وكان عامر بن عبد قيس يقول: والله لأجتهدنَّ، ثم والله لأجتهدنَّ، فإنْ نجوت فبرحمة الله، وإلاَّ لم ألم نفسي (1) .
وكان زياد مولى ابن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوانَ بن سُليم: الجدَّ الجدَّ والحذَرَ الحذَرَ، فإنْ يكن الأمرُ على ما نرجو، كان ما عمِلتُما فضلاً، وإلاَّ لم تلوما أنفسكما.
وكان مُطرِّف بن عبد الله يقول: اجتهدوا في العمل، فإنْ يكن الأمرُ كما نرجو من رحمة الله وعفوه، كانت لنا درجات في الجنَّة، وإنْ يكن الأمرُ شديداً كما نخاف ونُحاذِرُ، لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا ... نَعْمَلُ} (2) ، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك (3) .
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 2/88.
(2) فاطر: 37.
(3) أخرجه: ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/119.(2/682)
الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ ناساً مِنْ أصْحَابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالُوا لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
يا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بالأجورِ، يُصلُّونَ كَما نُصَلِّي، ويَصومُونَ كَمَا نَصُومُ، ويتَصدَّقُونَ بفُضُولِ أموالِهمْ، قال: ((أوليسَ قد جعلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحةٍ صَدقةً، وكُلِّ تَكبيرةٍ صَدقَةً، وكُلِّ تَحْمِيدةٍ صَدقةً، وكُلِّ تَهْليلَةٍ صدقةً، وأمْرٌ بِالمَعْروفِ صَدقَةٌ، ونَهْيٌ عَنْ مُنكَرٍ صَدقَةٌ، وفي بُضْعِ أحَدِكُم صَدقَةٌ)) . قالوا: يا رسولَ الله، أيأتِي أحدُنا شَهْوَتَهُ ويكونُ لهُ فيها ... أجْرٌ؟ قال: ((أرأيتُمْ لَوْ وَضَعَها في حَرَامٍ، أكانَ عليهِ وِزْرٌ. فكذلك إذا وضَعَها في الحلالِ كانَ لهُ أَجْرٌ)) . رَواهُ مُسلمٌ (1) .
هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -، وقد روي معناه عن أبي ذرٍّ من وجوهٍ كثيرةٍ بزيادةٍ ونقصانٍ، وسنذكر بعضها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - لِشدَّةِ حرصهم على الأعمال
الصالحة، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعلُه من الخير ممَّا يقدر عليه غيرهم، فكان الفقراء يَحزَنُونَ على فواتِ الصَّدقة بالأموال التي يَقدِرُ عليها الأغنياء، ويحزنون على التخلُّف عن الخروجِ في الجهاد؛ لعدم القدرة على آلته، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه، فقال: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (2) .
_________
(1) أخرجه: مسلم 2/158 (720) (84) و3/82 (1006) (53) .
وأخرجه: أحمد 5/167 و168، والبخاري في " الأدب المفرد " (227) ، وأبو داود
(5243) و (5244) ، والبزار (3917) ، وابن حبان (838) ، والبغوي في
(1644) من طرق عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، به.
(2) التوبة: 92.(2/683)
وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهل الدُّثور - والدُّثور: هي ... الأموال (1) - بما يحصُلُ لهم مِنْ أجرِ الصدقة بأموالهم، فدلَّهمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على صدقاتٍ يقدِرُون عليها.
وفي " الصحيحين " (2) عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة: أنَّ فقراءَ المهاجرين أتَوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ بالدرجات العُلى والنعيمِ المقيمِ، فقال: ((وما ذاك؟)) قالوا: يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويَعتِقون ولا نَعتِق، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلا أُعَلِّمُكم شيئاً
تُدرِكُونَ به مَنْ قد سَبَقَكُم، وتسبِقونَ به من بَعدكم، ولا يكون أحدٌ
أفضلَ منكم إلا مَنْ صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال
: ((تُسبِّحونَ وتُكبِّرونَ وتحمَدُونَ دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة)) ، قال أبو
صالح: فرجع فقراءُ المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموالِ بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ} (3) .
وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم: علي (4) ،
وأبو ذر (5) ، وأبو الدرداء (6) ، وابن عمر (7) ، وابن عباس (8) ، وغيرهم.
ومعنى هذا أنَّ الفقراء ظنُّوا أنْ لا صدقةَ إلاَّ بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ جميعَ أنواع فعلِ المعروف والإحسّان صدقة. وفي " صحيح مسلم " (9) عن حذيفة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كلُّ معروفٍ صدقةٌ)) .
_________
(1) انظر: النهاية 2/100.
(2) صحيح البخاري 1/213 (843) و8/89 (6329) ، وصحيح مسلم 2/97 (595) (142) و (143) من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة، به.
(3) المائدة: 54.
(4) أخرجه: البخاري 4/102 (3113) ، ومسلم 8/84 (2727) (80) .
(5) أخرجه: أحمد 5/154، والبخاري في " الأدب المفرد " (891) ، والترمذي (1956) ، والبزار (4070) .
(6) أخرجه: عبد الرزاق (3187) ، وابن أبي شيبة (29267) ، وأحمد 6/446، والبزار (3095) ، والنسائي في " الكبرى " (9976) و (9977) .
(7) ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/101، وقال: ((رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف)) .
(8) لم أقف على رواية ابن عباس.
(9) الصحيح 3/82 (1005) (52) .(2/684)
وخرَّجه البخاري (1) من حديث جابرٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فالصدقة تُطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسّان، حتَّى إنَّ فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم. وقد كان بعضُ السَّلف يُنكر ذلك، ويقول: إنَّما الصَّدقةُ ممَّن يطلُبُ جزاءها وأجرَها، والصَّحيحُ خلافُ ذلك، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قصر الصَّلاة في السفر: ((صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه)) خرَّجه مسلم (2) ، وقال: من كانت له صلاةٌ بليلٍ، فغلب عليه نومٌ فنام عنها، كتب الله له أجرَ صلاتِه، وكان نومُه صدقةً مِنَ الله تصدَّق بها عليه)) . خرَّجه النَّسائي وغيرُه من حديث عائشة (3) ،
وخرَّجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء (4) .
وفي " مسندي " (5) بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً: ((ما من يومٍ ولا ليلةٍ ولا ساعةٍ إلاَّ لله فيها صدقة يَمُنُّ بها على مَنْ يشاءُ مِنْ عباده، وما منَّ الله على عبدٍ مثلَ أنْ يُلهِمَهُ ذكره)) .
_________
(1) صحيح البخاري 8/13 (6021) .
(2) في " صحيحه " 2/143 (686) (4) .
(3) أخرجه: النسائي 3/257 و258 وفي " الكبرى "، له (1457) و (1458) .
وأخرجه: مالك في " الموطأ " (307) برواية يحيى الليثي، وأبو داود (1314) ، والبيهقي 3/15، وابن عبد البر في " التمهيد " 12/261 من حديث عائشة، به.
(4) في سننه (1344) .
(5) أخرجه: البزار في " مسنده " (3890) ، وهو في " كشف الأستار " (694) ، والحديث ضعفه أبو حاتم الرازي كما في " العلل " لابنه (370) .(2/685)
وقال خالدُ بن معدان: إنَّ الله يتصدَّقُ كلَّ يوم بصدقة، وما تصدَّق الله على أحدٍ من خلقِه بشيءٍ خيرٍ من أنْ يتصدَّق عليه بذكره (1) .
والصدقة بغير المال نوعان:
أحدهما: ما فيه تعدية الإحسّان إلى الخلق، فيكون صدقةً عليهم، وربما
كان أفضلَ من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر،
فإنَّه دُعاءٌ إلى طاعة الله، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النَّفع بالمال،
وكذلك تعليمُ العلم النافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطريق، والسعيُ
في جلب النفع للناس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدُّعاءُ للمسلمين والاستغفارُ لهم.
وخرَّج ابنُ مردويه بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن ابن عمر مرفوعاً: ((مَنْ كانَ له مالٌ، فليتصدَّق من ماله، ومن كان له قوَّةٌ، فليتصدَّق من قوَّته، ومن كان له عِلمٌ، فليتصدَّق من عِلْمِه)) ولعله موقوف (2) .
وخرَّج الطبراني (3) بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن سَمُرَة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أفضلُ
الصدقة اللسانُ)) قيل: يا رسول الله، وما صدقةُ اللسان؟ قال: ((الشفاعةُ تَفُكُّ بها الأسيرَ، وتحقِنُ بها الدَّم، وتَجُرُّ بها المعروف والإحسّان إلى أخيك، وتدفع عنه الكريهة)) .
وقال عمرو بنُ دينار: بلغنا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/18.
(2) أخرجه: هناد في " الزهد " (1083) عن زيد بن أسلم، به، مرفوعاً، وهو ضعيف لإرساله، وفي بعض رجال إسناده مقال.
(3) في " الكبير " (6962) ، وضعفه بسبب أبي بكر الهذلي. انظر: تهذيب الكمال 8/265
(7863) .
وأخرجه: الطبراني في " مكارم الأخلاق " (131) ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
(1279) .(2/686)
((ما مِنْ صدقةٍ أحبَّ إلى الله من قولٍ، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} (1) خرَّجه ابن أبي حاتم (2) .
وفي مراسيل الحسن (3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ مِنَ الصَّدقة أنْ تسلِّم على النَّاس وأنت طليق الوجه)) . خرَّجه ابن أبي الدُّنيا.
_________
(1) البقرة: 263.
(2) في " تفسيره " (2734) عن معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار، به.
(3) والمرسل هو أحد أقسام الضعيف.(2/687)
وقال معاذ: تعليمُ العلم لمن لا يعلمه صدقةٌ، وروي مرفوعاً (1) .
_________
(1) هو في " مسند الربيع بن حبيب " (22) عن جابر بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((تعلموا العلم فإنَّ تعلمه قربة إلى الله عز وجل، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وإنَّ العلم لينزل بصاحبه في موضع الشرف والرفعة، والعلم زين لأهله في الدنيا والآخرة ... )) على أنَّ هذا الكتاب غير ثابت عن مؤلفه فهو ملصق عليه، بل جزم بعض الأفاضل من عصرنا أنَّ هذه الشخصية غير موجودة، ولم تلد الأرحام هذا الرجل.(2/689)
ومن أنواع الصدقة: كفُّ الأذى عن النَّاسِ، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي ذرٍّ قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمانُ والجهادُ في سبيله)) ، قلت: فأيُّ الرِّقاب أفضلُ؟ قال: ((أنفسُها عندَ أهلها وأكثرها ثمناً)) قلت: فإنْ لم أفعل؟ قال: ((تُعين صانعاً، وتصنع لأخرقَ)) . قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بعض العمل؟ قالَ: ((تكفُّ شرَّك عَن النَّاس، فإنَّها ... صدقةٌ)) .
وقد رُوِيَ في حديث أبي ذرٍّ زياداتٌ أخرى، فخرَّج الترمذي (2) من حديث أبي ذرٍّ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقةٌ، وأمرُك بالمعروف، ونهيُك عن المنكر صدقةٌ، وإرشادُك الرَّجُلَ في أرض الضَّلال لك صدقةٌ،
_________
(1) صحيح البخاري 3/188 (2518) ، وصحيح مسلم 1/62 (84) (136) .
(2) في " الجامع الكبير " (1956) .(2/690)
وإماطتُك الحجرَ والشَّوكَ والعظمَ عن الطَّريق لك صدقةٌ، وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لك صدقة)) .
وخرَّج ابن حبَّان في " صحيحه " (1) من حديث أبي ذرٍّ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَيْسَ من نفسِ ابنِ آدم إلاَّ عليها صدقةٌ في كلِّ يوم طلعت فيه الشَّمسُ)) . قيل: يا رسول الله، ومن أين لنا صدقة نتصدَّقُ بها؟ قالَ: ((إنَّ أبواب الخير لكثيرةٌ: التسبيحُ، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والأمر بالمعروف، والنَّهيُ عن المنكرِ، وتميطُ الأذى عن الطَّريقِ، وتُسمعُ الأصمَّ، وتهدي الأعمى، وتدُلُّ المستَدِلَّ على حاجته، وتسعى بشدَّةِ ساقيكَ مع اللَّهفان المستغيثِ، وتحمِلُ بشدّةِ ذراعيكَ مع الضَّعيف، فهذا كُلُّه صدقةٌ منكَ على نفسك)) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث أبي ذرٍّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، ذهبَ الأغنياءُ بالأجر، يتصدَّقون ولا نتصدَّق، قال: ((وأنت فيك صدقةٌ: رفعُك العظمَ عِنِ الطَّريقِ صَدقةٌ، وهدايتُكَ الطَّريقَ صدقةٌ، وعونُكَ الضَّعيفَ بفضلِ قوَّتك صدقةٌ، وبيانُك عن الأغتَم صدقةٌ، ومباضعتُك امرأتَك صدقةٌ)) ، قلت: يا رسول الله، نأتي شهوتنا ونؤجر؟! قالَ: ((أرأيت لو جعله في
_________
(1) الإحسان (3377) ، وهو حديث صحيح.
(2) في " مسنده " 5/154، وإسناده منقطع إلا أنَّ متن الحديث صحيح.(2/691)
حرامٍ، أكان يأثَمُ؟)) قالَ: قلتُ: نعم، قالَ: ((أفتحتسبون بالشرِّ ولا تحتسبون بالخير؟)) وفي روايةٍ أخرى، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ فيك صدقةً كثيرةً، فذكر فضلَ سمعك وفضل بصرك)) وفي روايةٍ أخرى للإمام أحمد (1) : قال: ((إنَّ من أبواب الصدقةِ التَّكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتَعْزِلُ الشوكةَ عَنْ طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتُسمع الأصمَّ والأبكم حتّى يفقَه، وتدلُّ المستدلَّ على حاجةٍ له قد علمتَ مكانَها، وتسعى بشدَّةِ ساقيك إلى اللَّهفان المستغيثِ، وترفَعُ بشدَّة ذراعَيْكَ مَعَ الضَّعيف، كلُّ ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماعِكَ زوجتك أجرٌ)) ، قلتُ: كيف يكونُ لي أجرٌ في شهوتي؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيت لو كان لك ولدٌ، فأدرك ورجوتَ خيرَه، فمات، أكنت تحتسب به؟ قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قلت: بل الله خلقَه، قال: فأنت هديته؟ قلت: بل الله هداه، قال: فأنت كنت ترزُقُه؟ قلت: بل الله كان يرزُقُه، قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإنْ شاء الله أحياه، وإنْ شاءَ أماته، ولك أجر)) .
_________
(1) سبق تخريجه.(2/692)
وظاهرُ هذا السياق يقتضي أنَّه يُؤْجَرُ على جِماعِه لأهله بنيَّةِ طلب الولد الذي يترتَّبُ الأجر على تربيته وتأديبه في حياته، ويحتسبه عند موته، وأمَّا إذا لم يَنْوِ شيئاً
بقضاءِ شهوته، فهذا قد تنازع النَّاسُ في دخوله في هذا الحديث (1) .
وقد صحَّ الحديث بأنَّ نفقة الرجل على أهله صدقة، ففي " الصحيحين " (2)
عن أبي مسعود الأنصاري، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((نفقةُ الرجل على أهله صدقةٌ)) . وفي روايةٍ لمسلم: ((وهو يحتسبها)) ، وفي لفظٍ للبخاري: ((إذا أنفقَ الرجلُ على أهله وهو يحتسبها، فهو له صدقة)) ، فدل على أنّه إنَّما يؤجرُ فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّك لن تُنفِقَ
نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاَّ أُجِرْتَ عليها، حتَّى اللُّقمة ترفعُها إلى في امرأتك)) خرَّجاه (3) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن ثوبان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
_________
(1) قال النووي - رحمه الله -: ((وفي هذا دليل على أنَّ المباحات تصير طاعات بالنيات ... الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة)) . شرح صحيح مسلم 4/100.
(2) صحيح البخاري 1/21 (55) و5/105 (4006) و7/80 (5351) ، وصحيح مسلم 3/81 (1002) (48) .
(3) أخرجه: البخاري 4/3 (2742) و5/87 (3936) و5/225 (4409) و7/81 ... (5354) ، ومسلم 5/71 (1628) (5) .
(4) الصحيح 3/78 (994) (38) .(2/693)
((أفضلُ الدنانير دينارٌ ينفقُه الرَّجُل على عيالِه، ودينارٌ ينفقه على فرسٍ في سبيل الله، ودينارٌ ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله)) قال أبو قِلابة عند رواية هذا الحديث: بدأ بالعيال، وأيُّ رجلٍ أعظمُ أجراً من رجلٍ ينفقُ على عيالٍ له صغار يُعِفُّهم الله به، ويُغنيهم الله به.
وفيه أيضاً (1) عن سعد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ نفقتك على عيالِكَ
صدقة، وإنَّ ما تأكلُ امرأتُك من مالك صدقة)) . وهذا قد ورد مقيداً في الرواية الأخرى بابتغاء وجه الله. وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((دينار أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدَّقت به
على مسكينٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أفضلُها الدِّينارُ الذي أنفقته على
أهلك)) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) ، وابن حبان في " صحيحه " (4) من حديث أبي هُريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تصدَّقُوا)) ، فقال رجلٌ: عندي دينار، فقال: ... ((تصدَّق به على نفسك)) قال: عندي دينارٌ آخر، قال: ((تصدَّق به على زوجتك)) ، قال: عندي دينارٌ آخر، قال: ((تصدَّق به على وَلَدِكَ)) ، قال: عندي دينارٌ آخرُ، قال: ((تصدَّقْ به
_________
(1) صحيح مسلم 5/72 (1628) (8) .
(2) الصحيح 3/78 (995) (39) .
(3) في " مسنده " 2/251 و471 و524، وهو حديث قويٌّ.
(4) الإحسان (3337) و (4233) و (4235) .(2/694)
على خادمك)) ، قال: عندي دينارٌ آخر، قال: ((أنت أبصرُ)) .
وخرَّج الإمام أحمد (1) من حديث المقدام بن معدي كرب، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما أَطْعَمْتَ نفسَك، فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدكَ، فهو لك ... صدقة، وما أطعمت زوجتك، فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمَك، فهو لك صدقة)) وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرة يطول ذكرها.
وفي " الصحيحين " (2) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما مِنْ مسلمٍ يَغرسُ غَرْساً، أو يزرعُ زرعاً، فيأكلُ منه إنسانٌ، أو طيرٌ، أو دابَّةٌ، إلا كان له صدقةٌ)) .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من مسلمٍ يغرسُ غَرْساً إلا كان ما أكلَ منه له صدقة، وما سُرِقَ منه له صدقة، وما أَكَلَ السَّبعُ منه فهو له صدقة، وما أكلتِ الطَّير فهو له صدقةٌ، ولا يرزؤُه أحدٌ إلا كان له صدقة)) . وفي روايةٍ له أيضاً: ((فيأكل منه إنسانٌ، ولا دابةٌ، ولا طائرٌ إلاَّ كان له صدقة إلى يوم القيامة)) .
_________
(1) في " مسنده " 4/131 و132، وهو حديث قويٌّ.
(2) صحيح البخاري 3/135 (2320) و8/12 (6012) ، وصحيح مسلم 5/28
(1553) (12) .
(3) الصحيح 5/27 - 28 (1552) (7) (8) (9) (10) (11) .(2/695)
وفي " المسند " (1) بإسنادٍ ضعيف عن معاذ بن أنس الجُهني، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بَنى بنياناً في غير ظلمٍ ولا اعتداءٍ، أو غرس غِراساً في غيرِ ظلمٍ ولا اعتداءٍ، كان له أجراً جارياً ما انتفع به أحدٌ من خلق الرحمان)) .
وذكر البخاري في " تاريخه " (2) من حديث جَابر مرفوعاً: ((مَنْ حَفَر ماءً لم تشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا سَبُعٍ ولا طائرٍ إلا آجره الله يومَ ... القيامة)) .
وظاهر هذه الأحاديث كلّها يدلُّ على أنَّ هذه الأشياء تكونُ صدقة يُثاب عليها الزارعُ والغارسُ ونحوهما من غير قصدٍ ولا نيةٍ، وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ((أرأيت لو وضعها في الحرام، أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ)) يدلُّ بظاهره على أنَّه يُؤْجَرُ في إتيان أهله من غير نيَّةٍ، فإنَّ المُباضِع لأهله كالزَّارع في الأرض الذي يحرث الأرض ويبذر فيها، وقد ذهب إلى هذا طائفةٌ من العلماء، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشُّرب والجماع، واستدل بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ المؤمنَ ليؤجَرُ في كلِّ شيءٍ حتَّى في اللُّقمة يرفعها إلى فيه)) (3) . وهذا اللَّفظ الذي استدلَّ به غيرُ معروف، إنَّما المعروف قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد
: ((إنَّكَ لن
_________
(1) مسند الإمام أحمد 3/438، وسبب ضعفه ضعف ابن لهيعة وزبان بن فائد.
(2) التاريخ الكبير 1/314، وقد ساقه البخاري مبيناً الاختلاف فيه على عطاء بن رباح فساقه مرفوعاً ثم موقوفاً ثم ساقه من طريقه عن عائشة مرفوعاً بلفظ: ((من بنى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)) .
(3) أخرجه: أحمد 1/177، والنسائي في " الكبرى " (10906) ، والطبراني في " الأوسط "
(6123) من طريق العيزار بن حريث العبدي، عن عمر بن سعد، عن أبيه، به، وعمر بن سعد صدوق حسن الحديث فإسناد الحديث حسن إلا أنَّ ظاهر كلام ابن رجب إعلال المتن لتفرده بهذا اللفظ.(2/696)
تُنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلا أُجِرتَ عليها، حتَّى اللُّقمة ترفعها إلى في امرأتك)) (1) ، وهو مقيَّدٌ بإخلاص النية لله، فتحمل الأحاديثُ المطلقة عليه، والله أعلم.
ويدلُّ عليهِ أيضاً قولُ الله - عز وجل -: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (2) ، فجعل ذَلِكَ خيراً، ولم يرتِّب عليهِ الأجرَ إلا مع نية
الإخلاصِ. وأمَّا إذا فعله رياءً، فإنَّه يُعاقب عليهِ، وإنَّما مَحَلُّ التردُّد إذا فعله بغيرِ نيَّةٍ صالحةٍ ولا فاسدة. وقد قالَ أبو سليمان الداراني: من عَمِلَ عَمَلَ خيرٍ من غير نية كفاه نيَّة اختيارِه للإسلام على غيرِه منَ الأديان (3) ، وظاهر هذا أنَّه يُثاب عليهِ من غيرِ نيَّةٍ بالكلية؛ لأنَّه بدخوله في الإسلام مختارٌ لأعمالِ الخيرِ في الجُملة، فيثابُ على كُلِّ عَملٍ يعملُه منها بتلك النية، والله أعلم.
وقوله: ((أرأيت لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا
وضعها في الحلال، كان له أجر)) . هذا يُسمَّى عندَ الأصوليين قياسَ العكس،
ومنه قولُ ابن مسعودٍ، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كلمةً وقلتُ أنا أخرى، قال: ((من مات يُشرِكُ بالله شيئاً دخل النار)) ، وقلت: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل
الجنة (4) .
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) النساء: 114.
(3) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 9/271.
(4) أخرجه: أحمد 1/382 و425، والبخاري 2/90 (1238) ، وأبو يعلى (5198) ، وابن خزيمة: 359 - 360، وأبو عوانة (30) ، وابن منده في " الإيمان " (66) و (67) و (68) و (69) و (70) .(2/697)
والنَّوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعُه قاصرٌ على فاعله، كأنواع الذِّكر: مِنَ التَّكبير، والتَّسبيح، والتَّحميد، والتَّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجدِ صدقة، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصَّلاة والصيام والحج والجهاد أنَّه صدقة، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنَّه إنَّما ذكر ذلك جواباً لسؤالِ الفُقراء الَّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوَّع الأغنياء بأموالهم، وأما الفرائض، فقد كانوا كلهم مشتركين فيها.
وقد تكاثرتِ النُّصوصُ بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من ... الأعمال، كما في حديث أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالكم، وأزكاها عند مليكِكُم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٍ لكم منْ أنْ تَلْقَوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا ... أعناقكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قالَ: ((ذكرُ اللهِ - عز وجل -)) . خرَّجه الإمام
أحمد (1) والترمذي (2) ، وذكره مالك في " الموطأ " (3) موقوفاً على أبي الدرداء.
وفي " الصحيحين " (4)
عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
_________
(1) في " مسنده " 5/195 و6/447.
(2) في " الجامع الكبير " (3377) .
(3) الموطأ (564) برواية الليثي، والاختلاف في هذا الحديث لم يكن قاصراً على الاختلاف في الرفع والوقف، بل روي موصولاً ومرسلاً بيان ذلك كله في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه.
(4) صحيح البخاري 4/153 (3293) و8/106 (6403) ، وصحيح مسلم 8/69
(2691) (28) .(2/698)
((مَنْ قال: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، يُحيي ويُميت، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يوم مئة مرَّة، كانت له عَدْلَ عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ، وكانت له حِرْزاً من الشَّيطان يومَه ذلك حتَّى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاءَ به إلاَّ أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك)) .
وفيهما (1) أيضاً عن أبي أيوبَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: ((من قالها عشرَ مرَّاتٍ، كان كمن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ مِنْ ولدِ إسماعيل)) .
وخرَّج الإمام أحمد، والترمذي من حديث أبي سعيدٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أيُّ العباد أفضلُ درجة عندَ الله يومَ القيامة؟ قال: ((الذاكرون الله كثيراً)) قلتُ: يا رسولَ الله، ومِنَ الغازي في سبيل الله؟ قال: ((لو ضرب بسيفه في الكُفَّار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً، لكان الذاكرون لله أفضلَ منه درجةً)) (2) . ويُروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعاً، والصوابُ وقفُه على معاذ من قوله (3) .
وخرَّج الطبراني (4) من حديث أبي الوازع، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، عن
_________
(1) أخرجه: البخاري 8/106 (6404) ، ومسلم 8/69 (2693) (30) .
(2) أخرجه: أحمد 3/75، والترمذي (3376) .
وأخرجه: أبو يعلى (1401) ، وابن عدي في " الكامل " 4/15، والبغوي (1246)
و (1247) من طريق دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، به، وهي رواية ضعيفة لذا قال الترمذي: ((هذا حديث غريب، إنَّما نعرفه من حديث دراج)) .
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة (29452) و (35046) ، وأحمد 5/239، والطبراني في ... " الكبير " 20/ (352) وفي " الدعاء "، له (1658) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 6/57 من طريق معاذ، مرفوعاً.
وأخرجه عن معاذ موقوفاً: مالك في "الموطأ" (564) برواية يحيى الليثي، والحاكم 1/496، والبيهقي في " الدعوات " (20) .
وأخرجه عن جابر: الطبراني في " الأوسط " (2317) وفي " الصغير "، له (201) . ...
(4) في "الأوسط" (5969) ، وقال: ((لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد، تفرد به: عمر بن موسى)) قلت: عمر بن موسى ضعيف، قال عنه ابن عدي في " الكامل " 6/109: ((ضعيف يسرق الحديث ويخالف في الأسانيد)) .(2/699)
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو أنَّ رجلاً في حجره دراهمُ يقسِمُها، وآخرَ يذكر الله، كان الذاكر لله أفضلَ)) .
قلت: الصحيحُ عن أبي الوازع، عن أبي برزة الأسلمي من قوله. خرَّجه جعفر الفريابي (1) .
وخرَّج أيضاً من حديث أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من كبَّرَ مئة، وسبَّح مئة (2) ، وهلَّل مئة، كانت خيراً له من عشر رقابٍ يَعْتِقُها، ومن سبع بَدَناتٍ ... ينحَرها)) (3) .
وخرَّج ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنَّه قيل له: إنَّ رجلاً أعتق مئة
نسمة، فقال: إنَّ مئة نسمة من مالِ رجلٍ كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار، وأنْ لا يزال لسانُ أحدكم رطباً من ذكر الله - عز وجل - (4) .
وعن أبي الدَّرداء أيضاً، قال: لأن أقولَ: الله أكبرُ مئة مرة، أحبُّ إلىَّ من أنْ أتصدَّق بمئة دينار (5) . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيرُه من الصَّحابة والتابعين: إنَّ الذِّكرَ أفضلُ من الصَّدقة بعددِه من المال.
وخرَّج الإمامُ أحمد (6) والنَّسائي (7) من حديث أمِّ هانئ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ...
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 2/33.
(2) عبارة: ((وسبح مئة)) لم ترد في (ص) .
(3) أخرجه: البخاري في" الأدب المفرد " (636) من طريق سلمة بن وردان، عن أنس، به، وسلمة بن وردان ضعيف.
(4) أخرجه: أبو عبد الرحمان الضبي في " الدعاء " 1/268 (91) من طريق ضرار بن مرة، عن رجل من بني عبس، عن أبي الدرداء، به، وإسناده ضعيف لجهالة الرجل من بني عبس.
(5) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/180 عن أبي رجاء، عن أبي الدرداء، موقوفاً.
(6) في " مسنده " 6/344، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح، وهو باذام، ويقال: باذان مولى أم هانئ، لذا قال البخاري في " التاريخ الكبير " 2/254-255: ((لا يصح)) .
(7) في " الكبرى " (10680) .(2/700)
((سَبِّحي الله مئة تسبيحة، فإنَّها تَعدِلُ مئة رقبة من ولد إسماعيل، واحمدي الله مئة تحميدة، فإنَّها تَعدِلُ لكِ مئة فرس مُلجَمة مُسرَجة (1) تحملين عليهنَّ في سبيل الله، وكبِّري الله مئة تكبيرة، فإنَّها تعدِلُ لك مئة بَدَنة مقلَّدة مُتُقبَّلة، وهلِّلي الله مئة تهليلة - لا أحسبه إلا قال: - تملأ ما بَيْنَ السماء والأرض، ولا يُرفَع يومئذٍ لأحدٍ مثلُ عملك إلاَّ أنْ يأتيَ بمثل ما أتيت)) ، وخرَّجه أحمد (2) أيضاً وابنُ ماجه (3) ، وعندهما: ((وقولي: لا إله إلا الله مئة مرة، لا تذر ذنباً، ولا يسبقها العمل)) . وخرَّجه الترمذي (4) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بنحوه.
وخرَّج الطبراني (5) من حديث ابن عباس مرفوعاً: قال: ((ما صَدقةٌ أفضلَ من ذكرِ الله - عز وجل -)) .
وخرَّج الفريابي بإسنادٍ فيه نظرٌ عن أبي أمامة مرفوعاً: ((من فاته الليلُ أنْ يُكابِدَه، وبَخِل بماله أن ينفِقه، وجَبُنَ مِنَ العدوِّ أنْ يُقاتِله، فليكثر مِن سُبحان الله وبحمده، فإنَّها أحبُّ إلى الله - عز وجل - مِنْ جبلِ ذهبٍ، أو جبل
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) في " مسنده " 6/425، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر نجيح بن عبد الرحمان السندي.
(3) في " سننه " (3797) ، وسنده ضعيف لضعف زكريا بن منظور ولجهالة حال شيخه محمد ابن عقبة.
(4) في " الجامع الكبير " (3471) ، وقال: ((حسن غريب)) على أنَّ في سنده الضحاك بن حُمرْة ضعيف.
(5) في " الأوسط " (7414) ، وفي إسناده محمد بن الليث أبو الصباح الهدادي راجع فيه
" الثقات " 9/135، وقارن بـ " لسان الميزان " 7/468.(2/701)
فضَّةٍ يُنفقه في سبيل الله - عز وجل - (1)) ) . وخرَّجه البزار (2) بإسنادٍ مُقارب من حديث ابن عباس مرفوعاً وقال
في حديثه: ((فليكثر ذكر الله)) ولم يزِدْ على ذلك، وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ
متعدِّدةٌ.
_________
(1) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (7877) من طريق الفريابي، وهو حديث ضعيف بسبب علي بن يزيد الألهاني، والراوي عنه عثمان بن أبي العاتكة. انظر: تهذيب الكمال 5/311
(4743) .
(2) كما في " كشف الأستار " (3058) ، وإسناده ضعيف لضعف أبي يحيى القتات.(2/702)
الحديث السادس والعشرون
عَنْ أَبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلُّ سُلامَى (1) مِنَ النَّاسِ عليهِ صَدَقةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطلُعُ فيه الشَّمْسِ: تَعدِلُ بَينَ الاثنينِ صدَقَةٌ، وتُعينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، فتحمِلُهُ عليها، أو تَرْفَعُ لهُ عليها متاعَهُ صَدَقةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقةٌ، وبِكُلِّ خُطوةٍ تَمشيها إلى الصَّلاةِ صَدَقةٌ، وتُميطُ الأذى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ)) . رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ.
هذا الحديث خرَّجاه من رواية همَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة (2) ،
وخرَّجه البزار (3) من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الإنسان ثلاث مئة وستون عظماً، أو ستة وثلاثون سلامى، عليه في كلِّ يوم صدقةٌ)) قالوا: فمن لم يجد؟ قالَ: ((يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر)) قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: ((يرفع عَظْماً عن الطَّريقِ)) قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: ((فليُعن ضعيفاً)) قالوا: فمن لم يستطع ذلك؟ قال: ((فليدع النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ)) .
وخرَّج مسلم (4) من حديث عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خُلِقَ ابنُ آدم على ستين وثلاث مئة مَفْصِلٍ، فمن ذكر الله، وحَمِدَ الله،
_________
(1) السلامى: جمع سلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على سلاميات: وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام، ومعنى الحديث: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. انظر: النهاية 52/396.
(2) أخرجه: البخاري 3/245 (2707) و4/42 (2891) و4/68 (2989) ، ومسلم 3/83 (1009) (56) .
وأخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (403) ، وأحمد 2/312 و316 و374، وابن أبي عاصم في " الزهد " (37) ، وابن خزيمة (1493) و (1494) ، وابن حبان (472) ، والطبراني في " مكارم الأخلاق " (117) ، والبيهقي 3/229 و4/ 187 - 188، والبغوي (1645) . والروايات مطولة ومختصرة.
(3) كما في " كشف الأستار " (928) ، وقال البزار: ((لا نعلم رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أبو عوانة)) .
(4) في " صحيحه " 3/81 - 82 (1007) (54) .(2/703)
وهلَّل الله، وسبَّح الله، وعزل حجراً عن طريق المسلمين، أو عزل شوكةً، أو عزل عظماً، أو أمر بمعروفٍ، أو نهى عن منكرٍ عددَ تلك الستين والثلاث مئة السُّلامى أمسى من يومه وقد زَحْزَحَ نفسه عن النَّارِ)) .
وخرَّج مسلم (1) أيضاً من رواية أبي الأسود الدَّيلي، عن أبي ذرٍّ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يُصبح على كلِّ سُلامى مِن أحدكم صدقةٌ، فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عَنِ المُنكرِ صدقةٌ، ويُجزئ من ذلك ركعتان يركعهما منَ الضُّحى)) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) ، وأبو داود (3) من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((في الإنسان ثلاث مئة وستونَ مَفْصِلاً، فعليه أنْ يتصدَّقَ عن كلِّ مَفصِلٍ منه بصدقة))
_________
(1) في " صحيحه 2/158 (720) (84) .
(2) في " مسنده " 5/354 و359، وهو حديث صحيح لغيره.
(3) في سننه (5242) .(2/704)
قالوا: ومَن يُطيق ذلك يا نبيَّ الله؟ قال: ((النُّخَاعَةُ في المسجد تَدفنها، والشَّيء تُنَحِّيه عن الطريق، فإنْ لم تجد، فركعتا الضحى تجزئُك)) .
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي موسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((على كلِّ مسلمٍ
صدقةٌ)) قالوا: فإنْ لم يجد؟ قالَ: ((فيعملُ بيده، فينفع نفسَه ويتصدَّقُ)) قالوا: فإنْ لم يستطع، أو لم يفعل؟ قال: ((يُعينُ ذا الحاجة الملهوف)) ، قالوا: فإنْ لم يفعل؟ قال: ((فليأمر بالخير أو قال: بالمعروف)) قالوا: فإنْ لم يفعل؟ قال: ... ((فليُمسِكْ عَنِ الشَّرِّ، فإنَّه له صدقة)) .
وخرَّج ابن حبان في " صحيحه " (2) من حديث ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((على كُل مَنْسِمٍ (3) من ابن آدم صدقة كُلَّ يوم)) فقال رجلٌ من القوم: ومن يُطِيق هذا؟ قال: ((أمر بالمعروف صدقة، ونهيٌّ عن المنكر صدقة، والحملُ على الضَّعيف صدقة، وكلُّ خطوةٍ يخطوها أحدُكم إلى الصَّلاة صدقةٌ)) . وخرَّجه البزار (4) وغيره.
وفي رواية: ((على كل مِيسَم (5) من الإنسان صدقةٌ كل يوم، أو صلاة)) ، فقال رجل: هذا من أشدِّ ما أتيتنا به، فقال: ((إنَّ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر صلاةٌ أو صدقةٌ، وحملك عن
_________
(1) صحيح البخاري 3/143 (1445) و8/13 (6022) ، وصحيح مسلم 3/83
(1008) (55) .
(2) الإحسان (299) ، وفي إسناده مقال؛ لأنَّه من رواية سماك، عن عكرمة وهي مضطربة، إلا إنَّ للحديث ما يقويه.
(3) أي: كل مفصل.
(4) في " مسنده " (926) .
(5) قال ابن الأثير: ((المراد به أن على كل عضو موسوم بصنع الله صدقة)) . انظر: النهاية 5/186.(2/705)
الضعيف صلاة، وإنحاؤكَ القذرَ عَنِ الطَّريقِ صلاةٌ، وكلُّ خطوةٍ تَخطوها إلى الصَّلاة صلاةٌ)) (1) . وفي رواية البزار: ((وإماطةُ الأذى عَنِ الطَّريق صدقةٌ)) أو قال: ((صلاةٌ)) .
وقال بعضهم: يريد بالمِيسم: كلَّ عضو على حِدة، مأخوذ من الوسم: وهو العلامة، إذ ما مِنْ عظم ولا عرق ولا عَصَبٍ إلا وعليه أثَرُ صنع الله، فيجبُ على العبدِ الشكرُ على ذلك للهِ والحمد له على خلقه سوياً صحيحاً، وهذا هو المراد بقوله: ((عليه صلاةٌ كلَّ يومٍ)) ؛ لأنَّ الصَّلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء.
وخرَّج الطبراني (2) من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: ((على كلِّ سُلامَى، أو على كلِّ عضوٍ من بني آدم في كلِّ يوم صدقة، ويُجزئ من ذلك ركعتا الضحى)) .
ويُروى من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((على كلِّ نفسٍ في كلِّ يومٍ صدقة)) قيل: فإنْ كان لا يجد شيئاً؟ قال: ((أليس
_________
(1) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (11791) ، وهو كذلك من رواية سماك، عن عكرمة.
(2) في " الأوسط " (4449) وفي " الصغير "، له (630) ، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/240: ((رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط "، وفيه من لم أجد له ترجمة)) .(2/706)
بصيراً شهماً فصيحاً صحيحاً؟)) قال: بلى، قال: ((يُعطي من قليله وكثيره، وإنَّ بصرَك للمنقوصِ بصرُه صدقةٌ، وإنَّ سمعكَ للمنقوص سمعُهُ صدقة)) (1) .
وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذرٍّ - الذي خرَّجه ابن حبان في " صحيحه " (2) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَيسَ مِنْ نفسِ ابن آدم إلا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلعت فيه الشمس)) ، قيل: يا رسولَ الله، ومن أين لنا صدقة نتصدَّقُ بها؟ قال: ((إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ: التَّسبيحُ، والتَّحميدُ، والتَّكبيرُ، والتَّهليلُ، والأمرُ بالمعروف، والنَّهيُ عن المُنكر، وتُميط الأذى عن الطَّريقِ، وتُسمِعُ الأصمَّ، وتهدي الأعمى، وتَدُلُّ المستدلَّ على حاجته، وتسعى بشدَّة ساقيك مع اللَّهفان المستغيث، وتحمل بشِدَّة ذراعيك معَ الضَّعيف، فهذا كلُّه صدقةٌ منكَ على نفسِكَ)) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((على كلِّ سُلامى مِن النَّاس عليه صدقة)) . قال أبو عُبيد: السُّلامى في الأصل (3) عَظْمٌ يكون في فِرْسِنِ البعير، قال: فكأنَّ معنى الحديث: على كُلِّ عظم من عظام ابن آدم صدقةٌ (4) ، يُشير أبو عُبيد إلى أنَّ السُّلامى اسمٌ لبعض العظام الصغار التي في الإبل، ثم عبَّرَ بها عن العظام في الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره.
فمعنى الحديث عنده: على كُلِّ عظمٍ من عظام ابن آدم صدقة.
وقال غيرُه: السُّلامى: عظمٌ في طرف اليد والرِّجلِ، وكني بذلك عن جميع عظام الجسد، والسُّلامى جمعٌ، وقيل: هو مفرد.
وقد ذكر علماء الطبِّ أنَّ جميعَ عظام البدن
_________
(1) لم أقف عليه بما تيسر لي من مصادر.
(2) الإحسان (3377) .
(3) عبارة: ((في الأصل)) سقطت من (ص) .
(4) انظر: غريب الحديث 3/10 - 11.(2/707)
مئتان وثمانية وأربعون عظماً سوى السمسمانيات، وبعضهم يقول: هي ثلاث مئة وستون عظماً، يظهر منها للحسِّ مئتان وخمسة وستون عظماً، والباقية صغارٌ لا تظهر تُسمى السمسمانية، وهذه الأحاديث تُصدق هذا القول، ولعلَّ السُّلامى عبر بها عن هذه العظام ... الصغار، كما أنَّها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من العظام، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا، حيث قال فيها: ((أو ستةٌ وثلاثون سُلامى)) وقد خرَّجه غيرُ البزار، وقال فيه: ((إنَّ في ابنِ آدمَ ست مئة وستين عظماً)) وهذه الرواية غلطٌ. وفي حديث عائشة وبُريدة ذكر ثلاث مئة وستين مفصلاً.
ومعنى الحديث: أنَّ تركيب هذه العظام وسلامتها مِن أعظم نِعَمِ الله على عبده، فيحتاج كلُّ عظم منها إلى صدقة يتصدق ابنُ آدم عنه، ليكونَ ذلك شكراً لهذه النعمة. قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (1) ، وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} (2) ، وقال
: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) ، وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} (4) ،
_________
(1) الانفطار: 6 - 8.
(2) الملك: 23.
(3) النحل: 78.
(4) البلد: 8 - 9.(2/708)
قال مجاهد: هذه نِعَمٌ من الله متظاهرةٌ يقرِّرُكَ بها كيما تَشكُر (1) ،
وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية، فبكى، فسئل عن بكائِهِ، فقال: هل بتَّ ليلة شاكراً لله أنْ جعل لك عينين تُبصر بهما؟ هل بتَّ ليلةً شاكراً لله أنْ جعل لك لساناً تنطق به؟ وجعل يعدِّد من هذا الضرب.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا (2) بإسناده عن سلمانَ الفارسي، قال: إنَّ رجُلاً بُسِطَ له مِنَ الدُّنيا، فانتزع ما في يديه، فجعل يحمَدُ الله - عز وجل -، ويُثني عليه، حتَّى لم يكن له فراش إلا بوري (3) ، فجعل يَحمد الله، ويُثني عليه، وبسط للآخر من الدنيا، فقال لصاحب البُوري: أرأيتك أنتَ على ما تحمد الله - عز وجل -؟ قال: أحْمَدُ اللهَ على ما لو أُعْطِيتُ به ما أُعْطِيَ الخَلقُ، لم أُعْطِهِمْ إيَّاه، قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتَ بصرَك؟ أرأيت لسانَك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك؟
وبإسناده عن أبي الدرداء أنَّه كان يقول: الصِّحَّةُ غِنى الجسد (4) .
وعن يونس بن عبيد: أنَّ رجلاً شكا إليه ضِيقَ حاله، فقال له يونس: أيسُرُّك أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مئة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيدك مئة ألف درهم؟ قال: لا، قال: فبرجليك؟ قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة (5) .
وعن وهب بن مُنَبِّهٍ، قال: مكتوبٌ في حكمة آل داود: العافية المُلك الخفيُّ (6) .
_________
(1) لم أقف على قول مجاهد وما وجدته عن قتادة.
أخرجه: الطبري في " تفسيره " (28891) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " (19319) .
(2) في " الشكر " (100) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " (4462) .
(3) فارسي معرب وهو الحصير المعمول من القصب. لسان العرب 1/536 (بور) .
(4) الشكر (102) .
وأخرجه: ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 25/125.
(5) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/177، والذهبي في " سير أعلام النبلاء " 6/292.
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (122) .(2/709)
وعن بكر المزني قال: يا ابن آدم، إنْ أردتَ أنْ تعلمَ قدرَ ما أنعمَ اللهُ عليك، فغمِّضْ عينيك (1) . وفي بعض الآثار: كم مِنْ نِعمَةٍ لله في عرقٍ ساكن (2) .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((نِعْمَتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحَّةُ والفراغ)) .
فهذه النِّعم مما يُسألُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة، ويُطالب بها كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (4) . وخرَّج الترمذيُّ (5) وابنُ حبَّانَ (6) من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ أوَّلَ ما يُسأل العبد عنه يوم القيامة مِن النعيم، فيقول له: ألم نصحَّ لك جسمَك، ونُرْويكَ من الماء البارد؟)) .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: النعيمُ: الأمنُ والصحة (7) . وروي عنه مرفوعاً (8) .
وقال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ... النَّعِيمِ} (9) ، قال: النعيم: صحَّةُ الأبدان والأسماع والأبصار، يسأَلُ الله العبادَ: فيما استعملوها؟ وهو أعلمُ بذلك منهم (10) ، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (11) .
وخرَّج الطبراني (12) من رواية أيوب بن عُتبة - وفيه ضعف (13) -، عن عطاء، عن ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (182) ، ومن طريقه البيهقي في " شعب الإيمان " ... (4465) و (4466) . ...
(2) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/210 عن أبي الدرداء.
وأخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/211 عن سفيان الثوري، وقال: فيه بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(3) الصحيح 8/109 (6412) .
(4) التكاثر: 8.
(5) في " جامعه " (3358) ، وقال: ((غريب)) على أنَّ إسناده لا ينْزل عن رتبة الحسن؛ لذا أورده العلامة الألباني في صحيحته (539) .
(6) في " الإحسان " (7364) .
(7) أخرجه: هناد بن السري في " الزهد " (694) ، والطبري في " تفسيره " (29318) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4615) .
(8) ذكره ابن أبي حاتم في " تفسيره " (19461) .
(9) التكاثر: 8.
(10) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (29322) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4613) .
(11) الإسراء: 36.
(12) في " الكبير " (13595) وفي " الأوسط "، له (1604) . انظر: مجمع الزوائد 10/420.
(13) قال عنه أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير وفي غير يحيى على ذاك، وقال عنه أبو حاتم: ((فيه لين، قدم بغداد ولم يكن معه كتب فكان يحدّث من حفظه
على التوهم فيغلط)) ، وقال عنه أبو زرعة: ((ضعيف)) ، وقال عنه مسلم بن الحجاج
: ((ضعيف)) ، وقال عنه يحيى بن معين: ((ليس بالقوي)) ، وقال عنه ابن حجر
: ((ضعيف)) . انظر: الجرح والتعديل 2/182 (907) ، وتهذيب الكمال 1/320
(610) ، والتقريب (619) .(2/710)
((من قال: لا إله إلا الله، كان لهُ بها عهدٌ عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له بها مئة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة)) ، فقال رجل: كيف نَهلكُ بعدَ هذا يا رسول الله؟ قال: ((إنَّ الرجلَ ليأتي يومَ القيامة بالعملِ، لو وُضِعَ على جبل لأثقله، فتقوم النِّعمَةُ مِن نعمِ اللهِ، فتكاد أنْ تستنفد ذلك كلَّه، إلاَّ أنْ يتطاول الله برحمته)) .
وروى ابن أبي الدنيا (1)
بإسنادٍ فيه ضعف أيضاً عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يُؤتى بالنِّعم يومَ القيامة، وبالحسنات والسيئات، فيقول الله لنعمةٍ مِنْ نِعَمِهِ: خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنةً إلا ذهبت بها)) .
وبإسناده عن وهب بن مُنَبِّه قال: عَبَدَ الله عابدٌ خمسين عاماً، فأوحى الله - عز وجل - إليه: إني قد غفرتُ لك، قال: يا ربِّ، وما تغفر لي ولم أذنبْ؟ فأذِنَ الله - عز وجل - لِعِرْقٍ في عنقه، فضرب عليه، فلم ينم، ولم يُصلِّ (2) ، ثم سكن وقام، فأتاه مَلَكٌ، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق، فقال الملك: إنَّ ربَّك - عز وجل - يقول: عبادتُك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق (3) .
وخرَّج الحاكم (4)
هذا المعنى مرفوعاً من رواية سليمان بن هرم القرشي، عن محمد
_________
(1) في " الشكر " (24) .
وذكره الديلمي في " مسند الفردوس " (8763) .
وفيه صالح بن موسى قال عنه يحيى بن معين: ((ليس بشيء)) ، وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم: ((سألت أبي عنه)) ، فقال: ((ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً كثير المناكير عن
الثقات)) ، قلت: ((يكتب حديثه)) ؟ قال: ((ليس يعجبني حديثه)) ، وقال عنه النَّسائي
: ((لا يكتب حديثه، ضعيف)) . انظر: الجرح والتعديل 4/380 - 381 (1825) ، وتهذيب الكمال 3/437 - 438 (2827) .
وفيه أيضاً ليث بن أبي سليم سُئل عنه يحيى بن معين فقال: ((ليس حديثه بذاك ضعيف)) ، وقال عنه أبو حاتم وأبو زرعة: ((ليث لا يشتغل به، هو مضطرب الحديث)) ، وقال عنه ابن حجر: ((صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك)) .
انظر: الجرح والتعديل 7/242 (1014) ، والتقريب (5685) .
(2) عبارة: ((فلم ينم ولم يصل)) لم ترد في (ص) .
(3) في " الشكر " (148) ، ومن طريقه أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/68، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4622) .
(4) في " المستدرك " 4/250.
وأخرجه: العقيلي في "الضعفاء" 2/144 - 145، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4620) .(2/711)
بن المنكدر، عن جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ جبريل أخبره أنَّ عابداً عبد الله على رأس جبلٍ في البحر خمس مئة سنة، ثم سأل ربَّه أنْ يَقبِضَهُ وهو ساجدٌ، قال: فنحن نمُرُّ عليه إذا هبطنا وإذا عرَجنا، ونجد في العلم أنَّه يُبعث يَوْمَ القيامةِ، فيوقف بَيْنَ يدي الله - عز وجل -، فيقول الربُّ - عز وجل -: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقولُ العبدُ: يا ربِّ، بعملي، ثلاثَ مرَّات، ثم يقول الله للملائكة: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادةِ خمس مئة سنة، وبقيت نِعَمُ الجسد له، فيقول: أدخلوا عَبْديَ النار، فيجرُّ إلى النار، فينادي ربه: برحمتك أدخلني الجنَّة، برحمتك، فيدخله الجنَّة، قال جبريل: إنَّما الأشياءُ برحمة الله يا محمد. وسُليمان بن هرم، قال العقيلي: هو مجهول وحديثُه غيرُ محفوظ (1) .
وروى الخرائطي (2) بإسنادٍ فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: ((يُؤتى بالعبد يومَ القيامة، فيُوقَفُ بين يدي الله - عز وجل - فيقول للملائكة: انظرُوا في عمل عبدي ونعمتي عليه، فينظرون فيقولون: ولا بقدْرِ نعمةٍ واحدةٍ من نِعَمِكَ عليه، فيقول: انظروا في عمله سيِّئه وصالحه، فينظرون فيجدونه كَفافاً، فيقول: عبدي، قد قبلتُ حسناتِك، وغفرت لك سيِّئاتِك، وقد وهبتُ لك نعمتي فيما بين
ذلك)) .
والمقصودُ: أنَّ الله تعالى أنعمَ على عباده بما لا يُحصونَه كما قال: {وَإِنْ
_________
(1) انظر: الضعفاء 2/144 (638) ، وهذه القصة مع ضعف سندها ونكارة متنها تخالف نص القرآن: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] ، وانظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2/228.
(2) في " فضيلة الشكر " (57) .(2/712)
تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} (1) ، وطلب منهمُ الشُّكرَ، ورضي به منهم. قال سليمان التيمي: إنَّ الله أنعم على العباد على قدره، وكلَّفهم الشكر على قدرهم حتى رَضِيَ منهم مِنَ الشُّكرِ بالاعتراف بقلوبهم بنعمه (2) ، وبالحمد بألسنتهم ... عليها، كما خرَّجه أبو داود (3) والنَّسائي (4) من حديث عبد الله بن غَنَّام، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((من قال حينَ يُصبِحُ: اللهمَّ ما أَصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك، فمنك وحْدَكَ لا شريكَ لك، فلكَ الحمدُ ولك الشُّكْرُ، فقد أدَّى شُكْرَ ذلك اليومِ، ومن قالها حين يُمسي أدَّى شكر ليلته)) . وفي روايةٍ للنَّسائي عن
عبد الله بن عباس (5) .
وخرَّج الحاكم (6) من حديث عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً، فعلم أنَّها مِنْ عند الله إلا كتب الله له شُكرها قبل أنْ يَشكُرَها، وما أذنَبَ عبدٌ ذنباً، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل أنْ يستغفره)) .
_________
(1) إبراهيم: 34، والنحل: 18.
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (8) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4578) .
(3) في " سننه " (5073) .
(4) في " الكبرى " (9835) وفي " عمل اليوم والليلة "، له (7) .
وأخرجه: ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (2163) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
(4368) ، والبغوي (1328) ، وهذا الحديث حسنه ابن حجر في " نتائج الأفكار " 2/380.
(5) هذه الرواية ذكرها المزي في " تحفة الأشراف " 6/161 (8976) ، وقال: ((وهو خطأ)) وهذه الرواية أخرجها: ابن حبان (861) ، والطبراني في " الدعاء " (306) ، وقال الدكتور بشار في تعليقه على " التحفة ": ((وكذلك جزم ابن عساكر في " الأطراف " بأنه خطأ ثم قال: ((وقد وافق ابن وهب في رواية له الأكثر)) ، وقال أبو نعيم في " المعرفة "
:
((من قال فيه عن ابن عباس فقد صحَّف)) ، بل إنَّ الحافظ ابن حجر قال في " الإصابة " 2/349 في ترجمة عبد الله بن غنام: ((وله حديث في سنن أبي داود والنسائي في القول عند الصباح، وقد صحَّفه بعضهم، فقال: ابن عباس، وأخرج النسائي الاختلاف فيه)) ، لكن في " النكت الظراف " يشير إلى أنَّ القول بخطأ من قال: ((ابن عباس)) فيه نظر، وقوله في
" الإصابة " أجود، وهو الموافق لما ذهب إليه المزي)) .
(6) في " المستدرك " 1/514 و4/253.
وأخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (47) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4379) .
والحديث ضعفه الذهبي في " تلخيص المستدرك " 1/514 و4/253 على أنَّ الحاكم لم يصححه في الموضع الأول وصححه في الموضع الثاني، والصواب ما ذهب إليه الذهبي من ضعف الحديث.(2/713)
قال أبو عمرو الشيباني: قال موسى - عليه السلام - يوم الطُّورِ: يا ربِّ، إنْ أنا صلَّيتُ فمِنْ قِبَلِكَ، وإنْ أنا تصدقت فمن قبلك، وإنْ أنا بلَّغتُ رسالتَك فمن قبلك، فكيف أشكرُكَ؟ قال: الآن شكرتني (1) .
وعن الحسن قال: قال موسى - عليه السلام -: يا ربِّ، كيف يستطيع آدم أنْ يؤدِّي شكرَ ما صنعت إليه؟ خلقتَه بيدِكَ، ونفخت فيه من رُوحِكَ، وأسكنته جنَّتَكَ، وأمرتَ الملائكة فسجدوا له، فقال: يا موسى، عَلِمَ أَنَّ ذلك مني، فحمدني عليه، فكان ذلك شكراً لما صنعته (2) .
وعن أبي الجلد (3) قال: قرأتُ في مسألة داود أنَّه قال: أي ربِّ كيف لي أنْ أشكُرَكَ وأنا لا أصلُ إلى شكرك إلاَّ بنعمتك؟ قال: فأتاه الوحي: أنْ يا داود، أليس تعلمُ أنَّ الذي بك من النِّعم مني؟ قال: بلى يا ربِّ (4) ، قال: فإنِّي أرضى
بذلك منك شكراً (5) .
قال: وقرأتُ في مسألةِ موسى: يا ربِّ، كيف لي أنْ أشكركَ وأصغرُ نعمةٍ وضعتَها عندي مِنْ نِعَمِكَ لا يُجازي بها عملي كله؟ قال: فأتاه الوحيُ: أنْ يا موسى، الآن شكرتني (6) .
وقال أبو بكر بن عبد الله: ما قال عبد قطُّ: الحمدُ لله مرَّةً، إلاَّ وجبت عليه نعمةٌ بقوله: الحمد لله، فما جزاء تلك النَّعمة؟ جزاؤها أنْ يقولَ: الحمد لله، فجاءت نعمةٌ أخرى، فلا تنفد نعماءُ الله (7) .
_________
(1) أخرجه: الخرائطي في " فضيلة الشكر " (39) .
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (12) ، ومن طريقه أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (4427) .
(3) اسمه حيلان بن فروة. انظر: حلية الأولياء 6/54.
(4) ((يا رب)) لم ترد في (ص) .
(5) أخرجه: ابن أبي شيبة في " الشكر " (5) ، وأحمد بن حَنْبل في " الزهد " (375) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/56.
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (6) ، وأحمد بن حنبل في " الزهد " (349) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/56، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4415) .
(7) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (7) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4408) .(2/714)
وقد روى ابنُ ماجه (1) من حديث أنسٍ مرفوعاً: ((ما أنعمَ الله على عبدٍ نعمةً، فقال: الحمدُ لله، إلاَّ كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ)) .
وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب (2) ، عن أسماء بنت يزيد مرفوعاً أيضاً.
وروي هذا عن الحسن البصري من قوله (3) .
وكتب بعضُ عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إني بأرضٍ قد كثُرَت فيها النِّعم، حتى لقد أشفقتُ على أهلها مِنْ ضعفِ الشُّكر، فكتب إليه عُمَرُ: إنِّي قد كنتُ أراك أعلم بالله ممَّا أنتَ، إنَّ الله لم يُنعم على عبدٍ نعمةً، فحمِدَ الله عليها، إلاَّ كان
حمدُه أفضلَ من نِعَمِه، لو كنتَ لا تعرف ذلك إلاَّ في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) ، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءوهَا} إلى قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ} (5) وأيّ نعمة أفضلُ من دخول الجنَّة (6) ؟
وقد ذكر ابنُ أبي الدنيا في " كتاب الشكر " (7) عن بعض العُلماء أنَّه صوَّب هذا القولَ: أعني قولَ من قال: إنَّ الحمدَ أفضلُ من النِّعم، وعن ابن عُيينة أنَّه خطَّأ قائلَه، قال: ولا يكون فعلُ العبدِ أفضلَ من فعلِ الربِّ - عز وجل - (8) .
_________
(1) في " سننه " (3805) ، وإسناده ضعيف لضعف شبيب بن بشر.
(2) لم أقف على هذه الرواية، وشهر بن حوشب ضعيف.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (111) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4406) .
(4) النمل: 15.
(5) الزمر: 73 - 74.
(6) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/293.
(7) الشكر (11) عن الحسن.
وأخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (4586) .
(8) ذكره: المناوي في " فيض القدير " 5/547.(2/715)
ولكن الصواب قول من صوَّبه، فإنَّ المرادَ بالنعم: النعم الدنيوية، كالعافية والرِّزق والصِّحَّة، ودفع المكروه، ونحو ذلك، والحمد هو مِنَ النِّعم الدينية، وكلاهما نعمةٌ مِنَ اللهِ، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده، فإنَّ النعم الدنيوية إنْ لم يقترن بها الشُّكرُ، كانت بليةً كما قال أبو حازم: كلُّ نعمةٍ لا تقرِّبُ مِنَ الله فهي بليَّةٌ (1) ، فإذا وفَّقَ الله عبدَه للشكر على نعمه الدنيوية بالحمدِ أو غيره من أنواع الشكر، كانت هذه النعمةُ خيراً من تلك النعم وأحبَّ إلى الله - عز وجل - منها، فإنَّ الله يُحِبُّ المحامدَ، ويرضى عن عبدِه أنْ يأكلَ الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمَده عليها، والثناء بالنِّعم والحمدُ عليها وشكرُها عندَ أهل الجود والكرم أحبُّ إليهم من ... أموالهم، فهم يبذلُونَها طلباً للثناء، والله - عز وجل - أكرمُ الأكرمين، وأجودُ الأجودين، فهو يَبذُلُ نِعَمَهُ (2) لعباده، ويطلب منهم الثناءَ بها، وذكرها، والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإنْ كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غيرُ محتاجٍ إلى شكرهم، لكنَّه يُحِبُّ ذلك من عباده، حيث كان صلاحُ العبدِ وفلاحُه وكماله فيه.
ومِن فضله أنَّه نسب الحمدَ والشُّكر إليهم، وإنْ كان من أعظم نِعَمِه عليهم، وهذا كما أنَّه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، ثم استقرض منهم بعضَهُ، ومدحهم بإعطائه، والكلُّ ملكُه، ومِنْ فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك، ومِنْ هُنا يُعلم معنى الأثرِ الذي جاء مرفوعاً (3) وموقوفاً (4) : ((الحمد لله حمداً يُوافي نعمَه، ويكافئُ مزيده)) .
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (20) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/320، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4537) ، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/92.
(2) ((نعمه)) لم ترد في (ص) .
(3) ذكره المنذري بصيغة التمريض في " الترغيب والترهيب " (2334) عن ابن عمر، به مرفوعاً، وقال: ((رواه البخاري في الضعفاء)) .
(4) أخرجه: أبو الشيخ الأصبهاني في " العظمة " (1053) من طريق أبي صالح، به.(2/716)
ولنرجع الآن إلى تفسير حديث: ((كلُّ سُلامى مِنَ النَّاس عليه صدقة كُلَّ يوم تطلع فيه الشَّمسُ)) .
يعني: أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدمَ عن هذه الأعضاء في كُلِّ يومٍ من أيَّامِ الدُّنيا، فإنَّ اليوم قد يُعَبَّرُ به عن مدَّةٍ أزيدَ مِنْ ذلك، كما يقال: يوم صِفِّين، وكان مدَّةَ أيَّام، وعن مطلق الوقت كما في قوله: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} (1) . وقد يكون ذلك ليلاً ونهاراً، فإذا قيل: كلَّ يوم تطلعُ فيه الشمس، علم أنَّ هذه الصدقة على ابن آدم في كلِّ يوم يعيشُ فيه من أيام الدُّنيا، وظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الشُّكر بهذه الصَّدقة واجبٌ على المسلم كلَّ يوم، ولكن الشُّكر على درجتين:
إحداهما: واجب، وهو أنْ يأتي بالواجبات، ويجتنب المحارم، فهذا لابدَّ منه، ويكفي في شكر هذه النِّعم، ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه أبو داود من حديث أبي الأسود الدِّيلي، قال: كنا عند أبي ذرٍّ، فقال: يُصبح على كُلِّ سُلامى مِنْ أحدكم في كُلِّ يومٍ صدقة، فله بكلِّ صلاة صدقةٌ، وصيام صدقة، وحجٍّ صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، فعدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هذه الأعمال الصالحات قال: ((يجزئ أحدكم مِنْ ذلك ركعتا الضحى)) (2)
_________
(1) هود: 8.
(2) تقدم تخريجه.(2/717)
وقد تقدَّم في حديث أبي موسى (1) المخرَّج في " الصحيحين ": ((فإنْ لم يفعل، فليمسك عَنِ الشَّرِّ، فإنَّه له صدقة)) . وهذا يدلُّ على أنَّه يكفيه أنْ لا يفعل شيئاً من الشرِّ، وإنَّما يكون مجتنباً للشرِّ إذا قام بالفرائض، واجتنبَ المحارمَ، فإنَّ أعظمَ الشرِّ تركُ الفرائض، ومن هنا قال بعضُ السَّلف: الشُّكرُ ترك المعاصي (2) . وقال بعضهم: الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِنَ النِّعَمِ على معصية (3) .
وذكر أبو حازمٍ الزاهد شُكْرَ الجوارح كُلِّها، وأنْ تُكفَّ عن المعاصي وتُستعمل في الطاعات، ثم قال: وأمَّا من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كِساءٌ، فأخذ بطرفه، فلم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر (4) .
وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم: لينظر العبدُ في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصرِه ويديه ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيءٌ إلاَّ وفيه نعمةٌ من الله - عز وجل -، حقٌّ على العبد أنْ يعملَ بالنِّعم التي في بدنه لله - عز وجل - في طاعته، ونعمة أخرى في الرزق، حق عليه أنْ يعمل لله - عز وجل - فيما أنعم عليه مِنَ الرِّزق في طاعته، فمن عمل بهذا، كان قد أخذ بحزم الشُّكر وأصله وفرعه (5) . ورأى الحسن رجلاً يتبختر في مشيته، فقال: للهِ في كُلِّ عُضوٍ منه نعمة، اللهمَّ لا تجعلنا ممن يتقوَّى بنعمك على معصيتك.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه: أبن أبي الدنيا في " الشكر " (19) عن مخلد بن الحسين.
وأخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (4547) عن محمد بن لوط.
(3) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (6045) عن الجنيد بلفظ: ((الشكر أن لا يعصى الله فيما أنعم به)) .
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (129) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/246، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4564) .
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (188) .(2/718)
الدرجة الثانية من الشكر: الشكر المستحبُّ، وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث التي سبق ذكرُها، وكذلك كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في الصَّلاة، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه، فإذا قيل له: أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟)) (1) .
وقال بعضُ السَّلف: لما قال الله - عز وجل -: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} (2) ، لم يأتِ عليهم ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ إلاَّ وفيهم مصلٍّ يُصلي (3) .
وهذا مع أنَّ بعضَ هذه الأعمال التي ذكرها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واجبٌ: إمَّا على الأعيان، كالمشي إلى الصلاة عندَ من يرى وجوبَ الصَّلاة في الجماعات في المساجد، وإما على الكفاية، كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإغاثة الملهوف، والعدلِ بينَ الناسِ، إمَّا في الحكم بينهم، أو في الإصلاح. وقد روي من حديث عبد الله بن عمرو، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أفضلُ الصَّدقةِ إصلاحُ ذات البين)) (4) .
وهذه الأنواع التي أشار إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة، منها ما نفعُهُ متعدٍّ
كالإصلاح، وإعانةِ الرَّجُلِ على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها، والكلمة الطيبة، ويدخل فيها السلام، وتشميتُ العاطس، وإزالة الأذى عن الطَّريق، والأمر بالمعروف، والنَّهيُ عن المنكرِ، ودفنُ النُّخامة في المسجد، وإعانة ذي الحاجة الملهوف، وإسماع الأصمّ،
_________
(1) أخرجه: البخاري 2/63 (1130) و6/169 (4836) ، ومسلم 8/140 (2819) (79) و (80) .
(2) سبأ: 13.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الشكر " (74) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4524) عن مسعر بن كدام.
(4) أخرجه: عبد بن حميد (335) ، والبزار كما في " كشف الأستار " (2059) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1280) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (11092) ، وهو حديث ضعيف لضعف عبد الرحمان بن زياد الإفريقي، وهو يروي هنا عن شيخ مجهول.(2/719)
والبصر للمنقوص بصره، وهداية الأعمى أو غيره الطريق. وجاء في بعض روايات حديثِ أبي ذرٍّ: ((وبيانك عن الأَرتم صدقة)) يعني: من لا يُطيق الكلام (1) ، إمَّا لآفةٍ في لسانه، أو لِعُجْمة في لغته، فيُبَيِّنُ عنه ما يحتاج إلى بيانه.
ومنه ما هو قاصرُ النَّفع: كالتَّسبيحِ، والتَّكبير، والتَّحميد، والتَّهليل، والمشي إلى الصَّلاةِ، وصلاة ركعتي الضُّحى، وإنَّما كانتا مجزئتين عن ذلك كلِّه؛ لأنَّ في الصَّلاة استعمالاً للأعضاء كلِّها في الطَّاعة والعبادة، فتكون كافيةً في شكر نعمه سلامة (2) هذه الأعضاء. وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرُها استعمالٌ لبعض أعضاء البدن خاصَّةً، فلا تكمُلُ الصدقة بها حتَّى يأتيَ منها بعدد سُلامى البدن، وهي ثلاث مئة وستون كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -.
وفي " المسند " (3) عن ابنِ مسعود، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أتدرون أيُّ الصَّدقة أفضلُ وخير؟)) قالوا: الله ورسولُه أعلمُ. قال: ((المِنحة: أنْ تمنح أخاك الدَّراهم، أو ظهرَ الدابَّةِ، أو لبنَ الشَّاةِ أو لبنَ البقرة)) . والمراد بمنحة الدراهم: قرضُها، وبمنحة ظهر الدَّابةِ إفقارها، وهو إعارتها لمن يركبُها، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أنْ يمنحه بقرةً أو شاةً ليشربَ لبنها ثمَّ يعيدها إليه، وإذا أطلقت المنيحةُ، لم تنصرِفْ إلاَّ إلى هذا.
وخرَّج الإمام أحمد (4) والترمذي (5) من حديث البراء بن عازبٍ، عن
_________
(1) انظر: لسان العرب 5/133 (رتم) .
(2) عبارة: ((نعمه سلامة)) لم ترد في (ص) .
(3) 1/463، وإسناده ضعيف لضعف إبراهيم الهجري.
(4) في " المسند " 4/285 و286 و296 و300 و304.
(5) في " جامعه " (1957) ، وقال: ((حسن صحيح)) .(2/720)
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من منح منيحة لبن، أو وَرِقٍ، أو هدى زُقاقاً، كان له مثلُ عِتْقِ رقبةٍ)) وقال الترمذي: معنى قوله: ((من منح منيحة وَرِق)) إنَّما يعني به قرض الدراهم، وقوله: ((أو هدى زقاقاً)) إنَّما يعني به هداية الطريق، وهو إرشادُ السبيل.
وخرَّج البخاري (1) من حديث حسّان بن عطية، عن أبي كبشةَ السَّلولي، قال: سمعتُ عبد الله بنَ عمرٍو يقول: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعون خَصلةً، أعلاها منيحة (2) العنْز (3) ، ما مِنْ عاملٍ يعملُ بخصلةٍ منها رجاءَ ثوابها، وتصديقَ
موعودها، إلاَّ أدخله الله بها الجنة)) . قال حسان: فعددنا ما دونَ منيحة العنْزِ من ردِّ السَّلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطَّريق ونحوه، فما استَطعنا أنْ نبلُغَ خمس عشرة خصلة.
وفي " صحيح مسلم " (4) عن جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((حقُّ الإبل حلبُها على الماء، وإعارةُ دلوها، وإعارةُ فحلها، ومنيحتها، وحملٌ عليها في سبيل الله)) .
_________
(1) في " صحيحه " 3/217 (2631) .
(2) قال ابن حجر: ((والمنيحة بالنون المهملة وزن عطية هي في الأصل العطية، قال أبو عبيد: المنيحة عند العرب على وجهين أحدهما: أنْ يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر: أنْ يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحليبها ووبرها زماناً ثم يردها)) . انظر: فتح الباري 5/299.
(3) قال ابن حجر: ((بفتح المهملة وسكون النون بعدها زاي معروفة وهي واحدة المعز)) . انظر: فتح الباري 5/301.
(4) الصحيح 3/74 (988) (28) .(2/721)
وخرَّج الإمامُ أحمد (1) من حديث جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كلُّ معروفٍ صدقةٌ، ومِنَ المعروف أنْ تلقَى أخاكَ بوجهٍ طلقٍ، وأنْ تُفرِغَ من دلوك في إنائه)) . وخرَّجه الحاكم (2)
وغيره بزيادة، وهي: ((وما أنفق المرءُ على نفسه وأهلِه، كُتِبَ له به صدقةٌ، وما وقى به عرضَه كُتِبَ له به صدقة، وكُلُّ نفقةٍ أنفقها مؤمن، فعلى الله خَلَفُها ضامن إلاَّ نفقةً في معصيةٍ أو بنيانٍ)) .
وفي " المسند " (3) عن أبي جُري الهُجيمي، قال: سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المعروف، فقال: ((لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أنْ تُعْطيَ صِلةَ الحبلِ، ولو أنْ تُعطي شِسْعَ النَّعلِ، ولو أنْ تُفرِغَ من دلوكَ في إناء المستسقي، ولو أنْ تُنَحِّي الشَّيءَ مِنْ طريق النَّاسِ يؤذيهم، ولو أنْ تلقى أخاكَ ووجهُك إليه منطلق، ولو أنْ تلقى أخاك فتسلِّمَ عليه، ولو أنْ تُؤْنِسَ الوحشان في الأرض)) .
ومِنْ أنواع الصَّدقة: كفُّ الأذى عن النَّاس باليد واللسان، كما في
" الصحيحين " عن أبي ذرٍّ (4) ، قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قالَ
: ((الإيمانُ بالله، والجهاد في سبيله)) قلتُ: فإنْ لم أفعل؟ قال: ((تُعين صانعاً،
_________
(1) في " مسنده " 3/344 و360، وإسناده ضعيف لضعف المنكدر بن محمد بن المنكدر لكن للحديث شواهد يتقوى بها، والله أعلم.
(2) في " المستدرك " 2/50.
وأخرجه: أبو يعلى (2040) ، والدارقطني في " سننه " (2872) ، والقضاعي في ... " مسند الشهاب " (94) ، والبيهقي 10/242، ورواية الحاكم في سندها عبد الحميد بن الحسن الهلالي ضعيف، وتوبع في بعض المصادر بمن هو مثله من الضعفاء.
(3) المسند 3/482 و4/65، وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه: البخاري 3/188 - 189 (2518) ، ومسلم 1/61 (84) (136) .(2/722)
أو تصنع لأخرق (1)) ) ، قلت: أرأيت إنْ ضعُفت عن بعضِ العمل؟ قال: ((تكفُّ شرَّكَ عن النَّاسِ، فإنها صدقة)) .
وفي " صحيح ابن حبان " (2) عن أبي ذرٍّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، دُلَّني على عملٍ، إذا عملَ به العبدُ دخلَ به الجنَّةَ، قال: ((يُؤمِنُ بالله)) قلت:
يا رسولَ الله، إنَّ مع الإيمان عملاً؟ قالَ: ((يرضخُ (3) ممَّا رزقه الله)) ، قلت: وإنْ كانَ معدماً لا شيء لهُ؟ قالَ: ((يقول معروفاً بلسانه)) ، قلتُ: فإنْ كانَ عيياً لا يُبلغُ عنه لسانُه؟ قال: ((فيُعين مغلوباً)) ، قلت: فإنْ كان ضعيفاً لا قُدرةَ له؟ قال: ((فليصنع لأخرق)) ، قلت: فإنْ كان أخرقَ؟ فالتفت إليَّ، فقال: ((ما تريدُ أنْ تدعَ في صاحبك شيئاً مِنَ الخيرِ؟ فليدع النَّاس من أذاه)) ، قلتُ: يا رسول الله، إنَّ هذا كلَّه ليسيرٌ، قال: ((والذي نفسي بيده، ما مِنْ عبدٍ يعملُ بخصلةٍ منها يُريد بها ما عندَ الله، إلا أَخذت بيده يومَ القيامة حتى يدخل الجنَّة)) .
فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلِّها إخلاص النية كما في حديث
عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلةً (4) ، وهذا كما في قوله - عز وجل -: {لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (5) .
_________
(1) الأخرق الذي لا صنعة له. انظر: شرح السنة عقيب حديث (2418) . ...
(2) الإحسان (373) .
وأخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (941) ، والطبراني في " الكبير " (1650) ، والحاكم 1/63، والبيهقي في " شعب الإيمان " (3327) ، وجميع أسانيده ضعيفة.
(3) الرَّضخُ: العطية القليلة. انظر: النهاية 2/228.
(4) سبق تخريجه.
(5) النساء: 114.(2/723)
وقد رُوي عن الحسن، وابن سيرين أنَّ فعلَ المعروف يُؤجَرُ عليه، وإنْ لم يكن له فيه نيّة. سئل الحسنُ عن الرَّجلِ يسألُه آخَرُ حاجةً وهو يُبغِضُهُ، فيُعطيه حياءً: هل له فيه أجر؟ فقال: إنَّ ذلك لمن المعروف، وإنَّ في المعروف لأجراً. خرَّجه حميدُ بنُ زنجويه.
وسُئِلَ ابنُ سيربن عن الرجل يتبع الجنازة، لا يتبعها حسبةً، يتبعها حياءً من أهلها: أله في ذلك أجرٌ؟ فقالَ: أجرٌ واحد؟ بل لهُ أجران: أجرٌ لِصلاته على أخيه، وأجرٌ لصلته الحيّ. خرَّجه أبو نعيم في " الحلية " (1) .
ومن أنواع الصدقة: أداءُ حقوق المسلم على المسلم، وبعضُها مذكورٌ في الأحاديث الماضية، ففي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ... ((حقُّ المسلم على المسلمِ خمسٌ، ردُّ السَّلامِ، وعيادةُ المريض، واتِّباعُ الجنائز، وإجابةُ الدَّعوة، وتشميتُ العاطس)) وفي روايةٍ لمسلم (3) : ((للمسلم على المسلم سِتٌّ)) ، قيل: ما هُنَّ يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته تُسلِّمُ عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك، فانصح له، وإذا عطس فَحَمِدَ الله، فشمِّته، وإذا مَرِضَ فعُدْهُ، وإذا مات فاتَّبعه)) .
_________
(1) الحلية 2/264.
(2) أخرجه: البخاري 2/90 (1240) ، ومسلم 7/3 (2162) (4) .
(3) في " صحيحه " 7/2 (2162) (5) .(2/724)
وفي " الصحيحين " (1) عن البراء قال: أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع: بعيادةِ
المريض واتِّباع الجنازة، وتَشميتِ العاطس، وإبرارِ القسم، ونصر المظلوم،
وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. وفي روايةٍ لمسلم (2) : وإرشاد الضال، بدل إبرار القسم.
ومن أنواع الصَّدقة: المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم، قال ابن عباس: من مشى بحقِّ أخيه إليه ليقضيه، فله بكلِّ خطوة صدقة (3) .
ومنها: إنظارُ المعسر، وفي " المسند " (4) و" سنن ابن ماجه " (5) عن بُريدة مرفوعاً:
_________
(1) صحيح البخاري 2/90 (1239) و3/168 (2445) ، وصحيح مسلم 6/134
(2066) (3) .
(2) في " صحيحه " 6/134 (2066) (3) .
(3) أخرجه: المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (823) .
(4) المسند 5/351 و360 والحديث صحيح.
(5) السنن (2418) .(2/725)
((من أنظرَ معسراً، فله بكلِّ يوم صدقة قبل أنْ يَحُلَّ الدَّيْنُ، فإذا حلَّ الدين، فأنظره بعد ذلك، فله بكلِّ يوم مثله صدقة)) .
ومنها: الإحسّان إلى البهائم، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عن سقيها، فقال: ((في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجر)) (1) ، وأخبر أنَّ بغيّاً سقت كلباً يلهثُ مِن العطش، فغفر لها (2) .
وأمَّا الصَّدقة القاصرةُ على نفس العامل بها، فمثل أنواع الذكر مِن التَّسبيح،
والتكبير، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، والصلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك
تلاوةُ القرآن، والمشي إلى المساجد، والجلوسُ فيها لانتظار الصلاة، أو لاستماع الذكر.
ومن ذلك: التَّواضعُ في اللِّباس، والمشي، والهدي، والتبذل في المهنة، واكتساب الحلال، والتحرِّي فيه.
ومنها أيضاً: محاسبةُ النفس على ما سلف من أعمالها، والندم والتوبة من الذنوب السالفة، والحزن عليها، واحتقار النفس، والازدراء عليها، ومقتها في الله - عز
_________
(1) أخرجه: مالك في " الموطأ " (2688) برواية يحيى الليثي، وأحمد 2/375 و517، والبخاري 3/146 - 147 (2363) و3/173 - 174 (2466) ، و8/11 (6009) وفي " الأدب المفرد "، له (378) ، ومسلم 7/43 (2244) (153) ، وأبو داود
(2550) ، وأبو عوانة 3/365 و366، وابن حبان (544) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " (113) ، والبيهقي 4/185 - 186 و8/14، والبغوي (384) . ...
(2) أخرجه: أحمد 2/507 و510، والبخاري 4/158 (3321) ، ومسلم 7/43 (2245) (154) و (155) ، وأبو يعلى (6035) و (6044) ، وابن حبان (386) ، والبيهقي 8/14، والبغوي (1666) من حديث أبي هريرة، به.(2/726)
وجل -، والبكاء من خشية الله تعالى، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أمور الآخرة، وما فيها مِنَ الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب، كالخشية، والمحبَّةِ، والرَّجاء، والتوكُّل، وغير ذَلِكَ. وقد قيل: إنَّ هذا التفكُّر أفضلُ من نوافل الأعمال البدنية، روي ذَلِكَ عن غير واحد من التَّابعين، منهم: سعيدُ بن المسيب (1) ، والحسن (2) ، وعمر بن
عبد العزيز، وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليهِ. وقال كعب: لأنْ أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بوزني ذهباً (3) .
_________
(1) انظر: الطبقات لابن سعد 5/102، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/161 - 162، والزهد الكبير للبيهقي (830) .
(2) انظر: الزهد لهناد (945) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/134.
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة (35544) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/366، وابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/138، والمزي في " تهذيب الكمال " 6/170 (5569) .(2/727)
الحديث السابع والعشرون
عَنِ النَّواسِ بنِ سَمعانِ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ: ما حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)) . رواهُ مسلمٌ (1) .
وعَنْ وابِصَةَ بن مَعْبَدٍ قال: أتيتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: ((جِئْتَ تَسأَلُ عن البرِّ والإثمِ؟)) قُلْتُ: نعَمْ، قال: ((استَفْتِ قَلْبَكَ، البرُّ ما اطمأنَّتْ إليهِ النَّفْسُ، واطمأنَّ إليهِ القلبُ، والإثمُ ما حَاكَ في النَّفسِ، وتَردَّدَ في الصَّدْرِ، وإنْ أفتاكَ النَّاسُ وأَفْتوكَ)) (2) .
قال الشيخ - رحمه الله -: حديثٌ حسنٌ رويناه في " مسنَدَي " الإمامين أحمد والدَّارميِّ (3) بإسنادٍ حسنٍ.
أما حديث النوَّاس بن سمعان، فخرَّجه مسلم من رواية معاوية بن صالح، عن
عبد الرحمان بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النوَّاس، ومعاوية وعبد الرحمان وأبوه تفرَّد بتخريج حديثهم مسلم دونَ البخاري (4) .
وأما حديث وابصة فخرَّجه الإمام أحمد من طريق حماد بنِ سلمة، عن الزبير ابن
_________
(1) في " صحيحه " 8/6-7 (2553) (14) و (15) .
وأخرجه: أحمد 4/182، والدارمي (2792) و (2793) ، والبخاري في "الأدب المفرد" (295) و (302) ، والترمذي (2389) ، والطحاوي في "شرح المشكل" (2138) ، وابن حبان (397) ، والطبراني في " مسند الشاميين " (980) و (2023) ، والحاكم 2/14، والبيهقي 10/192 وفي " شعب الإيمان "، له (7273) و (7994) ، والبغوي
(3494) من حديث النواس بن سمعان، به.
(2) أخرجه: أحمد 4/228، والدارمي (2533) ، وأبو يعلى (1586) و (1857) ، والطحاوي في " شرح المشكل " (2139) ، والطبراني في " الكبير " 22/ (403) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/24 و6/255، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/292 - 293، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 65/259 من حديث وابصة بن معبد، به.
(3) كتاب الدارمي طبع طبعات عديدة، وأغلب تلك الطبعات باسم " سنن الدارمي " وطبع طبعة أخرى باسم " المسند الجامع "، وذكر المحقق أنَّه هكذا وجد اسم الكتاب على النسخ الخطية التي اعتمد عليها وذكر أنَّ التسمية التي أطلقها الدارمي على كتابه هي المسند من باب أنَّ أحاديثه مروية بالإسناد كما يقال "مسند أبي عوانة"، وهو مرتب على أبواب الفقه، وكذا "مسند السراج"، والبخاري ومسلم وابن خزيمة وضعوا المسند من ضمن عناوين كتبهم للمعنى الآنف الذكر، والله أعلم.
(4) تقدم تخريجه.(2/729)
عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مِكرز، عن وابصة بن معبد، قال: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريدُ أنْ لا أدع شيئاً من البرِّ والإثم إلاَّ سألتُ عنه،
فقال لي: ((ادنُ يا وابصةُ)) ، فدنوتُ منه، حتّى مست ركبتي ركبتَه، فقال
: ((يا وابصة أُخبرك ما جئتَ تسأل عنه أو تسألني؟)) قلت: يا رسول الله
أخبرني، قالَ: ((جئتَ تسألني عن البرِّ والإثم)) ، قلت: نعم، فجمع
أصابعَه الثلاث، فجعل يَنكُتُ بها في صدري، ويقول: ((يا وابصة،
استفتِ نفسَك، البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلب، واطمأنَّت إليه النفسُ، والإثمُ:
ما حاك في القلبِ، وتردَّد في الصَّدر وإنْ أفتاك الناسُ وأفتوك)) (1) . وفي
روايةٍ أخرى للإمام أحمد (2) أنَّ الزبيرَ لم يسمعه من أيوب، قال: وحدَّثني
جلساؤه، وقد رأيتُه، ففي إسناد هذا الحديث أمران يُوجب كلٌّ منهما
ضعفه:
أحدهما: انقطاعه بين الزبير وأيوب؛ فإنَّه رواه عن قوم لم يسمعهم.
والثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني: روى أحاديث مناكير، وضعفه ابن حبان أيضاً، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام، فأخطأ في اسمه، وله طريق آخر عن وابصة خرَّجه الإمام أحمد (3) أيضاً من رواية معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله السلمي، قال: سمعتُ وابصةَ، فذكر الحديث مختصراً، ولفظه: قال: ((البرُّ ما انشرحَ له صدُرك، والإثمُ ما حاك في صدرك، وإنْ أفتاك عنه الناس)) .
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في " مسنده " 4/228.
(3) في " مسنده " 4/227 من طريق أبي عبد الله السُّلَمي، عن وابصة بن معبد، به.
وقد وقع في " مسند الإمام أحمد " - رحمه الله -: ((أبو عبد الرحمان السلمي)) بدل ((أبو عبد الله السلمي)) ، وانظر: تعجيل المنفعة (331) ، وأطراف المسند 5/438.(2/730)
والسُّلمي هذا: قال عليُّ بن المديني: هو مجهول.
وخرَّجه البزار (1) والطبراني (2) وعندهما أبو عبد الله الأسدي، وقال البزار (3) : لا نعلم أحداً سماه، كذا قال، وقد سمي في بعض الروايات محمداً. قال عبد الغني ابن سعيد الحافظ: لو قال قائلٌ: إنَّه محمد بن سعيد المصلوب، لما دفعتُ ذلك، والمصلوب هذا صلبه المنصورُ في الزَّندقة، وهو مشهورٌ بالكذب والوضع، ولكنه لم يدرك وابصةَ (4) ، والله أعلم.
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعدِّدة وبعضُ طرقه جيدة، فخرَّجه الإمامُ أحمدُ (5) ، وابن حبان في " صحيحه " (6) من طريق يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جدِّه ممطور، عن أبي أُمامة، قال: قال رجلٌ:
يا رسولَ الله، ما الإثم؟ قالَ: ((إذا حاك في صدرك شيءٌ فدعه)) وهذا إسنادٌ جيِّدٌ على شرط مسلم، فإنَّه خرَّج حديث يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، وأثبت أحمد سماعَه منه، وإنْ أنكره ابنُ معين.
وخرَّج الإمام أحمد (7) من رواية عبد الله بن العلاء بن زَبْر: سمعتُ مسلم
_________
(1) كما في " كشف الأستار " (183) من طريق أبي عبد الله الأسدي، عن وابصة بن معبد، به.
(2) في " الكبير " 22/ (402) .
(3) كما في " كشف الأستار " عقيب (183) .
(4) انظر: تهذيب الكمال 6/322 (5832) .
(5) في " مسنده " 5/251 و252 و255 - 256.
(6) الإحسان (176) .
(7) في " مسنده " 4/194.(2/731)
بن مِشْكَم قال: سمعتُ أبا ثعلبة الخشني يقول: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني ما يحلُّ لي وما يحرُمُ عليَّ، فقال: ((البرُّ ما سَكَنَتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثم ما لم تسكن إليه النَّفسُ، ولم يطمئنَّ إليه القلب، وإنْ أفتاك المفتون)) ، وهذا أيضاً إسنادٌ جيد، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور (1) ، وخرَّجه البخاري (2) ، ومسلم بن مِشْكَم ثقةٌ مشهورٌ أيضاً (3) .
وخرَّج الطبراني (4)
وغيرُه بإسنادٍ ضعيفٍ من حديث واثلة بن الأسقع قال: قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أفتني عن أمرٍ لا أسألُ عنه أحداً بعدَك، قال: ((استفت نفسَك)) ، قلت: كيف لي بذاك؟ قالَ: ((تدعُ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك، وإنْ أفتاك المفتون)) ، قلتُ: وكيف لي بذاك؟ قال: ((تضعُ يدكَ على قلبك، فإنَّ الفؤاد يسكن للحلالِ، ولا يسكن للحرام)) . ويُروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسنادٍ ضعيفٍ أيضاً.
وروى ابنُ لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب (5) : أنَّ سويدَ بن قيسٍ أخبره عن
عبد الرحمان بن معاوية: أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما يَحِلُّ
لي مما يحرمُ عليَّ؟ وردَّدَ عليهِ ثلاث مِرارٍ، كلَّ ذَلِكَ يسكتُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قالَ
: ((أين السائل؟)) فقالَ: أنا ذا يا رسول الله، فقالَ بأصابِعه: ((ما أنكر
قلبُك فدعه)) . خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " (6) ، وقال: لا
أدري عبد الرحمان بن معاوية سمع من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث.
قلتُ: هو عبد الرحمان بن معاوية بن حديج جاء منسوباً في كتاب " الزهد " لابن المبارك، وعبد الرحمان هذا تابعيٌّ مشهور، فحديثه مرسل.
_________
(1) انظر: تهذيب الكمال 4/233 - 234 (3458) .
(2) أي: خرج له البخاري في " صحيحه "، وانظر: التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الصحيح 2/844 (848) للباجي.
(3) انظر: تهذيب الكمال 7/105 - 106 (6538) .
(4) في " الكبير " 22/ (193) .
وأخرجه: أبو يعلى (7492) من حديث واثلة بن الأسقع، به.
انظر: مجمع الزوائد 10/294.
(5) انظر: تهذيب الكمال 8/118.
(6) نسبة السيوطي في " الجامع الكبير " 2/561 إلى البغوي في " معجمه " وذكر قوله.
وأخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (824) عن عبد الرحمان بن معاوية، مرسلاً.(2/732)
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال: الإثم حوازُّ القلوب (1) ، واحتجَّ به
الإمام أحمد، ورواه عن جرير، عن منصور، عن محمد بن عبد الرحمان، عن
أبيه، قال: قال عبد الله: إياكم وحزَّاز القلوب، وما حزَّ في قلبك من شيءٍ فدعه (2) .
وقال أبو الدرداء: الخير في طمأنينة، والشرُّ في ريبة (3) .
وروي عن ابن مسعود من وجهٍ منقطعٍ أنَّه قيل له: أرأيتَ شيئاً يَحيكُ في
صدورنا، لا ندري حلال هو أم حرامٌ؟ فقال: إيَّاكم والحَكَّاكَاتِ، فإنَّهنَّ ... الإثم (4) ، والحَزُّ والحكُّ متقاربان في المعنى، والمراد: ما أثَّر في القلب ضِيقاً وحَرجاً، ونُفوراً وكراهة (5) .
فهذه الأحاديثُ اشتملت على تفسير البرِّ والإثم، وبعضُها في تفسير الحلال
والحرام، فحديثُ النَّوَّاس بن سمعان فسَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه البرَّ بحُسن الخلق (6) ، وفسَّره في حديث وابصة وغيره بما اطمأنَّ إليه القلب والنفس (7) ، كما فسَّر الحلالَ بذلك في حديث أبي ثعلبة. وإنَّما اختلف تفسيرُه للبر؛ لأنَّ البرَّ يُطلق باعتبارين معينين:
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/134 - 135.
(3) سبق تخريجه.
(4) ذكره ابن الأثير في " النهاية " 1/418.
(5) انظر: النهاية 1/377 و418.
(6) سبق تخريجه.
(7) سبق تخريجه.(2/733)
أحدُهما: باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم، وربما خصَّ بالإحسانِ إلى الوالدين، فيقال: برُّ الوالدين، ويطلق كثيراً على الإحسان إلى الخلق عموماً، وقد صنّف ابنُ المبارك كتاباً سماه كتاب " البر والصلة "، وكذلك في "صحيح البخاري" و" جامع الترمذي ": كتاب " البر والصلة "، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموماً، ويقدَّم فيه برُّ الوالدين على غيرهما. وفي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنَّه قال: يا رسول الله مَنْ أبرُّ؟ قالَ: ((أمك)) ، قالَ: ثُمَّ من؟ قال: ((ثم أباك)) ، قال: ثم من؟ قالَ: ((ثُمَّ الأقرب فالأقرب)) (1) .
ومن هذا المعنى: قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الحجُّ المبرور ليس لهُ جزاءٌ إلاَّ الجنَّة)) (2) . وفي " المسند " (3) : أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن برِّ الحجِّ، فقال: ((إطعامُ الطَّعام، وإفشاءُ السلام)) ، وفي روايةٍ أخرى: ((وطيبُ الكلام)) (4) .
وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول: البرُّ شيءٌ هيِّنٌ: وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ (5) .
وإذا قرن البرُّ بالتَّقوى، كما في قوله - عز وجل -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ... وَالتَّقْوَى} (6) ،
_________
(1) أخرجه: معمر في " جامعه " (20121) ، وأحمد 5/3 و5، والبخاري في ... " الأدب المفرد " (3) ، وأبو داود (5139) ، والترمذي (1897) من طرق عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، به، ورواية بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده من شرط الحسن، لذا قال الترمذي: ((حديث حسن)) .
(2) أخرجه: البخاري 3/2 (1773) ، ومسلم 4/107 (1349) (437) من حديث أبي هريرة، به.
(3) المسند 3/325 و334، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن ثابت.
(4) أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (5325) ، والحاكم 1/483، من حديث جابر بن
عبد الله، به، ورواية الطبراني فيها عبد الله بن محمد العبادي وهو ضعيف ورواية الحاكم فيها أيوب بن سويد الرملي، وقد تفرد بهذا الحديث كما نص عليه البيهقي في " السنن الكبرى " 5/262، وهو ضعيف وقد ساقه ابن عدي من ضمن مناكيره 2/31.
(5) أخرجه: الخرائطي في " مكارم الأخلاق ": 23 - 24.
(6) المائدة: 2.(2/734)
فقد يكون المرادُ بالبرِّ معاملةَ الخلق بالإحسّان، وبالتَّقوى: معاملة الحقِّ بفعل طاعته، واجتناب محرَّماته، وقد يكونُ أُريد بالبرِّ: فعل الواجبات، وبالتقوى: اجتناب المحرَّمات (1) ، وقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} (2) قد يُراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظُلم الخلق، وقد يُراد بالإثم: ما هو محرَّم في نفسه كالزِّنى، والسرقة، وشُرب الخمر، وبالعُدوان: تجاوز ما أذن فيه إلى ما نُهي عنه ممَّا جنسُه مأذونٌ فيه، كقتل مَن أُبيح قتلُه لِقِصاصٍ، ومن لا يُباح، وأخذُ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك (3) .
والمعنى الثاني من معنى البرِّ: أنْ يُراد به فعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة (4) ، كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (5) ، وقد رُوي أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية (6) .
فالبرُّ بهذا المعنى يدخل فيه جميعُ الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبُّه الله، وإقام الصَّلاة،
_________
(1) انظر: تفسير البغوي 2/9، وتفسير ابن الجوزي 2/277، وتفسير ابن كثير: 572 (ط. دار ابن حزم) .
(2) المائدة: 2.
(3) انظر: تفسير البغوي 2/9، وتفسير ابن الجوزي 2/277، وتفسير ابن كثير: 572 (ط. دار ابن حزم) .
(4) تفسير ابن كثير: 572 (ط. دار ابن حزم) .
(5) البقرة: 177.
(6) أخرجه: ابن أبي حاتم في " تفسيره " 1/287 (1539) .(2/735)
وإيتاء
الزّكاة، والوفاء بالعهد، والصَّبرِ على الأقدار، كالمرض والفقر، وعلى الطَّاعات، كالصَّبر عِند لقاءِ العدوِّ.
وقد يكون جوابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث النوَّاس (1) شاملاً لهذه الخصال
كلِّها؛ لأنَّ حُسنَ الخُلق قد يُراد به التخلُّقُ بأخلاق الشريعة، والتأدُّبُ بآداب الله التي أدَّبَ بها عبادَه في كتابه، كما قال تعالى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (2) ، وقالت عائشة: كان خُلُقُه - صلى الله عليه وسلم - القرآن (3) ، يعني: أنَّه يتأدَّب بآدابه، فيفعل أوامرَه ويجتنب نواهيه، فصار العملُ بالقرآن له خُلقا كالجبلَّة والطَّبيعة لا يُفارِقُه، وهذا أحسنُ الأخلاق وأشرفُها وأجملُها (4) .
وقد قيل: إنَّ الدِّين كلَّه خُلُقٌ. وأما في حديث وابصة، فقال: ((البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلبُ، واطمأنت إليه النفس)) (5) ، وفي رواية: ((ما انشرح إليه
الصَّدرُ)) (6) ، وفسر الحلالَ بنحوِ ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره، وهذا يدلُّ على أنَّ الله فطرَ عبادَه على معرفة الحق، والسكون إليه وقبوله، وركَّز في الطباع محبةَ ذلك، والنفور عن ضدِّه.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) القلم: 4.
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر: حاشية السندي على سنن النسائي 3/200.
(5) سبق تخريجه.
(6) سبق تخريجه.(2/736)
وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمار: ((إني خلقتُ عبادي حنفاءَ مسلمين، فأتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، فحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتهُم أنْ يُشرِكوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً)) (1) .
وقوله: ((كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ، فأبواه يهوِّدانه، وينصِّرانه، ويمجِّسانه، كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تُحِسُّونَ فيها من جدعاء؟)) قال أبو هريرة: اقرؤوا إنْ شئتم: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} (2) .
ولهذا سمَّى الله ما أمرَ به معروفاً، وما نهى عنه منكراً، فقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (3) ، وقال في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4) ، وأخبر أنَّ قلوب المؤمنين تطمئنُّ بذكره، فالقلبُ الذي دخله نورُ الإيمان، وانشرح به وانفسح، يسكن للحقِّ، ويطمئن به ويقبله، وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله (5) .
قال معاذ بن جبل: أحذركم زيغةَ الحكيم، فإنَّ الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فقيل لمعاذ: ما يُدريني أنَّ الحكيمَ قد يقول كلمة الضلالة، وأنَّ المنافق يقول كلمةَ الحقِّ؟ قال: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يُقال: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنَّه لعلَّه أنْ يُراجع، وتَلَقَّ الحقَّ إذا سمعته، فإنَّه على الحقِّ نوراً، خرَّجه أبو داود (6) . وفي روايةٍ له قال: بل ما تشابه عليك من قول الحكيمِ حتَّى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟ (7)
فهذا يدل على أنَّ الحقَّ والباطل لا يلتبِسُ أمرُهما على المؤمن البصير،
بل يعرف
_________
(1) أخرجه: مسلم 8/158 (2865) (63) عن عياض بن حِمَار المجاشعي، به.
(2) الروم: 30. =
= ... والحديث أخرجه: معمر في " جامعه " (20087) ، وأحمد 2/233 و275 و315، والبخاري 1/118 (1358) و (1359) و8/153 (6599) ، ومسلم 8/52
(2658) (22) و8/53 (2658) (24) ، وابن حبان (130) ، والبيهقي 6/203، والخطيب في " تأريخه " 3/308، والبغوي (84) من حديث أبي هريرة، به. ...
(3) النحل: 90.
(4) الأعراف: 157.
(5) انظر: تفسير البغوي 3/20، وتفسير ابن كثير: 1012 (ط. دار ابن حزم) .
(6) في " السنن " (4611) . وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/232 - 233 عن معاذ بن جبل، به.
(7) أخرجه: أبو داود (4611) عن معاذ بن جبل، به.(2/737)
الحقَّ بالنُّور الذي عليه، فيقبله قلبُه، ويَنفِرُ عن الباطل، فينكره ولا
يعرفه، ومِنْ هذا المعنى قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((سيكون في آخر الزَّمان قوم يحدِّثونَكم
بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإياهم)) (1) ، يعني: أنَّهم يأتون بما
تستنكره قلوبُ المؤمنين، ولا تعرفه، وفي قوله: ((أنتم ولا آباؤكم)) إشارةٌ
إلى أنَّ ما استقرَّت معرفتُه عند المؤمنين مع تقادُمِ العهد وتطاول الزَّمان، فهو الحقُّ، وأنَّ ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر، فلا خيرَ فيه.
فدلَّ حديثُ وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، فما إليه سكن القلبُ، وانشرح إليه الصَّدرُ، فهو البرُّ والحلالُ، وما كان خلافَ ... ذلك، فهو الإثم والحرام.
_________
(1) أخرجه: مسلم 1/9 (6) (6) ، وابن حبان (6766) ، والحاكم 1/103، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/550، والبغوي (107) من حديث أبي هريرة، به.
وأخرجه: مسلم 1/9 (7) (7) بنحوه عن أبي هريرة، به.(2/738)
وقوله في حديث النوَّاس: ((الإثم ما حاك في الصدر، وكرِهتَ أنْ يطَّلع عليه الناس)) (1) إشارةٌ إلى أنَّ الإثم ما أثَّر في الصدر حرجاً، وضيقاً، وقلقاً، واضطراباً، فلم ينشرح له الصَّدرُ (2) ، ومع هذا، فهو عندَ النَّاسِ مستنكرٌ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عندَ الاشتباه، وهو ما استنكره النَّاس على فاعلِه وغير فاعله.
ومن هذا المعنى قولُ ابن مسعود: ما رآه المؤمنون حسناً، فهو عند الله
حسن، وما رآه المومنون قبيحاً، فهو عند الله قبيح (3) .
وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة: ((وإنْ أفتاك المفتون)) يعني: أنَّ ما
حاك في صدر الإنسان، فهو إثمٌ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ، فهذه مرتبةٌ
ثانيةٌ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكراً عندَ فاعله دونَ غيره، وقد جعله أيضاً إثماً، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي
له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، فأمَّا ما كان مع المفتي به
دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له
صدرُه، وهذا كالرخص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصر
الصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 8/289.
(3) أخرجه: الطيالسي (246) ، وأحمد 1/379، والبزار (1816) ، والطبراني في ... " الكبير " (8583) و (8593) ، والحاكم 3/78 - 79، وأبو نعيم في " الحلية " 1/375 - 376، والبغوي (105) من قول عبد الله بن مسعود، به.
انظر: مجمع الزوائد 1/177 - 178.(2/739)
وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب منْ ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة (1) ، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم (2) .
وفي الجملة، فما ورد النصُّ به، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) .
وينبغي أنْ يتلقى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا، فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به، والتَّسليمُ له، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (4) .
وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيءٌ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلاَّ من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه، بل هو معروفٌ باتباع الهوى، فهنا
_________
(1) انظر: زاد المعاد 2/178، وفتح الباري 5/425 - 426.
(2) أخرجه: البخاري 3/252 (2731) و (2732) من طريق المسور بن مخرمة ومروان، به.
(3) الأحزاب: 36.
(4) النساء: 65.(2/740)
يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره، وإنْ أفتاه هؤلاء
المفتون (1) .
وقد نصَّ الإمامُ أحمد على مثل هذا، قال المروزي في كتاب "الورع" (2) : قلتُ لأبي عبد الله: إنَّ القطيعة أرفقُ بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من أمرها شيءٌ، فقال: أمرُها أمرٌ قذر متلوِّث، قلت: فتكره العملَ فيها؟ قال: دع ذا عنك إنْ كان لا يقعُ في قلبك شيء، قلت: قد وقع في قلبي منها، قال: قال ابن مسعود: الإثم حوازُّ القلوب (3) . قلت: إنَّما هذا على المشاورة؟ قال: أيُّ شيءٍ يقع في قلبك؟ قلت: قد اضطربَ عليَّ قلبي، قال: الإثم حَوازُّ القلوب.
وقد سبق في شرح (4) حديث النُّعمان بن بشير: ((الحلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ
بيِّنٌ)) (5) ، وفي شرح حديث الحسين بن علي: ((دع ما يريبُك إلى ما لا
يريبُك)) (6) ، وشرح حديث: ((إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت)) (7) شيءٌ يتعلَّقُ بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا.
_________
(1) انظر: البرهان في أصول الفقه 2/883، وتحفة المسؤول في مختصر منتهى السول 4/257 - 259، وإرشاد الفحول: 844.
(2) الورع (156) .
(3) سبق تخريجه.
(4) ((شرح)) سقطت من (ص) .
(5) سبق تخريجه.
(6) سبق تخريجه.
(7) سبق تخريجه.(2/741)
وقد ذكر طوائفُ مِن فقهاءِ الشافعيَّة والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام: هل هو حجَّةٌ أم لا؟ وذكروا فيه اختلافاً بينهم، وذكر طائفةٌ من أصحابنا أنَّ الكشفَ ليس بطريق للأحكام، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمِّ المتكلِّمين في الوساوس والخطرات، وخالفهم طائفةٌ من أصحابنا في ذلك، وقد ذكرنا نصَّ أحمد هاهنا بالرُّجوع إلى حوازِّ القلوب، وإنَّما ذمَّ أحمدُ وغيرُه المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامُهم في ذلك لا يستندُ إلى دليلٍ شرعيٍّ، بل إلى مجرَّد رأي وذوقٍ، كما كان ينكرُ الكلامَ في مسائلِ الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي من غير دليلٍ شرعيٍّ.
فأمَّا الرُّجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حوازِّ القلوب، فقد دلَّت عليه النُّصوص النبوية، وفتاوى الصحابة، فكيف يُنكره الإمام أحمد بعدَ ذلك؟ لا سيَّما وقد نصَّ على الرُّجوع إليه موافقةً لهم. وقد سبق حديث: ((إنَّ الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) (1) ، فالصدق يتميَّزُ من الكذب بسكونِ القلب إليه، ومعرفته، وبنفوره عن الكذب وإنكاره، كما قال الربيعُ بن خثيم: إنَّ للحديث ضوءاً كضوء النَّهار تعرفه، وظلمةً كظُلمة الليل تُنكره (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3)
من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه: وكيع في " الزهد " (528) ، والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 2/564، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل ": 316، والخطيب في " الكفاية ": 431، وابن الجوزي في " الموضوعات " 1/103.
(3) في " مسنده " 3/497 و5/425.
وأخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 1/295، والخطيب في " الكفاية ": 429 - 430 عن أبي حُميد أو أبي أُسيد، به.
وأخرجه: البخاري في " التأريخ الكبير " 3/391 (1585) من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، به، مرسلاً.(2/742)
حميد وأبي أُسيد: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتُمُ الحديثَ عنِّي تعرفُهُ قلوبُكم، وتلينُ له أشعارُكم وأبشارُكم، وترَوْنَ أنَّه منكم قريبٌ، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتُم الحديث عنِّي تُنكره قلوبُكم، وتَنفرُ منه أشعارُكم وأبشارُكم، وترون أنَّه منكم بعيدٌ، فأنا أبعدكم منه)) . وإسناده قد قيل: إنَّه على شرط مسلم؛ لأنَّه خرَّج بهذا الإسناد بعينه حديثاً (1) ، لكن هذا الحديث معلول (2) ، فإنَّه رواه بُكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل، عن أبيِّ بن كعب من قوله (3) ، قال البخاري: وهو أصحُّ.
وروى يحيى بنُ آدم، عن ابن أبي ذئبٍ، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا حُدِّثتُم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه، فصدِّقُوا به، فإنِّي أقولُ ما يُعرف ولا يُنكر، وإذا حُدِّثتُم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه، فلا تصدقوا به، فإنِّي لا أقول ما يُنكر ولا يعرف)) (4) ، وهذا الحديث معلولٌ أيضاً،
_________
(1) صحيح مسلم 2/155 (713) (68) عن أبي حُميد أو أبي أُسيد، به.
(2) انظر: العلل لابن أبي حاتم 1/446 - 447 (509) .
(3) انظر: التاريخ الكبير 5/259 (1349) .
(4) أخرجه: البخاري في " التاريخ الكبير " 3/391 (1585) .(2/743)
وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفَّاظ عنه، عن سعيد مرسلاً، والمرسل أصحُّ عند أئمة الحفَّاظ، منهم: ابنُ معين والبخاري (1) وأبو حاتم الرازي (2) وابن خزيمة، وقال: ما رأيتُ أحداً من عُلماء الحديث يُثبت وصلَه.
وإنَّما تُحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحَّتها - على معرفة أئمة الحديث الجهابذة النُّقَّاد، الذين كَثُرت ممارستهم لكلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكلام غيره، ولحال رُواةِ الأحاديث، ونَقَلَةِ الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم، فإنَّ هؤلاء لهم نقدٌ خاصٌّ في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختصُّ الصيرفي الحاذق بمعرفة النُّقود، جيِّدِها ورديئها، وخالصها ومشوبِها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكنُ أنْ يُعبِّرَ عن سبب معرفته، ولا يُقيم عليه دليلاً لغيره، وآيةُ ذلك أنَّه يُعرَضُ الحديثُ الواحدُ على جماعة ممن يعلم هذا العلم، فيتَّفقونَ على الجواب فيه مِنْ غير مواطأة.
وقد امتحن هذا منهم غيرَ مرَّةٍ في زمن أبي زُرعة وأبي حاتم، فوُجِدَ الأمرُ على ذلك، فقال السائل: أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهامٌ. قال الأعمش: كان إبراهيم النَّخعي صيرفياً في الحديث، كنت أسمعُ مِنَ الرِّجالِ، فأعرض عليه ما سمعته (3) .
_________
(1) في " التاريخ الكبير " 3/391 (1585) من طريق إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، مرسلاً.
(2) في " العلل " 1/446 - 447 (509) .
(3) أخرجه: ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/310، والحاكم في " معرفة علوم الحديث ": 16، وأبو نعيم في " الحلية " 4/220، والمزي في " تهذيب الكمال " 1/145 (260) .(2/744)
وقال عمرو بن قيس: ينبغي لصاحب الحديث أنْ يكونَ مثل الصيرفيّ الذي ينتقد الدراهم، فإنَّ الدراهم فيها الزائفَ والبَهْرَجَ وكذلك الحديث (1) .
وقال الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنَعرِضُهُ على أصحابنا كما نَعرِضُ الدرهم الزَّائف على الصيارفة، فما عرفوا أخذنا، وما أنكروا تركنا (2) .
وقيل لعبد الرحمان بن مهدي: إنَّك تقولُ للشيء: هذا صحيح وهذا لم
يثبت، فعن من تقولُ ذلك؟ فقال: أرأيتَ لو أتيتَ الناقد فأريتَه دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا بهرَجٌ أكنت تسأله عن من ذلك، أو كنت تسلم الأمر إليه؟ قال: لا، بل كنت أسلمُ الأمر إليه، قال: فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخُبْرة به (3) .
وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً، وأنَّه قيل له: يا أبا عبد الله تقولُ: هذا الحديث منكر، فكيف علمتَ ولم تكتب الحديث كلَّه؟ قال: مثلنا كمثل ناقدِ العين لم تقع بيده العَيْنُ كلُّها، وإذا وقع بيده الدينارُ يعلم أنَّه جيدٌ، وأنَّه رديء.
وقال ابنُ مهدي: معرفة الحديث إلهام (4) . وقال: إنكارُنا الحديث عند الجهال كهانةٌ (5) .
وقال أبو حاتم الرازي (6) : مَثَلُ معرفة الحديث كمثل فصٍّ ثمنه مئة دينار، وآخر مثله على لونه، ثمنُه عشرة دراهم، قال: وكما لا يتهيأ للناقدِ أنْ يُخبر بسبب نقده، فكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأُ لنا أنْ نُخبِر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذِبٌ، وأنَّ هذا حديثٌ مُنكرٌ إلا بما نعرفه، قال: وتُعرَفُ جودةُ الدينارِ بالقياسِ إلى غيره، فإنْ تخلف عنه في الحمرة
_________
(1) أخرجه: ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/311.
(2) أخرجه: ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/312، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 37/129.
وذكره: ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/103.
(3) انظر: تهذيب الأسماء 1/284.
(4) أخرجه: ابن أبي حاتم في " العلل " 1/195.
(5) أخرجه: ابن أبي حاتم في " العلل " 1/196.
(6) في " الجرح والتعديل " 1/84، و" العلل " 1/196.(2/745)
والصَّفاء علم أنَّه مغشوش، ويُعلم جنسُ الجوهر بالقياس إلى غيره، فإنْ خالفه في المائيَّة والصَّلابة، علم أنَّه
زجاج، ويُعلَمُ صحةُ الحديث بعدالة ناقليه وأنْ يكون كلاماً يصلح مثلُه أنْ يكون كلامَ النبوّة، ويُعرف سُقمه وإنكاره بتفرُّد من لم تصحَّ عدالته بروايته، والله
أعلم.
وبكلِّ حالٍ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعلل الحديث أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث جداً، وأوَّل من اشتهر بالكلام (1) في نقد الحديث ابنُ سيرين، ثم خلفه أيوبُ
_________
(1) سقطت من (ص) .(2/746)
السَّختياني، وأخذ ذلك عنه(2/747)
شعبةُ،(2/748)
وأخذ عن شعبة يحيى القطّان(2/749)
وابنُ مهدي،(2/750)
وأخذ عنهما أحمد،(2/751)
وعليُّ بن المديني،(2/753)
وابن معين، وأخذ عنهم مثلُ البخاري وأبي داود وأبي زُرعة وأبي حاتم (1) .
وكان أبو زرعة في زمانه يقول: قلَّ من يفهم هذا، وما أعزَّه إذا دفعت هذا
_________
(1) انظر: الجرح والتعديل 1/314.(2/754)
عن واحد أو اثنين، فما أقلَّ من تجد من يُحسن هذا (1) ! ولما مات أبو زرعة، قال أبو حاتم: ذهب الذي كان يُحسن هذا - يعني: أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا (2) . وقيل له بعدَ موت أبي زُرعة: تعرف اليوم أحداً يعرف هذا؟ قالَ: لا (3) .
وجاء بعد هؤلاء جماعة، منهم: النَّسائي والعقيلي وابنُ عدي والدارقطني، وقلَّ من جاء بعدهم ممَّن هوَ بارع في معرفة ذَلِكَ حتَّى قالَ أبو الفرج بن الجوزي في أوَّل كتابه " الموضوعات " (4) : قد قلَّ من يفهم هذا بل عُدِمَ، والله أعلم.
_________
(1) ذكره: ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/287.
(2) ذكره: ابن أبي حاتم في" الجرح والتعديل " 1/287 - 288.
(3) ذكره: ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/314.
(4) الموضوعات 1/31.(2/755)
الحديث الثامن والعشرون
عَن العِرْبَاض بنِ ساريةَ - رضي الله عنه - قالَ: وَعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْها القُلوبُ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ، فَقُلْنا: يَا رَسول الله، كأنَّها مَوعِظَةُ مُودِّعٍ، فأوْصِنا، قال: ((أوصيكُمْ بتَقوى الله، والسَّمْعِ والطَّاعةِ، وإنْ تَأَمَّرَ عَليكُم عَبْدٌ، وإنَّه من يَعِشْ مِنْكُم بعدي فَسَيرى اختلافاً كَثيراً، فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ
الخُلفاء الرَّاشدينَ المهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالةٌ)) رواه أبو داود والتِّرمذيُّ (1) ، وقال: حديثٌ حَسَنٌ
صَحيحٌ.
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (3) من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي، زاد أحمد في روايةٍ له، وأبو داود: وحُجْر بن حجر الكلاعي، كلاهما عن العِرباض ابن سارية، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين (4) ، قال: ولم يتركه البخاري ومسلمٌ من جهة إنكارٍ منهما له، وزعم الحاكمُ (5) أنَّ سببَ تركهما له أنَّهما توهّما أنَّه ليس له راوٍ عن خالد بن
_________
(1) السنن (4607) ، والجامع الكبير (2676) .
(2) في " مسنده " 4/146. ...
(3) في " سننه " (43) و (44) .
(4) قال الحافظ ابن كثير في " تحفة الطالب ": 134 - 135 (46) : ((وصححه أيضاً الحافظ أبو نعيم الأصبهاني. وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود في أهل الشام، وأحسنه)) .
(5) في " المستدرك " 1/96.(2/757)
معدان غيرَ ثور بن يزيد، وقد رواه عنه أيضاً بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهما.
قلتُ: ليس الأمرُ كما ظنَّه، وليس الحديثُ على شرطهما، فإنَّهما لم يخرِّجا
لعبد الرحمان بن عمرو السُّلمي، ولا لحُجْرٍ الكلاعي شيئاً، وليسا ممَّن اشتهر بالعلم والرواية.
وأيضاً، فقد اختُلِفَ فيه على خالد بن معدان، فروي عنه كما تقدَّم، وروي عنه عن ابن أبي بلال، عن العِرباض، وخرَّجه الإمام أحمد (1) مِنْ هذا الوجه أيضاً، وروي أيضاً عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمان بن عمرو السُّلمي، عن العِرباض، خرَّجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه (2) ، وزاد في حديثه: ((فقد تركتُكم على البيضاءِ، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالكٌ)) ، وزاد في آخر الحديث: ((فإنَّما المؤمن كالجمل الأنِفِ، حيثما قيدَ انقاد)) .
_________
(1) في " مسنده " 4/127.
(2) المسند 4/126، والسنن (43) .(2/758)
وقد أنكر طائفةٌ مِنَ الحُفَّاظ هذه الزيادة في آخر الحديث، وقالوا: هي مدرجةٌ فيه، وليست منه، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره، وقد خرَّجه
الحاكم (1) ، وقال في حديثه: وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث: ((فإنَّ المؤمن كالجملِ الأنِفِ، حيثما قيد انقاد)) .
وخرَّجه ابن ماجه (2) أيضاً من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني يحيى ابن أبي المطاع، سمعتُ العرباض فذكره، وهذا في الظاهر إسناد جيد متَّصلٌ، ورواته ثقات مشهورون، وقد صرَّح فيه بالسَّماع، وقد ذكر البخاري في
" تاريخه " (3) : أنَّ يحيى بن أبي المطاع سمع من العِرباض اعتماداً على هذه الرواية، إلاَّ أنَّ حفَّاظ أهلِ الشَّام أنكروا ذلك، وقالوا: يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض، ولم يلقه، وهذه الرواية غلطٌ، وممَّن ذكر ذلك أبو زرعة الدِّمشقي، وحكاه عن دُحيم (4) ، وهؤلاء أعرفُ بشيوخهم من غيرهم (5) ، والبخاري - رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام، وقد رُوي عن العِرباض من وجوه أخر، ورُوي من حديث بُريدة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ أنَّ إسنادَ حديثِ بُريدة لا يثبت، والله أعلم.
فقولُ العِرباض: وعظنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة،
_________
(1) في " المستدرك " 1/96.
(2) في " سننه " (42) .
(3) التاريخ الكبير 8/188 (12449) .
(4) قول دحيم ذكره ابن حجر في " التقريب " (7649) .
(5) ((من غيرهم)) سقطت من (ص) .(2/759)
وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي: ((بليغة)) ، وفي روايتهم أنَّ ذلك كانَ بعد صلاةِ الصُّبح، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يَعِظُ أصحابَه في غير الخُطَبِ الرَّاتبة، كخطب الجمع والأعياد، وقد أمره الله تعالى بذلك، فقال: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (1) ، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) ، ولكنَّه كان لا يُديم وعظهم، بل يتخوّلُهُم به أحياناً، كما في " الصحيحين " (3)
عن أبي وائل، قال: كان عبدُ الله بنُ مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ، فقال له رجل: يا أبا
عبد الرحمان، إنَّا نحبُّ حديثَك ونشتهيه، ولَودِدْنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ، فقال: ما يمنعني أنْ أحدِّثكم إلا كراهةَ أنْ أُمِلَّكم، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.
والبلاغةُ في الموعظة مستحسنةٌ؛ لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها، والبلاغةُ: هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها، ولا يُطيلُها، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ.
وفي " صحيح مسلم " (4) عن جابر بنِ سمُرة قال: كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانت صلاتُه قصداً، وخطبته قصداً.
وخرَّجه أبو داود (5) ولفظه: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة، إنَّما هو كلمات يسيرات.
وخرَّج مسلم (6) من حديث أبي وائل قال:
_________
(1) النساء: 63.
(2) النحل: 125.
(3) صحيح البخاري 1/27 (68) و8/109 (6411) ، وصحيح مسلم 8/142 (2821) (82) و (83) .
وأخرجه أيضاً: الطيالسي (255) ، والحميدي (107) ، وابن أبي شيبة (26515) ، وأحمد 1/377 و378 و427 و465، والترمذي (2855) ، والنسائي في " الكبرى "
(5889) ، وابن حبان (4524) من طرق، عن أبي وائل، بهذا الإسناد.
(4) الصحيح 3/11 (866) (41) و (42) .
(5) في " سننه " (1107) ، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب.
(6) في " صحيحه " 3/12 (869) (47) .(2/760)
خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ، فلما
نزل، قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفَّستَ، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ، وقِصَر خُطبتِهِ، مَئِنَّةٌ (1) من فقهه، فأطيلوا الصَّلاة، وأقصروا الخطبة، فإنَّ من البيان سحراً)) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) من حديث الحكم بن حزن، قال:
شهدتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوسٍ، فحمِدَ الله، وأثنى عليه كلماتٍ خفيفاتٍ طيِّباتٍ مباركاتٍ.
وخرَّج أبو داود (4) عن عمرو بنِ العاص: أنَّ رجلاً قام يوماً، فأكثر القولَ، فقال عمرٌو: لو قَصَد في قوله، لكان خيراً له، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
_________
(1) قال البغوي في " شرح السنة " عقيب الحديث (1077) : ((أي علامة، فهي على وزن مَفْعِلة، والميم زائدة، كقولهم: مخلفة، ومعناه: أنَّ هذا مما يستدل به على فقه الرجل)) . ...
(2) في " مسنده " 4/212، وإسناده حسن شهاب بن خراش وشعيب بن رزيق صدوقان حسنا الحديث.
(3) في " سننه " (1096) .
(4) في " سننه " (5008) ، وإسناده لا بأس به.(2/761)
((لقد رأيتُ - أو أمرتُ - أنْ أتجوَّزَ في القول، فإنَّ الجواز هو خير)) .
وقوله: ((ذرفت منها العيونُ ووَجِلت منها القلوب)) هذان الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عندَ سماع الذكر كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (1) ، وقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) ، وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (3) ، وقال: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ
اللهِ} (4) ، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (5) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغيَّرُ حالُه عند الموعظة، كما قال جابر: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا
خطبَ، وذكر الساعةَ، اشتدَّ غضبه، وعلا صوتُه، واحمرَّت عيناه، كأنَّه منذرُ جيش يقول: صبَّحَكم ومسَّاكم. خرَّجه مسلم بمعناه (6) .
وفي " الصحيحين " (7) عن أنس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمسُ، فصلى الظُّهرَ، فلمَّا سلم، قام على المنبر، فذكر السَّاعة، وذكر أنَّ بَيْنَ يديها أموراً عظاماً، ثم قال: ((من أحبَّ أنْ يسألَ عن شيءٍ فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتُكم به في مقامي هذا)) ، قال أنس: فأكثر النَّاسُ البكاءَ، وأكثر رسولُ
_________
(1) الأنفال: 2.
(2) الحج: 34 - 35.
(3) الحديد: 16.
(4) الزمر: 23.
(5) المائدة: 83.
(6) في " صحيحه " 3/11 (867) (43) و (44) .
(7) صحيح البخاري 1/143 (540) و8/96 (6362) 9/118 (7294) ، وصحيح مسلم 7/92 (2359) (134) و7/93 (2359) و (136) و7/94 (2359)
(137) .(2/762)
الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقول: ((سلوني)) ، فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي
يا رسول الله، قال: ((النار)) ، وذكر الحديث.
