المجلد الاول
المقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد العدل القديم، وصلى الله على صفوته محمد وآله المنتخبين 1. وعليه وعليهم السلام أجمعين.
هذا -أطال الله بقاء مولانا السيد المنصور "المؤيد"2 بهاء الدولة وضياء الملة وغياث الأمة, وأدام ملكه ونصره، وسلطانه ومجده وتأييده وسموه, وكبت شانئه وعدوه- كتاب لم أزل على فارط الحال وتقادم الوقت ملاحظاً له, عاكف الفكر عليه, منجذب الرأي والروية إليه وادًّا أن أجد مهملاً3 أصله به أو خللاً أرتقه4 بعمله والوقت يزداد بنواديه5 ضيقًا ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقًا. هذا مع إعظامي له وإعصامي6 بالأسباب المنتاطة به واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب وأذهبه في طريق القياس والنظر وأعوده عليه بالحيطة والصون وآخذه له من حصة التوقير7 والأون, وأجمعه8 للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة،
__________
1 في ب: "المنتجبين"، والمنتجب والمنتخب بمعنى واحد.
2 زيادة في ج.
3 في ج: "موصلا".
4 في ج: "أربقه بعلمه"، أي أقيده.
5 نوادي الكلام: ما يخرج منه وقتًا بعد وقت، ونوادي الإبل: شواردها" فالمعنى أن الوقت لا يتسع لشوارد هذا الكتاب ولا يسمح بجمعها وإبلاغها.
6 في المطبوعة، د: "اعتصامي". وما أثبته موافق للأصول الأخرى، وهو يجانس "إعظامي".
7 التوقير مصدر وقر الدابة سكنها، ويراد به الإراحة؛ فالمراد حصة الراحة والتخفيف من حركة العمل. والأون: الدعة والسكون؛ والتوقير هو كذا في ش، ج، هـ. وفي أ، ب "التوفير". ويعبر في هذا العصر عن هذا المعنى بأوقات الفراغ.
8 في ج بدل "وأجمعه للأدلة على": "وأجله على".(1/1)
فكانت مسافر وجوهه ومحاسر أذرعه وسوقه تصف لي ما اشتملت عليه مشاعره وتحي1 إلي بما خيطت عليه أقرابه2 وشواكله وتريني أن تعريد3 كل من الفريقين: البصريين والكوفيين عنه وتحاميهم طريق الإلمام به والخوض في أدنى أوشاله وخُلُجه فضلاً عن اقتحام غماره ولُجَجه إنما كان لامتناع جانبه، وانتشار شعاعه، وبادي تهاجر قوانينه وأوضاعه. وذلك أنا لم نر أحدًا من علماء البلدين4 تعرض لعمل أصول النحو، على مذهب أصول الكلام والفقه. فأما كتاب أصول أبي بكر5 فلم يلمم فيه بما نحن عليه، إلا حرفًا أو حرفين في أولهن وقد تعلق عليه به. وسنقول في معناه.
على أن أبا الحسن6 قد كان صنف في شيء من المقاييس كتيبا، إذا أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه7، وكفيناه كلفة التعب به، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا، المفيضة ماء البشر8 والبشاشة9 علينا، حتى
__________
1 مضارع وحى، وهو كأرحى. يقال: رحى إليه بكذا: أشار إليه به وأومأ. وهو كذلك "تحي" في أ، ب، ج، وفي ش، د، هـ: "تجيء".
2- الأقراب جمع قرب كقفل وهي من الفرس خاصرته، والشواكل واحدها شاكلة وهي من الفرس الجلد بين عرض الخاصرة والثفنة، وهي الركبة.
3 التعريد: الهرب والفرار.
4 البلدان: البصرة والكوفة.
5 هو ابن السراج محمد بن السري. كانت وفاته سنة 316هـ وهو المعني بأبي بكر حيث أطلق. وكتاب الأصول له يقول فيه صاحب كشف الظنون: "كتاب مرجوع إليه عند اضطراب النقل". وينقل عنه صاحب الخزانة كثيرًا.
6 هو الأخفش سعيد بن مسعدة مات سنة 210هـ. وهو الأخفش الأوسط، وحيث أطلق أبو الحسن في هذا الكتاب فهو الأخفش هذا. ويزعم ابن الطيب في شرح الاقتراح أن هذه الكنية خاصة بالأصفر علي بن سليمان؛ وهو وهم.
7 سقط في ألفظ "فيه".
8 تبعت في هذا نسخة ج، وفي المطبوع وأ, ب "البر".
9 في ج: "البشارة". والظاهر أن يقرأ بفتح الباء وهي الحال.(1/2)
دعا ذلك أقوامًا نُزرت من معرفة حقائق هذا العلم حظوظهم، وتأخرت عن إدراكه أقدامهم، إلى الطعن عليه، والقدح في احتياجاته وعلله. وسترى ذلك مشروحًا في الفصول بإذن الله تعالى.
"ثم إن بعض من يعتادني1، ويُلم لقراءة هذا العلم بي، ممن آنس بصحبته لي، وأرتضي حالى أخذه عني، سأل فأطال المسألة، وأكثر الحفاوة والملاينة، أن أمضي الرأي في إنشاء هذا الكتاب، وأوليه طرفًا من العناية والانصباب2. فجمعت بين ما أعتقده: من وجوب ذلك علي، إلى ما أوثره3 من إجابة هذا السائل4لي. فبدأت به، ووضعت يدي فيه، واستعنت الله على عمله، واستمددته سبحانه من إرشاده وتوفيقه", وهو -عز اسمه- مؤتِي ذاك بقدرته، وطَوله ومشيئته.
__________
1 اتبعنا في إثبات هذا النص المكنوف بالقوسين ما في ج. وليس في باقي النسخ إلا النص الآتي "وأنا بادئ به، ومستعين الله على عمله، ومستمده سبحانه إرشاده وتوفيقه".
2 أي الاجتهاد فيه، من قولهم: انصب البازي على الصيد.
3 الواجب في العربية أن يقال: وما إلخ. ولكنه راعى في الجمع معنى الضم.
4 كذا ولو كان "إليّ" لكان أرفق بالسجع، ولكن هذا يحتاج إلى تضمين السائل معنى الطالب.(1/3)
هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول:
"ولنقدم أمام القول على فرق1 بينهما طرفًا من ذكر أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلب حروفهما فإن هذا وضع يتجاوز قدر الاشتقاق ويعلوه إلى ما فوقه. وستراه فتجده طريقًا غريبًا ومسلكًا من هذه اللغة الشريفة عجيبًا "2.
فأقول: إن معنى " ق ول " أين وجدت وكيف وقعت3، من تقدم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه, إنما هو للخفوف والحركة 4, وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها لم يهمل شيء منها , وهي: " ق ول", "ق ل و ", " وق ل " , "ول ق " , " ل ق و ", "ل وق ".
الأصل الأول "ق ول " وهو القول. وذلك أن الفم واللسان يخفان له ويقلقان ويمذلان به5. وهو بضد السكوت الذي هو داعية إلى السكون ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذًا في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركًا ولما كان الانتهاء أخذًا في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكنًا.
الأصل الثاني "ق ل و " منه القلو: حمار الوحش وذلك لخفته وإسراعه قال العجاج:
__________
1 في ش: "الفرق" وهنا تقرأ بإضافة فرق إلى "بينهما" والبين هنا الوصل والاجتماع، وهو اسم متمكن وقرئ لقد "تقطع بينكم" بالرفع.
2 سقط ما بين القوسين في ج.
3 في ج: "تصرفت".
4 كذا في النسخ. والأنسب بالسياق: "الخفوف". وهو معرفة قولهم: خف القوم إذا ارتحلوا مسرعين.
5 من قولهم: مذل المريض من باب فرح إذا لم يتقاتر من الضجر، ويقال أيضًا: مذل: فتن.(1/5)
#تواضخ التقريب قلوا مغلجا1:#
ومنه قولهم: "قلوت البسر والسويق, فهما مقلوان ", وذلك لأن الشيء إذا قلي جفّ وخفّ, وكان أسرع إلى الحركة وألطف ومنه قولهم: "اقلوليت يا رجل " قال2:
قد عجبت مني ومن بعيليا ... لما رأتني خلقا مقلوليا
أي خفيفا للكبر3, "و" طائشا, "و"5 قال 6:
وسرب كعين الرمل عوج إلى الصبا ... رواعف بالجادي حور المدامع7
سمعن غناء بعد ما نمن نومة ... من الليل فاقلولين فوق المضاجع8
أي خففن لذكره وقلقن فزال عنهن نومهن واستثقالهن على الأرض. وبهذا يعلم أن لام اقلوليت واو لا ياء. فأما لام اذلوليت9 فمشكوك فيها.
__________
1 بعده:
#جأبا ترى تليله مسحجا#
وهذا في وصف أتان الوحش. وقوله تواضخ التقريب أي تجتهد مع فحلها في الجري، وأصل المواضخة المباراة في الاستقاء بالدلاء، والمفلج: الشديد المدمج أو هر الذي يطرد أنه، يعني الفحل. والجأب: الغليظ. والتليل: العنق، ومسحج أي معضوض من طراده الحمر، والسحج: القشر. وانظر الأرجوزة بتمامها في ديوان العجاج ص9.
2 نسب الرجز: "قد عجبت مني ومن بعيليا" إلى الفرزدق وقد أورد السيرافي في "باب ما يحتمل الشعر من الضرورة" بيت الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجرته ... ولكن عبد الله مولى مواليا
ثم قال: وقال آخر: "قد عجبت مني ومن بعيليا" ويقضي هذا أن قائل الرجز ليس للفرزدق.
3 في أ: "للكيرة" وانظر في هذا الرجز الأعلم في ذيل سيبويه ص59 ج2، وهو للفرزدق.
4 زيادة ب، د.
5 زيادة في ج.
6 البيتان من مقطوعة تنسب إلى يزيد بن معاوية في صدر ذيل ثمرات الأوراق، وورد البيتان في حماسة ابن الشجري ص187 غير منسوبين.
7 يصف نساء حسانًا، وقوله: كعين الرمل يريد كبقر الوحش، وعوج: ميل، والجادي -بالجيم وكتب خطأ في المطبوعة بالحاء: الزعفران، يريد أن الزعفران يظهر في أنوفهن, فكأنما هو أثر الرعاف، وهو خروج الدم من الأنف.
8 في الأساس في فلو: "غنائي" في مكان "غناء".
9 اذلولى: ذل وانقاد.(1/6)
ومن هذا الأصل أيضًا قوله:
#أقب كمقلاء الوليد خميص1#
فهو مفعال2 من قلوت بالقلة, ومذكرها القال؛ قال الراجز:
#وأنا في الضراب قيلان القلة#
فكأن القال مقلوب قلوت وياء القيلان مقلوبة عن واو وهي لام قلوت ومثال3 الكلمة فلعان. ونحوها عندي في القلب قولهم "باز " ومثاله فلع واللام منه واو لقولهم في تكسيره: ثلاثة أبواز ومثالها أفلاع. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه: من قلب هذه الكلمة قولهم فيها "البازي", وقالوا في تكسيرها "بُزاة" و"بوازٍ " أنشدنا أبو علي4 لذي الرمة:
كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك5
__________
1 قائله امرؤ القيس، وصدره:
#فأصدرها تعلو النجاد عشية#
وأقب أي ضامر البطن، وكذلك خميص. وهذا البيت في أبيات في وصف الحمار الوحشي يطارد أتنه، منها قوله:
أذلك أم جاب يطارد آتنا ... حملن فأدنى حملهن دروص
فالضمير "ها" في "فأصدرها" للأتن، وأقب خميص من وصف الحمار، انظر اللسان في "د ر ص".
2 المقلاء: القال، وهي لعبة للصبيان: يأخذون عودين، أحدهما نحو ذراع والآخر قصير فيضربون الأصغر بالأكبر، فالمقلاء. والقال: العود الكبير الذي يضرب به، والقلة: الصغير. وهذه اللعبة تعرف عند العوام بالعقلة. وانظر شفاء الغليل في حرف القاف.
3 يريد ميزانها الصرفي.
4 هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، الإمام في العربية؛ أخذ من الزجاج وابن السراج؛ وهو أستاذ ابن جني ومخرجه، وله الآثار الجليلة. توفي ببغداد سنة 377هـ. انظر البغية 216.
5 السدفة: الظلمة. واللوائك يريد المواضع من الأسنان، وهو في وصف إبل. والبيت في أسرار البلاغة ص72 وفيه: سحرة مكان سدفة، وهو أيضًا في الكامل 19/ 7 طبعة المرصفي. ويقول المرصفي: إن الصواب: "أنيابه" إذ هو في وصف بعير. وكذلك هو في الديوان طبعة أوروبا 418.(1/7)
وقال جرير:
إذا اجتمعوا عليّ فخل عنهم ... وعن باز يصك حباريات1
فهذا فاعل؛ لاطراد الإمالة في ألفه, وهي في فاعل أكثر منها في نحو مال وباب.
وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين2 قال: قال أبو سعيد3 الحسن بن الحسين "بازٌ " وثلاثة "أبواز " فإن كثرت فهي "البيزان" فهذا فلع وثلاثة أفلاع وهي الفلعان.
ويدل على أن تركيب هذه الكلمة من "ب ز و " أن الفعل منها عليه تصرف, وهو قولهم " بزا يبزو " إذا غلب وعلا ومنه البازي -وهو في الأصل اسم الفاعل ثم استعمل استعمال الأسماء كصاحب ووالد- وبُزاة وبواز يؤكد ذلك وعليه بقية الباب من أبزى وبزواء وقوله:
#فتبازت فتبازختُ لها4#
__________
1 حباريات واحده حبارى، وهو طائر يصيده البازي، كني بالبازي عن نفسه وبالحباريات عن بني نمير المذكورين في قوله قبل:
أنا البازي المطل على ثمير ... على رغم الأنوف الراغمات
وهذا من إحدى نقائض جرير مع الفرزدق. وانظر النقائض 775 طبعة أوروبا.
2 أي بعد الثلاثمائة. وكانت وفاة أبي علي سنة 377هـ.
3 هو السكري الإمام في النحو واللغة، الراوية المكثر الثقة. كانت وفاته سنة 275، وانظر البغية 219, وقد أورد المؤلف هذا الحديث في المحتسب في الكلام على سورة الفاتحة.
4 هذا صدر بيت لعبد الرحمن بن حسان وتمامه:
#جلسة الجازر يستنجي الوتر#
وقبله:
سائلا مية هل نبهتها ... آخر الليل بعرد ذي عجر
والعرد: الذكر المنتشر وقوله: تبازت أي رفعت مؤخرها، وتبازخ: مشى مشية العجوز أقامت صلبها فأخر كاهلها، وقوله يستنجي الوتر أي يقطعه، ويروى: جلسة الأعسر. وانظر اللسان في بخا وبزا.(1/8)
والبزا1 لأن ذلك كله شدة ومقاولة2 فاعرفه.
فمقلاء من قلوت وذلك أن القال -وهو المقلاء- هو العصا التي يضرب بها القلة وهي الصغيرة، وذلك لاستعمالها في الضرب بها.
"الثالث" "وق ل " منه الوقل3 للوعل, وذلك لحركته, وقالوا: توقل في الجبل: إذا صعد فيه, وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال. قال ابن مقبل:
عودا أحم القرا إزمولة وقلا ... يأتي تراث أبيه يتبع القُذَفا4
"الرابع" "ول ق " قالوا: ولق يلق: إذا أسرع.
قال:
#جاءت به عنس من الشام تلق5#
أي تخِف وتسرع. وقرئ6 "إذ تِلقونه بألسنتكم " أي تخفون7 وتسرعون. وعلى
__________
1 البزا: أن يستقدم الظهر ويتأخر العجز. والوصف أبزى وبزواء؛ وكان الأنسب قرنه بهما.
2 كذا في الأصول. ويبدو لي أن هذا تحريف مصاولة.
3 الوقل كضرب وسبب وكنف.
4 العود: المسن وفيه بقية، و"أحم القرا": أسود الظهر، و"إزمولة": خفيفًا، وقوله: "يأتي تراث أبيه" أي يفعل فعل أبيه في التصعيد في الجبال، و"القذف" واحده قذفة كغرفة وغرف وهي ما أشرف من الجبال. وانظر كتابة الأعلم على شواهد سيبويه ص316 ج2.
5 قائله القلاخ بن حزن المنقري يهجو جليدًا الكلابي، وقبله:
إن الجليد زالق وزملق ... كذنب العقرب شوال غلق
هذا ما في اللسان في زلق، وفي المخصص 9/ 7: "عيس" في مكان "عنس". وفي اللسان في أنق:
إن الزبير زلق وزملق ... جاءت به عنس من الشام تلق
لا أمن جليسه ولا أنق
6 نسب هذه القراءة أبو حيان في البحر، 438/ 6 إلى عائشة وابن عباس وعيسى بن عمر وزيد بن علي.
7 وكأن الأصل: تخفون فيه فحذف الجار والمجرور، وفي ج "تخفونه".(1/9)
هذا فقد يمكن أن يكون الأولق1 فوعلا من هذا اللفظ وأن يكون أيضا أفعل منه. فإذا كان أفعل فأمره ظاهر وإن سميت به لم تصرفه معرفة وإن كان فوعلا فأصله وولق فلما التقت الواوان في أول الكلمة أبدلت الأولى همزة لاستثقالها أولا كقولك في تحقير واصل: أويصل. ولو سميت بأولق على هذا لصرفته. والذي حملته الجماعة عليه أنه فوعل من تألق البرق إذا خفق وذلك لأن الخفوق مما يصحبه الانزعاج والاضطراب. على أن أبا إسحاق2 قد كان يجيز فيه أن يكون أفعل من ولق يلق. والوجه فيه ما عليه الكافة: من كونه فوعلا من " أل ق " وهو قولهم "ألق الرجل فهو مألوق " ألا ترى إلى إنشاد أبي زيد فيه:
تراقب عيناها القطيع كأنما ... يخالطها من مسه مس أولق3
وقد قالوا منه 4: ناقة مسعورة أي مجنونة وقيل5 في قول الله سبحانه {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} : إن السعر هو الجنون وشاهد هذا القول قول القطامي 6:
__________
1 هو الجنون.
2 يريد الزجاج، وكانت وفاته سنة 315هـ. وانظر في أولق الكتاب 344/ 2.
3 روى "يخامرها" بدل "يخالطها" والقطيع: السوط.
4 أي من معنى هذا البيت، وهو وصف الناقة بالأولق الذي هو الجنون.
5 قائله كما في اللسان في "سعر" الفارسي. ويرى غيره أن "سعرا" جمع سعير النار.
6 هو عمير بن شييم -بالتصغير فيها- الشاعر التغلبي الأموي، والقطامي -بضم القاف وفتحها- في الأصل الصقر.(1/10)
يتبعن سامية العينين تحسبها ... مسعورة أو ترى ما لا ترى الإبل1
"الخامس" "ل وق " جاء في الحديث2: "لا آكل من الطعام إلا ما لوّق لي " , أي ما خُدِم وأعملت اليد في تحريكه وتلبِيقه3، حتى يطمئن وتتضامّ جهاته. ومنه اللوقة للزُبْدة وذلك لخفتها وإسراع حركتها وأنها ليست لها مسكة الجبن وثقل المصل ونحوهما. وتوهم قوم أن الألوقة -لما كانت هي اللوقة في المعنى, وتقاربت حروفهما- من لفظها4 وذلك باطل؛ لأنه لو كانت من هذا اللفظ لوجب تصحيح عينها إذ كانت الزيادة في أولها من زيادة الفعل والمثال مثاله فكان يجب على هذا أن تكون ألوقة كما قالوا في5 أثوب وأسوق وأعين وأنيب بالصحة ليفرق بذلك بين الاسم والفعل وهذا واضح. وإنما الألوقة فعولة من تألق البرق إذا لمع وبرق واضطرب وذلك لبريق الزبدة واضطرابها.
"السادس" "ل ق و " منه اللقوة للعقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها قال6:
كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... دفوف من العقبان طأطأت شملال7
__________
1 "مسعورة" روي مجنونة، وسامية العينين: رافعتهما، أو ترى ما لا ترى الإبل فهي تفزع منه لنشاطها. يصف ناقة يتبعها الإبل في السير، وهو في لاميته:
#إنا محبوك فأسلم أيها الطلل#
2 يريد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقد خرج هذا الحديث أبو عيد. وانظر البلوى 77/ 2.
3 يقال: لبق الزبد إذا خلطه بالسمن ولينه.
4 هذا خير "أن الألوقة"، والضمير في "لفظها" بعود إلى "اللوقة".
5 يريد: في باب أثوب وما بعده. ولو حذفت "في" لكان أعذب في الأسلوب.
6 هو امرؤ القيس بصف فوسا. انظر اللسان في "دف".
7 يروي صيود، وفتخاء الجناحين لينتهما، ودفوف أي تدنو من الأرض في طيرانها، وشملال: خفيفة. وهذا في وصف فرس من قصيدته التي مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي(1/11)
ومنه اللقوة1 في الوجه. والتقاؤهما أن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش منه، وليست له مسكة الصحيح، ووفور المستقيم. ومنه قوله:
#وكانت لقوة لاقت قبيسا2#
واللقوة: الناقة السريعة اللقاح وذلك أنها أسرعت إلى ماء الفحل فقبلته ولم تنب عنه نبو العاقر.
فهذه الطرائق التي نحن فيها حزنة المذاهب, والتورد لها وعر المسلك, ولا يجب مع هذا أن تستنكر, ولا تستبعد فقد كان أبو علي رحمه الله يراها ويأخذ بها ألا تراه غلب كون لام أثفية3 -فيمن جعلها أفعولة- واوا على كونها ياء -وإن كانوا قد قالوا: "جاء يثفوه ويثفيه "4 - بقولهم: " جاء يثفه " , قال: فيثفه لا يكون إلا من الواو, ولم يحفل بالحرف الشاذ من هذا وهو قولهم "يئس " مثل يعس5؛ لقلته. فلما وجد فاء وثف واوا قوي عنده في أثفية كون لامها واوا فتأنس للام بموضع الفاء على بعد بينهما 6.
وشاهدته غير مرة إذا أشكل عليه الحرف: الفاء, أو العين، أو اللام، استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذ
__________
1 هي عرض يعرض الوجه فيميله إلى أحد جانبيه.
2 هذا مثل يضرب للرجلين يكونان متفقين على رأي ومذهب فلا يلبثان أن يصطحبا ويتصافيا. واللقوة -كما فسر الكتاب- السريعة اللقاح، والقبيس الفحل السريع الإلقاح أي لا إبطاء عندهما في الإنتاج. وانظر اللسان في "لقو".
3 هي الحجرة تنصب ويجعل عليها القدر، وهن ثلاث أثافي.
4 أي يتبعه ويأتي على أثره.
5 لما كانت الهمزة في بعض وجوه الرسم لا صورة فها ظاهرة جروا على أن يقابلوها بالعين كما هنا، ويئس هنا مضارع يئس بحذف فاء الكلمة وهي ياء، وهذا شاذ، وإنما ينقاس ذلك في الواوي. وانظر الكتاب 333/ 2.
6 في ج: "بعد ما بينهما".(1/12)
أغرب مأخذًا مما تقتضيه صناعة الاشتقاق؛ لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرْج1 واحد من تتالي الحروف, من غير تقليب لها ولا تحريف. وقد كان الناس: أبو بكر رحمه الله وغيره من تلك الطبقة, استسرفوا2 أبا إسحاق رحمه الله, فيما تجشمه من قوة حشده, وضمه شعاع ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله. فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه3 موضع صاحبه فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته. وقد قال أبو بكر: "من عرف أنس ومن جهل استوحش " وإذا قام الشاهد والدليل وضح المنهج والسبيل.
وبعد فقد ترى ما قدمنا في هذا أنفًا4 وفيه كاف من غيره؛ علي أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل, فالعذر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد من غير تقليب لشيء من حروفه فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه ولامه أسهل والمعذرة فيه أوضح.
وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته وتركت الضجر وتحاميته, لم تكد تعدم قرب بعض من بعض وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله.
__________
1 الشرح: الضرب، يقال، هما شرج واحد وعلى شرج واحد أي ضرب واحد. وفي المطبوعة والأصول: "شرح" ولا معنى له هنا.
2 أي عدوه مسرفا، وهو كذلك بالسين في أ. وفي المطبوعة: "استشرفوا" ولا معنى له. وانظر في استشراف النحويين للزجاج في طرده الاشتقاق ترجمته في معجم الأدباء 144/ 1 طبعة الحلبي.
3 أحناء الأمور: أطرافها ونواحيها، واحدها حنو كعلم، وأحناء الأصل اللغوي: تصاريفه، فإن كل تصريف طرف له وناحية منه وأظهر من هذا أن أحناء الأصل اللغوي حروفه.
4 أنفا كعنق أي لم يسبق به، من قولهم: روضة أنف: لم ترع، وقد ضبط في المطبوعة وبعض الأصول: "آنفا"، وهذا غير مناسب.(1/13)
وأما "ك ل م " فهذه أيضًا حالها, وذلك أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة, وهي: "ك ل م " "ك م ل " "ل ك م " "م ك ل " "م ل ك ", وأهملت1 منه2 "ل م ك ", فلم تأت في ثبت.
فمن ذلك الأصل الأول "ك ل م " منه الكلم للجرح. وذلك للشدة التي فيه وقالوا في قول الله سبحانه: {دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} قولين: أحدهما من الكَلام والآخر من الكِلام أي تجرحهم وتأكلهم وقالوا: الكُلام: ما غلظ من الأرض وذلك لشدته وقوته وقالوا: رجل كليم أي مجروح وجريح قال:
عليها الشيخ كالأسد الكليم3
ويجوز الكليم بالجر والرفع, فالرفع على قولك: عليها الشيخ الكليم كالأسد والجر على قولك: عليها الشيخ كالأسد "الكليم"4, إذا جرح فحمي أنفًا وغضب فلا يقوم له شيء, كما قال:
__________
1 كأنه لم يصح عنده ما رواه المفضل: أن التلمك تحرك اللحيين بالكلام أو الطعام، وقالوا: ما ذقت لماكا أي شيئًا. وانظر اللسان.
2 مقتضى السياق أن يقول: "منها" وهو يعود على "ك ل م" باعتبارها مادة وقد راعى في التذكير أنها أصل.
3 هذا عجز بيت للكلحية اليربوعي يصف فرسه العرادة. وصدره:
هي الفرس التي كرت عليهم
وقبله مطلع القصيدة وهو:
تسائلني بنو جشم بن بكر ... أغراء العرادة أم بهيم
ويتبين هذا أن القصيدة مرفوعة الروي، فتجويز الجر في الكليم من أبي الفتح لأنه لم يطلع على عمود القصيدة. وانظرها في المفضليات.
4 زيادة من ش ومن اللسان، خلت منها سائر الأصول.(1/14)
كأن محربا من أسد ترج ... ينازلهم لنابيه قبيب1
ومنه الكلام وذلك أنه سبب لكل شر "وشدة"2 في أكثر الأمر؛ ألا ترى إلى قول3 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كفي مئونة لقلقه وقبقبه وذبذبه دخل الجنة" , فاللقلق: اللسان, والقبقب: البطن, والذبذب: الفرج. ومنه قول4 أبي بكر -رضي الله عنه- في لسانه: "هذا أوردني الموارد".
وقال:
وجرح اللسان كجرح اليد5
وقال طرفة:
فإن القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر6
__________
1 قائله أبو ذؤيب الهذلي. والمحرب: المغضب, وترج: جبل بالحجاز كثير الأسد، وقيل قرية بين مكة واليمن مأسدة، وقبيب: تصويت وقعقعة، وهذا من قصيدة يرثي بها حبيبا الهذلي. وانظر ديوان الهذليين 98/ 1 طبعة الدار.
2 زيادة من ج.
3 رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بلفظ: "من وقي شر لقلقه ... " , وانظر الجامع الصغير في حرف الميم.
4 رواه مالك وبن أبي الدنيا والبيهقي. انظر الترغيب والترهيب في "باب الترغيب في الصمت إلا عن خير، والترهيب من كثرة الكلام".
5 قبله -وفيه مطلع القصيدة:
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلى ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود
ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد
لقلت من القول ما لا يزا ... له يؤثر عني يد المسند
وهذه القصيدة يختلف الرواة فيها فينسبها بعضهم إلى امرئ القيس بن حجر وهي في ديوانه، وينسبها آخرون إلى امرئ القيس بن عابس، وانظر معاهد التنصيص.
6 رواية ديوانه طبعة فازان ص5: "رأيت القوافي".(1/15)
وامتثله الأخطل وأبر عليه، فقال:
حتى اتقوني وهم مني على حذر ... والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر1
وجاء به الطائي2 الصغير, فقال:
عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المنكعر
وهو باب واسع.
فلما كان الكلام أكثره إلى الشر, اشتق له من هذا الموضع. فهذا أصل.
الثاني "ك م ل " من ذلك كمَل الشيء وكمُل وكمِل فهو كامل وكميل. وعليه بقية تصرفه. والتقاؤهما أن الشيء إذا تم وكمل كان حينئذ أقوى وأشد منه إذا كان ناقصًا غير كامل.
الثالث "ل ك م " منه اللكم إذا وجأت الرجل ونحوه, ولا شك في شدة ما هذه سبيله؛ أنشد الأصمعي:
__________
1 من قصيدته الطويلة التي يمدح فيها بني أمية، ومطلعها:
خف القطين فراجوا منك وابتكروا ... وأزعجتهم نوى في صرفها غِر
وقبل البيت من المن على بني أمية بهجو من لم يكن من حزبهم من الأنصار:
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معد وكانوا طالما هذروا
ورواية الديوان بدل "اتقوني": "استكانوا" وانظر الديوان 105 طبعة بيروت.
2 هو أبو عبادة البحتري. والطائي الكبير هو أبو تمام. والبيت من قصيدة في إبراهيم بن الحسن بن سهل، وكان قد اشترى غلام البحتري نسيمًا ثم رده إليه، وانظر الديوان 181.(1/16)
كان صوت جرعها تساجل ... هاتيك هاتا حتنى تكايل1
لدم العجى تلكمها الجنادل
وقال:
وخفان لكامان للقلع الكبد2
الرابع "م ك ل " منه بئر مكول, إذا قل ماؤها, قال القطامي:
كأنها قلب عادية مكل3
والتقاؤهما أن البئر موضوعة الأمر على جمتها بالماء, فإذا قل ماؤها4 كره موردها, وجفا جانبها. وتلك شدة ظاهرة.
__________
1 في لسان العرب: ضرعها تشاجل، "حتنى" أي مستوية، فعلى من الحتن, وهو المثل والنظير، ولدم العجى: ضربها، والعجى: أعصاب قوائم الإبل والخيل. وعلى رواية اللسان يصف صوت ضرع الإبل وقت الحلب، وقوله: تساجل أي تتبارى، وكذلك تكايل، وأصل المكايلة المباراة في السير. يقول: كأن صوت ضرعها حين تباري هذه تلك وهن متقاربات أو متماثلات صوت ضرب قوائم الإبل حين تلكمها الجنادل. وقد ورد وصف الضرع وقت الحلب في قوله:
كأن صوت شخبها المحتان ... تحت الصقيع جرش أفعوان
فأما على ما هنا فهو وصف لجرعها حين تشرب.
2 صدره:
ستأتيك منها إن عمرت عصابة
وقائل هذا لص يهزأ بمسروقه، والقلع: الحجارة الضخمة، والكبد جمع أكبد وكبداء من الكبد وهو عظم الوسط. وانظر اللسان في "لكم".
3 هذا عجز بيت من قصيدة له مطلعها:
إنا محبوك وسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
وصدره:
لراغب الطرف منقوبا محاجرها
وقبله في وصف الإبل:
خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما أغرورق المقل
فقوله: كأنها قلب يريد محاجر العين يصفها بغثور العين وسعة موضعها، والمحاجر جمع محجر، وهو ما دار بالعين، والقلب جمع قليب وهو البئر، والعادية: القديمة منسوبة إلى عاد، والمكل جمع مكول. وانظر جمهرة العرب للقرشي، وديوان القطامي المطبوع في ليدن.
4 جمة البئر: ما اجتمع من مائها وارتفع.(1/17)
الخامس "م ل ك " من ذلك ملكت العجين, إذا أنعمت عجنه فاشتد وقوي. ومنه ملك الإنسان ألا تراهم يقولون: قد اشتملت عليه يدي, وذلك قوة وقدرة من المالك على ملكه ومنه الملك, لما يعطى1 صاحبه من القوة والغلبة, وأملكت الجارية؛ لأن يد بعلها تقتدر عليها. فكذلك بقية الباب كله.
فهذه أحكام هذين الأصلين على تصرفهما وتقلب حروفهما.
فهذا أمر قدمناه أمام القول على الفرق بين الكلام والقول؛ ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة, الكريمة اللطيفة, ويعجب من وسيع مذاهبها, وبديع ما أمد به واضعها ومبتدئها. وهذا أوان القول على الفصل.
أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه, مفيد لمعناه. وهو الذي2 يسميه النحويين الجمل, نحو زيد أخوك, وقام محمد وضرب سعيد, وفي الدار أبوك, وصه, ومه, ورويد, وحاء وعاء في الأصوات, وحس, ولب3، وأف, وأوه, فكل لفظ استقل بنفسه, وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام.
وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان, تامًّا كان أو ناقصًا. فالتام هو المفيد, أعني الجملة وما كان في معناها, من نحو صهٍ وإيهٍ. والناقص ما كان بضد ذلك, نحو زيد, ومحمد, وإن, وكان أخوك, إذا كانت الزمانية لا الحدثية 4. فكل كلام قول, وليس كل قول كلامًا. هذا أصله. ثم يتسع فيه؛ فيوضع
__________
1 كذا في ب، ش. وفي أ: "يعطيه" وفي ج: "أعطى".
2 نسخة بحذف "وهو".
3 لب: في معنى لبيك في لغة بعض العرب، وهو في هذه الحالة يجري مجرى أمس وغاق. انظر اللسان.
4 يريد بالزمانية الناقصة، وبالحدثية التامة.(1/18)
القول على الاعتقادات والآراء؛ وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة, ويذهب إلى قول مالك ونحو ذلك, أي يعتقد ما كانا يريانه, ويقولان به, لا أنه يحكي لفظهما عينه, من غير تغيير لشيء من حروفه؛ ألا ترى أنك لو سألت رجلًا عن علة رفع زيد, من نحو قولنا: زيد قام أخوه فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره1 لقلت: هذا قول الكوفيين, أي هذا رأي هؤلاء, وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقول: كلام البصريين, ولا كلام الكوفيين, إلا أن تضع الكلام موضع القول, متجوزًا بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائدًا من بعده, أو ارتفع لأن عائدًا عاد عليه أو لعود ما عاد من ذكره, أو لأن ذكره أعيد عليه أو لأن ذكرًا له عاد من بعده, أو نحو ذلك, لقلت في جميعه: هذا قول الكوفيين, ولم تحفل باختلاف ألفاظه؛ لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبي الحسن في هذه المسئلة قول حسن, أو قول قبيح, وهو كذا, غير أني لا أضبط كلامه بعينه.
ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله, ولا يقال: القرآن قول الله؛ وذلك أن هذا موضع ضيق متحجر, لا يمكن تحريفه, ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتًا تامة مفيدة, وعدل به عن القول الذي قد يكون أصواتًا غير مفيدة, وآراء معتقدة. قال سيبويه 2: " واعلم أن "قلت " في كلام العرب إنما وقعت على أن
__________
1 يراد بالذكر الضمير العائد على المبتدأ، كأنه سبب في تذكره واستحضاره. وما ذكر من مذهب الكوفيين رأي لهم، ومنهم من يرى أن المبتدأ والخبر يترافعان في نحو: زيد منطلق. وانظرالإنصاف 21 وشرح الرضى على الكافية 88/ 1.
2 انظر الكتاب ص62 ج1.(1/19)
يحكى بها, وإنما يحكى بعد القول ما كان كلامًا لا قولًا". ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقر في النفوس, وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال في التمثيل: "نحو قلت زيد منطلق, ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق" فتمثيله بهذا يعلم منه أن الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائمًا برأسه مستقلًا معناه وأن القول عنده بخلاف ذلك إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدم الفصل بينهما ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلة بأنفسها الغانية عن غيرها وأن القول لا يستحق هذه الصفة من حيث كانت الكلمة الواحدة قولًا وإن لم تكن كلامًا ومن حيث كان الاعتقاد والرأي قولًا وإن لم يكن كلامًا. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلامًا فإن قلت شارطًا: إن قام زيد, فزدت عليه "إن " رجع بالزيادة إلى النقصان فصار قولًا لا كلامًا ألا تراه ناقصًا ومنتظرًا للتمام بجواب الشرط. وكذلك لو قلت في حكاية القسم: حلفت بالله أي كان قسمي هذا لكان كلامًا لكونه مستقلًا ولو أردت به صريح القسم لكان قولًا من حيث كان ناقصًا لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه.
فأما تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات والآراء قولًا؛ فلأن الاعتقاد يخفى, فلا يعرف إلا بالقول, أو بما يقوم مقام القول: من شاهد الحال فلما كانت لا تظهر إلا بالقول سميت قولًا إذ كانت سببًا له, وكان القول دليلًا عليها كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابسًا له. ومثله في الملابسة قول الله سبحانه: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ومعناه -والله أعلم- أسباب الموت؛(1/20)
إذ لو جاءه الموت نفسه لمات به لا محالة. ومنه تسمية المزادة1 الراوية1 والنجو2 نفسه الغائط, وهو كثير.
فإن قيل: فكيف عبروا عن الاعتقادات والآراء بالقول, ولم يعبروا عنها بالكلام, ولو سووا بينهما أو قلبوا الاستعمال، كان ماذا؟ 3.
فالجواب أنهم إنما فعلوا ذلك من حيث كان القول بالاعتقاد أشبه منه بالكلام وذلك أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره, وهو العبارة عنه كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره ألا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله؛ لأنه إنما وضع على أن يفاد معناه مقترنًا بما يسند إليه من الفاعل, وقام هذه نفسها قول, وهي ناقصة محتاجة إلى الفاعل كاحتياج الاعتقاد إلى العبارة عنه. فلما اشتبها من هنا عبر عن أحدهما بصاحبه. وليس كذلك الكلام؛ لأنه وضع على الاستقلال, والاستغناء عما سواه. والقول قد يكون من الفقر4 إلى غيره على ما قدمناه فكان إلى الاعتقاد المحتاج إلى البيان أقرب وبأن يعبر به عنه أليق. فاعرف ذلك.
__________
1 المزادة: وعاء الماء كالقربة، والراوية في الأصل: البعير يستقى عليه ويحمل المزادة، وتقال الراوية للمزادة نفمها لأن الراوية -وهو البعير- يحملها، فكانت بسبب منه.
2 النجو: البراز الخارج من الدبر. والغائط في الأصل: المنخفض من الأرض، وكانت العادة عندهم قضاء الحاجة في الغائط، إذ هو أستر لصاحبها، فسمى النجو بالغائط لهذه الملابسة.
3 ترى أنه أخرج "ماذا" عن الصدر؛ إذ أعمل فيها "كان" وهذا لا شيء فيه. وكلام العرب على ذلك. وقد ذكر ابن مالك هذا في توضيحه الموضوع على مشكلات الجامع الصحيح، وقد طبع في الهند، واستشهد على هذا الحكم بقول عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: أقول ماذا؟ أفعل ماذا؟ وانظر حاشية الشيخ يس على التصريح في مبحث الموصول.
4 في عبارة اللسان: "المفتقر".(1/21)
فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلًا بنفسه البتة والقول على ما قد يستقل بنفسه, وقد يحتاج إلى غيره ألاشتقاق قضى بذلك أم لغيره من سماع متلقى بالقبول والاتباع قيل: لا؛ بل لاشتقاق1 قضى بذلك2 دون مجرد السماع. وذلك أنا قد قدمنا في أول القول من هذا الفصل أن الكلام إنما هو من الكَلم والكَلام والكُلوم وهي الجراح؛ لما يدعو إليه, ولما يجنيه في أكثر الأمر على المتكلمة3, وأنشدنا في ذلك قوله:
وجرح اللسان كجرح اليد
ومنه قوله 4:
قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
ونحو ذلك من الأبيات التي جئنا بها هناك وغيرها مما يطول به الكتاب، وإنما ينقم من القول ويحقر5, ما ينثى6 ويؤثر, وذلك ما كان منه تامًّا غير ناقص ,ومفهومًا غير مستبهم وهذه صورة الجمل وهو ما كان من الألفاظ قائمًا برأسه غير محتاج إلى متمم له, فلهذا سموا ما كان من الألفاظ تامًا مفيدًا كلامًا؛ لأنه
__________
1 كذا في ج. وفي غيرها من الأصول: "الاشتقاق".
2 كذا في ب، ش، د، هـ. وفي أ: "به".
3 يريد الطائفة المتكلمة، وفي ش، د: "المتكلم" وقد يكون "المتكلمة" تحريفًا عن "المتكلمه": أي المتكلم الكلام.
4 هو الفرزدق. والقوارص جمع القارصة وهي الكلمة المؤذية؛ وقيل هذا البيت:
تصرم مني ود بكر بن وائل ... وما كان مني ودهم يتصرم
وانظر الكامل طبعة المرصفي 127/ 1. وانظر ديوانه طبعة أوروبا 60؛ وفيه "عني" بدل "مني" في الموضعين "فيحنقرونها" بدل "ويحتقرونها".
5 في الأصول والمطبوعة: "يحقد" وما أثبته هو الموافق لقوله في الشعر: "ويحتقرونها"، ولأن حقد لا يعرف متعديًا.
6 يقال: ثنا الحديث: أذاعه وحدث به.(1/22)
في غالب الأمر وأكثر الحال مضر بصاحبه وكالجارح له. فهو إذًا من الكلوم التي هي الجروح. وأما القول فليس في أصل اشتقاقه ما هذه سبيله؛ ألا ترى أنا قد عقدنا تصرف " ق ول" وما كان أيضًا من تقاليبها الستة, فأرينا أن جميعها إنما هو للإسراع والخفة, فلذلك سموا كل ما مذل به اللسان من الأصوات قولًا, ناقصًا كان ذلك أو تامًّا. وهذا واضح مع أدنى تأمل.
واعلم أنه قد يوقع1 كل واحد من الكلام والقول موقع صاحبه, وإن كان أصلهما قبل ما ذكرته؛ ألا ترى إلى رؤبة كيف قال:
لو أنني أوتيت علم الحكل2 ... علم سليمان كلام النمل
يريد قول3 الله عز وجل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} وعلى هذا اتسع فيهما جميعًا اتساعًا واحدًا فقال أبو النجم:
قالت له الطير تقدم راشدا ... إنك لا ترجع إلا حامدا
وقال الآخر:
وقالت له العينان سمعًا وطاعة ... وأبدت كمثل الدر لما يثقب4
__________
1 في ش: "يوضع ... موضع"، وفي ج: "واعلم أنه قد يتسع فيهما فيوضع كل واحد منها موضع الآخر".
2 الحكل ما لا يسمع صوته. وبين الشطرين شطر ثالث هو:
علمت منه مسنسر الدخل
وانظر ديوانه.
3 كأنه يريد أن حديث النمل أشبه بالاعتقاد, فكان الأجدر به القول الذي يستعمل في الرأي والاعتقاد لخفائه، فاستعمال الكلام فيه من إيقاع الكلام موقع القول.
4 في اللسان في "قول" بدل "وأبدت كمثل الدر": "وحدرتا كالدر", وهذا يناسب التثنية في العينين. وقد جاء الإفراد في "أبدت" في رواية الكتاب؛ لأن العينين لتلازمهما في حكم الفرد كما قال الراجز:
لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل
أو لأن الضمير في أبدت لمحبوبته.(1/23)
وقال الراجز:
امتلأ الحوض وقال قطني1
وقال الآخر:
بينما نحن مرتعون2 بفلج ... قالت الدلح الرواء إنيه
إنيه: صوت رزمة السحاب وحنين الرعد وأنشدوا:
قد قالت الأنساع للبطن الحق3
فهذا كله اتساع في القول.
ومما جاء منه في الكلام قول الآخر:
فصبحت والطير لم تكلم ... جابية طمت بسيل مفعم4
وكأن الأصل في هذا الاتساع إنما هو محمول على القول ألا ترى إلى قلة الكلام هنا وكثرة القول وسبب ذلك وعلته عندي ما قدمناه من سعة مذاهب القول, وضيق مذاهب الكلام. وإذا جاز أن نسمي الرأي والاعتقاد قولًا, وإن لم يكن صوتًا, كانت تسمية ما هو أصوات قولًا أجدر بالجواز. ألا ترى أن الطير لها هدير والحوض له غطيط, والأنساع لها أطيط, والسحاب له دوي. فأما
__________
1 بعده:
مهلا رويدا قد ملأت بطني
وانظر العيني 361/ 1 والكامل 246/ 4 وحمل العيني هنا على دلالة الحال.
2 مرتعون وصف من أرتع القوم إذا رعوا أي نازلون بهذا المكان. وفلج: واد بين البصرة وحي ضربة، والدلح وصف للسحب واحده دالحة أي مثقلة بالماء، وإنيه بكسر الهمزة كما نص عليه صاحب التاج في "أنه".
3 بعده:
قدما فآضت كالفنيق المحنق
وهو لأبي النجم، وانظر تفسير الطبري 1/ 405.
4 الجابهة: الحوض العظيم، وطمت: غمرت، يقال: جاء السيل فطم كل شيء أي علاه وغمره، وفي أ: "حفت". وكتب في هامشها "وطمت معا" وهو إشارة إلى الرواية الأخرى. ومفعم ورد هكذا بصيغة المفعول، وهو على الإسناد الهبازي، ولو جاء على وجهه لقيل: مفعِم بكسر العين.(1/24)
قوله:
وقالت له العينان سمعًا وطاعة
فإنه وإن لم يكن منهما صوت فإن الحال آذنت بأن لو كان لهما جارحة نطق لقالتا: سمعًا وطاعة. وقد حرر هذا الموضع وأوضحه عنترة بقوله:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
وامتثله شاعرنا1 آخرًا فقال:
فلو قدر السنان على لسان ... لقال لك السنان كما أقول
وقال أيضًا:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا
ولا تستنكر ذكر هذا الرجل -وإن كان مولدًا- في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه ولطف متسربه؛ فإن المعاني يتناهبها المولدون كما يتناهبها المتقدمون. وقد كان أبو العباس2 -وهو الكثير التعقب لجلة الناس- احتج بشيء من شعر حبيب3 بن أوس الطائي في كتابه في الاشتقاق, لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه, فأنشد فيه له 4:
لو رأينا التوكيد خطة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتثويب5
__________
1 يريد بقوله شاعرنا المتنبي وكان ابن جني يحضر عند المتنبي الكثير، يناظره في شيء من النحو، وكان المتنبي يعجب به وبذكائه وحذقه. ويقول: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، ويقول ابن جني في المحتسب وقد استشهد ببيت المتنبي: "ولا تقل ما يقوله من ضعفت نحيرته، وركت طريقته: هذا شاعر محدث، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يحتج به في كتاب الله جل وعز! فإن المعاني لا يرفعها تقدم، ولا يزري بها تأخر"، ولابن جني شرحان على ديوان المتنبي. انظر البغية ومعجم الأدباء.
2 يريد المبرد محمد بن يزيد الإمام في النحو واللغة والأخبار. كانت وفاته سنة 385هـ.
3 هو أبو تمام. وتوفي بالموصل سنة 231.
4 كذا في أوفي ب، ش. "قوله".
5 في أ: "إليك في التثويب" بعد شفعنا.(1/25)
وإياك والحنبلية بحتًا؛ فإنها خلق ذميم, ومطعم على علاته وخيم 1.
وقال سيبويه 2: "هذا باب علم ما الكلم من العربية " فاختار الكلم على الكلام وذلك أن الكلام اسم من كلم بمنزلة السلام من سلم, وهما بمعنى التكليم والتسليم, وهما المصدران الجاريان على كلم وسلم قال الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقال -عز اسمه: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فلما كان الكلام مصدرًا, يصلح لما يصلح له الجنس, ولا يختص بالعدد دون غيره3, عدل عنه إلى الكلم, الذي هو جمع كلمة, بمنزلة4 سلمة5 وسلم, ونبقة ونبق, وثفنة6 وثفن. وذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة, وهي الاسم, والفعل, والحرف, فجاء بما يخص الجمع, وهو الكلم, وترك ما لا يخص الجمع, وهو الكلام, فكان ذلك أليق بمعناه, وأوفق لمراده. فأما قول مزاحم العقيلي:
لظل رهينًا خاشع الطرف حطه ... تخلب جدوى والكلام الطرائف7
__________
1 أي على كل حال.
2 في أول الكتاب.
3 كذا في الأصول، والأسوغ "بعدد".
4 في ج. "مثل".
5 هي الحجرة.
6 الثفنة من البعير والناقة: الركبة.
7 "الطرائف" كذا في أ. وفي ش، ب. "الطوائف" والبيت من قصيدته التي يقول فيها:
نقالا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى مني أنا عارف
وقد أورد منها العيني في شواهده الكبرى بضعة أبيات، والبغدادي في شرح شواهد المغني بعضا، وصاحب فرحة الأديب بعضا، ولم أقف فيها على البيت الشاهد ولا سابقه. وأورد صاحب اللسان في "زغرف" منها بيتين أرجح أن الثاني منهما هو سابق هذا البيت وهو:
ولو بذلت أنسا الأعصم عاقل ... برأس الشرى قد طردته المخاوف
وقوله: بذلت هكذا أصلحته. وفي اللسان والتاج: أبدلت. والأعصم العاقل يريد الوعل، والعاقل من عقل إذا صعد. "ورهينا" ثابتا في مكانه لا يريمه من الطرب لما سمع، "جدوى": المرأة التي يتغزل بها، وقد ذكرها في بيت آخر من القصيدة إذ يقول:
تذكرني جدوى على النأي والعاي ... طوال الليالي والحام الهواتف
وتخليها: دلها وحسن حديثها وسلبها عقل من يقع في حبالة هواها.(1/26)
فوصفه بالجمع, فإنما ذلك وصف على المعنى, كما حكى أبو الحسن عنهم, من قولهم: "ذهب به الدينار1 الحمر والدرهم البيض " وكما قال:
تراها2 الضبع أعظمهن رأسا
فأعاد الضمير على معنى الجنسية لا على لفظ الواحد, لما كانت الضبع هنا جنسًا. وبنو تميم يقولون: كِلمة وكِلَم, ككِسرة وكِسَر.
فإن قلت: قدمت في أول كلامك أن الكلام واقع على الجمل دون الآحاد, وأعطيت ههنا أنه اسم الجنس؛ لأن المصدر كذلك حاله؛ والمصدر يتناول الجنس وآحاده تناولًا واحدًا. فقد أراك انصرفت عما عقدته على نفسك: من كون الكلام مختصًا بالجمل المركبة, وأنه لا يقع على الآحاد المجردة وأن ذلك إنما هو القول لأنه فيما زعمت يصلح للآحاد, والمفردات, وللجمل المركبات.
قيل: ما قدمناه صحيح وهذا الاعتراض ساقط عنه, وذلك أنا نقول: لا محالة أن الكلام مختص بالجمل, ونقول مع هذا: إنه جنس أي جنس للجمل, كما أن الإنسان من قول الله سبحانه: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} جنس للناس, فكذلك الكلام, جنس للجمل, فإذا قال: قام محمد فهو كلام, وإذا قال: قام محمد, وأخوك جعفر فهو أيضًا كلام؛ كما كان لما وقع على الجملة الواحدة كلامًا؛ وإذا قال:
__________
1 كذا في أ. وسقط "به" في ش، ب، د، هـ.
2 كذا في اللسان في كلم وجرهم، والمخصص 8/ 71 وفي أصول الخصائص "تراه". وعجز هذا البيت:
جراهمة لها حرة وثيل
وهو في وصف ضبع تحفر قبور الموتى، والجراهمة: العظيمة الرأس الجافية، والحرة: الحر، والثيل قضيب البعير وذكره وقد استعاره للضبع، وتزعم العرب أن الضبع خنثى لها ما للرجال والنساء. يقول: إن هذه الضبع تراها الضباع أعظمهن رأسًا أي أنها أعظم الضباع. والبيت لحبيب الأعلم الهذلي "2/ 87 من ديوان الهذليين طبع الدار". وورد في المخصص 8/ 71 من غير عزو. وقد عزاه صاحب اللسان في "جرهم" لساعدة بن جؤية، وهو اشتباه سببه أن لساعدة قصيدة على هذا الروي، وفيها أيضًا وصف الضبع.(1/27)
قام محمد وأخوك جعفر, وفي الدار سعيد, فهو أيضًا كلام؛ كما كان لما وقع على الجملتين كلامًا. وهذا طريق المصدر لما كان جنسًا لفعله؛ ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام, وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام, وإذا قام مائة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذًا إنما هو جنس للجمل التوام: مفردها, ومثناها, ومجموعها؛ كما أن القيام جنس للقومات: مفردها ومثناها ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام الجملة الواحدة من الكلام. وهذا جلي.
ومما يؤنسك بأن الكلام إنما هو للجمل التوام دون الآحاد أن العرب لما أرادت الواحد من ذلك خصته باسم له لا يقع إلا على الواحد, وهو قولهم: "كلِمة ", وهي حجازية, و "كِلمة " وهي تميمية. ويزيدك في بيان ذلك قول كثير:
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا1
ومعلوم أن الكلمة الواحدة لا تشجو2, ولا تحزن, ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام, وأمتع سامعيه, بعذوبة مستمعه, ورقة حواشيه؛ وقد قال سيبويه 3: "هذا باب أقل ما يكون عليه الكلم " فذكر هنالك حرف العطف, وفاءه, وهمزة الاستفهام, ولام الابتداء, وغير ذلك مما هو على حرف واحد, وسمى كل واحد4 من ذلك كلمة. فليت شعري: كيف يستعذب قول القائل, وإنما نطق
__________
1 من مقطوعة له مطلعها:
ولقد لقيت على الدريجة ليلة ... كانت عليك أيامنا وسعودا
وقبل البيت:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذو العذاب قعودا
وانظر شرح الديوان 1/ 65 والعيني في الشواهد 4/ 460.
2 في عبارة ابن سيده في اللسان في "كلم": "تشجيه"، وأشجاه وشجاه معناهما واحد.
3 انظر الكتاب ص304 ج2، وترجمة الباب فيه: "هذا باب عدة ما يكون عليه الكلام".
4 في عبارة ابن سيده في اللسان في "كلم": "واحدة".(1/28)
بحرف واحد! لا بل كيف يمكنه أن يجرد للنطق حرفًا واحدًا؛ ألا تراه أن لو كان ساكنًا لزمه أن يدخل عليه مكن أوله همزة الوصل, ليجد سبيلًا إلى النطق به, نحو "أِب أِص أِق " وكذلك إن كان متحركًا فأراد الابتداء به والوقوف عليه قال في النطق بالباء من بكر: بَه وفي الصاد من صلة: صِه وفي القاف من قدرة: قُه؛ فقد علمت بذلك أن لاسبيل إلى النطق بالحرف الواحد مجردًا من غيره ساكنًا كان, أو متحركًا. فالكلام إذًا من بيت كثير إنما يعني به المفيد من هذه الألفاظ, القائم برأسه المتجاوز لما لا يفيد ولا يقوم برأسه من جنسه، ألا ترى إلى قول الآخر 1:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت2 بأعناق المطي الأباطح
فقوله بأطراف الأحاديث يعلم منه أنه لا يكون إلا جملًا كثيرة, فضلًا عن الجملة الواحدة, فإن قلت: فقد قال الشنفرى:
كأن لها في الأرض نسيًا نقصه ... على أمها وإن تخاطبك تبلت3
__________
1 نسب البيتين غير واحد لكثير عزة، وهما في ديوانه المطبوع نقلا عن معاهد التنصيص، ونسبهما المرزباني للمضرب بن كعب بن زهير. وانظر نوادر القالي 166 والسمط على النوادر، واللسان في "طرف".
2 "سالت"، كذا في ش، ب، وفي أ: "مالت".
3 النسي: الشيء المنسي الذي لا يذكر، وتقعه: تتبع آثره لتجده، وعلى أمها "بفتح الهمزة" أي على سمتها وجهة قصدها، وقوله إن تخاطبك، يروى: إن تحدثك، وتبلت -بكسر اللام- أي تقطع الكلام من الحياء، وروي تبلت -بفتح اللام- أي تنقطع وتسكت، يريد شدة استحيائها فهي لا ترفع رأسها كأنها تطلب شيئًا في الأرض، والبيت من قصيدة مفضلية، وانظر شرح المفضليات لابن الأنباري 201، وانظر الكامل 10/ 7.(1/29)
أي تقطع كلامها, ولا تكثره, كما قال ذو الرمة:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر1
فقوله: رخيم الحواشي: أي مختصر2 الأطراف وهذا ضد الهذر والإكثار وذاهب في التخفيف والإختصار قيل: فقد قال أيضًا: ولا نزر, وأيضًا فلسنا ندفع أن الخفر يقل معه الكلام, ويحذف فيه أحناء المقال إلا أنه على حال لا يكون ما يجري منه وإن قل ونزر أقل من الجمل التي هي قواعد الحديث, الذي يشوق موقعه ويروق مستمعه. وقد أكثرت الشعراء في هذا الموضع, حتى صار الدال عليه كالدال على المشاهد غير المشكوك فيه؛ ألا ترى إلى قوله:
وحديثها كالغيث يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا!
فأصاخ يرجو أن يكون حيا ... ويقول من فرح هيا ربا 3
-يعني حنين السحاب وسجره4, وهذا لا يكون عن نبرة واحدة, ولا رزمة مختلسة, إنما يكون مع البدء فيه والرجع, وتثنى الحنين على صفحات السمع- وقول ابن الرومي 5:
__________
1 من قصيدته التي مطلعها:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
2 كذا فسر ابن جني "رخيم الحواشي" وكأنه ذهب بالترخيم إلى معناه في النحو، وهو حذف آخر الكلمة ففهم الكلمة ففهم منه معنى الاختصار. والمعروف في رخامة الصوت لينه. ويقول شارح الديوان: "رخيم الحواشي: أي لين نواحي الكلام" وانظر الديوان المطبوع في أوروبا 213.
3 البيت الثاني غير مذكور في أ: وهذا البيت أورده صاحب اللسان في هيا، وفيه: "من طرب" في مكان "من فرح". والبيتان في أمالي القالي 84/ 1 وعنده: تتايعت، قال في السمط 275: "وهي رواية جيدة؛ لأن التتايع أخص بالشر، ونسب البيتين البلوي في "ألف باء" 478/ 2 إلى الراعي, وهو يقول في التقدمة لهما: "ألم تسمع أيها الواعي، قول الراعي".
4 السجر في الأصل: صوت الناقة إذا مدت حنينها في إثر ولدها. وقد يستعمل في صوت الرعد، وهو المراد هنا.
5 نسب ابن الشجري في حماسته ص195 الأبيات إلى البحتري.(1/30)
وحديثها السحر الحلال لو انه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها ... للمطمين وعقلة المستوفز1
فذكر أنها تطيل تارة وتوجز أخرى, والإطالة والإيجاز جميعًا إنما هما في كل كلام مفيد مستقل2 بنفسه ولو بلغ بها الإيجاز غايته لم يكن له3 بد من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنه لا بد فيه من تركيب الجملة, فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب؛ ألا ترى إلى قوله 4:
قنا لها قفي لنا قالت قاف
وأن هذا القدر من النطق لا يعذب, ولا يجفو, ولا يرق, ولا ينبو, وأنه إنما يكون استحسان القول واستقباحه فيما يحتمل5 ذينك, ويؤديهما إلى السمع, وهو أقل ما يكون جملة مركبة. وكذلك قول الآخر -فيما حكاه سيبويه6: "ألا تا " فيقول مجيبه:
__________
1 سقط هذا البيت في أ.
2 "مقل" في أ.
3 في أبإسقاط "له".
4 هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وكان عاملا لعثمان رضي الله عنه على الكوفة، فاتهم بشرب الخمر فأمر الخليفة بشخوصه إلى المدينة، وخرج في ركب، فنزل الوليد يسوق بهم، فقال:
قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبينا قد نسبنا الإيجاف
والنشوات من معتق صاف ... وعزف قينات علينا عزاف
وانظر شواهد الشافية 271 والأغاني 131/ 5 وترى في الشطر الشاهد بعض المخالفة وقوله: قالت قاف, أي إني واقفة أو وقفت، فاستغنى بالحرف عن الجملة.
5 "يحمل" في أ.
6 انظر الكتاب ص62 ج2 والنص فيه: "وسمعت من العب من يقول: ألا تا، بلى فا, فإنما أرادوا: ألا تفعل، وبلى فافعل. ولكنه قطع، وفي الكامل 127/ 4 عن الأصمعي: "كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي؛ فيقول أحدهما لصاحبه: ألاتا، فيقول الآخر: بلى فا. يريد ألا تنهض، فيقول الآخر: بلى فانهض، وانظر نوادر أبي زيد 127 وشرح الشافية 366.(1/31)
"بلى فا ". فهذا ونحوه مما يقل لفظه, فلا يحمل حسنًا ولا قبحًا, ولا طيبًا ولا خبثًا. لكن قول الآخر "مالك بن أسماء "1:
أذكر من جارتي ومجلسها ... طرائفًا من حديثها الحسن
ومن حديث يزيدني مقة ... ما لحديث الموموق من ثمن
أدل شيء على أن هناك إطالة وتمامًا2, وإن كان بغير حشو ولا خطل؛ ألا ترى إلى قوله: " طرائفًا من حديثها الحسن " فذا لا يكون مع الحرف الواحد, ولا الكلمة الواحدة, بل لا يكون مع الجملة الواحدة, دون أن يتردد الكلام, وتتكرر فيه الجمل فيبين ما ضمنه من العذوبة وما في أعطافه من النعمة واللدونة؛ وقد قال بشار:
وحوراء المدامع من معد ... كأن حديثها ثمر الجنان3
ومعلوم أن4 من حرف واحد, بل كلمة واحدة, بل جملة واحدة لا يجنى ثمر جنة واحدة, فضلًا عن جنان كثيرة. وأيضًا فكما أن المرأة قد توصف بالحياء والخفر فكذلك أيضًا قد توصف بتغزلها ودماثة حديثها ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {عُرُبًا أَتْرَابًا، لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} وأن العروب في التفسير هي المتحببة إلى زوجها المظهرة له ذلك؛ بذلك فسره أبو عبيدة. وهذا لا يكون مع الصمت5, وحذف أطراف القول, بل إنما يكون مع الفكاهة والمداعبة وعليه بيت الشماخ:
__________
1 انظر ذيل الأمالي 90 واللسان في "طرف".
2 كذا في ش، وفي أ: "إتماما".
3 بعده:
إذا قامت لمشيشتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
وانظر المختار من شعر بشار 34.
4 يريد أنه، وهذا ضمير الشأن حذفه هنا.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "الضمير".(1/32)
ولو أني أشاء كننت جسمي ... إلى بيضاء بهكنة شموع1
قيل فيه: الشماعة هي المزح والمداعبة. وهذا باب طويل جدًا وإنما أفضى بنا إليه ذرو2 من القول أحببنا استيفاءه تأنسًا به وليكون هذا الكتاب ذاهبًا في جهات النظر إذ ليس غرضنا فيه الرفع والنصب والجر والجزم لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنفة فيه منه. وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني وتقرير حال الأوضاع والمبادي, وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي.
فقد ثبت بما3 شرحناه وأوضحناه أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برءوسها المستغنية عن غيرها وهي التي يسميها أهل هذه الصناعة الجمل على اختلاف تركيبها. وثبت أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفًا وأنه قد يقع على الجزء الواحد وعلى الجملة وعلى ما هو اعتقاد ورأي لا لفظ وجرس.
وقد علمت بذلك تعسف المتكلمين في هذا الموضع وضيق القول فيه عليهم حتى لم يكادوا يفصلون بينهما. والعجب ذهابهم عن نص سيبويه فيه، وفصله بين الكلام والقول.
ولكل قوم سنة وإمامها4
__________
1 البهكنة: المرأة الغضة الخفيفة الروح. والشموع: المزاحة اللعوب، وقوله: كنت، يوافق ما في ش، وما في المخصص ص2 ج4، وفي المطبوعة وأ: "كتبت". وفي ديوانه: "كنئت نفسي".
2 أي طرف.
3 كذا في أ، وفي ش: "لما".
4 هذا عجز بيت من معلقة لبيد صدره:
من معشر سنت لهم آباؤهم(1/33)
باب القول على اللغة وما هي1:
أما حدها "فإنها أصوات"2 يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. هذا حدها. وأما اختلافها فلما سنذكره في باب القول عليها: أمواضعة هي أم إلهام. وأما تصريفها ومعرفة حروفها فإنها فعلة من لغوت. أي تكلمت وأصلها لغوة3 ككرة وقلة وثبة كلها لاماتها واوات لقولهم. كروت بالكرة, وقلوت بالقلة؛ ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب. وقد دللت على ذلك وغيره من نحوه في كتابي في " سر الصناعة "4. وقالوا فيها: لغات ولغون ككرات وكرون5 وقيل منها لغى يلغى إذا هذى؛ "ومصدره اللغا"6 قال:
ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم7
وكذلك اللغو قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي بالباطل وفي الحديث: " من8 قال في الجمعة: صه فقد لغا " أي تكلم 9. وفي هذا كاف.
__________
1 سقط الواو في ج.
2 في أ: "فأصوات".
3 في المطبوعة وأ، ج: "لفة" ولا يناسب السياق. وما هنا يوافق ما في ش، ب.
4 ذكر هذا في حرف الواو.
5 كذا بالواو التي تكون في الرفع لتبدو المضاهاة لـ"يلغون" وفي المخصص ج1 ص7 "كرين" وهي ظاهرة.
6 زيادة من ج.
7 سقط صدر البيت في أ. هو لرؤبة، ونسبه ابن يرى للعجاج وهو الصواب، انظر اللسان في "لغو" وديوان العجاج. و"رب"، تبعت في هذا الضبط ش، واللسان في كظم ولغا، وفي المطبوعة، وب: "رب" بضم الراء وأسراب جمع سرب وهو في الأصل القطيع من الوحش والظباء، استعير للطائفة من الحجيج، وقد ضبطتها من غير تنوين مضافة تبعا لما في اللسان، وكظم أي سكوت.
8 لفظ الحديث في البخاري في أبواب الجمعة: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" , وانظر الجامع الصغير في حرف الألف.
9 كذا في الأصول وفي اللسان، ويفسر شراح الحديث هنا اللغو بالكلام بما لا ينبغي.(1/34)
باب القول على النحو:
هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها وإن لم يكن منهم وإن شذ1 بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع أي نحوت نحوًا كقولك: قصدت قصدًا ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي عرفته ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم وكما أن بيت الله خص به الكعبة وإن كانت البيوت كلها لله. وله نظائر في قصر ما كان شائعًا في جنسه على أحد أنواعه. وقد استعملته العرب ظرفًا وأصله المصدر. أنشد أبو الحسن:
ترمي الأماعيز مجمرات ... بأرجل روح مجنبات2
يحدو بها كل فتى هيهات ... وهن نحو البيت عامدات3
__________
1 في المطبوعة: "أو" وهو يخالف ما في الأصول.
2 الأماعيز واحدها أمعز، هو ما غلظ من الأرض، والوجه فيها الأماعز، ولكنه زاد الباء للشعر، و"مجمرات" يريد خفافا صلبة، يقال: خف مجمر، وقوله: "بأرجل" إبدال من قوله: "بمجمرات"، وقد جاء هكذا في ش، وأ، وفي اللسان في "نحو"، و"هبت": وأرجل". وروح جمع أروح وروحاء، يقال: رجل روحاء إذا كان في القدم انبساط واتساع، و"مجنبات" كذا في أ. وفي ش، ب: "محنبات". وتجنيب الرجل انحناء فيها وتوتير، وتحنيبها أيضًا بهذا المعنى. وهذا في وصف إبل. وانظر شواهد العيني في مبحث المعرب والمبني.
3 هيات أي يهيت بها، يصيح بها ويدعو: هيت هيت أي أقبلي، وقوله: "وهن نحو البيت عامدات", فنحو البيت هو الخبر أي قاصدات جهة البيت، و"عامدات" حال من الضمير المستكن في الظرف. وانظر اللسان في "وحى" ففيه بعد الشطر الثالث:
تنقاه بعد الوهن ذا وحاة(1/35)
باب القول على الإعراب:
هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول ولو كان الكلام شرجًا1 واحدًا لاستبهم أحدهما من صاحبه.
فإن قلت: فقد تقول ضرب يحيى بشرى فلا تجد هناك إعرابًا فاصلًا وكذلك نحوه قيل: إذا اتفق ما هذه سبيله مما يخفى في اللفظ حاله ألزم الكلام من تقديم الفاعل وتأخير المفعول ما يقوم مقام بيان الإعراب. فإن كانت هناك دلالة أخرى من قبل المعنى وقع التصرف فيه بالتقديم والتأخير نحو أكل يحيى كمثرى: لك أن تقدم وأن تؤخر كيف شئت وكذلك ضربت هذا هذه وكلم هذه هذا وكذلك إن وضح الغرض بالتثينة أو الجمع جاز لك التصرف نحو قولك أكرم اليحييان البشريين وضرب البشريين اليحيون2 وكذلك لو أومأت إلى رجل وفرس فقلت 3: كلم هذا هذا فلم يجبه لجعلت الفاعل والمفعول أيهما شئت لأن في الحال بيانًا لما تعني. وكذلك قولك ولدت هذه هذه من حيث كانت حال الأم من البنت معروفة غير منكورة. وكذلك إن ألحقت الكلام ضربًا من الإتباع جاز لك التصرف لما تعقب4 من البيان نحو ضرب يحيى نفسه بشرى أو كلم بشرى العاقل معلى أو كلم هذا وزيدًا يحيى. ومن أجاز قام وزيد عمرو لم يجز ذلك في نحو "كلم هذا وزيد يحيى " وهو يريد كلم هذا يحيى وزيد كما يجيز "ضرب زيدًا وعمرو جعفر ".
__________
1 أي نوعًا، وفي ج: "شرعًا"، يقال: هما في هذا الأمر شرع واحد أي سواء. وقد أثبت "شرجا" بالجيم وفقا لما في د، هـ. وفي بقية الأصول: "شرحا".
2 في الأصول: "البشرين". والصواب ما أثبته.
3 كذا في ج. وفي سائر الأصول: "قلت.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يعقب".(1/36)
فهذا طرف من القول1 أدى إليه ذكر الإعراب.
وأما لفظه فإنه مصدر أعربت عن الشيء إذا أوضحت عنه؛ وفلان معرب عما في نفسه أي مبين له, وموضح عنه؛ ومنه عربت الفرس تعريبًا إذا بزغته, وذلك أن تنسف أسفل حافره, ومعناه أنه قد بان بذلك ما كان خفيًا من أمره لظهوره إلى مرآة العين بعد ما كان مستورًا وبذلك تعرف حاله: أصلب هو أم رخو؟ و"أصحيح"2 هو أم سقيم وغير ذلك.
وأصل هذا كله قولهم "العرب " وذلك لما يعزى إليها3 من الفصاحة, والإعراب والبيان. ومنه قوله4 في الحديث " الثيب تُعرِب عن نفسها " والمعرب: صاحب الخيل العراب وعليه قول الشاعر:
يصهل في مثل جوف الطوى ... صهيلًا يبين للمعرب5
__________
1 في المطبوعة تبعا لما في ش وب: "من القرآن الذي أدى إليه ذكر الإعرب" وقد سقطنا "الذي" إذ لا وجه لها في هذا التركيب.
2 كذا في الأصول بتقديم العاطف على أداة الاستفهام والاستفهام له الصدر، والاستعمال الصحيح: "أو صحيح".
3 تبعت في هذا ما في ج، والضمير في "إليها" يرجع إلى العرب وفي المطبوعة، أ، ب: "إليه"، وكأن المراد: إلى الإعراب. وفي ابن يعيش على المفصل 72/ 1: "إليهم" وهي ظاهرة.
4 في المطبوعة، أ، ب. "قولهم"، ولا وجه له. وفي اللسان أنه يروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي ج: "ومنه الحديث: الثيب ... " والحديث في مسند أحمد وابن ماجه. انظر الجامع الصغير.
5 "في مثل جوف الطوى" -ويروى الركي؛ وكلاهما البئر- يصف سمة جوفه، كأن جوفه بئر، أو أنه يصف شدة صهيله لأن الصوت يبين في البئر، ويذكر أنه مجفر: عظيم الجنبين، "يبين" كذا في ش، أ، واللسان في "عرب" والمخصص ص177 ج6. وفي المطبوعة وب "تبين". وهذا من قصيدة للنابغة الجعدي ذكرت في كتاب الخبل لأبي عبيدة. وانظر سمط اللآلي 414/ 1 والكامل 168/ 6(1/37)
أي إذا سمع صاحب الخيل العراب صوته علم أنه عربي. ومنه عندي عروبة والعروبة للجمعة1 وذلك أن يوم الجمعة أظهر أمرًا من بقية أيام الأسبوع لما فيه من التأهب لها والتوجه إليها وقوة الإشعار بها؛ قال:
بوائم رهطًا للعروبة صيمًا2
ولما كانت معاني المسمين مختلفة كان الإعراب الدال عليها مختلفًا أيضًا وكأنه من قولهم: عربت معدته أي فسدت كأنها استحالت من حال إلى حال كاستحالة الإعراب من صورة إلى صورة. وفي هذا كاف بإذن الله.
__________
1 يريد أن عروبة -ممنوعة الصرف- والعروبة معناهما الجمعة. وعبارة اللسان: وعروبة والعروبة كلتاهما الجمعة. وقد تبعت في هذا الرسم أ، وفي المطبوعة وب: "الجمعة". والجمعة بيان لهما.
2 صدره كما في شرح المفصل 93/ 10
فبات عذوبا للسماء كأنما
وقوله: عذوبا أي لم يذق شيئًا، وقوله للسماء أي باد للسماء ليس بينه وبينها ستر. وقوله: يوائم أي يوافق ويفعل ما يفعلون، وصيما: قياما: يريد قوما يصلون الجمعة. وهذا في وصف بعير ظل قائما لا يضع رأسه للرعي. وانظر خلق الإبل للأصمعي في مجموعة الكنز اللغوي 132.(1/38)
باب القول على البناء:
وهو لزوم آخر الكلمة ضربًا واحدًا: من السكون أو الحركة لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضربًا واحدًا فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء من حيث كان البناء لازمًا موضعه لا يزول من مكان إلى غيره وليس كذلك سائر الآلات المنقولة المبتذلة1 كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك. وعلى أنه قد أوقع على هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ البناء تشبيهًا لذلك2 -من حيث
__________
1 أي التي دون الأبنية الثانية. وهذا الرسم يوافق ما في المطبوعة، ب، واللسان. وفي ش وأ: "المبتدلة"، وقد تكون إن صحت "المتبدلة". أي التي تبدل وتنقل.
2 تبعت في هذا نسخة أ، وفي المطبوعة وب: "بذلك"، ولا وجه له.(1/38)
كان مسكونًا, وحاجزًا ومظلًا -بالبناء من الآجر والطين والجص؛ ألا ترى إلى قول أبي مارد الشيباني:
لو وصل الغيث أبنين امرأ ... كانت له قبة سحق بجاد1
أي لو اتصل الغيث لأكلأت الأرض وأعشبت فركب الناس خيلهم للغارات فأبدلت الخيل الغني الذي كان له قبة من قبته سحق بجاد فبناه بيتًا له بعد ما كان يبني لنفسه قبة. فنسب ذلك البناء2 إلى الخيل لما كانت هي الحاملة للغزاة الذين أغاروا على الملوك فأبدلوهم من قبابهم ونظير معنى هذا البيت ما أخبرنا به أبو بكر محمد3 بن الحسن عن أحمد4 بن يحيى من قول الشاعر:
قد كنت تأمنني والجدب دونكم ... فكيف أنت إذا رقش الجراد نزا5
ومثله أيضًا ما رويناه عنه "عنه"6 أيضًا من قول الآخر:
قوم إذا اخضرت نعالهم ... يتناهقون تناهق الحمر7
__________
1 البجاد: الكساء المخطط، والسحق: البالي. والبيت في تنبيه البكري على أوهام القالي 19 وفي اللآلي له 123/ 1 والذي في اللآلي: "أبنينا" بإسناد هذا الفعل إلى الشاعر وقومه في الحيوان للجاحظ طبعه "الساسي" 5/ 137، وفي معاني ابن قتيبة 895.
2 كذا في الأصول. والمناسب: "الإبناء".
3 هو المعروف بابن مقسم، وهو أبو بكر العطار المقرئ النحوى، كان من أعرف الناس بالقراءات ونحو الكوفيين مات 355، وهو رواية لثعلب.
4 هو أبو العباس ثعلب من أئمة الكوفيين مات 291.
5 قوله: "نزا" كان ينبغي تأنيث الفعل فيقول: نزت، ولكنه نظر إلى المضاف إليه وهو الجراد، ونزو الجواد كناية عن الخصب وكثرة المزدرع.
6 زيادة من أ، يريد عن أبي بكر عن أحمد بن يحيى.
7 انظر المخصص ص179 ج1 وفيه بعد البيت: "واخضرار النعل من اخضرار الأرض" وفي هذا ميل إلى أن النعل: ما يلبس في الرجل، والكلام كناية عن الخصب.(1/39)
قالوا في تفسيره: إن النعال جمع نعل وهي الحرة أي إذا اخضرت الأرض بطروا وأشروا1 فنزا بعضهم على بعض.
وبنحو من هذا فسر أيضًا قول النبي2 صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال" أي إذا ابتلت الحرار. ومن هذا اللفظ والمعنى ما حكاه أبو زيد من قولهم: "المعزى تبهى ولا تبنى". ف "تبهى " تفعل من البهو أي تتقافز على البيوت من الصوف فتخرقها فتتسع الفواصل من الشعر فيتباعد ما بينها حتى يكون في سعة البهو 3. "ولا تبنى " أي لا ثلة لها وهي الصوف فهي لا يجز منها الصوف ثم ينسجونه ثم يبنون منه بيتًا. هكذا فسره أبو زيد. قال: ويقال أبنيت الرجل بيتًا إذا أعطيته ما يبني منه بيتًا.
ومن هذا قولهم: قد بنى فلان بأهله وذلك أن الرجل كان إذا أراد الدخول بأهله بنى بيتًا من أدم أو قبة أو نحو ذلك من غير الحجر والمدر ثم دخل بها فيه فقيل لكل داخل بأهله: هو بان بأهله وقد بنى بأهله. وابتنى بالمرأة هو افتعل من هذا اللفظ وأصل المعنى منه. فهذا كله على التشبيه لبيوت الأعراب ببيوت ذوي الأمصار.
ونحو من هذه الاستعارة في هذه الصناعة استعارتهم ذلك في الشرف والمجد قال لبيد:
فبنى لنا بيتًا رفيعًا سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها
__________
1 في أ: "فأشروا"، وما هنا أجود؛ فإن الأشر هو البطر.
2 لم أقف على لفظ هذا الحديث. وفي الصحاح معناه. فقد روى مالك والشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في الليلة الباردة أو ذات المطر في السفر أن يقول: ألا صلوا في رحالكم. انظر تيسير الوصول للزبيدي في باب الجماعة.
3 هكذا "يكون" كما في ش، وفي المطبوعة وأ: "تكون"، وما هنا أجود.(1/40)
وقال غيره 1:
بنى البناة لنا مجدًا ومأثرة ... لا كالبناء من الآجر والطين
وقال الآخر 2:
لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يومًا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
ومن الضرب3 الأول قول المولد:
وبيت قد بنينا فا ... رد كالكوكب الفرد
بنيناه على أعم ... دة من قضب الهند
وهذا واسع4 غير أن الأصل فيه ما قدمناه.
__________
1 البيت لان كدراء العجلي كما في الفاضل: 38، وانظر الحماسة بشرح التبريزي 4/ 119.
2 هو بعد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، انظر كامل المبرد بشرح المرصفي ص175 ج2. وفي معجم الشعراء للمرزباني 400 نسبتهما إلى معن بن أوس.
3 يبدو أن قول المولد من الضرب الثاني، وهو استعارة البناء لبيت الشرف والمجد، فهو يريد أنهم بنوا بيت شرفهم بحد السيوف ومصاولة الأعداء، وذلك ما عناه بقوله: بنيناه على أعمدة من قضب الهند، وقضب الهند هي السيوف.
4 في ش: أوسع.(1/41)
باب القول على أصل اللغة أإلهام1 هي أم اصطلاح:
هذا موضع محوج إلى فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظرعلى أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي "وتوقيف "2. إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يومًا: هي من عند الله واحتج بقوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر
__________
1 جعلتها هكذا "أإلهام" إذ المقام للاستفهام، ويؤنس لهذا ما في أ: "ا. لهام" وفي ش, ب، والمطبوعة "إلهام". ويمكن تخريج هذا على حذف همزة الاستفهام، وهذا يجيزه الأخفش في الاختيار إذا كان في الكلام ما يدل عليه كما هما، وفي المزهر 7/ 1 حيث ساق عبارة ابن جني: "باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح".
2 كذا في أ، وفي ش، ب "ولا توقيف".(1/41)
آدم على أن واضع عليها وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة. فإذا كان ذلك محتملًا غير مستنكر سقط الاستدلال به. وقد كان أبو علي رحمه الله أيضًا قال1 به في بعض كلامه. وهذا أيضًا رأي أبي الحسن على أنه2 لم يمنع قول من قال: إنها تواضع منه 3. على أنه قد فسر هذا بأن قيل: إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات: العربية والفارسية والسريانية والعبرية والرومية وغير ذلك من سائر اللغات فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها.
وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكلم المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها: مما ليس بأسماء فكيف خص الأسماء وحدها؟ قيل: اعتمد4 ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل5 الثلاثة ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف
__________
1 أي بالقول بالتواضع والاصطلاح.
2 أي أبا الحسن، هو الأخفش، وحاصل هذا أن أبا علي وأبا الحسن قالا بالرايين، وقد صرح بهذا في ج ففيها بعد ذكر القولين: "وكلا الأمرين أجازه أبو الحسن وأبو علي". والتوقيف رأي الأشعري، والاصطلاح رأي المعتزلة.
3 كأن الضمير يعود على آدم، وقد سبق ذكره في قوله "أقدر آدم على أن وضاع عليها".
4 ضبط بالبناء للفاعل، أي اعتمد ذلك الله تعالى، وقد اعتمدت في هذا الضبط على ما في المخصص ص4 ج1.
5 واحده قبيل، وهو الجماعة، كأن كل نوع من أنواع الكلمة جماعة وطائفة. وفي عبارة المخصص: "الأنواع".(1/42)
والفعل فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه عليها 1. وهذا كقول المخزومي 2:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
أي فإذا كان الله يعلمه فلا أبالي بغيره سبحانه أذكرته واستشهدته3 أم لم4 أذكره ولم أستشهده. ولا يريد بذلك أن هذا أمر خفي فلا يعلمه إلا الله وحده بل إنما يحيل فيه على أمر واضح وحال مشهورة5 حينئذ متعالمة. وكذلك قول الآخر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور6
__________
1 بنى ابن جني هذا الجواب على أن المعنى بالأسماء في الآية الكريمة مصطلح النحاة فيها. وهذا اصطلاح حادث. والاسم في اللغة ما كان علامة على مسمى، وهذا يشمل الأنواع الثلاثة، وبهذا يسقط السؤال. وانظر المزهر 11/ 1.
2 هو الحارث بن هشام، عيره صيدنا حسان بفراره يوم بدر من المسلمين، فقال هذا في قصيدة يعتذر بها عن فراره. ويعني بالأصقر المزبد الدم، وهو مزبد أي علاه الزبد، وفي رواية سيرة ابن هشام: "الله أعلم". انظر هذه السيرة في غزوة بدر.
3 هكذا في الأصول ما عدا المطبوعة وب، ففيهما: "استشهدت به".
4 كذا في ج "أم" وفي سائر الأصول "أو" وهذا لا يصح في العربية.
5 هكذا في أ. وفي المطبوعة وب: "مشهودة".
6 صور واحده أصور، وصف من الصور، وهو إمالة العنق. وبعده:
ونسب الزوزني عند قول عنترة في معلقته.
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
الشطر الأخير إلى ابن هرمة. وهذا اشتباه، فإن لابن هرمة بيتا ينشد في هذا المقام -وهو إشباع الحركة فيتولد الحرف- وهو:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
وانظر اللسان في "نزح" وقد تابع الزوزني ابن جماعة في حاشيته على شرح الجاربردي للشافية ص40. والبيتان في الخزانة في الشاهد الحادي عشر ولم يعزهما.(1/43)
وليس بمدع أن هذا باب مستور ولا حديث غير مشهور حتى إنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده وإنما العادة في أمثاله عموم معرفة الناس به لفشوه فيهم وكثرة جريانه على ألسنتهم.
فإن قيل: فقد جاء عنهم في كتمان الحب وطيه وستره والبجح1 بذلك والادعاء له ما لا خفاء به؛ فقد ترى إلى اعتدال الحالين فيما ذكرت.
قيل: هذا وإن جاء عنهم فإن إظهاره أنسب2 عندهم وأعذب على مستمعهم ألا ترى أن فيه إيذانًا من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر مثله ولو أمكنه إخفاؤه والتحامل3 به لكان مطيقًا له مقتدرًا عليه وليس في هذا من التغزل ما في الاعتراف بالبعل4 به وخور الطبيعة عن الاستقلال بمثله ألا ترى إلى قول عمر "بن أبي ربيعة"5:
فقلت لها ما بي من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي6
وكذلك قول الأعشى:
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل7
وكذلك قول الآخر:
ودعته بدموعي يوم فارقني ... ولم أطق جزعًا للبين مد يدي8
__________
1 البجح بالشيء: الفرح به.
2 أي أرق نسيبا واغزل.
3 مصدر تحامل في الأمر وبه: تكلفه على مشقة.
4 البعل -بالتحريك: الضجر.
5 زيادة من ج.
6 من قصيدة له مطلعها:
جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحصاب إلى قتل
وقبله:
فقال وأرخت جانب الستر بيننا ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
وانظر الديوان. والحصاب -بزنة كتاب- موضع رمي الجمار بمنى.
7 صدره:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهو مطلع معلقته
8 هذا البيت أول ثلاثة أبيات في المختار من شعر بشار 348 ويه "صالحته" بدل "ودعته".(1/44)
والأمر في هذا أظهر وشواهده أسير وأكثر.
ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيًا. وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد "منها"1 سمة ولفظًا إذا ذكر عرف به ما مسماه2، ليمتاز من غيره وليغنى بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله. بل قد يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني3 وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد كيف4 يكون ذلك لو جاز وغير هذا مما هو جار في الاستحالة والبعد مجراه فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم فأومئوا إليه وقالوا: إنسان إنسان إنسان فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد عين رأس قدم أو نحو ذلك. فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معنيها5 وهلم جرا فيما سوى هذا من الأسماء والأفعال والحروف. ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمه إنسان فليجعل مكانه مرد6 والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر6 وعلى هذا بقية الكلام. وكذلك لو بدئت اللغة الفارسية فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولد
__________
1 زيادة من ش.
2 العبارة في المزهر ص8 ج1: "عرف به مسماه".
3 في عبارة الخصائص التي ساقها ابن علان في شرح الاقتراح: "كالمعاني".
4 في المزهر: "وكيف".
5 في ش: "معناها".
6 مرد: هو الإنسان، وسر: الرأس في الفارسية. والمرد -في العربية- النضيج من ممر الأراك.(1/45)
منها لغات كثيرة: من الرومية والزنجية وغيرهما. وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجار والصائغ والحائك والبناء وكذلك الملاح. قالوا: ولكن لا بد لأولها من أن يكون متواضعًا1 بالمشاهدة والإيماء. قالوا: والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدًا من عباده على شيء إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء وإشارة بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه والقديم سبحانه لا جارحة له فيصح الإيماء والإشارة بها منه فبطل عنهم أن تصح المواضعة على اللغة منه تقست أسماؤه قالوا: ولكن يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها بأن يقول: الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا والذي "كنتم تسمونه"2 كذا ينبغي أن تسموه كذا3 وجواز هذا منه -سبحانه- كجوازه من عباده. ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناس الآن4 من مخالفة الأشكال في حروف المعجم كالصورة5 التي توضع للمعميات6 والتراجم6 وعلى ذلك أيضًا اختلفت أقلام ذوي
__________
1 كذا في الأصول. والواجب أن يقال: "متواضعًا عليه"، وفي المزهر 5/ 1: "متواضعها" وكأنه مصدر ميمي.
2 كذا في الأصول عداش ففيها "والذي سميتموه".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بكذا".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "في".
5 كذا في الأصول. وفي المزهر 9/ 1: "كالصور".
6 يريد بالمعميات ما عمى وألغز في الرسم والكتابة. وذلك ما يكتب بصورة مصطلح عليها غير الاصطلاح المألوف، ومن أمثلة ذلك أن يكتب الكاف بدل الميم، والطاء بدل الحاء، والراء بدل الدال، فيكتب محمد: كطكر. وهو ما يعرف في اصطلاح العصر بالشفرة. والتراجم جميع الترجمة وهو المعمى نفسه" ويقال له المترجم؛ فكأنه سمي بذلك لما أنه يحتاج إلى الترجمة والكشف عنه، وقد كان المتقدمون يعرفون هذا، وعقد له في صبح الأعشى بابا طويلا -ص231 ج9، وذكر أن لابن الدريهم كتابا فيه، وقد نقل عنه قدرا صالحا في هذا العلم. وانظر في فن المعمى بوجه عام الخزانة 113/ 3. وفي نقد النثر: 26 و"من الظن العيافة والقيافة والزجر والكهانة واستخراج المعمى والمترجم من الكتب، وفيه في ص28: "ألا ترى أنك تظن بالترجمة أنها حروف ما، فإذا أدرتها في سائر المواضع التي تثبت صورها فيها امتحنتها فوجدتها مصدقة لظنك حكمت بحصتها، وإذا خالفت علمت أن ظنك لم يقع موقعه، فأوقعته على غير تلك الحروف إلى أن تصح لك".(1/46)
اللغات؛ كما اختلفت أنفس الأصوات المرتبة على مذاهبهم في المواضعات. وهذا قول من الظهور على ما تراه. إلا أنني سألت يومًا بعض أهله1 فقلت: ما تنكر أن تصح المواضعة من الله تعالى وإن لم يكن ذا جارحة بأن يحدث في جسم من الأجسام خشبة أو غيرها إقبالًا على شخص من الأشخاص وتحريكًا لها نحوه ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتًا يضعه اسمًا له2 ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات مع أنه -عز اسمه- قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة وكما أن الإنسان أيضًا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المراد المتواضع عليه فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه فلم يجب عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلًا فأحكيه عنه وهو عندي3 وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة4 غير ناقلة لسانًا إلى لسان. فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب،
__________
1 هم المعتزلة. انظر المزهر ص12 ج1، وينسب هذا المذهب إلى أبي هاشم الجبائي عبد السلام بن محمد من رءوس المعتزلة. وكانت وفاته سنة 321. وانظر المزهر 10/ 1.
2 أي الشخص المراد وضع الاسم له. والشخص: سواد الإنسان وغيره، والذي يفهم التسمية بالضرورة غير الشخص المسمى.
3 العبارة في المزهر "وهذا عندي على ما تراه الآن لازم"
4 قيد بهذا لأن هذا موضع المنع عند القائلين به، فهم إنما ينكرون أن يواضع الباري لغة مرتجلة، فأما أن يواضع لغة ثابتة من قبل بأن ينقلها إلى لغة أخرى فيقول: ما تعبرون عنه بكذا عبروا بكذا فلا شيء فيه ما سبق له.(1/47)
وصهيل الفرس ونزيب1 الظبي ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل.
واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول2 على فكري. وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة3 السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه. ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل فقوى في نفسي اعتقاد كونها توفيقًا من الله سبحانه وأنها وحي.
ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا -وإن بعد مداه عنا- من كان ألطف منا أذهانًا وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا. فأقف4 بين تين الخلتين حسيرًا وأكاثرهما فأنكفيء مكثورًا. وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها5 عن صاحبتها قلنا به وبالله التوفيق.
__________
1 التزيب: صوت تيس الظباء عند السفاد.
2 تغول الأمور: اشتباهها وتناكرها.
3 الغلوة: الغاية في سياق الخيل، يريد أنه يدنو من غاية السحر.
4 يبدو من هذا أن مذهب ابن جني في هذا المبحث للوقف، فتراه لا يجزم بأحد الرأيين: الاصطلاح والتوقيف. وقد صرح بهذا ابن الطيب في شرح الاقتراح.
5 كذا في ش والمزهر 10/ 1. وفي أ: "يفكها". أي يفصلها عنها. وهذا يرجع، إلى المعنى الأول.(1/48)
باب ذكر علل العربية أكلامية هي أم فقهية؟ 1
اعلم أن علل2 النحويين -وأعني بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم3 المستضعفين- أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة4 لنا؛ ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسًا دون غيرها من العدد ولا يعلم أيضًا حال الحكمة والمصلحة في عدد الركعات ولا في اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا تحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله وليس كذلك علل النحويين. وسأذكر طرفًا من ذلك لتصح الحال به.
__________
1 لما كان هم أبي الفتح في هذا الكتاب إبداء حكمة العرب وسداد مقاصدهم فيما أتوا في لغتهم، كان ذلك بإبداء العلل لسننهم وخططهم في تأليف لسانهم أخذ نفسه في تقوية العلل التي تنسب إلى أفعالهم وتحمل عليهم؛ وهو ما يقوم به النحويون. وكان من دواعي ذلك أن اشتهر بين الناس ضعف علل النحاة؛ فهذا ابن فارس يقول:
مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركت تنمي لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي
انظر وفيات ابن خلكان ص36 ج1 في ترجمة ابن فارس.
2 كذا في ش، ب. وفي أ "علل جلل النحو بين". وفي المطبوعة "علل جل النحو بين".
3 الألفاف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدًا، والواحد لف أو لفيف، وشأن هؤلاء الأخلاط الضعف وعدم استحكام القوة.
4 كذا في الأصول ما عدا ج ففيها "الصفح". والصفح والصفحة: الجانب.
5 أي لا تظفر، يقال: حليت من فلان بخير: أصبته وأدركته، من ذلك قولهم: ما حليت من هذا الأمر بطائل، وهو من باب علم.(1/49)
قال أبو إسحاق1 في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال فكانت فرقًا أيضًا؟ قيل: الذي فعلوه أحزم وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة فرفع الفاعل لقلته ونصب المفعول لكثرته وذلك ليقل في كلامهم ما يسثقلون ويكثر في كلامهم ما يستخفون 2. فجرى ذلك في وجوبه ووضوح أمره مجرى شكر المنعم وذم المسيء في انطواء الأنفس عليه وزوال اختلافها فيه ومجرى وجوب طاعة القديم سبحانه لما يعقبه3 من إنعامه وغفرانه. ومن ذلك قولهم: إن ياء نحو ميزان وميعاد انقلبت عن واو ساكنة لثقل الواو الساكنة بعد الكسرة. وهذا أمر لا لبس في معرفته ولا شك في قوة الكلفة في النطق به. وكذلك قلب الياء في موسر وموقن واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها. ولا توقف في ثقل الياء الساكنة بعد الضمة لأن حالها في ذلك حال الواو الساكنة بعد الكسرة وهذا -كما تراه- أمر يدعو الحس إليه ويحدو4 طلب الاستخفاف عليه. وإذا كانت الحال المأخوذ بها المصير بالقياس إليها حسية طبيعية5، فناهيك بها ولا معدل بك عنها. ومن ذلك قولهم في سيد وميت وطويت طيًّا وشويت شيًّا: إن الواو قلبت ياء لوقوع الياء الساكنة قبلها في سيد وميت ووقوع الواو الساكنة قبل الياء في شيا وطيا. فهذا
__________
1 هو الزجاج.
2 يبدو لي أن هذا آخر كلام الزجاج.
3 كذا في الأصول. والظاهر أن هذا حديث عن طاعة القديم، فكان الواجب أن يقال: لما تعقبه إذا جعل من أعقب، أو لما يعقبها إذا جعل من عقب، وكأنه ذهب بالطاعة مذهب الامتثال فذكر ضميرها.
4 كما في أ، ج. وفي المطبوعة وب: "يحلو" ولا معنى لها.
5 كذا في الأصول. والقياس طبيعة، وقد جاء الشذوذ في السليقية، ولم يعرف في الطبيعية.(1/50)
أمر هذه سبيله أيضًا ألا ترى إلى ثقل اللفظ بسيود وميوت وطويا وشويا وأن سيدا وميتا وطيا وشيا أخف على ألسنتهم من اجتماع الياء والواو مع سكون الأول منهما. فإن قلت: فقد جاء عنهم نحو حيوة1 وضيون وعوى الكلب عوية فسنقول في هذا ونظائره في باب بلى هذا، باسم الله. وأشباه هذا كثيرة جدًا.
فإن قلت: فقد نجد أيضًا في علل الفقه ما يضح2 أمره وتعرف علته نحو رجم الزاني إذا كان محصنًا وحده إذا كان غير محصن وذلك لتحصين الفروج وارتفاع الشك في الأولاد والنسل. وزيد في حد المحصن على غيره لتعاظم جرمه وجريرته على نفسه. وكذلك إفادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه لما في ذلك من تكليف المشقة ليستحق عليها المثوبة وليكون أيضًا دربة للناس على الطاعة وليشتهر3 به أيضًا حال الإسلام ويدل به على ثباتها واستمرار العمل بها فيكون أرسخ له وأدعى إلى ضم نشر4 الدين وفثء5 كيد المشركين. وكذلك نظائر هذا كثيرة جدًا. فقد ترى إلى معرفة أسبابه كمعرفة أسباب ما اشتملت عليه علل الإعراب فلم جعلت علل الفقه أخفض رتبة من علل النحو قيل له: ما كانت هذه حاله من علل الفقه فأمر لم يستفد من طريق الفقه ولا يخص حديث الفرض والشرع،
__________
1 حيوة من الأعلام، والضبون: السنور الذكر.
2 هكذا في ش، أ. وفي ب، ج والمطبوعة: "يصح".
3 كذا في ش، م. وفي أ: "لتشهر".
4 النشر: في المنتشر، يقال: ضم الله نشرك.
5 كذا في أ. والفثء: الكسر، ويقال: فثأ الله عنك الشر؛ كفه. وفي ب: "فت" ويقال: فث الماء المار بالبارد: كسره وسكنه، فهو قريب من الأتاء.(1/51)
بل هو قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به ألا ترى أن الجاهلية الجهلاء كانت تحصن فروج مفارشها وإذا شك الرجل منهم في بعض ولده لم يلحقه به خلقًا قادت إليه الأنفة والطبيعة ولم يقتضه نص ولا شريعة. وكذلك قول الله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} قد كان هذا من أظهر شيء معهم وأكثره في استعمالهم أعني حفظهم للجار ومدافعتهم عن الذمار1 فكأن الشريعة إنما وردت فيما هذه حاله بما كان معلومًا معمولًا به حتى إنها لو لم ترد بإيجابه لما أخل ذلك بحاله لاستمرار الكافة على فعاله. فما هذه صورته من عللهم جار مجرى علل النحويين. ولكن ليت شعري من أين يعلم وجه المصلحة في جعل الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعًا أربعًا والمغرب ثلاثًا والعشاء الآخرة أربعًا ومن أين يعلم علة ترتيب الأذان على ما هو عليه وكيف تعرف علة تنزيل مناسك الحج على صورتها ومطرد العمل بها ونحو هذا كثير جدًّا. ولست تجد شيئًا مما علل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به ألا ترى أن عوارض ما يوجد في هذه اللغة شيء سبق وقت الشرع وفزع إلى التحاكم فيه إلى بديهة الطبع فجميع علل النحو إذًا مواطئة للطباع وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد. فهذا فرق.
سؤال "قوي"2: فإن قلت: فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة ولا محصلة لا نعرف لها سببًا ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهبًا. فمن ذلك إهمال ما أهمل وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله وهذا أوسع من أن يحوج إلى ذكر طرف
__________
1 الذمار -بزنة كتاب- ما لزمك حفظه مما يتعلق بك.
2 زيادة في أ. وقد جاء هذا الوصف في المطبوعة، ش، ب بجانب "فرق" وسقط فيما في هذا الموضع.(1/52)
منه ومنه الاقتصار في بعض الأصول على بعض المثل ولا نعلم قياسا يدعو إلى تركه نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل أو فُعلِل أو فَعَل أو فِعِل أو فُعُل ونحو ذلك. وكذلك اقتصارهم في الخماسي على الأمثلة الأربعة دون غيرها مما تجوزه القسمة. ومنه أن عدلوا فُعَلا عن فاعل في أحرف محفوظة. وهي ثعل وزحل وغدر وعمر وزفر وجشم وقثم وما يقل تعداده. ولم يعدلوا في نحو مالك وحاتم وخالد وغير ذلك فيقولوا: مُلك ولا حُتم ولا خُلد. ولسنا نعرف سببًا أوجب هذا العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها فإن كنت تعرفه فهاته.
فإن قلت: إن العدل ضرب من التصرف وفيه إخراج للأصل عن بابه إلى الفرع وما كانت هذه حاله أقنع منه البعض ولم يجب أن يشيع في الكل.
قيل: فهبنا سلمنا ذلك لك تسليم نظر فمن لك بالإجابة عن قولنا: فهلا جاء هذا العدل في حاتم ومالك وخالد وصالح ونحوها؛ دون ثاعل, وزاحل, وغادر, وعامر, وزافر, وجاشم, وقاثم؟ ألك ههنا نفق فتسلكه, أو مرتفق1 فتتوركه؟ وهل غير أن تخلد إلى حيرة الإجبال2, وتخمد نار الفكر حالًا! على حال! ولهذا ألف نظير, بل ألوف كثيرة ندع الإطالة بأيسر اليسير منها.
وبعد فقد صح ووضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى؛ ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئًا إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه, وإن خفيت عنا
__________
1 المرتفق: المنكأ، "فتتوركه" تعتمد عليه، والأصل في هذا أن يقال: تورك عليه؛ وضع وركه عليه.
2 الإجبال: الانقطاع، يقال: أجيل الشاعر؛ صعب عليه القول، لا يتهيأ له سبيله. وأصل هذا أنه يقال: أجبل الحافر؛ انتهى إلى صلابة وجبل فلا يصيب ماء. وقد ضبط في المطبوعة: "الأجيال" بفتح الهمزة، ولا معنى لهذا هنا.(1/53)
أغراضه ومعانيه, وليست كذلك حال هذه اللغة؛ ألا ترى إلى قوة تنازع أهل الشريعة1 فيها, وكثرة الخلاف في مباديها, ولا تقطع فيها بيقين, ولا من الواضع لها ولا كيف وجه الحكمة في كثير مما أريناه آنفًا من حالها وما هذه سبيله لا يبلغ شأو ما عرف الآمر به -سبحانه وجل جلاله- وشهدت النفوس واطردت المقاييس على أنه أحكم الحاكمين سبحانه. انقضى السؤال.
قيل: لعمري إن هذه أسئلة2 تلزم من نصب نفسه لما نصبنا أنفسنا من هذا الموقف له. وههنا أيضًا من السؤالات أضعاف هذه الموردة، وأكثر من أضعاف ذلك، ومن أضعاف أضعافه غير أنه لا ينبغي أن يعطى3 فيها باليد. بل يجب أن ينعم الفكر فيها ويكاس4 في الإجابة عنها. فأول ذلك أنا لسنا ندعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتة بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية وإذا5 حكمنا بديهة العقل وترافعنا إلى الطبيعة والحس فقد وفينا الصنعة حقها وربأنا6 بها أفرع مشارفها. وقد قال سيبويه 7: وليس شيء8 مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا. وهذا أصل يدعو إلى البحث9 عن
__________
1 كذا في الأصول والمناسب للسياق: أهل العربية. وقد أبقيته لأنه قد يريد أن مباحث أصول العربية تولاها أهل الشريعة، فقد تكلم الشافعي في سعة العربية وأنه لا يحيط بها إلا نبي، وكذا غيره من الفقهاء.
2 تبعت في هذا الرسم ش؛ وفي أ، ب: "أسولة" وهو حمع سوال، لغة في سؤال كما في اللسان.
3 يقال: أعطى بيده إذا انقاد؛ كما في الأساس. وفي اللسان: أعطى البعير إذا انقاد ولم يستصعب.
4 أي يتحرى الكيس، وهو الخفة والتوقد والفطنة, وقد كاس الرجل، يكيس، وهو كيس وكيس؛ بتشديد الياء وتخفيفها.
5 كذا في الأصول ما عدا ج ففيها: "إذ".
6 المشارف: الأعالي، وأفرع: أعلى، وربأ الجبل: علاه.
7 انظر الكتاب ص13 ج1، والعبارة فيه: "وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها".
8 كذا في أ، ج، وفي المطبوعة، ب، ش: "فيما".
9 هكذا في الأصول ما عدا ج ففيها "على". وفيه تضمين "يدعو" معنى يحث.(1/54)
علل ما استكرهوا عليه نعم ويأخذ بيدك إلى ما وراء ذلك فتستضيء به وتستمد التنبه1 على الأسباب المطلوبات منه. ونحن نجيب عما مضى ونورد معه وفي أثنائه ما يستعان به ويفزع فيما يدخل من الشبه إليه بمشيئة الله وتوفيقه.
أما إهمال ما أهمل مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة أو المستعملة2 فأكثره متروك للاسثتقال وبقيته ملحقة به ومقفاة على إثره. فمن ذلك ما رفض استعماله لتقارب حروفه نحو سص3 وطس وظث وثظ وضش وشض وهذا حديث واضح لنفور الحس عنه والمشقة4 على النفس لتكلفه. وكذلك نحو قج وجق وكق وقك وكج وجك. وكذلك حروف الحلق: هي من الائتلاف أبعد لتقارب مخارجها5 عن معظم الحروف أعني حروف الفم. فإن جمع بين اثنين منها قدم الأقوى على الأضعف نحو أهل وأحد وأخ وعهد وعهر وكذلك متى تقارب الحرفان لم يجمع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما نحو أرل6, ووتد, ووطد. يدل على أن الراء أقوى من اللام أن القطع عليها أقوى من القطع على اللام. وكأن ضعف اللام إنما أتاها لما تشربه من الغنة عند الوقوف عليها, ولذلك7 لا تكاد تعتاص8 اللام, وقد ترى إلى كثرة اللثغة في الراء في الكلام, وكذلك الطاء, والتاء: هما أقوى من الدال؛ وذاك لأن
__________
1 كذا في معظم الأصول. وفي ش، "التنبيه".
2 في ش: "والمستعملة".
3 كذا وردت هذه الكلمات في نسخة ب ساكنة الحرف للثاني. وفي ش بالفتح.
4 في ج: "ومشقة النفس في تكلفه".
5 كأنه ضمن "تقارب" معنى الامتياز والتياعد فعدا بعن.
6 أر -بضمنين- جبل بأرض غطفان. وفي ج: "ورل" وهو حيوان كالضب.
7 كذا في ج. وفي بقية الأصول: "كذلك"، وما أثبته أجود.
8 كذا في أ، ب. وهو الصواب. وفي بقية الأصول: "تعتاض": وهو تحريف.(1/55)
جرس الصوت بالتاء والطاء عند الوقوف عليهما أقوى منه وأظهر عند الوقوف على الدال. وأنا أرى1 أنهم إنما2 يقدمون الأقوى من المتقاربين من قبل أن جمع المتقاربين يثقل على النفس فلما اعتزموا النطق بهما قدموا أقواهما لأمرين: أحدهما أن رتبة الأقوى أبدا أسبق وأعلى والآخر أنهم إنما يقدمون الأثقل ويؤخرون الأخف من قبل أن المتكلم في أول نطقه أقوى نفسًا3 وأظهر نشاطًا فقدم أثقل الحرفين وهو على أجمل الحالين كما رفعوا المبتدأ لتقدمه فأعربوه بأثقل الحركات وهي الضمة وكما رفعوا الفاعل لتقدمه ونصبوا المفعول لتأخره فإن هذا أحد ما يحتج به في المبتدأ والفاعل. فهذا واضح كما تراه.
وأما ما رفض أن يستعمل وليس فيه إلا ما استعمل من أصله فعنه السؤال وبه الاشتغال. وإن أنصفت نفسك فيما يرد عليك فيه حليت به وأنقت4 له وإن تحاميت الإنصاف وسلكت سبيل الانحراف فذاك إليك ولكن جنايته عليك.
" جواب5 قوي ": اعلم أن الجواب عن هذا الباب تابع لما قبله, وكالمحمول على حكمه. وذلك أن الأصول ثلاثة: ثلاثي, ورباعي, وخماسي. فأكثرها استعمالا, وأعدلها تركيبًا الثلاثي. وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يحشى به وحرف يوقف عليه. وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه؛ لأنه أقل حروفًا, وليس الأمر كذلك؛ ألا ترى أن جميع ما جاء من ذوات الحرفين جزء لا قدر له فيما جاء من ذوات الثلاثة؛ نحو من, وفي, وعن, وهل, وقد, وبل, وكم, ومن, وإذ, وصه, ومه. ولو شئت
__________
1 هذا الضبط بالبناء للمفعول عن أ، ومعناه: أظن.
2 سقط هذا اللفظ في ش.
3 ضبط في ج: "نفسا"، بفتح الفاء، وما أثبته أجود.
4 أنق الشيء، وبه: أعجب به وسر.
5 سقط هذان اللفظان "جاب صوي" في ش وب، وأثبت في أ.(1/56)
لأثبت جميع ذلك في هذه الورقة. والثلاثي عاريًا من الزيادة, وملتبسًا بها, مما يبعد تداركه وتتعب الإحاطة به. فإذا ثبت ذلك عرفت منه, وبه أن ذوات الثلاثة لم تتمكن في الاستعمال لقلة عددها حسب ألا ترى إلى قلة الثنائي, وأقل منه ما جاء على حرف واحد كحرف العطف وفائه وهمزة الاستفهام, ولام الابتداء والجر, والأمر, وكاف رأيتك, وهاء رأيته. وجميع ذلك دون باب كم وعن وصه. فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه, لعمري, ولشيء آخر وهو حجز الحشو الذي هو عينه, بين فائه, ولامه, وذلك لتباينهما, ولتعادي1 حاليهما, ألا ترى أن المبتدأ2 لا يكون إلا متحركًا, وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنًا, فلما تنافرت حالاهما وسطوا العين حاجزًا بينهما لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان آخذًا فيه ومنصبًا3 إليه.
فإن قلت: فإن ذلك الحرف الفاصل لما ذكرت بين الأول والآخر -وهو العين- لا يخلو أن يكون ساكنًا أو متحركًا. فإن كان ساكنًا فقد فصلت4 عن حركة الفاء إلى سكونه وهذا هو الذي قدمت ذكر الكراهة له وإن كان متحركًا فقد فصلت عن حركته إلى سكون اللام الموقوف عليها وتلك حال ما قبله في انتفاض حال الأول بما يليه من بعده.
فالجواب أن عين الثلاثي إذا كانت متحركة, والفاء قبلها كذلك فتوالت الحركتان, حدث هناك لتواليهما ضرب من الملال لهما, فاستروح حينئذ إلى السكون, فصار ما في الثنائي من سرعة الانتفاض "معيفًا مأبيًّا"5 في الثلاثي خفيفًا مرضيًا, وأيضًا
__________
1 يقال: تعادى ما بين الرجلين: اختلف.
2 يريد الحرف الأول المبدوء به.
3 في ش: "منتصبا". وفي ج: "منصبا نحوه".
4 أي خرجت، يقال: فصل عن البلد، ومن البلد: خرج منه.
5 حالان من قوله: "ما في الثنائي" فأما خبر صار فهو قوله: "خفيفا مرضيا" ولو كانت العبارة: فصار ما كان في الثنائي ... إلخ لكانت أدنى إلى الإفهام وأنأى عن اللبس.(1/57)
فإن المتحرك حشوا ليس كالمتحرك أولًا أولا ترى إلى صحة جواز تخفيف الهمزة حشوًا وامتناع جواز تخفيفها أولًا وإذا اختلفت أحوال الحروف حسن التأليف وأما إن كانت عين الثلاثي ساكنة فحديثها غير هذا. وذلك أن العين إذا كانت ساكنة فليس سكونها كسكون اللام. وسأوضح لك حقيقة ذلك لتعجب من لطف غموضه. وذلك أن الحرف الساكن ليست حاله إذا أدرجته1 إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه. وذلك لأن من الحروف حروفًا2 إذا وقفت عليها لحقها صويت ما من بعدها فإذا أدرجتها إلى ما بعدها ضعف ذلك الصويت وتضاءل للحس نحو قولك: اِح3 اِص اِث اِف اِخ4 اِك. فإذا قلت: يحرد ويصبر ويسلم5 ويثرد ويفتح ويخرج خفى ذلك الصويت وقل وخف ما كان له من الجرس عند الوقوف عليه. وقد تقدم6 سيبويه في هذا المعنى بما هو معلوم واضح. وسبب ذلك عندي أنك إذا وقفت عليه ولم تتطاول إلى النطق بحرف آخر من بعده تلبثت عليه ولم تسرع الانتقال عنه فقدرت بتلك اللبثة7 على إتباع ذلك الصوت إياه. فأما إذا تأهبت للنطق بما بعده وتهيأت له ونشمت8 فيه فقد
__________
1 أي وصلته، وإدراج الحرف وصله؛ من الإدراج وهو الطي واللف، فكأنك إذا وصلت الحرف فقد طويته ولم تنشره وتبرزه. والدرج في ذلك كالإدراج.
2 يريد حروف الهمس، ويقول ابن جني في "أغلاط العرب" من هذا الكتاب في الحديث عن الحاء: "فضلا عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة، وأن الصوت يلحقها في حال سكونها والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو إدراجها في حال سكونها في نحو بحر وحر".
3 كذا جعلتها مهملة وفي بعض الأصول: "اج" بالمعجمة. وفي بعضها الحرف غير واضح وهو لا يوافق التمثيل الآتي، والجيم حرف مجهور شديد لا يلحقه صويت.
4 كذا في ب، ش، وفي أ: "اح".
5 يلاحظ في التمثيل أنه أتى بيسلم ولم يذكر "اس"، ولم يمثل لما فيه الكاف.
6 أي سبق. وفي المطبوعة: "قول سيبويه".
7 هي التوقف.
8 نشم في الشيء: ابتدأ فمه.(1/58)
حال ذلك بينك وبين الوقفة التي يتمكن فيها من إشباع ذلك الصويت فيستهلك إدراجك إياه طرفًا من الصوت الذي كان الوقف يقره عليه ويسوغك إمدادك إياه به.
ونحو من هذا ما يحكى أن رجلًا من العرب بايع1 أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح فلما شرب بعضه كده الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا تنحنحت. فقال: من تنحنح فلا أفلح. فنطق بالحاءات كلها سواكن غير متحركة ليكون ما يتبعها من ذلك الصويت عونًا له على ما كده وتكاءده 2. فإذا ثبت بذلك أن الحرف الساكن حاله في إدراجه مخالفة لحاله في الوقوف عليه ضارع ذلك الساكن المحشو به المتحرك لما ذكرناه من إدراجه لأن أصل الإدراج للمتحرك إذ كانت الحركة سببًا له وعونًا عليه ألا ترى أن حركته تنتقصه ما يتبعه من ذلك الصويت نحو قولك صبر وسلم. فحركة الحرف تسلبه الصوت الذي يسعفه الوقف به كما أن تأهبك للنطق بما بعده يستهلك بعضه. فأقوى أحوال ذلك الصويت عندك3 أن تقف عليه فتقول: اص. فإن أنت أدرجته انتقصته بعضه فقلت: اصبر فإن أنت حركته اخترمت الصوت البتة وذلك قولك صبر. فحركة ذلك الحرف تسلبه ذلك الصوت البتة والوقوف عليه يمكنه فيه وإدراج الساكن يبقي عليه بعضه. فعلمت بذلك مفارقة حال الساكن المحشو به لحال أول الحرف وآخره فصار الساكن المتوسط لما ذكرنا كأنه لا ساكن ولا متحرك وتلك حال تخالف حالي ما قبله وما بعده،
__________
1 أي عاهد وعاقد، والقصة في أذكياء ابن الجوزي في باب المنقول عن العرب وعلماء العربية، وفي سر الصناعة في حرف العين.
2 يقال: تكاءده الأمر: شق عليه.
3 في ش: "عند أن تقف".(1/59)
وهو الغرض الذي أريد منه وجيء به من أجله لأنه1 لا يبلغ حركة ما قبله فيجفو تتابع المتحركين ولا سكون ما بعده فيفجأ2 بسكونه المتحرك الذي قبله فينقض عليه جهته وسمته. فتلك إذًا ثلاث أحوال متعادية لثلاثة أحرف متتالية؛ فكما يحسن تألف الحروف المتفاوتة كذلك يحسن تتابع الأحوال المتغايرة على اعتدال وقرب لا على إيغال في البعد. لذلك3 كان مثال فعل أعدل الأبنية حتى كثر وشاع وانتشر. وذلك أن فتحة الفاء وسكون العين وإسكان اللام4 أحوال مع اختلافها متقاربة ألا ترى إلى مضارعة الفتحة للسكون في أشياء. منها أن كل واحد منهما يهرب إليه مما هو أثقل منه نحو قولك في جمع فُعلة وفِعلة: فُعُلات بضم العين نحو غرفات وفعلات بكسرها نحو كسرات ثم يسثقل توالي الضمتين والكسرتين فيهرب عنهما تارة إلى الفتح فتقول: غرَفات وكسَرات, وأخرى إلى السكون5 فتقول: غُرفات وكِسرات. أفلا تراهم كيف سووا بين الفتحة والسكون في العدول6 عن الضمة والكسرة إليهما. ومنها أنهم يقولون في تكسير ما كان من فعل ساكن العين وهي واو على فعال بقلب الواو ياء نحو: حوض, وحياض, وثوب, وثياب. فإذا كانت واو واحده متحركة صحت في هذا المثال
__________
1 في الأصول: "إلا أنه"، وهو لا يتفق مع السياق.
2 كذا في الأصول الخطية، وفي المطبوعة: "فيجقأ"، وهو تحريف.
3 كذا في ج. وفي بقية الأصول: "كذلك".
4 يريد إسكان اللام في حال الوقف. والعبارة في ج: "لأن فتحة الفاء وسكون العين في الدرج واللام في الوقف أحوال مع اختلافها متقاربة".
5 المعروف أن السكون في غرفات وكسرات هو الأصل، والضم والكسر جاءا من إتباع العين حركة الفاء، فليس السكون معدولا إليه حتى يكون كالفتح في هذا الباب، ولكن أبا الفتح قد يكون له وجه مقبول في هذه النظرة؛ فإن الضم والكسر هما الكثير في هذا الباب حتى عاد كأنهما الأصل. وانظر في هذا المبحث الكتاب ج2 ص181.
6 في ش: العدل.(1/60)
من التكسير نحو: طويل وطوال. فإذا كانت العين من الواحد مفتوحة اعتلت1 في هذا المثال كاعتلال الساكن نحو: جواد وجياد. فجرت واو جواد مجرى واو ثوب. فقد ترى إلى مضارعة الساكن للمفتوح. وإذا كان الساكن من حيث أرينا كالمفتوح كان بالمسكن أشبه2. فلذلك كان مثال فعل أخف وأكثر من غيره لأنه إذا كان مع تقارب أحواله مختلفها كان أمثل من التقارب بغير خلاف أو الاتفاق البتة والاشتباه. ومما يدلك على أن الساكن إذا أدرج ليست له حال الموقوف عليه أنك قد تجمع في الوقف بين الساكنين نحو: بكر وعمرو فلو كانت حال سكون كاف بكر كحال سكون رائه لما جاز أن تجمع بينهما من حيث كان الوقف للسكون على الكاف كحاله لو لم يكن بعده شيء. فكان يلزمك حينئذ أن تبتدئ بالراء ساكنة والابتداء بالساكن ليس في هذه اللغة العربية. لا بل دل ذلك على أن كاف بكر لم تتمكن في السكون تمكن ما يوقف عليه ولا يتطاول3 إلى ما وراءه. ويزيد في بيان ذلك أنك تقول في الوقف النفس فتجد السين أتم صوتًا من الفاء فإن قلبت فقلت: النسف وجدت الفاء أتم صوتًا وليس هنا أمر يصرف هذا إليه ولا يجوز4 حمله عليه إلا زيادة الصوت عند الوقوف على الحرف البتة. وهذا برهان ملحق بالهندسي في الوضوح والبيان.
__________
1 لا يريد أبو الفتح أن هذا الاعتلال مذهبه القياس والاطراد، إذ كان لا يجري إلا على شذوذ؛ فجياد من الشاذ الذي يوقف عنده، وإنما هم ابن جني تعليل هذا الشاذ وذكر ما أتاه في العربية. ويرى بعض النحويين أن جيادا جمع جيد ليخرج من الشذوذ.
2 أي إن الساكن المدرج تجاذبه الشبه بالمفتوح وبالمسكن الموقوف عليه، ولكنه أقرب بالضرورة إلى الأخير من الأول.
3 هذا عطف على قوله: "يوقف عليه" فإن الموقوف عليه ينحبس ولا يتطلع إلى ما بعده.
4 "لا" هنا زائدة: ما تزاد في قولك: ما جاء زيد ولا عمرو.(1/61)
فقد وضح إذًا بما أوردناه وجه خفة الثلاثي من الكلام وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلة غير متمكنة تمكن الثلاثي لأنه إذا كان الثلاثي أخف وأمكن من الثنائي -على قلة حروفه- فلا محالة أنه أخف وأمكن من الرباعي لكثرة حروفه. ثم لا شك فيما بعد في ثقل الخماسي وقوة الكلفة به. فإذا كان كذلك ثقل عليهم مع تناهيه وطوله أن يستعملوا في الأصل الواحد جميع ما ينقسم إليه به1 جهات تركيبه. ذلك أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول؛ نحو: جعل2 جلع عجل علج لجع لعج. والرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلًا وذلك أنك تضرب الأربعة في التراكيب التي خرجت3 عن الثلاثي وهي ستة فيكون ذلك أربعة وعشرين تركيبًا المستعمل منها قليل وهي 4: عقرب, وبرقع, وعرقب, وعبقر, وإن جاء منه غير هذه الأحرف فعسى أن يكون ذلك, والباقي كله مهمل. وإذا كان الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استعمل منه الأقل النزر فما ظنك بالخماسي على طوله وتقاصر الفعل الذي هو مئنة5 من التصريف والتنقل عنه. فلذلك قل الخماسي أصلًا. نعم ثم لا تجد أصلًا مما ركب منه قد تصرف فيه بتغيير نظمه ونضده كما تصرف6 في باب عقرب "وبِرقِع"7، وبُرقُع ألا ترى أنك لا تجد شيئًا من نحو سفرجل قالوا فيه سرفجل ولا نحو ذلك مع أن تقليبه يبلغ به مائة وعشرين أصلًا, ثم لم يستعمل من جميع ذلك
__________
1 في ش: "عليه".
2 ضبطت هذه الكلمات بالتحريك على ما تضبط المواد اللغوية. وضبطت في الأصول بفتح الفاء وسكون العين على حد المصادر.
3 أي نشأت منه وتحققت فيه.
4 ذكر هذا على أنه مثال، كما لا يخفى.
5 أي مكان للتصريف وخليق به. وفي حديث ابن مسعود:"إن طول الصلاة وقصر الخطبة مئنة من فقه الرجل": وكل شيء دل على شيء فهو مئنة له.
6 العبارة في المزهر ج1 ص145 بعد "باب عقرب": "بعبقر وعرقب وبرقع". ويرقع -بكسر الأول والثالث: السماء السابعة.
7 زيادة من أ.(1/62)
إلا سفرجل وحده. فأما قول بعضهم زبردج1 فقلب لحق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس. فدل ذلك على استكراههم ذوات الخمسة لإفراط طولها, فأوجبت الحال الإقلال منها وقبض اللسان عن النطق بها إلا فيما قل ونزر؛ ولما كانت ذوات الأربعة تليها وتتجاوز أعدل الأصول - وهو الثلاثي - إليها, مسها بقرباها منها قلة التصرف فيها غير أنها في ذلك أحسن حالًا من ذوات الخمسة لأنها أدنى إلى الثلاثة منها. فكان التصرف فيها دون تصرف الثلاثي, وفوق تصرف الخماسي. ثم إنهم لما أمسوا الرباعي طرفًا صالحًا من إهمال أصوله, وإعدام حال التمكن في تصرفه تخطوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي, لا من أجل إجفاء2 تركبه بتقاربه نحو سص وصس ولكن من قبل أنهم حذوه على الرباعي كما حذوا الرباعي على الخماسي ألا ترى أن لجع لم يترك استعماله لثقله من حيث كانت اللام أخت الراء والنون وقد قالوا نجع فيه ورجع عنه, واللام أخت الحرفين وقد أهملت في باب اللجع فدل على أن ذلك ليس للاستثقال, وثبت أنه لما ذكرناه من إخلالهم ببعض أصول الثلاثي لئلا يخلو هذا الأصل من ضرب من الإجماد3 له مع شياعه واطراده في الأصلين اللذين فوقه, كما أنهم لم يخلو ذوات الخمسة من بعض التصرف فيها وذلك ما استعملوه من تحقيرها, وتكسيرها, وترخيمها نحو قولك في تحقير سفرجل: سفيرج, وفي تكسيره:
__________
1 أي في زبرجد، وفي شعر محدث لأحد أدباء شنقيط:
عليها سموط من محال ملوب ... من التبر أو من لؤلؤ وزبردح
وانظر الوسيط في تاريخ أدباء شنقيط 97.
2 كذا في أ. وفي ش وب، والمطبوعة: "خفاء" وما هنا أجود.
3 أي جعله جامدا غير منصرف. وفي القاموس: "وجمد حق رجب وأجمدته" فأخذه ابن جني واستعمله هذا الاستعمال.(1/63)
سفارج وفي ترخيمه -علما1- يا سفرج أقبل، وكما2 أنهم لما أعربوا المضارع لشبهه باسم الفاعل تخطوا ذاك أيضًا إلى أن شبهوا الماضي بالمضارع فبنوه على الحركة لتكون له مزية على ما لا نسبة بينه وبين المضارع أعني مثال أمر المواجه 3. فاسم الفاعل في هذه القضية كالخماسي والمضارع كالرباعي والماضي كالثلاثي. وكذلك أيضًا الحرف في استحقاقه البناء كالخماسي في استكرارهم إياه, والمضمر في إلحاقهم إياه ببنائه كالرباعي في إقلالهم تصرفه والمنادي المفرد المعرفة في إلحاقه في البناء بالمضمر كالثلاثي في منع بعضه التصرف وإهماله البتة, ولهذا التنزيل نظائر كثيرة. فأما4 قوله:
مال إلى أرطاة حقف فالطجع
فإنه ليس بأصل إنما أبدلت الضاد من اضطجع لامًا فاعرفه.
فقد عرفت إذًا أن ما أهمل من الثلاثي لغير قبح التأليف5 نحو ضث6, وثض, وثذ وذث إنما هو لأن محله من الرباعي محل الرباعي من الخماسي فأتاه ذلك القدر من الجمود من حيث ذكرنا كما أتى الخماسي ما فيه من التصرف في التكسير, والتحقير, والترخيم من حيث كان محله من الرباعي محل الرباعي من الثلاثي. وهذا عادة للعرب مألوفة وسنة مسلوكة: إذا أعطوا شيئًا من شيء حكمًا ما قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكمًا من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميمًا للشبه الجامع لهما. وعليه باب ما لا ينصرف ألا تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه؛ كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه.
__________
1 هذه الكلمة ساقطة في أ.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "فكما".
3 ضبطت هذه الكلمة في نسخة أبكسر الجيم؛ وهو تحريف. لأن المراد: أمر المخاطب الذي يواجه الخطاب.
4 هذا متصل بإهمال "لجمع" المفهوم مما سبق، فقد يتوهم أن "الطجع" في البيت هي "لجع" مع الطاء المبدلة من تاء الافتعال، فدفع هذا بما ذكر، وسيرد هذا الرجز بعده.
5 في ش، د، هـ: "التألف".
6 هكذا وردت هذه الكلمات في نسخة ش بالتشديد وفي نسخة أبالإسكان.(1/64)
وإذ قد ثبت ما أردناه: من أن الثلاثي في الإهمال محمول على حكم الرباعي فيه لقربه من الخماسي بقي علينا أن نورد العلة التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي والرباعي والخماسي دون بعض وقد كانت الحال في الجميع متساوية. والجواب عنه ما أذكره.
اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها ورأى بعين تصوره وجوه جملها1 وتفاصيلها وعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تألفه منها نحو هع وقج وكق فنفاه عن نفسه ولم يمرره بشيء من لفظه وعلم أيضًا أن ما طال وأمل بكثرة حروفه لا يمكن فيه من التصرف ما أمكن في أعدل الأصول وأخفها وهو الثلاثي. وذلك أن التصرف في الأصل وإن دعا إليه قياس -وهو الاتساع به في الأسماء والأفعال والحروف- فإن هناك من وجه آخر ناهيًا عنه وموحشًا منه وهو أن في نقل الأصل إلى أصل آخر نحو صبر، وبصر، وصرب2، وربص2، صورة الإعلال نحو قولهم " ما أطيبه وأيطبه" "واضمحل وامضحل" "وقسي وأينق " وقوله:
مروان مروان أخو اليوم اليمى3
وهذا كله إعلال لهذه الكلم وما جرى مجراها. فلما كان انتقالهم من أصل إلى أصل, نحو صبر، وبصر، مشابهًا للإعلال, من حيث ذكرنا, كان من هذا الوجه كالعاذر لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمله قسمة التركيب في الأصول. فلما كان الأمر كذلك واقتضت الصورة رفض البعض، واستعمال
__________
1 ضبط في أ: جملها -بفتح فسكون- وهو مصدر جمل الشيء: جمعه.
2 كذا في أ؛ وفي سائر الأصول "ضرب وربط"، والعبارة في المزهر 1/ 146 كما في أ.
3 "فاليمي" قلب اليوم، وسيشرح أبو الفتح هذا الرجز ما فيه في أواخر هذا الجزء في "باب في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير". وانظر الكتاب: ج1 ص379.(1/65)
البعض, وكانت الأصول ومواد الكلم1 معرضة لهم وعارضة أنفسها على تخيرهم, جرت لذلك "عندهم"2 مجرى مال ملقى بين يدي صاحبه, وقد أجمع إنفاق3 بعضه دون بعضه, فميز رديئه وزائفه فنفاه البتة كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه, ثم ضرب بيده إلى ما أطف4 له من عرض جيدة فتناوله للحاجة إليه, وترك البعض لأنه لم يرد استيعاب جميع ما بين يديه منه لما قدمنا ذكره وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك مكان أخذ5 ما أخذ لأغنى عن صاحبه ولأدى في الحاجة إليه تأديته ألا ترى أنهم لو استعملوا لجع6 مكان نجع لقام مقامه, وأغنى مغناه. ثم لا أدفع أيضًا أن تكون في بعض ذلك أغراض لهم عدلوا إليه لها, ومن أجلها فإن كثيرًا من هذه اللغة وجدته مضاهيًا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها7؛ ألا تراهم قالوا قضم في اليابس وخضم في الرطب؛ ذلك لقوة القاف وضعف الخاء فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى, والصوت الأضعف للقعل الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب, فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته, وقالوا: صرصر البازي فقطعوه لما هناك من تقطيع صوته وسموا الغراب غاق حكاية لصوته والبط بطًا حكاية لأصواتها،
__________
1 أي ظاهرة لهم ميسرة، يقال: أعرض لك الظبي: أمكنك من عرضه وجانبه تصيده، وفي المطبوعة وأ ضبط معرضة بتشديد الراء على صيغة المفعول، وما أئيته أجود.
2 زيادة في ش، د، هـ.
3 كذا في ش، ب. وفي المطبوعة، أ: "اتفاق" وهو لا يناسب السياق.
4 أطف: دنا وقرب.
5 العبارة في المزهر 1/ 146: "مكان ما أخذ".
6 كذا في ش، د، هـ. وفي أ، ب: "اللجع" بسكون الجيم، وفي ج: "اللجع" بفتح الجيم.
7 كذا في ج: والضمير في "بها" لأجراس الحروف أو للكثير من اللغة باعتبار وقوعه على كلمات والضمير في عنها للأفعال، وفي أ، ب، ش: "بها عنه"، والعبارة مقلوب؛ والوجه: "به عنها"، والضمير المذكر للكثير من اللغة، وضمير المؤنث للأفعال.(1/66)
وقالوا: "قط الشيء " إذا قطعه عرضًا "وقده " إذا قطعه طولًا؛ وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وكذلك قالوا: "مد الحبل " "ومت إليه بقرابة " فجعلوا الدال -لأنها مهجورة- لما فيه علاج وجعلوا التاء -لأنها مهموسة- لما لا علاج فيه وقالوا: الخذأ -بالهمزة- في ضعف النفس والخذا -غير مهموز- في استرخاء الأذن "يقال"1: أذن خذواء وآذان خذو ومعلوم أن الواو لا تبلغ قوة الهمزة. فجعلوا الواو -لضعفها- للعيب في الأذن والهمزة -لقوتها- للعيب في النفس من حيث كان عيب النفس أفحش من عيب الأذن. وسنستقصي هذا الموضع -فإنه عظيم شريف- في باب نفرده به.
نعم وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا؛ ألا ترى إلى قول سيبويه: "أو لعل2 الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر"؛ يعني أن يكون الأول الحاضر شاهد الحال فعرف السبب الذي له ومن أجله3 ما وقعت عليه التسمية والآخر -لبعده عن الحال- لم يعرف السبب للتسمية؛ ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفع صوته: قد رفع عقيرته فلو ذهبت تشتق هذا بأن تجمع بين معنى الصوت وبين معنى "ع ق ر " لبعد عنك وتعسفت. وأصله أن رجلًا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها الأخرى ثم صرخ بأرفع صوته فقال الناس: رفع عقيرته. وهذا مما ألزمه أبو بكر4 أبا إسحاق4
__________
1 زيادة في ج.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "لأن".
3 ما هنا زائدة، ويجوز أن تكون مصدرية.
4 أبو بكر هو ابن سراج، وأبو إسحق هو الزجاج، وكلاهما تلميذ المبرد، وكان الزجاج مسرفا في الاشتقاق وابن السراج مقتصدا فيه.(1/67)
فقبله منه ولم يردده. والكلام هنا أطول من هذا لكن هذا مقاده1, فأعلق يدك بما ذكرناه: من أن سبب إهمال ما أهمل إنما هو لضرب من ضروب الاستخفاف؛ لكن كيف؟ ومن أين؟ فقد تراه على ما أوضحناه. فهذا الجواب عن إهمالهم ما أهملوه من محتمل القسمة لوجوه التراكيب فاعرفه ولا تستطله؛ فإن هذا الكتاب ليس مبنيًا على حديث وجوه الإعراب وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام وكيف بديء وإلام نحي. وهو كتاب يتساهم ذوو النظر: من المتكلمين والفقهاء والمتفلسفين والنحاة والكتاب والمتأدّبين التأمل له والبحث عن مستودعه فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده ويأنس به ليكون له سهم منه وحصة فيه! وأما ما أورده السائل في أول هذا السؤال الذي نحن منه على سمت الجواب من علة امتناعهم من تحميل2 الأصل الذي استعلموا بعض مثله ورفضهم3 بعضًا نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل وفَعلِل وفُعلَل -في غير قول4 أبي الحسن- فجوابه نحو من الذي قدمناه: من تحاميهم فيه الاستثقال وذلك أنهم كما حموا أنفسهم من استيعاب جميع ما تحتمله قسمة تراكيب الأصول من حيث قدمنا وأرينا كذلك أيضًا توقفوا عن استيفاء جميع تراكيب الأصول من حيث كان انتقالك في الأصل الواحد رباعيًا كان أو خماسيًا من مثال إلى مثال في النقص والاختلال كانتقالك في المادة الواحدة من تركيب إلى تركيب أعني به حال التقديم والتأخير لكن
__________
1 أي وجه قوده والسير به، يريد أن هذا مذهبه وسبيله. وهو هكذا في أ، ب. وفي ش: "مفاده".
2 كذا في الأصول، وأظهر من هذا في المقام: "تكميل"، وكأنه يريد تحميله كل الوجوه المحتملة فيه باستعمالها.
3 كذا في الأصول، وأصرح من هذا لو قال: "رفضوا".
4 يثبت أبو الحسن الأخفش من أبنية الرباعي فعللا كجخدب، ولا يرى ذلك جمهرة النحاة.(1/68)
الثلاثي جاء1 فيه لخفته جميع ما تحتمله القسمة وهي الاثنا عشر مثالًا إلا مثالًا واحدًا فإنه رفض أيضًا لما نحن عليه من حديث الاستثقال وهو فِعُل وذلك لخروجهم فيه من كسر إلى ضم. وكذلك ما امتنعوا من بنائه في الرباعي -وهو فِعلُل- هو لاستكراههم الخروج من كسر إلى ضم وإن كان بينهما حاجز لأنه ساكن فضعف لسكونه عن الاعتداد به حاجزًا على أن بعضهم حكى زئبر2، وضئبل2، وخرفع2، وحكيت عن بعض البصريين "إصبع " وهذه ألفاظ شاذة لا تعقد بابًا ولا يتخذ مثلها قياسًا. وحكى بعض الكوفيين ما رأيته مذست وهذا أسهل -وإن كان لا حاجز بين الكسر والضم- من حيث كانت الضمة غير لازمة لأن الوقف يستهلكها ولأنها أيضًا من الشذوذ بحيث لا يعقد عليها باب 3. فإن قلت: فما بالهم كثر عنهم باب فُعُل نحو عنق وطنب وقل عنهم باب فِعِل نحو إبل وإطل مع أن الضمة أثقل من الكسرة فالجواب عنه من موضعين: أحدهما أن سيبويه قال: "واعلم4 أنه قد يقل الشيء في كلامهم وغيره
__________
1 هكذا في أ. وفي ش، وب: "جار"، وقد يكون الأصل: "جاز".
2 الزئبر: هو ما يعلو الثوب الجديد، ويقال له: شوك الثوب، والضئيل: الداهية، والخرفع: القطن. والألفاظ الثلاثة اللغة الشائعة فيها أن تكون على فعال "بكسر الأول والثالث" كزبرج، وورد في الخرفع أن جاءت على خرفع "بضم الأول والثالث" كبرئن.
3 ثبت لفظ "باب" في ش وج. وسقط في أ، ب.
4 اعتمدت في هذا على ما في ج. وفي أ: "واعلم أنه قد ... ويقل الشيء إلخ"، وفي ش، ب: "واعلم أنه ... ويقل الشيء إلخ". والسبب في هذا الاختلاف أن عبارة الكتاب طويلة ولو ساقها كلها لأورد ما ليس من قصده، ففي ج أورد ما يعنيه من عبارة سيبويه بالمعنى، وفي النسخ الأخرى أورد صدر عبارة سيبويه "واعلم أنه قد" أو "واعلم أنه" وترك بياضا لما ليس من همه ثم أورد ما يعنيه. على أنه أورده أيضا بمعناه. وعبارة الكتاب التي تنفق مع مراده هي: "وقد يقل ما هو أخف مما يستعملون كراهية ذلك أيضًا", وهو يريد بقوله كراهية ذلك كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون، وقد سبقت في كلامه. وانظر الكتاب ج2 ص404.(1/69)
أثقل منه كل ذلك لئلا يكثر في كلامهم ما يستثقلون " فهذا قول والآخر أن الضمة وإن كانت أثقل من الكسرة فإنها أقوى منها وقد يحتمل للقوة ما لا يحتمل للضعف ألا ترى إلى احتمال الهمزة مع ثقلها للحركات وعجز الألف عن احتمالهن وإن كانت خفيفة لضعفها وقوة الهمزة. وإنما ضعفت الكسرة عن الضمة لقرب الياء من الألف وبعد الواو عنها.
ومن حديث الاستثقال والاستخفاف أنك لا تجد في الثنائي -على قلة حروفه- ما أوله مضموم إلا القليل وإنما عامته على الفتح نحو هل وبل وقد وأن وعن وكم ومن وفي المعتل أو ولو وكي وأي أو على الكسر نحو إن, ومن وإذ. وفي المعتل إي وفي وهي. ولا يعرف الضم في هذا النحو إلا قليلًا؛ قالوا: هو وأما هم فمحذوفة من همو كما أن مذ محذوفة من منذ. وأما هو من نحو قولك: رأيتهو وكلمتهو فليس شيئًا؛ لأن هذه ضمة مشبعة في الوصل؛ ألا تراها يستهلكها الوقف وواو هو في الضمير المنفصل ثابتة في الوقف والوصل. فأما قوله:
فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جمل رِخو الملاط نجيب1
فللضرورة والتشبيه للضمير المنفصل بالضمير المتصل في عصاه وقناه. فإن قلت: فقد قال2:
أعني على برق أريك وميضهو
فوقف بالواو وليست اللفظة قافية وقد قدمت أن هذه المدة مستهلكة في حال الوقف قيل: هذه اللفظة وإن لم تكن قافية فيكون البيت بها مقفى, أو مصرعًا,
__________
1 انظر البيت في الخزانة ص396 ج2 طبعة بولاق.
2 هو امرؤ القيس في المعلقة.(1/70)
فإن العرب قد تقف على العروض نحوًا من وقوفها على الضرب, أعني مخالفة ذلك لوقف1 الكلام المنثور غير الموزون؛ ألا ترى إلى قوله أيضًا:
فأضحى يسح الماء حول كتيفتن
فوقف بالتنوين خلافًا على الوقف2 في غير الشعر. فإن قلت: فأقصى3 حال قوله "كتيفتن " -إذ ليست قافية- أن تجري مجرى القافية في الوقف عليها وأنت ترى الرواة أكثرهم على إطلاق هذه القصيدة ونحوها بحرف اللين للوصل, نحو قوله: ومنزلي, وحوملي, وشمألي, ومحملي, فقوله " كتيفتن " ليس على وقف الكلام ولا وقف القافية قيل: الأمر على ما ذكرت من خلافه له؛ غير أن هذا أيضًا أمر يخص المنظوم دون المنثور؛ لاستمرار ذلك عنهم؛ ألا ترى إلى قوله4:
أني اهتديت لتسليم على دِمنن ... بالغمز غيرهن الأعصر الأولو5
وقوله 6:
كأن حدوج المالكية غُدوتن ... خلايا سفين بالنواصف من دَدي
وقوله:
فمضى وقدمها وكان عادتن ... منه إذا هي عردت إقدامها7
__________
1 كذا في ش وب، وفي أ: "لوقوف".
2 كذا في ش وب، وفي أ: "الوقوف".
3 كذا في أ، ج. وفي ش وب: "فأقضى".
4 هو القطامي في قصيدته التي مطلعها:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
والبيت الشاهد بلى هذا البيت، وهو يخاطب فيه نفسه، فجائز أن يكون بكسر التاء في "اهتديت" وبالضم والفتح، وضبط في أبفتح التاء، وفي ش بكسرها، والغمر: اسم موضع.
5 كتب العروض والضرب في هذه الأبيات على مقتضى الرسم العروضي، فرسم التنوين نونًا، ورسم الوصل، وهذا على ما في أ، وفي ش وب: جرى الرسم فيها على المألوف.
6 هو طرفة في معلقته.
7 هذا البيت قائله لبيد في معلقته. وهو ساقط في أ.(1/71)
وقوله 1:
فوالله لا أنسى قتيلًا رزئتهو ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرضي2
وفيها:
ولم أدر من ألقى عليه رداء هو ... على3 أنه قد سل عن ماجد محضي
وأمثاله كثير. كل ذلك الوقوف على عروضه مخالف للوقوف على ضربه ومخالف أيضًا لوقوف الكلام غير الشعر. ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا الموضع في علم القوافي. وقد كان يجب أن يذكر ولا يهمل.
"رجع" وكذلك جميع ما جاء من الكلم على حرف واحد: عامته على الفتح إلا الأقل وذلك نحو همزة الاستفهام وواو العطف وفائه ولام الابتداء وكاف التشبيه وغير ذلك. وقليل منه مكسور كباء الإضافة4 ولامها4 ولام الأمر ولو عرى ذلك من المعنى الذي اضطره إلى الكسر لما كان مفتوحًا ولا نجد في الحروف المنفردة ذوات المعاني ما جاء مضمومًا هربًا من ثقل الضمة. فأما نحو قولك5: اقتل ادخل استقصي عليه فأمره6 غير معتد إذ كانت هذه الهمزة إنما يتبلغ بها في حال الابتداء ثم يسقطها الإدراج الذي عليه مدار الكلام ومتصرفه 7.
