عليها، بل وقع على ما فى معناها من سائر النجاسات التى هى أعظم منها.
- باب لا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ
/ 17 - فيه: عَبْدَاللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِى أَنْ آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: تمت هَذَا رِكْسٌ -. واختلف العلماء فى عدد الأحجار، فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه إن اقتصر على دون ثلاثة أحجار مع الإنقاء جاز. وقال الشافعى: لا يجوز الاقتصار على دون ثلاثة أحجار وإن أنقى. قال الطحاوى: وفى هذا الحديث دليل على أن عدد الأحجار ليس فرض، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) ، قعد للغائط فى مكان ليس فيه أحجار، لقوله لعبد الله: تمت ناولنى ثلاثة أحجار -، ولو كان بحضرته من ذلك شىء لما احتاج أن يناوله من غير ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة فألقى الروثة، وأخذ الحجرين دل ذلك على أن الاستنجاء بهما يجزئ مما يجزئ منه الثلاثة، لأنه لو لم يجز إلا الثلاثة لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثًا. وقال ابن القصار: وقد روى فى بعض الآثار التى لا تصح(1/247)
أنه أتاه بثالث فأى الأمرين كان فالاستدلال لنا به صحيح، لأنه (صلى الله عليه وسلم) اقتصر للموضعين على ثلاثة أحجار، فحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة، لأنه لم يقتصر على الاستنجاء لأحد الموضعين ويترك الآخر. قال: ويحتمل أن يكون أراد بذكر الثلاثة أن الغالب وجود الاستنقاء بها كما ذكر فى المستيقظ من النوم أن يغسل يده ثلاثًا قبل إدخالها الإناء على غير وجه الشرط، والدليل على أن الثلاثة ليست بحدّ أنه لو لم ينق بها لزاد عليها، فنستعمل الأخبار كلها فنحمل أخبارنا على جواز الاقتصار على الثلاثة إذا أنقت ولا يقتصر عليها إذا لم تنق، فعلم أن الفرض الإنقاء. ويجوز أن تحمل الثلاثة على الاستحسان، وإن أنقى بما دونها، لأن الاستنجاء مسح، والمسح فى الشرع لا يوجب التكرار، دليه مسح الرأس والخفين، وأيضًا فإنها نجاسة عفى عن أثرها، فوجب ألا يجب تكرار المسح فيها. وأيضًا فإن الحجر الواحد لو كان له ثلاثة أحرف قام مقام الثلاثة الأحجار فكذلك يقوم الحجر والحجران مقام الثلاثة إذا حصل بها قلع النجاسة. وقوله: تمت هذا ركس - يمكن أن يريد معنى الرجس، ولم أجد لأهل النحو شرح هذه الكلمة والرسول (صلى الله عليه وسلم) أعظم الأمة فى اللغة.(1/248)
- باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً
/ 18 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً.
- باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
/ 19 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
- باب الْوُضُوءِ ثَلاثًا ثَلاثًا
/ 20 - فيه: عُثْمَانَ، أنّه تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ -. وَقَالَ مرةٌ: لأُحَدِّثَنكُمْ حَدِيثًا لَوْلا آيَةٌ فِى كَتاب اللَّه مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: تمت لا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مسلمٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّى الصَّلاةَ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا -. قَالَ عُرْوَةُ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ) [البقرة: 174] . قال الطحاوى: فى هذه الأحاديث دليل أن المفترض من الوضوء هو مرة مرة، وما زاد على ذلك فهو لإصابة الفضل لا الفرض، وأن المرتين والثلاثة من ذلك على الإباحة، فمن شاء توضأ مرة، ومن شاء مرتين، ومن شاء ثلاثًا وهذا قول أهل العلم جميعًا، لا نعلم بينهم فى ذلك اختلافًا.(1/249)
وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الوضوء والحمد لله. وفى حديث عثمان من الفقه أنه فرضٌ على العالم تبليغ ما عنده من العلم وبثه فى الناس، لأن الله قد توعد الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة من الله وعباده، وأخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وهذه الآية وإن كانت نزلت فى أهل الكتاب، فقد دخل فيها كل من علم علمًا تعبد الله العباد بمعرفته، ولزمه من بثَّه وتبلغيه ما لزم أهل الكتاب من ذلك، والله الموفق. قال المهلب: فيه: أن الإخلاص لله فى العبادة، وترك الشغل بأسباب الدنيا يوجب الله عليه الغفران، ويتقبله من عبده، وإذا صح هذا وجب أن يكون من لها فى صلاته عما هو فيه، وشغل نفسه بالأمانى، فقد أتلف أجر عمله، وقد وبخ الله بذلك أقوامًا: (لاهية قلوبهم) [الأنبياء: 3] وقد جاء أن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاهٍ. قال غيره: وأما من وسوس له الشيطان وحدث نفسه فى صلاته بأشياء دون قصد منه لذلك، فإنه يرجى أن تقبل صلاته، ولا تبطل، وتكون دون صلاة الذى لم يحدث نفسه، بدليل أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد اشتغل باله فى الصلاة حتى سها، وهذا قل ما يسلم منه أحد، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الشيطان لا يزال بالمرء فى صلاته يذكره ما لم يكن يذكر حتى لا يدرى كم صلى -. وقوله فى حديث عثمان: تمت لا يحدث فيها نفسه -، يدل على هذا المعنى، لأنه ما ضمنه لمراعى ذلك فى صلاته من الغفران يدل على أنه قل ما تسلم صلاته من حديث نفس.(1/250)
- باب الاسْتِنْثَارِ فِى الْوُضُوءِ
/ 21 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ -. الاستنثار هو دفع الماء الحاصل فى الأنف بالاستنشاق، ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق، والاستنشاق هو أخذ الماء بريح الأنف، وإنما لم يذكر هاهنا الاستنشاق، لأن ذكر الاستنثار دليل عليه إذ لا يكون إلا منه، وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر هذا الحديث، وحمل ذلك أكثر العلماء على الندب، واستدلوا بأن غسل باطن الوجه غير مأخوذ علينا فى الوضوء، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب المضمضة بعد هذا، إن شاء الله.
- باب الاسْتِجْمَارِ وِتْرًا
/ 22 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ ماءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِى وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ -. بعض الرواة يقول فى هذا الحديث: تمت فليجعل فى أنفه ماء -، وهو الاستنشاق، وبعضهم لا يذكر ذلك، والمعنى مفهوم فى رواية من قصر عن ذلك.(1/251)
وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من استجمر فليوتر - فالاستجمار عند العرب: إزالة النجو من المخرج بالجمار، والجمار عندهم الحجارة الصغار، واحتج الفقهاء بهذا الحديث أن عدة الأحجار فى الاستجمار غير واجب. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما قال إبراهيم بن مروان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، قال: حدثنا حصين الحبرانى، قال: حدثنا أبو سعيد الخير، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت من استجمر فليوتر، من فعل هذا فقد أحسن، ومن لا فلا حرج -. فدل فى الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إنما أمر بالوتر فى الآثار الأولى استحبابًا منه للوتر، لا أن ذلك من طريق الفرض الذى لا يجوز إلا هو. واختلف العلماء فى غسل اليد قبل إدخالها الإناء للوضوء فذهب مالك والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى إلى أن ذلك مندوب إليه، وليس بواجب. وقال أحمد: إن كان من نوم الليل دون النهار وجب غسلهما. وذهب قوم إلى أنه واجب فى كل نوم لا لنجاسة، فإن أدخلها قبل غسلهما لم يفسد الماء. وقال الحسن البصرى: إن أدخلهما الإناء قبل غسلهما نجس الماء(1/252)
سواء كان على يده نجاسة أم لا. واحتج الذين أوجبوا غسلهما بأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بغسلهما قبل إدخالهما الإناء أمرًا مطلقًا. قال ابن القصار: فيقال لهم: الحديث يدل على أنه استحباب، لأن الرسول، (صلى الله عليه وسلم) ، علل ونبه بقوله: تمت فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده -. فعلمنا انه على طريق الاحتياط، وأعلمنا أنه ليس لأجل الحدث بالنوم، لأنه لو كان ذلك لم يحتج إلى الاعتلال، لأن قائلاً لو قال: اغسل ثوبك فإنك لا تدرى أى شىء حدث فيه، وهل أصابه نجس أم لا؟ لعلم أن ذلك على الاحتياط، ولم يجب غسله إلا أن تظهر فيه نجاسة. وقال النخعى: كان أصحاب عبد الله إذا ذكر عندهم حديث أبى هريرة، قالوا: كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس الذى بالمدينة؟ . وقال أعمش: عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن البراء بن عازب، أنه كان يدخل يده فى المطهرة قبل أن يغسلها.
- باب الْمَضْمَضَةِ والاسْتَنْشَاقِ فِى الْوُضُوء
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) . / 23 - فيه: عُثْمَانَ، أنًّه دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ،(1/253)
ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاثًا. . .، الحديث. قال ابن القصار: واختلف العلماء فى المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب: فذهب ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنهما سنتان فى الوضوء، وفى غسل الجنابة جميعًا. وذهب إسحاق، وابن أبى ليلى إلى أنهما واجبتان فى الطهارتين جميعًا: الوضوء وغسل الجنابة. وذهب الثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أنهما واجبتان فى غسل الجنابة، وغير واجبتين فى الوضوء، وهو قول إسحاق وحماد بن أبى سليمان. وذهب أحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة غير واجبة فيهما. وحجة القول الأول أنه لا فرض فى الوضوء إلا ما ذكر الله تعالى فى القرآن، وذكر غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. قالوا: وما لم يوجبه الله فى كتابه، ولا أوجبه رسوله، ولا اتفق الجميع عليه فليس بواجب، والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه، وقالوا: الوجه ما ظهر لا ما بطن، وقد أجمعوا أنه ليس عليه غسل باطن عينيه، فكذلك المضمضة والاستنشاق، ورى عن ابن عمر أنه كان يدخل الماء فى عينيه فى وضوئه، ولم يتابع عليه.(1/254)
وحجة الكوفيين قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة -، وفى الأنف ما فيه من الشعر، ولا يُوصَل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت العينان تزنيان والفم يزنى -. وحجة من أوجبهما فى الوضوء والغسل قوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] كما قال فى الوضوء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6] ، فما وجب فى الواحد من الغسل وجب فى الآخر، ولم يحفظ أحد عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أنه ترك ذلك فى وضوئه ولا غسله، وهو المُبَيِّن عن الله تعالى مراده. وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) [فعل] المضمضة ولم يأمر بها، وفعل الاستنشاق وأمر به، وأمره أقوى من فعله.
- باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ
/ 24 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنَّا فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ، وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. هذا الحديث تفسير لقوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) [المائدة: 6] ، والمراد منه غسل الأرجل لا مسحها. قال الطحاوى: وقد ذهب قوم من السلف إلى خلاف هذا، وقالوا: الغرض فى الرجلين هو المسح لا الغسل وقرءوا: تمت وأرجلِكم -(1/255)
بالخفض، روى ذلك عن الحسن البصرى، ومجاهد، وعكرمة، والشعبى. وقال الشعبى: نزل القرآن بالمسح والسنة الغسل، واحتجوا من طريق النظر بالتيمم، وقالوا: لما كان حكم الوجه واليدين فى الوضوء الغسل، وحكم الرأس المسح بإجماع، كان التيمم على الوجه واليدين المغسولين، وسقط عن الرأس الممسوح، كان حكم الرجلين بحكم الرأس أشبه، إذ سقط التيمم عنهما كما سقط عن الرأس. وقال أخرون: تمت أرجلَكم - بالنصب، وقالوا: عاد إلى الغسل، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، والتقدير: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. قال غيره: والقراءتان صحيحتان ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل، وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار، وإتباع اللفظ، والمراد عندهم المعنى، كما قال امرؤ القيس: كبير أناس فى بجاد مزمل فخفض بالجوار، والمزمل الرجل، وإعرابه الرفع، ومثله كثير. وقد تقول العرب: تمسحت للصلاة، والمراد الغسل. وروى أشهب، عن مالك أنه سُئل عن قراءة من قرأ: تمت وأرجلِكم - بالخفض؟ فقال: هو الغسل.(1/256)
قال الطحاوى: وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى وغيرهم، واحتجوا بحديث هذا الباب، وقالوا: لما توعدهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، على مسح أرجلهم علم أن الوعيد لا يكون إلا فى ترك مفروض عليهم، وأن المسح الذى كانوا يفعلونه لو كان هو المراد بالآية، على ما قال الشعبى لكان منسوخًا بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار - ويدل على صحة هذا أن كل من روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صفة الوضوء روى أنه غسل رجليه، لا أنه مسحهما، وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) ما يدل على أن حكمهما الغسل. روى مالك عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه -. فهذا يدل على أن الرجلين فرضهما الغسل، لأن فرضهما لو كان المسح لم يكن فى غسلهما ثواب، ألا ترى أن الرأس الذى فرضه المسح لا ثواب فى غسله، والحجة على من قال بالمسح، ما أدخلوه من طريق النظر، أن يقال لهم: إنا رأينا أشياء يكون فرضها الغسل فى حال وجود الماء ثم يسقط ذلك الفرض فى حال عدم الماء، لا إلى فرض من ذلك الجنب عليه أن يغسل سائر جسده بالماء، فإذا(1/257)
عدم الماء وجب عليه التيمم فى وجهه ويديه، وسقط حكم سائر بدنه بعد الوجه واليدين لا إلى بدل، فلم يدل ذلك أن ما سقط فرضه كان فرضه فى حال وجود الماء المسح فبطلت علة المخالف إذ كان قد لزمه فى قوله مثل ما لزم خصمه، وهذه معارضة صحيحة، قاله الطحاوى.
- باب غَسْلِ الأعْقَابِ
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ. / 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنه قَال للنَّاس، وهم يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ -. قد تقدم القول فى معنى هذا الحديث فى الباب الذى قبل هذا، ونزيده بيانًا، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لما أمرهم بإسباغ الوضوء دل أن فرض الرجلين الغسل، لأنه لما قال: تمت ويل للأعقاب من النار -، والأعقاب غير ممسوحة عند من يقول بالمسح كما لا تمسح من الخفين كان دليلاً أن فرض الرجلين غير المسح، لأنه لما قال لهم: أسبغوا الوضوء، لما تركوا من أرجلهم دل أن الأرجل توضأ، ولا يكون ذلك إلا بالغسل، ولما أراد منهم عموم الرجلين، حتى لا يبقى منها لُمعة كان ذلك دليلا على الغسل لا على المسح، قاله الطحاوى. واختلفوا فى تحريك الخاتم فى الوضوء فممن روى عنه تحريكه على بن أبى طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قول(1/258)
ابن سيرين، والحسن، وعروة، وميمون بن مهران، وحماد الكوفى، وإليه ذهب أبو ثور. ورخص فى ترك تحريكه سالم، وهو قول مالك، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل: إن كان ضيقًا يخلله، وإن كان سلسًا يدعه، وقاله عبد العزيز بن أبى سلمة.
- باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِى النَّعْلَيْنِ، وَلا يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ
/ 26 - فيه: ابن عُمَرَ، أنه كان يَصنَع أَرْبَعًا لَمْ يكن أَحَد مِنْ أَصْحَابِه يَصْنَعُهَا، قَالَ: وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. . . .، وذكر باقى الحديث. فى ترجمة البخارى لهذا الباب رد لما روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه كان يمسح على النعلين فى الوضوء -، وروى أيضًا عن على بن أبى طالب أنه أجاز ذلك، وعن أبى مسعود الأنصارى، والبراء مثله، وروى أيضًا عن النخعى. وحجة هذا القول ما روى حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبى أوس، عن أبيه، أنه كان فى سفر فمسح على نعليه، فقيل له: لم تفعل هذا؟ قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح على النعلين. فأراد البخارى أن يعرفك من حديث ابن عمر أن(1/259)
رواية من روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) المسح على النعلين كان وهمًا، وأنه كان غسلاً بدليل هذا الحديث، ولم يصح عند البخارى حديث المسح على النعلين. وأوس بن أبى أوس من الشيوخ الذين لا يوازون بعبيد بن جريج، عن ابن عمر. وبترك المسح على النعلين قال أئمة الفتوى بالأمصار. فإن قال قائل: فقد روى الثورى عن يحيى بن أبى حية، عن أبى الجلاس، عن ابن عمر، أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه. فدل أن قوله فى حديث عبيد بن جريج: تمت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ فى النعال السبتية - أنه كان يمسح رجليه فى نعليه فى الوضوء لا أنه كان يغسلهما. قيل له: ليس الأمر كما توهمت، ولا يصح عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه، لأن يحيى بن أبى حية ضعيف، ولا حجة فى نقله، والصحيح عن ابن عمر بنقل الأئمة: تمت أنه كان يغسل رجليه ولا يمسح عليهما -. روى أبو عوانة، عن أبى بشر، عن مجاهد أنه ذكر له المسح على القدمين، فقال: تمت كان ابن عمر يغسل رجليه غسلا، وكنت أسكب عليه الماء سكبًا -. وروى عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مثله. وقال عطاء: لم يبلغنى عن أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه مسح على نعليه. فهذا أبو هريرة مما روى عن ابن عمر أنه مسح على نعليه.(1/260)
قال الطحاوى: ونظرنا فى اختلاف هذه الآثار لنعلم صحيح الحكم فى ذلك، فرأينا الخفين الذين جوز المسح عليهما إذا تخرقا حتى بدت القدمان منهما أو أكثرهما، فكل قد أجمع أنه لا يمسح عليهما فلما كان المسح على الخفين إنما يجوز إذا غيبا القدمين، ويبطل إذا لم يغيبا القدمين، وكانت النعلان غير مغيبة للقدمين ثبت أنها كالخفين اللذين لا يغيبان القدمين، فلا يجوز المسح عليهما. والنعال السبتية هى التى لا شعر فيها. قال صحاب العين: سبت رأسه إذا حلقه، وسأزيد فى شرحه فى كتاب اللباس، فى باب النعال السبتية إن شاء الله.
- باب التَّيَمُّنِ فِى الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ
/ 27 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النَّبِىُّ قَالَ لَهُنَّ فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: تمت ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا -. / 28 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: أن النَّبِىُّ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. قال المهلب: فيه فضل اليمين على الشمال، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) حاكيا عن ربه: تمت وكلتا يديه يمين -، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) [الحاقة: 19] ، وهم أهل الجنة، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يبصق أحد فى المسجد عن يمينه - فهذا كله يدل على فضل الميامن.(1/261)
واستحب جماعة فقهاء الأمصار أن يبدأ المتوضئ بيمينه، قبل يساره، فإن بدأ بيساره قبل يمينه فلا إعادة عليه. وقد روى عن على، وابن مسعود أنهما قالا: لا تبالى بأى يديك ابتدأت. وبدؤه (صلى الله عليه وسلم) بالميامن فى شأنه كله، والله أعلم، هو على وجه التفاؤل من أهل اليمين باليمين، لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان يعجبه الفأل الحسن. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت وكلتا يديه يمين -، أراد نفى النقص عنه، عز وجل، لأن الشمال أنقص من اليمين.
- باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتِ الصَّلاةُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتُمِسَ الْمَاءُ، فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ. / 29 - فيه: أَنَسِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى ذَلِكَ الإنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. قال: الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت بإجماع الأمة، وعند وجوبها يجب التماس الماء للوضوء لمن كان على غير طهارة، والوضوء قبل الوقت حسن، لأنه من التأهب للصلاة، ألا ترى أن(1/262)
التأهب للعدو قبل لقائه حسن؟ وليس التيمم هكذا، ولا يجوز عند أهل الحجاز التيمم للصلاة قبل وقتها، وأجازه أهل العراق، ولهذا أجازوا صلوات كثيرة بتيمم واحد. قال المهلب: وفيه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة، لأنه إذا أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالماء لم يكن أحد أحق به من غيره بل كانوا فيه سواء. فعرضته على بعض أهل العلم، فقال: ليس فى الحديث ما يدل على ارتفاع مالك مالكه، ولا فى الأصول ما يرفع الأملاك عن أربابها إلا برضى منهم، ولعله أراد أن المواساة لازمة عند الضرورة لمن كان فى مائه فضل عن وضوئه. قال عبد الواحد: مما يدل على أن ليس فى إتيانهم بالماء ارتفاع ملك مالكه أنه لو لم يكن فى ذلك الماء غير ما يفوت وضوء الآتى به لم يجز له أن يعطيه لغيره ويتيمم، لأنه كان يكون واجدًا للماء، فلا يجزئه التيمم إلا أن يكون الرسول أو إمام المسلمين فينبغى أن يفضله به على نفسه، لحاجة الإمام إلى كمال الطهارة، وأنها فيه أوكد من سائر الناس، والماء الذى أتى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يرتفع ملك أحد عنه، لأن من أتى به فقد توضأ به، والماء الذى ينبع وعم الناس كان ببركة النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ومن أجله، فلم يكن لأحد تملكه. وقال المزنى: ما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من هذه الآية العظيمة، والعلم الجسيم فى نبع الماء من بين أصابعه أعظم مما أوتيه موسى حين(1/263)
ضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لأن الماء معهود أن تنفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين أصابع أحد غير نبينا. وقال المهلب مثله، وزاد: أن الماء كان بمقدار وضوء رجل واحد، وعم أهل العسكر أجمعين ببركته (صلى الله عليه وسلم) . وهذا الحديث شهده جماعة كثيرة من أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك، والله أعلم، لطول عمره، ولطلب الناس العلو فى السند.
- باب الْمَاءِ الَّذِى يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإنْسَانِ
وَكَانَ عَطَاءٌ لا يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ. وَسُؤْرِ الْكِلابِ وَمَمَرِّهَا فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ الزُّهْرِىُّ: إِذَا وَلَغَ فِى إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، لقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) [المائدة: 6] وَهَذَا مَاءٌ، وَفِى النَّفْسِ مِنْهُ شَىْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ. / 30 - فيه: ابْنِ سِيرِينَ، قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ عِنْدِى شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. / 31 - وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ.(1/264)
قال المهلب: هذه الترجمة أراد بها البخارى رد قول الشافعى أن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نجس، وإذا وقع فى الماء نجسه، وذكر قول عطاء: أنه لا بأس باتخاذ الخيوط منها والحبال، ولو كان نجسًا لَمَا جاز اتخاذه. ولمَّا جاز اتخاز شعر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، والتبرك به، علم أنه طاهر، وعلى قول عطاء جمهور العلماء. قال المهلب: وفى حديث أنس دليل على أن ما أخذ من جسد الإنسان من شعر أو ظفر أنه ليس بنجس، وقد جعل خالد بن الوليد فى قلنسوته من شعر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فكان يدخل بها فى الحرب فسقطت له يوم اليمامة، فاشتد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لقتله من قتل فيها من المسلمين، فقال: إنى لم أفعل ذلك لقيمتها، لكنى كرهت أن تقع بأيدى المشركين وفيها من شعر الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وأما قوله: تمت إن أبا طلحة أول من أخذ من شعر النبى -، فإنه (صلى الله عليه وسلم) ، لما حلق رأسه ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس، ذكر ذلك ابن المنذر. قال: ومن قول أصحابنا: أن من مس عضوًا من أعضاء زوجته أن عليه الوضوء، وليس على من مس شعرها طهارة. وذكر فى الباب أربعة أحاديث فى الكلب: / 32 - أولها: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا -.(1/265)
/ 33 - وحديثه (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَنَّ رَجُلا رَأَى كَلْبًا يَأْخُذُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ -. / 34 - وحديث حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتِ الْكِلابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِى الْمَسْجِدِ فِى زَمَانِ النَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. / 35 - وحديث عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ، فَكُلْ -. وهذه الأحاديث معلقة بقوله فى الترجمة: وسؤر الكلاب وممرها فى المسجد، فتقدير الترجمة باب الماء الذى يغسل به شعر الإنسان، وباب سؤر الكلاب، وغرضه فى ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. واختلف العلماء فى الماء الذى ولغ فيه الكلب: فقالت طائفة: الماء طاهر يتطهر به للصلاة ويغتسل به إذا لم يجد غيره. هذا قول الزهرى، ومالك والأوزاعى. وقال الثورى، وابن الماجشون، وابن مسلمة من أصحاب مالك، يتوضأ به ويتيمم، جعلوه كالماء المشكوك فيه. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، والشافعى، وأبو ثور إلى أن كل ما ولغ فيه الكلب نجس، ذكره ابن المنذر.(1/266)
وحكى الطحاوى عن الأوزاعى: أن سؤر الكلب فى الإناء نجس، وفى الماء المستنقع ليس بنجس. قال ابن القصار: والدليل على طهارته أمره (صلى الله عليه وسلم) بغسل الإناء سبعًا، ولو كان منه نجاسة لأمر بغسله مرة واحدة، إذا التعبد فى غسل النجاسة إزالتها لا بعدد من المرات، وقد يجوز أن يؤمر بغسل الطاهر مرارًا لمعنى كغسل أعضاء الوضوء مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، والغرض منها مرة واحدة، وقد قال مالك: إذا ولغ فى الطعام أكل الطعام، ويغسل الإناء سبعًا، اتباعًا للحديث. قال ابن القصار: والدليل على طهارة الكلب أيضًا أنه قد ثبت فى الشرع أن الطاهر هو الذى أبيح لنا الانتفاع به مع القدرة على الامتناع منه لا لضرورة، والنجس ما نهى عن الانتفاع به مع القدرة عليه، وقد قامت الدلالة على جواز الانتفاع بالكلب لا لضرورة كالصيد وشبهه، وإنما أمر بغسل الإناء سبعًا على وجه التغليظ عليهم، لأنهم نهوا عنها لترويعها الضيف، والمجتاز كذلك. قال ابن عمر، والحسن البصرى: فلما لم ينتهوا، غلظ عليهم فى الماء لقلة المياه عندهم فى البادية حتى يشتد عليهم، فيمتنعون من اقتنائها، لا لنجاسة. قال المهلب: وأما حديث الذى سقى الكلب، فغفر له، ففيه دليل على طهارة سؤره، لأن الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شك أن سؤره بقى فيه واستباح لباسه فى الصلاة وغيرها دون غسله، إذا لم يذكر فى الحديث أنه غسله.(1/267)
قال غيره: وفيه وجه آخر، وذلك قوله: تمت فجعل يغرف حتى أرواه -. وذلك يدل أنه تكرر فعله فى تناوله الماء من البئر حتى أرواه مرة بعد أخرى، ولو كان سؤره نجسًا لأفسد البئر بذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل أن فى كل كبد رطبة أجر، كان مأمورًا بقتله أو غير مأمور، فكذلك يجب أن يكون فى الأسرى من الكفار، لأن التعطيش، والتجويع تعذيب، والله تعالى لا يريد أن يعذب خلقه بل تمثل فيهم فضله من الإحسان على عصيانهم. وفى حديث حمزة أن الكلب طاهر، لأن إقبالها وإدبارها فى الأغلب أن تجر فيه أنوفها وتلحس فيه الماء وفتات الطعام، لأنه كان مبيت الغرباء والوفود، وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان الكلب نجسًا لمنع من دخول المسجد لاتفاق المسلمين أن الأنجاس تجنب المساجد، قال الله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة: 28] . وقوله: تمت تقبل وتدبر - يدل على تكررها على ذلك، وتركهم لها يدل على أنه لا نجاسة فيها، لأنه ليس فى حىٍّ نجاسة. وقد روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب زيادة فى هذا الحديث عن ابن عمر، قال: تمت كانت الكلاب تبول، وتقبل وتدبر فى المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك -. ورواه أبو داود. وأما حديث عدى، فهو أدل شىء على طهارة الكلب ولعابه، وقد(1/268)
احتج مالك على طهارته بقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم) [المائدة: 4] ، ومعلوم أنه إذا أمسك علينا فلابد من وصول لعابه مع أسنانه إلى جسم الصيد، ومعلوم أنهم فى مواضع الصيد يسمطونه ويشوونه بغشل وبغير غسل، ولو كان لعابه نجسًا لبيَّن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لمن صاده فى مكان لا ماء فيه أن لا يحل له أكله، فلما لم يأت فى هذا بيان منه، علم أنه مباح أكله، وإن لم يغسل من لعاب الكلب، إذ تداخله وغاص فيه. وقال ابن القصار: وأيضًا فإن الله تعالى جعل الكلب المعلم مذكيًا للصيد، ومحال أن يبيحنا تزكية نجس العين، وكل حى حصلت منه التذكية فهو طاهر العين كابن آدم. وقال محمد بن الجهم، ومحمد بن سحنون: اختلف قول مالك فى غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقيل: إنه جعل معنى الحديث فى الكلب الذى لم يؤذن فى اتخاذه، وقيل: إنه جعله عامًا فى كل كلب، فالقول الأول هو قول محمد بن المعدل، وغسله عند مالك مسنون إذا أريد استعماله، فإن لم يرد استعماله لم يجب غسله. قال ابن القصار: وهذا مذهب الفقهاء إلا قوامًا من المتأخرين حكى عنهم أنه يجب غسله سبعًا سواء أريد استعماله أو لم يرد. قال المؤلف: ومن جعل سؤر الكلب نجسًا فغسل الإناء من ولوغه عنده فرض، ولا يُغسل الإناء عند مالك إذا ولغ فى لبن، أو طعام يؤكل الطعام واللبن، وإنما يُغسل فى الماء وحده، هذا قوله فى(1/269)
المدونة، وذكر ابن حبيب عن مالك أن الإناء يغسل، وإن ولغ فى ماء أو لبن أو طعام. واختلفوا فى عدد غسل الإناء من ولوغه: فذهب ابن عباس، وعروة، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أن يغسل سبعًا اتباعًا لحديث أبى هريرة. وقال الحسن البصرى: يغسل سبعًا والثامنة بالتراب، واحتج فى ذلك بما رواه شعبة عن أبى التياح، عن مطرف بن عبد الله، عن عبد الله بن مغفل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر بقتل الكلاب، ثم قال: تمت ما لى وللكلاب -، ثم قال: تمت إذا ولغ الكلب فى إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب -. وروى عطاء عن أبى هريرة فى الإناء يلغ فيه الكلب، قال: يُغسل ثلاثًا، وهو قول الزهرى. وقال عطاء: كلا، قد سمعت: سبعًا، وخمسًا، وثلاث مرات. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُغسل من ولوغ الكلب كما يُغسل من سائر النجاسات ولا عدد فى ذلك. وأولى ما قيل به فى هذا الباب حديث أبى هريرة فى الغسل سبعًا، فهو أصح من حديث ابن مغفل، ومن كل ما روى فى ذلك، فقد اضطرب حديث ابن مغفل، فروى مرة عن شعبة، عن أبى التياح، عن مطرف، عن ابن مغفل، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أمر بقتل الكلاب، ورخص فى كلب الزرع والصيد -. وروى مرة على خلاف هذا.(1/270)
وروى أبو شهاب، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن ابن مغفل، قال: تمت لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم -. ومثل هذا الاضطراب يوجب سقوط الحديث.
30 - بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ
بِقَوْلُهِ تَعَالَى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) [المائدة: 6] . وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ، أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِى الصَّلاةِ أَعَادَ الصَّلاةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ، أَوْ مِنْ أَظْفَارِهِ، أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ، فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا وُضُوءَ إِلا مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَرُمِىَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ، وَسَجَدَ، وَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِى جِرَاحَاتِهِمْ.(1/271)
وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ فِى الدَّمِ وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا دَمُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَبَزَقَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى دَمًا، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ احْتَجم: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ. هكذا رواه المستملى وحده بإثبات تمت إلا -، ورواه الكشميهنى وأكثر الرواة بغير تمت إلا -، فالمعروف عن ابن عمر، والحسن أن عليّا غسل محاجمه، ذكره ابن المنذر، فرواية المستملى هى الصواب. / 36 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِى صَلاةٍ مَا دام فِى الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ -. فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِىٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ، يَعْنِى الضَّرْطَةَ. / 37 - فيه: عبد اللَّه بن زيد، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا تَنْصَرِفْ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ رِيحًا -. / 38 - وفيه: الْمِقْدَادَ، أنه سأل النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، عن المذى، فَقَالَ: - فِيهِ الْوُضُوءُ -. / 39 - وفيه: عُثْمَانَ، عن النبِى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُمْنِ؟ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ -. وقال ذلك: عَلِىًّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ. / 40 - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ(1/272)
الأنْصَارِ، فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ -؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أُقُحِطْتَ، فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ -. قال المؤلف: أما المخرجان فعند أبى حنيفة والشافعى أن كل ما يخرج منهما حدث ينقض الوضوء، نادرًا أو معتادًا، وعند مالك أن ما يخرج من المخرجين معتادًا أنه ينقض الوضوء، وما خرج نادرًا على وجه المرض لا ينقض الوضوء، كالاستحاضة، وسلس البول، والمذى، والحجر، والدود، والدم، وأما ما خرج من بدن الإنسان من الأنجاس من غير المخرجين كالقىء والرعاف، أو دم فصاد، أو دمل فلا وضوء عليه فيه عند جماعة العلماء، لا وضوء فى الجشاء المتغير، وهذا مذهب جماعة من الصحابة، وهو قول الحسن، وربيعة ومكحول، ومالك، والشافعى، وأبى ثور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوضوء فيما سال من ذلك وكثر، وإن لم يسل فلا وضوء عليه فيه، وكذلك القىء إن ملأ الفم ففيه الوضوء عنده، وإن كان دون ذلك فلا وضوء فيه، وممن كان يوجب فى الدم الوضوء. قال مجاهد فى الخدش يخرج منه الدم: يتوضأ وإن لم يسل. وقال سعيد بن جبير: لا يتوضأ حتى يسيل. وممن أوجب الوضوء فى الرعاف: سعيد بن المسيب، وعطاء، والثورى، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل. وذكر ابن المنذر عن ابن عمر، والحسن، وعطاء، أنهم كانوا يرون من الحجامة الوضوء وغسل أثر المحاجم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وأحمد.(1/273)
قال ابن المنذر: وقد روينا عن غير واحد أنهم كانوا يغتسلون من الحجامة، روى ذلك عن على، وابن عباس، ومجاهد، وابن سيرين. وذكر عن ابن عمر، والحسن البصرى، رواية أخرى: أنه لا وضوء من الحجامة، وإنما عليه غسل مواضعها فقط، وهو قول مالك، وأهل المدينة، والليث، والشافعى، وأبى ثور. وقال الليث: يجزئه أن يمسحه ويصلى ولا يغسله. وعلى هذا الفصل بوِّب البخارى هذا الباب رادًا عليه، أن لا وضوء إلا من المخرجين وذكر قول الصحابة والتابعين، أنه لا وضوء من الدم، ولا من الحجامة، واحتج بقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) [النساء: 43، المائدة: 6] ، وحديث الذى رمى بسهم فنزفه الدم، ومضى فى صلاته حجة فى أن الدم لا ينقض الوضوء. وسائر أحاديث الباب حجة فى أن لا وضوء إلا من المخرجين. وقول عطاء فيمن خرج من دبره الدود، ومن ذكره نحو القملة، يعيد الوضوء، فهو مذهب أبى حنيفة والشافعى، فأما مالك فلا يوجب فى شىء من ذلك وضوءًا إلا أن يخرج معهما شىء من حدث. وقول جابر: إذا ضحك فى الصلاة أعاد الصلاة. فهو إجماع من العلماء، وإنما الخلاف هل ينقض وضوءه أم لا؟ . فذهب مالك والليث والشافعى إلى أنه لا ينقض وضوءه. وذهب الحسن والنخعى إلى أن الضحك فى الصلاة ينقض الوضوء، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى.(1/274)
وحجة من لم ير الوضوء من الضحك: أنه لما لم يكن حدثًا فى غير الصلاة لم يكن حدثًا فى الصلاة. وقول الحسن: من أخذ من شعره أو أظفاره، فلا وضوء عليه، هو قول أهل الحجاز والعراق. وروى عن أبى العالية، والحكم، ومجاهد، وحماد إيجاب الوضوء فى ذلك. وقال عطاء والشافعى والنخعى يمسه بالماء. وأما من خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيهما أربعة أقوال: قال مكحول، والنخعى، والزهرى، وابن أبى ليلى، والأوزاعى، وأحمد وإسحاق: يستأنف الوضوء من أوله، وهو قول الشافعى القديم. وقال مالك والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن لم يغسل استأنف الوضوء. وقال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى فى الجديد، والمزنى، وأبو ثور: يغسل رجليه إذا أراد الصلاة، ومن جعل الرتبة مستحبة فى الوضوء من أصحاب مالك يقول مثل هذا. وقال الحسن البصرى: لا شىء عليه ويصلى كما هو، وهو قول مالك، وروى مثله عن النخعى. وحديث الذى نزفه الدم من السهم، ومضى فى صلاته، يدل أن الرعاف والدم لا ينقضان الوضوء، وهو قول أهل الحجاز، وهو رد على أبى حنيفة.(1/275)
وفى الحجامة عند أبى حنيفة وأصحابه: الوضوء، وهو قول أحمد بن حنبل. وعند ربيعة، ومالك، والليث، وأهل المدينة: لا وضوء فى الحجامة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وقالوا: ليس فى الحجامة إلا غسل مواضعها فقط. وقال الليث: يجزئ أن يمسحه ويصلى ولا يغسله وسائر ما ذكره البخارى فى هذا الباب من أقوال الصحابة والتابعين أنه لا وضوء من الدم والحجامة مطابق للترجمة أنه لا وضوء فى غير المخرجين، وكذلك أحاديث الباب حجة فى ذلك أيضًا. وقوله: تمت الحدث الضرطة، ولا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا -، هو إجماع من العلماء. وحديث المقداد فى المذى، مجمع عليه أن فيه الوضوء أظنه إلا أن يسلس منه عند مالك فهو مرض، ولا يكون فيه الوضوء، وحجته فى مراعاة المعتاد من المخرجين قوله (صلى الله عليه وسلم) فى دم الاستحاضة: تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيض -، فعلل (صلى الله عليه وسلم) دم الاستحاضة بأنه عرق، ودم العرق لا يوجب وضوءًا، وسيأتى هذا المعنى مبينًا فى مواضعه، إن شاء الله. وأما حديث عثمان وأبى سعيد فأقل أحوالهما حصول المذى لمن جامع ولم يمن، فهما فى معنى حديث المقداد من وجه إلا أن جماعة العلماء، وأئمة الفتوى مجمعون على الغسل من مجاوزة الختان، لأمر(1/276)
رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) ، بذلك، وهو زيادة بيان على حديث عثمان وأبى سعيد، يجب الأخذ بها إذ الأغلب فى ذلك سبق الماء للمولج وهو لا يشعر به لمغيب العضو، إذ ذلك بدء اللذة، وأول العسيلة، فالتزم المسلمون الغسل من مَغيِب الحشفة بالسنة الثابتة فى ذلك، وشذ عن جماعتهم جاهل، خرق الإجماع وخالف سبيل المؤمنين الذين أمرنا باتباعهم، فلا يلتفت إليه ولا يعد خلافًا، وسيأتى الكلام فى هذا المعنى مستوعبًا فى باب الغسل، إن شاء الله. وقوله: تمت أو قحطت - هكذا وقع فى الأمهات وذكر صاحب الأفعال قال: يقال: أقحط الرجل إذا أكسل فى الجماع عن الإنزال، ولم يذكر قحط، والله أعلم.
31 - باب الرَّجُلُ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ
/ 41 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ أُسَامَةُ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: تمت الْمُصَلَّى أَمَامَكَ -. / 42 - وفيه: الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، فِي سَفَرٍ وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجته، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قوله: تمت فجعلت أصب الماء عليه ويتوضأ -،(1/277)
فيه ما تُرجم به وهو قول جماعة العلماء، وهذا الباب رد لما روى عن عمر، وعلى، أنهما نهيا أن يستقى لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشركنا فى الوضوء أحد، ورويا ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولما روى عن ابن عمر أنه قال: ما أبالى أعاننى رجل على طهورى، أو على ركوعى وسجودى. وهذا كله مردود بآثار هذا الباب. قال الطبرى: وقد صح عن ابن عمر أن ابن عباس صب على يدى عمر الوضوء بطريق مكة، حين سأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وثبت عن ابن عمر خلاف ما ذُكر عنه، وروى شعبة، عن أبى بشير، عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر الماء، فيغسل رجليه. وهذا أصح مما خالفه عن ابن عمر، لأن راويه أيفع، وهو مجهول. والحديث عن على لا يصح، لأن راويه النضر بن ميمون، عن أبى الجنوب، عن على، وهما غير حجة فى الدين، فلا يعتد بنقلهما، ولو صح ذلك عن عمر لم يكن بالذى يبيح لابن عباس صب الماء على يديه للوضوء إذ ذاك أقرب للمعونة من استقاء الماء له، ومحال أن يمنع عمر استقاء الماء له ويبيح صب الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الكراهية لذلك. وممن كان يستعين على وضوئه بغيره من السلف، قال الحسن: رأيت عثمان أمير المؤمنين يصب عليه من إبريق، وفعله عبد الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس للمريض أن توضئه الحائض. قال غيره: واستدل البخارى من صب الماء عليه عند الوضوء أنه(1/278)
يجوز للرجل أن يوضئه غيره، لأن لما لزم المتوضئ اغتراف الماء من الإناء لأعضائه وجاز له أن يكفيه ذلك غيره، بدليل صب أسامة الماء على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لوضوئه، والاغتراف بعض عمل الوضوء، فكذلك يجوز سائر الوضوء، وهذا من باب القربات التى يجوز أن يعملها الرجل عن غيره بخلاف الصلاة. ولما أجمعوا أنه جائز للمريض أن يوضئه غيره وييممه غيره إذا لم يستطع، ولا يجوز أن يصلى عنه إذا لم يستطع، دل أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة.
32 - باب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ
قَالَ إِبْرَاهِيمَ: لا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِى الْحَمَّامِ، وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ، وَإِلا فَلا تُسَلِّمْ. / 43 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) - وَهِيَ خَالَتُهُ - فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ. . . . وذكر باقى الحديث. فى هذا الحديث من الفقه رد على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبًا، وهو الحجة الكافية فى ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران بعد قيامه من نومه قبل(1/279)
وضوئه، وقد قال عمر بن الخطاب لأبى مريم الحنفى، حين قال له: أتقرأ يا أمير المؤمنين على غير وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا أمسيلمة؟ وحسبك بعمر فى جماعة الصحابة، وهم القدوة الذين أُمرنا باتباعهم، ومن الحجة لهذه المقالة أيضًا أن الله لم يوجب فرض الطهارة على عباده المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة، وقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه خرج من الخلاء فأتى بطعام، فقيل له: ألا تتوضأ، فقال: تمت أريد أن أصلى فأتوضأ -؟ فرأى (صلى الله عليه وسلم) تأخير الطهارة بعد الحدث إلى حال إرادته الصلاة. وكره جمهور العلماء مس المصحف على غير وضوء، وأجازه الشعبى، ومحمد بن سيرين. واختلف العلماء فى قراءة الجنب للقرآن، فروى عن جماعة من السلف أنه ممنوع من ذلك، وأجاز ذلك آخرون، وسيأتى ذكر ذلك بعد هذا، إن شاء الله. واختلفوا فى القراءة فى الحمام، فأجازه النخعى ومالك، وكرهه أبو وائل، والشعبى ومكحول، والحسن.
33 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلا مِنَ الْغَشْىِ الْمُثْقِلِ
/ 44 - فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حِينَ كسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ،(1/280)
فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِى الْغَشْىُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِى مَاءً. . . . . وذكر باقى الحديث. قال عبد الواحد: الغشى: مرض يَعْرِض من طول التعب والوقوف، يقال فيه: غشى عليه، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنه أخف منه إذا كان خفيفًا، ولا ينقض الوضوء، ولا الصلاة، وإنما صَبت أسماء الماء على رأسها مدافعة للغشى، ولو كان كثيرًا لقطعت الصلاة، لأنه إذا كثر صار كالإغماء، ونقض الوضوء بإجماع. وقال صاحب العين: غشى عليه: ذهب عقله، وفى القرآن) كالذى يغشى عليه من الموت) [الأحزاب: 19] ، وقال: (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) [يس: 9] .
34 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) [المائدة: 6]
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا. وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. / 45 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أن رجلاً قَالَ لهُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِى كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيه مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ(1/281)
رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة: 6] . فقالت طائفة: المراد منه مسح جميع الرأس، واحتجوا فى ذلك بحديث عبد الله بن زيد، قالوا: وهذا الحديث يدل على عموم الرأس بالمسح كعموم ما سواه من الأعضاء بالغسل، هذا قول مالك. وقال آخرون: بل الفرض مسح بعضه، واختلف أهل هذه المقالة فى مقدار الممسوح منه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إن مسح ربع رأسه أجزأه، ويبدأ بمقدم رأسه. وقال الحسن بن حى: يبدأ بمؤخر رأسه، وقال محمد بن مسلمة صاحب مالك: يجزئه أن يمسح ثلثى رأسه. وقال أشهب: إن اقتصر على ثلثه أجزأه. ذكره عنه ابن القصار، وروى البرقى، عن أشهب فيمن مسح مقدم رأسه: يجزئه، وهو قول الأوزاعى، والليث. قال: وذكر ابن القصار عن الثورى والشافعى: يجزئه مسح ما يقع عليه الاسم، وقالوا: المسح فى لسان العرب ليس من شأنه الاستيعاب، واحتج الطحاوى لأصحابه، قال: لما احتمل قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) [المائدة: 6] مسح جميع الرأس واحتمل مسح بعضه، ودلت السنة فى حديث المغيرة أن بعضه يجزئ دل أن ذلك هو الفرض. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمرو بن(1/282)
وهب الثقفى، عن المغيرة ابن شعبة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح بناصيته، وعلى عمامته. ورواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن المغيرة. وقالوا فى حديث عبد الله بن زيد، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح رأسه كله، وليس فى ذلك ما يدل على أنه الفرض لأنا رأيناه (صلى الله عليه وسلم) توضأ مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا لا على أن ذلك هو الفرض، ولكن منه فرض، ومنه فضل، ولما اكتفى (صلى الله عليه وسلم) بمسح الناصية عن مسح بقية الرأس، دل أن الفرض فى مسحه هو مقدار الناصية وأن ما فعله فى حديث عبد الله بن زيد وغيره مما جاوز به الناصية، كان على الفضل لا على الوجوب لا تَتضادّ الأحاديث. قالوا: ومن طريق النظر: أنَّا ومخالفونا نمسح على الخفين ونُجمعُ على أن المسح عليهما لا يعمهما، لأن من كان منا يمسح عليهما خطوطًا بالأصابع يقول: لا يمسح جانبيهما، ولا أعقابهما، ولا بطونهما، ومن كان منا يمسح على ظهورهما، وعلى بطونهما لا يمسح على جوانبهما، ولا على أعقابهما، فدل ذلك على أن ما فرضه المسح لا يراد عمومه، وإنما يراد بعضه. فأدخل عليهم الآخرون، وقالوا: وجدنا المتيمم يعم بالمسح الوجه واليدين، فكذلك المسح فى الوضوء، ينبغى أن يعم به العضو الممسوح قياسًا ونظرًا، ولأن الأمة مجمعة أن من مسح برأسه كله فهو مؤَدٍّ لفرضه، واختلفوا فيمن مسح بعضه، فالواجب أن لا يؤدى فرض الوضوء إلا بيقين، وهو مسح الرأس كله. فكان من حجة الآخرين عليهم أن التيمم يشبه بعضه بعضًا، ومنه التيمم على الوجه يعم به، ومن التيمم على اليدين تُعَمَّان، والوضوء(1/283)
ليس كذلك، فمنه المسح على الخفين اللذين لا يُعمَّان به، والمسح على الرأس الذى منه أشبه بالمسح على الخفين الذى منه، من مسح التيمم الذى ليس منه، وقياس مسح الوضوء على مسح الوضوء أصح من قياسه على مسح التيمم، هذا قول الطحاوى. وقال غيره: ويقال لمن زعم أن مسح الوجه فى التيمم لا يجزئ بعضه: فكذلك مسح الرأس، لأن مسح الوجه فى التيمم بدل من عموم غسله، فلابد أن يأتى بالمسح على جميع مواضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل، فهذا فرق ما بينهما. واحتج الذين قالوا بمسح جميع الرأس بأن الباء فى قوله: (برءوسكم) [المائدة: 6] للإلصاق لا للتبعيض، وهو قول سيبويه وغيره، لا اختلاف فى ذلك بين بصرى وكوفى كقوله: (وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29] ، وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس. قال ابن القصار: ويقال لمن احتج بأنه (صلى الله عليه وسلم) ، مسح بناصيته: يحتمل أن يراد البعض، وأن يرد الكل، كقوله تعالى: (فيؤخذ بالنواصى والأقدام) [الرحمن: 41] ، فالنواصى هاهنا الرءوس، ولا يجوز أن يراد بعضها، والحديث غير صحيح، لأن راويه عن أنس معقل بن مسلم، وصحيحه مرسل عن المغيرة، ولو صح كانت لنا فيه حجة، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما لم يقتصر على مسح الناصية حتى قرن إلى ذلك مسح العمامة عُلِمَ أنه لا يجوز الاقتصار على الناصية، ويصرف مسحه على العمامة إلى العذر.(1/284)
وأيضًا فإن الصحابة بأجمعها نقلت وضوء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قولاً وفعلاً أنه مسح رأسه كله، وشذت رواية أنه مسح بناصيته، وحكت منه فعلة وقعت فى بعض الأوقات، فكان حملها على العذر أولى، لأنه لو أراد أن يُعَلِّم الناس الواجب لبين ذلك، كما قال لما توضأ مرة مرة: تمت هذا صفة الوضوء الذى لا يقبل الله الصلاة إلا به -. قال عبد الواحد: ولا حجة للحسن بن حى فى قوله فى الحديث: تمت فأقبل بهما وأدبر - على جواز أن يبدأ بمؤخر رأسه بالمسح، لأن قوله: تمت فأدبر بهما وأقبل - يحتمل التقديم والتأخير، إذ لا توجب الواو رتبة، وقد خرج البخارى هذا الحديث فى باب الوضوء من التور، وقال فيه: تمت فأدبر بهما وأقبل -. وهذا نص أنه بدأ بمقدم رأسه، وقد بين ذلك ما رواه مالك فى حديث هذا الباب، قال: تمت فأقبل بهما وأدبر بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه -. وفى حديث هذا الباب جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرتين، وبعضهما ثلاثًا فى وضوء واحد، دليل على جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرة، وبعضها أكثر من ذلك. وقوله: تمت ثم - فى جميع الحديث لم يرد بها المهلة، وإنما أراد بها الإخبار عن صفة الغسل، وتمت ثم - هاهنا بمعنى تمت الواو -.(1/285)
35 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
/ 46 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أنه تَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِيهِ مِنَ التَّوْرِ، وَغَسَلَهما ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِى التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهِ اليمنى إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. قد تقدم القول فى غسل الرجلين، وما للعلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر فى هذا الباب من ذلك ما لم يتقدم، وذلك قوله: تمت فغسل يديه إلى المرفقين وغسل رجليه إلى الكعبين -. فذهب جمهور العلماء إلى أن المرفقين يدخلان فى غسل الذراعين فى الوضوء، وهو قول مالك فى رواية ابن القاسم، وقول الكوفيين والشافعى وأحمد وجماعة. وخالف زفر أصحابه، وقال: لا يجب غسل المرفقين. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى المجموع قال: ليس عليه مجاوزة المرفقين ولا الكعبين فى الغسل، وإنما عليه أن يبلغ إليهما. واحتج زفر بأن الله تعالى أمر بغسلهما إلى المرافق وجعل المرافق حدًا والحد لا يدخل فى المحدود، كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] ، فجعل الليل حدا للصوم، ولم يدخل شىء من الليل فيه، وكما نقول: دار فلان تنتهى إلى دار فلان، فتكون دار فلان حدًا لها، ولا تدخل دار فلان فى داره وكذلك هاهنا. وقال الطبرى: كل غاية حُدَّتْ ب تمت إلى -، فقد تحتمل فى كلام(1/286)
العرب دخول الغاية فى الحد وخروجها منه، وإذا احُتمِلَ ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيها إلا لمن لا يُجوِّز خلافه، ولا حكم فى ذلك عندنا ممن يجب التسليم لحكمه. وحجة الجماعة: أن قوله تعالى: (إلى المرافق) [المائدة: 6] بمعنى مع، وبمعنى الواو وتقديره: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم والمرافق، أو مع المرافق، كما قال تعالى: (من أنصارى إلى الله) [آل عمران: 52] ، أى مع الله) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) [النساء: 2] ، أى مع أموالكم. وقد قال بعض أهل الفقه: لا يحتاج إلى هذا التأويل، ولو كما تأوله لوجب غسل اليد من أطراف الأصابع إلى أصل الكتف، ولا يجوز أن تخرج تمت إلى - عن بابها، وذلك لأنها بمعنى الغاية أبدًا وجائز أن تكون بمعنى الغاية، وتدخل المرافق فى الغسل، لأن الثانى إذا كان من الأول كان ما بعد تمت إلى - داخلاً فيما قبله، فدخلت المرافق فى الغسل لأنها من اليدين، ولم يدخل الصيام فى الليل فى قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 117] ، لأن الليل ليس من النهار. قال ابن القصار: واليد يتناولها الاسم إلى الإبط، بدليل ما روى عن عمار أنه كان يتيمم إلى الإبط، امتثالاً لما اقتضاه اسم اليد، وعمار من وجوه أهل اللغة، فما استثنى الله بعض ذلك بقوله: (إلى المرافق (بقى المرفق مغسولاً مع الذراعين نحو الاسم، ومن أوجب غسل المرفقين، فقد أدى فرضه بيقين، واليقين فى أداء الفرض واجب.(1/287)
والخلاف فى غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف فى غسل المرفقين مع الذراعين والحجة فيها واحدة. وأما قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه أنه إن ذهب المرفقان مع الذراعين فى القطع لم يكن عليه غسل موضع القطع، وأما الأقطع الكعبين، فلابد أن يغسل ما بقى منهما لأن الكعبين يبقيان فى الساقين بعد القطع. واختلف العلماء فى حد الكعبين اللذين يجب إليهما الوضوء، فروى أشهب عن مالك، قال: الكعب هو الملصق بالساق، المحاذى للعقب، وهو قول الشافعى وأحمد. وقال أبو حنيفة: هو الشاخص فى ظهر القدم، وأهل اللغة لا يعرفون ما قال. قال الأصمعى: الكعبان من الإنسان العظمان الناشزان من جانبى القدم، وأنكر قول العامة أنه الذى فى ظهر القدم. والكعب عند العرب ما نشز واستدار. وقال أبو زيد: فى كل رِجْلٍ كعبان، وهما عظما طرف الساق ملتقى القدمين، يقال لهما: منجمان، والدليل على صحة هذا قول النعمان بن بشير حين قال لهم النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أقيموا صفوفكم -، قال النعمان: فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وهذا لا يصح إلا مع القول بأنهما الناتئان فى جانبى الساقين.(1/288)
36 - باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ
وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ. / 47 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِىَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ، فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: تمت اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا -. / 48 - وفيه: مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، أن الرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَجَّ فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. / 49 - وفيه: الْمِسْوَرِ، أن النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا توضأ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ. / 50 - وفيه: السَّائِبَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ. . . . . الحديث. قال المهلب: هذا الباب كله يقتضى طهارة فضل الوضوء، وهو الماء الذى يتطاير عن المتوضئ ويجمع بعدما غسل به أعضاء الوُضُوء. وفضل السواك هو الماء الذى ينقع فيه السواك ليرطب، وسواكهم الأراك وهو لا يغير الماء. فأراد البخارى أن يعرفك أن كل ما لا يتغير، فإنه يجوز الوضوء به، والماء المستعمل غير متغير فهو طاهر، واختلف العلماء فى ذلك:(1/289)
فأجاز النخعى، والحسن البصرى، والزهرى الوضوء بالماء الذى قد توضئ به، وهو قول مالك، والثورى، وأبى ثور. وقال محمد بن الحسن، والشافعى: هو طاهر غير مُطَهِّر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: هو نجس، واحتجوا بأنه ماء الذنوب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا مَثَلٌ ضربه النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أى كما يغسل الدرن من الثوب، كذلك تتحات الذنوب بالغسل، لا أن الذنوب شىء ينماع فى الماء ولا يؤثر فى حكمه، ثم إننا نعلم أن الذنوب تتحات من كل جزء عند أول جزء من الوجه، أو اليد ثم كلما انحدر على جزء آخر هو كذلك، فينبغى أن لا يجزئه ما مر على الجزء الثانى لأنه ماء الذنوب. ونقول: إن الإجماع حاصل على جواز استعمال الماء المستعمل، وذلك أن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملا، ثم يُمرُّه على كل جزء بعده فيجزئه، ولو لم يجز الوضوء بالماء المستعمل لم يجز إمراره على باقى العضو، ولوجب عليه أن يأخذ لكل جزء من العضو ماءً جديدًا. فإن قالوا: الماء المستعمل عندنا هو إذا سقط عن جميع العضو، فأما ما دام على العضو فليس بمستعمل، قيل: يلزمكم أن لا يكون مستعملاً الأعضاء كلها، لأنه لا يصح أن تكون متوضئًا بغسل بعض الأعضاء وترك البعض مع القدرة، لأن الأعضاء كلها كالعضو الواحد فى حكم الوضوء.(1/290)
وقد أجمعوا أن الإنسان غير مأخوذ عليه أن يوقى ثوبه، أو بدنه مما يترشش عليه من الماء المستعمل، وقد أخذ عليه أن يتحرز من ترشش البول، فلو كان نجسًا لوجب التحرز منه. فصح أنه طاهر، لأنه ماء لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، ولم يؤثر الاستعمال فى عينه، فلم يؤثر فى حكمه، وهو طاهر لاقى جسمًا طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى كالماء الذى غسل به ثوب طاهر، فمن أين تحدث فيه نجاسة؟ . وقد روى عن على، وابن عمر، وأبى أمامة، وعطاء، ومكحول، والنخعى، والحسن أنهم قالوا فيمن نسى مسح رأسه فوجد فى لحيته بللاً: يجزئه أن يمسحه بذلك البلل، فدل أنهم كانوا يرون استعمال الماء المستعمل. وقال غيره: يقال لمن قال: إن ماء الذنوب نجس، بل هو ماء طاهر مبارك، لأنه الماء الذى رفع الله بالغسل به الخطايا، وقد رفع الله ما كانت فيه هذه البركة عن النجاسة، وبالله التوفيق. قال المهلب: ففى أحاديث هذا الباب دليل على أن لعاب أحد من البشر ليس بنجس ولا بقية شربه، وذلك يدل أن نهيه، (صلى الله عليه وسلم) ، عن النفخ فى الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما تطاير فيه من اللعاب ينجسه، وإنما هو خشية أن يتقذره الآكل منه، فأمر بالتأديب فى ذلك، وهذا التقذر الذى نهى عن النفخ من أجله مرتفع عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بل كانت نخامته أطيب عند المسلمين من المسك، لأنهم كانوا يتدافعون عليها، ويدلكون بها وجوههم لبركتها(1/291)
وطيبها، وأنها مخالفة لخلوف أفواه البشر، وذلك لمناجاته الملائكة فطيب الله لهم نكهته، وخلوف فيه، وجميع رائحته. وفى قصة محمود: ممازحة الطفل بما يصعب عليه، لأن مج الماء قد يصعب عليه، وإن كان قد يستلذه. وحديث أبى موسى يحتمل أن يكون أمر النبى (صلى الله عليه وسلم) بالشرب من وضوئه الذى مج فيه، وأن يفرغا منه على نحورهما ووجوهما من أجل مرض، أو شىء أصابهما، وهو حديث مختصر لم يذكر فيه اللذان أمرهما بذلك. وفى حديث السائب: بركة الاسترقاء. وقوله فى حديث السائب: تمت إن ابن أختى وقع -، فمعناه أنه وقع فى المرض، وإن كان روى وقع بكسر القاف، وأهل اللغة يقولون: وقع الرجل، إذا اشتكى لحم قدمه، قال الراجز: كلَّ الحِذَاءِ يَحْتَذِى الحَافِى الوَقِعْ والمعروف عندنا وقع بفتح القاف والعين.
37 - باب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) .(1/292)
وترجم له: باب مَسْحِ الرَّأْسِ مسحة واحدة / 52 - وقال فيه: فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَه وَأَدْبَرَ بِهِا. فى هذا الحديث أنه مضمض واستنشق ثلاثًا، بخلاف ما رواه عثمان، وابن عباس فى صفة وضوء النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يذكرا مرتين ولا ثلاثًا، فدل أن المرة الواحدة تجزئ فى ذلك، وإنما اختلف فعله فى ذلك ليرى أمته التيسير فيه، وأن الوضوء لا حَدَّ فى المفروض منه والمسنون إلا بالإسباغ. واختلف العلماء فى المستحب والمسنون من مسح الرأس: فذهب جمهور العلماء أن مسح الرأس مسحة واحدة، وقال مالك: رَدُّ يديه من مؤخر رأسه إلى مقدمه مسنون، لأن مسح جميع الرأس هو أن يبدأ من مقدمه إلى مؤخره، فرده يديه بعد ذلك إلى مقدمه مسنون، ولو بدأ بالمسح من مؤخر رأسه إلى مقدمه لكان المسنون أن يرد يديه من المقدم إلى المؤخر. قال ابن القصار: وهذا مذهب ابن عمر، والحسن البصرى، وأحمد، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعى: المسنون ثلاث مسحات لمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا. والحجة على الشافعى أن المستحب والمسنون يحتاجان إلى شرع. وفى حديث عبد الله بن زيد، وابن عباس أنه مسح، (صلى الله عليه وسلم) ، رأسه مرة واحدة. وفى حديث عثمان، وإن كان فيه أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فيه أنه مسح برأسه مرتين: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى حيث بدأ، وهو خلاف قول الشافعى.(1/293)
وقد توهم بعض الناس فى حديث عبد الله بن زيد أن قوله فيه: تمت ثم مسح رأسه فأقبل بهما وأدبر - أنه بدأ من مؤخر رأسه فأقبل بهما، قاله الحسن بن حى. وتوهم غيره: أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر، وهذه كلها ظنون. وفى قوله: تمت بدأ بمقدم رأسه - ما يرفع الإشكال، وقد تقدم هذا المعنى فى باب مسح الرأس. وقوله: تمت من كفة واحدة - أراد من غرفة واحدة أو حفنة واحدة فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى كما يسمى الشىء باسم ما كان منه سبب، ولا يعرف فى كلام العرب إلحاق هاء التأنيث فى الكف، والله أعلم.
38 - باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ
وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ. / 53 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُون جَمِيعًا فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . قال ابن القصار: ذهب أئمة الفتوى بالأمصار إلى أنه لا بأس بالوضوء من فضل الحائض والجنب، مثل أن يفضل فى إنائهما ماء بعد فراغهما من غُسلهما، فيجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة وغسلها، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: لا يجوز أن يتوضأ من فضل(1/294)
ما توضأت به المرأة أو اغتسلت به متفردة، ووافقنا على أنه يجوز لها أن تتوضأ من فضل الرجل، والرجل من فضل الرجل، والمرأة من فضل المرأة، وكذلك إذا استعملاه جميعًا جاز أن يتوضأ الرجل منه. قال ابن القصار: وحديث ابن عمر يسقط مذهبه، لأن الرجال والنساء إذا توضئوا من ماء واحد فإن الرجل يكون مستعملا لفضل المرأة لا محالة. قال غيره: وحديث ابن عمر هذا يعارض ما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة -. رواه شعبة عن عاصم الأحول، سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم الغفارى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) . ورواه عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) مثله. وأحاديث الإباحة أصح. وقد سئل ابن عباس عن فضل وضوء المرأة، فقال: هن ألطف منا بنانا، وأطيب ريحًا. وهو قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين، إلا ابن عمر فإنه كره فضل وضوء الجنب والحائض. وكره سعيد بن المسيب، والحسن البصرى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. قال الطحاوى: فإن قيل: فإن حديث ابن عمر وعائشة ليس فيهما بيان لمن أجاز للرجل الوضوء من فضل المرأة، لأنه يجوز أن يكونا يغتسلان جميعًا، وإنما التنازع بين الناس إذا ابتدأ أحدهما قبل الآخر.(1/295)
فنظرنا فى ذلك، فحدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا الحصيب، حدثنا همام، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أنها والنبى (صلى الله عليه وسلم) كانا يغتسلان من إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله. وروى حماد بن زيد، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة. ففى هذه الآثار يتطهر كل واحد من الرجل والمرأة بسؤر صاحبه، فضادّ ذلك أحاديث النهى، فوجب النظر لنخرج به من المعنيين المتضادين معنى صحيحًا، فوجدنا الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهم الماء معًا من إناء واحد أن ذلك لا ينجس الماء، ورأينا النجاسات كلها إذا وقعت فى الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضؤ منه أن حكم ذلك سواء، فلما كان ذلك كذلك، وكان وضوء كل واحد من الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء، كان وضوءه بعده من سؤره فى النظر أيضًا كذلك. قال الطبرى: والحميم الماء الساخن، وهو فعيل بمعنى مفعول، كما قيل: فتيل بمعنى مفتول، ورأس خضيب بمعنى مخضوب، ومن سمى الحمَّام حَمَّامًا لإسخانه من دخله، وقيل للمحموم محمومًا لسخونة جسده بالحرارة، ومنه قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن: 44] يراد به ماء قد أسخن فَأَنَّ حَرُّه، واشتد حتى انتهى إلى غايته. قال ابن السكيت: الحميم: ماء ساخن، يقال: احم لنا الماء.(1/296)
قال ابن المنذر: وأجمع أهل الحجاز والعراق جميعًا على الوضوء به غير مجاهد، فإنه كره الوضوء بالماء الساخن. وأما وضوء عمر من بيت نصرانية، فإنه كان يرى سؤرها طاهرًا. وممن كان لا يرى بسؤر النصرانى بأسًا: الأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى، وأبو ثور. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا كره ذلك غيرأحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فى ذلك، فقال فى المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصرانى، ولا بما أدخل يده فيه. وفى العتبية لابن القاسم، عن مالك مرة أجازه، ومرة كرهه. والسؤر: بقية الماء فى الإناء عند العرب.
39 - باب صَبِّ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ
/ 54 - فيه: جَابِر، قَالَ: جَاءَ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) يَعُودُنِى، وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ، فَتَوَضَّأ، َ وَصَبَّ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِه، ِ فَعَقَلْتُ. . . الحديث. قال المهلب: فيه دليل على طهور الماء الذى توضأ به، لأنه لو كان نجسًا لم يصبه عليه، وقد أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الذى عَانَ سهلا أن يتوضأ له، ويغسل داخلة إزاره ويصبه عليه، ولو(1/297)
كان نجسًا لم يأمر سهلا أن يغتسل منه، بل رجاء بركته، وأن يحمل عنه شر العين. وفيه: رقية الصالحين للماء، ومباشرتهم إياه، وذلك مما يرجى بركته.
40 - باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِى الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ
/ 55 - فيه: أَنَسٍ، أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً. / 56 - وفيه: أَبُو مُوسَى، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَمَجَّ. / 57 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَتَانا النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِى تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ. / 58 - وفيه: عَائِشَةَ، لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ، فَقَالَ: تمت أهَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ -، وَأُجْلِسَ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ. الحديث. قال المؤلف: فائدة هذا الباب أن الأوانى كلها من جواهر الأرض ونباتها طاهرة، إذا لم يكن فيها نجاسة. والمخضب يكون من حجارة ومن صفر، والذى فى حديث أنس كان من حجارة، وأما الذى فى حديث عائشة كان من صفر.(1/298)
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، عن عروة، أو غيره، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مرضه الذى مات فيه: تمت صبوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلِّى أستريح فأعهد إلى الناس -، قالت عائشة: فأجلسناه فى مخضب لحفصة من نحاس. .، وذكر الحديث. قال ابن المنذر: روى عن على بن أبى طالب أنه توضأ فى طست، وعن أنس مثله. وقال الحسن البصرى: رأيت عثمان يُصبُّ عليه من إبريق، وهو يتوضأ. قال: وما علمت أحدًا كره النحاس والرصاص وشبهه إلا ابن عمر، فإنه كره الوضوء فى الصفر، وكان يتوضأ فى حجر، أو فى خشب أو فى أدم. وروى عن معاوية أنه كان يصلى بهم، وقال: نهيت أن أتوضأ فى النحاس. ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة، والحجة البالغة. وقال ابن جريج: ذكرت لعطاء كراهية ابن عمر للصفُر، فقال: أنا أتوضأ فى النحاس، وما يكره منه شىء إلا رائحته فقط. قال المؤلف: وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه، فهذه الرواية عنه أشبه بالصواب، وما عليه الناس. وقال بعض الناس: يحتمل أن تكون كراهية ابن عمر للنحاس،(1/299)
والله أعلم، لما كان جوهرًا مسنخرجًا من معادن الأرض، شبهه بالذهب والفضة، فكرهه لنهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن الشرب فى آنية الفضة. وقد روى عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا الوضوء فى آنية الفضة، وهم يكرهون الأكل والشرب فيها. وفى وضوء الثمانين رجلاً من مخضب صفُرٍ لم يبسط النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كفه فيه علَمٌ كبير من أعلام النبوة. وقال المهلب: إنما أمر، والله أعلم، أن يهراق عليه من سبع قرب على وجه التداوى، كما صب (صلى الله عليه وسلم) وضوءه على المغمى عليه، وكما أمر المعين أن يغتسل به، وليس كما ظن وغلط من زعم أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل من إغمائه. وذكر عبد الوهاب بن نصر، عن الحسن البصرى، أنه قال: على المغمى عليه الغسل. وقال ابن حبيب: عليه الغسل إذا طال ذلك به. والعلماء متفقون، غير هؤلاء، أن من أغمى عليه فلا غسل عليه إلا أن يجنب. وقصده إلى سبع قرب تبركًا بهذا العدد، لأن الله تعالى خلق كثيرًا من مخلوقاته سبعًا سبعًا. وترجم لحديث عبد الله بن زيد.(1/300)
41 - باب الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ
/ 59 - وفيه: تمت فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بيديه وَأَدْبَرَ. . . -، وذكر الحديث. / 60 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قال المؤلف: بهذا الحديث احتج الحسن بن حىّ ومن أجاز أن يبدأ المتوضئ بمسح الرأس من مؤخره، وليس كما ظن، لأن الواو لا توجب رتبة، لأن قوله: تمت فأدبر بيديه وأقبل - يحتمل التقديم والتأخير، ولو بدأ (صلى الله عليه وسلم) فى مسح رأسه بمؤخره - على ما جاء فى هذا الحديث - لم يدل ذلك على أن سنةَ مسح الرأس أن يبدأ بمؤخره، لأن هذه الفعلة إنما كانت نادرة منه (صلى الله عليه وسلم) وفعلها ليرى أمته السعة فى ذلك، وقد كان يفعل طوال دهره ما روى مالك فى حديث عبد الله بن زيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مسح رأسه فبدأ بمقدمه، ثم ذهب بهما إلى قفاه. وهذا يرفع الإشكال فى ذلك على ما بيناه. وقوله: تمت قد رحراح - هو القصير الجدار القريب القعر. وقال ابن قتيبة: يقال إناء رحراح ورحرح إذا كان واسعًا. قال الحربى: ومنه الرحرح فى حافر الفرس، وهو أن يتسع حافره ويقل عمقه، قال الأصمعى: ويكره فى الخيل. وقال أبو عبيد: المخضب مثل الإجانة التى تغسل فيها الثياب، وقد يقال لها: المركن أيضًا.(1/301)
42 - باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ
/ 61 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. قال أبو عبيد: اختلف أهل العراق، وأهل الحجاز فى مبلغ المد والصاع كم هو؟ فذهب أهل العراق إلى أن الصاع: ثمانية أرطال، والمُدّ: رطلان، واحتجوا بما رواه سهل ابن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن حميد، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع. قالوا: فإذا ثبت أن المُدّ رطلان ثبت أن الصاع ثمانية أرطال. وذهب أهل المدينة إلى أن المُدّ ربع الصاع، وهو رطل وثلث، والصاع خمسة أرطال وثلث. وهو قول أبى يوسف وإليه رجع حين ناظره مالك فى زنة المُدّ وأتاه بِمُدِّ أبناء المهاجرين والأنصار وراثة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالمدينة. وهو قول إسحاق بن راهويه. وحديث أنس لا حجة لأهل العراق فيه، لأنه قد روى بخلاف ما ذكروه، رواه شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبير أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمسة مكاكى. وهذا بخلاف ما رواه عن أنس، والمكوك عندهم: نصف رطل إلى ثمانى أواقى. واختلفوا هل يجزئ الوضوء بأقل من المد، والغسل بأقل من الصاع؟ . فقال قوم: لا يجزئ أقل من ذلك لورود الخبر به، هذا قول الثورى والكوفيون.(1/302)
وقال آخرون: ليس المد والصاع فى ذلك بحتم، وإنما ذلك إخبار عن القدر الذى كان يكفيه (صلى الله عليه وسلم) لا أنه حد لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف. والمستحب لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك، لأن السرف ممنوع فى الشريعة. وقد روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: تمت سيكون فى هذه الأمة قوم يعتدون فى الطهور والدعاء -. وإلى هذا ذهب مالك وطائفة من السلف، وهو قول الشافعى، وإسحاق. وقال سعيد بن المسيب: إن لى ركوة، أو قداحًا، يسع نصف المد، أو نحوه وأنا أتوضأ منه وربما فضل فضل. وعن سليمان بن يسار مثله. وتوضأ القاسم بن محمد بقدر نصف المد وزيادة قليل. وقيل لأحمد بن حنبل: إن الناس فى الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد؟ فقال: إذا أحسن أن يتوضأ به وغسل فلم يمسح يجزئه. وقال ابن أبى زيد: القليل من الماء مع إحكام الوضوء سنة، والإسراف فيه غلو وبدعة. وهذا كله رد على الإباضية، ومن رأى أن قليل الماء لا يجزئ، والسنة حجة على من خالفها.(1/303)
43 - باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
/ 62 - فيه: سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ أَبَاه عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ. / 63 - وفيه: الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ،: أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. / 64 - وفيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَأَى رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. رواه شيبان، وأبان، وحرب، عَنْ يَحْيَى بن أَبِى كثير. / 65 - ورواه: الأوْزَاعِىُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ. وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِى سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرٍو، رَأَيْتُ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) . اتفق العلماء على جواز المسح على الخفين، ورويت فيه عن مالك روايات، والذى استقر عليه مذهبه جوازه. وقالت الخوارج: لا يجوز أصلاً، لأن القرآن لم يَرِدْ به.(1/304)
وقالت الشيعة: لا يجوز، لأن عليًّا امتنع منه. وحجة الجماعة ما روى فيه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الطرق التى اشتهرت، وعن الصحابة الذين كانوا لا يفارقونه فى الحضر، ولا فى السفر. فممن نقل ذلك عنه (صلى الله عليه وسلم) : عمر بن الخطاب، وعلى، وسعد، وابن مسعود، والمغيرة، وخزيمة بن ثابت، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، وأنس، وعمرو بن العاص، وأبو أيوب، وأبو أمامة الباهلى، وسهل بن سعد، وقيس بن سعد، وأبو موسى الأشعرى، وجابر، وأبو سعيد، وحذيفة، وعمار، وأبو مسعود الأنصارى، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو بكرة، وبلال، وصفوان بن عسال، وغيرهم حتى قال الحسن البصرى: حدثنى سبعون من أصحاب محمد أنه مسح على الخفين، فجرى مجرى التواتر. وحديث المغيرة كان فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، فسقط بهذا قول من يقول: آية الوضوء مدنية والمسح منسوخ بها، لأنه متقدم وغزوة تبوك آخر غزوة كانت بالمدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذا. وقد تأول جماعة من الفقهاء قوله عز وجل: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [النساء: 43، المائدة: 6] فى قراءة من خفض، أراد إذا كانا فى الخفين. ومما يدل أيضًا أن المسح غير منسوخ: حديث جرير أنه: رأى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، مسح على الخفين، وكان يعجبهم، لأن جريرًا أسلم بعد المائدة فأعجبهم حين رأوا المسح عن النبى،(1/305)
(صلى الله عليه وسلم) ، بعد نزول المائدة، ولم يقل لهم النبى (صلى الله عليه وسلم) عند نزول المائدة أن هذه الآية قد نسخت المسح على الخفين. وأيضًا فإن حديث المغيرة فى المسح كان فى السفر، فأعجبهم استعمال جرير له فى الحضر، وأنه لم ينسخه شىء ذكره البخارى فى كتاب الصلاة. ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس، وقد روى عن علىّ، وعائشة، وأبى هريرة، وأبى أيوب. فأما ابن عباس وأبو هريرة فقد روى عنهما خلاف ذلك فى موافقة سائر أصحابه. وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيما روى عن ابن عباس، وعائشة، وأبى أيوب فى إنكار المسح؟ إنما روى عن أبى أيوب أنه قال: حبب إلىّ الغسل. فإن ذهب ذاهب إلى مثل هذا القول ولم ينكر المسح لم نعبه وصلينا خلفه. وقد كان مالك يذهب إلى ذلك، ولم ينكر المسح، وإن ترك المسح، ولم يره كما صنع أهل البدع، فلا نصلى خلفه. وقال أبو محمد الأصيلى: ذكر العمامة فى هذا الحديث من خطأ الأوزاعى، لأن شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبى كثير، ولم يذكر العمامة، وتابعه حرب بن شداد، وأبان العطار، فهؤلاء ثلاثة من رواة يحيى بن أبى كثير خالفوا الأوزاعى، فوجب تغليب الجماعة على الواحد، وأما متابعة معمر للأوزاعى، فهى مرسلة، وليس فيها ذكر العمامة.(1/306)
روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن عمرو بن أمية، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح على خفيه. هكذا وقع فى مصنف عبد الرزاق، ولم يذكر العمامة، وأبو سلمة لم يسمع من عمرو، وإنما سمع من ابنه جعفر، فلا حجة فيهما. وذكر ابن أبى خيثمة عن ابن معين أن حديث عمرو بن أمية فى المسح على العمامة مرسل. واختلف العلماء فى المسح على العمامة، فممن كان يمسح عليها: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسعد بن أبى وقاص، وأبو الدرداء، وبه قال الثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وممن كان لا يرى المسح عليها: عَلىّ، وابن عمر، وجابر. ومن التابعين: عروة، والنخعى، والشعبى، والقاسم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، واحتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) [النساء: 43، المائدة: 6] ، ومن مسح على العمامة لم يمسح برأسه. وأجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه فى التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس. وقال ابن وهب، عن ابن جريج، عن عطاء بلغنا: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يتوضأ وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه ولا يحلها، ثم يمسح برأسه، ثم يعيد عمامته.(1/307)
وقال ابن وهب: حدثنا معاوية بن صالح، عن عبد العزيز بن مسلم، عن أبى معقل، عن أنس بن مالك، قال: رأيت النبى (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة. واختلف العلماء فى صفة المسح على الخفين، فذهب ابن عمر، وسعد بن أبى وقاص إلى أنَّ الكمال والسنة: مسح أعلاهما وأسفلهما، وبه قال مالك، والشافعى. وقال ابن القاسم: لو مسح رجل ظاهر الخف، ثم صلى فأَحَبُّ إلىّ أن يعيد فى الوقت، لأن عروة كان لا يمسح بطونهما. فهذا يدل على أنه إن اقتصر على الظهور دون البطون أنه يجزئه فى مذهب مالك. وقالت طائفة: إن الممسوح أعلى الخف، فإن أسفله ليس بمحل للمسح لا مسنونًا ولا جائزًا، وذكر أنه قول أنس بن مالك، وهو مذهب الشعبى، والنخعى، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة. واحتجوا بما رووه عن المغيرة: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مسح على ظهور خفيه. والذى ذكر البخارى فى هذا الباب عن سعد، والمغيرة: أن النبى مسح على الخفين. دون ذكر أعلاهما أو أسفلهما، وهذا لفظ محتمل للتأويل أن يفعل فى الخف ما يسمى مسحًا إلا أن الصحابة مجمعة أنه إن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه، وهو قول فقهاء الأمصار. وذكر المزنى عن الشافعى أنه يجوز الاقتصار على أسفل الخف دون أعلاه، وذكره ابن عبد الحكم، عن أشهب.(1/308)
واختلفوا فى الخف المخرق يمسح عليه؟ . فقال مالك: يمسح إذا كان خَرْقًا يسيرًا لا يظهر منه القدم. وقال بعض أصحابه: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من لبسه والانتفاع به. وهو قول الليث، والشافعى. وقال الثورى: يمسح وإن تفاحش خرقه، وما دام يسمى خُفّا، وقد كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق، وهو قول أبى ثور، وإسحاق. وقال الأوزاعى: يمسح الخُفَّ وما ظهر من القدم، وهو قول الطبرى فى جواز المسح على القدمين. وقال الحسن بن حى: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن ظهر شىء من القدم لم يمسح. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمسح إذا ظهر من الرِّجْل أقل من ثلاثة أصابع، ولا يمسح إذا ظهر ثلاثة أصابع.
44 - باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ
/ 66 - فيه: الْمُغِيرَةِ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فِى سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: تمت دَعْهُمَا فَإِنِّى أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ -، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. قال المؤلف: من هذا الحديث قال مالك وجميع الفقهاء أنه من لبس خفيه على غير طهارة أنه لا يمسح عليهما، لقوله: تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما -. وهذا تعليم منه (صلى الله عليه وسلم) السبب الذى يبيح المسح على الخفين، وهو إدخاله لرجليه وهما طاهرتان بطهر الوضوء.(1/309)
واختلفوا فيمن قدم غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أتم وضوءه هل له أن يمسح عليهما إن أحدث؟ . فقال مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا يجوز له أن يمسح عليهما حتى يكون طاهرًا الطهارة التامة قبل لبسهما، أو لبس أحدهما، وحجتهم ظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة، والثورى، والمزنى: يجوز له المسح عليهما، وكذلك إذا غسل إحدى رجليه ولبس، وهو قول مطرف من أصحاب مالك. وحديث المغيرة يرد هذا القول، لقوله: تمت دعهما، فإنى أدخلتهما طاهرتين -. فجعل العلة فى جواز المسح وجود اللبس والرجلان طاهرتان بطهر الوضوء. واحتج الطحاوى للكوفيين، فقال: يجوز أن يقال: إن رجليه طاهرتان إذا غسلهما، وإن لم يكمل الطهارة، كما يقال: صلى ركعة، وإن لم تتم صلاته. وقال آخرون منهم: وإنما يراعى الحدث، والحدث لا يرد إلا على طهارة كاملة، فهو كمن لم يقدم رجليه. وحجة مالك أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته، فكأنه لبسهما قبل غسل الرجلين بدليل الحديث. ومن هذه المسألة تفرع الجواب، فيمن لبس الخف اليمنى قبل أن يغسل الرجل اليسرى. فعند مالك والشافعى، وأحمد وإسحاق: لا يمسح، لأنه لبس الخف الأولى قبل تمام طهارته.(1/310)
وقال الثورى، وأبو حنيفة، والمزنى: يجوز له أن يمسح عليهما، وهو قول مطرف. وقال سحنون: لا يمسح إلا أن يخلع اليمنى فقط. وأجمعوا أنه لو نزع الخف الأولى، ثم لبسهما بعد، جاز له المسح. واختلفوا فيمن نزع خفيه بعد المسح عليهما: فقال النخعى، ومكحول، والأوزاعى فى رواية: يعيد الوضوء، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الكوفيون، والمزنى، وأبو ثور: يغسل قدميه، وعن الأوزاعى مثله. واختلف قول الشافعى مثل قول الأوزاعى، فمرة قال: يتوضأ، ومرة قال: يغسل قدميه. وقال مالك، والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن تطاول أعاد الوضوء. وقال الحسن البصرى، وابن أبى ليلى، وقتادة، ورواية عن النخعى: إذا نزع خفيه بعد المسح صلى، وليس عليه شىء. وحجة هذا القول: الإجماع على أنه من مسح برأسه فى الوضوء، ثم حلقه أنه لا يستأنف مسحه فكذلك رجليه. وإن نزع أحد خفيه بعد المسح، فقال مالك والليث، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى: يغسل رجليه جميعًا. وروى عن الثورى أنه قال: كان بعضهم يقول: يغسل إحدى رجليه، وهى رواية المعافري، عن الثوري.(1/311)
وروى أشهب، عن مالك: أنه يجزئه غسل تلك الرجل فقط، وروى عيسى، عن ابن القاسم مثله. قال المهلب: وفيه المسح فى السفر بغير توقيت، واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك، والليث: لا وقت للمسح على الخفين، وللمسافر والمقيم أن يمسح ما بدا له، وروى هذا عن عمر بن الخطاب، وسعد بن أبى وقاص، وعقبة بن عامر، وابن عمر، وبه قال الحسن البصرى. وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد: يمسح المقيم يومًا وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، ورووا فى ذلك آثارًا كثيرة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وصححها قوم، ودفعها آخرون. وقال عبد الرحمن بن مهدى: حديثان لا أصل لهما: التوقيت فى المسح، والتسليمتان. قال المهلب: فى حديث المغيرة خدمة العالم، وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يؤمر بها، لقوله: تمت أهويت لأنزع خفيه -. قال غيره: وفيه إمكان الفهم عن الإشارة، ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة، لأن المغيرة أهوى لينزع الخفين، ففهم عنه (صلى الله عليه وسلم) ما أراد فأفتاه بأنه يجزئه المسح.(1/312)
45 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ لحمًا، وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا
. / 67 - فيه: ابن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. رواه عمرو بن أمية عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . واختلف السلف قديمًا فى هذه المسألة، فذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من أكل ما غيرت النار وهم: عائشة وأم حبيبة زوجا النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، واختلف فى ذلك عن ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس، وبه قال خارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابن المنكدر، وابن شهاب، وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء كلهم مدنيون. وقال به أهل العرق: أبو قلابة، والحسن البصرى، وأبو مجلز، وذهبوا فى ذلك إلى ما روى ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن عبد الملك بن أبى بكر، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: قال رسول الله: تمت توضئوا مما غيرت النار -. وبما رواه ابن شهاب، عن سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان أنه سأل عروة عن ذلك فقال: سمعت عائشة تقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضئوا مما غيرت النار -. وقال آخرون: لا يتوضأ مما مست النار، وممن قال بذلك: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطابن وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو أمامة، وأُبىّ بن كعب، وأبو الدرداء.(1/313)
وهو قول مالك، والثورى فى أهل الكوفة، والأوزاعى فى أهل الشام، والشافعى، وأحمد، وأسحاق، وأبى ثور، واحتجوا بحديث هذا الباب أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ، وقالوا: هذا كان آخر الأمرين من رسول الله. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما حدثنا أبو زرعة الدمشقى، حدثنا على بن عياش، حدثنا سعيد بن أبى حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار. وحدثنا ابن خزيمة، حدثنا حجاج، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أكل ثور أقط يومًا فتوضأ، ثم أكل كتفًا فصلى ولم يتوضأ. فثبت أن آخر الأمرين منه (صلى الله عليه وسلم) ترك الوضوء مما غيرت النار وأنه ناسخ لما قبله. وقال حماد بن زيد: سمعت خالدًا الحذاء يقول: كانوا يرون أن الناسخ من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كان عليه أبو بكر وعمر. وقال حماد: سمعت أيوب، قلت لعثمان البتى: إذا سمعت أبدًا اختلافًا عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فانظر ما كان عليه أبو بكر وعمر فشد عليه يدك.(1/314)
وروى محمد بن الحسن، عن مالك، قال: إذا جاء عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان فى ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. وقال الأوزاعى: كان محكول يتوضأ مما مست النار، فلقى عطاء بن أبى رباح فأخبره أن أبا بكر الصديق أكل كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ، فترك مكحول الوضوء فقيل له: تركت الوضوء؟ فقال: لأن يقع أبو بكر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يخالف رسول الله. وقد ذهب قوم ممن تكلم فى غريب الحديث إلى أن قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضئوا مما غيرت النار - أنه عنى به غسل اليد، وهذا لا معنى له، ولو كان كما ظن لكان دسم ما لم تغيره النار وغيره لا تغسل منه اليد، وهذا يدل على قلة علمه بما جاء عن السلف فى ذلك من التنازع فى إيجاب الوضوء واختلاف الآثار فى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقال الطحاوى: والحجة فى ذلك من جهة النظر أنا رأينا أن كل ما مسته النار أن أكلها قبل مماسة النار إياها لا ينقض الوضوء، فأردنا أن ننظر هل للنار حكم يجب فى الأشياء إذا مستها النار فينقل حكمها إليها؟ فرأينا الماء طاهرًا يؤدى به الفرض، ثم رأيناه إذا سخن أن حكمه فى الطهارة على ما كان عليه قبل مماسة النار له، فكان فى النظر أن الطعام الطاهر الذى لا يكون أكله قبل مماسة النار حدثا، إذا(1/315)
مسته النار لا تنقله عن حاله ولا تغير حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس النار كحكمه قبل ذلك، قياسًا ونظرًا. وفرق أحمد بن حنبل وإسحاق بين أكل لحوم الإبل وغيرها، فقالا: إن أكل لحوم الإبل نيئًا أو مطبوخًا فعليه الوضوء. واحتج أحمد بما رواه سفيان، عن سماك، عن جعفر بن أبى ثور، عن جابر بن سمرة، قال: سئل النبى (صلى الله عليه وسلم) أنتوضأ من لحوم الإبل؟ فقال: تمت نعم - فقيل: أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: تمت لا -. وهذا لو صح، لكان منسوخًا بما ذكرنا أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار. وقد يحتمل أن يكون الوضوء محمولا على الاستحباب والنظافة لشهوكة الإبل لا على الإيجاب، لأن تناول الأشياء النجسة مثل الميتة والدم ولحم الخنزير لا ينقص الوضوء فلأن لا توجبه الأشياء الطاهرة أولى.
46 - باب مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
/ 68 - فيه: سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأزْوَادِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّىَ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. / 69 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَكَلَ عَنْدَ مَيْمُونَةَ كَتِفًا ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.(1/316)
قال المهلب: فى حديث سويد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مضمض من السويق، وليس فى حديث ابن عباس ذكر المضمضة ولا فى واحد من الحديثين، أنه (صلى الله عليه وسلم) غسل يده من ذلك، فمباح للإنسان أن يغفل من ذلك ما شاء. قال: ومعنى المضمضة من السويق، وإن كان لا دسم له، أنه تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحى الفم، فيشتغل تتبعه بلسانه المصلى عن صلاته. قال غيره: فى حديث سويد من الفقه إباحة اتخاذ الزاد فى السفر، وفى ذلك رد على الصوفية الذين يقولون: لا يدخر لغده. وفيه من الفقه: نظر الإمام لأهل العسكر عن قلة الأزواد وجمعها، ليقوت من لا زاد معه من أصحابه. وفيه: أن القوم إذا فنى أكثر زادهم فوجب أن يتواسوا فى زاد من بقى من زاده شىء، فإن أراد الذى بقى من زاده أن يأخذ فيه الثمن فذلك له إن كان عند القوم ثمن، وإن كان ثمنه قدرًا اجتهد فيه بلا بدل، فإن لم يكن عندهم ثمن فواجب عليهم أن يتواسوا إلى أن يخرجوا من سفرهم إلى موضع يجدون الزاد فيه، لأن على المسلم أن يواسى أخاه، وقد جاء فى الحديث: تمت لا يحل لمسلم أن يعلم أن جاره طاوٍ إلى جنبه وهو شبعان لا يرفقه بما يمسك مهجته -. وفيه: أن للسلطان أن يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام إلى الأسواق عند قلته، فيبيعونه من أهل الحاجة بسعر ذلك اليوم. وقوله: تمت فثرى - يعنى بُلَّ بالماء، لما كان لحقه من اليبس والقدم،(1/317)
ومنه قيل للثرى: ثرى، لرطوبته. وقال صاحب تمت الأفعال - يقال: ثريت الأرض وأثرت إذا وصل ندى المطر إلى ثراها.
47 - باب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ
/ 70 - فيه: ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) شَرِبَ لَبَنًا، فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: تمت إِنَّ لَهُ دَسَمًا -. قال: المهلب: تمت إن له دسمًا - قد بين العلة التى من أجلها أمروا بالوضوء مما مست النار فى أول الإسلام، وذلك، والله أعلم، على ما كانوا عليه من قلة التنظف فى الجاهلية، فلما تقررت النظافة وشاعت فى الإسلام، نسخ الوضوء، تيسيرًا على المؤمنين. وفيه: أن مضمضة الفم عند أكل الطعام من أدب الأكل.
48 - باب الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوِ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا
/ 71 - فيه عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّى فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ رَاقِدٌ، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ -. / 72 - وفيه: أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ [فِى الصَّلاةِ] ، فَلْيَنَمْ، حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ -.(1/318)
قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا نعس أحدكم فليرقد -، هو فى صلاة الليل، لأن صلوات الفرض ليست من نهاية الطول، ولا فى أوقات النوم فيحدث فيها مثل هذا، وقد ذكر (صلى الله عليه وسلم) العلة الموجبة لقطع الصلاة، وذلك أنه خاف عليه إذا غلب عليه النوم أن يخلط الاستغفار بالسب. قال المهلب: ومن صار فى مثل هذه الحال من ثِقَلِ النوم فقد انتقض وضوءه بإجماع، فأشبه من نهاه الله تعالى عن مقاربة الصلاة فى حال السكر بقوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) [النساء: 43] . وقد قال الضحاك فى تأويل قوله تعالى: (وَأَنتُمْ سُكَارَى (أنه النوم. والأكثر أنها نزلت فى سكر الخمر، وبَيَّن حديث عائشة، وحديث أنس فى هذا أن المعنى واحد، لأن من أراد أن يستغفر ربه فيسب نفسه، فقد حصل من فقد العقل فى منزلة من لا يعلم ما يقول من سكر الخمر التى نهى الله تعالى عن مقاربة الصلاة فيها، ومن كان كذلك فلا تجوز صلاته، لأنه فقد عقله الذى خاطب الله أهله بالصلاة والفرائض، ورفع الخطاب بذلك والتكليف عمن عدمه. ودلت الآية على ما دل عليه الحديثان، أنه لا ينبغى للمصلى أن يقرب الصلاة مع شاغل له عنها، أو حائل بينه وبينها، لتكون همه لا هم له غيرها، وأن من استثقل نومه فعليه الوضوء، وهذا يدل أن النوم اليسير بخلاف ذلك.(1/319)
وأجمع الفقهاء على أن النوم القليل الذى لا يزيل العقل لا ينقض الوضوء، إلا المزنى وحده، فإنه جعل قليل النوم وكثيره حدثًا، وخرق الإجماع. وكذلك أجمعوا أن نوم المضطجع ينقض الوضوء. واختلفوا فى هيئات النائمين، فقال مالك: من نام قائمًا أو راكعًا، أو ساجدًا فعليه الوضوء. وفرق الشافعى بين نومه فى الصلاة وغيرها، فقال: إن كان فى الصلاة لا ينقض، كما لا ينقض نوم القاعد، وله قول آخر كقول مالك. وعند الثورى وأبى حنيفة: لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط، واحتجوا بما روى أبو خالد الدالانى، عن قتادة، عن أبى العالية، عن ابن عباس، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، نام فى سجوده ونفخ، فقيل له: يا رسول الله، نمت فى سجودك وصليت، ولم تتوضأ؟ فقال: تمت إنما الوضوء على من نام مضطجعًا -. وهذا حديث منكر، قد ضعفه ابن حنبل وأبو داود، وقال أحمد: ما لأبى خالد يُدخِل نفسه فى أصحاب قتادة، ولم يلقه؟ . وأيضًا لم يروه أحد من أصحاب قتادة عنه، وقيل: لم يسمع قتادة من أبى العالية إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها. والقائم والراكع والساجد يمكن خروج الريح منه، لانفراج موضع الحدث منه، ولا يشبه القاعد المنضم الأطراف إلا أن يطول(1/320)
نومه جدًا فى حال قعوده، فعليه الوضوء عند مالك، والأوزاعى، وأحمد. ولم يفرق أبو حنيفة والشافعى بين نوم الجالس فى القِلَّة والكَثْرَة، وقالا: لا ينتقض وضوءه وإن طال. ويرد قولهم: أنه إذا طال نومه جدًا فى حال قعوده فهو شاك فى الطهارة، وقد أُخِذَ عليه أن يدخل الصلاة بيقين طهارة، وهذا قد زال يقينه، فعليه الوضوء، وسيأتى إن شاء الله فى كتاب الصلاة، فى باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه شىء من معنى هذا الباب. قال عبد الواحد: فإن قال قائل: فمن أين يخرج من هذا الباب قوله فى الترجمة: ومن لم ير من النعسة والنعستين والخفقة وضوءًا؟ قيل له: يخرج من معنى الحديث، لأنه لما أوجب، (صلى الله عليه وسلم) ، قطع الصلاة بغلبة النوم والاستغراق فيه، دل أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك ولم يغلب عليه أنه معفو عنه، لا وضوء فيه، على ما يذهب إليه الجمهور.
49 - باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ
/ 73 - فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ. / 74 - وفيه: سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، صَلَّى الْعَصْرَ يوم خَيْبَرَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. فيه: أن الوضوء من غير حدث ليس بواجب، وقد بين ذلك أنس بقوله: تمت يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث -. وعليه الفقهاء(1/321)
والناس، ويشهد لصحة قول أنس فى ذلك صلاته (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد فى حديث سويد، وإنما فعل ذلك ليُرى أمته أن ما يلتزمه (صلى الله عليه وسلم) فى خاصته من الوضوء لكل صلاة ليس بلازم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الوضوء. وقال بعض العلماء: الوضوء عن غير حدث نور على نور. فمن أراد الاقتداء به (صلى الله عليه وسلم) فى جميع ذلك فمباح، وكان ابن عمر يلتزم اتباعه (صلى الله عليه وسلم) فى جميع أفعاله، ويتوخى المواضع التى صلى فيها، فيصلى فيها حتى أنه كان يدير ناقته فى المواضع التى كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدير ناقته فيها، حبًا للاقتداء به ورغبةً فى امتثال أفعاله (صلى الله عليه وسلم) .
50 - باب مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ
/ 75 - فيه: ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِى قُبُورِهِمَا، فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ -، ثُمَّ قَالَ: تمت بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ. . . . . - الحديث. قال المهلب: قوله: تمت وما يعذبان فى كبير -، يعنى عندكم، وهو كبير عند الله يدل على ذلك قوله: تمت بلى - أى بلى إنه لكبير عند الله وهو كقوله: تمت إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ حيث ما بلغت، يكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه -. ومصداق هذا المعنى فى كتاب الله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15] .(1/322)
واختلف أهل التأويل فى الكبائر التى تُغْفر الصغائر باجتنابها، فقال بعضهم: الكبائر سبع، وقال آخرون: هى تسع، وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبير. وقيل: كل ما عُصى الله به فهو كبير. هذا قول الأشعرية، ويحتمل أن يحتجوا بهذا الحديث، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله، (صلى الله عليه وسلم) ، حتى أخبر عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كبير، وأن صاحبه يعذب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم عليها وعيد. وخالفهم الفقهاء وأهل تأويل القرآن فى ذلك، وفرَّقوا بين الكبائر والصغائر. وقد تقصيت مذاهب العلماء فيه، وما نزع به كل فريق فى كتاب الأدب، فهو أولى به. وروى هذا عن على بن أبى طالب، وعبيد بن عمير، وعطاء، واحتجوا بآثار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك. فقال بعضهم: الكبائر تسع، روى هذا عن عبد الله بن عمر. وقال آخرون: كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب، فهو كبير. روى هذا عن ابن عباس. وروى عنه: كل ما نهى الله عنه فهو كبير، قال: ومنها النظرة. وقال مرة: كل شىء عُصى الله به فهو كبير.(1/323)
وقال طاوس: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هى إلى سبع مائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وذهب أهل التأويل إلى أن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر، وخالفهم فى ذلك الأشعرية، وسيأتى بيان قولهم وما نزع إليه كل فريق منهم فى كتاب الأدب، إن شاء الله. إلا أن قوله: تمت يُعذبان وما يُعذبان فى كبير - حجة لقول ابن عباس، أن ما عُصى الله به فهو كبير، لأن ترك التحرز من البول لم يتقدم فيه وعيد من الله ولا من رسوله (صلى الله عليه وسلم) حتى أخبر أنه كبير، وأن صاحبه يُعذب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثير من الذنوب كبائر، وإن لم يتقدم عليها وعيد. قال أبو بكر الصديق: إن الله يغفر الكبير فلا تيئسوا، ويُعذب على الصغير فلا تغتروا. وفى حديث ابن عباس: أن عذاب القبر حق، يجب الإيمان به والتسليم له، وهو مذهب أهل السنة. وسيأتى فى كتاب الجنائز شىء من معنى هذا الحديث، إن شاء الله.(1/324)
51 - باب مَا جَاءَ فِى غَسْلِ الْبَوْلِ
قَالَ (صلى الله عليه وسلم) لِصَاحِب الْقَبْرِ: تمت كَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ -، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ. / 76 - فيه: أَنَس، كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا تَبَرَّزَ، أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ، فَيَغْسِلُ بِهِ. / 77 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أن النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: تمت إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ. . . . - الحديث. أجمع الفقهاء على نجاسة البول والتنزه عنه. وقوله: تمت كان لا يستتر من بوله -، يعنى أنه كان لا يستر جسده ولا ثيابه من مماسة البول، فلما عُذب على استخفافه لغسله والتحرز منه، دل أنه من ترك البول فى مخرجه، ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب. وقد روى غير البخارى فى مكان تمت يستتر من بوله -: تمت يستبرئ من بوله -، معنى لا يستبرئ: لا يستفرغ البول جهده بعد فراغه منه، فيخرج منه بعد وضوئه فيصل غير متطهر. ذكر عبد الرزاق هذا الحديث وقال فيه: تمت أما أحدهما فكان لا يتنزه عن البول -. ورواه أيضًا: تمت أما هذا كان لا يتأذى ببوله -. هذه الروايات كلها معناها متقارب، واختلف الفقهاء فى إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: إزالتها ليست بفرض. وقال بعض أصحابه: إزالتها فرض، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى،(1/325)
إلا أن أبا حنيفة يعتبر فى النجاسات ما زاد على مقدار الدرهم. وحجة من أوجب إزالة النجاسة: أنه أخبر (صلى الله عليه وسلم) عن صاحب القبر: أنه يُعذب بسب البول، وذلك وعيد وتحذير، فثبت أن الإزالة فرض. واحتج ابن القصار بقول مالك، فقال: يحتمل صاحب القبر الذى عُذب فى البول أنه كان يدع البول يسيل عليه، فيصلى بغير طهر، لأن الوضوء لا يصح مع وجوده، ومحتمل أن يفعله على عمد لغير عذر، لأنه قد روى تمت لا يستبرئ -، وتمت لا يستنزه -، وعندنا أن من تعمد ترك سنن النبى (صلى الله عليه وسلم) بغير عذر ولا تأويل أنه مُتَوَعَّد مأثوم، فأما إذا لم يتعمد ذلك، وتركها متأولا أو لعذر، فصلاته صحيحة تامة. وقول البخارى: تمت ولم يذكر سوى بول الناس -، فإنه أراد أن يبين أن معنى روايته فى هذا الباب: تمت أما أحدهما فكن لا يستتر من البول -، أن المراد بول الناس لا بول سائر الحيوان، لأنه قد روى الحديث فى هذا الباب قبل هذا وغيره تمت لا يستتر من بوله -، فلا تعلق فى حديث هذا الباب لمن احتج به فى نجاسة بول سائر الحيوان.(1/326)
52 - باب تَرْكِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسِ الأعْرَابِىَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 78 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: تمت دَعُوهُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ، دَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ -. قال المهلب: فيه الرفق بالجاهل، لأنه لو قطع عليه بوله لأصاب ثوبه البول وتنجس، وكذلك وصَفهُ الله أنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنه على خلق عظيم، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنما بعثتم مُيسرين -، وفعل ذلك استئلافًا للأعراب الذين أخبر الله عنهم أنهم أشد كفرًا ونفاقًا، وأيضًا فإن ما جناه الأعرابى اسْتُدرِكَ غسله بالماء. وفيه: تطهير المساجد من النجاسات وتنزيهها عن الأقذار.