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن النُّعمان بن بشير: أنَّه خطب، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يقول: ((أنذرتكم النَّار، أنذرتكم النَّار)) حتّى لو أنَّ رجلاً كان بالسُّوق لسمعه من مقامي هذا، قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
وفي " الصحيحين " (2) عن عدي بن حاتمٍ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
((اتقوا النَّار)) ، قال: وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النَّار)) ، ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنَّه ينظر إليها، ثم قال: ((اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبةٍ)) .
_________
(1) المسند 4/268 و272، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب فهو صدوق حسن الحديث.
(2) صحيح البخاري 8/14 (6023) و8/140 (6540) و8/144 (6563) ، وصحيح مسلم 3/86 (1016) (68) .(2/763)
وخرَّج الإمام أحمد (1) من حديث عبد الله بن سلمة، عن عليٍّ، أو عنِ الزُّبير
ابن العوّام، قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا، فيذكِّرُنا بأيَّامِ الله، حتّى يُعرَف ذلك في وجهه، وكأنه نذيرُ قوم يُصبِّحهم الأمرُ غُدوةً، وكان إذا كان حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكاً حتَّى يرتفع عنه.
وخرَّجه الطبراني والبزارُ (2) من حديث جابر، قال: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الوحيُّ، أو وعظَ، قلت: نذير قوم أتاهُم العذابُ، فإذا ذهبَ عنه ذلك، رأيت أطلقَ الناس وجهاً، وأكثَرهم ضَحِكاً، وأحسنهم بِشراً - صلى الله عليه وسلم -.
وقولهم: ((يا رسول الله كأنَّها موعظةُ مودِّع، فأوصنا)) يدلُّ على أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - قد أبلغَ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها، فلذلك فَهِموا أنَّها موعظةُ مودِّعٍ، فإنَّ المودِّع يستقصي ما لا يستقصي غيرُه في القول والفعل، ولذلك أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُصلي صلاة مودِّعٍ (3) ؛
لأنَّه مَنِ استشعر أنَّه مودِّع بصلاته، أتقنها على أكمل وجوهها. ولرُبما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريضٌ في تلك الخطبة بالتَّوديع، كما عرَّض بذلك في خطبته في حجة الوداع، وقال: ((لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) (4) ، وطفق يودِّعُ الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع،
_________
(1) في " مسنده " 1/167، وفي سنده عبد الله بن سلمة وحديثه من قبيل الحسن، والله أعلم.
(2) كما في " كشف الأستار " (2477) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9/17، وقال
: ((رواه البزار وإسناده حسن)) .
(3) أخرجه: أحمد 5/412، وابن ماجه (4171) ، والطبراني في " الكبير " (3987)
و (3988) من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ فقال: عِظني وأوجز، فقال: ((ثم إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً واجمع الإياس مما في يدي الناس)) بلفظ أحمد.
وورد أيضاً عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك.
(4) أخرجه: أحمد 3/318، ومسلم 4/79 (1297) (310) ، وأبو داود (1970) ، والترمذي (886) ، والنسائي 5/270، وابن خزيمة (2877) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " (2995) و (2997) ، والبيهقي 5/125 و130 من حديث جابر بن
عبد الله، به. والروايات متباينة اللفظ متفقة المعنى.(2/764)
ولمّا رجع من حجِّه إلى المدينة، جمع الناس بماءٍ بين مكة والمدينة يُسمى خُمَّاً (1) ، وخطبهم، فقال: ((يا أيُّها النّاس، إنّما أنَا بَشرٌ يوشِكُ أنْ يأتيني رسولُ ربِّي فأجيب)) ثم حضَّ على التمسُّك بكتابِ الله، ووصَّى بأهل بيته، خرَّجه مسلم (2) .
_________
(1) في (ص) : ((جمع الناس بين مكة والمدينة في وادٍ يقال له: غدير خم)) .
(2) في " صحيحه " 7/122 (2408) (36) .(2/765)
وفي " الصحيحين " (1) ولفظه لمسلم عن عقبةَ بنِ عامرٍ، قال: صلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحدٍ، ثم صَعِدَ المنبر كالمودِّع للأحياء والأموات، فقال
: ((إنِّي فَرَطُكُم على الحوض، فإنَّ عَرْضَهُ، كما بين أيلةَ إلى الجُحفةِ، وإنِّي لست أخشى عليكم أنْ تُشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكُم الدُّنيا أنْ تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم)) . قال عقبة: فكانت آخرَ ما رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر.
وخرَّجه الإمام أحمد (2)
ولفظه: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أُحُدٍ بعد ثمانِ سنين كالمودِّع للأحياء والأموات، ثم طلَعَ المنبرَ، فقال: ((إنِّي فرطُكم، وأنا عليكم شهيد، وإنَّ موعدَكم الحوضُ، وإنِّي لأنظرُ إليه، ولستُ أخشى عليكم الكُفر، ولكن الدُّنيا أنْ تنافسوها)) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودِّع، فقال: ((أنا محمد النَّبيُّ الأُميُّ - قال ذلك ثلاث مرَّات - ولا نبيَّ بعدي، أُوتيتُ فواتِحَ
_________
(1) صحيح البخاري 2/114 (1344) و4/240 (3596) و5/132 (4085) و8/112
(6426) و8/151 (6590) ، وصحيح مسلم 7/67 (2296) (30) و (31) .
(2) في " مسنده " 4/154.
وأخرجه: البخاري 5/120 (4042) بهذا اللفظ من حديث عقبة بن عامر.
(3) في " مسنده " 2/172 و212، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، ولجهالة عبد الرحمان بن مُريح.(2/766)
الكَلِم وخواتمَه وجوامعه، وعلمت كم خزنةُ النَّار، وحملةُ العرش، وتَجَوَّزَ لي ربِّي وعُوفيتُ وعُفِيَتْ أُمَّتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمتُ فيكم، فإذا ذُهِبَ بي، فعليكم بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرِّموا
حرامه)) .
فلعلَّ الخطبة التي أشار إليها العرباضُ بنُ سارية في حديثه كانت بعضَ هذه
الخطب، أو شبيهاً بها ممَّا يُشعر بالتوديع.
وقولهم: ((فأوصنا)) ، يعنون وصيةً جامعةً كافية، فإنَّهم لمَّا فهموا (1) أنَّه
مودِّعٌ، استوصوهُ وصيَّةً ينفعهم التمسُّك بها بعدَه، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسَّك
بها، وسعادةٌ له في الدنيا والآخرة.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكم بتقوى الله، والسَّمع والطَّاعة)) ، فهاتان الكلمتان تجمعان سعادةَ الدُّنيا والآخرة.
أمَّا التَّقوى، فهي كافلةٌ بسعادة الآخرة لمن تمسَّك بها، وهي وصيةُ الله للأوَّلين والآخرين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} (2) ، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث وصية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ (3) .
وأمّا السَّمع والطاعة لوُلاة أُمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدُّنيا (4) ، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه -: إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجر، إنْ كان
_________
(1) في (ص) : ((علموا)) .
(2) النساء: 131.
(3) عند الحديث الثامن عشر.
(4) قبل هذا في (ص) : ((المسلمين في)) .(2/767)
فاجراً عبدَ
المؤمنُ فيه ربَّه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله (1) .
وقال الحسن في الأمراء: هم يلونَ من أمورنا خمساً: الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود، والله ما يستقيم الدِّين إلاَّ بهم، وإنْ جاروا وظلموا، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون، مع أنَّ - والله - إنَّ طاعتهم لغيظٌ، وإنَّ فرقتهم لكفرٌ.
وخرّج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال: أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه حينَ صلَّوا العشاء: ((أنِ احشُدوا، فإنَّ لي إليكم حاجةً)) فلمّا فرغ مِنْ صلاةِ الصُّبح، قال: ((هل حشدتم كما أمرتكم؟)) قالوا: نعم، قال: ((اعبدوا الله، ولا تُشركوا به شيئاً، هل عقلتم هذه؟)) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: ((أقيموا الصَّلاةَ، وآتوا الزَّكاة، هل عقلتم هذه؟)) ثلاثاً. قلنا: نعم، قال: ((اسمعوا وأطيعوا)) ثلاثاً، ((هل عقلتم هذه؟)) ثلاثاً، قلنا: نعم، قال: فكنَّا نرى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلَّم كلاماً طويلاً، ثم نظرنا في كلامه، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كلَّه (2) .
وبهذين الأصلين وصَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع أيضاً، كما خرَّج الإمامُ أحمد والترمذي من رواية أمِّ الحصين الأحمسية، قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجّةِ الوداع، فسمعتُه يقول: ((يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا الله، وإنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مجدَّعٌ، فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله)) (3) .
_________
(1) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (7508) .
(2) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (7678) وإسناده ضعيف من أجل عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وأبيه.
(3) أخرجه: أحمد 6/402، والترمذي (1706) ، وقال الترمذي: ((حسن صحيح)) .(2/768)
وخرَّج مسلم منه ذكرَ السمعِ والطاعة (1) .
وخرَّج الإمام أحمد والترمذي أيضاً من حديث أبي أُمامة، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ في حَجَّةِ الوداع، يقول: ((اتَّقوا الله، وصلُّوا خمسَكُم، وصوموا شهركم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخُلُوا جنَّةَ
ربِّكم)) (2) ، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال: ((يا أيُّها النَّاس، إنَّه لا نبيَّ بعدي، ولا أمَّةَ بعدكم)) وذكر الحديث بمعناه (3) .
وفي " المسند " (4) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من لقِيَ الله لا يشركُ به شيئاً، وأدّى زكاةَ مالهِ طيِّبةً بها نفسُه محتسباً، وسمع وأطاع، فله الجنَّة،
_________
(1) في " صحيحه " 4/79 (1298) (311) من حديث أم الحصين، به.
(2) أخرجه: أحمد 5/251 و262، والترمذي (616) ، وقال الترمذي: ((حسن
صحيح)) .
(3) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (7535) و (7617) و (7622) وفي " مسند
الشاميين "، له (543) و (834) من حديث أبي أمامة، به، وهو صحيح.
(4) مسند الإمام أحمد 2/361 - 362، وإسناده ضعيف لجهالة المتوكل أو أبي المتوكل الراوي عن أبي هريرة، وفي السند بقية بن الوليد مدلس ويدلس تدليس التسوية وقد عنعن.(2/769)
أو دخل الجنَّة)) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنْ تأمَّرَ عليكم عبدٌ)) ، وفي روايةٍ: ((حبشي)) هذا مما تكاثرت به الرِّوايات عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مما اطلع عليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمرِ أُمته بعده، وولاية العبيد عليهم، وفي " صحيح البخاري " (1) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((اسمعوا وأطيعوا، وإنِ استُعمِلَ عَلَيكُمْ عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ)) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: إنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أنْ أسمع وأطيع، ولو كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف. والأحاديث في المعنى كثيرة جداً.
ولا يُنافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش ما بقي في النَّاس
اثنان)) (3) ، وقوله: ((النّاس تبعٌ لقريش)) (4) ،
_________
(1) الصحيح 9/78 (7142) .
(2) الصحيح 2/120 (648) (240) .
(3) أخرجه: الطيالسي (1956) ، وأحمد 2/29، والبخاري 9/78 (7140) ، ومسلم 6/2 (1820) ، وابن أبي عاصم في " السنة " (1122) ، وابن حبان (6266) من حديث ابن عمر، به.
(4) أخرجه: الطيالسي (2380) ، وأحمد 2/242، والبخاري 4/217 (3495) ، ومسلم 6/2 (1818) (1) و (2) ، والبيهقي 8/141 من حديث أبي هريرة، به.(2/770)
وقوله: ((الأئمة من قريش)) (1) ؛ لأنَّ ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام قرشي، ويشهد لذلك ما خَرَّجَه الحاكمُ (2) من حديث عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الأئمة من قريش أبرارُها أمراءُ
أبرارها، وفجارُها أمراءُ فجارها، ولكلٍّ حقٌّ، فآتوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وإنْ أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً مجدعاً، فاسمعوا له وأطيعوا)) وإسناده جيد، ولكنَّه روي عن عليٍّ موقوفاً (3) ، وقال الدارقطني (4) : هو أشبه.
وقد قيل: إنَّ العبدَ الحبشيَّ إنَّما ذكر على وجه ضرب المثل وإنْ لم يصحَّ وقوعُه، كما قال: ((مَن بنى مسجداً ولو كَمَفْحَصِ قطاة)) (5) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن يعِشْ منكم بعدي، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ)) .
_________
(1) أخرجه: الطيالسي (2133) ، وابن أبي شيبة (32388) ، وأحمد 3/129 و183، والنسائي في " الكبرى " (5942) ، وأبو يعلى (3644) و (4032) ، والبيهقي 8/144 من حديث أنس بن مالك، به، وهو حديث صحيح.
(2) في " المستدرك " 4/75 - 76.
(3) أخرجه: ابن أبي عاصم في " السنة " (1517) و (1518) .
(4) في " العلل " 3/199.
(5) أخرجه: البزار (4017) ، وابن حبان (1610) و (1611) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/217، والقضاعي في " مسند الشهاب " (479) من حديث أبي ذر، به، وهو حديث اختلف في رفعه ووقفه وتفصيل طرقه ورواياته في كتابي " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه بمنه وكرمه. =
= ... ومفحص القطاة: هو موضعها الذي تجثم فيه وتبيض، كأنَّها تفحص عنه التراب، أي: تكشفه. النهاية 3/415.(2/771)
هذا إخبارٌ
منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أُمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات، وهذا موافقٌ لما روي عنه من افتراقِ أُمَّته على بضعٍ وسبعين فرقة، وأنَّها كلَّها في النَّار إلاَّ فرقة واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابُه،(2/772)
وكذلك في هذا الحديث أمر عندَ الافتراق والاختلاف بالتمسُّك بسنَّته وسنَّةِ الخلفاء الرَّاشدين من بعده، والسُّنة: هي الطريقة المسلوكةُ، فيشمل ذلك التمسُّك بما كان عليه هو وخلفاؤه الرَّاشدونَ مِنَ الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السُّنةُ الكاملةُ، ولهذا كان السلف قديماً لا يُطلقون اسم السُّنَّةِ إلا على ما يشمل ذلك كلَّه، ورُوي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفُضيل بن عياض.
وكثيرٌ من العُلماء المتأخرين يخصُّ اسم السُّنة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنَّها أصلُ الدِّين، والمخالفُ فيها على خطرٍ عظيم، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسَّمع والطَّاعة لأُولي الأمر إشارةٌ إلى أنَّه لا طاعةَ لأولي الأمر إلاّ في طاعة اللهِ، كما صحَّ عنه أنَّه قال: ((إنَّما الطَّاعةُ في المعروف)) (1) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 1/82 و94، والبخاري 5/203 (4340) و9/78 (7145) و9/109 (7257) ، ومسلم 6/15 (1840) (39) و6/116 (1840) (40) ، وأبو داود (2625) ، والنسائي 7/159 - 160 وفي " الكبرى "، له (8722) من حديث علي بن أبي طالب، به.(2/773)
وفي " المسند " (1) عن أنس: أنَّ معاذَ بن جبل قال: يا رسول الله، أرأيتَ
إنْ كان علينا أمراءُ لا يستنُّون بسنَّتك، ولا يأخذون بأمركَ، فما تأمرُ في أمرهم؟
فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا طاعة لمن لم يُطع الله - عز وجل -)) .
وخرَّج ابن ماجه (2) من حديث ابن مسعود: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها)) فقلت: يا رسول الله إنْ أدركتُهم، كيف أفعلُ؟ قال: ((لا طاعة لمن عصى الله)) .
وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتِّباع سنَّته، وسنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لوُلاةِ الأُمور عموماً دليلٌ على أنَّ سنةَ الخلفاء الراشدين متَّبعة، كاتِّباع سنته، بخلاف غيرهم من وُلاة الأمور.
وفي " مسند الإمام أحمد " (3) و" جامع الترمذي " (4) عن حُذيفة قال: كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلوساً، فقال: ((إني لا أدري ما قَدْرُ بقائي فيكم، فاقتدوا باللَّذيْنِ من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسَّكوا بعهدِ عمَّار، وما حدَّثكم ابنُ مسعودٍ، فصدقوه)) ، وفي روايةٍ: ((تمسَّكوا بعهد ابنِ أم عبدٍ، واهتدوا بهدي عمار)) . فنصَّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من يُقتدى به مِنْ بعده،
_________
(1) مسند الإمام أحمد 3/213، وإسناده لا بأس به إن شاء الله.
(2) في " سننه " (2865) ، وإسناده حسن.
(3) المسند 5/385 و399 و400.
(4) الجامع الكبير (3663) و (3799 م) ، وقال في الموضع الثاني: ((هذا حديث حسن)) على أنَّه أشار إلى الاختلاف في إسناده.(2/774)
والخُلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم: أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، فإنَّ في حديث سفينة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الخلافةُ بعدي ثلاثونَ سنة، ثم تكونُ ملكاً)) (1) ،
وقد صححه الإمام أحمد،
واحتجَّ به على خلافة الأئمة الأربعة (2) .
ونصَّ كثيرٌ من الأئمَّة على أنَّ عمر بنَ عبد العزيز خليفةٌ راشد أيضاً، ويدلُّ عليه ما خرَّجه الإمام أحمد (3) من حديث حُذيفة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تكونُ فيكم النبوَّةُ ما شاء الله أنْ تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أنْ يرفعها، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوَّة، فتكونُ ما شاءَ الله أنْ تكونَ، ثم يرفعُها الله إذا شاء أنْ يرفعها، ثمَّ تكونُ مُلكاً عاضَّاً ما شاء الله أنْ تكون، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها، ثم تكونُ مُلكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أنْ تكون، ثم يرفعها إذا شاء أنْ يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوَّة)) ثُمَّ سكت. فلما ولي عمر بن عبد العزيز، دخل عليه رجلٌ، فحدَّثه بهذا الحديث، فسُرَّ به، وأعجبه.
وكان محمد بن سيرين أحياناً يسأل عن شيءٍ مِنَ الأشربةِ، فيقول: نهى عنه إمامُ هدى: عمرُ بن عبد العزيز (4) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/220 و221، وأبو داود (4646) و (4647) ، وابن أبي عاصم في
" الآحاد والمثاني " (113) و (139) و (140) وفي " السنة "، له (1181)
و (1185) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (1402) و (1403) و (1404)
و (1405) و (1407) ، والنسائي في " الكبرى " (8155) ، والطحاوي في " شرح المشكل " (3349) ، وابن حبان (6657) و (6943) .
(2) قال عبد الله بن أحمد في " السنة " (1400) : ((سمعت أبي يقول: ... أما الخلافة فنذهب إلى حديث سفينة فنقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلفاء)) .
(3) في " مسنده " 4/273، وإسناده حسن.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/257.(2/775)
وقد اختلف العلماء في إجماع الخُلفاء الأربعة: هل هو إجماعٌ، أو حُجَّةٌ، مع مخالفة غيرهم مِنَ الصَّحابة أم لا؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد (1) ، وحكم أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام، ولم يعتدَّ بمن خالف الخُلفاء، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق.
ولو قال بعضُ الخلفاء الأربعة قولاً، ولم يُخالفه منهم أحدٌ، بل خالفه غيرُه من الصَّحابة، فهل يقدم قولُه على قول غيره؟ فيه قولان أيضاً للعلماء، والمنصوصُ عن أحمد أنَّه يُقدمُ قوله على قولِ غيره من الصَّحابة، وكذا ذكره الخطابيُّ (2) وغيره، وكلامُ أكثرِ السَّلفِ يدلُّ على ذلك، خصوصاً عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فإنَّه روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنَّه قال: ((إنَّ الله جعل الحقَّ على لسان عمرَ وقلبِه)) (3) . وكان عمرُ بن عبد العزيز يتَّبع أحكامَه، ويستدلُّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله جعلَ الحقَّ على لسان عمرَ وقلبه)) .
وقال مالكٌ: قال عمرُ بنُ عبد العزيز: سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وولاةُ الأمر من بعده سُنناً، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتابِ الله، وقوَّةٌ على دين الله، ليس لأحدٍ تبديلُها، ولا تغييرُها، ولا النظرُ في أمرٍ خالفَها، مَنِ اهتدى بها، فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها، فهو منصور، ومن تركها واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، ولاَّه اللهُ ما تولَّى، وأصلاه جهنَّم، وساءت مصيراً (4) .
_________
(1) انظر: البحر المحيط للزركشي 3/527 - 528.
(2) في " معالم السنن " 4/278.
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة (31986) ، وأحمد 2/401، وابن أبي عاصم في " السنة "
(1250) ، وابن حبان (6889) من حديث أبي هريرة، به.
وأخرجه أيضاً: ابن سعد في "طبقاته" 2/335، وأحمد 2/53 و95 وفي "فضائل الصحابة"، له (313) ، والترمذي (3682) ، وابن حبان (6895) من حديث ابن عمر، به، وهو حديث قويٌّ بمجموع طرقه.
(4) أخرجه: ابن أبي حاتم في " تفسيره " 4/1067 (5969) ، والآجري في " الشريعة ": 48.(2/776)
وحكى عبدُ الله بن عبد الحكم عن مالك: أنَّه قال: أعجبني عَزْمُ (1) عمرَ على ذلك، يعني: هذا الكلام. وروى عبدُ الرحمان بنُ مهدي هذا الكلام عن مالكٍ، ولم يحكِه عن عمرَ.
وقال خلَفُ بنُ خليفة: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطبُ النَّاس وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا إنَّ ما سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه، فهو وظيفةُ دينٍ، نأخذ
به، وننتهي إليه (2) . وروى أبو نعيم (3) من حديث عَرْزب الكندي: أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّه سيحدث بعدي أشياء، فأحبها إلي أنْ تلزموا ما أحدث عمر)) .
وكان عليٌّ يتبع أحكامه وقضاياه، ويقول: إنَّ عمرَ كان رشيدَ الأمر (4) .
وروى أشعثُ، عن الشَّعبيِّ، قال: إذا اختلف الناسُ (5) في شيءٍ، فانظروا كيف قضى فيه عمرُ، فإنَّه لم يكن يقضي في أمر لم يُقْضَ فيه قبلَه حتى
يُشاوِرَ (6) .
وقال مجاهد: إذا اختلف الناسُ في شيءٍ، فانظروا ما صنع عمر، فخُذُوا
به (7) . وقال أيوب، عن الشعبيِّ: انظروا ما اجتمعت عليه أمَّةُ محمد، فإنَّ الله لم يكن ليجمعها على ضلالةٍ، فإذا اختلفت، فانظروا ما صنعَ عُمَر بنُ الخطاب، فخذوا به.
وسئل عكرمة عن أم الولد، فقال: تعْتقُ بموت سيدها، فقيل له: بأيِّ شيء تقولُ؟ قال: بالقرآن، قال: بأيِّ القرآن؟ قال: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (8) ، وعمرُ من أولي الأمر (9) .
وقال وكيع: إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيءٍ، فهو الأمرُ.
وروي عن ابن مسعود أنَّه كان يحلف بالله: إنَّ الصِّراط المستقيم هو الذي
_________
(1) ((عزم)) سقطت من (ص) .
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/298.
(3) في " معرفة الصحابة " (5567) و (5568) من حديث عبد الملك بن عياض الجذامي أبي عفيف، عن عرزب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو حاتم الرازي: ((عبد الملك أبو عفيف مجهول، وشيخه لا يعرف)) . انظر: الإصابة 3/442، وجامع المسانيد 9/102.
(4) أخرجه: أبو عبيد في " الأموال " (273) ، وابن أبي شيبة (32004) ، وأحمد في
" فضائل الصحابة " (537) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (1307) ، والبيهقي 10/120.
(5) ((الناس)) سقطت من (ص) .
(6) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 4/320.
(7) أخرجه: أحمد في " فضائل الصحابة " (349) .
(8) النساء: 59.
(9) أخرجه: سعيد بن منصور في "سننه" (657) (ط. دار الصميعي) ، والبيهقي 10/346.(2/777)
ثبت عليه عمر حتى دخل الجنَّة (1) .
وبكلِّ حالٍ، فما جمع عمرُ عليه الصَّحابةَ، فاجتمعوا عليه في عصره، فلا شكَّ أنَّه الحقُّ، ولو خالف فيه بعدَ ذلك مَنْ خالف، كقضائه في مسائلَ مِنَ الفرائض كالعول، وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أنَّ للأمِّ ثلث الباقي، وكقضائه فيمن جامعَ في إحرامه أنَّه يمضي في نسكه وعليه القضاءُ والهديُ، ومثل ما قضى به في امرأةِ المفقودِ، ووافقه غيره مِنَ الخُلفاء أيضاً، ومثلُ ما جمع عليه النَّاسَ في الطَّلاق الثَّلاث، وفي تحريم متعة النِّساء، ومثل ما فعله من وضع الدِّيوان، ووضع الخراج على أرض العنوة، وعقد الذِّمة لأهل الذِّمة بالشُّروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك.
ويشهد لصحة ما جمع عليه عمرُ الصحابة، فاجتمعوا عليه، ولم يُخالف في وقته قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيتني في المنام أنزِعُ على قليبٍ، فجاء أبو بكرٍ، فنزع ذَنُوباُ أو ذنوبين، وفي نزعه ضعفٌ، والله يغفر له، ثم جاء ابنُ الخطَّاب،
_________
(1) عبارة: ((حتى دخل الجنة)) لم ترد في (ص) .(2/778)
فاستحالت غَرْباً، فلم أرَ أحداً يفري فَرْيَهُ حتَّى رَوِيَ النَّاس، وضربوا بعَطَنٍ)) ، وفي روايةٍ: ((فلم أرَ عبقرياً من النَّاسِ يَنْزِعُ نزعَ ابنِ الخطاب))(2/779)
وفي روايةٍ: ((حتى تولَّى والحوض يتفجَّرُ)) (1) .
وهذا إشارةٌ إلى أنَّ عمرَ لم يمت حتَّى وضع الأمورَ مواضعها، واستقامت الأمورُ، وذلك لِطول مدَّته، وتفرُّغه للحوادث، واهتمامه بها، بخلاف مدَّةِ أبي بكر فإنَّها كانت قصيرةً، وكان مشغولاً فيها بالفُتوح، وبعث البُعوث للقتال، فلم يتفرَّغ لكثيرٍ من الحوادث، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلُغه، ولا يُرفَعُ إليه، حتَّى رفعت تلك الحوادثُ إلى عمرَ، فردَّ النَّاس فيها إلى الحقِّ وحملهم على
الصَّواب.
وأمَّا ما لم يجمع عمرُ النَّاسَ عليه، بل كان له فيه رأيٌ، وهو يسوِّغ لغيره أنْ يرى رأياً يُخالف رأيه، كمسائل الجَدِّ مع الإخوة، ومسألة طلاق البتة، فلا يكونُ قولُ عمر فيه حجَّةً على غيره مِنَ الصَّحابة، والله أعلم.
وإنَّما وصف الخلفاء بالراشدين؛ لأنَّهم عرفوا الحقَّ وقَضَوا به،
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/368 و450، والبخاري 5/7 (3664) و9/49 (7021)
و (7022) و9/170 (7475) ، ومسلم 7/112 (2392) (17) و7/113
(2392) (17) و (18) ، والنسائي في " فضائل الصحابة " (15) من حديث أبي هريرة، به.(2/780)
فالراشدُ ضدُّ الغاوي، والغاوي مَنْ عَرَفَ الحقَّ، وعمل بخلافه.
وفي رواية ((المهديين)) ، يعني: أنَّ الله يهديهم للحقِّ، ولا يُضِلُّهم عنه، فالأقسام ثلاثة: راشدٌ وغاوٍ وضالٌّ، فالراشد عرف الحقَّ واتَّبعه، والغاوي: عرفه ولم يتَّبعه، والضالُّ: لم يعرفه بالكليَّة، فكلُّ راشدٍ، فهو مهتد، وكل مهتدٍ هدايةً تامَّةً، فهو راشد؛ لأنَّ الهدايةَ إنَّما تتمُّ بمعرفة الحقِّ والعمل به أيضاً.
وقوله: ((عَضُّوا عليها بالنواجذ)) كناية عن شدَّةِ التَّمسُّك بها، والنواجذ: الأضراس.
قوله: ((وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة)) تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ، وأكَّد ذلك بقوله: ((كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ)) ، والمراد بالبدعة: ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعاً، وإنْ كان بدعةً لغةً، وفي " صحيح
مسلم " (1) عن جابر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: ((إنَّ خيرَ الحديثِ
كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة)) .
_________
(1) الصحيح 3/11 (867) (43) و (44) و (45) .(2/781)
وخرَّج الترمذي (1) وابن ماجه (2) من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ضعف (3) - عن أبيه، عن جده، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسولُه، كان عليه مثلُ آثام مَنْ عمل بها، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارهم شيئاً)) .
وخرَّج الإمام أحمد (4) من رواية غضيف بن الحارث الثُّمالي قال: بعث إليَّ عبدُ الملك بنُ مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة، والقصص بعد الصُّبح والعصر، فقال: أما إنَّهما أمثلُ بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيءٍ منها؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما أحْدَثَ
_________
(1) في " الجامع الكبير " (2677) .
(2) في " سننه " (209) و (210) .
(3) قال ابن حبان في " المجروحين " 2/221: ((كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ... يروي عن أبيه، عن جده بنسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب، وكان الشافعي رحمه الله يقول: كثير بن عبد الله المزني ركن من أركان الكذب)) .
(4) في " مسنده " 4/105، وإسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي بن عبد الله.(2/782)
قومٌ بدعةً إلا رُفعَ مثلُها منَ السُّنَّة)) فتمسُّكٌ بسنَّةٍ خيرٌ من إحداث بدعةٍ. وقد رُوي عن ابن عمر من قوله نحو هذا.
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ بدعة ضلالة)) من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين، وهو شبيهٌ بقوله: ((مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ)) (1) ، فكلُّ من أحدث شيئاً، ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه، فهو ضلالةٌ، والدِّينُ بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية، لا الشرعية، فمِنْ ذلك قولُ عمر - رضي الله عنه - لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال: نعمت البدعةُ هذه. وروي عنه أنَّه قال: إنْ كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة (2) .
_________
(1) تقدم عند الحديث الخامس.
(2) أخرجه: مالك في " الموطأ " (301) برواية يحيى الليثي، والبخاري 3/58 (2010) ، والبيهقي 2/493.(2/783)
وروي أنَّ أبيَّ بن كعب، قال له: إنَّ هذا لم يكن، فقال عمرُ: قد علمتُ، ولكنَّه حسنٌ. ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يحُثُّ على قيام رمضان، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحداناً، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابه في رمضانَ(2/784)
غيرَ ليلةٍ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلاً بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعده - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ورُويَ عنه أنَّه كان يقومُ بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (2) .
ومنها: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتِّباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإنَّ النَّاس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمانَ وعليٍّ.
ومن ذلك: أذانُ الجمعة الأوَّل، زاده عثمانُ (3) لحاجةِ النَّاسِ إليه، وأقرَّه عليٌّ، واستمرَّ عملُ المسلمينَ عليه، وروي عَن ابن عمر أنَّه قال: هو بدعة (4) ، ولعلَّه أرادَ ما أراد أبوه في قيام رمضان.
ومِنْ ذلك جمع المصحف في كتابٍ واحدٍ، توقَّف فيه زيدُ بنُ ثابتٍ، وقال لأبي بكر وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعلْهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم علم أنَّه مصلحةٌ، فوافق على جمعه (5) ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بكتابة الوحي، ولا فرق بَيْنَ أنْ يُكتب مفرقاً أو مجموعاً، بل جمعُه صار أصلح.
وكذلك جمعُ عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشيةَ تفرُّق الأمة، وقد استحسنه عليٌّ وأكثرُ الصحابة، وكان ذلك عينَ المصلحة.
_________
(1) أخرجه: البخاري 2/13 (924) و2/62 (1129) ، ومسلم 2/177 (761)
و (177) و (178) من حديث عائشة، به.
(2) أخرجه: أحمد 5/159 و163، والدارمي (1784) ، وأبو داود (1375) ، وابن ماجه (1327) ، والترمذي (806) ، والنسائي 3/83 من حديث أبي ذر، وقال الترمذي
: ((حسن صحيح)) .
(3) أخرجه: الشافعي في " مسنده " (424) بتحقيقي، وأحمد 3/449 و450، والبخاري 2/10 (912) و (913) ، وأبو داود (1087) من حديث السائب بن يزيد، قال: إنَّ الأذان كان أوله للجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
وعمر، فلما كان خلافة عثمان كثر الناس أمر عثمان - رضي الله عنه - بأذان ثان فأذن فثبت الأمر على
ذلك ... )) .
(4) أخرجه: ابن أبي شيبة (5441) .
(5) أخرجه: الطيالسي (3) ، وأحمد 1/10 و13، والبخاري 6/89 (4679) ، والترمذي (3103) ، والنسائي في " الكبرى " (7995) من حديث زيد بن ثابت، به.(2/785)
وكذلك قتال من منع الزكاة: توقف فيه عمر وغيرُه حتى بيَّن له أبو بكر أصلَه الذي يرجعُ إليه مِنَ الشَّريعة (1) ، فوافقه الناسُ على ذلك.
ومِنْ ذلك القصص، وقد سبق قولُ غضيف بن الحارث: إنَّه بدعةٌ، وقال الحسن: القصص بدعةٌ، ونعِمَت البدعةُ، كم من دعوة مستجابة، وحاجة مقضية، وأخٍ مستفاد (2) . وإنَّما عني هؤلاء بأنَّه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين، فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معيَّن يقصُّ على أصحابه فيهِ غير خطبه الراتبة في الجُمَعِ والأعياد، وإنَّما كان يذكرهم أحياناً، أو عندَ حدوث أمرٍ يحتاجُ إلى التَّذكير عنده، ثم إنَّ الصحابة اجتمعوا على تعيين وقتٍ له كما سبق عن ابنِ مسعودٍ: أنَّه كان يُذَكِّرُ أصحابه كلَّ يوم خميس.
وفي " صحيح البخاري " (3) عن ابن عبَّاسٍ قال: حدِّث الناس كلَّ جمعة مرَّةً، فإنْ أبيتَ فمرَّتين، فإنْ أكثرت، فثلاثاً، ولا تُمِلَّ الناس.
وفي " المسند " (4) عن عائشة أنَّها وصَّت قاصَّ أهلِ المدينة بمثل ذلك. وروي عنها أنَّها قالت لعُبيد بن عُميرٍ: حدِّثِ النَّاسَ يوماً، ودعِ النَّاس يوماً، لا تُملَّهم (5) . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أمر القاصَّ أنْ يقصَّ كلَّ ثلاثة أيام مرَّة. ورُوي عنه أنَّه قال له: روِّح الناسَ ولا تُثقِلْ عليهم، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء.
وقد روى الحافظ أبو نعيم (6) بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد، حدثنا حرملة ابن يحيى قال: سمعتُ الشافعي - رحمة الله عليه -
_________
(1) أخرجه: البخاري 2/131 (1400) ، ومسلم 1/38 (20) (32) من حديث أبي هريرة، به.
(2) انظر: كشف الظنون 2/1909، وأبجد العلوم 2/536.
(3) الصحيح 8/91 (6337) .
(4) مسند الإمام أحمد 6/217.
(5) أخرجه: ابن سعد في " طبقاته " 6/16.
(6) في " الحلية " 9/113.(2/786)
يقول: البدعة بدعتان: بدعةٌ محمودةٌ، وبدعة مذمومةٌ، فما وافق السنة فهو محمودٌ، وما خالف السنة فهو مذمومٌ. واحتجَّ بقول عمر: نعمت البدعة هي.
ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه مِنْ قبلُ: أنَّ البدعة المذمومة ما ليس لها أصل منَ الشريعة يُرجع إليه، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة، يعني: ما كان لها أصلٌ مِنَ السنة يُرجع إليه، وإنَّما هي بدعةٌ لغةً لا شرعاً؛ لموافقتها السنة.
وقد روي عَنِ الشَّافعي كلام آخر يفسِّرُ هذا، وأنَّه قال: والمحدثات ضربان: ما أُحدِثَ مما يُخالف كتاباً، أو سنةً، أو أثراً، أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلال، وما أُحدِث مِنَ الخير، لا خِلافَ فيه لواحدٍ مِنْ هذا، وهذه محدثة غيرُ مذمومة (1) .
وكثير من الأمور التي حدثت، ولم يكن قد اختلفَ العلماءُ في أنَّها هل هي بدعةٌ حسنةٌ حتّى ترجع إلى السُّنة أم لا؟ فمنها: كتابةُ الحديث، نهى عنه عمرُ وطائفةٌ مِنَ الصَّحابة، ورخَّص فيها الأكثرون، واستدلوا له بأحاديث من السُّنَّة.
ومنها: كتابة تفسير الحديث والقرآن، كرهه قومٌ من العُلماء، ورخَّصَ فيه كثيرٌ منهم.
وكذلك اختلافُهم في كتابة الرَّأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسِعَةِ الكلام في المعاملات وأعمالِ القلوب التي لم تُنقل عَنِ الصحابة والتابعين. وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك (2) .
وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجوداً في زمانهم، وما حدث من ذلك بعدَهم،
_________
(1) أخرجه: البيهقي في " مناقب الشافعي " 1/468 - 469.
(2) انظر: فتح الباري 13/311.(2/787)
فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة.
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال: إنَّكم قد أصبحتُم اليومَ على الفطرة، وإنَّكم ستُحدِثونَ ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثةً، فعليكم بالهَدْيِ الأوّل (1) . وابنُ مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.
وروى ابن مهدي، عن مالك قال: لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان (2) . وكأنَّ مالكاً يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرُّق في أُصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممَّن تكلَّم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواصِّ هذه الأمة، أو عكس ذلك، فزعم أنَّ المعاصي لا تضرُّ أهلَها، أو أنَّه لا يدخلُ النَّار مِنْ أهل التوحيدِ أحدٌ.
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره، فكذب بذلك من كذب، وزعم أنَّه نزَّه الله بذلك عن الظلم.
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِثَ مِنَ الكلام في ذات الله وصفاته، ممَّا سكت عنهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتَّابعونَ لهم بإحسّانٍ، فقومٌ نَفَوا كثيراً ممَّا ورَدَ في الكتاب والسُّنة من ذلك، وزعموا أنَّهم فعلوه تنْزيهاً لله عمَّا تقتضي العقولُ تنْزيهه عنه، وزعموا أنَّ لازِمَ ذلك مستحيلٌ على الله - عز وجل -، وقومٌ لم يكتفوا بإثباته، حتى أثبتوا بإثباتهِ ما يُظَنُّ أنَّه لازمٌ له بالنسبة إلى المخلوقين، وهذه اللَّوازم نفياً وإثباتاً دَرَجَ صدْرُ الأمَّة على السُّكوت عنها.
_________
(1) أخرجه: المروزي في " السنة " (80) .
(2) ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح " 13/311.(2/788)
ومما أُحدِث في الأمة بعْدَ عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي، وردُّ كثيرٍ ممَّا وردت به السُّنة في ذلك لمخالفته للرَّأي والأقيسة
العقلية.
ومما حدث بعد ذلك الكلامُ في الحقيقة بالذَّوق والكشف، وزعم أنَّ الحقيقة تُنافي الشريعة، وأنَّ المعرفة وحدَها تكفي مع المحبَّة، وأنَّه لا حاجةَ إلى الأعمالِ، وأنَّها حجابٌ، أو أنَّ الشَّريعة إنَّما يحتاجُ إليها العوامُّ، وربما انضمَّ إلى ذلك الكلامُ في الذَّات والصَّفات بما يعلم قطعاً مخالفتُه للكتاب والسُّنة، وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.(2/789)
الحديث التاسع والعشرون
عَنْ مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: قُلتُ: يا رَسولَ الله أَخبِرني بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني مِنَ النَّارِ، قال: ((لقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظيمٍ وإنَّهُ لَيَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه: تَعْبُدُ الله لا تُشْرِكُ بهِ شيئاً، وتُقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتَصُومُ رَمضَانَ، وتَحُجُّ البَيتَ)) . ثمَّ قالَ: ((ألا أَدُلُّكَ على أبوابِ الخير؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدقَةُ تُطْفِئُ الخَطيئَةَ كَما يُطفئُ الماءُ النارَ، وصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوفِ اللَّيلِ، ثمَّ تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُوْنَ} (1) ، ثُمَّ قالَ: ((أَلا أُخْبِرُكُ برَأْسِ الأمْرِ وعَمودِه وذِرْوَة سنامِهِ؟)) قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ الله، قال: ((رَأسُ الأمْرِ الإسلامُ، وعَمُودُه الصَّلاةُ، وذِرْوَةُ سَنامِهِ الجهادُ)) ، ثم قال: ((ألا أُخبِرُكَ بمَلاكِ ذلك كُلِّهِ؟)) ، قلتُ: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: ((كُفَّ عَلَيكَ هذا)) ، قلتُ: يا نَبيَّ الله، وإنَّا لمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بهِ؟ فقالَ:
((ثَكِلتْكَ أُمُّكَ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجوهِهِمْ، أو على مَنَاخِرِهم إلاَّ حَصائِدُ أَلسِنَتِهِم)) . رواهُ الترمذيُّ، وقال: حَديثٌ حَسنٌ صَحيحٌ.
هذا الحديث خرَّجه الإمام أحمد (2) ، والترمذي (3) ، والنَّسائي (4) ، وابن ماجه (5)
من
_________
(1) السجدة: 16 - 17.
(2) في " مسنده " 5/231.
(3) في " جامعه " (2616) .
(4) في " الكبرى " (11394) وفي " التفسير "، له (414) .
(5) في " سننه " (3973) .
وأخرجه: معمر في " جامعه " (20303) ، وعبد بن حميد (112) ، والمروزي في
" تعظيم قدر الصلاة " (196) ، والطبراني في " الكبير " 20/ (266) ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " (104) ، والبيهقي في " الشعب " (3350) ، والبغوي (11) .(2/791)
رواية معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ بن
جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفيما قاله - رحمه الله - نظر من وجهين:
أحدهما: أنَّه لم يثبت سماعُ أبي وائل من معاذ، وإنْ كان قد أدركه بالسِّنِّ، وكان معاذٌ بالشَّام، وأبو وائل بالكوفة، وما زال الأئمةُ - كأحمد وغيره - يستدلُّون على انتفاء السَّماع بمثل هذا، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء: قد أدركه، وكان بالكُوفة، وأبو الدَّرداء بالشام، يعني: أنَّه لم يصحَّ له سماع منه (1) . وقد حكى أبو زرعة الدِّمشقي عن قوم أنَّهم توقَّفُوا في سماعِ أبي وائل من عمر، أو نفوه، فسماعه من معاذ أبعد.
والثاني: أنَّه قد رواه حمَّادُ بنُ سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن شهر بن حوشبٍ، عن معاذ، خرَّجه الإمام أحمد مختصراً (2) ، قال الدارقطني (3) : وهو أشبهُ بالصَّواب؛ لأنَّ الحديثَ معروفٌ من رواية شهرٍ على اختلافٍ عليه فيه.
قلت: ورواية شهر عن معاذ مرسلةٌ يقيناً (4) ، وشهرٌ مختلفٌ في توثيقه وتضعيفه (5) ، وقد خرَّجه الإمامُ أحمد من رواية شهر، عن عبدِ الرحمان بن غَنْمٍ، عن معاذ (6) ،
وخرَّجه الإمام أحمد أيضاً من رواية عُروة بن النزَّال، أو النزال ابن عروة، وميمون بن أبي شبيب (7) ، كلاهما عن معاذ، ولم يسمع عروةُ ولا ميمونُ من معاذ،
_________
(1) انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (319) .
(2) في " مسنده " 5/248.
وأخرجه: الطبري في " تفسيره " (21515) ، والطبراني في " الكبير " 20/ (200) .
(3) في " العلل " 6/79 س (988) .
(4) انظر: الكنى للبخاري (201) .
(5) انظر: الجرح والتعديل 4/347 (1668) ، وتهذيب الكمال 3/411 (2767) .
(6) في " مسنده " 5/235 و236 و245.
وأخرجه: ابن المبارك في " الجهاد " (31) ، والبزار (2669) و (2670) ، والطبراني في
" الكبير " 5/ (115) و (116) و (140) وفي " مسند الشاميين "، له (222) .
(7) في " مسنده " 5/237.
وأخرجه: ابن أبي شيبة (30314) ، وابن أبي عاصم في " الجهاد " (16) وفي " الزهد "، له (7) ، والنسائي 4/166، والطبري في " تفسيره " (21515) ، والطبراني في " الكبير " 20/ (304) و (305) ، والحاكم 2/76 و412.(2/792)
وله طرقٌ أخرى عن معاذ كلُّها ضعيفة (1) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/234، والبزار (2651) ، والطبراني في " مسند الشاميين " (1492) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/154 عن عطية بن قيس بلفظ: ((الجهاد عمود الإسلام، وذروة سنامه)) .
وفيه بكير بن عبد الله بن أبي مريم (أبو بكر) ، سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: ((ضعيف كان عيسى لا يرضاه)) ، وسئل عنه يحيى بن معين فضعفه، وقال أبو زرعة الرازي: ((ضعيف، منكر الحديث)) . انظر: الجرح والتعديل 2/327 - 328، وتهذيب الكمال 2/252
(7836) .(2/793)
وقوله: ((أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنَّةَ، ويُباعدني من النَّار)) قد تقدَّم في شرح الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب وغيرهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن مثل هذه المسألة، وأجاب بنحو ما أجاب به في حديث معاذ.
وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنَّه قال: يا رسول الله، إنِّي أريدُ أنْ(2/798)
أسألَكَ عن كلمةٍ (1) قد أمرضَتنِي وأسقمتني وأحزنتني، قال: ((سل عمَّا شئتَ)) ، قال: أخبرني بعملٍ يدخلُنِي الجنَّة لا أسألكَ غيرَه، وهذا يدلُّ على شدَّةِ اهتمامِ معاذٍ - رضي الله عنه - بالأعمال الصَّالحة، وفيه دليلٌ على أنَّ الأعمالَ سببٌ لدخول الجنَّة، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) .
وأما قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((لَنْ يدخُلَ أحدٌ منكُمُ الجنَّة بِعمَلِه)) (3) فالمراد - والله أعلم - أنَّ العملَ بنفسه لا يستحقُّ به أحدٌ الجنَّة لولا أنَّ الله جعله - بفضله ورحمته - سبباً لذلك، والعملُ نفسُه من رحمة الله وفضله على عبده، فالجنَّةُ وأسبابُها كلٌّ من فضل الله ورحمته.
وقوله: ((لقد سألتَ عن عظيم)) قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لِرجل سأله عن مثل هذا: ((لئن كُنتَ أوجزت المسألة، لقد أعظمتَ
وأطولتَ)) (4) ، وذلك لأنَّ دخولَ الجنَّة والنَّجاةَ من النار أمرٌ عظيم جداً، ولأجله أنزل الله الكتب، وأرسلَ الرُّسلَ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ: ((كيف تقولُ إذا
صلَّيتَ؟)) قال: أسألُ الله الجنَّة، وأعوذُ به من النار، ولا أُحسِنُ دندنَتَك (5) ولا دندَنَة مُعاذ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
((حَوْلَها نُدَندِن)) .
_________
(1) في (ص) : ((مسألة)) .
(2) الزخرف: 72.
(3) أخرجه: عبد الله بن المبارك في " الزهد " (1445) ، والطيالسي (2322) ، وابن الجعد (2772) ، وأحمد 2/235 و326 و390 و451 و473 و509 و514 و524، والبخاري 8/128 (6463) وفي " الأدب المفرد "، له (461) ، ومسلم 8/138
(2816) (71) ، وابن ماجه (4201) ، وأبو يعلى (1243) ، وابن حبان (348) و (660) ، والطبراني في " الأوسط " (8004) ، والقضاعي في " مسند الشهاب "
(626) ، والبيهقي 3/18 وفي " الشعب "، له (766) و (10149) من طرق عن أبي هريرة، به.
(4) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (7284) ، وقد تقدم.
(5) الدندنة الكلام الذي لا يفهم. انظر: مختصر المختصر لابن خزيمة عقيب حديث (725) .(2/799)
وفي روايةٍ: ((هل تصير دندنتي ودندنةُ مُعاذٍ إلا أنْ نسأل الله
الجنَّةَ، ونعوذ به من النار)) (1) .
وقوله: ((وإنَّه ليسيرٌ على من يسَّره الله عليه)) إشارةٌ إلى أنَّ التَّوفيقَ كُلَّه بيد الله - عز وجل -، فمن يسَّرَ الله عليه الهدى اهتدى، ومن لم يُيسره عليه، لم يتيسَّر له ذلك، قالَ الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (2) ،
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/74، وابن ماجه (910) و (3847) ، وابن خزيمة (725) ، وابن حبان (868) ، والبيهقي في "الصغرى" (467) عن أبي هريرة، به، وهو حديث صحيح.
وقد أبهم اسم الصحابي في " مسند الإمام أحمد " فقال: ((عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)) .
(2) الليل: 5 - 10.(2/800)
وقال - صلى الله عليه وسلم -
:
((اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لهُ، أمَّا أهل السَّعادة، فيُيسَّرون لعمل أهل السَّعادة، وأمَّا أهل الشَّقاوة، فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة)) ، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية (1) . وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائه: ((واهدني ويسِّر الهُدى لي)) (2) ،
_________
(1) أخرجه: معمر في " جامعه " (20074) ، والطيالسي (151) ، وأحمد 1/129، وعبد ابن حميد (84) ، والبخاري 2/120 (1362) و6/212 (4947) و (4948)
و (4949) وفي " الأدب المفرد "، له (903) ، ومسلم 8/45 (2647) (6) ، وأبو داود (4694) ، وأبو يعلى (582) ، والبغوي (72) عن علي بن أبي طالب، به.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (29390) ، وأحمد 1/227، وعبد بن حميد (717) ، والبخاري في " الأدب المفرد " (665) ، وأبو داود (1510) و (1511) ، والترمذي
(3551) ، وابن ماجه (3830) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (607) ، وابن حبان (947) و (948) ، والطبراني في " الدعاء " (1411) و (1412) ، والحاكم 1/519 - 520، والبغوي (1375) ، وقال الترمذي: ((حسنٌ صحيح)) . ...(2/801)
وأخبر الله عن نبيه موسى - عليه السلام - أنَّه قال في دعائه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (1) ، وكان ابنُ عمر يدعو: اللهمَّ يسرني لليُسرى، وجنِبني العُسرى (2) .
وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيهُ ترتيب دخول الجنَّة على الإتيان بأركان الإسلام الخمسة، وهي: التَّوحيدُ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيام، والحجُّ.
وقوله: ((ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ)) لمَّا رتَّبَ دخولَ الجنَّة على واجبات الإسلام، دلَّه بعد ذلك على أبواب الخيرِ مِنَ النَّوافِل، فإنَّ أفضلَ أولياءِ الله هُمُ المقرَّبون، الذين يتقرَّبون إليه بالنَّوافل بعدَ أداءِ الفرائض.
وقوله: ((الصومُ جنَّة)) هذا الكلام ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجُوهٍ كثيرةٍ، وخرَّجاه في " الصحيحين " (3) من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخرَّجه الإمام أحمد (4) بزيادة، وهي: ((الصِّيام جنَّةٌ وحِصْنٌ حصينٌ مِنَ النَّار)) .
وخرّج من حديث عثمان بن أبي العاص، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
_________
(1) طه: 25 - 26.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (29861) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/308.
(3) صحيح البخاري 3/31 (1894) ، وصحيح مسلم 3/156 (1151) (162) .
وأخرجه: مالك في " الموطأ " (860) برواية الليثي، وأحمد 2/465، وأبو داود
(2363) ، والنسائي (3252) و (3253) ، وابن حبان (3427) .
(4) في " مسنده " 2/402.
وأخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (3571) .(2/802)
((الصوم جنَّةٌ مِنَ النَّارِ (1) ، كجُنَّة أحدكم من القِتال)) (2) .
ومن حديث جابر، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قال ربُّنا - عز وجل -: الصِّيام جنَّةٌ يستجِنُّ بها العبدُ من النَّار)) (3) .
وخرَّج أحمد (4) والنَّسائي (5) من حديث أبي عُبيدة، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((الصِّيام جنَّة ما لم يَخْرِقْها)) ، وقوله: ((ما لم يخرقها)) ، يعني: بالكلام السيء ونحوه، ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في " الصحيحين " (6) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
: ((الصيام جنَّة، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤٌ سابَّه فليقل: إني امرؤ صائم)) .
وقال بعضُ السَّلف: الغيبةُ تخرقُ الصِّيامَ، والاستغفارُ يرقَعُهُ، فمن استطاع منكم أنْ لا يأتي بصوم مخرَّقٍ فليفعل (7) .
وقال ابنُ المنكدر: الصائمُ إذا اغتاب خرق، وإذا استغفر رقع.
وخرَّج الطبراني (8) بإسنادٍ فيه نظرٌ عن أبي هريرة مرفوعاً: ((الصِّيامُ جُنَّةٌ ما لم يخرقها)) ، قيل: بم يخرقه؟ قال: ((بكذبٍ أو غيبةٍ (9)) ) .
فالجُنَّة: هي ما يستجنُّ بها العبد، كالمجنِّ الذي يقيه عندَ القتالِ من الضَّرب، فكذلك الصيام يقي صاحبه منَ المعاصي في الدُّنيا، كما قال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
_________
(1) عبارة: ((من النار)) سقطت من (ص) .
(2) في " مسنده " 4/21 و22 و217، وإسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق، والحديث في " مختصر المختصر " (1891) وراجع تخريجه هناك.
(3) أخرجه: أحمد 3/341 و396، وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة.
(4) في " مسنده " 1/195 و196، وإسناده لا بأس به.
(5) في " المجتبى " 4/167 و168.
(6) سبق تخريجه.
(7) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (3644) عن أبي هريرة.
(8) في " الأوسط " (4536) و (7814) .
وأخرجه: ابن عدي في " الكامل " 4/32.
وفيه الربيع بن بدر، قال عنه يحيى بن معين: ((بصريٌّ ضعيف ليس بشيء)) ، وقال البخاري: ((يقال له: عليلة بن بدر السعدي التميمي بصري)) ، وقال أبو داود: ((ضعيف)) ، وقال أبو حاتم: ((لا يشتغل به ولا بروايته، فإنَّه ضعيف الحديث ذاهب الحديث)) .
انظر: الكامل 4/29، وتهذيب الكمال 2/457 (1839) .
وهو كذلك من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقد قال أبو حاتم الرازي، والذهبي بعدم سماع الحسن من أبي هريرة. انظر على سبيل المثال: المراسيل لابن أبي حاتم (102) و (103)
و (104) ... إلخ، وسير أعلام النبلاء 4/566.
(9) من قوله: ((قيل بم يخرقه ... )) إلى سقط من (ص) .(2/803)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ،
فإذا كان له جُنَّةٌ من المعاصي، كان له في الآخرة جُنَّةٌ من النار، وإنْ لم يكن له جُنَّةٌ في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جُنَّةٌ في الآخرة من النار.
وخرَّج ابنُ مردويه من حديث عليٍّ مرفوعاً، قال: ((بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلماتٍ)) ، فذكر الحديثَ بطوله، وفيه: ((وإنَّ الله يأمُركُم أنْ تصُوموا، ومَثَلُ ذلك كمثل رجلٍ مشى إلى عدوِّه، وقد أخذَ للقتال جُنَّةً، فلا يخافُ من حيث ما أُتي)) (2) . وخرَّجه من وجهٍ آخر عن عليٍّ موقوفاً، وفيه قال: ((والصيامُ مَثَلُه كمثل رجلٍ انتصره النَّاسُ، فاستحدَّ في السِّلاح، حتَّى ظنَّ أنَّه لن يصل إليه سلاحُ العدوِّ، فكذلك الصيامُ جنَّة)) (3) .
وقوله: ((والصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النارَ)) هذا الكلامُ رُويَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن وجوهٍ أُخر، فخرَّجه الإمامُ أحمد والترمذي
_________
(1) البقرة: 183.
(2) أخرجه: البزار (695) بدون لفظة: ((وإن الله يأمركم أن تصوموا ... )) وقال عقبه
: ((ولم أرى الخامسة في كتابي)) ، وإسناد الحديث ضعيف.
(3) أخرجه: عبد الرزاق (5141) .(2/804)
من حديث كعب بن عُجرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الصَّومُ جُنَّةٌ حصينةٌ، والصَّدقةُ تُطفئ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماء النار)) (1) .
وخرَّجه الطبراني وغيره من حديث أنس مرفوعاً، بمعناه (2) .
وخرّجه الترمذي (3) وابنُ حبان في " صحيحه " (4) من حديث أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ صدقة السِّرِّ لتطفئُ غضبَ الربِّ، وتدفع مِيتةَ السُّوء)) .
ورُوي عن عليِّ بنِ الحسين: أنَّه كان يحملُ الخبزَ على ظهرهِ باللَّيل يتَّبِعُ
به المساكين في ظُلمة الليل، ويقول: إنَّ الصَّدقة في ظلامِ (5) اللَّيلِ تُطفئُ
غضبَ الرَّبِّ - عز وجل - (6) . وقد قال الله - عز وجل -: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ} (7) ، فدلَّ على أنَّ الصدقة يُكفَّر بها من السيئات: إما مطلقاً، أو صدقة السر.
وقوله: ((وصلاةُ الرَّجُلِ في جوف الليل)) ، يعني: أنَّها تُطفئ الخطيئة أيضاً كالصَّدقة، ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه الإمام أحمد من رواية عُروة بن النَّزَّال، عن معاذ قال: أقبلنا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، فذكر الحديثَ، وفيه: ((الصَّومُ جنَّةٌ، والصَّدقةُ وقيامُ العبد في جوف الليل يُكفر
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) في " جامعه " (664) ، وقال: ((حسن غريب)) على أنَّ في إسناده عبد الله بن عيسى الخزاز ضعيف.
(4) الإحسان (3309) .
(5) في (ج) : ((سواد)) .
(6) أخرجه: ابن أبي عاصم في " الزهد ": 16، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/135 - 136.
(7) البقرة: 271.(2/805)
الخطيئة)) (1) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبة قيامُ الليل)) .
وقد رُوي عن جماعةٍ من الصحابة: أنَّ الناس يحترقون بالنهار بالذنوب، وكلَّما قاموا إلى صلاةٍ من الصَّلوات المكتوبات أطفؤوا ذنوبهم، ورُوي ذلك مرفوعاً من وجوهٍ فيها نظرٌ.
فكذلك قيامُ الليل يُكفر الخطايا؛ لأنَّه أفضلُ نوافل الصلاة، وفي
" الترمذي " (3) من حديث بلال، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((عليكم بِقيام الليل،
فإنَّه دأبُ الصالحين قَبلَكُم، وإنَّ قيامَ الليل قربةٌ إلى الله - عز وجل -، ومنهاةٌ عن
الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردة للدَّاءِ عن الجسد)) . وخرَّجه أيضاً من حديث
أبي أُمامة (4) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، وقال: هو أصحُّ من حديث بلال.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) الصحيح 3/169 (1163) (202) و (203) .
(3) الجامع الكبير (3549) .
وأخرجه: المروزي في " قيام الليل " (18) ، والروياني في " مسند الصحابة " (745) ، والشاشي (978) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (3087) ، وهذا حديث ضعيف،
قال الترمذي: ((غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه، ولا يصحّ
من قبل إسناده؛ وسمعت محمد بن إسماعيل، يقول: محمد القرشي هو: محمد بن
سعيد الشامي، وهو: ابن قيس، وهو: محمد بن حسّان، وقد ترك
حديثه)) .
(4) الجامع الكبير (3549 م2) .(2/806)
وخرَّجه ابن خزيمة (1) والحاكم (2) في " صحيحيهما " من حديث أبي أمامة
أيضاً.
وقال ابن مسعود: فضلُ صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية. وخرَّجه أبو نعيم عنه مرفوعاً (3) ، والموقوف (4) أصح.
وقد تقدَّم أنَّ صدقة السِّرِّ تُطفئُ الخطيئة، وتُطفئ غضبَ الرَّبِّ، فكذلك صلاةُ الليل.
وقوله: ((ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) ، يعني: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هاتين الآيتين عندَ ذكره فضلَ صلاة الليل، ليبيِّنَ بذلك فضل صلاة الليل، وقد رُويَ عن أنس أنَّ هذه الآية نزلت في انتظار صلاةِ العشاء، خرَّجه الترمذي وصححه (6) . ورُوي عنه أنَّه قال في هذه الآية: كانوا يتنفلون بينَ المغرب والعشاء، خرَّجه أبو داود (7) . وروي نحوه عن بلال، خرّجه البزار بإسنادٍ ضعيف (8) .
_________
(1) مختصر المختصر (1135) ، وقلت في تعليقي هناك: ((هذا الحديث منكر من منكرات معاوية بن صالح، وقد ساقه ابن عدي في كتابه " الكامل " ضمن منكراته، وقد سبق إلى هذا الإعلال أبو حاتم الرازي فقد قال: ((وهو حديث منكر لم يروه غير معاوية بن صالح، وأظنه من حديث محمد بن سعيد الشامي الأزدي؛ فإنَّه يروي هذا الحديث بإسنادٍ آخر)) علل الحديث (346)) ) .
(2) المستدرك 1/308.
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " (7466) وفي " الأوسط "، له (3265) ، والبيهقي 2/502، والبغوي (922) .
(3) في " حلية الأولياء " 4/167 و5/36.
(4) في " حلية الأولياء " 4/167 و5/36 و7/238.
وأخرجه: ابن أبي شيبة (6610) ، والطبراني في " الكبير " (8998) و (8999) موقوفاً.
(5) السجدة: 16 - 17.
(6) في " جامعه " (3196) .
وأخرجه: الطبري في " تفسيره " (21505) .
(7) في " سننه " (1322) .
وأخرجه: الطبري في " تفسيره " (21505) .
(8) في " مسنده " (1364) . وفيه عبد الله بن شبيب، قال عنه الهيثمي: ((ضعيف)) . انظر: مجمع الزوائد 7/90، وكذا في السند علل أُخر.(2/807)
وكلُّ هذا يدخل في عموم لفظ الآية، فإنَّ الله مدح الذين تتجافى جنوبُهم عن المضاجع لدعائه، فيشملُ ذلك كلَّ مَنْ ترك النَّومَ بالليل لذكر الله ودُعائه، فيدخلُ فيه مَنْ صلَّى بين العشاءين، ومن انتظرَ صلاة العشاءِ فلم ينم حتَّى يُصليها
لاسيما مع حاجته إلى النوم، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، وقد
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنِ انتظرَ صلاةَ العشاء: ((إنَّكم لن تَزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم
الصَّلاة)) (1) .
ويدخلُ فيه مَنْ نامَ ثمَّ قام مِنْ نومه باللَّيل للتهجُّدِ، وهو أفضلُ أنواع التطوُّع بالصَّلاة مطلقاً.
وربما دخل فيه من ترك النَّوم عندَ طُلوع الفجر، وقام إلى أداء صلاةِ الصُّبح، لاسيما مع غَلَبَةِ النَّوم عليه، ولهذا يُشرع للمؤذِّن في أذان الفجر أنْ يقولَ في أذانه: الصَّلاة خَيرٌ مِن النوم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وصلاةُ الرَّجُلِ من جوف الليل)) ذكر أفضلَ أوقات التهجُّد بالليل، وهو جوفُ الليل،
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة (4074) ، وأحمد 3/182 و189 و200 و267، وعبد بن
حميد (1292) ، والبخاري 1/150 (572) و1/168 (661) و1/214 (847) و7/201 (5869) ، ومسلم 2/116 (640) (222) ، وأبو يعلى (3313) ، وأبو عوانة 1/303، وابن حبان (1537) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " (1423) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (6370) .(2/808)
وخرَّج الترمذي (1) والنَّسائي (2) من حديث أبي أمامة، قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الدُّعاء أسمع؟ قالَ: ((جوفُ الليل الآخرِ، ودُبُرُ الصَّلوات المكتوبات)) .
وخرَّجه ابن أبي الدنيا (3) ، ولفظه: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أيُّ
الصلاة أفضل؟ قال: ((جوفُ الليل الأوسط)) ، قال: أيُّ الدُّعاء أسمع؟ قال
: ((دُبر المكتوبات)) .
وخرَّج النَّسائي (4) من حديث أبي ذرٍّ قال: سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أي الليل خير؟ قالَ: ((خير الليل جوفه)) . وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث أبي مسلم قال: قلت لأبي ذرٍّ: أيُّ قيام الليل أفضل؟ قال: سألت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فقال:
((جوفُ اللَّيل الغابر (6) ، أو نصف الليل، وقليلٌ فاعله)) .
وخرَّج البزار (7) ، والطبراني (8) من حديث ابنِ عمر، قال: سُئلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الليل أجوبُ دعوةً؟ قالَ: ((جوف الليل)) ، زاد البزار في روايته: ((الآخر)) .
_________
(1) في " جامعه " (3499) ، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن)) على أنَّ إسناده قد أعل بالانقطاع فقد أعل سند الحديث ابن القطان فقال: ((اعلم أنَّ ما يرويه ابن سابط، عن أبي أمامة، هو منقطع لم يسمع منه)) بيان الوهم والإيهام 2/385 (387) .
(2) في " الكبرى " (9936) وفي " عمل اليوم والليلة "، له (108) .
(3) في " التهجد " (240) .
(4) في " الكبرى " (4216) .
وأخرجه: البخاري في " التاريخ الكبير " 2/36 (1635) ثم ساقه مرسلاً، وظاهر صنيعه أنَّه أعله بالإرسال.
(5) في " مسنده " 5/179.
وأخرجه: النسائي في " الكبرى " (1308) ، وابن حبان (2564) ، والبيهقي 3/4، وإسناده ضعيف المهاجر أبو خالد قال عنه أبو حاتم: ((لين الحديث ليس بذاك، وليس
بالمتقن، يكتب حديثه)) ؛ لكن للحديث شواهد تقويه.
(6) أي: الباقي.
(7) كما في " كشف الأستار " (3151) .
(8) في " الأوسط " (3428) ، وفي " الصغير "، له (347) .(2/809)
وخرَّج الترمذي (1) من حديثِ عمرو بن عبسة، سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول
: ((أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكونَ ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) ، وصححه، وخرَّجه الإمام أحمد (2) ،
ولفظه قالَ: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الساعات أفضلُ؟ قال: ((جوفُ الليل الآخر)) وفي روايةٍ (3) له أيضاً: قال: ((جوف الليل الآخر أجوبُه دعوةً)) ، وفي روايةٍ (4) له: قلتُ: يا رسول الله، هل مِنْ ساعةٍ أقربُ إلى الله من أخرى؟ قال: ((جوف الليل الآخر (5)) ) . وخرَّجه ابن ماجه (6) ، وعنده: ((جوفُ اللَّيل الأوسط)) وفي روايةٍ للإمام أحمد (7) عن عمرو بن عبسة، قال: قلتُ: يا رسول الله، هل من ساعةٍ أفضلُ من ساعةٍ؟ قال: ((إنَّ الله ليتدلَّى في جوف الليل، فيغفر إلاَّ ما كان من الشرك)) .
وقد قيل: إنَّ جوف الليل إذا أطلق، فالمرادُ به وسطُه، وإنْ قيل: جوف الليل الآخر،
_________
(1) في " جامعه " (3579) . =
= ... وأخرجه: النسائي 1/279 وفي " الكبرى "، له (1544) ، وابن خزيمة (1147) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/37 و352، والحاكم 1/309.
(2) في " مسنده " 4/112 و385.
وأخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 4/164 - 165، وعبد بن حميد (300) .
(3) في " مسنده " 4/387، وإسناد هذه الرواية ضعيف، وقد اضطرب راويها ففي بعضها
: ((أوجبه)) .
وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/154.
(4) في " مسنده " 4/114.
وأخرجه: عبد بن حميد (297) ، والنسائي 1/279 و283 وفي "الكبرى"، له (1544) و (1560) ، وابن خزيمة (1147) ، وهو حديث صحيح. ...
(5) من قوله: ((أجوبه دعوة ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(6) في " سننه " (1251) ، وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن طلق وعبد الرحمان بن البيلماني.
(7) في " مسنده " 4/385، وإسناده ضعيف لانقطاعه بين سليم بن عامر وعمر بن عَبسة.(2/810)
فالمرادُ وسط النِّصف الثاني، وهو السدسُ الخامسُ من أسداس الليل، وهو الوقتُ الذي ورد فيه النزول الإلهي.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أُخبرك برأسِ الأمر وعموده وذِروة سنامه؟)) قلتُ: بلى
يا رسول الله، قال: ((رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاةُ، وذِروةُ سنامه
الجهادُ)) ، وفي روايةٍ للإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب، عن ابن غَنْمٍ، عن معاذ قال: قال لي نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنْ شئتَ حدَّثتُك برأسِ هذا الأمرِ وقِوام هذا الأمرِ وذِروة السَّنام)) ، قلتُ: بلى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ رأسَ هذا الأمر أنْ تشهدَ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسولُه، وإنَّ قِوام هذا الأمر إقام الصَّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وإنَّ ذِروة السَّنام منه الجهادُ في سبيل الله، إنَّما أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حتّى يُقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزَّكاة، ويشهدوا أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها، وحسابُهم على الله - عز وجل -)) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((والذي نفسُ محمدٍ بيده، ما شحب وجهٌ، ولا اغبرَّت قدمٌ في عملٍ يُبتغى فيه درجات الجنَّة بعدَ الصلاة المفروضة كجهادٍ في سبيل الله، ولا ثَقَّلَ ميزانَ عبدٍ كدابَّةٍ تنفق له في سبيل الله، أو يُحمل عليها في سبيل الله - عز وجل -)) (1) .
فأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أشياء: رأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه.
_________
(1) سبق تخريجه.(2/811)
فأمَّا رأس الأمر، ويعني بالأمر: الدين الذي بعث به وهو الإسلام، وقد جاء تفسيرُه في الرواية الأخرى بالشهادتين، فمن لم يقرَّ بهما ظاهراً وباطناً، فليسَ من الإسلام في شيء.
وأمَّا قِوام الدين الذي يقومُ به الدِّين كما يقومُ الفسطاطُ على عموده، فهو
الصلاة، وفي الرواية الأخرى: ((وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) وقد سبق القولُ في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض.
وأمَّا ذِروة سنامه - وهو أعلى ما فيه وأرفعه - فهو الجهاد، وهذا يدلُّ على أنَّه أفضلُ الأعمال بعدَ الفرائض، كما هو قولُ الإمام أحمد وغيره من العلماء.
وقوله في رواية الإمام أحمد: ((والذي نفس محمدٍ بيده ما شحب وجهٌ ولا اغبرَّت قدمٌ في عمل يُبتغى به درجات الجنَّة بعدَ الصَّلاة المفروضة كجهادٍ في سبيلِ الله - عز وجل -)) يدلُّ على ذلك صريحاً.
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي ذرٍّ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: ((إيمانٌ بالله وجهادٌ في سبيله)) .
_________
(1) سبق تخريجه.(2/812)
وفيهما (1) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أفضلُ الأعمال إيمانٌ بالله، ثمَّ جهاد في سبيل الله)) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جداً.
وقوله: ((ألا أُخبرك بملاك ذلك كُلِّه)) قلتُ: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه فقال: ((كُفَّ عليك هذا)) إلى آخر الحديث. هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كُلِّه، وأنَّ من ملك لسانه، فقد ملك أمره وأحكمه (2) وضبطه، وقد سبق الكلامُ على هذا المعنى في شرح حديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً، أو ليصمت)) (3) . وفي شرح حديث: ((قل: آمنتُ باللهِ، ثم استقم)) (4) . وخرَّج البزار في " مسنده " (5) من حديث أبي اليَسَر (6) أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، دلَّني على عملٍ يُدخلني الجنَّة، قال
:
((أمسك هذا)) ، وأشار إلى لسانه، فأعادها عليه، فقال: ((ثكلتك أمُّك،
هل يَكُبُّ النَّاسَ على مناخرهم في النَّار إلاَّ حصائدُ ألسنتهم))
_________
(1) أخرجه: البخاري 2/164 (1519) ، ومسلم 1/61 (83) (135) .
(2) سقطت من (ص) .
(3) الحديث الخامس عشر.
(4) الحديث الحادي والعشرون.
(5) البحر الزخار (2302) .
وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/300.
(6) أبو اليَسَر، بفتح التحتانية والمهملة: كعب بن عمرو بن عباد السَّلمي، بالفتح، صحابي بدريٌّ جليل. التقريب (5646) .(2/813)
وقال: إسناده
حسن.
والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله (1) الحسنات والسَّيِّئات، ثم يَحصُدُ يومَ القيامة ما زرع، فمن زرع خيراً من قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامةَ، ومن زرع شرَّاً مِنْ قولٍ أو عملٍ حصد غداً النَّدامة.
وظاهرُ حديثِ معاذ يدلُّ على أنَّ أكثر ما يدخل النَّاسُ به النار النُّطقُ بألسنتهم، فإنَّ معصية النُّطق يدخل فيها الشِّركُ وهو أعظمُ الذنوب عندَ الله - عز وجل - (2) ، ويدخل فيها القولُ على الله بغير علم، وهو قرينُ الشِّركِ، ويدخلُ فيه شهادةُ الزُّور التي عدَلت الإشراك بالله - عز وجل -، ويدخلُ فيها السِّحر والقذفُ وغيرُ ذلك مِنَ الكبائر والصَّغائر كالكذب والغيبةِ والنَّميمة، وسائرُ المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون معيناً عليها.
وفي حديث أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أكثرُ ما يُدخِلُ النَّاسَ النارَ الأجوفان: الفمُ والفرجُ)) خرَّجه الإمام أحمد (3) والترمذي (4) .
وفي " الصحيحين " (5)
عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها، يَزِلُّ بها في النَّار أبعدَ ما بينَ المشرق والمغرب))
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) عبارة: ((عند الله - عز وجل -)) لم ترد في (ص) .
(3) في " مسنده " 2/291 و392 و442.
(4) في " جامعه " (2004) ، وقال الترمذي: ((صحيح غريب)) .
(5) أخرجه: البخاري 8/125 (6477) ، ومسلم 8/222 - 223 (2988) (50) .
وأخرجه: ابن حبان (5707) و (5708) ، والبيهقي 8/164 وفي " شعب الإيمان "، له
(4956) .(2/814)
وخرَّجه الترمذي (1) ، ولفظه: ((إنَّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأساً، يهوي بها سبعين خريفاً في النار)) .
وروى مالك (2) ، عن زيد بنِ أسلم، عن أبيه: أنَّ عمرَ دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال عمر (3) : مه، غفر الله لك! فقال أبو بكرٍ: هذا أوردني الموارد.
وقال ابنُ بريدة: رأيتُ ابنَ عبَّاسٍ آخذاً بلسانه وهو يقول: ويحك، قُلْ خيراً تغنم، أو اسكت عن سُوءٍ تسلم، وإلا فاعلم أنَّك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن عبَّاس، لم تقولُ هذا؟ قال: إنّه بلغني أنَّ الإنسان -أراه قال- ليس على شيءٍ من جسده أشدُّ حنقاً أو غيظاً يَوْمَ القيامةِ منه على لسانه إلا من قال به خيراً، أو أملى به خيراً (4) .
وكان ابن مسعود يحلِفُ بالله الذي لا إله إلا هو: ما على الأرض شيءٌ
أحوج إلى طولِ سجنٍ من لسان (5) .
وقال الحسن: اللسان أميرُ البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئاً جنت، وإذا عفَّ عفت (6) .
وقال يونس بنُ عبيد: ما رأيتُ أحداً لسانه منه على بالٍ إلا رأيتُ ذلك صلاحاً في سائر عمله (7) .
وقال يحيى بن أبي كثير: ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله (8) .
_________
(1) في " جامعه " (2314) ، وقال: ((حسن غريب)) على أنَّ الحديث صحيح.
وأخرجه: أحمد 2/236 و297 و355، وابن ماجه (3970) ، وابن أبي عاصم: 15 و394، وأبو يعلى (6235) ، والحاكم 4/597.
(2) في " الموطأ " (2825) برواية الليثي.
(3) لم ترد في (ص) .
(4) أخرجه: أحمد في " الزهد " (1047) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/327 - 328.
(5) أخرجه: ابن أبي شيبة (26499) ، وهناد بن السري في " الزهد " (1095) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/134.
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الصمت " (59) .
(7) أخرجه: أحمد في " الزهد " (112) (ط دار الكتب العلمية) .
(8) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/68.(2/815)
وقال المبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد: لا تجدُ شيئاً مِنَ البرِّ واحداً يتَّبعه البِرُّ كلّه غيرَ اللسان، فإنَّك تَجِدُ الرجل يصومُ النهار، ويُفطر على حرام، ويقومُ الليل ويشهد بالزور بالنهار - وذكرَ أشياءَ نحو هذا - ولكن لا تجده لا يتكلَّم إلا بحقٍّ فَيُخالف ذلك عمله أبداً (1) .
_________
(1) أخرجه: أحمد في " الزهد " (113) (ط دار الكتب العلمية) .(2/816)
الحديث الثلاثون
عَنْ أَبي ثَعلَبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه -، عَن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: ((إنَّ الله فَرَضَ فرائِضَ، فَلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدوها، وحَرَّمَ أَشْياءَ، فلا تَنتهكوها، وسَكَتَ عنْ أشياءَ رَحْمةً لكُم غَيْرَ نِسيانٍ، فلا تَبحَثوا عَنْها)) . حديثٌ حسنٌ، رواه الدَّارقطنيُّ (1) وغيرُهُ.
هذا الحديثُ من رواية مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، وله علتان:
إحداهما: أنَّ مكحولاً لم يصحّ له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نُعيم الحافظ وغيرهما.
والثانية: أنَّه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني (2) : الأشبه بالصَّواب المرفوعُ، قال: وهو أشهرُ.
وقد حسَّن الشيخُ رحمه الله هذا الحديث، وكذلك حسّنه قبلَه الحافظ أبو بكر ابن السمعاني في " أماليه ".
وقد رُويَ معنى هذا الحديث مرفوعاً من وجوه أُخر، خرَّجه البزار في
" مسنده " (3) والحاكم (4) من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا منَ الله عافيتَهُ، فإنَّ الله لم يكن لينسى شيئاً)) ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (5) ، وقال الحاكم (6) : صحيح الإسناد،
_________
(1) في " سننه " 4/184 (4350) .
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " 22/ (589) وفي " مسند الشاميين "، له (3492) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/17، والبيهقي 10/12 - 13، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/9 من حديث أبي ثعلبة الخشني، به.
وأخرجه: البيهقي 10/12 عن أبي ثعلبة موقوفاً.
(2) في " العلل " 6/324 (1170) .
(3) كما في " كشف الأستار " (123) من حديث أبي الدرداء، به.
(4) في " المستدرك " 2/375، وأخرجه: البيهقي 10/12.
(5) مريم: 64.
(6) في " المستدرك " 2/375.(2/817)
وقال البزار (1) : إسناده
صالح.
وخرَّجه الطبراني (2) والدارقطني (3) من وجه آخر، عن أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث (4) أبي ثعلبة، وقال في آخره: ((رحمة من الله، فاقبلوها)) ، ولكن إسناده ضعيف.
وخرَّج الترمذي (5) ، وابن ماجه (6) من رواية سيف بن هارون، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ السَّمن والجُبن والفراء، فقال: ((الحلالُ ما أحلَّ الله في كتابه، والحرامُ ما حرَّمَ الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه)) .
وقال الترمذي (7) : رواه سفيان - يعني: ابن عيينة - عن سليمان، عن أبي
عثمان، عن سلمان من قوله، قال: وكأنَّه أصحُّ. وذكر في كتاب " العلل " (8) عن البخاري: أنَّه قال في الحديث المرفوع: ما أراه محفوظاً، وقال أحمد: هو
منكر، وأنكره ابنُ معين أيضاً، وقال أبو حاتم الرازي (9) : هو خطأ، رواه الثقات عن التيمي، عن أبي عثمان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، ليس فيه سلمان.
قلت: وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر.
وخرَّجه ابن عدي (10) من حديث ابن عمر مرفوعاً وضعَّف إسناده.
ورواه أبو صالح المري، عن الجُريري، عن أبي عثمان النهدي، عن عائشة
مرفوعاً، وأخطأ في إسناده.
_________
(1) كما في " كشف الأستار " عقيب الحديث (123) .
(2) في "الأوسط" (7461) وفي "الصغير"، له (1083) وإسناده ضعيف جداً؛ لشدة ضعف أصرم بن حوشب، وهذا الحديث عدّه ابن عدي في "الكامل" 2/297 من أباطيل أصرم هذا.
(3) في " سننه " 4/297 - 298 (4768) ، وإسناده ضعيف جداً لشدة ضعف نهشل الخراساني.
(4) سقطت من (ص) .
(5) في " جامعه " (1726) ، والحديث معلول بالوقف.
(6) في " سننه " (3367) من حديث سلمان الفارسي، به.
(7) في " جامعه " عقيب الحديث (1726) .
(8) عقيب الحديث (303) .
(9) في " العلل " 2/228 عقيب الحديث (1503) .
(10) في " الكامل " 8/250.(2/818)
وروي عن الحسن مرسلاً (1) .
وخرَّج أبو داود (2) من حديث ابن عباس قال: كان أهلُ الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، وأحلَّ
حلاله، وحرَّم حرامه، فما أحلَّ فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت
عنه فهو عفو، وتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (3) ، وهذا
موقوف.
وقال عُبيد بن عمير: إنَّ الله - عز وجل - أحلَّ حلالاً وحرَّم حراماً، وما أحلَّ فهو
حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفوٌ (4) .
فحديث أبي ثعلبة قسَّم فيه أحكام الله أربعةَ أقسام: فرائض، ومحارم، وحدود، ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكامَ الدين كلَّها.
قال أبو بكر بن السَّمعاني: هذا الحديثُ أصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدِّين، قال: وحُكي عن بعضهم أنّه قال: ليس في أحاديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ واحدٌ أجمع بانفراده لأصولِ العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة، قال: وحُكي عن أبي واثلة المزني أنَّه قال: جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدِّين في أربعِ كلماتٍ، ثم ذكر حديثَ أبي ثعلبة.
قال ابنُ السَّمعاني: فمن عمِلَ بهذا الحديث، فقد حاز الثَّواب، وأمِنَ
العقابَ؛ لأنَّ من أدَّى الفرائضَ، واجتنب المحارم، ووقف عندَ الحدودِ، وترك البحث عمَّا غاب عنه، فقد استوفى أقسامَ الفضل، وأوفى حقوق الدِّين؛ لأنَّ الشرائع لا تخرُج عَنْ هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث. انتهى.
_________
(1) أخرجه: العقيلي في " الضعفاء " 2/174.
(2) في " سننه " (3800) .
وأخرجه: ابن أبي حاتم في " تفسيره " 5/1404 - 1405 (8000) ، والحاكم 4/115 عن عبد الله بن عباس موقوفاً.
(3) الأنعام: 145.
(4) انظر: التمهيد لابن عبد البر 21/291.(2/819)
فأما الفرائض، فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به، كالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ.
وقد اختلفَ العلماء: هل الواجبُ والفرضُ بمعنى واحد أم لا؟ فمنهم من
قال: هما سواء، وكلُّ واجب بدليلٍ شرعي من كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماعٍ، أو غير ذلك من أدلة الشرع، فهو فرضٌ، وهو المشهور عن أصحاب الشَّافعي
وغيرهم (1) ، وحُكي رواية عن أحمد؛ لأنَّه قال: كلُّ ما في الصلاة فهو فرضٌ.
ومنهم من قال: بل الفرضُ ما ثبتَ بدليلٍ مقطوعٍ به (2) ، والواجبُ ما ثبت بغير مقطوع به، وهو قولُ الحنفيَّةِ وغيرهم (3) .
وأكثرُ النُّصوص عن أحمد تُفرِّق بين الفرض والواجب (4) ، فنقل جماعةٌ
مِنْ أصحابه عنه أنَّه قال: لا يُسمَّى فرضاً إلا ما كان في كتاب الله تعالى، وقال
في صدقة الفطر: ما أجترئ أنْ أقول: إنَّها فرضٌ (5) ، مع أنَّه يقول بوجوبها،
فمِنْ أصحابنا مَنْ قال: مراده أنَّ الفرض: ما ثبت بالكتاب، والواجب: ما
ثبت بالسنَّة، ومنهم من قال: أراد أنَّ الفرض: ما ثبت بالاستفاضة والنَّقل
المتواتر، والواجب: ما ثبت مِنْ جهة الاجتهاد، وساغ الخلافُ في
وجوبه (6) .
ويُشْكِلُ على هذا أنَّ أحمد قال في رواية الميموني في برِّ الوالدين: ليس بفرضٍ، ولكن أقولُ: واجبٌ ما لم يكن معصية، وبرُّ الوالدين مجمَعٌ على وجوبه، وقد كثُرتِ الأوامرُ به في الكتاب والسُّنَّة، فظاهرُ هذا أنَّه لا يقول: فرضاً إلاَّ ما ورد في الكتاب والسُّنة تسميته فرضاً.
_________
(1) انظر: اللمع: 65، والمستصفى 1/66، وروضة الناظر 1/103، والإحكام -للآمدي 1/99، وتحفة المسؤول 2/23، وشرح الكوكب المنير 1/351 - 352.
(2) انظر: اللمع: 65، والمستصفى 1/66، وميزان الأصول: 28، والمحصول 1/97، والإحكام - للآمدي 1/99، وتحفة المسؤول 2/24، والبحر المحيط 1/144، وإرشاد الفحول: 60.
(3) انظر: اللمع: 65، والمستصفى 1/66، وميزان الأصول: 28، والإحكام - للآمدي 1/99، وتحفة المسؤول 2/23 - 24، والبحر المحيط 1/145 - 146، وإرشاد الفحول: 60.
(4) انظر: شرح الكوكب المنير 1/352.
(5) انظر: المغني 2/647، والواضح في شرح مختصر الخرقي 2/85.
(6) انظر: اللمع: 65.(2/820)
وقد اختلفَ السَّلفُ في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: هل يُسمَّى فريضةً أم لا (1) ؟ فقالَ جويبر، عن الضحاك: هما مِنْ فرائض الله - عز وجل -، وكذا رُوي عَنْ مالك.
وروى عبدُ الواحد بن زيد، عن الحسن، قال: ليس بفريضةٍ، كان فريضةً على بني إسرائيل، فرحم الله هذه الأمة لِضعفهم، فجعله عليهم نافلة.
وكتب عبدُ الله بن شبرمة إلى عمرو بن عُبيد أبياتاً مشهورةً أولها:
الأَمْرُ بالمعروفِ يا عمرو نافِلَةٌ ... والقَائِمونَ بهِ لله أنْصارُ
واختلف كلامُ أحمد فيه: هل يُسمَّى واجباً أم لا؟ فروى عنه جماعةٌ ما يدلُّ على وجوبه، وروى عنه أبو داود في الرجل يرى الطُّنبورَ ونحوَه: أواجبٌ عليه تغييره؟ قال: ما أدري ما واجب إن غيَّر، فهو فضل (2) .
وقال إسحاق بن راهويه: هو واجبٌ على كلِّ مسلمٍ، إلاَّ أنْ يخشى على نفسه،
_________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص 2/37 - 38، وأحكام القرآن لابن العربي 1/350، ومجموعة الفتاوى لابن تيمية 28/73.
(2) انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين 3/140.(2/821)
ولعلَّ أحمد يتوقَّفُ في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجبٍ على الأعيان، بل على الكفاية.
وقد اختلف العلماءُ في الجهاد: هل هو واجبٌ أم لا؟ فأنكر جماعةٌ منهم وجوبَه (1) ، منهم: عطاء (2) ، وعمرو بنُ دينار (3) ، وابنُ شبرمة (4) ، ولعلَّهم أرادوا هذا المعنى، وقالت طائفة: هوَ واجبٌ، منهم: سعيدُ بن المسيّب (5) ، ومكحولٌ، ولعلَّهما أرادا وجوبَه على الكفاية.
وقال أحمد في رواية حَنْبل: الغزوُ واجبٌ على النَّاس كلِّهم كوجوبِ الحجِّ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم، ولابدَّ للناس من الغزو.
وسأله المروذي عن الجهاد: أفرضٌ هو؟ قالَ: قد اختلفوا فيهِ، وليس هوَ مثلَ الحجِّ، ومرادُه: أنَّ الحجَّ لا يسقطُ عمَّن لم يحجَّ مع الاستطاعة بحجِّ غيره، بخلاف الجهاد.
وسُئِلَ عن النَّفير: متى يجب؟ فقال: أما إيجابٌ فلا أدري، ولكن إذا خافوا على أنفسهم، فعليهم أنْ يخرُجوا.
وظاهر هذا التوقُّف في إطلاق لفظ الواجب (6) على ما لم يأت فيه لفظُ الإيجاب تورُّعاً، ولذلك توقَّف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختُلِفَ فيه، وتعارضت أدلتُه من نصوص الكتاب أو السنة، فقال في متعة النساء: لا أقولُ: هي حرامٌ، ولكن يُنهى عنه، ولم يتوقَّف في معنى التحريم، ولكن في إطلاق لفظه؛ لاختلاف النصوص والصحابةِ فيها،
_________
(1) انظر: الهداية للكلوذاني 1/256 بتحقيقي، والواضح في شرح مختصر الخرقي 4/483، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 2/559.
(2) انظر: تفسير الطبري (3241) ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/180، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/894.
(3) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/893 - 894.
(4) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/894.
(5) انظر: تفسير الطبري (3244) ، والشرح الكبير على المغني 10/360، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/858.
(6) سقطت من (ص) .(2/822)
هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد (1) .
وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين: لا أقولُ: حرام، ولكن يُنهى
عنه (2) ، والصَّحيح في تفسيره أنه توقَّف في إطلاق لفظة الحرام دون معناها، وهذا كله على سبيل الورع في الكلام؛ حذراً من الدُّخول تحت قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ} (3) .
قال الربيعُ بن خثيم: ليتق أحدُكم أنْ يقولَ: أحلَّ الله كذا، وحرَّم كذا،
فيقولُ الله: كذبتَ، لم أُحِلَّ كذا ولم أحرِّم كذا (4) .
وقال ابنُ وهب: سمعتُ مالك بنَ أنس يقول: أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل: أكره هذا، ولا أحبُّه، ولا يقول: حلال ولا حرام.
وأما ما حُكي عن أحمد أنَّه قال: كلُّ ما في الصلاة فهو فرض، فليس كلامه كذلك وإنَّما نقل عنه ابنُه عبد الله أنَّه قال: كلُّ شيءٍ في الصلاة مما وكَّده الله، فهو
فرض، وهذا يعود إلى معنى قوله: إنَّه لا فرض إلاّ ما في القرآن والذي وكّده الله من أمر الصلاة القيامُ والقراءة والركوع والسجود، وإنَّما قال أحمد هذا؛ لأنَّ بعضَ النَّاس كان يقول: الصَّلاةُ فرضٌ، والرُّكوع والسجود (5) لا أقول: إنَّه فرضٌ، ولكنه سنَّةٌ.
_________
(1) انظر: رؤوس المسائل في الخلاف 2/770.
(2) انظر: رؤوس المسائل في الخلاف 2/749.
(3) النحل: 116.
(4) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (8995) عن عبد الله بن مسعود، نحوه.
(5) من قوله: ((وإنما قال أحمد ... )) إلى هنا سقط من (ص) .(2/823)
وقد سُئِلَ مالك بنُ أنس عمن يقول ذلك، فكفَّره، فقيل له: إنَّه يتأوَّل، فلعنه، وقال: لقد قال قولاً عظيماً. وقد نقله أبو بكر النَّيسابوري في كتاب " مناقب مالك " من وجوه عنه (1) .
وروى أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن ميمون بن الرماح، قال: دخلتُ على مالكِ بن أنسٍ، فقلت: يا أبا عبد الله، ما في الصَّلاة من فريضةٍ وما فيها من سنةٍ، أو قال: نافلة؟ فقال مالك: كلامُ الزنادقة، أخرِجوه (2) .
ونقل إسحاق بن منصور، عن إسحاق بن راهويه: أنَّه أنكر تقسيمَ أجزاءِ الصَّلاة إلى سنَّةٍ وواجب، فقال: كلُّ ما في الصَّلاة، فهو واجبٌ، وأشار إلى أنَّ منه ما تُعادُ الصَّلاةُ بتركه، ومنه لا تعاد.
وسببُ هذا - والله أعلم - أنَّ التعبير بلفظ السُّنَّة قد يُفضي إلى التَّهاونِ بفعل
ذلك، وإلى الزُّهد فيه وتركه، وهذا خلافُ مقصودِ الشارع مِنَ الحثِّ عليه، والتَّرغيب فيه بالطُّرق المؤدِّيةِ إلى فعله وتحصيله، فإطلاقُ لفظ الواجب أَدْعى إلى الإتيان به، والرغبة فيه.
وقد ورد إطلاقُ الواجب في كلام الشَّارع على ما لا يأثمُ بتركه، ولا يُعاقب عليه عندَ الأكثرين (3) ، كغُسلِ الجمعة، وكذلك ليلة الضَّيفِ عندَ كثيرٍ من العلماء أو أكثرهم، وإنَّما المرادُ به المبالغةُ في الحثِّ على فعله وتأكيده.
وأمَّا المحارم: فهي التي حماها الله تعالى، ومنع من قُربانها وارتكابها
وانتهاكها (4) .
_________
(1) عبارة: ((من وجوه عنه)) سقطت من (ص) .
(2) انظر: سير أعلام النبلاء 8/114.
(3) انظر: المحصول في أصول الفقه 1/95 - 96، والبحر المحيط في أصول الفقه 1/140 - 141.
(4) انظر: لسان العرب 3/138 (حرم) .(2/824)
والمحرَّمات المقطوعُ بها مذكورة في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} (1) إلى آخر الآيات الثلاثة، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) .
وقد ذكر في بعض الآيات المحرَّمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر المحرّمات من المطاعم في مواضع، منها قولُه تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (3) ، وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} (4) وفي الآية الأخرى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ
بِه} (5) ، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} (6) .
وذكر المحرَّمات في النكاح في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (7) .
وذكر المحرَّمات من المكاسب في قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} (8) .
وأما السُّنة، ففيها ذكر كثيرٍ من المحرَّمات، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله حرَّم بَيْعَ الخمر والميتة والخنْزير والأصنام)) (9) .
_________
(1) الأنعام: 151.
(2) الأعراف: 33.
(3) الأنعام: 145.
(4) البقرة: 173.
(5) النحل: 115.
(6) المائدة: 3.
(7) النساء: 23.
(8) البقرة: 275.
(9) أخرجه: أحمد 3/324 و326، والبخاري 3/110 (2236) و5/190 (4296) ، ومسلم 5/41 (1581) (71) ، وأبو داود (3486) و (3487) من حديث جابر بن عبد الله، به. والروايات مطولة ومختصرة.(2/825)
وقوله: ((إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)) (1) . وقوله: ((كلُّ مسكرٍ حرام)) (2) . وقوله: ((إنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حرام)) (3) .
فما ورد التَّصريحُ بتحريمه في الكتاب والسنة، فهو محرّم.
وقد يستفادُ التحريمُ من النَّهي مع الوعيد والتَّشديدِ، كما في قوله - عز وجل -:
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) .
وأما النهي المجرد، فقد اختلفَ الناسُ: هل يُستفاد منه التَّحريمُ أم لا (5) ؟ وقد روي عن ابن عمر إنكارُ استفادة التحريم منه. قالَ ابنُ المبارك: أخبرنا سلاَّمُ بن أبي مطيع، عن ابن أبي دخيلةَ، عن أبيه، قالَ: كنتُ عندَ ابن عمر،
_________
(1) أخرجه: أحمد 1/247 و293 و322، وأبو داود (3488) ، وابن حبان (4938) ، والطبراني في "الكبير" (12887) ، والبيهقي 6/13 - 14 من حديث عبد الله بن عباس، به، وهو صحيح.
(2) أخرجه: الطيالسي (1916) ، وأحمد 2/16 و29 و31 و104 - 105، ومسلم 6/100 (2003) (73) و (74) ، وأبو داود (3679) ، والترمذي (1864) ، والنسائي 8/297 و324 وفي " الكبرى "، له (5097) و (5210) من حديث عبد الله ابن عمر، به.
والروايات مطولة ومختصرة.
(3) أخرجه: البخاري 2/215 (1739) من حديث عبد الله بن عباس، به.
(4) المائدة: 90 - 91.
(5) انظر: التمهيد في أصول الفقه 1/362 - 363.(2/826)
فقالَ: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الزَّبيب والتَّمر، يعني: أنْ يُخلطا، فقال لي رجل من خلفي: ما قال؟ فقلتُ: حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزبيب والتمر، فقال عبد الله بنُ عمر: كذبتَ، فقلتُ: ألم تقل: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، فهو حرامٌ؟ فقال: أنت تشهد بذاك؟ قال سلاَّم: كأنه يقول: من نهي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما هو أدب.
وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقِّي إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمُه ممَّا فيه نوعُ شبهةٍ أو اختلاف.
وقال النَّخعي: كانوا يكرهون أشياء لا يُحرمونها، وقال ابنُ عون: قال لي مكحول: ما تقولون في الفاكهة تُلقى بين القَوم فينتهبونها؟ قلتُ: إنَّ ذَلِكَ عندنا
لمكروهٌ، قال: حرام هي؟ قلت: إنَّ ذلك عندنا لمكروه، قال: حرام هي (1) ؟ قال ابن عون: فاستجفينا ذلك مِنْ قول مكحول.
وقال جعفر بن محمد: سمعت رجلاً يسأل القاسم بن محمد: الغناءُ أحرامٌ هو؟ فسكت عنه القاسمُ، ثم عاد، فسكت عنه، ثم عاد، فقال له: إنَّ الحرام ما حُرِّم في القرآن؟ أرأيت إذا أتي بالحقِّ والباطل إلى الله، في أيهما يكونُ الغناء؟ فقال الرجل: في الباطل، فقال: فأنت، فأفتِ نفسكَ.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعتُ أبي يقول: أما ما نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فمنها أشياء حرامٌ، مثل قوله: ((نهى أنْ تُنكحَ المرأةُ على عمَّتها، أو على خالتها)) (2) ، فهذا حرام، ونهى عن جلودِ السِّباع (3) ، فهذا حرامٌ، وذكر أشياء من نحو هذا.
ومنها أشياء نهى عنها، فهي أدبٌ.
_________
(1) من قوله: ((قلت: إنَّ ذلك ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(2) أخرجه: عبد الرزاق (10753) ، وأحمد 2/423 و474 و489 و508 و516، ومسلم 4/135 (1408) (33) ، وأبو داود (2065) و (2066) من حديث أبي هريرة، به.
وللحديث طرق أخرى.
(3) أخرجه: أحمد 5/74 و75، والدارمي (1983) ، وأبو داود (4132) ، والترمذي
(1770م) و (1771) ، والنسائي 7/176 من حديث أسامة بن عُمير الهذلي، به.(2/827)
وأما حدودُ الله التي نهى عن اعتدائها، فالمرادُ بها جملة ما أَذِنَ في فعله، سواء كان على طريقِ الوجوبِ، أو الندب، أو الإباحة، واعتداؤها: هو تجاوزُ ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه، كما قال تعالى: {وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1) والمراد: من طلَّقَ على غير ما أمرَ الله به وأذن فيه، وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ، والمراد: من أمسك بعد أنْ طلَّق بغير معروف، أو سرَّح بغير إحسانٍ، أو أخذ ممَّا أعطى المرأة شيئاً على غير وجه الفدية التي أذِنَ الله فيها.
وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} (3) إلى قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) ، والمراد: من تجاوز ما فرضه الله للورثة، ففضَّلَ وارثاً، وزاد على حقه، أو نقصه منه، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجَّة الوداع: ((إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصية لوارث)) (5) .
_________
(1) الطلاق: 1.
(2) البقرة: 229.
(3) النساء: 13.
(4) النساء: 14.
(5) أخرجه: أبو داود (2870) و (3565) ، وابن ماجه (2713) ، والترمذي (2120) ، والبيهقي 6/264 من حديث أبي أمامة، به مرفوعاً، قال الترمذي: ((هو حديث حسن)) .(2/828)
وروى النَّوَّاس بنُ سمعان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) قال: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جَنَبَتيِّ الصِّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاة، وعلى باب الصِّراط داعٍ يقول: يا أيُّها النَّاسُ، ادخُلوا الصِّراط جميعاً، ولا تُعرِّجوا، وداعٍ يدعو من جوفِ الصِّراط، فإذا أراد أنْ يفتحَ شيئاً من تلك الأبواب، قال: وَيْحَكَ لا تَفتحه، فإنَّك إنْ تَفتحه تَلِجْه، والصِّراطُ: الإسلامُ، والسُّوران: حدودُ الله، والأبواب المفتَّحةُ: محارمُ الله، وذلك الداعي على رأس الصِّراط كتاب الله، والداعي من فوقُ: واعظ الله في قلب كلِّ مسلم)) خرَّجه الإمام أحمد (2) ، وهذا لفظه، والنَّسائي في " تفسيره " (3) ، والترمذي (4) وحسنه.
فضرب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الإسلام في هذا الحديث بصراطٍ مستقيمٍ، وهو الطريقُ السَّهلُ الواسعُ، الموصلُ سالكَه إلى مطلوبه، وهو - مع هذا - مستقيمٌ، لا عوَجَ فيه، فيقتضي
_________
(1) من قوله: ((في خطبته ... )) إلى هنا لم يرد في (ص) .
(2) في " مسنده " 4/182 - 183.
(3) التفسير (253) .
(4) في " جامعه " (2859) .(2/829)
ذلك قربَه وسهولته، وعلى جنبتي الصِّراط يمنة ويَسرة سوران، وهما حدودُ الله، وكما أنَّ السُّورَ يمنع من كان داخله مِن تعدِّيه ومجاوزته، فكذلك الإسلامُ يمنع من دخله من الخُروج عن حدوده ومجاوزتها، وليس وراءَ ما حدَّ الله من المأذونِ فيه إلاَّ ما نهى عنه، ولهذا مدح سبحانه الحافظينَ لحدوده، وذمَّ من لا يعرف حدَّ الحلال من الحرام، كما قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} (1) . وقد تقدَّم حديث القرآن وأنَّه يقول لمن عمل به: حَفِظَ حدودي، ولمن لم يعمل به: تعدَّى حدودي.
والمراد: أنَّ من لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه، فقد حفظ حدودَ الله، ومن تعدَّى ذلك، فقد تعدَّى حدود الله (2) (3) .
وقد تُطلق الحدودُ، ويراد بها نفسُ المحارم (4) ، وحينئذٍ فيقال: لا تقربوا
حدودَ الله، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها} (5) ، والمراد: النَّهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصِّيام والاعتكاف في المساجد، ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارم حدوداً - قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ القائمِ على حدودِ الله والمُدْهِنِ فيها، كمثل قوم اقتسموا سفينة)) (6) الحديث المشهور،
_________
(1) التوبة: 97.
(2) سبق تخريجه.
(3) من قوله: ((والمراد: أن كمن لم يتجاوز ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(4) انظر: لسان العرب 3/79 (حدد) .
(5) البقرة: 187.
(6) أخرجه: الحميدي (919) ، وأحمد 4/268 و269 و270 و273، والبخاري 3/182
(2493) و3/237 (2686) ، والترمذي (2173) ، وابن حبان (297) و (298)
و (301) ، والبيهقي 10/91 و288، والبغوي (4151) من حديث النعمان بن بشير، به.(2/830)
وأراد بالقائم على حدود الله: المنكر للمحرَّمات والناهي عنها (1) .
وفي حديث ابنِ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إني آخذ بحُجَزِكُم أقول: اتَّقوا النَّارَ، اتَّقوا الحدودَ)) قالها ثلاثاً، خرَّجه الطبراني (2) والبزار (3) ، وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه، ومنه قولُ الرجل الذي قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إني أصبتُ حداً فأقمه عليَّ (4) .
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر 5/362.
(2) في " الكبير " (10953) .
(3) كما في " كشف الأستار " (1536) .
(4) سبق تخريجه.(2/831)
وقد تُسمى العقوباتُ المقدرة الرادعةُ عن المحارم المغلظة حدوداً، كما يقال: حدُّ الزنى، وحدُّ السرقة، وحدُّ شرب الخمر، ومنه قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامة:
((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟)) (1) ، يعني: في القطع في السَّرقة. وهذا هو المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء.
وأمَّا قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُجْلَدُ فَوقَ عشرِ جلدات إلا في حدٍّ مِنْ حُدودِ
اللهِ)) (2) فهذا قد اختلف الناسُ في معناه، فمنهم من فسر الحدود هاهنا بهذه الحدود المقدرة، وقال: إنَّ التَّعزير لا يُزاد على عشرِ جلدات، ولا يُزادُ عليها إلاَّ في هذه الحدود المقدَّرة، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ الله، وقال: المرادُ أنَّ مجاوزة العشر جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكاب محرَّم مِنْ محارم الله، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غير محرَّمٍ، فلا يتجاوز به عشر جلدات (3) .
وقد حمل بعضُهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وحدَّ حُدُوداً فلا تعتدوها)) على هذه العقوبات
_________
(1) أخرجه: عبد الرزاق (18830) ، وأحمد 6/162، والدارمي (2307) ، والبخاري 4/213 (3475) و8/199 (6788) ، ومسلم 5/114 (1688) (8) و (9) و5/115 (1688) (10) من حديث عائشة، به. وهو جزء من حديث طويل.
(2) أخرجه: البخاري 8/215 (6848) ، ومسلم 5/126 (1708) (40) ، وأبو داود
(4491) من حديث أبي بردة، به.
(3) انظر: معالم السنن 3/294، وعون المعبود 12/201 - 202.(2/832)
الزَّاجرة عَنِ المحرَّمات، وقال: المراد النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عند إقامتها على أهل الجرائم. ورجَّح ذلك بأنَّه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنَّواهي لكان تكريراً لقوله: ((فرض فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، وحرَّم أشياء، فلا تنتهكوها)) وليس الأمر على ما قاله، فإنَّ الوقوفَ عندَ الحُدودِ يقتضي أنَّه لا يخرج عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذون فيه فرضاً، أو ندباً، أو مباحاً كما تقدَّم، وحينئذٍ فلا تكريرَ في هذا الحديث، والله أعلم.
وأمَّا المسكوتُ عنه، فهو ما لم يُذكَرْ حكمُه بتحليلٍ، ولا إيجابٍ، ولا تحريمٍ، فيكون معفوَّاً عنه، لا حرجَ على فاعلِهِ، وعلى هذا دلَّت هذه الأحاديثُ المذكورة هاهنا، كحديث أبي ثعلبة وغيره.
وقد اختلفت ألفاظُ حديث أبي ثعلبة، فروي باللفظ المتقدِّم، ورُوي بلفظ آخر، وهو: ((إنَّ الله فَرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وعفا عن أشياء من غير نسيانٍ فلا تبحثوا عنها)) خرَّجه إسحاق بنُ راهويه. ورُوي بلفظ آخر وهو: ((إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وسنَّ لكم سنناً فلا تنتهكوها، وحرَّم عليكم أشياء فلا تعتدوها، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)) خرَّجه الطبراني (1) .
_________
(1) في " الكبير " 22/ (589) من حديث أبي ثعلبة الخشني، به.
والحديث سبق تخريجه.(2/833)
وهذه الرواية تبيِّنُ أنَّ المعفوَّ عنه ما تُرِكَ ذكرُه، فلم يحرَّم ولم يُحلَّل.
ولكن مما ينبغي أنْ يعلم: أنَّ ذكرَ الشيءِ بالتَّحريم والتَّحليل مما قد يخفى فهمُه مِنْ نُصوص الكتاب والسُّنة، فإنَّ دلالة هذه النُّصوص قد تكونُ بطريق النَّصِّ والتَّصريح، وقد تكونُ بطريق العُموم والشُّمول، وقد تكون دِلالتُه بطريق الفحوى والتنبيه، كما في قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (1) ، فإنَّ دخُولَ ما هو أعظمُ من التَّأفيف مِنْ أنواع الأذى يكونُ بطريق الأولى، ويُسمَّى ذلك مفهومَ الموافقةِ (2) .
وقد تكونُ دلالته بطريقِ مفهومِ المخالفة، كقوله: ((في الغنم السَّائمة
الزكاة)) (3) فإنَّه يدلُّ بمفهومه على أنَّه لا زَكاةَ في غير السَّائمة، وقد أخذ الأكثرون بذلك، واعتبروا مفهوم المخالفة، وجعلوه حجَّةً (4) .
وقد تكونُ دلالته مِنْ باب القياس، فإذا نصَّ الشَّارع على حُكم في شيءٍ لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجوداً في غيره، فإنَّه يتعدَّى الحكمُ إلى كلِّ ما وجد في ذلك المعنى عندَ جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كلُّه ممَّا يعرَفُ به دلالة النُّصوص على التَّحليل والتَّحريم.
فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه، وهاهنا مسلكان:
أحدهما: أنْ يُقال: لا إيجابَ ولا تحريمَ إلاَّ بالشَّرع، ولم يوجب الشَّرعُ كذا، أو لم يحرِّمه، فيكونُ غيرَ واجبٍ، أو غير حرامٍ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه، أو نفي تحريم بعض العُقود المختلف فيها، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلاَّ لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء
_________
(1) الإسراء: 23.
(2) انظر: البرهان في أصول الفقه 1/300.
(3) أخرجه: البخاري 2/146 (1454) ، وأبو داود (1567) ، وابن حبان (3266) عن أنس بن مالك، بنحوه.
(4) انظر: البرهان في أصول الفقه 1/298 - 299.(2/834)
ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم، كما يقطع بانتفاء فرضية صلاةٍ سادسةٍ، أو صيام شهر غير شهر رمضان، أو وجوب الزَّكاة في غير الأموال الزَّكويَّة، أو حَجَّةٍ غير حجَّةِ الإسلام، وإنْ كان هذا كلُّه يستدلُّ عليه بنصوصٍ مصرِّحةٍ بذلك، وإنْ ظنَّ انتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ، ظنَّ انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع.
والمسلك الثاني: أنْ يذكر مِنْ أدلَّة الشَّرع العامة ما يدلُّ على أنَّ ما لم يوجبه الشَّرع، ولم يحرِّمه، فإنَّه معفوٌّ عنه، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عنِ الحجِّ أفي كلِّ عام؟ فقال:
((ذروني ما تركتُكم، فإنَّما هلك مَنْ كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ، فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم)) (1) .
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقَّاص: ((إنَّ أعظم المسلمين في
المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرَّم، فحرِّم من أجل مسألته)) (2) .
وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ هذا أيضاً في مواضعَ، كقوله - عز وجل -: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} (3) ، فإنّ هذا يدلُّ على أنّ ما لم يجِد تحريمه، فليس بمحرَّمٍ، وكذلك قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) ، فعنفهم على تركِ الأكل ممّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه، معلِّلاً بأنَّه قد بيَّن لهمُ الحرامَ، وهذا ليس منه، فدلَّ على أنَّ الأشياء على الإباحة، وإلاَّ لمَا أَلحَقَ اللَّومَ بمن امتنع من الأكل ممَّا لم ينصَّ له على حِلِّه بمجرَّد كونه لم ينصَّ على تحريمه.
_________
(1) سبق تخريجه. انظر: الحديث التاسع.
(2) سبق تخريجه.
(3) الأنعام: 145.
(4) الأنعام: 119.(2/835)
واعلم أنَّ هذه المسألة غيرُ مسألةِ حُكم الأعيان قبل وُرود الشَّرع: هل هو الحظرُ أو الإباحة، أو لا حُكم فيها؟ فإنَّ تلك المسألة مفروضةٌ فيما قبل وُرودِ الشَّرع (1) ، فأمَّا بعد وُروده فقد دلت هذه النُّصوصُ وأشباهُها على أنَّ حكم ذلك الأصل زال واستقرَّ أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة بأدلَّة الشَّرع. وقد حكى بعضُهم الإجماع على ذلك، وغلَّطوا من سوَّى بين المسألتين، وجعل حكمهما واحداً.
وكلام الإمام أحمد يدلُّ على أنَّ ما لا يدخل في نصوص التَّحريم، فإنَّه معفوٌّ عنه (2) . قال أبو الحارث: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: إنَّ أصحاب الطَّير يذبَحُون مِنَ الطير شيئاً لا نعرفه، فما ترى في أكله؟ فقال: كل ما لم يكن ذا مِخلَبٍ أو يأكلُ الجِيفَ، فلا بأس به، فحصر تحريمَ الطير في ذي المخلب المنصوص عليه، وما يأكل الجِيفَ؛ لأنَّه في معنى الغراب المنصوص عليه (3) وحكم بإباحة ما عداهما. وحديث ابن عباس (4) الذي سبق ذكره يدلُّ على مثل هذا، وحديث سلمان الفارسي (5) فيه النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء، فإنَّ الجبن كان يُصنعُ بأرضِ المجوس ونحوهم من الكُفَّارِ، وكذلك السَّمن، وكذلك الفراء تُجلب من عندِهم، وذبائحهم ميتةٌ، وهذا مما يستدلُّ به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها، وعلى إباحة أطعمة المجوس، وفي ذلك كُلِّه خلافٌ مشهورٌ، ويُحملُ على أنَّه إذا اشتبه الأمرُ، لم يجبِ السُّؤالُ والبحثُ عنه، كما قال ابن عمر لمَّا سُئل عن الجُبن الذي يصنعه المجوسُ، فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريتُه ولم أسأل عنه (6) ،
_________
(1) من قوله: ((هل هو الحظر ... )) إلىهنا سقط (ص) .
(2) انظر: التبصرة في أصول الفقه: 80 - 81، وميزان الأصول: 193 - 194، وشرح الكوكب المنير 1/500 - 504.
(3) من قوله: ((وما يأكل الجيف ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.
(6) أخرجه: عبد الرزاق (8785) .(2/836)
وذكر عندَ عمر الجبن وقيل له: إنَّه يُصنع بأنافح الميتة، فقال: سموا الله وكلوا (1) . قال الإمام أحمد: أصحُّ حديث فيه هذا الحديث، يعني: جبن المجوس (2) .
وقد رُوي من حديث ابن عباس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بجبنة في غزوة الطَّائِفِ،
فقال: ((أين تُصنَعُ هذه؟)) قالوا: بفارس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ضعوا فيها السِّكِّينَ واقطعوا، واذكروا اسمَ الله وكلوا)) خرَّجه الإمام أحمد (3) ، وسئل عنه، فقال:
هو حديث منكرٌ، وكذا قال أبو حاتم الرازي (4) .
وخرَّج أبو داود (5) معناه من حديث ابن عمر، إلاَّ أنَّه قال: في غزوة تبوك، وقال أبو حاتم (6) : هو منكر أيضاً.
وخرَّجه عبد الرزاق في " كتابه " (7) مرسلاً، وهو أشبه، وعنده زيادة، وهي: أنَّه قيل له: يا رسول الله، نخشى أنْ تكونَ ميتة؟ قال: ((سمُّوا عليه
وكُلوه)) .
وخرَّج الطبراني (8) معناه من حديث ميمونة، وإسناده جيِّد، لكنه غريب جداً.
وفي " صحيح البخاري " (9) عن عائشة: أنَّ قوماً قالوا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ قوماً يأتوننا باللَّحم، لا ندري أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا؟ فقال: ((سمُّوا عليه أنتم
وكلوا))
_________
(1) أخرجه: عبد الرزاق (8782) .
(2) انظر: المغني 9/342.
(3) في " مسنده " 1/234.
وأخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (2878) و (2879) ، والطبراني في "الكبير" (11807) ، والبيهقي 10/6 من حديث عبد الله بن عباس، به.
(4) في " العلل " 2/221 عقيب (1488) .
(5) في " السنن " (3819) . وأخرجه: البيهقي 10/6 من حديث عبد الله بن عمر، به.
(6) في " العلل " 2/221 عقيب (1488) .
(7) المصنف (8795) عن الشعبي والضحاك بن مزاحم، مرسلاً.
(8) في " الأوسط " (1597) . وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/291 من حديث ميمونة، به.
(9) الصحيح 3/71 (2057) من حديث عائشة، به.(2/837)
قالت: وكانوا حديثي عهدٍ بالكُفر.
وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن الحسن: أنَّ عمر أراد أنْ ينهى عن حُلَلِ الحِبَرَةِ؛ لأنَّها تُصبَغُ بالبَوْلِ، فقال له أُبيٌّ: ليس ذلك لك، قد لبسهنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولبسناهنَّ في عهده، وخرَّجه الخلاَّل من وجه آخر وعنده: إنَّ أُبَيّاً قال له: يا أمير المؤمنين، قد لبسها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأى اللهُ مكانها، ولو علم اللهُ أنَّها حرامٌ، لنهى عنها، فقال: صدقت.
وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يَصبغُه أهلُ الكتاب من غير غسلٍ، فقال: لم تسأل عمَّا لا تعلم، لم يزلِ النَّاسُ منذ أدركناهم لا يُنكرون ذلك. وسئِلَ عن يهود يَصبغُون بالبول، فقال: المسلم والكافرُ في هذا سواء، ولا تسأل عن هذا، ولا تبحث عنه، وقال: إذا علمت أنَّه لا محالةَ يصبغ بشيءٍ مِنَ البولِ، وصحَّ عندكَ، فلا تصلِّ فيه حتّى تغسله.
وخرَّج من حديث المغيرة بن شعبة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُهدي إليه خُفَّان، فلبسهما ولا يعلم أذكيٌّ هما أم لا (2) .
وقد ورد ما يستدلُّ به على البحث والسؤال، فخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث رجلٍ عن أمِّ مسلمٍ الأشجعية: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتاها وهي في قبَّةٍ فقال: ((ما أحسنها
_________
(1) المسند 5/143، وإسناده ضعيف لانقطاعه؛ فإنَّ الحسن لم يسمع من عمر ولا من أُبي.
(2) أخرجه: الترمذي (1769) وفي " الشمائل "، له (74) ، وقال: ((حسن غريب)) ، وانظر تعليقي على " الشمائل ": 69 (74) .
(3) في " مسنده " 6/437.
وأخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 8/237، والطبراني في "الكبير" 25/ (375) و (376) من حديث أُمِّ مسلم الأشجعيَّة، به.(2/838)
إنْ لم يكن فيها ميتةٌ)) ، قالت: فجعلت أتتبعها. والرجل مجهول (1) .
وخرَّج الأثرمُ بإسنادِه عن زيد بن وهب، قال: أتانا كتابُ عمر بأَذربيجان: إنَّكم بأرضٍ فيها الميتة، فلا تلبِسُوا مِنَ الفراء حتّى تعلموا حِلَّه من حرامه.
وروى الخلال بإسناده عن مجاهد: أنَّ ابن عمر رأى على رجل فرواً، فمسَّه وقال: لو أعلم أنَّه ذُكِّيَ، لسرَّني أنْ يكون لي منه ثوب (2) .
وعن محمد بن كعب أنَّه قال لعائشة: ما يمنعك أنْ تتخذي لحافاً (3) من
الفراء؟ قالت: أكره أنْ ألبس الميتة.
وروى عبد الرزاق (4) بإسناده عن ابن مسعود: أنَّه قال لمن نزلَ من المسلمين بفارس: إذا اشتريتُم لحماً فسلوا، إنْ كان ذبيحةَ يهودي أو نصراني فكُلوا، وهذا لأنَّ الغالب على أهل فارس المجوس وذبائحُهم محرَّمةٌ.
والخلاف في هذا يُشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تُباح ذبيحته من الكفَّار، وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم، والخلاف فيها يرجعُ إلى قاعدةِ تعارُض الأصل
والظاهر، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات)) (5) .
_________
(1) فالحديث ضعيف لجهالة هذا الرجل.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (24765) .
(3) سقطت من (ص) .
(4) في " المصنف " (8578) .
(5) سبق تخريجه. انظر: الحديث السَّادس.(2/839)
وقوله في الأشياء التي سكت عنها: ((رحمة من غير نسيان)) (1) يعني: أنَّه إنَّما سكت عن ذكرها رحمةً بعباده ورفقاً؛ حيث لم يحرِّمْها عليهم حتّى يُعاقبَهم على فعلها، ولم يُوجِبها عليهم حتّى يعاقبَهم على تركها، بل جعلها عفواً، فإنْ فعلوها، فلا حرجَ عليهم، وإنْ تركوها فكذلك، وفي حديث أبي الدرداء (2) : ثم تلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (3) ومثلُه قوله - عز وجل -: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا
يَنْسَى} (4) .
وقوله: ((فلا تبحثوا عنها)) يحتمِلُ اختصاص هذا النهي بزمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ كثرةَ البحث والسؤال عمَّا لم يذكر قد يكونُ سبباً لنزول التَّشديد فيه بإيجابٍ أو تحريمٍ، وحديث سعد بن أبي وقَّاص (5) يدلُّ على هذا، فيحتمل أنْ يكون النَّهيُ عامَّاً، والمروى عن سلمان من قوله يدلُّ على ذلك، فإنَّ كثرة البحث والسُّؤال عن حكمٍ ما لم يُذكر في الواجبات ولا في المحرمات، قد يُوجِب اعتقاد تحريمه، أو إيجابه؛ لمشابهته لبعضِ الواجبات أو المحرَّمات، فقَبولُ العافية فيه، وتركُ البحث والسُّؤالِ عنه خيرٌ، وقد يدخلُ ذلك في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((هلك المتنطعون)) ، قالها ثلاثاً. خرَّجه مسلم (6)
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) مريم: 64.
(4) طه: 52.
(5) سبق تخريجه.
(6) في " صحيحه " 8/58 (2670) (70) .(2/840)
من حديث ابن مسعود مرفوعاً، والمتنطع: هو المتعمِّقُ البحَّاث عمَّا لا يعنيه (1) ، وهذا قد يتمسَّك به من يتعلَّق بظاهرِ اللَّفظ، وينفي المعاني والقياس كالظاهرية.
والتَّحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أنَّ البحث عمَّا لم يُوجَدْ فيه نصٌّ خاصٌّ أو عامٌّ على قسمين:
أحدهما: أنْ يبحث عن دخوله في دلالات النُّصوص الصَّحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصَّحيح، فهذا حقٌّ، وهو ممَّا يتعيَّنُ فعلُه على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية.
والثاني: أنْ يدقِّق النَّاظِر نظرَه وفكرَه في وُجوهِ الفُروق المستبعدةِ، فيفرِّق بين متماثلين بمجرَّد فرقٍ لا يظهر له أثرٌ في الشَّرع، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمعِ، أو يجمع بين متفرِّقين بمجرَّد الأوصاف الطرديَّة التي هي غيرُ مناسبة، ولا يدلُّ دليلٌ على تأثيرها في الشَّرع، فهذا النَّظر والبحثُ غيرُ مرضيٍّ ولا محمودٍ، مع أنَّه قد وقع فيه طوائفٌ مِنَ الفُقَهاءِ، وإنَّما المحمودُ النَّظرُ الموافقُ لنظرِ الصحابة ومَنْ بعدهُم مِنَ القُرونِ المفضَّلةِ كابنِ عبَّاسٍ ونحوه، ولعلَّ هذا مرادُ ابن مسعود بقوله: إيَّاكم والتنطُّع، إياكم والتعمُّق، وعليكم بالعتيق، يعني: بما كان عليه الصَّحابة - رضي الله عنهم -.
ومن كلام بعض أئمة الشافعية: لا يليقُ بنا أنْ نكتفيَ بالخيالات في الفروق،
_________
(1) انظر: شرح السنة 12/367 عقيب (3396) ، وشرح النووي لصحيح مسلم 8/388. ...(2/841)
كدأبِ أصحاب الرأي، والسر في تلك أنَّ متعلَّق الأحكام في الحال الظُّنونُ وغلباتُها، فإذا كان اجتماعُ مسألتين أظهرَ في الظنِّ مِنَ افتراقهما، وجب القضاءُ باجتماعهما، وإنِ انقدحَ فرقٌ على بعد، فافهموا ذلك فإنَّه من قواعد الدين. انتهى.
ومما يدخل في النَّهي عن التعمُّق والبحث عنه: أمورُ (1) الغيب الخبريّة التي أمر بالإيمان بها، ولم يُبين كيفيتها، وبعضُها قد لا يكونُ له شاهدٌ في هذا العالم المحسوس، فالبحث عن كيفيَّة ذلك هو ممَّا لا يعني، وهو مما يُنهى عنه، وقد يوجِبُ الحيرة والشَّكَّ، ويرتقي إلى التَّكذيب.
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يزال النَّاس يَسألون حتّى يقال: هذا الله خلَقَ الخَلْق، فمن خلق الله؟ فمن وجد مِنْ ذَلِكَ شيئاً، فليقل: آمنت بالله)) ، وفي روايةٍ (3) لهُ: ((لا يزالُ النَّاسُ يسألونَكم عَنِ العِلم، حتّى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟)) وفي روايةٍ له أيضاً (4) :
((لَيسألَنَّكُم النَّاسُ عَنْ كلِّ شيءٍ، حتى يقولوا: الله خلق كلَّ شيءٍ، فمن خلقه؟)) . وخرَّجه البخاري (5) ، ولفظه: ((يأتي الشيطان أحدَكُم فيقول: من خلق كذا؟
من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذْ بالله ولينتَهِ)) .