__________
1 هو أبو خراش الهذلي. والقتيل أخوه عروة، وانظر في القصة معجم البلدان في "قوسي".
2 ضبط في الأصول "قوسي" بضم القاف، والذي في المعاجم فتحها وهو اسم موضع بالسراة.
3 في أوياقوت: "سوى" ومعنى هذا أن في البيت روايتين.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "لامه". ولام الإضافة هي لام الجر وكذا باء الإضافة، وحروف الجر يقال لها حروف الإضافة؛ لأنها تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء وانظر الكتاب 209/ 1.
5 سقط في ش، ب.
6 في ش، ب: "فأمر".
7 في ش: "منصرفة".(1/72)
فإن قلت: ومن أين يعلم أن العرب قد راعت هذا الأمر واستشفته1 وعنيت بأحواله وتتبعته حتى تحامت هذه المواضع التحامي الذي نسبته إليها وزعمته مرادًا لها وما أنكرت أن يكون القوم أجفى طباعًا وأيبس طينًا من أن يصلوا من النظر إلى هذا القدر اللطيف الدقيق الذي لا يصح لذي الرقة والدقة منا أن يتصوره إلا بعد أن توضح له أنحاؤه بل أن تشرح له أعضاؤه؟
قيل له: هيهات! ما أبعدك عن تصور أحوالهم, وبعد أغراضهم ولطف أسرارهم, حتى كأنك لم ترهم وقد ضايقوا أنفسهم, وخففوا عن ألسنتهم, بأن اختلسوا الحركات اختلاسًا وأخفوها فلم يمكنوها في أماكن كثيرة ولم يشبعوها؛ ألا ترى إلى قراءة أبي عمرو " مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ " مختلسًا لا محققًا3؛ وكذلك قوله عز وجل: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} مخفي لا مستوفي, وكذلك قوله عز وجل: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} مختلسًا غير ممكن كسر الهمزة, حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة والذي رواه صاحب3 الكتاب اختلاس هذه الحركة لاحذفها البتة, وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنًا. ولم يؤت القوم في ذلك
__________
1 استشف الشيء: نظر ما وراءه. واستشف الكتاب تأمله.
2 كذا في أبقافين، وفي ش كما في المطبوعة: "مخففا"، بفاءين، وما في ب أقرب إلى ما في ش.
3 يريد سيبويه. وانظر كتابه ص297 ج2، وهذا الذي رواه صاحب الكتاب رواه القراء أيضًا، ورووا مع هذا الإسكان. وممن روى الإسكان أبو محمد اليزيدي، وهو من هو في القراءة والبصر بالعربية. ومثل أبي محمد ما كان ليرمى بإساءة السمع، وقد روى أدق من هذا وأصنع عن أبي عمرو؛ فقد ذكر أن أبا عمرو كان يشم الهاء من يهدي والخاء من يخصمون شيئًا من الفتح، وهذا من اللطف بمكان. وانظر النشر 216/ 2.(1/73)
من ضعف أمانة، لكن أتوا1 من ضعف دراية. وأبلغ من هذا في المعنى ما رواه2 من قول الراجز:
متى أنام لا يؤرقني الكري ... ليلًا ولا أسمع أجراس المطي
بإشمام القاف من يؤرقني ومعلوم أن هذا الإشمام إنما هو للعين لا للأذن وليست هناك حركة البتة ولو كانت فيه حركة لكسرت الوزن ألا ترى أن الوزن من الرجز ولو اعتدت القاف متحركة لصار من الكامل 3. فإذا قنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالآلة التي من عاداتها أن تستعمل في النطق بها من غير أن يخرجوا إلى حس السمع شيئًا من الحركة مشبعة ولا مختلسة أعني إعمالهم الشفتين للإشمام في المرفوع بغير صوت يسمع هناك لم يبق وراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر ألا ترى4 إلى مصارفتهم5 أنفسهم في الحركة على قلتها ولطفها, حتى يخرجوها تارة مختلسة غير مشبعة وأخرى مشمة للعين لا للأذن. ومما أسكنوا فيه الحرف إسكانًا صريحًا ما أنشده6 من قوله 7:
__________
1 يريد أن الإسكان لا وجه له في العربية، ولو كان القراء على دراية بذلك لترددوا في رواية الإسكان. وقد أفاض العلماء في بيان أن العرب قد تعمد للإسكان تخفيفا، وأن تسكين المرفوع في نحو يشعركم لغة لتميم وأسد، فلا وجه للإنكار من جهة الدراية. وابن جني في الطعن على القراء في هذا الموطن تابع للمبرد قبله، وهذه نزعة جانبهما فيها الإنصاف، وانظر المرجع السابق.
2 أي صاحب الكتاب. انظر كتابه ص450 ج1؛ والكري بكسر الراء وهو الكريّ بشد الياء خففها للضرورة وكذلك المطيّ. والكريّ: مؤخر الدابة للركوب. وضبط في المطبوعة: "الكرى" بفتح الراء وهو خطأ.
3 أي وتوافق الروي في الشطرين آية أنه من الرجز، فإن هذا غير مألوف في الكامل.
4 سقطت هذه العبارة: "ألا ترى" في ش وب وهو مثبتة في أ.
5 يقال: صارف نفسه: صرفها. يريد انصرافهم عن استيفاء الحركة.
6 أي سيبويه وانظر الكتاب ص297 ج2.
7 أي الأقيشر الأسدي -وهو المغيرة بن عبد الله- وكان قد سكر فبدت عورته فضحكت منه امرأته فقال ثلاثة أبيات: هذا البيت، وقبله:
تقول يا شيخ أما تستحي ... من شر بك الخمر على المكبر
فقلت لو باكرت مشمولة ... صفرا كلون الفرس الأشقر
وانظر العيني 416/ 4، والخزانة 279/ 2.(1/74)
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
بسكون النون البتة من "هنك ". وأنشدنا أبو علي رحمه الله لجرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفكم العرب1
بسكون فاء تعرفكم أنشدنا هذا بالموصل سنة إحدى وأربعين2 وقد سئل عن قول الشاعر:
فلما تبين غب أمري وأمره ... وولت بأعجاز الأمور صدور3
وقال الراعي:
تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد
وعلى هذا حملوا بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وبيت الكتاب:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل4
__________
1 "فلا" كذا في ش وب. وفي أ: "ولا" وانظر المخصص 188 ج15، وفي ياقوت في "نهر تيرى": "ولم". وانظر في بني العم الأغاني 3/ 257 طبعة الدار، والسمط 527.
2 أي بعد الثلاثمائة.
3 هذا البيت لنهشل بن حري، "بفتح الحاء وتشديد الراء مكسورة فياء مشددة". ورواه صاحب اللسان في "غيب": "فلما رأى أن غب" إلخ. وغب في هذه الرواية فعل. وفي اللسان في "نأش"، "أنشد يعقوب لنهشل بن حري":
ومولى عصاني واستبد بأمره ... كما لم يطع فيما أشار قصير
فلما رأى ما غب أمري وأمره ... وباءت بأعجاز الأمور صدور
تمنى نئيشًا أن يكون أطاعني ... ويحدث من بعد الأمور أمور
قوله: "تمنى نئيشًا" أي تمنى في الأخير وبعد الفوت أن لو أطاعني وقد حدثت أمور لا يستدرك بها ما فات, أي أطاعني في وقت لا تنفعه فيه الطاعة, والبيت من شواهد الكشاف. وانظر حماسة البحتري 274.
4 قائله امرؤ القيس وقد أورده في الكتاب ص297 ج2.(1/75)
وعليه ما أنشده1 من قوله:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم2
واعتراض أبي العباس في هذا الموضع3 إنما هو رد للرواية وتحكم على السماع بالشهوة مجردة4 من النصفة ونفسه ظلم لا من جعله خصمه. وهذا واضح.
ومنه إسكانهم نحو رسل, وعجز, وعضد, وظرف, وكرم, وعلم, وكتف, وكبد وعصر. واستمرار ذلك في المضموم والمكسور, دون المفتوح, أدل دليل -بفصلهم بين الفتحة وأختيها- على ذوقهم الحركات واستثقالهم بعضها5 واستخفافهم الآخر 5. فهل هذا ونحو إلا لإنعامهم النظر في هذا القدر اليسير, المحتقر من الأصوات فكيف بما فوقه من الحروف التوام, بل الكلمة من جملة الكلام.
وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني6 عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم سهل7 بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في القراءات قال:
__________
1 أنشده، أي صاحب الكتاب وانظر كتابه ص297 ج2، وقد اعتمدت في إثبات هذه الصيغة على ج. وفي بقية الأصول: "أنشدوه".
2 عجزه:
بالدو أمثال السفين العوم
وانظر المرجع السابق. ونسب هذا الرجز السيرافي في "باب ما يحتمل الشعر" إلى أبي نخيلة.
3 كذا في الأصول الخطية، وفي المطبوعة: "الموضوع".
4 كذا في الأصول الخطية، وفي المطبوعة: "مجردا".
5 كذا في ش وب. وفي أ: "بعضا ... آخر".
6 نسبة إلى قرميسين: بلد بالعجم. وقد ضبطها صاحب القاموس بكسر القاف، وصاحب معجم البلدان بفتحها. وإبراهيم هذا قد يكون الذي في طبقات الفراء لابن الجزري. ففيها: "إبراهيم بن أحمد بن الحسن بن مهران أبو إسحاق القرماسيني" انظر الطبقات ص7 ج1. ويقول ابن جني في مقدمة كتابه المحتسب عن كتاب أبي حاتم السجستاني في القراءات: "أخبرنا به أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم" ومن هذا يبين أن هذين الرجلين كانا من القراء.
7 هو إمام البصرة في النحو والقراءة واللغة والعروض، قال ابن الجزري: "وأحسبه أول من صنف في القراءات". كانت وفاته سنة 255 وانظر طبقات ابن الجزري، رقم 1403.(1/76)
قرأ علي أعرابي بالحرم: " طيبي لهم وحسن مآب " فقلت: طوبى فقال: طيبي, فأعدت فقلت: طوبى فقال: طيبي فلما طال علي قلت: طوطو قال: "طي طي"1. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي وأنت تعتقده جافيًا كزّا لا دمثًا ولا طيعًا؛ كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء فلم يؤثر فيه التلقين, ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين, وما ظنك به إذا خلي مع سومه2 وتساند إلى سليقيته3 ونجره.
وسألت يومًا أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي -تميم4 جوثة- فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال: أقول: ضربت أخاك. فأدرته5 على الرفع فأبى, وقال: لا أقول: أخوك أبدًا. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا, فقال: أيش هذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام وإعطائهم إياه في كل موضع حقه, وحصته من الإعراب, عن ميزة6 وعلى بصيرة, وأنه ليس استرسالًا ولا ترجيمًا. ولو كان كما توهمه هذا
__________
1 كتب هكذا بفصل الكلمتين فإنه لا يريد تكوين كلمة من هذين المقطعين، وفي هامش أ: "طيطي".
2 أي ترك يفعل كيف يشاء وأصل ذلك في الماشية وهي ترسل المرعى ترعى حيث شاءت؛ فيقال: خلاها وسومها.
3 كذا في أ. وفي ش وب: "سليقته". وكلاهما صحيح. يقال فلان يقرأ بالسليقية إذا كان يقرأ بطبعه لا عن تعلم. والتجر: الأصل والطبيعة.
4 جوثة بضم الجيم وسكون الواو: اسم حي أو موضع نسبت إليه تميم. وتميم تقرأ بالنصب أي أعني، وسمع جرها على حذف المضاف وإبقاء جر المضاف إليه أي صاحب تميم، وللكوفيين في الجر توجيه آخر، وانظر الصبان في أول النسب.
5 يقال: أدرت فلانا على الأمر إذا حاولت إلزامه إياه.
6 هذا الضبط عن أ. وفي اللسان: ماز الشيء ميزًا وميزة -بكسر الميم- وميّزه: فصل بعضه من بعض.(1/77)
السائل لكثر اختلافه وانتشرت جهاته ولم تنقد مقاييسه. وهذا موضع نفرد له بابًا بإذن الله تعالى فيما بعد. وإنما أزيد في إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنه موضع الغرض: فيه تقرير الأصول وإحكام معاقدها والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها ومواردها وبه وبأمثاله تخرج أضغانها وتبعج أحضانها ولا سيما هذا السمت الذي نحن عليه ومرزون1 إليه؛ فاعرفه, فإن أحدًا لم يتكلف الكلام على علة إهمال ما أهمل واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه والاستعانة على إصابة غروره2 ومطاويه لزومك محجة القول بالاستثقال والاستخفاف ولكن كيف وعلام ومن أين فإنه باب يحتاج منك إلى تأن, وفضل بيان وتأت. وقد دققت لك بابه بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامي في هذا الفصل أو ترين أن المقنع فيه كان دون هذا القدر فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمله علمت أنه منبهة للحس مشجعة للنفس.
وأما السؤال عن علة عدل عامر وجاشم وثاعل وتلك الأسماء المحفوظة, إلى فُعل: عمر وجشم وثعل وزحل وغدر دون أن يكون هذا العدل في مالك وحاتم وخالد نحو ذلك فقد تقدم الجواب عنه فيما فرط: أنهم لم يخصوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره إلا لاعتراضهم طرفًا مما أطف لهم من جملة لغتهم كما عن وعلى ما اتجه لا لأمر خص هذا دون غيره مما هذه سبيله؛ وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله؛ ولكن لا ينبغي أن تخلد إليها إلا بعد السبر والتأمل, والإنعام والتصفح؛ فإن
__________
1 مرزون: مستندون، من أرزيت إلى الله: استندت.
2 جمع غر، وهو موضع تكسر الثوب أو الجلد، وهو هنا يرادف "مطاويه" وقد ثبت في رسم هذه الكلمة أ، وفي ش وب: "غرره". وفي المطبوعة: "غيره".(1/78)
وجدت غدرًا مقطوعًا به صرت إليه واعتمدته وإن تعذر ذلك, جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال فإنك لا تعدم هناك مذهبًا تسلكه ومأمًّا تتورّده. فقد أريتك في ذلك أشياء: أحدها استثقالهم الحركة التي هي أقل من الحرف حتى أفضوا في ذلك إلى أن أضعفوها واختلسوها ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها فحذفوها ثم ميلوا1 بين الحركات فأنحو على الضمة والكسرة لثقلهما، وأجموا2 الفتحة في غالب الأمر لخفتها فهل هذا إلا لقوة نظرهم ولطف استشفافهم وتصفحهم.
أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجري شعرًا لنفسه, فيه بنو عوف, فقال له بعض الحاضرين: أتقول: بنو عوف أم بني عوف شكًا من السائل في بني وبنو فلم يفهم الشجري ما أراده وكان في ثنايا السائل فضل فرق3، فأشبع الصويت الذي يتبع الفاء في الوقف فقال الشجري مستنكرًا لذلك: لا أقوى في الكلام على هذا النفخ.
وسألت غلامًا من آل المهيا فصيحًا عن لفظة من كلامه لا يحضرني الآن ذكرها فقلت: أكذا أم كذا فقال: " كذا بالنصب لأنه أخف " فجنح إلى الخفة وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ. وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها مذكورة عندهم في الإنشاد الذي يقال له النصب مما يتغنى به الركبان. وسنذكر فيما بعد بابًا نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما4 لا يجوز ذلك فيه بإذن الله.
__________
1 يقال: ميل بين الأمرين: تردد فيهما أيهما يأخذ.
2 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "أحموا"، وإجمام الفتحة: تركها؛ يقال: أجم البئر، تركها يجتمع ماؤها، فلا يستقي منها. وأحمى لغة في حمى، يقال: أحمى عرضه: جماه.
3 القرق -بالتحريك- تباعد ما بين الشينين؛ كالفلج.
4 كذا في الأصول، والأسلوب المعروف في هذا أن يقال: وما لا يجوز.(1/79)
ومما يدلك على لطف القوم ورقتهم مع تبذلهم وبذاذة ظواهرهم؛ مدحهم بالسباطة والرشاقة، وذمهم بضدها من الغلظة والغباوة1، ألا ترى إلى قولها2:
فتى قد قد السيف لا متآزف ... ولا رهل لباته وبآدله
وقول جميل في خبر3 له:
وقد رابني من جعفر أن جعفرًا ... يبث هوى ليلى ويشكو هوى جمل
فلو كنت عذري الصبابة لم تكن ... بطينًا وأنساك الهوى كثرة الأكل
وقول عمر:
قليلًا على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر4
وإلى الأبيات المحفوظة في ذلك وهي قوله 5:
ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقل
وأظن هذا الموضع لو جمع لجاء مجلدًا عظيمًا.
__________
1 في ش: "القساوة".
2 يريد زينب أخت يزيد بن الطثرية -بفتح الطاء والمثلثة- من كلمة هلا ترثيه بها، ويقال: البيت للعجير السلولي، يرثي رجلا من بني عمه, وهو في الحماسة في شعر العجير ببعض تغيير، والمتآزف من الرجال: القصير، أو الضعيف الجبان، وضبط في أ، ب، متآزف على متفعل. وهو خطأ. وانظر في المرئية الأمالي 99/ 2.
3 وهو أنه أضاف رجلا وقدم له طعامًا شهيًّا، فجعل الرجل يحدث جميلا عن بنت عم له يحبها ويأكل حتى أتى على الطعام، فقال هذا الشعر، وقد أورد القالي في الذيل 207 البيتين ببعض تغيير من غير عزو. وانظر السمط 96 وأورد في الكامل 91-6: "وأنشدت لأعرابي":
وقد رابني من زهدم أن زهدما ... يشد على خبزي ويبكي على جمل
فلو كنت عذري العلاقة لم تكن ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
4 من قصيدته التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائج فمهجو
وقوله: "قليلا" كذا في ج، والأغاني 1/ 82 طبعة الدار، وفي سائر الأصول: "قليل"، هو وصف لـ"رجلا" في البيت قبله، وهو:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيحضر
5 يريد أبا كبير الهذلي، والبيت من قصيدة له في الحماسة.(1/80)
وحدثني أبو الحسن علي بن عمرو عقيب منصرفه من مصر هاربًا متعسفًا قال: أذم1 لنا غلام -أحسبه قال من طيء- من بادية الشام, وكان نجيبًا متيقظًا, يكنى أبا الحسين ويخاطب بالأمير فبعدنا عن الماء في بعض الوقت فأضر ذلك بنا قال: فقال لنا ذلك الغلام: على رسلكم فإني أشم رائحة الماء. فأوقفنا2 بحيث كنا وأجرى فرسه فتشرف3 ههنا مستشفًا4 ثم عدل عن ذلك الموضع إلى آخر مستروحًا للماء ففعل ذلك دفعات ثم غاب عنا شيئًا وعاد إلينا فقال: النجاة والغنيمة سيروا على اسم الله تعالى فسرنا معه قدرًا من الأرض صالحًا فأشرف بنا على بئر فاستقينا وأروينا. ويكفي من ذلك ما حكاه5 من قول بعضهم لصاحبه: ألا تا فيقول الآخر مجيبًا له: بلى فا وقول الآخر:
قلنا لها قفي لنا قالت قاف
ثم تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا: " رب إشارة أبلغ من عبارة " نعم وقد يحذفون بعض الكلم استخفافًا حذفًا يخل بالبقية ويعرض لها الشبه6؛ ألا ترى إلى قول علقمة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم7
__________
1 أي أخذ له الذمة والأمان. وهو هكذا في أ. وفي بقية الأصول: "إذ مر"، ولا معنى له في هذا الموضع.
2 في ش: "فوقفنا".
3 فتشرف: فتطلع.
4 مستشفا: متأملا.
5 أي سيبويه، وانظر ما تقدم في ص31.
6 كذا في ب. وفي أ: "الشبهة".
7 المفدم: الذي على فمه خرقة، وملثوم متلفف بها من تلثم بعمامته إذا شدها على فمه. و"ملثوم" كذا في اللسان وهو رواية في البيت. والرواية الأخرى: "مرثوم". والمرثوم: الذي قد رثم أنفه وكسر، والبيت من قصيدة مفضلية.(1/81)
أراد: بسبائب 1. وقول لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان
أراد المنازل. وقول الآخر 2:
حين ألقت بقباء بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل3
يريد عبد الأشهل من الأنصار, وقول أبي داود:
يذرين جندل حائر لجنوبها ... فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أي تصيب بالحصى في جريها جنوبها وأراد الحباحب4 وقال الأخطل:
أمست مناها بأرض ما يبلغها ... بصاحب الهم إلا الجسرة الأجد5
قالوا: يريد منازلها ويجوز أن يكون مناها قصدها 6.
__________
1 واحدها سبيبة، وهي الشقة البيضاء من الثوب. ويقول ابن سيده في المخصص ج15 ص167 بعد أن أورد عجز بيت علقمة: "قيل: إنه أراد السبائب فحذف، وهو من شاذ الحذف. وقيل إن السبا هي السبائب، وليس على الحذف".
2 هو ابن الزبعرى، كما في اللسان مادة "برك"، وانظر ترجمته في الأغاني ج14 ص11.
3 من قصيدة قالها في غزوة أحد, وهو يومئذ مشرك يفتخر فيها بهزيمة المسلمين وانتصار قريش. وقبله:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج عن وقع الأسل
وقوله: "حين ألقت" يروى "حين حكت" والضمير فيهما للحرب، والبرك: وسط الصدر أي حين أناخت الحرب فيهم. وانظر السمط 387 وسيرة ابن هشام في غزوة أحد.
4 وهو يريد فار الحباحب، وهي نار ضعيفة، والحباحب دويبة تطير كالشرارة أضيف إليه النار، وقيل فيه غير ذلك.
5 من قصيدته التي مطلعها:
حلت ضبيرة أمواه العداد وقد ... كانت تحل وأدنى دارها ثكد
وقبل البيت:
يا ليت أخت بين دب يريع بها ... صرف النوى فينام العائر السهد
وانظر الديوان 169.
6 وأنت الفعل لأن المنى اكتسب التأنيث من المضاف إليه، على حد قولهم: قطعت بعض أصابعه، أو أن في "أمست" ضمير من يتحدث عنها، وجملة "مناها بأرض ... " هي الخبر. وانظر اللسان في "منا".(1/82)
ودع هذا كله, ألم تسمع إلى ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها, والأسماء المشروط بها كيف أغنى الحرف الواحد عن الكلام الكثير المتناهي في الأبعاد والطول فمن ذلك قولك: كم مالك ألا ترى أنه قد أغناك ذلك عن قولك: أعشرة مالك أم عشرون أم ثلاثون أم مائة أم ألف فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ ذلك أبدًا لأنه غير متناه فلما قلت: " كم " أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الإطالة غير المحاط بآخرها ولا المستدركة. وكذلك أين بيتك؛ قد أغنتك "أين " عن ذكر الأماكن كلها. وكذلك من عندك قد أغناك هذا عن ذكر الناس كلهم. وكذلك متى تقوم قد غنيت بذلك عن ذكر الأزمنة على بعدها. وعلى هذا بقية الأسماء من نحو: كيف وأي وأيان وأنى. وكذلك الشرط في قولك: من يقم أقم معه فقد كفاك ذلك من ذكر جميع الناس ولولا هو لاحتجت أن تقول: إن يقم زيد أو عمرو أو جعفر أو قاسم ونحو ذلك, ثم تقف حسيرًا مبهورًا ولما1 تجد إلى غرضك سبيلًا. وكذلك بقية أسماء العموم في غير الإيجاب: نحو أحد وديار وكتيع وأرم وبقية الباب. فإذا قلت: هل عندك أحد أغناك ذلك عن أن تقول: هل عندك زيد أو عمرو أو جعفر, أو سعيد أو صالح فتطيل ثم تقصر إقصار المعترف الكليل وهذا وغيره أظهر أمرًا وأبدى صفحة وعنوانًا. فجميع ما مضى وما نحن بسبيله مما أحضرناه, أو نبهنا عليه فتركناه شاهد بإيثار القوم قوة إيجازهم وحذف فضول كلامهم. هذا مع أنهم في بعض الأحوال قد يمكنون ويحتاطون وينحطون في الشق2 الذي
__________
1 كذا في أ. وفي ش وب: "لم".
2 في ج: "الشيء". وقوله: "ينحطون في الشق الذي يؤمون" أي يجتهدون فيه ويبذلون فيه وسعهم؛ من قولهم: انحطت الناقة في سيرها: أسرعت، وانحط في هوى فلان: سارع إلى إرضائه.(1/83)
يؤمون, وذلك في التوكيد نحو جاء القوم أجمعون, أكتعون, أبصعون, أبتعون1؛ وقد قال جرير:
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا2
فزاد الزاد في آخر البيت توكيدًا لا غير.
وقيل لأبي عمرو: أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ 3. قيل: أفكانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ4 عنها.
واعلم أن العرب -مع ما ذكرنا- إلى الإيجاز أميل, وعن الإكثار أبعد. ألا ترى أنها في حال إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها, ودالة على أنها إنما تجشمتها لما عناها هناك وأهمها؛ فجعلوا تحمل ما في ذلك على العلم بقوة الكلفة فيه دليلا على إحكام الأمر فيما هم عليه.
ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة -مع مجيئها بها للضرورة الداعية إليها- أنهم لما أكدوا فقالوا: أجمعون, أكتعون, أبصعون, أبتعون, لم يعيدوا أجمعون البتة فيكرروها فيقولوا: أجمعون, أجمعون, أجمعون, أجمعون, فعدلوا عن إعادة جميع الحروف إلى البعض تحاميًا -مع الإطالة- لتكرير الحروف كلها.
فإن قيل: فلم اقتصروا على إعادة العين وحدها, دون سائر حروف الكلمة قيل: لأنها أقوى في السجعة من الحرفين اللذين قبلها وذلك أنها لام فهي قافية لأنها آخر حروف الأصل فجيء بها؛ لأنها مقطع الأصول والعمل في المبالغة والتكرير إنما هو على المقطع لا على المبدأ, ولا المحشى 4.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، ج سقط هذا اللفظ.
2 من قصيدة له في مدح عمر بن عبد العزيز. وانظر الخزانة 4/ 110 والديوان 1/ 53.
3 كذا في ج. وفي أ: "لتبليغ"، وكتب فوقه "لتؤكد" ويبدو أن هذا تفسير لتبلغ أو إشارة لنسخة أخرى. وفي ش، ب: "لتؤكد".
4 في ش: "ليخفف".
5 "المحشى": مكان الحشو. ويراد به وسط الكلمة.(1/84)
ألا ترى أن العناية في الشعر إنما هي بالقوافي لأنها المقاطع وفي السجع كمثل ذلك. نعم, وآخر السجعة والقافية أشرف عندهم من أولها والعناية بها أمس والحشد عليها أوفى وأهم. وكذلك كلما تطرف الحرف في القافية ازدادوا عناية به ومحافظة على حكمه.
ألا تعلم كيف استجاوزا الجمع بين الياء والواو ردفين نحو: سعيد, وعمود. وكيف استكرهوا اجتماعهما وصلين نحو قوله: "الغراب1 الأسودو" مع قوله أو "مغتدى" 1 وقوله في "غدى "1 وبقية قوافيها وعلة جواز اختلاف الردف وقبح اختلاف الوصل هو حديث التقدم والتأخر لا غير. وقد أحكمنا هذا الموضع في كتابنا المعرب -وهو تفسير قوافي أبي الحسن- بما أغنى عن إعادته هنا. فلذلك جاءوا لما كرهوا إعادة جميع حروف أجمعين بقافيتها؛ وهي العين لأنها أشهر حروفها إذ كانت مقطعًا لها. فأما الواو والنون فزائدتان لا يعتدان2 لحذفهما في أجمع وجمع وأيضًا فلأن الواو قد تترك فيه إلى الياء، نحو أجمعون وأجمعين. وأيضا لثبات النون وحذفها أخرى، في غير هذا الموضع، فلذلك لم يعتدا مقطعا.
__________
1 من قصيدة النابغة التي أولها:
أمن آل مية رائح أو مغند ... عجلان ذا زاد وغير مزود
ويقوله فيها:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "لا يعتد بحذفهما" وهذا غير ظاهر المعنى، وما أثبته هو الصحيح، ويقرأ يعتدان بالبناء للمفعول، أي لا يحسبان؛ يقال: عده واعتده في معنى واحد. ويقرأ أيضًا بالبناء للفاعل؛ يقال: عده فاعتد. وفي ج: "ولم يعتدوا بالواو والنون لزيادتهما وسقوطهما في أجمع وجمع" وهي ظاهرة.(1/85)
فإن قلت: إن هذه النون إنما تحذف مع الإضافة وهذه الأسماء التوابع نحو "أجمعين وبابه " مما لم تسمع إضافته فالنون فيها ثابتة على كل حال فهلا اقتصر عليها, وقفيت الكلم كلها بها.
قيل: إنها1 وإن لم يضف هذا الضرب من الأسماء فإن إضافة هذا القبيل من الكلم في غير هذا الموضع مطردة منقادة نحو: مسلموك وضاربو زيد وشاتمو جعفر, فلما كان الأكثر فيما جمع بالواو والنون إنما هو جواز إضافته حمل الأقل في ذلك عليه وألحق في الحكم به.
فأما قولهم: أخذ المال بأجمعه فليس أجمع هذا هو أجمع من قولهم: جاء الجيش أجمع وأكلت الرغيف أجمع من قبل أن أجمع هذا الذي يؤكد به لا يتنكر2 هو ولا ما يتبعه أبدًا نحو أكتع, وجميع هذا الباب, وإذا لم يجز تنكيره كان من الإضافة أبعد إذ لا سبيل إلى إضافة اسم إلا بعد تنكيره وتصوره كذلك. ولهذا لم يأت عنهم شيء من إضافة أسماء الإشارة ولا الأسماء المضمرة إذ ليس فيها ما ينكر. ويؤكد ذلك عندك أنهم قد قالوا في هذا المعنى: جاء القوم بأجمعهم بضم الميم فكما أن هذه غير تلك لا محالة فكذلك المفتوحة الميم هي غير تلك. وهذا واضح.
وينبغي أن تكون "أجمع " هذه المضمومة العين3 جمعًا مكسرًا لا واحدًا مفردًا من حيث كان هذا المثال مما يخص التكسير دون الإفراد وإذا كان كذلك فيجب أن يعرف خبر واحده ما هو. فأقرب ذلك إليه أن يكون جمع "جمع" من قول
__________
1 الضمير للقصة؛ على حد قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} .
2 كذا في الأصول الخطية. وفي المطبوعة: "ينكر".
3 وهي الميم في هذه الكلمة.(1/86)
الله سبحانه {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . ويجوز عندي أيضًا أن يكون جمع أجمع على حذف الزيادة وعليه حمل أبو عبيدة قول الله تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أنه جمع أشد, على حذف الزيادة. قال: وربما استكرهوا على حذف هذه الزيادة في الواحد, وأنشد بيت عنترة 1:
عهدي به شد النهار ...
أي أشد النهار, ويعني أعلاه وأمتعه وذهب سيبويه في أشد هذه إلى أنها جمع شدة كنعمة وأنعم. وذهب أبو عثمان2 فيما رويناه عن أحمد2 بن يحيى عنه إلى أنه جمع لا واحد له.
ثم لنعد فنقول: إنهم إذا كانوا في حال إكثارهم وتوكيدهم مستوحشين منه مصانعين3 عنه علم أنهم إلى الإيجاز أميل, وبه أعنى وفيه أرغب؛ ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام: من كثرة الحذوف كحذف المضاف وحذف الموصوف والاكتفاء بالقليل من الكثير كالواحد من الجماعة وكالتلويح من التصريح. فهذا ونحوه -مما يطول إيراده وشرحه- مما يزيل الشك عنك في رغبتهم فيما خف وأوجز عما طال وأملّ, وأنهم متى اضطروا إلى الإطالة لداعي حاجة أبانوا عن ثقلها عليهم, واعتدوا بما كلفوه من ذلك أنفسهم وجعلوه كالمنبهة على فرط عنايتهم وتمكن الموضع عندهم, وأنه ليس كغيره مما ليست له حرمته ولا النفس معنية به.
__________
1 في المعلقة، وتتمته:
... ... ... كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم
2 أبو عثمان المازني، كانت وفاته سنة 249هـ وأحمد بن يحيى ثعلب وكانت وفاته 291، ويقضي هذا النص أن ثعلبًا أخذ عن المازني. وجاء في سر الصناعة في حرف الباء: "أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى، قال: قال أبو عثمان يعني المازني ... ", وأحمد بن يحيى الذي يروي عنه محمد بن الحسن هو ثعلب بلا ريب.
3 المصانعة: المداراة. وقد ضمن "مصانعين" معنى النفور والبعد فعداه بعن.(1/87)
نعم, ولو لم يكن في الإطالة في بعض الأحوال إلا الخروج إليها عما قد ألف ومل من الإيجاز لكان مقنعًا.
ألا ترى إلى كثرة غلبة الياء على الواو في عام الحال ثم مع هذا فقد ملوا ذلك إلى أن قلبوا الياء واوًا قلبًا ساذجًا أو كالساذج لا لشيء أكثر من الانتقال من حال إلى حال فإن المحبوب إذا كثر مُلّ, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم 1: "يا أبا هريرة زر غبًّا تزدد حبًّا" , والطريق في هذا بحمد الله واضحة مهيع. وذلك الموضع الذي قلبت فيه الياء واوًا على ما ذكرنا لام فَعْلى إذا كانت اسمًا من نحو: الفتوى والرعوى2 والثنوى2 والبقوى2 والتقوى والشروى2 والعوى "لهذا النجم ". وعلى ذلك أو قريب منه قالوا: عوى الكلب عوة. وقالوا: الفتُوّة وهي من الياء وكذلك النَّدُوّة3. وقالوا: هذا أمر ممضُوّ عليه وهي المضواء4, وإنما هي من مضيت لا غير.
وقد جاء عنهم: رجل مهوب وبُرّ مكول5 ورجل مسور به6. فقياس هذا كله على قول الخليل أن يكون مما قلبت فيه الياء واوًا؛ لأنه يعتقد أن المحذوف من هذا ونحوه إنما هو واو مفعول لا عينه وأنسه بذلك قولهم: قد هوب, وسور به وكول.
واعلم أنا -مع ما شرحنا وعنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه, وإلحاقها بعلل الكلام- لا ندعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين ولا عليها
__________
1 رواه الطبراني وغيره. وله أسانيد حسان، انظر شرح الجامع الصغير، وقوله: "غبًّا" أي وقتا بعد وقت، وانتصابه على الظرف، وانتصاب "حبًّا" على التمييز والتفسير، وانظر البلوي 151/ 2.
2 الرعوى: بمعنى المراعاة والحفظ. والثنوي: اسم من الاستثناء، والبقوى: اسم بمعنى الإبقاء، والشروى: المثل. وقد جعل المؤلف الإبدال في هذا الباب ساذجا أو كالساذج وإن كان للفرق بين الاسم والصفة لما كان غير مبني على الاستثقال والاستخفاف الذي هو الأصل في حديث الإعلال.
3 من الندى، وهو ما يسقط بالليل من البلل.
4 المضواء "بضم الميم": التقدم.
5 هذه لغة بني أسد. ومكول مفعول من الكيل.
6 رجل مسور به. وكذا طريق مسور فيه، وهما من السير.(1/88)
براهين المهندسين غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين: أحدهما واجب لا بد منه؛ لأن النفس لا تطيق في معناه غيره. والآخر ما يمكن تحمله إلا أنه على تجشم واستكراه له.
الأول -وهو ما لا بد للطبع منه: قلب الألف واوًا للضمة قبلها, وياء للكسرة قبلها. أما الواو فنحو قولك في سائر: سويئر وفي ضارب: ضويرب. وأما الياء فنحو قولك في نحو تحقير قرطاس وتكسيره: قريطيس وقراطيس. فهذا ونحوه مما لا بد منه؛ من قبل أنه ليس في القوة ولا احتمال الطبيعة وقوع الألف المدة1 الساكنة بعد الكسرة ولا الضمة. فقلب الألف على هذا الحد علته الكسرة والضمة قبلها. فهذه علة برهانية ولا لبس فيها ولا توقف للنفس عنها. وليس كذلك قلب واو عصفور ونحوه ياء إذا انكسر ما قبلها نحو: عصيفير وعصافير؛ ألا ترى أنه قد يمكنك تحمل المشقة في تصحيح هذه الواو بعد الكسرة؛ وذلك بأن تقول عصيفور وعصافور. وكذلك نحو: موسر وموقن وميزان وميعاد لو أكرهت نفسك على تصحيح أصلها لأطاعتك عليه وأمكنتك منه وذلك قولك: موزان وموعاد وميسر وميقن. وكذلك ريح وقيل قد كنت قادرًا أن تقول: قول وروح لكن مجيء الألف بعد الضمة أو الكسرة أو السكون محال ومثله لا يكون. ومن المستحيل جمعك2 بين الألفين المدتين نحو ما صار إليه قلب لام
__________
1 هذا القيد للاحتراز عن الألف اليابسة، وهي الهمزة، وقد يعبر عن الألف المدة بالألف اللينة.
2 بعد أن ساق سيبويه مذهب يونس وناس من النحويين في توكيد المسند إلى الاثنين أو نون النسوة بنون التوكيد الخفيفة فيقال عندهم: اضربان زيدا واضربنان زيدا قال: "ويقولون في الوقف اضربا واضربنا فيمدون، وهو قياس قولهم؛ لأنهما تصير ألفا فإذا اجتمعت ألفان مد الحرف، وترى سيبويه يتصور اجتماع ألفين: وفي السيرافي أن الزجاج كان ينكر هذا. وسيشير المؤلف إلى هذا في ص94، وانظر الكتاب 157/ 2.(1/89)
كساء ونحوه قبل إبدال الألف همزة وهو خطا كساا, أو قضاا, فهذا تتوهمه تقديرًا ولا تلفظ به البتة. قال أبو إسحاق يومًا لخصم نازعه في جواز اجتماع الألفين المدتين -ومد الرجل الألف في نحو هذا, وأطال- فقال له أبو إسحاق: لو مددتها إلى العصر ما كانت إلا ألفًا واحدة.
وعلة امتناع ذلك عندي أنه قد ثبت أن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا فلو التقت ألفان مدتان لانتقضت القضية في ذلك؛ ألا ترى أن الألف الأولى قبل الثانية ساكنة وإذا كان ما قبل الثانية ساكنًا كان ذلك نقضًا في الشرط لا محالة. فأما قول أبي العباس في إنشاد سيبويه 1:
دار لسعدى إذه من هواكا
إنه خرج من باب الخطأ إلى باب الإحالة؛ لأن الحرف الواحد لا يكون ساكنًا متحركًا في حال2، فخطأ عندنا. وذلك أن الذي قال: " إذه من هواك " هو الذي يقول في الوصل: هي قامت, فيسكن الياء، وهي لغة3 معروفة, فإذا حذفها في الوصل اضطرارًا واحتاج إلى الوقف ردها حينئذ فقال: هي, فصار الحرف المبدوء به غير الموقوف عليه فلم يجب من هذا أن يكون ساكنًا متحركًا في حال وإنما كان قوله: " إذه" على لغة من أسكن الياء لا لغة من حركها من قبل أن الحذف ضرب من الإعلال. والإعلال إلى السواكن لضعفها أسبق منه إلى المتحركات لقوتها. وعلى هذا قبح قوله:
__________
1 انظر الكتاب 1/ 9.
2 يريد أن بقاء الضمير المنفصل على حرف واحد يعرضه للسكون عند الوقف عليه والتحريك عند البدء به، وهو عرضة للبدء مع الوقف دائمًا؛ فمن هنا جاءت الاستحالة التي زعمها المبرد. ويرد ابن جني على المبرد بأن الوقف يقضي برد المحذوف؛ فيكون الوقف عليه وتسكينه، فأما الحرف الباقي فلا يعرض له السكون.
3 هي لغة بعض بني أسد وقيس يقولون: هي فعلت؛ بإسكان الباء.(1/90)
لم يك الحق سوى أن هاجه ... رسم دار قد تعفى بالسرر1
لأنه موضع يتحرك فيه الحرف في نحو قولك: لم يكن الحق.
وعلة جواز هذا البيت ونحوه مما حذف فيه ما يقوى بالحركة, هي أن هذه الحركة إنما هي لالتقاء2 الساكنين وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدة فكأن النون ساكنة وإن كانت لو أقرت لحركت, فإن لم تقل بهذا لزمك أن تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم: اردد الباب واصبب الماء واسلل السيف. وأن تحتج3 في دفع ذلك بأن تقول: لا أجمع بين مثلين متحركين. وهذا واضح.
ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان في لغة العجم, فإن طريق الحس موضع تتلاقى عليه طباع البشر, ويتحاكم إليه الأسود والأحمر, وذلك قولهم: "آرد " للدقيق4 و "ماست " للبن4؛ فيجمعون بين ثلاثة سواكن. إلا أنني لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول5 ألفًا, وذلك أن الألف لما قاربت بضعفها وخفائها الحركة صارت " ماستْ" كأنها مَسْت.
__________
1 هذا البيت لشاعر جاهلي، اسمه حسيل -بضم الحاء وفتح السين- بن عرفطة وضمير "هاجه" عائد إلى العاشق في بيت قبله. و"وتعفى" أي الرسم، وفي أكتب فوقه "تعفت" أي الدار، وهي رواية. والسرر -بفتحتين- اسم واد يدفع من اليمامة إلى حضرموت. وانظر الخزانة ص72 ج4 ونوادر أبي زيد الأنصاري ص77. وفيها "على" بدل "سوى". وبعد هذا البيت في ج:
غير الجدة من عرفانه ... خرق الريح وطوقان المطر
2 كذا في أ، ج، وفي ش: "لانتفاء".
3 في الأصول: "تجنح" وما أثبته أنسب لقوله: "بأن تقول".
4 سقطت هاتان العبارتان: "للدقيق" و"اللبن" في أ، وأثبتتا في ش، ب.
5 أورد الجاربردي في شرحه للشافية 151 مما اجتمع فيه ثلاث سواكن في كلام العجم "كوشت وبيست", والساكن الأول فيهما ليس ألفا. وكرشت -بكاف فارسية- اللحم، وبيست يقابل في العربية اسم العدد عشرين.(1/91)
فإن قلت: فأجز على هذا الجمع بين الألفين المدتين واعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية.
قيل: هذا فاسد؛ وذلك أن الألف قبل السين في "ماست " إذا أنت استوفيتها أدتك إلى شيء آخر غيرها مخالف لها, وتلك حال الحركة قبل الحرف: أن يكون بينهما فرق ما1، ولو تجشمت نحو ذلك في جمعك في اللفظ بين ألفين مدتين, نحو كساا, وحمراا, لكان مضافًا إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف إلى ألف مثلها وعلى سمتها, والحركة لا بد لها أن تكون مخالفة للحرف بعدها, هذا مع انتقاض القضية في سكون ما قبل الألف الثانية.
ورأيت مع هذا أبا علي -رحمه الله- كغير المستوحش من الابتداء بالساكن في كلام العجم. ولعمري إنه لم يصرح بإجازته لكنه لم يتشدد فيه تشدده في إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال: وذلك أن العرب قد امتنعت من الابتداء بما يقارب حال الساكن, وإن كان في الحقيقة متحركًا يعني همزة بين بين. قال: فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء به فما الظن بالساكن نفسه! قال: وإنما خفي حال هذا في اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة2، يريد أنها لما كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها وخفيت. وأما أنا فأسمعهم3 كثيرًا إذا أرادوا المفتاح قالوا: "كليد " فإن لم تبلغ الكاف أن تكون
__________
1 ثبت هذا اللفظ في أ، ج، وسقط في ش، ب.
2 الزمزمة: كلام المجوس عند أكلهم، يتراطنون وهم صموت لا يستعملون اللسان ولا الشقة إنما هو صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض, وفي الحديث أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى أحد عماله في أمر المجوس أن ينهاهم عن الزمزمة.
3 أي الفرس ومن يتكلم بلسانهم.(1/92)
ساكنة, فإن حركتها جد مضعفة, حتى إنها ليخفى حالها عليّ, فلا أدري أفتحة هي أم كسرة, وقد تأملت ذلك طويلا فلم أحل1 منه بطائل.
وحدثني أبو علي رحمه الله قال: دخلت "هيتا "2 وأنا أريد الانحدار منها إلى بغداد فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل؛ فعجبت منها وأقمنا هناك أيامًا, إلى أن صلح الطريق للمسير, فإذا أنني قد تكلمت مع القوم بها, وأظنه قال لي: إنني لما بعدت عنهم أنسيتها.
ومما نحن بسبيله مذهب3 يونس في إلحاقه النون الخفيفة للتوكيد في التثنية, وجماعة النساء, وجمعه بين ساكنين في الوصل, نحو قوله: اضربان زيدًا, واضربنان عمرًا, وليس ذلك -وإن كان في الإدراج- بالممتنع في الحس, وإن كان غيره أسوغ فيه منه4، من قبل أن الألف إذا أشبع مدها صار ذلك كالحركة فيها ألا ترى إلى اطراد نحو: شابة, ودابة, وادهامت, والضالين.
فإن قلت: فإن الحرف لما كان مدغمًا خفى, فنبا اللسان عنه وعن الآخر بعده نبوة واحدة, فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد وليست كذلك نون اضربان زيدًا, وأكرمنان جعفرًا, قيل: فالنون الساكنة أيضًا حرف خفي فجرت لذلك نحوًا من الحرف المدغم وقد قرأ نافع: "مَحْيَايْ وَمَمَاتِي" بسكون الياء من "مَحْيَايَ" وذلك لما نحن عليه من حديث الخفاء والياء المتحركة إذا وقعت بعد الألف احتيج لها إلى فضل اعتماد وإبانة وذلك قول الله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ولذلك يحض المبتدئون والمتلقنون على إبانة هذه الياء لوقوعها بعد الألف، فإذا
__________
1 لم أحل منه بطائل: لم أظفر ولم أستفد منه كبير فائدة.
2 هي بلدة على الفرات من نواحي بغداد، ذات نخل كثير وخيرات واسعة.
3 انظر الكتاب 157 ج2.
4 كذا في أ، ب، وفي ش: "منه فيه".(1/93)
كانت من الخفاء على ما ذكرنا وهي متحركة ازدادت خفاء بالسكون نحو محياي فأشبهت حينئذ الحرف المدغم. ونحو من ذلك ما يحكى عنهم من قولهم: "التقت حلقتا البطان " بإثبات الألف ساكنة في اللفظ قبل اللام, وكأن ذلك إنما جاز ههنا لمضارعة اللام1 النون؛ ألا ترى أن في مقطع اللام غنة كالنون وهي أيضًا تقرب من الياء حتى يجعلها بعضهم في اللفظ ياء, فحملت اللام في هذا على النون كما حملت أيضًا عليها في لعلي, ألا تراهم كيف كرهوا النون من لعلني مع اللام, كما كرهوا النون في إنني وعلى ذلك قالوا: هذا بِلْوُسَفَر وبِلْىُ سفرٍ2, فأبدلوا الواو ياء لضعف حجز اللام كما أبدلوها "في قِنْية " ياء لضعف حجز النون, وكأن "قنية " -وهي عندنا من "قنوت " - و "بِلْيًا " أشبه من عِذى3 وصبيان, لأنه لا غنة في الذال والباء 4. ومثل "بِلى " قولهم: فلان من عِلْيَه الناس, وناقة عِلْيَان 5. فأما إبدال يونس هذه النون في الوقف ألفًا وجمعه بين ألفين في اضرباا, واضربناا, فهو الضعيف المستكره الذي أباه أبو إسحاق وقال فيه ما قال6.
ومن الأمر الطبيعي الذي لا بد منه ولا وَعْىَ7 عنه, أن يلتقي الحرفان الصحيحان فيسكن الأول منهما في الإدراج فلا يكون حينئذ بد من الإدغام،
__________
1 أي فأشبه اجتماع الساكنين في "حلقتا البطان" اجتماعهما في اضربان على رأي يونس.
2 هكذا بتقديم الواوي على اليائي في أ، ج. وفي ش، ب بتقديم اليائي. وبلو سفر، وبلى سفر: بلاء السفر والتجارب وحنكته مداورة الشئون.
3 العذى: الزرع لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده عن الياء والعيون، وقد جعل ابن جني الياء فيه مبدلة من الواو، وهذا رأي في اللغة، ويرى بعضهم كصاحب القاموس أن الياء أصلية فيه.
4 هكذا بالياء الموحدة كما في أ، ب. وفي ش والمطبوعة "بالياء" وهو تصحيف، والمراد الذال في عذى والباء في صبيان.
5 يقال: ناقة عليان أي مشرفة، وصوت عليان: جهير.
6 انظر ص90 من هذا الكتاب.
7 يقال: لا وعى لي عن هذا الأمر؛ أي لا بد لي منه.(1/94)
متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو قولك: شد وصب وحل فالادّغام واجب لا محالة ولا يوجدك اللفظ به بدًّا منه. والمنفصلان نحو قولك: خذ ذاك ودع عامرا. فإن قلت: فقد أقدر أن أقول: شدد وحلل فلا أدغم, قيل: متى تجشمت ذلك وقفت على الحرف الأول وقفة ما وكلامنا إنما هو على الوصل. فأما قراءة عاصم: "وقيل من راق " ببيان النون من "من " فمعيب في الإعراب, معيف في الأسماع وذلك أن النون الساكنة لا توقف في وجوب ادّغامها في الراء نحو: من رأيت ومن رآك فإن كان ارتكب ذلك ووقف على النون صحيحة غير مدّغمة, لينبه به على انفصال المبتدأ من خبره فغير مرضي أيضًا ألا ترى إلى قول عدي 2:
من رأيت المنون عرين أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير3
بإدغام نون "من " في راء رأيت. ويكفي من هذا إجماع الجماعة على ادّغام {مَنْ رَاقٍ} وغيره مما تلك سبيله. وعاصم في هذا مناقض لمن قرأ: "فإذا هيتلقف " 4, بإدغام تاء تلقف. وهذا عندي يدل على شدة اتصال المبتدأ بخبره فإذا صارا معًا ههنا كالجزء الواحد فجرى " هيت " في اللفظ مجرى خدب وهجف ولولا أن الأمر كذلك للزمك أن تقدر الابتداء بالساكن, أعني تاء المضارعة من " تتلقف ". فاعرف ذلك. وأما المعتلان فإن كانا مدين منفصلين فالبيان لا غير, نحو: في يده وذو وفرة،
__________
1 كذا في ش. وفي أ، ب: "الاستماع"، وقد كان خيرا لابن جني أن ينزه لسانه عن الوقوع في القراءة الصحيحة المتواترة عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- وغاب عنه أن عاصمًا -وتبعه حفص- يسكت على "من" سكتة لطيفة ثم يبتدئ "راق" وعلى ذلك فلا سبيل إلى الإدغام، وهذه السكتة قصد بها دفع اللبس وألا يتوهم أن "من راق" هي مرّاق فعال من مرق, وانظر النشر 1/ 419 طبعة دمشق، والآلوسي والقرطبي في تفسير سورة القيامة.
2 يريد عدي بن زيد، وانظر القصيدة في الأغاني ص128 ج2 طبعة الدار.
3 عرين: أي تركن وأهملن؛ تقول: عربت الشيء خليته وأهملته. وفي اللسان في "منن": "عزين" في مكان "عرين"، وفي رواية الأغاني مكانهما: خلدن.
4 هو البزي كما في البحر المحيط ص363 ج4. ويريد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} آية 117 سورة الأعراف.(1/95)
وإن كانا متصلين ادّغما نحو: مرضية ومدعوة فإن كان الأول غير لازم فك في المتصل أيضًا نحو قوله:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا1
وقول العجاج:
وفاحم دووى حتى اعلنكسا2
ألا ترى أن الأصل داويت وطاوعت فالحرف الأول إذًا ليس لازمًا. فإن كانا بعد الفتحة ادغما لا غير متصلين ومنفصلين وذلك نحو: قو وجو وحي وعي ومصطفو واقد وغلامي ياسر؛ وهذا ظاهر.
فهذا ونحوه طريق ما لا بد منه؛ "وما لا يجري مجرى التحيز إليه والتخير له"3.
وما منه بد هو الأكثر وعليه اعتماد القول وفيه يطول السؤال والخوض وقد تقدم صدر منه ونحن نغترق4 في آتي الأبواب جميعه ولا قوة إلا بالله فأما إن استوفينا في الباب الواحد كل ما يتصل به -على تزاحم هذا الشأن وتقاود بعضه مع بعض- اضطرت الحال إلى إعادة كثير منه وتكريره في الأبواب المضاهية لبابه وسترى ذلك مشروحًا بحسب ما يعين الله عليه وينهض به.
__________
1 هذا مطلع قصيدة لجرير. وبقية البيت:
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
2 الذي في ديوان العجاج 31: "يفاحم". وهو متعلق بقوله قبل:
أزمان غراء تروق العنسا
3 زيادة في ش، ج.
4 أي نستوعب. والاغتراق والاستغراق معناهما واحد.(1/96)
باب القول على الاطراد والشذوذ:
أصل مواضع "ط ر د " في كلامهم التتابع والاستمرار. من ذلك طردت الطريدة إذ اتبعتها واستمرت بين يديك ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضًا ألا ترى أن هناك كرًّا وفرًّا فكل يطرد صاحبه. ومنه المطرد: رمح قصير يطرد به الوحش واطرد الجدول إذا تتابع ماؤه بالريح. أنشدني بعض أصحابنا لأعرابي:
مالك لا تذكر أو تزور ... بيضاء بين حاجبيها نور
تمشي كما يطرد الغدير
ومنه بيت الأنصاري 1:
أتعرف رسمًا كاطراد المذاهب
أي كتتابع المذاهب وهي جمع مذهب وعليه قول الآخر 2:
سيكفيك الإله ومسنمات ... كجندل لبن تطرد الصلالا
أي تتابع إلى الأرضين الممطورة لتشرب منها, فهي تسرع وتستمر إليها. وعليه بقية الباب.
وأما مواضع "ش ذ ذ" في كلامهم فهو التفرق التفرد؛ من ذلك قوله:
يتركن شذان3 الحصى جوافلا
__________
1 الأنصاري: هو قيس بن الخطيم. والمذاهب. جلود مذهبة بخطوط يرى بعضها في أثر بعض. وبقية البيت:
لعمرة وحشا غير موقف راكب
وانظر اللسان في ذهب وطرد، والديوان 10، وجمهرة أشعار العرب في المذهبات.
2 هو الراعي يصف الإبل واتباعها مواضع المطر. فالمسمات، الإبل ولين: يريد لبنى، وهو واد حوله هضب كثير شبه به الإبل. وقوله تطرد الصلال أي تتابع إليها فحذف الجار وأوصل الفعل والصلال جمع صلة وهي مواقع المطر فيها نبات فالأبل ترعاها، انظر اللسان في طرد وصلل، والمخصص 209/ 10.
3 شذان "بفتح الشين", وهو وصف على فعلان على أنسب بقوله "جوافلا" أن يقرأ: شذان بضم الشين جمعًا.(1/97)
أي ما تطاير وتهافت منه. وشذ الشيء يشِذ ويشُذ شذوذًا وشذًّا وأشذذته أنا, وشذذته أيضًا أشذه "بالضم لا غير" وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذًّا أي متفرقًا. وجمع شاذّ شذّاذ قال:
كبعض من مر من الشذاذ
هذا أصل هذين الأصلين في اللغة. ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمته وطريقه في غيرهما فجعل أهل علم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطردًا وجعلوا ما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذًا حملًا لهذين الموضعين على أحكام غيرهما.
ثم اعلم من بعد هذا أن الكلام في الاطراد والشذوذ على أربعة أضرب: مطرد في القياس والاستعمال جميعًا وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة وذلك نحو: قام زيد وضربت عمرًا ومررت بسعيد.
ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال. وذلك نحو الماضي من: يدر ويدع. وكذلك قولهم "مكان مبقل " هذا هو القياس, والأكثر في السماع باقل, والأول مسموع أيضًا؛ قال أبو داود لابنه داود:"يا بني ما أعاشك بعدي؟ " فقال دواد:
أعاشني بعدك واد مبقل ... آكل من حوذانه2 وأنسل
وقد حكى أيضًا أبو زيد في كتاب "حيلة ومحالة"3: مكان مبقل. ومما يقوى في القياس يضعف في الاستعمال مفعول4 عسى اسمًا صريحًا نحو قولك: عسى زيد
__________
1 يريد أنه أنكر "شذ" متعديا ولا يعرفها إلا فعلا لازما في معنى تفرق لا في معنى فرق.
2 الحوذان. اسم ثبت. وأنسل. يروى بفتح الهمزة؛ ومعناه أسمن حتى يسقط الشعر. ويروى بضمها؛ ومعناه تنسل إبلي وغنمي. وانظر اللسان في "نسل وبقل".
3 انظر معجم الأدباء 1/ 216 طبع مطبعة الحلبي.
4 في ش: "استعمال مفعول", وكذا العبارة في المزهر. وهو يريد بمفعول عسى خبرها.(1/98)
قائمًا أو قيامًا1 هذا هو القياس غير أن السماع ورد بحظره والاقتصار على ترك استعمال الاسم ههنا وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم و {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} . وقد جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي:
أكثرت في العذل ملحًا دائما ... لا تعذلا إني عسيت صائما2
ومنه المثل السائر: " عسى الغوير أبؤسًا ".
والثالث المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس نحو قولهم: أخوص3 الرمث, واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: يقال استصوبت الشيء ولا يقال: استصبت الشيء. ومنه استحوذ وأغيلت4 المرأة واستنوق الجمل واستتيست الشاة وقول زهير:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا5
ومنه استفيل6 الجمل؛ قال أبو النجم:
يدير عيني مصعب مستقيل7
والرابع الشاذ في القياس والاستعمال جميعًا. وهو كتتميم مفعول فيما عينه واو نحو: ثوب مصوون, ومسك مدووف 8. وحكى البغداديون: فرس مقوود،
__________
1 كذا، ولا يعرف هذا، فإن المعنى لا يخبر به من الذات إلا يتأول.
2 رسم "تعذلا" بألف في مكان نون التوكيد الخفيفة وفقا لما في أ، وفي بقية الأصول بالنون.
3 الرمث: شجر ترعاه الإبل، وإخواصه أن يبدو فيه ودق ناعم كأنه خوصة.
4 يقال: أغيلت المرأة ولدها إذا أرضعته وهي حامل.
5 عجز هذا البيت:
وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
واستخوال المال أن يسأل ناقة عارية للبنها وأوبارها أو فرسًا للغزو عليها، وإخواله: إعطاؤه. ويروى يستخبلوا ... يخبلوا. وانظر اللسان "خبل".
6 استفيل الجمل: صار كالفيل.
7 هذا في وصف فحل إبل. والمصعب: الذي لم يذلل. وهذا من أرجوزته الطويلة التي أولها:
الحمد لله الوهوب المجزل
وانظرها بتمامها في الطرائف الأدبية.
8 أي مخلوط أو مبلول، ومن شواهد ذلك قوله: والمسك في عنبره مدووف. وانظر اللسان "داف".(1/99)
ورجل معوود من مرضه. وكل ذلك شاذ في القياس والاستعمال. فلا يسوغ القياس عليه ولا رد غيره إليه. "ولا يحسن أيضًا استعماله فيما استعملته فيه إلا على وجه الحكاية "1.
واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلا بد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يتخذ أصلًا يقاس عليه غيره. ألا ترى أنك إذا سمعت: استحوذ واستصوب أديتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به السمع فيهما إلى غيرهما. ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم ولا في استساغ: استسوغ ولا في استباع: استبيع ولا في أعاد: أعود لو لم تسمع شيئًا من ذلك قياسًا على قولهم: أخوص الرمث. فإن كان الشيء شاذًا في السماع مطردًا في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله. من ذلك امتناعك من: وذر وودع لأنهم لم يقولوهما ولا غرو "عليك"2 أن تستعمل نظيرهما نحو: وزن ووعد لو لم تسمعهما. فأما قول أبي الأسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه
فشاذ. وكذلك قراءة بعضهم {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . فأما قولهم: ودع الشيء يدع -إذا سكن- فاتدع، فمسموع متبه، وعيه أنشد بيت الفرزدق:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف3
فمعنى "لم يدع " -بكسر الدال- أي لم يتدع ولم يثبت والجملة بعد "زمان " في موضع جر لكونها صفة له والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره: لم يدع فيه
__________
1 ما بين القوسين زيادة من ج.
2 زيادة من أ.
3 انظر الخزانة ص349 ج2، والرواية التي أوردها ابن جني هنا رواها أبو عبيدة، ورواها ابن الأنباري في شرح المفضليات في قصيدة سويد بن أبي كاهل اليشكري. انظر الشرح 396.(1/100)
أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلف فيرتفع "مسحت " بفعله و "مجلف " عطف عليه وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار والاعتلال ما في الرواية الأخرى 1. ويحكى عن معاوية2 أنه قال: خير المجالس ما سافر فيه البصر واتدع فيه البدن. ومن ذلك استعمالك " أن" بعد كاد نحو: كاد زيد أن يقوم هو قليل شاذ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحًا ولا مأبيًا في القياس. ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان هذا كلامها. قال أبو عثمان: والقياس يوجب أن تقول: أقائم أخواك أم قاعدهما؟ 3 إلا أن العرب لا تقوله إلا قاعدان فتصل4 الضمير والقياس يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى
__________
1 هي "يدع مسحتا" بفتح دال يدع، ونصب مسحتا، وخرجت على أن المراد: أو هو مجلف.
2 في نوادر القالي 215 عزو هذا إلى الأحنف بن قيس، وقد قيل له: أي المجالس أطيب؟
3 لأنه معطوف على الوصف المستغني بمرفوعه عن الخبر، وإنما يكون مرفوعه اسما ظاهرًا، أو ضميرًا منفصلا وابن هشام يرى أنه ليس له فاعل ظاهر ولا ضمير منفصل بل استغنى بالمستتر على خلاف القياس، وكأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في غيرها، ويرى غيره أن "أم" هنا منقطعة، والتقدير: أم هما قاعدان راجع الصبان على الأشموني في مبحث الابتداء.
4 يريد الضمير المستتر في قاعدان، فإنه نوع من المتصل.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "الأخرى".(1/101)
باب في تقاود1 السماع وتقارع الانتزاع:
هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين. وسنفرد له بابًا. غير أنا نقدم2 ها هنا ما كان لائقًا به ومقدمة للقول من بعده. وذلك على أضرب: فمنها أن يكثر الشيء فيسئل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول, فيذهب قوم إلى شيء ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذًا تأمل القولين
__________
1 تفاود السماع: اطراده في شيء، وعدم اختلافه فيه، كرفع الفاعل: اتفق السماع فيه وتقارع الانتزاع تخالفه وتعايره، من قولهم: تقارع القوم: تضاربوا بالسيوف والانتزاع الاستنباط.
2 كذا في ب، ج، وفي أ: "أننا".(1/101)
واعتماد أقواهما, ورفض صاحبه 1. فإن تساويا في القوة لم ينكر اعتقادهما جميعًا, فقد يكون الحكم الواحد معلولا بعلتين. وستفرد لذلك بابًا. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح, فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه 2.
ومنها أن يسمح الشيء, فيستدل به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد3 غيره، ويستدل به من وجه آخر على شيء غير الأول. وذلك كقولك: ضربتك وأكرمته ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع يمكن أن يستدل اتصال الفعل بفاعله.
ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الكاف في نحو ضربتك من الضمير المتصل كما أن الكاف في نحو ضربك زيد كذلك ونحن نرى الكاف في ضربتك لم تباشر نفس الفعل كما باشرته في نحو ضربك زيد وإنما باشرت الفاعل الذي هو التاء فلولا أن الفاعل قد مزج بالفعل وصيغ معه حتى صار جزأ من جملته لما كانت الكاف من الضمير المتصل ولاعتدت لذلك منفصلة لا متصلة. لكنهم أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل في نحو ضربتك -وإن لم تكن من نفس حروف الفعل- مجرى نون التوكيد التي يبنى الفعل عليها ويضم إليها في نحو لأضربنك. فكما أن الكاف في نحو هذا معتدة من الضمير المتصل وإن لم تل نفس الفعل كذلك الكاف في نحو ضربتك ضمير متصل وإن لم تل نفس الفعل.
فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدة اتصال الفعل بفاعله وتصحيح القول بذلك.
__________
1 يريد بصاحبه الرأي الأضعف جعله صاحب الأقوى؛ لأنه يقرن معه: إذ كان ضده ومقابله, وفي ج: "رفض الآخر".
2 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب، والمطبوعة: "فساد".(1/102)
وأما وجه إفساده شيئًا آخر فمن قبل أن فيه ردًّا على من قال: إن المفعول إنما نصبه الفاعل1 وحده لا الفعل1 وحده ولا الفعل1 والفاعل جميعًا.
وطريق الاستدلال بذلك أنا قد علمنا أنهم إنما يعنون بقولهم: الضمير المتصل: أنه متصل بالعامل2 فيه لا محالة ألا تراهم يقولون: إن الهاء في نحو مررت به ونزلت عليه ضمير متصل أي متصل بما عمل فيه وهو الجار وليس لك أن تقول: إنه متصل بالفعل لأن الباء3 كأنها جزء من الفعل من حيث كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه وهي همزة أفعل وذلك نحو أنزلته ونزلت به وأدخلته ودخلت به وأخرجته وخرجت به لأمرين 4:
أحدهما أنك إن اعتددت الباء لما ذكرت كأنها بعض الفعل فإن هنا دليلًا آخر يدل على أنها كبعض الاسم ألا ترى أنك تحكم عليها وعلى ما جرته بأنهما جميعًا في موضع نصب بالفعل حتى إنك لتجيز5 العطف عليهما جميعًا بالنصب نحو قولك: مررت بك وزيدًا ونزلت عليه وجعفرًا فإذا كان هنا أمران أحدهما6 على حكم والآخر على ضده وتعارضا هذا التعارض ترافعا7 أحكامهما وثبت أن الكاف في نحو
__________
1 الذي قال: إن المفعول نصبه الفاعل وحده هو هشام بن معاوية من أعيان أصحاب الكسائي، وكانت وفاته سنة 209هـ: وانظر البغية 409. وذهب جمهور الكوفيين إلى أن العامل فيه الفعل والفاعل جميعًا، ويرى البصريون أن العامل فيه الفعل أو ما حمل عليه، وانظر الإنصاف. وشرح الرضي على الكافية 1/ 21، والهمع 1/ 165.
2 في أ: "بالفاعل".
3 متعلق بقوله، "متصل" وهو المنفي.
4 متعلق بقوله: "ليس لك ... " فهو متعلق بالنفي.
5 هذا رأي ابن جني، ومحققو النحاة لا يجيزون ذلك؛ فإن من شرط العطف على المحل عندهم ظهور الإعراب المحل في الفصيح، نحو: ليس زيد بقائم ولا قاعدا. وانظر المغني في أقسام العطف في الباب الرابع.
6 أي أحدهما يدل على حكم، فالخبر محذوف وهو يدل. ويبدو أن "يدل" سقطت من النساخ.
7 أي رفع كل منهما حكم الآخر وأزاله. وهذا كما يقول الجدليون: إذا تعارض الشيئان تساقطا وفي ج: "وإذا تعارض الدليلان تمانعا"، وانظر فما يجيء الباب المعقود لترافع الأحكام.(1/103)
مررت بك متصلة بنفس الباء, لأنها هي العاملة فيها. وكذلك الهاء في نحو إنه أخوك وكأنه صاحبك, وكأنه جعفر: هي1 ضمير متصل, أي متصل بالعامل فيه وهذا واضح.
والآخر إطباق النحويين على أن يقولوا في نحو هذا: إن الضمير قد خرج عن الفعل وانفصل من الفعل وهذا تصريح منهم بأنه متصل أي متصل بالباء العاملة فيه فلو كانت التاء في ضربتك هي العاملة في الكاف لفسد ذلك من قبل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل وغيره من النواصب مشبه في ذلك بالفعل والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل من حيث كان الفعل موغلا في التنكير والاسم المضمر متناه في التعريف. بل إذا لم يعمل الضمير في الظرف ولا في الحال -وهما مما تعمل فيه المعاني2- كان الضمير من نصب المفعول به أبعد وفي التقصير عن الوصول إليه أفعد. وأيضًا فإنك تقول: زيد ضرب عمرًا والفاعل مضمر في نفسك لا موجود في لفظك، فإذا لم يعمل المضمر ملفوظًا به كان ألا يعمل غير ملفوظ به أحرى وأجدر.
وأما الاستدلال بنحو ضربتك على شيء غير الموضعين المتقدمين فأن يقول قائل: إن الكاف في نحو ضربتك منصوبة بالفعل والفاعل جميعًا ويقول: إنه متصل بهما كاتصاله بالعامل فيه في نحو إنك قائم ونظيره. وهذا أيضًا وإن كان قد ذهب إليه هشام3 فإنه عندنا فاسد من أوجه 4:
__________
1 سقط هذا اللفظ في ش.
2 يراد بالمعنى ما فيه معنى الفعل، وهو ما يستنبط منه معنى الفعل ولا يكون من صيغته؛ كحرف التنبيه واسم الإشارة. انظر شرح الرضى للكافية 2/ 201، والكتاب 1/ 247.
3 ما نسبه إلى هشام نسبه غيره إلى الكوفيين، وينسبه بعضهم إلى الفراء منهم، فأما هشام فهو صاحب القول بأن العامل هو للفاعل وحده، وانظر ما كتبته آنفا.
4 انظر في إفساد هذا القول الإنصاف 40.(1/104)
أحدها أنه قد صح ووضح أن الفعل والفاعل قد تنزلا باثني عشر دليلًا منزلة الجزء الواحد فالعمل إذًا إنما هو للفعل وحده واتصل به الفاعل فصار جزأ منه كما صارت النون في نحو لتضربن زيدًا كالجزء منه حتى خلط بها وبني معها. ومنها أن الفعل والفاعل إنما هو معنى والمعاني لا تعمل في المفعول به إنما تعمل في الظروف.
ومن ذلك أن تستدل بقول ضيغم1 الأسدي:
إذا هو لم يخفني في ابن عمي ... وإن لم ألقه الرجل الظلوم
على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء ألا ترى أن "هو " من قوله "إذا هو لم يخفني " ضمير2 الشأن والحديث وأنه مرفوع لا محالة. فلا يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا أو بفعل مضمر. فيفسد أن يكون مرفوعًا بفعل مضمر لأن ذلك المضمر لا دليل عليه ولا تفسير له وما كانت هذه سبيله3 لم يجز إضماره.
فإن قلت: فلم لا يكون قوله "لم يخفني في ابن عمي الرجل الظلوم " تفسيرًا للفعل الرافع لـ "هو " كقولك: إذا زيد لم يلقني غلامه فعلت كذا فترفع زيدًا بفعل مضمر يكون ما بعده تفسيرًا له.
قيل: هذا فاسد من موضعين: أحدهما أنا لم نر هذا الضمير4 على شريطة التفسير عاملا فيه فعل محتاج إلى تفسير. فإذا أدى هذا القول إلى ما لا نظير له،
__________
1 في مستدرك التاج "ضغم": "وضيغم الأسدي شاعر، قاله ابن جني".
2 بنى ابن جني هذا الكلام على أن الضمير ضمير الشأن والحديث، كما ترى ولا يلزم المصير إلى ما رأى فقد يجوز أن يكون الضمير "هو" راجعا إلى محدث عنه في الكلام السابق، وأبدل منه "الرجل الظلوم", و"هو" فاعل لفعل يغمره "لم يخفني" أي أمن.
3 في ش "حاله".
4 يريد ضمير الشأن والحديث.(1/105)
وجب رفضه واطراح الذهاب إليه. والآخر أن قولك "لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هو تفسير لـ "هو " من حيث كان ضمير الشأن والقصة لا بد له أن تفسره الجملة نحو قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقولنا {اللَّهُ أَحَدٌ} تفسير لـ"هو ". وكذلك قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فقولك: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} تفسير لـ "ها " من قولك: فإنها من حيث كانت ضمير القصة. فكذلك قوله: "لم يخفني الرجل الظلوم " إنما هذه الجملة تفسير لـ "هو ". فإذا ثبت أن هذه الجملة إنما هي تفسير لنفس الاسم المضمر بقي ذلك الفعل المضمر لا دليل عليه وإذا لم يقم عليه دليل بطل إضماره لما في ذلك من تكليف علم الغيب. وليس كذلك " إذا زيد قام أكرمتك" ونحوه من قبل أن زيدًا تام1 غير محتاج إلى تفسير. فإذا لم يكن محتاجًا إليه صارت الجملة بعده تفسيرًا للفعل الرافع له لا له نفسه.
فإذا ثبت بما أوردناه ما أردناه علمت وتحققت أن "هو " من قوله "إذا هو لم يخفني الرجل الظلوم " مرفوع بالابتداء لا بفعل مضمر.
وفي هذا البيت تقوية لمذهب أبي الحسن في إجازته الرفع2 بعد إذا الزمانية بالابتداء في نحو قوله تعالى {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} .
ومعنا3 ما يشهد لقوله هذا: شيء غير هذا غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا إنما الغرض إعلامنا أن في البيت دلالة على صحة مذهب أبي الحسن هذا. فهذا وجه صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذي أنشدناه.
__________
1 كذا في ش، ب وهو الصواب. وفي أوالمطبوعة: قام. وهو تحريف. وفي ج: "من قبل أن زيدا غير محتاج إلى تفسير".
2 كذا في ج، وفي سائر الأصول: "رفع زيد".
3 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "معنى".(1/106)
وفيه دليل آخر على جواز خلو1 الجملة الجارية خبرًا عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها ألا ترى أن قوله "لم يخفني الرجل الظلوم " ليس فيه عائد على هو وكيف يكون الأمر إلا هكذا ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف2 ولا يؤكد ولا يعطف عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه وذلك لضعفه من حيث كان مفتقرًا إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامة ما يرد عليك من هذا الضرب؛ ألا ترى أن قول الله عز وجل {اللَّهُ أَحَدٌ} لا ضمير فيه يعود على "هو " من قبله.
واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازًا صحيحًا أن يستدل به على أمر ما وأن يستدل به على ضده البتة. وذلك نحو مررت بزيد ورغبت في عمرو وعجبت من محمد وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر.
فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتد من جملة الفعل الواصل به ألا ترى أن الباء في نحو مررت بزيد معاقبة الهمزة النقل في نحو أمررت زيدًا وكذلك قولك أخرجته وخرجت به وأنزلته ونزلت به. فكما أن همزة أفعل مصوغة3 فيه كائنة من جملته فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ينبغي أن يعتد أيضًا من جملة الفعل لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه.
والآخر أن يدل ذلك على أن حرف الجر جار مجرى بعض ما جره ألا ترى أنك تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب فيعطف4 عليه فينصب4 لذلك فنقول: مررت بزيد وعمرًا وكذلك أيضًا لا يفصل بين الجار والمجرور لكونهما في كثير
__________
1 وذلك أن الخبر عين المبتدأ في المعنى؛ إذ كان تفسيرا له، فاستغني عن العائد.
2 انظر في هذا المغني في الباب الرابع "المواضع التي يعود الضمير فيها على متأخر لفظا ورتبة".
3 كذا في أ، وفي ش، ب، "موضوعة".
4 هذا في أ. وفي ش، ب، "فتعطف ... فتنصب".(1/107)
من المواضع بمنزلة الجزء1 الواحد. أفلا تراك كيف تقدر اللفظ الواحد2 تقديرين مختلفين وكل واحد منهما مقبول في القياس متلقى بالبشر والإيناس.
ومن ذلك قول الآخر 3:
زمان علي غراب غداف ... فطيره الشيب عني فطارا
فهذا موضع يمكن أن يذهب ذاهب فيه إلى سقوط حكم ما تعلق به الظرف4 من الفعل ويمكن أيضًا أن يستدل به على ثباته وبقاء حكمه. وذلك أن الظرف الذي هو " علي" متعلق بمحذوف وتقديره غداة5 ثبت علي أو استقر علي غراب ثم حذف الفعل وأقيم الظرف مقامه. وقوله فطيره -كما ترى- معطوف. فأما من أثبت به حكم الفعل المحذوف فله أن يقول: إن طيره معطوف على ثبت6 أو استقر وجواز العطف عليه أدل دليل على اعتداده وبقاء حكمه وأن العقد عليه والمعاملة في هذا ونحوه إنما هي معه ألا ترى أن العطف نظير التثنية ومحال أن يثنى الشيء فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما في الثبات والاعتداد واحدة.
فهذا وجه جواز الاستدلال به على بقاء حكم ما تعلق به الظرف وأنه ليس أصلا متروكًا ولا شرعًا منسوخًا.
__________
1 كذا في أ، ب، ش وفي ج: "الحرف".
2 سقط في ش هذا اللفظ.
3 هو أبو حية النميري. وقبل البيت:
زمان الصبا ليت أيامنا ... رجعن لنا الصالحات القصارا
وبعده:
فلا يبعد الله ذاك الغراب ... وإن هو لم يبق إلا ادّكارا
وقوله: "على غراب غداف" أراد به الشباب والشعر الأسود، وانظر الحيوان بتحقيق الأستاذ هارون 3/ 429 وأمالي المرتضى 2/ 100.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "الظروف".
5 المناسب لما هنا: زمان. وكأن هناك رواية أخرى: "غداة علي ... " "فذهب ذكر المؤلف إليها".
6 هذا من ابن جني على أن "عليّ غراب" جملة فعلية فاعلها "غراب" وليس يجب هذا؛ فـ"غراب" مبتدأ لا فاعل، وخبره "عليّ" وليس في الكلام ما يختص بالفعل أو يغلب فيه حتى يقدر الفعل كما يريد. وعلى هذا فقوله "فطيره" عطف على الجملة الاسمية لا على متعلق الظرف.(1/108)
وأما جواز اعتقاد سقوط حكم ما تعلق به الظرف من هذا البيت فلأنه قد عطف قوله " فطيره" على قوله " علي " وإذا جاز عطف الفعل على الظرف قوي حكم الظرف في قيامه مقام الفعل المتعلق هو به وإسقاطه حكمه وتوليه من العمل ما كان الفعل يتولاه وتناوله به ما كان متناولا له.
فهذان وجهان من الاستدلال بالشيء الواحد على الحكمين الضدين, وإن كان وجه الدلالة به على قوة حكم الظرف وضعف حكم الفعل في هذا وما يجري مجراه هو الصواب عندنا وعليه اعتمادنا وعقدنا. وليس هذا موضع الانتصار لما نعتقده فيه وإنما الغرض منه أن نرى1 وجه ابتداء تفرع القول وكيف يأخذ بصاحبه ومن أين يقتاد الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه.
ونظير هذا البيت في حديث الظرف والفعل من طريق العطف قول الله عز اسمه {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} أفلا تراه كيف عطف الظرف2 الذي هو {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} على قوله: {تُبْلَى} وهو فعل فالآية نظيرة البيت في العطف وإن اختلفا في تقدم الظرف تارة وتأخره أخرى.
وهذا أمر فيه انتشار وامتداد وإنما أفرض منه ومما يجري مجراه ما يستدل به ويجعل عيارًا على غيره. والأمر أوسع شقة وأظهر كلفة ومشقة؛ ولكن إن طبنت3 له ورفقت به, أولاك جانبه وأمطاك كاهله وغاربه وإن خبطته4 وتورطته5 كدك مهله6, وأوعرت بك سبله فرفقًا وتأملًا.
__________
1 كذا في ش وفي غيرها: "ترى".
2 إن المعطوف جملة: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} ، لا الظرف. فترى كلام ابن جني هنا غير دقيق.
3 أي فطنت.
4 يريد: عالجته بغير رفق وتهدّ إلى وجهه. يقال: خبط الشيء: وطئه شديدًا.
5 أي سرت فيه على غير بصيرة. وأصل ذلك أن يقال: تورط في الأمر: أرتبك فيه فلم يسهل له المخرج منه. فاستعمله في سبب هذا وهو أخذه بغير وفق والوارد أن يقال: تورط في الأمر؛ كما رأيت، وكأنه ضمنه معنى ساءه، مثلا.
6 يريد أنه يبطئ عليك تعرفه، فيسوءك ذلك.(1/109)
باب في مقاييس العربية:
وهي ضربان: أحدهما معنوي والآخر لفظي. وهذان الضربان وإن عمّا وفشوا في هذه اللغة فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوي ألا ترى1 أن الأسباب المانعة من الصرف تسعة: واحد منها2 لفظي وهو شبه الفعل لفظًا, نحو أحمد ويرمع3 وتنضب3 وإثمد وأبلم3 وبقم3 وإستبرق والثمانية الباقية كلها معنوية كالتعريف والوصف والعدل والتأنيث وغير ذلك. فهذا دليل.
ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول: رفعت هذا لأنه فاعل ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. ولأجله ما كانت4 العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية؛ ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفرًا فإن " ضرب" لم تعمل في الحقيقة شيئًا وهل تحصل من قولك ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل فهذا هو الصوت والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوبًا إليه الفعل.
وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أن بعض العمل يأتي مسببًا عن لفظ يصحبه كمررت بزيد وليت عمرًا قائم وبعضه يأتي عاريًا من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء، ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم؛ هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة القول. فأما6 في الحقيقة
__________
1 كذا في ش، ب، وفي أ: "ألا ترى إلى أن ... ".
2 المعروف في كتب المتأخرين أن المعنوي منها العلمية والوصفية والبقية أسباب لفظية، ومنها العدل والتأنيث.
3 اليرمع: حجارة رخوة، والتنضب: شجرة حجازي، والأبلم، خوص المقل، وهو شجر الدوم، والبقم: شجر له ورق يتخذ منه صيغ.
4 ما هنا زائدة.
5 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "هذا الصوت".
6 كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "فأما ما في الحقيقة".(1/110)
ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ أو باشتمال المعنى على اللفظ. وهذا واضح.
واعلم أن القياس اللفظي إذا تأملته لم تجده عاريًا من اشتمال المعنى عليه؛ ألا ترى أنك إذا سئلت عن "إن " من قوله 1:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرًا لا يزال يزيد
فإنك قائل: دخلت على " ما" -وإن كانت "ما " ههنا مصدرية- لشبهها لفظًا بما النافية التي تؤكد بإن من قوله2:
ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم ... تخالج الأمر إن الأمر مشترك
وشبه اللفظ بينهما يصير "ما " المصدرية إلى أنها كأنها " ما " التي معناها النفي أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى الأخرى لم يجز لك إلحاق "إن" بها.
__________
1 أي المعلوط بن بدل -بزنة سبب- القريعي؛ كما ذكره السيرافي في شرح الكتاب، نقل ذلك البغدادي في شرح شواهد المغني في مبحث "إن" وفي اللسان في "أنن": "المعلوط بن بذل" وبذل محرف من بدل. وفي الحماسة أبيات على هذا الروي لرجل من قريع منها:
متى ماير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وفي الخزانة 1/ 536 أن ابن جني في إعراب الحماسة عينه فقال: هو المعلوط بن بدل القريعي، وانظر السمط 434 وشرح شواهد المغني البغدادي والكتاب 2/ 306.
2 أي زهير من قصيدة مطلعها:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزودرك اشتياقا أية سلكوا
وانظر الديوان. وتخالج الأمر: اختلافهم في الرأي: يقول هذا: نصنع كذا، وذاك نصنع كذا، وقوله: إن الأمر مشترك، أي لا يجتمعون على رأي واحد: هذا له رأي، وهذا له رأي، وهذا الاختلاف يبطئ بسيرهم وارتحالهم.(1/111)
فالمعنى إذًا أشيع وأسير حكمًا من اللفظ؛ لأنك في اللفظي متصور لحال المعنوي ولست في المعنوي بمحتاج إلى تصور حكم اللفظي. فاعرف ذلك.
واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن وأنه منها على أقوى بال ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حده فأعطوا الرفع في التثنية الألف والرفع في الجمع الواو والجر فيهما الياء وبقي النصب لا حرف له فيماز به, جذبوه إلى الجر فحملوه عليه دون الرفع لتلك الأسباب1 المعروفة هناك فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها ففعلوا ذلك ضرورة ثم لما صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضًا على الجر فقالوا ضربت الهندات " كما قالوا مررت بالهندات "2 ولا ضرورة هنا لأنهم قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء فيقولوا: رأيت الهندات فلم يفعلوا ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التي عارضت في المذكر عنه, فدل دخولهم تحت هذا -مع أن الحال لا تضطر إليه- على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل وإن عرى من ضرورة الأصل. وهذا جلي كما ترى. ومن ذلك حملهم حروف المضارعة بعضها على حكم بعض في نحو حذفهم الهمزة في نكرم وتكرم ويكرم لحذفهم إياها في أكرم لما كان يكون هناك من الاستثقال لاجتماع الهمزتين في نحو أؤكرم وإن عريت بقية حروف المضارعة -لو لم تحذف- من اجتماع همزتين وحذفهم أيضًا الفاء من نحو وعد, وورد, في يعد ويرد لما كان يلزم -لو لم تحذف- من وقوع الواوين ياء وكسرة،
__________
1 قال الأشموني في مبحث إعراب المثنى في باب المعرب والمبني. "وحمل النصب على الجر فيهما -يريد التثنية وجمع المذكر السالم- لمناسبة النصب للجر دون الرفع؛ لأن كلا منهما فضلة، ومن حيث المخرج؛ لأن الفتح من أقصى الحلق، والكسر من وسط الفم، والضم من الشفتين".
2 سقط ما بين القوسين في ش، ب وثبت في أ.(1/112)
ثم حملوا على ذلك ما لو لم يحذفوه لم يقع بين ياء وكسرة نحو أعد وتعد ونعد؛ لا للاستثقال، بل لتتساوى أحوال حروف المضارعة في حذف الفاء معها.
فإذا جاز أن يحمل حروف المضارعة بعضها على بعض -ومراتبها متساوية وليس بعضها أصلًا لبعض- كان حمل المؤنث على المذكر1 لأن المذكر أسبق رتبة من المؤنث أولى وأجدر.
ومن ذلك مراعاتهم في الجمع حال الواحد؛ لأنه أسبق من الجمع؛ ألا تراهم لما أعلت الواو في الواحد أعلوها أيضًا في الجمع في نحو قيمة وقيم وديمة وديم, ولما صحت في الواحد صححوها في الجمع, فقالوا: زوج وزوجة, وثور وثورة.
فأما ثيرة ففي إعلال واوه ثلاثة أقوال:
أما صاحب الكتاب2 فحمله على الشذوذ وأما العباس3 فذكر أنهم أعلوه ليفصلوا بذلك بين الثور من الحيوان وبين الثور وهو القطعة من الأقط؛ لأنهم لا يقولون فيه إلا ثِوَرة بالتصحيح لا غير. وأما أبو بكر3 فذهب في إعلال ثيَرة إلى أن ذلك لأنها منقوصة من ثيارة, فتركوا الإعلال في العين أمارة لما نووه من الألف كما جعلوا تصحيح نحو اجتوروا واعتونوا, دليلا على أنه في معنى ما لا بد من صحته وهو تجاوروا وتعاونوا. وقد قالوا أيضًا: ثيرة؛ قال 4:
__________
1 يريد حمل جمع المؤنث في النصب على جمع المذكر على ما سبق.
2 انظر الكتاب 2/ 369. ولفظه: "وقد قالوا: ثورة, وثيرة. قلبوها حيث كانت بعد كسرة، واستثقلوا ذلك، كما استثقلوا أن تثبت في ديم. وهذا ليس بمطرد، يعني ثيرة".
3 يريد المبرد، وأبو بكر هو ابن السراج.
4 أي الأعشى ميمون. وانظر ديوانه بشرح ثعلب طبعة أوروبا ص84.(1/113)
صدر النهار يراعي ثيرةً رتعا1
وهذا لا نكير2 له3 في وجوبه لسكونه عينه.
نعم وقد دعاهم إيثارهم لتشبيه الأشياء بعضها ببعض أن حملوا الأصل على الفرع؛ ألا تراهم يعلون المصدر لإعلال فعله ويصححونه لصحته. وذلك نحو قولك: قمت قيامًا وقاومت قوامًا. فإذا حملوا الأصل الذي هو المصدر على الفرع الذي هو الفعل فهل بقي في4 وضوح الدلالة على إيثارهم تشبيه الأشياء المتقاربة بعضها ببعض شبهة!
وعلى ذلك أيضًا عوضوا في المصدر ما حذفوه في الفعل فقالوا: أكرم يكرم, فلما حذفوا الهمزة في المضارع أثبتوها في المصدر فقالوا: الإكرام فدل هذا5
__________
1 صدره:
فظل يأكل منهم وهي رائعة
وهو من قصيدة طويلة. وهذا في وصف مهاة -بقرة وحشية- أكل السبع ولدها شبه بها ناقته، وقبله:
كأنها بعد ما أفضى النجاد بها ... بالشيطين مهأة تبتغي ذرعا
أهوى لها ضابئ في الأرض مفتحص ... للحم قدما خفي الشخص قد خشعا
فظل يخدعها عن نفس واحدها ... في أرض في بفعل مثله خدعا
حانت ليفجها بابن وتطعمه ... لحما فقد أطعمت لحما وقد فجعا
وبعد البيت:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
عجلى إلى المعهد الأدنى ففاجأها ... أقطاع مسك وسافت من دم دفعا
وقوله: فظل يأكل منها أي من ابنها الذي افترسه لا منها نفسها؛ إذ كيف يكون هذا مع قوله: "وهي رائعة" وقد غر هذا ابن دريد في الجمهرة، فجعله في وصف بقرة مسبوعة. وانظر اللآلي 312.
2 في الأصول: "نظير" والأنسب ما أثبته. ولما في الأصول وجه بعيد. وهو أنه بلغ الغاية في داعي وجوب الإعلال فلا نظير له في هذا، وهو كلام خرج مخرج المبالغة.
3 سقط "له" في أ.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "من".
5 سقط لفظ "هذا" في ش، ب وثبت في أ.(1/114)
على أن هذه المثل كلها جارية مجرى المثال الواحد؛ ألا تراهم لما حذفوا ياء فرازين1، عوضوا منها الهاء في نفس المثال فقالوا فرازنة. وكذلك لما حذفوا فاء عدة2، عوضوا منها نفسها التاء. وكذلك أينق في أحد3 قولي سيبويه فيها: لما حذفوا عينها عوضوا منها الياء في نفس المثال.
فدل هذا وغيره مما يطول تعداده على أن المثال والمصدر واسم الفاعل كل واحد منها يجري عندهم وفي محصول اعتدادهم مجرى الصورة الواحدة حتى إنه4 إذا لزم في بعضها شيء لعلة ما أوجبوه في الآخر وإن عرى في الظاهر من تلك العلة فأما في الحقيقة فكأنها فيه نفسه ألا ترى أنه إذا صح أن جميع هذه الأشياء على اختلاف أحوالها تجري عندهم مجرى المثال الواحد فإذا وجب في شيء منها حكم فإنه لذلك5 كأنه أمر لا يخصه من بقية الباب بل هو6 جار في الجميع مجرى واحدًا لما قدمنا ذكره من الحال آنفًا.
واعلم أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب نحو قولك في قوله: كيف تبني من ضرب مثل جعفر: ضربب هذا من كلام العرب, ولو بنيت مثله ضيرب, أو ضورب, أو ضروب, أو نحو ذلك, لم يعتقد من كلام العرب؛ لأنه قياس على الأقل استعمالا والأضعف قياسًا. وسنفرد لهذا الفصل7 بابًا فإن فيه نظرًا صالحًا 8.
__________
1 الواحد فرزان. وهو في الشطرنج بمنزلة الوزير للسلطان. وهو معرب فرزين في الفارسية. والوارد في اللسان والقاموس جمعه على فرازين.
2 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
3 في الكتاب 1/ 317: "كما قالوا: أينق لما حذفوا العين جعلوا الياء عوضًا" والرأي الآخر ذكره في الكتاب 2/ 129 إذ يقول: "ومثل ذلك أينق: إنما هو أنوق في الأصل، فأبدلوا الياء مكان الواو، وقلبوا".
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 كذا في ش، ب. وفي المطبوعة: "كذلك".
6 كذا في أ، ب، وسقط في هذا اللفظ في ش.
7 سقط في ش، ب.
8 كذا في ش، ب. وسقط في أ.(1/115)
باب في جواز القياس على ما يقل ورفضه فيما هو أكثر منه:
هذا باب ظاهره -إلى أن تعرف صورته- ظاهر التناقض؛ إلا أنه مع تأمله صحيح. وذلك أن يقل الشيء وهو قياس ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس.
الأول قولهم في النسب إلى شنوءة: شنئي؛ فلك -من بعد- أن تقول في الإضافة إلى قتوبة 1: قتبي1 وإلى ركوبة: ركبي وإلى حلوبة: حلبي قياسًا على شنئي. وذلك أنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة؛ لمشابهتها إياها من عدة أوجه: أحدها أن كل واحدة2 من فعولة وفعيلة ثلاثي3 ثم إن ثالث كل واحدة منهما حرف لين يجري مجرى صاحبه ألا ترى إلى اجتماع الواو والياء ردفين وامتناع ذلك في الألف وإلى جواز حركة كل واحدة2 من الياء والواو مع امتناع ذلك في الألف إلى غير ذلك. ومنها أن في كل واحدة من فعولة وفعيلة تاء التأنيث. ومنها اصطحاب فعول وفعيل على الموضع الواحد نحو أثيم وأثوم ورحيم ورحوم ومشي4 ومشو4 ونهي عن الشيء ونهو.
فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة فكما قالوا: حنفي قياسا قالوا: شنئي أيضا قياسا.
__________
1 كذا في أ، ش، ب. وفي ج: شوفة: تنفي".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "واحد".
3 أي دون اعتداد المدة.
4 المشي والمشو: الجواء المسهل.(1/116)
قال أبو الحسن: فإن قلت: إنما جاء هذا في حرف واحد -يعني شنوءة- قال 1: فإنه جميع ما جاء. وما ألطف هذا من القول من أبي الحسن! وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف والقياس قابله ولم يأت فيه شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء, وكان أيضًا صحيحًا في القياس مقبولا, فلا غرو ولا ملام.
وأما ما هو أكثر من باب شنئي, ولا يجوز القياس عليه لأنه لم يكن هو على قياس, فقولهم في ثقيف: ثقفي, وفي قريش: قرشي, وفي سليم: سلمي. فهذا وإن كان أكثر من شنئي فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس. فلا يجيز على هذا في سعيد سعدي, ولا في كريم كرمي.
فقد برد2 في اليد من هذا الموضع قانون يحمل عليه ويرد غيره إليه. وإنما أذكر من هذا ونحوه رسومًا لتقتدى3, وأفرض منه آثارًا لتقتفى ولو التزمت4 الاستكثار منه لطال الكتاب به, وأمل قارئه.
واعلم أن من قال في حلوبة: حلبي قياسًا على قولك في حنيفة: حنفي فإنه لا يجيز في النسب إلى حرورة5 حرري5 ولا في صرورة6 صرري6 ولا في قوولة7 قولي.
__________
1 أي أبو الحسن، وإنما ذكر "قال" لينص على أن هذا كلام أبي الحسن، ويريد به الأخفش سعيد بن مسعدة. وقد حذف هذا اللفظ في عبارة ابن جني التي ساقها صاحب الاقتراح، وهذا أجود.
2 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "يرد" وهو تصحيف.
3 تراه استعمل هذا الفعل متعديا بنفسه، والمعروف تعديه بالحرف؛ يقال: اقتدى به. وكأنه ضمنه معنى "تتبع".
4 كذا في أ، ب. وفي ش والمطبوعة: "ألزمت".
5 كذا بالحاء المهملة في ش، وفي أ، ب. "جزورة: جزري" وهذا تحريف هنا. والحرورة: الحرية.
6 كذ في أ. وفي ش، ب: "ضرورة: ضروي" بالضاد المعجمة. والصرورة: الذي لا يأتي النساء.
7 كذا في أ، ش. وفي ب: "قئولة" والمناسب ما أثبت.(1/117)
وذلك أن فعولة في هذا محمولة الحكم على فعيلة, وأنت لا تقول في الإضافة إلى فعيلة إذا كانت مضعفة أو معتلة العين إلا بالتصحيح؛ نحو قولهم في شديد: شديدي, وفي طويلة: طويلي؛ استثقالا لقولك: شددي وطولي. فإذا كانت فعولة محمولة على فعيلة, وفعيلة لا تقول فيها مع التضعيف واعتلال العين إلا بالإتمام فما كان محمولا عليها أولى بأن يصح ولا يعل. ومن قال في شنوءة: شنئي فأعل1 فإنه لا يقول في نحو جرادة وسعادة إلا بالإتمام: جرادي وسعادي. وذلك لبعد الألف عن الياء " و"2 لما فيها من الخفة. ولو جاز أن يقول3 في نحو جرادة: جردي, لم يجز ذلك في نحو حمامة وعجاجة: حممي ولا عججي استكراهًا للتضعيف إلا أن يأنس4 بإظهار تضعيف فعل, ولا في نحو سيابة5 وحوالة: سيبي ولا حولي استكراهًا لحركة المعتل في هذا الموضع. وعلة ذلك ثابتة في التصريف فغنينا عن ذكرها الآن.
__________
1 كذا في أ، ب. وسقط هذا في ش، وهو يعني الإعلال بحذف المدة وتغير حركة ما قبلها.
2 زيادة في ج. والعبارة فيها: "ولخفتها".
3 في د، هـ: "تقول".
4 في د، هـ: "تأنس".
5 هي البلحة.(1/118)
باب في تعارض السماع والقياس:
إذا تعارضا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره وذلك نحو قول الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فهذا ليس بقياس لكنه لا بد من قبوله لأنك إنما تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك أمثلتهم1. ثم إنك من بعد لا تقيس عليه غيره ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم ولا في استباع: استبيع.
فأما قولهم " استنوق الجمل " و "استتيست الشاة " و "استفيل الجمل " فكأنه أسهل من استحوذ وذلك أن استحوذ قد تقدمه الثلاثي معتلا؛ نحو قوله2:
يحوذهن وله حوذي ... كما يحوذ الفئة الكمي
-يروى بالذال والزاي3: يحوذهن ويحوزهن- فلما كان استحوذ خارجًا عن معتل: أعني حاذ يحوذ وجب إعلاله إلحاقًا في الإعلال به. وكذلك باب أقام وأطال واستعاذ4 واستزاد مما يسكن ما قبل عينه في الأصل ألا ترى أن أصل أقام أقوم وأصل استعاذ استعوذ فلو أخلينا وهذا اللفظ لاقتضت الصورة تصحيح العين لسكون ما قبلها غير أنه لما كان منقولًا ومخرجًا من معتل -هو قام, وعاذ- أجرى أيضًا في الإعلال عليه. وليس كذلك " استنوق الجمل" و "استتيست الشاة " لأن هذا ليس منه فعل معتل ألا تراك لا تقول: ناق ولا تاس؛ إنما الناقة والتيس اسمان لجوهر لم يصرف منهما فعل معتل. فكان خروجهما على الصحة أمثل منه في باب استقام واستعاذ. وكذلك استفيل.
ومع هذا أيضًا فإن استنوق, واستتيس شاذ؛ ألا تراك لو تكلفت أن تأتي باستفعل من الطود لما قلت: استطود, ولا من الحوت استحوت5، ولا من6 الخوط استخوط ولكان القياس أن تقول: استطاد واستحات واستخاط.
__________
1 كذا في أ، ب، وفي ش: "مثلهم".
2 هو العجاج. يصف ثورا وكلابا. و"حوذيّ" كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "حاذي". "الفئة" كذا في الأصول ما عدا ج ففيها: "المائة". والحوز: السوق الشديد، والحوذي والحوزي: السائق المجد المستحث على السير. وانظر ديوان العجاج 7.
3 في ش: "الزاء" وهي لغة في الزاي.
4 في ش: "استعان".
5 في تاريخ بغداد 11/ 405 استحاث الرجل أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيرا.
6 كذا في أ. وفي ش، ب والمطبوعة: "ومن الخوط" والخوط: الغصن الناعم.(1/119)
والعلة في وجوب إعلاله1 وإعلال استنوق, واستفيل, واستتيست أنا قد أحطنا علمًا بأن الفعل إنما يشق من الحدث لا من الجوهر؛ ألا ترى إلى قوله2 "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء " فإذا كان كذلك وجب أن يكون استنوق مشتقًا من المصدر. وكان قياس مصدره أن يكون معتلا فيقال: استناقة كاستعانة واستشارة. وذلك أنه وإن لم يكن تحته ثلاثي معتل كقام وباع فيلزم إجراؤه في الإعلال عليه فإن باب الفعل إذا كانت عينه أحد الحرفين أن يجيء معتلًا إلا ما يستثنى من ذلك نحو طاول وبايع وحول وعور واجتوروا واعتونوا لتلك العلل المذكورة هناك. وليس باب أفعل ولا استفعل منه. فلما كان الباب في الفعل ما ذكرناه من وجوب إعلاله وجب أيضًا3 أن يجيء استنوق ونحوه بالإعلال لاطراد ذلك في الفعل؛ كما أن الاسم إذا كان على فاعل كالكاهل والغارب إلا أن عينه حرف علة لم يأت عنهم إلا مهموزًا وإن لم يجر على فعل ألا تراهم همزوا الحائش4, وهو اسم لا صفة ولا هو جار على فعل فأعلوا عينه وهي في الأصل واو من الحوش 5.
فإن قلت: فلعله جار على حاش جريان قائم على قام؛ قيل: لم نرهم أجروه صفة, ولا أعملوه عمل الفعل؛ وإنما الحائش: البستان بمنزلة الصور6, وبمنزلة الحديقة. فإن قلت: فإن فيه معنى الفعل؛ لأنه يحوش ما فيه من النخل وغيره وهذا يؤكد كونه في الأصل صفة, وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء؛ كصاحب ووالد،
__________
1 أي إعلال استحوذ.
2 يريد سيبويه في صدر كتابه.
3 سقط في ش.
4 هو جماعة النخل، والبستان.
5 الحوش: الجمع.
6 كذا في أ، ب. والصور: جماعة النخل. وفي ش "السور".(1/120)
قيل: ما فيه من معنى الفعلية لا يوجب كونه صفة؛ ألا ترى إلى قولهم: الكاهل1 والغارب1 وهما وإن كان فيهما معنى الاكتهال والغروب فإنهما اسمان.
ولا يستنكر أن يكون في الأسماء غير الجارية على الأفعال معاني الأفعال. من ذلك قولهم: مفتاح ومنسج ومسعط ومنديل ودار ونحو ذلك تجد في كل واحد منها معنى الفعل وإن لم تكن جارية عليه. فمفتاح من الفتح ومنسج من النسج ومسعط من الإسعاط ومنديل من الندل وهو التناول قال الشاعر2:
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب
وكذلك دار: من دار يدور لكثرة حركة الناس فيها وكذلك كثير من هذه المشتقات تجد فيها معاني3 الأفعال وإن لم تكن جارية عليها. فكذلك الحائش جاء مهموزًا وإن لم يكن اسم فاعل لا لشيء غير مجيئه على ما يلزم اعتلال عينه, نحو قائم وبائع وصائم. فاعرف ذلك. وهو رأي أبي علي رحمه الله وعنه أخذته لفظًا ومراجعة وبحثًا.
ومثله سواء الحائط: هو اسم بمنزلة الركن والسقف وإن كان فيه معنى الحوط. ومثله أيضًا العائر للرمد4، هو اسم مصدر5 بمنزلة الفالج6, والباطل, والباغز7, وليس اسم فاعل ولا جاريًا على معتل وهو كما تراه معتل.
__________
1 الكاهل أعلى الظهر مما يلي العنق والغارب من البعير ما بين السنام والعنق. وكأن معنى الاكتمال في الكاهل القوة والاجتماع، والكهل من الرجال الذي جاوز الثلاثين. ولا مرية في قوته ونضجه، ومعنى الغروب في الغارب انخفاضه عن السنام كالكواكب حين يقرب وتنخفض.
2 هو -فيما زعم صاحب فرحة الأديب- رجل من الأنصار، قال ذلك في النعمان بن العجلان الزرقي -وزريق من الخروج- وكان ولاه علي رضي الله عنه البحرين وفي هذا الشعر آراء أخرى. وانظر سيبويه ص59 ج1، وشواهد العيني على هامش الخزانة ص48 ج3، واللسان في "ندل"، وفرحة الأديب رقم 40.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "من معاني".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: الرمد.
5 ضبط في أبتنوين اسم، وفي ب بالإضافة.
6 هو من الأمراض. ومن مظاهره استرخاء لأحد شقي البدن.
7 الباغز: النشاط أو هو في الإبل خاصة.(1/121)
فإن قلت: فما تقول في استعان وقد أعل وليس تحته ثلاثي معتل؛ ألا تراك لا تقول: عان يعون كقام يقوم؟ قيل: هو وإن لم ينطق بثلاثيه فإنه في حكم المنطوق به وعليه جاء أعان يعين.
وقد شاع الإعلال في هذا الأصل ألا تراهم قالوا: المعونة -فأعلوها كالمثوبة والمعوضة1- والإعانة والاستعانة. فأما المعاونة فكالمعاودة: صحت لوقوع الألف قبلها.
فلما اطرد الإعلال في جميع ذلك دل أن ثلاثيه وإن لم يكن مستعملا فإنه في حكم ذلك. وليس هذا بأبعد من اعتقاد موضع "أن " لنصب الأفعال في تلك الأجوبة وهي الأمر والنهي وبقية ذلك وإن لم تستعمل قط. فإذا جاز اعتقاد ذلك وطرد المسائل عليه لدلالة الحال2 على ثبوته في النفس كان إعلال نحو أعان واستعان ومعين ومستعين والإعانة والاستعانة -لاعتقاد كون الثلاثي من ذلك في حكم الملفوظ به- أحرى وأولى.
وأيضًا فقد نطقوا من ثلاثيه بالعون وهو مصدر وإذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع؛ قال لي أبو عليّ بالشام: إذا صحت الصفة فالفعل في الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان في المصدر أجدر؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة؛ ألا ترى أن في الصفة " ما ليس بمشتق" نحو قولك: مررت بإبل مائة ومررت برجل
__________
1 هو العوض.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "على ما ثبوته"، وقد ضبط فيها "ثبوته" بالجر على زيادة "ما". ويصح قراءته بالرفع، أي على الذي ثبوته في النفس لا في اللفظ.
3 زيادة من ج.(1/122)
أبي عشرة أبوه ومررت بقاع1 عرفج كله ومررت بصحيفة طين خاتمها ومررت بحية2 ذراع طولها وليس هذا مما يشاب به المصدر وإنما هو ذلك الحدث الصافي كالضرب والقتل والأكل والشرب.
فإن3 قلت: ألا تعلم أن في الناقة معنى الفعل. وذلك أنها من التنوق في الشيء وتحسينه قال ذو الرمة:
... ... ... تنوقت ... به حضرميات الأكف الحوائك4
والتقاؤهما أن الناقة عندهم مما يتحسن5 به ويزدان5 بملكه وبالإبل يتباهون وعليها يحملون ويتحملون, ولذلك قالوا لمذكرها: الجمل, لأنه فَعَل من الجمال كما أن الناقة فعلة من التنوق. وعلى هذا قالوا: قد كثر عليه المشاء والفشاء والوشاء إذا تناسل عليه المال. فالوشاء فَعَال من الوشي كأن المال عندهم زينة وجمال لهم, كما يلبس من الوشي للتحسن به. وعلى ذلك قالوا: ما بالدار دبيج6 فهو فِعيل من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس هم الذين يشون الأرض, وبهم تحسن وعلى أيديهم وبعمارتهم تجمل. وعليه قالوا: إنسان لأنه فعلان من الأنس.
__________
1 انظر في بعض هذه الأمثلة سيبويه ص229 ج1 والعرفج: نبت طيب الريح ينبت في السهل، واحده عرفجة.
2 كذا في أ، ب، ش وفي ج: "بحبة"
3 هذا وارد على قوله فيما سبق ص119: "ليس لاستنوق فعل معتل"
4 صدره:
كأن عليها سحق لفق تتوقت
وهو في وصف نوق ذكرها قبل في قوله:
أنخنا بها خوصا برى النص بدنها ... وألصق منها باقيات العرانك
والخوص: الغائرات العيون من الإبل، والعرانك: الأسنمة، واللفق: أحد شقي الملاءة، والسحق: البالي، والحضرميات منسوبات إلى حضرموت يريد ناسجات حوائك وانظر الديوان 416
5 كذا في أ، ج. وفي ب: "مما يتحسن بملكه ويزدان به". وفي ش: "مما يتحسن تملكه ويزدان به", وظاهر تصحيف "تملكه" من "بملكه"
6 أي ما بها أحد، ولا يستعمل إلا بالنفي كما ترى, ويرى الأزهري أن أصل دبيج في هذا الموطن دبيّ، فأبدلت الياء الثانية جيمًا، كما يقال في مريّ مرج. وعلى هذا لا يتم لابن جني ما يبغي.(1/123)
فقد ترى إلى توافي هذه الأشياء وتباين شعاعها وكونها1 عائدة إلى موضع واحد, لأن التنوق والجمال والأنس والوشي والديباج مما يؤثر ويستحسن -وكنت عرضت هذا الموضع على أبي علي رحمه الله فرضيه وأحسن تقبله-فكذلك2 يكون استنوق من باب استحوذ من حاذ يحوذ من حيث كان في الناقة معنى الفعل من التنوق دون أن يكون بعيدًا عنه كما رمت أنت في أول الفصل. انقضى السؤال.
فالجواب أن استنوق أبعد عن الفعل من استحوذ على ما قدمنا. فأما ما في الناقة من معنى الفعلية والتنوق فليس بأكثر مما في الحجر من معنى الاستحجار والصلابة, فكما أن استحجر الطين واستنسر البغاث من لفظ الحجر والنسر فكذلك استنوق من لفظ الناقة والجميع ناء عن الفعل وما فيه من معنى الفعلية إنما هو كما في مفتاح ومدق ومنديل ونحو ذلك منه.
ومما ورد شاذًّا عن القياس ومطردًا في الاستعمال قولهم: الحوكة والخونة. فهذا من الشذوذ عن القياس على ما ترى وهو في الاستعمال منقاد غير متأب ولا تقول على هذا في جمع قائم: قومة ولا في صائم: صومة ولو جاء على فعلة ما كان إلا معلا. وقد قالوا على القياس: خانة.
ولا تكاد تجد شيئًا من تصحيح نحو مثل3 هذا في الياء: لم يأت عنهم في نحو بائع وسائر بيعة ولا سيرة. وإنما شذ من هذا مما عينه واو لا ياء نحو الحوكة والخونة والخول والدول 4. وعلته عندي قرب الألف من الياء
__________
1 عطف على "توافي".
2 كذا في ش، ب. وفي أما يقرب أن يكون: "فذلك".
3 سقط لفظ "مثل" في ش، ب.
4 هو التبل المتداول.(1/124)
وبعدها عن الواو فإذا صحت نحو الحوكة كان أسهل من تصحيح نحو البيعة. وذلك أن الألف لما قربت من الياء أسرع انقلاب الياء إليها, فكان ذلك أسوغ من انقلاب الواو إليها لبعد الواو عنها ألا ترى إلى كثرة قلب الياء ألفًا استحسانًا لا وجوبًا, نحو قولهم في طيئ: طائي, وفي الحيرة: حاريّ, وقولهم في حيحيت, وعيعيت, وهيهيت: حاحيت, وعاعيت, وهاهيت. وقلما ترى في الواو مثل هذا.
فإذا كان بين الألف والياء هذه الوصل والقرب كان تصحيح نحو بيعة, وسيرة, أشق عليهم من تصحيح نحو الحوكة والخونة لبعد الواو من الألف, وبقدر بعدها عنها1 ما يقل انقلابها إليها.
ولأجل هذا الذي ذكرناه عندي ما كثر عنهم نحو اجتوروا, واعتونوا, واهتوشوا. ولم يأت عنهم من هذا التصحيح شيء في الياء, ألا تراهم لا يقولون: ابتيعوا ولا استيروا ولا نحو ذلك وإن كان في معنى تبايعوا وتسايروا. وعلى أنه قد جاء حرف واحد من الياء في هذا فلم يأت إلا معلا وهو قولهم: استافوا, في معنى تسايفوا ولم يقولوا: استيفوا لما ذكرناه من جفاء ترك قلب الياء ألفًا في هذا الموضع الذي قد قويت2 فيه داعية القلب. وقد ذكرنا هذا في "كتابنا في شعر هذيل " بمقتضى الحال فيه 3.
وإن شذ الشيء في الاستعمال وقوي في القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله.
__________
1 ما زائدة أو مصدرية.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "قربت".
3 كذا في أ، ب، وسقط هذا اللفظ "فيه" في ش.(1/125)
من ذلك اللغة التميمية في "ما " هي أقوى قياسًا وإن كانت الحجازية أسير استعمالا. وإنما كانت التميمية أقوى قياسًا من حيث كانت عندهم كـ " هل " في دخولها على الكلام مباشرة كل واحد من صدري الجملتين: الفعل والمبتدأ كما أن " هل" كذلك. إلا أنك إذا استعملت أنت شيئًا من ذلك فالوجه أن تحمله على ما كثر استعماله وهو اللغة الحجازية؛ ألا ترى أن القرآن بها نزل. وأيضًا1 فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم خبر, أو نقض النفي فزعت إذ ذاك إلى التميمية فكأنك من الحجازية على حرد2، وإن كثرت في النظم والنثر.
ويدلك على أن الفصيح من العرب قد يتكلم باللغة غيرها أقوى في القياس عنده منها ما حدثنا به أبو علي رحمه الله قال: عن أبي بكر3 عن أبي العباس3 أن عمارة3 كان يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بالنصب قال أبو العباس: فقلت له: ما أردت؟ فقال: أردت {سَابِقُ النَّهَارِ} قال: فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن. فقوله: أوزن أي أقوى وأمكن في النفس. أفلا تراه كيف جنح إلى لغة وغيرها أقوى في نفسه منها. ولهذا موضع نذكره فيه.
واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه. فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته فأنت فيه مخير: تستعمل أيهما شئت. فإن صح عندك أن العرب
__________
1 هذا دليل آخر على أن التميمية في "ما" أقوى قياسا من الحجازية.
2 الحرد: المنع أو الغضب. يريد: كأنه غاضب على الحجاز غير مطمئن إليها يخرج منها ما تهيأت له الفرصة، أو أنه على المنع لها والتحرج منها. وقد يكون الأصل: "على حرف".
3 أبو بكر هو ابن السراج. وأبو العباس: المبرد. وعمارة هو ابن عقيل بن بلال بن جرير. وانظر غرائز الآلوسي 114.(1/126)
لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد, أو لساجع, أو لضرورة؛ لأنه على قياس كلامهم. بذلك وصى أبو الحسن.
وإذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه نحو منقاد اللغة من النصب بحروف النصب والجر بحروف الجر والجزم بحروف الجزم وغير ذلك مما هو فاش في الاستعمال, قوي في القياس.
وأما ضعف الشيء في القياس, وقلته في الاستعمال فمرذول1 مطرح؛ غير أنه قد يجيء منه الشيء إلا أنه قليل. وذلك نحو ما أنشده2 أبو زيد من قول الشاعر3:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس4
قالوا أراد: "اضربن عنك " فحذف نون التوكيد وهذا من الشذوذ في الاستعمال على ما تراه ومن الضعف في القياس على ما أذكره لك. وذلك أن الغرض في التوكيد إنما هو التحقيق والتسديد5، وهذا مما يليق به الإطناب والإسهاب وينتفي عنه الإيجاز والاختصار. ففي حذف هذه النون نقض الغرض. فجرى وجوب استقباح هذا في القياس مجرى امتناعهم من ادّغام الملحق؛ نحو مهدد وقردد،
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "فردود".
2 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "أنشدناه". ولم يدرك أبو الفتح أبا زيد. فإن صح هذا فإن المراد: أنشدناه في كتابه، كأنما يخاطبنا فيه، ولا يريد: أنشدنا شفاها.
3 قال ابن بري: "البيت لطرفة؛ ويقال: إنه مصنوع عليه" وانظر اللسان في "قنس". وفي نوادر أبي زيد 13: "قال أبو حاتم: أنشدني الأخفش بيتا مصنوعا لطرفة:
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
وقال: أراد النون الخفيفة.
4 قونس الفرس: ما بين أذنيه، وقيل مقدم رأسه وقوله "بالسيف" في اللسان بدله "بالسوط انظر اللسان في قنس.
5 كذا في أ، وفي ش: "التشديد" وفي ب احتمال هذا وذاك؛ فإن النقط غير ظاهر.(1/127)
وجلبب وشملل وسبهلل1 وقفعدد2، في تسليمه وترك التعرض لما اجتمع فيه من توالي المثلين متحركين ليبلغ المثال الغرض المطلوب في حركاته وسكونه ولو ادّغمت لنقضت الغرض الذي اعتزمت.
ومثل امتناعهم من نقض الغرض امتناع أبي الحسن من توكيد الضمير المحذوف المنصوب في نحو الذي ضربت زيد؛ ألا ترى أنه منع أن تقول: الذي ضربت نفسه زيد على أن " نفسه" توكيد للهاء المحذوفة من الصلة.
ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعًا بيت الكتاب:
له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير3
فقوله: "كأنه " -بحذف الواو وتبقية الضمة- ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال. ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل ولا على حد الوقف. وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت في قوله في أول البيت "لهو زجل " والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعًا وتسكن الهاء فيقال: "كأنه "
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "سهلل" وكأنه محرف عما أثبته أو أصله: ثبلل. والسبهلل: الفارغ، يقال: جاء سبهللا أي لا شيء معه، وثهلل يقال: هو الضلال بن ثهلل: أي لا يعرف.
2 القفعدد: القصير.
3 بيت الكتاب قائله الشماخ بن ضرار، يصف حمارا وحشيا. والوسيقة: أنثاه. والزمير، الغناء في القصبة. وهي الزمارة، بفتح الزاي وتشديد الميم. شبه تطريبه إذا طلب أنثاه بصوت الحادي أو الغناء, والبيت في الكتاب ص11 ج1، وديوان الشماخ 36. وفي فرحة الأديب إنكار هذه النسبة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "كأنه خلس بحذف الواو". وهذه الكلمة "خلس" وضعت أفوق "كأنه" في البيت وضبطت "خلس" بفتح الأول وسكون الثاني وهو الصواب في وضعها؛ يراد أن هذه الكلمة فيها خلس لا مد. ونقل في الخزانة 2/ 402 نص ابن جني من قوله: "مما ضعف في القياس والاستعمال جميعا" إلى قوله: "وروينا أيضا عن غيره: إن لنا لكنة" لكن ببعض حذف.(1/128)
فضم الهاء بغير واو منزلة بين منزلتي الوصل والوقف. وهذا موضع ضيق ومقام زلخ1 لا يتقيك بإيناس, ولا ترسو فيه قدم قياس. وقال أبو إسحاق في نحو هذا: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف وليس الأمر كذلك لما أريتك من أنه لا على حد الوصل ولا على حد الوقف. لكن ما أجري من نحو هذا في الوصل على حد الوقف قول الآخر 2:
فظلت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له أرقان
على أن أبا الحسن حكى أن سكون الهاء في هذا النحو لغة لأزد السراة. ومثل هذا البيت ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ... إلا لأن عيونه سيل واديها
ورويناه أيضًا عن غيره:
إن لنا لكنة ... مبقة مفنة3
متيحة معنة ... سمعنة نظرنة4
كالذئب وسط القنة ... إلا تره تظنه5
__________
1 كذا في أ. وفي ب: "زلح" وفي ش: "زلج" وزلخ -بسكون اللام وكسرها- مزلة تزل فيها الأقدام.
2 ينسب ليعلى الأحول الأزدى. ومطواى: صاحباي. وضمير أخيله، وله عائد إلى البرق في بيت قبله وهو:
أوقت لبرق دونه شدران ... يمان وأهوى البرق كل يمان
وانظر الخزانة 2/ 401.
3 الكنة امرأة الابن أو الأخ "مبقة" كثيرة الكلام "مفنة" نادرة على فنون الكلام.
4 متيحة: تعرض في كل شيء. والرجل متيح، وكذلك معنة. و"سمعنة نظرنة": إذا تسمعت شيئًا أو تنظرت فلم تر شيئًا تظنت وعملت بظنها. وانظر اللسان في "سمع".
5 ذكر في اللسان في سمع روايتين في البيت: "كالذئب وسط العنة"، و"كالريح حول القنة" وما هنا تلفيق من الروايتين، و"العنة" في الرواية الأولى: الحظيرة تحبس فيها الغنم والإبل، و"القنة" في الرواية الثانية الأكمة أو الجبل المستطيل.(1/129)
فقوله "تره " مما أجري في الوصل مجراه في الوقف أراد: إلا تر, ثم بين الحركة في الوقف بالهاء, فقال: "تره " ثم وصل ما كان وقف عليه.
فأما قوله 1:
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما2
ويروي:
. . . ... . . . . . . منون قالوا ... سراة الجن قلت عموا ظلاما
فمن رواه هكذا فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف.
فإن قلت: فإنه في الوقف إنما يكون " منون " ساكن النون وأنت في البيت قد حركته فهذا إذًا ليس على نية الوقف ولا على نية الوصل فالجواب أنه لما أجراه في الوصل على حده في الوقف فأثبت الواو والنون التقيا ساكنين فاضطر حينئذ إلى أن حرك النون لإقامة الوزن. فهذه الحركة إذًا إنما هي حركة مستحدثة لم تكن في الوقف وإنما اضطر إليها الوصل.
__________
1 هو عند أبي زيد في نوادره 124 شمير بن الحارث الضبي، وفي العيني 4- 498 "ينسب إلى شمر بن الحارث الضبي، وينسب إلى تأبط شرًّا" وهناك أبيات على روي الحاء تنسب إلى جذع بن سنان الغساني، وانظر الخزانة ج3 ص2 وما بعدها:
2 قبله كما في النوادر:
ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار لا أريد بها مقاما
سوى تحليل راحلة وعين ... أكالئها مخافة أن تناما
وبعده:
فقلت إلى الطعام فقال مئهم ... زعيم نحسد الأنس الطعاما
قال في الخزانة: "ذكر في أبياته أن الجن طرقته وقد أوقد نارا لطعامه، فدعاهم إلى الأكل منه، فلم يجيبوه وزعموا أنهم يحسدون الأنس في الأكل، وأنهم فضلوا عليهم بأكل الطعام".
3 كذا في أ، ب. وسقط هذا اللفظ في ش.(1/130)
وأما من رواه "منسون أنتم " فأمره مشكل. وذلك أنه شبه من بأي فقال: "منون أنتم " على قوله: أيون أنتم1، وكما حمل ههنا أحدهما على الآخر كذلك جمع بينهما في أن جرد من الاستفهام كل منهما ألا ترى إلى حكاية يونس2 عنهم: ضرب من منا, كقولك: ضرب رجل رجلا. فنظير هذا في التجريد له من معنى الاستفهام ما أنشدناه من قول الآخر3:
وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إلي وأصحابي بأي وأينما4
فجعل "أي " اسمًا للجهة, فلما اجتمع فيها التعريف والتأنيث منعها الصرف.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "فكما".
2 انظر الكتاب ص402 ج1.
3 نسبة في اللسان في "أين" إلى حميد بن ثور الهلالي، ولحميد هذا قصيدة طويلة على روي البيت ليس فيها هذا البيت، مطلعها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة الربع أن يتكلما
وذكر الشنقيطي في "الوسيط في أدباء شنقيط" أنه وقف على هذه القصيدة، أرسلها إليه أحمد تيمور باشا طيب الله ثراه. وقال: "وقد سقط من نسخته بيتان من أولها بقيا في حفظي. وما أدري هل سقط منها غيرهما أم لا:
ألا هيما مما لقيت وهيما ... وويحا لمن لم ألق منهن ويحما
أأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إلي وأصحابي بأي وأينما
هيما كلمة تحسر".
وفي اللسان: "هيي" نسبة الأولى من هذين البيتين إلى حميد الأرقط، والظاهر على هذا أن يكون هو أيضا صاحب البيت الثاني، وعلى هذا لا يكون لحميد بن ثور شيء منهما، وأن الشنقيطي واهم في حفظه، كذلك لا يعول على ما في اللسان في أين؛ فإن نسخة الديوان طبعة الدار خالية منه.
4 "أدلجت" كذا في اللسان وفي بعض نسخ الخصائص في "خلع الأدلة" وهي الرواية الجيدة. وفي الأصول هنا: "أدلجوا". وقوله: "وأصحابي بأي وأينما" أي بمكان مجهول يسأل عنه بأي المكان هو، وأين يقع. وقوله: "ليلة أدلجت" فالإدلاج: السير في آخر الليل على خلاف في ذلك بين علماء اللغة. يريد أن طيفها سرى إليه وهو في سفره مع أصحابه. وانظر الوسيط 128.(1/131)
وأما قوله: "وأينما " ففيه نظر. وذلك أنه جرده أيضًا من الاستفهام كما جرد أي فإذا هو فعل ذلك احتمل هنا من بعد أمرين: أحدهما أن يكون جعل "أين " علمًا أيضًا للبقعة فمنعها الصرف للتعريف والتأنيث كأي فتكون الفتحة في آخر " أين " على هذا فتحة الجر1 وإعرابًا مثلها في مررت بأحمد. فتكون " ما " على هذا زائدة و" أين " وحدها هي الاسم كما كانت " أي " وحدها هي الاسم. والآخر أن يكون ركب " أين " مع " ما " فلما فعل ذلك فتح الأول منهما كفتحة الياء من حيهل لما ضم حي إلى هل فالفتحة في النون على هذا حادثة للتركيب وليست بالتي كانت في أين وهي استفهام لأن حركة التركيب خلفتها ونابت عنها. وإذا كانت فتحة التركيب تؤثر في حركة الإعراب فتزيلها إليها نحو قولك: هذه خمسة معرب2، ثم تقول في التركيب: هذه خمسة عشر فتخلف فتحة التركيب ضمة الإعراب على قوة حركة الإعراب كان إبدال حركة البناء من حركة البناء أحرى بالجواز وأقرب في القياس. وإن شئت قلت: إن فتحة النون في قوله: " بأي وأينما ", هي الفتحة التي كانت في أين وهي استفهام من قبل تجريدها أقرها بحالها بعد التركيب على ما كانت عليه ولم يحدث خالفًا لها من فتحة التركيب, واستدللت على ذلك بقولهم: قمت إذ قمت فالذال كما ترى ساكنة ثم لما ضم إليها " ما " وركبها معها أقرها على سكونها فقال:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له3
__________
1 كذا بواو العطف في أ، وفي عبارة اللسان، وسقط في ش، ب.
2 في عبارة اللسان: "فتعرب".
3 عجزه:
حقا عليك إذا اطمأن المجلس
وقبله:
يأيها الرجل الذي تهوى به ... وجناء محمرة المناسم عرمس(1/132)
فكما لا يشك في أن هذا السكون في " إذ ما " هو السكون في ذال إذ, فكذلك ينبغي أن تكون فتحة النون من " أينما " هي فتحة النون من " أين " وهي استفهام.
والعلة في جواز بقاء الحال بعد التركيب على ما كانت عليه قبله عندي هي أن ما يحدثه التركيب من الحركة ليس بأقوى مما يحدثه العامل فيها ونحن نرى العامل غير مؤثر في المبني نحو " من أين أقبلت " و " إلى أين تذهب" فإذا كان حرف الجر على قوته لا يؤثر في حركة البناء فحدث التركيب -على تقصيره عن حدث الجار- أحرى بألا يؤثر في حركة البناء. فاعرف ذلك فرقًا, وقس عليه تصب إن شاء الله. وفي ألف " ما " من " أينما " -على هذا القول- تقدير حركة إعراب:
فتحة في موضع الجر, لأنه لا ينصرف.
وإن1 شئت كان تقديره " منون " كالقول الأول ثم قال: " أنتم "، أي أنتم المقصودون بهذا الاستثبات؛ كقوله 2:
أنت فانظر لأي حال تصير3
__________
= وبعده:
يا خير من ركب المطي ومن مشى ... فوق التراب إذا تعد الأنفس
إنا وقينا بالذي عاهدتنا ... والخيل تقدع بالكماة وتضرس
وهذا الشعر من قصيدة للعباس بن مرداس السلمي قالها في غزوة حنين. وانظر سيرة ابن هشام على هامش الروض 2/ 298، والكامل 3/ 158، والكتاب 1/ 432.
1 راجع الكلام على "منون أنتم".
3 أي عدي بن زيد. وانظر الأغاني 2/ 152 طبعة الدار، والكتاب 1/ 70، والمغني في "الفاء المفردة" وأمالي ابن الشجري 1/ 89.
3 صدره:
أرواح مودع أم بكور
أي أتروح مودعا أم تبكر، أي لا بد لك من الرحيل في البكور أو الرواح -يريد ترك الدنيا والمصير إلى الموت- فانظر لأمر آخرتك. وقوله: "مودع" هو بكسر الدال على حد عيشة راضية أي مودع صاحبه, =(1/133)
إذا أراد: أنت1 الهالك.
وما يرد في هذه اللغة مما يضعف في القياس, ويقل في الاستعمال كثير جدًّا, وإن تقصيت بعضه طال, ولكن أضع لك منه ومن غيره من أغراض كلامهم ما تستدل به وتستغني ببعضه من كله بإذن الله وطَوله.
__________
= وإنما الرواح يودع فيه، وهو كقوله تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي يبصر فيه، فالإسناد فيه على جهة التجوز، ويرى السيرافي بأنه من قبيل النسب، أي رواح ذو توديع، قال: "فبنى له من المصدر الذي يقع فيه اسم فاعل، وإن لم يكن جاريا على القمل؛ كما قالوا: رامح وناشب، على معنى ذو رمح وذو نشاب" وقد ضبط في الأغاني "مودع" بفتح الدال، وقد علمت أن الرواية الكسر، وقد أورد أبو علي الفارسي الفتح على أنه وجه جائز في العربية. وانظر أهالي ابن الشجري.
1 أي أن أنت مبتدأ محذوف الخبر. ويجوز عكس هذا على التقدير: الهالك أنت، ومن الأوجه الجائزة فيه أن يكون "أنت" مبتدأ خبره "رواح" على المبالغة أو على حذف مضاف أي أنت رواح أو صاحب رواح. وقد بسط السيرافي في الكلام على البيت وأبدى فيه ستة أوجه.(1/134)
باب في الاستحسان1:
وجماعه أن علته ضعيفة غير مستحكمة إلا أن فيه ضربًا من الاتساع والتصرف. من ذلك تركك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة نحو قولهم: الفتوى والبقوى والتقوى والشروى ونحو ذلك ألا ترى أنهم قلبوا الياء هنا
__________
1 الاستحسان من مصطلح أصول الفقه. وهو أحد الأدلة عند الحنفية. وفي تحديده اختلاف كثير. ويقول السعد في حاشيته على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/ 289: "اعلم أن الذي استقر عليه رأي المتأخرين هو أن الاستحسان عبارة عن دليل يقابل للقياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام" ومن أمثلته السلم، فإن المتبادر إلى الفهم ألا يجوز، لما فيه من انعدام المعقود عليه، لكنه جوز للحاجة إليه، وهذا المعنى للاستحسان ينقاد مع ما أراده ابن جني هنا، فمثل الفتوى كان المتبادر ألا يجري فيها إعلال. فيقال: الفتيا، ولكن عارض هذا الأمر الجلي القاضي بالتصحيح أمر يدعو إلى الإعلال، وهو الفرق بين الاسم والصفة، وعمل العرب بهذا المعارض، ولما كان الاعتماد في الاستحسان على ما يقابل الجلي من القياس كان جماع أمره أن علته ضعيفة غير مستحكمة، كما ذكر المؤلف.
وقد عرض السيوطي في الاقتراح للاستحسان، ونقل فيه بحث ابن جني في هذا الكتاب، ونقل عن ابن الأنباري الخلاف في الأخذ به في العربية.(1/134)
واوًا من1 غير استحكام2 علة أكثر من أنهم أرادوا الفرق بين الاسم والصفة. وهذه ليست علة معتدة ألا تعلم كيف يشارك الاسم الصفة في أشياء كثيرة لا يوجبون على أنفسهم الفرق بينهما فيها. من ذلك قولهم في تكسير حسن: حِسان فهذا كجبل وجبال وقالوا: فرس وَرد3 وخيل وُرد4 فهذا كسَقف وسُقف 4. وقالوا: رجل غفور وقوم غُفُر وفخور وفخر فهذا كعمود وعمد. وقالوا: جمل بازل وإبل بوازل وشغل شاغل وأشغال شواغل فهذا كغارب وغوارب وكاهل وكواهل. ولسنا ندفع أن يكونوا قد فصلوا بين الاسم والصفة في أشياء غير هذه إلا أن جميع ذلك إنما هو استحسان لا عن ضرورة علة وليس بجار مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول ألا ترى أنه لو كان الفرق بينهما واجبًا لجاء في جميع الباب؛ كما أن رفع الفاعل ونصب المفعول منقاد في جميع الباب.
فإن قلت: فقد قال الجعدي:
حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا ... كأننا رعن قف يرفع الآلا5
__________
1 كذا في ش، ب، وفي أ: "عن".
2 انظر ص88 من هذا الجزء في إعلال الأمثلة المذكورة.
3 أي ذو لون أحمر يضرب إلى صفرة، وكان ما فيه هذا اللون فهو ورد.
4 ضبط في أ، ب، ج "ورد وسقف" بسكون العين كقفل، والوارد في ورد السكون. وأما سقف فالوارد فيه الضم كعنق، ويظهر أن أبا الفتح وهم في هذا فظن سقفا كققل أو أنه رأى فيه التخفيف كما يقال في كتب: كتب, وفي رسل: رسل بتسكين العين فيهما.
5 بعده:
فلم نوقف مشلين الرماح ولم ... نوجد عواوير يوم الروع عزالا
والبيت في الأمالي 2/ 228، وفي المختار من شعر بشار 262 وفيه بعد أن أورده: "وقال العلماء: هذا من المقلوب، وإنما أراد الشاعر: كأننا رعن قف يرفعه الآل، والرعن: أول كل شيء والقف: ما غلظ من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلا" والآل: السراب، وهو ما يراه الإنسان في الصحراء نصف النهار كأنه ماء. وترى ابن جني يذهب فيه مذهبا غير القلب الذي ذهب إليه غيره، وقد تبعه البكري في اللآلي.(1/135)
فرفع المفعول ونصب الفاعل, قيل لو لم يحتمل1 هذا البيت إلا ما ذكرته لقد كان على سمت من القياس ومطرب2 متورد بين الناس؛ ألا ترى أنه على كل حال قد فرق فيه بين الفاعل والمفعول, وإن اختلفت جهتا الفرق. كيف ووجهه في أن يكون الفاعل فيه مرفوعًا, والمفعول منصوبًا قائم صحيح مقول به. وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه الآل فرئي فيه, ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورًا لولا هذا الرعن لم يبن للعين فيه3 بيانه إذا كان فيه؛ ألا تعلم أن الآل إذا برق للبصر رافعًا شخصًا كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصًا يزهاه فيزداد بالصورة التي حملها سفورًا وفي مسرح الطرف تجليًا وظهورًا.
فإن قلت: فقد قال الأعشى:
إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا4
فجعل الآل هو الفاعل والشخص هو المفعول قيل ليس في هذا أكثر من أن هذا جائز وليس فيه دليل على أن غيره غير جائز؛ ألا ترى أنك إذا قلت ما جاءني غير زيد فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك فأما زيد نفسه فلم تعرض للإخبار5 بإثبات مجيء له أو نفيه عنه فقد يجوز6 أن يكون قد جاء وأن يكون أيضًا لم يجئ.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "يحصل".
2 المطرب، وكذا المطربة: الطريق.
3 كذا في أ، ب، ش وسقط هذا اللفظ في عبارة اللسان.
4 صدره:
إذ نظرت نظرة ليست بكاذبة
وقبله:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما صدق الذئبي إذ سجعا
وهو في الحديث عن عنز اليمامة، والذئبي: سطيح الكاهن، ورأس الكلب: جبل باليمامة. وانظر الديوان 74.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "في الإخبار"، وكأنه ضمن تعرض معنى تدخل فعداه بفي. وفي عبارة اللسان: "فلم يعرض للإخبار".
6 كأنه جرى في هذا على اصطلاح المناطقة. فأما في العربية فإن قولك: ما جاءني غير زيد استثناء مفرغ، كقولك: ما جاءني إلا زيد، وهذا يفيد البتة مجيء زيد.(1/136)
فإن قلت: فهل تجد لبيت الجعدي على تفسيرك الذي حكيته ورأيته نظيرًا؟ قيل: لا ينكر وجود ذلك مع الاستقراء واعمل فيما بعد على أن لا نظير له, ألا تعلم أن القياس إذا أجاز شيئًا وسمع ذلك الشيء عينه فقد ثبت1 قدمه, وأخذ من الصحة والقوة مأخذه, ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوسًا به فليس في واجب النظر إيجاده؛ ألا ترى أن قولهم: في شنوءة شنَئي لما قبله القياس لم يقدح فيه عدم نظيره نعم ولم يرض له أبو الحسن بهذا القدر من القوة حتى جعله أصلا يرد إليه ويحمل غيره عليه. وسنورد فيما بعد بابًا لما يسوغه القياس وإن لم يرد به السماع بإذن الله وحوله.
ومن ذلك -أعني الاستحسان- أيضًا قول الشاعر:
أريت إن جئت به أملودا ... مرجلا ويلبس البرودا3
أقائلن أحضروا الشهودا
فألحق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهًا له بالفعل المضارع. فهذا إذًا استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادة؛ ألا تراك لا تقول: أقائمنَّ يا زيدون ولا أمنطلقنَّ يا رجال إنما تقوله بحيث سمعته وتعتذر له, وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعف منه واحتمال بالشبهة له.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ثبتت"، وكلاهما جائز؛ فإن القدم مؤنث مجازي.
2 انظر ص117 من هذا الجزء.
3 "جئت" بضم التاء كما نص عليه صاحب الخزانة، وإن ضبط في أبفتحها. وكان من قصة هذا الرجز أن رجلا من العرب أتى أمة له، فلما حبلت جحدها وزعم أنه لم يقربها، فقالت هذا الرجز تريد: أخبرني إن ولدت ولدا هذه صفته أتقول لي ولمن يشايعني: أحضروا الشهود على أن هذا الولد منك. إنك لن تقول ذلك وإنما ترضى بالولد، فاصبر فعسى أن أجيء، بما يقر عينك، وفي بعض الروايات "جاءت" بدل "جئت"، و"أحضري" بدل "أحضروا". وانظر الخزانة 574 ج4، وشرح الكامل للمرصفي 1/ 97.(1/137)
ومن الاستحسان قولهم: صبية وقِنية وعِذيُ وبِليُ سفر, وناقة عليان, ودبة1 مهيار. فهذا كله استحسان2 لا عن استحكام علة. وذلك أنهم لم يعتدوا الساكن حائلا بين الكسرة والواو لضعفه وكله من الواو. وذلك أن " قنية" من قنوت ولم يثبت أصحابنا قنيت وإن كان البغداديون قد حكوها و" صبية" من صبوت و" علية" من علوت و " عذي " من قولهم أرضون عذوات و" بلي " سفر من قولهم في معناه: بِلوٌ أيضًا ومنه البلوى, وإن لم يكن فيها دليل3، إلا أن الواو مطردة في هذا الأصل قال 4:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو5
وهو راجع إلى معنى بلو سفر وقالوا: فلان مبلو بمحنة وغير ذلك والأمر فيه واضح وناقة " عليان" من علوت أيضًا كما قيل لها: ناقة سناد, أي أعلاها متساند إلى أسفلها ومنه سندنا إلى الجبل أي علونا وقال الأصمعي: قيل لأعرابي: ما الناقة القرواح فقال: التي كأنها تمشي على أرماح. ودبة " مهيار" من قولهم هار يهور وتهور الليل على أن أبا الحسن قد حكى فيه هار يهير وجعل الياء فيه لغة وعلى قياس قول6 الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه لا يكون في يهير دليل، لأنه قد يمكن أن يكون: فَعِل يَفعِل مثلهما. وكله لا يقاس؛ ألا تراك لا تقول في جرو: جِرى ولا في عِدوة الوادي: عِدية ولا نحو ذلك. ولا يجوز في قياس قول من
__________
1 الدبة: الكثيب من الرمل.
2 انظر في هذه الكلمات ص97 وما بعدها من هذا الجزء.
3 وذلك أن البلوى يحتمل أن تكون الواو فيها بدلا من الياء كالفتوى والتقوى.
4 هو زهير وانظر الديوان 109.
5 صدره:
جزى الله الإحسان ما فعلا بكم
6 انظر كتاب سيبويه ص361 ج2.(1/138)
قال عليان, ومهيار, أن تقول في قرواح1, ودرواس2: قرياح ودرياس3، وذلك لئلا يلتبس مثال فعوال بفعيال فيصير قرياح ودرياس كسرياح وكرياس. وإنما يجوز هذا فيما كانت واوه أصلية لا زائدة وذلك أن الأصلي يحفظ نفسه بظهوره في تصرف أصله ألا تراك إذا قلت: علية ثم قلت: علوت وعلو وعلوة4 وعلاوة ويعلو5 ونحو ذلك, دلك وجود الواو في تصرف هذا الأصل على أنها هي الأصلية وأن الياء في علية بدل منها وأن الكسرة هي التي عذرت بعض العذر في قلبها وليس كذلك الزائد ألا تراه لا يستمر في تصرف الأصل استمرار الأصلي فإذا عرض له عارض من بدل أو حذف لم يبق هناك في أكثر الأمر ما يدل عليه وما يشهد به؛ ألا تراك لو حقرت قرياحًا بعد أن أبدلت واوه ياء على حذف زوائده لقلت 6: قريح فلم تجد للواو أثرًا يدلك على أن ياء قرياح بدل من الواو7، كما دلك علوت وعلو ورجل معلو بالحجة ونحو ذلك على أن ياء " علية" بدل من الواو.
فإن قلت: فقد قالوا في قرواح: قرياح أيضًا سمعًا جميعًا فإن هذا ليس على إبدال الياء من الواو لا بل كل واحد منها مثال برأسه مقصود قصده.
__________
1 القرواح من النوق: الطويلة القوائم، والقرواح أيضا المزرعة ليس بها نبات ولا شجر، ويقال فيها أيضا قرياح.
2 الدرواس: الغليظ العنق من الناس والكلاب.
3 هو الكلب العقور.
4 يقال: أخذ مالي علوة أي عنوة وقهرا كما في اللسان. وقد يكون "علوه" بهاء الضمير.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "يعلوه".
6 كذا في أ، وفي ش، ب: "قلت".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "واو".(1/139)
فقرواح كقرواش1 وجلواخ2، وقرياح ككرياس3 وسرياح4؛ ألا ترى أن أحدًا لا يقول: كرواس ولا سرواح ولا يقول أحد أيضًا في شرواط4 وهلواع 5: شرياط ولا هلياع. وهذا أحد ما يدلك على ضعف القلب فيما هذه صورته؛ لأن القلب للكسرة مع الحاجز لو كان قويًّا في القياس لجاء في الزائد مجيئه في الأصلي كأشياء كثيرة من ذلك.
ومثل امتناعهم من قلب الواو في نحو هذا ياء من حيث كانت زائدة فلا عصمة لها ولا تلزم لزوم الأصلي فيعرف بذلك أصلها أن ترى الواو الزائدة مضمومة ضمًّا لازمًا ثم لا ترى العرب أبدلتها همزة كما أبدلت الواو الأصلية نحو أجوه وأُقتت. وذلك نحو الترهوك7، والتدهور والتسهوك 8: لا يقلب أحد هذه الواو -وإن انضمت ضمًّا لازمًا- همزة من قبل أنها زائدة فلو قلبت فقيل: الترهؤك لم يؤمن أن يظن أنها همزة أصلية غير مبدلة من واو.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون تركهم قلب هذه الواو همزة مخافة أن تقع الهمزة بعد الهاء وهما حلقيان وشديدا التجاور, قيل: يفسد هذا أن هذين الحرفين قد تجاورا والهاء مقدمة على الهمزة نحو قولهم: هأهأت في الدعاء 9.
__________
1 هو الطفيل، والعظيم الرأس.
2 هو الوادي الواسع الممتلئ.
3 الكرياس: الكنيف يكون مشرفا على سطح القناة إلى الأرض.
4 يقال: فرس سرياح سريع، والسرياح أيضا الجراد.
5 هو الطويل.
6 هي السريعة من النوق.