53 - باب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِى الْمَسْجِدِ
/ 79 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ أَعْرَابِىٌّ، فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ (صلى الله عليه وسلم) : تمت دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ -. / 80 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ، مثله. فى هذا الحديث من الفقه: أن الماء إذا غلب على النجاسة، ولم يظهر فيه شىء منها فقد طهرها، وأنه لا يضر ممازجة الماء لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً، أو كثيرًا.(1/327)
واختلف العلماء فى ذلك، فذهب مالك فى رواية المدنيين عنه: أن الماء الذى تحله النجاسة إذا لم يتغير طعمه، أو لونه، أو ريحه، فهو طاهر، قليلاً كان الماء، أو كثيرًا، وبه قال النخعى، والحسن، وابن المسيب، وربيعة، وابن شهاب، وفقهاء المدينة. وذهب الكوفيون إلى أن النجاسة تفسد قليل الماء وكثيره، إلا الماء المستبحر الكثير الذى لا يقدر أحد على تحريك جميعه قياسًا على البحر الذى قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت هو الطهور ماؤه الحل ميتته -. وذهب الشافعى إلى أن الماء إن كان دون قلتين نجَس، وإن لم يتغير، وإن كان قلتين فصاعدًا لم ينجُس إلا بالتغير، وبه قال أحمد، وإسحاق. ولابن القاسم، عن مالك أن قليل النجاسة يُفسد قليل الماء، وإن لم تغيره، ولم يعتبر القلتين. وحديث بول الأعرابى فى المسجد يرد حديث القلتين، لأن الدلو أقل من القلتين، وقد طهر موضع بول الأعرابى، ويرد أيضًا على أبى حنيفة أصله فى اعتباره الماء المستبحر. وقال النسائى: لا يثبت فى انتجاس الماء إلا حديث بول الأعرابى فى المسجد، إلا أن أصحاب الشافعى لما لزمتهم الحجة به فزعوا إلى التفريق بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء، فراعوا فى ورودها عليه مقدار القلتين، ولم يراعوا فى وروده عليها ذلك المقدار.(1/328)
قال ابن القصار: وهذا لا معنى له، لأنه قد تقرر أن الماء إذا ورد على النجاسة لم ينجس إلا أن يتغير، فكذلك يجب إذا وردت النجاسة على الماء لا ينجس إلا أن يتغير، إذ لا فرق بين الموضعين. قال: ومما يَردُّ اعتبار الكوفيين والشافعى، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أمر بصب الذنوب على بول الأعرابى فى المسجد، وقد علمنا أنه إنما أراد تطهير المكان بهذا المقدار من الماء ولا يطهر إلا بزوال النجاسة ولم تزُل إلا بغلبة الماء الذى هو دون المقدار الذى يعتبره أبو حنيفة، والشافعى، ومعلوم أن هذا المقدار من الماء لا يزيل النجس إلا وقد حل فيه النجس أو بعضه، وإذا حصل فيه النجس لم يكن بد أن يُحكم له بالطهارة، لأنه لو لم يطهر لكان نجسًا، ولو كان نجسًا لما أزال النجاسة عن الموضع، لأنه كلما لاقى النجسُ الماءَ نَجَّسه، فأدى ذلك إلى أن لا تزول نجاسة ولا يطهر المكان. واختلفوا فى تطهير الأرض من البول والنجاسة، فقال مالك والشافعى وأبو ثور: لا يطهرها إلا الماء، واحتجوا بحديث بول الأعرابى. وروى عن أبى قلابة، والحسن البصرى، وابن الحنفية، أنهم قالوا: جفوف الأرض طهورها، وهو قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد، قالوا: الشمس تزيل النجاسة، فإذا ذهب أثرها صل فيها ولا تتيمم. وقال الثورى: إذا جف فلا بأس بالصلاة عليه. وعند مالك وزفر: لا يجزئه أن يصلى عليها إلا أن مالكًا، قال: يعيد فى الوقت، وكذلك قال إذا تيمم به.(1/329)
قال الطحاوى: واختلفوا فيما يجوز به إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، فقال مالك: لا يطهر ذلك إلا الماء الذى يجوز به الوضوء. وهو قول زفر، ومحمد بن الحسن، والشافعى. والحجة لهم قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا) [الفرقان: 48] ، وأمرُهُ (صلى الله عليه وسلم) بصب الدلو على بول الأعرابى فى المسجد. قالوا: فكذلك حكم الأبدان والثياب. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: تجوز إزالة النجاسة بكل مائع، وكل طاهر، والنار، والشمس، ولو أن جلد الميتة جف فى الشمس طهر من غير دباغ، واحتجوا على إزالة النجاسات بالمائعات، فقالوا: الخمر إذا انقلبت خلا فقد طهرت هى والدن جميعًا. ونحن نعلم أن الخمر كانت نجسة، والدن نجس، ولم يطهره إلا الخل. قال ابن القصار: فيقال لهم: إن الدن جامد وكان طاهرًا قبل حدوث الشدة فى الخمر، وإنما حصلت على وجهه أجزاء نجاسة من الخمر، فإذا انقلبت الخمر خلا انقلبت تلك الأجزاء خلا، فلم تزل بالخل، وإنما انقلبت كما انقلب نفس الخمر. ونظير مسألتنا أن يصب الثوب نجاسة فتنقلب عينها فتصير طاهرة،(1/330)
فنقول: إن هذا لا يحتاج إلى غسل، ثم نقول: إن الدن لو كان إنما طهر بالخل على طريق الغسل لوجب ألا يحكم بطهارته ولا بطهارة الخل، ألا ترى لو أن إناء فيه بول أو دم فصب عليه الخل حتى ملأ الدن، فإن الخل ينجس ولا يطهر الإناء؟ . فعلمنا أن الدن لم يطهر يكون الخل فيه، وإنما طهر بانقلاب عينه، ومن مذهبهم أن الماء الذى تغسل به النجاسة يكون نجسًا، فكيف بالخلِّ؟ ولو طهر الدن بغسل الخل له لنجس الخل، ألا ترى أنه لو كان الدن نجسًا بالخمر، ثم غسل بخلِّ آخر لم يطهر ولنجس الخل؟ . وقال أبو حاتم: تمت السَّجْل -، مذكر الدلو ملأى ماءً، ولا يقال لها وهى فارغة: سجل، فإذا لم يكن فيها ماء فهى دلو، وثلاثة أسجل، وهو السجال. ابن دريد: ودلو: سجل واسعة. يعقوب، عن ابن مهدى: دلو سجيلة، والذنوب الدلو الملأى، عن الخليل.
54 - باب بَوْلِ الصِّبْيَانِ
/ 81 - فيه: عَائِشَة، قَالَتْ: أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِصَبِىٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ. / 82 - وفيه: أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ، أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.(1/331)
قال الأصيلى: انتهى آخر حديث أم قيس إلى قوله: تمت فنضحه -، وقوله: تمت فلم يغسله - من قول ابن شهاب، وقد رواه معمر، عن ابن شهاب، فقال فيه: تمت فنضحه -، ولم يزد، وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عيينة، عن ابن شهاب، فقال فيه: تمت فدعا بماءٍ فرشه -، ولم يزد. واختلف العلماء فى بول الصبى، فقالت طائفة: بوله طاهر قبل أن يأكل الطعام، روى هذا عن على بن أبى طالب، وأم سلمة، وعطاء، والحسن، والزهرى. وهو قول الأوزاعى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. والحجة لهم قوله فى حديث أم قيس: تمت فنضحه، ولم يغسله -. وفرق هؤلاء الفقهاء بين بول الصبى والصبية، فقالوا: بول الصبية نجس، وإن لم تأكل الطعام بخلاف بول الصبى. واحتجوا فى ذلك بما رواه هشام، عن قتادة، عن أبى حرب بن أبى الأسود، عن أبيه، عن على بن أبى طالب، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال فى الرضيع: تمت يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام -. وقالت طائفة أخرى: بول الصبى والصبية نجس، سواء أكلا الطعام أم لا، هذا قول النخعى، وإليه ذهب مالك، والكوفيون، وأبو ثور.(1/332)
واحتج لهم الطحاوى فقال: أراد بالنضح فى هذا الحديث الغسل وصب الماء عليه، وقد تسمى العرب ذلك نضحًا، ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إنى لأعرف مدينة يقال لها: عُمان ينضح البحر بناحيتها لو جاءهم رسولى ما رموه بحجر -. فلم يعن بذلك النضح، الرش، ولكنه أراد يلزق بناحيتيها. والدليل على صحة هذا: أن عائشة روت حديث بول الصبى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقالت فيه: تمت فدعا بماءٍ فأتبعه إياه -، ولم تقل: فلم يغسله. رواه مالك، وأبو معاوية، عن هشام بن عروة. وهكذا رواه زائدة، عن هشام بن عروة، وقال فيه: تمت فدعا بماءٍ، فنضحه عليه -. قال الطحاوى: وإتباع الماء حكمه حكم الغسل، ألا ترى لو أن رجلاً أصاب ثوبه عذرة، فأتبعها الماء حتى ذهب بها أن ثوبه قد طهر؟ . قال ابن القصار: والنضح فى معنى الغسل فى قوله (صلى الله عليه وسلم) للمقداد: تمت انضح فرجك -، وكما قال فى حديث أسماء فى غسل الدم: تمت انضحيه -، فجعل النضح عبارة عن الغسل. قال المهلب: والدليل على أن النضح يراد به كثرة الصب والغسل، قول العرب للجمل الذى يستخرج به الماء من الأرض: ناضح. قال ابن القصار: وقد أجمع المسلمون على أنه لا فرق بين بول الرجل، وبول المرأة فى نجاسته، كذلك بول الغلام والجارية. قال المهلب: واللبن الذى قد رضعه الصبى هو طعام، وإنما قال فى الحديث: تمت لم يأكل الطعام -، ليحكى القصة كما وقعت، لا للفرق بين اللبن والطعام.(1/333)
وقال جماعة من العلماء: حديث عائشة، وحديث أم قيس أصل فى غسل البول من الثياب والجسد وغيرهما.
55 - باب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
/ 83 - فيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: أَتَى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ. فى نص الحديث جواز البول قائمًا، وأما البول قاعدًا فمن دليل الحديث، لأنه إذا جاز البول قائمًا فقاعدًا أجوز، لأنه أمكن. واختلف العلماء فى البول قائمًا، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وأبى هريرة، وسعد بن عبادة: أنهم بالوا قيامًا. وروى مثله عن ابن المسيب، وابن سيرين، وعروة بن الزبير. وكرهت طائفة البول قائمًا، ذكر ابن أبى شيبة، فى مصنفه إنكار عائشة أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بال قائمًا. وعن عمر بن الخطاب، أنه قال: ما بلت قائمًا منذ أسلمت. وعن مجاهد أنه قال: ما بال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائمًا قط إلا مرة فى كثيب أعجبه. وروى عن ابن مسعود أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم. وهو قول الشعبى. وكرهه الحسن، وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائمًا.(1/334)
وفيه قول ثالث: أن البول إذا كان فى مكان لا يتطاير عليه منه شىء فلا بأس به، وإن كان فى مكان يتطاير عليه، فهو مكروه. هذا قول مالك، وهو دليل الحديث، لأنه (صلى الله عليه وسلم) أتى سباطة قوم فبال قائمًا. والسباطة: المزبلة، والبول فيها لا يكاد يتطاير منه كبير شىء، فلذلك بال قائمًا (صلى الله عليه وسلم) . ومن كره البول قائمًا، فإنما كرهه خشية ما يتطاير إليه من بوله، ومن أجازه قائمًا، فإنما أجازه خوف ما يُحدثه البائل جالسًا فى الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه. وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: البول قائمًا أحصن للمدبر. وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا بال قائمًا لم يبعد عن الناس، ولا أبعدهم عن نفسه، بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائمًا. وروى عنه (صلى الله عليه وسلم) من مرسل عطاء، وعبيد بن عمير، أنه بال جالسًا، فدنا منه رجل، فقال: تمت تنح، فإن كل بائلة تُفِيخُ -. ويُروَى: تمت تفيس -. وقال إسحاق بن راهويه: لا ينبغى لأحد يتقرب من الرجل يتغوط أو يبول جالسًا لقول النبى، (صلى الله عليه وسلم) : تمت تنح، فإن كل بائلة تُفيخُ -.(1/335)
56 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ
/ 84 - فيه: حُذَيْفَةَ، رَأَيْتُنِى أَنَا وَالنَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ، كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَىَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، حَتَّى فَرَغَ. قال المروزى: من السنة أن يقرب من البائل إذا كان قائمًا، لحديث حذيفة هذا، إذا أمن أن يرى منه عورة، وأما إن كان قاعدًا، فالسنة أن تبتعد عنه لئلا يفيخ كما رُوى عنه (صلى الله عليه وسلم) . وقوله: تمت فانتبذت منه -، إنما فعل ذلك حذيفة لئلا يسمع منه (صلى الله عليه وسلم) شيئًا مما يجرى فى الحدث، فلما بال قائمًا، وأمن عليه ما خشيه حذيفة أمره بالتقرب منه. وفى قوله: تمت فأشار إلىَّ فجئته -، يدل أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، وإنما بعد عنه وعينه تراه، لأنه كان يحرسه، (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: خدمة العالم، قاله المهلب. وفيه: أنه (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد قضاء حاجة الإنسان توارى عن أعين الناس بما يستره من حائطٍ أو شجر، وبذلك كان يأمر أمته (صلى الله عليه وسلم) .
57 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
/ 85 - فيه: أَبُو وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأشْعَرِىُّ يُشَدِّدُ فِى الْبَوْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ،(1/336)
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا. تمت السباطة -: المزبلة، والبول قائمًا لا يكاد يسلم مما يتطاير منه، قال أبو عبيد: السباطة نحو الكناسة. ابن دريد: الكناسة: ما كنس. واختلف العلماء فى مقدار رءوس الإبر تتطاير من البول، فقال مالك، والشافعى، وأبو ثور: يغسل قليله وكثيره. وقال إسماعيل بن إسحاق: غسل ذلك عند مالك على سبيل الاستحسان والتنزه. وقال الكوفيون: ليس مقدار رءوس الإبر بشىء، وسهلوا فى يسير النجاسة. وقال الثورى: كانوا يرخصون فى القليل من البول. وقول حذيفة: تمت ليته أمسك -، يرد عليه تشديده فى البول، وهو حجة لمن رخص فى يسيره، لأن المعهود ممن بال قائمًا أن يتطاير إليه مثل رءوس الإبر. وفيه: يسر وسماحة، إذْ كان من قبلنا يقرض ما أصاب البول من ثوبه. وحديث حذيفة موافق لمذهب الكوفيين.(1/337)
58 - باب غَسْلِ الدَّمِ
/ 86 - فيه: أَسْمَاءَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِى الثَّوْبِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: تمت تَحُتُّهُ وَتَقْرُصُهُ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ بِالْمَاءِ وَتُصَلِّى فِيهِ -. / 87 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضٍ -، إلى قوله: تمت فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى -. حديث أسماء أصل عند العلماء فى غسل النجاسات من الثياب. وقوله: تمت تَحُتُّ - يعنى تقرصه وتنقضه. قال أبو عبيد: وقوله: تمت تقرصه - يعنى تقطعه بالماء، وكل مقطع مقرص، يقال منه: قرصت العجين إذا قطعته. وقال غيره: والنضح فى هذا الحديث يراد به الغسل. وذلك معروف فى لغة العرب على ما تقدم بيانه فى باب بول الصبيان، والدليل على أن النضح فيه يراد به الغسل، قوله (صلى الله عليه وسلم) لفاطمة بنت أبى حُبيش: تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى -. وهذا الحديث محمول عند العلماء على الدم الكثير، لأن الله تعالى شرط فى نجاسته أن يكون مسفوحًا، وكنى به عن الكثير الجاري.(1/338)
إلا أن الفقهاء اختلفوا فى مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيون فيه وفى سائر النجاسات: دون الدرهم فى الفرق بين قليله وكثيره، قياسًا على دور المخرج فى الاستنجاء بالحجارة. وقال مالك: قليل الدم معفو عنه، ويغسل قليل سائر النجاسات. وروى عنه ابن وهب أن قليل دم الحيض يُغسل ككثيره، كسائر الأنجاس، بخلاف سائر الدماء. وقال أشهب: لم يحد مالك فى الدم قدر الدرهم. وقال على بن زياد عنه: إن قدر الدرهم ليس بواجب أن تعاد منه الصلاة، ولكن الكثير الفاشى. وعند الشافعى: أن يسير الدم يغسل كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرز منه. والحجة لقول مالك: أن يسير دم الحيض ككثيره قوله (صلى الله عليه وسلم) لأسماء فى دم الحيض: تمت حتيه ثم اقرصيه بالماء -، ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، وقوله لفاطمة بنت أبى حُبيش: تمت فاغسلى عنك الدم وصلِّى -، ولم يحدّ فيه مقدار درهم من غيره. ووجه الرواية الأخرى: أن قليل الدم معفو عنه هو أن يسير الدم موضع ضرورة، لأن الإنسان لا يخلو فى غالب حاله من بثرة، أو دمل، أو برغوث، أو ذباب، فعفى عن القليل منه، ولهذا حرم الله تعالى المسفوح منه، فدل أن غيره ليس بمحرم، ولم يستثن فى سائر النجاسات غير الدم أن تكون مسفوحة.(1/339)
وقالت عائشة: لو حرم الله قليل الدم لتتبع الناس ما فى العروق، ولقد كنا نطبخ اللحم والبرمة تعلوها الصفرة. وليس الغالب من الناس كون الغائط، والبول فى ثيابهم، وأبدانهم، لأن التحرز يمكن منه. وقال مجاهد: كان أبو هريرة لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسًا فى الصلاة. وتنخم ابن أبى أوفى دمًا فى صلاته. وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها دم وقيح، فمسحه بيده، وصلى ولم يتوضأ. وروى ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كان يقتل القملة فى الصلاة. ومعلوم أن فيها دمًا يسيرًا.
59 - باب غَسْلِ الْمَنِىِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ
/ 88 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِى ثَوْبِهِ. واختلف العلماء فى المنى هل هو نجس أم طاهر؟ . فذهب مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أن المنى نجس.(1/340)
إلا أن مالكًا لا يجزئ عنده فى رطبه ويابسه إلا الغسل، والفرك عنده باطل. وعند أبى حنيفة يغسل رطبه، ويفرك يابسه. وقال الثورى: إن لم يفركه أجزأته صلاته. وقال الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: المنى طاهر ويفركه من ثوبه، وإن لم يفركه فلا بأس. وممن رأى فرك المنى: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس. قال ابن عباس: امسحه بإذخر أو خرقة، ولا تغسله إن شئت. قال الطحاوى: واحتج الذين قالوا بنجاسته من قول عائشة: تمت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى ثوبه. واحتج الذين قالوا أنه طاهر بآثار عن عائشة مخالفة لهذا الحديث، وذلك ما رواه شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن همام، عن الحارث، أنه نزل على عائشة، رضى الله عنها، فاحتلم، فرأته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه، فأخبرت بذلك عائشة، فقالت عائشة: لقد رأيتنى مع النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وما أزيد على أن أفركه فى ثوب النبى (صلى الله عليه وسلم) . وروى الأوزاعى، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كنت أفرك المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا. وقال لهم أهل المقالة الأولى: لا حجة لكم فى هذه الآثار، لأنها(1/341)
إنما جاءت فى ثياب ينام فيها، ولم تأت فى ثياب يصلى فيها، وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها، وإنما تكون هذه الآثار حجة علينا لو كنا نقول: لا يصلح النوم فى الثوب النجس، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيه ونقول من بعد: لا تصلح الصلاة فيها، فلم نخالف شيئًا مما روى عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى ذلك، وقد قالت عائشة: تمت كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيخرج إلى الصلاة، وإن بقع الماء فى ثوبه -. فكانت تغسل المنى من ثوبه الذى يصلى فيه وتفركه من ثوبه الذى لا يصلى فيه. واحتج عليهم الآخرون بما رواه حماد بن سلمة، عن حماد بن زيد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أفركه من ثوب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ثم يصلى فيه. قالوا: فدل ذلك على طهارته. قال الطحاوى: ولا يدل ذلك على طهارته كما زعموا، فقد يجوز أن يفعل ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فيتطهر بذلك الثوب. والمنى فى نفسه نجس كما روى فيما أصاب النعلين من الأذى. روى محمد بن عجلان، عن المغيرة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، أو بنعليه، فطهورهما التراب -. فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس ذلك دليل على طهارة(1/342)
الأذى فى نفسه، فكذلك المنى يطهر الثوب بالفرك، والمنى فى نفسه نجس. قال ابن القصار: وأما دلائل القياس: فقد اتفقنا على نجاسة المذى، فكذلك المنى بعلة أنه خارج من مخرج البول. فإن قالوا: هو طاهر، لأنه خلق منه حيوان طاهر. قيل: قد يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس كاللبن، فإنه يتولد عن الدم. فإن قالوا: خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا. قيل: وكذلك خلق منه الفراعنة والطغاة فوجب أن يكون نجسًا، يتولد عن الشهوة يجب فيه الغسل. فإن قالوا: يعارض قياسكم بقياس آخر، فتقول: اتفقنا على محة البيضة أنها طاهرة، فكذلك المنى بعلة أنه مائع خلق منه حيوان طاهر. قيل: ذلك لا يلزم، لأنا قد اتفقنا أنه يكون الشىء طاهرًا ويكون متولدًا عن نجس كاللبن، فإنه متولد عن الدم، وقيل: إنه دم كما يكون طاهرًا ويستحيل إلى النجس كالغذاء والماء فى جوف ابن آدم، وقد قيل: إن العلقة المتولدة عن المنى من دم نجس. فإن قالوا: خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا. قيل: لو جاز أن يكون طاهرًا، لأن الأنبياء خلقوا منه لوجب أن يكون نجسًا، لأن الفراعنة والطغاة خلقوا منه. فإن قيل: فإن الله خلق آدم من ماء وطين، وهما طاهران فوجب أن يكون طاهرًا.(1/343)
قيل: هذا لا يلزم لأنه لما لم يشاركه أحد فى ابتداء خلقه لم تجب مساواته له فيما ذكرتم، لأن آدم لم يتنقل فى رحم فيكون نطفة ثم علقة، والعلقة دم حكم لها بالنجاسة إذا انفصلت، ووجدنا الخارجات من البدن على ضربين: فضرب مائع طاهر ليس خروجه بحدث ولا ينقض الوضوء كاللبن، والعرق، والدموع، والبصاق، والمخاط. وضرب آخر نجس وخروجه حدث ينقض الطهارة ويجب غسله، كالبول، والغائط، ودم الحيض، والمذى. وثبت بالإجماع: أن المذى ينقض الطهر ويوجبه، فكذلك المنى.
60 - باب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ
/ 89 - فيه: عَائِشَةُ: كُنْتُ أَغْسِل الْمَنِىّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ. / 90 - وقال مرة: إن عَائِشَة كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِىَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا. قوله: تمت وأثر الغسل - يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون معناه: بلل الماء الذى غُسل به الثوب، والضمير راجع فيه إلى أثر الماء، فكأنه قال: وأثر الغسل بالماء بقع الماء فيه، يعنى لا بقع الجنابة. ويحتمل أن يكون معناه: وأثر الغسل يعنى أثر الجنابة التى(1/344)
غسلت بالماء فيه بقع الماء التى غسلت به الجنابة، والضمير فيه راجع إلى أثر الجنابة لا إلى أثر الماء. وكلا الوجهين جائز، لكن قوله فى الحديث الآخر: تمت أنها كانت تغسل المنى من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم أراه فيه بقعة أو بقعًا. يدل أن تلك البقع كانت بقع المنى، وطبعه لا محالة، لأن العرب أبدًا ترد الضمير إلى أقرب مذكور، وضمير المنى فى الحديث الآخر أقرب من ضمير الغسل. قال المهلب: وفيه من الفقه: أن أثر النجاسات بعد الغسل لا يضر، وأن تلك الآثار والطباع هى طبع النجاسة، وذلك باق فى الثوب، وإذا ثبت هذا، ثبت أن غسل النجاسات ليس بفرض، لعدم استئصال أثرها، وسائر النجاسات فى ذلك حكمها حكم الجنابة، وأنها إذا غسلت أعيانها وبقيت آثارها لم يضر ذلك، ولذلك قال البخارى: باب إذا غسل الجنابة. أو غيرها لم يذهب أثرها، قياسًا لسائر النجاسات على الجنابة، ولا أعلم خلافًا لهذا إلا ما يروى عن ابن عمر أنه كان إذا وجد دمًا فى ثوبه، فغسله فبقى أثره دعا بحلمين فقطعه. وقد روى عن عائشة أنها صلت فى ثوب كان فيه دم فبقى أثره. وروى مثله عن علقمة، وهو مذهب مالك، والشافعى، وجماعة. وفيه: خدمة المرأة لزوجها فى غسل ثيابه وشبه ذلك.(1/345)
61 - باب أَبْوَالِ الإبِلِ وَالْغَنَمِ وَالدَّوَابِّ وَمَرَابِضِهَا
وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِى دَارِ الْبَرِيدِ، وَالسِّرْقِينِ، وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ: هَاهُنَا، وَثَمَّ سَوَاءٌ. / 91 - فيه: أَنَس أَن نَاسًا مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، قَدِموا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوُهَا، فَأَمَرَهُمُ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. . .، الحديث. / 92 - وفيه: أَنَس، أَن النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، كَانَ يُصَلِّى فِى مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ. اختلف العلماء فى طهارة أبوال ما يؤكل لحمه: فذهب عطاء، والنخعى، والزهرى، وابن سيرين، والحكم، والشعبى إلى أنها طاهرة، وهو قول مالك، والثورى، والليث، ومحمد بن الحسن، وزفر، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى، وأبو ثور: الأبوال كلها نجسة. وروى مثله عن ميمون بن مهران، والحسن، وحماد. وقال ابن القصار: وحجة أهل المقالة الأولى: حديث أنس أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها، فجعل ذلك بمنزلة اللبن، فلو كانت نجسة ما أباح لهم ذلك. وقال أهل المقالة الثانية: لا حجة لكم فى هذا الحديث، لأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أباح لهم شرب البول للمرض، لأنهم استوخموا المدينة، فأباحهم ذلك.(1/346)
فعارضهم الأولون، فقالوا: محال أن يأمرهم (صلى الله عليه وسلم) بشرب أبوالها وهى نجسة، لأن الأنجاس محرمة علينا، وقد سئل (صلى الله عليه وسلم) عن الاستشفاء بالخمر، فقال: تمت ذلك داء، وليس بشفاء -. وقال ابن مسعود: ما كان الله ليجعل فيما حرم شفاء. فثبت أن بول الإبل الذى جعله دواء، أنه طاهر غير محرم. قاله الطحاوى. وقال ابن القصار: ومن جهة النظر أنا قد اتفقنا أن ريق ما يؤكل لحمه وعرقه طاهر، والمعنى فيه أنه مائع مستحيل من حيوان مأكول اللحم ليس بدم ولا قيح، فكذلك بوله. وذهب ابن علية، وأهل الظاهر إلى أن بول كل حيوان، وإن كان لا يؤكل لحمه طاهر غير ابن آدم. وروى مثله عن الشعبى، ورواية عن الحسن، وخالفهم سائر العلماء. وقول البخارى فى الترجمة: تمت باب أبوال الإبل والدواب -. وافق فيه أهل الظاهر، وقاس أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال الإبل ولذلك قال: تمت وصلى أبو موسى فى دار البريد، والسرقين -، ليدل على طهارة أرواث الدواب وأبوالها، ولا حجة له فيه بينة، لأنه يمكن أن يصلى فى دار البريد على ثوب بَسطه فيه، أو فى مكان يابس لا تعلق به نجاسة منه. وقد قال عامة الفقهاء: إن من بسط على موضع نجس بُساطًا وصلى عليه أن صلاته جائزة.(1/347)
ولو صلى على السرقين بغير بساط لكان مذهبًا له، ولم تجز مخالفة الجماعة به. وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعى، إلى أن الأرواث كلها نجسة. وقال مالك، والثورى، وزفر، والحسن بن حى: ما أكل لحمه فروثه طاهر كبوله. وقال الثورى فى خرو الدجاج: ليس فيه إعادة وغسله أحسن. تمت اجتووا المدينة - واجتويت البلاد، إذا كرهتها، وإن كانت مرافقة لك فى بدنك. واستوبلتها، إذا لم توافقك فى بدنك وإن أحببتها. وتمت سمل -، وتمت سمر - بمعنى واحد. وقال صاحب الأفعال: سمر العين: فقأها. والسِّرْقِين، والسرجين: زبل الدواب.
62 - باب مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِى السَّمْنِ وَالْمَاءِ
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لا بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ، أَوْ رِيحٌ، أَوْ لَوْنٌ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لا بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِىُّ فِى عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لا يَرَوْنَ فيها بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: وَلا بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ. / 93 - فيه: مَيْمُونَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِى سَمْنٍ، فَقَالَ: تمت أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ -.(1/348)
/ 94 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ مِسْكِ -. قال المؤلف: قول الزهرى: لا بأس بالماء ما لم يغيره لون، أو طعم، أو ريح. هو قول الحسن، والنخعى، والأوزاعى، ومذهب أهل المدينة، وهى رواية أبى مصعب، عن مالك. وقد روى عنه ابن القاسم أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، وإن لم تطهر فيه، وهو قول الشافعى. قال المهلب: وهذا عند أصحاب مالك على سبيل الاستحسان والكراهية لعين النجاسة، وإن قلّت، وهذا القول يستنبط من حديث الفأرة تموت فى السمن، لأنه (صلى الله عليه وسلم) منع من أكل السمن لما خشى أن يكون يسرى شىء من الميتة المحرمة، وإن لم يتغير لون السمن، أو ريحه، أو طعمه بموت الفأرة فيه. قال المؤلف: وأما رواية أبى مصعب عن مالك الذى هو مذهب أهل المدينة، فإنه يستنبط من حديث الدم، ووجه الدلالة منه أنه لما انتقل حكم الدم بطيب الرائحة من النجاسة إلى الطهارة حين حكم له فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، وجب أن ينتقل الماء الطاهر بخبيث الرائحة إذا حلت فيه نجاسة من حكم الطهارة إلى النجاسة. وإنما ذكر البخارى حديث الدم فى باب نجاسة الماء، لأنه لم يجد حديثًا صحيح السند فى الماء، فاستدل على حكم الماء المائع بحكم الدم المائع، إذْ ذلك المعنى الجامع بينهما.(1/349)
فإن قال قائل: لما حكم للدم من النجاسة إلى حكم الطهارة بطيب رائحته، وحكم له فى الآخرة بحكم المسك الطاهر، إذ لا يوصف فيها بطيب الرائحة شىء نجس، وجب أن يحكم للماء إذا تغير ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجس حل فيه بحكم النجاسة لانتقاله من الطهارة إلى النجاسة، وخروجه عن حكم الماء الذى أباح الله به الطهارة، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء يغيره عن صفته. فإن قال قائل: إنه لما حكم للدم بالطهارة بتغير ريحه إلى الطيب وبقى فيه اللون، والطعم، ولم يذكر تغيرهما إلى الطيب، وجب أن يكون الماء إذا تغير منه وصفان بالنجاسة، وبقى وصف واحد طاهر وجب أن يكون طاهرًا يجوز الوضوء به. قيل: ليس كما توهمت، لأن ريح المسك حكم للدم بالطهارة، فكان اللون، والطعم تبعًا للطاهر، وهو الريح الذى انقلب ريح مسك، فكذلك الماء إذا تغير منه وصف واحد بنجاسة حلت فيه، كان الوصفان الباقيان تبعًا للنجاسة، وكان الماء بذلك خارجًا عن حد الطهارة لخروجه عن صفة الماء الذى جعله الله طهورًا، وهو الماء الذى لا يخالطه شىء. وأما ريش الميتة وعظام الفيل ونحوه فهو طاهر عند أبى حنيفة، نجس عند مالك والشافعى، لا يدهن فيها، ولا يمتشط، إلا أن مالكًا قال: إذا ذكى الفيل فعظمه طاهر، والشافعى يقول: إن الذكاة لا تعمل فى السباع. وقال الليث، وابن وهب: إن غلى العظم فى ماءٍ سخن فطبخ جاز الإدهان به، والامتشاط.(1/350)
ورخص عروة فى بيع العاج. وقال ابن المواز: ونهى مالك عن الانتفاع بعظم الميتة والفيل والإدهان به، ولم يطلق تحريمها، لأن عروة، وابن شهاب، وربيعة أجازوا الامتشاط فيها. قال ابن حبيب: وأجاز الليث، وابن الماجشون، ومطرف، وابن وهب، وأصبغ الامتشاط بها والإدهان، فأما بيعها فلم يرخص فيه إلا ابن وهب، قال: إذا غليت جاز بيعها، وجعلت كالدباغ لجلد الميتة يدبغ أنه يباع. وقال مالك، وأبو حنيفة: إن ذكى الفيل فعظمه طاهر. والشافعى يقول: إن الذكاة لا تعمل فى السباع، ومن أجاز تجارة العاج فهو عنده طاهر. وأما ريش الميتة، فطاهر عند أبى حنيفة فى عظام الفيل، بناءً على أصله، أن لا روح فيها، وعند مالك والشافعى نجسة. وقال ابن حبيب: لا خير فى ريش الميتة، لأنه له سنخ إلا ما لا سنخ له مثل الزغب وشبهه، فلا بأس به إذا غُسل.
63 - باب لاَ يَبُول فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ
/ 95 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ -. / 96 - وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: تمت لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِى الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِى لا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ -.(1/351)
قال المهلب وغيره: النهى عن البول فى الماء الدائم مردود إلى الأصول، فإن كان الماء كثيرًا فالنهى عن ذلك على وجه التنزه لأن الماء على الطهارة حتى يتغير أحد أوصافه، فإن كان الماء قليلاً فالنهى عن ذلك على الوجوب، لفساد الماء بالنجاسة المغيرة له. ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر هذا الحديث إلا رجل جاهل نسب إلى العلم وليس من أهله، اسمه داود بن على، فقال: من بال فى الماء الدائم فقد حرم عليه الوضوء به، قليلاً كان الماء أو كثيرًا، فإن بال فى إناء وصبه فى الماء الدائم جاز له الوضوء به، لأنه إنما نهى عن البول فقط بزعمه، وصبه للبول من الإناء ليس ببول فلم ينه عنه، قال: ولو بال خارجًا من الماء الدائم فسال فيه جاز له أن يتوضأ به، قال: ويجوز لغير البائل أن يتوضأ فيما بال فيه غيره، لأن النبى إنما نهى البائل ولم ينه غيره، وقال ما هو أشنع من هذا: أنه إذا تغوط فى الماء الدائم كان له ولغير أن يتوضأ منه، لأنه إنما ورد فى البول فقط، ولم ينه عن الغائط. وهذا غاية فى السقوط وإبطال المعقول، ومن حمله طرد أصله فى إنكار القياس إلى التزام مثل هذا النظر، فلا يشك فى عناده وقلة ورعه، نعوذ بالله من الخذلان، وقد فطر الله العقول السليمة على منافرة قوله هذا ومضادته.(1/352)
وإنما أتى الرجل من جهله بالأسباب التى خرج عليها معنى الخطاب، والنبى (صلى الله عليه وسلم) قد جمع فى هذا الخبر معانى: أحدها: تحريم الوضوء بالماء النجس. والآخر: تأديبهم بأن يتنزهوا عن البول فى الماء الذى لا يجرى فيحتاجون إلى الوضوء منه، وهم على يقين من استقرار البول فيه، لأن من سنته (صلى الله عليه وسلم) النظافة وحسن الأدب، فدعا الناس إلى ذلك. والآخر: أنه زجرهم عن ذلك، إذ لو أطاق لهم البول فى الماء الدائم لأوشك أن يفسد الماء القيل ويتغير فيضيق وجود ماء طاهر على كثير من الناس. فيقال له: خبرنا عن البائل فى البحر أو الحوض الكبير أو الغدير الواسع الذى لا يتحرك بتحرك طرفه، هل يجوز أن يتوضأ منه؟ فإن قال: لا، قال: ما تعرف أن الحق فى خلافه؟ وإن أجاز ذلك قيل له: فقد تركت ظاهر الحديث، وفى ضرورتك إلى تركك ظاهره ما يوجب عليك أن تقول، إن معنى الحديث ما ذكرنا، قاله بعض أصحاب أبى حنيفة. وأما إدخال البخارى فى أول الحديث: تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة - فيمكن، والله أعلم، سمع أبو هريرة ذلك من النبى فى نسق واحد فحدث بهما جميعًا كما سمعهما. وقد ذكر مثل ذلك فى كتاب الجهاد، وفى كتاب العبارة، وفى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب قصص الأنبياء، وفى كتاب الاعتصام، ذكر فى أوائل الأحاديث كلها: تمت نحن الآخرون السابقون يوم القيامة -، ويمكن أن يكون همام سمع ذلك، لأنع سمع من أبى هريرة أحاديث ليست بكثيرة، وفى أوائلها:(1/353)
تمت نحن الآخرون السابقون -، فذكرها على الرتبة سمعها من أبى هريرة، والله أعلم. وقد روى مالك فى موطئه مثل هذا فى موضعين: أحدهما: قول عبد الكريم بن أبى المخارق: وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: تمت إذا لم تستحى فاصنع ما شئت، ووضع اليد اليمنى على اليسرى فى الصلاة -، فحدث بهما جميعًا كما سمعهما. وفى الموضع الثانى: قول أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : تمت بينما رجل يمشى بطريق إذ وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له، فغفر له -. قال: تمت الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد فى سبيل الله -. ورواه جماعة، عن مالك، فزاد فيه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لو يعلم الناس ما فى النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا -. قال (صلى الله عليه وسلم) : تمت بينما رجل يمشى بطريق وجد غصن شوك - إلى آخر الحديث، فى ذكر الشهداء، وهى ثلاثة أحاديث فى حديث واحد.(1/354)
64 - باب إِذَا أُلْقِىَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّى قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ صَلاتُهُ
قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا، وَهُوَ يُصَلِّى، وَضَعَهُ، وَمَضَى فِي صَلاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى، وَفِى ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ تَيَمَّمَ وصَلَّى، ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لا يُعِيدُ. / 97 - وفيه: ابْنَ مَسْعُودٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِىءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِى فُلانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِى شَيْئًا، لَوْ كَانَتْ لِى مَنَعَةٌ، فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: تمت اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. فذكر الحديث إلى قوله: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَرْعَى فِى قَلِيبِ بَدْرٍ. قال المهلب: إنما جعل السلا جيفة، لأنهم لم يكونوا أهل كتابن فتكون ذبائحهم طاهرة، وإنما كانوا مشركين لا كتاب لهم يذبحون به، فكانت ذبائحهم ميتة. وأيضًا لو كان السَّلا من ذبائح المسلمين لكان نجسًا، لكثرة الدم فيه، ذكره مبينًا فى كتاب الصلاة، فقال: تمت أيكم يقوم إلى سلا جزور(1/355)
آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها؟ فانبعث أشقى القوم - وذكر الحديث. ومعلوم أنهم كانوا مجوسًا لا كتاب لهم، ففيه من الفقه: أن غسل النجاسات فى الصلاة سنة على ما قاله مالك والأوزاعى وجماعة من التابعين. وقد ذكر البخارى بعضهم فى أول هذا الباب، ولو كانت فرضًا ما تمادى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فى صلاته والفرس والدم على ظهره، ولقطع الصلاة. فإن قيل: فإن هذه الصلاة كانت فى أول الإسلام، ويحتمل أن تكون قبل أن تفرض عليه الصلاة، وتكون نافلة فلم يحتج إلى إعادتها. قيل: لا نعلم ما كانت، ولو كانت نافلة لكان سبيلها سبيل الفرائض، وأى وقت كانت هذه الصلاة، فلا شك أنها كانت بعد نزول قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4] لأن هذه الآية أول ما نزل عليه من القرآن قبل كل صلاة فريضة أو نافلة، وتأولها جمهور السلف أنها فى غير الثياب، وأن المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدناءة والآثام. وقالوا: وقول ابن سيرين أنه أراد بذلك الثياب شذوذ ولم يقله غيره. وفى هذا الحديث من الفقه: أن من صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى الصلاة أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها، على ما قاله الكوفيون، وهى رواية ابن وهب، عن مالك. وسأذكر اختلاف قول مالك(1/356)
وأصحابه فى هذه المسألة، فى كتاب الصلاة، فى باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى، إن شاء الله. وقد روى عن أبى مجلز أنه سئل عن الدم يكون فى الثوب، فقال: إذا كبرت ودخلت فى الصلاة ولم تر شيئًا ثم رأيته بعد فأتم الصلاة، وعن أبى جعفر مثله. واختلفوا فيمن صلى بثوب نجس ثم علم به بعد الصلاة. فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، وابن المسيب، وسالم، والشعبى، والنخعى، ومجاهد، وطاوس، والزهرى: لا إعادة عليه، وهو قول الأوزاعى، وإسحاق، وأبى ثور. وقال ربيعة ومالك: يعيد فى الوقت. وقال الشافعى وأحمد: يعيد أبدًا. وأما من تعمد الصلاة بالنجاسة فإنه يعيد أبدًا عند مالك وكثير من العلماء، لاستخفافه بالصلاة إلا أشهب فقال: لا يعيد المتعمد إلا فى الوقت فقط. قال المهلب: وفيه أن من أوذى فله أن يدعو على من آذاه، كما دعا النبى (صلى الله عليه وسلم) على كفار قريش. قال المؤلف: هذا إذا كان الذى آذاه كافرًا، فإن كان مسلمًا فالأحسن ألا يدعو عليه، لقول النبى لعائشة حين دعت على السارق: تمت لاتسبخى عنه بدعائك عليه -. ومعنى لا تسبخى عنه أى: لا تخففى عنه. والتسبيخ: التخفيف،(1/357)
عن صاحب تمت العين -. وقال المهلب: وفيه بركة دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) وأنها أجيبت فيمن دعا عليه. وقال أبو عبيد: السلا: الجلدة التى يكون فيها الولد. قال ابن دريد: وهى المشيمة. وقوله: تمت لو كانت لي منعة - يريد قوة أمتنع بها. قال صاحب تمت العين - يقال: رجل منيع فى عز ومنعة، وقد منع مناعة ومنعًا. وقوله: تمت ويحيل بعضهم على بعض - يعنى ينسب ذلك بعضهم إلى بعض من قولك: أحلت الغريم إذا جعلت له أن يتقاضى ماله عليك من غيرك، ويحتمل أن يكون من قول العرب: حال الرجل على ظهر الدابة حولا، وأحال: وثب. وفى الحديث أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لما صبح أهل خيبر غدوة فرآه أهلها، أحالوا إلى الحصن أى وثبوا إليه. وتمت القليب - البئر قبل أن تطوى. وإنما سميت بدر بدرًا، ببدر بن قريش بن الحارث بن مخلد بن النضر بن كنانة، وهو الذى احتفرها، فنسبت إليه عن الخشنى.
65 - باب البصاق وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ
قَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: خَرَجَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) زَمَنَ(1/358)
الْحُدَيْبِيَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ. (1) / 98 - فيه: أنس قال: بصق النبى (صلى الله عليه وسلم) فى ثوبه. هذا الباب يدل على أن البزاق والمخاط طاهر، وهو أمر مجمع عليه لا أعلم فيه اختلافًا، إلا ما روى عن سليمان الفارسى صاحب رسول الله أنه جعله غير طاهر، وأن الحسن بن حى كرهه فى الثوب وذكر الطحاوى، عن الأوزاعى أنه كره أن يدخل سواكه فى وضوئه. وما ثبت عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من خلافهم هى السنة المتبعة والحجة البالغة، فلا معنى لقولهم وقد أمر النبى المصلى أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه، ويبزق (صلى الله عليه وسلم) فى طرف ردائه، ثم رد بعضه على بعض وقال: تمت أو تفعل هكذا -. قال الطحاوى: وهذا حجة فى طهارته، لأنه لا يجوز أن يقوم المصلى على نجاسة، ولا أن يصلى وفى ثوبه نجاسة.
66 - باب لا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلا الْمُسْكِرِ
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ. / 99 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ -. اختلف العلماء فى الوضوء بالنبيذ.(1/359)
فقال مالك وأبو يوسف والشافعى وأحمد: لا يجوز الوضوء بالنبيذ، نَيِّهِ ومطبوُخِهِ، مع عدم الماء ووجوده، تمرًا كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدًا فهو نجس لا يجوز شربه ولا الوضوء به. وأجاز الحسن الوضوء بالنبيذ. قال الأوزاعى: يجوز الوضوء بسائر الأنبذة، وروى هذا عن على. قال أبو حنيفة: لايجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عدم فيجوز بمطبوخ التمر خاصة إذا أسكر، فاما النيئ والنقيع فلا يجوز الوضوء به. وقال محمد بن الحسن: يتوضأ به ثم يتيمم. قال الطحاوى: واحتج الذين أجازوا الوضوء بالنبيذ بما رواه ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعانى، عن ابن عباس، أن ابن مسعود خرج ليلة الجن مع رسول الله، فسأله رسول الله: تمت أمعك ماء؟ - قال: معى نبيذ فى إداوتى، فقال رسول الله: تمت أصبب علىَّ - فتوضأ به، وقال: تمت شراب وطهور -. وبما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبى رافع مولى ابن عمر، عن ابن مسعود، أنه كان مع رسول الله ليلة الجن، وأنه احتاج (صلى الله عليه وسلم) إلى ماء يتوضأ به، ولم يكن معه إلا النبيذ، فقال: تمت تمرة طيبة وماء طهور - وتوضأ به.(1/360)
واحتج عليهم مخالفوهم بأن هذه الآثار لا تثبتن ولا تقوم بها حجة. قال الطحاوى: وقد روى عن ابن مسعود من الطرق الثابته أنه لم يشهد ليلة الجن مع النبى، حدثنا ربيع المؤذن، حدثنا أسد، حدثنا يحيى بن زكريان حدثنا ابن ابى زائدة، حدثنا داود بن أبى هند، عن عامر، عن علقمة، قال: سألت ابن مسعود هل كان مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ليلة الجن أحد؟ فقال: لم يصحبه من أحد، ولكن فقدناه تلك الليلة، فقلنا استطير أو اغتيل، فتفرقنا فى الشعاب والأودية نلتمسه، فقال: تمت إنى أتانى داعى الجن فذهبت أقرئهم القرآن - فارانا آثارهم. وهذا الإسناد أصح من آثارهم. وأما من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المتفق عليه أنه لا يتوضأ بنبيذ الزبيب ولا الخل، وكان النظر على ذلك أن يكون نبيذ التمر كذلك. وأجمع العلماء أن نبيذ التمر إذا كان موجودًا مع الماء أنه لا يتوضأ به، لأنه ليس بماء، فلما كان خارجًا من حكم المياه فى حال وجود الماء كان خارجًا من حكم المياه فى حال عدم الماء. ووجه احتجاج البخارى رحمه الله فى هذا الباب بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت كل شراب أسكر فهو حرام - هو أنه إذا أسكر الشراب فقد وجب اجتنابه لنجاسته، وحرم استعماله فى كل حال، ولم يحل شربه، وما لم يحل شربه لا يجوز الوضوء به، لخروجه عن اسم الماء فى اللغة والشريعة، وكذلك النبيذ غير المسكر أيضًا فهو فى معنى(1/361)
المسكر من جهة أنه لا يقع عليه اسم الماء، ولو جاز أن يسمى النبيذ ماء لأن فيه ماء، جاز أن يسمى الخل ماء، لأن فيه ماء. وهذا أبو عبيد وهو إمام فى اللغة يقول: النبيذ لا يكون طهورًا أبدًا لأن الله شرط الطهور بشرطين ولم يجعل لهما ثالثًا وهما: الماء، والصعيد، والنبيذ ليس بواحد منهما. قال ابن المنذر: وما رواه عن على فليس بثابت عنه. قال ابن القصار: ولو صح خبرهم لكان منسوخًا، لأن ليلة الجن كانت بمكة فى صدر الإسلام، وقوله: (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء) [النساء: 43، المائدة: 6] نزلت فى غزوة المريسيع، حيث فقدت عائشة عقدها بالمدينة.
67 - باب غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: امْسَحُوا عَلَى رِجْلِى فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ. / 100 - وفيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ سئل بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى كَانَ عَلِىٌّ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَأُحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ. فيه: غسل الدم من الجسد، وهو إجماع. قال المهلب: وفيه دليل على جواز مباشرة المرأة أباها وذوى محارمها، وإلطافها إياهم، ومداواة أمراضهم. ولذلك قال أبو العالية لأهله: امسحوا على رجلى، فإنها مريضة(1/362)
ولم يخص بعضهم دون بعض بل عمهم جميعًا. وفيه: إباحة التداوى، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد داوى جرحه بالحصير المحرق.
68 - باب السِّوَاكِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ خالتى ميمونة فَاسْتَنَّ رسول الله / 101 - فيه: أبو موسى، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ، يَقُولُ: تمت أُعْ أُعْ - وَالسِّوَاكُ فِي يده، كَأَنَّه يَتَهَوَّعُ. / 102 - وفيه: حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. فيه: أن السواك سنة مؤكدة لمواظبته عليه بالليل، والليل لا يناجى فيه أحد من الناس، وإنما ذلك لمناجاة الملائكة، وتلاوته القرآن. وقد جاء فى الحديث تمت طيبوا طرق القرآن - يعنى بالسواك. وقد روى مالك: عن أبى الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت لولا أن أشق على امتى لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء -. وعن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبى هريرة، أنه قال: تمت لولا أن يشق على أمته، لأمرهم بالسواك مع كل وضوء -. وقال ابن عباس: ما زال رسول الله يأمرنا بالسواك حتى ظننت أنه سينزل عليه فيه.(1/363)
وقالت عائشة: كان (صلى الله عليه وسلم) إذا دخل على أول ما يبدأ بالسواك. وقال: تمت السواك مطهرة للفم مرضاة للرب -. والعلماء كلهم يندبون إليه، وليس بواجب عندهم، ولو كان واجبًا عليهم لأمرهم به، يشق عليهم أو لم يشق. وقوله: تمت يشوص فاه -. قال ابن دريد الشوص: الاستياك من سفل إلى علو، وبه سمى هذا الداء الشوصة، لأنه ريح يرفع القلب عن موضعه.
69 - باب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الأكْبَرِ
/ 103 - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت أَرَانِى أَتَسَوَّكُ، بِسِوَاكٍ فَجَاءَنِي رَجُلانِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِى: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا -. فيه: تقديم ذى السن فى السواك، وكذلك ينبغى تقديم ذى السن فى الطعام والشراب والكلام والمشى والكتاب وكل منزلة قياسًا على السواك واستدلالا من قوله (صلى الله عليه وسلم) لحويصة ومحيصة: تمت كبر كبر - يريد ليتكلم الأكبر، وهذا من باب أدب الإسلام. وقال المهلب: تقديم ذى السن أولى فى كل شى ما لم يترتب القوم فى الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء فى حديث شرب اللبن.(1/364)
70 - باب فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ
/ 104 - قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ -، قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا بَلَغْتُ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، قُلْتُ: وَرَسُولِكَ، قَالَ: تمت لا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ -. فيه: أن الوضوء عند النوم مندوب إليه مرغب فيهن وكذلك الدعاء، لأنه قد تقبض روحه فى نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء والدعاء الذى هو أفضل الأعمال، ولذلك كان ابن عمر يجعل آخر عمله الوضوء والدعاء، فإذا تكلم بعد ذلك استأنف الصلاة والدعاء، ثم ينام على ذلك اقتداء بالنبى (صلى الله عليه وسلم) لقوله: تمت اجعلهن آخر ما تتكلم به -. وقوله: تمت ونبيك الذى أرسلت -. حجة لمن قال: إنه لا يجوز نقل حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) ، على المعنى دون اللفظ، وهو قول ابن سيرين، ومالك وجماعة من أصحاب الحديث. وقال المهلب: إنما لم تبدل ألفاظه (صلى الله عليه وسلم) ، لأنها ينابيع الحكمة، وجوامع الكلام، فلو جوز أن يعبر عن كلامه بكلام غيره سقطت فائدة النهاية فى البلاغة التى أعطيها (صلى الله عليه وسلم) .(1/365)
وقال بعض العلماء: لم يرد النبى برده على البراء تحرى قوله فقط وإنما أراد بذلك ما فى قوله: تمت ونبيك الذى أرسلت - من المعنى الذى ليس فى قوله: تمت ورسولك الذى أرسلت - وذلك أنه إذا قال: ورسولك الذى أرسلت يدخل فيه جبريل وغيره من الملائكة الذين هم رسل الله إلى أنبيائه وليسوا بأنبياء، كما قال تعالى فى كتابه: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج: 75] فأراد بقوله: تمت ونبيك الذى أرسلت - تلخيص الكلام من اللبس أنه المراد (صلى الله عليه وسلم) بالتصديق بنبوته بعد التصديق بكتابه الذى أوحى الله تعالى إليه وأمرهم بالإيمان به، وإن كان غيره من رسل الله أيضًا واجب الإيمان بهم، وهذه شهادة الإخلاص والتوحيد الذى من مات عليها دخل الجنة، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فإن مت مت على الفطرة - يعنى فطرة الإيمان. كمل كتاب الوضوء بحمد الله وعونه(1/366)
بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهم
كِتَاب الْغُسْل
- باب الغسل وَقَوله تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) [المائدة: 6] ) وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء: 43]
اختلف العلماء فى صفة الغسل الذى عنى الله فى هاتين الآيتين، فقالت طائفة: يجزئ الجنب الانغماس فى الماء دون إمرار اليد على جسده، هذا قول الحسن، وعطاء، وسالم، والنخعى، والشعبى، والزهرى، وبه قال الثورى، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن عبد الحكم، وأبو الفرج المكى. وقالت طائفة: لا يجزئه حتى يمر يديه على جسده، هذا قول القاسم، وأبى العالية، وميمون بن مهران، وإليه ذهب مالك، والمزنى. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: إن كل من صب عليه الماء، فقد اغتسل، تقول العرب: غسلتنى السماء، ولا مدخل فيه لإمرار اليد، وقد وصفت عائشة وميمونة غسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الجنابة، ولم تذكرا تدلكًا. واحتج المزنى لصحة قول من أوجب التدلك، فقال: إن الله(1/367)
تعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ولم يكن بد للمتوضئ من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه، فى حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا لازم. قال غيره: ألا تراهم أجمعوا أن الوضوء للصلاة لا يجزئ فيه إلا إمرار اليد، وأجمعوا أن الوضوء فى الغسل من الجنابة ليس بفرض؟ وإذا كان ذلك، فإن المغتسل من الجنابة الذى لا يقول بإمرار اليد إذًا لم يتوضأ لاغتساله، فقد أوجب وضوءًا للصلاة دون إمرار اليد، وهو لا يقول بذلك فنقض قوله.
- باب الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ
/ 1 - فيه عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِى الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ الشَعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثَ غُرَفٍ بِيَده، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ. / 2 - وفيه: مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ صفة غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ. قال المؤلف: العلماء مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل(1/368)
تأسيًا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، ويحتمل أن يكون قدّم الوضوء قبل الغسل، لفضل أعضاء الوضوء، أو لغير ذلك، وأما الوضوء بعد الغسل، فلا وجه له عند العلماء. وروى نافع، عن ابن عمر، أنه سئل عن الوضوء بعد الغسل، فقال: وأى وضوء أعم من الغسل. وقد ذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا معمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن أبى البخترى، أن عليًا كان يتوضأ بعد الغسل. وروى الزهرى، عن سالم، قال: كان أبى يغتسل، ثم يتوضأ، فأقول أما يجزئك الغسل؟ فقال: وأى وضوء أتم من الغسل للجنب، ولكنى يخيل إلىَّ أنه يخرج من ذكرى شىء فأمسه فأتوضأ لذلك. وأما حديث علىّ فهو مرسل، لأن يحيى بن معين، قال: أبو البخترى الطائى اسمه سعيد ابن عبيد ثقة، ولم يسمع من على بن أبى طالب، ولو ثبت عن علىّ لكان إنما فعله لانتقاض وضوئه، أو شكَّ فيه كما قال ابن عمر، وروى أبو إسحاق السبيعى، عن أبى الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة.
3 - باب غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِه
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ. فيه: دليل على جواز الغسل والوضوء بفضل الجنب والحائض.(1/369)
وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة، وحجة كل فريق فى باب وضوء الرجل مع امرأته، فأغنى عن إعادته، وذكر ابن أبى شيبة، عن أبى هريرة أنه كان ينهى أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد. وأظنه غاب عنه هذا الحديث، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. وقال ابن جرير: الفَرَق بفتح الراء. وقال ابن يزيد الأنصارى: الفرق بفتح الراء وإسكانها. وقال أبو عبيد: الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً، فكان لكل واحد منهما ثمانية أرطال، وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً. وقال ابن مدين، عن عيسى بن دينار، قال ابن القاسم، وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة أصوع، وإذا كان الفرق ثلاثة أصوع كما قال الأئمة، نصفه صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال فالصاع ثلثها، وهو خمسة أرطال وثلث، كما ذهب إليه أهل المدينة.
4 - باب الْغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ
/ 4 - فيه: أَبُو سَلَمَةَ، أنه دَخَل عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَخِيهَا، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْو مِنْ الصَّاع، فَاغْتَسَلَتْ، وَأَفَاضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَابٌ. / 5 - وفيه: جَابِر أنه سُئل عَنِ الْغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِى، قَالَ جَابِرٌ: قَدْ كَانَ يَكْفِى مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أَمَّنَا فِى ثَوْبٍ.(1/370)
/ 6 - وفيه: ابْنُ عَبَّاس، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَيْمُونَةَ كَانَا يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. اختلف أهل الحجاز، وأهل العراق فى مقدار الصاع الذى كان يغتسل به النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فذهب أهل الحجاز إلى أنه خمسة أرطال وثلث، وذهب أهل العراق إلى أن وزنه ثمانية أرطال، واحتجوا بما رواه موسى بن الجهم الجهمى، عن مجاهد، قال: دخلنا على عائشة واستسقى بعضنا، فأتى بعس، فقالت عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغتسل مثل هذا. قال مجاهد: فحزرته ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال. واحتج أهل المدينة بحديث عائشة المتقدم فى الباب قبل هذا قالت: كنت أغتسل أنا والنبى (صلى الله عليه وسلم) من إناء واحد من قدح يقال له: الفرق. وقد ذكرنا هنا أقوال العلماء، أن الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً. وإذا صح ذلك فنصف الفرق صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال، ثبت أن الصاع ثلثها، وذلك خمسة أرطال وثلث على ما قاله أهل المدينة، وقد رجع أبو يوسف القاضى إلى قول مالك فى ذلك حين قدم إلى المدينة، فأخرج إليه مالك صاعًا، وقال له: هذا صاع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال أبو يوسف: فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث، وأهل المدينة أعلم بمكيالهم، ولا يجوز أن يخفى عليهم قدره، ويعلمه أهل العراق، وإنما توارث أهل المدينة مقداره خلفًا عن السلف، نقل ذلك عالمهم وجاهلهم، إذْ كانت الضرورة بهم إليه فيما خصهم من أمر دينهم فى زكواتهم، وكفَّاراتهم، وبيوعهم، ولا يجوز أن يترك مثل نقل هؤلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ والتشاعر إلى رواية واحد تحتمل روايته التأويل، وذلك أن قول مجاهد: فحزرته فوجدته ثمانية أرطال إلى(1/371)
تسعة أرطال، إلى عشرة أرطال. لم يقطع حزره على حقيقة فى ذلك، إذ الحزر لا يُعصم من الغلط وتعصم منه الكافة التى نقلت مقداره بالوزن لا بالحزر، وأيضًا فإن ذلك العس لو صح أن مقداره عشرة أرطال، أو تسعة أرطال، لم يكن لهم فى ذلك حجة، إذ ليس فى الخبر مقدار الماء الذى كان يكون فيه، هل هو ملؤه، أو أقل من ذلك؟ فقد يجوز أن يغتسل هو (صلى الله عليه وسلم) وحده بدون ملئه، وقد يجوز أن يغتسل هو وهى بملئه، فيكون بينهما عشرة أرطال، أو أقل، فيوافق ما قاله أهل المدينة. فلما احتمل هذا ولم يكن فى الخبر بيان يُقطع به لا يجوز خلافه، كان المصير إلى ما نقل أهل المدينة، خلفهم عن سلفهم، أن الصاع وزنه خمسة أرطال وثلث، مع ما ثبت عن عائشة أنها كانت تغتسل هى، وهو (صلى الله عليه وسلم) من قدح يقال له: الفرق. وقد روى عن النخعى، وهو إمام أهل الكوفة، ما يخالف قول الكوفيين، ويوافق قول أهل المدينة. وذكر ابن أبى شيبة، عن حسين بن على، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: يكفى الرجل لغسله ربع الفرق، قال غيره: وإنما احتيج إلى مقدار الماء الذى كان يغتسل به (صلى الله عليه وسلم) ليردّ به قول الإباضية فى الإكثار من الماء، وهو مذهب قديم، وجملة الآثار المنقولة فى ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، يدل على أنه لا توقيت فيما يكفى من الغسل والطهارة، لذلك استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل. وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: كم بلغك(1/372)
أنه يكفى الجنب؟ قال: صاع للغسل من غير أن يكال، قال ابن جريج: وسمعت عبيد بن عمير يقول مثله. روى القعنبى، عن سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن عطاء، قال: إنه سمع سعيد بن المسيب، وسأله رجل من أهل العراق عما يكفى الإنسان فى غسل الجنابة، فقال سعيد: إن لى تورًا يسع مدين ماء، أو نحوهما، أغتسل به فيكفينى ويفضل منه فضل، فقال الرجل: والله إنى لأستنثر بمدين من ماء، فقال سعيد: فما تأمن إن كان الشيطان يلعب بك، فقال له سعيد: ثلاثة أمداد، فقال: آلله هو قليل، فقال سعيد: فصاع، قال عبد الرحمن: فذكرته لسليمان بن يسار، فقال مثله، وذكرته لأبى عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، فقال: هكذا سمعنا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقولون.
5 - باب مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثًا
/ 7 - فيه: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِى ثَلاثًا، وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا -. / 8 - حَدَّثَنَا جَابِر، كَانَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَأْخُذُ ثَلاثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ. فَقَالَ لِىَ الْحَسَنُ: إِنِّى رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ، فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرَ شَعَرًا مِنْكَ. فيه: غسل الرأس من الجنابة ثلاثًا، والعدد فى ذلك مستحب عند العلماء، وما أسبغ وعَمَّ فى ذلك أجزأ، وليس فى حديث هذا الباب الوضوء فى غسل الجنابة، ولذلك قال جماعة الفقهاء: إنه من سنن الغسل.(1/373)
6 - باب الْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً
/ 9 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَن مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَرَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. فيه: الوضوء فى الغسل من الجنابة، وموضع الترجمة من الحديث فى قوله: تمت ثم أفاض على جسده -، ولم يذكر مرة ولا مرتين، فحمل على أقل ما يسمى غسلاً وهو مرة واحدة، والعلماء مجمعون أنه ليس الشرط فى الغسل إلا العموم والإسباغ لا عددًا من المرات.
7 - باب مَنْ بَدَأَ بِالْحِلابِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ الْغُسْلِ
/ 10 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَىْءٍ نَحْوَ الْحِلابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأيْمَنِ، ثُمَّ الأيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ. قال أبو سليمان الخطابى: الحلاب: إناء يسع حَلْبة ناقة، وهو المِحْلب، بكسر الميم، فأما المَحْلب، بفتح الميم، فهو الحَب الطيب الريح. قال المؤلف: وأظن البخارى جعل الحلاب فى هذه الترجمة ضربًا من الطيب، وإن كان ظن ذلك فقد وهم، وإنما الحلاب: الإناء الذى كان فيه طيب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الذى كان يستعمله عند الغسل.(1/374)
وفى الحديث: الحث على استعمال الطيب عند الغسل تأسيًا بالنبى (صلى الله عليه وسلم) .
8 - باب الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ من الْجَنَابَةِ
/ 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عن مَيْمُونَةُ، قَالَتْ: صَبَبْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا، فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِىَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا. وترجم له: بَاب مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ لِيَكُونَ أَنْقَى. قد تقدم اختلاف العلماء فى هذا الباب فى باب المضمضة فى الوضوء، فأغنى عن إعادته، ونزيد بيانًا، وذلك أن العلماء مجمعون على سقوط الوضوء فى غسل الجنابة، والمضمضة والاستنشاق سنتان فى الوضوء، فإذا سقط فرض الوضوء فى الجنابة سقطت توابعه، فدل أن ما روته ميمونة فى ذلك فى غسله، (صلى الله عليه وسلم) ، فهو سنة، لأنه كان يلتزم الكمال والأفضل فى جميع عباداته. قال المهلب: وقوله: تمت ثم قال بيده إلى الأرض - سمى الفعل قولا، كما سمى القول فعلا، فى حديث: تمت لا حسد إلا فى اثنتين - فى قوله فى الذى يتلو القرآن: تمت لو أوتيت مثل ما أوتى لفعلت مثل ما فعل -. وفيه: أن الإشارة باليد والعمل قد تسمى قولا، فقول العرب:(1/375)
قل لى برأسك أى: أَمِلْهُ، وقالت الناقة، وقال البعير، وقال الحائط، وهذا كله مجاز. وتركه، (صلى الله عليه وسلم) ، للمنديل فإنه أراد، والله أعلم، إبقاء بركة الماء والتواضع بذلك وسنذكر اختلاف العلماء فى المسح بالمنديل فى باب نقض اليدين من غسل الجنابة، بعد هذا، إن شاء الله. وقوله: تمت فقال بيده الأرض، فمسحها بالتراب -، يدل، والله أعلم، أنه كان فيها أذى، وإلا فلو لم يكن فيها أذى، لاكتفى بصب الماء وحده عليها كما فعل غير مرة. والغُسل، بضم الغين، الماء الذى يغتسل به، والغَسل، بفتح الغين، فعل المغتسل، كالوُضوء والوَضوء، والوُقود والوَقود، فالوُضوء، بضم الواو، الماء الذى يتوضأ به، والوَضوء، بفتح الواو، فعل المتوضئ، والوُقود، بضم الواو، التوقد والتلهب، والوَقود، بفتح الواو، الحطب، وكذلك السُّحور، والسَّحور، بضم السين، الطعام، وبفتح السين، الفعل. قال ابن الأنبارى: وأجاز النحويون أن يكون الوضوء والسحور والوقود مصادر، والأول هو الذى عليه أهل اللغة.
9 - باب هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِى الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ؟
وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ فِى الطَّهُورِ، وَلَمْ يَغْسِلْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ. وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا بِمَا يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.(1/376)
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ. / 13 - وقَالَ: أَبُو بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ. / 14 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيهُ. / 15 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الجَنَابِةِ. قال المهلب: قوله فى الترجمة: تمت هل يدخل الجنب يده فى الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يديه قذر غير الجنابة -، يريد إذا كانت يده طاهرة من الجنابة ومن سائر النجاسات، وهو جنب، فإنه يجوز له أن يدخل يده فى الإناء قبل أن يغسلها، وليس شىء من أعضائه نجسًا بسب حال الجنابة، لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت المؤمن لا ينجس -. فإن قال قائل: فأين موضع الترجمة من الأحاديث، فأكثرها لا ذكر فيه لغسل اليد، وإنما جاء ذكر اليد فى حديث هشام بن عروة، عن أبيه؟ . قيل له: حديث هشام بن عروة مُفسِّر لمعنى الباب، والله أعلم، وذلك أن البخارى حمل حديث غسل اليد قبل إدخالها فى الماء الذى رواه هشام، إذا خشى أن يكون قد علق بها شىء من أذى الجنابة، أو غيرها، وما لا ذكر فيه لغسل اليد من الأحاديث، حملها على يقين طهارة اليد من أذى الجنابة أو غيرها، فاستعمل من اختلاف الأحاديث فائدتين جمع بهما بين معانيها، وانتفى بذلك(1/377)
التعارض عنها، وقد روى هذا المعنى عن ابن عمر، ذكر ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى سنان ضرار، عن محارب، عن ابن عمر، قال: من اغترف من ماء وهو جنب فما بقى منه نجس. فهذا محمول من قوله على أنه كان بيده قذر الجنابة، وإلا فهو معارض لما روى البخارى عن ابن عمر، وقد روى مثل هذا التأويل عن جماعة من السلف. روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إذا أمنت أن يكون بكفيك قشب، فما يضرك أن تدخلهما فى وضوئك قبل أن تغسلهما. وعن معمر، عن قتادة، أن ابن سيرين كان يخرج من الكنيف، فيدخل يده فى وضوئه قبل أن يغسلها، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إنى لا أمس بها شيئًا. وعن سالم، وسعيد بن جبير مثله. وممن كان يدخل يده فى غسل الجنابة قبل أن يغسلها سعد بن أبى وقاص، وسعيد بن المسيب. وقال الشعبى: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها وهم جنب، والنساء وهن حيض، ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض، وذكر ذلك كله ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق. وأما قوله: تمت ولم ير ابن عمر، وابن عباس بأسًا بما ينتضح من غسل الجنابة -، فروى مثله عن أبى هريرة، وابن سيرين، والنخعى، والحسن، وقال الحسن: ومن ذلك انتشار الماء، إنّا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا.(1/378)
- باب مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِى الْغُسْلِ
/ 16 - فيه: مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا فَسَتَرْتُهُ، فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ، فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. . . . وذكر تمام الغسل. هذا الحديث محمول عند البخارى على أنه كان فى يده أو فى فرجه جنابة أو أذى، فلذلك دلك يده بالأرض وغسلها قبل إدخالها فى وضوئه على ما قدمنا ذكره فى هذا الباب قبل هذا، والله أعلم.
- باب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوءُهُ. / 17 - فيه: مَيْمُونَةُ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ، مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ. . . وذكر الحديث إلى قوله: ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مغتسله، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. اختلف العلماء فى تفريق الوضوء والغسل، فممن أجاز ذلك: ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والحسن، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم. وممن لم يُجز تفرقته: عمر بن الخطاب، وهو قول قتادة، وربيعة، والأوزاعى، والليث إذا فرقه حتى جف، وهو ظاهر مذهب مالك إذا فرقه حتى جف، وإن فرقه يسيرًا جاز، وإن فرقه على وجه(1/379)
النسيان يجزئه وإن طال، وأما إن تَعمِّد ذلك، فلا يجزئه. هذا قول ابن القصار. قال: ومن أصحاب مالك من قال: الموالاة مستحبة، وروى ابن وهب، عن مالك، قال: ولو نزع خفيه، وأقام طويلاً لم يغسل رجليه وأحب إلىَّ أن يأتنف الوضوء، وإن غسل رجليه وصلى أجزأه. وحجة من أجاز تفرقته، حديث ميمونة: تمت أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، تنحى عن مقامه، فغسل قدميه -، وفعل ابن عمر، ولو كان لا يجزئه، لبينه (صلى الله عليه وسلم) ، واحتجوا أيضًا بأن الله تعالى أمر المتوضئ بغسل الأعضاء، فمن أتى بغسل ما أمر به متفرقًا، فقد أدى ما أُمر به، وتمت الواو - فى الآية لا تعطى الفور. وقال الطحاوى: جفوف الوضوء ليس بحدث فلا ينقض، كما أن جفوف سائر الأعضاء لا يبطل الطهارة. واحتج من لم يجز التفرقة، بأن التنحى فى حديث ميمونة من موضع الغسل يقرب ويبعد، واسم التنحى بالقرب أولى، وأما جفوف الوضوء فى فعل ابن عمر فلا يكون إلا بالبعد، لكن الذى مضى عليه عمل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الموالاة، وتواطأ على ذلك فعل السلف، واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا، أنه لما جاز التفريق اليسير جاز الكثير، أصله الحج، وعكسه الصلاة، لأنه لو وقف بعرفة وطاف يوم النحر أجزأه، وهذا تفريق يسير، ولو وقف وطاف بعد شهر أجزأه، ولو طاف خمسة أشواط، وطاف شوطين فى وقت آخر أجزأه. فعارضهم أهل المقالة الثانية، فقالوا: أما قياسكم على التفريق اليسير فغلط، لأن الأصول قد جوزت العمل اليسير فى الصلاة،(1/380)
ومنعت من الكثير، ولو تعمد قتل عقرب، أو دب ليسدَّ الصفَ جاز، ولو اشتغل بإخراج غريق وهو فى الصلاة بطلت الصلاة، والقياس على الصلاة أولى من القياس على الحج، لأن الطهارة تراد للصلاة.
- باب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْل وَاحِدٍ
(1) / 18 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، يَنْضَحُ طِيبًا. / 19 - وفيه: أَنَس، كَانَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِى السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امرأة، قُلْتُ لأنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِىَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ. وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: عَن أَنَس: تمت تِسْعُ نِسْوَةٍ -. لم تختلف العلماء فى جواز وطء جماعة نساء فى غسل واحد على ما جاء فى حديث عائشة، وأنس. وروى ذلك عن ابن عباس، وقاله عطاء، ومالك، والأوزاعى. وإنما اختلفوا إذا وطئ جماعة نسائه فى غسل واحد، هل عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة عند وطء كل واحدة منهن أم لا؟ فروى عن عمر بن الخطاب، وابن عمر أنه إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة، وبه قال عطاء وعكرمة، وكان الحسن البصرى لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ، وعن ابن سيرين مثله، وبهذا قال مالك وأكثر الفقهاء أنه لا وضوء عليه.(1/381)
وقال أحمد بن حنبل: إن توضأ أعجب إلىّ، فإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس. وبه قال إسحاق، وقال: لابد من غسل الفرج إذا أراد أن يعود. ويحتمل أن يكون دورانه (صلى الله عليه وسلم) عليهن فى يوم واحد لمعان: أحدها: أن يكون ذلك عند إقباله من سفره، حيث لا قسمة تلزمه لنسائه، لأنه كان إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن أصابتها القرعة خرجت معه، فإذا انصرف استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن واحدة منهن أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن، جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك. والوجه الثانى: يحتمل أن يكون استطاب أنفس أزواجه، فاستأذنهن فى ذلك كنحو استئذانهن أن يُمرَّض فى بيت عائشة، قاله أبو عبيد. والوجه الثالث: قاله المهلب، قال: يحتمل أن يكون دورانه عليهن فى يوم يفرغ من القسمة بينهن، فيقرع فى هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعد ذلك القسمة، والله أعلم. وفى هذا الحديث أن الإماء يعددن من نسائه، لقوله: تمت وهن إحدى عشرة امرأة -، لأنه لم يحل له من الحرائر إلا تسع، وهو حجة لمالك فى قوله: إن من ظاهر من أمته لزمه الظهار، لأنها من نسائه، واحتج بظاهر قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم) [المجادلة: 2] وسيأتى فى كتاب النكاح زيادة من الكلام فى هذا الحديث، إن شاء الله عز وجل.(1/382)
وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقال: لو تدلك (صلى الله عليه وسلم) لم ينتضح منه الطيب. قال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون دَلَكَ وقد غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله، فذهب وبقى وَبيصه. قال المؤلف: ومن روى هذا الحديث: تمت ينضخ طيبًا - بالخاء، فالنضخ عند العرب كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل. وفى كتاب الأفعال: نضخت العين بالماء نضخًا إذا فارت، واحتج بقوله الله تعالى: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) [الرحمن: 66] ، ومن رواه تمت ينضح - بالحاء، فقال صاحب العين: نضحت العين بالماء إذا رأيتها تفور، وكذلك العين الناظرة، إذا رأيتها تغرورق، والوبيص: البريق واللمعان.
- باب غَسْلِ الْمَذْىِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ
/ 20 - فيه: عَلِىّ بن أَبِى طالب، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ رَجُلا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَسَأَلَه، فَقَالَ: تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ -. اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: يغسل الذكر كله من المذى، ثم يتوضأ مثل وضوئه للصلاة، روى هذا عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وهو قول مالك فى المدوّنة، وحجتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت توضأ واغسل ذكرك -، وهذا ظاهره العموم.(1/383)
وقال آخرون: إنما يجب غسل موضع الأذى من الذكر فقط مع الوضوء، لا غسل الذكر كله، وروى هذا عن ابن عباس أيضًا، وعن سعيد بن جبير، وعطاء، وهو قول الكوفيين. وقال ابن أبى زيد: قال البغداديون من أصحاب مالك: إن معنى غسل الذكر من المذى: غسل موضع الأذى فقط. واحتج الكوفيون بما رواه الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال على: كنت رجلاً مذاءً فأمرت رجلاً فسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: فيه الوضوء. ورواه أبو حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على، قال: كنت رجلاً مذاءً، فأرسلت رجلاً إلى النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت توضأ واغسله -. واحتج أبو عبد الله بن الفخار لقول البغداديين من أصحاب مالك، قال الدليل على صحته: أن مالكًا روى فى موطئه حديث المقداد فى غسل المذى، وفيه: تمت فليغسل فرجه وليتوضأ -، هكذا رواه القعنبى، وابن وهب، وابن بكير، وجماعة. قال: والفرج فى اللغة: الشق بين الجبلين، فحقيقة الفرج إنما تقع على موضع مخرج البول والمذى فقط. وروى يحيى بن يحيى تمت فلينضح فرجه -، ومعناه الغسل. قال الطحاوى: وأما النظر فى هذا الباب، فإنا رأينا خروج المذي(1/384)
حدثًا، فأردنا أن نعلم ما يجب فى خروج الأحداث، فكان خروج الغائط يجب فيه غسل ما أصاب البدن لا غسل ما سوى ذلك، إلا التطهر للصلاة، فالنظر على ذلك أن يكون خروج المذى كذلك لا يجب فيه غسل غير الموضع الذى أصابه من البدن غير التطهر للصلاة.
- باب مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِىَ أَثَرُ الطِّيبِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّه ذُكر لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَحُ طِيبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ طَافَ فِى نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. / 22 - وفيه: وَقَالَتْ عَائِشَة: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ مُحْرِمٌ. قال المهلب: فيه أن السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع، فكان (صلى الله عليه وسلم) أملك لأربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب فى الإحرام ونهانا عنه، لضعفنا عن ملك الشهوات، إذ الطيب من أسباب الجماع ودواعيه، والجماع يفسد الحج، فمنع فيه الطيب للذريعة. وسيأتى اختلاف العلماء فى الطيب للمحرم فى كتاب الحج، والوبيص: البريق واللَّمعان. وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقالوا: لو تدلك فى غسله لم ينضح الطيب منه. وقال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون دلك وقد غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله فذهب وبقى وبيصه.(1/385)
- باب تَخْلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ
/ 23 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، غَسَلَ يَدَيْهِ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ، أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاثَ غرفات، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ -. قال المؤلف: أما تخليل شعر الرأس فى غسل الجنابة فالعلماء مجمعون عليه، وعليه قاسوا شعر اللحية، لأنه شعر مثله، فحكمه حكمه فى التخليل، إلا أنهم اختلفوا فى تخليل اللحية، فممن كان يخلل لحيته: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وابن عمر، وأنس، ومن التابعين أبو قلابة، والنخعى، وسعيد بن جبير، وعطاء. وممن رخص فى تخليلها: الشعبى، وطاوس، والقاسم، والحسن، وأبو العالية، ورواية عن النخعى. واختلف قول مالك فى تخليلها، فروى عنه ابن القاسم أنه لا يجب تخليلها فى غسل الجنابة، ولا فى الوضوء، وروى عنه ابن نافع، وابن وهب فى المجموعة إيجاب تخليلها مطلقًا، ولم يذكرا غسلاً ولا وضوءًا، وروى عنه أشهب فى العتبية أن تخليلها فى الغسل واجب، ولا يجب فى الوضوء، وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأحمد، وإسحاق. وحكى ابن القصار، عن الشافعى أن التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض فى الجنابة مثل أن يغلغل الماء فى شعره، أو يبله(1/386)
حتى يعلم أن الماء قد وصل إلى البشرة، وقال المزنى، ومحمد بن عبد الحكم: تخليلها واجب فى الوضوء والغسل جميعًا. وحجة من قال بتخليلها فى الغسل حديث عائشة أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل وخلل شعره بيديه. فدخل فيه شعر اللحية وغيرها. وأما تخليلها فى الوضوء، فقال ابن القاسم، عن مالك: ليس هو من أمر الناس، وعاب ذلك على من فعله، وقال أبو قرة: يكفيها ما مر عليها من الماء مع غسل الوجه، واحتج بحديث عبد الله بن زيد فى الوضوء، ولم يذكر فيه تخليل اللحية، وقال الطحاوى: التيمم فيه واجب مسح البشرة قبل نبات اللحية، ثم سقط بعدها عند جميعهم، فكذلك الوضوء، وحجة من لم ير تخليل اللحية فى الجنابة، أنا قد اتفقنا أن داخل العينين لا يجب غسله، بعلة أن درنه سائر من نفس الخلقة، وأيضًا فإن الأمرد الذى لا لحية له يجب عليه غسل ذقنه فى الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله فى الوضوء إذا غطاه الشعر، فينبغى أن يسقط فى الجنابة.
- باب مَنْ تَوَضَّأَ فِى الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى
/ 24 - فيه: مَيْمُونَةَ أنها وَضَعَت للنَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَضُوء الجَنَابَة، فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى بَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ. . . . -، الحديث. أجمع العلماء على أن الوضوء ليس بواجب فى غسل الجنابة،(1/387)
ولذلك قال ابن عمر: وأى وضوء أعم من الغسل؟ فلما ناب غسل مواضع الوضوء وهى سنة فى الجنابة عن غسلها فى الجنابة، وغسل الجنابة فريضة، صح بذلك قول مطرف، وابن الماجشون، وابن كنانة، وابن وهب، وابن نافع، وأشهب: أن غسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة، ورووه كلهم عن مالك، وهى خلاف رواية ابن القاسم. قال المهلب: ووجه ذلك أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لما اجتزأ بغسل أعضاء الوضوء عن أن يغسلها مرة أخرى للجنابة، دل أن الطهارة إذا نوى بها رفع الحدث أجزأت عن كل معنى يراد به استباحة الصلاة، ولهذا الحديث، والله أعلم، قال عطاء: إذا غسلتُ كفَّىَّ قبل إدخالهما الإناء لم أغسلهما مع الذراعين فى الوضوء. وفى هذا الحديث أيضًا حجة لأحد قولى مالك فى رجل توضأ للظهر، ثم صلى، ثم أراد أن يجدد الوضوء للعصر للفضل، فلما صلى العصر، ذكر أن الوضوء الأول قد انتقض، فقال مرة: تجزئه صلاته، وقال مرة: إنها لا تجزئه. والصواب أنها تجزئه، لأن الوضوء عنده للسنن تجزئ به صلوات الفرائض، ومثل هذه المسألة اختلاف ابن القاسم، وابن الماجشون، فيمن صلى فى بيته، ثم صلى تلك الصلاة فى المسجد، فذكر أنه كان صلى فى بيته على غير وضوء، فقال ابن القاسم: تجزئه. وقال ابن الماجشون: لا تجزئه. وقول ابن القاسم الصواب بدليل هذا الحديث، فإنه وإن كان صلاها على طريقة الفضيلة، فإنه نوى بها تلك الصلاة بعينها والقربة إلى الله بتأديتها، كما نوى بغسل يديه وغسل مواضع الوضوء القربة إلى الله، ولم يحتج إلى إعادتها فى الغسل من(1/388)
الجنابة، وقد قال ابن عمر للذى سأله عن الذى يصلى فى بيته، ثم يصلى تلك الصلاة فى المسجد تمت أيهما أجعل صلاتى؟ فقال: أو ذلك إليك؟ هى إلى الله يجعل أيتهما شاء -. وقوله فى الحديث فى الباب قبل هذا: تمت ثم غسل سائر جسده - كان أولى بهذه الترجمة، وهو تبيين لرواية من روى فيه: تمت ثم أفاض على جسده الماء، وصب أو أفرغ على جسده -، والمراد بذلك: الغسل لما بقى من الجسد دون أعضاء الوضوء بدليل قوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] ، وقد تقدم من الحجة فى هذه المسألة فى أول كتاب الغسل ما فيه الكفاية.
- باب إِذَا ذَكَرَ فِى الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خَرَجَ كَمَا هُوَ وَلا يَتَيَمَّمُ
/ 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا قَامَ فِى مُصَلاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: تمت مَكَانَكُمْ -، ثُمَّ رَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ. قال المؤلف: من التابعين من يقول: إن الجنب إذا نسى، فدخل المسجد فذكر أنه جنب يتيمم، وكذلك يخرج، وهو قول الثورى، وإسحاق، وهذا الحديث يرد قولهم. وقال أبو حنيفة فى الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء: فإنه يتيمم، ويدخل المسجد، فيستقى، ثم يخرج الماء من المسجد، وهذا الحديث يدل على خلاف قوله، لأنه لما لم يلزمه التيمم للخروج، كذلك من اضطر إلى المرور فيه جنبًا لا يحتاج إلى تيمم.(1/389)
وقد اختلف العلماء فى مرور الجنب فى المسجد، فرخص فيه على، وابن مسعود، وابن عباس، وقال جابر: كان أحدنا يمر فى المسجد وهو جنب. وممن روى عنه إجازة دخوله عابر سبيل: سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وهو قول الشافعى. ورخصت طائفة للجنب أن يدخل المسجد ويقعد فيه، قال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحتبون فى المسجد وهم جنب. وكان أحمد بن حنبل يقول: يجلس الجنب فى المسجد ويمر فيه إذا توضأ، ذكره ابن المنذر. وقال مالك والكوفيون: لا يدخل فيه الجنب، ولا عابر سبيل، وروى عن ابن مسعود أيضًا أنه كره ذلك للجنب. وحجة الذين رخصوا فى ذلك قوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] . وأن المراد مكان الصلاة، فتقديره: لا تقربوا مكان الصلاة جنبًا إلا عابرى سبيل، قالوا: وقد سمى المسجد باسم الصلاة فى قوله تعالى: (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ) [الحج: 40] . وحجة الذين منعوا الجنب من دخول المسجد: أن المراد بالآية نفس الصلاة وحملها على مكان الصلاة مجاز، على أنا نحمله على عمومه فنقول: لا تقربوا الصلاة ولا مكانها على هذه الحال إلا أن تكونوا مسافرين فتيمموا واقربوا ذلك، وصلوا، ونكون بهذا أسعد منكم لأن فيه تعظيمًا لحرمة المسجد، ويمكن أن يستدل من هذه(1/390)
الآية بقول الثورى، وإسحاق، وذلك أن المسافر إذا عدم الماء منع دخول المسجد والصلاة فيه إلا بالتيمم وذلك لضرورة، وأنه لا يقدر على ماء، فكذلك الذى يجنب فى المسجد، فى القياس، لا يخرج إلا بعد التيمم، لأنه مضطر لا ماء معه، فأشبه المسافر العابر سبيل المذكور فى الآية لولا ما يعارضه من حديث أبى هريرة المفسر لمعنى الآية، لجواز خروجه من المسجد دون تيمم، ولا قياس لأحد مع مجئ السنن، وإنما يُفزع إلى القياس عند عدمها، والله الموفق.
- باب نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنَ غُسلِ الْجَنَابَةِ
/ 26 - فيه: مَيْمُونَةُ: تمت وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا. . . -، وذكر الحديث: تمت فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا، فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَانْطَلَقَ، وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ -. اختلف العلماء فى المسح بالمنديل بعد الوضوء، فكره ذلك جابر، وعطاء، وابن أبى ليلى، وابن المسيب، والنخعى، وأبو العالية، وهو قول الحسن بن حى. وكره ابن عباس أن يمسح بالمنديل من الوضوء، ولم يكرهه من الجنابة. وممن رخص فى ذلك عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، وابن عمر، وأنس بن مالك، وبشير بن أبى مسعود، والحسن، والشعبى، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: ذلك مباح كله. قال المهلب: ويمكن أن يريد بترك المنديل إبقاء بركة بلل الماء(1/391)
والتواضع بذلك لله تعالى، أو لشىء رآه فى المنديل من حرير، أو وسخ، أو لاستعجال كان به، والله أعلم. وقد روى ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى معاذ، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء.
- باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِى الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ، وَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ
وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ -. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِى إِثْرِهِ، يَقُولُ: ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، وَقَالتْ: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا -. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ. / 28 - وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ -.(1/392)
قال المهلب: فى حديث موسى، وأيوب دليل على إباحة التعرى فى الخلوة للغسل وغيره، بحيث يأمن أعين الناس، لأن أيوب وموسى من الذين أمرنا أن نهتدى بهداهم، ألا ترى أن الله عاتب أيوب على جمع الجراد، ولم يعاتبه على غسله عريانًا، ولو كلف الله عباده الاستتار فى الخلوة كان فى ذلك حرج على العباد، إذ كان المغتسل من الجنابة لا يجد بدًا من التعرى والله تعالى لا يغيب عنه شىء من خلقه، عراة كانوا أو مكتسين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب كراهية التعرى فى الصلاة وغيرها، إن شاء الله، إلا أن الاستتار فى الخلوة من حسن الأدب. وقد روى ابن وهب، عن ابن مهدى، عن خالد بن حميد، عن بعض أهل الشام، أن ابن عباس لم يكن يغتسل فى بحر ولا نهر إلا وعليه إزار، فإذا سئل عن ذلك، قال: إن له عامرًا. وروى برد، عن مكحول، عن عطية، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت من اغتسل بليل فى فضاء فليتحاذر على عورته، ومن لم يفعل ذلك فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه -. وفى مرسلات الزهرى، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تغتسلوا فى الصحراء إلا أن لا تجدوا متوارى، فإن لم تجدوا متوارى فليخط أحدكم كالدائرة، ثم يسمى الله ويغتسل فيها -. وفى حديث موسى دليل على إباحة النظر إلى العورة عند الضرورة الداعية إلى ذلك من مداواة، أو براءة مما رمى به من العيوب كالبرص وغيره من الأدواء التى يتحاكم الناس فيها مما لابد فيها من(1/393)
رؤية أهل النظر بها، فلا بأس برؤية العورات للبراءة من ذلك أو لإثبات العيوب فيه والمعالجة. وفيه: آية لموسى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى مشى الحجر. وفيه: إجراء خُلق الإنسان عند الضجر على من يعقل، ومن لا يعقل، كما جرى من موسى فى ضربه للحجر، وإن كان الحجر قد جعل الله فيه قوةً مشى بها فلذلك ضربه، لأنه إذا أمكن أن يمشى بثوبه، أمكن أن يخشى الضرب، ألا ترى قول أبى هريرة: والله إنه لندب بالحجر، يعنى آثار ضرب موسى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقيت فى الحجر آية لهم. وفيه: جواز الحلف على الأخبار لحلف أبى هريرة أن موسى ضرب الحجر وأَثَّر فيه ضربه. وقوله: تمت إنه لندب بالحجر -، قال صاحب العين: الندب أثر الجرح. وأما غتسال بنى إسرائيل عراة ينظر بعضهم إلى بعض، فيدل أنهم كانوا عصاة له فى ذلك غير مقتدين بسنته إذ كان هو يغتسل حيث لا يراه أحد، ويطلب الخلوة، فكان الواجب عليهم الاقتداء به فى ذلك، ولو كان اغتسالهم عراةً فى غير الخلوة عن علم موسى وإقراره لذلك، لم يلزمنا فعله، لأن فى شريعتنا الأمر بستر العورة عن أعين الآدميين، وذلك فرض علينا، وهو فى الخلاء حسن غير واجب. وأما حديث بهز بن حكيم: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال:(1/394)
تمت إن الله أحق أن يستحى منه -، فهو محمول عند الفقهاء على الندب والاستحباب للتستر فى الخلوة لا على الإيجاب لما ذكرناه. وفى حديث أيوب جواز الحرص على المال الحلال وفضل الغنى، لأنه سماه بركةً.
- باب التَّسَتُّرِ فِى الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ
/ 29 - فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فَقَالَ: تمت مَنْ هَذِهِ -؟ قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ. / 30 - وفيه: مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: سَتَرْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ. . . الحديث. أجمع العلماء على وجوب ستر العورة عن أعين الناظرين، وأصل هذين الحديثين ومصداقهما فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النور: 58] الآية. ثم قال: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ) [النور: 58] ، وفى هذا دليل على أن الجناح غير مرفوع فيهن، وقوله: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ (أى إن هذه الأوقات أكثر ما يخلو فيها الرجل بأهله للجماع، حظر الله ذلك على الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا جرت عليهم الأقلام، يدل أنه واجب على غيرهم من الرجال والنساء التستر الذى أراده الله. وقد قال(1/395)
تعالى: (يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ) [الأعراف: 26] ، فعد علينا نعمته فى ذلك. وقال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30] ، فقرن غض الأبصار عن العورات بحفظ الفروج، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يطوفن بالبيت عريان -، فكما لا يحل لأحد أن يبدى عن فرجه لأحد من غير ضرورة مضطرة له إلى ذلك، فكذلك لا يجب أن ينظر إلى فرج أحد من غير ضرورة، واتفق أئمة الفتوى على أنه من دخل الحمام بغير مئزر أنه تسقط شهادته بذلك، هذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى. واختلفوا إذا نزع مئزره، ثم دخل الحوض وبدت عورته عند دخوله، فقال مالك والشافعى: تسقط شهادته بذلك أيضًا. وقال أبو حنيفة والثورى: لا تسقط شهادته بذلك، وهذا يعذر به، لأنه لا يمكن التحرز منه. وروى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت احفظ عورتك واسترها إلا عن زوجتك وأمتك -. وأجمع العلماء على أن للرجل أن يرى عورة أهله وترى عورته.
- باب إِذَا احْتَلَمَتِ الْمَرْأَةُ
/ 31 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِى طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ، إِذَا هِىَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ -.(1/396)
لا خلاف بين العلماء أن النساء إذا احتلمن ورأين الماء، أن عليهن الغسل وحكمهن حكم الرجال فى ذلك، وفيه دليل أن ليس كل النساء يحتلمن، لأن فى غير هذه الرواية أن أم سلمة غطت وجهها استحياءً من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقالت لأم سليم: وهل ترى ذلك المرأة؟ . وكذلك أنكرت عائشة أيضًا فى حديث مالك، عن ابن شهاب، عن عروة. وقد يفقد بعض الرجال الاحتلام، فكذلك النساء. وفى قول أم سليم: تمت إن الله لا يستحى من الحق -، أنه يلزم كل من جهل شيئًا من دينه أن يسأل عنه العالمين به، وأنه محمود بذلك، ألا ترى قول عائشة، رضى الله عنها: تمت نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين -. وإنما يكون الحياء فيما تجد المرأة من ذكره بدا، وأما ما يلزم السؤال عنه، فلا حياء فيه. وإنما اعتذرت أم سليم من مشافهة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، إذ سؤالها له أثبت فى نفسها، فلذلك قدمت بين يدى قولها: تمت إن الله لا يستحى من الحق -.
- باب عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُس
ُ
/ 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، لَقِيَهُ فِى بَعْضِ طَرِقِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْبخَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ -؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ، وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤمن لا يَنْجُسُ -.(1/397)
قال المهلب: هذا يدل على أن الجنابة إذا لم تكن عينًا فى الأجسام، فإن المؤمن حينئذ طاهر الأعضاء، بحال ما المؤمنون عليه من التطهر والنظافة لأعضائهم، بخلاف ما عليه المشركون من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار، فحملت كل طائفة على خلقها وعادتها، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: 28] تغليبًا للحال، وقد قيل فى قوله الله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (ليس بمعنى نجاسة الأعضاء، لكن بمعنى نجاسة الأفعال، والكراهة لهم، والإبعاد عما قد بَيَّن الله من بقعة أو كتاب أو رجل صالح، ولا خلاف بين الفقهاء فى طهارة عرق الجنب والحائض. قال ابن المنذر: وكذلك عرق اليهودى، والنصرانى، والمجوسى عندى طاهر. وقال غيره: لما أباح الله نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من ضاجعهن، وأجمعت الأمة على أنه لا غسل عليه من الكتابية إلا كما عليه من المسلمة، دل ذلك على أن ابن آدم ليس بنجس فى ذاته، ما لم تعرض له نجاسة تحل به. وقوله: تمت فانبخست منه -، وهكذا وقعت هذه اللفظة تمت فانبخست منه - بالخاء، وفى بعض النسخ لابن السكن تمت فانبجست منه - بالجيم، وأما بالخاء فلا أعرف له معنى، وأما بالجيم فيحتمل أن يكون من قوله تعالى: (فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) [الأعراف: 16] أى انفجرت وجرت، والأشبه أن يكون فانخسنت منه، قال صاحب العين: يقال: خنس من بين القوم يخنس خنوسًا: إذا انقبض، وخنوس الكواكب اختفاؤها.(1/398)
- باب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِى فِى السُّوقِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ. / 33 - فيه: أَنَسَ: كَانَ (صلى الله عليه وسلم) يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. / 34 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ لَقِيَنِى النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ منه وَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ - فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ -. وإنما أراد البخارى أن يريك أن الجنب لا ينجس بالسنة، وأنه يجوز له التصرف فى أموره كلها قبل الغسل، ويرد قول طائفة من السلف أوجبت عليه الوضوء. روى عن سعد بن أبى وقاص أنه كان إذا أجنب لا يخرج لحاجته حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، وعن ابن عباس مثله، وبه قال عطاء والحسن. ومنهم من قال: لا يأكل ولا يشرب حتى يتوضأ للصلاة. روى ذلك عن على، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعطاء. والذى عليه الناس فى ذلك ما روى عن أبى الضحى أنه سئل أيأكل الجنب؟ قال: نعم، ويمشى فى الأسواق، ولم يذكر أنه توضأ قبل ذلك وهذا قول مالك، وأكثر الفقهاء، أن الوضوء ليس بواجب عليه إذا أراد الخروج فى حاجاته، وليس فى حديث أنس أن النبى كان(1/399)
يتوضأ حين كان يطوف على كل امرأة من نسائه، ولا فى حديث أبى هريرة أن المؤمن لا ينجس إذا كان قد توضأ بعد الجنابة. وممن قال لا وضوء عليه إذا أراد أن يطعم: مالك، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو الذى يدل عليه حديث أبى هريرة. وفى حديث أبى هريرة: جواز أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومن هو دونه ومشيه معه معتمدًا عليه ومرتفقًا به. وفيه: أن من حسن الأدب لمن مشى معه معلمه أو رئيسه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه بذلك، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى هريرة حين انصرف إليه: تمت أين كنت يا أبا هريرة؟ - فدل ذلك على أنه استحب له أن لا يفارقه حتى ينصرف معه.
- باب كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِى الْبَيْتِ
/ 35 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَتَوَضَّأُ. / 36 - وفيه: عُمَرَ أَنه سَأَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: تمت نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ - وَهُوَ جُنُبٌ. / 37 - وقَالَ لَهُ مرة: تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ -. / 38 - وفيه: عَائِشَةَ كَانَ النَّبِىُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ، غَسَلَ فَرْجَهُ، وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ. واختلف العلماء فى نوم الجنب، فقالت طائفة: بظاهر خبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، أنه توضأ وضوءه للصلاة، وكذلك ينام، روى هذا عن على،(1/400)
وابن عباس، وعائشة، وأبى سعيد الخدرى، ومن التابعين: النخعى، وطاوس، والحسن، وبه قال: مالك، والليث، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، كلهم يستحبون الوضوء، ويأمرون به. وشذ أهل الظاهر، فأوجبوا عليه الوضوء فرضًا، وهذا قول مهجور لم يتابعهم عليه أحد، فلا معنى له، وروى عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن شاء أن ينام قبل أن يتوضأ، وإليه ذهب أبو يوسف، فقال: لا بأس أن ينام الجنب قبل أن يتوضأ، لأن الوضوء لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال الطهارة، ومن حجته ما رواه الأعمش، عن أبى إسحاق، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجنب ثم ينام ولا يمس ماء، حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل. قال الطحاوى: هذا الحديث غلط، اختصره أبو إسحاق من حديث طويل فأخطأ فيه، وذلك ما حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: أتيت الأسود بن يزيد فقلت: حدثنى ما حدثتك عائشة عن صلاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: قالت: كان ينام أول الليل، ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة، قضى حاجته، ثم ينام(1/401)
قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء الأول، أفاض عليه الماء، وإن نام جنبًا توضأ وضوء الرجل للصلاة، فهذا الأسود بن يزيد قد بان فى حديثه أنه كان إذا أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ للصلاة، وبان أن قولها: ثم ينام قبل أن يمس ماء، يعنى الغسل لا الوضوء، والدليل على صحة ذلك ما رواه البخارى عن عمر، وعائشة، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا توضأ قبل أن ينام، كان كمن اغتسل فى الثواب الذى يكتب لمن بات على طهر. وقالت عائشة: لا ينام الجنب حتى يتوضأ للصلاة فإنه لا يدرى لعل نفسه تصاب فى نومه، فيكون قد أخذ بأى الطهارتين. فأما ما روى عن ابن عمر أنه كان يتوضأ، ولا يغسل قدميه، فيدل ذلك أن محمل الحديث عندهم على الندب، لا على الوجوب، لأن ابن عمر روى الحديث عن أبيه، عن النبى وعَلِمَهُ فلم يترك غسل قدميه، إلا أنهم تلقوا الحديث على أن الوضوء على غير الإيجاب.
- باب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ
/ 39 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ -. ذهب جماعة فقهاء الأمصار إلى وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وإن لم ينزلا، على ما ثبت فى هذا الحديث، وقد روى مالك فى الموطأ عن عائشة أنها قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وهى أعلم بهذا، لأنها شاهدت تطهر رسول الله حياته وعاينته عملا، فقولها أولى ممن لم يشاهد ذلك، وروى عن على بن أبى طالب خلافه. قال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم على القول بهذا الحديث.(1/402)
وإذا كان فى المسألة قولان بعد انقراض الصحابة، ثم أجمع العصر الثانى بعدهم على أحد القولين، كان ذلك مسقطًا للخلاف قبله ويصير ذلك إجماعًا، وإجماع الأعصار عندنا حجة كإجماع الصحابة، وسنتقصى الكلام فى هذه المسألة فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. وقوله: تمت جهدها - أى بلغ مشقتها، قال صاحب الأفعال: يقال: جهدته جهدًا، وأجهدته بلغت مشقته، هذا قول الأصمعى، وقال الأعمش: جهدن لها مع إجهادها به وجهده المرض وأجهده، وجهد فى الأمر، وأجهد: بلغ فيه الجهد، وجهدت الفرس، وأجهدته: استخرجت جهده. وقال الحسن، رحمه الله: إن الحق جهد الناس ولن يصبر عليه إلا من رجا ثوابه عز وجل.