وفي " صحيح مسلم " (6) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قال الله - عز وجل -: إنَّ أمَّتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا، حتّى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟)) .
_________
(1) من قوله: ((على بعد فافهموا ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(2) الصحيح 1/83 (134) (212) .
(3) الصحيح 1/84 (135) (215) .
(4) الصحيح 1/85 (135) (216) .
(5) في " صحيحه " 4/149 (3276) .
(6) الصحيح 1/85 (136) (217) .(2/842)
وخرَّجه البخاري (1) ، ولفظه: ((لن يبرحَ الناس يتساءلون: هذا الله خالِقُ كلِّ شيءٍ، فمن خلق الله؟)) .
قال إسحاق بن راهويه: لا يجوزُ التفكُّر في الخالق، ويجوز للعباد أن يتفكَّروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم، ولا يزيدون على ذلك؛ لأنَّهم إنْ فعلوا تاهوا، قال: وقد قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (2) ، فلا يجوز أنْ يقال: كيف تُسبِّحُ القِصَاعُ، والأَخْوِنَةُ، والخبزُ المخبوزُ، والثِّيابُ المنسوجة؟ وكلُّ هذا قد صحَّ العلم فيهم أنَّهم يسبحون، فذلك إلى الله أنْ يجعل تسبيحَهم كيف شاء وكما شاء، وليس للنَّاس أنْ يخوضُوا في ذلك إلاَّ بما علموا، ولا يتكلَّموا في هذا وشِبْهِهِ إلاَّ بما أخبر الله، ولا يزيدُوا على ذلك، فاتَّقوا الله، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة، فإنَّه يُرْديكم الخوض فيه عن سنن الحقِّ. نقل ذلك كلَّه حربٌ، عن إسحاق - رحمه الله -.
_________
(1) في " صحيحه " 9/119 (7296) .
(2) الإسراء: 44.(2/843)
الحديث الحادي والثلاثون
عَنْ سهلِ بنِ سعْدٍ السَّاعِديِّ قال: جاءَ رجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ:
يا رَسولَ الله دُلَّني عَلى عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي الله، وأحَبَّنِي النَّاسُ، فقال
: ((ازهَدْ فِي الدُّنيا يُحِبَّكَ الله، وازهَدْ فيمَا في أيدي النَّاسِ يُحبَّكَ النَّاسُ)) . حديثٌ حسنٌ رَواهُ ابنُ ماجه (1) وغيرُهُ بأسانِيدَ حَسَنةٍ.
هذا الحديث خرَّجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد،
_________
(1) في " سننه " (4102) .
وأخرجه: العقيلي في " الضعفاء " 2/11، والطبراني في " الكبير " (5972) ، وابن عدي في " الكامل " 3/458، والحاكم 4/313، وأبو نعيم في " الحلية " 3/252 - 253 و7/36، والقضاعي في " مسند الشهاب " (643) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
(10523) من حديث سهل بن سعد الساعدي، به.(2/845)
وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - أنَّ إسناده حسن، وفي ذلك نظر، فإنَّ خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمامُ أحمد: منكرُ الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، يروي أحاديث بواطيل، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيءٍ، وقال مرة: كان كذاباً يكذب، حدَّث عن شعبة أحاديثَ موضوعة، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث،(2/850)
وقال أبو حاتم: متروكُ الحديث ضعيف (1) (2) ،
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/343.(2/851)
ونسبه صالح بنُ محمد، وابنُ عدي إلى وضع الحديث (1) ، وتناقض ابنُ حبان في أمره، فذكره في كتاب "الثقات" (2) ، وذكره في كتاب " الضعفاء " (3) ، وقال: كان ينفردُ عَنِ الثِّقاتِ بالموضوعات، لا يحلُّ الاحتجاج بخبره،
_________
(1) انظر: تهذيب الكمال 2/360 - 361 (1622) .
(2) الثقات 8/223.
(3) انظر: المجروحين 1/283.(2/852)
وخرَّج العقيلي (1) حديثه هذا وقال: ليس له أصل من حديث سفيان الثوري، قال: وقد تابع خالداً عليه محمَّد بن كثيرٍ الصَّنعانيُّ، ولعله أخذه عنه ودلسه؛ لأنَّ المشهور به خالد هذا.
قال أبو بكر الخطيب: وتابعه أيضا أبو قتادة الحرَّاني ومِهرانُ بن أبي عمر الرازي، فرووه عن الثَّوريِّ قال: وأشهرُها حديثُ ابن كثير. كذا قال، وهذا يخالفُ قولَ العقيلي: إنَّ أشهرَها حديثُ خالد بن عمرو، وهذا أصحُّ، ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي، ضعفه أحمد (2) . وأبو قتادة ومهران تُكُلِّمَ فيهما أيضاً، لكن محمد بن كثير خيرٌ منهما، فإنَّه ثقةٌ عندَ كثير مِنَ الحفَّاظ.
وقد تعجب ابنُ عدي من حديثه هذا، وقال: ما أدري ما أقول فيه (3) .
وذكر ابنُ أبي حاتم (4) أنَّه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، فذكر هذا الحديث، فقال: هذا حديثٌ باطلٌ، يعني: بهذا الإسناد، يُشير إلى أنَّه لا أصلَ له عن محمد بن كثير، عن سفيان.
وقال ابن مشيش: سألتُ أحمد عن حديث سهل بن سعد، فذكر هذا الحديث، فقال أحمد: لا إله إلا الله - تعجباً منه - من يروي هذا؟ قلت: خالد ابن عمرو، فقال: وقعنا في خالد بن عمرو، ثم سكت، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئاً من حديث خالد هذا، فإنَّه لا يُشتغل به.
وخرَّجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " (5) له عن خالد بن عمرو، ثم قال: كنت منكراً لهذا الحديث، فحدثني هذا الشيخُ عن وكيع: أنَّه سأله عنه، ولولا مقالته هذه لتركته. وخرَّج ابن عدي (6) هذا الحديث (7) في ترجمة خالد بن عمرو، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضاً، وقال: هذا الحديث عن الثوري منكر،
_________
(1) في " الضعفاء " 2/11.
(2) انظر: الضعفاء 4/128.
(3) انظر: الكامل في الضعفاء 3/459.
(4) في " العلل " 2/372 عقيب (1815) .
(5) المواعظ (131) .
(6) في " الكامل " 3/458 - 459.
(7) عبارة: ((هذا الحديث)) سقطت من (ص) .(2/853)
قال: ورواه زافر - يعني: ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان، عن أبي حازم، عن ابن عمر. انتهى، وزافر ومحمد بن عيينة، كلاهما ضعيف.
وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسلٍ (1) : خرجه أبو سليمان بن
زبر الدِّمشقي في " مسند إبراهيم بن أدهم " (2) من جمعه من رواية معاوية بن
حفص، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن ربعي بن حِراش، قال:
جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله، دلَّني على عمل يحبَّني الله
عليه، ويحبني الناس عليه، فقال: ((أما العملُ الذي يحبُّك الله عليه،
فالزُّهدُ في الدُّنيا، وأمَّا العملُ الذي يحبُّك الناس عليه، فانظر هذا الحطام، فانبذه إليهم)) .
وخرَّجه ابن أبي الدُّنيا في كتاب " ذم الدُّنيا " من رواية عليِّ بن بكار، عن
إبراهيم بن أدهم، قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكره، ولم يذكر في إسناده منصوراً ولا ربعياً، وقال في حديثه: ((فانبذ إليهم ما في يديك من الحُطام)) .
وقدِ اشتمل هذا الحديثُ على وصيتين عظيمتين:
إحداهما: الزُّهدُ في الدُّنيا، وأنَّه مقتضٍ لمحبة الله - عز وجل - لعبده.
والثانية: الزُّهد فيما في أيدي الناس، وأنَّه مقتضٍ لِمحبَّة النَّاس.
فأمَّا الزُّهد في الدُّنيا، فقد كثُر في القُرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذمّ الرغبة في الدُّنيا، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (3) ،
_________
(1) والمرسل أحد أنواع الضعيف.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/41 من طريق إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن مجاهد، عن أنس، به؛ لكنَّ وصله خطأ، قال أبو نعيم عقب الحديث: ((ذكر أنس في هذا الحديث وهم من عمر أو أبي أحمد، فقد رواه الأثبات عن الحسن بن الربيع فلم يجاوزوا فيه مجاهداً)) ، ثم ساقه مرسلاً من طريق مجاهد.
(3) الأعلى: 16 - 17.(2/854)
وقال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (1) ، وقال تعالى في قصة قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} إلى قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} (3) ، وقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (4) .
وقال حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنَّه قال لقومه: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (5) .
وقد ذمَّ الله مَنْ كان يُريد الدُّنيا بعمله وسعيه ونيَّته، وقد سبق ذكرُ ذلك في الكلام على حديث: ((الأعمال بالنيات)) (6) .
والأحاديث في ذمِّ الدُّنيا وحقارتها عند الله كثيرةٌ جداً، ففي " صحيح
مسلم " (7) عن جابر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالسُّوقِ والنَّاسُ كَنَفَيْهِ (8) ، فمرَّ بجديٍّ
أسكَّ (9) ميِّتٍ، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: ((أيُّكم يُحبُّ أنَّ هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبُّون أنَّه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنَّه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((والله للدُّنيا أهونُ على الله من هذا عليكم)) .
_________
(1) الأنفال: 67.
(2) القصص: 79 - 83.
(3) الرعد: 26.
(4) النساء: 77.
(5) غافر: 38 - 39.
(6) سبق تخريجه. انظر: الحديث الأول.
(7) الصحيح 8/210 - 211 (2957) (2) .
وأخرجه: أحمد 3/365، والبخاري في " الأدب المفرد " (962) ، وأبو داود (186) ، والبيهقي 1/139 عن جابر بن عبد الله، به.
(8) الكَنفَ بالتحريك الجانِب والناحِية.
انظر: النهاية 4/205، وشرح النووي لصحيح مسلم 9/261.
(9) أسكَّ: أي: صغير الأُذنين. انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 9/261.(2/855)
وفيه أيضاً (1)
عن المستورد الفهري، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما الدُّنيا في
الآخرة إلاَّ كما يَجْعَلُ أحدُكم أصبَعَهُ في اليمِّ، فلينظر بماذا ترجع)) .
وخرَّج الترمذي (2) من حديث سهل بن سعد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو كانتِ الدُّنيا تعدِلُ عندَ الله جناح بعوضةٍ، ما سقى كافراً منها شربةً)) وصححه (3) .
ومعنى الزهد في الشيء: الإعراضُ عنه لاستقلاله، واحتقاره، وارتفاع الهمَّةِ
عنه، يقال: شيء زهيد، أي: قليل حقير (4) .
وقد تكلَّم السَّلفُ ومَنْ بعدَهم في تفسير الزُّهد في الدُّنيا، وتنوَّعت عباراتهم عنه، وورد في ذلك حديثٌ مرفوع خرَّجه الترمذي (5) وابن ماجه (6) من رواية عمرو
_________
(1) مسلم في " صحيحه " 8/156 (2858) (55) .
وأخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (496) ، وأحمد 4/228 - 229 و229، وابن ماجه
(4108) ، والترمذي (2323) ، وابن حبان (4330) من حديث المستورد بن شَدَّاد الفهري، به.
(2) في " جامعه " (2320) من حديث سهل بن سعد، به.
(3) انظر: جامع الترمذي عقيب (2320) ، على أنَّ في إسناده عبد الحميد بن سليمان ضعيف، وقد تابعه من هو مثله فلعل الترمذي صححه لشواهده، والله أعلم.
(4) انظر: لسان العرب 6/97 (زهد) .
(5) في " جامعه " (2340) من حديث أبي ذر، به.
(6) السنن (4100) من حديث أبي ذر، به.(2/856)
بن واقدٍ، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولانيِّ، عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الزَّهادةُ في الدُّنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ لا تكونَ بما في يديك أوثقَ ممَّا في يد الله، وأنْ تكون في ثواب المصيبة إذا أنتَ أُصبتَ بها أَرغبَ فيها لو أنَّها بقيت لك)) . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، وعمرو بن واقد منكر الحديث (1) .
قلت: الصحيح وقفه، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " (2) ، حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي، حدثنا خالدُ بنُ صبيح، حدثنا يونس بن حلبس قال: قال أبو مسلم الخولاني: ليس الزهادةُ في الدُّنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، إنَّما الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق مما في يديك، وإذا أُصِبْتَ بمصيبةٍ، كنت أشدَّ رجاءً لأجرها وذُخرها مِن إيَّاها لو بقيت لك.
_________
(1) في " جامعه " عقيب (2340) .
(2) الزهد (96) .(2/857)
وخرَّجه ابن أبي الدُّنيا من راوية محمد بن مهاجر، عن يونس بن ميسرة، قال: ليس الزَّهادة في الدُّنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأنْ يكونَ حالك في المصيبة وحالُك إذا لم تُصب بها سواءً، وأنْ يكون مادحُك وذامُّك في الحقِّ سواء.
ففسر الزهد في الدُّنيا بثلاثة أشياء كُلُّها من أعمال القلوب، لا من أعمال
الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول: لا تَشْهَدْ لأحدٍ بالزُّهد، فإنَّ الزُّهد في القلب.
أحدها: أنْ يكونَ العبدُ بما في يد الله أوثقَ منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ مِنْ صحَّة اليقين وقوَّته، فإنَّ الله ضَمِن أرزاقَ عباده، وتكفَّل بها، كما قال:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (1) ، وقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (2) ، وقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} (3) .
قال الحسن: إنَّ مِنْ ضعف يقينك أنْ تكونَ بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله - عز وجل -.
وروي عن ابن مسعود قال: إنَّ أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق. وقال مسروقٌ: إنَّ أحسن ما أكون ظناً حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيزٌ من قمحٍ ولا درهمٌ (4) . وقال الإمامُ أحمد: أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصْبِحُ وليس عندي شيء (5) .
وقيل لأبي حازم الزاهد: ما مالُك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثِّقةُ بالله، واليأسُ ممَّا في أيدي الناس (6) .
_________
(1) هود: 6.
(2) الذاريات: 22.
(3) العنكبوت: 17
(4) أخرجه: ابن أبي شيبة (34871) ، والدينوري في " المجالسة " (2744) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 2/97.
(5) انظر: صفة الصفوة 2/345.
(6) أخرجه: الدينوري في " المجالسة " (963) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/231 - 232.(2/858)
وقيل له: أما تخافُ الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!
ودُفع إلى عليِّ بنِ الموفق ورقة، فقرأها فإذا فيها: يا عليّ بن الموفق أتخاف الفقرَ وأنا ربك؟
وقال الفضيلُ بن عياض (1) : أصلُ الزُّهد الرِّضا عَنِ الله - عز وجل -. وقال: القنوع هو الزهد، وهو الغنى.
فمن حقق اليقين، وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفاً، ومنعه ذلك مِنْ طلب الدُّنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك، كان زاهداً في الدُّنيا حقيقة، وكان من أغنى الناس، وإنْ لم يكن له شيء من الدُّنيا كما قال عمَّار: كفى بالموت واعظاً، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً (2) .
وقال ابن مسعود: اليقينُ: أنْ لا ترضي النَّاسَ بسخطِ اللهِ، ولا تحمد أحداً على رزق الله، ولا تلم أحداً على ما لم يؤتِكَ الله، فإنَّ الرِّزقَ لا يسوقُه حرصُ حريصٍ، ولا يردُّه كراهة كارهٍ، فإنَّ الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل الرَّوحَ والفرحَ في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزن في الشكِّ والسخطِ (3) .
وفي حديث مرسل أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدُّعاء: ((اللهمَّ إنِّي أسألك إيماناً يُباشر قلبي، ويقيناً (4) صادقاً (5) حتى أعلم أنَّه لا يمنعني رزقاً قسمته لي، ورضِّني من المعيشة بما قسمت لي)) (6) .
_________
(1) أخرجه: الدينوري في " المجالسة " (960) و (3045) ، وأبو عبد الرحمان السّلمي في
" طبقات الصوفية ": 10.
(2) أخرجه: البيهقي في " شُعب الإيمان " (10556) عن عمار بن ياسر، مرفوعاً.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " اليقين ": 118، والبيهقي في " شُعب الإيمان " (209) .
(4) في (ص) : ((ولساناً)) .
(5) ((صادقاً)) سقطت من (ص) .
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " اليقين ": 112.(2/859)
وكان عطاء الخراساني لا يقومُ من مجلسه حتى يقولَ: اللهمَّ هب لنا يقيناً منك حتى تُهوِّن علينا مصائبَ الدُّنيا، وحتى نعلمَ أنَّه لا يُصيبنا إلا ما كتبتَ علينا، ولا يُصيبنا مِنْ هذا الرِّزقِ إلاَّ ما قسمتَ لنا (1) .
روينا من حديث ابن عباس مرفوعاً، قال: ((من سرَّه أنْ يكون أغنى الناسِ، فليكن بما في يدِ الله أوثق منه بما في يده)) (2) .
والثاني: أنْ يكونَ العبدُ إذا أُصيبَ بمصيبةٍ في دُنياه مِنْ ذهابِ مالٍ، أو ولدٍ، أو غير ذلك، أرغبَ في ثواب ذلك ممَّا ذهبَ منه مِنَ الدُّنيا أنْ يبقي له، وهذا أيضاً ينشأُ مِنْ كمالِ اليقين.
وقد روي عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: ((اللهُمَّ اقسم لنا مِنْ خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين معاصِيكَ، ومِنْ طاعتك ما تبلِّغُنا به جنَّتك، ومِنَ اليقين ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدُّنيا)) (3)
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " اليقين ": 108.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/218 - 219، والقضاعي في " مسند الشهاب " (367) و (368) من حديث عبد الله بن عباس، به. وهو جزء من حديث طويل.
(3) أخرجه: الترمذي (3502) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (402) ، والحاكم 1/528، والبغوي (1374) من حديث عبد الله بن عمر، به، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) . ...(2/860)
وهو من علامات الزُّهد في الدُّنيا، وقلَّةِ
الرَّغبة فيها، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه -: من زهد في الدُّنيا، هانت عليه المصيباتُ.
والثالث: أنْ يستوي عندَ العبد حامدُه وذامُّه في الحقِّ، وهذا من علامات الزُّهد في الدُّنيا، واحتقارها، وقلَّةِ الرَّغبة فيها، فإنَّ من عظُمتِ الدُّنيا عنده أحبَّ المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ، فربما حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحق خشيةَ الذَّمِّ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدح، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود: اليقين أنْ لا تُرضي النَّاسَ بسخط الله (1) . وقد مدح الله الذين يُجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
وقد روي عن السَّلف عبارات أخرُ في تفسير الزُّهد في الدُّنيا، وكلها تَرجِعُ إلى ما تقدَّم، كقول الحسن: الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال: هو أفضل مني، وهذا يرجع إلى أنَّ الزاهد حقيقةً هو الزَّاهدُ في مدح نفسه وتعظيمها، ولهذا يقال:
_________
(1) سبق تخريجه.(2/861)
الزهد في الرِّياسة أشدُّ منه في الذهب والفضة (1) ، فمن أخرج مِنْ قلبه حبَّ الرياسة في الدُّنيا، والتَّرفُّع فيها على الناس، فهو الزاهد حقاً، وهذا هو الذي يستوي عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، وكقول وهيب بن الورد: الزهد في الدُّنيا أنْ لا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها (2) ، قال ابن السماك: هذا هو الزاهد المبرز في زهده.
وهذا يرجع إلى أنَّه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصُها، وهو مثلُ استواءِ المصيبة وعدمها كما سبق.
وسئل بعضُهم - أظنُّه الإمام أحمد - عمَّن معه مالٌ: هل يكون زاهداً؟ قال: إنْ كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه، أو كما قال.
وسئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يغلب الحرامُ صبرَه، ولم يشغل الحلالُ شكره (3) ، وهذا قريبٌ ممَّا قبله، فإنَّ معناه أنَّ الزاهد في الدُّنيا إذا قدر منها على حرام، صبر عنه، فلم يأخذه، وإذا حصل له منها حلالٌ، لم يشغَلْهُ عَنِ الشُّكر، بل قام بشكرِ الله عليه.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلتُ لسفيان بن عيينة: مَنِ الزَّاهد في الدُّنيا؟ قال: من إذا أنعم عليه شكر (4) ، وإذا ابتُلي صبر. فقلت: يا أبا محمد
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/238 من قول يوسف بن أسباط.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/140.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 7/287. ...
(4) من قوله: ((لم يشغله عن الشكر ... )) سقطت من (ص) .(2/862)
قد أنعم عليه فشكر، وابتلي فصبر، وحبس النِّعمةَ (1) ، كيف يكون زاهداً؟! فقال: اسكت، من لم تمنعه النَّعماءُ مِنَ الشُّكر، ولا البلوى من الصَّبر، فذلك الزاهد (2) .
وقال ربيعة: رأس الزهادة جمعُ الأشياء بحقها، ووضعُها في حقِّها (3) .
وقال سفيان الثوري: الزهد في الدُّنيا قِصَرُ الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء (4) ، وقال: كان من دعائهم: اللهم زهِّدنا في الدُّنيا، ووسِّع علينا منها، ولا تزوِها عنا، فترغِّبنا فيها. وكذا قال الإمام أحمد: الزُّهد في الدُّنيا: قِصَرُ الأمل، وقال مرة: قِصَرُ الأملِ واليأسُ مما في أيدي الناس.
ووجه هذا أنَّ قِصَرَ الأملِ يُوجِبُ محبَّةَ لقاء الله بالخروج من الدُّنيا، وطول الأمل يقتضي محبَّةَ البقاءِ فيها، فمن قصُرَ أملُه، فقد كره البقاء في الدُّنيا، وهذا نهاية الزُّهد فيها، والإعراض عنها، واستدل ابنُ عيينة لهذا القول بقوله تعالى
: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إلى قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (5) .
وروى ابن أبي الدُّنيا بإسناده عن الضَّحَّاك بن مزاحم قال: أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
رجلٌ، فقال: يا رسول الله، مَنْ أزهدُ النَّاسِ؟ فقال: ((من لم ينسَ القبرَ والبِلى، وترك أفضلَ (6) زينة الدُّنيا، وآثرَ ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدَّ غداً مِنْ أيَّامه وعدَّ نفسه من الموتى)) (7) وهذا مرسل.
وقد قسَّم كثيرٌ مِنَ السَّلفِ الزُّهدَ أقساماً: فمنهم من قال: أفضل الزُّهدِ: الزُّهدُ في
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 7/273.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/259.
(4) أخرجه: وكيع في " الزهد " 1/222 (6) ، والدينوري في " المجالسة " (2848) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/386.
(5) البقرة: 94 - 96.
(6) سقطت من (ص) .
(7) أخرجه: ابن أبي شيبة (34318) من طريق الضَّحاك بن مزاحم، مرسلاً فهو ضعيف لإرساله.(2/863)
الشِّركِ، وفي عبادةِ ما عُبِدَ من دُونِ الله، ثمَّ الزُّهدُ في الحرام كلِّه من المعاصي، ثمَّ الزُّهدُ في الحلال، وهو أقلُّ أقسام الزهد، فالقسمان الأولان من هذا الزهد، كلاهما واجبٌ، والثَّالث: ليس بواجبٍ، فإنَّ أعظمَ الواجبات: الزُّهد في الشِّركِ، ثم في المعاصي كلِّها (1) . وكان بكرٌ المزنيُّ يدعو لإخوانه: زهَّدنا الله وإياكم زُهْدَ مَنْ أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات، فعلم أنَّ الله يراه فتركه.
وقال ابنُ المبارك: قال سلام بن أبي مطيع: الزُّهد على ثلاثة وجوه:
واحد: أنْ يُخْلِصَ العمل لله - عز وجل - والقول، ولا يُراد بشيء منه الدُّنيا.
والثاني: تركُ ما لا يصلُحُ، والعمل بما يصلح.
والثالث: الحلال أنْ يزهدَ فيه وهو تطوُّعٌ، وهو أدناها (2) .
وهذا قريب مما قبله، إلاَّ أنَّه جعل الدَّرجةَ الأُولى مِنَ الزُّهدِ الزُّهدَ في
الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل، وهو الشِّركُ الأصغر، والحاملُ عليه
محبَّةُ المدح في الدُّنيا، والتقدُّم عند أهلها، وهو مِنْ نوعِ محبَّةِ العلوِّ فيها
والرياسة.
وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهدٌ فرضٌ، وزهدٌ فضلٌ، وزهدٌ سلامةٌ، فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهدُ السلامةُ: الزُّهد في الشبهات (3) .
وقدِ اختلفَ الناسُ: هل يستحقُّ اسمَ الزاهد مَنْ زَهِدَ في الحرام خاصَّةً، ولم يزهد في فضول المباحات أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنَّه يستحقُّ اسمَ الزهد بذلك، وقد سبق ذلك عَنِ الزُّهري وابن عيينة وغيرهما.
_________
(1) انظر: الفوائد لابن القَيَّم: 146.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/188.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/26 و10/137. ...(2/864)
والثاني: لا يستحقُّ اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباح، وهو قولُ طائفة من العارفين وغيرهم، حتى قال بعضهم: لا زُهْدَ اليوم لفقد المباح المحض، وهو قول يوسف بن أسباط (1) وغيره، وفي ذلك نظر. وكان يونس بن عبيد يقول: وما قدر الدُّنيا حتى يُمدَح من زهد فيها؟
وقال أبو سليمان الداراني: اختلفوا علينا في الزُّهد بالعراق، فمنهم من قال: الزُّهد في ترك لقاءِ النَّاسِ، ومنهم من قال: في ترك الشَّهواتِ، ومنهم من قال: في ترك الشِّبَعِ، وكلامهم قريبٌ بعضُه مِن بعضٍ، قال: وأنا أذهبُ إلى أنَّ الزُّهدَ في ترك ما يشغلُك عن الله - عز وجل - (2) ، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، وهو يجمعُ جميعَ معاني الزُّهد وأقسامه وأنواعه.
واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا ليس هو راجعاً إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإنَّ الله جعلهما خِلفَةً لمن أراد أنْ يذَّكَّرَ أو أراد شكوراً. ويُروى عن عيسى - عليه السلام - أنَّه قال: إنَّ هذا الليل والنهار خزانتان، فانظُروا ما تضعُون فيهما، وكان يقول: اعملوا اللَّيل لما خلق له، والنَّهار لما خلق له.
وقال مجاهد: ما مِنْ يوم إلاَّ يقول: ابنَ آدم قد دخلتُ عليك اليوم، ولن أرجعَ إليك بعدَ اليوم، فانظُر ماذا تعمل فيَّ، فإذا انقضى، طوي، ثم يُخْتَمُ عليه، فلا يُفَكُّ حتّى يكون الله
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/238 بنحوه.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/258.(2/865)
هو الذي يفضّه يومَ القيامة، ولا ليلة إلا تقول كذلك (1) ، وقد أنشد بعضُ السَّلف:
إنَّما الدُّنيا إلى الجنَّـ ... ـةِ والنَّار طريق
واللَّيالي متجر الإنـ ... ـسان والأيَّام سُوق
وليس الذمُّ راجعاً إلى مكان الدُّنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مِهاداً وسكناً، ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الشَّجر والزرع، ولا إلى ما بثَّ فيها من الحيوانات وغير ذلك، فإنَّ ذلك كُلَّه مِنْ نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانيَّة صانعه وقُدرته وعَظَمَتهِ، وإنَّما الذَّمُّ راجعٌ إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدُّنيا؛ لأنَّ غالبها واقعٌ على غير الوجه الذي تُحمَدُ عاقبتُه، بل يقعُ على ما تضرُّ عاقبتُه، أو لا تنفع، كما قال - عز وجل -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} (2) .
وانقسم بنو آدم في الدُّنيا إلى قسمين:
أحدهما: من أنكر أنْ يكون للعباد بعد الدُّنيا دارٌ للثَّواب والعقاب، وهؤلاء هم الَّذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنيا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} (3) ، وهؤلاء همُّهمُ التمتُّع بالدُّنيا، واغتنامُ لَذَّاتها قبل الموت، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ} (4) . ومن هؤلاء من كان يأمرُ بالزُّهد في الدُّنيا؛ لأنَّه يرى أنَّ الاستكثار منها يُوجِبُ
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/292 بنحوه.
(2) الحديد: 20.
(3) يونس: 7 - 8.
(4) محمد: 12.(2/866)
الهمَّ والغمَّ، ويقول: كلَّما كثُرَ التعلُّقُ بها، تألَّمت النَّفسُ بمفارقتها عند الموت، فكان هذا غايةَ زُهدهم في الدُّنيا.
والقسم الثاني: من يُقرُّ بدارٍ بعد الموت للثَّواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.
فالظالم لنفسه: هم الأكثرون منهم، وأكثرهم وقف مع زهرةِ الدُّنيا وزينتِها، فأخذها مِن غير وجهها، واستعملها في غيرِ وجهها، وصارت الدُّنيا أكبرَ همِّه، لها يغضب (1) ، وبها يرضى، ولها يُوالي، وعليها يُعادي، وهؤلاء هم أهلُ اللَّهو واللَّعب والزِّينة والتَّفاخر والتَّكاثر، وكلُّهم لم يعرفِ المقصودَ من الدُّنيا (2) ، ولا أنَّها منزلُ سفرٍ يتزوَّدُ منها لِمَا بعدَها مِنْ دارِ الإقامة، وإنْ كان أحدُهم يُؤمِنُ بذلك إيماناً مجمَلاً، فهو لا يعرفه مفصَّلاً، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرفة بالله في الدُّنيا ممَّا هو أنموذَجُ ما ادُّخر لهم في الآخرة.
والمقتصد منهم أخذَ الدُّنيا مِنْ وجوهها المباحَةِ، وأدَّى واجباتها، وأمسك لنفسه الزَّائِدَ على الواجب، يتوسَّعُ به في التمتُّع بشهواتِ الدُّنيا (3) ، وهؤلاءِ قدِ اختُلف في دخولهم في اسم الزَّهادَةِ في الدُّنيا كما سبق ذكره، ولا عقاب عليهم في ذلك، إلاَّ أنَّه ينقصُ من درجاتهم من الآخرة بقدر توسُّعهم في الدُّنيا. قال ابن عمر: لا يصيبُ عبدٌ مِنَ
_________
(1) عبارة: ((لها يغضب)) سقطت من (ص) .
(2) عبارة: ((من الدنيا)) سقطت من (ص) .
(3) من قوله: ((على الواجب ... )) إلى هنا سقط من (ص) .(2/867)
الدُّنيا شيئاً إلاَّ نقص من درجاته عند الله، وإنْ كان عليه كريماً، خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (1) بإسنادٍ جيد. وروي مرفوعاً من حديث عائشة بإسناد فيه نظر.
وروى الإمام أحمدُ في كتاب " الزهد " بإسناده: أنَّ رجلاً دخل على معاوية، فكساه، فخرج فمرَّ على أبي مسعود الأنصاري ورجلٍ آخر من الصَّحابة، فقال أحدهما له: خذها مِنْ حسناتِك، وقال الآخر: من طيِّباتك.
وبإسناده عن عمر قال: لولا أنْ تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عَيشِكُم، ولكنَّي سمعت الله عيَّرَ قوماً، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنيا} (2) (3) .
وقال الفضيل بن عياض: إنْ شئت استَقِلَّ مِنَ الدُّنيا، وإنْ شئت استكثر منها فإنَّما تأخُذُ مِن كيسك.
ويشهد لهذا أنَّ الله - عز وجل - حرَّم على عباده أشياءَ مِنْ فضول شهواتِ الدُّنيا وزينتها وبهجتها، حيث لم يكونوا محتاجين إليه، وادَّخره لهم عنده في الآخرة، وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله - عز وجل -: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرحمان لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} إلى قوله: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنيا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) .
_________
(1) كما في " الترغيب والترهيب " (4709) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا.
وأخرجه: هناد في " الزهد " (557) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/306.
(2) الأحقاف: 20.
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (24196) بنحوه.
(4) الزخرف: 33 - 35.(2/868)
وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((مَنْ لبس الحَريرَ في الدُّنيا، لم يلبسه في
الآخرة)) (1) ، و ((من شرب الخمر في الدُّنيا لم يشربها في الآخرة)) (2) .
_________
(1) أخرجه: البخاري 7/193 (5832) ، ومسلم 6/142 - 143 (2073) (21) من حديث أنس بن مالك، به.
(2) أخرجه: البخاري 7/135 (5575) ، ومسلم 6/100 (2003) (73) ، وأبو داود
(3679) ، وابن حبان (5366) ، والبيهقي 8/293، والبغوي (3013) من حديث عبد الله بن عمر، به.(2/869)
وقال:
((لا تلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تشربوا في آنية الذَّهبِ والفِضَّةِ، ولا تأكُلُوا في صحافها، فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولكم في الآخرة)) (1) .
_________
(1) أخرجه: الحميدي (440) ، والبخاري 7/99 (5426) ، ومسلم 6/136 - 137
(2067) (4) و (5) ، وابن ماجه (3414) و (3590) ، والترمذي (1878) ، والنسائي 8/198 - 199، وابن حبان (5339) من حديث حذيفة، به.(2/871)
قال وهب: إنَّ الله - عز وجل - قال لموسى - عليه السلام -: إنِّي لأذودُ أوليائي عن نعيم الدُّنيا ورخائها كما يذودُ الرَّاعي الشفيقُ إبِلَه عن مبارك العُرَّةِ، وما ذلك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تَكْلَمْه الدُّنيا (1) .
ويشهد لهذا ما خرَّجه الترمذي عن قتادة بن النُّعمان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً حماه عَنِ الدُّنيا، كما يَظَلُّ أحدُكُمْ يحمي سقيمَه الماءَ)) (2) ، وخرَّجه الحاكم (3) ، ولفظه: ((إنَّ الله ليحمي عبدَه الدُّنيا وهو يحبُّه، كما تحمُونَ
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/11 - 12 من طرق عن ابن عباس، بنحوه.
(2) أخرجه: الترمذي (2036) ، وابن حبان (669) ، والطبراني في " الكبير " 19/ (17) من حديث قتادة، به، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) .
(3) في " المستدرك " 4/207 و309 من حديث قتادة بن النعمان، به.(2/872)
مريضَكم الطَّعام والشراب، تخافون عليه)) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال
: ((الدُّنيا سجنُ المؤمن، وجنَّة الكافر)) .
وأمَّا السَّابقُ بالخيرات بإذن الله، فهمُ الَّذينَ فهِمُوا المرادَ مِنَ الدُّنيا، وعَمِلُوا بمقتضى ذلك، فعلموا أنَّ الله إنَّما أسكنَ عبادَه في هذه الدَّارِ، ليبلوهم أيُّهم أحسنُ
عملاً، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (2) ، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (3) .
قال بعض السَّلف: أيهم أزهد في الدُّنيا، وأرغبُ في الآخرة، وجعل ما في الدُّنيا مِنَ البهجة والنُّضرة مِحنَةً، لينظر من يقف منهم معه، ويَركَن إليه، ومن ليس كذلك، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (4) ثم بين انقطاعه ونفاده، فقال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} (5) ، فلمَّا فهِموا أنَّ هذا هو المقصود مِنَ الدُّنيا، جعلوا همَّهم التزوُّدَ منها للآخرة التي هي دارُ القرار، واكتفوا مِنَ الدُّنيا بما يكتفي به المسافرُ في سفره، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما لي وللدُّنيا، إنَّما مثلي ومثل الدُّنيا كراكبٍ قالَ في
_________
(1) الصحيح 8/210 (2956) (1) .
وأخرجه: أحمد 2/323 و485، وابن ماجه (4113) ، وابن حبان (687) و (688) من حديث أبي هريرة، به.
وهنا قد وهم ابن رجب فنسب الحديث في " صحيح مسلم " إلى: ((عبد الله بن عمرو)) ، بينما هو من رواية أبي هريرة.
أما رواية عبد الله بن عمرو فقد أخرجها: أحمد 2/197، والحاكم 4/315، وأبو نعيم في " الحلية " 8/177 و185.
(2) هود: 7.
(3) الملك: 2.
(4) الكهف: 7.
(5) الكهف: 8.(2/873)
ظلِّ شجرةٍ، ثم راح وتركها)) (1) .
ووصَّى - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الصحابة أنْ يكون بلاغُ أحدِهم مِنَ الدُّنيا كزادِ الراكب، منهم: سلمان (2) ، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو ذرٍّ، وعائشة (3) ،
_________
(1) أخرجه: أحمد 1/391 و441، وابن ماجه (4109) ، والترمذي (2377) ، والطبراني في " الأوسط " (9307) ، والحاكم 4/310، وأبو نعيم في " الحلية " 2/102 و4/234 من حديث عبد الله بن مسعود، به، وقال الترمذي: ((حسن صحيح)) .
وللحديث طرق أخرى.
(2) أخرجه: معمر في " جامعه " (20632) ، ووكيع في " الزهد " (67) ، وأحمد 5/438، وابن حبان (706) ، والطبراني في " الكبير " (6069) و (6160) و (6182) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/195 و196 و197، والقضاعي في " مسند الشهاب " (728) من حديث سلمان، وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه: الترمذي (1780) من حديث عائشة، وإسناده ضعيف جداً.(2/874)
ووصَّى ابنَ عمرَ أنْ يكونَ في الدُّنيا كأنَّه (1) غريبٌ أو عابرُ سبيل، وأنْ يَعُدَّ نفسه من أهل القبور (2) .
_________
(1) عبارة: ((في الدنيا كأنَّه)) سقطت من (ص) .
(2) أخرجه: أحمد 2/24 و41، والبخاري 8/110 (6416) ، وابن ماجه (4114) ، والترمذي (2333) ، وابن حبان (698) ، والبيهقي 3/369 من حديث عبد الله بن عمر، به. والروايات مطولة ومختصرة.(2/875)
وأهل هذه الدرجة على قسمين: منهم من يقتصرُ من الدُّنيا على قدر ما يسدُّ الرَّمق فقط، وهو حالُ كثيرٍ من الزُّهَّادِ. ومنهم من يفسح لنفسه أحياناً في تناول بعض شهواتِها المباحةِ؛ لتقوى النَّفسُ بذلك، وتنشَط للعملِ، كما روي عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في
الصَّلاة)) خرَّجه الإمام أحمد (1) والنَّسائي (2) من حديث أنس.
_________
(1) في " مسنده " 3/128 و199 و285 من حديث أنس بن مالك، به.
(2) في " المجتبى " 7/61 و62، وهو حديث صحيح.(2/876)
وخرَّج الإمام أحمد (1) من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ
من الدُّنيا النِّساء والطِّيب والطعام، فأصاب من النِّساءِ والطِّيبِ، ولم يُصب من الطَّعامِ.
وقال وهب: مكتوبٌ في حكمة آل داود - عليه السلام -: ينبغي للعاقل أنْ لا يَغْفُل عن أربع ساعاتٍ: ساعةٍ يُحاسِبُ فيها نفسه، وساعةٍ يُناجي فيها ربَّه، وساعةٍ يلقى فيها إخوانه الذين يُخبرونه بعيُوبه، ويُصدقونه عن نفسه، وساعةٍ يُخلي بين نفسه وبين لذَّاتها فيما يحلُّ ويجمل، فإنَّ في هذه السَّاعة عوناً على تلك الساعات، وفضلَ بُلغة واستجماماً للقلوب، يعني: ترويحاً لها (2) .
ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوِّي على الطاعة كانت شهواتُه له طاعة يُثابُ عليها، كما قال معاذ بن جبل: إنِّي لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (3) ، يعني: أنَّه ينوي بنومه التَّقوِّي على القيام في آخر الليل، فيحتسِبُ ثوابَ نومهِ كما
_________
(1) في " مسنده " 6/72 من طريق أبي إسحاق، عن رجل حدَّثه، عن عائشة، به، وإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن عائشة.
(2) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (313) ، وهناد في " الزهد " (1226) ، والبيهقي في " شُعب الإيمان " (4677) و (4678) .
(3) أخرجه: عبد الرزاق (5959) ، وأحمد 4/409 عن معاذ بن جبل، به.
وهو جزء من حديث طويل. ...(2/877)
يحتسب ثواب قيامه. وكان بعضهم إذا تناول شيئاً من شهواته المباحة واسى منها إخوانَه، كما روي عن ابن المبارك أنَّه كان إذا اشتهى شيئاً لم يأكلْه حتّى يشتهيه بعضُ أصحابه، فيأكله معهم، وكان إذا اشتهى شيئاً، دعا ضيفاً له ليأكل معه.
وكان يذكر عن الأوزاعي أنَّه قال: ثلاثة لا حسابَ عليهم في مطعمهم:
المتسحِّر، والصائم حين يفطر، وطعام الضيف (1) .
وقال الحسن: ليس مِن حبك للدُّنيا طلبك ما يصلحك فيها، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها، ومن أحبَّ الدُّنيا وسرَّته، ذهب خوفُ الآخرة من قلبه.
وقال سعيد بن جبير: متاعُ الغرور ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنَّه متاعُ بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه (2) .
وقال يحيى بنُ معاذ الرازي: كيف لا أُحِبُّ دنيا قُدِّر لي فيها قوتٌ، أكتسب بها حياةً، أُدركُ بها طاعةً، أنالُ بها الآخرة.
وسئل أبو صفوان الرّعيني - وكان من العارفين -: ما هي الدُّنيا التي ذمَّها الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أنْ يجتنبها؟ فقال: كلُّ ما أصبت في الدُّنيا تريدُ به الدُّنيا، فهو مذمومٌ، وكلُّ ما أَصبتَ فيها تريدُ به الآخرة، فليس منها (3) .
وقال الحسن: نعمت الدار كانت الدُّنيا للمؤمن، وذلك أنَّه عمل قليلاً، وأخذ زاده منها إلى الجنَّة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنَّه ضيَّع لياليه، وكان زادُه منها إلى النار (4) .
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/72 من طريق يونس بن يزيد، عن الأوزاعي، عن حَسَّان.
(2) أخرجه: نعيم بن حماد في " زوائده على الزهد " لابن المبارك (140) .
(3) أخرجه: أبو سعيد في " الزهد وصفة الزاهدين " (35) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/5، والبيهقي في " الزهد الكبير " (448) .
(4) أخرجه: أحمد في " الزهد " (1637) ، وابن أبي عاصم في " الزهد ": 284. (ط. دار الرَّيان للتُراث) .(2/878)
وقال أيفع بنُ عبدٍ الكَلاعيُّ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّة وأهل النار النارَ، قال الله: يا أهل الجنة، كَمْ لَبِثْتُم في الأرضِ عَدَدَ سِنين؟ قالوا: لَبِثْنَا يَوماً أَوْ بَعْضَ يَومٍ، قال: نعم ما اتجرتم في يومٍ أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول لأهل النار: كم لبثتم في الأرض عددَ سنين؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، فيقول: بئس ما اتَّجرتم في يومٍ أو بعض يومٍ، سخطي ومعصيتي وناري، امكثوا فيها خالدين مخلدينَ)) (1) .
وخرَّج الحاكم (2) من حديث عبد الجبَّار بن وهب، أنبأنا سعدُ بن طارق، عن أبيه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((نعمتِ الدَّارُ الدُّنيا لمن تزوَّد منها لآخرته حتّى يُرضِيَ ربَّهُ، وبئستِ الدَّارُ لمن صدَّته عن آخرته، وقصَّرت به عن رضا ربِّه، وإذا قال العبد: قبَّحَ الله الدُّنيا، قالت الدُّنيا: قبَّح الله أعصانا لربِّه)) وقال (3) : صحيح الإسناد، وخرَّجه العقيلي (4) ، وقال: عبد الجبار بن وهب مجهول وحديثُه غير محفوظ، قال: وهذا الكلام يُروى عن عليٍّ من قوله.
وقول عليٍّ خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (5) عنه بإسنادٍ فيه نظر: أنَّ علياً سمع رجلاً يسبُّ الدُّنيا،
_________
(1) أخرجه: ابن أبي حاتم في "تفسيره" (14060) وكما في "تفسير ابن كثير": 1308 (ط. دار ابن حزم) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/132 من طريق أيفع بن عبد الكلاعي، مرسلاً.
(2) في " المستدرك " 4/312 - 313.
وأخرجه: الرامهرمزي في " الأمثال ": 58 و147، وابن عدي في " الكامل " 4/226 عن سعد بن طارق، عن أبيه، به.
(3) في " المستدرك " 4/313.
(4) في " الضعفاء " 3/89.
(5) في " ذم الدنيا " (147) .(2/879)
فقال: إنَّها لدارُ صدق لمن صدقها، ودارُ عافيةٍ لمن فهم عنها، ودارُ غنى لمن تزوَّد منها، مسجد أحبَّاءِ الله، ومهبِطُ وحيِهِ، ومُصَلّى ملائكتِهِ، ومتجَرُ أوليائه، اكتسبوا فيها الرَّحمَةَ وربحُوا فيها الجَنَّة، فمن ذا يذمُّ الدُّنيا وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلَها، فمثَّلت ببلائها البلاءَ، وشوَّقت بسرُورها إلى السُّرور، فذمَّها قومٌ عندَ النَّدامة، وحمِدها آخرون، حدَّثتهم فصدقوا، وذكَّرتهم فذكروا؟ فيا أيُّها المغترُّ بالدُّنيا، المغترُّ بغرورها، متى استلامت إليك الدُّنيا؟ بل متى غرَّتك؟ أبمضاجعِ آبائك مِنَ الثرى؟ أم بمصارع أُمَّهاتك منَ البلى؟ كم قد قلَّبت بكفيك، ومرَّضت بيديك تطلب له الشِّفاءَ، وتسأل له الأطباء، فلم تظفر بحاجتك، ولم تُسعَفْ بطلبَتِكَ، قد مثَّلت لك الدُّنيا بمصرعه مصرَعَك غداً، ولا يُغني عنك بكاؤك، ولا ينفعُك أحبَّاؤك.
فبين أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - أنَّ الدُّنيا لا تُذَمُّ مطلقاً، وأنَّها تُحمدُ بالنِّسبة إلى من تزوَّد منها الأعمال الصالحة، وأنَّ فيها مساجدَ الأنبياءِ، ومهبطَ الوحي، وهي دار التِّجارة للمؤمنين، اكتسبوا فيها الرَّحمة، وربحوا بها الجَنَّة، فهي نِعمَ الدَّارُ لمن كانت هذه صفَته. وأمَّا ما ذكر من أنَّها تَغُرُّ وتخدَعُ، فإنَّها تُنادي بمواعظها، وتنصحُ بعبرها، وتُبدي عيوبَها بما تُري أهلها من مصارع الهلكى، وتقلُّبِ الأحوال مِنَ الصِّحَّة إلى السَّقم، ومِنَ الشَّبيبة إلى الهرم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن العِزِّ إلى الذُّلِّ، لكنَّ مُحِبَّها قد أصمَّه وأعماه حبُّها، فهو لا يسمع نداءها، كما قيل:
قدْ نادَتِ الدُّنيا على نَفسِها ... لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيتُهُ ... وجَامِعٍ بَدَّدَتُ ما يَجْمَعُ(2/880)
قال يحيى بنُ معاذ: لو يسمع الخلائقُ صوتَ النِّياحةِ على الدُّنيا في الغيبِ من ألسنةِ الفناءِ، لتساقطت القلوبُ منهم حُزناً (1) . وقال بعضُ الحكماء: الدُّنيا أمثالٌ تضرِبُها الأيَّامُ للأنام، وعلمُ الزَّمان لا يحتاجُ إلى تَرجُمان، وبحبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماعُ القلوب عنِ المواعظ، وما أحثَّ السائقَ لو شعرَ الخلائقُ.
وأهل الزُّهد في فضول الدُّنيا أقسام: فمنهم من يحصلُ له، فيمسكه ويتقرَّبُ به إلى الله، كما كان كثيرٌ مِنَ الصَّحابة وغيرهم، قال أبو سليمان: كان عثمان
وعبد الرحمان بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه، يُنفقان في طاعته، وكانت معاملتُهما لله بقلوبِهما (2) .
ومنهم من يُخرجه مِنْ يده، ولا يُمسكه، وهؤلاء نوعان: منهم من يُخرجه اختياراً وطواعية، ومنهم من يُخرجهُ ونفسه تأبى إخراجه، ولكن يُجاهدُها على ذلك. وقد اختُلف في أيِّهما أفضل، فقال ابنُ السَّماك والجنيد: الأوَّل أفضلُ، لتحقُّق نفسه بمقامِ السَّخاءِ والزُّهد، وقال ابن عطاء: الثَّاني أفضل؛ لأنَّ له عملاً ومجاهدة. وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليه أيضاً.
ومنهم من لم يحصُل له شيءٌ مِنَ الفُضولِ، وهو زاهدٌ في تحصيله، إمَّا مع قدرته، أو بدونها، والأوَّل أفضلُ مِنْ هذا، ولهذا قال كثيرٌ مِنَ السَّلفِ: إنَّ عمرَ ابن عبد العزيز كان أزهدَ مِنْ أويس ونحوه، كذا قال أبو سليمان (3) وغيرُه.
وكان مالكُ بنُ دينار يقولُ: الناسُ يقولون: مالكٌ زاهدٌ، إنَّما الزَّاهدُ عمر ابن
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 10/56.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/262.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/272.(2/881)
عبد العزيز (1) .
وقد اختلف العلماء: أيُّما أفضلُ: من طلبَ الدُّنيا منَ الحلال، ليصل رحمَه، ويقدِّم منها لنفسه، أم من تركها فلم يطلبها بالكُليَّة؟ فرجَّحت طائفةٌ من تركها
وجانبها، منهم: الحسن وغيره، ورجَّحت طائفةٌ من طلبها على ذلك الوجه، منهم: النخعي وغيره، وروي عن الحسن عنه نحوه.
والزَّاهدون في الدُّنيا بقلوبهم لهم ملاحظُ ومشاهدُ يشهدونها، فمنهم من يشهدُ كثرةَ التَّعب بالسَّعي في تحصيلها، فهو يزهدُ فيها قصداً لراحةِ نفسه. قال الحسن: الزُّهد في الدُّنيا يُريح القلب والبدن.
ومنهم من يخافُ أنْ ينقصَ حظُّه من الآخرة بأخذ فضولِ الدُّنيا. ومنهم من يخافُ من طُولِ الحساب عليها، قال بعضهم (2) : من سأل الله الدُّنيا، فإنَّما يسأل طولَ الوُقوفِ (3) للحساب.
ومنهم من يشهدُ كثرةَ عُيوبِ الدُّنيا، وسرعة تقلُّبها وفنائها، ومزاحمةَ الأراذِلِ في طلبها، كما قيل لبعضهم: ما الذي زهَّدكَ في الدُّنيا؟ قالَ: قلَّةُ وفائها، وكثرةُ جفائها، وخسة شُركائها.
ومنهم من كان ينظر إلى حقارةِ الدُّنيا عند الله، فيقذرها، كما قال الفضيلُ: لو أنَّ الدُّنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالاً لا أحاسب بها في الآخرة، لكنت أتقذرها كما يتقذر الرَّجلُ الجيفةَ إذا مرَّ بها أنْ تصيبَ ثوبه (4) .
ومنهم من كان يخافُ أنْ تشغلَه عن الاستعدادِ للآخرة والتزوُّدِ لها. قال الحسن: إنْ كان أحدهم ليعيش عمره مجهوداً شديدَ الجهد، والمالُ الحلال إلى
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/257.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/337 من قول بِشر بن الحارث.
(3) سقطت من (ص) .
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/89.(2/882)
جنبه، يقال له: ألا تأتي هذا فتُصيب منه؟ فيقول: لا والله لا أفعل، إنِّي أخافُ أنْ آتيه، فأصيبَ منه، فيكون فسادَ قلبي وعملي (1) .
وبُعِثَ إلى عمر بن المنكدر بمالٍ، فبكى، واشتدَّ بكاؤه، وقال: خشيت أنْ تغلب الدُّنيا على قلبي، فلا يكون للآخرة فيه نصيب، فذلك الذي أبكاني، ثم أمر به، فتُصُدِّقَ به على فقراء أهل المدينة.
وخواص هؤلاء يخشى أنْ يشتغلَ بها عن اللهِ، كما قالت رابعة: ما أحبُّ أنَّ لي الدُّنيا كلَّها مِنْ أوَّلها إلى آخرها حلالاً، وأنا أنفقُها في سبيل الله، وأنَّها شغلتني
عنِ الله طرفةَ عينٍ.
وقال أبو سليمان: الزهد ترك ما يشغل عن الله (2) . وقال: كلُّ ما شغلك عن اللهِ مِنْ أهلٍ ومالٍ وولدٍ، فهو مشؤوم (3) .
وقال: أهلُ الزُّهد في الدُّنيا على طبقتين (4) : منهم من يزهدُ في الدُّنيا، فلا يُفْتَحُ له فيها روح الآخرة، ومنهم من إذا زَهِدَ فيها، فُتحَ له فيها روحُ الآخرة (5) ، فليس شيءٌ أحبَّ إليه من البقاء ليطيع الله (6) .
وقال: ليس الزاهد من ألقى همومَ الدُّنيا، واستراح منها، إنَّما الزَّاهد من زَهِدَ في الدُّنيا، وتعب فيها للآخرة (7) .
فالزُّهد في الدُّنيا يُرادُ به تفريغُ القلب منَ الاشتغال بها؛ ليتفرَّغ لِطلب الله، ومعرفته، والقرب منه، والأُنس به، والشَّوقِ إلى لقائه،
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/269.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/258.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/264.
(4) في (ص) : ((الزهد على طبقتين)) .
(5) من قوله: ((ومنهم من إذا ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(6) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/274.
(7) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/273.(2/883)
وهذه الأمورُ ليست مِنَ الدُّنيا كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حُبِّبَ إلي من دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعلت قرَّةُ عيني في الصَّلاة)) (1) ، ولم يجعل الصَّلاةَ ممَّا حُبِّبَ إليه مِنَ الدُّنيا، كذا في
" المسند " (2) و" النسائي " (3) ، وأظنُّه وقع في غيرهما: ((حبِّبَ إليَّ من دنياكم
ثلاث)) (4) ، فأدخل الصلاة في الدُّنيا، ويشهدُ لذلك حديث: ((الدُّنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلاَّ ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً)) خرَّجه ابن ماجه (5) والترمذي (6) ،
وحسَّنه من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وروي نحوه من غير وجه مرسلاً ومتصلاً.
وخرَّج الطبراني (7) من حديث أبي الدرداء مرفوعاً قال: ((الدُّنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ما ابتُغِيَ به وجه الله)) . وخرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (8) موقوفاً،
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) المسند 3/128 و199 و285 من حديث أنس بن مالك، به.
(3) في " المجتبى " 7/61 و72 من حديث أنس بن مالك، به.
(4) قال العلامة محمد عبد الرؤوف المناوي: ((من زاد كالزمخشري والقاضي لفظ ثلاث فقد وهم، قال الحافظ العراقي في "أماليه" لفظ ثلاث ليست في شيء من كتب الحديث وهي تفسد المعنى، وقال الزركشي: لم يرد فيه لفظ ثلاثة وزيادتها مخلة للمعنى فإن الصلاة ليست من الدنيا، وقال ابن حجر في " تخريج الكشاف ": لم يقع في شيء من طرقه، وهي تُفسد المعنى إذ لم يذكر بعدها إلا الطيب والنساء ثم إنَّه لم يضفها لنفسه فما قال: أحب، تحقيراً لأمرها؛ لأنَّه أبغض الناس فيها لا لأنها ليست من دنياه بل من آخرته كما ظن إذ كل مباح دنيوي ينقلب طاعة بالنية فلم يبق لتخصيصه حينئذٍ وجه)) . فيض القدير 3/489 - 490 (3669) ، وانظر: الكافي الشاف (183) ، والمقاصد الحسنة: 180.
(5) السنن (4112) .
(6) في " جامعه " (2322) من حديث أبي هريرة، به، وقال: ((حسن غريب)) .
وأخرجه: أبو نعيم " الحلية " 3/157 و7/90 من حديث جابر، به.
(7) كما في " مجمع الزوائد " 10/222، وقال الهيثمي: ((رواه الطبراني وفيه خداش بن المهاجر ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات)) .
(8) في " ذم الدنيا " (6) .(2/884)
وخرَّجه أيضاً من رواية شهر بن حوشب (1) ، عن عبادة، أراه رفعه، قال
: ((يُؤتى بالدُّنيا يومَ القيامة، فيقال: مِيزوا منها ما كان لله - عز وجل -، وألقوا سائرها في النار)) .
فالدُّنيا وكلُّ ما فيها ملعونة، أي: مُبعدَةٌ عن الله؛ لأنَّها تَشغلُ عنه، إلاَّ العلمَ النَّافع الدَّالَّ على الله، وعلى معرفته، وطلب قُرْبِه ورضاه، وذكر الله وما والاه ممَّا يُقَرِّبُ مِنَ الله، فهذا هو المقصودُ مِنَ الدُّنيا، فإنَّ الله إنَّما أمرَ عبادَه بأنْ يتَّقوه ويُطيعوه، ولازِمُ ذلك دوامُ ذكره، كما قال ابن مسعود: تقوى الله حقّ تقواه أنْ يُذكَرَ فلا يُنسى (2) . وإنَّما شرعَ الله أقام الصَّلاةِ لذكره، وكذلك الحج والطَّواف. وأفضلُ أهل العبادات أكثرُهم ذكراً لله فيها، فهذا كلُّه ليس مِنَ الدُّنيا المذمومة، وهو المقصودُ من إيجاد الدُّنيا وأهلها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (3) .
وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاء والصُّوفيَّة أنَّ ما يُوجدُ في الدُّنيا مِنْ هذه العبادات أفضلُ ممَّا يُوجد في الجنَّة مِنَ النَّعيم، قالوا: لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حقُّ (4) العبد، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد، وهذا غلطٌ، ويقوِّي غلطَهم قولُ كثيرٍ من المفسِّرين في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} (5) قالوا: الحسنةُ: لا إله إلا الله، وليس شيءٌ خيراً منها. ولكنَّ الكلامَ على التَّقديم والتَّأخير،
_________
(1) وهو ضعيف.
(2) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (5957) ، والطبراني في " الكبير " (8501) و (8502) ، والحاكم 2/294، والبغوي في " تفسيره " 1/479، وابن الجوزي في " تفسيره " 1/431.
(3) الذاريات: 56.
(4) في (ج) : ((حظ)) .
(5) النمل: 89.(2/885)
والمراد: فله منها خيرٌ، أي: له خيرٌ بسببها ولأجلها.
والصَّوابُ إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتاب والسُّنة أنَّ الآخرة خيرٌ مِنَ الأُولى مطلقاً. وفي " صحيح الحاكم " (1) عن المستورد بن شدَّادٍ، قال: كنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا الدُّنيا والآخرة، فقال بعضهم: إنَّما الدُّنيا بلاغٌ
للآخرة، وفيها العمل، وفيها الصلاةُ، وفيها الزَّكاةُ. وقالت طائفة منهم: الآخرةُ فيها الجنَّةُ، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما الدُّنيا في الآخرة
إلاَّ كما يَمشي أحدكم إلى اليمِّ، فأدخل إصبعه فيه، فما خرج منه، فهو
الدُّنيا)) ، فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدُّنيا، وما فيها من
الأعمال.
ووجه ذلك: أنَّ كمالَ الدُّنيا إنَّما هو في العلم والعمل، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبةَ لِمَا في الدُّنيا إليه، فإنَّ العلم أصلُه العلمُ بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشفُ الغِطاءُ، ويصيرُ الخبر عياناً، ويصيرُ
علمُ اليقين عينَ اليقين، وتصيرُ المعرفةُ بالله رؤيةً له ومشاهدةً، فأين هذا مما في
الدُّنيا؟
وأما الأعمال البدنية، فإنَّ لها في الدُّنيا مقصدين:
أحدهما: اشتغالُ الجوارح بالطَّاعة، وكدُّها بالعبادة.
والثاني: اتِّصالُ القلوب بالله وتنويرُها بذكره.
فالأوَّلُ قد رُفعَ عن أهل الجنَّة، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همُّوا بالسُّجودِ لله عند تجلِّيه لهم يقال لهم: ارفعوا رؤوسكم فإنَّكم لستم في دار مجاهدة.
_________
(1) المستدرك 4/319.(2/886)
وأما المقصود الثاني، فحاصلٌ لأهل الجنَّة على أكمل الوُجُوهِ وأتمِّها، ولا نسبةَ لما حصل لقلوبهم في الدُّنيا من لطائف القُرْبِ والأنس والاتِّصال إلى ما يُشاهدونه في الآخرة عياناً، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرْبِ الله ورؤيته، وسماع كلامه، ولاسيما في أوقات الصَّلوات في الدُّنيا، كالجُمَع والأعياد، والمقرَّبون منهم يحصلُ ذلك لهم كلَّ يومٍ مرَّتين بكرةً وعشياً في وقت صلاة الصُّبح وصلاة العصر، ولهذا لمَّا ذكرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنَّةِ يرونَ ربَّهم (1) حضَّ عقيب ذلك على المحافظة على صلاةِ العصر وصلاة الفجر؛ لأنَّ وقت هاتين الصَّلاتين وقتٌ لرؤية خواصِّ أهلِ الجنَّةِ ربَّهم وزيارتهم لهُ، وكذلك نعيمُ الذِّكر وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهم أبداً، فيُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمونَ النَّفسَ. قالَ ابنُ عيينة: لا إله إلا الله لأهلِ الجنَّة، كالماء البارد لأهل الدُّنيا، فأينَّ لذَّة الذِّكرِ للعارفين في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم به في الجنَّة.
فتبيَّن بهذا أن قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} (2) على ظاهره، فإنَّ ثواب كلمة التَّوحيد في الدُّنيا أنْ يصِلَ صاحبها إلى قولها في الجَنَّةِ على الوجه الذي يختصُّ به أهل الجنّةِ.
_________
(1) أخرجه: الحميدي (1178) ، وأحمد 2/389، والبخاري 9/156 (7437) ، ومسلم 1/112 (182) (299) و1/114 (182) (300) ، وأبو داود (4730) ، وابن ماجه (178) ، والترمذي (2554) من حديث أبي هريرة، ونص الحديث: ((قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تُضامون في رؤية القمر ليلة البدر، وتُضامون في رؤية الشمس؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنَّكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تُضامون في رؤيته)) .
والروايات مطولة ومختصرة.
(2) النمل: 89.(2/887)
وبكلِّ حال، فالذي يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِنْ تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن قُربه ومشاهدته ولذَّةِ ذكره، هو أمرٌ لا يمكنُ التَّعبيرُ عن كُنهه في الدُّنيا؛ لأنَّ أهلها لم يُدرِكوه على وجهه، بل هو ممَّا لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، والله تعالى المسؤول أنْ لا يَحْرِمنا خيرَ ما عنده بشرِّ ما عندنا بمنِّه وكرمه ورحمته آمين.
ولنرجع إلى شرح حديث: ((ازهد في الدُّنيا يحبَّك الله)) (1) ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ الله يحبُّ الزاهدين في الدُّنيا، قال بعض السَّلف: قال الحواريون لعيسى - عليه السلام -: يا روحَ الله، علِّمنا عملاً واحداً يُحبُّنا الله - عز وجل - عليهِ، قالَ: أبغِضُوا الدُّنيا يحبكُم الله - عز وجل -.
وقد ذمَّ الله تعالى من يحبُّ الدُّنيا ويؤثِرُها على الآخرة، كما قال: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} (2) ، وقال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (3) ، وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (4) ، والمراد حبُّ المال، فإذا ذمَّ من أحبَّ الدُّنيا دلَّ على مدحِ مَنْ لا يحبُّها، بل يرفُضها ويترُكُها.
وفي " المسند " (5) و" صحيح ابن حبان " (6) عن أبي موسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أحبَّ دُنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرتَه، أضرَّ بدُنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) .
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) القيامة: 20 - 21.
(3) الفجر: 20.
(4) العاديات: 8.
(5) مسند أحمد 4/412، وفي إسناده انقطاع.
(6) الإحسان (709) .(2/888)
وفي " المسند " (1) و" سنن ابن ماجه " (2) عن زيد بن ثابت، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من كانت الدُّنيا همه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم
يأته من الدُّنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيَّتَه، جمعَ الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ)) . وخرَّجه الترمذي (3) من حديث أنس
مرفوعاً بمعناه.
ومن كلام جندب بن عبد الله الصَّحابي: حبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ (4) ، وروي مرفوعاً، ورُوي عن الحسن مرسلاً (5) .
_________
(1) مسند أحمد 5/183، وهو حديث صحيح.
(2) السنن (4105) .
(3) في " جامعه " (2465) .
وأخرجه: ابن عدي في " الكامل " 3/572 - 573، وأبو نعيم في " الحلية " 6/307 - 308، والبغوي (4142) من حديث يزيد بن أبان الرقاشي، عن أنس، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي.
(4) انظر: المقاصد الحسنة: 182، وكشف الخفاء 1/413 عقيب (1099) .
(5) أخرجه: البيهقي في " شُعب الإيمان " (10501) ، والسخاوي في " المقاصد الحسنة ": 182، والعجلوني في " كشف الخفاء " 1/412 - 413 (1099) عن الحسن، مرسلاً.(2/889)
قال الحسن: من أحبَّ الدُّنيا وسرَّته، خرج حبُّ الآخرة من قلبه (1) .
وقال عونُ بن عبد الله: الدُّنيا والآخرةُ في القلب ككفَّتي الميزان بِقَدْرِ ما ترجحُ إحداهُما تخِفُّ الأخرى (2) .
وقال وهب: إنَّما الدُّنيا والآخرة كرجلٍ له امرأتانِ: إنْ أرضى إحداهما أسخط الأخرى (3) .
وبكلِّ حالٍ، فالزُّهد في الدُّنيا شعارُ أنبياءِ الله وأوليائه وأحبَّائه، قال عمرو بن العاص: ما أبعدَ هديكُم مِنْ هدي نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم -، إنّه كان أزهدَ النَّاس في الدُّنيا، وأنتم أرغبُ الناس فيها، خرَّجه الإمام أحمد (4) .
وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثرُ صوماً وصلاةً وجهاداً من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهُمْ كانوا خيراً منكم، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: كانوا أزهدَ منكم في الدُّنيا، وأرغب منكم في الآخرة (5) .
وقال أبو الدَّرداء: لَئِنْ حَلفتُمْ لِي على رجلٍ أنَّه أزهدُكم، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيرُكم (6) . ويروى عن الحسن، قال: قالوا: يا رسول الله، من خيرُنا؟ قال:
((أزهدُكم في الدُّنيا، وأرغبُكم في الآخرة)) (7) والكلام في هذا الباب يطولُ جداً. وفيما أشرنا إليه كفاية إنْ شاء الله تعالى.
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 7/79 و10/22 من قول سفيان الثوري.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 4/251.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " ذم الدنيا " (7) .
(4) أخرجه: الحاكم 4/315، والبيهقي في " شعب الإيمان " (10519) و (10699) .
(5) أخرجه: الحاكم 4/315، وأبو نعيم في " الحلية " 1/136.
(6) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (550) .
(7) أخرجه: البيهقي في " شُعب الإيمان " (10521) ، وهو ضعيف لإرساله، والسند إلى الحسن منقطع.(2/890)
الوصية الثانية: الزهدُ فيما في أيدي الناس، وأنَّه موجبٌ لمحبَّة الناس. وروي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى رجلاً، فقالَ: ((ايأَسْ ممَّا في أيدي النَّاس تكُن غنياً)) خرَّجه الطبراني (1) وغيره.
ويروى من حديث سهل بن سعد مرفوعاً: ((شرف المؤمن قيامُه بالليل، وعزُّه استغناؤُه عن الناسِ)) (2) .
_________
(1) في " الأوسط " (5778) ، وإسناده ضعيف جداً، فيه إبراهيم بن زياد العجلي متروك.
(2) أخرجه: الحاكم 4/325، وأبو نعيم في " الحلية " 3/253، والقضاعي في " مسند
الشهاب " (151) و (746) من حديث سهل بن سعد، به، وإسناده ضعيف لضعف زافر ابن سليمان.(2/891)
وقال الحسن: لا تزالُ كريماً على الناس، أو لا يزالُ الناسُ يكرمُونَك ما لم تَعاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلتَ ذلك، استخفُّوا بكَ، وكرهوا حديثك، وأبغضوك (1) .
وقال أيوب السَّختياني: لا يَنْبُلُ الرجلُ حتى تكونَ فيه خصلتان: العفَّةُ عمَّا في أيدي الناس، والتجاوزُ عمّا يكون منهم (2) .
وكان عمر يقول في خطبته على المنبر: إنَّ الطمع فقر، وإنَّ اليأس غنى، وإنَّ الإنسانَ إذا أَيِسَ من الشيء استغنى عنه (3) .
وروي أنَّ عبد الله بن سلام لقيَ كعب الأحبار عند عمر، فقال: يا كعب، مَنْ أربابُ العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد إذ حفظوه وعقلوه؟ قال: يُذهبه الطمعُ، وشرَهُ النفس، وتطلبُ الحاجات إلى النَّاس، قال: صدقت (4) .
وقد تكاثرت الأحاديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سألَ النّاس ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه؛ لأنَّ المال محبوبٌ لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبُّونه، كرهوه لذلك.
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/20.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/5 بنحوه.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/50.
(4) أخرجه: ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/6 بنحوه مُختصراً.(2/892)
وأما من كان يرى المِنَّة للسائل عليه، ويرى أنَّه لو خرج له عن مُلكِه كُلِّه، لم يفِ له ببذل سؤاله له وذِلَّته له، أو كان يقول لأهله: ثِيابُكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابُّكم تحتَ غيركم أحسن منها تحتكم، فهذا نادرٌ جداً من طباع بني آدم، وقد انطوى بساطُ ذلك من أزمانٍ متطاولةٍ.
وأما من زهد فيما في أيدي الناس، وعفَّ عنهم، فإنَّهم يحبُّونه ويُكرمونه لذلك ويسود به عليهم، كما قال أعرابيٌّ لأهل البصرة: من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم (1) ، وما أحسن قول بعض السَّلف في وصف الدُّنيا وأهلها:
وما هِيَ إلاَّ جِيفةٌ مستحيلةٌ ... عليها كلابٌ هَمُّهُنَّ اجتذابُها
فإنْ تَجْتَنبها كنتَ سِلْماً لأهلها ... وإنْ تجتذبها نازعتك كِلابُها
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 2/147 - 148 بنحوه مُختصراً.(2/893)
الحديث الثاني والثلاثون
عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)) حديثٌ حَسَنٌ، رَواهُ ابنُ ماجه والدَّارقطنيُّ وغيرهما مُسنداً، ورواهُ مالكٌ في
" الموطإ " عَن عَمْرو بن يحيى، عَنْ أَبيهِ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرسلاً، فأَسقط أبا سعِيدٍ، وله طُرُقٌ يَقْوى بَعضُها بِبَعْضٍ.
حديث أبي سعيد لم يخرجه ابنُ ماجه، إنَّما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة، حدثنا الدراوردي، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ضررَ ولا ضرار، من ضارَّ ضرَّه الله، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه)) (1) وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، وقال البيهقي: تفرَّد به عثمان عن الدراوردي، وخرَّجه مالك في " الموطإ " (2) عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، مرسلاً.
قال ابن عبد البر (3) : لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، قال: ولا يُسند من وجهٍ صحيحٍ،
_________
(1) أخرجه: الدارقطني 3/77 و4/228، والحاكم 2/57، والبيهقي 6/69 وفي " المعرفة "، له (3764) .
وأخرجه: ابن عبد البر في " التمهيد " 20/159.
(2) " الموطأ " (2171) برواية الليثي.
وأخرجه: الشافعي (1493) بتحقيقي، والبيهقي 6/70 عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، مرسلاً.
لكن لم ترد عبارة: ((عن أبيه)) في " الأم " 8/639.
(3) انظر: التمهيد 20/158.(3/905)
ثم خرَّجه من رواية عبدِ الملك بن معاذ النصيبي، عن الدراوردي موصولاً، والدراوردي كان الإمام أحمد يُضعف ما حدَّث به من حفظه، ولا يعبأ به، ولا شكَّ في تقديم قول مالكٍ على قوله. وقال خالد بن سعدٍ الأندلسي الحافظ: لم يصحَّ حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) مسنداً.
وأما ابن ماجه، فخرَّجه من رواية فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادةَ بن الصامت: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أنَّ لا ضَرر ولا ضِرار (1) ، وهذا من جملة صحيفة تُروى بهذا الإسناد، وهي منقطعةٌ مأخوذة من كتابٍ، قاله ابنُ المديني وأبو زرعة وغيرهما، وإسحاق بن يحيى قيل: هو ابن طلحة، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة، قاله أبو زرعة وابنُ أبي حاتم (2) والدارقطني في موضع (3) ، وقيل: إنَّه إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة، ولم يسمع أيضاً من عبادة، قاله الدارقطني أيضاً (4) . وذكره ابن عدي في كتابه
" الضعفاء "، وقال: عامة أحاديثه غير محفوظة (5) ، وقيل: إنَّ موسى بن عقبة لم يسمع منه، وإنَّما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه، وأبو عياش لا يُعرف.
وخرَّجه ابن ماجه (6) أيضاً من وجه آخر من رواية جابر الجعفي، عن عكرمة، عن
_________
(1) أخرجه: ابن ماجه (2213) و (2340) و (2483) و (2488) و (2643) من حديث عبادة بن الصامت، به.
وأخرجه: عبد الله بن أحمد في " زوائده " 5/326 - 327.
(2) انظر: الجرح والتعديل 2/168.
(3) انظر: سنن الدارقطني 4/202.
(4) انظر: سنن الدارقطني 3/176.
(5) انظر: الكامل 1/552.
(6) في " سننه " (2341) .
وأخرجه: ابن ماجه (2337) و (2339) من طرق عن عكرمة، عن ابن عباس، به.(3/906)
ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضَرر ولا ضِرار)) ، وجابر الجعفي ضعَّفه الأكثرون، وخرَّجه الدارقطني (1) من رواية إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، وإبراهيم ضعفه جماعة، وروايات داود، عن عكرمة مناكير.
وخرَّج الدَّارقطني (2) من حديث الواقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ضَرر ولا ضِرار))
_________
(1) في " سننه " 4/228.
(2) في " سننه " 4/227.(3/907)
والواقدي متروك، وشيخه مختلف في تضعيفه. وخرَّجه الطبراني (1) من وجهين ضعيفين أيضاً عن القاسم، عن عائشة.
وخرَّج الطبراني (2) أيضاً من رواية محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمِّه واسع بن حبان، عن جابرٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ضَررَ ولا ضِرَارَ في الإسلام)) وهذا إسناد مقارب وهو غريبٌ، لكن خرَّجه أبو داود في " المراسيل " (3) من رواية عبد الرحمان بن مَغراء، عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع مرسلاً، وهو أصحُّ.
_________
(1) في " الأوسط " (270) و (1037) عن القاسم، عن عائشة، به.
(2) في " الأوسط " (5193) .
(3) المراسيل: 207.(3/908)
وخرَّج الدارقطني (1) من رواية أبي بكر بن عياش، قال: أراه عن ابن عطاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ضررَ ولا ضرورَة، ولا يمنعنّ أحدُكم جاره أن يضع خشبه على حائطه)) ، وهذا الإسناد فيه شكٌّ، وابن عطاء: هو يعقوب، وهو ضعيفٌ.
وروى كثير بنُ عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جدّه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) قال ابنُ عبد البرِّ (2) : إسناده غير صحيح.
قلت: كثير هذا يصحح حديثَه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه: هو أصحُّ حديثٍ في الباب، وحسن حديثَه إبراهيمُ بن المنذر الحِزامي، وقال: هو خير مِنْ مراسيل ابن المسيب، وكذلك حسَّنه ابنُ أبي عاصم، وترك حديثه آخرون، منهم: الإمام أحمد وغيره، فهذا ما حضرنا مِن ذكر طُرُقِ أحاديث هذا الباب.
وقد ذكر الشيخُ - رحمه الله - أنَّ بعضَ طرقه تُقوَّى ببعضٍ، وهو كما قال،
_________
(1) في " سننه " 4/228.
(2) انظر: التمهيد 20/157.(3/909)
وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعفٌ قويت (1) .
وقال الشافعي (2) في المرسل: إنَّه إذا أُسند من وجهٍ آخر، أو أرسله من يأخذ العلمَ عن غير من يأخذ عنه المرسلُ الأوَّل، فإنَّه يُقبل.
وقال الجُوزجاني: إذا كان الحديثُ المسندُ من رجلٍ غير مقنع - يعني: لا يقنع برواياته - وشدَّ أركانه المراسيلُ بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار، استعمل، واكتُفي به، وهذا إذا لم يُعارض بالمسند الذي هو أقوى منه.
وقد استدلَّ الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا
ضرار)) (3) .
وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديثُ أسنده الدارقطنيُّ من وجوه، ومجموعها يُقوِّي الحديثَ ويُحسنه، وقد تقبَّله جماهيرُ أهلِ العلم، واحتجُّوا به، وقولُ أبي داود: إنَّه من الأحاديث التي يدورُ الفقه عليها يُشعِرُ بكونه غيرَ ضعيفٍ، والله أعلم.
وفي المعنى أيضاً حديثُ أبي صِرْمَة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ضارَّ ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه)) . خرَّجه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب (4) .
وخرَّج الترمذي (5) بإسناد فيه ضعف عن أبي بكرٍ الصديق، عن النَّبيِّ
_________
(1) انظر: السنن الكبرى للبيهقي 6/65.
(2) انظر: الرسالة (1266) و (1267) .
(3) انظر: مسند الإمام أحمد 5/326.
(4) أخرجه: أبو داود (3635) ، وابن ماجه (2342) ، والترمذي (1940) عن أبي حرمة، به.
ولعل الترمذي حسّنه لمال له من شواهد، وإلاّ فإنَّ في سنده لؤلؤة مولاة الأنصار لم يرو عنها غير محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري.
(5) في " جامعه " (1941) .
وأخرجه: أبو يعلى (96) ، وابن أبي حاتم في " العلل " 2/287، وابن عدي في " الكامل " 7/140 و141، وأبو نعيم في " الحلية " 3/49 و4/164.
والترمذي ضعفه بقوله: ((غريب)) ، وإنما ضعفه لضعف أبي سلمة الكندي وشيخه فرقد السبخي.(3/910)
- صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ملعونٌ من ضارَّ مؤمناً أو مكر به)) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضَررَ ولا ضرارَ)) . هذه الرواية الصحيحة، ضِرار بغير
همزة (1) ، ورُوي ((إضرار)) بالهمزة (2) ، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدراقطني، بل وفي بعض نسخ " الموطأ "، وقد أثبت بعضُهم هذه الرواية وقال: يقال: ضَرَّ وأضر بمعنى، وأنكرها آخرون، وقالوا: لا صحَّة لها.
واختلفوا: هل بين اللفظتين - أعني: الضَّرر والضرار - فرقٌ أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهورُ أنَّ بينهما فرقاً، ثم قيل: إنَّ الضَّرر هو الاسم، والضِّرار: الفعل، فالمعنى أنَّ الضَّرر نفسَه منتفٍ في الشَّرع، وإدخال الضَّرر بغير حقٍّ كذلك.
وقيل: الضَّرر: أنْ يُدخِلَ على غيرِه ضرراً بما ينتفع هو به، والضِّرار: أن يُدخل على غيره ضرراً بما لا منفعةَ له به (3) ، كمن منع ما لا يضرُّه ويتضرَّرُ به الممنوع، ورجَّح هذا القول طائفةٌ، منهم ابنُ عبد البرِّ، وابنُ الصلاح.
وقيل: الضَّرر: أنْ يضرّ بمن لا يضره، والضِّرار: أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به على
_________
(1) ضِرار: بدون همزة بمعنى: أي لا يدخِلُ الضرر على الذي ضرَّهُ ولكن يعفو عنه. انظر:
لسان العرب 8/44.
(2) إضرار: بمثل معنى أن يتزوج الرجلُ على ضَرَّةٍ. انظر: الصحاح 2/721.
(3) انظر: النهاية 3/81 - 82.(3/911)
وجهٍ غيرِ جائزٍ.
وبكلِّ حال فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما نفى الضرر والضِّرار بغير حق.
فأما إدخالُ الضرر على أحدٍ بحق، إمَّا لكونه تعدَّى حدودَ الله، فيعاقَبُ بقدر جريمته، أو كونه ظلمَ غيره، فيطلب المظلومُ مقابلتَه بالعدلِ، فهذا غير مرادٍ قطعاً، وإنما المرادُ: إلحاقُ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ، وهذا على نوعين:
أحدهما: أنْ لا يكونَ في ذلك غرضٌ سوى الضَّررِ بذلك الغير، فهذا لا ريبَ في قُبحه وتحريمه (1) ، وقد ورد في القرآن النَّهيُ عن المضارَّة في مواضع: منها في الوصية، قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار} (2) ، وفي حديث أبي هريرة المرفوع: ((إنَّ العبدَ ليعملُ بطاعةِ اللهِ ستِّين سنةً، ثم يحضُرُه الموتُ، فيضارّ في الوصيّة، فيدخل النار)) ، ثم تلا: {تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (3) ، وقد
خرَّجه الترمذي (4) وغيره بمعناه.
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) النساء: 12.
(3) النساء: 13 - 14.
(4) في " جامعه " (2117) ، وقال: ((حسن غريب)) ، وفي إسناد الحديث شهر بن حوشب ضعيف عند التفرد، وقد تفرد.
وأخرجه: عبد الرزاق (16455) ، وإسحاق بن راهويه (147) ، وأحمد 2/278، وأبو داود (2867) ، وابن ماجه (2704) ، والطبراني في " الأوسط " (3026) ، والبيهقي 6/271 من حديث أبي هريرة، به مرفوعاً.(3/912)
وقال ابنُ عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر (1) ، ثم تلا هذه الآية.
_________
(1) أخرجه: عبد الرزاق (16456) ، وسعيد بن منصور (343) و (344) ، وابن أبي شيبة (30933) ، والطبري في " تفسيره " (6980) موقوفاً، وهو الصحيح إليه.
وأخرجه: الطبري في " تفسيره " (6981) ، والبيهقي 6/271 مرفوعاً، وهو ضعيف.(3/913)
والإضرار في الوصيَّةِ تارةً يكون بأنْ يَخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فرضِهِ الذي فرضَهُ الله له، فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله قد أعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارث)) (1) .
_________
(1) أخرجه: ابن ماجه (2714) ، والدارقطني 4/70، والبيهقي 6/264 من حديث أنس بن مالك، به مرفوعاً، وإسناده صحيح.(3/914)
وتارة بأن يُوصي لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث، فتنقص حقوقُ الورثةِ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الثُّلث والثُّلث كثير)) (1) .
ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث، لم ينفذ ما وصَّى به إلاَّ بإجازة الورثةِ، وسواءٌ قصدَ المضارَّةَ أو لم يقصد، وأما إن قصدَ المضارَّة بالوصيّة لأجنبيٍّ بالثلث، فإنَّه يأثم بقصده المضارَّة،
_________
(1) أخرجه: الحميدي (521) ، وأحمد 1/230 و233، والبخاري 4/3 (2743) ، ومسلم 5/72 (1629) (10) ، وابن ماجه (2711) ، والنسائي 6/244 وفي
" الكبرى "، له (6461) ، والطبراني (10719) ، والبيهقي 6/269 من حديث ابن عباس.(3/916)
وهل تُردُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ ذلك بإقراره أم لا؟ حكى ابنُ عطية روايةً عن مالكٍ أنَّها تُردُّ، وقيل: إنَّه قياسُ مذهب أحمد.
ومنها: في الرجعة في النِّكاح، قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} (1) ، وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} (2) فدلَّ ذلك على أنَّ من كان قصدُه بالرجعة المضارَّة، فإنَّه آثمٌ بذلك، وهذا كما كانوا في أوَّل الإسلام قبل حصر الطَّلاق في ثلاث يطلِّقُ الرَّجلُ امرأتَه، ثم يتركُها حتّى تقارب انقضاءَ عدَّتها، ثم يُراجعها، ثم يطلِّقُها، ويفعل ذلك أبداً بغير نهاية، فيدعُ المرأةَ لا مُطلَّقةً ولا ممسكةً، فأبطل الله ذلك، وحصر الطَّلاق في ثلاث مرات.
وذهب مالكٌ إلى أنَّ من راجع امرأته قبل انقضاء عدَّتها، ثم طلَّقها من غير مسيسٍ أنّه إن قصدَ بذلك مضارَّتها بتطويل العدَّةِ، لم تستأنف العدّة، وبنت على ما مضى منها، وإن لم يقصد بذلك، استأنفت عدَّةً جديدةً، وقيل: تبني مطلقاً، وهو قول عطاء وقتادة، والشّافعي في القديم، وأحمد في رواية، وقيل: تستأنف مطلقاً، وهو قول الأكثرين، منهم أبو قلابة والزُّهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي - في الجديد - وأحمد في رواية وإسحاق وأبو عُبيد وغيرهم.
ومنها في الإيلاء، فإنَّ الله جعل مدَّة المؤلي أربعةَ أشهرٍ إذا حلف الرجل على امتناع وطءِ زوجته، فإنَّه يُضْرَبُ له مدَّة أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطءِ، كان ذلك توبته، وإن أصرَّ على الامتناع لم يُمكن من ذلك، وفيه قولان للسَّلف والخلف: أحدهما: أنَّها تَطلُقُ عليه بمضيِّ هذه المدة، والثاني: أنَّه يوقف، فإن فاء، وإلاَّ أُمِرَ بالطَّلاق، ولو ترك الوطءَ لقصدِ الإضرار بغيرِ يمينٍ مدَّة أربعة أشهر، فقال كثيرٌ من
_________
(1) البقرة: 231.
(2) البقرة: 228.(3/917)
أصحابنا: حكمُه حكمُ المُؤلي في ذلك، وقالوا: هو ظاهرُ كلام أحمد.
وكذا قال جماعةٌ منهم: إذا ترك الوطءَ أربعةَ أشهرٍ لغير عذرٍ، ثم طلبت الفُرقة، فُرِّق بينهما بناءً على أنَّ الوطءَ عندنا في هذه المدَّة واجبٌ، واختلفوا: هل يُعتَبر لذلك قصدُ الإضرار أم لا يعتبر؟ ومذهبُ مالك وأصحابه إذا ترك الوطءَ من غير عُذر، فإنّه يُفسَخُ نكاحُه، مع اختلافهم في تقدير المدَّة.
ولو أطال السَّفَر مِن غيرِ عذرٍ، وطلبت امرأتُه قُدومَه، فأبي، فقال مالكٌ وأحمد وإسحاق: يفرِّقُ الحاكم بينهما، وقدَّره أحمد بستة أشهر، وإسحاق بمضيِّ سنتين.
ومنها: في الرضاع، قال تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (1) ، قال مجاهد (2) في قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال: لا يَمنع أمه أن تُرضِعَه ليحزُنَها، وقال عطاء وقتادة والزُّهري وسفيان والسُّدِّي وغيرهم: إذا رضِيَتْ ما يرضى به غيرُها، فهي أحقُّ به، وهذا هو المنصوصُ عن أحمد، ولو كانت الأُمُّ في حبال الزَّوج. وقيل: إن كانت في حبال الزَّوج، فله منعُها مِنْ إرضاعه، إلاَّ أن لا يُمكن ارتضاعُه من غيرها، وهو قولُ الشَّافعيِّ، وبعض أصحابنا، لكن إنَّما يجوزُ ذلك إذا كان قصدُ الزَّوج به توفيرَ الزوجة للاستمتاع، لا مجرد إدخال الضَّرر عليها.
_________
(1) البقرة: 233.
(2) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (3929) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 2/430
(2277) .(3/918)
وقوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (1) ، يدخلُ فيه أنَّ المطلَّقة إذا طَلبت
إرضاع ولدها بأجرة مثلها، لَزِم الأبَ إجابتها إلى ذلك، وسواءٌ وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ. هذا منصوصُ الإمام أحمد، فإن طلبت زيادةً على أجرةِ مثلها زيادةً كثيرةً، ووجدَ الأب من يُرضعُه بأجرةِ المثل، لم يلزمِ الأبَ إجابتُها إلى ما طلبت، لأنَّها تقصد المضارَّة، وقد نصَّ عليه الإمام أحمد.
ومنها في البيع قد ورد النهيُ عن بيع المضطرِّ، خرَّجه أبو داود (2) من حديث عليِّ بن أبي طالب أنّه خطب الناسَ، فقال: سيأتي على الناس زمانٌ عَضُوضٌ (3) يعضُّ الموسرُ على ما في يديه، ولم يؤمرْ بذلك، قال الله تعالى: {ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (4) ويُبايع المضطرُّون، وقد نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطرِّ. وخرَّجه الإسماعيلي، وزاد فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن كان عندكَ خيرٌ تعودُ به على أخيك، وإلاَّ فلا تزيدنَّه هلاكاً إلى هلاكه)) وخرَّجه أبو يعلي الموصلي (5) بمعناه من حديث حُذيفة مرفوعاً أيضاً.
وقال عبد الله بن معقِل: بيعُ الضَّرورة ربا.
وقال حرب: سئل أحمد عن بيع المضطر، فكرهه، فقيل له: كيف هُو؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يُساوي عشرة بعشرين، وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إنَّ ربح بالعشرة خمسة؟ فكره ذلك، وإنْ كان المشتري مسترسلاً لا يحسن أنْ يُماكس، فباعه بغبنٍ كثيرٍ، لم يجز أيضاً. قال أحمد: الخِلابة: الخداع، وهو أنْ يَغْبِنه فيما لا يتغابَن الناسُ في مثله؛ يبيعه ما يُساوي درهماً بخمسة،
_________
(1) البقرة: 233.
(2) في " سننه " (3382) .
وأخرجه: أحمد 1/116، والبيهقي 6/17 من طريق أبي عامر المزني، عن شيخ من بني تميم، قال: خطب علي ... ، وإسناده ضعيف لضعف أبي عامر المزني - وهو صالح بن رستم -، ولجهالة الشيخ من بني تميم.
(3) الزمان العضوض: هو الزمان الشديد الذي يكون فيه الناس في فاقةٍ وحاجةٍ.
(4) البقرة: 237.
(5) لم أجده في المطبوع من " مسند أبي يعلى " وجاء في " مسنده " (7083) من حديث عمران بن حذيفة، عن ميمونة لكنَّ المعنى ليس قريباً.(3/919)
ومذهب مالكٍ وأحمد أنّه يثبت له خيارُ الفسخ بذلك.
ولو كان محتاجاً إلى نقدٍ، فلم يجد من يُقرضه، فاشترى سلعةً بثمن إلى أجل في ذمَّته، ومقصودُه بيعُ تلك السلعة، ليأخذ ثمنها، فهذا فيه قولانِ للسَّلف، ورخص أحمدُ فيه في رواية، وقال في رواية: أخشى أنْ يكون مضطَرّاً؛ فإن باعَ السِّلعة مِن بائعها له، فأكثرُ السَّلف على تحريمِ ذلك، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم.
ومن أنواع الضرر في البيوع: التَّفريقُ بين الوالدةِ وولدها في البيع، فإنْ كان صغيراً، حَرُمَ بالاتفاق، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((من فرَّق بين والدةٍ وولدِها، فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة)) (1) ، فإنْ رضيت الأُمُّ بذلك، ففي جوازه اختلافٌ،
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/412 و414، والدارمي 2/227 - 228، والترمذي (1283)
و (1566) ، والطبراني (4080) ، والدارقطني 3/67، والحاكم 2/55، والقضاعي في
" مسند الشهاب " (456) عن أبي أيوب، به، قال الترمذي: ((حسن غريب)) .
وفي الباب عن علي، به
تنبيه: أخرجه البيهقي 9/126 منقطعاً.(3/920)
ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جداً، وإنَّما ذكرنا هذا على وجه المثال.
والنوع الثاني: أنْ يكون له غرضٌ آخرُ صحيحٌ، مثل أنْ يتصرَّف في ملكه بما فيه مصلحةٌ له، فيتعدَّى ذلك إلى ضرر غيرِه، أو يمنع غيرَه من الانتفاع بملكه توفيراً له، فيتضرَّر الممنوعُ بذلك.
فأما الأوَّل وهو التصرُّف في ملكه بما يتعدَّى ضررُه إلى غيره فإن كان على غير الوجه المعتادِ، مثل أنْ يؤجِّجَ في أرضه ناراً في يومٍ عاصفٍ، فيحترق ما يليه، فإنَّه متعدٍّ بذلك، وعليه الضَّمان، وإنْ كان على الوجه المعتاد، ففيه للعلماء قولان مشهوران:
أحدهما: لا يمنع من ذلك، وهو قولُ الشَّافعي وأبي حنيفة وغيرهما.
والثاني: المنع، وهو قولُ أحمد، ووافقه مالكٌ في بعض الصُّور؛ فمن صُوَر ذَلِكَ: أن يفتح كُوَّةً في بنائه العالي مشرفةً على جاره، أو يبني بناءً عالياً يُشرف على جاره ولا يسترُه، فإنَّه يُلزم بستره، نصَّ عليهِ أحمد، ووافقه طائفةٌ من أصحاب الشافعي، قالَ الروياني منهم في كتاب " الحلية ": يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التعنُّتُ، وقصد الفساد، قال: وكذلك القولُ في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر.
وقد خرَّج الخرائطي (1) وابنُ عدي (2) بإسنادٍ ضعيف (3) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً حديثاً طويلاً في حقِّ الجار، وفيه: ((ولا يستطيل عليهِ بالبناء فيحجبَ عنه الرِّيح إلاَّ بإذنه)) .
_________
(1) أخرجه: الخرائطي في " مكارم الأخلاق ": 59.
(2) في " الكامل " 6/292.
وأخرجه: ابن أبي حاتم في " العلل " (639) و (2357) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " 7/83 - 84.
(3) وقد قال عنه أبو حاتم: ((خطأ)) ، والحديث ساقه ابن عدي ضمن منكرات عثمان بن عطاء الخراساني الضعيف.(3/921)
ومنها أن يحفرَ بئراً بالقرب من بئر جاره، فيذهب ماؤها، فإنَّها تُطَمُّ في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وخرّج أبو داود في " المراسيل " (1) من حديث أبي قلابة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَضارُّوا في الحفر، وذلك أن يحفرَ الرَّجلُ إلى جنبِ الرَّجل ليذهبَ بمائِه)) .
ومنها أنْ يحدث في ملكه ما يضرُّ بملك جاره من هزٍّ أو دقٍّ ونحوهما، فإنَّه يُمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحدُ الوجوه للشافعية.
وكذا إذا كان يضرُّ بالسُّكَّان، كما له رائحةٌ خبيثة ونحو ذلك.
ومنها أنْ يكونَ له ملكٌ في أرض غيره، ويتضرَّرُ صاحبُ الأرض بدخوله
إلى أرضه، فإنَّه يُجبرُ على إزالته ليندفعَ به ضررُ الدخول، وخرّج أبو داود في
" سننه " (2)
من حديث أبي جعفر محمد بن علي أنَّه حدَّث سَمُرة بن جندبٍ أنَّه كانت له عَضُدٌ من نخلٍ في حائطِ رجلٍ من الأنصار، ومع الرجل أهلُه،
_________
(1) أخرجه: أبو داود في " المراسيل ": 207.
(2) (3636) .
وأخرجه: البيهقي 6/157، وإسناده ضعيف لانقطاعه؛ فإنَّ أبا جعفر محمد بن علي الباقر لم يسمع من سمرة.(3/922)
وكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذَّى به ويشقُّ عليه، فطلب إليه أنْ يُناقله، فأبى، فأتى النَّبيَّ
- صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فطلب إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَبيعه، فأبى، فطلب إليه أنْ يُناقِلَه، فأبى، قال: ((فهَبْه له ولك كذا وكذا)) أمراً رغَّبه فيه، فأبى، فقال: ((أنت مُضارٌّ)) ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) ، وقد روي عن أبي جعفر مرسلاً. قال أحمد في رواية حنبل بعد أنْ ذُكِرَ له هذا الحديثُ: كلُّ ما كان على هذه الجهة، وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلا أجبره السُّلطان، ولا يضرُّ بأخيه في ذلك، فيه مِرفَقٌ له.
وخرَّج أبو بكر الخلاّل من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سَلِيط بن قيس، عن أبيه: أنَّ رجلاً من الأنصار كانت له في حائطه نخلةٌ لرجلٍ آخر، فكان صاحبُ النَّخلة لا يَريمُها غدوةً وعشيةً، فشقَّ ذلك على صاحب الحائطِ، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصاحب النخلة: ((خذ منه نخلةً ممَّا يلي الحائطَ مكان نخلتك)) ، قال: لا والله، قال: ((فخذ منِّي ثنتين)) قال: لا والله، قال: ((فهبها لي)) ، قال: لا والله، قال: فردد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى، فأمر النَّبيُّ - صلى(3/923)
الله عليه وسلم - أن يُعطيه نخلة مكان نخلته (1) .
وخرّج أبو داود في "المراسيل" (2) من رواية ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حَبّان، عن عمِّه واسع بن حبّان، قال: كان لأبي لُبابَة عَذْقٌ في حائط رجلٍ، فكلَّمه، فقال: إنَّك تطأُ حائطي إلى عَذْقِكَ، فأنا أُعطيكَ مثلَه في حائطك، وأخرجه عنِّي، فأبى عليه، فكلَّم النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه، فقال: ((يا أبا لُبابة، خذ مثل عَذقك، فحُزْها إلى مالك، واكفُفْ عن صاحبك ما يكره)) ، فقال: ما أنا بفاعل، فقال: ((اذهب، فأخرج له مثلَ عَذْقِه إلى حائطه، ثم اضرب فوقَ ذلك بجدارٍ، فإنه لا ضررَ في الإسلام ولا ضِرار)) .
ففي هذا الحديث والذي قبلَه إجبارُه على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضررٌ في تركه، وهذا مثلُ إيجاب الشُّفعة لدفع ضررِ الشَّريك الطَّارئ.
ويُستدلُّ بذلك أيضاً على وجوب العمارة على الشَّريك الممتنع مِنَ العمارة، وعلى إيجاب البيع إذا تعذَّرَت القسمة، وقد ورد من حديث محمد بن أبي بكر، عن أبيه مرفوعاً: ((لا تَعْضِية في الميراث إلا ما احتمل القسم)) (3) وأبو بكر: هو
ابن عمرو بن حزم، قاله الإمام أحمد،
_________
(1) ذكره ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 4/264 (1227) ، وابن عبد البر في
" الاستيعاب " 2/206.
ورواه ابن منده كما في " الإصابة " 2/382 (3421) ، وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن محمد بن عقيل عند التفرد.
(2) المراسيل (407) ، وهو مع إرساله فيه محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن.
(3) أخرجه: الدارقطني 4/219، والبيهقي 10/133 مرفوعاً بسند ضعيف، وظاهر كلام ابن رجب أنَّ فيه الإرسال حسب، والواقع أنَّ في سند الحديث عنعنة ابن جريج، وهو يدلس تدليساً قبيحاً كما ذكر الدارقطني.(3/924)
فالحديث حينئذ مرسل، والتعضية: هي القسمة. ومتى تعذَّرَتِ القسمةُ، لكون المقسوم يتضرَّرُ بقسمته، وطلب أحدُ الشَّريكين البيعَ، أجبر الآخر، وقسم الثَّمنُ، نصَّ عليه أحمدُ وأبو عبيد وغيرهما مِنَ الأئمة.
وأما الثاني - وهو منع الجار من الانتفاع بملكه، والارتفاق به - فإن كان ذلك يضرُّ بمن انتفعَ بملكه، فله المنعُ، كمن له جدارٌ واهٍ لا يحتمل أنْ يُطرَحَ عليه خشَبٌ، وأمَّا إنْ لم يضرَّ به، فهل يجب عليه التَّمكين، ويحرم عليه الامتناع أم لا؟ فمن قال في القسم الأول: لا يمنع المالك مِنَ التَّصرُّف في ملكه، وإن أضرَّ بجاره، قال هنا: للجار المنع منَ التصرُّف في ملكه بغير إذنه، ومن قال هناك بالمنع، فاختلفوا هاهنا على قولين: أحدهما: المنع هاهنا وهو قول مالك. والثاني: أنَّه لا يجوزُ المنع، وهو مذهبُ أحمد في طرح الخشب على جدار جاره، ووافقه الشافعيّ في القديم وإسحاق وأبو ثور، وداود، وابنُ المنذر، وعبدُ الملك بن حبيب المالكي، وحكاه مالكٌ عن بعض قُضاة المدينة.
وفي الصحيحين (1) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يمنعنَّ أحدُكُم جارَه أنْ يَغرِزَ خشبة (2) على جِداره)) قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها مُعرِضين،
والله لأَرمِينَّ بها بَيْنَ أكتافِكُم (3) .
وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يُجري ماء جاره في أرضه، وقال: لتمرنّ به ولو على بطنِكَ (4) .
وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد، ومذهبُ أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جارِه إذا أجراه في قناة في
_________
(1) صحيح البخاري 3/173 (2463) ، وصحيح مسلم 5/57 (1609) (136) .
(2) هذه اللفظة في كثير من كتب التخريج: ((خشبةً)) بالإفراد، وفي بعضها: ((خشبه)) بالجمع، وانظر شرح صحيح مسلم 6/124.
(3) أي: لأشيعن هذه المقالة فيكم، فلا يمكن لكم أن تعرضوا عن العمل يومها، أو الضمير للخشبة، والمعنى: إن رضيتم بهذا الحكم، وإلاّ لأجعلن الخشبة بين رقابكم كارهين، والمراد المبالغة في إجراء الحكم فيهم إن ثقل عليهم.
(4) أخرجه: مالك في " الموطأ " (2173) برواية الليثي، والشافعي في " المسند " (1495) بتحقيقي، والبيهقي 6/157 وفي " المعرفة "، له (3769) ، ولفظة: ((عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه؛ أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له في العُريض، فأراد أن يُمرَّ به في أرض محمد بن سلمة، فأبى محمدٌ، فقال له الضحاك: لم تمنعني وهو لك منفعةٌ، تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك؟ فأبى محمدٌ، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمرُ بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمره أن يُخلي سبيله. فقال محمدٌ: لا. فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافعُ، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك؟ فقال محمدٌ: لا والله. فقال عمرُ: واللهِ ليمرُّن به ولو على بطنك فأمره عمرُ أن يمرُّ به. ففعل الضحاك)) .(3/925)
باطن أرضه، نقله عنه حربٌ الكرمانيُّ.
ومما يُنهى عن منعه للضَّرر منعُ الماء والكلأ، وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا فضلَ الماء لتمنعوا به الكلأ)) .
وفي " سنن أبي داود " (2) أنَّ رجلاً قال: يا نبيَّ الله، ما الشَّيء الذي لا
يحلُّ منعه؟ قال: ((الماء)) ، قال: يا نبيَّ الله، ما الشيء الذي لا يحلّ منعه؟
قال: ((الملح)) قال: ما الشيء الذي لا يحلّ منعه، قال: ((أن تفعل الخيرَ خيرٌ
لك)) .
وفيه أيضاً (3) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((النَّاس شركاء في ثلاث: الماء
_________
(1) صحيح البخاري 3/144 (2353) ، وصحيح مسلم 5/34 (1566) (36) .
(2) برقم (3476) عن بهيسة، عن أبيها، به.
وفي إسناده مجاهيل، سيار وأبوه مقبولان، وبهيسة وأبوها مجهولان.
وأخرجه: أحمد 3/480، والدارمي 2/269 - 270، والروياني (1525) .
(3) برقم (3476) عن بهيسة، عن أبيها، به.
وأخرجه: ابن ماجه (2472) ، والطبراني في " الكبير " (11105) ، وابن عدي في
" الكامل " 5/348 - 349 عن ابن عباس، به، وسنده ضعيف لضعف عبد الله بن خراش.(3/926)
والنار والكلأ)) .
وذهب أكثر العلماء إلى أنَّه لا يُمنَعُ فضلُ الماء الجاري والنَّابعِ مطلقاً، سواء قيل: إنَّ الماء ملك لمالك أرضه أم لا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم، والمنصوص عن أحمد وجوبُ بذلِه مجاناً بغيرِ عِوَضٍ للشُّربِ، وسقي البهائم، وسقي الزروع، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا يجب بذلُه للزُّروع.
واختلفوا: هل يجبُ بذلُه مطلقاً، أو إذا كان بقرب الكلأ، وكان منعه مُفضِياً إلى منع الكلأ؟ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي، وفي كلام أحمد ما يدلُّ على اختصاصِ المنع بالقُرب من الكلأ، وأما مالكٌ، فلا يجبُ عندَه بذلُ فضلِ الماء المملوك بملك منبعِه ومجراه إلا للمضطرّ كالمُحاز في الأوعية، وإنما يجب عندَه بذلُ فضل الماء الذي لا يملك.
وعند الشافعي (1) : حكم الكلأ كذلك يجوزُ منعُ فضله إلاَّ في أرض الموات. ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد أنّه لا يمنعُ فضل الكلأ مطلقاً، ومنهم من قال: لا يمنع أحدٌ الماء والكلأ إلاّ أهلَ الثغور خاصَّة، وهو قولُ الأوزاعي، لأنَّ أهلَ الثُّغور إذا ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدِرُوا أن يتحوَّلوا من مكانهم من وراء بَيضَةِ الإسلام وأهله.
وأما النَّهي عن منع النار، فحملَه طائفةٌ من الفُقهاء على النَّهي عن الاقتباس منها دُونَ أعيانِ الجمر،
_________
(1) انظر: الأم 5/81.(3/927)
ومنهم من حمله على منع الحجارة المُورِيَة للنَّارِ، وهو بعيدٌ، ولو حمل على منع الاستضاءة بالنَّار، وبذل ما فضل عن حاجة صاحبها لمن يستدفئ بها، أو يُنضجُ عليها طعاماً ونحوه، لم يبعد.
وأما الملح، فلعلَّه يُحمل على منع أخذِهِ مِنَ المعادن المُباحَة، فإنَّ الملحَ منَ المعادن الظَّاهرة، لا يُملَكُ بالإحياء، ولا بالإقطاع، نصّ عليه أحمد، وفي " سنن أبي دواد " (1) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقطع رجلاً الملحَ، فقيل له: يا رسول الله إنّه بمنْزلة الماء العدِّ، فانتزعه منه.
ومما يدخل في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرَرَ)) أنّ الله لم يكلِّف عبادَه فعلَ ما يَضُرُّهم البتَّة، فإنَّ ما يأمرهم به هو عينُ صلاحِ دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عينُ فساد دينهم ودنياهم، لكنَّه لم يأمر عبادَه بشيءٍ هو ضارٌّ لهم في أبدانهم أيضاً، ولهذا أسقط الطَّهارة بالماء عَنِ المريض، وقال: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (2) ، وأسقط الصيام عن المريض والمسافر، وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) ، وأسقط اجتناب
_________
(1) برقم (3064) من حديث أبيض بن حمال، وهو حديث ضعيف.
وأخرجه: الدارمي (2611) ، وابن ماجه (2475) ، والترمذي (1380) ، وابن حبان
(4499) ، والدارقطني 4/221.
(2) المائدة: 6.
(3) البقرة: 185.(3/928)
محظورات الإحرام، كالحلق ونحوه عمن كان مريضاً، أو به أذى من رأسه، وأمرَ بالفدية. وفي " المسند " (1)
عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الحنيفيَّةُ السَّمحةُ)) . ومن حديث عائشة (2) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنِّي أرسلتُ بحنيفيَّةٍ سَمحَةٍ)) .
ومن هذا المعنى ما في " الصحيحين " (3) عن أنسٍ: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: رأى رجلاً يمشي، قيل: إنّه نذرَ أن يحجَّ ماشياً، فقال: ((إنَّ الله لغنيٌّ عن مشيه، فليركب)) ، وفي رواية: ((إن الله لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسَه)) .
وفي " السنن " (4) عن عُقبة بن عامر أنَّ أختَه نذرت أنْ تمشي إلى البيت، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله لا يَصنَعُ بشقاءِ أختك شيئاً فلتَرْكَبْ)) .
وقد اختلفَ العلماءُ في حكم من نذَر أن يحجَّ ماشياً، فمنهم من قال: لا يلزمُه المشيُ، وله الرُّكوبُ بكلِّ حالٍ، وهو رواية عن أحمد والأوزاعيِّ. وقال أحمد: يصومُ ثلاثة أيَّام، وقال الأوزاعي: عليه كفَّارةُ يمين، والمشهور أنَّه يلزمُه ذلك إن أطاقه، فإن عجز عنه، فقيل: يركبُ عند العجز، ولاشيءَ عليه، وهو أحدُ
_________
(1) مسند الإمام أحمد 1/236.
وأخرجه: عبد بن حميد (569) ، والبخاري في " الأدب المفرد " (287) ، والبزار كما في " كشف الأستار " (78) ، والطبراني (11571) و (11572) عن ابن عباس، به، وهو صحيح بشواهده.
(2) مسند الإمام أحمد 6/116 و233 وفي سنده عبد الرحمان بن أبي الزناد، وهو ضعيف؛ لكن للحديث شواهد يتقوى بها.
(3) صحيح البخاري 3/25 (1865) و8/177 (6701) ، وصحيح مسلم 5/79
(1642) (9) .
(4) أخرجه: أبو داود (3293) ، وابن ماجه (2134) ، والترمذي (1544) ، والنسائي 7/20 وفي " الكبرى "، له (4757) عن عقبة بن عامر، به.
وأخرجه: أبو داود (3304) ، وابن خزيمة (3045) عن ابن عباس، عن عقبة بن عامر، به.
وأصل الحديث في الصحيحين (البخاري 3/25 (1866) ، ومسلم 5/78 (1644)) ، ولفظه عن عقبة بن عامر أنَّه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن استفتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لتمشِ ولتركب)) .(3/929)
قولي الشَّافعيِّ (1) .
وقيل: بل عليه - مع ذلك - كفارةُ يمين، وهو قول الثَّوري وأحمد في رواية.
وقيل: بل عليه دمٌ، قاله طائفةٌ مِنَ السَّلف، منهم عطاءٌ ومُجاهدٌ والحسنُ واللَّيثُ وأحمدُ في رواية.
وقيل: يتصدَّقُ بكراء ما ركبَ، وروي عن الأوزاعيِّ، وحكاه عن عطاء، وروي عن عطاء: يتصدَّقُ بقدر نفقته عند البيت.
وقالت طائفة من الصَّحابة وغيرهم: لا يُجزئُه الرُّكوبُ، بل يَحُجُّ من قابِلٍ، فيمشي ما رَكِبَ، ويركبُ ما مشى، وزاد بعضُهم: وعليه هديٌ، وهو قول مالكٍ إذا كان ما ركبه كثيراً.
وممَّا يدخل في عمومه أيضاً أنَّ من عليه دينٌ لا يُطالَبُ به مع إعساره، بل يُنظَرُ إلى حال إيساره، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) ، وعلى هذا جمهورُ العلماء خلافاً لشريح في قوله: إنَّ الآية مختصَّةٌ بديون الرِّبا في الجاهلية (3) ، والجمهورُ أخذُوا باللَّفظ العام، ولا يُكلَّفُ المدينُ أن يقضيَ مما عليه في خروجه من ملكه ضررٌ، كثيابه ومسكنه المحتاج إليه، وخادمه كذلك، ولا ما يحتاجُ إلى التجارة به لِنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد.
_________
(1) انظر: الأم 3/661.
(2) البقرة: 280.
(3) أخرجه: عبد الرزاق (15309) وسعيد بن منصور في " سننه " (453) تحقيق سعد الحميد، والطبري في " تفسيره " (4916) ، وطبعة التركي 5/58.(3/930)
الحديث الثالث والثلاثون
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْواهُم، لادَّعى رِجالٌ أموالَ قَومٍ ودِماءهُم ولكن البَيِّنَةُ على المُدَّعي واليَمينُ على مَنْ أَنْكر)) . حديثٌ حسنٌ، رواهُ البَيهقيُّ وغيرُهُ هكذا، وبَعضُهُ في
" الصحيحين ".
أصلُ هذا الحديث خرَّجاه في " الصحيحين " (1) من حديث ابن جريج، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو يُعطى النَّاسُ بدعواهم، لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه)) .
وخرَّجاه (2) أيضاً من رواية نافع بنِ عمر الجمحي، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن
_________
(1) صحيح البخاري 6/43 (4552) ، وصحيح مسلم 5/128 (1711) (1) .
وأخرجه: عبد الرزاق (15193) ، وابن ماجه (2321) ، والنسائي في " الكبرى "
(5994) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3/191، وابن حبان (5082)
و (5083) ، والطبراني في " الكبير " (1124) و (1125) وفي " الأوسط "، له
(7971) .
(2) البخاري 3/187 (2514) و233 (2668) ، ومسلم 5/128 (1711) (2) .(3/931)
عباس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضى أنَّ اليمين على المدَّعى عليه.
واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابنُ الصَّلاح قبله في الأحاديث الكليات، وقال: رواه البيهقي (1) بإسناد حسن.
وخرَّجه الإسماعيلي في " صحيحه " (2) من رواية الوليد بن مسلم، حدثنا ابنُ جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادَّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكنَّ البيِّنةَ على الطَّالب، واليمين على المطلوب)) .
وروى الشَّافعي (3) : أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البينة على المُدَّعي)) قال
الشافعي (4) : وأحسبه - ولا أُثبته - أنَّه قال: ((واليمين على المُدَّعى عليه)) .
وروى محمد بن عمر بن لُبابة الفقيه الأندلسيُّ، عن عثمان بن أيوب الأندلسيِّ - ووصفه بالفضل -، عن غازي بن قيس، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر هذا الحديث، وقال: ((لكن البينة على منِ ادَّعى، واليمين على من أنكر)) وغازي بن قيس الأندلسي كبيرٌ صالح، سمع من مالكٍ وابن جريج وطبقتِهما، وسقط من هذا الإسناد ابنُ جريج، والله أعلم.
وقد استدلَّ الإمام أحمد وأبو عبيد بأنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر)) ، وهذا يدلُّ على أنَّ اللفظ عندهما صحيحٌ محتجٌّ به، وفي المعنى أحاديث كثيرة، ففي " الصحيحين " (5)
عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في
_________
(1) في " سننه " 10/252، وانظر: المهذب في اختصار السنن الكبير 4/2097 (8840) .
(2) أخرجه: البيهقي 10/252 من طريق الإسماعيلي.
(3) في " مسنده " (1693) بتحقيقي، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في " المعرفة "
(5978) ، والبغوي (2501) .
(4) جملة: ((قال الشافعي)) لم ترد في " المسند "، وهي في الأم 7/93، وطبعة الوفاء 10/285.
(5) صحيح البخاري 3/45 (2357) و159 (2417) و232 (2667) و234
(2677) و6/42 (4550) و8/167 (6660) و171 (6677) و9/90
(7184) ، وصحيح مسلم 1/86 (138) (220) .(3/932)
بئرٍ، فاختصمنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شاهداك أو يمينه)) ، قلت: إذاً يحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف على يمينٍ يستحقُّ بها مالاً هو فيها فاجرٌ، لَقِي الله وهو عليه غضبان)) ، فأنزل الله تصديقَ ذلك، ثم اقترأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} (1) وفي رواية لمسلم بعد قوله: ((إذاً يحلفُ)) قال: ((ليس لك إلاّ ذلك)) . وخرَّجه أيضاً مسلم (2) بمعناه من حديث وائلِ بنِ حجر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وخرَّج الترمذي (3) من حديث العَرْزَمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّهِ، أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال في خطبته: ((البيِّنةُ على المدَّعي، واليمينُ على المُدَّعى عليه)) ، وقال: في إسناده مقال، والعَرْزَميُّ يضعف في الحديث من قبل حفظه. وخرَّج الدارقطني (4) من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف -، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر، إلاَّ في القسامة)) . ورواه الحفاظ (5) عن ابن جريج، عن عمرو مرسلاً.
وخرَّجه أيضاً (6) من رواية مجاهد عن ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خطبته يومَ
_________
(1) آل عمران: 77.
(2) في " صحيحه " 1/86 (139) (223) و87 (139) (224) .
(3) في " جامعه " (1341) .
(4) في " سننه " 3/111 و4/218.
(5) وممن خالفه من الحفاظ عبد الرزاق وحجاج؛ لذا قال الدارقطني عقب الحديث: ((خالفه عبد الرزاق وحجاج روياه عن ابن جريج، عن عمرو مرسلاً)) .
(6) سنن الدارقطني 4/218.(3/933)
الفتح: ((المُدَّعى عليه أولى باليمين إلا أن تقومَ بيِّنة)) ، وخرَّجه الطبراني، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده كلام. وخرَّج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة.
وروى حجاج الصَّوَّافُ، عن حميد بن هلال، عن زيد بن ثابت، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيُّما رَجُلٍ طلبَ عندَ رجل طلبة، فإنَّ المطلوب هو أولى باليمين)) (1) . خرَّجه أبو عبيد والبيهقي، وإسناده ثقات، إلا أنَّ حميدَ بنَ هلال ما أظنُّه لقيَ زيدَ بن ثابتٍ، وخرَّجه الدارقطني، وزاد فيه ((بغير شهداء)) .
وخرّج النسائي (2) من حديث ابن عباس، قال: جاء خصمان إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،
فادّعى أحدُهما على الآخر حقاً، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للمدَّعي: ((أقم بيِّنَتَك)) ، فقال:
يا رسول الله، ما لي بينة، فقال للآخر: ((احلِف بالله الذي لا إله إلا هو: ما له عَلَيكَ أو عِندَكَ شيء)) .
وقد رُوي عن عمر أنَّه كتب إلى أبي موسى: أن البيِّنة على المدَّعي، واليمين على
_________
(1) أخرجه: الدارقطني 4/219، والبيهقي 10/253.
(2) في " الكبرى " (6006) و (6007) ، وإسناده ضعيف لاختلاط عطاء بن السائب، وقال الذهبي في " الميزان " 3/72: ((ومن مناكير عطاء مما رواه عنه روح بن القاسم، وأبو الأحوص، وأبو حمزة السكري وغيرهم ... )) ثم ساق هذا الحديث.(3/934)
من أنكر (1) . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبيِّ بنِ كعب ولم
ينكراه (2) .
وقال قتادة: فصلُ الخطاب الذي أوتيه داود - عليه السلام -: هو أنَّ البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر (3) .
قال ابنُ المنذر (4) : أجمع أهلُ العلم على أن البيِّنَةَ على المدعي، واليمين على
المدعى عليه، قال: ومعنى قوله: ((البيِّنة على المدَّعِي)) يعني: يستحقُّ بها ما ادَّعى، لأنَّها واجبةٌ عليه يؤخذ بها، ومعنى قوله: ((اليمين على المدَّعى عليه)) أي: يبرأُ بها، لأنَّها واجبةٌ عليه، يؤخَذُ بها على كلِّ حالٍ. انتهى.
وقد اختلف الفقهاءُ من أصحابنا والشَّافعية في تفسير المدَّعي والمدَّعى عليه.
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة 4/340، والدارقطني 4/206 - 207، والبيهقي 10/150 و253.
(2) أخرجه: وكيع في " أخبار القضاة " 1/108، والبيهقي 10/136.
(3) أخرجه: عبد الرزاق في " تفسيره " (2584) ، والطبري في " تفسيره " (22911) ، وطبعة التركي 20/51، والبيهقي 10/253، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 17/101.
وانظر: تفسير القرطبي 15/162، وعمدة التفسير لابن كثير 3/146، والدر المنثور للسيوطي 5/564.
(4) في " الإجماع ": 75.(3/935)
فمنهم من قال: المدَّعي: هو الذي يُخلَّى وسكوته من الخصمين، والمدَّعى عليه: من لا يُخلى وسكوته منهما.
ومنهم من قال: المدَّعِي: من يطلبُ أمراً خفيّاً على خلاف الأصل أو الظاهر، والمدَّعى عليها بخلافه (1) .
وبَنَوا على ذلك مسألةً، وهي: إذا أسلمَ الزَّوجانِ الكافران قبلَ الدُّخول، ثم اختلفا، فقال الزوج: أسلمنا معاً، فنكاحُنا باقٍ، وقالت الزوجةُ: بل سبَق أحدُنا إلى الإسلام، فالنِّكاح مُنفسخٌ، فإن قلنا: المدعي من يُخلى وسكوته، فالمرأةُ هي المدَّعي، فيكون القولُ قولَ الزوج، لأنه مدَّعى عليه؛ إذ لا يخلَّى وسكوته، وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فالمدعي هنا هو الزوج، إذ التقارن في الإسلام خلاف الظاهر، فالقولُ قولُ المرأة؛ لأن الظَّاهر معها.
وأما الأمينُ إذا ادعى التَّلف، كالمودَع إذا ادَّعى تلفَ الوديعة، فقد قيل: إنَّه
مدَّعٍ؛ لأنَّ الأصلَ يُخالِفُ ما ادَّعاه، وإنَّما لم يحتج إلى بينةٍ، لأنَّ المودعَ ائتمنه، والائتمان يقتضي قَبُولَ قوله.
وقيل: إنَّ المدعي الذي يحتاج إلى بيّنة هو المدعي، ليُعطى بدعواه مالَ قوم أو دماءهم، كما ذكر ذلك في الحديث، فأمَّا الأمينُ، فلا يدعي ليُعطى شيئاً، وقيل: بل هو مدَّعى عليه؛ لأنَّه إذا سكت، لم يترك، بل لابدَّ له من ردِّ الجواب، والمودع مدَّعٍ؛ لأنَّه إذا سكت ترك؛ ولو ادَّعى الأمينُ ردَّ الأمانة إلى من ائتمنه؛ فالأكثرون على أنَّ قوله مقبولٌ أيضاً كدعوى التَّلف. وقال الأوزاعي: لا يُقبل قوله، لأنَّه مدَّعٍ. وقال مالكٌ وأحمدُ في رواية: إنْ ثبت قبضُه للأمانة ببيِّنةٍ، لم يقبل قولُه في الرَّدِّ بدون البينة،
_________
(1) انظر: فتح الباري 5/348.(3/936)
ووَجَّهَ بعضُ أصحابنا ذلك بأنَّ الإشهادَ على دفع الحقوق الثابتة بالبيِّنةِ واجبٌ، فيكونُ تركُه تفريطاً، فيجب به الضَّمانُ، وكذلك قال طائفةٌ منهم في دفع مال اليتيم إليه: لابدَّ له من بيِّنةٍ؛ لأنَّ الله تعالى أمر بالإشهاد عليه فيكون واجباً.
وقد اختلف الفقهاءُ في هذا الباب على قولين:
أحدهما: أنَّ البيِّنَة على المدَّعِي أبداً. واليمين على المدَّعى عليه أبداً، وهو قولُ أبي حنيفة، ووافقه طائفةٌ مِنَ الفُقهاء والمحدِّثين كالبخاري، وطرَّدوا ذلك في كلِّ دعوى، حتى في القسامة، وقالوا: لا يحلِفُ إلاَّ المدَّعى عليه، ورأَوْا أنْ لا يُقضى بشاهد ويمين؛ لأنَّ اليمينَ لا تكونُ على المدَّعي، ورأوا أنَّ اليمينَ لا تُرد على المدعي؛ لأنَّها لا تكونُ إلاَّ في جانب المُنكِر المدعى عليه. واستدلُّوا في مسألة القسامةِ بما رَوى سعيدُ بن عبيد، حدثنا بُشيرُ بن يسارٍ الأنصاريُّ، عن سهل بن أبي حثمة: أنَّه أخبرَه أنَّ نفراً منهمُ انطلقوا إلى خيبر، فتفرَّقوا فيها، فوجدوا أحدَهم قتيلاً، فذكر الحديثَ، وفيه: فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((تأتوني بالبيِّنةِ على من قتله)) ، قالوا: ما لنا بيِّنةٌ، قال: ((فيحلفون)) ، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُطَلَّ دمُهُ، فوداه مئةً من إبل الصدقة. خرَّجه البخاري (1) ، وخرَّجه مسلم (2) مختصراً ولم يتمَّه،
_________
(1) في " صحيحه " 9/11 (6898) .
(2) في " صحيحه " 5/100 (1669) (5) .
وأخرجه: أبو داود (4523) ، والنسائي 8/12، والطبراني في " الكبير " (5629) ، والبيهقي 8/120.(3/937)
ولكن هذه الرواية تُعارِض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة فذكر قصة القتيلِ، وقال فيه: فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُقسِمُ خمسون منكم على رجلٍ منهم، فيدفع برُمته)) ، وهذه هي الرواية المشهورة الثابتة المخرَّجة بلفظها بكمالها في " الصحيحين " (1) .
وقد ذكر الأئمَّة الحُفَّاظُ أنّ رواية يحيى بن سعيدٍ أصحُّ من رواية سعيد بن عُبيدٍ الطَّائي، فإنَّه أجلُّ وأعلم وأحفظ، وهو من أهل المدينة، وهو أعلمُ بحديثهم من الكوفيِّين.