7 يقال مر يترهوك أي يموج في مشيه من استرخاء مفاصله.
8 يقال تسهوك: مشى رويدا.
9 يقال: هأهأ بالإبل: دعاها للعلف.(1/140)
فإن قلت: هذا إنما جاء في التكرير, والتكرير قد يجوز فيه ما لولاه لم يجز؛ ألا ترى أن الواو لا توجد منفردة في ذوات الأربعة إلا في ذلك الحرف وحده وهو "وَرَنْتَل "1 ثم إنها قد جاءت مع التكرير مجيئًا متعالمًا نحو وَحْوَحَ2 ووَزْوَزَ3 ووكواك4 ووُزاوِزة3 وقوقيت وضوضيت وزوزيت5 وموماة ودَوْداة6 وشَوْشاة7 قيل: قد جاء امتناعهم من همز نظير هذه الواوات بحيث لا هاء. ألا تراهم قالوا: زحْولته8 فتزحول تَزَحْولا وليس أحد يقول تزحؤلا. وقد جمعوا بينهما متقدمة الحاء على الهمزة: نحو قولهم في الدعاء: حُؤْ حُؤْ 9.
فإن قيل: فهذا أيضًا إنما جاء في الأصوات المكررة كما جاء في الأول أيضًا في الأصوات المكررة نحو هُؤْ هُؤْ وقد ثبت أن التكرير محتمل فيه ما لا يكون في غيره.
قيل: هذه مطاولة نحن فتحنا لك بابها وشرعنا منهجها, ثم إنها مع ذلك لا تصحبك ولا تستمر بك؛ ألا تراهم قد قالوا في " عنونت الكتاب ": إنه يجوز
__________
1 هي الداهية، والأمر العظيم.
2 الوحوحة: النفخ من شدة البرد.
3 الوزوزة الوثب، والوزاوزة: الرجل الطائش الخفيف.
4 هو الجبان.
5 زوزى الرجل: نصب ظهره وقارب الخطر.
6 هي أثر الأرجوحة.
7 هي الناقة السريعة.
8 في الأصول: "رحولته فترحول ترحولا" بالراء المهملة ولم أقف على هذا في اللغة، فأصلحته إلى ما ترى. يقال: زحوله عن مكانه، فتزحول: أزاله عنه فزال.
9 كذا في الأصول. والذي في اللسان: "حئ حئ: دعاء الحمار إلى الماء ... والحأحأة -وزن الجعجعة- بالكبش: أن تقول له: حأحأ زجرًا".(1/141)
أن يكون فعولت من عنّ يعنّ ومطاوعه تَعَنْوَن ومصدره التَّعَنْوُن وهذه الواو لا يجوز همزها لما قدمنا ذكره, وأيضًا فقد قالوا في عَلْونته: يجوز أن يكون فَعْولت من العلانية وحاله في ذلك حال عنونته على ما مضى. وقد قالوا أيضًا: سرولته تسرولا ولم يهمزوا هذه الواو لما ذكرنا. فإن قيل: فلو همزوا فقالوا: التسرؤل لما خافوا لبسًا لقولهم مع زوال الضمة عنها: تسرول وسرولته ومسرول كما أنهم لما قالوا: وقت وأوقات وموقت ووقّته أعلمهم ذلك أن همزة "أقتت " إنما هي بدل من واو. فقد ترى الأصل والزائد1 جميعًا متساويين متساوقين في دلالة الحال بما يصحب كل واحد منهما من تصريفه وتحريفه وفي هذا نقض لما رُمْت به الفصل بين الزائد والأصل.
قيل كيف تصرَّفت الحال فالأصل أحفظ لنفسه, وأدلُّ عليها من الزائد؛ ألا ترى أنك لو حقرت تسرولا -وقد همزته- تحقير الترخيم لقلت " سريل" فحذفت الزائد2 ولم يبق معك دليل عليه ولو حقرت نحو "أقتت " -وقد نقلتها إلى التسمية فصارت "أقتة " - تحقير الترخيم لقلت: وقيتة وظهرت الواو التي هي فاء.
فإن قلت: فقد تجيز ههنا أيضًا "أقيتة " قيل الهمز ههنا جائز لا واجب وحذف الزوائد من "تسرؤل " في تحقير الترخيم واجب لا جائز. فإن قلت: وكذلك همز الواو في "تسرؤل " إنما يكون جائزًا أيضًا لا واجبًا قيل: همز الواو حشوًا أثبت قدمًا من همزها مبتدأة أعني في بقائها وإن زالت الضمة عنها؛ ألا ترى إلى قوله3 في تحقير قائم: قويئم وثبات الهمزة وإن زالت الألف الموجبة
__________
1 كذا في ش، ب، وفي أ: "الزوائد".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "الزوائد" ويريد بالزائد الجنس.
3 يريد سيبويه في الكتاب 2/ 127.(1/142)
لها, فجرت لذلك مجرى الهمزة الأصلية في نحو سائل وثائر1 من سأل وثأر، -كذا2 قال- فلذلك اجتنبوا أن يهمزوا واو "تسرول " لئلا تثبت قدم الهمزة فيرى أنها ليست بدلا وليس كذلك همزة " أقتت", ألا تراها متى زالت الضمة عنها عادت واوًا نحو موقت ومويقت.
فإن قلت: فهلا أجازوا همز واو " تسرول " وأمنوا اللبس وإن قالوا في تحقير ترخيمه " سريل " من حيث كان وسط الكلمة ليس بموضع لزيادة الهمزة إنما هو موضع زيادة الواو نحو جدول وخِروع2 وعجوز وعمود. فإذا رأوا الهمزة موجودة في " تسرؤل" محذوفة من " سريل" علموا -بما فيها مكن الضمة- أنها بدل من واو زائدة فكان ذلك يكون أمنًا من اللبس؟
قيل: قد زادوا الهمزة وسطًا في أحرف صالحة. وهي شمأل3 وشأمل3، وجرائض4، وحطائط بطائط5، ونِئدلان6، وتأبل7، وخأتم, وعألم, وتأبلت القدر, والرئبال 8، فلما جاء ذلك كرهوا أن يقربوا باب لبس.
فإن قلت: فإن همزة تأبل, وخأتم, والعألم إنما هي بدل من الألف قيل: هي وإن كانت بدلا فإنها بدل من الزائد والبدل من الزائد زائد وليس البدل من الأصل بأصل.
__________
1 في كتاب سيبويه ص128 ج2: "وشاء من شأوت".
2 هو الشجر الذي يتخذ من حبه الزيت المسهل المعروف، وكل نبات بان من شجر أو عشب خروع.
3 هذه لغات في الشمال. وهي من الرياح ما تهب من ناحية القطب الشمالي.
4 يقال: جمل جرائض: إذا كان أكولا.
5 حطائط: الصغير من الناس وغيرهم. وبطائط: اتباع.
6 التئدلان: الكابوس.
7 التأبل: لغة في التابل. والجمع التوابل. وهي الأبزار تضاف إلى الطعام؛ كالفلفل والكمون.
8 الرئبال: الأسد.(1/143)
فقد ترى أن حال البدل من الزائد أذهب به1 في حكم ما هو بدل منه من الأصل في ذلك. فاعرف هذا.
ومن الاستحسان قولهم: رجل غديان وعشيان وقياسه: غدوان وعشوان لأنهما من غدوت وعشوت أنشدنا أبو عليّ:
بات ابن أسماء يعشوه ويصبحه ... من هجمة كأشاء النخل درار2
ومثله أيضًا دامت3 السماء تديم ديمًا, وهو من الواو, لاجتماع العرب طرًّا على " الدوام " و "هو أدوم من كذا ".
ومن ذلك ما يخرج تنبيهًا على أصل بابه نحو استحوذ وأَغْيَلَتِ المرأة، و:
صددتَ فأطوَلْتَ الصدود 4 ...
__________
1 الضمير في "به" يعود على البدل.
2 قائله قرط بن التوأم اليشكري ولم أقف لهذا الشاعر على ترجمة. وفي العمدة ذكر التوأم اليشكري مع امرئ القيس في إجازة أبيات. والبيت في إصلاح المنطق طبعة المعارف 222 وفي شواهد ابن السيرافي عليه "الورقة 138 ب". وفيهما: "كان" بدل "بات"، ويقول ابن السيرافي: "ويروي "كان ابن شماء" يذكر تله لبني مطر، وإغارته عليهم. وميار: اسم فرس. يقول: افتدوا مني بهذا الفرس. وكان ابن أسماء يعشو هذا الفرس: أي يعشيه: يسقيه اللبن بالعشي، ويصبحه: يسقيه في الصباح اللبن ... وإذا سقي الفرس اللبن وربي عليه كان أنفع له، وأسرع في عدوه، ويقول الصاغاني في التكملة "صبح" بعد أن أورد عن الصحاح البيت كما ورد في الإصلاح، "وإنما هو" "كان ابن شماء" واسمه شرسفة بن خليف فارس ميار. قتله قرط بن التوأم اليشكري، والبيت لقرط"، والهجمة: القطعة من الإبل، ما بين الثلاثين والمائة. والأشاء: صغار النخل. ويروى "كفسيل النخل". "ودرار" نعت هجمة: كثيرة الدر: وهو اللبن.
3 أي كان مطرها ديمة، وهو مطر خفيف لا برق فيه ولا رعد، تدوم به السماء.
4 هذا بعض البيت:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
وقد نسب هذا البيت في الكتاب 1/ 12 إلى عمر بن أبي ربيعة ونسبه الأعلم إلى المزار الفقعسي، وهو ما في شرح المغني للبغدادي في مبحث "ما" وفي كناية الأسير على المغني في هذا المبحث، وما في الخزانة 4/ 289. وهذا البيت أحد أبيات أربعة، وقبله:
صرمت ولم يصرم وأنت صروم ... وكيف تصابي من يقال حليم(1/144)
وقالوا1: هذا شراب مبولة2، وهو مطيبة للنفس، وقالوا:
فإنه3 أهل لأن يؤكرما
ونظائره كثيرة غير أن ذلك يخرج ليعلم به أن أصل استقام استقوم وأصل مقامة مقومة وأصل يحسن يؤحسن. ولا يقاس هذا ولا ما قبله لأنه لم تستحكم علته وإنما خرج تنبيهًا وتصرفًا واتساعًا.
__________
= وبعده:
وليس الغواني للجفاء ولا الذي ... له عن تقاضي دينهن هموم
ولكنما يستنجز الوعد تابع ... هواهن حلاف لهن أثيم
قال أبو محمد الأعرابي: "يقول: صرمت، ولم تصرم صرم بنات، ولكن صرم دلال؛ يخاطب نفسه ويلومها على طول الصدود. أي لا يدوم وصال الغواني إلا لمن يلازمهن ويخضع لهن، فسر ذلك بالبيتين بعدهما". انظر الخزانة في الموطن السابق. ومنه يعلم أن التاء في "صددت" وقوله: "فأطولت" مفتوحة؛ لقوله قبل: "صرمت ولم تصرم".
1 سقط في ش, ب، د، هـ.
2 في اللسان: "كثرة الشراب مبولة" وقد أنكر الشيخ سيد المرصفي لهذا على ابن جني ما أورده، وقال: "هذا ما يقول ابن جني. وكلام العرب: كثرة الشراب مبولة"، وفي ابن يعيش على المفصل "مبحث الواو والياء عينين": "وحكى أبو زيد: هذا شيء مطيبة للنفس، وهذا شراب مبولة".
3 هذا شطر بيت من الرجز. قال البغدادي في شرح شواهد الشافية 58: "وقد بالغت في مراجعة المواد والمظان فلم أجد قائله ولا تتمته".(1/145)
باب في تخصيص العلل1:
اعلم أن محصول مذهب أصحابنا ومتصرف2 أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل. وذلك أنها وإن تقدمت علل الفقه فإنها أو أكثرها إنما تجري مجرى
__________
1 هذا البحث مستعار في العربية من أصول الفقه، ومحل تخصيص العلة أن يتخلف الحكم مع وجود العلة. ومن أمثلة هذا في الفقه أن يعلل الربا بالطعم، فيورد على هذا العرايا، وهي بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، ففيها الطعم، والتعاوض فيها مع جهل التماثل ليس بحرام في مقدار معين مبين في الفروع. فقد وجدت العلة وتخلف الحكم. ويختلف الفقهاء في هذا: فمنهم من يراه قدحا في العلة، ويسميه نقضا, ومنهم من لا يراه نقضا، ويعود به على العلة بالتخصيص. وقد ذكر السيوطي في الاقتراح هذا البحث في باب "القوادح في العلة".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "تصرف".(1/145)
التخفيف والفرق, ولو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكنًا -وإن كان على غير قياس- ومستثقلا؛ ألا تراك لو تكلفت تصحيح فاء ميزان وميعاد لقدرت على ذلك1، فقلت: مِوزان ومِوعاد. وكذلك لو آثرت تصحيح فاء موسر, ومُوقن, لقدرت على ذلك فقلت: ميسر, وميقن. وكذلك لو نصبت الفاعل ورفعت المفعول أو ألغيت العوامل: من الجوار والنواصب والجوازم لكنت مقتدرًا على النطق بذلك2، وإن نفى القياس تلك الحال. وليست كذلك علل المتكلمين لأنها لا قدرة على غيرها ألا ترى أن اجتماع السواد والبياض في محل واحد ممتنع لا مستكره وكون الجسم متحركًا ساكنًا في حال واحدة فاسد. لا طريق إلى ظهوره ولا إلى تصوره. وكذلك ما كان من هذا القبيل. فقد ثبت بذلك تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين وإن تقدمت علل المتفقهين.
ثم اعلم من بعد هذا أن علل النحويين على ضربين:
أحدهما ما لا بد منه فهو لاحق بعلل المتكلمين وهو قلب الألف واوًا لانضمام ما قبلها وياء لانكسار ما قبلها نحو ضورب وقراطيس وقد تقدم ذكره. ومن ذلك امتناع الابتداء بالساكن وقد تقدم ما فيه.
ثم يبقى النظر فيما بعد فنقول: إن هذه العلل التي يجوز تخصيصها كصحة الواو إذا اجتمعت مع الياء وسبقت الأولى منهما بالسكون؛ نحو حيوة وعوى الكلب عوية, ونحو صحة الواو, والياء في نحو غزوا ورميا, والنزوان, والغليان, وصحة الواو في نحو اجتوروا, واعتونوا, واهتوشوا3،
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ذاك".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "بذاك".
3 يقال تهوش القوم، وتهاوشوا: اختلطوا. ولم أنف في اللسان والقاموس على "اهتوش".(1/146)
إنما اضطر القائل بتخصيص العلة فيها وفي أشباهها؛ لأنه لم يحتط في وصف العلة ولو قدم الاحتياط فيها لأمن الاعتذار بتخصيصها. وذلك أنه إذا عقد هذا الموضع قال في علة قلب الواو والياء ألفًا: إن الواو والياء متى تحركتا وانفتح ما قبلهما قلبتا ألفين1، نحو قام وباع, وغزا, ورمى, وباب, وعاب, وعصا, ورحى, فإذا أدخل2 عليه فقيل له: قد صحتا في نحو غزوا, ورميا, وغزوان, وصميان3, وصحت الواو خاصة في نحو اعتونوا, واهتوشوا أخذ يتطلب ويتعذر فيقول: إنما صحتا في نحو رميا, وغزوا مخافة أن تقلبا ألفين فتحذف إحداهما فيصير اللفظ بهما: غزا ورمى فتلتبس التثنية بالواحد. وكذلك لو قلبوهما ألفين في نحو نفيان ونزوان لحذفت إحداهما فصار اللفظ بهما نفان ونزان فالتبس فعلان مما لامه حرف علة بفعال مما لامه نون. وكذلك يقولون 4: صحت الواو في نحو اعتونوا واهتوشوا لأنهما في معنى ما لا بد من صحته أعني تعاونوا وتهاوشوا. وكذلك يقولون: صحتا في نحو عور وصيد لأنهما في معنى اعور واصيد وكذلك يقولون في نحو بيت5 الكتاب:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "ألقا".
2 أي أورد عليه دخل، وهو الفساد والعيب. وهذا التعبير كقول المتأخرين، اعترض عليه.
3 الصميان من الرجال: الشديد. وفي ش زيادة: "ورميان" وتأخير" غزوان".
4 كذا في أ. وسقط لفظ "يقولون" في ش، ب.
5 لم أقف على هذا البيت في الكتاب. وهو ينسب إلى الفرزدق، ولكن لم أقف له على صلة في ديوانه. وقد نسبه إليه مفردا المبرد في الكامل 1/ 127 طبعة المرصفي، وابن رشيق في العمدة في "باب الوحشي المتكلف, والركيك المستضعف" وأبو الفرج في الأغاني ج19 ص15 طبعة بولاق ببعض مخالفة في الشطر الأول. وهو من شواهد البلاغة، يذكر شاهدا التعقيد اللفظي، وقد أورده صاحب معاهد التنصيص، ولم يذكر صلته مع إطنابه في ترجمة الفرزدق.(1/147)
إنما جاز ما فيه من الفصل " بين ما لا يحسن"1 فصله لضرورة الشعر. وكذلك ما جاء من قصر الممدود ومد المقصور وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر ومن وضع الكلام في غير موضعه يحتجون في ذلك وغيره بضرورة الشعر ويجنحون2 إليها مرسلة غير متحجرة وكذلك ما عدا هذا: يسوون بينه ولا يحتاطون فيه فيحرسوا أوائل التعليل له. وهذا هو الذي نتق3 عليهم هذا الموضع حتى اضطرهم إلى القول بتخصيص العلل وأصارهم إلى حيز التعذر والتمحل. وسأضع في ذلك رسمًا يقتاس فينتفع به بإذن الله ومشيئته.
وذلك أن نقول في علة قلب الواو والياء ألفًا: إنهما متى تحركتا حركة لازمة وانفتح ما قبلهما وعرى الموضع من اللبس أو أن يكون في معنى ما لا بد من صحة الواو والياء فيه, أو أن يخرج على الصحة منبهة على أصل بابه, فإنهما يقلبان ألفًا. ألا ترى أنك إذا احتطت في وصف العلة بما ذكرناه سقط عنك الاعتراض عليك بصحة الواو والياء في حوبة وجيل إذ كانت الحركة فيهما عارضة غير لازمة، إنما هي منقولة إليهما من الهمزة المحذوفة للتخفيف في حوأبة4 وجيأل5.
وكذلك يسقط عنك الإلزام لك بصحة الواو والياء في نحو قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} وفي قولك في تفسير قوله عز وجل: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "مما لا يحسن".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "يحنجون" وهو تصحيف.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فتسق" وننسق الشيء: حركه، وجذبه. وفتقه: فتحه وأبدى عنه وقد كان مستورا.
4 يقال. دلو حوأبة: ضخمة. وهو تركيب "ح أب" فوزنه فوعلة.
5 الجيأل: الضبع.(1/148)
وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ} : معناه: أي امشوا. فتصح الياء والواو متحركتين مفتوحًا ما قبلهما من حيث كانت الحركة فيهما لالتقاء الساكنين فلم يعتد لذلك.
وكذلك يسقط عنك الاعتراض بصحة الواو والياء في عور وصيد, بأنهما في معنى ما لا بد فيه من صحة الواو والياء وهما اعور واصيد. وكذلك صحت في نحو اعتونوا وازدوجوا لما كان1 في معنى ما لا بد فيه من صحتها وهو تعاونوا وتزاوجوا. وكذلك صحتا في كروان وصميان مخافة أن يصيرا من مثال فعلان واللام معتلة إلى فعال واللام صحيحة وكذلك صحتا في رجل سميته بكروان, وصميان ثم رخمته ترخيم قولك يا حار فقلت: يا كرو ويا صمى لأنك2 لو قلبتهما فيه فقلت: يا كرا ويا صما لالتبس فعلان بفعل ولأن الألف والنون فيهما مقدرتان أيضًا فصحتا كما صحتا وهما موجودتان. وكذلك صحت أيضًا الواو والياء في قوله عز اسمه: {وَعَصَوُا الرَّسُولَ} وقوله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} من حيث كانت الحركة عارضة لالتقاء الساكنين غير لازمة. وكذلك صحتا في القود والحوكة والغيب تنبيهًا على أصل باب ودار وعاب.
أفلا ترى إلى احتياطك في العلة كيف أسقط عنك هذه الالتزامات كلها ولو لم تقدم الأخذ بالحزم لاضطررت إلى تخصيص العلة وأن تقول: هذا من أمره ... ، وهذا من حاله ... ، والعذر في كذا وكذا ... ، وفي كذا وكذا ... ،
__________
1 أي نحو اعتونوا وازدوجوا.
2 كان من الخير له أن يحذف هذا الوجه من التعليل ويقتصر على ما بعده؛ فإن ما ذكر يقضي بألا يقال: باكرا، وياصما، عند الترخيم على لغة الاستقلال؛ لئلا يلتبس فعلان بفعل وهذا لم يمنع في النحو. وانظر الأشموني في مبحث "الترخيم".(1/149)
وأنت إذا قدمت ذلك الاحتياط لم يتوجه عليك سؤال؛ لأنه متى قال لك: فقد صحت الياء والواو في جيل وحوبة, قلت: هذا سؤال يسقطه ما تقدم, إذ كانت الحركة عارضة لا لازمة ولو لم تحتط بما قدمت لأجاءتك الحال إلى تمحل الاعتذار.
وهذا عينه موجود في العلل الكلامية ألا ترى أنك تقول في إفساد اجتماع الحركة والسكون على المحل الواحد: لو اجتمعا لوجب أن يكون المحل الواحد ساكنًا متحركًا في حال واحدة ولولا قولك: في حال واحدة لفسدت العلة ألا ترى أن المحل الواحد قد يكون ساكنًا متحركًا في حالين اثنين.
فقد علمت بهذا وغيره مما هو جار مجراه قوة الحاجة إلى الاحتياط في تخصيص العلة.
فإن قلت: فأنت إذا حصل عليك هذا الموضع لم1 تلجأ في قلب الواو والياء إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما ألفين إلا إلى الهرب من اجتماع الأشباه وهي حرف العلة والحركتان اللتان اكتنفتاه وقد علم مضارعة الحركات لحروف, اللين وهذا أمر موجود في قام, وخاف, وهاب كوجوده في حوِل, وعوِر, وصيِد, وعيِن؛ ألا ترى أن أصل خاف وهاب: خوِف وهَيِب فهما في الأصل كحول وصيد, وقد تجشمت في حول وصيد من الصحة ما تحاميته في خوف وهيب. فأما احتياطك بزعمك في العلة بقولك: إذا عري الموضع من اللبس، وقولك: إذا2
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ولم".
2 كذا في الأصول، ولو جرى على نسق ما قبله في ذكر شروط القلب لقال: إذا لم يكن في معنى ما لا بد من صحته، ولم تكن الحركة لازمة. وكأنه يريد: وقولك: إذا كان في معنى ما لا بد من صحته فلا قلب، وقولك وكانت الحركة غير لازمة فلا قلب. فحذف الجواب وهو مراد.(1/150)
كان في معنى ما لا بد من صحته وقولك: وكانت الحركة غير لازمة فلم نرك أوردته إلا لتستثنى به ما يورده الخصم عليك: مما صح من الياء والواو وهو متحرك وقبله فتحة. وكأنك إنما جئت إلى هذه الشواذ التي تضطرك إلى القول بتخصيص العلل فحشوت بها حديث علتك لا غير, وإلا فالذي أوجب القلب في خاف وهاب من استثقال حرفي اللين متحركين مفتوحًا ما قبلهما موجود البتة في حول وصيد وإذا كان الأمر كذلك دل على انتقاض العلة وفسادها.
قيل: لعمري إن صورة حول وصيد لفظًا هي صورة خوف وهيب إلا أن هناك من بعد هذا فرقًا وإن صغر في نفسك وقل في تصورك وحسك فإنه معنى عند العرب مكين في أنفسها متقدم في إيجابه التأثير الظاهر عندها. وهو ما أوردناه وشرطناه: من كون الحركة غير لازمة وكون الكلمة في معنى ما لا بد من صحة حرف لينه ومن تخوفهم التباسه بغيره فإن العرب -فيما أخذناه عنها وعرفناه من تصرف مذاهبها- عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها. وسنفرد لهذا بابًا نتقصاه فيه بمعونة الله. أولا تعلم عاجلا إلى أن تصير إلى ذلك الباب آجلا أن سبب إصلاحها ألفاظها وطردها إياها على المثل والأحذية1 التي قننتها لها وقصرتها عليها إنما هو لتحصين2 المعنى وتشريفه والإبانة عنه وتصويره, ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ونصب المفعول إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول وهذا الفرق أمر معنوي أصلح اللفظ له وقيد مقادة الأوفق من أجله.
فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يقصد بها إلا تحصين المعاني وحياطتها. فالمعنى إذًا هو المكرم المخدوم, واللفظ هو المبتذل الخادم.
__________
1 جمع الحذاء ككتاب. وهو في الأصل مصدر حذا الشيء: قدره. وأريد به ما يقدر عليه الشيء كالقالب، فيراد به هنا المثل والموازين التي قدرت عليها الألفاظ.
2 كذا في الأصول. والأسوغ: "تحصين".(1/151)
وبعد فإذا جرت العادة في1 معلولها، واستتبت على منهجها وأمها قوي حكمها واحتمى جانبها, ولم يسع أحدًا أن يعرض لها إلا بإخراجه2 شيئًا إن قدر على إخراجه منها. فأما أن يفصلها ويقول: بعضها هكذا, وبعضها هكذا فمردود عليه, ومرذول عند أهل النظر فيما جاء به. وذلك أن مجموع ما يورده المعتل بها هو حدها ووصفها فإذا انقادت وأثرت وجرت في معلولاتها فاستمرت لم يبق على بادئها, وناصب نفسه للمراماة عنها, بقية فيطالب بها, ولا قصمة3 سواك4 فيفك يد ذمته عنها.
فإن قلت: فقد قال الهذلي:.... .... ...."5.
فقد كنت قلت في هذه اللفظة6 في كتابي في ديوان هذيل: إنه إنما أعلت7 هذه العين هناك ولم تصح كما صحت عين اجتوروا واعتونوا من حيث كان ترك قلب الياء ألفًا أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفًا لبعد ما بين الألف والواو وقربها من الياء وكلما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى صاحبه وانجذابه نحوه وإذا تباعدا كانا بالصحة والظهور قمنًا 8. وهذا -لعمري- جواب جرى هناك
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "على".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "بإخراجه منها شيئًا".
3 قصمة السواك: الكسرة منه.
4 كذا في أ، وفي ب: "سؤال" وفي ش: "سوال".
5 بياض بالأصل، وفي نسخة المتحف البريطاني "فإن قلت: فقد قال الهذلي: استافوا في معنى استيفوا". وفي بيت الهذلي الذي سقط فما بين أيدينا من الأصول فيه "استاف" في معنى "تسايفوا" ولم أعثر على البيت بعد طول البحث وسبب ذلك أن شعر الهذليين لم يصلنا كله. وفي ج: "فإن قيل: فقد قلت في كتابك من ديوان هذيل إنه إنما أعلت عين "استاف" ولم تصح ... " ويبدو لي أن ابن جني لم يورد البيت بتمامه وإنما أورد موضع الشاهد وهو "استافوا" كما في نسخة المتحف البريطاني، وأن بعض النساخ ظن أنه أورد البيت فبيض له.
6 يريد استاف.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "اعتلت".
8 أي حربين، وأفرد لأنه في الأصل مصدر.(1/152)
على مألوف العرف في تخصيص العلة. فأما هذا الموضع فمظنة من استمرار المحجة واحتماء العلة. وذلك أن يقال: إن استاف هنا لا يراد به تسايفوا أي تضاربوا بالسيوف فتلزم صحته كصحة عين تسايفوا كما لزمت صحة اجتوروا لما كان في معنى ما لا بد من صحة عينه وهو تجاوروا بل تكون استافوا هنا: تناولوا سيوفهم وجردوها. ثم يعلم أنهم تضاربوا مما دل عليه قولهم: استافوا فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبب كقوله:
ذر الآكلين الماء ظلمًا فما أرى ... ينالون خيرًا بعد أكلهم الماء1
يريد قومًا كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفى بذكر الماء الذي هو سبب المأكول2 من ذكر المأكول.
فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القوم في معنى تسايفوا فتفسير على المعنى كعادتهم في أمثال ذلك ألا تراهم قالوا في قول الله عز وجل: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} : إنه بمعنى مدفوق, فهذا -لعمري- معناه غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب إذا ضربت3 وتفسيره أنها ذات ضرب أي ضربت. وكذلك قوله تعالى {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي لا ذا عصمة وذو العصمة يكون مفعولا كما يكون فاعلا فمن هنا قيل: إن معناه: لا معصوم. وكذلك قوله:
لقد عيل الأيتام طعنة ناشره ... أناشر لا زالت يمينك آشره4
__________
1 في اللسان "أكل": "من الآكلين" بدل "ذر الآكلين".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "من المأكول". وفي عبارة اللسان في أكل: "عن ذكر المأكول".
3 أي ضربها الفحل، وذلك أن ينزو عليها.
4 قال ابن السيرافي في شرح شواهد إصلاح المنطق 1/ 33: "ناشرة هذا من بين تغلب، وكان في بني شيبان مقامه، فكان همام بن مرة بن ذهل بن شيبان رباه. ووقعت حرب البسوس بين بكر وتغلب وناشرة هذا مع همام بن مرة. =(1/153)
أي ذات أشر, والأشر: الحز والقطع, وذو الشيء قد يكون مفعولا كما يكون فاعلا وعلى ذلك عامة باب طاهر وطالق وحائض وطامث ألا ترى أن معناه: ذات طهر وذات طلاق وذات حيض وذات طمث. فهذه ألفاظ1 ليست جارية على الفعل, لأنها لو جرت عليه للزم إلحاقها تاء التأنيث كما لحقت نفس الفعل. وعلى هذا قول الله تعالى {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي ذات رضا فمن هنا صارت بمعنى مرضية. ولو جاءت مذكرة لكانت كضارب وبازل, كباب حائض وطاهر, إذ الجميع غير جار على الفعل لكن قوله تعالى {رَاضِيَةٍ} كقوله: "لا زالت يمينك آشرة ".
وينبغي أن يعلم أن هذه التاء في "راضية " و "آشرة " ليست التاء التي يخرج بها اسم الفاعل على التأنيث لتأنيث الفعل2 من لفظه لأنها لو كانت تلك لفسد القول ألا ترى أنه لا يقال: ضربت الناقة ولا رضيت العيشة. وإذا لم تكن إياها وجب3 أن تكون التي للمبالغة كفروقة, وصرورة, وداهية, وراوية, مما لحقته التاء للمبالغة والغاية. وحسن ذلك أيضًا شيء آخر. وهو جريانها صفة
__________
= فلما كان يوم واردات -وهو أحد الأيام التي كانت بين بكر وتغلب فيها حرب- قاتل همام بن مرة قتالا شديدًا، وأبلى وأثخن في بني تغلب ثم عطش فجاء إلى رحله يستسقي وناشرة في رحله. فلما رأى ناشرة غفلته طعنه بحربة فقتله وهرب إلى بني تغلب فقالت نائحة همام تبكيه: لقد عيل الأيتام طعنة ناشرة. ويقال إن أم همام قالت ذلك، وانظر أيضًا اللسان "أشر".
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "الألفاظ".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ذلك الفعل".
3 الحق أن التاء اللاحقة للوصف إذا كان موضوفه مؤنثا للتأنيث، ولو كان على جهة النسب، وإرادة النسب إنما تجيز التعرية من التأنيث ولا تحتم ذلك, ويقول الشهاب في حواشي البيضاوي 8/ 228. "والحق -كما يفهم من شراح الكتاب- أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه؛ وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا".(1/154)
على مؤنث, وهي بلفظ الجاري على الفعل, فزاد ذلك فيما ذكرنا, ألا ترى إلى همز حائض وإن لم يجر على الفعل إنما سببه أنه شابه في اللفظ ما اطرد همزه من الجاري على الفعل؛ نحو قائم وصائم وأشباه ذلك. ويدلك على أن عين حائض همزة, وليست ياء خالصة -كما لعله يظنه كذلك ظان- قولهم: امرأة زائر من زيارة النساء وهذا واضح ألا ترى أنه لو كانت العين صحيحة لوجب ظهورها واوًا وأن يقال: زاور. وعليه قالوا: الحائش1، والعائر للرمد, وإن لم يجريا على الفعل لما جاءا مجيء ما يجب همزه وإعلاله في غالب الأمر.
نعم وإذا كانوا قد أنثوا المصدر لما جرى وصفًا على المؤنث نحو امرأة عدلة, وفرس طوعة القياد, وقول أمية 2:
والحية الحتفة الرقشاء أخرجها ... من جحرها آمنات الله والكلم3
وإذا جاز دخول التاء على المصادر وليست على صورة اسم الفاعل ولا هي الفاعل في الحقيقة, وإنما استهوى لذلك جريها وصفًا على المؤنث كان باب "عيشة راضية " و"يد آشرة " أحرى بجواز ذلك فيه وجريه عليه.
__________
1 انظر ص120 من هذا الجزء.
2 في ج: "ذي الرمة" وهو خطأ. وهو أمية بن أبي الصلت.
3 "جحرها" في هامش أ "وبيتها" ومعنى ذلك أن هناك رواية: "بيتها" بدل "جحرها"، وفي اللسان في "حتف" ضبط "أمنات" جمع أمنة محركا وهي الأمن. وفيه في "عدل" ضبط كما ضبط هنا ويريد بأمنات الله التي تخرج الحية من جحرها القسم الذي يذكره الحاوي ويعزم عليها به لتخرجن والحتف في الأصل الهلاك، وهو مصدر لفعل مهمل ثم يطلق على ما يكون منه الهلاك، فيقال: هذا السبع حتف لمن يلقاه، وهذه العقرب حتف كذلك بالتذكير نظرا لأصله، ولما كثر استعماله وصفا ساغ لأمية أن يلحق به التاء التي تلحق الوصف. وانظر الديوان لأمية المطبوع في بيروت، والحيوان 4/ 187 بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون.(1/155)
فإن قلت: فقد قالوا في يوجل: ياجل وفي ييأس: ياءس وفي طيئي طائي, وقالوا: حاحيت, وعاعيت, وهاهيت, فقلبوا الياء والواو هنا ألفين وهما ساكنتان وفي هذا نقض لقولك؛ ألا تراك إنما جعلت علة قلب الواو والياء ألفين تلك الأسباب التي أحدها كونهما متحركتين, وأنت تجدهما ساكنتين, ومع ذلك فقد تراهما منقلبتين.
قيل: ليس1 هذا نقضًا ولا يراه أهل النظر قدحًا. وذلك أن الحكم الواحد قد يكون معلولا بعلتين ثنتين, وفي وقت واحد تارة وفي وقتين اثنين. وسنذكر ذلك في باب المعلول بعلتين.
فإن قلت: فما شرطك واحتياطك في باب قلب الواو ياء إذا اجتمعت مع الياء في نحو سيد, وهين, وجيد, وشويت شيًّا, ولويت يده ليًّا, وقد تراهم قالوا: حيوة, وضيون, وقالوا عوى الكلب عوية, وقالوا في تحقير أسود وجدول: جديول, وأسيود, وأجازوا قياس ذلك فيما كان مثله: مما واوه عين متحركة أو زائدة قبل الطرف؟
فالذي نقول في هذا ونحوه: أن الياء والواو متى اجتمعتا وسبقت الأولى بالسكون منهما ولم تكن الكلمة2 علمًا، ولا مرادًا بصحة واوها التنبيه على أصول أمثالها ولا كانت تحقيرًا محمولا على تكسير فإن الواو منه تقلب ياء. فإذا فعلت هذا واحتطت للعلة به أسقطت تلك الإلزامات عنك ألا ترى أن " حيوة " علم والأعلام تأتي مخالفة للأجناس في كثير من الأحكام وأن " ضيون" إنما صح لأنه
__________
1 خير من هذا أن يحيل ما أورده السائل على الشذوذ، فلا يرد على التعليل.
2 التعليل القياس في هذا القلب، وحسب العلة أن تكون وافية به. والقلب في العلم وما قصد به التنبيه على الأصل شذوذ فلا يجب أن يراعى في العلة.(1/156)
خرج على الصحة تنبيهًا على أن أصل سيّد وميّت: سيّود وميّوت. وكذلك "عوية " خرجت سالمة؛ ليعلم بذلك أن أصل لية لوية وأن أصل طية طوية وليعلم أن هذا الضرب من التركيب وإن قل في الاستعمال فإنه مراد على كل حال.
وكذلك أجازوا تصحيح نحو أسيود وجديول إرادة للتنبيه على أن التحقير والتكسير في هذا النحو من المُثُل من قبين واحد.
فإن قلت: فقد قالوا في العلم أسيد, فأعلوا كما أعلوا في الجنس؛ نحو قوله 1:
أسيد ذو خريطة نهارا ... من المتلقطي قرد القمام2
فعن ذلك3 أجوبة. منها أن القلب الذي في أسيد قد كان سبق إليه وهو جنس كقولك: غليم أسيد, ثم نقل إلى العلمية بعد أن أسرع فيه القلب فبقي بحاله،
__________
1 أي الفرزدق. وانظر اللسان "سود" والنقائض طبعة أوروبا 1006، والكتاب 1/ 95.
2 من قصيدته التي مطلعها:
ألستم عائجين بنا لعنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام
وقبله:
سيبلغهن وحي القول مني ... ويدخل رأسه تحت القرام
فقوله: "أسيد" فاعل "سيبلغهن أي يبلغ اللائي يتحدث عنهن وله هوى فيهن. "وحي القول" ما يحمله من رسالة أو كلام. والقوام: الستر الذي يحجبهن. وقوله "أسيد" يريد "غلام أسود". الخريطة تصغير الخريطة: وهي كالمخلاة يضع فيها ما يلتقط، والقمام، الكناسة، والقرد: ما تليد من الكناسة. يصف أن الغلام الأسود الرسول إلى من يحب لا يؤبه له، فهو قمئ يقم الكناسة، وبذلك يصل إلى هوى الشاعر دون أن يثير انتباه أحد. وانظر في اللسان "سود" رأيا آخر في تفسير البيت يخالف ما أسلفت، وهو غير مرضي.
3 أنت ترى أن ابن جني بنى الاعتراض بأسيد على أنه في البيت علم، وقد أبان عن هذا بما لا يحتمل الشك في عبارته في ج إذ يقول "فإن قلت: فقد قالوا في العلم أسيد، كما قال: أسيد...."، وقد علمت أن "أسيد" في بيت الفرزدق ليس من العلم في شيء، كيف وقد ولد وصفه بقوله: "ذو خريطة" وهذا نكرة لا يوصف به العلم، كما لا يخفى، وبهذا تعلم أن لا وجه لإيراد السؤال، ولا الجواب، بله الأجوبة.(1/157)
لا أن القلب إنما وجب فيه بعد العلمية وقد كان قبلها -وهو جنس نكرة- صحيحًا. ويؤنس بهذا أيضًا أن الإعلال في هذا النحو هو الاختيار في الأجناس. فلما سبق القلب الذي هو أقوى وأقيس القولين سمي به معلا فبقي بعد النقل على صورته. ومثل ذلك ما نقوله في " عيينة" أنه إنما سمي به مصغرًا فبقي بعد بحاله قبل, ولو كان إنما حقر بعد أن سمي به لوجب ترك إلحاق علامة التأنيث به كما أنك لو سميت رجلًا هندًا ثم حقرت قلت: هنيد: ولو سميته بها محقرة قبل التسمية لوجب أن تقر التاء بحالها فتقول: هذا هنيدة مقبلًا. هذا مذهب الكتاب1، وإن كان يونس يقول بضده. ومنها أنا لسنا نقول: إن كل علم فلا بد من صحة واوه إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما فيلزمنا ما رمت إلزامنا وإنما قلنا: إذا اجتمعت الياء والواو وسبقت الأولى منهما بالسكون ولم يكن الاسم علمًا ولا على تلك الأوصاف التي ذكرنا فإن الواو تقلب ياء وتدغم الياء في الياء. فهذه علة من علل قلب الواو ياء. فأما ألا تعتل الواو إذا اجتمعت مع الياء ساكنة أولاهما إلا من هذا الوجه فلم نقل به. وكيف يمكن أن نقول به وقد قدمنا أن الحكم الواحد قد يكون معلولا بعلتين وأكثر من ذلك وتضمنا أن نفرد لهذا الفصل بابًا!
فإن قلت: ألسنا إذا رافعناك في صحة " حيوة " إنما نفزع إلى أن نقول: إنما صحت لكونهما علمًا والأعلام تأتي كثيرًا أحكامها تخالف2 أحكام الأجناس وأنت تروم في اعتلالك هذا الثاني أن تسوي بين أحكامهما وتطرد على سمت واحد كلا منهما.
__________
1 انظر كتاب سيبويه ص137 ج7.
2 كذا في ب، ش. وفي أ: "مخالف" ولا تستقيم هذه الصيغة مع الإخبار عن "أحكامها" فقد كان يجب أن يقال: "مخالفة".(1/158)
قيل: الجواب الأول قد استمر ولم تعرض1 له، ولا سوغتك الحال الطعن فيه وإنما هذا الاعتراض على الجواب الثاني. والخطب فيه أيسر. وذلك أن لنا مذهبًا سنوضحه في باب يلي هذا وهو حديث الفرق بين علة الجواز وعلة الوجوب.
ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو سوط, وثوب, إذا كسرت فقلت: ثياب, وسياط؟.
وهذا حكم لا بد في تعليله من جمع خمسة أغراض فإن نقصت واحدًا فسد الجواب, وتوجه عليه الإلزام 2.
والخمسة: أن ثيابًا وسياطًا وحياضًا وبابه جمع والجمع أثقل من الواحد وأن عين واحده ضعيفة بالسكون وقد يراعى في الجمع حكم الوحد وأن قبل عينه كسرة وهي مجلبة في كثير من الأمر لقلب الواو ياء وأن بعدها ألفًا والألف شبيهة بالياء وأن لام سوط وثوب صحيحة.
فتلك خمسة أوصاف لا غنى3 بك عن واحد منها. ألا ترى إلى صحة خوان, وبوان4, وصوان, لما كان مفردًا لا جمعًا. فهذا باب. ثم5 ألا ترى إلى صحة واو زوجة وعودة, وهي جمع واحد ساكن العين, وهو زوج وعود6، ولامه أيضًا صحيحه وقبلها في الجمع كسرة. ولكن بقي من مجموع العلة أنه لا ألف بعد عينه كألف حياض ورياض. وهذا باب أيضًا
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، "يعرض".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الكسر بالإلزام".
3 في أ: "غناء" وهو خطأ.
4 البوان: عمود للخباء.
5 انظر في هذا الأسلوب الصفحة 37 من هذا الجزء رقم 2 في التعليقة.
6 هو المسن من الإبل.(1/159)
ثم ألا ترى إلى صحة طوال وقوام وهما جمعان وقبل عينهما كسرة وبعدهما ألف ولاماهما صحيحتان. لكن بقي من مجموع العلة أن عينه في الواحد متحركة وهي في طويل وقويم. وهذا أيضًا باب.
ثم ألا ترى إلى صحة طواء ورواء جمع طيان وريان فيه الجمعية وأن عين واحده ساكنة بل معتلة وقبل عينه كسرة وبعدها ألف. لكن بقي عليك أن لامه معتلة فكرهوا إعلال عينه لئلا يجمعوا بين إعلالين.
وهذا الموضع مما يسترسل1 فيه المعتل لاعتلاله فلعله أن يذكر من الأوصاف الخمسة التي ذكرناها وصفين " أو أكثره "2 ثلاثة ويغفل الباقي فيدخل عليه الدخل3 منه فيرى أن ذلك نقض للعلة ويفزع إلى ما يفزع إليه من لا عصمة له ولا مسكة عنده. ولعمري إنه كسر لعلته هو لاعتلالها في نفسها. فأما مع إحكام علة الحكم فإن هذا ونحوه ساقط عنه.
ومن ذلك ما يعتقده4 في علة الادّغام. وهو أن يقال: إن الحرفين المثلين إذا كانا لازمين متحركين حركة لازمة, ولم يكن هناك إلحاق ولا كانت الكلمة مخالفة لمثال فعِل وفعُل أو كانت فعَل فعلا5 ولا خرجت منبهة6 على بقية بابها, فإن الأول منها يسكن ويدغم في الثاني. وذلك نحو شد وشلت يده وحبذا
__________
1 أي لا يحتاط، ويلقى في الكلام فيه على عواهنه، من قولهم: استرسل إليه، انبسط إليه واستأنس.
2 كذا في الأصول. وقد يكون الأصل: "أو إن أكثر".
3 الدخل -بتسكين الخاء ويحرك- العيب، ويراد به القدح والنقص.
4 كذا في أ، ش، ب: "يعقده".
5 هو حال من "فعل"، وهو يحترز به عن فعل اسما؛ نحو سبب.
6 هذا الضبط عن أ، وفي ب: "منبهة"، بفتح الأول والثالث وسكون الثاني.(1/160)
زيد, وما كان عاريًا مما استثنيناه؛ ألا ترى أن شد وإن كان فعَل فإنه فِعل, وليس كطلل, وشرر, وجدد1، فيظهر. وكذلك شلت يده: فَعِلَت. وحبذا زيد أصله حبب ككرم, وقضو الرجل. ومثله شر الرجل من الشر: هو2 فعل لقولهم: شررت يا رجل وعليه جاء رجل شرير كرديء. وعلى ذلك قالوا أجد في الأمر وأسر الحديث واستعد لخلوة مما شرطناه 3.
فلو عارضك معارض بقولهم: اصبب الماء, وامدد الحبل, لقلت: ليست الحركتان لازمتين, لأن الثانية لالتقاء الساكنين. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جلبب وشملل: وقعدد، ورمدد4، قلت: هذا كله ملحق، فلذلك ظهر. وكذلك إن أدخل على قولك هما يضربانني, ويكرمانني, ويدخلاننا قلت: سبب ظهوره أن الحرفين ليسا لازمين ألا ترى أن الثاني من الحرفين ليس ملازمًا لقولك: هما يضربان زيدًا ويكرمانك ونحو ذلك. وكذلك إن ألزمك ظهور نحو جُدَد5، وقِدَد6، وسُرُر, قلت: هذا مخالف لمثال فَعُل وفَعِل.
فإن ألزمك نحو قول قعنب 7:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا8
__________
1 هي الأرض الغليظة، أو الأرض الصلبة.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "وهو".
3 أي لعدم الإدغام، كالإلحاق ومخالفة الكلمة لمثال الفعل.
4 يقال: وماد ومدد: إذا كان دقيقا غير متماسك.
5 واحده الجدة، وهي الخطة في ظهر الحمار تخالف لونه.
6 واحده فدة، وهي الفرقة من الناس.
7 هو ابن أم صاحب الغطفاني، من شعراء الدولة الأموية، وانظر اللآلي 362.
8 من قصيدة في مختارات ابن الشجري 8 طبع مصر 1306هـ. وقبله:
هل للعواذل من ناه فيزجرها ... إن العواذل منها الجور واللسن
اللائمات الفتى في أمره سفها ... وهن بعد ضعيفات القوى وهن
وانظر اللسان "ضنن" والكتاب 1/ 11.(1/161)
وقول العجاج:
تشكو الوجى من أظلل وأظلل1
وقول الآخر:
وإن رأيت الحجج الرواددا ... قواصرًا بالعمر أو مواددا2
قلت: هذا ظهر على أصله منبهة على بقية بابه فتعلم به أن أصل الأصم أصمم, وأصل صب صبِب, وأصل الدواب والشواب الدوابب والشوابب على ما نقوله في نحو استصوب وبابه: إنما خرج على أصله إيذانًا بأصول ما كان مثله.
فإن قيل: فكيف اختصت هذه الألفاظ ونحوها بإخراجها على أصولها3 دون غيرها قيل: رجع الكلام بنا وبك إلى ما كنا فرغنا منه معك في باب استعمال بعض الأصول وإهمال بعضها فارجع إليه4 تره إن شاء الله.
وهذا الذي قدمناه آنفًا هو الذي عناه أبو بكر5 رحمه الله بقوله: قد تكون علة الشيء الواحد أشياء كثيرة فمتى عدم بعضها لم تكن علة. قال: ويكون أيضًا عكس هذا وهو أن تكون علة واحدة لأشياء كثيرة. أما الأول فإنه ما نحن بصدده من اجتماع أشياء تكون كلها علة وأما الثاني فمعظمه الجنوح إلى
__________
1 بعده:
من طول إملال وظهر أملل
وقبله:
وكم حسرنا من علاة عنسل ... حرف كقوس الشوحط المعطل
وأظلل مفكوك أظل، والأظل ما تحت منسم البعير. وانظر اللسان في "ظلل"، والديوان 47.
2 انظر نوادر أبي زيد 164. وكأن ابن جني يشتق "الروادد" من "ردد" أي من مضعف الثلاثي. ويشتقها الصاغاني في التكملة "رود" من "رود" ويجعل واحد الروادد الرودد، ويفسره بالعاطف، وينشد الرجز. وأياما كان الأمر فالاستشهاد بـ"موادد" لا ريب فيه.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "أصلها".
4 انظر ص66 من هذا الجزء.
5 هو ابن السراج. والظاهر أن هذا في كتابه "الأصول".(1/162)
المستخف, والعدول عن المستثقل. وهو أصل الأصول في هذا الحديث وقد مضى صدر منه. وسترى بإذن الله بقيته.
واعلم أن هذه المواضع التي ضممتها وعقدت العلة على مجموعها قد أرادها أصحابنا وعنوها, وإن لم يكونوا جاءوا بها مقدمة محروسة فإنهم لها أرادوا وإياها نووا؛ ألا ترى أنهم إذا استرسلوا في وصف العلة وتحديدها قالوا: إن علة شد ومد ونحو ذلك في الادّغام إنما هي اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد. فإذا قيل لهم: فقد قالوا: قعدد وجلبب واسحنكك قالوا: هذا ملحق فلذلك ظهر. وإذا ألزموا نحو اردد الباب واصبب الماء قالوا: الحركة الثانية عارضة لالتقاء الساكنين وليست بلازمة. وإذا أدخل عليهم نحو جدد وقدد وخلل1 قالوا: هذا مخالف لبناء الفعل. وإذا عورضوا بنحو طلل ومدد فقيل لهم: هذا على وزن الفعل قالوا: هو كذلك إلا أن الفتحة خفيفة والاسم أخف من الفعل فظهر التضعيف في الاسم لخفته ولم يظهر في الفعل -نحو قص ونص- لثقله. وإذا قيل لهم: قالوا هما يضربانني وهم يحاجوننا قالوا: المثل الثاني ليس بلازم. وإذا أوجب2 عليهم نحو قوله "وإن ضننوا " ولححت عينه وضبب البلد وألل السقاء قالوا: خرج هذا شاذًّا ليدل على أن أصل قرت عينه قررت وأن أصل حل الحبل ونحوه حلل. فهذا الذي يرجعون إليه فيما بعد متفرقًا قدمناه نحن مجتمعًا.
__________
1 كذا في ش. وفي أ: "حلل". والخلل جمع الخلة. وهو من النبات والمرعى ما كان فيه خلاوة.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "وجب".(1/163)
وكذلك كتب محمد1 بن الحسن رحمه الله إنما ينتزع2 أصحابنا3 منها العلل4، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه, فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق. ولا تجد له علة في شيء من كلامه مستوفاة محررة. وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور.
الآن قد أريتك بما مثلته لك من الاحتياط في وضع العلة كيف حاله, والطريق إلى استعمال مثله فيما عدا ما أوردته وأن تستشف5 ذلك الموضع فتنظر إلى آخر ما يلزمك إياه الخصم فتدخل الاستظهار بذكره في أضعاف ما تنصبه من علته لتسقط عنك فيما بعد الأسولة6 والإلزامات التي يروم مراسلك الاعتراض بها عليك والإفساد لما قررته من عقد علتك. ولا سبيل إلى ذكر جميع ذلك لطوله ومخافة الإملال ببعضه. وإنما تراد المثل ليكفي قليلها من كثير غيرها, ولا قوة إلا بالله.
__________
1 هو صاحب أبي حنيفة، وصاحب الكتب النادرة في الفقه، منها الجامع الكبير، والجامع الصغير. وهو ابن خالة الفراء، ويروي عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال: ما رأيت سمينا ذكيا إلا محمد بن الحسن. مات بالري سنة 198 في اليوم الذي مات فيه الكسائي. وقيل إن الرشيد قال: دفعت الفقه والعربية بالري. انظر ابن خلكان.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "ينزع".
3 يريد الحنفية، وكان ابن جني حنفيا، وكان ينصر الحنفية على الشافعية. وانظر من أمثلة هذا كلامه في الترتيب في الوضوء في حرف الواو من سر الصناعة؛ وكلامه في إفادة الهاء للتبعيض، في الكتاب السابق.
4 يريد علل الفقه، وقد ساق في الاقتراح هذا النص عن ابن جني، وزاد شارحه ابن علان بعد "العلل" كلمة "النحوية" وهي زيادة لا وجه لها ولا يعني هذا ابن جني. إنما يعني أنه جمع عناصر العلة فيما ذكر من كلام أصحابه النحويين وقد كانت منثورة فيه، كما كان أصحاب محمد بن الحسن مجمعون العلل الفقهية من كلامه. فله في النحو أسوة بأصحابه في الفقه.
5 استشف الشيء: نظر ما وراءه.
6 كذا في الأصول الثلاثة. وهي لغة صحيحة. وانظر ص94 من هذا الجزء.(1/164)
باب ذكر الفرق بيت العلة الموجبة، وبين العلة المجوزة
...
باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة، وبين العلة المجوزة:
اعلم أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها كنصب الفضلة أو ما شابه1 في اللفظ الفضلة, ورفع المبتدأ؛ والخبر, والفاعل, وجر المضاف إليه, وغير ذلك. فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها, غير مقتصر بها على تجويزها2؛ وعلى هذا مقاد كلام العرب.
وضرب آخر يسمى علة, وإنما هو في الحقيقة سبب يجوز ولا يوجب 4.
من ذلك الأسباب الستة الداعية إلى الإمالة هي علة الجواز لا علة الوجوب ألا ترى أنه ليس في الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بد منها وأن كل ممال لعلة من تلك الأسباب5 الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه. فهذه إذًا علة الجواز لا علة الوجوب.
ومن ذلك أن يقال لك: ما علة قلب واو " أقتت " همزة؟ فتقول: علة ذلك أن الواو انضمت ضمًّا لازمًا. وأنت مع هذا تجيز ظهورها واوًا غير
__________
1 وذلك كخير كان ومفعولي ظن.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تجوزها".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "مفاد" بالفاء، وكذا ورد في العبارة المنقولة في الاقتراح، وقال ابن علان في شرحه: "بضم الميم أي إفادة".
4 قال في الاقتراح عقب هذا الكلام: "فظهر بهذا الفرق بين العلة والسبب، وأن ما كان موجبا يسمى علة، وما كان مجوزا يسمى سببا" قال ابن علان في شرح الافتراح: "ما كان موجبا للحكم يسمى علة؛ لأن ذلك شأنها: أنه يجب مطولها عند وجودها إن لم يوجد مانع. وما كان مجوزا يسمى سببا؛ لأن المسبب قد يتخلف عن السبب لفقد سبب عند تعدد الأسباب أو لوجود مانع" وفي هامشه: "لأن السبب قد يعارضه ما يمنع الوجوب؛ كوجود الراحلة: من أسباب جواز الحج لا وجوبه".
5 هي انقلاب الألف عن الياء، وصيرورتها إلى الياء، وكونها بدلا عن مكسور من واو أو ياء، ووجود يا. قبلها أو بعدها، ووجود كسرة قبلها أو بعدها، والتناسب. وانظر الأشموني مبحث الإمالة، وشرح ابن يعيش 9/ 55.(1/165)
مبدلة, فتقول: وقتت. فهذه علة الجواز إذًا لا علة الوجوب. وهذا وإن كان في ظاهر ما تراه1 فإنه معنى صحيح وذلك أن الجواز معنى تعقله النفس؛ كما أن الوجوب كذلك فكما أن هنا علة للوجوب فكذلك هنا علة للجواز. هذا أمر لا ينكر، ومعنى مفهوم لا يتدافع.
ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التي يتم2 الكلام بها وتلك النكرة هي المعرفة في المعنى فتكون حينئذ مخيرًا في جعلك تلك النكرة -إن شئت- حالا -وإن شئت- بدلا؛ فتقول على هذا: مررت بزيد رجل صالح على البدل وإن شئت قلت: مررت بزيد رجلا صالحًا على الحال. أفلا ترى كيف كان وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علة لجواز كل واحد من الأمرين لا علة لوجوبه.
وكذلك كل ما جاز لك فيه من المسائل الجوابان, والثلاثة, وأكثر من ذلك على هذا الحد فوقوعه عليه علة لجواز ما جاز منه لا علة لوجوبه. فلا تستنكر هذا الموضع.
فإن قلت: فهل تجيز أن يحل السواد محلًا ما فيكون ذلك علة لجواز اسوداده لا لوجوبه؟ قيل: هذا في هذا ونحوه لا يجوز بل لا بد من اسوداده3 البتة، وكذلك البياض والحركة والسكون ونحو ذلك متى حل شيء منها في محل لم يكن له بد من وجود حكمه فيه ووجوبه البتة له لأن هناك أمرًا لا بد من ظهور أثره. وإذا تأملت ما قدمناه رأيته عائدًا إلى هذا الموضع غير مخالف له ولا بعيد عنه وذلك أن وقوع النكرة4 تلية المعرفة -على ما شرحناه من تلك الصفة- سبب لجواز
__________
1 كذا في الأصول. ويبدوا أن هنا سقطا، والأصل: "وإن كان ظاهر ما تراه شنيعا". ويدل عليه قوله في الصفحة التالية: "فقد زالت عنك إذًا شناعة هذا الظاهر".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تم".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "اسوداد به".
4 أي تابعة لها، من تلاه: تبعه. ويقال: وقع كذا تليه كذا أي عقبه.(1/166)
الحكمين اللذين جازا فيه فصار مجموع الأمرين في وجوب جوازهما كالمعنى المفرد الذي استبد به ما أريتناه: من تمسكك1 بكل واحد من السواد والبياض والحركة والسكون.
فقد زالت عنك إذًا شناعة هذا الظاهر وآلت بك الحال إلى صحة معنى ما قدمته: من كون الشيء علة للجواز لا للوجوب. فاعرف ذلك وقسه فإنه2 باب واسع.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "تمثيلك".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإنه".(1/167)
باب في تعارض العلل:
الكلام في هذا المعنى من موضعين: أحدهما الحكم الواحد تتجاذب1كونه2 العلتان أو أكثر منهما. والآخر الحكمان في الشيء الواحد المختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان.
الأول منهما كرفع المبتدأ فإننا نحن نعتل لرفعه بالابتداء على ما قد بيناه وأوضحناه من شرحه وتلخيص معناه. والكوفيون يرفعونه إما بالجزء الثاني الذي هو مرافعه3عندهم: وإما بما يعود عليه من ذكره على حسب مواقعه 4. وكذلك رفع الخبر ورفع الفاعل, ورفع ما أقيم مقامه ورفع خبر إن وأخواتها. وكذلك نصب ما انتصب وجر ما انجر وجزم ما انجزم مما يتجاذب الخلاف في علله. فكل واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل على ما هو مشروح من حاله في أماكنه.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "تجاذب".
2 أي وجوده وحصوله.
3 يريد بذلك أن الخبر والمبتدأ يترافعان، فالمبتدأ برفع الخبر؛ والخبر يرفع المبتدأ.
4 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "مرافعه".(1/167)
وإنما غرضنا أن نرى هنا جملة1، لا أن نشرحه ولا أن نتكلم على تقوية ما قوي منه وإضعاف ما ضعف منه.
الثاني منهما الحكمان في الشيء الواحد المختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان؛ وذلك كإعمال أهل الحجاز ما النافية للحال, وترك بني تميم إعمالها وإجرائهم إياها مجرى "هل " ونحوها مما لا يعمل فكأن أهل الحجاز لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما ونافية للحال نفيها إياها أجروها في الرفع والنصب مجراها إذا اجتمع فيها الشبهان بها 2. وكأن بني تميم لما رأوها حرفًا داخلا بمعناه على الجملة المستقلة بنفسها ومباشرة لكل واحد من جزأيها كقولك: ما زيد أخوك, وما قام زيد, أجروها مجرى " هل " ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفي دخول " هل"؛ عليها للاستفهام ولذلك كانت عند سيبويه3 لغة التميميين أقوى قياسًا من لغة الحجازيين.
ومن ذلك "ليتما "؛ ألا ترى أن بعضهم يركبهما4 جميعًا فيسلب بذلك "ليت " عملها وبعضهم يلغي5 "ما " عنها, فيقر عملها عليها: فمن ضم "ما " إلى "ليت " وكفها بها عن عملها ألحقها بأخواتها: من "كأن " و "لعل " و "لكن " وقال أيضًا: لا تكون "ليت " في وجوب العمل بها أقوى من الفعل "و "6 قد نراه إذا كف بـ"ما " زال عنه عمله وذلك كقولهم: قلما يقوم زيد فـ"ما "
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "جملة".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "منها".
3 إذ يقول في الكتاب 1/ 28 في الحديث عن "ما": "وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل، وهو القياس، لأها ليست بفعل، وليس ما كليس، ولا يكون فيها إضمار.
4 أي يركب "ليت" و"ما".
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "يلقى".
6 زيادة في أ.(1/168)
دخلت على "قل " كافة لها عن عملها, ومثله كَثُر ما, وطالما, فكما دخلت "ما " على الفعل نفسه فكفته عن عمله وهيأته لغير ما كان قبلها متقاضيًا له كذلك تكون ما كافة ل" ليت" عن عملها ومصيرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعًا بعدها ومن ألغى "ما " عنها وأقر عملها جعلها كحرف الجر في إلغاء "ما " معه نحو قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} و {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} ونحو ذلك, وفصل بينها1 وبين "كأن " , و "لعل " بأنها أشبه بالفعل منهما2؛ ألا تراها مفردة وهما مركبتان؛ لأن الكاف زائدة واللام زائدة.
هذا طريق اختلاف العلل لاختلاف الأحكام في الشيء الواحد, فأما أيها أقوى, وبأيها يجب أن يؤخذ؟ فشيء آخر ليس هذا موضعه, ولا وضع هذا الكتاب3 له. ومن ذلك اختلاف أهل الحجاز وبني تميم في هلم.
فأهل الحجاز يجرونها مجرى صه, ومه, ورويد, ونحو ذلك مما سمي به الفعل, وألزم طريقًا واحدًا. وبنو تميم يلحقونها علم التثينة والتأنيث والجمع, ويراعون أصل ما كانت عليه لم. وعلى هذا مساق جميع ما اختلفت العرب فيه.
فالخلاف إذًا بين العلماء أعم منه بين العرب. وذلك أن العلماء اختلفوا في الاعتلال لما اتفقت العرب عليه كما اختلفوا4 أيضًا فيما اختفلت العرب فيه وكل ذهب مذهبًا وإن كان بعضه قويًا وبعضه ضعيفًا.
__________
1 كذا في أ، ب، وفي ش: "بينهما" وما أثبته هو الصواب، يريد: بين ليت ...
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "منها" والصواب ما أثبته، يريد: من كأن ولعل.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "الباب".
4 كذا في أ. وفي ش, ب: "اتفقوا" وما أثبتناه هو الصواب.(1/169)
باب في أن العلة إذا لم تتعد1 لم تصح:
من ذلك قولهم من اعتل لبناء نحو: كم, ومن, وما, وإذ, ونحو ذلك بأن هذه الأسماء لما كانت على حرفين شابهت بذلك ما جاء من الحروف على حرفين؛ نحو: هل, وبل, وقد. قال: فلما شابهت الحرف من هذا الموضع وجب بناؤها, كما أن الحروف مبنية. وهذه علة غير متعدية, وذلك أنه كان يجب على هذا أن يبنى ما كان من الأسماء أيضًا على حرفين نحو يد, وأخ, وأب, ودم, وفم, وحِر, وهَن, ونحو ذلك.
فإن قيل: هذه الأسماء لها أصل في الثلاثة, وإنما حذف منها حرف, فهو لذلك معتد, فالجواب أن هذه زيادة2 في وصف العلة, لم تأت بها في أول اعتلالك. وهبنا سامحناك بذلك, قد كان يجب على هذا أن يبني باب يد, وأخ, وأب, ونحو ذلك؛ لأنه لما حذف فنقص شابه الحرف, وإن كان أصله الثلاثة, ألا ترى أن المنادى المفرد المعرفة قد كان أصله أن يعرب, فلما دخله شبه الحرف لوقوعه موقع المضمر بني, ولم يمنع من بنائه جريه معربًا قبل حال البناء. وهذا شبه
__________
1 يعبر عن العلة إذا لم تتعد بالقاصرة. وقد عقد لها بحثا في الاقتراح، ونقل عن ابن الأنباري خلافا في الأخذ بها.
2 يراد بالزيادة في وصف العلة التي تخرج نحو يد أن يكون الاسم على حرفين أصالة أي في أصل وضعه، فلا يدخل في هذا نحو أخ فإنه ليس على حرفين في وضعه. وهذه الزيادة مرادة لمن اعتل بهذه العلة لبناء كم ومن، وهو تعليل صحيح، ولا يرد علي ما أورده المؤلف من بناء المفرد المعرفة لوقوعه موقع المضمر مع إعرابه قبل حال البناء، فإن العلة في حال النداء موجودة صحيحة، وأخ, ونحو لا يوجد فيه الشبه بهل كاملا، لأنه لم يوضع على حرفين بل على ثلاثة. ويرى بعض النحويين أن وضع الاسم على حرفين لا يقتضي البناء إلا إذا كان الثاني حرف لين كالضمير "نا" ويعتل لبناء كم ومن ونحوهما بغير الشبه الوضعي. وعلى هذا الرأي المؤلف، كما يؤخذ من كلامه في هذا الكتاب في "باب في هذه اللغة؛ أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط؟ ", وانظر الأشموني على الألفية في مبحث المعرب والمبني.(1/170)
معنوي1 كما ترى مؤثر داع إلى البناء والشبه اللفظي أقوى من الشبه المعنوي فقد كان يجب على هذا أن يبني ما جاء من الأسماء على حرفين وله أصل في الثلاثة وألا يمنع من بنائه كونه في الأصل ثلاثيًا كما لم يمنع من بناء زيد في النداء كونه في الأصل معربًا بل إذا كانت صورة إعراب زيد قبل ندائه معلومة مشاهدة, ثم لم يمنع ذاك من بنائه كان أن يبنى باب يد ودم وهن لنقصه ولأنه لم يأت تامًا على أصله إلا في أماكن شاذة أجدر. وعلى أن منها ما لم يأت على أصله البتة وهو معرب. وهو حر، وسه، وفم. فأما قوله:
يا حبذا عينا سليمى والفما2
وقول الآخر 3:
هما نفثا في فِيَّ من فمويهما4
فإنه على كل حال لم يأت على أصله وإن كان قد زيد5 فيه ما ليس منه.
__________
1 يريد بالشبه المعنوي ما لا يرجع إلى اللفظ، وإن كان به ما اصطلح عليه المتأخرون، وهو أن يتضمن الاسم معنى من معاني الحروف.
2 عجزه:
والجيد والنحو وثدى قد نما
وانظر اللسان في "فوه"، والجمهرة 3/ 484.
3 هو الفرزدق. وانظر الخزانة 2/ 269، 3/ 346, والكتاب 2/ 83 والديوان طبعة أوروبا 111.
4 عجزه:
على الناتج العاوي أشد رجام
وقبله:
وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا ... لهم بعذاب الناس كل غلام
وهما من قصيدة يتوب فيها من الهجاء وقذف المحصنات. وقوله: "هما نفثا" يريد إبليس وابنه يريد أنهما ألقيا على لسانه ما لا يحل من القول. ثم استأنف فقال: على النابح، يريد من يهجو الفرزدق، ورجام، فهو مصدر راجم بالحجارة، رمى بها، يريد الإجابة بأسوأ الجواب.
5 يريد أن "الفما" في بيت الرجز، وفي بيت الفرزدق نقص العين واللام؛ إذ أصله فوه، بدليل جمعه على أفواه وزيد فيه الميم والألف، وهما ليسا في أصل تركيبه، ويذكر النحويون في بيت الفرزدق أن فيه جمعا بين البدل -هو الميم- والمبدل عنه، وهو الواو. وقد أورد ابن جني في سر الصناعة "حرف النون" الرجز وبيت الفرزدق وأورد في "الفما" بضعة أوجه، ثم قال: ويجوز أن يكون "الفما" في موضع رفع، إلا أنه اسم مقصور بمنزلة عصا، وعليه بيت الفرزدق:
هما نفثا في في من فمويهما(1/171)
فإن قلت: فقد ظهرت اللام في تكسير ذلك نحو أفواه وأستاه وأحراخ قيل: قد ظهر أيضًا الإعراب في زيد نفسه لا في جمعه ولم يمنع ذلك من بنائه. وكذلك القول في تحقيره وتصريفه نحو فويه, وأسته1, وحرح 2.
ومن ذلك قول أبي إسحاق في التنوين اللاحق في مثال الجمع الأكبر نحو جوار وغواش: إنه عوض من ضمة الياء وهذه علة غير جارية3، ألا ترى أنها لو كانت متعدية لوجب أن تعوض من ضمة ياء يرمي، فتقول: هذا يرم، ويقض، ويستفض.
فإن قيل: الأفعال لا يدخلها التنوين، ففي هذا جوابان: أحدهما أن يقال له: علتك ألزمتك إياه فلا تلم إلا نفسك والآخر أن يقال له: إن الأفعال إنما يمتنع منها التنوين اللاحق للصرف فأما التنوين غير ذاك فلا مانع له ألا ترى إلى تنوينهم الأفعال في القوافي لما لم يكن ذلك الذي هو علم للصرف كقول العجاج:
من طلل كالأتحمي أنهجَن4
وقول جرير:
وقولي إن أصبت لقد أصابن5
ومع هذا فهل التنوين إلا نون وقد ألحقوا الفعل النونين: الخفيفة والثقيلة. وههنا إفساد لقول أبي إسحاق آخر وهو أن يقال له: إن هذه الأسماء قد عاقبت
__________
1 الأسته: عظيم الاست.
2 هو المولع بالحر.
3 يريد أنها قاصرة غير متعدية، فكأنها واقفة غير جارية.
4 صدره:
ما هاج أشجانا وشجوا قد شجن
وشجن أصله شجا فألحقه تنوين الترنم. وانظر الديوان 7. وقوله: "أنهجن" كذا رسم بالنون وفقا لما في أ. وفي ش، ب: "أنها".
5 صدره:
أقل اللوم هاذل والعتا بن
وهو مطلع قصيدة له طويلة يهجو فيها الراعي النميري. وانظر الديوان 2/ 30 والخزانة 1/ 34، وقوله: "أصابن" كذا رسم بالنون وفقًا لما في أ، وفي ش، ب: "أصابا".(1/172)
ياءاتها ضماتها؛ ألا تراها لا تجتمع معها فلما عاقبتها جرت لذلك مجراها فكما أنك لا تعوض من الشيء وهو موجود, فكذلك أيضًا يجب ألا تعوض منه وهناك ما يعاقبه ويجري مجراه. غير أن الغرض في هذا الكتاب إنما هو الإلزام الأول؛ لأن به ما1 يصح تصور العلة, وأنها غير متعدية.
ومن ذلك قول الفراء في نحو لغة, وثُبة, ورئة, ومئة: إن كان من ذلك المحذوف منه الواو فإنه يأتي مضموم الأول نحو لغة وبرة, وثبة, وكرة, وقلة؛ وما كان من الياء فإنه يأتي مكسور الأول؛ نحو مئة, ورئة. وهذا يفسده قولهم: سنة فيمن قال: سنوات2 وهي من الواو كما ترى وليست مضمومة الأول. وكذلك قولهم: عِضة محذوفها الواو لقولهم فيها: عضوات, قال:
هذا طريق يأزم المآزما ... وعضوات تقطع اللهازما3
وقالوا أيضًا: ضَعَة, وهي من الواو مفتوحة الأول, ألا تراه قال 4:
متخذًا من ضَعَوات تَوْلَجا
فهذا وجه فساد العلل إذا كانت واقفة5 غير متعدية. وهو كثير, فطالب فيه بواجبه, وتأمل ما يرد عليك من أمثاله.
__________
1 ما هنا زائدة أو مصدرية.
2 أي لا فيمن قال في الجمع سنهات. وانظر الكامل 6/ 202.
3 يروى تمشق بدل "تقطع" وتمشق: تضرب. والمآزم جمع المأزم، وهو المضيق بين جبلين، يريد أن المضايق بالنسبة إلى ضيقه لا تذكر. وانظر الكامل بشرح الموصفي 6/ 206 وهذا البيت رواه الأصمعي عن أبي مهدية. وانظر اللسان في "أزم"، وسيبويه ص81 ج2.
4 أي جرير يهجو البعيث. وقبله:
كأنه ذيخ إذا تنفجا
والذيخ -بزنة ديك: الذكر من الضباع وتنفج: وثب وعدا. وفي اللسان "ولج": "ما معجا" والمعج: سرعة المر والتولج: كناس الظبي والوحش. والضعة: شجر بالبادية مثل التمام. وانظر اللسان في "ضعو" و"ولج" و"تلج"، والديوان 1/ 34.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "واقعة". وما أثبت هو الصواب. يريد بالموافقة غير الجارية، وهي القاصرة.(1/173)
باب في العلة وعلة العلة:
ذكر أبو بكر1 في أول أصوله هذا ومثل منه برفع الفاعل. قال: فإذا سئلنا عن علة رفعه قلنا: ارتفع بفعله فإذا قيل: ولم صار الفاعل مرفوعًا فهذا سؤال عن علة العلة.
وهذا موضع ينبغي أن تعلم2 منه أن هذا الذي سماه علة العلة إنما هو تجوز في اللفظ فأما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة ألا ترى أنه إذا قيل له: فلم ارتفع الفاعل قال: لإسناد الفعل إليه ولو شاء لابتدأ هذا فقال في جواب رفع زيد من قولنا قام زيد: إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه فكان مغنيًا عن قوله: إنما ارتفع بفعله حتى تسأله فيما بعد عن العلة التي ارتفع لها الفاعل. وهذا هو الذي أراده المجيب بقوله: ارتفع بفعله أي بإسناد الفعل إليه.
نعم ولو شاء لماطله فقال له: ولم صار المسند إليه الفعل مرفوعًا؟ فكان جوابه أن يقول: إن صاحب الحديث أقوى الأسماء والضمة أقوى الحركات فجعل الأقوى للأقوى. وكان يجب على ما رتبه أبو بكر أن تكون هنا علة وعلة العلة وعلة علة العلة. وأيضًا فقد كان له أن يتجاوز هذا الموضع إلى ما وراءه فيقول: وهلا عكسوا الأمر فأعطوا الاسم الأقوى الحركة الضعيفة لئلا يجمعوا بين ثقيلين. فإن تكلف متكلف جوابًا عن هذا تصاعدت عدة3 العلل وأدى ذاك إلى هجنة القول وضعفة4 القائل به وكذلك لو قال لك قائل في قولك: قام القوم إلا زيدًا: لم نصبت زيدًا لقلت: لأنه مستثنى وله من بعد أن يقول:
__________
1 هو ابن السراج.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "يعلم".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "علة".
4 الضعفة: قلة الفطنة وضعف الرأي.(1/174)
ولم نصبت المستثنى فيكون من جوابه لأنه فضلة ولو شئت أجبت مبتدئًا بهذا فقلت: إنما نصبت زيدًا في قولك: قام القوم إلا زيدًا لأنه فضلة. والباب واحد والمسائل كثيرة. فتأمل وقس.
فقد ثبت بذلك أن هذا موضع تسمح " فيه أبو بكر "1 أو لم2 ينعم تأمله.
ومن بعد فالعلة الحقيقية عند أهل النظر لا تكون معلولة ألا ترى أن السواد الذي هو علة لتسويد ما يحله إنما صار كذلك لنفسه لا لأن جاعلًا جعله على هذه القضية. وفي هذا بيان.
فقد ثبت إذًا أن قوله: علة العلة إنما غرضه فيه أنه تتميم وشرح لهذه العلة المقدمة عليه. وإنما ذكرناه في جملة هذه الأبواب لأن أبا بكر -رحمه الله- ذكره فأحببنا أن نذكر ما عندنا فيه. وبالله التوفيق.
__________
1كذا في ش، ب. وفي أ: "أبو بكربه" مكان "فيه أبو بكر".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "و".(1/175)
باب في حكم المعلول بعلتين:
وهو على ضربين: أحدهما ما لا نظر فيه والآخر محتاج إلى النظر.
الأول منهما نحو قولك: هذه عشري وهؤلاء مسلمي. فقياس هذا على قولك: عشروك ومسلموك أن يكون أصله عشروي ومسلموي, فقلبت الواو ياء لأمرين كل واحد منهما موجب للقلب غير محتاج إلى صاحبه للاستعانة به على قلبه: أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون والآخر أن ياء المتكلم أبدًا تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحًا نحو هذا غلامي ورأيت صاحبي وقد ثبت1 فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه الأسماء؛
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "قبل"، وهو تحريف.(1/175)
نحو مررت بزيد ومررت بالزيدين ونظرت إلى العشرين. فقد وجب إذًا ألا يقال: هذه عشروي بالواو كما لا يقال: هذا غلامي بضم الميم. فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء في عشروي وصالحوي ونحو ذلك وأن يقال عشري بالياء البتة كما يقال هذا غلامي بكسر الميم البتة.
ويدل على وجوب قلب هذه الواو إلى الياء في هذا الموضع من هذا الوجه ولهذه العلة لا للطريق الأول -من استكراههم إظهار الواو ساكنة قبل الياء- أنهم لم يقولوا: رأيت فاي وإنما يقولون: رأيت في. هذا مع أن هذه الياء لا ينكر أن تأتي بعد الألف نحو رحاي وعصاي لخفة الألف فدل امتناعهم من إيقاع الألف قبل هذه الياء على أنه ليس طريقه طريق الاستخفاف والاستثقال, وإنما هو لاعتزامهم ترك الألف والواو قبلها كتركهم الفتحة والضمة قبل الياء في الصحيح؛ نحو غلامي وداري.
فإن قيل: فأصل هذا إنما هو لاستثقالهم الياء بعد الضمة لو قالوا: هذا غلامي قيل: لو كان لهذا الموضع البتة لفتحوا ما قبلها لأن الفتحة على كل حال أخف قبل الياء من الكسرة فقالوا: رأيت غلامي. فإن قيل: لما تركوا الضمة هنا وهي علم للرفع أتبعوها الفتحة ليكون العمل من موضع واحد كما أنهم لما استكرهوا الواو بعد الياء نحو يعد حذفوها أيضًا بعد الهمزة والنون والتاء في نحو أعد ونعد وتعد قيل: يفسد هذا من أوجه. وذلك أن حروف المضارعة تجري مجرى الحرف الواحد من حيث كانت كلها متساوية في جعلها الفعل صالحًا لزمانين: الحال والاستقبال فإذا وجب في أحدها شيء أتبعوه سائرها وليس كذلك علم الإعراب؛ ألا ترى أن موضوع1 الإعراب على مخالفة بعضه بعضًا من حيث كان إنما جيء به دالا على اختلاف المعاني.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "موضع".(1/176)
فإن قلت: فحروف المضارعة أيضًا موضوعة على اختلاف معانيها؛ لأن الهمزة للمتكلم, والنون للمتكلم إذا كان معه غيره وكذلك بقيتها قيل: أجل إلا أنها كلها مع ذلك مجتمعة على معنى واحد وهو جعلها الفعل صالحًا للزمانين على ما مضى. فإن قلت: فالإعراب أيضًا كله مجتمع على جريانه على حرفه قيل: هذا عمل لفظي, والمعاني أشرف من الألفاظ.
وأيضًا فتركهم إظهار الألف قبل هذه الياء مع ما يعتقد من خفة الألف حتى إنه لم يسمع منهم نحو فاى ولا أباى ولا أخاى وإنما المسموع عنهم رأيت أبي وأخي وحكى سيبويه كَسَرت فِيَ أدل دليل على أنهم لم يراعوا حديث الاستخفاف والاستثقال حسب وأنه أمر غيرهما. وهو اعتزامهم ألا تجيء هذه الياء إلا بعد كسرة أو ياء أو ألف لا تكون علمًا للنصب: نحو هذه عصاي وهذا مصلاي. وعلى أن بعضهم راعى هذا الموضع أيضًا فقلب هذه الألف ياء فقال: عصي ورحي, ويا بشرَيَّ "هذا غلام "1 وقال أبو داود 2:
فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم وأستدرج نويا
__________
1 زيادة في أ. وهي قراءة أبي الطفيل والحسن والجحدري. انظر البحر 5/ 290.
2 هذا هو الصواب، ونسبه في المغني في مباحث أقسام العطف 2/ 97 إلى الهذلي. وقبله:
ألم تر أنني جاورت كعبا ... وكان جوار بعض الناس غيا
وكان أبو داود جاور هلال بن كعب من تميم، فلعب غلام له مع غلمان الحي في غدير، فغطسوه في الماء، ومات، فعزم أبو دواد على مفارقتهم وذم جوارهم، وأحسن منهم أنهم يحاولون إرضاءه، فقال هذين البيتين. وقد أعطاه هلال فوق الرضا، حتى ضرب به المثل في الوفاء فقيل: جار كجار أبي داود. وقوله: "فأبلوني" يقال: أبلاه إذا صنع به صنعًا جميلا، واليلية اسم منه. و"نويا" يريد نواي والنوي: النية، وهو الوجه الذي يقصد، و"أستدرج": أرجع أدراجي من حيث كنت. يقول: أحسنوا إليَّ فإن أحسنتم فلعلي أصالحكم وأرجع حيث كنت جارا لكم. وقد أحسنوا إليه، وظل على جوارهم. وانظر شرح شواهد المغني البغدادي في الشاهد 669.(1/177)
وروينا أيضًا عن قطرب 1:
يطوف بي عكب في معد ... ويطعن بالصملة في قفيا2
فإن لم تثأراني من عكب ... فلا أرويتما أبدا صديا3
وهو كثير. ومن قال هذا لم يقل في هذان غلاماي: "غلامَي"4 بقلب الألف ياء لئلا يذهب علم الرفع.
ومن المعلول بعلتين قولهم: سيّ, ُ وريُّ. وأصله سوي وروي, فانقلبت الواو ياء -إن شئت- لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة -وإن شئت- لأنها ساكنة قبل الياء. فهاتان علتان إحداهما كعلة قلب ميزان والأخرى كعلة طيا وليا مصدري طويت ولويت وكل واحدة منهما مؤثرة.
فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين الذي لا نظر فيه.
والآخر منهما ما فيه النظر وهو باب ما لا ينصرف. وذلك أن علة امتناعه من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل. فأما السبب الواحد فيقل عن أن يتم5 علة بنفسه حتى ينضم إليه الشبه الآخر من الفعل.
__________
1 نسبه في اللسان في "عكب" للنخل اليشكري؛ وكان يتهم بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر، ووقف النعمان على ذلك فدفعه إلى عكب، وهذا قيده وعذبه. وانظر شرح الحماسة للتبريزي 2/ 48 طبعة بولاق، والإصلاح 444.
2 عكب صاحب سجن النعمان بن المنذر. والصملة: العصا؛ كما في التاج في صمل. وفي الجمهرة أنها حربة.
3 "تثأراني" في ش، ب. وفي أ "تثأرابي"، وكلاهما وارد مسموع، يقال: ثأرت القتيل، وثأرت به وفي ج: "تثأرالي". "وصدي" يريد صداي. والصدى -في زعم الجاهلية- طائر يصبح إذا لم يثأر بالمقتول.
4 زيادة اقتضاها السياق وظهرت لي من اختلاف الأصول. ففي أ "غلاماي"، وفي ش، ب: "غلامي"، وقد بدا لي أن العبارتين "غلاماي" و"لامي" في النسخة الأصلية، وحذف النساخ إحدهما لما لم يفهموا المراد.
5 ضبط هكذا في ب. وفي أ: "بتم"، بفتح الباء من الثلاثي, وكلاهما صحيح.(1/178)
فإن قيل: فإذا كان في الاسم شبه واحد من أشباه الفعل أله فيه تأثير أم لا؟ فإن كان له فيه تأثير فماذا التأثير؟ وهل صرف زيد1 إلا كصرف كلب وكعب؟ وإن لم يكن للسبب الواحد إذا حل الاسم تأثير فيه فما باله إذا انضم إليه سبب آخر أثرا فيه فمعناه الصرف؟ وهلا إذا كان السبب الواحد لا تأثير له فيه لم يؤثر فيه الآخر كما لم يؤثر فيه الأول؟ وما الفرق بين الأول والآخر؟ فكما لم يؤثر الأول هلا لم يؤثر الآخر؟
فالجواب أن السبب الواحد وإن لم يقو حكمه إلى2 أن يمنع الصرف فإنه لا بد في حال انفراده من تأثير فيما حله وذلك التأثير الذي نوميء إليه وندعي حصوله هو تصويره3 الاسم الذي حله على صورة ما إذا انضم إليه سبب آخر اعتونا معًا على منع الصرف ألا ترى أن الأول لو لم تجعله4 على هذه الصفة التي قدمنا ذكرها لكان مجيء الثاني مضمومًا إليه لايؤثر أيضًا كما لم يؤثر الأول ثم كذلك إلى أن تفنى أسباب منع الصرف فتجتمع كلها فيه وهو مع ذلك منصرف. لا بل دل تأثير الثاني على أن الأول قد كان شكل الاسم على صورة إذا انضم إليه سبب آخر انضم إليها مثلها وكان من مجموع الصورتين ما يوجب ترك الصرف.
فإن قلت: ما تقول في اسم أعجمي علم في بابه مذكر متجاوز للثلاثة نحو يوسف وإبراهيم ونحن نعلم أنه الآن غير مصروف لاجتماع التعريف والعجمة عليه فلو سميت به من بعد مؤثنًا ألست قد جمعت فيه بعد ما كان عليه -من التعريف والعجمة- التأنيث فليت شعري أبالأسباب الثلاثة منعته الصرف أم باثنتين منها؟
__________
1 أي وفيه العلمية. وبها يتحقق أحد الشبهين. وقوله كلب وكعب أي غير علمين.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "في".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بصورة".
4 كذا في أ. وفي ش: "يجعله".(1/179)
فإن كان بالثلاثة كلها فما الذي زاد فيه التأنيث الطاريء عليه فإن كان لم يزد فيه شيئًا فقد رأيت أحد أشباه الفعل غير مؤثر وليس هذا من قولك. وإن كان أثر فيه التأنيث الطارئ عليه شيئًا فعرفنا ما ذلك المعنى.
فالجواب هو أنه جعله على صورة ما إذا حذف منه سبب من أسباب الفعل بقي بعد ذلك غير مصروف أيضًا ألا تراك لو حذفت من يوسف اسم امرأةٍ التأنيث فأعدته إلى التذكير لأقررته أيضًا على ما كان عليه من ترك الصرف وليس كذلك امرأة سميتها بجعفر ومالك ألا تراك لو نزعت عن الاسم تأنيثه لصرفته لأنك لم تبق فيه بعد إلا شبهًا واحدًا من أشباه الفعل. فقد صار إذًا المعنى الثالث مؤثرًا أثرًا ما كما كان السبب الواحد مؤثرًا أثرًا ما على ما قدمنا ذكره فاعرف ذلك.
وأيضًا فإن "يوسف " اسم امرأة أثقل منه اسم رجل كما أن "عقرب " اسم امرأة أثقل من "هند " ألا تراك تجيز صرفها ولا تجيز صرف "عقرب " علمًا. فهذا إذًا معنى حصل ليوسف عند تسمية المؤنث به وهو معنى زائد بالشبه الثالث.
فأما قول من قال: إن الاسم الذي اجتمع فيه سببان من أسباب منع الصرف فمنعه إذا انضم إلى ذلك ثالث امتنع من الإعراب أصلًا ففاسد عندنا من أوجه: أحدها أن سبب البناء في الاسم ليس طريقه طريق حديث الصرف وترك الصرف إنما سببه مشابهة الاسم للحرف لا غير. وأما تمثيله ذلك بمنع إعراب حذام وقطام وبقوله فيه: إنه لما كان معدولًا عن حاذمة وقاطمة وقد كانتا معرفتين لا ينصرفان1، وليس بعد منع الصرف إلا ترك الإعراب البتة فلاحق في الفساد بما قبله لأنه منه وعليه حذاه. وذلك أن علة منع هذه
__________
1 كذا في الأصول. والوجه أن يقال: تنصرفان، وكأنه ذكر نظرا لتأولهما باللفظين.(1/180)
الإعراب إنما هو شيء أتاها من باب دراك، ونزال، ثم شبهت1 حذام وقطام ورقاش بالمثال2 والتعريف، والتأنيث بباب دراك ونزال على " ما بيناه"3 هناك. فأما أنه لأنه ليس بعد منع الصرف إلا رفع الإعراب أصلا فلا.
ومما يفسد قول من قال: إن الاسم إذا منعه السببان الصرف فإن اجتماع الثلاثة فيه ترفع4 عنه الإعراب أنا نجد في كلامهم من الأسماء ما يجتمع فيه خمسة أسباب من موانع الصرف وهو مع ذلك معرب غير مبني. وذلك كامرأة سميتها " بأذربيجان " فهذا اسم قد اجتمعت فيه خمسة5 موانع: وهو التعريف والتأنيث، والعجمة، والتركيب6، والألف والنون وكذلك إن عنيت "بأذربيجان " البلدة والمدينة لأن البلد فيه الأسباب الخمسة وهو مع ذلك معرب7 كما ترى. فإذا كانت الأسباب الخمسة لا ترفع الإعراب فالثلاثة أحجى بألا ترفعه وهذا بيان. ولتحامي الإطالة ما أحذف أطرافًا من القول على أن فيما يخرج إلى الظاهر كافيًا بإذن الله.
__________
1 كذا. والأسوغ حذف هذا الحرف. وكأن "ثم" فيه للترتيب الذكري، يراد فيه التعليل للجملة السابقة.
2 يراد بالمثال الوزن. والياء فيه للسببية. والغرض ذكر وجه الشبه بين باب حذام وباب دراك.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما قد بيناه".
4 كذا في جميع الأصول والتأنيث لاكتساب المضاف "اجتماع" التثبت من المضاف إليه.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "خمس".
6 من أذر للنار، وبيحان أي حافظ وخازن، ومعنى ذلك بيت النار أو خازن النار، وقد كانت بيوت النار المعدة لعبادة الفرس كثيرة في هذه الناحية. انظر معجم البلدان.
7 يجيب ابن قاسم العبادي عن هذا بأن توالي العلل المانعة من الصرف مجوز للياء لا موجب. فأخذ به في حذام. ولم يؤخذ به في أذربيجان؛ للتنبيه على هذا، وانظر حاشية الصبان في مبحث "ما لا ينصرف".(1/181)
باب في إدراج 1 العلة واختصارها:
هذا موضع يستمر "النحويون عليه 2" فيفتق عليهم ما يتعبون3 بتداركه والتعذر منه. وذلك كسائل سأل عن قولهم: آسيت الرجل فأنا أواسيه وآخيته فأنا أواخيه فقال: وما أصله فقلت: أؤاسيه وأؤاخيه -وكذلك نقول- فيقول لك: فما4 علته في التغيير فنقول: اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واوًا لانضمام ما قبلها. وفي ذلك شيئان: أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل والآخر أنك لم تتقص شرح العلة.
أما إخلالك بذكر حقيقية الأصل فلأن أصله "أؤاسوك " لأنه أفاعلك من الأسوة فقلبت الواو ياء لوقوعها طرفًا بعد الكسرة وكذلك أؤاخيك أصله "أؤاخوك " لأنه من الأخوة5 فانقلبت اللام لما ذكرنا كما تنقلب في نحو أعطِى واستقصِى.
وأما تقصي علة تغيير الهمزة بقلبها واوًا فالقول فيه أنه اجتمع في كلمة واحدة همزتان غير عينين " الأولى منهما مضمومة والثانية مفتوحة "6 و " هي"7 حشو غير طرف فاستثقل ذلك فقلبت الثانية على حركة ما قبلها -وهي الضمة-
__________
1 إدراج العلة: طيها وترك بسطها والإسراع في إيرادها بحذف بعض مقوماتها والإدراج في اللغة: الطي؛ تقول: أدرجت الكتاب إذا طويته وفيه معنى السرعة، ومن ذلك مدرجة الطريق: التي يسرع الناس فيها وانظر اللسان "درج" وأدب الكتاب للصولي 136.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "النحويون فيه عليه".
3 كذا في أ، ب وفي ش: "يتبعون"
4 كذا في ش، ب وفي أ: "ما".
5 كذا في ش، ب وفي أزيادة: "والإخوة" بكسر الهمزة وتشديد الخاء.
6 سقط ما بين القوسين في أ.
7 كذا أثبت هذه الكلمة، وبها يستقيم الكلم، وفي أ: "وكلتاهما متأخر غير طرف" وفي غيرها من الأصول: "وكلتاهما حشو غير طرف".(1/182)
واوًا. ولا بد من ذكر جميع ذلك وإلا أخللت ألا ترى أنك قد تجمع في الكلمة الواحدة بين همزتين فتكونان عينين فلا تغير ذلك وذلك نحو سآل ورآس, وكبنائك من سألت نحو تبع، فتقول 1: "سؤل " فتصحان لأنهما عينان ألا ترى أن لو بنيت من قرأت مثل " جرشع" 2 لقلت "قرء " وأصله قرؤؤ فقلبت الثانية ياء وإن كانت قبلها همزة مضمومة وكانتا في كلمة واحدة لما كانت الثانية منهما طرفًا لا حشوًا. وكذلك أيضًا ذكرك كونهما في كلمة واحدة ألا ترى أن من العرب من يحقق الهمزتين إذا كانتا من كلمتين نحو قول الله تعالى3 {السُّفَهَاءُ أَلا} فإذا كانتا في كلمة واحدة فكلهم يقلب نحو جاء وشاء ونحو خطايا وزوايا4، في قول الكافة غير الخليل.
فأما ما يحكى عن بعضهم من تحقيقهما في الكلمة الواحدة نحو أئمة وخطائئ "مثل خطا عع "5، وجائئ فشاذ لا يجوز أن يعقد عليه باب. ولو اقتصرت في تعليل التغيير في " أؤاسيك" ونحوه على أن تقول: اجتمعت الهمزتان في كلمة واحدة فقلبت الثانية واوًا لوجب عليك أن تقلب الهمزة الثانية في نحو سأآل ورأآس واوًا, وأن تقلب همزة أأدم وأأمن واوًا وأن تقلب الهمزة الثانية في خطائئ واوًا. ونحو ذلك كثير لا يحصى وإنما أذكر من كل نبذًا لئلا يطول الكتاب جدًّا.
__________
1 كذا في ب وفي أ: "فيقال". وفي ش: "فيقول".
2 هو العظيم من الإبل والخيل.
3 من الآية 13 من سورة البقرة.
4 كذا في معظم الأصول: "ورزايا" جمع رزيئة وفي أ، "روايا" وجمع رويئة، والأكثر فيها ترك الهمز: روية.
5 زيادة في ش، ب وإن كان فيهما "خطا عج" وهو تحريف.(1/183)
باب في دور 1 الاعتلال:
هذا موضع طريف 2. ذهب محمد بن يزيد في وجوب إسكان اللام في نحو ضربْن وضربْت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير: يعني مع الحركتين قبل. وذهب أيضًا في حركة الضمير من نحو هذا أنها إنما وجبت لسكون ما قبله. فتارة اعتل لهذا بهذا ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا. وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه وإنما استقر على ما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه.
ومثله ما أجازه سيبويه في جر " الوجه" من قولك: هذا الحسن الوجه. وذلك أنه أجاز فيه الجر من وجهين: أحدهما طريق الإضافة الظاهرة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل. "وقد أحطنا علمًا بأن الجر إنما جاز في الضارب الرجل "3 ونحوه مما كان الثاني منهما منصوبًا لتشبيههم إياه بالحسن الوجه أفلا ترى كيف صار كل واحد من الموضعين علة لصاحبه في الحكم الواحد الجاري عليهما جميعًا. وهذا من طريف أمر هذه اللغة وشدة تداخلها وتزاحم الألفاظ والأغراض على جهاتها. والعذر أن الجر لما فشا واتسع في نحو الضارب الرجل والشاتم الغلام والقاتل البطل صار -لتمكنه فيه وشياعه في استعماله- كأنه أصل في بابه وإن كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن الوجه. فلما كان كذلك قوي في بابه حتى صار لقوته
__________
1 يريد بدور الأعتلال أن يطل الشيء بعلة معللة بذلك الشيء. والدرر بين شيئين توقف كل منهما على الآخر. وهذا من مصطلحات المتكلمين، ولهم فيه تقسيم وبحوث. وليس الدرر في هذا المقام هو الدوران كما ذهب إليه شارحا الاقتراح: ابن الطيب ابن علان؛ فإن الدوران هو حدوث الحكم بحدوث العلة، وانعدامه بعدمها كما في حرمة النبيذ تدور مع الإسكار وجودا وعدمًا، والدوران من مسالك العلة، والدور أدنى إلى أن يكون من قوادحها.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "ظريف".
3 ثبت ما بين القوسين في ش، ب. وسقط من أ.(1/184)
قياسًا وسماعًا كأنه أصل للحر في "هذا الحسن الوجه " وسنأتي على بقية هذا الموضع في باب نفرده له1 بإذن الله.
لكن ما أجازه أبو العباس وذهب إليه في باب ضربن وضربت من تسكين اللام لحركة الضمير, وتحريك الضمير لسكون اللام شنيع الظاهر, والعذر فيه أضعف منه في مسئلة الكتاب ألا ترى أن الشيء لا يكون علة نفسه وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علة علته أبعد وليس كذلك قول سيبويه وذلك أن الفروع إذا تمكنت " قويت قوة تسوغ"3 حمل الأصول عليها. وذلك لإرادتهم تثبيت الفرع والشهادة له بقوة الحكم.
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا اللفظ في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "أوضح" وما أثبت هو الصواب.
3 كذا في أ. وفي بقية الأصول: "وقويت قوة تسرع".(1/185)
باب في ارد على من اعتقد فساد علل النحويين لضعفه هو نفسه عن أحكام العلة
...
باب في الرد على من اعتقد فساد علل النحويين لضعفه هو في نفسه عن إحكام العلة:
اعلم أن هذا الموضع هو الذي يتعسف بأكثر من ترى. وذلك أنه لا يعرف أغراض القوم فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلة ضعيف واه ساقط غير متعال.
وهذا كقولهم: يقول النحويون إن الفاعل رفع والمفعول به نصب وقد ترى الأمر بضد ذلك ألا ترانا نقول: ضرب زيد فنرفعه وإن كان مفعولا به, ونقول: إن زيدًا قام فننصبه وإن كان فاعلًا ونقول: عجبت من قيام زيد فنجره وإن كان فاعلًا ونقول أيضًا: قد قال الله عز وجل {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} فرفع "حيث " وإن كان بعد حرف الخفض. ومثله عندهم في الشناعة قوله -عز وجل: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وما يجري هذا المجرى.
ومثل هذا يتعب مع هذه الطائفة لا سيما إذا كان السائل "عنه"1 من يلزم الصبر عليه. ولو بدأ الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوس وذا اللغو ألا ترى أنه لو عرف أن الفاعل عند أهل العربية ليس كل من كان فاعلًا في المعنى وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرته بعد الفعل وأسندت ونسبت ذلك الفعل إلى ذلك الاسم وأن الفعل الواجب وغير الواجب في ذلك سواء لسقط صداع2 هذا المضعوف السؤال.
وكذلك القول على المفعول أنه إنما ينصب3 إذا أسند الفعل إلى الفاعل فجاء هو فضلة وكذلك لو4 عرف أن الضمة في نحو حيث وقبل وبعد ليست إعرابًا وإنما هي بناء.
وإنما ذكرت هذا الظاهر الواضح ليقع الاحتياط في المشكل الغامض. وكذلك ما يحكى عن الجاحظ من أنه قال: قال النحويون: إن أفعل الذي5 مؤنثه فُعلى لا يجتمع فيه الألف واللام ومن وإنما هو بمن أو بالألف واللام؛ نحو قولك: الأفضل وأفضل منك, والأحسن وأحسن من جعفر, ثم قال: وقد قال الأعشى:
فلست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر6
ورحم الله أبا عثمان أما إنه لو علم أن "من " في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل للمبالغة نحو أحسن منك وأكرم منك، لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله ويعنو لسداده وصحته خصمه. وذلك أن "من " في بيت الأعشى إنما هي كالتي في قولنا: أنت من الناس حر وهذا الفرس من الخيل كريم. فكأنه قال: لست من بينهم بالكثير الحصى ولست فيهم بالأكثر حصى. فاعرف ذلك.
__________
1 زيادة في أ، ج.
2 كذا في أ. ويوافقه ما في ج: "لسقط صداعه". وفي ش، ب: "سؤال".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "انتصب".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أو" وما أثبت هو الصواب.
5 يريد أفعل التفضيل، احترازًا عن أفعل الذي مؤنثه فعلاء. فهو صفة مشبهة.
6 هذا البيت هو السابع والعشرون من قصيدته التي مطلعها:
شافك من قتله أطلالها ... بالشط فالوتر إلى حاجر
وانظر الصبح المنير 104-108، والخزانة 3/ 489.(1/185)
باب في الاعتلال لهم بأفعالهم:
ظاهر هذا الحديث طريف1، ومحصوله صحيح وذلك إذا كان الأول المردود إليه الثاني جاريًا على "صحة علة "2.
من ذلك أن يقول قائل: إذا كان الفعل قد حذف في الموضع الذي لو ظهر فيه لما أفسد معنى كان ترك إظهاره في الموضع الذي لو ظهر فيه لأحال المعنى وأفسده أولى وأحجى ألا ترى أنهم يقولون: الذي في الدار زيد وأصله الذي استقر أو ثبت في الدار زيد ولو أظهروا هذا الفعل هنا لما أحال معنى ولا أزال غرضًا فكيف بهم في ترك إظهاره في النداء ألا ترى أنه لو تجشم إظهاره فقيل: أدعو زيدًا وأنادي زيدًا لاستحال أمر النداء فصار إلى لفظ الخبر المحتمل للصدق والكذب والنداء مما3 لا يصح فيه تصديق ولا تكذيب.
ومن الاعتلال بأفعالهم أن تقول: إذا كان اسم الفاعل -على قوة تحمله للضمير- متى جرى على غير من هو له -صفة أو صلة أو حالا أو خبرًا- لم يحتمل الضمير كما يحتمله4 الفعل، فما ظنك بالصفة المشبهة باسم الفاعل، نحو
__________
1 كذا في أ، ب. وسقط هذا الحرف في ش.
2 كذا في أ، ب. وفي ش، ج: "علة صحيحة".
3 كذا في أ. وسقط هذا اللفظ في ش، ب.
4 مقتضى هذا الكلام أن الضمير مع الفعل إذا جرى على غير من هو له يجوز استتاره، وهو ما في الإنصاف "المسألة الثامنة". وفي الهمع 1/ 96: "والفعل كالمشتق فيما ذكر أيضا؛ نحو زيد عمرو بضربه هو، وزيد هند يضربها، ويضربها هو، على الخلاف، وقد نقل ذلك الصبان في حاشيته على الأشموني عند قول ابن مالك في "الابتداء":
وأبرزنه مطلقا حيث تلا ... ما ليس معناه له محصلا(1/187)
قولك: زيد هند شديد عليها هو, إذا أجريت1 " شديدًا " خبرًا عن "هند " وكذلك قولك: أخواك زيد حسن في عينه هما, والزيدون هند ظريف في نفسها هم, وما ظنك أيضًا بالشفة المشبهة "بالصفة المشبهة "2 باسم الفاعل نحو قولك: أخوك جاريتك أكرم عليها من عمرو هو وغلاماك أبوك أحسن عنده من جعفر هما والحجر الحية أشد عليها من العصا هو.
ومن قال: مررت برجل أبي عشرة أبوه قال: أخواك جاريتهما أبو عشرة عندها هما فأظهرت الضمير. وكان ذلك أحسن من رفعه الظاهر لأن هذا الضمير وإن كان منفصلا ومشبهًا للظاهر بانفصاله فإنه على كل حال ضمير. وإنما وحدت فقلت: أبو عشرة عندها هما ولم تثنه فتقول: أبوا عشرة من قبل أنه قد رفع ضميرًا منفصلا مشابهًا للظاهر فجرى مجرى قولك: مررت برجل أبي عشرة أبواه. فلما رفع الظاهر وما يجري مجرى الظاهر شبهه بالفعل فوحد البتة. ومن قال: مررت برجل قائمين أخواه فأجراه مجرى قاما أخواه فإنه يقول: مررت برجل أبوي عشرة أبواه. والتثنية في "أبوي عشرة " من وجه تقوى ومن آخر تضعف. أما وجه القوة فلأنها بعيدة عن اسم الفاعل الجاري مجرى الفعل فالتثنية فيه -لأنه اسم- حسنة وأما وجه الضعف فلأنه على كل حال قد أعمل في الظاهر ولم يعمل إلا لشبهه بالفعل وإذا كان كذلك وجب له أن يقوى شبه الفعل ليقوم العذر بذلك في إعماله عمله ألا ترى أنهم لما شبهوا الفعل باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما وأيدوه بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه. وهذا في معناه واضح سديد كما تراه.
وأمثال هذا في الاحتجاج لهم بأفعالهم كثيرة وإنما أضع من كل شيء رسمًا ما ليحتذى. فأما الإطالة والاستيعاب فلا.
__________
1 يحترز بهذا عن أن تجعل "شديد" خبرا عن "هو" مقدما.
2 زيادة اقتضاها السياق خلت منها الأصول أ، ب، ش. وفي ج ما يفيدها وهو: "فما ظنك أيضا بالصفة المشبهة بهذه الصفة".(1/188)
باب في الاحتجاج بقول المخالف:
اعلم أن هذا -على "ما في"1 ظاهره- صحيح ومستقيم. وذلك أن ينبغ من2 أصحابه نابغ فينشئ خلافًا ما على أهل مذهبه, فإذا سمع3 خصمه به, وأجلب عليه قال: هذا لا يقول به أحد من الفريقين, فيخرجه مخرج التقبيح له, والتشنيع عليه.
وذلك كإنكار أبي العباس4 جواز تقديم خبر "ليس" عليها, فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له: إجازة هذا مذهب سيبويه5 وأبي الحسن وكافة أصحابنا5، والكوفيون5 أيضًا معنا. فإذا كانت إجازة ذلك مذهبًا للكافة من البلدين6 وجب عليك
__________
1 زيادة في أ، وقد خلت منها ش، ب.
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "في أصحابه". وفي ج: "من أصحابنا". و"ينبغ" أي يخرج ويظهر، والضمير في "أصحابه يعود على "نابغ".
3 يقال: سمع بالرجل: أذاع عنه عيبا وندد به ونصحه.
4 أبو العباس هو المبرد.
5 عبارة ابن عقيل عند قول ابن مالك:
ومنع سبق خبر ليس اصطفى
"اختلف النحويون في جواز تقديم خبر ليس عليها، فذهب الكوفيون والمبرد والزجاج وابن السراج وأكثر المتأخرين -ومنهم المصنف- إلى المنع، وذهب أبو علي الفارسي وابن برهان إلى الجواز، فتقول: قائما ليس زيد. واختلف النقل عن سيبويه، فنسب قوم إليه الجواز وقوم المنع. وفي الإنصاف في المسألة 18 ص73: "ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها. وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين؛ وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه. وليس بصحيح. والصحيح أنه ليس له في ذلك نص. وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر ليس عليها" وفي الارتشاف نسخة الدار رقم 1106 نحو في الورقة 167أ: "وأما تقديم خبر ليس عليها فذهب جمهور الكوفيين والمبرد وابن السراج والسيرافي وأبو علي في الحلبيات وابن عبد الوارث والجرجاني والسبيلي وأكثر المتأخرين إلى أنه لا يجوز. وذهب قدماء البصريين والفراء وأبو علي في المشهور وابن برهان والزمخشري والأستاذ أبو علي إلى جواز ذلك، واختاره ابن عصفور، وروي أيضًا عن السيرافي. واختلف النقل في ذلك عن سيبويه، فنسب الجواز والمنع إليه. وقال ابن جني في الخصائص عن المبرد: خالف في ذلك البصريين والكوفيين".
6 يريد البصرة والكوفة.(1/189)
-يا أبا العباس- أن تنفر عن خلافه, وتستوحش منه, ولا تأنس بأول خاطر يبدو لك فيه.
ولعمري إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم إلا أن فيه تشنيعًا عليه وإهابة به إلى تركه وإضافة1 لعذره في استمراره عليه وتهالكه فيه، من غير إحكامه وإنعام الفحص عنه. وإنما لم يكن فيه قطع لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يلو2 بنص أو ينتهك حرمة شرع. فقس على ما ترى؛ فإنني إنما أضع من كل شيء مثالا موجزًا.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إضافة". وما أثبت هو الصواب. والإضافة: التضييق.
2 يقال: ألوى بالكلام: خلاف به عن جهته، وانحرف عن قصده.(1/190)
باب القول على إجمال أهل العربية متى يكون حجة
...
باب القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة:
اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف1 المنصوص. والمقيس على النصوص فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه. وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله2: "أمتي لا تجتمع على ضلالة" وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش: "تخالف". وهو تحريف. وفي ب لم ينقط الحرف الأول.
2 روي هذا الحديث بعدة طرق، وفي بعضها: "لا تجتمع أمتي على خطأ" , ويستدل بهذا الأصوليون على حجية الإجماع. وفي أسانيده بعض المقال، غير أنه قيل: إن معناه روى من طرق عدة بلغت مبلغ التواتر المعنوي، فصار كجود حاتم وشجاعة عنترة، وانظر شرح ابن السبكي لمنهاج البيضاوي في مبحث الإجماع.(1/190)
فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة1 كان خليل2 نفسه، وأبا عمرو فكره 3.
إلا أننا -مع هذا الذي رأيناه وسوغناه مرتكبة- لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها وتقدم نظرها4، وتتالت أواخر على أوائل وأعجازًا على كلاكل والقوم الذين لا نشك في أن الله -سبحانه وتقدست أسماؤه- قد هداهم لهذا العلم الكريم وأراهم وجه الحكمة في الترجيب5 له والتعظيم وجعله ببركاتهم وعلى أيدي طاعاتهم خادمًا للكتاب المنزل وكلام نبيه المرسل وعونًا على فهمهما ومعرفة ما أمر به أو نهي عنه الثقلان منهما إلا بعد أن يناهضه6 إتقانًا ويثابته عرفانًا ولا يخلد إلى سانح خاطره ولا إلى نزوة من نزوات تفكره. فإذا هو حذا على هذا المثال وباشر بإنعام تصفحه أحناء الحال أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معاز7 به، ولا غاض من السلف -رحمهم الله- في شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سدد رأيه. وشيع خاطره وكان بالصواب8 مئنة ومن التوفيق مظنة وقد قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ 9: ما على الناس شيء أضر من قولهم:
__________
1 أي بينة واضحة، وفيما نقله الشاطبي عن ابن جني: "طريق نهج" وهو صحيح؛ فإن الطريق يذكر ويؤنث. انظر حواشي يس على الألفية ص254 ج2.
2 يريد إمام نفسه كالخليل إمام الناس، وكأبي عمرو بن العلاء في ذلك.
3 عقب الشاطبي على هذا القول بقوله: "فهو قول مردود، سبيله في ذلك سبيل النظام وبعض الخوارج والشيعة، بل نقطع بأن الإجماع في كل فن حجة شرعية". انظر المرجع السابق.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "نظيرها" وهو خطأ.
5 كذا في ب بالجيم. وش، أ: "الترحيب" وهو تحريف.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "يفاهمه".
7 المعازة: المغالبة. وهو هكذا في أ، ج. وفي ش، ب: "معان". وهو تحريف.
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "الصواب".
9 كذا في ش، ب. وفي أسقط كلمة "الجاحظ".(1/191)
ما ترك الأول للآخر شيئًا. وقال أبو عثمان المازني 1: "وإذا قال العالم قولا متقدمًا فللمتعلم الاقتداء به "والانتصار له"2 "والاحتجاج"3 لخلافه4 إن5 وجد إلى ذلك سبيلا" وقال الطائي الكبير:
يقول من تطرق أسماعه ... كم ترك الأول للآخر 6
فمما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بدئ هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت ما رأيته7 أنا في قولهم: هذا حجر ضب خرب. فهذا يتناوله آخر عن أول، وتال
__________
1 كذا في أوسقط هذا اللفظ في ش، ب. وانظر قول أبي عثمان في تصريفه في "باب ما ليس من المعتل ولم يجئ على مثاله إلا من الصحيح، ص610 نسخة التيمورية.
2 في المازني: "والاحتجاج لقوله".
3 في المازني: "والاختيار".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "بخلافه"، وفي ج: "على خلافه". وهذا موطن الاستشهاد من كلام المازني.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "إذا".
6 هو من قصيدة له في مدح أبي سعيد، أولها:
قل للأمير الأريحي الذي ... كفاه للبادي وللحاضر
وقبله:
لا زلت من شكري في حلة ... لابسها ذو سلب فاخر
فالحديث في البيت الشاهد عن حلة الثناء في البيت قبله. وانظر الديوان 143.
7 أورد السيرافي في هذا الرأي وعزاه لبعض النحويين، فهل يعني ابن جني؟ وكانت وفاة السيرافي سنة 368، ووفاة ابن جني سنة 392، والسيرافي في درجة أبي علي أستاذ ابن جني. وعلى كل حال فقد تعاصر ابن جني والسيرافي دهرا، فلا ضير أن يكون رأي ابن جني عرف في حياة السيرافي، واستحق منه العناية بذكره، وبهذا يتم لابن جني دعواه انفراده بهذا الرأي وأنه لم يسبق به. وهاك عبارة السيرافي: "ورأيت بعض النحويين قال في "هذا حجر ضب خرب" قولا شرحته وقويته بما يحتمله. زعم النحوي أن المعنى: هذا جحر ضب خرب الجحر. والذي يقوي هذا أنا إذا قلنا: خرب الجحر صار من باب حسن الوجه، وفي خرب ضمير الجحر مرفوع؛ لأن التقدير كان خرب جحر ... " ويقول ابن هشام في المغني، في القاعدة الثانية من الكتاب الثامن: "أنكر السيرافي وابن جني الخفض على الجوار، وتأولا قولهم: "خرب" على أنه صفة "ضب" ... ". وقد علمت أن نسبة هذا الرأي السيرافي من قبل أنه قواه وأيده، وليس بابن بجدته، وإذا صح أن الرأي لابن جني في الأصل كان تقديم السيرافي على ابن جني في عبارة المغني لتقدم وفاته. وانظر السيرافي في شرح الكتاب، في "هذا باب مجرى النعت على المنعوت، والشريك على الشريك، والبدل على المبدل منه، وما أشبه ذلك".(1/192)
عن ماض على أنه غلط من العرب لا يختلفون فيه ولا يتوقفون عنه وأنه من الشاذ الذي لا يحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه.
وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفًا على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير. فإذا حملته على هذا الذي هو حشو الكلام من القرآن والشعر ساغ وسلس وشاع وقبل.
وتلخيص هذا أن أصله: هذا جحر ضب خربٍ جحره فيجري "خرب " وصفًا على "ضب " وإن كان في الحقيقة للجحر. كما تقول مررت برجل قائم أبوه فتجري "قائمًا وصفًا على " رجل "وإن كان القيام للأب لا للرجل لما ضمن من ذكره 1. والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له أو شاهد2 عليه. فلما كان أصله كذلك حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعًا فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس " خرب" فجرى وصفًا على ضب -وإن كان الخراب للجحر لا للضب- على تقدير حذف المضاف على ما أرينا. وقلت آية تخلو من حذف المضاف نعم وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع.
وعلى نحو من هذا حمل أبو علي رحمه الله:
كبير أناس في بجاد مزمل3
__________
1 أي ضميره. يريد أن المسوغ لمجيء قائم وصفا للرجل وهو ليس بوصف له في الحقيقة، بل الموصوف حقيقة الأب، هو تضمن الأب ذكر الرجل.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "وشاهد".
3 من معلقة امرئ القيس، وصدره:
كأن ثبيرا في عرانين وبله
وثبير -بوزن كريم- جبل. والبجاد: كساء مخطط.(1/193)
ولم يحمله على الغلط قال: لأنه أراد: مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول.
فإذا أمكن ما قلنا ولم يكن أكثر من حذف المضاف الذي قد شاع واطرد, كان حمله عليه أولى من حمله على الغلط الذي لا يحمل غيره عليه ولا يقاس به.
ومثله قول لبيد:
أو مذهب جدد على ألواحه ... الناطق المبروز والمختوم1
أي المبروز به, ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول. وعليه قول الآخر:
إلى1 غير موثوق من الأرض تذهب
أي موثوق به ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول.
__________
1 قبله:
طلل لخولة بالرسيس قديم ... فبعاقل فالأنعمين رسوم
فكأن معروف الديار بقادم ... فبراق غول فالرجام وشوم
فقوله: "مذهب" عطف على "وشوم". والمذهب. اللوح المطلي بالذهب فيه الكتابة. وجعل له ألواحا كأنه جعل كل جانب منه لوحا. و"جدد" جمع جدة، وهي الطريقة، والخط، كأنه يريد أسطار الكتابة. ويريد بالناطق الخط الواضح، ووصفه بـ"المبروز" أي المظهر المنشور، و"المختوم" أي غير الواضح والغامض. شبه المعروف من الديار -وهو ما بقي من آثارها ودل عليها- بالوشوم وباللوح الذي فيه كتابة، بعضها واضح وبعضها خفي. وانظر الديوان طبع أوروبا 92، وشرح الأعلم لشواهد الكتاب في حواشيه 2/ 274، وشرح السيرافي الكتاب 5/ 387 نسخة التيمورية، واللسان "برز".
2 ورد هذا الشطر مع اختلاف في ثلاثة أبيات لبشر بن أبي خازم، وهاكها:
حلفت برب الداميات نحورها ... وما ضم أجياد المصلي ومذهب
لئن شبت الحرب العوان التي أرى ... وقد طال إبعاد بها وترهب
لتحتملن بالليل منكم ظعينة ... إلى غير موثوق من العز تهرب
وانظر معجم البلدان "أجياد".(1/194)
باب في الزيادة في صفة العلة لضرب من الاحتياط:
قد يفعل أصحابنا ذلك إذا كانت الزيادة مثبتة لحال المزيد عليه. وذلك كقولك في همز "أوائل ": أصله "أواول " فلما اكتنفت الألف واوان وقربت الثانية منهما من الطرف ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيهًا على غيره من المغيرات في معناه1، ولا هناك ياء قبل الطرف منوية مقدرة وكانت الكلمة جمعًا ثقل ذلك فأبدلت الواو همزة فصار أوائل.
فجميع ما أوردته محتاج إليه إلا ما استظهرت به من قولك: وكانت الكلمة جمعًا فإنك لو لم تذكره لم يخلل ذلك بالعلة ألا ترى أنك لو بنيت من قلت وبعت واحدًا على فواعل كعوارض2 أو أفاعل "من أول أو يوم أو ويح "3 كأباتر4 لهمزت كما تهمز في الجمع.
فذكرك "الجمع" في أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنسًا من حيث كان الجمع في غير هذا مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو حقي5 ودلي فذكرته هنا تأكيدًا لا وجوبًا. وذكراك أنهم لم يؤثروا في هذا إخراج الحرف على أصله دلالة على أصل ما غير من غيره في نحوه لئلا يدخل عليك أن يقال لك: قد قال الراجز:
تسمع من شدانها عواولا6
__________
1 كذا في ج. وفي سواها: "لا لأن".
2 عوارض: جبل ببلاد طيئ, وعليه قبر حاتم. انظر اللسان في "عرض".
3 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ. وقد كان في النسخ الثلاثة: "ريح" وأصلحتها: "ويح".
4 الأباتر: الذي يقطع رحمه: وقيل: الأباتر: الذي لا نسل له.
5 جمع حقو -بفتح الأول وسكون الثاني- وهو الخصر.
6 الشذان جمع شاذ. والعواول جمع عؤال -بكسر العين وتشديد الواو-مصدر عول أي صاح كما يقال كذب كذابا، وكأنه يصف دلوا يتناثر منها الماء أو منجنيقا يتناثر منها الحجارة. وهذا الضبط من اللسان "عول". وفي ب، ش: "شذاتها"، بفتح الشين وهو بالمعنى السابق. وفي أ، ج: "شذاتها".(1/195)
وذكرت أيضًا قولك: ولم يكن هناك ياء قبل الطرف مقدرة لئلا يلزمك قوله:
وكحل العينين بالعواور1
ألا ترى أن أصله عواوير من حيث كان جمع عوار. والاستظهار في هذين الموضعين أعني حديث عواول وعواور أسهل احتمالًا من دخولك تحت الإفساد عليك بهما واعتذارك من بعد بما قدمته في صدر العلة. فإذا كان لا بد من إيراده فيما بعد إذا لم تحتط بذكره "فيما قبل"2 كان الرأي تقديم ذكره والاستراحة من التعقب عليك به. فهذا ضرب.
ولو استظهرت بذكر ما لا يؤثر في الحكم لكان ذلك منك خطلًا ولغوًا من القول ألا ترى أنك لو سئلت عن رفع طلحة من قولك: جاءني طلحة فقلت: ارتفع لإسناد الفعل إليه3، ولأنه مؤنث، أو لأنه علم لم يكن ذكرك التأنيث والعلمية إلا كقولك: ولأنه مفتوح الطاء أو لأنه ساكن عين الفعل ونحو ذلك مما لا يؤثر في الحال. فاعرف بذلك موضع ما يمكن الاحتياط به للحكم مما يعوى من ذلك، فلا يكون له فيه4 حجم5. وإنما المراعي من ذلك كله كونه مسندًا إليه الفعل.
__________
1 من رجز لجندل بن المثنى الطهوي وهو:
غرك أن تقاربت أبا عرى ... وأن رأيت الدهر ذا الدرائر
حتى عظامي وأراء ثاغري ... وكحل.........................
والعوار: الرمد. يريد أن الدهر أصابه بضعف البصر من المشيب والهرم وانظر شرح شواهد الشافية للبغدادي 374.
2 زيادة في أ. وسقطت في ش، ب.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "أو".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "في ذلك".
5 أي قدر، يريد التهوين من أمره. وحجم الشيء ما يبدو منه ناتئا، فيلمس.(1/196)
فإن قيل: هلا كان ذكرك أنت أيضًا هنا الفعل لا وجه له ألا ترى أنه إنما ارتفع بإسناد غيره إليه فاعلًا كان أو مبتدأ. والعلة في رفع الفاعل هي العلة في رفع المبتدأ وإن اختلفا من جهة التقديم والتأخير؟
قلنا: لا1 لسنا نقول هكذا مجردًا وإنما نقول في رفع المبتدأ: إنه إنما وجب ذلك له من حيث كان مسندًا إليه عاريًا من العوامل اللفظية قبله فيه وليس كذلك الفاعل لأنه وإن كان مسندًا إليه فإن قبله عاملًا لفظيًا قد عمل فيه وهو الفعل وليس كذلك قولنا: زيد قام لأن هذا لم يرتفع لإسناد الفعل2 إليه حسب دون أن انضم إلى ذلك تعريه من العوامل اللفظية من قبله. فلهذا قلنا: ارتفع الفاعل بإسناد الفعل إليه ولم نحتج3 فيما بعد إلى شيء نذكره كما احتجنا إلى ذلك في باب المبتدأ ألا تراك تقول: إن زيدًا قام فتنصبه -وإن كان الفعل مسندًا إليه- لما لم يعر من العامل اللفظي الناصبه.
فقد وضح بذلك فرق ما بين حالي المبتدأ والفاعل في وصف تعليل ارتفاعهما وأنهما وإن اشتركا في كون كل واحد منهما مسندًا إليه فإن هناك فرقًا من حيث أرينا.
ومن ذلك قولك في جواب من سألك عن علة انتصاب زيد من قولك: ضربت زيدًا: إنه إنما انتصب لأنه فضلة ومفعول به فالجواب قد استقل بقولك: لأنه فضلة وقولك من بعد: "ومفعول به " تأنيس وتأييد لا ضرورة بك إليه ألا ترى أنك تقول في نصب "نفس " من قولك: طبت به نفسًا: إنما انتصب لأنه فضلة وإن كانت النفس هنا فاعلة في المعنى. فقد علمت بذلك أن قولك: ومفعول به
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
2 هذا في ظاهر الأمر، وإلا فالفعل مسند إلى ضميره، والمسند إلى "زيد" جملة الفعل والفاعل.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "يحتج".(1/197)
زيادة على العلة تطوعت بها. غير أنه في ذكرك كونه مفعولًا معنى ما وإن كان صغيرًا. وذلك أنه قد ثبت وشاع في الكلام أن الفاعل رفع والمفعول به نصب وكأنك أنست بذلك شيئًا. وأيضًا فإن فيه ضربًا من الشرح. وذلك أن كون الشيء فضلة لا يدل على أنه لا بد من أن يكون مفعولًا1 به ألا ترى أن الفضلات كثيرة كالمفعول به والظرف والمفعول له والمفعول معه والمصدر والحال والتمييز والاستثناء. فلما قلت: "ومفعول به"2 ميزت أي الفضلات هو. فاعرف ذلك وقسه.
__________
1 كذا في أ. وسقط لفظ "به" في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "المفعول".(1/198)
باب في عدم النظير:
أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير. وذلك مذهب الكتاب1 فإنه حكى فيما جاء على فِعِلٍ "إبلا " وحدها ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه.
فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير ألا ترى إلى عِزويت2، لما لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلل3 بالنظير فمنعت من أن يكون "فِعويلا" لما لم تجد له نظيرًا وحملته على "فِعليت" لوجود النظير وهو عفريت ونفريت.
وكذلك قال أبو عثمان في الرد على من4 ادعى أن "السين" و"سوف" ترفعان الأفعال المضارعة: لم نر عاملًا في الفعل تدخل عليه اللام وقد قال سبحانه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . فجعل عدم النظير ردًّا على من أنكر قوله.
__________
1 يرد كتاب سيبويه. وانظر ص315 ج2 إذ يقول: "ويكون فعلا في الاسم نحو إبل. وهو قليل لا نعلم في الأسماء والصفات غيره".
2 ذكره سيبويه في الكتاب 2/ 348 وفسره ثعلب بالقصير، وقال ابن دريد: اسم موضع. وانظر معجم البلدان.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "التعليل".
4 في ابن علان "وهذا القائل لم أر من سماه". وانظر الأشباه 266.(1/198)
وأما1 إن لم يقم الدليل ولم يوجد النظير فإنك تحكم مع عدم النظير. وذلك كقولك في الهمزة والنون من أندلس 2: إنهما زائدتان, وإن وزن الكلمة بهما "أنفعُل " وإن كان مثالا لا نظير له. وذلك أن النون لا محالة زائدة؛ لأنه ليس في ذوات الخمسة شيء على " فعلَلُل" فتكون النون فيه أصلا لوقوعها موقع العين, وإذا ثبت أن النون زائدة فقد برد في يدك ثلاثة أحرف أصول وهي الدال واللام والسين, وفي3 أول الكلمة همزة, ومتى وقع ذلك حكمت بكون الهمزة زائدة, ولا تكون النون أصلا والهمزة زائدة؛ لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزوائد من أوائلها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها؛ نحو مدحرج وبابه. فقد وجب إذًا أن الهمزة والنون زائدتان وأن الكلمة بهما على أنفعل وإن كان هذا مثالا لا نظير له.
فإن4 ضام الدليل النظير فلا مذهب بك عن ذلك؛ وهذا كنون عنتر 5. فالدليل يقضي بكونها أصلا, لأنها مقابلة لعين جعفر, والمثال أيضًا معك وهو " فعلَل" وكذلك القول على بابه. فاعرف ذلك وقس.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فأما".
2 ضبطها شارح القاموس بضم الهمزة، وفي معجم البلدان بفتحها. ويقول ابن الطيب في شرح الاقتراح 79 نسخة التيمورية في الكلام على الأندلس: "ومن ضبطه بضم الهمزة أو الدال أو بضمهما فقد حرفه، وإن حكى شيخ شيوخنا الشهاب الخفاجي في شرح الشفا أن ضم الدال لغة، وأما ضم الهمزة فلا قائل به".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "ففي".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "وإن".
5 من معانيه الشجاع والذباب.(1/199)
باب في إسقاط الدليل:
وذلك كقول أبي عثمان: لا تكون الصفة غير مفيدة فلذلك قلت: مررت برجل أفعل 1. فصرف أفعل هذه لما لم تكن الصفة مفيدة. وإسقاط هذا أن يقال له: قد جاءت الصفة غير مفيدة. وذلك كقولك في جواب من قال رأيت زيدًا: آلمنيّ2 يا فتى فالمنيّ صفة, وغير مفيدة.
ومن ذلك قول البغداديين 3: إن الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذكره؛ نحو زيد مررت به, وأخوك أكرمته. فارتفاعه عندهم إنما هو لأن عائدًا عاد عليه, فارتفع بذلك العائد. وإسقاط هذا الدليل أن يقال لهم: فنحن نقول: زيد هل ضربته, وأخوك متى كلمته ومعلوم أن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله فكما اعتبر أبو عثمان أن كل صفة فينبغي أن تكون مفيدة فأوجد4 أن من الصفات ما لا يفيد وكان ذلك كسرًا لقوله؛ كذلك قول هؤلاء: إن كل عائد على اسم عار من العوامل يرفعه يفسده وجود عائد على اسم عار من العوامل وهو غير رافع له, فهذا5 طريق هذا.
__________
1 أي تكنى به عن صفة زنتها أفعل كأحمق. يرى سيبويه منع صرف هذا، ويخالف أبو عثمان المازني. وانظر الكتاب ص6 ج2، وشرح الكافية للرضي ص135 ج2، والهمع 1/ 73.
2 تريد السؤال عن نسبه، والمني منسوب إلى من. وكأنك قلت آلقرشي؟ أو البكري؟ والأكثر في هذا قراءته بهمزة الاستفهام كما أثبته. وانظر الكتاب 1/ 404، وشرح الرضي للكافية 2/ 64، والهمع 2/ 153.
3 سبق له نسبة هذا إلى الكوفيين في ص19.
4 من قولهم: أوجدته مطلوبه: أظفرته به، أي حصل له هذا الأمر، وهو يرد عليه.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهذه".(1/200)
باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين:
وذلك عندنا على أوجه: أحدها أن يكون أحدهما مرسلا والآخر معللا. فإذا اتفق ذلك كان المذهب الأخذ بالمعلل, ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل. وذلك كقول صاحب الكتاب -في غير موضع- في التاء من "بنت وأخت ": إنها للتأنيث1، وقال أيضًا مع ذلك في باب2 ما ينصرف وما لا ينصرف: إنها ليست للتأنيث. واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنًا, إلا أن يكون ألفًا كقناة, وفتاة, وحصاة, والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلامة ونسابة. قال 3: ولو سميت رجلا ببنت وأخت لصرفته 4. وهذا واضح. فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه, وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء "عفريت " و "ملكوت " وجب أن يحمل قوله فيها: إنها للتأنيث على المجاز وأن يتأول ولا يحمل القولان على التضاد.
ووجه الجمع بين القولين أن هذه التاء وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لما لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث استجاز أن يقول فيها: إنها للتأنيث ألا ترى أنك إذا ذكرت قلت " ابن" فزالت التاء كما تزول التاء من قولك: ابنة. فلما ساوقت تاء بنت تاء ابنة وكانت تاء ابنة للتأنيث قال في تاء بنت ما قال في تاء ابنة. وهذا من أقرب ما يتسمح به في هذه الصناعة ألا ترى أنه قال5 في عدة مواضع في نحو "حمراء "
__________
1 كقوله في ص82 ج2: "وأما بنت فإنك تقول: بنوي من قبل أن هذه التاء التي للتأنيث لا تثبت في الإضافة". وانظر أيضًا ص348 ج2.
2 انظر ص13 ج2.
3 أي في الموطن السابق.
4 كذا في أ. وفي ش، ب زيادة "معرفة" وهذه زيادة لا حاجة إليها، وليست في عبارة سيبويه.
5 كقوله في ص10 ج2: "واعلم أن الألفين لا تزادان أبدا إلا للتأنيث".(1/201)
و "أصدقاء " و "عشراء " 1 وبابها: إن الألفين للتأنيث وإنما صاحبة التأنيث منهما الأخيرة التي قلبت همزة لا الأولى, وإنما الأولى زيادة لحقت قبل الثانية التي هي كألف "سكرى " و "عطشى " فلما التقت الألفان وتحركت الثانية قلبت همزة. ويدل على أن الثانية للتأنيث وأن الأولى ليست له أنك لو2 اعتزمت إزالة العلامة للتأنيث في هذا الضرب من الأسماء غيرت الثانية وحدها ولم تعرض للأولى. وذلك قولهم "حمراوان " و "عشراوات " و "صحراوي ". وهذا واضح.
قال أبو علي رحمه الله: ليس بنت من ابن كصعبة من صعب, إنما تأنيث ابن على لفظه2 ابنة. والأمر على ما ذكر.
فإن قلت: فهل في بنت وأخت علم تأنيث أو لا؟
قيل: بل فيهما علم تأنيث. فإن قيل: وما ذلك العلم قيل: الصيغة "فيهما علامة تأنيثهما "4، وذلك أن أصل هذين الاسمين عندنا فعل: بنو وأخو بدلالة تكسيرهم إياهما على أفعال في قولهم: أبناء وآخاء. قال بشر5 بن المهلب:
وجدتم بنيكم دوننا إذ نسيتم ... وأي بنى الآخاء تنبو مناسبه
فلما عدلا عن فَعل إلى فِعل وفُعل وأبدلت لاماهما تاء فصارتا بنتا وأختا كان هذا العمل وهذه الصيغة علمًا لتأنيثهما ألا تراك إذا فارقت هذا الموضع من التأنيث رفضت هذه الصيغة البتة فقلت في الإضافة إليهما: بنوي وأخوي كما أنك إذا أضفت إلى ما فيه علامة تأنيث أزلتها البتة نحو حمراوي وطلحي وحبلوي. فأما قول يونس: بنتي وأختي فمردود عند سيبويه. وليس هذا الموضع موضوعًا للحكم بينهما وإن كان لقول يونس أصول تجتذبه وتسوغه.
__________
1 يقال ناقة عشراء: مضى لحملها عشرة أشهر.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "إذا".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "لفظ". وقوله: "لفظه" أي لفظ "ابن" فكأن "بنتا" تأنيث "ابن" على معناه لا على لفظه.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "فيها علامة تأنيثها".
5 كذا في ش، ج. وفي أ: "يسر".(1/202)
وكذلك1 إن قلت: إذا كان سيبويه لا يجمع بين ياءي2 الإضافة وبين صيغة بنت, وأخت, من حيث كانت الصيغة علمًا لتأنيثهما فلم صرفهما3 علمين لمذكر, وقد أثبت فيهما علامة تأنيث بفكها ونقضها مع ما لا يجامع علامة التأنيث: من4 ياءي الإضافة في بنوي وأخوي؟ فإذا أثبت5 في6 الاسمين بها7 علامة للتأنيث فهلا8 منع الاسمين الصرف بها مع التعريف كما تمنع الصرف باجتماع التأنيث إلى التعريف في نحو طلحة وحمزة وبابهما فإن هذا أيضًا مما قد أجبنا عنه في موضع آخر.
وكذلك القول في تاء ثنتان, وتاء ذيت, وكيت, وكلتى: التاء في جميع ذلك بدل من حرف علة, كتاء بنت وأخت, وليست للتأنيث. إنما التاء في ذية, وكية, واثنتان وابنتان, للتأنيث.
فإن قلت: فمن أين لنا في علامات التأنيث ما يكون معنى9 لا لفظًا؟ قيل: إذا قام الدليل لم يلزم النظير. وأيضًا فإن التاء في هذا وإن لم تكن للتأنيث فإنها بدل خص التأنيث والبدل وإن كان كالأصل لأنه بدل منه فإن له أيضًا شبهًا بالزائد من موضع آخر, وهو كونه غير أصل, كما أن الزائد غير أصل؛ ألا ترى إلى ما حكاه10 عن أبي الخطاب من قول بعضهم في راية: راءة بالهمز, كيف شبه ألف
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ياء".
3 في الأصول: "صرفتهما"، وما أثبته أوفق للسياق. أي فلم صرفهما سيبويه.
4 بيان لما لا يجامع علامة التأنيث.
5 في الأصول: "ثبت" وما أثبته أوفق للسياق، والحديث في هذا كله عن سيبويه.
6 كذا في أوفي ش، ب: "مع".
7 يريد الصيغة في بنت وأخت وقد قامت مقام علامة التأنيث. وقد اعتمدت في إثبات "بها" على أوفي ش، ب: "بهاء" وهو خطأ.
8 أي سيبويه.
9 يريد الصيغة هي علم تأنيث بنت وأخت، والصيغة ليست بلفظ.
10 أي سيبويه. انظر الكتاب 2/ 130.(1/203)
راية -وإن كانت بدلا من العين- بالألف الزائدة, فهمز اللام بعدها كما يهمزها بعد الزائدة في نحو سقاء وقضاء. وأما قول أبي عمر 1: إن التاء في كلتى زائدة, وإن مثال الكلمة بها "فِعتل " فمردود عند أصحابنا؛ لما قد ذكر في معناه من قولهم: إن التاء لا تزاد حشوًا إلا في "افتعل " وما تصرف منه, "و "2 لغير ذلك، غير أني قد وجدت لهذا القول نحوًا ونظيرًا. وذلك فيما حكاه الأصمعي من قولهم للرجل القواد: الكلتبان وقال مع ذلك: هو من الكَلَب وهو القيادة. فقد ترى التاء على هذا زائدة حشوًا ووزنه فعتلان. ففي هذا شيئان: أحدهما التسديد من قول أبي عمر والآخر إثبات مثال فائت للكتاب. وأمثل ما يصرف إليه ذلك أن يكون الكلب ثلاثيًا والكلتبان رباعيًا؛ كزرم3 وازرأم3 وضفد4، واضفأد4، وكزغَّب5 الفرخ وازلَغب5، ونحو ذلك من الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين. وهذا غور عرض, فقلنا فيه ولنعد.
ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين على غير هذا الوجه. وهو أن يحكم في شيء بحكم ما ثم يحكم فيه نفسه بضده غير أنه لم يعلل أحد القولين. فينبغي حينئذ أن ينظر إلى الأليق بالمذهب والأجرى على قوانينه فيجعل هو المراد المعتزم منهما ويتأول الآخر إن أمكن.
__________
1 يريد الجرمي صالح بن إسحاق. أخذ عن الأخفش ويونس والأصمعي وأبي عبيدة، ومات سنة 225، انظر اللسان في "كلو".
2 كذا في أ، ب. وفي ش سقطت الواو.
3 يقال: زرم دمعه وازرأم: انقطع.
4 يقال ضفد الرجل واضفأد: كان ثقيل اللحم رخوا أحمق. وفي الأصول: "ضفندد" وهو الوصف من ضفد بزيادة الإلحاق. وما أثبته أوفق بالسياق.
5 زغب الفرخ وازلغب: طلع ريشه.(1/204)
وذلك كقوله 1: حتى الناصبة للفعل وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجر وهذا ناف لكونها ناصبة له, من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال فضلًا عن أن تعمل فيها. وقد استقر من قوله في غير مكان ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل وليست فيها حتى. فعلم بذلك وبنصه2 عليه في غير هذا الموضع أن "أن " مضمرة عنده بعد حتى كما تضمر مع اللام الجارة في نحو قوله سبحانه {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ونحو ذلك. فالمذهب إذًا هو هذا.
ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى ولم تظهر هناك "أن " وصارت3 حتى عوضًا منها ونائبة عنها نسب4 النصب إلى "حتى " وإن كان في الحقيقة لـ "أن ".
ومثله معنى لا إعرابًا قول الله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . فظاهر هذا تناف بين الحالتين؛ لأنه أثبت في أحد القولين ما نفاه قبله 5: وهو قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} . ووجه الجمع بينهما أنه لما كان الله أقدره على الرمي ومكنه منه وسدده له وأمره به فأطاعه في فعله نسب الرمي إلى الله وإن كان مكتسبًا للنبي صلى الله عليه وسلم مشاهدًا منه 6.
ومثله معنى قولهم: أذن ولم يؤذن, وصلى ولم يصل؛ ليس أن الثاني ناف للأول لكنه لما لم يعتقد الأول مجزئًا لم يثبته صلاة ولا أذانًا.
__________
1 يريد سيبويه. يقول في ص413 ج1: "اعلم أن حتى تنصب على وجهين".
2 انظر ص407 ج1 من الكتاب.
3 كذا بواو العطف في ج. وسقطت في سائر الأصول.
4 كذا في ش، ب. وفي أ. "نسبت".
5 كذا في ش، ب، وفي أ: "قبيلة".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "منه وله".(1/205)
وكلام العرب لمن عرفه وتدرب بطريقها فيه جار مجرى السحر لطفًا, وإن جسا1 عنه أكثر من ترى وجفا.
ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين, غير أنه قد نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر فيعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفه وأن القول الآخر مطرح من رأيه.
فإن تعارض القولان مرسلين غير مبان أحدهما من صاحبه بقاطع يحكم عليه به بحث عن تاريخهما, فعلم أن الثاني هو ما اعتزمه, وأن قوله به انصراف منه عن القول الأول إذ2 لم يوجد في أحدهما ما يماز به عن صاحبه.
فإن استبهم الأمر فلم يعرف التاريخ وجب سبر المذهبين, وإنعام الفحص عن حال القولين , فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه وجب إحسان الظن بذلك العالم وأن ينسب إليه أن3 الأقوى منهما هو قوله الثاني الذي به يقول وله يعتقد وأن الأضعف منهما هو الأول منهما الذي تركه إلى الثاني. فإن تساوى القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له؛ فإن الدواعي إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن أعتقد كلا منهما.
هذا بمقتضى العرف وعلى إحسان الظن فأما القطع البات فعند الله علمه. وعليه طريق الشافعي في قوله بالقولين فصاعدًا. وقد كان أبو الحسن ركابًا4 لهذا الثبج5 آخذًا به, غير محتشم منه, وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه. "وكنت6 إذا
__________
1 جسا ضد لطف.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "بأن".
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "راكبا".
5 ثبج البحر: وسطه ومعظمه.
6 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "وكنت إذا ألزمت أبا الحسن شيئا في بعض أقواله يقول أبو علي: مذاهب أبي الحسن كثيرة" وأبو الحسن هو الأخفش سعيد بن مسعدة.(1/206)
ألزمت عند أبي علي -رحمه الله- قولا لأبي الحسن شيئًا لا بد للنظر من إلزامه إياه يقول لي: مذاهب أبي الحسن كثيرة ".
ومن الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبع1 به كلام سيبويه وسماه مسائل الغلط. فحدثني أبو علي عن أبي بكر2 أن أبا العباس كان يعتذر منه ويقول 3: هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة, فأما الآن فلا. وحدثنا أبو علي قال: كان أبو يوسف4 إذا أفتى بشيء5 أو أمل6 شيئًا فقيل له: قد قلت في موضع كذا غير هذا يقول: هذا يعرفه من يعرفه أي إذا أنعم النظر في القولين وجدا مذهبًا واحدًا.
وكان أبو علي -رحمه الله- يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسمًا سمي به الفعل كصه ومه وأفتي مرة أخرى بكونها ظرفًا7، على قدر ما يحضرني في الحال. وقال مرة أخرى: إنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون8 مع ذلك اسمًا سمي به الفعل كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئًا من كلام أبي الحسن يخالف قوله يقول: عكر9 الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر وتعادي المناظر هو الذي دعا أقوامًا إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة10، واحتملوا أثقال الصغار والذلة.
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "يتبع".
2 هو ابن السراج، وأبو العباس هو المبرد.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "يقول فيه".
4 يريد صاحب أبي حنيفة يعقوب بن إبراهيم. مات سنة 183 في خلافة هارون الرشيد.
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "شيئا".
6 كذا في أوهذا ونحوه، ب. وفي ش: "أملى" وهما لغتان.
7 فإذا قلت: هيهات ما تقول فالمعنى: في البعد ما تقول، كما تقول: الحق أنك عالم أي في الحق وهذا الرأي سبق به المبرد في المقتضب في باب الاسم الذي تلحقه صوتا أعجميًا، يقول فيه: "فأما هيهات فتأويلها: في البعد، وهي ظرف غير متمكن، لإبهامها، ولأنها بمنزلة الأصوات".