- باب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ
/ 40 - فيه: زَيْدَ بْنَ خَالِد أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةَ ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. / 41 - وفيه: أَبُو أَيُّوبَ الأنصارى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) .(1/403)
/ 42 - ورواه أَبُو أَيُّوبَ، مرة، عَنْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَالَ: تمت يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى -. قَالَ البخارى: الْغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَاكَ الآخِرُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّاه لاخْتِلافِهِمْ. قال المؤلف: قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن حديث عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال: سألت خمسة من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) : عثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وأُبَىّ بن كعب، فقالوا: الماء من الماء، فيه علة؟ قال: نعم، ما يروى من خلافه عنهم. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت على بن المدينى وسئل عن هذا الحديث، فقال: إسناد حسن، ولكنه حديث شاذ، فإن على بن زيد قد روى عن عثمان، وعلى، وأُبَىّ بأسانيد حسان أنهم أفتوا بخلافه. قال يعقوب: وهو حديث منسوخ، كانت هذه الفتيا فى أول الإسلام، ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل -. وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، قال: حدثنى بعض من أرضى، عن سهل بن سعد، عن أُبَىّ بن كعب أخبره، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جعل الماء من الماء رخصة فى أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل بعد ذلك. وقال موسى بن هارون: رواه أبو حازم، عن سهل بن سعد، وأظن ابن شهاب سمعه منه، فهذا أُبَىّ يخبر أن هذا من الناسخ لقوله: تمت الماء من الماء -.(1/404)
وروى يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب، عن محمود بن لبيد أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل، فقلت: إن أُبَىّ بن كعب كان لا يرى الغسل، قال: إن أُبَىّ نزع عن ذلك قبل أن يموت. فهذا أُبَىّ قد قال هذا، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) خلافه، فلا يجوز أن يقول هذا إلا وقد ثبت عنده نسخ ذلك، وأما رجوع عثمان، فرواه مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون: إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل، فلا يجوز أن يقول هذا عثمان إلا وقد ثبت عنده النسخ. وأما رجوع على، فرواه معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن على، قال: كما يجب الحد يجب الغسل، ورواه الثورى عن أبى جعفر، عن على، ثم قد كشف عن ذلك عمر بن الخطاب بحضرة أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فلم يثبت عنده إلا الغسل، فحمل الناس عليه، فسلموا لأمره، فدل ذلك على رجوعهم إلى قوله. روى الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن معمر بن أبى حيية، عن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله عند عمر بن الخطاب الغسل من الجنابة، فقال بعضهم: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وقال بعضهم:(1/405)
الماء من الماء. فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال على: يا أمير المؤمنين، إن أردت أن تعلم ذلك، فأرسل إلى أزواج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فاسألهن عن ذلك، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال عمر عند ذلك: لا أسمع أحدًا يقول: الما من الماء إلا جعلته نكالا، فحمل الناس عليه ولم ينكره عليه منكر. قال الطحاوى: فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع فى الفرج الذى لا إنزال معه حدث، فقال قوم: هذا أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات، وهو الغسل، وقال قوم: هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه الوضوء، فأردنا أن ننظر فى ذلك، لنعلم الصواب فيه، فوجدنا أشياء يوجبها الجماع، وهو فساد الصيام والحج، فكان ذلك بالتقاء الختانين، وإن لم يكن معه إنزال فيوجب ذلك فى الحج: الدم وقضاء الحج، ويوجب فى الصيام: القضاء والكفارة، ولو جامع فيما دون الفرج لوجب عليه فى الحج الدم فقط، ولم يجب عليه فى الصيام شىء إلا أن ينزل، وكذلك لو زنا بامرأة وإن لم ينزل فعليه الحد، ولو فعل ذلك على وجه شبهة لسقط عنه الحد، ووجب عليه المهر، وكان لو جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه حد ولا مهر، ولكنه يعزر إن لم يكن هناك شبهة، وكذلك من تزوج امرأة فجامعها فى الفرج، ثم طلقها كان عليه المهر أنزل أو لم ينزل ووجبت عليها العدة، وأحلها ذلك لزوجها الأول، فإن جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه شىء، وكان عليه فى الطلاق نصف المهر(1/406)
إن كان سمى لها مهرًا، أو المتعة إن لم يكن سمى لها مهرًا، فلما وجب فى هذه الأشياء التى لا إنزال معها ما يجب فى الجماع الذى معه الإنزال من الحد، والمهر، وغير ذلك، فالنظر على ذلك أن يكون فيه أغلظ مما يجب فى الأحداث وهو الغسل. وحجة أخرى: وهو أنا رأينا هذه الأشياء التى وجبت بالتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال، لم يجب للإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين، ألا ترى لو أن رجلا زنا بامرأة والتقى ختاناهما، وجب عليهما الحد بذلك، ولو أقام عليها حتى أنزل لم تجب عليه عقوبة غير الحد الذى وجب عليه لالتقاء الختانين، فكان الحكم فى ذلك هو لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، فالنظر فى ذلك أن يكون الغسل لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، قاله الطحاوي.(1/407)
بسم الله الرحمن الرحيم
6 - كِتَاب الْحَيْض
قَالَ اللَّه تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى (إِلَى: (الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222] . اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: لا يجوز وطء الحائض، وإن انقطع دمها حتى تغتسل بالماء، روى هذا عن الحسن، والنخعى، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة، ومجاهد، وهو قول مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور. واختلف العلماء فى الحائض هل يجوز وطؤها إذا انقطع دمها قبل أن تغتسل أم لا؟ فقال مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا توطأ حتى تغتسل بالماء، وهو قول الشعبى، ومجاهد، والحسن، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن انقطع دمها بعد عشرة أيام، الذى هو عنده أكثر الحيض، جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن انقطع دمها قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يمر عليها وقت صلاة، لأن الصلاة تجب عنده آخر الوقت، فإذا مضى عليها آخر الوقت ووجبت عليها الصلاة، علم أن الحيض قد زال، لأن الحائض لا يجب عليها صلاة. وقال الأوزاعى: إن غسلت فرجها جاز لزوجها وطؤها، وإن(1/408)
لم تغسله لم يجز، وبه قالت طائفة من أصحاب الحديث، وروى مثله عن عطاء، وطاوس، وقتادة. واحنج أهل هذه المقالة بقوله: (حتى يطهرن) [البقرة: 222] أى حتى ينقطع دمهن، فجعل تعالى غاية منع قربها انقطاع دمها، والدليل على ذلك أن الصوم قد حل لها بانقطاع دمها، فوجب أن يحل وطؤها قبل الغسل، كالجنب يجوز مجامعتها قبل الغسل، قالوا: ولا يخلو بعد انقطاع الدم وقبل الغسل أن تكون طاهرًا أو حائضًا، فإن كانت حائضًا فالغسل ساقط عنها، وفى اتفاقهم أن الغسل عليها واجب بانقطاع الدم دليل أنها قد طهرت من حيضتها، والطاهر جائز وطؤها، وقوله تعالى: (فإذا تطهرن) [البقرة: 222] إباحة ثانية، وابتداء كلام غير الأول، لأن الطهر شىء والتطهير غيره، مثال ذلك، لو أن رجلا صائمًا قال لرجل: لا تكلمنى حتى أفطر، فإذا صليت المغرب كلمنى، وإنما وقع التحريج فى المخاطبة فى وقت الصوم، لأن غاية التحريج كانت إلى الإفطار، ثم إباحة أن يكلمه بعد وجوب الإفطار وبعد أن يصلى المغربن كما أبيح وطء الحائض بعد الطهر، وبعد التطهير تأكيدًا للتحليل، غير أن قوله: (يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة: 222] دلالة أن الذى يأتى زوجته بعد أن تنتظف بالماء أحمد عند الله، كمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا كان أحمد ممن توضأ مرة مرة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: الدليل على أن المراد بالآية التطهر بالماء قوله تعالى: (فإذا تطهرن) [البقرة: 222] فأضاف الفعل إليهن، ولا يجوز أن يعود إلى انقطاع الدم، لأنه لا فعل لها فى قطعه، فعلم أنه أراد التطهير بالماء، ألا ترى أنه تعالى أثنى على من فعل ذلك بقوله:(1/409)
) إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [البقرة: 222] ، والثناء لا يقع إلا على فعل يقع من جهتهن، وتقدير الآية: لا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن وهذا كقولك: لا تعط زيدًا شيئًا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار وقعد فأعطه، فيقتضى ألا يستحق العطاء إلا بشرطين وهما: الدخول والقعود، وقد يقع التحريم بشىء، ولا يزول بزواله بعلة أخرى، كقوله فى المبتوتة: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) [البقرة: 230] ، وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج، وتعتد منه، وكقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض - ومعلوم أنها لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر، ولم تكن هاهنا تمت حتى - بمبيحة لما قام الدليل على خَطَرِه. وقول أبى حنيفة لا وجه له، وقد حكم أبو حنيفة وأصحابه للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحائض فى العدة، وقالوا: لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا أعلم أحدًا ممن روى عنه العلم من التابعين ذكر فى ذلك وقت صلاة.(1/410)
- باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ وَقَوْلُ الرَسُولُ: (هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ. وَحَدِيثُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَكْثَرُ. / 1 - فيه: عَائِشَةَ خَرَجْنَا لا نَرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَبْكِى، قَالَ: تمت مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ - قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: تمت إِنَّ هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ - الحديث. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على أن الحيض مكتوب على بنات آدم فمن بعدهن من البنات كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، وهو من أصل خلقتهن الذى فيه صلاحهن، قال الله فى زكريا (صلى الله عليه وسلم) : (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) [الأنبياء: 90] . قال أهل التأويل: يعنى رد الله إليها حيضها لتحمل، وهو من حكمة البارى الذى جعله سببًا للنسل، ألا ترى أن المرأة إذا ارتفع حيضها لم تحمل، هذه عادة لاتنخرم. قال غيره: وليس فيما أتى به من قصة زكريا حجة، لأن زكريا من أولاد بنى إسرائيل، والحجة القاطعة فى ذلك، قول الله فى قصة إبراهيم حين بُشِّر بالولد: (وامرأته قائمة فضحكت) [هود: 71] . قال قتادة: يعنى حاضت وهذا معروف فى اللغة، يقال: ضحكت المرأة إذا حاضت، وكذلك الأرنب. وإبراهيم(1/411)
هو جد إسرائيل، لأن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولم ينزل على بنى إسرائيل كتاب إلا على موسى، فدل ذلك على أن الحيض كان قبل بنى إسرائيل، وحديث النبى يشهد لصحة هذا التأويل، وسيأتى تفسير قوله: تمت أنفست؟ - فى باب من سمى النفاس حيضًا، بعد هذا إن شاء الله.
- باب غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا حَائِضٌ. / 3 - وفيه: عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِى الْحَائِضُ، أَوْ تَدْنُو مِنِّى الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ؟ قَالَ عُرْوَةُ: كُلُّ ذَلِكَ عَلَىَّ هَيِّنٌ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِى ذَلِكَ بَأْسٌ، أَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ، أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ وَهِىَ حَائِضٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، يُدْنِى لَهَا رَأْسَهُ، وَهِىَ فِى حُجْرَتِهَا. لا اختلاف بين العلماء فى جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، إلا شىء روى عن ابن عباس فى ذلك. ذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن منبوذ، عن أمه قالت: دخل ابن عباس على ميمونة، فقالت: أى بنى، مالى أراك شعثًا رأسك، قال: إن أم عمار مرجلتى حائض، فقالت: أى بنى، وأين الحيضة من اليد؟ كان رسول الله يضع رأسه فى حجر إحدانا وهى حائض. واستدلال عروة فى ذلك حسن، كاستدلال ميمونة، وهو حجة فى(1/412)
طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه دليل على أن المباشرة التى قال الله: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد) [البقرة: 187] لم يرد بها كل ما وقع عليه اسم لمس، وإنما أراد بها تعالى الجماع، وما دونه من دواعى اللذة، ألا ترى أنه معتكفًا فى المسجد، ويدنى لها رأسه ترجله. تمت والجوار - هو الاعتكاف. وفى الحديث حجة على الشافعى فى أن المباشرة الحقيقية مثل ما فى الحديث لا تنقض الوضوء. وفيه: ترجيل الشعر للرجال وما فى معناه من الزينة. وفيه: خدمة الحائض زوجها وتنظيفها له، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) حين طلب منها الخمرة: تمت ليس حيضتك فى يدك -. وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا له وتعظيمًا.
3 - باب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ وَهِىَ حَائِضٌ
وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِى رَزِينٍ، لتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ، فَتُمْسِكُهُ بِعِلاقَتِهِ. / 4 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولِ اللَّهِ يَتَّكِئُ فِى حَجْرِى وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.(1/413)
قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب أن يدل على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها للقرآن، لأ المؤمن الحافظ له أكبر أوعيته وها هو ذا (صلى الله عليه وسلم) أفضل المؤمنين بنبوته وحرمة ما أودعه الله من طيب كلامه فى حجر حائض تاليًا للقرآن. وقد اختلف العلماء فى ذلك فمن رخص للحائض والجنب فى حمل المصحف بعلاقته، الحكم بن عيينة، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن جبير، وحماد بن أبى سليمان، وهو قول أهل الظاهر. واحتجوا بأن تأويل قوله: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] أنهم السفرة الكرام البررة، ولو كان ذلك نهيًا لقال تعالى: لا يَمَسَّه. وقالوا أيضًا: لما جاز للحائض والجنب حمل الدنانير والدراهم وفيها ذكر الله فكذلك المصحف. واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت المؤمن لا ينجس -، وبكتابه (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل آية من القرآن، ولو كان حرامًا ما كتب رسول الله بآى القرآن، وهو يعلم أنهم يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، قالوا: وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، وقراءة القرآن فى معنى ذكر الله، ولا حجة تفرق بينهما. وذكر ابن أبى شيبة أن سعيد بن جبير دفع المصحف بعلاقته إلى غلام له مجوسى، وأجاز الشعبى، ومحمد بن سيرين مس المصحف على غير وضوء، وقال جمهور العلماء: لا يمس المصحف حائض(1/414)
ولا جنب، ولا يحمله إلا طاهر غير محدث، روى ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج أكثرهم بقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] ، قالوا: فلا يحمله إلا طاهر، إلا أن مالكًا قال: لا بأس أن يحمله المسافر غير طاهر فى خرج أو عيبة، إذا لم يقصد لحمله ولا مسه، ولا بأس أن يحمله اليهودي والنصرانى فى القلم للضرورة، وأرجو أن يكون إمساك الصبيان للمصاحف للتعليم على غير وضوء خفيفًا، إن شاء الله. واحتج هؤلاء الذين لم يجيزوا حمل المصحف إلا للطاهر بكتابه (صلى الله عليه وسلم) إلى عمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: تمت لا يمس المصحف إلا طاهر - وأن عائشة كانت تقرأ القرآن وهى حائض ويُمسَكُ لها المصحف ولا تمسكه هى، ولو كان إمساكها له وهى حائض كإمساك غيرها لما أمسكه غيرها، ولعرفها أحد من الصحابة أن قراءتها فيه جائز، وسأذكر اختلافهم فى قراءة الحائض، وحجة كل فريق منهم فى باب تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، بعد هذا إن شاء الله.
2 - باب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا
/ 5 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِىِّ مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، قَالَ: تمت أَنُفِسْتِ؟ - قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِى فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ.(1/415)
قال المهلب: كان حق الترجمة أن يقول باب من سمى الحيض نفاسًا، فلما لم يجد البخارى للنبى نصا فى النفساء، وحكم دمها فى المدة المختلفة، وسمى الحيض نفاسًا فى هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض فى ترك الصلاة، لأنه إذا كان الحيض نفاسًا وجب أن يكون النفاس حيضًا، لاشتراكهما فى التسمية من جهة اللغة العربية أن الدم هو النفس، ولزم الحكم بما لم ينص عليه مما نص وحكم للنفساء بترك الصلاة ما دان دمها موجودًا. وقال أبو سليمان الخطابى: إنما هو تمت أَنَفِسْتِ - بفتح النون وكسر الفاء، ومعناه حضت، يقال: نَفِسَت المرأة إذا حاضت ونُفِست من النفاس مضمومة النون. قال المؤلف: رواية أهل الحديث نُفِسْتِ بضم النون فى الحيض صحيحة فى لغة العرب،. ذكر أبو على، عن أبى حاتم، عن الأصمعى، قال: نُفست المرأة تنفُس، فى الحيض والولادة، وهى نُفساء ونَفِساء. وفى كتاب الأفعال: نُفِسَت ونَفِسَت لغتان من النفاس.
5 - باب مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كِلانَا جُنُبٌ، وَكَانَ يَأْمُرُنِى فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِى، وَأَنَا حَائِضٌ. / 7 - وقَالَتْ مرة: كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِى ثوب حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا. قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ .(1/416)
/ 8 - وفيه: مَيْمُونَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ، وَهِىَ حَائِضٌ. اختلف العلماء فى مباشرة الحائض، فقال مالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى: له منها ما فوق الإزار، ولا يقرب ما دون الإزار، وهو ما دون الركبة إلى الفرج، وهو قول سعيد بن المسيب، وسالم، والقاسم، وطاوس، وشريح، وقتادة، وسليمان ابن يسار. وحجة أهل هذه المقالة ظاهر حديث عائشة وميمونة، لأنه لو كان الممنوع منها موضع الدم فقط لم يقل لها (صلى الله عليه وسلم) : تمت شدى عليك إزارك - لأنه لا يخاف منه (صلى الله عليه وسلم) التعرض لمكان الدم الممنوع، لملكه لإربه، ولكنه امتنع مما قارب الموضع الممنوع، لأنه من دواعيه، وقد جاء فى الشريعة المنع من دواعى الشىء المحرم لغلظه، من ذلك: الخطبة فى العدة، ونكاح المحرم، وتطيبه، لأن ذلك يدعو إلى شهوة الجماع المفسد للحج، وحكم لما قرب من الفأرة من السمن بحكم الفأرة، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت من رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه - وقالت طائفة: يجوز له أن يستمع منها بما دون الفرج، روى هذا عن ابن عباس، ومسروق، والنخعى، والشعبى، والحكم، وعكرمة، وهو قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وبعض أصحاب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأصبغ بن الفرج. واحتجوا بما رواه أيوب، عن أبى معشر، عن النخعى، عن مسروق، قال: سألت عائشة، رضى الله عنها، ما يحل لى من امرأتى وهى حائض؟ قالت: كل شىء إلا الفرج. فلما منع من الإيلاج فى الفرج لم يمنع مما قاربه.(1/417)
واحتجوا أيضًا بما رواه الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم، عن عاشة، أن النبى قال لها: تمت ناولينى الخمرة - قلت: إنى حائض، قال: تمت إن حيضتك ليست فى يدك - فبان أن كل موضع لا يكون موضعًا للحيض لا يتعلق به حكم الحيض. وقال الطحاوى: لما كان الجماع فى الفرج يوجب الحد، والمهر والغسل، ورأينا الجماع فى غيره لا يوجب شيئًا من ذلك، دل أن الجماع فيما دون الفرج تحت الإزار أشبه بالجماع فوق الإزار منه بالجماع فى الفرج، وثبت أن ما دون الفرج مباح. وفى حديث عائشة وميمونة من الفقه بيان قول الله: (فاعتزلوا النساء فى المحيض) [البقرة: 222] أن المراد به الجماع، لا المؤاكلة، ولا الاضطجاع فى ثوب واحد وشبهه، ورفع الله عنا الإصر الذى كان على بنى إسرائيل فى ذلك، وذلك أن المرأة منهن كانت إذا حاضت أخروها عن البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، فسئل عن ذلك النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض) [البقرة: 222] فقال النبى: تمت جالسوهن فى البيوت، واصنعوا كل شىء إلا النكاح -. رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.
6 - باب تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ
/ 9 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ، إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: تمت يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّى(1/418)
أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ - قُلْنَ: وَلمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ -، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ - قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: تمت فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا - قَالَ: تمت أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ - قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: تمت فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا -. قال المؤلف: قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم - نص أن الحائض يسقط عنها فرض الصلاة، ولا يجوز لها الصوم فى أيام حيضها، والأمة على ذلك، وأجمعوا أن عليها قضاء ما تركت من الصيام، ولا قضاء عليها للصلاة، إلا طائفة من الخوارج يرون عليها قضاء الصلاة، وعلماء الأمة من السلف والخلف على خلافهم. وفيه: خروج النساء إلى العيدين. وفيه: الشفاعة للمساكين وغيرهم أن يسأل لهم. وفيه: حجة على من كره السؤال لغيره. قال المهلب: وفيه أن على الخطيب فى العيدين أن يفرد النساء باللقاء لهن والموعظة، ويخبرهن بما يخصهن من تقوى الله، والنهى عن كفران العشير، وما يلزمهن من ذلك، إذا لم يمكنه إسماعهن، فحينئذ يمر بهن ويعظهن بالكلمة والكلمتين فى موضعهن، كما فعل النبى. وفيه: دليل أن الصدقة تكفر الذنوب التى بين المخلوقين.(1/419)
وفيه: دليل أن الكلام القبيح من اللعن والسخط مما يعذب الله عليه. وفيه: أن للعالم أن يكلم من دونه من المتعلمين بكلام يكون عليهم فيه بعض الشدة والتنقيص فى العقل. وقال غيره: مقابلة الجماعة بالوعظ تسهل فيه الشدة، لأنه يسليهم شموله لجماعتهم، وكذلك فعل النبى بالنساء، لم يخص منهن واحدة، وإنما قابل جماعتهن، وكذلك الواعظ والخطيب له أن يشتد فى وعظه للجماعة، ولا يقابل واحدًا بعينه بالشدة، بل يلين له ويرفق به. وفى هذا الحديث ترك العتب للرجل أن تغلب محبة أهله عليه، لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد عذره، بقوله: تمت ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن - فإذا كن يغلبن الحازم فما الظن بغيره.
7 - باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الآيَةَ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا. وَكَانَ الرَسُول يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)(1/420)
فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ:
بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ:
(قَل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ) [آل عمران: 64] الآيَةَ. قَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ: حَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلا تُصَلِّى. وَقَالَ الْحَكَمُ: إِنِّى لأذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ. وَقَالَ اللَّهُ: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 121] . / 10 - فيه: عَائِشَةَ: أنها حاضت بسَرِفَ، فَقَالَ لها النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ ذَلِكِ شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِى مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِى -. قال المؤلف: هذا الباب كله مبنى على مذهب من إجاز للحائض والجنب تلاوة القرآن، وهو قول حماد بن أبى سفيان، والحكم بن عتيبة، وأهل الظاهر. وقال إبراهيم النخعى: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض الآية ونحوها، وأجاز عكرمة للجنب أن يقرأ، وليس له أن يتم سورة كاملة، ذكره الطبرى. واختلف قول مالك فى قراءة الحائض، فروى عنه ابن القاسم وغيره إباحة الحائض أن تقرأ ما شاءت من القرآن، وروى عنه ابن عبد الحكم منعها من ذلك إلا الآية والآيتين. ومنعها أبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور من قليله(1/421)
وكثيره، وروى مثله عن جابر ابن عبد الله، وعن عطاء، وأبى العالية، وسعيد بن جبير، والزهرى. وكذلك اختلف قول مالك فى قراءة الجنب، فروى عنه ابن القاسم أنه يقرأ الآية والاثنتين للارتباع وشبهه، وذكر ابن شعبان، عن مالك، قال: إنه ليأخذ بنفسى أن يقرأ الجنب القرآن. وقال الأوزاعى: لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب، وآية النزول: تمت سبحان الذى سخر لنا هذا) [الزخرف: 13] الآية،) وقل رب أنزلنى منزلا مباركًا) [المؤمنون: 29] الآية. وقال أبو حنيفة: لا يقرأ الجنب إلا بعض آية، ومنعه الشافعى قليله وكثيره. وأما اختلاف السلف فى ذلك فروى عن جابر أن الحائض لا تقرأ القرآن، وهو قول أبى العالية، وعطاء، وسعيد بن جبير، والزهرى، وروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وجابر أنه لا يقرأ الجنب القرآن، وهو قول أبى وائل. وحجة الذين كرهوا ذلك، ما رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا يقرأ الجنب والحائض شيئًا من القرآن -. واحتج من منع الجنب بما رواه شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على، قال: لم يكن النبى (صلى الله عليه وسلم) يحجبه عن القرآن شىء غير الجنابة.(1/422)
واحتج الذين أجازوا ذلك بأن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب، فقيل له فى ذلك، فقال: ما فى جوفى أكثر منه. وقال حماد: سألت ابن المسيب أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: أليس فى جوفه؟ . وبما رواه عبادة بن نسى، عن عبد الرحمن بن غنم أنه سأل معاذ بن جبل أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم، إن شاء، قلت: والحائض والنفساء؟ قال: نعم، لا يدعن أحد ذكر الله، وتلاوة كتابه على حال، قلت: فإن الناس يكرهونه، قال: من كرهه فإنما كرهه تنزهًا، ومن نهى عنه فإنما يقول بغير علم، ما نهى رسول الله عن شىء من ذلك. قال الطبرى: واعتلوا من طريق النظر بأن تلاوة القرآن قد ندب إليها الناس كما ندبوا إلى ذكر الله والتسبيح والتهليل، قالوا: وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، قالوا: وقراءة القرآن فى معنى ذلك فى أنها مطلقة لهما، إذ لا حجة تفرق بين ذلك. قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك ما روى عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا، وخبر عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يذكر الله على كل أحيانه، فإن قراءته القرآن طاهرًا كان اختيارًا منه لأفضل الحالتين، والحال التى كان يذكر الله فيها ويقرأ القرآن غير طاهر، فإن ذلك كان تعليمًا منه أن ذلك جائز لهم وغير محظور عليهم ذكر الله وتلاوة القرآن، إذ بعثه الله إلى خلقه معلمًا وهاديًا، غير أنى أستحب له أن يقرأ القرآن على أتم أحوال الطهارة،(1/423)
وليس ذلك وإن أحببته بواجب، لأن الله لم يوجب فرض الطهارة على عبادة المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة. قال المهلب: فى شهود الحائض المناسك كلها وتكبيرها فى العيدين دليل على جواز قراءتها للقرآن، لأنه من السنة ذكر الله فى المناسك، وفى كتابه إلى هرقل بآية من القرآن دليل على ذلك، وعلى جواز حمل الحائض والجنب القرآن، لأنه لو كان حرامًا لم يكتب النبى إليهم بآى من القرآن، وهو يعلم أنه يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، لكن القرآن وإن كان لا يلحقه أذى، ولا تناله نجاسة، فالواجب تنزيهه وترفيعه عمن لم يكن على أكمل أحوال الطهارة، لقوله تعالى: (فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة) [عبس: 13، 14] ، فلم يكن إطهاره تكريمه وترفيعه ما ظهر ملك مكرم الصحف التى وصفها الله تعالى بالطهارة، كما أراك فى رواية القاسم أن قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] ليس بمعنى الإلزام والحتم بل بمعنى الأدب والتوقير، وأباح للحائض قراءة القرآن لطول أمرها، وكرهه للجنب إلا الشىء اليسير، لقرب أمره.
8 - باب الاسْتِحَاضَةِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى حُبَيْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَاتْرُكِى الصَّلاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا، فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى -.(1/424)
قال ابن القصار: فى هذا الحديث حجة لمالك والشافعى فى أن المستحاضة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أنها تعتبر الدم وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت. وقال أبو حنيفة: إنما تعمل على عدد الليالى والأيام، واحتج بحديث أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال لفاطمة بنت أبى حبيش: تمت إنما ذلك عرق، ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى وصلى -. وقد روى: تمت دعى الصلاة قدر أقرائك -، واحتج أيضًا بحديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستفتت لها أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت لتنظر عدد الليالى والأيام التى كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الدم الذى أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك الشهر -. قالوا: فردها (صلى الله عليه وسلم) إلى الأيام، وتركوا حديث مالك، عن هشام بن عروة الذى فيه اعتبار الدم، وهو يرد قولهم، ويدل أن الأيام لا حكم لها بمجردها، وإنما لها حكم مع الدم، فيجب أن يدار معه حيث دار، لأنه لا يقول لها: تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، وإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة -، إلا وهى عارقة بالحيضة، فإذا ميزتها عملت على إقبال الدم وإدباره، وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) لفاطمة: تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -، الذى احتج به أبو حنيفة فى مراعاة الأيام(1/425)
والليالى، حجة عليه أيضًا، لأنه (صلى الله عليه وسلم) قال لها: تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -، فدل أنها كانت مميزة، فأحالها على أيام أقرائها التى تعرفها مع وجود الدم الذى لا تعرفه، لأنه لما قال: أيام حيضتك، أو أيام أقرائك، فلابد أن تكون عرفت الحيض بلونه ورائحته، وإلا كان مشكلا، لأنها سألت عن الزائد على دمها هل هو حيض أو غيره، ولو أراد أيام حيضتك فيما مضى، لكان أيضًا مشكلا إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميزه، فإنما أحالها على حيض تعرفه، وقد يمكن أن تكون هذه المرأة لها تمييز وظنت مع التمييز أنه إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيامها وتغير أن حكمها واحد فى ترك الصلاة، فأعلمها أنه إذا تغير بعد تقضى أيامها التى كانت تحيضها أنها تغتسل وتصلى، وأنها إذا رأت الدم الذى تعرفه فى تلك الأيام أنها تترك الصلاة. هذا قول ابن القصار، قال: ويحتمل أن يكون قوله فى حديث مالك، عن هشام بن عروة: تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى الصلاة -، فى امرأة لها تمييز، وقوله: تمت لتنظر عدد الأيام والليالى -، فى امرأة لا تمييز لها، فيكون الحديثان فى امرأتين مختلفتى الأحوال. قال المؤلف: وهذا يشبه قول الكوفيين، لأن الكوفيين يقولون: إذا لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة فإنها تترك الصلاة عدد أيام حيضتها المعروفة إن كان لها أيام، وإن لم تكن لها أيام فعدة عشرة أيام، الذى هو عند أبى حنيفة أكثر الحيض، ثم تكون مستحاضة، تصوم وتصلى، ويأتيها زوجها، حتى تأتى على مثل أيامها من الشهر المستقبل، فتترك الصلاة عددها، ثم هى مستحاضة، ثم لا تزال تفعل ذلك فى كل شهر، ولا تراعى تغير الدم. وعند مالك إذا لم تميز إقبال الدم وإدباره، فهى - قبل: تقضى أكثره، تقعد إلى أكثر أيامها المعروفة إن كان لها أيام، أو قعدت(1/426)
خمسة عشر يومًا، الذى هو أكثر الحيض - وبعد ذلك تصلى أبدًا، وإن طال انتظارها لأن دمها دم عرق حتى يتغير إلى دم الحيض، ولا تشك فيه فتعمل على إقباله وإدباره، وهذا قول الكوفيين الذين يراعون الأيام أيضًا، فيمن لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة، ولا يراعون الدم، ووافقهم الشافعى، وعند مالك أنه لابد من مراعاة الدم مع مقدار الأيام سواءً ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أو لم تميزه، فإن ميزته عملت على إقبال الدم وإدباره سواء كان قبل تقضى مدة أكثر الحيض، أو بعده، فإن لم تميزه فهى قبل تقضى أكثره تقصد إلى الكثرة، وبعد ذلك تصلى أبدًا حتى ترى دمًا لا شك فيه، فتعمل على إقباله وإدباره. والدليل على أن لفظ الحديثين، وإن كان مختلفًا فهو فى امرأة واحدة فى حالة واحدة، أن فاطمة هذه سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) لما تمادى الدم بها وجاز أيام حيضتها المعروفة، فقال لها: إن دمك ليس دم حيض، وإنما هو دم عرق، ودم العرق لا يوجب حكمًا، فإذا أقبلت الحيضة وميزت دمها بلونه ورائحته فدعى الصلاة، لأنه لا يقول لها ذلك إلا وهى عارفة بالحيضة، وكذلك قوله: تمت إذا أدبرت -، لا يقوله إلا للمميزة لدم الاستحاضة من دم الحيضة، ثم لما تمادى بها الدم، سألته سؤالاً ثانيًا، ليزيدها شفاء فى مقدار جلوسها، إذ لم يكن فى جوابها الآخر، فى رواية مالك عن هشام، مقدار الأيام التى تجلسها، وإنما كان فيه اعتبار الدم خاصة، فأرادت الاستثبات فى أمرها، إذ قد يمكن أن يطول ذلك الدم بها، فقال لها: تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -، فأخبرها بمقدار مدة الأيام،(1/427)
وقد كان أمرها مرة أخرى أن تعمل على إقبال دم الحيض وإدباره، فوجب اعتبار تغير الدم، واعتبار قدر الأيام، واستعمال الحديثين جميعًا إذ كان كل واحد منهما يبين معنى صاحبه ولا يخالفه. وإن قيل: كيف يعتبر قدر الأيام؟ . قيل: وجه ذلك، والله أعلم، لو أن امرأة كانت تحيض عن رأس كل هلال ثمانية أيام، فأطبق عليها الدم ولم ينقطع عنها، فإنا نقول لها: صلى حتى ترى دمًا تنكرينه، فإن رأت الدم المنكر قبل رأس الهلال بثلاثة أيام أو أربعة احتسبت بتلك الأيام، وجلست عن الصلاة تمام ثمانية أيام على ما كانت تعتاده، وهكذا تفعل أيضًا إن تغير الدم بعد رأس الهلال بأيام، فإن بقى الدم بحاله لم تترك الصلاة، لأن دمها دم عرق، وإنما تعتبر أبدًا تغير الدم مع مقدار الأيام. ومما يدل على صحة ما قلنا، أن الحديثين وإن اختلف لفظ الجواب فيهما عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى امرأة واحدة وقصة واحدة أن حديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء فاستفتت لها أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . إنما كان فى قصة فاطمة بنت أبى حبيش، وأنها كانت تسأل عن حالها أبدًا بنفسها، وتبعث غيرها على السؤال رغبة فى الاستثبات، وتزيد اليقين فى أمرها ويدل على ذلك ما رواه الحميدى عن سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو أيوب السختيانى، عن سليمان بن يسار، أنه سمعه يحدث عن أم سلمة أنها قالت: كانت فاطمة بنت أبى حبيش تستحاض، فسألت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت إنه ليس بالحيضة، ولكنه عرق،(1/428)
وأمرها أن تدع الصلاة قدر أقرائها، أو قدر حيضتها، ثم تغتسل. وهذا يدل أن قدر الدم أو قدر أيام الدم واحد فى المعنى، لأن القُرء اسم للدم واسم للوقت، وأن أم سلمة فهمت ذلك فى جواب واحد، فى مسألة واحدة. واختلفوا فى مقدار المدة التى تترك فيها المستحاضة الصلاة، فأما المبتدأة فى الحيض يتمادى بها الدم، ففى رواية المدونة عن مالك أنها تقعد خمسة عشر يومًا ثم تصلى، وروى عن على بن زياد عن مالك أنها تقعد أيام لداتها، ثم هى مستحاضة. وحكى ابن حبيب أن قول مالك اختلف فيها، فقال مرة: تقعد خمسة عشر يومًا، وأخذ به الأكابر من أصحابه: المغيرة، وابن دينار، وابن أبى حازم، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع. وقال بعد مالك: تقعد قدر أيام لداتها، وأخذ به: ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ. قال ابن حبيب: ثم اختلفوا فى الاستطهار على أيام لداتها، فقال ابن كنانة وأصبغ: تستطهر على أيام لداتها بثلاثة أيام، وقال ابن القاسم: لا تستطهر، والمعروف عن ابن القاسم خلاف ما حكاه ابن حبيب. وقد حكى أبو الفرج أن ابن القاسم روى عن مالك فى المبتدأة بالدم أنها تقعد أيام لداتها، ثم تستطهر بثلاثة أيام كاستطهار التى لها أيام معروفة.(1/429)
وقال الكوفيون والشافعى: إذا استمر بالمبتدأة الدم تدع الصلاة عشرًا، ثم تغتسل وتصلى عشرين يومًا، ولا تزال تفعل ذلك كل شهر حتى ينقطع عنها الدم، واحتجوا بما رواه الخالد ابن أيوب، عن أنس، قال: أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة. وهذا لا حجة فيه لأن الخالد ابن أيوب مجهول، ولا يعتد بنقله. وقال الأوزاعى: تقعد كما تقعد نساؤها: أمها، وخالتها، وعمتها، ثم هى بعد ذلك مستحاضة، فإن لم تعرف أقراء نسائها، فلتقعد على أقراء النساء سبعة أيام، ثم تغتسل وتصلى وهى مستحاضة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وهو أحد قولى الشافعى. فإن كانت المرأة ممن قد حاضت، ولها أيام متفقة لم تختلف، فإن قول مالك اختلف فيها إذا تمادى بها الدم، فكان أول قوله: أنها تقعد خمسة عشر يومًا، وبه أخذ الأكابر من أصحابه الذين ذكرنا أولاً، ثم رجع فقال: تستطهر على أيامها بثلاث ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وأخذ به: ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ. فإن اختلفت أيامها، فقال ابن القاسم، ومن قال معه بالاستطهار: أنها تستطهر على أكثر أيامها، حاشا أصبغ، فإنه قال: على أقلها. فإن أطبق عليها الدم، ولم ينقطع عنها، فإنها تغتسل بعد خمسة عشر يومًا على قول مالك الأول من بعد أيامها، والاستطهار بثلاث على قوله الآخر، ثم تصلى، وتصوم، ويأتيها زوجها، ودمها دم عرق حتى يتغير إلى دم الحيض. والنساء يعرفنه بلونه ورائحته. فإذا تغير دم الاستحاضة إلى دم الحيض، وتمادى بها الدم المتغير، ففى المستخرجة روى عيسى، عن ابن القاسم، أنها تستطهر بثلاثة أيام على مقدار أيامها المعهودة، وقاله ابن الماجشون.(1/430)
وروى أصبغ عن ابن القاسم أنها تجلس مقدار أيامها المعهودة ولا تستطهر بشىء، وفى العتبية عن ابن القاسم أنها تستطهر مقدار أيامها إذا كان لون دمها متغيرًا، وأما إن انقطع التغير قبل تمام أيام حيضتها المعهودة، وعاد إلى دم الاستحاضة، فإنها تغتسل حينئذ، ويكون بمنزلة من انقطع دمها، وهو قول أصحاب مالك كلهم إلا أصبغ، فإن ابن مزين حكى عنه أنه إذا تغير دمها إلى الحيض قبل تمام أيامها، ثم عاد بعد ذلك إلى دم الاستحاضة، فإنها تقعد مقدار أيامها تلفق من أيام الاستحاضة مع أيام الدم المتغير مقدار أيام حيضتها المعهودة، وهذا خلاف الحديث، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر فاطمة إذا أدبرت الحيضة، وأقبل دم الاستحاضة، أنها تغتسل وتصلى. قال ابن حبيب: وإنما انتهى فى أكثر الحيض إلى خمسة عشر يومًا من أجل أنه يقال: أكثر ما تدع المرأة الصلاة نصف عمرها، أخبرنى بذلك مطرف، وقد روى ذلك عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . ودفع الكوفيون والشافعى الاستطهار، واحتجوا بقوله لفاطمة: تمت دعى الصلاة عدد الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى -. فأمرها بالغسل بعد أيامها المعروفة، ولم يأمرها بالاستطهار، ولا بالزيادة على أيام حيضتها، قالوا: فالسنة تنفى الاستطهار، لأن دمها جائز أن يكون حيضة، وجائز أن يكون استحاضة، والصلاة فرض بيقين،(1/431)
فلا يجوز أن تدعها حتى تتيقن أنها حائض، قالوا: وقد قال مالك ما يدل على ذلك، قال: لأن تصلى المستحاضة وليست عليها، خير من أن تدع الصلاة، وهى واجبة عليها. وروى ابن وهب عن مالك، قال: إنا لنقول: تستطهر الحائض، وما ندرى أحق هو أم لا، ذكره ابن المواز. واختلفوا فى المستحاضة تترك الصلاة أيام استحاضتها جاهلة، أو متأولة، فروى أبو زيد عن ابن القاسم: إنها إذا تركت الصلاة جاهلة، أنها لا تعيدها ولو أعادتها كان أحب إلىّ. وقال ابن شعبان: إذا تركت المستحاضة الصلاة شهرًا تظنه حيضًا أنه لا قضاء عليها، وكذلك النفساء لو طال بها الدم ثلاثة أشهر، وظنت أنه دم نفاس. وأنكر سحنون هذا من قول ابن القاسم، وقال: عليها الإعادة، وقال: لا يعذر أحد فى الصلاة بالجهل، وبهذا قال: أبو حنيفة، والشافعى. واحتج أبو عبد الله بن أبى صفرة لقول ابن القاسم أنه لا إعادة عليها بحديث فاطمة بنت أبى حبيش، فقال: ألا ترى قولها: إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ . فدل ذلك أنه طال انتظارها للدم حتى تفاحش عليها، وهى فى ذلك تاركة الصلاة، فقالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: تمت إنما ذلك عرق -، ولم يأمرها بإعادة ما تركته من الصلوات فى أول انتظارها. وقال غيره: بل حديث فاطمة هذا يدل أن عليها الإعادة، لأنها إنما قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) : إنى لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فدل أنها كانت مصلية(1/432)
تلك الأيام، لأنها لا تقول: أفأدع الصلاة إلا مَنْ هى فاعلة للصلاة وغير تاركة لها، إلا أنه لما تمادى بها الدم، خشيت أن يكون حيضًا، فسألت النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، هل تتمادى على ما كانت عليه من التزام الصلاة أم هل تتركها؟ فأجابها (صلى الله عليه وسلم) بجواب دل على أنها لو تركتها لكان عليها قضاؤها، وذلك قوله: تمت ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلى وصلى -. فدل أنه لا تسقط الصلاة عنها إلا فى مقدار أيام حيضتها خاصة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فاغسلى عنك الدم وصلى -. فإن العلماء مجمعون على أن المستحاضة تغتسل عند إدبار الحيضة، ودل أيضًا هذا الحديث أن المستحاضة لا يلزمها الوضوء عند كل صلاة، ولا يلزمها غير ذلك الغسل، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بغيره، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفى ذلك رد على من رأى عليها الغسل لكل صلاة، ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتى النهار بغسل واحد، وبين صلاتى الليل بغسل واحد، وتغتسل للصبح، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بشىء من ذلك كله فى حديث هشام بن عروة، وهو أصح ما فى هذا الباب. وأما مذاهب العلماء فى ذلك: فإن طائفة منهم ذهبت إلى أنه يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة، ورووا فى ذلك آثارًا عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وروى هذا عن على، وابن عباس، وابن الزبير، وقالوا: لا يأتى عليها وقت صلاة إلا وهى شاكة هل هى طاهر، أو حائض؟ . فوجب عليها الغسل لكل صلاة.(1/433)
وعن سعيد بن جبير مثله، وقال آخرون: يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحدًا، وللمغرب والعشاء غسلاً واحدًا، وللصبح غسلاً واحدًا، ورووا بذلك آثارًا. وروى عن على، وابن عباس مثل ذلك، وهو قول النخعى، وقال آخرون: تغتسل كل يوم مرة أى وقت شاءت، وروى ذلك عن على. وقال آخرون: تغتسل من طهر إلى طهر، هذا قول ابن عمر، وأنس، وعن الحسن، وعطاء، وسالم، وسعيد بن المسيب مثله. وقد روى عن ابن المسيب أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر، وهو انقضاء أيام دمها، أو تمييز إقبال استحاضتها، وهو قول مالك، وسائر فقهاء الأمصار، إلا أنهم اختلفوا، هل تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل؟ فذهب الثورى، وأبو حنيفة، والليث، والأوزاعى، والشافعى، إلى أنها تغتسل غسلاً واحدًا عند إدبار حيضتها أو إقبال استحاضتها، ثم تغسل عنها الدم، وتتوضأ لكل صلاة. واحتجوا بما رواه حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فى حديث فاطمة بنت أبى حبيش، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال لها: تمت فإذا ذهب قدرها فاغسلى عند الدم، وتوضئ وصلى -. قالوا: وهذه زيادة لحماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، يجب قبولها، وقد كانت عائشة تفتى بالوضوء لكل صلاة، وهى رواية الحديث، فهى أعلم بمخرجه. وذهب عكرمة، وربيعة، ومالك، وأيوب، وجماعة: إلى أنها(1/434)
تغتسل عند إدبار حيضتها، وإقبال استحاضتها، ولا تتوضأ إلا عند إيجاب الحدث، على ما جاء فى حديث هذا الباب. وقالوا: هكذا رواه مالك، والليث، وعمرو بن الحارث، عن هشام بن عروة وهم الحفاظ، ولم يأمرها بالوضوء لكل صلاة، وقد علل ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: تمت إنما ذلك دم عرق، وليس بالحيضة -. ودم العروق لا يوجب وضوءًا للصلاة كالفصاد. ولما كان دم الاستحاضة لا يفسد الصلاة، لم يوجب طهارة، لأنَّا نجدها تصلى، وإن قطر الدم على الحصير، ولا لجرح تتوضأ، وحرمة الصلاة أوكد، فوجب أن تكون فى غير الصلاة كذلك.
9 - باب غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ
/ 12 - فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْر، أن امْرَأَةٌ سَألت رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، فَلْتَقْرُضْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّى فِيهِ -. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِضُ الدَّمَ مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّى فِيهِ. قد تقدم القول فى هذين الحديثين فى باب غسل الدم فى كتاب الوضوء، وحديث عائشة يفسر حديث أسماء، وأن ما روته من نضح الدم، فمعناه الغسل كما قالت عائشة، فأما نضحها على سائره، فهو رش لا غسل، وإنما فعلت ذلك، لتطيب نفسها لأنها لم تنضح(1/435)
على مكان فيه دم، لأنه قد بان فى هذه الرواية أنها كانت تغسل الدم، فلا يجوز أن تغسل بعضه وتنضح بعضه، وإنما نضحت ما لا دم فيه دفعًا للوسوسة، وكذلك حكم الثوب إذا شك فيه هل أصابه نجاسة أم لا. فالنضح عند الفقهاء لأن الأصل فى كل شىء طاهر أنه على طهارته، حتى يتيقن حلول النجاسة فيه. وقوله: تمت تقرضه -، بمعنى تغسله بأطراف أصابعها، ومنه قيل: قرضت فلانًا. وإنما أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بقرضه، لأن الدم وغيره مما يصيب الثوب إذا قرض بالغسل كان أحرى بأن يذهب أثره، يُنَقَّى الثوب منه من أن يعنف عليه، ويغسل باليد كلها، قاله ابن قتيبة. وفى كتاب العين: قرضت الشىء قطعته. وتمت الحيضة - بكسر الحاء الاسم، مثل القعدة والجلسة والركبة اسم للقعود والجلوس والركوب، والحيضة، بفتح الحاء، الفعلة الواحدة.
- باب اعْتِكَافُ الْمُسْتَحَاضَةِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ، وَهِىَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنَ الدَّمِ. وَأَنَّ عَائِشَةَ رَأَتْ مَاء، الْعُصْفُرِ. / 15 - وَقَالَتِ مرة: فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ، وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا، وَهِىَ تُصَلِّى. قال المهلب: فيه من الفقه أن المستحاضة حكمها حكم الطاهر(1/436)
واستحاضتها غير الحيض المتروك له الصلاة، وهو عرق كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك اعتكفت فى المسجد. والعلماء مجمعون أن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد، ولا الاعتكاف فيه. قال عبد الواحد: وفيه دليل على إباحة الاعتكاف لمن به سلس البول، أو المذى، أو به جرح يسيل قياسًا على المستحاضة.
- باب هَلْ تُصَلِّى الْمَرْأَةُ فِى ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ؟
/ 16 - فيه: عَائِشَة قَالَتْ: مَا كَانَ لإحْدَانَا إِلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَىْءٌ مِنْ الدَّمِ، قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَمَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا. قال المهلب: من لم تكن لها إلا ثوب واحد تحيض فيه فمعلوم أنها فيه تصلى عند انقطاع حيضتها وتطهيرها لأثر الدم من ثوبها، وقد جعل الله الماء طهورًا لكل نجاسة، وليس هذا الحديث بمخالف لحديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: كانت إحدانا تقرض الدم من ثوبها عند طهرها، فتغسله. وإنما هو مبنى عليه ومحمول على غسلها الدم الثابت عنها، أو يكون هذا الدم الذى مصعته قليلاً معفوًا عنه لا يجب عليها بغسله، فلذلك لم تذكر أنها غسلته بالماء. وقال صاحب العين: المصع: التحريك، والدابة تمصع(1/437)
بذنبها، ومصع الطائر بذرقه: رمى به، وإنما أرادت فى الحديث أنها كانت تحكه وتحته بظفرها وتقلعه.
- باب الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ
/ 17 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تمت كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلَ، وَلا نَتَطَيَّبَ، وَلا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهور، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ -. قال المهلب: أبيح للحائض مُحِدا كانت أو غير مُحدٍّ عند غسلها من المحيض أن تدرأ رائحة الدم عن نفسها بالبخور بالقسط لما هى مستقبلة من الصلاة ومجالسة الملائكة لئلا تؤذيهم برائحة الدم. وقولها: تمت نبذة من كست -، يعنى ما تنبذه وتطرحه فى النار مرةً واحدةً عند الطهى، وإنما أرادت بذلك التقليل منه بمقدار ما يقطع زفرة رائحة دم المحيض. وقولها فى الحديث: تمت كست أظفار -، هكذا روى فيه، وصوابه: كست ظفار، منسوب إلى ظفار وهو ساحل من سواحل عدن، والكست والقسط لغتان.(1/438)
- باب دَلْكِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنَ الْمَحِيضِ، وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ، وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً تَتَّبِعُ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ
/ 18 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، فَقَالَ: تمت خُذِى فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا -، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: تمت تَطَهَّرِى بِهَا -، قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، تَطَهَّرِى -، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. الفرصة: القطعة، وفرصت الشىء فرصًا قطعته، ومن سمى المفراص: الحديدة التى يقطع بها الجلد. وقال ابن قتيبة: اختلف الناس فى تأويل الفرصة، فذهب بعض الفقهاء إلى أنها المطيبة بالمسك، وبعضهم يذهب إلى أنها المأخوذة من مسك شاة وهو الجلد، ولا أرى هذين التفسيرين صحيحين، ومن كان منهم يستطيع أن يمتهن بالمسك هذا الامتهان حتى تمسح به دم الحيضة؟ ولا نعلم فى الصوف لتتبع الدم معنى يخصه به دون القطن والخرق، والذى عندى فى ذلك، والله أعلم، أن الناس يقولون للحائض: احتملى معك كذا، يريدون عالجى به قُبُلك، أو احتشى به، أو أمسكى معك كذا وكذا يكنون به، فيكون أحسن من الإفصاح فقوله: خذى معك فرصة، أى قطعة من صوف، أو قطن، أو خرقة. وقوله: تمت ممسَّكة -، يعنى متحملة، يريد تحملينها معك تمسح القبل، والعرب تقول: مسكت كذا، بمعنى أمسكت وتمسكت، قال الله تعالى: (والذين يمسكون بالكتاب) [الأعراف: 170] ، فالكتاب على هذا ممسك.(1/439)
وقال غيره: هذا تأويل حسن، وهو خارج على رواية من روى فى هذا الحديث: تمت فرصه ممسَّكة -، وهى رواية وهيب، عن منصور، وأما على رواية ابن عيينة، عن منصور: تمت خذى فرصة من مسك -، فلا مسوغ أن تكون الفرصة إلا من مسك. قال المهلب: وإنما يريد قطعة من جلد فيها صوفها لم تنتف، وإذا كان كذلك مَنَعَ الجلد أن يصل بلل الصوف بالدم إلى يدها، فتسلم يدها من زفرته، ويكون أنظف لها. وقوله: تمت تتبعى بها أثر الدم -، يريد فى فرجها حيث كان الأذى، وليس ذلك بموجب لدلك الجسم كله، إذا لم يكن فيه أذى، وهكذا حكم النجاسات الثابتة العرك والدلك، والمتابعة لصب الماء عليها. وفيه: أنه ليس على المرأة عار أن تسأل عن أمر حيضتها وما تستبين به إذا كان من أمر دينها. وفيه: أن العالم يجيب بالتعريض فى الأمور المستورة. وفيه: تكرير الجواب لإفهام السائل دون أن يكشف. وفيه: مراجعة السائل إذا لم يفهم. وفيه: أن السائل إذا لم يفهم وفهمه بعض من فى مجلس العالم والعالم يسمع، أن ذلك سماع من العالم يجوز أن يقول فيه حدثنى وأخبرنى. وترجم له باب غسل المحيض، وذكر فيه حديث وهيب عن منصور: تمت خذى فرصة ممسَّكة -.(1/440)
- باب امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْىَ، فَحَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ، حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَمْسِكِى عَنْ عُمْرَتِكِ -، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ، أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، فَأَعْمَرَنِى مِنَ التَّنْعِيمِ، مَكَانَ عُمْرَتِى الَّتِى نَسَكْتُ. وترجم له باب نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض. اختلف العلماء فى نقض المرأة شعرها للاغتسال، فروى عن عبد الله بن عمرو أنه كان يأمر نساءه إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن. وروى همام، عن حذيفة أنه قال لامرأته: خللى رأسك بالماء لا تُحِلِّهِ، فإن قليل بقاؤه عليه. وقال النخعى: تنقض العروس رأسها للغسل وحجتهم حديث عائشة. وقال طاوس: تنقض الحائض شعرها إذا اغتسلت، فأما من الجنابة فلا. وقال ابن المنذر: لا فرق بين الحائض والجنابة. وفيه قول آخر روى عن عائشة، وأم سلمة، وابن عمر، وجابر، أنهم قالوا: ليس على المرأة نقض شعرها للاغتسال من الحيض ولا من الجنابة، وهو قول عكرمة، وعطاء، والزهرى، والحكم،(1/441)
ومالك، والكوفيين، والشافعى، وعامة الفقهاء كلهم يقولون: أن المرأة بأى وجه أوصلت الماء إلى أصول شعرها، وعمته بالغسل، أنها قد أدت ما عليها، وحجتهم حديث أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، إنى امرأة أشد ضفر رأسى، أفأنقضه للجنابة؟ قال: تمت لا، إنما كان يكفيك أن تحثى عليه ثلاث حثيات، وتغمرى قرونك، فإذا أنت قد طهرت -. وحديث عائشة أصح إسنادًا غير أن العمل عند الفقهاء على حديث أم سلمة، وقد قال حماد قولاً جمع فيه بين الحديثين، فقال: إن كانت ترى أن الماء أصاب أصول شعرها أجزأ عنها، وإن كانت ترى أن الماء لم يصب، فلتنقضه. وقد استدل الكوفيون بحديث عائشة، وعلله المالكيون ودفعوه بما سنورده فى رفض العمرة للحائض والمراهق، وسنذكره فى كتاب الحج.
- باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 20 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عام حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَحِضْتُ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَأَمَرَنِى النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِى، وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ. . . . الحديث. فيه: أن الحائض تهل بالحج والعمرة، وتبقى على حكم إحرامها، وتفعل فعل الحج كله غير الطواف بالبيت على ما روته عائشة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى كتاب الحج، فإذا طهرت اغتسلت،(1/442)
وطافت بالبيت وأكملت حجها، ويحتمل أن يأمرها (صلى الله عليه وسلم) بالاغتسال ونقض رأسها عند إهلالها بالحج، وهى حائض لا أنه يجب الغسل عليها. قال بعض الناس: فأمره (صلى الله عليه وسلم) أن تنقض شعرها، وامتشاطها وهى حائض، لا يُجب ذلك عليها، وإنما ذلك، والله أعلم، لإهلالها بالحج، لأن من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا عند الميقات بالحج والإهلال، كما أمر النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، وكان مذهب ابن عمر أن تغتسل لدخول مكة ولوقوف عشية عرفة، فلما حاضت بسرف، أمرها (صلى الله عليه وسلم) أن تغتسل لإهلالها بالحج، فدل ذلك على أن اغتسال الحائض والنفساء عند الإهلال سنة لهما، ذلك على أن اغتسال الحائض، والنفساء عند الإهلال سنة لهما، وسأزيد فى بيان ذلك فى كتاب الحج فى باب كيف تهل الحائض والنفساء، إن شاء الله، حين أمرها أن تدع العمرة وتهل بالحج.
- باب: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
/ 21 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ: تمت إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهُ، قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ وَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ -. قال المهلب: فيه أن الله قد علم أحوال خلقه قبل أن يخلقهم، ووقت آجالهم، وأرزاقهم، وسبق علمه فيهم بالسعادة، أو الشقاء، وهذا مذهب أئمة أهل السنة.(1/443)
قال غيره: ويمكن أن يكون أراد البخارى بهذا التبويب، معنى ما روى عن علقمة فى تأويل هذه الآية، قال علقمة: تمت إذا وقعت النطفة فى الرحم، قال الملك: مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة محت الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة، قال: أذكر، أو أنثى -؟ فغرضه فى هذا الباب، والله أعلم، أن الحامل لا تحيض كما ذهب إليه أهل الكوفة، والأوزاعى، وهو أحد قولى الشافعى، قالوا: لأن اشتمال الرحم على الدم منع خروج دم الحيض. وفى الآية تأويل ثان، قيل: إن معنى غير مخلقة أنها تكون أولاً غير مخلقة وهى الحالة الثانية، ثم تخلق بعد ذلك، والواو لا توجب الترتيب. وأجمع العلماء أن الأمة تكون أم ولد بما أسقطته من ولدٍ تام الخلق، واختلفوا فيما لم يتم خلقه من المضغة والعلقة، فقال مالك، والأوزاعى، وجماعة: تكون بالمضغة أم ولد كانت مخلقة، أو غير مخلقة وتنقضى بها العدة، وقال أبو حنيفة، والشافعى، وجماعة: إن كان قد تبين فى المضغة شىء من الخلق أصبع، أو عين، أو غير ذلك، فهى أم ولد، وكلا القولين تحتمله الآية، والله أعلم بما أراد.
- باب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ
وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ، فَتَقُولُ: لا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ.(1/444)
وَبَلَغَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا، وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ. / 22 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِى حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تمت ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِى الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِى، وَصَلِّى -. أما إقبال المحيض فهو دفعة من دم، فإذا رأتها المرأة أمسكت عن الصلاة، وهذا إجماع من العلماء، إلا أن الدفعة من الدم لا تحسب قرء فى العدة عندهم. وأما إدبار الحيض، فهو إقبال الطهر، وله علامتان: القصة البيضاء، والجفوف، وهو أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة. اختلف أصحاب مالك عنه فى أيهما أبلغ براءة فى الرحم من الحيض؟ فروى ابن القاسم عن مالك: أنه إذا كانت ممن ترى القصة البيضاء، فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف، وبه قال عيسى بن دينار، أن القصة أبلغ من الجفوف. وممن روى عنه ذلك من السلف: أسماء بنت أبى بكر، ومكحول. وذكر ابن عبد الحكم، عن مالك: أنها تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء، لأن أول الحيض دم، ثم صفرة، ثم كدرة، ثم يكون رقيقًا كالقصة، ثم ينقطع، فإذا انقطع قبل هذه المنازل، فقد برئت الرحم من الحيض، لأنه ليس بعد الجفوف انتظار شىء. وممن قال: إن الجفوف أبلغ: عمر، وعطاء بن أبى رباح، وهو(1/445)
قول عائشة: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء -، يدل على أنها آخر ما يكون من علامات الطهر، وأنه لا علامة بعدها أبلغ منها، ولو كانت علامة أبلغ منها، لقالت: حتى ترين القصة أو الجفوف. وفى قولها: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة -، دليل أن الصفرة والكدرة فى أيام الحيض حيض، لأنها فى حكم الحائض حتى ترى القصة البيضاء، وقد ترى قبلها صفرة، أو كدرة. والقصة: الماء الأبيض الذى يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض، شبه لبياضه بالقص، وهو الجص، وفى الحديث: تمت نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن تقصيص القبور -، ويروى: تمت عن تجصيص القبور -، وهو تلييسها بالجص. قال المهلب: فيه من الفقه أن العادة الرافعة للحرج هى السنة، ومن خالفها بما يدخل الحرج، فهو مذموم، كما ذمته بنت زيد بن ثابت. قال غيره: إنما أنكرت ابنة زيد افتقاد أمر الحيض فى غير أوقات الصلوات، لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل لها. واختلف الفقهاء فى الحائض تطهر قبل الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر، فقال مالك، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هى بمنزلة الجنب تغتسل وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم. وقال الأوزاعى: تصومه، وتقضيه.(1/446)
وقال أبو حنيفة: إن كانت أيامها أقل من عشرة صامته وقضت، وإن كانت أكثر من عشرة صامته ولم تقضه. قال بعض الناس: قد اتفق هؤلاء على صومه، واختلفوا فى قضائه، ولا حجة مع من أوجب قضاءه إلا الرأى والدعوى، والفرائض لا تثبت إلا من جهة التوقيف، وقد قال عبد الملك بن الماجشون: يومها ذلك يوم فطر، ولا أدرى إن كان يرى صومه أم لا، فإن كان لا يراه فهو شذوذ لا يعرج عليه، ولا معنى لمن اعتل به من أن الحيض ينقض الصوم، والاحتلام لا ينقضه، لأن من طهرت من حيضتها ليست بحائض، والغسل إنما يجب عليها إذا طهرت، ولا يجب الغسل على حائض. وقوله: تمت كن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف -، هكذا يرويه أصحاب الحديث الدرجة، بكسر الدال وتشديدها وفتح الراء، يعنون بذلك جمع دِرَج، وهو الذى يجعل فيه النساء الطيب، وأهل اللغة ينكرون ذلك، ويقولون: أما الذى كن يبعثن به الخرَق فيها القطن، كن يمتحن بها أمور طهورهن، واحدتها دُرْجة، بضم الدال وسكون الراء. قال ابن الأعرابى: يقال للذى يدخل فى حياء الناقة إذا أرادوا إرآمها الدُّرَجَة والدُّرْج، وجمعه أَدْراج ودِرَجَة ودريج، وقد أدرجت الناقة، واستدرجت المرأة. والكرسف: القطن.(1/447)
- باب لا تَقْضِى الْحَائِضُ الصَّلاةَ
وَقَالَ جَابِرُ، وَأَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت تَدَعُ الصَّلاةَ -. / 23 - فيه: مُعَاذَةُ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَتَجْزِئ إِحْدَانَا صَلاتَهَا، إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَلا يَأْمُرُنَا بِهِ، أَوْ قَالَتْ: فَلا نَفْعَلُهُ. قال المهلب: معنى قولها: تمت أتجزئ إحدانا صلاتها؟ - معناه أتقضى إحدانا صلاتها؟ ولذلك سمى يوم القيامة يوم الجزاء إذا جوزى الناس بأعمالهم يوم القضاء. وهذا الحديث أصل إجماع المسلمين: أن الحائض لا تقضى الصلاة، ولا خلاف فى ذلك بين الخلف والسلف، إلا طائفة من الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة لا يشتغل بهم، ولا يُعَدون خلافًا، لشذوذهم عن سلف الأمة، فلذلك قالت عائشة: تمت أحرورية أنت؟ - للمرأة التى سألت عن ذلك منكرة عليها، إذ خشيت أن تعتقد مذهب الحرورية فى ذلك، ونزعت لها بالحجة التى لا يجوز خلافها، وهو قولها: تمت قد كنا نحيض مع النبى (صلى الله عليه وسلم) فلا يأمرنا به -، تعنى بقضاء الصلوات أيام الحيض، وقد سئل ابن عباس عن الحائض والنفساء هلى يقضيان الصلاة؟ فقال: هؤلاء نساء النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به. وقال معمر: قال الزهرى: تقضى الحائض الصوم، ولا تقضى الصلاة. قلت: عمن؟ قال: اجتمع الناس عليه، وليس فى كل شىء نجد الإسناد. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أتقضى الصلاة؟ قال: ذلك بدعة.(1/448)
وقال حذيفة: ليكونن فى آخر هذه الأمة قوم يكذبون أولهم ويلعنونهم، يقولون: جلدوا فى الخمر، وليس فى كتاب الله، ورجموا وليس فى كتاب الله، ومنعوا الحائض الصلاة، وليس فى كتاب الله.
- باب مَنِ اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْرِ
/ 24 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيلَةٍ، حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، فَقَالَ: تمت أَنُفِسْتِ -؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِى، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ. قال المؤلف: إن قيل: هذا الحديث يعارض قول عائشة: تمت ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه -، قيل: لا تعارض بينهما، بحمد الله، ويمكن أن يكون حديث عائشة فى بدء الإسلام، فإنهما كانوا حينئذ فى شدة وقِلَّة، قبل أن يفتح الله عليهم الفتوح، ويغنم الغنائم، فلما فتح الله عليهم واتسعت أحوالهم، اتخذ النساء ثيابًا للحيض سوى ثياب لباسهن، فأخبرت أم سلمة عن ذلك الوقت. والخميلة والخملة: ثوب مخمل من الصوف.
- باب شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى
/ 25 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِى الْعِيدَيْنِ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا، وَكَانَ زَوْجُ(1/449)
أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) ثِنْتَىْ عَشَرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِى مَعَهُ فِى سِتٍّ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِى الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِى النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) : أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ، أَنْ لا تَخْرُجَ؟ قَالَ: تمت لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ -، فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: بِأَبِى نَعَمْ، وَكَانَتْ لا تَذْكُرُهُ إِلا قَالَتْ: بِأَبِى، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تمت يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أَوِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى -. قَالَتْ حَفْصَةُ: قُلْتُ: الْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا؟ . قال المهلب: فيه جواز خروج النساء الطاهرات والحُيَّض إلى العيدين وشهود الجماعات، ويعتزل الحيض المصلى، ويكنَّ فيمن يدعو، ويُؤَمِّن، رجاء بركة المشهد الكريم، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب العيدين، إن شاء الله. وفيه: أن الحائض لا تقرب المسجد، وتقرب غيره من المواضع التى ليست بمساجد محظرة. وفيه: جواز استعارة الثياب، للخروج إلى الطاعات. وفيه: جواز اشتمال المرأتين فى ثوب واحد، لضرورة الخروج إلى طاعة الله. وفيه: غزو النساء المتجالات ومداواتهن الجرحى، وإن كن(1/450)
غير ذى محارم منهم، وأما إن كن غير مُتَجَالات، فيعالجن الجرحى، وإن كن غير ذى محرم منهن بحائل بينهن وبينهم، أو يأمرن غيرهن بوضع الدواء عليهم. وفيه: قبول خبر المرأة. وفى قولها: تمت كنا نداوى الكَلْمى -، جواز نقل الأعمال فى زمن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وإن كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يخبر بشىء من ذلك. وفيه: جواز النقل عمن لا يُعرف اسمه من الصحابة خاصة إذا بين مسكنه ودل عليه. وقولها: تمت بأبأ - تريد بأبى، وهى لغة لبعض العرب قالت عمرة الخثعمية من أبيات الحماسة: لقد زعموا أنى جزعت عليها وهل جزع أن قلت وا بأبأهما؟ تريد بأبى هما، أى يُفديان بأبى. وعن ابن الجنى: ويجوز أبيبابيا مخلصة يريد أبًا، ثم يخفف الهمزة، ويحذفها، ويبقى فتحتها على الياء.
- باب إِذَا حَاضَتْ فِى الشَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ وَمَا تُصَدَّقُ النِّسَاءُ فِى الْحَمْلِ وَالْحَيْضِ فِيمَا يُمْكِنُ مِنَ الْحَيْضِ، لِقَوْلِ اللَّهِ: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة: 228]
. وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ وَشُرَيْحٍ، إِنِ [امْرَأَةٌ] جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا، مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ، أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاثًا فِى كل شَهْرٍ، صُدِّقَتْ.(1/451)
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَقْرَاؤُهَا مَا كَانَتْ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ ليلة. وَقَالَ مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ: سَأَلْتُ: ابْنَ سِيرِينَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ؟ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. / 26 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِى حُبَيْشٍ سَأَلَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: إِنِّى أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقَالَ: تمت لا، إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِى الصَّلاةَ قَدْرَ الأيَّامِ الَّتِى كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِى، وَصَلِّى -. قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فى العدة التى تصدق فيها المرأة إذا ادعتها، فروى عن على، وشريح: أنها إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض فى شهر، أو خمس وثلاثين ليلة، وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها صُدِّقت، وهو قول أحمد بن حنبل. قال المؤلف: وقد رُوى مثله عن مالك، قال فى كتاب إرخاء الستور من المدونة، قال: إذا قالت المطلقة: حضت ثلاث حيض فى شهر، سئل النساء عن ذلك، فإن أمكن ذلك عندهن صُدِّقت. وقالت طائفة: لا تصدق إذا ادعت أن عدتها انقضت فى أقل من شهرين إذا كانت من ذوات الحيض، قال: لأنه ليس فى العادة أن تكون امرأة على أقل الطهر، وأقل الحيض، لأنه إذا كثر الحيض قل الطهر، وإذا قل الطهر كثر الحيض، وهذا قول أبى حنيفة. وقالت طائفة: لا تُصدق فى أقل من تسعةٍ وثلاثين يومًا، وهو(1/452)
قول الثورى، وأبى يوسف، ومحمد، وذلك لأن أقل الحيض عندهما ثلاثة أيام، وأقل الطهر خمسة عشر يومًا. وقال أبو ثور: أقل ما يكون فى ذلك إذا طلقها فى أول الطهر سبعة وأربعون يومًا، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وأقل الحيض يوم وذكر ابن أبى زيد عن سحنون أن أقل العدة أربعون ليلة. وقال الشافعى: تُصَدَّق فى أكثر من اثنين وثلاثين يومًا، وذلك أن يطلقها زوجها وقد بقى من الطهر ساعة، فتحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، فإذا دخلت فى الدم من الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها. وقال إسحاق، وأبو عبيد: إن كانت أقراؤها معلومة قبل أن تبتلى حتى عرفها بطانة أهلها مما يرضى دينهن فإنها تُصدق، وإن لم تعرف ذلك، وكان أول ما رأت الحيض أو الطهر، فإنها لا تصدق فى أقل من ثلاثة أشهر، لأن الله جعل بدل كل حيضة شهرًا فى اللائى يئسن من المحيض، واللائى لم تحضن، فإذا أشكل على مسلم انقضاء عدة امرأة ردها إلى الكتاب والسنة. ووجه الموافقة أنه ليس فى العادة أن تكون امرأة على أقل الطهر وأقل الحيض، لأن إذا كثر الحيض قل الطهر، وإذا قل الحيض كثر الطهر، فجعل لما ينحصر الأكثر، ولما لا ينحصر الأقل، وبدأ بالحيض. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا تُصدق فى أقل من تسعة وثلاثين يومًا وهو قول الثورى، ووجه الموافقة بين الحديثين والترجمة هو قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -، فوكل(1/453)
ذلك إلى أمانتها وعادتها، وقدر الأيام قد يقل ويكثر على قدر أحوال النساء فى أسنانهن وبلدانهن إلا أنها إذا ادعت ما لا يكاد يعرف لم يقبل قولها إلا ببينة. قال إسماعيل بن إسحاق: ألا ترى إلى قول علىّ وشريح فى ذلك، ولو كان عندهما أن ثلاث حيض لا تكون فى شهر لما قبلا قول نسائها، وهو معنى قول عطاء وإبراهيم، وقد فسر إسماعيل بن إسحاق قول علىّ وشريح بتفسير آخر، قال: وليس قولهما عندنا: تمت إن جاءت ببينة من بطانة أهلها - أنها قد حاضت هذا الحيض، وإنما هو فيما نرى، والله أعلم، أن تشهد نساء من نسائها أن هذا يكون، وقد كان فى نسائهن، فإنه أحرى أن يوجد فيهن مثل ما فيها، وأن يقارب حيضهن وحيضها، وأنه إن لم يوجد ما قالت من الحيض فى نسائها كانت هى منه أبعد، فعلى هذا معنى هذا الحديث، وهو يقوى مذهب أهل المدينة أن العدة إنما تحمل على المعروف من حيض النساء لا على المرأة والمرأتين الذى لا يكاد يوجد، ولا يعرف. قال غيره: والأشبه ما أراد علىّ وشريح، والله أعلم، بمعنى أن تكون حاضت، لقولهما: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها أنها حاضت، ولم يقولا: أن غيرها من النساء حاض كذلك. قال إسماعيل: وفى قول علىّ وشريح أن أقل الطهر لا يكون خمسة عشر يومًا، وأن أقل الحيض لا يكون ثلاثة، كما قال أبو حنيفة وأصحابه، وليس فيه بيان لأقل الطهر، وأقل الحيض كم هو، غير أن فيه بيانًا أنهما لم ينكرا ما زعمه النساء فى ذلك. قال غيره: والمشهور عن مالك أنه لا حد عنده لأقل(1/454)
الطهر، ولا لأقل الحيض إلا ما تثبته النساء، وقد اختلف فى ذلك، ففى المدونة ما يدل أن أقل الطهر ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم، عن مالك: أن أقل الطهر عشرة أيام. وروى ابن الماجشون، عن مالك: أن أقل الطهر خمسة، وأقل الحيض خمسة، إلا أنه قال: هذا لا يكون فى حيض واحد، لأنه إذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا قل الطهر كثر الحيض. وقالت طائفة: أقل الحيض يوم وليلة، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الشافعى، وأحمد، وأبى ثور. وقال الأوزاعى: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية، وقال الأوزاعى: يرون أنه جنس، تدع له الصلاة. وقال محمد بن سلمة: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره خمسة عشر يومًا، وهو قول الشافعى فى أكثر الحيض. وقال أبو حنيفة، والثورى: أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة، وهو قول الشافعى، ومحمد بن مسلمة فى أقل الطهر، وهو الصحيح، لأن الله تعالى جعل عدة ذوات الأقراء ثلاثة قروء، وجعل عدة من لا تحيض من صغر أو كبر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضًا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض، فإذا قل الطهر كثر الحيض، وإذا قل الحيض كثر الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يومًا، ليكمل فى الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف فى الأغلب من خلقة النساء، أو جبلتهن مع دلائل القرآن والسنة.(1/455)
واحتج أهل العراق لقولهم: إن الأقراء الحيض، بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث فاطمة: تمت ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -. قالوا: وهذا مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -. ولا يجوز أن يأمرها (صلى الله عليه وسلم) بترك الصلاة أيام طهرها، وإنما أمرها أن تترك الصلاة أيام الحيض، فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون (صلى الله عليه وسلم) أمرها بترك الصلاة أيام أقرائها التى هى فيهن حائض، وأضاف الأيام إلى الأقراء والإطهار جميعًا، فكأنه قال: تدع المستحاضة الصلاة الأيام التى كانت تحيضها من أقرائها، وهذا سائغ فى كلام العرب، لأن الأقراء عندهم اسم للطهر واسم للحيض، وسيأتى زيادة بيان فى هذا المعنى فى كتاب الطلاق فى العدة، إن شاء الله.
- باب الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِى غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ
/ 27 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: كُنَّا لا نَعُدُّ الصُّفْرَة وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا. ذهب جمهور العلماء فى معنى الحديث إلى ما ذهب إليه البخارى فى ترجمته، فقال أكثرهم: الصفرة والكدرة حيض فى أيام الحيض خاصة، وبعد أيام المحيض ليست بشىء، روى هذا عن علىّ بن أبى طالب، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب ربيعة، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبو(1/456)
حنيفة، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وإليه أشار البخارى فى هذا الباب. وفيه قول ثان: قال أبو يوسف: لا تكون الصفرة والكدرة قبل الحيض حيضًا، وهى فى آخر الحيض حيض، وهو قول أبى ثور. قالوا: وهذا ظاهر الحديث لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى الصلاة -، والكدرة والصفرة فى آخر أيام الدم من الدم حتى ترى النقاء. وفيه قول ثالث: قال مالك فى المدونة: الكدرة والصفرة حيض فى أيام الحيض وغيرها. وهذا خلاف للحديث، ولا يوجد فى فتوى مالك أن الصفرة والكدرة ليست بشىء، على ما جاء فى الحديث، إلا التى انطبق دم حيضتها مع دم استحاضتها، ولم تميزه، فقال: إذا رأت دمًا أسود فهو حيض، وإذا رأت صفرة أو كدرة، أو دمًا أحمر، فهو طهر تصلى له وتصوم بعد أن تغتسل، وأظنه لم يبلغه حديث أم عطية، والله أعلم. والحجة لأهل المقالة الأولى: أنهم قالوا: لا يجوز أن يكون قول أم عطية: تمت كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا -، عامًا فى أيام الحيض وغيرها لا يعد شيئًا لما قالته عائشة: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء -. ومعلوم أن هؤلاء النساء كن يرين عند إدبار المحيض صفرة وكدرة، فأخبرتهن أنها من بقايا الحيض، وأن حكم الصفرة والكدرة حكم الحيض، قالوا: فلم يبق بحديث أم عطية معنى غير أنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا فى غير أيام المحيض، وقد جاء هذا المعنى فى(1/457)
حديث أم عطية مكشوفًا، روى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أم الهذيل، عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا.
- باب عِرْقِ الاسْتِحَاضَةِ
/ 28 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، فَقَالَ: تمت هَذَا عِرْقٌ -، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاةٍ. قال المهلب: قوله: تمت فهذا عرق - يدل أن المستحاضة لا تغتسل لكل صلاة كما زعم من أوجب ذلك، واحتج بهذا الحديث، لأن دم العرق لا يوجب غسلاً. وقوله: تمت فكانت تغتسل لكل صلاة -، يريد تغتسل من الدم الذى كان يصيب الفرج، لأن المشهور من قول عائشة أنها لا ترى الغسل لكل صلاة للمستحاضة، وقد ذكر الطحاوى عن يونس، عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: تمت أن أم حبيبة استحيضت. . . . - وذكر الحديث، قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة، وقال غيره: ومن ذكر حديث أم حبيبة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرها بالغسل لكل صلاة، فليس بحجة على من سكت عنه، لأن الحفاظ من(1/458)
أصحاب ابن شهاب لا يذكرونه، وإيجاب الغسل عليها إيجاب فرض، والفرائض لا تثبت إلا بيقين، ولا يقين هنا من بينة ثابتة، ولا من إجماع، وإنما الإجماع فى إيجاب الغسل من الحيض. قال الطحاوى: وقد قيل: إن حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبى حبيش، لأن عائشة أفتت بحديث فاطمة بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وخالفت حديث أم حبيبة، وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يجوز عليها أن تدع الناسخ، وتفتى بالمنسوخ، بل الأمر بضد ذلك، فحديث فاطمة أول ما صير إليه فى هذا الباب ذكره الطحاوى. وأما قوله: تمت إن أم حبيبة استحيضت سبع سنين -، ففيه حجة لابن القاسم فى قوله: إن من استحيضت، فتركت الصلاة جاهلة، وظنته حيضًا أنه لا إعادة عليها، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بإعادة صلوات السبعة الأعوام، ووجه ذلك أنها لما سألته فأمرها بالغسل، علم أنها لم تغتسل قبل، ولو اغتسلت لقالت: إنى قد اغتسلت، فعلم أن فى السبعة الأعوام كانت عند نفسها حائضًا، فأمرها بالغسل من ذلك الحيض، ولم يأمرها بإعادة صلوات تلك المدة.
- باب الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَةِ
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ أن صَفِيَّةَ قَدْ حَاضَتْ، فَقَالَ لِهَا رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ طَافَتْ مَعَكُنَّ -؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: تمت فَاخْرُجِن -.(1/459)
/ 30 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِى أَوَّلِ أَمْرِهِ: إِنَّهَا لا تَنْفِرُ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ، يَقُولُ: تَنْفِرُ. قوله: تمت ألم تكن طافت معكن -، يريد يوم النحر، وهو طواف الإفاضة المفترض فى الحج. ففيه من الفقه أن طواف الإفاضة يغنى عن طواف الوداع، لأنه غير واجب، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يسأل إن كانت طافت لدخول مكة، وإنما سأل إن كانت طافت يوم النحر، فكما يغنى طواف الإفاضة عن كل طواف قبله، كذلك يغنى عن كل طواف بعده، فدل هذا على أن على الإنسان فى حجه كله طوافًا واحدًا، وهو طواف الإفاضة. وقول ابن عباس: تمت رخص للحائض أن تنفر -، يعنى إذا طافت طواف الإفاضة، وأما إذا لم تطفه فلا تنفر، ولا حج لها، وسيأتى بيان هذا كله فى كتاب الحج، إن شاء الله.
- باب إِذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ
قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ، وَلَوْ سَاعَةً وَتُصَلِّى، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، والصَّلاةُ أَعْظَمُ.(1/460)
/ 31 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِى الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ، فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ، وَصَلِّى -. قوله: تمت إذا رأت المستحاضة الطهر -، يريد إذا أقبل دم الاستحاضة الذى هو دم عرق، الذى يوجب الغسل والصلاة، وميزته من دم حيضتها فهو طهر من الحيض، فاستدل من هذا أن لزوجها وطؤها، وجمهور الفقهاء وعامة العلماء بالحجاز والعراق على جواز وطء المستحاضة. ومنع من ذلك قوم، روى ذلك عن عائشة، قالت: تمت المستحاضة لا يأتيها زوجها -، وهو قول النخعى، والحكم، وابن سيرين، وسليمان بن يسار، والزهرى، قال الزهرى: إنما سمعنا بالرخصة فى الصلاة. وحجة الجماعة: أن دم الاستحاضة ليس بأذى يمنع الصلاة والصوم، فوجب أن لا يمنع الوطء. وقول ابن عباس: تمت الصلاة أعظم من الجماع -، من أبين الحجة فى ذلك، وقد نزع بمثلها سعيد بن جبير، ولا يحتاج إلى غير ما فى هذا الباب.
- باب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا
/ 32 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ امْرَأَةً مَاتَتْ فِى بَطْنٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَامَ وَسَطَهَا. يحتمل أنه قصد فى هذا الباب أن النفساء، وإن كانت لا تصلى أنها طاهر، لها حكم غيرها من النساء ممن ليست نفساء، لأنه(1/461)
(صلى الله عليه وسلم) إذا صلى عليها أوجب لها حكم الطهارة، وإنما امتناعها من الصلاة ما دام بها الدم، عبادة لا على طريق التنجيس، وهذا يرد على من ذهب إلى أن ابن آدم ينجس بموته، لأن النفساء التى صلى عليها النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأبان لنا سنته فيها جمعت الموت، وحمل النجاسة بالدم اللازم لها، فلما لم يضرها ذلك كان الميت الطاهر الذى لا تسيل منه نجاسة أولى بإيقاع اسم الطهارة عليه. وأشار إلى شىء من هذا المعنى ابن القصار، وذكر أن لبعض أصحاب مالك فى العتبية: أن ابن آدم طاهر إذا مات. قال: واختلف فيه قول الشافعى، قال: والصواب عندى أنه طاهر، ونزع أن الصلاة عليه بعد موته تكرمة له وتعظيم، فخرج بها عن حكم الإنجاس.
- بَاب
/ 33 - فيه: مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لا تُصَلِّى، وَهِىَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يُصَلِّى عَلَى خُمْرَتِهِ، إِذَا سَجَدَ أَصَابَنِى بَعْضُ ثَوْبِهِ. وهذا الباب كالذى قبله يدل أن الحائض ليست بنجس، لأنها لو كانت نجسًا لما وقع ثوبه عليها وهو يصلى، ولا قربت من موضع مصلاه. وفيه: أن الحائض تقرب من المصلى، ولا يضر ذلك صلاته(1/462)
ولا يقطعها، لأنها كانت تقرب قبلته، أنه لا يصيبها بثوبه عند سجوده إلا وهى قريب منه. وأقولا ما يستدل به على طهارة الحائض مباشرته (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه وهن حيِّض فيما فوق المئزر، إلا أنها، وإن كانت طاهرًا، فإنه لا يجوز لها دخول المسجد بإجماع، لأمره فى العيدين باعتزال الحيض المصلى.(1/463)
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَاب التَّيَمُّمِ
- كتاب التَّيَمُّمِ
قَوْلُه تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة: 6] . / 1 - فيه: عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِى، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِى، قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى فَخِذِى، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِىَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِى بَكْرٍ؟ . قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِى كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. / 2 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِىَ(1/464)
الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً -. قال المؤلف: قوله تعالى: (فتيمموا صعيدًا طيبًا) [المائدة: 6] يعنى اقصدوا وتعمدوا، تقول العرب: يَمَّمت كذا إذا قصدته، ومنه قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) [المائدة: 2] ، يعنى قاصدين. واختلف أهل التأويل فى الصعيد ما هو؟ . فقال قتادة: الصعيد الأرض التى ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن دريد: الصعيد المستوى، وقال غيره: الصعيد التراب. وقوله: تمت طيبًا -، يعنى طاهرًا، واختلف الفقهاء فى الصعيد الذى يجوز به التيمم، فقالت طائفة: يجوز التيمم على كل أرض طاهرة، سواء كانت حجرًا لا تراب عليها، أو عليها تراب، أو رمل، أو زرنيخ، أو تورة، أو غير ذلك. هذا قول مالك، وأبى حنيفة، ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يجوز التيمم على صخر لا تراب عليه، وهو قول الشافعى، والتراب عندهما شرط فى صحة التيمم. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى ذلك، ولم نجد لما اختلفوا فيه دليلاً فى الكتاب التمسناه فى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فوجدنا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، فلما أخبر أن الله جعل له الأرض مسجدًا وطهورًا، وكان المراد بالمسجد الصلاة عليها، والمراد(1/465)
بالطهور التيمم بها كانت كل أرض جازت الصلاة عليها جاز التيمم بها. قال ابن القصار: والدليل على أن المراد الأرض كلها قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فأيما رجل أدركته الصلاة، فليصل -، ولم يخص موضعًا منها دون موضع، وقد يدركه فى موضع منها من الأرض لا تراب عليه فيه رمل، أو جص كما تدركه فى أرض عليها تراب. فإن قيل: قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) [المائدة: 6] شرط الممسوح به لأنه لا يقال: مسح منه إلا إذا أخذ منه جزءًا، وهذه صفة التراب لا صفة الجبل الذى لا يمكن الأخذ منه. فالجواب: أنه لا يجوز أن تكون تمت منه - صلة فى الكلام كقوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء) [الإسراء: 82] ، والقرآن كله شفاء. ولو سلمنا أنه أراد غير الصلة لقلنا: إنه أراد ب تمت منه - الموضع الطاهر من الصعيد الذى يجوز السجود عليه، ولو أراد بالصعيد التراب لقال تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم به. ولم يقل: منه، فلما قال: منه، دل أنه أراد مما تصاعد من الأرض، ولم يخص بعض ما تصاعد منها دون بعض. وقال ابن الأعرابى: الصعيد اسم للأرض، واسم للتراب، واسم للطريق، واسم للقبر، فإذا تناول كل واحد من هذه حقيقة، فيجعل للعموم فى جميعها. فإن قالوا: قد روى فى الحديث: تمت جعلت لى الأرض مسجدًا(1/466)
وتربتها طهورًا -، وهذا نص فى التراب، فدل أن غير التراب ليس بطهور، والتراب زيادة يجب قبولها، والحديث رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى مالك الأشجعى، عن ربعى بن حراش، عن حذيفة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الأصيلى: انفرد أبو مالك الأشجعى بذكر التراب فى هذا الحديث، ولا اعتداد بمن خالفه الناس، فكذلك ما يذكرونه فى حديث أبى ذر: تمت التراب كافيك، ولو إلى عشر سنين -، المشهور من رواية الثقات عن أبى قلابة، وابن سيرين: تمت الصعيد كافيك، ولو إلى عشر سنين -، وكذلك فى حديث أبى رجاء، عن عمران بن حصين، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت عليك بالتراب، فإنه كافيك -. وقولكم: إن التراب زيادة يجب قبولها، فإننا نقول بالزائد والمزيد عليه، فيجوز الأمرين جميعًا، وهذه زيادة فى الحكم لا محالة، فهى أولى من الاقتصار على الزائد فقط. فإن قالوا: إن الحجر والجص معدن من الأرض، فلا يجوز التيمم به كالحديد والذهب والفضة، قيل: الصعيد عندنا هو الأرض نفسها، فالتيمم يقع عليها سواء كانت جصية أو رملية، فأما على الجص مفردًا، أو الكحل مفردًا، أو الزرنيخ مفردًا، فلا يجوز التيمم به، وقد قال الله تعالى: (صعيدًا زلقًا) [الكهف: 40] ، و) صعيدًا جرزًا) [الكهف: 8] ، والجرز الأرض الغليظة التى لا تنبت شيئًا.(1/467)
وقد جوز الشافعى التيمم على السباخ اليابسة، ولا غبار عليها يعلق باليد، فكذلك ينبغى أن يجوز فى غيرها مما لا تراب عليه. وقال المهلب: فى حديث عائشة من الفقه: السفر بالنساء. وفيه: النهى عن إضاعة المال، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام على تفتيش العقد بالعسكر ليلةً، وقد ذكر فى غير هذا الحديث أن العقد كان لأختها، وكان ثمنه اثنى عشر درهمًا. وفيه: شكوى المرأة إلى أبيها، وإن كان لها زوج. وفيه: الإنصاف منها، وإن كان لها زوج. وفيه: أن للأب أن يدخل على ابنته وزوجها معها إذا علم أنها معه فى غير خلوة مباشرة، وأن له أن يعاتبها فى أمر الله، وأن يضربها عليه. وفيه: أنه يعاتب من نسب إلى ذنب أو جريمة، كما عاتب أبو بكر ابنته على حبس النبى (صلى الله عليه وسلم) والناس بسببها. وفيه: نسبة الفعل إلى من هو سببه، وإن لم يفعله، لقولهم: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبالناس، وليسوا على ماء. فنسب الفعل إليها إذْ كانت سببه. قال غيره: وقولهم: تمت ليس معهم ماء -، دليل أن الوضوء قد كان لازمًا لهم قبل ذلك، وأنهم لم يكونوا يصلون بغير وضوء قبل نزول آية التيمم، ألا ترى قوله: فأنزل الله آية التيمم، وهى آية الوضوء التى فى المائدة، والآية التى فى النساء، وليس التيمم مذكورًا(1/468)
فى غير هاتين الآيتين، وهما مدنيتان، ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن الصلاة فرضت بمكة، والغسل من الجنابة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة، ونزلت آية الوضوء، ليكون فرضها التقدم متلوا فى التنزيل، فقولهم: تمت نزلت آية التيمم -، ولم يذكر الوضوء يدل أن الذى طرأ عليهم من العلم فى ذلك حكم التيمم لا حكم الوضوء، وذلك رفق من الله بعباده أن أباح لهم التيمم بالصعيد عند عدم الماء، وكذلك قال أسيد بن الحضير: تمت ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر -. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، والذى خُصَّ به من ذلك (صلى الله عليه وسلم) أن جعلت طهورًا للتيمم، ولم يكن ذلك للأنبياء قبله، وأما كونها مسجدًا، فلم يأت فى أثر أنها منعت من غيره، وقد كان عيسى (صلى الله عليه وسلم) يسيح فى الأرض ويصلى حيث أدركته الصلاة، فكأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : جعلت لى الأرض مسجدً وطهورًا، وجعلت لغيرى مسجدًا، ولم تجعل له طهورًا. وفى قوله: تمت فأيما رجل أدركته الصلاة، فليصل -، يعنى يتيمم ويصلى، دليل على تيمم الحضرى إذا عُدم الماء، وخاف فوت الصلاة. وفيه: ما خصه الله تعالى به من الشفاعة، ويدل أنه لا يشفع فى أحد يوم القيامة إلا شُفِّع فيه.(1/469)
قوله فى حديث الشفاعة: تمت قل يا محمد نسمع، واشفع تشفع، وسل تعط -، ولم يعط ذلك من قبله من الأنبياء، ولا تكون الشفاعة إلا فى المذنبين المستحقين للعقوبة، لأن من لا يستحق العقوبة لا يحتاج إلى الشفاعة. وقوله: تمت بعثت إلى الناس كافة -، دليل أن الحجة تلزم بالخبر، كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن الآية المعجزة باقية مساعدة للخبر، مبينة له، رافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهى القرآن الباقى، ولذلك خص الله نبيه ببقاء آيته، لبقاء دعوته، ووجوبها على من بلغته إلى آخر الزمان.
- باب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُرَابًا
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا، فَوَجَدَهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ، إِلا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قال المؤلف: الذى لا يجد ماءً ولا ترابًا هو المكتوف والمحبوس والمهدوم عليه والمعطوب ومن أشبههم تحضره الصلاة، فاختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: يصلون إيماءً بغير وضوء ولا تيمم، كصلاة الطالبين للعدو، ولا إعادة عليهم. ذكر ابن أبى زيد أن هذا(1/470)
قول ابن نافع وسحنون، وحكاه ابن القصار، عن أشهب والمزنى، وذكره ابن المنذر، عن أبى ثور. وقالت طائفة: يصلون وعليهم الإعادة، هذا قول الثورى، وابن القاسم، وأكثر أصحاب مالك، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، والشافعى. وقال ابن خويز منداد: روى المدنيون عن مالك فيمن لا يقدر على الماء، ولا على الصعيد حتى يخرج الوقت، أنه لا يصلى ولا إعادة عليه والصلاة عنه ساقطة، قال: وهو الصحيح من مذهب مالك. وروى معن بن عيسى عن مالك فى الذى يكتفه الوالى ويمنعه من الصلاة، حتى يخرج وقتها، أنه لا إعادة عليه، وهذا القول اختيار ابن القصار، وحكى أنه مذهب أبى حنيفة. ووجه القول الأول، أنهم يصلون ولا قضاء عليهم، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الذين طلبوا العقد حين صلوا بغير وضوء ولا تيمم بالإعادة. قال المهلب: إن حُكْمنا فى عدم الشرعين، الوضوء والتيمم، كحكمهم فى عدم الشرع الواحد، وهو الوضوء الذى كان عليهم، فلما ساغ لهم الصلاة بالتيمم بغير وضوء، ساغ لنا الصلاة بغير تيمم ولا وضوء. وقال أبو ثور: القياس فيمن لم يقدر على الطهارة أن يصلى(1/471)
ولا يعيد، كمن لم يقدر على الثوب وصلى عريانًا الصلاة لازمة له، يصلى على ما يقدر، ويؤدى ما عليه بقدر طاقته. وقال ابن القصار: كل من أدّى فرضه على ما كلفه لم يلزمه إعادة، كالمستحاضة، ومن به سلس البول، والعاجز عن أركان الصلاة يصلى على حسب حاله، وكالمسايف، والمسافر يحبس الماء خوفًا على نفسه من العطش، يتيمم ويصلى، كل هؤلاء إذا صلوا على حسب تمكنهم لم تجب عليهم إعادة. ووجه قول من قال: يصلون وعليهم إعادة الصلاة: فإنهم احتاطوا للصلاة فى الوقت على حسب الاستطاعة لاحتمال قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يقبل الله صلاة بغير طهور -، لمن قدر عليه، ولم يكونوا على يقين من هذا التأويل فرأوا الإعادة واجبة مع وجود الطهارة، إذ ليس فى الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يأمرهم بالإعادة، وقد يحتمل أن يكون أمرهم ولم ينقل ذلك، والله أعلم. ووجه قول الذين قالوا: لا يصلون حتى يجدوا ماءً أو ترابًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت لا تقبل الصلاة بغير طهور -، وليس فرض الوقت بأوكد من فرض الطهور. وأما رواية معن، عن مالك التى اختارها ابن القصار، فإنه قال: وجه ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يقبل الله صلاة بغير طهور -، قال: وهذا دليل على سقوط حكمها إذا صلى بغير طهور، فإذا سقط عنه أن يصلى بغير طهور، ومعه عقله لم يجب عليه قضاء كالحائض، وأيضًا فلو وجب عليه ابتداءً الدخول فى الصلاة لو كان طاهرًا لوجب(1/472)
أن يسقط فرضه، فلما قالوا: لا يسقط فرضه، لم تجب عليه، ولو وجب عليه أن يبتدئ الصلاة حتى يتمها ويقضى، لأوجبنا عليه صلاتى فرض من جنس واحد فى يوم واحد، وهذا لا يجوز. وأما قوله: تمت فبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلاً فوجدها -، فإنه يعارض ما رواه القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تمت فبعثنا البعير الذى كنت عليه، فأصبنا العقد تحته -، وقد حمل إسماعيل بن إسحاق على هشام بن عروة، وجعل حديثه مناقضًا لحديث عبد الرحمن بن القاسم. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وليس بمناقض، ويحتمل أن يكون قوله: تمت فبعث رجلاً -، يعنى أسيدًا، فوجدها أسيد بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) وجدها عند إثارة البعير بعد انصراف المبعوثين من موضع طلبها، ويتفق الحديثان بغير تعارض، والحمد لله.
3 - باب التَّيَمُّمِ فِى الْحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاةِ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِى الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ، وَلا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ: يَتَيَمَّمُ. وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَحَضَرَتِ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ، فَتَيَمَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ. / 4 - فيه: أَبُو جُهَيْمِ، أَقْبَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ (صلى الله عليه وسلم) .(1/473)
واختلف العلماء فى الحضرى يخاف فوات الصلاة إن علاج الماء، هل له أن يتيمم؟ . فقال مالك: يتيمم ويصلى ولا يعيد، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، ومحمد. وروى عن مالك: أنه يصلى بالتيمم ويعيد الصلاة، وهو قول الليث، والشافعى. وروى عن مالك أنه يعالج الماء، وإن طلعت الشمس، وهو قول أبى يوسف، وزفر، قالا: لا يصلى أصلا ويتعلق الفرض بذمته إلى أن يقدر على الماء، لأنه لا يجوز التيمم عندهما فى الحضر، واحتجا بأن الله جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، ولم يبحه إلا بشرط المرض والسفر، فلا دخول للحاضر ولا للصحيح فى ذلك، لخروجهما من شرط الله. واحتج من قال: يتيمم ويصلى ويعيد، قال: لأنا قد رأينا من يفعل ما أمر به ولا تسقط عنه الإعادة، وهو واقع موقع فساد، مثل من أفسد حجه أو صومه المفترض عليه، فإنه مأمور بالمضى فيه فرض عليه ومع هذا فعليه الإعادة، وأيضًا فإن المسافر والمريض قد أبيح لهما الفطر فى رمضان، ففعلا المأمور به ولم يسقط عنهما القضاء، كذلك الحاضر إذا تيمم وصلى لا يسقط عنه القضاء.(1/474)
واحتج عليه من قال: يتيمم ويصلى ولا يعيد، وهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: هذاسهو، لأن الفطر رخصة لهما ولم يفعلا الصوم، والمتيمم فعل الواجب وفعل الصلاة، فلو رخص له فى الخروج من الصلاة كما رخص للمسافر فى الفطر لوجب عليه القضاء. وأما من أفسد حَجَّه أو صومه فإنما أمر بالمضى فيه عقوبة لإفساده له، ثم وجب عليه قضاؤه، ليؤدى الفرض كما أمر به. والحاضر إذا تعذر عليه الماء، وخاف فوت الصلاة صار مطيعًا بالتيمم والصلاة ابتداءً، ولم يفسد شيئًا يجب معه عليه القضاء. والحجة لأهل المقالة الأولى فى أنه لا إعادة عليه ما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه تيمم بمربد النعم وهو فى طرف المدينة، لأنه خشى فوت الوقت الفاضل ولم يجد ماء، ثم صلى، وهو حجة للحاضر يخاف فوت الوقت كله أنه يجوز له التيمم، لأنه لما جاز لابن عمر التيمم والصلاة، ثم دخل المدينة وقد بقى عليه من الوقت بقية، ولم يعد الصلاة، كمان أحرى أن يجوز التيمم والصلاة للحضرى يخاف خروج الوقت كله. قال المهلب: وأما حديث بئر جمل، فإن فيه التيمم فى الحضر، إلا إنه لا دليل فيه أنه رفع بذلك التيمم الحدث رفعًا استباح به الصلاة، لأنه أراد أن يجعله تحية لرد السلام، إذ كره أن يذكر الله على غير طهارة، هكذا رواه حماد بن سلمة فى مصنفه فى هذا الحديث. قال المؤلف: فذكرت هذا لبعض أهل العلم، فقال لى: وهو وإن كان كما ذكره المهلب فإنه يستنبط منه جواز التيمم فى الحضر، إذا لم يستطع الوصول إلى الماء، وخاف فوات الصلاة، لأنه لما تيمم فى الحضر لرد السلام، وكان له أن يرد (صلى الله عليه وسلم) قبل تيممه، استدل منه أنه إذا خشى فوات الصلاة فى الحضر أن له التيمم، بل ذلك أوكد، لأنه لا يجوز له الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، ويجوز له أن(1/475)
بغير وضوء ولا تيمم، وأيضًا فإن التيمم إنما ورد فى المسافرين والمرضى لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته، فكل من لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، تيمم إن كان مسافرًا أو مريضًا بالنص، وإن كان حاضرًا صحيحًا بالمعنى، وهذا دليل قاطع. وقد احتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز التيمم للجنازة إذا خاف فوت الصلاة عليها. وهو قول الكوفيين، والليث، والأوزاعى. قال الطحاوى: فتيمم (صلى الله عليه وسلم) لرد السلام فى المصر وهو فرض لخوف الفوت، لأنه لو فعل بعد التراخى لم يكن جوابًا. فإن قيل: ليست الطهارة شرطًا فى صحة رد السلام؟ قيل: قد ثبت لهذه الطهارة حكم لولاه لم يفعلها النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولو لم يكن ثبت حكم التيمم فى هذه الحالة لما فعله النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ومنع مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، الصلاة على الجنائز بالتيمم. قال ابن القصار: وفى تيمم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالجدار رد على أبى يوسف، والشافعى فى قولهما: إن التراب شرط فى صحة التيمم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) تيمم بالجدار، ومعلوم أنه لم يعلق بيده منه تراب إذ لا تراب على الجدار، وقد تقدم فى باب ما يقول عند الخلاء زيادة فى معنى تركه (صلى الله عليه وسلم) لرد السلام حين تيمم بالجدار، كرهنا تكراره فتأمله هناك إن شاء الله. والمربد والجرين، والبيدر الأندر.(1/476)
4 - باب هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا
/ 5 - فيه: سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّى أَجْنَبْتُ، فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِى سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، أَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ، فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا -، فَضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَفَّيْهِ الأرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. اختلف العلماء فى نفض اليدين من التيمم فكان الشعبى يقول بنفضهما وهو قول الكوفيين، وقال مالك أيضًا: نفضًا خفيفًا. وقال الشافعى: لا بأس أن ينفضهما إذا بقى فى يديه غبار يماس الوجه وهو قول إسحاق. وقال أحمد: لا يضر فعل أو لم يفعل وكان ابن عمر لا ينفض يديه. قال المهلب: فيه من الفقه أن المتأول لا إعادة عليه ولا لوم، ألا ترى أن عمارًا قال: تمت أما أنا فتمرغت فى التراب -، لأنه تأول أن التيمم للوجه والكفين، لا يجزئ فى الجنابة، كما يجزئ فى الوضوء وكان فى السفر، فلم يأمره النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بإعادة التيمم(1/477)
والصلاة لأنه عمل أكثر مما كان يجب عليه فى التيمم، بل أخبره أنه كان يجزئه ضربة للوجه والكفين عن غسل الجنابة، وسيأتى الخلاف فى تيمم الجنب بعد هذا، إن شاء الله.