وقد ذَكَر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيي بن سعيد في هذا الحديث، فنفض يده، وقال: ذاك ليس بشيءٍ، رواه على ما يقول الكوفيون، وقال: أذْهَبُ إلى حديث المدنيين يحيى بن سعيد. وقال النَّسائيُّ: لا نعلم أحداً تابعَ سعيد بن عُبيدٍ على روايته عن بشير بن يسار، وقال مسلم في كتاب " التمييز " (2) : لم يحفظه سعيدُ بنُ عُبيدٍ على وجهه؛ لأنَّ جميع الأخبار فيها سؤال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهم قسامة خمسين يميناً، وليس في شيء من أخبارهم أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألهم البيِّنَةَ، وترك سعيد القسامة، وتواطُؤُ الأخبارِ بخلافه يقضي عليه بالغلط، وقد خالفه يحيى بن سعيد.
وقال ابن عبد البرّ (3) في رواية سعيد بن عبيد: هذه روايةُ أهل العراق عن بُشير بن يسار، وروايةُ أهل المدينة عنه أثبتُ، وهم به أقعدُ، ونقلُهم أصحُّ عند أهل العلم.
قلت: وسعيد بن عُبيد اختصر قصَّة القسامة، وهي محفوظةٌ في الحديث، وقد خرَّج النَّسائيُّ (4) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله
_________
(1) البخاري 3/243 (2702) و4/123 (3173) و8/41 (6142) و (6143) ، ومسلم 5/98 (1669) (1) و (2) .
وأخرجه: أبو داود (4520) ، والترمذي (1422) ، والنسائي 8/8 - 9، والطبراني في
" الكبير " (4428) و (5627) ، والبيهقي 8/118 - 119.
(2) : 64.
(3) في " التمهيد " 23/209.
(4) في " المجتبى " 8/12 وفي " الكبرى "، له (6922) .
وأخرجه: ابن أبي شيبة (27809) ، وابن ماجه (2678) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (4586) ، وهو حديث حسن؛ فإنَّ رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده من شرط الحسن. ...(3/938)
عليه وسلم - طلب من ولي القتيل شاهِدين على من قتله، فقال: ومن أين أُصيبُ شاهدين؟ قال: ((فتحلِفُ خمسين قسامةً)) ، قال: كيف أحلِفُ على ما لم أعلم؟ قال:
((فتستحلفُ منهم خمسين قسامة)) فهذا الحديث يَجمَعُ به بين روايتي سعيد بن
عُبيد، ويحيى بن سعيد، ويكونُ كلٌّ منهما تركَ بعض القصَّة، فترك سعيدٌ ذِكرَ قسامة المدَّعين، وترك يحيى ذكر البيِّنة قبل طلب القسامة، والله أعلم.
وأما مسألة الشَّاهد مع اليمين، فاستدلَّ من أنكر الحكم بالشَّاهد واليمين بحديث: ((شَاهِداك أو يمينه)) (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس لك إلاَّ ذلك)) (2) ، وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة، وقال: تفرَّد بها منصورٌ عن أبي وائل، وخالفه سائرُ الرُّواة، وقالوا: إنَّه سأله: ((ألك بيِّنَةٌ أم لا؟)) والبيِّنَةُ لا تقف على الشَّاهدين فقط. بل تعمُّ سائر ما يُبيِّنُ الحقَّ.
وقال غيرُه: يحتمل أنْ يريدَ بشاهديه كلَّ نوعين يشهدان للمدَّعي بصحَّة دعواه يتبيَّن بهما الحقّ، فيدخُلُ في ذلك شهادةُ الرجلين، وشهادةُ الرَّجُل مع المرأتين، وشهادةُ
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(3/939)
الواحد مع اليمين، وقد أقام الله سبحانه أيمانَ المدَّعي مقامَ الشُّهود في
اللعان.
وقوله في تمام الحديث: ((ليس لك إلاّ ذلك)) : لم يُرِد به النَّفيَ العامَّ، بل النَّفي الخاصَّ، وهو الذي أراده المدَّعي، وهو أنْ يكونَ القولُ قولَه بغير بيِّنةٍ، فمنعه من ذلك، وأبى ذلك عليه، وكذلك قولُه في الحديث الآخر: ((ولكن اليمين على المدَّعى عليه)) إنَّما أريد بها اليمينُ المجردة عن الشهادة، وأوَّلُ الحديث يدلُّ على
ذلك، وهو قوله: ((لو يُعطى النَّاسُ بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ رجال وأموالهم)) فدلَّ على أن قولَه: ((اليمين على المُدَّعَى عليه)) إنَّما هي اليمينُ القاطعة للمنازَعَةِ مع عدم البينة، وأما اليمينُ المثبتة للحقِّ، مع وجود الشهادة، فهذا نوعٌ آخر، وقد ثبت بسنَّةٍ أخرى.
وأمَّا ردُّ اليمين على المدَّعي، فالمشهورُ عن أحمد موافقةُ أبي حنيفة (1) ، وأنَّها لا تُرَدُّ، واستدلَّ أحمدُ بحديثِ: ((اليمين على المدَّعى عليه)) ، وقال في رواية أبي طالب عنه: ما هو ببعيدٍ أن يقال له: تحلف وتستحقُّ، واختار ذلك طائفةٌ مِنْ متأخِّري الأصحاب، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي عُبيد، ورُوي عن طائفة مِنَ الصَّحابة، وقد ورد فيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الدارقطني (2) وفي إسناده نظر (3) .
قال أبو عبيد: ليس هذا إزالةً لليمين عن موضعها، فإنَّ الإزالة أنْ لا يقضي باليمين على المطلوب، فأمَّا إذا قُضِيَ بها عليه، فرضي بيمين صاحبه، كان هو الحاكم على نفسه بذلك، لأنَّه لو شاء، لحلف وبريء، وبطلَت عنه الدَّعوى.
والقول الثاني في المسألة: أنَّه يُرجَّحُ جانبُ أقوى المتداعيين، وتجعل اليمينُ في جانبه، هذا مذهب مالكٍ، وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنَّه مذهبُ أحمد، وعلى هذا تتوجَّهُ المسائلُ التي تقدَّم ذكرُها مِن الحكم بالقسامة والشَّاهِد واليمين،
_________
(1) فتح الباري 5/347.
(2) في " سننه " 4/213 من طريق محمد بن مسروق، عن إسحاق بن الفرات، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق.
وأخرجه: الحاكم 4/100، وتمام في " فوائده " (933) ، والبيهقي 10/184 عن ابن
عمر.
(3) وهو أنَّ في إسناده محمد بن مسروق، وهو مجهول لا يعرف.(3/940)
فإنَّ جانبَ المدعي في القسامة لمَّا قوي باللوث جُعِلَتْ اليمينُ في جانبه، وحُكِمَ له بها، وكذلك المدَّعي إذا أقام شاهداً، فإنه قوي جانبه، فحلف معه، وقُضي له.
وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله: ((البينة على المدعي)) طريقان:
أحدهما: أنَّ هذا خُصَّ من هذا العموم بدليل.
والثاني: أنَّ قوله: ((البينة على المدعي)) ليس بعامٍّ؛ لأنَّ المرادَ: على المدعي المعهود، وهو من لا حُجَّةَ له سوى الدَّعوى كما في قوله: ((لو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادَّعى رجالٌ دماءَ قومٍ وأموالهم)) ، فأمَّا المدَّعي الذي معه حجةٌ تقوِّي دعواه، فليس داخلاً في هذا الحديث.
وطريق ثالث وهو أنَّ البينة: كُلُّ ما بيَّن صحَّة دعوى المدَّعي، وشهِدَ بصدقِه، فاللوثُ مع القسامة بيِّنةٌ، والشَّاهد مع اليمين بيِّنةٌ.
وطريق رابع سلكه بعضُهم، وهو الطَّعنُ في صحَّةِ هذه اللفظة، أعني قولَه:
((البينة على المدَّعي)) ، وقالوا: إنَّما الثَّابتُ هو قوله: ((اليمينُ على المدَّعى عليه)) . وقوله: ((لو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادَّعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم)) ، يدلُ على أنَّ مدَّعي الدَّمِ والمالِ لابدَّ له مِنْ بيِّنةٍ تدلُّ على ما ادَّعاه، ويدخل في عموم ذلك أنّ مَنِ ادَّعى على رجلٍ أنَّه قتل موروثَه، وليس معه إلاّ قولُ المقتولِ عند موته: جرحني فلان، أنَّه لا يُكتفى بذلك، ولا يكونُ بمجرَّده لوثاً، وهذا قولُ الجمهور، خلافاً للمالكيَّة، وأنَّهم جعلوه لوثاً يقسم معه الأولياءُ، ويستحقُّون الدَّم.
ويدخل في عمومه أيضاً من قذف زوجته ولاعَنَها، فإنَّه لا يُباحُ دمُها بمجرَّدِ
لعانها، وهو قولُ الأكثرين خلافاً للشافعي، واختار قولَه الجوزجانيُّ، لظاهر قوله - عز وجل -: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} (1) ،
_________
(1) النور: 8.(3/941)
والأوَّلون منهم من حمل العذابَ على الحبس، وقالوا: إنْ لم تلاعِن، حُبِست حتى تُقرَّ أو تُلاعِن، وفيه نظر.
ولو ادَّعت امرأةٌ على رجل أنَّه استكرهها على الزِّنى، فالجمهورُ أنَّه لا يثبتُ بدعواها عليه شيء. وقال أشهب من المالكية: لها الصداقُ بيمينها، وقال غيرُه منهم: لها الصَّداقُ بغيرِ يمين، هذا كلُّه إذا كانت ذاتَ قدر، وادَّعت ذلك على متَّهم تليقُ به الدَّعوى، وإنْ كان المرميُّ بذلك مِنَ أهل الصَّلاح، ففي حدِّها للقذف عن مالك روايتان.
وقد كان شُريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرَّد القرائن الدَّالَّةِ على صدق أحد المتداعيين، وقضى شُريحٌ في أولاد هرَّةٍ تداعاها امرأتان، كلٌّ منهما تقولُ هي ولد هِرَّتي، قال شريحُ: ألقِها مع هذه، فإن هي قرَّت ودرَّت واسبطرَّتْ فهي لها، وإن هي فرت وهرَّت وازبأرت، فليس لها (1) . قال ابن قتيبة: قوله: اسبطرّت، يريد: امتدَّت للإرضاع (2) ، وإزبأرت: اقشعرَّت وتنفَّشت. وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشَّافعية، ورجح قولَه ابنُ عقيل مِنْ أصحابنا.
وقد رُوي عن الشافعي وأحمد استحسان قولِ القافة في سرقة الأموال، والأخذ بذلك، ونقل ابنُ منصور عن أحمد: إذا قال صاحبُ الزَّرع: أفسدت غنمُك زرعي باللَّيل، يُنظَرُ في الأثر، فإنْ لم يكن أثرُ غنمِه في الزَّرع، لابدَّ لصاحب الزَّرع من أنْ يجيء بالبيِّنَةِ.
_________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء 4/105.
(2) النهاية 2/335.(3/942)
قال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد؛ لأنَّه مدَّع، وهذا يدلُّ على اتِّفاقهما على الاكتفاء برؤية أثرِ الغنم، وأنَّ البيِّنَةَ إنَّما تُطلب عندَ عدم الأثر.
وقوله: ((واليمين على المُدَّعى عليه)) يدلُّ على أنَّ كلَّ مَنِ ادَّعى عليه دعوى، فأنكر، فإنَّ عليه اليمينَ، وهذا قولُ أكثرِ الفقهاء، وقال مالك: إنَّما تجبُ اليمينُ على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوعُ مخالطة، خوفاً من أن يتبذَّل السُّفهاءُ الرؤساء بطلب أيمانهم.
وعنده: لو ادَّعى على رجلٍ أنَّه غصبه، أو سرقَ منه، ولم يكن المدَّعى عليه متَّهماً بذلك، لم يُستَحلَف المدَّعى عليه، وحكي أيضاً عن القاسم بن محمد، وحميد بن عبد الرحمان، وحكاه بعضُهم عن فقهاءِ المدينة السَّبعَةِ، فإن كان من أهل الفضل، وممَّن لا يُشارُ إليه بذلك، أُدِّبَ المدعي عندَ مالكٍ، ويُستدلُّ بقوله:
((اليمينُ على المدَّعى عليه)) على أنَّ المدَّعي لا يمينَ عليه، وإنَّما عليه البيِّنَة، وهو قول الأكثرين.
وروي عن عليٍّ أنَّه أحلَفَ المدَّعي مع بيِّنته أنَّ شهودَه شهِدُوا بحقٍ، وفعله أيضاً شُريح، وعبدُ الله بن عتبة وابن مسعود وابن أبي ليلى، وسوَّار العنبري
وعُبيد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وروي عن النَّخعي أيضاً. وقال إسحاق: إذا استرابَ الحاكمُ، وجب ذلك.
وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال أحمد: قد فعله عليٌ، فقال له: أيستقيمُ هذا؟ فقال: قد فعله عليٌّ، فأثبت القاضي هذا روايةً عن أحمد، لكنه(3/943)
حملَها على الدَّعوى على الغائب والصَّبيِّ، وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ عليّاً إنَّما حلَّف المدَّعي مع بيِّنته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون: هذه اليمينُ لتقوية الدَّعوى إذا ضَعُفَتْ باسترابة الشُّهود كاليمين مع الشَّاهد الواحد (1) . وكان بعضُ المتقدمين يُحلِّفُ الشُّهود إذا استرابهم (2) أيضاً، ومنهم سوَّارٌ العنبريُّ قاضي البصرة، وجوَّز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دونَ القضاة. وقد قال ابنُ عباس في المرأة الشَّاهدة على الرَّضاع: إنَّها تُستحلَفُ، وأخذ به الإمام أحمد.
وقد دلَّ القرآن على استحلاف الشهودِ عند الارتياب بشهادتهم في الوصيَّة
في السفر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} إلى قوله:
{فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ} (3) ، وهذه الآية لم يُنسخ العملُ بها عندَ جمهور السَّلف، وقد عملَ بها أبو موسى، وابن مسعود، وأفتى بها عليٌّ، وابن عباس، وهو مذهبُ شريح والنَّخعيّ وابن أبي ليلى، وسفيان والأوزاعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم، قالوا: تُقبل شهادة الكفَّار في وصيَّة المسلمين في السَّفر، ويُستحلَفان مع شهادتهما. وهل يمينهما من باب تكميل الشهادة، فلا يُحكم بشهادتهما بدون يمين، أم من باب الاستظهار عند الريبة؟ وهذا محتمل، وأصحابنا جعلوها شرطاً، وهو ظاهرُ ما روي عن أبي موسى وغيره.
وقد ذهب طائفة من السَّلف إلى أنَّ اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب الاستظهار، فإن رأى الحاكمُ الاكتفاءَ بالشَّاهد الواحدِ، لبُروزِ عدالته، وظُهور صِدْقِه،
_________
(1) انظر: السنن الكبرى للبيهقي 10/184.
(2) من قوله: ((الشهود كاليمين ... )) إلى هنا سقط من (ص) .
(3) المائدة: 106.(3/944)
اكتفى بشهادته بدون يمين الطالب.
وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (1) يدلُّ على أنَّه إذا ظهر خللٌ في شهادة الكفّار، حلف أولياء الميت على خيانتهما وكذبهما، واستحقُّوا ما حلَفُوا عليه، وهذا قولُ مجاهدٍ وغيره من السَّلف.
ووجه ذلك أنَّ اليمين في جانبِ أقوى المتداعيين، وقد قَوِيَتْ هاهنا دعوى الورثةِ بظهور كذب الشُّهود الكفَّار، فتردُّ اليمينُ على المدَّعين، ويحلفون مع
اللوث، ويستحقُّون ما ادَّعوهُ، كما يحلفُ الأولياءُ في القسامة مع اللوث، ويستحقون بذلك الدِّيَةَ والدَّم أيضاً عندَ مالكٍ وأحمد وغيرهما.
وقضى ابنُ مسعود في رجل مسلم حضره الموت، فأوصى إلى رجلين مسلمين
معه، وسلَّمهما ما معه مِنَ المال، وأشهدَ على وصيَّته كفّاراً، ثم قدم الوصيّان، فدفعا بعض المال إلى الورثة، وكتما بعضَه، ثمَّ قدم الكفّارُ، فشهدوا عليهم بما كتموه منَ المال، فدعا الوصيَّينِ المسلِمَين، فاستحلفهما: ما دفع إليهما أكثرَ ممَّا دفعاه، ثم دعا الكفَّارَ، فشهدُوا وحلفوا على شهادتهم، ثم أمر أولياءَ الميت أن يحلِفوا أنَّ ما شهدت به اليهودُ والنَّصارى حقٌّ، فحلَفُوا، فقضى على الوصِيَّين بما حلفوا عليه (2) ، وكان ذلك في خلافة عثمان، وتأوَّل ابنُ مسعود الآية على ذلك، فكأنَّه قابلَ بين يمين الأوصياء والشُّهود الكفار فأسقطهما، وبقي مع الورثة شهادة الكفَّار، فحلفُوا معها، واستحقُّوا، لأنَّ جانبَهم ترجَّح بشهادة الكفَّار لهم، فجعل اليمينَ مع أقوى المتداعيين، وقضى بها.
واختلف الفقهاء: هل يُستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد
_________
(1) المائدة: 107.
(2) أخرجه: الحاكم كما في " إتحاف المهرة " 10/273 (12744) .
وأخرجه: أبو داود (3605) ، والحاكم 2/314، والبيهقي 10/165 عن أبي موسى الأشعري، بنحوه.(3/945)
أو لا يستحلف إلاَّ فيما يقضي فيه بالنُّكول كرواية عن أحمد؟ أو لا يستحلف إلا فيما يصحّ بذله كما هوَ المشهور عن أحمد؟ أو لا يستحلف إلاَّ في كلِّ دعوى لا تحتاجُ إلى شاهدين كما حُكي عن مالك؟
وأما حقوقُ الله - عز وجل -، فمن العلماءِ من قالَ: لا يُستحلفُ فيها بحالٍ، وهو
قولُ أصحابنا وغيرهم، ونصَّ عليهِ أحمدُ في الزَّكاة، وبه قالَ طاووسٌ، والثوريُّ
والحسن بن صالحٍ وغيرهم، وقال أبو حنيفة ومالكٌ واللَّيثُ والشافعيُّ: إذا اتُّهمَ،
فإنَّه يُستحلَفُ، وكذا حُكي عن الشَّافعي فيمن تزوَّجَ مَنْ لا تحلُّ لهُ، ثمَّ ادعى
الجهلَ: أنَّه يُحلَّفُ على دعواه، وكذا قالَ إسحاق في طلاق السَّكران: يحلف أنَّه
ما كان يعقل، وفي طلاق النَّاسي: يحلف على نسيانه، وكذا قال القاسمُ بن محمَّد وسالم بن عبد الله في رجل قال لامرأته: أنت طالقٌ: يحلفُ أنَّه ما أرادَ به الثَّلاثَ، وتردُّ إليه.
وخرَّج الطبراني (1) من رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: كان أُناسٌ مِنَ الأعراب يأتونَ بلحمٍ، فكان في أنفسنا منه شيءٌ، فذكرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((اجْهَدُوا أيمانَهم أنَّهم ذبحوها، ثمَّ اذكُروا اسمَ اللهِ
وكلُوا)) وأبو هارون ضعيف جداً.
وأما المؤتمن في حُقوق الآدميِّينَ حيث قُبِلَ قولُه، فهل عليه يمين أم لا؟ فيه ثلاثةُ أقوال للعلماء:
أحدها: لا يمينَ عليه؛ لأنَّه صدَّقه بائتمانِه، ولا يمين مع التَّصديقِ، وبالقياسِ على الحاكم،
_________
(1) في " الأوسط " (2367) ، وأبو هارون العبدي متروك الحديث؛ فإسناد الحديث ضعيف جداً، وانظر: مجمع الزوائد 4/36 لتعلم خطئه؛ إذ قال: ((رجاله ثقات)) ، ومثل هذا في المجمع كثير.(3/946)
وهذا قولُ الحارث العُكلي.
والثاني: عليه اليمينُ، لأنَّه منكر، فيدخل في عموم قوله: ((واليمين على من أنكر)) ، وهو قولُ شريحٍ وأبي حنيفة والشَّافعيّ ومالكٍ في رواية، وأكثر أصحابنا.
والثالث: لا يمين عليه إلاّ أنْ يُتَّهَمَ وهو نصُّ أحمد، وقول مالك في رواية لما تقدم مِنَ ائتمانه.
وأمَّا إذا قامت قرينةٌ تُنافي حالَ الائتمان، فقد اختلَّ معنى الائتمان.
وقوله: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) إنَّما أُريد به إذا
ادَّعى على رجلٍ ما يدَّعيه لنفسه، وينكر أنَّه لمن ادَّعاه عليه، ولهذا قال في أوَّل
الحديث: ((لو يُعطى الناسُ بدعواهم، لادّعى رجالٌ دماء قومٍ وأموالهم)) ، فأما من ادّعى ما ليس له مدَّعٍ لنفسه، منكر لدعواه، فهذا أسهلُ مِنَ الأوَّلِ، ولابدَّ للمدَّعي هنا من بيِّنةٍ، ولكن يُكتفى مِنَ البيِّنةِ هنا بما لا يُكتفى بها في الدَّعوى على المدَّعي لنفسه المنكر.
ويشهد لذلك مسائل:
منها: اللقطة إذا جاء من وصفها، فإنَّها تُدفَعُ إليه بغير بيِّنَةٍ بالاتفاق، لكن منهم من يقول: يجوزُ الدَّفْعُ إذا غلب على الظَّنِّ صِدقُهُ، ولا يجبُ، كقول الشافعي وأبي حنيفة، ومنهم من يقول: يجب دفعُها بذكرِ الوصف المطابق، كقول مالك وأحمد.
ومنها: الغنيمة إذا جاء من يدَّعي منها شيئاً، وأنَّه كان له، واستولى عليه
الكفّار، وأقام على ذلك ما يُبيِّنُ أنَّه له اكتُفي به، وسُئِلَ عن ذلك أحمد وقيل له: فيريد على ذلك بينة؟ قالَ: لابدَّ مِنْ بيانٍ يدلُّ على أنَّه لهُ، وإنْ علم ذَلِكَ، دفعه إليه الأمير. وروى الخلال بإسناده عن الرُّكين بن الربيع، عن أبيه قالَ: جشر لأخي فرس بعين التمر، فرآه في مربط سعدٍ، فقالَ: فرسي، فقالَ سعد: ألك
بينة؟ قال: لا، ولكن أَدْعُوه، فَيُحَمْمِمُ، فدعاه فحمحم، فأعطاه إيّاه (1) ،
_________
(1) أخرجه: ابن الجعد في " مسنده ": 338 (2324) ، وطبعة الفلاح 2/866 (2415) .(3/947)
وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدوِّ، ثم ظهر عليه المسلمون، ويحتمل أنَّه عرف أنه ضالٌّ، فوضع بين الدواب الضالة، فيكون كاللقطة.
ومنها الغصوب إذا علم ظلم الولاة، وطلب ردَّها من بيت المال، قال أبو الزناد: كان عمرُ بنُ عبد العزيز يردُّ المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، كان يكتفي باليسير، إذا عرف وجه مَظْلمةِ الرَّجُلِ ردَّها عليه، ولم يكلِّفْهُ تحقيقَ البيِّنةِ، لما يعرف مِنْ غشم الوُلاة قبله على الناس، ولقد انفد بيت مال العراق في ردِّ المظالم حتى حُمِلَ إليها مِنَ الشَّامِ، وذكر أصحابُنا أنَّ الأموالَ المغصوبةَ مع قُطَّاعِ الطَّريق واللصوص يُكتفى مِن مدَّعيها بالصِّفَة كاللقطة، ذكره القاضي في خلافه، وأنَّه ظاهرُ كلام أحمد.(3/948)
الحديث الرابع والثلاثون
عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ قال: سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: ((مَنْ رَأَى مِنكُم مُنْكَراً فَليُغيِّرهُ بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ)) . رواهُ مُسلمٌ.
هذا الحديث خرَّجه مسلمٌ (1) من رواية قيس بن مسلم، عن طارق بنِ شهاب، عن أبي سعيد، ومن رواية إسماعيل بن رجاءٍ (2) ، عن أبيه، عن أبي سعيد، وعنده في حديث طارق قال: أوَّلُ مَنْ بدأ بالخطبة يومَ العيد قبلَ الصَّلاة مروانُ، فقام إليه رجلٌ، فقال: الصَّلاةُ قبل الخطبة، فقال: قد تُرِكَ ما هُنالك، فقال أبو سعيد: أمَّا هذا، فقد قضى ما عليه، ثمَّ روى هذا الحديث.
وقد روي معناه من وجوه أُخَر، فخرَّج مسلم (3)
من حديث ابن مسعود، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من نبيٍّ بعثه الله في أمَّةٍ قبلي، إلاَّ كان له مِنْ أمَّته حواريُّونَ وأصحابٌ يأخذونَ بسُنَّته، ويقتدونَ بأمرِه، ثمَّ إنَّها تَخلُفُ مِن بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدَهم بيده، فهو مؤمنٌ، ومَنْ جاهَدهم بلسانه، فهو مؤمنٌ، ومَنْ جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ، ليس وراء ذلك مِنَ الإيمان حبَّةُ خردلٍ)) .
وروى سالمٌ المراديُّ، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن عمر بن الخطَّاب، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((سَيُصيبُ أُمَّتي في آخر الزَّمان بلاءٌ شديدٌ من سُلطانهم، لا ينجو منه إلا رجُلٌ عرف دين الله بلسانه ويده وقلبِه، فذلك الّذي سبقت له السَّوابق، ورجلٌ عرف دينَ الله فصدَّق به،
_________
(1) في " صحيحه " 1/49 (49) (78) .
وأخرجه: عبد الرزاق (5649) ، وأحمد 3/10 و49 و54 و92، وأبو داود (1140)
و (4340) ، وابن ماجه (1275) و (4013) ، والترمذي (2172) ، والنسائي 8/111 و112 وفي " الكبرى "، له (11739) و (11740) ، وأبو يعلى (1203) ، وابن حبان (306) ، وابن منده في " الإيمان "، له (180) و (181) و (182) ، والبيهقي 3/296 - 297 و6/94 - 95 وفي " شعب الإيمان "، له (7559) .
(2) صحيح مسلم 1/49 (49) (79) .
وأخرجه: أحمد 3/20، وعبد بن حميد (906) ، وأبو داود (1140) و (4340) ، وابن ماجه (1275) و (4013) ، وأبو يعلى (1009) ، وابن حبان (307) ، وابن منده في " الإيمان " (179) و (180) ، والبيهقي 3/296 - 297 و7/265 - 266 و10/90 وفي " الآداب "، له (181) .
(3) في " صحيحه " 1/49 (50) (80) . =
= ... وأخرجه: أحمد 1/458 و461، والطبراني في "الكبير" (9784) ، وابن منده في "الإيمان" (183) و (184) ، وأبو نعيم في " المسند المستخرج " (177) ، والبيهقي 10/90 وفي " شعب الإيمان " (7560) وفي " الاعتقاد "، له: 245.(3/949)
وللأوَّلِ عليه سابقةٌ، ورجلٌ عرف دينَ الله، فسكت، فإنْ رأى مَنْ يعملُ بخيرٍ، أحبَّه عليه، وإنْ رأى من يعمل بباطل، أبغضَه عليه، فذلك الذي ينجو على إبطائه)) وهذا غريبٌ، وإسناده منقطع (1) .
وخرَّج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جداً (2) - عن مولى لعمرَ، عن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تُوشِكُ هذه الأمة أن تَهلِكَ إلاّ ثلاثةَ نفر: رجل أنكرَ بيده وبلسانه وبقلبه، فإنْ جبُن بيده، فبلسانه وقلبه، فإنْ
جبُن بلسانه وبيده فبقلبه)) .
وخرَّج أيضاً من رواية الأوزاعي، عن عُمير بن هانئ، عن عليٍّ سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سيكون بعدي فتنٌ لا يستطيع المؤمن فيها أن يغيِّر بيدٍ ولا بلسانٍ)) ، قلتُ: يا رسولَ الله، وكيف ذاك؟ قالَ: ((يُنكرونه بقلوبهم)) ، قلتُ: يا رسول الله، وهل يَنقُصُ ذَلِكَ إيمانَهم شيئاً؟ قال: ((لا، إلا كما يَنقُصُ القَطْرُ من الصَّفا)) ، وهذا الإسناد منقطع (3) . وخرَّج الطبراني (4) معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ ضعيفٍ.
فدلَّت هذه الأحاديثُ كلُّها على وُجُوبِ إنكارِ المنكر بحسب القُدرة عليه، وأنَّ إنكارَه بالقلب لابدَّ منه، فمن لم يُنْكِرْ قلبُه المنكرَ، دلَّ على ذَهابِ الإيمانِ مِنْ قلبِه.
وقد رُوي عن أبي جُحيفة، قال: قال عليٌّ: إنَّ أول ما تُغلبونَ عليه مِنَ الجِهادِ: الجهادُ بأيديكم، ثم الجهادُ بألسنتكم، ثم الجهادُ بقلوبكم، فمن لم يعرف قَلبهُ المعروفَ، ويُنكرُ قلبهُ المنكرَ، نُكِسَ فجُعِل أعلاه أسفلَه (5) .
وسمع ابن مسعود رجلاً يقول: هَلَكَ مَنْ لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال
_________
(1) جابر بن زيد لم يدرك عمر بن الخطاب فهو منقطع، وانظر: تهذيب الكمال 5/342
(4814) ، وللحديث علة أخرى، وهي ضعف سالم المرادي.
(2) لم أقف عليه وأبو هارون العبدي اسمه (عمارة بن جوين) متروك، قال عنه أحمد بن حنبل: ((ليس بشيء)) ، وقال البخاري: ((تركه يحيى القطان)) ، وقال أبو زرعة: ((ضعيف الحديث)) ، وقال عنه ابن حجر: ((متروك ومنهم من كذّبه)) ، انظر: الجرح والتعديل 6/476 (2005) ، وتهذيب الكمال 5/323 (4767) ، والتقريب (4840) .
(3) عمير بن هانئ لم يسمع من علي بن أبي طالب، انظر: تهذيب الكمال 5/497 (5160) .
(4) في " الأوسط " (6153) وفي " مسند الشاميين " (670) .
في سنده: طلحة بن زيد. سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: ((ليس بذاك قد حدث بأحاديث مناكير)) ، وعن عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه كان يضع الحديث، وقال البخاري وغير واحد: ((منكر الحديث)) ، وقال عنه ابن حجر: ((متروك)) . انظر: تهذيب الكمال 3/504 (2955) ، والتقريب (3020) .
(5) أخرجه: نعيم بن حماد في " الفتن " (135) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (37578) .(3/950)
ابنُ مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر (1) ، يشير إلى أنَّ معرفة
المعروفِ والمنكرِ بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هَلَكَ.
وأمَّا الإنكارُ باللسان واليد، فإنَّما يجبُ بحسب الطاقةِ، وقال ابنُ مسعود: يوشك مَنْ عاش منكم أن يري منكراً لا يستطيعُ له غيرَ أن يعلمَ اللهُ من قلبه أنَّه له كارهٌ (2) . وفي " سنن أبي داود " (3) عن العُرس بن عَميرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال
:
((إذا عُمِلَت الخطيئةُ في الأرض، كان من شَهدَها، فكرهها كمن غاب عنها، ومَنْ غابَ عنها، فرَضِيها، كان كمن شهدها)) ، فمن شَهِدَ الخطيئةَ، فكرهها بقلبه، كان كمن لم يشهدها إذا عَجَز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأنَّ الرِّضا بالخطايا من أقبح المحرَّمات، ويفوت به إنكارُ الخطيئة بالقلب، وهو فرضٌ على كلِّ مسلم، لا يسقطُ عن أحدٍ في حالٍ من الأحوال.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من حضر معصيةً فكرهها، فكأنَّه غاب عنها، ومن غاب
_________
(1) أخرجه: نعيم بن حماد في " الفتن " (405) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (37581) ، والطبراني في " الكبير " (8564) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/135.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (37305) و (37582) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (7589) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 23/284.
(3) سنن أبي داود (4345) ، وهو حديث قويٌّ.
وأخرجه: الطبراني في "الكبير" 15/139 (345) ، وانظر: مشكاة المصابيح (5144) .(3/951)
عنها، فأحبها، فكأنَّه
حضرها)) (1) وهذا مثلُ الذي قبله.
فتبيَّن بهذا أنَّ الإنكارَ بالقلب فرضٌ على كلِّ مسلمٍ في كلِّ حالٍ، وأمَّا الإنكارُ باليدِ واللِّسانِ فبحسب القُدرة، كما في حديث أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه -، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أنْ
يغيِّروا، فلا يغيِّروا، إلا يُوشِكُ أنْ يعمَّهم الله بعقابٍ)) خرّجه أبو داود بهذا
اللفظ (2) ،
وقال: قال شعبةُ فيه: ((ما من قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أكثرُ ممن يعمله)) .
وخرَّج أيضاً (3) من حديث جرير: سَمِعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما مِنْ رجلٍ يكونُ في قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، يقدِرونَ أنْ يُغيِّروا عليه، فلا يُغيِّرون، إلا أصابهُم الله بعقابٍ قبلَ أنْ يموتُوا)) .
وخرَّجه الإمام أحمد (4) ، ولفظه: ((ما من قومٍ يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أعزُّ وأكثر ممَّن يعملُه، فلم يغيِّروهُ، إلاَّ عمهُم اللهُ بعقاب)) .
وخرَّج أيضاً (5) من حديث عديّ بن عَميرة، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ الله لا يعذِّبُ العامَّةَ بعمل الخاصَّة حتَّى يروا المنكرَ بين
_________
(1) أخرجه: ابن عدي في " الكامل " 9/83، والبيهقي 7/266، وهو ضعيف لضعف يحيى بن أبي سليمان، وقد ساقه ابن عدي في ضمن منكراته، وقال البيهقي: ((تفرد به يحيى بن أبي سليمان، وليس بالقوي)) ، وقال العراقي في " تخاريج الإحياء " 3/1353 (2034)
: ((وفيه يحيى بن أبي سليمان قال البخاري: منكر الحديث)) .
(2) في " سننه " (4338) .
وأخرجه: الحميدي (3) ، وسعيد بن منصور (840) ، وأحمد 1/2 و5 و7 و9، وعبد ابن حميد (1) ، وابن ماجه (4005) ، والترمذي (2168) و (3057) ، والبزار
(65) و (66) ، والنسائي في " الكبرى " (11157) وفي " التفسير "، له (177) ، وأبو يعلى (128) و (130) ، وابن حبان (305) ، والطبراني في " الأوسط "
(2532) ، وأبو عمرو الداني في " الفتن " (335) و (337) ، والبيهقي 10/91 وفي
" شعب الإيمان "، له (7550) ، والضياء المقدسي في " المختارة " 1/145 (58) ، وهو حديث صحيح.
(3) في " سننه " (4339) .
وأخرجه: سعيد بن منصور (841) ، وابن حبان (302) ، والطبراني في " الكبير "
(2382) و (2384) ، وهو حديث قويُّ الإسناد.
(4) في " مسنده " 4/364 و366، وإسناده لا بأس به.
(5) في " مسنده " 4/192 من حديث سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت عدي بن عدي الكندي، يقول: حدثني مولىً لنا أنَّه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله يقول ... ، وهذا إسناد ضعيف لجهالة المولى.(3/952)
ظهرانيهم وهم قادرون على أنْ يُنكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك، عذَّبَ الله الخاصة والعامَّة)) .
وخرَّج أيضاً هو (1) وابنُ ماجه (2) من حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ الله ليسألُ العبدَ يومَ القيامة، حتَّى يقول: ما منعكَ إذا رأيتَ المنكر أن تُنكِرَه، فإذا لَقَّنَ الله عبداً حجَّته، قال: يا ربِّ، رجوتُك، وفَرقْتُ النَّاسَ)) .
فأما ما خرجه الترمذيُّ (3) ، وابنُ ماجه (4) من حديث أبي سعيد أيضاً، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في خطبته: ((ألا لا يَمنعَنَّ رجلاً هيبةُ النَّاس أنْ يقول بحقٍّ إذا
علمه)) ، وبكى أبو سعيد، وقال: قد واللهِ رأينا أشياءَ فهِبنا. وخرَّجه الإمام
أحمد (5) ، وزاد فيه: ((فإنَّه لا يُقرِّب من أجلٍ، ولا يُباعِدُ من رزقٍ أنْ يُقال بحقٍّ أو يُذَكِّرَ بعظيمٍ)) .
وكذلك خرَّج الإمامُ أحمد (6) وابن ماجه (7) من حديث أبي سعيد، عن النَّبيِّ
- صلى الله
_________
(1) في " مسنده " 3/27 و29 و77.
(2) في " سننه " (4017) ، وإسناده لا بأس به.
(3) في " جامعه " (2191) .
(4) في " سننه " (4007) .
(5) في " مسنده " 3/50، وزيادته زيادة ضعيفة لضعف أحد رواتها ولانقطاعها.
(6) في " مسنده " 3/30 و47 و73 و91.
(7) في " سننه " (4008) ، وهو ضعيف لانقطاعه؛ فإنَّه يرويه أبو البختري سعيد بن فيروز، عن أبي سعيد ولم يسمع منه.(3/953)
عليه وسلم -، قال: ((لا يَحقِرْ أحدُكم نفسَه)) ، قالوا: يا رسولَ الله، كيف يحقرُ أحدُنا نفسه؟ قالَ: ((يرى أمرَ لله عليه فيه مقالٌ، ثمَّ لا يقول فيه، فيقولُ الله له يوم القيامة: ما منعك أنْ تقولَ فيَّ كذا وكذا؟ فيقول: خشيةُ النَّاسِ، فيقول الله: إيَّايَ كنتَ أحقَّ أنْ تخشى)) .
فهذان الحديثان محمولان على أنْ يكون المانعُ له من الإنكار مجرَّدَ الهيبة، دُونَ الخوفِ المسقط للإنكار.
قال سعيدُ بنُ جبير: قلتُ لابن عباس: آمرُ السُّلطانَ بالمعروفِ وأنهاه عن المنكر؟ قال: إنْ خِفتَ أن يقتُلَك، فلا، ثم عُدْتُ، فقال لي مثلَ ذلك، ثم عدتُ، فقال لي مثلَ ذلك، وقال: إنْ كنتَ لابدَّ فاعلاً، ففيما بينَك وبينه (1) .
وقال طاووس: أتى رجلٌ ابنَ عبَّاسٍ، فقال: ألا أقومُ إلى هذا السُّلطان فآمره وأنهاهُ؟ قالَ: لا تكن لهُ فتنةً، قالَ: أفرأيت إنْ أمرني بمعصيةِ اللهِ؟ قال: ذلك الَّذي تريد، فكنْ حينئذٍ رجلاً (2) . وقد ذكرنا حديثَ ابن مسعود الذي فيه:
((يخلف من بعدهم خُلوفٌ، فمن جاهدَهم بيدِه، فهو مؤمنٌ)) (3) ... الحديث، وهذا يدلُّ على جهاد الأمراءِ باليد. وقد استنكر الإمامُ أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود (4) ، وقال: هو خلافُ الأحاديث التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بالصَّبر على جَوْرِ الأئمة. وقد يجاب عن ذلك: بأنَّ التَّغييرَ باليدِ لا يستلزمُ القتالَ. وقد نصَّ على ذلك أحمدُ أيضاً في رواية صالحٍ، فقال: التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح، وحينئذٍ فجهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك،
_________
(1) أخرجه: سعيد بن منصور في " سننه " (846) ، وابن أبي شيبة (38307) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (7591) ، وابن عبد البر 23/282.
(2) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (7593) .
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر: شرح صحيح مسلم 1/240.(3/954)
وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من باب قتالهم، ولا مِنَ الخروج عليهم الذي ورد النَّهيُ عنه، فإنَّ هذا أكثرُ ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده.
وأما الخروج عليهم بالسَّيف، فيخشى منه الفتنُ التي تؤدِّي إلى سفك دماءِ المسلمين. نعم، إنْ خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهلَه أو جيرانه، لم ينبغِ له التعرُّض لهم حينئذ، لما فيه مِنْ تعدِّي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيلُ بنُ عياض وغيره، ومع هذا، فمتى خافَ منهم على نفسه السَّيف، أو السَّوط، أو الحبس، أو القيد، أو النَّفيَ، أو أخذ المال، أو نحوَ ذلك مِنَ الأذى، سقط أمرُهم ونهيُهم، وقد نصَّ الأئمَّةُ على ذلك، منهم: مالكٌ وأحمدُ وإسحاق وغيرهم.
قال أحمد: لا يتعرَّضُ للسُّلطان، فإنَّ سيفَه مسلولٌ.
وقال ابنُ شُبرمَة: الأمرُ بالمعروف، والنَّهيُ عن المنكر كالجهاد، يجبُ على الواحد أن يُصابِرَ فيه الاثنين، ويَحْرُم عليه الفرارُ منهما، ولا يجبُ عليهم مصابرةُ أكثرَ من ذلك.
فإن خافَ السَّبَّ، أو سَماعَ الكلامِ السَّيء، لم يسقط عنه الإنكار بذلك نصَّ عليه الإمام أحمد، وإن احتمل الأذى، وقوِيَ عليه، فهو أفضلٌ، نصَّ عليه أحمد أيضاً، وقيل له: أليس قد جاء عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليس للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه)) أن يعرّضها مِنَ البلاء لما لا طاقة له به، قال: ليس هذا من ذلك.(3/955)
ويدلُّ على ما قاله ما خرَّجه أبو داود (1) وابن ماجه (2) والترمذيُّ (3) من حديث أبي سعيد
عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أفضلُ الجهاد كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ)) .
وخرَّج ابنُ ماجه (4) معناه من حديث أبي أُمامة.
وفي " مسند البزار " (5) بإسنادٍ فيه جهالة، عن أبي عُبيدة بن الجراح، قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الشُّهداءِ أكرم على الله؟ قال: ((رجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ، فأمره بمعروفٍ، ونهاه عن المنكر فقتله)) .
_________
(1) في " سننه " (4344) .
(2) في " سننه " (4011) .
(3) في " الجامع الكبير " (2174) ، وقال: ((حسن غريب)) .
(4) في " سننه " (4012) ، وفي إسناده مقال.
(5) البحر الزخار (1285) .
قال البزار عقبه: ((ولم أسمع أحداً سمى أبا الحسن)) ، وهذا منه إعلال لأحد رواة الإسناد. وانظر: ميزان الاعتدال 4/514، ومجمع الزوائد 7/272.(3/956)
وقد رُوي معناه من وجوه أُخر كلُّها فيها ضعفٌ (1) .
وأما حديثُ: ((لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه)) (2) ، فإنَّما يدلُّ على أنَّه إذا عَلِمَ أنَّه لا يُطيق الأذى، ولا يصبرُ عليه، فإنّه لا يتعرَّض حينئذٍ للآمر، وهذا حقٌّ، وإنَّما الكلامُ فيمن عَلِمَ من نفسه الصَّبر، كذلك قاله الأئمَّةُ، كسفيانَ وأحمد، والفضيل بن عياض وغيرهم.
وقد رُوي عن أحمد ما يدلُّ على الاكتفاء بالإنكارِ بالقلب، قال في رواية أبي داود: نحن نرجو إنْ أنكَرَ بقلبه، فقد سَلِم، وإنْ أنكر بيده، فهو أفضل، وهذا محمولٌ على أنَّه يخاف كما صرَّح بذلك في رواية غيرِ واحدٍ. وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنَّه لا يقبلُ منه، وصحح القولَ بوجوبه، وهو قولُ أكثرِ العلماء. وقد قيل لبعض السَّلف في هذا، فقال: يكون لك معذرةٌ، وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السَّبت أنَّهم قالوا لمن قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3) ، وقد ورد ما يستدلُّ به على سقوط الأمر والنهي عندَ عدم القَبول والانتفاع به، ففي
_________
(1) انظر: مستدرك الحاكم 3/195.
(2) تقدم تخريجه.
(3) الأعراف: 164.(3/957)
" سنن أبي داود " (1) وابن ماجه (2) والترمذي (3) عن أبي ثعلبة الخشني أنَّه قيل له: كيف تقولُ في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (4) ، فقال: أما والله لقد سألتُ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((بل ائتمِروا بالمعروف، وانتهُوا عن المنكرِ، حتى إذا رأيتَ شُحّاً مُطاعاً، وهوىً مُتَّبعاً، ودُنيا مُؤْثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوامِّ)) .
وفي " سنن أبي داود " (5) عن عبد الله بن عمرو، قال: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ ذكر الفتنة، فقال: ((إذا رأيتُمُ الناس مَرَجَتْ عهودُهم، وخفَّت أماناتُهم، وكانوا هكذا)) وشبك بين أصابعه، فقمتُ إليه، فقلت: كيف أفعلُ عندَ ذلك، جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتَك، واملِكْ عليك
لسانك، وخُذْ بما تَعرِفْ، ودع ما تُنكرُ، وعليك بأمر خاصَّةِ نفسك، ودع عنك أمرَ العامَّة)) .
وكذلك رُوي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
_________
(1) (4341) .
(2) (4014) .
(3) في " جامعه " (3058) ، وقال: ((حسن غريب)) على أنَّ في إسناد الحديث عمرو بن جارية، وهو مجهول الحال. ...
(4) المائدة: 105.
(5) (4342) و (4343) ، وهو حديث قويٌّ.(3/958)
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، قالوا: لم يأت تأويلُها بعدُ، إنَّما تأويلها في آخر الزمان (1) .
وعن ابن مسعود، قال: إذا اختلفتِ القلوبُ والأهواءُ، وأُلبِستُم شِيَعاً، وذاقَ بعضُكم بأسَ بعضٍ، فيأمرُ الإنسانُ حينئذٍ نفسَه، حينئذ تأويل هذه الآية (2) .
وعن ابن عمرَ، قال: هذه الآية لأقوامٍ يجيئون من بعدنا، إنْ قالوا لم يُقْبَلْ منهم (3) .
وقال جبير بنُ نُفيرٍ عن جماعة من الصَّحابة، قالوا: إذا رأيتَ شحّاً مُطاعاً وهوىً متَّبعاً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسِكَ، لا يضرُّك من ضلَّ إذا اهتديتَ (4) .
وعن مكحول، قال: لم يأتِ تأويلها بعدُ، إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذٍ بنفسك لا يضرُّك من ضلَّ إذا اهتديت (5) .
وعن الحسن: أنَّه كان إذا تلا هذه الآية، قال: يا لها مِنْ ثقةٍ ما أوثقها! ومن سَعةٍ ما أوسَعها! (6)
وهذا كلُّه قد يُحمل على أنَّ من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضَّرر، سقط عنه، وكلامُ ابن عمر يدلُّ على أنَّ من عَلِمَ أنَّه لا يُقبل منه، لم يجب عليه، كما حُكي روايةً عن أحمد (7) ، وكذا قال الأوزاعيُّ: مُرْ من ترى (8) أنْ يقبلَ منك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يُنكر بقلبه: ((وذلك أضعفُ الإيمان)) يدلُّ على أنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ من خصال الإيمان، ويدلُّ على أنَّ من قدرَ على خَصلةٍ من خصال الإيمان وفعلها، كان أفضلَ مِمَّن تركها عجزاً عنها، ويدلُّ على ذلك أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - في حقِّ النساء: ((أمَّا نُقصانُ دينها، فإنَّها تمكثُ الأيَّام واللَّيالي لا تصلِّي)) (9) يُشير إلى أيَّامِ الحيض، مع أنَّها ممنوعةٌ من الصَّلاةِ حينئذ، وقد جعل ذلك نقصاً في دينها، فدلَّ على أنَّ من قدَرَ على واجبٍ
_________
(1) أخرجه: سعيد بن منصور (849) ، والطبري (10015) وطبعة التركي 9/44، والطبراني في " الكبير " (9072) عن عبد الله بن مسعود.
(2) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (10020) ، وطبعة التركي 9/44، وابن أبي حاتم في
" التفسير " (6922) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (7552) .
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (10016) ، وطبعة التركي 9/44.
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (10019) وطبعة التركي 9/46 مطولاً.
(5) أخرجه: ابن أبي حاتم في " التفسير " (9623) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/179.
(6) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/600 وعزاه لعبد بن حميد.
(7) أخرجه: الخلال في " السنة " (115) .
(8) عبارة: ((من ترى)) سقطت من (ص) .
(9) أخرجه: أحمد 2/66، ومسلم 1/60 (79) (132) ، وأبو داود (4679) ، وابن ماجه (4003) ، والطحاوي في "شرح المشكل" (2727) ، من حديث عبد الله بن عمر، وصحَّ أيضاً من حديث غيره من الصحابة.(3/959)
وفعله، فهو أفضلُ ممَّن عجز عنه وتركه، وإنْ كان معذوراً في تركه، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ رأى منكم منكراً)) يدلُّ على أنَّ الإنكارَ متعلِّقٌ بالرُّؤية، فلو كان مستوراً فلم يره، ولكن علم به، فالمنصوصُ عن أحمد في أكثر الروايات أنَّه لا يعرِضُ له، وأنه لا يفتِّش على ما استراب به (1) ، وعنه رواية أخرى أنَّه يكشف المغطَّى إذا تحقَّقه، ولو سَمِعَ صوتَ غناءٍ محرَّمٍ أو آلات الملاهي، وعلم المكانَ التي هي فيه، فإنَّه يُنكرها، لأنه قد تحقَّق المنكر، وعلم موضعَه، فهو كما رآه، نصَّ عليه أحمد، وقال: إذا لم يعلم مكانَه، فلا شيءَ عليه.
وأما تسوُّرُ الجدران على من علم اجتماعَهم على منكرٍ، فقد أنكره الأئمَّةُ مثلُ سفيان الثَّوري وغيره، وهو داخلٌ في التجسُّس المنهيِّ عنه، وقد قيل لابن مسعود: إنَّ فلاناً تقطر لحيتُه خمراً، فقال: نهانا الله عَنِ التَّجسُّس (2) .
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " الأحكام السلطانية ": إنْ كان في المُنكر الذي
_________
(1) انظر: الورع لأحمد: 167.
(2) أخرجه: عبد الرزاق (18945) ، وابن أبي شيبة (26568) ، وأبو داود (4890) ، والطبراني في " الكبير " (9741) ، والبيهقي في " السنن الكبرى " 8/334 وفي " شعب الإيمان "، له (9661) .(3/960)
غلب على ظنِّه الاستسرارُ به بإخبار ثقةٍ عنه انتهاكُ حرمة يفوتُ استدراكُها كالزنى والقتل، جاز التجسسُ والإقدام على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وإنْ كان دُونَ ذلك في الرُّتبة، لم يجز التَّجَسُّسُ عليه، ولا الكشفُ عنه.
والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمَعاً عليه، فأمَّا المختَلَفُ فيه، فمن
أصحابنا من قال: لا يجب إنكارُه على من فعله مجتهداً فيه، أو مقلِّداً لمجتهدٍ تقليداً سائغاً.
واستثنى القاضي في ((الأحكام السلطانية)) ما ضَعُفَ فيه الخلافُ وكان ذريعةً إلى محظورٍ متَّفقٍ عليه، كربا النقد الخلاف فيه ضعيفٌ، وهو ذريعةٌ إلى ربا النَّساء المتَّفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، فإنَّه ذريعةٌ إلى الزِّنى. وذكر عن أبي إسحاق بن شاقلا أنَّه ذكرَ أنَّ المتعة هي الزنى صراحاً.
وعن ابن بطة أنّه قال: لا يفسخ نكاحٌ حكم به قاضٍ إذا كان قد تأوَّل
فيه تأويلاً، إلاَّ أنْ يكون قضى لرجلٍ بعقدِ متعة، أو طلق ثلاثاً في لفظٍ
واحدٍ، وحكم بالمراجعة من غيرِ زوجٍ، فحكمُهُ مردودٌ، وعلى فاعله العقوبةُ والنَّكالُ.
والمنصوصُ عن أحمد: الإنكارُ على اللاّعب بالشطرنج، وتأوَّله القاضي على من لعب بها بغير اجتهادٍ، أو تقليدٍ سائغٍ، وفيه نظرٌ، فإنَّ المنصوصَ عنه أنَّه يُحَدُّ شاربُ النَّبيذِ المختلفِ فيه، وإقامةُ الحدّ أبلغُ مراتبِ الإنكارِ، مع أنَّه لا يفسق بذلك عنده، فدلَّ على أنَّه ينكَرُ كلُّ مختلفٍ فيه ضَعفُ الخلافُ فيه، لدلالة السُّنَّة على تحريمه، ولا يخرجُ فاعلُه المتأوّل مِنَ العدالة بذلك، والله أعلم. وكذلك نصَّ أحمدُ على الإنكار على من لا يتم صلاتَه ولا يُقيم صلبه من الرُّكوعِ والسُّجود (1) ، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك.
واعلم أنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكرِ تارةً يحمِلُ عليه رجاءُ ثوابه، وتارةً خوفُ العقابِ في تركه،
_________
(1) انظر: شرح السنة 3/98.(3/961)
وتارةً الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارةً النصيحةُ للمؤمنين، والرَّحمةُ لهم، ورجاء إنقاذهم ممَّا أوقعوا أنفسهم فيه من التعرُّض لغضب الله وعقوبته في الدُّنيا والآخرة، وتارةً يحملُ عليه إجلالُ الله وإعظامُه ومحبَّتُه، وأنَّه أهلٌ أنْ يُطاعَ فلا يُعصى، ويُذكَرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، وأنْ يُفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، كما قال بعضُ السَّلف: وددت أنَّ الخلقَ كلَّهم أطاعوا الله، وإنَّ لحمي قُرِض بالمقاريض (1) . وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمهما الله - يقول لأبيه: وددتُ أنِّي غلت بيَ وبكَ القدورُ في الله - عز وجل - (2) .
ومن لَحَظَ هذا المقامَ والذي قبله، هان عليه كلُّ ما يلقى من الأذى في الله تعالى، وربما دعا لمن آذاه، كما قال ذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا ضربه قومُه فجعل يمسَحُ الدَّمَ
عن وجهه، ويقول: ((ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)) (3) .
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 10/150 عن زهير بن نعيم.
(2) أخرجه: محمد بن نصر المروزي في " السنة ": 31، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/281 و354.
(3) أخرجه: أحمد 1/380 و427 و432 و441 و453 و456، والبخاري 4/213 - 214 (3477) و9/20 (6929) وفي " الأدب المفرد "، له (757) ، ومسلم 5/179
(1792) (105) ، وابن ماجه (4025) ، وأبو يعلى (5205) من حديث ابن مسعود.(3/962)
وبكلِّ حالٍ يتعين الرفقُ في الإنكار، قال سفيان الثوري: لا يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكرِ إلاّ من كان فيه خصالٌ ثلاثٌ: رفيقٌ بما يأمرُ، رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمر، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر، عالم بما ينهى (1) .
وقال أحمد: النّاسُ محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غِلظةٍ إلا رجل معلن بالفسق، فلا حُرمَةَ له، قال: وكان أصحابُ ابن مسعود إذا مرُّوا بقومٍ يرون منهم ما يكرهونَ، يقولون: مهلاً رحمكم الله، مهلاً رحمكم الله.
وقال أحمد: يأمر بالرِّفقِ والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب، فيكون يريدُ ينتصرُ لنفسه.
_________
(1) انظر: الورع للإمام أحمد: 166.(3/963)
الحديث الخامس والثلاثون
عَنْ أَبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، قالَ: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَحَاسَدُوا، ولا تَنَاجَشوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعضُكُمْ على بَيعِ بَعضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْواناً، المُسلِمُ أَخُو المُسلم، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَكذِبُهُ، ولا يَحقِرُهُ، التَّقوى هاهُنا)) ، - ويُشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ - ((بِحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسلمِ على المُسلِمِ حرامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وعِرضُهُ)) . رواه مسلم.
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1) من رواية أبي سعيدٍ مولى عبد الله بن عامر بن كُرَيز عن أبي هريرة، وأبو سعيد هذا لا يعرَفُ اسمُه، وقد روى عنه غيرُ واحدٍ، وذكره ابن حبان في " ثقاته " (2) ، وقال ابن المديني: هو مجهول.
وروى هذا الحديث سفيان الثوري، فقال فيه: عن سعيد بن يسار، عن أبي هُريرة، ووهم في قوله: ((سعيد بن يسار)) ، إنَّما هو: أبو سعيد مولى ابنِ كُريز، قاله أحمد ويحيى والدَّارقطني (3) ، وقد رُوِي بعضُه من وجه آخر (4) .
وخرَّجه الترمذي (5) من رواية أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونُه ولا يكذِبُه ولا يَخذُلُه، كلُّ المسلمِ على المسلم حرامٌ: عِرْضُه وماله ودمُه، التقوى هاهنا،
_________
(1) صحيح مسلم 8/10 (2564) (32) و (33) .
وأخرجه: أحمد 2/277 و311 و360، وعبد بن حميد (1442) ، وابن ماجه (3933)
و (4213) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (11151) .
(2) الثقات 5/586.
(3) انظر: العلل للدارقطني 11/222 (2242) .
(4) أخرجه: هناد بن السري في " الزهد " (1390) من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، به.
(5) في " جامعه " (1927) .(3/965)
بحسب امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاهُ المسلم)) .
وخرَّج أبو داود (1) من قوله: ((كلُّ المسلم)) إلى آخره.
وخرَّجاه في " الصحيحين " (2) من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تحاسَدُوا ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تَدابَروا، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً)) .
وخرَّجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة (3) .
_________
(1) في " سننه " (4882) .
(2) صحيح البخاري 8/23 (6066) ، وصحيح مسلم 8/9 (2563) (28) .
وأخرجه: مالك في " الموطأ " (2640) برواية الليثي، وابن المبارك في " الجهاد " (37) ، وأحمد 2/465 و517، وابن حبان (5687) .
(3) أخرجه: البخاري 8/23 (6064) عن همام، ومسلم 8/9 (2563) (29) عن العلاء، عن أبيه.(3/966)
وخرَّج الإمام أحمد (1) من حديث واثلةَ بنِ الأسقعِ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((كُلُّ المسلم على المسلم حرامٌ: دمه، وعرضه، وماله، المسلم أخو المسلمِ، لا يظلمُه ولا يَخذُلُه، والتَّقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسبُ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاهُ المسلم)) .
وخرَّج أبو داود آخره فقط (2) .
وفي " الصحيحين " (3)
من حديث ابن عمرَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يَظلِمُهُ ولا يُسلِمه)) . وخرَّجه الإمامُ أحمد (4) ، ولفظه: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُه ولا يخذُله ولا يحقِرُه، وبحسب المرئ مِنَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم)) .
_________
(1) في " مسنده " 3/491.
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " 22/ (183) ، وابن عدي في " الكامل " 9/87.
(2) كما في " تحفة الأشراف " 8/322 (11746) ، وذكر المزي في استدراكاته أنَّها في رواية أبي الحسن بن العبد.
(3) أخرجه: البخاري 3/168 (2442) و9/28 (6951) ، ومسلم 7/18 (2580)
(58) .
(4) في " مسنده " 2/91
وأخرجه: أبو داود (4893) ، والترمذي (1426) ، والنسائي في "الكبرى" (7291) ، وابن حبان (533) ، والطبراني في " الكبير " (13137) .(3/967)
وفي " الصحيحين " (1) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تباغَضُوا، ولا تحاسَدوا، ولا تدابروا، وكونوا عِبادَ الله إخواناً)) .
ويُروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعاً (2) وموقوفاً (3) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسدوا)) يعني: لا يحسُدْ بعضُكم بعضاً، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر، وهو أنَّ الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ منْ جنسهِ في شيءٍ من الفضائل.
ثم ينقسم الناس بعدَ هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل، ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه، ومنهم من
يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثهما، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس حيث حسدَ آدم - عليه السلام - لمَّا رآه قد فاق على
_________
(1) صحيح البخاري 8/23 (6065) و8/25 (6076) ، وصحيح مسلم 8/8 (2559)
(23) و8/9 (2559) (24) .
وأخرجه: الحميدي (1183) ، وأحمد 3/110 و209 و225 و277 و283، والترمذي
(1935) ، وأبو داود (4910) .
(2) أخرجه: الحميدي (7) .
(3) أخرجه: أحمد 1/3، والبخاري في " الأدب المفرد " (724) ، وابن ماجه (3849) ، وأبو يعلى (121) .(3/968)
الملائكة بأنْ خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكتَه، وعلَّمه أسماء كلِّ شيءٍ، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنَّة حتَّى أخرج منها، ويروى عن ابن عمرَ أنَّ إبليسَ قال لنوح: اثنتان بهما أُهلك بني آدم: الحسد، وبالحسد لُعِنتُ وجُعلتُ شيطاناً رجيماً، والحرص وبالحرص أُبيح آدمُ الجنةَ كلَّها، فأصبتُ حاجتي منه بالحرص. خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا.
وقد وصف الله اليهودَ بالحسد في مواضع من كتابه القرآن، كقوله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} (1) ، وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) والترمذي (4) من حديث الزُّبير بن العوَّام، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((دبَّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ، والبغضاءُ هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقةُ الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تُؤمنوا حتى تحابُّوا، أولا
أُنبئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السَّلام بينكم)) .
وخرَّج أبو داود (5)
من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
_________
(1) البقرة: 109.
(2) النساء: 54.
(3) في " مسنده " 1/167.
(4) في " جامعه " (2510) .
وأخرجه: الطيالسي (193) ، وأبو يعلى (669) ، والبيهقي 10/232 وفي " شعب
الإيمان "، له (8747) ، وهو حديث ضعيف وإسناده معلول، وقد أشار الترمذي إلى علته.
(5) في " سننه " (4903) .
وأخرجه: عبد بن حميد (1430) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (6608) ، وهو حديث ضعيف قال فيه البخاري في " تاريخه " 1/72: ((لا يصح)) .(3/969)
((إيَّاكم والحسد، فإنَّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحطب، أو قال: العُشبَ)) .
وخرَّج الحاكم (1) وغيرُه من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((سيُصيبُ أُمَّتي داءُ الأمم)) ، قالوا: يا نبيَّ الله، وما داءُ الأمم؟ قال: ((الأشرُ والبَطَرُ، والتَّكاثرُ والتَّنافسُ في الدُّنيا، والتَّباغُض، والتَّحاسدُ حتى يكونَ البغيُ ثمَّ الهرجُ)) .
وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ. وقد رُوي عن الحسن أنَّه لا يأثمُ بذلك (2) ، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين:
أحدهما: أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه، فيكون مغلوباً على ذَلِكَ، فلا يأثمُ به.
والثاني: من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية،
_________
(1) في " المستدرك " 4/168.
وأخرجه: الطبراني في " الأوسط " (9016) من طريق أبي هانئ، عن أبي سعيد الغفاري، عن أبي هريرة، وقال: ((لم يرو هذا الحديث عن أبي سعيد إلاّ أبو هانئ)) ، قلت: وهو في عداد المجهولين فالحديث ضعيف.
(2) انظر: تحفة الأحوذي 6/55.(3/970)
وفي العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء، وربما يُذكر في موضعٍ آخر إنْ شاء الله تعالى، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم بذلك.
وقسم آخر إذا حسد لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنَّى أنْ يكونَ مثله، فإن كانتِ الفضائلُ دنيويَّةً، فلا خيرَ في ذلك، كما قال الَّذينَ يُريدُونَ الحياةَ الدُّنيا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} (1) ، وإنْ كانت فضائلَ دينيَّةً، فهو حسن، وقد تمنَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشَّهادة في سبيل الله - عز وجل -. وفي " الصحيحين " (2) عنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتين:
_________
(1) القصص: 79.
(2) صحيح البخاري 9/189 (7529) ، وصحيح مسلم 2/201 (815) (266) .(3/971)
رجلٌ آتاه اللهُ
مالاً، فهو يُنفقه آناء الليل وآناء النَّهار، ورجلٌ آتاهُ اللهُ القرآن، فهو يقومُ به آناء اللَّيل وآناءَ النَّهار)) ، وهذا هو الغبطة، وسماه حسداً من باب الاستعارة.
وقسم آخر إذا وجدَ من نفسه الحسدَ سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداءِ الإحسان إليه، والدُّعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وَجَدَ له في نفسه مِنَ الحسدِ حتّى يبدلَه بمحبَّة أنْ يكونَ أخوه المسلمُ خيراً منه وأفضلَ، وهذا مِنْ أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمنُ الكاملُ الذي يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ
لنفسه، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تناجَشوا)) : فسَّره كثيرٌ من العلماء بالنَّجْشِ (2) في البيع، وهو: أن يزيدَ في السِّلعة من لا يُريدُ شِراءها (3) ، إمَّا لنفع البائع بزيادةِ الثَّمن له، أو بإضرارِ المشتري بتكثير الثمن عليه، وفي " الصحيحين " (4) عن ابنِ عمرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نهى عن النَّجش.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقب (2142) : ((بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة)) .
(3) انظر: لسان العرب (نجش) .
(4) صحيح البخاري 3/91 (2142) و9/31 (6963) ، وصحيح مسلم 5/5 (1516) (13) .(3/972)
وقال ابن أبي أوفى: النَّاجش: آكلُ ربا خائنٌ، ذكره البخاري (1) .
قال ابنُ عبد البرِّ: أجمعوا أنَّ فاعلَه عاصٍ لله - عز وجل - إذا كان بالنَّهي عالماً (2) .
واختلفوا في البيع، فمنهم من قال: إنَّه فاسدٌ، وهو روايةٌ عن أحمد (3) ، اختارها طائفةٌ من أصحابه، ومنهم من قال: إنْ كان الناجشُ هو البائعَ، أو من واطأه البائع على النَّجش فسد؛ لأنَّ النَّهيَ هُنا يعودُ إلى العاقدِ نفسِه، وإنْ لم يكن كذلك، لم يفسُد، لأنَّه يعودُ إلى أجنبيٍّ. وكذا حُكِي عَنِ الشَّافعيِّ أنَّه علَّل صحة البيع بأنَّ البائعَ غيرُ النَّاجش (4) ، وأكثرُ الفقهاء على أنَّ البيعَ صحيحٌ مطلقاً وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد في رواية عنه، إلاَّ أنَّ مالكاً وأحمد أثبتا للمشتري الخيارَ إذا لم يعلم بالحال (5) ، وغُبِنَ غَبناً فاحشاً يخرج عن العادة،
_________
(1) في " صحيحه " 3/91 معلقاً.
(2) انظر: التمهيد 13/348.
(3) انظر: المغني 4/148.
(4) انظر: تحفة الأحوذي 4/442 (ط. دار الكتب العلمية) .
(5) انظر: التمهيد 18/193، وحاشية الدسوقي 18/193.(3/973)
وقدَّره مالكٌ وبعضُ أصحاب أحمد بثلث الثَّمنِ، فإن اختارَ المشتري حينئذٍ الفسخَ، فله ذلك، وإن أراد الإمساكَ، فإنَّه يحطُّ ما غُبِنَ به من الثَّمن، ذكره أصحابنا.
ويحتمل أن يُفسَّرَ التَّناجُشُ المنهيُ عنه في هذا الحديث بما هو أعمُّ من ذلك، فإنَّ أصلَ النَّجش في اللُّغة: إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادعةِ، ومنه سُمِّي النَّاجِشُ في البيع ناجشاً، ويسمّى الصَّائدُ في اللغة ناجشاً (1) ، لأنَّه يُثير الصَّيد بحيلته عليه، وخِداعِه له، وحينئذٍ، فيكونُ المعنى: لا تتخادَعوا، ولا يُعامِلْ بعضُكُم بعضاً بالمكرِ والاحتيال. وإنَّما يُرادُ بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم: إمَّا بطريقِ الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصولُ الضَّرر إليه، ودخولُه عليه، وقد قال الله - عز وجل -: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (2) . وفي حديث ابن مسعودٍ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ غَشَّنا فليس منَّا، والمكرُ والخِداعُ في النار)) (3) .
_________
(1) انظر: " لسان العرب " (نجش) .
(2) فاطر: 43.
(3) أخرجه: ابن حبان (567) و (5559) ، والطبراني في " الكبير " (10234) وفي
" الصغير "، له (725) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/189، والقضاعي في " مسند الشهاب " (253) و (254) و (354) ، وكل طرق الحديث لا تخلو من مقال.(3/974)
وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديث أبي بكر الصدِّيق المرفوع: ((ملعونٌ من ضارَّ مسلماً أو مكرَ به)) خرَّجه الترمذيُّ (1) .
فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميعُ أنواع المعاملات بالغشِّ
ونحوه، كتدليس العيوب، وكِتمانها، وغشِّ المبيع الجيد بالرديء، وغَبْنِ المسترسل
_________
(1) في " جامعه " (1941) وقد سبق تخريجه.(3/975)
الذي لا يَعرِفُ المماكسة، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفَّار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم، وما أحسنَ قول أبي العتاهية:
لَيس دُنيا إلاَّ بدينٍ ولَيْـ ... ـسَ الدِّين إلاَّ مَكارمُ الأخْلاقِ
إنَّما المَكْرُ والخَديعَةُ في النَّارِ ... هُمَا مِنْ خِصالِ أهْلِ النِّفاقِ
وإنَّما يجوزُ المكرُ بمن يجوزُ إدخالُ الأذى عليه، وهم الكفَّارُ المحاربون، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الحربُ خدعةٌ)) (1) .
_________
(1) أخرجه: الطيالسي (1698) ، والحميدي (1237) ، وأحمد 3/308، والبخاري 4/77 (3029) ، ومسلم 5/143 (1739) (17) و5/143 (1740) (18) ، وأبو داود (2636) ، والترمذي (1675) ، وابن الجارود في " المنتقى " (1051) ، وأبو يعلى (1826) و (1968) و (2121) .(3/976)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تَباغضوا)) : نهى المسلمين عَنِ التَّباغض بينهم في غير الله، بل على أهواءِ النُّفوسِ، فإنَّ المسلمينَ جعلهمُ الله إخوةً، والإخوةُ يتحابُّونَ بينهم، ولا يتباغضون، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لا تدخُلُوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلمتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم)) خرَّجه مسلم (1) . وقد ذكرنا فيما تقدَّم أحاديثَ في النَّهي عن التَّباغُض والتَّحاسد.
وقد حرَّم الله على المؤمنين ما يُوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
وامتنَّ على عباده بالتَّأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (3) ، وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (4) .
ولهذا المعنى حرم المشي بالنَّميمة، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورُخِّصَ في الكذب في الإصلاح بين النَّاس، ورغَّب الله في الإصلاح بينهم، كما قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً} (5) ، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
_________
(1) في " صحيحه " 1/53 (54) (93) و (94) .
وأخرجه: ابن أبي شيبة (25742) ، وأحمد 2/391 و442 و477 و495 و512، وأبو داود (5193) ، وابن ماجه (68) و (3692) ، والترمذي (2688) ، وأبو عوانة 1/38 - 39، وابن حبان (236) ، والبيهقي 10/232 من حديث أبي هريرة، به.
(2) المائدة: 91.
(3) آل عمران: 103.
(4) الأنفال: 62 - 63.
(5) النساء: 114.(3/977)
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1) ، وقال: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) وأبو داود (4) والترمذيُّ (5) من حديث أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ألا أخبركم بأفضلَ مِنْ درجة الصلاة والصيام والصَّدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((صلاحُ ذاتِ البينِ؛ فإنَّ فسادَ ذات البين هي الحالِقةُ)) .
وخرَّج الإمام أحمد (6) وغيرُه من حديث أسماءَ بنتِ يزيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ألا أُنبِّئُكم بشرارِكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشَّاؤون بالنَّميمة، المفرِّقُون بينَ الأحبَّةِ، الباغون للبُرءاءِ العَنَت)) .
وأمَّا البغض في الله، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلاً في النَّهي، ولو ظهر لرجل من أخيه شرٌّ، فأبغضه عليه، وكان الرَّجُل معذوراً فيه في نفس الأمر، أثيب المبغضُ له، وإن عُذِرَ أخوه، كما قال عمر: إنَّا كُنَّا نعرفكُم إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرنا، وإذ ينْزل الوحيُ، وإذ يُنبِّئُنا الله مِنْ أخبارِكُم ألا وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِ انطُلِقَ به، وانقطعَ الوحيُ، فإنَّما نَعْرفكم بما نَخْبُركم، ألا مَنْ أظهرَ منكم لنا خيراً ظننَّا به خيراً، وأحببناه عليه، ومَنْ أظهر منكم شرّاً، ظننا به شراً، وأبغضناه عليه، سرائرُكم بينكم وبينَ ربِّكم - عز وجل -)) (7) .
_________
(1) الحجرات: 9.
(2) الأنفال: 1.
(3) في " مسنده " 6/444.
(4) في " سننه " (4919) .
(5) في " جامعه " (2509) ، وقال: ((حسن صحيح)) .
وأخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (391) ، وابن حبان (5092) ، والبيهقي في
" الآداب " (117) ، والبغوي (3538) .
(6) في " مسنده " 6/459، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب.
(7) أخرجه: أحمد 1/41، وهناد بن السري (876) ، والحاكم 4/439، والبيهقي 9/42، وفي إسناده مقال.(3/978)
وقال الربيع بن خُثَيْم: لو رأيت رجلاً يُظهر خيراً، ويُسرُّ شرّاً، أحببتَه عليه، آجرَك الله على حبِّك الخيرَ، ولو رأيت رجلاً يُظهر شرّاً، ويسرُّ خيراً أبغضته عليه، آجرَك الله على بُغضك الشرَّ.
ولمَّا كثُرَ اختلافُ النَّاس في مسائل الدِّين، وكثرَ تفرُّقُهم، كثُر بسببِ ذلك تباغُضهم وتلاعُنهم، وكلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّه يُبغض لله، وقد يكونُ في نفس الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متَّبِعاً لهواه، مقصِّراً في البحث عن معرفة ما يُبغِضُ عليه، فإنَّ كثيراً من البُغض كذلك إنَّما يقعُ لمخالفة متبوع يظنُّ أنَّه لا يقولُ إلاَّ الحقَّ، وهذا الظَّنُّ خطأٌ قطعاً، وإنْ أُريد أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ فيما خُولِفَ فيه، فهذا الظنُّ قد يُخطئ ويُصيبُ، وقد يكون الحامل على الميلِ مجرَّد الهوى، أو الإلفُ، أو العادة، وكلُّ هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغضُ لله، فالواجبُ على المؤمن أن ينصحَ نفسَه، ويتحرَّزَ في هذا غاية التحرُّزِ، وما أشكل
منه، فلا يُدخِلُ نفسَه فيه خشيةَ أن يقعَ فيما نُهِيَ عنه مِنَ البُغض المُحرَّمِ.
وهاهنا أمرٌ خفيٌّ ينبغي التَّفطُّن له، وهو أنَّ كثيراً من أئمَّةِ الدِّينِ قد يقولُ قولاً مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه، مأجوراً على اجتهاده فيه، موضوعاً عنه خطؤه فيهِ، ولا يكونُ المنتصِرُ لمقالته تلك بمنْزلته في هذه الدَّرجة؛ لأنَّه قد لا ينتصِرُ لهذا القولِ إلاَّ لكونِ متبوعه قد قاله، بحيث أنَّه لو قاله غيرُه من أئمَّة الدِّينِ، لما قبِلَهُ ولا انتصر له، ولا والى من وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنَّه إنَّما انتصر للحقِّ بمنْزلة متبوعه، وليس كذلك، فإنَّ متبوعه إنَّما كان قصدُه الانتصارَ للحقِّ، وإنْ أخطأ في اجتهاده، وأمَّا هذا التَّابعُ، فقد شابَ انتصارَه لما يظنُّه الحقَّ إرادة علوِّ متبوعه، وظهور(3/979)
كلمته، وأنْ لا يُنسَبَ إلى الخطأ، وهذه دسيسةٌ تَقْدَحُ في قصد الانتصار للحقِّ، فافهم هذا، فإنَّه فَهْمٌ عظيم، والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
وقوله: ((ولا تدابروا)) قال أبو عبيد: التَّدابر: المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يُولِّي الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَه (1) ، ويُعرِض عنه بوجهه، وهو التَّقاطع.
وخرَّج مسلم (2) من حديث أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تحاسدُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَقَاطعُوا، وكونوا عِبادَ الله إخواناً كما أمركُم الله)) . وخرَّجه (3) أيضاً بمعناه من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي أيوب، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يهجرَ أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان، فيصدُّ هذا، ويصدُّ هذا، وخيرُهما الَّذي يَبدأ بالسَّلام)) .
وخرَّج أبو داود (5) من حديث أبي خراش السُّلميِّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال
: ((مَنْ هَجر أخاه سنةً، فهو كسفكِ دمه)) .
وكلُّ هذا في التَّقاطع للأمورِ الدُّنيويَّة،
_________
(1) انظر: لسان العرب (دبر) .
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) صحيح البخاري 8/26 (6077) و8/65 (6237) ، وصحيح مسلم 8/9 (2560)
(25) .
(5) في " سننه " (4915) ، وقد أخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 7/500، أحمد في
" المسند " 4/220، والبخاري في " الأدب المفرد " (404) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (6631) ، وهو حديث صحيح.(3/980)
فأمَّا لأجلِ الدِّين، فتجوزُ الزِّيادةُ على الثلاثِ (1) ، نصَّ عليه الإمام أحمدُ، واستدلَّ بقصَّةِ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفوا، وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهجرانهم لمَّا خاف منهمُ النِّفاق، وأباح هِجران أهلِ البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء، وذكر الخطابي أنَّ هِجران الوالدِ لولده، والزَّوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك تأديباً تجوزُ الزِّيادة فيه على الثَّلاث؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هجر نساءه شهراً (2) .
واختلفوا: هل ينقطع الهِجران بالسَّلام؟ فقالت طائفةٌ: يَنقطِعُ بذلك، ورُوي عن الحسن ومالكٍ في رواية ابن وهبٍ (3) ، وقاله طائفةٌ من أصحابنا، وخرَّج أبو داود (4) من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لا يحلُّ لمؤمنٍ أنْ يهجُرَ مؤمناً فوق ثلاثٍ، فإن مرَّت به ثلاثٌ، فليلقَهُ، فليسلِّم عليهِ، فإن ردَّ عليهِ السَّلامَ، فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردَّ عليهِ، فقد باءَ بالإثم، وخرج المُسلِّمُ من الهجرة)) . ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخرُ من الرَّدِّ عليهِ، فأمَّا معَ الرَّدِّ إذا كانَ بينهما قبل الهجرةِ مودَّةٌ، ولم يعودا إليها، ففيه نظر. وقد قالَ أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن السَّلام: يقطعُ الهِجران؟ فقال: قد
_________
(1) انظر: التمهيد 6/127.
(2) انظر: معالم السنن 4/114.
(3) انظر: تحفة الأحوذي 6/51 (ط. دار الكتب العلمية) .
(4) في " سننه " (4912) .
وأخرجه: البيهقي 10/63، وفي إسناده مقال.(3/981)
يُسلم عليه وقد صَدَّ عنه (1) ، ثم
قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يلتقيان فيصدُّ هذا، ويصدُّ هذا)) ، فإذا كان قد عوَّده أنْ يُكلِّمه أو يُصافحه. وكذلك رُوي عن مالكٍ أنَّه لا تنقطعُ الهجرة بدونِ العود إلى المودَّة (2) .
وفرَّق بعضُهم بين الأقارب والأجانب، فقال في الأجانب: تزول
الهجرةُ بينهم بمجرَّد السَّلام، بخلافِ الأقارب، وإنَّما قال هذا لوجوب صلة
الرَّحِمِ.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض)) قد تكاثرَ النَّهي عَنْ ذلك، ففي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يبيع الرجلُ على بيع أخيه، ولا يخطُبُ على خِطبةِ أخيه)) . وفي رواية لمسلم (4) : ((لا يَسُمِ المسلمُ على سومِ المسلم، ولا يَخطُبُ على خِطبته)) . وخرَّجاه (5) من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا
_________
(1) انظر: التمهيد 6/127 - 128.
(2) انظر: التمهيد 6/128.
(3) صحيح البخاري 3/90 - 91 (2140) ، وصحيح مسلم 4/138 (1413) (51) .
(4) 4/138 (1413) (51) .
(5) أخرجه: البخاري 3/90 (2139) ، ومسلم 4/138 (1412) (49) .(3/982)
يَبِعِ الرَّجُلُ على بيع أخيه، ولا يخطُبْ على خِطبة أخيه، إلاَّ أنْ يأذن له)) . ولفظه لمسلم.
وخرَّج مسلم (1) من حديث عقبة بن عامر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المؤمنُ أخو المؤمنِ، فلا يَحِلُّ للمؤمن أن يبتاعَ على بيع أخيه، ولا يخطبَ على خِطبةِ أخيه، حتَّى يَذَرَ)) .
وهذا يدلُّ على أنَّ هذا حقُّ للمسلم على المسلم، فلا يُساويه الكافر في ذلك، بل يجوزُ للمسلم أن يبتاعَ على بيع الكافر، ويَخطُبَ على خِطبته، وهو قولُ الأوزاعيِّ (2) وأحمدَ، كما لا يثبتُ للكافر على المسلم حقُّ الشُّفعة عنده، وكثيرٌ من الفُقهاء ذهبوا إلى أنَّ النَّهي عامٌّ في حقِّ المسلم والكافر.
واختلفوا: هلِ النَّهيُ للتَّحريم، أو للتَّنزيه، فمِنْ أصحابنا من قال: هو للتَّنزيه دونَ التَّحريم، والصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماء: أنَّه للتَّحريمِ.
واختلفوا: هل يصحُّ البيع على بيعِ أخيه، أوِ النِّكاحُ على خِطبته؟ فقال أبو حنيفة والشافعي (3) وأكثر أصحابنا: يَصِحُّ، وقال مالك في النِّكاح: إنَّه إن لم يدخل بها، فُرِّقَ بينهما، وإنْ دخل بها لم يُفرَّقْ (4) . وقال أبو بكر مِنْ أصحابنا في البيع والنِّكاحِ: إنَّه باطلٌ بكلِّ حالٍ، وحكاه عن أحمد.
ومعنى البيع على بيع أخيه: أنْ يكونَ قد باع منه شيئاً، فيبذُل للمشتري سلعتَه ليشتريها، ويفسخ بيعَ الأوَّلِ.
_________
(1) في " صحيحه " 4/139 (1414) .
(2) انظر: التمهيد 13/319.
(3) " التمهيد " 13/23.
(4) انظر: التمهيد 13/23.(3/983)
وهل يختصُّ ذلك بما إذا كان البذلُ في مدَّة الخيار، بحيث يتمكَّن المشتري مِنَ الفسخِ فيه، أم هو عامٌّ في مدَّةِ الخيار وبعدَها؟ فيه اختلاف بين العلماء، قد حكاه الإمامُ أحمد في رواية حرب، ومال إلى القول بأنَّه عامٌّ في الحالينِ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا. ومنهم من خصَّه بما إذا كان ذلك في مدَّة الخيار، وهو ظاهرُ كلامِ أحمد في رواية ابن مشيش، ومنصوصُ الشَّافعي (1) ، والأوَّلُ أظهرُ، لأنَّ المشتري وإنْ لم يتمكَّنْ من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار فإنَّه إذا رغب في ردِّ السِّلعة الأُولى على بائعها، فإنَّه يتسبَّب في ردِّها عليه بأنواع من الطُّرق المقتضية لضَرره، ولو بالإلحاح عليه في المسألة، وما أدَّى إلى ضررِ المسلم، كان محرَّماً، والله أعلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) : هذا ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كالتَّعليل لِما تقدَّم، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم إذا تركُوا التَّحاسُدَ، والتَّناجُشَ، والتَّباغُضَ (2) ،
والتدابرَ، وبيعَ بعضِهم على بيعِ بعضٍ، كانوا إخواناً.
وفيه أمرٌ باكتساب ما يصيرُ المسلمون به إخواناً على الإطلاق، وذلك يدخلُ فيه أداءُ حقوقِ المسلم على المسلم مِنْ رَدِّ السلامِ، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وإجابةِ الدَّعوة، والابتداء بالسَّلام عندَ اللِّقاء، والنُّصح بالغيب.
وفي " الترمذي " (3)
عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تَهادَوا،
_________
(1) انظر: التمهيد 14/30.
(2) سقطت من (ص) .
(3) في " جامعه " (2130) .
وأخرجه: الطيالسي (2333) ، وأحمد 2/405، والقضاعي في " مسند الشهاب "
(656) ، وهو حديث ضعيف لضعف أحد رجال إسناده، وهو أبو معشر المدني.(3/984)
فإنَّ الهديةَ تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدر)) . وخرَّجه غيرُه (1) ، ولفظه: ((تهادوا تحابُّوا)) .
_________
(1) أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (594) ، وأبو يعلى (6148) ، والقضاعي في
" مسند الشهاب " (657) ، وهو حديث حسن.(3/985)
وفي " مسند البزار " (1) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تهادوا، فإنَّ الهدية تَسُلُّ السَّخيمة)) .
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز - يرفعُ الحديثَ - قال: ((تصافحوا، فإنَّه يُذهِبُ الشَّحناء، وتهادَوْا)) (2) .
وقال الحسن: المصافحةُ تزيد في الودِّ (3) .
وقال مجاهد (4) : بلغني أنه إذا تراءى المتحابّان، فضحك أحدُهما إلى الآخر،
وتصافحا، تحاتت خطاياهما كما يتحاتُّ الورقُ من الشجر، فقيل له: إنَّ هذا ليسيرٌ مِنَ العمل، قال: تقولُ يسيرٌ والله يقولُ: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه، ولا يَخذُلُه، ولا يَكذِبُه، ولا يَحقِرُه)) . هذا مأخوذ من قوله - عز وجل -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (6) ، فإذا كان المؤمنون إخوةً، أُمروا فيما بينهم بما يُوجب تآلُفَ القلوب واجتماعَها، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوب واختلافَها، وهذا من ذلك.
وأيضاً، فإنَّ الأخ مِنْ شأنه أنْ يوصِلَ إلى أخيه النَّفع، ويكفَّ عنه الضَّرر، ومن
_________
(1) كما في " كشف الأستار " (1937) .
وأخرجه: الطبراني في " الأوسط " (1549) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " (658) ، وهو ضعيف لضعف أحد رجال إسناده، وهو عائذ بن شريح.
(2) أخرجه: ابن وهب في " الجامع للحديث " (246) .
(3) أخرجه: أبو محمد الأنصاري في " طبقات المحدثين بأصبهان " 3/507، والخطيب في
" تأريخ بغداد " 6/358.
(4) أخرجه: ابن أبي شيبة (35449) ، والطبري في " تفسيره " (12624) ، وطبعة التركي 11/257، وابن أبي حاتم في " التفسير " (9132) .
(5) الأنفال: 63.
(6) الحجرات: 10.(3/986)
أعظم الضرِّ الذي يجبُ كفُّه عَنِ الأَخِ المسلم الظُّلم، وهذا لا يختصُّ بالمسلم، بل هو محرَّمٌ في حقِّ كلِّ أحَدٍ، وقد سبق الكلام على الظُّلم مستوفى عندَ ذكر حديث أبي ذرِّ الإلهي: ((يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّماً، فلا تظالموا)) (1) .
ومِنْ ذلك: خِذلانُ المسلم لأخيه، فإنَّ المؤمن مأمورٌ أنْ يَنصُرَ أخاه،
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) ، قال: يا رسولَ الله، أنصُرُهُ مَظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: ((تمنعه عنِ الظُّلم، فذلك نصرُك
إيَّاه)) . خرَّجه البخاري (2) بمعناه من حديث أنس، وخرَّجه مسلم (3) بمعناه من حديث جابر.
وخرَّج أبو داود (4)
من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابرِ بن عبد الله، عن النَّبيِّ
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) في " صحيحه " 3/168 (2444) .
(3) في " صحيحه " 8/19 (2584) (62) .
(4) في " سننه " (4884) .
وأخرجه: أحمد 4/30، والبخاري في " التاريخ الكبير " 1/374، ويعقوب بن سفيان في
" المعرفة " 1/300، وفي إسناده مقال.(3/987)
- صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما مِن امرئٍ مسلمٍ يخذُلُ امرأً مسلماً في موضع تُنتَهكُ فيه حرمتُه، ويُنتقصُ فيه من عِرضه، إلاّ خذله الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتَه، وما مِن امرئٍ ينصرُ مسلماً في موضع يُنتقصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهكُ فيه من حرمته، إلاّ نصره الله في موضع يحبُّ فيه نصرَتَه)) .
وخرّج الإمام أحمد (1) من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَنْ أُذِلَّ عنده مؤمنٌ، فلم ينصُرْه وهو يقدِرُ على أن ينصُرَه، أذلَّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) .
وخرَّج البزار (2) من حديث عِمران بن حُصين، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَنْ نَصرَ أخاه بالغيب وهو يستطيعُ نصرَه، نَصَرَهُ الله في الدُّنيا والآخرة)) .
ومن ذلك: كذِبُ المسلم لأخيه، فلا يَحِلُّ له أن يُحدِّثه فيكذبه، بل لا يُحدِّثه إلاَّ صدقاً، وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن النَّوَّاس بن سمعان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كَبُرَت خِيانةً أن تُحدِّثَ أخاكَ حديثاً هو لك مصدِّقٌ وأنت به
كاذب)) .
_________
(1) في " مسنده " 3/487، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.
(2) كما في " كشف الأستار " (3315) و (3316) ، وهو معلول بالوقف والموقوف هو الصحيح كما ذكر البيهقي 8/168.
(3) المسند 4/183، وهو ضعيف.(3/988)
ومن ذلك: احتقارُ المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئٌ عن الكِبْرِ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس)) خرَّجه مسلم (1) من حديث ابن مسعود، وخرَّجه الإمام أحمد (2) ، وفي رواية له: ((الكبرُ سَفَهُ الحقِّ، وازدراءُ الناس)) ، وفي رواية: ((وغمص الناس)) (3) ، وفي رواية زيادة: ((فلا يَراهم
شيئاً))
_________
(1) في " صحيحه " 1/65 (91) (147) .
(2) في " مسنده " 1/399.
(3) في " مسنده " 1/427.
وأخرجه: أبو يعلى (5291) ، والحاكم 4/182.(3/989)
وغمص النَّاس: الطَّعنُ عليهم وازدراؤهم (1) ، وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ} (2) ، فالمتكبر ينظرُ إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النَّقصِ، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقهم، ولا أن يقبلَ مِنْ أحد منهم الحقَّ إذا أورده عليه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((التَّقوى هاهنا)) يشير إلى صدره ثلاثَ مرَّاتٍ: فيه إشارةٌ إلى أنَّ كرم الخَلْق عند الله بالتَّقوى، فربَّ من يحقِرُه الناس لضعفه، وقلَّةِ حظِّه من الدُّنيا، وهو أعظمُ قدراً عند الله تعالى ممَّن له قدرٌ في الدُّنيا، فإنَّ الناسَ إنّما يتفاوتُون بحسب التَّقوى، كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (3) ، وسئل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أكرمُ الناسِ؟ قال: ((أتقاهُم لله - عز وجل -)) (4) .
_________
(1) انظر: لسان العرب (غمص) .
(2) الحجرات: 11.
(3) الحجرات: 13.
(4) أخرجه: ابن أبي شيبة (31919) ، وأحمد 2/431، والدارمي (229) ، والبخاري 4/170 (3353) و4/216 (3490) ، ومسلم 7/103 (2378) ، والنسائي في
" الكبرى " (11249) وفي " التفسير "، له (269) عن أبي هريرة.(3/990)
وفي حديث آخر: ((الكرمُ التَّقوى)) (1) ، والتَّقوى أصلُها في القلب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) . وقد سبق ذكر هذا المعنى في الكلام على حديث أبي ذرٍّ الإلهي عند قوله: ((لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكُم وجنَّكُم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً)) (3) .
وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلا الله - عز وجل -، كما
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/10، وابن ماجه (4219) ، والترمذي (3271) ، والطبراني في
" الكبير " (6912) و (6913) ، والحاكم 2/163 و4/325 من طريق سلام بن أبي مطيع، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، به مرفوعاً، وقال الترمذي: ((حديث صحيح غريب)) ؛ لكن سلام بن أبي مطيع في روايته عن قتادة ضعف، ثمَّ إنَّ الحسن لم يسمع كل ما رواه عن سمرة.
(2) الحج: 32.
(3) سبق تخريجه، ويعني بـ (الإلهي) : القدسي.(3/991)
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله لا ينظرُ إلى صُورِكُم وأموالِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم)) (1) وحينئذ، فقد يكونُ كثيرٌ ممَّن له صورةٌ حسنةٌ، أو مالٌ، أو جاهٌ، أو رياسةٌ في الدنيا، قلبه خراباً من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءاً مِنَ التَّقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً، كما في " الصحيحين " (2) عن حارثةَ بن وهبٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ألا أُخبِرُكم بأهل الجنَّةِ: كلُّ ضعيف متضعَّفٍ، لو أقسم على الله لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهل النَّارِ: كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُستكبِرٍ)) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/285 و539، ومسلم 8/11 (2564) (34) ، وابن ماجه (4143) ، وابن حبان (394) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/98، والبغوي (4150) من حديث أبي هريرة.
(2) صحيح البخاري 6/198 (4918) ، وصحيح مسلم 8/154 (2853) (46) و (47) .(3/992)
وفي " المسند " (1) عن أنس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أمَّا أهلُ الجنَّة، فكلُّ ضعيفٍ متضعَّفٍ، أشعث، ذي طِمرين، لو أقسمَ على الله لأبرَّه؛ وأمَّا أهلُ النَّارِ، فكلُّ جَعْظَريٍّ جَوَّاظ جمَّاعٍ، منَّاعٍ، ذي تَبَع)) .
وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تحاجَّت الجنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمتكبِّرينَ والمتجبِّرين، وقالتِ الجنَّةُ: لا يدخُلُني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم، فقال الله للجنَّةِ: أنت رحمتي أرحمُ بك من أشاءُ من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي، أعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي)) .
وخرَّجه الإمام أحمد (3) من حديث أبي سعيدٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((افتخرت الجنَّةُ والنَّارُ، فقالت النار: يا ربِّ، يدخُلُني الجبابرة والمتكبِّرون والملوكُ
والأشرافُ، وقالت الجنَّةُ: يا ربِّ يدخُلُني الضُّعفاء والفقراءُ والمساكين)) وذكر الحديث.
_________
(1) 3/145، وفي سنده عبد الله بن لهيعة ضعيف، ويغني عنه الحديث السابق.
(2) صحيح البخاري 6/173 (4850) ، وصحيح مسلم 8/151 (2846) (36) .
(3) في " مسنده " 3/13 و78، وإسناده لا بأس به.(3/993)
وفي " صحيح البخاري " (1) عن سهل بن سعد، قال: مرَّ رجلٌ على
رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟)) فقالَ رجلٌ منْ أشراف الناس: هذا والله حريٌّ إنْ خطَب أنْ يُنكح، وإنْ شفع أنْ يشفَّعَ، وإن
قالَ أن يُسمَعَ لقوله، قالَ: فسكت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ مرَّ رجلٌ آخر، فقالَ لهُ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيك في هذا؟)) قال: يا رسول الله، هذا رجلٌ مِن
فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إنْ خطب أنْ لا يُنكحَ، وإن شفع أن لا يشفَّع،
وإنْ قال أنْ لا يُسمع لقوله، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا خيرٌ من ملءِ الأرض مثل
هذا)) .
وقال محمد بنُ كعب القُرَظيُّ في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (2) ، قال: تَخفِضُ رجالاً كانوا في الدُّنيا
مرتفعين، وترْفَعُ رجالاً كانوا في الدُّنيا مخفوضين.
_________
(1) 7/9 (5091) و8/118 - 119 (6447) .
(2) الواقعة: 1 - 3.(3/994)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بحسب امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يحقِرَ أخاه المسلم)) يعني: يكفيه مِنَ الشرِّ احتقارُ أخيه المسلم، فإنَّه إنَّما يحتقرُ أخاه المسلم لتكبُّره عليه، والكِبْرُ من أعظمِ خِصالِ الشَّرِّ، وفي " صحيح مسلم " (1) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((لا يدخلُ الجنَّة من في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْرٍ)) .
وفيه أيضاً (2) عنه أنَّه قال: ((العزُّ إزاره والكبر (3) ردائه، فمن نازعني عذَّبتُه)) فمنازعته الله تعالى صفاته التي لا تليقُ بالمخلوق، كفى بها شراً.
وفي " صحيح ابن حبان " (4) عن فَضالة بنِ عُبيدٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((ثلاثة لا يُسأل عنهم: رجلٌ يُنازعُ الله إزاره، ورجلٌ يُنازع الله رداءه، فإنَّ رداءه الكبرياء، وإزاره العزُّ، ورجلٌ في شكٍّ من أمر الله تعالى والقُنوطِ من رحمة الله)) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من قال: هلكَ الناسُ، فهو أهلكهم (6)) ) قال مالك: إذا قال ذلك تحزُّناً لما يرى في الناس، يعني في دينهم فلا أرى به بأساً،
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) 8/35 (2620) .
(3) في " صحيح مسلم ": ((والكبرياء)) .
(4) (4559) ، وهو حديث صحيح.
(5) 8/36 (2623) .
(6) جاء في " صحيح مسلم " عقب الحديث: ((قال أبو إسحاق: لا أدري، أهلَكَهم بالنصب أو أهلكُهم بالرفع)) ، وقال النووي في شرحه 8/347: ((روي (أهلكهم) وعلى وجهين مشهورين: رفع الكاف وفتحها، والرفع أشهر، ويؤيده أنَّه جاء في رواية رويناها في " حلية الأولياء " في ترجمة سفيان الثوري (فهو من أهلكهم) ، قال الحميدي في " الجمع بين الصحيحين ": الرفع أشهر، ومعناها أشدهم هلاكاً، وأما رواية الفتح فمعناها هو جعلهم هالكين، لا أنَّهم هلكوا في الحقيقة)) .(3/995)
وإذا قال ذلك عُجباً بنفسه، وتصاغُراً للناس، فهو المكروهُ الذي نُهي عنه. ذكره أبو داود في " سننه " (1) .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمهُ ومالُه وعِرضه)) هذا ممَّا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب به في المجامع العظيمةِ، فإنَّه خطب به في حَجَّة الوداع يومَ النَّحر، ويومَ عرفةَ، ويوم الثاني من أيَّام التَّشريق، وقال: ((إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) (2) وفي رواية للبخاري (3) وغيره: ((وأبشاركم)) .
وفي رواية: فأعادها مراراً، ثم رفع رأسه، فقالَ: ((اللَّهُمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل
_________
(1) عقيب (4983) .
(2) أخرجه: أحمد 1/230، والبخاري 2/215 - 216 (1739) وفي " خلق أفعال العباد "، له (39) و (50) عن ابن عباس.
(3) في " صحيحه " 9/63 (7078) .(3/996)
بلَّغت؟)) .
وفي رواية: ثم قال: ((ألا ليبلغِ الشاهدُ منكمُ الغائبَ)) (1) .
وفي رواية للبخاري (2) : ((فإنَّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها)) .
وفي رواية (3) : ((دماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكُم حرامٌ، مثلُ هذا اليوم، وهذا البلد إلى يوم القيامة، حتّى دفعةٌ يدفعُها مسلمٌ مسلماً يريدُ بها سوءاً حرام)) .
وفي رواية (4) قال: ((المؤمنُ حرامٌ على المؤمن، كحرمة هذا اليوم لحمُه عليه حرامٌ أنْ يأكُلَه ويغتابه بالغيب، وعِرضُه عليه حرامٌ أنْ يخرِقَه، ووجهُه عليه حرام أنْ يَلطِمَه، ودمُه عليه حرام أنْ يسفِكَه، وحرامٌ عليه أنْ يدفعه دفعةً تُعنته)) .
وفي " سنن أبي داود " (5) عن بعضِ الصَّحابة أنَّهم كانوا يسيرونَ مَعَ النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضُهم إلى حبلٍ معه، فأخذها ففزِعَ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحلُّ لمسلم أنْ يروِّع مسلماً)) .
وخرَّج أحمد (6) وأبو داود (7) والترمذي (8)
عن السَّائب بن يزيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) أخرجه: البخاري 1/26 (67) .
(2) في " صحيحه " 2/216 (1742) و8/18 (6043) و8/98 (6785) .
(3) سبق تخريجه.
(4) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (3444) و (3462) وفي " مسند الشاميين "، له
(1667) ، وفي إسناده مقال، وانظر: مجمع الزوائد 3/272.
(5) (5004) .
وأخرجه: أحمد 5/362، والقضاعي في " مسند الشهاب " (878) ، والبيهقي 10/249، وهو حديث صحيح.
(6) في " مسنده " 4/221.
(7) في " سننه " (5003) .
(8) في " جامعه " (2160) .
وأخرجه: عبد بن حميد (437) ، والبخاري في " الأدب المفرد " (241) ، والطحاوي في
" شرح المعاني " 4/243 وفي " شرح المشكل "، له (1624) ، والطبراني في " الكبير "
22/ (630) ، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) .(3/997)
قال: ((لا يأخذ أحدُكم عصا أخيه لاعباً جادّاً، فمن أخذَ عصا أخيه، فليردَّها إليه)) . قال أبو عبيد: يعني أن يأخذ شيئاً لا يريد سرقتَه، إنَّما يريدُ إدخالَ الغيظِ عليه، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة، جادٌ في إدخال الأذى والروع عليه (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن ابنِ مسعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا كنتم
ثلاثة، فلا يتناجى (3) اثنان دُونَ الثَّالث، فإنَّ ذلك يُحزِنُهُ)) ولفظه لمسلم.
وخرَّج الطبراني (4) من حديث ابنِ عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يتناجى اثنان دُونَ الثَّالث، فإنَّ ذلك يُؤذي المؤمنَ، واللهُ يكره أذى المؤمن)) .
وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث ثوبان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
_________
(1) انظر: غريب الحديث 3/67.
(2) صحيح البخاري 8/80 (6290) ، وصحيح مسلم 7/12 (2184) (37) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقيب (6288) : ((كذا للأكثر مقصورة ثابتة في الخط صورة ياء وتسقط في اللفظ لالتقاء الساكنين، وهو بلفظ الخبر ومعناه النهي. وفي بعض النسخ بجيم فقط بلفظ النهي)) .
(4) في " الأوسط " (2007) .
وأخرجه: أبو يعلى (2444) ، والحديث أعله البخاري بالإرسال في " تاريخه الكبير " 2/290 (2557) .
(5) في " مسنده " 5/279، وإسناده لا بأس به.(3/998)
((لا تؤذوا عبادَ الله، ولا تعيِّرُوهم، ولا تطلبُوا عوراتهم، فإنَّ من طلبَ عورةَ أخيه المسلمِ، طلب اللهُ عورَته حتى يفضحَهُ في بيته)) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنِ الغيبة، فقال: ((ذكرُك أخاكَ بما يكرهُ)) ، قال: أرأيت إنْ كان فيه ما أقولُ؟ فقال: ((إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبته، وإنْ لم يكن فيه ما تقولُ، فقد بهتَّه)) .
فتضمَّنت هذه النُّصوص كلُّها أنَّ المسلمَ لا يحِلُّ إيصالُ الأذى إليه بوجهٍ مِنَ الوجوهِ من قولٍ أو فعلٍ بغير حقٍّ، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (2) .
وإنَّما جعلَ اللهُ المؤمنين إخوةً ليتعاطفوا ويتراحموا، وفي " الصحيحين " (3) عن النعمان بن بشير، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم، مَثَلُ الجسدِ، إذا اشتكي منه عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهر)) .
وفي رواية لمسلم (4) : ((المؤمنون كرجلٍ واحدٍ، إنِ اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) .
وفي رواية له أيضاً (5) :
_________
(1) 8/21 (2589) (70) .
(2) الأحزاب: 58.
(3) صحيح البخاري 8/11 (6011) ، وصحيح مسلم 8/20 (2586) (66) .
(4) في " صحيحه " 8/20 (2586) (67) .
(5) 8/20 (2586) (67) .(3/999)
((المسلمون كرجلٍ واحد إنِ اشتكى عينُه، اشتكى كلُّه، وإنِ اشتكى رأسُه، اشتكى كلُّه)) .
وفيهما (1) عن أبي موسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المؤمن للمؤمن كالبُنيان، يشدُّ بعضُه بعضاً)) .
وخرَّج أبو داود (2) من حديث أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المؤمن مرآةُ المؤمنِ، المؤمنُ أخو المؤمنِ، يكفُّ عنه ضيعتَه، ويحوطُه من ورائِه)) . وخرَّجه الترمذي (3) ، ولفظه: ((إنَّ أحدَكُم مرآةُ أخيه، فإنْ رأى به أذى، فليُمطه عنه)) .
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: اجعل كبيرَ المسلمين عندَك أباً، وصغيرهم ابناً، وأوسَطَهم أخاً، فأيُّ أولئك تُحبُّ أنْ تُسيء إليه (4) ؟ ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي: ليكن حظُّ المؤمن منك ثلاثة: إنْ لم تنفعه، فلا تضرَّه، وإنْ لم تُفرحه، فلا تَغُمَّه، وإنْ لم تمدحه فلا تَذُمَّه.
_________
(1) صحيح البخاري 1/129 (481) و3/169 (2446) و8/14 (6026) ، وصحيح مسلم 8/20 (2585) (65) .
(2) في " سننه " (4918) ، وإسناده لا بأس به.
(3) في "جامعه" (1929) ، وضعف الحديث بقوله عقبه: ((ويحيى بن عبيد الله ضعفه شعبة)) .
(4) أخرجه: الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 8/429.(3/1000)
الحديث السادس والثلاثون
عَنْ أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ، يَسَّرَ الله عَليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً، سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرة، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْد ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخيهِ، ومَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلتَمِسُ فِيه عِلماً، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَريقاً إلى الجَنَّةِ، وما جَلَسَ قَومٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله، ويَتَدارَسُونَه بَينَهُم، إلاَّ نَزَلَتْ عليهِمُ السَّكينَةُ، وغَشِيتْهُمُ الرَّحمَةُ، وحَفَّتْهُم المَلائكَةُ، وذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ، ومَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لم يُسرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)) رواهُ مسلمٌ.
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1) من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، واعترض عليه غيرُ واحدٍ مِنَ الحفَّاظ في تخريجه، منهم أبو الفضل الهروي والدارقطني (2) ، فإنَّ أسباط بن محمَّد رواه عن الأعمَش (3) ؛
قال: حُدِّثْتُ عن أبي صالح، فتبيَّن أنَّ الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه به عنه، ورجَّح التّرمذي (4) وغيره هذه الرواية،
_________
(1) في " صحيحه " بهذا اللفظ 8/71 (2699) (38) .
وأخرجه: أحمد 2/252 و325 و406، وأبو داود (4946) ، وابن ماجه (225) ، والترمذي (1425) و (2945) ، والنسائي في " الكبرى " (7272) و (7288)
و (7289) . ...
(2) لم يتكلم عليه في "التتبع"، وإنما تكلم عليه في كتابه "العلل" 10/181 - 188 (1966) .
(3) أخرجه: أبو داود (4946) ، والترمذي (1425م) ، (1930) ، والنسائي في
" الكبرى " (7290) .
(4) في " جامعه " عقب الحديث (1425) ، وقال: ((حديث أسباط أصح)) .(3/1001)
وزاد بعضُ أصحاب الأعمش في متن
الحديث: ((ومن أقال مسلماً أقال الله عثرتَه(3/1002)
يومَ القيامة)) (1) .
وخرجا في " الصحيحين " (2) من حديث ابن عمرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه، ولا يُسْلِمُه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّجَ عن مسلم، فرَّج الله عنه كُربةً مِنْ كُرَب يومِ القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) .
وخرَّج الطبراني (3) من حديث كعب بن عُجرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً مِنْ كُرَبِهِ، نفَّس اللهُ عنهُ كُربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن ستر على مؤمن عورته، ستر الله عورتَه، ومن فرَّج عن مؤمن كُربةً، فرَّج الله عنه كُربته)) .
وخرَّج الإمام أحمد (4) من حديث مسلمة بن مُخلَّدٍ (5) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((من ستر مسلماً في الدنيا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة، ومن نجَّى مَكروباً، فكَّ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في
حاجته)) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدُّنيا، نفَّس الله عنه كُربة من كرب يوم القيامة))
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/252، وأبو داود (3460) ، وابن ماجه (2199) ، وابن حبان
(5030) عن أبي صالح عن الأعمش، به.
(2) صحيح البخاري 3/168 (2442) و9/28 (6951) ، وصحيح مسلم 8/18
(2580) (58) .
وأخرجه: أحمد 2/91، وأبو داود (4893) ، والترمذي (1426) ، والنسائي في
" الكبرى " (7291) ، وابن حبان (533) .
(3) في " الكبير " 19/ (350) وفي " الأوسط "، له (5649) ، وإسناده ضعيف. وانظر: مجمع الزوائد 8/193.
(4) في " مسنده " 4/104، وفي إسناده مقال؛ لكن قال الذهبي في " السير " 6/335: ((هذا حديث جيد الإسناد)) ، ولعله قال ذلك لما له من الشواهد.
(5) مَسْلَمة بن مُخَلَّد، بتشديد اللام، الأنصاري الزرقي، صحابيٌّ صغير سكن مصر، ووليها مرةً، مات سنة اثنتين وستين. التقريب (6666) .(3/1003)
هذا يرجعُ إلى أنَّ الجزاءَ من جنس العمل، وقد تكاثرت النُّصوصُ بهذا المعنى، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما يرحم الله من عِباده الرُّحماء)) (1) ، وقوله: ((إنَّ الله يعذِّب الَّذين يُعذِّبونَ النَّاس في الدُّنيا)) (2) .
والكُربة: هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكَرب، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها، مأخوذٌ مِنْ تنفيس الخناق، كأنه يُرخى له الخناق حتَّى يأخذ نفساً، والتفريجُ أعظمُ منْ ذلك، وهو أنْ يُزيلَ عنه الكُربةَ، فتنفرج عنه كربتُه، ويزول همُّه وغمُّه، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ، وجزاءُ التَّفريجِ التَّفريجُ،
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/204 و205، والبخاري 2/100 (1284) و7/151 (5655) و8/166 (6657) و9/141 (7377) و164 (7448) ، ومسلم 3/39 (923)
(11) ، وأبو داود (3125) ، وابن ماجه (1588) من حديث أسامة بن زيد.
(2) أخرجه: مسلم 8/32 (2613) (119) ، وأبو داود (3045) من حديث هشام بن حكيم بن حزام.(3/1004)
كما في حديث ابن عمر، وقد جُمعُ بينهما في حديثِ كعبِ بن عُجرة.
وخرَّج الترمذي (1) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((أيما مُؤْمِنٍ أطعمَ مؤمناً على جُوعٍ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ، سقاه الله يومَ القيامة من الرَّحيق المختوم (2) ، وأيما مؤمنٍ كسا مؤمناً على عُري، كساه الله من خضر الجنة)) . وخرَّجه الإمام أحمد (3) بالشكّ في رفعه، وقيل: إنَّ الصحيح وقفه (4) .
وروى ابن أبي الدنيا (5) بإسناده عن ابن مسعود قال: ((يُحشر الناسُ يوم القيامة أعرى ما كانوا قطُّ، وأجوعَ ما كانوا قطُّ، وأظمأَ ما كانوا قطُّ، وأنصبَ ما كانوا قط، فمن كسا للهِ - عز وجل -، كساه الله، ومن أطعم لله - عز وجل -، أطعمه الله، ومن سقى لله - عز وجل -، سقاه الله، ومن عفى لله - عز وجل -، أعفاه الله)) .
وخرَّج البيهقي (6) من حديث أنس مرفوعاً: ((أنَّ رجلاً من أهل الجنَّةِ يُشرف يومَ القيامة على أهلِ النَّارِ، فيُناديه رجلٌ من أهلِ النّار، يا فلان، هل تعرفني؟ فيقول: لا والله ما أعرِفُك، من أنت؟ فيقول: أنا الذي مررتَ بي في دار الدُّنيا، فاستسقيتني شَربةً من ماءٍ، فسقيتُك، قال: قد عرفتُ، قال: فاشفع لي بها عند ربِّك، قال: فيسأل الله - عز وجل -، ويقول: شفِّعني فيه، فيأمر به، فيُخرجه من النار)) .
وقوله: ((كُربة من كُرَبِ يوم القيامة)) ، ولم يقل: ((من كُرب الدُّنيا والآخرة)) كما قيل في التَّيسير والسَّتر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إنَّ الكُرَبَ هي الشَّدائدُ العظيمة، وليس كلّ أحد يحصُلُ له ذلك في الدُّنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر، فإنَّ
_________
(1) في " جامعه " (2449) .
وأخرجه: أبو داود (1682) ، وأبو يعلى (1111) .
(2) الرحيق: من أسماء الخمر، يريد خمر الجنة، والمختوم: المصون الذي يبتذل لأجل ختامه. النهاية 2/208.
(3) في " مسنده " 3/13.
(4) قال الترمذي عقب الحديث (2449) : ((هذا حديث غريب وقد روي عن عطية، عن أبي سعيد موقوفاً وهو أصح عندنا وأشبه)) .
وقال أبو حاتم كما في " العلل " لابنه (2007) : ((الصحيح موقوف الحفاظ لا يرفعونه)) .
(5) في " اصطناع المعروف " (83) ، ورواه أيضاً في " قضاء الحوائج " (30) .
(6) في "شعب الإيمان" (7687) ، وطبعة الرشد (7283) بنحو هذا اللفظ، أما بهذا اللفظ؛ فأخرجه: أبو يعلى في " مسنده " (3490) ، وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب "
(1401) ، وهو حديث ضعيف.(3/1005)
أحداً لا يكادُ يخلو في الدُّنيا من ذلك، ولو بتعسُّر بعض الحاجات المهمَّة. وقيل: لأنَّ كُرَبَ الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلا شيءٍ، فادَّخر الله جزاءَ تنفيسِ الكُرَبِ عندَه، لينفِّسَ به كُرَب الآخرة، ويدلُّ على ذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يجمع الله الأوَّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ، فيسمَعُهُم الدَّاعي، وينفُذُهُم البصر، وتدنو الشَّمسُ منهم، فيبلُغُ النَّاسُ من الغمِّ والكرب ما لا يُطيقون ولا يحتملون، فيقول الناسُ بعضُهم لبعض: ألا ترونَ ما قد بلغكُم؟ ألا تنظرون من يشفعُ لكم إلى ربِّكم؟)) ، وذكر حديثَ الشفاعة، خرّجاه (1) بمعناه من حديث أبي هريرة.
وخرَّجا (2) من حديث عائشة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تُحشرون حُفاةً عُراةً غُرْلاً)) ، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، الرِّجال والنِّساءُ ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ؟ قال: ((الأمرُ أشدُّ من أن يُهِمَّهم ذلك)) .
وخرَّجا (3) من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) ، قال: ((يقومُ أحدُهم في الرَّشح إلى أنصاف أذنيه)) .
_________
(1) البخاري في " صحيحه " 4/163 (3340) و172 (3361) و6/105 (4712) ، ومسلم في " صحيحه " 1/127 (194) (327) .
(2) البخاري في " صحيحه " 8/136 (6527) ، ومسلم في " صحيحه " 8/156 (2859) (56) .
(3) البخاري في " صحيحه " 6/207 (4938) و8/138 (6531) ، ومسلم في " صحيحه " 8/157 (2862) (60) .
(4) المطففين: 6.(3/1006)
وخرَّجا (1) من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يَعْرَقُ النَّاسُ يومَ
القيامةِ حتّى يذهب عرَقُهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويُلجِمُهُم حتّى يبلغَ آذانهم)) ولفظه للبخاري، ولفظ مسلم: ((إنَّ العرق ليذهبُ في الأرض سبعين باعاً، وإنّه ليبلغ إلى أفواهِ النّاس، أو إلى آذانهم)) .
وخرَّج مسلم (2) من حديث المقداد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تدنُو الشَّمسُ مِنَ العباد حتَّى تكون قدرَ ميلٍ أو ميلين، فتصهرُهم الشَّمسُ، فيكونون في العَرَقِ كقدر أعمالهم، فمنهم مَنْ يأخذُه إلى عَقِبَيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ، ومنهم من يُلجمه إلجاماً)) .
وقال ابن مسعود: الأرضُ كلُّها يومَ القيامةِ نارٌ، والجنَّةُ من ورائها ترى أكوابها وكواعبها، فيعرَقُ الرَّجلُ حتَّى يرشَح عرقُه في الأرض قدرَ قامةٍ، ثمَّ يرتفعُ حتّى يبلغَ أنفه،
_________
(1) صحيح البخاري 8/138 (6532) ، وصحيح مسلم 8/158 (2863) (61) .
(2) في " صحيحه " 8/158 (2864) (62) .(3/1007)
وما مسَّه الحسابُ، قال: فمم ذاك يا أبا عبد الرحمان؟ قال: ممَّا يرى النَّاس يُصنَعُ بهم (1) .
وقال أبو موسى: الشَّمسُ فوق رؤوسِ النَّاس يومَ القيامة، فأعمالهم تُظِلُّهم أو تضحِيهم (2) .
وفي " المسند " (3) من حديث عُقبة بن عامرٍ مرفوعاً: ((كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتّى يُفصَلَ بينَ الناسَ)) .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن يسَّر على مُعسِرٍ، يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة)) . هذا أيضاً يدلُّ على أنَّ الإعسار قد يحصُل في الآخرة، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنّه يومٌ عسير وأنّه على الكافرين غيرُ يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، وقال:
{وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} (4) .
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إمّا بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجبٌ، كما قال تعالى: {وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (5) ، وتارةً بالوضع عنه إن كان غريماً، وإلاّ فبإعطائه ما يزولُ به إعسارُه، وكلاهما له فضل عظيم.
وفي " الصحيحين " (6)
عن أبي هُريرة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كان تاجرٌ يُداينُ النَّاسَ، فإذا رأى معسراً، قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلَّ الله أنْ يتجاوزَ عنّا،
_________
(1) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (15840) ، وطبعة التركي 13/733.
(2) أخرجه: هناد في " الزهد " (331) موقوفاً.
وذكره الدارقطني في " العلل " 7/248 س (1325) مرفوعاً، وقال: ((يرويه الأعمش، عن أبي ظبيان واختلف عنه فرفعه عبيد بن يعيش، عن أسباط، عن الأعمش، وقفَهُ أبو معاوية وأصحاب الأعمش، عن الأعمش، وهو الصواب)) .
(3) أحمد 4/147 - 148، وهو حديث صحيح.
(4) الفرقان: 26.
(5) البقرة: 280.
(6) صحيح البخاري 3/75 (2078) و4/214 (3480) ، وصحيح مسلم 5/33
(1562) (31) .(3/1008)
فتجاوز الله عنه)) .
وفيهما عن (1) حُذيفة وأبي مسعود الأنصاري سمعا النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مات رجل فقيل له (2) ، فقال: كنتُ أبايعُ النَّاس، فأتجاوزُ عَن المُوسِر، وأُخَفِّفُ عنِ المُعسِرِ)) وفي رواية، قال: كنتُ أُنظِرُ المعسِرَ، وأتجوَّزُ في السِّكَّة، أو قال: في النَّقد، فغُفِرَ له)) . وخرَّجه مسلم (3) من حديث أبي مسعود عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديثه: ((فقال الله: نحنُ أحقُّ بذلك منه، تجاوزوا عنه)) .
وخرَّج أيضاً (4) من حديث أبي قتادةَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من سرَّه أن يُنجيَه الله مِنْ كُرَب يومِ القيامة، فلينفس عن مُعسرٍ، أو يضعْ عنه)) .
وخرَّج أيضاً (5) من حديث أبي اليَسَر، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أنظر معسراً، أو وضع عنه، أظلَّه الله في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه)) .
وفي " المسند " (6) عن ابنِ عمرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أراد أنْ تُستجاب دعوته، وتُكشفَ كُربَتُه، فليفرِّجْ عن مُعسِرٍ)) .
_________
(1) صحيح البخاري 3/153 (2391) ، وصحيح مسلم 5/32 (1560) (27) و (28) .
(2) بعد هذه الكلمة في نسخة محمد عبد الرزاق ونسخة عصام الدين ونسخة البقاعي: ((بم غفر الله لك؟)) وفي صحيح مسلم: ((ما كنت تعمل؟ قال: فإما ذكر وإما ذُكّرَ)) .
(3) في " صحيحه " 5/33 (1561) (30) .
(4) في " صحيحه " 5/33 (1563) (32) و34 (1563) (32) .
(5) في " صحيحه " 8/231 (3006) (74) .
(6) مسند الإمام أحمد 2/23، وإسناده ضعيف لانقطاعه ولضعف أحد رواته.(3/1009)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن سَتَرَ مُسلماً، ستره الله في الدُّنيا والآخرة)) . هذا مما تَكاثرتِ النُّصوص بمعناه. وخرَّج ابن ماجه (1) من حديث ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من ستر عورةَ أخيه المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة، ومن كشفَ عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتّى يفضحه بها في بيته)) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث عقبة بن عامر سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقول:
((من ستر مؤمناً في الدنيا على عورةٍ، ستره الله - عز وجل - يوم القيامة)) .
_________
(1) في " سننه " (2546) ، وفي إسناده ضعف لكن تقدمت له الشواهد.
(2) في " مسنده " 4/153 و159، وفي إسناده مقال.(3/1010)
وقد رويَ عن بعض السَّلف أنَّه قال: أدركتُ قوماً لم يكن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوباً، وأدركتُ أقواماً كانت لهم عيوبٌ،
فكفُّوا عن عُيوب الناس، فنُسِيَت عيوبهم (1) ، أو كما قال.
وشاهد هذا حديث أبي بَرْزَةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: ((يا معشرَ من آمن
بلسانه، ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تتبعُوا عوراتهم، فإنَّه منِ اتَّبَع عوراتهم، تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته، يفضحه في بيته)) خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود (2) ، وخرَّج الترمذي (3) معناه من حديث ابن عمر.
واعلم أنَّ النَّاس على ضربين:
أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي، فإذا وقعت منه هفوةٌ، أو
_________
(1) أخرجه: الجرجاني في " تأريخ جرجان " 1/251 ترجمة (406) عن أحمد بن الحسن بن هارون. انظر: الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي (4830) .
(2) أحمد 4/420 و424، وأبو داود (4880) ، وهو حديث قويٌّ.
(3) في " جامعه " (2032) .(3/1011)
زلَّةٌ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها، ولا هتكُها، ولا التَّحدُّث بها، لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوصُ، وفي ذلك قد قال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (1) . والمراد: إشاعةُ الفَاحِشَةِ على المؤمن المستتر فيما وقع منه، أو اتُّهِمَ به وهو بريء منه، كما في قصَّة الإفك. قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرُ بالمعروف: اجتهد أن تستُرَ العُصَاةَ، فإنَّ ظهورَ معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً، وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْهُ، لم يُستفسر، بل يُؤمَر بأنْ يرجع ويستُر نفسه، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية (2) ، وكما لم يُستفسر الذي قال: ((أصبتُ حدّاً، فأقمه عليَّ)) (3) . ومثلُ هذا لو أخذَ بجريمته، ولم يبلغِ الإمامَ، فإنَّه يُشفع له حتّى لا يبلغ الإمام. وفي مثله جاء الحديثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) . خرَّجه أبو داود والنَّسائي مِن حديث عائشة (4) .
والثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي، معلناً بها لا يُبالي بما ارتكبَ منها، ولا بما قيل له فهذا هو الفاجرُ المُعلِنُ، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسنُ البصريُّ (5) وغيره،
_________
(1) النور: 19.
(2) أخرجه: مسلم 5/119 (1695) (22) و120 (1695) (23) .
(3) هو ماعز بن مالك، وهذا الحديث أخرجه: مسلم في " صحيحه " 5/118 (6194)
(20) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) أخرجه: أبو داود (4375) ، والنسائي في " الكبرى " (7294) - (7298) .
وأخرجه: أحمد 6/181، والبخاري في "الأدب المفرد" (465) ، وابن حبان (1520) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/43، والبيهقي 8/334 من حديث عائشة، وهو حديث يتقوى بما له من طرق وشواهد.
(5) ذكر رجل عند الحسن فنال منه فقيل له: يا أبا سعيد ما نراك إلا اغتبت الرجل، فقال: أي لكع هل عبت من شيء فيكون غيبة. أيما رجل أعلن بالمعاصي ولم يكتمها كان ذكركم إياه حسنة لكم، وأيما رجل عمل بالمعاصي فكتمها الناس كان ذكركم إياه غيبته.
أخرجه: الإسماعيلي في " معجم شيوخه " (263) ، والسمهمي في " تأريخ جرجان " 1/115، والبيهقي في " شعب الإيمان " (9668) عن يونس، عن الحسن.(3/1012)
ومثلُ هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لِتُقامَ عليه الحدودُ. صرَّح بذلك بعضُ أصحابنا، واستدلَّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((واغدُ يا أُنيس على امرأةِ هذا، فإنِ اعترفت، فارجُمها)) (1) . ومثلُ هذا لا يُشفَعُ له إذا أُخِذَ، ولو لم يبلغِ السُّلطان، بل يُترك حتّى يُقامَ عليه الحدُّ لينكفَّ شرُّه، ويرتدعَ به أمثالُه. قال
مالك: من لم يُعْرَفْ منه أذى للناس، وإنَّما كانت منه زلَّةٌ، فلا بأس أنْ يُشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ أو فسادٍ، فلا أحبُّ أنْ يشفعَ له أحدٌ، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحدُّ، حكاه ابن المنذر وغيره (2) .