8 كذا في ج وفي عبارة اللسان "هيه". وفي سائر الأصول: "يكون".
9 أي أخرج كلامه عن الوضوح والصفا، من قولهم: عكر الشراب: جعل فيه ما يكدره ويجعله عكرا.
10 تكافؤ الأدلة: تساويها. فلا ينصر مذهب على مذهب، ودلائل كل مقالة عند القائلين به مكافئة لدلائل سائر المقالات، وانظر الملل والنحل لابن حزم 4/ 119.(1/207)
وحدثني أبو علي؛ قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه أخرى. وهذا يدل على أنه من عند الله. فقال: نعم هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر ألا ترى أن حامدًا البقال لا يخطر له.
ومن طريف1 حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمان طويل رأيت رأيًا جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر 2:
وكنت أمشي على رجلين معتدلا ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
ولم أثبت حينئذ شرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني الآن -وقد مضى له سنون- أعان3 الخاطر وأستثمده4، وأفانيه5 وأتودده على أن يسمح لي بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت وهو معتاص متأب وضنين به غير معط.
وكنت وأنا أنسخ التذكرة لأبي علي إذا مر بي شيء قد كنت رأيت طرفًا منه أو ألممت به فيما قبل أقول له: قد كنت شارفت هذا الموضع وتلوح لي بعضه ولم أنته إلى آخره وأراك أنت قد جئت به واستوفيته وتمكنت فيه فيبتسم -رحمه الله- له ويتطلق6 إليه؛ سرورًا باستماعه، ومعرفة بقدر نعمة الله عنده فيه، وفي أمثاله.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "ظريف".
2 نسبه البغدادي في شرح شواهد الشافية 360 إلى أبي حية، ونسبه في الأمالي 2/ 163 في أربعة أبيات إلى عبد من عبيد بجيلة أسود، وانظر السمط 785. ويريد بـ"أخرى من الشجر" العصا يعتمد عليها حين أدركه الهرم.
3 أي أعارض.
4 أي أتخذه ثمدا -وهو الماء القليل- أرده وأرتوي منه.
5 أي أصانعه وأداريه.
6 كذا في أ، وفي غيرها: "ينطلق".(1/208)
وقلت مرة لأبي1 بكر أحمد بن علي الرازي -رحمه الله- وقد أفضنا في ذكر أبي علي ونبل قدره ونباوة2 محله: أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث3 ما وقع لجميع أصحابنا, فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول عليه.
وإنما تبسطت في هذا الحديث ليكون باعثًا على إرهاف الفكر واستحضار الخاطر والتطاول إلى ما أوفى نهده, وأوعر سمته وبالله سبحانه الثقة.
باب في الدور4 والوقوف منه على أول رتبة
هذا موضع كان أبو حنيفة -رحمه الله- يراه ويأخذ به. وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما مثله مما يقتضي التغيير؛ فإن أنت غيرت صرت5 أيضًا إلى مراجعة مثل ما منه هربت. فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أول رتبة،
__________
1 في هامش ب: "أبو بكر الرازي هو المشهور من أصحابنا بالجصاص" والجصاص هو شيخ الحنفية ببغداد، التصانيف الكثيرة، منها شرح مختصر الكرخي، وكتاب في أصول الفقه. وقد طبع له في القسطنطينية سنة 1335هـ كتاب أحكام القرآن في ثلاثة مجلدات. وكانت وفاته سنة 370هـ. وانظر الشذرات 3/ 71، والنجوم الزاهرة 4/ 138، والفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي.
2 النباوة: الارتفاع والشرف.
3 تنازعه خطر وانتزع، وقد أعمل الثاني.
4 المقصود بهذا المبحث "الدور في الفقه" وهو أن يعتق السيد أمته في مرض الموت ويعقد النكاح عليها فإنها لا ترث للزوم الدور وذلك أنها لو ورثت لكان عتقها تبرعا على وارث في مرض الموت، وهو يتوقف على إجازة الورثة وهي منهم. وإنما تصح إجازتها إذا عتقت. فتوقف عتقها على إجازتها، وتوقف إجازتها على عتقها، والخلوص من الدور بعتقها دون إرثها، وانظر كتابة الباجوري على الرحبية في الفرائض: 62. وهو غير المبحث السابق فيه "دور الاعتلال ص184"؛ فإن ذاك في الدور يقع في العلة لحكم في العربية يقول بها النحوي، فيعود على العلة بالفساد، وهنا يراد أن القياس على النظائر في بعض الأمور يقتضي بحكم، فتكف العرب عنه؛ لأنه يفضي إلى الدور ومن أمثلة الدور أنك لو نسبت إلى العصا تقلب الألف واوا فتقول: عصوي، فإذا قلت هذا فإن الواو تدخل في باب الواو المتحركة المفتوح ما قبلها، وهذا يقضي بقلبها ألفا، ولكن تجنب هذا فرارا من الدور؛ فإنك لو قلبت الواو ألفا لعدت فقلبت الألف واوا؛ لوقوعها قبل ياءي الإضافة، فترجع إلى الواو. وانظر شرح الرضي للشافية 3/ 109.
5 في و"عرت" وهو محرف من "عدت".(1/209)
ولا تتكلف عناء ولا مشقة. وأنشدنا أبو علي -رحمه الله- غير دفعة1 بيتًا مبني معناه على هذا وهو:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا2
وذلك كأن تبني من قويت مثل رسالة فتقول على التذكير3: قواءة وعلى التأنيث: قواوة, ثم تكسرها على حد قول الشاعر 4:
موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطينا يحلبون الأتاويا5
جمع إتاوة؛ فيلزمك أن تقول حينئذ: قواوٍ فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير, ولا حاجز بين الأخيرة منهما وبين الطرف.
ووجه ذلك أن الذي قال "الأتاويا " إنما أراد جمع إتاوة, وكان قياسه أن يقول: أتاوى؛ كقوله في علاوة وهراوة: علاوى وهراوى غير أن هذا الشاعر سلك طريقًا أخرى غير هذه. وذلك أنه لما كسر إتاوة حدث في مثال التكسير همزة بعد ألفه بدلا من ألف فعالة كهمزة رسائل وكنائن فصار التقدير به إلى أتاء، ثم تبدل6 من كسرة الهمزة فتحة؛ لأنها عارضة في الجمع, واللام معتلة
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "مرة".
2 البيت في عيون الأخبار 3/ 54 منسوب إلى محمود الوراق، وفيه: رأى الهم.
3 كأنه يريد: على اعتبار التاء عارضة على قواو في حكم المنفصلة فتكون الواو في حكم الطرف، فتستحق الإعلال: وأما على التأنيث فإن الكلمة تكون كشقاوة، فلا تكون الواو في الطرف فتصح؛ إذ كانت الكلمة بنيت على التاء.
4 هو النابغة الجعدي: انظر اللسان في "أتو".
5 قبله:
فلا تنتهي أضغان قومي بينهم ... وسوأتهم حتى يصيروا مواليا
وقوله: "يحلبون الأتاويا" أي يعطونها، وذلك أئهم خدم فهم يأخذون الخراج والأجر على خدمتهم. ورواية اللسان في "أتو": "يسألون الأتاويا". وانظر اللسان في "حلب" ويبدو أن من هذه القصيدة ما أورده له ابن قتيبة في الشعر والشعراء: 252 تحقيق الأستاذ أحمد شاكر؛ يذكر قومه:
ولو أن قومي لم تخف صدورهم ... وأحلامهم أصبحت للفنق آسيا
ولكن قومي أصبحوا هثل خيبر ... بها داؤها ولا تضر الأعاديا
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "يبدل".(1/210)
كباب مطايا, وعطايا, فتصير حينئذ إلى أتاءيَ ثم تبدل من الياء ألفًا فتصير إلى أتاءا ثم تبدل من الهمزة واوًا؛ لظهورها لامًا في الواحد؛ فتقول: أتاوى كعلاوى. وكذا تقول العرب في تكسير إتاوة: أتاوى. غير أن هذا الشاعر لو فعل ذلك لأفسد قافيته فاحتاج إلى قرار الكسرة بحالها لتصح بعدها الياء التي هي روي القافية كما معها من القوافي التي هي "الروابيا " و "الأدانيا" ونحو ذلك فلم يستجز أن يقر الهمزة العارضة في الجمع بحالها إذ كانت العادة في هذه الهمزة أن تعل وتغير إذا كانت اللام معتلة فرأى إبدال همزة أتاء واوًا ليزول لفظ الهمزة التي من عادتها في هذا الموضع أن تعل ولا تصح لما ذكرنا فصار "الأتاويا ".
وكذلك قياس فعالة من القوة إذا كسرت أن تصير بها الصنعة إلى قواء ثم تبدل من الهمزة الواو كما فعل من قال "الأتلويا " فيصير اللفظ إلى قواو. فإن أنت استوحشت من اكتناف الواوين لألف التكسير على هذا الحد وقلت: أهمز كما همزت1 في أوائل لزمك أن تقول: قواء؛ ثم يلزمك ثانيًا أن تبدل من هذه الهمزة الواو على ما مضى من حديث " الأتاويا " فتعاود أيضًا قواو ثم لا تزال بك قوانين الصنعة إلى أن تبدل من الهمزة الواو ثم من الواو الهمزة ثم كذلك ثم كذلك إلى ما لا غاية2. فإن أدت الصنعة إلى هذا ونحوه وجبت الإقامة3 على أول رتبة منه وألا تتجاوز إلى أمر ترد4 بعد إليها, ولا توجد5 سبيلا ولا منصرفًا عنها.
__________
1 كذا في أ. وفي ش, ب: "أهمز".
2 كذا في الأصول. والخبر محذوف أي لا غاية له.
3 أي لا تعدل عنها إلى غيرها، لئلا يلزم الدور، أو قصر للمسافة وإراحة من التعب والعنت والعبث، انظر شرحي الاقتراح.
4 كذا في أ. وفي غيرها: "يرد".
5 هو من أوجدتك المال: أمكنتك منه وأظفرتك به. وما أثبته "توجد" في أوفي ش، ب: "يوجد".(1/211)
فإن قلت: إن بين المسألتين فرقًا. وذلك أن الذي قال "الأتاويا " إنما دخل تحت هذه الكلفة والتزم ما فيها من المشقة وهي ضرورة واحدة وأنت إذا قلت في تكسير مثال فعالة من القوة: قواو قد التزمت ضرورتين: إحداهما إبدالك1 الهمزة الحادثة في هذا المثال واوًا على ضرورة " الأتاويا" والأخرى كنفك الألف بالواوين مجاورًا آخرهما الطرف فتانك ضرورتان, وإنما هي في "الأتاويا " واحدة. وهذا فرق, يقود إلى اعتذار وترك.
قيل: هذا ساقط وذلك أن نفس السؤال قد كان ضمن ما يلغي هذا الاعتراض؛ ألا ترى أنه كان: كيف2 يكسر مثال فعالة من القوة على قول من قال "الأتاويا "؟ والذي قال ذلك كان قد أبدل من الهمزة العارضة في الجمع واوًا فكذلك فأبدلها أنت أيضًا في مسألتك. فأما كون ما قبل الألف واوًا أو غير ذلك من الحروف فلم يتضمن السؤال ذكرًا له ولا عيجًا3, فلا يغني إذًا ذكره ولا الاعتراض على ما مضى بحديثه أفلا ترى أن هذا الشاعر لو كان يسمح نفسًا بأن يقر هذه الهمزة العارضة في أتاء مكسورة بحالها كما أقرها الآخر في قوله 5:
له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق سبع سمائيا6
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إبدال".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "كيف كان". وما أثبت أقرب، يريد أن السؤال الذي وقع هو: كيف يكسر إلخ، أي صيغة السؤال هكذا.
3 أي اكتراثا، يقال: ما عاج بالشيء، أي ما عبأ به وما بالى.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "أولا ترى".
5 أي أمية بن أبي الصلت كما في اللسان في "سمو"، والخزانة 1/ 119.
6 من قصيدة في توحيد الله وذكر بعض قصص الأنبياء، وقبله:
وإن يك شيء خالدا ومعمرا ... تأمل تجد من فوقه الله باقيا
وقوله "له" أي لله، يريد أن لله ما تقع الأعين عليه، وقوله "وفوقه" فالضمير يرجع إلى ما رأت عين البصير، وقوله: "فوق سبع سمائيا، حال من الضمير في الخبر "فوقه". وانظر المرجع السابق.(1/212)
وكان أبو علي ينشدنا1:
. .. فوق ست سمائيا
لقال " الأتائيا" كقوله "سمائيا ". فقد علمت بذلك شدة نفوره عن إقرار الهمزة العارضة في هذا الجمع مكسورة.
وإنما اشتد ذلك عليه ونبا عنه لأمر ليس موجودًا في واحد "سمائيا " الذي هو2 سماء. وذلك أن في إتاوة واوًا ظاهرة, فكما أبدل غيره منها الواو مفتوحة في قوله " الأتاوى" كالعلاوى والهراوى؛ تنبيهًا على كون الواو ظاهرة في واحدة -أعني إتاوة- كوجودها في هراوة وعلاوة كذلك أبدل منها الواو في أتاو وإن كانت مكسورة شحًا على الدلالة على حال الواحد وليس كذلك قوله:
... فوق سبع سمائيا
ألا ترى أن لام واحده ليست واوًا في اللفظ فتراعى في تكسيره؛ كما روعيت في تكسير هراوة وعلاوة. فهذا فرق -كما تراه- واضح. نعم، وقد يلتزم الشاعر لإصلاح البيت ما تتجمع فيه أشياء مستكرهة لا شيئان اثنان: وذلك أكثر من أن يحاط به. فإذا كان كذلك لزم ما رمناه وصح به ما قدمناه.
فهذا طريق ما يجيء عليه؛ فقس ما يرد عليك به.
__________
1 وذلك أن السماء السابعة هي "سماء الإله" ويريد بها العرش. وانظر الكتاب 2/ 59 والمرجع السابق.
2 كذا في ش، ب وسقط "هو" في أ.(1/213)
باب في الحمل عل أحسن الأقبحين
...
باب في الحمل 1 على أحسن الأقبحين:
اعلم أن هذا موضع من مواضع الضرورة المميلة 2. وذلك أن تحضرك الحال ضرورتين لا بد من ارتكاب إحداهما فينبغي حينئذ أن تتحمل الأمر على أقربهما وأقلهما فحشًا.
وذلك كواو "ورنتل "3 أنت فيها بين ضرورتين: إحداهما أن تدعي كونها أصلا في ذوات الأربعة غير مكررة والواو لا توجد في ذوات الأربعة إلا مع
__________
1 هذه الترجمة في أشباه السيوطي 1/ 199.
2 يقال ميل بين الأمرين: رجع بينهما. فقوله: المميلة -على صيغة المفعول- يريد المميل فيها والمرجح.
3 هو الشر والأمر العظيم.(1/213)
التكرير؛ نحو الوصوصة, والوحوحة, وضوضيت, وقوقيت. والآخر أن تجعلها زائدة أولا والواو لا تزاد أولا. فإذا كان كذلك كان أن تجعلها أصلا أولى من أن تجعلها زائدة وذلك أن الواو قد تكون أصلا في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه أعني في حال التضعيف. فأما أن تزاد أولا فإن هذا أمر لم يوجد على حال. فإذا كان كذلك رفضته ولم تحمل الكلمة عليه.
ومثل ذلك قولك: فيها قائمًا1 رجل. لما كنت بين أن ترفع قائمًا فتقدم الصفة على الموصوف -وهذا لا يكون- وبين أن تنصب الحال من النكرة -وهذا على قلته جائز- حملت المسئلة على الحال فنصبت.
وكذلك ما قام إلا زيدًا أحد, عدلت إلى النصب؛ لأنك إن رفعت لم تجد قبله ما تبدله منه, وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثني منه. وهذا وإن كان ليس في قوة تأخيره عنه فقد جاء على كل حال. فاعرف ذلك أصلا في العربية تحمل عليه غيره.
باب2 في حمل الشيء على الشيء من غير الوجه الذي أعطى الأول ذلك الحكم:
علم أن هذا باب طريقه الشبه اللفظي؛ وذلك كقولنا في الإضافة3 إلى ما فيه التأنيث بالواو وذلك نحو حمراوي وصفراوي وعشراوي. وإنما قلبت الهمزة فيه ولم تقر بحالها لئلا تقع علامة التأنيث حشوًا. فمضى هذا على هذا لا يختلف.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "قائم".
2 كتب بازاه هذه الترجمة في هامش ب: "يعطون كلمة حكم كلمة وإن لم يوجد فيها سبب الحكم؛ المشابهة بينهما". والحمل الفرع على الأصل لضرب من الشبه غير العلة التي علق عليها الحكم في الأصل. ومقابل هذا الحمل قياس العلة، وذلك أن يشترك الأصل والفرع في علة الحكم. وانظر في الاقتراح المسلك السادس من مسالك العلة، وانظر في أشياء السيوطي 1/ 201 هذه الترجمة.
3 يريد النسب.(1/214)
ثم إنهم قالوا في الإضافة إلى عِلباء: علباوي, وإلى حِرباء: حرباوي؛ فأبدلوا هذه الهمزة وإن لم تكن للتأنيث, لكنها لما شابهت همزة حمراء وبابها بالزيادة حملوا عليها همزة علباء. ونحن نعلم أن همزة حمراء لم تقلب في حمراوي لكونها زائدة فتشبه بها همزة علباء من حيث كانت زائدة مثلها لكن لما اتفقتا في الزيادة حملت همزة علباء على همزة حمراء. ثم إنهم تجاوزوا هذا إلى أن قالوا في كساء وقضاء: كساوي وقضاوي فأبدلوا الهمزة واوًا حملا لها على همزة علباء من حيث كانت همزة كساء وقضاء مبدلة من حرف ليس للتأنيث فهذه علة غير الأولى ألا تراك لم تبدل همزة علباء واوًا في علباوي لأنها ليست للتأنيث فتحمل عليها همزة كساء وقضاء من حيث كانتا لغير التأنيث.
ثم إنهم قالوا من بعد في قراء: قراوي فشبهوا همزة قراء بهمزة كساء من حيث كانتا أصلا غير زائدة كما أن همزة كساء غير زائدة. وأنت لم تكن أبدلت همزة كساء في كساوي من حيث كانت غير زائدة لكن هذه أشباه لفظية يحمل أحدها على ما قبله تشبثًا به وتصورًا له. وإليه وإلى نحوه أومأ سيبويه بقوله: وليس شيء يضطرون1 إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا.
وعلى ذلك قالوا: صحراوات فأبدلوا الهمزة واوًا لئلا يجمعوا بين علمي تأنيث ثم حملوا التثنية عليه من حيث كان هذا الجمع على طريق التثنية ثم قالوا: علباوان حملا بالزيادة على حمراوان ثم قالوا: كساوان تشبيهًا له بعلباوان ثم قالوا: قُرّاوان حملا له على كساوان على ما تقدم.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "مما يضطرون" بزيادة "مما". وفي الكتاب ص13 ج1 ما يوافق المثبت.(1/215)
وسبب هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إلى التصرف فيها والتركح1 في أثنائها2 لما يلابسونه ويكثرون استعماله من الكلام المنثور والشعر الموزون والخطب والسجوع ولقوة إحساسهم في كل شيء شيئًا وتخيلهم ما لا يكاد يشعر به من لم يألف مذاهبهم.
وعلى هذا ما منع الصرف من الأسماء للشبه اللفظي نحو أحمر وأصفر وأصرم وأحمد وتألب وتنضب علمين3؛ لما في ذلك من شبه لفظ الفعل فحذفوا التنوين من الاسم لمشابهته ما لا حصة له في التنوين وهو الفعل. والشبه اللفظي كثير. وهذا كاف.
__________
1 أي التصرف فيها والتوسع. يقال: تركح في ساحة الدار، وتركح في المعيشة: تصرف.
2 أي نواحيها ووجوهها. وأثناء الثوب: تضاعيفه ومطاويه، واحدها ثني، يكسر الثاء وسكون النون.
3 هذا راجع لـ"سنألب" و"تنضب". ويراد به التحرز عن أن يكون تألب وتنضب في معناهما الأصل في اللغة، فالنألب: شجرة تتخذ منها القسي، والتنضب: شجر له شوك قصار.(1/216)
باب في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني:
اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها. وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك ويذهب1 في الاستحسان له كل مذهب بك. وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها2، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدرًا في نفوسها.
فأول ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقًا إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها ورتبوها3، وبالغوا في تحبيرها وتحسينها؛ ليكون
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "تذهب".
2 كذا في أ. وفي ب: "تداعبها"، وفي ش: "تداعيها".
3 في د: "زينوها".(1/216)
ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظه كان جديرًا باستعماله ولو لم يكن مسجوعًا لم تأنس النفس به1، ولا أنقت لمستمعه2، وإذا كان كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيء به من أجله. وقال لنا أبو علي يومًا: قال لنا أبو بكر 3: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه. وكذلك الشعر: النفس له أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيًا جلفًا أو عبدًا عسيفًا تنبو صورته وتمج جملته4، فيقول ما يقوله من الشعر فلأجل قبوله وما يورده عليه من طلاوته5، وعذوبة مستمعه6 ما يصير قوله حكمًا يرجع إليه ويقتاس7 به ألا ترى إلى قول العبد الأسود 8:
إن كنت عبدًا فنفسي حرة كرمًا ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وقول نصيب 9:
سودت فلم10 أملك سوادي وتحته ... قميص من القوهي بيض بنائقه11
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "له".
2 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "يستمعه". وضبط في ب بفتح الميم في معنى المصدر أي لاستماعه. وفي أبكسر الميم.
3 هو ابن السراج.
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "خلقته".
5 الطلاوة -مثلثة الطاء: الحسن والبهجة.
6 في ش: "مسمعه".
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "يقاس".
8 هو سحيم عبد بني الحسحاس، وانظر الأغاني ص2 ج20 طبعة بولاق، والديوان.
9 هذا يوافق ما في الأمالي 2/ 88 وذيلها 127, والأغاني طبعة الدار 1/ 354. وقد نسب صاحب الأغاني 20/ 2 طبعة بولاق إلى سحيم، وليس في ديوانه، ونسبه صاحب اللسان في "فوه" إلى نصيب.
10 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "ولم".
11 القوهي: ضرب من الثياب البيض ينتسب إلى قوهستان، وهو إقليم في فارس. وقوهستان معناه في الأصل موضع الجبال. وانظر معجم ياقوت. والبنائق جمع بنيقة، وبنائق القميص: العرا التي تدخل فيها الأزرار، ويريد بالقميص الذي تحت سواده قلبه وخلقه.(1/217)
وقول الآخر 1:
إني وإن كنت صغيرًا2 سني ... وكان في العين نبوٌ عني
فإن شيطاني أمير الجن ... يذهب بي في الشعر كل فن
حتى يزيل عني التظني
فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها3 وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه "بها"4 وتشريف منها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته5، وتقديسه وإنما المبغي6 بذلك منه7 الاحتياط للموعى عليه8 وجواره بما يعطر بشره9 ولا10 يعر جوهره كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه11 ويغض منه كدرة12 لفظه وسوء العبارة عنه.
فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفًا بل لا نجد قصدًا13 ولا مقاربًا؛ ألا ترى إلى قوله 14:
__________
1 هو مالك بن أمية كما في الوحشيات، ووردت الأشطار الثلاثة الأول في الحيوان 1/ 200 غير معزوة.
2 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "صغير السن". وفي الوحشيات: "حديث السن".
3 هو استعارة من غروب الأسنان؛ أي أطرافها، واحدها غرب بفتح الأول وسكون الثاني.
4 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
5 كذا في أ. وفي ب: "توكينه". وفي ش: "تكوينه".
6 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "المعنى".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "ومنه".
8 ثبتت هذه الصلة في أ، ب، ش. وسقطت في ج، وهذا أجود. والموعى -بضم الميم وفتح العين- أو الموعي ما وضع في الوعاء. يقال: أوعيت الشيء ووعيته. وكأنه ضمن الموعى معنى المحافظ فعداه بعلى.
9 كذا في أ. والبشر: ظاهر الجلد. وفي غيرها: "نشره" والنشر -بفتح النون وسكون الشين -الرائحة الطيبة.
10 كذا في أ. وفي ش، ب: "فلا". ويعر: "يعيب".
11 كذا في ش، ب. وفي أ: "تهجنه".
12 تنازعه في العمل يهجيه ويغض.
13 القصد: الوسط. والمقارب: غير الجيد.
14 جاء هذان البيتان في أسرار البلاغة مع ثالث بينهما ص16، وفي الوساطة 8، ونسبا فيها ليزيد بن الطثرية، والبيتان نسبا في معاهد التنصيص إلى كثير عزة، وانظر ص29 من هذا الجزء.(1/218)
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه, وصقاله وتلامح1 أنحائه, ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه: إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين, وتحدثنا على ظهور الإبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها.
قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه, ولا رأى ما أراه2 القوم منه, وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر, وخفاء غرض الناطق. وذلك أن في قوله " كل حاجة" "ما"3 يفيد منه أهل النسيب والرقة، وذوو4 الأهواء والمقة ما لا يفيده غيرهم, ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ألا ترى أن من حوائج "منى" أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه والمعتاد فيه سواها5؛ لأن منها التلاقي، ومنها التشاكي6، ومنها التخلي8، إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت:
ومسح بالأركان من هو ماسح
__________
1 أي ظهورها ولمعانها.
2 كذا في أ. وفي ش، ب، "رآه".
3 ثبت هذا اللفظ في أ، وسقط في ش، ب. وفي ج: "أن قوله كل حاجة يفيد". وهي عبارة مستقيمة بخلاف ما في ب، ش.
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "ذر".
5 في الأصول: "سواء" ولا يستقيم عليه المعنى، وجملة "والمعتاد فيه سواها" عطف على "غير ما الظاهر عليه" فهو من وصف "أشياء". والضمير في "فيه" يعود إلى "الظاهر".
6 كذا في أ، ج، وفي ب، ش: "التشكي".
7 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "التحلي" وكأن التخلي طلب الحلوة بالحبيب.
8 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "لقوله".(1/219)
أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها, وآرابنا التي أنضيناها1، من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القربة من الله مجراه أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح. وأما البيت الثاني فإن فيه:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وفي هذا ما أذكره لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب وتعنو له ميعة2 الماضي الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين والفكاهة بجمع شمل المتواصلين؛ ألا ترى إلى قول الهذلي 3:
وإن حديثًا منك لو تعلمينه ... جنى النخل في ألبان عوذ مطافل4
وقال آخر:
وحديثها كالغيث يسمعه ... راعى سنين تتابعت جدبا
فأصاخ يرجو أن يكون حيًّا ... ويقول من فرح هيا ربا5
وقال الآخر 6:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنونًا فزدني من حديثك يا سعد
__________
1 أي فرغنا منها، من قولهم، أنضى الثوب: أبلاه. وقد نقل ابن الأثير في المثل السائر "المقالة الثانية" معظم كلام ابن جني على البيتين، ولما بلغ هذا الموضع قال: "وآرابنا التي بلغناها".
2 يريد قوته. وميعة الشباب: نشاطه وأوله. والماضي: نافذ الأمر، الصليب: الشديد ذو الصلابة.
3 هو أبو ذؤيب: وانظر ديوان الهذليين طبعة الدار 1/ 140.
4 رواية ديوان الهذليين واللسان في "طفل": "تبذلينه" بدل "تعلمينه"، والضمير في "تبذلينه" يعود إلى "حديثا" وفي "تعليمنه" للخبر والحكم.
5 انظر ص30 من هذا الجزء.
6 هو العباس بن الأحنف. وانظر الديوان المطبوع في استامبول ص58، ومعاهد التنصيص 1/ 57.(1/220)
وقال المولد 1:
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
الأبيات الثلاثة. فإذا كان قدر الحديث -مرسلا- عندهم هذا, على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله "بأطراف الأحاديث ". وذلك أن قوله2: "أطراف الأحاديث " وحيًا خفيًّا ورمزًا حلوًا ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه3 ذوو الصبابة المتيمون من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفًا, ومصارحة وجهرًا وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدمًا في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه وأنق له مستمعه.
نعم، وفي قوله:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر في هذا أسير، وأعرف وأشهر.
فكأن العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمًا وإن من البيان لسحرًا" 4. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم التي جعلت مصايد وأشراكًا للقلوب وسببًا وسلمًا إلى تحصيل المطلوب عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني والمخدوم -لا شك- أشرف من الخادم.
__________
1 هو ابن الرومي والبيت في ديوانه ص1164. وانظر ص30 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "ذكره".
3 كذا في ش، ج. وفي أ، ب: "يتقارضه".
4 رواه أحمد في مسنده، وأبو داود. قال شارح الجامع الصغير: وإسناده صحيح. انظر هذا الكتاب. وقوله "حكما" يضبط كقفل مصدرا، وكعنب جمع حكمة.(1/221)
والأخبار في التلطف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها أو يتجشم للحال "نعت لها"1، ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة فقال المسئول: إن علي يمينًا ألا أفعل هذا. فقال له السائل: إن كنت -أيدك الله- لم تحلف يمينًا قط على أمر فرأيت غيره خيرًا منه فكفرت عنها له وأمضيته فما أحب أن أحنثك وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك. فقال له: سحرتني, وقضى حاجته.
وندع هذا ونحوه لوضوحه, ولنأخذ لما كنا عليه فتقول:
مما يدل على اهتمام العرب بمعانيها وتقدمها2 في أنفسها على3 ألفاظها أنهم قالوا في شمللت4, وصعررت5، وبيطرت، وحوقلت6، ودهورت7، وسلقيت8، وجعبيت 9: إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها10: عدد حروف وموافقة بالحركة والسكون, فكانت هذه صناعة لفظية, ليس فيها أكثر من إلحاقها ببنائها, واتساع العرب بها في محاوراتها, وطرق كلامها.
والدليل على أن فعللت وفعيلت وفوعلت وفعليت ملحقة بباب دحرجت مجيء مصادرها على مثل مصادر باب دحرجت. وذلك قولهم: الشمللة والبيطرة والحوقلة والدهورة والسلقاة والجعباة. فهذا "ونحوه"11 كالدحرجة والهملجة12،
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "تعب بها".
2 كذا في ش، ب. وسقط في أهذا الحرف.
3 سقط لفظ "على" في أ. فالعبارة فيها: "تقدمها أنفسها ألفاظها". وعليه يكون ألفاظها مقبول التقدم. وهو قد يتعدى بنفسه.
4 شملل: أسرع وشمر.
5 يقال: صعورالشيء: درجه.
6 حوقل: ضعف.
7 يقال: دهور الشيء: جمعه وقذف في مهول.
8 يقال: سلقاه إذا طعنه فألقاء على جنبه.
9 جعباه إذا سرعة.
10 السمت: الطريق والهيئة.
11 هذه الزيادة في أ. وسقطت في ش، ب.
12 الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة.(1/222)
والقوقاة والزوزاة. فلما جاءت مصادرها1 الرباعية والمصادر أصول للأفعال حكم بإلحاقها بها ولذلك استمرت في تصريفها استمرار ذوات الأربعة. فقولك: بيطر يبيطر بيطرة كدحرج يدحرج دحرجة ومبيطر كمدحرج. وكذلك شملل يشملل شمللة وهو مشملل. فظهور2 تضعيفه على هذا الوجه أوضح دليل على إرادة إلحاقه. ثم إنهم قالوا: قاتل يقاتل قتالًا ومقاتلة وأكرم يكرم إكرامًا وقطع يقطع تقطيعًا فجاءوا بأفعل وفاعل وفعل غير ملحقة بدحرج وإن كانت على سمته وبوزنه كما كانت فعلل وفيعل وفوعل وفعول وفعلى على سمته ووزنه ملحقة 3. والدليل على أن فاعل وأفعل وفعل غير ملحقة بدحرج وبابه امتناع مصادرها أن تأتي على مثال الفعللة ألا تراهم لا يقولون: ضارب ضاربة ولا أكرم أكرمة ولا قطع قطعة فلما امتنع فيها هذا -وهو العبرة في صحة الإلحاق- علم أنها ليست ملحقة بباب دحرج.
فإذا قيل: فقد تجيء مصادرها من غير هذا الوجه على مثال مصادر ذوات الأربعة ألا تراهم يقولون: قاتل قيتالا4، وأكرم إكرامًا {وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا} فهذا بوزن الدحراج, والسرهاف, والزلزال, والقلقال؛ قال 5:
سرهفته ما شئت من سرهاف
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "مصادرها".
2 كذا في ش، ب، وفي أ "وظهور".
3 في الأصول "غير ملحقة" وزيادة "غير" مفسدة وقد جريت على ما في المطبوعة، وهو الصواب.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "قتالا". والأوفق بالسياق ما أثبتناه، ألا تراه يقول: "فهذا بوزن الدحراج" وإنما يظهر هذا في القتال،. والقيتال والقتال كلاهما يقال مصدر قاتل، وإن كان الأغلب الاستعمال الثاني، وهو مخفف من الأول وانظر شرح المفصل 6/ 48.
5 هو العجاج، وهو من أرجوزة يعاتب فيها ابنه رؤية. وبعده:
حتى إذا ما آض ذا أعراف ... كالكودن المشدود بالإكاف
قال الذي جمعت لي صوافي ... من غير ما عصف ولا اصطراف(1/223)
قيل: الاعتبار بالإلحاق بها ليس إلا من جهة الفعللة, دون الفعلال, وبه كان يعتبر سيبويه. ويدل على صحة ذلك أن مثال الفعللة لا زيادة فيه فهو بفعلل أشبه من مثال الفعلال والاعتبار1 بأصول أشبه منه وأوكد منه بالفروع. فإن قلت: ففي الفعللة الهاء زائدة قيل: الهاء في غالب أمرها وأكثر أحوالها غير معتدة من حيث كانت في تقدير المنفصلة.
فإن قيل: فقد صح إذًا أن فاعل وأفعل وفعّل -وإن كانت بوزن دحرج- غير ملحقة به, فلم لم تلحق به؟ قيل: العلة في ذلك أن كل واحد من هذه المثل جاء بمعنى. فأفعل للنقل وجعل الفاعل مفعولا؛ نحو دخل وأدخلته, وخرج, وأخرجته. ويكون أيضًا للبلوغ نحو أحصد الزرع, وأركب المهر, وأقطف الزرع, ولغير ذلك من المعاني. وأما فاعل فلكونه من اثنين فصاعدًا نحو ضارب زيد عمرًا وشاتم جعفر بشرًا 2. وأما فعّل فللتكثير نحو غلّق الأبواب وقطّع الحبال وكسّر الجرار.
فلما كانت هذه الزوائد في هذه المثل إنما جيء بها للمعاني خشوا إن هم جعلوها ملحقة بذوات الأربعة أن يقدر أن غرضهم فيها إنما هو إلحاق اللفظ باللفظ؛ نحو شملل, وجهور, وبيطر, فتنكبوا إلحاقها بها؛ صونًا للمعنى وذبًّا عنه أن يستهلك ويسقط حكمه, فأخلوا بالإلحاق لما كان صناعة لفظية، ووقروا3 المعنى
__________
= "سرهفته": أحسنت غذاءه، يريد جهده في تربيته. و"أعراف" جمع عرف -بضم فسكون- وهو الشعر من العنق. و"الكودن" من الخيل ما لم ينتج من العراب، وقوله: "صوافي" جمع صاف أي خالص لي، "والعصف": الكسب، و"الاصطراف"، التصرف في كسب المال، يقول: أحسنت تربيته حتى إذا شب وترعرع وصار كالبرذون طمع في مالي وزعم أنه خالص له. وذلك مع أنه لم يتعب في كسب هذا المال وجمعه. وانظر الجزء الثاني من مجموع أشعار العرب طبعة أوروبا ص40.
1 كذا في أ. وفي ش، ب زيادة بعد "الاعتبار" هي: "والمراعاة".
2 كذا في أ. وفي، ب: "بكرا".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "وفروا".(1/224)
ورجبوه؛ لشرفه عندهم وتقدمه في أنفسهم. فرأوا الإخلال باللفظ في جنب الإخلال بالمعنى يسيرًا سهلا وحجمًا محتقرًا. وهذا الشمس إنارة مع أدنى تأمل.
ومن ذلك أيضًا أنهم لا يلحقون الكلمة من أولها إلا أن يكون مع الحرف الأول غيره ألا ترى أن "مَفعلًا " لما كانت زيادته في أوله لم يكن ملحقًا بها1، نحو: مَضرب ومَقتل. وكذلك "مِفعل " نحو: مِقطع ومِنسج وإن كان مَفعل بوزن جعفر ومِفعل بوزن هِجرع 2. يدل على أنهما ليسا ملحقين بهما ما نشاهده من ادغامهما3 نحو مسد ومرد ومتل4 ومشل 5. ولو كانا ملحقين لكانا حري أن يخرجا على أصولهما كما خرج شملل وصعرر على أصله. فأما محبب فعلم خرج شاذًا كتهلل ومكوزة ونحو ذلك مما احتمل لعلميته.
وسبب امتناع مَفعل ومِفعل أن يكونا ملحقين -وإن كانا على وزن جعفر, وهجرع- أن الحرف الزائد في أولهما6، وهو لمعنى؛ وذلك أن مَفعلا يأتي للمصادر نحو ذهب مذهبًا ودخل مدخلا وخرج مخرجًا. ومِفعلا يأتي للآلات7، والمستعملات؛ نحو مِطرق ومِروح8 ومِخصف9 ومئزر. فلما كانت الميمان ذواتي معنى خشوا إن هم ألحقوا بهما أن يتوهم أن الغرض فيهما إنما هو الإلحاق حسب فيستهلك المعنى المقصود بهما فتحاموا الإلحاق بهما ليكون ذلك موفرًا على المعنى لهما.
ويدلك على تمكن المعنى في أنفسهم وتقدمه للفظ عندهم تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة, وذلك لقوة العناية به فقدموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم.
__________
1 أي بهذه الزيادة، أي بسببها.
2 من معانيه الأحمق، والمجنون.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "إدغامها".
4 التل: الصرع، ويقال رمح متل؛ أي يتل به ويصرع. ورجل مثل: قوى.
5 الشل: الطرد، والمشل المطرد، وهو رمح قصير.
6 كذا في أ، وفي ش، ب سقطت الواو.
7 تثبتت الواو في أ، وسقطت في ش، ب.
8 هي المروحة يتروح بها.
9 هو المخرز.(1/225)
وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل إذ كن دلائل على الفاعلين: من هم وما هم وكم عدتهم نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل وحكموا بضد " هذا لِلّفظ"1؛ ألا ترى إلى2 ما قاله أبو عثمان3 في الإلحاق: إن أقيَسه أن يكون بتكرير اللام فقال: باب شمللت وصعررت أقيس من باب حوقلت وبيطرت وجهورت.
أفلا ترى إلى حروف المعاني: كيف بابها التقدم وإلى حروف الإلحاق والصناعة: كيف بابها التأخر. فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم وعلوه في تصورهم إلا بتقديم دليله وتأخر دليل نقيضه لكان مغنيًا من غيره كافيًا.
وعلى هذا حشوا بحروف المعاني فحصنوها بكونها حشوًا وأمنوا عليها ما لا يؤمن على الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف. وذلك كألف التكسير وياء التصغير نحو دارهم ودريهم وقماطر وقميطر. فجرت في ذلك -لكونها حشوًا- مجرى عين الفعل المحصنة في غالب الأمر المرفوعة عن حال الطرفين من الحذف ألا ترى إلى كثرة باب عدة وزنة وناس4، والله في أظهر5 قولي سيبويه، وما حكاه أبو زيد من قولهم لاب6 لك وويلِمّهِ7،
__________
1 هذا عن أوإن كان فيها، "هذا اللفظ"، وهو خطأ في الرسم. وفي ش، ب: "هذه الصناعة اللفظية"، وهي غير مستقيمة، وكأن الأصل: "هذا للصناعة اللفظية". وفي ج: "ذلك لصناعة اللفظ"، وهي عبارة صحيحة.
2 ثبت لفظ "إلى" في ش، ب: وسقط في أ.
3 يريد المازني. وقد جاء في تصريفه في الباب الأول "باب الأسماء والأفعال: كم يكون عددهما في الأصل وما يزاد فيهما": "وهذا الإلحاق بالواو والياء والألف لا يقدم عليه إلا أن يسمع. فإذا سمع قيل: ألحق ذا بكذا بالواو والياء؛ وليس بمطرد. فأما المطرد الذى لا ينكسر فأن يكون موضع اللام من الثلاثة مكررا للإلحاق؛ مثل مهدد وقردد وعندد وسردد، والأفعال: جلبب، يجلبب، جلببة".
4 فأصل ناس أناس. وانظر سيبويه 1/ 9 203/ 125.
5 هذا القول في الكتاب 1/ 309 يقول فيه: "وكأن الاسم -والله أعلم- إله، فلما أدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلقا منها".
6 أي في لا أب لك.
7 أصله: ويل أمه. يقال ذلك لمن يستجاد.(1/226)
ويا با1 المغيرة وكثرة باب يد ودم وأخ وأب وغَد وهَن وحِر واست وباب ثُبة وقُلة وعِزَة وقلة باب2 مُذ وسَه: إنما هما هذان الحرفان بلا خلاف. وأما ثُبة3 ولِثة فعلى الخلاف. فهذا يدلك على ضنهم بحروف المعاني وشحهم عليها: حتى قدموها عناية بها أو وسطوها تحصينًا لها.
فإن قلت: فقد نجد حرف المعنى آخرًا كما نجده أولا ووسطًا. وذلك تاء التأنيث وألف التثنية وواو الجمع على حده والألف والتاء في المؤنث4، وألفا التأنيث في حمراء وبابها وسكرى وبابها وياء الإضافة كهني5، فما ذلك؟
قيل: ليس شيء مما تأخرت فيه علامة معناه إلا لعاذر مقنع. وذلك أن تاء التأنيث إنما جاءت في طلحة6 وبابها آخرًا من قبل أنهم أرادوا أن يعرفونا تأنيث ما هو وما مذكره فجاءوا بصورة المذكر كاملة مصححة ثم ألحقوها تاء التأنيث ليعلموا حال صورة التذكير وأنه قد استحال بما لحقه إلى التأنيث فجمعوا بين الأمرين ودلوا على الغرضين. ولو جاءوا بعلم التأنيث حشوًا لانكسر المثال ولم يعلم تأنيث أي شيء هو.
__________
1 ورد هكذا في وقوله:
يا بالمغيرة رب أمر معضل ... فزجته بالنكر مني والدها
يريد: يا أبا المغيرة، وانظر الخزانة 4/ 335.
2 يريد بباب: مذ، وسه ما حذف منه الحشو؛ فإن أصل مذ منذ، وسه سته.
3 الثبة يراد بها وسط الحوض، وقد قيل إنها من ثاب الماء إذا اجتمع، فالمحذوف منها العين. وقيل إن المحذوف منها اللام، وهي واو أو ياء على الخلاف. وانظر اللسان في "ثبو". واللثة ما حول الأسنان. ويقول بعض اللغويين: أصلها التي حذفت لامها الياء، ويقول ابن جني: إنها محذوفة العين -وهي الواو- من لثت العمامة أي أدرتها على رأسي، واللثة محيطة بالأسنان دائرة بها.
4 أي في جمع المؤنث.
5 أي في النسبة إلى الهن.
6 الطلحة هنا: الواحدة من شجر الطلح، ولا يراد به العلم.(1/227)
فإن قلت: فإن ألف التكسير وياء التحقير قد تكسران مثال الواحد والمكبر وتخترمان صورتيهما لأنهما حشو لا آخر. وذلك قولك دفاتر ودفيتر وكذلك كليب وحجير ونحو ذلك قيل: أما التحقير فإنه أحفظ للصورة من التكسير ألا تراك تقول في تحقير حبلى: حبيلى وفي صحراء: صحيراء فتقر ألف التأنيث بحالها فإذا كسرت قلت: حبالى وصحارى وأصل حبالى حبال كدعاو وتكسير دعوى فتغير علم التأنيث. وإنما كان الأمر كذلك من حيث كان تحقير الاسم لا يخرجه عن رتبته الأولى -أعني الإفراد- فأقر "بعض لفظه"1 لذلك وأما التكسير فيبعده عن الواحد الذي هو الأصل فيحتمل التغيير لا سيما مع اختلاف معاني الجمع فوجب اختلاف اللفظ. وأما ألف2 التأنيث المقصورة والممدودة فمحمولتان على تاء التأنيث وكذلك علم التثنية والجمع على حده لاحق بالهاء أيضًا. وكذلك ياء النسب. وإذا كان الزائد غير ذي المعنى قد قوي سببه حتى لحق بالأصول عندهم فما ظنك بالزائد ذي المعنى وذلك قولهم في اشتقاق الفعل من قلنسوة تارة: تقلنس وأخرى: تقلسى فأقروا النون وإن كانت زائدة وأقروا أيضًا الواو حتى قلبوها ياء في تقلسيت. وكذلك قالوا: قَرنُوة3 فلما اشتقوا الفعل منها قالوا قرنيت السقاء فأثبتوا الواو كما أثبتوا بقية حروف الأصل: من القاف والراء والنون ثم قلبوها ياء في قرنيت. هذا مع أن الواو في قرنوة زائدة للتكثير والصيغة لا للإلحاق ولا للمعنى وكذلك الواو في قلنسوة للزيادة غير الإلحاق وغير المعنى. وقالوا في نحوه: تعفرت الرجل إذا
__________
1 كذا في أوفي ش، ب: "لفظ بعضه".
2 كذا في أ، ب، ش. وعليه فقوله: "الممدود" عطف على "ألف التأنيث المقصورة" حتى يصح تثنيته الخبر. وفي ج: "وألفا التأنيث محمولتان". وهي واضحة.
3 هي عشب بنبت في الرسل يدبغ به الأساقي.(1/228)
صار عفريتًا فهذا تفعلت؛ وعليه جاء تمسكن وتمدرع1، وتمنطق وتمندل2، ومخرق3، وكان يسمى محمدًا ثم تمسلم أي صار يسمى مسلمًا و "مرحبك الله ومسهلك "4 فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق كل ذلك توفية5 للمعنى وحراسة له ودلالة عليه. ألا تراهم إذ قالوا: تدرع وتسكن وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم: أمن الدرع والسكون أم من المدرعة والمسكنة وكذلك بقية الباب.
ففي هذا شيئان: أحدهما حرمة الزائد في الكلمة عندهم حتى أقروه إقرار الأصول. والآخر ما يوجبه ويقضى به: من ضعف تحقير الترخيم وتكسيره عندهم لما يقضى به ويفضي بك إليه: من حذف الزوائد على معرفتك بحرمتها عندهم.
فإن قلت: فإذا كان الزائد إذا وقع أولا للإلحاق فكيف ألحقوا بالهمزة في ألَندد6 وألَنجج7 والياء في يلَندد6 ويلَنجج7 والدليل على الإلحاق ظهور التضعيف؟ قيل: قد قلنا قبل: إنهم لا يلحقون الزائد من أول الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر فلذلك جاز الإلحاق بالهمزة والياء في ألندد ويلندد لما انضم إلى الهمزة والياء والنون.
__________
1 أي لبس المدرعة -كمكنسة- وهي ضرب من الثياب، ولا يكون من الصوف.
2 أي مسح بالمنديل.
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "تمخرق" ويقول ابن جني في سر الصناعة في آخر حرف الميم: "وقالوا: يخرق الرجل، وضعفها ابن كيسان". وفي المنصف للمصنف في الباب الثاني: "فأما قول العامة تمخرق فينبغي أن يكون لا أصل له. أو إن كان قد جاء عن العرب فهو بمنزلة تمسكن في الشذوذ: والجيد تخرق لأنهم يقولون: تخرق فلان بالمعروف، ولم نسمعهم يقولون مخرق، فإنما هو من الخرق وهو الكريم من الرجال إلا أن بعض أصحابنا حكى مخرق وليس بالقوي".
4 أي حبك الله بهذه التحية: مرحبا ومهلا.
5 كذا في أوفي اللسان في "درع"، وفي ش، ب: "وتوقية".
6 الألندد واليلندد: الشديد الخصومة الجدل.
7 الألنجج واليلنجج: عود من الطيب يتبخر به.(1/229)
وكذلك ما جاء عنهم1 من إنقحل2 -في قول صاحب3 الكتاب- ينبغي أن تكون الهمزة في أوله للإلحاق -بما اقترن بها من النون- بباب جِردَحل. ومثله ما رويناه عنهم من قولهم: رجل إنزَهوٌ، وامرأة إنزَهوة، ورجال إنزهوون، ونساء إنزهوات إذا كان4 ذا زهو فهذا إذًا إنفعل. ولم يحك سيبويه من هذا الوزن إلا إنقحلا وحده وأنشد الأصمعي5 -رحمه الله:
لما رأتني خَلَقًا إنقَحلا
ويجوز عندي في إنزهوٍ غير هذا, وهو أن تكون همزته بدلا من عين, فيكون أصله عِنزَهو: فِنعلو من العزهاة وهو الذي لا يقرب النساء. والتقاؤهما أن فيه انقباضًا وإعراضًا وذلك طرف من أطراف الزهو؛ قال 6:
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا ... فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
وإذا حملته على هذا لحق بباب أوسع من إنقحل وهو باب7 قِندأو8، وسِندأو9، وحِنطأو10، وكِنتأو 11.
فإن قيل: ولم لما كان مع الحرف الزائد إذا وقع أولًا زائد ثان غيره صارا جميعًا للإلحاق وإذا انفرد الأول لم يكن له قيل: لما كنا عليه من غلبة المعاني للألفاظ على ما تقدم.
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا اللفظ في ش، ب.
2 يقال رجل إنقحل إذا كان يابسا من الهرم.
3 انظر سيبويه 2/ 317.
4 هذا راجع للوصف الأول وهو إنزهو. وعبارة اللسان بعد سياقة ما سبق هنا: "وذلك إذا كانوا ذوي زهو". وفي ج: "إذا كن ذا زهو" والصواب: "ذوات" وهو راجع للأخير.
5 انظر كتاب خلق الإنسان في مجموعة الكنز اللغوي ص161.
6 هو الأحوص بن محمد الأنصاري. وانظر الأغاني 13/ 159. وانظر في ترجمته الخزانة 1/ 233.
7 وهو باب فعلو، والأول باب إنفعل. وانظر في هذا الباب الكتاب 2/ 351.
8 الفندأو: الجريء المقدم.
9 والسندأو: القصير أو الخفيف.
10 والحنطأو: العظيم البطن أو القصير.
11 والكستأو: الجمل الشديد.(1/230)
وذلك أن أصل الزيادة في أول الكلمة إنما هو للفعل. وتلك حروف المضارعة في أفعلُ ونفعلُ وتفعلُ ويفعلُ وكل واحد من أدلة المضارعة إنما هو حرف واحد فلما انضم إليه حرف آخر فارق بذلك طريقه في باب الدلالة على المعنى فلم ينكر أن يصار به حينئذ إلى صنعة اللفظ وهي الإلحاق.
ويدلك على تمكن الزيادة إذا وقعت أولًا في الدلالة على المعنى تركهم صرف أحمد وأرمل، وأزمل1، وتنضب ونرجس معرفة لأن هذه الزوائد في أوائل الأسماء وقعت موقع ما هو أقعد منها في ذلك الموضع وهي حروف المضارعة. فضارع أحمد أركب وتنضب تقتل ونرجس نضرب فحمل زوائد الأسماء في هذا على أحكام زوائد الأفعال دلالة على أن الزيادة في أوئل الكلم إنما بابها الفعل 2.
فإن قلت: فقد نجدها3 للمعنى ومعها زائد آخر غيرها وذلك نحو ينطلق, وأنطلق وأحرنجم ويخرنطم ويقعنسس. قيل: المزيد للمضارعة هو حرفها وحده فأما النون فمصوغة في حشو الكلمة في الماضي نحو احرنجم ولم تجتمع مع حرف المضارعة في وقت واحد, كما التقت الهمزة والياء مع النون في ألنجج ويلندد في وقت واحد.
فإن قلت: فقد تقول: رجل ألد ثم تلحق النون فيما بعد فتقول: ألندد, فقد رأيت الهمزة والنون غير مصطحبتين. قيل: هاتان حالان متعاديتان؛ وذلك أن ألد ليس من صيغة ألندد في شيء، إنما ألد مذكر لفداء؛ كما أن أصم تذكير صماء. وأما ألندد فهمزته مرتجلة مع النون في حال واحدة, ولا يمكنك أن تدعي أن احرنجم لما صرت إلى مضارعه فككت يده عما كان فيها من الزوائد ثم ارتجلت
__________
1 هو في الأصل الصوت المختلط.
2 كذا في أ. وفي غيرها: "للفعل".
3 كذا في ب وفي أ: "تجدها" وفي ش: غير منقوطة الأول.(1/231)
له زوائد غيرها؛ ألا ترى أن المضارع مبناه على أن ينتظم جميع حروف الماضي من أصل أو زائد كبيطر ويبيطر وحوقل ويحوقل وجهور ويجهور وسلقى ويسلقي وقطع ويقطع، و"تكسر ويتكسر"1 وضارب ويضارب.
فأما أكرم يكرم فلولا ما كره من التقاء الهمزتين في أؤكرم لو جيء به على أصله للزم أن يؤتى بزيادته فيه كما جيء بالزيادة في نحو يتدحرج وينطلق. وأما همزة انطلق فإنما حذفت في ينطلق للاستغناء عنها بل قد كانت في حال ثباتها في حكم الساقط أصلًا فهذا واضح.
ولأجل ما قلناه: من أن الحرف المفرد في أول الكلمة لا يكون للإلحاق ما حمل أصحابنا تهلل2 على أن ظهور تضعيفه إنما جاز لأنه عَلَم والأعلام تغير كثيرًا. ومثله عندهم3 محبب لما ذكرناه.
وسألت يومًا أبا علي -رحمه الله- عن تجفاف 4: أتاؤه للإلحاق بباب قرطاس؟ فقال: نعم واحتج في ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألف معها. فعلى هذا يجوز أن يكون ما جاء عنهم من باب أُملود5 وأُظفور ملحقًا بباب عُسلوج6 ودُملوج7، وأن يكون إطريح8 وإسليح9 ملحقًا بباب شِنظيز10 وخنزير. ويبعد هذا عندي لأنه يلزم منه أن
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "كسر ويكسر". ويلاحظ أن الراو بين الفعلين في هذا وما بعده ساقطة في أ.
2 بالتاء والثاء قرية بالريف. وفي معجم البكري، والقاموس أن ثهلل -بالمثلثة- موضع قريب من سيف كاظمة، وكاظمة ماء في الطريق بين البصرة ومكة: وما أثبت أولا هو ما في معجم البلدان لياقوت.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "عنده". وما أثبت هو الصواب.
4 هو ما يوضع على الخيل من الحديد وغيره في الحرب؛ ليقيها الجراح.
5 يقال: غصن أملود: ناعم لين.
6 العسلوج: ما اخضر ولان من القضبان.
7 الدملوج من الحلي ما يلبسه العضد.
8 كأن الأصل: باب الريح: على نسق ما قبله، وبذلك يتوجه إفراد الخبر، وفي ج: "ملحقين"، ويقال سنام إطريح إذا طال ثم مال في أحد شقيه.
9 الإسليح شجرة ترهاها الإبل فيغزر لبنها.
10 الشنظيز: السيء الخلق، والسخيف العقل.(1/232)
يكون باب إعصار وإسنام1 ملحقًا بباب حِدبار2 وهِلقام3 وباب إفعال لا يكون ملحقًا ألا ترى أنه في الأصل للمصدر نحو إكرام وإحسان وإجمال وإنعام وهذا مصدر فعل غير ملحق فيجب أن يكون المصدر في ذلك على سمت فعله غير مخالف له. وكأن هذا ونحوه إنما لا يجوز أن يكون ملحقًا من قبل أن ما زيد على الزيادة الأولى في أوله إنما هو حرف لين وحرف5 اللين لا يكون للإلحاق إنما جيء به لمعنى وهو امتداد الصوت به وهذا حديث غير حديث الإلحاق ألا ترى أنك إنما تقابل بالملحق الأصل وباب المد إنما هو الزيادة أبدًا فالأمران على ما ترى في البعد غايتان.
فإن قلت على هذا: فما6 تقول في باب إزمَول7، وإدرَون8، أملحق هو أم غير ملحق وفيه -كما ترى- مع الهمزة الزائدة؟ الواو زائدة قيل: لا بل هو ملحق بباب جردحل وحنزقر 9. وذلك أن الواو التي فيه ليست مدًا لأنها مفتوح ما قبلها فشابهت الأصول بذلك فألحقت بها.
فإن قلت: فقد قال10 في طومار: إنه ملحق بقسطاس والواو كما ترى بعد الضمة أفلا تراه كيف ألحق بها مضمومًا ما قبلها. قيل: الأمر كذلك؛ وذلك
__________
1 الإسنام: ضرب من الشجر.
2 الحدبار: الناقة الضامرة.
3 الهلقام: الضخم الطويل.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "الزائدة".
5 كذا في أ: "حرف" بالإفراد، ويتذكر الفعل والضمائر بعد، وهو الموافق لعبارة اللسان في "سلح". وفي ش، ب: "حروف" مع تأنيث ما بعدها من الفعل والضمائر.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما".
7 هو المصوت من الوعول.
8 الإدرون: معلف الدابة، والأصل.
9 هو القصير الدميم من الناس.
10 أي أبو علي؛ فإنه هو الذي سلف الحديث عنه, وإن كانت عبارة ابن سيده في اللسان "طمر" تقضي أن قائل هذا سيبويه، ولم أقف في كتابه على هذا الحكم. والطومار: الصحيفة.(1/233)
أن موضع المد إنما هو قبيل الطرف مجاورًا له كألف عماد وياء سعيد وواو عمود. فأما واو طومار وياء ديماس1 فيمن قال دياميس فليستا للمد لأنهما لم تجاورا الطرف. وعلى ذلك قال في طومار: إنه ملحق لما تقدمت الواو فيه، فلم تجاور طرفه.
فلو بنيت على هذا من "سألت " مثل طومار وديماس لقلت: سوءال وسيئال. فإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الحرفين قبلها ولم تحتشم ذلك2، فقلت: سوال وسيال ولم تجرهما3 مجرى واو مقروءة وياء خطيئة في إبدالك الهمزة بعدهما إلى لفظهما وادغامك إياهما فيها في نحو مقروة وخطية. فلذلك لم يقل في تخفيف سوءال وسيئال: سُوّال ولا سِيّال. فاعرفه.
فإن قيل: ولم لم يتمكن حال المد إلا أن يجاور الطرف قيل: إنما جيء بالمد في هذه المواضع لنعمته4 وللين الصوت به. وذلك أن آخر الكلمة موضع الوقف, ومكان الاستراحة والأون5؛ فقدموا أمام الحرف الموقوف عليه ما يؤذن بسكونه, وما يخفض من غلواء6 الناطق واستمراره على سنن جريه7، وتتابع نطقه. ولذلك كثرت
__________
1 أي لا فيمن قال: دماميس في الجمع؛ لظهور أن الياء عند هؤلاء بدل من التضعيف، وانظر سيبويه 2/ 127. هذا، والديماس: الحمام.
2 الأصل: "من ذلك"، فإن الاحتشام يتعدى بمن، فحذف الحرف وأوصل الفعل. وانظر اللسان "حشم".
3 وذلك لأن واو مقروءة وياء خطيئة مدتان لا تقبلان الحركة، فلا سبيل إلى نفل حركة الهمزة إليهما؛ لأن ذلك ينقض الغرض منهما، فكان تخفيف الهمزة في مثل ذلك يغلب الهمزة حرفا من جنس المدة والادّغام. فأما واو سوءال وياء سيئال على الإلحاق فهما شبيهان بالحروف الأصلية يقبلان نقل الحركة إليهما فحذف الهمزة.
4 النعمة -بفتح النون- في الأصل الترفه، ويراد به هنا رقة الصوت.
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "السكون". والأون: الدعة والسكون.
6 كذا في ج: وفي غيرها: "علو" وكأنها محرفة عن "غلو" وهو كالغلواء. والغلواء: النشاط والسرعة.
7 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "غربه".(1/234)
حروف المد قبل حرف الرويّ -كالتأسيس والردف- ليكون ذلك مؤذنًا بالوقوف ومؤديًا إلى الراحة والسكون. وكلما جاور حرف المد الروي كان آنس به وأشد إنعامًا لمستمعه. نعم وقد نجد1 حرف اللين في القافية عوضًا عن حرف متحرك أوزنة حرف متحرك حذف من آخر البيت في أتم أبيات ذلك البحر؛ كثالث الطويل وثاني البسيط والكامل. فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف. فأما ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة في اللين وعريقة في المد فليس ذلك لاعتزامهم المد بها بل المد فيها -أين وقعت- شيء يرجع إليها في ذوقها وحسن النطق بها ألا تراها دخولها2 في " فاعل" لتجعل الفعل من اثنين فصاعدًا نحو ضارب وشاتم فهذا معنى غير معنى المد وحديث غير حديثه. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح تصريف أبي عثمان وغيره من كتبي وما خرج من كلامي.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدات في أواخر الكلم للمد, فإن ذلك أنأى لهن وأشد تماديًا بهن؟ قيل: يفسد ذاك من حيث كان مؤديًا إلى نقض الغرض وذلك أنهن لو تطرفن لتسلط الحذف عليهن فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهن داعيًا إلى استهلاكه بحذفهن ألا ترى أن ما جاء في آخره الياء والواو قد حفظن3 عليه، وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن وذلك كعفرية، وحدرية4، وعفارية وقراسية5، وعلانية، ورفاهية،
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "تجد".
2 بالنصب بدل من الضمير المنصوب في تراها.
3 حفظن أي الواو والياء وجمع باعتبار أفرادهما، وقوله: "عليه" أي على ما جاء في آخره الواو والياء.
4 الحذرية: الأرض الخشنة.
5 هو الضخم الشديد من الإبل.(1/235)
وبُلهنية وسُحفنية1، وكذلك عرقوة، وترقوة وقلنسوة وقمحدوة 2. فأما رباع3 وثمان وشناح4 فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكر والمؤنث في رباعية وثمانية وشناحية. وأيضًا فلو زادوا الواو طرفًا لوجب قلبها ياء ألا تراها لما حذفت التاء عنها في الجمع قلبوها ياء قال:
أهل الرباط البيض والقلنسي5
وقال المجنون:
وبيض القلنسي من رجال أطاول
وقال:
حتى تقُضّي6 عرقي الدُلي
وأيضًا فلو زيدت هذه الحروف طرفًا للمد بها لانتقض الغرض من موضع آخر. وذلك أن الوقف على حرف اللين ينقصه ويستهلك بعض مده ولذلك احتاجوا لهن إلى الهاء في الوقف ليبين بها حرف المد. وذلك قولك: وازيداه7، وواغلامهموه، وواغلام غلامهيه. وهذا شيء اعترض فقلنا فيه ولنعد.
__________
1 هو المحلوق الرأس.
2 هي الهنة الناشزة فوق القفا.
3 هو الذي يلقي الرباعية من الأسنان.
4 هو الجسيم الطويل من الإبل.
5 صدره:
لا مهل حتى تلحقي بعنس
وعنس قبيلة من اليمن. والراجز يخاطب ناقته. يقول: لا أرفق بك في السير حتى تلحقي بهؤلاء القوم. والرجز في سيبويه 2/ 60. ويقول صاحب تاج العروس في "فلس": إنه رأي هذا الرجز في هامش الجمهرة على هذا الوجه:
لا ري حتى تلحقي بعبس ... أولي الملاء البيض والقلنسي
6 كذا في ش، ب. وهو يوافق ما في اللسان في "عرق". وقد اعتمدت في الضبط عليه. والقض: الكسر، أي حتى تكسري. وفي أ: "نقضي". والشطر في سيبويه 2/ 56، وفيه: "تفضي" بالفاء، والفض: الكسر كالقض، ويقول الأعلم في شرحه: "أي لا تزالي ساقية للإبل حتى تكسري عراقي الدلاء".
7 ثبت في أ، ب. وسقط في غيرها، فقيها: "قولك: واغلامهموه".(1/236)
فإن قيل زيادة على ما مضى: إذا كان موضع زيادة الفعل أوله؛ بما قدمته, وبدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه, نحو استفعل؛ وباب زيادة الاسم آخرًا بدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه؛ نحو عِنظيان1 وخِنذيان2، وخُنزوان3، وعُنفوان، فما بالهم جعلوا الميم -وهي من زوائد الأسماء- مخصوصًا بها أول المثال نحو مفعل ومفعول ومِفعال ومُفعِل وذلك الباب على طوله؟
قيل: لما جاءت لمعنى ضارعت بذلك حروف المضارعة فقدمت وجعل ذلك عوضًا من غلبة زيادة الفعل على أول الجزء كما جعل قلب الياء واوًا في التقوى والبقوى عوضًا من كثرة دخول الواو على الياء. وعلى الجملة فالاسم أحمل للزيادة في آخره من الفعل وذلك لقوة الاسم وخفته فاحتمل سحب الزيادة من آخره. والفعل -لضعفه وثقله- لا يتحامل بما يتحامل به الاسم من ذلك لقوته. ويدلك على ثقل الزيادة في آخر الكلمة أنك لا تجد في ذوات الخمسة ما زيد4 فيه5 من آخره إلا الألف لخفتها وذلك قبعثرى6 وضبغطرى7 وإنما ذلك لطول ذوات الخمسة فلا ينتهي8 إلى آخرها إلا وقد ملت لطولها. فلم يجمعوا على آخرها تماديه وتحميله الزيادة عليه. فإنما زيادتها في حشوها؛ نحو عضرفوط9، وقرطبوس10، ويستعور11، وصهصليق12، وجعفليق13، وعندليب، وحنبريت 14. وذلك أنهم لما أرادوا ألا يخلوا ذوات الخمسة
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "غنظيان"، وهما البذيء الفحاش.
2 هو الكثير الشر.
3 هو الكبر.
4 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "زيدت".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "عليه".
6 هو الجمل الضخم.
7 هو الأحمق.
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "تنتهي".
9 هو دويبة بيضاء ناعمة تشبه بها أصابع الجواري.
10 القرطبوس -بفتح القاف- الداهية، وبكسرها الناقة العظيمة الشديدة.
11 هو شجر تصنع منه المساويك، وقيل هو موضع.
12 هي العجوز الصخابة.
13 هي العظيمة من النساء.
14 يقال ماء حنبريت: خالص.(1/237)
من الزيادة كما لم يخلوا منها الأصلين اللذين قبلها حشوا بالزيادة تقديمًا لها كراهية أن ينتهي إلى آخر الكلمة على طولها ثم يتجشموا حينئذ زيادة هناك فيثقل أمرها ويتشنع1 عليهم تحملها.
فقد رأيت -بما أوردناه- غلبة المعنى للفظ وكون اللفظ خادمًا له مشيدًا2 به وأنه3 إنما جيء به له ومن أجله. وأما غير هذه الطريق: من الحمل على المعنى وترك اللفظ كتذكير المؤنث, وتأنيث المذكر, وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه وحذف الحروف والأجزاء التوام والجمل وغير ذلك حملا عليه وتصورًا له وغير ذلك مما يطول ذكره ويمل أيسره فأمر مستقر, ومذهب مستنكر.
باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها، وحملناه عليها:
اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأن فيه تصحيح ما ندعيه على العرب: من أنها أرادت كذا لكذا وفعلت كذا لكذا. وهو أحزم لها وأجمل بها وأدل على الحكمة المنسوبة إليها، من4 أن تكون تكلفت ما تكلفته: من استمرارها على وتيرة واحدة وتقريها منهجًا واحدًا، تراعيه
__________
1 كذا في ش: ب وفي أ: "يتبشع" ولم أقف على التبشع في دواوين اللغة، واستعمل المؤلف التبشع متعديا في ص201 من هذا السفر. و"يتشنع": يقبح، يقال: تشنع القوم: قبح أمرهم باختلافهم واضطرابهم.
2 يقال: أشاد بالشيء: رفع صوته به ونوه به. وضبط "مشيدا" في أبفتح الميم. والوجه ما أثبت.
3 كذا في ش، ب. وسقط في ألفظ: "أنه".
4 الذي يبدو أن "من" هذه ليست داخلة على المفضل عليه، فليست متعلقة بأدل، وإنما هي التعليل متعلقة بقوله: "المنسوبة".(1/238)
وتلاحظه وتتحمل لذلك مشاقه وكلفه وتعتذر من تقصير إن جرى وقتًا منها في شيء منه.
وليس يجوز أن يكون ذلك كله في كل لغة لهم، و1عند كل قوم منهم حتى2 لا يختلف ولا ينتقض ولا يتهاجر على كثرتهم وسعة بلادهم وطول عهد زمان هذه اللغة لهم وتصرفها على ألسنتهم اتفاقًا3 وقع حتى لم يختلف فيه اثنان, ولا تنازعه فريقان إلا وهم له مريدون وبسياقه4 على أوضاعهم فيه معنيون؛ ألا ترى إلى اطراد رفع الفاعل ونصب المفعول والجر بحروف الجر والنصب بحروفه والجزم بحروفه وغير ذلك من حديث التثنية والجمع والإضافة والنسب والتحقير وما يطول شرحه فهل يحسن بذي لب أن يعتقد أن هذا كله اتفاق وقع, وتوارد اتجه.
فإن قلت "فما تنكر "5 أن يكون ذلك شيئًا طبعوا عليه وأجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله6، ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه بل لأن آخرًا منهم حذا على ما نهج الأول فقال به وقام الأول للثاني في كونه إمامًا له فيه مقام من هدى الأول إليه وبعثه عليه ملكًا كان أو خاطرًا؟
قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرًا روسلوا به أو تيقظًا نبهوا على وجه الحكمة فيه. فإن كان وحيًا أو ما يجري مجراه فهو أنبه له وأذهب في شرف الحال
__________
1 بنت هذا الحرف في أ، ب. وسقط في س.
2 ثبت هذا الحرف في أ، وسقط في ش، ب.
3 هو خبر "يكون" في قوله: "وليس يجوز أن يكون ... ".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "لسياقه".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما تنكر".
6 كذا في أ، وفي ش، ب: "للعلة".(1/239)
به؛ لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك ووقفهم عليه لأن في طباعهم قبولًا له وانطواء على صحة الوضع فيه لأنهم مع ما قدمناه من ذكر كونهم عليه في أول الكتاب من لطف الحس وصفائه ونصاعة جوهر الفكر ونقائه لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها محسة لقوة الصنعة فيها معترفة بقدر1 النعمة عليهم بما وهب لهم منها ألا ترى إلى قول أبي مهدية 2:
يقولون لي شنبِذ ولست مشنبِذا ... طوال الليالي ما أقام ثبير3
ولا قائلا زوذا ليعجل صاحبي ... وبستان في صدري على كبير4
ولا تاركًا لحني لأحسن لحنهم ... ولو دار صرف الدهر حيث يدور
وحدثني المتنبي شاعرنا -وما عرفته إلا صادقًا- قال: كنت عند منصرفي من مصر في جماعة من العرب وأحدهم يتحدث. فذكر في كلامه فلاة واسعة فقال: يحير فيها الطرف قال: وآخر5 منهم يلقنه سرًا من الجماعة بينه وبينه فيقول له: يحار يحار. أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض وتنبيهه إياه على الصواب.
وقال عمار6 الكلبي -وقد عيب عليه بيت من شعره فامتعض لذلك:
ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا7
__________
1 كذا في أ، ج. وفي غيرها: "بقدم".
2 في المعرب للجواليقي ص9 نسبته لأبي المهدي، وكذا هو في مجالس ابن حنزابة ونصه: "كان أبو مهدي هذا -وهو من باهلة- يضرب حنكبه يمينا وشمالا ... " وكذا هو "أبو مهدي" في ذبل الأمالي 39. وفي السمط 21 أن الصواب: "أبو مهدية" كما في فهرست ابن النديم 49 والمرزباني 185. وهو صاحب قصة في اللسان "خسا" باسم أبي مهدية.
3 شنبذ أي قل: شون بوذ، وهي عبارة فارسية معناها كيف؟ يعنون الاستفهام؛ انظر التقريب لأصول التقريب الشيخ طاهر الجزائري ص79. وقوله ... "ما أقام ثبير" في ابن حنزابة: "أو يزول ثبير".
4 يقال: زود بالفارسية أي عجل. وبستان -بكسر الباء كما في المرجع السابق- أي خذ. وقوله: "ليعجل" في ابن حنزابة: "لأعجل".
5 ثبتت الواو في أ، وسقطت في ش, ب.
6 هذا الشعر في معجم الأدباء في ترجمة ابن جني 12/ 103، وفيه: "عمرو" بدل "عمار" وفي شرح الواحدي لديوان المتنبي 533 بأوسع مما أورده ابن جني هنا.
7 "نحوهم" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "شعرهم".(1/240)
إن قلت قافية بكرًا يكون بها ... بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس منتصبًا ... وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق ... وبين زيد فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحًا لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
والخبر المشهور في هذا للنابغة وقد عيب عليه قوله في الدالية المجرورة:
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فلما لم يفهمه أتى بمغنية فغنته:
من آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
ومدت الوصل وأشبعته ثم قالت:
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
ومطلت واو الوصل فلما أحسه عرفه واعتذر منه وغيره -فيما يقال- إلى قوله:
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
وقال دخلت يثرب وفي شعري صنعة ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب. كذا الرواية. وأما أبو الحسن فكان يرى ويعتقد أن العرب لا تستنكر الإقواء.
ويقول: قلت قصيدة إلا وفيها الإقواء. ويعتل لذلك بأن يقول: إن كل بيت منها شعر قائم برأسه. وهذا الاعتلال منه يضعف ويقبح التضمين في الشعر. وأنشدنا أبو عبد الله الشجري يومًا لنفسه شعرًا مرفوعًا وهو قوله:
نظرت بسنجار كنظرة ذي هوى ... رأى وطنًا فانهل بالماء غالبه(1/241)
لأونس من أبناء سعد ظعائنا ... يزن الذي من نحوهن مناسبه1
يقول فيها يصف البعير:
فقامت إليه خدلة الساق أعلقت ... به منه مسموما دوينة حاجبه2
فقلت: يا أبا عبد الله: أتقول " دوينة حاجبه " مع قولك "مناسبه " و "أشانبه "! فلم يفهم ما أردت فقال: فكيف3 أصنع؟ أليس ههنا تضع الجرير4 على القِرمة5، على الجِرفة6؟ وأمأ إلى أنفه فقلت: صدقت غير أنك قلت "أشانبه " و "غالبه " فلم يفهم وأعاد اعتذاره الأول. فلما طال هذا قلت له: أيحسن أن يقول الشاعر 7:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاوٍ يُمَل منه الثواء
ومطلت الصوت ومكنته ثم يقول مع ذلك:
ملك المنذر بن ماء السمائي8
__________
1 "لأونس" أي لأبصر، يقال: آنس الشيء: أبصره.
2 "خدلة الساق": ممتلئتها، وكأنه يريد بالمسموم الخطام تشده في أنفه، يقال: سمه: شده. و"دوينة" تصغير دون، والمعروف في تصغيره دوين، وانظر الكتاب 2/ 138، وقد استرعى هذا نظر ابن سيده وقال: "فلا أدري ما الذي صغره هذا الشاعر؟ " وانظر اللسان "دون". وكأنه حمل "دون" على "وراء وقدام" في تصغيرهما بالتاء نظرا إلى الذهاب بهما مذهب الجهة.
3 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "كيف".
4 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "الحرير" وهو تحريف. والجرير: سير من جلد مضفور، يلوى عليه وتر، ويعلم على أنف البعير لبلله. وانظر المنصف 712 نسخة التيمورية.
5 القرمة -بفتح القاف وكسرها- من سمات الإبل تكون فوق الأنف.
6 الجرفة -بفتح الجيم وكسرها- من سمات الإبل أيضًا تكون دون الأنف.
7 هو الحارث بن حلزة اليشكري. والبيت مطلع معلقته.
8 هو من المعلقة السابقة. وصدره:
فملكنا بذلك الناس حتى(1/242)
فأحس حينئذ وقال: أهذا! أين هذا من ذاك! إن هذا طويل وذاك قصير. فاستروح إلى قصر الحركة في "حاجبه " وأنها أقل من الحرف في "أسماء " و"السماء ".
وسألته يومًا فقلت له: كيف تجمع "دكانًا "؟ فقال: دكاكين قلت: فسرحانًا؟ قال: سراحين قلت: فقرطانًا1؟ قال: قراطين قلت: فعثمان قال: عثمانون. فقلت له: هلا قلت أيضًا عثامين قال: أيش عثامين! أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته والله لا أقولها أبدًا 2.
والمروي عنهم في شغفهم3 بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو جزء من أجزاء كثيرة منه.
فإن قلت: فإن العجم أيضًا بلغتهم مشغوفون ولها مؤثرون ولأن يدخلها شيء من العربي كارهون ألا ترى أنهم إذا أورد الشاعر منهم شعرًا فيه ألفاظ من العربي عيب به4، وطعن لأجل ذلك عليه. فقد تساوت حال اللغتين في ذلك. فأية فضيلة للعربية على العجمية؟
قيل: لو أحست العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللغة وما فيها من الغموض والرقة والدقة لاعتذرت من اعترافها بلغتها فضلا عن التقديم لها والتنويه منها.
فإن قيل: لا, بل لو عرفت العرب مذاهب العجم في حسن لغتها, وسداد تصرفها وعذوبة طرائقها لم تبء5 بلغتها ولا رفعت من رءوسها باستحسانها وتقديمها.
__________
1 هو ما يكون تحت السرج. وفي ج: "فقرطاسا؟ قال: قراطيس".
2 انظر هذه القصة مع أخريات عن هذا الأعرابي في معجم الأدباء في ترجمة ابن جني 12/ 108.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "شعفهم" والشغف والشعف واحد.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "عليه".
5 من بأى يبأى -كسعى يسعى- بأوا، وبأبا: فخر. وفي و: "ثعبأ".(1/243)
قيل: قد اعتبرنا ما تقوله فوجدنا الأمر فيه بضده. وذلك أنا نسأل علماء العربية مما أصله عجمي وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين فلا يجمع بينهما بل لا يكاد يقبل السؤال عن ذلك لبعده في نفسه وتقدم لطف العربية في رأيه وحسه. سألت غير مرة أبا علي -رضي الله عنه- عن ذلك فكان جوابه عنه نحوًا مما حكيته.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون ذلك لأنه كان عالمًا بالعربية ولم يكن عالمًا باللغة العجمية ولعله لو كان عالمًا بها لأجاب بغير ما أجاب به. قيل: نحن قد قطعنا بيقين وأنت إنما عارضت بشك ولعل هذا ليس قطعًا كقطعنا, ولا يقينًا كيقيننا. وأيضًا فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها. ولم نر أحدًا من أشياخنا فيها1 -كأبي حاتم2، وبندار3، وأبي علي, وفلان وفلان- يسوون بينهما ولا يقربون بين حاليهما. وكأن هذا موضع ليس للخلاف فيه مجال لوضوحه عند الكافة. وإنما أوردنا منه هذا القدر احتياطًا به واستظهارًا على مورد له عسى أن يورده.
فإن قلت: زعمت أن العرب تجتمع على لغتها فلا تختلف فيها وقد نراها ظاهرة الخلاف ألا ترى إلى الخلاف في "ما " الحجازية، والتميمية وإلى الحكاية في الاستفهام
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب ذكر هذه العبارة بعد "أحدا".
2 هو سهل بن محمد السجستاني البصري، أستاذ المبرد. مات سنة 255هـ وانظر البغية.
3 هو ابن عبد الحميد الكرخي. وانظر البغية، وفهرست ابن النديم 123.(1/244)
عن الأعلام1 في الحجازية وترك ذلك في التميمية إلى غير ذلك قيل: هذا القدر من2 الخلاف لقلته ونزارته محتقر غير محتفل به ولا معيج3 عليه وإنما هو في شيء من الفروع يسير. فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلاف فيه ولا مذهب للطاعن به. وأيضًا فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير وخلق "من الله "4 عظيم وكل واحد منهم محافظ على لغته لا يخالف شيئًا منها ولا يوجد عنده تعاد فيها. فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون. ومع هذا فليس شيء مما يختلفون فيه -على قلته وخفته- إلا له من القياس وجه يؤخذ به. ولو كانت هذه اللغة حشوًا5 مكيلا، وحثوًا6 مهيلا لكثر خلافها وتعادت أوصافها: فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه والمفعول به والجزم بحروف النصب والنصب بحروف الجزم بل جاء عنهم الكلام سدى غير محصل وغفلا من الإعراب ولاستغنى بإرساله وإهماله عن إقامة إعرابه والكلف الظاهرة بالمحاماة على طرد أحكامه.
هذا كله وما أكني عنه من مثله -تحاميًا للإطالة به- إن كانت هذه اللغة شيئًا خوطبوا به7، وأخذوا باستعماله. وإن كانت شيئًا اصطلحوا عليه، وترافدوا8
__________
1 فإذا قال قائل: رأيت عليا فأهل الحجاز يقولون: من عليا؟ بالحكاية، وبنو تميم يقولون: من علي؟ ولا يحكون. وانظر الكتاب 1/ 403، وشرح الرضي على الكافية 2/ 63.
2 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "والخلاف".
3 كذا في الأصول: أي خلق ناشئ من فعل الله وإيجاده، وقد يكون الأصل: "من خلق الله".
5 الحشو: الرذال والرديء، ووصفه بالمكيل أنه ليس مما يدق ويتنافر فيه فبوزن كالذهب.
6 أراد به ما يجنى ويثار كالتراب والرمل. وهو هكذا في أ، ب، ش. وفي ج: "حثيا" وهو بمعنى حثوا، فالمادة واوية ويائية. و"مهيلا" أي ينهال وينصب عند سقوطه بلا مقدار ولا ضبط.
7 يريد بذلك أنها توفيقية.
8 كذا في أ، ب، وفي ش: "ترادفوا" وفي ج: "توافروا".(1/245)
بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه وقسمة أنحائه وتقديمهم أصوله وإتباعهم إياها فروعه -وكذا ينبغي أن يعتقد ذلك منهم لما نذكره آنفًا- فهو مفخر لهم ومعلم من معالم السداد دل على فضيلتهم.
والذي يدل على أنهم قد أحسوا ما أحسسنا، وأرادوا "وقصدوا"1 ما نسبنا إليهم إرادته وقصده شيئان: أحدهما حاضر معنا والآخر غائب عنا إلا أنه مع أدنى تأمل في حكم الحاضر معنا.
فالغائب ما كانت الجماعة من علمائنا تشاهده من احوال العرب "ووجوهها"2، وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها: من استخفافها شيئًا أو استثقاله وتقبله أو إنكاره والأنس به أو الاستيحاش منه والرضا به أو التعجب من قائله وغير ذلك من الأحوال الشاهدة بالقصود بل الحالفة على ما في النفوس ألا ترى إلى قوله 3:
تقول وصكت وجهها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس 4
فلو قال حاكيًا عنها: أبعلي هذا بالرحى المتقاعس -من غير أن يذكر صك الوجه- لأعلمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة لكنه لما حكى الحال فقال: "وصكت وجهها " علم بذلك قوة إنكارها وتعاظم الصورة لها. هذا مع أنك سامع لحكاية الحال غير مشاهد لها ولو شاهدتها لكنت بها أعرف ولعظم الحال في نفس تلك
__________
1 زيادة في ش، ب، د، وخلت منها أ.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "في وجوهها".
3 هو نعيم بن الحارث بن يزيد السعدي. انظر اللسان في "ودع"، وشرح المرصفي للكامل 1/ 142.
4 من أبيات أوردها في الكامل "الموضع السابق". كان الشاعر قد عقد له النكاح على امرأة لم يدخل بها بعد، فمرت به في نسوة وهو يطحن بالرحى لضيف نزلوا به، فقالت: أبعلي هذا! تعجبا واحتقارا له، فقال الأبيات. والمتقاعس: الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، وذلك شكل من يطحن بالرحى.(1/246)
المرأة أبين, وقد قيل "ليس المخبر كالمعاين "1 ولو لم ينقل إلينا هذا الشاعر حال هذه المرأة بقوله: وصكت وجهها لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها. وليست كل حكاية تروى لنا ولا كل خبر ينقل إلينا يشفع به شرح الأحوال التابعة له, المقترنة -كانت- به. نعم ولو نقلت إلينا لم نفد بسماعها ما كنا نفيده لو حضرناها. وكذلك قول الآخر:
قلنا لها قفي لنا قالت قاف2
لو نقل إلينا هذا الشاعر شيئًا آخر من جملة الحال فقال مع قوله "قالت قاف ": "وأمسكت بزمام بعيرها" أو " وعاجته علينا" لكان أبين لما كانوا عليه وأدل على أنها أرادت: وقفت أو توقفت دون أن يظن أنها أرادت: قفي لنا! أي يقول لي: قفي لنا! متعجبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم3 أن قولها "قاف" إجابة له لا رد لقوله وتعجب منه في قوله "قفي لنا ".
وبعد فالحمالون والحماميون والساسة4، والوقادون ومن يليهم ويعتد منهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه ولم يحضره ينشده. أولا تعلم أن الإنسان إذا عناه أمر فأراد أن يخاطب به صاحبه وينعم تصويره له في نفسه استعطفه ليقبل عليه فيقول له:
__________
1 كذا في الأصول ما عدا و، ففيها: "ليس الخبر كالمعاينة" ويضبط ما هنا "المخبر" على صيغة اسم المفعول، فإن أريد به الذي يلقى إليه الخبر ضبط, "المعاين" بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل، وإن أريد "بالمخبر" النبأ يخبر به ضبط المعاين" بفتح الياء على صيغة اسم المفعول.
2 كذا في أ. وفي ش، ب:
قلت لها قفي قالت قاف
وانظر في الرجز ص31 من هذا الجزء.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "علمت".
4 يريد ساسة الذراب القائمين عليها، والخادمين لها.(1/247)
يا فلان أين أنت أرني وجهك أقبل علي أحدثك أما أنت حاضر يا هناه. فإذا أقبل عليه وأصغى إليه اندفع يحدثه أو يأمره أو ينهاه أو نحو ذلك. فلو كان استماع الأذن مغنيًا عن مقابلة العين مجزئًا عنه لما تكلف القائل ولا كلف1 صاحبه الإقبال عليه والإصغاء إليه. وعلى ذلك قال:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها ... من العداوة أو ود إذا كانا2
وقال الهذلي 3:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم4
أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه وجعلها دليلا على ما في النفوس.
وعلى ذلك قالوا: "رب إشارة أبلغ من عبارة " وحكاية5 الكتاب من هذا الحديث, وهي قوله: "ألا تا " و"بلى فا ". وقال لي بعض مشايخنا رحمه الله: أنا لا أحسن أن أكلم إنسانًا في الظلمة.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "تكلف".
2 كذا في أ: "ود" -بالجر- وفي ش، ب، ج: "ودا". والبيت في بيان الجاحظ بتحقيق الأستاذ هارون 1/ 79. وقبله.
والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
3 هو أبو خراش خويلد بن مرة، أدرك الإسلام شيخا كبيرا، ووفد على عمر وقد أسلم، ومات في خلافته كما في الإصابة رقم 2341، وانظر الأغاني 21/ 54 طبعة ليدن، والخزانة 1/ 211. وانظر شعر الهذليين 144 من القسم الثاني طبعة دار الكتب المصرية.
4 "رفوني": سكنوني، وقالوا: لا بأس عليك. وقوله: "هم هم" أي هم الذين أخاف، وانظر اللسان في "رفأ" و"رفو". هو مطلع قصيدة في المرجع السابق. كان الشاعر وقع في قوم من أعدائه فأظهروا له الملاينة حتى يتمكنوا منه. ولكنه عرف منهم الشر على الرغم مما أبدوه مقر منهم، وانظر أيضًا معاني ابن قتيبة 902.
5 انظر ص31 من هذا الجزء.(1/248)
ولهذا الموضع نفسه ما توقف1 أبو بكر عن كثير مما أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق واحتج أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ولم ندر ما حديثها ومثل له بقولهم " رفع عقيرته " إذا رفع صوته. قال له أبو بكر: فلو ذهبنا نشتق لقولهم "ع ق ر " من معنى الصوت لبعد الأمر جدًا وإنما هو أن رجلًا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ثم نادى وصرخ بأعلى صوته فقال الناس: رفع عقيرته أي رجله المعقورة. قال أبو بكر: فقال أبو إسحاق: لست أدفع هذا. ولذلك قال سيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.
فليت شعري إذا شاهد أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويونس, وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه وأبو الحسن وأبو زيد وخلف الأحمر والأصمعي, ومن في الطبقة والوقت من علماء البلدين وجوه العرب فيما تتعاطاه2 من كلامها وتقصد له من أغراضها ألا تستفيد3 بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤديه الحكايات ولا تضبطه الروايات فتضطر إلى قصود العرب وغوامض ما في أنفسها حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلته عليه إشارة لا عبارة لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقًا فيه غير متهم الرأي والنحيزة والعقل.
فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا وكأنه حاضر معنا، مناج4 لنا.
__________
1 انظر ص67 من هذا الجزء.
2 كذا أثبتناه. وفي أ، ب، ج: "يتعاطاه". وفي ش: "نتعاطاه".
3 كذا في ش، ب. أي ألا تستفيد تلك الطبقة أو جماعة علماء البلدين وفي أ: "ألا يستفيد" أي من في الطبقة والوقت.
4 كذا في أوفي غيرها: "مباح".(1/249)
وأما ما روي لنا فكثير. منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت له: أتقول جاءته كتابي! قال: نعم أليس بصحيفة. أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته وقد نظروا وتدربوا وقاسوا وتصرفوا أن يسمعوا أعرابيًّا جافيًا غفلا يعلل هذا الموضع بهذه العلة ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره فلا " يهتاجواهم "1 لمثله, ولا يسلكوا فيه طريقته فيقولوا: فعلوا كذا لكذا وصنعوا كذا لكذا وقد شرع لهم العربي ذلك ووقفهم على سمته وأمه.
وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس أنه قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فقلت له ما تريد؟ قال: أردت: سابقٌ النهار. فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن 2. ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها: أحدها تصحيح قولنا: إن أصل كذا كذا والآخر قولنا: إنها فعلت3 كذا لكذا ألا تراه إنما طلب الخفة يدل عليه قوله: لكان أوزن: أي أثقل في النفس وأقوى من قولهم: هذا درهم وازن: أي ثقيل له وزن. والثالث أنها قد تنطق بالشيء غيره في أنفسها4 أقوى منه لإيثارها التخفيف.
وقال سيبويه5 حدثنا من نثق به أن بعض العرب قيل له أما بمكان كذا وكذا وجذ6؟ فقال: بلى وِجاذًا أي أعرف7 بها وِجاذًا، وقال أيضًا: وسمعنا8 بعضهم
__________
1 في ج: "يهتاجهم" ولم يعرف في "اهتاج" التعدي.
2 سلفت هذه القصة في ص126 من هذا الجزء.
3 أي العرب.
4 كذا في أ، ج. وفي غيرها: "نفسها".
5 انظر الكتاب 1/ 129.
6 هو موضع يمسك الماء؛ كما فسر سيبويه.
7 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "فاعرف". وهذا الأخير هو الموافق لنسخة الكتاب المطبوعة.
8 في الكتاب أن هذا مثل من أمثالهم، وقد أورده على هذا الوجه، وأسلف قبيل هذا أن هذه حجج سمعت من العرب وممن يوثق به يزعم أنه سمعها عن العرب، وترى من هذا أن ابن جني اعتمد في نقل ما في الكتاب على المعنى.(1/250)
يدعو على غنم رجل فقال: اللهم ضبعًا وذئبًا فقلنا 1 له: ما أردت؟ فقال: أردت: اللهم اجمع فيها ضبعًا وذئبًا كلهم يفسر ما ينوي.
فهذا تصريح منهم بما ندعيه عليهم وننسبه إليهم.
وسألت الشجري2 يومًا فقلت: يا أبا عبد الله كيف تقول ضربت أخاك؟ فقال: كذاك. فقلت: أفتقول: ضربت أخوك فقال: لا أقول: أخوك أبدًا. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك فقال: كذاك. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا؟ فقال أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا في معناه إلا كقولنا نحن: صار المفعول فاعلا وإن لم يكن بهذا اللفظ البتة, فإنه هو لا محالة.
ومن ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قومًا من العرب أتوه فقال لهم: "من أنتم" , فقالوا: نحن بنو غيان3، فقال: "بل أنتم بنو رشدان" 4. فهل هذا إلا كقول أهل الصناعة: إن الألف والنون زائدتان وإن كان -عليه السلام- لم يتفوه بذلك غير أن اشتقاقه إياه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف
__________
1 في الكتاب: "وإذا سألتهم ما يعنون قالوا: اللهم اجمع أو اجعل فيها ضبعا وذئبا". وترى من هذا أن ابن جني لم يكن أمامه الكتاب إذ ينقل هذا، وإنما ينقل على حفظه، أو أن الكتاب منه عدة نسخ مختلفة.
2 سبق له في ص77 نسبة هذه القصة إلى أبي عبد الله محمد بن العساف العقيلي. فهل هما واحد؟ أم تكررت القصة معهما؟
3 هؤلاء حي من جهينة، منهم بسبس بن عمرو، وكعب بن حمار ممن شهدوا بدرا. وفي الإصابة في ترجمة بسبسة بن عمرو -وهو بسبس- إذ ساق نسبه ترى في آبائه رشدان، وهو غيان هذا. وقد غير الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- سوى هذا مما فيه لفظ الغي إلى ما فيه الرشد. ففي سنن أبي داود: "وسمى بني مغوية بني رشدة", وانظر القاموس وشرحه والإصابة، وسنن أبي داود في "باب في تغيير الأسماء" من كتاب الأدب.
4 هكذا بفتح الراء وهو المناسب لغيان، قال في اللسان "وضبطه قوم بكسر الراء"، وقد جاء هذا الضبط في أ.(1/251)
والنون فيه زائدتان. وهذا واضح. وكذلك قولهم 1: إنما سميت هانئًا لتهنأ قد عرفنا منه أنهم كأنهم قد قالوا: إن الألف في هانيء زائدة وكذلك قولهم: فجاء2 يدرم من تحتها -أي يقارب خطاه, لثقل الخريطة بما فيها, فسمى دارمًا- قد أفادنا اعتقادهم زيادة الألف في دارم عندهم.
باب في الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره
اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه والعمل عليه والوصية به. فإذا شاهدت ظاهرًا يكون مثله أصلا أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله, وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه؛ ألا ترى أن سيبويه حمل3 سيدًا على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سييد4، كديك ودييك وفيل وفييل. وذلك أن عين الفعل5 لا ينكر أن تكون ياء وقد وجدت في سيد ياء فهي في6 ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادي حالها.
__________
1 هذا من أمثالهم. وقوله: "لتهنأ" أي لتعطي. راجع اللسان في "هنأ".
2 هو بحر بن مالك بن حنظلة أبو حي من تميم. كان أبوه قد أتاه قوم في تحمل بعض الديات، فقال له: يا بحر ائتني بخريطة -يريد ما استحفظ فيه المال- فجاء يحملها وهو يدوم تحتها أي يقارب خطاه من ثقلها -وأصل ذلك في الأرنب والقنفذ، يقال: درمت الأرنب- فغلب عليه اسم دارم من حينئذ. وانظر اللسان والقاموس في "درم".
3 انظر الكتاب 2/ 136. والسيد: الأسد، والذئب "وذكر الجوهري في الصحاح، والمجد في القاموس "سيدا" في تركيب "س ود"، ويقول في التاج: "وهو قول أكثر أئمة الصرف" وكأنهم راعوا الحمل على الأكثر، وهو وجه صحيح.
4 ضبط في أبضم السين وكسرها، والوجهان جائزان لمكان الياء، تقول في شيخ: شُييخ وشِييخ بضم الشين وكسرها.
5 أي موازن الفعل، بكسر الأول وسكون الثاني.
6 في عبارة اللسان في "سيد": "علي".(1/252)
فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام تركيب "س ي د " فهلا لما لم يجد1 ذلك، حمل الكلمة على ما في الكلام مثله وهو ما عينه من هذا اللفظ واو, وهو السواد، والسودد2, ونحو ذلك؟
قيل: هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة, وتنتظمه القضية, حكم به وصار أصلًا على بابه. وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا3 يحكم به حتى يوجد له نظير. وذلك أن النظير -لعمري- مما يؤنس به فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا ألا ترى أنه4 قد أثبت في الكلام فعُلت تفعَل وهو كدت5 تكاد وإن لم يوجدنا6 غيره وأثبت بإنقحل7 باب "إنفعل " وإن لم يحك هو غيره وأثبت بسخاخين8 "فُعاعِيلا" وإن لم يأت بغيره.
فإن قلت: فإن "سيدًا " مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة فهلا توقف9 عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واوًا قيل: هذا الذي تقوله إنما تدعي فيه ألا10 يؤمن أن يكون من الواو وأما الظاهر فهو ما تراه. ولسنا ندع حاضرًا له وجه من القياس لغائب مجوز ليس عليه دليل.
فإن قيل: كثرة عين الفعل واوًا تقود11 إلى الحكم بذاك قيل: إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك. لكن -لعمري-
__________
1 أي سيبويه، وكذلك قوله "حمل" يريده أيضًا.
2 في اللسان: "السود".
3 المصدر المؤول فاعل "يلزم".
4 أي سيبويه، وكذا فيما بعده.
5 الكتاب 2/ 227.
6 كذا في أ، ب، وفي ش، ج: "يوجد"، وفاعل "يوجد" هو سيبويه.
7 الكتاب 2/ 317.
8 الكتاب 2/ 320. ويقال: ماء شخاخين: حازه.
9 أي سيبويه أيضًا.
10 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنه لا".
11 كذا في عبارة اللسان، وفي أ، ب، ش: "يقود". والوجه ما أثبت.(1/253)
إن لم يكن معك ظاهرًا احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق, والحمل على الأكثر. وذلك إذا كانت العين ألفًا مجهولة فحينئذ ما تحتاج إلى تعديل الأمر فتحمل على الأكثر. فلذلك قال1 في ألف "آءة": إنها بدل من واو. وكذلك ينبغي أن تكون ألف "الراء " لضرب من النبت وكذلك ألف " الصاب " لضرب من الشجر. فأما ألا2 يجيء من ذلك اللفظ نظير فتعلل بغير نافع ولا مجد؛ ألا ترى أنك تجد من الأصول ما لم يتجاوز3 به موضع واحد كثيرًا. من ذلك في الثلاثي حوشب4، وكوكب، ودودري5، وأبنبم6. فهذه ونحوها لا تفارق موضعًا واحدًا ومع ذلك فالزوائد فيها لا تفارقها.
وعلى نحو مما جئنا به في "سيد " حمل سيبويه عيَّنًا7، فأثبت به8 "فيعلا " مما عينه ياء وقد كان يمكن أن يكون "فوعلا " و "فعولا " من لفظ العين ومعناها ولو حكم بأحد هذين المثالين لحمل على مألوف غير منكور "ألا ترى أن فوعلا وفعولا"9
__________
1 كأنه يريد ما ورد في الكتاب 2/ 376، فقد ذكر الآية في كلمات لا يصاغ منها فعل لثقله. وذكر أن الفعل الذي كان يصاغ هو أؤت، كفلت، وهذا يقضي بأن ألف آءة في الأصل واوه والآءة واحدة الآ, وهو ثمر شجر بعينه.
2 كذا في أ. وفي غيرها "ما لا".
3 أي لا توجد تلك الأصول في كلمة أخرى، فدودرّى لا يوجد أصولها وهي "ددر" في سوى هذا الكلمة؛ إذ لم يصغ العرب منها سواها. وقد سلك المؤلف في عداد هذا الضرب "حوشبا"؛ وكأنه لم يبلغ علمه "الحشيب" للثوب الغليظ، ولا "احتشب" القوم: تجمعوا ولا "أحشبه": أغضبه.
4 من معانيه العظيم البطن، وقد سمي به.
5 هو الذي يذهب ويجيء في غير حاجة. وألفه للتأنيث. فهو غير مصروف، وانظر الأشموني في مبحث ألف التأنيث.
6 هو اسم موضع، وقد ذكره سيبويه في أبنية المزيد من الأسماء 2/ 317، وانظر اللسان ومعجم ياقوت.
7 يقال: سقاء عين وعين -بفتح الياء المشددة وكسرها- إذا رق فلم يمسك الماء. الكتاب 1/ 372.
8 كذا في أ. وفي ب: "فيه" وسقط هذا في ش.
9 ما بين القوسين في ش، ب. وفي أبعد "منكور": "لأنه لا مانع ... إلخ".(1/254)
لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح، وأما "فيعل " -بفتح العين- مما عينه معتلة فعزيز ثم لم يمنعه عزه ذلك أن حكم به على "عين " وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في الصحيحها 1. وهذا أيضًا مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم.
وكذلك يوجب القياس فيما جاء من الممدود2 لا يعرف له تصرف ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلًا فينبغي حينئذ أن يعتقد فيها أنها أصلية. وكذلك همزة "قساء "3 فالقياس يقتضي اعتقاد كونها أصلًا اللهم إلا أن يكون "قساء " هو " قسى"4 في قوله 5:
بجو من قسى ذفر الخزامى ... تداعى الجربياء به الحنينا6
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الصحيح".
2 كذا في أ. وفي غيرها: "الممدودة" يريد الأسماء الممدودة.
3 هو اسم جبل. وتراه مضموما. وفي المقصور والممدود لابن ولاد 91: "وقال الفراء: قساء يضم أوله ويكسر. فإذا صممت لم تصرفه، وإذا كسرته صرفته".
4 هو موضع بالعالية كما في ياقوت. وقيل: هو حبل رمل من رمال الدهناء, كما في اللسان.
5 هو ابن أحمر كما في اللسان في "قسأ" و"قسا"، وياقوت.
6 "بجو" يروى "بهجل". والهجلي: المطمئن من الأرض؛ والجربياء من الرياح: النكباء التي تجري بين الشمال والدبور، والخزامى نبت طيب الريح، وذفر الخزامي: ذكى رائحة هذا النبت. وقوله "تداعى". في اللسان في أكثر من موضع: "تهادى" وقوله "الحنينا" كذا في أ، وفي ش, ب: "حنينا". وفي ج: "الحبينا" وكتب في هامشه: "الحبين: شجر الدفلى"، وكأن المراد أن الجربياء تدعو الحنين، والحنين يدعوها، يصف طيب هذا الموضع ورقة هوائه. وانظر الكامل 6/ 190، والبيان 3/ 164.(1/255)
فإن كان كذلك وجب أن يحكم بكون همزة "قساء " أنها بدل من حرف العلة الذي1 أبدلت منه ألف "قسى ". وأن يكون ياء2 أولى من أن يكون واوًا لما ذكرناه في كتابنا في شرح المقصور والممدود ليعقوب بن السكيت.
فإن قلت: فلعل "قسى " هذا مبدل من "قساء " والهمزة فيه هي الأصل. قيل: هذا حمل على الشذوذ لأن إبدال الهمز شاذ والأول أقوى لأن إبدال حرف العلة همزة إذا وقع طرفًا بعد ألف زائدة هو الباب.
وذكر محمد بن الحسن3 " أروى" في باب "أرو "4 فقلت لأبي علي: من أين له أن اللام واو وما يؤمنه أن تكون ياء فتكون من باب التقوى والرعوى؟ فجنح إلى ما نحن عليه: من الأخذ بالظاهر وهو القول.
فاعرف بما ذكرته قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر ما لم يمنع منه مانع. وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر أنا لا نعرف في الكلام ما عينه
__________
1 كذا في ج. وفي بقية الأصول: "التي" وهو غير مناسب؛ إذ هو وصف لـ"حرف"، وكأنه روعي اكتسابه التأنيث من المضاف إليه، أو أن الحرف يذكر ويؤنث، فروعي تأنيثه في وصفه، وروعي تذكيره في ضميره في "منه". وهو تكلف، فالوجه ما أثبت.
2 والوجه إذا أن يكتب بالياء كما أثبتناه وكما في اللسان "قسا"، وفي هامشه في التعليق على بيت ابن أحمر: "أورده ابن سيده في الباني بهذا اللفظ"، وقد جعله ياقوت في معجم البلدان منقولا من الفعل "قسا" من القسوة، فيكتب بالألف. وفي المقصور والممدود لابن ولاد 88: "قسا مقصور بكتب بالألف"، وأنشد بيت ابن أحمر، ثم قال: "ويروى "قسا" بالكسر، وحكاه الفراء".
3 هو ابن دريد صاحب الجمهرة. وقد ذكر المؤلف في "باب سقطات العلماء" من هذا الكتاب أن أستاذه أبا علي هم بقراءة الجمهرة على مؤلفها محمد بن الحسن. ويقول: "وكان أبو علي يقول: لما هممت بقراءة رسالة في هذا الكتاب على محمد بن الحسن قال لي: يا أبا علي لا تقرأ هذا الموضوع علي، فأنت أعلم به مني" وانظر اللسان "روى". وتذكر الأروى في المعاجم في "روى".
4 في أ، ج: "ءرو"، وما أثبتناه هو الموافق لما يقضي به الرسم. وفي ش، ب: "عرو". وهو تحريف منشؤه الرسم "ءرو" فظن أن الهمزة عين فوصلت بالراء.(1/256)
ياء ولامه واو فلا بد أن تكون الواو بدلا من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء, ولمعنى العلمية في حيوة. وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت وهاهيت وعاعيت كان إبدال اللام في الحيوان -ليختلف الحرفان- أولى وأحجى.
فإن قلت: فهلا حملت الحيوان على ظاهره وإن لم يكن له نظير كما حملت سيدًا على ظاهره وإن لم تعرف تركيب "س ي د " قيل: ما عينه ياء كثر وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلًا من الكلام. فلهذا أثبتنا سيدًا1 ونفينا " ظاهر أمر"2 الحيوان.
وكذلك القول في نون عنتر وعنبر: ينبغي أن تكون أصلا وإن كان قد جاء عنهم نحو عنبس وعنسل لأن أذنيك أخرجهما الاشتقاق. وأما عنتر وعنبر, وخَنشَلت وحِنزَقر3، وحِنبَتر3، ونحو ذلك فلا اشتقاق يحكم له بكون شيء منه زائدًا فلا بد من القضية بكونه كله أصلا. فاعرف ذلك واكتف به بإذن الله تعالى.
باب في مراتب الأشياء وتنزيلها تقديرًا وحكمًا لا زمانًا ووقتًا:
هذا الموضع كثير الإيهام4 لأكثر من يسمعه لا5 حقيقة تحته. وذلك كقولنا: الأصل في قام قوم وفي باع بيع وفي طال طول وفي خاف ونام وهاب: خوف ونوم وهيب وفي شد شدد وفي استقام استقوم وفي يستعين يستعون،
__________
1 كذا والمناسب: "س ي د".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "ظاهرا من".
3 "خنشلت" في أ، ويقال: خنشل الرجل: أسن وضعف، والحنزقر: القصير. والحنبر: الشدة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "الإيهام" وما أثبته هو الصواب. ومن كلامه بعد: "فهذا يوهم ... ".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "مالا".(1/257)
وفي يستعد يستعدد. فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها -مما يدعي أن له أصلًا يخالف ظاهر لفظه- قد كان مرة يقال حتى إنهم كانوا يقولون في موضع قام زيد: قوَم زيد وكذلك نوِم جعفر وطَوُلَ محمد وشدَد أخوك يده واستعدد الأمير لعدوه وليس الأمر كذلك بل بضده. وذلك أنه لم يكن قط مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه.
وإنما معنى قولنا: إنه كان أصله كذا: أنه لو جاء مجيء الصحيح1 ولم يعلل لوجب أن يكون مجيئه "على ما ذكرنا "2. فأما أن يكون استعمل وقتًا من الزمان كذلك ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر.
ويدل على أن ذلك عند العرب معتقد "كما أنه عندنا مراد معتقد"3 إخراجها بعض ذلك مع الضرورة، على الحد الذي نتصوره نحن فيه. وذلك قوله:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم4
هذا يدلك على أن أصل أقام أقوم وهو الذي نوميء نحن إليه ونتخيله فرب حرف يخرج هكذا منبهة على أصل بابه ولعله إنما أخرج على أصله فتُجشم ذلك فيه لما يعقب من الدلالة على أولية أحوال أمثاله.
وكذلك قوله 5:
أني أجود لأقوام وإن ضننوا
__________
1 يريد بالصحيح ما لم يحدث فيه تغيير، وبمقابله ما حدث فيه تغيير، أو ما يدعى أن له أصلا يخالف ظاهر لفظه كما في عبارته. فشد ليس من الصحيح في هذا الموطن.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "كذلك".
3 هذه الزيادة في أ، ج. وقد سقطت في ش، ب.
4 انظر الكلام على هذا البيت في ص149 من هذا الجزء.
5 انظر ص17 من هذا الجزء.(1/258)
فأنت تعلم بهذا أن أصل شلت يده شلِلَت: أي لو جاء مجيء الصحيح لوجب فيه إظهار تضعيفه. وقد قال الفرزدق:
ولو رضيت يداي بها وضنت ... لكان علي في القدر الخيار1
"فأصل ضنت إذًا ضنِنَت بدلالة قوله: ضِننوا ".
وكذلك قوله 2:
تراه وقد فات الرماة كأنه ... أمام الكلاب مُصغِي الخد أصلم3
تعلم منه أن أصل قولك: هذا معطي زيد. معطيُ زيد.
__________
1 يقول ذلك في امرأته نوار وكان طلقها ثم تبعتها نفسه وندم على طلاقها، وأفرد الضمير في ضنت وهو يعود على اليدين لما كانتا متلازمتين. يقول: لو بقيت نوار مدى لظللت الكا أمرها فكان علي أن أختار في المقدر لها عن الإمساك أو التسريح، ولكنها أفلتت من يدي، فليس لي عليها خيار. وقد أورد أبو العباس في الكامل قصة الفرزدق، وذكر أبياتا فيها هذا البيت برواية أخرى وهي:
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
وكذا أورده بهذه الرواية المرزوقي في الأزمنة والأمكنة وقال: المعنى: لو ملكت أمري لكان علي أن أختار للقدر، ولم يكن علي القدر أن يختار لي. وانظر الكامل 2/ 84 ومعجم الأدباء في ترجمة المازني 7/ 126 طبعة الحلبي.
2 هو أبو خراش. وهو من قصيدة مطلعها البيت:
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع
وانظر ص58، من هذا الجزء.
3 الضمير في "تراه" يرجع إلى تيس الربل -وهو الظبي- المذكور في قوله قبل:
فوالله ما ربداء أو علج عانة ... أنب وما إن تيس ربل مصمم
وأصلم: مقطوع الأذنين. يقول: إن هذا الظبي في عدوه الشديد يميل خده ويصغيه، ويخفض أذنيه فكأنه أصلم: قطعت أذناه. وقد قرأ ابن جني "مصغى الخد" برفع "مصغى" خبرا لـ"كأنه". والذي في تعليقات ديوان الهذليين 4/ 143 أنه بالنصب على الحالية. وعلى ذلك لا يأتي ما يريد ابن جني الاستشهاد به.(1/259)
ومن أدل الدليل على أن هذه الأشياء التي ندعي1 أنها أصول مرفوضة لا يعتقد2 أنها قد كانت مرة مستعملة ثم صارت من بعد مهملة ما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذره. وذلك كقولنا في شرح حال الممدود غير المهموز الأصل نحو سماء وقضاء. ألا ترى أن الأصل سماوٌ وقضايٌ, فلما وقعت الواو والياء طرفًا بعد ألف زائدة قلبتا ألفين فصار التقدير بهما إلى سماا وقضاا فلما التقت الألفان تحركت الثانية "منهما"3 فانقلبت همزة, فصار ذلك إلى سماء وقضاء. أفلا تعلم أن أحد ما قدرته -وهو التقاء الألفين- لا قدرة لأحد على النطق به.
" وكذلك"4 ما نتصوره وننبه عليه أبدًا من تقدير "مفعول" مما عينه أحد حرفي العلة وذلك نحو مبيع ومكيل ومقول ومصوغ ألا تعلم أن الأصل مبيوع, ومكيول ومقوول ومصووغ فنقلت الضمة من العين إلى الفاء فسكنت, وواو5 مفعول بعدها ساكنة فحذفت إحداهما -على الخلاف فيهما- لالتقاء الساكنين. فهذا جمع لهما تقديرًا وحكمًا. فأما أن يمكن النطق بهما على حال فلا.
واعلم مع هذا أن بعض ما ندعي أصليته من هذا الفن قد ينطق به على ما ندعيه من حاله -وهو أقوى الأدلة على صحة ما نعتقده من تصور الأحوال الأول- وذلك اللغتان تختلف فيهما القبيلتان كالحجازية والتميمية ألا ترى أنا نقول في الأمر من المضاعف في التميمية - نحو شُدّ وضَنّ وفِرّ واستَعِدّ واصطبّ6
__________
1 كذا بالنون في أ، ب. وفي ش: "تدعى" بالتاء.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "نعتقد".
3 زيادة في ش، ب خلت منها أ.
4 كذا في أ، ج: وفي ش، ب: "فكذلك".
5 كذا في أ. وفي ش، ب سقطت الواو.
6 يقال: اصطب من القربة ماء: صبه منها ليشربه.(1/260)
يا رجل, واطمئنّ يا غلام: إن الأصل اشدُد, واضنَن, وافرِر, واستعدِد, واصطبِب واطمأنِن ومع هذا فهكذا1 لغة أهل الحجاز وهي اللغة الفصحى القدمى. ويؤكد ذلك قول الله سبحانه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أصله2 استطاعوا فحذفت التاء لكثرة الاستعمال ولقرب التاء من الطاء وهذا الأصل مستعمل ألا ترى أن عقيبه قوله تعالى {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} . وفيه لغة أخرى؛ وهي: استعت بحذف الطاء كحذف التاء ولغة ثالثة: أسطعت بقطع الهمزة مفتوحة ولغة رابعة: أستعت مقطوعة الهمزة مفتوحة أيضًا. فتلك خمس لغات: استطعت واسطعت واستعت وأسطعت وأستعت. وروينا بيت الجران3:
وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مرارًا فما نستيع من يتعجرف4
بضم حرف المضارعة وبالتاء.
ومن ذلك اسم المفعول من الثلاثي المعتل العين نحو مبيع ومخيط ورجل مدين من الدين. فهذا كله مغير. وأصله مبيوع ومديون ومخيوط, فغير على ما مضى. ومع ذلك فبنو تميم -على ما حكاه أبو عثمان5 عن الأصمعي- يتمون مفعولا من الياء فيقولون: مخيوط ومكيول؛ قال6:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فكذا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "وأصله".
3 هو جران العود النميري، وهذا لقبه. واسمه عامر بن الحارث بن كلفة.
4 هذا من قول من يتغزل فيها له. تقول: إنك تلقانا بالجفاء، وهذا شديد علينا يصف مكانته عندها، والعجرفية: الجفوة في الكلام. والبيت من قصيدة له طويلة. وانظر الديوان 17.
5 عبارة المازني في تصريفه 260 نسخة التيمورية: "وبنو تميم -فيما زعم علماؤنا- يتمون مفعولا من الياء، فيقولون: مبيوع ومسيور به، وفي ص263 بعد أن أورد من الشواهد "مطيوبة" و"مغيوم" يقول: "أخبرني أبو زيد أن تميما تقول ذلك، ورواه الخليل وسيبويه، ترى أن أبا عثمان لم يرو هذه اللغة عن الأصمعي. بلى روى الشاهد الآتي عن الأصمعي، وهو الذي فيه "مطبوبة" على ما يأتي في الكلام على الشواهد الآتية.
6 هو العباس بن مرداس السلمي يخاطب كليب بن عييمة السلمي في قصة جرت بينهما. وانظر شرح شواهد الشافية للبغدادي 387.(1/261)
قد كان قومك يزعمونك سيدًا ... وإخال أنك سيد معيون1
وأنشد أبو عمرو بن العلاء 2:
وكأنها تفاحة مطيوبة
وقال علقمة بن عبدة:
يوم رذاذٍ عليه الدجن مغيوم3
ويروى: يومٌ رذاذٌ.
وربما تخطوا الياء في هذه إلى الواو وأخرجوا مفعولا منها على أصله وإن كان "أثقل منه من"4 الياء. وذلك قول بعضهم: ثوب مصوون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه. وأنشدوا فيه:
والمسك في5 عنبره مدووف
ولهذا نظائر كثيرة؛ إلا أن هذا سمتها وطريقها 6.
فقد ثبت بذلك أن هذه الأصول المومأ إليها على أضرب:
منها ما لا يمكن النطق به أصلا؛ نحو ما اجتمع فيه ساكنان؛ كسماء, ومبيع, ومصوغ, ونحو ذلك.
__________
1 معيون: مصاب بالعين. ويروى: مغبون من قولهم: غبن على قلبه أي غطي عليه؛ فيكون الأصل: مغبون عليه؛ وجرى فيه الحذف والإيصال. وانظر المصدر السابق.
2 في تصريف المازني مع شرحه المنصف 1/ 263 نسخة تيمور: قال أبو عثمان: وسمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو بن العلاء، يقول: سمعت في شعر العرب:
وكأنها تفاحة مطيوبة
3 صدره:
حتى تذكر بيضات وهيجه
وهو في وصف الظليم. وهو من قصيدة طويلة مفضلية.
4 كذا في أ. وفي ب: "يقل منه في" وفي ش: "يقل في" وفي ج: "أنقل من".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "من". وانظر ص99 من هذا الجزء في التعليقة 8.
6 كذا في أ. وفي ش: "طريقتها".(1/262)
ومنها ما يمكن النطق به غير أن فيه من الاستثقال ما دعا إلى رفضه واطراحه إلا أن يشذ الشيء القليل منه فيخرج على أصله منبهة ودليلًا على أولية حاله كقولهم: لححت عينه وألِل السقاء إذا تغيرت ريحه وكقوله 1:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطَّلب
ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الياء في نحو موسر وموقن والواو في نحو ميزان وميعاد وامتناعهم من إخراج افتعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه صادًا أو ضادًا أو طاء أو ظاء أو دالًا أو ذالًا أو زايًا على أصله وامتناعهم من تصحيح الياء والواو إذا وقعتا طرفين بعد ألف زائدة وامتناعهم من جمع الهمزتين في كلمة واحدة ملتقيتين غير عينين 2. فكل هذا وغيره مما يكثر تعداده يمتنع منه استكراهًا للكلفة فيه وإن كان النطق به ممكنًا غير متعذر.
وحدثنا أبو علي رحمه الله فيما حكاه -أظنه-3 عن خلف الأحمر: قال: يقال التقطت النوى، واشتقطته4، واضتقطته 5. فصحح تاء افتعل وفاؤه ضاد ونظائره -مما يمكن النطق به إلا أنه رفض استثقالًا له- كثيرة. قال أبو الفتح: ينبغي
__________
1 هو ابن قيس الرقيات. وانظر المفصل في مبحث "الواو والياء لا مين" في أواخر الكتاب، والكتاب 2/ 59، والمحتسب في سورة البقرة، والديوان 68. ورواية الديوان: "في الغواني قما" بسكون الياء، ولا شاهد فيه. وفي شرح السكري: "روى الخليل: "في الغواني هل" جعل مثل الضوارب، أخرج ذوات الياء مخرج التمام فأعربه".
2 يقصد بذلك الاحتراز عن نحو ساَّل وراَّس.
3 جزم بأنه عن خلف في مواطن أخرى من هذا الكتاب. وانظر "باب فيما يراجع من الأصول مما لا يراجع" فيما يأتي.
4 كذا في أوج. وفي ش، ب: "استقطته". وهو تحريف.
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "اصطفته". وهو تحريف.(1/263)
أن تكون الضاد في اضتقطت بدلا من شين اشتقطت فلذلك ظهرت كما تصح التاء مع الشين. ونظيره قوله 1:
مال إلى أرطاة حقف فالطجع2
اللام بدل من الضاد، فلذلك أقرت الطاء بدلا من التاء، وجعل ذلك دليلا على البدل.
ومنها ما يمكن النطق به إلا أنه لم يستعمل لا لثقله لكن لغير ذلك: من التعويض منه أو لأن الصنعة أدت إلى رفضه. وذلك نحو "أن " مع الفعل إذا كان جوابًا للأمر والنهي وتلك الأماكن السبعة نحو اذهب فيذهب معك {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وذلك أنهم عوضوا من "أن " الناصبة حرف العطف "وكذلك"3 قولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك وقوله 4:
............................ إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا5
__________
1 ينسب هذا الرجز إلى منظور بن حبة الأسدي. انظر شواهد الشافية للبغدادي 216.
2 قبله:
يا رب أباز من المفر صدع ... تقبض الذئب إليه واجتمع
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
والأباز يريد به الظبي، والأباز: الوثاب، والصدع: الخفيف اللحم، والعفر من الظباء: التي تعطو ألوانها حمرة. وقوله: "لما رأى" أي الذئب. وقوله "تقبض" أي جمع قوائمه ليثب على الظبي، يريد أنه لما رأى أنه لا يدرك الظبي فيشبع من لحمه، وأنه قد تعب في طلبه عمد إلى أرطاة فاضطجع عندها. والرجز في شواهد الإصلاح، وفي شرح ابن السيرافي لشواهده في الورقة 90 ب. وانظر ص64 من هذا الجزء.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فكذلك".
4 هو امرؤ القيس بن حجر.
5 صدره:
فقلت له لا تبك عينك ...
وانظر الديوان.(1/264)
صارت أو "والواو"1 فيه عوضًا من "أن " وكذلك الواو التي تحذف "معها رب"2 في أكثر الأمر نحو قوله 3:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق4
غير أن الجر لرب لا للواو, كما أن النصب في الفعل إنما هو لأن المضمرة, لا للفاء ولا للواو ولا " لأو".
ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره مصدرًا كان أو غيره؛ نحو ضربًا زيدًا وشتمًا عمرًا. وكذلك دونك زيدًا وعندك جعفرًا, ونحو ذلك: من الأسماء المسمى بها الفعل. فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب.
ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة نحو قولك إذا رأيت قادمًا: خير مقدم أي قدمت خير مقدم. فنابت5 الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب. وكذلك قولك للرجل يهوي بالسيف ليضرب به: عمرًا وللرامي للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتًا القرطاس والله: أي اضرب عمرًا, وأصاب القرطاس.
فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه ومؤد تأديته. وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم "بالتعاقب " من هذا النحو ما فيه كاف بإذن الله تعالى.
__________
1 كذا في ش، وب. وفي أ "صارت الواو فيه عوضا" وفي ج: "صارت هذه الحروف".
2 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "مع رب" ولا يستقيم الكلام مع هذا.
3 هو رؤبة بن العجاج.
4 هو مطلع أرجوزة. وبعده:
مشتبه الأعلام لماع الخفق
وانظر الخزانة 1/ 38.
5 كذلك في ج. وفي أ، ب، ش: "ونابت".(1/265)
باب في فرق 1 بين البدل 2 والعوض 3:
جماع ما في هذا أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه " وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه والعوض لا يلزم فيه ذلك ألا تراك تقول في الألف من قام: إنها بدل من الواو التي هي عين الفعل ولا تقول فيها: إنها عوض منها وكذلك يقال في واو جُوَن وياء مِيَر: إنها بدل للتخفيف من همزة جؤن3 ومئر ولا تقول: إنها عوض منها. وكذلك تقول في لام غاز وداع: إنها بدل من الواو ولا تقول: إنها عوض منها. وتقول في العوض: إن التاء في عدة, وزنة عوض من فاء الفعل ولا تقول: إنها بدل من منها. فإن قلت: ذاك فما أقله! وهو تجوز في العبارة. وسنذكر لم ذلك. وتقول في ميم " اللهم": إنها عوض من " يا" في أوله ولا تقول: بدل. وتقول في تاء زنادقة: إنها عوض4 من ياء زناديق ولا تقول: بدل. وتقول في ياء "أينق ": إنها عوض من عين "أنوق " فيمن جعلها أيفل ومن جعلها عينًا مقدمة مغيرة إلى الياء جعلها بدلا من الواو.
فالبدل أعم تصرفًا من العوض. فكل عوض بدل وليس كل بدل عوضًا. وينبغي أن تعلم أن العوض من لفظ " عَوضُ " -وهو الدهر- ومعناه؛ قال الأعشى 5:
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق6
والتقؤهما أن الدهر إنما هو مرور الليل والنهار وتصرم أجزائهما فكلما مضى جزء منه خلفه جزء آخر يكون عوضًا منه. فالوقت الكائن الثاني غير الوقت الماضي الأول. فلهذا كان العوض أشد مخالفة للمعوض منه من البدل.
وقد ذكرت في موضع من كلامي مفرد اشتقاق أسماء الدهر والزمان وتقصيته هناك. وأتيت أيضًا في كتابي الموسوم ب "التعاقب " على كثير من هذا الباب ونهجت الطريق إلى ما أذكره بما نبهت به عليه.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الفرق".
2 كذا في أ. وفي ب، ش: "البدل والمبدل منه والعوض المعوض منه".
3 "جؤن" جمع جؤنة بالضم. وهي سلة مستديرة مغشاة أدما. تكون مع العطارين. و"سئر" جمع سرة. بالكسر وهي الذحل والعداوة.
4 قال ابن جني في كتاب التعاقب "فإن قلت: فلعل الهاء في "زنادقة" و"جحاجحة" لتأنيث الجمع، كهاء ملائكة وصياقلة، فلا تكون عوضا، قلنا: لم تأت الهاء لتأنيث الجمع في مثال مفاعيل؛ إنما جاءت في مثال مفاعلة، نحو ملائكة" من أشباه السيوطي 1/ 136.
5 كذا في ش، ب. وسقط "الأعشى" في أ.
6 قبله:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
وهو من قصيدته التي مطلعها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
انظر ديوان الأعشى طبع أوروبا 145 والخزانة 3/ 209 و"ليان" بالتنوين، و"ثدي" روي بالجر على البدلية، والنصب على تقدير "أعني"، أو غيره. وانظر الخزانة في الموطن السابق.(1/266)
باب في 1 الاستغناء بالشيء عن الشيء:
قال سيبويه: واعلم2 أن العرب قد تستغني بالشيء "عن الشيء"3 حتى يصير المستغنى عنه مسقطًا من كلامهم البتة.
فمن ذلك استغناؤهم بترك عن "ودع " و "وذر ". فأما قراءة بعضهم "ما ودَعك ربك وما قلى " وقول أبي الأسود4 " حتى وَدَعه " فلغة شاذة وقد تقدم القول5 عليها.
__________
1 كذا في أ. وسقط هذا الحرف في ش، ب.
2 كذا في ش، ب. وسقط حرف العطف في أ.
3 كذا في أ، ب. وسقط هذا في ش. وانظر في هذا 2/ 191، 251 من الكتاب.
4 الصواب أنه قول أنيس بن زنيم في عبيد الله بن زياد. وهاك البيت بتمامه:
سل أميري ما الذي غيره ... عن وصالي اليوم حتى ودعه
وفي الحماسة البصرية نسبته إلى عبد الله بن كريز. وانظر الخزانة 3/ 121.
5 انظر ص100 من هذا الجزء.(1/267)
ومن ذلك استغناؤهم بلمحة عن ملمحة وعليها كسرت ملامح وبشبه عن مشبه وعليه جاء مشابه وبليلة عن ليلاة وعليها جاءت ليال وعلى أن ابن الأعرابي قد أنشد:
في كل يوم ما وكل ليلاه ... حتى يقول كل راء إذ1 راه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
وهذا شاذ لم يسمع إلا من هذه الجهة. وكذلك استغنوا بذكر عن مذكار أو مذكير وعليه جاء مذاكير. وكذلك استغنوا بـ"أينق " عن أن يأتوا به والعين في موضعها فألزموه القلب أو الإبدال فلم يقولوا " أنوق" إلا في شيء شاذ حكاه الفراء. وكذلك1 استغنوا بقسي عن قووس فلم يأت إلا مقلوبًا. ومن ذلك استغناؤهم بجمع القلة عن جمع الكثرة نحو قولهم أرجل لم يأتوا فيه بجمع الكثرة. وكذلك شسوع: لم يأتوا فيه بجمع القلة. وكذلك أيام: لم يستعملوا فيه جمع الكثرة. فأما جيران فقد أتوا فيه بمثال القلة أنشد الأصمعي:
مذمة الأجوار والحقوق3
وذكره أيضًا ابن الأعرابي فيما أحسب. فأما دراهم, ودنانير, ونحو ذلك -من الرباعي وما ألحق به- فلا سبيل فيه إلى جمع القلة. وكذلك4 اليد التي هي العضو قالوا فيها أيد البتة. فأما أياد فتكسير أيد لا تكسير يد وعلى أن "أياد " أكثر ما تستعمل في النعم لا في الأعضاء. وقد جاءت أيضًا فيها أنشد أبو الخطاب:
ساءها ما تأملت في أياديـ ... ـنا وإشناقُها إلى الأعناق5
__________
1 ثبت لفظ "إذ" في أ، ج. وسقط في ش، ب.
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "فكذلك".
3 "مذمة" كذا بالمعجمة في ش، ج. وفي أ: "مدمة" بالمهملة.
4 كذا في أ، وفي ش، ب: "فكذلك".
5 نسبة في اللسان في "شنق" إلى عدي -وهو عدي بن زيد كما في التاج والسيرافي في شرح سيبويه- وكان يبدو لي أنه عدي المهلهل من قصيدته التي يقول فيها:
طفلة ما أبنة المحلل هيفا ... ء لعوب لذيذة في العناق
وانظر الأغاني 5/ 54 طبع الدار، حتى رأيته في قصيدة عدي بن زيد في الأغاني 2/ 116. وإشتاقها إلى الأعناق رفعها إلى العنق بالغل. يذكر أنه كان الغل في يده مرفوعة إلى عنقه وكان كذلك في جمع من أصحابه فساءها ذلك. وانظر الخزانة 3/ 348.(1/268)
وأنشد أبو زيد 1:
أما واحدًا فكفاك مثلي ... فمن ليد تطاوحها الأيادي2
ومن أبيات3 المعاني في ذلك "قوله"4:
ومستامة تستام وهي رخيصة ... تباع بساحات الأيادي وتمسح5
"مستامة " يعني أرضًا تسوم فيها الإبل، من السير6 لا من السوم الذي هو البيع و "تباع " أي تمد فيها الإبل أبواعها وأيديها و " تمسح " من المسح وهو القطع من قول الله تبارك وتعالى: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} وقال العجاج:
وخطرت فيه الأيادي وخطر ... رايٌ إذا أورده الطعن صدر7
__________
1 انظر نوادره ص56، وقد نسبه إلى نفيع: رجل من عبد شمس جاهلي.
2 ورد في اللسان في طوح وفي "يدي". وفيه: "أيادي" وما هنا في النوادر. وتطارحها: تراميها يقول: إني أكفيك واحدا يعدو عليك. فأما إذا رامتك أياد فلا طاقة لي بذلك.
3 أبيات المعافى: ما يخالف ظاهره باطنه، فهي ما فيها تعمية وإلغاز عن المراد. وانظر شفاء الغليل "حرف الألف". وقد ألف في أبيات المعاني كتب, أشهر ما طبع منها كتاب المعاني الكبير لابن قتيبة. وقد طبع في الهند. وانظر أيضًا الخزانة 3/ 81.
4 زيادة في أ.
5 نسب هذا البيت في اللسان "مسح، وباع، وسام" إلى ذي الرمة، ويبدو أن هذا اشتباه، سببه أنه على روي قصيدة لذي الرمة أولها:
أمنزلي ميّ سلام عليكما ... على النأي والنائي يود وينصح
وليس هذا البيت في القصيدة. وقد أورده جامع الديوان المطبوع في أوروبا في ذيل الديوان في المفردات التي حملت على ذي الرمة.
6 كذا في اللسان "بوع"، وهو يريد: من السوم الذي هو السير، يقال: سامت الناقة: مرت سريعة، وكذا الريح. وفي اللسان "سوم": "من السوم الذي هو الرعي".
7 جاء هذا في الكتاب 1/ 189 والرواية فيه:
وخطرت أيدي الكملة وخطر
وهو من أرجوزة يمدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر. وقبله.
أليس يمشي قدما إذا ادكر ... ما وعد الصابر في اليوم اصطبر
إذ لقح اليوم العماس واقمطر
واليوم العماس: الشديد، يريد يوم الحرب. واقمطر: صعب واشتد. والراي: جمع راية. يقول إنه يدخل الحرب قدما غير هياب، يبتغي ما وعد الله الصابرين في الجهاد. وقوله: خطرت أيدي الكماة أي تحركت أيديهم في القتال، وخطرت الرايات يوردها الطعن فتصدر راويات بدم الأعداء. وقد جاء الشاهد في ديوان الأعشى المطبوع في أوروبا فيما حمل على الأعشى ميمون بن قيس.(1/269)
وقال الراجز 1:
كأنه بالصحصحان الأنجل ... قطنٌ سخامٌ بأيادي غُزَّل2
ومن ذلك استغناؤهم بقولهم: ما أجود جوابه عن "هو أفعل منك 3" من الجواب. فأما قولهم: ما أشد سواده وبياضه وعوره وحوله فما لا بد منه. ومنه أيضًا استغناؤهم باشتد وافتقر عن قولهم: فقر وشد. وعليه جاء فقير. فأما شد فحكاها أبو زيد في المصادر ولم يحكها سيبويه. ومن ذلك استغناؤهم عن الأصل مجردًا من الزيادة بما استعمل منه حاملًا للزيادة وهو صدر صالح من اللغة. وذلك قولهم " حوشب "4 هذا لم يستعمل منه "حشب " عارية من الواو الزائدة ومثله "كوكب " ألا ترى أنك لا تعرف في الكلام " حشب " عاريًا من الزيادة ولا "ككب " ومنه قولهم "دَودَرَّي " لأنا لا نعرف "ددر " ومثله كثير في ذوات الأربعة 5. وهو في الخمسة أكثر منه في الأربعة. فمن الأربعة فلنقس6، وصرنفخ7، وسميدع8، وعميثل9، وسرومط10، وجحجبي11، وقسقبّ12، وقسحبّ13، وهرشفّ14. ومن
__________
1 هو جندل بن المثنى الطهوي كما في اللسان في "سحم".
2 هذا في وصف سراب ذكره في قوله قبله:
والآل في كل مراد هو جل
فقوله "كأنه" أي الآل. والصحصحان: ما استوى من الأرض. والأنجل: الواسع. والسخام من القطن: اللين.
3 يبدو أن الكلام سقطا والأصل فيه:
"استغناؤهم بقولهم: ما أجود جوابه عن قولهم: ما أجوبه، وبقولهم: أنت أجود جوابا عن هو أفعل منك من الجواب".
4 انظر في حوشب وما بعده ص254 من هذا الجزء.
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش "الأربع".
6 هو البخيل الرديء.
7 هو الصياح.
8 هو السيد الكريم.
9 من معانيه النشيط.
10 هو الجمل الطويل.
11 حي من الأنصار.
12 هو الضخم.
13 وهو الضحم أيضا.
14 من معانيه الكبير المهزول والعجوز المسنة.(1/270)
ذوات الخمسة جعفليق1، وحنبريت1، ودردبيس، وعضرفوط1، وقرطبوس1، وقرعبلانة2، وفنجليس 3. فأما عرطليل4 -وهو رباعي- فقد استعمل بغير زيادة قال أبو النجم:
في سرطم هادٍ وعنقٍ عرطل5
وكذلك خنشليل ألا ترى إلى قولهم: خنشلت المرأة والفرس إذا أسنت وكذلك عنتريس ألا ترى أنه من العترسة وهي الشدة. فأما قِنفَخر6 فإن النون فيه زائدة. وقد حذفت -لعمري- في قولهم: امرأة قفاخرية إذا كانت فائقة في معناها غير أنك وإن كنت قد حذفت النون فإنك قد صرت إلى زيادة أخرى خلفتها وشغلت الأصل شغلها وهي الألف وياء الإضافة. فأما تاء التأنيث فغير معتدة. وأما حيزبون7 فرباعي لزمته زيادة الواو. فإن قلت: فهلا جعلته ثلاثيًا من لفظ "الحزب"؟ قيل يفسد هذا أن النون في موضع زاي عيضموز7، فيجب لذلك أن تكون أصلًا كجيم "خيسفوج "8 وأما "عريقصان "9 فتناوبته زيادتان وهما الياء في عريقصان والنون في "عرنقصان " كلاهما يقال10 بالنون
__________
1 انظر ص237 من هذا الجزء.
2 هي دويبة عريضة عظيمة البطن.
3 هي الكمرة العظيمة.
4 هو الطويل.
5 قبله:
يأوي إلى ملط له وكلكل
وهو في وصف بعير السانية الذي يستقي عليه. والملط جمع ملاط وهو الجنب، والسرطم: الطويل، والهادي "العنق، ويكون قوله: "وعنق هرطل" من عطف المرادف. والرواية في الظرائف الأدبية:
وكاهل ضخم وعنق عرطل
6 هو التار الناعم الضخم الجثة.
7 هي العجوز.
8 هو حب القطن والخشب البالي.
9 هو من النبات.
10 كذا في ش، ب. وفي أ: "يقالان".(1/271)
والياء. وأما "عِزويت "1 فمن لفظ "عزوت " لأنه "فِعليت " والواو لام. وأما " قنديل" فكذلك أيضًا ألا ترى إلى قول العجلي 2:
رُكب في ضخم الذفاري قندل3
وأما عَلَندى4 فتناهبته الزوائد. وذلك أنهم قد قالوا فيه: عِلوَدٌ وعُلادى وعُلَندًى وعَلَندًى ألا تراه غير منفك من الزيادة.
ولزوم الزيادة لما لزمته من الأصول يضعف5 تحقير الترخيم؛ لأن فيه حذفًا للزوائد. وبإزاء ذلك ما حذف من الأصول كلام يد ودم وأب وأخ وعين سهٍ ومذ وفاء عدة وزنة وناس والله في أقوى قولي6 سيبويه. فإذا جاز حذف الأصول فيما أرينا وغيره كان حذف الزوائد التي ليست لها حرمة الأصول أحجى وأحرى.
وأجاز أبو الحسن أظننت زيدًا عمرًا عاقلا ونحو ذلك وامتنع منه أبو عثمان وقال: استغنت العرب عن ذلك بقولهم: جعلته يظنه عاقلا.
ومن ذلك استغناؤهم بواحد عن اثنٍ وباثنين عن واحدين وبستة عن ثلاثتين وبعشرة عن خمستين وبعشرين عن عشرتين ونحو ذلك.
__________
1 انظر ص198 من هذا الجزء.
2 هو أبو النجم.
3 صدره كما في اللسان "فندل":
هدي بنا كل نياف عندل
يهدي: يتقدم. والنياف يريد جملا طويلا في ارتفاع، والعندل: الطويل، والقندل: العظيم الرأس. وفي الطرائف الأدبية ركب الشطر الشاهد مع غير الشطر السابق.
4 هو البعير الضخم الشديد.
5 انظر ص237 من هذا الجزء.
6 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "قول" وانظر في هذا ص237 من هذا الجزء.(1/272)
باب في عكس التقدير:
هذا موضع من العربية غريب. وذلك أن تعتقد في أمر من الأمور حكمًا ما وقتامًا ثم تحور1 في ذلك الشيء عينه في وقت آخر فتعتقد فيه حكمًا آخر.
من ذلك الحكاية عن أبي عبيدة 2. وهو قوله: ما رأيت أطرف3 من أمر النحويين؛ يقولون: إن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث وهم يقولون "علقاة " وقد قال العجاج:
فكر في علقي وفي مكور4
يريد أبو عبيدة أنه قال: "في علقي " فلم يصرف التأنيث ثم قالوا مع هذا "علقاة " أي فألحقوا تاء التأنيث ألفه. قال أبو عثمان 5: كان أبو عبيدة أجفى من أن يعرف هذا. وذلك أن من قال "علقاة " فالألف عنده للإلحاق بباب جعفر كألف "أرطى " فإذا نزع الهاء أحال اعتقاده الأول عما كان عليه وجعل الألف للتأنيث فيما بعد فيجعلها للإلحاق مع تاء التأنيث وللتأنيث إذا فقد التاء. ولهذا نظائر. هي قولهم 6: بُهمي7 وبُهماة وشكاعى8 وشكاعاة، وباقلى وباقلاة ونقاوى9، ونقاواة،
__________
1 أي ترجع. وهو هكذا في أ، ب. وفي ج: "تجوز" وكذا هو في ش فيما يبدو للقارئ، وهو تحريف.
2 كذا في الأصول ما عدا ش ففيها: "عبيد" وهو خطأه وما أثبت هو الصواب.
3 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "أظرف".
4 هذا في وصف الثور الوحشي الذي شبه به ناقته. ويروى: "فحط" بدل "فكر" ويروى أيضا بدلهما "يستن" أي يرعى في العلقى وفي المكور، وهي جمع مكر -كضرب- وهو ضرب من النبات، كالعلقى. وانظر أراجيز العرب 92 وديوان العجاج والكتاب 2/ 9 وشرح شاهد الشافية للبغدادي 417.
5 انظر الكشاف في سورة المؤمن عند قوله تعالى: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} والجار بردي على الشافية 315.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "هو".
7 هو ضرب من النبات من خير المراعي. ولا يثبت سيبويه بهماة ألف بهمى عنده للتأنيث وانظر الكتاب 2/ 9.
8 من دق النبات يتداوى بها.
9 ضرب من النبات له زهر أحمر. وقوله: "نقاوى ونقاواة" بالنون كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "تفاوى وتقاواة". وهو تحريف.(1/273)
وسمانى1 وسماناة. ومثل ذلك من الممدود قولهم: طرفاء وطرفاءة وقصباء وقصباءة وحلفاء وحلفاءة وباقلاء وباقلاءة. فمن قال: "طرفاء " فالهمزة عنده للتأنيث ومن قال: "طرفاءة " فالتاء عنده للتأنيث وأما الهمزة على قوله فزيادة لغير التأنيث. وأقوى القولين فيها عندي أن تكون همزة مرتجلة غير منقلبة لأنها إذا كانت منقلبة في هذا المثال فإنها عن ألف التأنيث لا غير نحو صحراء وصلفاء2، وخبراء3، والحرشاء4. وقد يجوز أن تكون منقلبة عن حرف لغير الإلحاق فتكون -في الانقلاب لا في الإلحاق- كألف علباء وحرباء. وهذا مما يؤكد عندك حال الهاء ألا ترى أنها إذا لحقت اعتقدت فيما قبلها حكمًا ما فإن لم تلحق حار5 الحكم إلى غيره. ونحو6 منه قولهم: الصفنة7، والصفن، والرضاع8، والرضاعة وهو صفو الشيء وصفوته9، وله نظائر قد ذكرت ومنه البرك10، والبركة للصدر.
ومن ذلك قولنا: كان11 يقوم زيد ونحن نعتقد رفع "زيد " بـ "كان " ويكون "يقوم " خبرًا مقدمًا عليه. فإن قيل: ألا تعلم أن "كان " إنما تدخل على الكلام الذي كان قبلها
__________
1 هو ضرب من الطيور.
2 هي المكان الغليظ الجلد.
3 هو القاع ينبت السدر.
4 يقال أفعى حرشاء: خشنة الجلد.
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "جاز".
6 يريد أن هذه الكلمات فيها مذكر ومؤنث ومدلولهما واحد. فالصفنة مؤنث والصفن مذكر، فهذا كعلقى: يكون مؤنثا فيمنع الصرف، ومذكرا فيصرف، والمعنى واحد.
7 هي وءاء الخصية، وكذلك الصفن بسكون الفاء وفتحها. وقد ضبط "الصفن" في أبفتح الفاء.
8 بفتح الراء وكسرها في الرضاع والرضاعة.
9 بتثليث الصاد.
10 البرك بالفتح والبركة بالكسر. وكلاهما صدر البعير.