5 - باب التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
/ 6 - فيه: عَمَّارٌ قال لعمر: تَمَعَّكْتُ، فَأَتيت النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: تمت يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ -. / 7 - وقَالَ عَمَّارٌ مرة: فَضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. اختلف العلماء فى حد مسح الكفين فى التيمم، فقال قوم: هو إلى الكوعين روى هذا عن على بن أبى طالب وسعيد بن المسيب، والأعمش، وعطاء، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن تيمم إلى الكوعين أعاد فى الوقت وهذا يدل أن التيمم إلى المرفقين مستحب عنده. وقال قوم: التيمم إلى المرفقين. روى هذا عن ابن عمر، وجابر، والنخعى، والحسن، وهو قول مالك، وأبى حنيفة وأصحابه والثورى، والليث، والشافعى، قالوا: لا يجزئه إلا ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، ولا يجزئه دون المرفقين.(1/478)
وقال الزهرى: هو إلى الآباط. واحتج الزهرى بما رواه عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، قال: تيممنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إلى المناكب، رواه جويرية، عن مالك، عن ابن شهاب. وحجة من ذهب إلى أن المراد مسحهما إلى المرفقين فما رواه الثورى عن سلمة بن كهيل، عن أبى مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار بن ياسر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بيديه، ثم نفخهما ومسحهما بوجهه وكفيه وذراعيه إلى نصفيهما -. وأنصاف الذراعين عندهم هو نهاية المرفقين، ومن جهة النظر أن التيمم بدل من الوضوء، ولما أجمعوا أن الوضوء إلى المرفقين، وجب أن يكون التيمم كذلك. وكان من حجة من ذهب إلى أن المسح إلى الكوعين قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] ، قال ابن القصار: واسم اليد تخصيص إلى الكوعين، لقطع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، والمسلمين بعده من الكوع مع إطلاق اسم اليد فى الآية، والحكم إذا تعلق بما هذه صفته تعلق بأول الاسم وأخصه. واحتجوا من الآثر بقوله فى حديث عمار: تمت أن النبى ضرب بيده(1/479)
الأرض، ثم مسح بهما وجهه وكفيه -. قالوا: وهذا توقيف من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لعمار على المراد من قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) [المائدة: 6] يرفع الإشكال. ويدل على ذلك أيضًا حديث أبى جهيم: تمت حين تيمم النبى (صلى الله عليه وسلم) ، على الجدار فمسح وجهه ويديه -، وما روى أنه مسح الذراعين إلى المرافق، فنحمله على الاستحباب، وأما التيمم إلى المناكب، فالأمة فى جميع الأمصار على خلافه. قال الطحاوى: ولم يرو عن أحد من المتقدمين غير ابن شهاب، وليس فى حديث ابن شهاب، عن عمار أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أمرهم بالتيمم إلى المناكب، ولا أنه تيمم هو كذلك، فيكون فيه حجة، بل الآثار أنه تيمم إلى الكوعين وإلى المرفقين. قال الطحاوى: وأما النظر فى ذلك، فرأينا التيمم قد أسقط عن بعض أعضاء الوضوء، وهو الرأس والرجلان، فكان التيمم على بعض ما عليه الوضوء، فبطل بذلك قول من قال: إنه إلى المناكب، لأنه لما بطل على الرأس والرجلين، وهم مما يتوضآن كان أحرى ألا يجب على ما لا يتوضأ.(1/480)
6 - باب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وابن عَبَّاس: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ عَلَى السَّبَخَةِ، وَالتَّيَمُّمِ بِهَا. / 8 - فيه: عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : وَإِنَّا سْرَيْنَا، حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَقَعْنَا وَقْعَةً، وَلا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا حَرُّ الشَّمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلانٌ ثُمَّ فُلانٌ ثُمَّ فُلانٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ، فَنَسِىَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ، وَكَانَ النَّبِيُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا نَامَ، لَمْ نُوقَظْه حَتَّى يَكُونَ هُوَ المسْتَيْقِظُ، لأنَّا لا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِى نَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ رَجُلا جَلِيدًا، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ لِصَوْتِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، قَالَ: تمت لا ضَيْرَ، أَوْ لا يَضِيرُ، ارْتَحِلُوا -، فَارْتَحَلَوا، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ، فَدَعَا بِالْوَضُوءِ، فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى بِالنَّاس، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ، إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: تمت مَا مَنَعَكَ يَا فُلانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ -؟ قَالَ: أَصَابَتْنِى جَنَابَةٌ، وَلا مَاءَ، قَالَ: تمت عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ -، ثُمَّ سَارَ (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ، فَدَعَا فُلانًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ، نَسِيَهُ عَوْفٌ، وَدَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: تمت اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا الْمَاءَ -، فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ(1/481)
سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَنَفَرُنَا خُلُوفًا، قَالا لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا، قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتِ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاءَا بِهَا إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ. قَالَ: تمت فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا -، وَدَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْتَقُوا واسْقُوا، فَسَقَى مَنْ سقى، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: تمت اذْهَبْ، فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ -، وَهِيَ قَائِمَةٌ، تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت اجْمَعُوا لَهَا -، فَجَمَعُ لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فَجَعَلُوه فِي الثَوْب، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا، وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَهَا: تمت تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى أَسْقَانَا -، فَأَتَتْ أَهْلَهَا، وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ لَقِيَنِى رَجُلانِ، فَذَهَبَا بِى إِلَى هَذَا الرَّجُل الَّذِى يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا، وَكَذَا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لأسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ، وَهَذِهِ، وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ، تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأرْضَ، أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ(1/482)
يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإسْلامِ؟ فَأَطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا فِي الإسْلامِ. قال المهلب: قوله للجنب: تمت عليك بالصعيد فإنه يكفيك من الماء -، فيحتمل أن يكفيه ما لم يحدث إذا لم يجد ماء كما يكفيه الوضوء، وإنما قال أهل العلم: إنه يتيمم لكل صلاة خوفًا أن يضيع طلب الماء ويتكل على التيمم ويأنسوا إلى الأخف، ويحتمل أن يكفيه لتلك الصلاة وحدها، لأنها هى التى يستباح فيها خوف فوات وقتها. واختلف العلماء فى ذلك فقالت طائفة: يصلى بالتيمم ما لم يحدث جميع الصلوات وروى ذلك عن عطاء، والحسن البصرى، والنخعى، والزهرى، والثورى، والكوفيين. وقالت طائفة: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة، وعليه أن يتيمم لكل صلاة، روى ذلك عن على، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، ومكحول، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وفيها قول ثالث: أن من صلى الصلوات فى أوقاتهن يتيمم لكل صلاة، وإذا فاتته صلوات صلاها بتيمم واحد، روى هذا عن مالك، وهو قول أبى ثور. واحتج الكوفيون فقالوا: التيمم مرتب على الوضوء، فلما قامت الدلالة على أنه يصلى صلوات كثيرة بوضوء واحد، كان التيمم مثله. وحجة من أوجب التيمم لكل صلاة، قالوا: إن الله أوجب على(1/483)
كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، لقوله: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) [النساء: 43، المائدة: 6] ، وحقيقة هذا أنه لا يقال لمن لم يطلب الشىء لم يجده، وأوجب عند عدمه التيمم عند دخول وقت صلاة أخرى مثل ما عليه فى الأولى، وليست الطهارة بالصعيد مثل الطهارة بالماء، وإنما هى طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة، وأن الجنب يعود جنبًا بعدها إذا وجد الماء، والوضوء بالماء لا يبطل، فلذلك أمر من صلى، به أن يطلب الماء لصلاة أخرى. وقال إسماعيل بن إسحاق: المتيمم لا يشبه المتوضئ، لأن المتوضئ له أن يتوضأ للصلاة قبل وقتها، والمتيمم لا يجوز له ذلك، فإذا لم يجز له أن يتيمم للعصر حتى يدخل وقتها، وجب ألا يكون التيمم للعصر يجزئ للمغرب، إذ كان متيممًا لها قبل وقتها، لأن العلة المانعة من المتيمم للعصر قبل وقتها هى المانعة له من المغرب. وأما إمامة المتيمم للمتوضيئن، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، وأبى يوسف، وزفر، والثورى، والشافعى. وقال الأوزاعى، ومحمد بن الحسن: لا يؤم متيمم متوضئًا، وروى ذلك عن علىّ، والنخعى. واحتج مالك فى ذلك، فقال: من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماءً فتيمم، فقد أطاع الله، وليس الذى وجد الماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة، لأنهما أمرا جميعًا، فكل عَمِلَ بما أمره الله.(1/484)
وحجة الأوزاعى: أن شأن الإمامة الكمال، ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة كما تقدم، فأشبهت صلاة القاعد المريض يؤم قيامًا، والأمى يؤم من يحسن القراءة. وأما التيمم بالسبخة فهو قول جماعة العلماء على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، فدخل فيه السبخة وغيرها. وخالف ذلك إسحاق بن راهويه، فقال: لا يجزئه التيمم بالسبخة. قال المهلب: فى حديث المزادتين من الفقه: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد ينام كنوم البشر فى بعض الأوقات، إلا أنه لا يجوز عليه الأضغاث، لقوله: تمت رؤيا الأنبياء وحى -. وفيه: أن الأمور يحكم فيها بالأعم، لقوله: تمت كنا لا نوقظ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لأنا لا نعلم ما يحدث له فى نومه -، وقد يحدث له وحى، أو لا يحدث، فحكموا بالأعم كما حكم على النائم غيره بحكم الحدث، وقد يكون الحدث، أو لا يكون. وفيه: التأدب فى إيقاظ السيد كما فعل عمر، لأنه لم يوقظ النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنداء بل أيقظه بذكر الله إذ علم عمر أن أمر الله يحثه على القيام. وفيه: أن عمر أجلد المسلمين كلهم، وأصلبهم فى أمر الله. وفيه: أن من حَلَّت به فتنة فى بلد، فليخرج عنه، وليهرب من الفتنة بدينه كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بارتحاله عن بطن الوادى الذى تشاءم به لما فتنهم فيه الشيطان.(1/485)
وفيه: أن من ذكر صلاة أن له أن يأخذ فيما يصلحه لصلاته طهور ووضوء، وانتقاء البقعة التى تطيب عليها نفسه للصلاة، كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ذكر الصلاة الفائتة فارتحل بعد الذكر، ثم توضأ وتوضأ الناس، وهذا لا يتم إلا فى مهلة، ثم أذن واجتمع الناس وصلوا. وفيه: رد لقول عيسى بن دينار أن حديث الوادى هذا، وتأخير الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المبادرة بالصلاة فى الوادى قبل أن يرتحل منسوخ بقوله: (أقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما خرج عن الوادى وصلى، خطبهم مؤنسًا لهم مما عرض لهم، فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها فى حين الصلاة، ولكن من فاتته صلاة، أو نسيها، فليصلها، إذا ذكرها، فإن الله يقول: (أقم الصلاة لذكرى (-، فاحتج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالآية على فعله، وآنس القوم بذلك، وأشار لهم إلى قوله تعالى المعروف عندهم، فكيف يكون ما نزل الله قبل ناسخًا لما كان بعد؟ إنما ينسخ الآخر الأول، وهذه الآية نزلت بمكة، وهذه القصة عرضت بعد الهجرة. وفيه من الفقه: أن من فاتتهم صلاة بمعنى واحد أن لهم أن يجمعوها إذا ذكروها بعد خروج وقتها، وأن تأخير المبادرة إليها لا يمنع الإنسان أن يكون ذاكرًا لها، وأن يعيدها. وفيه: طلب الماء للشرب والوضوء، والبعثة فيه. وفيه: أن الحاجة إلى الماء إذا اشتدت أن يؤخذ حيث وجد ويعوض صاحبه منه، كما عُوضت المرأة.(1/486)
وفيه: من دلائل النبوة ومعجزات الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن توضأ أهل الجيش، وشربوا واغتسل من كان جنبًا مما سقط من العزالى، وبقيت المزادتان مملوءتين بركته وعظيم برهانه. وفيه: مراعاة ذمام الكافر والمحافظة به كما حفظ النبى (صلى الله عليه وسلم) هذه المرأة فى قومها وبلادها، فراعى فى قومها ذمامها، وإن كانت من صميمهم فهى من أدناهم، وكان ترك الغارة على قومها سببًا لإسلامها، وإسلامهم وسعادتهم. وفيه: بيان مقدار الانتفاع بالاستئلاف على الإسلام، لأن قعودهم عن الغارة على قومها كان استئلافًا لهم، فعلم القوم قدر ذلك، وبادروا إلى الإسلام رعاية لذلك الحق. وقوله: تمت ونفرنا خلوف - قال الخطابى: يقال: الحى خلوف إذا غابوا وخلفوا أثقالهم، وخرجوا فى رعى، أو سقى، أو نحوه، ويقال: أخلف الرجل إذا استقى الماء واستخلف مثله، وأنشد الفراء: وَبَهْمَاء يستاف التراب دليلها وليس بها إلا اليمانىُّ مخلف يقول: إنهم إذا عطشوا بقروا بالسيوف بطون الإبل، فشربوا ما فى أكراشها، ويقال للقطا: المخلفات، لأنها تستقى لأولادها الماء وتخلف. وقال أبو عبيد: الحى خلوف: غُيَّب وحضور، ومنه قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) [التوبة: 87، 93] أى النساء. وأنشد فى العيب:(1/487)
أصبح البيت بيت آل بيان مقشعرا والحى حى خلوف أى لم يبق منهم أحد. والعزالى جمع عزلاء، والعزلاء فم المزادة الأسفل، عن أبى عبيد. قال صاحب العين: العزلاء مصب الماء من الراوية، وكذلك عزلاء القربة، ولذلك سميت عزلاء السحاب. والصرم: النفر ينزلون بأهليهم على الماء. يقال: هم أهل صرم والجمع أصرام. فأما الصرمه، بالهاء، فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين، عن الخطابى.
7 - بَاب إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ أَوْ خَافَ الْعَطَشَ تَيَمَّمَ
وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29] فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُعَنِّفْ. / 9 - فيه: أَبُو مُوسَى أَنّه قَالَ لابْن مَسْعُود: إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ لا تُصَلِّى، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِى هَذَا كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ الْبَرْدَ، قَالَ:(1/488)
هَكَذَا - يَعْنِى تَيَمَّمَ - وَصَلَّى، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ؟ قَالَ إِنِّى لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ. / 10 - وَقَالَ أَبُو مُوسَى مرةٍ لابن مَسْعُود: أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِذَا أَجْنَبَ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا يُصَلِّى، حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كَانَ يَكْفِيكَ -؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بقولِ عَمَّارٍ، فَقَالَ أبُو مُوسَى: فَدَعْنَا مِنْ قَول عَمَّار، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ فَمَا دَرَى عَبْدُاللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِى هَذَا، لأوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَدَعَهُ، وَيَتَيَمَّمَ، قَالَ الأعمش: فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ: فَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُاللَّهِ لِهَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قال ابن القصار: كل من خاف التلف من استعمال الماء جاز له تركه وتيمم بلا خلاف بين فقهاء الأمصار فى ذلك، وأما إن خاف الزيادة فى مرضه، ولم يخف التلف، فقال مالك: يجوز له التيمم، وهو قول أبى حنيفة، والثورى. واختلف قول الشافعى، فقال مثل قول مالك، وقال: لا يعدل عن الماء إلا أن يخاف التلف، وقد روى عن مالك مثل هذا. وقال عطاء، والحسن البصرى، فى رواية: لا يستباح التيمم بالمرض أصلاً، وكرهه طاوس، وإنما يجوز للمريض التيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده فلا، وهو قول أبى يوسف، ومحمد. والدليل لجواز التيمم، وإن لم يخف التلف ما احتج به أبو موسى على ابن مسعود من قوله تعالى: (فلم تجدوا ماءً) [النساء: 43، المائدة: 6] ، ولم يفرق(1/489)
بين مرض التلف، أو مرض يخاف زيادته، فهو عام فى كل مرض إلا أن يقوم دليل. وأما قصة عمرو بن العاص: تمت فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولاه غزوة ذات السلاسل، فاحتلم فى ليلة باردة، فقال: إن اغتسلت هلكت، فتيمم وصلى بالناس، فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال له: صليت بالناس وأنت جنب؟ فقال: سمعت الله يقول: (ولا تقلتوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] ، فضحك النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل شيئًا -. ففى هذا الخبر فوائد: منها: جواز التيمم للخائف من استعمال الماء. والثانية: جواز التيمم للجنب، بخلاف ما روى عن عمر، وابن(1/490)
مسعود. والثالثة: جواز التيمم لأهل البرد. والرابعة: أن المتيمم يصلى بالمتطهرين. وأيضًا فإن الرخص كلها تستباح بلحوق المشقة، ولا تقف على خوف التلف، كالفطر، وترك القيام فى الصلاة، فإن المريض يفطر إذا شق عليه الصوم، ولا يقال له: لا تفطر حتى تخاف التلف، وكذلك المضطر إلى أكل الميتة، إذا لحقه الجوع الشديد، وإن لم يخف التلف. وأجمع الفقهاء أن المسافر إذا كان معه ماء وخاف العطش أنه يُبقى ماءه للشرب ويتيمم. وأجمعوا أن الجنب يجوز له التيمم، إلا ما روى عن عمر، وابن مسعود أنهما لا يجيزان التيمم للجنب، لقوله تعالى: (وإن كنتم جنبًا فاطهروا) [المائدة: 6] ، وقوله: (ولا جنبًا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا) [النساء: 43] ، وقد روى مثل هذا عن ابن عمر، واختلف فيه عن علىّ. وخفيت عليهم السنة فى ذلك من رواية عمار، وعمران، وإنما استراب عمر عمارًا فى ذلك، لأنه كان حاضرًا معه، فلم يذكر القصة وأنسيها، فارتاب، ولم يقنع بقوله، وكان عمر وابن مسعود لما كان من رأيهما أن الملامسة فى الآية هى ما دون الجماع، وكان التيمم فى الآية يعقب الملامسة منعا الجنب التيمم، ورأيا أن التيمم إنما جعل بدلاً من الوضوء، ولم يجعل بدلاً من الغسل، فكان من رأى ابن عباس، وأبى موسى: أن الملامسة فى الآية الجماع، فأجازا للجنب التيمم، ألا ترى أن أبا موسى حاجَّ ابن مسعود بالآية التى فى سورة النساء، فإن الملامسة فيها الجماع، فلم يدفعه ابن مسعود عن ذلك، ولا قدر أن يخالفه فى تأويله للآية فلجأ إلى قوله أنه لو رخص لهم فى هذا كان أحدهم إذا برد عليه الماء تيمم، وقد ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبى سنان، عن الضحاك قال: رجع عبد الله عن قوله فى تيمم الجنب ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار، من قال: إن الملامسة الجماع، ومن قال: إنها دون الجماع، بقول عمر وابن مسعود، وصاروا إلى حديث عمار وعمران بن حصين فى ذلك، إلا إنهم اختلفوا، ثم أجازوا للجنب التيمم، فمن قال: الملامسة الجماع أوجب التيمم بالقرآن، وهو قول(1/491)
الكوفيين، ومن قال: الملامسة ما دون الجماع أوجب التيمم للجنب بحديث عمار وعمران، وهو قول مالك. قال المهلب: وفى قول أبى موسى لابن مسعود: تمت فدعنا من قول عمار، كيف تصنع فى هذه الآية؟ - فيه: الانتقال فى الحجاج مما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك أنه يجوز للمناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، ألا ترى أن إبراهيم إذ قال: ربى الذى يحيى ويميت، قال له النمروذ: أنا أحيى وأميت، لم يحتج أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى مسكت من الحجاج فقال: إن الله يأتى بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب.
8 - باب التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ
/ 11 - فيه: أَبِى مُوسَى وعَبْدِ اللَّهِ إلى قَول النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا -، وضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِا ظَهْرَ كَفِّيهِ شِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِا وَجْهَهُ -. اختلف العلماء فى صفة التيمم، فقالت طائفة: هو ضربتان: ضربة للوجه يمسح بها وجهه، وضربة لليدين يمسحهما إلى المرفقين اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى، روى هذا عن ابن عمر، والشعبى، والحسن، وسالم، وهو قول مالك، والثورى، والليث، وأبى حنيفة وأصحابه، والشافعى، وذكره الطحاوى، عن الأوزاعى، وهؤلاء كلهم لا يجزئه عندهم المسح دون المرفقين، إلا مالك فإن(1/492)
الفرض عنده إلى الكوعين، وروى عن على بن أبى طالب مثل هذا، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين. وقالت طائفة: التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه إلى مرفقيه، هذا قول ابن أبى ليلى والحسن بن حى. وقالت طائفة: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين إلى الكوعين. روى هذا عن عطاء، ومكحول، ورواية عن الشعبى، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واختيار ابن المنذر. وروى ابن القاسم عن مالك: إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أرجو أن يجزئه، ولا إعادة عليه، والاختيار عنده ضربتان. فأما الذين اختاروا ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فإنهم قاسوا ذلك على الوضوء، واتبعوا فعل ابن عمر فى ذلك، وقالوا: لما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين، فكذلك يجب أن تكون الضربة للوجه فى التيمم غير الضربة لليدين. وأما قول ابن أبى ليلى والحسن بن حى فهو شذوذ لا سلف له، وأصح ما فى حديث عمار أنه ضرب ضربة واحدة لكفيه ووجهه، رواه الثورى، وأبو معاوية، وجماعة عن الأعمش، عن أبى وائل، وسائر أحاديث عمار مختلف فيها. واحتج ابن القصار لهذا القول فقال: إذا ضرب بيديه إلى الأرض، فبدأ بمسح وجهه، فإلى أن يبلغ حد الذقن لا يبقى فى يديه شىء من التراب، فإذا جاز فى بعض الوجه ذلك ولم يحتج أن يعيد(1/493)
ضرب يديه على الأرض، لم يحتج أن يضرب بيديه ليديه، لأنه ليس كالماء الذى من شرطه أن يماس كل جزء من الأعضاء. قال غيره: وفيه جواز ترك الترتيب فى التيمم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) مسح كفيه قبل وجهه فى إحدى الروايات. تم كتاب الطهارة والحمد لله وصل الله على محمد وآله وصحبه، وبه تم الجزء الأول ويليه بإذن الله الجزء الثانى وأوله - كتاب الصلاة -(1/494)
الجزء الثانى(2/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَاب الصَّلاةِ
كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلاةُ فِي الإسْرَاءِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ، فَقَالَ: يَأْمُرُنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) - بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ. / 1 - فيه: أنس قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فلما جئت إلى السماء الدنيا. .) ، الحديث، وذكر حديث الإسراء. قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : (فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ) .(2/5)
/ 2 - وفيه: عائشة قالت: (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَرِ) . أجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان فى الإسراء، واختلفوا فى تاريخ الإسراء، فقال الذهبى فى تاريخه: أسرى برسول الله بعد مبعثه بثمانية عشر شهرًا. وقال أبو إسحاق الحربى: أُسرى بالنبى ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وفرضت الصلاة عليه. وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: إن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وروى يونس ابن بكير، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى، عن ابن شهاب: أن الصلاة فرضت بمكة بعد ما أوحى إليه بخمس سنين. فعلى قول موسى بن عقبة إذا كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، فهو بعد مبثعه بتسع سنين، أو باثنتى عشرة سنة على اختلافهم فى مقامه بمكة بعد مبعثه، وقول الزهرى أولى من قول الذهبى؛(2/6)
لأن ابن إسحاق قال: أسرى برسول الله وقد فشا الإسلام بمكة، وفى القبائل كلها، ورواية الوقاصى أولى من رواية موسى بن عقبة؛ لأنهم لا يختلفون أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة عليه، وتوفيت قبل الهجرة بأعوام. قال ابن إسحاق: ثم إن جبريل أتى الرسول حين فرضت الصلاة عليه فى الإسراء، فهمز له بعقبه فى ناحية من الوادى فانفجرت عين ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد ينظر، فرجع رسول الله، وقد أقرّ الله عينه، فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل، فهذا يدل أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قيل: إنها توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بثلاث. وأما قول ابن إسحاق أن جبريل نزل عليه بالوضوء، فإنما أخذه، والله أعلم، من حديث زيد بن حارثة، رواه عقيل عن ابن شهاب، عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه: (أن النبى فى أول ما أوحى إليه أتاه جبريل فَعَلَّمَهُ الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح فرجه) . وقال نافع بن جبير: (أصبح النبى ليلة الإسراء، فنزل عليه جبريل حين زاغت الشمس، فصلى به، ولذلك سميت: الأولى، وقال جماعة من العلماء: لم يكن على الرسول صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا ما كان أُمِرَ به من قيام الليل من غير تحديد ركعات معلومات،(2/7)
ولا وقت محصور، فكان يقوم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوًا من حولٍ حتى شق عليهم، فأنزل الله التخفيف عنهم ونسخه. وقال ابن عباس: لما نزلت: (يا أيها المزمل) [المزمل: 1] ، كانوا يقومون نحوًا من قيامهم فى رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بَيْن أولها وآخرها حول. وفى حديث الإسراء إعلام فرض الصلاة كيف كان، وتقدم. وإجماع الأمة على عدد فرض الصلاة وأنها خمس صلوات وعددها وركوعها وسجودها غير أبى حنيفة، فإنه شَذَّ وزاد أن الوتر فرض وليس ذلك فى حديث الإسراء، فأدخل البخارى حديث عائشة فى هذا الباب ليبينَ أن فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن عباس، ونافع بن جبير ابن مطعم، والحسن البصرى، وابن جريج: أن الصلاة فرضت فى الحضر أربعًا وفى السفر ركعتين، وأن جبريل نزل صبيحة ليلة الإسراء، فأقام لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والعشاء أربعًا. وقال ميمون بن مهران، والشعبى، وابن إسحاق، وجمهور العلماء: بظاهر حديث عائشة أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر، على أن عائشة قد أفتت بخلاف هذا الحديث، فكانت تُتِمُّ فى السفر، وقد قال بعض من أنكر حديث عائشة: أنه(2/8)
معارض لكتاب الله، عز وجل، وهو قوله تعالى: (وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) [النساء: 101] ، وهذا يدل أن صلاة السفر كانت كاملة؛ لأنه لا يجوز أن يؤمروا بالقصر إلا من شىءٍ تامٍّ قبل القصر، قال: ويدل على هذا ما رواه قتادة، عن سليمان اليشكرى أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة فى الخوف أى يوم أنزل، وأين هو؟ قال: انطلقنا نتلقَّى عير قريش من الشام حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا محمد، تخافنى؟ قال: (لا) ؟ ، قال: فمن يمنعك منى، قال: (الله) قال: فسل السيف فتهدده القوم وأوعدوه، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالرحيل، وأخذ السلاح، ونودى بالصلاة، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بطائفة من القوم ركعتين، وطائفة من القوم يحرسونهم، ثم جاء الآخرون، فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، فكان للنبى (صلى الله عليه وسلم) أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان، فيومئذ أنزل الله صلاة الخوف) . فالجواب: أنه لا تعارض بين حديث عائشة وبين كتاب الله، تعالى، وذلك أنه يجوز أن يكون فرض الصلاة كان ركعتين ركعتين فى الحضر والسفر كما قالت عائشة، فلما زيد فى صلاة الحضر، قيل لهم: إذا ضربتم فى الأرض، فصلوا ركعتين مثل الفريضة الأولى، ولا جناح عليكم فى ذلك، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى حديث عائشة؛ روى داود بن أبى هند عن الشعبى، عن عائشة، قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها غير المغرب؛ فإنها وتر صلاة النهار، وصلاة الصبح؛ لطول(2/9)
قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى) ، رواه معمر عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى) ، [. . .] هذا المعنى للطحاوى بل هو فى كتاب البخارى الذى شرحته بهذا الكتاب فى باب: التأريخ بعد الهجرة. فإن قيل: فقد يكون قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) [النساء: 101] ، بعد إتمام الصلاة فى الحضر، قلت: فما معنى ذكر الجناح فى ذلك؟ . قيل: المعنى فى ذلك، والله أعلم، أن الله تعالى، ذكر قصة الصلاة فى حال الخوف وسنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) من الرخصة فى هيئتها صفةً مفارقةً لجميع صلوات حال الأمن، فوضع الله الجناح عن عباده فى قصر عددها وتغيير هيئتها، وجعل القصر فى السفر رفقًا بعباده وتخفيفًا عنهم كما قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ليعلى بن أمية حين قال له: ما لنا نقصر وقد أَمنَّا؟ قال: (تلك صدقة تصدق الله عليكم، فاقبلوا صدقته) ، فدل إتمام عائشة فى السفر أن القصر ليس بمعنى الحتم ولا إلزام للمسافر، إذ لو كان كذلك لم يجز أن تتم فى السفر، وإنما أتمت لأنها فهمت المعنى فى ذلك من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ويشهد لصحة تأويلها فى ذلك قول عمر ابن الخطاب، رضى الله عنه، تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وقد أجمعت الأمة أنه لا يلزم المتصدق عليه قبول الصدقة فرضًا وسأزيد فى هذا الباب بيانًا فى أبواب قصر الصلاة فى السفر، إن شاء الله تعالى. قال إسماعيل بن إسحاق: وأما حديث قتادة عن سليمان اليشكرى(2/10)
فهو ضعيف؛ لأن قتادة لم يسمع منه شيئًا، وسمعت على بن المدينى يقول: مات سليمان اليشكرى قبل جابر ابن عبد الله، وإنما كانت صحيفة، فكان قتادة وغيره يحدثون بما وجدوا فيها. وقد روى عن جابر خلاف حديث سليمان اليشكرى، روى شعبة عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: (صلينا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف فركع بالصف المقدم ركعة وسجد سجدتين، ثم تأخروا وتقدم الآخرون فركع بهم ركعة واحدة) ، فهذا معارض لحديث اليشكرى. قال المهلب: وقوله فى حديث الإسراء: (ففرج صدرى، ثم غسله، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه فى صدرى) . فيه من الفقه: أن أمور الله تعالى، المعظمة لا بأس بتحليتها واستعمال الذهب والفضة فيها بخلاف سائر أمور الدنيا التى نهى عن استعمال الذهب والفضة فيها من أجل السرف، ألا ترى أنه أبيح تحلية المصحف الذى فيه كلام الله عز وجل كما جاءه جبريل بالحكمة والإيمان من عند الله، عز وجل، من طست من ذهب، وذكر أبو عبيد فى كتاب فضائل القرآن، باب: تزيين المصاحف وحليتها بالذهب والفضة، وقال الأعمش: عن أبى وائل: كان ابن مسعود إذا مُرَّ عليه بمصحف وقد زين بالذهب، قال: (إن أحسن ما زُيِّنَ به المصحف تلاوته) .(2/11)
وعن ابن عباس أنه كان إذا رأى المصحف قد فُضِّضَ أو أذهب قال: (تُغْرُون به السارق، وزينته فى جوفه) ، وأجاز ابن سيرين تزيين المصحف وتحليته، وكذلك أبيح حلية السيف الذى هو من أمر الله تعالى، وسلطانه على من كفر به، والخاتم الذى يطبع به عهود الله، وعهود رسله النافذة إلى أقطار الأرض بالدين، وما سوى ذلك من متاع الدنيا فممنوع من التحلية غير حُلِىِّ النساء والمباح لهن ليتزين به للرجال. وفيه: أن أرواح المؤمنين يُصعد بها إلى السماء؛ ألا ترى أنه وجد آدم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء فى السماء. وقوله فى آدم: (عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) ، فيه دليل على أن أعمال بنى آدم الصالحة تَسُرُّ أباهم آدم، عليه السلام، وأن أعمالهم السيئة تسوءه وتحزنه. وفيه: دليل أنه يجب أن يرحبَ بكل أحد من الناس فى حسن لقائه بأكرم المنازل وأقرب القرابة؛ ألا ترى أنه لما كان محمد من ذريته قال: مرحبًا بالابن الصالح، ومن كان من غير ذريته قال له: مرحبًا بالأخ الصالح، فكذلك يحب أن يُلاقى المرءُ بأحسن صفاته وأعمها بجميل الثناء عليه؛ ألا ترى أن كلهم قال له: (الصالح) لشمول الصلاح على سائر الخلال الممدوحة من الصدق، والأمانة، والعفاف، والصلة، والفضل ولم يقل أحد: مرحبًا بالنبى الصادق الأمين وما شاكله؛ لشمول الصلاح وعمومه لسائر خلال الخير.(2/12)
وفيه: دليل أن أوامر الله تعالى، تكتب بأقلام شتَّى؛ لقوله: (أسمع صريف الأقلام) ، ففى هذا أن العلم ينبغى أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة فى سماواته، فكيف فى أرضه. وقوله: (لا يبدل القول لدى) ، يعنى: ما قضاه وأحكمه من آثار معلومة، وآجال مكتوبة، وأرزاق معدودة، وشبه ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه تعالى رفقًا بعباده، فهو الذى قال فيه تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) [الرعد: 39] . وفيه: جواز النسخ قبل الفعل؛ ألا ترى أنه عز وجل نسخ الخمسين صلاة قبل أن تُصلى بخمس صلوات تخفيفًا عن عباده، ثم تفضل عليهم بأن جعل ثواب الخمس صلوات كثواب الخمسين، أو جعل الحسنة عشرًا. وفيه: جواز الاستشفاع والمراجعة فى الشفاعة مرة بعد أخرى. وفيه: الاستحياء من التكثير فى الحوائج، خشية الضعف عن القيام بشكرها. وفيه: دليل أن الجنة فى السماء. وفيه: (ودخلت الجنة فإذا فيها جبايل اللؤلؤ) ، هو تصحيف، والله أعلم، والصواب: (جنابذ اللؤلؤ) ، كذلك فسره ثابت عن ابن السكيت، وقال: (الجنبذة) ، ما ارتفع من البناء، وبهذا اتضح معنى اللفظة؛ لأنه عليه السلام إنما وصف أرض الجنة وبنيانها، فقال: ترابها مسك، وبنيانها لؤلؤ، وقد ذكر البخارى هذه اللفظة فى كتاب الأنبياء عن عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، كما فسرها أهل(2/13)
اللغة: (جنابذ اللؤلؤ) ، وإنما جاء الغلط فيها، والله أعلم، من قبل الليث عن يونس، وقد ذكر الطبرى هذا المعنى مبينًا فى بعض طرق حديث الإسراء من طريق ميمون بن سياه، عن أنس قال فيه: (ثم انطلق به إلى باب الجنة فإذا هو بنهر هو أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، بجنبتيه قباب الدر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاك الله، وهذه مساكنك، وأخذ جبريل بيده من تربته فإذا هو مسك أذفر. . . .) وذكر الحديث. وروى الأصيلى بإسناده، عن محمد بن العلاء الأيلى، عن يونس الأيلى، عن الزهرى، وقال فيه: (دخلت الجنة فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ، وترابها المسك، فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ قال: للمؤذنين والأئمة من أمتك) . وقوله: عن يساره أسودة فهو جمع سواد، والسواد الشخص كما قال الشاعر: يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل
- باب وُجُوبِ الصَّلاةِ فِي الثِّيَابِ وَقَوْلهِ تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف 31] وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
، وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) . فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى، وَأَمَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَلاَّ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.(2/14)
/ 3 - فيه: أم عطية قالت: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ المُصَّلى، قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا) . الواجب من اللباس فى الصلاة ما يستر به العورة، وأما غير ذلك من الثياب فالتجمل بها فى الصلاة حسن، والله أحق من تجمل له، وأجمع أهل التأويل على أن قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) [الأعراف: 31] ، نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، ولذلك أمر الرسول ألا يطوف بالبيت عريان. وقوله: (يزره ولو بشوكة) ، و (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، يدل على وجوب ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا زره أمن عند ركوعه وسجوده أن تبدو عورته. قال ابن القصار: وقد اختلف الناس فى ستر العورة فى الصلاة، فبعض أصحاب مالك يقول: إن الستر من سنن الصلاة، وإليه ذهب إسماعيل القاضى، وأبو الفرج المالكى بعد أن ذكر أنه يجىء على مذهب مالك أن يكون فرضًا لقوله فى كفارة المساكين: إن كساهم وكانوا نساء، فدرع درع وخمار، وإن كانوا رجالاً فثوب ثوب، وذلك أدنى ما تجزئ به الصلاة، فدل أن الصلاة لا تجزئ إلا بذلك. وكان أبو بكر الأبهرى يقول: إن ستر العورة فرض فى الجملة، على الإنسان أن يسترها عن أعين المخلوقين فى الصلاة وغيرها،(2/15)
والصلاة أوكد من غيرها، وقال أبو حنيفة، والشافعى: إنها من فرض الصلاة، فاحتج إسماعيل بأنه يجوز له ستر عورته قبل الدخول فى الصلاة بغير نية، وإنما هى آلةُ يؤتى بها قبل الصلاة، فلو كانت فرضًا لما صح الإتيان بها إلا بنية كالطهارة. قال ابن القصار: فالجواب أن التوجه إلى القبلة مما تختص به الصلاة، ويجوز بغير نية، ولا يدل ذلك على سقوط فرضه مع القدرة عليه، واحتج إسماعيل أيضًا بأنه لو كان فرضًا فى الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلى؛ لأن كل شىء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه أو ببدله مع عدمه كالعاجز عن القيام يصلى قاعدًا، وكالعاجز عن الركوع والسجود يومئ، أو كالتيمم مع عدم وجود الماء، والذى صلى عريانًا لم يفعل فى اللبس فعلاً يقوم مقام اللبس مع عدمه. وقد أجيب عن ذلك بأننا لا نقول: إن ستر العورة يجب لأجل الصلاة، فلا معنى لاعتباره بأفعال الصلاة، وبما يجب لأجلها كالوضوء الواقع إلى بدل، وكالقبلة وغير ذلك مما تختص به الصلاة، وإنما هو فرض فى الجملة، ويتأكد حكم الصلاة فيه، وليس كل شىء من فروض الصلاة يسقط إلى بدل مع الضرورة؛ لأن القراءة واجبة على المنفرد وتسقط عنه خلف الإمام لا إلى بدل، وكذلك الأُمِّى الذى لا يحسن القراءة ولا التسبيح تصح صلاته من غير بدل. فإن قيل: فعلى أى شىء يُحمل قول مالك: إن الحرة إذا صلتْ بغير خمار أنها تعيد فى الوقت، ولو كان فرضًا؛ لوجب أن تعيد فى الوقت وبعده؟ قيل: يحمل على أنه يعفى عن القليل منها لاختلاف(2/16)
الناس فى ذلك، فلم يقل مالك: إنها لو صلت مكشوفة السوأة أنها تعيد فى الوقت مع قدرتها على ستر ذلك، ولو قال ذلك، لم يمنع من كون الستر فرضًا؛ ألا ترى أن الصلاة فى الدار المغصوبة وفى الثوب المغصوب والوضوء بالماء المغصوب فرض عليه ألا يصلى بشىء من ذلك، ولو صلى بجميع ذلك كان قد ترك الفرض وعصى وعليه الإعادة فى الوقت ولا يعيد بعد الوقت، وكذلك التسمية على الذبيحة. فبعض الفروض إذا تركها عمدًا أعاد فى الوقت، وبعضها يختلف حكمها فى العمد والنسيان، وبعضها يتفق، وإنما هو على حسب الأدلة فى قوة بعضه وانخفاض بعضه، وحديث سلمة بن الأكوع أصل فى هذه المسألة وهو قوله: (يزره ولو بشوكة) ، ولو كان ستر العورة سنة لم يقل له ذلك، وإنما قال البخارى: وفى إسناده نظر؛ لأن رواية الدراوردى عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله، إنى أعالج الصيد فأصلى فى القميص الواحد، قال: (نعم، وزره ولو بشوكة) . وموسى بن محمد فى حديثه مناكير، قاله البخارى فى كتاب الضعفاء، ورخص مالك فى الصلاة فى القميص محلول الإزار ليس عليه سراويل ولا رداء، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى ثور، إلا أنه إن رأى من جيبه عورته أعاد الصلاة عندهم.
3 - باب عَقْدِ الإزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلاةِ
وَقَالَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ. / 4 - فيه: جابر: أنه صَلَّى فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ(2/17)
عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ، لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) . / 5 - وقال جابر مرة: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) . عقدُ الإزار على القفا فى الصلاة إذا لم يكن مع الإزار سراويل ولا مئرز، وهو معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (زره ولو بشوكة) ، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا عقد إزاره فى قفاه وركع لم تبد عورته، فكذلك كان أصحاب الرسول يعقدون أزرهم فى الصلاة إذا لم يكن تحتها ثوب آخر. وفى حديث جابر من الفقه أن العالم قد يأخذ بأيسر الشىء وهو يقدر على أكثر منه توسعة على العامة وليقتدى به؛ ألا ترى أنه صلى فى ثوب واحد وثيابه على المشجب. ففى ذلك جواز الصلاة فى الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول جماعة من الفقهاء إلا أنه قد روى عن ابن عمر خلاف ذلك، وروى عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر، وسأذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وروى ابن جريج، عن نافع أن ابن عمر كساه فدخل المسجد، فوجده يصلى متوشحًا، فقال له: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى، قال: أرأيت لو استعنت بك وراء الدار كنت لابسهما؟ قال: نعم، قال: فالله أحق أن تتزين له، فأخبره عن النبى، أو عن عمر، قال: لا يشتمل أحدكم فى الصلاة اشتمال اليهود، ومن كان له ثوبان فليتزر(2/18)
وليرتد، ومن لم يكن له ثوبان فليتزر ثم يصلى، وقد رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن الرسول من غير شك. قال الطحاوى: وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر غير نافع، فذكره سالم لا عن الرسول ورواه الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن عمر، عن أبيه. . . فذكره، وسالم أثبت من نافع وأحفظ، ولم يذكر فيه الرسول ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر: (أنه كسا نافعًا ثوبين، فقام يصلى فى ثوب واحد فعاب ذلك عليه، وقال: احذر ذلك؛ فإن الله أحق من تجمل له) ، لم يذكر فيه رسول الله ولا عمر. وقد روى عن النبى: (الصلاة فى ثوب واحد) جماعة منهم: جابر، وأبو هريرة، وعمر ابن أبى سلمة، وسلمة بن الأكوع، وهذه أحاديث تضاد ما روى عن ابن عمر فى منع الصلاة فى الثوب الواحد، وبها أخذ الفقهاء ولم يتابع ابن عمر على قوله فى ذلك. و (المشجب) عود ينصب فى البيوت تعلق فيه الثياب. وفى قول جابر للذى أنكر عليه الصلاة فى ثوب واحد: (إنما فعلت ذلك ليرانى أحمق مثلك) ، أنه لا بأس للعالم أن يصف بالحمق من جهل دينه، وأنكر على العلماء ما غاب عنه علمه من السُّنة، وقد قال فى حديث آخر: (أحببت أن يرانى الجهال مثلكم) ، فجعل الحمق كناية عن الجهل، ذكره فى باب الصلاة بغير رداء.(2/19)
4 - باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: الْمُلْتَحِفُ الْمُتَوَشِّحُ، وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَهُوَ الاشْتِمَالُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: الْتَحَفَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِثَوْبٍ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ. / 6 - فيه: عمر بن أبى سلمة: أن نبى الله صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. / 7 - وقال مرة: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، مُشْتَمِلا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ) . / 8 - وفيه: أم هانئ: (أنها رأت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح يصلى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) . / 9 - وفيه: أبو هريرة (أَنَّ سَائِلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّلاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ) ؟ قال المؤلف: التوشح هو نوع من الاشتمال تجوز الصلاة به؛ لأن فيه مخالفة لطرفى الثوب على عاتقه كما قال (صلى الله عليه وسلم) : (من صلى فى ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه) ، واشتمال الصماء المنهى عنه بخلاف ذلك. وقال ابن السكيت: التوشيح هو أن يأخذ طرف الثوب الذى ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذى ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفهما على صدره، ومعنى مخالفته بين طرفيه لئلا ينظر المصلى من عورة نفسه إذا ركع، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن الفقهاء مجمعون على جواز الصلاة فى ثوب واحد، وقد روى عن ابن مسعود خلاف ذلك، كما روى عن ابن عمر.(2/20)
ذكر عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال: اختلف أبى بن كعب، وابن مسعود فى الصلاة فى الثوب الواحد، فقال أُبى: لا بأس به، وقد صلى فيه النبى، عليه السلام، فالصلاة فيه اليوم جائزة، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا وجدوها، فالصلاة فى ثوبين، فقام عمر على المنبر، فقال: الصواب ما قال أُبى، ولم يَأْلُ ابن مسعود. قال الطحاوى: وقد تواترت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة فى الثوب الواحد منتوشحًا به فى حال وجود غيره، وذلك أن السائل سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى هريرة: أيصلى أحدنا فى ثوب واحد؟ فأجابه جوابًا مطلقًا، فقال: (أو كلكم يجد ثوبين) ، أى: لو كانت الصلاة مكروهة فى الثوب الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا، ودل جوابه ذلك أن حكم الصلاة فى الثوب الواحد لمن يجد الثوبين كهو فى الصلاة فى الثوب الواحد لمن لا يجد غيره. قال غيره: وفهم من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أو لكلكم ثوبان) ، أن من صلى فى أكثر من ثوب واحد فقد أحسن؛ ألا ترى قول عمر: (الصواب ما قال أُبى، ولم يأل ابن مسعود) ، أى: لم يقصر فى الاجتهاد، وإن كان قد حكم لأبى بالصواب، فهذا من قول عمر، يوافق ما روى عن الرسول من إجازته الصلاة فى ثوب واحد لمن وجد غيره، وهو أولى أن يؤخذ به مما روى عن ابن عمر وغيره مما يخالف ذلك.(2/21)
5 - باب إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ
/ 10 - فيه: أبو هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ يُصَلِّى أَحَدَكُم فِى الثَّوْبِ الوَاحِد لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيهِ شَىء) . / 11 - وقال مرة: سمعت الرسول يقول: (مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ) . إنما أمر الرسول من صلى فى ثوب واحد أن يجعله على عاتقيه إذا لم يكن متزرًا؛ لأنه إذا لم يكن متزرًا لم يأمن أن ينظر من عورة نفسه فى صلاته، فإذا جعله على عاتقيه وخالف بين طرفيه أمن من ذلك، واستترت عورته، على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وإنما هذا فى الثوب إذا كان واسعًا، فحينئذ يجعله على عاتقيه، وأما إذا كان ضيقًا، فإنه يتزر به على ما يأتى فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى الصلاة.
6 - باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا
/ 12 - فيه: جابر أنه سئل عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ، قَالَ: مَا هَذَا الاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟ قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا، فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ) .(2/22)
/ 13 - وفيه: سهل بن سعد قال: (كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا) . قال المؤلف: حديث جابر هذا يفسر حديث أبى هريرة الذى فى الباب قبل هذا أن النبى قال: (لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شىء) ، أنه أراد الثوب الواسع الذى يمكن أن يشتمله، وأما إذا كان ضيقًا ولم يمكنه أن يشتمله فليتزر به كما قال (صلى الله عليه وسلم) . فإن قيل: قوله: (لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شىء) ، هو نهى عن الصلاة فى الثوب الواحد متزرًا به. فظاهره: يعارض قوله: (فإن كان ضيقًا فليتزر به) ، ويعارض حديث بريدة الأسلمى أن الرسول نهى أن يصلى الرجل فى سراويل وحده، رواه ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى المنيب، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. قال الطحاوى: ومحمل النهى فى ذلك عندنا للواجد للغيره، وأما من لم يجد غيره فلا بأس بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة فى الثوب الضيق متزرًا به فعلى هذا تتفق معانى الآثار ولا تتضاد. قال المؤلف: ويشهد لصحة ما قال الطحاوى، أن الذين كانوا يعقدون أزرهم على أعناقهم لم يكن لهم غيرها، والله أعلم؛ إذ لو كان لهم غيرها للبسوها فى الصلاة، وما احتيج أن ينهى النساء عن رفع رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، وتختلف أحكامهم فى(2/23)
الصلاة، وذلك مخالف لقول الرسول فى الإمام: (فلا تختلفوا عليه) ، ولقوله: (فإذا رفع فارفعوا) ، ألا ترى أن عمرو بن سلمة حين كان يصلى بقومه، وتنكشف عورته، لم تكن له غير تلك الجبة القصيرة، فلما اشتريت له جبة سابغة تستره فى الصلاة، قال: فما فرحت بشىء فرحى بها. وفى حديث سهل أن الثوب إذا أمكن أن يشتمل به، وإن لم يكن سابغًا أن الاشتمال أولى به من الاتزار؛ لأن الاشتمال أستر للعورة من الاتزار ولذلك لم يؤمر الذين عقدوا أزرهم على عواتقهم بالاتزار بها، والله أعلم. وإنما نهى النساء عن رفع رءوسهن خشية أن يلمحن شيئًا من عورات الرجال عند الرفع من السجود، وهذا كله حماية من النظر إلى عورة المصلى، ولا خلاف بين العلماء أن المصلى إذا تقلص مئزره أو كشفت الريح ثوبه، فظهرت عورته، ثم رجع الثوب فى حينه وفوره أنه لا يضر ذلك المصلى شيئًا، وكذلك المأموم إذا رأى من العورة مثل ذلك لا تنتقض صلاته؛ لأنه إنما يحرم النظر مع العمد ولا يحرم النظر فجأة، وإذا صحت صلاة الإمام فأحرى أن تصح صلاة المأموم، وقال ابن القاسم فى العتبية: إن فرط فى رد إزاره، فصلاته وصلاة من تأمل عورته باطل. قال المهلب: والاشتمال الذى أنكره الرسول هو اشتمال الصماء المنهى عنه، وهو أن يجلل نفسه بثوبه، لا يرفع شيئًا من جوانبه، ولا يمكنه إخراج يديه إلا من أسفله، فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك،(2/24)
فلذلك قال له النبى: (إن كان واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به) . وقوله: (ما السُّرَى يا جابر؟) ، إنما سأله عن سُراه إذ علم أنه لا يأتيه أحد ليلاً إلا لحاجة، فسأله عن ذلك، يدل على ذلك قول جابر: فأخبرته بحاجتى، وفيه طلب الحوائج بالليل من السلطان لخلاء موضعه وسره.
7 - باب الصَّلاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الثِّيَابِ يَنْسُجُهَا الْمَجُوس لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا. وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ، وَصَلَّى عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ. / 14 - فيه: المغيرة بن شعبة قال: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفَرٍ فَقَالَ: يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإدَاوَةَ، فَأَخَذْتُهَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا، فَضَاقَتْ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، فَتَوَضَّأَ، وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى) . فيه من الفقه: إباحة لبس ثياب المشركين؛ لأن الشام كانت ذلك الوقت دار كفر، وكان ذلك فى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت ثياب المشركين ضيقة الأكمام. واختلف العلماء فى الصلاة فى ثياب الكفار، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالصلاة فيما نسجوه، وكره مالك(2/25)
الصلاة فى ما لبسوه، وقال: إن صلى فيه فيعيد فى الوقت، وأجاز ذلك الكوفيون والثورى والشافعى، وقالوا: لا بأس بلباسها، وإن لم تغسل حتى يتبين فيها النجاسة، إلا أن أبا حنيفة، قال: أما السراويل، والأزر فأكره أن يلبسها المسلم إلا بعد الغسيل. وقال إسحاق: تُطهر جميع ثيابهم، وليس فى حديث الجبة الشامية ما يقطع به، وإن كان النبى غسلها قبل لباسه أم لا، فلا حجة فيه لواحد منهم، وأما صلاة الزهرى فى ثوب صبغ بالبول، فمعلوم أنه لم يصل فيه إلا بعد غسله وإنما على المرء أن يغسل ثوبه حتى يتيقن طهارته. وفيه: خدمة العالم فى السفر، وفيه إخراج اليد من أسفل الثوب إذا احتيج إلى ذلك. وفيه: لباس الثياب الضيقة الأكمام فى السفر، والثياب القصار كالأقبية وغيرها.
8 - باب كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا
/ 15 - فيه: جابر: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا (صلى الله عليه وسلم)) . بنيان الكعبة كان والنبى غلام قبل البعثة بمدة، وقيل: كان يومئذ ابن خمسة عشر عامًا، وقد بعثه الله بالرسالة إلى خلقه، وعلَّمه ما لم(2/26)
يكن يعلم، وأنزل عليه فى القرآن ما حمله أن يأمر: (ألا يطوف بالبيت عريانًا) ، ونسخ بذلك ما كانوا عليه من جاهليتهم من مسامحتهم فى النظر إلى العورات، وكان قد جبله الله على جميل الأخلاق وشريف الطباع، ألا ترى أنه غشى عليه وما رُئى بعد ذلك عريانًا. وفائدة هذا الحديث قوله: (فما رُئى بعد ذلك عريانًا) . ففيه أنه لا ينبغى التعرى للمرء بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشى عريانًا بحيث لا يأمن أعين الآدميين إلا ما رُخص فيه من رؤية الحلائل لأزواجهن عراةً. قال الطبرى: وقد حدثنا ابن حميد، عن هارون بن المغيرة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، وذكر الحديث وقال فيه: أنه لما سقط النبى (صلى الله عليه وسلم) نظر إلى السماء وأخذ إزاره، وقال: (نُهيت عن أن أمشى عريانًا) ، فقلت: (اكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون) . فدل هذا الحديث أنه لا يجوز التعرى فى الخلوة ولا لأعين الناس. وقيل: إنما مخرج القول منه لذلك الحال التى كان عليها، فحيث كانت قريش نساؤها ورجالها تنقل معه الحجارة، فقال: (نهيت أن أمشى عريانًا) ، فى مثل هذه الحالة ولو كان ذلك نهيًا من الله له(2/27)
عن التعرى فى كل مكان لكان قد نهاه عن التعرى للغسل من الجنابة فى الموضع الذى قد أمن أن يراه فيه أحد إلا الله، إذ كان المغتسل لا يجد بدًا من التعرى، ولكنه نُهى عن التعرى بحيث يراه أحد. وفى نهيه عليه السلام، عن المشى عريانًا بيان أنه لا يجوز القعود عريانًا فى موضع يكون معناه معنى الموضع الذى نهى فيه عن المشى عريانًا، وذلك القعود بحيث يراه من لا يحل له أن يرى عورته؛ فكان القعود عريانًا فى معنى المشى عريانًا، ولذلك نهى النبى عن دخول الحمام بغير إزار. فإن قيل: فما أنت قائل فى حديث القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أنه قال: (لو استطيع أن أوارى عورتى من شعارى لواريتُها) ، وفى قول على بن أبى طالب، رضى الله عنه: (إذا كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك) ، وفى قول أبى مجلز قال: قال أبو موسى الأشعرى: (إنى لأغتسل فى البيت المظلم فما أقيم صُلبى حياءً من ربى) . قال الطبرى: قيل له: حديث أبى أمامة إن صح عن الرسول، فهو منه محمول على وجه الاستحباب، لاستعمال السترة والندب لأمته إلى ذلك؛ وكذلك كان ذلك من على وأبى موسى لا على أنهما رأيا أن ذلك حرام؛ لأن الله لا يغيب عنه شىء من خلقه عراةً كانوا أو عليهم ثياب، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند(2/28)
الاغتسال ولو كان العبد إذا لم يقم صلبه استتر من جسده عن ربه شىء كان ذلك معنى صحيحًا؛ فأما وهو لو انطبق بعضه على بعض لم يغب شىء من أجزاء جسده عن عين ربه، تعالى ذكره، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند الاغتسال فى الخلوة حياءً من الله، تعالى، بل ذلك داعية إلى أن يكون سببًا لتضييع غسل بعض جسده أقرب منه إلى أن يكون حياءً من الله.
9 - باب الصَّلاةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالْقَبَاءِ
/ 16 - فيه: أبو هريرة: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ) . ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ: فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ. / 17 - وفيه: ابن عمر: سَأَلَ رَجُلٌ النبى (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلا السَّرَاوِيلَ وَلا الْبُرْنُسَ. . .) الحديث. قال المهلب: اللازم من الثياب فى الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر: (إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه. . .) ، يدل على ذلك، وجمع الثياب فى الصلاة اختيار واستحسان وعليه جماعة الفقهاء، والله أحق من تجمل له. وقول عمر: (فى تبان ورداء) ، يدل أن الرداء يشتمل فى الصلاة؛ لأنه لا يكون الرداء مع التبان والسراويل الكاملة إلا مشتملاً به، وقال الخليل: التبان يشبه سراويل صغير، تذكره العرب. وقد اختلف أصحاب مالك فيمن صلى فى سراويل وهو قادر(2/29)
على التبان؛ ففى المدونة: لا يعيد فى وقت ولا غيره، وفى المجموعة عن ابن القاسم مثله، وعن أشهب: عليه الإعادة فى الوقت؛ وعن أشهب أيضًا أن صلاته تامة إن كان صفيقًا. وقول عمر: (جمع رجل عليه ثيابه) ، يعنى ليجمع عليه ثيابه وليصلى فيها، فجاء بلفظ الفعل الماضى وهو يريد المستقبل، وذلك كثير فى التنزيل كقوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) [المائدة: 116] ، والمعنى: إذ يقول الله دل على ذلك قول عيسى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتنى) [المائدة: 117] ، فدل قوله: (فلما توفيتنى (أن هذا الكلام إنما يكون بعد وفاة عيسى ومبعثه يوم القيامة.
- باب مَا يَسْتُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ
/ 18 - فيه: أبو سعيد وأبو هريرة: أَنَّ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) . / 19 - وفيه: أبو هريرة قال: (بَعَثَنِي الرسول (صلى الله عليه وسلم) نُؤَذن يوم النحر بِمِنًى: أَنْ لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) . قال أبو عبيد: (اشتمال الصماء عند العرب: أن يشتمل الرجل بثوب فيجلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانبًا فيخرج منه يده، قال: وربما اضطجع فيه على هذه الحال، كأنه يذهب إلى أنه لا يدرى لعله يصيبه شىء يريد الاحتراس منه والاتقاء بيديه، فلا يقدر، لإدخالهما فى ثيابه، فهذا كلام العرب، وأما تفسير الفقهاء فهو عندهم مثل(2/30)
الاضطباع، وهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ويرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فرجه) . إلا أن الاضطباع أن يدخل الثوب تحت يده اليمنى، ويبرز منكبه الأيمن، وقد ذكر البخارى فى كتاب اللباس فى حديث أبى هريرة، وأبى سعيد عن النبى تفسير اشتمال الصماء والاحتباء؛ قال: (الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب) ، وهو نحو ما حكاه أبو عبيد عن الفقهاء؛ واختلف قول مالك فى اشتمال الصماء إذا كان تحتها ثوب فمرة أجازها ومرة كرهها. والاحتباء: هو أن يحتزم بالثوب على حقويه وركبتيه وفرجه بادٍ، كانت العرب تفعله؛ لأنه أرفق لها فى جلوسها، وفى حديث أبى سعيد، وأبى هريرة فى اللباس قال: الاحتباء أن يحتبى فى ثوب وهو جالس ليس على فرجه منه شىء. وقال الخطابى: الاحتباء أن يجمع ظهره ورجليه بثوب، يقال: العمائم تيجان العرب، والحباء حيطانها، يقال: حبْوَة، وحُبُوَة والكسر أعلى. والاحتباء على ثوب جائز؛ لأن رسول الله إنما نهى عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه. وكره الصلاة محتبيًا: ابن سيرين، وأجازها الحسن، والنخعى، وعروة، وسعيد بن المسيب، وعبيد بن عمير، وكان سعيد بن جبير يصلى محتبيًا فإذا أراد أن يركع حلّ حبوته ثم قام وركع، وصلى التطوع محتبيًا عطاء، وعمر بن عبد العزيز.(2/31)
واختلف العلماء فى حدِّ العورة، فقالت طائفة: لا عورة من الرجال إلا القبل والدبر، هذا قول ابن أبى ذئب وأهل الظاهر، وعند مالك حَدُّ العورة: ما بين السرة إلى الركبة وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبى ثور، وليست السُّرة والركبة عندهم بعورة غير أبى حنيفة، فإن الركبة عنده عورة، وهو قول عطاء، وأحمد، وعند بعض أصحاب الشافعى: السُّرة عورة. وجه القول الأول: (نهيه عن اشتمال الصماء، وأن يحتبى فى ثوب واحد ليس على فرجه منه شىء) ، وقوله تعالى: (قد أنزلنا عليكم لباسًا يوارى سوءاتكم) [الأعراف: 26] ، وقال: (فبدت لهما سوءاتهما) [الأعراف: 22] ، وقال: (يوارى سوءة أخيه) [المائدة: 31] ، فدل أنه لا عورة غير السوءة. وحجة من قال: ما بين السُّرة إلى الركبة عورة، قوله (صلى الله عليه وسلم) لجرهد: (الفخذ عورة) ، ومنعهم من كشف الفخذ كمنعهم من الرعى حول الحمى. وحجة من قال: إن السُّرة ليست بعورة أن النبى قبّل سُرة الحسن بن على، وأن أبا هريرة سأل الحسن كشف سُرته فقبلها، وقال: أقبل منك ما رأيت رسول الله يقبله، ولو كانت عورة ما قَبَّلها أبو هريرة ولا مكنه الحسن منها، وقال الآخرون: ليس هذا بحجة؛ لأن عورات الصبيان ليست بمحرمة؛ لأنه لا يلزمهم الأحكام والحدود.
- باب الصَّلاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ
/ 20 - فيه: جابر (أنه صلى فى ثوب واحد وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ،(2/32)
قُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، تُصَلِّي وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي هَكَذَا. كل من صلى بغير رداء إذا كان عليه قميص، فلا يكره له ذلك أحد من العلماء إلا أن مالكًا ذكر عنه ابن عبد الحكم أنه قال: لا يصلى إمام إلا برداء إلا من ضرورة وهذا على الاستحسان فى كمال أحوال الأئمة، ولو كان من جهة الوجوب، لكان الإمام والمأموم فيه سواء.
- باب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) الْفَخِذُ عَوْرَةٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: حَسَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ فَخِذِهِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وسلم) وَفَخِذُهُ، عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي. / 21 - فيه: أنس: أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَسَرَ الإزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ) ، وذكر الحديث. قال المؤلف: احتج بحديث أنس، وحديث زيد بن ثابت من قال: إن الفخذ ليست بعورة؛ لأنها لو كانت عورة يجب سترها ما كشفها النبى يوم خيبر، ولا تركها مكشوفة بحضرة أبى بكر وعمر، وقد قال الأوزاعى: (الفخذ عورة وليست بعورة فى الحمام) ، فدل أنها لا تقوى عندهم قوة العورة، وإن كانوا يأمرون بسترها.(2/33)
قال المهلب: وإنما ذلك خوف النظر إلى العورة والذريعة إليها، فيكون معنى قوله: (الفخذ عورة) ، على المقاربة والجوار، وقد أجمعوا أن من صلى منكشف القبل والدبر، أن عليه الإعادة واختلفوا فيمن صلى منكشف الفخذ، فدل أن حكمه مخالف لحكم القبل والدبر لاختلاف المعنى فى ذلك. فإن قال قائل: لم غطى النبى ركبته حين دخل عليه عثمان بن عفان؟ . قيل: قد بَيَّن النبى، معنى ذلك بقوله: (ألا أستحى ممن تستحيى منه ملائكة السماء) ، وإنما كان يخص كل واحد من أصحابه من الفضائل بما يتبين به عن غيره، ويمتاز به عمن سواه، وإن كان قد شركه غيره من أصحابه فى معنى تلك الفضيلة، وله النصيب الوافر منها غير أنه عليه السلام، إنما كان يصف كل واحد من أصحابه بما هو الغالب عليه من أخلاقه وهو مشهور فيه؛: فلما كان الحياء الغالب على عثمان استحيا منه، وغطى ركبته بحضرته، وذكر أن الملائكة تستحيى منه فكانت المجازاة له من جنس فعله.
- باب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ من الثِّيَابِ؟
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ جَازَ. / 22 - فيه: عائشة قالت: (لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الْفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) .(2/34)
اختلف العلماء فى عدد ما تصلى فيه المرأة من اليثاب، فقالت طائفة: تصلى فى درع وخمار، وروى ذلك عن ميمونة، وعائشة، وأم سلمة أزواج الرسول، ورُوى أيضًا ذلك عن ابن عباس، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالت طائفة: إنما تصلى فى ثلاثة أثواب: درع، وخمار، وحَقْو، وهو الإزار فى لغة الأنصار، روى ذلك عن ابن عمر، وعبيدة، وعطاء، وقالت طائفة: تصلى فى أربعة أثواب وهو: الخمار، والدرع، والإزار، والملحفة، وروى ذلك عن مجاهد، وابن سيرين. وقال ابن المنذر: على المرأة أن تستر فى الصلاة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها سواء سترته بثوب واحد أو أكثر، ولا أحسب ما روى عن المتقدمين فى ذلك من الأمر بثلاثة أثواب أو أربعة إلا من طريق الاستحباب، والله أعلم. قال غيره: لأن صلاة النساء المتلفعات مع النبى يحتمل أن تكون بثوب واحد والمرأة كلها عورة، حاشا ما يجوز لها كشفه فى الصلاة والحج، وذلك وجهها وكفاها فإن المرأة لا تلبس القفازين محرمة، ولا تنتقب فى الصلاة ولا تتبرقع فى الحج، وأجمعوا أنها لا تصلى منتقبة ولا متبرقعة، وفى هذا أوضح دليل على أن وجهها وكفيها ليس بعورة، ولهذا يجوز النظر إلى وجهها فى الشهادة عليها، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: كل شىء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهذا قول لا نعلم أحدًا قاله إلا أحمد بن حنبل، وقال مالك، والشافعى: قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فى الوقت عند مالك، وكذلك إن صلت وشعرها مكشوف، وعند الشافعى تعيد أبدًا، وقال أبو حنيفة، والثورى: قدم المرأة ليست بعورة، فإن صلت(2/35)
وقدمها مكشوفة لم تُعد، واختلفوا فى تأويل قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور: 31] ، فروى عن ابن عباس، وابن عمر قالا: الوجه والكفان، وعن ابن مسعود: التبان، والقرط، والدملج، والخلخال، والقلادة، وعلى قول ابن عباس، وابن عمر جماعة الفقهاء. والمروط: أكسية من صوف، واحدها مرط.
- باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلامٌ وَنَظَرَ إِلَيهَا
/ 23 - فيه: عائشة: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَائَتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي) ، وقال مرة: (كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاةِ، فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِى) . قال المؤلف: النظر فى الصلاة إلى الشىء إذا لم يقدح فى الركوع والسجود لا يفسد الصلاة، وإن كان مكروهًا كل ما يشغل المصلى عن صلاته ويلهيه عن الخشوع، فلما شغلته عليه السلام، عن بعض خشوعه تشاءم بها وردها، وقال سفيان بن عيينة: إنما رد رسول الله الخميصة إلى أبى جهم؛ لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن ذكر الله، كما قال: (اخرجوا عن هذا الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة، فإنه وادٍ به شيطان) ، قال: ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليبعث إلى غيره بشىء يكرهه لنفسه؛ ألا ترى قوله عليه السلام، لعائشة فى الضب: (إنا لا نتصدق بما لا نأكل) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقوى(2/36)
خلق الله على دفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع الوسوسة كما قال لعائشة: (أميطى عنا قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لى فى صلاتى) . وفى ردّه (صلى الله عليه وسلم) الخميصة تنبيه منه وإعلام أنه يجب على أبى جهم من اجتنابها فى الصلاة مثلما وجب على النبى؛ لأن أبا جهم أحرى أن يعرض له من الشغل بها أكثر مما خشى الرسول، ولم يُرد النبى برد الخميصة عليه منعه من تملكها ولباسها فى غير الصلاة، وإنما معناها كمعنى الحُلة التى أهداها لعمر بن الخطاب، وحرَّم عليه لباسها وأباح له الانتقاع بها وبيعها. وفيه دليل: أن الواهب والمُهدى إذا ردت عليه هديته من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها؛ إذ لا عار عليه فى قبولها. وفيه: أن النبى آنس أبا جهم ردها إليه بأن سأله ثوبًا مكانها يعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافًا به، ولا كراهة لكسبه. وفيه: تكنية الإمام والعالم لمن هو دونه. قال أبو عبيد: و (الخميصة) كساء مُرَبَّع أسود له علمان، وقال ثعلب: (أنبجانية) ، بفتح الباء وكسرها، كل ما كثف والتف، قالوا: شاة أنبجانية كثيرة الصوف ملتفة، وقال الأصمعى: يقال: كساء منبجانى منسوب إلى منبج، ولا يقال: أنبجانى، قال أبو حاتم: قلت: لم فتحت الباء وإنما نسبت إلى منبج، قال: خرج مخرج منظرانى ومخيرانى ألا ترى أن الزيادة فيه، والنسب مما يتغير له البناء.(2/37)
- باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلاتُهُ وَمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ
/ 24 - فيه: أنس قال: (كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاتِى) . فهذا الباب يشبه الذى قبله؛ لأنه لما نهى عن القرام الذى فيه التصاوير، علم أن النهى عن لباسه أشد وأوكد، وهذا كله على الكراهية، ومن صلى بذلك أو نظر إليه، فصلاته مجزئة عند العلماء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يُعد الصلاة. قال المهلب: وإنما أمر باجتناب مثل هذا لإحضار الخشوع فى الصلاة وقطع دواعى الشغل، والقرام: ثوب صوف ملوّن، عن الخليل.
- باب مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ
/ 25 - فيه: عقبة بن عامر قال: (أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: لا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) . قال أبو عبيد: الفروج: القَبَاء الذى فيه شق من خلفه، وهو من لباس الأعاجم. اختلف العلماء فيمن صلى فى ثوب حرير، فقال الشافعى، وأبو ثور: يجزئه ويكره، وقال ابن القاسم، عن مالك: من صلى بثوب حرير يعيد فى الوقت إن وجد ثوبًا غيره، وعليه جُلُّ أصحابه، وقال أشهب فى كتاب ابن المواز: لا إعادة عليه فى وقت ولا غيره.(2/38)
وهو قول أصبغ، ورواه عبد الملك بن الحسن، عن ابن وهب فى العتبية، واستحب ابن الماجشون لباس الحرير فى الحرب والصلاة به للترهيب على العدو والمباهاة؛ ذكره ابن حبيب، وقال آخرون: إن صلى بثوب حرير، وهو يعلم أن ذلك لا يجوز أعاد الصلاة، ومن أجاز الصلاة فيه احتج بأنه لم يُرو عن الرسول أنه أعاد الصلاة التى صلى فيه، ومن لم يجز الصلاة فيه أخذ بعموم تحريمه عليه السلام، لباس الحرير للرجال.
- باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الأحْمَرِ
/ 26 - فيه: أبو جحيفة: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، وَرَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ عَنَزَةً، فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مُشَمِّرًا صَلَّى إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ، يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَنَزَةِ) . قال المهلب: فيه إباحة لباس الحمرة فى الثياب، والرد على من كره ذلك وأنه يجوز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير والزاهد فى الدنيا، والحمرة أشهر الملونات وأجل الزينة فى الدنيا، وقد قيل فى قوله تعالى: (فخرج على قومه فى زينته) [القصص: 79] ، أنه خرج فى ثياب حُمر، ويؤيد هذا قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله) [الأعراف: 32] ، فدخل فيه كل(2/39)
زينة مباحة، وسيأتى قول من كره لباس الثياب الحمر، ومن أجازها فى كتاب اللباس إن شاء الله.
- باب الصَّلاةِ فِي السُّطُوحِ وَالْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجُمْدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِنْ جَرَى تَحْتَهَا بَوْلٌ أَوْ فَوْقَهَا أَوْ أَمَامَهَا، إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ. وَصَلَّى أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلاةِ الإمَامِ وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى الثَّلْجِ. / 27 - فيه: أبو حازم: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ الْمِنْبَرُ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ أَعْلَمُ مِنِّي، هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلانٌ مَوْلَى فُلانَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ عُمِلَ، وَوُضِعَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ كَبَّرَ، وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ بِالأرْضِ، فَهَذَا شَأْنُهُ. قال على بن المدينى: سألنى أحمد بن حنبل، عن هذا الحديث قال: فإنما أردت أن النبى كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس لهذا الحديث، قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرًا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا. / 28 - وفيه أنس: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَقَطَ عَنْ فَرَسِ، فَجُحِشَتْ سَاقُهُ أَوْ كَتِفُهُ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ) ، وذكر الحديث. اختلف العلماء فى الإمام يصلى أرفع من المأمومين، فأجاز ذلك(2/40)
الليث، والشافعى، واحتجا بهذا الحديث وزاد الشافعى: إذا أراد الإمام تعليمهم ليقتدى به من وراءه ويسجد على الأرض. وفيه: فلما فرغ النبى أقبل على الناس، فقال: (أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى) . ذكره البخارى فى صلاة الجمعة وكره ذلك أبو حنيفة، وقال: صلاتهم تامة. وقال الأوزاعى: لا يجزئ ذلك حتى يستوى معهم بالأرض، وقال أبو يوسف: إن كان موضع الإمام أرفع بقدر قامة فهو المكروه، وإن كان أقل فليس بمكروه. وقد قيل: إن المنبر الذى صلى عليه الرسول كان بثلاث درجات، روى عن سهل بن سعد، وقال مالك: لا يعجبنى إن صلى إمام على ظهر المسجد والناس أسفل منه أو يصلى على شىء أرفع مما عليه أصحابه، فإن فعل فعليهم الإعادة أبدًا؛ لأنهم يعبثون إلا أن يكون ارتفاعًا يسيرًا فصلاتهم مجزئة. وقال ابن أبى زيد: قال بعض أصحابنا: إن الشبر وعظم الذراع خفيف فى ذلك، وقال فضل بن سلمة: وقوله: يعبثون يدل أنما ذلك إذا كان الإمام يصلى بموضع واسع ويصلى بصلاته ناس أسفل منه، وهو يقدرون على أن يصلوا معه فى مكانه، فأما إذا كان الموضع قد ضاق بأهله فلا بأس أن يصلى بصلاة الإمام ناس أسفل منه، وروى أشهب عن مالك، فيمن أتى مسجدًا مغلقًا قد امتلأ، فله أن يصلى أسفل فى الفضاء بصلاة الإمام، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا صلى إمام القوم فى السفينة وبعضهم فوقه وتحته ولم يجدوا بُدًا منه فلا بأس.(2/41)
قال ابن اللباد: إنما كره مالك هذا؛ لأن بنى أمية فعلوه على وجه الكبر والجبرية فرآه من العبث ومما يفسد الصلاة، وقال غيره: لا معنى لقول من قال: (لا يجوز مثل هذا إلا إذا أراد أن يعلم الناس كما روى فى الحديث) ؛ لأن ذلك لو كان مُفسدًا للصلاة لم يجز أن يُفعل مرة فما دونها ولا لتعليم ولا غيره، وإنما الاختيار أن لا يُفعل، فإن فعل لم تفسد صلاته بدليل فعله صلى الله عليه مرةً، وأما تحديد القامة وغيرها فمحتاج إلى توقيف، ولا بأس أن يصلى المأموم على سطح والإمام أسفل المسجد عند الكوفيين، وهو قول مالك فى غير الجمعة. وقال الليث: لا بأس أن يصلى الجمعة ركعتين على ظهر المسجد وفى الدور وعلى الدكاكين، وفى الطرق إذا اتصلت الصفوف، ورأى الناس بعضهم بعضًا حتى يصلون بصلاة الإمام، وعن الشافعى مثله، وصلى أبو هريرة الجمعة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام. وإنما ذكر حديث المشربة فى هذا الباب وهى الغرفة؛ لأنه عليه السلام صلى بهم على ألواحها وخشبها، وترجم (باب الصلاة على الخشب) ، واختلف فى ذلك؛ فذكر ابن أبى شيبة قال: كان حذيفة مريضًا، فكان يصلى قاعدًا فجعل له وسادة وجعل له لوح عليها يسجد عليه، وكره قوم السجود على العود، روى ذلك عن ابن عمر، وابن مسعود. قال علقمة: دخل عبد الله على أخيه عتبة يعوده فوجده يصلى على عود فطرحه، وقال: إن هذا شىء عرض به الشيطان، ضع وجهك على الأرض، وإن لم تستطع فأومئ إيماءً، وكرهه الحسن وابن سيرين، وأئمة الفتوى على جواز الصلاة عليه وحجتهم صلاته عليه السلام، على المشربة وعلى المنبر.(2/42)
- باب إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَدَ
/ 29 - فيه: ميمونة قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَأَنَا حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ، قَالَتْ: وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ) . وقد تقدم فى كتاب الوضوء جواز مباشرة الحائض للمصلى وغيره وأنها محمولة على الطهارة فى جسمها وثيابها حتى يبدو خلاف ذلك. وترجم له باب: الصلاة على الخمرة، قال الطبرى: الخُمرة: مصلى صغير ينسج من سعف النخل ويزمل بالخيوط ويسجد عليه، فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكبر، فإنه يقال له حينئذ: حصير، ولا يقال له: خمرة، وقال ابن دريد: هى السجادة وجمعها خمر. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار فى جواز الصلاة على الخمرة إلا شىء روى عن عمر ابن عبد العزيز أنه كان لا يصلى على الخمرة، ويؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فى موضع سجوده ويسجد عليه، وقال شعبة، عن حماد: رأيت فى بيت إبراهيم النخعى حصيرًا، فقلت: أتسجد عليه؟ فقال: الأرض أحب إلىّ، وهذا منهما على جهة المبالغة فى الخشوع لا أنهما لم يريا السجود على الخمرة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد صلى عليها، وقال سعيد بن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، فلا يجوز لهما مخالفة سنته عليه السلام، وإنما فعلا ذلك على الاختيار، إذ قد ثبت عنه عليه السلام، أنه كان يباشر الأرض بوجهه فى سجوده، وقد انصرف من الصلاة وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين؛ فذلك كله مباح بسنته عليه السلام.(2/43)
- باب الصَّلاةِ عَلَى الْحَصِيرِ
وَصَلَّى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: (تُصَلِّى قَائِمًا، مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ، تَدُورُ مَعَهَا، وَإِلا فَقَاعِدًا) . / 30 - فيه: أنس: (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: قُومُوا، فَلأصَلِّ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَصَفَفْتُ، وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ) . لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلاة على الحصير على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا. قال المهلب: وفيه أنه ما يوطأ ويبسط فإنه ملبوس، فمن حلف أن لا يلبس ثوبًا وجلس عليه، فهو حانث إذا لم يخص وجهًا من اللباس. ونضح أنس للحصير إنما كان لِيَلينَ، لا لنجاسة كانت فيه، هذا قول إسماعيل بن إسحاق، وقال غيره: النضح طهارة لما شك فيه فنضحه لتطيب النفس عليه، وهذا كقول عمر: اغسل ما رأيت وانضح ما لم تر. قال المهلب: وفيه الإمامة فى النافلة، وفيه إجابة الطعام إلى غير الوليمة، وفيه أن المرأة المتجالة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى موضعه بعد هذا، إن شاء الله.(2/44)
وأما الصلاة فى السفينة، فأجاز قوم من السلف أن يصلوا فيها جلوسًا وهو قول الثورة وأبى حنيفة، وقال مالك، والشافعى: لا يجوز أن يصلى قاعدًا من يقدر على القيام فى سفينة ولا غيرها.
- باب الصَّلاةِ عَلَى الْفِرَاشِ
وَصَلَّى أَنَسٌ عَلَى فِرَاشِهِ. وَقَالَ كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَسْجُدُ أَحَدُنَا عَلَى ثَوْبِهِ. / 31 - فيه: عائشة أنها قالت: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ) . / 32 - وقالت مرة: (أَنَّ النَّبِّى كَانَ يُصَلِّي - وَهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ) . / 33 - وقال عروة: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي، وَعَائِشَةُ - مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ - عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ عَلَيْهِ) . قال المؤلف: الصلاة جائزة على كل شىء طاهر فراشًا كان أو غيره. وقد اختلف العلماء فى اختيارهم بعض ما يصلى عليه دون غيره، فروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه صلى على عبقرى وهى الطنفسة، وعن على بن أبى طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس أنهم صلوا على المسوح، وصلى ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، والنخعى، والحسن على طنفسة.(2/45)
وصلى قيس بن عبادة على لِبْدِ دابة، وقال الثورى: يصلى على البساط والطنفسة واللِّبْد، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن مسعود أنه لا يسجد إلا على الأرض، وعن عروة مثله، وكرهت طائفة الصلاة إلا على الأرض أو نباتها، روى ذلك عن جابر بن زيد وقال: أكره الصلاة على كل شىء من الحيوان، وأستحب الصلاة على كل شىء من نبات الأرض، وهو قول مجاهد، وقال قتادة: قال سعيد بن المسيب: الصلاة على الطنفسة محدث، وقاله ابن سيرين أيضًا، وقال مالك فى بساط الصوف والشعر: إذا وضع المصلى جبهته ويديه على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسًا، وعن عطاء مثله. وقال مغيرة: قلت لإبراهيم حين ذكر كراهية الصلاة على الطنفسة: إن أبا وائل يصلى عليها، قال: أما إنه خير منى. وفيه من الفقه: أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشدّ من مرورها. وقولها: (ورجلاى فى قبلته فإذا سجد غمزنى) ، فيه دليل على أن الملامسة باليد لا تنقض الطهارة؛ لأن الأصل فى الرِّجْل أن تكون بلا حائل، وكذلك اليد حتى يثبت الحائل، وزعم الشافعى أن غمز رسول الله لها كان على ثوب وهو بعيد؛ لأنه يقول: إن الملامسة تنقض الوضوء وإن لم تكن معها لذة إذا أفضى بيده إلى جسم امرأته، وقد تقدم اختلافهم فى الملامسة فأغنى عن إعادته. وقول عائشة: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) ، يدل أنه إذْ حدثت بهذا الحديث كانت المصابيح فى بيوتهم؛ لأن الله فتح عليهم الدنيا بعده (صلى الله عليه وسلم) فوسعوا على أنفسهم حين وسع الله عليهم.(2/46)
- باب السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ. / 34 - فيه: أنس: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ) . واختلف العلماء فى السجود على الثوب من شدة الحر والبرد، فرخص فى ذلك عمر ابن الخطاب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والشعبى، والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقال الشافعى: لا يجزئه السجود على الجبهة ودونها ثوب إلا أن يكون جريحًا، ورخص فى وضع اليدين على الثوب من شدة الحرِّ والبرد. واختلفوا فى السجود على كور العمامة، فرخص فيه: ابنُ أبى أوفى، والحسن، ومكحول، وسعيد بن المسيب، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، وقال مالك: أكرهه ويجوز، وقال ابن حبيب: هذا فيما خف من طاقاتها، فأما ما كثر فهو كمن لم يسجد، وكره على، وابن عمر، وعبادةُ السجود عليها، وعن النخعى، وابن سيرين، وعبيدة مثله. وقال الشافعى: لا يجزئ السجود عليها، وقال أحمد: لا يعجبنى إلا فى الحر والبرد، واحتج أصحاب الشافعى: بأنه لما لم يقم المسح على العمامة مقام مسح الرأس وجب أن يكون السجود كذلك. قال ابن القصار: والجواب أن الفرض فى السجود: التذلل(2/47)
والخشوع، فيكون العضو على الأرض وهو يحصل بحائل وبغير حائل، على أن اعتبارهم يفسده الرجلين؛ لأنه يسجد عليهما فى اللفافة والمسح عليهما لا يجوز، وقد أجمعوا أنه يجوز السجود على الركبتين والقدمان مستورة بالثياب، وهى بعض الأعضاء التى أمر المصلى بالسجود عليها، فكذلك سائر أعضاء السجود إلا ما أجمعوا عليه من كشف الوجه. فإن قالوا: لو جوزنا السجود على كور العمامة على حصير لجوزنا الجمع بين بدلين أحدهما الحصير الذى هو بدل الأرض والآخر العمامة التى هى بدل الجبهة ولا يصح الجمع بين بدلين فى موضع، ألا ترى أن التيمم بدل الماء ومسح الخفين بدل الرجلين، ولا يجوز الجمع بينهما، قيل: هذا ساقط لأننا لا نقول: إن الحصير بدل من الأرض، وإن العمامة بدل من الجبهة، بل هو مخير إن شاء باشر بجبهته الأرض، وإن شاء بحائل على جبهته وعلى الأرض، والمسح على الخفين هو مخير فيه أيضًا إن شاء مسح، وإن شاء غسل كالسجود، وليس التيمم كذلك وليس بدلاً، وكل حائل جاز السجود عليه منفصلاً جاز متصلاً، دليله: الركبتان والقدمان. وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض التابعين، وسيأتى بعض هذا المعنى فى باب: لا يكف شعرًا ولا ثوبًا فى الصلاة بعد هذا، إن شاء الله.(2/48)
- باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ
/ 35 - فيه: حُذَيْفَةَ: (أنه رَأَى رَجُلاً لا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ، قَالَ: لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ) . قال المهلب: قوله: (ما صليت) ، يعنى صلاة كاملة، ونفى عنه العمل؛ لقلة التجويد فيه، كما تقول للصانع إذا لم يجود: ما صنعت شيئًا، يريدون الكمال، ومثله قول الرسول للذى لم يحسن الصلاة: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، وإنما نقص من صلاته الطمأنينة فى الركوع والسجود وهى من كمال الصلاة. وقوله: (لو متَّ متَّ على غير سنة محمد) ، يدل أن الطمأنينة سنة، وسيأتى تمام هذا المعنى فى أبواب الركوع والسجود.
- باب الصَّلاةِ فِي النِّعَالِ
/ 36 - فيه: أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ) . قال المؤلف: معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لم يكن فى النعلين نجاسة فلا بأس بالصلاة فيهما، فإن كان فيهما نجاسة فليمسحهما وليصلى فيهما. وقد روى هذا المعنى عن النبى، روى حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو نعامة السعدى، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (بينما رسول الله يصلى إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره، فلما رأى الناس ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلاته، قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟) ، قالوا: رأيناك ألقيت(2/49)
نعليك فألقينا، قال: (إن جبريل أخبرنى أن فيهما أذى، أو قذرًا، فألقيتهما فإذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن كان فيهما أذى أو قذرًا فليمسحه وليصل فيهما) . واختلف العلماء فى تطهير النعال والخفين من النجاسات، فقالت طائفة: إذا وطئ القذر الرطب يجزئه أن يمسحه بالتراب ويصلى فيه هذا قول الأوزاعى، وأبى ثور. وقال أحمد فى السيف يصيبه الدم، فيمسحه وهو حار: يصلى فيه إذا لم يبق فيه أثر، وكان عروة، والنخعى يمسحان الروث من نعالهما ويصليان فيها. وقال الأعمش: رأيت يحيى بن وثاب، وعبد الله بن عياش وغيرهما يخوضون الماء قد خالطه السرقين والبول، فإذا انتهوا إلى باب المسجد لم يزيدوا على أن ينفضوا أقدامهم ثم يدخلون فى الصلاة. وقالت طائفة: لا يجزئه أن يطهر القذر الرطب إلا بالماء، وإن كان يابسًا أجزأه حَكُّهُ، هذا قول مالك وأبى حنيفة، وقال محمد: لا يجزئه فى اليابس أيضًا حتى يغسل موضعه من الخف والنعل وغيره إلا المنى خاصة، وقال الشافعى: لا يطهر النجاسات كلها إلا الماء فى النعل والخف وغيره. واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا بحديث سعيد المقبرى، عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة قالت: (سألت رسول الله عن الرجل يطأ بنعليه(2/50)
الأذى قال: (التراب له طهور) ، وحديث سعيد بن أبى سعيد: أن امرأة سألت عائشة عن المرأة تجرُّ ذيلها فى المكان القذر، قالت: (يطهره ما بعده) . وقال ابن أبى زيد: قال أبو بكر بن اللباد: قال بعض أصحابنا: معنى قوله: (يطهره ما بعده) ، أنها تسحب ذيلها على أرض ندية نجسة، وقد رخص لها أن ترخيه بعد ذلك على أرض طاهرة فذلك له طهور، قال مالك: معناه عندنا فى القشب اليابس الذى لا يتعلق منه شىء، وقد سمح فى الرطب من أرواث الدواب وأبوالها لما يلحق الناس من المضرة فى غسله فى كل وقت، إذ لا تخلو الطرق من أرواث الدواب وأبوالها. وقال الداودى: قال بعض أصحاب مالك بظاهر الحديث، ورأى ذلك فى الرطب واليابس، وذكر غير الداودى أنه قول ابن وهب قال: وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه؛ لأنه يقول: إن النجاسات يجوز إزالتها بكل ما أذهب عينها، والماء وغيره فى ذلك سواء، واحتج من قال: إنه فى القذر الرطب: بأن قوله (صلى الله عليه وسلم) : (يطهره ما بعده) ، يدل أنها جرته على رطب، وإلا فنحن عالمون أنها إذا جرته على يابس لم يعلق به شىء من النجس، فكيف يخبر أنه قد طهر ما لم يحل فيه نجاسة.
- باب الصَّلاةِ فِي الْخِفَافِ
/ 37 - فيه: جَرِيرَ: (أنه بَالَ، وتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى، فَسُئِلَ، فَقَالَ:(2/51)
رَأَيْتُ الرسولَ (صلى الله عليه وسلم) صَنَعَ مِثْلَ هَذَا، وكَانَ يُعْجِبُهُمْ؛ لأنَّ جَرِيرًا كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) . / 38 - وفيه: حديث الْمُغِيرَةِ: (أن نَبِيَّ الله مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثم صَلَّى) . وهذا الباب كالذى قبله إذا كانت الخفاف طاهرة من الأقذار والأذى، فحينئذ يجوز المسح عليها والصلاة فيها، وإن كان فيها قذر فحكمها حكم النعلين المذكورة فى الباب قبل هذا، هذا مذهب العلماء فى ذلك. وأما إعجابهم بأن جريرًا كان من آخر من أسلم؛ فلأن بعض الناس يزعم أن المسح على الخفين منسوخ بالغسل فى آية الوضوء التى فى المائدة، وقد روى فى حديث جرير أنه كان يعجبهم؛ لأنه أسلم بعد نزول المائدة، فاستعمال جرير للمسح على الخفين بعد نزول المائدة يدل على أن المسح غير منسوخ بل هو سنة، وقد ذكرت هذا المعنى فى كتاب الوضوء فى باب: المسح على الخفين.
- فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
/ 39 - فيه: أنس: قال نبى الله: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) . / 40 - وقال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) .(2/52)
هذا يدل على تعظيم شأن القبلة وهى من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا فلا صلاة له، ومن لا صلاة له فلا دين له. قال الطبرى: فإن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد علمت أن أجناسًا من أهل الكفر أمرنا بقتالهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. قيل: قد جاء فى بعض طرق هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ، وحديث هذا الباب إنما قاله عليه السلام، فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وكانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، فدعاهم النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلاً فى صبغة الإسلام، وقاتل آخرين من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ، وذلك أن كفرهم كان جحدًا بالنبوة فمن أقر بما عليه قوتل، فقد حرم دمه وماله إلا بظهور نقض شرائط ما أقرَّ به بعد الإقرار بجملته، وذلك هو الحق الذى قال (صلى الله عليه وسلم) : (إلا بحقها) ، ولو أن أهل الأوثان وَحَّدَ بعضهم وشهد أن لا إله إلا الله، وحكم له بحكم الإسلام فى منع نفسه وماله، ثم عرضت عليه شرائع الإسلام بعد ذلك، فامتنع من الإقرار برسول الله كان لا شك بالله(2/53)
كافرًا، وعاد حربيًا، وكذلك الذى أقر بنبوة محمد لو أنكر شيئًا من الفرائض حلّ دمه وعاد حربيًا كافرًا.
- باب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ وَالْمَشْرِقِ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلا فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ
، لِقَوْلِ الرَّسُول: (لا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) . / 41 - فيه: أبو أيوب الأنصارى أن نبى الله قَالَ: (إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. قال المؤلف: قوله: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، يعنى: وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام فى الأمر بالانحراف عند الغائط؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، وهؤلاء أمروا بالتشريق والتغريب واستعمال هذا الحديث. وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المارِّ عليها من مشرقها إلى مغربها، فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة وإذا غربوا استقبلوا، وكذلك من كان موازيًا لمغرب مكة إن غرب استدبر القبلة وإن شرق استقبلها، وإنما ينحرف إلى الجنوب أو الشمال،(2/54)
فهذا هو تغريبه وتشريقه، ولم يذكر البخارى مغرب الأرض كلها؛ إذ العلة فيها مشتركة مع المشرق فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب؛ لأن المشرق أكبر الأرض المعمورة وبلاد الإسلام فى جهة مغرب الشمس قليل. وتقدير الترجمة: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب، ليس فى المشرق ولا فى المغرب يعنى أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا مواجهين القبلة ولا مستدبرين لها. فإن قال قائل: (كيف يكون قوله: ليس فى المشرق والمغرب) ، بمعنى التشريق والتغريب؟ . قيل: هذا صحيح فى لغة العرب ومعروف عندهم. أنشد ثعلب فى المجالس: أبعد مغربهم نجدًا وساحتها أرجو من الدمع تغييضًا وإقلاعًا قال ثعلب: معناه أبعد تغريبهم. وحمل أبو أيوب الحديث على العموم فى الصحارى وغيرها، وخالفه غيره لحديث ابن عمر، وقد تقدم ما للعلماء فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته.
- باب قَوْلِهِ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة 125]
/ 42 - فيه: ابن عمر: (أن النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) قَدِمَ إلى الْبَيْتِ فطاف به سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ) . / 43 - وفيه: أن بلالاً قال: (صَلَّى النَّبِيُّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ، إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ) .(2/55)
/ 44 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ: (لَمَّا دَخَلَ الرسول الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ، حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ) . اختلف أهل التأويل فى قوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: 125] ، فقال ابن عباس: الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد: الحرم كله مقام إبراهيم، وقال عطاء: مقام إبراهيم: عرفة والمزدلفة، والجدار، والجمار فى أخرى، وقال السُدى: هو الحجر بعينه الذى وقف عليه إبراهيم. واختلفوا فى قوله: (مصلى (، فقال مجاهد: مَدْعَى، كأنه أخذه من صليت بمعنى دعوت، وقال الحسن: قبلة، وقال قتادة والسدى: أمروا أن يصلوا عنده. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى تأويل هذه الآية، واختلفت الآثار فى صلاته عليه السلام، فروى ابن عمر أنه عليه السلام، صلى عند المقام ركعتين، وقال بلال: إنه صلى فى الكعبة ثم خرج فصلى فى وجه الكعبة ركعتين، وقال ابن عباس: إنه صلى ركعتين فى قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة، أردنا أن نعلم الصحيح من ذلك، فوجدنا ابن عباس قال: الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد: الحرم كله، ووجدنا من صلى إلى الكعبة من الجهات الثلاث التى لا تقابل مقام إبراهيم، فقج أدى فرضه علمنا أن الفرض فى القبلة إنما هو البيت لا مقام إبراهيم، ويشهد لذلك قول ابن عباس أنه صلى حين صلى(2/56)
خارج البيت قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة، لم يستقبل المقام، وكذلك حين صلى فى البيت على ما رواه بلال لم يستقبل المقام، وإنما يكون المقام قبلة إذا جعله المصلِّى بينه وبين القبلة على ما جاء فى حديث ابن عمر، وأجمع العلماء أن الكعبة كلها قبلة من أى ناحية استقبلت. وأما اختلاف الآثار أنه صلى فى البيت وأنه لم يصل، فالآثار أنه صلى أكثر، ولو تساوت فى الكثرة لكان الأخذ بالمثبت أولى من النافى على ما يقوله العلماء فى الشهادات. فقد روى أنه عليه السلام صلى فى البيت غير بلال جماعة منهم: أسامة بن زيد، وعمر ابن الخطاب، وجابر، وشيبة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، من طرقٍ حسان ذكرها الطحاوى كلها فى شرح معانى الآثار. وقال المهلب: ويحتمل أن يكون عليه السلام دخل البيت مرتين، فالمرة الواحدة صلى فيه، والمرة الأخرى دعا ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار فى ذلك. وقد اختلف العلماء فى الصلاة فى البيت وعلى ظهر الكعبة، فقال أبو حنيفة، والشافعى: يصلى فيه الفريضة والنافلة، وقال مالك: لا يصلى فيه الفريضة ولا ركعتى الطواف الواجب، فإن صلى أعاد فى الوقت، ويجوز أن يصلى فيه النافلة، وقال الطبرى: لا تصلى فيه فريضة ولا نافلة، وحجة مالك قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144، 150] ، وهى قبالته، ومن صلى فى جوف الكعبة لم يقابل شطرها؛ لأنه يحصل مستقبلاً للبعض مستدبرًا للبعض ولا تحصل كلها قبالته إلا أن يكون خارجًا منها.(2/57)
وحجة أبى حنيفة، والشافعى أنه من صلى خارجًا منها، فإنه يستقبل بعضها، وصلاته جائزة بإجماع؛ لأن ما عن يمين ما استقبل من البيت وما عن يساره ليس هو مستقبله، فلم يتعبد باستقبال كل جهاته، فكان النظر على ذلك أن كل من صلى فيه، فقد استقبل إحدى جهاته وترك غيرها، وما ترك من ذلك فهو فى حكم ما كان عن يمينه وشماله إذا كان خارجًا منه، فثبت قول من أجاز الصلاة فيها، هذا قول أبى جعفر الطحاوى.
- باب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ) . / 45 - فيه: البراء: (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [البقرة 144] ، فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ - وَهُمُ الْيَهُودُ -: (مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة 142] الآية، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأنْصَارِ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ يصلون نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ) . / 46 - وفيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ نبى اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ به، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ، نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) . / 47 - وفيه: ابن مسعود قال: صلى النبى، عليه السلام، قال إبراهيم:(2/58)
لا أَدْرِي أزَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: (إِنَّهُ، لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ ليَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) . قال المؤلف: قال ابن جريج: صلى نبى الله أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس، فصلت الأنصار إلى نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث حجج، وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرًا، ثم وجهه الله إلى الكعبة البيت الحرام. وروى أبو عوانة عن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (صلى رسول الله نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا ثم صرف إلى الكعبة) . وقال ابن إسحاق: (كانت قبلة رسول الله بمكة إلى الشام، وكانت صلاته بين الركن اليمانى والركن الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين الشام) . وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس: (أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرًا، ثم انصرف إلى الكعبة) . ففى خبر على بن أبى طلحة، عن ابن عباس أنه عليه السلام، لم يصل إلى بيت المقدس إلا بالمدينة خلاف ما فى خبر مجاهد عنه، وخلاف(2/59)
ما قال ابن جريج، وخبر مجاهد أولى بالصواب؛ لأن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس. وقال قتادة: كان نبى الله يقلب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله إلى الكعبة، حتى صرفه الله إليها، فأنزل تعالى: (قد نرى تقلب وجهك فى السماء (إلى) المسجد الحرام) [البقرة: 144] ، فارتاب اليهود، وقالوا: (ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها) [البقرة: 142] ، يعنون بيت المقدس، فأنزل الله: (قل لله المشرق والمغرب) [البقرة: 142] ،) وما جعلنا القبلة التى كنت عليها (يعنى: مكة،) إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) [البقرة: 143] . وأجمع العلماء أن المراد بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) [البقرة: 149] ، أنه استقبال الكعبة، وأن على المسلمين استقبالها فى صلواتهم إذا كانوا يعاينوها، والتوخى لاستقبالها وطلب الدلائل عليها إذا كانوا غائبين عنها، وسيأتى ما فى انحراف القوم فى الصلاة إلى الكعبة من الفقه بعد هذا، إن شاء الله. وأما قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود: (إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه) ، فإن العلماء اختلفوا فى تأويله، فذهبت طائفة إلى أنه يريد بالتحرى البناء على أكثر ظنه، ومعنى ذلك عندهم أنه إن كان أكثر ظنه أنه صلى أربعًا فى الأغلب يسلم ويسجد، وإن كان لا يدرى أثلاثًا صلى أم أربعًا، ولم يكن أحدهما أغلب فى قلبه من الآخر بنى على الأقل، وأتى بركعة حتى يعلم يقينًا أنه أدى ما عليه، وروى هذا عن ابن مسعود، وابن(2/60)
عمر، وأبى هريرة، وأنس، وأبى سعيد الخدرى، والنخعى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، إلا أن أبا حنيفة قال: إن كان ذلك أول ما عرض له، فليستأنف صلاته ولا يتحّر، وإن وقع له كثيرًا تحرّى. وذهبت طائفة إلى أن معنى قوله: (فليتحرى الصواب) البناء على اليقين كقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد الخدرى: (إذا شك أحدكم فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا، فليصل ركعة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس، فإن كانت تلك الركعة خامسةً شفعها بالسجدتين، وإن كانت رابعةً كانتا ترغيمًا للشيطان) ، رواه سليمان بن بلال، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى، رُوى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سالم، والقاسم، والحسن، ومكحول، وهو قول مالك، والشافعى. قال ابن القصار: والحجة لهذا القول أن التحرى عندنا هو القصد إلى الصواب وطلبه حتى يكون البناء على اليقين، ألا تراه عليه السلام، قال: (لا يتحر أحدكم بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها) ، أى: لا يقصد ذلك، والتحرى رجوع إلى اليقين؛ ألا ترى أنه لو شك هل صلى أم لا رجع إلى يقينه وصلى، ولو شك فى صلاة من يوم وليلة لا يدرى أيما صلاة هى لم يجزئه التحرى، ورجع إلى يقينه فصلى خمس صلوات، فكان النظر على هذا أن يكون كذلك فى كل شىء من صلاته وعليه أن يأتى به ليؤدى صلاته بيقين، فكان حديث أبى سعيد تفسيرًا لحديث ابن مسعود. وقال الكوفيون: قوله: (فليتحر الصواب) ، يوجب العمل بالتحرى وإلا انتفى الحديث، والواجب العمل بالأحاديث واستعمالها، ووجه(2/61)
استعمال التحرى إذا كان له رأيان، أحدهما أغلب فى قلبه من الآخر عمل به ويجزئ ذلك، وإذا لم يكن له رأيان أحدهما أغلب عنده من الآخر، وجب البناء على الأقل على ما فى حديث أبى سعيد، فصار كل واحد من الحديثين له معنى غير معنى صاحبه، وهكذا تستعمل الأحاديث ولا تتضاد. وقال محمد بن جرير: إن حديث ابن مسعود فى التحرى، وحديث البناء على اليقين لا يخالف واحد منهما صاحبه، وذلك أن أمره عليه السلام بالبناء على اليقين، والأخذ بالاحتياط ليس فيه إعلام أنه من بنى على الأغلب عنده أنه قد صلى أنها لا تجزئه صلاته، فإن احتاط للشك، فبنى على اليقين فهو أفضل وأسلم لدينه، وإن بنى على أكثر رأيه متحريًا فى ذلك الأغلب عنده لم يكن مخطئًا فى فعله؛ لأن كل مصلٍ إنما كلف أن يعمل بما عنده من علمه، لا على إحاطة العلم بيقينه ذلك، فلو كلف اليقين من العلم دون الظاهر لم يكن لأحد صلاة إذ لا سبيل لأحد إلى يقين العلم بذلك. وذلك أن الله أمر عباده بالصلاة فى الثياب الطاهرة والتطهر بالمياه الطاهرة، ولا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أنهم لم يكلفوا فى شىء من ذلك إحاطة العلم بيقينه، فكذلك عدد الصلاة إنما كلف فى ذلك العلم الذى هو عنده، فإن بنى على العلم الظاهر الذى هو عنده أجزأه، وإن أخذ بالاحتياط فبنى على اليقين، فهو أفضل له إذا كان له سبيل إلى الوصول إلى يقين ذلك، وإن لم يكن له سبيل إليه عمل على الأغلب من ظاهر علمه، وكذلك القول فى جميع أحكام الدين، ومن أبى شيئًا من ذلك سُئل عن المصلى فى موضع لا يعلمه طاهرًا ولا نجسًا إلا علمًا ظاهرًا، وعن من توضأ بماء لا يعلمه إلا(2/62)
كذلك، فإن زعم أن عليه الإعادة خرج من قول جميع الأئمة، وإن قال: صلاته ماضية سئل أيفرق بينه وبين الشاك فى صلاته بإتمامها، البانى على الأغلب من علمه؟ فلن يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله، هذا قول الطبرى. وفى أمر الرسول الشاك فى صلاته بإتمامها دليل أن الزيادة فى الصلاة سهوًا أو لإصلاحها لا تفسدها؛ لأن الشاك إذا أمره بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو اثنتين، وممكن أن يكون صلى اثنتين، وقد حكمت السنة أن ذلك لا يضره فهذا يبطل قول من قال: إن من زاد فى صلاته مثل نصفها ساهيًا أن صلاته فاسدة، وهو قول ابن القاسم، وابن كنانة، وابن نافع. وقد أجمع العلماء أن من شك فى مثل ذلك فى صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين أن حكمه فى ذلك حكم من شك فى مثل ذلك من الظهر أو العصر، وقد صلى رسول الله الظهر خمسًا ساهيًا، فسجد لسهوه، وحُكم الركعة والركعتين فى ذلك سواء فى القياس والمعقول. وقال ابن حبيب عن مطرف: أنه من صلى ستًا أو ثمانيًا سجد لسهوه وهو قول ابن عبد الحكم وأصبغ، وحكى أبو زيد، عن ابن الماجشون مثله. وقد روى ابن القاسم عن مالك أن من صلى المغرب خمسًا ساهيًا أنه يجزئه سجود السهو، قال يحيى بن عمر: هذا يرد قول من قال فيمن زاد فى صلاته مثل نصفها.(2/63)
30 - باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الإعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا، وصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَقَدْ سَلَّمَ نبِيُّ الله فِي رَكْعَتَيِ الظُّهْرِ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ.