وكره الإمام أحمد رفعَ الفسَّاق إلى السلطان بكلِّ حالٍ، وإنَّما كرهه؛ لأنَّهم غالباً لا يُقيمون الحدودَ على وجهها، ولهذا قال: إنْ علمتَ أنَّه يقيمُ عليه الحدَّ فارفعه، ثم ذكر أنَّهم ضربوا رجلاً، فمات: يعني لم يكن قتلُه جائزاً.
ولو تاب أحدٌ مِنَ الضَّرب الأوَّل، كان الأفضلُ له أن يتوبَ فيما بينه وبين الله تعالى، ويستر على نفسه.
_________
(1) أخرجه: البخاري 3/134 (2314) و (2315) ، ومسلم 5/121 (1697)
و (1698) (25) .
(2) انظر: المغني لابن قدامة 10/288.(3/1013)
وأما الضربُ الثاني، فقيل: إنَّه كذلك، وقيل: بل الأولى له أنْ يأتيَ الإمامَ، ويقرَّ على نفسه بما يُوجِبُ الحدَّ حتى يطهِّرَه.
قوله: ((والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه)) وفي حديث ابن عمر: ((ومن كان في حاجةِ أخيه، كان الله في حاجته)) . وقد سبق في
شرح الحديث الخامس والعشرين والسادس والعشرين فضلُ قضاءِ الحوائجِ والسَّعي فيها. وخرَّج الطبراني (1) من حديث عمر مرفوعاً: ((أفضلُ الأعمال إدخالُ السُّرور على المؤمن: كسوت عورته، أو أشبعت جَوْعَتُه، أو قضيت له
حاجة)) .
وبعث الحسنُ البصريُّ قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مرُّوا بثابت البناني، فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمش أما تعلم أنَّ مشيك في حاجةِ أخيك المسلم خير لك مِنْ حجة بعد حَجَّةٍ؟ فرجعوا إلى ثابتٍ، فترك اعتكافه، وذهب
معهم (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث ابنةٍ لخبَّاب بن الأرت (4) ، قالت: خرج خبَّاب في سريَّةٍ، فكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدُنا حتى يحلُب عنْزةً لنا في جَفْنَةٍ لنا، فتمتلئ حتّى تفيضَ، فلمَّا قدم خبَّابٌ حلبَها، فعادَ حِلابها إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - يحلبُ للحيِّ أغنامهم، فلمَّا استخلف، قالت جاريةٌ منهم: الآن لا يحلُبُها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما
_________
(1) في " الأوسط " (5081) ، وإسناده ضعيف، انظر: مجمع الزوائد 3/133.
(2) انظر: فيض القدير للمناوي (8961) .
(3) في " مسنده " 5/111 و6/372، وإسناده ضعيف.
(4) هي زينب بنت خباب بن الأرت التميمية. الإصابة (11223) .(3/1014)
دخلتُ فيه عن شيءٍ كنتُ أفعلُه، أو كما قال (1) .
وإنَّما كانوا يقومون بالحِلاب؛ لأنَّ العربَ كانت لا تَحلُبُ النِّساءُ منهم، وكانوا يستقبحون ذلك، فكان الرجالُ إذا غابوا، احتاج النساءُ إلى من يحْلُبُ لهنَّ. وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لقوم (2) : ((لا تسقوني حَلَبَ امرأةٍ)) (3) .
وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل، ورآه طلحةُ بالليل يدخلُ بيتَ امرأةٍ، فدخلَ إليها طلحةُ نهاراً، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ، فسألها: ما يصنعُ هذا الرَّجلُ عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يُصلِحُني، ويخرج عنِّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمُّكَ طلحةُ، عثراتِ عمر تتبع؟ (4)
وكان أبو وائل يطوفُ على نساء الحيِّ وعجائزهم كلَّ يوم، فيشتري لهنَّ حوائجهنّ وما يُصلِحُهُنَّ.
وقال مجاهد: صحبتُ ابنَ عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدُمُني (5) .
وكان كثيرٌ من الصَّالِحين يشترطُ على أصحابه في السفر أنْ يخدُمَهم. وصحب رجلٌ قوماً في الجهاد، فاشترط عليهم أنْ يخدُمَهم، فكان إذا أرادَ أحدٌ منهم أنْ يغسل رأسه أو ثوبه، قال: هذا من شرطي، فيفعله، فمات فجرَّدوهُ للغسل، فرأَوا على يده مكتوباً: من أهل الجنَّة، فنظروا، فإذا هي كتابةٌ بين الجلد واللحم.
وفي " الصحيحين " (6) عن أنس، قال: كنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السَّفر،
فمنَّا الصّائم، ومنا المفطرُ، قال: فنَزلنا منْزلاً في يومٍ حارٍّ، أكثرنا ظلاًّ صاحبُ الكساءِ، ومنَّا من يتَّقي الشَّمسَ بيده، قال: فسقط الصُّوَّام، وقام المفطرون، وضربُوا الأبنية، وسَقوا الرِّكابَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذهب المفطرونَ اليومَ بالأجرِ)) .
_________
(1) انظر: الطبقات لابن سعد 3/138 - 139، وصفة الصفوة لابن الجوزي 1/107.
(2) سقطت من (ص) .
(3) أخرجه: ابن سعد في " طبقاته " 6/115 عن ابن أبي شيخ المحاربي مرفوعاً.
وأخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (2903) ، وهو حديث ضعيف لا يصح.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/47 - 48.
(5) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/285 - 286.
(6) صحيح البخاري 4/42 (2890) ، وصحيح مسلم 3/143 (1119) (100) و144 (1119) (101) .(3/1015)
ويُروى عن رجلٍ من أسلم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بطعامٍ في بعض أسفاره، فأكل منه وأكل أصحابُهُ، وقبض الأسلميُّ يده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مالك؟)) فقال: إنِّي صائمٌ، قال: ((فما حملَك على ذلك؟)) قال: معي ابناي يرحلان لي ويخدُماني، فقال: ((مازال لهُمُ الفضلُ عليك بعدُ)) (1) .
وفي " مراسيل أبي داود " (2) عن أبي قِلابة أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِموا يُثنونَ على صاحبٍ لهم خيراً، قالوا: ما رأينا مثلَ فلانٍ قطُّ، ما كان في مسيرٍ إلاَّ كان في قراءةٍ، ولا نزلنا منْزلاً إلاَّ كان في صلاةٍ، قال: ((فمن كان يكفيه ضيعته (3) ؟)) حتى ذكر: ((ومن كان يعلِف جمله أو دابَّته؟)) قالوا: نحن، قال: ((فكلُّكم خيرٌ منه)) .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيهِ علماً، سهَّل الله لهُ به طريقاً إلى
الجنَّة)) ، وقد روى هذا المعنى أيضاً أبو الدرداء عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4) ، وسلوكُ الطَّريقِ لالتماس العلم يدخُلُ فيه سلوكُ الطَّريق الحقيقيِّ، وهو المشيُ بالأقدام إلى مجالسِ العلماء، ويدخلُ فيه سلوكُ الطُّرُق المعنويَّة المؤدِّية إلى حُصولِ العلمِ، مثل حفظه، ودارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهُّم له، ونحو ذلك مِنَ الطُّرق المعنوية التي يُتوصَّل بها إلى العلم.
وقوله: ((سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة)) ، قد يُراد بذلك أنَّ الله يسهِّلُ له العلمَ الذي طلبَه، وسلك طريقه، وييسِّرُه عليه، فإنَّ العلمَ طريق موصلٌ إلى الجنَّة،
_________
(1) لم أقف عليه.
(2) المراسيل (306) ، وكذا رواه سعيد بن منصور في " سننه " (2919) ، وإسناده ضعيف لإرساله.
(3) أي: حاجته.
(4) أخرجه: أحمد 5/196، وأبو داود (3641) و (3642) ، وابن ماجه (223) ، والترمذي (2682) ، وابن حبان (88) ، وقال الترمذي: ((لا نعرف هذا الحديث إلاّ من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل)) .(3/1016)
وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) . وقال بعض السَّلف (2) : هل من طالبِ علمٍ فيعانَ عليه؟
وقد يُراد أيضاً: أنَّ الله يُيسِّرُ لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله الانتفاعَ به والعملَ بمقتضاه، فيكون سبباً لهدايته ولدخولِ الجنَّة بذلك.
وقد يُيَسِّرُ الله لطالبِ العلم علوماً أُخَرَ ينتفع بها، وتكونُ موصلة إلى الجنَّة، كما قيل: من عَمِلَ بما عَلِمَ، أورثه الله علم ما لم يعلم (3) ، وكما قيل: ثوابُ الحسنة الحسنة بعدَها (4) ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تعالى: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} (5) ، وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (6) .
وقد يدخل في ذلك أيضاً تسهيلُ طريق الجنَّة الحِسيِّ يومَ القيامة - وهو الصِّراط - وما قبله وما بعدَه من الأهوال، فييسر ذلك على طالب العلم للانتفاع
به، فإنَّ العلم يدلُّ على الله مِنْ أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقَه، ولم يُعرِّجْ عنه، وصل إلى الله تعالى وإلى الجنَّةِ مِنْ أقرب الطُّرق وأسهلها فسَهُلَت عليه الطُّرُق الموصلةُ إلى الجنَّة كلها في الدنيا والآخرة، فلا طريقَ إلى معرفة الله، وإلى الوصول إلى رضوانه، والفوزِ بقربه، ومجاورته في الآخرة إلاَّ بالعلم النَّافع الذي بعثَ الله به رُسُلَه، وأنزل به كتبه، فهو الدَّليل عليه، وبه يُهتَدَى في ظُلماتِ الجهل
والشُّبَهِ والشُّكوك، ولهذا سمّى الله كتابه نوراً؛ لأنّه يُهتَدَى به في الظُّلمات. قال
الله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} (7) .
ومثل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَلَةَ العلم الذي جاء به بالنُّجوم التي يُهتدى بها في الظُّلمات،
_________
(1) القمر: 17.
(2) هو مطر الوراق.
أخرجه: الطبري في " تفسيره " (25357) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/76.
(3) انظر: فيض القدير للمناوي 4/510 - 511، وكشف الخفاء للعجلوني 2/347.
(4) انظر: تفسير ابن كثير (ط. دار ابن حزم) : 412 و1669 و2002.
(5) مريم: 76.
(6) محمد: 17.
(7) المائدة: 15 - 16.(3/1017)
ففي " المسند " (1) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ مثلَ العُلَماءِ في الأرض كمثلِ النُّجوم في السَّماء، يُهتدى بها في ظُلُمات البرِّ والبحرِ، فإذا انطمست النُّجوم، أوشك أن تَضِلَّ الهُداة)) .
وما دام العلمُ باقياً في الأرض، فالنَّاس في هُدى، وبقاءُ العلم بقاءُ
حَمَلَتِهِ، فإذا ذهب حملتُه ومَنْ يقومُ به، وقع الناسُ في الضَّلال، كما في
" الصحيحين " (2) عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله لا
يقبِضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعُه مِنْ صُدورِ الناسِ، ولكن يقبضُه بقبض العُلماء، فإذا لم يَبقَ (3) عالِمٌ، اتَّخذ الناسُ رؤساءَ جُهّالاً، فسئِلوا، فأفتَوا بِغيرِ عِلمٍ، فضلُّوا
وأضلُّوا)) .
وذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً رفع العلم، فقيل له: كيف يذهبُ العلم وقد
قرأنا القرآن، وأقرأناه نساءنا وأبناءنا؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((هذه التَّوراة والإنجيلُ
عندَ اليهود والنَّصارى، فماذا تُغني عنهم؟)) فسئل عبادةُ بن الصَّامت عن
هذا الحديث، فقال: لو شئت لأخبرتُك بأوَّلِ علمٍ يرفع مِنَ الناس
:
الخشوع (4) ، وإنَّما قال عُبادة هذا، لأنَّ العلم قسمان:
أحدهما: ما كان ثمرتُه في قلبِ الإنسان، وهو العلمُ بالله تعالى، وأسمائه،
وصفاته، وأفعاله المقتضي لخشيتِهِ، ومهابتِه، وإجلالِه، والخضوع له، ولمحبَّتِه،
ورجائهِ، ودعائه، والتوكُّل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلمُ النافع، كما قال ابنُ مسعود: إنَّ أقواماً يقرءون القرآن لا يُجاوُزِ تراقيهم، ولكن إذا وقع
_________
(1) مسند الإمام أحمد 3/157.
وأخرجه: الرامهرمزي في " الأمثال " (51) ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/70، وهو حديث ضعيف مسلسل بالضعفاء، وانظر: مجمع الزوائد 1/121.
(2) صحيح البخاري 1/36 (100) و9/123 (7307) ، وصحيح مسلم 8/60 (2673) (13) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقيب (100) : ((هو بفتح الياء والقاف، وللأصيلي بضم أوله وكسر القاف، وعالماً منصوب أي: لم يبق الله عالماً. وفي رواية مسلم: حتى إذا لم يترك عالماً)) .
(4) أخرجه: الدارمي (294) ، والترمذي (2653) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
(304) ، والحاكم 1/99 عن أبي الدرداء، به.
وأخرجه: أحمد 6/26 - 27، والبخاري في " خلق أفعال العباد " (42) ، والنسائي في
" الكبرى " (5909) عن عوف بن مالك.
وأخرجه: أحمد 4/160 و218 و219، وابن ماجه (4048) ، والحاكم 1/100 عن زياد بن لبيد الأنصاري.
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " (7183) عن شداد بن أوس.
وقال الترمذي: ((حسن غريب)) .(3/1018)
في القلب، فرسخ فيه، نفع (1) .
وقال الحسنُ: العلم علمان: علمٌ على اللسان، فذاك حُجَّة الله على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النافع (2) .
والقسم الثاني: العلمُ الذي على اللِّسَانِ، وهو حجَّةُ الله كما في الحديث:
((القرآن حجة لك أو عليك)) (3) ، فأوَّلُ ما يُرفعُ مِنَ العلم، العلمُ النَّافع، وهو العلم الباطنُ الذي يُخالِطُ القلوبَ ويُصلحها، ويبقى علمُ اللِّسان حجَّةً، فيتهاونُ الناسُ به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حملتُه ولا غيرهم، ثم يذهبُ هذا العلم بذهاب حَمَلتِه، فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف، وليس ثَمَّ من يعلمُ معانيه، ولا حدوده، ولا أحكامه، ثمَّ يسرى به في آخر الزمان، فلا يبقى في المصاحف ولا في القُلوب منه شيءٌ بالكلِّيَّةِ، وبعد ذلك تقومُ السَّاعة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقومُ السَّاعة إلاَّ على شرارِ الناس)) (4) ، وقال: ((لا تقومُ الساعةُ (5) وفي الأرض أحدٌ يقول: الله
الله)) (6) .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله، يتلونَ كتابَ الله، ويتدارسونه
_________
(1) أخرجه: أحمد 1/380، ومسلم 2/204 (822) (375) ، وابن خزيمة (538) ، والبيهقي 3/9.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (34361) ، والحسين المروزي في زياداته على " الزهد " لابن المبارك (1161) ، وأبو الشيخ في " طبقات المحدثين بأصبهان " 4/101 (566) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 1/190 - 191.
(3) سبق تخريجه في الحديث الثالث والعشرين.
(4) أخرجه: أحمد 1/394 و435، ومسلم 8/208 (2949) (131) ، وأبو يعلى
(5248) ، وابن حبان (6850) ، والطبراني في " الكبير " (10097) ، والبغوي
(4286) من حديث عبد الله بن مسعود.
(5) عبارة: ((لا تقوم الساعة)) لم ترد في (ص) .
(6) أخرجه: أحمد 3/162 و259، وعبد بن حميد (1247) ، ومسلم 1/91 (148)
(234) ، وابن حبان (6849) ، والحاكم 4/495، والبيهقي في " شعب الإيمان "
(524) من حديث أنس.
وأخرجه: الحاكم 4/494 عن ابن مسعود.(3/1019)
بينهم، إلا نزلت عليهمُ السَّكينةُ، وغشيتهُم الرَّحمة، وحفَّتهم الملائكةُ، وذكرهمُ اللهُ فيمن عنده)) (1) . هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته. وهذا إن حُمِل على تعلم القرآن وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه، وفي " صحيح البخاري " (2) عن عثمان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
((خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه)) . قال أبو عبد الرحمان السلمي: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجَّاجَ بن يوسف.
وإن حمل على ما هو أعمُّ مِنْ ذلك، دخل فيه الاجتماعُ في المساجد على دراسة القرآن مطلقاً، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ مَنْ يقرأ القرآن ليستمع قراءته، كما أمر ابن مسعود أنْ يقرأ عليه، وقال: ((إنِّي أُحِبُّ أن أسمعَهُ مِنْ غيري)) (3) وكان عمرُ يأمرُ من يقرأُ عليه وعلى أصحابه وهم يسمعون، فتارةً يأمرُ أبا موسى، وتارةً يأمرُ عُقبةَ بن عامر.
وسئل ابن عباس: أيُّ العمل أفضل؟ قال: ذكرُ الله، وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتعاطَوْنَ فيه كتابَ الله فيما بينهم ويتدارسونه، إلاَّ أظلَّتهم الملائكة بأجنحتها، وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك حتَّى يُفيضوا في حديثٍ غيره (4) . ورُوي مرفوعاً والموقوف أصحُّ.
وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال: كانوا إذا صلَّوُا الغداة، قعدوا حِلَقاً حِلَقاً،
_________
(1) سبق تخريجه في بداية الحديث.
(2) 6/236 (5027) و (5028) .
(3) أخرجه: البخاري 6/241 (5050) ، ومسلم 2/195 (800) (247) .
(4) أخرجه: ابن أبي شيبة (30308) و (34777) ، والدارمي (356) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " (671) و (2030) موقوفاً.(3/1020)
يقرؤون القرآنَ، ويتعلَّمونَ الفرائضَ والسُّنَنَ، ويذكرون الله - عز وجل - (1) .
وروى عطية عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما مِنْ قومٍ صلَّوا صلاةَ الغداةِ، ثم قعدُوا في مُصلاَّهم، يتعاطَونَ كتابَ الله، ويتدارسونه، إلاَّ وكَّلَ الله بهم ملائكةً يستغفرُون لهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره)) (2) وهذا يدلُّ
على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن، ولكن عطية فيه
ضعف (3) .
وقد روى حربٌ الكرمانيُّ بإسناده عن الأوزاعيِّ أنَّه سُئِلَ عن الدِّراسة بعدَ صلاة الصُّبح، فقال: أخبرني حسَّانُ بن عطيَّة أنَّ أوَّلَ من أحدَثها في مسجد دمشقَ هشامُ بن إسماعيل المخزوميُّ في خلافة عبد الملك بن مروان، فأخذ النّاسُ بذلك.
وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز، وإبراهيم بنِ سليمان: أنَّهما كانا يدرسان القرآن بعد صلاة الصبح ببيروت والأوزاعي في المسجد لا يُغّيِّرُ عليهم.
وذكر حربٌ أنَّه رأى أهلَ دمشق، وأهلَ حمص، وأهلَ مكة، وأهل البصرة يجتمعون على القراءة بعدَ صلاة الصُّبح، لكن أهل الشام يقرءون القرآن كُلهم جملةً مِنْ سورةٍ واحدةٍ بأصواتٍ عالية، وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون، فيقرأ أحدُهم عشرَ آياتٍ، والنَّاسُ يُنصِتون، ثمَّ يقرأُ آخرُ عشراً، حتَّى يفرغوا. قال حرب: وكلُّ ذلك حسنٌ جميلٌ.
وقد أنكر ذلك مالكٌ على أهل الشام. قال زيدُ بنُ عبيدٍ الدِّمشقيُّ: قال لي مالكُ بنُ أنسٍ: بلغني أنَّكم تجلِسونَ حِلَقاً تقرؤون، فأخبرتُه بما كان يفعلُ أصحابنا، فقال مالك: عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرِفُ هذا، قال: فقلت: هذا طريف؟ قال: وطريفٌ رجل يقرأ ويجتمعُ الناس حوله، فقال: هذا عن غير رأينا.
قال أبو مصعب وإسحاق بن محمد الفروي: سمعنا مالكَ بن أنسٍ يقول: الاجتماعُ بكرة بعدَ صلاة الفجر لقراءة القرآن بدعةٌ، ما كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا العلماء بعدَهم على هذا، كانوا إذا صلَّوا يَخْلو كلٌّ بنفسه، ويقرأ،
_________
(1) أخرجه: أبو يعلى (4088) ، وهو ضعيف لضعف يزيد بن أبان الرقاشي.
(2) انظر: الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي (6117) .
(3) هو عطية العوني، قال عنه أحمد بن حنبل والثوري وهشيم ويحيى بن معين والنسائي: ضعيف الحديث. انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/503 (11375) ، والضعفاء للعقيلي 3/359 (1392) ، والكامل لابن عدي 7/84 (1535) ، وميزان الاعتدال للذهبي 3/79 (5667) . ...(3/1021)
ويذكرُ الله - عز وجل -، ثم ينصرفون من غير أن يُكلِّم بعضهم بعضاً، اشتغالاً بذكرِ الله، فهذه كلُّها محدثة.
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: لم تكن القراءةُ في المسجد من أمرِ النَّاسِ القديم، وأوَّلُ من أحدثَ ذلك في المسجد الحجاجُ بن يوسف، قال مالك: وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف. وقد روى هذا كلَّه أبو بكر النَّيسابوري في كتاب " مناقب مالك رحمه الله ".
واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجُملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذِّكر، والقرآن أفضلُ أنواع الذكر، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ لله ملائكةً يطوفونَ في الطُّرق، يلتمِسُون أهلَ الذِّكر، فإذا وجدُوا قوماً يذكرون الله - عز وجل -، تنادوا: هلمُّوا إلى حاجتكم، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السَّماء الدُّنيا، فيسألهُم ربُّهم - وهو أعلمُ بهم -: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبِّحُونَك، ويكبِّرونك، ويحمَدُونك، ويمجِّدونَك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوْكَ، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك، كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشدَّ لكَ تمجيداً وتحميداً، وأكثر لك تسبيحاً، فيقول: فما يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنَّة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا ربِّ، ما رأوها، فيقول: كيف لو أنَّهم رأوها؟ فيقولون: لو أنَّهم رأوها، كانوا أشدَّ عليه حرصاً وأشدَّ لها طلباً، وأشدّ فيها رغبةً، قال: فممَّ يتعوَّذونَ؟ فيقولون: من النَّار، قال: يقول: فهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا ربِّ ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو أنَّهم رأوها، كانوا أشدَّ منها فراراً، وأشدّ لها مخافةً، فيقول الله تعالى: أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنَّما جاء
لحاجته، قال: هُمُ الجلساءُ لا يشقى بهم جليسهم)) .
_________
(1) صحيح البخاري 8/107 (6408) ، وصحيح مسلم 8/68 (2689) (25) .(3/1022)
وفي " صحيح مسلم " (1) عن مُعاوية: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقةٍ من
أصحابه، فقال: ((ما يُجلسكُم)) ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله - عز وجل -، ونحمَدُه لما هدانا للإسلام، ومنَّ علينا به، فقال: ((آللهِ ما أجلسكم إلاّ ذلك؟)) قالوا: آللهِ ما أجلسنا إلا ذلك، قال: ((أما أنِّي لم أستحلِفْكُم لتهمةٍ لكم، إنَّه أتاني جبريل، فأخبرني أنَّ الله تعالى يُباهي بكم الملائكة)) .
وخرَّج الحاكم (2) من حديث معاوية، قال: كنتُ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فدخل
المسجدَ، فإذا هو بقومٍ في المسجد قعود، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أقعدكم؟)) فقالوا: صلَّينا الصَّلاةَ المكتوبةَ، ثم قعدنا نتذاكرُ كتاب الله - عز وجل - وسنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكرُه)) .
وفي المعنى أحاديث أُخَرُ متعددة (3) .
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ جزاءَ الذين يجلسونَ في بيت الله يتدارسون كتابَ الله أربعة
أشياء:
أحدها: تَنْزل السكينة عليهم، وفي " الصحيحين " (4) عن البراء بن عازب، قال: كان رجلٌ يقرأ سورةَ الكهف
_________
(1) 8/72 (2701) (40) .
(2) في " المستدرك " 1/94.
(3) قال علي - رضي الله عنه -: ((تذاكروا الحديث فإنكم إن لا تفعلوه يندرس)) . وقال عبد الله بن مسعود: ((تذاكروا الحديث فإن ذكر الحديث حياته)) . أخرجهما الحاكم في " المستدرك " 1/95.
(4) صحيح البخاري 4/245 (3614) و6/170 (4839) و232 (5011) ، وصحيح مسلم 2/193 (795) (240) و (241) و194 (795) (241) .(3/1023)
وعنده فرسٌ، فتغشَّته سحابةٌ، فجعلت تدورُ وتدنُو، وجعل فرسه يَنفِرُ منها، فلمَّا أصبح، أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: ((تلك السَّكينة تنَزَّلت للقرآن)) .
وفيهما أيضاً (1) عن أبي سعيدٍ أنَّ أُسيدَ بنَ حُضيرٍ بينما هو ليلةً يقرأ في
مِربَدِه (2) ، إذ جالت فرسُه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضاً، فقال أُسيدٌ: فخشيتُ أنْ تطأ يحيى - يعني ابنَه - قال: فقمتُ إليها، فإذا مثلُ الظُّلَّةِ فوق رأسي فيها أمثالُ السُّرُجِ عرجت في الجوِّ حتَّى ما أراها، قال: فغدا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الملائكةُ كانت تستَمعُ لك، ولو قرأت، لأصبحَتْ يراها الناس ما تستتر منهم)) واللفظ لمسلم فيهما.
_________
(1) البخاري 6/234 (5018) معلقاً، ومسلم 2/194 (796) (242) .
(2) المربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل والغنم، وبه سمي مربد المدينة والبصرة، وهو بكسر الميم وفتح الباء، والمربد أيضاً: الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف. النهاية 2/182.(3/1024)
وروى ابن المبارك (1) ، عن يحيى بن أيوبَ، عن عُبيد الله بنِ زَحْرٍ، عن سعد ابن مسعود أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في مجلسٍ، فرفعَ بصرَه إلى السَّماء، ثمَّ طأطأ بصرَه، ثمَّ رفعه، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: ((إن هؤلاء القوم كانوا يذكُرون الله تعالى - يعني: أهلَ مجلسٍ أمامَه - فنزلت عليهمُ السَّكينةُ تحملها الملائكةُ كالقُبَّةِ، فلمَّا دنت منهم تكلَّم رجلٌ منهم بباطلٍ، فرُفِعَت عنهم)) وهذا مرسل (2) .
والثاني: غِشيانُ الرَّحمة، قال الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
وخرَّج الحاكم (4) من حديث سلمان أنَّه كان في عِصابةٍ يذكرون الله تعالى،
فمرَّ بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما كنتم تقولون؟ فإنِّي رأيتُ الرَّحمةَ تنزِلُ عليكم، فأردت أن أشارِكَكُم فيها)) .
وخرَّج البزارُ (5) من حديث أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ لله سيَّارةً مِنَ الملائكة، يطلبون حِلَق الذِّكر، فإذا أتوا عليهم حَفُّوا بهم، ثم بعثوا رائدَهم إلى السماء إلى ربِّ العزّة تبارك وتعالى فيقولون: ربَّنا أتينا على عبادٍ من عبادِكَ يُعظِّمون آلاءك، ويتلونَ كتابَك، ويصلُّون على نبيِّك، ويسألونَك لآخرتهم ودنياهم، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم برحمتي، فيقولون: ربَّنا، إنَّ فيهم فلاناً الخطّاء، إنَّما اعتنقهُمُ اعتناقاً، فيقول تعالى: غشوهم برحمتي، فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم.
_________
(1) في " الزهد " (943) .
(2) وهو مع إرساله ففيه عبيد الله بن زحر، وفيه ضعف.
(3) الأعراف: 56.
(4) في " المستدرك " 1/122، وفي إسناده ضعف.
وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/242.
(5) كما في " كشف الأستار " (3062) .
وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/268، وهو حديث ضعيف لضعف زائدة بن أبي الرقاد وزياد بن عبد الله النميري.(3/1025)
والثالث: أنَّ الملائكة تحفُّ بهم، وهذا مذكورٌ في هذه الأحاديث التي ذكرناها، وفي حديث أبي هريرة المتقدّم: ((فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء
الدنيا)) . وفي رواية للإمام أحمد (1) : ((علا بعضُهم على بعض حتَّى يبلغوا
العرش)) .
وقال خالدُ بنُ معدان (2) ، يرفعُ الحديث: ((إنَّ لله ملائكةً في الهواء، يَسيحون بين السماءِ والأرض، يلتمسون الذِّكرَ، فإذا سمعوا قوماً يذكرون الله
تعالى، قالوا: رويداً زادكم الله، فينشرون أجنحتَهم حولَهم حتَّى يصعَدَ كلامُهم إلى العرش)) . خرَّجه الخلال في كتاب " السنة ".
الرابع: أنَّ الله يذكرُهم فيمن عنده، وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقولُ الله - عز وجل -: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرُني، فإنْ ذكرني في نفسِه، ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم)) .
_________
(1) في " مسنده " 2/358.
(2) وخالد بن معدان تابعيٌّ، فالحديث ضعيف لإرساله.
(3) صحيح البخاري 9/147 (7405) ، وصحيح مسلم 8/62 (2675) (2) .(3/1026)
وهذه الخصال الأربعُ لكلِّ مجتمعين على ذكر الله تعالى، كما في " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة وأبي سعيد، كلاهما عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ لأهلِ ذكرِ الله تعالى أربعاً: تنزلُ عليهمُ السَّكينةُ، وتغشاهمُ الرَّحمةُ، وتحفُّ بهم الملائكةُ، ويذكرُهُم الرَّبُّ فيمن عنده)) . وقد قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوْنِي أَذْكُرْكُمْ} (2) وذكر الله لعبده: هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته ومباهاتهم به وتنويهه بذكره. قال الربيعُ بنُ أنس: إنَّ الله ذاكرٌ مَنْ ذكرهُ، وزائدٌ مَنْ شكره، ومعذِّبٌ من كفره (3) ، وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ} (4) ، وصلاةُ الله على عبده: هي ثناؤه عليه بين ملائكته، وتنويههُ بذكره، كذا قال أبو العالية، ذكره البخاري في " صحيحه " (5) .
_________
(1) 8/72 (2700) (39) .
(2) البقرة: 152.
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " 2/37.
(4) الأحزاب: 41 - 43.
(5) 6/151 معلقاً.(3/1027)
وقال رجلٌ لأبي أمامة: رأيتُ في المنام كأنَّ الملائكة تُصلِّي عليك، كلَّما دخلتَ، وكلما خرجتَ، وكلَّما قمتَ، وكلَّما جلستَ، فقال أبو أمامة: وأنتم لو شئتم، صلَّت عليكمُ الملائكةُ، ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} خرَّجه
الحاكم (1) .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن بطَّأ به عملُه، لم يُسرِعْ به نسبه)) : معناه أنَّ العمل هو الذي يبلُغ بالعبدِ درجاتِ الآخرة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا
عَمِلُوا} (2) ، فمن أبطأ به عمله أنْ يبلُغَ به المنازلَ العالية عند الله تعالى، لم يُسرِعْ به نسبه، فيبلغه تلكَ الدَّرجاتِ، فإنَّ الله تعالى رتَّبَ الجزاءَ على الأعمال، لا على الأنساب، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ} (3) ، وقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال، كما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} (4) الآيتين، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (5) .
قال ابن مسعود: يأمر الله بالصراط، فيضرب على جهنَّم، فيمرُّ النَّاسُ على قدر أعمالهم زُمَراً زُمراً، أوائلُهم كلمح البرقِ، ثمَّ كمرِّ الرِّيحِ، ثمَّ كمرِّ الطَّير، ثمَّ كمرِّ البهائمِ، حتَّى يمرَّ الرَّجُلُ سعياً، وحتّى يمرَّ الرَّجلُ مشياً، حتَّى يمرَّ آخرُهم يتلبَّط على بطنِه، فيقول:
_________
(1) في " المستدرك " 2/418.
وانظر: تهذيب الكمال للمزي 3/451 (2858) .
(2) الأنعام: 132.
(3) المؤمنون: 101.
(4) آل عمران: 133 - 134.
(5) المؤمنون: 57 - 61.(3/1028)
يا ربِّ، لم بطَّأتَ بي؟ فيقول: إنِّي لم أبطِّئ بك، إنَّما بطَّأ بكَ عملُك (1) .
وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُنزِلَ عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الأَقْرَبِيْنَ} (3) : ((يا معشر قريش، اشترُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغني عنكم من اللهِ شيئاً، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمّة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً)) . وفي رواية خارج " الصحيحين ": ((إنَّ أوليائي منكمُ المتَّقون لا يأتي الناسُ بالأعمال، وتأتُوني بالدُّنيا تحملونها على رقابكم، فتقولون: يا محمَّدُ، فأقول: قد بلَّغتُ)) (4) .
وخرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ أوليائي المتقونَ يومَ القيامة، وإنْ كان نسبٌ أقربَ مِنْ نسبٍ، يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون: يا محمدُ، يا محمدُ، فأقول هكذا
وهكذا)) وأعرض في كلا عِطفَيهِ (5) .
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة (37637) ، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (282) ، والطبري في " تفسيره " (17063) ، والطبراني في " الكبير " (9761) ، والحاكم
4/598 - 560.
(2) صحيح البخاري 4/7 (2753) و224 (3527) و6/140 (4771) ، وصحيح مسلم 1/133 (204) (348) .
(3) الشعراء: 214.
(4) أخرجه: عبد بن حميد كما في " الدر المنثور " 5/180 عن الحسن.
وأخرجه: الطبري في " تفسيره " (20379) عن قتادة.
(5) أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (897) ، وابن أبي عاصم في " السنة " (213)
و (1012) ، وإسناده لا بأس به.(3/1029)
وخرَّج البزارُ (1) من حديث رفاعة بنِ رافع: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرَ
: ((اجمع لي قومك يعني: قريشاً، فجمعهم، فقال: ((إنَّ أوليائي منكم
المتَّقون، فإن كنتُم أولئك، فذاك، وإلاَّ، فانظروا، لا يأتي الناسُ بالأعمال
يومَ القيامة وتأتون بالأثقالِ، فيُعْرَضَ عنكم)) . وخرَّجه الحاكم (2) مختصراً
وصححه.
وفي " المسند " (3) عن معاذ بن جبل: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثه إلى اليمن، خرج معه يُوصيه، ثمّ التفت، فأقبل بوجهه إلى المدينة، فقال: ((إنَّ أولى الناس بي المتَّقونَ مَنْ كانُوا، وحيث كانوا)) .
_________
(1) في " مسنده " (3725) .
وأخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (75) ، وفي إسناده مقال.
(2) في " المستدرك " 4/73 وتصحيحه إياه من تساهله.
(3) أحمد 5/235.
وأخرجه: ابن حبان (647) ، والطبراني في "الكبير" 20/ (241) ، وهو حديث
صحيح.(3/1030)
وخرَّجه الطبراني، وزاد فيه: ((إنَّ أهلَ بيتي هؤلاء يرونَ أنَّهم أولى الناس بي، وليس كذلك، إنَّ أوليائي منكم المتَّقونَ، من كانوا وحيث كانوا)) .
ويشهد لهذا كلِّه ما في " الصحيحين " (1) عن عمرو بن العاص، أنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنّما وليِّيَ الله وصالح المؤمنين)) يشير إلى أنَّ ولايته لا تُنال بالنَّسب، وإنْ قَرُبَ، وإنَّما تُنالُ بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكملَ إيماناً وعملاً، فهو أعظمُ ولاية له، سواءٌ كانَ له منه نسبٌ قريب، أو لم يكن، وفي هذا المعنى يقولُ بعضهم:
لَعَمْرُكَ ما الإنسانُ إلاَّ بِدينِهِ ... فَلا تَتْرُكِ التَّقوى اتَّكالاً على النسب
لَقد رَفَعَ الإسلامُ سَلمَانَ فَارِسٍ ... وقَد وَضَعَ الشِّركُ الشقيَّ أبَا لَهب (2)
_________
(1) صحيح البخاري 8/7 (5990) ، وصحيح مسلم 1/136 (215) (266) .
(2) هي من البحر الطويل.
قالها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إلا إنه قال: ((الشريف)) بدلاً من ((الشقي)) .
وقالها الصاحب بن عباد، إلا أنه قال: ((اعتماداً)) بدلاً من ((اتكالاً)) ، وقال
: ((الشريف)) بدلاً من ((الشقي)) . ...(3/1031)
الحديث السابع والثلاثون
عَنِ ابنِ عَبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عَنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَروي عَنْ رَبِّهِ تَباركَ وتَعَالى قَالَ: ((إنَّ الله - عز وجل - كَتَبَ الحَسَناتِ والسيِّئاتِ، ثمَّ بَيَّنَ ذلك، فَمَنْ هَمَّ
بِحَسَنةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبها الله عِنْدَهُ حَسنَةً كَامِلةً، وإن هَمَّ بِها فَعَمِلَها، كَتَبَها الله عَنْدَهُ عَشْرَ حَسناتٍ إلى سبع مئة ضِعْفٍ إلى أضعاف كَثيرةٍ، وإنْ هَمَّ بسيِّئة، فلمْ يَعْمَلها، كَتَبَها عِنْدَهُ حَسنةً كَامِلةً، وإنْ هَمَّ بِهَا، فعَمِلَها كَتَبَها الله سيِّئة واحِدَةً)) . رَواهُ البُخارِيُّ ومُسلمٌ.
هذا الحديث خرَّجاه (1) من رواية الجعد أبي عثمان: حدَّثنا أبو رجاءٍ العُطاردي، عن ابنِ عبَّاس. وفي رواية لمسلم (2) زيادةٌ في آخر الحديث، وهي:
((أو محاها الله، ولا يَهلِكُ على الله إلاَّ هالكٌ)) .
وفي هذا المعنى أحاديثُ متعددة،
_________
(1) صحيح البخاري 8/128 (6491) ، وصحيح مسلم 1/83 (131) (207) .
وأخرجه: أحمد 1/279، وعبد بن حميد (716) .
(2) صحيح مسلم 1/83 (131) (208) .(3/1033)
فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقولُ الله: إذا أراد عبدي أنْ يعملَ سيِّئة، فلا تكتُبوها عليه حتَّى يعملها، فإنْ عملَها، فاكتبوها بمثلِها، وإنْ تركها مِنْ أجلي، فاكتبوها له حسنةً، وإذا أراد أنْ يعملَ حسنةً، فلم يعمَلْها، فاكتبوها له حسنةً، فإن عملَها، فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ)) وهذا لفظ البخاري (1) ، وفي رواية لمسلم (2) :
((قال الله - عز وجل -: إذا تحدَّثَ عبدي بأنْ يعملَ حسنةً، فأنا أكتُبها له حسنةً ما لم يعمل، فإذا عملَها، فأنا أكتُبها بعشرِ أمثالها، وإذا تحدَّث بأنْ يعملَ سيِّئة، فأنا أغفِرُها له ما لم يعملْهَا، فإذا عملها، فأنا أكتُبها له بمثلها)) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قالتِ الملائكةُ: ربِّ ذاك عبدُك يريدُ أنْ يعملَ سيِّئة - وهو أبصرُ به - قال: ارقبوه، فإنْ عملَها، فاكتبوها له بمثلها، وإنْ تركها، فاكتبوها له حسنةً، إنَّما تركها من جرَّايَ)) . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحسنَ أحدُكم إسلامه، فكلُّ حسنةٍ يعملها تُكتبُ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكلُّ سيِّئة يعملُها تُكتَبُ بمثلها حتَّى يلقى الله)) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:
_________
(1) صحيح البخاري 9/177 (7501) .
(2) صحيح مسلم 1/81 (129) (205) .
وأخرج: البخاري 1/17 (42) المقطع الأخير من الحديث.
وأخرجه: ابن حبان (228) و (379) - (384) .
(3) صحيح البخاري 2/34 (1904) و9/175 (7492) ، وصحيح مسلم 3/157 - 158 (1151) (161) - (164) .(3/1034)
((كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَف: الحسنةُ عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، قال الله - عز وجل -: إلاَّ الصِّيام، فإنَّه لي، وأنا أجزي به، يدعُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه مِنْ أجلي)) ، وفي رواية بعد قوله: ((إلى سبع مئة ضعف)) : ((إلى ما يشاء الله)) .
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقولُ الله: مَنْ عمل حسنةً، فله عشرُ أمثالها أو أَزِيدُ، ومن عمل سيِّئة، فجزاؤها مِثلُها أو أغفرُ)) .
وفيه أيضاً (2) عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من همَّ بحسنةٍ، فلم يعْمَلها، كُتِبَت له حسنةً، فإنْ عَمِلَها، كتبت له عشراً، ومن هَمَّ بسيِّئة، فلم يعملها لم يُكتب عليه شيءٌ، فإنْ عَمِلَها، كُتِبَت عليه سيِّئة واحدةً)) .
وفي " المسند " (3) عن خُرَيْمِ بن فاتكٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من همَّ
بحسنة، فلم يعملها، فعلم الله أنَّه قد أشعرها قلبه، وحَرَصَ عليها، كُتِبَت له حسنة، ومن همَّ بسيِّئة لم تُكتب عليه، ومن عَمِلَها كتبت له واحدة، ولم تُضاعَف عليه، ومن عَمِلَ حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفقَ نفقة في سبيلِ الله، كانت له بسبع مئة
_________
(1) صحيح مسلم 8/67 (2687) (22) .
وأخرجه: أحمد 5/153، والبخاري في " خلق أفعال العباد " (56) ، وابن ماجه
(3821) .
(2) صحيح مسلم 1/99 و100 و101 (162) (259) مطولاً.
(3) أخرجه: أحمد 4/345 - 346، وإسناده لا بأس به.(3/1035)
ضعف)) . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة.
فتضمنت هذه النُّصوص كتابةَ الحسنات، والسيِّئات، والهمّ بالحسنةِ والسيِّئة، فهذه أربعة أنواع:
النوع الأول: عملُ الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرةٍ، فمُضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازمٌ لكلِّ الحسنات، وقد دلَّ عليه قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (1) .
وأما زيادةُ المضاعفةِ على العشر لمن شاء الله أن يُضاعف له، فدلَّ عليه قوله تعالى:
_________
(1) الأنعام: 160.(3/1036)
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) ، فدلَّت هذه الآيةُ على أنّ النَّفقة في سبيل الله تُضاعف بسبع مئة ضعف.
وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي مسعود، قال: جاء رجلٌ بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: ((لك بها يوم القيامة سبع مئة
ناقة)) .
وفي " المسند " (3) بإسنادٍ فيه نظر عن أبي عُبيدة بن الجرّاح، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فبسبع مئةٍ، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عادَ مريضاً، أو مازَ أذى، فالحسنةُ بعشرِ أمثالها)) .
_________
(1) البقرة: 261.
(2) 6/41 (1892) (132) .
(3) مسند الإمام أحمد 1/195 - 196، والنظر الذي أشار إليه المصنف أنَّ في إسناده بشار بن أبي سيف، وهو مقبول عند المتابعة ولم يتابع.(3/1037)
وخرَّج أبو داود (1) من حديث سهل بنِ معاذٍ عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الصَّلاة، والصِّيام، والذِّكرَ يُضاعف على النَّفقة في سبيل الله بسبع مئة
ضعف)) .
وروى ابنُ أبي حاتم (2) بإسناده عن الحسن، عن عمران بنِ حُصين عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أرسل نفقةً في سبيلِ الله، وأقام في بيته، فله بكلِّ درهم سبع مئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله، فلهُ بكلِّ درهم سبع مئة ألف درهم)) ثم تلا هذه الآية: {واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ} (3) .
وخرَّج ابن حبان في " صحيحه " (4) من حديث عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} (5) ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ربِّ زد أمتي)) ، فأنزل الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً
كَثِيرَةً} (6) ، فقال: ((ربِّ زدْ أمَّتي)) ، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (7) .
وخرَّج الإمامُ أحمد (8) من حديث عليِّ بن زيد بن جُدعان، عن أبي عُثمان النَّهديِّ، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله ليُضاعِفُ الحسنةَ ألفي ألفِ حسنةٍ))
_________
(1) في " سننه " (2498) ، وهو حديث ضعيف لضعف زبان بن فائد.
(2) في " تفسيره " 2/515 (2730) وقال ابن كثير في " تفسيره " 1/326،: ((حديث غريب)) .
(3) البقرة: 261.
(4) (4648) .
(5) البقرة: 261.
(6) البقرة: 245.
(7) الزمر: 10.
(8) في " مسنده " 2/296 و521 - 522، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف.(3/1038)
ثم تلا أبو هريرة: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (1) . وقال: ((إذا قال الله أجراً عظيماً، فمن يقدر قدره؟)) وروي عن أبي هريرة موقوفاً (2) .
وخرَّج الترمذي (3) من حديث ابن عمر مرفوعاً: ((من دخل السُّوقَ، فقال: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك، وله الحمدُ، يُحيي ويُميتُ، وهو حيٌّ لا يموت، بيدِه الخيرُ، وهو علي كلِّ شيءٍ قديرٌ، كتب اللهُ له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه ألفَ ألفِ سيِّئة، ورفع له ألفَ ألفِ درجةٍ)) .
ومن حديث تميم الداري (4) مرفوعاً: ((من قال: أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، إلهاً واحداً أحداً صمداً، لم يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له كفواً أحد عشرَ مرات، كتبَ الله له أربعين ألفَ ألف حسنةٍ)) ، وفي كلا الإسنادين ضعف.
وخرّج الطبراني (5) بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ عمر مرفوعاً: ((من قال: سبحان الله، كتب الله مئة ألف حسنة، وأربعة وعشرين ألف حسنة)) .
وقوله في حديث أبي هريرة: ((إلاَّ الصيام، فإنّه لي، وأنا أجزي به)) (6)
_________
(1) النساء: 40.
(2) أخرجه: ابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/955 (5337) موقوفاً.
(3) (3428) و (3429) ، وهو حديث ضعيف، وقال الترمذي: ((غريب)) .
(4) أخرجه: أحمد 4/103، والترمذي (3473) ، والطبراني (1278) ، وابن عدي في
" الكامل " 3/505 عن تميم الداري، مرفوعاً، به، وقال الترمذي: ((هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والخليل بن مرة ليس بالقوي عند أصحاب الحديث، قال محمد بن إسماعيل: هو منكر الحديث)) .
(5) أخرجه: الطبراني (13597) وفي " الدعاء "، له (1694) عن ابن عمر، مرفوعاً، به.
وانظر: مجمع الزوائد 10/87.
(6) سبق تخريجه.(3/1039)
يدلُّ على أنَّ الصِّيام لا يَعلمُ قدر مضاعفة ثوابه إلا الله - عز وجل - لأنّه أفضلُ أنواع الصَّبر، و {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، وقد رُويَ هذا المعنى عن طائفةٍ مِنَ السَّلف، منهم كعبٌ (2)
وغيره، وقد ذكرنا فيما سبق في شرح حديث: ((من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)) (3) أنَّ مضاعفة الحسنات زيادةً على العشرِ تكونُ بحسبِ حُسنِ الإسلام، كما جاء ذلك مصرَّحاً به في حديث أبي هريرة وغيره، وتكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضلِ ذلك العمل في نفسه، وبحسب الحاجة إليه. وذكرنا من حديث ابن عمر (4) أنّ قوله: {مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (5) نزلت في الأعراب، وأن قوله: {وَإِنْ تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (6) نزلت في المهاجرين.
النوع الثاني: عمل السيِّئات، فتكتب السيِّئةُ بمثلها مِنْ غير مضاعفةٍ، كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (7) .
وقوله: ((كتبت له سيِّئة واحدة)) إشارةٌ إلى أنّها غيرُ مضاعفة، ما صرَّح به في حديث آخر، لكن السَّيِّئة تعظُمُ أحياناً بشرف الزَّمان، أو المكان، كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ} (8) . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: {فَلا تَظلِموا فِيهِنَّ أنفُسَكُم} (9) : في كلِّهنَّ، ثم اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهُر، فجعلهنَّ حرماً، وعظم حُرماتهنَّ، وجعل الذَّنبَ فيهنَّ أعظمَ، والعمل الصالح والأجر أعظم (10) .
_________
(1) الزمر: 10.
(2) أخرجه: عبد الرزاق (7896) .
وانظر: المراسيل: 187.
(3) سبق تخريجه عند الحديث الثاني عشر، عن أبي هريرة وغيره.
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (7542) و (11116) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/955 (5338) و5/1432 (8168) .
(5) الأنعام: 160.
(6) النساء: 40.
(7) الأنعام: 160.
(8) التوبة: 36.
(9) التوبة: 36.
(10) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (12972) و (12973) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 6/1791 (10000) .(3/1040)
وقال قتادة (1) في هذه الآية: اعلموا أنَّ الظلمَ في الأشهر الحُرُمِ أعظمُ خطيئةً ووزْراً فيما سوى ذلك، وإن كان الظُّلمُ في كلِّ حالٍ غيرَ طائل، ولكنَّ الله تعالى يُعظِّم من أمره ما يشاء تعالى ربنا.
وقد روي في حديثين (2) مرفوعين أنَّ السيِّئاتِ تُضاعَفُ في رمضان، ولكن إسنادهما لا يصحُّ.
وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (3) . قال ابن عمر (4) : الفسوق: ما أُصيبَ مِنْ معاصي الله صيداً كان أو غيره، وعنه قال: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (5) .
وكان جماعة من الصحابة يتَّقونَ سُكنى الحرم، خَشيةَ ارتكابِ الذُّنوب فيه منهم: ابنُ عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن
عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئةُ فيه أعظم (6) . ورُوي عن عمر بن الخطاب، قال: لأَنْ أُخطئ سبعينَ خطيئةً - يعني: بغيرِ مَكَّةَ - أحبُّ إليَّ مِنْ أن أُخطئ خطيئة واحدةً بمكة (7) . وعن مجاهد قال: تُضاعف السيِّئات بمكة كما تُضاعف الحسنات (8) . وقال ابن جريج: بلغني أن الخطيئة بمكة بمئة خطيئة، والحسنة على نحو ذلك.
وقال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمدَ: في شيءٍ من الحديث أنّ السيِّئة
تُكتب
_________
(1) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (12974) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 6/1793
(10010) .
(2) أحدهما عند الطبراني في " الصغير " (687) عن أبي صالح، عن أم هاني، به، وفي إسناده عيسى بن سليمان، وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد 3/144.
(3) البقرة: 197.
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (2928) ، وابن أبي حاتم 1/347 (1826) .
(5) الحج: 25.
(6) أخرجه: عبد الرزاق (8870) .
(7) أخرجه: عبد الرزاق (8871) .
(8) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 4/635.(3/1041)
بأكثرَ مِنْ واحدة؟ قال: لا، ما سمعنا إلاَّ بمكَّة لِتعظيم البلد ((ولو أنَّ رجلاً بعدن أبين همَّ)) (1) . وقال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد، وقوله: ولو أنَّ رجلاً بعدن أبين همَّ هوَ من قول ابن مسعود، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقد تُضاعَفُ السيِّئاتُ بشرف فاعلها، وقوَّة معرفته بالله، وقُربِه منه، فإنَّ مَنْ عَصى السُّلطان على بِساطِه أعظمُ جُرماً (2) مِمَّن عصاه على بُعد، ولهذا توعَّد الله خاصَّةَ عباده على المعصية بمضاعَفةِ الجزاء، وإن كان قد عصمَهم منها، ليبيِّنَ لهم فضله عليهم بِعصمَتهم مِنْ ذلك، كما قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} (3) .
وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (4) . وكان عليُّ بن الحسين يتأوَّل في آل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
النوع الثالث: الهمُّ بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة، وإنْ لم يعملها، كما في حديث ابن عباس وغيره، وفي حديث أبي هريرة الذي خرَّجه مسلمٌ (5) كما تقدم: ((إذا تحدَّث عبدي بأن يعملَ حسنةً، فأنا أكتُبها له حسنةً)) ، والظَّاهِرُ أن المرادَ بالتَّحدُّث: حديث النفس، وهو الهمُّ،
_________
(1) ذكره ابن حجر في " فتح الباري " 11/399.
(2) سقطت من (ص) .
(3) الإسراء: 74 - 75.
(4) الأحزاب: 30 - 31.
(5) سبق تخريجه.(3/1042)
وفي حديث خريم بن فاتك: ((مَن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها)) فعَلِمَ الله أنَّه قد أشعرها قلبَه، وحَرَصَ عليها، كتبت له
حسنة، وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالهمِّ هنا: هو العزمُ المصمّم الذي يُوجَدُ معه الحرصُ على العمل، لا مجرَّدُ الخَطْرَةِ التي تخطر، ثم تنفسِخُ من غير عزمٍ ولا تصميم.
قال أبو الدرداء: من أتى فراشه، وهو ينوي أن يُصلِّي مِن اللَّيل، فغلبته عيناه حتّى يصبحَ، كتب له ما نوى. وروي عنه مرفوعاً (1) ،
وخرَّجه ابن ماجه (2) مرفوعاً. قال الدارقطني (3) : المحفوظ الموقوف، وروي معناه من حديث عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4) .
وروي عن سعيد بن المسيب، قال: من همَّ بصلاةٍ، أو صيام، أو حجٍّ، أو عمرة، أو غزو، فحِيلَ بينه وبينَ ذلك، بلَّغه الله تعالى ما نوى.
وقال أبو عِمران الجونيُّ (5) : يُنادى المَلَكُ: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقولُ: يا ربِّ، إنَّه لم يعملْهُ، فيقول: إنَّه نواه.
وقال زيدُ بن أسلم: كان رجلٌ يطوفُ على العلماء، يقول: من يدلُّني على عملٍ لا أزال منه لله عاملاً، فإنِّي لا أُحبُّ أنْ تأتيَ عليَّ ساعةٌ مِنَ الليلِ والنَّهارِ إلاَّ وأنا عاملٌ لله تعالى، فقيل له: قد وجدت حاجتَكَ، فاعمل الخيرَ ما استطعتَ، فإذا فترْتَ، أو تركته فهمَّ بعمله، فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كفاعله.
ومتى اقترن بالنيَّة قولٌ أو سعيٌ، تأكَّدَ الجزاءُ، والتحقَ صاحبُه بالعامل، كما روى أبو كبشة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٍ رَزَقَهُ الله مالاً
وعلماً، فهو يتَّقي فيه ربَّه، ويَصِلُ به رَحِمَه، ويعلمُ لله فيه
_________
(1) أخرجه: ابن خزيمة (1172) ، والحاكم 1/311، والبيهقي 3/15 مرفوعاً.
وأخرجه: النسائي 3/258 وفي " الكبرى "، له (1460) موقوفاً، وأعله ابن خزيمة بالوقف، ولم يصححه كما زعم بعضهم، وليتنبه الباحث أنَّ كل ما في صحيح ابن خزيمة فهو محكوم بصحته عنده إلاّ ما ضعفه أو توقف في صحته أو ما قدم المتن على السند.
(2) في " سننه " (1344) مرفوعاً.
(3) انظر: علل الدارقطني 6/206.
(4) أخرجه: مالك في "الموطأ" (307) برواية الليثي، وأحمد 6/180، وأبو داود (1314) ، والنسائي 3/257 وفي " الكبرى "، له (1457) ، والبيهقي 3/15 عن عائشة، به.
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا كما في " فتح الباري " 11/394.(3/1043)
حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو صادِقُ النِّيَّة، يقول: لو أنَّ لي مالاً، لعمِلْتُ بعملِ فلانٍ، فهو بنيتِه، فأجرُهُما سواءٌ، وعبدٍ رزقه الله مالاً، ولم يرزُقه علماً يَخبِطُ في ماله بغير علمٍ، لا يتَّقي فيه ربّه، ولا يَصِلُ فيه رحِمهُ، ولا يعلمُ لله فيه حقاً، فهذا بأخبثِ المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً، لعَمِلتُ فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوِزْرُهما سواءٌ)) خرَّجه الإمام أحمد والترمذى وهذا لفظُهُ، وابن ماجه (1) .
وقد حمل قوله: ((فهما في الأجر سواءٌ)) على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل، دون مضاعفته، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه، لكُتِبَ لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ} (2) . قال ابن عباس (3)
وغيره (4) : القاعدون المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجة همُ القاعدون من أهلِ الأعذار، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار.
النوع الرابع: الهمُّ بالسَّيِّئات من غير عملٍ لها، ففي حديث ابن عباس: أنَّها تُكتب
_________
(1) أخرجه: أحمد 4/230 - 231، وابن ماجه (4228) ، والترمذي (2325) .
وأخرجه: هناد في " الزهد " (586) ، والطحاوي في " شرح المشكل " (263) ، والطبراني 22/ (862) - (870) ، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)) .
(2) النساء: 95 - 96.
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (8105) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " 3/1043
(5847) .
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (8108) عن السري.(3/1044)
حسنةً كاملةً، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما (1) : أنَّها تُكتَبُ حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال: ((إنَّما تركها مِن جرَّاي)) يعني: من أجلي. وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ مَنْ قَدَرَ على ما همَّ به مِنَ المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا رَيبَ في أنَّه يُكتَبُ له بذلك حسنة؛ لأنَّ تركه للمعصية بهذا المقصد عملٌ صالحٌ.
فأمَّا إن همَّ بمعصية، ثم ترك عملها خوفاً من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنَّه يُعاقَبُ على تركها بهذه النيَّة؛ لأنَّ تقديم خوفِ المخلوقين على خوف الله محرَّم. وكذلك قصدُ الرِّياءِ للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترنَ به تركُ المعصية لأجله، عُوقِبَ على هذا الترك، وقد خرَّج أبو نعيم (2) بإسنادٍ ضعيف عن ابن عباس،
قال: يا صاحب الذَّنب، لا تأمننَّ سوءَ عاقبته، ولمَا يَتبعُ الذَّنبَ أعظمُ مِنَ
الذَّنب إذا عملتَه، وذكر كلاماً، وقال: وخوفُك من الريح إذا حرَّكت سترَ بابِك وأنت على الذَّنب، ولا يضطربُ فؤادُك مِن نظرِ الله إليك، أعظمُ مِنَ الذَّنب إذا عملته.
وقال الفضيلُ بن عياض: كانوا يقولون: تركُ العمل للناس رياءٌ، والعمل لهم شرك (3) .
وأمَّا إنْ سعى في حُصولها بما أمكنه، ثم حالَ بينه وبينها القدرُ، فقد ذكر جماعةٌ أنَّه يُعاقَب عليها حينئذٍ لقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله تجاوز لأمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفُسَها، ما لم تكلَّمْ به أو تعمل)) (4)
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) في " الحلية " 1/324 عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس، به.
وانظر: الجرح والتعديل 4/428 والمراسيل: 94.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/95.
(4) أخرجه: الطيالسي (2459) ، والحميدي (1173) ، والبخاري 3/190 (2528) و8/168 (6664) ، ومسلم 1/81 - 82 (127) (201) و (202) ، وأبو داود
(2209) ، وابن ماجه (2040) و (2044) ، والترمذي (1183) ، والنسائي 6/156 وفي " الكبرى "، له (5627) و (5628) ، وابن خزيمة (898) عن أبي هريرة، به.(3/1045)
ومن سعى في حُصول المعصية جَهدَه، ثمَّ عجز عنها، فقد عَمِل بها، وكذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتِلُ والمقتولُ في النَّار)) ، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول؟! قال: ((إنَّه كان حريصاً على قتل صاحبه)) (1) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/41 و43 و51، والبخاري 1/14 - 15 (31) و9/5 (6875) و9/64 (7083) ، ومسلم 8/169 - 170 (2888) (14) - (16) ، وأبو داود
(4268) ، وابن ماجه (3965) ، والنسائي 7/124 وفي " الكبرى "، له (3581) ، وابن حبان (5945) و (5981) عن أبي بكرة، به. ...(3/1046)
وقوله: ((ما لم تكلَّم به، أو تعمل)) يدلُّ على أنَّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه إنَّه يُعاقَبُ على الهمِّ حينئذٍ؛ لأنَّه قد عَمِلَ بجوارحِه معصيةً، وهو التَّكلُّمُ باللِّسان، ويدلُّ على ذلك حديث الذي قال: ((لو أنَّ لي مالاً، لعملتُ فيه ما عَمِلَ فلان)) يعني: الذي يعصي الله في ماله، قال: ((فهما في الوزر سواءٌ)) (1) .
ومن المتأخرين من قالَ: لا يُعاقَبُ على التكلُّم بما همَّ به ما لم تكن المعصيةُ التي همَّ بها قولاً محرَّماً، كالقذف والغيبة والكذب؛ فأمَّا ما كان متعلّقُها العملَ بالجوارح، فلا يأثمُ بمجرَّدِ التكلُّم ما همَّ به، وهذا قد يستدلُّ به على حديث أبي هريرة المتقدم: ((وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيِّئة، فأنا أغفرُها له ما لم
يعملها)) (2) . ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس، جمعاً بينه وبين قوله: ((ما لم تكلّم به أو تعمل)) ، وحديث أبي كبشة يدلُّ على ذلك صريحاً، فإنَّ قول القائل بلسانه: ((لو أنَّ لي مالاً، لعملتُ فيه بالمعاصي، كما عمل فلانٌ)) (3) ، ليس هو العمل بالمعصية التي همّ بها، وإنَّما أخبر عمَّا همَّ به فقط ممَّا متعلّقه إنفاقُ المالِ في المعاصي، وليس له مالٌ بالكلّيّة، وأيضاً، فالكلام بذلك محرَّمٌ، فكيف يكون معفوّاً عنه، غيرَ مُعاقَبٍ عليه؟
وأمّا إن انفسخت نِيَّتُه، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَ المعصية، أم لا؟ هذا على قسمين:
أحدهما: أن يكون الهمُّ بالمعصية خاطراً خطرَ، ولم يُساكِنهُ صاحبه، ولم يعقِدْ
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه من حديث أبي كبشة.(3/1047)
قلبَه عليه، بل كرهه، ونَفَر منه، فهذا معفوٌّ عنه، وهو كالوَساوس الرَّديئَةِ التي سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: ((ذاك صريحُ الإيمان)) (1) .
ولمَّا نزل قولُه تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (2) ، شقَّ ذلك على المسلمين، وظنُّوا دُخولَ هذه الخواطر فيه، فنَزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (3) ، فبيَّنت أنَّ ما لا طاقةَ لهم به، فهو غيرُ مؤاخذٍ به، ولا مكلّف
به، وقد سمى ابنُ عباس (4) وغيرُه (5) ذلك نسخاً، ومرادُهم أنَّ هذه الآية أزالتِ الإيهامَ الواقعَ في النُّفوس من الآية الأولى، وبيَّنت أنّ المرادَ بالآية الأُولى العزائم المصمَّمُ
عليها، ومثل هذا كان السَّلفُ يسمُّونَه نسخاً.
القسم الثاني: العزائم المصممة التي تقع في النفوس، وتدوم، ويساكنُها صاحبُها، فهذا أيضاً نوعان:
أحدهما: ما كان عملاً مستقلاً بنفسه من أعمالِ القلوب، كالشَّكِّ في الوحدانية، أو النبوَّة، أو البعث، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ، ويصيرُ بذلك كافراً ومنافقاً. وقد رُوي عن ابن عباس أنَّه حمل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} (6) ، على مثل هذا (7) . وروي عنه حملُها على كتمان الشَّهادة لِقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (8) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/297 و441 و456، والبخاري في " الأدب المفرد " (1284) ، ومسلم 1/83 (132) (209) و (210) ، وأبو داود (5111) ، وابن حبان (145) و (146) و (148) عن أبي هريرة، به.
(2) البقرة: 284.
(3) البقرة: 286.
(4) أخرجه: أحمد 1/233 و332، ومسلم 1/81 (126) (200) ، والترمذي (2992) ، والنسائي في " الكبرى " (11059) وفي " التفسير "، له (79) ، والطبري في " تفسيره " (5066) و (5069) ، والواحدي في " أسباب النْزول " (166) بتحقيقي، عن ابن عباس، به.
(5) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (5079) عن قتادة.
(6) البقرة: 284.
(7) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (5083) .
(8) البقرة: 283.(3/1048)
ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب، كمحبة ما يُبغضهُ الله،
وبغضِ ما يحبُّه الله، والكبرِ، والعُجبِ، والحَسدِ، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير
موجِب، مع أنَّه قد رُوي عن سفيان أنَّه قال في سُوء الظَّنِّ إذا لم يترتب عليه قولٌ أو فعلٌ، فهو معفوٌّ عنه. وكذلك رُوي عنِ الحسن أنه قال في الحسد، ولعلَّ هذا محمولٌ من قولهما على ما يجدُه الإنسانُ، ولا يمكنهُ دفعُه، فهو يكرهُه ويدفعُه عن نفسه، فلا يندفعُ إلاَّ على ما يساكِنُه، ويستروِحُ إليه، ويُعيدُ حديثَ نفسه به ويُبديه.
والنوع الثاني: ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب، بل كان من أعمالِ الجوارحِ، كالزِّنى، والسَّرقة، وشُرب الخمرِ، والقتلِ، والقذفِ، ونحو ذلك، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يَظهرْ له أثرٌ في الخارج أصلاً. فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء:
أحدهما: يؤاخذ به، قال ابنُ المبارك: سألتُ سفيان الثوريَّ: أيؤاخذُ العبدُ
بالهمَّةِ؟ فقال: إذا كانت عزماً أُوخِذَ (1) . ورجَّح هذا القولَ كثيرٌ من الفُقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين من أصحابنا وغيرهم، واستدلوا له بنحو قوله - عز وجل -:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (2) ، وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (3) ، وبنحو قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الإثمُ ما حاكَ في صدركَ، وكرهتَ أنْ يطَّلع عليه النَّاسُ)) (4) ، وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوزَ لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفُسَها، ما لم تكلَّم به أو تعمل)) على الخَطَراتِ، وقالوا: ما ساكنه العبدُ، وعقد قلبه عليه، فهو مِنْ كسبه وعملِه، فلا يكونُ
_________
(1) ذكره ابن حجر في " فتح الباري " 11/398.
(2) البقرة: 235.
(3) البقرة: 225.
(4) سبق تخريجه في الحديث السابع والعشرين، من حديث النواس بن سمعان.(3/1049)
معفوّاً عنه، ومِنْ هؤلاء من قال: إنَّه يُعاقَبُ عليه في الدُّنيا بالهموم والغموم، رُويَ ذلك عن عائشة مرفوعاً وموقوفاً، وفي صحَّته نظر.
وقيل: بل يُحاسَبُ العبدُ به يومَ القيامة، فيقفُه الله عليه، ثمَّ يعفو عنه، ولا يعاقبه به، فتكونُ عقوبته المحاسبة، وهذا مرويٌّ عن ابن عبّاس، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير، واحتجَّ له بحديث ابن عمر (1)
في النجوى، وذاك ليس فيه عمومٌ، وأيضاً، فإنَّه واردٌ في الذُّنوب المستورة في الدُّنيا، لا في وساوس الصُّدور.
والقول الثاني: لا يُؤاخَذُ بمجرَّد النية مطلقاً، ونُسِبَ ذلك إلى نصِّ الشافعيِّ، وهو قولُ ابن حامدٍ من أصحابنا عملاً بالعمومات. وروى العَوْفيُّ عن ابنِ عباس ما يدلُّ على مثل هذا القول.
وفيه قول ثالث: أنَّه لا يُؤاخَذُ بالهمِّ بالمعصية إلاّ بأنْ يهِمَّ بارتكابها في الحَرَم، كما روى السُّديُّ، عن مرَّةَ، عن عبد الله بن مسعود، قال: ما من عبدٍ يهِمُّ بخطيئةٍ، فلم يَعمَلها، فتكتب عليه، ولو همَّ بقتل إنسان عندَ البيت، وهو بِعَدَنِ أَبْيَنَ، أذاقَهُ الله من عذابٍ أليم، وقرأ عبدُ الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) . خرَّجه الإمام أحمد (3) وغيره.
_________
(1) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (166) ، وأحمد 2/74 و105، وعبد بن حميد
(846) ، والبخاري 3/168 (2441) و6/93 (4685) و8/24 (6070) و9/181 (7514) ، ومسلم 8/105 (2768) (52) ، وابن ماجه
(183) ، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (437) ، والطبري في " تفسيره " (13971) ، وابن حبان (7355) عن ابن عمر، به.
والنجوى: هي ما تكلم به المرءُ يسمع نفسه لا يسمعُ غيره، أو يسمع غيره سراً دون من يليه.
وقال الراغب: ناجيته إذا ساررته، وأصله أنْ تخلو في نجوه من الأرض، انظر: فتح الباري 10/599.
(2) الحج: 25.
(3) أخرجه: أحمد 1/428 و451.
وأخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (2236) ، وأبو يعلى (5384) ، والطبري في " تفسيره " 17/140-141، والطبراني في " الكبير " (9078) ، والحاكم 2/387 موقوفاً.
وأخرجه: الحاكم 2/388 مرفوعاً، ولا يصح.(3/1050)
وقد رواه عن السدي شعبةُ وسفيان، فرفعه شعبة ووقفه سفيان، والقول قول سفيان في وقفه (1) .
وقال الضَّحَّاك (2) : إنَّ الرجل ليهِمُّ بالخطيئة بمكّة، وهو بأرض أخرى، فتكتب عليه، ولم يعملها، وقد تقدَّم عن أحمد وإسحاق ما يدلُّ على مثل هذا القول، وكذا حكاه القاضي أبو يعلي عن أحمد. وروى أحمد في رواية المروذي حديثَ ابنِ مسعودٍ هذا، ثم قال أحمد يقول: مَنْ يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ، قال أحمد: لو أنَّ رجلاً بعدنِ أَبْيَنَ (3)
_________
(1) انظر: العلل للدارقطني 5/268، وتفسير ابن كثير: 1269.
(2) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (18921) .
(3) أبْيَنُ: يفتح أوله ويكسر بوزن أحمر ويقال يبين، وذكره سيبويه في الأمثلة بكسر الهمزة ولا يعرف أهل اليمن غير الفتح، وقال الطبري: ((سميت عدن وأبين بعدن وأبين ابني عدنان)) .
انظر: معجم البلدان 1/78 و3/301.(3/1051)
همَّ بقتل رجل في الحرم، هذا قول الله سبحانه: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، هكذا قول ابن مسعود رحمه الله.
وقد ردَّ بعضهم هذا إلى ما تقدم من المعاصي التي مُتَعلَّقُها القلب، وقال: الحرمُ يجبُ احترامُهُ وتعظيمُه بالقلوب، فالعقوبة على ترك هذا الواجب، وهذا لا يصحُّ، فإنَّ حُرمَةَ الحرمِ ليست بأعظمَ من حُرمَةِ محرِّمه سبحانه، والعزمُ على معصية الله عزمٌ على انتهاكِ محارمِه، ولكن لو عزم على ذلك قصداً، لانتهاكِ حُرمةِ الحرم، واستخفافاً بحُرمته، فهذا كما لو عَزَمَ على فعلِ معصيةٍ لقصدِ الاستخفافِ بحرمةِ الخالق - عز وجل -، فيكفُرُ بذلك، وإنَّما ينتفي الكفرُ عنه إذا كان همُّه بالمعصية لمجرَّد نيل شهوته، وغرض نفسه، مع ذهولِه عن قصدِ مخالفة الله، والاستخفافِ بهيبته وبنظره، ومتى اقترن العملُ بالهمِّ، فإنَّه يُعاقَبُ عليه، سواءٌ كان الفعلُ متأخِّراً أو متقدماً، فمن فعل محرَّماً مرَّةً، ثم عزم على فعله متى قَدَرَ عليه، فهو مُصِرٌّ على المعصية، ومعاقَبٌ على هذه النية، وإن لم يَعُدْ إلى عمله إلاّ بعد سنين عديدة. وبذلك فسّر ابنُ المبارك وغيرُه الإصرار على المعصية.
وبكلِّ حالٍ، فالمعصيةُ إنَّما تكتَبُ بمثلِها من غير مضاعفةٍ، فتكونُ العقوبةُ على المعصيةِ، ولا ينضمُّ إليها الهمُّ بها، إذا لو ضُمَّ إلى المعصية الهمُّ بها، لعُوقبَ على عمل المعصية عقوبتين، ولا يقال: فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة، فإنه إذا عملها بعد الهمِّ بها، أُثيب على الحسنة دُونَ الهمِّ بها، لأنَّا نقول: هذا ممنوع، فإنَّ من عَمِلَ حسنة، كُتِبَت له عشرَ أمثالِها، فيجوزُ أن يكونَ بعضُ هذه الأمثال جزاءً للهمِّ بالحسنة، والله أعلم.
وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم (1) : ((أو محاها الله)) يعني: أنَّ عمل السيِّئة: إمَّا أنْ تُكتَب لعاملها سيِّئة واحدة، أو يمحوها الله بما شاءَ مِنَ الأسباب، كالتوبة والاستغفار، وعمل الحسنات.
_________
(1) سبق تخريجه.(3/1052)
وقد سبق الكلامُ على ما تُمحى به السيِّئات في شرح حديث أبي ذر: ((اتَّقِ الله حيثُما كنت، وأتبع السيِّئةَ الحسنة تمحُها)) (1) .
وقوله بعد ذلك: ((ولا يَهلِكُ على الله إلاّ هالكٌ)) : يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتَّجاوز عن السيِّئات، لا يَهلِكُ على الله إلاّ من هلك، وألقى بيده إلى التَّهلُكة، وتجرَّأ على السيِّئات، ورَغِبَ عن الحسنات، وأعرض عنها. ولهذا قال ابنُ مسعود (2) : ويلٌ لمن غلب وحْدانُه عشراته. وروى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عباس، مرفوعاً: ((هَلَكَ مَنْ غلَبَ واحدُهُ عشراً)) (3) .
وخرَّج الإمام أحمد
_________
(1) سبق تخريجه في الحديث الثامن عشر.
(2) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (11399) .
(3) كان على المصنف أنْ لا يذكر هذا؛ فإنَّ محمد بن السائب الكلبي كذاب، وأبو صالح ضعيف، ولم يلق ابن عباس، وغالب هذه السلسلة من رواية السدي الصغير محمد بن مروان عن
الكلبي، وهذه السلسلة عند المحدّثين تسمى بسلسلة الكذب، وابن عباس بريءٌ من كل ما نسب إليه بهذه السلسلة.(3/1053)
وأبو داود والنسائي والترمذي (1) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/160 و205، وأبو داود (5065) ، والترمذي (3410) ، والنسائي 3/74 وفي " الكبرى "، له (1271) و (10655) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وقال الترمذي: ((حسن صحيح)) .(3/1054)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خَلَّتانِ لا يُحصِيهِما رجلٌ مسلمٌ إلاّ دخَلَ
الجنَّة، وهما يسيرٌ، ومَنْ يعمَلُ بهما قليلٌ: تُسبِّح الله في دبر كلِّ صلاةٍ عشراً، وتَحمده عشراً، وتُكبِّرُه عشراً، قال: فتلك خمسون، ومئة باللسان، وألف وخمس مئة في الميزان، وإذا أخذتَ مضجعك، تُسبحه، وتكبره، وتحمده مئة، فتلك مئة باللسان، وألف في الميزان، فأيُّكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مئة سيِّئة.
وفي " المسند " (1) عن أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يَدَعْ (2) أحدٌ منكم أنْ يعمل لله ألف حسنة حين يُصبح يقول: سبحانَ الله وبحمده مئة مرة، فإنَّها ألفُ حسنةٍ، فإنَّه لنْ يعمل إنْ شاءَ الله تعالى مثل ذلك في يومه من الذنوب، ويكون ما عمل من خير سوى ذلك وافراً)) .
_________
(1) مسند الإمام أحمد 5/199 و6/440.
وأخرجه: أبو يعلى كما في " اتحاف الخيرة " (8122) ، والطبراني في " مسند الشاميين "
(1471) ، وهو حديث ضعيف لضعف أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم.
(2) أي: لا يترك، هو نهيٌّ أو نفيٌّ بمعناه، والمراد: أنَّه لا ينبغي أنْ يترك هذا الخير العظيم.(3/1055)
الحديث الثامن والثلاثون
عَنْ أَبِي هُريرة - رضي الله عنه - قالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله تَعالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً، فَقَدْ آذنتُهُ بالحربِ، وما تَقَرَّب إليَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افترضتُ عَليهِ، ولا يَزالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أَحْبَبْتُهُ، كُنتُ سَمعَهُ الّذي يَسمَعُ بهِ، وبَصَرَهُ الّذي يُبْصِرُ بهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطُشُ بها، ورِجْلَهُ الّتي يَمشي بِها، ولَئِنْ سأَلنِي لأُعطِيَنَّهُ، ولَئِنْ استَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)) . رواهُ البخاريُّ (1) .
هذا الحديثُ تفرَّد بإخراجه البخاري من دون بقية أصحاب الكتب، خرَّجه عن محمد بن عثمان بن كرامة، حدَّثنا خالدُ بن مَخلدٍ، حدثنا سليمانُ بن بلال، حدثني شريكُ بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث بطوله،
_________
(1) في " صحيحه " 8/131 (6502) .
وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/4 - 5، والبيهقي 3/346 و10/219 وفي " الزهد "، له (690) ، والبغوي في " شرح السنة " (1248) .(3/1057)
وزاد في آخره: ((وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه ترددي عن نفس المؤمن يكره الموتَ وأنا أكره مساءته)) .
وهو من غرائب " الصحيح "، تفرّد به ابنُ كرامة عن خالدٍ، وليس هو في
" مسند أحمد "، مع أنَّ خالدَ بن مخلد القطواني تكلَّم فيه أحمدُ وغيره، وقالوا: له
مناكير (1) ، وعطاء الذي في إسنادِه قيل: إنَّه ابنُ أبي رباح، وقيل: إنَّه ابن يسار، وإنَّه وقع
_________
(1) انظر: الجرح والتعديل 3/349 (3892) .(3/1058)
في بعض نسخ " الصحيح " منسوباً كذلك.
وقد رُوي هذا الحديثُ من وجوهٍ أُخر لا تخلو كلُّها عن مقالٍ، فرواه
عبدُ الواحد بن ميمون أبو حمزة مولى عروةَ بن الزُّبير عن عروة، عن عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من آذى لي ولياً، فقد استحلَّ محاربتي، وما تقرَّب إليَّ
عبدي بمثلِ أداء فرائضي، وإنَّ عبدي ليتقرَّب إليَّ بالنوافل حتّى أُحبَّهُ، فإذا
أحببتُه، كنت عينه التي يُبصر بها، ويده التي يبطشُ بها، ورِجلَه التي يمشي
بها، وفؤادهُ الذي يعقل به، ولسانَه الذي يتكلم به، إن دعاني أجبتُه، وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن موته، وذلك أنَّه يكرهُ الموتَ وأنا أكره مساءته)) . خرَّجه ابنُ أبي الدنيا (1) وغيره، وخرّجه الإمام أحمد (2)
بمعناه.
_________
(1) في " الأولياء " (45) عن عائشة، به.
(2) في " مسنده " 6/256، وإسناد الحديث ضعيف جداً؛ لشدة ضعف عبد الواحد مولى عروة، وهو ابن ميمون أبو حمزة قال عنه الإمام البخاري: ((منكر الحديث)) .(3/1063)
وذكر ابنُ عديٍّ (1) أنه تفرَّد به عبدُ الواحد هذا عن عروة، وعبد الواحد هذا قال فيه البخاري (2) : منكرُ الحديثِ، ولكن خرّجه الطبراني (3) : حدثنا هارونُ بنُ كامل، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إبراهيم بن سويد المدني، حدثني أبو حَزْرَة يعقوب بن مجاهد، أخبرني عُروة، عن عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. وهذا إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات مخرّج لهم في " الصحيح " سوى شيخِ الطبراني، فإنَّه لا يحضُرني الآن معرفةُ حاله،
_________
(1) في " الكامل " 6/524.
(2) في " التاريخ الكبير " 5/335 (7774) .
(3) في " الأوسط " (9352) .(3/1064)
ولعلَّ الراوي قال: حدثنا أبو حمزة، يعني:
عبد الواحد بن ميمون (1) ، فخُيّلَ للسامع أنَّه قال: أبو حَزْرَةَ، ثم سماه من عنده بناء على وهمه، والله أعلم.
_________
(1) انظر: التاريخ الكبير 5/335 (7774) ، والجرح والتعديل 6/30 (9374) .(3/1065)
وخرّج الطبراني (1) وغيرُه من رواية عثمان بن أبي العاتكة، عن عليِّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقولُ الله - عز وجل -: من أهان لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة، ابنَ آدم، إنَّك لن تُدركَ ما عندي إلاّ بأداءِ ما افترضتُ عليك، ولا يزالُ عبدي يتحبَّبُ إليَّ بالنوافل حتّى أُحِبَّه، فأكونَ قلبَه الذي يعقِلُ به، ولسانَه الذي ينطِقُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، فإذا دعاني أجبتُه، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصرني نصرتُه، وأحبُّ عبادة عبدي إليَّ النَّصيحة)) . عثمان
وعليُّ ابن يزيد ضعيفان. قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث: هو منكر
جداً (2) .
وقد رُوي من حديث عليٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ضعيف، خرّجه الإسماعيلي في
" مسند علي " (3) .
ورُوي من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، خرّجه الطبراني (4) ، وفيه زيادة في لفظه، ورويناه من وجه آخر عن ابنِ عباس وهو ضعيف أيضاً.
وخرّجه الطبراني وغيرُه (5)
من حديث الحسن بن يحيى الخشني، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن هشام الكِناني، عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن ربِّه تعالى قال:
_________
(1) في " الكبير " (7880) .
(2) في " العلل " 2/399 عقيب (1872) .
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر 11/415.
(4) في " الكبير " (12719) من حديث عبد الله بن عباس، به.
وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/270 عن عبد الله بن عباس، به.
(5) أخرجه: ابن الجوزي في " العلل المتناهية " 1/27 و44 عن أنس بن مالك، به.
وانظر: الإتحافات السنية في الأحاديث القُدسية (93) .(3/1066)
((من أَهانَ لي ولياً، فقد بارزني بالمحاربة، وما تَردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه ما ترددتُ في قبضِ نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ، وأكره مساءته، ولابُدَّ له منه، وإنَّ من عبادي المؤمنين من يُريد باباً من العبادة، فأكفه عنه لا يدخله عُجْبٌ، فيفسدَه ذلك، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزالُ عبدي يتنفَّل إليَّ حتى أُحبه، ومن أحببته، كنتُ له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً، دعاني، فأجبته، وسألني، فأعطيته، ونصح لي فنصحتُ له، وإنَّ من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرتُه، لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطتُ له، أفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته، لأفسده ذلك، إنِّي أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إنِّي عليم خبير)) . والخشني وصدقة ضعيفان، وهشام لا يُعرف، وسئل ابنُ معين عن هشام هذا: من هو؟ قالَ: لا أحد، يعني: أنَّه لا يُعتبر به. وقد خرَّج البزار (1) بعضَ الحديث من طريق صدقة، عن عبد الكريم الجزري، عن أنس (2) .
وخرَّج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة، حدثني زِرُّ بنُ
حُبيش، سمعتُ حذيفة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله تعالى أوحى إليَّ: يا أخا المرسلين، ويا أخا المنذرين أنذر قومك أنْ لا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلِمَة، فإني ألعنه ما دام قائماً بين يديَّ يُصلِّي حتى يَرُدَّ تلك الظُّلامة إلى أهلها، فأكونَ سمعه الذي يسمع به، وأكونَ بصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة)) (3) وهذا إسناد جيد وهو غريب جداً (4) .
_________
(1) لم أعثر على هذا الحديث عند البزار في " مسنده " ولا في " كشف الأستار ".
(2) أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (613) ، والطبعة العلمية (609) قال الطبراني: ((لم يرو هذا الحديث عن عبد الكريم إلاّ صدقة، تفرد به عمر)) . وعمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي الذي تفرد به ضعيف، فالحديث ضعيف، وانظر: مجمع الزوائد 10/270، وفتح الباري 11/349.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/116 من طريق الطبراني، وقال: ((غريب من حديث الأوزاعي، عن عبدة)) ، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 11/349: ((سنده حسن غريب)) .
(4) انظر: حلية الأولياء 6/116، وفتح الباري لابن حجر 11/415.(3/1067)
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرَّجه البخاريُّ، وقد قيل: إنّه أشرف حديثٍ رُوي في ذكر الأولياء (1) .
قوله - عز وجل -: ((من عادى لي ولياً، فقد آذنتُه بالحرب)) يعني: فقد أعلمتُه بأنِّي محاربٌ له، حيث كان محارباً لي بمعاداة أوليائي (2) ، ولهذا جاء في حديث عائشة (3) : ((فقد استحل محاربتي)) وفي حديث أبي أُمامة (4) وغيره: ((فقد بارزني بالمحاربة)) ، وخرج ابن ماجه (5) بإسناد ضعيف (6) عن معاذ بن جبلٍ، سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقول
:
((إنَّ يسيرَ الرياءِ شِركٌ، وإنَّ من عادى لله ولياً، فقد بارز الله بالمحاربة، وإنَّ الله تعالى يحبُّ الأبرارَ الأتقياءَ الأخفياءَ، الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإنْ حضروا، لم
_________
(1) انظر: مجموعة الفتاوى 18/76.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر 11/416.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.
(5) برقم (3989) .
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " 20/ (321) ، والحاكم 4/328، وأبو نعيم في " الحلية " 1/5 عن معاذ بن جبل، به.
(6) بل ضعيف جداً؛ فإنَّ في إسناده عيسى بن عبد الرحمان بن فروة متروك.(3/1068)
يُدْعَوا، ولم يُعرَفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجُون مِنْ كل غبراءَ مظلمةٍ)) .
فأولياءُ الله تجبُ موالاتُهم، وتَحرُمُ معاداتُهم، كما أنَّ أعداءهُ تجبُ معاداتُهم، وتحرم موالاتُهم، قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (1) ، وقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الْغَالِبُونَ} (2) ، ووصف أحبَّاءهُ الذين يُحبهم ويُحبونه بأنَّهم أذلَّةٌ على المؤمنين، أعزَّةٌ على الكافرين، وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " (3) بإسناده عن وهب ابن منبِّهٍ، قال: إنَّ الله تعالى قال لموسى - عليه السلام - حين كلمه: اعلم أنَّ مَنْ أهان لي وليّاً، أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وبادأني، وعرَّض نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرعُ شيءٍ إلى نُصرة أوليائي، أفيظنُّ الذي يُحاربني أنْ يقومَ لي؟ أو يظنُّ الذي يعازّني أنْ يعجزني؟ أم يظنُّ الذي يبارزني أنْ يسبقني أو يفوتني؟ وكيف وأنا الثَّائرُ لهم في الدنيا والآخرة، فلا أَكِلُ نصرتهم إلى غيري.
_________
(1) الممتحنة: 1.
(2) المائدة: 55 - 56.
(3) برقم (342) عن وهب بن منبه، به، وهو جزء من حديث طويل.(3/1069)
واعلم أنَّ جميعَ المعاصي محاربة لله - عز وجل -، قال الحسن: ابنَ آدم هل لك
بمحاربة الله من طاقةٍ؟ فإنَّ مَنْ عصى الله، فقد حاربه، لكن كلَّما كانَ الذَّنبُ أقبحَ، كانت المحاربة لله أشد ولهذا سمّى الله تعالى أَكَلةَ الرِّبا، وقُطَّاع الطَّريق محاربينَ لله تعالى ورسوله؛ لعظيم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداةُ أوليائه، فإنَّه تعالى يتولَّى نُصرةَ أوليائه، ويُحبهم ويؤيِّدُهم، فمن عاداهم، فقد عادى الله وحاربه، وفي الحديث عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتَّخذوهُم غرضاً، فمن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله
يُوشِكُ أن يأخُذَهُ)) خرَّجه الترمذي (1) وغيره.
_________
(1) في " جامعه " (3862) .
وأخرجه: أحمد 4/87 و5/54 - 55 و57 وفي " فضائل الصحابة "، له (3) ، وعبد الله ابن أحمد في زوائده على " الفضائل " (2) و (4) ، وابن حبان (7256) ، وأبو نعيم في
" الحلية " 8/287، والبغوي في " شرح السنة " (3860) من حديث عبد الله بن مغفل،
به، وهو حديث ضعيف، وقد استغربه الترمذي.(3/1070)
وقوله: ((وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافل حتّى أحبَّه)) (1) : لمَّا ذكر أنَّ معاداة أوليائه محاربةٌ له، ذكر بعد ذلك وصفَ أوليائه الذين تحرُم معاداتُهُم، وتجب موالاتُهم، فذكر ما يتقرَّب به إليه، وأصلُ الولاية: القربُ، وأصلُ العداوة: البعدُ، فأولياء الله هُمُ الذين يتقرَّبون إليه بما يقرِّبهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين:
أحدهما: من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وتركَ المحرَّمات؛ لأنَّ ذلك كُلَّه من فرائضِ اللهِ التي افترضها على عباده.
والثاني: من تقرَّب إليه بعدَ الفرائضِ بالنوافل، فظهر بذلك أنَّه لا طريق يُوصِلُ إلى التقرُّب إلى الله تعالى، وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله، فمنِ ادَّعى ولايةَ الله، والتقرُّب إليه، ومحبَّته بغير هذه الطريق، تبيَّن أنَّه كاذبٌ في دعواه، كما كان المشركون يتقرَّبُون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونَه مِنْ دُونِه، كما حكى الله عنهم أنَّهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ
زُلْفَى} (2) ، وكما حكى عن اليهود والنَّصارى أنَّهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ} (3) مع إصرارهم على تكذيبِ رُسله، وارتكاب نواهيه، وترك فرائضه.
فلذلك ذكرَ في هذا الحديث أنَّ أولياء الله على درجتين:
أحدهما: المتقرِّبُون إليه بأداءِ الفرائض،
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) الزمر: 3.
(3) المائدة: 18.(3/1071)
وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضلُ الأعمال كما قال عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه -: أفضلُ الأعمال أداءُ ما افترضَ اللهُ، والوَرَعُ عمّا حرَّم الله، وصِدقُ النيّة فيما عند الله - عز وجل -. وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: أفضلُ العبادة أداءُ الفرائض، واجتنابُ
المحارم (1) ، وذلك لأنَّ الله - عز وجل - إنَّما افترض على عباده هذه الفرائض لِيُقربهم منه، ويُوجِبَ لهم رضوانه ورحمته.
وأعظمُ فرائضِ البدن التي تُقرِّب إليه: الصلاةُ، كما قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (2) ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجدٌ)) (3) ، وقال: ((إذا كان أحدُكم يُصلي، فإنَّما يُناجي ربَّه، أو ربُّه بينَه وبينَ القبلة)) (4) . وقال: ((إنَّ اللهَ يَنصِبُ وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)) (5) .
_________
(1) أخرجه: عبد الله في زوائده على " الزهد " (1711) ، والدينوري في " المجالسة "
(2586) .
(2) العلق: 19.
(3) أخرجه: مسلم 2/49 (482) (215) ، وأبو داود (875) ، والنسائي 2/226 من حديث أبي هريرة، به.
(4) أخرجه: البخاري 1/112 (405) من حديث أنس بن مالك.
(5) أخرجه: الترمذي (2863) ، وابن حبان (6233) ، والطبراني في " الكبير " (3427) و (3428) و (3430) وفي "مسند الشاميين"، له (2870) عن الحارث الأشعري، به.
وهو جزء من حديث طويل، قال فيه الترمذي: ((حسن صحيح غريب)) .(3/1072)
ومن الفرائض المقرّبة إلى الله تعالى: عدلُ الرَّاعي في رعيَّته، سواءٌ كانت رعيَّتُه عامّةً(3/1073)
كالحاكم، أو خاصةً كعدلِ آحاد النَّاس في أهله وولده، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كُلُّكم راعٍ وكُلُكم مسؤولٌ عن رعيَّته)) (1) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن عبد الله بن عمرٍو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ المُقسطين عند الله على منابِرَ من نُورٍ على يمين الرحمان - وكلتا يديه يمين - الذين يَعدِلُون في حكمهم وأهليهم وما ولُوا)) .
وفي " الترمذي " (3) عن أبي سعيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ أحبَّ العبادِ إلى الله يَومَ القيامةِ وأدناهم إليه مجلساً إمامٌ عادلٌ)) .
_________
(1) أخرجه: البخاري 2/6 (893) ، ومسلم 6/7 (1829) (20) من حديث عبد الله بن عمر، به.
(2) 6/7 (1827) (18) .
(3) في " جامعه " (1329) ، وهو حديث ضعيف في إسناده عطية بن سعد العوفي ضعيف عند المحدّثين، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) ، وهو من تساهله رحمه الله.(3/1074)
الدرجة الثانية: درجةُ السابقين المقرَّبين، وهُمُ الذين تقرَّبوا إلى الله بعدَ الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفافِ عن دقائقِ المكروهات بالوَرعِ، وذلك يُوجبُ للعبدِ محبَّة اللهِ، كما قال: ((ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتّى أُحبَّه)) (1) ، فمن أحبه الله، رزقه محبَّته وطاعته والاشتغالَ بذكره وخدمته، فأوجبَ له ذلك القرب منه، والزُّلفى لديه، والحظْوة عنده، كما قال الله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) ، ففي هذه الآية إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ
أعرض عن حبنا، وتولى عن قربنا، لم نبال، واستبدلنا به من هو أولى بهذه المنحة
منه وأحقُّ، فمن أعرضَ عنِ الله، فما له مِنَ الله بَدَلٌ، ولله منه أبدال.
ما لي شُغل سِواه ما لي شُغلُ ... ما يَصرِفُ عن هواه قلبي عذلُ
ما أصنعُ إنْ جفا وخابَ الأملُ ... مِنِّي بدل ومنه ما لي بدلُ
وفي بعض الآثار يقول الله - عز وجل -: ((ابنَ آدم، اطلبني تجدني، فإنْ وجدتني، وجدتَ كُلَّ شيء، وإنْ فُتُّك، فاتك كُلُّ شيءٍ، وأنا أحَبُّ إليك من كلِّ
شيءٍ)) (3) .
كان ذو النون يردّد هذه الأبيات بالليل كثيراً:
اطلبوا لأنفسكم ... مثل ما وَجَدْتُ أنا
قد وجدت لي سكَناً ... ليس في هواه عَنَا
إنْ بَعَدْتُ قرَّبَنِي ... أو قَرُبْتُ مِنه دَنا (4)
من فاته الله، فلو حصلت له الجنةُ بحذافيرها، لكان مغبوناً، فكيف إذا لم يحصل له إلاَّ نزرٌ يسيرٌ حقيرٌ من دارٍ كلها لا تَعدِلُ جَناحَ بعوضةٍ:
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) المائدة: 54.
(3) انظر: تفسير ابن كثير: 1768 وصدّره بقوله: ((وقد ورد في بعض الكتب الإلهية)) ثم ساقه مطولاً.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/344.(3/1075)
مَنْ فَاتَهُ أَنْ يَراكَ يَوماً ... فَكُلُّ أوقاتِهِ فَواتُ
وحَيثُما كنتُ من بِلادٍ ... فَلِي إلى وَجْهِكَ التِفَاتُ
ثم ذكر أوصاف الذين يُحبهم الله ويُحبُّونه، فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، يعني أنَّهم يعامِلون المؤمنين بالذِّلَّة واللِّين وخفض الجناح، {أَعزَّة على الكافرين} (2) ، يعني أنَّهم يعاملون الكافرين بالعزَّة والشدَّة عليهم، والإغلاظ لهم، فلما أحبُّوا الله، أحبُّوا أولياءه الذين يُحبونه، فعاملوهُم بالمحبَّة، والرَّأفة، والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يُعادونه، فعاملُوهم بالشِّدَّة والغِلظة، كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (3) {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (4) ، فإنَّ من تمام المحبة مجاهدةَ أعداءِ المحبوب، وأيضاً، فالجهادُ في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسَّيفِ والسِّنان بعد دعائهم إليه بالحجَّةِ والبرهانِ، فالمحبُّ لله يحبُّ اجتلابَ الخلق كلِّهم إلى بابه؛ فمن لم يُجبِ الدعوةَ باللين والرِّفق، احتاج إلى الدعوة بالشدّة والعنف: ((عجب ربّك من قومٍ يُقادون إلى الجنّة بالسَّلاسل)) (5) .
{وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (6) ؛
_________
(1) المائدة: 54.
(2) المائدة: 54.
(3) الفتح: 29.
(4) المائدة: 54.
(5) أخرجه: أحمد 2/302 و406، والبخاري 4/73 (3010) ، وأبو داود (2677) ، وابن حبان (134) من حديث أبي هريرة، مرفوعاً.
(6) المائدة: 54.(3/1076)
لا همَّ للمحبِّ غيرُ ما يُرضي حبيبه، رضي من رضي، وسَخِطَ من سخط، من خاف الملامة في هوى من يُحبُّه، فليس بصادقٍ في المحبَّةِ:
وقف الهوي بي حيثُ أنتِ فَلَيسَ لي ... مُتَأَخَّرٌ عنه ولا مُتقدَّمُ
أَجِدُ الملامَةَ في هَواكِ لَذيذةً ... حُباً لِذكرك فليلُمْني اللُّوَّمُ (1)
_________
(1) انظر: الشعر والشعراء لأبي الشيص: 834.(3/1077)
قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} (1) ، يعني درجة الذين يُحبهم
ويُحبونه بأوصافهم المذكورة، {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) : واسعُ العطاءِ، عليمٌ بمن يستحقُّ الفضل، فيمنحه، ومن لا يستحقُّه، فيمنعه.
ويروى أنَّ داود - عليه السلام - كان يقول: اللهمَّ اجعلني من أحبابك، فإنَّك إذا أحببتَ عبداً، غفرتَ ذنبَه، وإنْ كان عظيماً، وقبِلْتَ عمله، وإنْ كان يسيراً، وكان داود - عليه السلام - يقول في دعائه: اللهمَّ إنِّي أسأَلُكَ حبَّكَ وحبَّ من يُحبُّك وحبَّ العمل الذي يُبلغني حُبَّك، اللهمَّ اجعلْ حُبَّكَ أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد (3) .
وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني ربي - عز وجل - يعني: في المنام - فقال لي: يا محمد قُل: اللهمَّ إني أسألك حبَّك، وحُبَّ من يُحبُّك، والعمل الذي يُبلِّغُني حُبَّك)) (4) .
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ارزقني حبَّك وحبَّ من ينفعني حبُّه عندكَ، اللهمَّ ما رزقتني مما أحِبُّ فاجعله قوَّةً لي فيما تُحِبُّ، اللهمَّ ما زَويتَ عني مما أحبُّ فاجعله فراغاً لي فيما تُحِبُّ)) (5) .
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يدعو: ((اللهمَّ اجعل حُبَّك أحبَّ
_________
(1) المائدة: 54.
(2) المائدة: 54.
(3) أخرجه: الترمذي (3490) ، والحاكم 2/433 من حديث أبي الدرداء مرفوعاً، به، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) ، وهو من تساهله؛ فالحديث ضعيف لجهالة أحد رواته.
وأخرجه: أحمد في " الزهد " (374) بنحوه عن أبي عبد الله الجدلي موقوفاً، به.
(4) أخرجه: أحمد 5/243، والترمذي (3235) وفي " العلل "، له (397) ، وابن خزيمة في "التوحيد": 218 - 219، والطبراني في "الكبير" 20/ (216) عن معاذ بن جبل، به.
وهو جزء من حديث طويل، قال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث: فقال: هذا حديث حسن صحيح)) . ...
(5) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (430) ، والترمذي (3491) ، وابن الأثير في " أسد الغابة " 3/416 من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري، به مرفوعاً، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) .(3/1078)
الأشياءِ إليَّ، وخشيتَك أخوف الأشياء عندي، واقطع عنِّي حاجاتِ الدُّنيا بالشَّوق إلى لقائك، وإذا أقررتَ أعيُنَ أهل الدُّنيا من دنياهم، فأقرِرْ عيني من عبادتك)) (1) .
فأهلُ هذه الدرجة مِنَ المقرَّبين ليس لهم همٌّ إلاَّ فيما يُقرِّبُهم ممن يُحبهم
ويحبونه، قال بعضُ السلف: العمل على المخافة قد يُغيِّرُه الرجاءُ، والعملُ على المحبة لا يَدخله الفتورُ، ومن كلامِ بعضهم: إذا سئم البطَّالون من بطالتهم، فلن يسأم محبُّوكَ من مناجاتك وذكرك (2) .
قال فرقد السَّبَخي: قرأتُ في بعض الكتب: من أحبَّ الله، لم يكن عنده شيءٌ آثَرَ من هواه، ومن أحبَّ الدُّنيا، لم يكن عنده شيءٌ آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أميرٌ مؤمَّر على الأمراء زمرته أول الزمر يومَ القيامة، ومجلسه أقربُ المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولنْ يسأم المحبُّون من طول اجتهادهم لله - عز وجل - يُحبُّونه ويحبُّون ذكرَه ويحببونه إلى خلقه يمشون بين عباده
بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائحُ، أولئك أولياءُ الله
وأحباؤه، وأهلُ صفوته، أولئك الذين لا راحةَ لهم دُونَ
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/282 من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي، مرسلاً، وهو ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي مريم ولإرساله.
(2) سقطت من (ص) .(3/1079)
لقائه.
وقال فتح الموصليُّ: المحبُّ لا يجد مع حبِّ الله - عز وجل - للدنيا لَذَّةً، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عينٍ.
وقال محمدُ بن النضر الحارثي: ما يكادُ يملُّ القربةَ إلى الله تعالى محبٌّ لله - عز وجل -، وما يكاد يسأمُ من ذلك.
وقال بعضهم: المحبُّ لله طائرُ القلب، كثيرُ الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيلٍ يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوباً دَوباً، وَشوقاً شوقاً، وأنشد بعضهم:
وكُنْ لِرَّبك ذا حُبٍّ لِتَخْدمه ... إنَّ المحبين للأحبابِ خُدَّامُ
وأنشد آخر:
ما للمُحِبِّ سوى إرادةِ حُبِّه ... إنَّ المحبَّ بكلِّ برٍّ يَضرَعُ
ومن أعظم ما يُتقرَّب به العبد إلى الله تعالى مِنَ النَّوافل: كثرة تلاوة القرآن، وسماعهُ بتفكُّر وتدبُّرٍ وتفهُّمٍ، قال خباب بن الأرت لرجل: تقرَّب إلى الله ما استطعتَ، واعلم أنَّك لن تتقرب إليه بشيءٍ هو أحبُّ إليه من كلامه (1) .
وفي " الترمذي " (2) عن أبي أُمامة مرفوعاً: ((ما تقرَّب العبادُ إلى الله بمثل ما خرجَ منه)) يعني القرآن،
_________
(1) أخرجه: الحاكم 2/441 عن خَبّاب بن الأرت، به.
(2) في جامعه (2911) ، وهو حديث ضعيف وطرقه الأخرى كلها ضعيفة.
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " (7657) عن أبي أُمامة، به. مرفوعاً.
وأخرجه: الترمذي (2912) من طريق زيد بن أرطأة عن جُبير بن نُفير مرسلاً.
وأخرجه: الحاكم 1/555 عن أبي ذَر الغفاري، به.(3/1080)
لا شيءَ عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذَّةُ قلوبهم، وغايةُ مطلوبهم. قال عثمان: لو طَهُرَتْ قلوبُكم ما شبعتُم من كلام
ربكم (1) . وقال ابنُ مسعود: من أحبَّ القرآن فهو يُحب الله ورسوله (2) .
قال بعضُ العارفين لمريدٍ: أتحفظُ القرآن؟ قال: لا، فقال: واغوثاه بالله! مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟ فبم يترنم؟ فبم يُناجي ربه - عز وجل -؟
كان بعضُهُم يُكثِرُ تلاوة القرآن، ثم اشتغل عنه بغيره، فرأى في المنام قائلاً يقول له:
إن كُنتَ تَزعُمُ حُبِّي ... فَلِمَ جَفوتَ كِتابي
أما تأمَّلتَ ما فيـ ... ـهِ مِنْ لَطيفِ عِتابي
ومن ذلك: كثرةُ ذكر الله الذي يتواطأ عليه القلبُ واللسان. وفي " مسند
البزار " (3) عن معاذٍ، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله تعالى؟ قال: ((أنْ تموت ولسانُك رَطْبٌ من ذكر الله تعالى)) .
_________
(1) أخرجه: عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " (680) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/300 بإسناد منقطع.
(2) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (8657) ، وانظر: مجمع الزوائد 7/165.
(3) برقم (3059) كما في " كشف الأستار "، وانظر: مجمع الوزائد 10/74.(3/1081)
وفي الحديث الصحيح عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - عز وجل -: أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكُرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإٍ خيرٍ منهم)) (1) . وفي حديث آخر: ((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرَّكت بي شفتاه)) (2) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/251، والبخاري 9/177 (7505) ، ومسلم 8/62 (2675) (2) من حديث أبي هريرة، به.
(2) أخرجه: أحمد 2/540، وابن ماجه (3792) ، وابن حبان (815) ، والبغوي (1242) من حديث أبي هريرة، به، وهو حديث صحيح.(3/1082)
وقال - عز وجل -: {فاذْكُرُوني أذكُركُم} (1) .
ولما سمع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الذين يرفعون أصواتهم بالتَّكبير والتَّهليل وهُمْ معه في سفر، قال لهم: ((إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنَّكم تدعون سميعاً قريباً، وهو
معكم)) (2) .
_________
(1) البقرة: 152.
(2) أخرجه: البخاري 4/69 (2992) ، ومسلم 8/73 (2704) (44) من حديث أبي موسى الأشعري، به.(3/1083)
وفي رواية: ((وهو أقرب إليكم مِنْ أعناقِ رواحِلكم)) (1) .
ومن ذلك: محبةُ أولياء الله وأحبائه فيه، ومعاداة أعدائه فيه،
_________
(1) أخرجه: مسلم 8/74 (2704) (46) ، وأبو داود (1526) ، والترمذي (3374) من حديث أبي موسى الأشعري، به.(3/1084)
وفي " سنن أبي
داود " (1) عن عمر - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ من عباد الله لأُناساً ما هُم بأنبياء ولا شُهداءَ، يغبطُهم الأنبياءُ والشُّهداءُ بمكانهم من الله - عز وجل -)) ، قالوا: يا رسول الله، مَنْ هم؟ قال: ((هُمْ قومٌ تحابُّوا بروحِ الله على غيرِ أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطَوْنَها، فوالله، إنَّ وُجُوهَهم لنورٌ، وإنَّهم لعلى نور، لا يخافون إذا خافَ النَّاسُ، ولا يَحزَنُون إذا حزن الناس)) ، ثم تلا هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) . ويروى نحوه من حديث أبي مالك الأشعري عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) برقم (3527) ، وفي إسناده انقطاع إلا أنَّ للحديث شواهد.
(2) يونس: 62.(3/1085)
وفي حديثه: ((يَغبِطُهم النَّبيُّون بقربهم ومقعدهم منَ اللهِ - عز وجل -)) (1) .
وفي " المسند " (2) عن عمرو بن الجموح، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يجدُ العبدُ صريحَ الإيمان حتّى يُحبَّ لله ويُبغِضَ لله، فإذا أحبَّ لله، وأبغض لله، فقد استحقَّ الولايةَ من الله، إنَّ أوليائي من عبادي وأحبَّائي مِنْ خلقي الَّذين يُذكَرون بذكري، وأُذْكَرُ بذكرهم)) .
وسُئل المرتعش: بم تُنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه (3) ، وأصله الموافقة.
وفي " الزهد " (4) للإمام أحمد عن عطاء بن يسار، قال: قال موسى - عليه السلام -: يا ربِّ، مَنْ هُمْ أهلُك الذين تُظلُّهم في ظلِّ عرشك؟ قالَ: يا موسى، هُمُ البريئة
أيديهم، الطَّاهرةُ قلوبهم، الَّذين يتحابُّون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم، الذين يُسبغون الوضوء في المكاره، ويُنيبون إلي ذكري كما تُنيب النُّسور إلى وكورها، ويكْلَفُون بحُبِّي كما يَكلَفُ الصبيُّ بالنّاس، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلَّت، كما يغضبُ النَّمِرُ إذا حَرِبَ.
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/343، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب.
(2) مسند الإمام أحمد 3/430، وهو ضعيف لضعف رشدين بن سعد ولانقطاعه، وانظر: مجمع الزوائد 1/89.
(3) أخرجه: أبو عبد الرحمان السلمي في " طبقات الصوفية ": 351.
(4) برقم (389) .(3/1086)
قوله: ((فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها)) (1) ، وفي بعض الروايات: ((وقلبَه الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق به)) (2) .
المراد بهذا الكلام: أنَّ منِ اجتهدَ بالتقرُّب إلى الله بالفرائضِ، ثمَّ بالنوافل، قَرَّبه إليه، ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصيرُ يَعبُدُ الله على الحضورِ والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئُ قلبُه بمعرفة الله تعالى، ومحبَّته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأُنس به، والشَّوقِ إليه، حتّى يصيرَ هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة كما قيل:
ساكنٌ في القلب يَعْمُرُه ... لَسْتُ أنساهُ فأَذكُرُه
غَابَ عَنْ سمعي وعن بصري ... فسُوَيدا القلب تُبصِرُه
قال الفضيلُ بن عياض: إن الله يقول: ((كذَب من ادَّعى محبَّتي، ونام عنِّي، أليس كل محبٍّ يُحبّ خلوة حبيبه؟ ها أنا مطَّلعٌ على أحبابي وقد مثَّلوني بين
أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلَّموني بحضورٍ، غداً أُقِرُّ أعينهم في
جناني)) (3) .
ولا يزالُ هذا الذي في قلوب المحبين المقرَّبين يقوى حتّى تمتلئ قلوبُهم به، فلا يبقي في قلوبهم غيرُه، ولا تستطيع جوارحُهُم أنْ تنبعثَ إلا بموافقة ما في قلوبهم، ومن كان حالُه هذا، قيل فيه: ما بقي في قلبه إلا الله، والمراد معرفته ومحبته وذكره، وفي هذا المعنى الأثر الإسرائيلي المشهور: ((يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن)) (4) .
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه: الدينوري في "المجالسة" (132) ، وعبد الحق الأشبيلي في " التهجد " (1046) و (1047) .
(4) ذكره: الزركشي في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة ": 135، والسخاوي في " المقاصد الحسنة " (990) ، والملا علي القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " (657) و (810) و (1021) ، والعجلوني في " كشف الخفاء " (2256) .
وانظر: أسنى المطالب (1290) ، وقد أجاد ابن رجب - رحمه الله - حينما نسبه إلى الإسرائيليات؛ فهذا مما ورد عن أهل الكتاب كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في
" مجموع الفتاوى " 18/122، والسيوطي في " الدرر المنتثرة ": 362، ويخطئ بعض الناس فينسب هذا حديثاً نبوياً، وهو لا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.(3/1087)
وقال بعضُ العارفين: احذروه، فإنَّه غيورٌ لا يُحبُ أنْ يرى في قلبِ عبده غيرَه، وفي هذا يقول بعضهم:
ليس للنَّاسِ موضِعٌ في فؤادي ... زاد فيه هواك حتَّى امتلا
وقال آخر:
قَدْ صِيغَ قلبي على مقدار حبِّهمُ ... فما لِحبٍّ سواهم فيه مُتَّسعُ
وإلى هذا المعنى أشار النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم المدينة فقال: ((أحبوا الله من كلِّ قلوبكم)) كما ذكره ابن إسحاق في " سيرته " (1) فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى، محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره، ولا يتحرَّك إلا بأمره، فإنْ نطقَ، نطق بالله، وإنْ سمِعَ، سمع به، وإنْ نظرَ، نظر به، وإنْ بطشَ، بطش به،
_________
(1) السِّيرة النَّبوية لابن هشام 2/106 (وهي تهذيب لسيرة ابن إسحاق) ، ومن طريقه البيهقي في " دلائل النبوة " 2/525 وسنده مرسل، وانظر: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث 1/504.(3/1088)
فهذا هو المرادُ بقوله: ((كنت سمعه الذي يسمعُ به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويده التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها)) (1) ، ومن أشار إلى غير هذا، فإنَّما يُشير إلى الإلحاد مِنَ الحلول، أو الاتِّحاد، والله ورسولُه بريئان منه.
ومن هنا كان بعضُ السَّلف كسليمان التيمي يرون أنّه لا يحسن أن يعصي الله. ووصَّتِ امرأةٌ مِنَ السَّلف أولادها، فقالت لهم: تعوَّدُوا حبَّ الله وطاعته، فإنَّ المتَّقين ألِفُوا الطّاعة، فاستوحشت جوارحُهُم من غيرها، فإنْ عرض لهمُ الملعونُ بمعصيةٍ، مرَّت المعصيةُ بهم محتشمةً، فهم لها منكرون.
ومن هذا المعنى قولُ عليٍّ: إنْ كُنَّا لنرى أنَّ شيطان عمر ليهابُه أن يأمُرَه بالخطيئة (2) ، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنَّ هذا مِنْ أسرار التوحيد الخاصة، فإنَّ معنى لا إله إلا الله: أنَّه لا يؤلَّه غيرُه حباً، ورجاءً، وخوفاً، وطاعةً، فإذا تحقَّق القلبُ بالتَّوحيد التَّامِّ، لم يبق فيه محبةٌ لغير ما يُحبُّه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك، لم تنبعثْ جوارحُهُ إلاّ بطاعة الله، وإنَّما تنشأ الذُّنوب من محبَّة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يُحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النَّفس على محبَّة الله وخشيته، وذلك يقدحُ في كمال التَّوحيد الواجبِ، فيقعُ العبدُ بسببِ ذلك في التَّفريط في بعض الواجبات، أو ارتكابِ بعضِ المحظوراتِ، فأمَّا من تحقَّق قلبُه بتوحيدِ الله، فلا يبقى له همٌّ إلا في الله وفيما يُرضيه به، وقد ورد في الحديث مرفوعاً: ((من أصبح وَهمُّه غيرُ الله، فليس من الله)) (3) ،
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) ذكره: ابن الجوزي في " مناقب عمر ": 225 عن الشعبي، عن علي، به مطولاً.
(3) أخرجه: الحاكم 4/320 عن عبد الله بن مسعود، به.
وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 3/48، والبيهقي في " شعب الإيمان " (1585)
و (10586) ، وطبعة الرشد (10101) و (10102) عن أنس بن مالك، به، وهو حديث ضعيف لا يصح.(3/1089)
وخرَّجه الإمام أحمد من حديث أبيِّ بن كعب موقوفاً قال: مَن أصبح وأكبر همِّه غيرُ الله فليس من الله. قال
بعض العارفين: من أخبرك أنَّ وليه له همٌّ في غيره، فلا تُصدِّقه.
كان داود الطائي يُنادي بالليل: همُّك عَطَّل عليَّ الهمومَ، وحالف بيني وبين السُّهاد، وشوقي إلى النَّظر إليك أوثق مني اللذات، وحالَ بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب (1) ، وفي هذا يقول بعضهم:
قالوا تشاغَلَ عنَّا واصطفى بدلاً ... منَّا وذلك فعلُ الخائن السالي
وكيف أشغلُ قلبي عن محبتكم ... بغير ذِكركُم يا كُلَّ أشغالي
قوله: ((ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه)) (2) ، وفي الرواية الأخرى: ((إنْ دعاني أجبتُه، وإنْ سألني، أعطيته)) (3) ، يعني أنَّ هذا المحبوبَ المقرَّب، له عند الله منْزلةٌ خاصة تقتضي أنَّه إذا سأل الله شيئاً، أعطاه إياه، وإنِ استعاذَ به من شيءٍ، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيصير مجابَ الدعوة لكرامته على ربه - عز وجل -، وقد كان كثيرٌ مِنَ السَّلف الصَّالح معروفاً بإجابة الدعوة. وفي
" الصحيح " (4) : أنَّ الرُّبيِّعَ بنتَ النَّضر كسِرَتْ ثَنِيَّة جارية، فعرضوا عليهم الأرش، فأبَوْا، فطلبوا منهمُ العفو، فأبوا، فقضى بينهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 7/356 - 357.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) صحيح البخاري 3/243 (2703) و4/23 (2806) و6/29 (4500) و65
(4611) .(3/1090)
بالقصاصِ، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثَنِيَّة الرُّبيع؟ والذي بعثك بالحقِّ لا تُكسر ثنيَّتُها، فرضي القومُ، وأخذوا الأرش، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ من عبادِ الله مَنْ لو أقسمَ على الله لأبرَّه)) .(3/1091)
وفي " صحيح الحاكم " (1)
عن أنس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كَمْ من ضعيفٍ مُتَضعَّفٍ ذي طِمرين لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراءُ بن مالك)) ، وأنَّ البراء لقي زحفاً من المشركين، فقال له المسلمون: أقسِمْ على ربِّك، فقال: أقسمتُ عليك يا ربِّ لما منحتنا أكتافَهُم، فمنحهم أكتافَهم، ثم التقوا مرّة أخرى، فقالوا: أَقسِمْ على ربِّك، فقال: أقسمتُ عليك يا ربِّ لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، فمنحوا أكتافهم، وقُتِلَ البراء.
_________
(1) الحاكم في " المستدرك " 3/292.
وأخرجه: الترمذي (3854) ، وابن الأثير في " أُسد الغابة " 1/206 عن أنس بن مالك، به، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) ، وفي أسانيد الحديث مقال.(3/1092)
وروى ابن أبي الدنيا (1) بإسنادٍ له أنَّ النعمان بن قوقل قال يومَ أحدٍ: اللهمَّ إنِّي أُقسم عليك أنْ أُقتل، فأدخل الجنَّة، فقُتِل، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ النعمان أقسم على الله فأبرَّه)) .
وروى أبو نعيم (2) بإسناده عن سعدٍ: أنَّ عبد الله بن جحش قال يومَ أحد: يا رب، إذا لقيتُ العدوَّ غداً، فلَقِّنِي رجلاً شديداً بأسُهُ، شديداً حرَدُهُ أُقاتلُه فيك ويُقاتلني، ثم يأخذني فيَجْدَعُ أنفي وأذني، فإذا لقيتُك غداً، قلتَ: يا عبد الله، من جدعَ أنفَكَ وأُذنك؟ فأقولُ: فيك وفي رَسولِك، فتقولُ: صدقتَ، قال سعد: فلقد لقيته آخرَ النهار، وإنَّ أنفه وأذنه لمعلَّقتان في خيط.
وكان سعدُ بنُ أبي وقَّاص مجابَ الدعوة، فكذب عليه رجلٌ، فقال: اللهم إنْ كان كاذباً، فاعم بصره، وأطل عمره، وعرِّضه للفتن، فأصاب الرجل ذلك كلُّه، فكان يتعرَّض للجواري في السِّكك ويقول: شيخ كبير، مفتون أصابتني دعوةُ سعد (3) .
ودعا على رجلٍ سمعه يشتِمُ علياً، فما بَرِحَ من مكانه حتَّى جاءَ بَعيرٌ نادٌّ، فخبطه بيديه ورجليه حتّى قتله (4) .
_________
(1) في كتاب "مجابو الدعوة " (22) ، وإسناده ضعيف لضعف جَسْر بن الحسن اليمامي.
(2) في " الحلية " 1/108 - 109، وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/66 - 67، وسير أعلام النبلاء 1/112.
(3) أخرجه: البخاري 1/192 (755) عن جابر بن سُمرة، به.
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (36) ، والطبراني في " الكبير " (307) ، وانظر: مجمع الزوائد 9/154.(3/1093)
ونازعت امرأةٌ سعيدَ بن زيد في أرضٍ له، فادَّعت أنَّه أخذ منها أرضَهَا، فقال: اللَّهمَّ إنْ كانت كاذبةً، فاعم بصرها، واقتلها في أرضها، فعَمِيَت، وبينا هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها، فماتت (1) .
وكان العلاءُ بن الحضرمي في سَريَّةٍ، فعَطِشُوا فصلَّى فقال: اللهمَّ يا عليم
يا حليم يا عليُّ يا عظيمُ، إنا عبيدُك وفي سبيلك نقاتلُ عدوَّكَ، فاسقنا غيثاً
نشربُ منه ونتوضأ، ولا تجعل لأحد فيه نصيباً غيرنا، فساروا قليلاً، فوجدوا
نهراً من ماءِ السَّماء يتدفَّقُ فشربوا وملؤوا أوعيتهم، ثم ساروا فرجع بعضُ
أصحابه إلى موضع النَّهرِ، فلم ير شيئاً، وكأنَّه لم يكن في موضعه ماء
قط (2) .
وشُكي إلى أنس بن مالك عطشُ أرضٍ له في البصرة، فتوضأ وخرج إلى
البرية، وصلّى ركعتين؛ ودعا فجاء المطرُ فسقى أرضه، ولم يُجاوِزِ المطر أرضه إلا يسيراً (3) .
واحترقت خِصاصٌ بالبصرة في زمن أبي موسى الأشعري، وبقي في وسطها خُصٌّ لم يحترق، فقالَ أبو موسى لصاحب الخص: ما بالُ خُصِّك لم يحترق؟
فقال: إني أقسمتُ على ربي أن لا يحرقه، فقال أبو موسى: إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((في أمتي رجالٌ طُلْسٌ رُؤوسهم، دنسٌ ثيابُهم لو أقسموا على الله لأبرَّهم)) (4) .
وكان أبو مسلم الخولاني مشهوراً بإجابة الدعوة، فكان يمرُّ به الظبي، فيقول له الصبيان: ادعُ الله لنا أنْ يحبس علينا هذا الظَّبيَ، فيدعو الله، فيحبسه حتى يأخذوه
_________
(1) أخرجه: مسلم 5/57 - 58 (1610) (138) .
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (40) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/7 - 8.
(3) أخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 7/15، وابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (44) .
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الأولياء " (42) عن أبي موسى الأشعري، به.(3/1094)
بأيديهم (1) .
ودعا على امرأة أفسدت عليه عِشْرَةَ امرأته له بذهاب بصرها، فذهب بصرها في الحال، فجاءته، فجعلت تُناشِدُه الله وتطلُب إليه، فرحمها ودعا الله فردَّ عليها بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها معه (2) .
وكذب رجلٌ على مطرِّف بن عبد الله الشخِّير، فقال له مطرف: إنْ كنتَ
كاذباً، فعجَّل الله حَتْفَكَ، فمات الرجل مكانه (3) .
وكان رجل من الخوارج يغشى مَجلِسَ الحسن البصري، فيُؤذيهم، فلما زاد
أذاه، قال الحسن: اللهمَّ قد علمت أذاه لنا، فاكفناه بما شئت، فخرَّ الرجل من قامته، فما حُمِلَ إلى أهله إلاّ ميتاً على سريره (4) .
وكان صِلةُ بنُ أشيم في سَريِّةٍ، فذهبت بغلتُه بثقلها، وارتحل الناسُ، فقام يُصلي،
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (84) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/129.
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (85) ، وأبو نعيم في " الحلية " 129 - 130.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (92) .
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (93) .(3/1095)
وقال: اللهمَّ إنِّي أُقسمُ عليك أنْ تردَّ عليَّ بغلتي وثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه (1) .
وكان مرَّةً في برية قفرٍ فجاع، فاستطعم الله، فسمع وجبةً خلفه، فإذا هو بثوب أو منديل فيه دَوْخَلة (2) رطب طريٍّ، فأكل منه، وبقي الثوب عندَ امرأته معاذة العدوية، وكانت من الصالحات (3) .
وكان محمدُ بنُ المنكدر في غزاة، فقال له رجل من رُفقائِه: اشتهي جُبناً رطباً، فقال ابنُ المنكدر: استطعموا الله يُطعِمكُم، فإنَّه القادر، فدعا القومُ، فلم يسيروا إلا قليلاً، حتَّى رأوا مِكتلاً مخيطاً، فإذا هو جبنٌ رطبٌ، فقال بعضُ القوم: لو كان عسلاً فقال ابن المنكدر: إنّ الذي أطعمكم جبناً هاهنا قادرٌ على أن يُطعِمَكم
عسلاً، فاستَطعِموه، فدعوا، فساروا قليلاً، فوجدوا ظرفَ عسلٍ على الطريق، فنَزلوا فأكلوا (4) .
وكان حبيبٌ العجميُّ أبو محمد معروفاً بإجابة الدعوة؛ دعا لغلام أقرع الرأس، وجعل يبكي ويمسح بدُموعه رأسَ الغلام، فما قام حتَّى اسودَّ شعر رأسه، وعاد كأحسن الناس شعراً (5) .
وأُتي برجلٍ زمنٍ في مَحملٍ فدعا له، فقام الرجلُ على رجليه، فحمل مَحمِلَه على عنقه، ورجع إلى عياله (6) .
واشترى في مجاعةٍ طعاماً كثيراً، فتصدَّقَ به على المساكين، ثمَّ خاط أكيسَةً، فوضعها تحتَ فراشه، ثمَّ دعا الله، فجاءه أصحابُ الطَّعام يطلبُونَ ثمنه، فأخرج
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (55) .
(2) سفيفة من خوص يوضع فيها الطعام. انظر: الفائق 1/216.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (56) .
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (67) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/151.
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (96) .