11 من النحو بين لا يجيز هذه المسألة ويجعل المنع عاما ويقول أبو حيان في البحر 5/ 109: "مسألة كان يقوم زيد على أن زيد اسم كان فيها خلاف والصحيح المنع" وقد حمل المجيز لها قوله تعالى في آخر سورة التوبة "من بعدما كاد تزيغ قلوب فريق منهم"، بقراءة تزيغ بالتاء على أن "قلوب" اسم كاد وجملة "تزيغ" الخبر، ويرى من يمنع ذلك أن في كاد ضمير الشأن. وانظر الهمع 1/ 118.(1/274)
مبتدأ وخبرًا, وأنت إذا قلت: يقوم زيد فإنما الكلام من فعل وفاعل فكيف ذلك فالجواب أنه لا يمتنع أن يعتقد مع "كان " في قولنا: كان يقوم زيد أن زيدًا مرتفع بـ "كان " , وأن "يقوم " مقدم عن موضعه فإذا حذفت "كان " زال الاتساع وتأخر الخبر الذي هو "يقوم " فصار بعد "زيد " كما أن ألف "علقاة " للإلحاق, فإذا حذفت الهاء استحال التقدير فصارت للتأنيث حتى قال:
فكر في علقى وفي مكور
على ذا تأوله أبو عثمان: ولم يحمله على أنهما لغتان. وأظنه إنما ذهب إلى ذلك لما رآه قد كثرت نظائره؛ نحو سمانى وسماناة وشكاعى وشكاعاة وبهمى وبهماة. فألف "بهمى " للتأنيث وألف "بهماة " زيادة لغير الإلحاق كألف قبعثرى وضبغطرى. ويجوز أن تكون للإلحاق بجخدب على قياس قول أبي الحسن الأخفش إلا أنه إلحاق اختص مع التأنيث ألا ترى أن أحدًا لا ينون " بهمى" فعلى ذلك يكون الحكم على قولنا: كان يقوم زيد ونحن نعتقد أن زيدًا مرفوع بكان.
ومن ذلك ما نعتقده في همزاء حمراء وصفراء ونحوهما أنهما1 للتأنيث، فإن ركبت الاسم مع آخر قبله، حرت2 عن ذلك الاستشعار والتقدير فيها واعتقدت غيره. وذلك أن تركب3 مع " حمراء " اسمًا قبلها فتجعلهما جميعًا كاسم واحد فتصرف4 "حمراء " حينئذ. وذلك قولك: هذا دار حمراء ورأيت دار حمراء ومررت
__________
1 يريد همزة حمراء وصفراء، وهمزة نحوهما، ولو أفرد لكان أجود.
2 أي رجعت.
3 يريد التركيب المزجي.
4 يريد أنها لا تلزم منع الصرف كما في أمرها الأول، بل قد تصرف، على التفصيل الآتي. وذلك أنك إن أردت التعريف منعت الصرف وإلا صرفت. والعبارة في ج: "ومن ذلك حمراء وصفراء؛ همزته للتأنيث؛ فإن ركبته مع اسم آخر قبله ثم سميت به صرفته في النكرة؛ لأنك لا تترك صرفه للتأنيث، إنما تنزعه للتعريف والتركيب ... " وهي ظاهرة.(1/275)
بدار حمراء وكذلك هذا كلبصفراء1، ورأيت كلبصفراء ومررت بكلبصفراء, "فلا تصرف الاسم للتعريف والتركيب كحضرموت. فإن نكرت صرفت فقلت: رب كلبصفراءٍ مررت به"2، وكلبصفراء آخر. فتصرف في النكرة وتعتقد في هذه الهمزة مع التركيب أنها لغير التأنيث وقد كانت قبل التركيب له. ونحو من ذلك ما نعتقده في الألفات إذا كن في الحروف والأصوات أنها غير منقلبة, وذلك نحو ألف لا وما وألف قاف وكاف ودال وأخواتها وألف على, وإلى, ولدى3، وإذا فإن نقلتها فجعلتها أسماء أو اشتققت منها فعلًا استحال ذلك التقدير واعتقدت فيها ما تعتقده في المنقلب. وذلك قولك: مويت إذا كتبت "ما " ولويت إذا كتبت " لا " وكوفت كافًا حسنة ودولت دالًا جيدة, وزويت زايًا قوية. ولو سميت رجلًا بـ "على " أو "إلى " أو " لدى " أو "ألا " أو "إذا " 4، لقلت في التثنية: عَلَوان وإلَوان ولَدَوان وأَلَوان وإذَوَان فاعتقدت في هذه الألفات مع التسمية بها وعند الاشتقاق منها الانقلاب وقد كانت قبل ذلك عندك غير منقلبة. وأغرب من ذلك قولك: بأبي أنت! . فالباء في أول الاسم حرف جر بمنزلة اللام في قولك: لله أنت! فإذا اشتققت منه فعلًا اشتقاقًا صوتيًّا استحال ذلك التقدير فقلت: بأبأت5 به بئباء وقد أكثرت من البأبأة. فالباء الآن في لفظ الأصل وإن كنا قد أحطنا علمًا بأنها فيما اشتقت منه زائدة للجر. ومثال
__________
1 تبعب في رسم كلبصفراء بالوصل ما في أ. وهذا قياس التركيب المزجي كمعد يكرب. وهو مركب من كلب وصفراء.
2 ما بين القوسين زيادة في ش، ب، خلت منها أ.
3 في أكتبت هذه الحروف بالألف: علا، وإلا، ولدا.
4 هذه الزيادة من ج.
5 أي قلت له: بأبي أنت. وهذا معنى الاشتقاق الصوتي؛ كما تقول: حوقل, قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وسبحل, قال: سبحان الله. وانظر الكتاب 1/ 177.(1/276)
البِئباء على هذا الفعلال كالزلزال, والقلقال, والبأبأة1 الفعللة, كالقلقلة, والزلزلة, وعلى هذا اشتقوا منهما "البئب " فصار فعلا من باب سلس, وقلق؛ قال 2:
يا بأبي أنت ويا فوق البئب 3
فالبئب الآن بمنزلة الضلع, والعنب, والقمع, "والقرب"4. ومن ذلك قولهم: القرنوة5 للنبت وقالوا: قرنيت السقاء إذا دبغته بالقرنوة فالياء في قرنيت الآن للإلحاق, بمنزلة ياء سلقيت وجعبيت وإنما هي بدل من واو "قرنوة " التي هي لغير الإلحاق. وسألني أبو علي -رحمه الله- عن ألف "يا " من قوله -فيما أنشده أبو زيد6:
فخيرٌ نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يا لا7
فقال: أمنقلبة هي؟ قلت: لا؛ لأنها في حرف أعني " يا " فقال: بل هي منقلبة. فاستدللته على ذلك فاعتصم بأنها قد خلطت باللام بعدها ووقف عليها فصارت اللام كأنها جزء منها فصارت "يال " بمنزلة قال والألف في موضع العين وهي مجهولة فينبغي أن يحكم عليها بالانقلاب عن الواو. هذا8 جمل ما قاله ولله هو وعليه رحمته،
__________
1 هو بالجر عطف على "البئباء". وفيه العطف على معمولين. ويقرأ بالرفع على حذف المضاف وهو "مثال" أي ومثال البأبأة.
2 هو آدم مولى بلعنبر كما في اللسان في "أبو". وهو من رجز البيان والتبيين للجاحظ 1/ 163، يقول في ابن له.
3 "يا فوق البئب" -ويروى البيب- أي أتت فوق أن يقال له: بأبي أنت.
4 زيادة في أخلت منها ش، ب.
5 انظر ص228.
6 انظر ص21 من نوادر أبي زيد، والخزانة ص4 ج2 من السلفية. وهذا من بيتين لزهير بن مسعود الضبي.
7 يعده:
ولم يثق العوائق من غيور ... بغيرته وخلين الحجالا
المثوب: الذي يدعو الناس للحرب يستنصرهم، وقوله "يالا" يريد يا لبني فلان. والعواتق جمع عاتق وهي التي لم تتزوج، وقوله "خلين الحجالا" أي من الفزع يخرجن من المجال فلا يثقن بأن يمنعهن الأزواج والآباء والإخوة، يقول: نحن عندهن أوثق منكن.
8 كذا في أ، وفي ش، ب: "وهذا".(1/277)
فما كان أقوى قياسه وأشد بهذا العلم اللطيف الشريف أنسه. فكأنه إنما كان مخلوقًا له. وكيف كان لا يكون كذلك وقد أقام على هذه الطريقة مع جلة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة زائحة علله ساقطة عنه كلفه, وجعله همه وسدمه1، لا يعتاقه عنه ولد ولا يعارضه فيه متجر ولا يسوم به مطلبًا ولا يخدم به رئيسًا إلا بأخرة2 وقد حط من أثقاله وألقى عصا ترحاله! ثم إني -ولا أقول إلا حقًا- لأعجب من نفسي في وقتي هذا كيف تطوع لي بمسئلة أم كيف تطمح بي إلى انتزاع علة! مع ما الحال عليه من علق الوقت وأشجانه وتذاؤبه3 وخلج4 أشطانه، ولولا معازة5 الخاطر واعتناقه6، ومساورة الفكر واكتداده7، لكنت عن هذا الشأن بمعزل وبأمر سواه على شغل.
وقال لي مرة رحمه الله بهذه الانتقالات: كما جاز إذا سميت بـ "ضرب " أن تخرجه من البناء إلى الإعراب كذلك يجوز أيضًا أن تخرجه من جنس إلى جنس إذا أنت نقلته من موضعه إلى غيره.
ومن طريف ما ألقاه -رضي الله تعالى عنه- علي أنه سألني يومًا عن قولهم هات لا هاتيت فقال "ما هاتيت "؟ فقلت: فاعلت فهات من هاتيت كعاط من عاطيت فقال: أشيء آخر فلم يحضر إذ ذاك فقال أنا أرى فيه غير هذا. فسألته عنه, فقال: يكون فعليت, قلت: ممه؟ قال: من الهوتة8،
__________
1 السدم: الهم.
2 يريد خدمته عضد الدولة بن بويه. وقد صنف له الإيضاح والتكملة.
3 أي اضطرابه واختلافه كتذاؤب الرياح. وقد أثبت "تذاؤبه" بالمعجمة، وفي أ: "تداؤبه" بالمهملة. وفي ش، ب: "تداويه"، وكلاهما تحريف.
4 الأشطان جمع شطن وهو الحبل، وخلج الأشطان جذبها وانتزاعها. وضبط في أ "خلج" بالتحريك. والخلج: الفساد فالمعنى: فساد أشطانه وأسبابه.
5 المعازة: المغالبة.
6 يقال: اعتنف الأمر: أخذه بعنف. يريد أنه يأخذ خاطره بالشدة.
7 أي جهده والإلحاح عليه. وقوله: "اكتداده" كذا في أ، ب. وفي ش: "اكتداره". وهو تحريف.
8 بفتح الهاء وضمها.(1/278)
وهي المنخفض من الأرض -قال: وكذلك " هيت " لهذا البلد1، لأنه منخفض من الأرض- فأصله2 هوتيت، ثم أبدلت الواو التي هي عين فعليت وإن كانت ساكنة؛ كما أبدلت في ياجل3 وياحل3، فصار هاتيت وهذا لطيف حسن. على أن صاحب العين قد قال: إن الهاء فيه بدل من همزة كهرقت ونحوه. والذي يجمع بين هاتيت وبين الهوتة حتى دعا ذلك أبا علي إلى ما قال به أن الأرض المنخفضة تجذب إلى نفسها بانخفاضها. وكذلك قولك: هات إنما هو استدعاء منك للشيء واجتذابه إليك. وكذلك صاحب العين إنما حمله على اعتقاد بدل الهاء من الهمزة أنه أخذه من أتيت الشيء والإتيان ضرب من الانجذاب إلى الشيء. والذي ذهب إليه أبو علي في "هاتيت " غريب لطيف.
ومما يستحيل فيه التقدير لانتقاله من صورة إلى أخرى قولهم "هلممت" إذا قلت: هلم. فهلممت الآن كصعررت وشمللت وأصله قبل غير هذا إنما هو أول4 "ها " للتنبيه لحقت مثال الأمر للمواجه توكيدًا. وأصلها5 ها لُمَّ فكثر استعمالها وخلطت "ها " بـ "لم " توكيدًا للمعنى لشدة الاتصال فحذفت الألف لذلك ولأن لام " لم " في الأصل ساكنة ألا ترى أن تقديرها أول "المم " وكذلك يقولها أهل الحجاز ثم زال هذا كله بقولهم "هلممت " فصارت كأنها فعللت من لفظ "الهلمام "6 وتنوسيت حال التركيب. وكأن الذي صرفهما جميعًا عن ظاهر حاله حتى دعا أبا علي إلى أن جعله من "الهوتة " وغيره من لفظ أتيت عدم تركيب7 ظاهره،
__________
1 هو بلد على شاطئ الفرات، وعلى هذا فالياء في هيت أصلها الواو.
2 أي أصل هاتيت.
3 والأصل: يوجل ويوحل.
4 هو هنا ظرف.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "فأصلها".
6 كذا في ج. وفي أ، ب، ش: "الهلمان". وكذا في عبارة اللسان في "هلم".
7 يريد أن تأليفه غير موجود في اللغة، فلذلك اعتمد تخريجه على غير ظاهره. وهو عود إلى الكلام على هاتيت.(1/279)
ألا ترى أنه ليس في كلامهم تركيب "هـ ت و " ولا "هـ ت ي " فنزلا جميعًا عن بادي أمره إلى لفظ غيره.
فهذه طريق اختلاف التقدير وهي واسعة غير أني قد نبهت عليها فأمض الرأي والصنعة فيما يأتي منها.
ومن لفظ "الهوتة " ومعناها قولهم مضى1 هيتاء2 من الليل؛ وهو فعلاء منه ألا تراهم قالوا: قد تهور3 الليل، ولو كسرت "هيتاء " لقلت "هواتي " وقريب من لفظه ومعناه قول الله سبحانه: {هَيْتَ لَكَ} إنما معناه هلم لك وهذا اجتذاب واستدعاء له؛ قال:
أن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا4
__________
1 كأن الليل بذهاب وقت منه ينخفض وتذهب قمته.
2 أي وقت منه.
3 أي ذهب أكثره. وفي ذلك معنى الانخفاض. وتراه "تهور" بالراء وهو هكذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تهوت". ولعمري لو جاءت هذه الصيغة في اللغة لكانت هي الجودي، ولكنها لم تجئ.
4 هذا ثاني بيتين أنشدهما الفراء لشاعر في علي -رضي الله عنه- أولهما:
أبلغ أمير المؤمنيـ ... ـن أخا العراق إذا أتينا
وترى أن السياق يقضي بفتح أن. وقد روي كسرها على قطعه عما قبله أو على تأويل أبلغ بقل. وقوله: عنق أي مائلون. وانظر اللسان "هيت" وشرح المفصل 4/ 32.(1/280)
باب في الفرق 1 بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى:
هذا الموضع كثيرًا ما يستهوي من يضعف نظره إلى أن يقوده إلى إفساد الصنعة. وذلك كقولهم في تفسير قولنا "أهلَكَ والليلَ " معناه الحق أهلك قبل الليل، فربما دعا ذاك من لا دربة له إلى أن يقول "أهلك والليل " فيجره وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل. وكذلك قولنا زيد قام: ربما ظن بعضهم أن زيدًا
هنا فاعل في الصنعة، كما أنه فاعل في المعنى. وكذلك تفسير معنى قولنا: سرني قيام هذا وقعود ذاك، بأنه سرني أن قام هذا وأن قعد ذاك، ربما2 اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع3 رفع لأنهما فاعلان في المعنى. ولا تستصغر هذا الموضع؛ فإن العرب أيضًا قد مرت به وشمت روائحه وراعته. وذلك أن الأصمعي أنشد في جملة أراجيزه شعرًا من مشطور السريع طويلًا ممدودًا مقيدًا التزم الشاعر فيه أن جعل قوافيه كلها في موضع جر إلا بيتًا واحدًا من الشعر 4:
يستمسكون من حذار الإلقاء ... بتلعات كجذوع الصيصاء5
رِدِي رِدِي وِردَ قطاة صماء ... كدرية أعجبها برد الماء6
تطرد قوافيها كلها على الجر إلا بيتا واحدا، وهو قوله:
كأنها وقد رآها الرؤاء7
والذي سوغه8 ذاك -على ما التزمه في جميع القوافي- ما كنا على سمته من القول. وذلك أنه لما كان معناه: كأنها في وقت رؤية الرؤاء تصور معنى الجر من هذا الموضع فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات وكأنه لذلك لم يخالف.
__________
1 كذا في ش. وفي أ، ب: "فرق". وفي ج: "فرق تقدير".
2 كذا في أ، وفي ب، ش: "وربما".
3 هما في موضع رفع زيادة عن مكان الجر الإضافة. ويظهر هذا في التابع. فلا غرابة فيه وإنما الوهم الذي يحذر منه ابن جني أن يعتقد أنه ليس إلا مرفوعا، حتى لو قيل يعجبني قيام زيد رفع زيد. وانظر فيما يأتي ص283.
4 في أبعد "الشعر": "قوله". وما هنا في ش، ب.
5 نسبه في اللسان في "تلع" إلى غيلان الربعي. وذكر ابن جني في الجزء الثاني من هذا الكتاب "باب التطوع بما لا يلزم" قصيدة لغيلان على هذا الروي، وليس فيها ما أورد هنا إلا:
كأنها وقد رآها الرؤاء
وهو يصف قوما في سفينة. يقول: إنهم يمسكون بسكانات السفينة -وسكانها ذنبها الذي به تعدل وهو المعروف بالدفة- وهي طويلة تلعات كجذوع الصيصاء؛ وهو ثمر نخله طويل، وقد كني بالنلعات عن السكانات لطولها، وإنما يمسكون بها خشية أن تلقيهم في البحر فيهلكوا. والشعر في إصلاح المنطق.
6 يخاطب السفينة فيقول، ردي حتى تصلي المرفأ كما ترد قطاة صماء؛ وصممها ضيق أذنيها.
7 انظر تكملة هذا الشطر في الجزء الثاني من الخصائص "باب التطوع بما لا يلزم".
8 كذا في أ. وفي ب: "سوغ له".(1/281)
ونظير هذا عندي قول طرفة:
في جفان تعتري نادينا ... وسديف حين هاج الصِنَّبِر1
يريد الصِنَّبر فاحتاج للقافية إلى تحريك الباء فتطرق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها تشبيهًا بباب قولهم: هذا بكر ومررت ببكر وكان يجب على هذا أن يضم الباء فيقول: الصَنَّبُر لأن الراء مضمومة إلا أنه تصور معنى إضافة الظرف إلى الفعل فصار إلى أنه كأنه قال: حين هيج الصنبر فلما احتاج إلى حركة الباء تصور معنى الجر فكسر الباء وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها. ولولا ما أوردته في هذا لكان الضم مكان الكسر 2. وهذا أقرب مأخذًا من أن تقول: إنه حرّف القافية للضرورة كما حرفها الآخر في قوله 3:
هل عرفت الدار أم أنكرتها ... بين تبراك فشسَّى عبقُر4
في قول من قال: أراد عبقر5، ثم حرف الكلمة. ونحوه في التحريف قول العبد6:
__________
1 الصنبر: الريح الباردة. والسديف: السنام أو شحمه. والبيت من قصيدة له في الديوان 63 مطلعها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر
2 ألف البدر الدماميني في قول طرفة هذا: "حين هاج الصنبر" بفاعل للفعل مجرور، وأجاب عنه الشيخ السجاعي بمضمون كلام ابن جني، ولم ينسب هذا إلى ابن جني فعابه عليه الجبرتي. انظر هذا في تاريخ الجبرتي في ترجمة السجاعي في الجزء الثاني ص80 وانظر كتابه الأمير على المغني في مبحث الجملة الرابعة من الجمل التي لها محل من الإعراب في الباب الثاني.
3 أي المرار العدوي كما في معجم البلدان في عبقر.
4 تراك وعبقر موضعان و"شسي" تثنية شس، هو المكان الغليظ.
5 ومن اللغويين من يقول: أراد: عيقر. انظر اللسان في "عبقر".
6 هو سحيم عبد بني الحسحاس. وهو من قصيدة له في الديوان المطبوع في دار الكتب المصرية ص42 وما بعدها.(1/282)
وما دمية من دمى ميسنا ... ن معجبة نظرًا واتصافا1
أراد -فيما قيل- ميسان2، فزاد النون ضرورة، فهذا -لعمري- تحريف بتعجرف عار من الصنعة. والذي ذهبت أنا إليه هناك في "الصنبِر " ليس عاريًا من الصنعة. فإن قلت: فإن الإضافة في قوله "حين هاج الصنبر " إنما هي إلى الفعل لا إلى الفاعل فكيف حرفت غير المضاف إليه؟ قيل الفعل مع الفاعل3 كالجزء الواحد وأقوى الجزأين منهما هو الفاعل فكأن الإضافة إنما هي إليه لا إلى الفعل فلذلك جاز أن يتصور فيه معنى الجر.
فإن قيل: فأنت إذا أضفت المصدر إلى الفاعل جررته في اللفظ واعتقدت مع هذا أنه في المعنى مرفوع فإذا كان في اللفظ أيضًا مرفوعًا فكيف يسوغ لك بعد حصوله في موضعه من استحقاقه الرفع لفظًا ومعنى أن تحور به فتتوهمه مجرورًا؟ قيل هذا الذي أردناه وتصورناه هو مؤكد للمعنى الأول لأنك كما تصورت في المجرور معنى الرفع كذلك تممت حال الشبه بينهما فتصورت في المرفوع معنى الجر. ألا ترى أن سيبويه لما شبه الضارب الرجل بالحسن الوجه وتمثل ذلك في نفسه ورسا في تصوره زاد في تمكين هذه الحال له وتثبيتها عليه, بأن عاد فشبه الحسن الوجه بالضارب الرجل في الجر كل ذلك تفعله العرب, وتعتقده العلماء في الأمرين ليقوى تشابههما4 وتعمر ذات بينهما، ولا يكونا على
__________
1 قبله -وهو مطلع القصيدة:
ألم خيال عشاء فطأفا ... ولم يك إذ طاف إلا اختطافا
لمية إذ طرقت موهنا ... فأضحى بها دنفا مستجافا
وبعده:
بأحسن منها غداة الرحيـ ... ـل قامت ترائيك وحفا غدافا
2 هي كورة بين البصرة وواسط كما في ياقوت. والبيت في اللسان "ميس ووصف".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "الفاعل مع الفعل".
4 بالبناء للفاعل كما ضبط في أ. يقال: عمر الشيء, كنصر وكرم وسمع: صار عامرا كما في القاموس.(1/283)
حرد1، وتناظر غير مجد، فاعرف هذا من مذهب القوم واقتفه تصب بإذن الله تعالى.
ومن ذلك قولهم في قول العرب: كل رجل وصنعته2، وأنت وشأنك: معناه أنت مع شأنك وكل رجل مع صنعته فهذا يوهم من أمم أن الثاني خبر عن الأول كما أنه إذا قال أنت مع شأنك فإن قوله "مع شأنك " خبر عن أنت. وليس الأمر كذلك بل لعمري إن المعنى عليه غير أن تقدير الأعراب على غيره. وإنما " شأنك" معطوف على "أنت " والخبر محذوف للحمل على المعنى, فكأنه قال: كل رجل وصنعته مقرونان وأنت وشأنك مصطحبان. وعليه جاء العطف بالنصب مع أن؛ قال:
أغار على معزاي لم يدر أنني ... وصفراء منها عبلة الصفوات3
ومن ذلك قولهم أنت ظالم إن فعلت ألا تراهم يقولون في معناه: إن فعلت فأنت ظالم فهذا ربما أوهم أن "أنت ظالم" جواب مقدم ومعاذ الله أن يقدم جواب الشرط عليه وإنما قوله "أنت ظالم " دال على الجواب وساد مسده فأما أن يكون هو الجواب فلا.
ومن ذلك قولهم في عليك زيدًا: إن معناه خذ زيدًا وهو -لعمري- كذلك, إلا أن "زيدًا " الآن إنما هو منصوب بنفس " عليك " من حيث كان اسمًا لفعل متعد لا أنه منصوب بـ "خذ ".
ألا ترى إلى فرق ما4 بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى فإذا مر بك شيء من هذا عن أصحابنا فاحفظ نفسك منه ولا تسترسل إليه فإن أمكنك أن يكون
__________
1 أي على غضب واغتياظ، يقال: حرد الرجل إذا اغتاظ فتحرش بالذي غاظه.
2 كذا في أ. وفي ب، ش، ج: "ضيعته". والضيعة هنا: حرفة الرجل وتجارته وصناعته.
3 أورده في اللسان "معز". و"صفراء" يريد قوسا. والصفوات حجارة ملس مسواة، وكأنها كان يرمى بها مكان السهام. وقوله "أغار" أي الذئب أو السبع.
4 كذا في ش، ب. وفي سقط هذا اللفظ "ما" في أ.(1/284)
تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو ما لا غاية وراءه وإن كان تقدير الإعراب مخالفًا لتفسير المعنى تقبلت1 تفسير المعنى على ما هو عليه، صححت طريق تقدير الإعراب حتى لا يشذ شيء منها عليك وإياك أن تسترسل فتفسد ما تؤثر إصلاحه ألا تراك تفسر نحو قولهم: ضربت زيدًا سوطًا أن معناه ضربت زيدًا ضربة بسوط. وهو -لا شك- كذلك ولكن طريق إعرابه أنه على حذف المضاف, أي ضربته ضربة سوط ثم حذفت الضربة على عبرة حذف المضاف. ولو ذهبت تتأول ضربته سوطًا على أن تقدير إعرابه: ضربة بسوط كما أن معناه كذلك للزمك أن تقدر أنك حذفت الباء كما تحذف حرف الجر في نحو قوله: أمرتك الخير2، وأستغفر3 الله ذنبًا فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجر وقد غنيت عن ذلك كله بقولك 4: إنه على حذف المضاف أي ضربة سوط ومعناه ضربة بسوط فهذا -لعمري- معناه، فأما طريق إعرابه وتقديره فحذف المضاف.
باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به، إلا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع منه:
من ذلك أن ترى رجلا قد سدد سهمًا نحو الغرض ثم أرسله فتسمع صوتًا فتقول: القرطاس والله أي أصاب القرطاس. فـ "أصاب " الآن في حكم الملفوظ به
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "تركت". وهو بخط مغاير ويبدو أنه إصلاح من الشنقيطي أو كتابة في موضع ترك بياضا.
2 يريد قول الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وانظر الكتاب 1/ 17، والخزانة 1/ 164.
3 يريد قول الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
وانظر الخزانة 1/ 486.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "بقوله".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "فأما على طريق".(1/285)
البتة، وإن لم يوجد في اللفظ، غير أن دلالة الحال عليه نابت مناب اللفظ به. وكذلك قولهم لرجل مهو بسيف في يده: زيدًا, أي اضرب زيدًا. فصارت شهادة الحال بالفعل بدلا من اللفظ به. وكذلك قولك للقادم من سفر: خير مقدم أي قدمت خير مقدم وقولك: قد مررت برجل إن زيدًا1 وإن عمرًا أي إن كان زيدًا وإن كان عمرًا وقولك للقادم من حجه: مبرور مأجور أي أنت مبرور مأجور, ومبرورًا مأجورًا2 أي قدمت مبرورًا مأجورًا وكذلك قوله 3:
رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الغداة من جلله4
أي رب رسم دار. وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: خير عافاك الله -أي بخير- يحذف5 الباء لدلالة الحال عليها بجري العادة والعرف بها. وكذلك قولهم: الذي ضربت زيد تريد الهاء وتحذفها لأن في الموضع دليلا عليها. وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وهي قوله سبحانه: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ " ليست هذه القراءة عندنا من الإبعاد والفحش والشناعة والضعف على ما رآه فيها وذهب إليه أبو العباس6، بل الأمر فيها دون ذلك وأقرب وأخف وألطف وذلك أن لحمزة أن يقول لأبي العباس: إنني لم أحمل " الأرحام " على العطف على المجرور المضمر بل اعتقدت أن تكون فيه باء ثانية حتى كأني7 قلت: "وبالأرحام " ثم حذفت الباء لتقدم ذكرها؛ كما حذفت لتقدم
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "أر".
2 انظر مجالس ثعلب 91.
3 هو جميل بن عبد الله بن معمر، صاحب بثينة. وانظر الأمالي 1/ 346 والسمط 557 والخزانة 4/ 199 والعيني 3/ 339، والسيوطي 126.
4 هذا البيت من شواهد النحو في مباحث حرف الجر، وهو مطلع القصيدة، وبعده:
موحشا ما ترى به أحدا ... تنسج الريح ترب معتدله
واقفا في رباع أم جبير ... من ضحا يومه إلى أصله
5 كذا في ج وفي أ، ب، ش: "ويحذف".
6 يريد المبرد. وانظر الكامل 6/ 155، وشرح المفصل 3/ 78.
7 كذا في أ، ب. وفي ب: "كأن".(1/286)
ذكرها في نحو قولك: بمن تمرر أمرر وعلى من تنزل أنزل ولم تقل: أمرر به ولا أنزل عليه لكن حذفت الحرفين لتقدم ذكرهما. وإذا جاز للفرزدق أن يحذف حرف الجر لدلالة ما قبله عليه "مع مخالفته له في الحكم "1 في قوله:
وإني من قوم بهم يتقى العدا ... ورأب الثأى والجانب المتخوف2
أراد: وبهم رأب الثأى فحذف الباء في هذا الموضع لتقدمها في قوله: بهم يتقى العدا وإن كانت حالاهما مختلفتين 3. ألا ترى أن4 الباء في قوله5: "بهم يتقى العدا " منصوبة الموضع لتعلقها بالفعل الظاهر الذي هو يتقى كقولك: بالسيف يضرب زيد والباء في قوله: "وبهم رأب الثأى " مرفوعة الموضع عند6 قوم، وعلى كل حال فهي متعلقة بمحذوف ورافعه7 الرأب -ونظائر هذا كثيرة- كان8 حذف الباء من قوله "والأرحام " لمشابهتها الباء في "به " موضعًا وحكمًا أجدر وقد أجازوا تبًّا له وويل على تقدير وويل له فحذفوها وإن كانت اللام في "تبًّا له " لا ضمير فيها وهي
__________
1 كذا في ب، ش. وفي أ: "مع مخالفته في الحكم له".
2 من نقيضة الفرزدق التي مطلعها:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
وانظر النقائض 64 طبعة أوروبا، واللسان "رأب".
3 كذا في أ، ب، وفي ش: "مختلفين".
4 كذا في أ، ب. وقد سقط هذا الحرف في ش.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "قولهم".
6 كأنه يريد أن يجعل خبرا، وهذا وجه الآخران أن يكون "بهم" صفة "قوم"، و"رأب" فاعل به، وعلى هذا فقوله "بهم" مجرور الموضع. وهذا الوجه لا يريده هنا إذ هو قريب من "بالسيف يضرب زيد".
7 كذا في ب. والمعنى عليه صحيح. أي "بهم" خبر والرأب مبتدأ والخبر رافعه المبتدأ عند البصريين. وفي أ، ش: "رافعة الرأب" وهو لا يستقيم على رأي البصريين.
8 جواب "إذا جاز للفرزدق".(1/287)
متعلقة بنفس1 "تبًا " مثلها في هلم لك وكانت اللام في "ويل له " خبرًا ومتعلقة بمحذوف وفيها ضمير فهذا عروض2 بيت الفرزدق.
فإن قلت: فإذا كان المحذوف للدلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر فهل تجيز توكيد الهاء المحذوفة في نحو قولك: الذي ضربت زيد فتقول: الذي ضربت نفسه زيد كما تقول: الذي ضربته نفسه زيد قيل: هذا عندنا غير جائز؛ وليس ذلك لأن المحذوف هنا ليس بمنزلة المثبت بل لأمر آخر وهو أن الحذف هنا إنما الغرض به3 التخفيف لطول الاسم فلو ذهبت تؤكده لنقضت4 الغرض. وذلك أن التوكيد والإسهاب ضد التخفيف والإيجاز فلما كان الأمر كذلك تدافع الحكمان فلم يجز أن يجتمعا كما لا يجوز ادغام الملحق لما فيه من نقض الغرض. وكذلك قولهم لمن سدد سهمًا ثم أرسله نحو الغرض فسمعت صوتًا فقلت: القرطاس والله أي أصاب القرطاس: لا يجوز توكيد الفعل الذي نصب "القرطاس ". لو قلت: إصابةً القرطاس فجعلت "إصابة " مصدرًا للفعل الناصب للقرطاس لم يجز من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب وجعلت الحال المشاهدة دالة عليه, ونائبة عنه فلو أكدته لنقضت الغرض لأن في توكيده تثبيتًا للفظه المختزل, ورجوعًا عن المعتزم من حذفه واطراحه والاكتفاء بغيره منه. وكذلك قولك للمهوي
__________
1 المعروف أن اللام في مثل هذا للتبيين. وتقدير الكلام "له أعني" أو "إرادتي له"، وليست متعلقة بنفس "تبا"، نعم يجيز الصبان إذا كان المجرور غير المخاطب كما هنا أن يتعلق بالمصدر، ولكن ابن جني لا يرى هذا التفصيل، يدل على ذلك تنظيره بهلم لك. واللام في المثال الأخير للتبيين عند الصبان أيضا. انظر صبان الأشموني في مبحث المفعول المطلق.
2 أي مثيله. يقال: هذه المسألة عروض تلك أي نظيرها، وقد يقال لابن جني: إن في بيت الفرزدق وفي،"تبا له وويل" حذف الجار والمجرور، وهو خبر، وحذف الخبر سنن مألوف، ومنهج معروف، فأما قراءة حمزة ففيها حذف الجار وإبقاء جزء، وهذا موضع القول والمؤاخذة.
3 كذا في ش، وفي أ: "فيه".
4 انظر ص128 من هذا الجزء.(1/288)
بالسيف في يده: زيدًا أي اضرب زيدًا لم يجز أن تؤكد ذلك الفعل الناصب لزيد ألا تراك لا تقول: ضربًا زيدًا وأنت تجعل "ضربًا " توكيدًا لاضرب المقدرة من قبل أن تلك اللفظة قد أنيبت عنها الحال الدالة عليها وحذفت هي اختصارًا فلو أكدتها لنقضت القضية التي كنت حكمت بها لها لكن لك أن تقول: ضربًا زيدًا لا على أن تجعل ضربًا توكيدًا للفعل الناصب لزيد بل على أن تبدله منه فتقيمه مقامه فتنصب به زيدًا فأما على التوكيد به لفعله وأن يكون زيد منصوبًا بالفعل الذي هذا1 توكيد له فلا.
فهذه الأشياء لولا ما عرض من صناعة اللفظ -أعني الاقتصار على شيء2 دون شيء- لكان توكيدها جائزًا حسنًا لكن "عارض ما منع "3 فلذلك لم يجز؛ لا لأن المحذوف ليس في تقدير الملفوظ به.
ومما يؤكد لك أن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به إنشادهم قول الشاعر 4:
قاتلي القوم يا خزاع ولا ... يأخذكم من قتالهم فشل5
فتمام الوزن أن يقال: فقاتلي القوم فلولا أن المحذوف إذا دل الدليل عليه بمنزلة المثبت لكان هذا كسرًا لا زخافًا. وهذا من أقوى وأعلى ما يحتج به لأن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به البتة فاعرفه واشدد يدك به.
__________
1 في د، هـ: "هو".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الشيء".
3 كذا في أ. وفي ش. ب: "لكن عارض عرض ما منع".
4 هو الشداخ بن يعمر الكناني من شعراء الحماسة، وهو جاهلي. وليس الشماخ، كما في شرح الدماميني للخزرجية 40، فهو تحريف.
5 البيت من المنسرح وقد دخله الخرم، ولو قال: "فقاتلي" نجا من ذلك. وقد ذكره أبو رياش كاملا هكذا. وانظر التبريزي في شرح الحماسة. ونهاية الشطر الأول "لا" وانظر الدماميني في الموطن السابق.(1/289)
وعلى الجملة فكل ما حذف تخفيفًا فلا يجوز توكيده لتدافع حاليه به من حيث1 التوكيد للإسهاب والإطناب والحذف للاختصار والإيجاز. فاعرف ذلك مذهبًا للعرب.
ومما يدلك على صحة ذلك قول العرب -فيما رويناه عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى: "راكب الناقة طليحان " كذا رويناه هكذا وهو يحتمل2 عندي وجهين:
أحدهما ما نحن عليه من الحذف فكأنه قال: راكب الناقة والناقة طليحان فحذف المعطوف لأمرين: أحدهما تقدم ذكر الناقة والشيء إذا تقدم ذكره دل3 على ما هو مثله. ومثله من حذف المعطوف قول الله عز وجل: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} أي فضرب فانفجرت. فحذف " فضرب " لأنه معطوف على قوله: "فقلنا ". وكذلك قول التغلبي 4:
إذا ما الماء خالطها سخينا5
أي شربنا6 فسخينا. فكذلك قوله: راكب الناقة طليحان أي راكب الناقة والناقة طليحان.
فإن قلت: فهلا كان التقدير على حذف المعطوف عليه أي الناقة وراكب الناقة طليحان قيل يبعد ذلك من وجهين:
__________
1 كذا في الأصول. والأحسن في التعبير: من حيث إن.
2 انظر في تخريجه أيضًا التصريح على التوضيح، والأشموني في آخر مباحث عطف النسق.
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 يريد عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة التي أولها:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
5 صدره في وصف الخمر:
مشعشعة كأن الحص فيها
6 هذا وجه في فهم البيت، ويرى بعضهم أن "سخينا" وصف من السخونة وهو حال من الضمير في خالطها، وذلك مزج الخمر بالماء الساخن.(1/290)
أحدهما أن الحذف اتساع والاتساع بابه آخر الكلام وأوسطه لا صدره وأوله ألا ترى أن من اتسع بزيادة " كان" حشوًا أو آخرًا لا يجيز زيادتها أولا, وأن من اتسع بزيادة " ما " حشوًا وغير أول لم يستجز زيادتها أولًا إلا في شاذ من القول نحو قوله:
وقد ما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان
فيمن رواه " وقدما " بزيادة " ما " على أنه يريد: وقد هاجني لا فيمن رواه فقال: "وقدمًا هاجني " أي وقديمًا هاجني.
والآخر أنه لو كان تقديره: الناقة وراكب الناقة طليحان لكان قد حذف حرف العطف وبقي المعطوف به وهذا شاذ إنما حكى منه أبو عثمان عن أبي زيد: أكلت لحمًا سمكًا تمرًا، وأنشد أبو الحسن:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يزرع الود في فؤاد الكريم2
وأنشد ابن الأعرابي 3:
وكيف لا أبكي على علاتي ... صبائحي غبائقي قيلاتي4
__________
1 لجحدر اللص قصيدة طويلة فيها هذا البيت، لكن بلفظ: "ومما هاجني" في موضع: "وقد ما هاجني" وانظر الأمالي 1/ 281، والخزانة 4/ 483 ومعجم البلدان "حجر" وشواهد المغني للسيوطي 139.
2 حذف فيه حرف العطف والأصل: كيف أصبحت، وكيف أمسيت، أي إبداء التحية يعمل على الود والمحبة. والبيت في ديوان المعاني 2/ 225 عن أبي زيد. وفيه: "يثبت" في مكان "يزرع".
3 في اللسان في "قيل": "الأزهري: أنشدني أعرابي:
ما لي لا أسقي حبيباتي ... وهن يوم الورد أمهاتي
صبائحي غبائق قيلاتي
أراد بحبيباته إبله التي يشرب ألبانها جعلهن كأمهاته، فهل ترى ما هنا محرقا في اللسان، والظاهر أن هذه رواية أخرى عن ابن الأعرابي.
4 العلات جمع علة وكأنه يريد هنا ما يتعلل به، وفسرها بالصبائح والغبائق والقيلات. يريد نوقا يحلبها صباحا وبعد المغرب وفي القائلة. فالصبائح جمع صبوح، والغبائق جمع غبوق، والقيلات جمع قيلة.(1/291)
وهذا كله شاذ ولعله جميع ما جاء منه. وأما على القول الآخر فإنه -لعمري- قد حذف حرف العطف مع1 المعطوف به وهذا ما لا بد منه؛ ألا ترى أنه إذا حذف المعطوف لم يجز أن يبقى الحرف العاطفه قبله بحاله؛ لأن حرف العطف لا يجوز تعليقه2. فإن قلت فقد قال3:
قد وعدتني أم عمرو أن تا ... تدهن رأسي وتفليني وا4
وتمسح القنفاء حتى تنتا
فإنما جاز هذا لضرورة الشعر, ولأنه أيضًا قد أعاد الحرف في أول البيت الثاني فجاز تعليق الأول بعد أن دعمه بحرف الإطلاق وأعاده فعرف ما أراد بالأول فجرى مجرى قوله 5:
عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال ... الشحم إنا قد مللناه بجل6
فكما7 علق حرف التعريف مدعومًا بألف الوصل وأعاده فيما بعد فكذلك علق حرف العطف مدعومًا بحرف الإطلاق وأعاده فيما بعد. فإن قلت: فألف قوله " وا "8 ملفوظ بها وألف الوصل في قوله "بذا ال " غير ملفوظ بها قيل: لو ابتدأت اللام لم يكن من الهمزة بد. فإن قلت: أفيجوز على هذا "قام زيدوه, وعمرو " فتجري
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "من".
2 يريد بذلك ألا يكون له تأثير ظاهر يحذف المعطوف.
3 أي حكم بن معية التميمي. انظر الموشح20.
4 "تفليني" في أ، ب: "تفديني" وقوله: "وا" كذا في أ، ب. وفي اللسان في "تتأ" و"قنف" و"فلى". وقد أصلحت في ش: "واتا" وهو إفساد للشعر ومجافاة للرواية "والقنفاء" الكمرة، و"تنتا" أي تنتأ وتبدو، وضبط في الموشح "تنتا" بكسر التاء وهي لغة.
5 نسب في سيبويه 2/ 273 إلى غيلان وهو غيلان بن حريث الربعي الراجز كما في العيني 1/ 510 على هامش الخزانة.
6 "الشحم" في سيبويه والعيني "بالشحم" و"بجل" أي حسب، وقوله "بذا ال" رسم في أ، والكتاب "بذل".
7 كذا في أ، ب. وفي ش: "وكما".
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "تا".(1/292)
هاء1 بيان الحركة ألف الإطلاق؟ فإنه2 أضعف القياسين. وذلك أن ألف الإطلاق أشبه بما صيغ في الكلمة من هاء بيان الحركة ألا ترى إلى ما جاء من قوله 3:
ولاعب بالعشي بني بنينه ... كفعل الهر يحترش العظايا4
فأبعده الإله ولا يؤبى ... ولا يسقى من المرض الشفايا5
وقرأته على أبي علي: ولا يشفى. ألا ترى أن أبا6 عثمان قال: شبه ألف الإطلاق بتاء التأنيث أي فصحح اللام لها كما يصححها للهاء وليست كذلك هاء بيان الحركة لأنها لم تقو قوة تاء التأنيث أولا ترى أن ياء الإطلاق في قوله:
... .. . كله لم أصنعي7
قد نابت عن الضمير العائد حتى كأنه قال: لم أصنعه فلذلك كان "وا " من قوله " وتفليني وا " كأنه لاتصاله بالألف غير معلق. فإذا كان في اللفظ كأنه غير معلق وعاد من بعد معطوفًا به لم يكن هناك كبير مكروه فيعتذر منه.
__________
1 يريد هاء السكت.
2 هذا جواب قوله: "فإن قلت أفيجوز".
3 هو أعصر ابن سعد بن قيس عيلان كما اللسان في "حما". وفي حماسة البحتري 324 هذه الأبيات ببعض تغيير عما في اللسان منسوبة إلى المستوغر بن ربيعة، وكذا في طبقات ابن سلام طبعة أوروبا 12.
4 قبله:
إذا ما المرء صم فلم يكلم ... وأعيا سمعه إلا ندايا
والعظاء واحدها عظاية وهي دويبة. واحتراشها: صيدها.
5 "يؤبى" كذا في أ. وفي ش، ب: "تؤبى" و"الشفايا" كذا في ش، ب. وهو الصواب. وفي أ: "الشفأ ا" يراد الشفاءا وهو خطأ.
6 يريد المازني. وقد جاء هذا في تصريف المازني ص459 تيمور والعبارة فيه: "فإن الشاعر شبه ألف النصب بها التأنيث حين قال عظاية وصلاية وما أشبهه".
7 هذا جزء من بيت تمامه:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
وهو من أرجوزة لأبي النجم العجلي. وانظر الكتاب 1/ 44، والخزانة في الشاهد 56.(1/293)
فإن قلت: فإن هاء بيان الحركة قد عاقبت لام الفعل؛ نحو ارمه, واغزه, واخشه, فهذا يقويها, فإنه موضع لا يجوز1 أن يسوى به بينها وبين ألف الإطلاق. والوجه الآخر الذي لأجله حسن حذف المعطوف أن الخبر جاء بلفظ التثنية2، فكان ذلك دليلا على أن المخبر عنه اثنان. فدل الخبر على حال المخبر عنه. إذ كان الثاني هو الأول. فهذا أحد وجهي3 ما تحتمله الحكاية.
والآخر4 أن يكون الكلام محمولا على حذف المضاف أي راكب الناقة أحد طليحين, كما يحتمل ذلك قوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي من أحدهما وقد ذهب5 فيه إليه فيما حكاه أبو الحسن. فالوجه6 الأول وهو ما كنا عليه: من أن المحذوف من اللفظ إذا دلت الدلالة عليه كان بمنزلة الملفوظ به, ألا ترى أن الخبر لما جاء مثنى دل على أن المخبر عنه مثنى كذلك أيضًا، وفي هذا القول7 دليل على ما يرد من نحوه بمشيئة الله "وحوله"8.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ما".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "التنبيه". وهو تصحيف، يريد قوله: "طليحان".
3 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
4 هذا مقابل قوله في ص290: "أحدهما ما نحن عليه من الحذف".
5 في الحجة بعد أن أورد ما ذكره المؤلف: "وقال أبو الحسن: زعم قوم أنه يخرج من العذب أيضًا" ويخطر في خلدي لهذا أنه سقط هنا بعد "أحدهما": "لا منهما".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالأوجه".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "القدر".
8 زيادة في ش، ب. وقد خلت منها أ.(1/294)
باب في نقض المراتب إذا عرض هناك عارض:
من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو ضرب غلامه زيدًا. فهذا1 لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم وإنما امتنع لقرينة انضمت إليه، وهي
إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول وفساد تقدم المضمر على مظهره لفظًا ومعنى. فلهذا وجب2 إذا أردت تصحيح المسئلة أن تؤخر الفاعل فتقول: ضرب زيدًا غلامه، وعليه قول الله سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وأجمعوا3 على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيدًا لتقدم المضمر على مظهره لفظًا ومعنى. وقالوا في قول النابغة 4:
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
إن الهاء عائدة على5 مذكور متقدم كل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول عليه مضافًا " إلى الفاعل"6 فيكون مقدمًا عليه لفظًا ومعنى. وأما أنا فأجيز7 أن تكون الهاء في قوله:
جزى ربه عني عدي بن حاتم
عائدة على "عدي" خلافًا على الجماعة.
فإن قيل: ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدم، والمفعول رتبته التأخر8، فقد وقع كل9 منهما الموقع الذي هو أولى به فليس لك أن تعتقد في الفاعل وقد وقع مقدمًا أن
__________
1 كذا في أ. وقد سقطت "لم" في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "أوجب".
3 من القائلين بالجواز أبو عبد الله الطوال محمد بن أحمد. وهو من أصحاب الكسائي، وكانت وفاته سنة 243، فكأن ابن جني لم يطلع على خلافه. وانظر كتب النحو في مبحث الفاعل.
4 أي الذبياني. والذي عليه الرواة أن قائل هذا أبو الأسود الدؤلي يهجو عدي بن حاتم. وإنما وهم من وهم في نسبته إلى النابغة أن للنابغة شعرًا شبيها بهذا وهو:
جزى الله عبسا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاريات وقد فعل
ويقول العيني: "عزاه بعضهم إلى النابغة الذبياني، وأبو عبيدة إلى عبد الله بن همارق، والأعلم لأبي الأسود. وقيل: لم يدر قائله، حتى قال ابن كيسان: أحسبه مولدا مصنوعا، والبيت من شواهد النحو في باب الفاعل، وانظر الخزانة طبعة السلفية 1/ 253, والعيني 2/ 487 على هامش الخزانة.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "إلى".
6 كذا في الأصول، والمناسب، "إليه".
7 كذا في أ. وفي ب، ش: "فإني أجيز".
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "التأخير".
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "كل واحدة".(1/295)
إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول وفساد تقدم المضمر على مظهره لفظًا ومعنى. فلهذا وجب1 إذا أردت تصحيح المسئلة أن تؤخر الفاعل فتقول: ضرب زيدًا غلامه، وعليه قول الله سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وأجمعوا2 على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيدًا لتقدم المضمر على مظهره لفظًا ومعنى. وقالوا في قول النابغة 3:
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
إن الهاء عائدة على4 مذكور متقدم كل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول عليه مضافًا " إلى الفاعل"5 فيكون مقدمًا عليه لفظًا ومعنى. وأما أنا فأجيز6 أن تكون الهاء في قوله:
جزى ربه عني عدي بن حاتم
عائدة على "عدي" خلافًا على الجماعة.
فإن قيل: ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدم، والمفعول رتبته التأخر7، فقد وقع كل8 منهما الموقع الذي هو أولى به فليس لك أن تعتقد في الفاعل وقد وقع مقدمًا أن
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "أوجب".
2 من القائلين بالجواز أبو عبد الله الطوال محمد بن أحمد. وهو من أصحاب الكسائي، وكانت وفاته سنة 243، فكأن ابن جني لم يطلع على خلافه. وانظر كتب النحو في مبحث الفاعل.
3 أي الذبياني. والذي عليه الرواة أن قائل هذا أبو الأسود الدؤلي يهجو عدي بن حاتم. وإنما وهم من وهم في نسبته إلى النابغة أن للنابغة شعرًا شبيها بهذا وهو:
جزى الله عبسا عبس آل بغيض ... جزاء الكلاب العاريات وقد فعل
ويقول العيني: "عزاه بعضهم إلى النابغة الذبياني، وأبو عبيدة إلى عبد الله بن همارق، والأعلم لأبي الأسود. وقيل: لم يدر قائله، حتى قال ابن كيسان: أحسبه مولدا مصنوعا، والبيت من شواهد النحو في باب الفاعل، وانظر الخزانة طبعة السلفية 1/ 253, والعيني 2/ 487 على هامش الخزانة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "إلى".
5 كذا في الأصول، والمناسب، "إليه".
6 كذا في أ. وفي ب، ش: "فإني أجيز".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "التأخير".
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "كل واحدة".(1/296)
إذا هبطا الأرض المخوف بها الردى ... يخفض من جاشيهما منصلاهما1
وقول لبيد:
فمدافع الريان عُرِّيَ رسمها ... خلقًا كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها2
ومن أبيات الكتاب 3:
اعتاد قلبك من سلمى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
فقدم المفعول في المصراعين جميعًا وللبيد أيضًا:
رزقت مرابيع النجوم وصابها ... ودق الرواعد جودها فرهامها
وله أيضًا:
لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب ما يمن طعامها4
وقال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وقال الآخر:
أبعدك الله من قلب نصحت له ... في حب جمل ويأبى غير عصياني
وقال المرقش الأكبر:
لم يشج قلبي مِلحوادث إلـ ... ـلا صاحبي المتروك في تغلم5
__________
1 تقول ذلك في أخويها ترثيهما. وفي الحماسة أن هذا لعمرة في ابنيها ترثيهما. ومن هذه المرثية ما يستشهد به النحويون في باب الإضافة:
هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة فدعاهما
وانظر العيني في شواهد الإضافة، والأعلم في المرجع السابق، واللسان في "أبو".
2 من معلقته التي أولها:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها
3 1/ 142، وفي شواهد المغني للبغدادي 2/ 926: "قال ابن خلف: الشعر لعمر بن أبي ربيعة" ولم أره في الديوان.
4 يصف بقرة وحشية تضطرب لولدها الذي أكلته السباع، وهو المعني بالمعفر القهد. والمعفر: الذي قطعت عنه الرضاعة أياما يراد فطامه. والقهد: الأبيض في كدرة. ويعني بالغبس الكواسب السباع، وجعلها لا يمن طعامها لأنهن يكسبنه بأنفسهن فلا يد عليهن لأحد. وقوله: "غبس" كذا في أ. وفي ش: "غبش".
5 هذا من قصيدة مفضلية، يرثي صاحبًا له دفن في تغلم وهو موضع. وانظر شرح ابن الأنباري للمفضليات 487.(1/297)
وفيها:
في باذخات من عماية أو ... يرفعه دون السماء خيم1
والأمر في كثرة تقديم المفعول على الفاعل في القرآن وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر فلما كثر وشاع تقديم المفعول "على الفاعل"2 كان الموضع له، حتى إنه إذا أخر فموضعه التقديم فعلى ذلك كأنه قال: جزى عديَّ بن حاتم ربُّه ثم قدم الفاعل على أنه قد قدره مقدمًا عليه مفعوله فجاز ذلك3، ولا تستنكر هذا الذي صورته لك ولا يجف عليك فإنه مما تقبله هذه اللغة ولا تعافه ولا تتبشعه ألا ترى أن سيبويه أجاز في جر "الوجه" من قولك: هذا الحسن الوجهِ أن يكون من موضعين: أحدهما بإضافة الحسن إليه، والآخر تشبيه4 له بالضارب الرجل هذا مع أنا قد أحطنا علمًا بأن الجر في "الرجل" من قولك: هذا الضارب الرجل إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إياه بالحسن الوجه لكن لما اطرد الجر في نحو هذا الضارب الرجل والشاتم الغلام صار كأنه أصل في بابه حتى دع ذاك سيبويه إلى أن عاد "فشبه الحسن الوجه "5 بالضارب الرجل، "من الجهة التي إنما صحت للضارب الرجل تشبيهًا بالحسن الوجه"6 وهذا يدلك على تمكن الفروع عندهم حتى إن أصولها
__________
1 قبله:
لو كان حي ناجيا لنجا ... من يومه المزلم الأعصم
والمزلم الأعصم: الوعل. وعماية جبل، وكذا خيم. يقول: هذا الوعل معتصم بأعالى الجبال ومع ذلك يدركه الموت. وقوله "في باذخات" كذا في أ. وهو الصواب. وفي ش، ب: "باذخ".
2 زيادة في ش خلت منها أ، ب.
3 كذا في أ, ش، وفي ب: "لذلك".
4 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "تشبيه".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "فشبه به الحسن الوجه".
6 ما بين القوسين زيادة في ش، ب، د، هـ، خلت منها أ.(1/298)
التي أعطتها حكمًا من أحكامها قد حارت فاستعادت1 من فروعها ما كانت هي أدته إليها وجعلته عطية منها لها فكذلك أيضًا يصير تقديم المفعول لما استمر وكثر كأنه هو الأصل وتأخير الفاعل كأنه أيضًا هو الأصل.
فإن قلت إن هذا ليس مرفوعًا إلى العرب ولا محكيًا عنها أنها رأته مذهبًا وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولًا ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره في هذه العلة ولا غيرها، فإن2 الجواب عن هذا حاضر عتيد والخطب فيه أيسر وسنذكره في باب يلي هذا بإذن الله. ويؤكد أن الهاء في " ربه " لعدي3 بن حاتم من جهة المعنى عادة العرب في الدعاء ألا تراك لا تكاد تقول: جزى رب زيد عمرًا وإنما يقال: جزاك ربك خيرًا أو شرًا. وذلك أوفق لأنه إذا كان مجازيه ربه كان أقدر على جزائه وأملأ4 به. ولذلك جرى العرف بذلك فاعرفه.
ومما نقضت مرتبته المفعول في الاستفهام والشرط فإنهما5 يجيئان مقدمين6 على الفعلين الناصبين لهما وإن كانت رتبة المعمول أن يكون بعد العامل فيه. وذلك قوله سبحانه وتعالى {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فـ " أي منقلب " منصوب على المصدر بـ "ينقلبون " لا بـ "سيعلم " وكذلك قوله تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "واستعادت". وفي الخزانة في شواهد الفاعل: "فاستعارت".
2 جواب قوله: "فإن قلت إن هذا ... ".
3 عرض ابن يعيش في شرح المفصل 1/ 72 لمذهب ابن جني في مسألة "ضرب غلامه زيدا" ورأيه في مرجع الضمير في البيت، ثم قال: "وذلك خلاف ما عليه الجمهور" والصواب أن تكون الهاء عائدة إلى المصدر، والتقدير: جزى رب الجزاء، وصار ذكر الفعل كتقديم المصدر؛ إذ كان دالا عليه". وترى مثل هذا في أمالي ابن الشجري 1/ 102.
4 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "إملائه" وفي عبارة الخزانة: "إيلامه". والوجه ما أثبتنا. و"أملأ به" أي أوثق بأدائه، يقال: ملؤ فهو مليء إذا كان ثقة غنيا.
5 أي المفعول في الاستفهام والمفعول في الشرط، وقد ثنى الضمير نظرا لهذا التعدد.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "متقدمين".
7 كذا في ب، ش. وفي أ: "بيعلم".(1/299)
قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} وقال: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فهذا ونحوه لم يلزم تقديمه من حيث كان مفعولًا. وكيف يكون ذلك وقد قال عز اسمه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} وقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وهو ملء الدنيا كثرة وسعة لكن إنما وجب تقديمه لقرينة انضمت إلى ذلك وهي وجوب تقدم الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها. فهذا من النقض العارض.
ومن ذلك وجوب تأخير المبتدأ إذا كان نكرة وكان الخبر عنه ظرفًا نحو قولهم: عندك مال وعليك دين وتحتك بساطان ومعك ألفان. فهذه الأسماء كلها مرفوعة بالابتداء ومواضعها التقديم على الظروف قبلها التي هي أخبار عنها إلا أن مانعًا منع من ذلك حتى لا تقدمها1 عليها، ألا "ترى أنك"2 لو قلت: غلام لك أو بساطان تحتك ونحو ذلك لم يحسن3، لا لأن المبتدأ ليس "موضعه التقديم"4 لكن لأمر حدث وهو كون المبتدأ هنا نكرة ألا تراه لو كان معرفة لاستمر وتوجه تقديمه فتقول: البساطان تحتك والغلام لك. أفلا ترى أن ذلك إنما فسد تقديمه لما ذكرناه: من قبح تقديم المبتدأ نكرة في الواجب ولكن لو أزلت الكلام إلى غير الواجب لجاز تقديم النكرة كقولك: هل غلام عندك وما بساط تحتك فجنيت الفائدة من حيث كنت قد أفدت بنفيك عنه كون البساط تحته واستفهامك عن الغلام: أهو عنده أم لا؟ إذ كان هذا معنى جليًا مفهومًا. ولو أخبرت عن النكرة في الإيجاب مقدمة فقلت: رجل عندك كنت قد أخبرت عن منكور لا يعرف وإنما ينبغي أن تقدم المعرفة ثم تخبر عنها بخبر يستفاد منه معنى منكور نحو زيد عندك ومحمد منطلق وهذا واضح. فإن قلت: فلم وجب مع هذا تأخير النكرة في الإخبار عنها بالواجب قيل لما قبح ابتداؤها نكرة لما ذكرناه رأوا تأخيرها وإيقاعها في موقع الخبر الذي بابه أن يكون نكرة فكان ذلك إصلاحًا للفظ كما أخروا اللام لام الابتداء مع "إن " في قولهم: إن زيدًا لقائم لإصلاح اللفظ. وسترى ذلك في بابه بعون الله وقدرته. فاعلم إذًا أنه لا تنقض مرتبة إلا لأمر حادث فتأمله وابحث عنه.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "يقدمها".
2 كذا في ش، ب وفي أ: "تراك".
3 كذا في أ. وفي ش، ب، د، هـ: "يجز".
4 كذا في أ. وفي ش، د، هـ، ب: "موضعه يحسن التقديم".(1/300)
باب في غلبة الفروع على الأصول
...
باب من غلبة الفروع على الأصول:
هذا فصل من فصول العربية طريف1؛ تجده في معاني العرب، كما تجده في معاني الإعراب 2. ولا تكاد تجد شيئًا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة.
فمما جاء فيه ذلك للعرب قول ذي الرمة:
ورمل كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس3
أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعًا والفرع أصلًا. وذلك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء ألا ترى إلى قوله:
ليلى قضيب تحته كثيب ... وفي القلاد رَشَأٌ ربيب4
__________
1 كذا في ب وفي ش، ج: "ظريف" وسقط هذا اللفظ في أ.
2 يريد ما يرجع إلى الإعراب في الكلام، ويجعل ذلك مقابلا لمعاني العرب التي تعالجها وأغراضها من الكلام. وسيعرض لهذا في قوله: "وهذا المعنى عينه قد استعمله النحويون".
3 "ألبسته": غطته. والحنادس جمع حندس "الحندس: اشتداد الظلمة، وقد ذهب بها مذهب الوصف" وانظر الديوان 318، والبيت من قصيدته التي مطعلها.
ألم تسأل اليوم الطلول الدوارس ... بحزوى وهل تدري القفار البسابس
وانظر أيضًا كامل المبرد ص2 ج7.
4 القلاد واحدها قلادة. والرشأ: الظبي إذا تحرك وقوي ومشى مع أمه. والبيت في اللسان في "قلد".(1/301)
وإلى قول ذي الرمة أيضًا -وهو من أبيات الكتاب1:
ترى خلفها نصفًا قناة قويمة ... ونصفًا نقًا يرتج أو يتمرمر2
وإلى قول الآخر:
خلقت غير خلقة النسوان ... إن قمت فالأعلى قضيب بان
وإن توليت فدعصتان ... وكل إد تفعل العينان3
وإلى قوله 4:
كدِعص النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
وما أحسن ما ساق الصنعة فيه الطائي الكبير:
كم أحرزت قضب الهندي مصلتةً ... تهتز من قضب تهتز في كثب5
__________
1 ص223 ج1.
2 قال الأعلم: "وصف امرأة فجعل أعلاها في الإرهاف واللطافة كالقناة، وأسفلها في امتلائه وكثافته كالنقا المرتج، والنقا: الكثيب من الرمل. وارتجاجه اضطرابه وانهيال بعضه على بعض للينه. والتمرمر أن يجري بعضه على بعض". وهو من قصيدة في الغزل بمية أولها:
خليلي لا ربع بوهبين مخبر ... ولا ذو حجي يستنطق الدار يعذر
وانظر الديوان.
3 "دعصتان" تثنية دعصة، وهي قطعة من الرمل. والإد: العجب والأمر العظيم. والشعر في اللسان في "دعص".
4 هو لامرئ القيس. وقد وقعت النسبة في ج.
5 من قصيدته التي أولها:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
و"قضب الهندي" أي الحديد أو الصنع الهندي يريد السيوف، و"مصلته تهتز" حالان من القضب، و"من قضب" تمييز "كم" ويريد بهذه القضب القدود القويمة فوق الأعجاز اللينة كالكثب من الرمال. يريد أن السيوف تظفر المصاولين بها بحسان النساء إذ يقعن في السبي، ومثله ما قبله:
كم كان في قطع أسباب الرقاب بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب
و"تهتز" كذا في ج. وفي ش، ب: "تهز". وقد سقط "تهتز" في الموضع الثاني في أ.(1/302)
"ولله البحتري"1 فما أعذب وأظرف وأدمث قوله:
أين الغزال المستعير من التقا ... كفلا ومن نور الأقاحي مبسما2
فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء. وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة أي قد ثبت هذا الموضع وهذا3 المعنى لأعجاز النساء وصار4 كأنه الأصل فيه حتى شبه به كثبان الأنقاء. ومثله للطائي الصغير:
في طلعة البدر شيء من ملاحتها ... وللقضيب نصيب من تثنيها5
وآخر من6 جاء به شاعرنا، فقال:
نحن ركب مِلجِنِّ في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال7
فجعل كونهم جنًّا أصلا وجعل كونهم ناسًا فرعًا وجعل كون مطاياه طيرًا أصلًا وكونها جمالا فرعًا فشبه الحقيقة بالمجاز في المعنى الذي منه أفاد المجاز من الحقيقة
__________
1 كذا في ب، ج. وفي ش: "ولله در البحتري" وفي أ: "والبحتري" وهو عطف على الطائي.
2 من قصيدة يمدح فيها أحمد وإبراهيم ابني المدبر أولها:
أمحلي سلمى بكاظمة أسلما ... وتعلما أن الجوى ما هجما
وانظر الديوان.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهذا".
4 كذا في ب، ش. وفي أ: "فصار".
5 "من تثنيها". كذا في ج، وفي ب، ش: "في تثنيها". وهو من قصيدة في مدح المتوكل أولها:
أنافعي عند ليلى فرط حبيها ... ولوعة لي أبديها وأخفيها
6 كذا في أ. وفي ب، ج. ش: "ما".
7 من قصيدة في مدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي، أولها:
صلة الهجري وهجر الوصال ... نكسائي في السقم نكس الهلال
وبعده:
من بنات الجديل تمشى بنا في الـ ... ـبيد مشي الأيام في الآجال
وقوله: "فوق طير" أي فوق ركائب كالطير.(1/303)
ما أفاد. وعلى نحو من هذا قالوا "جمالية" لأنهم شبهوها بالجمل في شدته وعلو خلقه؛ قال الأعشى:
جمالية تغتلي بالردف ... إذا كذب الآثمات الهجيرا1
وقال الراعي:
على جمالية كالفحل هملاج
وهو كثير. فلما شاع ذلك واطرد صار كأنه أصل في بابه، حتى عادوا فشبهوا الجمل بالناقة في ذلك؛ فقال2:
وقربوا كل جُمالي عَضِه ... قريبةٍ ندوتُه من مَحمَضِه
فهذا من حملهم الأصل على الفرع فيما كان الفرع أفاده من الأصل، ونظائره في هذه اللغة كثيرة.
وهذا المعنى عينه قد استعمله النحويون في صناعتهم فشبهوا الأصل بالفرع في المعنى الذي أفاده ذلك الفرع من ذلك الأصل ألا ترى أن سيبويه أجاز في قولك: هذا الحسن الوجه أن يكون الجر في الوجه من موضعين، أحدهما
__________
1 "تغتلي": تسرع، والرداف جمع الرديف وهو -كالردف: من يركب خلف الراكب، يريد أنها تقوى على السير وفوقها أكثر من راكب، والآثمات من النوق: المبطئات، وكذب البعير الهجير: أساء السير فيه ولم يصدقه. وهو من قصيدة له في الديوان وقبله:
وبيداء يلعب فيها السرا ... ب لا يهتدي القوم فيها مسيرا
قطعت إذا سمع السامعو ... ن للجندب الجون فيها صريرا
ناجية كأتان التميل ... توفي السرى بعد أين عسيرا
2 هو هميان بن قحافة كما في اللسان في "جمل وعضه وحمض". وعضه: يرعى العضاء من الأشجار. والندوة موضع شرب الإبل. والمحمض: حيث يرعى الحمض وهو من النبات ما فيه ملوحة، وهو ما تشتهيه الإبل. يقول: موضع شربه قريب لا يتعب في طلب الماء. وانظر نوادر أبي زيد 114 والأمالي 2/ 252 والسمط 283.(1/304)
الإضافة والآخر تشبيهه بالضارب الرجل الذي إنما جاز فيه الجر تشبيهًا له بالحسن الوجه على ما تقدم في الباب قبل هذا.
فإن قيل: وما الذي سوغ سيبويه هذا وليس مما يرويه عن العرب رواية وإنما هو شيء رآه واعتقده لنفسه وعلل به قيل يدل على صحة ما رآه من هذا وذهب إليه ما عرفه وعرفناه معه: من أن العرب إذا شبهت شيئًا بشيء مكنت ذلك الشبه لهما، وعمرت1 به الحال بينهما؛ ألا تراهم لما شبهوا الفعل المضارع بالاسم فأعربوه تمموا ذلك المعنى بينهما بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه. وكذلك لما شبهوا الوقف بالوصل في نحو3 قولهم "عليه السلام والرحمت " وقوله 4:
بل جوزتيهاء كظهر الحجفت5
وقوله 6:
آلله نجاك بكفي مَسلمت ... من بعدما وبعدما وبعدمت7
صارت نفوس القوم عند الغلصمت ... وكادت الحرة أن تدعى أمت
__________
1 في اللسان "جمل": "عمت" ويبدو أنه تحريف عما هنا.
2 كذا في أ، ج، ش، ب: "فكذلك".
3 سقط لفظ "نحو" في ش، ب. وثبت في أ، ج.
4 أي سؤر الذئب كما في اللسان في "حجف"، وشواهد الشافية 200.
5 بعده:
قطعتها إذا المها تجوفت ... مآرنا إلى ذراها أهدفت
جوز التيهاء: وسطها والحجفة: الترس من جلد، وتجوفت: دخلت في جوفها. والمآرن أصلها المآرين جمع المئران وهو كناس الوحش، وذراها: ظلها، وأهدفت: لجأت. وقوله: "بل جوزتيهاء" أي رب جوزتيهاء. وقوله: كظهر الحجفة أي في الاستواء، وقوله: قطعتها إذا المها تجوفت مآرنا أي في وقت الظهيرة حين يدخل بقر الوحش كنسه من الحر وتلجأ إلى ظل المآرين.
6 هو أبو النجم كما في اللسان في "ما" وانظر شواهد الشافية 218، والخزانة 2/ 148.
7 "بعدمت" أراد: بعدما، فأبدل الألف هاء، ثم أبدل الهاء تاء تشبيها لهما بهاء التأنيث. انظر اللسان "ما".(1/305)
كذلك شبهوا أيضًا الوصل بالوقف في قولهم: ثلاثهَ اربعه يريد ثلاثه أربعه ثم تخفف الهمزة فتقول: ثلاثهَ اربَعَه وفي قولهم: " سبسبَّا وكلكلاّ"1. وكما أجروا غير اللازم مجرى اللازم في قولهم: "لَحمر2 ورُيا 3" وقولهم: وَهْوَ4 الله وَهْيَ4 التي فعلتْ وقوله 5:
فقمت للطيف مرتاعًا وأرقني ... فقلت أهي سرت أم عادني حلم6
__________
1 أي لو جربا في الشعر. ومن الأول قوله:
إن الدبي فوق المتون دبا ... وهبت الريح بمور هبا
تترك ما أبقى الدبي سبسبا
والدبي: الجراد. والمتون جمع المتن، وهو ما صلب من الأرض. والمور -بضم الميم- الغبار. والسبسب: القفر والمفازة.
ومن الثاني قوله:
كأن مهواها على الكلكل ... وموقعا من ثفنات زل
موقع كفى راهب يصلي ... في غبش الصبح وفي التجلي
وهو في وصف ناقته. والكلكل: الصدر. والثفنات جمع الثفنة، وهو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل. وزل: خفاف. وانظر شرط شواهد الشافية للبغدادي في الشاهدين، وفي الشاهد الثاني الخزانة 2/ 551.
2 يريد أن "الأحمر" إذا خفف بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام يجوز حذف همزة الوصل في غير الوصل لتحريك اللام. وهو وإن كان عارضا فقد أجري مجرى اللازم على هذا الوجه.
3 يريد أن "رؤيا" إذا خففت همزتها بإبدالها واوا فإن بعض العرب يرى إبدال الواو ياء لاجتماعها مع الياء وسبق إحداهما بالسكون، وهو يجعل العارض كالأصل اللازم، وعامة العرب على خلافه فيقولون: الرؤيا من غير إبدال.
4 أجرى واو العطف وهي ليست لازمة مجرى اللازمة التي هي جزء من الكلمة فخفف بتسكين ما هو في حكم الوسط.
5 هو زياد بن حمل من قصيدة طويلة في الحماسة، وقبله:
زارت رويقة شعثا بعد ما هجعوا ... لدى نواحل في أرساغها خدم
يريد أن خيال رويقة -وهو اسم محبوبته- زارهم وقد عرسوا في السفر. وأراد بالنواحل الرواحل، والخدم واحدها خدمة وهي السير يشد عليها. وانظر الخزانة 2/ 391، وشرح الحماسة للتبريزي طبعة بن 608.
6 "للطيف" كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "للضيف"، "وأرقني" كذا هو في أ، ب، ش. والمعروف في الرواية: "فأرقني".(1/306)
وقولهم ها1 الله ذا, أجروه مجرى دابة وقوله:
ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتابٌ وغادي2
أجرى "تَقِ فَ "3 مجرى علم حتى صار "تَقْفَ " كعَلْمَ, كذلك4 أيضًا أجروا اللازم مجرى غير اللازم في قول الله سبحانه: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 5 فأجرى النصب مجرى الرفع الذي لا تلزم فيه الحركة6 ومجرى7 الجزم الذي لا يلزم فيه الحرف أصلا وكما حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حد التثينة, كذلك حمل الجر على النصب فيما لا ينصرف وكما شبهت الياء بالألف في قوله:
كأن أيديهن بالقاع القَرِق8
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "هاء"، وهو خطأ. و"ها" للتنبيه، وهي من تمام "ذا" وانظر شرح الرضي للكافية 2/ 336 وما بعدها. ويقرأ "ها الله" بإثبات ألف "ها" كما هي في الرسم.
2 "رزق الله" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "رزق المرء" والبيت أورده اللسان في "أوب ووقى" غير معزو: وانظر شواهد الشافية 228، وقد ورد في السيرافي غير معزو أيضًا، في 1/ 270، 5/ 402، 6/ 333 من نسخة التيمورية، والصاحبي 19.
3 عبارة ابن سيده: "أراد: يتق. فأجرى تق ف، من "يتق فإن" مجرى علم، فخفف كقولهم هلم في علم وانظر اللسان "وقى". وقوله: "تق ف" كذا في ش، ب، ج. وسقط في أ "ف".
4 موصول بقوله آنفا: "كما أجروا غير اللازم مجرى اللازم".
5 أي بالاقتصار على ياء واحدة. وهذا في قراءة طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان، أما قراءة الجمهور فنصب يحيى وإظهار الياء الثانية. وانظر البحر المحيط 8/ 391.
6 كذا في أ، ب، ش. والمناسب: "أز".
7 ثبت لفظ "مجرى" في ش، ب، ج وسقط في أ.
8 بعده:
أيدي نساء يتعاطين الورق
وهو في وصف إبل بسرعة السير. والفرق: المكان المستوي لا حجارة فيه. والورق: الدراهم. وانظر اللسان في "فرق"، وهو مما نسب إلى رؤبة في الديوان 179 وانظر الخزانة 3/ 529، وأمالي ابن الشجري 1/ 105.(1/307)
وقوله 1:
يا دار هند عفت إلا أثافيها
كذلك حملت الألف على الياء في قوله -فيما أنشد أبو زيد:
إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضّاها ولا تملَّق2
وكما وضع الضمير المنفصل موضع المتصل في قوله:
إليك حتى بلغت إياكا
ومنه قول أمية 3:
بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير
كذلك وضع أيضا المتصل موضع المنفصل في قوله:
فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار4
وكما قلبت الواو ياء استحسانًا, لا عن قوة علة في نحو غديان5، وعشيان5، وأبيض لياح5، كذلك أيضًا "قلبت الياء واوًا"6 في نحو الفتوى والرعوى والتقوى،
__________
1 أورد سيبويه في الكتاب 2/ 55 هذا الشطر ونسبه إلى بعض السعديين.
2 نسبه العيني إلى رؤبة. انظر شواهد المعرب والمبني، وهو في ديوان رؤبة 179 فيما نسب إليه.
3 قال العيني في شواهد الضمير: "قاله الفرزدق، وما قيل أنه لأمية بن أبي الصلت غير صحيح". وقبله:
إني حلفت ولم أحلف على فند ... فناء بيت من الساعين معمور
وبعده بيت:
لو لم يبشر به عيسى وبينه ... كنت النبي الذي يدعو إلى النور
وهو من قصيدة للفرزدق مدح يزيد بن عبد الملك وهجاء يزيد بن المهلب، وانظر الديوان 102 طبع أوروبا؛ ومختصر الشواهد للعيني 28، وقوله: "بالوارث" في الأصول: "الوارث" وهو تحريف.
4 قال: العيني: "أنشده الفراء ولم يعزه إلى أحد".
5 غديان وصف من غدي -بكسر الدال- تغدى وعشيان وصف من عشي -بكسر الشين- تعشى، وأبيض لياح: شديد البياض. ويقال فيه أيضا لِياح بالكسر.
6 أثبتت هذه الجملة هنا وفقا لما في أ، ج. وفي ش، ب: أخرت هذه الجملة عن "الشروي".(1/308)
والبقوى, والثنوى, والشروى -وقد ذكر1 ذلك- وقولهم عوى الكلب عوة. وكما أتبعوا الثاني الأول في نحو شد وفر وعض ومنذ كذلك أتبعوا الأول الثاني في نحو: اقتل اخرج ادخل وأشباه هذا كثير2، فلما رأى سيبويه العرب إذا شبهت شيئًا بشيء فحملته على حكمه عادت أيضًا فحملت الآخر على حكم صاحبه, تثبيتًا لهما وتتميمًا لمعنى الشبه بينهما حكم أيضًا لجر الوجه من قوله " هذا الحسن الوجه " أن يكون محمولًا على جر الرجل في قولهم " هذا الضارب الرجل " كما أجازوا أيضًا النصب في قولهم "هذا الحسن الوجهَ " حملًا له منهم على " هذا الضارب الرجل " ونظيره قولهم: يا أميمة3، ألا تراهم حذفوا الهاء فقالوا: أميم فلما أعادوا الهاء أقروا الفتحة بحالها اعتيادًا للفتحة في الميم وإن كان الحذف فرعًا.
وكذلك قولهم "اجتمعت أهل اليمامة"4 أصله "اجتمع أهل اليمامة " ثم حذف المضاف فأنث الفعل فصار "اجتمعت اليمامة" ثم أعيد المحذوف فأقر التأنيث الذي هو الفرع بحاله فقيل اجتمعت أهل اليمامة "نعم " وأيد ذلك ما قدمنا ذكره؛ من عكسهم التشبيه وجعلهم فيه الأصول محمولة على الفروع، في تشبيههم كشبان الأنقاء بأعجاز النساء، وغير ذلك مما قدمنا ذكره.
ولما كان النحويون بالعرب لاحقين, وعلى سمتهم آخذين, وبألفاظهم متحلين ولمعانيهم وقصودهم آمين، جاز لصاحب5 هذا العلم الذي جمع شعاعه وشرع أوضاعه ورسم أشكاله ووسم أغفاله7، وخلج أشطانه،
__________
1 انظر 88 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "كثيرة".
3 من هذا قول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
فقد روي بفتح الفاء وخرجه سيبويه على ما ذكره المؤلف. وانظر الكتاب 1/ 315.
4 كذا في أ. وقد سقط هذا اللفظ في ش، وأثبت في ب ولكن ضرب عليه. وانظر في هذا سيبويه 1/ 26.
5 ثناء على سيبويه. وهو به حقيق.
6 أي ما تفرق منه.
7 واحده غفل -كقفل- وهو ما لا سمة.(1/309)
وبعج أحضانه، وزم شوارده, وأفاء1 فوارده، أن يرى فيه نحوًا مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التي حذوا وأن يعتقد في هذا الموضع نحوًا مما اعتقدوا في أمثاله لا سيما والقياس إليه مصغ وله قابل وعنه غير متثاقل. فاعرف إذًا ما نحن عليه للعرب مذهبًا ولمن شرح لغاتها مضطربًا وأن سيبويه لاحق بهم وغير بعيد فيه عنهم. ولذلك عندنا لم يتعقب هذا الموضع عليه أحد من أصحابه2 ولا غيرهم، ولا أضافوه إلى ما نعوه عليه وإن كان بحمد الله ساقطًا عنه وحرىً بالاعتذار هم منه. وأجاز سيبويه أيضًا نحو هذا وهو قوله "زيدًا إذا يأتيني أضرب "3 فنصبه بـ "أضرب " ونوى تقديمه حتى كأنه قال "زيدًا أضرب إذا يأتيني" ألا ترى إلى نيته بما يكون جوابًا ل "إذا " -وقد وقع في موقعه- أن يكون التقدير فيه تقديمه عن موضعه.
ومن غلبة الفروع للأصول إعرابهم في الآحاد بالحركات نحو زيدٌ وزيدًا, وزيدٍ وهو يقوم وإذا تجووزت رتبة الآحاد4 أعربوا بالحروف نحو الزيدان، والزيدين، والزيدون والعمرين وهما يقومان وهم ينطلقون. فأما ما جاء في الواحد من ذلك نحو أخوك وأباك وهنيك فإن أبا بكر ذهب فيه إلى أن العرب قدمت منه هذا القدر توطئة لما أجمعوه من الإعراب في التثنية والجمع بالحروف. وهذا أيضًا نحو آخر من حمل الأصل على الفرع ألا تراهم أعربوا بعض الآحاد بالحروف حملًا لهم على ذلك في التثنية والجمع. فأما قولهم " أنت تفعلين "
__________
1 الفوارد واحدها فارد وفاردة، وهو المنقطع من الحيوان عن القطيع، وأفاء الفوارد: رجعها وأعادها إلى جماعتها.
2 كذا في ش، أ، ج. وفي ب: "أصحابنا".
3 هذا جار في الجواب المرفوع أن يجوز تقديم معموله على أداة الشرط بلا خلاف. وإنما يجري الخلاف في تقديم معمول الجواب المجزوم. وانظر الهمع 2/ 61، والكتاب 1/ 68.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "الأعداد".(1/310)
فإنهم إنما أعربوه بالحرف1 وإن كان في رتبة الآحاد -وهي الأول- من حيث كان قد صار بالتأنيث إلى حكم الفرعية ومعلوم أن الحرف أقوى من الحركة فقد ترى إلى علم إعراب الواحد أضعف لفظًا من إعراب ما فوقه فصار -لذلك- الأقوى كأنه الأصل والأضعف كأنه الفرع.
ومن ذلك حذفهم الأصل لشبهه عندهم بالفرع ألا تراهم لما حذفوا الحركات -ونحن نعلم أنها زوائد في نحو لم يذهب ولم ينطلق- تجاوزوا ذلك إلى أن حذفوا للجزم أيضًا الحروف الأصول فقالوا: لم يخش ولم ير ولم يغز. ومن ذلك "أيضًا"2 أنهم حذفوا ألف مغزىً3، ومدعىً في الإضافة فأجازوا مغزِيّ ومرمِيّ ومَدعِيّ فحملوا الألف هنا -وهي لام- على الألف الزائدة في نحو4 حبلىّ وسكرىّ. ومن ذلك حذفهم ياء تحية وإن كانت أصلًا حملًا لها على ياء شقية وإن كانت زائدة فلذلك قالوا تحويّ كما قالوا سقويّ وغنويّ في شقية وغنية. وحذفوا أيضًا النون الأصلية في قوله 5:
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
وفي قوله6:
كأنهما ملآن لم يتغيرا
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بالحروف".
2 زيادة في أ، ب.
3 كذا في أ. وفي ب، ج. "معزى".
4 ثبت لفظ "نحو" في أ، وسقط في ش، ب.
5 هو النجاشي الحارثي. وانظر شرح شواهد المغني للسيوطي 229 والكتاب 1/ 9. والشطر الذي أورده من أبيات فيها حديث عن ذئب لقيه على ماء ورده، وقبله:
فقلت له يا ذئب هل لك في أخ ... يواسي بلا من عليك ولا بخل
فقال هداك الله للرشد إنما ... دعوت لما لم يأته سبع قبلي
فلست بآنيه ولا أستطيعه ... ولاك استقنى إن كان ماؤك ذا فضل
6 عجزه:
وقد مر للدارين من بعدنا عصر
وانظر اللسان في "أين" وهو من قصيدة لأبي صخر الهذلي في الأمالي 1/ 148، وبقية أشعار الهذليين 93 وقيل هذا البيت:
لليلى بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بذات البين آياتها سطر(1/311)
وقوله 1:
أبلغ أبا دختنوس مألكةً ... غير الذي قد يقال مِلكذب2
كما حذفوا الزائدة3 في قوله 4:
وحاتم الطائي وهاب المئي
وقوله 5:
ولا ذاكر الله إلا قليلا
ومن ذلك حملهم التثنية -وهي أقرب إلى الواحد- على الجمع وهو أنأى عنه؛ ألا تراهم قلبوا همزة التأنيث فيها فقالوا: حمراوان وأربعاوان كما قلبوها فيه واوًا فقالوا: حمراوات علمًا وصحراوات وأربعاوات. ومن ذلك حملهم الاسم -وهو الأصل- على الفعل -وهو الفرع- في باب ما لا ينصرف "نعم " وتجاوزوا بالاسم رتبة الفعل إلى أن شبهوه بما ورءاه -وهو الحرف- فبنوه نحو أمس وأين وكيف وكم وإذا. وعلى ذلك ذهب بعضهم في ترك تصرف " ليس" إلى أنها ألحقت بـ "ما " فيه كما ألحقت "ما " 6 بها في العمل في اللغة الحجازية. وكذلك قال أيضًا في " عسى ": "إنها"7 منعت التصرف لحملهم إياها على لعل. فهذا ونحوه يدلك على قوة تداخل هذه اللغة وتلامحها8، واتصال أجزائها وتلاحقها وتناسب أوضاعها وأنها لم تقتعث9 اقتعاثًا ولا هيلت هيلا, وأن واضعها عني بها وأحسن جوارها10، وأمد بالإصابة والأصالة فيها.
__________
1 انظر البيت في اللسان في "ألك".
2 أبو دختنوس لقيط بن زرارة. ودختنوس سماها باسم بنت كسرى ويقال: دختنوش. وهي منقولة عن الفارسية أصلها دخت نوش، ومعناه: بنت الهنيء. وانظر اللسان، والمعرب للجواليقي 142. وقوله: "ملكذب". يريد: من الكذب. وانظر أمالي ابن الشجري 1/ 97.
3 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "الزوائد".
4 عزاه في اللسان في "مأى" إلى امرأة من عقيل تفخر بأخوالها من اليمن وكذا في النوادر 91 والخزانة 3/ 304 وقبله:
حيدة خالي ولقيط وعلي
5 هو أبو الأسود الدؤلي. وانظر الخزانة طبعة السلفية، 1/ 258 والشطر الذي أورده صدره:
فألقيته غير مستعتب
6 كذا في أ. وفي ب: "فيه".
7 كذا في أ. وفي ش، ب، د، هـ: "إنها المراد وسقط ما".
8 كذا في أ. وفي ش: "تحاملها" وفي ب: "تلاحمها".
9 كأنه يريد أنها ليست جزافا، بل هي مقدرة بمقياس، يقال: قعث له إذا حقن له بيده وأعطاء، واقتعث العطية إذا أكثرها وفي هذا معنى الخروج عن التقدير والحساب.
10 كذا في أ، ب. وفي ش: "جوازها".(1/312)
باب في إصلاح 1 اللفظ:
اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمة وعليها أدلة وإليها موصلة، وعلى2 المراد منها محصلة عنيت العرب بها فأولتها صدرًا3 صالحًا من تثقيفها وإصلاحها.
فمن ذلك قولهم: أما زيد فمنطلق ألا ترى أن تحرير هذا القول إذا صرحت بلفظ الشرط فيه صرت إلى أنك كأنك قلت: مهما يكن من شيء فزيد منطلق قتجد الفاء في جواب الشرط في صدر الجزأين مقدمة عليهما. وأنت في قولك: أما زيد فمنطلق إنما تجد الفاء واسطة بين الجزأين ولا تقول: أما فزيد منطلق كما تقول فيما هو "في معناه "4: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. وإنما فعل ذلك لإصلاح اللفظ.
ووجه إصلاحه أن هذه الفاء وإن كانت جوابًا ولم تكن عاطفة فإنها على مذهب5 لفظ العاطفة وبصورتها فلو قالوا: أما فزيد منطلق كما يقولون: مهما يكن من شيء فزيد منطلق لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف بعدها اسم
__________
1 كذا في أ، ش، ج. وفي ب: "اصطلاح".
2 كأنه ضمن "محصلة" معنى موفقة، فعداه بـ"على".
3 كذا في ب، ش، ج. وقد سقط هذا اللفظ في أ.
4 كذا في ش، ب، د، هـ. وفي أ: "بمعناه".
5 ثبت هذا اللفظ في أ. وسقط في ش، ب، ج.(1/313)
وليس قبلها اسم، إنما قبلها في اللفظ حرف, وهو أما. فتنكبوا ذلك لما ذكرنا, ووسطوها بين الحرفين ليكون قبلها اسم وبعدها آخر فتأتي على صورة العاطفة؛ فقالوا: أما زيد فمنطلق كما تأتي عاطفة بين الاسمين في نحو قام زيد فعمرو. وهذا تفسير أبي علي رحمه الله تعالى. وهو الصواب.
ومثله امتناعهم أن يقولوا: انتظرتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس, فينصبوه1 على أنه مفعول معه؛ كما ينصبون نحو قمت وزيدًا, أي مع زيد. قال أبو الحسن: وإنما ذلك لأن الواو التي بمعنى مع لا تستعمل إلا في الموضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لجاز. ولو قلت: انتظرتك وطلوع الشمس أي و "انتظرك2 طلوع الشمس" لم يجز. أفلا ترى إلى إجرائهم الواو غير العاطفة في هذا مجرى العاطفة فكذلك أيضًا تجري الفاء غير العاطفة في نحو أما زيد فمنطلق مجرى العاطفة, فلا يؤتى بعدها بما لا شبيه له في جواز العطف عليه3 قبلها.
ومن ذلك قولهم في جمع تمرة وبسرة ونحو ذلك: تمرات وبسرات فكرهوا إقرار التاء تناكرًا لاجتماع علامتي تأنيث في لفظ اسم واحد فحذفت وهي في النية -مرادة البتة4- لا لشيء5 إلا لإصلاح اللفظ لأنها في المعنى مقدرة منوية6
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فنصبوه".
2 كذا في أ. وفي ب: "انتظرتك وطلوع الشمس". يريد أنه لا يصح تسليط الانتظار على طلوع الشمس لأن الشمس لا يقع منها انتظار، فلا يصح عطفه على التاء، ومن ثم لا يصح نصبه على المفعول معه. وهذا رأي الأخفش. وجمهور النحاة لا يلتزمون هذا، ومن الجائز عندهم سرت والنيل، والنيل لا يسير وانظر سر الصناعة في حرف الباء. وشرح الرضي للكافية في المفعول معه 1/ 195.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "عليها".
4 ثبت ما بين القوسين. وفي ش، ب: وسقط في أ.
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بشيء".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: منونة". وهو تحريف.(1/314)
لا غير ألا تراك إذا قلت "تمرات" لم يعترض شك في أن الواحدة منها تمرة, وهذا واضح. " والعناية" 1 إذًا في الحذف إنما هي بإصلاح2 اللفظ إذ المعنى ناطق بالتاء مقتض لها حاكم بموضعها 3.
ومن ذلك قولهم: إن زيدًا لقائم فهذه لام الابتداء وموضعها أول الجملة وصدرها لا آخرها وعجزها فتقديرها4 أول: لَئنّ زيدًا منطلق فلما كره تلاقي حرفين لمعنى واحد -وهو التوكيد- أخرت اللام إلى الخبر فصار إن زيدًا لمنطلق.
فإن قيل: هلا أخرت "إن " وقدمت اللام قيل: لفساد ذلك من أوجه: أحدها أن اللام لو تقدمت وتأخرت " إن " لم يجز أن تنصب "إن " اسمها الذي5 من عادتها نصبه من قبل أن لام الابتداء إذا لقيت الاسم المبتدأ قوت سببه وحمت من العوامل جانبه فكان يلزمك أن ترفعه فتقول: لَزيدٌ إنَّ قائم ولم يكن إلى نصب "زيد " -وفيه لام الابتداء- سبيل. ومنها أنك لو تكلفت نصب زيد -وقد أخرت عنه "إن " - لأعملت " إن " فيما قبلها وإن لا تعمل أبدًا إلا فيما بعدها. ومنها أن "إن " عاملة واللام غير عاملة والمبتدأ لا يكون إلا اسمًا وخبره قد يكون جملة وفعلا وظرفًا وحرفًا فجعلت اللام فيه لأنها غير عاملة ومنعت منه " إن" لأنها لا تعمل في الفعل ولا في الجملة كلها النصب إنما تعمله في أحد جزأيها ولا تعمل أيضًا في الظرف, ولا في حرف الجر. ويدل على أن موضع اللام في خبر "إن " أول الجملة قبل " إن " أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قبلوا الهمزة هاء ليزول لفظ " إن "
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالعناية".
2 كذا في أ. وفي ش: "لإصلاح".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بموجبها".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "فتقدرها".
5 كذا في أ. وفي ش، ب، د، هـ: "التي".(1/315)
فيزول أيضًا ما كان مستكرهًا من ذلك فقالوا "لهِنّك قائم " 1 أي لئنك قائم. وعليه قوله -فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس2:
ألا ياسنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق على كريم3
فإن قلت: فما تصنع بقول الآخر 4:
ثمانين حولا لا أرى منك راحة ... لهنك في الدنيا لباقية العمر5
وما6 هاتان اللامان؟
قيل: أما الأولى فلام الابتداء, على ما تقدم. وأما الثانية في قوله: "لباقية العمر " فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} . ونحوه ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر:
ألم تكن حلفت بالله العلي ... أن مطاياك لمن خير المطي7
بفتح أن في الآية وفي البيت. وروينا عن أحمد بن يحيى -وأنشدناه أبو علي رحمه الله تعالى:
__________
1 كتب في أفوق لهنك "مثل لعنك" وسقط هذا في ش، ب. ويبدو أنها قصد بها توضيح ما في النص على أن تكون خارجة عنه، ومن ثم لم أثبتها. وهذا الرأي في "لهنك" وهو رأي سيبويه في الكتاب 1/ 474.
2 هو المبرد. وانظر سر الصناعة في حرف اللام.
3 من أربعة أبيات في الأمالي 1/ 220 والسمط 511 والخزانة 4/ 239 وديوان المعاني 2/ 192، وانظر نوادر أبي زيد 28.
4 هو عروة الرحال. وانظر الأمالي 2/ 36 والسمط 671 وشرح الحماسة 4/ 176 بولاق.
5 وبعده:
فإن أنقلب من عمر صعبة سالما ... تكن من نساء الناس لي بيضة العقر
وقد ثبت الشطر الأول من الشاهد في ش، ب، وسقط في أ، ج.
6 في ب، ش، ب، د، هـ قبل هذا زيادة: "مثل لعنك" وهو راجع لقوله في الشعر "لهنك".
7 "خير" كذا في ج وفي أ، ب: "شر". وما أثبته موافق لما نقله في الخزانة 4/ 328 عن سر الصناعة. وهو في سر الصناعة في حرف اللام.(1/316)
مروا عجالا وقالوا كيف صاحبكم ... قال الذي سألوا أمسى لمجهودا1
فزاد اللام. وكذلك اللام عندنا في "لعل" زائدة ألا ترى أن العرب قد تحذفها قال:
عل صروف الدهر أو دولاتها ... يدلننا اللمة من لماتها2
فتستريح النفس من زفراتها
وكذلك3 ما أنشده4 ابن الأعرابي من قول الراجز:
ثمت يغدو لكأن لم يشعر ... رخو الإزار زمح التبختر5
أي كأن لم يشعر، فكذلك تكون اللام الثانية في قوله:
لهنك في الدنيا لباقية العمر
زائدة.
فإن قلت: فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل: يفسد ذلك من جهتين: إحداهما أنها قد ثبتت في قوله "لهنك من برق علي كريم " هي لام الابتداء لا زائدة فكذلك ينبغي أن تكون في هذا الموضع أيضًا هي لام الابتداء. والأخرى أنك لو جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من ضروب الاتساع فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله ألا تراك لا تزيد "كان " مبتدأة وإنما تزيدها حشوًا أو آخرًا وقد تقدم ذكر ذلك.
__________
1 أنشده ثعلب غير معزو: المجالس 153 وما بعدها، مع بيت بعده:
يا ويح نفسي من غبراء مظلمة ... قيست على أطول الأقوام ممدودا
وانظر الخزانة 4/ 330.
2 "يدلننا" كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تدني لنا" وفي اللسان في "لمم" "تديلنا"؛ وترى في هذا الموطن من اللسان أن الفراء أنشد هذا الرجز من غير عزو.
3 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "فكذلك".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "أشدناه" وفي ج: "أنشدنا" ولم يلق أبو الفتح ابن الأعرابي؛ فإن صح ما في أ، ج، فالمراد: أنشدنا في كتبه وما روي عنه لا شفاها.
5 "زمح التبختر": ثقيله بغيضه. والزمح: السيئ الخلق وقد أصلحتها هكذا وفي أ، ب: "رمح". وفي ج: "زمج".(1/317)
فأما قول1 من قال: إن قولهم "لهنك " إن أصله "لله إنك " فقد "تقدم ذكرنا"2 ذلك مع ما عليه فيه في موضع آخر وعلى أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسف 3.
ومن إصلاح اللفظ قولهم: كأن زيدًا عمرو. اعلم أن أصل هذا الكلام: زيد كعمرو ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه "إن " فقالوا: إن زيدًا كعمرو ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه فقدموا حرفه إلى أول الكلام عناية به وإعلامًا أن عقد الكلام عليه فلما تقدمت الكاف وهي جارّة لم يجز أن تباشر "إن " لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل فوجب لذلك فتحها فقالوا: كأن زيدا عمرو.
ومن ذلك أيضًا قولهم: لك مال وعليك دين فالمال والدين هنا مبتدآن, وما قبلهما خبر عنهما إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدر لهما لم يجز, لقبح الابتداء بالنكرة في الواجب فلما جفا ذلك في اللفظ أخروا المبتدأ وقدموا الخبر وكان ذلك سهلا عليهم ومصلحًا لما فسد عندهم. وإنما كان تأخره مستحسنًا من قبل أنه لما تأخر وقع موقع الخبر ومن شرط الخبر أن يكون نكرة, فلذلك صلح به اللفظ وإن كنا قد أحطنا علمًا بأنه في المعنى مبتدأ. فأما4 من رفع الاسم في نحو هذا بالظرفية فقد كفي مئونة هذا الاعتذار لأنه ليس مبتدأ عنده.
__________
1 في شرح السيرافي 4/ 107 تيمورية أن هذا الرأي حكاه المفضل بن سلمة لغير الفراء ونسبه في الإنصاف 94 إلى المفضل بن سلمة.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ذكرنا" ولا يريد أنه ذكره في هذا الكتاب.
3 انظر بسط الكلام في هذا البحث في الخزانة 4/ 334 وما بعدها، وانظر نوادر أبي زيد 28.
4 هم الأخفش والكوفيون. انظر شرح الرضي للكافية 1/ 87.(1/318)
فإن قلت: فقد حكى1 عن العرب "أمتٌ في حجر لا فيك" وقولهم: "شر أهرَّ ذا ناب " وقولهم: " سَلَامٌ عَلَيْكَ", قال الله سبحانه وتعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} , وقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ونحو ذلك. والمبتدأ2 في جميع هذا نكرة مقدمة.
قيل: أما قوله سلام عليك وويل له وأمت في حجر لا فيك فإنه جاز لأنه ليس في المعنى خبرًا إنما هو دعاء ومسألة أي ليسلم الله عليك وليلزمه الويل وليكن الأمت في الحجارة لا فيك. والأمت: الانخفاض والارتفاع والاختلاف قال الله عز وجل: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} أي اختلافًا. ومعناه: أبقاك الله بعد فناء الحجارة وهي مما توصف بالخلود والبقاء ألا تراه كيف قال 3:
ما أطيب العيش لو أن التى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم4
وقال:
بقاء الوحي في الصم الصلاب
__________
1 ضبطتها بالبناء للمعلوم على ما في أفقد رسمت: "حكا", وهو يريد سيبويه. وانظر الكتاب 1/ 166 وضبط في ب: "حكى" بالبناء للمفعول.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالمبتدأ".
3 أن تميم بن أبي مقبل كما في شواهد المغني للبغدادي 2/ 256.
4 بعده:
لا تنفع المرء أحجاء البلاد ولا ... تبني له في السموات السلاليم
لا ينفع المرء أنصار ورابية ... يأبى الهوان إذا عد الجراثيم
أحجاء البلاد: نواحيها. والرابية: ما ارتفع من الأرض، وأراد به القلعة المرتفعة، والجراثيم جمع جرثومة وهي الأصل، بقوله إنه في جرثومة من قومه.(1/319)
وأما قولهم "شر أهر ذا ناب " فإنما جاز الابتداء فيه بالنكرة من حيث كان الكلام عائدًا إلى معنى النفي أي ما أهر ذا ناب إلا شر وإنما كان المعنى هذا لأن الخبرية عليه أقوى ألا ترى أنك لو قلت: أهر ذا ناب شر لكنت على طرف من الإخبار غير مؤكد فإذا قلت: ما أهر ذا ناب إلا شر كان ذلك أوكد؛ ألا ترى أن قولك: ما قام إلا زيد أوكد من قولك: قام زيد. وإنما احتيج إلى التوكيد في هذا الموضع من حيث كان أمرًا عانيًا مهمًا. وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق1 لاستماعه أن يكون لطارق شر فقال: شر أهر ذا ناب؛ أي ما أهر ذا ناب إلا شر تعظيمًا عند نفسه أو عند مستمعه. وليس هذا في نفسه كأن يطرق بابه ضيف أو يلم به مسترشد. " فلما عناه وأهمه, وكد الإخبار عنه "2، وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب3 لما دعا إليه.
ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخرًا نحو أرطىً, ومعزىً, وحبنطىً, وسرندىً, وزبعرىً, وصلخدىً, وذلك أنها إذا وقعت طرفًا وقعت موقع حرف متحرك فدل ذلك على قوتها عندهم وإذا وقعت حشوًا وقعت موقع الساكن فضعفت لذلك فلم تقو فيعلم بذلك إلحاقها بما هي على سمت متحركه4؛ ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية فقلت: خاتم ملحق بجعفر لكانت مقابلة لعينه وهي ساكنة فاحتاطوا للفظ بأن قابلوا5 بالألف فيه الحرف المتحرك ليكون أقوى لها وأدل على شدة تمكنها وليعلم بتنوينها أيضًا وكون ما هي في على "وزن أصل من الأصول له"6 أنها للإلحاق به. وليست كذلك ألف قبعثرى, وضبغطرى؛
__________
1 "وأشقق" عطف تفسير.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "فإنما عناه وأهمه وكذا الإخبار عنه".
3 يقال أهب للأمر: استعد له.
4 كذا في ب. وفي أ، ش: "متحركة".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "قابلوه".
6 كذا في أ. ولا يبدو عليها الحاجة إلى عبارة "له". وفي ش، ب: "وزن من الأصول له".(1/320)
لأنها وإن كانت طرفًا ومنونة فإن المثال الذي فيه "لا"1 مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به لأنه لا أصل لها2 سداسيًا، فإنما3 ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد في أواخر الكلم ثالث لا للتأنيث ولا للإلحاق. فاعرف ذلك.
ومن ذلك أنهم لما "أجمعوا الزيادة"4 في آخر بنات الخمسة -كما زادوا في آخر بنات الأربعة- خصوا بالزيادة فيه الألف استخفافًا لها ورغبة فيها هناك دون أختيها: الياء والواو. وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت, فلما5 تحملوا الزيادة في آخرها طلبوا أخف الثلاث -وهي الألف- فخصوها بها, وجعلوا الواو والياء حشوًا في نحو عضرفوط وجعفليق لأنهم لو جاءوا بهما طرفًا6 وسداسيين مع ثقلهما لظهرت الكلفة في تجشمهما وكدت في احتمال النطق بهما كل ذلك لإصلاح اللفظ.
ومن ذلك باب الادّغام في المتقارب نحو ود في وتد, ومن الناس "ميقول " في "من يقول " ومنه جميع باب التقريب؛ نحو اصطبر، وازدان، وجمع باب المضارعة، نحو مصدر7 وبابه.
ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتصل بها علم الضمير المرفوع نحو ضربت وضربن وضربنا. وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل فكره
__________
1 زدت هذا الحرف ليستقيم الكلام, وقد خلت منه الأصول والزيادة "لا" في الأشباه للسيوطي 1/ 73.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "له" وكأن الضمير في "لها" يرجع إلى الأسماء. وفي الأشباه "لنا" وهو أجود.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإنما".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أجمعوا على الزيادة". وكلاهما صحيح؛ يقال: أجمع الأمر وأجمع عليه: عزم عليه.
5 كذا في ش، ب. وفي أ "فإنما".
6 كذا في الأشباه. وفي الأصول: "أو". وقوله: "سداسيين كذا في الأصول، والأجود: سادسين".
7 في أكتب الحرف "ز" فوق "مصدر"، وهذا علامة على نطق الصاد قريبة من الزاي تحقيقًا للمضارعة.(1/321)
اجتماع الحركات "الذي لا يوجد "1 في الواحد. فأسكنوا اللام2، إصلاحًا للفظ فقالوا: ضربت ودخلنا وخرجتم. نعم وقد كان يجتمع فيه أيضًا خمس متحركات نحو: خرجتما فالإسكان إذًا أشد وجوبًا. وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع فتفطن له.
ومن ذلك أنهم لما أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة "ولم "3 يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة أصلحوا اللفظ بإدخال "الذي " لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة فقالوا: مررت بزيد الذي قام أخوه ونحوه.
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "التي لا توجد".
2 في الأصول: "ما قبل اللام" وهذا لا يستقيم به الكلام ولا يصح، فإن التسكين للام كما سبق له. وقد يكون الأصل: "الآخر". فحرفت إلى "اللام".
3 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فلم".(1/322)
باب في تلاقي اللغة:
هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئًا إلا لأبي علي رحمه الله.
وذلك أنه كان يقول في باب أجمع وجمعاء وما يتبع ذلك من أكتع وكتعاء وبقيته: إن هذا اتفاق وتوارد وقع في اللغة على غير ما كان في وزنه منها. قال: لأن باب أفعل وفعلاء إنما هو للصفات وجميعها تجيء1 على "هذا الوضع"2 نكرات نحو أحمر وحمراء وأصفر وصفراء وأسود وسوداء وأبلق وبلقاء وأخرق وخرقاء. هذا كله صفات نكرات فأما أجمع وجمعاء فاسمان معرفتان وليسا بصفتين فإنما ذلك اتفاق وقع بين3 هذه الكلم المؤكد بها.
قال: ومثله ليلة طلقة وليال طوالق قال: فليس طوالق4 تكسير "طلقة", لأن فعلة لا تكسر على فواعل, وإنما طوالق جمع طالقة وقعت موقع جمع طلقة.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "يجيء". وقد راعى اكتساب المبتدأ التأنيث من المضاف إليه فأنث الخبر.
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "غير هذا الموضع".
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "من".
4 زيادة في أوج.(1/322)
وهذا الذي قاله وجه صحيح. وأبين منه عندي وأوضح قولهم في العلم: سلمان, وسلمى فليس سلمان إذًا من سلمى كسكران من سكرى. ألا ترى أن فعلان الذي يقاوده1 فعلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى وخزيان وخزيا وصديان وصديا وليس سلمان ولا سلمى بصفتين ولا نكرتين, وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد لجمعهما ولا إيثار لتقاودهما. ألا تراك لا تقول: هذا رجل سلمان ولا امرأة سلمى كما تقول: هذا سكران وهذه سكرى وهذا غضبان, وهذه غضبى. وكذلك لو جاء في العلم " ليلان " لكان ليلان من ليلى كسلمان من سلمى. وكذلك لو وجد في العلم "قحطى " لكان من قحطان كسلمى من سلمان.
وأقرب إلى ذلك من سلمان وسلمى قولهم في العلم: عدوان, والعدوى, مصدر أعداه الجرب ونحوه. ومن ذلك قولهم: "أسعد " لبطن من العرب؛ ليس2 هذا من سعدى كالأكبر من الكبرى والأصغر من الصغرى. وذلك أن هذا إنما هو تقاود الصفة وأنت لا تقول: مررت بالمرأة السعدى ولا بالرجل الأسعد. فينبغي -على هذا- أن يكون أسعد من سعدى كأسلم من بشرى. وذهب بعضهم إلى أن أسعد تذكير سعدى ولو كان كذلك لكان حرىً أن يجيء به سماع, ولم نسمعهم قط وصفوا بسعدى وإنما هذا تلاق وقع بين هذين الحرفين3 المتفقي اللفظ كما يقع هذان المثالان في المختلفية4؛ نحو أسلم وبشرى.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "قد تقاوده".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "فليس".
3 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
4 كذا في اللسان والتاج "مادة سعد". وفي الأصول: "المختلفة" ولها وجه أي الألفاظ المختلفة وما أثبته أجود.(1/323)
وكذلك أيهم ويهماء ليسا1 كأدهم ودهماء لأمرين: أحدهما أن الأيهم الجمل الهائج "أو السيل "2 واليهماء الفلاة فهما مختلفان. والآخر أن أيهم لو كان مذكر يهماء لوجب أن يأتي فيهما "يهم " كدهم ولم نسمع ذلك فعلمت بذلك أن هذا تلاق بين3 اللغة وأن أيهم لا مؤنث له ويهماء لا مذكر لها.
ومن التلاقي قولهم في العلم: أسلم وسلمى. وليس هذا كالأكبر والكبرى لأنه ليس وصفًا. فتأمل أمثاله في اللغة. ومثله شتان وشتى إنما هما كسرعان وسكرى.
وإنما وضعت من هذا الحديث رسمًا4 لتتنبه على ما يجيء من مثله فتعلم به أنه توارد وتلاق وقع في أثناء هذه اللغة عن غير قصد له ولا مراسلة بين بعضه وبعض.
وليس من هذا الباب سعد وسعدة؛ من قبل أن هاتين صفتان مسوقتان على منهاج واستمرار. فسعد من سعدة كجلد من جلدة وندب5 من ندبة. ألا تراك تقول: هذا يوم سعد وهذه ليلة سعدة كما تقول: هذا شعر جعد وهذه جمة6 جعدة. فاعرف ذلك إلى ما يليه وقسه بما7 قررته عليه بإذن الله تعالى.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "وليستا".
2 كذا في ج واللسان "يهم" وسقط هذا في سائر الأصول وفي القاموس "يهم": "والأيهمان عند أهل البادية والسيل والجمل الهائج الصئول".
3 كذا في أ. وفي ش, ب: "من".
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "رسما".
5 هو الخفيف في الحاجة، والظريف النجيب، وأنثاه ندبه.
6 الجمة: مجتمع شعر الرأس.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "على ما".(1/324)
باب في هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أو 1 لا؟:
سألت أبا علي رحمه الله عن هذا فقال: كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم. فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا وما حظرته عليهم حظرته علينا.
وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم, فليكن من أحسن ضروراتنا, وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا. وما بين ذلك بين ذلك.
فإن قيل: هلا لم يجز لنا متابعتهم على الضرورة من حيث كان القوم لا يترسلون2 في عمل أشعارهم ترسل المولدين ولا يتأنون فيه ولا يتلومون3 على حوكه "وعمله"4، وإنما كان أكثره ارتجالا قصيدًا كان أو رجزًا أو رملا. فضرورتهم إذًا أقوى من ضرورة المحدثين. فعلى هذا ينبغي أن يكون عذرهم فيه أوسع وعذر المولدين أضيق.
قيل: يسقط هذا من أوجه: أحدها أنه ليس جميع الشعر القديم مرتجلا, بل قد كان يعرض لهم فيه من الصبر عليه, والملاطفة له, والتلوم على رياضته وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين. ألا ترى إلى ما يروى عن زهير: من أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين فكانت تسمى حوليات زهير, لأنه كان يحوك القصيدة في سنة. والحكاية في ذلك عن ابن5 أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها6 في أربعة أشهر, وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "أم".
2 الترسل في الأمر: التمهل فيه والرفق.
3 التلوم: الانتظار والتلبث.
4 كذا في أ، وفي ش، ب: "وعلى عمله".
5 هو مروان الأكبر مات سنة 182 وانظر معجم الشعراء للمرزباني 396.
6 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "أحكامها". وهو كذلك في ضرائر الألوسي 11. والتحكيك مبالغة في الحك, وحك الشيء: قشره ومعالجته. ويريد بتحكيك الشعر تنقيحه ونفي الرديء. عنه. وفي الأغاني 3/ 25: "وكان الأصمعي يعجب بشعر بشار لكثرة فنونه، وسعة تصرفه ويقول: كان مطبوعا لا يكلف طبيعته شيئًا متعذرا، لا كمن يقول البيت ويحككه أياما".(1/325)
فقيل له 1: فهذا هو2 الحولي المنقح. وكذلك الحكاية عن ذي الرمة: أنه قال3: لما قال:
بيضاء في نعج صفراء في برج
أجبل4 حولا لا يدري ما يقول إلى أن مرت به صينية فضة "قد"5 أشربت ذهبًا فقال:
كأنها فضة قد مسها6 ذهب
وقد وردت أيضًا بذلك أشعارهم قال ذو الرمة:
أجنبه المساند والمحالا7
ألا تراه كيف اعترف بتأنيه8 فيه وصنعته إياه. وقال عدي بن الرقاع العاملي:
وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوم ميلها وسنادها9
نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافة منآدها
__________
1 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ب، ش.
2 كذا في أ، ب، ش. وسقط هذا اللفظ في ج.
3 كذا في ب، ش. وكان ينبغي أن يكون يعد هذا: لما قلت ... أجبلت. ولكن المؤلف لم يحك قوله, يحدث عنه كالغائب، وهو طريق مسلوك. وقد سقط هذا اللفظ في ج، وهو أسوغ وأقرب متناولا.
4 أجبل: انقطع عن القول.
5 زيادة في أ.
6 كذا في أ، ب، ش وفي ج: "شابها" والبيت خامس أبيات القصيدة التي مطلعها:
ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب
وانظر الديوان ص. والبيان والتبيين 1/ 126؛ "نشر محب الدين الخطيب".
7 في ج أثبت صدره:
وشعر قد أرقت له طريف
وسقط هذا في أ، ب، ش. وقوله: "أجنبه" كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "أجانبه" وما أثبت يوافق ما في الموشح 12 وانظر الديوان 440. والمساند: ما فيه السناد، وهو من عيوب القافية، والمحال عند الخليل: الكلام لغير شيء، كما في اللسان. ويقول سيبويه في الكتاب 1/ 18: "وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمس".
8 كذا في ش. وغيرها: "بتأنيه" ويقال: تأتى للأمر: ترفق فيه وكأنه استعمل "في" بدل اللام لتضمنه معنى الترفق.
9 انظر الموشح 13.(1/326)
وقال سويد بن كراع 1:
أبيت بأبواب القوافي كإنما ... أذود بها سربا2 من الوحش نزعا
وإنما يبيت عليها لخلوه بها ومراجعته النظر فيها. وقال:
أعددت للحرب التي أعنى بها ... قوافيًا لم أعي3 باجتلابها
حتى إذا أذللت4 من صعابها ... واستوسقت لي صحت في أعقابها
فهذا -كما ترى- مزاولة ومطالبة واغتصاب5 لها ومعاناة كلفة بها.
ومن ذلك الحكاية عن الكميت وقد افتتح قصيدته التي أولها:
ألا حييت عنا يا مدينا
ثم أقام برهة لا يدري بماذا يعجز6 على هذا الصدر إلى أن دخل حمامًا وسمع إنسانًا دخله فسلم على آخر فيه فأنكر عليه، فانتصر بعض الحاضرين له فقال: وهل بأس يقول المسلمين؛ فأهتبلها كيت7 فقال:
وهل بأس بقول مسلّمينا
__________
1 انظر البيان والتبيين 2/ 12 بتحقيق الأستاذ هارون وشعراء ابن قتيبة 616.
2 كذا في أ. وفي ب، ش: "عن الوحش". وبعده:
أكالئها حتى أعرس بعدما ... يكون سحيرا أو بعيدا فأهجعا
وانظر شعراء ابن قتيبة 33، 616 من طبعة الأستاذ أحمد شاكر.
3 "لم أعي"، كذا في ب، أي لم تعجزني. وفي أ: "لم أعن" وهي رواية جيدة. وفي ش: "لم أعني".
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "ذللت".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "اغتصاب".
6 أي يأتي بعجز البيت. والقصة في اللسان في "عجز".
7 من قبيل ما وقع للكميت ما وقع لموارد أحد أدباء شنقيط إذ أراد إنشاء قصيدة فنظم الشطر الأول، وهو:
أمربع الغصن ذا أمتلك أعلامه
ثم أرتج عليه سنة لا يستقيم له تكملته وورد يومًا منهلا ليسقي جملا له، فتخاصمت جاريتان في المنهل، فقالت إحداهما للأخرى: والله ما ذلك كذلك، ولا كانت أيامه كما تقولين، أو ما هو قريب من ذلك، فضرب جمله من غير أن يسقيه ودخل الحي وهو يجري، فظن الناس أنه رأى ما يذعره، فسألوه فأخبرهم أنه وجد شطرا يتم به مطلع قصيدته، فقال:
أمربع الغصن ذا أم ذاك أعلامه ... لا هو هو ولا الأيام أيامه
وانظر الوسيط 197.(1/327)
ومثل هذا في أشعارهم الدالة على الاهتمام بها، والتعلب في إحكامها كثير معروف. فهذا وجه.
وثان: أن من المحدثين أيضًا من يسرع العمل ولا يعتاقه بطء ولا يستوقف فكره، ولا يتعتع1 خاطره. فمن ذلك ما حدثني به من شاهد المتنبي وقد حضر عند أبي علي الأوارجي2، وقد وصف له طردًا3 كان فيه وأراده على وصفه فأخذ الكاغد والدواة واستند إلى جانب المجلس -وأبو علي يكتب كتابا- فسبقه المتنبي في كتبه الكتاب فقطعه عليه ثم أنشده:
ومنزل ليس لنا بمنزل
وهي طويلة مشهورة "في شعره "4.
وحضرت أنا مجلسًا لبعض الرؤساء ليلة5 وقد جرى ذكر السرعة وتقدم البديهة وهنالك حدث من غير شعراء بغداد, فتكفل أن يعمل في ليلته تلك مائتي بيت في ثلاث قصائد على أوزان اخترناها6 عليه ومعان حددناها له فلما كان الغد في آخر النهار أنشدنا القصائد الثلاث على الشرط والاقتراح وقد صنعها وظاهر إحكامها وأكثر من البديع المستحسن فيها.
وثالث: كثرة ما ورد في أشعار المحدثين من الضرورات؛ كقصر الممدود, وصرف ما لا ينصرف, وتذكير المؤنث ونحوه. وقد حضر ذلك وشاهده جلة أصحابنا
__________
1 يقال: تعنعه: أقلقه وأزعجه.
2 كذا في أ، ج. والأوارجي منسوب إلى الأوارجة وهو من دفاتر أصحاب الخراج، وهو لفظ فارسي، وفي ب: "الأوراجي" وفي ش: "الأدراجي". وأبو علي الأوارجي هو هارون بن عبد العزيز الكاتب. وقد مدحه المتنبي بالقصيدة التي مطلعها:
أمن ازديارك في الدجى المرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء
3 الطرد: مزاولة الصيد.
4 كذا في ش، ب وسقط هذا في أ. والأرجوزة في الديوان. انظر معاهد التنصيص 2/ 48.
5 كذا في ش، ب، وفي أ، ج: "ليلا".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "اخترعناها" وهذه ظاهر أنها محرفة عن: "اقترحناها".(1/328)
من أبي عمرو إلى آخر وقت, والشعراء من بشار إلى فلان وفلان ولم نر أحدًا من هؤلاء العلماء أنكر على أحد من المولدين ما ورد في شعره من هذه الضرورات التي ذكرناها وما كان نحوها فدل ذلك على رضاهم به وترك تناكرهم إياه.
فإن قلت: فقد عيب بعضهم كأبي نواس وغيره في أحرف أخذت عليهم قيل: هذا كما عيب الفرزدق وغيره في أشياء استنكرها أصحابنا. فإذا جاز عيب أرباب اللغة وفصحاء شعرائنا كان مثل ذلك في أشعار المولدين أحرى بالجواز.
فإذا كانوا قد عابوا بعض ما جاء به القدماء في غير الشعر بل في حال السعة وموقف الدعة كان يرد من المولدين في الشعر -وهو موقف فسحة وعذر- أولى بجواز مثله.
فمن ذلك استنكارهم همز مصائب وقالوا: منارة ومنائر ومزادة ومزائد فهمزوا ذلك في الشعر وغيره وعليه قال الطرماح:
مزائد خرقاء اليدين مسيفة ... يخب بها مستخلف غير آئن1
__________
1 قبله:
كأن العيون المرسلات عشية ... شآيب دمع العبرة المتحائن
المتحائن: المتتابع. وشآبيب الدمع: دفعاته، واحدها شؤبوب، وقوله: "مزائد" خبر "كأن" واحدها المزادة، وهي ضرب من القرب يجعل فيه الماء. والمسيفة: وصف من أساف الخارز: أفسد الخرز. والمستخلف: من يستقي الماء. والآئن: البطيء من الأون وهو الراحة.
وفي شرح ديوان الطرماح: "من الأين وهو الأعياء" وقوله: "يخب" ضبط بضم الياء من الإخباب وفقا لما في الديوان، وهذا ليوافق قول الراعي:
مزائد خرقاء اليدين مسيفة ... أخب بهن المخلفان وأحفدا
وفي أ: "يخب" بفتح الياء وضم الحاء من الخبيب. انظر شعراء ابن قتيبة في ترجمة الراعي 378 طبعة الأستاذ أحمد شاكر، وديوان الطرماح 165.(1/329)
وإنما الصواب مزاود, ومصاوب, ومناور؛ قال:
يصاحب الشيطان من يصاحبه ... فهو أذيٌّ1 جمةٌ مصاوبه
ومن ذلك قولهم في غير الضرورة: ضبب البلد: كثرة ضبابه 2. وألل السقاء: تغيرت ريحه. ولححت عينه: التصقت, ومششت3 الدابة. وقالوا: إن الفكاهة مقودة إلى الأذى. وقرأ بعضهم4 {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وقالوا: كثرة الشراب مبولة وكثرة الأكل منومة وهذا شيء مطيبة للنفس وهذا طريق مهيع إلى غير ذلك مما جاء في السعة ومع غير الضرورة. وإنما صوابه: لحت عينه وضب البلد وألَّ السقاء ومشَّت الدابة ومقادة إلى الأذى, ومثابة, ومبالة, ومنامة, ومطابة, ومهاع.
فإذا جاز هذا للعرب عن غير حصر5 ولا ضرورة قول كان استعمال الضرورة في الشعر للمولدين أسهل، وهم فيه أعذر.
فأما ما يأتي عن العرب لحنًا فلا نعذر في مثله مولدًا.
فمن ذلك بيت الكتاب 6:
وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
__________
1 الأذي: الشديد التأذي، وقيل: هو المؤذي، وقوله: "جمة" جاء في اللسان في "أذي": حمة، بالحاء المهملة.
2 الضباب جمع الضب: الحيوان المعروف. وفي اللسان: "كثرت ضبابه".
3 من المشش، وهو ورم يكون في ساق الدابة.
4 تنسب هذه القراءة إلى أبي السمال وقتادة. وانظر شهاب البيضاوي 2/ 812 وهذا في الآية 103 من البقرة.
5 كذا في و. وفي أ، ب: "حفر" وفي د: "حقر". والحصر بالشيء: الضبق به.
6 كثر هذا البيت منسوبا للفرزدق في الكتب. ويذكر الكتاب أنه من قصيدة في مدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان. وليس في ديوان الفرزدق هذه القصيدة. ولم أر هذا البيت في الكتاب والبيت في اللسان في "ملك"، وفي الإيضاح للقزويني 1/ 5 طبعة مطبعة السنة المحمدية.(1/330)
ومراده فيه معروف وهو فيه غير معذور. ومثله في الفصل قول الآخر -"فيما"1 أنشده ابن الأعرابي:
فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما
أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلمًا خط رسومها فأوقع من الفصل والتقديم والتأخير ما تراه.
وأنشدنا2 أيضًا:
فقد والشك بين لي عناءٌ ... بوشك فراقهم صرد يصيح3
أراد: فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم والشك عناء. فقد ترى إلى ما فيه من الفصول التي لا وجه "لها ولا لشيء منها "4.
وأغرب من ذلك وأفحش وأذهب في القبح قول الآخر:
لها مقلتا حوراء طل خميلة ... من الوحش ما تنفك ترعى عرارها
أراد: لها مقلتا حوراء من الوحش ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها. فمثل هذا لا نجيزه للعربي أصلا فضلا عن أن نتخذه للمولدين رسمًا.
وأما قول الآخر:
معاوي لم ترع الأمانة فارعها ... وكن حافظًا لله والدين شاكر
فحسن جميل؛ وذلك أن "شاكر " هذه قبيلة5، وتقديره: معاوي لم ترع الأمانة شاكر، فارعها أنت وكن حافظًا لله والدين. فأكثر ما في هذا الاعتراض بين الفعل والفاعل،
__________
1 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنشد". والظاهر أنه يريد أبا علي.
3 أورده في المغني في مبحث "قد" وتكلم عليه البغدادي في شرح شواهده "1/ 965" ولم يعزه.
4 كذا في أ. وفي ب، ش: "لشيء منها".
5 من همدان في اليمن؛ كما في اللسان في "شكر".(1/331)
والاعتراض للتسديد1 قد جاء بين الفعل والفاعل وبين المبتدأ والخبر وبين الموصول والصلة وغير ذلك مجيئًا كثيرًا في القرآن وفصيح الكلام. ومثله من الاعتراض بين الفعل والفاعل قوله 2:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
والاعتراض في هذه اللغة كثير حسن. ونحن نفرد له بابًا يلي هذا الباب. بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن طريف الضرورات وغريبها ووحشيها وعجيبها ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
هل تعرف الدار ببيدا إنه ... دار لخود قد تعفت إنَّه
فانهلت العينان تسفحنه ... مثل الجمان جال في سلكنَّه
لا تعجبي منا سليمي إنه ... إنا لحلالون بالثغرنه
وهذه الأبيات قد شرحها أبو علي رحمه الله في البغداديات3، فلا وجه لإعادة ذلك هنا. فإذا آثرت معرفة ما فيها فالتمسه منها.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "للتشديد".
2 في شرحي شواهد المغني للسيوطي 273 والبغدادي 2/ 605 أن هذا الرجل من بني دارم يمدح بني عجل وقد أسروه، وقد أطلقوه جزاء لمدحه. وقبله:
وقائلة ما باله لا يزورنا ... وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل
وبعده:
لعلهم أن يمطروني بنعمة ... كما صاب ماء المزن في البلد المحل
فقد ينعش الله الفتى بعد عثرة ... وتصطنع الحسنى سراة بني عجل
3 انظر شرح البيت الأول في اللسان في "بيد". وبيدا يريد البيداء، وهي أرض بين مكة والمدينة.(1/332)
وكذلك ما أنشده أيضًا أبو زيد1 للزفيان السعدي:
يا إبلي ما ذامه فتأبَيَه ... ماء رواء ونصيٌّ حولَيَه
هدا بأفواهك حتى تأبَيَه ... حتى تروحي أصلا تباريه
تباري العانة فوق الزازيه
هكذا روينا عن أبي زيد وأما الكوفيون فرووه على خلاف هذا يقولون: فتأبَيْه, ونصي حولَيْه, وحتى تأبَيْه, وفوق الزازيْه. فينشدونه من السريع لا من الرجز كما أنشده أبو زيد. وقد ذكرت هذه الأبيات بما يجب فيها في كتابي " في النوادر الممتعة " ومقداره ألف ورقة. وفيه من كلتا الروايتين صنعة طريفة.
وأخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى -أحسبه عن ابن الأعرابي- يقول الشاعر:
وما كنت أخشى الدهر إحلاس مسلم ... من الناس ذنبًا جاءه وهو مسلما
وقال في تفسيره معناه: ما كنت أخشى الدهر إحلاس2 مسلم مسلمًا ذنبًا جاءه وهو, ولو وكد الضمير في جاء فقال: جاءه هو وهو لكان أحسن 3. وغير التوكيد أيضًا جائز.
__________
1 انظر النوادر ص97. وهذا الشعر في اللسان في "زبز" و"أبي"، وفي ديوان الزفيان 100 وقوله: هذّا فالهذ سرعة القطع. ويروى "هذا" اسم إشارة. والعانة: القطيع من حمر الوحش. والزازية: المكان المرتفع، والنصي نبت من أفضل المرعى.
2 في مجالس ثعلب: "إلزام" وهذا بعد أن فسر الإحلاس بالإلزام.
3 قال ثعلب: "يقول: ما كنت أظن أن إنسانًا ركب ذنبا هو وآخر ثم نسبه إليه دونه" وانظر اللسان في "حلس"، ومجالس ثعلب 96. وجاء البيت في الأمالي 1/ 206 وقال أبو علي: "أراد: وما كنت أخشى الدهر إلزام مسلم مسلما "ذنبا جاءه وهو" أي جاءاه معًا.(1/333)
وأبيات الإعراب1 كثيرة وليس على ذكرها وضعنا هذا الباب. ولكن اعلم أن البيت إذا تجاذبه أمران: زيغ الإعراب وقبح الزحاف فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة الإعراب. كذلك قال2 أبو عثمان وهو كما ذكر. وإذا كان الأمر كذلك فلو قال في قوله 3:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
لكان أقوى قياسًا على ما رتبه أبو عثمان؛ ألا ترى أن الجزء كان يصير منقوصا لأنه يرجع إلى مفاعيل: ألم يأت مفاعيل. وكذلك بيت الأخطل:
كلمع أيدي مثاكيل مسلبة ... يندبن ضرس بنات الدهر والخطب4
أقوى القياسين على ما مضى أن ينشد "مثاكيل " غير مصروف لأنه يصير الجزء فيه من مستفعلن إلى مفتعلن وهو مطوي والذي روى " مثاكيل " بالصرف. وكذلك بقية هذا.
فإن كان ترك زيغ الإعراب يكسر البيت كسرًا لا يزاحفه زحافًا فإنه لا بد من ضعف زيغ الإعراب واحتمال ضرورته وذلك كقوله 5:
سماء الإله فوق سبع سمائيا
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش بخط غير الخط الدائم: "الاعتراض" وكأنه إصلاح. والوجه ما أثبت. وكأنه يريد بأبيات الإعراب الأبيات التي الإعرب فيها مشكل يحتاج إلى تأمل، وهي ما تعرف بأبيات الألغاز والأحاجي. وقد صنف فيها.
2 انظر تصريف المازني، الباب 10 "باب ما يكسر عليه الواحد".
3 أي قيس بن زهير العبسي في إبل للربيع بن زياد العبسي استاقها وباعها بمكة، وذلك أن الربيع كأن قد أخذ منه درعا ولم يردها عليه, وتتمة البيت:
بما لاقت لبون بني زياد
وبعده:
ومحبسها على القرشي تشرى ... بأدراع وأسياف حداد
وانظر شواهد المغني للسيوطي 113.
4 "مسلبة": لابسة السلاب -وهي الثياب السود- حدادا، وحزنا، والخطب: يريد الخطوب جمع الخطب فحذف تخفيفا، يشبه الإبل في رميها الحصى بهؤلاء النساء، وانظر ديوان الأخطل 188.
5 انظر ص212 من هذا الجزء.(1/334)
فهذا لا بد من التزام ضرورته لأنه لو قال: سمايا لصار من الضرب الثاني إلى الثالث وإنما مبنى هذا الشعر على الضرب الثاني1 لا الثالث. وليس كذلك قوله 2:
أبيت على معاري فاخرات ... بهن ملوب كدم العباط
لأنه لو قال: معار3 لما كسر الوزن؛ لأنه يصير من مفاعلتن إلى مفاعيلن وهو العصب. لكن مما لا بد من التزام ضرورته مخافة كسر وزنه قول الآخر:
خريع4 دوادي في ملعب ... تأزر طورًا وترخي الإزارا
فهذا لا بد من تصحيح معتله؛ ألا ترى أنه لو أعل اللام وحذفها5 فقال دواد, لكسر البيت البتة.
فاعرف إذًا حال ضعف الإعراب الذي لا بد من التزامه مخافة كسر البيت من الزحاف الذي يرتكبه الجفاة الفصحاء إذا أمنوا كسر البيت, ويدعه من حافظ على صحة الوزن من غير زحاف وهو كثير. فإن أمنت كسر البيت اجتنبت ضعف الإعراب وإن أشفقت من كسره ألبتة دخلت تحت كسر الإعراب.
__________
1 الشعر من الطويل. والضرب الثاني فيه ما كان عروضه وضربه مقبوضين. والضرب الثالث ما كان الضرب فيه محذوفا.
2 هو المتنخل الهذلي. والبيت في الكتاب 2/ 58، وديوان الهذليين 2/ 20 في قصيدة طويلة.
3 قال ابن قتيبة: "ولو قال:
أبيت على معار فاخرات
كان الشعر موزونا، والإعراب صحيحا ... وهكذا قرأته على أصحاب الأصمعي، انظر الشعراء له 46.
4 الخريع: الناعمة مع فجور. والدوادي: الأراجيح. والبيت للكميت. ويظهر لي أنه من القصيدة الرائية التي منها أبيات في الخزانة 1/ 82. ويذكر صاحب الخزانة أنها في مدح أبان بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. والذي في الأغاني 15/ 129 أن الكميت كان مداحا لأبان بن الوليد البجلي. وانظر الكتاب 2/ 60، وتصريف المازني، في الموطن السابق.
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "صرفها".(1/335)
باب في الاعتراض:
اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام. وهو جار عند العرب مجرى التأكيد، فلذلك لا يشنع1 عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره وغير ذلك مما لا يجوز الفصل "فيه"2 بغيره3، إلا شاذًّا أو متأولا. قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} 4, فهذا فيه اعتراضان: أحدهما قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} لأنه اعترض به بين القسم الذي هو قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وبين جوابه الذي هو قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو "قسم " وبين صفته التي هي "عظيم " وهو قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} . فذانك5 اعتراضان كما ترى. ولو جاء6 الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون: فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم عظيم لو تعلمون7.
ومن ذلك "قول8 امرئ القيس ":
ألا هل أتاها والحوادث جمةٌ ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا9
__________
1 كذا في ش. وفي ب: "ينشع"، وفي أ: "يتبشع".
2 ثبت هذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 أي بغير الاعتراض.
4 الآيات 75-77 من سورة الواقعة.
5 كذا في أ، ب، د، هـ. وفي ش: "فذان" وكأنها مصلحة عن: "فذانك".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "جاز".
7 ثبت هذا في أ، ب. وسقط في ش.
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "قوله".
9 "تملك": هي أمه؛ والمشهور في اسمها فاطمة. وانظر شرح الوزير أبي بكر بن عاصم ص2. و"بيقر": وترك البادية ونزل العراق، أو نزل الضر أو أعبا. وانظر معاني ابن قتيبة 875. انظر أيضا الخزانة 4/ 162.(1/336)
فقوله: "والحوادث جمة" اعتراض بين الفعل وفاعله. ومثله قوله:
ألا هل أتاها والحوادث كالحصى
وأنشدنا أبو علي:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل1
فهذا كله اعتراض بين الفعل وفاعله. وأنشدنا2 أيضًا:
ذاك الذي وأبيك تعرف مالك3 ... والحق يدفع ترهات الباطل
فقوله: "وأبيك " اعتراض بين الموصول والصلة. وروينا لعبيد الله بن الحر:
تعلم ولو كاتمته الناس أنني ... عليك ولم أظلم بذلك عاتب
فقوله: "ولو كاتمته الناس " اعتراض بين الفعل ومفعوله وقوله: "ولم أظلم بذلك" اعتراض بين اسم أن وخبرها.
ومن ذلك قول أبي النجم -أنشدناه4:
وبدلت والدهر ذو تبدل ... هيفًا دبورًا بالصبا والشمأل5
فقوله: "والدهر ذو تبدل " اعتراض بين المفعول6 الأول والثاني.
ومن الاعتراض قوله:
ألم يأتك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد7
__________
1 انظر ص332 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنشد".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "يعرف". والبيت من مقطوعة لجرير يهجو يحيى بن عقبة الطهوي، ويريد بمالك قبيلة مالك بن حنظلة من تميم. والنظر شرح شواهد المغني للسيوطي 276 وديوان جرير طبعة الصاوي 430.
4 الظاهر أنه يريد أبا علي. وهذا إن قرئ بالبناء للفاعل.
5 الهيف: ري حارة تأتي من قبل اليمن. وقوله: "بدلت" أي الإبل. وفي شرح شواهد المغني للبغدادي أن هذا في الريح. وليس الأمر كما ظن. وانظر الأرجوزة في الطرائف الأدبية 58.
6 وهو هنا نائب الفاعل.
7 انظر ص334 من هذا الجزء.(1/337)
فقوله: "والأنباء تنمي " اعتراض بين الفعل وفاعله. وهذا أحسن مأخذًا في الشعر من أن يكون في "يأتيك " ضمير "من متقدم مذكور "1.
فأما ما أنشده2 أبو علي من قول الشاعر 3:
أتنسى لا هداك الله ليلى ... وعهد شبابها الحسن الجميل
كأن وقد أتى حول جديد ... أثا فيها حمامات مثول
فإنه لا اعتراض فيه. وذلك أن الاعتراض لا موضع له من الإعراب ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض على ما تقدم. فأما قوله: "وقد أتى حول جديد " فذو موضع من الإعراب وموضعه النصب بما في "كأن " من معنى التشبيه؛ ألا ترى أن معناه: أشبهت وقد أتى حول جديد حمامات مثولا أو أشبهها وقد مضى حول جديد بحمامات مثول أي أشبهها في هذا الوقت وعلى هذه الحال بكذا.
وأنشدنا:
أراني ولا كفران لله أية ... لنفسي لقد طالبت غير منيل4
__________
1 كذا في الأصول. وهذا البيت أول القصيدة؛ كما في الخزانة وغيرها. وفي أمالي ابن الشجري 1/ 87: "قيل إنه مضمر مقدر، كما حكى سيبويه إذا كان غدا فأتني؛ أي إذا كان ما نحن فيه من الرخاء أو البلاء غدا فأتني. وتقديره: ألم يأتك النبأ. ودل على ذلك قوله: "والأنباء تنمي".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "أنشدناه".
3 هو أبو الغول الطهوي، وانظر شواهد المغني للسيوطي 277 والنوادر لأبي زيد 51. وقوله: "وعهد شبابها الحسن الجميل" جملة حالية؛ كما في شواهد المغني للبغدادي 2/ 621 وضبط في النوادر:
وعهد شبابها الحسن الجميل
بنصب "عهد" وجر "الجميل" وفيه إقواء.
4 أورده ابن الأنباري في شرح المفضليات 805 ولم ينسبه، ونقل كلامه البغدادي في شرح شواهد المغني. وقوله: "أية" بفتح الهمزة؛ كما في اللسان "أوي" وأ من الخصائص. وفي ابن الأنباري: "إية" بكسر الهمزة؛ وكأنه يريد الهيئة.(1/338)
ففي هذا اعتراضان 1: أحدهما - "ولا كفران لله ". والآخر- قوله: "أية " أي أوَيت لنفسي أيَّة؛ معناه رحمتها ورققت2 لها. فقوله: أويت لها لا موضع له من الإعراب. وسألنا الشجري أبا عبد الله يومًا عن فرس كانت له فقال: هي بالبادية. قلنا لم قال: إنها وجية3 فأنا آوي لها أي أرحمها وأرق لها. وكذلك قول الآخر 4:
أراني ولا كفران لله إنما ... أواخي من الأقوام كل بخيل
ومن الاعتراض قولهم: زيد -ولا أقول إلا حقًّا- كريم. وعلى ذلك مسألة5 الكتاب: إنه -المسكين- أحمق6؛ ألا ترى أن تقديره: إنه أحمق وقوله " المسكين" أي هو المسكين وذلك اعتراض بين اسم إن وخبرها. ومن ذلك مسألته 7: "لا أخا -فاعلم- لك ". فقوله: "فاعلم " اعتراض بين المضاف والمضاف إليه كذا الظاهر. وأجاز أبو علي رحمه الله أن يكون " لك" خبرًا ويكون " أخا " اسمًا مقصورًا تامًّا غير مضاف كقولك: لا عصا لك. ويدل على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة فهو إذًا فعل وذلك قولهم: أخ وآخاء فيما حكاه يونس. وقال بعض آل المهلب:
وجدتم بنيكم دوننا إذ نسبتم ... وأي بني الآخاء تنبو مناسبه 8
__________
1 ذكر ابن هشام في المغني في مبحث الجملة المعترضة أن أبا علي لا يجيز الاعتراض بأكثر من جملة، وأول هذا البيت، وترى ابن جني هنا على خلافه، ولم ينبه عليه.
2 كذا في أ، وفي ش: "أرفقت بها". وفي ب: "رفقت لها".
3 من الوجى. وهو الحفا؛ أي رقة قدم الدابة من كثرة المشي.
4 هو كثير عزة وانظر الكتاب 1/ 466. ولم أرني قصيدته اللامية في الأمالي 2/ 62 وفي الديوان 2/ 248.
5 الكتاب 1/ 256.
6 في ج: "لأحمق".
7 أي مسألة الكتاب أيضًا. وانظر سيبويه 1/ 347.
8 انظر ص202 من هذا الجزء. وضبط "نسبتم" هنا بالبناء للفاعل على ما في أ. وضبط فيما سلف بالبناء للمفعول.(1/339)
فغير منكر أن يخرج1 واحدها أصله, كما خرج واحد الآباء على أصله، وذلك قولهم: هذا أبًا ورأيت أبًا ومررت بأبًا. وروينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال 2: يقال هذا أبوك وهذا أباك وهذا أبُك؛ فمن قال: هذا أبوك أو أباك فتثنيته أبوان ومن قال هذا أبك فتثنيته أبان وأبوان. وأنشد:
سوى أبك الأدنى وإن محمدا ... على كل عال يابن عم محمد
وأنشد أبو علي عن أبي الحسن:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبا ... كأنك فينا يا أبات غريب3
قال: فهذا تأنيث أبا وإذا كان كذلك جاز جوازًا حسنًا أن يكون قولهم: لا أبا لك "أبا " منه اسم مقصور كما كان ذلك في "أخالك " ويحسنه أنك إذا حملت الكلام عليه جعلت له خبرًا ولم يكن في الكلام فصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر؛ غير أنه يؤنس بمعنى إرادة الإضافة قول الفرزدق:
ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم4
فلهذا جوزناهما جميعًا.
وروينا لمعن بن أوس:
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... نوادب لا يمللنه ونوائح5
__________
1 كذا في ش، ب، د، هـ. وفي أ: "خرج".
2 انظر مجالس ثعلب 468، وينتهي ما في المجالس بعد البيت الآتي. وهو في اللسان "أبو".
3 "يا أبات" كذا بالتاء المفتوحة في ش، ب، وفي أ: "أباة"، وفي ج: "أباء". وفي اللسان في "أبو" كما أثبت. والبيت نسبه أبو زيد في النوادر 239 إلى أبي أُبي الحدرجان.
4 قبله في بيتين يخاطب بهما عمر بن لجأ:
ما أنت إن قرما تميم تسامها ... أخا التيم إلا كالشظية في العظم
ولو كانت مولى العز أو في ظلاله ... .........................................
يريد بقرمي تميم: نفسه وجريرا، وكان عمر دخل لهما في الهجاء وانظر ديوان الفرزدق طبعة الصاوي 825.
5 قبله:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح
والبيتان في الأمالي 2/ 190، واللآلي، 804, والخزانة 3/ 258، والأغاني "بولاق" 10/ 165.(1/340)
ففصل بقوله: "والأيام يعثرن بالفتى" بين المبتدأ وخبره. وأنشدنا:
لعلك والموعود صدق لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء1
وسألته عن بيت كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت2
فأجاز أن يكون قوله: "وتهيامي بعزة " جملة من مبتدأ وخبر اعترض بها بين اسم إن وخبرها الذي هو قوله:
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فقلت له: أيجوز أن يكون "وتهيامي "3 بعزة قسمًا؟ فأجاز ذلك ولم يدفعه. وقال الله عز وجل: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} 4. فقوله تعالى: {فَلْيَذُوقُوهُ} اعتراض بين المبتدأ وخبره. وقال رؤبة 5:
إني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصرٌ نصرا6
فاعترض بالقسم بين اسم إن وخبرها.
والاعتراض في شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه وامتداد نفسه وقد رأيته في أشعار المحدثين وهو في شعر إبراهيم بن المهدي أكثر منه في شعر غيره من المولدين 7.
__________
1 كان رجل وعد محمد بن بشير الخارجي قلوصا -وهي الناقة الفتية- فمطله؛ فقال ذلك يذمه. وانظر الأغاني 4/ 157 والأمالي 2/ 71 وشرح شواهد المغني للسيوطي 274، وللبغدادي 2/ 612.
2 من قصيدته الطويلة التي أولها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
انظر الأمالي 2/ 107، والخزانة 2/ 379، وشواهد المغني للبغدادي 2/ 621.
3 كذا في ج. وفي سائر الأصول: "تهيامي".
4 آية 57 سورة ص.
5 تبع في هذا ما في سيبويه 1/ 304، ورده الصاغاني وأنكر نسبته إلى رؤبة ويقول البغدادي في الخزانة: "والعجب من الصاغاني حيث رد على سيبويه في أن هذا الشاهد ليس لرؤبة. ولم يبين قائله". ويقول البغدادي في شواهد المغني 2/ 619: "وهذا الرجز لرؤبة، ولم أره في ديوانه". وقد أورده طابع ديوان رؤبة فيما نسب إليه ص174.