/ 48 - فيه: أنس قال: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: (وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة 125] الآيَةُ) . / 49 - وفيه: ابن عمر: (بيَنْا النَّاسُ بِقُبَاء فِى صَلاَة الصُّبْحِ إِذ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيلةَ قُرآَنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنَّ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهْم إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ) . / 50 - وفيه: ابن مسعود: (أن نَّبِيُّ الله صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) . اختلف العلماء فيمن اجتهد فى القبلة فاستدبرها أو شرق أو غرب، فقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثورى: لا يعيد، وهو قول عطاء، والشعبى، وسعيد بن المسيب، والنخعى، وقال النخعى: إن كان قد صلى بعض صلاته لغير القبلة، ثم عرف ذلك فى الصلاة فاستقبل القبلة ببقية صلاته، فإنه يحتسب بما كان صلى كما فعل أصحاب النبى بقباء، وهو قول الثورى، وقال مالك: من اجتهد فى القبلة فأخطأ، فإنه يعيد فى الوقت استحبابًا، وهو قول الحسن، والزهرى، وقال الشافعى: إن فرغ من صلاته ثم بان له أنه صلى إلى المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يَبِنْ له ذلك إلا باجتهاده، فلا إعادة عليه، والذى ذهب إليه البخارى فى هذا الباب قول من قال: لا يعيد. قال ابن القصار: لأن المجتهد فى القبلة إنما أُمر بالطلب ولم يكلف(2/64)
الإصابة، وإنما أمر الله بإصابة عين القبلة من نظر إليها، وأما من غاب عنها فلا سبيل إلى علم حقيقتها؛ لأنه إنما يعلم القبلة بغلبة الظن من مهب الرياح ومسير النجوم، وإذا كان كذلك فإنما يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد ولا يرتفع حكم الاجتهاد الأول؛ كالحاكم يحكم باجتهاده، ثم تبين له اجتهاد آخر فلا يجوز له فسخ الأول. وليس للشافعى أن يقول: إن مستدبر القبلة قد رجع من اجتهاده إلى يقين؛ لأنه لا يتيقن باستقباله نفس القبلة فى هذه الجهة، وإنما يغلب ذلك على ظنه ويُبين ذلك الإجماع على جواز صلاة أهل الآفاق ومعلوم أن كل واحدٍ منهم غير محاذ للكعبة، وإنما يحصل ذلك للأقل منهم، وقد جازت صلاتهم لوقوع ذلك بالاجتهاد، والدليل على ذلك من حديث أهل قُباء أنهم صلوا إلى غير القبلة بعد الصلاة، ثم لم يؤمروا بالإعادة؛ لأنهم لم يمكنهم الوصول إلى العلم بالجهة التى كانوا مأمورين بالصلاة إليها، وإنما صلوا إلى قبلة مفترضة عليهم كما المجتهد مُصلٍّ عند نفسه إلى القبلة. وقال المهلب: وجه احتجاج البخارى بحديث ابن عمر فى هذا الباب هو انحرافهم إلى القبلة التى افترضت وهم فى انحرافهم مصلون إلى غير القبلة، ولم يؤمروا بالإعادة بل بنوا على ما كانوا صلوا فى حال الانحراف وقبله، وكذلك المجتهد فى القبلة لا يلزمه الإعادة. وقد أشار البخارى فى ترجمته إلى هذا الاستدلال من حديث ابن مسعود فقال: وقد سلم النبى، عليه السلام، فى ركعتى الظهر وأقبل على الناس بوجهه، وذلك أن انصرافه وإقباله على الناس بوجهه بعد سلامه، كان وهو عند نفسه فى غير صلاة، فلما بنى على صلاته بأنه كان فى وقت استدبار القبلة فى حكم المصلى؛ لأنه لو خرج من(2/65)
الصلاة لم يجز له أن يبنى على ما مضى منها عند أهل الحجاز، فوجب بهذا أن من أخطأ القبلة أنه لا يعيد. وقال الطحاوى: فى انحراف أهل قباء إلى الكعبة وهم فى إحرام الصلاة التى دخلوا فيها بالتوجه إلى بيت المقدس دليل أنه من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة إليه، ولم يمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض فى ذلك غير لازم له، وأن الحجة فيه غير قائمة عليه، وإنما يجب عليه الفرض حين يعلمه وتقوم عليه الحجة حين يمكنه استعماله؛ ولهذا دعا رسول الله المشركين قبل أن يقاتلهم إلى الإسلام، وبَيَّنَ لهم ذلك، ثم ترك ذلك فى آخرين سواهم من بنى المصطلق وغيرهم، فقاتلوهم وهم غادون على الماء؛ لأن الدعوة قد كانت بلغتهم. فإن قال قائل: قد كان فرض استقبال الكعبة فى الصلاة وجب على أهل قباء قبل دخولهم فى الصلاة؛ لأن الآية التى أمر بذلك فيها نزلت ليلاً، إنما انحرفوا إلى الكعبة فى الصلاة التى علموا بنزول الآية فيها وقد لحقهم الفرض قبل دخولهم فى الصلاة، وإنما عُذِروا فى صلاتهم إلى غير القبلة بالجهل منهم بها. قيل له: وكيف يكون لله فرض على من لم يعلم بفرضه عليه؟ لو كان كذلك للحقت فرائضه المجانين الذين لا علم معهم، فلما كان المجانين بارتفاع العلم عنهم غير داخلين فى الفرض؛ كذلك كان كل من لم يعلم بالفرض غير واجب عليه الفرض. فإن قال: ما تقولون فى الرجل يسلم فى دار الحرب أو دار(2/66)
الإسلام، ويمر عليه شهر رمضان لم يصمه، وتمر عليه صلوات ولم يصلها، ولم يعلم أن الله فرض شيئًا من ذلك على المسلمين، ثم علم بعد ذلك بأن هذا قد كان فرضًا من الله على المسلمين؟ . قيل له: للعلماء فى هذا قولان: أحدهما: أنه إن كان فى دار الحرب حيث لا يجد من يستعلم ذلك منه أنه لا يجب عليه قضاء شىء مما مر عليه من الفرائض، وإن كان فى دار الإسلام أو فى دار الحرب بحضرة من يمكنه استعلام ذلك منه من المسلمين أنه يجب عليه قضاء ما مر عليه من فرض الصلاة والصوم؛ لأنه قد كان يلزمه استعلام ذلك ممن بحضرته من المسلمين، وهذا قول أبى حنيفة. والقول الآخر: أنه يقضى ما مر عليه من الصلوات والصيام ويستوى فى ذلك مروره عليه فى دار الحرب أو دار السلام هذا قول أبى يوسف. قال المؤلف: وهو قول مالك والشافعى. قال الطحاوى: القول الأول أولى وليس على أهل قباء من هذا شىء؛ لأنهم كانوا على حقائق فرض قد كان لله عليهم، ولم يكن عليهم السؤال والاستعلام عن زواله عنهم ولا عن حدوث فرض غيره عليهم، لفما لم يكن ذلك عليهم سقط عنهم الفرض الحادث الذى لم يعلموا به، وليس كذلك من سواهم ممن عليه السؤال والاستعلام عن فرائض الله. وفى حديث ابن عمر: أن أفعال الرسول لازمة كأقواله حتى يأتى دليل الخصوص. وفيه: أنه يجوز أن يفتح من ليس فى الصلاة على من فى الصلاة(2/67)
إذا عدم المصلى اليقين؛ لأن الذى أخبرهم وهم فى الصلاة بصلاة النبى إلى الكعبة كان حاضرًا واقتدى بقوله. وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به؛ لأن الصحابة قد استعملوه وقضوا به وتركوا قبلتهم بخبر الواحد، ولم ينكر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
31 - باب حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنَ الْمَسْجِدِ
/ 51 - فيه: أنس: (أَنَّ نَّبِيَّ الله رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ، فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَلاة، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَزقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا) . قال المهلب: فيه إكرام القبلة وتنزيهها؛ لأن المصلى يناجى ربه فواجب عليه أن يكرم القبلة مما يكرم منه المخلوقين إذا ناجاهم واستقبلهم بوجهه؛ بل قبلة الله تعالى أولى بالإكرام. وقال طاوس، رحمه الله: أكرموا قبلة الله لا تبزقوا فيها. وأبان (صلى الله عليه وسلم) فى هذا الحديث أن معنى نهيه عن البزاق فى القبلة إنما هو من أجل مناجاته لربه عند استقباله القبلة فى صلاته، ومن أعظم الجفاء وسُوءِ الأدب أن تتوجه إلى رب الأرباب وملك الملوك وتتنخم فى توجهك؛ وقد أعلمنا الله تعالى، بإقباله على من توجه إليه ومراعاته لحركاته.(2/68)
وفيه: طهارة البزاق؛ لأنه لو كان غير طاهر ما بزق عليه السلام، فى ثوبه ولا أمر بذلك. وفيه: فضل الميمنة على الميسرة.
32 - باب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنَ الْمَسْجِدِ
/ 52 - فيه: أبو هريرة، وأبو سعيد: (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً، فَحَكَّهَا، فَقَالَ: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . والذى يرى البزاق فى المسجد مخير فيه إن شاء حته بحصاة أو بيده أو بما يزيله، وفائدة هذه الأحاديث تنزيه المسجد وإكرام القبلة، وقد ترجم لحديث أبى هريرة: (باب دفن النخامة فى المسجد) ، وزاد فيه: (ولا يبزق عن يمينه، فإن عن يمينه ملكًا) ، فذكر علة نهيه عن يمينه أنه من أجل كون الملك عن يمينه إكرامًا له وتنزيهًا. وقال صاحب العين: حَتَتُّ الشىء عن الثوب، فركته، والحتات: ما تحات منه، أى: تساقط.
33 - باب كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 53 - فيه: أنس قال نبى الله: (الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا) . إنما كان البزاق فى المسجد خطيئة لنهيه عنها، ومن فعل ما نهى(2/69)
عنه فقد أتى بخطيئة، ثم إن النبى (صلى الله عليه وسلم) علم أنه لا يكاد يسلم من ذلك؛ فعرف أمته كفارة تلك الخطيئة، وأمر المصلى أن يبزق فى ثوبه، أو تحت قدمه ليعركه ويغيره، ولا تقع عليه عين أحد، غير أن ارتكاب الخطيئة لا يكون إلا بالقصد والعلم بالنهى عنها، وأما من غلبته النخامة فقد ندب إلى دفنها وحتِّها وإزالتها، ومن فعل ما ندب إليه فمأجور. وروى الطبرى قال: حدثنا عمرو بن على، ثنا ابن أبى عدى، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمد بن أبى عتيق، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: سمعت النبى يقول: (إذا تنخم أحدكم فى المسجد فليغيب نخامته لا تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه) . قال الطبرى: وفى هذا من الفقه ترخيص الرسول فى التفل فى المسجد والتنخم فيه إذا دفنه، وأبان عن معنى كراهته لذلك إذا لم تدفن، وذلك أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، وإذا كان ذلك كذلك فبين أن متنخمًا لو تنخم فى المسجد فى غير قبلته بحيث يأمن أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه، فلا حرج عليه فيه واستحب له أن يدفنه، وإن كان بموضع يأمن أن يصيب به أحدًا لقوله: (البزاق فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ، يعم بذلك المسجد كله، ولم يخصص منه موضعًا دون موضع، فخبرُ سعد مُفسر لما أُجمل فى حديث أنس، وأبى هريرة، وأَمرهُ بدفنها إنما هو فى الحال التى يخشى فيها أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه.(2/70)
34 - باب عِظَةِ الإمَامِ فِي إِتْمَامِ الصَّلاةِ
/ 54 - فيه: أبو هريرة: قال نبى الله: (هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ ، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلا خُشُوعُكُمْ، إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) . فيه: أنه ينبغى للإمام إذا رأى أحدًا مقصرًا فى شىء من أمر دينه أو ناقصًا للكمال منه أنه ينهاه عن فعله، ويحضه على ما له فيه جزيل الحظ؛ ألا ترى أن الرسول وبخ من نقص كمال الركوع والسجود ووعظهم فى ذلك بأنه يراهم، وقد أخذ الله على المؤمنين ذلك إذا مكنهم فى الأرض بقوله تعالى: (الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) [الحج: 41] . قال المهلب: وقوله: (إنى أراكم من وراء ظهرى) ، يحتمل أن يراهم بما يوحى إليه من أفعالهم وهيئاتهم فى الصلاة؛ لأن الرؤية قد يعبر بها عن العلم والاعتقاد، ويحتمل أن يكون يراهم بما خص به أن زيدَ فى قوة بصره حتى يرى من ورائه، وقال أحمد بن حنبل فى هذا الحديث: إنه كان يرى من وراءه كما يرى بعينه، فالله أعلم بما أراد من ذلك.
35 - باب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ
/ 55 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ نبى اللَّهِ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا) . قال المؤلف: المساجد بيوت الله، وأهلها أهل الله، وفى هذا(2/71)
الحديث جواز إضافتها إلى البانين لها، والمصلى فيها، وفى ذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها ونسبتها إليهم، وليس فى ذلك تزكية لهم، وليست إضافة المسجد إلى بنى زريق إضافة ملك، وإنما هى إضافة تمييز. وروى عن النخعى أنه كان يكره أن يقال: مسجد بنى فلان، ولا يرى بأسًا أن يقال: مصلى بنى فلان، وهذا الحديث يرد قوله، ولا فرق بين قوله: مصلى، ومسجد، والله الموفق.
36 - باب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْقِنْوُ: الْعِذْقُ، وَالاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا قِنْوَانٌ، مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ -: عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ (أُتِيَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ: فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الصَّلاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : خُذْ فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ) .(2/72)
قال المهلب: فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة أو غيرها فى المسجد؛ لأن المسجد لا يُحجب أحد من ذوى الحاجة من دخوله والناس فيه سواء، وكذلك أمور جماعة المسلمين يجب أن تعمل فى المسجد، وليس فى هذا الباب تعليق قنو فى المسجد وأغفله البخارى. وتعليق القنو فى المسجد أمر مشهور، ثم ذكر ابن قتيبة فى غريب الحديث أن نبى الله خرج، فرأى أقناء معلقة فى المسجد، وذكر ثابت فى (غريب الحديث) أن نبى الله أمر من كل حائط بقنو، يعنى للمسجد، معنى ذلك أن ناسًا كانوا يقدمون على رسول الله لا شىء لهم، فقالت الأنصار: (يا رسول الله، لو عجلنا قنوًا من كل حائط لهؤلاء، قال: أجل فافعلوا) ، فجرى ذلك إلى اليوم، فهى الأقناء التى تعلق فى المسجد فيعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رسول الله، معاذ بن جبل. قال ابن القاسم: قد سئل مالك عن أقناء تكون فى المسجد وشبه ذلك، فقال: لا بأس بها، وسئل عن الماء الذى يسقى فى المسجد أترى أن يشرب منه قال: نعم إنما يجعل للعطشى، ولم يرد به أهل المسكنة؛ فلا أرى أن يترك شربه، ولم يزل هذا من أمر الناس قال: وقد سقى سعد بن عبادة، فقيل له: فى المسجد؟ قال: لا، ولكن فى منزله الذى كان فيه، وليس ما ذكره ثابت أن الأقناء كانت تجعل فى المسجد للمساكين بخلاف لقول مالك؛ لأن مالكًا إِذْ سئل عن الأقناء لم تكن تجعل حينئذ للمساكين خاصة؛ لأن(2/73)
زمان مالك كان الناس فيه أوسع حالاً منهم فى أول الإسلام، فكان يجعل فى وقت مالك على طريق التوسعة للناس لا يراد بها المساكين، وإنما يراد بها كل من دخل المسجد من غنى أو مسكين، ألا ترى أن مالكًا شبه ذلك بالماء الذى يجعل للعطشان ولا يراد به المساكين. قال المهلب: وفيه من الفقه أن القسمة إلى الإمام على قدر اجتهاده. وفيه: العطاء لأحد الأصناف الذين ذكرهم الله فى كتابه دون غيرهم؛ لأنه أعطى العباس لما شكا إليه من الغرم الذى فدحه، ولم يسوه فى القسمة مع الثمانية الأصناف، ولو قسم ذلك على التساوى لما أعطى العباس بغير مكيال ولا ميزان، وإنما أعطاه بقدر استقلاله عن الأرض، ولم يعط لأحدٍ غيره مثل ذلك. وفيه: أن السلطان إذا علم من الناس حاجة إلى المال أنه لا يحل له أن يدخر منه شيئًا كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وفيه: كرم رسول الله وزهده فى الدنيا وأنه لم يمنع شيئًا سُئله إذا كان عنده. وفيه: أن للسلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان فى ذلك حاجة، وإن كان فيه نفع لخاصة من الناس إذا كان فيه ضرر لعامتهم. قال المؤلف: وإنما لم يأمر برفع المال على عنق العباس، والله أعلم، ليزجره ذلك عن الاستكثار فى المال الذى ظهر منه، وألا يأخذ من الدنيا فوق حاجته ويقتصر على ما يبلغ منها المحل، كما كان يفعله عليه السلام، ولهذا لم يرفعه على عنقه لئلا يعينه على ما لا يرضاه وما نهى عنه.(2/74)
37 - باب مَنْ دُعي لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيهِ
/ 56 - فيه: أنس: وَجَدْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ، قَالَ لى: (آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: لِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ لِمَنْ حوله: قُومُوا، فَانْطَلَقَوا، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) . فيه: الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن طعام وليمة. وفيه: أن الدعاء إلى ذلك من المسجد وغيره سواء؛ لأن ذلك من أعمال البر وليس ثواب الجلوس فى المسجد بأقل ثوابًا من إطعام الناس الطعام، وقد قال رجل: يا رسول الله، أى الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ، وأيضًا فإن النبى كان محتاجًا إلى الأكل، فقد جاء فى هذا الحديث أنه إنما دعاه إليه؛ لأنه سمع صوتًا ضعيفًا فعرف فيه الجوع. وفيه: دعاء السلطان إلى الطعام القليل. وفيه: أن الرجل الكبير إذا دُعِى إلى طعام وعلم أن صاحبه لا يكره أن يجلب معه غيره، وأن الطعام يكفيهم أنه لا بأس أن يحمل معه من حضره، وإنما حملهم الرسول إلى طعام أبى طلحة، وهو قليل، لعلمه أنه يكفى جميعهم، وأنه لا ينقص منه شىء لبركته وما خصه الله به من كرامة النبوة وفضيلتها، وهذا من علامات نبوته عليه السلام، وكذلك إذا علم الرئيس المدعو إلى طعام أن صاحبه يُسَرُّ بمن يأكل طعامه، وأن طعامه لا يعجز عنهم لكثرته وجدة صاحبه أنه لا بأس أن يحمل غيره، وسأزيد فى معنى هذا الحديث فى كتاب الأطعمة، إن شاء الله.(2/75)
38 - باب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
/ 57 - فيه: سهل بن سعد: (أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ) . قال المؤلف: القضاء جائز فى المسجد عند عامة العلماء، وقال مالك: جلوس القاضى فى المسجد للقضاء من الأمر القديم المعمول به، وكان شريح، وابن أبى ليلى يقضيان فى المسجد، وروى عن سعيد بن المسيب كراهية ذلك قال: لو كان لى من الأمر شىء ما تركت اثنين يختصمان فى المسجد. وقد ترجم باب: (من قضى ولاعنَ فى المسجد) ، فى كتاب الأحكام وفيه زيادة على ما فى هذا الحديث. وفيه: أن اللعان يكون فى المساجد ويحضره الخلفاء أو من استخلفه الحاكم، وأن أيمان اللعان تكون فى الجوامع؛ لأنها مقاطع الحقوق.
39 - باب إِذَا دَخَلَ بَيْتًا، يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ، وَلا يَتَجَسَّسُ
/ 58 - فيه: عتبان بن مالك: أَنَّ نَّبِيَّ الله أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟) ، قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ وَصَفّنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قال المهلب: قوله: (يصلى حيث شاء أو حيث أُمر ولا يتجسس) ، لا يقتضى لفظ الحديث أن يصلى حيث شاء، وإنما يقتضى أن يصلى(2/76)
حيث أُمر لقوله: (أين تحب أن أصلى لك؟) ويؤيد هذا قوله: (ولا يتجسس) ، فكأنه قال: باب إذا دخل بيتًا هل يصلى حيث شاء أو حيث أُمر؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) استأذنه فى موضع الصلاة، ولم يصل حيث شاء، فبطل حكم حيث شاء.
40 - باب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ
وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً. / 59 - وذكر فيه حديث عتبان بن مالك بطوله. قال المهلب: فيه اتخاذ المساجد فى البيوت والصلاة بالأهل وغيرهم عند الضرورات، ألا ترى أن عتبان قال لنبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى قد أنكرت بصرى وأنا أصلى لقومى، فإذا سال الوادى الذى بينى وبينهم لم أستطع أن أتى مسجدهم، وودت يا رسول الله أنك تأتينى، فتصلى فى بيتى فأتخذه مصلى) ، ففعل ذلك نبى الله، فبان بهذا أنه لولا العذر لم يتخلف عن مسجد الجماعة. فيه من الفقه: التخلف عن الصلاة فى الجماعة للعذر. وقال عبد الله بن أبى صفرة: ترك السنن للمشقة رخصة، ومن شاء أن يأخذ بالشدة أخذ، كما خرج نبى الله (صلى الله عليه وسلم) يُهادى بين رجلين إلى الصلاة. قال المهلب: وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه: أنه من دُعى من الصالحين إلى شىء يتبرك به منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العجب.(2/77)
وفيه: الوفاء بالعهد. وفيه: صلاة النافلة فى جماعة بالنهار. وفيه: إكرام العالم إذا دعى إلى شىء بالطعام وشبهه. وفيه: التنبيه على أهل الفسق والنفاق عند السلطان. وفيه: أن السلطان يجب أن يستثبت فى أمر من يذكر عنده بفسق ويوجه له أجمل الوجوه. وفيه: أن الجماعة إذا اجتمعت للصلاة وغاب أحدهم أن يسألوا عنه، فإن كان له عذر وإلا ظن به الشَّر، وهو مفسر فى قوله: (لقد هممت أن آمر بحطب) . وقوله: (ثاب رجال) ، قال صاحب العين: ثاب الحوض، امتلأ، والمثابة: مجتمع الناس بعد تفرقهم، ومنه قوله: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125] .
41 - باب التَّيَمُّنُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى. / 60 - فيه: عائشة قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ) . وقد تقدم هذا فى كتاب الطهارة، ونذكر هنا ما لم ينص هناك. قال عطاء: قال عبد الله بن عمرو: خير المسجد المقام، ثم ميامين المسجد.(2/78)
وكان ابن المسيب يصلى فى الشق الأيمن من المسجد. وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإمام. وكان أنس بن مالك يصلى فى الشق الأيسر من المسجد، وعن الحسن، وابن سيرين مثله.
42 - باب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ
، لِقَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ فِي الْقُبُورِ. وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (الْقَبْرَ، الْقَبْرَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعَادَةِ) . / 61 - فيه: عائشة: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذلك لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا، فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 62 - وفيه: أنس قَالَ: (قَدِمَ نَّبِيُّ الله الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ الرسول فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِين السُّيُوفِ، فكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى نَّبِيِّ الله عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلأ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ، حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، وَإنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: يَا بَنِي(2/79)
النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكان فِيهِ خَرِبٌ، ونَخْلٌ، فَأَمَرَ الرسول بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، والرسول مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه قال المؤلف: أما نبش قبور المشركين ليتخذ مكانها مساجد، فلم أجد فيه نصًا لأحدٍ من العلماء، غير أنى وجدت اختلافهم فى نبش قبورهم طلبًا للمال، فأجاز ذلك الكوفيون والشافعى، وقال الأوزاعى: لا يفعل؛ لأن الرسول لما مر بالحجر قال: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم) ، فنهى أن ندخل عليهم بيوتهم فكيف قبورهم. قال الطحاوى: وقد أباح دخولها على وجه البكاء، واحتج من أجاز ذلك بحديث أنس أن نبى الله أمر بقبور المشركين، فنبشت عند بناء المسجد. قال الطحاوى: واحتج من أجاز ذلك أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) لما خرج إلى الطائف قال: (هذا قبر أبى رغال) ، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة بهذا المكان، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، فابتدره الناس ونبشوه،(2/80)
واستخرجوا منه الغصن، وإذا جاز نبشها لطلب المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها لبناء مسجد أو غيره أولى. فإن قيل: فهل يجوز أن يبنى المسجد على قبور المسلمين؟ وهل يدخل ذلك فى معنى لعنة اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؟ . قيل: لا يدخل فى ذلك لافتراق المعنى؛ وذلك أنه عليه السلام، أخبر أن اليهود يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ويقصدونها بعبادتهم، وقد نسخ الله جميع المعبودات بالإسلام والتوحيد، وأمر بعبادته وحده لا شريك له. قال غيره: والقبور التى أمر النبى بنبشها لبناء المسجد كانت قبورًا لا حرمة لأهلها؛ لأن العرب هنالك لم يكونوا أهل كتاب، فلم يكن لعظامهم حرمة، ولو كانوا أهل كتاب لم تنبش؛ لأنهم ماتوا قبل الإسلام فهم على أديان أنبيائهم لهم حرمة الإيمان بأنبيائهم، وهم والمسلمون سواء، وكذلك أهل الذمة اليوم من اليهود والنصارى، لا يجوز نبش قبورهم لاتخاذ مسجد ولا غيره، فإن لم يكونوا أهل ذمة، وكانوا أهل حرب واحتيج إلى موضع قبورهم، فلا بأس بنبشها إن كانت قبرت بعد الإسلام، وإن كانت قديمة قبل الإسلام، فلا يجوز ذلك لما قلنا إن لهم حرمة الإسلام بأنبيائهم، إلا أن يعلم أنهم لم يكونوا أهل كتاب. وأجاز أكثر الفقهاء نبش قبور المشركين طلبًا للمال، وهذا قول أشهب وقال: ليس حرمتهم موتى بأعظم منها أحياء، وهو مأجور فى فعل ذلك بالأحياء منهم. وقال مالك فى المدونة: أكرهه وليس بحرام. وقال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عَفَتْ، فبنى قوم(2/81)
عليها مسجدًا لم أر بذلك بأسًا، وكذلك ما كان لله لا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وينقل بعضه إلى بعض، فمعناه أن المقابر هى وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد تملكها، فإذا عفت ودثرت واستغنى عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأن المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد كما لا يجوز تملك المقبرة فنقلها إذا دثرت إلى المسجد معناهما واحد فى الحكم. وقوله: (فأولئك شرار الخلق عند الله) ، فيه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير. قال المهلب: وإنما نهى عن ذلك، والله أعلم، قطعًا للذريعة ولقرب عبادتهم الأصنام واتخاذ القبور والصورة آلهة، ولذلك نهى عُمر أنسًا عن الصلاة إلى القبر، وكان له مندوحة عن استقباله وكان يمكنه الانحراف عنه يمنة أو يسرة، ولما لم يأمره بإعادة الصلاة علم أن صلاته جائزة.
43 - باب الصَّلاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ
/ 63 - فيه: أنس قال: (كَانَ نَّبِيُّ الله يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ) . قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة فى مرابض الغنم إلا الشافعى، فإنه قال: لا أكره الصلاة فى مرابض الغنم إذا كان سليمًا من أبوالها وأبعارها. وممن روينا عنه إجازة الصلاة فى مرابض الغنم: عبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، ودخل أبو ذر زرب غنم، فصلى فيه، وعن الزبير(2/82)
أنه صلى فى مراح الغنم وهو يجد مكانًا غيره، وصلى ابن عمر فى رتق، فى أخرى: فى دِمَن الغنم، وروى ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وصلى النخعى فى دمنة الغنم، وهذا الحديث مع ما ذكرنا من أقوال السلف حجة على الشافعى، ومن قال بقوله؛ لأن قول أنس كان نبى الله (صلى الله عليه وسلم) يصلى فى مرابض الغنم، ولم يخص مكانًا من مكان، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من أبعارها وأبوالها يدل أن الصلاة مباحة على ذلك، ويدل أن أبوالها وأبعارها طاهرة. قال ابن المنذر: والصلاة أيضًا جائزة فى مراح البقر استدلالاً بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أينما أدركتك الصلاة فصلّ) ، وهو قول عطاء، ومالك، وجماعة.
44 - باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإبِلِ
/ 64 - فيه: ابن عمر: (أنه كان يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يَفْعَلُهُ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فكره مالك، والشافعى الصلاة فى أعطان الإبل، وقال ابن القاسم: لا بأس بالصلاة فيها إن سلمت من مذاهب الناس، وقال أصبغ: من صلى فيها أعاد فى الوقت. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الصلاة فى أعطان الإبل مكروهة حتى غلا بعضهم فى ذلك فأفسد الصلاة، واحتجوا بما رواه يونس عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن نبى الله قال: (صلوا(2/83)
فى مرابض الغنم، ولا تصلوا فى أعطان الإبل) ، وبما روى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، مولى بنى هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن البراء بن عازب، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (لا تصلوا فى مبارك الإبل وصلوا فى مرابض الغنم) ، وخالفهم آخرون فأجازوا الصلاة فى أعطان الإبل، واحتجوا بأن الآثار التى جاءت بالنهى عن الصلاة فى أعطان الإبل قد تكلم الناس فى معناها، والسبب الذى من أجله كان النهى، فقال قوم: إنما ذلك؛ لأن من عادة أصحاب الإبل التغوط بقربها فتنجس أعطانها، ومن عادة أصحاب الغنم ترك التغوط بينها، وروى عن شريك بن عبد الله أنه كان يفسر الحديث بهذا. وقال يحيى بن آدم: ليس العلة عندى هذه، وإنما هى لما يخاف من وثوبها، وعطب من تلاقى حينئذٍ، ألا تراه يقول: (فإنها جن خلقت من جنّ) ، وقال فى حديث رافع بن خديج: (إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش) ، وهذا غير مخوف من الغنم، فأمر باجتناب الصلاة فى معاطن الإبل خوف ذلك لا لنجاسة، وقد ثبت حديث ابن عمر أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (كان يصلى إلى بعيره) ، فعلم بذلك أنه لم ينه عن الصلاة فى أعطان الإبل؛ لأنه لا تجوز الصلاة بحذائها، واحتمل أن تكون الكراهية لعلة ما يكون فى معاطنها من أرواثها وأبوالها، فنظرنا فى ذلك، فرأينا مرابض الغنم كل قد أجمع على جواز الصلاة فيها، وكان حكم أبوال الإبل وأرواثها كحكم أبوال الغنم وأرواثها لا فرق بين ذلك فى نجاسة وطهارة؛ لأن من جعل(2/84)
أبوال الإبل طاهرة جعل أبوال الغنم كذلك، ومن جعل أبوال الإبل نجسة جعل أبوال الغنم كذلك، فلما أبيحت الصلاة فى مرابض الغنم فى الحديث الذى نهى فيه عن الصلاة فى أعطان الإبل ثبت أن النهى عن ذلك ليس العلة نجاسة ما يكون منها، فإن كان لما قاله شريك، فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول عطنًا كان أو غيره، وإن كان لما قاله يحيى، فإن الصلاة مكروهة بحيث يخاف على النفوس، عطنًا كان أو غيره، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لا يختلفون فى مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا فى الإبل، فرأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم فى طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها فى طهارتها أو نجاستها، فكان يجىء فى حكم النظر أن يكون حكم الصلاة فى مواضع الإبل كهو فى مواضع الغنم قياسًا ونظرًا، وهذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد.
45 - باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ، فَأَرَادَ بِهِ وجه اللَّهَ
وَقَالَ أَنَسُ قَالَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) : عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي. / 65 - فيه: ابن عباس: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: أُرِيتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ) . الصلاة جائزة إلى كل شىء إذا لم يقصد الصلاة إليه وقصد بها الله، تعالى، والسجود لوجهه خالصًا، ولا يضره استقبال شىء من المعبودات وغيرها كما لم يضر الرسول ما رآه فى قبلته من النار.(2/85)
وقال أشهب فى المجموعة: وإن صلى إلى قبلة فيها تماثيل لم يُعِدْ، وهو مكروه.
46 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي الْمَقَابِرِ
/ 66 - فيه: ابن عمر: قال نَّبِيِّ الله (صلى الله عليه وسلم) : (اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) . اختلف العلماء فى الصلاة فى المقبرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو أنهم كرهوا الصلاة فى المقبرة، وروى عن عطاء، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، واختلف فيه قول مالك فروى عنه أبو المصعب أنه قال: لا أحب ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا بأس بالصلاة فيها. وكل من كره الصلاة من هؤلاء لا يرى على من صلى فيها إعادة، وقال أهل الظاهر: لا تجوز الصلاة فى المقبرة، قال ابن المنذر: وحجة الذين كرهوا ذلك قول الرسول: (اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا) ، وفى قوله هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة، وسيأتى ما قيل فى هذا المعنى فى آخر كتاب الصلاة فى باب: التطوع فى البيت، إن شاء الله. وحجة من أجاز الصلاة فيها قوله عليه السلام: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأينما أدركتنى الصلاة صليت) ، فلم يخص موضعًا من موضع، فهو عام فى المقبرة وغيرها.(2/86)
قال مالك: وقد بلغنى أن بعض أصحاب رسول الله كان يصلى فى المقابر، وحكى ابن المنذر أن واثلة بن الأسقع كان يصلى فى المقبرة غير أنه كان لا يستتر بقبر، وصلى الحسن البصرى فى المقابر.
47 - باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ. / 67 - فيه: ابن عمر: أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) . قال المهلب: إنما هذا من جهة التشاؤم بالبقعة التى نزل بها سخط الله يدل على ذلك قوله: (وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) [إبراهيم: 45] ، فوبخهم تعالى على ذلك، وكذلك تشاءم عليه السلام، بالبقعة التى نام فيها عن الصلاة ورحل عنها ثم صلى، فكراهية الصلاة فى موضع الخسف أولى، إلا أن إباحة الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار يدل أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع وخشوع واعتبار، فإن صلى هناك غير باكٍ لم تبطل صلاته، وذكر بعض أهل الظاهر أن من صلى فى الحجر، بلاد ثمود، وهو غير باك، فعليه سجود السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وكذلك من صلى فى موضع مسجد الضرار، وهذا خُلْف(2/87)
من القول لا خفاء بسقوطه، إن كان لا يجوز عنده فيه صلاة من تعمد ترك البكاء، فكيف أجاز صلاة الساهى بعد سجود السهو، وإسقاط الواجبات لا تجبر بسجود السهو عند العلماء، وهو تخليط منه، فقد بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى الحديث معنى نهيه عن دخول مواضع الخسف لغير الباكى وهو قوله: (لا يصيبكم مثل ما أصابهم) ، وليس فى هذا ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول العذاب به، وتسويته بين الصلاة فى موضع مسجد الضرار بالصلاة فى موضع الخسف ليس فى هذا الحديث، وهو قياس فاسد منه، وهو لا يقول بالقياس، فقد تناقض.
48 - باب الصَّلاةِ فِي الْبِيعَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ، إِلا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ. / 68 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ - أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ - بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) . / 69 - وفيه: عائشة، وابْنَ عَبَّاسٍ: أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال عند موته: (لَعْنَ اللَّه الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) . / 70 - وفيه: أبو هريرة بمثل معناه.(2/88)
اختلف العلماء فى الصلاة فى البيع والكنائس فكره عمر، وابن عباس الصلاة فيها من أجل الصور، وروى عن عمر بن الخطاب قال: انضحوها بماء وسدر وصلوا، وهو قول مالك. ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن مالك قال: أكره الصلاة فى الكنائس لما يصيب فيها أهلها من لحم الخنازير والخمور، وقلة احتياطهم من النجس، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر، إلا أن يتيقن أنه لم يصبها نجس، وكره الصلاة فيها الحسن، وأجاز الصلاة فيها النخعى، والشعبى، وعطاء، وابن سيرين؛ ورواية عن الحسن وهو قول الأوزاعى، وصلى أبو موسى الأشعرى فى كنيسة يوحنا بالشام. وقال المهلب: هذا الباب غير معارض للباب الذى قبله باب: (من صلى وقُدَّامَهُ نار أو تنور) ، وقول عمر، وابن عباس: (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور) ، فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعوه إليه، والاختيار أن لا يبتدئ فيها الصلاة ولا إلى شىء من معبودات الكفار؛ ألا ترى أن الرسول عينت له النار فى صلاة الخسوف ولم يبتدئ الصلاة إليها وتمت صلاته.
49 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
/ 71 - فيه: جابر قال نبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي، أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ) . الحديث يدل أن هذه الأبواب المتقدمة المكروه الصلاة فيها ليس ذلك على التحريم والمنع؛ لأن الأرض كلها مباحة الصلاة فيها بكونها له(2/89)
مسجدًا، فدخل فى عمومها الكنائس والمقابر ومرابض الإبل وغيرها إذا كانت طاهرة، وهذا مما خص به نبينا، عليه السلام، أن أباح الله له جملة الأرض للصلاة، والاختيار ألا يبدأ بهذه المواضع المكروهة إلا عن ضرورة، فهو أخلص للصلاة وأنزه لها من الخواطر.
50 - باب نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 72 - فيه: عائشة: أن وليدة كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ حُدَيَّاةٌ، وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا، فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ، فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ - زَعَمْتُمْ - وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلا قَالَتْ: وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي قال المهلب: فيه أنه من لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت أنه يباح له المبيت فى المسجد واصطناع الخيمة وشبهها للمسكن، امرأةً كانت أو رجلاً. وفيه: أن السنة الخروج من بلدة جرت فيها فتنة على الإنسان تشاؤمًا(2/90)
بمكان المحن، ودليل هذا قوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) [النساء: 97] ، فالواجب على كل من أدركته ذلة أو جرت عليه محنة أن يخرج إلى ما وسع الله عليه من الأرض، فإن له فى ذلك خيرهُ، وربما كان الذى جرى عليه من المحنة سببًا أراد الله به إخراجه من تلك البلدة لخير قدره له فى غيرها كما قدر لهذه السوداء، ألا ترى تمثلها بهذا المعنى فى بيت الشعر الذى أنشدته، فجعلت المحنة والذلة فى يوم الوشاح هما الذى أنجياها من الكفر؛ إذ كانا سببًا لذلك. والوشاح عند العرب خيطان من لؤلؤ مخالف بينهما تتوشح به المرأة، والرجل يتوشح بثوبه تشبيهًا بالوشاح، وشاة موشحة إذا كانت ذات خطتين، والسير: الشراك، والجمع: سيور، من العين. والحِفْشُ: البيت الصغير، من العين أيضًا.
51 - باب نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَنَسِ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ. / 73 - فيه: ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ، وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ، لا أَهْلَ لَهُ، فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ، عليه السلام. / 74 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (أن عليًا غاضب فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ، وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِها، فَجَاءَ الْمَسْجِدِ فرَقِد فيه، فطلبه رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فجاءه وَهُوَ(2/91)
مُضْطَجِعٌ، وقَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ) . قال المهلب: فى هذا الباب من الفقه: جواز سكنى الفقراء فى المسجد وجواز النوم فيه لغير الفقراء. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فممن رخص النوم فى المسجد ابنُ عمر، وقال: كنا نبيت فيه ونقيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وعن سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وعطاء، وابن سيرين مثله، وهو قول الشافعى، واختلف عن ابن عباس، فروى عنه أنه قال: لا تتخذوا المسجد مرقدًا، وروى عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس. وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن يبيت فى المسجد، وسَهَّل فيه للضعيف ولمن لا منزل له، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال مالك: وقد كان أضياف الرسول يبيتون فى المسجد، وكره النوم فى المسجد: ابن مسعودُ، وطاوسُ، ومجاهدُ، وهو قول الأوزاعى. وقول من أجاز النوم فيه للغرباء وغيرهم أولى لأحاديث هذا الباب، وقد سئل سعيد ابن المسيب، وسليمان بن يسار عن النوم فى المسجد، فقالا: كيف تسألون عنها، وقد كان أهل الصفة ينامون فيه وهم قوم كان مسكنهم المسجد. وذكر الطبرى عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان نائمًا فى المسجد ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين، قال: وقد نام فى المسجد جماعة من السلف، قال الطبرى: فغير محذور الانتفاع بالمساجد فى ما يحل: كالأكل والشرب والجلوس وشبه النوم من الأعمال.(2/92)
وقال الحربى: الصفة فى مسجد الرسول موضع مظلل يأوى إليه المساكين. وفى حديث سهل من الفقه: الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنيته إذا كان ذلك لا يغضبه ولا يكرهه؛ بل يؤنسه من حرجه. وفيه: مداراة الصهر وتسلية أمره من عتابه. وفيه: جواز التكنية بغير الولد. وفيه: أن الملابس كلها يحاول بها ستر العورة وأنه لا ملبس لمن بدت عورته.
52 - باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
/ 75 - فيه: أبو قتادة، أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِس) . اتفق جماعة أهل الفتوى على أن تأويل هذا الحديث محمول على الندب والإرشاد مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد، وهو طاهر، فى وقت تجوز فيه النافلة. قال مالك: ذلك حسن وليس بواجب. وأوجب ذلك أهل الظاهر فرضًا على كل داخل فى وقت تجوز فيه الصلاة، وقال بعضهم: ذلك واجب فى كل وقت؛ لأن فعل الخير لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له. قال الطحاوى: وحجة الجماعة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر سُلَيْكًا حين(2/93)
جاء يوم الجمعة وهو يخطب أن يركع ركعتين، وأمر مرةً أخرى رجلاً رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم يأمره بالركوع، حدثنا بًحْر بن نصر، حدثنا عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن بسر قال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس فى يوم الجمعة فقال له رسول الله: (اجلس فقد آذيت وآنيت) ، فهذا يخالف حديث سليك، واستعمال الأحاديث هو على ما تأولها عليه جماعة الفقهاء. قال الطحاوى: وأما قول من قال من أهل الظاهر أن عليه أن يركع فى كل وقت دخل المسجد فهو خطأ؛ لنهيه عليه السلام عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وغير ذلك من الأوقات المنهى عنها، فمن دخل المسجد فى هذه الأوقات، فليس بداخل فى أمره بالركوع عند دخوله فى المسجد، وإنما يدخل فى أمره بذلك كل من لو كان فى المسجد قبل ذلك فأراد الصلاة، كان له ذلك، فأما من لو كان فى المسجد قبل ذلك لم يكن له أن يصلى، فليس بداخل فى ذلك. وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمرون فى المسجد ولا يركعون، فروى ابن أبى شيبة عن عبد العزيز الدراوردى، عن زيد بن أسلم قال: كان كبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون. قال زيد: وقد رأيت ابن عمر يفعله، وذكر ذلك مالك عن زيد بن ثابت، وسالم بن عبد الله، وكان القاسم بن محمد يدخل المسجد، فيجلس فيه ولا يصلى وفعله الشعبى، وقال جابر بن زيد: إذا دخلت مسجدًا فصلّ فيه، فإن لم تصل فيه فاذكر الله فكأنك قد صليت.(2/94)
53 - باب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 76 - فيه: أبو هريرة أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ) . قال المهلب: معنى هذا الباب أن الحدث فى المسجد خطيئة يُحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاؤهم المرجو بركته، ويدل على ذلك قول الرسول: (النخامة فى المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ، فلما كان للنخامة كفارة قيل للمتنخم: تمادى فى المسجد فى صلاتك وابق فيه مدعوًا لك، ولما لم يكن للحدث فى المسجد كفارة ترفع أذاه كما رفع الدفن أذى النخامة لم يتمادى الاستغفار له ولا الدعاء، وجب زوال الملائكة عنه لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة، والله أعلم. قال المؤلف: فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطها الله عنه بغير تعب فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته لقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28] ، وقد أخبر عليه السلام أنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وتأمين الملائكة إنما هو مرة واحدة عند تأمين الإمام ودعاؤهم لمن قعد فى مصلاه دائمًا أبدًا ما دام قاعدًا فيه، فهو أحرى بالإجابة، وقد شبه (صلى الله عليه وسلم) انتظاهر الصلاة بعد الصلاة بالرباط وأكد ذلك بتكراره مرتين بقوله: (فذلكم الرباط) ، فعلى كل مؤمن عاقل سمع هذه الفضائل الشريفة أن يحرص على الأخذ بأوفر الحظ منها ولا تمر عنه صفحًا.(2/95)
وقد اختلف السلف فى جلوس المُحدث فى المسجد فروى عن أبى الدرداء أنه خرج من المسجد فبال، ثم دخل وتحدث مع أصحابه ولم يمس ماءً، وعن على بن أبى طالب مثله، وروى ذلك عن عطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير. وكره أن يتعمد الجلوس فى المسجد على غير وضوءٍ سعيدُ بن المسيب، والحسن البصرى وقالا: يمر مارًا ولا يجلس فيه.
54 - باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدرى: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ. وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ النَّاسَ. وَقَالَ أَنَس: ٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لا يَعْمُرُونَهَا إِلا قَلِيلا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا، كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. / 77 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ) . قال المؤلف: جاءت الآثار عن الرسول، وعن السلف الصالح بكراهية تشييد المساجد وتزيينها، وروى حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: (لما بنى المسجد قالوا: يا رسول الله، كيف نبنيه؟ قال: (ليس(2/96)
رغبة عن أخى موسى، عريش كعريش موسى) ، وروى سفيان عن أبى فزارة، عن يزيد بن الأصم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ما أمرت بتشييد المساجد) . وقال أبى: إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم. وقال ابن عباس: أمرنا أن نبنى المساجد حما والمدائن شرفًا. وقال مجاهد: نهينا أن نصلى فى مسجد مشرف. وهذه الآثار مع ما ذكر البخارى فى هذا الباب تدل أن السنة فى بنيان المساجد: القصد، وترك الغلو فى تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها؛ ألا ترى أن عمر قال للذى أمره ببناء المسجد: (أَكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) ، ويمكن أن يفهم هذا عمر من رد الرسول الخميصة إلى أبى جهم حين نظر إلى أعلامها فى الصلاة، وقال: (أخاف أن تفتننى) . وكان عمر قد فتح الله الدنيا فى أيامه ومكنه من المال، فلم يغير المسجد عن بنيانه الذى كان عليه فى عهد النبى، ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال فى زمانه أكثر، فلم يزد أن جعل فى مكان اللبن حجارة وقصَّة، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يُقصر هو وعمر عن البلوغ فى تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما عن الرسول بكراهة(2/97)
ذلك، وليقتدى بهما فى الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد فى معالى أمورها وإيثار البلغة منها. روى برد أبو العلاء، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: (جمعت الأنصار مالاً، فقالوا: يا رسول الله، ابن بهذا المسجد فقال: (إذًا يعجب ذلك المنافقين) ، فدل هذا الحديث أن المؤمنين لا ينبغى أن يعجبهم ذلك.
55 - باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وقول الله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) [التوبة: 17] ، الآية
. / 78 - فيه: عِكْرِمَةَ: (أن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ له وَلابْنِهِ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَاحْتَبَى به، ثُمَّ أَنْشَأَ فحَدِّثُنَا، حَتَّى أَتَى على ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ نَّبِيُّ الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) . التعاون فى بنيان المسجد من أفضل الأعمال؛ لأن ذلك مما يجرى للإنسان أجره بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار وتحبيس الأموال التى يعم العامة نفعها. قال المهلب: وفى هذا الحديث بيان ما اختلف فيه من قصة عمار وقوله: (يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) ، إنما يصح ذلك فى الخوارج الذين بعث إليهم على عمارًا ليدعوهم إلى الجماعة، وليس(2/98)
يصح فى أحد من الصحابة؛ لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل؛ لأنهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل، فقال تعالى: (كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس) [آل عمران: 110] . قال المفسرون: هم أصحاب رسول الله، وقد صح أن عمارًا بعثه على إلى الخوارج يدعوهم إلى الجماعة التى فيها العصمة بشهادة الرسول (لا تجتمع أمتى على ضلال) . وفيه: أن عمارًا فهم عن الرسول أن هذه الفتنة فى الدين يستعاذ بالله منها، وفى الاستعاذة منها دليل أنه لا يدرى أحد فى الفتنة أمأجور هو أم مأزور إلا بغلبة الظن، ولو كان مأجورًا ما استعاذ بالله من الأجر، وهذا يرد الحديث الذى روى: (لا تستعيذوا بالله من الفتنة، فإنها حصاد المنافقين) . وقول عكرمة، عن أبى سعيد: (فأخذ رداءه فاحتبى به، ثم أنشأ فحدثنا) ، فيه أن العالم له أن يتهيأ للحديث ويجلس له جلسته. وفيه: أن الرجل العالم يبعث ابنه إلى عالم آخر ليتعلم منه؛ لأن العلم لا يحوى جميعه أحد ولا يحيط به مخلوق. وفيه: أن أفعال البر للإنسان أن يأخذ منها ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمار لبنتين، فاستحق بذلك كرامةً من الرسول فى نفضه عنه الغبار، وذكر فضيلته التى تأتى فى الزمن الذى بعده. وفيه: علامة النبوة؛ لأنه عليه السلام، أخبر بما يكون فكان كما قال.(2/99)
56 - باب الاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ
/ 79 - فيه: سهل بن سعد قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى امْرَأَةٍ قال: (مُرِي غُلامَكِ النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ) . / 80 - وقال جابر: (قَالَتْ امْرَأَةً: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا، تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتِ) ، فَعَمِلَتِ الْمِنْبَرَ) . فيه: الاستعانة بأهل الصناعات والمقدرة فى كل شىء يشمل المسلمين نفعه، وأن المبادر إلى ذلك مشكور له فعله. فإن قيل: فإن حديث سهل يخالف معنى حديث جابر، وذلك أن فى حديث سهل أن الرسول سأل المرأة أن تأمر عبدها بعمل المنبر، وفى حديث جابر أن المرأة سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك. قيل: يحتمل أن تكون المرأة بدأت النبى بالمسألة وتبرعت له بعمل المنبر، فلما أباح لها ذلك وقبل رغبتها، أمكن أن يبطئ الغلام بعمله، فتعلقت نفس الرسول به فاستنجزها إتمامه وإكمال عدتها، إذ علم عليه السلام طيب نفس المرأة بما بذلته من صنعة غلامها، وقد يمكن أن يكون إرساله عليه السلام، إلى المرأة ليعرفها بصفة ما يصنع الغلام فى الأعواد وأن يكون ذلك منبرًا. وفيه: أنه من وعد غيره بِعَدةٍ أنه يجوز استنجازه فيها، وتحريكه فى إتمامها.(2/100)
57 - باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا
/ 81 - فيه: عُثْمَانَ أنه قال - عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ -: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) . المساجد بيوت الله وقد أضافها الله إلى نفسه بقوله: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) [التوبة: 18] ، حسبك بهذا شرفًا لها، وقال: (فى بيوت أذن الله أن ترفع) [النور: 36] ، الآية فهى أفضل بيوت الدنيا وخير بقاع الأرض، وقد تفضل الله على بانيها بأن بنى له قصرًا فى الجنة، وأجر المسجد جارٍ لمن بناه فى حياته وبعد مماته ما دام يُذكر الله فيه ويُصلَّى فيه، وهذا مما جازت المجازاة فيه من جنس الفعل.
58 - بَاب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ
/ 82 - فيه: جابر قال: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: (أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا) . / 83 - وفيه: أبو بردة: قال نبى الله (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا، لا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا)(2/101)
هذا من تأكيد حرمة المسلم لئلا يروع بها أو يؤذى؛ لأن المساجد مورودة بالخلق، ولا سيما فى أوقات الصلوات، فخشى عليه السلام أن يؤذى بها أحد، وهذا من كريم خلقه، ورأفته بالمؤمنين. والمراد بهذا الحديث: التعظيم لقليل الدم وكثيره. وفيه: أن المسجد يجوز فيه إدخال السلاح، وأما حيث جابر، فإنه لا يظهر فيه الإسناد؛ لأن سفيان قال لعمرو: أسمعت جابرًا يقول: مر رجل فى المسجد ومعه سهام، فقال له رسول الله: (أمسك بنصالها) ، ولم يُنقل أن عمرًا، قال له: نعم، وقد ذكره البخارى فى غير كتاب الصلاة، عن على بن عبد الله، عن سفيان قال: قلت لعمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: مر رجل بسهام فى المسجد، فقال له رسول الله: (أمسك بنصالها) ، فقال: نعم، فبان بقوله: نعم، إسناد الحديث.
59 - باب إنشاد الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 84 - فيه: أبو سلمة: أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. قال المؤلف: ليس فى حديث هذا الباب بيان أن حسان أنشد شعرًا فى المسجد بحضرة النبى، وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب بدء الخلق، وبه يتم معنى هذا الباب، قال سعيد بن المسيب:(2/102)
(مر عمر فى المسجد وحسان ينشد، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبى هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت النبى يقول: أجب عنى اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم) ، يدل هذا أن قول الرسول لحسان: (أجب عن رسول الله) ، كان فى المسجد، وأنه أنشد فيه ما جاوب به المشركين. واختلف العلماء فى إنشاد الشعر فى المسجد، فأجازته طائفة إذا كان الشعر مما لا بأس بروايته، قال ابن حبيب: رأيت ابن الماجشون، ومحمد بن سلام ينشدان فيه الشعر ويذكران أيام العرب وقد كان اليربوع، والضحاك بن عثمان ينشدان مالكًا ويحدثانه بأخبار العرب، فيصغى إليهما، وخالفهم فى ذلك آخرون، فكرهوا إنشاد الشعر فى المسجد، واحتجوا بما رواه الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن الرسول كره أن ينشد الشعر فى المسجد، وأن تباع فيه السلع، وأن يتحلق فيه قبل الصلاة) . قال الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى ما ذكره البخارى فى بدء الخلق، أن عمر مر فى المسجد وحسان ينشد فيه، فزجره، فقال: كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، وكان ذلك بحضرة أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فلم ينكره أحد منهم ولا أنكره عمر أيضًا، فكأن الشعر الذى نهى عن إنشاده فى المسجد: الشعر الذى فيه الخنا والزور، ويجوز أن يكون الشعر الذى يغلب على المسجد حتى يكون كل من فى المسجد متشاغلاً به، كما تأول أبو عبيد فى قوله عليه السلام: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعرًا) ، أنه الذى يغلب على صاحبه.(2/103)
65 - باب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 85 - فيه: عائشة قالت: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ) . قال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال مما يجمع منفعة الدين وأهله، فهو جائز فى المسجد، واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معانى الحروب، وهو من الاشتداد للعدوِّ، والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره. وفيه: جواز النظر إلى اللهو المباح وقد يمكن أن يكون ترك الرسول عائشة لتنظر إلى اللعب بالحراب؛ لتضبط السنة فى ذلك وتنقل بعض تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتى من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك. وفيه: من حسن خلق الرسول وكريم معاشرته لأهله ما يلزم المسلم امتثاله والاقتداء به فيه، ألا ترى وقوفه عليه السلام وستره لعائشة وهى تنظر إلى اللعب.
61 - باب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 86 - فيه: عائشة: أن بَرِيرَةُ أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا كِتَابَتِهَا، فقام رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ) . وذكر الحديث.(2/104)
قال المؤلف: المساجد إنما اتخذت لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، والصلاة، وإنما يجوز فيها من البيع والشراء وسائر أمور الدنيا ما يكون بمعنى تعليم الناس والتنبيه لهم على الاحتراس من مواقعة الحرام ومخالفة السنن، والموعظة فى ذلك، وقد روى عن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن البيع والشراء فى المسجد، وهو قول مالك وجماعة من العلماء، وروى الدراوردى، عن يزيد بن الخصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبى هريرة أن الرسول قال: (إذا رأيتم الرجل يبيع ويشترى فى المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد فيه الضالة، فقولوا: لا ردَّ الله عليك) ، وذكر مالك، عن عطاء بن يسار أنه كان يقول لمن أراد أن يبيع فى المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. قال الطحاوى: ومعنى البيع الذى نهى عنه فى المسجد الذى يغلب على المسجد ويعمه، حتى يكون كالسوق، فذلك مكروه، وأما ما سوى ذلك فلا بأس به، وكذلك التحلق الذى نهى عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه، فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به، وقد أجمع العلماء أن ما عقد من البيع فى المسجد أنه لا يجوز نقضه، إلا أن المسجد ينبغى أن يجنب جميع أمور الدنيا، ولذلك بنى عمر بن الخطاب البطحاء خارج المسجد، وقال: (من أراد أن يلغط، فليخرج إليها) ، فوجب تنزيه المسجد عما لم يكن من أمور الله تعالى.(2/105)
62 - باب التَّقَاضِي وَالْمُلازَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 87 - فيه: كَعْبٍ بن مالك: أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: (يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ) . قال المؤلف: فيه: المخاصمة فى المسجد فى الحقوق والمطالبة بالديون، وقال مالك: لا بأس أن يقضى الرجل الرجل فيه ذهبًا، فأما بمعنى التجارة والصرف فلا أحبه. قال المهلب: وفيه الحض على الوضع عن المُعْسِرِ. وفيه: القضاء بالصالح إذا رآه السلطان صلاحًا ولم يشاور الموضوع عنه إن كان يقبل الوضيعة أم لا. وفيه: الحكم عليه بالصالح إذا كان فيه رشده وصلاح له لقوله: (قم فاقضه) . وفيه: أن الإشارة باليد تقوم مقام الإفصاح باللسان إذا فهم المراد بها. وفيه: الملازمة فى الاقتضاء. وفيه: إنكار رفع الصوت بالمسجد بغير القراءة، إلا أنه عليه السلام، لم يعنفهما على ذلك لما كان لابد لهما منه.
63 - باب كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ
/ 88 - فيه: أبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا أَسْوَدَ - أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ،(2/106)
فَمَاتَ، فَسَأَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ - أَوْ قَالَ: قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا) . وترجم له: باب الخدم للمسجد. قال ابن عباس: قوله تعالى: (إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا) [آل عمران: 35] ، يعنى: محررًا للمسجد. قال المؤلف: فيه الحض على كنس المساجد وتنظيفها؛ لأنه عليه السلام، إنما خصه بالصلاة عليه بعد دفنه لأجل ذلك، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كنس المسجد، ذكر ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يعقوب بن زيد: (أن الرسول كان يتبع غبار المسجد بجريدة) ، وعن وكيع، قال: حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب: (أن عمر أتى مسجد قباء على فرس له، فصلى فيه، ثم قال: يا يرفأ ائتنى بجريدة فأتاه بها، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كنسه) . وفى حديث أبى هريرة: خدمة الصالحين والتبرك بذلك. وفيه: السؤال عن الخادم والصديق إذا غاب وافتقاده. وفيه: المكافأة بالدعاء والترحم على من أوقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم. وفيه: الرغبة فى شهود جنائز الصالحين. قال ابن القصار: وفى صلاة الرسول على قبر السوداء بعد دفنها(2/107)
دليل على جواز الصلاة فى المقبرة، وقال صاحب الأفعال: قَمَّ البيت قمًا: كنسه، والقمامة: الكناسة، وقمت الشاة: رعت، ويقال للمكنسة: المقمة.
64 - باب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 89 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ) . قال المؤلف: غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، أن المسجد لما كان مسجدًا للصلاة ولذكر الله منزهًا عن ذكر الفواحش، والخمرُ والربا من أكبر الفواحش، فلما ذكر الرسول تحريمها فى المسجد، دل أنه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار فى المسجد على وجه النهى عنها والمنع منها.
65 - باب الأسِيرِ أَوِ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ
وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد. / 90 - فيه: أبو هريرة: قال الرسول: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا، وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: (رَبِّ اغفر لى وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص 53] ) قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا.(2/108)
وفى هذا الحديث إباحة ربط الأسير فى المسجد، قال المهلب: فيه ربط من خشى هروبه لحق عليه أو دينٍ والتوثق منه فى المسجد وغيره، ورؤيته عليه السلام للعفريت هو ما خُصَّ به كما خُصَّ برؤية الملائكة، فقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، وأخبرنا الله بذلك بقوله: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [النجم: 18] ، وبقوله: (ولقد رآه نزلةً أخرى) [النجم: 13] ، وقد رآهم يوم انصرافهم عن الخندق، ورأى الشيطان فى هذه الليلة وأقدر عليه لتجسمه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقى فى روعه ما وهب سليمان، فلم ينفذ ما قوى عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأما غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الناس فلا يمكن من هذا ولا يرى أحد الشيطان على صورته غير الرسول؛ لأن الله يقول: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) [الأعراف: 27] ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل فى غير شكله، وتصور فى غير صورته، كما تشكل الذى طعنه الأنصارى حين وجده فى بيته فى صورة حية، فقتلهُ، فمات الرجل به، وبين الرسول ذلك فى قوله: (إن بالمدينة جنًا قد أسلموا) . وقوله: (فرده خاسئًا) ، يقال: خسأ الكلب خسوءًا: تباعدًا، وخسأته قلت له: اخسأ.
66 - باب: الاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ
/ 91 - فيه: أبو هريرة قال: (بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي(2/109)
الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الرسول، فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) . اختلف العلماء هل على من أسلم غسل؟ على ثلاثة أقوال، واختلف فى ذلك قول مالك أيضًا، فقال فى (المدونة) : إذا أسلم النصرانى فعليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون، وممن أوجب عليه الغسل أحمد بن حنبل، وأبو ثور. والقول الثانى: روى ابن وهب، وابن أبى أويس، عن مالك أنه سئل عن رجل أسلم هل يجب عليه غسل أم يكفيه الوضوء؟ قال: لم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أحدًا أسلم بالغسل. والقول الثالث: قال ابن المنذر: قال الشافعى: أحب أن يغتسل، فإن لم يكن جنبًا أجزأه أن يتوضأ، ولابن القاسم فى (العتبية) مثله قال: من أسلم فعليه أن يغتسل، فإن توضأ وصلى ولم يغتسل أعاد أبدًا إذا كان قد جامع أو كان جنبًا، وهذا يدل من قوله: إن لم يكن جنبًا أنه يجزئه الوضوء كما قال الشافعى، قال المهلب: وحديث ثمامة حجة لرواية ابن وهب، وابن أبى أويس؛ لأن ثمامة حين انطلق فاغتسل، ثم دخل المسجد، ثم شهد بالإسلام، وليس فى الحديث أن نبى الله أمره بالاغتسال، ولذلك قال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر أحدًا أسلم بالغسل. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وأما قول مالك الآخر: (عليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون) ، فإن معناه لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم، لا يجوز غير هذا؛ لأنه يستحيل عليهم التطهير من الجنابة وإن نووها؛ لعدم الشرع، فسقط قول الشافعى وابن القاسم. قال(2/110)
أبو عبد الله: فإن قيل: إذا كان عندك غير جنب فلا يكون محدثًا فأبيح له الصلاة بغير وضوء. فالجواب: أنه إذا أسلم وهو غير جنب ولا متوضئ، فوجب أن يتوضأ للصلاة إذا كان غير متوضئ، كما لا يغتسل لأنه غير جنب، وإنما اغتساله سنة لما قال مالك أنهم لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم.
67 - باب الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ
/ 92 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الأكْحَلِ، فَضَرَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، إِلا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِا، فَقَال: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟) فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ منهَا. قال المهلب: فيه جواز سكنى المسجد للعذر. وفيه: أن السلطان أو العالم إذا شق عليه النهوض إلى عيادة مريض يزوره ممن يهمه أمره، أن ينقل المريض إلى الموضع يخف عليه فيه زيارته ويقرب منه. وفيه: أن النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كان فرضًا لحيل بينها وبين الذريعة إليها، ولما أجاز الرسول للجريح أن يسكن فى المسجد، علمنا أن الأمر ليس على الفرض، وكذلك حين ترك الأعرابى يبول فى المسجد، وقال: دعوه، ولو كان حرامًا فرضًا، ما قال: دعوه يستديم البول. وقال صاحب (العين) : غَذَا العِرْقُ يغذو: إذا سال الدم.(2/111)
68 - باب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَافَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى بَعِيرٍ. / 93 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: (شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِّي أَشْتَكِي، قَالَ: (طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) . قال المهلب: فيه جواز دخول الدواب التى تؤكل لحومها، ولا ينجس بولها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز وهو قول مالك، وفيه أن راكب الدابة ينبغى له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع، ولا يخالط الرجالة، وكذلك ينبغى أن تخرج النساء إلى حواشى الطرق، وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث طواف النساء بالبيت من وراء الرجال لعلة التزاحم والتناطح، قال غيره: طواف النساء من وراء الرجال هى السنة؛ لأن الطواف صلاة ومن سنة النساء فى الصلاة أن يكن خلف الرجال، فكذلك الطواف. وقوله: (طوفى وأنت راكبة) فهو ضرورة، وقد اختلف العلماء فى الصحيح يطوف راكبًا على ما يأتى فى كتاب الحج، إن شاء الله.
69 - باب
/ 94 - فيه: أنس، (أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الرسول خَرَجَا مِنْ عِنْدِ الرسول فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ، يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ) . قال المؤلف: إنما ذكر البخارى هذا الحديث فى باب أحكام(2/112)
المساجد، والله أعلم؛ لأن الرجلين كانا مع الرسول وهو موضع جلوسه مع الصحابة، فلما كان معه هذان الرجلان فى علم ينشره أو فى صلاة، أكرمهم الله، تعالى، بالنور فى الدنيا ببركة الرسول وفضل مسجده وملازمته والرجلان هما عباد بن بشر، وأُسيد بن حضير. قال المهلب: وتلك آية للنبى (صلى الله عليه وسلم) وكرامة له، وأنه خص فى الآيات بما لم يخص به من كان قبله، أن أعطى أن يكرم أصحابه بمثل هذا النور عند حاجتهم إليه، وذلك من خرق العادات، وكان يصلح أن يترجم لهذا الحديث باب قوله تعالى: (ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) [النور: 40] ، يشير إلى أن الآية عامة فيما يحتمل أن يستثبت منها المعنى، لا سيما وقد ذكر الله النور فى المشكاة والزجاجة) فى بيوت أذن الله ترفع) [النور: 36] الآية، فاستدل أن الله تعالى، يجعل لمن يسبح فى تلك المساجد نورًا فى قلوبهم، ونورًا فى جميع أعضائهم ونورًا بين أيديهم ومن خلفهم فى الدنيا والآخرة، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، فلما خرجا من عند النبى فى الليلة المظلمة أراهم بركة نبيه وكرامته بما جعل الله لهما من النور بين أيديهما يستضيئان به فى ممشاهما مع قوله: (بشر المشائين فى الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) ، فجعل لهم منه فى الدنيا، ليزدادوا إيمانًا بالنبى مع إيمانهم، ويُوقِنَا أن كذلك يكون ما وعدهم الله من النور الذى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة؛ برهانًا(2/113)
لمحمد، عليه السلام، على صدق ما وعد به أهل الإيمان الملازمين للبيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
70 - باب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ
/ 95 - فيه: أبو سعيد الخدرى قَالَ: خَطَبَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ) ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَبْكِى إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابُ أَبِي بَكْرٍ) . / 96 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. . .) الحديث. قال المهلب: فيه التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤه، خشية أن يدخل عليهم مساءة أو حزن. وفيه: أنه لا يستحق أحد العلم حقيقة إلا من فهم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ عالم بالنص لا بالمعنى والتأويل؛ ألا ترى أن أبا سعيد جعل لأبى بكر مزية بفهمه، أوجب له بها العلم حقيقة وإن كان قد أوجب العلم للجماعة.(2/114)
وفيه: أن أبا بكر أعلم الصحابة؛ لأن أبا سعيد شهد له بذلك بحضرة جماعتهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ويدل على صحة ذلك مقامه بعد موت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ووقت ارتداد العرب على بديهة منه دون أن يطيش له جنان، أو يختلج له لسان، وشدة نفسه وثبات قدمه، ولذلك حلف أبو هريرة بالله الذى لا إله إلا هو: لولا أبو بكر الصديق ما عبد الله، وسيأتى تمام هذا المعنى فى كتاب الزكاة. وفيه: الحض على اختيار ما عند الله والزهد فى الدنيا والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين. وفيه: أن على السلطان شكر من أحسن صحبته ومعونته بنفسه وماله، والاعتراف له بالمنة، واختصاصه بالفضيلة التى لم يُشارك فيها، كما اختص هو أبا بكر بما لم يخص به غيره، وذلك أنه جعل بابه فى المسجد؛ ليخلفه فى الإمامة ليخرج من بيته إلى المسجد، كما كان الرسول يخرج، ومنع الناس كلهم من ذلك دليل على خلافة أبى بكر بعد الرسول، ودليل على أن المرشح للخلافة يُخصُّ بكرامة تدل على ترشحه. وفيه: دليل أن الخليل فوق الصديق والأخ. وفيه: استئلاف النفوس بقوله: (ولكن أخوة الإسلام أفضل) ، فاستألفهم بأن حرمة الخُلَّة بمعنى شامل لهم عنده، وإن كان قد فضل أبا بكر بما دل على ترشحه للخلافة بعده، وهكذا وقع فى الحديث: (ولكن خُوَّة الإسلام أفضل) ، ولا أعرف معناه وقد وجدت الحديث فى الباب بعده: (ولكن خلة الإسلام أفضل) ، وهو الصواب؛ لأنه عليه السلام، صرف الكلام على ما تقدمه من ذكر(2/115)
(الخلالة) ، فأتى بلفظ مشتق منها، وهو (الخُلَّة) ، ولم أجد (خُوَّة) ، بمعنى (خُلَّة) فى كلام العرب، وقال أبو سليمان الخطابى: قوله: (أَمَنَّ) ، أسمح بماله وأبذل له، ولم يرد به معنى الامتنان؛ لأن المنة تفسد الصنيعة، ولا منَّةَ لأحد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، بل له المنة على الأمة قاطبة، و (المَنُّ) فى كلام العرب: الإحسان إلى من لا يستثيبه، قال الله تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) [ص: 39] ، وقال: (ولا تمنن تستكثر) [المدثر: 6] ، أى: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت.
71 - باب الأبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ
قال ابن أبى مليكة لابن جريج: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها. / 97 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ نَّبِيَّ الله قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وَبِلالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ، فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجُوا) . قال المؤلف: اتخاذ الأبواب للمساجد واجب لتصان عن مكان الريب، وتنزه عما لا يصلح فيها من غير الطاعات. قال المهلب: وإدخال الرسول معه هؤلاء الثلاثة، لمعانٍ تخص كل واحد منهم، فأما دخول عثمان فلخدمته البيت فى الغلق والفتح والكنس، ولو لم يدخله لغلق بابها؛ لتوهم الناس أنه عزله، وأما بلال فمؤذنه وخادم أمر صلاته، وأما أسامة فمتولى خدمة ما يحتاج إليه وهم خاصته؛ فللإمام أن يستخص خاصته ببعض ما يستتر به عن(2/116)
الناس وأما غلق الباب، والله أعلم، حين صلى فى البيت؛ لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة، فيلزمون ذلك.
72 - باب دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ
/ 98 - فيه: أبو هريرة: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) . اختلف الفقهاء فى دخول المشرك المسجد، فأجازه أبو حنيفة والشافعى، إلا أن الشافعى قال: لا يدخل المسجد الحرام خاصة، ويدخل سائر المساجد، وجوزه أبو حنيفة فى المسجد الحرام وسائر المساجد، وأجاز ابن محيريز، ومجاهد دخول أهل الكتاب فى المسجد، وقال أبو صالح: ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين، وقال مالك، والمزنى: لا يدخل المشرك كل مسجد أصلاً. وروى مثله عن عمر بن عبد العزيز، والحجة لهم قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) [الحج: 32] ، ومن تعظيم الشعائر منع الكافر دخول البيت والمساجد كلها، وقد اتفقنا على منع الجنب والحائض من دخول المسجد؛ لمنعهما من القراءة، والكافر أولى بذلك، وحجة من أجاز ذلك حديث ثمامة، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حبسه فى المسجد وهو مشرك. قال ابن المنذر: فى حديث ثمامة دخول المشرك المسجد وإباحة دخول الجنب فيه، وهو أولى بذلك؛ لأن النبى أخبر أن المسلم ليس بنجس ومما رواه ابن جريج، عن عثمان بن أبى سليمان أن مشركى(2/117)
قريش حين أتوا النبى فى فداء من أُسِرَ منهم ببدر، كانوا يبيتون فى مسجد الرسول، فمنهم: جبير بن مطعم، فكان جبير يسمع قراءة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وجبير مشرك، والحجة على أبى حنيفة فى جواز دخوله فى المسجد الحرام، قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة: 28] الآية، وهذا خطاب للمؤمنين أن يمنعوهم من المسجد الحرام، وقال أبو حنيفة: معناه لا يقربوه للطواف خاصة، وقيل: هو عموم وظاهره أن لا يقربوه أصلاً. فإن قال: هو موضع من الحرم فأشبه سائر الحرم فى جواز دخولهم فيه. قيل: يلزمكم هذا فى دخولهم البيت، فإن امتنعوا من البيت انتقض تعليلهم وإن جوزوه فهو قبيح جدًا، وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائره وذلك يوجب منعهم منه.
73 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 99 - فيه: السائب بم زيد قال: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ، ائتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، فقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ - قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، لأوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 100 - وفيه: كَعْبِ: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)(2/118)
وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: (يا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ) ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قُمْ فَاقْضِهِ) . قال بعض الناس: أما إنكار عمر رفع الصوت فى المسجد، فيدل أنهم رفعوا أصواتهم فيما لا يحتاجون إليه من اللغط الذى لا يجوز فى المسجد، ولذلك بنى عمر البطحاء خارج المسجد؛ لينزهه عن الخنا والرفث، فسألهم إن كانوا من أهل البلد ممن تقدم العلم إليهم بإنكار رفع الصوت فى اللغط فيه، فلما أخبراه أنهما من غير البلد عذرهما بالجهل. وأما ارتفاع صوت كعب وابن أبى حدرد فى المسجد، فلما كان على طلب حقٍ واجبٍ، لم يغير الرسول ذلك عليهم، ولو كان لا يجوز رفع الصوت فيه فى حق ولا غيره لما ترك النبى، عليه السلام، بيان ذلك إذ هو مُعَلِّم، وقد فرض الله، تعالى، عليه ذلك. وأما مذاهب العلماء فى ذلك، فذهب مالك وطائفة أنه لا يرفع الصوت فى المسجد فى العلم ولا غيره، قال مالك: ولقد أدركت الناس قديمًا يعيبون ذلك على بعض من يكون ذلك محله، وما للعلم ترفع فيه الأصوات، إنى لأكره ذلك، ولا أرى فيه خيرًا رواه ابن عبد الحكم عنه، وقال محمد بن مسلمة فى المبسوط: لا بأس برفع الصوت فى المسجد فى الخبر يخبرونه والخصومة تكون بينهم، ولا بأس بالأحداث التى تكون بين الناس فيه من الشىء يعطونه، وما يحتاجون إليه؛ لأن المسجد مجتمع للناس فلابد لهم مما يحتاجون إليه من ذلك، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت فى المسجد.(2/119)
ذكر ابن أبى خيثمة قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة قال: مررت بأبى حنيفة وهو مع أصحابه فى المسجد، وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة هذا فى المسجد والصوت لا ينبغى أن يرفع فيه، فقال: دعهم، فإنهم لا يفهمون إلا بهذا.
74 - باب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 101 - فيه: ابن عمر قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، مَا تَرَى فِي صَلاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى) . / 102 - وقال مرة: أَنَّ رَجُلا نَادَى النَّبِيَّ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ. / 103 - وفيه: أبو وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ: (بَيْنَمَا الرَسُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلاثَةِ؟ ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) . أجمع العلماء على جواز التحلق والجلوس فى المسجد لذكر الله تعالى وللعلم. قال المهلب: وشبه البخارى فى حديث جلوس الرجال فى المسجد حول الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يخطب بالتحلق والجلوس فى المسجد للعلم. وفيه: أن الخطيب إذا سئل عن أمر الدين أن له أن يجاوب من سأله ولا يضر ذلك خطبته.(2/120)
وفيه: فضل حلق الذكر، لقوله: (أوى إلى الله، فآواه الله) . قال غيره: وفيه سد الفرج فى حلق الذكر، وقد جاء فى سدِّها فى صفوف الصلاة وفى الصف فى سبيل الله، ترغيب وآثار، ومعلوم أن حلق الذكر من سبيل الله. وفيه: أن التزاحم بين يدى العالم من أفضل أعمال البر، ألا ترى قول لقمان لابنه: (يا بنى جالس العلماء وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض بوابل السماء) . وفيه: من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث انتهى به مجلسه، ولا يُقيمُ أحدًا، وقد روى ذلك عن الرسول. وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم قبل أن يسأل عنه. وفيه: مدح الحياء والثناء على صاحبه. وفيه: ذم من زهد فى العلم واستجازة القول فيه؛ لأنه لا يدبر أحد عن حلقة رسول الله وفيه خير. وقوله: (فأوى إلى الله) ، غير ممدود (فآواه الله) ، بالمد يقال: أويت إلى الشىء بقصر الهمزة، دخلت فيه، قال الله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) [الكهف: 10] ، وآويت غيرك إذا ضممته إلى نفسك، بالمد، قال الله تعالى: (ألم يجدك يتيمًا فآوى) [الضحى: 6] .(2/121)
75 - باب الاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ
[وَمَدِّ الرِّجْلِ] (1) / 104 - فيه: عباد بن تميم، عن عمه: (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى) . قال سعيد بن المسيب: وكان عمر وعثمان يفعلان ذلك. فيه أن الاستلقاء وشبهه خفيف فعله فى المسجد، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ما يعارض هذا الحديث، روى حماد بن سلمة، وابن جريج، والليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله: (أن الرسول نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره) ، فنرى والله أعلم، أن البخارى أدخل حديث عبد الله بن زيد معارضًا لحديث جابر، ولذلك أردفه بما رواه ابن المسيب أن عمر، وعثمان كانا يفعلان ذلك، قال الزهرى: وجاء الناس بأمر عظيم فى إنكار ذلك، فكأنه ذهب إلى أن حديث جابر منسوخ بهذا الحديث، واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده؛ إذ لا يجوز أن يخفى عليهما الناسخ من المنسوخ من سنته عليه السلام.
76 - باب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ لِلنَّاسِ فِيهِ
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ. / 105 - فيه: عائشة: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ(2/122)
رَجُلا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) . قال المؤلف: أما بناء المسجد فى الطريق، فذكر ابن شعبان فى كتاب (الزاهى) قال: وينبغى أن تجتنب الصلاة فى المساجد المبنية حيث لا يجوز بناؤها من الطرقات والفحوص ومراسى السفن؛ لأنها وضعت فى غير حقها، فمن صلى فيها متأولاً أنه يصلى فى الطريق وحيث ما له منه مثل ما لغيره أجزأته صلاته، قال: ولو كان مسجد فى فحص واحدٍ واسع، فأراد الإمام أن يزيد فيه من الفحص ما لا يضر بالسالكين لم يمنع عند مالك، ومنع فى قول ربيعة وهو الأصح عندى، وإنما اخترت قول ربيعة؛ لأنه غير عائد إلى جميعهم، قد ترتفق به الحائض والنفساء، ومن لا يجب عليه الصلاة من الأطفال ومن يسلكه من أهل الذمة. ووجه قول مالك: أن الزيادة فى المسجد هى لهم وإليهم تعود، قال غيره: والحجة لقول مالك ابتناء أبى بكر مسجدًا بفناء داره، ووجه ذلك أن أفنية الدور، وإن كان لا ينبغى لأحد استحقاق شىء منها، ولا الانفراد بمنافعها دون غيره من السالكين، فإن المسجد بقعة لجماعة المسلمين، ولا يجوز لأحد تملكه، هو فى معنى الطريق فى البقعة لجماعة المسلمين، بل هو أكثر نفعًا لإقامة الصلاة فيه التى هى أعظم أمور الإسلام، وأن الاحتياط فى إقامتها أفضل من الاحتياط فى إرفاق الصبى والحائض والذمى فى سعة الطريق، إذا بقى منه ما لا يضر بالمارة والسالكين، وإلى قول مالك ذهب البخارى فى ترجمته.(2/123)
وفيه: من فضل أبى بكر ما لا يشاركه فيه أحد؛ لأنه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه، ولا يبلغ أحد هذه المنزلة بعد الرسول.
77 - باب الصَّلاةِ فِي مَسَاجِدِ السُّوقِ
وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمُ الْبَابُ. / 106 - فيه: أبو هريرة: (صَلاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) الحديث. قال المؤلف: فيه أن الأسواق مواضع للصلوات، وإن كان قد جاء فيها حديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن سائلاً سأله عن شر البقاع، فلم يكن عنده علم ذلك حتى جاء جبريل فقال: شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد) ، رواه الآجرى فى كتبه، وخشى البخارى أن يتوهم من رأى ذلك الحديث أنه لا تجوز الصلاة فى الأسواق استدلالاً به، إذ كانت الأسواق شر البقاع، والمساجد خير البقاع فلا يجوز أن تعمل الصلاة فى شر البقاع، فجاء فى حديث أبى هريرة إجازة الصلاة فى السوق، وأن الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة كصلاة المنفرد فى بيته، واستدل البخارى أنه إذا جازت الصلاة فى السوق فُرَادَى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعات، لفضل الجماعة كما تتخذ المساجد فى البيوت عند الأعذار لفضل الجماعة، والله أعلم.(2/124)
78 - باب تَشْبِيكِ الأصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
/ 107 - فيه: أبو موسى: قال عليه السلام: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ) . / 108 - وفيه: أبو هُرَيْرَةَ: (صَلَّى بِنَا الرَسُولُ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِاء جميعًا، صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فاتكأ عليهما وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) الحديث. اختلف العلماء فى تشبيك الأصابع فى المسجد، وفى الصلاة، فرويت آثار مرسلة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن تشبيك الأصابع فى المسجد من مراسيل ابن المسيب، ومنها مسند من طرق غير ثابتة. روى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن مولى لأبى سعيد: (أنه كان مع أبى سعيد وهو مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فدخل الرسول المسجد فرأى رجلاً جالسًا وسط الناس قد شبك بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه الرسول فلم يفطن، فالتفت إلى أبى سعيد فقال: (إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال فى صلاة ما دام فى المسجد حتى يخرج منه) . وهذه الآثار معارضة لحديثى هذا الباب وهى غير مقاومة لهما فى الصحة ولا مساوية، وكره إبراهيم تشبيك الأصابع فى الصلاة، وهو قول مالك، ورخص فى ذلك ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وكانا يشبكان بين أصابعهما فى الصلاة،(2/125)
ذكرهما ابن أبى شيبة، وكان الحسن البصرى يشبك بين أصابعه فى المسجد، وقال مالك: إنهم لينكرون تشبيك الأصابع فى المسجد، وما به بأس وإنما يكره فى الصلاة.
79 - باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا الرسول (صلى الله عليه وسلم)
/ 109 - وكان سَالِمَ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى الرسول يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأمْكِنَةِ فى حديث طويل. قال المؤلف: إنما كان يصلى ابن عمر فى المواضع التى صلى فيها النبى على وجه التبرك بتلك الأمكنة، والرغبة فى فضلها، ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين وأهل الفضل؛ ألا ترى أن عتبان بن مالك سأل نبى الله أن يصلى فى بيته ليتخذ المكان مصلى، فصلى فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد جاء عن عمر بن الخطاب خلاف فعل ابنه عبد الله، روى شعبة، عن سليمان التيمى، عن المعرور بن سويد، قال: (كان عمر بن الخطاب فى سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه، ويقولون: صلى فيه النبى، عليه السلام، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس، وبيعًا، فمن عرضت له الصلاة، فليصل وإلا فليمض) . إنما خشى عمر أن يلتزم الناس الصلاة فى تلك المواضع حتى يشكل ذلك على من يأتى بعدهم، ويرى ذلك واجبًا، وكذلك ينبغى للعالم إذا رأى الناس يلتزمون النوافل والرغائب التزامًا شديدًا، أن يترخص فيها فى بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها غير واجبة، كما(2/126)
فعل ابن عباس وغيره فى ترك الأضحية، وقد روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة فى المواضع التى صلى فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: ما يعجبنى ذلك إلا مسجد قباء. قال المؤلف: وإنما قال ذلك مالك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان يأتى قباء راكبًا وراجلاً ولم يكن يفعل ذلك فى تلك الأمكنة، والله أعلم. وفى هذا الحديث ألفاظ كثيرة من الغريب قوله: (فدحا فيه السيل) ، يقال: دحا، دفع، ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض، والدحو: البسط أيضًا، والكثيب: رمل أو تراب مجتمع، والهضبة: الصخرة الرأسية الضخمة، والجمع هضاب، والرضم: حجارة مرصوصة بعضها فوق بعض، والواحدة رضمة، وبِرْذَوْن مرضوم العَصَب: إذا صار فيه كالعُقَد، من كتاب العين، والسلَمة، بفتح اللام، الشجرة، والسلِمة، بكسر اللام، الصخرة. والسرحة: الشجرة، والجمع سرح. وهرشى: موضع. وقال ابن دريد: الغَلْوة: أن ترمى بسهم حيثما ما بلغ، وقد غلا وهو من الغلو: الارتفاع فى الشىء ومجاوزة الحد فيه، وكل مرتفع فقد تغلى والجمع غِلاء، والأكمة: التلّ، والجمع أَكَم، وإِكَام، وآكام، وأُكم، والفُرضْةَ: مشرب الماء من النهر، والفرض: حَز فِى شَبَة القوس.(2/127)
80 - باب سُتْرَةُ الإمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ
/ 110 - فيه: ابن عباس قال: (أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) . / 111 - وفيه: ابن عمر: (أَنَّ نبى اللَّهِ كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأمَرَاءُ) . / 112 - وفيه: أبو جحيفة: (أَنَّ الرسول صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ) . قال بعض العلماء: سترة الإمام سترة لمن خلفه بإجماع، قابله المأموم أم لا، فلا يضر من مشى بين يدى الصفوف خلف الإمام، والسترة عند العلماء سنة مندوب إليها، ملوم تاركها. واختلف أصحاب مالك فيمن صلى إلى غير سترة فى فضاء يأمن من أن يمرَّ أحد بين يديه، فقال ابن القاسم: يجوز له ذلك ولا حرج عليه، وقال ابن الماجشون، ومطرف: سنة الصلاة أن يصلى إلى سترة لابد منها، وحديث ابن عباس يشهد لقول ابن القاسم، وروى عن جماعة من السلف منهم عطاء، وسالم، والقاسم، وعروة، والشعبى، والحسن أنهم كانوا يصلون فى الفضاء إلى غير سترة. وقال ابن القصار فى قول ابن عباس: (فمررت بين يدى بعض(2/128)
الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع) ، حجة لمن قال: إن الحمار لا يقطع الصلاة، ألا ترى قوله: (فلم ينكر ذلك علىّ أحد) ، فدل أنه المعروف عندهم، وقد زعم من قال: إن الحمار يقطع الصلاة أنه لا حجة فى هذا الحديث، وقال: إن مرور الأتان كان خلف الإمام بين يدى بعض الصف، والإمام سترة لمن خلفه، وهذا غير صحيح؛ لأنه قد رُوى حديث ابن عباس بلفظ هو حجة لأهل المقالة الأولى، ذكر البزار، قال: حدثنا بشر بن آدم، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: حدثنى عبد الكريم الجزرى أن مجاهدًا أخبره عن ابن عباس قال: (أتيت أنا والفضل على أتانٍ، فمررنا بين يدى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعرفة، وهو يصلى المكتوبة، ليس بشىء يستره يحول بيننا وبينه) . وروى شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال: (مررت برسول الله وهو يصلى، وأنا على حمار، وغلام من بنى هاشم فلم ينصرف) . فبان أن مرور ابن عباس كان بين يدى الرسول. وفيه: إجازة شهادة من علم الشىء صغيرًا، وأَدَّاهُ كبيرًا، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وفى حديث ابن عمر جواز الصلاة إلى الحربة. وفى حديث أبى جُحَيفة: أن المرأة والحمار لا يقطعان الصلاة. وفيه: أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال صاحب الأفعال: ناهزت الاحتلام: قربت منه، ونهزت الشىء: تناولته، ونهزت إليه: نهضت.(2/129)
81 - باب كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ
/ 113 - فيه: سهل قال: (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ) . / 114 - وفيه: سَلَمَةَ قَالَ: (كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مَا كَادَتِ الشَّاةُ أن تَجُوزُهَا) . قال المؤلف: هذا أقل ما يكون بين المصلى وسترته، وأكثر ذلك عند قوم من الفقهاء، وقال آخرون: أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن رسول الله حين صلى فى الكعبة بينه وبين القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع، هذا قول عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، ولم يَحُدّ مالك فى ذلك حدًا، وقال أبو إسحاق السبيعى: رأيت عبد الله بن مغفل يصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع، وفى حديث آخر: فجوة وهى الفرجة، وهذا شذوذ عند الفقهاء؛ لمخالفة الآثار الثابتة عن الرسول له، منها أحاديث هذا الباب ومنها ما رواه ابن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبى حثمة قال: قال رسول الله: (إذا صلى أحدكم إلى سترة، فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته) .
82 - باب الصَّلاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ
/ 115 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا) .
83 - باب الصَّلاةِ إِلَى الْعَنَزَةِ
/ 116 - فيه: أبو جحيفة: (أن نبى الله صَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ. . .) ، الحديث.(2/130)
/ 117 - وفيه: أنس: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلامٌ، مَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ عَنَزَةٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، نَاوَلْنَاهُ الإدَاوَةَ) . قال المهلب: الحربة والعنزة، إنما هما علم للناس على موضع صلاته ألا يحرفوه بالمشى بين يديه فى صلاته، ومعنى حمل العنزة والماء أن الرسول كان التزم أن لا يكون إلا على طهارة فى أكثر أحواله، وكان إذا توضأ صلى ما أمكنه بذلك الوضوء مذ أخبره بلال بما أوجب الله له الجنة من أنه لم يتوضأ قط إلا صلى، فلذلك كان يحمل الماء والعنزة إلى موضع الخلاء والتبرز، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: انظر مناولتهم الإداوة، يدل أنه استنجى بالماء؛ لأن العادة فى الوضوء أن يَصُبُّوا على يديه، وكذلك تأتى الأحاديث. قال المهلب: وفى حديث أنس خدمة السلطان والعالم، قال غيره: وهكذا مذاهب الفقهاء متقاربة فى أقل ما يجزئ المصلى من السترة، فقال مالك: يجزئه غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك قدر عظم الذراع، ولا تفسد صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان مكروهًا له، وهو قول الشافعى، وقال الثورى، وأبو حنيفة: أقل السترة قدر مؤخرة الرحل يكون ارتفاعها ذراعًا، وهو قول عطاء، وقال الأوزاعى مثله، إلا أنه لم يَحُدَّ ذراعًا ولا غيره، وكل هؤلاء لا يجيزون الخَطَّ، ولا أن تعرض العصا فى الأرض فيصلى إليها غير الأوزاعى والشافعى فى أحد قوليه، فإنهما قالا: إذا لم يجد شيئًا يقيمه بين يديه عرضه وصلى إليه، وإن لم يجدُ خطَّ خطا، وروى(2/131)
مثله عن سعيد بن جبير، وبه قال أحمد، وأبو ثور، واحتجوا بحديث إسماعيل بن أمية، عن أبى عمرو بن محمد بن حريث، عن عمه، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصاهُ، فإن لم يكن معه عصا فليخطط بين يديه خطًا ولا يضره من مرّ بين يديه) . وقال الطحاوى: أبو عمرو وعمه مجهولان، وقال مالك، والليث: الخَطُّ باطل وليس بشىء، وأصح ما فى سترة المصلى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) حديث ابن عمر، وحديث أبى جحيفة، وحديث أنس بن مالك. والله الموفق.
84 - باب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا
/ 118 - فيه: أبو جحيفة: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْهَاجِرَةِ، فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً، وَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ) . والسترة للمصلى معناها: درء المارّ بين يديه، فكل من صلى فى مكان واسع، فالمستحب له أن يصلى إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا من صلى فى مسجد مكة بقرب القبلة حيث لا يمكن أحدًا المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة إذ قِبْلَةُ مكة سترة له، فإن صلى فى مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه أو فى سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبههما، فينبغى أن يجعل أمامه ما يستره من المرور بين يديه كما فعل الرسول حين صلى بالبطحاء إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة، وكذلك حكم أهل مكة إذا كان فضاء.(2/132)
85 - باب الصَّلاةِ إِلَى الأسْطُوَانَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنَ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا، وَرَأَى عُمَرُ رَجُلا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ، فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا. / 119 - فيه: سلمة: أن كان يُصَلِّي عِنْدَ الأسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، وقَالَ: رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفعله) . / 120 - وفيه: أنس قَالَ: (رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَخْرُجَ الرسول) . فلما كان رسول الله يستتر بالعنزة والرمح فى الصحراء، كانت الأسطوانة أولى بذلك، ولما أجمعوا أنه يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل فى حلة الرمح، علم أن الأسطوانة أشد سترة من ذلك. وفيه: أنه ينبغى أن تكون الأسطوانة أمامه، ولا تكون إلى جنبه، لئلا يتخلل الصفوف شىء فلا تكون له سترة.
86 - باب الصَّلاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ
/ 121 - فيه: ابن عمر أن بلالاً قال: (صَلَّى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ فى البيت) . / 122 - وقال مرة: (جَعَلَ عَمُودين عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى) . / 123 - وقال ابن عمر: كان بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع. الصلاة بين السوارى جائزة، وإنما يكره أن يكون الصف يقطعه أسطوانة إذا صلوا جماعة؛ خشية أن يمر أحد بين يديه، وإن كان(2/133)
الإمام سترة لمن خلفه، ويستحب أن تكون الأسطوانة خلف الصف أو أمامه، ليستتر بها المصلى فى الجماعة. اختلف السلف فى الصلاة بين السوارى، فأجازه جماعة وكرهه جماعة، فممن كرهه: أنس بن مالك، وقال: كنا نتقيه على عهد رسول الله، وقال ابن مسعود: لا تصفوا بين الأساطين، وكرهه حذيفة، وإبراهيم، وقال إبراهيم: لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف، وقال معاوية بن قرة، عن أبيه: رآنى عُمر وأنا أصلى بين أسطوانتين، فأخذ بقفاى فأدنانى إلى سترة وقال: صل إليها، وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين أسطوانتين، وهو قول الكوفيين، وقال مالك فى المدونة: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد، قال ابن حبيب: وليس النهى عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد، وإنما نهى عنه إذا كان المسجد واسعًا. وفيه: أن أكثر ما وجد فى المسند من المقدار الذى يكون بين المصلى وبين سترته ثلاثة أذرع إلا أن الذى واظب عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى مقدار ذلك ممر الشاة على ما تقدم من الآثار، وصلاته فى البيت كان مَرَّةً، وقد تقدم أمره عليه السلام، بالدنوّ من السترة لئلا يتخلل الشيطان ذلك.
87 - باب الصَّلاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ
/ 124 - فيه: ابن عمر، (أن نَّبِيِّ الله (صلى الله عليه وسلم) : كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ؟ قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ الرَّحْلَ، فَيُعَدِّلُهُ، فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ) .(2/134)
هذه الأشياء كلها جائز الاستتار بها، والصلاة إليها، وكذلك تجوز الصلاة إلى كل شىء طاهر. وقوله: (كان يأخذ الرحل) ، يعنى ينزله عن الناقة من أجل حركتها وزوالها عند هبوب الركاب. وقوله: (هبت الركاب) : زالت عن مواضعها وذهبت، تقول العرب: هبت الناقة فى السير تهب هبّا: تحركت، وهب النائم من نومه يهب هبوبًا: قام، والركاب: الإبل.
88 - باب الصَّلاةِ إِلَى السَّرِيرِ
/ 125 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ، فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ السَّرِيرِ، حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي) . قال المهلب: هذا قول من قال: إن المرأة لا تقطع الصلاة؛ لأن انسلالها من لحافها كالمرور بين يدى المصلى، وسيأتى ما للعلماء فى ذلك بعد هذا، إن شاء الله. وقال صاحب (العين) : أسنحه: أظهر له، وكل ما عرض لك فقد سنح، والسانح: ما أتاك عن يمينك من طائر أو غيره.
89 - باب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
ورد ابن عمر فى التشهد وفى الركعة، وقال: إن أبى إلا أن تقاتله فقاتله. / 126 - فيه: أبو سعيد: (أنه كان يُصَلِّي يَوْمِ جُمُعَةٍ إِلَى سْتُرُة، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ(2/135)
بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ الأولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) . قال بعض الفقهاء: واتفق العلماء على دفع المارَ بين يدى المصلى إذا صلى إلى سترة، وليس له إذا صلى إلى غير سترة أن يدفع من مَرَّ بين يديه؛ لأن الرسول جعل ما بينه وبين السترة من حقه الذى يجب له منعه ما دام مصليًا، فأما إذا صلى إلى غير سترة، فليس له أن يدرأ أحدًا؛ لأن التصرف والمشى مباح لغيره فى ذلك الموضع الذى يصلى فيه وهو وغيره سواء، فلم يستحق أن يمنع شيئًا منه إلا ما قام الدليل عليه، وهو السترة التى وردت السنة بمنعها، وقال مالك: لا يرده وهو ساجد فإنما استحق المقاتلة؛ لأنه لا عذر له بعد أن جعل له علمًا يمر من ورائه، والمقاتلة هاهنا: المدافعة فى لطف، وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ولا يخاطفه، فى أخرى: ولا يخاطبه، ولا يبلغ به مبلغًا يفسد صلاته؛ لأنه إن فعل ذلك كان أضر على نفسه من المارِّ بين يديه. قال المؤلف: والفرق بين ما يدرأُ فيه المصلى من مرَّ بين يديه وما لا يدرأ من المسافة، هو المقدار الذى ينال المصلى فيه المار بين يديه إذا مرَّ ليدفه، لإجماعهم أن المشى فى الصلاة لا يجوز ولو أجزنا له المشى إليه باعًا أو باعين من غير أثر لركبنا أكثر من ذلك، وهذا لا يجوز(2/136)
بإجماع، واتفق الفقهاء أنه إذا مَرَّ بين يديه وفات ولم يدركه من مقامه أنه لا يمشى وراءه ولا يرده. واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا؟ فقال ابن مسعود: يرده، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله، والحسن البصرى، وقال أشهب: يرده بإشارة ولا يمشى إليه؛ لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه، فإن مشى إليه ورده لم تفسد صلاته، وقال الشعبى: لا يرده إذا جاز بين يديه؛ لأن رده مرور ثان، ولا وجه له وهو قول مالك، والثورى، وإسحاق. فإن دافعه فمات فاختلف فيه، فقال اين شعبان: عليه الدية فى ماله كاملة، وقيل: الدية على عاقلته، وقيل: هو هَدر على حسب ثَنِيَّةِ العاضّ له؛ لأنه فِعْل تولد من فِعْل أصله مباح؛ فإنما هو شيطان، يريد أنه فَعَل فِعْلَ الشيطان فى أنه شغل قلب المصلى عن مناجاة ربه والإخلاص له، كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه فى الصلاة، فيذكره ما لم يذكر ليشغله عن مناجاة ربه، ويخلط عليه صلاته. وفيه: أنه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن فى الدين: شيطان، ولا عقوبة على من قال له ذلك. وفيه: أن الحكم للمعانى لا للأسماء بخلاف ما يذهب إليه أهل الظاهر فى نفيهم القياس؛ لأنه يستحيل أن يصير المار بين يدى المصلى شيطانًا لمروره، فثبت أن الحكم للمعانى لا للأسماء وهو قول جمهور الأمة. وقوله: (فلم يجد مساغًا) يعنى طريقًا يمكنه المرور منها،(2/137)
يقال: ساغ الشراب فى الحلق سوغًا: سلس، وساغ الشىء: طاب، من كتاب (الأفعال) .
90 - باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي
/ 127 - فيه: أبو جُهَيم: سمع الرَسُولِ (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ من الإثم، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) . قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لا أَدْرِي، أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. قال المؤلف: قد روى مائة عام، ذكر ابن أبى شيبة حدثنا وكيع، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو يعلم أحدكم ما عليه فى أن يمر بين يدى المصلى معترضًا كان أن يقف مائة عام خير له من الخطوة التى خطاها) . فهذا الحديث يدل أن الأربعين التى فى حديث أبى جهيم هى أربعون عامًا، وقال قتادة: قال عمر بن الخطاب: لو يعلم المار بين يدى المصلى ماذا عليه كان يقوم حولاً خير له من ذلك، وقال كعب الأحبار: كان أن يخسف به خير من أن يمر بين يديه. وقوله: (يعلم المارُّ ماذا عليه) ، يدل أن الإثم إنما يكون على من علم بالنهى وارتكبه مستخفًا به، ومتى لم يعلم بالنهى فلا إثم عليه.(2/138)
91 - اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَهُوَ يُصَلِّي
وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يُصَلِّي، وَ [إِنَّمَا] هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لا يَقْطَعُ صَلاةَ الرَّجُلِ. / 128 - فيه: عائشة: ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فقَالَتْ: (لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلابًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ، فَتَكُونُ لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلالا) . ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرجل يستر الرجل إذا صلى، إلا أن أكثرهم كره أن يستقبله بوجهه، قال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سوارى المسجد قال لى: ولنى ظهرك، وهو قول مالك، وروى أشهب عنه أنه لا بأس أن يصلى إلى ظهر رجل وأما إلى جنبه فلا، وحققه مالك فى رواية ابن نافع فى المجموعة، وقال النخعى وقتادة: يستر الرجل الرجل فى الصلاة إذا كان جالسًا، وقال الحسن: يستر المصلى ولم يشترط أن يكون جالسًا ولا موليًا ظهره إلى المصلى. وأجاز الكوفيون، والثورى، والأوزاعى الصلاة خلف المتحدثين. وقال ابن سيرين: لا يكون الرجل سترةً للمصلى. ودليلُ هذا الحديث حُجة لمن أجاز ذلك؛ لأن المرأة إذا كانت فى قِبلة الرسول، فالرجل أولى بذلك والذين كرهوا استقباله كرهوا ذلك لما يخشى عليه من استقباله بالنظر إليه عن صلاته، ولهذا كره الصلاة إلى الحِلَقِ لما فيها من الكلام واللفظ المشغلين للمصلين.(2/139)
وروى عن مالك فى المجموعة قال: لا يصلى إلى المتحلقين؛ لأن بعضهم يستقبله، وأرجو أن يكون واسعًا. وكره الصلاة إلى المتحدثين ابن مسعود. وكان ابن عمر لا يصلى خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة. وقال سعيد بن جبير: إذا كانوا يتحدثون بذكر الله فلا بأس أن يأتم بهم.
92 - باب الصَّلاةِ خَلْفَ النَّائِمِ
/ 129 - فيه: عائشة قالت: (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ) . الصلاة خلف النائم جائزة إلا أن طائفة من العلماء كرهها خوف ما يحدث من النائم فيشغل المصلى أو يضحكه، فتفسد صلاته، قال مالك: لا يُصلى إلى النائم إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاوس. وقال مجاهد: أصلى وراء قاعد أحب إلى من أن أصلى وراء نائمٍ، والقول قول من أجاز ذلك للسنة الثابتة بجوازه، والله الموفق.
93 - باب التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ
/ 130 - فيه: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُا. . .) ، الحديث. كره كثير من أهل العلم أن تكون المرأة سترة للمصلى، قال مالك فى المختصر: لا يستتر بالمرأة، وأرجو أن يكون السترة بالصبى واسعًا.(2/140)
وقال فى المجموعة: ولا يصلى وبين يديه امرأة وإن كانت أُمُّه أو أُختُه إلا أن يكون دونها سترة، وقال الشافعى: لا يستتر بامرأة ولا دابة ووجه كراهيتهم لذلك، والله أعلم؛ لأن الصلاة موضوعة للإخلاص والخشوع، والمصلى خلف المرأة الناظر إليها يخشى عليه الفتنة بها والاشتغال عن الصلاة بنظره إليها؛ لأن النفوس مجبولة على ذلك، والناس لا يقدرون من ملك آرابهم على مثل ما كان يقدر عليه الرسول، فلذلك صلى هو خلف المرأة حين آمن شغل باله بها، ولم تشغله عن الصلاة.
94 - باب مَنْ قَالَ: لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيْءٌ
/ 131 - فيه: عائشة: أنه ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ؛ فقالوا: الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فَقَالَتْ: (شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلابِ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ الرسول، فَأَنْسَلُّ مِنْ بين رِجْلَيْهِ) . ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصلاة لا يقطعها شىء روى ذلك عن عثمان، وعلى، وحذيفة، وابن عمر، ومن التابعين: الشعبى، وعروة، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والشافعى، وأبى ثور، وجماعة، وقال الطحاوى: زعم قوم أن مرور الحائض والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة، وروى هذا أنس، والحسن البصرى، وروى عن ابن عباس، وعطاء أن الكلب الأسود والحائض يقطعان الصلاة.(2/141)
وقالت طائفة: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود، وبه قال أحمد واحتج هؤلاء بما رواه منصور عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر قال: قال رسول الله: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) قلت: يا أبا ذر وما بال الكلب الأسود من الأحمر والأبيض؟ قال: سألت رسول الله عما سألتنى عنه فقال: (الكلب الأسود شيطان) . وروى ابن أبى عروبة عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة) . روى هشام، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس أحسبه أسنده إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقطع الصلاة الحائض والحمارة والكلب الأسود واليهودى والنصرانى) . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن الرسول كان يصلى وهى بينه وبين القبلة معترضة، وبما رواه شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال: (مررت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلى وأنا على حمار ومعى رجل من بنى هاشم فلم ينصرف) . فبان فى هذا الحديث أنهما مرَّا بين يدى الرسول ودل ذلك أن مرور الحمار بين يدى الإمام لا يقطع الصلاة. وروى سفيان عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس (أنه ذكر عنده ما يقطع الصلاة؟ فقال: الكلب والحمار، قال ابن عباس: إليه يصعد الكلم الطيب وما يقطع هذا، ولكنه يكره) . فهذا ابن(2/142)
عباس قد قال بعد رسول الله: إن الحمار والكلب لا يقطعان الصلاة، فدل أن ما رواه عنه صهيب كان متأخرًا عما رواه عنه عكرمة، وأنه ناسخ له؛ لأنه لا يجوز أن يفتى بخلاف ما رواه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا بعد ثبوت نسخه عنده، وبقى فى حديث أبى ذر أنه فصل بين الكلب الأسود وغيره، فجعل الأسود خاصة يقطع الصلاة، وأن الرسول بين معنى ذلك بأنه شيطان. قال الطحاوى: فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شىء؟ فإذا أبو سعيد قد روى عن الرسول أنه قال فى المار بين يدى المصلى: (فليدرأهُ ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) ، وروى ابن عمر مثله، ففى هذا الحديث أن كل مارٍّ بين يدى المصلى شيطان، وقد سوى فى هذا بين بنى آدم والكلب الأسود فى المرور، وقد أجمعوا على أن مرور بنى آدم بعضهم ببعض لا يقطع الصلاة، روى ذلك عن الرسول من غير وجه من حديث عائشة وأم سلمة، وميمونة أنه عليه السلام كان يصلى وكل واحدة منهن معترضة بينه وبين القبلة، وكلها ثابتة من إخراج البخارى. وقد جعل عليه السلام فى حديث أبى سعيد، وحديث ابن عمر كُلَّ مارٍّ بين يدى المصلى شيطانًا، وأخبرنا أبو ذر أن الكلب الأسود أيضًا يقطع الصلاة؛ لأنه شيطان، وكانت العلة التى جعل لها قطع الصلاة قد جعلت فى بنى آدم، وقد ثبت عنه عليه السلام أنهم لا يقطعون الصلاة، فدل ذلك أن كل مارٍّ بين يدى المصلى مما سوى بنى آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة، ومما يدل على ذلك أيضًا فُتيا ابن عمر أن الصلاة لا يقطعها شىء، وقد روى عن الرسول درء المصلى من مرَّ بين يديه، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما رواه عنه، عليه السلام، وأنه على وجه الكراهة، والله أعلم، قاله الطحاوى.(2/143)
95 - باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاةِ
/ 132 - فيه: أبو قَتَادَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلأبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا) . اختلف قول مالك فى تأوبل هذا الحديث، فروى عنه أشهب أن حمله أُمامة كان فى النافلة، وروى عنه أيضًا أشهب، وابن نافع أنه سئل هل للناس الأخذ بهذا؟ فقال: نعم عند الضرورة إذا لم يجد من يكفيه، فأما لحُبِّ الولد فلا أرى ذلك. وقد روى عن أبى قتادة أن حمل الرسول لأمامة كان فى الفريضة، روى الليث، وابن عجلان، وابن إسحاق كلهم عن سعيد المقبرى، عن عمرو بن سليم الزرقى، عن أبى قتادة، قال: (بينما نحن فى المسجد جلوس ننتظر الرسول (صلى الله عليه وسلم) خرج علينا يحمل أُمامة على عُنُقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا قام رفعها) ، وزاد ابن إسحاق: (ننتظر الرسول فى الظهر أو العصر) ، وذكره البخارى فى حديث الليث فى كتاب الأدب فى باب (رحمة الولد وتقبيله) . وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل أيأخذ ولده وهو يصلى؟ قال: نعم، واحتج بحديث أبى قتادة فى قصة أُمامة، وإنما أدخل البخارى هذا الحديث فى هذا الموضع، والله أعلم، ليدل على أن حمل المصلى الجارية على عُنُقه فى الصلاة لا يضر صلاته، وحملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضره حملها، كذلك لا يضره مرورها بين يديه.(2/144)
وفيه: جواز العمل الخفيف فى الصلاة والعلماء مجمعون على جوازه.