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (97) .(3/1096)
تلك الأكيسةَ، فإذا هي مملوءةٌ دراهمَ، فوزنها، فإذا هي قدرُ حقوقهم، فدفعها إليهم (1) .
وكان رجلٌ يعبثُ به كثيراً، فدعا عليه حبيبٌ (2) فبَرَصَ (3) . وكان مرَّةً عند مالك بن دينار، فجاءه رجلٌ، فأغلظَ لمالكٍ مِنْ أجلِ دراهمَ قسمها مالك، فلمَّا طال ذلك من أمره، رفع حبيبٌ يده إلى السَّماء، فقال: اللهمَّ إنَّ هذا قد شغلنا عن ذِكرِك، فأَرِحْنا منه كيف شئتَ، فسقط الرجل على وجهه ميتاً (4) .
وخرج قومٌ في غزاةٍ في سبيل الله، وكان لبعضهم حمارٌ، فمات وارتحل أصحابُه، فقام فتوضأ وصلّى، وقال: اللهمَّ إنِّي خرجتُ مجاهداً في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأشهدُ أنَّك تُحيي الموتى، وتبعثُ مَنْ في القبور، فأحي لي حماري، ثم قام إلى الحمار فضربه، فقام الحمار ينفضُ أذنيه، فركبه ولَحِقَ أصحابه، ثمَّ باع الحمارَ بعدَ ذلك بالكُوفة (5) .
وخرجت سريَّةٌ في سبيل الله، فأصابهم بردٌ شديد حتّى كادوا أن
يهلِكُوا، فدعَوا الله - عز وجل - وإلى جانبهم شجرةٌ عظيمةٌ، فإذا هي تلتهبُ ناراً، فجفَّفُوا ثيابهم، ودفِئُوا بها حتّى طلعت عليهم الشمس، فانصرفوا، وردت الشجرة على هيئتها.
وخرج أبو قِلابة صائماً حاجاً فتقدم أصحابَه في يومٍ صائفٍ، فأصابه عطشٌ شديدٌ، فقال: اللهمَّ إنَّك قادرٌ على أنْ تُذهِبَ عطشي من غير فطرٍ، فأظلَّته سحابةٌ، فأمطرت عليه حتّى بلَّتْ ثوبه، وذهب العطشُ عنه، فنَزل فحوَّض حياضاً فملأها، فانتهى إليه أصحابُه فشربوا، وما أصابَ أصحابه من ذلك المطر شيءٌ (6) .
ومثلُ هذا كثيرٌ جداً، ويطول استقصاؤُه. وأكثر من كان مجابَ الدعوة من السلف كان يَصبِرُ على البلاء، ويختار ثوابه، ولا يدعو لنفسه بالفرج منه.
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (99) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/150.
(2) سقطت من (ص) .
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (124) .
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (95) .
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (49) .
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (131) وفي " الأولياء "، له (63) .(3/1097)
وقد رُوي أنَّ سعدَ بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة دعوته، فقيل له: لو دعوتَ الله لِبصرك، وكان قد أضرَّ، فقال: قضاءُ الله أحبُّ إليَّ من بصري.
وابتلي بعضُهم بالجُذام، فقيل له: بلغنا أنَّك تَعرِفُ اسمَ الله الأعظم، فلو سألته أنْ يَكشِفَ ما بك؟ فقال: يا ابن أخي، إنَّه هو الذي ابتلاني، وأنا أكره أنْ أُرادَّه (1) .
وقيل لإبراهيم التيمي - هو في سجن الحجاج - لو دعوتَ الله تعالى، فقال: أكره أنْ أدعُوَهُ أنْ يُفرِّجَ عنِّي ما لي فيه أجر. وكذلك سعيدُ بنُ جبير صبر على أذى الحجاج حتّى قتله، وكان مجابَ الدعوة؛ كان له ديكٌ يقوم بالليل بصياحه للصلاة فلم يَصِحْ ليلةً في وقته، فلم يقم سعيدٌ للصلاة فشقَّ عليه فقال: ما له؟ قطع الله صوتَه، فما صاح الدِّيكُ بعد ذلك، فقالت له أمه: يا بني لا تَدْعُ بعد هذا على شيءٍ (2) .
وذُكر لرابعة رجلٌ له منْزلةٌ عند الله، وهو يقتاتُ مما يلتقِطُه مِنَ المنبوذات على المزابل، فقال رجل: ما ضرَّ هذا أنْ يدعو الله أنْ يُغنِيَه عن هذا؟ فقالت رابعةُ: إنَّ أولياءَ الله إذا قضي الله لهم قضاءٌ لم يتسخَّطوه.
وكان حيوةُ بنُ شُريح ضيِّقَ العيشِ جداً، فقيل له: لو دعوت الله أنْ يُوسِّعَ
عليك، فأخذ حصاة من الأرض فقال: اللهمَّ اجعلها ذهباً، فصارت تبرةً في كفِّه، وقال: ما خيرٌ في الدُّنيا إلاّ الآخرة، ثم قال: هو أعلم بما يُصلحُ عباده (3) .
وربما دعا المؤمنُ المجابُ الدعوة بما يعلم الله الخِيَرةَ له في غيره، فلا يُجيبه إلى
سؤاله، ويُعوِّضه عنه ما هو خيرٌ له إما في الدنيا أو في الآخرة. وقد تقدم في حديث أنس المرفوع: ((إنَّ الله يقول: إنَّ من عبادي من يسألني باباً
_________
(1) انظر: الأولياء لابن أبي الدنيا: 25.
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " مجابو الدعوة " (122) .
(3) سبق تخريجه.(3/1098)
من العبادة، فأكفه عنه كيلا يَدخُلَه العُجْبُ)) (1) .
وخرَّج الطبراني (2) من حديث سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ من أمتي مَنْ لو جاء أحدُكم يسأله ديناراً لم يُعطِه، ولو سأله دِرهماً لم يُعطِهِ، ولو سأله فِلساً لم يُعطه، ولو سأل الله الجنَّة لأعطاه إيَّاها ذو طِمرين لا يُؤبَهُ له، لو أقسم على الله لأبرَّه)) . وخرَّجه غيرُه من حديث سالم مرسلاً، وزاد فيه: ((ولو سأل الله شيئاً من الدنيا ما أعطاه تكرمةً له)) .
وقوله: ((وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفس عبدي المؤمن: يكرهُ الموتَ، وأكره مساءته)) . المرادُ بهذا أنَّ الله تعالى قضى على عباده بالموت، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (3) ، والموتُ: هو مفارقةُ الروح للجسد، ولا يحصلُ ذلك إلا بألمٍ عظيمٍ جداً، وهو أعظمُ الآلام التي تُصيب العبد في الدُّنيا، قال عمر لِكعبٍ: أخبرني عن الموت، قال يا أميرَ المؤمنين، هو مثلُ شجرةٍ كثيرةِ الشَّوك في جوف ابنِ آدم، فليس منه عِرقٌ ولا مَفْصِل إلا ورجل شديد الذراعين، فهو يعالجها ينْزعها، فبكى عمر (4) .
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الأولياء " (1) ، وانظر: مجمع الزوائد 10/264.
(2) في " الأوسط " (7548) .
وانظر: الترغيب والترهيب (4692) ، ومجمع الزوائد 10/264.
(3) آل عمران: 185.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/365، وانظر: فتح الباري 11/421.(3/1099)
ولما احتضر عمرو بنُ العاص سأله ابنُه عن صفة الموت، فقال: والله لكأنَّ جنبيَّ في تخت، ولكأنِّي أتنفَّسُ من سمِّ إبرة، وكأن غُصنَ شوكٍ يُجَرُّ به من قدمي إلى هامتي (1) .
وقيل لرجل عندَ الموت: كيف تجدُك؟ فقال: أجدني أُجتذب اجتذاباً، وكأنَّ الخناجرَ مختلفة في جوفي، وكأنَّ جوفي تنُّور محمىًّ يلتهِبُ توقداً.
وقيل لآخر: كيف تَجِدُكَ؟ قال: أجدني كأنَّ السماوات منطبقةٌ على الأرض عليَّ، وأجد نفسي كأنَّها تخرجُ من ثقب إبرة.
فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ، والله تعالى قد حتمه على عباده كلِّهم، ولابدَّ لهم منه، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته، سمَّى تردُّداً في حقِّ المؤمن، فأمَّا الأنبياءُ عليهم السلام، فلا يُقبضون حتَّى يُخيَّروا (2) .
قال الحسن: لمّا كرهت الأنبياءُ الموتَ، هوَّن الله عليهم بلقاء الله، وبكلِّ ما أحبوا من تحفةٍ أو كرامة حتّى إنَّ نَفْسَ أحدهم تُنْزَعُ من بين جنبيه وهو يُحِبُّ ذلك لما قد مُثِّلَ له.
وقد قالت عائشة: ما أُغْبِطُ أحداً يهون عليه الموتُ بعد الذي رأيتُ من شدِّةِ موتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) ،
قالت: وكان عنده قدحٌ من ماءٍ، فيُدخِلُ يدَه في القدح، ثمَّ يمسح وجهَه بالماء، ويقول: ((اللهمَّ أعني على سكرات الموت)) (4)
_________
(1) أخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 4/196، وانظر: فتح الباري 11/421.
(2) انظر: فتح الباري 11/421.
(3) أخرجه: أحمد 6/64 و77، والبخاري 6/14 (4446) ، والترمذي (979) وفي
" الشمائل "، له (388) ، والنسائي 4/6 - 7.
(4) أخرجه: أحمد 6/64 و70 و77 و151، وابن ماجه (1623) ، والترمذي (978) وفي " الشمائل "، له (387) .(3/1100)
قالت: وجعل يقول: ((لا إله إلا الله إنَّ للموت لسكراتٍ)) (1) . وجاء في حديث مرسل أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهمَّ إنَّك تأخذُ الروحَ من بين العَصَب والقصب والأنامل، اللهمَّ فأعنِّي على الموت وهوِّنه عليَّ)) (2) .
وقد كان بعضُ السَّلف يَستَحِبُّ أنْ يُجْهَدَ عند الموت، كما قال عمر بن
عبد العزيز: ما أحبُّ أنْ تُهَوَّنَ عليَّ سكراتُ الموت، إنَّه لآخر ما يُكفر به عن المؤمن (3) . وقال النَّخعي: كانوا يستحبون أنْ يجهدوا عند الموت (4) .
وكان بعضهم يخشى من تشديد الموت أنْ يُفتن، وإذا أراد الله أنْ يهوِّن على
العبد الموت هوَّنه عليه. وفي " الصحيح " (5) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ المؤمنَ إذا حضره الموتُ، بُشِّرَ برضوان الله وكرامته، فليس شيءٌ أحبَّ إليه مما أمامه، فأحبَّ لقاءَ الله، وأحبَّ
_________
(1) أخرجه: البخاري 8/133 (6510) .
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في كتاب " الموت " كما قال الحافظ العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء " 6/2495 (3930) ، والمرسل أحد أنواع الحديث الضعيف.
(3) أخرجه: أحمد في " الزهد " (1718) ، وأبو نعيم في " الحلية " 5/317.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 4/232 بنحوه.
(5) صحيح البخاري 8/132 (6507) من حديث عبادة بن الصامت، به.(3/1101)
الله لقاءه)) .
قال ابنُ مسعود: ((إذا جاء ملكُ الموت يَقبِضُ روحَ المؤمن، قال له: إنَّ ربَّكَ يُقرِئُكَ السَّلام)) (1) .
وقال محمَّد بن كعب: يقول له ملَكُ الموت: السلامُ عليك يا وليَّ الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم تلا: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ
عَلَيْكُمُ} (2) (3) .
وقال زيد بن أسلم: تأتي الملائكة المؤمنَ إذا حضر، وتقولُ له: لا تَخَفْ مما أنتَ قادِمٌ عليه - فيذهب الله خوفه - ولا تحزن على الدنيا وأهلِها، وأبشر بالجنة، فيموتُ وقد جاءته البشرى.
وخرَّج البزار (4) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله أضَنُّ بموت عبده المؤمن من أحدكم بكريمةِ ماله حتّى يقبضه على فراشه)) .
وقال زيدُ بن أسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ لله عباداً هم أهلُ المعافاة في الدنيا والآخرة)) (5) .
وقال ثابت البناني: إنَّ لله عباداً يُضَنُّ بهم في الدنيا عن القتل والأوجاع، يُطيلُ أعمارهم، ويُحسِنُ أرزاقَهم، ويُميتهم على فُرشهم، ويطبعُهم بطابع الشهداء (6) .
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي 10/102.
(2) النحل: 32.
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (16295) .
(4) كما في " كشف الأستار " (42) ، وهو حديث ضعيف لضعف عبد الرحمان بن زياد الإفريقي، وانظر: مجمع الزوائد 1/82.
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الأولياء " (24) من طريق زيد بن أسلم، مرسلاً.
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الأولياء " (5) .(3/1102)
وخرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا (1) والطبراني (2) مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وفي بعض
ألفاظها: ((إنَّ لله ضنائنَ من خلقه يأبى بهم عن البلاء، يُحييهم في عافية، ويُميتهم في عافية، ويُدخلهم الجنَّة في عافية)) .
قال ابن مسعود وغيره (3) : إنَّ موت الفجاءة تخفيفٌ على المؤمن (4) . وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: إني لأرجو أنْ لا يخنقني الله كما أراكم تُخنَقون عند
الموت (5) ، وكان ليلة في داره، فسمعوه ينادي: يا عبدَ الرحمان، وكان
عبدُ الرحمان قد قُتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتى مسجدَ بيته، فصلى فقُبِض وهو ساجد (6) .
وقُبِضَ جماعة من السَّلف في الصلاة وهم سجود. وكان بعضهم يقول لأصحابه: إنِّي لا أموت موتَكم، ولكن أُدعى فأجيب، فكان يوماً قاعداً مع أصحابه، فقال: لبَّيك ثم خَرَّ ميتاً.
وكان بعضهم جالساً مع أصحابه فسمِعوا صوتاً يقول: يا فلان أجِبْ، فهذه والله آخرُ ساعاتِك مِنَ الدُّنيا، فوثب وقال: هذا والله حادي الموت، فودَّع أصحابه،
_________
(1) في " الأولياء " (2) و (3) .
(2) في " الكبير " (13425) وفي " الأوسط "، له (6369) ، وله طرق أيضاً عند علي بن الجعد في " مسنده " (3571) ، وأبي نعيم في " الحلية " 1/6، وطرق الحديث كلها ضعيفة، وانظر: علل الدارقطني 4/432-433، ومجمع الزوائد 10/265 و266.
(3) سقطت من (ص) .
(4) أخرجه: عبد الرزاق (6776) ، والطبراني في "الكبير" (8865) من طرق عن الأعمش، عن رجل، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، به.
(5) أخرجه: ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (2628) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/31.
(6) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 2/31.(3/1103)
وسلَّم عليهم، ثمَّ انطلق نحو الصوت، وهو يقول: سلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين، ثم انقطع عنهم الصوتُ، فتتبَّعوا أثره، فوجدوه ميتاً.
وكان بعضهم جالساً يكتب في مصحف، فوضع القلمَ من يده، وقال: إنْ كان موتُكم هكذا، فوالله إنَّه لموتٌ طيِّبٌ، ثم سقط ميتاً. وكان آخر جالساً يكتب الحديثَ، فوضع القلم من يده، ورفع يديه يدعو الله، فمات.(3/1104)
الحديث التاسع والثلاثون
عَنِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إنَّ الله تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسيانَ، وما استُكْرِهُوا عليهِ)) . حديثٌ حسَنٌ رَواهُ ابنُ ماجهْ والبَيَهقيُّ وغيرهما.
هذا الحديثُ خرَّجه ابن ماجه (1) من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخرَّجه ابنُ حبَّان في " صحيحه " (2) والدارقطني (3) ، وعندهما: عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، عن ابنِ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر، ورواتُه كلهم محتجٌّ بهم في " الصحيحين " وقد خرَّجه الحاكم (4) ، وقال: صحيح على شرطهما. كذا قال، ولكن له علة، وقد أنكره الإمام أحمد (5) جداً، وقال: ليس يُروى فيه إلاَّ عن الحسن، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
_________
(1) في " سننه " (2045) .
وأخرجه: العقيلي في " الضعفاء الكبير " 4/145، والطبراني في " الأوسط " (8273) ، والبيهقي 6/84 و7/156 - 157.
(2) الحديث (7219) .
(3) في " السنن " 4/170 - 171.
وأخرجه: الطحاوي في " شرح المعاني " 3/95، وابن حبان (7219) ، والطبراني في
" الصغير " (752) ، وابن عدي في " الكامل " 3/209 و212 و213، والحاكم 2/198، والبيهقي 7/156 و10/61.
(4) في " المستدرك " 2/198.
(5) في " العلل "، له 1/205.(3/1105)
وقيل لأحمد: إنَّ الوليد بن مسلم روى عن مالك، عن نافع، عن ابن
عمر مثله (1) ، فأنكره أيضاً (2) .
وذكر لأبي حاتم الرازي حديثُ الأوزاعي، وحديث مالك، وقيل له: إنَّ الوليد روى أيضاً عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن عقبة بن عامر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثله (3) ، فقال أبو حاتم: هذه أحاديث منكرة كأنَّها موضوعة، وقال: لم يسمع الأوزاعيُّ هذا الحديث من عطاءٍ، وإنَّما سمعه من رجل لم يسمه، أتوهَّمُ أنّه عبدُ الله بن عامر، أو إسماعيل بن مسلم، قال: ولا يصحُّ هذا الحديث، ولا يثبت إسنادُه (4) .
قلت: وقد رُوي عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عُبيد بن عُمَير مرسلاً من غير ذكر ابن عباس (5) ، وروى يحيى بنُ سليم، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: بلغني أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله تجاوزَ لأمَّتي عَنِ الخطأ والنِّسيان، وما استُكرهوا عليه)) (6) خرَّجه الجوزجاني، وهذا المرسلُ أشبه.
وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً رواه مسلم بن خالد الزنجي،
عن سعيد العلاف، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تُجُوِّزَ لأمَّتي عن
ثلاث: عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه)) (7) خرَّجه الجوزجاني. وسعيد
العلاف: هو سعيد بن أبي صالح، قال أحمد: وهو مكيٌّ، قيل له: كيف حالُه؟
قالَ: لا أدري وما علمتُ أحداً روى عنه غير مسلم بن خالد (8) ، قالَ أحمد: وليس هذا مرفوعاً، إنَّما هوَ عن ابن عباس قوله. نقل ذَلِكَ عنه مهنا،
_________
(1) أخرجه: العقيلي في " الضعفاء الكبير " 4/145، والطبراني في " الأوسط " (8274) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/352، والبيهقي 6/84.
(2) انظر: العلل لأحمد بن حنبل 1/205.
(3) أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (8276) ، والبيهقي 7/357.
(4) انظر: العلل لابن أبي حاتم 1/431.
(5) أخرجه: ابن عدي في " الكامل " 3/212.
(6) أخرجه: ابن أبي شيبة 4/172.
(7) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (11274) .
(8) انظر: الجرح والتعديل 4/77 (5443) .(3/1106)
ومسلم بن خالد ضعفوه (1) .
وروي من وجه ثالثٍ من رواية بقية بن الوليد، عن عليٍّ الهمداني، عن أبي جمرة عن ابن عباس مرفوعاً، خرَّجه حرب، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تُساوي شيئاً.
ورُوي من وجه رابع خرَّجه ابن عدي (2) من طريق عبد الرحيم بن زيد العَمِّي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الرحيم هذا ضعيف (3) .
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ أُخَر، وقد تقدَّم أنَّ الوليد بن مسلم رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، وصححه الحاكم وغرَّبه (4) ، وهو عند حُذَّاق الحفّاظ باطل على مالك، كما أنكره الإمامُ أحمد وأبو حاتم، وكانا يقولان عن الوليد: إنَّه كثيرُ الخطأ. ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود، قال: روى الوليدُ بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصلٌ، منها: عن نافع أربعة (5) .
قلت: والظاهر أنَّ منها هذا الحديث، والله أعلم.
وخرَّجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعتُ أبا الأشعث يُحدث عن ثوبان عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله - عز وجل - تجاوز عن أمتي عن ثلاثة: عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه)) (6) .
_________
(1) قال ابن معين: ((ليس به بأس)) ، وقال مرة: ((ثقة)) ، وقال مرة: ((ضعيف)) ، وقال البخاري: ((منكر الحديث)) ، وقال أبو حاتم: ((لا يحتج به)) ، وضعفه أبو داود، وقال ابن المديني: ((ليس بشيء)) ، وقال النسائي: ((ضعيف)) .
انظر: التاريخ الكبير 7/138 (10435) ، والكامل لابن عدي 8/6، وميزان الاعتدال 4/102 (8485) .
(2) في " الكامل " 6/494.
(3) قال عنه يحيى بن معين: ((ليس بشيء)) ، وقال مرة: ((تركوه)) ، وقال البخاري
: ((تركوه)) ، وقال أبو زرعة: ((واهي، ضعيف الحديث)) ، وقال العقيلي: ((لا يتابع عليه ولا على كثير من حديثه)) .
انظر: التاريخ الكبير 5/368 (7915) ، والجرح والتعديل 5/402، والضعفاء للعقيلي 3/79، والكامل لابن عدي 9/493.
(4) انظر: التلخيص الحبير 1/673.
(5) سؤالات أبي عبيد الآجري 2/183 (1543) ، وانظر: تهذيب الكمال 3/444
(2847) ، وميزان الاعتدال 4/347، وتهذيب التهذيب 4/380 و11/136.
(6) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (1430) .(3/1107)
ويزيد بن ربيعة ضعيف جداً (1) .
وخرَّج ابن أبي حاتم (2)
من رواية أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أمِّ الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله تجاوزَ لأمَّتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان والاستكراه)) . قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآنا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (3) . وأبو بكر الهذلي متروك الحديث (4) .
وخرَّجه ابن ماجه (5) ، ولكن عنده عن شهر، عن أبي ذرٍّ الغفاري، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكر هوا عليه)) ولم يذكر كلام الحسن.
وأما الحديث المرسل عن الحسن، فرواه عنه هشام بن حسّان (6) ، ورواه منصور، وعوف عن الحسن (7) من قوله، لم يرفعه. ورواه جعفر بن جسر بن فرقد، عن أبيه، عن الحسن، عن أبي بكرة
_________
(1) قال عنه البخاري: ((عنده مناكير)) ، قال مرة: ((حديثه مناكير)) ، وقال أبو حاتم
: ((ضعيف الحديث، منكر الحديث، واهي الحديث)) ، وقال النسائي: ((متروك)) ، وقال السعدي: ((أحاديث يزيد بن ربيعة أباطيل، أخاف أن تكون موضوعة)) .
انظر: التاريخ الكبير 8/213، والجرح والتعديل 9/322، والضعفاء للعقيلي 4/376، والكامل لابن عدي 9/133، وميزان الاعتدال 4/422.
(2) في " التفسير " (3092) ، والطبراني كما في " نصب الراية " 2/65.
وأخرجه: ابن عدي في " الكامل " 4/343 عن الحسن مرسلاً.
(3) البقرة: 286.
(4) ذكر أبو بكر الهذلي لشعبة، فقال: ((دعني لا أقيء)) ، وقال ابن معين: ((ليس بثقة)) ، وقال غندر: ((كان أبو بكر الهذلي كذاباً)) ، وقال البخاري: ((ليس بالحافظ عندهم)) ، وقال النسائي: ((متروك الحديث)) ، وقال أيضاً: ((ليس بثقة)) .
انظر: الكامل لابن عدي 4/340 - 341، وميزان الاعتدال 4/497.
(5) في " سننه " (2043) .
(6) أخرجه: معمر في " جامعه " (20588) ، وعبد الرزاق (11416) ، وسعيد بن منصور في " السنن " (1145) .
(7) أخرجه: سعيد بن منصور في " السنن " (1144) .(3/1108)
مرفوعاً (1) ، وجعفر وأبوه
ضعيفان (2) .
قال محمدُ بن نصر المروزي (3) : ليس لهذا الحديث إسنادٌ يحتجُّ به حكاه البيهقي.
_________
(1) أخرجه: ابن عدي في " الكامل " 2/390، وأبو نعيم في " أخبار أصفهان " 1/90 - 91 و251 - 252.
(2) قال البخاري: ((جسر ليس بذاك عندهم)) ، وقال: ((ليس بقوي)) ، وقال ابن معين
:
((جسر ليس بشيء)) ، وقال النسائي: ((جسر ضعيف)) ، وقال أبو حاتم: ((جسر ليس بالقوي كان رجلاً صالحاً)) ، وقال ابن عدي: ((لجعفر مناكير وأبيه مضعِّف)) ، وقال أيضاً: ((جسر من الضعفاء وابنه مثله)) . =
= ... انظر: التاريخ الكبير 2/226، والجرح والتعديل 2/472، والكامل لابن عدي 2/390 و421 و425، وميزان الاعتدال 1/398 و404.
(3) في الاختلافات كما في " التلخيص الحبير " 1/672.(3/1109)
وفي " صحيح مسلم " (1) عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال لما نزل قولُه تعالى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2) قال الله: قد فعلتُ.
وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّها لما نزلت، قال: نعم (3) ، وليس واحدٌ منهما مصرّحاً برفعه.
_________
(1) 1/81 (126) (200) .
وأخرجه: الترمذي (2992) ، والنسائي في " الكبرى " (11059) وفي " التفسير "، له (79) ، والطبراني في " تفسيره " (5130) ، وابن حبان (5069) ، والواحدي في
" أسباب النْزول " (116) بتحقيقي.
(2) البقرة: 286.
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (5131) ، وأبو عوانة 1/75 - 76.(3/1110)
وخرّج الدارقطني (1) من رواية ابن جُريج، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن
النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، وما أكرهوا عليه،
إلاَّ أنْ يتكلَّموا به أو يعملوا)) ، وهو لفظ غريب. وقد خرَّجه النسائي (2) ولم يذكر الإكراه. وكذا رواه ابنُ عُيينة عن مِسعَرٍ، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن أبي هُريرة،
_________
(1) في " السنن " 4/171.
وأخرجه: البخاري 8/168 (6664) عن زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة، مرفوعاً، بلفظ: ((إنَّ الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم)) فلفظ الصحيح يعل لفظ رواية الدارقطني، وكتاب الدارقطني وإن سمي بالسنن إلا أنَّ مؤلفه قصد بيان غرائب وعلل أحاديث الأحكام، وقد نصّ على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: أبو علي الصدفي وابن تيمية وابن عبد الهادي والزيلعي، وبيان ذلك في " الجامع في العلل " يسر الله إتمامه وطبعه.
(2) في " المجتبى " 6/156.(3/1111)
عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وزاد فيه: ((وما استكرهوا عليه)) خرَّجه ابن
ماجه (1) . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة، ولم يُتابعه عليها أحد. والحديث مخرَّجٌ من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها.
ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع، فقوله: ((إنَّ الله تجاوز لي عن أُمَّتي الخطأ والنِّسيان)) إلى آخره تقديره: إنَّ الله رفع لي عن أُمَّتي الخطأ، أو ترك ذلك عنهم، فإنَّ ((تجاوز)) لا يتعدّى بنفسه.
وقوله: ((الخطأ والنسيان، وما استُكرِهُوا عليه)) .
فأما الخطأ والنسيان، فقد صرَّح القرآن بالتَّجاوُزِ عنهما قال الله تعالى:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2) ، وقال: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (3) .
وفي " الصحيحين " (4) عن عمرو بن العاص سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا حكمَ الحاكمُ، فاجتهد، ثم أصابَ، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر)) .
_________
(1) في " سننه " (2044) .
(2) البقرة: 286.
(3) الأحزاب: 5.
(4) البخاري 9/132 (7352) ، ومسلم 5/131 (1716) (15) و132 (1716)
(15) .
وأخرجه: أحمد 4/198 و204، وأبو داود (3574) ، وابن ماجه (2314) ، والنسائي في " الكبرى " (5918) و (5919) ، وابن حبان (5061) .(3/1112)
وقال الحسن: لولا ما ذَكَر الله من أمر هذين الرجلين - يعني: داود وسليمان - لرأيت أنَّ القُضاةَ قد هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه، وعَذَرَ هذا باجتهاده (1) : يعني: قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ} (2) الآية.
وأما الإكراه فصرَّح القرآن أيضاً بالتجاوز عنه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} (3) ، وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (4) الآية.
ونحن نتكلم إنْ شاء الله في هذا الحديث في فصلين: أحدهما في حكم الخطأ والنسيان، والثاني في حكم الإكراه.
الفصل الأول
في الخطأ والنسيان
الخطأ: هو أن يَقصِدَ بفعله شيئاً، فيُصادف فعلُه غير ما قصده، مثل: أنْ يقصد قتلَ كافرٍ، فيصادف قتله مسلماً.
والنسيان: أنْ يكون ذاكراً لشيءٍ، فينساه عندَ الفعل، وكلاهما معفوٌّ عنه، بمعنى أنَّه لا إثمَ فيه، ولكن رفعُ الإثم لا يُنافي أنْ يترتَّب على نسيانه حكم.
كما أنَّ من نسيَ الوضوء، وصلَّى ظانّاً أنَّه متطهِّرٌ، فلا إثم عليه بذلك، ثم إنْ تبيَّنَ له أنَّه كان قد صلَّى محدِثاً فإنَّ عليه الإعادة.
ولو ترك التسميةَ على الوضوء نسياناً، وقلنا بوجوبها، فهل يجبُ عليه إعادةُ الوضوء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد (5) .
وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسياناً، فيه عنه روايتان (6) ، وأكثرُ الفقهاء على أنَّها تؤكل.
ولو ترك الصلاة نسياناً، ثم ذكر، فإنَّ عليه القضاء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من نامَ عن صلاةٍ أو نسيها، فليُصَلِّها إذا
_________
(1) أخرجه: ابن حجر في " تغليق التعليق " 5/291 - 292.
وقد ذكره البخاري 9/84 معلقاً.
(2) الأنبياء: 78.
(3) النحل: 106.
(4) آل عمران: 28.
(5) انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/69 - 70.
(6) انظر: المصدر السابق 3/10.(3/1113)
ذكرها، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك)) (1) ثمَّ تلا: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (2) .
ولو صلَّى حاملاً في صلاته نجاسةً لا يُعفى عنها، ثم علم بها بعد صلاته، أو في أثنائها، فأزالها فهل يُعيدُ صلاته أم لا؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد (3) ، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه خلع نعليه في صلاته وأتمَّها، وقال: ((إنَّ جبريل أخبرني أنَّ فيهما أذى)) (4) ولم يُعد صلاته.
ولو تكلَّم في صلاته ناسياً أنَّه في صلاة، ففي بطلان صلاته بذلك قولان
مشهوران، هما روايتان عن أحمد (5) ، ومذهبُ الشافعي: أنَّها لا تَبطُلُ بذلك (6) .
ولو أكل في صومه ناسياً، فالأكثرون على أنَّه لا يَبطُلُ صيامه، عملاً
بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَكل، أو شرب ناسياً، فليتمَّ صومه، فإنَّما أطمعه الله
وسقاه)) (7) . وقال مالك: عليه الإعادة؛ لأنَّه بمنزلة من ترك الصلاة ناسياً (8) ، والجمهور يقولون: قد أتى بنيَّةِ الصيام، وإنَّما ارتكب بعض محظوراته ناسياً، فيُعفى عنه (9) .
ولو جامع ناسياً، فهل حكمه حكم الآكل ناسياً أم لا؟ فيهِ قولان:
_________
(1) أخرجه: البخاري 1/155 (597) ، ومسلم 2/142 (684) (314) ، والبيهقي 2/218 و456 من حديث أنس بن مالك مرفوعاً بهذا اللفظ.
(2) طه: 14.
(3) انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/153.
(4) أخرجه: أحمد 3/20 و92، وأبو داود (650) ، وابن خزيمة (1017) ، وابن حبان
(2185) ، والحاكم 1/260، والبيهقي 2/402 و431 من حديث أبي سعيد الخدري، وهو حديث صحيح.
وروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن مسعود.
(5) انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/138.
(6) انظر: المجموع للنووي 4/15.
(7) أخرجه: أحمد 2/395 و425 و489 و491 و493 و513، والبخاري 3/40 (1933) و8/170 (6696) ، ومسلم 3/160 (1155) (171) ، وأبو داود (2398) ، وابن ماجه (1673) ، والترمذي (721) و (722) ، والنسائي في " الكبرى " (3275) من حديث أبي هريرة.
(8) انظر: المدونة الكبرى 1/334 وما ذهب إليه المصنف من هذا التعليل غير صحيح، بل حجتهم في ذلك أنَّ هذا الحديث خبر آحاد وقد عارض القاعدة العامة التي تقول: النسيان لا يؤثر في باب المأمورات، أي لا يؤثر من ناحية براءة ذمة المكلف قال ابن العربي في "عارضة الأحوذي" 3/197: ((أصل مالك في أنَّ خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به)) فما يفسد الصوم بعدمه على وجه العمد، فإنَّه يفسده على وجه النسيان، كما في النية، والصيام ركنه الإمساك، فإذا فات الركن في العبادة وجب الإتيان به، وقد تعذر هنا، فاقتضى الحكم بفساد صومه، وانظر: أثر اختلاف الأسانيد والمتون في اختلاف الفقهاء: 219-220.
(9) انظر: المفصل لعبد الكريم زيدان 2/72.(3/1114)
أحدهما: - وهو المشهور عن أحمد - أنَّه يَبطُلُ صيامُه بذلك وعليه القضاء، وفي الكفارة عنه روايتان (1) . والثاني: لا يبطل صومه بذلك، كالأكل، وهو مذهب الشافعي (2) ، وحُكي رواية عن أحمد (3) . وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسياً: هل يبطُل به النُّسُكُ أم لا؟
ولو حلف لا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً ليمينه، أو مخطئاً ظانّاً أنّه غير المحلوف عليه، فهل يحنث في يمينه أم لا؟ فيه ثلاثةُ أقوالٍ هي ثلاث روايات عن أحمد (4) :
أحدها: لا يحنث بكلِّ حال، ولو كانت اليمينُ بالطَّلاق والعتاق، وأنكر هذه الرواية عن أحمد الخلالُ، وقال: هي سهو من ناقلها، وهو قولُ الشافعي في أحد قوليه، وإسحاق، وأبي ثور، وابن أبي شيبة، ورُوي عن عطاء، قال إسحاق: ويُستحلف أنَّه كان ناسياً ليمينه.
والثاني: يحنث بكلِّ حال، وهو قولُ جماعة مِنَ السَّلف ومالك.
والثالث: يفرَّق بين أنْ يكونَ يمينُه بطلاقٍ أو عتاقٍ، أو بغيرهما، وهو المشهورُ عن أحمد، وقول أبي عُبيدٍ، وكذا قال الأوزاعيُّ في الطلاق، وقال: إنَّما الحديثُ الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسياً، وأقام على امرأته، فلا إثم عليه، فإذا ذكر، فعليه اعتزالُ امرأته، فإنَّ نسيانَه قد زال. وحكى إبراهيم الحربي إجماعَ التابعين على وقوع الطلاق بالناسي.
ولو قتل مؤمناً خطأً، فإنَّ عليه الكفَّارةَ والدِّيَة بنصِّ الكتاب،
_________
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر 7/181، والمسائل الفقهية من كتاب الروايتين والواجهين 1/260.
(2) انظر: التمهيد لابن عبد البر 7/179، والمجموع 6/228.
(3) انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى 1/291.
(4) انظر: المغني لابن قدامة 11/175 - 176.(3/1115)
وكذا لو أتلف مالَ غيره خطأً يظنُّه أنَّه مالُ نفسه.
وكذا قال الجمهورُ في المُحرِم يقتل الصَّيدَ خطأً، أو ناسياً لإحرامه أنَّ عليه جزاءه (1) ، ومنهم من قال: لا جزاءَ عليه إلاَّ أنْ يكونَ متعمداً لقتله تمسُّكاً
بظاهر (2) قوله - عز وجل -: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (3) الآية، وهو رواية عن أحمد، وأجاب الجمهورُ عن الآية بأنَّه رتَّب على قتله متعمداً الجزاء وانتقامَ الله تعالى، ومجموعُهما يختصُّ بالعامد، وإذا انتفى العمدُ، انتفى الانتقامُ، وبقي الجزاءُ ثابتاً بدليل آخر.
والأظهر - والله أعلم - أنَّ الناسي والمخطئ إنَّما عُفي عنهما بمعنى رفع الإثم
عنهما؛ لأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنيَّات، والناسي والمخطئ لا قصدَ لهما، فلا إثم عليهما، وأمَّا رفعُ الأحكام عنهما، فليس مراداً منْ هذه النصوص، فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليلٍ آخر.
_________
(1) كذا قال ابن عباس والحسن ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (9782) و (9784)
و (9790) .
(2) سقطت من (ص) .
(3) المائدة: 95.(3/1116)
الفصل الثاني
في حكم المكره
وهو نوعان:
أحدهما: من لا اختيارَ له بالكلِّيَّة، ولا قُدرةَ له على الامتناع، كمن حُمِلَ
كَرْهاً وأدخل إلى مكانٍ حلف على الامتناع من دخوله، أو حُمِل كَرْهاً، وضُرب
به غيرُه حتّى مات ذلك الغيرُ، ولا قُدرة له على الامتناع، أو أُضْجعت، ثم زُنِي بها
من غيرِ قُدرةٍ لها على الامتناع، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق، ولا يترتَّب عليه حِنْثٌ
في يمينه عند جمهور العلماء. وقد حُكي عن بعض السَّلف - كالنَّخعي - فيه
خلاف، ووقع مثلُه في كلام بعض أصحاب الشَّافعي وأحمد، والصحيح عندهم أنَّه لا يحنث بحال.
وروي عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء، وأحنثها زوجُها كُرهاً أنَّ كفارَتها عليه، وعن أحمد روايةٌ كذلك، فيما إذا وطئ امرأتهُ مُكرهةً في صِيامها أو إحرامها أنَّ كفارتها عليه. والمشهور عنه أنَّه يفسدُ بذلك صومها وحجُّها.
والنوع الثاني: من أُكره بضربٍ أو غيره حتَّى فعل، فهذا الفعلُ يتعلق به
التَّكليفُ، فإنَّه يمكنه أنْ لا يفعل فهو مختارٌ للفعل، لكن ليس غرضُه نفسَ الفعل، بل دفع الضَّرر عنه، فهو مختارٌ مِنْ وجه، غيرُ مختارٍ من وجهٍ، ولهذا اختلف الناسُ: هل هو مكلَّفٌ أم لا؟
واتفق العلماءُ على أنّه لو أُكرِه على قتل معصومٍ لم يُبَحْ لهُ أن يقتُله، فإنَّه إنَّما يقتُله باختياره افتداءً لنفسه من القتل (1) ، هذا إجماعٌ مِنَ العلماء المعتدِّ بهم، وكان في زمن الإمام أحمد يُخالِف فيهِ مَنْ لا يُعتدُّ به، فإذا قتله في هذه الحال، فالجمهور على أنَّهما يشتركان في وجوب القَوَدِ: المكرهِ والمكرَه؟ لاشتراكهما في القتل، وهو قول مالك والشافعي في المشهور وأحمد،
_________
(1) قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: ((انعقد الإجماع على أنَّ المكره على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه، وإنَّه يأثم إنْ قتل من أكره على قتله)) . فتح الباري 12/390، وقال عبد بن حميد: ((لا يعذر من أكره على قتل غيره لكونه يؤثر نفسه على نفس غيره)) . فتح الباري 12/395.(3/1117)
وقيل: يجب على المكرِه وحده؛ لأنَّ المكرَه صارَ كالآلة، وهو قولُ أبي حنيفة وأحدُ قولي الشَّافعيِّ، ورُوي عن زفرَ كالأوَّل، ورُوي عنه أنَّه يجبُ على المكرَه لمباشرته، وليس هو كالآلة؛ لأنَّه آثمٌ بالاتِّفاق، وقال أبو يوسف: لا قَودَ على واحدٍ منهما، وخرَّجه بعضُ أصحابنا وجهاً لنا من الرِّواية لا توجب فيها قتل الجماعة بالواحد، وأولى (1) .
ولو أكره بالضَّرب ونحوه على إتلاف مالِ الغير المعصوم، فهل يُباحُ له ذلك؟ فيهِ وجهان لأصحابنا: فإنْ قلنا: يُباحُ لهُ ذَلِكَ، فضمنه المالك، رجع بما ضمنه على المكره، وإنْ قلنا: لا يُباح له ذلك، فالضمانُ عليهما معاً كالقود. وقيل: على المكره المباشر وحدَه وهو ضعيف.
ولو أُكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرّمة، ففي إباحته بالإكراه قولان:
أحدُهما: يُباحُ له ذلك استدلالاً بقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وهذه نزلت في عبد الله بن أبيِّ بن سلول، كانت له أمتانِ يُكرههما على الزنى، وهما يأبيان ذلك (3) ، وهذا قول الجمهور كالشافعي، وأبي حنيفة، وهو المشهورُ عن أحمد، ورُوي نحوه عن الحسن، ومكحولٍ، ومسروقٍ، وعن عمر بن الخطاب ما يدلُّ عليه.
وأهلُ هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرَّجُلِ على الزِّنى، فمنهم من قال: يصحُّ إكراهُه
_________
(1) انظر: تفسير الطبري 1/385 - 386، والمبسوط للسرخسي 24/72 - 73 و88 - 89.
(2) النور: 33.
(3) انظر: تفسير الطبري (19749) و (19752) .(3/1118)
عليه، ولا إثمَ عليه، وهو قولُ الشافعي، وابن عقيلٍ من أصحابنا، ومنهم من قال: لا يصحُّ إكراهه عليه، وعليه الإثمُ والحدُّ، وهو قول أبي حنيفة ومنصوصُ أحمد، ورُوي عن الحسن.
والقولُ الثاني: إنَّ التقية إنَّما تكون في الأقوال، ولا تقية في الأفعال، ولا إكراهَ عليها، رُوي ذلك عن ابنِ عباس، وأبي العالية، وأبي الشَّعثاء، والربيع بن أنس، والضَّحَّاك (1) ، وهو روايةٌ عن أحمد، ورُوي عن سُحنون أيضاً.
وعلى هذا لو شرب الخمرَ، أو سرق مكرهاً، حُدَّ.
وعلى الأول لو شرب الخمر مكرهاً، ثم طلَّق أو أعتق، فهل يكون حكمُه حكمَ المختارِ لشُربِها أم لا؟ بل يكونُ طلاقُه وعِتاقه لغواً؟ فيه لأصحابنا وجهان (2) ، ورُوي عن الحسن فيمن قيل له: اسجُد لصنمٍ وإلاَّ قتلناك، قال: إنْ كان الصَّنمُ تجاهَ القبلة، فليسجُد، ويجعل نيَّته لله، وإنْ كان إلى غير القبلة، فلا يفعل وإنْ
قتلوه، قال ابنُ حبيب المالكي: وهذا قولٌ حسنٌ، قال ابن عطية: وما يمنعه أنْ يجعلَ نيته لله، وإن كان لغير القبلة (3) ، وفي كتاب الله: {فَأَيْنَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (4) ، وفي الشرع إباحةُ التنفُّل للمسافر إلى غير القبلة؟
وأما الإكراه على الأقوال، فاتَّفق العلماء على صحته، وأنَّ من أُكره على قولٍ محرَّم
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (5371) و (5374) و (5375) و (5376) .
(2) انظر: المغني لابن قدامة 8/256 - 257.
(3) انظر: المحلى لابن حزم 9/130.
(4) البقرة: 115.(3/1119)
إكراهاً معتبراً أنَّ لهُ أنْ يفتديَ نفسه به، ولا إثمَ عليهِ، وقد دلَّ عليهِ قولُ الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} (1) . وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعمار:
((إنْ عادوا فَعُدْ)) (2) . وكان المشركون قد عذَّبوه حتَّى يوافقهُم على ما يُريدونه
من الكفر، ففعل.
وأما ما روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه وصَّى طائفةً من أصحابه، وقال: ((لا تُشركوا بالله وإن قُطِّعتُم وحُرِّقتم)) (3) ،
فالمرادُ الشِّركُ بالقُلوب، كما قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} (4) ، وقال تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ} (5) .
وسائر الأقوال يُتصوَّر عليها الإكراه، فإذا أكره بغيرِ حقٍّ على قولٍ من الأقوال، لم يترتب عليه حكمٌ مِنَ الأحكام، وكانَ لغواً، فإنَّ كلامَ المكرَه صدرَ منه وهو غيرُ راضٍ به، فلذلك عُفيَ عنه، ولم يُؤاخَذْ به في أحكام الدُّنيا والآخرة. وبهذا فارق النَّاسي والجاهل، وسواء في ذلك العقود: كالبيع، والنكاح، أو الفسوخ: كالخُلع والطَّلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنُّذور، وهذا قولُ جمهور العلماء، وهو قولُ مالك والشافعي وأحمد.
_________
(1) النحل: 106.
(2) أخرجه: عبد الرزاق في " تفسيره " (1509) ، وابن سعد في " الطبقات " 3/189، والطبري في " تفسيره " (16563) وطبعة التركي 14/374، والحاكم 2/357، وأبو نعيم في " الحلية " 1/140، وهو مرسل. ...
(3) أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (18) ، وابن ماجه (4034) عن أبي الدرداء.
وعن عبادة بن الصامت عند المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (920) ، واللالكائي في
" أصول الاعتقاد " 2/822.
وعن معاذ بن جبل عند أحمد 5/238، والطبراني في " الكبير " 20/ (156) وفي " مسند الشاميين "، له (2204) وأسانيدها كلها ضعيفة.
(4) لقمان: 15.
(5) النحل: 106.(3/1120)
وفرَّق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عندَه، ويثبت فيه الخيارُ كالبيع ونحوه،
فقال: لا يلزمُ مع الإكراه، وما ليس كذلك، كالنِّكاح والطلاق والعتاق والأيمان،
فألزم بها مع الإكراه (1) .
ولو حلف: لا يفعلُ شيئاً، ففعله مكرهاً، فعلى قول أبي حنيفة يَحنَثُ (2) ، وأمَّا على قول الجمهور، ففيه قولان:
أحدُهما: لا يحنَثُ، كما لا يَحنَثُ إذا فُعِلَ به ذلك كرهاً، ولم يقدر على الامتناع كما سبق، وهذا قولُ الأكثرين منهم.
والثاني: يَحنَثُ هاهنا؛ لأنَّه فعله باختياره بخلافِ ما إذا حُمِلَ، ولم يُمكنه الامتناعُ، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي، ومن أصحابه - وهو القفَّال - من فرَّق بين اليمين بالطَّلاق والعَتاق وغيرهما كما قلنا نحن في النَّاسي، وخرَّجه بعض أصحابنا وجهاً لنا.
ولو أُكره على أداءِ ماله بغيرِ حقٍّ، فباع عقارَه ليؤدِّي ثمنه، فهل يصِحُّ الشِّراءُ
منه أم لا؟ فيهِ روايتان عن أحمد، وعنه رواية ثالثة: إنْ باعه بثمن المثل، اشتُري منه، وإنْ باعه بدُونه، لم يشتر منه، ومتى رضي المكرَهُ بما أُكْرِهَ عليهِ لحُدوثِ رغبةٍ لهُ فيهِ بعدَ الإكراه، والإكراه قائمٌ، صحَّ ما صدرَ منه من العقود وغيرها بهذا القصد. هذا هو المشهورُ عند أصحابنا، وفيه وجهٌ آخر: أنَّه لا يَصِحُّ أيضاً، وفيه بُعد.
وأما الإكراه بحقٍّ، فهو غيرُ مانعٍ مِنْ لُزوم ما أكره عليه، فلو أُكره الحربيُّ على الإسلام فأسلم، صحَّ إسلامه، وكذا لو أكرهَ الحاكم أحداً على بيع ماله ليوفي دينه، أو أُكره المؤلي بعد مدَّة
_________
(1) انظر: المبسوط 24/135 باب الخيار في الإكراه
(2) انظر: المبسوط 24/105.(3/1121)
الإيلاء وامتناعه مِنَ الفيئة على الطلاق، ولو حلف لا يُوفِّي دينَه، فأكرهه الحاكمُ على وفائه، فإنَّه يَحنَثُ بذلك؛ لأنَّه فعل ما حلف عليه حقيقةً على وجهٍ لا يُعذَرُ فيه. ذكره أصحابنا بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء، فأدَّى عنه الحاكمُ، فإنَّه لا يحنَثُ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه فعلُ المحلوف عليه.(3/1122)
الحديث الأربعون
عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: أَخَذَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَنكِبي، فقال:
((كُنْ فِي الدُّنيا كأَنَّكَ غَريبٌ، أو عَابِرُ سَبيلٍ)) وكانَ ابنُ عَمَر يَقولُ: إذا أَمسيتَ، فَلا تَنتَطِر الصَّباح، وإذا أَصْبَحْتَ فلا تَنتَظِرِ المساءَ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرضِكَ، ومنْ حَياتِكَ لِمَوتِكَ. رواهُ البُخاريُّ.
هذا الحديث خرَّجه البخاري (1) عن عليِّ بن المديني، حدَّثنا محمدُ
ابنُ عبد الرحمان الطفاوي، حدثنا الأعمش، حدثني مجاهد، عن ابن عمر،
فذكره، وقد تكلم غيرُ واحد من الحفّاظ في لفظة: ((حدثنا مجاهد)) وقالوا: هي غيرُ ثابتة، وأنكروها على ابن المديني وقالوا: لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد، إنما سمعه من ليث بن أبي سُليم عنه، وقد ذكر ذلك العقيليُّ (2) وغيره، وخرَّجه الترمذي (3) من حديث ليثٍ عن مجاهد، وزاد فيه: ((وعُدَّ نفسك من
أهل القبور)) وزاد في كلام ابن عمر: فإنَّك لا تدري يا عبد الله ما اسمُك
غداً.
_________
(1) في " صحيحه " 8/110 (6416) .
(2) في " الضعفاء " 3/239.
(3) في " جامعه " (2333) .(3/1123)
وخرَّجه ابنُ ماجه (1) ولم يذكر قولَ ابن عمر. وخرَّج الإمام أحمد (2) والنَّسائي (3) من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لُبابة، عن ابن عمر، قال: أخذ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي، فقال: ((اعبدِ الله كأنَّك تراه، وكُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ، أو عابرُ سبيل)) . وعبدة بن أبي لُبابة أدرك ابنَ عمر، واختلف في سماعه
منه (4) .
وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل.
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (5) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا
_________
(1) في " سننه " (4114) .
(2) في " مسنده " 2/132 و441.
(3) كما في " تحفة الأشراف " 5/278 (7304) .
(4) قال الإمام أحمد: ((لقي ابن عمر بالشام)) ، وقال أبو حاتم: ((عبدة رأى ابن عمر رؤية)) . انظر: العلل لابن أبي حاتم 2/116 (1845) ، وتهذيب الكمال 5/26 (4206) .
(5) غافر: 39.(3/1124)
كمثل راكبٍ قالَ (1) في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها)) (2) .
ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها (3) ، ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً (4) .
ودخل رجلٌ على أبي ذرٍّ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرٍّ، أين متاعُكم؟ قالَ: إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه، قالَ: إنَّه لابدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا، قالَ: إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه (5) .
ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طرداً.
وكان عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل (6) .
قال بعضُ الحكماء: عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه، والآخرة مقبلةٌ إليه يشغتلُ بالمدبرة، ويُعرِض عن المقبلة (7) .
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم، كتب الله
_________
(1) قال: من القيلولة، وهي الاستراحة نصف النهار، وإنْ لم يكن معها، يقال: قال يقيل قيلولة فهو قائل.
(2) أخرجه: الطيالسي (277) ، وأحمد 1/391 و441، وابن ماجه (4109) ، والترمذي (2377) من حديث ابن مسعود، وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/145 عن وهيب المكي قال: ((بلغني أنَّ عيسى - عليه السلام -، ... )) فذكره.
(4) أخرجه: أحمد في " الزهد " (325) عن مكحول، قال: ((وقال عيسى، ... )) فذكره.
(5) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (10651) .
(6) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (255) ، وابن أبي شيبة (34495) .
(7) أخرجه: البيهقي في " الزهد الكبير " (504) ، ولم ينسبه.(3/1125)
عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَّعَن، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَبُ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِن النقلة، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى (1) .
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين: إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة، بل هو ليله ونهارَه، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة، فلهذا وصّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين.
فأحدهما: أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ، لكن في بلد غُربةٍ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، قال الفضيلُ بن عياض: المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين، همُّه مَرَمَّةُ جهازه (2) .
ومن كان في الدنيا كذلك، فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم، قال الحسن: المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها، ولا يُنافِسُ في عِزِّها، له شأنٌ، وللناس شأن (3) .
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/292.
(2) أخرجه: ابن عساكر في " تأريخ دمشق " 51/306.
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة (35210) ، وابن أبي عاصم في " الزهد ": 262 (ط. دار الريان للتراث) .(3/1126)
لما خُلِق آدم أُسكِنَ هو وزوجتُه الجنّة، ثم أُهبطا منها، ووعُدا الرجوع إليها، وصالح ذرِّيَّتهما، فالمؤمن أبداً يَحِنُّ إلى وطنه الأوَّل (1) ، وكما قيل:
كمْ مَنْزِلٍ للمَرءِ يَألفُهُ الفتى ... وحنينُه أبداً لأوَّل مَنْزِل
ولبعض شيوخنا (2) :
فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها ... منازِلُكَ الأولى وفيها المُخَيَّم
ولكنَّنا سَبيُ العدوِّ فَهلْ تَرَى ... نَعودُ إلى أوطاننا ونُسلِّمُ
وقَدْ زَعَموا أنَّ الغَريبَ إذا نَأى ... وشَطَّتْ به أوطانُه فهو مُغرَمُ
وأيُّ اغْترابٍ فوق غُربتنا التي ... لها أضحَت الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
كان عطاء السَّلِيمي يقول في دعائه: اللهمَّ ارحم في الدُّنيا غُربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك (3) .
قالَ الحسنُ: بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ((إنَّما مثلي ومثلُكم ومَثلُ الدُّنيا، كقوم سلكوا مفازةً غبراءَ، حتّى إذا لم يَدْرُوا ما سلكوا منها أكثر، أو ما بقي، أنفدوا الزَّادَ، وحَسَروا الظَّهر، وبقُوا بين ظهراني المفازة لا زادَ ولا حَمُولة، فأيقنوا بالهَلَكة، فبينما هم كذلك، إذ خرج عليهم رجلٌ في حُلَّةٍ يقطُرُ رأسُه، فقالوا: إن هذا قريبُ عهدٍ بريفٍ، وما جاءكم هذا إلاّ من قريبٍ،
_________
(1) جاء بعد هذا في النسخ المطبوعة: ((وحب الوطن من الإيمان)) ، وقد حذفته لعدم ورودها في النسخة الخطية؛ ولأنَّ هذا الكلام غير مستقيم.
(2) عزاه ابن كثير لابن القاسم. انظر: تفسير ابن كثير 1/82.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/224.(3/1127)
فلما انتهى إليهم، قال: علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قالَ: أرأيتُكم إنْ هديتُكم إلى ماءٍ رواء، ورياضٍ خُضر، ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عُهودَكم ومواثيقكم بالله، قال: فأَعْطَوهُ عهودَهُم ومواثيقهُم بالله لا يَعصُونَه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً، ورياضاً خُضراً، فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء الرحيلَ، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماءٍ ليس كمائكم، وإلى رياضٍ ليست كرياضِكُم، فقال جُلُّ القوم - وهم أكثرهم -: والله ما وجدنا هذا حتّى ظننّا أنْ لن نَجِدَهُ، وما نصنع بعيشٍ خيرٍ من هذا؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم -: ألم تُعطوا هذا الرَّجُلَ عهودكم ومواثيقكم بالله لا تَعصونه شيئاً وقد صدقكم في أوّل حديثه، فوالله ليصدقنَّكم في آخره، قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلَّف بقيتهم، فنذر بهم عدوٌّ، فأصبحوا من بين أسيرٍ وقتيل)) خرَّجه ابنُ أبي الدنيا (1) ،
_________
(1) في " ذم الدنيا " (88) ، وهو ضعيف لإرساله.(3/1128)
وخرجه الإمام أحمد (1) من حديث عليّ بنِ زيد بن جُدْعان، عن يوسف بن مِهران، عن ابن
عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مختصراً.
فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع أمته، فإنّه أتاهم والعرب حينئذٍ أذلُّ الناس، وأقلُّهم، وأسوؤهم عيشاً في الدنيا وحالاً في الآخرة، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقِه، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة، وقد نَفِدَ ماؤهم، وهَلَك ظهرهم برؤيته في حُلة مترجلاً يقطر رأسه ماءً، ودلهم على الماء والرياضِ المُعشِبة، فاستدلُّوا بهيئته وحاله على صدق مقاله، فاتبعوه، ووعدَ من اتَّبعه بفتح بلاد فارس والروم، وأخذِ كنوزهما، وحذَّرهم من الاغترار بذلك، والوقوف معه، وأمرهم بالتجزي من الدُّنيا بالبلاغ، وبالجدِّ والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها، فوجدُوا ما وعدهم به كلَّه حقاً، فلما فُتِحتْ عليهم الدُّنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثرُ الناسِ بجمعها واكتنازها، والمنافسة فيها، ورَضُوا بالإقامة فيها، والتمتُّع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجدِّ والاجتهاد في طلبها، وقبلَ قليلٌ من الناس وصيَّته في الجدِّ في طلب الآخرةِ والاستعداد لها. فهذه الطائفةُ القليلة نجت، ولحقت نبيَّها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدُّنيا، وقبلت وصيتهُ، وامتثلت ما أمر به. وأما أكثر الناس، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتّى فاجأهم الموتُ بغتةً على هذه الغِرة، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير.
وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمرُ الشيطان، من سَكِرَ منها لم يُفِقْ إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين (2) .
_________
(1) في " مسنده " 1/267، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف.
(2) ذكره: ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/67.(3/1130)
الحال الثاني: أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حالَه في الدنيا، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا، ولهذا أوصى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب.
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة (1) ؟
وقال الحسن: إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك (2) . وقال: ابنَ آدم إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ، يُوضِعُك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً (3) ، وقال: الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِن ورائكم.
قال داود الطائي: إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها، فافعل، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجلُ من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك (4) .
وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجَّهٌ إليك، والدنيا تُطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/348.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/148.
(3) أخرجه: البيهقي في " الزهد الكبير " (512) .
(4) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/345.(3/1131)
حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن.
سبيلُكَ في الدُّنيا سبِيلُ مُسافرٍ ... ولابُدَّ من زادٍ لكلِّ مسافِر
ولابدَّ للإنسان من حملِ عُدَّةٍ ... ولاسيما إنْ خافَ صولَة قاهِر
قال بعضُ الحكماء: كيف يفرحُ بالدنيا من يومُه يَهدِمُ شهرَه، وشهرُه يهدِمُ
سنَتَه، وسنته تَهدِمُ عُمُرَه، وكيف يفرح من يقوده عمرُه إلى أجله، وتقودُه حياتُه إلى موته.
وقال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ، فقال الرجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيلُ: أتعرف تفسيرَه تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد، وأنَّه إليه راجع، فليعلم أنَّه موقوفٌ، ومن علم أنَّه موقوف، فليعلم أنَّه مسؤول، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلةُ؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي (1) ، وفي هذا يقول بعضُهم:
وإنَّ امرءاً قد سارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ ... إلى مَنهَلٍ من وِرده لقَريبُ
قال بعضُ الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإنْ لم
يسر (2) ، وفي هذا قال بعضهم:
وما هذه الأيامُ إلاَّ مراحِلُ ... يحثُّ بها داعٍ إلى الموتِ قاصدُ
وأعجَبُ شَيءٍ - لو تأمَّلت - أنَّها ... مَنازِلُ تُطوى والمُسافِرُ قَاعِدُ (3)
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/113.
(2) بنحوه أخرجه: أبو بكر الدينوري في " المجالسة " (1029) عن الحسن.
(3) ذكر ابن القيم هذين البيتين في " مدارج السالكين " 3/201 إلا أنَّه لم ينسبهما.(3/1132)
وقال آخر:
أيا ويحَ نفسي من نهارٍ يقودُها ... إلى عسكر الموتى ولَيلٍ يذودُها
قال الحسن: لم يزل الليلُ والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريبِ الآجال، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً، فأصبحوا قَدِموا على ربِّهم، ووردوا على أعمالهم، وأصبح اللَّيلُ والنَّهارُ غضَّيْنِ جديدين، لم يُبلِهُما ما مرَّا به، مستعدِّين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى.
وكتب الأوزاعيُّ إلى أخٍ له: أما بعد، فقد أُحيطَ بك من كلّ جانب، واعلم أنَّه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فاحذرِ الله، والمقام بين يديه، وأنْ يكونَ آخر عهدك به، والسَّلام (1) .
نَسيرُ إلى الآجالِ في كلِّ لحظةٍ ... وأيّامُنا تُطوى وهُنَّ مَراحِلُ
ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كأنَّه ... إذا ما تخطَّتْهٌ الأمانيُّ باطِلُ
وما أقبحَ التَّفريطَ في زمنِ الصِّبا ... فكيف به والشَّيبُ للرَّأس شامِلُ
ترحَّل من الدُّنيا بزادٍ من التُّقى ... فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قَلائِلُ
وأما وصيةُ ابن عمر رضي الله عنهما، فهي مأخوذةٌ مِنْ هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قِصَرِ الأمل، وأنَّ الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصّباحَ، وإذا أصبح، لم ينتظر المساء، بل يظنُّ أنَّ أجلَهُ يُدركُه قبل ذلك، وبهذا فسّر غيرُ واحدٍ مِنَ العُلماء الزُّهدَ في الدنيا، قال المروذي: قلتُ لأبي عبد الله - يعني: أحمد - أيُّ شيءٍ الزُّهد في الدنيا؟
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/140.(3/1133)
قال: قِصَرُ الأمل (1) ، من إذا أصبحَ، قال: لا أُمسي، قال: وهكذا قال سفيان (2) . قيل لأبي عبد الله: بأيِّ شيء نستعين على قِصَرِ الأمل؟ قال: ما ندري إنَّما هو توفيق.
قال الحسن: اجتمع ثلاثةٌ من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتى عليَّ شهرٌ إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيه، قال: فقال صاحباه: إنَّ هذا لأمل، فقالا لأحدهم: فما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتت عليَّ جمعة إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيها، قال: فقال صاحباه: إنَّ هذا لأمل، فقالا للآخر: فما أملُك؟ قال: ما أَمَلُ من نفسُه في يد غيره (3) ؟
قال داود الطائي: سألتُ عطوان بنَ عمر التميمي، قلتُ: ما قِصَرُ الأمل؟ قال: ما بين تردُّدِ النَّفَسِ، فحدِّث بذلك الفضيل بن عياض، فبكى، وقال: يقول: يتنفس فيخاف أنْ يموتَ قبل أنْ ينقطعِ نفسُه، لقد كان عطوان مِنَ الموت على
حذرٍ (4) .
وقال بعضُ السَّلف: ما نمتُ نوماً قط، فحدثتُ نفسي أنِّي أستيقظ منه.
وكان حبيبٌ أبو محمد يُوصي كُلَّ يومٍ بما يوصي به المحتضِرُ عند موته من تغسيله ونحوه، وكان يبكي كلَّما أصبح أو أمسى، فسُئِلَت امرأته عن بكائه، فقالت: يخاف - والله - إذا أمسى أنْ لا يُصبح، وإذا أصبح أنْ لا يُمسي (5) .
وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلَّها أنْ
_________
(1) أخرجه: البيهقي في " الزهد الكبير " (73) .
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (35683) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/386. ...
(3) أخرجه: عبد الله بن المبارك في " الزهد " (253) .
(4) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/62.
(5) أخرجه: ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 13/43.(3/1134)
تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم.
وقال بكر المزني: إنِ استطاع أحدُكم أن لا يبيت إلا وعهدُه عند رأسه مكتوبٌ، فليفعل، فإنَّه لا يدري لعله أنْ يبيتَ في أهلِ الدُّنيا، ويُصبح في أهلِ الآخرة.
وكان أويسٌ إذا قيل له: كيف الزمانُ عليك؟ قال: كيف الزمانُ على رجل إنْ أمسى ظنَّ أنَّه لا يُصبحُ، وإنْ أصبح ظنَّ أنَّه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار؟ (1)
وقال عونُ بنُ عبد الله: ما أنزل الموتَ كُنْهَ منْزلته مَنْ عدَّ غداً من أجله. كم من مستقبل يوماً لا يستكمِلُه، وكم من مؤمِّل لغدٍ لا يُدرِكُه، إنَّكم لو رأيتم الأجلَ ومسيرَه، لأبْغَضتُم الأمل وغُرورَه (2) ، وكان يقولُ: إنَّ من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنَّه لا يدرك آخره.
وكانت امرأةٌ متعبدة بمكة إذا أمست قالت: يا نفسُ، الليلةُ ليلتُك، لا ليلةَ لكِ غيرها، فاجتهدت، فإذا أصبحت، قالت: يا نفس اليومُ يومك، لا يومَ لك
غيره فاجتهدت (3) .
وقال بكرٌ المزنيُّ: إذا أردت أنْ تنفعَك صلاتُك فقل: لعلِّي لا أُصلِّي غيرها، وهذا مأخوذٌ مما رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((صلِّ صلاة مودِّع)) (4) .
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/83.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (34963) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/243.
(3) أخرجه: وكيع في " الزهد " (9) .
(4) أخرجه: أحمد 5/412، وابن ماجه (4171) ، والطبراني في " الكبير " (3987)
و (3988) عن أبي أيوب الأنصاري، به، وسنده ضعيف.
وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك قواه بعضهم بها، والله أعلم.(3/1135)
وأقام معروفٌ الكرخيّ الصّلاةَ، ثم قال لرجل: تقدَّم فصلِّ بنا، فقال الرجل: إنِّي إنْ صليتُ بكم هذه الصلاة، لم أُصلِّ بكم غيرَها، فقال معروف: وأنتَ تحدِّث نفسك أنّك تُصلِّي صلاةً أخرى؟ نعوذُ بالله من طولِ الأمل، فإنَّه يمنع خيرَ العمل (1) .
وطرق بعضُهم بابَ أخٍ له، فسأل عنه، فقيل له: ليس هو في البيت، فقال: متى يرجع؟ فقالت له جارية من البيت: من كانت نفسُه في يد غيره، من يعلم متى يرجِعُ، ولأبي العتاهية من جملة أبيات:
وما أدري وإن أَمَّلْتُ عُمراً ... لَعَلِّي حِينَ أُصبحُ لَستُ أُمسِي
ألم تَرَ أنَّ كلَّ صباحِ يومٍ ... وعُمرُكَ فيه أَقصَرُ مِنهُ أَمسِ
وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء (2) والحسن (3) أنَّهما قالا: ابنَ آدم، إنَّك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطتَ من بطن أمك، ومما أنشد بعضُ السَّلف:
إنَّا لنفرحُ بالأيَّامِ نقطعُها ... وكُلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجل
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/361.
(2) أخرجه: البيهقي في " الزهد الكبير " (511) ، وذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 1/282.
(3) أخرجه: عبد الله بن المبارك (852) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/155.(3/1136)
فاعمَلْ لِنَفسِكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً ... فإنَّما الرِّبْحُ والخُسرانُ في العَمَلِ
قوله: ((وخُذْ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك)) ، يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أنْ يحولَ بينك وبينها السقمُ، وفي الحياة قبل أنْ يحول بينك وبينها الموتُ، وفي رواية: ((فإنَّك يا عبدَ الله لا تدري ما اسمُك غداً)) يعني: لعلّك غداً مِنَ الأموات دونَ الأحياء.
وقد رُوي معنى هذه الوصيةِ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه، ففي "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصِّحَّةُ والفراغ)) (1) .
وفي " صحيح الحاكم " (2) عن ابن عباس: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يَعِظُه: ((اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ: شبابّك قبل هَرَمِك، وصحَّتَك قبل سَقَمك، وغِناك قبل فقرِك، وفراغَكَ قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك)) .
وقال غنيم بن قيس: كنا نتواعظُ في أوَّل الإسلام: ابنَ آدم، اعمل في فراغك قبل شُغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك. وفي حياتك لموتك (3) .
وفي " صحيح مسلم " (4) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) 4/306.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/200.
تنبيه: وقع في مطبوع " حلية الأولياء ": ((غنم)) خطأ.
(4) 8/207 (2947) (128) .(3/1137)
((بادِروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصَّةَ أحدكم، أو أمر العامة)) .
وفي " الترمذي " (1) عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قال بادِروا بالأعمال سبعاً: هل تنظُرون إلا إلى فقرٍ مُنْسٍ، أو غِنًى مُطغٍ، أو مرض مُفْسدٍ، أو هَرَمٍ مُفنِّدٍ، أو موتٍ مُجهِزٍ، أو الدجَّال، فشرُّ غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالسَّاعة أدهى وأمرُّ؟))
والمرادُ من هذا أنَّ هذه الأشياء كلَّها تعوقُ عن الأعمال، فبعضُها يشغل عنه، إمَّا في خاصّة الإنسان، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته،
_________
(1) في " جامعه " (2306) ، وقال: ((هذا حديث حسن غريب)) .(3/1138)
وبعضُها عامٌّ، كقيام الساعة، وخروج الدجال، وكذلك الفتنُ المزعجةُ، كما جاء في حديث آخر:
((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم)) (1) .
وبعضُ هذه الأمور العامّة لا ينفع بعدها عملٌ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} (2) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تقومُ السَّاعةُ حتّى تطلع الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 2/303 و523، ومسلم 1/76 (118) ، والترمذي (2195) .
(2) الأنعام: 158.
(3) أخرجه: البخاري 6/73 (4636) ، ومسلم 1/95 (157) (248) .(3/1139)
وفي " صحيح مسلم " (1) عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثٌ إذا خرجنَ، لم ينفع نفساً إيمانُها لم تَكُن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوعُ الشمس من مغربها، والدجالُ، ودابةُ الأرض)) .
وفيه أيضاً (2) عنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ تابَ قبل أنْ تَطلُعَ الشمسُ من مغربها تابَ الله عليه)) .
وعن أبي موسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله يبسُطُ يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النَّهار، ويبسُطُ يده بالنَّهار ليتوب مُسيءُ الليل حتى تَطلُعُ الشمس من
مغربها)) (3) .
وخرّج الإمام أحمد (4) ، والنَّسائي (5) ، والترمذي (6) ، وابن ماجه (7) من حديث صفوان بن عسال، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله فتح باباً قِبَلَ المغرب
_________
(1) 1/195 (158) .
(2) 8/73 (2703) (43) .
(3) أخرجه: أحمد 4/395 و404، ومسلم 8/99 (2759) (31) ، والنسائي في
" الكبرى " (11180) . ...
(4) في " مسنده " 4/240 و241.
(5) في " الكبرى " (11178) .
(6) في " جامعه " (3535) و (3536) ، وقال: ((حسن صحيح)) .
(7) في " سننه " (4070) .(3/1140)
عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يُغلَقُ حتى تطلع الشمس منه)) .
وفي " المسند " (1) عن عبد الرحمان بن عوف وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تزالُ التوبةُ مقبولةً حتّى تطلُعَ الشمسُ من المغرب، فإذا طَلَعَت طُبِعَ على كلِّ قلبٍ بما فيه، وكُفِي الناسُ العمل)) .
وروي عن عائشة قالت: إذا خرج أوَّلُ الآيات، طُرِحَتِ الأقلامُ وحُبِسَت
الحفظةُ، وشهدت الأجساد على الأعمال. خرّجه ابن جرير الطبري (2) ، وكذا قال كثيرٌ ابن مرّة، ويزيدُ بن شريح، وغيرهما من السَّلف: إذا طلعت الشمس من مغربها طُبِع على القلوب بما فيها، وتُرفع الحفظة والعمل، وتؤمرُ الملائكة أنْ لا يكتبوا عملاً (3) ، وقال سفيان الثوري: إذا طلعت الشمسُ من مغربها، طوت الملائكةُ صحائِفَها ووضعت أقلامَها (4) .
فالواجبُ على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أنْ لا يقدِرَ عليها ويُحال بينه وبينها، إمَّا بمرضٍ أو موت، أو بأنْ يُدركه بعضُ هذه الآيات التي لا يُقبل معها عمل. قال أبو حازم: إنَّ بضاعةَ الآخرة كاسدة ويوشِكُ أنْ تَنفَقَ، فلا يُوصل منها إلى قليلٍ ولا كثيرٍ.
_________
(1) مسند الإمام أحمد 1/192، وإسناده لا بأس به.
(2) في " تفسيره " (11076) .
(3) أخرجه: نعيم بن حماد في " الفتن " (1370) و (1838) .
(4) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/15.(3/1141)
ومتى حِيلَ بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرةُ والأسفُ عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعُهُ الأمنية (1) .
قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2) .
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ} (3) .
وقال - عز وجل -: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (4) .
وفي " الترمذي " (5) عن أبي هريرة مرفوعاً: ((ما مِنْ ميِّتٍ يموتُ إلا نَدِمَ)) ، قالوا: وما ندامتُه؟ قال: ((إنْ كان محسناً، ندِم أنْ لا يكون ازدادَ، وإنْ كان مسيئاً، ندم أنْ لا يكون استعتب)) .
فإذا كان الأمرُ على هذا فيتعيَّنُ على المؤمن اغتنامُ ما بقي من عمره، ولهذا قيل: إنَّ بقية عمر المؤمن لا قيمة له. وقال سعيدُ بن جُبير: كلّ يوم يعيشه المؤمن غنيمة (6) ، وقال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابنَ آدم، اغتنمني
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/242.
(2) الزمر: 54 - 58.
(3) المؤمنون: 99 - 100.
(4) المنافقون: 10 - 11.
(5) في " جامعه " (2403) ، وهو حديث ضعيف جداً؛ فإنَّ في إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب، وهو متروك.
(6) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/276.(3/1142)
لعلَّه لا يومَ لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابنَ آدم، اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي (1) ، ولبعضهم:
اغتَنِمْ في الفراغ فَضْلَ رُكوعٍ ... فعسى أنْ يكونَ موتُك بَغتة
كم صَحيحٍ رأيتَ من غيرِ سُقم ... ذهَبتْ نفسُهُ الصحيحة فلتَة
وقال محمود الورّاق (2) :
مَضَى أَمسُكَ الماضي شَهيداً مُعدّلاً ... وأَعْقَبَهُ يَومٌ عَليكَ جَديدُ
فإنْ كُنتَ بالأمسِ اقترفتَ إساءةً ... فَثَنِّ بإحسَانٍ وأنتَ حَميدُ
فيومُكَ إنْ أعتَبتَهُ عادَ نَفعُهُ ... عَليكَ وماضي الأمسِ لَيسَ يَعودُ
ولا تُرجِ فِعلَ الخيرِ يوماً إلى غَدٍ ... لَعلَّ غَداً يَأتِي وأَنْتَ فَقِيدُ
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/330 بنحوه عن الحسن بن صالح.
(2) انظر: كتاب الزهد الكبير للبيهقي 2/235.(3/1143)
الحديث الحادي والأربعون
عَنْ عبدِ الله بن عَمرو بنِ العاص رضي الله عنهما، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُؤمِنُ أَحدُكُم حتّى يكونَ هَواهُ تَبَعاً لِما جِئتُ بِهِ)) (1) قال الشيخ
رحمه الله: حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ، رَويناهُ في كِتابِ " الحُجَّة " بإسنادٍ صحيح! .
يريد بصاحب كتاب " الحجة " الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق (2) ، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على تارك المحجة " يتضمن ذكرَ أصولِ الدين على قواعدِ أهل الحديث والسُّنة.
وقد خرَّج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب " الأربعين " وشرط في أوَّلها أنْ تكونَ من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه، وخرَّجته الأئمة في مسانيدهم، ثم خرَّجه عن الطبراني: حدثنا أبو زيد عبد الرحمان ابن حاتم المرادي، حدثنا نُعيم بن حمادٍ، حدثنا عبد الوهَّاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عُقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرٍو، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُؤمِنُ أَحدكم حتّى يكونَ هواه تبعاً لما جئتُ به لا يزيغُ عنه)) . ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني (3) عن ابنِ واره، عن نُعيم بن حماد، حدثنا عبدُ الوهَّاب الثقفي حدثنا بعضُ مشيختنا هشامٌ أو غيره عن ابن سيرين، فذكره. وليس عنده ((لا يزيغ عنه)) ، قال الحافظ أبو موسى المديني: هذا الحديث مُختلفٌ فيه على نعيم، وقيل فيه:
_________
(1) أخرجه: البيهقي في " المدخل " 1/188 (209) ، والخطيب في " تأريخه " 6/21، والبغوي (104) .
(2) انظر: سير أعلام النبلاء 19/136.
(3) أخرجه: ابن أبي عاصم في " السنة " (15) .(3/1145)
حدثنا بعضُ مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره.
قلت: تصحيحُ هذا الحديث بعيدٌ جداً من وجوه، منها: أنَّه حديثٌ يتفرد به نُعيمُ بنُ حماد المروزي، ونُعيم هذا وإنْ كان وثَّقه جماعةٌ مِنَ الأئمة، وخرَّج له البخاري، فإنَّ أئمةَ الحديث كانوا يُحسنون به الظنَّ، لِصلابته في السُّنة، وتشدُّده في الرَّدِّ على أهل الأهواء، وكانوا ينسبونه إلى أنَّه يَهِمُ، ويُشبّه عليه في بعض الأحاديث، فلمَّا كُثرَ عثورُهم على مناكيره، حكموا عليه بالضَّعف، فروى صالح ابن محمد الحافظ عن ابن معين أنَّه سئل عنه فقال: ليس بشيء ولكنَّه صاحب سنة، قال صالح: وكان يُحدِّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يُتابع عليها. وقال أبو داود: عند نعيم نحوُ عشرين حديثاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليس لها أصل (1) ، وقال النَّسائي: ضعيف (2) . وقال مَرَّةً: ليس بثقة. وقال مرة: قد كثر تفرُّدُه عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرةٍ، فصار في حدِّ مَنْ لا يُحتجُّ به. وقال أبو زرعة الدمشقي: يَصِلُ أحاديث يُوقِفُها الناسُ (3) ، يعني: أنَّه يرفع الموقوفات، وقال أبو عروبة الحراني: هو مظلمُ الأمر، وقال أبو سعيد بن يونس: روى أحاديث مناكير عن الثقات، ونسبه آخرون إلى أنّه كان يضعُ الحديثَ، وأين كان أصحاب
عبد الوهَّاب
_________
(1) انظر: ميزان الاعتدال 4/268.
(2) انظر: تهذيب الكمال 7/352.
(3) انظر: تهذيب الكمال 7/351.(3/1146)
الثقفي، وأصحاب هشام بن حَسّان، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى يتفرَّد به نعيم؟
ومنها: أنَّه قد اختلف على نُعيم في إسناده، فروي عنه، عن الثقفي، عن
هشام، ورُوي عنه عن الثقفي، حدَّثنا بعضُ مشيختنا هشام أو غيره، وعلى هذه
الرواية، فيكون شيخ الثَّقفيِّ غيرَ معروف عينه، ورُوي عنه عن الثقفي، حدّثنا بعض مشيختنا، حدَّثنا هشام أو غيره، فعلى هذه الرواية، فالثقفيُّ رواه عن شيخٍ مجهولٍ، وشيخه رواه عن غير مُعَيَّن، فتزدادُ الجهالةُ في إسناده.
ومنها: أنَّ في إسناده عُقبةَ بن أوس السَّدوسي البصري، ويقال فيه: يعقوب ابن أوس أيضاً (1) ، وقد خرَّج له أبو داود والنَّسائي وابن ماجه حديثاً عن عبد الله ابن عمرو،
_________
(1) انظر: تهذيب التهذيب 7/205.(3/1147)
ويقال: عبد الله بن عمر، وقد اضطرب في إسناده، وقد وثقه العجلي، وابن سعد، وابن حبان (1) ، وقال ابنُ خزيمة: روى عنه ابن سيرين مع جلالته، وقال ابنُ عبد البرِّ: هو مجهول.
وقال الغلابي في " تاريخه ": يزعمون أنَّه لم يسمع من عبد الله بن عمرو، وإنَّما يقول: قال عبد الله بن عمرو، فعلى هذا تكون رواياتُه عن عبد الله بن عمرو منقطعة، والله أعلم.
وأما معنى الحديث، فهو أنَّ الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنَّواهي وغيرها، فيحبُّ ما أمر به، ويكره ما نهى عنه.
وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (2) .
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) .
وذمَّ سبحانه من كره ما أحبَّه الله، أو أحبَّ ما كرهه الله، قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (4) ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (5) .
فالواجب على كلِّ مؤمن أنْ يُحِبَّ ما أحبَّه الله محبةً توجِبُ له الإتيان بما وجب عليه منه، فإنْ زادت المحبَّةُ، حتّى أتى بما ندب إليه منه، كان ذلك فضلاً، وأنْ يكره ما كرهه الله تعالى كراهةً توجِبُ له الكفَّ عمَّا حرَّم عليه منه،
_________
(1) انظر: تهذيب الكمال 5/193.
(2) النساء: 65.
(3) الأحزاب: 36.
(4) محمد: 9.
(5) محمد: 28.(3/1148)
فإنْ زادت الكراهةُ حتَّى أوجبت الكفَّ عما كرهه تنْزيهاً، كان ذلك فضلاً. وقد ثبت في
" الصحيحين " (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((لا يؤمن أحدُكُم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده وأهله والنّاس أجمعين)) فلا يكون المؤمن مؤمناً حتى يُقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله.
والمحبة الصحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوبات وبغضِ المكروهات، قال - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} (2) .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ} (3) قال الحسن (4) : قال أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إنّا نُحبُّ ربنا حبّاً شديداً، فأحبَّ الله أنْ يجعل لحبه علماً، فأنزل الله هذه الآية.
وفي " الصحيحين " (5) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهُما، وأنْ يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأنْ يكره أنْ يَرجِعَ إلى الكُفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أنْ يُلقى في
_________
(1) صحيح البخاري 1/10 (15) ، وصحيح مسلم 1/49 (44) (69) و (70) عن أنس ابن مالك، به.
وأخرجه: أحمد 3/177 و275، وابن ماجه (67) ، والنسائي 8/115 وفي " الكبرى "، له (11744) .
وفي الباب عن أبي هريرة.
(2) التوبة: 24.
(3) آل عمران: 31.
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (5385) وطبعة التركي 5/325، وابن أبي حاتم في
"تفسيره" 2/633 (3402) ، والآجري في " الشريعة " (254) ، وهو ضعيف لإرساله.
(5) صحيح البخاري 1/10 (16) ، وصحيح مسلم 1/48 (43) (67) و (68) عن أنس، به.
وأخرجه: أحمد 3/103 و174 و230 و288، وعبد بن حميد (1328) ، والترمذي
(2624) .(3/1149)
النار)) .
فمن أحبَّ الله ورسوله محبةً صادقة من قلبه، أوجب له ذلك أنْ يُحبَّ بقلبه ما يُحبُّه الله ورسولُه، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى بما يرضى الله ورسوله، ويَسخط ما يَسْخَطُهُ الله ورسوله، وأنْ يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبِّ والبغض، فإنْ عمل بجوارحه شيئاً يُخالِفُ ذلك، فإن ارتكبَ بعضَ ما يكرهه الله ورسولُه، أو ترك بعضَ ما يُحبه الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه، دلَّ ذلك على نقص محبَّته الواجبة، فعليه أنْ يتوبَ من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة.(3/1150)
قال أبو يعقوب النَّهْرُجُوريُّ: كلُّ مَنِ ادَّعى محبة الله - عز وجل -، ولم يوافِقِ الله في أمره، فدعواه باطلة، وكلُّ محبٍّ ليس يخاف الله، فهو مغرورٌ (1) .
وقال يحيى بنُ معاذ: ليس بصادقٍ من ادّعى محبَّة الله - عز وجل - ولم يحفظ حدودَه.
وسئل رُويم عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد:
ولو قُلتَ لي مُتْ مِتُّ سَمعاً وطاعةً ... وقُلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرحبا (2)
ولبعض المتقدمين (3) :
تَعصِي الإله وأنت تَزعُمُ حُبَّه ... هذا لعمري في القِياس شَنيعُ
لَو كان حُبُّك صادِقاً لأطعتَه ... إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحبُّ مُطيعُ
فجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه، وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} (4) .
وكذلك البدعُ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع، ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء.
وكذلك المعاصي، إنَّما تقعُ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يُحبه.
وكذلك حبُّ الأشخاص: الواجب فيه أنْ يكون تَبعاً لما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 10/356.
(2) انظر: حلية الأولياء 10/301، وشعب الإيمان للبيهقي 1/383، وتأريخ بغداد 8/430.
(3) عزاه البيهقي في " شعب الإيمان " 1/386 إلى أبي العتاهية.
(4) القصص: 50.(3/1151)
فيجبُ على المؤمن محبةُ الله ومحبةُ من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ولهذا كان مِنْ علامات وجود حلاوة الإيمان أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، ويُحرمُ موالاةُ أعداءِ الله. ومن يكرهه الله عموماً، وقد سبق ذلك في موضع آخر، وبهذا يكونُ الدِّينُ كلُّه لله. و ((من أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) (1) ، ومن كان حُبُّه وبُغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب، فيجب عليه التَّوبةُ من ذلك، والرُّجوع إلى اتِّباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تقديم محبة الله ورسوله، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفوس ومراداتها كلها.
قال وُهيب بنُ الورد (2) : بلغنا - والله أعلم - أنَّ موسى - عليه السلام -، قال: يا ربِّ أوصني؟ قال: أوصيك بي، قالها ثلاثاً حتى قال في الآخرة: أوصيك بي أن لا يعرض لك أمرٌ إلا آثرت فيه محبتي على ما سواها، فمن لم يفعل ذلك لم أُزكِّه ولم أرحمه.
والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنَّه الميلُ إلى خلاف الحقِّ، كما في قوله - عز وجل -: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (3) ، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (4) .
وقد يُطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقاً، فيدخل فيه الميل إلى الحقِّ وغيره، وربما استُعمِل بمعنى محبة الحقِّ خاصة والانقياد إليه،
_________
(1) أخرجه: أبو داود (4681) عن أبي أمامة الباهلي، به مرفوعاً، وهو صحيح.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/141 - 142.
وأخرجه: أحمد في " الزهد ": 59 عن كعب بن علقمة.
(3) ص: 26.
(4) النازعات: 40 - 41.(3/1152)
وسئل صفوانُ بن عسّال: هل سمعتَ منَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يذكر الهوى، فقال: سأله أعرابيٌّ عن الرجل يُحبُّ القومَ ولم يلحق بهم، فقال: ((المرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)) (1) . ولمَّا نزل قوله - عز وجل -: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} (2) ، قالت عائشة للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما أرى ربَّك إلا يُسارعُ في هواك (3) . وقال عمر في قصة المشاورة في أسارى بدر: فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ (4) ، وهذا الحديثُ مما جاء استعمال الهوى فيهِ بمعنى المحبة المحمودة، وقد وقع مثلُ ذلك في الآثار الإسرائيلية كثيراً، وكلامُ مشايخ القوم وإشاراتُهم نظماً ونثراً يكثُر في هذا الاستعمال، ومما يُناسبُ معنى الحديثِ من ذلك قولُ بعضهم:
إنَّ هواكَ الَّذي بقلبي ... صَيَّرني سامعاً مُطيعا
أخذت قلبي وغَمضَ عيني ... سَلَبتني النَّومَ والهُجوعا
فَذَرْ فؤادي وخُذ رُقادي ... فقال: لا بل هُما جميعا
_________
(1) أخرجه: الطيالسي (1167) ، والترمذي (2387) ، والطبراني في " الكبير " (7358) ، وقال الترمذي: ((حسن صحيح)) .
(2) الأحزاب: 51.
(3) أخرجه: أحمد 6/134 و158 و261، والبخاري 6/147 (4788) و7/15 (5113) ، ومسلم 4/174 (1464) (49) و (50) ، وابن ماجه (2000) ، والنسائي 6/54 وفي " الكبرى "، له (5306) و (8927) وفي " التفسير "، له (434) .
(4) أخرجه: أحمد 1/30 - 31، وعبد بن حميد (31) ، ومسلم 5/156 - 157 (1763) (58) ، وأبو داود (2690) ، والترمذي (3081) .(3/1153)
الحديث الثاني والأربعون
عَنْ أَنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: ((قالَ اللهُ تَعالى: يا ابنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوتَني ورَجَوتَني غَفَرتُ لك على ما كانَ مِنكَ ولا أُبالي، يا ابن آدمُ لَوَ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنانَ السَّماءِ، ثمَّ استَغفَرتَني، غَفَرْتُ لكَ، يا ابنَ آدم إنَّك لو أَتَيتَني بِقُرابِ الأرضِ خَطايا، ثمَّ لَقِيتَني لا تُشركُ بي شَيئاً، لأتيتُكَ بِقُرابها مغفرةً)) . رواهُ التِّرمذيُّ (1) وقالَ: حديثٌ حَسَن.
هذا الحديثُ تفرَّد به الترمذيُّ خرّجه من طريق كثير بن فائد، حدَّثنا سعيدُ ابن عبيد، سمعتُ بكر بن عبد الله المزني يقولُ: حدثنا أنسٌ، فذكره، وقال: حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى.
وإسناده لا بأس به، وسعيدُ بنُ عبيد هو الهُنائي، قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ابن حبان في " الثقات " (2) ، ومن زعم أنَّه غيرُ الهنائي، فقد وهِمَ، وقال الدارقطني: تفرَّد به كثيرُ بن فائد، عن سعيد مرفوعاً، ورواهُ سَلْم بنُ قتيبة، عن سعيد بن عبيد، فوقفه على أنس.
قلت: قد روي عنه مرفوعاً وموقوفاً، وتابعه على رفعه أيضاً أبو سعيد مولى بني هاشم، فرواه عن سعيد بن عُبيد مرفوعاً أيضاً، وقد روي أيضاً من حديث ثابت، عن أنس مرفوعاً، ولكن قال أبو حاتم: هو منكر (3) .
_________
(1) (3540) مرفوعاً.
(2) انظر: الثقات لابن حبان 6/352.
(3) أخرجه: في " العلل " 2/128.(3/1155)
وقد رُوي أيضاً من حديث أبي ذَرٍّ خرَّجه الإمامُ أحمد (1) من رواية شهر بنِ حوشب، عن معد يكرب، عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه - عز وجل - فذكره بمعناه، ورواه بعضُهم عن شهر، عن عبد الرحمان بن غَنْم، عن أبي ذرّ (2) ، وقيل: عن شهر، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصحُّ هذا القول (3) .
ورُوي من حديث ابن عباس خرَّجه الطبراني (4) من رواية قيس بن الربيع، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبير، عن ابنِ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ورُوي بعضه من وجوهٍ أُخر، فخرَّج مسلم في " صحيحه " (5) من حديث المعرور بن سُويد، عن أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقول الله تعالى: مَن تقرَّب منِّي شبراً تقرَّبت منه ذراعاً، ومن تقرَّب منِّي ذراعاً تقرَّبت منه باعاً، ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة، ومن لقِيَني بقُرابِ الأرض خطيئةً لا يُشرِكُ بي شيئاً لقيتُه بقُرابها مغفرةً)) .
وخرَّج الإمام أحمد (6) من رواية أخشن السَّدوسي، قال: دخلتُ على أنس، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والَّذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتّى تملأ خطاياكُم ما بَيْنَ السماءِ والأرض، ثم استغفرتُمُ الله، لغَفَرَ لكُم)) .
_________
(1) في " مسنده " 5/167 و172
(2) أخرجه: أحمد 5/154، وفي إسناده مقال من أجل أخشن السدوسي فيه جهالة إذ لم يرو عنه غير عبد المؤمن بن عبيد.
(3) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (1040) .
(4) في " الكبير " (12346) وفي " الأوسط " (5483) وفي " الصغير "، له (807) .
(5) 8/67 (2687) (22) .
(6) في " مسنده " 3/238، وأخشن فيه جهالة كما تقدم قبل قليل.(3/1156)
فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أنَّ هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة:
أحدها: الدعاءُ مع الرجاء، فإنَّ الدعاء مأمورٌ به، وموعودٌ عليه بالإجابة،
كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) .
وفي " السنن الأربعة " (2) عن النعمان بن بشير، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الدُّعاء هو العبادة)) ثم تلا هذه الآية.
وفي حديث آخر خرَّجه الطبراني (3) مرفوعاً: ((مَنْ أُعطي الدُّعاء، أُعطي الإجابة؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} )) (4) .
وفي حديث آخر: ((ما كان الله لِيفتَحَ على عبدٍ بابَ الدُّعاء، ويُغلقَ عنه بابَ الإجابة)) (5) .
لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة معَ استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد تتخلَّف إجابته، لانتفاءِ بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، وقد سبق ذكرُ بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر.
ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى، كما خرَّجه
_________
(1) غافر: 60
(2) " سنن أبي داود " (1479) ، و" سنن ابن ماجه " (3828) ، و" جامع الترمذي "
(2969) و (3247) و (3372) ، و" السنن الكبرى " للنسائي (11464) وفي
" التفسير "، له (484) وقال الترمذي: ((حسن صحيح)) .
(3) في " الأوسط " (7023) وفي " الصغير "، له (1000) ، ومن طريقه الخطيب في " تأريخه " 1/247-248، وطبعة دار الغرب 3/56، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " 2/839. وهو حديث منكر كما قال الذهبي في " الميزان " 4/77، وقال ابن الجوزي
: ((هذا حديث لا يصح عن رسول الله تفرد به محمود بن العباس، وهو مجهول)) .
(4) غافر: 60.
(5) أخرجه: العقيلي في " الضعفاء " 1/242، وابن عدي في " الكامل " 3/166 عن أنس، به، وهو حديث ضعيف جداً، في سنده الحسن بن محمد البلخي، وهو منكر الحديث.(3/1157)
الترمذي (1) من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ الله لا يَقبلُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ)) .
وفي " المسند " (2) عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ هذه القلوب أوعيةٌ، فبعضُها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنَّ الله لا يستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافلٍ)) .
ولهذا نهي العبد أنْ يقول في دعائه: اللهمَّ اغفر لي إنْ شئت، ولكنْ لِيَعزِم المسأَلَة، فإنَّ الله لا مُكرهَ له (3) .
ونُهي أنْ يستعجل، ويتركَ الدعاء لاستبطاء الإجابة (4) ، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتّى لا يقطع العبدُ رجاءه من إجابة دُعائه ولو طالت المدة، فإنَّه سبحانه يُحبُّ المُلحِّين في الدعاء (5) .
وجاء في الآثار: إنَّ العبد إذا دعا ربَّه وهو يحبُّه، قال: يا جبريلُ، لا تَعْجَلْ بقضاءِ حاجة عبدي، فإنِّي أُحبُّ أن أسمعَ
صوتَه (6) ، وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (7) فما دام العبدُ يُلحُّ في الدُّعاء، ويَطمعُ في الإجابة من غير قطع
الرّجاء، فهو قريبٌ من الإجابة، ومَنْ أَدمن قرعَ الباب، يُوشك أنْ يُفتح له، وفي " صحيح الحاكم " (8) عن أنسٍ مرفوعاً: ((لا تَعجزوا عن الدُّعاء، فإنَّه لن يَهلِكَ مع الدُّعاء أَحدٌ)) .
_________
(1) (3479) ، وفي إسناده مقال.
(2) مسند الإمام أحمد 2/177، والحديث حسنه المنذري في " الترغيب والترهيب " 2/491-492، والهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/148.
(3) أخرجه: أحمد 2/243 و463 - 464، والبخاري 8/92 (6339) ، ومسلم 8/63
(2679) (9) من حديث أبي هريرة، به مرفوعاً.
(4) أخرجه: مسلم 8/87 (2735) (90) (91) عن أبي هريرة مرفوعاً.
نص الحديث: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوتُ فلا، أو فلم يستجب
لي)) .
(5) أخرجه: العقيلي في " الضعفاء " 4/452، وابن أبي حاتم في " العلل " 2/199، وابن عدي في " الكامل " 8/500، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1069) عن عائشة مرفوعاً.
ونص الحديث: ((إن الله - تبارك وتعالى - يحب الملحين في الدعاء)) ، وهو حديث باطل لا يصح.
(6) أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (8442) عن جابر بن عبد الله مرفوعاً.
(7) الأعراف: 56.
(8) 1/493 - 494، وهو حديث ضعيف.(3/1158)
ومن أهمِّ ما يسألُ العبد ربَّه مغفرةُ ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((حولَها نُدنْدِن)) (1) يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار (2) . وقال أبو مسلم الخَولاني: ما عَرَضت لي دعوةٌ فذكرتُ النار إلا صرفتُها إلى الاستعاذة منها.
ومن رحمة الله تعالى بعبده أنَّ العبدَ يدعوه بحاجةٍ من الدنيا، فيصرفها عنه، ويعوِّضه خيراً منها، إما أنْ يَصرِفَ عنه بذلك سوءاً، أو أنْ يدَّخِرَها له في الآخرة، أو يَغفِر له بها ذنباً، كما في " المسند " (3) و" الترمذى " (4) من حديث جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما مِنْ أَحَدٍ يَدعُو بدُعاءٍ إلا آتاه الله ما سألَ أو كَفَّ عنه من السُّوء مثلَه ما لم
_________
(1) أخرجه: ابن ماجه (910) و (3847) ، وابن حبان (868) من حديث أبي هريرة، به، وهو حديث صحيح.
(2) انظر: النهاية 2/137.
(3) مسند الإمام أحمد 3/360، وسنده فيه ضعف، ولعله يتقوى ببعض الشواهد.
(4) (3381) .(3/1159)
يدعُ بإثم أو قطيعة رحم)) .
وفي " المسند " (1) و" صحيح الحاكم " (2) عن أبي سعيدٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما مِنْ مُسلمٍ يَدعو بدعوةٍ ليس له فيها إثمٌ أو قطيعةُ رحمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أنْ يُعجِّلَ له دعوته، وإما أنْ يدَّخرها له في الآخرة، وإما أنْ يكشِفَ عنه من السُّوءِ مثلها)) ، قالوا: إذاً نُكثر؟ قال: ((الله أكثرُ)) .
وخرَّجه الطبراني (3) ، وعنده ((أو يغفِرَ له بها ذنباً قد سَلَف)) بدل قوله:
((أو يكشف عنه من السوء مثلها)) .
وخرَّج الترمذي (4) من حديث عبادة مرفوعاً نحوَ حديث أبي سعيد أيضاً.
وبكلِّ حالٍ، فالإلحاحُ بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجبٌ للمغفرة، والله تعالى يقول: ((أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء)) (5) وفي رواية
: ((فلا تظنُّوا بالله إلا خيراً)) (6) .
_________
(1) مسند الإمام أحمد 3/18، وإسناده جيد.
(2) 1/493.
(3) أخرجه: الطبراني في " الأوسط " كما في " مجمع الزوائد " 10/148.
(4) في " جامعه " (3573) ، وقال: ((حسن صحيح غريب)) .
(5) تقدم تخريجه.
(6) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (909) ، وأحمد 3/491، وابن حبان (633) .(3/1160)
ويُروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعاً: ((يأتي الله تعالى
بالمؤمن يومَ القيامة، فيُقرِّبُه حتى يجعلَه في حجابه من جميع الخلق، فيقول له: اقرأ
صحيفتك، فيُعرِّفُه ذنباً ذنباً: أتعرفُ أتعرفُ؟ فيقول: نعمْ نعمْ، ثم يلتفتُ العبدُ يمنة ويسرة، فيقول الله تعالى: لا بأسَ عليك، يا عبدي أنت في ستري من جميع خلقي، ليس بيني وبينك اليومَ(3/1161)
أحدٌ يطَّلعُ على ذنوبك غيري، اذهب فقد غفرتُها لك بحرفٍ واحدٍ من جميع ما أتيتني به، قال: ما هو يا ربِّ؟ قال: كنت لا ترجو
العفو من أحدٍ غيري)) (1) .
فمن أعظم أسباب المغفرة أنَّ العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربِّه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوبَ ويأخذ بها غيرُه، وقد سبق ذكرُ ذلك في شرح حديث
أبي ذرٍّ: ((يا عبادي إنِّي حرَّمت الظُّلم على نفسي)) (2) ... الحديث.
وقوله: ((إنَّك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي)) يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره، وفي
" الصحيح " (3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا دعا أَحدُكم فليُعظِم الرَّغبَةَ، فإنَّ الله لا يَتعاظَمهُ شيءٌ)) .
فذنوب العباد وإنْ عظُمَت فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرةٌ في جنب عفوِ الله ومغفرته.
وفي " صحيح الحاكم " (4) عن جابر أنَّ رجلاً جاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: واذنوباه واذنوباه مرَّتين أو ثلاثاً، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قل: اللهمَّ مغفرتُك أوسَعُ من ذنوبي، ورحمتُك أرجى عندي من عملي)) ، فقالها، ثم قال له: ((عُدْ)) ، فعاد، ثم قال له: ((عُدْ)) ، فعاد، فقال له: ((قُمْ، فقد غفر الله لك)) .
_________
(1) أخرجه: الطبراني كما في " مجمع الزوائد " 7/37.
(2) سبق تخريجه في الحديث الرابع والعشرين.
(3) صحيح مسلم 8/64 (2679) (8) .
(4) المستدرك 1/543 - 544.(3/1162)
وفي هذا يقول بعضهم:
يا كَبير الذَّنب عفوُ الـ ... ـلَّه مِن ذنبك أكبرُ
أعظَمُ الأشياء في ... جَنب عفوِ الله يَصغُرُ (1)
وقال آخر:
يا ربِّ إن عَظُمَت ذُنوني كَثرةً ... فلقَد علِمتُ بأنَّ عَفوكَ أعظَمُ
إن كان لا يرجوك إلا مُحسنٌ ... فمَن الذي يَرجو ويدعُو المُجرمُ
مالي إليك وسيلةٌ إلاَّ الرجا ... وجَميلُ عفوك ثم إنِّي مُسلِمُ (2)
وقال آخر:
ولما قسى قلبي وضاقتْ مذاهبي ... جعلتُ رجائي نحو عفوك سُلماً
تعاظمني ذنبي فلما قرنتُهُ ... بعفوكَ ربي كانَ عفوك أعضما (3)
السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظُمت الذُّنوب، وبلغت الكثرة عَنان السماء، وهو السَّحاب. وقيل: ما انتهى إليه البصر منها، وفي الرواية الأخرى: ((لو أخطأتُم حتَّى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لَغفر لكم)) (4) ، والاستغفارُ: طلبُ المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شرِّ الذنوب مع سترها.
وقد كثر في القرآن ذكرُ الاستغفار، فتارةً يؤمر به، كقوله تعالى:
{وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (6) .
وتارةً يمدحُ أهلَه، كقوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (7) ، وقوله:
{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (8) ، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} (9) .
_________
(1) انظر: ديوان أبي نؤاس: 620.
(2) انظر: ديوان أبي نؤاس: 618.
(3) هذان البيتان سقطا من (ج) .
(4) سبق تخريجه.
(5) البقرة: 199.
(6) هود: 3.
(7) آل عمران: 17.
(8) الذاريات: 18.
(9) آل عمران: 135.(3/1163)
وتارةً يذكر أن الله يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً} (1) .
وكثيراً ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبة، فيكون الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح.
وتارة يفرد الاستغفار، ويُرتب عليه المغفرة، كما ذكر في هذا الحديث وما
أشبهه، فقد قيل: إنَّه أريد به الاستغفارُ المقترن بالتوبة، وقيل: إنَّ نصوص الاستغفار المفردة كلّها مطلقة تُقيَّدُ بما ذكر في آية ((آل عمران)) من عدم الإصرار؛ فإنَّ الله وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصر على فعله، فتُحْمَلُ النُّصوص المطلقة في الاستغفار كلّها على هذا المقيد، ومجرَّدُ قولِ القائل: اللهمَّ اغفر لي، طلبٌ منه للمغفرة ودعاءٌ بها، فيكون حكمه حكمَ سائرِ الدعاء، فإنْ شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، لاسيما إذا خرج عن قلبٍ منكسرٍ بالذنب أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات.
ويُروى عن لُقمان - عليه السلام - أنَّه قال لابنه: يا بنيَّ عَوِّدْ لسانك: اللهمَّ اغفر لي، فإنَّ لله ساعاتٍ لا يرُدُّ فيها سائلاً (2) .
وقال الحسن: أكثِروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كُنتم، فإنَّكم ما تدرون متى تنْزل المغفرة (3) .
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا في كتاب " حسن الظن " (4) من حديث أبي هريرة
مرفوعاً: ((بينما رجلٌ مستلقٍ إذ نظر إلى السَّماء وإلى النجوم، فقال: إني لأعلم أنَّ لك رباً خالقاً، اللهمَّ اغفر لي، فغفر له)) .
وعن مورِّق قال: كان رجل يعملُ السَّيئات، فخرج إلى البرية، فجمع تراباً،
_________
(1) النساء: 110.
(2) ذكره حكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 2/294.
(3) انظر الذي قبله.
(4) (107) ، وإسناده ضعيف.(3/1164)
فاضطجع عليه مستلقياً، فقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، فقال: إنَّ هذا ليعرِفُ أنَّ له رباً يغفِرُ ويُعذِّب، فغفر له.
وعن مُغيث بن سُميٍّ، قال: بينما رجلٌ خبيثٌ، فتذكر يوماً، فقال: اللهمَّ غُفرانَك، اللهمَّ غُفرانك، اللهمَّ غُفرانك، ثم مات فغُفِر له (1) .
ويشهد لهذا ما في " الصحيحين " (2) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ عبداً أذنب ذنباً، فقال: ربِّ أذنبتُ ذنباً فاغفر لي، قال الله تعالى: عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب، ويأخذُ به، غفرتُ لعبدي، ثمَّ مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنباً آخر، فذكر مثل الأوَّل مرتين أخريين)) وفي رواية لمسلم (3) : أنَّه قال في الثالثة: ((قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء)) . والمعنى: ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر. والظاهر أنَّ مرادهُ الاستغفارُ المقرون بعدم الإصرار، ولهذا في حديث أبي بكر الصديق، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما أصرَّ من استغفر وإنْ عاد في اليوم سبعين مرةً)) خرَّجه أبو داود والترمذي (4) .
_________
(1) أخرجه: هناد في " الزهد " (942) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/68.
(2) صحيح البخاري 9/178 (7507) ، وصحيح مسلم 8/99 (2758) (29) .
(3) صحيح مسلم 8/99 (2758) (30) .
(4) (1514) ، والترمذي (3559) ، وهو ضعيف، وقال الترمذي: ((ليس إسناده
بالقوي)) .(3/1165)
وأمّا استغفارُ اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دُعاء مجرَّد إنْ شاء الله أجابه، وإنْ شاء ردَّه.
وقد يكون الإصرار مانعاً من الإجابة، وفي " المسند " (1) من حديث عبد الله ابن عمرو مرفوعاً: ((ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلوا وهُم يَعلَمون)) .
_________
(1) مسند الإمام أحمد 2/165 و219، وهو حديث قوي.(3/1166)
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا (1) من حديث ابن عباس مرفوعاً: ((التائبُ مِنَ الذَّنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزيء بربِّه)) ورفعُه منكرٌ، ولعلَّه موقوف (2) .
قال الضحاك: ثلاثةٌ لا يُستجابُ لهم، فذكر منهم: رجل مقيم على امرأة زنى كلما قضى شهوته، قال: ربِّ اغفر لي ما أصبتُ من فلانة، فيقول الربُّ: تحوَّل عنها، وأغفر لك، فأما ما دمت مقيماً عليها، فإنِّي لا أغفر لك، ورجلٌ عنده مالُ قوم يرى أهله، فيقول: ربِّ اغفر لي ما آكل من مال فلان، فيقول تعالى: ردَّ إليهم مالهم، وأغفر لك، وأما ما لم تردَّ إليهم، فلا أغفر لك.
وقول القائل: أستغفر الله، معناه: أطلبُ مغفرته، فهو كقوله: اللهمَّ اغفر لي، فالاستغفارُ التامُّ الموجبُ للمغفرة: هو ما قارن عدمَ الإصرار، كما مدح الله أهله، ووعدهم المغفرة، قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضُهم يقول: استغفارُنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ كثير، وفي ذلك يقولُ بعضهم:
أستغْفِرُ الله مِنْ أستغفرُ الله ... من لَفظةٍ بَدَرَتْ خالفْتُ معناها
_________
(1) في " التوبة ": 85.
(2) وبنحو هذا المعنى قال البيهقي في " السنن الكبرى " 10/154.(3/1167)
وكيفَ أرجو إجاباتِ الدُّعاء وقد ... سَدَدْتُ بالذَّنب عندَ الله مَجراها
فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصرار، وهو حينئذ توبةٌ نصوح، وإنْ قال بلسانه: أستغفر الله وهو غيرُ مقلع بقلبه، فهو داعٍ لله بالمغفرة، كما يقول: اللهمَّ اغفر لي، وهو حسن وقد يُرجى له الإجابة، وأما من قال: توبةُ الكذابين، فمرادُه أنَّه ليس بتوبة، كما يعتقده بعضُ الناس، وهذا حقٌّ، فإنَّ التَّوبةَ لا تكون مَعَ الإصرار.
وإن قال: أستغفر الله وأتوبُ إليه فله حالتان:
إحداهما: أن يكونَ مصرّاً بقلبه على المعصية، فهذا كاذب في قوله:
((وأتوب إليه)) لأنَّه غيرُ تائبٍ، فلا يجوزُ له أن يخبر عن نفسه بأنَّه تائبٌ وهو غير تائب.
والثانية: أنْ يكون مقلعاً عن المعصية بقلبه، فاختلف الناس في جوازِ قوله: وأتوب إليه، فكرهه طائفةٌ من السَّلف، وهو قولُ أصحاب أبي حنيفة حكاه عنهم الطحاوي، وقال الربيع بن خثيم: يكونُ قولُه: ((وأتوب إليه)) كذبةً وذنباً، ولكن ليقل: اللهمَّ تُبْ عليَّ، أو يقول: اللهمَّ إنِّي أستغفرك فتُب عليَّ، وهذا قد يُحمل على من لم يقلع بقلبه وهو بحاله أشبه. وكان محمد بن سوقة يقول في استغفاره: استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأسأله توبة نصوحاً.
ورُوي عن حذيفة أنَّه قال: بحسب المرءِ من الكذب أنْ يقول: أستغفر الله، ثم يعود. وسمع مطرِّفٌ رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فتغيظ عليه، وقال: لعلك لا تفعل.
وهذا ظاهره يدلُّ على أنَّه إنَّما كره أنْ يقول: وأتوب إليه؛ لأنَّ التوبة النصوحَ أنْ(3/1168)
لا يعودَ إلى الذنب أبداً، فمتى عاد إليه، كان كاذباً في قوله: ((أتوب إليه)) .
وكذلك سُئِل محمدُ بن كعب القُرظِيُّ عمَّن عاهد الله أنْ لا يعود إلى معصية أبداً، فقال: من أعظم منه إثماً يتألَّي على الله أنْ لا ينفذ فيه قضاؤه، ورجَّح قوله في هذا أبو الفرج ابنُ الجوزي، ورُوي عن سُفيان بن عُيينة نحو ذلك.
وجمهورُ العلماء على جواز أنْ يقول التائب: أتوبُ إلى الله، وأنْ يُعاهِدَ العبدُ ربَّه على أنْ لا يعود إلى المعصية، فإنَّ العزم على ذلك واجبٌ عليه، فهو مخبر بما عزم عليه في الحال، لهذا قال: ((ما أصرَّ من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين
مرة)) (1) . وقال في المعاود للذنب: ((قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء)) (2) . وفي حديث كفارة المجلس: ((أستغفرك اللهمَّ وأتوب إليك)) (3) ، وقطع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سارقاً، ثم قال له: ((استغفر الله وتُب إليه)) ، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: ((اللهمَّ تُب عليه))
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه: أحمد 2/369 و494، وأبو داود (4858) ، والترمذي (3433) عن أبي هريرة، به، وقال الترمذي: ((حسن صحيح غريب)) .(3/1169)
خرَّجه أبو داود (1) .
واستحبَّ جماعة من السَّلف الزيادة على قوله: ((أستغفر الله وأتوب إليه)) فرُوي عن عمر أنَّه سمع رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال له: يا حُميق،
قل: توبة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً.
وسئل الأوزاعيُّ عن الاستغفار: أيقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأتوبُ إليه، فقال: إنَّ هذا لحسن، ولكن يقول: ربِّ اغفر لي حتى يتمَّ الاستغفار.
وأفضل أنواع الاستغفار: أنْ يبدأ العبدُ بالثَّناء على ربِّه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال
: ((سيِّدُ الاستغفار أنْ يقول العبدُ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنتَ)) خرَّجه البخاري (2) .
وفي " الصحيحين " (3) عن عبد الله بن عمرو أنَّ أبا بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - قال:
يا رسولَ الله،
_________
(1) في " سننه " (4380) .
وأخرجه: أحمد 5/293، والدارمي (2308) ، وابن ماجه (2597) ، والنسائي 8/67، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 2/97، وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته.
(2) في " صحيحه " 8/83 (6306) و8/88 (6323) .
(3) صحيح البخاري 1/211 (834) ، وصحيح مسلم 8/74 (2705) (48) .(3/1170)
علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلماً كثيراً، ولا يغفرُ الذُّنوب إلاَّ أنتَ، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم)) .
ومن أنواع الاستغفار أنْ يقولَ العبدُ: ((أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيُّوم وأتوب إليه)) . وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من قاله، غُفِر له وإنْ كان فرَّ من الزَّحف؛ خرجه أبو داود والترمذي (1) .
وفي كتاب " اليوم والليلة " (2) للنسائي، عن خَبَّاب بن الأرتِّ، قال: قلت يا رسول الله، كيف نستغفر؟ قال: ((قل: اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا وتُبْ علينا، إنك أنت التَّوابُ الرحيم)) ، وفيه عن أبي هريرة، قال: ما رأيت أحداً أكثر أنْ
يقولَ: أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وفي " السنن الأربعة " (4) عن ابن عمر، قال: إنْ كنَّا لنَعُدُّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرَّة يقول:
_________
(1) (1517) ، والترمذي (3577) من حديث بلال بن يسار بن زيد، عن أبيه، عن جده، به مرفوعاً، وقال الترمذي: ((غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه)) ، وبلال وأبوه مجهولان، وزيد جد بلال لا يعرف له إلاّ هذا الحديث.
(2) برقم (461) ، وهو في " السنن الكبرى " (10295) ، وعنه أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " (372) ، وهذا حديث معلول بالإرسال، والمرسل هو الصواب كما ذكر ذلك المزي في " تحفة الأشراف " 3/46 (3521) .
(3) أخرجه: عبد بن حميد (1465) ، والنسائي في " الكبرى " (10288) وفي " عمل اليوم والليلة "، له (454) ، وفي إسناده مقال.
(4) أخرجه: أبو داود (1516) ، وابن ماجه (3814) ، والترمذي (3434) ، والنسائي في " الكبرى "، له (10292) وفي " عمل اليوم والليلة "، له (458) ، وقال الترمذي: ((حسن صحيح غريب)) .(3/1171)
((ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنَّك أنتَ التوَّابُ
الغفور)) .
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((واللهِ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) .
وفي " صحيح مسلم " (2) عن الأغرِّ المزني، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّه لَيُغانُ على قلبي، وإنِّي لأستغفرُ الله في اليوم مئة مرة)) .
وفي " المسند " (3) عن حُذيفة قال: قلتُ: يا رسول الله إنِّي ذَرِبُ اللسان وإنَّ عامة ذلك على أهلي، فقال: ((أين أنتَ مِن الاستغفار؛ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مئة مرة)) .
وفي " سنن أبي داود " (4) عن ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أكثرَ من الاستغفارِ جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسبُ)) .
_________
(1) 8/83 (6307) .
(2) 8/72 (2702) (41) .
(3) مسند الإمام أحمد 5/396، وإسناده ضعيف، إلا أنَّ قوله: ((إني لأستغفر الله ... )) صحيح كما في الحديث السابق.
(4) (1518) ، وسنده ضعيف.(3/1172)
قال أبو هريرة: إنِّي لأستغفرُ الله وأتوب إليه كلَّ يوم ألف مرَّة، وذلك على قدر ديتي (1) .
وقالت عائشة: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً (2) .
قال أبو المِنهال: ما جاور عبدٌ في قبره من جارٍ أحبَّ إليه من استغفار كثير.
وبالجملة فدواءُ الذنوب الاستغفارُ، وروينا من حديث أبي ذرٍّ مرفوعاً: ((إنَّ لكلِّ داء دواءً، وإنَّ دواء الذنوب الاستغفار)) (3) .
قال قتادة: إنَّ هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذُّنوب، وأما دواؤكم: فالاستغفار (4) . قال بعضهم: إنَّما مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهمته ذنوبه، أكثر لها من الاستغفار.
قال رياح القيسي: لي نيِّفٌ وأربعون ذنباً، قد استغفرتُ الله لكلِّ ذنب مئة ألف مرّة (5) .
وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاتُه لا تُجاوز ستاً وثلاثين
زلةً، فاستغفر الله لكل زلةٍ مئة ألف مرّة، وصلَّى لكلِّ زلَّة ألف ركعة، ختم في كلِّ ركعة منها ختمة، قال: ومع ذلك، فإنّي غير آمن سطوة ربي أنْ يأخذني بها، وأنا على خطرٍ من قَبولِ التوبة.
ومن زاد اهتمامُه بذنوبه، فربما تعلَّق بأذيالِ من قَلَّت ذنوبُه، فالتمس منه
الاستغفار. وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول: إنَّكم لم تُذنبوا، وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكُتّاب: قولوا اللهمَّ اغفر لأبي هُريرة، فيؤمن
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/383.
وجاءت فيه لفظة أثنى عشر ألف مرة.
(2) أخرجه: هناد في " الزهد " (921) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (646) موقوفاً.
وأخرجه: ابن ماجه (3818) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (455) ، والخطيب في " تأريخه " 10/160 من حديث عبد الله بن بسر مرفوعاً، وسنده صحيح.
(3) أخرجه: الحاكم 4/242 موقوفاً.
(4) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (7146) .
وانظر: الفردوس بمأثور الخطاب 1/136، والترغيب والترهيب 2/309.
(5) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/194.(3/1173)
على دعائهم.
قال بكرٌ المزني: لو كان رجلٌ يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول: استغفروا لي، لكان نوله أنْ يفعل.
ومن كَثُرت ذنوبه وسيئاته حتى فاتت العدَّ والإحصاء (1) ، فليستغفر الله مما علم الله، فإنَّ الله قد علم كل شيءٍ وأحصاه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} (2) ، وفي حديث شداد بن أوسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أسأَلُكَ من خيرِ ما تَعلَمُ. وأعوذُ بكَ مِنْ شرِّ ما تعلمُ، وأستغفركُ لما تعلم، إنَّك أنت علاّمُ الغيوب)) (3) . وفي هذا يقول بعضهم:
أستغفِرُ الله ممّا يَعلمُ الله ... إنَّ الشَّقيَّ لَمَن لا يَرحَمُ الله
ما أحلمَ الله عمن لا يُراقبُه ... كُلٌّ مُسيءٌ ولكن يَحلمُ الله
فاسْتَغفِرُ الله مما كان من زَللٍ ... طُوبى لمن كَفَّ عما يَكرهُ الله
طُوبى لمَن حَسُنَت فيه سَريرتُه ... طُوبى لمَن يَنتهي عمَّا نهى الله
_________
(1) سقطت من (ص) .
(2) المجادلة: 6.
(3) أخرجه: أحمد 4/123 و125، والترمذي (3407) ، والنسائي 3/54 وفي " الكبرى "، له (10648) ، والحاكم 1/508، وفي أسانيده مقال واختلاف.(3/1174)
السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيدُ، وهو السببُ الأعظم، فمن فقده، فَقَدَ المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال
تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فمن جاء مع التوحيد بقُراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها - خطايا،
لقيه الله بقُرابها مغفرة، لكنَّ هذا مع مشيئة الله - عز وجل -، فإنْ شاء غَفَرَ له، وإنْ
شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أنْ لا يُخلَّد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنَّة.
قال بعضُهم: الموحِّد لا يُلقى في النار كما يُلقى الكفار، ولا يَلقى فيها ما يَلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار، فإنْ كمُلَ توحيدُ العبد وإخلاصُه لله فيه، وقام بشروطه كلِّها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عندَ الموت، أوجبَ ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلِّها، ومنعه من دخول النَّار
بالكلية.
فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قَلبُه، أخرجت منه كلَّ ما سوى الله محبةً وتعظيماً وإجلالاً ومهابةً، وخشيةً، ورجاءً وتوكُّلاً، وحينئذ تُحْرَقُ ذنوبه وخطاياه كلُّها ولو كانت مِثلَ زبد البحر، وربما قلبتها حسناتٍ، كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ، فلو وضع ذرَّة منها على جبالِ الذنوب والخطايا، لقلبها حسناتٍ كما في " المسند " (2) وغيره، عن أم هانئ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا إله إلا الله لا تترُك ذنباً، ولا يسبِقها عمل)) .
وفي " المسند " (3) عن شدَّاد بن أوس، وعبادة بن الصامت: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ((ارفعُوا أيدِيَكم، وقولوا: لا إله إلا الله)) ، فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، ثم قال: ((الحمدُ لله، اللهمَّ بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني الجنَّة عليها، وإنَّك لا تُخلِفُ الميعاد)) ، ثم قال:
_________
(1) النساء: 48.
(2) مسند الإمام أحمد 6/425، والطبراني في " الكبير " 24/ (1061) بلفظ مقارب له.
وأخرجه: ابن ماجه (3797) بهذا اللفظ، وهو حديث ضعيف.
(3) مسند الإمام أحمد 4/124.
وأخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (10) ، والدولابي في" الكنى " 1/93، والطبراني في " الكبير " (7163) ، والحاكم 1/501، وهو حديث ضعيف لضعف راشد ابن داود.(3/1175)
((أبشروا، فإنَّ الله قد غفر لكم)) .
قال الشِّبلي: من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها، فصار رماداً تذروه الرياحُ، ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها، فصار ذهباً أحمر يُنتفع به، ومن ركن إلى الله، أحرقه نورُ التوحيد، فصار جوهراً لا قيمة له.
إذا علِقت نارُ المحبة بالقلب أحرقت منه كلَّ ما سوى الربِّ - عز وجل -، فطهُرَ القلبُ حينئذ من الأغيار، وصلح عرشاً للتوحيد: ((ما وسعني سمائي ولا أرضي،
ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن)) (1) .
غصَّنِي الشوقُ إليهم بريقي ... فَوَا حَريقي في الهوى وا حريقي
قَد رماني الحُبُّ في لُجِّ بَحرٍ ... فخُذوا باللهِ كفَّ الغريق
حلَّ عندي حُبُّكم في شِغافي ... حلَّ مِنِّي كُلَّ عَقدٍ وَثِيقِ
فهذا آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله من الأحاديث في هذا الكتاب، ونحن بعون الله ومشيئته نذكر تتمة الخمسين حديثاً من الأحاديث الجامعة لأنواع العلومِ والحكم والآداب الموعود بها في أوّل الكتاب، والله الموفق للصواب.
_________
(1) سبق أنَّه من الإسرائيليات، وأنه ليس بحديث.(3/1176)
الحديث الثالث والأربعون
عَنِ ابن عبَّاسَ رضي الله عنهما قالَ: قَال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألحِقُوا الفَرائِضَ بأَهلِها، فَمَا أَبقتِ الفَرائِضُ، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ)) . خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث الذي زعم بعضُ شرَّاح هذه الأربعين أنَّ الشيخ - رحمه الله تعالى
- أغفله، فإنَّه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها، وهذا الحديث خرَّجاه من رواية وهيب، وروح بن القاسم، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، وخرَّجه مسلم (3) من رواية معمر، ويحيى بن أيوب، عن ابن طاووس أيضاً. وقد رواه الثوري (4) ، وابنُ عيينة، وابن جريج وغيرهُم عن ابن طاووس عن أبيه مرسلاً من غير ذكر ابنِ عباس،
_________
(1) 8/187 (6732) و190 (6746) .
(2) 5/59 (1615) (2) و (3) .
(3) 5/59 - 60 (1615) (4) .
(4) أخرجه: سعيد بن منصور (288) عن طاووس مرسلاً.(3/1177)
ورجَّح النَّسائيُّ (1) إرساله.
وقد اختلف العلماء في معنى قوله: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) :
فقالت طائفة: المرادُ بالفرائض الفروضُ المقدرة في كتاب الله تعالى، والمراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سمَّاها الله لهم، فما بقي بعدَ هذه الفروض، فيستحقّه أولى الرجال، والمراد بالأوْلى: الأقربُ، كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يَقرُبُ منه (2) ، فأقربُ الرجال هو أقربُ العصبات، فيستحقُّ الباقي بالتعصيب، وبهذا
المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة، منهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، نقله عنهما إسحاق بن منصور، وعلى هذا، فإذا اجتمع بنت وأختٌ وعمٌّ أو ابنُ عم أو ابنُ أخ، فينبغي أنْ يأخذَ الباقي بعدَ نصف البنتِ العصبة، وهذا قولُ ابنِ عباس، وكان يتمسَّكُ بهذا الحديث، ويقرُّ بأنَّ الناسَ كلَّهم على خلافه، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضاً.