6 بعده:
بلغك الله فبلغ نصرا ... نصر بن سيارة يثبني وفرا
ونصر في البيت الأول حاجب نصر بن سيار أحد ولاة الأمويين، وهو المراد بنصر في البيت الثاني ويرى صاحب القاموس أن الصواب في اسم الحاجب نضر "بالمعجمة". وقد أبان في الخزانة أن المجد تبع في هذا الصاغاني في العباب. وانظر الخزانة 1/ 325 وشواهد المغني لصاحب الخزانة 2/ 619، والقاموس "نصر"، وسيبويه في الموطن السابق.
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "المحدثين".(1/341)
باب في التقديرات المختلفين لمعنيين مختلفين
...
باب في التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين:
هذا في كلام العرب كثير فاش والقياس له قابل مسوغ.
فمن ذلك قولهم: مررت بزيد وما كان نحوه مما يلحق من حروف الجر معونة لتعدي الفعل. فمن وجه يعتقد في الباء أنها بعض الفعل من حيث كانت معدية وموصلة له. كما أن همزة النقل في " أفعلت " وتكرير العين في "فعلت " يأتيان لنقل الفعل وتعديته نحو قام وأقمته وقومته وسار وأسرته وسيرته. فلما كان حرف الجر الموصل للفعل معاقبًا لأحد شيئين1 كل واحد منهما مصوغ2 في نفس المثال جرى مجراهما في كونه جزءًا من الفعل أو3 كالجزء منه. فهذا وجه اعتداده كبعض الفعل.
وأما وجه اعتداده كجزء من الاسم فمن حيث كان مع ما جره في موضع نصب، وهذا يقضي4 له بكونه جزءًا مما بعده أو كالجزء منه ألا تراك تعطف على مجموعهما5 بالنصب كما تعطف على الجزء الواحد في نحو قولك: ضربت6 زيدًا وعمرًا؛ وذلك
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، "الشيئين".
2 كذا في أوفي ش، ب: "موضوع".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "و".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يقتضي".
5 كذا في ب، ش، ج. وفي أ: "مجموعها".
6 انظر ص108 من هذا الجزء.(1/342)
قولك: مررت بزيد وعمرًا ورغبت فيك وجعفرًا ونظرت إليك وسعيدًا أفلا ترى إلى حرف الجر الموصل للفعل كيف ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين "لمعنيين مختلفين"1.
ووجه جوازه من قبل2 القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين متفقين؛ وذلك كأن تروم أن تدل على قوة اتصال حرف الجر بالفعل فتعتده تارة كالبعض له والأخرى كالبعض للاسم. فهذا ما لا يجوز مثله لأنه لا يكون كونه كبعض الاسم دليلا على شدة امتزاجه بالفعل لكن لما اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران فاعرف ذلك فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه.
ومثل ذلك قولهم: "لا أبا لك " فههنا تقديران مختلفان لمعنيين مختلفين. وذلك أن ثبات3 الألف في "أبا " من "لا أبا لك " دليل الإضافة فهذا وجه. ووجه آخر أن ثبات اللام وعمل "لا " في هذا الاسم يوجب التنكير والفصل. فثبات الألف دليل الإضافة والتعريف ووجود اللام دليل الفصل والتنكير. وليس هذا في الفساد والاستحالة بمنزلة فساد تحقير مثال الكثرة الذي جاء فساده من قبل تدافع حاليه. وذلك أن وجود ياء التحقير يقتضي4 كونه دليلا على القلة وكونه مثالا موضوعًا للكثرة دليل على الكثرة وهذا يجب منه أن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلا كثيرًا. وهذا ما لا يجوز لأحد اعتقاده.
وليس كذلك تقديرك الباء في نحو: مررت بزيد تارة كبعض الاسم وأخرى كبعض الفعل من قبل أن هذه إنما هي صناعة لفظية يسوغ معها تنقل
__________
1 كذا في أ، وسقط هذا في ش، ب.
2 ثبت هذا اللفظ في ش، ب. وسقط في أ.
3 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "إثبات".
4 في ش، ب: "تقتضي". وفي أمن غير نقط الحرف الأول.(1/343)
الحال وتغيرها فأما المعاني فأمر ضيق ومذهب مستصعب ألا تراك إذا سئلت عن زيد من قولنا: قام زيد سميته فاعلا وإن سئلت عن زيد من قولنا: زيد قام سميته مبتدأ لا فاعلا وإن كان فاعلا في المعنى. وذلك أنك سلكت1 طريق صنعة اللفظ فاختلفت السمة فأما المعنى فواحد. فقد ترى إلى سعة طريق2 اللفظ وضيق طريق المعنى.
فإن قلت: فأنت إذا قلت في " لا أبا لك" إن الألف تؤذن بالإضافة والتعريف واللام تؤذن بالفصل والتنكير فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين ضدين وهما التعريف والتنكير وهذان -كما ترى- متدافعان.
قيل: الفرق بين الموضعين واضح وذلك أن قولهم: "لا أبا لك " كلام جرى مجرى المثل وذلك أنك إذا قلت هذا فإنك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء أي أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أبيه. كذا فسره أبو علي وكذلك هو لمتأمله؛ ألا ترى أنه قد أنشد توكيدًا لما رآه من هذا المعنى فيه قوله:
وتترك أخرى فردة لا أخا لها
ولم يقل: لا أخت لها، ولكن لما جرى هذا الكلام على أفواههم " لا أبا لك " , "ولا أخا لك " قيل مع المؤنث على حد ما يكون عليه مع المذكر فجرى هذا نحوًا من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى واثنين وجماعة "الصيف ضيعت اللبن " على التأنيث لأنه كذا جرى أوله وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولهم "لا أبا لك " إنما فيه تعادي ظاهره "واجتماع"3 صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظًا لا معنى. وإذا آل الأمر إلى ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه؛
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا سلكت ... اختلفت".
2 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "تقدير".
3 كذا في أب، ش. وفي ج "من اجتماع".(1/344)
من تنافر قضيتي اللفظ في نحو: مررت بزيد وإذا أردت بذلك أن تدل على شدة اتصال حرف الجر بالفعل وحده دون الاسم ونحن إنما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلا كثيرًا. " وهذا"1 ما لا يدعيه مدع ولا يرضاه -مذهبًا لنفسه- راض.
ويؤكد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل كثرته في الشعر وأنه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب. فهذا2 الكلام دعاء في المعنى لا محالة وإن كان في اللفظ خبرًا. ولو كان دعاء مصرحًا وأمرًا معنيًّا3 لما جاز أن يقال لمن لا أب له لأنه إذا كان لا أب له لم يجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة؛ ألا ترى أنك لا تقول للأعمى: أعماه الله. ولا للفقير: أفقره الله وهذا ظاهر باد. وقد "مر به"4 الطائي الكبير فقال:
نعمة الله فيك لا أسال اللـ ... ـه إليها نُعْمَى سوى أن تدوما
ولو أني فعلت كنت كمن يسـ ... ـأله وهو قائم أن يقوما
فكما5 لا تقول لمن لا أب له: أفقدك الله أباك كذلك يعلم أن قولهم لمن لا أب له: "لا أبا لك " لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنما هي خارجة مخرج المثل على ما فسره أبو علي. قال عنترة:
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل6
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 كذا في أ. وفي ش، ب "وهذا".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "معينا".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "فريه".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وكما".
6 من قصيدته التي أولها:
طال الثراء على رسوم المنزل ... بين اللكيك وبين ذات الحرمل
وانظر الديوان 10.(1/345)
وقال1:
ألق الصحيفة لا أبا لك إنه ... يخشى عليك من الحباء النقرس
وقال2:
أبالموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني
أراد: لا أبا لك فحذف اللام من جاري عرف الكلام. وقال جرير:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوأة عمر3
وهذا أقوى دليل على كون هذا القول مثلا لا حقيقة؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أب واحد ولكن معناه: كلكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له. وقال الحطيئة:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا4
فإن قلت: فقد أثبت الحطيئة في هذا البيت ما نفيته أنت في البيت الذي قبله وذلك أنه قال " لأبيكم" فجعل للجماعة أبًا واحدًا وأنت قلت هناك: إنه لا يكون لجماعة تيم أب واحد فالجواب5 عن هذا من موضعين: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يريد حقيقة الأب وإنما غرضه الدعاء مرسلا ففحش بذكر الأب على ما مضى. والآخر أنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله "لأبيكم " الجمع أي لا أبا لآبائكم. يريد
__________
1 أي المتلمس يخاطب طرفة بن العبد. وانظر اللسان في "نقرس". والنقرس هنا: الهلاك. وقوله: "إنه يخشى" في أ، ب، ش: "إنني أخشى". والوجه ما أثبت، وهو من أبيات أولها كما في الشعر والشعراء لابن قتيبة:
من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... خبرا فتصدقهم بذاك الأنفس
2 هو أبو حية النميري. وانظر الخزانة في شواهد لا الناقة للجنس، وكامل المبرد 5/ 85، واللسان في "أبي".
3 عمر هو ابن لجأ التيمي، كانت بينه وبين جرير مهاجاة. وانظر الخزانة 1/ 360 والنقائض 488.
4 انظر الديوان والكامل 5/ 154.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "قيل فالجواب".(1/346)
الدعاء على آبائهم من حيث ذكرها فجاء به جمعًا مصححًا على قولك: أب وأبون وأبين قال:
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفدَّيننا بالأبينا1
وعليه قول الآخر -أنشدناه:
فمن يك سائلا عني فإني ... بمكة مولدي وبها ربيت2
وقد شنئت بها الآباء قبلي ... فما شنئت أبي ولا شنيت
أي ما شنئت3 آبائي. فهذا شيء عرض, ولنعد.
ومن ذلك قولهم: مختار ومعتاد ونحو ذلك فهذا يحمل تقديرين مختلفين لمعنيين مختلفين. وذلك أنه إن كان اسم الفاعل فأصله مختير ومعتوِد كمقتطع "بكسر العين ".
وإن كان مفعولا فأصله مختيَر ومعتوَد كمقتطَع. فـ "مختار " من قولك: أنت مختار للثياب أي مستجيد لها أصله مختير. ومختار من قولك: هذا ثوب مختار أصله مختير. فهذان تقديران مختلفان لمعنيين. وإنما كان يكون هذا منكرًا لو كان تقدير فتح العين وكسرها لمعنى واحد فأما وهما لمعنيين فسائغ حسن. وكذلك ما كان من المضعف في هذا الشرج4 من الكلام5 نحو قولك: هذا رجل معتد للمجد ونحوه فهذا هو اسم الفاعل وأصله معتدد "بكسر العين"، وهذا رجل معتد أي منظور إليه فهذا مفتعل "بفتح العين" وأصله معتدد كقولك: هذا معنىً معنىٌ معتبر أي ليس؛
__________
1 أورده سيبويه في الكتاب 2/ 101، وقال: "أنشدناه من نثق به وزعم أنه جاهلي" وهو زياد بن واصل السلمي. وانظر الخزانة 2/ 275.
2 البيتان نسبهما ابن دريد في الجمهرة 3/ 488 إلى قصي بن كلاب. وفيها: "شئيت" في الموضعين في مكان "شئت" و"شنيت"، وفسر ذلك ابن دريد: "شئيت: سبقت، من قولهم: شأوت الرجل إذا سبقته، وهذا أيضا في ج، أ. و"ربيت": نشأت، يقال: ربي في حجر فلان يربى ربا، نشأ عنده. وانظر اللسان "ربا" ففيها البيت الأول غير معزو.
3 في ج، أ: "سبقت".
4 الشرج "بالجيم": الضرب والنوع.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "في".(1/347)
بصغير متحقر. وكذلك هذا جوز1 معتد فهذا أيضًا اسم المفعول وأصله معتدد كمقتسم ومقتطع. ونظائر هذا وما قبله كثيرة فاشية.
ومن ذلك قولهم: كساء وقضاء ونحوه أعللت2 اللام لأنك لم تعتد بالألف حاجزًا لسكونها وقلبتها3 أيضًا لسكونها وسكون الألف قبلها فاعتددتها من وجه ولم تعتددها من آخر.
ومن ذلك أيضًا قولهم: أيهم تضرب يقم زيد. فـ "أيهم " من حيث كانت جازمة لـ"تضرب " يجب أن تكون مقدمة عليها ومن حيث كانت منصوبة بـ" تضرب" يجب أن تكون في الرتبة مؤخرة عنها فلم يمتنع أن يقع هذان التقديران على اختلافهما من حيث كان هذا إنما هو عمل صناعي لفظي. لو كان التعادي والتخالف في المعنى لفسد " ولم "4 يجز. وأيضًا فإن حقيقة الجزم إنما هو لحرف الجزاء المقدر المراد لا ل " أي" "فإذا "5 كان كذلك كان الأمر أقرب مأخذًا وألين ملمسًا.
__________
1 كذا في أ، ب، وفي غيرهما: "جون". والجوز هو الذي يؤكل كالبندق، واحده جوزة.
2 أي بقلبها ألفا لكونها واوا أو ياء تحركت وانفتح ما قبلها، على اعتداد الألف غير حاجز.
3 أي قلبت همزة فرارا من اجتماع ساكنين، وقد قلبت لأقرب الحروف إليها، وهي الهمزة.
4 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فلم".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإذا".(1/348)
باب في تدريج اللغة:
وذلك أن يشبه شيء شيئًا من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره.
فمن ذلك قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين "ولو "1 جالسهما جميعًا لكان مصيبًا مطيعًا لا مخالفًا وإن كانت "أو " إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين.
وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس "أو " بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى "أو ". وذلك لإنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسه في ذلك من الحظ وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضًا وكأنه قال: جالس2 هذا الضرب من الناس. وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 3 وكأنه -والله أعلم- قال: لا تطع هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى "أو " في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال "أو " في معنى الواو ألا تراه كيف قال 4:
وكان سيان ألا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السوح5
وسواء وسيان لا يستعمل6 إلا بالواو. وعليه قول الآخر:
فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله ... وقد يقبل الضيم الذليل المسير
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "فلو".
2 انظر الكتاب 1/ 489.
3 آية 24 سورة الإنسان.
4 هو أبو ذؤيب الهذلي. وانظر اللسان في "سوا"، وشرح شواهد المغني للسيوطي 72، وديوان الهذليين طبعة دار الكتب 1/ 158.
5 هذا بيت مركب من بيتين. وهما مع بيتين قبلهما في الرثاء:
المانح الأدم كالمرو الصلاب إذا ... ما حارد الحر واجتث المحاليج
وزفت الشول من برد العشي كما ... زف النعام إلى حفائه الروح
وقال ما شيهم سيان سيركم ... وأن تقيموا به واغبرت المسوح
وكان مثلين ألا يسرحوا غنما ... حيث استرادت مواشيهم وتسريح
فترى أن لا شاهد في البيت في روايته، وأن ما أورده النحويون بيتا أصله بيتان. وقوله: "وكان سيان ... " كان هنا على هذا الوجه شأنية، وسيان خبر المصدر المؤول بعده. قال ابن هشام في المغني في مبحث أو: "أي وكان الشأن ألا يرعوا الإبل وأن يرعوها سيان لوجود القحط. وإنما قدرنا كان شأنية لئلا يلزم الإخبار عن النكرة بالمعرفة، وفي أمالي ابن الشجري 1/ 61: "هكذا أنشده الرواة "سيان" مرفوعا على إضمار الشأن في كان".
6 كذا في أصول الخصائص. وفي عبارة اللسان: "يستعملان". وما هنا تأويله "لا يستعمل كلاهما".(1/349)
أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله1، كما أن معنى الأول: فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها. وهذا واضح.
ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير -لأنه من صبوت- لانكسار الصاد قبلها وضعف الباء أن تعتد حاجزًا لسكونه. وقد ذكرنا ذلك. فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة وذلك قولهم أيضًا: صبيان وصبية "وقد "2 كان يجب -لما زالت الكسرة- أن تعود الياء واوًا إلى أصلها لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى3 صارت كأنها كانت أصلًا. وحسن ذلك لهم شيء آخر وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحسانًا وإيثارًا لا عن وجوب علة ولا قوة قياس؛ فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قويًا ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثرًا.
ومن ذلك قولهم في الاستثبات عمن قال ضربت رجلًا: منا؟ ومررت برجل مني؟ وعندي رجل: منو؟ فلما شاع هذا ونحوه عنهم تدرجوا منه إلى أن قالوا: ضرب منٌ منا كقولك: ضرب رجل رجلا.
ومن ذلك قولهم: أبيض لياح وهو من الواو لأنه ببياضه ما يلوح للناظر. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وليس ذلك عن قوة علة إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب وهو التطرق إليها بالكسرة طلبًا للاستخفاف لا عن وجوب قياس ألا ترى أن هذا الضرب من "الأسماء التي ليست"4 جمعًا كرباض وحياض ولا مصدرًا جاريًا على فعل معتل كقيام وصيام إنما يأتي مصححًا
__________
1 ثبت في ش، ب. وسقط في أ. وقد ثبت أيضا في عبارة اللسان.
2 كذا في ش. وفي أ، ب: "فقه".
3 كذا في أ، ب، د، هـ. وفي ش: "حيث".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأسماء ليست".(1/350)
نحو: خوان وصوان غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم في لياح في قلبهم إياه إلى الياء بتلك الكسرة قبلها وإن كانت ليس مما يؤثر حقيقة التأثير مثلها ولأنهم شبهوه لفظًا إما بالمصدر كحيال وصيال وإما بالجمع كسوط وسياط ونوط ونياط. نعم وقد فعلوا مثل هذا سواء في موضع آخر. وذلك قول بعضهم في صوان: صيان وفي صوار: صيار فلما ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ثم أقروا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها, وذلك قولهم فيه: لياح. وشجعه1 على ذلك شيئًا أن قلب الواو ياء في لياح لم يكن عن قوة ولا استحكام علة وإنما هو لإيثار الأخف على الأثقل فاستمر على2 ذلك وتدرج منه إلى أن أقر الياء بحالها مع الفتح إذ كان قلبها مع الكسر أيضًا ليس بحقيقة موجب. قال 3: وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحة عمل وإنما هو لتخفيف مؤثر فكذلك أقلب4 أيضًا مع الفتح وإن لم يكن موجبًا غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح فلذلك جعلنا ذاك تدرجًا عنه إليه5 ولم نسو6 بينهما فيه. فاعرف ذلك.
وقريب من ذلك قول الشاعر 7:
ولقد رأيتك بالقوادم مرة ... وعلي من سدف العشي رياح8
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وهو المناسب لقوله بعد: "فاستمر على ذلك وتدرج منه" يريد واضع العربية. وفي ج: "وشجعهم" وهو المناسب للكلام السابق.
2 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 كأنه يريد واضع العربية.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "قلب".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "إلى غيره".
6 كذا في أ. وفي ش, ب: "يسو".
7 ورد البيت في مقطوعة لرفيع الوالبي في أمالي المرتضى تحقيق الأستاذ أبي الفضل إبراهيم 1/ 370 وما بعدها وهو خطاب امرأة.
8 القوادم موضع في بلاد غطفان. وجاء البيت في اللسان في "روح" وفيه "نظرة" بدل "مرة" وضبط فيه رياح بكسر الراء، وجاء في "سدف" وفيه "لياح" بدل "رواح" وكأن الرياح وقت الرواح وأصله الكسر. وفي اللسان: "خرجوا برياح من العشي -بكسر الراء- ورواح وأرواح أي بأول" يريد: بأول العشي ويريد أنه رآه وقد آن له أن يروح إذ حل سدف العشي وظلمته وقد يكون في الكلام قلب؛ أي وعلى سدف العشي من الرياح.(1/351)
قياسه رواح؛ لأنه فعال من راح يروح لكنه لما كثر قلب هذه الواو في تصريف هذه الكلمة ياء -نحو ريح ورياح ومريح ومستريح- وكانت الياء أيضًا عليهم أخف وإليهم أحب تدرجوا من ذلك إلى أن قلبوها في رياح وإن زالت الكسرة التي كانت قلبتها في تلك الأماكن.
ومن ذلك قلبهم الذال دالا في "ادكر " وما تصرف منه نحو يدكر ومدكر وادكار وغير ذلك: تدرجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالًا في غير بناء افتعل فقال ابن مقبل:
من بعض ما يعتري قلبي من الدكر1
ومن ذلك قولهم: الطنة2 -بالطاء- في الظنة وذلك في اعتيادهم اطن ومطن واطنان, كما جاءت الدكر على الأكثر.
ومن ذلك حذفهم الفاء -على القياس- من ضغة وقحة؛ كما حذفت من عدة وزنة ثم إنهم عدلوا بها3 عن فِعلة إلى فَعلة فأقروا الحذف بحاله وإن زالت الكسرة التي كانت موجبة له فقالوا: الضعة والقحة فتدرجوا بالضعة والقحة إلى الضعة والقحة وهي عندنا فعلة كقصعة وجفنة " لا أن "4 فتحت لأجل الحرف الحلقي فيما ذهب5 إليه محمد بن يزيد.
__________
1 صدره:
يا ليت لي سلوة يشقى الفؤاد بها
وهو من قصيدته التي مطلعها:
يا حر أمسيت شيخا قد وهى بصري ... والتاث ما دون يوم الوعد من عمري
انظر ديوانه 72 تحقيق الدكتور عزة حسن. دمشق، 1962. وابن قتيبة الشعر والشعراء: 426. وانظر المصنف "نسخة التميورية" 761.
2 أي التهمة.
3 كذا في أوفي ش، ب: "من".
4 في ش، ب: "إلا أن". وفي أ: "لأن"، وقد رأيت أن الأنسب بالسياق ما أثبت.
5 انظر الكامل 5/ 189، 196 بشرح المرصفي.(1/352)
ومن ذلك قولهم: بأيهم تمرر أمرر1؛ فقدموا حرف الجر على الشرط فأعملوه فيه وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله لكنهم لما لم يجدوا طريقًا إلى تعليق2 حرف الجر استجازوا إعماله في الشرط. فلما ساغ لهم ذلك تدرجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا: غلام من تضرب أضربه وجارية من تلق ألقها. فالاسم في هذا إنما جاز عمله في الشرط من حيث كان محمولًا في ذلك على حرف الجر. وجميع هذا حكمه في الاستفهام حكمه في الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام كما أن الشرط كذلك. فعلى هذه جاز بأيهم تمر؟ وغلام من تضرب فأما قولهم:
أتذكر إذ من يأتنا نأته3
فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ أي أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته فلما باشر المضاف غير المضاف إليه في اللفظ أشبه الفصل بين4 المضاف والمضاف إليه فلذلك أجازوه في الضرورة.
فإن قيل: فما الذي يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر؟ قيل: لأن الشرط له صدر الكلام فلو أضفت إليه لعلقته بما قبله وتانك5 حالتان6 متدافعتان. فأما بأيهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجر متعلق بالفعل بعد الاسم, والظرف في قولك: أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلق بقولك أتذكر وإذا خرج ما يتعلق به حرف الجر من حيز الاستفهام لم يعمل في الاسم المستفهم به ولا المشروط به.
__________
1 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
2 أي عدم عمله لفظا.
3 هذا صورة شطر بيت من الشعر، ولم يأت في شعر والصواب أنه نثر لا شعر ولكنه أجيز إذا فرض أن أدخله شاعر في شعره. وانظر الكتاب 1/ 440، والهمع 2/ 62.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "من".
5 في الأصول: "تلك" ويبدو أنه تحريف عما أثبت.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "حالان".(1/353)
ومن التدريج في اللغة أن يكتسي المضاف من المضاف إليه كثيرًا من أحكامه: من التعريف والتنكير والاستفهام والشياع وغيره ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء في الواجب إذا أضيف إليه شيء منها1 صار2 في ذلك إلى حكمه 3. وذلك قولك: ما قرعت حلقة باب دار أحد قط فسرى ما في "أحد " من العموم والشياع إلى " الحلقة ". ولو قلت: قرعت حلقة باب دار أحد أو نحو ذلك لم يجز.
ومن التدريج في اللغة: إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفي4 العلة عينا مجرى الهمزة الأصلية. وذلك نحو قولهم في تحقير قائم وبائع: قويئم وبويئع فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصلية في سائل وثائر من سأل وثأر إذا قلت: سويئل وثويئر. وليست كذلك اللام5 إذا انقلبت همزة عن أحد6 الحرفين نحو كساء وقضاء ألا تراك تقول في التحقير: كسيٌ وقضيّ فترد حرف العلة وتحذفه لاجتماع الياءات. وليست كذلك الهمزة الأصلية ألا تراك تقول في تحقير سلاء7 وخلاء7 بإقرار الهمزة لكونها أصلية وذلك سُليِّء وخُليِّء. وتقول أيضًا في تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتة وذلك قولك: أكسية وأقضية. وتقول في سلاء وخلاء: أسلئة وأخلئة؛ فاعرف ذلك.
لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئًا مرتجلا أعدت الحرفين البتة. وذلك كأن تبني منهما مثل جعفر فتقول: قومم وبيعع. ولم تقل: قأمم ولا بأعع؛ لأنك إنما تبني من أصل المثال لا من حروفه المغيرة ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال " فعل" لقلت: دوم وقول لا غير.
__________
1 أي من الأسماء.
2 أي الشيء من الأسماء الذي يضاف إلى ملازم النفي.
3 وهو ملازمة النفي.
4 يريد الواو والياء.
5 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "على".
7 السلاء: السمن. والخلاء في الناقة أن تحرن أو تبرك فلا تنهض لغير علة، وقد خلأت الناقة، تخلأ خلأ وخلاء، وخلوءا.(1/354)
فإن قلت: ولم لم تقرر الهمزة في قائم وبائع فيما تبنيه منهما, كما أقررتها في تحقيرهما؟
قيل: البناء من الشيء أن تعمد لأصوله فتصوغ منها زوائده فلا تحفل بها. وليس كذلك التحقير. وذلك أن صورة المحقر معك ومعنى التكبير1 والتحقير في أن كل واحد منهما واحد واحد وإنما بينهما أن أحدهما كبير والآخر صغير فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه 2. قال أبو علي -رحمه الله- في ضحة الواو في نحو أسيود وجديول: مما أعان على ذلك وسوغه أنه في معنى جدول صغير فكما تصح الواو في جدول صغير فكذلك أنس بصحة الواو في جديول. وليس كذلك الجمع؛ لأنه رتبة غير رتبة الآحاد فهو شيء آخر فلذلك سقطت في الجمع حرمة الواحد, ألا تراك تقول في تكسير قائم: قوام وقوم فتطرح الهمزة وتراجع لفظ الأصل، ولا تقول: قؤام، ولا قؤم، كما قلت في التحقير: قوئم، بالهمز.
وسألت مرة أبا علي -رحمه الله- عن رد سيبويه كثيرًا من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إياها عليها ألا تراه "قال تقول "3: سريحين لقولك: سراحين, ولا تقول 4: عثيمين لأنك لا تقول: عثامين ونحو ذلك. فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيدًا عن رتبة الآحاد. فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه والمحقر هو المكبر والتحقير فيه جار مجرى الصفة, فكأن لم يحدث بالتحقير5 أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد: هذا معقد معناه وما أحسنه وأعلاه!
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "التكثير".
2 أي هو باق على حاله لا يتغير بالتحقير.
3 كذا في ج. وفي ش، ب: "قال يقول". وفي أ: "ألا تراه يقول.
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تقل" وانظر سيبويه 2/ 108.
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "بالتصغير".(1/355)
ومن التدريج قولهم: هذا حضرُموت بالإضافة على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه. ثم تدرجوا من هذا إلى التركيب فقالوا: هذا حضرَموت. ثم تدرجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعًا صياغة المفرد فقالوا: هذا حضرَمُوت فجرى لذلك مجرى عضرفوط ويستعور.
ومن التدريج في اللغة قولهم: ديمة1 وديم؛ واستمرار القلب في العين للكسرة قبلها, ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا: ديمت السماء ودومت؛ فأما دومت فعلى القياس وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم. أنشد أبو زيد:
هو الجواد ابن الجواد ابن سبل ... إن دوموا جاد وإن جادوا وبل2
ورواه أيضًا "ديموا " بالياء. نعم ثم قالوا: دامت السماء تديم؛ فظاهر هذا أنه أجري مجرى باع يبيع, وإن كان من الواو.
فإن قلت: فلعله فعل يفعل من الواو؛ كما ذهب الخليل في طاح يطيح, وتاه يتيه؛ قيل: حمله على الإبدال أقوى؛ ألا ترى أنه قد حكي في مصدره ديمًا, فهذا مجتذب إلى التاء مدرج3 إليها مأخوذ به نحوها.
فإن قلت: فلعل4 الياء لغة5 في هذا الأصل كالواو, بمنزلة ضاره يضيره ضيرًا وضاره يضوره ضورًا. قيل: يبعد ذلك هنا ألا ترى إلى اجتماع6
__________
1 هي المطر الدائم في سكون.
2 قيل إن هذا في وصف فرس. وسبل فرس نجيبة في العرب. ولهذه الفرس ذكر في أنساب الخيل لابن الكلبي 16، 27، وهي أم أعوج. ويقول الجعدي:
وعناجيج جياد نجب ... نجل فياض ومن آل سبل
ويقول ابن بري: إن سيلا والد الراجز جهم بن سبل، وإن الرواية:
أنا الجواد ابن الجواد ابن سبل
وانظر اللسان في "سبل" وانظر أيضًا التاج في المادة هذه.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "ومدرج".
4 كذا في أ، ب. وفي ش "فعل".
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "لعلة".
6 في أ: "إجماع".(1/356)
الكافة على قولهم: الدوام, وليس أحد1 يقول: الديام فعلمت بذلك أن العارض في هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة لا من جهة اللغة.
ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: "ما هت الركية تميه ميهًا "2, مع إجماعهم على أمواه, وأنه لا أحد يقول: أمياه.
ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال في جمع ريح: أرياح؛ حتى نبه عليه فعاد إلى أرواح. وكأن أرياحًا أسهل قليلا؛ لأنه قد جاء عنهم قوله:
وعلي من سدف العشي رياح3
فهو بالياء لهذا آنس.
وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها؛ فهم لا يزالون4 تسببًا إليها, ونجشًا عنها, واستثارة لها, وتقربًا ما استطاعوا منها.
ونحو هذه الطريق في التدريج , حملهم علباوان على حمراوان, ثم حملهم رداوان على علباوان, ثم حملهم قراوان على رداوان, وقد تقدم ذكره 5. وفي هذا كاف مما يرد في معناه بإذن الله تعالى.
ومن ذلك أنه لما اطردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو , قمت يوم قمت, وأجلس حين تجلس, شبهوا ظرف المكان في "حيث " فتدرجوا من "حين " إلى "حيث " فقالوا: قمت حيث قمت. ونظائره كثيرة.
__________
1 في أ: "لأحد".
2 أي ظهر ماؤها وكثر. والركية: البئر.
3 انظر ص351 من هذا الجزء.
4 كذا في أ. وفي ب: "تشبيا" بإعجام الشين. وفي ش: "تشبثا بها وبحثا عنها واستثارة لها". وفي ج: "لا يألون" في موضع "لا يزالون" وتوافق بعدما في أ، وهي جيدة، وقوله "لا يزالون تسيبا إليها"، أي يتسيبون إليها تسيبا، وكذا قوله: "نجشا" أي ينجشون. وقوله: "استثارة" أي يستثيرون، فهي مفاعيل على المصدر" ويجوز أن تكون على الحذف، أي ذوي تسبب إلخ، أو أنه حمل هذه المعاق عليهم على قصد المبالغة. والنجش: البحث عن الشيء واستخراجه.
5 انظر ص214 وما بعدها من هذا الجزء.(1/357)
باب في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب
...
باب في أن ما قيس على كلام العرب:
هذا موضع شريف. وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه. والمنفعة به عامة, والتساند إليه مقو مجد. وقد نص1 أبو عثمان عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؛ ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره. فإذا سمعت "قام زيد " أجزت ظرف بشر, وكرم خالد.
قال أبو علي: إذا قلت: "طاب الخشكنان "2 فهذا من كلام العرب لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب.
ويؤكد هذا عندك أن ما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها ألا تراهم يصرفون في العلم نحو آجر وإبريسيم وفِرِند وفيروزج وجميع ما تدخله لام التعريف. وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو الديباج, والفرند والسهريز3، والآجر؛ أشبه أصول كلام العرب, أعني النكرات. فجرى في الصرف ومنعه مجراها.
__________
1 انظر الباب الثاني من تصريف المازني بشرح ابن جني 170 نسخة التيمورية.
2 فسره داود الأنطاكي في التذكرة 1/ 129 بأنه "خالص دقيق الحنطة إذا عجن بشيرج وبسط وملئ بالسكر واللوز والفستق وماء الورد، وجمع وخبز. وأهل الشام تسميه المكف". وانظر المعرب للجواليقي 134. ويقابله في هذا العصر البسكويت. وانظر محاضر جلسات المجمع اللغوي: دور الانعقاد الأول 433.
3 السهريز -بكسر السين وتضم- ضرب من التمر، يقال: تمر سهريز؛ بالوصف والإضافة. ويقال: شهريز؛ بالشين أيضا. وانظر معرب الجواليقي "طبعة الدار" 199.(1/358)
قال أبو علي: ويؤكد ذلك أن العرب اشتقت من الأعجمي النكرة, كما تشتق من أصول كلامها، قال رؤبة:
هل ينجيني حلف سختيت ... أو فضة أو ذهب كبريت1
قال: فـ "سختيت " من السخت2؛ كـ " زحليل "3 من الزحل.
وحكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي أظنه قال: يقال درهمت الخبازى؛ أي صارت كالدراهم فاشتق من الدرهم وهو اسم أعجمي. وحكى أبو زيد: رجل مدرهم 4. قال ولم يقولوا منه: دُرهِم إلا أنه إذا5 جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل في الكف. ولهذا أشباه.
وقال أبو عثمان في الإلحاق المطرد: إن موضعه من جهة اللام نحو قُعدُد, ورِمدِد, وشَملَل, وصَعرَر. وجعل الإلحاق بغير اللام شاذًّا لا يقاس عليه. وذلك نحو جوهر, وبيطر, وجدول, وحذيم، ورهوك6، وأرطىً, ومعزىً وسلقىً وجعبى. قال أبو علي وقت القراءة عليه كتاب أبي عثمان: لو شاء شاعر أو ساجع, أو متسع, أن يبنى بإلحاق اللام اسمًا, وفعلا, وصفة لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب. وذلك نحو قولك: خرججٌ أكرم من دخللٍ وضربب زيد عمرًا ومررت برجل ضرببٍ وكرممٍ
__________
1 حلف سختيت: موثق قوى. يقال كذب سختيت: جالس. والكبريت أراد به رؤية الذهب، وخطئ فيه، والعرب تخطئ في المعاني دون الألفاظ. وانظر شفاء الغليل واللسان. وانظر الديوان 25، والتقريب لأصول التعريب 11.
2 السخت: الشديد.
3 هو السريع.
4 أي كثير الدراهم.
5 كذا في ش، ب، وفي أ، ج4، "إلا أنه جاء".
6 يقال: رهوك في مشيه: مشى في ضعف كأنه يموج في سيره.(1/359)
ونحو ذلك. قلت له: أفترتجل اللغة ارتجالا قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم, فهو إذًا من كلامهم. قال: ألا ترى أنك تقول: طاب الخشكنان, فتجعله من كلام العرب وإن لم تكن العرب تكلمت به. هكذا قال فبرفعك إياه كرفعها ما صار لذلك محولا على كلامها ومنسوبًا إلى لغتها.
ومما اشتقته العب من كلام العجم ما أنشدناه "من قول الراجز"1:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظلت اليوم كالمزرج
أي الذي شرب الزرجون2، وهي الخمر. فاشتق المزرج من الزرجون وكان قياسه: كالمزرجن من حيث كانت النون في زرجون قياسها أن تكون أصلا إذ كانت بمنزلة السين من قربوس. قال أبو علي: ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه. قال: والصحيح من نحو هذا الاشتقاق قول رؤبة 3:
في خدر مياس الدمى معرجن
وأنشدناه "المعرجن "4 باللام. فقوله "المعرجن " يشهد بكون النون من عرجون أصلا وإن كان من معنى الانعراج ألا تراهم فسروا قول الله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 5 فقالوا: هي الكباسة6 إذا قدمت فانحنت؛ فقد "كان على هذا القياس يجب "7 أن يكون نون "عرجون " زائدة كزيادتها في "زيتون " , غير أن بيت رؤبة الذي يقول فيه " المعرجن" منع هذا, وأعلمنا أنه أصل رباعي قريب من لفظ
__________
1 ثبت في أ: وسقط في ش، ب.
2 وهو لفظ فارسي مركب من "زر" بمعنى الذهب، و"كون" بالكاف الفارسية ومعناه لون. فمعنى التركيب: لون الذهب. وانظر التقريب 9.
3 من أرجوزة في ديوانه 56.
4 سقط في أ.
5 آية 39 سورة يس.
6 الكباسة: العذق بشماريخه. وهو ما عليه الرطب ويقال له السباطة.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "كان القياس على هذا أن يكون".(1/360)
الثلاثي؛ كسبطر من سبط ودمثر من دمث؛ ألا ترى أنه ليس في الأفعال "فعلن " وإنما ذلك في الأسماء نحو علجن1، وخلبن.
ومما يدلك على أن ما قيس على2 كلام العرب فإنه من كلامها أنك لو مررت على قوم "يتلاقون بينهم مسائل "3 أبنية التصريف نحو قولهم في مثال "صمحمح " من الضرب: "ضربرب " ومن القتل "قتلتل " ومن الأكل "أكلكل " ومن الشرب "شربرب " ومن الخروج "خرجرج " ومن الدخول "دخلخل ". وفي مثل "سفرجل " من جعفر: "جعفرر " ومن صقعب4 "صقعبب " ومن زبرج "زبرجج " ومن ثرتم5 "ثرتمم" ونحو ذلك. فقال لك قائل: بأي لغة كان هؤلاء يتكلمون لم تجد بدًا من أن تقول: بالعربية وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه6 الحروف.
فإن قلت: فما تصنع بما حدثكم به أبو صالح السليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني7 قال: قرأت على الأصمعي هذه الأرجوزة للعجاج:
يا صاح هل تعرف رسمًا مكرسا
فلما بلغت:
تقاعس العز بنا فاقعنسسا
قال لي الأصمعي: قال لي الخليل: أنشدنا رجل:
رافع العز بنا8 فارفنعع
__________
1 العلجن: الناقة الكناز اللحم، والمرأة الماجنة. والخلبن: الخرفاء.
2 كذا في أ. ج. وفي غيرهما: "من".
3 أي يلقى بعضهم على بعض أسئلة.
4 الصقعب: الطويل، والمصوت من الأنياب الأبواب.
5 الثرتم: ما فضل من الطعام، أو الإدام في الإناء.
6 كذا في أ، ب: وفي ش: "هؤلاء".
7 نسبة للنوشجان "بضم النون" بلد في فارس.
8 كذا في ش، ب، وفي أ: "به".(1/361)
فقلت: هذا لا يكون. فقال 1: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تقاعس العز بنا فقعنسا2
فهذا يدل على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم ما كان من3 هذا النحو من الأبنية على أنه من كلامهم ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيد قومه وكاشف قناع القياس في علمه كيف منع4 من هذا ولو كان ما قاله أبو عثمان صحيحًا ومذهبًا مرضيًّا لما أباه الخليل ولا منع منه!
فالجواب عن هذا من أوجه عدة: أحدها -أن الأصمعي لم يحك عن الخليل أنه انقطع هنا ولا أنه تكلم بشيء بعده فقد يجوز أن يكون الخليل لما احتج عليه منشده ذلك البيت ببيت العجاج عرف الخليل حجته فترك مراجعته وقطع الحكاية على هذا الموضع يكاد يقطع بانقطاع الخليل عنده ولا ينكر أن يسبق الخليل إلى القول بشيء فيكون فيه تعقب له فينبه عليه فينتبه.
وقد يجوز أيضًا أن يكون الأصمعي سمع من الخليل في هذا من قبوله أورده على المحتج به ما لم يحكه للخليل بن أسد لا سيما والأصمعي ليس ممن ينشط للمقاييس, ولا لحكاية التعليل.
نعم, وقد يجوز أن يكون الخليل أيضًا أمسك عن شرح الحال في ذلك وما قاله لمنشده البيت من تصحيح قوله أو إفساده للأصمعي5 لمعرفته بقلة انبعاثه6 في النظر وتوفره على ما يروى ويحفظ. وتؤكد7 هذا عندك الحكاية عنه وعن
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "فقلت" وانظر لهذه القصة شعراء ابن قتيبة 23.
2 بعد هذا في ابن قتيبة: "ولا يجوز لي".
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 متعلق بقوله: "شرح".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "ابتعاثه".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "يؤكد".(1/362)
الأصمعي, وقد كان أراده الأصمعي على أن يعلمه العروض فتعذر ذلك على الأصمعي وبعد عنه؛ فيئس الخليل منه فقال له يومًا: يا أبا سعيد كيف تقطع قول الشاعر 1:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
قال: فعلم الأصمعي أن الخليل قد تأذى ببعده عن علم العروض فلم يعاوده فيه.
ووجه غير هذا وهو ألطف من جميع ما جرى2 وأصنعه وأغمضه؛ وذلك أن يكون الخليل إنما أنكر ذلك لأنه بناه " مما"3 لامه حرف حلقي والعرب لم تبن هذا المثال مما لامه أحد حروف الحلق إنما هو مما لامه حرف فموي وذلك نحو اقعنسس واسحنكك واكلندد4، واعفنجج 5. فلما قال الرجل للخليل "فارفنععا " أنكر ذلك من حيث أرينا.
فإن قيل: وليس6 ترك العرب أن تبني هذا المثال مما لامه حرف حلقي بمانع أحدًا من بنائه من ذلك؛ ألا ترى أنه ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع فإذا حذا إنسان على مثلهم, وأم مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعًا, ولا أن يرويه رواية.
قيل: إذا تركت العرب أمرًا من الأمور لعلة داعية إلى تركه وجب اتباعها عليه ولم يسع أحدًا بعد ذلك العدول عنه. وعلة امتناع ذلك عندي ما أذكره لتتأمله فتعجب منه، وتأنق لحسن الصنعة فيه.
__________
1 البيت لعمرو بن معد يكرب من قصيدته في ريحانة أخته، وكانت أسرت، ولم يستطع أن يستنقذها؛ أولها:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وانظر الخزانة 3/ 460، والأصمعيات 43-45، والأغاني بولاق 14/ 33، وابن قتيبة 23، ومعاهد التنصيص 2/ 236.
2 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "مضى".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فيما".
4 أي غلظ واشتد.
5 اعفنجج: أي أسرع.
6 ثبت هذا الحرف في أصول الكتاب ما عدا ج فقد سقط فيها، وهو أسوغ.(1/363)
وذلك أن العرب زادت هذه النون الثالثة الساكنة في موضع حروف اللين أحق به وأكثر من النون فيه ألا ترى أنك إذا وجدت النون ثالثة ساكنة فيما عدته خمسة أحرف قطعت بزيادتها1؛ نحو نون جحنفل2، وعبنقس3، وجرنفس4، وفلنقس5، وعرندس6، عرفت الاشتقاق أو لم تعرفه حتى يأتيك ثبت بضده.
قال أصحابنا: وإنما كان ذلك لأن هذا الموضع إنما هو للحروف الثلاثة الزوائد نحو واو فدوكس7 وسرومط8، وياء سميدع9، وعميثل10، وألف جرافس11، وعذافر. والنون حرف من حروف الزيادة أغن ومضارع لحروف اللين وبينه وبينها من القرب والمشابهات ما قد شاع وذاع. فألحقوا النون في ذلك بالحروف اللينة الزائدة. وإذا كان كذلك فيجب أن تكون هذه النون -إذا وقعت ثالثة في هذه المواضع- قوية الشبه بحروف المد وإنما يقوى شبهها بها متى كانت ذات غنة لتضارع بها حروف المد للينها وإنما تكون فيها الغنة متى كانت من الأنف وإنما تكون من الأنف متى وقعت ساكنة وبعدها حرف فموي لا حلقي نحو جحنفل وبابه. وكذلك أيضًا طريقها وحديثها في الفعل ألا ترى أن النون في باب احرنجم وادلنظى12، إنما هي محمولة من حيث كانت ثالثة ساكنة على الألف نحو13 اشهاببت، وادهاممت وابياضضت واسواددت والواو في نحو اغدودن واعشوشب،
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "بأنها زائدة".
2 هو الغليظ الشفة.
3 من معانيه السيئ الخلق.
4 هو الضخم الشديد من الرجال.
5 هو الذي في إحدى جداته رق.
6 الأسد الشديد.
7 هو الشديد من الأسود والرجال.
8 هو الجمل الطويل.
9 هو السيد الشريف.
10 هو البطيء والنشيط.
11 هو الجرنفس.
12 كذا في ب. وفي أ، ش: "ادلنطى" بالمهملة. وادلنظى الرجل: مر فأسرع.
13 كذا في أ. وفي ش، ب: "في نحو".(1/364)
واخلولق واعروريت واذلوليت1، واقطوطيت2، واحلوليت. وإذا كانت النون في باب احرنجم واقعنسس إنما هي أيضًا محمولة على الواو والألف في هذه الألفاظ التي ذكرناها "وغيرها"3 وجب أن تضارعها وهي أقوى شبهًا بها. وإنما يقوى شبهها بها إذا كانت غناء وإنما تكون كذلك إذا وقعت قبل حروف الفم نحوها في اسحنكك4 واقعنسس واحرنجم واخرنطم 5. وإذا كان كذلك لم يجز أن يقع بعدها حرف حلقي لأنها إذا كانت كذلك كانت من الفم6 وإذا كانت من الفم سقطت غنتها وإذا سقطت غنتها زال شبهها بحرفي المد: الواو والألف. فلذلك أنكره الخليل وقال: هذا لا يكون. وذلك أنه رأى نون "ارفنعع " في موضع لا تستعملها العرب فيه إلا غناء غير مبينة7، فأنكره وليست كذلك في اقعنسس لأنها قبل السين وهذا موضع تكون فيه مغنة مشابهة لحرفي اللين ولهذا ما كانت النون في "عجنس "8 و "هجنع "9 كباء "عدبس "10 ولامي "شلعلع "11 ولم يقطع على أن الأولى منهما الزائدة كما قطع على نون "جحنفل " بذلك من حيث كانت مدعمة وادغامها يخرجها من الألف12؛ لأنها تصير إلى لفظ المتحركة بعدها وهي من الفم. وهذا أقوى ما يمكن أن يحتج به في هذا الموضع.
__________
1 اذلولى: انطلق في استخفاء وذل.
2 اقطوطى: قارب في مشيه.
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 يقال: اسحنكك الليل: أظلم.
5 أي رفع آنفه وغضب واستكبر.
6 أما إذا كان بعدها حرف فموي وكانت غناء فإن مخرجها الخيشوم، وهو أقصى الأنف. وفي مقدمة الجزرية:
وغنة مخرجها الخيشوم
7 كذا في ب، وفي ش: "مبتنية".
8 هو الجمل الضخم.
9 هو الطويل الضخم.
10 هو الجمل الضخم.
11 كذا في أ. وفي ش، ب: "شعلع". والشلعلع والشعلع: الطويل. وقد جاء الأول في مستدرك التاج، والثاني في اللسان والقاموس.
12 كذا في ش، وفي أ، ب: "الألف" وما أثبت هو الصواب. وفي ج: فيزول شبهها بالألف".(1/365)
وعلى ما نحن عليه فلو قال لك قائل: كيف تبني من ضرب مثل "حبنطىً " لقلت فيه: "ضربنىً ". ولو قال: كيف تبني مثله من قرأ لقلت: هذا لا يجوز لأنه يلزمني أن أقول: "قرنأى " فأبين النون لوقوعها قبل الهمزة وإذا بانت ذهبت عنها غنتها وإذا ذهبت غنتها1 زال شبهها بحروف اللين في نحو عثوثل2 وخفيدد3، وسرومط وفدوكس وزرارق4، وسلالم وعذافر وقراقر5 -على ما تقدم- ولا يجوز أن تذهب عنها الغنة في هذا الموضع الذي هي محمولة فيه على حروف اللين بما فيها من الغنة التي ضارعتها بها وكذلك جميع حروف الحلق. فلا6 يجوز أيضًا أن تبنى من صرع ولا من جبه ولا من سنح ولا من سلخ ولا من فرغ لأنه كان يلزمك أن تقول: صرنعى وجبنهى وسننحى وسلنخى وفرنغى فتبين النون في هذا الموضع. وهذا "لا يجوز"7؛ لما قدمنا ذكره. ولكن من أخفى النون عند الخاء والغين في نحو منخل ومنغل8، يجوز على مذهبه أن يبني نحو حبنطى من سلخ وفرغ لأنه قد يكون هناك في لغته من الغنة ما يكون مع حروف الفم.
وقلت مرة لأبي علي -رحمه الله- قد حضرني شيء في علة الإتباع في " نقيذ "9 وإن عري أن تكون عينه حلقية وهو قرب القاف من الخاء والغين فكما10 جاء11 عنهم النخير والرغيف كذلك جاء عنهم "النقيذ " فجاز أن تشبه القاف لقربها من حروف الحلق بها كما شبه من أخفى النون عند الخاء والغين إياهما بحروف الفم، فالنقيذ في الإتباع
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "عنها".
2 هو الأحمق.
3 هو السريع، والظليم.
4 جمع زرق "كسكر" هو طائر صياد.
5 اسم موضع من نواحي المدينة.
6 كذا في أ. وفي ب، ش: "ولا يجوز".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "ما لا يجوز".
8 وصف من أنغل القوم حديثا سمعة: نم به إليهم.
9 كذا في ش، ب. وفي أ. ج: "نقيد". والصواب ما أثبت. والنقيد ما يستنفذ من العدو.
10 كذا في أ. وفي ش، ب، "وكما".
11 كذا ش، ب وفي أ: "جاز".(1/366)
كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون فرضيه وتقبله. ثم رأيته وقد أثبته فيما بعد بخطه في تذكرته ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكر " امتناع1 فعنلى " وبابه فيما لامه حرف حلقي لما يعقب ذلك من ظهور النون وزوال شبهها بحروف اللين والقياس يوجبه فلنكن عليه. ويؤكده عنك أنك لا تجد شيئًا من باب فعنلى ولا فعنلل2 ولا فعنعل بعد نونه حرف حلقي.
وقد يجوز أن يكون إنكار الخليل قوله "فارفنععا " إنما هو لتكرر الحرف الحلقي مع استنكارهم ذلك. ألا ترى إلى قلة التضعيف في باب المهه3، والرخخ4، والبعاع5، والبحح والضغيغة6، والرغيغة7؛ هذا مع ما قدمناه من ظهور النون في هذا الموضع.
ومن ذلك قول أصحابنا: إن اسم المكان والمصدر على وزن المفعول في الرباعي قليل إلا أن تقيسه. وذلك نحو المدحرج تقول: دحرجته مدحرجًا وهذا مدحرجنا وقلقلته مقلقلا8، وهذا مقلقلنا وكذلك أكرمته مكرمًا وهذا مكرمك أي موضع إكرامك وعليه قول الله تعالى: {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} 9 أي تمزيق وهذا ممزق الثياب أي الموضع الذي تمزق فيه. قال أبو حاتم: قرأت على الأصمعي في جيمية العجاج:
جأبًا ترى بليته مسحجًا10
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "امتناع بناء فعنلى".
2 كذا في ش، ب. وسقط هذا الحرف في أ.
3 هو اليسير السهل.
4 هو السهولة واللبن.
5 هو المناع ونقل السحاب من الماء.
6 من معانيها الروضة.
7 طعام مثل الحساء يصنع بالتمر. ويقول فيها في تهذيب الألفاظ 637: "والرغيغة: حسو رقيق" وهو مصحفة فيه إلى "الرغيفة" ويستظهر الناشر أنها "الرقيقة" وهذا خطأ.
8 ثبت في أ، وسقط في ش، ب.
9 آية 19 سورة سبأ.
10 الجأب: حمار الوحش الغليظ، والليث: صفحة العنق، والنسحيج: الخدش. وهو من أرجوزته التي أولها:
ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا
وانظر الديوان.(1/367)
فقال: تليله1 فقلت: بليته فقال: هذا لا يكون فقلت: أخبرني به من سمعه من فِلق2 في رؤبة أعني أبا زيد الأنصاري3 فقال: هذا لا يكون فقلت: جعله مصدرًا أي تسحيجًا فقال: هذا لا يكون فقلت: فقد قال جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا4
أي تسريحي. فكأنه أراد أن يدفعه فقلت له: فقد قال الله عز وجل: {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فأمسك.
وتقول على ما مضى: تألفته متألفًا وهذا متألفنا وتدهورت متدهورًا وهذا متدهورك وتقاضيتك متقاضىً وهذا متقاضانا. وتقول: اخروَّط5 مخروَّطًا وهذا مخروَّطنا واغدودن6 مغدودنا وهذا مغدودننا وتقول: اذلوليت مذلولىً وهذا مذلولانا ومذلولاكن يا نسوة وتقول: اكوهدَّ7 مكوهدًا وهذا مكوهدكما. فهذا كله من كلام العرب ولم يسمع منهم ولكنك سمعت ما هو مثله وقياسه قياسه8؛ ألا ترى إلى قوله 9:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا غم الجبان من الكرب
وقوله 10:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس
__________
1 التليل: العنق.
2 فلق الفم: شقه ومنفرجه.
3 ثبت في أ، وسقط في ش، ب.
4 انظر الكتاب 1/ 119، والبيت من قصيدة يجهو بها العباس بن يزيد الكندي، وانظر الديوان 62 والكامل 2/ 259. ولفظ الشطر الأول في الديوان:
ألم تخبر بمسرحي القوافي
5 يقال اخروط بهم السير: امتد.
6 اعدودن الشجر: انثنى وكان ناعمًا. ويقال كذلك في الشاب.
7 اكوهد الشيخ والفرخ: ارتعد.
8 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
9 هو مالك بن أبي كعب أبو كعب بن مالك. وانظر الكتاب 2/ 250 وحماسة البحتري 53، وحماسة الخالد بين الورقة 6أمن نسخة الدار 587 أدب.
10 هو زيد الخيل. وهو من أربعة أبيات في النوادر 79، وانظر سيبويه 2/ 250 واللسان "قتل"، واللآلي.(1/368)
وقوله:
كأن صوت الصنج في مصلصله
فقوله "مصلصله " يجوز أن يكون مصدرًا أي في صلصلته, ويجوز أن يكون موضعًا للصلصلة. وأما قوله:
... حتى لا أرى لي مقاتلا
فمصدر ويبعد أن يكون موضعًا أي حتى لا أرى لي موضعًا للقتال: المصدر هنا أقوى وأعلى. وقال1:
تراد على دمن الحياض فإن تعف ... فإن المندَّى رحلة فركوب2
أي مكان تنديتنا3 إياها أن نرحلها فنركبها. وهذا كقوله 4:
تحية بينهم ضرب وجيع
أي ليست هناك تحية بل مكان التحية ضرب. فهذا كقول الله سبحانه {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقال رؤبة 5:
جدب المندى شئِز المُعَوَّهِ6
فهذا اسم لموضع التندية أي جدب هذا المكان. وكذلك " المعوه " مكان أيضًا والقول فيهما واحد.
__________
1 هو علقمة بن عبدة. والقصيدة في المفضليات.
2 الحديث عن ناقته المذكورة في البيت:
إليك أبيت اللعن أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
والدمن دمنة وهي بقية الماء في الحوض وقوله: "تراد" كذا في المفضليات وأصول الخصائص وفي اللسان في "دمن وندى": ترادى. وانظر ابن الأنباري 778.
3 التندية إن تورد الإبل لتشرب قليلا، ثم تترك ترعى، ثم ترد إلى الماء.
4 نسب في الكتاب 1/ 365 إلى عمرو بن معد يكرب، وكذا نسبه ابن رشيق في العمدة في باب السرقات. انظر الخزانة 4/ 53 والشطر الذي أورد عجز صدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "قول".
6 "شئز": غليظ، "والمعوه": من التعويه، وهو نزول آخر الليل. يصف مهمها قطعه في سفره. وانظر الأرجوزة في ديوانه.(1/369)
وهذا باب مطرد متقاود. وقد كنت ذكرت طرفًا منه في كتابي "شرح تصريف أبي عثمان "؛ غير أن الطريق ما ذكرت لك. فكل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم. ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة: إنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما. وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات، ويأمر بإلقائها على ابن أبي إسحاق 1.
وحكى الكسائي2 أنه سأل بعض العرب عن أحد مطايب الجزور, فقال: مطيب3؛ وضحك الأعرابي من نفسه كيف تكلف لهم ذلك من كلامه. فهذا ضرب من القياس ركبه الأعرابي، حتى دعاه إلى الضحك من نفسه، في تعاطيه إياه.
وذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها, فإذا رأى الاشتقاق قابلًا لها أنس بها وزال استيحاشه منها. فهل هذا إلا اعتماد في تثبيت اللغة على القياس. ومع هذا أنك لو سمعت ظرف؛ ولم تسمع يظرف؛ هل كنت تتوقف عن4 أن تقول يظرف راكبًا له غير مستحيٍ منه. وكذلك لو سمعت سلم ولم تسمع مضارعه أكنت ترع5 أو ترتدع أن تقول يسلم, قياسًا أقوى من كثير من سماع غيره. ونظائر ذلك فاشية6 كثيرة.
__________
1 هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، من أوائل من وضع النحو. مات سنة 117هـ. وانظر طبقات القراء 100.
2 في اللسان في "طيب" نسبة هذه القصة للسيرافي.
3 هذا الضبط عن أ. وضبط في اللسان والقاموس: "مطيب" بسكون الطاء وفتح الياء. وفي ش، ب بعد "مطيب": "واحد" وسقط هذا اللفظ في أ. ومطايب الجزور: خيار لحمه وأطيبه.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "على".
5 أي تكف، وهو من باب ورث.
6 ثبت في أ. وسقط في ش، ب.(1/370)
باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدا:
من ذلك قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرًا والقبائل من هلال1
وقال 2:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته
... كما وفى بقلاص النجم حاديها3
وقال 4:
فظلت لدى البيت العتيق أُخيلُهو ... ومطواي مشتاقان له أرقان5
فهاتان6 لغتان: أعني إثبات الواو في "أخيلهو " وتسكين الهاء في قوله "له "، لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء في "له " عن حذف لحق بالصنعة الكلمة لكن ذاك لغة.
__________
1 قبله:
أقول وصوبه مني بعيد ... يحط السيب من فلل الجبال
وهو في وصف سحاب من قصيدة أولها:
ألم تلمم على الدمن الخوالي ... لسلمى بالمذانب فالقفال
وانظر الديوان طبعة قيينا 127، و"مجد": أم كلب وكلاب ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة.
2 هو طفيل الغنوي، كما في اللسان في "وفى". وقد ذكر في ديوانه 65 فيما نسب إليه. وفي الكامل 5/ 156: "ابن بيض" بدل "بن طوق".
3 قلاص النجم في زعم العرب عشرون نجما ساقها الديران في خطبة الثريا.
4 هو يعلى الأزدي، وكان لصًّا. وانظر اللسان في "مطا"، وفي "ها" في الألف اللينة، وانظر ص129 من هذا الجزء.
5 يتحدث عن برق شافه وهاجه إلى وطنه، و"أخيله": أنظر إلى مخيلته ودنو مطره. و"مطواي": تثنية مطو. وهو الصاحب والنظير.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فهذان".(1/371)
ومثله ما رويناه عن قطرب:
وأشرب الماء ما بي نحوهو عطش ... إلا لأن عيونهْ سيل واديها
فقال: "نحو هو" بالواو، وقال "عيونه" ساكن الهاء.
وأما قول الشماخ:
له زجل كأنه صوت حا ... إذا طلب الوسيقة أو زمير1
فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية2 حذف هذه الواو وإبقاء الضمة قبلها لغة3، فينبغي أن يكون ذلك ضرورة "وصنعة"3، لا مذهبًا ولغة. وكذلك يجب عندي وينبغي ألا يكون لغة لضعفه في القياس. ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل ولا مذهب الوقف. أما الوصل فيوجب إثبات واوه كلقيتهو أمس. وأما الوقف فيوجب الإسكان كلقيته وكلمته فيجب أن يكون ذلك ضرورة للوزن لا لغة.
وأنشدني الشجري لنفسه:
وإنا ليرعى في المخوف سوامنا ... كأنه لم يشعر به من يحاربه4
فاختلس ما بعد هاء "كأنه "، ومطل ما بعد هاء "بِهىِ "، واختلاس ذلك ضرورة "وصنعة"5 على ما تقدم به القول.
__________
1 الزجل: صوت فيه حنين وترنم. والوسيقة هنا القطيع من الأتن. والزمير: الزمر. يصف حمار وحش هائجا. انظر كتابة الأعلم علم شواهد الكتاب 1/ 11 وانظر له الديوان. وانظر أيضًا ص128 من هذا الجزء.
2 كذا في ش، ب. وهو يوافق ما في اللسان في "ها" في حرف الألف اللينة. وفي أ: "رواية".
3 ثبت هذا في أوسقط في ش، ب.
4 "كأنه" كتب في أفوقه: "خلس".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "ضعيفة".(1/372)
ومن ذلك قولهم: بغداد, وبغدان. وقالوا أيضًا: مغدان, وطبرزل1، وطبرزن. وقالوا للحية: أيم, وأين. وأعصر, ويعصر: أبو باهلة. والطِنفِسة, والطُنفُسة. "وما اجتمعت"2 فيه لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به. فإذا ورد شيء من ذلك -كأن يجتمع في لغة رجل واحد لغتان فصيحتان3- فينبغي أن تتأمل حال كلامه فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال, كثرتهما واحدة فإن أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على "ذينك اللفظين"4؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها5 عهده وكثر "استعماله لها"6، فلحقت -لطول7 المدة واتصال استعمالها- بلغته الأولى 8.
وإن كانت إحدى اللفظتين9 أكثر في كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة والكثيرته10 هي الأولى الأصلية. نعم وقد يمكن في هذا أيضًا أن تكون القلي منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه وإن كانتا جميعًا لغتين له ولقبيلته. وذلك
__________
1 يقال: سكر طبرزل. وهو السكر الأبيض الصلب. واللفظ معرب عن الفارسية. وانظر معرب الجواليقي 288.
2 كذا في أوفي ش "أما ما اجتمعت".
3 كذا في أوفي ش، ب: "فصاعدا".
4 كذا في أ، ج والمزهر 1/ 155، وفي ش، ب: "ذينك اللفظتين".
5 كذا في أ، ب والمزهر 1/ 155، وفي ش: "به".
6 كذا في المزهر 1/ 155، وفي أصول الخصائص: "لها استعماله".
7 كذا في أ، ب. وفي ش: "أطول".
8 كذا في أوالمزهر. وفي سائر الأصول: "الأخرى".
9 كذا في أوفي ش، ب: "اللغتين".
10 كذا في أ. وفي ش، ب والمزهر 1/ 156: "الكثرة".(1/373)
أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه؛ ألا ترى إلى حكاية أبي العباس عن عمارة قراءته {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} 1 بنصب النهار وأن أبا العباس قال له 2: ما أردت؟ فقال: أردت "سابقٌ النهار " قال أبو العباس فقلت له: فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. فهذا يدلك3 على أنهم قد يتكلمون بما غيره عندهم4 أقوى منه، "وذلك"5 لاستخفافهم الأضعف إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة إذ لولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة.
"6وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفًا منها من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله. هذا غالب الأمر وإن كان الآخر في وجه من القياس جائزًا.
وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة7 واللفظ واحد نحو قولهم: هي رَغوة اللبن, ورُغوته, ورِغوته, ورُغاوته ورِغاوته ورُغايته. وكقولهم: الذَرُوح8، والذُرُّوح، والذِّرِّيح، والذُرَّاح، والذُرَّح، والذُرنوح، والذُرحرح، والذُرَّحرح، روينا ذلك كله. وكقولهم: جئته من علُ،
__________
1 آية 40 سورة يس.
2 ثبت في ش، ب وسقط في أ.
3 كذا في أ. وفي ش, ب: "يدل".
4 ثبت في ش، ب. وسقط في أ.
5 ثبت في ش، ب وسقط في أ.
6 ما بين التنصيص في أ، وسقط في ش، ب، ج. وهو من هذا الموضع إلى قوله في الصفحة التالية: "كلما كثرت الألفاظ".
7 في أ: "الصنعة"، وقد تبعت هنا ما في المزهر 1/ 156 وما يؤخذ من ج.
8 هو دويبة أعظم من الذباب شيئًا.(1/374)
ومن عِل, ومن علا, ومن عَلوُ, ومن عَلوَ, ومن عَلو, ومن عُلُوّ, ومن عال, ومن معال. فإذا أرادوا النكرة قالوا: من علٍ. وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة "1.
وكلما2 كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات اجتمعت لإنسان واحد من هَنَّا ومن هَنَّا. ورويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما: الصقر " بالصاد"، وقال الآخر: السقر "بالسين "؛ فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه. فقال: لا أقول كما قلتما؛ إنما هو الزقر. أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها. وهكذا تتداخل اللغات. وسنفرد لذلك بابًا بإذن الله عز وجل.
فقد وضح ما أوردنا بيانه من حال اجتماع اللغتين أو اللغات في كلام الواحد من العرب.
__________
1 انظر هامش "6" من الصفحة السابقة.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "إذا كثر ذلك على".(1/375)
باب في تركيب اللغات
...
باب في تركب 1 اللغات 2:
اعلم أن هذا موضع قد دعا أقوامًا ضعف نظرهم وخفت إلى تلقي ظاهر3 هذه اللغة أفهامهم أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم وادعوا أنها موضوعة في أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها وأنسوا ما كان ينبغي أن يذكروه وأضاعوا ما كان واجبًا أن يحفظوه. ألا تراهم كيف ذكروا في الشذوذ ما جاء على فعل يفعل؛ نعم ينعم ودمت تدوم ومت تموت. وقالوا أيضًا فيما جاء من فعل يفعل وليس عينه ولا لامه حرفًا حلقيًّا نحو قلى يقلى وسلا يسلى وجبى يجبى وركن يركن وقنط يقنط.
ومما عدوه شاذًّا ما ذكروه من فعل فهو فاعل؛ نحو طهر فهو طاهر, وشعر, فهو شاعر وحمض فهو حامض وعقرت المرأة فهي عاقر ولذلك نظائر كثيرة.
واعلم3 أن أكثر ذلك وعامته إنما هو لغات تداخلت فتركبت4، على ما قدمناه في الباب الذي هذا الباب يليه. هكذا ينبغي أن يعتقد وهو أشبه بحكمة العرب.
وذلك أنه قد دلت الدلالة على وجوب مخالفة صيغة الماضي لصيغة المضارع, إذ الغرض في صيغ هذه المثل إنما هو لإفادة الأزمنة فجعل لكل زمان مثال مخالف لصاحبه وكلما ازداد الخلاف كانت في ذلك قوة الدلالة على الزمان.
فمن ذلك أن جعلوا بإزاء حركة فاء الماضي سكون فاء المضارع وخالفوا بين عينيهما فقالوا: ضرب يضرب وقتل يقتل وعلم يعلم.
فإن قلت: فقد قالوا: دحرج يدحرج فحركوا فاء المضارع والماضي جميعًا وسكنوا عينيهما أيضًا قيل: لما فعلوا ذلك في الثلاثي الذي هو أكثر استعمالا وأعم تصرفًا وهو كالأصل للرباعي لم يبالوا ما فوق ذلك مما جاوز الثلاثة. وكذلك أيضًا قالوا: تقطع يتقطع وتقاعس يتقاعس وتدهور يتدهور ونحو ذلك لأنهم أحكموا الأصل الأول الذي هو الثلاثي. فقل حفلهم بما وراءه؛ كما أنهم لما أحكموا أمر المذكر في التثنية، فصاغوها على ألفها, لم يحفلوا بما عرض
__________
1 كذا في أ. وفي شن ب: "تركيب".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "اللغة".
3 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
4 كذا في أ. وفي، ب: "فاعلم".
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "تركت".(1/376)
في المؤنث من اعتراض علم التأنيث بين الاسم وبين ما هو مصوغ عليه من علمها نحو قائمتان وقاعدتان.
فإن قلت: فقد نجد في الثلاثي ما تكون حركة عينيه في الماضي والمضارع, سواء وهو باب فعل؛ نحو كرم يكرم, وظرف يظرف.
قيل: على كل حال فاؤه في المضارع ساكنة وأما موافقة حركة عينيه1 فلأنه ضرب قائم في الثلاثي؛ برأسه ألا تراه غير متعد البتة وأكثر باب فعَل وفعِل متعد. فلما جاء هذا مخالفًا لهما -وهما أقوى وأكثر منه- خولف بينهما وبينه, فووفق بين حركتي عينيه وخولف بين حركتي عينيهما.
وإذا ثبت وجوب خلاف صيغة الماضي صيغة المضارع وجب أن يكون ما جاء من نحو سلا يسلى وقلى يقلى "ونحو ذلك"2، مما التقت فيه حركتا عينيه منظورًا في أمره ومحكومًا عليه بواجبه. فنقول: إنهم قد قالوا: قليت الرجل وقليته. فمن قال: قلَيته فإنه يقول أقليه ومن قال قلِيته قال: أقلاه. وكذلك من قال: سلوته قال: أسلوه ومن قال سليته قال: أسلاه ثم تلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا وهذا لغة هذا فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة كأن من يقول سلا أخذ مضارع من يقول سلى, فصار في لغته سلا يسلى.
فإن قلت: فكان3 يجب على هذا أن يأخذ من يقول سلِى مضارع من يقول سلا فيجيء من هذا أن يقال: سلى يسلو.
__________
1 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "عينه".
2 ثبت هذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "وكان".(1/377)
قيل: منع من ذلك أن الفعل إذا أزيل ماضيه عن أصله سرى ذلك في مضارعه وإذا اعتل مضارعه سرى ذلك في ماضيه إذ كانت هذه المثل تجري عندهم مجرى المثال الواحد ألا تراهم1 لما أعلوا "شقي " أعلوا أيضًا مضارعه فقالوا يشقيان: ولما أعلوا "يغزي " أعلوا أيضًا أغزيت ولما أعلوا "قام " أعلوا أيضًا يقوم. فلذلك لم يقولوا: سليت تسلو فيعلوا الماضي ويصححوا المضارع.
فإن قيل: فقد قالوا: محوت تمحى وبأوت تبأى وسعيت تسعى ونأيت تنأى فصححوا الماضي وأعلوا المستقبل.
قيل: إعلال الحرفين إلى الألف لا يخرجهما كل الإخراج عن أصلهما؛ ألا ترى أن الألف حرف ينصرف إليه عن الياء والواو جميعًا فليس للألف خصوص بأحد حرفي العلة فإذا قلب واحد منهما إليه فكأنه مقر على بابه2؛ ألا ترى أن الألف لا تكون أصلا في الأسماء ولا الأفعال وإنما هي مؤذنة بما هي بدل منه وكأنها هي هو وليست كذلك الواو والياء لأن كل واحدة منهما قد تكون2 أصلا كما تكون3 بدلا. فإذا أخرجت الواو إلى الياء اعتد ذلك؛ لأنك أخرجتها إلى صورة تكون الأصول عليها والألف لا تكون أصلا أبدًا فيهما4، فكأنها هي ما قلبت عنه البتة فاعرف ذلك فإن أحدًا من أصحابنا لم يذكره.
ومما يدلك5 على صحة الحال في ذلك أنهم قالوا: غزا يغزو ورمى يرمي، فأعلوا الماضي بالقلب ولم يقلبوا المضارع لما كان اعتلال لام الماضي إنما هو بقلبها ألفًا والألف لدلالتها على ما قلبت عنه كأنها6 هي هو، فكأن لا قلب هناك: فاعرف ذلك.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "ترى".
2 كذا في أوفي غيرها: "بابه الأول".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "يكون".
4 أي في الأسماء والأفعال.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "يدل".
6 الضمير للقصة.(1/378)
ويدلك على استنكارهم أن يقولوا: سليت تسلو لئلا يقلبوا في الماضي ولا يقلبوا في المضارع أنهم قد جاءوا في الصحيح بذلك لما لم يكن فيه من قلب الحرف في الماضي وترك قلبه في المضارع ما جفا عليهم وهو قولهم: نعِم ينعُم, وفضِل يفضُل. وقالوا في المعتل: مِت تموت ودِمت تدوم وحكي في الصحيح أيضًا حضِر القاضي يحضُره. فنعِم في الأصل ينعَم وينعم في الأصل مضارع نعُم ثم تداخلت اللغتان فاستضاف من يقول نعِم لغة من يقول ينعُم فحدثت هناك لغة ثالثة.
فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يستضيف من يقول: نعُم مضارع من يقول نعِم فتركب من هذا أيضًا لغة ثالثة وهي نعُم ينعَم.
قيل: منع من هذا أن فعُل لا يختلف مضارعه أبدًا وليس كذلك نعِم؛ لأن نعِم قد يأتي فيه ينعِم وينعَم جميعًا فاحتمل خلاف مضارعه, وفعُل لا يحتمل مضارعه الخلاف ألا تراك كيف تحذف فاء وعد في يعد لوقوعها بين ياء وكسرة وأنت مع ذلك تصحح نحو وضؤ ووطؤ إذا قلت: يوضؤ ويوطؤ, وإن وقعت الواو بين ياء وضمة ومعلوم أن الضمة أثقل من الكسرة لكنه لما كان مضارع فعُل لا يجيء مختلفًا لم يحذفوا فاء وضؤ ولا وطؤ ولا وَضُع لئلا يختلف بابٌ ليس من عادته أن يجيء مختلفًا.
فإن قلت: فما بالهم كسروا عين ينعِم, وليس في ماضيه إلا نعِم, ونعُم, وكل واحد من فعِل وفعُل ليس له حظ من باب يفعِل.
قيل: هذا طريقه غير طريق ما قبله. فإما أن يكون ينعم -بكسر العين- جاء على ماض وزنه فعَل غير أنهم لم ينطقوا به استغناء عنه بنعِم ونعُم كما استغنوا بتَرك عن وَذر وودع وكما استغنوا بملامح عن تكسير لمحة وغير ذلك. أو يكون(1/379)
فعِل في هذا داخلا على فعُل؛ فكما1 أن فعُل بابه يفعل كذلك شبهوا بعض فعِل به فكسروا عين مضارعه كما ضموا في ظرف عين ماضيه ومضارعه. فنعِم ينعِم في هذا محمول على كرم يكرم كما دخل يفعل فيما ماضيه فعَل نحو قتل يقتل على باب يشرف ويظرف. وكأن باب يفعل إنما هو لما ماضيه فعُل ثم دخلت يفعُل في فعَل على يفعِل لأن ضرب يضرب أقيس من قتل يقتل. ألا ترى أن ما ماضيه فعِل إنما بابه فتح عين مضارعه نحو ركب يركب وشرب يشرب. فكما2 فتح المضارع لكسر الماضي فكذلك أيضًا ينبغي أن يكسر المضارع لفتح الماضي. وإنما دخلت يفعُل في باب فعَل على يفعِل من حيث كانت كل واحدة من الضمة والكسرة مخالفة للفتحة ولما آثروا خلاف حركة عين المضارع لحركة عين الماضي ووجدوا الضمة مخالفة للفتحة خلاف الكسرة لها عدلوا في بعض ذاك إليها فقالوا: قتل يقتل ودخل يدخل وخرج يخرج.
وأنا أرى أن يفعل فيما ماضيه3 فَعَل في غير المتعدي أقيس من يفعِل4، فضرب يضرب إذًا أقيس من قتل يقتل وقعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وذلك أن يفعل إنما هي في الأصل لما لا يتعدى؛ نحو كرم يكرم, على ما شرحنا من حالها. فإذا5 كان كذلك كان أن يكون في غير المتعدي فيما ماضيه فعَل أولى وأقيس.
فإن قيل: فكيف6 ذلك ونحن نعلم أن يفعُل في المضاعف المتعدي أكثر من يفعِل نحو شده يُشدُّه, ومده يمده, وقده يقده, وجزه يجزه, وعزه يعزه،
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "وكما".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "وكما".
3 ثبت هذا اللفظ في ش، ب وسقط في أ.
4 في ش، ب: "يفعل المتعدي".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإذا".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "وكيف".(1/380)
وأزه يؤزه, وعمه يعمه, وأمه يؤمه, وضمه يضمه, وحله يحله, وسله يسله، وتله يتله. ويفعِل في المضاعف قليل محفوظ، نحو هره1 يهِره، وعله يعِله، وأحرف قليلة. وجميعها يجوز فيه "أفعُله " نحو عله يعله, وهره1 يهره؛ إلا حبه يحبه فإنه مكسور المضارع لا غير.
قيل: إنما جاز2 هذا في المضاعف لاعتلاله، والمعتل كثيرًا ما يأتي مخالفًا للصحيح؛ نحو سيد، وميت, وقضاة, وغزاة, ودام ديمومة, وسار سيرورة. فهذا شيء عرض قلنا فيه, ولنعد.
وكذلك حالُ قولهم قنط يقنط, إنما هو لغتان تداخلتا. وذلك أن قنَط يقنِط لغة وقنِط يقنَط أخرى, ثم تداخلتا فتركبت لغة ثالثة. فقال من قال قنَط: يقنَط, ولم يقولوا: قنِط يقنِط؛ لأن آخذًا إلى لغته لغة غيره قد يجوز أن يقتصر على بعض اللغة التي أضافها إلى لغته دون بعض. وأما حسب يحسب ويئس ييئس، ويبس ييبس فمشبه3 بباب كرم يكرم على ما قلنا في نعِم ينعِم. وكذلك مِت تموت ودِمت تدوم وإنما تدوم وتموت على من قال مُت ودُمت وأما مِت ودِمت فمضارعهما تمات وتدام قال:
يا ميّ4 لا غرو ولا ملاما ... في الحب إن الحب لن يداما
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "هزه يهزه" وما أثبت هو الصواب.
2 كذا في أ، ب، ش، وفي ج: "جاء".
3 كذا في أوفي ش، ب: "فشبه".
4 كذا في أ. وفي ش, ب: "من" وفي الجمهرة 3/ 485 بدل الشطر الأول:
ياليل لا عذل ولا ملاما(1/381)
وقال:
بنيَّ1 يا سيدة البنات ... عيشي ولا يؤمن أن تماتي
ثم تلاقى صاحبا اللغتين فاستضاف هذا بعض لغة هذا، وهذا بعض لغة هذا، فتركبت لغة ثالثة. قال الكسائي: سمعت من أخوين من بني سليم 2 نما ينمو, ثم سألت بني سليم عنه فلم يعرفوه. وأنشد أبو زيد لرجل من بني عقيل:
ألم تعلمي ما ظلت بالقوم واقفا ... على طلل أضحت معارفه قفرا3
فكسروا الظاء في إنشادهم وليس من لغتهم.
وكذلك القول فيمن قال: شعر فهو شاعر, وحمض فهو حامض, وخثر فهو خاثر: إنما هي على نحو من هذا. وذلك أنه يقال: خَثُر وخَثَر, وحمُض وحمَض, وشعُر وشعَر وطهُر وطهَر فجاء شاعر وحامض وخاثر وطاهر على حمَض, وشعَر وخثَر وطهَر ثم استغني بفاعل عن "فعيل " وهو في أنفسهم وعلى بال من تصورهم. يدل على ذلك تكسيرهم لشاعر: شعراء لما كان فاعل هنا واقعًا موقع " فعيل " كسر تكسيره ليكون ذلك أمارة ودليلا على إرادته وأنه مغن عنه, وبدل منه كما صحح العواور4 ليكون دليلا على إرادة الياء في العواوير، ونحو ذلك.
__________
1 كذا في أ، ب. وهو ما في اللسان "موت"، وما في الجمهرة 3/ 485، وقال ابن دريد يعد إنشاده: "أراد بنبتي". وفي ش:
ينبتي سيدة البنات
ويبدو كأنها مصلحة وهو يوافق ما في الصحاح.
2 كذا في أ. وفي ب، ش: "من بني سليم يقولان".
3 هذه رواية البيت كما في أ. وقد ورد في ب، ش:
ألم تعلما ما ظلت بالقوم واقفا ... على طلل أضحت معالمه قفرا
4 أي في قوله:
وكحل العينين بالعواور
وانظر ص196 من هذا الجزء.(1/382)
وعلى ذلك قالوا: عالم وعلماء -قال سيبويه 1: يقولها من لا يقول عليم- لكنه2 لما كان العلم إنما يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة, ولم يكن على أول دخوله فيه ولو كان كذلك لكان متعلمًا لا عالمًا فلما خرج بالغريزة إلى باب فعُل صار عالم في المعنى كعليم فكسر تكسيره ثم حملوا عليه ضده فقالوا: جهلاء كعلماء وصار علماء كحلماء لأنه العلم محلمة لصاحبه, وعلى ذلك جاء عنهم فاحش وفحشاء لما كان الفحش ضربًا من ضروب الجهل, ونقيضًا للحلم أنشد الأصمعي -فيما روينا عنه:
وهل علمت فحشاء جهله3
وأما4 غسا5 يفسى, وجبى يجبى, فإنه كأبى يأبى. وذلك أنهم شبهوا الألف في آخره بالهمزة في قرأ يقرأ وهدأ يهدأ. وقد قالوا غسى يغسى فقد يجوز أن يكون غسا يغسى من التركب6 الذي تقدم ذكره. وقالوا أيضًا جبى يجبى وقد أنشد أبو زيد:
يا إبلي ماذا مه فتأبِيَهْ
فجاء به على وجه القياس, كأتى يأتي. كذا رويناه عنه وقد تقدم7 ذكره، وأنني قد شرحت حال هذا الرجز في كتابي "في النوادر الممتعة".
__________
1 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "من يقولها لا يقول عليم". والذي في سيبويه 2/ 206: " ... وعلماء يقولها من لا يقول إلا عالم".
2 هذا من كلام ابن جني.
3 من رجز لصخير بن عمير في الأصمعيات 58 وبعده:
ممغوثة أعراضهم ممرطلة
وأورد اللسان هذا الشطر مع آخر في "مغث".
4 كذا في ش، ب، وفي أ: "فأما".
5 يقال: غسا الليل: أظلم.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "التركيب".
7 انظر ص333 من هذا الجزء.(1/383)
واعلم أن العرب تختلف أحوالها في تلقي الواحد منها لغة غيره, فمنهم من يخف ويسرع1 قبول ما يسمعه، ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة, ومنهم من إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به, ووجدت في كلامه, ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قيل: يا نبيء الله! فقال: "لست بنبيء الله ولكنني نبيّ الله" , وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه فرده على قائله، لأنه2 لم يدر بم سماه, فأشفق أن يمسك على ذلك, وفيه شيء يتعلق بالشرع فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور, أو حاظر مباح.
وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحي قال: اجتمع أبو عبد الله ابن الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد فسأل أبو زياد أبا عبد الله عن قول النابغة الذبياني:
على ظهر مبناةٍ3 ...
فقال أبو عبد الله 4: النَّطع5, فقال أبو زياد: لا أعرفه, فقال: النطع فقال أبو زياد: نعم أفلا ترى كيف أنكر غير لغته على قرب بينهما.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "يسوغ".
2 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 هو من قوله:
كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه حصير نمقنه الصوانع
على ظهر مبناة جديد سيورها ... يطوف بها وسط اللطيمة بائع
والميناة -بفتح الميم وكسرها- تتخذ من الجلد بضم بعضه إلى بعض ويضع عليه التاجر أمنعته، وكانوا يضعون الحصير عليها يطوفون بها لبيعها.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "ابن الأعرابي".
5 يريد أنه سأله عن المبناة ما هي فقال: النطع بفتح النون، فأنكر ذلك إذ كان من لغته النطع بكسر النون، وأورد اللسان القصة في "نطع".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "تراه".(1/384)
وحدثني1 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم قال: قرأ علي أعرابي بالحرم: "طيبى لهم وحسن مآب", فقلت: طوبى, فقال: طيبى, قلت: طوبى, قال: طيبى. فلما طال علي الوقت قلت: طوطو, فقال: طي طي. أفلا ترى إلى استعصام هذا الأعرابي بلغته وتركه متابعة أبي حاتم.
والخبر المرفوع في ذلك وهو سؤال أبي عمرو أبا خيرة2 عن قولهم: استأصل الله عرقاتهم3, فنصب أبو خيرة التاء من "عِرقاتهم ", فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لان جلدك 4. وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب بعد ما كان سمعها منه بالجر قال: ثم رواها فيما بعد أبو عمرو بالنصب والجر فإما أن يكون سمع النصب من غير أبي خيرة ممن يرضى عربيته وإما أن يكون قوي في نفسه ما سمعه من أبي خيرة من نصبها. ويجوز أيضًا أن يكون قد أقام الضعف في نفسه فحكى النصب على اعتقاده ضعفه, وذلك أن الأعرابي قد ينطق بالكلمة يعتقد أن غيرها أقوى في نفسه منها ألا ترى أن أبا العباس حكى عن عمارة أنه كان يقرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} بالنصب, قال أبو العباس: فقلت له ما أردت؟ فقال: سابقٌ النهارَ, فقلت له فهلا قلته فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى. وقد ذكرنا هذه الحكاية للحاجة إليها في موضع آخر5، ولا تستنكر إعادة الحكاية, فربما كان في الواحدة عدة أماكن مختلفة يحتاج فيها إليها.
فأما قولهم: عقرت فهي عاقر فليس "عاقر " عندنا بجار على الفعل جريان قائم وقاعد عليه، وإنما هو اسم بمعنى النسب بمنزلة امرأة طاهر، وحائض، وطالق.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "حدثنا". وسبقت هذه القصة في ص76 وما بعدها.
2 أبو عمرو: هو ابن العلاء. وأبو خيرة: نهشل بن زيد، "انظر فهرست ابن النديم".
3 جمع عرقة وهي الأصل.
4 يريد أنه طال عهده بالبادية حيث الخشونة والقشف, وأثر فيه الحضر فنال ذلك من فصاحته. وانظر هذه القصة في مجالس ابن حنزاية "المجلس الثاني".
5 انظر ص126، 250 من هذا الجزء.(1/385)
المجلد الثاني
باب في ترك الأخذ عن أهل المدر ك ما أخذ عن أهل الوبر
...
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَرِ كما أُخِذَ عن أهل الوبر:
علّة امتناع ذلك ما عَرَضَ للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل, ولو عُلِمَ أن أهل مدينةٍ باقون على فصاحتهم1، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم, لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر.
وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدَرِ من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها2، لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يَرِدُ عنها. وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛ لأنا لا نكاد نرى بدويًّا فصيحًا. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغُضّ منه.
وقد كان طرأ علينا أحد من يدَّعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة3 الحضرية فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له, وميزناه تمييزًا حَسُنَ4 في النفوس موقعه،
__________
1 ذكر صاحب القاموس في "عكد" أن باليمن قرب زبيد جبلًا يسمى: عكادا, أهله باقون على اللغة الفصيحة. ويقول السيد مرتضى الزبيدي شارح القاموس: إنهم لا يزالون على ذلك إلى زمنه، وإنهم لا يسمحون للغريب أن يقيم عندهم أكثر من ثلاث ليالٍ خوفًا على لسانهم. والسيد مرتضى كانت وفاته سنة 1205هـ، وله ترجمة واسعة في تاريخ الجبرتي، ويقول ياقوت في معجم البلدان في ترجمة "عكوتان": وجبلًا عكاد فوق مدينة الزرائب, وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم, لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لا يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحتهم، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه.
2 كذا في ش، ب. وفي أ "انتقاص".
3 الضعفة هنا: قلة الفطنة.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أحسن".(2/7)
إلى أن أنشدني يومًا شعرًا لنفسه يقول في بعض قوافيه: أشئؤها1، وادأؤها2 "بوزن أشععها وأدععها"3 فجمع بين الهمزتين كما ترى, واستأنف من ذلك ما لا أصل له ولا قياس يسوغه. نعم وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حظَّ في الهمز له بضد ما يجب؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما, فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حظّ له في الهمز, ثم يحقق الهمزتين جميعًا! هذا ما لا يتيحه قياس ولا ورد بمثله سماع.
فإن قلت: فقد جاء عنهم خطائئ ورزائئ, ودريئة4 ودرائئ، ولفيئة5 ولفائئ, وأنشدوا قوله:
فإنك لا تدري متى الموت جائئ ... إليك ولا ما يحدث الله في غد6
قيل: أَجَلْ, قد جاء هذا, لكن الهمز الذي فيه عرض عن صحة صنعة, ألا ترى أن عين "فاعل" مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلّا مهموزة نحو: قائم وبائع, فاجتمعت همزة "فاعل" "وهمزة لامه"7 فصححها بعضهم في بعض الاستعمال, وكذلك8 خطائئ وبابها: عرضت همزة "فعائل" عن وجوب؛ كهمزة سفائن ورسائل،
__________
1 هومضارع شأى القوم: سبقهم، وصوابه: أشآها.
2 بالذال المهملة في معظم الأصول، وفي م: "أذاؤها", والأول من دأرت للصيد إذا ختلته، وكأنه حذف التيار، والثاني من ذأوت الإبل: طردتها وسقتها سوفًا شديدًا وصوابه، أدآها، وأذآها.
3 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
4 الدريئة: ما يستتر به عن الصيد ليختل: من بعير وغيره.
5 اللفيئة: البضعة من اللحم لا عظم فيها.
6 قوله: "إليك ولا ما يحدث" كذا في أ، ب. وفي ش: "إليك وماذا تحدث".
7 في الأصول: "ولامه همزة", وعلى هذا "همزة" حال من "لامه", وما أثبته أنسب.
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "فكذلك".(2/8)
واللام مهموزة, فصحَّت في بعض الأحوال بعد وجوب اجتماع الهمزتين. فأما أشئؤها وأدأؤها فليست الهمزتان فيهما بأصلين1, وكيف تكونان أصلين2 وليس لنا أصل عينه ولامه همزتان ولا كلاهما أيضًا عن وجوب. فالناطق بذلك بصورة من جرَّ الفاعل أو رفع المضاف إليه, في أنه لا أصل يسوِّغه, ولا قياس يحتمله, ولا سماع ورد به. وما كانت هذه سبيله وجب اطراحه والتوقف عن لغة من أورده. وأنشدني أيضًا شعرًا لنفسه يقول فيه: كأن فاي. . . فقوي في نفسي بذلك بعده عن الفصاحة وضعفه عن القياس الذي ركبه. وذلك أن ياء المتكلم تكسر3 أبدًا ما قبلها, ونظير كسرة الصحيح كون هذه الأسماء الستة بالياء نحو: مررت بأخيك وفيك. فكان قياسه أن يقول: "كأن فيَّ" بالياء كما يقول: "كأن غلامي".
ومثله سواءً ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: كسرت فيّ، ولم يقل "فاي", وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} 4 ولم يقل: إن5 أباي. وكيف يجوز إن أباي بالألف وأنت لا تقول: إن غلامي قائم, وإنما تقول: كأن غلامي بالكسر. فكذلك تقول: "كأن فيّ" بالياء, وهذا واضح. ولكن هذا الإنسان حمل بضعف قياسه قوله: "كأن فاي" على قوله: كأن فاه, وكأن فاك, وأَنْسى ما توجبه ياء المتكلم من كسر ما قبلها وجعله ياء.
فإن قلت: فكان يجب على هذا أن تقول: هذان غلاميّ, فتبدل ألف التثنية ياء لأنك تقول: هذا غلامي فتكسر الميم, قيل: هذا قياس لعمري, غير أنه عارضه قياس أقوى منه فتُرِكَ إليه. وذلك أن التثنية ضرب من الكلام
__________
1 في م: "بأصليتين".
2 في م: "أصليتين".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "يكسر".
4 آية: 25 سورة القصص.
5 ثبت هذا الحرف في أ، ب. وسقط في سائر الأصول.(2/9)
قائم برأسه, مخالف للواحد والجميع1؛ ألا تراك تقول: هذا وهؤلاء, فتبني فيهما, فإذا صرت إلى التثنية جاء مجيء المعرب فقلت: هذان وهذين. وكذلك الذي والذين، فإذا صرت إلى التثنية قلت: اللذان، واللذين. وهذا واضح.
وعلى أن هذا الرجل الذي أومأت إليه من أمثل من رأيناه ممن جاءنا مجيئه, وتحلَّى عندنا حليته. فأما ما تحت ذلك من مرذول أقوال هذه الطوائف فأصغر حجمًا وأنزل قدرًا أن يُحْكَى في جملة ما يُثْنَّى2.
ومع هذا فإذا كانوا قد رووا3 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يلحن في كلامه فقال: "أرشدوا أخاكم, فإنه قد ضل"، ورووا4 أيضًا أن أحد ولاة عمر -رضي الله تعالى- عنه كتب إليه كتابًا لحن فيه, فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطًا, وروي من حديث علي5 -رضي الله عنه- مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 6 حتى قال الأعرابي: برئت من رسول الله7، فأنكر ذلك عليُّ -رضي الله عنه- ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه: ما لا8 يجهل موضعه, فكان [ما] 9 يروى من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الجمع".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ينثي" وما أثبت هو الصواب، ويثني من ثنا الحديث: أشاعه وأظهره.
3 انظر في هذا الحديث كنزل العمال 1/ 151.
4 انظر المزهر في النوع الرابع والأربعين 2/ 246. ويعني بأحد الولاة أبا موسى الأشعري.
5 في تفسير القرطبي 1/ 24، وفي البحر 5/ 6 أن هذه القصة كانت مع عمر -رضي الله عنه، وفي ابن خلكان في ترجمة أبي الأسود. وفي فهرست ابن النديم في صدر المقالة الثانية أن القصة مع أبي الأسود نفسه.
6 الآية: 3 سورة التوبة.
7 يجب أن يكون تتمة الكلام المتروكة، إن برئ الله منه، وفي القرطبي أن الأعرابي قال: أو قد برئ الله من رسوله! فإن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه.
8 "ما لا يجهل موضعه" بدل من قوله: "ما رسمه".
9 زيادة يقتضيها السياق خلت منها الأصول.(2/10)
واستمرَّ فساد هذا الشأن مشهورًا1 ظاهرًا, فينبغي2 أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلّا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته. وقد قال الفرَّاء في بعض كلامه: إلّا أن تسمع شيئًا من بدوي فصيح فتقوله. وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحلقي في نحو: "يعدو"3 و"هو محموم" ولم أسمعها4 من غيره من عُقَيل, فقد كان يرد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته. وما أظن الشجري إلّا استهواه كثرة5 ما جاء عنهم من تحريك الحرف6 الحلقي بالفتح إذا انفتح ما قبله في الاسم على مذهب البغداديين؛ نحو قول كُثَيِّر:
له نَعَل لا تطبّي الكلب ريحها ... وإن جُعِلَت وسط المجالس شُمَّتِ7
وقول أبي النجم:
وجبلًا طال معدًا فاشمخرَّ ... أشمّ لا يسطِيعه الناس الدّهر8
__________
1 خبر كان في قوله: "فكان ما يروى".
2 جواب الشرط في قوله: "فإن كانوا قد رووا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا إلخ".
3 كذا في أ. وفي ب، ش، ج: "يغدر" وهو يوافق ما في اللسان في "نعل". وقد أورد القصة المؤلف في المحتسب عند الكلام على قوله تعالى في سورة آل عمران: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قال: "وسمعت الشجري يقول في بعض كلامه: أنا محموم -بفتح الحاء. وقال مرة وقد رسم له الطبيب أن يمص التفاح ويرمي بثغله فقال: إني لأبغي مصَّه وعليته تغذو" فإن كان ما هنا "يغدو، أو يعدو" صحيحًا فقد يجوز أن يكون سمع منه ابن جني كل هذا.
4 في م: "اسمعهما".
5 في م: "أكثر".
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "حرف".
7 "جعلت" كذا في أصول الخصائص. وفي اللسان "نعل": "وضعت" وأطباه: دعاه واستماله، يريد أنها من جلد مدبوغ، فلا يطمع فيها الكلب، وذلك أن الكلب إذا ظفربجلد غير مدبوغ أكله لما فيه من فضلة اللحم. والبيت من قصيدة في مرئية عبد العزيز بن مروان، يصفه برقة نعله وطيب ريحها. وانظر الديوان 2/ 112.
8 قبله: إن لبكر عدد إلّا يحتفر. وانظر المنصف نسخة التيمورية 59.(2/11)
وهذا قد قاسه الكوفيون, وإن كنا نحن لا نراه قياسًا, لكن مثل "يعدو وهو محموم"1 لم يرو عنهم فيما علمت. فإياك أن تَخْلُد إلى كل ما تسمعه, بل تأمل حال مورده, وكيف موقعه من الفصاحة, فاحكم عليه وله2.
__________
1 ثبت حرف الواو في ش، ب. وسقط في أ.
2 في م: "وله باب" ويبدو أن كلمة "باب" انتقلت في قلم الناسخ من الترجمة الآتية.(2/12)
باب اختلاف اللغات وكلها حجة:
اعلم أن سعة القياس تبيح1 لهم ذلك ولا تحظره عليهم, ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها2 القياس, ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله. وليس لك أن تردَّ إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من وسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخيّر إحداهما فتقويها على أختها, وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها. فأما ردّ إحداهما بالأخرى فلا. أوَلا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ" 3.
هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين.
فأمَّا أن تَقِلَّ إحداهما جدًّا وتكثر4 الأخرى جدًّا, فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسًا, ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال لك, قياسًا على قول قضاعة: المال له ومررت به, ولا تقول أكرمتُكِش ولا "أكرمتكس"7 قياسًا على لغة من قال: مررت بكش, وعجبت منكِس.
__________
1 في م: "تنيح".
2 في م: "يمليها".
3 ورد أصل هذا الحديث في حديث طويل في البخاري في كتاب فضائل القرآن.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "أو".
5 كذا في ب، ج. وسقط هذا في أ.(2/12)
حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن, عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال 1: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم, وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن, وتضجع قيس، وعجرفية ضبة, وتلتلة بهراء.
فأما عنعنة تميم فإنَّ تميمًا تقول في موضع أن: عن, تقول 2: عنَّ عبد الله قائم.
وأنشد3 ذو الرمة عبد الملك:
أعَنْ ترسّمت من خرقاء منزلة4
قال الأصمعي: سمعت5 ابن هرمة6 ينشد هارون الرشيد 7:
أعَنْ تغنَّت على ساقٍ مطوَّقةٌ ... وَرْقَاءُ تدعو هديلًا فوق أعوادِ
وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون: تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون -بكسر أوائل الحروف8.
وأما9 كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث: إنكش ورأيتكش وأعطيتكش؛ تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين.
__________
1 هذا الخبر في مجالس ثعلب 100. وانظر الخزانة 4/ 495.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "وتقول".
3 ثبت ما بين القوسين في ش، ب، ج. وسقط في أ.
4 عجزه: "ماء الصبابة من عينيك مسجوم" وهو مطلع قصيدة له في ديوانه 567، وانظر الخزانة 4/ 495.
5 كذا في أ. وفي ش, ب: "قال وسمعت" وما أثبت هو الصواب، فإ، ثعلبًا لم يدرك هارون، وما في ش، ب يوافق ما في المجالس. وقد تعقب هذا محققها الأستاذ عبد السلام هارون, وأورده المؤلف في سرّ الصناعة "حرف العين", وقال في نهاية السند عند "أحمد بن يحيى": "أحسبه عن الأصمعي".
6 في المجالس: "وكان ابن هرمة رُبِّيَ في ديار تميم".
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
8 ينتهي هنا ما في المجالس.
9 من قوله: "وأما كشكشة ربيعة" إلى قوله: "وهذا في الوقف دون الوصل". ثبت في أ، وسقط في سائر الأصول.(2/13)
وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضًا: أعطيتكس ومنكس وعنكس, وهذا في الوقف دون الوصل1.
فإذا كان الأمر في اللغة المعوّل عليها هكذا, وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها, وأن يتخير ما هو أقوى "وأشيع"2 منها, إلّا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئًا لأجود اللغتين. فأمَّا إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعيّ عليه. وكذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا, ويقول على مذهب من قال كذا كذا.
وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغةٍ من "لغات العرب"3 مصيب غير مخطئ, وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه.
__________
1 هذا من كلام ابن جني، وانظر الخزانة.
2 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
3 في م: "اللغات العربية".(2/14)
باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه:
اعلم أن المعمول عليه1 في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه, فإن كان إنما انتقل من لغته2 إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها, حتى كأنه إنما3 حضر غائب من أهل اللغة التي صار إليها, أو نطق ساكت من أهلها.
فإن4 كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها "ويؤخذ بالأولى"5، حتى كأنه لم يزل من أهلها. وهذا واضح.
__________
1 في م: "المعول".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "لغة".
3 الضمير للحال والشأن.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "وإن".
5 زيادة من المزهر 1/ 154, ومن الاقتراح 23 طبع الهند.(2/14)
فإن قلت: فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في لغته فسادًا بعد أن لم يكن فيها فيما علمت1، أن يكون فيها فساد آخر فيما لم تعلمه. فإن أخذت به كنت آخذًا بفاسد2 عَرُوض3 ما حدث فيها من الفساد فيما علمت, قيل: هذا يوحشك من كل لغة صحيحة؛ لأنه يتوجه4 منه أن تتوقف عن الأخذ بها؛ مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن، ويجوز أن تعلمه بعد زمان، كما علمت من حال غيرها فسادًا حادثًا لم يكن فيما قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك منه ألّا تطيب نفسًا بلغة وإن كانت فصيحة مستحكمة. فإذا كان أخذك5 بهذا مؤدّيًا إلى هذا رفضته ولم تأخذ به، وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها. وألّا توجه ظِنَّة إليها, ولا تسوء رأيًا في المشهود تظاهره من اعتدال أمرها. ذلك كما يُحْكَى6 من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خَيْرة لما سأله فقال: كيف تقول: استأصل الله عِرْقَاتهم, ففتح أبو خيرة التاء, فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة؛ لان جلدك! فليس لأحد أن يقول: كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره "لما حذرناه"7 قبل ووصفنا.
فهذا هو القياس, وعليه يجب أن يكون العمل.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب، م زيادة "فكذلك يمكن" بعد "علمت".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "بفساد".
3 العروض الطريقة؛ تقول: خذ في عروض آخرين الكلام. وللعروض النظير، تقول: هذه المسألة عروض هذه, وكلا المعنيين سائغ هنا، وعلى الأول المعنى: شأن ما حدث، وعلى الثاني غير ما حدث.
4 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "يلزم".
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "بها".
6 انظر في هذه القصة ص 385 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "كما حددنا".(2/15)
باب في العربي يسمع لغة غيره, أيراعيها ويعتمدها أم يلغيها ويطرح حكمها؟:
أخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان1 عن أبي زيد قال: سألت خليلًا2 عن الذين قالوا: مررت بأخواك, وضربت أخواك, فقال: هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييأس: ياءس, أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها. قال -يعني الخليل-3: ومثله قول العرب من أهل الحجاز: "ياتزن4 وهم ياتعدون, فروا من يوتزن ويوتعدون". فقوله: أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون يريد: أبدلوا الياء في ييأس, والآخر: أبدلوا الياء في أخويك ألفًا, وكلاهما يحتمله القياس ههنا, ألا ترى أنه يجوز أن يريد أنهم أبدلوا ياء أخويك في لغة غيرهم ممن يقولها بالياء وهم أكثر العرب, فجعلوا مكانها ألفًا في لغتهم استخفافًا للألف, فأمَّا في لغتهم هم فلا. وذلك أنهم هم لم ينطقوا قط بالياء في لغتهم فيبدلوها ألفًا ولا غيرها, ويؤكد ذلك عندك أن أكثر العرب يجعلونها في النصب والجرِّ ياء. فلما كان الأكثر5 هذا شاع على أسماع بلحرث6، فراعوه, وصنعوا لغتهم فيه, ولم تكن الياء في التثنية شاذّة ولا دخيلة7 في كلام العرب فيقل الحفل بها, ولا ينسب بَلْحرِثِ إلى أنهم راعوها, أو تخيروا8 للغتهم9 عليها.
__________
1 انظر تصريف المازني، الباب4 "باب الباء والواو اللتين هما فاءان".
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش "الخليل" ويبدو أنها مصلحة من خليلًا. وهو يعني الخليل بن أحمد.
3 كذا في ب، ش، وسقط في أ، ج.
4 في م: "ياتزرون وياتعدون، فزرا من بوتزرون، "ويوتعدون".
5 في م: "الآمر".
6 يريد بني الحارث.
وهذا كما يقال في بني العنبر: بلعنبر، وحذف نون "بني " إذا التقى بألف قمرية في أسماء القبائل، قال سيبويه 2/ 430: "وكذا يفعلون بكل قبيلة تظهر فيها لام المعرفة، فأمَّا إذا لم تظهر اللام فيها فلا يكون ذلك", وبنو الحارث بن كعب قوم من اليمن.
7 في م: "دخيلا".
8 كذا في أ، وفي ش، ب: "ر".
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "لغتهم".(2/16)
فإن قلت: فلعلَّ الخليل يريد أن من قال: مررت بأخواك, قد كان مرة يقول: مررت بأخويك "كالجماعة"1 ثم رأى "فيما"2 بعد أن قلب هذه2 الياء ألفًا للخفة أسهل عليه وأخف، كما قد2 تجد العربي ينتقل لسانه من لغته إلى لغة أخرى, قيل: إن الخليل إنما أخرج3 كلامه على ذلك مخرج التعليل للغة من نطق بالألف في موضع جرّ التثنية ونصبها, لا على الانتقال من لغة إلى أخرى. وإذا كان قولهم: مررت بأخواك, معللًا عندهم بالقياس, فكان ينبغي أن يكونوا قد سبقوا إلى ذلك منذ أول أمرهم؛ لأنهم لم يكونوا قبلها على ضعف قياس ثم تداركوا أمرهم فيما بعد فقوي قياسهم. وكيف كانوا يكونون في ذلك على ضعف من القياس والجماعة عليه! أفتُجمع كافَّة اللغات على ضعف ونقص حتى ينبغ نابغ منهم فيردَّ لسانه إلى قوة القياس دونهم! نعم ونحن أيضًا نعلم أن القياس مقتضٍ لصحة لغة الكافة, وهي الياء في موضع الجر والنصب, ألا ترى أن في ذلك فرقًا بين المرفوع وبينهما, وهذا هو القياس في التثنية, كما كان موجودًا في الواحد. ويؤكده لك أنَّا نعتذر لهم4 من مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور. وكيف يكون القياس أن تجتمع أوجه الإعراب الثلاثة على صورة واحدة! وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي "سر الصناعة"5 بما هو لاحق بهذا الموضع ومقوله.
فقد علمت بهذا أن صاحب لغة قد راعى6 لغة غيره, وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيرًا منتشرين, وخلقًا عظيمًا في أرض الله غير متحجرين7
__________
1 كذا في ش، ب، وسقط في أ، وثبت في م بعد قوله: "ثم رأى".
2 كذا في أ. وسقط في ب، ش.
3 في م: "خرج".
4 ثبت في أ، وسقط في سائر الأصول.
5 انظر أواخر الكتاب في حرف الألف اللينة.
6 في م "يراعي".
7 كذا في ش. وفي أ: "متحجزين"، وفي ب غير واضحة.(2/17)
ولا متضاغطين, فإنهم بتجاورهم1 وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة. فبعضهم يلاحظ "صاحبه"2 ويراعي أمر لغته, كما يراعي ذلك من مُهمّ أمره. فهذا هذا.
وإن كان الخليل أراد بقوله: تقلب3 الياء ألفًا: أي في ييأس, فالأمر أيضًا عائد إلى ما قدمنا, ألا ترى أنه إذا شبَّه مررت بأخواك, بقولهم: ييأس وياءس, فقد راعى أيضًا في مررت بأخواك لغة من قال: مررت بأخويك. فالأمران4 إذًا صائران إلى موضع واحد. ولهذا نظائر في كلامهم, وإنما أضع منه رسمًا ليرى به غيره بإذن الله.
وأجاز أبو الحسن أن يكون كانت العرب قِدْمًا تقول: مررت بأخويك وأخواك جميعًا, إلّا أن الياء كانت أقيس للفرق فكثر استعمالها, وأقام الآخرون على الألف, أو أن يكون الأصل قبله الياء في الجر والنصب, ثم قلبت للفتحة فيها ألفًا في لغة بلحرث بن كعب. وهذا تصريح بظاهر قول الخليل الذي قدمناه.
ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من "هذا جحر ضب خرب" قال: لأنه قد كثر عنهم الاتباع، نحو: شدّ5 وضرّ6 وبابه, فشبه هذا به.
ومن هذا حذف بني تميم ألف "ها" من قولهم "هَلُمَّ" لسكون اللام في لغة أهل الحجاز إذا قالوا "المم", وإن لم يقل ذلك بنو تميم, أو أن يكونوا حذفوا الألف لأن أهل الحجاز حذفوها. " و"7أيًّا ما كان فقد نظر فيه بنو تميم إلى أهل الحجاز.
__________
1 كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "بتحاورهم".
2 هذه الزيادة على وفق ما في ح. وقد خلت منها أ، ب، ش.
3 كذا في أ. وفي ب، ش، ج، "فقلب".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "فالأخوان".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "سد".
6 كذا في ج, وفي ش, ب: "ضن" وفي أغير واضحة.
7 زيادة اقتضاها السياق، وقد خلت منها الأصول.(2/18)
ومن ذلك قول بعضهم في الوقف "رأيت رجلأ" بالهمزة. فهذه الهمزة بدل من الألف في الوقف في لغة من وقف بالألف لا في لغته هو؛ لأن من لغته هو أن يقف بالهمزة1. أفلا تراه كيف راعى لغة غيره فأبدل من الألف همزة.
__________
1 في م: "بالهمز" وانظر في هذه اللغة الكتاب 2/ 285.(2/19)
باب في الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع:
سألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى المضمر مجرى المظهر في قوله: "أعطيتكمه"1 فأسكن الميم مستخِفًّا كما أسكنها في قوله: أعطيتكم درهمًا, كيف قياس قوله "على قول الجماعة "2: أعطيته درهمًا إذا اضمر الدرهم على قول الشاعر3:
له زجَل كأنه صوت حادٍ ... إذا طلب الوَسِيقة أو زَمير
إذا وقع ذلك قافية؟ فقال: "لا يجوز ذلك"5 في هذه المسألة, وإن جاز في غيرها, لا لشيء يرجع إلى نفس حذف الواو من قوله: "كأنه صوت حادٍ" لأن هذا أمر قد شاع عنهم, وتعولمت فيه لغتهم, بل لقرينة انضمّت إليه ليست4 مع ذلك, ألا ترى أنه كان يلزمك على ذلك أن تقول: أعطيتهه خلافًا على قول الجماعة: أعطيتهوه. فإن جعل الهاء الأولى رويًّا والأخرى وصلًا5، لم يجز ذلك؛ لأن الأولى ضمير والتاء متحركة قبلها, وهاء الضمير لا تكون رويًّا إذا تحرك ما قبلها.
__________
1 انظر الكتاب 1/ 389.
2 هذه العبارة في الأصول، وهي قلقة في هذا المكان، ولو حذفت وضح المراد، وقد يكون الأصل: "على خلاف قول الجماعة".
3 انظر ص372 من الجزء الأول.
4 كذا في أ، وفي ش، ب بدل هذا: "هذا لا يجوز".
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "فصلًا".(2/19)
فإن قلت: أجعل الثانية رويًّا, فكذلك أيضًا؛ لأن الأولى قبلها متحركة. فإن قلت: أجعل التاء رويًّا والهاء الأولى وصلًا1، قيل: فما تصنع بالهاء الثانية؟ أتجعلها خروجًا؟ هذا محال؛ لأن الخروج لا يكون إلّا أحد الأحرف الثلاثة: الألف والياء والواو. فإذا أدَّاك تركيب هذه المسألة في القافية إلى هذا الفساد وجب ألا يجوز ذلك أصلًا. فأما في غير القافية فشائعة جائزة3. هذا محصول معنى أبي عليّ, فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته.
وإذا كان كذلك وجب إذا وقع, نحو: هذا قافية أن تراجع فيه اللغة الكبرى, فيقال: أعطيتهوه البتَّة فتكون الواو ردفًا، والهاء بعدها رويًّا "وجاز أن يكون بعد الواو رويًّا"3 لسكون ما قبلها.
ومثل ذلك في الامتناع أن تضمر زيدًا من قولك: هذه عصا زيدٍ على قول من قال:
وأشرب الماء ما بي نحوه عَطَشٌ ... إلّا لأن عيونه سيلُ واديها4
لأنه كان يلزمك على هذا أن تقول: هذه عصاه, فتجمع بين ساكنين في الوصل، فحينئذ ما تضطر إلى مراجعة لغة من حرَّك الهاء في نحو هذا بالضمة وحدها أو بالضمة والواو، بعدها فتقول: هذه عصاه فاعلم, أو عصا هو فاعلم، على قراءة من قرأ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} 5 و {فَأَلْقَى عَصَاهُ} 6 ونحوه.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: فصلًا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب "فسائغة، وفي ط "فتتابعه جائز".
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 انظر ص372 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
5 آية: 30 سورة الحاقة.
6 آية 107 سورة الأعراف، وآية 32 سورة الشعراء.(2/20)
ونحو من ذلك أن يقال لك: كيف تضمر "زيدًا" من قولك: مررت بزيد وعمرو, فلا يمكنك أن تضمره هنا, والكلام على هذا النضد حتى تغيره فتقول: مررت به وبعمرو, فتزيد حرف الجر لما أعقب الإضمار من العطف على المضمر المجرور, بغير إعادة الجار1.
وكذلك لو قيل لك: كيف تضمر اسم الله تعالى في قولك: والله لأقومنَّ ونحوه, لم يجز لك حتى تأتي بالباء التي هي الأصل فتقول: به لأقومنَّ, كما أنشده أبو زيد من قول الشاعر 2:
ألا نادت أُمامةُ باحتمال ... لتِحزنني فلا بك ما أبالي
وكإنشاده أيضًا:
رأى برقًا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أغاما3
وكذلك لو قيل لك: أضمر ضاربًا وحده من قولك: هذا ضارب زيدًا, لم يجز؛ لأنه كان يلزمك عليه أن تقول: هذا هو زيدًا, فتعمل المضمر وهذا مستحيل. فإن قلت فقد تقول: قيامك أمسِ حسن، وهو اليوم قبيح، فتعمل4 في اليوم "هو"،
__________
1 كذا في أ. وفي ش: "حرف الجر" وفي ب: "الجر".
2 هو غوية بن سلمى بن ربيعة, من كلمة له في الحماسة، وبعده:
فسيرى ما بدالك أو أقيمي
فأيا ما أتيت فعن تقال
وانظر التبريزي طبعة بولاق 3/ 3.
3 نسبه: أبو زيد في النوادر 146 لعمرو بن يربوع بن حنظلة. وقد أورد فيه قصة مع زوجه الجنيه" السعلاة". وأورد هذا البكري في اللآلي 703, وقد أورد البيت معزوًا نقلًا عن أبي زيد بن دريد في الجمهرة 152، وترى القصة في الحيوان بتحقيق الأستاذ عبد السلام هرون 1/ 186. وقوله: "ولا أغاما" كذا في أصول الخصائص. وفي النوادر: "وما أغاما".
4 هذا على ما يراه المؤلف وشيخه الفارسي والرماني من البصريين, فأما سائر البصريين فيمنعون هذه المسألة؛ والكوفيون يجيزونها. وانظر الأشموني والتصريح في مبحث إعمال المصدر، والارتشاف الورقة 353أ.(2/21)
قيل: في هذا أجوبة: أحدها أن الظرف يعمل فيه الوهم مثلًا, كذا عهد إلي أبو علي -رحمه الله- في هذا. وهذا لفظه لي فيه البتة. والآخر أنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه. ولا تقول1 على هذا: ضربك زيدًا حسن وهو عمرًا قبيح؛ لأن الظرف يجوز فيه من الاتساع ما لا يجوز في غيره. وثالث: وهو أنه قد يجوز أن يكون "اليوم" من قولك: قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح, ظرفًا لنفس "قبيح" يتناوله فيعمل فيه. نعم وقد يجوز أن يكون أيضًا حالًا للضمير الذي في قبيح, فيتعلق حينئذ بمحذوف. نعم وقد يجوز أن يكون أيضًا حالًا من هو, وإن تعلق بما العامل فيه قبيح؛ لأنه قد يكون العامل في الحال غير العامل في ذي الحال. نحو قول الله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} 2 فالحال ههنا من الحق, والعامل فيه3 " هو " وحده أو "هو " والابتداء الرافع له. وكلًّا ذينك لا ينصب الحال, وإنما جاز أن يعمل في الحال غير العامل في صاحبها, من حيث كانت ضربًا من الخبر, والخبر العامل فيه غير العامل في المخبر عنه. فقد عرفت بذلك فرق ما بين المسألتين4.
وكذلك لو قيل لك: أضمر رجلًا من قولك: رب رجلٍ مررت به لم يحز "لأنك تصير"5 إلى أن تقول: ربه مررت به, فتعمل رب في المعرفة. فأما قولهم: ربه رجلًا وربها امرأة, فإنما جاز ذلك لمضارعة هذا المضمر للنكرة؛ إذ كان إضمارًا على غير تقدم ذكر, ومحتاجًا إلى التفسير, فجرى تفسيره مجرى الوصف له.
__________
1 حق هذا أن يربط بالوجه الأول.
2 آية: 91 سورة البقرة.
3 أي: في الحق.
4 هما قولك: هذا هو زيدًا, تريد: هذا ضارب زيدًا، وهي ممنوعة، وقياسك أمس حسن وهو اليوم قبيح، وهذه جائزة عند ابن جني. ومن النحويين من يمنعها كالأول، وانظر ما ذكر آنفًا.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "لأنه يصير".(2/22)
فلما كان المضمر لا يوصف, ولحق هذا المضمر من التفسير ما يضارع الوصف, خرج بذلك عن حكم الضمير. وهذا واضح. نعم, ولو قلت: ربه مررت به, لوصفت المضمر, والمضمر لا يوصف. وأيضًا فإنك كنت تصفه بالجملة, وهي نكرة, والمعرفة لا توصف بالنكرة.
أفلا ترى إلى ما كان يحدث هناك من خبال الكلام وانتقاض الأوضاع. فالزم هذه المحجَّة1. فمتى كان التصرف في الموضع ينقض عليك أصلًا, أو يخالف بك مسموعًا مقيسًا, فألغه ولا تَطُر بجنابه3، فالأمثال واسعة، وإنما أذكر من كل طرفًا يستدل به، وينقاد على وتيرته.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الحجة".
2 "ولا تطر". يقال: طار بجنابه يطور: قرب ودنا.
3 كذا في ش، ب، وسقط في أ. وفي ج "سمي جبرًا".(2/23)
باب في الشيء يسمع من العربّي الفصيح، لا يسمع من غيره:
ذلك ما جاء به ابن أحمر في تلك الأحرف المحفوظة عنه. قال أحمد بن يحيى: حدثني بعض أصحابي عن الأصمعي أنه ذكر حروفًا من الغريب فقال: لا أعلم أحدًا أتى بها إلّا ابن أحمر الباهلي. منها: الجَبْر وهو الملك, وإنما سُمِّيَ بذلك1 -أظن- لأنه يجبر بجوده, وهو قوله:
اسلم براووقٍ حُبيت به ... وانعم صباحًا أيها الجبر2
__________
1 كذا في ش، ب، وسقط في أ. وفي ج "سمي جبرًا".
2 "أسلم" كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "انعم"، وفي التكملة للصاغاني: "اشرب", وقوله: "حبيب" هو من الحباء. وهو كذلك في أ، ب، ج. وهو في ش غير منقوطة, وفي اللسان في جبر: "حبيت على البناء للمفعول. والضبط غير صحيح؛ وصوابه على ما في الج مهرة: حبيت بالبناء تفاعل.(2/23)
ومنها قوله: "كأس رنوناة" أي: دائمة، وذلك قوله:
بنّت عليه الملك أطنأبها ... كأس رنوناة وطِرْفٌ طِمِرّ1
ومنها "الديدبون"، وهو قوله:
خلّوا طريق الديدبون وقد ... فات الصبا وتنوزع الفخر2
ومنها "ماريّة" أي: لؤلؤية3، لونها لون اللؤلؤ.
ومنها قوله: "البابوس" وهو أعجمي، يعني: ولد ناقته, وذلك قوله:
حنَّت قلوصي إلى بابوسها جزعًا ... فما حنينك أم ما أنت والذكر4
__________
1 هو في الحديث عن امرئ القيس بن حجر، وقبله:
إن امرأ القيس على عهده ... في إرث ما كان أبوه حجر
وبعده:
يلهو بهند فوق أنماطها ... وفرتني تسبى إليه وهر
وفاعل "بنت" هو "كأس"، و"الملك" مفعول، و"أطنابها" بدل منه، ويرى السيرافي أن "الملك" حال في تأويل مملكًا. وروى "الملك" بالرفع فاعلًَا، وأنت على التأويل بانملكة", وانظر اللسان "رنا"، والسيرافي في التيمورية 2/ 342, والحيوان طبعة السامي 5/ 105.
2 الديدبون، اللهو؛ ومنه قول المعري:
كم قطعنا من حندس ونهار ... وكأن الزمان في ديدبون
وانظر البلوى 2/ 72, وانظر في البيت اللسان "ددن".
2 كذا، وهذا التفسير أورده للؤلؤان اللون، فقد يكون الأصل: مارية لؤلؤان اللون، كما في البتين الآتيين عن أبي زيد. وفي تفسير المارية أنها البراقة اللون، فقد يجوز أن ينظر إلى هذا, ويفسرها بهذا التفسير إن لم يكن الأصل حذف.
4 هو من قصيدته المدونة في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ومطلعها:
بان الشباب وأفنى ضعفه العمر ... لله درك أي العيش تنتظر
وانظر اللسان "بيس".(2/24)
ومنها "الرُّبَّان" وهو العيش1، وذلك قوله:
وإنما العيش بربَّانِهِ ... وأنت من أفنانه مقتفر2
ومنها "المأنوسة"3 وهي النار, وذلك قوله:
كما تطاير عن مأنوسة الشرر4
قال أبو العباس أحمد بن يحيى أيضًا: وأخبرنا أبو نصر عن الأصمعي قال: من قول ابن أحمر "الحيرم" وهو البقر, ما جاء به غيره5. انتهت الحكاية.
وقد6 أنشد أبو زيد:
كأنها بنقا العزَّاف طاوية ... لما انطوى بطنُها واخروّط السفر7
__________
1 عبارة اللغة: أول العيش.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "مفتقر", وما أثبته يوافق ما في الأمالي 1/ 245، وقيل هذا البيت.
قد بكرت عاذلتي بكرة ... تزعم أني بالصبا مشتهر
ومقتفر: واجد ما طلبت, يقال: خرج في إبله فاقتفر آثارها, أي: وجد أثارها فأتبعها، وانظر اللآلي 555، والإصلاح 450.
3 عبارة اللسان "أنس": "ومأنوسة والمأنوسة جميعًا النار" وبه يظهر ما في البيت.
4 صدره.
تطايح الطل عن أردافها صعدًا
وهو من قصيدته المثبته في جمهرة أشعار العرب على ما أسلفت, وقد اقتصر في اللسان "أنس" على الشطر المستشهد به.
5 أي: في قوله على ما في اللسان "حرم":
تبدل أدمًا من ظياء وحيرما
6 زيدت هذه الواو على ما في ج، وقد خلت منها سائر الأصول.
7 "بِنَقَا العزاف" في اللسان في بنس: "من نقا العزاف" والعزاف: رمل من جبال الدهنا, والنقا: القطعة من الرمل تنقاد محدود به، يكتب بالألف والياء، لأنه يقال في تثنيته نقيان ونقوان، وآخروّط السفر: امتدَّ.(2/25)
مارية لؤلؤان اللون أوّدها ... طل وبنّس عنها فَرْقَد خَصِر1
وقال: الماريّة: البقرة الوحشية. وقوله: بنّس2 عنها, هو من النوم, غير أنه إنما يقال للبقرة. ولم يسند3 أبو زيد هذين البيتين إلى ابن أحمر, ولا هما أيضًا في ديوانه, ولا أنشدهما الأصمعي فيما أنشده من الأبيات التي أورد4 فيها كلماته. وينبغي أن يكون ذلك5 شيئًا جاء به غير ابن أحمر تابعًا له فيه ومتقيلًا أثره. هذا أوفق لقول الأصمعي: إنه لم يأت به غيره من أن يكون قد جاء به غير متّبع أثره. والظاهر أن يكون ما أنشده أبو زيد لم يصل إلى الأصمعي "لا"6 من متبع فيه ابن أحمر, ولا غير متبع. " وجاء في شعر أمية الثغرور, ولم يأت به غيره"7.
والقول في هذه الكلم المقدَّم ذكرها وجوب قبولها. وذلك لما ثبتت به الشهادة من فصاحة ابن أحمر. فإمَّا أن يكون شيئًا أخذه عمَّن ينطق بلغة قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه, على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح, كقوله في الذرحرح: الذرّحْرَح ونحو ذلك, وإما أن يكون شيئًا ارتجله ابن أحمر؛
__________
1 لؤلؤان اللون: لونها لون اللؤلؤ، وأودَّها أي: عطفها ورجعها، وكأنه يريد: عطفها نحو كناسها، وروي في اللسان "مرا": "أوردها", وروي في "بنس" كما هنا، يريد أوردها كناسها. والفرقد: ولد البقرة.
2 الذي في الغة أن التبنيس التأخر. والمعنى الذي ذكره ابن جني لا يعرف لغيره كما ذكره ابن سيده. راجع اللسان.
3 في اللسان "بنس" نسبتهما إلى ابن أحمر، وهما في رائيته في جمهرة أشعار العرب, وقد ذكرت آنفًا مطلعها.
4 كذا في أ، وفي ش، ب: "أوردنا".
5 أي: ما ورد في البيتين السابقين.
6 زيادة في م.
7 ما بين القوسين في م، ج. والثغرور: الثغر. جاء في قوله: ... وأبدت الثغرورا. وجاء هذا اللفظ في النسختين: الشينغور, وهو تحريف عمَّا أثبت. وانظر شعراء ابن قتبية 431.(2/26)
فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به, فقد حكي1 عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظًا لم يسمعاها ولا سُبِقَا إليها. وعلى نحو من هذا قال أبو عثمان: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. وقد تقدَّم نحو ذلك2, وفي هذا الضرب3 غار أبو علي في إجازته أن تبنى اسمًا وفعلًا وصفة ونحو ذلك من ضرب, فتقول: ضربب زيد عمرًا, وهذا رجل ضربَب, وضرنبي4، ومررت برجل خَرَجَج, وهذا رجل خرجج ودخلخل, وخرجج أفضل من ضربب, ونحو ذلك. وقد سبق5 القول على مراجعتي إياه في هذا المعنى, وقولي له: أفترتجل اللغة ارتجالًا؟ وما كان من جوابه في ذلك.
وكذلك إن جاء نحو هذا الذي رويناه عن ابن أحمر عن فصيح آخر غيره كانت حاله فيه حاله. لكن لو جاء شيء من ذلك عن ظنين أو متَّهم أو من لم ترقَ به فصاحته, ولا سبقت إلى الأنفس ثقته, كان مردودًا غير متقبَّل.
فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها, فإنه لا يقنع في قبوله أن تسمعه من الواحد ولا من العدَّة القليلة, إلّا أن يكثر من ينطق به منهم. فإن كثر قائلوه إلّا أنه مع هذا ضعيف الوجه
__________
1 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "يُحْكَى".
2 انظر ص358 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
3 "هذا الضرب" أي: النوع من خصائص العربية, وهو القياس على كلام العرب، ويخيل إليّ أن الأصل: الدرب، وهو الطريق. وقوله: غار هو, من قولهم: غار: أتي الغور، وهو ما انخفض من الأرض، يريد به التعمق في البحث، ويصلح أن يكون عار بالمهملة, أي: ذهب وجاء وتردد، وذهابه ومجيئه هنا ببحثه ونظره.
4 هذا الضبط من ب. وفي أضبطه بضم الأوّل والثالث كقنفذ.
5 انظر ص361 وما بعدها، من الجزء الأول من هذا الكتاب.(2/27)
في القياس, فإن ذلك مجازه وجهان: أحدهما أن يكون من نطق به لم يُحْكِم قياسه على لغة آبائهم, وإما أن تكون أنت قصَّرت عن استدراك وجة صحته. ولا أدفع أيضًا مع هذا أن يسمع الفصيح لغة غيره مما ليس فصيحًا, وقد طالت عليه وكثر لها استماعه فسرت في كلامه1، ثم تسمعها أنت منه وقد قويت عندك في كل شيء من كلامه غيرها فصاحته, فيستهويك ذلك إلى أن تقبلها2 منه, على فساد أصلها2 الذي وصل إليه منه. وهذا موضع متعب مؤذٍ يشوب النفس، ويشري3 اللبس؛ إلّا أن هذا كأنه متعذر ولا يكاد يقع مثله. وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها4 ولم يبهأ بها. سألت مرة الشجري أبا عبد الله ومعه ابن عمٍّ له دونه في فصاحته, وكان اسمع غصنا فقلت لهما: كيف تحقّران "حمراء"؟ فقالا: حميراء. قلت: فسوداء, قالا: سويداء. وواليت من ذلك أحرفًا وهما يجيئان بالصواب, ثم دسست في ذلك "عِلْبَاء" فقال غصن: "عليباء", وتبعه الشجري. فلما همَّ بفتح الباء تراجع كالمذعور ثم قال: آه! عليبيّ ورام الضمة5 في الياء. فكانت تلك عادة له إلّا أنهم أشد استنكارًا لزيغ الإعراب منهم6 لخلاف اللغة؛ لأن بعضهم قد ينطق بحضرته بكثير من اللغات فلا ينكرها7.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "كلامهم".
2 كذا في أ, وسقط هذا الحرف في ش، ب، وقوله: "تقيلها" كذا في ش، ب. وفي أ: "تقبله". وقوله: "على أصلها" كذا في ش. وفي أ، ب: "أصله".
3 أي: يجعله يشرى -بفتح الياء- أي: يلج ويكثر.
4 يقال: بهأ بالشئ: أنس به وأحب قربه.
5 روم الضمة: هو أن يأتي بها في الوقف على المضموم خفية، وهو من أنواع الوقف.
6 كذا في أ، ش، ب. وفي أ: "منه".
7 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "لا ينكرها".(2/28)
إلا أن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيع الإعراب, ألا ترى أن أبا1 مهديّة سمع2 رجلًا من العجم يقول لصاحبه: زوذ, فسأل أبو مهديّة عنها فقيل له: يقول له: اعجَلْ, فقال أبو مهديّة: فهلَّا قال له: حيهلك. فقيل له: ما كان الله ليجمع لهم إلى العجمية العربية. وحدَّثني المتنبي أنه حضرته جماعة من العرب منصرفَهُ من مصر, وأحدهم يصف بلدة واسعة فقال في كلامه: تحير فيها العيون3، قال: وآخر من الجماعة يحي4 إليه سرًّا ويقول له: تحار تحار, والحكايات في هذا المعنى كثيرة منبسطة.
ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شُهِرَت فصاحته ما يورده5, ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يكون من غيره. وذلك كقبول القاضي شهادة من ظهرت عدالته, وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به, ألا تراه يمضي الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم بصحتها؛ لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله, إنما أمر بحمل الأمور على ما تبدو6, وإن كان في المغيب غيره. فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشك في لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئًا من لغته مخافة أن يكون فيها بعض
__________
1 انظر في هذه القصة وقصة المتنبي ص240 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
2 كذا في ش، ب وفي أ: "لما سمع". ويناسبه سقوط الفاء في "فسأل".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "منها".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يجيء". والصواب ما أثبت. ويحي من الوحي وهو الرمز والإيماء.
5 كذا في أ: وفي ش، ب: "يورد".
6 كذا في ب، وفي أ، ش: "يبدو".(2/29)
ما يخفى عليك فيعترض الشك على يقينك, وتسقط بكل اللغات ثقتك. ويكفي من هذا ما تعلمه من بعد لغة حمير من لغة ابني نزار. روينا عن الأصمعي أن رجلًا1 من العرب دخل على ملك "ظفار" -وهي مدينة لهم يجيء منها الجزع الظفاريّ- فقال له الملك: ثِبْ, وثب بالحميرة: اجلس, فوثب الرجل فاندقَّت رجلاه, فضحك الملك وقال: لست عندنا عَرَبيّت2، من دخل ظفار حمّر, أي: تكلّم بكلام حمير. فإذا كان كذلك جاز جوازًا قريبًا كثيرًا أن يدخل من هذه اللغة في لغتنا, وإن لم يكن لها فصاحتنا, غير أنها لغة عربية قديمة.
__________
1 هو زيد بن عبد الله بن دارم، كما في الصاحبي 22.
2 يريد العربية. فوقف على الهاء بالتاء, وكذلك لغتهم, ورواه بعضهم ليس عندنا عربية كعربيتكم, وقد صوبها بها ابن سيده وقال: لأن الملك لم يكن ليخرج نفسه من العرب، وقوله: "عربيت" كذا في أ، وفي ش، ب: "عربية".(2/30)
باب في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منهابفارط:
قد تقدَّم في أول1 الكتاب القول على2 اللغة: أتواضع هي أم إلهام. وحكينا وجوَّزنا فيها الأمرين جميعًا. وكيف تصرفت الحال, وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها, فإنها لا بُدَّ أن يكون3 وقع في أول الأمر بعضها, ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه, فزيد فيها شيئًا فشيئًا, إلّا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه وإعرابه المبين عن معانيه لا يخالف الثاني الأول،
__________
1 انظر ص41، من الجزء الأوّل من هذا الكتاب.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "في".
3 كذا في ش. وفي أ: "تكون"، وفي ب غير منقوطة.(2/30)
ولا الثالث الثاني, كذلك متصلًا متتابعًا1. وليس أحد من العرب الفصحاء إلّا يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه, ويتوارثونه2 آخر عن أول, وتابع عن متَّبَع. وليس كذلك أهل الحضر؛ لأنهم يتظاهرون3 بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مضاهٍ4 لكلام فصحاء العرب في حروفهم وتأليفهم, إلّا أنهم أخلّوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح. وهذا رأي أبي الحسن وهو الصواب.
وذهب إلى أنَّ اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أنَّ أول ما وضع منها وضع على خلاف, وإن كان كله مسوقًا على صحة وقياس, ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها, غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفًا, وإن كان كل واحد آخذًا5 من صحة القياس حظًّا. ويجوز أيضًا أن يكون الموضوع الأول ضربًا واحدًا, ثم رأى مَنْ6 جاء مِنْ بعد أن خالف قياس الأوّل إلى قياس ثانٍ جار في الصحة مجرى الأول.
ولا يبعد عندي ما قال من موضعين: أحدهما سعة القياس, وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول بالقياس الذي عدل إليه الثاني, فلا عليك أيهما تقدَّم وأيهما تأخّر. فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "تابعًا سائغًا".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "يتأرثونه".
3 كذا في أ، ج. وفي ب، ش: "لا يتظاهرون".
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "مضاف".
5 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "أخذ".
6 كذا في ش، ب. وسقط هذا الحرف في أ، ج.(2/31)
فأما أي الأجناس الثلاثة تقدَّم -أعني: الأسماء والأفعال والحروف- فليس مما نحن عليه في شيء, وإنما كلامنا هنا: هل وقع جميعها1 في وقت واحد، أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة, وشيئًا بعد شيء, وصدرًا بعد صدر.
وإذ قد وصلنا من القول في هذا إلى ههنا, فلنذكر ما عندنا في مراتب الأسماء والأفعال والحروف, فإنه من أماكنه وأوقاته.
اعلم أن أبا عليّ -رحمه الله- كان يذهب إلى أن هذه اللغة -أعني: ما سبق منها ثم لحق به ما بعده- إنما وقع كلّ صدر منها في زمان واحد, وإن كان تقدَّم شيء منها على صاحبه, فليس بواجب أن يكون المتقدّم على الفعل الاسم، ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل؛ وإن كانت رتبة الاسم في النفس من حصة القوة والضعف أن يكون قبل الفعل, والفعل قبل الحرف. وإنما يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل لا في الزمان. فأمّا الزمان: فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدّموا الاسم قبل الفعل. ويجوز أن يكونوا قدَّموا الفعل في الوضع2 قبل الاسم، وكذلك الحرف. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم, فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني, وأنها لا بُدَّ لها من الأسماء والأفعال والحروف, فلا عليهم بأيّها بدءوا, أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف؛ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهنّ جُمَع, إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي, وبه كان يأخذ ويفتي.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "جميعًا".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "الموضع".(2/32)
وهذا يضيِّق الطريق على أبي إسحاق وأبي بكر في اختلافهما1 في رتبة الحاضر والمستقبل.
وكان أبو الحسن يذهب إلى أنّ ما غيّر لكثرة استعماله إنما تصوَّرته العرب قبل وضعه, وعلمت أنه لا بُدَّ من كثرة استعمالها2 إياه فابتدءوا بتغييره، عِلْمًا بأن لا بُدَّ من كثرته الداعية إلى تغييره. وهذا في المعنى كقوله:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصيَّر آخره أولًا3
وقد كان أيضًا أجاز أن يكون4 قد كانت قديمًا5 معربة, فلما كثرت غُيِّرَت فيما بعد. والقول عندي هو الأول؛ لأنه أدلّ على حكمتها واشهد لها6 بعلمها بمصاير
__________
1 فيرى أبو إسحق الزجاج أن المستقبل أول الأفعال، واحتج لذلك بأن الأفعال المستقبلة تقع بها العدادات ثم توجد فتكون حالًا ثم يمضي عليها الزمان فتكون في الماضي، وتبعه تلميذه الزجاجي، ويرى أبو بكر بن السراج أن الحاضر هو أوّل الأفعال، وقد ساق السيرافي حجة هذا القول، وإن لم ينسبه إلى أبي بكر، وقد نُسِبَ الأول إلى أبي إسحق. ويرى بعض النحاه أن الأصل في الأفعال هو الماضي.
وانظر السيرافي 1/ 13 "تيمورية". وانظر في مذهب الزجاجي الأشباه والنظائر النحوية للسيوطي 1/ 54 طبعة الهند الأولى، وفي المسألة بوجه عام الارتشاف، الورقة 314.
2 كذا في ش، ب. وفي ج: "استعمالهم". وفي أ: "استعماله". وهو خطأ.
3 "أخره"، كذا في أ، ب، ش. وفي ج "غايته".
4 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تكون", والحديث عمَّا غير لكثرة الاستعمال، وعني به المبنيات وهي ضرب منه.
5 أي: لأن الإعراب وهو الأصل في الأسماء فبناؤها عارض في الرتبة والتقدير، وقد جعل علة بنائها كثرة استعمالها، وذلك أنها صارت لكثرة استعمالها قوالب الكلام, فاقتضى ذلك أن تبقى على صورة واحدة، فكانت مبنية. ولم يرض هذا الكلام ابن الطيب في شرح الاقتراح, فاعترض بأن هذا يقضي بأن يكون كثرة الاستعمال من أسباب البناء ولا قائل به، وابن جني لا يلتزم اصطلاح النحاة ويتكلم على أصل الوضع.
6 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.(2/33)
أمرها فتركوا بعض الكلام مبنيًّا غير معرب؛ نحو: أمس وهؤلاء وأين وكيف وكم وإذ, واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس؛ لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين, فكان ذلك أخف عليهم من تجشمهم اختلاف الإعراب واتقائهم الزيغ والزلل فيه, ألا ترى أن من لا يعرب فيقول: ضرب أخوك لأبوك, قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول، ولا يتجشّم1 خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى، فإن تخلل2 الإعراب من ضرب إلى ضرب يجري مجرى مناقلة3 الفرس، ولا يقوى على ذلك من الخيل إلّا الناهض الرجيل4، دون الكودن5 الثقيل, قال جرير:
من كل مشترفٍ وإن بعد المدَى ... ضَرِمِ الرقاق مناقل الأجرال6
ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا: اُقْتُل, فضموا الأوَّل توقعًا للضمة تأتي من بعد7. وكذلك قالوا: عظاءة وصلاءة وعباءة, فهمزوا مع الهاء توقعًا لما سيصيرون إليه من طرح الهاء, ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء والعباء. وعلى ذلك قالوا:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "لم".
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "تحلل". يريد يتخلل الإعراب تتابعه. من قولهم: تخلله بالريح: طعنه به طعنة إثر أخرى.
3 هي سرعة نقل قوائمه, ويفسرها بعضهم بأن يضع الفرس يده ورجله على غير حجر لحسن نقله في الحجارة.
4 وهو القوي على المشي.
5 هو الهجين غير الأصيل.
6 المشترف: يريد به الفرس العالي الخلق. والرقاق: الأرض الليثة لا رمل فيها. وضرم: متوقد ملتهب، يريد أنه يتوقد نشاطًا وسرعة في الرقاق، ويناقل في الأجرال: يسرع السير فيها, فلا تقع قوائمه على الحجارة، والأجرال جمع الجرل -بالتحريك, وهو المكان الصلب الغليظ. وقوله: "ضرم الرقاق" كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "صرم الرقاق" وهو تحريف. وقبل البيت:
إن الجياد بيتن حول خبائنا ... من آل أعوج أو لذي العقال
وانظر الديوان نشر الصاوي 468, والنقائض طبع أوروبا 303، واللسان "جرل، نقل".
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.(2/34)
الشيء منتن, فكسروا أوله لآخره, وهو مُنْحَدر من الجبل, فضموا الدال لضمة1 الراء. وعليه قالوا: هو يجوءك2، وينبؤك, فأثر3 المتوقع لأنه كأنه حاضر. وعلى ذلك قالوا: امرأة شمباء4، وقالوا: العمبر, ونساء شمب, فأبدلوا النون ميمًا مما يتوقّع من مجيء الباء بعدها. وعليه أيضًا أبدلوا الأول للآخر في الإدغام نحو: مرأيت5؟ واذهفّى ذلك5، واصحمطرا5. فهذا كله وما يجري مجراه -مما يطول ذكره- يشهد لأن كل ما يتوقع إذا ثبت في النفس كونه كان كأنه حاضر مشاهد. فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم وكيف وحيث وقبل وبعد, علمًا بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها فيجب لذلك تغييرها.
فإن قلت: هلَّا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان, كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد, واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه، إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء؛ لأنها عبارات عن الأشياء, ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال6، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف؛ لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركبها7، واستقلالها بأنفسها نحو: إن زيدًا أخوك, وليت عمرًا عندك, وبحسبك أن تكون كذا؟ 8 قيل: يمنع9 من هذا أشياء: منها
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "بضمة".
2 انظر في هذا وما بعده الكتاب 2/ 255.
3 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "فآثروا".
4 وصف من الشنب, وهو رقة الأسنان وعذوبتها.
5 "مرأيت" يريد: من رأيت. "واذهفى ذلك" يريد: اذهب في ذلك. "واصحمطرا" يريد: اصحب مطرًا. وانظر في هذا الكتاب 2/ 412.
6 كذا في أ، وفي ش، ب "الأفعال".
7 كذا في أ، وفي ش، ب: "تراكبها".
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "يكون".
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "تمنع".(2/35)
وجودك أسماء مشتقة من الأفعال؛ نحو: قائم من قام, ومنطلق من انطلق, ألا تراه يصح لصحته، ويعتل لاعتلاله, نحو: ضرب فهو ضارب, وقام فهو قائم؛ "وناوم فهو مناوم"1. فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقًا من الفعل, فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان, وقد رأيت الاسم مشتقًا منه, ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه. وأيضًا فإن المصدر مشتق من الجوهر؛ كالنبات من النبت, وكالاستحجار من الحجر, وكلاهما اسم. وأيضًا فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي, وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي2، وأيضًا فإن كثيرًا من الأفعال مشتق من الحروف نحو قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي, أي: قلت لي: لولا، وسألتك حاجة فلا ليت لي, أي: قلت لي: لا. واشتقوا أيضًا المصدر -وهو اسم- من الحرف, فقالوا: اللالاة واللولاة, وإن كان الحرف متأخرًا في الرتبة عن الأصلين قبله: الاسم والفعل. وكذلك قالوا: سوَّفت الرجل, أي: قلت له: سوف, وهذا فعل -كما ترى- مأخوذ من الحرف. ومن أبيات الكتاب 3:
لو ساوفتنا بسوفٍ من تحيّتها ... سوف العيوف لراح الركب قد قنع4
انتصب "سوف العيوف" على المصدر المحذوف الزيادة، أي: مساوفة العيوف.
__________
1 كذا في الأصول. والأقرب: "قاوم فهو مقاوم".