96 - باب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ
/ 133 - فيه: مَيْمُونَةُ قَالَتْ: (كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى رسول الله، فَرُبَّمَا وَقَعَ عَلَيَّ ثَوْبُهُ، وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي) . / 134 - وقالت مرةً: (كَانَ الرسول يُصَلِّي، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَتنِي ثَيابُهُ، وَأَنَا حَائِضٌ) . وهذا الحديث حجة فى أن الحائض لا تقطع الصلاة، وهذا الحديث وشبهه من الأحاديث التى فيها اعتراض المرأة بين المصلى وقبلته فيها دليل أن النهى إنما هو عن المرور خاصة لا عن القعود بين يدى المصلى، واستدل العلماء على أن المرور لا يضر بدليل جواز القعود، وحيال وحذاء وتجاه ووجاه كله بمعنى المقابلة والموازاة عند العرب.
97 - باب الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ الْمُصَلِّي شَيْئًا مِنَ الأذَى
/ 135 - فيه: ابن مسعود قال: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلا تَنْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُرَائِي؟ : أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ الرَسُولُ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، فَضَحِكُوا، حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ الصَّلاةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ(2/145)
بِقُرَيْشٍ، ثلاثًا، ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً) . قال المؤلف: هذه الترجمة قريبة من معنى الأبواب المتقدمة قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت طرح ما على المصلى من الأذى، فإنها لا تقصد إلى أخذ ذلك من ورائه إلا كما تقصد إلى أخذه من أمامه، بل تتناول ذلك من أى جهات المصلى أمكنها تناوله وسهل عليها طرحه، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها من بين يديه فليس بدونه، ومن هذا الحديث استنبط العلماء حكم المصلى إذا صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى الصلاة فطرحه، فذهب الكوفيون إلى أنه يتمادى فى صلاته ولا يقطعها، وروى ابن وهب عن مالك مثله، وذكره فى المبسوط، وروى مثله عن ابن عمر، والقاسم، والنخعى، والحسن البصرى، والحكم، وحماد. ولمالك فى المدونة قول آخر قال: يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، قال إسماعيل: وعلى مذهب عبد الملك يتم صلاته ولا يقطعها، ثم يعيد، وهو قول الكوفيين، ورواية ابن وهبٍ عن مالك أشبه، بدليل هذا الحديث، وقوله فى المدونة: يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، هو استحسان منه واحتياط للصلاة، والأصل فى ذلك ما فعل الرسول من أنه لم يقطع صلاته للسَّلا الذى وضع على ظهره، بل تمادى فيها حتى أكملها والحجة فى السُّنَّةِ(2/146)
لا فيما خالفها، وأما قول عبد الملك: يتم الصلاة ثم يعيد؛ فلا وجه له؛ لأنه لا يخلو أن يجوز له التمادى فيها أو لا يجوز، فإن جاز له التمادى فلا معنى لإعادته، وإن كان لا تجزئه صلاته فلا معنى لأمره بالتمادى فى ما لا يجزئه. وهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانوا ممن لم تُرجَ إجابتهم ورجوعهم إلى الإسلام، فلذلك دعا عليهم بالهلاك، فأجاب الله دعاءه فيهم، وهم الذين أخبره الله أنه كفاه إياهم بقوله تعالى: (إنا كفيناك المستهزئين) [الحجر: 95] ، وأما كل من رجا منه الرسول الرجوع والتوبة عما هو عليه فلم يعجل بالدعاء عليه، بل دعا له بالهدى والتوبة فأجاب الله دعاءه فيهم. وفيه: الدعاء على أهل الكفر إذا جَنَوْا جنايات وآذوا المؤمنين.(2/147)
بسم الله الرحمن الرحيم
9 - كِتَاب مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ وفضلها
قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء 103] مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ / 1 - فيه: ابن شهاب: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ ابْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاةَ يَوْمًا، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ نزل فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خمس مرات، ثُمَّ قَالَ: (بِهَذَا أُمِرْتُ) ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الذى أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ وَقْتَ الصَّلاةِ، قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) . قال المهلب: تأخير عمر بن عبد العزيز الصلاة كان عن الوقت المستحب المرغب فيه، ولم يؤخرها حتى يخرج وقتها كله وغربت الشمس أو قريب من ذلك، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث ما يدل على ذلك وهو قوله: (إن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة شيئًا) ، ولا يجوز على عمر بن عبد العزيز على مكانته من العلم والفضل أن يؤخرها عن جميع وقتها ويصليها فى وقت غيره، وإنما أنكر عليه عروة(2/148)
ترك الوقت الفاضل الذى صلى فيه جبريل بالنبى (صلى الله عليه وسلم) وهو الوقت الذى عليه الناس، هذا مفهوم الحديث. ففى هذا من الفقه: المباكرة بالصلاة فى وقتها الفاضل. وقوله: (أخر الصلاة يومًا) يدل على أنه كان نادرً من فعله، وهذه الصلاة التى أخرها عمر كانت صلاة العصر روى ذلك شعيب، عن الزهرى فى المغازى من هذا الكتاب، ويدل على ذلك قوله: (ولقد أخبرتنى عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر) يريد تعجيل العصر بخلاف ما صلاها عمر بن عبد العزيز ذلك اليوم. وفيه: من الفقه: دخول العلماء على الأمراء إذا كانوا أئمة عدل. وفيه: إنكار العلماء على الأمراء ما يخالف السنة. وفيه: جواز مراجعة العالم لطلب البيان. وفيه: الرجوع عند التنازع إلى السنة وأنها الحجة والمقنع. وفيه: أن الحجة فى الحديث المسند دون المقطوع لقوله: (كذلك كان بشير بن أبى مسعود يحدث عن أبيه) ؛ لأن عروة قد كان أخبر أن جبريل أقام لرسول الله وقت الصلاة فلم يقنع بذلك من قوله إذ لم يسند له ذلك، فلما قاله له: (اعلم ما تحدث به) ، لجأ إلى الحجة القاطعة فقال: كذلك كان بشير بن أبى مسعود يحدث عن أبيه. وهذا الحديث يعارض ما روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) من إمامة جبريل له لكل صلاة فى وقتين فى يومين؛ لأن محالاً أن يحتج عروة على عمر بصلاة جبريل بالنبى فى وقت واحد، وهو يعلم أن جبريل قد صلى به تلك(2/149)
الصلاة فى آخر وقتها مرة ثانية، وهو الوقت الذى أخرها إليه عمر بن عبد العزيز لو صح حديث الوقتين إذ كان من حق عمر أن يقول لعروة: لا معنى لإنكارك على تأخير الصلاة إلى وقت إقامة جبريل للنبى عليه السلام، وأمَّ به فيه، فاحتجاج عروة على عمر بن عبد العزيز، واحتجاج أبى مسعود على المغيرة يدل أن صلاة جبريل بالرسول كانت فى وقت واحد فى يوم واحد، ولو صلى به فى يومين لما صح الاحتجاج لعروة ولا لأبى مسعود بهذا الحديث. فإن قيل: فقد قال عليه السلام، للذى سأله عن وقت الصبح: (ما بين هذين وقت) فأحاله على وقت تجوز فيه الصلاة، فصح حديث الوقتين. فالجواب: أن أبا محمد الأصيلى قال: لا يجوز لنا أن نقول: قال رسول الله إلا فيما صح طريقه، وثبتت عدالة ناقليه، فنقول: إن جبريل صلى بالرسول فى أول الوقت بحديث بشير بن أبى مسعود لصحته ولا نقول: إن جبريل صلى به فى آخر الوقت إلا بسند صحيح لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من تَقَوَّل على ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار) . قال غيره: وإنما قال الرسول للذى سأله عن صلاة الصبح: (ما بين هذين وقت) على طريق التعليم للأعرابى أن الصلاة تجوز فى آخر الوقت لمن نسى أو كان له عذر، إذ خشى منه عليه السلام، أن يظن أن الصلاة فى آخر الوقت لا تجزئ، ولو كان جبريل قد صلى به فى أول الوقت وآخره وأعلمه أنهما فى الفضل سواء، لما التزم عليه السلام الصلاة فى أول الوقت، ولَصَلَّى مرةً فى أول الوقت، ومرة فى آخره، وأعلم به الناس أنهم مخيرون بين ذلك، فدل لزومه الصلاة(2/150)
فى أول الوقت دَهْرَهُ كُلَّهُ، أنه الوقت الذى أقامه له جبريل وأن قوله: (ما بين هذين وقت) ، على طريق التعليم لأهل العذر وأشباههم، ودل أن الوقت الفاضل أول الوقت، وقد قال يحيى: إن الرجل ليصلى الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أعظم من أهله وماله، فصح ما قلناه والحمد لله. وقوله: (والشمس فى حجرتها قبل أن تظهر) ، إن قال قائل: ما معنى قولها: (قبل أن تظهر) والشمس ظاهرة على كل شىء من أول طلوعها إلى غروبها. فالجواب: أنها أرادت الفىء فى حجرتها قبل أن تعلو على البيوت، فَكَنَّتْ بالشمس عن الفىء؛ لأن الفىء عن الشمس يكون، كما يسمى العرب النبت ندى؛ لأنه بالمطر يكون، وتسمى المطر سماء؛ لأنه من السماء ينزل، وقد جاء هذا المعنى بينًا فى بعض طرق الحديث، روى الليث، وابن عيينة، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة: (أن رسول الله كان يصلى العصر والشمس فى حجرتها لم تظهر الفىء) ، اللفظ لابن عيينة، ومعلوم أن الفىء أبدًا ملازم لأثر الشمس، فإذا لم يظهر الفىء من الحجرة فلا شك أن الشمس فى قاعة الحجرة، وقد روى هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة: (والشمس لم تخرج من حجرتها) ، وروى أبو أسامة، عن هشام: (من قعر حجرتها) ، والشمس لا تكون إلا فى قاعة الحجرة الصغيرة، يعنى قبل أن تعلو على الجُدُرِ ويرتفع ظلها عن قاعة الحجرة، وكل شىء علا فقد ظهر، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه) [الكهف: 97] ، يريد يعلونه، والحجرة يومئذ كانت ضيقة والشمس(2/151)
لا تكون فى قاعة الحجرة الصغيرة إلا وهى مرتفعة قائمة فى وسط السماء، من قبل أن الجُدُرَ كانت قصيرة وأن الظل فى الحجاز هو أقصر منه فى غيره؛ لأنه وسط الأرض، وهذا يدل على قصر بنيانهم واقتصادهم، وقد قال الحسن: كنت أدخل بيوت النبى وأنا محتلم وأنال سقفها بيدى، وذلك فى خلافة عثمان.
- باب قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الروم 31]
. / 2 - فيه: ابن عباس قَالَ: (قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِالْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالُوا: إِنَّا هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِشَيْءٍ، نَأْخُذْهُ عَنْكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا، فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الإيمَانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ، شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَى عَنِ: الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُقَيَّرِ) . قال المؤلف: قرن الله التُّقى ونفى الإشراك به تعالى بإقامة الصلاة، فهى أعظم دعائم الإسلام بعد التوحيد، وأقرب الوسائل إلى الله تعالى، ومفهوم هذه الآية يدل أنه من لم يقم الصلاة فهو مشرك، ولذلك قال عمر: (ولا حظ فى الإسلام لمن ترك الصلاة) ، وسيأتى حكم ترك الصلاة، واختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب المرتدين. وقد تقدم فى كتاب الإيمان معنى أمره عليه السلام، وفد عبد القيس بما أمرهم به ونهيه لهم عن الأشربة والظروف، وذلك أنه كان(2/152)
يُعلم كل قوم ما بهم الحاجة إليه، وما الخوف عليهم من قبله أشد، وكان وفد عبد القيس يخاف منهم الغلول فى الفىء، وكانوا يكثرون الانتباذ فى هذه الأوعية، فعرفهم ما بهم الحاجة إليه، وما يخشى منهم مواقعته، وترك غير ذلك مما قد كثر وفشا عندهم.
3 - باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامهَ الصَّلاةِ
/ 3 - فيه: جرير بن عبد الله قال: (بَايَعْتُ الرَسُولَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) . قال المهلب: مبايعة الرسول جريرًا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فَهُمَا دعامة الإسلام، وهما أول الفرائض بعد توحيد الله، والإقرار برسوله وذكر النصح لكل مسلم بعدهما، يدل أن قوم جرير كانوا أهل غدر، فعلمهم ما بهم إليه أشد حاجة، كما أمر وفد عبد القيس بالنهى عن الظروف، ولم يذكر لهم النصح لكل مسلم، إذ علم أنهم فى الأغلب لا يُخاف منهم من ترك النصح ما يخاف على قوم جرير، وكان جرير وفد من اليمن من عند قومه وفيه، قال الرسول: (إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه) ، فبايعه بهذا ورجع إلى قومه معلمًا.
4 - باب الصَّلاةُ كَفَّارَةٌ
/ 4 - فيه: حذيفة قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ - أَوْ(2/153)
عَلَيْهَا - لَجَرِيءٌ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأمْرُ، وَالنَّهْيُ) ، الحديث. / 5 - وفيه: ابْنِ مَسْعُودٍ: (أَنَّ رَجُلا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود 114] ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِي هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ) . قوله: (فتنة الرجل فى أهله وماله) يصدقه، قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) [التغابن: 15] ، والمعنى فى ذلك أن يأتى من أجلهم ما لا يحل له من القول والعمل ما لم يبلغ كبيرة، كالقُبْلة التى أصابها الرجل من المرأة وشبهها، فذلك الذى يكفرها الصلاة والصوم، ومثله قوله عليه السلام: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر) . قال المهلب: قوله: (فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره) ، يريد ما يعرض له معهم من شرٍّ أو حزنٍ وشبه ذلك، وسأستقصى تفسير هذا الحديث وأزيد فى البيان عن معنى الفتنة فيه فى كتاب الصيام فى باب الصوم كفارة، إن شاء الله، تعالى. وإنما علم عمر أنه الباب؛ لأن الرسول كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال النبى: (اثبت حراء، فإنما عليك نبى وصديق وشهيدان) ، وفهم ذلك، رضى الله عنه، من قول حذيفة حين قال: بل يكسر الباب، قال غيره: ويدل على ذلك قوله: (إذًا لا يغلق) ؛ لأن الغلق إنما يكون فى الصحيح، وأما المنكسر فهو(2/154)
هتك لا يجبر وفتق لا يُرقع، وكذلك انخرق عليهم بقتل عثمان بعده من الفتن ما لا يغلق إلى يوم القيامة، وهى الدعوة التى لم يجب فيها عليه السلام فى أمته، ولذلك قال: (فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة) . وأما حديث ابن مسعود، فإن أهل التأويل ذهبوا إلى قوله: (وأقم الصلاة طرفى النهار) [هود: 114] ، الفجر وصلاة العشاء، هذا قول مجاهد، والضحاك، وقال الحسن، وقتادة: طرفا النهار: الفجر، والعصر، وزلفًا من الليل: المغرب والعشاء،) إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114] ، قالوا: الحسنات التى ذكرهن الله هاهنا الصلوات الخمس، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وسعيد بن المسيب وغيرهم، فدلت هذه الآية أن الصلاة كفارة لصغائر الذنوب، ودل هذا الحديث أن القُبلة وشبهها مما أصابه الرجل من المرأة غير الجماع كل ذلك من الصغائر التى يغفرها الله باجتناب الكبائر، والصغائر هى من اللمم التى وعد الله مغفرتها لمجتنب الكبائر بقوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة) [النجم: 32] ، وهذه الآية تفسير قوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود: 114] . وأما الكبائر: فأهل السنة مجمعون على أنه لابد فيها من التوبة والندم والإقلاع واعتقاد أن لا عودة فيها، روى سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (الصلوات الخمس كفارة لما بينهن لمن اجتنب الكبائر) .(2/155)
وفى الآية تأويل آخر، قال مجاهد: الحسنات يذهبن السيئات هى سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال الطبرى: والصواب قول من قال هى الصلوات الخمس؛ لثبوت الخبر عن الرسول أنه قال: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب ينغمس كل يوم فيه خمس مرات، فماذا يبقين من درنه؟) ، وأن ذلك فى سياق أمر الله بإقام الصلوات، فالوعدُ على إقامتها جزيل الثواب عقبها أولى من الوعد على ما لم يجر لهُ ذكر من سائر صالحات الأعمال، إذ خُصَّ بالقصد بذلك بعض دون بعضٍ، وسأذكر مذاهب العلماء فى الصغائر والكبائر فى كتاب الأدب، إن شاء الله.
5 - باب فَضْلِ الصَّلاةِ لِوَقْتِهَا
/ 6 - فيه: عَبْدِاللَّهِ قَالَ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَيُّ الأعَمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ ، قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. / 7 - وفيه: أبو هريرة، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ ذَلِك، يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا) . / 8 - وفيه: أنس: أنه بكى فقال ابن شهاب: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.(2/156)
قال المؤلف: فى حديث عبد الله أن الصلاة لوقتها أحب إلى الله من كل عمل، وذلك يدل أن تركها أبغض الأعمال إلى الله بعد الشرك. وفيه: أن أعمال البر يفضلُ بعضها بعضًا عند الله. وفيه: فضل بر الوالدين، ألا ترى أنه عليه السلام، قرن ذلك بالصلاة، كما قرن الله شكرهما بشكره، فقال: (أن اشكر لى ولوالديك) [لقمان: 14] . وفيه: أن البدار إلى الصلاة فى أول أوقاتها، أفضل من التراخى فيها؛ لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت لوقتها المستحب الفاضل، وفى حديث أبى هريرة بيان أن صغائر الذنوب يغفرها بمحافظته على الصلوات؛ لأنه شبه الصغائر بالدرن، والدرن ما لم يبلغ مبلغ الجراح. قال المهلب: وقول أنس فى الصلاة: (أليس قد ضُيعتْ) ، وفى حديث آخر: (أليس قد ضيعتم فيها) ، يعنى تأخيرها عن الوقت المستحب لا أنهم أخرجوها عن وقتها كله. وقد قيل فى قوله تعالى: (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) [مريم: 59] ، قال: والله ما ضيعوها بأن تركوها ولو تركوها كانوا كفارًا، ولكنهم أخروها عن أوقاتها.(2/157)
6 - باب الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ
/ 9 - فيه: أَنَّ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلا يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . فيه: فضل الصلاة على سائر الأعمال؛ لأن مناجاة الله لا تحصل للعبد إلا فى الصلاة خاصة، فينبغى له إحضار النية فيها وترك خواطر الاشتغال عنها، ولزوم الخشوع ولا يقدر على ذلك إلا بعون الله له. وقال بعض الصالحين: إذا قمت إلى الصلاة فاعلم أن الله يُقبلُ عليك، فأَقبلْ على من هو مُقبل عليك، واعلم أنه قريب منك، ناظر إليك، فإذا ركعت فلا تأمل أنك ترفع، وإذا رفعت فلا تأمل أنك تضع، ومَثِّل الجنة عن يمينك والنار عن شمالك والصراط تحت قدمك، فإذا فعلت كنت مُصليًا.
7 - باب الإبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ
/ 10 - فيه: أبو هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . / 11 - وزاد، أبو هريرة:: (وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) . / 12 - وفيه: أبو ذر قال: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ عليه السلام، الظُّهْرَ فَقَالَ: (أَبْرِدْ، أَبْرِدْ - أَوْ قَالَ: انْتَظِرِ انْتَظِرْ - وَقَالَ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) .(2/158)
وترجم لحديث أبى ذر باب الإبراد بالظهر فى السفر، وقال أبو ذر: (كنا مع النبى، عليه السلام، فى سفر. . .) ، وذكر الحديث. اختلف العلماء فى تأخير الظهر عند شدة الحر فذكر ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق رواية عن عمر بن الخطاب، أنه كان يبرد بها، وعن أبى هريرة، وقيس بن أبى حازم مثله. وقال أبو الفرج: عن مالك، أول الوقت أفضل فى كل صلاة إلا الظهر فى شدة الحر، ولمالك فى المدونة خلاف ما حكاه عنه أبو الفرج، وهو أنه استحب أن يصلى الظهر، والعصر، والعشاء، بعد تمكن الوقت وذهاب بعضه، وبتأخير الظهر فى شدة الحر، قال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وقال الشافعى: يبرد بالظهر فى شدة الحر إذا كان المسجد يُنْتَابُ من البُعْدِ، فأما من صلاها فى بيته أو فى جماعة بفناء بيته فيصليها فى أول وقتها. وذهبت طائفة إلى تعجيل الظهر فى الحر وغيره فى أول وقتها، ولم يقولوا بالإبراد، وسأبين قول عمر فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، ومعنى قوله: فَىء التلول يريد ظل كل شىء بارز على وجه الأرض من حجر أو نبات أو غيره فهو تلّ. فإن قيل: إن أول النهار للتلول فىء أيضًا. قيل: إذا طلعت الشمس يكون ظل كل شىء ممدودًا إلى جهة المغرب، فلا يزال الظل يقصر حتى تقف الشمس فى وسط السماء، فإذا وقفت قصر ظل كل شىء حذاء وخاصة فى الحجاز فى زمن القيظ، فليس لشىء فى ذلك الوقت ظل، فلا تجوز الصلاة حينئذ، فإذا زالت الشمس، وفاء الفىء(2/159)
امتد كل شىء إلى جهة المشرق، وبدا للتلول فئ ولا يبدو لها فى الحجاز إلا بعد تمكن الوقت. والفيح: سطوع الحر، فى كتاب العين.
8 - باب وَقَتْ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ
وقال جابر: كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصلى الظهر بالهاجرة. / 13 - وفيه: أَنَسُ: (أَنَّ الرَسُولَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى الظُّهْر، ثم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، وَلا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ، وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَقَامَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي، فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. . .) ، الحديث. / 14 - وفيه: أَبو بَرْزَةَ (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الصُّبْحَ، وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَالظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. . .) الحديث. / 15 - وفيه: عَنْ أَنَسِ: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالظَّهَائِرِ، سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الْحَرِّ) . وأجمع العلماء على أن أول وقت الظهر زوال الشمس وممن كان يصليها عند الزوال أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما رأيت أحدًا كان أشد تعجيلاً للظهر من الرسول، وأبى بكر وعمر، وكتب عمر إلى أبى موسى: أن(2/160)
صَلِّ الظهر حين تزيغ الشمس، وقال إبراهيم: كنا نصلى الظهر مع علقمة أحيانًا نجد ظلاً، نجلس فيه، وأحيانًا لا نجد ظلاً نجلس فيه، وذكر ذلك كله ابن أبى شيبة. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى تعجيل الظهر فى الزمان كله فى أول وقتها، واحتجوا بهذه الآثار وخالفهم آخرون، فقالوا: أما فى الشتاء فيعجل بها، وأما فى الصيف، فتؤخر حتى يتبرد بها، وهو قول الكوفيين، وأحمد، وإسحاق، ورواية أبى الفرج عن مالك. واحتجوا بالآثار المروية عن الرسول بالإبراد، وقالوا: معلوم أن الإبراد لا يكون إلا فى الصيف، وخالف ذلك الآثار التى جاءت بتعجيل الظهر فى الحر، فما دل على أن أحد الأمرين أولى من الآخر؟ قيل: لأنه روى أن تعجيل الظهر قد كان يفعل، ثم نسخ، حدثنا إبراهيم بن أبى داود، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن بيان، عن قيس بن أبى حازم، عن المغيرة بن شعبة، قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا عن الصلاة) ، فأخبر المغيرة فى هذا الحديث أن أمر النبى بالإبراد بالظهر بعد أن كان يصليها فى الوقت، نسخ تعجيل الظهر فى شدة الحر، ووجب استعمال الإبراد فى شدة الحر. وقد روى عن أنس بن مالك، وابن مسعود، عن النبى: أنه كان يعجلها فى الشتاء، ويؤخرها فى الصيف، من طرق ثابتة، ذكرها(2/161)
الطحاوى، فدل ذلك على أن حديث جابر، وأنس، وأبى برزة، مفسر بحديث المغيرة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا: ليس الأمر بالإبراد ناسخًا لتعجيل الظهر فى شدة الحر، وحكم الظهر أن يعجل فى سائر الزمان لمن أراد الأخذ بالأفضل؛ لأن الرسول كان يعجلها فى أكثر أمره، وإنما أمرهم بالإبراد رخصة لهم لشدة الحر عندهم رفقًا بهم، وقد روى عن سعيد بن أبى المليح، عن ميمون بن مهران، قال: لا بأس بالصلاة نصف النهار، وإنما كانوا يكرهون الصلاة نصف النهار؛ لأنهم كانوا يصلون بمكة، وكانت شديدة الحر، ولم يكن لهم ظلال، فقال: أبردوا بها. وروى الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: صليت خلف عبد الله بن مسعود الظهر حين زالت الشمس، فقال: هذا والذى لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، قالوا: وهذا محمول على الزمان كله، وبَيَّنَ هذا ما رواه الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسامة بن زيد، عن الزهرى، عن عروة، عن بشير بن أبى مسعود، عن أبيه: (أنه رأى رسول الله يصلى الظهر حين تزيغ الشمس، وربما أخرها فى شدة الحر) ، فهذا يدل أنه لم يكن يبرد بالصلاة فى الحر كله؛ لأن (ربما) تقع للتقليل، وإنما كان يفعل ذلك فى النادر، وليدل أمته على أن ما أمرهم به من الإبراد، قد يفعله هو أيضًا، وإن كان أكثر دهره يعجل الصلاة ولا يبرد بها، وأنهم مخيرون بالأخذ بأى ذلك شاءوا. فمن أراد الأفضل، كان له التعجيل، ومن أراد الأخذ بالرخصة كان له الإبراد، وهذا المعنى فهم عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى(2/162)
موسى الأشعرى: أن صلِّ الظهر إذا زاغت الشمس، فدله على الأفضل فى خاصة نفسه لعلمه بفهم أبى موسى، ومعرفته بأول الوقت، وأنه لا يشكل عليه، ولعلمه بحرصه على الأخذ فى نفسه بالأفضل، وإن كان أشق عليه، وكتب إلى عماله: أن صلوا الظهر إذا فاء الفىء ذراعًا، ولم يخص بذلك صيفًا من شتاء، فحملهم على سعة الوقت، وما يستوى عامة الناس فى معرفته، إذ لو حملهم على أول الوقت المحدود، لأدخل عليهم الحرج؛ إذ لا يعرف أول الوقت على الحقيقة كلُّ الناس، ورأى أن الوقت الذى يشمل عامتهم ويجتمعون فيه للصلاة يدركون فيه من فضل الجماعة، أكثر مما فاتهم من التعجيل بها لو صلوا منفردين بغير جماعة، فهذا تأويل يجمع ما اختلف من الآثار فى تعجيل الظهر والإبراد، والله الموفق. واختلف العلماء فى الوقت المختار من الظهر، ففى المدونة عن مالك أنه استحب أن يصلى الظهر والعصر، والعشاء بعد تمكن الوقت عنده، إذا فاء الفىء ذراعًا على ما كتب به عمر إلى عماله، وهذه خلاف رواية أبى الفرج عن مالك، واختلف أيضًا عن أبى حنيفة فى ذلك، فحكى ابن القصار عن الكرخى عنه أن وجوب صلاة الظهر معلق بآخر الوقت عنده، وأن الصلاة فى أوله نفل، فإن صلى إنسان عند الزوال، ثم بقى إلى آخر الوقت على حال سليمة يصح معها أن يكون مخاطبًا بها، ناب ذلك الفعل عن الواجب، وإن مات أو جُنَّ أو أُغْمِى عليه أو حاضت امرأة قبل بلوغ الوقت الآخر، كانت الصلاة التى صلى عند الزوال نفلاً لا أداء(2/163)
عن فرض لزمه، وحكى عنه أنه فى أول الوقت نفل على كل حال، وحكى عنه أنه واجب موقوف، فإن بقى على حال تلزمه الصلاة آخر الوقت كان واجبًا، وإن كان على حال لا تلزمه الصلاة كان نفلاً. والفقهاء بأسرهم على خلاف قوله، واحتج له الكرخى، قال: لو وجبت الصلاة بزوال الشمس، فأخرها مُؤخر، كان عاصيًا، قال: وقد أجمعوا أنه يؤخرها إلى آخر الوقت، فلا يكون عاصيًا. قال ابن القصار: وهذا لا يلزم؛ لأنا نقول وجوب الصلاة وجوبًا موسعًا، حتى أنه مخير فى إيقاعها أى وقت شاء بعد الزوال كالكفارات، هو مخير فى أيها شاء. قال غيره: ومما يدل على فساد قول أبى حنيفة ما ثبت من صلاة الرسول للظهر فى أحاديث هذا الباب حين زاغت الشمس، وإذا زالت الشمس، وبالهاجرة، وبالظهائر، وإنما امتثل عليه السلام، فى ذلك ما وقت له جبريل حين صلى به، وقال له: بهذا أمرت، فمحال أن يتعلق فرض الظهر بآخر الوقت، ويخالف فى ذلك الرسول عليه السلام، ويصلى الظهر عند الزوال، ويوقع فرضه فى غير وقته، وهو المبين عن الله لعباده ما فرض عليهم، وهذا ما لا يجوز لأحد أن يظنه بالنبى، وهذا من قول أبى حنيفة تحديد لمخالفة السنة الثابتة، والحجة فى السنة لا فى ما خالفها. قال ابن القصار: والقول أنه واجب موقوف فاسد؛ لأن وجوب الفعل لا يقف على ما يحصل عنه حالة ثابتة، وإنما يتعلق بشروط تحصل قبل وجوبه أو معه، فأما أن يتعلق بما يتأخر عنه(2/164)
فهو محال، فبطل أنه واجب موقوف، فلم يبق إلا أنه واجب مخير فيه؛ لأنه إن قيل: إنه مضيق خرج عن اتفاقهم على أنه لا يأثم من أخرهُ إلى ’ آخر الوقت. واختلفوا فى آخر وقت الظهر، فقال مالك فى رواية ابن عبد الحكم عنه: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شىء مثله، بعد القدر الذى زالت عنه الشمس، وهو أول وقت العصر بلا فصل، وهو قول الثورى، وأبى يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأبو ثور: بين آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فاصلة، لا تصلح للظهر ولا للعصر فى الاختيار، وهو أن يزيد الظل أدنى زيادة على المثل، واحتجا بحديث عبد الله بن عمرو أن الرسول قال: (وقت الظهر ما لم تحضر العصر) ، وهذا لا حجة فيه لما سنبينه، إن شاء الله. قال أبو حنيفة: آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شىء مثليه، فخالف الآثار والناس فى قوله فى المثلين فى آخر وقت الظهر، وخالفه أصحابه، وذكر الطحاوى عنه رواية موافقة لقول الجماعة أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شىء مثله، إلا أنه قال: ولا يدخل وقتل العصر، حتى يصير ظل كل شىء مثليه، فترك بين الظهر والعصر وقتًا مفردًا لا يصلح لأحدهما، وهذا لم يتابع عليه، كما لم يتابع الشافعى على قوله أن بين آخر القامة وأول القامتين وقت لا يصلح للظهر ولا للعصر فى الاختيار. وهذا كله لا يتحصل ولا يفهم؛ لأن ما بعد الحد فى جميع المحدودات إنما هو أول آخر الشىء الذى يليه، وليس هو من غيره، وهذا يلزم أصحاب الشافعى باحتجاجهم بقوله عليه السلام: (آخر وقت الظهر ما لم تحضر العصر) ، وأيضًا فإنه قد صح اشتراك وقت(2/165)
الظهر والعصر بعرفة فى وقت واحد، فلولا أن الوقت مشترك بينهما لم يجز جمعه عليه السلام، بينهما، كما لم يجز الجمع بين الصبح وغيرها من الصلوات. قال المهلب: وإنما خطب الرسول فى حديث أنس بعد الصلاة، وذكر الساعة، وقال: (سلونى) ؛ لأنه بلغه أن قومًا من المنافقين ينالون منه، ويعجزونه عن بعض ما يسألونه عنه، فتغيظ عليهم، وقال: (لا تسألونى عن شىء إلا أخبرتكم به) ، وأما بكاء الناس، فإنهم خافوا نزول العذاب المعهود فى الأمم الخالية عند تكذيب الرسل؛ لأنهم كانوا إذا جاءتهم آية، فلم يؤمنوا لم يمطلهم العذاب، قال تعالى: (ولو أنزلنا ملكًا لقضى الأمر) [الأنعام: 8] ، و) لقضى إليهم أجلهم) [يونس: 11] ، فبكوا إشفاقًا من ذلك ألا ترى فهم عمر حين برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، حين قال عليه السلام للسائل له عن أبيه: (أبوك حذافة) ، وكان هذا الرجل لا يعرف أبوه حتى أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) . وسأزيد فى الكلام فى معنى هذا الحديث فى كتاب الفتن، وفى كتاب الاعتصام فى باب (ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنى) ، إن شاء الله، وقال أنس: (كنا إذا صلينا خلف الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالظهائر، سجدنا على أثوابنا إتقاء الحر) ، فذلك، والله أعلم؛ لأن الحجاز كثير الحرِّ، وليس هذا فى حين شدة الحرِّ جدًا الذى أمر فيه الرسول بالإبراد؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) كان جُلُّ أمره المبادرة. قال غيره: ويجوز أن يبادر فى الحر بالظهر، وقد أمر بالإبراد وأخذ بالشدة على نفسه، ولئلا يظن أحد أن الصلاة لا تجوز فى(2/166)
الوقت الذى أمر فيه بالإبراد، فأراد تعليم أمته، والتوسعة عليهم، والله أعلم. وفيه: جواز السجود على الثياب، وعُرض الشىء: جانبه، يقال: نظرت إليه عن عُرض، وعرض النهر والبحر: وسطهما، عن الخليل. والظهائر: جمع ظهيرة، والظهيرة: شدة الحر. وقوله فى حديث أبى برزة: (رجع والشمس حية) ، يريد ثم يرجع والشمس حية.
9 - باب تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ
/ 16 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ الرسول صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) ، قَالَ أَيُّوبُ: لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ؟ ، قَالَ: عَسَى. قوله: (سبعًا) يريد المغرب والعشاء، و (ثمانيًا) الظهر والعصر، وقد تأول مالك فى هذا الحديث أنه كان فى مطر، كما تأوله أيوب، وهو قول الشافعى، وهذا الحديث حجة فى اشتراك أوقات الصلوات وهو يرد قول الشافعى أن بين آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر فاصلة لا تصلح للظهر ولا للعصر، وعلى من قال: لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شىء مثليه، وهو أبو حنيفة؛ لأن النبى لم يفصل بين الظهر والعصر، ولو كان بينهما وقت لا يصلح لإحدى الصلاتين لبينه النبى، عليه السلام. واختلف العلماء فى جمع الصلاتين لعذر المطر، فقال مالك: يجوز أن يجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر، ولايجمع بين الظهر(2/167)
والعصر فى المطر، وهو قول ابن عمر، وعروة، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن بن محمد، وأبى بكر بن عبد الرحمن، وأبى سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال الشافعى: يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إذا كان المطر دائمًا ولا يجمع فى غير حال المطر، وبه قال أبو ثور، وقال مالك: يجمع بين المغرب والعشاء فى الطين والظلمة، وإن لم يكن مطر، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الجمع فى الريح والظلمة. والجمع عند مالك أن يؤخر المغرب، ثم يؤذن لها ويقيم ويصلى، ثم يؤذن فى المسجد للعشاء ويقيمون ويصلون وينصرفون قبل مغيب الشفق، لينصرفوا وعليهم إسفار. وقال محمد بن عبد الحكم: الجمع فى ليلة المطر فى وقت المغرب، ولا يؤخر المغرب، وذكر أنه قول ابن وهب، وأنه اختلف فيه قول مالك. وروى البرقى عن أشهب مثل قول ابن وهب، قال محمد: لأنه إن أخر المغرب لم يصل واحدة منهما فى وقتها؛ ولأن يصلى فى وقت إحداهما أولى. وخالف أبو حنيفة وأصحابه هذا الحديث، وقالوا: لا يجمع أحد بين الصلاتين فى مطر ولا غيره، وقالوا فى حديث ابن عباس: هذا ليس فيه صفة الجمع، وممكن أن يكون أخر الظهر إلى آخر وقتها، وصلاها، ثم صلى العصر فى أول وقتها، وصنع بالمغرب والعشاء كذلك، قالوا: وهذا سمى جمعًا ولا يجوز أن تُحال أوقات الحضر إلا بيقين، وروى عن الليث مثله، وقد تأول عمرو بن دينار، وأبو الشعثاء فى هذا الحديث مثل تأويل أبى حنيفة.(2/168)
وروى عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: صلى الرسول بالمدينة ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا، قال عمرو: قلت لجابر: أظنه أخرَّ الظهر وعجَّل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه، وهذا تأويل من لم ير الجمع، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته. وقد ذكر ابن المواز، عن ابن الماجشون مثله قال: لا بأس بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتقديم العصر فى أول وقتها، والجمع بينهما، وهذا التأويل ليس بشىء؛ لأنه عليه السلام، لمَّا لم يجمع بين العصر والمغرب، ولا بين العشاء والصبح، علمنا أنه جمع بين صلاتين فى وقت إحداهما وهو وقت الأخرى، فصح أن الظهر يشترك مع العصر، والمغرب مع العشاء فى باب الإجزاء لا فى باب الاختيار على رواية ابن وهب، وعلى قول أشهب، وهو قول ربيعة، وابن سيرين. ولو كان هذا الجمع كما زعم أبو حنيفة، وأبو الشعثاء فى آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، لجاز الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والصبح، ولمَّا أجمعوا أن السنة إنما وردت فى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، عُلم أن ذلك لاشتراك وقتيهما، وأن ما تأولوه ليس بجمع؛ إذ لو كان جمعًا لجاز مثله فى العصر والمغرب، والعشاء، والفجر، فسقط قولهم. وقدر روى حديث ابن عباس هذا على خلاف ما تأوله أيوب ومالك، روى أبو داود عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: (جمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء فى المدينة فى غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن(2/169)
لا يحرج أمته) ، هكذا يقول حبيب بن أبى ثابت: من غير خوف ولا مطر بالمدينة، وإذا كان بالمدينة فلا معنى لذكر السفر فيه. وقد روى صالح مولى التوأمة عن ابن عباس مثله: (من غير خوف ولا مطر) ، وليست رواية من روى فى هذا الحديث: (من غير خوف ولا سفر) معارضة لرواية من روى (من غير خوف ولا مطر) ؛ لأنه قد صح عن الرسول أن هذا الجمع كان بالمدينة فى حضر، فمن نفى المطر روى أنه كان بالمدينة، وزاد على من نفى السفر؛ لأنه وافقه أنه لم يكن فى سفر، فهى زيادة يجب قبولها. ففيه من الفقه: جواز الجمع بين الصلاتين فى الحضر، وإن لم يكن مطر، وقد أجاز ذلك طائفة من العلماء إذا كان ذلك لعذر يحرج به صاحبه ويشق عليه، على ما روى حبيب بن أبى ثابت، قال ابن سيرين: لا بأس بالجمع بين الصلاتين فى الحضر إذا كانت حاجة أو شىء ما لم يتخذه عادة، وأجاز ذلك ربيعة بن عبد الرحمن، وقال أشهب فى المجموعة: لا بأس بالجمع بين الصلاتين فى الحضر بغير مطر ولا مرض، وإن كانت الصلاة أول الوقت أفضل، وروى ابن وهب، عن مالك: من صلى العصر أول وقت الظهر، أنه يعيد ما دام فى الوقت استحبابًا، قال بعض أصحابه: ومعنى ذلك أنه صلى بعد الزوال بقدر أربع ركعات للظهر. وذكر ابن المواز، عن ابن الماجشون أنه لا بأس بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتقديم العصر إلى أول وقتها، والجمع بينهما، وقد سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: أليس قد قال ابن عباس: (لئلا يحرج أمته؟) وهذا الحديث رخصة للمريض للجمع بين الصلاتين. وقال مالك: إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع بين الظهر(2/170)
والعصر عند الزوال، وجمع بين المغرب والعشاء عند الغروب، فأما إن كان الجمع أرفق به، ولم يخش أن يغلب على عقله، فليجمع بينهما فى وسط وقت الظهر، وعند غيبوبة الشفق، قال مالك: والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك عليه، وقال الليث: يجمع المريض، وقال أبو حنيفة: يجمع المريض كجمع المسافر عنده فى آخر وقت الأولى، وأول وقت الثانية، فأما فى المطر فلا يجمع عنده بحال، وقال الشافعى: لا يجمع المريض بين الصلاتين.
- باب وَقْتُ الْعَصْرِ
/ 17 - فيه: عَائِشَةَ: (أَنَ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ حُجْرَتِهَا) . / 18 - وقال مرة: (لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا) . / 19 - وفيه: أبو هريرة: (أنَ النَّبِيُّ كان يُصَلِّي صَلاةَ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَرْفِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ مرتفعة حَيَّةٌ) . / 20 - وفيه: أَنَسِ: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ) . / 21 - وفيه: أبو أمامة قال: (صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ، وَهَذِهِ صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ) . / 22 - وفيه: أنس قال: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، فيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى قُبَاءٍ،(2/171)
فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) . / 23 - وقال مرة:: (كَنا نُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، أَوْ نَحْوِهِ) . هذا الباب كله يدل على تعجيل العصر وأنه السنة، واختلفوا فى أول وقت العصر، فقال مالك، والثورى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شىء مثله، وقال الشافعى: أوله إذا جاوز ظل كل شىء مثله بشىء ما، حتى ينفصل من آخر وقت الظهر على ما تقدم فى الباب قبل هذا. وقال أبو حنيفة: أول وقت العصر أن يصير ظل قامتين بعد الزوال، ومن صلى العصر قبل ذلك لم يجز، فخالف الآثار، وخالفه أصحابه، ووقت القامتين آخر وقت العصر المختار عند مالك فى رواية ابن عبد الحكم عنه، وفى المدونة: لم يكن مالك يذكر القامتين فى وقت العصر ولكنه كان يقول: والشمس بيضاء نقية. واختلفوا فى التعجيل بصلاة العصر وتأخيرها، فذهب أهل العراق إلى أن تأخيرها أفضل، واحتجوا بما روى عن ابن مسعود، وأبى هريرة أنهم كانوا يؤخرونها حتى تصفر الشمس، وكان على يؤخرها حتى ترتفع الشمس على الحيطان، وقال أبو قلابة، وابن شبرمة: إنما سميت العصر لتعتصر، وهو قول النخعى، وممن كان يعجل العصر عمر بن الخطاب، وكتب إلى عماله: أن صلوا العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة، وكان ابنه عبد الله يصليها والشمس بيضاء نقية ويعجلها مرة، ويؤخرها أخرى.(2/172)
وروى هشام بن عروة قال: قدم رجل على المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، فرآه يؤخر العصر، فقال: لم تؤخر العصر، وقد كنت أصليها مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم أرجع إلى أهلى إلى بنى عمرو بن عوف والشمس مرتفعة حيّة؟ وأحاديث هذا الباب تدل على تعجيل صلاة العصر، ألا ترى قول عائشة أن النبى كان يصلى العصر والشمس لم تخرج من حجرتها، ولا تكون الشمس فى قصر الحجرة على قصر حيطانها، إلا فى أول وقت العصر، وقول أنس، وأبى برزة: كنا نصلى العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله والشمس مرتفعة حيّة، يدل على تعجيلها أيضًا؛ لأن حياة الشمس أن تجد حرها، وقول أنس: فيذهب الذاهب إلى العوالى والشمس مرتفعة، ولا يكون ذلك إلا فى أول وقتها. قال أبو سليمان الخطابى: حياتها: صفاء لونها قبل أن تصفر أو تتغير. وقول أنس: (كنا نصلى العصر فيذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم والشمس مرتفعة) ، فالصحيح فيه: العوالى، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب كلهم غير مالك فى الموطأ، فإنه تفرد بذكر قباء، قال البزار: والصواب ما اجتمعت عليه الجماعة، وهو ممَّا يعد على مالك أنه وهم فيه. قال المؤلف: وقد روى خالد بن مخلد، عن مالك: (إلى(2/173)
العوالى) كما رواه أصحاب ابن شهاب، ذكره الدارقطنى، فلم يهم فيه مالك. والعوالى من المدينة على أربعة أميال، ولا يأتونها بعد صلاتهم العصر مع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ويجدون الشمس مرتفعة حية، إلا وقد صلاها الرسول بهم فى أول الوقت، وهذا لا يكون إلا فى الصيف فى طول النهار، وهذا مستغنى عن الاحتجاج لوضوحه. وقول أبى أمامة: (صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلى العصر) ، قال: هذا يدل على أن تأخير عمر الظهر عن وقتها المستحب، كما أخر صلاة العصر حين أنكر ذلك عليه عروة بن الزبير، وروى أن بنى أمية كانوا يؤخرون الصلاة عن أوائل الوقت وكان ذلك عادتهم. وقول أنس: (هذه صلاة رسول الله التى كنا نصليها معه) ، يدل على أن سنته تعجيل العصر فى أول وقتها كما ثبت فى سائر أحاديث هذا الباب. وقوله: (حين تدحض الشمس) ، يعنى حين تزول الشمس، وأصل الدحض: الزلق، يقال: دحض يدحض دحضًا: إذا زلق، والدحض: ما يكون عند الزلق، من كتاب العين، والتهجير، والهاجرة: وقت شدة الحر. قال أبو حنيفة: سميت الهاجرة هاجرة، لهرب كل شىء منها.(2/174)
- باب إِثْمُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاة الْعَصْرُ
/ 24 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ: (الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) . قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: إنما وجب التعظيم لصلاة العصر وقصدها بالخطاب دون غيرها، وإن كانت داخلة فى قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، لاجتماع المتعاقبين من الملائكة فيها، وإنما أراد عليه السلام فواتها فى الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس أو مغيبها؛ لما يفوته من صلاتها فى الجماعة من حضور الملائكة فيها، فصار ما يفوته من هذا المشهد العظيم الذى يجتمع فيه ملائكة الليل، وملائكة النهار أعظم من ذهاب أهله وماله، فكأنه قال: الذى يفوته هذا المشهد الذى أوجب البركة للعصر كأنما وتر أهله وماله، ولو كان فوات وقتها كله باصفرار أو غيبوبة لبطل الاختصاص؛ لأن ذهاب الوقت كله موجود فى كل صلاة بهذا المعنى، فسره ابن وهب، وابن نافع، وذكره ابن حبيب عن مالك، وابن سحنون عن أبيه، قال ابن حبيب: وهو مثل حديث يحيى بن سعيد: (إن الرجل ليصلى الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها أكثر من أهله وماله) ، يريد أن الرجل ليصلى الصلاة فى الوقت المفضول ولما فاته من وقتها الفاضل، الذى مضى عليه اختيار النبى، وأبى بكر وكتب به عمر إلى عماله، أفضل من أهله وماله، وليس فى الإسلام حديث يقوم مقام هذا الحديث؛ لأن الله تعالى، قال: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غيره.(2/175)
وقوله: (وتر أهله وماله) أى سلب ذلك، قال صاحب (العين) : الوتر والترة: الظلم فى الدم، يقال منه: وُتِرَ الرجلُ وترًا وترة. فمعنى وتر أهله وماله: أى سُلب ذلك وحُرِمَهُ، فهو أشد لغمه وحُزنه؛ لأنه لو مات أهله وذهب مالُه بغير سلبٍ لم تكن مصيبةُ ذلك عنده بمنزلة السَّلب؛ لأنه يجتمع عليه فى ذلك غَمَّان: غم ذهابهم، وغم الطلب بوترهم. وإنما مثله عليه السلام فى ما يفوته من عظيم الثواب بالذى حرم أهله وماله، فبقى لا أهل له ولا مال، وأصله من الوتر وهو الذَّحْل، يقال منه: وَتَرَهُ يَتِرُهُ وَتْرًا وتِرَةً، و (الوِتْر) بكسر الواو اسم لا مصدر، وقد يحتمل أن يكون عنى بقوله: (فكأنما وتر أهله وماله) ، أى نقص ذلك وأفرد منه، من قوله تعالى: (ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35] ، أى لن ينقصكم، والقول الأول أشبه بمعنى الحديث، والله أعلم.
- باب مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ
(1) / 25 - فيه: بُرَيْدَةَ: أنه قَالَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ: (بَكِّرُوا بِصَلاةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ نَّبِيَّ الله قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) . قال المهلب ': معناه من تركها مضيعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها، فحبط عمله فى الصلاة خاصة، أى لا يحصل على أجر المصلى فى وقتها ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة.(2/176)
قال الطبرى: فإن قيل: ما معنى قوله: (بكروا بصلاة العصر) فى يوم الغيم، ولا سبيل إلى كعرفة أوقات النهار لارتفاع الأدلة على ذلك بالغيم الساتر عين الشمس؟ قال: ذلك أمر منه عليه السلام بالبكور بها على التحرى والأغلب عند المتحرى لا على إحاطة نفس العلم بإصابة أول وقتها؛ لأن أوقات الصلوات لا تدرك فى يوم الغيم إلا بالتحرى والعلم الظاهر.
- باب فَضْلُ صَلاةِ الْعَصْرِ
/ 26 - فيه: جَرِيرِ: (كُنَّا عِنْدَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً الْبَدْرَ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا) ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه: 130] ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لا تَفُوتَنَّكُمْ) . / 27 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ: (يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) . قال المؤلف: ذكر ابن أبى خيثمة قال: حدثنا الهيثم بن(2/177)
خارجة، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعى، ومالك، وسفيان الثورى، والليث بن سعد عن الأحاديث التى فيها ذكر الرؤية فقالوا: أمرها كيف جاءت بلا كيفية. قال المهلب: وقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة) ، يعنى: على شهودها فى الجماعة، فخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ولرفعهم أعمالهم فيها، لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم، قال أبو عبد الله: وقد قال عليه السلام يوم الخندق: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا) ، فسمى العصر وسطى. وممن ذهب إلى أن العصر هى الصلاة الوسطى على بن أبى طالب، وعائشة، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو أيوب الأنصارى، والحسن، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأكثر أهل الحديث، واحتجوا بقوله يوم الخندق. وقيل: إنها الصبح رُوى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى، وأبى أمامة، وجابر بن عبد الله، ومن التابعين: عطاء، وعكرمة، وطاوس، ومجاهد، وهو قول مالك، وحكى مالك أنه بلغه عن على بن أبى طالب مثله. وقيل: إنها الظهر رُوى ذلك عن: زيد بن ثابت، وابن عمر، وأبى سعيد الخدرى، وعائشة، وعروة بن الزبير، وقال قبيصة بن ذؤيب: هى المغرب، واحتج الذين قالوا: إنها الظهر بما روى(2/178)
الزهرى، عن سعيد بن المسيب، قال: كنت فى قوم فاختلفوا فى الصلاة الوسطى، وأنا أصغر القوم، فبعثونى إلى زيد بن ثابت لأسأله عن ذلك، فسألته قال: كان رسول الله يصلى بالهاجرة والناس فى قائلتهم وأسواقهم ولم يكن يصلى وراء رسول الله إلا الصف والصفان، فنزلت: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) [البقرة: 238] ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لينتهين قوم أو لأحرقن بيوتهم) . وأما الذين قالوا: إنها المغرب فقالوا: ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر فى السفر، وأن رسول الله لم يؤخرها عن وقتها ولا تعجلها. وأما حجة الذين قالوا: إنها الصبح، فإن ابن عباس قد استدل على ذلك بأنها تصلى فى سواد من الليل وبياض من النهار، وقالوا: وهى أكثر الصلوات تفوت الناس. قال إسماعيل بن إسحاق: ومن الحجة على ذلك قوله: (وقرآن الفجر) [الإسراء: 78] الآية، فخصت بهذا النص وأنها مفردة لا يشاركها فيه غيرها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وإنما سمى الرسول العصر وسطى، والله أعلم، شبهها بالصبح لفضلها واجتماع الملائكة فيها فى قوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر) .) وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] ، فالصبح وسطى(2/179)
بالكتاب والعصر وسطى بالسنة؛ لأن الصبح مذكورة بالكتاب بشهود الملائكة لها، والعصر مذكورة بذلك فى السنة، ألا ترى أن عائشة وحفصة أمرتا أن يكتب لهما فى المصحف: (حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى وصلاة العصر) ، فخصتا العصر بالمحافظة مع الوسطى لاشتراكهما فى تعاقب الملائكة، ولاشتباههما فى أن الصبح يغلب الناس النومُ عليها، وأن العصر يُغلبون عليها بالكسل والسآمة لما كانوا عليه من اشتغالهم ونظرهم فى معاشهم، فتزاحم الشغل والكسل فى وقتها، والله أعلم. قال المهلب: فى حديث أبى هريرة أن أهم ما يسأل عنه العبد عند ملاقاة ربه: الصلاة، وأن أهم الصلوات صلاة الصبح وصلاة العصر؛ لاجتماع الملائكة فيهما، وأن الله تعالى، يسأل عما أكد المحافظة عليه منهما، فلذلك عرفهم أنهم ملاقوه وأنهم يرونه، ويسألهم عن ذلك. وقوله: (لا تضامون) كأنه من الضيم، من رواه مخفف الميم معناه: لا يضيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه أو يستأثر به دونه. وقال بعض أهل اللغة: إنما هو تضامون، بإدغام الميم، على تقدير تفاعلون، وهو من الانضمام يريد أنكم لا تختلفون فيه حتى تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض، فيقول واحد: هو ذاك، ويقول آخر: ليس، كذلك فِعلُ الناس عند النظر إلى الهلال أول ليلة من الشهر، قاله ابن قتيبة. قال: وكذلك فى رواية من روى: (تضارون) ، وهو من الضير(2/180)
أى لا يضير بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه ويستأثر به دونه، وقال بعض أهل اللغة: إنما هو تضارون من الضرار وهو أن يتضارر الرجلان عند الاختلاف، يقال: ضار الرجلُ الرجلَ مضارة وضرارًا، وقد وقع الضرار بينهما والاختلاف.
- باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ
/ 28 - فيه: أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ) . / 29 - وفيه: ابن عمر قال: قال النبى: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإنْجِيلِ الإنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ، فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّ، أَعْطَيْتَ هَؤُلاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلا، قَالَ: قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لا، قَال: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) . / 30 - وفيه: أَبو مُوسَى قَالَ الرَّسُول (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا، يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلا إِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ(2/181)
النَّهَارِ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُمِ الَّذِي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ وقت الْعَصْرِ، قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ) . قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من أدرك سجدة) يريد ركعة، فكنى بذكر السجدة عنها؛ إذ لا يكون مدركًا سجدة إلا بعد إدراك ركعة، وقد جاء حديث أبى هريرة هذا بلفظ آخر عنه أنه قال: (من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر) . ومعلوم أن الرسول لم يرد الركوع خاصة حتى يكون معه سجود، فمرة عبر بالسجود عن الركوع، ومرة اقتصر على ذكر الركوع. وأئمة الفتوى متفقون على أن من لم يدرك الركعة لم يدرك السجدة، وهذا الحديث عند الفقهاء خرج مخرج العموم، ومعناه الخصوص؛ لنهيه عليه السلام، أن يتحرى بالصلاة طلوع الشمس وغروبها، فالمراد به أصحاب الضرورات؛ لأنهم لا يلزمهم صلاة إلا أن يدركوا منها ركعة، أو يدركوا من الصلاتين المشتركتين الأولى منهما، وركعة من الثانية، وهم: المغمى عليه والمجنون يفيقان، والحائض تطهر، والكافر يسلم، والصبى يبلغ، كل هؤلاء عند مالك يصلون الصلاة التى يدركون منها ركعة بسجدتيها فى آخر وقتها، فإن لم يدركوا منها ركعة بسجدتيها بعد الفراغ مما يلزمهم من الطهارة لم يجب عليهم أن يصلوا، وقال الشافعى مثله فى أحد قوليه، واختلف قوله فيهم إذا أدركوا ركعة من العصر، فقال: يعيدون الظهر والعصر، وكذلك لو(2/182)
أدركوا مقدار تكبيرة الإحرام من العصر، فوافقه أبو حنيفة فى أنهم إن أدركوا من وقت صلاة مقدار تكبيرة الإحرام فقد أدركوها. واحتج أصحاب الشافعى فقالوا: إنما أراد الرسول بذكر الركعة البعض من الصلاة، فكأنه قال: من أدرك عمل بعض الصلاة فى الوقت، والدليل على ذلك قوله: من أدرك ركعة، وقال مرة أخرى: من أدرك سجدة، فدل أنه أراد البعض، والتكبير بعض الصلاة. وقال ابن القصار: فالجواب أن هذا ينقض عليه أصله فى الجمعة؛ لأنه يقول: من لم يدرك ركعة بسجدتيها من الجمعة؛ فلم يدركها. والحجة لقول مالك قوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، فدل هذا الكلام أنه لا يكون مدركًا بإدراك أقل من ركعة؛ إذ لو كان أقل من ركعة بمنزلتها لم يكن لتخصيصها بركعة معنى، وتكبيرة الإحرام لا تسمى ركعة، ويُبين صحة هذا قوله: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) ، وهذا يلزم من قال: إنه إن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس وجب عليه أن يصلى الظهر والعصر؛ لأنه عليه السلام إنما جعل من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس مدركًا لصلاة واحدة وهى العصر، فلا يجوز أن يكون مدركًا لغيرها، ولا يجوز أن يجب عليه غير ما أوجبه الرسول، وقد اتفقنا أنه لو بلغ الصبى وأسلم الكافر، وطهرت الحائض فى وقت المغرب لم تلزمهم صلاة الصبح، فكذلك صلاة الظهر؛ لأنه لم يدرك من وقتها شيئًا، وأيضًا فإن الشافعى يقول: إن صلاة الظهر تفوت قبل دخول وقت العصر، فإن فاتت فلا قضاء لما فات وقته.(2/183)
ويقول أبو حنيفة، فيمن عدا المغمى عليه، أنهم إن أدركوا العصر فى وقتها لم يقضوا صلاة الظهر؛ لأن بينها وبين العصر وقتًا تفوت فيه. وفى حديث أبى هريرة من الفقه حجة لما ذهب إليه عامة الفقهاء أنه من نام عن صلاة الصبح أو نسيها، فأدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس وركعة بعدها أنه يتمها، وكذلك العصر، هذا قول مالك، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وعامة العلماء. وخالف بعض هذا الحديث أبو حنيفة فقال: إن أدرك ركعة من العصر قبل مغيب الشمس أنه يتمها بعد مغيب الشمس، ولا يصلى غير عصر يومه فى ذلك الوقت، ولا يجوز أن يقضى فيه صلاة فائتة غيرها، وإذا أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس بطلت صلاته، واسقبلها بعد ارتفاع الشمس. وأصحاب الضرورات عنده إذا لم يدركوا إلا ذلك الوقت لم يلزمهم شىء، واحتج بأن العصر يقع آخرها فى وقت يصلح للإنسان أن يبتدئ الصلاة فيه، وليس هكذا طلوع الشمس؛ لأنه ليس وقتًا للصلاة، وقالوا: ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد أخر الصلاة حين نومه عن الصبح من أجل انتباهه عند طلوع الشمس، ولم يصلها حتى ارتفعت، وهذا رد لحديث أبى هريرة؛ لأنه عليه السلام قال: (من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس فليتم صلاته، ومن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته) ، فسوى بين العصر والصبح فى أن حكمهما واحد فى الإتمام بعد غروب الشمس وبعد طلوعها، وقد يجوز أن يبتدئ قضاء الفرض فى وقت(2/184)
لا يجوز أن تؤخر الصلاة إليه، فكذلك يجوز أن يقع آخر صلاته فى وقت لا يجوز أن يبتدئ الصلاة فيه، وعلتهم تقلب عليهم؛ فيقال: إن العصر قد ابتدأها فى وقت لا يجوز أن يفعلها فيه، وصلاة الصبح ابتدأها فى وقتها، فإذا جاز ذلك فى العصر فالصبح أولى. قال المهلب: وإنما أدخل حديث ابن عمر وأبى موسى فى هذا الباب بقوله: (ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين) ، ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذى أعطى من العصر إلى الليل أجر النهار كله لمستأجريه أولى، فمثل هذا الذى أعطى على كل ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلها فى آخر الوقت. وأما احتجاجهم بأن الرسول أخر الصلاة فى الوادى حين انتبه حتى ارتفعت الشمس، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه قد ثبت أنهم لم يستيقظوا يومئذ حتى أيقظهم حر الشمس، ولا يكون لها حرارة إلا والصلاة جائزة ذلك الوقت.
- باب وَقْتُ الْمَغْرِبِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. / 31 - فيه: رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) .(2/185)
/ 32 - وفيه: جَابِرَ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بيضاء نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئوْا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ كَانَ الرسول يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ) . / 33 - وفيه: سَلَمَةَ قَالَ: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) . / 34 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (صَلَّى النَّبِيُّ سَبْعًا جَمِيعًا، وَثَمَانِيًا جَمِيعًا) . أجمع العلماء على أن وقت المغرب غروب الشمس، وذهب مالك والأوزاعى، وأحد قولى الشافعى أن وقت المغرب غروب الشمس، لا يؤخر عنه فى الاختيار، وذهب أبو حنيفة، والثورى، وأحمد، وإسحاق إلى أن لها وقتين. وقد قال مالك فى الموطأ ما يدل على هذا، قال: إذا غاب الشفق خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، وقال محمد بن مسلمة، من أصحاب مالك: أول وقت المغرب غروب الشمس، ولمن شاء تأخيرها إلى مغيب الشفق فذلك له، وهو منها فى وقت غيرُهُ أحسنُ منه، واحتج الذين قالوا: إن لها وقتين بقوله عليه السلام: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدوا بالعشاء) ، وكل ذلك يدل على سعة الوقتية قالوا: وقد قرأ فيها الرسول بالطور، والصافات، والأعراف، والحجة لمالك ومن وافقه أن الروايات لم تختلف فى(2/186)
صلاة جبريل بالنبى؛ فإنه صلى به العشاء فى وقت واحد، وكذلك أحاديث هذا الباب كلها تدل على ذلك، ألا ترى أن قول رافع بن خديج: (كنا ننصرف من المغرب مع رسول الله، وأحدنا يبصر مواقع نبله) ، وقال جابر: (كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصلى المغرب إذا وجبت الشمس) ، وقال سلمة: (إذا توارت بالحجاب) ، وهذا كله يدل على المبادرة بها عند غروب الشمس. وقال ابن خواز بنداذ: إن الأمصار كلها بأسرها لم يزل المسلمون على تعجيل المغرب فيها، ولا نعلم أحدًا أَخَّرَ إقامتها فى مسجد جماعة عن غروب الشمس، وفى هذا ما يكفى مع العمل بالمدينة على تعجيلها، ولو كان وقتها واسعًا لعمل المسلمون فيها كسائر الصلوات، من أذان المؤذنين واحدًا بعد واحد، والركوع بين الأذان والإقامة لها، فتركهم ذلك دليل على المبادرة بها، وكان عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله: ولا تنتظروا بصلاتكم اشتباك النجوم، وصلوها والفجاج مسفرة. وصلاها ابن مسعود حين غربت الشمس، وقال: هذا والذى لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أخر عن هذا الوقت. وقوله: (والصبح كانوا، أو كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يصليها بغلس) ، فالمعنى كانوا مع النبى مجتمعين أو لم يكونوا مجتمعين، فإنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصليها بغلسٍ، ولا يصنع فيها كما كان يصنع فى العشاء من تعجيلها إذا اجتمعوا أو تأخيرها إذا أبطئوا، وإنما كان شأنه التعجيل بها أبدًا، وهذا من أفصح الكلام. وفيه حذفان: حذف الخبر (كانوا) وهو جائز كحذف خبر المبتدأ(2/187)
كقوله تعالى: (واللائى لم يحضن) [الطلاق: 4] ، فالمعنى: واللائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف الجملة التى هى الخبر لدلالة ما تقدم عليه، ويحذف خبر (لكن) أيضًا كقول الشاعر: فلو كنت ضبيًا عرفت قرابتى ولكن زنجيًا عظيم المشافر المعنى: ولكن زنجيًا عظيم المشافر لا يعرف قرابتى. وقوله: (أو) يعنى: لم يكونوا مجتمعين، حذف الجملة التى بعد (أو) مع كونها مقتضية لها كقول ذى الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خدى آذانها وهو جانح أراد: أو حين أقبل الليل فحذف (أقبل) مع كون (حين) مقتضية له من حيث هى مضافة إليه، فإذا جاز حذف المضاف إليه مع كونه كالجزء من المضاف، كان حذف ما بعد (أو) أقرب؛ لأنه ليس كالجزء منها.
- باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ
/ 35 - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمُ الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَتَقُولُ الأعْرَابُ: هِيَ الْعِشَاءُ) . قال المهلب: إنما كره أن يقال للمغرب العشاء، والله أعلم؛ لأن التسمية من الله ورسوله لا تترك لرأى أحد لقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم) [البقرة: 31] . قال غيره: وهذا يدل أنه لا يجب أن يقال: للمغرب العشاء الأولى كما تقول العامة، وينبغى أن تفرد كل صلاة باسمها، ليكون(2/188)
أبعد لها من الإشكال إلا العتمة؛ فإنها قد صحت فى الآثار الثابتة لها اسمان: العتمة والعشاء.
- باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا
فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَالاخْتِيَارُ أَنْ يُقَالَ الْعِشَاءُ، لِقَوْلِهِ: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) [النور 58] . وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ الرَّسُولَّ (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ، فَأَعْتَمَ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ عَائِشَةَ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعَتَمَةِ. وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ، كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ. وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. / 36 - فيه: ابن عمر قَالَ: (صَلَّى لَنَا النبى (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً صَلاةَ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ: الْعَتَمَةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَرَأَيْتُكمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ) . هذا يدل على أن العشاء لها اسمان فى القرآن والسنة، فأما(2/189)
القرآن، فقوله تعالى: (ومن بعد صلاة العشاء) [النور: 58] ، وأما السنة، فقوله عليه السلام: (لو تعلمون ما فى العتمة والفجر) ، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن عمر أنه كره أن يقال لها: (العتمة) ، وعن سالم، وابن سيرين مثله، وأجازه أبو بكر الصديق، وابن عباس، وذكر ذلك ابن أبى شيبة. قال الطبرى: وأصل ذلك من استعتام النَّعَم، يقال: حلبها عتمة، والعتمة بقية اللبن تُغْبقُ بها الناقة بعد هوى من الليل، فقيل لها: العتمة؛ لأنها كانت تُصلى حين تُغْبَقُ النعم، وقيل لكل مبطئ بأمر: عتم بكذا: إذا أبطأ به، وقد عتم هذا الأمر وعتم فهو عاتم ومعتم: إذا أبطأ. قال المهلب: وقد احتج بهذا الحديث من زعم أن الخضر ليس بحى، ولو كان حيا حين قال الرسول هذا القول، لم يجاوز المائة السنة، وقال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) [الأنبياء: 34] .
- باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا
/ 37 - فيه: جَابِرَ قال: (كان النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ) . وأما قوله: (والعشاء إذا كثر الناس عجل) ، فتعجله بها كان بعد مغيب الشفق، وقد أجمع العلماء أن وقت العشاء الآخرة مغيب الشفق.(2/190)
واختلفوا فى مغيب الشفق، فروى عن ابن عباس، وابن عمر، وعبادة بن الصامت، أنها الحمرة التى تكون فى المغرب بعد غروب الشمس، وهو قول مكحول، وابن أبى ليلى، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وقال أبو حنيفة، والمزنى: الشفق: البياض الذى بعد الحمرة، فإذا غاب ذلك البياض وجبت العشاء الآخرة، وقد روى عن ابن عباس أيضًا أنه البياض، وعن أبى هريرة، وأنس مثله، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وذكر ابن شعبان، عن مالك، قال: إذا ذهبت الحمرة وبقى البياض، فأرجو أن تجزئ المصلى صلاته، وما ذلك عنده باليقين، وذهاب البياض هو الذى لا شك فيه، وفيه قول ثالث: أن الشفق اسم لمعنيين عند العرب، وهما الحمرة والبياض، وكان على يصليها إذا غاب الشفق، وقال عمر: عجلوا العشاء قبل أن يكسل العامل وينام المريض. وأما تأخيرها فسيأتى فى بابه ذكر الاختلاف فيه، إن شاء الله، وكان رسول الله يستحب تأخير العشاء، ويكره ما يشق على أمته من طول انتظارها؛ لأنه كان رءوفًا بالمؤمنين، فلذلك كان يعجلها إذا اجتمعوا. ومن هذا الحديث استدل مالك، والله أعلم، على أن صلاة الجماعة فى وسط الوقت أفضل من الصلاة فى أوله فرادى، واستحب مالك لمساجد الجماعات أن يؤخروا الصلاة حتى يجتمع الناس طلبًا للفضل؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة.(2/191)
- باب فَضْلِ الْعِشَاءِ
/ 38 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإسْلامُ، فَلَمْ يجىء حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ لأهْلِ الْمَسْجِدِ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ غَيْرَكُمْ) . / 39 - وفيه: أَبِي مُوسَى قَالَ: اشُّتغْلِ الرسول فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَأَعْتَمَ بِالصَّلاةِ، حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ، قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: (عَلَى رِسْلِكُمْ أَبْشِرُوا إِنَّه مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ) . فيه: إباحة العشاء إذا علم أن بالقوم قوة على انتظارها؛ ليحصلوا على فضل الانتظار ثم الصلاة؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، وهذا لا يصلح اليوم لأئمتنا؛ لأن الرسول لما أمر الأئمة بتخفيف الصلاة، وقال: (إن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة) ، كان ترك التطويل عليهم فى انتظارها أولى. وقد روى مجالد، عن عامر، عن جابر، قال: (أبطأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة عن صلاة العشاء حتى ذهب هوى من الليل، حتى نام بعض من كان فى المسجد، ثم خرج فقال: (لولا ضعف الضعيف، وبكاء الصغير، لأخرت العشاء إلى عتمة من الليل) ، ذكره الطبرى. وتأخيره عليه السلام، الصلاة إلى هذا الوقت من الليل، إنما كان من أجل الشغل الذى منعه منها، ولم يكن ذلك من فعله عادة، وقد جاء فى بعض طرق هذا الحديث معنى شغله: ما كان روى الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: (جهز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة جيشًا حتى قرب نصف الليل، أو ثلثه، خرج إلينا رسول الله فقال:(2/192)
(قد صلى الناس ورقدوا، وأنتم تنتظرون الصلاة، أما إنكم لم تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها) . وروى زر بن حبيش، عن ابن مسعود، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن ننتظر العشاء، فقال لنا: (ما على الأرض أحد من أهل الأديان ينتظر هذه الصلاة فى هذا الوقت غيركم) ، فنزلت: (ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون) [آل عمران: 113] ، وليسوا كالمشركين الذين يجحدون ذلك كله، ذكره الطبرى. وقوله: (ابهارّ الليل) : انتصف، عن ابن السكيت، والبهرة: الوسط من الإنسان والدابة وغيرهما، يقال: ابهارّ النهار حين ترتفع الشمس، ويقال: ابهارّ الليل: ذهب عامته، وبقى نحو من ثلثه، وقد ابهار عليه الليل: أى طال. وقال سيبويه: لا نتكلم بابهار إلا مزيدًا وهو فى القمر. وقال أبو سعيد الضرير: قد يبهار الليل قبل أن ينتصف، وابهراره طلوع نجومه إذا تتامت؛ لأن الليل إذا أقبل أقبلت فحمته، فإذا تطالعت نجومه واشتبكت، ذهبت تلك الفحمة، والباهر الممتلئ نورًا، قال الأعشى: حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الباهر وقال صاحب (العين) : أعتم القوم وعتموا: إذا صاروا فى العتمة أو وردوا.(2/193)
- باب مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ
/ 40 - فيه: أَبو بَرْزَةَ (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) . قال المهلب: إنما كره النوم قبل العشاء لئلا يستغرق فى النوم، فيفوته وقتها المستحب، وربما فاته وقتها كله، فمنع من ذلك قطعًا للذريعة. واختلف السلف فى النوم قبلها، فكان ابن عمر يكاد يَسُبُّ الذى ينام قبل العشاء. وقال أنس: كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء، وكتب عمر ألا ينام قبل أن يصليها، فمن نام فلا نامت عينه. وكره ذلك: أبو هريرة، وابن عباس، وعن عطاء، وطاوس، وإبراهيم، ومجاهد مثله، وهو قول مالك، والكوفيين. ورخصت فيه طائفة روى عن على بن أبى طالب أنه كان ربما غفا قبل العشاء، وكان ابن عمر ينام ويوكل من يوقظه، وعن أبى موسى، وعبيدة مثله، وعن عروة، وابن سيرين والحكم أنهم كانوا ينامون نومة قبل الصلاة، وكان أصحاب عبد الله يفعلون ذلك، وقال به بعض الكوفيين واحتج لهم الطحاوى، وقال: إنما كره النوم قبلها لمن خشى عليه فوت وقتها، أو فوت الجماعة فيها، وأما من وكل لنفسه من يوقظه لوقتها، فمباح له النوم، واحتجوا بفعل ابن عمر، وأبى موسى، وعبيدة، فدل أن النهى عن النوم قبلها ليس هو نهى تحريم لفعل الصحابة له، لكن الأخذ بظاهر الحديث أنجى وأحوط.(2/194)
وقال الطحاوى: قال الليث: قول عمر بن الخطاب: فمن رقد بعد المغرب فلا أرقد الله عينه، أن ذلك بعد ثلث الليل الأول، وقال الطحاوى: تحمل الكراهة على أنها بعد دخول وقت العشاء، والإباحة قبل دخول وقتها، وسيأتى بيان السمر المنهى عنه بعد العشاء، والسمر المباح بعد هذا فى موضعه، إن شاء الله.
- باب النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ
/ 41 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالْعِشَاءِ، حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلاةَ، نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا مِنْ أَهْلِ الأرْضِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، قَالَ: وَلا يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) . / 42 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً، فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا عليه السلام، ثُمَّ قَالَ: (لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ غَيْرُكُمْ) ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يُبَالِي قَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا، إِذَا كَانَ لا يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا، وَقد كَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا) . / 43 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ قال: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ، وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا، وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الصَّلاةَ، فَخَرَجَ الرسول، وقَالَ: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا) .(2/195)
النوم المذكور فى هذا الحديث إنما هو نوم القاعد الذى يخفق برأسه لا نوم المضطحع، والدليل على ذلك أنه لم يكن يذكر أحد من الرواة أنهم توضئوا من ذلك النوم، ولا يدل قوله: (ثم استيقظوا) على النوم المستغرق الذى يزيل العقل وينقض الوضوء؛ لأن العرب تقول: استيقظ من سنَتِه وغفلَتِه، وإلى هذا ذهب الشافعى فى أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، ويشبه أيضًا مذهب مالك فى مراعاته النوم الخفيف فى كل الأحوال؛ لأنه ليس بحدث وهو رد على المزنى فى قوله: إن قليل النوم وكثيره حدث ينقض الوضوء؛ لأنه محال أن يذهب على أصحاب الرسول أن النوم حدث ينقض الوضوء، فيصلون بالنوم، ولا يسألون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، وقد رُوى عن ابن عمر، وابن عباس، وأبى أمامة، وأبى هريرة أنهم كانوا ينامون قعودًا، ولا يتوضئون، فدل هذا أنه كان نومًا خفيفًا. فإن قال قائل: فقد جاء عن أنس أنهم حين كانوا ينتظرون الصلاة مع النبى، عليه السلام، ناموا مضطجعين، ثم صلوا ولم يتوضئوا، ذكره الطبرى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: (كان أصحاب رسول الله ينتظرون الصلاة مع الرسول فيضعون جنوبهم، ثم يقمون فيصلون ولا يتوضئون) . ففى هذا حجة لمن لم ير من النوم وضوءًا أصلاً، وهو قول أبى موسى الأشعرى، وأبى مجلز، وعمرو بن دينار، فهذا خلاف ما تأولت فى هذه الأحاديث، أنهم كانوا ينامون نومًا خفيفًا. قيل: قد جاء حديث قتادة، عن أنس بلفظ آخر، وفيه ما يدل على ما قلناه وهو قوله: (ثم يقومون) ، فمنهم من يتوضأ ومنهم من(2/196)
لا يتوضأ، ذكره الطبرى، فبان بهذا الحديث أن من استغرق فى نومه مضطجعًا أو جالسًا، فهم الذين كانوا يتوضئون، ومن كان نومه خفيفًا فهم الذين كانوا لا يتوضئون كما قلنا، وإجماع العلماء على أن النوم مزيل للعقل ينقض الوضوء، يرد قول من لم ير من النوم وضوءًا أصلا. وأما نوم ابن عمر قبل العشاء، فيدل، والله أعلم، أنه كان منه نادرًا إذا غلبه النوم، فكان يوكل من يوقظه على ما ذهب إليه بعض الكوفيين، وروى معمر، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كان ربما رقد من العشاء الآخرة، ويأمر أن يوقظوه. وقوله: (ربما) ، يدل أنه كان منه فى النادر، فيحتمل أن يفعله إذا أراد أن يجمع بأهله، أو لعذر يمنعه من حضور الجماعة، ثم يجمع بأهله، والله أعلم.
- باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
قَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا. / 44 - فيه: أَنَسِ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلاةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: (قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا) . اختلف العلماء فى وقت عشاء الآخرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وأبى هريرة أن آخر وقتها إلى ثلث الليل، وهو قول عمر بن(2/197)
عبد العزيز، ومكحول، وإليه ذهب مالك لغير أصحاب الضرورات، واستحب لمساجد الجماعات ألا يعجلوها فى أول وقتها إذا كان ذلك غير مضر بالناس، وتأخيرها قليل أفضل عنده، وعند الشافعى وقتها إلى ثلث الليل أيضًا، وقال النخعى: آخر وقتها ربع الليل. وذهب أبو حنيفة، والثورى: إلى أن آخر وقتها نصف الليل، وروى عن ابن عباس أن آخر وقتها طلوع الفجر، وقد روى ابن وهب، عن مالك مثله، وهذا لمن له الاشتراك من أهل الضرورات. وحجة من قال: آخر وقتها ثلث الليل، قول عائشة فى الباب الذى قبل هذا: (فكانوا يصلونها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل) . وحجة من قال: وقتها نصف الليل، حديث أنس الذى فى هذا الباب، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أخر العشاء إلى نصف الليل. وقال بعض العلماء: وهذا عندى على معنى التعليم لأمته بآخر الوقت المختار، كما فعل عليه السلام، حين صلى الصبح حين طلع الفجر ثم صلاها فى اليوم الثانى حين أسفر إعلامًا منه بسعة الوقت، ولذلك قال: (ما بين هذين وقت) .
- باب فَضْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ
/ 45 - فيه: جَرِيرُ: أن نَّبِيِّ الله إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لا تُضَامُّونَ، أَوْ قال: لا تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ(2/198)
غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: (وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه: 130] . / 46 - وفيه: أَبو مُوسَى، قال عليه السلام: (مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) . فى حديث جرير فضل المبادرة والمحافظة على صلاة الصبح والعصر، وأن بذلك تناول رؤية الله تعالى، يوم القيامة، وإنما خصتا بالذكر والتأكيد لفضلهما باجتماع ملائكة الليل، وملائكة النهار فيها، وهو معنى قوله تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] . وأما قوله عليه السلام: (من صلى البردين دخل الجنة) ، فإن أبا عبيدة قال: المراد بذلك الصبح والعصر، والعرب تقول للغداة والعشى: بردا النهار وأبرداه، قال الخطابى: وإنما قيل لهما: بردان، وأبردان لطيب الهواء، وبرده فى هذين الوقتين، وأنشد ثعلب: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفىء من برد العشى تذوق قال: وأما قوله: (إذا اشتد الحر، فأبردوا عن الصلاة) ، فليس هذا من بردى النهار؛ لأنه لا يجوز تأخير الظهر إلى ذلك الوقت، وإنما الإبراد: انكسار وهج الشمس بعد الزوال، وسمى ذلك إبرادًا؛ لأنه بالإضافة إلى حَرِّ الهاجرة برد، وقد روى مثل هذا التفسير عن محمد بن كعب القرظى.(2/199)
- باب وَقْتِ الْفَجْرِ
/ 47 - فيه: زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُم: (أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ عليه السلام، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ آيَةً) . / 48 - وفيه: سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)) . / 49 - وفيه: عَائِشَةَ: (كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) صَلاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاةَ، لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ) . أجمع العلماء على أن وقت صلاة الصبح طلوع الفجر، وهو البياض المعترض فى الأفق الشرقى، واختلفوا فى التغليس بها هل هو أفضل أم الإسفار، فممن كان يغلس بالفجر: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو موسى، وابن الزبير، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وممن كان يسفر بالصبح: ابن مسعود، وأبو الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وأصحاب عبد الله. وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون أن ينصرفوا من الصبح، وأحدهم يرى مواقع نبله، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، واحتجوا لفضل الإسفار بما رواه شعبة، عن أبى داود،(2/200)
عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) . واحتج أهل المقالة الأولى بمداومته عليه السلام، ومداومة أصحابه على التغليس بها، ألا ترى قولها: (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الفجر، فينصرفن متلفعات لا يعرفهن أحد من الغلس) ، وهذا إخبار عن أنه كان يداوم على ذلك، أو أنه أكثر فعله، ولا تحصل المداومة إلا على الأفضل. وزعم الطحاوى بأن آثار هذا الباب إنما تتفق بأن يكون دخوله عليه السلام، فى صلاة الصبح مغلسًا، ثم يطيل القراءة حتى ينصرف منها مسفرًا، وهذا فاسد من قوله لمخالفته قول عائشة؛ لأنها حكت أن انصرافهن من الصلاة كان ولا يُعْرَفْنَ من الغلس. وروى حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن عمرة، عن عائشة قالت: (كنا نصلى مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلاة الفجر فى مروطنا فننصرف، وما يعرف بعضنا وجوه بعض) . فبان بهذا الحديث أن النساء كن لا يُعرفن أرجال هن أم نساء؛ فإنهن كن يسرعن الانصراف عند الفراغ من الصلاة، ويدل أن الإمام لا يطيل القراءة جدًا، ولو أطالها لما انصرفن إلا فى الإسفار البيِّن. والذى يجمع بين حديث عائشة وبين قوله عليه السلام: (أسفروا بالفجر) من التأويل ما قاله أحمد بن حنبل، فإنه قال: الإسفار الذى أراد عليه السلام، هو أن يتضح الفجر، فلا يشك أنه قد طلع، قال غيره: والإسفار فى اللغة: الكشف، يقال: أسفرت المرأة عن(2/201)
وجهها إذا كشفته، فكأنه قال عليه السلام: (أسفروا بالفجر) ، أى تبينوه، ولا تغلسوا بالصلاة وأنتم تشكون فى طلوعه حرصًا على طلب الفضل بالتغليس، فإن صلاتكم بعد تيقن طلوعه أعظم للأجر، وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار، ومما يشهد لصحة هذا التأويل حديث ابن مسعود أنه سأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (أى الأعمال أفضل، قال: الصلاة لأول وقتها) ، ومن جعل الإسفار تأخير الصلاة عن أول وقتها، فهو محجوج بهذا الحديث، وحمل الآثار على ما ينفى التضاد عنها أولى، والحمد لله. وفى حديث زيد بن ثابت، وسهل بن سعد تأخير السحور، وإنما كانوا يؤخرونه إلى الفجر الأول، وسيأتى معنى ذلك فى كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى. والمروط: أكسية من صوف رقاقٍ، واحدها: مِرْط. ومتلفعات يعنى: مشتملات، يقال: تَلَّفَعَ بثوبه، إذا اضطبع به، وتلَفَّعَ الرجلَ الشيبُ، إذا شمله، عن صاحب العين، وقال صاحب الأفعال: لفاع المرأة كالقناع.
- باب مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْفَجْرِ رَكْعَةً
/ 50 - فيه: أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ عليه السلام: (مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ) . قد(2/202)
تقدم الكلام فى معنى هذا الحديث قبل هذا بما أغنى عن إعادته، ونذكر هنا ما لم يمض هناك، وفى هذا الحديث دليل أن من لم يدرك من الوقت ركعة فلم يدرك منه شيئًا، ومن لم يدرك منه شيئًا ممن تلزمه الصلاة قبل الوقت فلا صلاة عليه، وهذا يرد قول أبى حنيفة فى المغمى عليه أنه إذ أفاق لأقل من ركعة قبل غروب الشمس أنه يلزمه قضاء خمس صلوات فدون، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن من لم يدرك من الوقت إلا أقل من ركعة لم تلزمه صلاة الوقت فكيف تلزمه غير صلاة الوقت. وذهب مالك، والشافعى إلى أن المغمى عليه لا يقضى إلا ما أدرك وقته بإدراك ركعة من الصلاة.
- باب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ
/ 51 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: معناه: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة، واستدلوا على ذلك بأن الساعى إلى الصلاة ومنتظرها فى صلاة، وبما رُوى عن أبى هريرة أنه قال: إذا انتهى إلى القوم وهم قعود فى آخر صلاتهم، فقد دخل فى التضعيف، وإذا انتهى إليهم وقد سلم الإمام ولم يتفرقوا فقد دخل فى التضعيف، يعنى الدرجات السبع وعشرين. وقال عطاء: كان يقال: إذا خرج من بيته وهو ينويهم، فقد دخل فى(2/203)
التضعيف، وعن أبى وائل، وشريك: من أدرك التشهد فقد أدرك فضلها، والفضائل لا تدرك بقياس. وقال آخرون: معنى هذا الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها كله، وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه وإن لم يدركه معه، وأنه لو أدرك وهو مسافر ركعة من صلاة مقيم لزمه حكم المقيم فى الإتمام، وهذا قول مالك وجماعة. والدليل على أنه أرد حكم الصلاة لا فضلها، قوله: (من فاته التأمين، فقد فاته خير كثير) ، وهذا الحديث يدل أنه من لم يدرك ركعة من الصلاة فلا مدخل له فى حكمها، إلا أن العلماء اختلفوا فى دليل هذا الحديث، فذهب مالك، والثورى، والأوزاعى، والليث، وزفر، ومحمد، والشافعى، وأحمد إلى أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: إذا أحرم فى الجمعة قبل سلام الإمام صلى ركعتين، وهو قول النخعى، والحكم، وحماد، واحتجوا بقوله عليه السلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) . والذى فاته ركعتان لا أربع، والقول الأول أولى؛ لأنه إذا لم يدرك ركعة من الجمعة لم يدرك شيئًا منها، ومن لم يدرك منها شيئًا صلى أربعًا بإجماع، وقد سئل ابن شهاب عن من أدرك التشهد يوم الجمعة، قال: يصلى أربعًا، واستهد بهذا الحديث، وقال: هى السنة، وفى دليل هذا الحديث رد على عطاء، ومكحول،(2/204)
وطاوس، ومجاهد فى قولهم: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة أنه يصلى أربعًا، وقالوا: إن الجمعة إنما قصرت من أجل الخطبة، وذهب مالك وجماعة من الفقهاء إلى أنه يصلى ركعتين مع الإمام؛ لأنه أدركها كلها، واحتج الطحاوى لهذا القول، فقال: لا يختلفون أنه لو شهد الخطبة، ثم أحدث فذهب يتوضأ، ثم جاء وأدرك مع الإمام ركعة، أنه يصلى ركعتين، فلما كان فوات الركعة لا يمنعه فعل الجمعة، كانت الخطبة أحرى بذلك، فدل على بطلان قول عطاء. وفيه أيضًا رد على أبى حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد فى قولهم: أنه من أدرك التشهد من المسافرين خلف إمام مقيم لزمه الإتمام، ومالك إنما راعى إدراك ركعة معه، بدليل هذا الحديث، وهو قول النخعى، والحسن، وكذلك راعى مالك إدراك الركعة فى وجوب سهو الإمام على المأموم، ومذهبه فى ذلك أن سجدتى السهو إن كانتا قبل السلام سجدهما معه، وإن كانتا بعد السلام لم يسجدهما معه وسجدهما إذا أتم صلاته، وهو قول الأوزاعى، والليث، وقال أبو حنيفة، والشافعى: إذا أدرك التشهد وأحرم قبل سلام إمامه لزمه أن يسجد معه للسهو، ومالك أسعد الناس باستعمال نصِّ هذا الحديث ودليله. ومن قول مالك أيضًا: أنه من لم يدرك ركعة من صلاة الجماعة ممن صلاها وحده فى بيته لم يعدها، وقال أيضًا: من أدرك ركعة من صلاة الجماعة لم يصل تلك الصلاة فى جماعة.(2/205)
- باب الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ
/ 52 - فيه: عُمَرُ (أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام، نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ) . / 53 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ أن نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَحَرَّوْا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا، وإِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغِيبَ) . / 54 - وفيه: أبو هريرة: (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ. . .) الحديث. وترجم لحديث ابن عمر وأبى هريرة. 28 - باب لا تُتَحَرَّى الصَّلاةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ / 55 - وزاد فيه: قال معاوية: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما، يعنى الركعتين بعد العصر. اختلف العلماء فى تأويل نهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، فقال مالك: المراد بذلك النافلة دون الفرض، والفرائض الفائتة تصلى أى وقت ذكرت؛ لقوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، وأدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة) ، ومعلوم أنه إذا أدرك ركعة، فلا يقع إتمام الصلاة إلا فى الوقت المنهى عنه، فدل ذلك على ما قلناه، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال الشافعى: المراد به النافلة المبتدأة، وأما الصلوات المفروضات والمسنونات، أو ما كان يواظب عليه من النوافل فلا، واحتج بالإجماع على صلاة الجنازة، وبحديث عائشة أن الرسول قضى الركعتين بعد العصر.(2/206)
وقال الكوفيون: المراد بذلك النوافل، ويقضى الفرائض فى هذين الوقتين، وأما إذا برزت الشمس قبل أن ترتفع، وإذا تدلت للغروب قبل أن تغرب، فلا يجوز أن يصلى فيه فريضة، ولا نافلة، ولا على جنازة إلا عصر يومه خاصة؛ لقوله عليه السلام: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . .) ، وقد تقدم الرد عليه فى أول هذا الباب مع قول مالك، وفى باب من أدرك ركعة من العصر قبل المغرب، بما فيه كفاية. وقد روى عن جماعة من السلف قول آخر، قالوا: نهى الرسول عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فأما ما لم يبدُ حاجب الشمس للطلوع ولم يتدل للغروب فالصلاة جائزة، وحجتهم حديث ابن عمر أن الرسول قال: (لا يتحرى أحدكم فيصلى عند طلوع الشمس ولا عند غروبها) ، وقوله: (إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب) . وروى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن مسعود، وبلال، وأبى أيوب، وأبى الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وعن أصحاب عبد الله مثله، وتأولوا أن المراد بالنهى عن الصلاة: هذان الوقتان خاصة، ألا ترى قول ابن عمر: (أُصلى كما رأيت أصحابى يصلون، لا أنهى أحدًا يصلى بليل أو نهار ما شاء، غير ألا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها) . واحتج من أجاز صلاة الفرض فى هذين الوقتين، بقوله عليه السلام: (لا تحروا بصلاتكم) ، وهذا يقتضى من يبتدئ صلاته ذلك(2/207)
الوقت ويقصده، وأما من انتبه من نومه أو ذكر من نسيانه، فلا يدخل فى النهى؛ لأنه ليس بقاصد ولا متحر لذلك، وقوله: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، يعارض النهى، ويبين أنه ليس بمتحرٍ لها من فاتته، وإنما المتحرى القاصد إليها بتطوعه أو فرضه. قال المهلب: ومعنى كراهية الصلاة فى هذين الوقتين أن قومًا كانوا يتحرون طلوع الشمس وغروبها، فيسجدون لها عبادة من دون الله، فنهى النبى، عليه السلام، عن مماثلتهم، وعن أوقاتهم المعهودة.
- باب مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاةَ إِلا بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ
/ 56 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ، لا أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ أو نَهَارٍ مَا شَاءَ، غَيْرَ أَلا تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلا غُرُوبَهَا) . وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى الباب الذى قبل هذا، ونذكر هاهنا ما لم يمض هناك، وغرض البخارى فى هذا الباب رد قول من منع الصلاة نصف النهار عند استواء الشمس؛ لأن قوله: (لا أمنع أحدًا يصلى بليل أو نهار ما شاء، غير ألا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها) ، يدل أنه لا بأس بالصلاة عند استواء الشمس، وهذا قول مالك، والليث، والأوزاعى. قال مالك: ما أدركت أهل الفضل والعبادة إلا وهم يهجرون، ويصلون نصف النهار، وعن الحسن وطاوس مثله، والذين منعوا الصلاة نصف النهار: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والحكم. وقال الكوفيون: لا يصلى نصف النهار لا فرض ولا نفل، وقال(2/208)
أبو يوسف، والشافعى: لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة، ورووا فى ذلك حديثًا: أن جهنم لا تسجر يوم الجمعة. قال الطحاوى: وقد روى فى حديث الصنابحى وغيره النهى عن الصلاة عند استواء الشمس بقوله عليه السلام: (فإذا استوت قارنها. . .) ، فإنها أحاديث لا تصح؛ لأن الصحابة كانوا يتنفلون يوم الجمعة فى المسجد حتى يخرج عمر بن الخطاب، وكان لا يخرج حتى تزول الشمس بدليل طنفسة عقيل، فكانت صلاتهم قبل خروج عمر فى حين استواء الشمس؛ إذ كان خروجه عند الزوال، ولا يجوز على جماعة الصحابة جهل السنة، لو صحت تلك الأحاديث. وذكر ابن أبى شيبة، قال: كان مسروق يصلى نصف النهار، فقيل له: إن الصلاة هذه الساعة تكره، فقال: ولم؟ قيل له: إن أبواب جهنم تفتح نصف النهار، قال: إن الصلاة أحق ما استعيذ به من جهنم حين تفتح أبوابها، وأجاز مكحول الصلاة نصف النهار للمسافر.
30 - باب مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا
وقال كريب: عن أم سلمة قالت: (صلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد العصر ركعتين، وقال: (شغلنى ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر) . / 57 - وفيه: عائشة قَلَتْ: (وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاتِهِ قَاعِدًا - يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ - وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّيهِمَا، وَلا يُصَلِّيهِمَا(2/209)
فِي الْمَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ) . / 58 - وقالت مرة: (مَا تَرَكَ النَّبِيُّ عليه السلام، السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ) . / 59 - وقالت مرة: (رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ الرَسُولُ (صلى الله عليه وسلم) يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلا عَلانِيَةً: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ) . فى قصة عبد القيس، حجة للشافعى فى أنه يقضى المرء بعد الصبح والعصر ما فاته من النوافل المعتادة كالفرائض المنسية، ولا يقول بذلك مالك، وأبو حنيفة، إلا أن مالكًا استحسن لمن لم يصل ركعتى الفجر أن يصليها بعد طلوع الشمس، واحتجوا على الشافعى فى ذلك بتواتر الآثار عن النبى أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وأن عمر كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير عليه، فدل أن صلاته عليه السلام، الركعتين بعد العصر خصوص له دون أمته. قال الطحاوى: ومما يدل على ذلك ما أخبرنا به على بن شيبة، أخبرنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة قالت: صلى الرسول العصر، ثم دخل بيتى، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها قال: (قدم علىَّ مال، فشغلنى عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن) ، قلت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتانا؟ قال: (لا) ، فنهى عليه السلام فى هذا الحديث أن يصليهما أحد بعد العصر قضاء عما كان يصليه بعد الظهر،(2/210)
فدل ذلك على أن حكم غيره فيهما إذا فاتتا خلاف حكمه عليه السلام، فليس لأحد أن يصليهما بعد العصر، ولا أن يتطوع حينئذ أصلاً؛ لأن من فعل ذلك، فهو متطوع فى غير وقت تطوع. وقال أصحاب الشافعى: الأزرق بن قيس من الشيوخ، ولو صح حديثه لاحتمل التأويل، وذلك أن نهيه عليه السلام، عن قضائهما مما يدل أنه لا تجوز صلاتهما بعد العصر، وإنما نهى عن قضائهما على وجه الحتم والوجوب، وأما من شاء أن يتطوع بالصلاة ذلك الوقت رغبة فى الفضل، فله فى صلاته عليه السلام، بعد العصر أفضل الأسوة. فإن قال قائل: إن أحاديث هذا الباب معارضة لنهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فكيف السبيل إلى الجمع بينهما؟ . قال الطبرى: لا تعارض بينهما بحمد الله، ولها معانى صحيحة، وذلك أن للنهى وجوهًا: منها الكراهة، ومنها العزم والتحريم، ولا سبيل لأمته إلى علم مراده منها إلا ببيانه عليه السلام، ولما لم يذكر فى ظاهر نهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح دلالة لسامعه على معنى مراده منه، كان غير جائز ترك بيانه، فكانت صلاته التى صلاها بعد العصر تبيينًا منه لأمته أن نهيه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم، كتحريمه عند بروز حاجب الشمس للطلوع، وعند مغيب حاجبها للغروب، وإعلام منه لهم أن من صلى بعد العصر وبعد الصبح غير حرج ما لم يوافق وقت الطلوع والغروب. وذلك نظير نهيه إياهم عن المزعفر بالزعفران واستعماله، وعن لبس(2/211)
المعصفر والأرجوان، ولبسه إياها إعلام منه لهم أنه نهيه عن ذلك على وجه الكراهية لا على وجه التحريم؛ لأنه لو كان على وجه التحريم كان أبعدهم من فعله؛ لأنه أتقاهم لله، وأشدهم له خشية. فإن ظن ظان أن ذلك كان خاصًا له دون أمته، فقد ظن خطأ، وذلك أن ما خص الله به رسوله فغير جائز أن يكون غير مبين لأمته إما بنص التنزيل، أو بخبر يقطع العذر أنه خاص له؛ لأن الله قد ندب عباده إلى التأسى به، ولو جاز أن يكون فى أفعاله التى خص بها دون أمته ما لم يوقفهم عليه أنه خاص له، لم يجز لأحد التأسى به فى شىء من أفعاله حتى يأمرهم بها، وإذا كان ذلك كذلك بان صحة القول لمن نسى ركعتى الفجر، ثم ذكرهما بعد صلاة الصبح، أو نسى ركعتى الظهر، ثم ذكرهما بعدما صلى العصر، أن له أن يصليهما ما لم يبدُ حاجبُ الشمس للطلوع أو يتدلى للغروب، وأن لمن طاف بالبيت بعد الصبح أن يركع ركعتى الطواف ما لم يوافق الطلوع والغروب، وكذلك صلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وأن يجتنب فيما لم يخف فوته من ذلك تأخيره إلى غروبها أو طلوعها، وبذلك جاء الخبر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه فعل ذلك فى ركعتى الفجر، إذ نام عنهما، فقضاهما بعد ما طلعت الشمس، ولم ينكر على من فعلهما بعد طلوعها.
31 - باب التَّبكيرِ بِالصَّلاةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ
/ 60 - فيه: بُرَيْدَةَ أنه قال فِي يَوْمٍ غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلاةِ فَإِنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ) .(2/212)
قال ابن المنذر: روى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: إذا كان يومُ غيم، فأخروا الظهر، وعجلوا العصر، وهو قول مالك. وقال الحسن البصرى: أخروا الظهر والمغرب، وعجلوا العصر والعشاء الآخر، وهو قول الأوزاعى، وقال الكوفيون: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، وروى مطرف عن مالك أنه استحب تعجيل العشاء فى الغيم، وقال أشهب: لا بأس بتأخيرها إلى ثلث الليل، وفيها قول آخر قاله ابن مسعود: عجلوا الظهر والعصر وأخروا المغرب. وقال المهلب: لا يصح التبكير فى الغيم إلا بصلاة العصر والعشاء؛ لأنهما وقتان مشتركان مع ما قبلهما، ألا ترى أنهم يجمعونها فى المطر فى وقت الأولى منهما وهى سنة من الرسول، وقد مضى شىء من معنى هذا الباب فى باب (من ترك العصر) .
32 - باب الأذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ
/ 61 - فيه: أَبو قَتَادَةَ قَالَ: (سِرْنَا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ بِلالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يَا بِلالُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ يَا بِلالُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاةِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى) .(2/213)
اختلف أهل العلم فى الأذان بعد ذهاب الوقت، فذهب أحمد بن حنبل، وأبو ثور إلى جواز ذلك، واحتجا بهذا الحديث، وقال الكوفيون: إذا نسى صلاة واحدة، وأراد أن يقضيها من الغد، يؤذن لها ويقيم، فإن لم يفعل فصلاته تامة، وقال الثورى: ليس عليه فى الفوائت أذان ولا إقامة، وقال محمد بن الحسن: إن أذن فى الفوائت فحسن، وإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل الرسول يوم الخندق فحسن. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى: يقيم للصلوات الفوائت، ولم يذكروا أذانًا، واحتج هؤلاء بأن صلاته عليه السلام، يوم الخندق الفوائت كلها كان بغير أذان، وإنما أذن للعشاء الآخرة فقط؛ لأنها صليت فى وقتها، ولم تكن فائتة. وفيه من الفقه: أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان ينام أحيانًا كنوم الآدميين، وذلك فى النادر من حاله، وسأبين حكم نومه عليه السلام، عند قوله: (إن عينى تنام، ولا ينام قلبى) ، فى باب قيام الرسول بالليل فى رمضان وغيره. قال المهلب: هذا الحديث يدل أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح، وإنما أكدت المحافظة عليها لأجل هذه العارضة التى عرضت للنبى باستيلاء النوم عليه، وعلى أهل عسكره حتى فاته وقتها، ويدل على أنها الوسطى: توكيله بلالا فى السفر والحضر بمراقبة وقتها، ولم يأمره بمراقبة غيرها، ألا ترى أن النبى لم تفته صلاة غيرها بغير عُذرٍ شغله عنها. قال غيره: وقوله: فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس، وتركه للصلاة حتى ابيضّت الشمس، فإن الكوفيون قالوا: إنما أخَّر عليه(2/214)
السلام، الصلاة ذلك الوقت لما تقدم من نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال أصحاب مالك، والشافعى وغيرهم: إنما أخر صلاته بمقدار ما توضأ الناس، وتأهبوا للصلاة، وفى ذلك المقدار ارتفعت الشمس. وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث، ذكره فى كتاب الاعتصام فى باب: المشيئة والإرادة، وقال فيه: (فقضوا حوائجهم، وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس، وابيضّت، فقام فصلى) ، وقد روى عطاء أن نبى الله إنما أمرهم بالخروج من ذلك الوادى على طريق التشاؤم به، وقال لهم: (اخرجوا من الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة) ، كما نهى عليه السلام، عن الصلاة فى أرض بابل، وحجر ثمود، وعن الوضوء بمائها، وهو مثل قوله فى حديث مالك، عن زيد بن سلم: (إن هذا واد به شيطان) ، فكره الصلاة فى البقعة التى فيها الشيطان؛ إذ كان السبب لتأخير الصلاة عن وقتها، وقد روى جبير بن مطعم فى حديث نومه عن الصلاة، أنهم لم يستيقظوا حتى ضربهم حَرُّ الشمس. قال المهلب: وقد قال ابن وهب، وعيسى بن دينار: إن خروجهم من الوادى منسوخ بقوله: (وأقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، وهذا خطأ؛ لأن (طه) مكية، وقصة نومه عن الصلاة كان بالمدينة، ومما يدل على ذلك قول ابن مسعود: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتق الأول، وهن من تلادى، يعنى أنهن من أول ما حفظه من القرآن واستفاده، و (التلاد) قديم ما يفيده الإنسان من المال وغيره.(2/215)
وفى هذا الحديث حجة لقول مالك أنه قال: من فاتته صلاة الصبح، أنه يصليها، ولا يركع ركعتى الفجر قبلها، قال أشهب: وسئل مالك: هل ركع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ركعتى الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؟ قال: ما بلغنى، وقال أشهب: بلغنى أنه (صلى الله عليه وسلم) ركع، وقال على بن زياد: وقاله غير مالك، وهو أحب إلىّ أن يركع، وهو قول الكوفيين، والثورى، والشافعى قالوا: يصلى ركعتى الفجر، ثم يصلى الفجر، وقد قال مالك: إن أحب أن يركعهما من فاتته بعد طلوع الشمس فعل. والتعريس: النزول بالليل.