وقال إسحاق: إذا كان مع البنتِ والأختِ عصبةٌ، فالعصبةُ أولى، وإنْ لم يكن معهما أحدٌ، فالأخت لها الباقي، وحُكي عن ابن مسعود أنَّه قال: البنتُ عصبةُ من لا عصبة له، وردَّ بعضهم هذا، وقال: لا يصحُّ عن ابن مسعود.
وكان ابنُ الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس، ثم رجعا عنه.
وذهب جمهورُ العلماء إلى أنَّ الأخت مع البنتِ عصبة لها ما فَضَلَ، منهم عمر، وعليٌّ، وعائشة، وزيد، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وتابعهم سائر العلماء (3) .
وروى عبدُ الرزاق (4) : أخبرنا ابنُ جريج: سألتُ ابنَ طاووس عن ابنة وأخت، فقال: كان أبي يذكر عن ابن عباس، عن رجل عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئاً، وكان طاووس لا يرضى بذلك الرجل، قال: وكان أبي يشكُّ فيها، ولا
_________
(1) في " الكبرى " عقيب (6332) ، إذ قال: ((سفيان الثوري أحفظ من وهيب، ووهيب ثقة مأمون، وكأنَّ حديث الثوري أشبه بالصواب)) .
(2) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 6/47 عقيب (1615) ، وفتح الباري 12/15 عقيب (6732) .
(3) انظر: المغني 7/7.
(4) في " المصنف " (19038) .(3/1178)
يقول فيها شيئاً، وقد كان يُسأل عنها. والظاهر - والله أعلم - أنَّ مرادَ طاووس هو هذا الحديث، فإنَّ ابنَ عباس لم يكن عنده نصٌّ صريح عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ميراثِ الأخت مع البنت، إنَّما كان يتمسك بمثلِ عموم هذا الحديث.
وما ذكر طاووس أنَّ ابنَ عباس رواه عن رجل وأنَّه لا يرضاه، فابنُ عباس أكثرُ رواياته للحديث عن الصحابة، والصحابة كلُّهم عدول قد رضي الله عنهم،
جوأثنى عليهم، فلا عبرةَ بعد ذلك بعدم رضا طاووس.
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي قيسٍ الأودي، عن هُزيلِ بنِ شُرحبيل، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى، فسأله عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ، وأختٍ لأبٍ وأم، فقال: للابنة النصفُ، وللأخت ما بقي وائت ابنَ مسعود فسيُتابعني، فأتى ابنَ مسعود، فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النِّصفُ، ولابنةِ الابن السُّدس تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبرُ فيكم.
وفيه (2) أيضاً عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، قال: قضى فينا معاذُ بنُ جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصف للابنة، والنصف للأخت، ثم ترك الأعمش ذكرَ عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكره. وخرَّجه أبو داود (3) من وجهٍ آخر عن الأسود، وزاد فيه: ونبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ حيٌّ.
_________
(1) 8/188 (6736) .
(2) صحيح البخاري 8/189 (6741) .
(3) برقم (2893) .(3/1179)
واستدلَّ ابنُ عباس لقوله بقول الله - عز وجل -: {قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1) وكان يقول: أأنتم أعلم أم الله؟! يعني: أنَّ الله لم يجعل لها النصفَ إلا مع عدمِ الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت (2) .
والصوابُ قولُ عمر والجمهور، ولا دلالةَ في هذه الآية على خلاف ذلك (3) ؛ لأنَّ المراد بقوله: {فَلَها نِصفُ ما تَركَ} (4) بالفرض، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية، ولهذا قال بعده: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (5) يعني بالفرض، والأخت الواحدة إنَّما تأخذ النصفَ مع عدمِ وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأُختان فصاعداً إنَّما يستحقون الثُّلثين مع عدم وجودِ الولد الذكر والأنثى، فإنْ كان هناك ولدٌ، فإنْ كان ذكراً، فهو مقدَّمٌ على الإخوة مطلقاً ذكورهم وإناثهم، وإنْ لم يكن هناك ولدٌ ذكرٌ، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها يستحقُّه الأخُ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانتِ الأختُ لا يُسقِطُها أخوها؛ فكيف يُسقطها من هو أبعدُ منه من العصبات كالعمِّ وابنه؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطاً لها، فيتعيَّنُ تقديمُها عليه، لامتناع مشاركته لها، فمفهوم الآية أنَّ الولد يمنع أنْ يكونَ للأختِ النصفُ بالفرضِ، وهذا حقٌّ ليس مفهومها أنَّ الأخت تسقطُ بالبنت، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها، يَدُلُّ عليه قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَد} (6) ، وقد أجمعتِ الأمة على أنَّ الولد الأنثى لا يمنع الأخ أنْ يرثَ من مال أخته ما فضلَ عن البنت أو البنات، وإنَّما وجودُ الولد الأنثى يمنع أنْ يَحُوزَ الأخُ ميراثَ أخته
كلَّه،
_________
(1) النساء: 176.
(2) أخرجه: عبد الرزاق (19023) ، والحاكم 4/339، والبيهقي 6/233.
وانظر: المغني 7/7.
(3) انظر: المغني 7/7.
(4) النساء: 176.
(5) النساء: 176.
(6) النساء: 176.(3/1180)
فكما أنَّ الولد إنْ كان ذكراً، منع الأخ من الميراث، وإنْ كان أنثى، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها، وإنْ منعه حيازة الميراثِ، فكذلك الولد إنْ كان ذكراً مَنَع الأخت الميراثَ بالكليَّة، وإنْ كان أنثى، منعت الأخت أنْ يفرض لها النصف،
ولم يمنعها أنْ تأخذ ما فَضَلَ عن فرضها، والله أعلم (1) .
وأما قوله: ((فما أبقتِ الفرائض، فلأولى رجُلٍ ذكر)) ، فقد قيل: إنَّ المرادَ به العصبةُ البعيدُ خاصَّة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دونَ العصبة القريب؛ بدليلِ أنَّ الباقي بعدَ الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبةُ قريباً، كالأولاد والإخوة بالاتفاق، فكذلك الأختُ مع البنت بالنص الدالِّ عليه (2) .
وأيضاً فإنَّه يخص منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك يُخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق، فتخصَّ منه صورةُ الأخت مع البنت بالنصّ.
وقالت طائفة آخرون: المرادُ بقوله: ((ألحقوا الفرائضَ بأهلها)) (3) ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة، سواءٌ أخذوه بفرض أو بتعصيبٍ طرأ لهم، والمراد بقوله: ((فما بقي، فلأولى رجل ذكر)) العصبةُ الذي ليس له فرضٌ بحال، ويدلُّ عليه أنَّه قد رُوي الحديث بلفظ آخر، وهو: ((اقسِموا المالَ بينَ أهلِ الفرائضِ على كتاب الله)) (4) ، فدخل في ذلك كلُّ من كان مِنْ أهل الفروض بوجهٍ من الوجوه، وعلى هذا، فما تأخذه الأختُ مع أخيها، أو ابنِ عمها إذا عصبها هو داخلٌ في هذه القسمة؛ لأنَّها مِنْ أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت.
_________
(1) انظر: المغني 7/7 - 8.
(2) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 6/47 - 48 عقيب (1615) ، وفتح الباري
12/15 - 17 عقيب (6732) .
(3) سبق تخريجه.
(4) أخرجه: أحمد 1/313، ومسلم 5/59 - 60 (1615) (4) ، وابن ماجه (2740) ، وأبو عوانة 3/437 من حديث عبد الله بن عباس.(3/1181)
وقالت فرقة أخرى: المرادُ بأهلِ الفرائض في قوله: ((ألحقوا الفرائض
بأهلها)) ، وقوله: ((اقسموا المال بين أهل الفرائض)) جملة من سمَّاه الله في كتابه (1) من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلِّهم، فإنَّ كلَّ ما يأخذه الورثة، فهو فرضٌ فرضه الله لهم، سواء كان مقدراً أو غير مقدر، كما قال بعدَ ذكر ميراث الوالدين والأولاد: {فَريضَةً مِنَ الله} (2) ، وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} (3) ، وهذا يشملُ العَصَباتِ وذوي الفروض، فكذلك قولُه: ((اقسِموا الفرائضَ بين أهلها على كتاب الله)) يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله (4) ، فإنْ قسم على ذلك ثُمَّ فضَلَ منه شيء، فيختصُّ بالفاضل أقربُ الذكور مِنَ الورثة، وكذلك إنْ لم يُوجَد في كتاب الله تصريحٌ بقسمته بين من سماه الله من الورثة، فيكون حينئذٍ المال لأوْلَى رجلٍ ذكرٍ منهم.
فهذا الحديث مبيِّنٌ لكيفية قسمةِ المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ومُبيِّنٌ لقسمة ما فضلَ من المال عن تلك القسمة ممَّا لم يُصرَّحْ به في القرآن مِنْ أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبيِّنٌ أيضاً لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرَّح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضُمَّ هذا الحديثُ إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كلُّه معرفةَ قسمةِ المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات.
ونحن نذكر حكمَ توريث الأولاد والوالدين كما ذكره الله في أوَّل
_________
(1) انظر: فتح الباري 12/15 عقيب (6732) .
(2) النساء: 11.
(3) النساء: 7.
(4) انظر: فتح الباري 12/15 عقيب (6732) .(3/1182)
سورة النساء، وحكم توريث الإخوة من الأبوين، أو من الأب، كما ذكره الله في آخر السورة المذكورة.
فأما الأولاد، فقد قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (1) ، فهذا حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم أنّه يكونُ للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، ويدخل في ذلك الأولادُ، وأولادُ البنين باتِّفاق العلماء، فمتى اجتمع الأولاد إخوةٌ وأخوات، اقتسموا الميراث على هذا الوجه عند الأكثرين، فلو كان هناك بنتٌ للصُّلب أو ابنتان، وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقي أثلاثاً؛ لدخولهم في هذا العموم. هذا قولُ جمهور العلماء، منهم عمر وعليٌّ وزيدٌ وابنُ عباس، وذهب إليه عامَّة العلماء، والأئمة الأربعة (2) .
وذهب ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقي بعدَ استكمال بناتِ الصُّلب الثلثين، كلُّه لابن الابن، ولا يُعصِّبُ أخته، وهو قولُ علقمة وأبي ثور وأهل الظاهر، فلا يُعصِّبُ عندهم الولدُ أختَه إلاّ أنْ يكونَ لها فريضةٌ لو انفردت عنه، فكذلك قالوا فيما إذا كان هناك بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكور وإناث: أنَّ الباقي لجميع ولد الابن، للذكر منهم مثلُ حظ الأنثيين (3) .
وقال ابنُ مسعود في بنت وبنات ابن وبني ابن: للبنتِ النصفُ، والباقي بين ولد الابن، للذكر مثلُ حظ الأُنثيين إلاّ أنْ تزيدَ المقاسمةُ بنات الابن على السدس، فيفرض لهنَّ السدسُ، ويجعلُ الباقي لبني الابن (4) ، وهذا قول أبي ثور.
وأمَّا الجمهور، فقالوا: النصفُ الباقي لولدِ الابنِ، للذكر مثلُ حظ الأنثيين عملاً بعموم الآية، وعندهم أنَّ الولد وإنْ نَزَلَ يُعصِّبُ من في درجته بكلِّ حال، سواء كان للأنثى
_________
(1) النساء: 11.
(2) انظر: المغني 7/8 و10.
(3) انظر: المغني 7/11.
(4) انظر: المغني 7/13.(3/1183)
فرض بدونه أو لم يكن، ولا يُعصِّبُ من أعلى منه من الإناث إلاَّ بشرط أنْ لا يكون لها فرضٌ بدونه، ولا يُعصب من أسفلَ منه بكلِّ حالٍ.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (1) . فهذا حكمُ انفرادِ الإناث من الأولاد أنَّ للواحدة
النصفَ، ولِما فوقَ الاثنتين الثلثان، ويدخلُ في ذلك بناتُ الصلب وبناتُ الابن عند عدمهن، فإنِ اجتمعنَ، فإنِ استكملَ بناتُ الصلب الثلثين، فلا شيءَ لبنات الابن المنفردات، وإنْ لم يستكمل البناتُ الثُّلثين، بل كان ولدُ الصلب بنتاً واحدة، ومعها بناتُ ابنِ، فللبنتِ النِّصفُ، ولبناتِ الابن السدسُ تكملةَ الثلثين؛ لئلا يزيدَ فرضُ البنات على الثلثين، وبهذا قضى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكرُه، وهو قولُ عامَّة العلماء، إلا ما رُوي عن ابن مسعود وسلمان بن ربيعة: أنَّه لا شيءَ لبناتِ الابن، وقد رجع أبو موسى إلى قول ابن مسعود لمَّا بلغه قولُه في ذلك (2) .
وإنَّما أشكل على العلماء حكمُ ميراث البنتين، فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابنُ المنذر (3) وغيره، وما حُكي فيه عن ابن عباس أنَّ لهما النِّصفُ، فقد قيل: إنَّ إسنادَه لا يَصِحُّ، والقرآن يدلُّ على خلافه، حيث قال: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (4) ، فكيف تُورث أكثر من واحدة النصف؟ وحديثُ ابن مسعود في توريث البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين يدلُّ على توريث البنتين الثلثين بطريق الأولى.
_________
(1) النساء: 11.
(2) أخرجه: أبو داود (2890) .
(3) في " الإجماع ": 79.
(4) النساء: 11.(3/1184)
وخرَّج الإمامُ أحمد (1) ، وأبو داود (2) ، والترمذي (3) من حديث جابر أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ورَّث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، ولكنْ أشكل فهمُ ذلك من القرآن لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} (4) ، فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا، وقال كثيرٌ من الناس فيه أقوالاً مستبعدةً.
ومنهم من قال: استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين، فإنَّه قال تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (5) ، واستُفيد حكمُ ميراث أكثر من الأختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين.
ومنهم من قال: البنتُ مع أخيها لها الثلثُ بنصِّ القرآن، فلأَنْ يكونَ لها الثلثُ مع أختها أولى، وسلك بعضُهم مسلكاً آخر، وهو أنَّ الله تعالى ذكر حُكمَ توريث (6) اجتماع الذكور والإناث من الأولاد، وذكر حُكمَ توريثِ الإناث إذا انفردنَ عن الذُّكور، ولم ينصَّ على حكم انفراد الذكور منهم عن الإناث، وجعل حُكمَ الاجتماع أنَّ الذكرَ له مثلُ حظِّ الأنثيين، فإنِ اجتمع مع الابن ابنتان فصاعداً، فله مثلُ نصيب اثنتين منهن،
_________
(1) في " مسنده " 3/352.
(2) برقم (2891) و (2892) .
(3) في " جامعه " (2092) ، وقال: ((حسن صحيح)) .
(4) النساء: 11.
(5) النساء: 176.
(6) سقطت من (ص) .(3/1185)
وإنْ لم يكن معه إلا ابنة واحدة، فله الثلثان ولها الثلث، وقد سمَّى الله ما يستحقه الذكرُ حظَّ الأنثيين مطلقاً، وليس الثلثان حظّ الأنثيين في حال اجتماعهما مع الذكر؛ لأنَّ حظَّهما حينئذ النِّصفُ، فتعيَّن أنْ يكونَ الثُّلثان حظهما حالَ الانفراد.
وبقي هاهنا قسمٌ ثالث لم يُصرِّح القرآنُ بذكره، وهو حكمُ انفراد الذكور من الولد، وهذا مما يُمكن إدخاله في حديث ابن عباس: ((فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ)) ، فإنَّ هذا القسم قد بقي ولم يُصرَّح بحكمه في القرآن، فيكون المالُ حينئذ لأقرب الذكور مِنَ الولد والأمرُ على هذا، فإنَّه لو اجتمع ابنٌ وابنُ ابنٍ، لكان المال كُلُّه للابن، ولو كان ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابنٍ، لكان المال كلُّه لابنِ الابن على مقتضى حديث ابن عباس، والله أعلم (1) .
ثم ذكر تعالى حُكم ميراث الأبوين، فقال: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (2) ، فهذا حكم ميراث الأبوين إذا كان الولد المتوفَّى ولد، وسواءٌ في الولد الذكر والأنثى، وسواء فيه ولدُ الصُّلب وولدُ الابن، هذا كالإجماع من العلماء وقد حكى بعضهم عن مجاهدٍ فيه خلافاً، فمتى كان للميت ولدٌ، أو ولدُ ابن، وله أبوان، فلكلِّ واحدٍ من أبويه السدسُ فرضاً، ثم إنْ كان الولد ذكراً، فالباقي بعد سدسي الأبوين له، وربما دخل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -
: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فلأوْلَى رجل ذكر)) .
_________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 6/48 عقيب (1615) ، وفتح الباري 12/15 و18 عقيب (6732) .
(2) النساء: 11.(3/1186)
وأقرب العصباتِ الابنُ، وإنْ كان الولد أنثى، فإن كانتا اثنتينِ فصاعداً، فالثُّلثان لهنَّ، ولا يَفضُلُ من المال شيءٌ، وإنْ كانت بنتاً واحدةً، فلها النِّصفُ (1) ، ويفضلُ مِنَ المالِ سدسٌ آخر، فيأخذُه الأبُ بالتَّعصيب، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)) (2) ، فهو أولى رجل ذكر عندَ فقدِ
الابن؛ إذ هو أقربُ من الأخ وابنه والعم وابنه.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} (3) ، يعني: إذا لم يكن للميت ولد، وله أبوان يرثانه، فلأُمِّه الثلث، فيُفهم من ذلك أنَّ الباقي بعدَ الثلث للأب؛ لأنه أثبت ميراثه لأبويه، وخصَّ الأم من الميراث بالثلث، فعلم أنَّ الباقي للأب، ولم يقل: فللأب - مثلاً - ما للأم، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المالَ هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوة، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ.
وكان ابنُ عبّاس يتمسَّك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين وهما: زوجٌ وأبوان، وزوجةٌ وأبوان، فإنَّ عمر قضى أنَّ الزوجين يأخذان فرضَهُما من المال، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين، فللأم ثلثُه، والباقي للأب (4) ، وتابعه على ذلك جمهور الأمة (5) .
وقال ابن عباس: بل للأم الثلثُ كاملاً (6) ، تمسُّكاً بقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} (7) .
وقد قيل في جواب هذا: إنَّ الله إنَّما جعل للأم الثلث بشرطين:
_________
(1) انظر: المغني 7/12 - 13.
(2) سبق تخريجه.
(3) النساء: 11.
(4) أخرجه: عبد الرزاق (19015) ، وسعيد بن منصور (6) و (8) ، والدارمي
(2872) (ط. دار الحديث) ، والبيهقي 6/228.
(5) انظر: المغني 7/21.
(6) أخرجه: عبد الرزاق (19018) ، والدارمي (2878) (ط. دار الحديث) ، والبيهقي 6/228.
وانظر: رؤوس المسائل في الخلاف 2/717، والمغني 7/22.
(7) النساء: 11.(3/1187)
أحدُهما: أنْ لا يكونَ للولد المتوفَّى ولدٌ، والثاني: أنْ يرِثَه أبواه، أي: أنْ ينفرِدَ أبواه بميراثه،
فما لم ينفرد أبواه بميراثه، فلا تستحقُّ الأمُّ الثلث، وإنْ لم يكن للمتوفَّى ولدٌ.
وقد يقال - وهو أحسن -: إنَّ قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} (1) أي: ممَّا ورثه الأبوان، ولم يقل: فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السُّدس، فالمعنى: أنَّه إذا لم يكن له وَلَدٌ، وكان لأبويه مِن ماله ميراثٌ، فللأُمِّ ثُلُثُ ذلك الميراثِ الذي يختصُّ به الأبوان، ويبقى الباقي للأب. ولهذا السرِّ والله أعلم حيث ذكر الله الفروض المقدَّرة لأهلها، قال فيها: {مِمَّا تَرَكَ} ، أو ما يدلُّ على ذلك، كقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) ، ليبين أنَّ ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزء المفروض المقدَّر له من جميع المال بعد الوصايا والديون، وحيث ذكر ميراثَ العصبات، أو ما يقتسِمُه الذُّكورُ والإناث على وجه التَّعصيب، كالأولاد والإخوة لم يقيِّده بشيءٍ من ذلك، ليبيِّنَ أنَّ المالَ المقتسم بالتَّعصيب ليس هو المالَ كُلَّهُ، بل تارةً يكونُ جميع المال، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروض المفروضة المقدَّرة، وهُنا لمَّا ذكر ميراثَ الأبوين من ولدهما الذي لا ولدَ له، ولم يكن اقتسامهما للميراث بالفرض المحضِ، كما في ميراثهما مع الولد، ولا كان بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى، ويأخذ مِثلَي ما تأخذُهُ الأنثى، بل كانت الأُمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرض، والأب يأخذُ ما يأخذُهُ بالتَّعصيب، قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} (3) يعني: أنَّ القدر الذي يستحقُّه الأبوان من ميراثه تأخذُ الأُم ثلثه فرضاً، والباقي يأخذُه الأب بالتَّعصيب (4) ، وهذا ممَّا فتح الله به، ولا أعلم أحداً سبق إليه، ولله الحمد والمنَّة.
_________
(1) النساء: 11.
(2) النساء: 11.
(3) النساء: 11.
(4) انظر: المغني 7/22.(3/1188)
ثم قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) يعني: للأمِّ السُّدس مع الأخوة من جميع التركة الموروثة التي يقتسمها الورثة، ولم يذكر هنا ميراثَ الأب مع الأم، ولا شكَّ أنَّه إذا اجتمع أمٌّ وإخوةٌ ليس معهم أبٌ، فإنَّ للأمِّ السدسَ، والباقي للإخوة، ويحجبها الأخوانِ فصاعداً عند الجمهور (2) .
وأما إن كان مع الأُمِّ والإخوة أبٌ، فقال الأكثرون: يحجب الإخوة الأم ولا يرثون، ورُوي عن ابن عباس أنهم يرثُون السُّدسَ الذي حجبوا عنه الأم بالفرض كما يَرِثُ ولدُ الأم مع الأم بالفرض.
وقد قيل: إنَّ هذا مبنيٌّ على قوله: إنَّ الكلالةَ مَنْ لا ولدَ له خاصَّة، ولا يُشترط للكَلالةِ فَقْدُ الوالدِ، فيرثُ الإخوةُ مع الأب بالفرض (3) .
ومن العلماء المتأخِّرين من قال: إذا كان الإخوةُ محجوبينَ بالأب، فلا يَحجُبُون الأمَّ عن شيءٍ، بل لها حينئذٍ الثُّلثُ، ورجَّحه الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمة الله عليه، وقد يُؤخذ من عموم قولِ عمر وغيره من السَّلف: من لا يَرثُ لا يَحجُبُ (4) ، وقد قال نحوه أحمدُ والخِرَقي، لكن أكثر العلماء يحملون ذلك على أنَّ المرادَ مَنْ ليس له أهليَّةُ الميراث بالكلِّيَّة، كالكافر والرقيق، دون من لا يرثُ، لانحجابه بمن هو أقرب منه، والله أعلم.
وقد يَشهَدُ للقولِ بأنَّ الإخوة إذا كانوا محجوبين لا يَحجُبونَ الأمَّ أنَّ الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} (5) ولم يذكر الأب، فدلَّ على أنّ ذلك حكمُ انفراد الأم مع الإخوة، فيكون الباقي بعد السدس كلّه لهم، وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الإخوة قد يكونون من أمٍّ، فلا يكونُ لهم سوى الثلث، والله تعالى أعلم.
_________
(1) النساء: 11.
(2) انظر: المغني 7/17، والشرح الكبير على متن المقنع 7/26.
(3) انظر: المغني 7/4.
(4) أخرجه: عبد الرزاق (19104) ، وابن أبي شيبة (31147) (ط. الحوت) ، والدارمي
(2997) (ط. دار الحديث) من قول عمر بن الخطاب.
وأخرجه: عبد الرزاق (19108) من قول علي بن أبي طالب.
(5) النساء: 11.(3/1189)
واعلم أنَّ الله تعالى ذكر حُكمَ ميراث الأبوين، ولم يذكر الجدَّ ولا الجدَّة، فأما الجدَّةُ، فقد قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: إنه ليس لهما في كتاب الله شيءٌ (1) ، وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك، وأنَّ فرضها إنَّما ثبت بالسُّنَّة. وقيل: إنَّ السُّدس طعمةٌ أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بفرضٍ، كذا روي عن ابن مسعود (2) وسعيد بن المسيب (3) .
وقد رُوي عن ابن عباس من وجوهٍ فيها ضعفٌ أنها بمنْزلة الأم عندَ فقد الأم ترث ميراثَ الأم، فترث الثلثَ تارةً، والسدس أخرى، وهذا شذوذ (4) ، ولا يصحُّ إلحاق الجدة بالجدِّ؛ لأنَّ الجدَّ عصبة يُدلي بعصبة، والجدَّة ذاتُ فرض تُدلي بذات فرض فضعفت، وقد قيل: إنَّه ليس لها فرض بالكلية، وإنما السدسُ طعمة أطعمها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالت طائفة ممن يرى الردَّ على ذوي الفروض: إنَّه لا يُرَدُّ على الجدة، لضعف فرضها، وهو رواية عن أحمد.
وأما الجدُّ، فاتَّفق العلماءُ على أنَّه يقوم مقامَ الأب في أحواله المذكورة من
قبلُ (5) ، فيرثُ مع الولدِ السُّدُسَ بالفرض، ومع عدمِ الولد يرثُ بالتعصيب، وإن بقي شيء مع إناث الولد أخذه بالتعصيب أيضاً عملاً بقوله: ((فما أبقتِ الفرائضُ، فلأَولى رَجُلٍ ذكر)) .
ولكنِ اختلفوا إذا اجتمع أمٌّ وجدٌّ مع أحد الزوجين، فرُوي عن طائفةٍ من الصَّحابة أنَّ للأم ثُلُث الباقي، كما لو كان معها الأبُ كما سبق، رُوي ذلك عن عمر، وابن مسعود كذا نقلهُ بعضُهم، ومنهم من قال: إنَّما رُوي عن عمر، وابن مسعود في زوج وأم وجدٍّ أنَّ للأمِّ ثلث الباقي.
_________
(1) أخرجه: عبد الرزاق (19083) ، وأحمد 4/225، وأبو داود (2894) ، وابن ماجه
(2724) ، والترمذي (2101) ، وابن الجارود (959) ، وابن حبان (6031) ، والحاكم 4/338، والبيهقي 6/234، والبغوي في " شرح السنة " (2221) .
(2) أخرجه: الترمذي (2102) ، والبيهقي 6/226 عن عبد الله بن مسعود، مرفوعاً.
وأخرجه: سعيد بن منصور (99) و (110) ، والدارمي (2932) (ط. دار الحديث) ، والبيهقي 6/226 عن عبد الله بن مسعود، موقوفاً.
وانظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/283.
(3) أخرجه: الدارمي (2934) (ط. دار الحديث) ، والبيهقي 6/226.
(4) انظر: المغني 7/53، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/278.
(5) انظر: المغني 7/19، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/285.(3/1190)
ورُوي عن ابن مسعود روايةٌ أخرى: أنَّ النَّصفَ الفاضلَ بين الجدِّ والأم نصفان (1) ، وأمَّا في زوجة وأمٍّ وجدٍّ، فرُوي عن ابن مسعود رواية شاذةٌ: أنَّ للأمِّ ثلثَ الباقي، والصَّحيحُ عنه، كقول الجمهور: إنَّ لها الثُّلثَ كاملاً، وهذا يشبه تفريقَ ابنِ سيرين في الأمِّ مع الأب أنَّه إنْ كان معهما زوج فللأمِّ ثلث الباقي، وإنْ كانَ معهما زوجة، فللأمِّ الثُّلُث.
وجمهورُ العلماء على أنَّ الأم لها الثلثُ مع الجدِّ مطلقاً، وهو قولُ عليٍّ وزيدٍ، وابنِ عباس، والفرق بين الأم مع الأب ومع الجدِّ أنَّها مع الأب يشملُها اسمٌ واحدٌ، وهما في القُرب سواءٌ إلى الميت، فيأخذ الذكرُ منهما مثلَ حظِّ الأنثى مرتين كالأولاد والإخوة، وأما الأم مع الجد، فليس يشملها اسمُ واحد، والجدُّ أبعدُ من الأب، فلا يلزمُ مساواته به في ذلك.
وأما إنِ اجتمع الجدُّ مع الإخوة، فإنْ كانوا لأُمٍّ سقطوا به؛ لأنَّهم إنَّما
يرثون مِنَ الكَلالة، والكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والد، إلا رواية شذَّتْ عن ابنِ عباسٍ.
وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين، فقد اختلفَ العلماءُ في حكم ميراثهم قديماً
وحديثاً، فمنهم من أسقط الإخوة بالجدِّ مطلقاً، كما يسقطون بالأب وهذا قولُ
الصديق، ومعاذٍ، وابن عباس وغيرهم، واستدلُّوا بأنَّ الجدَّ أبٌ في كتاب الله - عز وجل -، فيدخلُ في مسمَّى الأب في المواريث، كما أنَّ ولدَ الولدِ ولدٌ، ويدخُل في مسمّى الولد عندَ عدم الولد بالاتفاق، وبأنَّ الإخوةَ إنَّما يرثون مع الكَلالة، فيحجبُهُم الجدُّ كالإخوة من الأب، وبأنَّ الجدَّ أقوى من الإخوة، لاجتماعِ الفَرضِ والتَّعصيب له من جهةٍ واحدةٍ، فهو كالأب، وحينئذٍ، فيدخلُ في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - (2) : ((فما بقي، فلأَوْلَى رجلٍ ذكرٍ)) (3) .
_________
(1) انظر: المهذب 4/107.
(2) انظر: المغني 7/65 - 66، والشرح الكبير على متن المقنع 7/9 - 10.
(3) سبق تخريجه(3/1191)
ومنهم من شرَّك بَينَ الإخوة والجدِّ وهو قولُ كثيرٍ من الصحابة، وأكثرُ الفقهاء بعدهم على اختلاف طويل بينهم في كيفية التشريك بينهم في الميراث، وكان مِنَ السَّلف مَنْ يتوقَّف في حكمهم ولا يُجيب فيهم بشيءٍ؛ لاشتباه أمرهم وإشكاله، ولولا خشيةُ الإطالة لبسطنا القولَ في هذه المسألة، ولكن ذلك يؤدِّي إلى الإطالة جداً.
وأما حكمُ ميراث الإخوة للأبوين أو للأب، فقد ذكره الله تعالى في آخر سورة النساء في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1) والكَلالةُ مأخوذة من تكلُّلِ النسب وإحاطته بالميت (2) ، وذلك يقتضي انتفاءَ الانتساب مطلقاً من العمودين الأعلى والأسفل، وتنصيصُه تعالى على انتفاء الولد تنبيهٌ على انتفاء الوالد بطريق الأولى؛ لأنَّ انتسابَ الولد إلى والده أظهرُ من انتسابه إلى ولده، فكان ذكرُ عدم الولد تنبيهاً على عدم الوالد بطريق الأولى، وقد قال أبو بكر الصديق: الكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والد (3) ، وتابعه جمهورُ الصحابة والعلماء بعدهم، وقد رُوي ذلك مرفوعاً من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، خرَّجه أبو داود في " المراسيل " (4) ، وخرَّجه الحاكم (5) من روايةٍ عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وصححه،
_________
(1) النساء: 176.
(2) انظر: لسان العرب 12/143 (كلل) .
(3) أخرجه: عبد الرزاق (19190) و (19191) ، وابن أبي شيبة (31600)
(ط. الحوت) ، والدارمي (2972) (ط. دار الحديث) ، والطبري في " تفسيره "
(8549) ، والبيهقي 6/223 - 224.
وانظر: المغني 7/6، والشرح الكبير على متن المقنع 7/57.
(4) : 194.
(5) في " المستدرك " 4/336، وقد صححه الحاكم فتعقبه الذهبي في " التلخيص " بقوله
: ((الحماني ضعيف)) .(3/1192)
ووصلُه بذكر أبي هريرة ضعيفٌ.
فقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (1) ،
يعني: إذا لم يكن للميت ولدٌ بالكلِّيَّةِ لا ذكرٌ ولا أنثى، فللأخت - حينئذٍ - النِّصفُ مما ترك فرضاً، ومفهوم هذا أنَّه إذا كان له ولدٌ فليس للأخت النِّصفُ فرضاً، ثمَّ إنْ كان الولدُ ذكراً، فهو أولى بالمالِ كلِّه لِما سبقَ تقريرُه في ميراث الأولاد الذُّكور إذا انفردوا، فإنَّهم أقربُ العصبات، وهم يُسقِطُون الإخوة، فكيف لا يُسقِطون الأخوات؟ وأيضاً، فقد قالَ تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (2) ، وهذا يدخلُ فيهِ ما إذا كانَ هناك ذو فرضٍ كالبنات وغيرهنَّ، فإذا استحقَّ الفاضلُ ذكورَ الإخوة مع الأخوات، فإذا انفردوا، فكذلك يستحقُّونه وأولى، وإنْ كانَ الولدُ أنثى، فليس للأختِ هنا النِّصفُ
بالفرض، ولكن لها الباقي بالتَّعصيب عندَ جمهور العلماء، وقد سبق ذكرُ ذَلِكَ والاختلافُ فيهِ، فلو كانَ هناك ابنٌ لا يستوعِبُ المالَ وأختٌ، مثلُ ابنٍ نصفُه حر عندَ من يُوَرِّثه نصفَ الميراث، وهو مذهبُ الإمام أحمد وغيره من العلماء، فهل يقال: إنَّ الابن هنا يُسقِطُ نصفَ فرض الأخت، فترثَ معه الرُّبعَ فرضاً، أم يقال: إنَّه يصيرُ كالبنت، فتصيرُ
_________
(1) النساء: 176.
(2) النساء: 176.(3/1193)
الأختُ معه عصبة، كما تصير مع الأخت، لكنَّه يسقط نصفَ تعصيبها فتأخذ معه النِّصف الباقي بالتعصيب هذا محتمل، وفي هذه المسألة لأصحابنا وجهان.
وقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (1) ، يعني أنَّ الأخ يستقلُّ بميراث أخته إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى، فإنْ كان لها ولدٌ ذكرٌ، فهو أولى مِنَ الأخ بغير إشكالٍ، فإنَّه أولى رجل ذكرٍ، وإنْ كان أنثى، فالباقي بعد فرضها يكونُ للأخ؛ لأنّه أولى رجلٍ ذكرٍ، ولكن لا يستقلُّ بميراثها حينئذٍ، كما إذا لم يكن لها ولَدٌ.
وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (2) يعني: أنَّ فرضَ الثِّنتين الثلثان، كما أنّ فرض الواحدةِ النِّصفُ، فهذا كلُّه في حكم انفرادِ الإخوة والأخوات (3) .
وأما حكم اجتماعهم، فقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (4) فيدخلُ في ذلك ما إذا كانوا منفردين، وأما إذا كان هناك ذو فرضٍ مِنَ الأولاد أو غيرهم، كأحد الزوجين أو الأم أو الإخوة من الأم، فيكون الفاضلُ عن فروضهم للإخوة والأخوات بينهم للذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين.
فقد تبيَّن بما ذكرناه أنَّ وجودَ الولد إنما يُسقط فرضَ الأخوات مِنَ الأبوين أو
الأب، ولا يُسقط توريثَهُن بالتَّعصيب مع أخواتهنَّ بالإجماع، ولا تَعْصِيبُهُنَّ بانفرادهنَّ مع البناتِ عند الجمهور، فالكلالةُ شرطٌ لثبوت فرض الأخوات، لا لثبوت ميراثهنّ، كما أنَّه ليس بشرطٍ لميراثِ ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ، فإنَّ انتفاءَ الكلالة أسقطت فروضَهم، وإذا أسقطت
_________
(1) النساء: 176.
(2) النساء: 176.
(3) انظر: المهذب 4/87، والمغني 7/9.
(4) النساء: 176.(3/1194)
فروضَهم، سقطت مواريثُهُم؛ لأنَّه لا تعصيبَ لهم بحالٍ، لإدلائهم بأنثى، وللأخوات للأبوين أو للأب يُدلون بذكرٍ، فيرثنَ بالتَّعصيبِ مع إخوتهن بالاتفاق، وبانفرادهن مع البنات عند الجمهور.
وإذا كان الولد مسقطاً لفرض ولد الأبوين، أو الأب دونَ أصل توريثهم بغير الفرض، فقد يقال: إنَّ الله تعالى إنّما خصَّ انتفاءَ الولد في قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ولم يذكر انتفاء الوالد، أو الأب؛ لأنَّه كان يدخلُ فيه الجدّ، والجدُّ لا يُسقط ميراث الإخوة بالكليَّة، وإنَّما يشتركون معه في ميراث، تارةً بالفرض، وتارةً بغيره، وهذا على قول من يقول: إنَّ الجدَّ لا يُسقِطُ الإخوة - وهُمُ الجمهورُ - ظاهرٌ، وهذا كلُّه في انفرادِ ولدِ الأبوين أو الأب، فإن اجتمعوا، فإنَّ العصبات مِنْ ولد الأبوين يُسقطون ولدَ الأب كلهم بغير خلافٍ حتى في الأخت مِنَ الأبوين مع البنت عند من يجعلُها عصبةً يُسقط بها الأخ من الأبوين.
وفي "المسند " (1) و" الترمذي " (2) و" ابن ماجه " (3) عن عليٍّ قال: قضى
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أعيانَ بني الأم يرثُون دونَ بني العَلاَّتِ، يَرِثُ الرَّجُلُ أخاه لأبيه وأمه دونَ أخيه لأبيه.
وقال عمرو بنُ شعيب: قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأخ للأب والأم أولى بالكلالةِ بالميراث، ثم الأخ للأب (4) ،
_________
(1) مسند الإمام أحمد 1/79 و131 و144.
وأخرجه: الطيالسي (179) ، والحميدي (55) ، وابن أبي شيبة (29054)
و (31556) (ط. الحوت) ، وأبو يعلى (625) ، والبيهقي 6/232 - 233 و267 عن علي بن أبي طالب، به.
(2) في " جامعه " (2094) و (2095) جميعهم من حديث الحارث الأعور (وهو ضعيف) عن علي، وقال الترمذي: ((هذا حديث لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم)) ، ومما ينبغي التنبيه إليه أن ابن كثير قد عقب على قول الترمذي بقوله: ((لكن (يعني الحارث) كان حافظاً للفرائض معتنياً بها وبالحساب)) ، تفسير ابن كثير 2/199.
(3) في " سننه " (2715) .
(4) أخرجه: عبد الرزاق (19002) عن عمرو بن شُعيب، به.
وهو جزء من حديث طويل.(3/1195)
وهذا أيضاً مما يدخل في قوله - عليه السلام -: ((فما بقي فلأَوْلى رجلٍ ذكرٍ)) .
والتحقيقُ في ذلك: أنَّ كلَّ ما دلَّ عليه القرآن، ولو بالتَّنبيه، فليس هو ممَّا أبقته الفرائض، بل هو من إلحاق الفرائض المذكورة في القرآن بأهلها، كتوريثِ الأولاد ذكورهم وإناثهم الفاضل عن الفُروض، للذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين، وتوريث الإخوة ذكورهم وإناثهم كذلك، ودلَّ ذلك بطريق التَّنبيه على أنَّ الباقي يأخذُه الذَّكرُ منهم عند الانفراد بطريق الأولى، ودلَّ أيضاً بالتَّنبيه على أنَّ الأخت تأخذُ الباقي مع البنت كما كانت تأخذُه مع أخيها، ولا يُقدَّمُ عليها من هو أبعدُ منها، كابن الأخ والعم وابنه، فإنَّ أخاها إذا لم يُسقطها فكيف يُسقِطها من هو أبعدُ منه؟ فهذا كلُّه من باب إلحاق الفرائض بأهلها، ومن باب قسمة المال بين أهلِ الفرائض على كتاب الله.
وأمَّا مَنْ لم يذكر باسمه مِنَ العصبات في القرآن، كابن الأخ والعم وابنه، وإنَّما دخل في عمومات مثل قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} (1) ، وقوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ} (2) ، فهذا يحتاج في توريثهم إلى هذا الحديث، أعني حديث ابن عباس، فإذا لم يُوجَدْ للمال وارثٌ غيرهم، انفردوا به، ويقدَّم منهمُ الأقربُ فالأقربُ؛ لأنَّه أولى رجلٍ ذكرٍ (3) ، وإنْ وُجِدَت فروضٌ لا تستغرقُ المالَ، كأحدِ الزوجين أو الأم، أو ولد الأمِّ، أو بناتٍ منفردات، أو أخوات منفردات، فالباقي كلُّه لأولى ذكر من هؤلاء. ولهذا لو كان هؤلاء إخوةً رجالاً ونساءً، لاختصَّ به رجالُهم دون نسائهم، بخلاف الأولاد والإخوة، فإنَّه يشترك في الباقي، أو في المال كلِّه ذكورهم وإناثهم بنص القرآن، والحديث إنَّما دلَّ على توريث العصبات الذين يختصّ ذكورهم دون إناثهم، وهم مَنْ عدا الأولاد والإخوة،
_________
(1) الأنفال: 75.
(2) النساء: 33.
(3) انظر: المغني 7/20 - 21.(3/1196)
فهذا حكمُ العصبات المذكورين في كتاب الله، وفي حديث ابن عباس.
وأما ذوو الفروضِ، فقد ذكرنا حكمَ مواريثهم، ولم يبقَ منهم إلاَّ الزوجان والإخوة للأمِّ، فأمَّا الزوجان، فيرثان بسبب عقد النكاح. ولمَّا كان بين الزوجين من الألفة والمودَّة والتَّناصُر والتعاضُدِ ما بينَ الأقارب، جعل ميراثهما كميراث الأقارب، وجُعل للذَّكر منهما مِثْلا ما للأنثى؛ لامتياز الذكر على الأنثى بمزيد النَّفع بالإنفاق والنصرة.
وأما ولدُ الأمِّ، فإنَّهم ليسوا من قبيلةِ الرَّجُلِ، ولا عشيرته، وإنَّما هم في المعنى من ذوي رحمِهِ، ففرضَ الله لواحدهم السُّدُسَ، ولجماعتهم الثُّلث صلةً، وسوَّى بين ذكورهم وإناثهم، حيث لم يكن لذكرهم زيادةً على أنثاهم في الحياة من المعاضدة والمناصرة، كما بين أهلِ القبيلة والعشيرة الواحدة، فسوَّى بينهم في الصِّلة، ولهذا لم تُشرع الوصيَّةُ للأجانب بزيادة على الثلث، بل كان الثُّلثُ كثيراً في حقِّهم؛ لأنَّهم أبعدُ من ولدِ الأمِّ، فينبغي أنْ لا يُزادوا على ما يُوصل به ولدُ الأم، بل ينقصون منه.
واستدلَّ بعضُهم بقوله: ((فما بقي فلأولى رجلٍ ذكرٍ)) (1) على أنْ لا ميراثَ لذوي الأرحام؛ لأنَّه لم يجعل حقَّ الميراثِ لمن لم يُذكر في القرآن إلا لأقربِ الذكور، وهذا الحكمُ يختصُّ بالعصبات دون ذوي الأرحام، فإنَّ مَنْ ورَّث ذوي الأرحام، ورث ذكورهم وإناثهم.
وأجاب من يرى توريثَ ذوي الأرحام بأنَّ هذا الحديثَ دلَّ على توريث
العصبات، لا على نفي توريث غيرهم،
_________
(1) سبق تخريجه.(3/1197)
وتوريثُ ذوي الأرحام مأخوذٌ من أدلةٍ أخرى، فيكون ذلك زيادةً على ما دلَّ عليه حديثُ ابن عباس.
وأما قوله: ((لأولى رجلٍ ذكرٍ)) مع أنَّ الرجلَ لا يكونُ إلاّ ذكراً، فالجوابُ الصحيحُ عنه أنَّه قد يُطلَقُ الرجل، ويرادُ به الشخص، كقوله: من وجد ماله عند رجلٍ قد أفلس، ولا فرقَ بينَ أنْ يجده عند رجلٍ أو امرأةٍ، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمال، ويُخلصه للذكر دونَ الأنثى وهو المقصودُ، وكذلك الابنُ: لمَّا كان قد يُطلق، ويُراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييدُ ابنِ اللبون في نصب الزكاة بالذكر. وللسهيلي كلامٌ على هذا الحديث فيه تكلُّفٌ وتَعسُّفٌ شديدٌ ولا طائلَ تحته، وقد ردَّه عليه جماعة ممن أدركناهم، والله أعلم (1) .
_________
(1) انظر: فتح الباري 12/16 - 17 عقيب (6732) .(3/1198)
الحديث الرابع والأربعون
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ ما تحرِّمُ
الولادةُ)) خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث خرَّجاه في ((الصحيحين)) من رواية عمرة عن عائشة، وخرّج مسلم (3) أيضاً من رِواية عروة، عن عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يَحرُمُ مِنَ الرَّضاعَةِ ما يَحرُمُ مِنَ النَّسبِ)) ، وخرَّجاه (4) أيضاً من رواية عروة عن عائشة من قولها، وخرَّجاه (5) من حديث ابنِ عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) في " صحيحه " 3/222 (2646) و4/100 (3105) و7/11 (5099) .
وأخرجه: أحمد 6/44 و51 و66، وأبو داود (2055) ، والترمذي (1147) ، والنسائي 6/99، وابن حبان (4223) .
(2) في " صحيحه " 4/162 (1444) (1) و (2) .
(3) في " صحيحه " 4/164 (1445) (9) .
(4) صحيح البخاري 7/15 (5111) ، وصحيح مسلم 4/163 (1445) (5) .
(5) صحيح البخاري 3/222 (2645) ، وصحيح مسلم 4/164 - 165 (1447) (12) .(3/1199)
وخرَّجه الترمذي (1) من حديث عليٍّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة، وإنَّ الرضاع يُحرِّمُ ما يُحرِّمه النَّسب (2) ، ولنذكرِ المحرَّماتِ مِنَ النَّسب كلهن حتّى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع، فنقول: الولادة والنَّسب قد يؤثِّران التحريمَ في النكاح، وهو على قسمين:
أحدُهما: تحريمٌ مؤبَّدٌ على الانفراد، وهو نوعان:
أحدهما: ما يحرم بمجرَّد النَّسب، فيحرم على الرجل أصولُه وإنْ عَلَون، وفروعه وإنْ سَفَلْنَ، وفروعُ أصله الأدنى وإنْ سفَلْن، وفروع أصوله البعيدة دون فروعهن، فيدخل في أصوله أمهاتُه وإنْ عَلَوْنَ من جهة أبيه وأمه، وفي فروعه بناتُه وبناتُ أولاده وإنْ سَفَلْنَ، وفي فروع أصله الأدنى أخواتُه من الأبوين، أو من أحدهما، وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإنْ سَفَلْنَ، ودخل في فروع أصوله البعيدة العماتُ والخالاتُ وعماتُ الأبوين وخالاتهما وإنْ عَلَوْنَ،
_________
(1) في " جامعه " (1146) .
وأخرجه: عبد الرزاق (13946) ، وأحمد 1/131 - 132.
(2) انظر: المغني 9/192.(3/1200)
فلم يبق من الأقارب حلالاً للرجل سوي فروع أصوله البعيدة، وهُنَّ بناتُ العم وبناتُ العمات، وبنات الخال، وبناتُ الخالات (1) .
والنوع الثاني: ما يحْرُمُ بالنسب مع سبب آخر، وهو المصاهرة؛ فيحرم على الرجل حلائل آبائه، وحلائلُ أبنائه، وأمهات نسائه، وبناتُ نسائه المدخول بهنَّ؛ فيحرم على الرجل أمُّ امرأته وأمهاتُها من جهة الأم والأب وإنْ عَلَونَ، ويحرُم عليه بناتُ امرأته، وهنَّ الرَّبائب وبناتهن وإنْ سفلن، وكذلك بناتُ بني زوجته وهن بناتُ الربائب نصَّ عليه الشافعي وأحمد، ولا يُعلم فيه خلافٌ (2) .
ويحرم عليه أنْ يتزوَّج بامرأة أبيه، وإنْ علا، وامرأة ابنه وإن سَفَلَ، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهرٌ؛ لأنَّ تحريمَهُنَّ من جهة نسبِ الرجل مع سبب
المصاهرة (3) .
وأما أمهات نسائه وبناتهن، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسبِ المرأة، فلم يخرجِ التحريمُ بذلك عن أنْ يكونَ بالنَّسبِ مع انضمامه إلى سبب المصاهرة، فإنَّ التحريم بالنَّسب المجرد، والنَّسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساءُ؛ فيحرمُ على المرأة أنْ تتزوَّج أصولها وإنْ علَوا، وفروعها وإنْ سفَلُوا، وفروعَ أصلها الأدنى وإنْ سفَلُوا من أخوتها، وأولادِ الإخوة وإنْ سفلوا، وفروعَ أصولها البعيدة وهم الأعمامُ والأخوالُ وإنْ عَلوا دونَ أبنائهم، فهذا كله بالنَّسب المجرَّد (4) .
وأما بالنَّسب المضاف إلى المصاهرة، فيحرم عليها نكاحُ أبي زوجها وإنْ علا، ونكاحُ ابنه وإنْ سَفَل بمجرّد العقد، ويحرم عليها زوجُ ابنتها وإنْ سَفَلَتْ بالعقد، وزوجُ أمها وإنْ علت، لكن بشرط الدخول بها (5) .
_________
(1) انظر: الأم 6/63، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/424 - 425، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/148.
(2) انظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/425 - 427، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/151.
(3) انظر: الأم 6/68 - 69، وبداية المجتهد 2/56، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/427، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/151.
(4) انظر: بداية المجتهد 2/56، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/425 - 426،
وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/151.
(5) انظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/429.(3/1201)
والقسم الثاني: التحريم المؤبَّد على الاجتماع دونَ الانفراد، وتحريمُه يختصُّ الرجال لاستحالة إباحةِ جمع المرأة بينَ زوجين، فكلُّ امرأتين بينهما رَحِمٌ محرم يحرِّم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكراً لم يجز له التزوُّج بالأخرى، فإنَّه يحرم الجمعُ بينهما بعقد النكاح. قال الشعبي: كان أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لا يجمعُ الرجلُ بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً لم يصلح له أنْ يتزوَّجها. وهذا إذا كان التحريم لأجل النَّسب، وبذلك فسَّره سفيان الثوري وأكثرُ العلماء، فلو كان لغير النسب مثل أنْ يجمع بينَ زوجة رجل وابنته من غيرها، فإنَّه يُباحُ عند الأكثرين، وكرهه بعضُ السَّلف.
فإذا علم ما يحرم من النَّسب، فكلّ ما يحرم منه، فإنَّه يحرم من الرضاع نظيرُه، فيحرم على الرجل أنْ يتزوَّج أمهاتِه من الرضاعة وإنْ عَلَونَ، وبناته من الرضاعة وإنْ سَفَلن، وأخواته من الرضاعة، وبنات أخواته من الرضاعة وعماته وخالاته من
الرضاعة، وإنْ علون دون بناتهن.
ومعنى هذا أنَّ المرأة إذا أرضعت طفلاً الرَّضاع المعتبرَ في المدَّة المعتبرة، صارت
أمّاً له بنصِّ كتاب الله، فتحرمُ عليه هي وأمَّهاتُها، وإنْ علون من نسبٍ أو رضاعٍ، وتصيرُ بناتُها كلُّهن أخواتٍ له من الرضاعة، فيحرمن عليه بنصِّ القرآن (1) ؛ وبقيةُ
التحريم من الرضاعة استفيدَ مِن السُّنَّةِ، كما استفيدَ من السُّنَّة أنَّ تحريم الجمع لا يختصُّ بالأختين، بل المرأةُ وعمَّتها، والمرأة وخالتها كذلك (2) ، وإذا كانَ أولادُ
المرضعة من نسب أو رضاعٍ إخوةً للمرتضع، فيحرُم عليهِ بناتُ إخوته أيضاً،
_________
(1) انظر: الأم 6/70 - 71.
(2) انظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/428.(3/1202)
وقدِ امتنع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من تزويج ابنة حمزة وابنة أبي سلمة، وعلل بأنَّ أبويهما كانا أخوين له من الرَّضاعة (1) .
ويحرمُ عليه أيضاً أخواتُ المرضعة؛ لأنهنَّ خالاتُه، ويَنتشِرُ التحريمُ أيضاً إلى الفحل صاحب اللبن الذي ارتضع منه الطفلُ، فيصيرُ صاحبُ اللبن أباً للطِّفلِ، وتصيرُ أولاده كلُّهم من المرضعة، أو من غيرها من نسبٍ أو رضاع إخوة للمرتضع ويصير إخوته أعماماً للطفل المرتضع، وهذا قولُ جمهور العلماء من السَّلف، وأجمع عليه الأئمة الأربعة ومن بعدهم (2) . وقد دلَّ على ذلك من السنَّة ما روت عائشة أنَّ أفلحَ أخا أبي القُعَيسِ استأذنَ عليها بعدَ ما أُنزل الحجابُ، قالت عائشةُ: فقلتُ: والله لا آذنُ له حتّى أستأذنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ أبا القُعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، قالت: فلما دخلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذكرتُ ذلك له، فقال
: ((ائذني له؛ فإنَّه عَمُّك تَرِبَت يمينُك)) ، وكان أبو القعيس زوجَ المرأة التي أرضعت عائشة. خرَّجاه في " الصحيحين " (3) بمعناه.
_________
(1) أخرجه: البخاري 3/222 (2645) ، ومسلم 4/164 - 165 (1447) (12) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) انظر: الواضح في شرح مختصر الخرقي 3/427 - 428.
(3) صحيح البخاري 6/150 (4796) ، وصحيح مسلم 4/162 (1445) (3) و4/163 (1445) (4) و (5) و (6) و (7) و4/164 (1445) (8) و (9)
و (10) عن عائشة، به.(3/1203)
وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً والأُخرى غلاماً أيحلُّ للغلام أنْ يتزوَّج الجارية، فقال: لا، اللقاحُ واحد (1) .
ولو كان اللبن الذي ارتضع به الطفلُ قد ثاب للمرأة من غير وطءِ فَحلٍ بأنْ تكون امرأة لا زوجَ لها قد ثاب لها لبن أو هي بكرٌ أو آيسةٌ، فأكثرُ العلماء على أنّه يحرم الرضاعُ به، وتصيرُ المرضعةُ أُمّاً للطفل، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً عمن يُحفظ عنه من أهل العلم، وهو قولُ أبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق
وغيرهم (2) .
وذهب الإمامُ أحمد في المشهور المنصوص عنه إلى أنَّه لا ينتشِرُ التَّحريمُ به بحالٍ حتى يكونَ له فحلٌ يدرُّ اللبن من رضاعه. وحُكي للشَّافعيِّ قولٌ مثله (3) .
ولو انقطع نسبه من جهة صاحبِ اللبن، كولد الزِّنى، فهل تَنْتَشر الحرمة إلى الزاني صاحب اللبن؟ هذا ينبني على أنَّ البنتَ من الزنى هل تحرم على الزَّاني؟ ومذهبُ أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه تحريمها عليه خلافاً للشافعي، وبالغ الإمام أحمد في الإنكار على من خالف في ذلك، فعلى قولهم: هل ينتشر التَّحريمُ إلى الزاني صاحب اللبن، فيكون أباً للمرتضع أم لا؟ فيه قولان هما وجهان
لأصحابنا (4) ، واختار ابنُ حامد أنَّ التحريمَ لا ينتشرُ إليه، واختار أبو بكر، والقاضي أبو يعلى أنَّ التَّحريم ينتشر إلى الزاني، وهو نصُّ أحمد، وحكاه عن ابنِ عباس، وهو قول إسحاق بن راهويه، نقله عنه حرب.
_________
(1) انظر: الأم 6/65- 66، والمغني 9/201، والشرح الكبير على متن المقنع 9/194.
(2) انظر: المغني 9/207.
(3) انظر: المغني 9/207، والشرح الكبير على متن المقنع 9/197.
(4) انظر: الأم 6/69 - 70، والمغني 9/204 - 205، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/430 - 431، والشرح الكبير على متن المقنع 9/195.(3/1204)
وينتشرُ التحريمُ بالرضاع إلى ما حَرُمَ بالنَّسب مع الصهر: إمّا من جهة
نسب الرجل، كامرأة أبية وابنه، أو من جهة نسب الزوجة، كأمها وابنتها، وإلى
ما حرم جمعه لأجل نسب المرأة أيضاً، كالجمع بين الأختين والمرأة وعمتها
أو خالتها، فيحرم ذلك كلُّه من الرضاع كما يحرم من النَّسب (1) ، لدخوله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَحرُمُ مِن الرضاع ما يَحرُمُ من النَّسب)) (2) . وتحريم هذا كلِّه للنسب، فبعضه لنسب الزوج، وبعضه لنسب الزوجة، وقد نصَّ على ذلك أئمة السَّلف، ولا يُعلم بينهم فيه اختلافٌ (3) ، ونصَّ عليه الإمام أحمد، واستدلَّ بعموم قوله:
((يَحرُمُ من الرضاعِ ما يَحرمُ مِن النَّسب)) .
وأما قوله - عز وجل -: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} (4) ، فقالوا: لم يُردْ بذلك أنّه لا يحرم حلائل الأبناء من الرضاع، إنَّما أراد إخراجَ حلائل الذين
تُبُنُّوا، ولم يكونوا أبناءً من النَّسب كما تزوَّج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زوجةَ زيد بن حارثة بعد أنْ كان قد تبنّاه (5) .
وهذا التحريمُ بالرضاع يختصُّ بالمرتضع نفسه، وينتشر إلى أولاده، ولا ينتشر تحريمه إلى من في درجة المرتضع من إخوته وأخواته، ولا إلى من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته، فتُباحُ المرضعة نفسها لأبي المرتضع مِنَ النَّسب ولأخيه، وتباح أمُّ المرتضع من النَّسب وأخته منه لأبي المرتضع من الرضاع ولأخيه. هذا قولُ جمهور العلماء، وقالوا: يُباح أنْ يتزوَّج أختَ أخيه من الرَّضاعة، وأخت ابنته من الرضاعة (6) ، حتى قال الشعبي: هي أحلُّ من ماء
قَدَس (7) ،
_________
(1) انظر: الأم 6/68، والواضح في شرح مختصر الخرقي 3/425 - 428.
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر: المغني 9/192، والشرح الكبير على متن المقنع 9/192.
(4) النساء: 23.
(5) أخرجه: البخاري 6/148 (4791) من حديث أنس بن مالك، به.
(6) انظر: الهداية للكلوذاني 2/217 - 218 بتحقيقي، والمغني 9/202، والشرح الكبير على متن المقنع 9/194 - 195، والمفصل في أحكام المرأة والبيت 6/241، ونيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب 4/484.
(7) قَدَسُ: بالتحريك والسين المهملة أيضاً. بلد بالشام قُرب حمص من فتوح شرحبيل بن حسنة وإليه تُضاف بُحيرة قَدَس.
انظر: معجم البلدان 7/22، ومراصد الاطلاع 3/1068.(3/1205)
وصرَّح بإباحتها حبيبُ بن أبي ثابت وأحمد.
وروى أشعث عن الحسن أنَّه كره أنْ يتزوَّج الرجل بنتَ ظِئر ابنه، ويقول: أخت ابنه، ولم ير بأساً أنْ يتزوّج أمها، يعني: ظئر ابنه، وروى سليمان التيمي عن الحسن: أنَّه سئل عن الرجل يتزوج أخت أخيه من الرضاعة، فلم يقل فيه شيئاً، وهذا يقتضي توقُّفَه فيه، ولعلَّ الحسن إنَّما كان يكره ذلك تنْزيهاً، لا تحريماً، لمشابهته للمحرم بالنَّسب في الاسم، وهذا بمجرَّده لا يُوجِبُ تحريماً.
وقد استثنى كثيرٌ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم مما يحرم من النسب صورتين، فقالوا: لا يحرم نظيرُهما مِنَ الرَّضاع:
إحداهما: أمُّ الأخت، فتحرم مِنَ النَّسب، ولا تحرم من الرضاع.
والثانية: أخت الابن، فتحرم من النَّسب دونَ الرضاع، ولا حاجة إلى
استثناء هذين، ولا أحدهما (1) .
أما أمُّ الأخت فإنَّما تحرم من النسب، لكونها أماً أو زوجةَ أب، لا لمجرَّد كونها أم أخت، فلا يُعلق التحريم بما لم يُعلقه الله به، وحينئذ، فيوجد في الرضاع من هي أم أخت ليست أماً ولا زوجة أب، فلا تحرم؛ لأنَّها ليست نظيراً لذاتِ النسب، وأما أخت الابن، فإنَّ الله تعالى إنَّما حرَّم الربيبة المدخول بأمها، فتحرم لكونها ربيبة دُخِلَ بأمها، لا لكونها أخت ابنه، والدخول في الرضاع منتفٍ فلا يحرم به أولادُ المرضعة.
_________
(1) انظر: بدائع الصنائع 4/4، والمفصل أحكام المرأة والبيت المسلم 6/241.(3/1206)
ومما قد يدخُلُ في عموم قوله: ((يحرُم من الرضاع ما يحرمُ من النَّسب)) (1) : لو ظَاهَرَ مِن امرأته فشبَّهها بمحرمة من الرَّضاع، فقال لها: أنت عليَّ كأمي من الرضاع، فهل يثبتُ بذلك تحريمُ الظِّهار أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدُهما: أنَّه يثبت به تحريم الظهار، وهو قول الجمهور، منهم مالك،
والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وعثمان البتِّي، وهو المشهور عن أحمد.
والثاني: لا يثبت به التَّحريمُ، وهو قول الشافعيِّ (2) ، وتوقف أحمد فيهِ في رواية ابن منصور.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: الأم 6/697 - 698، والإشراف على نكت مسائل الخلاف 2/767 - 768، ورؤوس المسائل في الخلاف 2/847، والمغني 8/558، والشرح الكبير على متن المقنع 8/556 - 557.(3/1207)
الحديث الخامس والأربعون
عَنْ جابر بن عبد الله أنَّه سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتحِ وهُوَ بمكَّةَ يَقُولُ:
((إنَّ الله ورَسُولَهُ حرَّمَ (1)
بَيعَ الخَمْرِ والمَيتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ)) فقيلَ: يا رَسولَ الله أرأيتَ شُحومَ المَيتَةِ، فإنَّهُ يُطلَى بِها السُّفُنُ، ويُدهَنُ بِها الجُلُودُ، ويَستَصبِحَ بِها النَّاسُ؟ قَالَ: ((لا، هُوَ حَرامٌ)) ، ثمَّ قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذلك: ((قَاتَل الله اليَهودَ، إنَّ الله حَرَّمَ عليهِمُ الشُّحومَ، فأَجْمَلوهُ، ثمَّ باعُوه، فأَكَلوا ثَمَنَه)) خرَّجه البُخاريُّ (2) ومُسلمٌ (3) .
هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء، عن جابر. وفي رواية لمسلم (4) أنْ يزيد قال: كتب إليَّ عطاء، فذكره، ولهذا قال أبو حاتم الرازي (5) : لا أعلم يزيدَ بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئاً، يعني أنَّه إنَّما يروي عنه كتابَه، وقد رواه أيضاً يزيدُ بنُ أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه.
وفي " الصحيحين " (6) عن ابن عباس قال: بلغ عمرَ أنَّ رجلاً باع خمراً، فقال: قاتله الله، ألم يعلم أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قاتلَ الله اليهودَ، حُرِّمَتْ
_________
(1) قال ابن حجر: ((قوله: ((إنّ الله ورسوله حرم)) هكذا وقع في الصحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد وكان الأصل ((حرما)) فقال القرطبي: إنَّه - صلى الله عليه وسلم - تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين؛ لأنَّه من نوع مارد به على الخطيب الذي قال: ((ومن يعصهما)) كذا قال، ولم تتفق الرواة في هذا الحديث على ذلك فإن في بعض طرقه في الصحيح ((إن الله
حرم)) ليس فيه و ((رسوله)) ، وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر عن الليث ((إن الله ورسوله حرما)) ، وقد صح حديث أنس في النهي عن أكل الحُمر الأهلية ((إن الله ورسوله ينهيانكم)) ووقع في رواية النسائي في هذا الحديث ((ينهاكم)) والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا، ووجه الإشارة إلى أنّ أمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ناشيء عن أمر الله، وهو نحو قوله: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه} [التوبة: 62] والمختار في هذا أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير عند سيبويه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه وهو كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ ... ـدك راض والرأي مختلف
وقيل: أحق أن يرضوه خبر عن الاسمين؛ لأنَّ الرسول تابع لأمر الله)) . انظر: فتح الباري 4/536 عقيب (2236) .
(2) في " صحيحه " 3/110 (2236) و5/190 (4296) و6/72 (4633) .
وأخرجه: أبو داود (3486) ، وابن ماجه (2167) ، والترمذي (1297) ، والنسائي 7/177 و309 - 310، والروايات مطولة ومختصرة.
(3) في " صحيحه " 5/41 (1581) (71) .
(4) تقدم تخريجها.
(5) في " العلل " 2/51 عقيب (1140) .
(6) صحيح البخاري 3/107 (2223) ، وصحيح مسلم 5/41 (1582) (72) .(3/1209)
عليهمُ الشُّحومُ، فجَمَلوها فباعُوها)) ، وفي رواية: ((وأكلُوا أثمانها)) .
وخرَّج أبو داود (1) من حديث ابن عباسٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وزاد فيه:
((وإنَّ الله إذا حرَّم أكلَ شيءٍ، حرَّم عليهم ثمنه)) ، وخرَّجه ابن أبي شيبة (2) ، ولفظه: ((إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)) .
وفي "الصحيحين" (3) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قاتَلَ الله يهوداً، حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ، فباعُوها وأكلوا أثمانها)) .
وفي " الصحيحين " (4) عن عائشة، قالت: لما أُنزِلَت الآياتُ من آخر سورة البقرة، خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاقترأهُنَّ على الناس، ثم نهى عن التِّجارة في الخمر،
_________
(1) برقم (3488) ، وهو حديث صحيح.
(2) في " مصنفه " 5/46.
(3) صحيح البخاري 3/107 (2224) ، وصحيح مسلم 5/41 (1583) (73) و (74) .
(4) صحيح البخاري 1/124 (459) و3/77 (2084) ، وصحيح مسلم 5/40 (1580) (69) .(3/1210)
وفي رواية لمسلم (1) : لمَّا نزلتِ الآياتُ من آخر سورة البقرة في الرِّبا، خرج
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد، فحرَّم التجارة في الخمر.
وخرَّج مسلم (2) من حديث أبي سعيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله حرَّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيءٌ، فلا يشرب ولا يبع)) . قال: فاستقبل الناسُ بما كان عندهم منها في طريق المدينة، فسفكوها.
وخرَّج أيضاً (3) من حديث ابن عباس أنَّ رجلاً أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل عَلِمْت أنَّ الله قد حرَّمها؟)) قال: لا، قال: فسارَّ إنساناً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بِما سَارَرْتَه؟)) قال: أمرتُه ببيعها، قال: ((إنَّ الذي حَرَّمَ شُربها حَرَّمَ بيعها)) ، قال: ففتح المزاد حتّى ذهب ما فيها.
فالحاصل من هذه الأحاديث كُلِّها أنَّ ما حرَّم الله الانتفاعَ به، فإنَّه يحرم بيعُه وأكلُ ثمنه، كما جاء مصرحاً به في الراوية المتقدمة: ((إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه)) (4) ، وهذه كلمةٌ عامَّةٌ جامعة تَطَّرِدُ في كُلِّ ما كان المقصودُ من الانتفاع به حراماً، وهو قسمان:
_________
(1) في " صحيحه " 5/40 (1580) (70) عن عائشة، به.
(2) في " صحيحه " 5/39 (1578) (67) .
(3) في " صحيحه " 5/40 (1579) (68) عن عبد الله بن عباس، به.
(4) سبق تخريجه.(3/1211)
أحدهما: ما كان الانتفاعُ به حاصلاً مع بقاء عَينِه، كالأصنامِ، فإنَّ منفعتها المقصودة منها هوَ الشرك بالله، وهو أعظمُ المعاصي على الإطلاق (1) ، ويلتحِقُ بذلك ما كانت منفعته محرَّمة، ككتب الشِّركِ والسِّحر والبِدعِ والضَّلالِ، وكذلك
الصورُ المحرمةُ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور، وكذلك شراءُ الجواري للغناء (2) .
وفي " المسند " (3)
عن أبي أُمامة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ الله بعثني رحمةً وهُدى للعالمين، وأمرني أنْ أمحق المزاميرَ والكنَّارات - يعني: البرابط والمعازف - والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية، وأقسم ربي بعزَّته لا يشرب عبدٌ من عبيدي جرعةً من خمر إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم، معذباً أو مغفوراً له، ولا يسقيها صبياً صغيراً إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم، معذباً أو مغفوراً له، ولا يدعها عبدٌ من عبيدي من مخافتي إلاَّ سقيتها إيَّاه في حظيرةِ القُدُس، ولا يحلُّ بيعُهُنَّ ولا شراؤُهُنَّ، ولا تعليمُهُنَّ، ولا تجارة فيهن، وأثمانهم حرام)) يعني: المغنِّيات.
وخرَّجه الترمذي (4) ،
_________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 6/7 - 8 عقيب (1581) ، وفتح الباري 4/537 عقيب (2236) .
(2) انظر: كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار: 330 - 331.
(3) مسند الإمام أحمد 5/257.
وأخرجه: أحمد بن منيع كما في " إتحاف الخيرة " (5107) ، والطيالسي (1134) ، والطبراني في " الكبير " (7803) جميعهم من طريق فرج بن فضالة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، به مرفوعاً، وإسناد الحديث ضعيف جداً لضعف فرج بن فضالة وعلي بن يزيد الألهاني.
(4) في "جامعه" (1282) و (3195) واستغربه. وهو ضعيف لضعف علي بن يزيد الألهاني.(3/1212)
ولفظه: لا تبيعوا القيناتِ ولا تشتروهن، ولا تُعلِّموهُنَّ، ولا خَيرَ في تِجارةٍ فيهن، وثمنُهُنَّ حرام، في مثل ذلك أنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} (1) الآية، وخرَّجه ابنُ ماجه (2) أيضاً، وفي إسناد الحديث مقال، وقد رُوي نحوه من حديث عمر (3) وعليٍّ (4) بإسنادين فيهما
ضعفٌ أيضاً.
_________
(1) لقمان: 6.
(2) برقم (2168) في إسناده أبو المهلب مطرح بن يزيد الكناني ضعيف وشيخه عبيد الله بن زحر الإفريقي كذلك وأيضاً فهو منقطع.
(3) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (87) ، وانظر: مجمع الزوائد 4/91.
(4) أخرجه: أبو يعلى (527) .(3/1213)
ومن يحرم الغناءَ كأحمد ومالك، فإنَّهما يقولان: إذا بيعت الأمةُ المغنية، تُباع على أنَّها ساذجةٌ، ولا يُؤخذُ لغنائها ثمنٌ، ولو كانت الجاريةُ ليتيمٍ، ونصَّ على ذلك أحمد، ولا يمنعُ الغناءُ من أصل بيع العبد والأمة؛ لأنَّ الانتفاع به في غير الغناء حاصلٌ بالخدمة وغيرها، وهو من أعظم مقاصدِ الرَّقيق (1) . نعم، لو علم أنَّ المشتري لا يشتريه إلاّ للمنفعة المحرمة منه، لم يجز بيعُه لهُ عندَ الإمام أحمد وغيره من العلماء، كما لا يجوزُ عندهم بيعُ العصير ممن يتخذه خمراً، ولا بيعُ السِّلاح في الفتنة، ولا بيع الرَّياحين والأقداح لمن يعلم أنَّه يشربُ عليها الخمر، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة (2) .
القسم الثاني: ما ينتفع به مع إتلاف عينه، فإذا كان المقصود الأعظم منه
محرماً، فإنَّه يحرم بيعُه، كما يحرمُ بيعُ الخنزير والخمر والميتة، مع أنَّ في
بعضها منافع غيرَ محرمة، كأكل الميتة للمضطرِّ، ودفع الغصَّة بالخمر،
وإطفاءِ الحريق به. والخرْز بشعر الخنْزير عند قوم، والانتفاع بشعره وجلده عند
من يرى ذلك، ولكن لمَّا كانت هذه المنافعُ غيرَ مقصودة، لم يعبأ بها، وحرم
البيعُ بكون المقصودِ الأعظم من الخنزير والميتة أكلَهما، ومن الخمر شربَها،
ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى لمَّا قيل له: أرأيتَ شحومَ الميتةِ، فإنَّه يُطلى بها السُّفُن، ويُدهن بها الجُلودُ، ويَستصبِحُ بها الناسُ، فقال
: ((لا، هو حرام)) (3) .
_________
(1) انظر: المغني 4/307.
(2) انظر: المغني 4/307.
(3) سبق تخريجه.(3/1214)
وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو حرامٌ)) فقالت طائفة: أراد أنَّ هذا الانتفاعَ المذكور بشحوم الميتة حرام، وحينئذٍ فيكونُ ذلك تأكيداً للمنع من بيع الميتة، حيث لم يجعل شيئاً من الانتفاع بها مباحاً (1) .
وقالت طائفة: بل أرادَ أنَّ بيعها حرامٌ، وإنْ كان قد ينتفع بها بهذه الوجوه، لكن المقصود الأعظم من الشحوم هو الأكل، فلا يُباحُ بيعُها لذلك.
وقد اختلفَ العلماءُ في الانتفاع بشحوم الميتة، فرخَّص فيه عطاءٌ، وكذلك نقل ابنُ منصورٍ عن أحمد وإسحاق، إلاّ أنَّ إسحاقَ قال: إذا احتيجَ إليه، وأمَّا إذا وُجِدَ عنه مندوحةٌ، فلا، وقال أحمد: يجوزُ إذا لم يمسه بيده، وقالت طائفة: لا يجوزُ ذلك، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي حنيفة، وحكاه ابن عبد البرّ إجماعاً عن غير عطاء.
وأمَّا الأدْهانُ الطاهرة إذا تنجَّست بما وقع فيها من النجاسات، ففي جواز الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلافٌ مشهور في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وفيه روايتان عن أحمد (2) .
وأما بيعُها، فالأكثرون على أنَّه لا يجوزُ بيعُها، وعن أحمد رواية: يجوز بيعُها من كافرٍ، ويُعلم بنجاستها، وهو مروىٌّ عن أبي موسى الأشعري،
_________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 6/7 عقيب (1583) ، وفتح الباري 4/536 عقيب
(2236) .
(2) انظر: الشرح الكبير على متن المقنع 4/17 - 18.(3/1215)
ومن أصحابنا من خرَّج جوازَ بيعها على جواز الاستصباح بها وهو ضعيفٌ مخالفٌ لنصِّ أحمد بالتفرقة، فإنَّ شحومَ الميتة لا يجوزُ بيعُها وإنْ قيل بجواز الانتفاع بها، ومنهم من خرَّجه على القول بطهارتها بالغسل، فيكون - حينئذٍ - كالثوب المتمضّخ بنجاسة. وظاهر كلام أحمد منعُ بيعها مطلقاً؛ لأنَّه علل بأنَّ الدُّهنَ المتنجس فيهِ ميتة، والميتة
لا يُؤكل ثمنها (1) .
وأما بقية أجزاءِ الميتة، فما حُكِمَ بطهارته منها، جاز بيعُه، لجواز الانتفاع به، وهذا كالشَّعر والقَرنِ عندَ من يقول بطهارتهما، وكذلك الجلدُ عندَ من يرى أنَّه طاهر بغيرِ دباغ، كما حُكي عن الزهري، وتبويبُ البخاري يدلُّ عليهِ (2) ، واستدلَّ بقولِهِ: ((إنَّما حَرُم من الميتة أكلُها)) (3) . وأما الجمهور الذين يرون نجاسة الجلدِ قبل الدباغ، فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذٍ؛ لأنَّه جزءٌ من الميتة (4) ، وشذَّ بعضهم، فأجاز بيعه كالثوب النجس، ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسةُ، وجلد الميتة جزءٌ منها، وهو نجسُ العين. وقال سالمُ بنُ عبد الله بن عمر: هل بيعُ جلودِ الميتة إلاَّ كأكل لحمها؟ وكرهه طاووس وعكرمة، وقال النخعي: كانوا يكرهون أنْ يبيعوها، فيأكلوا أثمانها.
وأما إذا دبغت، فمن قال بطهارتها بالدبغ، أجاز بيعها،
_________
(1) انظر: الشرح الكبير على متن المقنع 4/17 - 18.
(2) انظر: فتح الباري 4/537 عقيب (2236) .
(3) أخرجه: البخاري 2/158 (1492) ، ومسلم 1/190 (363) (100) و (101) ، والنسائي 7/172 وفي " الكبرى "، له (4561) و (4562) ، وابن حبان (1282)
و (1284) عن عبد الله بن عباس، به.
(4) انظر: الشرح الكبير على متن المقنع 1/99.(3/1216)
ومن لم ير طهارتها
بذلك، لم يُجِزْ بيعها. ونصَّ أحمد على منع بيعِ القمح إذا كان فيه بولُ الحمار حتى يُغسل، ولعلَّه أراد بيعه ممَّن لا يعلم بحاله، خشية أنْ يأكله ولا يعلم نجاسته.
وأما الكلب، فقد ثبت في " الصحيحين " (1) عن أبي مسعود الأنصاري أنَّ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب.
وفي " صحيح مسلم " (2) عن رافع بن خديج سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((شرُّ الكسب مَهْرُ البغيّ، وثمن الكلب، وكسب الحجام)) .
وفيه عن معقل الجزري عن أبي الزبير، قال: سألت جابراً عن ثمن الكلب
والسِّنور، فقال: زجر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (3) . وهذا إنّما يُعرف عن ابن لهيعة عن أبي الزبير. وقد استنكر الإمامُ أحمد رواياتِ مَعْقِلٍ عن أبي الزبير، وقال: هي تشبه أحاديثَ ابنِ لهيعة، وقد تُتُبِّعِ ذلك، فوُجِدَ كما قاله أحمد رحمه الله.
وقد اختلف العلماءُ في بيع الكلب، فأكثرهم حرَّموه، منهم الأوزاعي، ومالك في المشهور عنه، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وغيرهم (4) ، وقال أبو هريرة: هو سحت (5) ، وقال ابن سيرين: هو أخبثُ الكسب (6) .
_________
(1) صحيح البخاري 3/110 (2237) ، وصحيح مسلم 5/35 (1567) (39) .
(2) 5/35 (1568) (40) .
(3) أخرجه: مسلم 5/35 (1569) (42) عن جابر بن عبد الله، به.
(4) انظر: المغني 4/324 - 325.
(5) أخرجه: ابن أبي شيبة 4/347.
(6) أخرجه: ابن أبي شيبة (36231) .(3/1217)
وقال
عبدُ الرحمان بنُ أبي ليلى: ما أُبالي ثمن كلب أكلت أو ثمنَ خنْزير (1) . وهؤلاء لهم مآخذ:
أحدها: أنَّه إنّما نُهي عن بيعها لنجاستها (2) ، وهؤلاء التزموا تحريمَ بيع كلِّ نجسِ العين، وهذا قولُ الشافعي، وابن جرير، ووافقهم جماعةٌ من أصحابنا، كابنِ عقيل في " نظرياته " وغيره، والتزموا أنَّ البغلَ والحمارَ إنَّما نجيز بيعهما إذا لم نقل بنجاستهما، وهذا مخالفٌ للإجماع.
والثاني: أنَّ الكلبَ لم يُبح الانتفاعُ به واقتناؤه مطلقاً كالبغل والحمار، وإنَّما أُبيحَ اقتناؤُه لحاجاتٍ مخصوصةٍ، وذلك لا يُبيح بيعه كما لا تبيحُ الضرورةُ إلى الميتة والدم بَيعَهُما، وهذا مأخذُ طائفةٍ من أصحابنا وغيرهم.
والثالث: أنَّه إنَّما نُهي عن بيعه لخسَّته ومهانته، فإنَّه لا قيمةَ له إلاَّ عند ذوي الشُّحِّ والمهانَةِ، وهو متيسِّرُ الوجودِ، فنُهي عن أخذ ثمنِه ترغيباً في المواساة بما يفضل منه عن الحاجة، وهذا مأخذُ الحسن البصري وغيره من السَّلف، وكذا قال بعضُ أصحابنا في النَّهي عن بيع السِّنَّورِ.
ورخَّصت طائفةٌ في بيع ما يُباح اقتناؤُه مِنَ الكلاب، ككلب الصَّيد، وهو قولُ عطاء والنَّخعي وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن مالك، وقالوا: إنَّما نهي عن بيع ما يحرُمُ اقتناؤُه منها (3) . وروى حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب صيد، خرَّجه النَّسائي (4) ، وقال: هو حديثٌ منكر، وقال أيضاً: ليس بصحيح،
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة 4/348.
(2) انظر: المغني 4/325.
(3) انظر: المغني 4/324، والشرح الكبير على متن المقنع 4/15، وفتح الباري 4/538 عقيب (2238) .
(4) في " المجتبى " 7/309 عن جابر بن عبد الله، به.(3/1218)
وذكر الدارقطني (1) أنَّ الصحيحَ وقفُه على جابر، وقال أحمد: لم يصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رخصةٌ في كلب الصيد، وأشار البيهقي (2) وغيره إلى أنَّه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء، فظنه من البيع، وإنَّما هو مِنَ الاقتناء، وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بالقوي، ومن قال: إنَّ هذا الحديث على شرط مسلم - كما ظنَّه طائفةٌ من المتأخرين - فقد أخطأ؛ لأنَّ مسلماً لم يخرِّج لحمَّاد بن سلمة، عن أبي الزبير شيئاً، وقد بيَّن في
كتاب " التمييز " (3) أنَّ رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غيرُ قوية.
فأمَّا بيعُ الهرِّ، فقد اختلف العلماءُ في كراهته، فمنهم من كرهه، ورُوي ذلك عن أبي هريرة وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد، وجابر بن زيد، والأوزاعي، وأحمد في رواية عنه، وقال: هو أهونُ من جلود السِّباع، وهذا اختيارُ أبي بكر من أصحابنا، ورخص في بيع الهرِّ ابن عباس وعطاء في رواية والحسن وابن سيرين والحكم وحماد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة
_________
(1) في " سننه " 3/73.
(2) في " سننه " 6/6 - 7.
(3) 170 - 171.(3/1219)
ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه (1) ، وعن إسحاق روايتان، وعن الحسن أنَّه كره بيعها، ورخَّصَ في شرائها للانتفاع بها.
وهؤلاء منهم من لم يصحِّح النهي عن بيعها، قال أحمد: ما أعلم فيه شيئاً يثبت أو يصحُّ، وقال أيضاً: الأحاديث فيه مضطربةٌ.
ومنهم من حمل النهي على ما لا نفع فيه كالبرِّيِّ ونحوه (2) .
ومنهم من قال: إنَّما نهى عن بيعها؛ لأنَّه دناءة وقلة مروءة، لأنَّها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية، فهي من مرافِق الناس التي لا ضررَ عليهم في بذل فضلها، فالشُّحُّ بذلك مِنْ أقبحِ الأخلاق الذميمة، فلذلك زجر عن أخذ ثمنها.
وأما بقية الحيوانات التي لا تُؤكل، فما لا نفع فيه كالحشرات ونحوه لا يجوزُ بيعُه (3) ، وما يُذكر من نفع في بعضها، فهو قليلٌ، فلا يكون مبيحاً للبيع، كما لم يبح النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيعَ الميتة لما ذكر له ما فيها من الانتفاع، ولهذا كان الصحيحُ أنَّه لا يُباحُ بيعُ العلق لِمَصِّ الدم، ولا الدِّيدان للاصطياد ونحو ذلك.
وأما ما فيه نفعٌ للاصطياد منها، كالفهد والبازيِّ والصَّقر، فحكى أكثرُ الأصحاب في جواز بيعها روايتين عن أحمد،
_________
(1) انظر: المغني 4/328، والشرح الكبير على متن المقنع 4/10.
(2) انظر: المغني 4/328، والشرح الكبير على متن المقنع 4/10، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/678.
(3) انظر: الشرح الكبير على متن المقنع 4/15.(3/1220)
ومنهم من أجازَ بيعَها، وذكر الإجماعَ
عليه (1) ، وتأوَّل رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلى في " المجرد " (2) ، ومنهم من قال: لا يجوزُ بيع الفهد والنّسر، وحكى فيه وجهاً آخر بالجواز، وأجاز بيع البُزاة والصُّقور، ولم يحكِ فيه خلافاً، وهو قولُ ابن أبي موسى (3) .
وأجاز بيع الصقر والبازي والعُقاب ونحوه أكثرُ العلماء، منهم: الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جوازُ بيعها، وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن معلَّمة، قال الخلاَّل: العمل على ما رواه الجماعة أنَّه يجوزُ بيعُها بكلِّ حالٍ.
وجعل بعضُ أصحابنا الفيلَ حكمه حكم الفهد ونحوه (4) ، وفيه نظر، والمنصوص عن أحمد في رواية حنبل أنَّه لا يحِلُّ بيعه ولا شراؤه، وجعله كالسَّبُع، وحُكي عن الحسن أنَّه قال: لا يُركب ظهره، وقال: هو مسخ، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّه لا منفعةَ فيه.
ولا يجوزُ بيعُ الدُّبِّ، قاله القاضي في " المجرد "، وقال ابن أبي موسى: لا
يجوزُ بيعُ القردِ (5) ، قال ابن عبد البرِّ: لا أعلمُ في ذلك خلافاً بين العلماء، وقال
القاضي في " المجرد ": إنْ كان ينتفع به في موضع، لحفظ المتاع، فهو كالصَّقر والبازيِّ (6) ،
وإلا، فهو كالأسد لا يجوزُ بيعه، والصحيح المنعُ مطلقاً، وهذه المنفعة يسيرةٌ، وليست هي المقصودة منه، فلا تُبيح البيعَ كمنافعِ الميتة.
ومما نُهي عن بيعه جيفُ الكفار إذا قُتِلوا،
_________
(1) انظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/675 - 676.
(2) هو: المجرد في الأصول للقاضي أبي يعلى محمد بن محمد بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 هـ. انظر: كشف الظنون 2/1593.
(3) انظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/675 - 676.
(4) انظر: الشرح الكبير على متن المقنع 4/10.
(5) انظر: المغني 4/328، والشرح الكبير على متن المقنع 4/11.
(6) قال ابن قدامة: فأما بيعه لمن ينتفع كحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنَّه كالصَّقَر
والبازي، وهذا مذهب الشافعي. انظر: المغني 4/328، والشرح الكبير على متن المقنع 4/11.(3/1221)
خرّج الإمام أحمد (1) من حديث ابن عباس قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين، فأعطوا بجيفته مالاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ادفعوا إليهم جيفَته، فإنَّه خبيثُ الجيفة، خبيثُ الدِّيةِ)) ، فلم يقبل منهم شيئاً. وخرَّجه الترمذي (2) ، ولفظه: إنَّ المشركين أرادوا أنْ يشتروا جَسَد رجلٍ من المشركين فأبى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبيعهم. وخرَّجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلاً، ثم قال وكيع: الجيفة لا تُباع.
وقال حرب: قلت لإسحاق، ما تقول في بيع جيف المشركين من
المشركين (3) ؟ قال: لا. وروى أبو عمرو الشيباني أنَّ علياً أتي بالمستورد العجلي وقد تنصّر، فاستتابه فأبى أنْ يتوبَ، فقتله، فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفاً، فأبى عليٌّ فأحرقه (4) .
_________
(1) في " مسنده " 1/248، وهو حديث ضعيف لضعف نصر بن باب، وفيه عنعنة الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس.
(2) في " جامعه " (1715) ، وهو ضعيف أيضاً؛ فإنَّ في إسناده محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى، وهو ضعيف الحفظ جداً، وهو منقطع أيضاً.
(3) في (ص) : ((أناخذ ثمنها)) بدل: ((من المشركين)) .
(4) أخرجه: عبد الرزاق (18710) ، والبيهقي 6/254، وصحح إسناده ابن التركماني في
" الجوهر النقي " 6/254.(3/1222)
الحديث السادس والأربعون
عَنْ أَبي بُردَةَ، عن أَبيه أَبي مُوسى الأَشعَريِّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ، فسأَلَهُ عَنِ أَشربةٍ تُصنَعُ بها، فقال: ((ومَا هِي؟)) قالَ: البِتْعُ والمِزْرُ، فقيل لأبي بُردَةَ: وما البِتْعُ؟ قال: نَبيذُ العسلِ، والمِزْرُ نَبيذُ الشَّعير، فقال: ((كُلُّ مُسكرٍ حَرامٌ)) خرَّجه البُخاريُّ (1) .
وخرَّجه مسلم (2) ، ولفظه قال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذٌ إلى اليمنِ، فقلتُ: يا رسولَ الله، إنَّ شراباً يُصنع بأرضنا يقال له: المِزْرُ مِنَ الشَّعير، وشرابٌ يقالُ له: الِبتع من العسل، فقال: ((كلُّ مسكرٍ حرامٌ)) . وفي رواية لمسلم (3) : فقال: ((كُلُّ ما أسكر عن الصَّلاةِ فهو حرامٌ)) ، وفي رواية له (4) قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامعَ الكلم بخواتمه، فقال: ((أنهى عن كلِّ مسكر أسكر عن الصَّلاةِ)) .
_________
(1) في " صحيحه " 5/204 (4343) .
(2) في " صحيحه " 6/99 (1733) (70) .
(3) في " صحيحه " 6/99 (1733) (70) .
(4) في " صحيحه " 6/100 (1733) (71) .(3/1223)
هذا الحديثُ أصلٌ في تحريم تناول جميع المسكرات، المغطِّيةِ للعقل، وقد ذكر الله في كتابه العلَّةَ المقتضية لتحريم المسكرات، وكان أوَّل ما حُرِّمتِ الخمرُ عند حضورِ وقتِ الصلاة لما صلَّى بعضُ المُهاجرين، وقرأ في صلاته، فخلط في
قراءته (1) ، فنَزل قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2) ، فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: لا يقرب الصَّلاةَ سكران (3) ، ثم إنَّ الله حرَّمها على الإطلاق بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) .
فذكر سبحانه علَّة تحريم الخمر والميسر، وهو القمار، وهو أنَّ الشيطان يُوقعُ بهما العداوةَ والبغضاء، فإنَّ مَنْ سَكِرَ اختلَّ عقلُه، فربَّما تَسَلَّط على أذى الناسِ في أنفسهم وأموالهم، وربما بَلَغَ إلى القتل، وهي أمُّ الخبائث، فمن شَربها، قتلَ النفس وزنى، وربما كفر. وقد روي هذا المعنى عن عثمان (5) وغيره (6) ،
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (7554) و (7555) .
(2) النساء: 43.
(3) أخرجه: أحمد 1/53، وأبو داود (3670) ، والترمذي (3049) ، والبزار (334) ، والنسائي 8/286 - 287، والطبري في " تفسيره " (9763) ، وهذا الحديث حصل اختلاف في إسناده انظر التعليق على " الجامع الكبير " 5/141.
(4) المائدة: 90 - 91.
(5) أخرجه: عبد الرزاق (17060) ، والنسائي 8/315 و316 وفي " الكبرى "، له
(5176) و (5177) ، والبيهقي 8/287 - 288 و288 موقوفاً.
(6) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (11372) و (11498) عن ابن عباس.(3/1224)
وروي مرفوعاً أيضاً (1) .
ومن قامر، فربما قُهرَ، وأُخذ ماله منه قهراً، فلم يبق له شيء، فيشتدُّ حِقدُه على من أخذ ماله. وكلُّ ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراماً، وأخبر سبحانه أنَّ الشيطان يصدُّ بالخمر والميسر عن ذكر الله وعنِ الصَّلاةِ، فإنَّ السَّكران يزولُ عقلُه، أو يختلُّ، فلا يستطيعُ أنْ يذكرَ الله، ولا أنْ يُصلِّي، ولهذا قال طائفة مِنَ السَّلف (2) : إنَّ شاربَ الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه، والله سبحانه إنَّما خلق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويُطيعوه (3) ، فما أدَّى إلى الامتناعِ من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته، كان محرَّماً، وهو السكر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنَّ الله تعالى جَبَل العباد عليه، واضطرهم إليه، ولا قِوام لأبدانهم إلا به، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب، فهو من أعظم نِعَمِ الله على عباده، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة، ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه، كان نومُه عوناً له على الصلاة والذكر، ولهذا قال من قال من الصحابة: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
وكذلك الميسرُ يَصُدُّ عن ذكر الله وعنِ الصَّلاة، فإنَّ صاحبه يَعْكُفُ بقلبه
عليه، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه، ولهذا قال عليٌّ لما مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج: ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون (4) ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل.
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " ذم السكر " كما في " نصب الراية " 4/297، وابن حبان
(5348) عن عثمان بن عفان مرفوعاً، وسنده ضعيف، والصواب وقفه.
(2) منهم السديّ. انظر: تفسير الطبري عقيب (3295) .
(3) انظر: التخويف من النار للمصنف 1/5.
(4) أخرجه: البيهقي 10/212.(3/1225)
وجاء في الحديث: ((إنَّ مدمِنَ الخمرِ كعابدِ وثنٍ)) (1) ، فإنَّه يتعلق قلبُه بها، فلا يكادُ يُمكنه أنْ يدعَها كما لا يدعُ عابدُ الوثنِ عبادتَه.
وهذا كلُّه مضادٌّ لِما خَلَق اللهُ العبادَ لأجله مِنْ تفريغِ قلوبهم لمعرفته، ومحبَّته، وخشيته، وذكره، ومناجاتِه، ودعائِه، والابتهال إليه، فما حالَ بين بالعبد وبين
ذلك، ولم يكن بالعبد إليه ضرورةٌ، بل كان ضرراً محضاً عليه، كان محرماً، وقد رُوي عن عليٍّ أنّه قال لمن رآهم يلعبون بالشِّطرنج: ما لهذا خُلقتم (2) . ومن
هنا يعلم أنَّ الميسرَ محرَّمٌ، سواء كان بِعوَضٍ أو بغيرِ عوضٍ، وإنَّ الشطرنج
كالنَّرد أو شرٌّ منه؛ لأنَّها تشغلُ أصحابَها عن ذكر الله، وعن الصَّلاةِ أكثر مِنَ
النَّرد.
والمقصودُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلُّ مسكر حرامٌ، وكلُّ ما أسكر عن الصلاة فهو حرام)) .
وقد تواترت الأحاديثُ بذلك عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فخرَّجا في " الصحيحين " (3) عن ابنِ عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمر حرام))
ولفظ مسلم: ((وكل مسكر حرام)) . وخرّجا أيضاً (4) من حديث عائشة أنَّ
النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) أخرجه: ابن ماجه (3375) من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن سليمان الأصبهاني.
(2) أخرجه: البيهقي 10/212.
(3) مسلم فقط 6/100 (2003) (73) و (74) و101 (2003) (75) .
(4) صحيح البخاري 1/70 (242) و7/137 (5585) و (5586) ، وصحيح مسلم 6/99 (2001) (67) و (68) .(3/1226)
سئل عن البِتع، فقال: ((كلّ شراب أسكر فهوَ حرام)) ، وفي رواية
لمسلم: ((كل شراب مسكر حرام)) وقد صحَّح هذا الحديث أحمد ويحيى بن
معين (1) ، واحتجا به ونقل ابن عبد البرّ (2) إجماعَ أهل العلم بالحديث على صحته، وأنَّه أثبت شيء يُروى عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر.
وأمَّا ما نقله بعضُ فقهاء الحنفية عن ابن معينٍ من طعنه فيه، فلا يثبت ذلك عنه (3) . وقد خرَّج مسلم (4) من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
((كلّ مسكر حرام)) .
وإلى هذا القول ذهب جمهورُ علماء المسلمين مِنَ الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من عُلماء الأمصار، وهو مذهبُ مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلهم.
وخالف فيه طوائفُ مِنْ عُلماء أهل الكوفة، وقالوا: إنَّ الخمرَ إنَّما هو خمرُ العنب خاصّةً (5) ، وما عداها، فإنَّما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر، ولا يحرم ما دُونَه، وما زال علماءُ الأمصار يُنكرون ذلك عليهم، وإنْ كانوا في ذلك مجتهدين مغفوراً لهم، وفيهم خَلقٌ مِنْ أئمَّة العلمِ والدين. قال ابنُ المبارك: ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم، -
_________
(1) أسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أنَّ حديث عائشة: ((كل شراب أسكر فهو
حرام)) أصح حديث في هذا الباب، فتح الباري 10/56.
(2) انظر: الاستذكار 7/13 - 15.
(3) قال الزيلعي: ((قيل: إن ابن معين طعن في ثلاثة أحاديث منها هذا، وحديث من مس ذكره فليتوضأ، وحديث لا نكاح إلا بولي، وهذا الكلام لم أجده في شيء من كتب الحديث، والله أعلم)) . نصب الراية 4/295، وانظر: فتح الباري 10/56.
(4) في " صحيحه " 6/100 (2002) (72) .
(5) قال ابن عبد البر: ((قال الكوفيون: إنَّ الخمر من العنب لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} .
" فتح الباري " 10/61، وانظر: المغني لابن قدامة 10/322.(3/1227)
يعني: النَّخعي (1) -، وكذلك أنكر الإمامُ أحمد أنْ يكونَ فيه شيءٌ يصحُّ، وقد صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئاً من الرخصة، وصنَّف كتاباً في المسح على الخفين، وذكر فيه عن بعض السَّلف إنكاره، فقيل له: كيف لم تجعل في كتاب " الأشربة " الرخصة كما
جعلت في المسح؟ فقال: ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيح (2) .
ومما يدلُّ على أن كُلَّ مسكر خمر أنَّ تحريم الخمر إنَّما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عمّا عندهم من الأشربة، ولم يكن بها خمرُ العنب، فلو لم تكن آية تحريم الخمر شاملةً لِما عِندهم، لما كان فيها بيانٌ لِما سألوا عنه، ولكانَ محلُّ السبب خارجاً مِنْ عُموم الكلام، وهو ممتنع، ولمَّا نزل تحريمُ الخمر أراقوا ما عندهم من الأشربة، فدلَّ على أنَّهم فَهِمُوا أنَّه منَ الخمر المأمور باجتنابه.
وفي " صحيح البخاري " (3) عن أنسٍ قال: حُرِّمت علينا الخمرُ حين حرمت وما نَجِدُ خمرَ الأعناب إلاّ قليلاً، وعامة خمرنا البسرُ والتمرُ.
وعنه أنَّه قال: إنِّي لأسقي أبا طلحة، وأبا دُجانة، وسهيلَ بن بيضاءَ خليطَ بُسرٍ وتمرٍ إذ حرمَتِ الخمر، فقذفتها، وأنا ساقيهم وأصغرُهم، وإنا نَعُدُّها يومئذ الخمر (4) .
وفي " الصحيحين " (5) عنه قال: ما كان لنا خمرٌ غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضيخَ.
وفي " صحيح مسلم " (6) عنه قال: لقد أنزل الله الآية التي حرَّم فيها الخمرَ، وما بالمدينة
_________
(1) أخرجه: النسائي في " الكبرى " (5261) ، وانظر: نصب الراية 4/301، وفتح الباري 10/56.
(2) انظر: المغني لابن قدامة 10/323.
(3) 7/136 (5580) .
(4) أخرجه: البخاري 7/140 (5600) ، وأبو عوانة 5/93، والبيهقي 8/290.
(5) صحيح البخاري 6/67 (4617) ، وصحيح مسلم 6/87 (1980) (4) .
(6) 6/89 (1982) (10) .(3/1228)
شرابٌ يشرب إلاَّ من تمر.
وفي " صحيح البخاري " (1) عن ابنِ عمر، قال: نَزَلَ تحريمُ الخمر وإنَّ بالمدينة يومئذ لخمسة أشربةٍ ما منها شراب العنب.
وفي " الصحيحين " (2)
عن الشعبي، عن ابنِ عمر، قال: قام عمر على المنبر، فقال: أما بعدُ، نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمس: العنب والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ. والخمرُ: ما خامر العقل. وخرَّجه الإمامُ أحمد، وأبو داود،
والترمذي (3) من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الترمذي أنَّ قولَ من قال: عن الشعبي عن ابن عمر، عن عمر أصحّ، وكذا قال ابنُ المديني (4) .
_________
(1) 6/67 (4616) .
(2) صحيح البخاري 6/67 (4619) و7/136 (5581) ، وصحيح مسلم 8/245
(3032) (32) و (33) .
(3) أحمد 4/287، وأبو داود (3676) ، والترمذي (1872) .
(4) انظر: جامع الترمذي عقيب (1874) .(3/1229)
وروى أبو إسحاق عن أبي بُردة قال: قال عُمَرُ: ما خمرته فعتقته، فهو خمر، وأنّى كانت لنا الخمر خمر العنب (1) .
وفي " مسند " الإمام أحمد (2) عن المختار بن فُلفل قال: سألت أنسَ بنَ
مالك عن الشرب في الأوعية فقال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزفتة وقال: ((كُلُّ مسكر حرام)) قلتُ له: صدقت السكر حرام، فالشربةُ والشربتان على طعامنا؟ قال: المسكر قليلُه وكثيرُه حرامٌ وقال: الخمر من العنب والتمر والعسل
والحنطة والشعير والذرة، فما خمرتَ من ذلك فهو الخمر، خرَّجه أحمد عن عبد الله ابن إدريس: سمعتُ المختار بن فلفل يقول فذكره، وهذا إسنادٌ على شرط
مسلم.
وفي " صحيح مسلم " (3) ، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الخمرُ مِنْ
هَاتَينِ الشَّجرتين: النخلة والعِنبة)) ، وهذا صريح في أنَّ نبيذ التمر خمر.
وجاء التصريحُ بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما خرَّجه أبو داود، وابنُ ماجه،
_________
(1) أخرجه: عبد الرزاق (17051) ، وابن الجعد في " مسنده " (2531) ، وابن أبي شيبة (23751) .
(2) 3/112، وهو كذلك في " الأشربة " (190) و (191) للإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(3) 6/89 (1985) (13) و (14) و (15) .(3/1230)
والترمذي (1) ، وحسّنه من حديث جابرٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما أسكرَ كَثيرُهُ فَقَليلُهُ حَرامٌ)) .
وخرَّج أبو داود، والترمذي (2) ، وحسّنه من حديث عائشة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كُلُّ مُسكرٍ حَرَامٌ، وما أسكر الفَرقُ، فملءُ الكَفِّ منه حَرام)) ، وفي رواية ((الحسوة منه حرام)) ، وقد احتجَّ به أحمد، وذهب إليه. وسئل عمن قال: إنَّه لا يصحُّ؟ فقال: هذا رجلٌ مُغْلٍ، يعني أنَّه قد غلا في مقالته. وقد خرَّج النَّسائي (3) هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرةٍ يطولُ ذكرُها.
وروى ابنُ عجلان، عن عمرو بن شعيب، حدثني أبو وهب الجيشاني، عن وفد أهلِ اليمن أنَّهم قَدِموا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه عن أشربة تكون باليمن، قال: فسَمَّوا له البِتْعَ مِن العسَل، والمِزْرَ من الشعير، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تسكرون
منها؟)) قالوا: إنْ أكثرنا سكِرنَا، قال: ((فحرام قليل ما أسكر كثيره)) (4) خرَّجه القاضي إسماعيل.
وقد كانت الصحابةُ تحتجُّ بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه
_________
(1) أبو داود (3681) ، وابن ماجه (3393) ، والترمذي (1865) .
(2) أبو داود (3687) ، والترمذي (1866) .
(3) في " المجتبى " 8/301 عن سعد بن أبي وقاص و8/300 عن عبد الله بن عمرو.
(4) ذكره ابن سعد في " الطبقات " 1/369، وفي إسناده مقال؛ فإنَّ أبا وهب الجيشاني مقبول عند المتابعة ولم يتابع، وهو يحدث عن غيرمعروفين.(3/1231)
وسلم -: ((كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ)) على تحريم جميع أنواع المسكرات، ما كان موجوداً منها على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وما حدثَ بعده، كما سُئِلَ ابن عباس عن الباذق، فقال: سبق محمّدٌ الباذقَ، فما أسكر، فهو حرام، خرَّجه البخاري (1) ، يشير إلى أنَّه إنْ كان مسكراً، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة.
واعلم أنَّ المسكرَ المزيل للعقل نوعان:
أحدهما: ما كان فيه لَذَّةٌ وطربٌ، فهذا هو الخمر المحرَّم شربه، وفي
" المسند " (2) عن طلق الحنفيِّ أنَّه كان جالساً عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رجل: يا رسولَ الله، ما ترى في شراب نصنعُه بأرضنا من ثمارنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سائلٌ عَنِ المسكر؟ فلا تشربه، ولا تسقه أخاك المسلم، فوالذي نفسي بيده - أو بالذي يُحلف به - لا يشربه رجلٌ ابتغاءَ لذَّة سُكره، فيسقيه الله الخمر يومَ القيامة)) .
قال طائفة من العلماء: وسواءٌ كان هذا المسكرُ جامداً أو مائعاً، وسواءٌ
كان مطعوماً أو مشروباً، وسواءٌ كان من حبٍّ أو ثمرٍ أو لبنٍ، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تُعمل من ورق القِنَّب، وغيرها ممَّا يُؤْكَلُ لأجل
_________
(1) في " صحيحه " 7/140 (5598) .
(2) لم أجده في المسند، ولعل الاختلاف في نسخ المسند لهذا الحديث كان قديماً؛ فهذا الحديث من رواية الإمام أحمد ذكره ابن كثير في " جامع المسانيد " 6/547 وكذا عزاه له الهيثمي في
" مجمع الزوائد " 5/70 أما ابن حجر فلم يذكره في أطراف المسند 2/622 (2939) - 626 (2950) ، واختصر في " الإصابة " 9/39 (4041) بعزوه لكتاب
" الأشربة ".
أخرجه: أحمد في " الأشربة " (32) ، والطبراني في " الكبير " (8259) ، وإسناده قويٌّ.(3/1232)
لذَّته وسكره (1) ، وفي " سنن أبي داود " (2) من حديث شهر بن حوشب، عن أمِّ سلمة، قالت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلِّ مُسكرٍ ومُفتِّرٍ)) والمفتر: هو المخدر للجسد، وإنْ لم ينته إلى حدِّ الإسكار (3) .
والثاني: ما يُزيلُ العقلَ ويسكر، ولا لذَّة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه، فقال أصحابنا: إنَّ تناوله لحاجة التداوي به، وكان الغالبُ منه السلامة جاز، وقد رُوي عن عُروة بن الزُّبير أنَّه لمَّا وقعت الأكِلَة في رجله، وأرادوا قطعَها، قال له الأطباء: نسقيك دواءً حتى يغيبَ عقلُك، ولا تُحِسَّ بألم القطع، فأبى، وقال: ما ظننتُ أنَّ خلقاً يشربُ شراباً يزولُ منه عقلُه حتّى لا يعرف ربّه (4) .
وروي عنه أنَّه قال: لا أشرب شيئاً يحولُ بيني وبين ذكر ربي - عز وجل -.
وإنْ تناول ذلك لغير حاجة التداوي، فقال أكثرُ أصحابنا كالقاضي، وابنِ عقيل، وصاحب " المغني ": إنَّه محرم؛ لأنَّه تسبب إلى إزالة العقل لغير حاجة، فحرم كشرب المسكر، وروى حنش الرحبي - وفيه ضعف (5)
- عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً: ((مَنْ شرب شراباً يَذهَبُ بعقلِه، فقد أتى باباً مِنْ أبواب
الكبائر)) (6) .
وقالت طائفة منهم ابنُ عقيل في " فنونه ": لا يَحرُمُ ذلك؛ لأنَّه لا لذَّة فيه، والخمرُ
_________
(1) انظر: عون المعبود 10/126.
(2) الحديث (3686) ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب، وقوله: ((نهى عن كل مسكر)) له شواهد صحيحة.
(3) قال ابن الأثير: المفتر: الذي إذا شُرِبَ أحْمَى الجَسَدَ وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار. النهاية 3/408.
(4) أخرجه: ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/211، وذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 4/430.
(5) هو حسين بن قيس الرحبي. قال عنه أحمد بن حنبل: ((متروك الحديث، ضعيف الحديث)) ، وقال: يحيى بن معين: ((ضعيف، ليس بشيء)) ، وقال البخاري: ((ترك أحمد حديثه،
لا يكتب حديثه)) ، وقال النسائي: ((متروك الحديث، ليس بثقة)) ، وقال الدارقطني
: ((متروك)) . انظر: التاريخ الكبير 2/382 (2892) ، والضعفاء الكبير للعقيلي 1/247، والكامل لابن عدي 3/218 - 219 وميزان الاعتدال 1/546.
(6) أخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (1356) ، وأبو يعلى (2348) ، والطبراني في " الكبير " (11538) .(3/1233)
إنَّما حرِّمت لِما فيها مِنَ الشِّدَّةِ المطرِبَة، ولا اطراب في البنج ونحوه ولا شدَّة.
فعلى قولِ الأكثرين: لو تناول ذلك لِغير حاجة، وسكر به، فطلَّق، فحكمُ طلاقه حكمُ طلاق السَّكران، قاله أكثرُ أصحابنا كابن حامد والقاضي، وأصحاب الشافعي، وقالت الحنفية: لا يقعُ طلاقه، وعلَّلوا بأنَّه ليس فيه لذَّة، وهذا يدلُّ على أنَّهم لم يُحرِّموه. وقالت الشافعية: هو محرَّم، وفي وقوع الطلاق معه وجهان، وظاهرُ كلام أحمد أنّه لا يقعُ طلاقُه بخلافِ السَّكران، وتأوله القاضي، وقال: إنَّما قال ذلك إلزاماً للحنفية، لا اعتقاداً له، وسياق كلامه محتمل لذلك (1) .
وأمَّا الحدُّ، فإنَّما يجبُ بتناول ما فيه شِدَّة وطربٌ مِنَ المسكراتِ؛ لأنّه هو الذي تدعو النفوس إليه، فجُعِلَ الحدُّ زاجراً عنه.
فأمَّا ما فيه سكرٌ بغيرِ طربٍ ولا لذَّة، فليس فيه سوى التعزير؛ لأنَّه ليس في النفوس داع إليه حتّى يحتاج إلى حدٍّ مقدَّر زاجرٍ عنه، فهو كأكل الميتة ولحم الخنزير، وشرب الدم.
وأكثرُ العلماء الذين يرونَ تحريمَ قليلِ ما أسكر كثيرُه يرونَ حدَّ مَنْ شربَ
ما يُسكر كثيره، وإنِ اعتقد حِلَّه متأولاً، وهو قولُ الشافعي وأحمد، خلافاً لأبي ثور، فإنَّه قال: لا يحدُّ لتأوُّله، فهو كالنَّاكح بلا وليٍّ. وفي حدِّ الناكح بلا
وليٍّ خلاف أيضاً، ولكنَّ الصحيح أنَّه لا يُحَدُّ،
_________
(1) انظر: المغني لابن قدامة 8/255 - 256.(3/1234)
وقد فرَّق من فرَّق بينه وبين شرب النبيذ متأوِّلاً بأنَّ شرب النبيذ المختلف فيه داعٍ إلى شرب الخمر المجمع على
تحريمه بخلاف الناكح بغير وليٍّ، فإنَّه مغنٍ عن الزنى المجمع على تحريمه، وموجب للاستعفاف عنه. والمنصوصُ عن أحمد أنَّه إنَّما حدَّ شارب النبيذ متأوِّلاً؛ لأنَّ تأويلَه ضعيف لا يُدرأُ عنه الحدُّ به، فإنَّه قال في رواية الأثرم: يُحدُّ من شرب النبيذ متأوِّلاً، ولو رُفِعَ إلى الإمام من طَلَّق البتة، ثم راجعها متأوِّلاً أنَّ طلاق البتة
واحدة، والإمام يرى أنَّها ثلاث لا يُفرق بينهما، وقال: هذا غيرُ ذاك، أمره بيِّنٌ في كتاب الله، وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ مسكرٍ خمر)) ، فهذا بيِّن، وطلاق البتة إنَّما هو شيءٌ اختلفَ النَّاسُ
فيه (1) .
_________
(1) انظر: تحفة الأحوذي 4/344 - 345.(3/1235)
الحديث السابع والأربعون
عَنِ المِقدامِ بنِ مَعدِ يكرِبَ قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: ((ما مَلأ آدميٌّ وِعاءً شَرّاً مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أَكَلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كَانَ لا مَحالَةَ، فَثُلُثٌ لِطعامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وثُلُثٌ لِنَفسه)) رواهُ الإمامُ أحمَدُ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ، وقَالَ التِّرمِذيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
هذا الحديثُ خرَّجه الإمام أحمد (1) والترمذيُّ (2) من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام، وخرَّجه النَّسائي (3) من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جدّه (4) ، وخرّجه ابنُ ماجه (5) من وجه آخر عنه
_________
(1) في " مسنده " 4/132.
(2) في " جامعه " (2380) .
(3) في " الكبرى " (6769) و (6770) .
(4) في " الكبرى " (6868) .
(5) في " سننه " (3349) .(3/1237)
وله طرق أخرى (1) .
وقد رُوي هذا الحديث مع ذكر سببه، فروى أبو القاسم البغوي في
" معجمه " من حديث عبد الرحمان بن المُرَقَّع، قال: فتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر وهي مخضرةٌ من الفواكة، فواقع الناسُ الفاكهةَ، فمغثتهمُ الحُمَّى، فشَكَوْا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّما الحمى رائدُ الموت وسجنُ الله في الأرض، وهي قطعةٌ من النار، فإذا أخذتكم فبرِّدوا الماء في الشِّنان، فصبُّوها عليكم بين الصَّلاتين)) يعني المغرب والعشاء، قال: ففعلوا ذلك، فذهبت عنهم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
((لم يخلُقِ الله وعاءً إذا مُلِئَ شرّاً من بطن، فإن كان لابدَّ، فاجعلوا ثُلُثاً للطَّعام،
وثُلثاً للشَّراب، وثُلثاً للرِّيح)) (2) .
وهذا الحديثُ أصلٌ جامعٌ لأصول الطب كُلِّها. وقد رُوي أنَّ ابنَ أبي
ماسويه (3) الطبيبَ لمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استعملَ الناسُ هذه الكلمات، سَلِموا مِنَ الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات (4) ودكاكين الصيادلة، وإنَّما قال هذا؛ لأنَّ أصل كلِّ داء التُّخَم، كما قال بعضهم: أصلُ كُلِّ داء البردةُ، وروي مرفوعاً ولا يصحُّ رفعه (5) .
_________
(1) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (662) عن حبيب بن عبيد، عن المقدام، به.
(2) أخرجه: الطبراني كما في " مجمع الزوائد " 5/95، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/160-161، والقضاعي في " مسند الشهاب " (59) من طريق المحبر بن هارون، عن أبي يزيد المقرئ، عن عبد الرحمان بن المرقع، وفي إسناده مقال، ولبعض فقراته شواهد.
(3) هو أبو زكريا يحيى بن ماسويه الحراني، كان مسيحياً طبيباً حاذقاً، له من المصنفات (إصلاح الأدوية المفردة تدبير الأصحاء) توفي في سر من رأى سنة ثلاث وأربعين ومئتين. انظر: كشف الظنون 6/515.
(4) هي دار المرضى، انظر: لسان العرب (مرس) .
(5) أخرجه: ابن حبان في " المجروحين " 1/204، وابن عدي في " الكامل " 2/279، وأبو أحمد العسكري في " أخبار المصحفين ": 64 عن الحسن، عن أنس مرفوعاً.
قال الدارقطني: الأشبه بالصواب أنه من قول الحسن. انظر: " كشف الخفاء " (380) .
وقال ابن عدي: ولعل البلاء في هذا الحديث من محمد بن جابر الحلبي لأنه مجهول ولا يعرف حاله. انظر: الكامل 2/280.(3/1238)
وقال الحارث بن كَلَدَة طبيبُ العرب: الحِمية رأسُ الدواء، والبِطنةُ رأسُ الداء، ورفعه بعضهم ولا يصحُّ أيضاً (1) .
وقال الحارث أيضاً: الذي قتل البرية، وأهلك السباعَ في البرية، إدخالُ الطعام على الطعام قبل الانهضام.
وقال غيره: لو قيل لأهل القبور: ما كان سببُ آجالكم؟ قالوا: التُّخَمُ (2) .
فهذا بعض منافع تقليلِ الغذاء، وتركِ التَّمَلِّي من الطَّعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته.
وأما منافِعُه بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإنَّ قلةَ الغذاء توجب رِقَّة القلب، وقوَّة الفهم، وانكسارَ النفس، وضعفَ الهوى والغضب، وكثرةُ الغذاء توجب ضدَّ ذلك.
قال الحسن: يا ابنَ آدم كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثٍ، ودع ثُلُثَ بطنك يتنفَّس لتتفكر.
_________
(1) قال السخاوي: ((لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب أو غيره)) المقاصد الحسنة (1035) ، وانظر: كشف الخفاء (2320) .
(2) ذكره المناوي في " فيض القدير " 1/67.(3/1239)
وقال المروذي: جعل أبو عبد الله: يعني: أحمدَ يُعظِّمُ أمر الجوع والفقر، فقلت له: يُؤجر الرجل في ترك الشهوات، فقال: وكيف لا يؤجر، وابنُ عمر يقول: ما شبعت منذ أربعة أشهر؟ قلت لأبي عبد الله: يجد الرجلُ مِنْ قلبه رقَّة وهو يشبع؟ قال: ما أرى (1) .
وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه، فروى بإسناده عن ابن سيرين، قال: قال رجل لابن عمر: ألا أجيئك بجوارش؟ قال: وأيُّ شيء هو؟ قال: شيءٌ يَهضِمُ الطعامَ إذا أكلته، قال: ما شبعتُ منذ أربعةِ أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواماً يجوعون أكثرَ مما يشبعون (2) .
وبإسناده عن نافع، قال: جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر، فقال: ما هذا؟ قال: جوارش: شيءٌ يُهضَمُ به الطعامُ، قال: ما أصنع به؟ إنِّي ليأتي عليَّ الشهرُ
ما أشبع فيه من الطعام (3) .
وبإسناده عن رجلٍ قال: قلتُ لابنِ عمر: يا أبا عبد الرحمان رَقَّتْ مضغتك، وكَبِرَ سِنُّكَ، وجلساؤك لا يعرفون لك حَقَّك ولا شَرَفَك، فلو أمرتَ أهلك أنْ يجعلوا لك شيئاً يلطفونك إذا رجعتَ إليهم، قال: وَيْحَكَ، واللهِ ما شبعتُ منذ إحدى عشرة سنة، ولا اثنتي عشرة سنة، ولا ثلاث عشرة سنة، ولا أربع عشرة سنة مرَّة واحدة، فكيف بي وإنَّما بقي مني كظِمْءِ الحمار (4) .
وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنَّه كان يدعُ كثيراً من الشبع مخافة الأشر (5) .
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " (6) بإسناده عن نافع، عن ابنِ عمر، قال: ما شبعتُ منذُ أسلمت.
وروى بإسناده (7) عن محمد بن واسع، قال: مَنْ قلَّ طُعْمُه فهم، وأفهم، وصفا،
_________
(1) انظر: الورع للإمام أحمد: 120.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/300، وذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 3/222.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/300.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/298 - 299.
(5) أخرجه: ابن أبي عاصم في " الآحاد المثاني " (2828) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/156.
(6) رقم (58) .
(7) رقم (59) .(3/1240)
ورقَّ، وإنَّ كَثرةَ الطَّعام ليُثقل صاحبه عن كثير مما يُريد.
وعن أبي عبيدة الخَوَّاص، قال: حَتْفُكَ في شبعك، وحَظُّك في جوعك، إذا أنت شبعتَ ثقلتَ، فنِمْتَ، استمكن منك العدوُّ، فجثم عليك، وإذا أنت تجوَّعت كنت للعدو بمرصد (1) .
وعن عمرو بن قيس، قال: إيَّاكُمْ والبِطنة فإنَّها تُقسِّي القلب (2) .
وعن سلمة بنِ سعيد قال: إنْ كان الرجلُ لَيُعيَّر بالبِطنة كما يُعير بالذنب يَعمَلُهُ (3) .
وعن بعض العلماء قال: إذا كنت بطيناً، فاعدد نفسك زمناً حتى تخمص (4) .
وعن ابن الأعرابي قال: كانت العربُ تقول: ما بات رجلٌ بطيناً فتمَّ
عزمُه (5) .
وعن أبي سليمان الداراني قال: إذا أردتَ حاجةً من حَوائجِ الدُّنيا والآخرة، فلا تأكل حتَّى تقضيها، فإنَّ الأكلَ يُغير العقل (6) .
وعن مالك بن دينار قال: ما ينبغي للمؤمن أنْ يكونَ بطنه أكبرَ همه، وأنْ تكونَ شهوته هي الغالبة عليه (7) .
قال: وحدثني الحسنُ بن عبد الرحمان، قال: قال الحسن أو غيره: كانت بلية أبيكم آدم - عليه السلام - أكلةً، وهي بليتُكم إلى يوم القيامة (8) . قال: وكان يُقال: من ملك بطنه، ملك الأعمالَ الصالحة كلها (9) ، وكان يُقال: لا تَسكُنُ الحِكمةُ معدة ملأى (10) .
وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان يُقال: قِلة الطعام عونٌ على التسرُّع إلى الخيرات (11) .
وعن قثم العابد قال: كان يُقال: ما قلَّ طعمُ امرئٍ قطُّ إلا رقَّ قلبه، ونديت عيناه (12) .
وعن عبد الله بن مرزوق قال: لم نَرَ للأشر مثل دوام الجوع، فقال له أبو
عبد الرحمان العمري الزاهد: وما دوامه عندك؟ قالَ: دوامُه أنْ لا تشبع أبداً. قالَ: وكيف يقدر من كانَ في الدنيا على هذا؟ قال: ما أيسرَ ذلك يا أبا عبد الرحمان على أهل ولايته ومن وفَّقه لطاعته، لا يأكل إلا دونَ الشبع هو دوامُ الجوع (13) .
ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعامَ على بعض أصحابه، فقال له: أكلتُ حتى لا
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (42) .
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (84) .
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (83) .
(4) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (85) ولم ينسبه.
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (86) .
(6) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (87) .
(7) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (105) .
(8) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (97) .
(9) لم أقف على قول الحسن، وأخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (99) عن مالك بن دينار.
(10) انظر: كتاب الجوع (102) .
(11) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (107) .
(12) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (124) .
(13) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (136) .(3/1241)
أستطيع أنْ آكل، فقال الحسن: سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل؟! (1) .
وروى أيضاً بإسناده عن أبي عمران الجوني، قال: كان يقال: من أحبّ أن يُنوَّرَ لهُ قلبُه، فليُقِلَّ طُعمَه (2) .
وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إليَّ سفيان الثوري: إنْ أردت أنْ يصحَّ
جسمك، ويَقِلَّ نومك، فأقلَّ من الأكل (3) .
وعن ابن السَّماك قال: خلا رجل بأخيه، فقال: أي أخي، نحن أهونُ على الله من أنْ يُجيعنا، إنَّما يُجيع أولياءه.
وعن عبد الله بن الفرج قال: قلت لأبي سعيد التميمي: الخائف يشبعُ؟ قالَ: لا، قلت: المشتاق يشبع؟ قالَ: لا.
وعن رياح القيسي أنه قُرِّبَ إليه طعامٌ، فأكل منه، فقيل لهُ: ازدد فما أراك شبعتَ، فصاح صيحة وقال: كيف أَشبَعُ أيام الدنيا وشجرةُ الزقوم طعامُ الأثيم بين
يدي؟ فرفع الرجلُ الطعام من بين يديه، وقال: أنت في شيء ونحن في شيء (4) .
قال المروذي: قال لي رجل: كيف ذاك المتنعمُ؟ يعني: أحمد، قلتُ له: وكيف هو متنعم؟ قال: أليس يجد خبزاً يأكل، وله امرأة يسكن إليه ويطؤها، فذكرتُ ذلك لأبي عبد الله، فقال: صدق، وجعل يسترجِعُ، وقال: إنا لنشبع.
وقال بشر بنُ الحارث: ما شبعت منذ خمسينَ سنة، وقال: ما ينبغي للرجل أنْ يشبع اليوم من الحلال؛ لأنَّه إذا شبع من الحلال، دعته نفسُه إلى الحرام، فكيف من هذه الأقذار؟ (5)
وعن إبراهيم بن أدهم قال: من ضبط بطنه، ضبط دينَه، ومن ملك جُوعَه، ملك الأخلاق الصالحة، وإنَّ معصية الله بعيدةٌ من الجائع، قريبةٌ من الشبعان، والشبعُ يميت القلبَ، ومنه يكونُ الفرحُ والمرح والضحك.