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب، د، هـ: "اشتق" وهو تحريف.
3 انظر الكتاب 2/ 301.
4 "ساوفتنا" في ج: "سوفتنا". "لراح" كذا في أ، ج. وفي ش، ب، "لكان". "قنع" كذا في أ. وكتب فوق العين: "هو"، وفي ب، ج، ش: "قنعوا". وما أثبت موافق لما في الكتاب، فقد جاء به في أبيات أخر شاهدًا لطريقة لهم في إشاد القوافي، يحذفون الواو والياء اللتين هما علامة المضمر، قال سيبويه بعد البيت: "يريد قنعوا" ولهذا الغرض أثبت في أفوق هذا "عوًا"، ومعنى "ساوفتنا": واعدتنا بسوف أفعل، والعيوف: الكاره والكارهة، يقول: لو وعدتنا بتحية في المستقبل لقنعنا، وإن كانت عازمة على المطل إذ كانت كارهة لذلك. والبيت في اللسان "سوف"، وفيه عزوه لابن مقبل.(2/36)
وأنا أرى أن جميع تصرف "ن ع م " إنما هو من قولنا في الجواب: نعم. من ذلك النِّعْمة والنَّعْمة والنَّعيم والتَّنْعيم ونَعِمتُ به بالًا, وتنعم القوم والنعمى والنعماء وأنعمت1 به له، وكذلك البقية. وذلك أن "نعم" أشرف الجوابين, وأسرهما للنفس, وأجلبهما للحمد, و"لا" بضدها, ألا ترى إلى قوله:
وإذا قلت نَعَم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إنَّ الخلف ذمّ2
وقال الآخر: أنشدناه أبو علي:
أبي جوده لا البخل واستعجلت به ... نَعَمْ مِن فتى لا يمنع الجوع قاتله3
يُرْوَى بنصب "البخل" وجره, فمن نصبه فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون بدلًا من "لا"؛ لأن "لا" موضوعة للبخل, فكأنه قال: أبي جوده البخل. والآخر: أن تكون "لا" زائدة، حتى كأنه قال: أبي جوده البخل، لا على البدل لكن على زيادة "لا". والوجه هو الأول؛ لأنه قد ذكر بعدها نعم, ونعم لا تزاد, فكذلك4 ينبغي أن تكون "لا" ههنا غير زائدة. والوجه الآخر على الزيادة صحيح أيضًا؛
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 "قلت" كذا في أ، ب، ج. وفي ش "قالت", وما أثبت موافق لما في اللسان في نَعَم. والبيت للمثقَّب العبدي من قصيدة مفضلية. وانظر ابن الأنباري 589.
3 هذا البيت من شواهد المغني في مبحث "لا" وفيه: "الجود" بدل الجوع, وقد نقل السيوطي في شرح شواهد المغني خلافًا في تفسيره, فانظره في ص217 من كتابه، وانظر اللسان في الألف اللينة, ففيه تفسير جيد لابن بري, حاصله أن هذا الرجل يمنح الجوع عند المحتاجين الطعام الذي يقتله، ولا يبخل على الجوع بهذا الذي يقتله. وظهر أن تفسر ابن بري لابن السكيت، نقله عنه البغدادي في شرح شواهد المغني. والبيت لا يعرف قائله. وانظر شواهد المغني المذكور 2/ 190.
4 كذا في ش، ب، وفي أ: "وكذلك".(2/37)
لجرى ذكر "لا" في مقابلة نعم. وإذا جاز ل"لا" أن تعمل وهي زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله 1:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لا مت ذوو أحسابها عُمَرَا2
كان الاكتفاء بلغظها من غير عمل له أولى بالجواز.
ومن جره فقال: "لا البخل" فبإضافة "لا" إليه؛ لأن "لا" كما تكون للبخل3 قد تكون للجود أيضًا, ألا ترى أنه لو قال لك إنسان: لا تطعم الناس ولا تقر الضيف ولا تتحمل المكارم, فقلت أنت: "لا" لكانت هذه اللفظة هنا للجود لا للبخل, فلما كانت "لا" قد تصلح للأمرين جميعًا أضيفت إلى البخل لما في ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدين.
فإن قلت: فكيف تضيفها وهي مبنية؟ ألا تراها على حرفين الثاني حرف لين, وهذا أدل شيء على البناء، قيل: الإضافة لا تنافي البناء، بل لو جعلها جاعل سببًا له لكان "أعذر من"4 أن يجعلها نافية له, ألا ترى أن المضاف5 بعض الاسم، وبعض الاسم صوت, والصوت واجب بناؤه. فهذا من طريق القياس, وأما من طريق السماع: فلأنهم قد قالوا: كم رجل "قد"6 رأيت, فكم مبنية وهي مضافة.
__________
1 أي: الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة الفزاري, وانظر شرح شواهد العيني في مبحث لا النافية للجنس, والخزانة 2/ 87, والديوان طبع أوربا 180.
2 "إلي لا مت" كذا في أ، ب، ج، وش. وفي الخزانة: "إذا للام" ويريد بعمر ابن هبيرة الفزاري، وهو من عمال سليمان بن عبد الملك، وفزارة ترجع في النسب إلى غطفان. وانظر الخزانة 2/ 87، وديوان الفرزدق طبع أوربا ص180.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فلقد", وكذا في نقل البغدادي في شواهد المغني.
4 "أعذر" في ج: "أجدر". "من" كذا، في ش، ب، ونقل البغدادي في شواهد المغني. وفي أ "ممن".
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش "المضافة".
6 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ش، ب, وما أثبت موافق لما في شواهد المغني للبغدادي، و"قد" في هذا المقام تبعدكم عن أن تكون استفهامية، بل خبرية.(2/38)
وقالوا أيضًا: لأضربنَّ أيهم أفضل, وهي مبنية عند سيبويه. فهذا شيء عرض قلنا فيه.
ثم لنعد إلى ما كنّا عليه من أن جميع باب "ن ع م " إنما هو مأخوذ من "نعم", لما فيها من المحبة للشيء والسرور به1. فنعمت الرجل, أي: قلت له "نعم", فنعم بذلك بالًا، كما قالوا: بجَّلته, أي: قلت له: "بجل" أي: حسبك حيث انتهيت فلا غاية من بعدك، ثم اشتقوا منه الشيخ البجال، والرجل البجيل. فنعم وبجل كما ترى حرفان, وقد اشتق منهما أحرف كثيرة.
فإن قلت: فهلَّا كان نَعَمْ وبَجَلْ مشتقين من النعمة والنعيم, والبجال والبجيل, ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقًا منهما؟ قيل: الحروف يشتق منها ولا تشتق هي أبدًا. وذلك أنها لما جمدت فلم تتصرف شابهت بذلك أصول الكلام الأُوَل2 التي لا تكون مشتقة "من شيء"3؛ "لأنه ليس قبلها ما تكون فرعًا له ومشتقة منه"4، يؤكد ذلك عندك قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي، أي: قلت لي "لولا", فاشتقوا الفعل من الحرف المركب من "لو" و"لا", فلا يخلو هذا أن يكون "لو" هو الأصل، أو "لولا"5 لا يجوز أن يكون "لولا"، لأنه لو كان "لو" محذوفًا منه, والأفعال لا تحذف, إنما تحذف الأسماء نحو: يدٍ ودمٍ وأخٍ وأب, وما جرى مجراه, وليس الفعل كذلك. فأمَّا خذ وكل ومر, فلا يعتدّ إن شئت لقلته, وإن شئت لأنه حذف تخفيفًا في موضع وهو ثابت في تصريف الفعل, نحو: أخذ يأخذ وأخذ وآخذ.
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 ضبطت هكذا وصفًا لأصول. وفي أ: "الأوّل" بزنة الأفعال وصفًا للكلام.
3 كذا في أ، وفي ش، ب: "منه".
4 ثبت ما بين القوسين في أ، وسقط في ش، ب.
5 يريد الفعل لولي، والواجب على رسم البصريين كنايته بالياء. وفي ج: "ولا يجوز أن يكون لو ليت هو الأصل".(2/39)
فإن قلت: فكذلك أيضًا يدٌ ودمٌ وأخٌ وأبٌ وغدٌ وفمٌ, ونحو ذلك, ألا ترى أن الجميع تجده متصرفًا1, وفيه ما حذف منه, وذلك نحو أيدٍ وأيادٍ ويدي2، ودماءٍ ودمي، وأدماءٍ3 والدما في قوله: "فإذا هي بعظام ودمًا"4 وإخوة وأخوة وآخاء وأخوان, وآباء وأبوة وأبوان, وغدوًا5 بلاقع وأفواه وفويه وأفوه وفوهاء وفوه, قيل: هذا كله إن كان قد عاد في كل تصرف منه ما حذف من الكلمة التي هي من أصله, فدل ذلك على محذوفه, فليست الحال فيه كحال خُذْ من أخذ ويأخذ. وذلك أن أمثلة الفعل وإن اختلفت في أزمنتها وصيغها6 فإنها تجري مجرى المثال الواحد، حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوض منه في مثال آخر من أمثلته، ألا ترى أنهم لما حذفوا همزة يكرم ونحوه عوّضوه منها أن أوجدوها في مصدره, فقالوا: إكرامًا. وكذلك بقية الباب. وليس كذلك الجمع "والواحد"7، ولا التكبير والتصغير "من الواحد"؛ لأنه ليس كل واحد من هذه المُثُل جاريًا مجرى
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "منصرفًا".
2 هذا الضبط بفتح الياء عن ب. واليدى جمع اليد كالعبيد جمع العبد.
3 سقط هذا في ج، ولم أقف عليه في اللسان والقاموس.
4 قبله:
كأطوم فقدت برغزها ... أعقبتها الغبس منه عدمًا
غفلت ثم أتت ترقبه ... ..............
الأطوم: البقرة الوحشية، والبرغز: ولدها، والغبس لذئاب. يشبه جزعه بجزع بقرة عدا الذئاب على ولدها في حين غفلتها. وانظر اللسان "برغز، وأطم", والجمهرة 3/ 484، والمنصف في التيمورية 451.
5 بعض بيت من قصيدة البيد، والبيت بتمامه:
وما الناس إلّا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوها بلاقع
وانظر اللسان في بلقع، وفي هذه القصيدة البيت المشهور:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "صيغتها".
7 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "من الواحد".
8 كذا في أ، ب، ش. وسقط هذا في ج.(2/40)
صاحبه، فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه كان كأنه فيه, وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه صار كأنه في المحذوف منه نفسه، فكأن لم يحذف منه شيء.
فإن قلت: فقد نجد بعض ما حذف في الأسماء موجودًا في الأفعال من معناها ولفظها, وذلك نحو قولهم في الخبر: أخوت عشرة, وأبوت عشرة, وأنشدنا أبو علي عن الرياشيّ:
وبِشرةُ يأبونا كأنّ خباءنا ... جَنَاحُ سُمَاني في السماء تطير1
وقالوا أيضًا: يديت2 إليه يدًا وأيديت, ودميت تدمى دميّ, وغدوت عليه, وفهت بالشيء وتفوهت به. فقد استعملت الأفعال3 من هذه الكلم كما استعملت فيما أوردته.
قيل: وهذا أيضًا ساقط عنَّا وذلك أنا إنما قلنا: إن هذه المثل من الأفعال تجري مجرى المثال الواحد؛ لقيام بعضها قيام4 بعض, واشتراكها في اللفظ. وليس كذلك أب وأخ ونحوهما, ألا ترى أن أب ليس بمثال من أمثلة الفعل, ولا باسم فاعل, ولا مصدر, ولا مفعول, فيكون رجوع المحذوف منه في أبوت كأنه موجود في أب, وإنما أب من أبوت كَمُدُقّ5 ومكحلة من دقَقَت وكَحَلت. وكذلك القول في أخٍ ويدٍ ودمٍ, وبقية تلك الأسماء. فهذا فرق.
__________
1 "يأبونا" كذا في ج، وهو يوافق ما جاء في اللسان "بشر". وفي أ: "تأتونا" وهو تحريف, وفي ب: "تأبونا" وهذا صحيح إذا كان "بشرة" من أعلام النساء، وفي القاموس "بشر": "وبشرة -بالكسر: جارية عون بن عبد الله، وفرس ماوية بن قيس".
2 أي: أسديت إليه نعمة.
3 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "الأمثال".
4 كذا في أ، ب، ش، وفي ج: "مقام".
5 يريد أنها أسماء صبغت لمعانيها ابتداءً ولم تؤخذ كما تؤخذ أسماء الآلة. وانظر الكتاب 2/ 248.(2/41)
فقد علمت -بما قدَّمناه وهضبنا1 فيه- قوة تداخل الأصول الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وتمازجها, وتقدم بعضها على بعض تارة, وتأخرها عنه أخرى. فلهذا ذهب أبو علي -رحمه الله- إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة؛ كالرقم تضعه على المرقوم, والميسم يباشر به صفحة الموسوم, لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان, وإن اختلفت بما فيه2 من الصنعة3 القوة والضعف في الأحوال. وقد كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف نحو: هاهيت4، وحاحيت5، وعاعيت6، وجأجأت7، وحأحأت8، وسأسأت9، وشأشأت10. وهذا كثير في الزجر. وقد كانت حضرتني وقتًا فيه نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف في كتاب ثابت في الزجر, فاطلبها في جملة ما أثبته عن نفسي في هذا وغيره.
__________
1 أي: أفضنا فيه وأكثرنا، يقال: هضب في الحديث وأهضب.
2 كذا في ش، ب، وفي أ: "مما".
3 كذا في أ. وفي أ. وفي ش، ب: "الصيغة".
4 أي: زجرت الإبل قائلًا: ها، ها.
5 وهو أيضًا زجر.
6 يقال: ما هي بالغنم زجرها.
7 أي: زجرت الإبل قائلًا: جؤجؤ.
8 حأحأ بالكبش: زجره.
9 يقال في زجر الحمار.
10 هو أيضًا زجر للحمار.(2/42)
باب في اللغة المأخوذة قياسًا:
هذا موضع كأنَّ في ظاهره تعجرفًا, وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة, فضلًا عن صدور الأشياخ. وهو أكثر من أن أحصيه في هذا الموضع لك, لكني أنبِّهك على كثير من ذلك لتكثر التعجب ممن تعجب منه, أو يستبعد1الأخذ به. وذلك أنك لا تجد مختصرًا من العربية إلّا وهذا المعنى منه في عدة مواضع, ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع: إن ما كان من الكلام
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "تستبعد".(2/42)
على فعلٍ فتكسيره على أفعل, ككلب وأكلب, وكعب وأكعب, وفرخ وأفرخ. وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره في القلة على أفعال نحو: جبل وأجبال, وعنق وأعناق, وإبل وآبال, وعجز وأعجاز، وربع وأرباع1، وضلع وأضلاع, وكبد وأكباد, وقفل وأقفال, وحمل وأحمال. فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده, أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره, ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة بل سمعته منفردًا, أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره. لا, بل كنت تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه, وذلك كأن يحتاج إلى تكسير الرجز الذي هو العذاب, فكنت قائلًا لا محالة: أرجاز قياسًا على أحمال, وإن لم تسمع أرجازًا في هذا المعنى. وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر من قولهم: وظيف عجر2 لقلت: أعجار قياسًا على يقظ وأيقاظ, وإن لم تسمع أعجارًا. وكذلك لو احتجت إلى تكسير شبع بأن توقعه على النوع لقلت: أشباع, وإن لم تسمع ذلك, لكنك سمعت نطع وأنطاع, وضلع وأضلاع. وكذلك لو احتجت إلى تكسير دمثر لقلت: دماثر, قياسًا على سبطر وسباطر. وكذلك قولهم: إن كان الماضي على فَعَلَ فالمضارع منه على يَفْعُل, فلو أنك على هذا سمعت ماضيًا على فعل لقلت في مضارعه: يفعل, وإن لم تسمع ذلك؛ كأن يسمع3 سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه: يضؤل, وإن لم يسمع ذلك, ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه؛ لأنه لو كان محتاجًا إلى ذلك لما كان لهذه الحدود
__________
1 هو ولد الناقة ينتج في أول الربيع.
2 أي: صلب شديد؛ ويقال فيه عجز -ككف- أيضًا.
3 كذا في أ، وفي ش، ب: "سمع".(2/43)
والقوانين التي وضعها المتقدمون "وتقبلوها"1, وعمل بها المتأخرون معنى يفاد, ولا غرض2 ينتحيه الاعتماد, ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات, وأسماء الفاعلين والمفعولين, والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة, والآحاد والتثاني3 والجموع, والتكابير والتصاغير, ولما أقنعهم أن يقولوا: إذا كان الماضي كذا وجب أن يكون مضارعه كذا, واسم فاعله كذا, واسم مفعوله كذا, واسم مكانه كذا, واسم زمانه كذا, ولا قالوا: إذا كان المكبَّر كذا فتصغيره كذا, وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا, دون أن يستوفوا كل شيء "من ذلك"4, فيوردوه لفظًا منصوصًا معينًا لا مقيسًا ولا مستنبطًا كغيره من اللغة التي لا5 تؤخذ قياسًا، ولا تنبيهًا, نحو: دار وباب وبستان وحجر وضبع وثعلب وخزز6؛ لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على7 ضربين: أحدهما ما لا بُدَّ من تقبله كهيئته لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه, نحو: حجر ودار, وما تقدَّم, ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس, فقننوه وفصلوه؛ إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب المغني عن المذهب الحزن8 البعيد. وعلى ذلك قدم الناس في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات, ثم أتلوه ما لا بدله من السماع والروايات،
__________
1 كذا في ش، ب. وقد سقط هذا في أ.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا أثبتها. وفي الأصول: "الثنائي", ولم يظهر لها وجه عندي، والتثاني جمع التثنية.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
6 هو ذكر الأرانب.
7 كذا في ش، ب. وسقط هذا الحرف في أ.
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "الحرف" وهو تحريف.(2/44)
فقالوا: المقصور من حاله كذا؛ "ومن صفته كذا, والممدود من أمره كذا, ومن سببه كذا, وقالوا في المذكر والمؤنث: علامات التأنيث كذا, وأوصافها كذا"1، ثم لما أنجزوا ذلك قالوا: ومن المؤنث الذي روي2 رواية كذا وكذا. فهذا من الوضوح على ما لا خفاء به.
فلما رأى القوم كثيرًا من اللغة مقيسًا منقادًا, وسموه بمواسمه, وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز. ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بُدَّ من إيراده, ونصَّ ألفاظه التزموا "وألزموا"3 كلفته؛ إذ لم يجدوا منها بدًّا ولا عنها منصرفًا. ومعاذ الله أن ندَّعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياسًا4، لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به ونبهنا عليه, كما فعله من قبلنا ممن نحن له متبعون, وعلى مثله5 وأوضاعه حاذون6، فأما هجنة الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس7، وخيس8 الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه, ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه, ويستعملنا به فيما يدني منه, ويوجب الزلفة لديه بمنِّه.
فهذا مذهب العلماء بلغة العرب وما ينبغي أن يعمل عليه ويؤخذ به, فأمضه على ما أريناه وحددناه غير هائب له ولا مرتاب به. وهو كثير وفيما جئنا به منه كافٍ.
__________
1 هذا النص يوافق ما في ب، وفي أبدل ما بين القوسين "وعلامات التأنيث كذا, وأوصافها كذا" وتتفق نسختا ب، ش إلى قوله بين القوسين: "وقالوا", وفي ش بعد هذا: "ومن المؤنث الذي فيه علامات التأنيث كذا، أو أوصافه كذا".
2 كذا في أ، وفي ش، ب "يروى".
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 كذا في ش، ب وفي أ: "وقياسًا".
5 هذا الضبط عن ب. وفي أ "مثله" بكسر فسكون، وكل صحيح.
6 كذا في ش، ب، وفي أ "حادون".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "جمود".
8 أي: كساده ووقوفه.(2/45)
باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية:
ولنبدأ من ذلك بذكر الثلاثي منفردًا بنفسه ثم مداخلًا لما فوقه.
اعلم أن الثلاثي على ضربين: أحدهما ما يصفو ذوقه، ويسقط عنك التشكك في حروف أصله؛ كضرب وقتل وما تصرَّف منهما. فهذا ما لا يرتاب به في جميع تصرفه نحو: ضارب ويضرب ومضروب, وقاتل وقتَّال واقتتل القوم واقتل ونحو ذلك. فما كان هكذا مجردًا1 واضح الحال من الأصول, فإنه يحمي نفسه وينفي الظِنَّة عنه.
والآخر أن تجد الثلاثي على أصلين متقاربين والمعنى واحد, فههنا يتداخلان, ويوهم كل واحد منهما كثيرًا من الناس أنه من أصل صاحبه, وهو في الحقيقة من أصل غيره, وذلك كقولهم: شيء رخو ورِخْوَدّ2. فهما -كما ترى- شديدا التداخل لفظًا, وكذلك هما معنًى. وإنما تركيب "رخو" من رخ و3, وتركيب "رخود" من رخ د, وواو "رِخْوَدّ" زائدة, وهو فعول كعلود4 وعسود5، والفاء6، والعين من "رخو" و"رخود" متفقتان7، لكن لاماهما مختلفتان7. فلو قال لك قائل: كيف تحقر "رخودًا" على حذف الزيادة لقلت: رخيد -بحذف الواو وإحدى الدالين, ولو قال لك: كيف تبني من رخو مثل جعفر لقلت "رخوي" ومن "رخود ": رَخْدَدْ؛ أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماس المعنيين؛ وذلك أن
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "مجردة".
2 الرخود اللين. وهو من الرجال: اللين العظام الرخوها.
3 كذا في أ، في ب، ش: "ر خ ود".
4 يقال رجل علود: غليظ الرغبة.
5 رجدل عسود: قوي شديد.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالفاء".
7 كذا في أ، وفي ش، ب "متفقان ... مختلفان" وكل صحيح.(2/46)
الرخو الضعيف, والرخودّ المتثنيّ والتثني عائد إلى معنى الضعف, فلما كانا1 كذلك أوقعا الشك لمن ضعف2 نظره، وقلَّ3 من هذا الأمر ذات يده.
ومن ذلك قولهم: رجل ضيَّاط3، وضيطار3. فقد ترى تشابه الحروف, والمعنى مع ذلك واحد, فهو أشد لإلباسه. وإنما "ضياط" من تركيب "ض ي ط ", وضيطار من تركيب "ض ط ر ". ومنه "قول جرير "4:
تعدّون عَقْر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى! لولا الكميّ المقنعا5
فضيّاط يحتمل مثاله ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون فعَّالًا كخياط وربّاط, والآخر أن يكون فيعالًا كخيتام6 وغيداق7، والثالث أن يكون فوعالًا كتوراب. فإن قلت: إن فوعالًا لم يأت صفة, قيل: اللفظ يحتمله وإن كانت اللغة تمنعه. ومن ذلك لوقة8 وألوقة8، وصوص9 وأصوص9، وينجوج10 وألنجوج10 ويلنجوج10 وضيف وضيفن في قول11 أبي زيد. ومن ذلك حية وحواء, فليس حواء من لفظ حيّة كعطَّار من
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "كان".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تضعف" وهو محرف عن يضعف. وفيهما: "وتقل".
3 الضيّاط: العظيم الجنبين، والضيطار يقال لهذا، وللثيم.
4 كذا في ش، ب. وفي أ "قوله".
5 يقال للقوم إذ كانوا لا يغنون غناء: بنو ضوطري. وجريز يهجو بهذا الفرزدق بقومه، وكان غالب أبو الفرزدق باري سحيم بن وثيل الرايحي في عقر النوق تكرمًا في قصة معروفة, وانظر اللسان في ضطر, والنقائض 823، وهو البيت 58 من قصيدته التي أولها:
أقمنا وربتنا الديار ولا أرى ... كمربعنا بين الحنيين مربعا
6 هو لغة في الخاتم.
7 من معانيه الكريم، ويقال: شباب غيداق: ناعم.
8 اللوقة والألوفة: طعام طيب يكون من الزيد والرطب.
9 الصوص: البخيل. والأصوص: الناقة الكريمة الموثقة الخلق. وتقول العرب: ناقة أصوص عليها صوص. وإذ كان معنياهما مختلفين كما رأيت لا يكونان من هذا الباب.
10 هو عود طيب الريح يتبخّر به.
11 أي أن يكون ضيفن من ضفن، يقال: ضفن إلى القوم إذا جاء إليهم حتى يجلس معهم، رخص هذا بأبي زيد؛ لأن أيا عبيد وغيره يرون أن الضيفن من مادة الضيف والنون زائدة، وعلى هذا لا يكون الضيف والضيفن متداخلين. وانظر اللسان في ضيف رضيفن.(2/47)
العطر، وقطّان من القطن، بل حيّة من لفظ "ح ي ي " من مضاعف الياء، وحوّاء من تركيب "ح وى " كشواء وطواء. ويدل على أن الحية من مضاعف الياء ما حكاه صاحب الكتاب1 من قولهم في الإضافة إلى حيَّة بن بهدلة: حَيَويّ. فظهور الياء عينًا في حيوي قد علمنا منه كون العين ياء، وإذا كانت العين ياء واللام معتلة, فالكلمة من مضاعف الياء البتة, ألا ترى أنه ليس في كلامهم نحو حيوت. وهذا واضح. ولولا هذه الحكاية لوجب أن تكون الحية والحواء من لفظ2 واحد؛ لضربين من القياس: أما أحدهما فلأن فعالًا في المعاناة3 إنما يأتي من لفظ المعاني3؛ نحو عطّار من العطر, وعصَّاب من العصب. وأما الآخر فلأن ما عينه واو ولامه ياء أكثر مما عينه ولامه ياءان, ألا ترى أن باب طويت وشويت أكثر من باب حييت وعييت. وإذ كان الأمر كذلك علمت قوة السماع وغلبته للقياس, ألا ترى أن سماعًا واحدًا غلب قياسين اثنين.
نعم, وقد يعرض هذا التداخل في صنعة الشاعر فيرى أو يُرِي أنه قد جنَّس4 وليس في الحقيقة تجنيسًا وذلك كقول القطامي:
مستحقبين فؤادًا ما له فاد5
__________
1 انظر الكتاب 2/ 72. وحية بن بهدلة قبيلة عربية.
2 يريد من لفظ الحوّاء، وهو مادة حويت.
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "المعاباة ... المعابا"، والمعاناة الشيء: معالجته وملابسته ومباشرته، وترادف هنا النسب.
4 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "جانس".
5 صدره:
كنية الحي من ذي الغيضة احتملوا
وهو من قصيدته التي مطلعها:
ما اعتاد حب سليمى حين معتاد ... ولا تقضي بواقي دينها الطادي
يقول فيها:
ما للكواعب ودَّعن الحياة كما ... ودعنني واتخذن الشيب ميعادي
ثم يقول: كنية الحي....، وكنية الحي: بعده وتحوله عن منتجعه إلى آخر، يقول: ودعنني وبعدن عني كبعد هذا الحي إذ احتملوا من ذي الغيضة، وهو موضع، ويقول: إنهم استحقبوا معهم واحتملوا أسيرًا لا فداء له على الأسر، يعني نفسه وقع أسيرًا لمن سلبت فؤاده من الحي.(2/48)
ففؤاد من لفظ "ف أد " وفادٍ من تركيب "ف د ى " , لكنهما لما تقاربا هذا التقارب دَنَوَا من التجنيس. وعليه قول الحمصي ّ1:
وتسويف العدات من السوافي2
فظاهر هذا يكاد لا يشك أكثر الناس أنه مجنس, وليس هو كذلك. وذلك أن تركيب "تسويف" من "س وف " وتركيب السوافي من "س ف ي "3، لكن لما وجد في كل واحد من الكلمتين سين وفاء4 وواو, جرى في بادي السمع مجرى الجنس الواحد, وعليه قال الطائي الكبير:
أَلْحَدٌ حوى حية الملحدين ... ولَدْنُ ثرىً حال دون الثراء 5
فيمن رواه6 هكذا "حوى حية الملحدين" أي: قاتل المشركين, وكذلك قال في آخر البيت أيضًا:
ولدن ثرى حال دون الثراء
__________
1 هو عبد السلام بن رغان المعروف بديك الجن. وانظر رسالة الغفران طبع المعارف 383.
2 "العدات" كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "العذاب"؛ وفي رسالة الغفران "الظنون", و"السوافي" جمع السافي، وهو الريح التي تسفي التراب أو هو التراب نفسه، ضربه مثلًا لما يبعث الأذى. والسواف: الهلاك، وقد فسر بهذا في رسالة الغفران.
3 هذا على روايته "السوافي", وأما على رواية رسالة الغفران "السواف" وهو الهلاك, فالمادة للتسويف والسواف واحدة.
4 في غير أبعدها زيادة: "وياء".
5 هذا في مرئية لخالد بن زيد بن مزيد الشيباني, وترى "وألحد" و"لدن" مرفوعين، وهو ما في الديوان. وفي أصول الخصائص "ألحدا" ولدن بنصبهما والوجه ما أثبته، يقول: أيحوى لحد حية الملحدين! يعجب من هذا. والملحدون: الكافرون، وحيتهم: مهلكهم كما يهلك الحية مَنْ لدغه. و"لدن ثرى فاللدن الناعم, وهو من إضافة الصفة للموصوف, أي: أيحول الثري -وهو هنا تراب القبر- دون الغنى والوفر الحالين فيه بحلول المرثي.
6 أي لا فيمن روى: جثة الملحدين, والملحدون في هذه الرواية الذين ألحدوه في قبره ووضعوه في لحده. وهم المشيعون, يقول: هنا جئتنا جميعًا, فكيف يضمنا اللحد! ويقول التبريزي في شرحه: "والصواب هو الرواية الأولى.(2/49)
فجاء به مجيء التجنيس, وليس على الحقيقة تجنيسًا صحيحًا. وذلك أن التجنيس عندهم أن يتفق اللفظان ويختلف أو يتقارب المعنيان؛ كالعقل والمعقل والعقلة والعقيلة ومعقلة1. وعلى ذلك وضع أهل اللغة كتب الأجناس. وليس الثرى من لفظ الثراء على الحقيقة, وذلك أن الثرى -وهو الندى- من تركيب "ث ر ي " لقولهم: التقى3 الثريان. وأما الثراء -لكثرة المال- فمن تركيب "ث ر و "؛ لأنه من الثروة ومنه الثريّا؛ لأنها من الثروة لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها, فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل. ومنه قولهم: ثَرَوْنا بني فلان, نثروهم ثروة, إذا كنا أكثر منهم. فاللفظان -كما ترى- مختلفان, فلا تجنيس إذًا إلّا للظاهر. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح المقصور والممدود عن ابن السكيت, وأنَّ الفراء تسمح3 في ذكر مثل هذا على اختلاف أصوله, وأن عذره في ذلك تشابه اللفظين بعد القلب.
ومن ذلك قولهم: عدد طيس4، وطَيْسَل. فالياء في طيس أصل, وتركيبه من "ط ي س ", "وهي"5 في طيسل زائدة, وهو من تركيب "ط س ل ". ومثله الفيشة والفيشلة: حالهما في ذلك سواء. وذهب سيبويه6 في "عنسل" إلى زيادة النون, وأخذها من قوله 7:
عسلان الذئب أمسى قاربًا ... برد الليل عليه فنسل
__________
1 المعلقة: "الدية".
2 يقال ذلك إذا جاء المطر فرسخ في الأرض حتى يلتقي هو وندى الأرض.
3 يريد أن القراءة ذكر الثرى والثراء في المقصور والممدود، فالثراء ممدود الثرى، وهما من مادتين مختلفتين، وشرط هذا اتحاد المادة.
4 أي: كثير.
5 زيادة في أ، سقط في ش, ب.
6 انظر الكتاب 2/ 350. وعبارته: "ومما جعلته زائدًا بثبت العنسل؛ لأنهم يريدون العسول، وتراه لم يرود البيت الذي أورده المؤلف، والعنسل الناقة السريعة.
7 أي: لبيد، وقيل: النابغة الجعدي، وانظر اللسان في عسل، وجزم في الجمهرة 1/ 252 بنسبته إلى لبيد، وليس هذا البيت في قصيدة لبيد التي على هذا الروي في الديوان.(2/50)
وذهب محمد بن حبيب1 في ذلك إلى أنه من لفظ "العنس" وأن اللام زائدة, وذهب بها مذهب زيادتها في ذلك وأولالك, وعبدل وبابه. وقياس قول محمد بن حبيب هذا أن تكون اللام في فيشلة وطيسل زائدة. وما أراه إلّا أضعف القولين؛ لأن زيادة النون ثانية أكثر من زيادة اللام في كل موضع, فكيف بزيادة النون غير ثانية. وهو أكثر من أن أحصره2 لك.
فهذه طريق تداخل الثلاثي "بعضه في بعض. فأما تداخل الثلاثي"3 والرباعي لتشابههما في أكثر الحروف فكثير؛ منه قولهم: سبط وسبطر, فهذان أصلان لا محالة, ألا ترى أن أحدًا لا يدعي زيادة الراء. ومثله سواء دمث ودمثر, وحبج4، وحبجر. وذهب أحمد بن يحيى في قوله 5:
يردُّ6 قلخًا وهديرًا زغدبًا
إلى أن الباء زائدة, وأخذه من زغد البعير يزغد زغدًا في هديره. وقوله: إن الباء زائدة, كلام تمجّه الآذان وتضيق عن احتماله المعاذير7. وأقوى ما يذهب إليه فيه أن يكون أراد أنهما أصلان مقتربان كسبط وسبطر. وإن أراد ذلك أيضًا فإنه قد تعجرف. ولكن قوله في أسكفة8 الباب: إنها من استكفَّ الشيء أي: انقبض أمر
__________
1 حبيب، اسم أمه، فلذلك لا يصرف. وانظر مراتب النحو بين ص157، والبغية 29.
2 كذا في ش، ب، وفي أ: "أحضره".
3 هذا على ما في ج، وقد خلا من هذه الزيادة أ، ب، ش.
4 الحبج: المنتفخ السمين. والحبجر أيضًا: الغليظ، يقال: وتر حبجر.
5 أي: العجاج؛ كما في اللسان في زغدب. وانظر ديوانه 74.
6 "يرد" كذا في أصول الخصائص, وفي اللسان: "يرج"، وفي سر الصناعة "حرف الباء": "يمد" و"قلخان" كذا في أ. وفي ب، ج، ش: "فلجا"، وهو تحريف, والقلخ والزغدب: هدير البعير.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "المعاذر".
8 الأسكفة: عتبة الباب.(2/51)
لا ينادي1 وليده, وروينا ذلك عنه. وروينا عنه أيضًا أنه قال في "تنور": إنه تَفْعُول من النار, وروينا عنه أيضًا أنه قال: الطَّيْخ: الفساد "قال "2: فهو من تواطخ القوم. وسنذكر ذلك في باب سقطات العلماء بإذن الله.
ولكن من الأصلين المتداخلين: الثلاثي والرباعي قولهم: زرم3، وازرأمّ3, وخضل4 واخضأل4، وأزهر وازهأرّ, وضفد5 واضفأد5ّ، وزلم6 القوم، وازلأمّوا6، وزغب الفرخ7 وازلغبّ7. ومنه قولهم: مبلع8 وبلعوم, وحلق وحلقوم, وشيء صلد وصلادم, وسرطم9 وسرواط9. وقالوا للأسد: هرماس, وحدثنا أبو علي عن الأصمعي أنه قال في هرماس: إنه "من الهرس"10. وحدثنا أيضًا أنهم يقولون: لبن قمارص11. وقالوا: دلاص12، ودلامص12، ودمالص12. وأنشد ابن الأعرابي:
فباتت تشتوي والليل داج
ضماريط آستها في غير نار13
ومن هذا أيضًا قولهم: بعير أشدق وشَدْقَم14.
__________
1 كذا في أ، ج وفي ش، ب: "يبادي". وقوله: أمر لا ينادي وليده, هذا مثل يضرب للشيء الذي ينادى فيه الجلة والعظماء لا الصغار. يريد استنكارًا. رأى ثعلب هذا وأنه ركب أمرًا إدّا.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 زرم وازرأم: انقطع.
4 خضل واخضأل: ابتل وندي.
5 صفد واصفأد" وفي ج: "صفد واصفاد"، وفي ش: "ضغد واضغأد"، وكل هذا تحريف.
6 زلم القوم وازلأموا: أسرعوا وارتحلوا.
7 زغب وازلغب: طلع ريشه.
8 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بلعم", وما أثبت هو الصواب.
9 السرطم والسرواط: الذي يبتلع كل شيء. وما أثبته هو الصواب؛ إذ يظهر فيه التداخل المطلوب. وفي أ، ج "سرطم وسراطم"، وفي ش, ب: "سوطم وسواطي". وكل هذا تحريف.
10 كذا في أ، وفي ب: "أخذ من الهرس".
11 هو الحامض كالقارص, وكان ينبغي ذكره هذا الوصف ليبين التداخل.
12 الألفاظ الثلاثة في معنى البراق.
12 جاء في اللسان في ضرط البيت هكذا للقضم بن مسلم البكائي:
وبيت أمه فأساغ نهسًا ... ضماريط آستها في غير نار
وفيه أن ضماريط الآست ما حواليها، كأن الوحد ضمريط أو ضمراط أو ضمروط مشتق من الضرط. ومن هنا كان التداخل الذي يعنيه أبو الفتح.
14 أي: واسع الشدق.(2/52)
وينبغي أن يكون جميع هذا من أصلين ثلاثي ورباعي, وهو قياس قول أبي عثمان, ألا تراه قال في دلامص: إنه رباعي وافق أكثره حروف الثلاثي؛ كسبط وسبطر, ولؤلؤ ولَّالٍ. فلؤلؤ رباعي ولّال ثلاثي. وقياس مذهب الخليل بزيادة الميم في دلامص أن تكون الميم في هذا كله زائدة, وتكون على مذهب أبي عثمان أصلًا, وتكون الكلم التي اعتقبت هذه الحروف عليها أصلين لا أصلًا واحدًا. نعم وإذا جاز للخليل أن يدَّعي زيادة الميم حشوًا -وهو موضع عزيز عليها- فزيادتها آخرًا أقرب مأخذًا؛ لأنها لما تأخَّرت شابهت بتطرفها أول الكلمة الذي هو معان1 لها ومظنة منها. فقياس قوله في دلامص: إنه فعامل أن يقول في دمالص: فماعل, وكذلك في قمارص, وأن يقول في بلعوم وحلقوم: إنه فعلوم؛ لأن زيادة الميم آخرًا أكثر منها أولًا, ألا ترى إلى تلفيهم2 كل واحد من دلقم3 ودردم4، ودقعم5، وفسحم6، وزرقم, وستهم, ونحو ذلك بزيادة الميم في آخره. ولم نر أبا عثمان خالف في هذا خلافه في دلامص. وينبغي أن يكون ذلك لأن آخر الكلمة مشابه لأولها, فكانت زيادة الميم فيه أمثل من زيادتها حشوًا. فأما ازرأمَّ واضفادّ ونحو ذلك, فلا تكون همزته إلّا أصلًا, ولا تحملها8 على باب شأمل وشمأل لقلة ذلك. وكذلك لام ازلغبَّ هي أحرى أن تكون أصلًا.
__________
1 كذا في أ، ج، وفي ب: "معاذ"، وفي ش: "معاد". والمعان: المباءة، والمنزل.
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "تلقنهم".
3 من معانيه العجوز المسنة.
4 هي الناقة المسنة.
5 هو التراب، يقال: بفية الدقعم، كما يقال: بفيه التراب.
6 هو الواسع الصدر.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "بزيادة".
8 كذا في أ. وفي ش: "يحملها"، وفي ج: "تحملها". وفي ب غير منقوطة.(2/53)
ومن الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين قولهم: قاع قرق1، وقرقر1، وقرقوس1، وقولهم: سلس وسَلْسَلٌ وقَلِقٌ وقَلْقَل. وذهب أبو إسحاق في نحو: قلقل وصلصل وجرجر وقرقر إلى أنه فعفل, وأن الكلمة لذلك ثلاثية, حتى كأن أبا إسحاق لم يسمع في هذه اللغة الفاشية المنتشرة2 بزغد وزغدب, وسبط وسبطر, ودمث ودمثر, وإلى قول العجاج:
ركبت أخشاه إذا ما أحبجا3
هذا مع قولهم وتر حبجر للقوي الممتلئ. نعم, وذهب إلى مذهب شاذ غريب في أصل منقاد عجيب, ألا ترى إلى كثرته في نحو زلز وزلزل, ومن أمثالهم: "توقري يازلزه"4 فهذا قريب من قولهم: قد5 تزلزلت أقدامهم إذا قلقت فلم تثبت. ومنه قلق وقلقل، وهوة6 وهوهاءة6، وغوغاءٌ وغوغاءُ؛ لأنه مصروف7 رباعي وغير مصروف ثلاثي. ومنه رجل أدرد8، وقالوا: عض على دردره9، ودردوره10. ومنه صلّ وصلصل, وعجّ وعجعج. ومنه عين ثرة وثرثارة. وقالوا: تكمكم من الكمة11، وحثحثت وحثثت, ورقرقت ورققت, قال الله تعالى:
__________
1 أي: أملس مستو.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: المنقشرة".
3 "أخشاء" أي: أخوفه، والحديث عن المهمة المذكور, قيل في قوله:
ومهمه هالك من تعرّجا
قوله: "أحبجا" أي: بدا واعترض في قوة وهول, وبهذا يتداخل مع حيجر، وانظر اللسان في حبج وخشي، والديوان 9. والاقتضاب 3، 4.
4 "زلزة" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: زلزلة" وهو خطأ. والزلزة: الطياشة الخفيفة من قولهم: زلز: قلق.
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "مصروف". يريد أنك إذا صرفت "غوغاء" كان أصله غوغا, ومن مضعف الفاء والغين, فأبدلت الواو الأخيرة همزة، فكان كالقمقام, والوجه الآخر أن تجعل الهمزة للتأنيث، فيكون غوغاء كحمراء. وانظر الكتاب 2/ 386.
8 وصف من الدرد، وهو ذهاب الأسنان.
9 الدردر: منبت الأسنان.
10 تراه يعني بالدردور: الدردر, والذي في اللسان والقاموس أن الدردور موضع في وسط البحر يجيش ماؤه، لا تكاد تسلم السفينة منه.
11 هي الفلتسوة المدورة؛ وتكمكم: لبسها.(2/54)
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} 1 وهذا باب واسع جدًّا, ونظائره كثيرة: فارتكب أبو إسحاق مركبًا وعرًا, وسحب فيه عددًا جمًّا, وفي هذا إقدام وتعجرف. ولو قال ذلك في حرف أو حرفين كما قال الخليل في دلامص, بزيادة الميم؛ لكان أسهل؛ لأن هذا شيء إنما احتمل القول به في كلمة عنده شاذة أو عزيزة النظير. فأما الاقتحام بباب منقاد في مذهب متعاد2 ففيه ما قدمناه, ألا ترى أن تكرير3 الفاء لم يأت به ثبت إلّا في مرمريس, وحكى غير صاحب الكتاب أيضًا مرمريت, وليس بالبعيد أن تكون التاء بدلًا من السين, كما أبدلت منها في ست, وفيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
يا قاتل الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات4
غير أعفَّاء ولا أكيات
فأبدل السين تاء.
فإن قلت: فإنا نجد للمرمريت أصلًا يحتازه إليه وهو المرت5، قيل: هذا هو الذي دعانا إلى أن قلنا: إنه قد يجوز أن تكون التاء في مرمريت بدلًا من سين مرمريس. ولولا أن معنا مَرْتا لقلنا فيه: إن التاء بدل من السين البتة, كما قلنا ذلك في ست والنات وأكيات. فإن قال قائل منتصرًا لأبى إسحاق: لا ينكر أن يأتي في المعتل من الأمثلة ما لا يأتي في الصحيح نحو: سيد وميت, وقضاة ودعاة, وقيدودة وصيرورة وكينونة, وكذلك يجيء في المضاعف ما لا يأتي
__________
1 آية: 94 سورة الشعراء.
2 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "معتاد".
3 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "تكثير".
4 السعلاة: الغول أو ساحرة الجن، جعل أمهم كالغول أو كالساحرة الجنية، وقد كتب "السلعاة" بالتاء المفتوحة مجانسة للغات، وكتب في اللسان في أنس: السعلاة. والنات والأكيات يريد الناس والأكياس. وقد كتب في أقبالة النات س، وتحت التاء في أكيات س للدلالة على أصل الحرف قبل الإبدال. والرجز لعلياء بن أرقم كما في النوادر 104، وزاد ابن دريد في الجمهرة 3/ 33: "أظنه اليشكري", وانظر اللآلي 703.
5 هو المكان لا نبت فيه.
6 كذا في أ، وفي ش، ب: "تنكر".(2/55)
في غيره من تكرير الفاء. بل إذا كانوا قد كرروها في مرمريت ومرمريس، ولم نر في الصحيح فيعلا ولا فُعَلة في جمع فاعل, ولا فيعلولًا مصدرًا كان ما ذهب إليه أبو إسحاق من تكرير الفاء في المضاعف أولى بالجواز, وأجدر بالتقبل, فهو قول غير أن الأوّل أقوى, ألا ترى أن المضاعف "لا ينتهي"1 في الاعتلال إلى غاية الياء والواو, وأنَّ ما أعلّ منه في نحو: ظلت ومست و"ظنت في ظننت"2، وتقصيت, وتقضَّيت, وتفضَّيت من الفضة, وتسريت من السرية, ليس شيء من إعلال ذلك ونحوه بواجب, بل جميعه لو شئت لصححته, وليس كذلك حديث الياء والواو والألف في الاعتلال, بل ذلك فيها في عام أحوالها التي اعتلت فيها أمر واجب أو مستحسن في حكم الواجب, أعني: باب حاري وطائي وياجل وياءس, وآية في قول3 سيبويه. فإن قلت فقد قرأ الأعمش بعذاب بيئس4، فإنما ذاك لأن الهمزة وإن لم تكن حرف علة فإنها معرضة للعلة, وكثيرة الانقلاب عن حروف العلة5, فأجريت "بيئس" عنده مجرى سيّد وهيّن, كما أجريت التجزئة مجرى التعزية في باب الحذف والتعويض, وتابع أبو بكر البغداديين في أن الحاء الثانية في حثحثت بدل من ثاء, وان أصل حثثت. وكذلك قال في نحو: ثرة،
__________
1 كذا في ش، وفي أ، ب: "لم ينته".
2 كذا في أ، ب. وفي ج: "ظنيت وتظنيت".
3 انظر الكتاب 2/ 388.
4 يريد ابن جني أن بيئسا فيعل -بكسر العين- على هذه القراءة وهو مختص بالمعتل كسيد وميت، ولكن الذي سوّغ ذلك في المهموز وهو قريب من المعتل. وقد وافق الأعمش في هذه القراءة عيسى بن عمر، وعن الأعمش قراءة أخرى بيأس. راجع البحر المحيط 4/ 413.
5 كذا في ش، ب. أ: "حرف".(2/56)
وثرثارة: إن الأصل فيها ثرّارة, فأبدل من الراء الثانية ثاء فقالوا: ثرثارة. وكذلك طرد هذا الطرد1. وهذا وإن كان عندنا غلطًا لإبدال الحرف مما ليس من مخرجه ولا مقاربًا في المخرج له, فإنه شق آخر من القول. ولم يدع أبو بكر فيه تكرير الفاء, وإنما هي عين أبدلت إلى لفظ الفاء, فأما أن يدعي أنها فاء مكررة فلا.
فهذا طريق تزاحم الرباعي مع الثلاثي, وهو كثير جدًّا فاعرفه, وتوقّ حمله عليه أو خَلْطه به, ومِزْ كل واحد منهما عن صاحبه, ووالِهِ دونه, فإن فيه إشكالًا, وأنشدني الشجري لنفسه:
أناف على باقي الجمال ودفّفت ... بأنوار عشبٍ مخضئلّ عوازبه2
وأما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل, وسبب ذلك قلة الأصلين جميعًا, فلمَّا قلَّا قلَّ ما يعرض من هذا الضرب فيهما, إلّا أن منه قولهم: ضبغطى3، وضبغطرى3 وقوله أيضًا:
قد دردبت والشيخ دردبيس4
ف"دردبت" رباعي و"دردبيس" خماسي, ولا أدفع أن يكون استكره نفسه على أن بنى من "دردبيس" فعلًا فحذف خامسه؛ كما أنه لو بنى من سفرجل فعلًا عن ضرورة لقال: سفرج.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "الطرز".
2 "مخضئل" كذا في ش، ب، أ. وتزيد أبأن كتب خاج البيت: "مزهرّ" على أنها رواية أخرى.
3 الضبغطي والضبغطري: كلمة يفزع بها الصبيان.
4 قبله: أم عيال قحمة تعوس.
والقحمة: المتقدمة في السن. والعوس: الطوفان بالليل، أو إصلاح المعيشة. والدرجبة: الخضوع والذل والدردبيس هنا الفاني من الشيوخ، وانظر اللسان في دردبس.(2/57)
باب في "المثلين " 1: كيف حالهما في الأصلية والزيادة، وإذا كان أحدهما زائدًا فأيهما هو؟ :
اعلم أنه متى اجتمع معك في الأسماء والأفعال حرف أصل2 ومعه حرفان مثلان لا غير فهما أصلان, متصلين كانا أو منفصلين؛ فالمتصلان نحو: الحفف3، والصدد، والقصص، وصببت وحللت وشددت وددن، ويين4. وأما5 المنفصلان فنحو: دَعْدٍ وتُوتٍ وطوط6، وقلق وسلس. وكذلك إن كان هناك زائد فالحال واحدة نحو: حمام وسمام7، وثالث وسالس؛ روينا عن الفراء قول الراجز:
ممكورة غرثي الوشاح السالس ... تضحك عن ذي أشر غضارس8
وكذلك كوكب، ودودح9. وليس من ذلك دؤادم10؛ لأنه مهموز.
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "أن المثلين".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "أصلي".
3 الخفف: ضيق العيش وشدته. وهو بالمهملة في أ، ب. وفي ش: "الخفف".
4 بين -بالتحريك، ويسكن ثانية: عين أرواد بين ضاحك وضويحك، وقيل: في بلاد خزاعة، وقيل غير ذلك القاموس ومعجم البلدان.
5 كذا في ش، ب، وفي أ: "فأما".
6 من معانيه الحية والقطن.
7 جمع سم.
8 السالس: السلس اللين. و"غضارس" كذا بالغين المعجمة في ش، ب. وفي أ، ج: "مضارس" بالعين المهملة، وكلاهما معناه: بارد عذب، وجاء الشطر الأخير في اللسان "عطمس" مع شطر آخر.
9 في اللسان أن ابن جني ذكر هذا اللفظ ولم يفسره.
10 هكذا يجعل ابن جني هذا الحرف مهموزًا، والذي في اللغة ثاني حروفه واو، ولم يذكروا الهمز، وهو صمغ كالدم يخرج من السمر.(2/58)
وكذلك إن كان هناك حرفان تسقطهما الصنعة جريًا في ذلك مجرى الحرف الواحد "كألف حمام وسمام وواو وكوكب ودودح"1 وذلك ألندد ويلندد, يوضح ذلك الاشتقاق في ألندد؛ لأنه هو الألدّ. وأما ألنجج فإن2 عدَّة حروفه خمسة، وثالثه نون ساكنة, فيجب أن يحكم بزيادتها فتبقى أربعة, فلا يخلو حينئذ أن يكون مكرر اللام كباب قعدد وشربب3، أو مزيدة في أوله الهمزة كأحمر وأصفر وإثمد. وزيادة الهمزة أولًا أكثر من تكرير4 اللام آخرًا. فعلى ذلك ينبغي أن يكون العمل, فتبقى الكلمة من تركيب "ل ج ج "، "فمثلاها إذن أصلان"5, وكذلك يلنجج؛ لأن الياء في ذلك كالهمزة كما قدمناه. فمثلًا ألنجج ويلنجج أصلان كمثلي ألندد ويلندد.
فهذه أحكام المثلين إذا كان معهما أصل واحد في أنهما أصلان لا محالة.
فأما إذا كان معك أصلان ومعهما حرفان مثلان, فعلى أضرب: منها أن يكون هناك تكرير على تساوي حال الحرفين. فإذا كانا6 كذلك كانت الكلمة كلها أصولًا, وذلك نحو: قلقل وصعصع7، وقرقر8. فالكلمة إذًا لذلك رباعية. وكذلك إن اتفق الأوّل والثالث واختلف الثاني والرابع, فالمثلان أيضًا أصلان. وذلك نحو: فرفخ9 وقرقل10 وزهزق11 وجرجم12, وكذلك إن اتفق الثاني13 والرابع واختلف
__________
1 كذا في ش، ب. وقد خلت من هذه الزيادة أ.
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "فلأن".
3 هو وادٍ في ديار بني سليم. انظر معجم ياقوت.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "تكثير".
5 ثبت ما بين القوسين في أ، وسقط في سائر الأصول.
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "كان".
7 كذا في أ، ب. ش وفي ج: "ضعضع", ويقال: صعصع القوم: فرقهم.
8 يقال: قرقر البعير: هدر.
9 هو نبات الرجلة.
10 هو قميص للنساء.
11 أي: أكثر من الضحك.
12 يقال: جرجم الشراب: شربه.
13 يريد الثاني والرابع، والأول والثالث, من الحروف الأصول دون نظر إلى الزوائد.(2/59)
الأول والثالث نحو كربر1، وقسطاس، وهزنبزان2، وشعلع3، فالمثلان أيضًا أصلان. وكل ذلك أصل رباعي. وكذلك إن اتفق الأول والرابع واختلف الثاني والثالث, فالمثلان أصلان, والكلمة أيضًا من بنات الأربعة. وذلك نحو: قربق4، وصعفصة5، "وسلعوس". وكذلك إن اتفق الأول والثاني، واختلف الثالث والرابع, فالمثلان أصلان والكلمة أيضًا رباعية, وذلك نحو: ديدبون7، وزيزفون 8: هما رباعيان كباب ددن وكوكب في الثلاثة. ومثالهما "فيعلول" كخيسفوج9، وعيضموز10. فهذه حال الرباعي.
وكذلك أيضًا إن حصل معك ثلاثة أحرف أصول, ومعها مثلان غير ملتقيين, فهما أيضًا أصلان, وذلك كقولهم: زبعبق11، وشمشليق12، وشفشلق13.
فهذه هي الأصول التي يكون فيها المثلان أصلين. وما علمنا أن وراء ما حضرنا وأحضرناه منها مطلوبًا فيتعب بالتماسه وتطلبه.
فأما متى يكون أحد المثلين زائدًا فهو أن يكون معك حرفان أصلان من بعدهما حرفان مثلان, فأحدهما زائد. وسنذكر أيهما هو الزائد عقيب الفراغ من تقسيم ذلك. وذلك كمهدد وسردد14، وجلبب، وشملل وصعرر، واسحنكك،
__________
1 في القاموس واللسان أن ابن جني ذكره ولم يفسره، ويقول صاحب القاموس: "وعندي أنه تصحيف , والصواب بالزاي آخره", وهو يريد الكريز وهو القثاء الكبار. وقوله: "كربر" كذا في أ. وفي ش، ب: "يطر". وهو تحريف.
2 هو الوثاب.
3 هو الطويل.
4 هو دكان البقال.
5 هو السكباج، وهو لحم يطبخ بخل.
6 زيادة في ش، ب، ج، وقد خلت منها أ. وسلعوس بلد وراء طرسوس.
7 هو اللهو أو الباطل. وانظر ص24 من هذا الجزء.
8 يقال: ناقة زيزفون: سريعة.
9 من معانية: حب القطن، والخشب البالي.
10 من معانيها: العجوز, والصخر العظيمة.
11 هو السيء الخلق.
12 هي العجوز المسترخية.
13 هي الشمشلبق.
14 هو واد في تهامة.(2/60)
واقعنسس. وكذلك إن كان معك حرفان أصلان بينهما حرفان مثلان, فأحد المثلين أيضًا زائد. وذلك نحو: سلّم وقلّفٍ1 وكسَّر وقطَّع, وكذلك إن فصل بين المثلين المتأخرين عن الأصلين المتقدمين أو المتوسطين بينهما زائد فالحال واحدة, وذلك نحو: قردود2، وسحتيت3، وصهميم4, وقرطاط5، وصفتات6، "وعثوثل"7، "واعشوشب، واخلولق"8.
فهذا حكم المثلين بجيئان مع الأصلين.
وكذلك إن جاءا بعد الثلاثة الأصول, وذلك نحو: قفعدد9، وسبهلل، وسبحلل10 وهرشف وعربد11، وقسحب12، وقسقب13، وطرطب14.
وكذلك إن التقى المثلان حشوًا وذلك نحو: علكد15، وهلقس16، ودبخس17، وشمخر18، وضمخر19، وهمقع20, وزملق21، وشعلّع، وهملّع22 وعدبّس23 وعجنّس24.
__________
1 هو الغرين إذا يبس.
2 هو ما ارتفع من الأرض وغلظ.
3 كذا في أبالمهملة، وفي ش، ب: "سخنيت"، وكل صحيح. والسحتيت: السويق القليل الدسم، والسختيت: الشديد.
4 من معانيه: السيد الشريف.
5 هو كالبرذعة يوضع تحت السراج.
6 هو الجسيم الشديد.
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب. والعثوئل: الفدم العيي.
8 كذا ش، ب. وسقط في أ.
9 القفعدد: القصير.
10 يقال سقاء سبحلل: ضخم.
11 هو الشديد من كل شيء.
12 هو الضخم.
13 هو الضخم.
14 هو الشيء الضخم المسترخي.
15 هو الغليظ الشديد العنق.
16 من معانيه: الجوع الشديد.
17 هو الضخم العظيم الخلق.
18 هو المتكبر.
19 هو المتكبر أيضًا.
20 هو الأحمق.
21 هو من ينزل قبل أن يولج.
22 من معانيه: الذئب.
23 هو الشديد الموثق الخلق من الإبل وغيرها.
24 هو الجمل الضخم.(2/61)
وكذلك إن حجز بين المثلين زائد. وذلك نحو جلفزيز1، وهلبسيس2، وخربصيص3، وحندقوق4. فهذه الكلم كلها رباعية الأصل, وأحد مثليها زائد.
فأما همرّش5 فخماسي, وميمه الأولى نون, وأدغمت في الميم لمَّا لم يخف هناك لَبْس, ألا ترى أنه ليس في بنات الأربعة مثال "جَعْفِر" فيلتبس به همرش. ولو حقَّرت "همرشًا" لقلت "هنيمر" فأظهرت نونها لحركتها. وكذلك لو استكرهت على تكسيرها لقلت "هنامر". ونظير إدغام هذه النون إذا لم يخافوا لبسًا قولهم: امحّى وامّاز وامّاع. ولما لم يكن في الكلام "افَّعَل" علم أن هذا انفعل؛ قال أبو الحسن: ولو أردت مثال انفعل من رأيت ولحزت6 لقلت: ارّأى والَّحَزَ.
فإن قلت: فما تقول في مثل عذوّر7، وسنوّر8، واعلوّط9، واخروّط، وهبيّخ10، وهبيغ11، وجبروة وسمعنة ونظرنة وزونك12، فيمن13 أخذه من زاك14 يزوك -وعليه حمله أبو زيد؛ لأنه صرف فعله عقيبه معه- فإن هذا سؤال ساقط عنا, وذلك أنا إنما كلامنا على ما أحد مثليه زائد ليذكر فيما بعد. فأما ما مثلاه جميعًا زائدان فليس فيه كلام ولا توقف في القطع (زائديه معًا) 15.
فإن قيل: فهذا, ولكن ما تقول في صَمَحْمَح16، ودَمَكْمَك17، وبابهما؟ قيل: هذا في جملة ما عقدناه, ألا ترى أن معك في أوّل المثال الصاد والميم، وهما لفظ
__________
1 من معانيها: العجوز.
2 يقال: ما في الدار هلبسيس, أي: ما فيها أحد.
3 من معانيه: الجمل الصغير.
4 هي بقلة.
5 من معانيها: العجوز الكبيرة.
6 أي: بخلت.
7 من معانيه: السيء الخلق.
8 هو جملة السلاح.
9 يقال: اعلوّط البعير: ركبه بلا خطام.
10 من معانيه: الأحمق.
11 يقال: نهر هبيغ: عظيم.
12 هو المختال الرافع نفسه فوق قدرها.
13 أي: لا فيمن أخذه من زنك: وعليه الجوهري في الصحاح. وانظر اللسان "زنك".
11 أي: تبختر في مشيته.
15 كذا في أ. وفي ش. ب بدل هذا: "بزيادته".
16 من معانيه: الرجل الشديد.
17 هو الشديد القوي.(2/62)
أصلين, ثم تكرر كل واحد من الثاني والثالث, فصار عَوْد الثاني ملحقًا له بباب "فعّل" وعود الثالث ملحقًا له بباب "فعلل", فقد ثبت أن كل واحد من الحرفين الثاني والثالث قد عاد عليه نفس لفظه, كما عاد على1 طاء "قطع" لفظها, وعلى دال "قعدد" أيضًا لفظها. فباب "فعلعل" ونحوه أيضًا ثلاثي, كما أن كل واحد من "سلّم" و"قطّع" و"قعدُد" و"شملل" ثلاثي. وهذا أيضًا جواب من سأل عن مرمريس ومرمريت سؤاله عن صمحمح ودمكمك؛ لأن هذين أولًا كذينك آخرًا.
الآن قد أتينا على أحكام المثلين: متى يكونان أصلين, ومتى يكون أحدهما زائدًا بما لا تجده متقصي متحجرًا في غير كلامنا هذا.
وهذا أوان القول على الزائد منهما إذا اتفق ذلك أيهما هو.
فمذهب2 الخليل في ذلك أن الأوّل منهما هو الزائد, ومذهب2 يونس -وإياه كان يعتمد أبو بكر- أن الثاني منهما هو الزائد, وقد وجدنا لكلٍّ من القولين مذهبًا, واستوسعنا له بحمد الله مضطربًا. فجعل الخليل الطاء الأولى من قطع ونحوه كواو حوقل، وياء بيطر, وجعل يونس الثانية منه كواو جهور3، ودهور4. وجعل الخليل باء جلبب الأولى كواو جهور ودهور, وجعل يونس الثانية كياء سلقيت وجعبيت. وهذا قدر من الحجاج5 مختصر وليس بقاطع, وإنما فيه الأنس بالنظير لا القطع باليقين. ولكن من أحسن ما يقال في ذلك ما كان أبو علي -رحمه الله- يحتج به لكون الثاني هو الزائد, قولهم 6: اقعنسس واسحنكك, قال: ووجه الدلالة من ذلك أن نون افعنلل بابها إذا وقعت في ذوات الأربعة أن تكون بين
__________
1 كذا في أ. وفي ش، بك "إلى".
2 انظر الكتاب 2/ 354, فقد ساق سيبويه المذهبين ثم قال: "وكلا الوجهين صواب ومذهب".
3 هو اسم موضع.
4 يقال: دهورة: قذفة في مهواة.
5 كذا في أوفي ش، ب: "الاحتجاج".
6 هذا بدل من قوله: "ما كان أبو علي.....".(2/63)
أصلين نحو: احرنجم واخرنطم, واقعنسس ملحق بذلك, فيجب أن يحتذى به طريق ما ألحق بمثاله. فلتكن السين الأولى أصلًا كما أن الطاء المقابلة لها من "اخرنطم" أصل, وإذا كانت السين الأولى من اقعنسس أصلًا كانت الثانية الزائدة من غير ارتياب ولا شبهة. وهذا في معناه سديد حسن جار على أحكام هذه الصناعة. ووجدت أنا أشياء في هذا المعنى يشهد بعضها لهذا المذهب وبعضها لهذا المذهب. فمما يشهد لقول يونس قول الراجز:
بني عقيل ماذه الخنافق ... المال هدى والنساء طالق1
فالخنافق جمع خنفقيق وهي الداهية, ولن تخلو القاف المحذوفة أن تكون الأولى أو الثانية, فيبعد أن تكون الأولى؛ لأنه لو حذفها لصار التقدير "به"2 في الواحد إلى "خنفيق", ولو وصل إلى ذاك لوقعت الياء رابعة فيما عدته خمسة, وهذا موضع يثبت فيه حرف اللين, بل يجتلب إليه تعويضًا أو إشباعًا. فكان يجب على هذا خنافيق. فلمَّا لم يكن كذلك علمت أنه إنما حذف القاف الثانية فبقي "خنفقي", فلما وقعت الياء خامسة حذفت فبقي "خنفق" فقيل في تكسيره خنافق. فإن قلت: ما أنكرت أن يكون حذف القاف الأولى فبقي "خنفيق", وكان قياس تكسيره خنافيق, غير أنه اضطر إلى حذف الياء كضرورته إلى حذفها في قوله 3:
والبكرات الفسَّج العطامسا4
__________
1 "والنساء طالق" كذا بإفراد الخبر، وكأنه ذهب إنه يريد: كل امرأة طالق, ولو قال: والنساء طوالق؛ لاستغنى عن هذا.
2 زيادة في ش، ب خلت منها أ.
3 أي: غيلان بن حريث الربعي، وانظر الكتاب: 2/ 119، وشرح شواهد الإيضاح لابن بري، الورقة: 94/ أ.
4 قبله:
قد قربت ساداتها الروائسا
الروائس جمع الرائسة وهي المتقدمة لسرعتها ونشاطها، والبكرات جمع البكرة وهي الناقة الفتية، والفسج جمع فاسج وهي هنا السمينة، والعطامس جمع العيطموس، وهي هنا الناقة الحسناء، وكان قياسه، العطاميس؛ فحذف الياء.(2/64)
قيل: الظاهر غير هذا, وإنما العمل على الظاهر لا على المحتمل. فإذا صحَّ أنه إنما حذف الثانية علمت أنها هي الزائدة دون الأولى, ففي هذا بيان وتقوية لقول يونس.
ويقوي قوله أيضًا أنهم لما ألحقوا الثلاثة بالأربعة فقالوا: مهدد وجلبب, وبدأوا باستعمال الأصلين وهما الميم والهاء, والجيم واللام, فهذان أصلان لا محالة. فكما تبعت الهاء الميم والهاء أصل, كما أن1 الميم أصل, فكذلك يجب أن تكون الدال الأولى أصلًا لتتبع الهاء التي هي أصل2. فكما لا يشك أن الهاء أصل تبع أصلًا, فكذلك ينبغي أن تكون الدال الأولى أصلًا تبعت أصلًا, من حيث تساوت أحوال الأصول الثلاثة وهي الفاء والعين واللام. فلما استوفيت3 الأصول الثلاثة المقابل بها من "جعفر" الأصول الأول الثلاثة, وبقيت هناك بقية من الأصل الممثل4 -وهي اللام الثانية التي هي الراء- استؤنفت5 لها لام ثانية مكررة وهي الدال الثانية. نعم, وإذا كانت اللام الثانية من الرباعي مشابهة بتجاوزها الثلاثة للزائد كان الحرف المكرر الذي هو أحد حرفين أحدهما زائدة لا محالة إذا وقع هناك هو الزائد لا محالة.
فهذا كله -كما ترى- شاهد بقوة قول يونس.
فأما6 ما يشهد للخليل فأشياء, منها: ما جاء من نحو: فَعَوْعَل وفَعَيْعَل وفَعَنْلَل وفَعَاعِل وفَعَاعَيل نحو غدودن7، وخفيدد8، وعقنقل وزرارق9،
__________
1 سقط هذا الحرف في أ.
2 كذا في أوفي ش، ب: "الأصل".
3 كذا في أ، ب، ج. وفي ش "استوفت".
4 كذا في أ، ب وفي ج: "الممتثل".
5 كذا في ش، ب، ج، وفي أ: "استوثقت".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "وأما".
7 يقال: شاب غدودن: ناعم.
8 هو السريع.
9 جمع زرق، ككر، وهو طائر.(2/65)
وسخاخين1. وذلك أنك قد علمت أن هذه المثل التي تكررت فيها العينان إنما يتقدم على الثانية منهما الزائد لا محالة, أعني: واو فعوعل, وياء فعيعل, ونون فعنلل, وألف فعاعل وفعاعيل. فكما أنهما لما اجتمعا2 في هذه المثل ما3 قبل الثانية زائد4 لا محالة، فكذلك ينبغي أن يكونا إذا التقيا غير مفصول بينهما في نحو: فَعَّل وفُعّل وفَعَّال وفُعَّال وفعِّل, وما كان نحو ذلك: الزائدة منهما أيضًا هي الأولى لوقوعها موقع الزوائد مع التكرير فيهما لا محالة. فكما لا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية في فعوعل وبابه, فكذلك ينبغي ألا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية مما5 التقت عيناه نحو: فَعَّل وفُعّل, وبقية الباب. وهذا واضح.
فإن عكس عاكس هذا فقال: إن كان هذا شاهدًا لقول الخليل عندك كان هو أيضًا نفسه شاهدًا لقول يونس عند غيرك. وذلك أن له أن يقول: قد رأينا6 العينين في بعض المثل إذا التقتا مفصولة إحداهما من الأخرى, فإن ما بعد الأولى منهما زائد لا محالة, ويورد هذه المثل عينها نحو: عثوثل وخفيدد وعقنقل وبقية الباب, فيقول7 لك: فكما أن ما بعد العين الأولى منها8 زائد9 لا محالة، فليكن أيضًا ما بعد العين الأولى في فعّل، وفُعّل، وبقية الباب هو الزائد لا محالة.
__________
1 يقال: ماء سخاخين: حار.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "اجتمعنا".
3 في الأصول: "وما"، والسياق مع الواو غير ظاهر.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "زائدة".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيما".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "أرينا".
7 كذا في أ. وفي ش: "فتقول"، وفي ب غير منقوط.
8 كذا في أ. يريد: من المثل السابقة. وفي ش، ب: "منهما".
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "زائدة".(2/66)
فالجواب أن هذه الأحرف الزوائد في فعوعل، وفعيعل "وفعنلل"1 وبقية الباب أشبه بالعين الأولى منها بالعين الآخرة, وذلك لسكونها, كما أن العينين إذا التقتا فالأولى منهما2 ساكنة لا غير, نحو: فَعّل وفُعّل وفِعِّيل وبقية الباب, ولا نعرف في الكلام3 عينين التقتا والأولى منهما متحركة, ألا ترى أنك لا تجد في الكلام نحو: فِعِعْل ولا فُعُعْل ولا فُعُعْل, ولا شيئًا من هذا الضرب4 لم نذكره5. فإذا كان كذلك علمت أن واو "فعوعل" لسكونها أشبه بعين "فعل" الأولى لسكونها أيضًا منها بعينها الثانية لحركتها فاعرف ذلك فرقًا ظاهرًا.
ومنها أن أهل الحجاز يقولون للصواغ: الصياغ فيما رويناه عن الفراء6؛ وفي ذلك دلالة على ما نحن بسبيله. ووجه الاستدلال منه7 أنهم كرهوا التقاء الواوين -لا سيما فيما كثر استعماله- فأبدلوا الأولى8 من العينين ياء -كما قالوا في أما: "أيما" ونحو ذلك- فصار تقديره: الصيواغ, فلما التقت الواو والياء على هذا أبدلوا الواو للياء قبلها فقالوا "الصياغ". فإبدالهم العين الأولى من الصواغ دليل على أنها هي الزائدة؛ لأن الإعلال بالزائد أولى منه بالأصل.
فإن قلت: فقد قلبت9 العين الثانية أيضًا, فقلت "صياغ", فلسنا نراك إلّا وقد أعللت العينين جميعًا, فمن جعلك بأن10 تجعل الأولى هي الزائدة دون الآخرة وقد انقلبتا جميعًا,
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 كذا في ش، ب وفي أ: "يعرف" بالبناء للمفعول, وهو لا يستقيم مع "عينين".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "النحو".
5 كذا أثبته، وفي أ، ب، ش: "يذكره".
6 كذا في أ. وسقط حرف العطف في ش، ب.
7 كذا في ش، ب، وفي أ: "منهم" أي: من أهل الحجاز.
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "الأول".
9 هذا الضبط عن ب وفي أ: "قلبت بالبناء للمفعول.
10 أي: تتمسك بأن تجعل.(2/67)
قيل: قلب الثانية لا يستنكر؛ لأنه1 كان عن وجوب "وذلك"2 لوقوع الياء ساكنة قبلها, فهذا غير بعيد ولا معتذر منه, لكن قلب الأولى -وليس هناك علة تضطر إلى إبدالها أكثر من الاستخفاف مجردًا- هو المعتد المستنكر المعول3 عليه المحتج به, فلذلك اعتمدناه, وأنشأنا الاحتجاج للخليل عنه؛ إذ4 كان تلعبًا بالحرف من غير قوة سبب، ولا وجوب علة. فأما ما يقوي سببه ويتمكّن حال الداعي إليه فلا عجب منه, ولا عصمة للحرف -وإن كان أصليًا- دونه. وإذا5 كان الحرف زائدًا كان بالتلعب به قمنا.
واذكر قول الخليل وسيبويه في باب: مقول ومبيع, و"أن"6 الزائد عندهما هو المحذوف, أعني: واو مفعول؛ من حيث كان الزائد أولى بالإعلال من الأصل.
فإن قلت: فما أنكرت أن يكونوا إنما أبدلوا العين الثانية في صوّاغ دون الأولى, فصار التقدير به إلى صوياغ, ثم وقع التغيير فيما بعد؟
قيل: يمنع من ذلك أن العرب إذا غيّرت كلمة عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم. وذلك أنك تحتاج إلى أن تنيب7 شيئًا عن8 شيء, فأولى أحوال الثاني بالصواب أن يشابه الأول. ومن
__________
1 في ش، ب: "وذلك لأنه". وما هنا في أ.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 في أ، ب، ش: "المقول". وفي م: "المنقول".
4 كذا في م. وفي سائر الأصول: "إذا" والوجه ما أثبت.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "إن".
6 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
7 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "تثبت" والوجه ما أثبت لينفق مع قوله بعد: "المناب عنه".
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "من".(2/68)
مشابهته له أن يوافق أمثلة القوم، كما كان المناب عنه مثالًا من مثلهم أيضًا، ألا ترى أن الخليل لما رتَّب أمر أجزاء العروض المزاحفة، فأوقع للزحاف مثالًا مكان مثالٍ عدل عن الأول المألوف الوزن إلى آخر مثله في كونه مألوفًا, وهجر ما كان بقَّتْه صنعة الزحاف من الجزء المزاحف مما1 كان خارجًا عن أمثلة لغتهم.
وذلك أنه لما طوى2 "مُسْ تَفْ عِلُنْ " فصار إلى "مُسْ تَعِلُن " ثناه إلى مثال معروف وهو "مفتعلن" لما كره "مُسْتَعِلُنْ" إذ كان غير مألوف ولا مستعمل. وكذلك لما ثرم3 "فَعُولُنْ" فصار إلى "عُولُ" وهو مثال غير معروف عدله إلى "فَعْلُ"4. وكذلك لما خبل5 "مُسْتَفْعِلُنْ" فصار إلى "مُتَعِلُنْ" فاستنكر ما بقي منه جعل خالفة الجزء "فَعَلَتُنْ" ليكون ما صيِّر إليه مثالًا مألوفًا, كما كان ما انصرف عنه مثالًا مألوفًا. ويؤكد ذلك عندك أن الزحاف إذا عرض في موضع فكان ما يبقى بعد إيقاعه مثالًا معروفًا لم يستبدل به غيره. وذلك كقبضه6 "مفاعلين" إذا صار إلى "مفاعلن", وككفه7 أيضًا لما صار إلى "مفاعيل", فلما كان ما بقي عليه الجزء بعد زحافه مثالًا غير مستنكر أقرَّه على صورته ولم يتجشَّم تصوير مثال آخر "غيره"8 عوضًا منه, وإنما أخذ الخليل بهذا لأنه أحزم وبالصنعة أشبه.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "لما".
2 الطيّ من أضرب الزحاف. وهو حذف الساكن الرابع من التفعيلة، وهو هنا الفاء.
3 الترم في "فعولن": حذف فائه -ويسمى خرمًا- مع حذف نونه، ويسمى قبضًا.
4 كذا في أ. وفي ش، "فطن" والصواب ما أثبت.
5 الخبل في "مستفعلن": حذف تائه بالخبن، مع حذف سينه بالطي.
6 القبض: حذف الخامس الساكن، وهو في "مفاعيلن" حذف الياء.
7 الكف: سقوط السابع الساكن. وهو في "مفاعلين"، حذف النون.
8 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.(2/69)
فكذلك لما أريد التخفيف في صوّاغ أبدل الحرف الأول فصار من "صيواغ"1 إلى لفظ "فيعال" كفيداق وخيتام, ولو أبدل الثاني لصار1 "صوياغ" إلى لفظ "فعيال"، وفعْيال مثال مرفوض. فإن قلت "كان يصير من صوياغ إلى لفظ فوعال"3، قيل: قد ثبت أن عين هذه الكلمة واو, ف"صوياغ" إذًا لو صير إليه لكان "فعيالًا" لا محالة, فلذلك قلنا: إنهم أبدلوا العين الأولى ياء, ثم إنهم "أبدلوا لها"4 العين الثانية، وإذا كان المبدل هو الأول, لزم أن يكون هو الزائد؛ لأن حرمة الزائد أضعف من حرمة الأصل.
فهذا أيضًا أحد ما يشهد بصحة قول الخليل.
ومنها قولهم: صَمَحْمَح ودَمَكْمَك؛ فالحاء الأولى هي الزائدة, وكذلك الكاف الأولى, وذلك أنها فاصلة بين العينين, والعينان متى اجتمعتا في كلمة واحدة مفصولًا بينهما فلا يكون الحرف الفاصل بينهما إلّا زائدًا نحو: عثوثل وعقنقل وسلالم وخفيفد. وقد ثبت أيضًا بما قدمناه "قبيل"5 أن العين الأولى هي الزائدة. فثبت إذًا6 أن الميم والحاء الأوليين في "صمحمح" هما الزائدتان7، وأن الميم والحاء الأخريين هما الأصلان. فاعرف ذلك فإنه مما يحقق مذهب الخليل.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "صواغ".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "فصار".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "كان يصير من لفظ فوعال".
4 هذا على ما في أ، وإن كان الذي فيها: "أبدلوها"، وفي ش، ب: "ظهوها"، وهو محرَّف عن "قلبوا لها".
5 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "أيضًا".
7 كذا في أ. وفي س، ب "الزائدان".(2/70)
ومنها أن التاء1 في "تفعيل" عوض2 من عين "فِعَّال" الأولى، والتاء زائدة, فينبغي أن تكون عوضًا من زائد أيضًا؛ من حيث كان الزائد بالزائد أشبه منه بالأصلي. فالعين الأولى إذًا من "قِطَّاع" هي الزائدة؛ لأن تاء تقطيع عوض منها, كما أن هاء تفعلة في المصدر عوض من ياء تفعيل, وكلتاهما زائدة.
فليس واحد من المذهبين إلّا وله داعٍ إليه وحامل عليه. وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلّا بعد تأمله وإنعام الفحص عنه. والتوفيق بالله عز وجل.
__________
1 كذا في ج. وفي ش، ب: "الياء" وكذا فيما بعد. وهو تصحيف.
2 وذلك أن الأصل في مصدر فعل المضعف هو الفعّال -بكسر الفاء وشد للعين- إذ كان فيه حروف فعله "فعل", وكان مكسور الأول كنظيره الأفعال, ولكن العرب عدلت من هذا الأصل إلى التفعيل، وانظر شرح الرضي للشافية 1/ 165. ويقول سيبويه في الكتاب 2/ 242: وأما فعلت فالمصدر منه على التفعيل, جعلوا التاء التي في أوله بدلًا من العين الزائدة في قعلت, وجعلوا الياء بمنزلة ألف الأفعال، فغيَّروا أوله كما غيَّروا آخره". وترى من كلام سيبويه أن التاء عوض عن العين الزائدة، سواء أكانت الأولى أم الثانية. فدعوى المؤلف أنها عِوَض من العين الأولى محل بحث. وانظر أيضًا صبان الأشموني في مبحث إعمال اسم المصدر.(2/71)
باب في الأصلين "يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير" 1:
اعلم أن كل لفظين وجد فيهما تقديم وتأخير فأمكن أن يكونا جميعًا2 أصلين ليس أحدهما مقلوبًا عن صابحه فهو3 القياس الذي لا يجوز غيره, وإن لم يمكن ذلك حكمت بأن4 أحدهما مقلوب عن صاحبه, ثم أريت أيهما الأصل وأيهما الفرع. وسنذكر وجوه ذلك.
فمما تركيباه أصلان لا قلب فيهما قولهم5: جذب وجبذ, ليس أحدهما
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب بدل ما بين القوسين: "عاريتين في التركيب من التقديم والتأخير".
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فهذا هو".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "أن".
5 انظر في هذا الكتاب 3/ 380.(2/71)
مقلوبًا عن صاحبه. وذلك أنهما جميعًا يتصرَّفان تصرفًا واحدًا نحو: جذب يجذب جذباَ فهو جاذب, والمفعول مجذوب, وجبذ يجبذ جبذًا فهو جابذ والمفعول مجبوذ. فإن جعلت مع هذا أحدهما أصلًا لصاحبه فسد ذلك؛ لأنك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعد بهذه الحال من الآخر. فإذا وقفت الحال بينهما1 ولم يؤثر2 بالمزية أحدهما وجب أن يتوازيا3, وأن يمثلا بصفحتيهما معًا. وكذلك ما هذه سبيله.
فإن قصر4 أجدهما عن تصرف صاحبه ولم5 يساوه فيه كان أوسعهما تصرفًا أصلًا لصاحبه. وذلك كقولهم: أنى الشيء يأني وآنٍ يئين, فآن مقلوب عن أنى, والدليل على ذلك وجودك مصدر أنى يأنى وهو الإنَى, ولا تجد لآن مصدرًا, كذا قال الأصمعي. فأما الأين فليس من هذا في شيء, إنما الأين: الإعياء والتعب. فلما عدم من "آن" المصدر الذي هو أصل للفعل, عُلِمَ أنه مقلوب عن أنى يأنى إنىّ, قال الله تعالى: {إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} 6 أي: بلوغه وإدراكه. قال أبو علي: ومنه سموا الإناء؛ لأنه لا يستعمل إلّا بعد بلوغه حظّه من خرزه أو صياغته أو نجارته أو نحو ذلك. غير أن أبا زيد قد حكى لآن مصدرًا وهو الأين. فإن كان الأمر كذلك فهما إذًا أصلان متساويان7 وليس أحدهما أصلًا لصاحبه.
ومثل ذلك "في القلب"8 قولهم: "أيست من كذا" فهو مقلوب9 من "يئست" لأمرين, ذكر أبو علي أحدهما وهو ما ذهب إليه من أن "أيست" لا مصدر له،
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب "بهما".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تؤثر".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "يتوازنا".
4 هذا الضبط من أ. وفي ب "قصر". بتشديد الصاد.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "فلم".
6 آية3: "سورة الأحزاب".
7 كذا في أ، ش، وفي ب، د: "متساوفان".
8 كذا في ش، ب. وسقط هذا في أ.
9 كذا في أ. وسقط في ش، ب، ويقرأ مقلوب" بالإضافة إلى "يئست".(2/72)
وإنما المصدر "ليئست" وهو اليأس واليآسة. قال: فأمّا قولهم في اسم الرجل "إياس" فليس مصدرًا لأيست, ولا هو أيضًا من لفظه, وإنما هو مصدر "أست الرجل"1 أؤوسه إياسًا سموه به كما سموه عطاء تفاؤلًا بالعطية. ومثل ذلك عندي تسميتهم إياه "عياضًا", وإنما هو مصدر عُضْته, أي: أعطيته, قال:
عاضها الله غلامًا بعد ما ... شابت الأصداغ والضرس نقد2
عطف3 جملة من مبتدأ وخبر على أخرى من فعل وفاعل, أعني: قوله: "والضرس نقد" أي: ونقد الضرس. وأما الآخر فعندي أنه لو لم يكن مقلوبًا
__________
1 كذا في أ. وفي ش: "أسته"، وفي ب: "أست" فقط.
2 في شواهد المغني للبغدادي أن هذا البيت لم يوقف على قائله، وهو في إصلاح المنطق 58 من غير عزو، وفي اللسان "نقد" نسبته إلى الهذلي" ويقرن به في الاستشهاد بيت لصخر الغي الهذلي، وهو:
تيس تيوس إذا يناطحها ... بألم قرنًا أورمه نقد
ويبدو لي أن هذا القرن هو الذي دعا إلى الخلط بين البيتين, ونسبة الأولى إلى الهذلي. و"نقد" يروي بفتح القاف على أنه اسم خبر عن الضرس على التأويل؛ أي: ذو نقد, والنقد تأكله, وبالكسر على أنه وصف أو فعل. وانظر اللسان "نقد".
3 ترى أنه يجعل "الضرس نقد" جملة من مبتدأ وخبر, وهذا من عطف الجملة الاسمية على الفعلية، والمنقول عن ابن جني منع هذا، وقد يقتربه قوله بعد: "أي: ونقد الضرس" وهذا يتدافع مع صدور الكلام، إلّا أن يكون مراده: أن الكلام في ظاهره عطف مبتدأ وخبر على جملة فعلية، ثم خرج من هذا الذي لا يراه جائزًا بالتأويل الذي ذكره، وفي سرِّ الصناعة في حرف الهاء في الكلام على الفاء في "خرجت فإذا زيد" أن الواو يجوز فيها لما لها من الاتساع أن تعطف اسمية على فعلية، وانظر المغني "الباب الرابع، عطف الاسمية على الفعلية وبالعكس", وشواهد المغني للبغدادي في الكلام على البيت الشاهد، هذا، ويقول ابن السيرافي في شرح هذا الشاهد: "عوض الله هذه المرأة ممن مات من أولادها غلامًا ما ولده بعد ما أسنت وشاب رأسها وتكسَّرت أسنانها؛ فمحبتها له أشد محبة؛ لأنها قد يئست أن تلد غيره، فشفقتها عليه عظيمة؛ كما قال:
رأنه على سيب القذال وأنها ... تراجع بعلًا مرة وتئيم
وكما قال أيضًا:
رأنه على يأس وقد شاب رأسها ... وحين تصدَّى للهوان عشيرها
وانظر شواهد الإصلاح لابن السيرافي الإصلاح لابن السيرافي 42.(2/73)
لوجب إعلاله, وأن يقول: إست أآس, كهبت أهاب. فظهوره صحيحًا يدلّ على أنه إنما صحَّ؛ لأنه مقلوب عمَّا تصح عينه وهو "يئست", لتكون الصحة دليلًا على ذلك المعنى, كما كانت صحة "عور" دليلًا على أنه في معنى ما لا بُدَّ من صحته وهو "أعورّ".
فأمّا تسميتهم الرجل "أَوْسا" فإنه يحتمل أمرين, أحدهما: أن يكون مصدر "أسته" أي: أعطيته كما سموه عطاء وعطية, والآخر: أن يكون سموه به كما سموه ذئبًا. فأما ما أنشدناه1 من قول الآخر 2:
لي كل يوم من ذؤاله ... ضغثٌ يزيد على إباله3
فلا حشأنّك مشقصًا ... أوسًا أويس من الهباله4
ف"أوسًا" منه ينتصب على المصدر بفعلٍ دلَّ عليه قوله: "لأحشأنك", فكأنه قال: "لأؤوسنك أوسًا" كقول الله سبحان: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} 5 لأن مرورها يدل على صنع الله, فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعًا, وأضاف المصدر إلى فاعله, كما لو ظهر الفعل الناصب لهذا المصدر لكان مسندًا إلى اسم الله تعالى. وأما قوله "أويس" فنداء, أراد: يا أويس, يخاطب الذئب وهو اسم6 له مصغرًا, كما أنه اسم6 له مكبر, قال:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "أنشده".
2 هو أسماء بن خارجة؛ كما في اللسان في أوس، وانظر اللالئ 437.
3 ذؤالة: الذئب، وقوله: "ضغث يزيد على إبالة" أي: بلية على بلية، وكأن الذئب طمح في ناقته الهبالة. وقوله: "لي" في اللسان "في".
4 يقال: حشأه سهمًا: رماه به. والمشقص: سهم عريض النصل.
5 آية 88 سورة النمل.
6 يريد أن "أويسًا" يقع على الذئب في مقام تحقيره، وحيث لا يراد ذلك، فهو في صيغة الصغر ومعناه. معنى الذئب؛ ألا ترى أن "أويس" في الرجز الآتي لا يراد تحقيره. وفي اللسان "أوس", "وأويس": اسم الذئب, جاء مصغرًا مثل الكميت واللجين، ويجوز أن يكون المراد أن أويسًا الذي في سورة المصغر اسم الذئب، كما أن مكبره -وهو أوس- اسم للذئب أيضًا.(2/74)
يا ليت شعري عنك -والأمر أمم ... ما فعل اليوم أويس في الغنم1
فأمَّا ما يتعلق به "من " فإن شئت علقته بنفس أوسًا, ولم يعتدد2 بالنداء فاصلًا لكثرته في الكلام وكونه معترضًا به للتسديد, كما ذكرنا من هذا الطرز3 في باب الاعتراض في قوله:
يا عمر الخير جزيت الجنه ... اكس بُنَيَّاتي وأمّهُنّه4
أو يا -أبا حفص- لأمضينه
فاعترض بالنداء بين "أو" والفعل, وإن شئت علقته بمحذوف يدل عليه "أوسًا", فكأنه قال: أؤوسك من الهبالة, أي: أعطيك من5 الهبالة. وإن شئت جعلت حرف الجر هذا وصفًا لأوسًا, فعلقته بمحذوف وضمَّنته ضمير الموصوف.
ومن المقلوب قولهم: امضحلَّ وهو مقلوب6 عن اضمحلَّ, ألا ترى أن المصدر إنما هو على اضمحلَّ وهو الاضمحلال, ولا يقولون: امضحلا. وكذلك قولهم: اكفهرَّ واكرهفَّ, الثاني مقلوب عن الأول؛ لأن التصرف "على اكفهرَّ وقع"7، ومصدره الاكفهرار, ولم يمرر بنا الأكرهفاف, قال النابغة:
__________
1 سقط بين الشطرين شطر هو:
هل جاء كعبًا عنك من بين النسم
وهو من أرجوزة عدة أشطارها 15 تنسب إلى عمرو ذي الكلب الهذلي، ويعزوها بعضهم إلى أبي خراش الهذلي. وانظر ديوان الهذليين بشرح السكري 229، وكتابة الشنقيطي على المخصص 8/ 66.
2 كذا في أ. وفاعل "يعتدد" وهو الراجز. وفي ش، ب: "يتعدد" بالباء للمجهول.
3 كذا في أ. وفي ش، ب "الطرق"، وهو -بفتح الطاء وسكون الراء- الضرب. وطروق الكلام: ضروبه؛ والطرز: الشكل والضرب, وفيه الفتح كما في المصباح، وفيه الكسر أيضًا كما في القاموس بالضبط.
4 ورد هذا الرجز في قصة أعرابي مع عمر -رضي الله عنه- بأتمّ مما هنا في طبقات الشافعية 1/ 139، ومعيد التعم لصاحب الطبقات 19 طبعة جامعة الأزهر للنشر والتأليف.
5- "من" هنا للتعوريض. أي: أعطيك عرضها.
6 كذا في أ. وسقط حرف العطف في ش، ب.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "رفع في اكفهرَّ".(2/75)
أو فازجروا مكفهرًا لا كفاء له ... كالليل يخلط أصرامًا بأصرام1
وقد حكى بعضهم2 مكرهف. فإن ساواه في الاستعمال فهما -على ما ترى- أصلان.
ومن ذلك: هذا لحم شخم3 وخشم، وفيه تشخيم4، ولم أسمع تخشيم6. فهذا يدل على أن "شخم أصل الخشم"6.
ومن ذلك قولهم: اطمأن. ذهب سيبويه فيه إلى أنه مقلوب, وأن أصله من طأمن, وخالفه أبو عمر8 فرأى9 ضد ذلك. وحجة سيبويه فيه أن "طأمن" غير ذي زيادة, واطمأنّ ذو زيادة, والزيادة إذا لحقت الكلمة لحقها ضرب من الوهن لذلك, وذلك لأنّ مخالطتها شيء10 ليس من أصلها مزاحمة لها وتسوية في التزامه بينها وبينه, وهو "و"11إن لم تبلغ الزيادة على الأصول فحش الحذف
__________
1 هو من قصيدته التي مطلعها:
قالت بنو عامر خالوا بني أسد ... يا بؤس للجهل ضرارًا لأنوام
والمكفهرّ: الجيش. وانظر الديوان، والخزانة في شواهد المنادى.
2 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ش، ب. ويقرأ عليهما: "حكي" بالبناء المفعول.
3 أي: متغير الرائحة.
4 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "تخشيم".
5 كذا في، ب. وفي أ: "تشخيم"، وفي ج: "تشخيمًا". وما أثبت هو الموافق لما في اللسان ففيه: "ولحم فيه تشخيم إذا تغير ريحه".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "أصل خشم أصل الشخم".
7 انظر الكتاب 2/ 130، 380.
8 هو الجرميّ صالح بن إسحاق؛ كما ذكره ابن جني في شرح تصريف المازني، وقد أثبت: "عمر" طبقًا لأصول الخصائص، وهو الحق. وفي المطبوعة تبعًا للسان "طعن": "عمرو" وهو خطأ.
9 كذا في ش، ب. وفي أ: "ورأى".
10 كذا في أ. وفي ش، ب: "شيئًا". والرفع على أنه فاعل "مخالطة" والنصب على أنه مفعول، وهما سواء.
11 ثبت هذا الحرف في أ، وهو يوافق ما في اللسان، وسقط في ش، ب.(2/76)
منها فإنه -على كل حال- على1 صدد من التوهين لها؛ إذ كان زيادة عليها تحتاج إلى تحملها كما يتحامل بحذف ما حذف منها. وإذا كان في الزيادة طرف من الإعلال للأصل كان أن يكون القلب مع الزيادة أولى. وذلك أن الكلمة إذا لحقها ضرب من الضعف أسرع إليها ضعف آخر2؛ وذلك كحذفهم ياء حنيفة في الإضافة إليها لحذف تائها3 في قولهم: حنفي, ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فيحذف ياؤها جاء في الإضافة إليه على أصله فقالوا: حنيفيّ.
فإن قال أبو عمر: جرى المصدر4 على اطمأنّ يدل على أنه هو الأصل, وذلك قولهم 5: الاطمئنان, قيل: قولهم "الطأمنة" بإزاء قولك: الاطمئنان، فمصدر6 بمصدر، وبقي على أبي عمر أن الزيادة جرت في المصدر جريها في الفعل, والعلة7 في الموضعين واحدة, وكذلك الطمأنينة ذات زيادة فهي إلى الاعتلال قرب. ولم يقنع أبا عمر أن يقول: إنهما أصلان متقاودان8 كجبذ وجذب, حتى مكّن خلافه لصاحب الكتاب بأن عكس الأمر عليه البتة.
وذهب سيبويه9 في قولهم: "أينق" مذهبين: أحدهما أن تكون عين أنوق قلبت إلى ما قبل الفاء فصارت في التقدير "أونق", ثم أبدلت الواو ياء لأنها كما أعلت
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "صدر".
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "الآخر" وهو خطأ.
3 كذا في أ، وفي ش، ب: "يائها" وهو تحريف.
4 كذا في أ، ب، وفي أ: "الأصل".
5 كذا في أ، وفي ش، ب: "نحو قولهم".
6 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "مصدر".
7 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "فالعلة".
8 كذا في أصول الخصائص, وفي اللسان في طمن: "متقاربان".
9 انظر الكتاب 2/ 129، 333.(2/77)
بالقلب كذلك أعلت أيضًا بالإبدال على ما مضى, والآخر أن تكون العين حذفت ثم عوضت الياء منها قبل الفاء. فمثالها على هذا القول "أيفل", وعلى القول الأول "أعْفُل".
وذهب الفرّاء في "الجاه" إلى أنه مقلوب من الوجه, وروينا عن الفراء أنه قال: سمعت أعرابية من غطفان وزجرها ابنها فقلت لها: ردي عليه, فقالت: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا. قال 1: وهو من الوجه أرادت: يواجهني, وكان أبو علي -رحمه الله- يرى أن الجاه مقلوب عن الوجه أيضًا. قال: ولما أعلّوه بالقلب أعلّوه أيضًا بتحريك عينه ونقله من فَعْلٍ إلى فَعَل, "يريد أنه" صار من وجه إلى جَوْهٍ, ثم حركت عينه فصار إلى جَوَهٍ, ثم أبدلت عينه لتحركها وانفتاح ما قبلها, فصار "جاه" كما ترى. وحكى أبو زيد: قد وجه الرجل وجاهة عند السلطان، وهو وجيه. وهذا يقوي القلب لأنهم لم يقولوا "جَوِيه" ولا نحو ذلك.
ومن المقلوب "قِسِيّ" و"أشياء" في قول الخليل.
وقوله:
مروان مروان أخو اليوم اليمي3
فيه قولان: أحدهما أنه أراد: أخو اليوم السهل اليوم الصعب, يقال: يوم أيوم, ويوم كأشعث4 وشعث4 وأخشن وخشن, وأوجل ووجل, فقلب فصار
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "قالوا".
2 كذا في أ، وفي سائر الأصول: "ثم إنه".
3 سبق هذا الرجز في ص65 من الجزء الأول، وفيه إحالة على ما هنا, وهو في سيبويه 2/ 379 غير معزو، وفي اللسان "كرم" عزوه لأبي الأخزر الحماني، وتكملته.
ليوم روع أو فعال مكرم
وانظر أيضًا اللسان في ترجمة "يوم".
4 كذا في أ، ج وفي ش، ب: "كأشعب وشعب".(2/78)
"يموّ" فانقلبت العين لانكسار ما قبلها طرفًا, والآخر أنه أراد: أخو اليوم اليوم, كما يقال عند الشدة والأمر العظيم: اليوم اليوم, فقلب فصار "اليمو" ثم نقله من فَعْل إلى فَعِل, كما أنشده أبو زيد من قوله:
علام قتل مسلم تعبدًا ... مذ سنة وخَمِسون عددا1
-يريد خَمْسونَ- فلما انكسر ما قبل الواو قلبت ياء فصار اليَمِى. هذان قولان فيه مقولان.
ويجوز عندي فيه وجه ثالث لم يقل به, وهو أن يكون أصله على ما قيل في المذهب الثاني: أخو اليوم اليوم, ثم قلب فصار "اليَمْوُ", ثم نقلت الضمة إلى الميم على حد قولك: هذا بَكُرْ, فصارت اليَمُو, فلما وقعت الواو طرفًا بعد ضمَّة في الاسم أبدلوا من الضمَّة كسرة, ثم من الواو ياء, فصارت اليَمِى كأحقٍ2 وأدْلٍ.
فإن قيل: هلَّا, لم تُستنكَر الواو هنا بعد الضمة لمَّا لم تكن الضمة لازمة.
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرته فإنهم قد أجروه في هذا النحو مجرى اللازم, ألا تراهم يقولون على هذه اللغة: هذه هند, ومررت بجمل, فيتبعون الكسر الكسر, والضم الضم, كراهية للخروج من كسرة هاء هند إلى ضمة النون, وإن كانت الضمة عارضة. وكذلك كرهوا مررت بجمل لئلّا يصيروا في الأسماء إلى لفظ فِعلُ. فكما3 أجروا النقل في هذين الموضعين مجرى اللازم فكذلك يجوز أن يجرى اليمو مجرى "أدلو وأحقو", فيغيركما غيّرا, فقيل: "اليمِِى" حملا على الأدلي والأحقي. " فإن قيل: نحو زيد وعون
__________
1 "سنة" كذا في أ، ب, ش وهو الموافق لما في النوادر، وفي ج: "ستة", وفي اللسان في يوم: "خمسة". و"تعهدًا" روى بصيغة المصدر، وبصيغة الماضي. وانظر النوادر 165.
2 كذا في ج، وفي أ، ش: كأحقى وأدلى".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "وكما".(2/79)
لا ينقل إلى عينه حركة لامه, واليوم كعون, قيل: جاز ذلك ضرورة لما يعقب من صلاح القافية, وأكثر ما فيه إجراء المعتل مجرى الصحيح لضرورة الشعر"1.
ومن المقلوب بيت القطامي:
ما اعتاد حب سليمى حين معتاد ... ولا تقصَّى بواقي دَيْنِها الطادي2
هو مقلوب عن الواطد, وهو الفاعل من وطد يطد أي ثبت. فقلب عن "فاعل" إلى "عالف".
ومثله عندنا "الحادي"؛ لأنه فاعل من وحد وأصله الواحد, فنقل عن فاعل "إلى عالف"3 سواء, فانقلبت الواو التي هي في الأصل فاء4 ياء5، لانكسار ما قبلها في الموضعين6 جميعًا. وحكى الفرَّاء: معي عشرة فأحدهن7 لي، أي: اجعلهن أحد عشر, فظاهر هذا يؤنس بأن "الحادي" فاعل. والوجه إن كان المروي صحيحًا أن يكون الفعل مقلوبًا من وحدت إلى حدوت, وذلك أنهم لما رأوا الحادي في ظاهر الأمر على صورة فاعل, صار كأنه جارٍ8 على "حدوت" جريان غازٍ على غزوت, كما أنهم لما استمر استعمالهم "الملك" بتخفيف الهمزة صار كأن مَلَكًا على
__________
1 ما بين القوسين ثبت في أ. وسقط في ش، ب، ج.
2 هو صدر قصيدة له عدتها 66 بيتًا. وانظر الديوان 7.
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 كذا في ش، ب، وقد سقط في أ.
5 كذا في أ. وقد سقط في ش، ب.
6 هما الطادي في بيت القطامي والحادي.
7 ضبط في اللسان "وحد": "فأحدهن" على صبغة التفعيل، ولا يستقيم عليه القلب ولامًا يأتي من الكلام، وضبط في الإصلاح 332: "فأحدهن" على صيغة الإفعال, وهو أيضًا لا يستقيم عليه القلب. فالصواب ما هنا وفقًا لما في أ.
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "على صورة".(2/80)
فَعَل, فلما صار اللفظ بهم إلى هذا بنى الشاعر على ظاهر أمره فاعلًا منه, فقال حين ماتت نساؤه بعضهن إثر بعض:
غدا مالك يرمي نسائي كأنما ... نسائي لسهمي مالكٍ غَرَضَان1
يعني: ملك الموت ألّا تراه يقول بعد هذا:
فيا رب عَمِّر لي جهيمة أعصرًا ... فمالك الموت بالقضاء دهاني
وهذا ضرب من تدريج اللغة, وقد تقدَّم الباب2 الذي ذكرنا فيه طريقه في كلامهم, فليضمم هذا إليه فإنه كثير جدًّا.
ومثل قوله: "فاحْدُهُنَّ" في أنه مقلوب من "وحد" قول الأعرابية: "أخاف أن يَجُوهَني" "وهو"3 مقلوب من الوجه.
فأما وزن "مالك" على الحقيقة فليس فاعلًا, لكنه "مافل" ألا ترى أن أصل "مَلَك" ملأك: مفعل من تصريف ألكني إليها عَمْرَكَ الله, وأصله ألئكني, فخففت همزته فصار ألكني4، كما صار "ملأك" بعد التخفيف إلى ملك ووزن مَلَك "مَفَل".
ومن طريف المقلوب قولهم للقطعة الصعبة من الرمل "تَيْهُورة" وهي عندنا "فَيْعُولة" من تهور الجرف وانهار الرمل ونحوه, وقياسها أن تكون قبل تغييرها
__________
1 ورد هذان البيتان في اللسان في "ألك", وفيه ضبط مالك بفتح اللام. وضبط في أ، ج، بكسر اللام, وفي اللسان "جهينة" بدل "جهيمة", وقد ورد في اللسان "لأك", وظاهره نسبته إلى رويشد.
2 انظر ص348، من الجزء الأول من هذا الكتاب.
3 كدا في ش، ب. وسقط في أ.
4 هو صدر بيت ذكره ابن جني في أغلاط العرب من الخصائص، وهو:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا(2/81)
"هَيْوُورة"1 فقدمت العين وياء "فيعول" إلى ما قبل الفاء فصارت "وَيْهُورة", ثم أبدلت الواو التي هي عين مقدمة قبل الياء تاء كتَيْقُور2 فصارت "تيهورة" كما ترى. فوزنها على لفظها الآن "عيفولة". أنشدنا أبو علي:
فعينيّ لا يبقى على الدهر فادر ... بتيهورة بين الطخا فالعصائب3
-"ويروى: الطخاف العصائب"- فهذا قول وهو لأبي علي -رحمه الله. ويجوز عندي أن تكون في الأصل أيضًا "تفعولة" كتعضوضة5 وتدنوبة6, فيكون أصلها على هذا "تهوورة", فقدمت العين على الفاء إلى أن صار وزنها "تعفولة", وآل اللفظ بها إلى "توهورة", فأبدلت الواو التي هي عين7 مقدمة ياء, كما أبدلت عين "أينق" لما قدمت في مذهبي الكتاب8 ياء فنقلت من
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: هيثورة، وفي قلب الواو همزة، وهذا إبدال جائز كما يقال: الغئور في مصدر غار، وكما يقال أدؤر في أدور جمع دار.
2 هو الوقار وأصله: ويقور. وانظر الكتاب 2/ 356.
3 نسبه في اللسان في طخف إلى صخر الغي, وفي حسب إلى أبي ذؤيب, وفي شرح أشعار الهذليين السكرى نسبته إلى صخر الغي من قصيدته يرثي أخاه أبا عمرو، وكان قد نهشته حية فمات. ثم قال: إنها تروى لأبي ذؤيب. وفي ديوان الهذليين طبع الدار 2-5 القصيدة بطولها لصخر الغي. و"خليلي" في اللسان "أعيني", و"بين" في اللسان وتحته. و"الطلخا فالعصائب"، في اللسان: "الطخاف العصائب" والطخا مقصورة من الطلخا. وهو السحاب المرتفع الرقيق، والعصائب جمع عصابة, وهو غيم أحمر تراه في الأفق الغربي، والطخاف -بفتح الطاء- هو الطخاء، ويروى الطخان -بكسر الطاء، جمع طخف وهو الطخاف, والفادر: الرمل المسن, يقول إن الموت يدرك الوعل المعتصم بالجبل المشرف بجلله السحاب.
4 ما بين القوسين زيادة في أ، م.
5 هو ضرب من التمر.
6 هي البسرة التي بدأ فيها الإرطاب.
7 كذا أثبتها. وفي الأصول: "فاء".
8 كذا في أ. وفي ش، ب، د، هـ: "سيبويه".(2/82)
"أنوق" إلى "أونق", ومن "أونق" تقديرًا إلى "أينق"؛ لأنها كما أُعِلَّت بالقلب كذا أعلّت بالإبدال فصارت أينقا. وكذلك صارت توهورة "إلى تيهورة"1.
وإن شئت جعلتها من الياء لا من الواو, فقد حكى أبو الحسن عنهم: هار الجرف يهير, ولا تحمله على طاح يطيح, وتاه يتيه, في قول الخليل لقلة ذلك؛ ولأنهم قد قالوا أيضًا: تهير الجرف في معنى تهور, وحمله على تفعّل أولى من حمله على تَفَيْعَل كتحيز2. فإذا كانت "تيهورة" من الياء على هذا القول فأصلها تهيورة, ثم قدمت العين التي هي الياء على الفاء فصار تيهورة. وهذا القول3 إنما فيه التقديم من غير إبدال. وإنما قدمنا القول الأول وإن كانت كلفة الصنعة فيه أكثر؛ لأنَّ كون عين هذه الكلمة هذه الكلمة واوًا في اللغة أكثر من كونها ياء.
ويجوز فيه عندي وجه ثالث, وهو أن يكون في الأصل "يفعولة" كيعسوبٍ ويربوعٍ, فيكون أصلها "يهوورة", ثم قدمت العين إلى صدر الكلمة فصارت "ويهورة: عيفولة", ثم أبدلت الواو التي هي عين مقدمة تاء على ما مضى فصارت "تيهورة".
ودعانا إلى اعتقاد القلب والتحريف في هذه الكلمة المعنى المتقاضيته4 هي. وذلك أن الرمل مما ينهار ويتهور ويهور ويهير ويتهير.
فإن كسّرت هذه الكلمة أقررت تغييرها "عليها"5 كما أنّ "أينقا" لما كسرتها العرب أقرتها على تغييرها6 فقالت: أيانق, فقياس هذا أن تقول في تكسير "تيهورة"
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 كذا في ج، وفي أ، ب، ش: كتحير. والصواب ما أثبت. يريد أن يحيز من الحوز, فهي تفيعل أصلها تجوَّز فحصل قلب، ولو كانت تفعّل لقيل تحوز, أما تحير فهي من الحيرة فهي تفعل. انظر لتحيز سيبويه 2/ 372.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "التحوّل".
4 كذا في أ، ب وفي ش: "المتقاضية".
5 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "حالها في التغيير.(2/83)
على كل قول وكل تقدير: تياهير. وكذلك المسموع عن العرب أيضًا في تكسيرها.
والقلب في كلامهم كثير. وقد قدمنا في أول هذا الباب أنه متى أمكن1 تناول الكلمة على ظاهرها لم يجز العدول عن ذلك بها, وإن دعت ضرورة إلى القول بقلبها كان ذلك مضطرًا إليه لا مختارًا.
باب في الحرفين المتقاربين يستعمل أحدهما مكان صاحبه:
اعلم أن هذا الباب لاحق بما قبله وتالٍ له. فمتى أمكن1 أن يكون الحرفان جميعًا أصلين "كل واحد منهما قائم برأسه"2 لم يسغ3 العدول عن الحكم بذلك, فإن دلَّ دال أو دعت ضرورة إلى القول بإبدال أحدهما من صاحبه عمل بموجب الدلالة, وصير إلى مقتضى الصنعة.
ومن ذلك سكر طبرزل وطبرزن 4: هما متساويان في الاستعمال, فلست بأن تجعل أحدهما أصلًا لصاحبه أولى منك بحمله على ضده.
ومن ذلك قولهم: هتلت السماء وهتنت: هما أصلان, ألا تراهما متساويين في التصرف, يقولون: هتنت السماء تهتن تهتانًا, وهتلت تهتل تهتالًا, وهي سحائب هتن وهتل, قال امرؤ القيس:
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "أنكر".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "كان كل واحد منهما قائمًا".
3 كذا في ج. وفي أ، ش: "يسع".
4 ويقال فيه أيضًا، طبرزد، وهو السكر الأبيض الصلب، والكلمة فارسية مؤلفة من "طير" وهو الفأس، و"زد" أي: ضرب، أطلق عليه هذا؛ لأنه لصلابته كأنه يضرب بالفأس، وانظر معرب الجواليقي وتعليقه 228.(2/84)
فسحت دموعي في الرداء كأنها ... كلي من شعيب ذات سح وتهتان1
وقال العجاج:
عزّز منه وهو معطي الإسهال ... ضرب السواري متنه بالتهتال2
ومن ذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم: دهمج البعير يدهمج دهمجة, ودهنج يدهنج دهنجة, إذا قارب الخطو وأسرع, وبعير دهامج ودهانج, وأنشد3 للعجاج:
كأنَّ رعن الآل منه في الآل ... بين الضحا وبين قيل القيال4
إذا بدا دهانج ذو أعدال
__________
1 الشعيب: السقاء البالي. والكلي: جمع الكلية وهي رقعة في السقا, وسحت: صبت. يقول: إنه تذكر العهد القديم لأحبابه -وذكر هذا في شعره السابق- فبكى وانصبت دموعه، كما لو كانت عينه قرية قديمة امتلأت ماء فتقطعت الرقع فيها فسال المال. وهو من قصيدته التي أولها:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرقان ... وربع عفت آثاره منذ أزمان
وهي في الديوان.
2 قبله:
دار للهو اللهيّ مكسال ... فهي ضناك كالكثيب المنهال
والضناك: الضخمة؛ يشبه يهواها بالكتيب في اللين، ثم وصفه بأنه متماسك غير مترهل. وانظر ملحق الديوان 86، والسمط 679.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "أنشدنا".
4 الرعن: مقدم الجبل. وقوله: "بين الضحا وبين قيل القيال" أي: في الوقت الذي يشتد فيه توهج الشمس. وقيل: القيال أن يقبل في الظهيرة. شبه أطراف الجهل والسراب يرفعه, فيضطرب ببعير عليه أعدال يمشي بها، وقبله كما في السمط 728:
ومهمه نائي المياه مغتال ... مضلل تسبيله للسبال
أزرر ينيو عرضه بالدلال ... مرت الصحاري ذي مهرب وأفلال
وانظر ملحق الديوان 86.(2/85)
وأنشد أيضًا:
وعير لها من بنات الكداد ... يدهنج بالوطب والمزود1
فأما قولهم: ما قام زيد بل عمرو, وبن عمرو, فالنون بدل من اللام, ألا ترى إلى كثرة استعمال "بل" وقلة استعمال "بن", والحكم على الأكثر لا على الأقل. هذا هو الظاهر من أمره, ولست مع هذا أدفع أن يكون "بن" لغة قائمة برأسها. وكذلك قولهم: رجل "خامل" و"خامن" النون فيه بدل من اللام, ألا ترى أنه أكثر, وأن الفعل عليه تصرف, وذلك قولهم: خمل يخمل خمولًا. وكذلك قولهم: قام زيد فُمَّ عمرو, الفاء بدل من الثاء في ثم, ألا ترى أنه أكثر استعمالًا. فأما قولهم "في الأثافي: الأثاثي"2 فقد ذكرناه3 في كتابنا في سر الصناعة, وقال الأصمعي: بنات
__________
1 من قصيدة للفرزدق يهجو جريرًا، أولها:
عرفت المنازل من مهدد ... كوحى الزبور لدى الغرقد
يقول فيها:
فما حاجب في بني دارم ... ولا أسرة الأقرع الأمجد
ولا آل قيس بنو خالد ... ولا الصيد صيد بني مرثد
بأخيل منهم إذا زينوا ... بمغرتهم حاجبي مؤجد
حمار لهم من بنات الكداد ... يدمنج بالوطب والمزود
وترى أن التغيير قد تناول البيت الشاهد. وانظر الأمالي 2/ 91 والسمط 727 والنقائض 794.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأثاني والأثاثي".
3 عبارته في حرف الثاء: "فأما قولهم في أثاف أثات بالتاء, فمن كانت عند أثفية أفعولة وأخذها من نفاه ينفوه, فالثاء الثانية في أثاث بدل من الفاء في يثفوه. ومن كانت أنفية عنه، فعليه فجائز أن تكون الثاء بدلًا من الفاء لقول النابغة:
وإن ثأنفك الأعداء بالرفد
وجائز أن تكون من أث يتث إذا ثبت واطمأنّ؛ لأنهم يصفون الأثافي بالخلود والركود، والوجه أن تكون الثاء بدلًا من الفاء أيضًا، لأنا لم نسمعهم قالوا أثية".(2/86)
مخر وبنات بخر: سحائب يأتين قبل1 الصيف "بيض"2 منتصبات في السماء, قال طرفة:
كبنات المخر يمأدن إذا ... أنبت الصيف عساليج الخضر3
قال أبو علي -رحمه الله: كان أبو بكر يشتق هذه الأسماء من البخار, فالميم على هذا في "مخر" بدل من الباء في "بخر" لما ذكر أبو بكر. وليس ببعيد عندي أن تكون الميم أصلًا في هذا أيضًا, وذلك لقول الله سبحانه: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ} 4 أي: ذاهبة "وجائية"5 وهذا أمر قد يشاركها فيه السحائب, ألا ترى إلى قول الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج7
__________
1 كذا في ب، ج، ش. وفي أ، "في" وقوله: "قبل الصيف" أي: في أوله.
2 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
3 قبله:
لا تلمني إنها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر
يقول: لا تلمني في تعلقي بهذه المرأة, فإنها منعَّمة لم ينل من حينها كثرة الأولاد، ثم قال: إنها من نسوة ربا كهذه السحب، ويمأدن، يتثنين. والعساليج: جمع العسلوج والعسلاج, وهو ما لان واخضرَّ من الأغصان. والخضر: ما اخضرَّ من النبات, ويروى الخضر -بضم ففتح- جمع الخضرة, ويراد بها الأخضر من النبات. انظر الديوان طبعة فازان ص64.
4 آية 12، سورة فاطر.
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "جارية".
6 هو أبو ذؤيب.
7 قبله:
سقى أم عمرو كل آخر ليلَة ... حناتيم سود ماؤهن نجيج
والحناتم: صب سود. ونجيج: سائل مصبوب. وقوله: كل آخر ليلة, أي: أبداء. والنتيج: الصوت. وانظر ديوان الهذليين 1/ 150.(2/87)
فهذا يدل على مخالطة السحائب عندهم البحر وتركضها فيه, وتصرفها على صفحة مائه. وعلى كل حال فقول أبي بكر أظهر.
ومن ذلك قولهم: باهلة بن أعصر ويعصر, فالياء في "يعصر" بدل من الهمزة في "أعصر", يشهد بذلك ما ورد به الخبر من أنه إنما سمِّي بذلك لقوله 1:
أبنيّ إن أباك غير لونه ... كرّ الليالي واختلاف الأعصر
يريد: جمع عصر, وهذا واضح.
فأمّا2 قولهم: إناء قربان, وكربان, إذا دنا أن يمتلئ فينبغي أن يكونا أصلين؛ لأنك تجد لكل واحدة منهما متصرفًا, أي: قارب أن يمتلئ وكرب أن يمتلئ, إلّا أنهم قد قالوا: جمجمة3 قربى, ولم نسمعهم قالوا: "كربى". فإن غلبت القاف على الكاف من هنا فقياس ما4.
وقال الأصمعي: يقال: جعشوش5، وجعسوس5، وكل ذلك إلى قمأةٍ6 وقلةٍ وصغر, ويقال: هم من جعاسيس الناس, ولا يقال بالشين في هذا. فضيق الشين مع سعة السين يؤذن بأن الشين بدل من السين. نعم, والاشتقاق يعضد كون السين
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "بقوله". واسم أعصر منبه بن سعد بن قيس عيلان. وانظر التاج "عصر" والاشتقاق لابن دريد 164.
2 كذا في شن ب. وفي أ: "وأما".
3 هي قدح من خشب يشرب فيه، وهي أيضًا ضرب من المكاييل.
4 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
5 هو القصير اللئيم.
6 كذا في أ، وفي ب" فمأة". والقماءة مصدر قمؤ، والقمأة مصدر قأ، وكلاهما معناه: صغر وذل.(2/88)
-غير معجمة- هي الأصل, وكأنه أشتق من "الجعس" صفة على "فعلول", وذلك أنه شبه الساقط المهين1 من2 الرجل بالخرء؛ لذلِّه ونتنه.
ونحو من ذلك في البدل قولهم: فسطاط وفستاط, وفسّاط, وبكسر الفاء أيضًا, فذلك ست لغات. فإذا صاروا إلى الجمع قالوا: "فساطيط وفساسيط" "ولا يقولون"3 "فساتيط" بالتاء. فهذا يدل4 أن التاء في "فستاط" إنما هي بدل من طاء "فسطاط", أو من سين "فُسّاط". فإن قلت: هلا اعتزمت أن تكون التاء في "فستاط" بدلًا من طاء "فسطاط"؛ لأن التاء أشبه بالطاء منها بالسين؟ قيل: بإزاء ذلك أيضًا: إنك إذا حكمت بأنها بدل من سين "فسّاط" ففيه شيئان جيدان: أحدهما: تغيير للثاني5 من المثلين, وهو أقيس من تغيير الأول من المثلين؛ لأنَّ الاستكراه في الثاني يكون لا في الأول, والآخر أن السينين في 6"فسّاط" ملتقيتان، والطاءين في7 "فسطاط" منفصلتان بالألف بينهما, واستثقال المثلين ملتقيين أحرى من استثقالهما مفترقين, "وأيضًا فإن السين والتاء جميعًا مهموستان والطاء مجهورة"8.
فعلى هذا الاعتبار ينبغي أن يتلقّى9 ما يرد من حديث الإبدال إن كان هناك إبدال, أو اعتقاد أصلية الحرفين إن كانا أصلين, وعلى ما ذكرناه في الباب الذي
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "الهين".
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "في".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "ولم يقولوا".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "يريك".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "الثاني".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "من ".
7 كذا في أ، ب. وفي ش: "من".
8 كذا في ش، ب. وسقط ما بين القوسين في أ.
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "يلقي".(2/89)
قبل هذا ينبغي أن تعتبر الكلمتان في التقديم والتأخير نحو: اضمحلّ وامضحلّ, وطأمن واطمأنّ. والأمر واسع. وفيما أوردناه من مقاييسه كافٍ بإذن الله.
ونحن نعتقد إن أصبنا فسحة أن نشرح كتاب يعقوب1 بن السكيت في القلب والإبدال, فإن معرفة هذه الحال فيه "أمثل من معرفة عشرة أمثال لغته, وذلك أن مسألة واحدة من القياس"2، أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس.
قال لي أبو علي -رحمه الله- "بحلب"3 سنة ست وأربعين: أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس. ومن الله المعونة وعليه الاعتماد.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "أبي يوسف". وقد طبع "كتاب القلب والإبدال" لابن السكيت في مجموعة الكنز اللغوي في بيروت سنة 1903، نشره المستشرق هفنر.
2 كذا في ش، ب. وسقط ما بين القوسين في أ.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "بضع". وهو يريد: بعد الثلاثمائة.(2/90)
باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف لا بالإقدام والتعجرف:
أما ما طريقه الإقدام من غير صنعة فنحو ما قدمناه آنفًا من قولهم: ما أطيبه وأيطبه, وأشياء في قول الخليل "وقسيّ", وقوله "أخو اليوم اليمي". فهذا ونحوه طريقه طريق الاتساع في اللغة من غير تأت ولا صنعة. ومثله موقوف على السماع وليس لنا الإقدام عليه من طريق القياس.
فأمَّا ما يتأتى له ويتطرق إليه بالملاينة والإكثاب1، من غير كدٍّ ولا اغتصاب2، فهو ما "عليه عقد هذا الباب"3. وذلك كأن يقول لك قائل: كيف تحيل لفظ
__________
1 يقال: أكثب إلى الشيء: دنا منه.
2 كذا في أ. وفي شيء، ب: "اعتضاب".
3 كذا في أ، ب. وفي شك "عقد عليه هذا الباب".(2/90)
"وأيت إلى لفظ أويت"1 فطريقه أن تبني من "وأيت" فَوْعلًا, فيصير بك التقدير فيه إلى "وَوْأَىٍ", فتقلب اللام ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فيصير "وَوًْاى", ثم تقلب الواو الأولى همزة لاجتماع الواوين في أول الكلمة فيصير "أَوًْاى", قم تخفف الهمزة فتحذفها وتلقي حركتها على الواو قبلها، فيصير "أَوًا" اسمًا كان أو فعلًا2. فقد رأيت كيف استحال لفظ "وأى" إلى لفظ "أوا" من غير تعجرف ولا تهكم على الحروف.
وكذلك لو بنيت مثل: فَوْعال لصرت إلى "وَوْآىٍ" ثم إلى "أَوْآىٍ" ثم "أوْآءٍ", ثم تخفف فيصير إلى "أواءٍ" فيشبه حينئذ لفظ "آءة"3 أو أويت أو لفظ قوله:
فأوّ لذكراها إذا ما ذكرتها4
وقد فعلت العرب ذلك منه قولهم: "أوار النار" وهو وهجها ولفحها, ذهب فيه الكسائي مذهبًا حسنًا -وكان هذا الرجل كثيرًا في السداد والثقة عند أصحابنا- قال: هو "فُعَال" من وَأَرْتُ الإرة5 أي6: احتفرتها لإضرام النار فيها. وأصلها "وُآر" ثم خففت الهمزة فأبدلت في اللفظ "واوًا"7, فصارت "ووار" فلمّا التقت في أول الكلمة الواوان وأجرى غير اللازم مجرى اللازم, أبدلت الأولى همزة فصارت "أوَار" أفلا ترى إلى استحالة لفظ "وأر" إلى لفظ "أور" بالصنعة.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "أويت إلى لفظ وأيت" وهو خطأ. ووأيت من الوأي وهو الوعد.
2 راعيت في الضبط السابق الاسم فتؤنت، وغير خاف أن ضبط الفعل بغير تنوين.
3 الآءة شجرة عندهم وأصلها: أرأة بالتحريك.
4 عجزه: ومن بعد أرض بيننا وسماه
وانظر اللسان في أرا.
5 هي موقد النار.
6 كذا في أ، ج، وسقط في ش، ب.
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.(2/91)
وقال أبو زيد في تخفيف همزتي "افعوعلت" من "وأيت" جميعًا: "أويت", وقد أوضح هذا أبو زيد1 وكيف2 صنعته3، وتلاه بعده أبو عثمان في تصريفه4. وأجاز أبو عثمان أيضًا فيها "وويت" "قال"5: لأن نية الهمزة فاصلة بين الواوين. فقياس هذا أن تصحّح واوي "ووار" عند التخفيف لتقديرك فيه نية التحقيق, وعليه قال الخليل في تخفيف "فُعْل" من وأيت "أوى"؛ أفلا تراه "كيف"6 أحالته الصنعة من لفظ إلى لفظ. وكذلك لو بنيت من "أول" مثال "فَعْل" لوجب أن تقول: "أَوْل" , فتصيرك الصنعة من لفظ "وول" إلى لفظ "أول".
ومن ذلك قول العرب: "تسرَّيت" من لفظ "س ر ر " ومثله قصيت أظفاري هو من لفظ "ق ص ص " وقد آل بالصنعة إلى لفظ "ق ص ى ". وكذلك قوله 7:
تقضى البازي إذا البازي كسر
هو في الأصل من تركيب "ق ض ض " , ثم أحاله ما عرض من استثقال تكريره
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "أبو بكر"، وهو خطأ؛ فإن أبا بكر -هو ابن السراج- ليس سابقًا على أبي عثمان، وابن السراج أخذ من المبرد, وهذا أخذ عن المازني؛ فأنى لأبي عثمان أن يتلو أبا بكر!.
2 كذا في ج. وسقط هذا الحرف في أ، ب، ش.
3 وذلك أن افعوهلت من وأيت: أيأوأيت، ثم تنقل حركة الهمزة الأولى على ما قبلها وتحذف، وترد الياء إلى الواو الأصلية, وتحذف همزة الوصل فتصير إلى ووأيت، ثم تنقل حركة الهمزة وتحذفها فتصير إلى وويت، ثم تبدل الواو الأولى همزة كما في أواصل فتصير إلى أويت. وانظر شرح الأشموني على الألفية عند قول ابن مالك: وهمزا أول الواوين، في باب الإبدال.
4 انظر تصريف المازني بشرح المنصف، نسخة التيمورية.
5 كذا في أ، ب. وسقط في ش.
6 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
7 أي: العجاج. وانظر ديوانه 17.(2/92)
إلى لفظ "ق ض ي ". وكذلك قولهم: تلعيت -من اللعاعة- أي: خرجت أطلبها -وهي نبت- أصلها "ل ع ع " ثم صارت بالصنعة إلى لفظ "ل ع ي " قال 1:
كاد اللعاع من الحواذن يشحطها ... ورجرج بين لحييها خناطيل2
وأشباه هذا كثير.
والقياس من بعد أنه متى ورد عليك لفظ أن3 تتناوله على ظاهره, ولا تدَّعي فيه قلبًا ولا تحريفًا إلّا أن تضح سبيل أو يقتاد دليل.
ومن طريف هذا الباب قولك في النسب إلى "محيَّا": "محويّ" وذلك أنك حذفت الألف لأنها خامسة فبقي مُحَيّ كقُصَيّ، فحذفت للإضافة ما حذفت من قُصَيّ وهي الياء الأولى التي هي عين "محيَّا" الأولى, فبقي "محي" فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها, فصارت "مُحًا" كهُدىً. فلما أضفت إليها قلبت الألف واوًا فقلت "مُحَوِىّ" كقولك في هُدىً: هُدَوِيّ4. فمثال محوي في اللفظ "مُفَعِىّ" واللام على ما تقدَّم محذوفة, ثم إنك من بعد لو بنيت من "ضرب"
__________
1 أي: ابن مقبل كما في اللسان في لعع. وفي السمط 447 أنه اختلف فيه, فبعضهم ينسبه إلى جران العود، وبعضهم إلى ابن مقبل، وفي منتهى الطلب هذا البيت من قصيدة عدتها خمسة وأربعون بيتًا لجران العود، وقال: "وتروى للقحيف الخفاجي، للحكم الخضري" وأول القصيدة:
بان الأنيس فما للقلب معقول ... ولا على الجيرة الغادين تعويل
2 الحوذاذ: نبت. "يشحطها" كذا بالشين في أ، ب، ش. وفي اللسان في غير موضع: "يسحطها" بالسين، والشخط والسحط: الذبح, والسحط: أعلى. والرجج: اللعاب, وخناطيل: قطع متفرقة. يصف بقرة أكل السبع ولدها، فهو تغص بما لا يغص به من اللعاع الأخضر حتى لكاد يذبحها، وهي تغص أيضًا باللعاب الذي ينقطع خناطيل حزنًا على ولدها.
3 كذا. وكأن الأصل: "فالواجب أن تتناوله ... " أو كأن المؤلف راعى أن هذه العبارة خبر عن "القياس", وهذا لا يستقيم مع "أنه"، وفي ج: "وبعد فمتى ورد عليك لفظان فاحملهما على ظاهرهما، ولاتدع في واحد منهما قلبًا ولا تحريفًا إلّا أن يدلّ على شيء من ذلك دليل, فتصير حينئذ إلى ما دل عليه الدليل" وهي ظاهرة.
4 وكذلك لو نسبت إلى المحي "اسم فاعل من حيا" وانظر شرح الرضي للشافية 2/ 45.(2/93)
-على1 قول من أجاز الحذف في الصحيح لضربٍ من الصنعة- مثل قولك: "محويّ" لقلت "مضريّ" فحذفت الياء من "ضرب" كما حذفت لام "محيّا". أفلا تراك كيف أحلت بالصنعة لفظ "ضرب" إلى لفظ "مضر" فصار "مضريّ" كأنه منسوب إلى "مضر".
وكذلك لو بنيت مثل قولهم في النسب إلى تحيّة 2: "تحويّ" من نزف أو نشف أو نحو ذلك لقلت: تَنَفِيّ. وذلك أن "تحية" تفعلة, وأصلها "تحيية" كالتسوية والتجزئة, فلما نسبت إليها حذفت أشبه حرفيها بالزائد وهو العين, أعني: الياء الأولى, فكما تقول في "عصية وقضية" عصويّ وقضويّ, قلت أيضًا في تحية "تحويّ" فوزن لفظ "تحويّ" الآن "تفليّ" فإذا أردت مثل3 ذلك من نزف ونشف، قلت "تنفي" ومثالها "تفلي", إلّا أنه مع هذا خرج إلى لفظ الإضافة إلى تنوفة إذا قلت "تنفيّ" كقول العرب في الإضافة إلى "شنوءة": شنئيّ. أفلا ترى إلى الصنعة كيف تحيل لفظًا إلى لفظ, وأصلًا إلى أصل.
وهذا ونحوه إنما الغرض فيه الرياضة به4, وتدرب الفكر بتجشمه, وإصلاح الطبع لما يعرض في معناه وعلى سمته. فأمّا لأن يستعمل في الكلام "مضريّ" من "ضرب"، و"تنفي" من "نزف" فلا. ولو كان لا يخاض في علم من العلوم إلّا بما لا بُدَّ5 له من وقوع مسائله معينة محصلة لم يتم علم على وجهٍ ولبقي مبهوتًا6 بلا لحظٍ7
__________
1 الحذف في هذه الصيغة للتمرين جائز عند أبي علي أستاذ المؤلف. وانظر الكتاب السابق 3/ 296.
2 انظر في النسب إلى تحية شرح الرضي للشافية 2/ 31.
3 يريد أن تأخذ كلمة من هذين الفعلين على تفعله، فنقول: تنزفة وتنشقة, ثم تنسب إليهما على حذف العين فتقول: تنفي فيهما.
4 كذا في أ. وسقط في ب، ش.
5 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
6 كذا في أ، ب. وفي ش، هـ: "مهوتًا". يريد بالميهوت المرتجل لذي لم يدير ولم يرو فيه، من قولهم: بهته، أخذه بغتة.
7 كذا في أ. وفي ش،: "لحظة وفي د: "لحظه".(2/94)
ومخشوبًا1 بلا صنعة, ألا ترى إلى كثرة مسائل الفقه والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك من المركبات المستصعبات، "وذلك"2 إنما يمر في الفرط3 منها الجزء النادر الفرد, وإنما الانتفاع بها من قبل ما تقنيه النفس من الارتياض بمعاناتها.
__________
1 المراد به هنا: ما ليس مصقولًا.
2 ثبت ما بين القوسين في أ، وسقط في ش؛ ب.
3 أي: في الحين. ويقال: إنما ألقى فلانًا في الفرط إذا كنت تلقاه بعد أيام, وتقول أيضًا: ألقاء في الفرط أي: في الحين بعد الحين.(2/95)
باب في اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين في 1 الحروف والحركات والسكون:
غرضنا من هذا الباب ليس ما جاء به الناس في كتبهم نحو: وجدت في2 الحزن, ووجدت الضالة , ووجدت في الغضب, ووجدت أي: علمت؛ كقولك: وجدت الله غالبًا, ولا كما جاء عنهم من نحو: "الصدى": الطائر يخرج من رأس المقتول إذا لم يدرك بثأره، "والصدى": العطش، "والصدى": ما يعارض الصوت في الأوعية الخالية، و"الصدى" من قولهم: فلان صدى مال, أي: حسن الرعية له والقيام عليه. ولا "هل "3 بمعنى الاستفهام, وبمعنى قد, و "أم " للاستفهام وبمعنى بل, ونحو ذلك, فإن هذا الضرب من الكلام -وإن كان أحد4 الأقسام الثلاثة عندنا التي أولها اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين "ويليه"5اختلاف اللفظين واتفاق المعنيين- كثير في كتب العلماء, وقد تناهبته أقوالهم, وأحاطت بحقيقته أغراضهم. وإنما غرضنا هنا ما6 وراءه من القول على هذا النحو في الحروف والحركات والسكون المصوغة في أنفس الكلم.
__________
1 هذا متعلق بقوله: "اتفاق اللفظين", ومن الأمثلة التي يذكرها عجان يأتي مفردًا وجمعًا، فهما لفظان اتفقا في الحرف وهو الألف، ولكن المعنى مختلف، والفلك مفردًا والفلك جمعًا لفظان اتفقا في السكون والمعنى مختلف.
2 كذا في أوسقط في ش، ب.
3 كذا في أوفي ش، ب: "كهل".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "آخر"، ويريد بأحد الأقسام الثلاثة اتفاق اللفظين مع اختلاف المعنى. وانظر في الأقسام الثلاثة الكتاب 1/ 7.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "وثانيها".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "فساد".(2/95)
من ذلك الحروف.
قد يتفق "لفظ الحروف ويختلف معناها"1 وذلك نحو قولهم: درع دلاص2، وأدرع دلاص, وناقة هجان3, ونوق هجان. فالألف في دلاص في الواحد بمنزلة الألف في ناقة كناز4، وامرأة ضناك5، و"الألف في دلاص"6 في الجمع بمنزلة ألف ظراف وشراف؛ وذلك لأن العرب كسرت فعالًا على فعال, كما كسرت فعيلًا على فعال, نحو: كريم وكرام, ولئيم ولئام. وعذرها في ذلك أن فعيلًا أخت7 فعال, ألا ترى أن كل واحد منهما ثلاثي الأصل, وثالثه حرف لين, وقد اعتقبا أيضًا على المعنى الواحد نحو: كليب وكلاب, وعبيدٍ وعباد, وطسيس8 وطساس، قال الشاعر 9:
قرع يد اللعابة الطسيسا10
__________
1 كذا في أ. في ش، ب: "لفظا الحرف ويختلف معناه".
2 أي: ملساء لينة.
3 أي: بيضاء كريمة.
4 أي: كثيرة اللحم صلبة.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "صناك. والصناك: الضخمة".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "ألف دلاص".
7 كذا في ش، ب وفيهما بعد: "أخف من فعال"، وهو الموجود في أ, وهذا كله خطأ, وما أثبت موافق لما في اللسان عن ابن سيده في هجن.
8 الواحد الطس، وهو الطست.
9 هو رؤبة كما في اللسان في طسس. وهو من أرجوزة عدة أشعارها 159 في مدح أبان بن الوليد البجلي مطلعها:
دعوت رب العزة القدوسا ... دعاء من لا يقرع الناقوسا
حتى أرانا وجهك المرغوسا
ويقال: وجه مرغوس: طلق مبارك ميمون.
10 قبله في وصف الليل:
وجل ليل يحسب السدوسا ... يستسمع الساري به الجروسا
هَمَاهِمًا يسهرون أورسيسا ... علوت حين يخضع الرعوسا
جل الليل: معظمه. والسدوس "بفتح السين وضمها" الطيلسان الأخضر، والجروس جمع الجرس وهو الصوت، والهماهم جمع همهمة، وهو الصوت غير البين، والرسيس: الحدث الخفي، من قولهم: هم يتراسون الخير, أي: يسروّنه. والرعوس: الذي يهز رأسه في نومه. وقوله: "قرع يد اللعابة الطسيسا" أي: إن النوم يميل الرعوس ويلعب بها، كما يلعب اللاعب بالطسيس.(2/96)
فلما كانا كذلك -وإنما بينهما اختلاف حرف اللين لا غير, ومعلوم مع ذلك قرب الياء من الألف, وأنها أقرب إلى الياء منها إلى الواو- كُسِّر أحدهما على ما كُسِّر عليه صاحبه, فقيل: درع دلاص وأدرع دلاص, كما قيل: ظريف وظراف, وشريف وشراف.
ومثل ذلك قولهم في تكسير عُذَافِر1، وجُوَالِق: عَذافِر وجَوالِق, وفي تكسير قُناقِن 2: قَنَاقِن, وهُداهِدٍ: هَداهِد, قال الراعي:
كهُداهِدٍ كسر الرماة جناحه ... يدعو بقارعة الطريق هَدِيلا3
فألف عُذافِرٍ زيادة4 لحقت الواحد للبناء لا غير, وألف عَذافِر ألف التكسير كألف دَراهم ومنابر. فألف عُذافِر تحذف كما تحذف نون جَحَنْفَلٍ في جحافِل، وواو فَدَوْكسٍ، في فداكِس، وكذلك بقية الباب.
وأغمض من ذلك أن تسمى رجلًا بعبالٍّ وحمارٍّ, جمع عبالة5 وحمارةٍ6، على حد قولك: شجرة وشجر, ودجاجة7 ودجاج, فتصرف فإن كسرت عبالًا وحمارًا هاتين قلت حَمَارُّ وعَبَالٌّ فلم تصرف؛ لأن هذه الألف الآن ألف التكسير بمنزلة ألف مخاد ومشاد, جمع مخدة ومشد8. أفلا نرى إلى هاتين9 الألفين كيف اتفق
__________
1 هو الأسد، والعظيم الشديد.
2 هو البصير بالماء في حفر القنى.
3 الهداهد، الهدهد، والهديل: صوته, والمشبه به رجل أخذ عامل الزكاة إبله ظلمًا، وهو مذكور في قوله قبل:
أخذوا حمولته فأصبح قاعدًا
لا يستطيع عن الديار حويلًا
وانظر اللسان في هدد، والقصيدة بطولها في جمهرة أشعار العرب.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "زائدة".
5 يقال: ألقى عليه عبالته, أي: ثقله.
6 حمار الغيظ: شدته.
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "حاجة رحاج"
8 كذا في أ، فيما يظهر. وفي ش، ب: "مشدة".
9 كذا في ش، ب. وفي أ: "قياس".(2/97)
لفظاهما واختلف معناهما، ولذلك لم تصرف الثاني لما ذكرنا وصرفت الأول، لأنه ليست ألفه للتكسير, إنما هي كألف دجاجةٍ وسمامةٍ1، وحمامةٍ.
ومن ذلك أن توقع في قافية اسمًا لا ينصرف منصوبًا في لغة من نوّن القافية في الإنشاد, نحو قوله 2:
أقلِّ اللوم عاذل والعتابن
فتقول في القافية: رأيت سعادًا, فأنت في هذه النون مخيّر: إن شئت اعتقدت أنها نون الصرف, وأنك صرفت الاسم ضرورة أو على لغة3 من صرف جميع ما لا ينصرف, كقول الله تعالى: {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} 4, وإن شئت جعلت هذه النون في سعادًا نون الإنشاد كقوله:
داينت أروى والديون تقضن ... فمطلت بعضًا وأدت بعضن5
وكذلك أيضًا تكون النون التي في قوله: وأدت بعضن، هي اللاحقة للإنشاد، كقوله6:
يا أبتا علّك أو عساكن
__________
1 من معانيه: شخص الرجل وما شخص من الديار الخراب.
2 أي: جرير، وهو مطلع قصيدته المشهرة في هجاء الراعي النميري. وتمامه:
وقولي غن أصبت لقد أصابن
3 هذه لغة حكاها ثعلب على ما في الأشموني, والتصريح في أواخر باب ما لا ينصرف. وحكاها الأخفش على ما في 1/ 37، وقال: "وكأن هذه لغة الشعراء؛ لأنهم قد اضطروا إليه في الشعر، فجرت ألسنتهم على ذلك في الكلام، وانظر البحر لأبي حيان 8/ 294.
4 آية 4، سورة الإنسان.
5 ورد هذا الرجز في الكتاب 2/ 200. وقوله: "تقضن" كتب في أبجانبه: "ضا", وكذا قوله: "بعضن" كتب فيها أيضًا: "ضا"، دلالة على أن الأصل: تقضي، وبعضًا.
6 أي: رؤبة، وقيل العجاج. وانظر الكتاب 1/ 388، 2/ 299. وفي الخزانة 2/ 334: "والأكثرون على أن هذا الرجز لرؤبة بن العجاج لا الجعاج".(2/98)
ولكن إنما يفعل ذلك في لغة1 من وقف على المنصوب بلا ألف كقول الأعشى:
وآخذ من كل حيّ عصم2
وكما رويناه عن قطرب من قول آخر 3:
شئز جنبي كأنِّي مهدأ ... جعل القين على الدفِّ إبر4
وعليه قال أهل هذه5 اللغة في الوقف: رأيت فَرَح6. ولم يحك سيبويه هذه اللغة، لكن حكاها الجماعة: أبو الحسن، وأبو عبيدة, وقطرب, وأكثر الكوفيين, فعلى هذه اللغة يكون قوله:
فمطلت بعضًا، وأدت بعضن7
__________
1 تعرف هذه اللغة في كتب النحو بلغة ربيعة.
2 صدره: إلى المرء قيس أطيل السرى.
وانظر المصباح المنير 29. والبيت هو العشرون من قصيدته التي أولها:
أتهجو غانية أم تسلم ... أم الحبل وراء بها منجذم
والعصم جمع العصمة وهي السبب, والحبل أي: العهد، وقد فسَّرها بذلك ابن هشام صاحب السيرة في ص2/ 224 على هامش الروض، وقد يعبِّر عنها بالهذوفة وهي الخفارة. وانظر اللسان في بذرق.
3 هو عدي بن زيد كما في اللسان في هدأ، وكما في شعراء النصرانية 1/ 450-453.
4 قبل هذا البيت كما في شعراء النصرانية:
وكأن الليل فيه مثله ... ولقدمًا طنَّ بالليل القصر
لم أغمض طوله حتى انقضى ... أتمنى لو أرى الصبح حسر
شئز: قلق، يقال: شئز الرجل إذا قلق من همٍّ أو مرض، ومهدأ من أهدأ الصبي إذا علله لينام، والدف الجنب. يقول: إن الهموم غشينه فهو قلق كأنه صبي يتعاصى على النوم فهو يملل لينام، وكأنما كوى القين -وهو الحداد- جنبه بالإبر المحماة.
5 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ.
6 كذا بالحاء المهملة في أ. وفي ش، ب، ج: "فرج".
7 كتب في أفوق الضاد: "منا".(2/99)
إنما نونه نون الإنشاد لا نون الصرف, ألا ترى أن صاحب هذه اللغة إنما يقف على حرف الإعراب ساكنًا فيقول: رأيت زيدْ كالمرفوع والمجرور, هذا هو الظاهر من الأمر.
فإن قلت: فهل تجيز1 أن يكون قوله: وأدت بعضًا, تنوينه تنوين الصرف لا تنوين الإنشاد, إلّا أنه على إجراء الوقف مجرى الوصل كقوله:
بل جو زتيهاء كظهر الحجفت2
فإن هذا وإن كان ضربًا من ضروب المطالبة فإنه يبعد, وذلك أنه لم يمر بنا عن أحد من العرب أنه يقف في غير الإنشاد على تنوين الصرف, فيقول في غير قافية الشعر: رأيت جعفرن, ولا كلمت سعيدن, فيقف بالنون. فإذا لم يجئ مثله قبح حمله عليه. فوجب حمل قوله: وأدت بعضن على أنه تنوين الإنشاد على ما تقدَّم من قوله 3:
ولا تبقي خمر الأندرينن
وأقلِّي اللوم عاذل والعتابن
وما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجنْ4
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "يجوز".