33 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ
/ 62 - فيه: جَابِرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أن أُصَلِّي الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا) ، فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ. قال بعض أهل العلم: لا أعلم خلافًا فى جواز جمع الصلاة بعد ذهاب الوقت، لمن فاتته بِعُذْرٍ بين كالنوم وشبهه إلا الليث بن سعد، فإنه قال فى القوم يفوتهم الصلاة أنهم يصلون فرادى، وهذا الحديث خلاف قوله، وحجة الجماعة. واختلف أصحاب مالك فيمن فاتته الجمعة لعذر أو لغير عذر، فقال ابن القاسم: كنت مع ابن وهب بالإسكندرية، فلم نأت الجمعة(2/216)
لأمر خفناه، ومعنا قوم، فكرهت أن أجمع بهم، وجمع بهم ابن وهب، فسألنا مالكًا عن ذلك فقال: لا يجمع إلا المسافرون والمحبوسون والمرضى. وقال الكوفيون: لا يصلى الظهر جماعة فى المصر، وسواء كانوا مرضى أو محبوسين، وهو قول الثورى، وفى المجموعة عن ابن القاسم: لا يجوز للمرضى والمسجونين الجمع، وروى عنه يحيى بن يحيى فى العتبية، فيمن خلفهم المطر عن الجمعة، فليجمعوا ظهرًا إن كان أمرًا غالبًا يُعذرون به كالمرض، وإن كان مطر ليس بمانع فجمعوا فليعيدوا، وقال أصبغ: إن جمع المتخلفون بغير عذر أساءوا ولا يعيدون. ولابن القاسم فى المجموعة مثله، وفيها لأشهب، وابن نافع أن المتخلفين يصلون الجمعة جماعة، وهو قول الليث والشافعى، وقال الليث: فى مسجد أو غيره، ذكره الطحاوى، ولا فرق بين الجمعة وغيرها فى قياس ولا نظر إذا فاتت فى جواز جمعها بدليل هذا الحديث.
34 - باب مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَ وَلا يُعِيدُ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ نَسَى صَلاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ الْوَاحِدَةَ. / 63 - وفيه: أنس قَالَ: (مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّ، إِذَا ذَكَرَهَا لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه 14] ) .(2/217)
اختلف العلماء: إذا صلى صلاة، ثم ذكر بعد ذلك صلاة من يوم آخر، هل يعيد الصلاة التى صلى إذا بقى من وقتها شىء بعد قضاء الفائتة أم لا؟ فذكر ابن المنذر، عن طاوس، والحسن البصرى، والشافعى، وأبى ثور، أن من ذكر صلاة وهو فى صلاة أخرى، أنه يتم التى هو فيها، ثم يصلى الفائتة، ليس عليه غير ذلك، فقياس قوله: (إن ذكرها بعد أن فرغ منها) ، أنه ليس عليه شىء أيضًا إلا إعادة المنسية فقط. وقال مالك: يصلى التى نسى، ثم يعيد ما كان فى وقته مما كان قد صَلاهُ، واستدل أهل المقالة الأولى، بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (من نسى صلاة فليصل إذا ذكر) ، ولم يقل: فَلْيُعِدْ ما كان فى وقته، واحتج أصحاب الشافعى لقولهم بأن الترتيب إنما يجب فى صلاة يوم بعينه وجوب فرض وهذا إجماع، وأما فى الفوائت فلا يجب ذلك، استدلالاً بإجماع الأمة على أن رتبة رمضان فرض، فإذا أفطره أحد بمرض أو نسيان سقط عنه الترتيب، ولهذا نظائر كثيرة من القياس. والحجة لقول مالك قوله: (وأقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، فدل هذا أن وقت الذكر وقت للصلاة المنسية، وإذا اجتمعت صلاتان فى وقت واحد فالواجب تقديم الأُولى، فاستدل مالك بآخر الحديث، واستدل الشافعى بأوله.(2/218)
35 - باب قَضَاءِ الصَّلاةِ الأولَى فَالأولَى
/ 64 - فيه: جَابِرِ: جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ، فَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ، قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ، فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ. أجمع العلماء على الاستدلال بهذا الحديث، فقالوا: من فاتته صلوات كثيرة، وأيقن أنه يقضيها، ويصلى التى حضر وقتها قبل فواتها، أنه يبدأ بالأُولى فالأُولى، واختلفوا: إذا خشى فوت وقت الحاضرة إن بدأ بالمنسية، فقالت طائفة: يبدأ بالتى ذكر فيصليها، وإن فاتته هذه، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والليث، واتفق مالك وأصحابه على أن حكم أربع صلوات فما دونه حكم صلاة واحدة يبدأ بهن، وإن خرج وقت الحاضرة، واختلفوا فى خمس صلوات، فحكى ابن حبيب، عن مالك أن خمسًا قليل يبدأ بهن وإن خرج وقت الحاضرة، وهو قول أبى حنيفة. وذكر ابن سحنون، عن أبيه أن خمس صلوات كثيرة، يبدأ بالتى حضر وقتُها، وقالت طائفة: يبدأ بالتى نسى إلا أن يخاف فوت التى حضر وقتها، فإن خاف ذلك صلاها، ثم صلى التى نسى، هذا قول ابن المسيب، والحسن البصرى، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة أهل هذا المقالة أنه إن بدأ بالمنسية، وفاته وقت الحاضرة، فقد اجتمع عليه فوتان، فوتُ الحاضرة مع فوت المنسية، ففوتٌ واحدٌ أحسنُ حالا من فوتينِ. ووجه القول: أنه يبدأ بالمنسية إن كانت خمسًا فدون، وإن فات(2/219)
وقت الحاضرة؛ لأن المنسية عندهم واجبة قبل صلاة الوقت، فإذا ذكرها اشتركت مع صلاة الوقت فى الوجوب، ولها حق التقدمة، فكأنها ظهر وعصر اجتمعا فى يوم واحد، فوجب أن يقدم الظهر وإن قدمت العصر وجب إعادتها؛ لأن الترتيب عندهم فى خمس صلواتٍ فدون من الفوائت وجوبُ سُنَّة، وإنما لم يجب الترتيب عندهم فى أكثر من خمس صلوات؛ لأنها مشتبهة بصلاة اليوم بعينه، ولو وجب فى أكثر من ذلك لوجب فى سنين كثيرة، وذلك ما لا يطاق عليه؛ لأنه لا سبيل إلى أن يقضى صلاة سنة أو أكثر فى يومين ولا ثلاثة، ولو تكلف ذلك أحد لترك أيام القضاء بغير صلوات، وهذا جهل من قائله، فلم يكن بُد من حد بين القليل والكثير فى ذلك. وفى هذا الحديث رد على جاهل، انتسب إلى العلم وهو منه برىء، زعم أنه من ترك الصلاة عامدًا أنه لا يلزمه إعادتها. واحتج بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) ، ولم يذكر العامد، فلم يلزمه القضاء، وإنما يقضيها الناسى والنائم فقط، وهذا ساقط من القول يئول إلى إسقاط فرض الصلاة عن العباد، وقد ترك الرسول يوم الخندق صلاة الظهر والعصر قاصدًا لتركها لشغله بقتاله العدو، ثم أعادها بعد المغرب. ويقال له: لمَّا أوجب النبى (صلى الله عليه وسلم) على الناسى النائم الإعادة، كان العامد أولى بذلك؛ لأن أقل أحوال الناسى سقوط الإثم عنه، وهو مأمور بإعادتها، والعامد لا يسقط عنه الإثم، فكان أولى أن تلزمه إعادتها، ولا يوجد فى شىء من مسائل الشريعة مسألة: العامد فيها معذور، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام:(2/220)
(إن الله تجاوز لأمتى عن الخطأ والنسيان) ، فإذا تجاوز الله عن الناسى إثم تضييعه، وأمر بأداء الفرض، فكان العامد المنتهك لحدود الله غير ساقط عنه الإثم، بل الوعيد الشديد متوجه عليه، كان الفرض أولى ألا يسقط عنه ويلزمه قضاؤه، وقد أجمعت الأمة على أن من ترك يومًا من شهر رمضان عامدًا من غير عذر أنه يلزمه قضاؤه، فكذلك الصلاة، ولا فرق بين ذلك، والله الموفق.
36 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
/ 65 - فيه: أبو برزة: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العشاء، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ، حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ) ، فى حديث طويل. قال المهلب: إنما كره عليه السلام، السمر بعد العشاء، لئلا يزاحم بقية الليل بالنوم، فتفوته صلاة الصبح فى جماعة، وقال خَرَشَةُ بن الحُرِّ: رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول: أسمرًا أول الليل ونومًا آخره؟ . وقال سلمان الفارسى: إياكم وسمر أول الليل، فإنه مهدمة لآخره، فمن فعل ذلك فليصل ركعتين قبل أن يأوى إلى فراشه. وكان إبراهيم، وابن سيرين، يكرهان الكلام بعد العشاء. وأما السمر بالعلم والفقه، وأفعال الخير فجائز، قد فعله النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وأصحابه، وسيأتى فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقد تقدم اختلافهم فى النوم قبل هذا فأغنى عن إعادته.(2/221)
فإن قال قائل: إن قول أبى برزة: (وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدُنا جليسه) ، معارض لقول عائشة: (إن النساء كن ينصرفن من صلاة الفجر مع رسول الله وكن متلفعات بمروطهن لا يُعرفن من الغَلَسِ) . قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أن تلفعهن وتسترهن بمروطهن مانع من معرفتهن، وكان الرجال يصلون ووجوههم بادية بخلاف زى النساء وهيئاتهن، وذلك غير مانع للرجل من معرفة جليسه، فلا تعارض بين شىء من ذلك بحمد الله.
37 - باب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ
/ 66 - فيه: قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَنَسُ: انْتَظَرْنَا الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: (أَلا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ) . قَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّ الْقَوْمَ لا يَزَالُونَ فى خَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ. / 67 - وفيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ عليه السلام، صَلاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ سنة لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ(2/222)
أَحَدٌ) ، فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النبى إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ فِى هَذِهِ الأحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ الرسول: (لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ) . وهذه الآثار تدل على أن السمر المنهى عنه بعد العشاء، إنما هو فيما لا ينبغى من الباطل واللغو، ألا ترى استدلال الحسن البصرى حين سمر عند جيرانه لمدارسة العلم، بسمر النبى إلى قرب من شطر الليل فى شغله بتجهيز الجيش، ثم خرج فصلى بالناس، ثم خطبهم مؤنسًا لهم من طول انتظارهم، ومعرفًا لهم ما يستحقون عليه من جزيل الأجر، فقال: (إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة) ، ومثل ذلك قوله: (إن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد) ، فأبان بفعله عليه السلام، أن السمر فى العلم والخير مرغب فيه. وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسمر عند أبى بكر فى الأمر من أمور المسلمين، وأنا معه) ، وروى ابن بكير، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الله بن رزين: أن عليًا صلى بهم ذات ليلة العتمة، فقعدوا، واستفتوه حتى أذن بصلاة الصبح، فقال: قوموا فأوتروا فإنا لم نوتر. وكان ابن سيرين، والقاسم، وأصحابه يتحدثون بعد العشاء. وقال مجاهد: يكره السمر بعد العشاء إلا لمصلٍ أو مسافرٍ أو دارسٍ علم.(2/223)
وقوله عليه السلام: (إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها) : تعليم منه لهم للعلم، وكذلك إعلامه لهم أن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، إعلام منه لهم أن أعمار أمته ليست بطول أعمار من تقدم من الأمم السالفة، ليجتهدوا فى العمل، وقد بيَّن ذلك فى حديث آخر، فقال: (أعمار أمتى من الستين إلى السبعين وأقلهم من يجاوز ذلك) . وأما قول أنس بن مالك: (انتظرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كان شطر الليل يبلغه) ، فهكذا وقع هذا الكلام فى جميع النسخ، وقد روى جابر بن عبد الله هذا الحديث بنحو هذا المساق، وكشف فيه صواب اللفظ، وذكر فيه الشغل الذى منعه من الخروج إلى الصلاة، وهو أنه اشتغل بتجهيز جيش، رواه الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال: (جهز رسول الله ذات ليلة جيشًا، حتى قرب نصف الليل أو بلغه. . .) ، وذكر هذا الحديث، وقد ذكرته بتمامه فى باب فضل العشاء، فأبان هذا اللفظ معنى حديث أنس، وتقدير الكلام فيه: حتى كان شطر الليل، أو كاد فى أخرى يبلغه، والعرب قد تحذف (كاد) كثيرًا من كلامها لدلالة الكلام عليه، كقولهم فى: أظلمت الشمس، كادت تظلم. قال الشاعر: يتعارضون إذا التقوا فى موطن نظرًا يزيل مواطئ الأقدام فلم يقل يكاد يزيل، ولكنه نواها فى نفسه، ومنه قوله تعالى: (وبلغت القلوب الحناجر) [الأحزاب: 10] ، أى كادت من شدة الخوف تبلغ الحلوق، ذكره ابن قتيبة.(2/224)
وقوله: (فوهل الناس) ، قال صاحب (الأفعال) : وهل إلى الشىء وَهْلا: ذهب وهمه إليه، ويقال: كلمت فلانًا وما ذهب وَهَلى إلا إلى فلان، وما وَهَلت إلا إليه، من العين.
38 - باب السَّمَرِ مَعَ الأهْلِ والضَّيْفِ
/ 68 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ) ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاثَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ عليه السلام، بِعَشَرَةٍ، قَالَ: فَهُوَ أَنَا، وَأَبِي، وَأُمِّي، وَلا أَدْرِي هل قَالَ: وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، ثم إن أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ الرسول، ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ - قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ: أَبَوْا، حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا، فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لا هَنِيئًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ: فشَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لا، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِي يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ،(2/225)
وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَى عَشَرَ رَجُلا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ. فيه: السمر مع الأضياف، كما ترجم وهذا كما قدمنا من السمر فى المباح وطلب الفضيلة؛ لأن تلك كانت أخلاقهم وأحوالهم، فلا يجوز السمر إلا فى مثل ذلك من طلب الأجر، والمباح. قال المهلب: وفيه أن للسلطان إذا رأى بقوم مسغبةً أن يفرقهم على أهل الوجود بقدر ما لا يجحف بهم، ألا ترى أن من كان عنده طعام اثنين ذهب بثالث. قال غيره: وهذا على سنته فى قوله، عليه السلام: (طعام الاثنين كافى الثلاثة) ، والكفاية غير الاتساع فى الشبع. قال المهلب: ومن هذا أخذ عمر بن الخطاب فعله فى عام الرمادة، إذ كان يلقى على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، ويقول: لن يهلك امرؤ على نصف قوته. قال غيره: وإنما فعله عمر لأن الضرورة كانت عام الرمادة أشد، وقد تأول سفيان بن عيينة فى المواساة فى المساغب قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) [التوبة: 111] ، ومعناه: أن المؤمنين تلزمهم القربة فى أموالهم لله تعالى، عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء: إن فى المال حقوقًا سوى الزكاة، وإنما جعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الاثنين واحدًا، وعلى الأربعة واحدًا، وعلى الخمسة واحدًا، ولم يجعل على الأربعة والخمسة بإزاء ما يجب(2/226)
للاثنين مع الثالث، والله أعلم؛ لأن صاحب العيال أولى أن يرفق به، وضيق معيشة الواحد والاثنين أرفق بهم من ضيق معيشة الجماعات. وفيه: أكل الصديق عند صديقه، وإن كان عنده ضيف، إذا كان فى داره من يقوم بخدمتهم ومؤنتهم. قال المهلب: وفيه أن الولد والأهل يلزمهم من التحفل بأمور الضيف، مثل ما يلزم صاحب المنزل. وفيه: أن للرجل أن يسب أهله وولده على تقصيرهم ببر أضيافه وأن يغضب لذلك. وفيه: أن الأضياف، ينبغى لهم أن يتأدبوا، وينتظروا صاحب الدار، ولا يتهافتوا على الطعام دونه. قال غيره: وفيه جواز أكل الأضياف دون صاحب الدار إذا حان الطعام؛ لأن تأنيب أبى بكر لأهله يدل أن الضيف أولى بذلك من رب الدار. قال المهلب: وفيه أن من حلف على شىء ورأى غيره خيرًا منه أنه يحنث نفسه، ويأتى الذى هو خير منه، ويكفر يمينه، ومن الخير: الأكل من طعام ظهرت فيه البركة، وقد نهى الرسول عن الأيمان فى ترك البر والتقوى وفعل الخير، فمن هاهنا حنث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والصالحون أنفسهم، وهو قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) [البقرة: 224] ، فحنث رسول الله نفسه فى الشراب الذى شربه فى بيت زوجته، وحنث أبو بكر أيضًا نفسه فى قصة مسطح.(2/227)
وفيه: رفع ما يُرجى بركته، وإهداؤه لأهل الفضل، كرفع أبى بكر بقية الطعام المبارك إلى رسول الله وإلى من بحضرته. وفيه: أن آثار الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد تظهر على يدى غير النبى لبركة النبى عليه السلام، فتصح المعجزة منها فى زمانه، وتجوز فى غير زمانه من ذلك ما ليس بخرق عادة. وقول أبى بكر: (كُلوا لا هنيئًا) إنما خاطب بذلك أهله لا أضيافه. وفيه: أن الصديق الملاطف يجمل منه أن يهدى إلى الجليل من إخوانه يسير الهدية. وقولها: (قد عُرضوا) يريد أن خادم أبى بكر وابنه ومن رتب لخدمة الأضياف عرضوا الطعام على أضيافهم، فأبوا من أكله إلا بحضرة أبى بكر، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا فى بدء الخلق فى باب: علامات النبوة فى الإسلام فى هذا الكتاب. وقوله: (يا غُنْثَرُ) هو من قول العرب: رجل أَغْثَر: أحمق، من ابن دريد، والغَثْرَاء: سفلة الناس وغوغاؤهم، فبنى فنعلا من أغثر على المبالغة فى السَّبِّ من هذا المعنى، وفنعل موجود فى اللغة، كقولهم: جندب وقنفذ، عن الأخفش. وقال الخطابى: غنثر مأخوذ من الغثارة، وهى الجهل، يقال: رجل غثر وأغثر إذا كان جاهلاً، وامرأة غثراء، وفى فلان غثارة، والنون فى الغنثر زائدة، وإنما سميت الضبع غثرًا لحمقها، وحكى بعض أهل اللغة الغنثرة: شرب الماء من غير عطش، رواه الخطابى من(2/228)
طريق محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح العطار، عن الجريرى، عن أبى عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبى بكر: يا عنتر، والعنتر: الذباب، شبهه به تصغيرًا له وتحقيرًا لقدره، وحكى العنتر: الذباب، ثعلب، عن ابن الأعرابى، وقال: إنما سمى عنترًا لصوته، وقال غيره: العنتر: الأزرق من الذباب. قال المؤلف: والمحفوظ عن الرواة: يا غنثر، بالغين المعجمة بنقطة من فوقها، وقوله: (فجدَّع) ، يعنى تنقص وعاب أصل الجدع فى اللغة: القطع، يقال: جدعت الأنف وغيره قطعته.
- باب بَدْءُ الأذَانِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا) [المائدة 58] . وَقَوْلُهُ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة 9] .
/ 1 - فيه: أنس: قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ. / 2 - وفيه: ابْنَ عُمَرَ قال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمِ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلا يُنَادِي بِالصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (يَا بِلالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ) .(2/229)
اختلف العلماء فى وجوب الأذان، فعند مالك، وأبى حنيفة، والشافعى: الأذان سنة، وقال عطاء، ومجاهد: الأذان فرض، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بأن النبى، عليه السلام، أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وأمره على الوجوب، وحجةُ أهل المقالة الأولى أن أصل الأذان إنما يكون عن رؤيا رآها عبد الله بن زيد، فأصبح إلى النبى فأخبره برؤياه، فبينا هو يقصها إذ جاء عمر فقال: والله لقد رأيته مثل الذى رأى، فقال عليه السلام لعبد الله ابن زيد: (قم فألق على بلال فإنه أندى منك صوتًا) ، من رواية أهل المدينة والكوفة. فأما رواية أهل المدينة فرواية ابن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد، عن أبيه مثله، وأما رواية أهل الكوفى فرواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد: أن عبد الله بن زيد أُرى الأذان فى المنام، فأتى النبى عليه السلام، فأخبره، فقال: (عَلِّمه بلالاً) . قال ابن القصار: فكان أصل الأذان عن رؤيا ومشورة، ولو كان واجبًا لابتدأه الرسول ولم يأخذه عن منام أحد، فإن قيل: فإن الأمر وإن جرى كذلك فقد يحصل واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قُريظة فكان حكمه واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قريظة فكان حكمه واجبًا، ومعاذًا تبع الرسول فى صلاةٍ ثم مضى، فقال عليه السلام: (سن لكم معاذ سنة فاتبعوها) . قيل: إن معاذًا وسعدًا لا يجوز أن يفعلا شيئًا بين يدى النبى إلا عن أمر ظهر لهما من دينه عليه السلام، بدلالة نصبها لهما، وليس كذلك الأذان إنما كان عن رؤيا، وأما قوله: (أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) ، فليس فى ظاهره إيجاب ولا ندب، وإنما هو للشفع(2/230)
والوتر، وهل الأصل واجب أم لا؟ ، يحتاج إلى دلالة، والرسول قد يأمر بصفات فى السنة، ولا يدل أنها واجبة، بل إذا فعلت ودخل فيها وجب أن تفعل بصفاتها.
- باب الأذَانُ مَثْنَى مَثْنَى
/ 3 - فيه: أَنَسٍ قَالَ: (أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، إِلا الإقَامَةَ) . / 4 - ورواه خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ولم يقل فيه إلا الإقامة. اختلف العلماء فى صفة الأذان، فقال مالك، والليث، وأبو يوسف: الأذان مثنى مثنى، وأوله: (الله أكبر، الله أكبر) ، مرتين، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى: الأذان مثنى مثنى، وأوله: (الله أكبر، الله أكبر) ، أربع مرات، واحتج هؤلاء بروايات رويت فى حديث أبى محذورة، وعبد الله بن زيد فيها: (الله أكبر، الله أكبر) ، أربع مرات، قالوا: وهى زيادة يجب قبولها. واحتج أهل المقالة الأولى بأنه قد روى من طرق صحاح فى أذان أبى محذورة وعبد الله ابن زيد: (الله أكبر) مرتين، وكذلك فى أذان سعد القرظ، قالوا: فلما وردت الآثار على هذا الاختلاف، ورأينا أهل المدينة يعملون: خلفهم عن سلفهم على المرتين لا يزيدون عليها، وينقلونه نقلاً متواترًا يقطع العذر، سقط معه حكم الزائد، وقول أنس: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) ، حجة فى ذلك أيضًا؛ لأن شفع الأذان تثنية، وإذا قال: الله أكبر أربع مرات، فقد خالف الخبر بذلك، ولم يشفع الأذان كله، ولم يكن هناك خبر(2/231)
يعضد عملهم، فكان عملهم أقوى من كل شىء يرد من طريق خبر الواحد؛ لأن الأذان مما يتكرر كل يوم خمس كرات، ولا يؤخذ قياسًا، علمنا أنهم علموا ذلك من جهة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ؛ فوجب الرجوع إلى ما هم عليه كما رجع من خالفهم إلى صاعهم ومُدِّهم. وقالت طائفة: الاختلاف فى هذه الآثار كلها يدل على الإباحة، فمن شاء أن يؤذن بكل ما روى منها؛ لأنه قد ثبت عن الرسول جميع ذلك، كما المتوضئ بالخيار، إن شاء توضأ مرة مرة، وإن شاء مرتين مرتين، هذا قول أحمد، وإسحاق، والطبرى.
3 - باب الإقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلا قَوْلَهُ (قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ
/ 5 - فيه: أَنَسِ قَالَ: أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُ لأيُّوبَ، فَقَالَ: إِلا الإقَامَةَ. اختلف العلماء فى الإقامة فقال مالك، وأهل الحجاز، والأوزاعى: الإقامة فرادى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال الشافعى: الإقامة فرادى إلا قوله: (قد قامت الصلاة) ، فإنه يقولها مرتين، وفى مختصر ابن شعبان مثله. قال الثورى، وسائر الكوفيين: الإقامة مثنى مثنى كلها مثل الأذان، واحتجوا بما رواه هشام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبى محذورة أن الإقامة مثنى مثنى، قالوا: وهو قول على بن أبى طالب وأصحاب ابن مسعود. وحجةُ الشافعى ما رواه أيوب من قوله: إلا الإقامة فهى شفع،(2/232)
قال: ويبين ذلك ما رواه شعبة عن أبى جعفر الفراء، عن مسلم، مؤذن كان لأهل الكوفة، عن ابن عمر قال: (كانت الإقامة على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرة مرة، غير أنه إذا قال: قد قامت الصلاة، قالها مرتين) . واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه خالد الحذاء عن أبى قلابة، عن أنس قال: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) . قال أبو محمد الأصيلى: وقوله: (إلا الإقامة) ، هو من قول أيوب وليس من الحديث، قال ابن القصار: وكذلك رواه ابن جريج، عن عطاء، عن أبى محذورة: (أن الرسول علمه الأذان شفعًا والإقامة وترًا) ، ومثله فى رواية عبد الله بن زيد، وسعد القرظ، فإن قال الشافعى: قول أيوب: إلا الإقامة زيادة فى الحديث والزيادة يجب قبولها، قيل: الزائد أولى ما لم يعارض ما هو أقوى منه، وذلك عمل أهل المدينة وإجماعهم خلف عن سلف على إفراد الإقامة، ومحال أن يذهب عليهم شىء من جهة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مما يجرى فى اليوم والليلة خمس مرات ويعلمه غيرهم، ولو صحت زيادة أيوب وما رواه الكوفيون من تثنية الإقامة؛ لجاز أن يكون ذلك فى وقتٍ ما، ثم ترك لعمل أهل المدينة على الآخر الذى استقر الأمر عليه، ولا يجوز أن يظن بهم أنه خالفوا ولا قصدوا العناد، وبمثل هذا احتج ابن القصار على من خالف مالكًا فى كثير من المسائل، فاحتج بنقلهم وفعلهم فى ترك الزكاة فى الخضر والأجناس بالمد والصاع على من خالفهم.
4 - باب فَضْلِ التَّأْذِينِ
/ 6 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ(2/233)
ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ، أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ، أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى) . فى هذا الحديث عظم فضل الأذان، وأن الشيطان ينافره ما لا ينافر سائر الذكر، ألا ترى أنه يقبل عند قراءة القرآن ويدبر عند الأذان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا تغولت لكم الغيلان فأذنوا. وحكى مالك أن زيد بن أسلم استعمل على معذرٍ من معاذر بنى سليم كان انقطع عمله لما يتخيل فيه من الجن، فأمرهم زيد أن يؤذنوا فيه، ففعلوا ذلك فما تخيل لهم بعد ذلك جن، قال مالك: وأعجبنى ذلك من رأى زيد بن أسلم. فاختلف العلماء فى معنى هروبه عند الأذان ولا يهرب من الصلاة وفيها قراءة القرآن، فقال المهلب: إنما يهرب، والله أعلم، من اتفاق الكل على الإعلان بشهادة التوحيد وإقامة الشريعة كما يفعل يوم عرفة لما يرى من اتفاق الكل على شهادة التوحيد لله تعالى، وتنزل الرحمة عليهم، وييئس أن يردهم عما أعلنوا به من ذلك، وأيقن بالخيبة بما تفضل الله عليهم من ثواب ذلك، ويذكر معصية الله ومضادته أمره فلم يملك الحديث لما استولى عليه من الخوف. وقال غيره: إنما ينفر عن التأذين لئلا يشهد لابن آدم بشهادة التوحيد لقوله عليه السلام: (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة) ، وليس قول من قال: إنما ينفر من الأذان لأنه دعا إلى الصلاة التى فيها السجود الذى أباهُ بشىء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام، أنه إذا قضى التثويب أقبل يُذَكِّرُه ما لم يَذْكُرْ، يخلط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التى فيها السجود أولى لو كان كما زعموا.(2/234)
وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إذا نادى المنادى بالأذان هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء، وهى ثلاثون ميلاً من المدينة) ، وذكر ابن سفيان، عن سعيد بن المسيب، قال: بلغنا أنه إن خرج من المسجد بين الأذان والإقامة أنه سيصاب بمصيبة. وذكر عن أبى هريرة أنه كان فى المسجد فأذن المؤذن فخرج رجل، فقال أبو هريرة: (أما هذا فقد عصى الله ورسوله، أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سمعنا الأذان ألا نخرج حتى نصلى) ، ويحتمل أن يكون معنى هذا النهى، والله أعلم، لئلا يشبه فعل الشيطان فى هروبه لئلا يسمع النداء. وقال الطبرى: قوله: (إذا ثُوبّ بالصلاة) ، يعنى صرخ بالإقامة مرة بعد مرة أخرى، ورجع، وكل مردد صوتًا فهو مثوب، ولذلك قيل للمرجع صوته فى الأذان بقوله: (الصلاة خير من النوم) ، مُثوِّبَ وأصله من ثاب يثوب، إذا رجع إليه، ومنه قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125] ، يعنى أنهم إذا انصرفوا منه رجعوا إليه. وجمهور العلماء على أن الإقامة للصلاة سنة، ولا خلاف بينهم أن قول المؤذن فى نداء الصبح (الصلاة خير من النوم) ، يقال له: تثويب، وروى هشيم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أنس قال: ما كان التثويب إلا فى صلاة الغداة إذا قال المؤذن: حى على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم.(2/235)
وقال ابن الأنبارى: إنما سمى (الصلاة خير من النوم) تثويبًا؛ لأنه دعاء ثانٍ إلى الصلاة وذلك أنه لما قال: حى على الصلاة، حى على الفلاح، وكان هذا دعاء ثم عاد فقال: الصلاة خير من النوم، دعا إليها مرة أخرى. وقال الطحاوى: الأصل فى التثويب أن الرجل إذا جاء فزعًا أو مستصرخًا لوح بثوبه، فكان ذلك كالدعاء والإيذان، ثم كثر ذلك حتى سمى الدعاء تثويبًا، قال ذو الرمة: وإن ثوب الداعى بها يال خندف والعامة لا تعرف التثويب فى الأذان إلا قول المؤذن فى الفجر (الصلاة خير من النوم) ، وإنما سمى بذلك؛ لأن المؤذن يرجع إليه مرة بعد أخرى، يقال: ثابت إلى المريض نفسه: رجعت إليه قوته، وثاب إلى المرء عقله، ومنه اشتق الثواب وتأويله: ما يئول إليك من فضل الله وجزاء الأعمال الصالحة، ومنه سميت المرأة ثيبًا، أنها تثوب إلى أهلها من بيت زوجها. قال الطحاوى: وقد كره قوم أن يقال فى نداء الصبح: (الصلاة خير من النوم) ، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد فى صفة الأذان وليس فيه ذلك، وخالفهم جمهور الفقهاء واستحبوا ذلك، واحتجوا بما رواه ابن جريج قال: أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة: (أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) علمه فى نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين) ، ورواه أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى محذورة مثله، وقد قال أنس، وابن عمر: إنه كان التثويب فى نداء الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين بعد قوله: حى على الفلاح.(2/236)
قال المهلب: وقوله: (اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر) ليسهيه عن صلاته. فيه من الفقه: أن من نسى شيئًا وأراد أن يتذكره فليصل ويجهد نفسه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإن الشيطان لابد أن يحاول تسهيته وإذكاره أمور الدنيا؛ ليصده عن إخلاص نيته فى الصلاة. وقد روى عن أبى حنيفة: أن رجلاً دفن مالاً، ثم غاب عنه سنين كثيرة، ثم قدم فطلبه فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة فأعلمه بما دار له فقال له: صل فى جوف الليل وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تجد على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، ثم عرفنى بأمرك، ففعل فذكر فى الصلاة مكان المال، فلما أصبح أتى أبا حنيفة فأعلمه بذلك، فقال بعض جلسائه: من أين دللته على هذا، يرحمك الله؟ فقال: استدللت من هذا الحديث وعلمت أن الشيطان سيرضى أن يذكره موضع ماله ويمنعه الإخلاص فى صلاته، فعجب الناس من حسن انتزاعه واستدلاله.
5 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا، وَإِلا فَاعْتَزِلْنَا. / 7 - فيه: أَبو سَعِيدٍ أَنَّ الرَسُول (صلى الله عليه وسلم) قَالَ لَه: (إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وفيه: أن الشغل بالبادية واتخاذ الغنم من فعل السلف الصالح الذى ينبغى لنا الاقتداء بهم، وإن كان فى ذلك ترك للجماعات ففيه عزلة عن الناس، وبُعد عن فتن الدنيا وزخرفها، وقد جاء أن الاعتزال(2/237)
للناس عند تغير الزمان وفساد الأحوال مرغب فيه، وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر، يفر بدينه من الفتن) . قال المهلب: وفيه فضل الإعلان بالسنن وإظهار أمور الدين، وإنما أمره برفع صوته بالنداء ليسمعه من بعد منه فيكثر الشهداء له يوم القيامة، وقد اختلف فى قوله عليه السلام: (ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة) ، فقالت طائفة: الحديث على العموم فى كل شىء، وجعلوا الجمادات وغيرها سامعة وداخلة فى معنى هذا الحديث. وقالت طائفة: لا يراد بالحديث إلا من يجوز سماعه من الجن والإنس والملائكة وسائر الحيوان، قالوا: والدليل على ذلك أنه لم يذكر إلا الجن والإنس ثم قال: (ولا شىء) ، يريد من صنف الحيوان السامع والملائكة والحشرات والدواب. ولا يمتنع أن الله، تعالى، يقدر يسمع الجمادات، لكنا لا نقول ذلك مع جوازه إلا بخبر لا يحتمل التأويل، وليس فى هذا الحديث ما يقطع به على هذا المعنى، وقول عمر لمؤذنه: (أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا) ، إنما نهاه عن التطريب فى أذانه والخروج عن الخشوع، وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد: (أن مؤذنًا أذن فطرب فى أذانه فقال له عمر: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا) . وفيه: أن الأذان للمنفرد مرغب فيه مندوب إليه، وقد روى عن الرسول أنه قال: (من أذن فى أرض فلاة، وأقام وحده، صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال) .(2/238)
6 - باب مَا يُحْقَنُ بِالأذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ
/ 8 - فيه: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: (أَنَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، رَكِبَ راحلته. . .) وذكر الحديث. قال المهلب: إنما يحقن الدم بالأذان؛ لأن فيه الشهادة بالتوحيد لله والإقرار بالرسول، وقوله: (لم يغز حتى يصبح فإن سمع أذانًا كف) ، فهذا عند العلماء لمن قد بلغته الدعوة، وعلم ما الذى يدعو إليه داعى الإسلام، فكان يمسك عن هؤلاء حتى يسمع الأذان؛ ليعلم إن كانوا مجيبين للدعوة أم لا؛ لأن الله قد وعده إظهار دينه على الدين كله، فكان يطمع بإسلامهم، وليس يلزم اليوم الأئمة أن يكفوا عمن بلغته الدعوة لكى يسمعوا أذانًا؛ لأنه قد علم عناد أهل الحرب وغائلتهم للمسلمين، وينبغى أن تنتهز الفرصة فيهم.
7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي
/ 9 - فيه: أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الرَسُولَ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ) . / 10 - وفيه: مُعَاوِيَةَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وإذا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: ينبغى لمن يسمع الأذان أن يقول مثلما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه كله على(2/239)
عموم حديث أبى سعيد، وإليه ذهب الشافعى، وقالت طائفة: إنما يقول مثلما يقول المؤذن فى التكبير الشهادتين، ويقول فى موضع قوله: حى على الصلاة، حى على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله، على ما جاء فى حديث معاوية، قالوا: وهو مفسر لحديث أبى سعيد، هذا قول مالك، والكوفيين، ومن الحجة لهم أيضًا ما رواه بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا تشهد المؤذن فقولوا مثلما يقول) . وقال المهلب: ما بعد الشهادتين إنما هو إعلام للناس ودعاء لهم إلى الصلاة، فإذا كان سرًا لم يكن له معنى؛ لأنه لا يسمع به أحد فيكون له فضل الدعوة إلى الصلاة، والسامع إنما يقول ذلك على وجه الذكر لا على وجه دعاء الناس إلى الصلاة، فينبغى أن يجعل مكان ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله، كما روى معاوية فهى مفتاح من مفاتيح الجنة. واختلفوا فى المصلى يسمع الأذان، فقال مالك: يقول مثل قوله من التكبير والتشهد فى النافلة ولا يقوله فى الفريضة، قال: وهذا الذى يقع بنفسى أنه أريد بهذا الحديث، وهو قول الليث، وقال ابن شعبان: روى أبو المصعب عن مالك أنه يقول فى الفريضة والنافلة، وهو قول ابن وهب واختاره ابن حبيب؛ لأنه تهليل وتكبير، جائزٌ أن يقوله وإن لم يسمع أذانًا، وفى المجموعة لابن عبدوس، عن سحنون: لا يقوله أحد فى فريضة ولا نافلة، وروى أنه أريد بالحديث من ليس فى صلاة، وهو قول الشافعى، وحجته أن المؤذنين يؤذنون يوم عرفة والإمام يخطب فلا يقول مثل ما يقولون ويترك ما هو فيه، فالمصلى أولى بذلك.(2/240)
قال الطحاوى: لم أجد لأصحابنا فى هذا نصًا، غير أن أبا يوسف قال: من أذن فى صلاته إلى آخر الشهادتين لم تفسد صلاته إن أراد الأذان، وفى قول أبى حنيفة: لم تفسد صلاته، فهذا يدل من قولهم أن من سمع الأذان فى الصلاة أنه لا يقوله. وقل بعض العلماء: القياس أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة فى هذا الباب؛ لأن الكلام محرم فيهما، وقوله: حى على الصلاة، حتى على الفلاح: كلام، فلا يصلح فى شىء من الصلاة، وقد قال ابن المواز: إنه من قاله فى صلاته عامدًا أو قال: الصلاة خير من النوم أنها تفسد صلاته، قال ابن خويز منداد، عن مالك: هو مسىء ولا تبطل صلاته، وأما سائر الأذان فمن الكلام الذى يصلح فى الصلاة. وقال الطحاوى: وقد قال قوم: إن قول الرسول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) على الوجوب، وخالفهم آخرون وقالوا: هو على الاستحباب والندب، واحتجوا بما رواه قتادة عن أبى الأحوص، عن علقمة، عن عبد الله قال: (كنا مع الرسول فى بعض أسفاره، فسمع مناديًا وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله: (على الفطرة) ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (خرج من النار) ، فابتدرناه، فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فصلى) ، قال الطحاوى: فهذا رسول الله سمع المنادى، فقال غير ما قال؛ فدل أن قوله عليه السلام: (فقولوا مثلما يقول المؤذن) على غير الإيجاب، وأنه على الندب وإصابة الفضل، كما علمهم من الدعاء الذى أمرهم أن يقولوه عند إدبار الصلوات وشبه ذلك.(2/241)
8 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ
/ 11 - فيه: جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال الطحاوى: وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقول عند الأذان غير ما جاء فى الحديث ويأمر به، وذلك ما روى الليث عن حكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد ابن أبى وقاص، عن أبيه، أن رسول الله قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله، عز وجل، ربا، وبالإسلام دينًا؛ غفر له) . وما رواه محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة بنت أبى كثير، عن أمها، عن أم سلمة قالت: (علمنى الرسول فقال: إذا كان عند أذان المغرب فقولى: اللهم هذا استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك، اغفر لى) . قال الطحاوى: فهذه الآثار تدل على أنه أريد بها ما يقال عند الأذان من الذكر، فكل الأذان ذِكْر غير: حى على الصلاة، حى على الفلاح، فإنهما دعاء إلى الصلاة، والذكر أولى أن يقال. وقال المهلب: فيه الحض على الدعاء فى أوقات الصلوات حين تفتح أبواب السماء للرحمة، وقد جاء فى الحديث: (ساعتان لا يرد فيهما الدعاء حضرة النداء بالصلاة، وحضرة الصف فى سبيل الله) ، فدلهم عليه السلام على أوقات الإجابة وأن يدعى بمعنى ما فتح له أبواب السماء وهو قوله: (رب هذه الدعوة التامة) ، يعنى الأذان(2/242)
المشتمل على شهادة الإخلاص لله تعالى، والإيمان بنبيه، عليه السلام، وبذلك تم استحقاق الدخول فى الإسلام، و (الصلاة القائمة) التى هى أول الفرائض بعد الإيمان بالله، فإذا دعا للنبى عليه السلام، بالوسيلة والمقام المحمود فقد دعا لنفسه ولجميع المسلمين، وقوله: (حلت له شفاعتى) معناه غشيته وحلَّت عليه، لا أنها كانت حرامًا عليه قبل ذلك، و (اللام) ، هاهنا بمعنى (على) ، وذلك موجود فى القرآن، قال تعالى: (ويخرون للأذقان سجدًا) [الإسراء: 109] ، يعنى على الأذقان سجدًا، وقوله: (رب هذه الدعوة) لا حجة فيه للمعتزلة الذين يقولون بخلق الصفات، تعالى الله عن قولهم؛ لأن الرب فى اللغة يقال لغير الخالق للشىء، وهو على ضروب: فربُّ الشىء بمعنى مالكه ومستحقه كما قال يوسف: (إنه ربى أحسن مثواى) [يوسف: 23] ، أى أنه مالكى، والله تعالى، وإن كان لا يجوز أن يوصف بأنه مالك لصفاته فهو مستحق أن يوصف بها؛ لأن الملك والاستحقاق معناهما واحد.
9 - باب الاسْتِهَامِ فِي الأذَانِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ. / 12 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: قال رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) .(2/243)
قال أبو جعفر الداودى: قوله عليه السلام: (لو يعلمون ما فى النداء والصف الأول) ، يريد لو يعلمون ما فيه من عظم الثواب لبادروا إليه جميعًا، فلا يبقى من يقيم لهم الجمعة؛ لأن إمام الجمعة لا يكون مؤذنًا، وإنما يؤذنون بين يديه إذا جلس على المنبر، ولذلك قال عمر: لولا الخلاف لأَذَّنُتُ. أما إقراع سعد بين الذين اختلفوا فى الأذان فإن الطبرى ذكر أنه افتتحت القادسية صدر النهار واتبع الناس العدو، فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصيب المؤذن؛ فتشاج الناس فى الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، فأقرع بينهم سعد فخرج سهل رجل فأذن. فالقرعة أصل من أصول الشريعة فى تبدية من استوت دعواهم فى الشىء، وفضل الصف الأول على غيره لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد قيل: إن المراد بذكر الصف الأول المسابقة إلى المسجد؛ لأن مَنْ بَكَّر إلى الصلاة وانتظرها وإن لم يصل فى الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى فى الصف الأول؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، والتهجير: السبق إلى المسجد فى الهواجر، فمن ترك قائلته وقصد إلى المسجد ينتظر الصلاة، فهو من صلاة وهو فى رباط. وقوله: (ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا) ، وإنما خاطب بذكر العتمة من لا يعرف العشاء إلا بهذا الاسم فخاطبهم بما يعقلون، ومن علم أن اسمها العشاء لم يخاطب إلا بما فى القرآن قاله الداودى. قال الطبرى: وإنما خص العتمة والصبح دون سائر الصلوات للزومها فى أثقل الأوقات، العشاء وقت الدعة والسكون من كل تعب،(2/244)
وقد جعل الله الليل سكنًا، وفيها تكلف الحركة فى ظلمة الليل مع خوف الهوام الضارة فى الطريق، وأما الفجر فوقت اشتداد النوم لمحبة الناس استدامة الراحة، فكان خروجًا من الدعة إلى تعب الوضوء والمشى إلى المساجد وليس كسائر الصلوات، وبين ذلك قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر) ، وقال ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أَسأْنا به الظن، وقال عمر: إنى لأشهد الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقال عثمان: من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح كأنما قام ليلة، وقوله: (ولو حَبْوًا) ، يعنى لأتاهما من لا يقدر على المشى كالمقعد وشبهه.
- باب الْكَلامِ فِي الأذَانِ
وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ. / 13 - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ (أنه خطبهم فِي يَوْمٍ رَدْغٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ) . قال المؤلف: رخص فى الكلام فى الأذان عروة بن الزبير، وعطاء وقتادة، وبه قال عبد العزيز بن أبى سلمة وأحمد بن حنبل، وكرهه النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، إلا أنه روى عن الكوفيين أنه إن تكلم فى أذانه يجزئه ويبنى، وقال ابن القاسم فى المجموعة: إذا خاف على صبى أو أعمى أو دابة تقع فى بئر وشبهه تكلم وبنى، وقال الزهرى: إن تكلم فى الإقامة أعادها، وهذا الحديث يدل أنه من(2/245)
تكلم يبنى ولا يبتدئ؛ لأنه قد قال: الصلاة فى الرحال، وتمادى فى أذانه وهو حجة على من خالفه. قال المهلب: وقوله: (الصلاة فى الرحال) ، وأباح التخلف عن الجمعة بعد أن قال: (إنها عزمة) يدل أنه صلى الجمعة وحدها ولم يصل بعدها العصر، فهو حجة لمالك أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر لعذر المطر. وقال ابن دريد: الرزغة: الطين الذى يبل القدم، وقد أرزغ المطر الأرض، وقال صاحب (العين) : الرزغة أشد من الردغة، والرازغ المرتطم فيها.
- باب أَذَانِ الأعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ
/ 14 - فيه: ابن عمر أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) ، قَالَ: (وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) . قال المؤلف: اختلفوا فى أذان الأعمى، فكرهه ابن مسعود، وابن الزبير، وكره ابن عباس إقامته وأجازه طائفة، وروى أن مؤذن النخعى كان أعمى، وأجازه مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد إذا كان له من يعرفه الوقت؛ لأن أذان ابن أم مكتوم إنما كان يؤذن بعد أن يقال له: أصبحت أصبحت. قال المهلب: وفيه جواز شهادة الأعمى على الصوت؛ لأنه ميز صوت من علمه الوقت ممن يثق به، فقام أذانه على قوله مقام شهادة المخبر له، وفيه: أيضًا أنه يجوز أن يذكر الرجل بما فيه من العاهات؛(2/246)
ليستدل بذلك على ما يحتاج إليه، وفيه: أن ينسب الرجل إلى أمه إذا كان معروفًا بذلك، وفيه: تكنية المرأة، وفيه: تكرير اللفظ للتأكيد.
- باب الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ
/ 15 - فيه: حَفْصَةُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاةُ) . / 16 - وفيه: عَائِشَةَ أيضًا قالت: (كَانَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإقَامَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ) . / 17 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ الرسول: (إِنَّ بِلالا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) . الأذان بعد الفجر لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما اختلفوا فى جوازه قبل الفجر على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وفيه مواظبة رسول الله على ركعتى الفجر وتخفيفه لهما. قال المؤلف: وحديث حفصة قد اختلفت ألفاظه، فرواه عبد الله بن يوسف التنيسى عن مالك: (أن رسول الله. . .) ، وخالفه سائر الرواة عن مالك: (أن رسول الله كان إذا سكت المؤذن عن الأذان بصلاة الصبح) ، مكان (اعتكف المؤذن) ، وروى عن عائشة مثل هذا اللفظ: (إذا سكت المؤذن. . .) ، وهو يوافق رواية الجماعة عن مالك، ذكره البخارى فى باب (من انتظر الإقامة) ، بعد هذا.(2/247)
فإن كانت رواية التنيسى عن مالك محفوظة ولم تكن غلطًا، فوجه موافقتها للترجمة أن المؤذن كان يعتكف للصبح، أى ينتظر الصبح لكى يؤذن، والعكوف فى اللغة: الإقامة، فكان يرقب طلوع الفجر ليؤذن فى أوله، فإذا طلع الفجر أذن، فحينئذ كان يركع الرسول ركعتى الفجر قبل أن تقام الصلاة، ويشهد لصحة هذا المعنى رواية الجماعة عن مالك: (كان إذا سكت المؤذن صلى ركعتين خفيفتين) ، فدل أن ركوعه كان متصلاَ بأذانه، ولا يجوز أن يكون ركوعه إلا بعد الفجر، فكذلك كان الأذان بعد الفجر، وعلى هذا المعنى حمله البخارى، ولذلك ترجم له باب (الأذان بعد الفجر) ، وأردف عليه حديث عائشة: (أن النبى كان يصلى ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح) ، ليدل أن هذا النداء كان بعد الفجر. فمن أنكر هذا لزمه أن يقول أن صلاة الصبح لم يكن يؤذن لها بعد الفجر، وهذا غير سائغ من القول. وأما أذان ابن أم مكتوم فقد اختلف العلماء فى تأويله، فقال ابن حبيب: ليس معنى قوله: (أصبحت أصبحت) إفصاحًا بالصبح على معنى أن الصبح قد انفجر وظهر، ولكنه على معنى التحذير من إطلاعه والتحضير له على النداء بالأذان خيفة انفجاره، ومثل هذا قال أبو محمد الأصيلى، وأبو جعفر الداودى، وسائر المالكيين، وقالوا: معنى قوله: (أصبحت أصبحت) ، قارب الصباح كما قال تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) [البقرة: 234] ، يريد إذا قارب ذلك؛ لأنه إذا انقضى أجلها وتمت عدتها فلا سبيل لزوجها إلى مراجعتها وقد انقضت عدتها، قالوا: ولو كان أذان ابن أم مكتوم بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه؛ للإجماع أن الصيام واجب من أول الفجر. وأما مذهب البخارى فى هذا الحديث على ما ترجم به فى هذا(2/248)
الباب فأن أذانه كان بعد طلوع الفجر، والحجة له على ذلك نص ودليل، فأما الدليل فقوله عليه السلام: (إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) ، فلو كان أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر لم يكن لقوله: (إن بلالاً ينادى بليل) معنى؛ لأن أذان ابن أم مكتوم أيضًا كذلك هو فى الليل، وإنما يصح الكلام أن يكون نداء ابن أم مكتوم فى غير الليل فى وقتٍ يحرم فيه الطعام والشراب اللذان كانا مباحين فى وقت أذان بلال. وقد روى هذا المعنى نصًا فى بعض طرق هذا الحديث، ذكره البخارى فى كتاب الصيام فى باب قول النبى، عليه السلام: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) من رواية عائشة قالت: (إن بلالاً يؤذن بليل، فقال عليه السلام: كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر) ، وهذا نص قاطع للخلاف. وأما على من اعتل أن أذانه لو كان بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه للإجماع أن الصيام واجب أول الفجر، فإنها علة لا توجب فساد معنى الصيام، وإنما كان أذان ابن أم مكتوم علامة لتحريم الأكل لا للتمادى فيه، ولابد أنه كان له من يراعى له الوقت ممن يقبل قوله ويثق بصحته من وكل بذلك منه. وقد قال ابن القاسم: إنه من طلع عليه الفجر وهو يأكل أو يجامع فليلق ما فى فيه ولينزل عن امرأته، ولا خلاف فى الأكل والشرب، وإنما اختلفوا فى الوطء على ما يأتى ذكره فى كتاب الصيام، ولم يكن الصحابة ليخفى عليهم إيقاع الأكل فى غير وقته فيزاحمون به أذان ابن أم مكتوم، بل كانوا أحوط لدينهم وأشد تحرزًا من ذلك، وقد بين هذا ما رواه شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة، وكانت قد خرجت مع(2/249)
الرسول (أنه كان إذا نزل بلال وأراد ابن أم مكتوم أن يصعد تعلقوا به، وقالوا: كما أنت حتى نتسحر) .
- باب الأذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ
/ 18 - فيه: ابْنِ مَسْعُودٍ قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : (لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ، لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ، أَوِ الصُّبْحُ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ، وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ، وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ، حَتَّى يَقُولَ: هَكَذَا) . ومَدَّ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. / 19 - وفيه: عَائِشَةَ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ) . واختلف العلماء فى جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر، فأجاز ذلك طائفة، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حبيب: يؤذن للصبح وحدها قبل الفجر، وذلك واسع من نصف الليل، وذلك آخر أوقات العشاء إلى ما بعد ذلك. وقال ابن وهب: لا يؤذن لها قبل السدس الآخر من الليل، وقاله سحنون، وقالت طائفة: لا يجوز الأذان لها إلا بعد الفجر، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، واحتجوا بحديث ابن مسعود أنه قال عليه السلام: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم، ولينبّه نائمكم) . قال الطحاوى: فأخبر أن ذلك النداء من بلال لينبه النائم ويرجع القائم لا للصلاة، وبما رواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبى أن يرجع(2/250)
فينادى: (ألا إن العبد قد نام) ، فهذا ابن عمر يروى هذا وهو قد روى أن بلالاً ينادى بليل؛ فثبت أن ما كان من ندائه قبل طلوع الفجر إنما كان لغير الصلاة، وأن ما أنكره عليه إذ فعله كان للصلاة، واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام: (إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) ، قال ابن القصار: فأخبر عليه السلام أن نداء بلال للصبح يقع فى الوقت الذى يجوز لمن أراد الصوم أن يأكل ويشرب، وهو قبل الفجر. وأما قولهم: إن نداء بلال كان لِيُسَحِّرَ الناس بأذانه ويستيقظ النائم وينام القائم كما جاء فى الخبر، فالجواب: أنه لو أراد به السحور فقط لقال حى على السحور، ولم يقل حى على الصلاة فيدعوهم، وهو يريد أن يدعوهم إلى السحور، فشأنه يدعوهم إلى الصلاة، وقد يكون لهما جميعًا فيكون أذانه حضًا على الصلاة، وإن احتاج أحد إلى غسل اغتسل، أو يكون فيهم من عادته صلاة الليل ذلك الوقت، أو يكون إنسانًا قائمًا فيعرف أنه قد بقى عليه وقت يستريح فيه بنومه كما كان يفعل الرسول، عليه السلام، فهذا معنى قوله: (ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم) ، وهذا يحتاج إليه فى شهر رمضان وغيره ممن يصوم درهه أو عليه نذر، وقوله: (إن بلالاً ينادى بليل) ، أى إن من شأنه أن يؤذن بليل الدهر كله، فإذا جاء رمضان فلا يمنعنكم أذانه المعهود من سحوركم، وفى إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها دليل بين أن أذانه كان لصلاة الصبح. قال المهلب: وفيه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام، وقوله: (ليس الفجر هكذا) يريد أن الفجر ليس هو هذا الفجر الأول المعترض فى الأفق، وذلك لا حكم له، وإنما هو علامة للفجر الثانى الذى يُحِلّ(2/251)
ويحرم، الطالع فى مشرق الشمس المستطير إلى المغرب، ولذلك مَدَّ زهير سبابتيه عن يمينه وشماله دلالة على طلوع الفجر وانتشاره.
- باب كَمْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ
/ 20 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، ثَلاثًا، لِمَنْ شَاءَ) . / 21 - وفيه: أَنَسِ قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّسُولُ، وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ شَيْءٌ، قَالَ شُعْبَةَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا قَلِيلٌ. وترجم له: بين كل أذانين صلاة لمن شاء. قال بعض الفقهاء: أما كم بين الأذان والإقامة فى الصلوات كلها فلا حَدَّ فى ذلك أكثر من اجتماع الناس، وتمكن دخول الوقت. وأما قوله: (بين كل أذانين صلاة) ، فإنه يريد بين الأذان والإقامة موضع صلاة لمن شاء، لا خلاف فى ذلك بين العلماء إلا المغرب وحدها، فإنهم اختلفوا فى الركوع قبلها، فأجازه أحمد وإسحاق، واحتجا بهذا الحديث، وأباه سائر الفقهاء، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا، إن شاء الله.(2/252)
- باب مَنِ انْتَظَرَ الإقَامة
/ 22 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأولَى مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ) . قال المؤلف: فى هذا الحديث دليل على أن ما جاء فى الحض على التهجير والترغيب فى الاستباق إلى المساجد، إنما كان لمن هو على مسافة من المسجد لا يسمع فيها الإقامة من بيته، ويخشى إن لم يبكر أن يفوته فضل انتظار الصلاة، وأما من كان مجاور المسجد حيث يسمع الإقامة ولا تخفى عليه، فانتظارها فى داره كانتظاره لها فى المسجد، له أجر منتظر الصلاة؛ لأنه لا يجوز أن يترك الرسول الأفضل من الأعمال فى خاصته ويحض عليها أمته، بل كان يلتزم التشديد فى نفسه، ويحب التخفيف على أمته، ولو لم يكن له فى بيته فضل الانتظار لخرج إلى المسجد قبل الإقامة، ليأخذ بحظ من الفضل، والله أعلم. وقد قال أبو سليمان الخطابى: (سكب) المؤذن، بالباء، رواه عن عبد العزيز بن محمد، عن الجنيد، قال سويد: عن ابن المبارك، عن الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، قال سويد: سكب: يريد أَذَّنَ، والسَّكْبُ: الصَّبُّ، وأصله فى الماء يُصَبُّ، وقد يستعار فيستعمل فى القول والكلام كقول القائل: أفرغ فى أذنى كلامًا لم أسمع مثله، وأنشد ابن دريد: (لا يفرغن فى أذنى(2/253)
مثلها) ، وفى الحديث: (ويل لأقماع القول) ، وهم الذين يسمعون ولا يعملون به، شبه آذانهم بالأقماع يصب فيها الكلام صب الماء فى الإناء، وهذا الذى رواه سويد، عن ابن المبارك له وجه فى الصواب، ولا يدفع ذلك رواية من روى (سكت) ، بالتاء؛ لأنها بينة المعنى فى الصواب، وقد تأتى (الباء) بمعنى (من) ، و (عن) فى كلام العرب كقوله تعالى: (الرحمن فاسأل به خبيرًا) [الفرقان: 59] ، أى عنه، وقوله: (عينًا يشرب بها عباد الله) [الإنسان: 6] ، أى يشرب منها، وممكن أن يكون، والله أعلم، حمل الراوى لهذا الحديث على أن يرويه سكب بالباء، دون التاء؛ لأن المشهور فى سكت أن تكون معلقة (بعن) ، أو (من) ، كقولهم: سكت عن كذا، أو سكت من كذا، فلما وجد فى الحديث مكان (من) و (عن) الباء ظن أنه (سكب) من أجل مجىء الباء بعدها، وقد ذكرنا أن الباء تأتى بمعنى (عن) و (من) ، وكل الروايتين خارج المعنى، والله أعلم.
- باب مَنْ قَالَ يُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ
/ 23 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ (أَتَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا شَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: ارْجِعُوا، فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) . قال المؤلف: هكذا روى هذا الحديث وهيب، عن أيوب(2/254)
(وصلوا) ، ورواه عبد الوهاب، عن أيوب فى كتاب خبر الواحد (وصلوا كما رأيتمونى أصلى) ، وقصر وهيب فى هذه الزيادة، وبها يتم الحديث. والمؤذن الواحد يجزئ فى السفر والحضر، وقد اختلفت الآثار، كم كان يؤذن للنبى؟ . فروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لرسول الله مؤذنان: ابن أم مكتوم، وبلال، وقال السائب ابن أخت نَمر: ما كان للنبى عليه السلام، إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ويقيم إذا نزل، ثم أبو بكر، ثم عمر كذلك، حتى كان عثمان وفشا الناس وكثروا، زاد النداء الثالث عند الزوراء. قال المهلب: وإنما اشترط السن فى الإمامة لعلمه، عليه السلام، باستوائهم فى القراءة والفقه، فطلب الكمال بالسن وسيأتى الكلام فى هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله.
- باب الأذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإقَامَةِ
وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ. / 24 - فيه: أَبو ذَرٍّ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ، حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم: (إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . / 25 - وفيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: (أَتَى رَجُلانِ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) .(2/255)
/ 26 - وفيه: نَافِعٌ عن ابْنُ عُمَرَ: أَذَّنَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا (أَنَّ النبى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا أَنْ يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ) . / 27 - وفيه: أَبو جُحَيْفَةَ قَالَ: (رَأَيْتُ النبى (صلى الله عليه وسلم) بِالأبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلالٌ، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، وَأَخْرَجَ الْعَنْزَةِ، فَرَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) بِالأبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ) . اختلف العلماء فى الأذان والإقامة فى السفر، فاستحب طائفة أن يؤذن المسافر ويقيم لكل صلاة، روى ذلك عن سلمان، وعبد الله بن عمرو، وعن سعيد بن المسيب مثله، وهذا قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقالت طائقة: هو بالخيار إن شاء أذن، وإن شاء أقام، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول عروة، والثورى، والنخعى، وقالت طائفة: يجزئه إقامة، روى ذلك عن مكحول، والحسن البصرى، والقاسم، وكان ابن عمر يقيم فى السفر لكل صلاة إلا الصبح، فإنه كان يؤذن لها ويقيم. وفى المختصر عن مالك: ولا أذان على مسافر، وإنما الأذان على من يجتمع إليه لأذانه، وقال عطاء: إذا كنت فى سفر فلم تؤذن ولم تقم فأَعِدِ الصلاة، وقال مجاهد: إذا نسى الإقامة فى سفر أعاد،(2/256)
والحجة لهما قوله عليه السلام، للرجلين: (أذنا وأقيما) ، قالا: وأمره على الوجوب، والعلماء على خلاف قول عطاء، ومجاهد؛ لأن الإيجاب يحتاج إلى دليل لا منازع فيه، وجمهور العلماء على أنه غير واجب فى الحضر، والسفرُ الذى قصرت فيه الصلاة عن هيئتها أولى بذلك. قال ابن القصار: والجواب عن قوله للرجلين: (أذنا وأقيما) ، فإنه أراد الفضل بدلالة قوله: (أذِّنَا) ، والواحد يجزئ عندهم. وأحاديث هذا الباب محمولة عند العلماء على استحباب الأذان والإقامة فى السفر، وقد جاءت آثار فى ترغيب الأذان والإقامة فى أرض فلاة، وأنه من فعل ذلك يصلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال.
- باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأذَانِ
وَيُذْكَرُ عَنْ بِلالٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. / 28 - وفيه: أَبو جُحَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى بِلالا يُؤَذِّنُ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالأذَانِ. قال المؤلف: إنما يتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا، ليعم الناس باستماعه،(2/257)
وأما إدخاله أصبعيه فى أذنيه، فذلك ليتقوى على تأدية صوته، وإسماعه الناس، وهذا كله مباح عند العلماء، فما كان أندى لصوته، كان له فعله. وقال ابن سيرين والحسن: لا بأس أن يدخل أصبعيه فى أذنيه وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: ذلك واسع. وقال إبراهيم: يستقبل المؤذن بالأذان والشهادة والإقامة القبلة، فإذا قال: حى على الصلاة، قال: بوجهه عن يمينه وشماله، وهو قول الحسن البصرى، وكره ابن سيرين أن يستدير فى أذانه. وفى (المدونة) : أنكر مالك الاستدارة إنكارًا شديدًا، قال ابن القاسم: وبلغنى عنه أنه قال: إن كان يريد أن يسمع فلا بأس به. وحديث أبى جحيفة حجة على من أنكر الاستدارة؛ لأن قوله: (جعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا) يدل على استدارته، وقد روى ابن أبى شيبة هذا المعنى قال: حدثنا عباد ابن العوام، عن حجاج، عن عون بن أبى جحيفة، عن أبيه: (أن بلالاً ركز العنزة، وأذن، فرأيته يدور فى أذانه) ، ولا يخلو فعل بلال أن يكون عن إعلام النبى له بذلك، أو رآه يفعله، فلم ينكره، فصار حجة وسنة. وقال مالك فى (المختصر) : لا بأس أن يستدير عن يمينه وشماله وخلفه، وليس عليه استقبال القبلة فى أذانه، وفى (المدونة) لابن نافع: أرى أن يدور ويلتفت حتى يبلغ حى على الصلاة، وكذلك ابن الماجشون، ورآه من حَدِّ الأذان، وقال الكوفيون، والشافعى: إن(2/258)
زال ببدنه كله فى الأذان فهو مكروه، ولا شىء عليه، وهذا خلاف ما رواه ابن أبى شيبة فى أذان بلال أنه كان يدور فيه. واختلفوا فى الأذان على غير وضوء، فممن أجازه سوى إبراهيم: قتادة، والحسن، وحماد، ورواية عن عطاء، وهو قول مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وممن كرهه إلا على وضوء: أبو هريرة، قال: لا يؤذن إلا متوضئًا، وهو قول مجاهد، ورواية عن عطاء، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق، وكان الشافعى، وأبو ثور يكرهان ذلك، ويجزئه إن فعل، وقول عائشة: (كان الرسول يذكر الله على كل أحيانه) ، حجة لمن لم يوجبه، وقال أبو الفرج: لا بأس بأذان الجنب، وأجازه سحنون فى غير المسجد. وقال ابن القاسم: لا يؤذن الجنب، وكرهه ابن وهب.
- باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاةُ
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ: فَاتَتْنَا الصَّلاةُ، لِيَقُلْ: لَمْ نُدْرِكْ وَقَوْلُ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أَصَحُّ / 29 - فيه: ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال: َ (بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ) ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قَالَ: (فَلا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . قال المؤلف: قوله: (وما فاتكم، فأتموا) ، يقتضى جواز قول الرجل: فاتتنا الصلاة، ولا وجه لقول ابن سيرين. وفيه: الأمر بالسكينة فى الإقبال إلى الصلاة، وترك الإسراع إليها.(2/259)
وقد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن أبى ذر أنه قال: إذا أقيمت الصلاة، فامش إليها كما كنت تمشى، فصلّ ما أدركت، واقض ما سُبقت، وعن أبى هريرة، وزيد بن ثابت مثله، وروى أبو هريرة، وأنس عن الرسول مثله. روى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام، قال: (إذا أقيمت الصلاة، فليمش أحدكم نحو ما كان يمشى، فليصلّ ما أدرك، وليقض ما فاته) ، وحديث أنس رواه حماد، عن ثابت، وقتادة، وحميد، عن أنس، عن الرسول نحوه، وقال ابن مسعود: امشوا إلى الصلاة، وقاربوا بين الخُطا، واذكروا الله. وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عمر: أنه كان يمشى إلى الصلاة، فلو مشت معه نملة، لرأيت ألا يسبقها، وعن مجاهد مثله، وهو قول أحمد بن حنبل على ظاهر الحديث، وقد رخصت طائفة فى الإسراع إلى الصلاة، روى عن ابن مسعود خلاف ما تقدم عنه، أنه قال: أحق ما سعينا إليه الصلاة، وكان ابن مسعود، وسعيد بن جبير يهرولان إلى الصلاة، وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه سمع الإقامة فأسرع المشى، وهذا يدل مع ما روى عنه أنه لا يسرع المشى إلى الصلاة، أنه حمل قوله، عليه السلام: (عليكم بالسكينة) ، أن المراد به من لم يخش فوات الصلاة، وكان فى سعة من وقتها، وقد روى عن مالك مثل قول ابن عمر، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: لا بأس بالإسراع إذا أقيمت الصلاة، ما لم يَخُبَّ، إذا خاف فوت الركعة، وقال: لا بأس أن يحرك فرسه من سمع مؤذن الحرم ليدرك الصلاة، وقال إسحاق بن راهويه: إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسعى.(2/260)
- باب: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا
قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) / 30 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ الرَّسُول: (إِذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) . قال المهلب: معنى أمره بالسكينة فى السعى إلى الصلاة، والله أعلم، لئلا يُبهر الإنسان نفسه، فلا يتمكن من ترتيل القرآن، ولا من الوقار اللازم له فى الخشوع. وقوله عليه السلام: (إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة) ، يرد ما فعله ابن عمر من إسراعه إلى الصلاة حين سمع الإقامة، ويُبين أن الحديث على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة، كما تلزم من كان فى سعة من الوقت. وقوله: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ، فيه حجة لمن قال: إن ما أدرك المأموم من صلاة الإمام، فهو أول صلاته، وقد اختلف العلماء فى ذلك، ففى المدونة، عن مالك، أن ما أدرك فهو أول صلاته، إلا أنه يقضى مثل الذى فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، ورواه ابن نافع، عن مالك، وقال سحنون فى (العتبية) : هذا الذى لم نعرف خلافه، وهو قول مالك، أخبرنى به غير واحد، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومكحول، وعطاء، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وقالت طائفة: ما أدرك مع الإمام، فهو آخر صلاته والذى يقضيه أول صلاته، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، والنخعى، والشعبى، وابن(2/261)
سيرين، وأبى قلابة، ورواه عيسى عن ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، ورواه أشهب عنه، وهو قول أشهب، وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب، وقال: الذى يقضى هو أولها؛ لأنه لا يستطيع أن يخالف إمامه، فتكون له أولى وللإمام ثانية أو ثالثة. وحكى الطحاوى، عن أبى حنيفة: أن الذى يدرك مع الإمام هو آخر صلاته وهو عنده قول الثورى، وحجة هذا القول رواية من روى هذا الحديث: وما فاتكم فاقضوا، والقضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه، وفى إجماعهم أنه يقضى بقية صلاته كما وردت السنة دليل على أن الذى يقضيه فائت، وأن الذى صلى مع الإمام ليس هو الفائت. فإن قيل: فلم تأمره إذا قضى الفائت بالتشهد، وقد فعله قبل ذلك عندك فى موضعه. قيل: لأنه لم يفعل التسليم، ومن سنة التسليم أن يكون عقيب التشهد، وحجة القول الأول قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) ، والتمام لا يكون إلا للآخر، ومستحيل أن يكون ما أدرك: آخر صلاته، فعمله أولاً؛ لأنه لا يكون آخرًا إلا وقد تقدمه أول. فإن قال قائل: كيف يصح فى قول مالك أن يكون ما أدرك أول صلاته، ولا خلاف عنده أنه من أدرك من مع الإمام ركعتين أنه يقرأ فيهما كما يقرأ الإمام بأم القرآن فى كل ركعة، فإذا سلم، قام فقرأ فيما يقضى: بالحمد وسورة فى كل ركعة؟ . قيل: جواب هذا السؤال اتفاق الجميع على أن الإحرام لا يكون(2/262)
إلا فى أول الصلاة، والتشهد والسلام لا يكون إلا فى آخرها، فكان ما أدرك: أول صلاته، وجواب آخر: وهو قوله عليه السلام: (وما فاتكم فاقضوا) ، وذلك أن الذى فاته هو الذى فعله إمامه، وهى قراءة أم القرآن، وسورة فى كل ركعة، فوجب عليه قضاء مثله، وهذا المعنى بعينه يقتضى قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) ؛ لأن التمام فى اللغة إتمام شىء ناقص تقدمه، ولا يكون تمامًا لشىء حتى يؤتى بكل ما نقص منه، وقد فسر أهل اللغة القضاء على غير ما احتج به الفقهاء، وقالوا: القضاء يكون لغير فائت، قال صاحب (الأفعال) : قضى الشىء: صنعه، قال تعالى: (فقضاهن سبع سماوات فى يومين) [فصلت: 12] ، أى صنعهن، وقال: (فاقض ما أنت قاض) [طه: 72] ، أى اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذؤيب: وعليهما مسبرودتان قضاهما داود أو صنع السَّوابِغَ تُبَّعُ أى صنعهما داود، قال: ويقال: قضيت الحق: خرجت منه، وقضيت العمل والأمر: فرغت منهما، قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض) [الجمعة: 10] ، وهذا كله يدل على صحة قول من قال: إن ما أدرك فهو أول صلاته. وفى المسألة قول ثالث قاله المزنى، وإسحاق، وأهل الظاهر قالوا: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقرأ فيهما بالحمد وسورة مع الإمام، وإذا قام للقضاء، قضى بالحمد وحدها، فيما يقضى لنفسه، كأنه آخر صلاته، فهؤلاء طردوا قولهم على أصولهم إلا أنه لا سلف لهم فيه، فلا معنى له.(2/263)
- باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الإمَامَ عِنْدَ الإقَامَةِ
/ 31 - فيه: قال أَبو قَتَادَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي) . وترجم له: باب لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقم إليها مستعجلاً، وليقم إليها بالسكينة والوقار. / 32 - وزاد فى الحديث: (لا تقوموا حتى ترونى، وعليكم بالسكينة والوقار) . فائدة هذا الحديث أن تكون الإقامة متصلة بالصلاة، وألا يقام لها إلا بحضرة الإمام، وأمرهم، عليه السلام، ألا يطيعوا المؤذن فى ذلك خشية التراخى والمهلة بين الإقامة والدخول فى الصلاة، فينتظرونه قيامًا؛ لأن شأن الدخول فى الصلاة، اتصاله بإقامة من غير فصل، فلذلك نهاهن عن القيام قبل خروجه، والله أعلم. وقد اختلف السلف فى ذلك، فقالت طائفة: إذا أقيمت الصلاة، فلا يقوم الناس حتى يأتى الإمام، على ظاهر حديث أبى قتادة، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول إبراهيم، وقالوا: ينتظره الناس قعودًا، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، وروى عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز أنهم ينتظرونه قيامًا. واختلف فى قيام المأمومين إلى الصلاة إذا كان الإمام فى المسجد، فروى عن سالم، وأبى قلابة، والزهرى، وعطاء أنهم كانوا يقومون فى أول الإقامة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومحمد: يقومون فى الصف إذا قال المؤذن: حى على الفلاح، وإذا قال: قد قامت الصلاة كبر الإمام، وهو فعل أصحاب عبد الله، والنخعى، وقال أبو يوسف، ومالك، والشافعى: لا يكبر الإمام(2/264)
حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وهو قول الحسن البصرى، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: وعلى هذا جلّ الأئمة: مالك، والشافعى، والعمل فى أمصار المسلمين، يعنى فى تكبير الإمام بعد تمام الإقامة. قال المهلب: وقوله: (لا تسع إلى الصلاة، ولا تقم إليها مستعجلاً) ، فذلك لأن السكينة تلزم عند الوقوف بين يدى الله، وفى القيام إلى الصلاة استشعار بحال الوقوف بين يدى الله، تعالى.
- باب هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ
/ 33 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ (أَنَّ نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاهُ، انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ) . وترجم له: باب إِذَا قَالَ الإمَامُ: مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ. / 34 - وقال فيه: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَقَدَّمَ، وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ.) . وذكر الحديث. معنى هذا الباب: هل يخرج من المسجد إذا ذكر أنه جنب دون أن يتيمم أم لا؟ وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وذكرت هناك اختلاف العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته. وقال المهلب: فيه أن يكون بين الأذان والإقامة مهلة عند الضرورة بقدر اغتساله عليه السلام، وانصرافه إليهم.(2/265)
فإن قال قائل: فإن هذا الحديث يعارض حديث أبى قتادة، أنه عليه السلام، قال: (إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى ترونى) . قيل: يحتمل أن يكون حديث أبى قتادة على غير الإيجاب والحتم، بل على وجه الرفق بهم لئلا ينتظروه قيامًا. وفيه: جواز انتظار الجماعة لإمامها الفاضل ما دام فى سعة من الوقت. وفيه: جواز انتظارهم له قيامًا، وهذا مما يكون فيما قرب. وفى هذا الحديث حجة لمالك وأبى حنيفة أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وهو قول عامة الفقهاء، ويرد قول الشافعى فى إجازته تكبير المأموم قبل إمامه؛ لأنه روى حديث أبى هريرة على ما رواه مالك، عن إسماعيل بن أبى حكيم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله كبر فى صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب، ثم رجع، وعلى جلده أثر الماء، فاحتج به الشافعى فى ذلك، ونقض أصله؛ لأنه حديث مرسل، وهو لا يقول بالمراسيل. ومالك الذى ذكره فى موطئه تركه، وأراد أن يعرفنا أنه رواه، ولم يقل به؛ لأنه قد صح عنده أنه عليه السلام، لم يكن كبر حينئذ على ما رواه أبو هريرة، وهذا الحديث رواه يونس، ومعمر، والأوزاعى، وصالح بن كيسان، عن الزهرى، عن أبى سلمة، عن هريرة، وأنه عليه السلام لم يكن كبر، وذهب فاغتسل، ثم رجع، فكبر، ولو لم يكن يستأنف التكبير عند رجوعه لما صحت صلاة من خلفه؛ لأنه كان يقع تكبيره بعد تكبيرهم، ولا يستحق الإمام اسم الإمامة إلا بتقديم فعله فعل من يأتم به واتباعهم له، ومن كبر قبل إمامه فلم يأتم به، ولا حصل متبعًا له.(2/266)
- باب قَوْلِ الرَّجُلِ مَا صَلَّيْنَا
/ 35 - فيه: جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ عَلَيهِ السَّلاَم: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْت، فَنَزَلَ عَلَيهِ السَّلاَم إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى العَصْر بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ) . فى هذا الحديث رد على قول من يقول، إذا سئل: هل صليت؛ وهو منتظر للصلاة، فيكره أن يقول: لم أصل، وهو قول إبراهيم النخعى، رواه ابن أبى شيبة، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن أبى هاشم، عن إبراهيم أنه كره أن يقول الرجل: لم نصل، ويقول: نصلى، وقول الرسول: والله ما صلينا، خلاف قول إبراهيم، ورد له، فلا معنى له.
- باب الإمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الإقَامَةِ
/ 36 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) يُنَاجِي رَجُلا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ) . وترجم له: باب الْكَلامِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ. فى هذا الحديث ردّ لقول الكوفيين أن المؤذن إذا أخذ فى الإقامة، وقال: قد قامت الصلاة، وجب على الإمام تكبيرة الإحرام، ولو كان ما قالوه سنة الصلاة، ما كان عليه السلام يُدخل بين الإقامة(2/267)
وبين الدخول فى الصلاة عملاً من غيرها، ويدل على صحة هذا القول عملُ الخلفاء الراشدين به من بعد الرسول، وأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة، فإذا أخبروا بذلك كبروا، وبهذا قال مالك، وأهل الحجاز، ومحمد بن الحسن. وما تعلق به الكوفيون من قول أبى هريرة: لا تفتنى بآمين، فإنما كان نادرًا منه؛ لأن شأنه فى صلاته كما كان عمل الخلفاء بعده. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل أن اتصال الإقامة بالصلاة ليس من وكيد السنن، وإنما هو من مستحبها، وقد قال مالك: إذا بعدت الإقامة من الإحرام رأيت أن تعاد الإقامة استحبابًا؛ لأن فعل الرسول فى هذا الحديث يدل أنه ليس بلازم، وإنما كان عند الحاجة التى يخاف فوتها من أمر المسلمين. واختلف العلماء فى الكلام بعد الإقامة، فأجازه الحسن البصرى، وقال أبو مجلز: أقيمت الصلاة، وصفت الصفوف، فابتدر رجل لعمر، فكلمه فأطالا القيام، حتى ألقيا إلى الأرض والقوم صفوف. وكره الكلام بعد الإقامة: النخعى، والزهرى، وهذا الحديث حجة عليهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَبْوَاب صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَالإمَامَةِ
- باب وُجُوبِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا. / 37 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال النبى (صلى الله عليه وسلم) : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ ليحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي(2/268)
بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) . وقوله: (لقد هممت أن آمر بحطب ليحطب. . .) ، دليل على تأكيد الجماعة، وعظيم أمرها، وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات بقوله: (حافظوا على الصلوات) [البقرة: 238] ، ومن تمام محافظتها صلاتها فى جماعة. وأجمع الفقهاء أن الجماعة فى الصلوات سنة إلا أهل الظاهر، فإنها عندهم فريضة، واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: هى كل صلاة. واختلفوا فى الصلاة التى هم النبى عليه السلام، بأن يأمر فيحطب فيحرق رجلٌ من تخلف عنها، فقالت طائفة: هى صلاة العشاء، واحتجوا بما رواه ابن وهب، عن ابن أبى ذئب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء، أو لأحرقن حول بيوتهم) ، ويشهد لهذا القول قوله: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا، لشهد العشاء) ، هذا قول سعيد بن المسيب، وقال آخرون: هى الجمعة، رواه أبو إسحاق، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: (هى الجمعة) ، وهو قول الحسن البصرى، وقاله يحيى بن معين: أن الحديث فى الإحراق على من تخلف عن الرسول: يوم الجمعة لا فى غيرها. ومما يدل أن صلاة الجماعة سنة ما روى عن ابن مسعود أنه قال:(2/269)
(عليكم بالصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن نبيكم، ولو تركتم سنته لضللتم، ولقد عهدتنا، وإن الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام فى الصف) ، ومما يدل على أنها سنة أن نبى الله لم يقل لهم حين توعدهم بالإحراق عليهم، أنه من تخلف عن الجماعة، فلا تجزئه صلاته، ولو كانت فرضًا ما سكت عن ذلك؛ لأن البيان منه لأمته فرض عليه. قال المهلب: وقد قيل إن هذا الحديث أريد به المنافقون، وإليهم توجه الوعيد فيه، واحتج قائل ذلك بأن الرسول أقسم أنه لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء، وليس هذا من صفات المؤمنين، وقيل: إن الحديث فى المؤمنين والوعيد إليهم متوجه، والدليل على ذلك قصة كعب بن مالك وصاحبيه، وأن الله سبحانه وبخهم بذلك ولم يوبخ المنافقين، ولا ذكرهم، ولا عُنى بإخراجهم إلى الصلاة، ولا التفت إلى شىء من أمرهم، بل كان معرضًا عنهم عالمًا بسوء طويتهم، فكيف كان يعنى بتأديبهم على ترك الصلاة فى الجماعة، وهو يعلم أنه لا صلاة لهم، ولا يلزمه التهمم بأمرهم، لما كان أطلعه الله عليه من فساد نياتهم. والعِرْقُ: العظم إذا كان عليه لحم، وقد تَعَرَّقْتُ العظم واعترقْتُه، وعَرَقْتُه، وأعرقه عرقًا: أكلت ما عليه، ورجل معروق، ومعترق: خفيف اللحم، فإذا كان العظم لا لحم عليه فهو عِرَاق، من كتاب (العين) .(2/270)
وفيه: العقوبة فى الأموال على ترك السنن؛ لأن نبى الله لم يهم من الإحراق إلا بما يجوز له فعله، وسيأتى هذا الحديث فى أبواب الإشخاص والملازمة، وفى كتاب الأحكام، وترجم له فيها: باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت، وفيه شىء من الكلام على حسب ما يقتضيه التبويب. وأما ضربه عليه السلام المثل بالعظم السمين والمرماتين، فإنه أراد الشىء الحقير، وقال أبو عبيد: (المرماتين: ما بين ظلفى الشاة، وهذا حرف لا أدرى ما وجهه) . وقال الحربى: وهو قول الخليل، ولا أحسب هذا معنى الحديث، ولكنه كما أخبرنى أبو نصر، عن الأصمعى قال: المرماة: سهم الهدف، ويصدق هذا ما حدثنى به عبيد الله بن عمر، عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن، عن أبى رافع، عن أبى هريرة أن الرسول قال: (لو أن أحدكم إذا شهد الصلاة معى كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان، لفعل) ، وقال أبو عمرو: مرماة ومرام، وهى الدقاق من السهام المستوية.
- باب فَضْلِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ
وَكَانَ الأسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. وَجَاءَ أَنَسُ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً. / 38 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الرَسُولَ قَالَ: (صَلاةُ الْجَمَاعَةِ، تَفْضُلُ صَلاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) .(2/271)
/ 39 - وفيه: أبو سعيد مثله. / 40 - وفيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفِي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إِلا الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ) . قوله: بسبع وعشرين درجة، وخمس وعشرين ضعفًا، وخمس وعشرين جزءًا، يدل على تضعيف ثواب المصلى فى جماعة على ثواب المصلى وحده بهذه الأجزاء وهذه الأوصاف المذكورة، وقد استدل قوم بهذا الحديث على أن الأفضل لكثير الجماعة على قليلها، وبما عليه أكثر العلماء فيمن صلى جماعة اثنين فما فوقهما، أن لا يعيد فى جماعة أخرى أكثر منها، وقد روينا آثار مرفوعة عن أبى بن كعب وغيره أن كلما كثرت الجماعة كان ثواب المصلى أكثر، وليست بالقوية، ولا مدخل للقياس فى الفضائل، وإنما يقال لما صح التوقيف فيه. قال ابن القصار: وهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة فى جماعة سنة، كما قال الفقهاء، وخالف ذلك أهل الظاهر، وقالوا: صلاة الجماعة فريضة، والدلالة عليهم منها فى وجهين اثنين: أحدهما: أنه أثبت صلاة الفذ وسماها صلاة، وهم يقولون: ليست بصلاة، والثانى: أنه عليه السلام فاضل بينهما، فأثبت للجماعة فضلاً، فدل أن المنفردة فاضلة إلا أن مرتبتها أنقص. وهذه الدرجات والأجزاء التى تفضل بها صلاة الجماعة، منها فى حديث أبى هريرة: أربع؛ لقوله: (وذلك أنه إذا توضأ، ثم خرج(2/272)
إلى المسجد) ؛ لأن قوله: (وذلك) إشارة إلى تفسير الجمل المذكورة فى أول الكلام، فقوله: (ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) ، هذه درجة وهى نية الصلاة فى جماعة، وقوله: (لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة) ، فهذه درجة ثانية، وقوله: (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلى عليه مادام فى مصلاه) ، وهذه درجة ثالثة، والدرجة الرابعة قوله: (إن أحدكم فى صلاة ما انتظر الصلاة) . وفى حديث آخر لأبى هريرة قال عليه السلام: (لو يعلم الناس ما فى النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) ، فهاتان درجتان، و (لو يعلمون ما فى التهجير، لاستبقوا إليه) ، فهذه درجة، وقوله: (لو يعلمون ما فى العتمة والصبح) يريد فضل اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فى الصبح، لقوله تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) [الإسراء: 78] ، وقال عليه السلام: (تجتمع فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار فى العصر والفجر) ، فهاتان درجتان، وتمام الدرجات الباقية من جنس هذه المذكورة لا محالة، فطلبنا فى الآثار والقرآن، ما جانس هذه الدرجات، مما تختص به صلاة الجماعة، وليست للفذ، فوجدنا منها: إجابة النداء إلى الصلاة، لقوله تعالى: (أجيبوا داعى الله) [الأحقاف: 31] ، ولقوله: (إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] . ومنها: لزوم الخشوع فى السير إلى المسجد، لقوله عليه السلام: (ائتوا الصلاة وعليكم السكينة) . ومنها: لزوم الذكر فى سيره، وقد روى وكيع، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى، قال: (من(2/273)
قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، لم أخرجه أشرا، ولا بطرًا، ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، واتباع مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تدخلنى الجنة، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضى صلاته) . ومثل هذا لا يدرك بالرأى، ولا يكون إلا عن الرسول. ومنها: السلام على الرسول، والدعاء عند دخوله فى المسجد، وعند خروجه، فهاتان درجتان، روى النسائى من حديث المقبرى، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال: (إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبى، عليه السلام، وليقل: اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبى، وليقل: اللهم اعصمنى من الشيطان) . ومنها: السلام عند دخوله فى المسجد، إن كان خاليًا، فقد روى عن ابن عباس فى قوله تعالى: (فسلموا على أنفسكم) [النور: 61] ، قال: هو المسجد إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ومنها: الركوع فى المسجد عند دخوله، فقد أمر الرسول بذلك وهو تحية المسجد. ومنها: ترك الخوض فى أمر الدنيا؛ لحرمة المسجد والصلاة، وذكر الله تعالى، فيه لقوله تعالى: (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) [النور: 36] ، وكان عمر يضرب الناس على ذكر الدنيا فى المسجد، واتخذ البطحاء لمن أراد اللغط فيه.(2/274)
ومنها: إجابة الدعاء بحضرة النداء للصلاة، فقد قال عليه السلام: (ساعتان لا يرد فيهما الدعاء: حضرة النداء، والصف فى سبيل الله) . ومنها: اعتدال الصفوف، وإقامتها، والتراصص فيها، وإلزاق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم، فقد جاء فى الحديث أن ذلك من تمام الصلاة. ومنها: استماع قراءة الإمام والتدبر لها، وقد جاء فى قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف: 204] ، أن ذلك فى الصلاة. ومنها: قوله: ربنا ولك الحمد إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، كما جاء فى الحديث. ومنها: شهادة الملائكة لمن حضر الجماعة؛ لقوله عليه السلام: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) . ومنها: تحرى موافقة الإمام فى الجماعة، فلا يختلف على الإمام فى القرآن والعمل؛ لقوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه) . ومنها: فضل تسليمه على الإمام وعلى من بجنبه. ومنها: فضل دعاء الجماعة. ومنها: الاعتصام بالجماعة من سهو الشيطان؛ لقوله عليه السلام: (أَصَدَقَ ذُو اليدين) ، ولا يجوز على الجماعة كلها السهو، فتمت سبعةً وعشرين درجة.(2/275)
فإن قال قائل: فما معنى اختلاف الدرجات والأجزاء فى الآثار، فمرة قال: (بسبع وعشرين درجة) ، ومرة قال: (بخمسة وعشرين جزءًا؟) . فالجواب: أن الفضائل لا تدرك بالرأى، وإنما تدرك بالتوقيف، وهذا الاختلاف له معنى صحيح يؤيد بعضه بعضًا، وذلك أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أعلمه الله عز وجل، أن فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمسة وعشرين جزءًا، ثم زاد تعالى فى فضل الجماعة على صلاة الفذ، فكمله سبعًا وعشرين، ومثل هذا المعنى كثير فى شريعته عليه السلام. فقد أخبر عليه السلام أنه من (صلى عليه مائة من المؤمنين، شفعوا فيه) ، وفى حديث آخر: (من صلى عليه أربعون) . وفى حديث آخر: (ما من مسلم يشهد له أربعة بخير إلا أدخله الله الجنة، فقيل: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قيل: واثنان؟ قال: واثنان) . وهذا كله إنما كان ينزل على النبى فيه الوحى، ويعلم بما لم يعلم قبل ذلك، كما قال له تعالى: (قل ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم) [الأحقاف: 46] ، ثم أعلمه بعد ذلك أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان يخبر أمته على حسب ما يوحى إليه، ولم ينطق عن الهوى، فكذلك تضعيف ثواب صلاة الجماعة، والله أعلم. وفيه وجه آخر يحتمل أن يكون السبع والعشرون الدرجة للعشاء والصبح، ويكون لسائر الصلوات خمس وعشرون درجة، وسأذكر وجه ذلك فى الباب بعد هذا إن شاء الله.(2/276)
وأما ما روى عن الأسود أنه كان يتبع المساجد إذا فاتته الجماعة، فقد روى ذلك عن حذيفة، وسعيد بن جبير، وذكر الطحاوى، عن الكوفيين ومالك: إن شاء صلى فى مسجده وحده، وإن شاء أتى مسجدًا آخر فطلب فيه الجماعة، إلا أن مالكًا قال: إلا أن يكون فى المسجد الحرام، أو مسجد الرسول فلا يخرجوا منه، ويصلوا فيه وحدانًا؛ لأن هذين المسجدين للفذ أعظم أجرًا ممن صلى فى جماعة. وقال الحسن البصرى: ما رأينا المهاجرين يتبعون المساجد، قال الطحاوى: والحجة لمالك أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، والصلاة فى المسجد الحرام، ومسجد الرسول أفضل من الصلاة فى غيرهما؛ فلذلك لا يتركهما ابتغاء الصلاة فى غيرهما، وفى مختصر ابن شعبان عن مالك: أنه من صلى فى جماعة فلا يعيد فى جماعة إلا فى مسجد مكة والمدينة. وأما صلاة اثنين جماعة فى مسجد قد جمع فيه، فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فى مسجد قد جمع فيه، وهو قول عطاء، والحسن البصرى فى رواية، وإليه ذهب أحمد، وإسحاق، وأشهب صاحب مالك. وروى ابن مزين عن أصبغ قال: دخلت المسجد مع أشهب وقد صلى الإمام، فقال: يا أصبغ ائتم بى وتنحى إلى زاوية، فائتممت به، واحتج أحمد فى ذلك بقوله عليه السلام: (صلاة الجمع تزيد على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) . وقالت طائفة: لا تجمع فى مسجد مرتين، روى ذلك عن سالم،(2/277)
والقاسم، وأبى قلابة، وهو قول مالك، والليث، والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى. وقال بعضهم: إنما كره ذلك خشية افتراق الكلمة، وأن أهل البدع يتطرقون إلى مخالفة الجماعة، وقال مالك، والشافعى: إذا كان مسجد على طريق ولا إمام له، أنه لا بأس أن يجمع فيه قوم بعد قوم.
- باب فَضْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ
/ 41 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ أن نبى الله قَالَ: (تَفْضُلُ صَلاةُ الْجَمْعِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ) ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء 78] . / 42 - وفيه: أَبُو الدَّرْدَاء قال: مَا أَعْرِفُ مِنْ مُحَمَّدٍ عليه السلام، شَيْئًا إِلا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. / 43 - وفيه: أَبِي مُوسَى، قَالَ رسول الله: (أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلاةِ أَبْعَدُهُمْ مَمْشًى) . قال المؤلف: قد بيَّن فى هذا الباب المعنى الذى أوجب التفضيل لشهود الفجر فى جماعة، وهو اجتماع ملائكة الليل، والنهار(2/278)
فيها، ولقد قال عمر بن الخطاب: لأن أشهد الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقد روى أبو هريرة عن الرسول أن ملائكة الليل والنهار يجتمعون فى صلاة العصر أيضًا. قال المهلب: فلما خص الفجر بشهود الملائكة لها، وكان مثل ذلك فى صلاة العصر، وأشبهت الفجر فى هذه الفضيلة، أمر الرسول بالمحافظة على العصر ليكون من حضرهما ترفع الملائكة عمله، وتشفع له. قال المؤلف: ويمكن أن يكون اجتماع الملائكة فى الفجر والعصر هُما الدرجتان الزائدتان على الخمسة والعشرين جزءًا فى سائر الصلوات التى لا تجتمع الملائكة فيها، والله أعلم، وإنما قلت هذا من قول أبى هريرة: سمعت الرسول يقول: (تفضل صلاة الجماعة صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر) ، فذكر اجتماع الملائكة فى الفجر بواو فاصلة، واستأنف الكلام، وقطعه من الجملة المتقدمة، فدل ذلك على أن اجتماع الملائكة يوجب فضلاً ودرجة زائدة على الخمسة وعشرين، فصارتا درجتين للفجر والعصر، ليستا لغيرهما من الصلوات. وقال المهلب: وفى حديث أبى الدرداء جواز الغضب عند تغير الدين وتغير أحوال الناس فى معاشرتهم، وإنكار المنكر بالغضب إذا لم يستطع على أكثر من ذلك، وهو أضعف الإيمان. وقوله: (ما أعرف من محمد شيئًا) ، يريد من: شريعة محمد شيئًا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة فى جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه.(2/279)
وقوله: (أعظم الناس فى الصلاة أجرًا أبعدهم ممشى) ، فذلك لكثرة الخطا، وقد روى هذا عن الرسول.
- باب فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ
/ 44 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قال عليه السلام: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) ، ثُمَّ قَالَ: (الشُّهَدَاءُ خَمْسَ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، وَقَالَ: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ، وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) . والتهجير: السير فى الهاجرة، وهى شدة الحر، ويدخل فى معنى التهجير المسارعة إلى الصلوات كلها قبل دخول أوقاتها؛ ليحصل له فضل الانتظار قبل الصلاة. قال المؤلف: قوله: (ولو يعلمون ما فى التهجير لا ستبقوا إليه) ، يدل أن صلاة الظهر عند الزوال أفضل، يدل على ذلك قوله عليه السلام، حين سئل: أى العمل أفضل؟ قال: (الصلاة لأول وقتها) وقد تقدم أن الآثار التى وردت بالإبراد، ليست بمعارضة لهذا الحديث، بل هى رخصة لفضل الجماعة، وليتسع الناس فى الاجتماع، وهذا الحديث فيه ثلاثة أحاديث جمعها أبو هريرة فى مساق واحد، وقد يمكن أن يكون سمعها من الرسول فى وقت واحد، والله أعلم، فأتى بها كما سمعها.(2/280)
وفيه من الفقه: أن نزع الأذى من الطريق من الأعمال الصالحة التى يرجى بها الغفران من الله تعالى، وقد قال عليه السلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق) .
- باب احْتِسَابِ الآثَارِ
وقال مجاهد: خطاكم آثار المشى فى الأرض بأرجلكم. / 45 - وفيه: أَنَس قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: (يَا بَنِي سَلِمَةَ، أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ) . قال المؤلف: قوله: (ألا تحتسبون آثاركم) ، إنما قال لهم ذلك؛ لأنهم كانوا على بُعدٍ من مسجده عليه السلام، فأرادوا أن يتحولوا بقرب المسجد فكره النبى، عليه السلام، أن يعرى المدينة. قال المهلب: فحضهم على البقاء واحتساب الآثار، واستشعارهم النية والإخلاص لله تعالى، فى مشيهم، ودخل فى معنى ذلك كل ما يصنع لله تعالى من قليل أو كثير، أن يراد به وجهه، تعالى، ويخلص له فيه، وهو الذى يزكوا ثوابه وأجره، وقال ابن عباس: فى الأنصار نزلت حين أرادوا أن ينتقلوا: (ونكتب ما قدموا (أعمالهم،) وآثارهم) [يس: 12] ، فيما مشوا أبعدهم مكانًا.(2/281)
قال الطبرى: وفيه من الفقه صحة قول القائل: تفضل المقاربة بين الخطا فى المشى إلى الصلاة على الإسراع إليها، وذلك أن ابن عباس ذكر أن قول الله: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) [يس: 12] ، نزلت إعلامًا من الله تعالى نبيه أنه يكتب خطا المشائين إلى الصلاة، ويوجب لهم ثوابًا؛ حضًا منه تعالى للذين أرادوا النقلة إلى قرب مسجده على الثبات فى مواضعهم، وإن نأتْ، وترغيبًا لهم فى احتساب خطاهم، ومشيهم إلى الصلاة، وقد روى عن الرسول أن من بعد من المسجد أفضل. وروى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عبد الرحمن بن سعيد، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (الأبعد فالأبعد من المساجد أعظم أجرًا) . وروى عن أنس أنه كان يتجاوز المساجد المحدثة إلى المساجد القديمة، وفعله مجاهد وأبو وائل، وقد روى عن بعضهم خلاف هذا، سئل الحسن: أيدع الرجل مسجد قومه ويأتى غيره؟ قال: كانوا يحبون أن يكثر الرجل قومه بنفسه. وسئل أبو عبد الله بن لبابة عن الذى يدع مسجده ويصلى فى الجامع للفضل فى كثرة الناس فقال: لا يدع مسجده، وإنما فضل الجامع فى صلاة الجمعة فقط.
30 - باب فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
/ 46 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله: (لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا، لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، ولَقَدْ(2/282)
هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلا مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ بَعْدُ) . قد تقدم الكلام فى معنى هذا الحديث فى باب (الاستهام للأذان) ، فلا معنى لإعادته، وبهذا الحديث احتج من قال: إن الوعيد بالإحراق لمن تخلف عن صلاة الجماعة أريد به المنافقون؛ لذكرهم فى أول الحديث، وهذا ليس ببيِّن؛ لأنه يحتمل أن يكون عليه السلام، أخبر المؤمنين أن من شأن المنافقين ثقل الفجر والعشاء عليهم فى الجماعة، فحذر المؤمنين من التشبه بهم فى ذلك، وامتثال طريقتهم، والله أعلم، وإنما ثقلت صلاة العشاء على المنافقين للزومها فى وقت ثقيل متصل بالنوم، فأشبهت صلاة الفجر فى ذلك، وقد قال عثمان بن عفان: من شهد العشاء، فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح، فكأنما قام ليلة، وهو بيِّن فى ذلك.
31 - باب اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
/ 47 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قال النَّبِيِّ عليه السلام: (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) . اختلف العلماء فى أقل اسم الجمع، فذهب قوم إلى أن الاثنين جمع، واستدلوا بهذا الحديث، وقالوا: كل جماعة قليلة كانت أو كثيرة، فالمصلى فيها له سبع وعشرون درجة، قال إبراهيم النخعى: إذا صلى الرجل مع الرجل لهما أجر التضعيف خمس وعشرون درجة، وهما جماعة.(2/283)
وقالت طائفة: الثلاثة جماعة، روى ذلك عن الحسن البصرى، وقال إسماعيل بن إسحاق: فى حديث أبى بن كعب، أن النبى، عليه السلام، قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاة الرجل وحده) دليل أن صلاة الرجل مع الرجل فى معنى الجماعة.
32 - باب مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
/ 48 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ: (الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ، مَا لَمْ يُحْدِثِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ، مَا دَامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلا الصَّلاةُ) . / 49 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال عليه السلام: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ) ، وذكر منهم: (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسَاجِدِ) . قوله عليه السلام: (الملائكة تصلى على أحدكم ما دام فى مصلاه) ، تفسير لقوله: (ويستغفرون للذين آمنوا) [غافر: 7] ، يريد المصلين، والمنتظرين للصلاة، ويدخل فى ذلك من أشبههم فى المعنى، ممن حبس نفسه على أفعال البرِّ كلها، والله أعلم. قال المهلب: فالصلاة من الملائكة استغفار ودعاء، وهى من الله رحمة، وقد فسر أبو هريرة الحدث فقال: فساء أو ضراط، وقد روى عنه: (ما لم يحدث) : ما لم يؤذ أحدًا، فتأول العلماء فى ذلك الأذى أنه الغيبة وشبهها، وإنما هو، والله أعلم، أذى الحدث، يفسر ذلك حديث النوم، لكن النظر يدل أنه إذا آذى أحدًا بلسانه أنه(2/284)
ينقطع عنه استغفار الملائكة؛ لأن أذى السب والغيبة فوق أذى رائحة الحدث، فإذا انقطع عنه استغفار الملائكة بأذى الحدث، فأولى أن ينقطع بأذى السب وشبهه.
33 - باب فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ
/ 50 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قال نَّبِيِّ الله: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أوَ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ) . فيه: الحض على شهود الجماعات، ومواظبة المساجد للصلوات؛ لأنه إذا أعد الله له نزله فى الجنة بالغدو والرواح، فما ظنك بما يُعِدُّ له ويتفضل عليه بالصلاة فى الجماعة واحتساب أجرها والإخلاص فيها لله تعالى.