وقال ثابت البناني: بلغنا أنَّ إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما
_________
(1) أخرجه: أحمد في " الزهد " (1523) .
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (142) .
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (150) .
(4) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/194.
(5) أخرجه: أحمد في " الورع ": 123.(3/1242)
السّلام، فرأى عليه معاليق من كلِّ شيءٍ، فقال له يحيى: يا إبليس، ما هذه المعاليقُ التي أرى عليك؟ قال: هذه الشهواتُ التي أُصيبُ من بني آدم، قال: فهل لي فيها شيءٌ؟ قال: ربما شبعت، فثقَّلناك عن الصَّلاة وعنِ الذِّكر، قال: فهل غيرُ هذا؟ قال:
لا، قال: لله عليَّ أنْ لا أملأ بطني من طعام أبداً، قال: فقال إبليس: ولله عليَّ أنْ لا أنصحَ مسلماً أبداً (1) .
وقال أبو سليمان الداراني: إنَّ النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورقَّ، وإذا شبعت ورويت، عمي القلبُ (2) ، وقال: مفتاحُ الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع، وأصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله - عز وجل -، وإنَّ الله ليُعطي الدنيا من يُحبُّ ومن لا يُحبُّ، وإنَّ الجوع عنده في خزائن مُدَّخَرة، فلا يُعطي إلا من أحبَّ خاصة؛ ولأنْ أدعَ من عشائي لقمةً أحبُّ إليَّ من أن آكلها ثم أقوم من أوَّل الليل إلى آخره (3) .
وقال الحسن بن يحيى الخشني: من أراد أن تَغْزُرَ دموعه، ويرِقَّ قلبه، فليأكل، وليشرب في نصف بطنه، قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت بهذا أبا سليمان، فقال: إنَّما جاء الحديث: ((ثلثٌ طعام وثلثٌ شراب)) ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا أنفسَهم، فربحوا سدساً (4) .
وقال محمد بن النضر الحارثي: الجوعُ يبعث على البرِّ كما تبعثُ البِطنة على
الأشر (5) .
وعن الشافعي، قال: ما شبعتُ منذ ستَّ عشرةَ سنة إلا شبعة اطرحتها؛ لأنَّ الشبع يُثقِلُ البدن، ويُزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة (6) .
وقد ندب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام، وقال: ((حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه)) (7) . وفي " الصحيحين " (8) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال:
((المؤمنُ يأكل في مِعًى واحدٍ، والكافرُ يأكل
_________
(1) أخرجه: ابن الجعد في " مسنده " (1386) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/328 - 329.
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الجوع " (319) .
(3) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (5715) ، والخطيب في " تأريخه " 10/248.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/318.
قلت: والخير والهدى والسداد في اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نصح في حديثه - صلى الله عليه وسلم - ففيه الغاية في الورع والزهد، أما المبالغة في الأمر فقد يخرج بالمرء إلى حيز التنطع والتشدد المنهي عنه.
(5) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/80.
(6) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/127.
(7) سبق تخريجه.
(8) صحيح البخاري 7/92 (5393) ، وصحيح مسلم 6/132 (2060) (182) من حديث ابن عمر.(3/1243)
في سبعة أمعاء)) والمراد أنَّ المؤمن يأكلُ بأدبِ الشَّرع، فيأكل في مِعًى واحدٍ، والكافر يأكل بمقتضى الشَّهوة والشَّرَهِ والنَّهم، فيأكلُ في سبعة أمعاء.
وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلُّل منَ الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه، فقال: ((طعامُ الواحدِ يكفي الاثنين، وطعامُ الاثنين يكفي الثَّلاثة، وطعامُ الثلاثة يكفي الأربعة)) (1) .
فأحسنُ ما أكل المؤمن في ثُلُثِ بطنه، وشرِبَ في ثلث، وترك للنَّفَسِ ثُلثاً، كما ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام، فإنَّ كثرة الشرب تجلِبُ النوم، وتفسد الطعام. قال سفيان: كُلْ ما شئتَ ولا تشرب، فإذا لم تشرب، لم يجئك النوم (2) .
وقال بعض السَّلف: كان شبابٌ يتعبَّدون في بني إسرائيل، فإذا كان عند
فطرهم، قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيراً، فتشربوا كثيراً، فتناموا كثيراً،
فتخسروا كثيراً (3) .
وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيراً، ويتقلَّلون من أكل الشَّهوات، وإنْ كان ذلك لِعدم وجود الطَّعام، إلاَّ أنَّ الله لا يختارُ لرسوله إلا أكملَ الأحوال وأفضلها. ولهذا كان ابنُ عمر يتشبه بهم في ذلك، مع قدرته على الطَّعام، وكذلك كان أبوه
_________
(1) أخرجه: مسلم 6/132 (2059) (179) و (181) ، وابن ماجه (3254) ، والترمذي (1820 م) من حديث جابر.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/18.
(3) انظر: الزهد: 104 لابن أبي عاصم (ط. دار الريان للتراث) .(3/1244)
من قبله.
ففي " الصحيحين " (1) عن عائشة، قالت: ما شبع آلُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذ قَدِمَ المدينة من خبز بُرٍّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبض، ولمسلم (2) : قالت: ما شبع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض.
وخرَّج البخاري (3) عن أبي هريرة قال: ما شَبِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قُبض.
وعنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير (4) .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن عمر أنَّه خطب، فذكر ما أصابَ الناسُ من الدنيا، فقال: لقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظلُّ اليوم يلتوي ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه.
وخرَّج الترمذي (6) ، وابن ماجه (7) من حديث أنس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال
:
((لقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاث مِنْ بين يومٍ وليلةٍ وما لي طعامٌ إلا ما واراه إبط بلال)) .
_________
(1) صحيح البخاري 7/98 (5423) و7/102 (5438) و8/174 (6687) ، وصحيح مسلم 8/218 (2970) (20) .
(2) 8/218 (2970) (22) .
(3) في " صحيحه " 7/87 (5374) .
(4) أخرجه: البخاري 7/97 (5414) .
(5) 8/220 (2978) (36) .
(6) في " جامعه " (2472) ، وقال: ((حسن صحيح)) .
(7) في " سننه " (151) .(3/1245)
وخرَّج ابنُ ماجه (1) بإسناده عن سليمان بن صُرَد، قال: أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فمكثنا ثلاث ليالٍ لا نَقدِرُ - أو لا يقدر - على طعام.
وبإسناده (2) عن أبي هريرة، قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطعامٍ سُخْن، فأكل، فلما فرغ، قال: ((الحمدُ لله، ما دخل بطني طعامٌ سخن منذ كذا وكذا)) .
وقد ذم الله ورسوله من اتَّبع الشهواتِ، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاَّ مَنْ تَابَ} (3) .
وصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((خيرُ القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويَنذِرُون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السِّمَنُ)) (4) .
وفي " المسند " (5) أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً سميناً، فجعل يومئُ بيده إلى بطنه ويقول: ((لو كان هذا في غير هذا، لكان خيراً لك)) .
وفي " المسند " (6) عن أبي برزة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم شهواتُ الغي في بطونكم وفروجكم، ومُضلات الهوى)) .
وفي " مسند البزار " وغيره (7) عن فاطمة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((شرارُ أمتي الذين غذوا
_________
(1) في " سننه " (4149) ، وإسناده ضعيف.
(2) في " سننه " (4150) ، وفي إسناده مقال من أجل سويد بن سعيد، وفي القلب من المتن.
(3) مريم: 59 - 60.
(4) أخرجه: البخاري 3/224 (2651) و5/2 - 3 (3650) و8/113 (6428) و8/176 (6695) ، ومسلم 7/185 (2535) (214) من حديث عمران بن حصين.
(5) مسند الإمام أحمد 3/471 و4/339، وإسناده ضعيف لجهالة أبي إسرائيل الجشمي فقد تفرد بالرواية عنه شعبة.
(6) مسند الإمام أحمد 4/420 و423، وإسناده منقطع.
(7) لم أقف عليه في " مسند البزار " من حديث فاطمة، وأورده من حديث أبي هريرة برقم
(3616) ، وأما حديث فاطمة فأخرجه: ابن أبي الدنيا في " ذم الغيبة " (10) وفي
" الصمت "، له (15) ، وابن عدي في " الكامل " 7/4.(3/1246)
بالنَّعيم يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدّقون في الكلام)) .
وخرَّج الترمذي (1) وابن ماجه (2) من حديث ابن عمر، قال: تجشأ (3) رجلٌ عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((كفّ عنا جُشاءك، فإنَّ أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولُهم جوعاً يوم القيامة)) .
وخرَّجه ابنُ ماجه (4) من حديث سلمان أيضاً بنحوه،
_________
(1) في " جامعه " (2478) ، وقال: ((حسن غريب)) على أن سند الحديث مسلسل بالضعفاء: محمد بن حميد الرازي ضعيف، وشيخه عبد العزيز بن عبد الله القرشي منكر الحديث، وشيخه يحيى البكاء ضعيف، لذا قال أبو زرعة كما في " علل ابن أبي حاتم " (1910)
: ((هذا حديث منكر)) .
(2) في " سننه " (3350) .
(3) التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء. لسان العرب 2/285 (جشأ) .
(4) في " سننه " (3351) ، في إسناده سعيد بن محمد الثقفي ضعيف، وعطية بن عامر الجهني مجهول.(3/1247)
وخرَّجه الحاكم (1)
من حديث أبي جُحيفة وفي أسانيدها كلِّها مقال.
وروى يحيى بنُ منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسنادٍ له عن الإمامِ أحمد أنَّه سئل عن قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((ثُلث للطَّعام، وثُلثٌ للشراب، وثلث للنفس)) فقال: ثلث للطعام: هو القُوتُ، وثلث للشراب: هو القوى، وثلث للنفس: هو الروح، والله أعلم.
_________
(1) في " المستدرك " 4/121، وصححه على طريقته في التساهل فرده الذهبي في " التلخيص " فقال: ((فيه فهد بن عون كذاب، وعمر (وهو ابن موسى) هالك)) ، ومن قبل رد المنذري في " الترغيب والترهيب " 3/137 على الحاكم فقال: ((بل واه جداً، فيه فهد بن عون وعمر بن موسى)) .(3/1248)
الحديث الثامن والأربعون
عَنْ عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: ((أَربعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقاً، وإنْ كَانَتْ خَصلةٌ مِنهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها: مَنْ إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا خَاصم فَجَر، وإذا عَاهَد غَدَرَ)) خرَّجه البُخاريُّ (1) ومُسلمٌ (2) .
هذا الحديث خرَّجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّةَ، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرَّجا في " الصحيحين " (3) أيضاً من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((آيةُ المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَبَ، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خَانَ)) . وفي رواية لمسلم (4) : ((وإن صام وصلَّى وزَعَمَ أنَّه مُسلمٌ)) وفي رواية له أيضاً (5) : ((من علامات المنافق ثلاثة)) . وقد رُوي هذا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر.
وهذا الحديث قد حمله طائفةٌ ممَّن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهم حدَّثوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فكذَّبوه، وائتمنهم على سرِّه فخانوه،
_________
(1) في " صحيحه " 1/15 (34) و3/172 (2459) و4/124 (3178) .
(2) في " صحيحه " 1/56 (8) (106) .
(3) صحيح البخاري 1/15 (33) ، وصحيح مسلم 1/56 (59) (107) عن أبي هريرة، به.
(4) في " صحيحه " 1/56 (59) (109) عن أبي هريرة، به.
(5) مسلم في " صحيحه " 1/56 (59) (108) عن أبي هريرة، به.(3/1249)
ووعدُوه أن يخرُجوا معه في الغزو فأخلفوه، وقد روى محمَّدٌ المُحْرِمُ هذا التأويلَ عن عطاءٍ، وأنَّه قال: حدثني به جابرٌ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أنَّ الحسنَ رجع إلى
قول عطاء هذا لما بلغه عنه (1) . وهذا كذب، والمحرم شيخ كذابٌ معروف
بالكذب (2) .
وقد رُوي عن عطاء من وجهين آخرين ضعيفين أنَّه أنكر على الحسن قوله: ثلاثٌ من كنَّ فيه، فهو منافق، وقال: قد حدَّث إخوةُ يوسف فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين (3) ، وهذا لا يصح عن عطاء، والحسن لم يقل هذا من عنده وإنَّما بلغه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فالحديث ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - لا شكَّ في ثبوته وصحته والذي فسره به أهلُ العلم المعتبرون أنَّ النفاقَ في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير، وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاقُ الأكبرُ، وهو أنْ يظهر الإنسانُ الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويُبطن ما يُناقض ذلك كلَّه أو بعضه، وهذا هو النِّفاق الذي كان على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أنَّ أهله في الدَّرْكِ الأسفل من النار (4) .
والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل (5) ، وهو أنْ يُظهر الإنسانُ علانيةً
صالحةً، ويُبطن ما يُخالف ذلك.
وأصولُ هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمسة:
أحدها: أن يُحدِّث بحديث لمن يصدِّقه به وهو كاذب له، وفي " المسند " (6) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كَبُرَت خيانةً أنْ تحدِّث أخاك حديثاً هو لك
_________
(1) أخرجه: ابن عدي في " الكامل " 7/323 - 324.
(2) قال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء. انظر: التاريخ الكبير للبخاري 1/248 ترجمة (790) ، والكامل لابن عدي 7/322.
(3) أخرجه: ابن عدي في " الكامل " 7/323 - 324.
وأخرجه: أبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين " (56) .
(4) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 1/256 - 257 عقيب (59) ، وفتح الباري 1/123 عقيب (34) .
(5) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 1/256 عقيب (59) .
(6) مسند الإمام أحمد 4/183.
وأخرجه: هناد في " الزهد " (1384) ، والطبراني في " مسند الشاميين " (495) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/99، والبيهقي في " شُعب الإيمان " (4820) عن النواس بن سمعان، به، وإسناده ضعيف جداً من أجل عمر بن هارون بن يزيد بن جابر البلخي - وقد تابعه عليه الوليد بن مسلم، وهو وإن كان ثقة إلاّ أنه يدلس تدليس التسوية، وقد عنعنه فلا يفرح بهذه المتابعة، فقد يكون سمعه من عمر بن هارون ثم دلسه عنه، لاسيما وقد قال أبو نعيم: ((تفرد به عمر بن هارون)) .(3/1250)
مصدِّقٌّ، وأنت به كاذب)) .
قال الحسنُ: كان يقال: النفاقُ اختلاف السِّرِّ والعلانية، والقول
والعمل، والمدخل والمخرج، وكان يقالُ: أُسُّ النفاق الذي بني عليه النفاق
الكذبُ (1) .
الثاني: إذا وَعَدَ أخلف، وهو على نوعين:
أحدُهُما: أنْ يَعِدَ ومِنْ نيته أنْ لا يفي بوعده، وهذا أشرُّ الخلف، ولو قال: أفعل كذا إنْ شاء الله تعالى ومن نيته أنْ لا يفعل، كان كذباً وخُلفاً، قاله الأوزاعيُّ.
الثاني: أنْ يَعِدَ ومن نيته أنْ يفي، ثم يبدو له، فيُخلِفُ من غير عذرٍ له في
الخلف.
وخرَّج أبو داود (2) ، والترمذي (3)
من حديث زيد بنِ أرقم، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا وعَد الرَّجُلُ ونَوى أنْ يفي به، فلم يَفِ، فلا جُناحَ عليه)) . وقال الترمذي (4) : ليس إسنادُه بالقوي.
وخرّجه الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أنَّ علياً لقي أبا بكر وعمر،
فقال: ما لي أراكما ثقيلين؟ قالا: حديثٌ سمعناه من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر خلالَ المنافق:
((إذا وَعَدَ أخلَفَ، وإذا حَدَّثَ كَذَب، وإذا اؤتُمِنَ خَانَ)) فأيُّنا ينجو من هذه
الخصالِ؟ فدخل عليٌّ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: ((قد حدَّثتهما، ولم
أضعه على الموضع الذي تضعونَه، ولكن المنافق إذا حدَّث وهو يحدِّث نفسه أنْ
يكذبَ، وإذا وَعَدَ وهو يحدِّث نفسه أنْ يُخلِفَ، وإذا اؤتمِنَ وهو يُحدث نفسه أنْ
يخونَ)) (5) .
_________
(1) أخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (50) ، وأبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين "
(128) و (129) .
(2) برقم (4995) .
(3) في " جامعه " (2633) .
وأخرجه: الطبراني في " الكبير " (5080) ، والبيهقي 10/198.
(4) في " جامعه " عقيب (2633) .
(5) أخرجه: الطبراني في " الكبير " (6186) ، وفي إسناده مجهولان، وانظر: مجمع الزوائد 1/108.(3/1251)
وقال أبو حاتم الرازي (1) في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم: الحديثان مضطربان وفي الإسنادين مجهولان. وقال الدارقطني (2) : الحديث غير ثابت، والله أعلم.
وخرَّج الطبراني (3) والإسماعيلي من حديث عليٍّ مرفوعاً: ((العِدَةُ دَينٌ، ويلٌ
لمن وعد ثم أخلف)) قالها ثلاثاً، وفي إسناده جهالة، ويُروى من حديث ابن مسعود، قال: لا يَعِدْ أحدكُم صَبِيَّه، ثم لا يُنجِزُ له، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العِدَةُ
عطية)) (4) وفي إسناده نظر، وأوَّله صحيح عن ابن مسعود من قوله.
وفي مراسيل الحسن عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العِدَةُ هِبَةٌ)) (5) . وفي " سنن أبي داود" (6) عن مولى لِعبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عبدِ الله بن عامر بن ربيعة، قال: جاء النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتنا وأنا صبيٌّ، فخرجتُ لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالَ أُعطِك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردتِ أن تعطيه؟)) قلت: أردت أن أعطيه تمراً، فقال: ((أما إنْ لم تفعلي كُتبت عليك كذبة)) . وفي إسناده من لا يُعرف.
وذكر الزهريُّ عن أبي هُريرة، قال: من قال لِصبيٍّ: تَعَالَ هاك تمراً، ثم لا يُعطيه شيئاً فهي كذبة (7) .
وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعدِ، فمنهم من أوجبه مطلقاً، وذكر البخاري في "صحيحه" (8) أنَّ ابن أشوع قضى بالوعد، وهو قولُ طائفة من أهل
_________
(1) في " العلل " 3/72 - 73 عقيب (2321) .
(2) في " العلل " 1/186 عقيب (11) .
(3) في " الأوسط " (3513) و (3514) عن علي وعبد الله بن مسعود، به.
(4) أخرجه: أبو الشيخ في " الأمثال " (249) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/259، والقضاعي في " مسند الشهاب " (6) عن عبد الله بن مسعود، به، وإسناده ضعيف بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية، وعقد عنعن.
(5) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الصمت " (455) بنحوه، وهو ضعيف لإرساله.
(6) برقم (4991) .
وأخرجه: أحمد 3/447، والنسائي 6/124، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4822) وإسناده ضعيف لإبهام مولى عبد الله بن عامر.
(7) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (375) عن أبي هريرة موقوفاً.
وأخرجه: أحمد 2/452، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " (150) عن أبي هريرة مرفوعاً.
(8) في باب من أمر بإيجاز الوعد. انظر: صحيح البخاري 3/236 عقيب (2680) .(3/1252)
الظاهر وغيرهم، منهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى تغريماً للموعود، وهو المحكيُّ عن مالك، وكثيرٌ من الفقهاء لا يوجبونه مطلقاً.
والثالث: إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أنْ يخرج عن الحقِّ عمداً حتى يصير الحقُّ باطلاً والباطلُ حقاً، وهذا مما يدعو إليه الكذبُ (1) ، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكم والكَذِبَ، فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفُجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النارِ)) (2) .
وفي " الصحيحين " (3) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ)) .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّكم لتَختَصمون إليَّ ولعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ ألحنَ بحُجَّته من بعض، وإنَّما أقضي على نحو مما أَسْمَعُ، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه، فلا يأْخُذْهُ، فإنَّما أقطع له قِطعةً مِنَ النَّار)) (4) .
_________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 1/257 عقيب (59) .
(2) أخرجه: البخاري 8/30 (6094) ، ومسلم 8/29 (2607) (103) و (104)
و (105) عن عبد الله بن مسعود، به.
(3) صحيح البخاري 3/171 (2457) ، وصحيح مسلم 8/57 (2668)
(5) عن عائشة، به.
(4) أخرجه: البخاري 3/235 (2680) ، ومسلم 5/128 - 129 (1713) (4) عن أمِّ سَلَمة، به.(3/1253)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ مِنَ البيانِ سِحراً)) (1) .
فإذا كان الرجلُ ذا قدرةٍ عند الخصومة - سواء كانت خصومتُه في الدِّين أو في الدنيا - على أنْ ينتصر للباطل، ويُخيل للسَّامع أنَّه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك مِنْ أقبحِ المحرَّمات، ومن أخبث خصال النفاق، وفي
" سنن أبي داود " (2) عن ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَنْ خَاصَمَ في باطلٍ وهو يعلَمُهُ لم يَزَلْ في سَخَطِ الله حتى يَنزِعَ)) .
وفي رواية له (3) أيضاً: ((ومَنْ أعانَ على خصومةٍ بظلم، فقد باء بغضب من الله)) .
الرابع: إذا عاهد غدر، ولم يفِ بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (4) ،
_________
(1) أخرجه: البخاري 7/178 (5767) عن عبد الله بن عمر، به، وأخرجه: مسلم 3/12 (869) (47) عن عمار بن ياسر، به.
(2) برقم (3597) ، وإسناده لا بأس به.
(3) برقم (3598) .
وأخرجه: ابن ماجه (2320) ، والحاكم 4/99، وإسناده لا بأس به في المتابعات.
(4) الإسراء: 34.(3/1254)
وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} (1) ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} (2) .
وفي " الصحيحين " (3) عن ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لِكُلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامَةِ يُعرف به)) ، وفي رواية: ((إنَّ الغادرَ يُنصبُ له لواءٌ يومَ القيامة، فيقال: ألا هذه غَدرةُ فلان)) (4) ، وخرَّجاه (5) أيضاً من حديث أنس بمعناه.
وخرَّج مسلم (6) من حديث أبي سعيدٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لِكلِّ غادرٍ لواء عندَ استه يومَ القِيامة)) .
والغدرُ حرامٌ في كلِّ عهدٍ بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهَدُ كافراً، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَتلَ نفساً مُعاهداً بغير حقها لم يَرَحْ (7) رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحها ليوجَدُ من مسيرة أربعين عاماً)) خرّجه البخاري (8) .
وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم
_________
(1) النحل: 91.
(2) آل عمران: 77.
(3) صحيح البخاري 4/127 (3188) و9/32 (6966) و9/72 (7111) ، وصحيح مسلم 5/142 (1735) (11) .
(4) أخرجه: البخاري 8/51 (6177) و (6178) ، ومسلم 5/142 (1735) (10) .
(5) البخاري 4/124 (3186) و (3187) ، ومسلم 5/142 (1737) (14) من حديث أنس بن مالك، به.
(6) في " صحيحه " 5/142 (1738) (15) .
(7) قال ابن حجر في " الفتح " عقيب (3166) : ((يرح: بفتح الياء والراء، وأصله يراح أي وجد الريح، وحكى ابن التبن ضم أوله وكسر الراء، قال: والأول أجود، وعليه الأكثر، وحكى ابن الجوزي ثالثة وهو فتح أوله وكسر ثانيه من راح يريح)) .
(8) في " صحيحه " 4/120 (3166) و9/16 (6914) .
ولفظ البخاري لم يذكر فيه ((بغير حقها)) . ...(3/1255)
ينقُضوا منها شيئاً.
وأما عهودُ المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشدُّ، ونقضُها أعظم إثماً.
ومِنْ أعظمها: نقضُ عَهدِ الإمام على مَنْ بايعه، ورضِيَ به، وفي
" الصحيحين " (1) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهُم الله يومَ القيامةِ ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ، فذكر منهم: ورجلٌ بايع إماماً لا يُبايعه إلاَّ لدنيا، فإنْ أعطاه ما يريد، وفَّى له، وإلا لم يفِ له)) .
ويدخل في العُهود التي يجب الوفاءُ بها، ويحرم الغَدْرُ فيها: جميعُ عقود المسلمين فيما بينهم، إذا تَرَاضَوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاءُ بها (2) ، وكذلك ما يجبُ الوفاء به لله - عز وجل - ممَّا يعاهدُ العبدُ ربَّه عليه من نذرِ التَّبرُّرِ ونحوه.
الخامس: الخيانةُ في الأمانة، فإذا اؤتمِنَ الرجلُ أمانةً، فالواجبُ عليه أنْ يُؤدِّيها، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (3) ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتَمَنَكَ)) (4) ،
_________
(1) صحيح البخاري 3/233 (2672) ، وصحيح مسلم 1/72 (108) (173) .
وأخرجه: أبو داود (3474) ، وابن ماجه (2207) و (2870) ، والترمذي
(1595) ، والنسائي 7/246 - 247.
(2) المقصود بالمبايعات والمناكحات والعقود التي توجب الوفاء هي التي على شرعة الله ومنهاجه لا التي على خلاف ذلك، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اشترط شرطاً ليس في كتاب فهو باطل شرط الله أحق وأوثق)) .
أخرجه: البخاري 3/198 (2560) ، ومسلم 4/213 (1504) (7) .
(3) النساء: 58.
(4) أخرجه: الدارمي (2597) ، وأبو داود (3535) ، والترمذي (1264) ، والدارقطني 3/35 (2913) ، والحاكم 2/46، والبيهقي 10/271 وفي " شعب الإيمان "، له
(5252) من حديث أبي هريرة، به، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) ؛ لكن شيخه البخاري جعل هذا الحديث من منكرات طلق بن غنام كما في " التاريخ الكبير " 4/ الترجمة
(3142) ، وكذا قال أبو حاتم الرازي كما في " العلل " لابنه (1114) ، وللحديث طرق أخرى ضعيفة.(3/1256)
وقال في خطبته في حجة الوداع: ((مَنْ كانَت عندَه أمانةٌ، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها)) (1) وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق.
وفي حديث ابن مسعودٍ من قوله، وروي مرفوعاً: ((القتلُ في سبيل الله يُكفِّر كلَّ ذنب إلا الأمانة، يُؤتى بصاحب الأمانةِ فيقال له: أدِّ أَمانتكَ، فيقول: أنّى يا ربِّ وقد ذهبتِ الدُّنيا؟ فيقالُ: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتَّى ينتهيَ إلى قعرها، فيَجِدُها هناك كهيئتها، فيحمِلُها، فيضعها على عنقه فيَصْعَدُ بها في نار جهنم حتّى إذا رأى أنَّه قد خرج منها، زلَّت فهوت، وهو في إثرها أبد الآبدين)) قال: والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع (3) .
وقد روي عن محمد بن كعب القرظي أنَّه استنبط ما في هذا الحديث - أعني حديث: ((آية المنافق ثلاث)) (4) - من القرآن، فقال: مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ} إلى قوله:
{وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (5) ، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} (6) ، وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} إلى قوله: {لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} (7) ورُوي عن ابن مسعود نحوُ هذا الكلام، ثم تلا قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} (8) الآية.
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/73 عن عمِّ أبي حُرَّة الرَّقاشي، به مطولاً، وإسناده ضعيف لضعف علي ابن زيد بن جدعان.
(2) الأنفال: 27.
(3) الرواية الموقوفة: أخرجها: ابن أبي حاتم في " تفسيره " (5512) ، والبيهقي 6/288 وفي " شعب الإيمان "، له (5266) ، وطبعة الرشد (4885) .
والرواية المرفوعة: أخرجها: ابن أبي حاتم في " تفسيره " (5513) ، والطبراني في " الكبير " (10527) .
(4) سبق تخريجه.
(5) المنافقون: 1.
(6) التوبة: 75 - 77.
(7) الأحزاب: 72 - 73.
(8) التوبة: 77.
وكلام عبد الله بن مسعود أخرجه: الطبراني في " الكبير " (9075) ، وانظر: مجمع الزوائد 1/108، والدر المنثور 3/468.(3/1257)
وحاصلُ الأمرِ أنَّ النفاق الأصغر كُلَّه يرجِع إلى اختلاف السريرة والعلانية قاله الحسن (1) ، وقال الحسن أيضاً: من النفاق اختلافُ القلب واللسان، واختلاف السِّرِّ والعلانية، واختلاف الدخول والخروج (2) .
وقال طائفة من السَّلف: خشوعُ النفاق أنْ ترى الجسدَ خاشعاً، والقلب ليس بخاشع، وقد رُوي معنى ذلك عن عمر، وروي عنه أنَّه قال على المنبر: إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم المنافقُ العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليماً؟ قال: يتكلم بالحكمةِ، ويعمل بالجور (3) ، أو قال: المنكر. وسُئل حذيفة عن المنافق، فقال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به (4) .
وفي " صحيح البخاري " (5) عن ابن عمر أنَّه قيل له: إنا نَدخُلُ على سلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلَّمُ إذا خرجنا من عندهم، قال: كُنَّا نعدُّ هذا نفاقاً.
وفي " المسند " (6) عن حُذيفة، قال: إنَّكم لتكلِّمون كلاماً إنْ كُنّا لنعدُّه
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفاقَ، وفي رواية (7) قال: إنْ كان الرجلُ ليتكلَّمُ بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصير بها منافقاً، وإنِّي لأسمعها من أحدِكم في اليوم في المجلس عشر مرارٍ.
قال بلالُ بنُ سعد: المنافق يقولُ ما يَعرِفُ، ويعمل ما يُنكِرُ.
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين " (128) بنحوه.
(2) أخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (49) ، وابن بطة في " الإبانة " (910) ، وأبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين " (128) .
(3) أخرجه: المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (685) عن عمر بن الخطاب موقوفاً.
(4) أخرجه: المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (682) ، وابن بطة في " الإبانة " (914)
و (928) .
(5) 9/89 (7178) .
(6) مسند الإمام أحمد 5/384، وهو أثر قويٌّ بطرقه.
(7) أخرجها: أحمد 5/386.
وأخرجه: ابن بطة في " الإبانة " (915) ، وأبو نعيم في " صفة النفاق ونعت المنافقين "
(118) ، وهو أثر قويٌّ بطرقه.(3/1258)
ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاقَ على أنفسهم، وكان عمرُ يسأل حُذيفة عن نفسه.
وسئل أبو رجاء العطاردي: هل أدركتَ من أدركتَ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشون النفاقَ؟ فقال: نَعَمْ إني أدركتُ منهم بحمد الله صدراً حسناً، نعم شديداً، نعم شديداً (1) .
وقال البخاري في " صحيحه " (2) : وقال ابنُ أبي مُليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه.
ويُذكر عن الحسن قال: ما خافه إلاَّ مؤمِنٌ، ولا أمنه إلا منافق (3) . انتهى.
وروي عن الحسن أنَّه حَلَفَ: ما مضى مؤمِنٌ قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مُشفِق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يخفِ النفاق، فهو منافق (4) .
وسَمِعَ رجل أبا الدرداء يتعوَّذُ من النفاق في صلاته، فلما سلَّم، قال له: ما شأنك وشأنُ النفاق؟ فقال: اللهمَّ غفراً - ثلاثاً - لا تأمن البلاءَ، واللهِ إنَّ الرجل ليُفتَنُ في ساعةٍ واحدة، فينقلِبُ عن دينه (5) . والآثار عن السَّلف في هذا كثيرة جداً. قال سفيان الثوري: خلافُ ما بيننا وبين المرجئة ثلاث، فذكر منها قال: نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق (6) .
وقال الأوزاعي: قد خاف عمر النفاقَ على نفسه، قيل له: إنَّهم يقولون:
إنَّ عمر لم يَخَفْ أنْ يكونَ يومئذ منافقاً حتى سأل حُذيفة، ولكن خاف أنْ يُبتلى
بذلك قبل أنْ يموت، قال: هذا قولُ أهل البدع، يشير إلى أنَّ عمر كان يخاف
النفاقَ على نفسه (7) في الحال،
_________
(1) أخرجه: المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (686) ، والفريابي في " صفة المنافق " (81) ، وأبو نعيم في " الحلية " 2/307.
(2) ذكره البخاري 1/19 معلقاً، وأخرجه في " التأريخ الكبير " 5/43 (6482) موصولاً.
(3) ذكره البخاري 1/19 معلقاً، وأخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (859) موصولاً.
(4) أخرجه: المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (687) ، والفريابي في " صفة المنافق " (87) .
(5) أخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (73) و (74) ، والبيهقي في " شعب الإيمان "
(857) .
(6) أخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (93) ، ومن طريقه الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 11/162.
(7) سأل أبان الحسن فقال: هل تخاف النفاق قال: وما يؤمنني وقد خاف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وأخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (84) .
وقال معاوية بن قرة: أن لا أكون فيّ نفاق أحب إليّ من الدنيا وما فيها كان عمر - رضي الله عنه - يخشاه وآمنه أنا.
أخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (86) .(3/1259)
والظَّاهر أنَّه أراد أنَّ عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر، والنفاق الأصغر وسيلةٌ وذريعةٌ إلى النفاق الأكبر، كما أنَّ المعاصي بريدُ الكفر، فكما يخشى على من أصرَّ على المعصية أنْ يُسلَبَ الإيمانَ عندَ
الموت، كذلك يخشى على مَنْ أصرَّ على خصالِ النفاق أنْ يُسلَبَ الإيمانَ، فيصير
منافقاً خالصاً.
وسُئِلَ الإمامُ أحمد: ما تقولُ فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ فقال: ومن يأمنُ على نفسه النفاق؟ وكان الحسن يُسمي من ظهرت منه أوصافُ النفاق العملي منافقاً، وروي نحوه عن حذيفة.
وقال الشعبي: من كذب، فهو منافق (1) ، وحكى محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقةٍ من أهل الحديث، وقد سبق في أوائل الكتاب ذكرُ الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر: هل يسمي كافراً كفراً لا يَنقلُ عن الملة أم لا؟ واسمُ الكفر أعظم من اسم النفاق، ولعلَّ هذا هوَ الذي أنكره عطاءٌ عن الحسن إن صحَّ ذلك عنه (2) .
ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي: أنْ يعملَ الإنسان عملاً، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ، فيتمّ له ذلك، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه،
_________
(1) أخرجه: الفريابي في " صفة المنافق " (22) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (4892) .
(2) سبق بيانه.(3/1260)
وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحكى عن المنافقين أنَّهم: {اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1) ، وأنزل في اليهود: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) وهذه الآية نزلت في اليهود، سألهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ فكتموه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أنَّهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرِحُوا بما أُوتوا من كتمانهم وما سُئِلوا عنه، قال ذلك ابن عباس، وحديثُه مخرج في " الصحيحين " (3) .
وفيهما (4)
أيضاً عن أبي سعيد أنَّها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلَّفوا عنه، وفَرِحُوا بمقعدهم خلافَه فإذا قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو، اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبُّوا أنْ يُحمدوا بما لم يفعلوا.
وفي حديث ابن مسعود، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَنْ غَشَّنا، فَلَيسَ مِنّا، والمّكْرُ والخّديعةُ في النَّارِ)) (5) .
_________
(1) التوبة: 107.
(2) آل عمران: 188.
(3) صحيح البخاري 6/50 (4568) ، وصحيح مسلم 8/122 (2778) (8) .
وأخرجه: الترمذي (3014) ، والنسائي في " تفسيره " (106) ، والطبري في " تفسيره "
(6653) ، والواحدي في " أسباب النزول " (157) بتحقيقي، من حديث عبد الله بن عباس، به.
(4) صحيح البخاري 6/50 (4567) ، وصحيح مسلم 8/121 (7) .
وأخرجه: الطبري في " تفسيره " (6643) ، والواحدي في " أسباب النزول " (156) بتحقيقي، من حديث أبي سعيد الخدري، به.
(5) أخرجه: ابن حبان (5559) ، والطبراني في " الكبير " (10234) وفي " الصغير "، له
(725) ، وأبو نعيم في " الحلية " 4/188 - 189، والقضاعي في " مسند الشهاب "
(253) و (254) ، وهو حديث قويٌّ بطرقه.(3/1261)
وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة، وأحسن أبو العتاهية في قوله (1) :
لَيسَ دُنيا إلاّ بدينٍ وليسَ الدِّ ... ينُ إلاَّ مكارمَ الأخلاقِ
إنَّما المكر والخديعةُ في النَّا ... رِ هُما مِنْ خِصالِ أَهْلِ النِّفاق
ولما تقرَّر عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنَّ النفاق هو اختلافُ السرِّ والعلانية خشي
بعضهم على نفسه أنْ يكونَ إذا تغير عليه حضورُ قلبه ورقتُه وخشوعه عندَ سماع
الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أنْ يكونَ ذلك منه نفاقاً، كما في " صحيح مسلم " (2) عن حنظلة الأسيدي (3) أنَّه مرَّ بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قالَ: نافق حنظلةُ يا أبا بكر، نكون عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذكِّرُنا بالجنة والنار كأنّا رأيُ عين، فإذا رجعنا، عافَسنا (4) الأزواج والضيعة (5) فنسينا كثيراً، قالَ أبو بكر: فوالله إنّا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: ((ما لك يا حَنْظَلة؟)) قال: نافق حنظلة يا رسولَ الله، وذكر له مثلَ ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تَدُومونَ على الحال التي تقومون بها من
عندي، لصَافَحَتكُم الملائكة في مجالسكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً)) .
_________
(1) انظر: مكارم الأخلاق لأبي بكر القرشي: 30، والتمهيد لابن عبد البر 24/334.
(2) 8/94 (2750) (12) .
(3) هو حنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن معاوية بن مجاشع، ويقال: مُخاشِن بن معاوية ابن شُرَيْف بن جَرْوة بن أسَيِّد بن عمرو بن تميم التميمي، أبو رِبْعي الأُسَيِّديّ المعروف بحنظلة الكاتب. انظر: تهذيب الكمال 2/318 (1544) .
(4) عافس: هو بالفاء والسّين المهملة، قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا.
وروى الخطابي هذا الحرف (عانسنا) بالنون، قال: ومعناه: لاعبنا، ورواه ابن قتيبة بالشّين المعجمة قال: ومعناه عانقنا، والأول هو المعروف، وَهو أعم، انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 9/59 عقيب (2750) .
(5) الضيعة: بالضاد المعجمة، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة، انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 9/59 عقيب (2750) .(3/1262)
وفي " مسند البزار " (1)
عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله، إنا نكونُ عندك على حالٍ، فإذا فارقناك كُنّا على غيره، قال: ((كيف أنتم وربكم؟)) قالوا: الله
ربُّنا في السرِّ والعلانية، قال: ((ليس ذاكم النفاق)) .
ورُوي من وجه آخر عن أنس (2) قال: غدا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: هلكنا، قال: ((وما ذاك؟)) قالوا: النفاق، النفاق، قال: ((ألستم تَشهدون أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله؟)) قالوا: بلى، قال: ((فلَيسَ ذلك بالنِّفاق)) ثم ذكر معنى حديث حنظلة كما تقدَّم.
_________
(1) كما في " كشف الأستار " (52) .
وأخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 2/332، وقال في " مجمع الزوائد " 1/32: ((رجاله رجال الصحيح)) .
(2) هو حديث منكر كما قال الذهبي في " الميزان " 3/333 - 334.(3/1263)
الحديث التاسع والأربعون
عَنْ عُمرَ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَو أَنَّكُم تَوكَّلُون على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَما يَرزُقُ الطَّيرَ، تَغدُو خِماصاً، وتَروحُ بِطاناً)) رواهُ الإمام أحمدُ (1) والتِّرمذيُّ (2) والنَّسائيُّ (3) وابنُ ماجه (4) وابنُ حبَّان في " صحيحه " (5) والحاكِمُ (6) ، وقال التِّرمذيُّ: حَسَنٌ صَحيحٌ.
هذا الحديث خرَّجه هؤلاء كلهم من رواية عبد الله بن هُبيرة، سمع أبا تميم الجيشاني، سمع عمر بن الخطاب يُحدثه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو تميم وعبد الله بن هبيرة خرَّج لهما مسلم، ووثقهما غيرُ واحد (7) ، وأبو تميم ولد في حياة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر - رضي الله عنه - (8) .
_________
(1) في " مسنده " 1/30 و52.
(2) في " جامعه " (2344) .
(3) كما في " تحفة الأشراف " 7/263 (10586) .
(4) في " سننه " (4164) .
(5) برقم (730) .
(6) في " المستدرك " 4/318.
(7) أبو تميم ذكره ابن حبان في " الثقات " 5/49 وقال عنه يحيى بن معين: ((ثقة)) . انظر: تهذيب الكمال 4/256 (3502) .
وأبو هبيرة ذكره ابن حبان في " الثقات " 5/54 ووثقه أحمد بن حنبل، انظر: تهذيب الكمال 4/310 (3616) .
(8) انظر: سير أعلام النبلاء 4/73.(3/1265)
وقد رُوي هذا الحديثُ من حديث ابنِ عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ولكن في إسناده من لا يُعرف حاله. قاله أبو حاتم الرازي (2) .
وهذا الحديثُ أصل (3) في التوكُّل، وأنَّه من أعظم الأسباب التي يُستجلب بها الرزقُ، قال الله - عز وجل -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (4) ، وقد قرأ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية على أبي ذرٍّ، وقال له: ((لو أنَّ الناسَ كُلَّهم أخَذوا بها لَكَفتهم)) (5) يعني: لو أنهم حقَّقوا التَّقوى والتوكل؛ لاكتَفَوا بذلك في مصالح دينهم ودنياهم. وقد سبق الكلامُ على هذا المعنى في شرح حديثِ ابن عباس: ((احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ)) (6) .
قال بعضُ السلف: بِحَسبِكَ من التوسل إليه أن يَعلَمَ من قلبك حُسنَ توكُّلك
عليه، فكم من عبدٍ من عباده قد فوَّضَ إليه أمره، فكفاه منه ما أهمّه (7) ، ثم قرأ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، وحقيقة التوكّل: هو صدقُ اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح، ودفعِ المضارِّ من أمور الدنيا والآخرة كُلِّها، وكِلَةُ الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يَضرُّ ولا ينفع سواه.
قال سعيدُ بنُ جبير: التوكل جِماع الإيمان (8) .
وقال وهب بن مُنبِّه: الغاية القصوى التوكل (9) .
قال الحسن: إنَّ توكلَ العبد على ربِّه أنْ يعلمَ أن الله هو ثقته (10) .
وفي حديث ابنِ عباس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مَنْ سرَّه أنْ يكونَ أقوى الناس،
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " تأريخ أصبهان " 2/297.
(2) قال عقب تخريج هذا الحديث: ((فيه سعيد بن إسحاق بن الحمار مجهول لا أعرفه)) . انظر: العلل 2/380 (1832) .
(3) سقطت من (ص) .
(4) الطلاق: 2 - 3.
(5) أخرجه: أحمد 5/178، وابن ماجه (4220) ، والنسائي في " الكبرى " (11603) ، وفي إسناده انقطاع.
(6) سبق عند الحديث (19) .
(7) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " التوكل " (5) .
(8) أخرجه: ابن أبي شيبة (29589) و (35342) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/274.
(9) أخرجه: ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 66/288.
(10) أخرجه: ابن أبي الدنيا (18) .(3/1266)
فليتوكل على الله)) (1) .
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول في دعائه: ((اللهم إنِّي أسألُك صدقَ
التوكُّل عليك)) (2) ، وأنَّه كان يقول: ((اللهمَّ اجعلني ممن توكَّل عليك
فكَفَيتَه)) (3) .
واعلم أنَّ تحقيق التوكل لا يُنافي السَّعي في الأسباب التي قدَّر الله سبحانه
_________
(1) أخرجه: عبد بن حميد (675) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " (367) ، وسنده ضعيف.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/224، عن الأوزاعي يرفعه،، وهو ضعيف لاعضاله.
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " التوكل " (4) ، وذكره الديلمي في " مسند الفردوس " 1/472 (1924) من حديث أنس، وسنده ضعيف جداً.(3/1267)
المقدورات بها، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك، فإنَّ الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكُّل، فالسَّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكُّلُ بالقلب عليه إيمانٌ به، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) ، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (2) ، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} (3) .
وقال سهل التُّستَرِي: من طعن في الحركة - يعني: في السعي
والكسب - فقد طعن في السُّنة، ومن طعن في التوكل، فقد طعن في الإيمان (4) ، فالتوكل حالُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والكسب سنَّتُه، فمن عمل على حاله، فلا يتركنّ
سنته.
ثم إنَّ الأعمال التي يعملها العبدُ ثلاثةُ أقسام:
أحدُها: الطاعات التي أمر الله عباده بها، وجعلها سبباً للنَّجاة مِنَ النَّار ودخولِ الجنَّة، فهذا لابُدَّ من فعله مع التوكُّل على الله فيه، والاستعانة به عليه، فإنَّه لا حولَ ولا قُوَّة إلا به، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن قصَّرَ في شيءٍ ممَّا وجب عليه من ذلك، استحقَّ العقوبة في الدنيا والآخرة شرعاً وقدراً. قال يوسف بنُ أسباط: كان يُقال: اعمل عمل رجل لا يُنجيه إلا عملُه، وتوكَّلْ توكُّلَ رجلٍ لا يُصيبه إلا ما كُتِبَ له (5) .
والثاني: ما أجرى الله العادة به في الدُّنيا، وأمر عباده بتعاطيه، كالأكلِ عندَ الجوعِ، والشُّرب عندَ العطشِ، والاستظلال من الحرِّ، والتدفؤ من البرد ونحو ذلك، فهذا أيضاً واجب على المرء تعاطي أسبابه،
_________
(1) النساء: 71.
(2) الأنفال: 60.
(3) الجمعة: 10.
(4) أخرجه: أبو نعيم " حلية الأولياء " 10/195، والبيهقي في " شعب الإيمان " (1289) .
(5) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/239 - 240.(3/1268)
ومن قَصَّر فيه حتى تضرَّر بتركه مع القُدرة على استعماله، فهو مُفرِّطٌ يستحقُّ العقوبة، لكن الله سبحانه قد يقوِّي بعضَ عباده من ذلك على مالا يَقوى عليه غيرُه، فإذا عَمِلَ بمقتضى قوَّته التي اختص بها عن غيره، فلا حرجَ عليه، ولهذا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُواصلُ في صيامه، وينهى عَنْ ذلك أصحابه، ويقول لهم: ((إنِّي لستُ كهيئتكم، إني أُطْعَمُ وأُسقى)) (1) ، وفي رواية: ((إنِّي أظلُّ عند ربي يُطعمني ويسقيني)) (2) ، وفي رواية: ((إنَّ لي مُطْعِماً يُطعمني، وساقياً يسقيني)) (3) .
والأظهر أنَّه أراد بذلك أنَّ الله يُقوِّيه ويُغذيه بما يُورده على قلبه من الفتوح
القدسية، والمنحِ الإلهية، والمعارف الربانية التي تُغنيه عن الطعام والشراب بُرهةً مِنَ
الدَّهر، كما قال القائل (4) :
لها أَحاديثُ مِنْ ذِكراكَ تَشغَلُها ... عَنِ الشَّرابِ وتُلهيهَا عَنِ الزَّادِ
لها بِوجْهِكَ نُورٌ تَستَضِيءُ به ... وقْتَ المَسيرِ وفي أَعقابها حَادي
إذا اشتَكَتْ من كلالِ السَّيرِ أوْعَدها ... رَوْحُ القدوم فتحيى عندَ مِيعادِ
فلا تجوع ولا تظمأ وما ضعفت ... ولا تظل إذا كانت لها هادِ (5)
وقد كان كثيرٌ من السَّلف لهم مِن القُوَّة على ترك الطعام والشراب ما ليس
لغيرهم، ولا يتضرَّرونَ بذلك. وكان ابنُ الزبير يُواصل ثمانية أيام (6) . وكان أبو الجوزاء يُواصل في صومه بين سبعة أيام، ثم يَقبِضُ على ذراع الشاب فيكَادُ
يَحطِمُها (7) . وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكلُ شيئاً غير أنَّه يشرب شربة حلوى (8) . وكان حجاج ابنُ فرافصة يبقي أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام (9) ، وكان بعضهم لا يُبالي بالحرِّ ولا بالبرد كما كان عليٌّ - رضي الله عنه - يلبس لباس
_________
(1) أخرجه: مالك في " الموطأ " (827) برواية الليثي، والبخاري 2/37 (1922) ، ومسلم 3/133 (1102) (55) و (56) ، وأبو داود (2360) من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه: البخاري 3/48 (1961) و3/134 (1104) (60) ، والترمذي (778) من حديث أنس.
(3) أخرجه: البخاري 3/48 (1963) ، وأبو داود (2361) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) انظر: تفسير ابن كثير 1/224، وسبل السلام 2/156.
(5) هذا البيت سقط من النسخ المطبوعة.
(6) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 1/325 بلفظ: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام.
(7) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/79 - 80.
(8) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/214. ...
(9) أخرجه: أبو نعيم 3/108 عن سفيان الثوري قال: بت عند الحجاج بن فرافصة إحدى وعشرين يوماً فما أكل ولا شرب ولا نام.(3/1269)
الصَّيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دعا له أنْ يُذهب الله عنه الحرَّ والبرد (1) .
فمن كان له قوَّةٌ على مثل هذه الأمور، فعمل بمقتضى قوَّته ولم يُضعفه عن
طاعة الله، فلا حرج عليه، ومن كلَّفَ نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات، فإنَّه يُنكر عليه ذلك، وكان السَّلف يُنكرون على عبد الرحمان بن أبي نُعم، حيث كان يترك الأكل مدة حتى يُعاد من ضعفه (2) .
القسم الثالث: ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعمِّ الأغلب، وقد يخرِقُ العادة في ذلك لمن يشاء من عباده، وهو أنواع:
منها ما يخرقه كثيراً، ويغني عنه كثيراً من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثيرٍ من البلدان وسكان البوادي ونحوها. وقد اختلف العلماءُ: هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقَّق التوكل على الله؟ وفيه قولان مشهوران، وظاهر كلام أحمد أنَّ التوكلَ لمن قوي عليه أفضلُ، لِمَا صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال:
((يَدخُلُ مِنْ أُمَّتي الجنَّة سبعون ألفاً بغير حساب)) ثم قال: ((هم الذين لا يتطيَّرون ولا يَسترقون ولا يَكتوون وعلى ربِّهم يتوكَّلون)) (3) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 1/99 و133، وابن ماجه (117) ، وهو ضعيف.
(2) انظر: حلية الأولياء 4/69.
(3) أخرجه: مسلم 1/137 (218) (371) و (372) .(3/1270)
ومن رجح التداوي قال: إنَّهُ حال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يُداوم عليه، وهو لا يفعلُ إلاّ الأفضلَ، وحمل الحديثَ على الرُّقى المكروهة التي يُخشى منها الشركُ
بدليل أنَّه قرنها بالكي والطِّيرة وكلاهما مكروه.
ومنها ما يَخرِقُهُ لِقليلٍ من العامة، كحصول الرِّزق لمن ترك السعي في
طلبه، فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل، وعَلِمَ من الله أنَّه يَخرِقُ له العوائد، ولا يُحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه، جاز له تَركُ الأسباب، ولم يُنكر عليه ذلك، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدلُّ على ذلك، ويدلُّ على أنَّ النَّاس إنَّما يُؤتون مِنْ قلَّة تحقيق التوكُّل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يُتعبون أنفسَهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلاّ ما قُدِّر لهم، فلو حَقَّقوا التوكُّلَ على الله بقلوبهم، لساقَ الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سببٍ، كما يسوقُ إلى الطَّير أرزاقها بمجرَّدِ الغدوِّ والرواح، وهو نوعٌ من الطَّلب والسَّعي، لكنه سعيٌ يسيرٌ.
وربما حُرِمَ الإنسانُ رزقَهُ أو بعضَه بذنب يُصيبه، كما في حديث ثوبان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنَّ العبدَ ليُحرَمُ الرِّزق بالذَّنب يُصيبه)) (1) .
وفي حديث جابر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ نفساً لن تموتَ حتى تستكمل رزقها، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطَّلب، خُذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُم)) (2) .
_________
(1) أخرجه: أحمد 5/277 و282، وابن ماجه (4022) ، وفي إسناده مقال، وقد حسن بعضهم هذا الحديث بطرقه منهم: الحافظ العراقي كما نقله البوصيري في " مصباح الزجاجة ".
(2) أخرجه: ابن ماجه (2144) ، وابن حبان (3239) ، والحاكم 2/4، وهو حديث صحيح.(3/1271)
وقال عمر: بين العبد وبين رِزقه حِجاب، فإن قنع ورضيت نفسه، آتاه
رزقُه، وإنِ اقتحم وهتك الحجاب، لم يزد فوقَ رزقه (1) .
وقال بعض السَّلف: توكل تُسَقْ إليك الأرزاق بلا تعب، ولا تَكَلُّف.
قال سالم بن أبي الجعد: حُدِّثْتُ أنَّ عيسى - عليه السلام - كان يقول: اعملوا للهِ ولا تعملوا لبطونكم، وإيَّاكم وفضولَ الدُّنيا، فإنَّ فضولَ الدُّنيا عند الله رجز، هذه طَيرُ السماء تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء، لا تحرث ولا تحصد الله يرزقها، فإنْ قلتُم: إنَّ بطوننا أعظم من بطون الطير، فهذه الوحوش من البقر والحمير وغيرها تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيءٌ لا تحرث ولا تحصد، الله
يرزقها (2) . خرَّجه ابن أبي الدُّنيا.
وخرّج بإسناده عن ابن عباس قال: كان عابدٌ يتعبد في غارٍ، فكان غرابٌ يأتيه كلَّ يوم برغيف يجد فيه طَعْمَ كلِّ شيءٍ حتى مات ذلك العابد (3) .
وعن سعيد بن عبد العزيز، عن بعض مشيخة دمشق، قال: أقامَ إلياسُ هارباً من قومه في جبل عشرين ليلة، - أو قال: أربعين - تأتيه الغربان برزقه.
وقال سفيان الثوري: قرأ واصلٌ الأحدب هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (4) ، فقال: ألا إنَّ رزقي في السماء وأنا أطلبُه في الأرض؟ فدخل خَرِبَةً، فمكث ثلاثاً لا يُصيب شيئاً، فلمَّا كان اليومُ الرابع، إذ هو بدَوخَلةٍ من رُطَبٍ، وكان له أخٌ أحسن نيةً منه، فدخل معه، فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما (5) حتى فرق الموتُ بينهما (6) .
ومن هذا الباب من قَوِي توكُّله على الله ووثوقه به، فدخل المفاوزَ بغير زاد،
فإنَّه يجوزُ لمن هذه صفته دونَ من لم يبلغ هذه المنْزلة، وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل - عليه السلام -، حيث ترك هاجرَ وابنها إسماعيل بوادٍ غير ذي زرعٍ، وترك عندهما جراباً فيه تمرٌ وسِقاءً فيه ماء، فلمَّا تبعته هاجر، وقالت له:
_________
(1) ذكره الديلمي في " مسند الفردوس " 2/26 (2162) عن جابر بلفظ: ((بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه رزقه وإن عجل مزق عنه جلد ولا يأخذ إلا ما قدر له جلده ودينه)) .
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (34232) ، والحسين المروزي كما في زوائده على " الزهد "
لعبد الله بن المبارك (848) .
(3) أخرجه: أبو الشيخ في " العظمة " (1292) .
(4) الذاريات: 22.
(5) سقطت من (ص) .
(6) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (24915) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (1336) .(3/1272)
إلى من تَدعنا؟ قال
لها: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله، وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه، فقد يَقذِفُ الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحقِّ ما يعلمون أنَّه حقٌّ، ويثقون به. قال المروذي: قيل لأبي عبد الله: أيّ شيءٍ صِدقُ التوكل على الله؟ قال: أنْ يتوكَّل على الله، ولا يكون في قلبه أحدٌ من الآدميين يطمع أنْ يجيئه بشيءٍ، فإذا كان كذا، كان الله يرزقه، وكان متوكِّلاً (1) .
قال: وذكرتُ لأبي عبد الله التوكُّل، فأجازه لمن استعملَ فيه الصِّدق (2) .
قال: وسألت أبا عبد الله عن رجلٍ جلس في بيته، ويقول: أجلِسُ وأصبر ولا أُطلع على ذلك أحداً، وهو يقدِرُ أنْ يحترف، قال: لو خرَجَ فاحترفَ كان أحبَّ إليَّ، وإذا جلس خفت أنْ يُخرجه إلى أنْ يكون يتوقع أنْ يرسل إليه بشيء. قلت: فإذا كان يبعث إليه بشيءٍ، فلا يأخذ؟ قالَ: هذا جيد (3) .
وقلت لأبي عبد الله: إنَّ رجلاً بمكة قالَ: لا آكلُ شيئاً حتَّى يطعموني، ودخل في جبل أبي قبيس، فجاء إليه رجلان وهو متَّزِرٌ بخرقةٍ، فألقيا إليه قميصاً، وأخذا بيديه، فألبساه القميص، ووضعا بين يديه شيئاً، فلم يأكل حتَّى وضعا مفتاحاً من حديد في فيه، وجعلا يدُسَّان في فمه، فضحك أبو عبد الله، وجعل يعجب.
وقلت لأبي عبد الله: إنَّ رجلاً ترك البيع والشراء، وجعل على نفسه أنْ لا يقع في يده ذهبٌ ولا فضَّةٌ، وترك دُورَه لم يأمر فيها بشيءٍ وكان يمرُّ في الطريق، فإذا رأى شيئاً مطروحاً، أخذه ممّا قد أُلقي. قال المروذي: فقلت للرجل: مالك حجة
_________
(1) انظر: الفروع 4/41.
(2) انظر: الفروع 4/41.
(3) انظر: الورع لأحمد بن حنبل: 48.(3/1273)
على هذا غير أبي معاوية الأسود، قال: بل أويس القرني، وكان يمرُّ بالمزابل، فيلتقط الرِّقاع، قال: فصدَّقه أبو عبد الله، وقال: قد شدَّد على نفسه. ثم قال: قد جاءني البَقْلِيُّ ونحوه، فقلت لهم: لو تعرضتُم للعمل تُشهِرون أنفسَكم، قال: وإيشٍ نُبالي من الشُّهرة؟ (1)
وروى أحمدُ بنُ الحسين بن حسّان عن أحمد أنَّه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير زادٍ، قال: إنْ كنتَ تُطيقُ وإلا فلا إلاّ بزادٍ وراحلةٍ، لا تُخاطر (2) . قال أبو بكر الخلال: يعني: إنْ أطاق وعلم أنَّه يقوى على ذلك، ولا يسأل، ولا تَستشرفُ نفسه لأنْ يأخذَ أو يُعطى فيقبل، فهو متوكل على الصدق، وقد أجاز العلماء التوكل على الصدق. قال: وقد حجَّ أبو عبد الله وكفاه في حجته أربعة عشر درهماً.
وسئل إسحاق بن راهويه: هل للرجل أنْ يدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: إنْ كان الرجلُ مثل عبد الله بن منير، فله أنْ يدخل المفازة بغير زاد (3) ، وإلا لم يكن له أنْ يدخل، ومتى كان الرجل ضعيفاً، وخشي على نفسه أنْ لا يصبر، أو يتعرَّض للسؤال، أو أنْ يقعَ في الشَّكِّ والتسخُّط، لم يُجز له ترك الأسباب حينئذٍ، وأنكر عليه غايةَ الإنكار كما أنكر الإمامُ أحمد وغيره على من ترك الكسب وعلى من دخل المفازة بغير زادٍ، وخشي عليه التعرُّض للسؤال. وقد روي عن ابن عباس، قال: كان أهل اليمن يَحُجُّون ولا يتزوَّدون ويقولون:
_________
(1) انظر: الورع لأحمد: 48 بنحوه مختصراً.
(2) انظر: تفسير القرطبي 2/411 - 412 بلفظ قال رجل لأحمد بن حنبل: أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال أحمد: أخرج في غير القافلة فقال: لا، إلا معهم، قال: فعلى جرب الناس توكلت؟
قوله: جرب جمع جراب وهو الوعاء.
(3) ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 12/317.(3/1274)
نحن متوكِّلون، فيحجُّون، فيأتون مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله هذه الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1) (2) ، وكذا قال مجاهدٌ (3) ، وعكرمة (4) ، والنخعي (5) ، وغيرُ واحد من السَّلف (6) ، فلا يُرخَّصُ في ترك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبُه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكُلية.
وقد رُوي عن أحمد أنَّه سُئل عن التوكُّل، فقال: قطعُ الاستشراف باليأس من الخلق، فسُئِلَ عن الحُجة في ذلك، فقال: قول إبراهيم - عليه السلام - لما عرض له جبريلُ وهو يُرمى في النار، فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك، فلا (7) .
وظاهر كلام أحمد أنَّ الكسبَ أفضلُ بكلِّ حالٍ، فإنَّه سُئِل عمَّن يقعدُ ولا يكتسِبُ ويقول: توكَّلت على الله، فقال: ينبغي للناس كُلِّهم يتوكَّلون على الله، ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب (8) .
وروى الخلال بإسناده عن الفُضيل بن عياض أنَّه قيل له: لو أنَّ رجلاً قعد في
بيته زعم أنَّه يثق بالله، فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنَّه قد وثق
به، لم يمنعه شيءٌ أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غَيرُهم، وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤجِّرُ نفسه وأبو بكر وعمر، ولم يقولوا: نقعد حتى يرزقنا الله - عز وجل -، وقال الله - عز وجل -: {وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ} (9) ، ولابُد من طلب المعيشة.
_________
(1) البقرة: 197.
(2) أخرجه: الطبري قي " تفسيره " (2967) .
(3) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (2976) .
(4) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (2970) .
(5) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (2974) .
(6) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (2978) عن الحسن.
(7) ذكره: ابن مفلح في " المقصد الأرشد " 3/122، ولا يخفى أنَّ هذا من الإسرائيليات، ولم يرد في المرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(8) انظر: فتح الباري لابن حجر 11/276.
(9) الجمعة: 10.(3/1275)
وقد رُوي عن بشر ما يُشعر بخلاف هذا، فروى أبو نعيم في " الحلية " (1) أنَّ بشراً سُئِل عن التوكُّل، فقال: اضطرابٌ بلا سكون، وسكون بلا اضطراب، فقال له السائل: فسِّره لنا حتى نفقهَ، قال بشر: اضطراب بلا سكون، رجل يضطربُ بجوارحه، وقلبُه ساكن إلى الله، لا إلى عمله، وسكون بلا اضطراب فرجل ساكنٌ إلى الله بلا حركة، وهذا عزيزٌ، وهو من صفات الأبدالِ.
وبكل حال، فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية، فلابُدَّ له من معاناة الأسباب لاسيما من له عيال لا يصبرون، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كَفى بالمرءِ إثماً أنْ يُضيِّعَ من يَقُوتُ)) (2) . وكان بشرٌ يقول: لو كان لي عيالٌ لعملتُ واكتسبتُ.
وكذلك من ضيَّع بتركه الأسباب حقاً له، ولم يكن راضياً بفوات حقه، فإنَّ هذا عاجزٌ مفرِّطٌ، وفي مثل هذا جاء قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينْفَعُك، واستعن بالله ولا تَعْجز، فإنْ أصابك شيءٌ، فلا تقولنَّ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُلْ: قَدَرُ الله وما شاء
_________
(1) 8/351.
(2) أخرجه: أحمد 2/160 و193 و194 و195، والنسائي في " الكبرى " (9177) ، وابن حبان (4240) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأخرجه: مسلم 3/78 (996) ، ولفظه: ((كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)) .(3/1276)
فعل، فإنَّ الَّلو تفتحُ عمل الشيطان)) خرَّجه مسلم (1) بمعناه من حديث أبي هريرة.
وفي " سنن أبي داود " (2) عن عوف بن مالك: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لمَّا أدبر: حسبُنا الله ونِعم الوكيل، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله يلومُ على العجز، ولكن عليك بالكيسِ، فإذا غلبك أمرٌ، فقل: حسبي الله ونعم
الوكيل)) .
وخرَّج الترمذي (3) من حديث أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكَّل، أو أُطلقها وأتوكَّل؟ قال: ((اعقلها وتوكَّل)) . وذكر عن يحيى القطان أنَّه قال: هو عندي حديث منكر (4) ،
_________
(1) في " صحيحه " 8/56 (2664) (34) .
(2) (3627) ، وإسناده ضعيف بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية وقد عنعن، وفي الإسناد أيضاً سيف الشامي مجهول تفرد بالرواية عنه خالد بن معدان، وقال النسائي: ((لا أعرفه)) .
(3) في " جامعه " (2517) .
(4) انظر: علل الترمذي الكبير 1/448، وأيضاً نقله في " الجامع " عقب الحديث وعلة الحديث المغيرة بن أبي قرة السدوسي فهو مجهول.(3/1277)
وخرَّجه الطبراني (1) من حديث عمرو بن أمية، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وروى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عائذ (2) : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ التوكلَ بَعدَ الكَيْسِ)) (3) وهذا مرسل، ومعناه أنَّ الإنسان يأخذ بالكَيْس، والسعي في الأسباب المباحة، ويتوكَّلُ على الله بعد سعيه، وهذا كله إشارة إلى أنَّ التوكل لا يُنافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون جمعهما أفضلَ. قال معاوية بن قرة: لقي عمرُ بن الخطَّاب ناساً من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنَّما المتوكل الذي يُلقي حبَّه في الأرض، ويتوكَّل على الله - عز وجل - (4) .
قال الخلال: أخبرنا محمد بن أحمد بن منصور قال: سأل المازني بشرَ بنَ الحارث عن التوكل، فقال: المتوكل لا يتوكَّلُ على الله ليُكفى، ولو حلَّت هذه القصة في قلوب المتوكلة، لضجُّوا إلى الله بالندم والتوبة، ولكن المتوكل يَحُلُّ بقلبه الكفاية من الله تبارك وتعالى فيصدق الله - عز وجل - فيما ضمن. ومعنى هذا الكلام أنَّ المتوكل على الله حقَّ التوكل لا يأتي بالتوكل، ويجعله سبباً لحصول الكفاية له من الله بالرِّزق وغيره، فإنَّه لو فعل ذلك، لكان كمن أتى بسائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها، وهذا نوعُ نقص في تحقيق التوكُّل.
وإنَّما المتوكلُ حقيقة من يعلم أنَّ الله قد ضَمِنَ
_________
(1) كما في " مجمع الزوائد " 10/291 و303.
(2) هو الربيع بن خثيم يكنى أبا يزيد الثوري الكوفي أحد الأعلام، أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عنه، كان يعد من عقلاء الرجال، توفي قبل سنة خمس وستين. انظر: " سير أعلام النبلاء " 4/258.
(3) ذكره: الديلمي في " مسند الفردوس " 2/77 (2435) .
(4) ذكره الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 1/405.(3/1278)
لعبده رزقه وكفايته، فيصدق الله فيما ضمنه، ويثق بقلبه، ويحققُ الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرِّزق من غير أنْ يخرج التوكُّل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به، والرزق مقسومٌ لكلِّ أحدٍ من برٍّ وفاجرٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (1) ، هذا مع ضعف كثيرٍ من الدواب وعجزها عن السَّعي في
طلب الرزق، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا
وَإِيَّاكُمْ} (2) .
فما دام العبدُ حيّاً، فرزقُه على الله، وقد يُيسره الله له بكسب وبغير كسب، فمن توكَّل على الله لطلب الرزق، فقد جعل التوكُّل سبباً وكسباً، ومن توكَّل عليه لثقته بضمانه، فقد توكَّل عليه ثقة به وتصديقاً، وما أحسنَ قول مثنَّى الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد: لا تكونوا بالمضمون مهتمِّين، فتكونوا للضامن متَّهمين، وبرزقه غير راضين (3) .
واعلم أنَّ ثمرة التوكل الرِّضا بالقضاء، فمن وَكَلَ أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له، ويختاره، فقد حقق التوكل عليه (4) ، ولذلك كان الحسنُ والفضيلُ وغيرهما يُفسِّرون التوكل على الله بالرِّضا.
قال ابنُ أبي الدنيا (5) : بلغني عن بعض الحكماء قال: التوكلُ على ثلاثِ درجاتٍ: أولها: تركُ الشِّكاية، والثانية: الرضا، والثالثة: المحبة، فترك الشكاية درجة الصبر، والرضا سكون القلب بما قسم الله له، وهي أرفع من الأولى،
_________
(1) هود: 6.
(2) العنكبوت: 60.
(3) ذكره: ابن مفلح في " المقصد الأرشد " 3/19.
(4) سقطت من (ص) .
(5) في " التوكل " (46) .(3/1279)
والمحبَّةُ أنْ يكون حُبُّه لما يصنع الله به، فالأولى للزاهدين، والثانية للصادقين، والثالثة للمرسلين. انتهى.
فالمتوكل على الله إنْ صبر على ما يُقدِّرُه الله له من الرزق أو غيره، فهو صابر، وإنْ رضي بما يُقدر له بعد وقوعه، فهو الراضي، وإنْ لم يكن له اختيارٌ بالكليَّة ولا رضا إلا فيما يقدر له، فهو درجة المحبين العارفين، كما كان عمر بنُ عبد العزيز يقول: أصبحتُ وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر.(3/1280)
الحديث الخمسون
عَنْ عبدِ الله بن بُسْرٍ قال: أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجلٌ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كَثُرَتْ علينا، فبَابٌ نَتَمسَّكُ به جامعٌ؟ قال: ((لا يَزالُ لِسانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكر الله - عز وجل -)) خرَّجه الإمامُ أحمدُ (1) بهذا اللَّفظِ.
وخرَّجه الترمذي، وابنُ ماجه، وابنُ حبان في " صحيحه " (2) بمعناه، وقال الترمذي: حسن غريب،
_________
(1) في " مسنده " 4/188 و190.
(2) ابن ماجه (3793) ، والترمذي (3375) ، وابن حبان (814) .(3/1281)
وكُلُّهم خرَّجه من رواية عمرو بن قيس الكندي، عن عبد الله بن بُسر.
وخرَّج ابنُ حبان في " صحيحه " (1) وغيره (2) من حديث معاذ بن جبل، قال: آخِرُ ما فارقتُ عليه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ قلتُ له: أيُّ الأعمال خيرٌ وأقربُ إلى الله؟ قال: ((أنْ تموتَ ولِسانُكَ رَطْبٌ من ذكر الله - عز وجل -)) .
وقد سبق في هذا الكتاب مفرقاً ذكرُ كثيرٍ من فضائل الذكر، ونذكر هاهنا فضل إدامته، والإكثار منه.
قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأنْ يذكروه ذكراً كثيراً، ومَدَحَ من ذكره كذلك؛ قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً} (3) ، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (5) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (6) .
وفي " صحيح مسلم " (7) عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على جبلٍ يقالُ له: جُمْدَان، فقال: ((سِيروا هذا جُمدان (8) ، قد سبق المُفرِّدونَ)) . قالوا: ومن المفرِّدون يا رسول الله؟ قالَ: ((الذاكرون الله كثيرا والذَّاكرات)) .
_________
(1) برقم (818) .
(2) أخرجه: البخاري في " خلق أفعال العباد ": 72، والطبراني في " الكبير " 20/ (181)
و (208) و (212) و (213) وفي " مسند الشاميين "، له (2035) و (3521) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " (516) .
(3) الأحزاب: 41 - 42.
(4) الجمعة: 10.
(5) الأحزاب: 35.
(6) آل عمران: 191.
(7) 8/63 (2676) (4) .
(8) جمدان: هو جبل بين ينبع والعيص، على ليلة من المدينة، وهو بضم الجيم، ثم سكون الميم. مراصد الاطلاع 1/345.(3/1282)
وخرَّجه الإمام أحمد (1) ، ولفظه: ((سبقَ المفَرِّدونَ)) قالوا: وما المفردون؟ قال: ((الذينَ يُهْتَرونَ (2) في ذكرِ اللهِ)) .
وخرَّجه الترمذي (3) ، وعنده: قالوا: يا رسول الله، وما المفرِّدون؟ قالَ:
((المُستَهتَرونَ في ذِكرِ الله يَضعُ الذِّكر عنهم أثقالهم، فيأتون يومَ القيامة خِفافاً)) .
وروى موسى بنُ عبيدة عن أبي عبد الله القَرَّاظ، عن معاذ بن جبل قال: بينما نَحنُ مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَسيرُ بالدّفِّ من جُمْدان إذ استنبه، فقال: ((يا مُعاذُ، أينَ السابقون؟)) فقلت: قد مَضَوا، وتخلَّف ناسٌ. فقال: ((يا معاذ إنَّ السابقين الذين يُستَهتَرون بذكر الله - عز وجل -)) (4) خرّجه جعفر الفِرياني.
ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث، فإنَّه لمَّا سبق الركب، وتخلف بعضهم، نبه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ السابقين على الحقيقة هم الذين يُديمون ذكرَ الله، ويُولَعون به، فإنَّ الاستهتار بالشيء: هو الولوعُ به، والشغفُ، حتى لا يكاد يُفارِق ذكره، وهذا على رواية من رواه ((المستهترون))
_________
(1) في " مسنده " 2/323 و411 من حديث أبي هريرة.
(2) أي: يولعون.
(3) في " جامعه " (3596) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه: الطبراني في " الكبير " 20/ (326) ، وموسى بن عبيدة ضعيف، وانظر: مجمع الزوائد 10/75.(3/1283)
ورواه بعضُهم، فقال فيه: ((الذين أُهتِروا في ذكرِ الله)) وفسّر ابنُ قتيبة الهترَ بالسَّقْطِ في الكلام (1) ، كما في الحديث: ((المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتَران)) (2) .
قال: والمرادُ من هذا الحديث من عُمِّر وخَرِفَ في ذكر الله وطاعته، قال: والمراد بالمفرِّدين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القَرنِ الذي كان فيه، وأما على الرواية الأولى، فالمراد بالمفرِّدين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى، كذا قال، ويحتمل - وهو الأظهر - أنَّ المرادَ بالانفرادِ على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرةُ الذكرِ دونَ الانفراد الحسي، إما عن القَرنِ أو عن المخالطة، والله أعلم.
ومن هذا المعنى قولُ عمرَ بنِ عبد العزيز ليلةَ عرفة بعرفة عندَ قرب الإفاضة: ليس السابقُ اليوم من سبق بعيرُه، وإنَّما السابق من غُفر له (3) .
_________
(1) في غريب الحديث 1/321 - 322 بهذا المعنى.
(2) أخرجه: أحمد 4/162 و266، والبخاري في " الأدب المفرد " (427) و (428) ، وابن حبان (5726) و (5727) ، والطبراني في " الكبير " 17/ (1001) و (1002) عن عياض بن حمار.
(3) انظر: فتح الباري 3/660.(3/1284)
وبهذا الإسناد عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أحبَّ أنْ يرتع في رياض الجنَّة، فليُكثر ذكرَ الله - عز وجل -)) (1) .
وخرَّج الإمام أحمد والنَّسائي، وابنُ حبان في " صحيحه " (2) من حديث أبي سعيد الخدري: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((استكثروا منَ الباقياتِ الصَّالحات)) قيل: وما هُنَّ يا رسولَ الله؟ قالَ: ((التكبيرُ والتسبيحُ والتَهليلُ والحمدُ لله، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله)) .
وفي " المسند " و" صحيح ابن حبان " (3) عن أبي سعيد الخدري أيضاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أكثروا ذِكرَ الله حتّى يقولوا: مجنون)) .
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة (29457) و (35059) ، والطبراني في " الكبير " 20/ (326) ، وفيه موسى بن عبيدة ضعيف، وانظر: مجمع الزوائد 10/75.
(2) أحمد 3/75، وابن حبان (840) وبهذا اللفظ لم يخرجه النسائي حيث لم أجده في المطبوع من " السنن الكبرى " ولا " عمل اليوم والليلة "، وكذا قال محقق تحفة الأشراف 3/340 هامش (3) ، وساقه الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/87 ونسبه إلى أحمد وأبي يعلى، وهذا دليل على عدم وجوده عند النسائي لكن المزي في " التحفة " 3/340 (4066) عزاه للنسائي فلعله في بعض النسخ، والحديث ضعيف لضعف دراج أبي السمح في روايته عن أبي الهيثم.
(3) أحمد 3/68 و71، وابن حبان (817) ، وهو حديث ضعيف لضعف دراج أبي السمح في روايته عن أبي الهيثم.(3/1285)
وروى أبو نعيم في " الحلية " (1) من حديث ابن عباس مرفوعاً: ((اذكروا الله ذكراً يقول المنافقون: إنَّكم تُراؤون)) .
وخرَّج الإمام أحمد والترمذي (2) من حديث أبي سعيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سئل: أيُّ العباد أفضلُ درجةً عندَ الله يوم القيامة؟ قالَ: ((الذاكرون الله كثيراً)) ، قيل: يا رسول الله، ومِنَ الغازي في سبيل الله؟ قال: ((لو ضربَ بسيفه في الكفَّار والمشركين حتّى ينكسر ويتخضَّب دماً، لكان الذاكرون للهِ أفضلَ منه درجةً)) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث سهلٍ بن معاذ، عن أبيه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رجلاً سأله فقال: أيُّ الجهاد أعظمُ أجراً يا رسول الله؟ قال: ((أكثرُهم للهِ ذِكراً)) ، قال: فأيُّ الصَّائمين أعظمُ؟ قال: ((أكثرهم لله ذِكراً)) ، ثم ذكر لنا الصَّلاة والزَّكاة والحجَّ والصدقة كلٌّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أكثرهم لله ذكراً)) ، فقال أبو بكر: يا أبا حفص، ذهب الذاكرون بكلِّ خيرٍ، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
((أجل)) .
وقد خرَّجه ابنُ المبارك (4) ، وابنُ أبي الدنيا من وجوه أُخَر مرسلة بمعناه.
وفي " صحيح مسلم " (5) عن عائشة، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كلِّ أحيانِهِ.
_________
(1) 3/80 - 81، وهو ضعيف.
(2) أحمد 3/75، والترمذي (3376) ، وهو ضعيف لضعف ابن لهيعة، ولضعف دراج في روايته عن أبي الهيثم.
(3) في " مسنده " 3/438، وهو ضعيف لضعف ابن لهيعة وزبان بن فائد.
(4) في " الزهد " (1429) عن أبي سعيد المقبري.
(5) 1/194 (373) (117) .(3/1286)
وقال أبو الدرداء: الذين لا تزال ألسنتهم رطبةً من ذكر الله، يدخل أحدهم الجنَّةَ وهو يضحك (1) ، وقيل له: إنَّ رجلاً أعتق مئة نسمة، فقال: إنَّ مئة نسمة من مالِ رجلٍ كثيرٌ، وأفضلُ من ذلك إيمانٌ ملزومٌ بالليل والنَّهار، وأنْ لا يزالَ لسانُ أحدكم رطباً مِنْ ذِكر الله - عز وجل - (2) .
وقال معاذ: لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحبُّ إليَّ من أنْ أحملَ على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل (3) .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (4) قال: أنْ يُطاعَ فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يكفر (5) ، وخرَّجه الحاكم (6) مرفوعاً وصحَّحه، والمشهورُ وقفُه.
وقال زيدُ بنُ أسلم: قال موسى - عليه السلام -: يا ربِّ قد أنعمتَ عليَّ كثيراً، فدُلني على أنْ أشكرك كثيراً، قال: اذكُرني كثيراً، فإذا ذكرتني كثيراً، فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني (7) .
وقال الحسن: أحبُّ عبادِ الله إلى اللهِ أكثرهم له ذكراً وأتقاهم قلباً.
وقال أحمد بنُ أبي الحواري: حدَّثني أبو المخارق، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((مررتُ ليلة أُسري بي برجل مُغيَّبٍ في نور العرش، فقلتُ: من هذا؟ مَلَكٌ؟ قيل: لا، قلت: نبيٌّ؟ قيل: لا، قلتُ: من هو؟ قال: هذا رجل كان لسانه رطباً من ذكر
_________
(1) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (1126) ، وابن أبي شيبة (29459) و (34587) و (35052) ، وأحمد في " الزهد " (726) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/219.
(2) أخرجه: ابن أبي شيبة (29464) و (35057) ، وأحمد في " الزهد " (730) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/219، والبيهقي في " شعب الإيمان " (627) .
(3) أخرجه: ابن أبي شيبة (29458) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/235.
(4) آل عمران: 102.
(5) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (22) ، وابن أبي شيبة (34553) ، وعبد بن حميد كما في " الدر المنثور " 2/105، والطبري في " تفسيره " (5947) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/238 و238 - 239.
(6) في " المستدرك " 2/294.
(7) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (711) .(3/1287)
الله، وقلبُه معلَّق بالمساجد، ولم يستسبَّ لوالديه قطّ)) (1) .
وقال ابن مسعود: قال موسى - عليه السلام -: ربِّ أيُّ الأعمال أحبُّ إليك أنْ أعملَ به؟ قالَ: تذكرني فلا تنساني (2) .
وقال أبو إسحاق عن ميثم: بلغني أنَّ موسى - عليه السلام -، قالَ: ربِّ أيُّ عبادكَ أحبُّ إليكَ؟ قال: أكثرُهم لي ذكراً (3) .
وقال كعب: من أكثر ذكر الله، برئ من النفاق (4) ، ورواه مؤمَّل، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً (5) .
وخرَّج الطبراني (6) بهذا الإسناد مرفوعاً: ((مَنْ لَمْ يُكثِرْ ذِكْرَ الله فقد برئ من الإيمان)) . ويشهد لهذا المعنى أنَّ الله تعالى وصف المنافقين بأنَّهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، فمن أكثر ذكرَ الله، فقد بايَنَهُم في أوصافهم، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله، وأنْ لا يُلهي المؤمنَ عن ذلك مالٌ ولا ولدٌ، وأنَّ من ألهاه ذلك عن ذكر الله، فهو من الخاسرين.
قال الربيعُ بنُ أنس، عن بعض أصحابه: علامةُ حبِّ الله كثرةُ ذكره، فإنَّك لنْ تحبَّ شيئاً إلا أكثرت ذكره (7) .
قال فتح الموصِلي: المحبُّ لله لا يَغفُلُ عن ذكر الله طرفةَ عين، قال ذو النون: من اشتغل قلبُه ولسانُه بالذِّكر، قذف الله في قلبه نورَ الاشتياق إليه (8) .
قال إبراهيم بن الجنيد: كان يُقال: من علامة المحبِّ للهِ دوامُ الذكر بالقلب واللسان،
_________
(1) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الأولياء " (95) .
(2) أخرجه: محمد بن فضيل الضبي في " الدعاء " (102) .
(3) أخرجه: محمد بن فضيل الضبي في " الدعاء " (103) .
(4) أخرجه: ابن أبي شيبة (29292) عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(5) أخرجه: الطبراني في " الأوسط " (6931) وفي " الصغير "، له (954) ، والبيهقي في
" شعب الإيمان " (576) ، وإسناده ضعيف جداً لا يصح، محمد بن سهل، عن مؤمل بن إسماعيل يروي الموضوعات، وانظر: لسان الميزان 7/189 (6891) .
(6) انظر التعليق السابق، وسلسلة الأحاديث الضعيفة (890) .
(7) أخرجه: المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (744) عن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه موقوفاً.
وأخرجه: ابن عدي في " الكامل " 4/128 عن أنس.
وأخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (409) عن أنس بن مالك معلقاً.
وفي (419) عن أحمد بن أبي الحواري، موقوفاً.
ورواه أيضاً في (501) عن مالك بن دينار، موقوفاً.
(8) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 9/378 - 379، والبيهقي في " شعب الإيمان "
(885) .(3/1288)
وقلَّما وَلعَ المرءُ بذكر الله - عز وجل - إلا أفاد منه حبَّ الله. وكان بعضُ السَّلف يقول في مناجاته: إذا سئم البطالون من بطالتهم، فلنْ يسأم محبوك من مناجاتك
وذكرك.
قال أبو جعفر المحَوَّلي: وليُّ الله المحبُّ لله لا يخلو قلبُه من ذكر ربِّه، ولا يسأمُ من خدمته (1) . وقد ذكرنا قولَ عائشة: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كلِّ
أحيانه (2) ، والمعنى: في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه، وسواء كان على طهارةٍ أو على حدث.
وقال مِسعر: كانت دوابُّ البحر في البحر تَسكُنُ، ويوسفُ - عليه السلام - في السجن لا يسكن عن ذكر الله - عز وجل -.
وكان لأبي هريرة خيطٌ فيه ألفا عُقدة، فلا يُنام حتّى يُسبِّحَ به (3) .
وكان خالد بنُ معدان يُسبِّحُ كلَّ يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من
القرآن، فلما مات وضع على سريره ليغسل، فجعل يُشير بأصبعه يُحركها
بالتسبيح (4) .
وقيل لعمير بن هانئ: ما نرى لسانَك يَفتُرُ، فكم تُسبِّحُ كلَّ يوم؟ قال: مئة ألف تسبيحة، إلا أنْ تُخطئ الأصابع، يعني أنَّه يَعُدُّ ذلك بأصابعه (5) .
وقال عبد العزيز بنُ أبي رَوَّاد: كانت عندنا امرأةٌ بمكة تُسبح كلّ يوم اثني عشرة ألف تسبيحة، فماتت، فلما بلغت القبر، اختُلِست من بين أيدي الرجال (6) .
كان الحسن البصري كثيراً ما يقول إذا لم يُحدث، ولم يكن له شغل: سبحان الله العظيم، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة، فقال: إنَّ صاحبكم لفقيه، ما قالها أحدٌ سبعَ مرَّاتٍ إلاّ بُني له بيتٌ في الجنَّة.
_________
(1) قال العارفون: ومن علامات صحة القلب أن لا يغتر عن ذكر ربه ولا يسأم من خدمته ولا يأنس بغيره. فيض القدير 1/2 - 7.
(2) سبق تخريجه وهو عند أحمد 6/70 و153، والترمذي (3384) .
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 1/383.
(4) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/210.
(5) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 5/157، والبيهقي في " شعب الإيمان " (719) .
(6) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (720) .(3/1289)
وكان عامةُ كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده.
وكان المغيرة بنُ حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون، نزل إلى البحر، وقام في الماء يذكر الله مع دوابِّ البحر (1) .
نام بعضُهم عند إبراهيم بن أدهم قال: فكنتُ كلَّما استيقظتُ من الليل، وجدتُه يذكر الله، فأغتمّ، ثم أُعزِّي نفسي بهذه الآية: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} (2) .
المحبُّ اسم محبوبه لا يغيبُ عن قلبه، فلو كُلّف أنْ ينسى تذكُّره لما قدر، ولو كلف أنْ يكفّ عن ذكره بلسانه لما صبر.
كَيْفَ يَنسى المُحبُّ ذِكرَ حَبيبٍ ... اسمُه في فُؤاده مَكتوبُ
كان بلالٌ كلَّما عذَّبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول: أحدٌ أحدٌ، فإذا قالوا له قل: اللات والعُزَّى، قال: لا أحسنه (3) .
يُراد مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم ... وتَأْبَى الطِّباعُ على النَّاقِلِ
كلَّما قويت المعرفةُ، صار الذكرُ يجري على لسان الذاكر من غير كُلفة، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: الله الله، ولهذا يُلهم أهلُ الجنة التَّسبيح، كما يُلهمون النفسَ، وتصيرُ ((لا إله إلا الله)) لهم، كالماء البارد لأهل الدنيا، كان الثوري ينشد:
لا لأَنِّي أَنساكَ أُكثرُ ذِكرا ... ك ولكنْ بِذاكَ يَجري لِساني
إذا سمِعَ المحبُّ ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه، وتضاعف قَلَقُه، قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعودٍ: ((اقرأ عليَّ القرآن)) ، قال: أقرأ عليكَ وعَلَيكَ أُنزل؟ قال:
((إنِّي أُحبُّ أنْ أسمعه من غيري)) (4) ،
فقرأ عليه، ففاضت عيناه.
_________
(1) لم أهتديه عن المغيرة بن حكيم، ووجدته عن الحكم بن أبان. أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 10/141.
وذكره: ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 2/177.
(2) المائدة: 54.
(3) أخرجه: ابن سعد في " الطبقات " 3/175.
(4) أخرجه: أحمد 1/374 و380 و432، والبخاري 6/57 (4582) ، ومسلم 2/196
(800) (248) ، والترمذي (3025) وفي " الشمائل "، له (323) بتحقيقي، والنسائي في " الكبرى " (8075) و (8078) و (8079) و (11105) وفي " التفسير "، له (125) .(3/1290)
سمع الشبلي قائلاً يقولُ: يا الله يا جَوادُ، فاضطرب (1) :
وداعٍ دعا إذ نَحْنُ بالخَيفِ مِن منى ... فهَيَّجَ أشجانَ الفُؤادِ وما يَدري
دَعا بِاسم لَيلَى غَيرَها فكأَنَّما ... أطارَ بِليلى طائراً كان في صدري (2)
النبض ينْزعج عند ذكر المحبوب:
إذا ذُكِر المحبوب عندَ حبيبه ... تَرنَّحَ نَشوانٌ وحَنَّ طرُوبُ
ذكر المحبين على خلاف ذكر (3) الغافلين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) .
وإنِّي لَتَعْروِني لِذكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَما انتفضَ العُصفورُ بَلَّلهُ القطْرُ
أحد السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: ((رجلٌ ذكرَ الله خالياً، ففاضت عيناه)) (5) .
قال أبو الجلد: أوحى الله - عز وجل - إلى موسى - عليه السلام -: إذا ذكرتني، فاذكرني، وأنت تنتفض أعضاؤُك، وكُن عندَ ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا ذكرتني، فاجعل لِسانك من وراء قلبك (6) .
وصف عليٌّ يوماً الصحابة، فقال: كانوا إذا ذكروا الله مادُوا كما يميد الشجرُ في اليوم الشديد الريح، وجرت دموعهم على ثيابهم (7) .
قال زهير البابي: إنَّ لله عباداً ذكروه، فخرجت نفوسُهم إعظاماً واشتياقاً، وقوم
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 10/373 بنحوه.
(2) الشعر لمجنون بن عامر. انظر: أخبار مكة للفاكهي 4/272، وتاريخ بغداد 12/335، وسير أعلام النبلاء 4/7.
(3) سقطت من (ص) .
(4) الأنفال: 2.
(5) أخرجه: البخاري 1/168 (660) ، ومسلم 3/93 (1031) (91) عن أبي هريرة.
(6) أخرجه: أحمد في " الزهد " (348) ، وابن أبي عاصم في " الزهد ": 67 و68 (طبعة دار الريان للتراث) .
(7) هذا باطل موضوع مكذوب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والخبر فيه عدة علل وعلته الرئيسة عمرو بن شمر الجعفي الكوفي الشيعي قال عنه الجوزجاني: ((زائغ كذاب)) ، وقال ابن حبان: ((رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات)) ، وقال البخاري: ((منكر الحديث)) ، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما
: ((متروك الحديث)) ، وقال السليماني: ((كان عمرو يضع على الروافض)) . =
= ... أخرجه: ابن أبي الدنيا في "التهجد" (ق 170/أ) ، والدينوري في " المجالسة " (1466) ، وابن عدي في " الكامل " 1/447، وأبو نعيم في " الحلية " 1/76، والخطيب في " الموضح " 2/330، وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 42/491-492، وابن الجوزي في " التبصرة " 1/500، ولم يصنع صواباً المصنف حينما ذكره.(3/1291)
ذكروه، فوجِلَتْ قلوبهم فرقاً وهيبة، فلو حُرِّقوا بالنَّار، لم يجدوا مَسَّ النار، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده، فارفضّوا عرقاً من خوفه، وقومٌ ذكروه، فحالت ألوانهم غبراً، وقومٌ ذكروه، فجَفَّتْ أعينُهم سهراً.
صلَّى أبو يزيد الظهر، فلما أراد أنْ يُكبِّر، لم يقدر إجلالاً لاسم الله، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعةُ عظامه (1) .
كان أبو حفص النَّيْسابوري إذا ذكر الله تغيَّرت عليه حالُه حتى يرى ذلك جميع من عنده، وكان يقولُ: ما أظن محقاً يذكر الله عن غير غفلة، ثم يبقى حياً إلا الأنبياء، فإنَّهم أيدوا بقوَّة النبوَّة وخواصِّ الأولياء بقوَّة ولايتهم (2) .
إذا سمِعَتْ باسمِ الحَبيبِ تَقعقعت ... مَفاصِلُها مِنْ هَولِ ما تَتذَكَّرُ
وقف أبو يزيد ليلةً إلى الصباحِ يجتهد أنْ يقول: لا إله إلا الله، فما قدر إجلالاً وهيبةً، فلما كان عند الصباح، نزل، فبال الدَّم (3) .
وما ذكرتُكُمُ إلاّ نَسيتُكُم ... نسيانَ إجلال لا نِسيانَ إهمالِ
إذا تَذكَّرتُ مَنْ أنتُم وكيف أنَا ... أَجْلَلتُ مِثلَكُم يَخطُرْ على بالي
الذكر لذَّة قلوب العارفين. قال - عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (4) . قال مالك بنُ دينار: ما تلذَّذ المتلذذون بمثل ذكر الله - عز وجل - (5) .
_________
(1) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي 4/74.
(2) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي 4/80 - 81.
(3) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي 4/75.
(4) الرعد: 28.
(5) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/294، والبيهقي في " شعب الإيمان " 1/456.(3/1292)
وفي بعض الكتب السالفة: يقول الله - عز وجل -: معشر الصدِّيقين بي فافرحوا، وبذكري فتنعَّموا (1) . وفي أثرٍ آخر سَبَق ذكره: ويُنيبون إلى الذِّكر كما تُنيب النسورُ إلى وُكورها.
وعن ابن عمر قال: أخبرني أهلُ الكتاب أنَّ هذه الأمة تُحبُّ الذِّكْرَ كما تُحبُّ الحمامةُ وكرَها، ولهُم أسرعُ إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظِمئِها (2) .
قلوبُ المحبين لا تطمئنُّ إلاّ بذكره، وأرواحُ المشتاقين لا تَسكُنُ إلاّ برؤيته، قال ذو النون: ما طابتِ الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرةُ إلا بعفوه، ولا طابت الجنَّة إلاّ برؤيته (3) .
أبداً نُفوس الطَّالبيـ ... ـن إلى طلُولكم تَحِنُّ
وكَذَا القُلُوبُ بِذكركُم ... بَعْدَ المَخافةِ تَطمئنُّ
جُنَّتْ بحُبِّكُمُ ومَنْ ... يَهوى الحَبيبَ ولا يُجَنُّ؟
بِحياتِكُم يا سادتي ... جُودُوا بِوصْلِكُم ومُنُّوا
قد سبق حديث: ((اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون)) ولبعضهم:
لقد أكثرتُ من ذِكرا ... كَ حتَّى قِيلَ وَسْوَاسُ
كان أبو مسلم الخولاني كثيرَ الذِّكر، فرآه بعضُ الناس، فأنكر حالَه، فقال لأصحابه: أمجنون صاحبُكم؟ فسمعه أبو مسلم، فقال: لا يا أخي، ولكن هذا دواءُ الجنون (4) .
وحُرمَة الودِّ مالي مِنكُم عِوَضٌ ... ولَيسَ لي في سِواكُم سَادتِي غَرَضُ
وقَدْ شَرَطْتُ على قومٍ صَحِبتُهُم ... بأنَّ قلبي لَكُمْ مِن دونِهم فرضُوا
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 8/217.
(2) ذكره الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " 1/154.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/372. وانظر: صفة الصفوة 4/225.
(4) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (696) .(3/1293)
ومِنْ حديثي بكُم قالوا: به مَرَضٌ ... فقُلْتُ: لا زالَ عنِّي ذلك المَرَضُ
المحبون يستوحشون من كلِّ شاغلٍ يَشغَلُ عن الذكر، فلا شيءَ أحبَّ إليهم من الخلوة بحبيبهم.
قال عيسى - عليه السلام -: يا معشر الحواريين كلِّموا الله كثيراً، وكلموا الناس قليلاً، قالوا: كيف نكلِّم الله كثيراً؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدُعائه (1) .
وكان بعضُ السَّلف يُصلِّي كلَّ يوم ألف ركعة حتى أُقعِدَ من رجليه، فكان يُصلي جالساً ألف ركعة، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة، ويقول: عجبتُ للخليقة كيف أَنِسَتْ بسواك، بل عَجِبْتُ للخليقة كيف استنارت قلوبُها بذكر سِواك (2) .
وكان بعضُهم يَصومُ الدَّهرَ، فإذا كان وقتُ الفطور، قال: أحسُّ نفسي تخرُج لاشتغالي عن الذكر بالأكل.
قيل لمحمد بن النضر: أما تستوحِشُ وحدَك؟ قال: كيف أستوحِشُ وهو يقول: أنا جليسُ من ذكرني (3) .
كَتمتُ اسم الحبيب من العبادِ ... ورَدَّدتُ الصَّبابةَ في فُؤادي
فَوَاشَوقاً إلى بَلدٍ خَلِيٍّ ... لعلِّي باسم مَنْ أَهوى أُنادي
فإذا قَوِي حالُ المحبِّ ومعرفته، لم يشغَلْهُ عن الذكر بالقلب واللسان
شاغل، فهو بَينَ الخلق بجسمه، وقلبه معلق بالمحلِّ الأعلى، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه - في وصفهم:
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/94 و195.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 6/195. وانظر: فيض القدير للمناوي 4/325.
(3) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي 3/79، وسير أعلام النبلاء 8/175، والمقاصد الحسنة للسخاوي: 96.(3/1294)
صَحِبوا الدُّنيا بأجسادٍ أرواحُها معلقة بالمحلِّ الأعلى (1) ، وفي هذا المعنى قيل:
جِسمي معي غير أنَّ الروحَ عندكم ... فالجِسمُ في غُربةٍ والرُّوحُ في وطن
وقال غيره:
ولقَد جَعلتُكَ في الفُؤاد مُحدِّثي ... وأَبحْتُ جِسمي من أراد جُلوسي
فالجِسمُ منِّي للجَليس مُؤَانسٌ ... وحَبيبُ قلبي في الفؤاد أنيسي (2)
وهذه كانت حالة الرسل والصدِّيقين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} (3) .
وفي " الترمذي " (4) مرفوعاً: ((يقول الله - عز وجل -: إنَّ عبدي كُلَّ عبدي الذي
يذكرني وهو مُلاقٍ قِرنَهُ (5)) ) .
وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (6) يعني: الصلاة في حال الخوف، ولهذا قال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (7) ،
_________
(1) انظر: تذكرة الحفاظ 1/12.
(2) نسبه ابن الجوزي لرابعة العدوية في " صفة الصفوة " 4/301.
(3) الأنفال: 45.
(4) في " الجامع الكبير " (3580) ، وإسناده ضعيف لضعف عفير بن معدان، وقال الترمذي: ((غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي)) .
(5) بكسر القاف وسكون الراء عدوه القارن المكافيء له في الشجاعة والحرب فلا يغفل عن ربه حتى في حال معاينة الهلاك. انظر: تحفة الأحوذي 10/40.
(6) النساء: 103.
(7) النساء: 103.(3/1295)
وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله، وكثرة ذكره.
ولهذا ورد فضلُ الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند "
و" الترمذى " و" سنن ابن ماجه " عن عمرَ مرفوعاً (2) : ((مَنْ دخلَ سوقاً يُصاحُ فيه ويُباع، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو حيّ لا يموتُ بيده الخير وهُو على كلِّ شيءٍ قدير، كتب الله له ألفَ ألفَ حسنة، ومحا عنه ألفَ ألفَ سيئة، ورفع له ألف ألفِ درجة)) .
_________
(1) الجمعة: 10.
(2) أحمد 1/47، وابن ماجه (2235) ، والترمذي (3429) ، وهو حديث ضعيف جداً ضعفه الأئمة وفي إسناده عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير منكر الحدحيث، وانظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (2006) و (2038) ، وعلل الدارقطني 2/48.(3/1296)
وفي حديث آخر: ((ذاكِرُ الله في الغافلين كمثلِ المقاتل عن الفارين،
وذاكرُ الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس)) (1) .
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما دام قلبُ الرجل يذكر الله، فهو في صلاة، وإنْ كان في السوق وإن حرّك به شفتيه فهو أفضل (2) .
وكان بعضُ السَّلف يقصِدُ السُّوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة.
والتقى رجلان منهم في السوق، فقال أحدهما لصاحبه: تعالَ حتّى نذكر الله في
_________
(1) أخرجه: ابن عدي في " الكامل " 6/67، وأبو نعيم في " الحلية " 6/181، وهو ضعيف جداً في سنده عمران القصير قال فيه البخاري: ((منكر الحديث)) .
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 4/204.(3/1297)
غفلة الناس، فخلَوا في موضع، فذكرا الله، ثم تفرَّقا، ثم ماتَ أحدهما، فلقيه الآخر في منامه، فقال له: أشعرت أنَّ الله غفر لنا عشية التقينا في السُّوق؟ (1)
فصل
في وظائف الذكر الموظفة في اليوم والليلة
معلومٌ أنَّ الله - عز وجل - فرض على المسلمين أنْ يذكروهُ كلَّ يوم وليلة خمس مرَّات، بإقامة الصلوات الخمس (2) في مواقيتها الموقتة، وشَرَعَ لهم مع هذه الفرائض الخمس أنْ يذكروه ذكراً يكونُ لهم نافلةً، والنافلةُ: الزِّيادة، فيكونُ ذلك زيادةً على الصلوات الخمس، وهو نوعان:
أحدهما: ما هو من جِنس الصلاة، فشرع لهم أنْ يُصلُّوا مع الصَّلوات الخمس قبلها، أو بعدها أو قبلها وبعدها سنناً، فتكون زيادةً على الفريضة، فإنْ كان في الفريضة نقصٌ، جَبَر نقصها بهذه النوافل، وإلاَّ كانت النَّوافلُ زيادةً على الفرائض.
وأطولُ ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بَينَ صلاة العشاء وصلاة الفجر، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فشرع كلِّ واحدة من هاتين الصَّلاتين صلاة تكون نافلةً؛ لئلاَّ يطولَ وقتُ الغفلة عن الذِّكر، فشرع ما بَين صلاةِ العشاء، وصلاة الفجر صلاةَ الوتر وقيامَ الليل، وشرع ما بين صلاة الفجرِ، وصلاة الظهر صلاة الضحى.
وبعضُ هذه الصلوات آكدُ من بعض، فآكدُها الوتر، ولذلك اختلفَ العلماءُ في وجوبه، ثمَّ قيامُ الليل، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُداومُ عليه حضراً وسفراً، ثمّ صلاة الضحى، وقد اختلف الناسُ فيها، وفي استحباب المدوامة عليها، وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة (3) ،
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة (35692) .
(2) سقطت من (ص) .
(3) حديث عائشة عند مسلم 2/157 (719) (78) و (79) ، وحديث أم هانيء عند البخاري 2/57 (1103) و73 (1176) و5/189 (4292) ، وعند مسلم 2/157
(336) (80) و (81) ، وعند الترمذي (474) .(3/1298)
وورد التَّرغيبُ أيضاً في الصَّلاة عقيبَ زوالِ الشَّمس.
وأما الذكرُ باللسان، فمشروعٌ في جميع الأوقات، ويتأكَّدُ في بعضها.
فممَّا يتأكَّد فيه الذكرُ عقيبَ الصَّلوات المفروضات، وأنْ يُذكر الله عقيبَ كلِّ صلاة منها مئة مرة ما بين تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبيرٍ وتهليلٍ.
ويُستحبُّ - أيضاً - الذِّكرُ بعدَ الصّلاتين اللتين لا تَطوُّعَ بعدهما، وهما: الفَجرُ والعصرُ، فيُشرع الذكرُ بعد صلاة الفجر إلى أنْ تطلُع الشَّمسُ، وبعدَ العصر حتى تغرَب الشمس، وهذان الوقتان - أعني: وقت الفجر ووقت العصر - هما أفضلُ أوقات النَّهار للذِّكر، ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (1) ، وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (2) ، وقوله: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (3) ، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} (4) ، وقوله: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (5) ، وقوله: {وَاسْتَغْفرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالإبْكَارِ} (6) ، وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (7) ، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (8) ، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (9) .
وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر: صلاةُ الفجر وصلاةُ العصر، وهما
_________
(1) الأحزاب: 42.
(2) الإنسان: 25.
(3) آل عمران: 41.
(4) مريم: 11.
(5) الروم: 17.
(6) غافر: 55.
(7) الأعراف: 205.
(8) طه: 130.
(9) ق: 39.(3/1299)
أفضلُ الصلوات. وقد قيل في كلٍّ منهما: إنَّها الصلاةُ الوسطى (1) ،
وهما البَردَانِ اللذان من حَافَظَ عليهما، دخلَ الجنة (2) ، ويليهما من أوقات
الذكر: الليلُ. ولهذا يُذكر بعد ذكر هذين الوقتين في القرآن تسبيحُ اللَّيلِ
وصلاته.
والذكرُ المطلقُ يدخل فيه الصَّلاةُ، وتلاوة القرآن، وتعلُّمه، وتعليمُه، والعلمُ النافع، كما يدخلُ فيه التَّسبيحُ والتَّكبير والتَّهليل، ومِن أصحابنا من رجَّح التلاوة على التَّسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر. وسُئلَ الأوزاعيُّ عن ذلك، فقال: كان هديهُم ذكرَ الله، فإنْ قرأ، فحسن. وظاهر هذا أنَّ الذكر في هذا الوقت أفضلُ من التلاوة، وكذا قال إسحاق في التَّسبيح عقيبَ المكتوبات مئة مرة: إنَّه أفضلُ من التلاوة حينئذٍ. والأذكارُ والأدعيةُ المأثورةُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصَّباح والمساء كثيرة جداً.
ويستحبُّ أيضاً إحياءُ ما بين العشاءين بالصلاة والذِّكر، وقد تقدَّم حديثُ أنس (3) أنَّه نزل في ذلك قولُه تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (4) .
ويستحبُّ تأخيرُ صلاة العشاء إلى ثُلث الليلِ، كما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة (5) - وهو مذهبُ الإمام أحمد وغيره - حتى يفعل هذه الصَّلاة في أفضل وقتها، وهو آخرُه، ويشتغل منتظرُ هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول مِنَ اللَّيل بالصَّلاة، أو بالذِّكر وانتظار الصَّلاة في المسجد، ثمَّ إذا صلّى العشاءَ، وصلَّى بعدَها ما يتبعُها من سننها الراتبة، أو أوتَرَ بعدَ ذلك إنْ كان يُريد أنْ يُوتِرَ قبلَ النوم.
فإذا أوى إلى فراشه بعدَ ذلك للنوم، فإنَّه يُستحبُّ له أنْ لا ينامَ إلا على طهارةٍ وذكرٍ، فيُسبِّح ويحمد ويكبِّر تمام مئة،
_________
(1) من قال: إنها صلاة العصر دليله حديث علي بن أبي طالب عند مسلم 2/111 (627)
(202) - (205) .
وحديث عبد الله بن مسعود عنده أيضاً 2/112 (628) (206) .
ومن قال: إنها صلاة الفجر دليله حديث ابن عباس الذي أخرجه الطبري في " تفسيره "
(4264) و (4265) و (4268) . وأخرج أيضاً حديث جابر (4270) .
(2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى البردين دخل الجنة)) .
أخرجه: البخاري 1/150 (574) ، ومسلم 2/114 (635) (215) عن أبي موسى الأشعري.
(3) انظر: الحديث التاسع والعشرين وهو عند الطبري في " تفسيره " (21505) .
(4) السجدة: 16.
(5) حديث ابن عباس عند البخاري 1/149 (571) ، ومسلم 2/117 (642) (225) .
وحديث ابن عمر عند البخاري 1/149 (569) ، ومسلم 2/116 (639) (220) .
وحديث عائشة عند مسلم 2/115 (638) (219) .(3/1300)
كما علَّم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاطمةَ وعلياً أنْ يفعلاه عندَ منامهما (1) ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ
النوم، وهي أنواع متعدِّدةٌ من تلاوة القرآن وذكر الله، ثم ينام على ذلك.
فإذا استيقظ من الليل، وتقلَّب على فِراشه، فليذكر الله كلَّما تقلَّب، وفي
" صحيح البخاري " (2) عن عُبادة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ تعارَّ مِنَ الليلِ (3) ، فقال: لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريك له، له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، ثم قال: ربِّ اغفر لي - أو قال: ((ثم دعا - استجيب له، فإن عزم، فتوضأ ثم صلى قُبِلت صلاته)) .
وفي " الترمذي " (4) عن أبي أُمامة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أوى إلى فراشه طاهراً يذكرُ الله حتى يُدرِكَه النُّعاس، لم يتقلَّبْ ساعةً من الليل يسألُ الله شيئاً من خيرِ الدُّنيا والآخرة، إلا أعطاه إيَّاه)) .
وخرَّجه أبو داود (5) بمعناه من حديث معاذ، وخرَّجه النَّسائي (6) من حديث عمرو بن عبسة.
وللإمام أحمد (7) من حديث عمرو
_________
(1) أخرجه: البخاري 4/102 (3113) ، ومسلم 8/84 (2727) (80) عن علي.
(2) 2/68 (1154) .
(3) تعارَّ من الليل: أي هبَّ من نومه واستيقظ، النهاية 1/190.
(4) "الجامع الكبير" (3526) ، وقال: ((حسن غريب)) على أن في إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف عند التفرد، وقد تفرد.
(5) في " سننه " (5042) .
(6) في " عمل اليوم والليلة " (807) و (808) و (809) .
(7) في " مسنده " 4/113 بدون هذه الزيادة.(3/1301)
بن عبسة في هذا الحديث: ((وكان أوَّل ما يقول إذا استيقظ: سبحانك لا إله إلاّ أنت اغفر لي، إلا انسلخَ من خطاياه كما تنسلخُ الحية من جلدها)) .
وثبت أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من منامه يقول: ((الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النُّشور)) (1) .
ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد، أتى بذلك كلِّه على ما ورد عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2) ،
ويَختِمُ تهجُّده بالاستغفار في السحر، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار، وإذا طلع الفجر، صلَّى ركعتي الفجر، ثمّ صلَّى الفجر، ويشتغل بعد صلاة الفجر بالذِّكر المأثور إلى أنْ تطلع الشَّمسُ على ما تقدَّم ذكره، فمن كان حالُه على ما ذكرنا، لم يزل لسانُه رطباً بذكر الله، فيستصحبُ الذكر في يقظته حتى ينامَ عليه، ثم يبدأُ به عندَ استيقاظه، وذلك من دلائل صدقِ المحبة، كما قال بعضهم:
وآخِرُ شيءٍ أنت في كلِّ هَجعةٍ ... وأوَّل شيءٍ أنتَ وقتَ هُبُوبي
وذكرك في قلبي بنومٍ ويقظةٍ ... تجافى من اللّين اللبيب جنوب (3)
وأول ما يفعله الإنسان في آناء الليل والنهار من مصالح دينه ودنياه، فعامَّةُ ذلك يشرع ذكرُ اسم الله عليه، فيُشرَعُ له ذكرُ اسم الله (4)
وحمده على أكلِه وشُربه (5) ولباسه وجماعه لأهله ودخوله منْزله، وخروجه منه، ودخوله الخلاء، وخروجه منه، وركوبه دابته، ويُسمِّي على ما يذبحه من نُسكٍ وغيره (6) .
ويُشرع له حمدُ الله تعالى على عُطاسه (7) ، وعند رؤية أهل البلاء في الدِّين أو الدُّنيا (8) ، وعندَ التقاء الإخوان، وسؤال بعضهم بعضاً عن حاله، وعندَ تجدُّد ما يحبه الإنسانُ من النِّعَمِ، واندفاع ما يكرهه من النِّقَمِ، وأكملُ مِنْ ذلك أنْ يحمد الله على السَّراء والضَّرَّاء والشدَّة والرَّخاء، ويحمدُه على كلِّ حال.
ويُشرع له دعاءُ الله تعالى عندَ دخولِ السوق، وعندَ سماعِ أصواتِ الدِّيَكةِ باللَّيل (9) ، وعندَ سماعِ الرَّعد، وعند نزولِ المطر (10) ، وعند اشتداد هبوب الرياح (11) ، وعند رؤية الأهلّة (12) ،
_________
(1) أخرجه: البخاري 8/85 (6312) و88 (6324) عن حذيفة بن اليمان.
وأخرجه: مسلم 8/78 (2711) (59) عن البراء بن عازب.
(2) من حديث ابن عباس عند البخاري 2/60 (1120) ، ومسلم 2/184 (769)
(199) .
(3) هذا البيت سقط من (ج) .
(4) دليله حديث عمر بن أبي سلمة عند البخاري 7/88 (5376) ، ومسلم 6/109 (2022) (108) .
وحديث أنس الذي ذكره البخاري 7/88 عقيب (5376) معلقاً.
(5) دليله حديث أنس عند مسلم 8/87 (2734) (89) .
(6) دليله حديث ابن مسعود عند البخاري 7/118 (5499) .
(7) دليله حديث أبي هريرة عند البخاري 8/61 (6224) ، وأبي داود (5033) .
وجاء كذلك عن علي، وابن مسعود، وأبي أيوب الأنصاري.
(8) دليله حديث ابن عمر عند ابن ماجه (3892) .
(9) دليله حديث أبي هريرة عند البخاري 6/155 (3303) ، ومسلم 8/85 (2729)
(82) .
(10) دليله حديث المطلب بن حنطب عند البيهقي 3/356 وفي " الدعوات الكبير "، له (483) .
(11) دليله حديث عمر بن الخطاب في " الأدب المفرد " (720) و (906) ، و" سنن أبي داود "
(5097) .
(12) دليله حديث قتادة عند أبي داود (5092) ، والبيهقي في " الدعوات الكبير " (466) .(3/1302)
وعند رؤية باكورة الثِّمار (1) .
ويشرع أيضاً ذكرُ الله ودعاؤه عند نزول الكَرْبِ (2) ، وحدوثِ المصائب الدنيوية، وعندَ الخروج للسَّفر (3) ، وعند نزول المنازل في السفر (4) ، وعند الرجوع من السفر (5) .
ويُشرع التعوُّذ بالله عند الغضب، وعندَ رؤية ما يكره في منامه، وعند سماع أصواتِ الكلاب والحمير بالليل (6) .
وتُشرع استخارة الله عند العزم على مالا يظهر الخيرة فيه (7) .
وتجب التَّوبة إلى الله والاستغفارُ من الذنوب كلِّها صغيرها وكبيرِها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (8) ، فمن حافظ على ذلك، لم يزل لسانه رطباً بذكر الله في كلِّ أحواله.
فصل
قد ذكرنا في أوَّل الكتاب أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بجوامع الكلم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يُعجِبُه جوامع الذكر، ويختاره على غيره من الذكر، كما في " صحيح مسلم " (9) عن ابن عباس، عن جُويرية بنت الحارث أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بُكرةً حين صلَّى الصبحَ وهي في مسجدها، ثمَّ رجع بعد أنْ أضحى وهي جالسةٌ، فقال: ((مازلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟)) قالت: نعم، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرات، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزَنتهُنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَةَ عرشه، ومداد كلماته)) .
وخرَّجه النَّسائي (10) ، ولفظه: ((سبحانَ الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله
_________
(1) دليله حديث أبي هريرة عند البخاري في " الأدب المفرد " (362) ، ومسلم 4/116
(1373) (473) و4/117 (1373) (474) .
(2) دليله حديث ابن عباس عند البخاري 8/93 (9345) و (9346) و9/153 (7426) ، ومسلم 8/85 (2730) (83) .
(3) دليله حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم 4/104 (1343) (426) .
(4) دليله حديث خولة بنت حكيم عند مسلم 8/76 (2708) (55) .
(5) دليله حديث ابن عباس عند ابن حبان (2716) ، والبيهقي في " الدعوات الكبير " (428) .
(6) دليله حديث جابر عند أبي داود (5103) .
(7) دليله حديث جابر عند البخاري 2/70 (1162) و8/101 (6382) و9/144
(7390) .
(8) آل عمران: 135.
(9) 8/83 (2726) (79) .
(10) في " المجتبى " 3/77 وفي " الكبرى "، له (1275) و (9992) و (9993) وفي " عمل اليوم والليلة "، له (164) و (165) .(3/1303)
أكبر عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومِداد كلماته)) .
وخرّج أبو داود، والترمذي، والنسائي (1) من حديث سعد بن أبي وقّاص أنَّه دخل مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ وبَين يديها نوى، أو قال: حَصى تسبِّح به، فقال: ((ألا أُخبِرُك بما هو أيسرُ من هذا وأفضل؟ سبحانَ الله عددَ ما خلق في السماء، وسبحانَ الله عدد ما خلَق في الأرض، وسُبحان الله عدد ما بينَ ذلك، وسبحانَ الله عددَ ما هو خالق، والله أكبر مثلُ ذلك، والحمد لله مثلُ ذلك، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله مثل ذلك)) .
وخرَّج الترمذي (2) من حديث صَفيَّة، قالت: دخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وبَينَ يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها فقُلتُ: لقد سبَّحت بهذه، فقال: ((ألا أعلمك بأكثر ممَّا سبَّحت به؟)) فقلت: علمني، فقالَ: ((قولي: سبحان الله عددَ خلقه)) .
وخرَّج النسائي، وابنُ حبان في " صحيحه " (3) من حديث أبي أُمامة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو يحرِّك شفتيه، فقال: ((ماذا تقولُ يا أبا أمامة؟)) قال: أذكر ربي، قال: ((ألا أخبرك بأكثرَ وأفضلَ من ذكرك اللَّيل مع النَّهار والنهار مع الليل؟ أنْ تقولَ: سبحان الله عدد ما خلقَ، وسبحان الله ملءَ ما خلق، وسُبحان الله عددَ ما في الأرض والسَّماء، وسُبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابُه، وسبحان الله ملءَ ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كلّ شيءٍ، وسبحان الله ملء كلِّ شيء، وتقولَ: الحمد لله مثل ذلك)) .
_________
(1) أبو داود (1500) ، والترمذي (3568) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " كما في
" تحفة الأشراف " (3954) ، وقال الترمذي: ((حسن غريب)) مع أن في سنده مجهولاً.
(2) في " جامعه " (3554) ، وهو ضعيف، وقال الترمذي: ((غريب لا نعرفه من حديث صفية إلاَّ من هذا الوجه من حديث هاشم بن سعيد الكوفي، وليس إسناده بمعروف)) .
(3) النسائي في " عمل اليوم والليلة " (166) ، وابن حبان (830) ، وفي إسناده يحيى بن أيوب الغافقي ضعيف.(3/1304)
وخرَّج البزار (1) نحوه من حديث أبي الدرداء.
وخرَّج ابن أبي الدنيا بإسناد له أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: ((يا معاذ، كم تذكرُ ربَّك كلَّ يوم؟ تذكره كلَّ يوم عشرة آلاف مرة؟)) قال: كلُّ ذلك أفعل، قال: ((أفلا أدلُّك على كلمات هُنَّ أهونُ عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف أن تقول: لا إله إلا الله عدد ما أحصاه، لا إله إلا الله عدد كلماتِه، لا إله إلا الله عدد خلقه، لا إله إلا الله زِنة عرشه، لا إله إلا الله مِلء سماواته، لا إله إلا الله ملء أرضه، لا
إله إلا الله مثل ذلك معه، والله أكبر مثل ذلك معه، والحمد لله مثل ذلك معه)) .
وبإسناده أنَّ ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقَّدة، فقال: ألا أدلُّك على ما هو خير لك منه؟ سبحان الله ملء البرِّ والبحر، سبحان الله ملء السماوات
والأرض، سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه، فإذا أنت قد ملأت البرّ والبحر والسماء والأرض.
وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول: امهِلوا، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبرُ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله عدد ما خلق وعدد ما هو خالق، وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق، وملء ما خلق، وملء ما هو خالق، وملء سماواته، وملءَ أرضه، ومثل ذلك وأضعاف ذلك، وعدد خلقه، وزنة عرشه، ومنتهى رحمته، ومداد كلماته، ومبلغ رضاه وحتى يرضى وإذا رضي، وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى، وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي، في كلِّ سنة وشهر وجمعة ويومٍ وليلة وساعة من الساعات، وتنسم وتنفس من أبدٍ إلى الأبد أبد الدُّنيا والآخرة أمد من ذلك لا ينقطع أولاه، ولا ينفد أخراه (2) .
_________
(1) كما في " كشف الأستار " (3080) .
(2) أخرجه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (1001) بسنده عن ابن أبي الدنيا، به.(3/1305)
وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته، فقلت: ما صنعتَ؟ قال: خيراً، فقلت: ترجو للخاطئ شيئاً؟ قال: يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني بعض البصريين أنَّ يونسَ بن عبيد رأى رجلاً فيما يرى النَّائم كان قد أصيب ببلادِ الرُّوم، فقال: ما أفضل ما رأيت ثمَّ من الأعمال؟ قالَ: رأيتُ تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان (1) .
وكذلك كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه من الدعاء جوامعه، ففي " سنن أبي داود " (2) عن عائشة، قالت: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك.
وخرّج الفريابي وغيره من حديث عائشة أيضاً أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((يا عائشة، عليك بجوامع الدُّعاء: اللهمَّ إنِّي أسألك من الخير كلِّه عاجلهِ وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّه عاجِلِه وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهمَّ إنِّي أسألك مِنْ خير ما سألك منه محمد عبدك ونبيك، وأعوذُ بك من شرِّ ما عاذ منه عبدك ونبيك، اللهمَّ إني أسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول وعمل، وأسألُك ما قضيتَ لي من قضاءٍ، أنْ تجعل عاقبته رشداً)) وخرَّجه الإمام أحمد (3) ، وابنُ
ماجه (4) ، وابن حبان في " صحيحه " (5) والحاكم (6) ، وليس عندهم
_________
(1) أخرجه: الخطيب في " جامعه " (1002) .
(2) رقم (1482) ، وهو صحيح.
(3) في " مسنده " 6/134 و146 و147، وهو صحيح.
(4) في " سننه " (3846) .
(5) (869) .
(6) في " المستدرك " 1/521 - 522.(3/1306)
ذكر جوامع الدعاء، وعند الحاكم ((عليك بالكوامل)) وذكره. وخرَّجه أبو بكر الأثرم وعنده أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((ما منعك أنْ تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه؟)) وذكر هذا الدعاء.
وخرّج الترمذي (1) من حديث أبي أمامة قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاءٍ كثير لم نحفظ منه شيئاً، فقلنا: يا رسول الله، دعوتَ بدعاءٍ كثيرٍ لم نحفظ منه شيئاً، فقال: ((ألا أدلُّكم على ما يجمعُ ذلك كلَّه؟ تقولون: اللهمَّ إنّا نسألكَ من خير ما سألك منه نبيُّك محمد، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذ منه نبيُّك محمد، وأنت المستعانُ، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) .
_________
(1) في " جامعه " (3521) .(3/1307)
وخرَّجه الطبراني (1) وغيره (2) من حديث أم سلمة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعاء له طويل: ((اللهم إنِّي أسألك فواتحَ الخير، وخواتِمه، وجوامعَه، وأوَّله وآخره، وظاهره، وباطنه)) .
وفي " المسند " (3) أنَّ سعد بن أبي وقاص سمع ابناً له يدعو، ويقول: اللهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة ونعيمها وإستَبرقَها ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسِلها وأغلالها، فقال: لقد سألتَ الله خيراً كثيراً، وتعوَّذت بالله من شرٍّ كثير، وإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّه سيكونُ قومٌ يعتدون في الدُّعاء، وقرأ هذه الآية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) وإنَّ بِحسبكَ أنْ تقول: اللهمَّ إنِّي أسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ، وأعوذُ بك من النَّار وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ)) .
وفي " الصحيحين " (5) عن ابن مسعود، قال: كنا نقول في الصَّلاة خلف رسول الله
_________
(1) في " الكبير " 23/ (717) ، وفي إسناده عاصم بن أبي عبيد ذكره ابن حبان في " الثقات " 5/238 وكأنه مجهول.
(2) أخرجه: الحاكم 1/520.
(3) مسند الإمام أحمد 1/172، وفي إسناده مقال لجهالة مولى سعد.
(4) الأعراف: 55.
(5) صحيح البخاري 1/211 (831) و212 (835) و8/63 - 64 (6230) ، وصحيح مسلم 2/14 (402) (55) .(3/1308)
- صلى الله عليه وسلم -: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: ((إنَّ الله هو السلامُ، فإذا قعدَ أحدُكم في الصَّلاة، فليقل: التحيَّات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النَّبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، فإذا قالها أصابت كلَّ عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، ثم يَتخيَّرُ من المسألة ما شاء)) .
وفي " المسند " (1) عن ابن مسعود قال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُلِّمَ فواتحَ الخير
وجوامعه، أو جوامعَ الخير وفواتحه وخواتمه، وإنّا كنَّا لا ندري ما نقولُ في صلاتنا حتّى علَّمنا، فقال: ((قولوا: التحيات لله)) فذكره إلى آخره، والله أعلم.
آخر الكتاب والحمد لله وحده، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
وحسبنا الله ونعم الوكيل
_________
(1) مسند الإمام أحمد 1/408 و437، وهو حديث صحيح.(3/1309)