34 - باب إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلا صَلاةَ إِلا الْمَكْتُوبَةَ
/ 51 - فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلاً من الأزد، وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ لاثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (الصُّبْحَ أَرْبَعًا، الصُّبْحَ أَرْبَعًا) . اختلف الناس فى تأويل هذا الحديث، فكرهت طائفة للرجل أن يركع ركعتى الفجر فى المسجد والإمام فى صلاة الفجر، واحتجوا بهذا الحديث، روى هذا عن سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وابن سيرين، وهو قول الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور.(2/285)
وقالت طائفة: لا بأس أن يصليها خارج المسجد ما تيقن أنه يدرك الركعة الأخيرة مع الإمام، هذا قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، إلا أن الأوزاعى أجاز أن يركعهما فى المسجد. وقال الثورى: إن خشى فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما، وإلا صلاهما فى المسجد. وقال مالك: إن خشى أن تفوته الركعة الأولى فلا يصليهما، وليدخل مع الإمام، كقول الثورى، إلا أنه قال: وإن لم يخف فوت ركعة، فليركعهما خارج المسجد فى غير أفنيته اللاصقة به. وحجة من أجاز أن يصليهما فى المسجد، ما روى عن ابن مسعود أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فصلى إلى أسطوانة فى المسجد ركعتى الفجر، وذلك بمحضر حذيفة وأبى موسى، وروى مثله عن عمر بن الخطاب، وأبى الدرداء، وابن عباس، ذكره الطحاوى. وحجة من قال: يُصلى خارج المسجد، ما روى عن ابن عمر أنه صلاهما قبل أن يدخل فى المسجد فى الطريق، ثم دخل المسجد فصلى الصبح مع الناس. وأما حجة أهل المقالة الأولى من طريق النظر، فقالوا: تشاغله بالفريضة أولى من تشاغله بالتطوع. واحتج الآخرون فقالوا: قد أجمعوا أنه لو كان فى منزله، فعلم دخول الإمام فى صلاة الفجر، أنه ينبغى له أن يركع ركعتى الفجر ما لم يخف فوت صلاة الإمام، ولم يجعلوا تشاغله بالسعى إلى الفريضة أفضل من تشاغله بهما فى منزله.(2/286)
قال الطحاوى: وقد روى أن النبى، عليه السلام، مرَّ بابن بحينة وهو يصلى بين يدى نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة الظهر وبعدها، واجعلوا بينهما فصلاً، فأبان فى هذا الحديث أن الذى كرهه رسول الله لابن بحينة هو وصله إياها بالفريضة فى مكان واحدٍ دون أن يفصل بينهما بشىء يسير؛ لأنه كره له أن يصليهما فى المسجد، فإذا فرغ منهما تقدم إلى الصفوف فصلى الفريضة مع الناس، وقد روى مثل هذا المعنى فى غير هذا الحديث. روى ابن جريج، عن عمر بن عطاء، أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن يزيد يسأله: ماذا سمع من معاوية فى الصلاة بعد الجمعة؟ فقال: صليت معه فى المقصورة الجمعة، فلما فرغت قمت لأتطوع فأخذ بثوبى فقال: لا تفعل حتى تتقدم أو تكلم؛ فإن رسول الله كان يأمر بذلك. ولم يختلفوا أنه من لم يُصل العشاء فدخل المسجد فوجدهم فى الإشفاع أنه جائز أن يصلى العشاء ناحيةً من المسجد بحيث يأمن تخليط الإمام عليه. وقال الطحاوى: يحتمل أن يكون النهى فى قوله: (الصبح أربعًا) ؛ لأنه جمع بين الصلاتين من الفرض والنفل فى مكان واحد، كما نهى من صلى الجمعة أن يصلى بعدها تطوعًا فى مكان واحدٍ حتى يتكلم أو يتقدم. وأما قوله فى الترجمة: (إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة) ، فقد روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام، رواه أبو عاصم، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن سليمان بن(2/287)
يسار، عن أبى هريرة، عن الرسول، إلا أن ابن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، أوقفوه على أبى هريرة، فلذلك تركه البخارى. وأجمعوا أن من عليه صلاة الظهر، فدخل فى المسجد ليصليها فأقيمت عليه العصر، أنه لا يقطع صلاته، ويكملها. قال مالك: ومن أحرم بفريضة فى المسجد فأقيمت عليه تلك الفريضة، فإن لم يركع قطع بسلام، ودخل مع الإمام، وإن ركع صلى ثانيةً وسلم ودخل معه، وإن صلى ثالثةً صلى رابعةً، ولا يجعلها نافلةً ويسلم ويدخل معه، وإن كانت المغرب قطع، ودخل مع الإمام، عقد ركعةً أم لا، وإن صلى اثنتين أتمهما ثلاثًا وخرج، فهذا يدل أن حديث مالك المرسل عن أبى سلمة أن الرسول قال: (أصلاتان معًا؟) ، إنما هو عندى فيمن اشتغل بنافلةٍ عن فريضةٍ، ولو كان فيمن اشتغل بفريضة لأمرهُ بقطع الصلاة، ولو كان فى الرابعة، أو الثالثة من المغرب. قال الخطابى: قوله: (لاث به الناس) ، معناه: أحاطوا به، واجتمعوا عليه، وكل شىء اجتمع والتبس بعضه ببعض فهو لائث، فقلب كما قال الله تعالى: (على شفا جُرفٍ هارٍ) [التوبة: 109] ، أى هائر. وقال صاحب (الأفعال) : لاث الشجر والنبات، التف بعضه ببعضٍ، ولاق بغيره كذلك، ومنه: لاث الإزار والعمامة: إذا رد بعضها على بعض.(2/288)
35 - باب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ
/ 52 - فيه: عَائِشَةَ، أَنه ذَكَر عندها الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، فقَالَتْ: (لَمَّا مَرِضَ النبى، عليه السلام، مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَأُذِّنَ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَقلَت لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِذَا قَامَ مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ، فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: (إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، فَصَلَّى، فَوَجَدَ الرسول مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ) . فقِيلَ لِلأعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ؟ ، فَقَالَ بِرَأْسِهِ: (نَعَمْ) . قال المؤلف: قوله: باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة، معناه: باب حدة المريض وحرصُه على شهود الجماعة، كما قال عمر بن الخطاب فى أبى بكر الصديق: وكنت أدارى منه بعض الحد، يعنى بعض الحدة، والمراد بهذا الحديث الحض على شهود الجماعة والمحافظة عليها. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وفيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة لمن جازت له الرخصة؛ لأن الرسول كان له أن يتخلف عن الجماعة لعذر المرض، فلما تحامل على نفسه وخرج بين رجلين(2/289)
تخط رجلاه الأرض، دلَّ على فضل الشدة على الرخصة، ورغب أمته فى شهود الجماعات؛ لما لهم فيها من عظيم الأجر، ولئلا يعذر أحد منهم نفسه فى التخلف عنها ما أمكنه وقدر عليها، إذ لم يعذر نفسه عليه السلام، ولم يرخص لها فى حال عجزه عن الاستقلال على قدميه مع علمه أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبذلك عمل السلف الصالحون، فكان الربيع بن خثيم يخرج إلى الصلاة يهادى بين رجلين، وكان أصابه الفالج، فيقال له: إنك لفى عذر، فيقول: أجل، ولكنى أسمع المؤذن يقول: حى على الصلاة، حى على الفلاح، فمن سمعها فليأتها ولو حبوًا. وكان أبو عبد الرحمن السلمى يُحمل وهو مريض إلى المسجد. وقال سفيان: كان سويد بن غفلة ابن ست وعشرين ومائة سنة يخرج إلى الصلاة. وكان أبو إسحاق الهمدانى يهادى إلى المسجد، فإذا فرغ من صلاته لم يقدر أن ينهض حتى يقام. وقال سعيد بن المسيب: ما أَذَّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا فى المسجد. وقول عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف) ، يعنى: سريع الحزن والبكاء، والأسف عند العرب: شدة الحزن والتندم، يقال منه: أسف فلان على كذا يأسف، إذا اشتد حزنه، وهو رجل أسيف وأسُوف، ومنه قول يعقوب: (يا أسفى على يوسف) [يوسف: 84] ، يعنى: يا حزنا ويا جزعا؛ توجعًا لفقده وقيل: قال الخزاعى:(2/290)
الأسيف، الضعيف من الرجال فى بطشه، وأما الأسفُ، فهو الغضبان المتلهف، كما قال الله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبانٍ أسفًا) [الأعراف: 150] .
36 - باب الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ
/ 53 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: أنه أَذَّنَ بِالصَّلاةِ، فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ، يَقُولُ: (أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) . / 54 - وفيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ: (أنه كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ والمطر وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي، مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى. . .) الحديث. أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعات فى شدة المطر والظلمة والريح، وما أشبه ذلك مباح بهذه الأحاديث، ألا ترى أن عتبان بن مالك سأل النبى، عليه السلام، أن يصلى فى بيته مكانًا يتخذه مصلى إذا كان المطر والسيْل، ففعل ذلك؛ فدل أن شهود الجماعات سُّنَّة؛ لأنه لما سقط عنه الإتيان إلى الجماعة، وجاز له أن يصليها فى بيته منفردُا، وبقوله: (ألا صلوا فى الرِّحَال) علم أنها سُّنة، ولو كانت الصلاة لا تجوز فى البيوت إلا جماعة، لما ترك الرسول بيانه لأمته؛ لأن الله أخذ عليهم ميثاق البيان لهم، ولقال لعتبان: لا تصح لك فى مصلاك هذا صلاة منفردة حتى(2/291)
يجتمع معك فيه غيرك، فصح قول الجماعة أن الجمع سُنَّة، وإذا وسع التخلف عن الجماعة للظلمة والمطر، فالتخلف لعذر المرض مثله، وقد قال إبراهيم النخعى: ما كانوا يرخصون فى ترك الجماعة إلا لخائف أو مريض.
37 - باب هَلْ يُصَلِّي الإمَامُ بِمَنْ حَضَرَ، وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ
/ 55 - فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: أنه خَطَبَ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ (حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ) ، قَالَ: قُلِ: الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا، إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، يَعْنِي رسول الله، إِنَّهَا عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ. / 56 - وفيه: أَبَو سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: (جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ، حَتَّى سَالَ السَّقْفُ - وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ - فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) . / 57 - وفيه: أَنَسَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: إِنِّي لا أَسْتَطِيعُ الصَّلاةَ مَعَكَ، وَكَانَ رَجُلا ضَخْمًا، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ طَعَامًا، فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا، وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ. . . . الحديث. فيه من الفقه: أن الجماعات تقام بمن حضرها فى المساجد وفى البيوت. وفيه: أن المساجد لا تعطل فى المطر والطين ولا غيره.(2/292)
وفيه: أن الجمعة ليس لها عدد من الناس لا تجوز الصلاة دونهم. وأجمعوا أنه لا يخطب يوم الجمعة على واحدٍ، ولا يصلى معه جمعة. واختلفوا فى الاثنين: فقال الليث: يخطب الإمام باثنين، وقاله أبو حنيفة. وقال بعض أصحابه: لا يخطب إلا مع ثلاثة سوى الإمام. وفيه: أن الجمعة يُتخلف عنها فى المطر، كما يتخلف عن سائر الصلوات، وسيأتى ذلك فى كتاب الجمعة، إن شاء الله. والدَّوْسُ: الدرس، داست الخيل القتلى: إذا وطئتهم، ودياس البقر مثله، من كتاب (العين) ، وقد تقدم تفسير الردغ فى باب الكلام فى الأذان.
38 - باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ
وكان ابن عمر يبدأ بالعشاء. وقال أبو الدرداء: من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغ. / 58 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ عليه السلام: (إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ) .(2/293)
/ 59 - وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاةَ الْمَغْرِبِ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ) . / 60 - ورواه ابْنِ عُمَرَ، عن النبى أيضًا، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلاةُ، فَلا يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ منه، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإمَامِ. وقال ابْنِ عُمَرَ مرةً: قَالَ رسول الله: (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلا يَعْجَلْ، حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث: فذكر ابن المنذر أنه قال بظاهره: عمر بن الخطاب، وابن عمر، وهو قول الثورى، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى: يبدأ بالطعام إذا كانت نفسه شديدة التوقان إليه، فإن لم يكن كذلك ترك العشاء، وإتيان الصلاة أحبُّ إلى. وذكر ابن حبيب مثل معناه. وقال ابن المنذر: عن مالك، يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون طعامًا خفيفًا. وقال أهل الظاهر: لا يجوز لأحدٍ حضر طعامه بين يديه، وسمع الإقامة، أن يبدأ بالصلاة قبل العشاء، فإن فعل فصلاته باطلة. وحجة الذين قالوا يبدأ بالصلاة، أنهم حملوا قوله عليه السلام: (فابدءوا بالعشاء) على الندب لما يخشى من شغل باله بالأكل فيفارقه الخشوع، وربما نقص من حدود الصلاة، أو سها فيها، وقد بين هذا المعنى أبو الدرداء فى قوله: (من فقه المرء إقباله على طعامه حتى يقبل على صلاته وقبله فارغ) ، ولو كان إقباله على طعامه هو الفرض عليه لم يقل فيه: من فقه المرء أن يبدأ به، بل كان يقول: من(2/294)
الواجب عليه اللازم له أن يبدأ به، فبين العلة فى قوله عليه السلام: (ابدءوا بالعشاء) أنها لما يخاف من شغل البال، وقد رأينا شغل البال فى الصلاة لا يفسدها؛ ألا ترى أن النبى صلى فى جُبة لها علم، فقال: (خذوها وائتونى بأنبجانية) ، فأخبر أن قلبه اشتغل بالعلم ولم تبطل صلاته. وقال عمر بن الخطاب: إنى لأجهز جيشى وأنا فى الصلاة. وقال عليه السلام: (لا يزال الشيطان يأتى أحدكم فيقول له: اذكر كذا، حتى يضل الرجل، لا يدرى كم صلى) ، ولم يأمرنا بإعادتها لذلك، وإنما استحب أن يكون المصلى فارغ البال من خواطر الدنيا؛ ليتفرغ لمناجاة ربه. وقد اشترط بعض الأنبياء على من يغزو معه أن لا يتبعه من ملك بُضع امرأة ولم يبن بها، ولا من بنى دارًا ولم يكملها؛ ليتفرغ قلبه من شواغل الدنيا، فهذا فى الغزو، فكيف فى الصلاة التى هى أفضل الأعمال، والمصلى واقف بين يدى الله. وقد احتج بهذا الحديث الكوفيون، وأحمد، وإسحاق، فى أن وقت المغرب واسع، وقالوا: لو كان لها وقت واحد، ما كان لأحدٍ أن يشتغل فيه بالأكل حتى يفوت.(2/295)
39 - باب إِذَا دُعِيَ الإمَامُ إِلَى الصَّلاةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ
/ 61 - فيه: عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: (رَأَيْتُ النبى يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاةِ، فَقَامَ، فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) . هذا الحديث يفسر أمر الرسول أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة، ويدل على أنه على الندب لا على الوجوب؛ لأنه قام إلى الصلاة وترك الأكل. وقد تأول أحمد بن حنبل من هذا الحديث: أن من شرع فى الأكل، ثم أقيمت الصلاة أنه يقوم إلى الصلاة، ولا يتمادى فى الأكل؛ لأنه قد أخذ منه ما يمنعه من شغل البال، وإنما الذى أمر بالأكل قبل الصلاة من لم يكن بدأ به لئلا يشغل به باله. ويردُّ هذا التأويل أن ابن عمر قد روى فى الباب قبل هذا أن الرسول قال: (إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضى حاجته منه) ، ومن كان على الطعام يقتضى تقدم أكله منه قبل إقامة الصلاة، وقد أمره الرسول ألا يعجل حتى يقضى حاجته منه، وهو خلاف ما تأوله أحمد بن حنبل.
40 - باب فِيمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ
/ 62 - فيه: الأسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا كَانَ الرسول يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ ، قَالَتْ: (كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - يَعْنِى فى خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلَيها) . لما لم يكن يذكر فى هذا الحديث أنه أزاح عن نفسه هيئة مهنته،(2/296)
دل أن المرء له أن يصلى مُشَمَّرًا، وكيف كان من حالاته؛ لأنه إنما يكره له التشمير وكفت الشعر والثياب إذا كان يقصد بذلك الصلاة، وكذلك قال مالك: أنه لا بأس أن يقوم إلى الصلاة على هيئة جلوسه وبذلته. وفيه: أن الأئمة والعلماء يتولون خدمة أمورهم بأنفسهم، وأن ذلك من فعل الصالحين.
41 - باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، وَهُوَ لا يُرِيدُ إِلا أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاةَ النَّبِيِّ وَسُنَّتَهُ
/ 63 - فيه: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أنه قال فِي مَسْجِدِ أبى قلابةَ: إِنِّي لأصَلِّي بِكُمْ، وَمَا أُرِيدُ الصَّلاةَ، أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ يُصَلِّي، فَقُلْتُ لأبِي قِلابَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قَالَ: مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا، وَكَانَ الشَيْخ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأولَى. قال المهلب: يجوز للإنسان من هذا الحديث أن يعلم غيره الصلاة والوضوء عيانًا وعملاً، كما فعل جبريل فى إمامته بالرسول حين أراهُ كيفية الصلاة عيانًا، وبهذا الحديث أخذ الشافعى فى أن كل من سجد السجدة الآخرة من الركعة الأولى أو الثانية، أنه لا يقوم حتى يستوى جالسًا، وهى صفة من صفات الصلاة، وقد ثبتت صفة أخرى عن النبى قال بها مالك وغيره: وستأتى فى موضعها، إن شاء الله.(2/297)
42 - باب أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإمَامَةِ
/ 64 - فيه: أَبو مُوسَى، قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ: (مُرى أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: (مُرِي أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ) ، فَعَادَتْ، فَقَالَ: (مُرِي أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ الرسول. / 65 - روته عائشة. / 66 - وأنس. (1) / 67 - وحمزة الأسلمى، عن النبى عليه السلام. اختلف العلماء فى من أولى بالإمامة، فقالت طائفة: يؤم القوم أعلمهم وأفضلهم، قال عطاء: يؤم القوم أفقههم، فإن كانوا فى الفقه سواء فأقرؤهم، فإن كانوا فى الفقه والقراءة سواء فَأَسَنُّهم. قال مالك، والأزواعى، والشافعى: يؤم القوم أفقههم، وهو قول أبى ثور. وقال الليث: يؤمهم أفضلهم وخيرهم. وقالت طائفة: القارئ أولى من الفقيه، هذا قول الثورى، وأبى حنيفة، وأحمد، وإسحاق. واحتجوا بما رواه الأعمش، وشعبة، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن أبى مسعود البدرى، قال: قال رسول الله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا فى السُّنَّةِ سواء فأقدمهم(2/298)
هجرة، فإن كانوا فى الهجرة سواء، فأقدمهم إسلامًا) ، وزاد فيه شعبة: (ولا يؤم الرجل فى أهله، ولا فى سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) ، والتكرمة: فراشه، قاله إسماعيل بن رجاء، وبما رواه ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان سالم مولى أبى حذيفة يؤم المهاجرين والأنصار فى مسجد قباء حين أقبلوا من مكة؛ لأنه كان أكثرهم قرآنًا، فيهم أبو سلمة بن عبد الأسود، وعمر بن الخطاب. قالوا: وحديث أبى مسعود معارض لقوله (صلى الله عليه وسلم) : (مروا أبا بكر يُصلى بالناس) ؛ لأنه كان فيهم من كان أقرأ منه للقرآن. قيل: لا تعارض بينهما بحمد الله، ويحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: (يؤم القوم أقرؤهم) فى أول الإسلام حين كان حفاظ القرآن قليلاً وقت قدم عمرو بن سلمة، وهو صبى، للصلاة فى مسجد عشيرته وفيه الشيوخ، وكان تنكشف عورته عند السجود، فدل أن إمامته بهم فى مثل هذه الحال كانت لعدم من يقرأ من قومه، ولهذا المعنى كان يؤم سالم المهاجرين والأنصار فى مسجد قباء، حين أقبلوا من مكة مهاجرين، لعدم الحُفَّاظ حينئذ. فأما وقت قوله (صلى الله عليه وسلم) : (مروا أبا بكر يصلى بالناس) فقد كان تقرر الإسلام وكثر حفاظ القرآن وتفقهوا فيه، فلم يكن الصديق، رضى الله عنه، على جلالته وثاقب فهمه، وتقدمه فى كل خير، يتأخر عن مساواة القُرَّاء، بل فضلهم بعلمه، وتقدمهم فى أمره، ألا ترى قول أبى سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا. وقال الطبرى: لما استخلف النبى (صلى الله عليه وسلم) الصديق، رضى الله عنه، على الصلاة بعد إعلامه لأمته أن أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله صح أنه(2/299)
يَوْمَ قَدَّمَهُ للصلاة كان اقرأ أمته لكتاب الله وأعلمهم وأفضلهم؛ لأنهم كانوا لا يتعلمون شيئًا من القرآن حتى يتعلموا معانيه وما يراد به، كما قال ابن مسعود: كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يتعلم معانيهن والعمل بهن. ولما كان النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يستحق أن يتقدمه أحد فى الصلاة وجعل ما كان إليه منها بمحضر جميع الصحابة لأبى بكر، رضى الله عنه، كان جميع أمور الإسلام تبعًا للصلاة، ولهذا قدمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للصلاة، والصلاة لا يقوم بها إلا الدعاة ومن إليه السياسة وعقد الخلافة؛ كصلاة الجمع والأعياد التى لا يصلح القيام بها إلا لمن إليه القيام بأمر الأمة وسياسة الرعيّة. وصح أنه أفضل الأُمة بعدهُ لقيام الحجة بأن أولى البرية بعقد الخلافة أفضلهم وأقومهم بالحق وأعدلهم وأوفرهم أمانة وأحسنهم على محجة الحق استقامة، وكذلك كان الصديق، رضى الله عنه. قال المهلب: إن قال قائل: إن عمر أعلم من أبى بكر، واستدل بحديث الذَّنُوب والذَّنُوبيْن، و (فى نزعه ضعف) ، قيل: إنه ليس كما ظننت، إنما الضعف فى المدة التى وليها أبو بكر، لا فيه ولا فى علمه، إنما كان الضعف فى نشر السنن لقرب مدته وضعفها عن أن يتمكن بتثبيت؛ لأنه ابتلى بارتداد الناس ومقاتلة العرب. وأما مراجعة عائشة، وحرصها أن يستخلف غير أبى بكر، فإنما خَشِيَتْ أن يتشاءم الناس بإمامة أبى بكر فيقولون: مُذْ أمنَّا هذا فقدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وقد روى هذا عنها، رضى الله عنها.(2/300)
43 - باب مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإمَامِ لِعِلَّةٍ
/ 68 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَبَا بَكْرٍ الصديق أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَوَجَدَ من نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَومَأ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ) . سنة الإمامة تقديم الإمام، وتأخير الناس عنه، ولا يجوز أن يكون أحد مع الإمام فى صف إلا فى موضعين: أحدهما: العلة التى فى هذا الحديث وما كان فى معناها، مثل أن يضيق الموضع، فلا يقدر على التقدم، فيكون معهم فى صف، ومثل العراة أيضًا إذا أمن أن يرى بعضهم بعضًا. والموضع الثانى: أن يكون رجل واحد مع الإمام، فإنه يصلى على يمينه فى الصف معه، كما فعل النبى (صلى الله عليه وسلم) بابن عباس إذ أدارهُ من خلفه إلى يمينه، فإن صلى الإمام فى صف المأمومين بغير عذر، فقد أساء وخالف سنة الإمامة وصلاته تامة. وقال الطبرى: إنما أقام النبى (صلى الله عليه وسلم) أبا بكر إلى جنبه؛ ليعلم الناس تكبير ركوعه وسجوده، إذ كان (صلى الله عليه وسلم) قاعدًا، وفى القوم ممن يصلى بصلاته من لا يراه ولا يعلم ركوعه ولا سجوده، فبان أن الأئمة إذا كانوا بحيث لا يراهم من يأتم بهم، أن يجعلوا بينهم وبين من يأتم بهم علمًا يعلمون بتكبيره وركوعه، تكبيرهم وركوعهم، وأن لمن لا يرى الإمام أن يركع بركوع المؤتم به، ويسجد بسجوده، وأن ذلك لا يضره ويجزئه أن لا يرى الإمام فى كل ذلك إذا رأى من يصلى بصلاته.(2/301)
وقوله: (فلما رآه أبو بكر استأخر) ، دليل واضح أنه لم يكن عنده مستنكرًا أن يتقدم الرجل عن مقامه الذى قام فيه فى صلاته ويتأخر، وذلك عمل فى الصلاة من غيرها، فكلُّ ما كان نظير ذلك، فعلهُ فَاعِل فى صلاته لأمر دعاه إليه، فذلك جائز.
44 - باب مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإمَامُ الأوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأوَّلُ، أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ، جَازَتْ صَلاتُهُ
/ 69 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو ابْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ الصَّلاةُ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسُ فِي الصَّلاةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي صَلاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ، الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟) ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (مَا لِي أرَاكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ؟ ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ، فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) . فى هذا الحديث من الفقه الرد على الشافعى، وأهل الظاهر فى إنكارهم استخلاف الإمام فى الصلاة، إذا نابه فيها ما يخرجه منها، من يُتم بهم صلاتهم، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، جاء وقد صلى أبو بكر بالناس بعض الصلاة، فتقدم النبى (صلى الله عليه وسلم) ، وصار الإمام، وصار أبو(2/302)
بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وائتم القوم بالنبى (صلى الله عليه وسلم) بعد أن كانوا يأتمون بأبى بكر، وبنوا على صلاتهم، فكذلك حكم الإمام إذا سبقه حدث أو رعاف فقدم رجلاً، أن لهم أن يأتموا به بقية صلاتهم، ولا يضرهم خروج الإمام من موضعه، كما لم يضر الناس الذين كانوا يأتمون بأبى بكر، خروجهم من الائتمام به حين صار النبى (صلى الله عليه وسلم) إمامهم دون أبى بكر، قاله الطبرى. وممن قال: يجوز الاستخلاف فى الصلاة: عمر، وعلى، ومن التابعين: علقمة، وعطاء، والحسن، والنخعى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وقال الشافعى: الاختيار أن يصلى القوم فُرادى، فإن قدموا رجلاً يصلى بهم أجزأهم، وهذا الحديث حجة عليه، وهو الأصل فى جواز الاستخلاف. قال الطبرى: وفيه من الفقه خطأ قول من زعم أنه لا يجوز لمن أحرم بصلاة المكتوبة وصلى بعضها ثم أقيمت الصلاة أنه لا يجوز له أن يدخل مع الجماعة فى بقية صلاته حتى يخرج منها بتسليم، ثم يدخل معهم، فإن دخل معهم دون الإسلام فسدت عليه، ولزمه قضاؤها. ودليل هذا الحديث خلاف لقوله؛ وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ابتدأ صلاته التى كان صلى أبو بكر بعضها، وائتم به أصحابه فى بقيتها، فكان النبى مبتدئًا والقوم متممين، فكذلك حكم الذى صلى بعض صلاته، ثم أقيمت الصلاة، فدخل فيها مع الإمام يكون للإمام والذين أحرموا معه ابتداء، وتكون للرجل الذى دخل معه فيها بعد ما صلى بعضها تمامًا، إذا أتم بقيتها، وخرج من الائتمام فيما ليس عمله منها.(2/303)
قال المهلب: وفيه أن الإمام المعهود إذا أتى والناس فى الصلاة أنه ليس له أن يخرج من قدم إلا أن يأبى المستخلفُ أن يقيم فى الإمامة، وقد علم بلحوق الأفضل، كما فعل أبو بكر، ليستكمل فضل الرسول فى الإمامة. وقد قال كثير من العلماء: هذا موضع خصوص للرسول؛ لأنه لا يجوز التقدم بين يديه إلا أن يُقر ذلك عليه السلام، فلا يعزل المستخلف حتى يتم صلاته، إذ ليس من تباين الناس اليوم فى الفضل من يجب أن يتأخر له. قال غيره: ولسنا نقول: إن أبا بكر لو تمادى لم يجزه ذلك، بل نقول: إنه كان جائزًا له؛ لإشارة النبى: أن امكث مكانك. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وقد روى عيسى، عن ابن القاسم فى الإمام يحدث فيستخلف، ثم ينصرف، فيأتى، ثم يخرج المستخلف، ويتم الأول بالناس أن الصلاة تامة، قال: فإذا تمت الصلاة، فينبغى أن يشير إليهم حتى يتم لنفسه، ثم يسلم ويسلموا، فيجوز التقدم والتأخر فى الصلاة، وهذا القول مطابق للحديث وبه ترجم البخارى، وأكثر الفقهاء لا يقولون بإمامين لغير عذر. قال المهلب: وقول مالك ذلك؛ لأنه لا يجوز عندهم الاستخلاف فى الصلاة إلا لعذر، ولا الصلاة بإمامين لغير عذر. قال المهلب: وقول مالك: إنه من أحرم قبل إمامه أنه لا تجوز صلاته، وعليهم الإعادة، فإنه إنما أراد من ابتداء الصلاة بإمام واحد، فأحرموا قبله، ثم مضوا حتى أتموا الصلاة، وأما هذه الصلاة،(2/304)
فإن الرسول حين دخل فيها صاروا كلهم محرمين قبله، وتمت صلاته وصلاتهم. وقال ابن المنذر: فى هذا الحديث دلالة على أن الرجل قد يكون فى بعض صلاته إمامًا، ومأمومًا فى بعضها، ويدل على إجازة الائتمام بصلاة من تقدم افتتاح المأموم الصلاة قبله. قال الطبرى: وفى هذا الحديث الدلالة الواضحة على أن من سبق إمامه بتكبيرة الإحرام، ثم ائتم به فى صلاته، أن صلاته تامة، وبيان فساد قول من زعم أن صلاته لا تجزئه، وذلك أن أبا بكر كان قد صلى بهم بعض الصلاة، وقد كانوا كبروا للإحرام معه، فلما أحرم رسول الله لنفسه للصلاة بتكبيرة الإحرام، ولم يستقبل القوم صلاتهم، بل بنوا عليها مؤتمين به، وقد كان تقدم تكبيرهم للإحرام تكبيرهُ. قال المؤلف: لا أعلم من يقول: إن من كبر قبل إمامه فصلاته تامة إلا الشافعى، بناءً على أصل مذهبه أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون صلاة من كبر قبل إمامه، وسيأتى الحجة للجماعة فى ذلك فى باب: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، إن شاء الله، وأذكر هنا طرفًا منها، وذلك أن النبى، عليه السلام، وإن كان كبر بعد تكبير أبى بكر، وبعد تكبير الناس، فإنه صار بمنزلة من استخلف، وصار تكبير القوم بعد تكبير الإمام الأول، وهو أبو بكر، والرسول الإمام الثانى يقوم مقام الأول، ألا ترى أنه بنى على صلاة أبى بكر، ولم يبتدئها، وإذا صح القول بالاستخلاف صحت هذه المسألة، ولم يلزم فيها أن يكون تكبير المأموم قبل إمامه، ولا يجوز أن يقضى بها على قوله عليه السلام: (فإذا كبر الإمام فكبروا) .(2/305)
قال غيره: وفيه من الفقه فضل أبى بكر على سائر الصحابة وأنهم كانوا يؤهلونه فى حياة رسول الله لما صار إليه بعد وفاته من الخلافة، ولا يرون لذلك الموضع غيره. قال المهلب: وقول المؤذن لأبى بكر: تصلى للناس، دليل على أن المؤذن هو الذى يقدم للصلاة؛ لأنه يخدم أمر الإمامة، وجماعة أهل المسجد، وهى ولاية ليس لأحد أن يتقدم إلى إمامة الجماعة إلا بأمره أو بأمر من ولى ذلك من المؤمنين. وفيه: أن الإمام ينتظر ما لم يُخش فوات الوقت الفاضل. قال المهلب: وفيه: جواز إعلام المصلى بما يسره. قال غيره: وفيه: أن الالتفات فى الصلاة للحاجة ومهم الأمر جائز. وفيه: شكر الله على الوجاهة فى الدين، وأن ذلك من أعظم النعم قال تعالى فى عيسى: (وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين) [آل عمران: 45] . وقال مالك: أنه من أخبر فى صلاته بما يسرهُ، يحمد الله عليه، وله أن يتركه تواضعًا وشكرًا لله وللمنعم به.
45 - باب إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ
/ 70 - فيه: مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ النَّبِيُّ رَحِيمًا، فَقَالَ: (لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى(2/306)
بِلادِكُمْ، فَعَلَّمْتُمُوهُمْ، مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ) . قال المؤلف: لا خلاف بين العلماء أنهم إذا استووا فى القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أولى بالتقديم، وموضع الدلالة من هذا الحديث على التساوى فى القراءة، وهو أن مالك بن الحويرث قال: قدمنا على الرسول ونحن شببة، فلبثنا عنده نحوًا من عشرين ليلة، فاستدل بتقاربهم فى السن وتساويهم فى مدة التعليم، وإن كان بعضهم أقبل لها وأسرع حفظًا من غيره، أنهم قد تساووا فى تعليم ما تجزئهم الصلاة به، ولذلك رقَّ عليهم النبى وصرفهم إلى أهليهم، ولو لم يتعلموا ما يجزئهم فى الصلاة ما صرفهم حتى يتعلموه. وقوله: (فليؤمكم أكبركم) ، فيه دليل أن الإمامة تستحق بالسن إذا كان معه علم وفضل، وأما إن تعرى السن من العلم والقراءة والفضل، فلا حظَّ للكبير فى الإمامة، بدليل تقديم النبى عمرو بن سلمة وهو صبى فى مسجد عشيرته، وفيهم الشيوخ والكهول.
46 - باب إِذَا زَارَ الإمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ
/ 71 - فيه: عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: (اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ عليه السلام، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟) ، فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ، فَقَامَ، وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ فَسَلَّمْنَا) . هذا الباب رد لما روى عن النبى أنه قال: (من زار قومًا(2/307)
فلا يؤمهم) ، رواه وكيع عن أبان العطار، عن بديل بن ميسرة، عن أبى عطية، عن رجل منهم قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا فى مصلانا هذا، فحضرت الصلاة، فقلنا له: تقدم، فقال: لا، ليتقدم بعضكم، حتى أحدثكم لم لا أتقدم، سمعت رسول الله يقول: (من زار قومًا فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم) ، وهذا إسناد ليس بقائم؛ لأن أبا عطية مجهول يرويه عن مجهول، وصلاته عليه السلام فى بيت عتبان مخالف له، ويمكن الجمع بين الحديثين، وذلك أنه يحمل قوله عليه السلام: (من زار قومًا فلا يؤمهم) ، لو صح، أن يكون إعلامًا منه أن صاحب الدار أولى بالإمامة فيه من الداخلين عليه، إلا أن يشاء صاحب الدار أن يقدم غيره ممن هو أفضل منه، فإنه يستحب له ذلك، بدليل تقديم عتبان بن مالك فى بيته للنبى عليه السلام، وحمل الحديثين على فائدتين أولى من تضادهما. وقد روى ابن القاسم، عن مالك أنه: يستحب لصاحب المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة، ولا خلاف بين العلماء فى أن صاحب الدار أولى بالإمامة منه، وقد روى عن أبى موسى الأشعرى، أنه أم ابن مسعود وحذيفة فى داره، وفعله ابن عمر بمولى، فصلى خلف الموالى. وقال عطاء: صاحب الدار يؤم من جاءه، وهو قول مالك، والشافعى، ولم أجد فيه خلافًا.(2/308)
47 - باب إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ
وَصَلَّى الرسول فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ جَالِسٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإمَامِ يَعُودُ، فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإمَامَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإمَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَلا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ، يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأولَى بِسُجُودِهَا، وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُدُ. / 72 - فيه: عَائِشَةَ قَالْت: لما مَرَضِ النبى عليه السلام، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) ، قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟) ، قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) ، قَالَتْ: فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ ثلاث مرات، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلام، لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ رسول الله إِلَى أَبِي بَكْرٍ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ الرسول وَجَدَ فى نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ، لِصَلاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الرسول بِأَنْ لا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي، وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاةِ رسول الله، وَالنَّاسُ يِصَلون بصلاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ قَاعِدٌ. / 73 - وفيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى النبى، عليه السلام، وَهُوَ شَاكٍ فِي بَيْتِهِ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْلِسُوا،(2/309)
فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا) . / 74 - وفيه: أَنَسِ قال: رَكِبَ رَسُولَ اللَّهِ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ) . قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ: (وإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا) ، هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ صَلَّى عليه السلام بَعْدَ ذَلِكَ جَالِسًا، وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا، ولَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآخِرِ فَالآخِرِ، مِنْ فِعْلِه عليه السلام. قال المؤلف: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا) ، فإن العلماء اختلفوا هل يكون عمل المأموم والإمام معًا أو بعده، فقال ابن حبيب: قال مالك: ويفعل المأموم مع الإمام إلا فى الإحرام والقيام من اثنتين والسلام، فلا يفعله إلا بعده، وقال أبو حنيفة، وزفر، ومحمد، والثورى: يكبر فى الإحرام مع الإمام. وروى سحنون، عن ابن القاسم فى العتبية: إن أحرم معه أجزأه، وبعده أصوب، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة. وفى المجموعة عن مالك: إن أحرم معه أو سلم يعيد الصلاة، وقاله أصبغ، وحققه ابن عبد الحكم، وقال أبو يوسف، والشافعى: لا يكبر المأموم حتى يفرغ الإمام من التكبير، وقال ابن أبى زيد فى(2/310)
كتاب آخر: والعمل بعده فى كل شىء أحسن؛ لقوله عليه السلام: (إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا) ، وقاله أحمد بن حنبل وهو معنى قول الشافعى. وحجة هذا القول، قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا) ، فجعل فعلهم عقيب فعله، فالفاء للتعقيب، وإذا لم يتقدمه الإمام بالتكبير، والسلام، فلا يصح الائتمام به؛ لأنه محال أن يدخل المأموم فى صلاة لم يدخل فيها إمامه، ولا يدخل فيها الإمام إلا بالتكبير، والإمام اشتق من التقدم، والمأموم من الاتباع، فوجب أن يتبع فعل المأموم بعد إمامه. ووجه قول ابن أبى سلمة، وابن القاسم، وابن عبد الحكم أنه يجزئه إحرامه معه؛ لأن الائتمام معناه الامتثال لفعل الإمام، فهو إذا فعل مثل فعله، فسواء أوقعه معه أو بعده، فقد حصل ممتثلاً لفعله. واختلفوا فيمن ركع أو سجد قبل إمامه، فروى عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة له، وهو قول أهل الظاهر. وروى عن عمر بن الخطاب أنه من رفع رأسه قبل الإمام فى ركوع أو سجود، فليضع رأسه بعد رفعه إياه، كقول ابن مسعود، قال الحسن والنخعى: إذا رفع من السجود قبله يعود فى سجدته قبل أن يرفع الإمام رأسه، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الشافعى، وأبو ثور: إذا ركع أو سجد قبله فأدركه الإمام وهو راكع أو ساجد فقد أساء، ويجزئه، وقد شذَّ الشافعى فقال: إن كبر للإحرام قبل إمامه، فصلاته تامة.(2/311)
وقال مالك والكوفيون: إن كبر قبل إمامه كبر بعده، وأجزأه وإن لم يستأنف التكبير بطلت صلاته. والحجة على قول الشافعى قوله فى حديث أنس، وأبى هريرة: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا) ، ذكر ذلك البخارى فى باب (إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة) ، بعد هذا، وقد تقدم قبل هذا أن الفاء للتعقيب، ومن مذهب الشافعى الاقتداء بالإمام فى الفعل والمقام، وأن المأموم لو صلى قدام إمامه لم تصح صلاته، فيلزمهم فى تكبيرة الإحرام مثله. فإن قالوا: لو وقع منه سبق فى ركوعه لركوع الإمام لم تبطل صلاته، فكذلك فى تكبيرة الإحرام. قيل: الفرق بينهما صحيح، وذلك أنه لا يجوز أن يتحلل بالسلام من الصلاة قبل إمامه، فكذلك لا يجوز أن يدخل فيها قبله، وإذا أحرم بعده فلا يضره أن يقع سبق فى بعضها؛ لأن عقدها قد صح معه. وأما قول الحسن فيمن ركع ولا يقدر على السجود، فإن العلماء اختلفوا فى ذلك، فقال الكوفيون: يستحب له أن يتأخر حتى يرفع الرجل رأسه فيسجد بالأرض، فإن لم يفعل وسجد على ظهر رجل فقد أساء، وتجزئه وهو قول الثورى، والشافعى. وقال مالك: لا تجزئه ويعيد. واحتج الكوفيون بما روى عن عمر قال: (من أذاهُ الحَرُّ، فليسجد على ثوبه أو على ظهر أخيه) ، ولا مخالف له فى الصحابة، ذكره الطحاوى.(2/312)
وأما قوله عليه السلام: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد) ، ففيه حجة لقول مالك، والليث، وأبى حنيفة أن المأموم يقتصر على أن يقول: ربنا ولك الحمد، دون أن يقول: سمع الله لمن حمده، سيأتى قول من خالف هذا فى بابه إن شاء الله، وكذلك اختلفوا فيمن صلى أمام إمامه، فقال الكوفيون، والثورى، والشافعى فى رواية البويطى: لا تجزئه. وقال مالك، والليث: تجزئه، ذكره الطحاوى، وقال ابن المنذر: إن قول إسحاق، وأبى ثور، كقول مالك، والليث، واحتج ابن القصار لمالك بأن دار آل عمر بن الخطاب كانت أمام المسجد، وكانوا يصلون بصلاة الإمام فى المسجد، ولا مخالف فيه، وحجة من خالف ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فإذا كان قدامه فقد خرج عن الموضوع. قيل له: إنما قيل الإمام؛ لأن أفعاله متقدمة لأفعالهم، ولم يرد بذلك الموضع؛ ألا ترى أن المأموم قد يقف عن يمين الإمام، فليس الإمام أمامه، ولو وقف الإمام عن ذراعين من الكعبة، ووقف المؤتمون به عن ذراع منها، لأجزأتهم صلاتهم، فثبت أن المراد اتباع أفعاله فى الصلاة، حتى توقع أفعاله بعد أفعاله، والله الموفق. وأما قوله عليه السلام: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعون) ، فاختلف العلماء فى إمامة الجالس، فقالت طائفة: يجوز أن يؤم الجالس الجلوس إذا كان الإمام مريضًا، وإن كان من خلفه قادرين على القيام، روى هذا عن عطاء، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وقالت طائفة: يجوز أن يصلى القيام خلف الإمام القاعد، ولا يسقط عنهم فرض القيام، لسقوطه عن إمامهم، هذا قول أبى حنيفة،(2/313)
وأبى يوسف، والأوزاعى، وزفر، والشافعى، وأبى ثور، روى مثله الوليد بن مسلم، عن مالك، فقال: أوجب إلى أن يقوم إلى جنبه من يُعلم الناس بصلاته، كما فعل أبو بكر. وقالت طائفة: لا يجوز أن يؤم أحد قاعدًا، هذا قول مالك، والثورى، ومحمد بن الحسن، قال محمد: وصلاته عليه السلام، قاعدًا فى مرضه خاص له، لا يجوز لأحد بعده، واحتج ابن القاسم: بأن مالك حدثه عن ربيعة بأن أبا بكر كان الإمام بالنبى، ولا يجوز لأحد أن يؤم قاعدًا فى فريضة ولا نافلة، وإن عرض له ما يمنعه استخلف. وحجة أهل المقالة الأولى: قوله عليه السلام: (وإذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا) . وقال أحمد بن حنبل: وهذه سنة ثابتة ينبغى أن يصلى القعود، وإن كانوا لا علة بهم، وراء المريض الجالس، وقد فعل ذلك أربعة من أصحاب النبى: جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن قَهْد، فدل ذلك من فعلهم أنه ليس بخاص بالنبى، عليه السلام، ولا منسوخ بفعله؛ إذ لو كان هذا، لعابه سائر الصحابة على هؤلاء الأربعة الذين فعلوه، وقد روى عبد الرزاق، عن أنس بن مالك أنه فعل مثله. وأيضًا فإن صلاته عليه السلام، فى مرضه لا تشبه الصلاة التى أمر فيها بالقعود، حين جُحِشَ شقه؛ لأنها صلاة ابتدأ الإمام فيها(2/314)
قاعدًا، فعليهم القعود، لسنته عليه السلام، وصلاته فى مرضه هى صلاة أبى بكر ابتدأ فيها القيام، فقاموا خلفه ثم جاء النبى، عليه السلام، بعد ذلك فقعد إلى جنبه، وهو مريض فالصلاة على ما ابتدئت، فلا تشبه هذه هذه، ولا تنسخ هذه هذه، والأولى سُنة على معناها، والثانية سُنة على معناها. وحجة أهل المقالة الثانية: صلاته عليه السلام، فى مرضه الأخير بالناس قاعدًا وهم قيام، قالوا: وهو ناسخ لصلاته بالناس جالسًا وهم جلوس. قال ابن شهاب: كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله كما قال الحميدى. قال الطحاوى: واحتج أهل المقالة الثالثة وقالوا: لا حجة لكم فى هذا الحديث؛ لأن رسول الله كان فى تلك الصلاة مأمومًا، وقد روى شعبة، عن نعيم بن أبى هند، عن أبى وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلى النبى فى مرضه الذى مات فيه خلف أبى بكر قاعدًا. وروى ابن أبى مريم، عن يحيى بن أيوب، حدثنا حميد، عن ثابت البنانى، عن أنس ابن مالك: (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلى خلف أبى بكر قاعدًا فى ثوب واحد مخالف بين طرفيه، فكانت آخر صلاة صلاها) . واحتج عليهم أهل المقالة الثانية بأنه إن كان روى هذا، فإن أفعال النبى فى صلاته تلك تدل على أنه كان إمامًا، وذلك أن عائشة قالت فى حديث الأسود عنها: (فقعد رسول الله عن يسار أبى بكر) ،(2/315)
وذلك قعود الإمام لا قعود المأموم؛ لأنه لو كان أبو بكر إمامًا له، لكان عليه السلام يقعد عن يمينه، فلما قعد عن يساره دل ذلك على ما قلناه، ذكره البخارى فى باب الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم بعد هذا. قال الطحاوى: وحجة أخرى وهى أن ابن عباس روى أن نبى الله كان إمامًا، وقال فى حديثه، فأخذ رسول الله فى القراءة من حيث انتهى أبو بكر، ولولا أنه كان عليه السلام الإمام ما قرأ؛ لأن تلك الصلاة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة، ولولا ذلك ما علم رسول الله بالموضع الذى انتهى إليه أبو بكر، ولا خلاف بين الناس أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام، كما يقرأ الإمام، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار. وأما وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن دخول المأموم فى صلاة الإمام قد يوجب فرضًا على المأموم لم يكن عليه قبل دخوله، ولم نره يسقط فرضًا عليه قبل دخوله، فمن ذلك أنا رأينا المسافر يدخل فى صلاة المقيم، فيجب عليه أن يصلى أربعًا ولم يكن ذلك واجبًا عليه قبل دخوله معه، وإنما أوجبه عليه دخوله معه، ورأينا مقيمًا لو دخل خلف مسافر فصلى بصلاته حتى فرغ أتى بتمام صلاة المقيم، فالنظر على ذلك أن يكون الصحيح الذى عليه فرض القيام إذا دخل مع المريض الذى سقط عنه فرض القيام ألا يسقط عنه فرض كان عليه قبل دخوله فى الصلاة. قال غيره: وما روى عن عائشة أن أبا بكر كان الإمام، فالروايات الثابتة عنها من رواية الأسود، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله، كلهم(2/316)
عن عائشة أن الرسول كان الإمام أكثر وأصح، وهو الذى صححه البخارى، ولو جعلنا ما روى عن عائشة متعارضًا، لكانت رواية ابن عباس حجة كافية فى ذلك، فلم يختلف عنه أن النبى، عليه السلام، كان الإمام. وأما حديث ربيعة فلا يحتج بمثله لانقطاعه، وقد يحتمل أن يكون أبو بكر المتقدم فى صلاة من صلوات مرضه؛ لأن مرضه كان أيامًا، وخرج فيها مرارًا، ولا خلاف فى جواز صلاة المريض الجالس خلف القائم. وقوله: (فذهب لينوء) ، أى: تمايل ليتحامل على القيام، قال صاحب العين: ينوء بالدابة، أى: يميل بها، وكل ناهض بثقل كذلك، وفى القرآن: (إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) [القصص: 76] ، وناء النجم ينوء: مال إلى السقوط.
48 - باب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ
قَالَ أَنَسٌ: فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا. / 75 - فيه: الْبَرَاءُ قَالَ: (كَانَ النبى، عليه السلام، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ) . وهذا الحديث حجة لمن قال من العلماء أن فعل المأموم يقع بعد فعل الإمام فى أفعال الصلاة كلها، وقد تقدم اختلافهم فى ذلك فى الباب قبل هذا.(2/317)
وقال يحيى بن معين: وقول أبى إسحاق: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا البراء، وهو غير كذوب، يريد أن عبد الله بن يزيد كان غير كذوب، ولا يقال للبراء: أنه غير كذوب، قال يحيى بن معين: وعبد الله بن يزيد هذا هو الخطمى، وهو جد الأنصارى الذى كان على الغارمين، وكان عبد الله بن يزيد واليًا لابن الزبير على الكوفة.
49 - باب إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ
/ 76 - فيه: أَبَو هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيِّ: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ، إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ) . معنى هذا الحديث الوعيد لمن خالف إمامه فى أفعال الصلاة، ومن خالف الإمام، فقد خالف سنة المأموم، وأجزأته صلاته عند جمهور العلماء؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يقل إن من فعل ذلك فصلاته فاسدة. وفى المجموعة لابن القاسم، عن مالك: أن من رفع قبل إمامه يظن أنه رفع، فليرجع ساجدًا أو راكعًا، ولا يقف ينتظره، فإن عجل الإمام فليتمادى ويجزئه، وهو قول أكثر العلماء، وقد تقدم فى (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، من خالف هذا وزيادة فيه.(2/318)
50 - باب إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف، وولد البغى، والأعرابى والغلام الذى لم يحتلم، لقول النبى، عليه السلام: (يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله) ، ولا يمنع العبد من الجماعة لغير علة. / 77 - فيه: ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأوَّلُونَ الْعُصْبَةَ، مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ، قَبْلَ مَقْدَمِ الرَسُولِ، كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا. / 78 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ عليه السلام: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . قال المؤلف: أما العبد والمولى وولد البغى والأعرابى والصبى الذى لم يحتلم فإمامتهم جائزة؛ لأنهم كلهم دخلوا فى قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وهذا الحديث وإن كان أشار إليه البخارى، واعتمد عليه، فلم يخرجه فى مصنفه هذا، وقد ذكرته فى باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة وهو حديث حسن أخرجه المصنفون، وهو أصل فى معناه. وممن أجاز إمامة العبد غير عائشة: أبو ذر، وحذيفة، وابن مسعود، ومن التابعين: الحسن، وابن سيرين، والنخعى، والشعبى، والحكم، ومن الفقهاء: الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وكره إمامته أبو مجلز، وقال مالك: لا يؤم العبد الأحرار إلا أن يقرأ وهم لا يقرءون، ولا يؤمهم فى عيد ولا جمعة، والحجة له أن إمامة سالم للمهاجرين إنما كانت لأنه كان فى أول الإسلام، وكان(2/319)
أكثرهم قرآنًا، ولم تجز إمامته فى الجمعة؛ لأنها لما سقطت عنه شبهه بمن لا تجب عليه أصلاً، ومن أجاز إمامته فيها قال: إذا حضر الجمعة صار من أهلها وأجزأت عنه الركعتان إذا كان مأمومًا، فكذلك إذا كان إمامًا. وأما قوله عليه السلام: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم حبشى كأن رأسه زبيبة) ، فقد رواه أنس عن النبى وقال فيه: عبد حبشى، ذكره البخارى فى كتاب الأحكام. ففيه حجة لمن أجاز إمامة العبد راتبًا وفى الجمعة وغيرها؛ لأنه عليه السلام إذا أمر بطاعة العبد الحبشى، فقد أمر بالصلاة خلفه، وقد قال النخعى: رب عبد خير من مولاه. وممن أجاز إمامة ولد الزنا إذا كان مرضيًا: النخعى، والشعبى، وعطاء، والحسن، وقالت عائشة: ليس عليه من وزر أبويه شىء) ولا تزر وازرة وزر أخرى) [الأنعام: 64] ، وهو قول الثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وكره إمامته: عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقال مالك: أكره أن يكون إمامًا راتبًا، وإنما ذلك لما يناله من الألسنة وتأثم الناس. وأما الأعرابى، فإن كان عالمًا فهو والحضرى سواء، ولكن الكلام خرج فيمن كره إمامته على الأغلب من جهلهم بحدود الصلاة، وممن كره إمامته: أبو مجلز، ومالك بن أنس، وقال: لا يؤم الأعرابى(2/320)
وإن كان أقرأهم، لما ذكرنا من جهلهم بسنة الصلاة، وأجاز إمامته: الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى، وإسحاق. وأما إمامة الصبى الذى لم يحتلم فأجازها: الحسن البصرى، وهو قول الشافعى، وإسحاق، وأبى ثور، وكرهها: عطاء، والشعبى، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة. وأجاز الإمامة من المصحف: ابن سيرين، والحكم بن عتيبة، وعطاء، والحسن، وكان أنس يصلى وغلامه خلفه يمسك له المصحف، فإذا تعايا فى آية فتح عليه، وأجازه مالك فى قيام رمضان، وكرهه النخعى، وسعيد بن المسيب، والشعبى، ورواية عن الحسن، وقال: هكذا يفعل النصارى.
51 - باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ
/ 79 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ نبى اللَّهِ قَالَ: (يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ) . قال المهلب: فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه. وفيه: أن الإمام إذا نقص ركوعه وسجوده أنه لا تفسد صلاة من خلفه، إلا أن ينقص فرض الصلاة، فلا يجوز اتباعه، فإن خيف منه صلى معه بعد أن يصلى فى بيته وتكون الصلاة نافلة، وقال غيره: قوله: (فإن أصابوا فلكم) ، أى: أصابوا الوقت، وكذلك قوله: (وإن أخطئوا) ، يعنى: الوقت، وكذلك كان بنو أمية يؤخرون(2/321)
الصلاة تأخيرًا شديدًا، ويد على صحة هذا ما رواه أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: قال رسول الله: (لعلكم تدركون أقوامًا يصلون الصلاة لغير وقتها، فإذا أدركتموهم فصلوا فى بيوتكم فى الوقت الذى تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة) ، ورواه ثوبان، وأبو ذر، عن نبى الله. فهذا الحديث يفسر حديث أبى هريرة، ويدل أن قوله عليه السلام: (فإن أخطئوا فلكم) ، يعنى: صلاتكم فى بيوتكم فى الوقت، وكذلك كان جماعة من السلف يفعلون، روى عن ابن عمر أن الحجاج لما أخر الصلاة بعرفة، صلى ابن عمر فى رحله، وثم الناس، ووقف، قال: فأمر به الحجاج فحبس، وكان الحجاج يؤخر الصلاة يوم الجمعة، وكان أبو وائل يأمرنا أن نصلى فى بيوتنا، ثم نأتى المسجد، وكان إبراهيم يصلى فى بيته، ثم يأتى الحجاج فيصلى معه، وفعله مسروق مع زياد. وكان عطاء وسعيد بن جبير فى زمن الوليد إذا أخر الصلاة أومأ فى مجالسهما، ثم صليا معه، وفعله مكحول مع الوليد أيضًا، وهو مذهب مالك فى أئمة الجور إذا أخروا الصلاة عن وقتها، وقد روى عن بعض السلف أنهم كانوا لا يعيدون الصلاة معهم. وروى ابن أبى شيبة، عن وكيع قال: حدثنا بسام قال: سألت أبا جعفر محمد بن على عن الصلاة خلف الأمراء، فقال: صل معهم، قد كان الحسن والحسين يعتدان الصلاة خلف مروان، قلت: إن الناس كانوا يزعمون أن ذلك تقية، قال: وكيف إن كان الحسن بن على(2/322)
ليسبُّ مروان فى وجهه وهو على المنبر حتى يولى، وقيل لجعفر بن محمد: كان أبوك يصلى إذا رجع إلى البيت؟ فقال: لا والله، ما كان يزيد على صلاة الأئمة، وقال إبراهيم: كان عبد الله يصلى معهم إذا أخروا عن الوقت قليلاً، ويرى أن مأثم ذلك عليهم.
52 - باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ. / 80 - فيه: عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَنَتَحَرَّجُ، فَقَالَ: الصَّلاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ للنَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِن أَسَاءُوا، فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. وقَالَ الزُّهْرِيُّ: لا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلا مِنْ ضَرُورَةٍ لابُدَّ مِنْهَا. / 81 - وفيه: أَنَسَ قَالَ: قال النَّبِيُّ عليه السلام، لأبِي ذَرٍّ: (اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) . اختلف العلماء فى تأويل قوله: (ويصلى لنا إمام فتنة) ، فقال ابن وضاح: إمام الفتنى عبد الرحمن بن عديس البلوى، هو الذى أجلب على عثمان بأهل مصر، وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافرى أنه سمع أبا ثور الفهمى أنه رأى ابن عديس صلى لأهل المدينة الجمعة وطلع منبر الرسول فخطب.(2/323)
والقول الثانى: قال أبو جعفر الداودى: معنى قوله: (يصلى لنا إمام فتنة) ، أن غير إمامهم يصلى لهم فى حين فتنة، ليس أن ذلك الإمام يدعو إلى فتنة ويسعى فيها ويدل على ذلك قول عثمان: (الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم) ، ولم يذكر الذى أمهم بمكروه، وذكر أن فعله من أحسن الأعمال، وحذره من الدخول فى الفتنة. وقال غيره: والدليل على صحة هذا التأويل أنه قد صلى بالناس فى حصار عثمان جماعة من الفضلاء منهم: أبو أيوب، وسهل بن حنيف، وابنه أبو أمامة، ذكره عمر بن شبة بإسناد عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: صلى بالناس يوم الجمعة سهل بن حنيف. قال عمر بن شبة: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا يوسف بن الماجشون، قال: أخبرنا عقبة بن مسلم المزنى أن آخر خرجة عثمان يوم الجمعة، وعليه حلة حمراء مصفرًا رأسه ولحيته بورس، فما خلص إلى المنبر حتى ظن أن لن يخلص، فلما استوى عليه حصبه الناس، فقام رجل من بنى غفار، فقال: والله لنغربنك إلى جبل الدخان، فلما نزل حيل بينه وبين الصلاة، وصلى بالناس أبو أمامة بن سهل بن حنيف. فقال عمر بن شبة: وحدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عبيد الله بن عدى بن خيار، قال: دخلت على عثمان وهو محصور، وعلىّ يصلى بالناس فقلت: يا أمير المؤمنين، إنى أتحرج الصلاة مع هؤلاء وأنت الإمام، فقال: إن الصلاة أحسن ما عمل به. . . . الحديث. وقال جويرية: عن نافع، لما كان يوم النحر جاء علىّ، فصلى(2/324)
بالناس وعثمان محصور، وقال الزهرى: صلى سهل بن حنيف، وعثمان محصور، وصلى يوم العيد على بن أبى طالب، وقال الحلوانى: حدثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما صلى علىّ بالناس حين حوصر عثمان إلا صلاة العيد وحدها. قال يحيى بن آدم: ولعلهم قد صلى بهم رجل بعد رجل، قال الداودى: لم يكن فى القائمين على عثمان أحد من الصحابة إنما كانت فرقتان: فرقة مصرية، وفرقة كوفية، فلم يعتبوا عليه شيئًا إلا خرج منه بريئًا، فطالبوه بعزل من استعمل من بنى أمية فلم يستطع ذلك وهو على تلك الحالة، ولم يخل بينهم وبينهم لئلا يتجاوزوا فيهم القصد، وصبر واحتسب. وروى عنه أنه رأى النبى، عليه السلام، تلك الليلة فى المنام، فقال له: (قد قمصك الله قميصًا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه) ، يعنى الخلافة، وكان قد أخبر عليه السلام أنه يموت شهيدًا على بلوى تصيبه، فلذلك لم ينخلع من الخلافة، وأخذ بالشدة على نفسه طلبًا لعظيم الأجر، ولينال الشهادة التى بشره الرسول بها. قال الداودى: فلما طال الأمر صلى أبو أيوب الأنصارى بالناس مُدَّة؛ لأن الأنصار لم يكن منهم أحد يدعى الخلافة، ثم كفَّ أبو أيوب وصلى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وصلى بهم صلاة العيد على بن أبى طالب؛ لأنه لا يقيم الجمع والأعياد إلا الأئمة ومن يستحق الإمامة، وفعل ذلك علىّ لئلا تضاع سنة ببلد الرسول.(2/325)
ففى هذا من الفقه: المحافظة على إقامة الصلوات، والحض على شهود الجمعات فى زمن الفتنة؛ خشية انخراق الأمر وافتراق الكلمة وتأكيد الشتات والبغضة، وهذا خلاف قول بعض الكوفيين أن الجمعة بغير والٍ لا تجزئ. وقال محمد بن الحسن: لو أن أهل مصر مات واليهم جاز لهم أن يقدموا رجلاً منهم فيصلى بهم حتى يقدم عليهم والٍ. وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى: تجوز الجمعة بغير سلطان كسائر الصلوات، قال مالك: إن لله فرائض لا ينقصها أن وليها والٍ أو لم يلها، منها الجمعة. قال الطحاوى: فى صلاة علىّ العيد بالناس وعثمان محصور: هذا أصل فى كل سبب يُخلف الإمام عن الحضور أن على المسلمين إقامة رجل يقوم به، وهذا كما فعل المسلمون يوم مؤتة، لما قتل الأمراء اجتمعوا على خالد بن الوليد، وأيضًا فإن المتغلب والخارج على الإمام تجوز الجمعة خلفه، فمن كان فى طاعة الإمام أحرى بجوازها خلفه. قال المهلب: فيه أن الصلاة وراء من تكره الصلاة خلفه أولى من تفرق الجماعة؛ لقول عثمان: فإذا أحسنوا فأحسن معهم، فغلب الإحسان فى جماعتهم على الإحسان فى التورع عن الصلاة فى زمن الفتنة منفردًا، وأما الإساءة التى أمرنا باجتنابها، فهى المعاصى التى لا يلزم أحدًا فيها طاعة مخلوق، فإذا غلب عليها كان له أن يأخذ بالرخصة أو يأخذ بالشدة، فلا يجيب إليها، وإن كان فى ذلك إتلافه. واختلف العلماء فى الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع، فأجازت طائفة الصلاة خلفهم، روى عن ابن عمر أنه صلى خلف(2/326)
الحجاج وصلى خلفه ابن أبى ليلى، وسعيد ابن جبير، وخرج عليه، وقال الحسن: لا يضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاة المؤمن خلفه. وقال النخعى: كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا وكان أبو وائل يجمع مع المختار. وقال جعفر بن برقان: سألت ميمون بن مهران عن الصلاة خلف رجل يذكر أنه من الخوارج فقال: أنت لا تصلى له إنما تصلى لله، قد كنا نصلى خلف الحجاج، وكان حروريًا أزرقيًا، وأجاز الشافعى الصلاة خلف من أقام الصلاة، وإن كان غير محمود فى دينه. وكرهت طائفة الصلاة خلفهم، وروى أشهب عن مالك قال: لا أحب الصلاة خلف الإباضية، والواصلية، ولا السكنى معهم فى بلد. وقال عنه ابن نافع: وإن كان المسجد إمامه قدريًا، فلا بأس أن يتقدمه إلى غيره. قال ابن القاسم: رأيت مالكًا إذا قيل له فى إعادة الصلاة خلف أهل البدع توقف ولا يجيب. قال ابن القاسم: وأرى عليه الإعادة فى الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدًا، قال ابن وضاح: قلت لسحنون: ابن القاسم يرى الإعادة فى الوقت، وأصبغ يقول: يعيد أبدًا، فما تقول أنت؟ قال: لقد جاء الذى رأى عليه الإعادة أبدًا ببدعة أشد من صاحب البدعة، قال سحنون: وإنما لم تجب عليه الإعادة؛ لأن صلاته لنفسه جائزة، وليس بمنزلة النصرانى؛ لأن صلاة النصرانى لنفسه لا تجوز. وقال الثورى فى القدرى: لا تقدموه، وقال أحمد: لا تصل خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعيًا إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمى والرافضى يعيد، وكذلك القدرى إذا ردَّ الأحاديث، قال غيره: وقوله عليه السلام: (اسمع وأطع) يدل على أن طاعة المتغلب(2/327)
واجبة؛ لأنه لما قال: (حبشى) ، وقد قال: (الخلافة فى قريش) ، دل أن الحبشى إنما يكون متغلبًا، والفقهاء مجمعون على أن طاعة المتغلب واجبة ما أقام على الجمعات والأعياد والجهاد وأنصف المظلوم فى الأغلب، فإن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما فى ذلك من تسكين الدهماء وحقن الدماء، فضرب عليه السلام، المثل بالحبشى إذ هو غاية فى الذم، وإذْ أمر بطاعته لم يمنع من الصلاة خلفه، فكذلك المذموم ببدعة أو فسق. قال المهلب: قوله: اسمع وأطع لحبشى، يريد فى المعروف لا فى المعاصى، فتسمع له وتطيع فى الحق، وتعفو عما يرتكب فى نفسه من المعاصى ما لم يأمر بنقض شريعة، ولا بهتك حرمة لله تعالى، فإذا فعل ذلك فعلى الناس الإنكار عليه بقدر الاستطاعة، فإن لم يستطيعوا لزموا بيوتهم أو خرجوا من البلدة إلى موضع الحق إن كان موجودًا. وأما قول الزهرى: لا نصلى خلف المخنث إلا من ضرورة، فوجه ذلك أن الإمامة عند جميع العلماء موضع للكمال واختيار أهل الفضل، والمخنث مشبه بالنساء، فهو ناقص عن رتبة من يستحق الإمامة. وإنما ذكر البخارى هذه المسألة فى هذا الباب، والله أعلم؛ لأن المخنث مفتتن فى تشبهه بالنساء، كما أن إمام الفتنة والمبتدع كل واحد منهم مفتون فى طريقته فلما شملهم معنى الفتنة شملهم الحكم، فكرهنا إمامتهم إلا من ضرورة.(2/328)
53 - باب مَنْ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ
/ 82 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِتُّ عند خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ قَالَ: خَطِيطَهُ، ثُمَّ قام إِلَى الصَّلاةِ) . وترجم له: باب (إذا قام عن يسار الإمام فحوله إلى يمينه لم تفسد صلاته) . اختلف العلماء فى الإمام إذا أم واحدًا، أين يقيمه؟ فقالت طائفة: يقيمه عن يمينه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وهو قول مالك، والثورى، والأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وإسحاق، على ما جاء فى هذا الحديث. وفيها: قول ثان روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: يقيمه عن يساره وهذا خلاف الحديث فلا معنى له. وفيها قول ثالث، روى عن النخعى قال: إن كان خلفه رجل واحد فليقم خلفه ما بينه وبين أن يركع، فإن جاء أحد وإلا قام عن يمينه، ذكره ابن المنذر، وهذا يدل أنه لا تجوز صلاة المنفرد خلف الصف وحده، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا فى باب إذا ركع دون الصف بعد هذا، إن شاء الله، ونذكر هاهنا منه طرفًا. قال ابن القصار: وقولهم ناقض؛ لأنه إذا صح عقده للصلاة وحده خلف الصف، فينبغى أن يجوز له فيه عمل الصلاة؛ لأنه لا يخرجه منها إلا حدث ينقض وضوءه، وقد قام ابن عباس عن يسار(2/329)
النبى، فأداره عن يمينه، ولم يأمره بابتداء الصلاة ولا بإعادتها، ولو لم يجزه لأمره بالإعادة. وفيه: أن العمل اليسير فى الصلاة جائز. ويقال: غط النائم غطيطًا، صوت فى نومه، والخطيط، بالخاء، لا يعرف.
54 - باب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ
/ 83 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: (بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي ميمونة، فَقَامَ النَّبِيُّ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فقال الثورى، وإسحاق، ورواية عن أحمد: على المأموم الإعادة إذا لم ينو الإمام أن يؤتم به فى صلاته. وقال أبو حنيفة: إذا نوى الإمام جاز أن يصلى خلفه الرجال وإن لم ينوهم، ولا يجوز للنساء أن يصلين خلفه إلا أن ينويهن. ولابن القاسم فى العتبية نحو قول أبى حنيفة، فيمن أمَّ النساء، سئل ابن القاسم عن إمام صلى برجال ونساء، فقام الرجل عن يمينه والنساء خلفهما فأحدث الإمام، فقدم صاحبه هل يصلى بالنساء اللاتى خلفه؟ قال: يصلى المستخلف بالنساء، وإن لم يستخلفه الإمام إذا نوى أن يكون إمامهن، وقال مالك فى المدونة: ولا بأس أن تأتم بمن لم ينو أن يؤمك فى الصلاة، وهو قول الشافعى.(2/330)
وذكر الطحاوى أن قول زفر كقول مالك والشافعى: أنه يجوز للمرأة الائتمام بمن لم ينو إمامتها. وقال ابن القصار: ولا إشكال فى أنه لا يحتاج إلى نية الإمامة، والمراعاة فى هذا نية المأموم أن يكون مأمومًا؛ لأنه إذا كان مأمومًا سقطت عنه القراءة والسهو؛ لأن الذى قد دخل فى الصلاة وحده قد دخل على أنه تلزمه القراءة والسهو، وأن أحدًا لا يتحملها عنه، والمأموم يدخل مقتديًا بغيره، فالقراءة والسهو عنه ساقطان، فهو يحتاج إلى نية الائتمام، ولو جاز أن يحتاج الإمام إلى نية الإمامة لجاز أن يقال: يحتاج إلى أن يُعين فى صلاته من يصلى خلفه من الرجال والنساء حتى لو جاء أحد ممن لم ينوه لم يجز أن يصلى خلفه. وحديث ابن عباس حجة لمالك ومن وافقه؛ لأن ابن عباس جاء والنبى يصلى بالليل، فجعله على يمينه، فمن ادعى أن النبى نوى أن يؤم ابن عباس فى تلك الصلاة فعليه الدليل، وأما قول أبى حنيفة، فلو قلبه عليه قالب، فقال: إن نوى أن يكون إمامًا جاز للنساء أن يصلين خلفه ولم يجز للرجال، لم يكن له فرق ولم تكن الحجة لهم إلا كالحجة عليهم، وأيضًا فإن النساء كن يصلين خلف النبى، عليه السلام، ولم ينقل عنه أحد أنه عينهن بالنية، ولا حصل منه تعليم ذلك.
55 - باب إِذَا طَوَّلَ الإمَامُ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى
(1) / 84 - فيه: جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ثُمَّ(2/331)
يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ، فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذ يَنَالَ مِنْهُ، فَبَلَغَ الرسول، فَقَالَ: (فَتَّانٌ، فَتَّانٌ، فَتَّانٌ) ، ثَلاثَ مرَات، وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ) . قَالَ عَمْرٌو: لا أَحْفَظُهُمَا. وترجم له: (باب من شكا إمامه إذا طول) . لما أمر الرسول بالتخفيف كان من طول بالناس عاصيًا، ومخالفة العاصى جائزة؛ لأنه لا طاعة إلا فى المعروف. وقد احتج أصحاب الشافعى بأن النبى لم ينكر على الرجل الذى خرج من صلاة معاذ ولا أمره بالإعادة، قال ابن القصار: واختلفوا فيمن دخل مع إمام فى صلاة فصلى بعضها هل يجوز له أن يخرج منها فيتم منفردًا؟ قال الشافعى: يجوز له أن يخرج منها بعذر أو بغير عذر، وقال أبو حنيفة: لا يجوز له. والأمر عندى محتمل لأن مالكًا قال فى الإمام: إذا أحدث وقد مضى بعض صلاته أنه يستخلف من يتم بهم، فإن لم يفعل قدموا من يتم بهم، فإن لم يفعلوا وصلوا وحدانًا، فإنه يجزئهم إلا فى الجمعة؛ لأنها لا تكون إلا بجماعة، وهؤلاء، فإن كان إمامهم بدأ بالخروج، فقد اختاروا ترك تمامها بجماعة، ويجوز أن لا يجزئه إذا خرج نفسه من غير عذر. ويكون الفرق بينهما أنه إذا كان الإمام باقيًا فى الصلاة، فإن الصلاة متعلقة به، فما دام باقيًا فقد تعلقت صلاتهم بصلاته فلم تجز مخالفته باختيار المأمومين الخروج منها لغير عذر؛ لأنه يؤدى إلى الشتات وإلى ترك ما ألزمه نفسه من الجماعة التى هو مندوب إليها، وإذا دخل الإنسان فى طاعة وجب عليه المضى فيها إلا أن يطرأ عليه عذر.(2/332)
ويجوز أن يستدل بهذا الحديث من رأى الخروج من إمامة الإمام إذا فعل فى صلاته ما لا يجوز له كالمصلى خامسةً أو رابعةً فى المغرب أو ثالثة فى الصبح، فيسبح به قيامًا. قال ابن المواز: إن قعدوا ينتظرونه حتى يتم الركعة بطلت صلاتهم، وكذلك المسافر إن قام من اثنتين فسبحوا به فتمادى سلموا وتركوه، وهذه رواية ابن وهب، وابن كنانة، عن مالك؛ لأنهم إن انتظروه وهو جاهل أو عامد فسدت عليه وعليهم، وإن كان ساهيًا لزمهم سجود السهو معه، وهذه خير من رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة أنهم ينتظرونه ويسلمون معه ويعيد هو فى الوقت، قال ابن المواز: إنما أمرهم بذلك مالك فى هذه الرواية لاختلاف الناس فى صلاة المسافر، وأما الحضرى فلو انتظروه لبطلت صلاتهم.
56 - باب تَخْفِيفِ الإمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
/ 85 - فيه: أَبُو مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلا قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ، فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ) . وترجم له: (باب إذا صلى لنفسه، فليطول ما شاء) . وروى ذلك أبو هريرة عن الرسول. فيه: دليل أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمر رسول الله لهم بذلك، وقد بين فى هذا الحديث العلة الموجبة للتخفيف، وهى غير مأمونة على أحد من أئمة الجماعة؛ فإنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه(2/333)
لا يدرى ما يحدث بهم من الآفات، ولذلك قال: وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء؛ لأنه يعلم من نفسه ما لا يعلم من غيره، وقد ذكر الله الأعذار التى من أجلها أسقط فرض قيام الليل عن عباده، فقال: (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله) [المزمل: 20] ، فينبغى للأئمة التخفيف مع إكمال الركوع والسجود؛ ألا ترى أنه عليه السلام، قال للذى لم يتم ركوعه ولا سجوده: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) ، وقال: (لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره فى الركوع والسجود) . وممن كان يخفف الصلاة من السلف: أنس بن مالك، قال ثابت: صليت معه العتمة، فتجوز ما شاء الله، وكان سعد إذا صلى فى المسجد خفف الركوع والسجود وتجوز، وإذا صلى فى بيته أطال الركوع والسجود والصلاة، فقلت له، فقال: إنا أئمة يقتدى بنا، وصلى الزبير بن العوام صلاة خفيفة، فقيل له: أنتم أصحاب رسول الله أخف الناس صلاة، فقال: إنا نبادر هذا الوسواس، وقال عمار: احذفوا هذه الصلاة قبل وسوسة الشيطان، وكان أبو هريرة يتم الركوع والسجود ويتجوز، فقيل له: هكذا كانت صلاة رسول الله؟ فقال: نعم وأجوز، وقال عمرو بن ميمون: لما طعن عمر تقدم عبد الرحمن ابن عوف، فقرأ بأقصر سورتين فى القرآن: إنا أعطيناك الكوثر، وإذا جاء نصر الله، وكان إبراهيم يخفف الصلاة،(2/334)
ويتم الركوع والسجود، وقال أبو مجلز: كانوا يتمون ويوجزون، ويبادرون الوسوسة، ذكر الآثار كلها ابن أبى شيبة فى مصنفه.
57 - باب الإيجَازِ فِي الصَّلاةِ وَإِكْمَالِهَا
/ 86 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ عليه السلام، يُوجِزُ الصَّلاةَ وَيُكْمِلُهَا) . وقد دخل الكلام فى معنى هذا الباب فى الباب الذى قبله، فأغنى عن إعادته. وروى الثورى، عن أبى إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودى قال: لو أن رجلاً أخذ شاة عزوزًا لم يفرغ من لبنها حتى أصلى الصلوات الخمس أتم ركوعها وسجودها. قال أبو عبد الله: وإنما أراد التجوز فى الصلاة، قال أبو عبيد: والعزوز: الضيقة الإحليل، يقال: عزت الشاة وتعززت: إذا صارت كذلك، وأما الواسعة الإحليل، فإنها الثَّرُور.
58 - باب مَنْ أَخَفَّ الصَّلاةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ
/ 87 - فيه: أَبو قَتَادَةَ: أن نَّبِيِّ الله قَالَ: (إِنِّي لأقُومُ فِي الصَّلاةِ، فأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي، كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ) .(2/335)
/ 88 - وفيه: أَنَسَ قال: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ، أَخَفَّ صَلاةً وَلا أَتَمَّ مِنَ الرسول، وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ. فيه: أنه كان يتجوز السجود فى الصلاة لأمور الدنيا خشية إدخال المشقة على النفوس. وقد يجوز أن يحتج بهذا الحديث من قال: أنه جائز للإمام إذا سمع خفق النعال، وهو راكع أن يزيد فى ركوعه شيئًا ليدركه الداخلون فيها؛ لأنه فى معنى تجوّز النبى، عليه السلام، من أجل بكاء الصبى، وممن أجاز ذلك: الشعبى، والحسن، وعبد الرحمن ابن أبى ليلى، وقال آخرون: ينتظرهم ما لم يشق على أصحابه، هذا قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقال مالك: لا ينتظرهم؛ لأنه يضر بمن خلفه؛ لأنه لو فعل ذلك، ولعله يسمع آخر بعد ذلك فينتظره فيضر بمن معه، وهذا قول الأوزاعى، وأبى حنيفة، والشافعى، وقالوا: يركع كما كان يركع. واستدل أهل المقالة الأولى أنه لما كان تجوّزه فى صلاته لا يخرجه منها، دل أن الزيادة فيها شيئًا لا تخرجه من الصلاة، ولما أجمعوا أنه جائز للإمام أن ينتظر الجماعة ما لم يخف فوت الوقت جاز للراكع أيضًا ذلك ما لم يخف فوت الوقت.
59 - باب إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا
/ 89 - فيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ الرسول، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ) . اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فذهبت طائفة [إلى] أنه يجوز(2/336)
أن يصلى الرجل نافلة، ويأتم به فيها من يصلى الفريضة، هذا قول عطاء، وطاوس، وبه قال الأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور، واحتجوا بظاهر هذا الحديث. وقالت طائفة: لا يجوز لأحد أن يصلى فريضة خلف من يصلى نافلة، ومن خالفت نيته نية الإمام فى شىء من الصلاة لم يعتد بها، هذا قول الزهرى، وربيعة، ومالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، واحتجوا بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه) ، ولا اختلاف أكثر من اختلاف النيات التى عليها مدار الأعمال. قالوا: وأما حديث معاذ فيحتمل أن يكون فى أول الإسلام وقت عدم القُراء، ووقت لا عوض للقوم من معاذ، فكانت حال ضرورة لا تجعل أصلاً يقاس عليه، قاله المهلب. وقال الطحاوى: يحتمل أن يكون ذلك وقت كانت الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل فى أول الإسلام حتى نهىعنه عليه السلام، حدثنا حسين بن نصر، حدثنا يزيد ابن هارون، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سليم مولى ميمونة قالت: (أتيت المسجد فرأيت ابن عمر جالسًا والناس يصلون، فقلت: ألا تصلى مع الناس؟ فقال: صليت فى رحلى، إن رسول الله نهى أن تصلى فريضة فى يوم مرتين) ، والنهى لا يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون فى بدء الإسلام يصلون فى منازلهم، ثم يأتون المسجد، فيصلون تلك الصلاة على أنها فريضة، فنهاهم عن(2/337)
ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد وأدرك تلك الصلاة أن يجعلها نافلة، وترك ابن عمر الصلاة يحتمل أن يكون تلك الصلاة لا تطوع بعدها، فلم يجز أن يصليها؛ إذ لا تطوع ذلك الوقت؛ لأنه قد روى عنه أنه سئل عمن صلى فى بيته، ثم أدرك تلك الصلاة فى المسجد أيتهما صلاته؟ قال: الأولى. حدثنا أبو بكر، حدثنا حبان، عن همام، عن قتادة، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المعافرى قال: كان أهل العوالى يصلون مع الرسول، فنهاهم النبى أن يعيدوا الصلاة فى يوم مرتين، قال عمرو: فذكرته لسعيد بن المسيب، فقال: صدق. واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا: ما اعتللتم به من قوله عليه السلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، لا حجة لكم فيه؛ لأنه إنما أمر بالائتمام فيما يظهر من أفعال الإمام، وأما النية فمغيبة عنه، ومحال أن نؤمر باتباعه فيما يخفى علينا من أفعاله، وفى الحديث نفسه دليل يدل على ما قلناه، وذلك قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا. وروى قتيبة عن الليث، عن ابن شهاب فى هذا الحديث: (فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا) ، فعرفهم عليه السلام بما يقتدى فيه بالإمام، وهو ما ظهر من أفعاله، وأما معاذ فإنه كان يصلى مع الرسول فرضه، لا يجوز غير ذلك لقوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) ، فكيف يجوز أن ينويها نافلة فيخالف أمره، عليه السلام، ويرغب عن أداء فرضه معه، مع علمه بفضل صلاته(2/338)
معه، وقد روى ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: أخبرنى جابر أن معاذًا كان يصلى مع رسول الله العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلى بهم، هى له تطوع ولهم فريضة. قال الطحاوى: واحتج عليهم أهل المقالة الثانية بأن هذا الحديث قد رواه ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، ولم يذكر فيه: هى له تطوع ولهم فريضة، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، أو من قول عمرو، أو من قول جابر وأى هذه الثلاثة كان فليس فى الحديث ما يدل على حقيقة فعل معاذ أنه كان بأمر رسول الله، ولا أن رسول الله لو أُخبر به لأقره أو غيره، وهذا عمر بن الخطاب لما أخبره رفاعة بن رافع أنهم كانوا يجامعون على عهد رسول الله ولا يغتسلون حتى ينزلوا، قال عمر: فأخبرتم الرسول بذلك، فرضيه لكم؟ قال: لا، فلم يجعل عمر ذلك حجة، وكذلك هذا الفعل لم يكن فيه دليل أن معاذًا فعله بأمر نبى الله. وقد روينا عن الرسول ما يدل على خلاف قولهم، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظى، حدثنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى المازنى، عن معاذ بن رفاعة الزرقى: (أن رجلاً من بنى سلمة يقال له: سليم، لقى النبى، عليه السلام، فقال: إنا نظل فى أعمالنا فنأتى حين نمسى، فنصلى مع معاذ، فيطول علينا، فقال عليه السلام: (يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن تصلى معى، وإما أن تخفف على قومك) ، فقوله لمعاذ هذا يدل على أنه كان عند رسول الله يفعل أحد الأمرين: إما الصلاة معه، وإما الصلاة مع قومه، ولم يكن يجمعهما؛ لأنه قال: إما أن تصلى معى، ولا تصلى بقومك، وإما أن تخفف بقومك، أى ولا تصلى معى، فثبت بهذا(2/339)
الأثر أنه لم يكن من الرسول لمعاذ فى ذلك شىء متقدم، ولو كان منه عليه السلام فى ذلك أمر كما قال أهل المقالة الأولى، لاحتمل أن يكون فى وقت كانت الفريضة تصلى مرتين. فهذا وجه من طريق الآثار، وأما من طريق النظر، فإنا رأينا صلاة المأموم مضمنة بصلاة الإمام فى صحتها وفسادها؛ وذلك أن الإمام إذا سها وجب على من خلفه لسهوه ما يجب عليه، ولو سهوا هم ولم يسه هو لم يجب عليهم ما يجب عليه إذا سها، فلما ثبت أن المأمومين يجب عليهم حكم السهو بسهو الإمام، وينتفى عنهم حكم السهو بانتفائه عن الإمام، ثبت أن حكمهم فى صلاتهم حكم الإمام فى صلاته، وأن صلاتهم مضمنة بصلاته، وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون صلاتهم خلاف صلاته.
60 - باب مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإمَامِ
/ 90 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (لَمَّا مَرِضَ الرسول مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وأمر أَبَا بَكْرٍ بالصلاة، خَرَجَ النَّبِيُّ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، أراد أن يَتَأَخَّرُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ، فَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَعَدَ الرسول إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ) . إنما قام الرسول أبا بكر ليسمع الناس تكبيره، ويظهر إليهم أفعاله؛ لأنه كان ضَعُف عن إسماعهم، فأقامه لهم، ليقتدوا به فى حركاته؛ إذ كان جالسًا وهم قيام، ولم يمكنهم كلهم رؤيته. وفيه من الفقه: جواز رفع المُذكر صوته بالتكبير والتحميد فى الركوع(2/340)
والسجود ليسمع الناس إذا كثروا وبعدوا من الإمام فى الجمعات وغيرها، وإذا جاز للإمام أن يجهر بالتكبير، جاز للمأموم مثل ذلك، بدليل قوله عليه السلام: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شىء من كلام الناس إنما هو التكبير والقراءة) ، وإذا لم يجز الكلام فى الصلاة سرًا لم يجز أن يجهر به، ولما جاز فيها التكبير سرًا جاز أن يجهر به فيها. وذكر محمد بن حارث، عن لقمان بن يوسف قال: ذاكرنا حماس بن مروان فى رفع المذكر صوته بالتكبير فى الجمعات، فقال: صلاتهم باطل، فقلت له: بل هى جائزة بدليل الحديث فى ذلك أن رجلاً صلى خلف النبى فقال: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فسمعه الرسول فلم يأمره بالإعادة. قال المؤلف: وأظن أبا حنيفة لا يجيز ذلك، وستأتى مذاهب العلماء فى الكلام فى الصلاة، والتكبير ذكر الله وليس بكلام يفسد الصلاة، ومن أفسد الصلاة بذلك، فلا شك فى خطئه، وفى الواضحة: وما جاز للرجل أن يتكلم به فى الصلاة من معنى الذكر والقراءة، فرفع بذلك صوته ليُنبه به رجلاً أو يستوقفه فذلك جائز، وقد استأذن رجل على ابن مسعود، وهو يصلى فقال له: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) [يوسف: 99] .(2/341)
61 - باب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ
وَيُذْكَرُ عَن الرسول: ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ. / 91 - فيه: عَائِشَةَ: فى حديث مرض النبى، عليه السلام، قَالَتْ: (. . . فَجَاءَ الرَسُولُ فَجَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا، وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّي جالسًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالنَّاسُ يَقْتَدُونَ بِصَلاةِ أَبِي بَكْرٍ) . هذا الباب موافق لقول الشعبى، ومسروق، وذلك أنهما قالا: إن الإمام يؤم الصفوف، والصفوف يؤم بعضها بعضًا، قال الشعبى: فإذا كثرت الجماعات فى المسجد، فدخل رجل وهم يصلون، فأحرم قبل أن يرفع الصف الذى يليه رءوسهم من الركعة، فإنه قد أدركها؛ لأن بعضهم أئمة لبعض، ويجوز له الاستدلال من هذا الحديث، وأما سائر الفقهاء فإنهم يراعون رفع الإمام وحده، وهو أحوط.
62 - باب هَلْ يَأْخُذُ الإمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ
/ 92 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ النبى، عليه السلام، انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟) ، فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ. . . .، الحديث. اختلف العلماء فى الإمام إذا شك فى صلاته، فأخبره من خلفه من المأمومين أنه ترك ركعة هل يرجع إلى قولهم، ويدع يقينه أم لا؟ فقال ابن القصار: اختلفت الرواية عن مالك فى ذلك، فقال مرة: يرجع إلى قولهم، وهو قول أبى حنيفة؛ لأنهم يقولون: إنه يبنى(2/342)
على غالب ظنه، وقال مرة أخرى: يعمل على يقينه، ولا يرحع إلى قولهم، وهو قول الشافعى، قال ابن القصار: فوجه قوله لا يرجع إلى قولهم، فإنما هو عندى إذا كان على يقين من صلاته، فلا يجوز أن يترك يقينه، وقال الشافعى: رجوع الرسول يوم ذى اليدين إلى قول من أخبره إنما كان؛ لأنه ذُكِّر بذلك فَذَكر وبنى على يقينه، ووجه القول الآخر أن يأخذ بقولهم فالذى يؤدى إلى اليقين أن يأتى بركعة ويقبل قولهم؛ لأن يقين الاثنين أكثر من يقين الواحد، والذى يهمهم من أمر الصلاة مثل الذى يهمه، فينبغى أن يقبل منهم؛ لأنه يشك كما يشكون، غير أن الاثنين إذا اتفقا كانوا أقوى من الواحد، فكيف الجماعة، ولا معنى لقول الشافعى: أن النبى، عليه السلام، ذُكِّرَ فَذَكر؛ لأنه لو ذكر لقال قد ذكرت، حتى لا يظن أحد أنه عمل على قولهم، فمن ادعى أنه ذكر بغير دلالة، فهو بمنزلة من قال: إن الحاكم إذا حكم بشهادة الشهود، فإنه لم يحكم لأجل ما ثبت عنده من الشهادة، وإنما حكم لأنه علم ذلك.
63 - باب بكاء الإمَامُ فِي الصَّلاةِ
وَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ يَقْرَأُ: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف 86] . / 93 - فيه: عَائِشَةَ فى حديث مرض النبى قَالَتْ: (. . . إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ. . .) ، الحديث. أجاز العلماء البكاء فى الصلاة من خوف الله واحتجوا بحديث(2/343)
عائشة وبفعل عمر، وقال أشهب: قال مالك: قرأ عمر بن عبد العزيز فى الصلاة فلما بلغ: (فأنذرتكم نارًا تلظى) [الليل: 14] ، خنقته العبرة فسكت، ثم قرأ فنابه ذلك، ثم قرأ فنابه ذلك، وتركها وقرأ: (والسماء والطارق) ، واختلفوا فى الأنين والتأوّه، فقال ابن المبارك: إذا كان غالبًا فلا بأس به، وقال الشافعى، وأبو ثور: لا بأس به إلا أن يكون كلامًا مفهومًا، وقالت طائفة: يعيد صلاته وهذا قول الشعبى، والنخعى، والكوفيين.
64 - باب تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإقَامَةِ وَبَعْدَهَا
/ 94 - فيه: النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: قَالَ عليه السلام: (لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ) . / 95 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ الرسول: (أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ من وراء ظَهْرِي) . تسوية الصفوف من سنة الصلاة عند العلماء، وإنه ينبغى للإمام تعاهد ذلك من الناس، وينبغى للناس تعاهد ذلك من أنفسهم، وقد كان لعمر وعثمان رجال يوكلونهم بتسوية الصفوف، فإذا استوت كبرا إلا أنه إن لم يقيموا صفوفهم لم تبطل بذلك صلاتهم. وفيه: الوعيد على ترك التسوية، وقال المهلب: توعد من لم يقم(2/344)
الصفوف بعذاب من [] الذنب وهو المخالفة بين وجوههم، لاختلافهم فى مقامهم كما أن من قتل نفسه بحديدة عذب بها، والمرأة التى قتلت الهرة جوعًا عذبت بها. وقوله: (إنى لأراكم من وراء ظهرى) ، خصوص له، أعطاه الله من القوة أن يرى من خلفه كما يرى من أمامه لا أنه يخبر عنهم بخبر، ولو كان من طريق الخبر لقال عليه السلام، إنى لأعلم بحالكم من وراء ظهرى، وقد تقدم هذا وزيادة فيه فى باب (عظة الإمام فى إتمام الصلاة) .
65 - باب إِقْبَالِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
/ 96 - فيه: أَنَسُ قَالَ: (أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) . وفيه: جواز الكلام بين الإقامة والإحرام، ولا بأس عند فقهاء الحجاز، وهو رد على الكوفيين، وقد تقدم ذلك فى باب الإمام تعرض له حاجة بعد الإقامة فى أبواب الأذان. وقوله: تراصوا فى الصلاة، أى: انضموا، قال صاحب (العين) : رصصت البنيان رصا، أى: ضممته، وتراصوا فى الصفوف منه، وقد ذكر الله الذين يقاتلون فى سبيله صفًا، كأنهم بنيان مرصوص، ومدحهم بذلك، وقضى بالمحبة للمصطفين فى طاعته، فدل أن الصف فى الصلاة كالصف فى سبيل الله.(2/345)
وروى ابن أبى شيبة قال: حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عمن حدثه، عن ابن عباس أن نبى الله قال: (راصوا صفوفكم، فإن الشياطين تتخللكم كأنها أولاد الحذف) ، فذكر هذا الحديث معنى أمره عليه السلام، بالتراص فى الصلاة، وقال صاحب (العين) : الحذف: غنم سود صغار، ويقال: هم أولاد الغنم.
66 - باب الصَّفِّ الأوَّلِ
/ 97 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسول الله: (الشُّهَدَاءُ خمسة) إلى قوله: (وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لاسْتَهَمُوا) . وقد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى باب الاستهام فى الأذان، فأغنى عن إعادته، ونذكر منه هاهنا طرفًا، إنما فضل الصف الأول على غيره، والله أعلم، للقرب من سماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد روى نوح بن أبى مريم قال: حدثنا زيد العمى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبى، عليه السلام، أنه قال: (من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذى مسلمًا أضعف الله له أجر الصف) .
67 - باب إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ
/ 98 - فيه: أَبو هُرَيْرَةَ، قَالَ عليه السلام: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. . . .) ، الحديث، (وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاةِ) .(2/346)
/ 99 - وفيه: أَنَسِ، قَالَ النَّبِيِّ، عليه السلام: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ) . هذا الحديث يدل أن إقامة الصفوف سنة مندوب إليها، وليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضًا لم يقل، عليه السلام، فإن إقامة الصفوف من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشىء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب، ودل هذا على أن قوله فى حديث أنس: (فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) ، أن إقامة الصلاة قد تقع على السنة كما تقع على الفريضة.
68 - باب إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ
/ 100 - فيه: أَنَسِ: أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ؟ فقَالَ: (مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ) . لما كان تسوية الصف من السنة المندوب إليها التى يستحق فاعلها المدح عليها، دل ذلك أن تاركها يستحق الذم والعتب كما قال أنس، رحمة الله عليه، غير أن من لم يقم الصفوف لا إعادة عليه؛ ألا ترى أن أنسًا لم يأمرهم بإعادة الصلاة.
69 - باب إِلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ فِي الصَّفِّ
قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: ورَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ. / 101 - فيه: أَنَسِ قَال النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ) .(2/347)
هذه الأحاديث تفسر قوله عليه السلام: (تراصُّوا فى الصف) ، وهذه هيئة التراص، وفيه: أن الكعب هو العظم الناتئ فى أثر الساق ومؤخر القدم، كما قال أهل المدينة؛ لأنه لو كان الكعب فى مقدم القدم كما قال أهل الكوفة لما تمكن أن يلزق أحدهم كعبه بكعب صاحبه، وهذا يدل على أن الكعبين اللذين جعلهما الله غاية فى غسل القدمين هما المذكوران فى حديث النعمان بن بشير، وقد تقدم هذا فى كتاب الطهارة بزيادة.
70 - باب الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا
/ 102 - فيه: أَنَسِ قَالَ: (صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ عليه السلام، وَأُمِّي خَلْفَنَا أُمُّ سُلَيْمٍ) . فى هذا الحديث من الفقه: أن سنة النساء القيام خلف الرجال، ولا يقمن معهم فى صف؛ لأن الفتنة تخشى منهن. قال المهلب: وكذلك إن كُنَّ عجائز أو ذوات محارم للرجال، فلا يصطففن مع الرجال، وأن صفوفهن وراء صفوف الرجال، إلا أنه إن صلت المرأة إلى جنب رجل تمت صلاتهما عند مالك، والشافعى، والأوزاعى. وعند الكوفيين تمت صلاة المرأة وفسدت صلاة الرجل، واحتجوا بأنها وقفت فى غير محلها، كما أن من صلى قدام الإمام صلى فى(2/348)
غير محله، ففسدت صلاته، فجاوبهم أهل المقالة الأولى، وقالوا: صلاته عندنا صحيحة إذا صلى قدام الإمام، كما لو وقف على يساره، وعلى هذا الحساب كان ينبغى أن تبطل صلاة المرأة دون الرجل؛ لأنها وقفت فى غير محلها فلما قلتم أن صلاة المرأة صحيحة، كانت صلاة الرجل أولى أن تصح؛ لأنه وقف فى محله، ووقفت هى فى غير محلها، وهذا يرد قول أحمد، وإسحاق أن من صلى خلف الصف وحده بطلت صلاته، وإن كانت امرأة صحت صلاتها، وذلك لأنه لما صحت صلاة أم أنس وحدها خلف الصف، وكانت صفا كان الرجل أولى بذلك، وإلى هذا المعنى أشار البخارى فى ترجمته، وفى هذا الحديث حجة على الكوفيين. وقولهم: أنه إذا كان مع الإمام رجلان قام وسطهما، وإن كانوا ثلاثة قاموا خلفه، واحتجوا بأن ابن مسعود صلى بعلقمة والأسود وقام بينهما، وهذا الحديث بخلاف ذلك؛ لأن أنسًا ذكر أنه واليتيم صليَا خلف النبى، عليه السلام، وصلت أمه خلفهما، والحجة فى السنة لا فيما خالفها، وبهذا الحديث قال سائر الفقهاء. قال المهلب: وفيه أن الصبى إذا عقل الصلاة يكون فى الصف. وفيه: أن الصف من الرجال يكون من اثنين فصاعدًا، وأن الصف من النساء إذا صلين مع الرجال يكون من امرأة واحدة.(2/349)
71 - باب إِذَا كَانَ بَيْنَ الإمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ
قَالَ الْحَسَنُ: لا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَهْرٌ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: يَأْتَمُّ بِالإمَامِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ طَرِيقٌ، إِذَا سَمِعَ تَكْبِيرَ الإمَامِ. / 103 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ، وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ عليه السلام، فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، فَأَصْبَحُوا، فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ، فَقَامَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ، فَقَامَ مَعَهُ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، فَقَالَ: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاةُ اللَّيْلِ) . / 104 - وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ حُجْرَةً - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ حَصِيرٍ - فِي رَمَضَانَ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ، جَعَلَ يَقْعُدُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وقَالَ: (قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاةِ صَلاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلا الْمَكْتُوبَةَ) . قال المؤلف: اختلف العلماء فى الإمام بينه وبين القوم طريق أو حائط، فأجازته طائفة، روى ذلك عن أنس بن مالك، وأبى هريرة، وسالم، وابن سيرين، وكان عروة يصلى بصلاة الإمام وهو فى دار بينها وبين المسجد طريق، وقال مالك: لا بأس أن يصلى وبينه وبينه طريق أو نهر صغير، وكذلك السفن المتقاربة يكون الإمام فى إحداها تجزئهم الصلاة معه. وقال عطاء: لا بأس أن يصلى بصلاة الإمام من علمها.(2/350)
وكرهت ذلك طائفة روى عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو نهر أو حائط فليس معه، وكره الشعبى وإبراهيم أن يكون بينهما طريق، وزاد إبراهيم: أو نساء. وقال الكوفيون: لا تجزئه إلا أن تكون الصفوف متصلة على الطريق، وهو قول الليث، والأوزاعى، وأشهب صاحب مالك، وكذلك اختلفوا فيمن صلى فى دار محجور عليها بصلاة الإمام، فأجازه عطاء، وأبو حنيفة فى الجمعة وغيرها، وبه قال ابن نافع صاحب مالك، وجوزه مالك إذا كان يسمع التكبير إلا فى الجمعة خاصة، فلا تصح صلاتها عنده فى موضع يمنع منه فى سائر الأوقات، ولا تجوز إلا فى الجامع ورحابه. وقال الشافعى: لا يجوز أن يصلى فى موضع محجور عليه فى الجمعة وغيرها إلا أن تتصل الصفوف. وحجة من أجاز ذلك حديث عائشة، وزيد بن ثابت أنه عليه السلام، صلى فى حجرته وصلى الناس بصلاته، فلو لم تجزئهم لأخبرهم بذلك لأنه بُعث معلمًا. قال ابن القصار: وقد كان أزواج الرسول يصلين فى حجرهن بصلاته، وبعده بصلاة أصحابه إذا لم يمنع الحائل بين الإمام والمأموم من تكبيرة الإحرام ولا استماع التكبير لم يقدح فى الصلاة، دليله: الأعمى، ومن بينه وبين الإمام صفوف أو سارية، فلا معنى للمنع من ذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث جواز الائتمام بمن لم ينو أن يكون إمامًا فى تلك الصلاة؛ لأن الناس ائتموا برسول الله من وراء الحائط ولم يعتقد نية معهم على الإمامة، وهو قول مالك، والشافعى وقد تقدم.(2/351)
72 - باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاةِ
/ 105 - فيه: أَنَسُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَكِبَ فَرَسًا، فصرع عنه، فَجُحِشَ شِقُّهُ. . .) ، إلى قوله: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كبر فكبروا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا) . / 106 - وفيه: أَبو هُرَيْرَةَ: أن رسول الله قَالَ: (إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا. . .) الحديث. اختلف العلماء فى وجوب تكبيرة الإحرام، فذهب جمهور العلماء إلى وجوبه، وذهبت طائفة إلى أنه سنة وممن روى ذلك عنه: سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، والحكم، والزهرى، والأوزاعى، وقالوا: إن تكبيرة الركوع تجزئه من تكبيرة الإحرام، وروى عن مالك فى المأموم ما يدل على أنه سنة، قال فى (الموطأ) فى رجل دخل مع الإمام فنسى تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع حتى صلى ركعة، فذكر أنه لم يكن كبر للافتتاح ولا للركوع، وكبر فى الركعة الثانية، فقال: يبتدئ صلاته أحب إلى. وروى عنه ابن القاسم فى (المدونة) ، أن المأموم إن نسى تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع ينوى بها للإحرام، أجزأه، وإن لم ينو إحرامًا تمادى وأعاد احتياطًا للاختلاف، وذلك أنها لا تجزئه عند ربيعة، وتجزئه عند ابن المسيب، فوجه قوله فى الموطأ: يبتدئ أحب إلىّ، يدل على ما قال فى المدونة: إذا تمادى أجزأه، غير أنه قال: يعيد احتياطًا للصلاة، ولم يختلف قوله فى المنفرد والإمام أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحد منهما، وأن من نسيها منهم يستأنف صلاته.(2/352)
وحجة الذين أوجبوا تكبيرة الإحرام: قوله عليه السلام: (فإذا كبر فكبروا) ، فذكر تكبير الإحرام دون غيره من سائر التكبير، وقد أجمعوا أن من ترك سائر التكبير غير تكبير الإحرام أن صلاته جائزة، فدل ذلك على أن سائر التكبير غير تكبيرة الإحرام ليس بلازم، واحتجوا أيضًا على ذلك بما رواه الثورى، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن على أن رسول الله قال: (تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم) ، وكان أحمد وإسحاق يحتجان بهذا الحديث. وحجة الذين رأو تكبيرة الإحرام سنة: إجماعهم أن من ترك التكبير كله ما عدا الإحرام أن صلاته تامة قالوا: وكذلك تكبير الإحرام مثل تكبير سائر الصلوات فى القياس؛ لأن التكبير معناه كله واحد فى أنه إذن بحركات الإمام وشعار الصلاة. واختلفوا: هل يجزئ افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل مكان التكبير؟ فقال مالك، وأبو يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق: لا يجزئ إلا (الله أكبر) ، وأجاز الشافعى (الله أكبر) . وقال الكوفيون: يجزئ من التكبير ما قام مقامه من تعظيم الله وذكره. وحجة مالك ومن وافقه: قوله عليه السلام: (وإذا كبر فكبروا) ، يدل أنه لابد من لفظة التكبير، ومن زعم غير ذلك فعليه الدليل.
73 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأولَى فِى الافْتِتَاحِ سَوَاءً
/ 107 - فيه: ابْنِ عمر: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ(2/353)
أَيْضًا، وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ) . وترجم له: رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع. وترجم له: إلى أين يرفع يديه. وقال أبو حميد: رفع النبى يديه حذو منكبيه. اختلف العلماء فى رفع اليدين فى الصلاة، فذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح خاصة، روى ذلك عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ورواه ابن القاسم عن مالك. وذهبت طائفة إلى رفع اليدين عند كل رفع وخفض، قال عطاء: رأيت أبا سعيد الخدرى، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، يرفعون أيديهم عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند رفع الرأس منه، وكان أنس يفعله، وفعله أبو حميد الساعدى فى عشرة من الصحابة، وهو قول الأوزاعى، رواه ابن وهب، وأبو مصعب عن مالك، وإليه ذهب الشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث ابن عمر. واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه سفيان، عن يزيد بن أبى زياد، عن ابن أبى ليلى، عن البراء بن عازب قال: (كان النبى، عليه السلام، إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه، ثم لا يعود) ، وبما رواه سفيان، عن عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، (أن النبى، عليه السلام، كان يرفع يديه فى أول تكبيرة ثم لا يعود) ، قالوا: وقد خالف ابن عمر روايته فى ذلك عن الرسول. قال الطحاوى: وذلك ما حدثنا ابن أبى(2/354)