2 انظر ص305 من الجزء الأول.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "قول عمرو بن كلثوم". وهو الشطر الأخير من مطلع معلقته المشهورة.
4 مطلع أرجوزة للعجاج، عجزه:
من طلل كالآحمى أنهجن(2/100)
ولم تحضرنا هذه المسألة في وقت عملنا الكتاب "المعرب"1 في تفسير قوافي أبي الحسن, فنودعها إياه فلتلحق هذه المسألة به بإذن الله. فإذا مرَّ بك في الحروف ما هذه سبيله فأضفه إليه.
ومن ذلك الحركات.
هذه الحال موجودة في الحركات وجدانها في الحروف, وذلك كامرأة سميتها بحيث, وقبل, وبعد, فإنك قائل في رفعه: هذه حيثُ, وجاءتني قبلُ, وعندي بعدُ. فالضمة الآن إعراب, وقد كانت في هذه الأسماء قبل التسمية بها بناء. وكذلك لو سميتها بأين وكيف, فقلت: رأيت أينَ, وكلمت كيفَ, لكانت هذه الفتحة إعرابًا بعد ما كانت قبل التسمية في أين وكيف بناء. وكذلك لو سميت رجلًا بأمسِ وجيرِ, لقلت: مررت بأمسٍ وجيرٍ, فكانت هذه الكسرة إعرابًا بعد ما كانت قبل التسمية بناء. وهذا2 واضح. فإن سميته بهؤلاء فقلت "في الجر" 3: مررت بهؤلاء، كانت4 كسرة الهمزة بعد التسمية به هي "الكسرة قبل"5 التسمية به6. وخالف "هؤلاء" باب أمس وجير, وذلك أن "هؤلاء" مما يجب بناؤه وحكايته بعد التسمية به7 على ما كان من قبل التسمية؛ ألا ترى أنه اسم ضمّ إليه حرف،
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "المغرب"، وانظر ص68 من تصدير هذا الكاب.
2 قد يقول قائل في أمس وجير: أنهما قبل التسمية غير منونين، وبعد التسمية منونان, وهاتان حالتان متعاديتان لا تشتبهان.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "بالجرّ".
4 كذا في ب، ش. وفي أ: "لكانت". واللام غير سائغة هنا مع جواب "إن", وقد وقعت في ج وهي سائغة هناك, فإن فيها: "فلو سميته".
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "كسرة قبل".
6 كذا في ش, ب. وسقط في أ.
7 ثبت في أ، وسقط في ش، ب، وانظر في التسمية بهؤلاء، ولعل الكتاب 2/ 67.(2/101)
فأشبه الجملة، كرجل سميته بلعلّ, فإنك تحكي الاسم؛ لأنه حرف ضمّ إليه حرف, وهو "عَلَّ" ضمت إليه اللام, كما أنك لو سميته بأنت لحكيته أيضًا, فقلت: رأيت أنت ولعلَّ, فكانت الفتحة في التاء بعد التسمية به هي التي كانت فيه قبلها, لكنك إن سميته بأولاء أعربته فقلت: هذا أولاءٌ, ورأيت أولاءً ومررت بأولاءٍ, فكانت الكسرة لأن فيه إعرابًا لا غير؛ لأن أولاء اسم مفرد مثاله1 فعال كغراب وعقاب.
ومن الحركات في هذا الباب أن ترخّم اسم رجل يسمَّى2 منصورًا, فتقول على لغة من قال يا حارِ: يا منصُ, ومن قال يا حارُ قال كذلك أيضًا بضم الصاد في الموضعين جميعًا. أما على يا حارِ فلأنك حذفت الواو وأقررت الضمة بحالها, كما أنك لما حذفت الثاء أقررت الكسرة بحالها. وأما على يا حارُ فلأنك حذفت الواو والضمة قبلها كما في يا حارُ حذفت الثاء والكسرة قبلها، ثم اجتلبت3 ضمة النداء فقلت: يا مَنْصُ. فاللفظان كما ترى واحد, والمعنيان مختلفان.
وكذلك إن سميته بيرثن، وثرتم4، ويعقوب5، ويربوع، ويعسوت.
ومثل ذلك قول العرب في جمع الفُلكِ: الفُلْك, كسروا فُعْلًا على فُعْلٍ, من حيث كانت فُعْل تعاقب فَعَلًا على المعنى الواحد, نحو: الشُغْل والشَغَلِ, والبُخْلِ والبَخَل, والعُجْمِ والعَجَم, والعُرْب والعَرَب. وفَعَلٌ مما يكسر على فُعْل كأََسَدٍ،
__________
1 كذا في أ، وفي سائر الأصول: "مثال".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "سمي".
3 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "أعقبت".
4 هو ما فضل من الطعام في الإناء.
5 يريد به ذكر الحجل، وهو عربي, فأما يعقوب أبو يوسف -عليهما السلام- فهو أعجمي، وهو علم البتة؛ والحكم فيما من جهة الترخيم واحد.(2/102)
وأسْد, ووَثَنٍ ووُثْن. حكى صاحب1 الكتاب "إن تدعون من دونه إلا أُثْنا" وذكر أنها قراءة. وكما2 كسروا فَعَلا على فُعْل, وكانت فُعْل وفَعَل أختين معتقبتين على "المعنى"3 الواحد كعجمٍ وعَجَم, وبابه, جاز أيضًا أن يكسر فُعْل على فُعْل, كما ذهب إليه صاحب4 الكتاب في الفُلْكِ؛ إذ كسر على الفُلْك, ألا ترى أن قوله عز اسمه: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} 5 يدل على أنه واحد, وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} 6 فهذا يدل على الجمعية. فالفُلْك إذًا في الواحد بمنزلة القُفْلِ, والخُرْج والفُلْك في الجميع بمنزلة الحُمْرِ والصُفْر.
فقد ترى اتفاق الضمَّتين لفظًا واختلافهما تقديرًا ومعنى. وإذا كان كذلك فكسرة الفاء في هجان ودلاص في الواحد ككسرة الفاء في كنازٍ وضناكٍ, وكسرة الفاء في هجانٍ ودلاصٍ في الجمع7 ككسرة الفاء في كرامٍ ولئام.
ومن ذلك قولهم: قنو وقنوانٌ, وصنو وصنوانٌ, وخشف وخشفانٌ، ورئد8 ورئدان, ونحو ذلك مما9 كسر فيه فِعْل على فِعْلان؛ كما كسروا فَعَلا على فِعْلان. وذلك أن فِعْلا وفَعَلا قد اعتقبا على المعنى الواحد نحو: بِدْلٍ وبَدَلٍ, وشِبْهٍ وشَبَهٍ, ومِثْلٍ ومَثَلٍ. فكما كسروا فَعَلا على فِعلان كَشَبثٍ10 وشبْثان, وخَرَبٍ11 وخِرْبانٍ, ومن المعتل تاج وتيجان, وقاع وقيعان, كذلك كسروا أيضًا فِعْلًا على فِعْلان فقالوا: قِنْو وقِنْوانٌ, وصِنْو وصِنْوانٌ.
__________
1 الذي في الكتاب 2/ 177: "وذلك نحو: أسد وأسد، ووثن ووثن، بلغنا أنها قراءة، وقراءة أثن ذكرها أبو حبان ولم يعزها، وأثن عليها ميدلة من وثن، وانظر البحر 3/ 352 عند قوله تعالى في سورة النساء الآية: 117: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} .
2 كذا في أ. وسقط حرف العطف في ش، ب.
3 كذا في ج. وسقط في أ، ب، ش.
4 انظر الكتاب 2/ 181.
5 آية 119 سورة الشعراء، آية 41 سورة يس.
6 آية 22 سورة يونس.
7 كذا في ش، ب. وفي أ "الجميع". وانظر في هجان ودلاس الكتاب 2/ 209.
8 هو ما لان من الأغصان.
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيما".
10 هو دويبة كثيرة الأرجل.
11 هو ذكر الحبارى.(2/103)
ومن وجه آخر أنهم رأوا فِعْلا وفُعْلا قد اعتقبا على المعنى الواحد نحو: العِلْو والعُلْو, والسِفْل والسُفْل, والرِجْز والرُجْز, فكما كسروا فُعْلا على فِعلان ككُوزٍ وكِيزان, وحوت وحيتان, كذلك كسروا أيضًا فِعْلا على فِعلان نحو: صنو وصنوان، وحسلٍ1 وحسلان، وخشف وخشفان. فكما أن كسرة فاء شِبثان وبِرقان غير فتحة فاء شَبثٍ وبَرق2 لفظًا، فكذلك كسرة فاء صنو غير كسرة فاء صِنوان تقديرًا. وكما3 أن كسرة فاء حيتان وكيزان غير ضمة فاء كُوزٍ وحوت لفظًا, فكذلك أيضًا كسرة فاء صِنوان غير كسرة فاء صِنْو تقديرًا. وسنذكر في كتابنا هذا "باب حمل"4 المختلف فيه على المتفق عليه بإذن الله. وعلى هذا فكسرة فاء هجان ودلاص لفظًا غير كسرة فاء هجان ودلاص تقديرًا, كما أن كسرة فاء كرام ولئام غير فتحة فاء كريم ولئيم لفظًا. وعلى هذا استمرار ما هذه سبيله فاعرفه.
وأما السكون في هذه الطريقة فهو كسكون نون صِنْو وقِنْوٍ, فينبغي أن يكون في الواحد غير سكون نون صِنوان وقِنْوان؛ لأن هذا شيء أحدثته الجمعية, وإن كان بلفظ ما كان في الواحد, ألا ترى أن سكون عين شِبْثان وبِرْقان غير فتحة5 عين شَبَث وبَرَق, فكما أن هذين مختلفان لفظًا، فكذلك ذانك السكونان4 هما مختلفان تقديرًا.
ونظير فِعْل وفِعْلان في هذا الموضع فُعْل وفُعْلان في قولهم: قُوم6 وقُومَان, وخُوط7 وخُوطان. فواجب إذًا أن تكون الضمة والسكون في فُوم غير الضمة والسكون في فُومان, وكذلك خُوط وخُوطان. ومثله أن سكون عين بُطْنان وظُهْران
__________
1 هو ولد الضب.
2 هو الحمل، وهو الصغير من ولد الضأن.
3 كذلك في م وفي غيرها: "فكما".
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "بابًا من".
5 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
6 فسر بالزرع، والحنطة، وفسر بغير ذلك من الحبوب.
7 هو الغصن الناعم.(2/104)
غير سكون عين بَطْن وظَهْر, الباب واحد1 غير مختلف. وكذلك كسرة اللام من دِهْليِز ينبغي أن تكون غير كسرتها في دهالِيز؛ لأن هذه كسرة ما يأتي بعد ألف التكسير "وإن لم يكن في الواحد مكسورًا"2؛ "نحو: مفتاح"3 ومفاتيح، وجُرْموق4 وجرامِيق. وعلى هذا أيضًا يجب أن تكون5 ضمة فاء رُبَابٍ غير6 ضمة فاء رُبى؛ لأن رُبَابًا كعُراق وظُؤارٍ ونُؤَام, فكما أن أوائل كلٍّ منهن على غير "أول"7, واحده الذي هو عرق8، وظئر9، وتوأم لفظًا, فكذلك فليكن أول رُبَى ورُبَابٍ تقديرًا.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "الواحد".
2 سقط ما بين القوسين في ش، ب. وثبت في أ.
3 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "كمفتاح".
4 هو ما يلبس فوق الخف.
5 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
6 الربى: الشاة الحديثة النتاج. والرباب جمعها.
7 ثبت في الأصول ما عدا أ.
8 هو العظم أُكِل لحمه.
9 هو المرضعة لولد غيرها.(2/105)
باب في اتفاق المصاير؛ على 1 اختلاف المصادر:
من ذلك اسم الفاعل والمفعول في "افتعل" مما عينه معتلة, أو ما فيه تضعيف. فالمعتل نحو قولك: اختار فهو مختار, واختير فهو مختار: الفاعل والمفعول واحد لفظًا, غير أنهما مختلفان تقديرًا, ألا ترى أن أصل الفاعل "مختِير" بكسر العين, وأصل المفعول "مختَير" بفتحها. وكذلك هذا رجل معتاد للخير, وهذا أمر معتاد, وهذا فرس مقتاد إذا قاده صاحبه الصاحب مقتاد له.
وأما المدغم فنحو قولك: أنا معتدّ لك بكذا وكذا, وهذا أمر معتَدّ به. فأصل الفاعل "معتِدد" كمقتطع وأصل المفعول "معتَدد" كمقتَطع. ومثله هذا
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج "عن".(2/105)
فرس مستن لنشاطه, وهذا مكان مستن فيه, إذا استلّت1 فيه2 الخيل, ومنه قولهم: "استنّت الفصال حتى القَرْعى "3.
وكذلك افعَلَّ وافعالَّ من المضاعف أيضًا؛ نحو: هذا بسر محمرّ ومحمارّ, وهذا وقت محمر فيه ومحمار فيه. فأصل الفاعل محمِرر ومحمارِر مكسور العين, وأصل المفعول محمَرر ومحارَر فيه مفتوحها.
وليس كذلك اسم الفاعل والمفعول في افعلّ وأفعال "إذا ضعف فيه حرفا علة"4, بل ينفصل فيه اسم الفاعل من اسم المفعول عندنا, وذلك قولك: هذا رجل مُرْعَوٍ وأمر مُرْعَوى إليه, وهذا رجل مًغَزاوٍ وهذا وقت مُغْزَاوًى فيه5؛ لكنه على مذهب الكوفيين لا فرق بينهما؛ لأنهم يدغمون هذا النحو من مضاعف المعتل, ويجرونه مجرى الصحيح, فيقولون: اغزوا يغزاو, واغزوَّ يغزوّ. واستشهد أبو الحسن على فساد مذهبهم بقول العرب: أرعوى. قال: ولم يقولوا: أرعوَّ. ومثله من كلامهم قول يزيد بن الحكم -أنشدنيه أبو علي وقرأته في القصيدة عليه:
تبدّل خليلًا بي كشكلك شكله ... فإني خليلًا صالحًا بك مُقْتَوِى6
فهذا عندنا مُفْعِّل من القنو, وهو المراعاة والخدمة كقوله:
إني امرؤ من بني خزيمة لا ... أحسن قتو الملوك والحفدا7
__________
1 يقال: استن الفرس في المضمار إذا جرى في نشاطه على سنته في جهة واحدة.
2 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
3 أي: جرت الفصال مرحًا حتى القرعى منهما، وهي تنزو تشبهًا بالصحاح. وهذا مثل بضرب للرجل يدخل نفسه في قوم ليس مهم.
4 كذا في أوفي ش: "وافتعل مما ضعف فيه حرف علة", وفي ب: وافتعل مما ضعف فيه حرفا علة".
5 كذا في ش، ب. وفي أ "إليه".
6 انتصب خليلًا بمقنوى على تضمينه معنى متخذ، ربك أي: بذلك.
7 "خزيمة" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "سليمة", وما أثبت موافق لما في اللسان في قنو. "الحفدا" كذا في أصول الخصائص. وفي اللسان في قنو: الحبا. والحقد أصله الحفد أصله الحفد فحرك، وهو الخدمة.(2/106)
وفيها1 أيضًا: مُدْحَوِى، وفيها أيضًا مُحْجَوِى:
فهذا كله مُفْعَل كما تراه غير مدغم.
وانفعل في المضاعف كافتعل, نحو قولك: هذا أمر منحل, ومكان منحل فيه، ويوم منحل فيه، أي: تنحل2 فيهما الأمور. فهذا طرف3 من هذا النحو.
ومن ذلك قولك في تخفيف "فُعْل" من جئت على قول الخليل وأبي الحسن تقول في القولين جميعًا: جي، غير أن هذين الفرعين المتفقين التقيا عن أصلين مختلفين.
وذلك أن الخليل يقول في "فُعْل" من جئت: جيء كقوله فيه من بِعْت بِيعٌ. وأصل الفاء عنده الضم, لكنه كسرها لئلّا تنقلب الياء واوًا, فيلزمه أن يقول: بُوع. ويستدل على ذلك بقول العرب في جمع أبيض وبيضاء: بيض. وكذلك "عين" تكسير ًاعْيَن وعَيْناء، و"شِيم" في أشيم4 وشيماء.
وأبو الحسن يخالفه فيقر الضمة في الفاء فيبدل لها العين واوًا فيقول: بُوع وجُوء. فإذا5 خففا جميعًا صارا إلى جُيٍ لا غير. فأما الخليل فيقول: إذا تحركت العين بحركة الهمزة الملقاة عليها فقويت رددت ضمة الفاء لأغنى6 على العين القلب فأقول: جيٌ, وأما أبو الحسن فيقول: إنما كنت قلت: جُوء فقلبت العين واوًا لمكان الضمة
__________
1 أي: في قصيدة يزيد بن الحكم مدحو ومحجو. وهما في قوله:
أفحشًا وخبًّا واختناء عن الندى ... كأنك أفعى كدية فرَّ محجوى
فيدحو بك الداحي إلى كل سوءة ... فياشر من يدحو بأطيش مدحوي
الاختناء: التقبض، والكدية، الأرض الغليظة الصلبة، ومحجو: منطو، ومدحو: مرَّ بي وكأنه مطاوع دحاء وكأنه يقال دحوت الشئ. فادحوى. وانظر الأمال 1/ 68 والخزانة 1/ 496، وأمالي ابن الشجري 1/ 176.
2 كذا في أ، ب. وفي ش "منحل".
3 كذا في أ. وفي ش: "طور".
4 هو الذي به شامة، وهي لون يخالف لون سائر البدن.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "وإذا".
6 كذا في ب. وفي ش: "الأمني", وهو في أ "لأبني" وكل ذلك تحريف.(2/107)
قبلها وسكونها، فإذا قويت1 بالحركة الملقاة عليها تحصنت فحمت نفسها من القلب, فأقول: جَيٌ. أفلا ترى إلى ما ارتمى إليه الفرعان من الوفاق بعد ما كان عليه الأصلان من الخلاف. وهذا ظاهر.
ومن ذلك قولك في الإضافة إلى مائة في قول سيبويه ويونس جميعًا فيمن ردَّ اللام: مئوي كمعوي, فتوافى اللفظان على أصلين مختلفين. ووجه ذلك أن مائة أصلها عند الجماعة مِئية ساكنة العين, فلما حذفت اللام تخفيفًا جاورت العين تاء التأنيث فانفتحت على العادة, والعرف في ذلك فقيل: مئة. فإذا رددت اللام فمذهب سيبويه أن يقرّ2 العين بحالها متحركة, وقد كانت قبل الرد مفتوحة فتقلب لها اللام ألفًا فيصير تقديرها 3: مِئا كمِعَى4, فإذا أضفت إليها أبدلت الألف واوا فقلت: مئوي كثنوي. وأما مذهب يونس فإنه كان إذا نسب إلى فَعْلة أو فعْلة مما لامه ياء أجراه مجرى ما أصله فَعِلة, ألا تراه كيف كان يقول في الإضافة إلى ظَبْية: ظَبوَي, ويحتج بقول العرب في النسب إلى بطية 5: بِطَوِيّ, وإلى زنية: زِنَوِيّ, فقياس هذا أن تجري مائة -وإن كانت فِعْلة- مجرى فِعِلة فتقول فيها: مِئَوىّ. فيتفق اللفظان من أصلين مختلفين.
ومن ذلك أن تبنى من قلت ونحوه فُعُلا, فتسكن عينه استثقالًا للضمة فيها فتقول: "فُولُ" كما يقول أهل الحجاز في تكسير عَوَان ونَوَار: عُون ونُور, فيسكنون, وإن كانوا يقولون: رُسُل وكُتُب بالتحريك. فهذا حديث فُعُل من باب قلت. وكذلك فُعْل منه أيضًا قُول فيتفق فُعُل وفُعْل, فيخرجان6 على لفظ متفق عن أول مختلف. وكذلك فِعْل من باب بعت, وفُعْل في قول الخليل وسيبويه: تقول7 فيهما جميعًا8
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 كذا في ش، أ. وفي ب "تقر".
3 كذا في أ، وسقط في ش، ب. وفيها: "فتصير".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "كثنى" وفي ج "كمنى".
5 ذكرها سيبوه ولم تفسره. وانظر الكتاب 2/ 75.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "عن".
7 كذا في ش، ب. وفي أ: "يقول".
8 كذا في أ. وسقط في ش، ب.(2/108)
بيع. وسألت أبا عليّ -رحمه الله- فقلت: لو أردنا فُعْلات مما عينه ياء لا نريد بها أن تكون جارية على فِعْلة كتينة وتينات1؟ فقال: أقول على هذا الشرط: تونات, وأجراها لبعدها عن الطرف مُجرى واو عُوطَطٍ2.
ومن ذلك أن تبنى من غَزَوت مثل إصبُع بضم الباء فتقول: إغزٍ. وكذلك إن أردت مثل إصبع, قلت أيضًا: إغز. فيستوي لفظ إفعُل ولفظ إفْعِل. وذلك أنك تبدل من الضمة قبل الواو كسرة فتقلبها ياء، فيستوي حينئذ لفظها ولفظ إفِعل. وإِصْبُع، وإن كانت مستكَرهة لخروجك من كسر إلى ضم بناء لازمًا، محكية؛ تروى عن متقدمي3 أصحابنا.
وما يخرج إلى لفظ واحد عن أصلين مختلفين كثير, لكن هذا مذهبه وطريقه فاعرفه وقسه.
ومن ذلك قولك في جمع تعزية وتعزوة4 جميعًا: تَعَازٍ "وكذلك اللفظ بمصدر تعازَينا أي: عَزَّى بعضًنا بعضًا: تعاز"5 يا فتى. فهذه تفاعُل كتضارُب وتحاسد, وأصلها تعازوٌ ثم تعازِى ثم تعازٍ. فأما6 "تعازٍ" في الجمع فأصل عينها الكسر كتتافِل وتناضِب، جمع تتفُل7 وتَنْضُبٍ8. ونظائره كثيرة.
__________
1 جواب لو محذوف، أي: فماذا يقال؟
2 العوطط: ألا تلقَّح الناقة فتسمن لذلك، وهو اسم في معنى المصدر لقولم: عاطت الناقة تعيط. يريد أن الواو في عوطط مبدلة من الياء، ولم يقل: هيطط كما قيل بيض؛ لبعد الباء عن الطرق فلم تشبه بيضًا وإنما أشبهت موقنًا. الكتاب 2/ 377. وكذلك ما نحت فيه، وهو فعلات من التين على ألا يكون هذا جمعًا جاريًا على واجد بل يكون بناء مرتجلًا.
3 انظر ص70 في الجزء الأول من هذا الكتاب.
4 هي اسم للعزاء: كما حكاه المصنف عن أبي زيد. والواو هنا مبدلة من الياء لمكان الضمة قبلها؛ كما قالوا: الفتوة. وانظر اللسان "عزا".
5 ثبت ما بين القوسين في أ، وسقط في ش، ب.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "وأما".
7 هو ولد الثعلب.
8 هو شجر بنبت بالمجاز.(2/109)
باب في ترافع 1 الأحكام:
هذا موضع من العربية لطيف لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسمًا, ولا نقلوا إلينا فيه2 ذكرا.
من ذلك مذهب العرب في تكسير ما كان من "فعل" على "أفعال" نحو: عَلَم وأعلام, وقدمٍ وأقدام, ورَسنٍ وأرسان, وفَدَنٍ وأفدانٍ. قال سيبويه: فإن كان على "فَعَلة" كسروه على "أَفْعُلٍ" نحو أَكَمةٍ وآكُمٍ. ولأجل ذلك "ما حمل"3 أمَّة على أنها "فَعَلة" لقولهم في تكسيرها: آمٍ, إلى هنا4 انتهى5 كلامه إلّا أنه أرسله ولم يعلله.
والقول فيه عندي أن حركة العين قد عاقبت في بعض المواضع تاء التأنيث, وذلك في الأدواء نحو قولهم: رمث6 رمثًا، وحبط7 حبطًا، وحبج8 حبجًا.
__________
1 يريد أنه قد يجتمع في الكلمة أمران، يقضي كل منهما إذا انفرد بحكم في اللغة، تكون عليه الكلمة؛ فيكون ذلك داعيًا إلى إلغاء تأثيرها، فكان هذا، رفع حكم هذا، وهذا رفع حكم هذا وأبطله. فمن ثَمَّ صاغ ابن جني لهذا الأصل" ترافع الأحكام", ويقرب من هذا أقوال الأصوليين وأرباب الاستدلال: إن الأمرين إذا تعارضا تساقطا, وقد عرض لهذا الأصل المؤلف في المحتسب عند قوله تعالى في سورة آل عمران: {أَمَنَةً نُعَاسًا} [آية: 22] ، فقال: {أَمَنَةً} -بفتح الميم- أشبه بمعابة الأمن. ونظير ذلك قولهم: الحبط والحبج والرمث، كل ذلك في أدواء الأبل. فلما أسكنوا العين جاءوا بالهاء فقالوا: مغل مغلة، وحقل حقله، وقد أفردنا بابًا في كتابنا الخصائص لنحو هذا وهو: "باب ترافع الأحكام" وفي نسخة المحتسب المحفوظة في دار الكتب: "تدافع" وظاهر أنه تحرف.
2 كذا في ش، ب. وفي أ "له".
3 كذا في أ. وفي ب "ما يمل سيبويه". وفي ش "مما يحمل سيبويه".
4 كذا في أ، وفي ش، ب "هذا".
5 انظر الكتاب 2/ 191.
6 يقال: رمث البعير إذا اشتكى من أكل الرمث. وهو مرعى للإبل من الحمض.
7 أي: أصابه الحبط. وهو وجع ببطن البعير من كلأٍ يستوبله.
8 أي: أصابه الحبج، وهو انتفاخ بطن البعير من أكل السرفج.(2/110)
فإذا ألحقوا التاء أسكنوا العين؛ فقالوا: حَقِل1 حَقْلة, ومغَل مَغْلة2. فقد ترى إلى معاقبة حركة العين تاء التأنيث. ومن ذلك قولهم: جَفْنة وجَفَنات, وقَصْعة وقَصَعات, لما حذفوا التاء حركوا العين.
فلما تعاقبت التاء وحركة العين3 جريا4 لذلك مجرى الضدين المتعاقبين, فلما اجتمعا في "فَعَلة" ترافعا أحكامهما فأسقطت التاءُ حكم الحركة, وأسقطت الحركة حكم التاء. فآل الأمر بالمثال إلى أن صار كأنه فَعْل، "فَعْل" باب تكسيره "أَفْعُل".
وهذا حديث من هذه الصناعة غريب المأخذ لطيف المضطرب. فتأمله فإنه مُجْدٍ عليك مُقَوٍّ لنظرك.
ومن "فَعَلة" و"أفعُل" رَقَبة وأَرْقُب، وناقة وأَيْنُق.
ومن ذلك أنَّا قد رأينا تاء التأنيث تعاقب ياء المد, وذلك نحو: فرازين5 وفرازنة, وحجاجيح6 وجحاجحة، وزناديق وزنادقة. فلما نسبوا إلى نحو حنيفة وبجيلة تصوروا ذلك الحديث أيضًا, فترافعت التاء والياء أحكامهما7، فصارت حنيفة وبجيلة إلى أنهما كأنهما حَنِف وبَجِل, فجريا لذلك مجرى شَقِر8 ونَمِر فكما تقول
__________
1 الحقلة: من أدواء الإبل، يعنيها من أكل التراب مع البقل.
2 المغلة: أيضًا داء في الحيوان من أكل البقل مع التراب.
3 كذا في أ. وفي ش، ب "الإعراب".
4 كذا في الأصول. والمناسب: "جرتا".
5 واحده فرزان، وهو من لعب الشطرنج. وانظر ص115 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
6 واحده جحجاح؛ وهو السيد.
7 كذا في ش، ب. وفي أ "أحكامها".
8 هو شقائق النعمان.(2/111)
فيهما: شَقَرِيّ ونَمَريّ، كذلك قلت أيضًا في حنيفة: حنفيّ, وفي بجيلة: بجليّ. يؤكد ذلك عندك أيضًا أنه إذا لم تكن هناك تاء كان القياس إقرار الياء كقولهم في حنيف: حنيفيّ, وفي سعيد: سعيديّ. فأما ثقفي فشاذّ عنده1، ومشبه بحنفي. فهذا طريق آخر2 من الحجاج في باب حنفيّ وبجليّ, مضاف إلى ما يحتج به أصحابنا في حذف تلك الياء.
ومما يدلك على مشابهة حرف المد قبل الطرف لتاء3 التأنيث قولهم: "رجل"4 صَنَع اليد وامرأة صَنَاع اليد, فأغنت الألف قبل الطرف مغنى5 التاء التي كانت تجب في صنعة, لو جاءت على حكم نظيرها نحو: حَسَن وحَسَنةٍ, وبَطَلٍ وبَطَلة. وهذا أيضًا حَسَن في بابه.
ويزيد عندك في وضوح ذلك أنهم قالوا في الإضافة إلى اليمن والشام وتهامة: يمان وشآم وتهامٍ, فجعلوا الألف قبل الطرف عوضًا من إحدى الياءين اللاحقتين بعدها6. وهذا يدلك أن الشيئين إذا اكتنفا الشيء من ناحيتيه تقاربت حالاهما "وحالاه"7 بهما, ولأجله وبسببه ما ذهب قوم إلى أنَّ حركة الحرف تحدث قبله, وآخرون إلى أنها تحدث بعده, وآخرون إلى أنها تحدث معه. قال أبو علي: وذلك لغموض الأمر وشدة القرب. نعم، وربما احتج بهذا8 لحسن تقدم الدلالة وتأخرها هذا في موضع "وهذا في موضع"9. وذلك لإحاطتهما جميعًا بالمعنى المدلول عليه.
__________
1 أي: عند سيبويه, وقيّد بذلك؛ لأن من النحويين غير سيبويه من يجعل هذا قياسًا؛ وهو المبرد.
2 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 كذا في أ. وفي ش، ب" تاء التأنيث".
4 زيادة من ب.
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "معنى".
6 أي: بعد الطرف. وقد أنَّث الضمير باعتباره لفظة.
7 كذا في أ، ج. وهو ما في عبارة اللسان في تهم, وسقط هذا في ش، ب.
8 يريد أنه في يمان تقدّم الألف وتأخّر إحدى الياءين، وهما دلالتان على النسب.
9 كذا في أ. وسقط في ش، ب.(2/112)
فمما تأخَّر دليله قولهم: ضربني وضربت زيدًا, ألا ترى أن1 المفسِّر للضمير المتقدم جاء من بعده. وضده زيد ضربته؛ لأن المفسِّر للضمير متقدم عليه. وقريب من هذا أيضًا اتباع الثاني للأول نحو: شُدٌّ2 وفِرّ2، وضّنَّ2، وعكسه قولك: اقتل, اُستُضعِف, ضممت الأول للآخر.
فإن قلت: فإن في تهامة ألفًا, فلم ذهبت إلى أن الألف في تهام عوض من إحدى الياءين للإضافة؟ قيل: قال الخليل في هذا: إنهم كأنهم نسبوه إلى فَعْل أو فَعَل, وكأنهم فكوا3 صيغة تهامة فأصاروها إلى تَهَمٍ أو تَهْم, ثم أضافوا إليه فقالوا: تهامٍ.
وإنما ميّل4 الخليل بين فَعْل وفَعَل، ولم يقطع بأحدهما؛ لأنه قد جاء هذا العمل في هذين المثالين جميعًا، وهما5 الشأم واليمن. وهذا الترجيم6 الذي أشرف عليه الخليل ظنًّا، قد جاء به السماع نصًّا7؛ أنشدنا أبو علي، قال أنشد8 أحمد بن يحيى:
أرَّقنى الليلةَ بَرْقٌ بالتَهم ... يا لكَ برقًا من يَشُقْه لا ينمْ9
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب "إلى".
2 يريد فعل الأمر. وفي ضنَّ لغتان. يقال: ضننت أضن من باب علمت، وهي اللغة العالية، وهي المرادة هنا. ويقال: ضننت أضن من باب ضرب.
3 كذا في أ. وهو يوافق ما في اللسان. وفي ش، ب "كفوا".
4 كذا في أ. وفي ش، ب، وعبارة اللسان: "مثل". والوجه ما أثبت، يقال: ميل بين الأمرين, أي: تردد فيهما أيهما يأخذ.
5 كذا في م. وفي بعض الأصول "هو".
6 كذا في أوفي ش، ب، ج، وعبارة اللسان في تهم: "الترخيم" والوجه ما أثبت. والترخيم مبالغة الرجم، وهو القول بالظن والحدس.
7 كذا في ش، ب. وهو ما في عبارة اللسان. وفي أ: "أيضًا".
8 كذا في ب. وفي أ، ش "أنشدنا", وما أثبته هو الصواب؛ فإن أبا علي لم يدرك أحمد بن يحيى ثعلبًا؛ فقد مات ثعلب سنة 291، ومات أبو علي سنة 377.
9 "يشقه" كذا في أ، ب. وفي ش. "يشفه" وفي ج "تشقه". وفي اللسان "يشمه", والبيت في خزانة الأدب 1/ 147 طبعة السلفية، وفيها بعده ثلاثة أشطار عن نوادر ابن الأعرابي.(2/113)
فانظر إلى قوة تصوّر الخليل إلى أن هجم به الظنّ على اليقين, فهو المعني1 بقوله:
الألمعيّ الذيب يظنُّ بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
وإذا كان ما قدمناه من أن العرب لا تكسر فَعَلة على أفعال مذهبًا لها, فواجب أن يكون "أفلاء" من قوله 2:
مثلها يخرج النصيحة للقو ... م فلاةً من دونها أفلاء
تكسير "فلا" الذي هو جمع فلاة لا جمعًا لفلاةٍ؛ إذ كانت فَعَلة. وعلى هذا فينبغي3 أيضًا أن يكون قوله 4:
كأن متنيه من النفيّ ... مواقع الطير على الصفيّ
إنما هو تكسير صفَا الذي هو جمع صفاة؛ إذ كانت فعلة لا تكسر على فعول, إنما ذلك فعلة كبدرة وبدور ومأنة5 ومئون. أو فَعَل كطلل وطلول, وأسد وأسود. وقد ترى بهذا أيضًا مشابهة فعلة لفعل في تكسيرهما جميعًا على فعول.
ومن ذلك قولهم في الزكام: آرضه الله, وأملأه, وأضأده. وقالوا 6: هي الضؤدة والملأة، والأرض. والصنعة في ذلك أن "فُعْلا" قد عاقبت7 "فَعَلا" على الموضع الواحد نحو: المعُجْم والعَجَم, والعُرْب والعَرَب, والشُغْل والشَغَل،
__________
1 يريد أنه يصح أن يعني بهذا البيت تمثلًا, وهو من قصيدة لأوس بن حجر في رثاء فضالة بن كلدة الأسدي مطلعها:
أيتها النفس أجملي جزعًا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
وانظر ذيل الأمالي 34 طبعة دار الكتب المصرية.
2 أي: الحارث بن حلزة. وهو من معلقته التي مطلعها:
آذنتنا ببيتها أسماء ... رب ثاوٍ يمل منه الثواء
3 كذا في أ. وفي ش، ب "ينبغي".
4 نسبة في اللسان في نفس إلى الأخيل، والنفي: ما تطاير من الرشاش على ظهر المائح شبه الماء وقد رفع على متن الساقي بذرق الطائر. وانظر اللسان في نفي، والأمالي 2/ 34، وابن بري في شواهد الإيضاح 81.
5 هي من اللحم السرة وما حولها, وقيل: هي شحمة نص الصدر.
6 كذا في ش، ب. وفي أ "في".
7 انظر في هذه المعاقبة ص102 من هذا الجزء.(2/114)
والبُخْل والبَخَل. وقد عاقبتها أيضًا في التكسير على أفعال نحو: بُرْدٍ وأبراد، وجُنْد وأجناد, فهذا كقلم وأقلام, وقدم وأقدام. فلما كان "فُعْل" من حيث ذكرنا كفَعَل صارت الملأة والضؤدة كأنها فَعَلَة, وفَعَلَة قد كسرت على أفْعُل على ما قدمنا في أكمة وآكُم, وأمة وآمٍ. [فكما رفعت التاء في "فَعَلة" حكم الحركة في العين, ورفعت حركة العين حكم التاء، فصار الأمر لذلك إلى حكم "فَعْلٍ" حتى قالوا: أكمة وآكم ككلب وأكلب, وكعب وأكعب, فكذلك جرت "فُعْلة" مجرى "فَعْل", حتى عاقبته في الضؤدة والملأة والأرض, فصارت الأرض كأنه أرضة, أو صار1 الملأة والضؤدة كأنهما ملء وضأد. أفلا ترى إلى الضمة كيف رفعت حكم التاء كما رفعت التاء حكم الضمة، وصار الأمر إلى "فَعْل"] 2.
__________
1 كذا في أ. وفي سائر النسخ "وصارت".
2 ما بين الحاصرتين هو ما في أ. وفي ش، ب هذا بترتيب آخر, وهاك إياه: "وأفعل إنما هو لفعل. فلذلك جرت فعلة مجرى فعل, حتى عاقبته في الضؤدة والملأة والأرض. فصارت الأرض كأنه أرضة، وصارت الملأة والضؤدة كأنهما ملء وضأد, أفلا ترى إلى لضمة كيف رفعت حكم التاء كما رفعت حكم الضمة، وصار الأمر إلى فعل كما رفعت التاء في فعلة حكم الحركة في العين, ورفعت حركة العين حكم التاء فصار الأمر لذلك إلى حكم فعل حتى قالوا: أكمة وآكم, ككلب وأكلب, وكعب وأكعب".(2/115)
باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني:
هذا فصل من العربيِّة حسن كثير المنفعة, قوي الدلالة على شرف هذه اللغة. وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة, فتبحث عن أصل كل اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه.
وذلك كقولهم: "خُلق الإنسان"1 فهو "فُعُل" من خلقت الشيء, أي:2 ملّسته ومنه صخرة خلقاء للملساء. ومعناه: أن خلق الإنسان هو ما قدر له ورتب عليه،
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب "هو".
2 كذا في أ. وفي ش، ب "إذا".(2/115)
فكأنه أمر قد استقرّ وزال عنه الشك, ومنه قولهم في الخبر: "قد فرغ الله من الخَلْق والخُلقُ". والخليقة فَعِيلة منه.
وقد كثرت فعيلة في هذا الموضع, وهو قولهم: "الطبيعة" وهي من طبعت الشيء "أي: قررته"1 على أمر ثبت عليه, كما يطبع الشيء كالدرهم والدينار فتلزمه أشكاله, فلا يمكنه انصرافه عنها ولا انتقاله.
ومنها "النحيية" وهي فَعِيلة من نحت الشيء "أي"2 ملسته وقررته3 على ما أردته منه. فالنحيتة كالخليقة: هذا من نحت, وهذا من خلقت.
ومنها "الغريزة" وهي4 فعيلة من غرزت, كما قيل لها طبيعة؛ لأن طبع الدرهم5 ونحوه ضرب من وسمه, وتغريزه بالآلة التي تثبت عليه الصورة. وذلك استكراه له وغمز عليه كالطبع.
ومنها "النقيبة" وهي فَعِيلة من نقبت الشيء وهو نحو من الغريزة.
ومنها "الضريبة" وذلك أن الطبع لا بد معه6 من الضرب، لتثبيت "له"7 الصورة المرادة.
ومنها "النخيزة" هي فَعِيلة من نَخَزْت الشيء, أي: دققته, ومنه المنحاز: الهاوون؛ لأنه موضوع للدفع به والاعتماد على المدقوق, قال8:
ينحزن من جانبيها وهي تنسلب9
__________
1 كذا في أ. وفي ج "إذا أقررته", وفي ش، ب: "إذا أفرزته".
2 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فدّرته".
4 كذا في ش، ب وسقط حرف العطف في أ.
5 كذا في أوفي سائر الأصول: "الدراهم".
6 كذا في أ، ج وفي ش، ب "له".
7 زيادة في م.
8 أي: ذو الرمة.
9 هذا شطر بيت صدره:
والعبس من ماسج أو واسج خببا
وهو من قصيدته التي مطلعها:
ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلي مفرية سرب
العاسج: المسرع. والعسج: ضرب من السير, وكذلك الواسج. والانسلاب: المضاه في السير. وانظر الديوان.(2/116)
أي: تضرب الإبل حول هذه الناقة للحاق بها وهي تسبقهن وتنسلب أمامهن1.
ومنها "السجية" هي فعيلة من سجا يسجو إذا سكن, ومنه طرف ساجٍ وليل ساجٍ, قال:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج2
وقال الراعي:
ألا اسلمي اليوم ذات الطوق والعاج ... والدل والنظر المستأنس الساجي
وذلك أن خُلُق الإنسان أمر قد سكن إليه واستقر عليه, ألا تراهم يقولون في مدح الرجل: فلان يرجع إلى مروءة ويخلد إلى كرم ويأوي إلى سداد وثقة, فيأوي إليه هو هذا؛ لأن المأوى خلاف "المعتمل" لأنه إنما يأوي إلى "المنزل3 ونحوه" إذا أراد السكون.
ومنها "الطريقة" من4 طرقت الشيء أي: وطأتة وذللته، وهذا هو معنى ضربته ونقبته5، وغرزته ونحته؛ لأن هذه كلها رياضات وتدريب6 واعتمادات وتهذيب.
__________
1 كذا في ش، ب. وهو يوافق ما في اللسان في نحز. وفي أ: "بنا منهن"، أي: تمضي بنا مبتعدة منهن.
2 نسبه في اللسان في سجا إلى الحارثي, وورد هذا في الكامل 3/ 148 غير معزوّ. والقمراء: الليلة المنيرة بنور القمر، والملاء جمع الملاءة. وفي شرح الكامل للمرصفي: "شبه خيوط الطرق, وقد سطع نور القمر عليها بخيوط ملاءة بيضاء قد نسجت".
3 كذا في أ. وفي ش، ب "المحل والمنزل ونحوهما".
4 كذا في ج. وفي أ، م: "لأن". وفي ش، ب: "لأ" وهو خطأ في النسخ.
5 كذا في ش، ب. وفي أ "دفقد".
6 كذا في الأصول. ويريد بالاعتماد القصد والتحري, ولو كانت "اعتمالات" كانت أدنى إلى السباق.(2/117)
ومنها "السجيحة" وهي فَعِيلة من سجح خلقه. وذلك أن الطبييعة قد فرَّت1 واطمأنت فسجحت وتذللت2. وليس على الإنسان من طبعه كُلْفَة, وإنما الكلفة فيما يتعاطاه ويتجشمه, قال حسان:
ذروا التخاجؤ وامشوا مشية سجحًا ... إن الرجحال ذوو عصب وتذكير3
وقال الأصمعي: إذا استوت أخلاق القوم قيل: هم على سرجوجة واحدة, ومرن واحد, "ومنهم من يقول: سرجيجة وهي فعليلة من هذا"4، فسرجوجة: فعلولة، من لفظ السرج ومعناه. والتقاؤهما أن السرج إنما أريد للراكب ليعدله ويزل اعتلاله وميله. فهو من تقويم5 الأمر. وكذلك إذا استتبوا على وتيرة واحدة, فقد تشابهت أحوالهم وزاح خلافهم، وهذا6 أيضًا ضرب من التقرير والتقدير؛ فهو بالمعنى عائد إلى النحيتة والسجية والخليقة؛ لأن هذه كلها صفات تؤذن بالمشابهة والمقاربة. والمرن مصدر كالحلف والكذب. والفعل منه مَرَن على الشيء إذا ألفه فلان له. وهو عندي من مارن الأنف لما لان منه. فهو أيضًا عائد إلى أصل الباب, ألا ترى أن الخليقة والنحيتة والطبيعة والسجية, وجميع هذه المعاني التي تقدمت تؤذن بالإلف والملاينة والإصحاب والمتابعة.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "قررت".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "ذللت".
3 التخاجؤ فسرها بعضهم بأنها مشية فيها تبختر. مشية سجحا: سهلة لينة. عصب: شدة وقوة. وهو من قصيدته التي يهجو بها بني الحارث بن كعب، وأولها:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم ... هنا وأنتم من الجوف الجماخير
والجماخير واحدها جمخور -بزنة عصفور- وهو الواسع الجوف الجسيم. وانظر لديوان طبعة البرقوقي 314.
4 سقط ما بينالقوسين في أ. وثبت في ش، ب.
5 كذا في أ، ب. وفي ش: "تقديم".
6 كذا في أ، ب. وفي ش: "هي".(2/118)
ومنها "السليقة", وهي من قولهم: فلان يقرأ بالسليقية1, أي: بالطبيعة. وتلخيص ذلك أنها كالنحيتة. وذلك أن السليق ما تحاتّ من صغار الشجر, قال:
تسمع منها في السليق الأشهب ... معمعة مثل الأباء الملهب2
وذلك أنه إذا تحاتّ لان وزالت شدته. والحتّ كالنحت, وهما في غاية القرب. ومنه قول الله سبحانه: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} 3 أي: نالوا منكم. وسذا4 هو نفس المعنى في الشيء المنحوت5 المحتوت؛ ألا تراهم يقولون: فلان كريم النجار والنجر, أي: الأصل. والنجر والنحت والحت والضرب والدق والنحز والطبع والخلق والغرز والسلق, وكله التمرين على الشيء، وتلييين القوي6 ليصحب وينجذب. فأعجب للطف صنع الباري سبحانه في أن طبع الناس على هذا وأمكنهم7 من ترتيبه وتنزيله وهداهم للتواضع عليه وتقريره.
ومن ذلك قولهم للقطعة من المسك: "الصوار"8 قال الأعشى:
إذا تقوم يضوع المسك أصورة ... والعنبر الورد من أردانها شمل9
فقيل له: "صوار"10 لأنه "فعال" من صاره يصوره إذا عطفه وثناه, قال الله سبحانه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} 11 وإنما قيل له ذلك لأنه يجذب حاسة من
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "بالسليقة". وكلاهما وارد في اللغة.
2 "الأباء" كذا في أ. وفي سائر الأصول: "الضرام" وانظر الجمهرة 3/ 41.
3 آية 19، سورة الأحزاب.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "فهذا".
5 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
6 كذا في ج. وفي أ: "فوي"، وفي ش، ب: "الأقوى".
7 كذا في أ. وف ش، ب: "مكنهم".
8 بكسر الصاد وضمها.
9 هو البيت الثالث عشر من معلقته المشهورة. والورد الذي لونه لون الورد أي: الأحمر، ويروي "الزنبق" في مكان "العنبر"، والأردان: الأكمام للثوب, وشمل أي عام من شملهم الأمر. وانظر المصباح المنير 43.
10 انظر ص 36، مقدمة هذا الكتاب.
11 آية: 26 سورة البقرة.(2/119)
يشمّه إليه، وليس من خبائث الأرواح فيعرض عنه، وينحرف1 إلى شق غيره، ألا ترى إلى قوله2:
ولو أن ركبًا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل بك الركب3
وكذا تجد4 أيضًا معنى المسك, وذلك أنه "فعل" من أمسكت الشيء كأنه لطيب رائحته يمسك الحاسة عليه ولا يعدل بها صاحبها عنه. ومنه عندي قولهم للجلد: "المسك" هو فعل من هذا الموضع, ألا ترى أنه يمسك5 ما تحته من جسم الإنسان وغيره من الحيوان. ولولا الجلد لم يتماسك ما في الجسم من اللحم والشحم والدم وبقية الأمشاج وغيرها.
فقولهم إذا: مسك يلاقي معناه معنى الصوار, وإن كانا من أصلين مختلفين، وبناءين متباينين: أحدهما "م س ك " والآخر "ص ور " , كما أن الخليقة من "خ ل ق " والسجية من "س ج و " والطبيعة من "ط ب ع " والنحيتة من "ن ح ت " والغريزة من "غ ر ز " والسليقة من "س ل ق " والضريبة من "ض ر ب " والسجيحة من "س ج ح " والسرجوجة والسرجيجة من "س ر ج " والنجار من "ن ج ر " والمرن من "م ر ن ". فالأصول مختلفة, والأمثلة متعادية6، والمعاني مع7 ذينك متلاقية.
ومن ذلك قولهم: صبيّ وصبية, وطفل وطفلة, وغلام وجارية, وكله للين والانجذاب وترك الشدة والاعتياص. وذلك أن صبيًّا من صبوت إلى الشيء إذا
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "ينحرف".
2 البيت لأبي العتاهية. وانظر الوساطة طبع الحلبي 316.
3 "يمموك" كذا في أوفي ش، ب، ج: "أمموك", وقوله: "بك" كذا في الأصول. والمناسب: "به" كما في الوساطة.
4 كذا في أ. وفي ب: "نجد".
5 انظر ص36، من مقدمة هذا الكتاب.
6 أي: متباينة من قولهم: تعادى مابين القوم: تباعد، أو من قولهم: تعادى المكان: تفاوت ولم يستو.
7 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "من".(2/120)
ملت إليه ولم تستعصم دونه. وكذلك الطفل: هو من لفظ طفلِت الشمس للغرب, أي: مالت إليه وانجذبت نحوه, ألا ترى إلى قول العجاج:
والشمس قد كادت تكون دنفًا1
يصف ضعفها وإكبابها2. وقد جاء به بعض3 المولدين فقال:
وقد وضعت خدًّا إلى الأرض أضرعا4
ومنه قيل: فلان5 طفيلي؛ وذلك أنه يميل إلى الطعام, وعلى هذا قالوا له: غلام لأنه من الغلمة وهي اللين وضعفة العصمة. وكذلك قالوا: جارية. فهي6 فاعلة من جرى الماء وغيره؛ ألا ترى أنهم يقولون: إنها غضة "بضة"7 رطبة, ولذلك قالوا: قد علاها ماء الشباب؛ قال عمر:
وهي مكنونة تحيّر منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
وذلك أن الطفل والصبي والغلام والجارية ليست لهم عصمة الشيوخ ولا جسأة9 الكهول. وسألت بعض بني عقيل عن قول الحمصي 10:
__________
1 بعده:
أدفعها بالراح كي تزحلقا
أي: حين اصفرَّت أراد مداناتها للغروب, فكأنها مريضة دنف حينئذ. وانظر اللسان في دنت, وملحق الديوان 82.
2 أي: سقوطها من علوّها، من قولهم: كببته على وجهه فأكبّ هو.
3 هو ابن الرومي, وانظر مختارات البارودي 4/ 75.
4 صدره: ولاحظت النوار وهي مريضة
وقبله في وصف الشمس:
إذا رنَّقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مزعزعًا
وودّعت الدنيا لتقضي نحبها ... وشوّل باقي عمرها فتشعشا
انظر ديوان ابن الرومي 4/ 1475 تحقيق دكتور حسين نصار "المصحح".
5 انظر ص36 من مقدمة هذا الكتاب.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "هي".
7 زيادة في م.
8 يريد عمر بن أبي ربيعة. وانظر الأغاني طبع الدار 1/ 139.
9 هي الصلابة والخشونة.
10 هو ديك الجن. وانظر ص49 من هذا الجزء.(2/121)
لم تبل جدَّة سمرهم سمر ولم ... تسم السموم لأدمهنّ أديما
فقال: هن بمائهن1 كما خلقنه. فإذا اشتد الغلام شيئًا قيل له حرور. وهو "فعول" من اللبن الحازر إذا اشتد للحموضة, قال العجلي 2:
وأرضوا بإحلابة وطب قد حزر
وقال3:
نزع الحزور بالرشاء المحصد
وكأنهم زادوا الواو وشدَّدوها لتشديد4 معنى القوة؛ كما قالوا للسيء الخلق: عذور, فضاعفوا الواو الزائدة لذلك قال 5:
إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الحي حتى تستقلّ مراجله
ومنه رجل كروّس للصلب الرأس، وسفر عطود؛ للشديد6؛ قال:
إذا جشمن قذفا عطوّدا ... رمين بالطرف مداه الأبعدا7
ومثل الأول قولهم: غلام8 رطل, وجارية رطلة للينها, وهو من قولهم: رطل شعره إذا أطاله فاسترخى. ومنه عندي: الرطل9 الذي يوزن به. وذلك أن الغرض في الأوزان أن تميل أبدًا إلى أن يعادلها الموزون بها. ولهذا قيل لها: مثاقيل, فهي مفاعيل من الثقل, والشيء إذا ثقل استرسل10 وارجحنّ, فكان ضد الطائش الخفيف.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ "عاهن" بدون نقط الحرفين الأولين.
2 انظر الجمهرة 3/ 451.
3 أي: النابغة الذبياني في قصيدته التي مطلعها:
من آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود
4 كذا في أ، وفي ش، ب "للتشديد ومعنى قوة".
5 البيت لزينب بنت الطثرية ترثي أخاها زيد، من كلمة لها في الأمالي 2/ 85 وفيها أبيات تنسب للعجير السلوليّ. فقوله: "قال" يريد الشخص الشاعر. وانظر السمط 718.
6 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
7 يصف إبلًا. ويريد بالقذف العلاة البعيدة.
8 أي: لم يشتد عظامه أو قارب الاحتلام.
9 انظر ص 36 من مقدمة هذا الكتاب.
10 أي: مال واهتزَّ.(2/122)
فهذا ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة اللطيفة. وإنما يسمع الناس هذه الألفاظ فتكون الفائدة عندهم منها إنما هي علم1 معنياتها. فأما كيف, ومن أين, فهو ما نحن عليه. وأحج به أن يكون عند كثير منهم نيفًا2 لا يحتاج إليه, وفضلًا غيره أولى منه.
ومن ذلك أيضًا قالوا: ناقة كما قالوا3: جمل. وقالوا "ما بها"4 دبيج كما قالوا: تناسل عليه الوشاء5. والتقاء معانيهما6 أن الناقة كانت عندهم مما يتحسنون به ويتباهون بملكه فهي فعلة من من قولهم: تنوقت في ىالشيء إذا أحكمته وتخيرته, قال ذو الرمة:
. . . . . . . . . . . . تنوقت ... به حضرميات الأكف الحوائك7
وعلى هذا قالوا: "جمل" لأن هذا "فَعَل" من الجمال؛ كما أن تلك "فَعَلة" من تنوقت -وأجود اللغتين تأنّقت, قال الله سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} 8. وقولهم: "ما بها دبيج" هو "فِعْيل" من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس بهم العمارة وحسن الآثار, وعلى أيديهم يتم الأنس وطيب الديار. ولذلك قيل لهم: ناس لأنه في الأصل أناس, فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. فهو فعال من الأنس قال 9:
أناس لا يملُّون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبُون
__________
1 ثبت لهذا اللفظ في أوسقط في سائر الأصول. وقوله: "معنياتها" في م: "معانيها".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "نفيًا" والوجه ما أثبت. والنيف: الفضل والزيادة.
3 كذا في ش، ب. وفي أ "قيل".
4 كذا في ش، ب، وسقط في أ.
5 هو في الأصل كثرة المال, أي: الإبل والنعم. ويراد به هما المال نفسه.
6 كذا في أ. أي: معنى النافة ومعنى الجمل. وفي ب: "معانيها".
7 انظر 123 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
8 آية: 6 سورة النحل.
9 أي: أبو الغول الطهوي، وانظر الحماسة بشرح التبريزي طبعة بن 13.(2/123)
وقال:
أناس عدًا علقت فيهم وليتني ... طلبت الهوى في رأس ذي زلق أشم1
وكما اشتقوا ديبجًا من الديباج؛ كذلك اشتقوا2 الوشاء من الوشي, فهو "فعال" منه. وذلك أن المال يشي الأرض ويحسنها. " وعلى ذلك قالوا: الغنم؛ لأنه من الغنيمة, كما قالوا لها: الخيل؛ لأنها فَعْل من الاختيال, وكل ذلك مستحب"3.
أفلا ترى إلى تتالي هذه المعاني وتلاحظها وتقابلها وتناظرها؛ وهي التنوّق، والجمال، والأنس، والديباج والوشي والغنيمة "والاختيال. ولذلك قالوا: البقر، من بقرت بطنه أي: شققته؛ فهو إلى السعة والفسحة، وضد الضيق والضغطة"4.
فإن قلت: فإنَّ الشاة من قولهم: رجل أشوه وامرأة شوهاء للقبيحين5. وهذا ضد الأول؛ ففيه جوابان: أحدهما: أن تكون الشاة جرت6 مجرى القلب لدفع العين عنها لحسنها؛ كما يقال7 في استحسان الشيء: قاتله الله كقوله 8:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الشنب من أنيابها بالقوادح9
__________
1 "أناس" كذا في أ، وفي ش, ب: "وناسا". "زلق أشم" كذا في أ. وفي ش، ب: "زاق الأشم" والعدا: الغرباء.... ويريد بذي الزلق الأشم جبلًا عاليًا تزلق فيه القدم. يقول: إن هواء في قوم غرباء، وكان أيسر له وأوفق أن يكون هواء في مرتقى وعر.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
4 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
5 كذا في ش، ب وفي أ، ج: "للمقبَّحين".
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "جرى".
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "تقول".
8 أي: جميل.
9 "الشنب". كذا في الأصول, والذي في اللسان وغيره: "الغر" والشنب -ويقال الشمب بإبدال النون ميما- جمع أشنب، من الشنب وهو رِقَّة الأسنان وعذوبتها. والقوادح جمع القادح، وهو السواد يظهر في الأسنان.(2/124)
وهو كثير. والآخر أن يكون من باب1 السلب؛ كأنه سلب القبح2 منها؛ كما قيل للحرم: نالة3. ولخشسبة الصرار تَوْدية4؛ ولجوّ السماء السكاك5.
ومنه تحوَّب؛ وتأثَّم, أي: ترك الحوب والإثم.
وهو باب واسع؛ وقد كتبنا منه في هذا الكتاب ما6 ستراه بإذن الله تعالى. وأهل اللغة يسمعون هذا فيرونه7 ساذجًا غُفْلًا، ولا يحسنون لما نحن فيه من حديثه فرعًا ولا أصلًا.
ومن ذلك قولهم: الفضَّة سميت بذلك لانفضاض أجزائها وتفرقها في تراب معدنها, كذا أصلها وإن كانت فيما بعد قد9 تُصَفَّى وتهذب وتسبك. وقيل لها فضة كما قيل لها لجين. وذلك لأنها ما دامت في تراب معدنها فيه ملتزقة "في التراب"10 متلجِّنة11 به12؛ قال الشماخ:
وماءٍ قد وردت أميم طام ... عليه الطير كالورق اللجين13
أي: المتلزق14 المتلجن؛ وينبغي أن يكونوا إنما ألزموا هذا الاسم التحقير لاستصغار معناه ما دام في تراب معدنه, ويشهد عندك بهذا المعنى قولهم في مراسله "الذهب"
__________
1 كذا في أ، وفي سائر الأصول: "أبواب".
2 كذا في ش، ب، وفي أ: "القبيح".
3 الذي في اللسان أن النالة ما حول الحرم؛ ويريد ابن جني من بنائها على السلب أن من كان في التالة لم تنله اليد، وكذا نقل عنه كما في اللسان في فول.
4 هي خشية تشد على أطباء الناقة لئلّا يرضعها الفضيل، وكأنه يريد من بنائها على السلب أن الغرض من النودية منع الودي، وهو السيلان, يقال ودى: سال، أي: أن النودية تحول دون ودي اللبن.
5 وجه السلب هنا أن مادة السكاك مبناها الضيق، يقال استكت مسامعه: ضاقت, والجو من السعة بحيث لا ينكره.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "و".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيرووئه".
8 كذا في ش. وفي أ، ب: "يحسون".
9 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
10 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
11 يقال: تلجَّن الشيء: تلزج.
12 كذا في أ، وفي ش، ب: "فيه".
13 من قصيدته في مدح عرابة بن أوس -رضي الله عنه. وانظر الديوان. 9، والخزانة 2/ 222، واللآلئ وسمطه 663.
14 كذا في أ، وفي ش، ب: "الملتزق".(2/125)
وذلك لأنه ما دام كذلك غير مصفى فهو كالذاهب1؛ لأن ما فيه من التراب كالمستهلك له أو لأنه لما قل في الدنيا فلم يوجد إلا عزيزًا صار كأنه مفقود ذاهب ألا ترى أن الشيء إذا قل قارب الانتفاء. وعلى ذلك قالت العرب: قل رجل يقول ذلك إلا زيد بالرفع لأنهم أجروه مجرى ما يقول ذاك أحد إلا زيد. وعلى2 نحو من هذا قالوا: قلما يقوم زيد فكفوا3 "قل" ب"ما" عن اقتضائها الفاعل، وجاز عندهم إخلاء الفعل من الفاعل لما دخله من مشابهة حرف النفي؛ كما بقوا المبتدأ بلا خبر في نحو هذا من قولهم: أقل امرأتين تقولان ذلك لما ضارع المبتدأ حرف النفي. أفلا ترى إلى أنسهم باستعمال القلة مقارنة4 للانتفاء. فكذلك5 لما قل هذا الجوهر في الدنيا أخذوا له اسمًا من الذهاب الذي هو الهلاك.
ولأجل هذا أيضًا سموه "تبرًا" لأنه "فعل" من التبار. ولا يقال له "تبر" حتى يكون في تراب معدنه أو مكسور.
ولهذا قالوا للجام6 من الفضة "الغَرَب"، وهو "فَعَل" من الشيء الغريب؛ وذلك أنه ليس في العادة والعرف استعمال الآنية من الفضة, فلما استعمل ذلك في بعض الأحوال كان عزيزًا غريبًا. هذا7 قول أبي إسحق. وإن شئت جذبته إلى ما كنا عليه فقلت: إن هذا الجوهر غريب من بين الجواهر لنفاسته وشرفه, ألا تراهم إذا أثنوا على إنسان قالوا: هو وحيد في وقته، وغريب8 في زمانه، ومنقطع النظير، ونسيج وحده. ومنه قول الطائي الكبير:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "كالذهب".
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا في أوفي ش، ب: "وكفوا".
4 كذا في أ. وف ش، ب: "مقاربة".
5 كذا في ش، ب، وفي أ: "وكذلك".
6 يراد به قدح يسقى فيه الحمر.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "وهذا", وأبو إسحق هو الزجاج.
8 كذا في أ. وسقط هذا الحرف في ش، ب.(2/126)
غربته العُلا على كثرة النا ... س فأضحى في الأقربين جنيبا1
فليطُل عمره فلو مات في مَرْ ... ومقيمًا بها لمات غريبا
وقول شاعرنا:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحًا وإهوانا
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس عزيز2 حيثما كانا
ويدلك3 على أنهم قد تصوَّروا هذا الموضع من امتزاجه بتراب معدنه أنهم إذا صفّوه وهذَّبوه أخذوا له اسمًا من ذلك المعنى فقالوا له: الخلاص والإبريز والعقيان. فالخلاص فَعال من تخلّص, والإبريز إفعيل من برز يبرز, والعقيان فعلان من عقى الصبي يعقي, وهو أول ما ينجيه4 عند سقوطه من بطن أمه قبل أن يأكل وهو العقي. فقيل له ذلك لبروزه كما قيل له البراز.
فالتأتّي5 والتلطّف في جميع هذه الأشياء وضمها وملاءمة ذات بينها هو "خاص اللغة"6 وسرها، وطلاوتها7 الرائقة وجوهرها, فأما حفظها ساذجة وقمشها8 محطوبة9 هرجة10 فنعوذ بالله منه، ونرغب بما آتاناه سبحانه عنه.
__________
1 جنيبًا أي: غريبًا. والبيتان من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري. وفي نسخ الخصائص "الناس", وفي الديوان "الأهل".
2 كذا في نسخ الخصائص وفي الديوان "غريب".
3 هذا عود للحديث عن التبر, فالأسماء الآتية للذهب.
4 أي: يخرجه من دبره.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "فالتأني".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "خاص آمر اللغة".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "طلاتها".
8 يقال: قمش الشيء: جمعه من ههنا وههنا من غير تحرٍّ للجهد.
9 من حطب الحطب: جمعه، ومن أمثالهم: هو كحاطب ليل: لا يبالي ما أخذ. وهو كذلك في أ. وفي ش، ب: "مخطوطة".
10 يقال هرج البعير: سدر من شدة الحر وكثرة الطلاء بالقطران، فكأنه يريد أن تكون ضعيفة. وفي اللغة الهرج -بكسر الهاء وسكون الراء- الضعيف.(2/127)
وقال أبو علي -رحمه الله: قيل له حبي كما قيل له سحاب. تفسيره أن حبيًّا "فعيل" من حبَا يحبو. وكأن السحاب لثقله يحبو حبوًا؛ كما قيل له سحاب وهو "فعال" من سحب1؛ لأنه يسحب هدابه. وقد جاء بكليهما شعر العرب؛ قالت امرأة:
وأقبل يزحف زحف الكسير ... سياق الرعاء البطاء العشارا2
وقال أوس 3:
داٍن مسفٍّ فويق الأرض هَيْدَبُه ... يكاد يدفعه من قام بالراح4
وقالت صبية منهم لأبيها فتجاوزت ذلك:
أناخ بذي نفر بركه ... كأن على عضديه كتافا5
وقال أبوهم 6:
وألقى بصحراء الغبيط بعاعه ... نزول اليماني ذي العياب المحمل7
__________
1 كذا في ش. وفي أ، ب: "سحبت".
2 ورد هذا البيت في ستة أبيات في ديوان المعاني العسكري 2/ 5 وفيه: فأقبل، وهو في الأمالي 1-177 في سبعة أبيات وانظر اللسان "حبا".
2 يريد أوس بن حجر. وينسب بعضهم هذا إلى عبيد بن الأبرص, فنسبتها لأوس ليس موضع وفاق، وهي موجودة في ديواني الشاعرين, وانظر اللآلئ وسمطه 439.
4 قبله:
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح
ومسف: دان قريب. وهيدبه: ما تدلي منه كأنه خيوط.
5 "نفر" كذا في ش. وذو نفر موضع. وفي أ، ب: "فقر" وهو تحريف, وفي أسماء الأمكنة ذو بقر، وقد ورد هذا في اللسان "حبا": "بذي بقر". وبرك الجمل: صدره؛ شبه السحاب بجمل بارك إذ تلبث بهذا الموضع.
6 كذا في أ. وسقط هذا في ش، ب. وأبوهم, أي: أبو الشعراء الوصافين السحاب وسابقهم والمبرز فيهم، هو امرؤ القيس في المعلقة.
7 صحراء الغبيط موضع، والبقاع السحاب المثقل بالماء. ويريد باليماني المحمل جملًا عليه بضائع من اليمن، إذا نزل بين القوم أقام حتى يباع ما جاء به، ويروى المحمل -بكسر الميم- وصفًا لليماني بمعنى التاجر الذي جاء ببضاعة من اليمن.(2/128)
قال: ومن ذلك قولهم في أسماء الحاجة: الحاجة والحوْجَاء واللوجاء, والإرب والإربة والمأربة, واللبانة -والتلاوة بقية الحاجة, والتلية أيضًا- والأشكلة والشهلاء, قال "الشاعر"1:
لم أقض حين ارتحلوا شهلائي ... من الكعاب الطفلة الغيداء
وأنت تجد مع ذلك 3من اختلاف أصولها ومبانيها جميعها4 "راجعًا"5 إلى موضع واحد، ومخطومًا6 بمعنى لا يختلف, وهو الإقامة على الشيء والتشبث به. وذلك أن صاحب الحاجة كلف بها ملازم للفكر فيها ومقيم على تنجُّزِها واستحثاثها؛ قال7 رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حبك الشيء يعمى ويصم".
وقال المولد:
صاحب الحاجة أعمى ... لا يرى إلا قضاها
وتفسير ذلك أن الحاج شجر له شوك, وما كانت هذه سبيله فهو متشبث بالأشياء, فأيّ شيء مرَّ عليه اعتاقة وتشبث به. فسميت8 الحاجة تشبيهًا بالشجرة ذات الشوك. أي: أنا مقيم عليها متمسك بقضائها كهذه الشجرة في اجتذابها ما مرَّ بها وقرب منها. والحوجاء منها وعنها تصرّف الفعل: احتاج يحتاج احتياجًا9، وأحوجَّ يحوجّ، وحاج يحوج فهو حائج.
__________
1 زيادة في ش، ب، خلت منها أ.
2 يروى:
من العروب الكاعب الحسناء
كما في اللسان في شهل. وفيه "حتى" بدل "حين", وما هنا هو ما في الأصول.
3 بيان لقوله "ذلك".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "جميعًا".
5 زيادة وفق ما في ج. وقد خلت منها، في الأصول.
6 أي: مربوطًا بحبل واحد هو المعنى الذي ينصبّ إليه؛ يقال: خطمت البعير: جعلت فيه الخطام وهو الحبل يقاد به. وما أثبت هو ما في أ. وفي: ب "محفوظًا" وفي ش: "مخطومًا محفوظًا".
7 رواه أحمد في مسنده، والبخاري في التاريخ، وأبو داود. وانظر الجامع الصغير في حرف الحاء. وفي شرح الجامع أن إسناده ضعيف.
8 كذا في أ. وفي ش: "فتشبَّهت" وفي ب: "فشبهت".
9 كذا في أ، ج، وسقط، في ش، ب.(2/129)
واللوجاء من قولهم: لجت الشيء ألوجه لوجًا, إذا أدرته في فيك. والتقاؤهما أن الحاجة مترددة على الفكر ذاهبة جائية إلى أن تقضى, كما أن الشيء إذا تردد في الفم فإنه لا يزال كذلك إلى أن يسيغه الإنسان أو يلفظه1.
والإرب والإربة والمأربة كله من الأُرْبَة وهي العقدة, وعقد مؤرب إذا شدد. وأنشد2 أبو العباس لكناز3 بن نفيع4 بقوله لجرير:
غضبت علينا أن علاك ابن غالب ... فهلّا على جديك إذ ذاك تغضب 5
هما حين يسعى المرء مسعاة جده ... أناخًا فشداك العقال المؤرب6
والحاجة معقودة بنفس الإنسان، مترددة على فكره.
واللبانة من قولهم: تلبّن بالمكان إذا أقام به ولزمه. وهذا هو المعنى عينه, والتلاوة والتلية من تلوت الشيء إذا قفوته واتبعته لتدركه. ومنه قوله 7:
الله بيني وبين قيّمها ... يفر مني بها وأتَّبع
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "و"ة.
2 كذا في ش، ب. وسقط الواو في أ. وأبو العباس ثعلب، كما في اللسان "أرب".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "كنان" وهو تحريف.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "نقيع". وهو تحريف. وكناز بن نفيع من شعراء تميم. وانظر معهم الشعراء للمرزباني 353.
5 يريد بابن غالب الفرزدق.
6 يريد بالمرء الفرزدق, أو هو المرء غير مخصص، يقول: إذا سعى الفرزدق في المكارم مسعاة جده قعد بك جداك عن سبل العلا فهمًا ينيخانك ويشدانك، يعقلانك عن السير، ثم قال: العقال المؤرب, أي: هذا هو العقال حقًّا. فقوله العقال خبر لمبتدأ محذوف كما ترى، ويرى المبرد أن العقال بدل من الضمير في شداك بدل اشتمال. وانظر معجم الشعراء للمرزباني 353.
7 أي: الأحوص الأنصاري. وانظر الأغاني 4/ 49 طبعة بولاق، وشعراء بن قتيبة 500, وقيل البيت:
كأن لبني صبير غادية ... أو دمية زينت بها البيع
والصبير: السحاب الأبيض، والغادية: السحابة تجيء وقت الغداة.(2/130)
والأشكلة كذلك كأنها من الشكال1، أي: طالب الحاجة مقيم عليها، كأنها شكال له ومانعة من تصرفه وانصرافه عنها. ومنه الأشكل من الألوان: الذي خالطت حمرته بياضه, فكأن كل واحد من اللونين اعتاق صاحبه أن يصح ويصفو لونه. والشهلاء كذلك؛ لأنها من المشاهلة وهي مراجعة القول قال 2:
قد كان فيما بيننا مشاهلة ... ثم تولت وهي تمشي البأدلة 3
البأدلة: أن تحرك في مشيها بآدلها وهي لحم صدرها. وهي مشية القصار من النساء.
فقد ترى إلى ترامي هذه الأصول والميل بمعانيها إلى موضع واحد.
ومن ذلك ما جاء عنهم في الرجل الحافظ للمال, الحسن الرعية له والقيام عليه, يقال: هو خال مال, وخائل مال, وصدى مال, وسرسور مال, وسؤبان4 مال, ومحجن مال "وإزاء مال"5 وبلو مال, وحبل مال "وعسل مال"6 وزر7 مال. وجميع ذلك راجع إلى الحفظ لها8، والمعرفة بها8.
فخال مال يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون صفة على "فَعَل" كبطل وحسن, أو "فَعِلٍ" ككبش صافٍ ورجل مال. ويجوز أن يكون محذوفًا من فاعل كقوله 9:
لاثٌ به الأشاء والعبري10
__________
1 هو حبل يوثق به يد الدابة ورجلها.
2 هو أبو الأسود العجلي كما في اللسان في شهل وبأزل.
3 قال ابن بري: سوأبه "البأزلة", وهي مشية فيها سرعة. وانظر اللسان في شهل.
4 كذا في أ، ج. وفي ش: "سريان" وهو تحريف.
5 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
6 كذا في ش، ب، ج وفي أ "عسيل مال".والصواب ما أثبت.
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "رز" وهو تصحيف.
8 كذا في الأصول: "لها وبها", والضمير يرجع إلى المال. وقد ذكر الجوهري عن بعض اللغويين أن المال يؤنث فهذا محمله, وانظر اللسان في مول.
9 أي: العجاج.
10 هو في وصف أيك, ولاث أصله لائث وهو وصف من لاث النبات: التفَّ وكثر. والأشاء: صغار النخل. والعبري ما ينبث من شجر الضال على شطوط الأنهار. يصف أن هذا الأيك به نبات كثير وأنهار.(2/131)
فأما خائل مال ففاعل لا محالة. وكلاهما من قوله 1: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة, أي: يتعهدنا بها شيئًا فشيئًا2 ويراعينا. قال أبو علي: هو من قولهم: تساقطوا3 أخولَ أخولَ, أي: شيئًا بعد شيء. وأنشدنا 4:
يساقط عنه روقه ضارياتها ... سقاط حديد القين أخول أخولا5
فكأن هذا الرجل يرعى ماله ويتعهده حفظًا له وشحًا عليه.
وأما صدى مال: فإنه يعارضها من ههنا وههنا ولا يهملها ولا يضيع أمرها -ومنه الصدى لما يعارض الصوت, ومنه قراءة الحسن -رضي الله عنه "صاد والقرآن", وكان يفسره: عارض القرآن بعملك, أي: قابل كل واحد منهما بصاحبه- "قال العجلي:
يأتي لها من أيْمُنٍ وأشْمُلٍ6
وكذلك سرسور مال, أي: عارف بأسرار المال فلا يخفى عنه شيء من أمره. ولست أقول كما يقول الكوفيون -وأبو بكر معهم: إن سرسورًا من لفظ السر, لكنه قريب من لفظه, ومعناه بمنزلة عين ثرة وثرثارة. وقد تقدَّم7 ذكر ذلك.
__________
1 أي: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه، والحديث في البخاري في كتاب العلم.
2 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "أو".
3 كذا في ش، ج، وفي أ: "تساقط".
4 نسبة في اللسان في سقط إلى ضابئ بن الحارث البرجمي.
5 هذا في وصف الثور يردع عنه الكلاب. والروق: القرن. وحديد القين الشرارة وقوله: "ضار ياتها" أي: الضاري من الكلاب. وهو كذلك في أ، ب، ش. وفي ج: ضاربائها" وهو تحريف.
6 ما بين القوسين زيادة في ش، ب خلت منها أ. وفي ج: "قال العجلي يصف الراعي: يأتي بها من أيمن وأشمل"، العجلي هو أبو النجم. وهذا في أرجوزته الطويلة التي أولها:
الحمد لله الوهوب المجزل
7 انظر ص56 وما بعدها من هذا الجزء.(2/132)
وكذلك سوبان مالٍ هو "فُعْلان" من السأب, وهو الزق للشراب, قال الشاعر:
إذا ذقت فاهًا قلت علق مدمس ... أريد به قيل فغودر في ساب1
والتقاؤهما أن الزق إنما وضع لحفظ ما فيه, فكذلك هذا الراعي يحفظ المال ويحتاط عليه احتياط الزق على ما فيه.
وكذلك محجن مال: هو "مِفْعل" من احتجنت الشيء إذا حفظته وادخرته.
وكذلك إزاء مال: هو "فِعَال" من أزى الشيء يأزي, إذا تقبض2 واجتمع, قال:
ظل لها يوم من الشعرى أزي3
أي: يغم الأنفاس ويضيقها لشدة الحر. وكذلك هذا الراعي يشح عليها ويمنع من تسربها. وأنشد أبو علي عن أبي بكر لعمارة:
هذا الزمان مولّ خيره أزي ... صارت رءوس به أذناب أعجاز
وكذلك بلو مال، أي: هو بمعرفته به قد بلاه واختبره, قال الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 4 قال عمر بن لجأ:
فصادفت أعصل من أبلائها ... يعجبه النزع على ظمائها5
__________
1 "قيل" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "كيل" وهو تحريف. "فغودر" كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "فغرر" وهو تحريف أيضًا. وقوله: "ساب" بإبدال الهمزة ألفًا لينة للردف كما ذكره اللسان في سأب وعلق. والعلق هنا الخمر لنفاستها، والمدمس المخبوء المكنون. والقيل: الملك واحد الأفيال. وانظر الهمزة لأبي زيد13.
2 كذا في شن ب. وفي أ: "نقص". وهو صحيح فإن النقيض والاجتماع نقصا للشيء في المرأة. وفي اللسان: أزى ماله: نقص.
3 قائله عن باهلة. وعجزه:
نعوذ منه بزرانيق الركى
وزرانيق الكرى أبنية تبنى على جوانب الآبار, وعلى البئر زرنوقان يعلق عليهما البكرة. وانظر اللسان "أزى" ومجالس ثعلب 614.
4 آية: 31، سورة محمد.
5 يتحدث عن إبل سقاها. والأعصل: اليابس البدن, وذلك أقوى له. والنزع هنا تزع الدلو من البئر، وهو جذبها.(2/133)
وكذلك حبل مال, كأنه يضبطها كما يضبطها الحبل يشد به. ومنه الحبل: الداهية من الرجال؛ لأنه يضبط الأمور ويحيط بها.
وكذلك عسْل1 مال؛ لأنه يأتيها ويعسل2 إليها من كل مكان, ومنه الذئب العسول, ألا ترى أنه إنما سمي3 ذئبًا لتذاؤبه وخبثه ومجيئه تارة من هنا ومرة4 من هنا.
وكذلك زرّ مال: أي يجمعه ويضبطه كما يضبط الزر "الشيء"5 المزرور.
فهذه الأصول وهذه الصيغ على اختلاف الجميع مرتمية إلى موضع واحد على ما ترى.
ومن ذلك قولهم للدم: الجدَّية والبصيرة. فالدم من الدمية لفظًا ومعنًى, وذلك أن الدمية إنما هي للعين6 والبصر, وإذا شوهدت فكأنَّ ما هي صورته مشاهد بها, وغير غائب مع حضورها, فهي تصف حال ما بعد عنك. وهذا هو الغرض في هذه الصور المرسومة للمشاهدة. وتلك عندهم حال الدم؛ ألا ترى أن الرميّة إذا غابت عن الرامي استدلّ عليها بدمها, فاتبعه7 حتى يؤديه إليها. ويؤكد ذلك لك قولهم فيه "البصيرة", وذلك أنها "إذا"8 أبصرت أدت إلى المرمي الجريح. ولذلك أيضًا قالوا له "الجدية"؛ لأنه يجدي على الطالب للرّمية ما يبغيه منها9. ولو لم ير الدم لم يستدلل عليها, ولا عرف موضعها, قال صلى الله عليه وسلم "كُلْ ما أصميت ودع ما أنميت"10.
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "عسبل" وهو خطأ كما تقدم.
2 أي: يتردد بينها, وهو من قولهم: عسل الذئب: أسرع في مشيه واضطرب.
3 كذا في أ، ج، وسقط في ش، ب.
4 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "تارة".
5 كذا في ب، ج، ش، وسقط في أ.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "العين".
7 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
8 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "معها".
10 "ما أصميت" أي: قتلت من الصيد فزهقت روحه بين يديك، و"ما أنميت" هو ما أصابته إصابة غير قاتلة, ثم غاب عن نظرك ومات بعد. والحديث رواه الطبراني. وانظر الجامع الصغير في حرف الكاف.(2/134)
وهذا1 مذهب في هذه اللغة طريف غريب لطيف2. وهو فقهها3، وجامع معانيها وضامّ نشرها4. وقد هممث غير دفعة أن أنشئ في ذلك كتابًا أتقصَّى فيه أكثرها, والوقت يضيق دونه. ولعله لو خرج لما أقنعه ألف ورقة إلا على اختصار5 وإيماء. وكان أبو علي -رحمه الله- يستحسن هذا الموضع جدًّا وينبه عليه, ويسر بما يحضره خاطره منه. هذا باب إنما يجمع بين بعضه وبعض من طريق المعاني مجرَّدة من الألفاظ, وليس كالاشتقاق الذي هو من لفظ واحد, فكأنَّ بعضه منبهة على بعض. وهذا إنما يعتنق فيه الفكر المعاني غير منبهته6 عليها الألفاظ, فهو أشرف الصنعتين7، وأعلى المأخذين. فتفطن له، وتأنّ8 لجمعه؛ فإنه يؤنقك ويفيء عليك, ويبسط ما تجعَّد من خاطرك, ويريك من حكم الباري -عز اسمه ما تقف تحته وتسلم لعظم الصنعة فيه, وما أودعته أحضانه ونواحيه.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهذا".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "ظريف".
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "فقيهها".
4 النشر: المتفرق غير المجتمع.
5 كذا في أ. وفي ش، ب: "انتصار".
6 كذا في أ. وفي ش، ب "منبهة".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "الصنفين".
8 كذا في أ. وفي ش، ب: "فتأت".(2/135)
باب في الاشتقاق الأكبر:
هذا موضع لم يسمِّه أحد من أصحابنا غير أن أبا علي -رحمه الله- كان يستعين به ويخلد إليه, مع إعواز الاشتقاق الأصغر. لكنه مع هذا لم يسمِّه, وإنما كان يعتاده عند الضرورة, ويستروح إليه ويتعلل به. وإنما هذا التلقيب لنا نحن, وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن1. وذلك أن الاشتقاق عندي على ضربين: كبير وصغير.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "مستحق".(2/135)
فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم, كأن تأخذ1 أصلًا من الأصول فتتقرّاه فتجمع1 بين معانيه, وإن اختلفت صيغه ومبانيه. وذلك كتركيب "س ل م ", فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه؛ نحو: سلم ويسلم وسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم: اللديغ, أطلق عليه تفاؤلًا بالسلامة. وعلى ذلك بقية الباب إذا تأولته, وبقية الأصول غيره كتركيب "ض ر ب " و "ج ل س " و "ز ب ل " على ما في أيدي الناس من ذلك. فهذا هو الاشتقاق الأصغر, وقد قدم أبو بكر2 -رحمه الله- رسالته فيه بما أغنى عن إعادته؛ لأن أبا بكر لم يأل فيه نصحًا وإحكامًا وصنعة وتأنيسًا.
وأمَّا الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثية3، فتعقد عليه وعلى تقاليبه4 الستة معنًى واحدًا, تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه, وإن تباعد شيء من ذلك "عنه"5 رُدَّ بلطف الصنعة والتأويل إليه, كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد. وقد كنا قدمنا ذكر طرف من هذا الضرب من الاشتقاق في أول هذا الكتاب عند ذكرنا أصل الكلام, والقول وما يجيء من تقليب6 تراكيبهما نحو: "ك ل م " "ك م ل " "م ك ل " "م ل ك " "ل ك م " "ل م ك " وكذلك "ق ول " "ق ل و " "وق ل " "ول ق " "ل ق و " "ل وق " وهذا أعوص7 مذهبًا، وأحزن مضطربًا. وذلك8 أنا عقدنا تقاليب
__________
1 كذا في أ. وفي ب: "يأخذ.... فيتقراه فيجمع" وفي ش كما في ب, غير أن فيه: "فيقرأ" وهو تصحيف.
2 يريد ابن السراج. وله كتاب الاشتقاق، ولم يتممه. راجع البغية 44.
3 كذا في أ، ج. وفي ش،: "الثلاثة".
4 كذا في أ، ب. وفي ج: "مقاليبه".
5 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ.
6 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
7 كذا في ش، أ. وفي ب: "أغوص".
8 كذا في أ، ب. وفي ش: "ولذلك".(2/136)
الكلام الستة على القوة والشدة، وتقاليب القول الستة على الإسراع والخفة, وقد مضى ذلك في صدر الكتاب.
لكن بقي علينا "أن نحضر هنا"1 مما يتصل به أحرفًا تؤنس بالأول، وتشجّع2 منه المتأمل.
فمن ذلك تقليب "ج ب ر " فهي -أين3 وقعت- للقوة والشدة, منها: "جبرت العظم والفقير" إذا قويتهما وشددت منهما, والجبر: الملك لقوته وتقويته لغيره, ومنها: "رجل مجرب" إذا جرَّسته4 الأمور ونجذته5، فقويت منّته واشتدت شكيمته, ومنه الجراب؛ لأنه يحفظ ما فيه, وإذا حفظ الشيء وروعي اشتدَّ وقوي, وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذي6. ومنها: "الأبجر والبجرة" وهو القوي السرة. ومنه قول علي -رضي الله عنه: إلى الله أشكو عجري وبجري, تأويله: همومي وأحزاني, وطريقه أن العجرة كل عقدة في الجسد, فإذا كانت في البطن والسرة فهي البجرة, "والبجرة"7 تأويله أن السرة غلظت ونتأت فاشتد مسّها وأمرها. وفُسِّر أيضًا قوله: عجري وبجري, أي: ما أبدي وأخفي من أحوالي. و"منه البُرْج لقوته في نفسه وقوة ما يليه"8 به، وكذلك البَرَج لنقاء بياض العين وصفاء سوادها هو قوة أمرها،
__________
1 كذا في أ، وفي ش، ب: "نحضرهما".
2 كذا في ش. وفي أ، "يسجع".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: لين، وهو تحريف.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "حرمته" وهو تصحيف. وجرسته الأمور: جرَّبته وأحكمته.
5 كذا في أ، ج، وفي ش، ب: "نجدته" وكلاهما صحيح. والذال أعلى. يقال: نجده الدهر ونجذه: عرفه وعلمه.
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "ردي" وكلاهما صحيح، فردي هلك، ووذي: أثقله المرض.
7 كذا في أ، وسقط هذا في ش، ب.
8 كذا في ش، ب، وفي أ: "منها البرج المؤيد في نفسه وقوة من عليه".(2/137)
وأنه ليس بلون مستضعف, ومنها رجَّبت الرجل1 إذا عظَّمته وقوَّيت أمره, ومنه رجب لتعظيمهم إياه عن القتال فيه, وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة, وهو شيء تسند إليه لتقوى به. والراجبة: أحد فصوص الأصابع وهي مقوية لها. ومنها الرباجي وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله, قال:
وتلقَّاه رباجيًّا فخورا2
تأويله أنه يعظِّم نفسه ويقوّي أمره.
ومن ذلك تراكيب "ق س و " "ق وس " "وق س " "وس ق " "س وق "3 وأهمل " س ق و " , وجميع ذلك إلى القوة والاجتماع. منها: "القسوة" وهي شدة القلب واجتماعه, ألَا ترى إلى قوله:
يا ليت شعري -والمنى لا تنفع ... هل أغدون يومًا وأمري مجمع4
أي: قوى مجتمع5، ومنها "القوس" لشدتها، واجتماع طرفيها, ومنها "الوقس" لابتداء الجرب، وذلك لأنه يجمع الجلد ويقحله6، ومنها "الوَسْق" للحمل، وذلك لاجتماعه وشدته, ومنه استوسق الأمر أي اجتمع {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} 7 أي: جمع،
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب. "الأمر".
2 أورده في الجمهرة 1/ 309 غير معزو.
3 كذا في أ. وفي ش: "فأهمل", وفي أما هو أدنى إلى ما في ش.
4 في النوادر 123. وبعده:
وتحت رحلي زفيان ميلع ... حرف إذا ما زجرت تبوّع
5 كذا في أ. وفي ش، ب "مجمع".
6 كذا في ب، أي: جعله قحلًا، أما وفي أ: "يحفيه" أي: يذهبه. وفي ج: "يخفيه". وفي ش: "يفلحه" وكأنه تحريف عن "يفحله".
7 آية: 17، سورة الانشقاق.(2/138)
ومنها "السوق"، وذلك لأنه استحثاث وجمع للمسوق بعضه؛ وعليه قال1:
مستوسقات لو يجدن سائقًا2
فهذا كقولك:
مجتمعاتٍ لو يجدن جامعًا
فإن شد شيء من شعب هذه الأصول عن عقده ظاهرًا رُدَّ بالتأويل إليه, وعطف بالملاطفة عليه. بل إذا كان هذا قد3 يعرض في الأصل الواحد حتى يحتاج فيه إلى ما قلناه, كان فيما انتشرت أصوله بالتقديم والتأخير أولى باحتمال وأجدر بالتأوّل له.
ومن ذلك تقليب "س م ل " "س ل م " "م س ل " "م ل س " "ل م س " "ل س م " والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة, ومنها الثوب السمل وهو الخلق. وذلك لأنه ليس عليه من الوبر والزئبر ما على الجديد. فاليد إذا مرَّت عليه للمس لم يستوقفها عنه جدَّة4 المنسج ولا خشنة الملمس. والسمَل: الماء القليل؛ كأنه شيء قد أخْلَق وضعف عن قوة المضطرب, وجمة المرتكض, ولذلك قال:
حوضًا كأنَّ ماءه إذا عسل ... من آخر الليل رويزي سمل5
وقال آخر:
ورّاد أسمال المياه السُدْم ... في أخريات الغبش المغمّ6
__________
1 أي: العجاج كما في اللسان في وسق.
2 قبله:
إن لنا الإبلا حقائقًا
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 كذا في ش، ب. وفي أ "حدة".
5 قبله كما في اللسان في عسل عن ثعلب:
قد صبحت والظل غض ما زحل
كأنه يصف إلّا أوقطا وردت الماء، ويقال: عسل الماء إذا حركته الريح فاضطرب وارتفعت حبكه وطرائفه. والرويزي تصغير الرازي: المنسوب إلى الري. ويعني به ثوب أخضر يشبه الماء به.
6 السدم: المتدفئة الغائرة، والغبش: الظلمة إذ يقبل الصباح, والمغم ذو الغيم, أو الذي يضيق الأنفاس من شدة الحر.(2/139)
ومنها السلامة. وذلك أن السليم ليس فيه عيب تقف النفس عليه, ولا يعترض عليها به. ومنها "المَسْل و"1 المَسَل والمَسِيل كله واحد, وذلك أن الماء لا يجري إلّا في مذهب له, وإمام منقاد به, ولو صادف حاجزًا2 لإعتاقه فلم يجد متسرَّبا معه. ومنها الأملس والملساء. وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له. ومنها اللمس, وذلك أنه إن عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم يصح هناك لمس؛ فإنما هو3 إهواء باليد نحوه, ووصول منها إليه, لا حاجز ولا مانع, ولا بُدَّ مع اللمس من إمرار اليد وتحريكها على الملموس, ولو كان هناك حائل لاستوقفت به عنه. ومنه الملامسة {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 4 أي: جامعتم، وذلك أنه لا بُدَّ هناك من حركات واعتمال, وهذا واضح. فأما "ل س م " فمهمل, وعلى أنهم قد قالوا: نسمت الريح إذا مرَّت مرًّا سهلًا ضعيفًا, والنون أخت اللام, وسترى نحو ذلك.
" ومرَّ بنا أيضًا أَلْسَمْتُ الرجل حجته إذا لقَّنته وألزمته إياها. قال:
لا تُلْسِمَنَّ أبا عمران حُجَّته ... ولا تكوننَّ له عونًا على عمرا5
فهذا من ذلك, أي: سهلتها وأوضحتها"6.
واعلم أنا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة, كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك "الذي هو"7 في القسمة سدس هذا أو خمسه متعذرًا صعبًا, كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبًا وأعز ملتمسًا8. بل لو صحَّ
__________
1 كذا في أ، ج. وسقط هذا في ش، ب. والمعنى الواحد الذي يأتي له هذه الألفاظ الثالثة هو مجرى الماء، وصاحب القاموس يجعل المسل في معنى السيلان، والخطب سهل.
2 في ش بعد "حاجزًا": "أو جائزًا" وفي ب: "أو حائزًا".
3 أي: اللمس.
4 آية: 6 سورة المائدة.
5 "عمرًا" كذا في ب. وهو الموافق لما في اللسان في لسم, وفي ش: عمر، بكسر الراء.
6 ما بين القوسين في ش، ب: وسقط في أ.
7 كذا في أ، وفي ش، ب: "هو الذي".
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "ملبسًا".(2/140)
من هذا النحو, وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلّب على ضروب التقلب كان غريبًا معجبًا. فكيف به وهو يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد.
وقد رسمتُ لك منه رسمًا فاحتذه1، وتقيّله2 تحظ به، وتكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من أجله. نعم, وتسترفده في بعض الحاجة إليه فيعينك ويأخذ بيديك, ألا ترى أن أبا علي -رحمه الله- كان يقوِّي كون لام "أثفية" فيمن جعلها "أفعولة" واوًا بقولهم: جاء يثفه, ويقول: "هذا"3 من الواو لا محالة كيعِده. فيرجَّح4 بذلك الواو على الياء التي ساوقتها في يثفوه ويثفيه, أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف. وإنما ذلك لأنها مادّة واحدة شُكِّلت على صور مختلفة, فكأنها لفظة واحدة. وقلت مرة للمتنبئ: أراك تستعمل في شعرك ذا وتا وذي كثيرًا, ففكر شيئًا ثم قال: إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت له: أجل لكن5 المادة واحدة. فأمسك البتة. والشيء يذكر لنظيره, فإن المعاني وإن اختلفت معنياتها آوية إلى مضجع غير مقضّ, وآخذ بعضها برقاب بعض.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "فأخذه".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "تقبله"، وتقيله: تبعه وترسَّمه من قولهم: تقبل فلان أباه, إذا نزع إليه في الشبه.
3 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "فترجح".
5 كذا في أ. وفي سائر الأصول "إلّا أن".(2/141)
باب في الإدغام الأصغر:
قد ثبت أن الإدغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت, وهو في الكلام على ضربين: أحدهما أن يلتقي المثلان على.
الأحكام التي يكون عنها الإدغام, فيدغم الأول في الآخر.(2/141)
والأوّل من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن ومتحرك؛ فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطَّع وكاف سُكِّر الأوليين, والمتحرك نحو دال شدَّ1، ولام معتل. والآخر أن يلتقي المتقاربان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام, فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه2 فيه. وذلك مثل: "ودَّ"3 في اللغة التميمية, وأمَّحى وامَّاز واصَّبر واثَّاقل عنه. والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت, ألا ترى أنك في قطَّع ونحوه قد أخفيت الساكن الأول في الثاني حتى نَبَا اللسان عنهما نبوة واحدة, وزالت الوقفة التي كانت تكون في الأول لو لم تدغمه في الآخر, ألا ترى أنك لو تكلَّفت ترك إدغام الطاء الأولى لتجشَّمت لها وقفة عليها تمتاز4 من شدَّة ممازجتها للثانية بها؛ كقولك: قططع وسككر, وهذا إنما تحكمه5 المشافهة به. فإن6 أنت أزلت تلك الوُقَيفة والفترة على الأول خلطته بالثاني فكان قربه منه "وادّغامه"7 فيه أشد لجذبه إليه وإلحاقه بحكمه. فإن كان الأول من المثلين متحركًا ثم أسكنته وأدغمته في الثاني فهو أظهر أمرًا وأوضح حكمًا, ألا ترى أنك إنما أسكنته لتخلطه بالثاني وتجذبه إلى مضامّته ومماسّة لفظه بلفظه بزوال8 الحركة التي كانت حاجزة بينه وبينه. وأمَّا إن كانا مختلفين ثم قُلِبَت أدغمت, فلا إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه؛ لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين النظير.
__________
1 أي: فعلًا لا مصدرًا.
2 كذا في ش، ب. وفي أ: "فيه غمه".
3 وأصله وتد.
4 كذا في ش, ب. وفي أ: "تمتازها".
5 كذا في ش، وفي أ، ب: "يحكمه".
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "فإذا".
7 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "بعد إدغامه".
8 كذا في ش، ب. وفي أ "فزوال" وهو تصحيف.(2/142)
فهذا حديث الإدغام الأكبر1؛ وأما الإدغام الأصغر2 فهو تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك. وهو ضروب.
فمن ذلك الإمالة، وإنما3 وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت. وذلك نحو: عالم وكتاب وسعَى وقَضى واسقضى, ألا تراك قرَّبت فتحة العين من عالِم إلى كسرة اللام منه, بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة فأملت الألف نحو الياء, وكذلك سعى وقضى , نحوت بالألف نحو الياء التي انقلبت عنها, وعليه بقية الباب.
ومن ذلك أن تقع فاء افتعل صادًا أو ضادًا أو طاءً أو ظاءً, فتقلب لها تاؤه طاء, وذلك نحو: اصطبر واضطبر واضطرب واطرد واظطلم. فهذا تقريب من غير إدغام, فأما اطَّرد فمن ذا الباب أيضًا, ولكن إدغامه ورد ههنا التقاطًا4 لا قصدًا. وذلك أن فاءه طاء, فلمَّا أبدلت تاؤه طاء صادفت الفاء طاء فوجب الإدغام لما اتفق حينئذ, ولو لم يكن هناك طاء لم يكن إدغام, ألا ترى أنَّ اصطبر واضطرب واظطلم لمَّا كان الأول منه غير طاء لم يقع إدغام قال 5:
..... ويظلم أحيانًا فيظطلم
وأما فيظلم "وفيطَّلم"6 بالظاء والطاء جميعًا, فادّغام عن قصد لا عن توارد. فقد عرفت بذلك فرق ما بين اطَّرد وبين اصَّبر واظَّلم واطَّلم.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأصفر" وهو خطأ.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأكبر" وهو خطأ.
3 كذا في ش، ب. وسقط حرف العطف في أ.
4 أي: من غير أن يقصد إليه, تقول: لقيت فلانًا التقاطها, أي: فجأة.
5 هو زهير, وانظر الديوان بشرح ثعلب 156.
6 زيادة على حسب ما في ج خلت منها الأصول الثلاثة.(2/143)
ومن ذلك أن تقع فاء "افتعل" زايا أو دالًا أو ذالًا, فتقلب تاؤه1 لها دالًا؛ كقولهم: ازدان وادَّعى "وادكر واذدكر"2 فيما حكاه أبو3 عمرو.
فأما ادَّعى فحديثه حديث اطَّرد لا غير في أنه لم تقلب قصدًا للإدغام, لكن قلبت4 تاء ادعى دالًا كقلبها في ازدان, ثم وافقت فاؤه الدال المبدلة من التاء فلم يكن من الإدغام بد.
وأما اذدكر "فمنزلة بين"5 ازدان وادَّعى. وذلك أنه لما قلب التاء دالًا "لوقوع الذال"6 قبلها صار إلى اذدكر, فقد كان هذا وجهًا يقال مثله, مع أن أبا عمرو قد أثبته وذكره, غير أنه أجريت الذال لقربها من الدال بالجهر مجرى الدال فأوثر الإدغام لتضامّ الحرفين في الجهر فأدغم, فهذه منزلة بين منزلتي7 ازدان وادّعى. وأما اذَّكر8 فكاسّمع واصّبر.
ومن ذلك أن تقع السين قبل الحرف المستعلي فتقرّب9 منه بقلبها صادًا على ما هو مبين في موضعه من باب الإدغام, وذلك كقولهم في سُقْت: صُقْت, وفي السوق: الصوق, وفي سبقت: صبقت،
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "فاؤه"، وهو تصحيف.
2 في أ: "اذدكر". وفي ب: "ذدكر". وهي اذدكر. وفي ش: "ادّكر". وفي ج: "اذكره". وقد رأيت أن المقام يدعو إلى اذدكر وادكر؛ فإن فيهما قلب تاء الافتعال دالًا. وقد جعلت "اذدكر"، وبإزاء ما حكاه أبو عمرو فإنه هو الذي أثبتها" وسيبويه يمنعها، واذَّكر بقولها الجميع. وانظر شرح الرضي للشافية في مبحث الإدغام، وابن يعيش 10/ 150.
3 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "عمر" والصواب ما أثبت.
4 كذا أثبتها. وفي الأصول: "فاء".
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "فبمنزلة". والوجه ما أثبت كما يتبين مما يجيء.
6 كذا في ش، ب وسقط هذا في أ.
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "منزلتين".
8 كذا أثبته. وفي الأصول: ادكر, والوجه ما أثبت, يريد أن اذَّكر فيها إبدال تاه الافتعال من جنس الفاء كما في اسَّمع وأصله استمع، واصَّبر وأصله اصطبر.
9 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيقرب".(2/144)
وفي السوق: الصوق، وفي سبقت: صبقت، وفي سملق1 وسويق: صملق وصويق, وفي سالغ2 وساخط: صالخ وصاخط, وفي سقر: صقر, وفي مساليخ: مصاليخ. ومن ذلك قولهم3: ست أصلها سدس, فقربوا السين من الدال بأن قلبوها تاء فصارت سِدْت, فهذا تقريب لغير ادّغام, ثم إنهم فيما بعد أبدلوا الدال تقاء لقربها منها إرادة للإدغام الآن فقالوا ست. فالتغيير الأول للتقريب من غير إدغام والتغيير الثاني مقصود به الإدغام.
ومن ذلك تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق نحو شعيرٍ وبعيرٍ ورغيفٍ, وسمعت الشجري غير مرة يقول: زِئير الأسد, يريد: الزَّئِير. وحكى أبو زيد عنهم: الجنَّة لمن خاف وعيد الله. فأما مغيرة فليس اتباعه لأجل حرف الحلق, إنما هو4 من باب مِنْتِن, ومن قولهم: أنا أجوءك وأنبؤك. والقرفصاء5، والسلطان، وهو منحدر من الجبل, وحكى سيبويه أيضًا مُنْتُن, ففيه إذًا ثلاث لغات: مُنْتِن وهو الأصل, ثم يليه مِنْتِن, وأقلها مُنْتُن. فأما قول من قال: إن مُنْتِن من قولهم: أنتن, ومِنْتِن من قولهم: نَتُن الشيء, فإن ذلك لُكْنَة منه.
ومن ذلك أيضًا قولهم: "فَعَل يَفْعَل" مما عينه أو لامه حرف حلقيّ نحو: سَأَل يسأل, وقَرَأ يَقَرَأ، وسَعَر يَسعر6، وقرع يقرع, وسَحَل يسحل, وسَبَح يَسْبَح. وذلك أنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف الحلق لما كان7 موضعًا منه مخرج الألف التي منها الفتحة.
__________
1 السملق: هو الأرض المستوية أو القفر لا نبات فيه.
2 يقال: سلغت الشاة إذا طلع نابها.
3 ثبت هذا في أ، وسقط في سائر الأصول.
4 كذا في ش، وسقط في أ.
5 هكذا بسكون الفاء كما في اللسان والقاموس بضبط القلم. وفي ج ضبط "القرفصاء" بضم القاف والراء والفاء.
6 يقال: سعر النار: أوقدها. وفي ج: "شعر يشعر" ولم يعرف في هذا فتح العين في الماضي والمضارع.
7 أي: لما كان الحلق منه مخرج الألف، والألف ينشأ منها الفتحة ألف صغيرة كان حرف الحلق مقتضيًا للفتحة. وانظر في توضيح هذا شرح الرضي للشافية 1/ 119.(2/145)
ومن التقريب قولهم: الحمُدُ لله, والحمِدِ لله.
ومنه1 تقريب الحرف من الحرف, نحو قولهم في نحو مَصْدر: مَزْدر, وفي التصدير: التزدير. وعليه قول العرب في المثل "لم يُحْرَمْ منْ فُزْد لَهُ " 2 أصله فُصِدَ له, ثم أسكنت العين على قولهم في ضُرِب: ضُرْبَ وقوله:
ونفخوا في مدائنهم فطاروا3
فصار تقديره: فُصْدله, فما سكنت الصاد فضعِّفت به وجاورت الصاد -وهو مهموسة- الدال -وهي مجهورة- قربت منها بأن أشمت شيئًا من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر.
ونحو من ذلك قولهم: مررت بمذعور وابن بور 4: فهذا نحو من قيل وغيض لفاظًا, وإن اختلفا5 طريقًا.
ومن ذلك إضعاف الحركة لتقرب بذلك من السكون نحو: حيِي وأُحْيِى وأُعيي, فهو -وإن كان مخفي- "بوزنه محركًا"6, وشاهد ذاك قبول وزن الشعر له قبوله للمتحرك البتة. وذلك قوله:
أأن زم أجمال وفارق جيرة7
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "منها".
2 يقال فصد العزق، شقه فاستخرج ما فيه من الدم. وقال في القاموس في شأن هذا المثل: بات رجلان عند أعرابي فالتقها صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى، فقال: ما قريت وإنما فصدلي. قال: "لم يحرم من فزد له"..
3 مصدره:
ألم يخز التفرق جند كسرى
والبيت للقطامي. وانظر الديوان 84.
4 الذي أنبته سيبويه في باب الإمالة: ابن نور بالنون. والمراد إشمام الضمة شيئا من الكسر لكسر الراء.
5 يريد أن لغة الإشمام في قيل -وهو الإتيان بحركة الفاء بين الضم والكسر- كالإشمام في ابن مذهور، ولكن طريق الإشمامين مختلف؛ فطريق الإشمام في قبل هو مراعاة ضم الفاء ومراعاة الياءن وطريق الإشمام في ابن مذعور مراعاة كسر الراء.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "بزنته متحركا" وانظر في إخفاء الرحركة الكتاب 2/ 378.
7 عجزه:
وصاح غراب البين أنت حزين
والبيت في ابن يعيش 9/ 113، وهو من شعر كثير، وانظره في ترجمة مدى بن الرقاع في الأغاني. والمراد النطق بقوله: أأنت بتخفيف الهمزة الثانية يجعلها بين بين.(2/146)
فهذا بزنته محقَّقًا1 في قولك: أأن زمّ أجمال. فأما روم الحركة فهي وإن كانت من هذا فإنما هي كالإهابة بالساكن نحو الحركة, وهو لذلك ضرب من المضارعة. وأخفَى منها الإشمام لأنه للعين لا للأذن. وقد دعاهم إيثار قرب الصوت إلى أن أخلوا بالإعراب فقال بعضهم:
وقال اضرب الساقين إمَّكَ هابِل2
وهذا نحو "من"3 الحمدُ لُلَّه والحمدِ لِله.
وجميع ما هذه حاله مما قُرِّب فيه الصوت من الصوت جارٍ مجرى الإدغام بما ذكرناه من التقريب, وإنما احتطنا له بهذه السمة التي هي الإدغام الصغير؛ لأن في هذا إيذانًا4 بأن التقريب شامل للموضعين وأنه هو المراد المبغي في كلتا الجهتين, فاعرف ذلك.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ: "مخففًا".
2 الشاهد فيه كسر الميم في إمِّك اتّباعًا لكسرة الهمزة. والإمّ لغة في الأم، وهذا إخلال بإعراب المبتدأ. ومن الناس من يرويه: "أضرب الساقين أمك" بضم النون في الساقين اتّباعًا لهمزة أمك. انظر تفسير القرطبي 1/ 136.
3 كذا في أ، ج. وسقط في ش، ب.
4 كذا في أ، ب. وفي ش: "أذانًا".(2/147)
باب في تصاقب 1 الألفاظ لتصاقب المعاني:
هذا غور من العربية لا ينتصف2 منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلًا مسهوًّا عنه, وهو على أضرب:
منها اقتراب الأصلين الثلاثيين؛ كضياط وضَيْطار, ولُوقةٍ وأَلوقةٍ, ورخْو ورِخْوَدٍّ, ويَنْجُوج وأَلَنْجُوج. وقد مضى3 ذكر ذلك.
__________
1 كذا في أ، ب، ش. وفي ج: "تصاريف الألفاظ لمتعاقب المعاني.
2 أي: لا يدرك كله, يقال: انتصف منه: استوفى منه حقَّه كاملًا.
3 انظر ص 47 من هذا الجزء.(2/147)
ومنها اقتراب الأصلين ثلاثيًّا أحدهما ورباعيًّا صاحبه, أو رباعيًّا أحدهما وخماسيًّا صاحبه؛ كدمث ودمثر, وسبط وسبطر, ولؤلؤ ولُآل, والضبغطى والضبغطري. ومنه قوله:
قد دَرْدَبَتْ والشيخ دَرْدَبِيس ... وقد مضى1 هذا أيضًا2
ومنها التقديم والتأخير على ما قلنا في الباب الذي قبل هذا في تقليب الأصول نحو: "ك ل م " و"ك م ل " و"م ك ل " ونحو ذلك. وهذا كله والحروف واحدة غير متجاورة3. لكن من وراء هذا ضرب غيره وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعاني, وهذا باب واسع.
من ذلك قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} 4 أي: تزعجهم وتقلقهم, فهذا في معنى تهزّهم هزًّا, والهمزة أخت الهاء, فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين. وكأنهم5 خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء, وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزِّ؛ لأنك قد تهز ما لا بال له كالجذع وساق الشجرة, ونحو ذلك.
" ومنه العَسْف6 والأسَف, والعين أخت الهمزة, كما أن الأسف يعسف7 النفس وينال منها, والهمزة أقوى من العين, كما أن أسف النفس أغلظ من "التردد"8 بالعسف. فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين"9.
__________
1 انظر ص51 وما بعدها من هذا الجزء.
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
3 كذا في أ، ش. وفي ب: "متجاوزة". وهو تصحيف.
4 آية: 83، سورة مريم.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "وذلك كأنهم".
6 في ج: "العسيف والأسيف", والعسيف: الأجير، والأسيف: الشيخ الكبير، ومن اشتد به الأسف. وكأنه يريد بالعسف هنا السير على غير طريق وهدًى, ويناسبه قوله بعد: "كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف".
7 أي: ينال منها، يقال: عسف فلانًا: ظلمه، ونال منه.
8 في ش، ب: "التودد". وهو غير مناسب.
9 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.(2/148)
ومنه القرمة وهي الفقرة تُحزّ على أنف البعير. وقريب منه قلَّمت أظفاري؛ لأن هذا انتقاص للظفر وذلك انتقاص للجلد. فالراء أخت اللام والعملان متقاربان. وعليه قالوا فيها: الجَرْفة وهي من "ج ر ف " وهي أخت جلفت لقلم إذا أخذت جُلْفته, وهذا من "ج ل ف "؛ وقريب منه الجنف وهو الميل, وإذا جَلَفت الشيء أو جرفته فقد أملته عمَّا كان عليه, وهذا من "ج ن ف ".
ومثله تركيب "ع ل م " في العلامة والعلم, وقالوا مع ذلك: بيضة عرماء وقطيع أعرم إذا كان فيهما سواد وبياض, وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه، فكان كل واحد منهما علمًا لصاحبه. وهو من "ع ر م", قال أبو وجزة السعدي:
ما زلن ينسبن وهنا كل صادقةٍ ... باتت تباشر عُرْمًا غير أزواجِ1
حتى سَلَكن الشوى منهن في مسكٍ ... من نسل جوابة الآفاقِ مهداج
ومن ذلك تركيب "ح م س " و "ح ب س ", قالوا: حبست الشيء, وحمس الشر إذا اشتد, والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازا, فكان ذلك كالشر يقع بينهما.
__________
1 هذا البيت في اللسان، والحيوان 5-573، والبيتان في صفة حمير الوحش،
وقد وردن الماء ليلًا فأثرن القطا ... حتى وردنه وأدخلن أرجلهن فيه
وقوله: "وهنا" أي: حين أدبر الليل, ويريد بالصادقة: القطاة؛ لأن القطاة تصحيح: قطا قطا، وهو اسمها, فنسب إليها الصدق, وقيل: أصدق من قطاة. وقد وصفها بأن بيضها عرم غير أزواج، أفراد وكذلك بيض القطا. والشوى من الداية: البدان والرجلان، والمسك: ما يكون في رجل الدابة كالخلخال. وأراد بجوابة الآفاق المهداج: الريح الحنون. أراد أن الأتن أدخلن قوائمهن في الماء فصار الماء لأرجلهن وأيديهن كالمسك، ووصف أن هذا الماء ماء مطر ساقته الريح. وانظر اللسان في هدج ومسك، والبيت الأول في الحيوان.(2/149)
ومنه العَلْب: الأثر والعَلْم: الشقّ في الشفة العليا. فذاك من "ع ل ب ", وهذا من "ع ل م ", والباء أخت الميم, قال طرفة:
كأن عُلوب النسع في دأياتها ... موارد من خلقاء في ظهرِ قردد1
ومنه تركيب "ق ر د " و "ق ر ت ", قالوا للأرض: قَرْدَد, وتلك2 نباك تكون في الأرض, فهو من قرد الشيء وتقرّد إذا تجمع, أنشدنا أبو علي 3:
أهوى لها مشقصٌ حشر فشبرقها ... وكنتُ أدعو قذاها الإثمد القردا4
"أي: أسمي الإثمد القرد أذًى لها. يعنى عينه"5 وقالوا: قرت الدم عليه, أي: جمد, والتاء أخت الدال كما ترى. فأما لم خص هذا المعنى بذا الحرف فسنذكره في باب يلي هذا بعون الله تعالى.
ومن ذلك العلز: خفّة وطيش وقلق يعرض للإنسان, وقالوا: "العلوص" لوجع في الجوف يلتوي له الإنسان6 ويفلق منه. فذاك من "ع ل ز", وهذا من "ع ل ص", والزاى أخت الصاد.
__________
1 البيت في معلقته, وهو في وصف الناقة, والنسع: سير تشد به الرجال. والدأيات، أضلاع الكنف، والموارد: طرق الواردين إلى الماء. والخلقاء: الصخرة الملساء، والقردد: ما ارتفع من الأرض. يصف آثار الحزام في أضلاعها؛ وشبهها بالطَّرق في صخرة ملساء، وذلك من كثرة حمل الرحل عليها.
2 واحدها نبكة, وهي التل أو الأكمة.
3 نسبه في اللسان في هوى إلى ابن أحمر.
4 أهوى: هوى وانقض عليها وسقط, والمشقص: السهم المريض، والحشر: اللطيف الدقيق, وشرقها: مزتها. يريد أن عينه أصابهم منهم ففقأها، وكان من قبل مشققًا عليها حريصًا على ألّا ينالها شيء؛ حتى إن الإثمد القرد كان يراه قذى لها. وفي رواية اللسان في هوى: "مشقصًا".
5 كذا في ش، ب. وسقط ما بين القوسين في أ.
6 كذا في ش، ب: وسقط في أ.(2/150)
ومنه الغَرْب: الدلو العظيمة، وذلك لأنها يغرف من الماء بها، فذاك1 من "غ ر ب ", وهذا من "غ ر ف " , أنشد أبو زيد:
كأن عيني وقد بانوني ... غربان في جدول منجنون2
واستعملوا تركيب "ج ب ل " و "ج ب ن " و "ج ب ر " لتقاربها في موضع واحد وهو الالتئام والتماسك. منه الجبل لشدّته وقوته, وجبن إذا استمسك وتوقَّف وتجمَّع, ومنه جبرت العظم ونحوه, أي: قويته.
وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين نحو قولهم: السحيل والصهيل, قال 3:
كأن سحيله في كل فجر ... على أحساء يمؤود دعاء4
وذاك من "س ح ل ", وهذا من "ص هـ ل ", والصاد أخت السين, كما أن الهاء أخت الحاء. ونحو منه قولهم: "سحل" في الصوت, و"زحر", والسين أخت الزاي, كما أن اللام أخت الراء.
وقالوا: "جلف وجرم", فهذا للقشر وهذا للقطع, وهما متقاربان معنًى ومتقاربان لفظًا؛ لأن ذاك من "ج ل ف " , وهذا من "ج ر م ".
__________
1 في ج: "وذلك لأنها تغرف من الماء، والفاء أخت الباء".
2 بانوني، بانوا عني وفارقوني, والمنجنون ما يستقي به وهو الدولاب، وانظر النوادر60.
3 هو زهير في قصيدته التي مطلعها:
عفا من آل فاطمة الجواد ... فيُمْن فالقوادم فالحساء
4 هذا في الحديث عن الحمار الوحشي، وسحيله صوته، ويمؤرد: واد في أرض غطفان. فالأحساء: الرمال يكون فيها الماء. وانظر الديوان بشرح ثعلب. طبعة دار الكتب 75.(2/151)
" وقالوا: صال يصول, كما قالوا: سار يسور"1.
نعم, وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام. فقالوا: عصر الشيء, وقالوا: أزله2 إذا حبسه, والعصر ضرب من الحبس. وذاك من "ع ص ر " , وهذا من "أزل", والعين أخت الهمزة, والصاد أخت الزاي, والراء أخت اللام. وقالوا: الأزم: المنع والعصب: الشدّ, فالمعنيان متقاربان, والهمزة أخت العين, والزاي أخت الصاد, والميم أخت الباء. وذاك من "أزم" وهذا من " ع ص ب".
وقالوا: السلب والصرف, وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه. فذاك من "س ل ب ", وهذا من "ص ر ف" , والسين أخت الصاد, واللام أخت الراء, والباء أخت الفاء.
وقالوا: الغدر, كما قالوا: الختل, والمعنيان متقاربان, واللفظان متراسلان, فذاك من "غ د ر " , وهذا من "خ ت ل ", فالغين أخت الخاء, والدال أخت التاء, والراء أخت اللام.
وقالوا: زأر, كما قالوا: سعل, لتقارب اللفظ والمعنى.
وقالوا: عدن بالمكان, كما قالوا: تأطر, أي: أقام وتلبَّث.
وقالوا: شرب, كما قالوا: جلف؛ لأن شارب الماء مُفْنٍ له كالجلف3 للشيء. وقالوا: ألته حقه, كما قالوا: عانده. وقالوا: الأرفة للحد بين الشيئين, كما قالوا: علامة. وقالوا: قفز, كما قالوا: كبس, وذلك أن القافز إذا استقرَّ على الأرض
__________
1 سقط ما بين القوسين في أ، وثبت في ش، ب.
2 كذا في أ، ج. وفي، ب: "أزاله", وهو خطأ.
3 يقال: جلف الشيء: استأصله.(2/152)
كبسها. وقالوا: صهل, كما قالوا: زأر. وقالوا: الهتْر, كما قالوا: الإدل1, وكلاهما العجب. وقالوا: كلف به, كما قالوا: تقرب منه. وقالوا: تجعد, كما قالوا: شحط, وذلك أن الشيء إذا تجعَّد وتقبَّض عن غيره شحط وبعد عنه, ومنه قول الأعشى:
إذا نزل الحي حلّ الجحيش ... شقيًّا غويًّا مبينًا غيورا2
وذاك من تركيب "ج ع د " , وهذا من تركيب "ش ح ط ", فالجيم أخت الشين, والعين أخت الحاء, والدال أخت الطاء. وقالوا: السيف والصوب, وذلك أن السيف يوصف بأنه يرسب في الضريبة لحدته ومضائه, ولذلك قالوا: سيف رسوب, وهذا هو معنى صاب يصوب إذا انحدر. فذاك من "س ي ف " , وهذا من "ص وب ", فالسين أخت الصاد, والياء أخت الواو, والفاء أخت الباء. وقالوا: جاع يجوع, وشاء يشاء, والجائع مريد للطعام لا محالة, ولهذا يقول المدعوّ إلى الطعام إذا لم يجب: لا أريد ولست أشتهي ونحو ذلك, والإرادة هي المشيئة. فذاك من "ج وع ", وهذا من "ش ي أ " , والجيم أخت الشين, والواو أخت الياء, والعين أخت الهمزة. وقالوا: فلان جلس بيته إذا لازمه. وقالوا: أرز إلى الشيء إذا اجتمع نحوه وتقبَّض إليه, ومنه: إن3 الإسلام ليأرز إلى المدينة, وقال 4:
بآرزة الفقارة لم يخنها ... قطاف في الركاب ولا خلاء
__________
1 هذا صحيح في الهتْر، جاءت به اللغة "فأمّا الإدل فهو وجع يأخذ في العنق، وهو أيضًا اللبن الخائر الشديد الحموضة، ولم أقف على وروده للعجب, وهو محرّف عن الأدب.
2 المعروف في الرواية:
حريد المحل غويًّا غيورًا
وهو في وصف رجل غيور على امرأته، فإذا نزل بها في السير اعتزل القوم بها, وانظر الصبح المنير 68، واللسان "جحش", والجحيش يروى بالنصب على الظرفية, أي: المكان المنفرد، ويروى بالرفع, أي: زوجها المعتزل بها عن الناس.
3 هذا الحديث في البخاري في "فضائل المدينة" بلفظ: "إن الإيمان....".
4 أي: زهير.
5 "آرة الفقارة" أي: قوية، وهو من وصف الناقة، وذلك أن فقارها آرز: متداخل مجتمع، وذلك من قوتها, "ولم يختها": لم ينقصها، والقطاف: مقاربة الحطر، والخلاء في الإبل كالحران في الدواب, وانظر الديوان بشرح ثعلب, طبعة دار الكتب 63.(2/153)
فذاك من "ح ل س " وهذا من "أر ز ", فالحاء أخت الهمزة, واللام أخت الراء, والسين أخت الزاي. وقالوا: أفل, كما قالوا: غبر؛ لأن أفل: غاب, والغابر غائب أيضًا. فذاك من " أف ل ", وهذا من " غ ب ر ", فالهمزة أخت الغين, والفاء أخت الباء, واللام أخت الراء.
وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة, وإنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه, بل مَنْ إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبًا, وعزَّ فيهم مذهبًا! وقد قال أبو بكر: من عرف ألف, ومن جهل استوحش. ونحن نتبع هذا الباب بابًا أغرب منه وأدلّ على حكمة القديم سبحانه, وتقدست أسماؤه, فتأمله تحظ به بعون الله تعالى.(2/154)
باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني:
اعلم أن هذا موضع شريف لطيف, وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه, وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته.
قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا فقالوا: صَرَّ, وتوهموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر.
وقال سيبويه1 في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة, نحو: النقزان2 والغلبان والغثيان, فقابلوا3 بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال.
__________
1 عبارة سيبويه في الكتاب 2/ 218: "ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني قولك: النزوان والنقزان والقفزان. وإنما هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزاز في ارتفاع, ومثله العسلان والرتكان ... ومثل هذا الغلبان؛ لأنه زعزعة وتحرك، ومثله: الغثيان؛ لأنه تجيش نفسه وتثور، ومثله: الخطران واللعان؛ لأن هذا اضطراب وتحرك، ومثل ذلك: اللهبان والوهجان؛ لأنه تحرك الحر وتثوره، فإنما هو بمنزلة الغليان".
2 يقال: نقز الظبي: وثب صعذا.
3 هذا من كلام ابن جني لا من كلام سيبويه، كما يعلم من نص سيبويه السابق.(2/154)
ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سَمْت ما حدّاه1، ومنهاج ما مثّلاه. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة "والصعصعة"2 والجرجرة والقرقرة. ووجدت أيضًا "الفَعَلى" في المصادر والصفات إنما تأتى للسرعة نحو: البشكى والجمزى والولقى, قال رؤبة:
أو بَشَكَى وخد الظليم النزّ3
وقال الهذلي4:
كأني ورحلي إذا هجّرت ... على جمزى جازئ بالرمال
أو أصحم حام جراميزه ... حزابية حيدى بالدحال5
فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر -أعني: باب القلقلة- والمثال الذي6 توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها.
ومن ذلك -وهو أصنع منه- أنهم جعلوا "استفعل" في أكثر الأمر للطلب, نحو: استسقى واستطعم واستوهب واستمنح, واستقدم عمرًا, واستصرخ جعفرًا. فرتّبت في هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال, وتفسير ذلك أن الأفعال المحدث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع بالصنعة7 الأصول.
__________
1 كذا في أ. وفي ب: "حذّياه" وفي ش: "حذياه".
2 كذا في ش، ب، ج. وسقط هذا في أ. والصعصعة: التحريك والقلقلة.
3 يقال ظليم نز: لا يستقر في مكان. وانظر الديوان 65.
4 هو أمية بن أبي عائذ كما في اللسان في جمز، وانظر الهذليين 2/ 176.
5 يريد بالجمزى: حمار وحش، وجازئ: يستغني بالرطب عن الماء، والأحم من الصحة وهي سواد إلى صفرة. ويريد به أيضًا حمار وحش، وجراميزه: جسده ونفسه، يحميها من الصائد، حزابية، غليظ. حيدى: يحيد من سرعته. والدحال: وهو هوة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل.
6 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "التي" وهو خطأ.
7 كذا في أ: وفي ش، ب: "بالصفة".(2/155)
فالأصول نحو قولهم: طعم ووهب, ودخل وخرج, وصعد ونزل. فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت, ولم يكن معها دلالة تدل على طلب لها ولا إعمال فيها. وكذلك ما تقدمت الزيادة فيه على سمت الأصل نحو: أحسن وأكرم وأعطى وأولى. فهذا من طريق الصنعة1 بوزن الأصل في نحو: دحرج وسرهف وقوقى وزوزى. وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعاني, فكلما ازدادت العبارة شبهًا بالمعنى كانت أدلّ عليه وأشهد بالغرض فيه.
فلمّا كانت إذا 2فأجأت الأفعال فاجأت أصول المثل الدالة عليها, أو ما جرى مجرى أصولها نحو: وهب ومنح وأكرم وأحسن, كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها, وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مثلها الدالة عليها أحرفًا زائدة على تلك الأصول, تكون كالمقدمة لها, والمؤدية إليها.
وذلك نحو: استفعل, فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد, ثم وردت بعدها الأصول: الفاء والعين واللام. فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك, وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعي فيه والتأتي3 لوقوعه تقدمه, ثم وقعت الإجابة إليه فتبع الفعل السؤال فيه والتسبب لوقوعه. فكما تبعت أفعال الإجابة أفعال الطلب كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التي وضعت للالتماس والمسألة. وذلك نحو استخرج واستقدم واستوهب واستمنح واستعطى واستدنى, فهذا على سمت الصنعة التي تقدَّمت في رأي الخليل وسيبويه, إلّا أن هذه أغمض من تلك. غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها ومعقودة4 عليها.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش: "الصيغة".
2 كذا في أ، وفي ش، ب: "إذ".
3 كذا في ب. وفي ش، أ: "الثاني" وهو تصحيف.
4 كذا في ش، ب. وفي أ: "مقردة".(2/156)
ومن وجد مقالًا قال به وإن لم يسبق إليه غيره. فكيف به إذا تبع العلماء فيه وتلاهم على تمثيل معانيه.
ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال1 دليلًا على تكرير الفعل, فقالوا: كسَّر وقطَّع وفتَّح وغلَّق. وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل, والعين أقوى من الفاء واللام, وذلك لأنها واسطة لهما ومنكوفة بهما, فصارا كأنهما سياج لها, ومبذولان للعوارض دونها2. ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها. فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب: وعد, نحو العدة والزنة، والطدة3، والتدة، والهبة، والإبة. وأما اللام فنحو: اليد والدم والفم والأب والأخ والسنة والمائة، والفئة4. وقلَّما تجد الحذف في العين5.
فلمَّا كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها وجعلوه دليلًا على قوة المعنى المحدث به, وهو تكرير الفعل, كما جعلوا تقطيعه في نحو: صرصر وحقحق, دليلًا على تقطيعه. ولم يكونوا ليضعفوا الفاء ولا اللام لكراهية التضعيف في أول الكلمة, والإشفاق على الحرف المضعَّف أن يجيء في آخرها وهو مكان الحذف وموضع الإعلال, وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدال على قوة الفعل. فهذا أيضًا من مساوقة الصيغة6 للمعاني.
وقد أتبعوا اللام في باب المبالغة العين, وذلك إذا كرّرت العين7 معها في نحو: دمكمك وصمحمح وعركرك8 وعصبصب وغشمشم, والموضع في ذلك للعين, وإنما
__________
1 يريد بالمثال البناء.
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "بدلًا منها".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "الصدة". والطدة من وطد, والصدة من رصد, يقال: "وطّد الشيء ووصد، ثبت.
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "الهنة".
5 من ذلك السة وأصله الستة, ومذ وأصله منذ.
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "الصنعة".
7 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "بالعين".
8 يقال: بعير عركرك: قوي غليظ.(2/157)
ضامَّتها اللام هنا تبعًا لها ولاحقة بها, ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو: اخلولق واعشوشب واغدودن واحمومى واذلولى واقطوطى, وكذلك في الاسم نحو: عثوثل وغدودن وخفيدد1، وعقنقل، وعبنبل2، وهجنجل, قال:
ظلّت وظلَّ يومها حوب حل ... وظلّ يوم لأبي الهجنجل3
فدخول لام التعريف فيه مع العلمية يدل على أنه في الأصل صفة كالحرث والعبّاس وكل واجد من هذه المثل قد فصل بين عينيه بالزائد لا باللام.
فعلمت أن تكرير المعنى في باب: صمحمح "إنما هو للعين"4، وإن كانت اللام فيه أقوى من الزائد في باب: افعوعل وفعوعل وفعيعل5 وفعنعل؛ لأن اللام بالعين أشبه من الزائد بها. ولهذا أيضًا ضاعفوها كما ضاعفوا العين للمبالغة نحو: عتلّ وصملّ وقمدّ وحزقّ, إلّا أن العين أقعد6 في ذلك من اللام, ألا ترى أن الفعل الذي هو موضع للمعاني لا يضعف ولا7 يؤكد تكريره إلّا بالعين. هذا هو الباب. فأما اقعنسس واسحنكك, فليس الغرض فيه التوكيد والتكرير؛ لأن ذا إنما ضعف للإلحاق, فهذه طريق8 صناعية, وباب تكرير العين هو طريق معنوية9، ألا ترى أنهم لما اعتزموا إفادة المعنى توفروا عليه وتحاموا طريق الصنعة والإلحاق فيه فقالوا: قطَّع وكسَّر تقطيعًا وتكسيرًا, ولم يجيئوا بمصدره على مثال فعللة فيقولوا: قطعةً وكسرة, كما قالوا في الملحق: بيطر بيطرة, وحوقل حوقلة, وجهور جهورة.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "خفيفد" وكلاهما السريع في وصف الظليم.
2 كذا في أوسقط في ش، ب. والعبنبل: الضخم الشديد.
3 يريد ظل يومها مقولًا فيها: حوب حل. وحوب زجر لذكور الإبل، وحل زجر لإناثها. ورود هذا الزجر مع صلة له في شرح التبريزي للحماسة 1/ 323 بتحقيق الشيخ محمد محيى الدين.
4 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
5 كذا في ش، ب وسقط في أ.
6 كذا في أوفي ش، ب: "أقوى" وفي ج: "أولى".
7 كذا في ش، ب وسقط في أ.
8 كذا في أوفي ش، ب: "طريقة.
9 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "معنوي".(2/158)
ويدلك1 على أن افعوعل لما ضعفت عينه للمعنى انصرف به عن طريق الإلحاق -تغليبًا للمعنى على اللفظ وإعلامًا أن قدر المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللفظ- أنهم قالوا في افعوعل من رددت: "اردودّ" ولم يقولوا: اردودد, فيظهروا التضعيف للإلحاق كما أظهروه في باب2 اسحنكك، واكلندد3، لما كان للإلحاق بالحرنجم واخرنطم ولا تجد في بنات الأربعة نحو: احروجم, فيظهروا "افعوعل" من رددت فيقال: "اردودد"؛ لأنه لا مثال له رباعيًّا فيلحق هذا4 به.
فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ودلالاتهم "منها"5 على الإرادة والبغية.
فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث, فباب عظيم واسع, ونهج متلئب عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها, فيعدلونها بها ويحتذونها عليها, وذلك أكثر مما نقدره6، وأضعاف ما نستشعره6.
من ذلك قولهم: خضم وقضم, فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب, والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر قد يدرك الخضم بالقضم, أي: قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف. وعليه قول أبي7 الدرداء: يخضمون8 ونقضم والموعد الله.
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "يدل".
2 كذا في ش، ب وفي أ: "نحو".
3 يقال: أكلندد: اشتد.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
5 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
6 كذا في ش، ب بالنون. وفي أبالتاء فيهما.
7 في النهاية أن في حديث أبي ذر: "تأكلون خضماونا كل قضمًا", وفيها أيضًا: "وفي حديث أبي هريرة أنه مرَّ بمروان وهو يبني بيتًا له، فقال: ابنوا شديدًا، وأملوا بعيدًا، واخضموا فسنقضم"، وفي الأساس: "وفي حديث أبي ذر: "اخصموا نستقضم" ولم أقف على نسبة هذا لأبي الدرداء.
8 كذا في ش، أ، ب. وفي ج: "تخضمونه".(2/159)
فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب, والقاف لصلابتها لليابس حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.
ومن ذلك قولهم: التضح للماء نحوه والنضح أقوى من النضح, قال الله سبحانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} 1 فجعلوا الحاء -لرقَّتها- للماء الضعيف, والخاء -لغلظها- لما هو أقوى منه.
ومن ذلك القدّ طولًا والقط عرضًا. وذلك أن الطاء أحصر2 للصوت وأسرع قطعًا له من الدال, فجعلوا الطاء المناجزة3 لقطع العرض؛ لقربه وسرعته, والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا.
ومن ذلك قولهم: قرت الدم وقرد الشيء وتقرّد وقَرَطَ يقرط, فالتاء أخفت4 الثلاثة, فاستعملوها في الدم إذا جفَّ؛ لأنه قصد ومستخف في الحسِّ عن القردد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء -وهي أعلى الثلاثة صوتًا- "للقرط"5 الذي يسمع, وقرد، من القرد, وذلك لأنه موصوف بالقلة والذلة, قال الله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 6.
ينبغي أن يكون "خاسئين" خبرًا آخر ل"كونوا", والأول "قردة", فهو كقولك 7: هذا حلو حامض وإن جعلته وصفًا ل"قردة" صغر معناه، ألا ترى أن القرد لذله
__________
1 آية: 66، سورة الرحمن.
2 كذا في أ، وفي ج: "أخصر" وفي ب: أخص", وفي ش: "أخفض", ويبدو فيها الإصلاح وكان أصلها أخص وهو ما في ب، وكلاهما تحريف عن أحصر.
3 كذا في أ. وفي ش: "للمناجزة" وفي ب: "المناجرة".
4 كذا في ش، أ، ب. وفي ج: "أخف" وأخفتها: أخفاها صوتًا. والخفت: إسرار النطق.
5 يقال: قرط الكراث: قطعة في القدر، والقرط يسمع له صوت؛ إذ كان قطعًا وشقًّا.
6 آية: 65، سورة البقرة.
7 الأخلق بما نحن فيه أن يكون كقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} مما يصحّ الاقتصار فيه على أحد الخبرين أو الأخبار, وأما "هذا حلو حامض" فالخبران في قوة خبر واحد، وهو "مزّ".(2/160)
وصغاره خاسئ أبدًا, فيكون إذًا صفة غير مفيدة, وإذا جعلت "خاسئين" خبرًا ثانيًا حسن وأفاد حتى كأنه قال: كونوا قردة " و"1 كونوا خاسئين, ألا ترى أن ليس لأحد الاسمين من الاختصاص بالخبرية إلّا ما لصاحبه, وليس كذلك الصفة بعد الموصوف, إنما اختصاص العامل بالموصوف, ثم الصفة من بعد تابعة له.
ولست أعني بقولي: إنه كأنه قال تعالى: كونوا قردة, كونوا خاسئين, إن العامل في خاسئين عامل ثانٍ غير الأول, معاذ الله أن أريد ذلك, إنما هذا شيء يقدَّر مع البدل. فأما في الخبرين فإن العامل فيهما جميعًا واحد, ولو كان هناك عامل آخر لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد, وإنما مفاد الخبر من مجموعهما2. ولهذا كان عند أبي علي أن العائد على المبتدأ من مجموعهما لا من أحدهما؛ لأنه ليس الخبر بأحدهما بل بمجموعهما. وإنما أريد أنك متى شئت باشرت ب"كونوا" أي: الاسمين آثرت, ولست كذلك الصفة.
ويؤنّس بذلك أنه لو كانت "خاسئين" صفة ل"قردة" لكان الأخلق أن يكون "قردة خاسئة"، "وفي أن"3 لم يقرأ بذلك البتَّة دلالة على أنه ليس بوصف. وإن كان قد يجوز أن يكون "خاسئين" صفة "لقردة على المعنى إذ كان المعنى"4 أنها هي هم في المعنى, إلّا أن هذا إنما هو جائز وليس بالوجه, بل الوجه أن يكون وصفًا لو كان على اللفظ. فكيف وقد سبق ضعف الصفة ههنا. فهذا شيء عَرَض قلنا فيه ثم لنعد.
__________
1 كذا في أ. وسقط في ش، ب.
2 قد علمت أن مفاد الخبر في الآية ليس من مجموع "قردة" و"خاسئين", بل كل منهما يصح أن يكون خبر وحده، على هذا فلا يجيء ما شاه عليه بعد نقلًا عن أبي علي: أن العائد على المبتدأ من مجموعهما، فإن مذهب أبي علي هذا في نحو: "الرمان حلو حامض" لا فيما نحن فيه، وانظر الهمع 1/ 95.
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "فإن".
4 في أ "لقردة على المعنى". وما بين القوسين فيما عداها من الأصول.(2/161)
أفلا ترى إلى تشبيههم الحروف بالأفعال وتنزيلهم إياها على احتذائها.
ومن ذلك قولهم: الوسيلة والوصيلة, والصاد -كما ترى- أقوى صوتًا من السين لما فيها من الاستعلاء, والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة. وذلك أن التوسّل ليست له عصمة الوصل والصلة, بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومماسته له, وكونه في أكثر الأحوال بعضًا له؛ كاتصال الأعضاء بالإنسان وهي أبعاضه, ونحو ذلك, والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسّل جزءًا أو كالجزء من المتوسل إليه. وهذا واضح. فجعلوا الصاد لقوتها للمعنى الأقوى، والسين لضعفها للمعنى الأضعف.
ومن ذلك قولهم: "الخذا" في الأذن، "والخذأ: الاستخذاء"1, فجعلوا الواو في خذواء2 -لأنها دون الهمزة صوتًا- للمعنى الأضعف, وذلك لأن استرخاء الأذن "ليس"3 من العيوب التي يسبّ بها, ولا يتناهى في استقباحها. وأما الذل فهو من أقبح العيوب وأذهبها في المزراة والسب, فعبروا عنه بالهمزة لقوتها, وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها. فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين, وأضعفهما لأضعفهما.
ومن ذلك قولهم: قد جفا الشيء يجفو, وقالوا: جفأ الوادي بغثائه4، ففيهما كليهما5 معنى الجفاء لارتفاعهما, إلّا أنهم استعملوا الهمزة في الوادي لما هناك من حفزه6، وقوة دفعه.
__________
1 كذا في أ، ب. وفي ش؛ "والحذأ والاستخذاء" وواو العطف يبدو أنها ملحقة إصلاحًا، وكتب في الهامش بعد هذا: "في الذل" و"صح".
2 كذا في أ. وفي ش، ب: "الحذراء" أي: في قولهم أذن خذواء وصفًا من الحذا.
3 كذا في أ، ب. وسقط في ش. وفي ج. "ليس من العيوب التي يتناهى في اسقباحها".
4 كذا في ش، ب وفي أ: "بعبابه". وفي اللسان: جفأ الوادي غثاءه يجفأ جفأ: رمى بالزبد والقذى.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "كلتيهما".
6 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "حفره".(2/162)
ومن ذلك قولهم: صعد وسعد, فجعلوا الصاد -لأنها أقوى- لما فيه أثر مشاهد يرى، وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك. وجعلوا السين -لضعفها- لما لا يظهر ولا يشاهد حسًّا, إلا أنه مع ذلك فيه صعود الجد لا صعود الجسم, ألا تراهم يقولون: هو سعيد الجدّ, وهو عالي الجد, وقد ارتفع أمره وعلا قدره. فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة, وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم تره العين, والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية.
فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يكون الخذا في الأذن مهموزًا, وفي الذل غير مهموز؛ لأن عيب الأذن مشاهد, وعيب النفس غير مشاهد, قيل: عيب الأذن وإن كان مشاهدًا فإنه لا علاج فيه على الأذن, وإنما هو خمول وذبول ومشقة الصاعد ظاهرة مباشرة1 معتدة متجشمة, فالأثر فيها أقوى, فكانت بالحرف الأقوى -وهو الصاد- أحرى.
ومن ذلك أيضًا: سدَّ وصدَّ؛ فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد, والمنظرة ونحوها, والصد جانب الجبل والوادي والشعب, وهذا أقوى من السد الذي قد يكون لثقب الكوز2 ورأس القارورة ونحو ذلك, "فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى، والسين لضعفها، للأضعف"3.
ومن ذلك القسم والقصم, فالقصم أقوى فعلًا من القسم؛ لأن القصم يكون معه الدق, وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما, فلذلك خصت بالأقوى الصاد وبالأضعف السين.
__________
1 كذا في ش، أ، وفي ب: "مباصرة".
2 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "الكثرة".
3 ما بين القوسين ساقط من أ.(2/163)
ومن ذلك تركيب "ق ط ر " و "ق د ر " و "ق ت ر " فالتاء خافية متسفلة, والطاء سامية متصعدة,/ فاستعملتا -لتعاديهما-1 في الطرفين كقولهم: فتر الشيء2 وقطره. والدال بينهما ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء, فكانت3 لذلك واسطة بينهما, فعبِّر بها عن معظم الأمر ومقابلته, فقيل: قدر الشيء لجماعه ومحر نجمه4. وينبغي أن يكون قولهم: قطر الإناء الماء ونحوه, إنما هو "فعل" من لفظ القطر ومعناه. وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهي قطره. فاعرف ذلك.
فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه, وأصلحت فكرك لتناوله وتأمله, أعطاك مقادته5 وأركبك ذروته وجلا عليك بهجاته ومحاسنه, وإن أنت تناكرته وقلت: هذا أمر منتشر, ومذهب صعب موعر, حرمت نفسك لذته, وسددت عليها باب الحظوة به.
نعم، ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر, والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبَّر عنها بها ترتيبها, وتقديم ما يضاهي أول الحدث, وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسيط6 ما يضاهي أوسطه, سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب.
__________
1 أي: لتباينهما -وكذا هو في ش، ب. وفي أ "لعادتهما".
2 قتر الشيء وقطره: ناحيته وجانبه. والأصل القطر، والقتر لغة فيه، كما في اللسان.
3 كذا في ش، ب. وفي أ "وكانت".
4 هو حيث مجتمع، من قولهم: احرنجمت الإبل: اجتمعت.
5 كذا في ش، ب. وفي أ "مقاده".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "توسط".(2/164)
وذلك قولهم: بحث. فالباء لغلظها1 تشبه بصوتها2 خفقة الكف3 على الأرض، والحاء لصحلها4 تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب, ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث، والبث للتراب5. وهذا أمر تراه محسوسًا محصلًا, فأيّ شبهة تبقى بعده, أم أيّ شك يعرض6 على مثله. وقد ذكرت هذا في موضع آخر من كتبي لأمرٍ دعا إليه هناك. فأمَّا هذا الموضع فإنه أهله, وحقيق به لأنه موضوع له ولأمثاله.
ومن ذلك قولهم: شدَّ الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد, ثم يليه إحكام الشدّ والجذب وتأريب العقد, فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين, ولاسيما وهي مدغمة, فهو أقوى لصنعتها وأدلّ على المعنى الذي أريد بها. ويقال7 شدَّ وهو8 يشد. فأمَّا الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شدّ الحبل ونحوه لضرب من الاتساع والمبالغة, على حد ما نقول9 فيما يشبه بغيره لتقوية أمره المراد به10.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بفلظها".
2 كذا في ش، ب. وفي أ "لصوتها".
3 كذا في ش، ب. وفي أ: "خفقة الكف على الكف".
4 كذا في ج، وهو محرق في ش. وفي أ: "فيهما". والصحل: البحة في الصوت.
5 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "النبث".
6 كذا في أ. وفي ش، ب: "يعترض".
7 كذا في أ. وفي ش، ب: "فيقال".
8 كذا في ش، ب. وفي أ: "فهو".
9 في أ، ش: "يقول". وفي ب غير منقوطة.
10 كذا في أ. وفي ب: "بالمراد".(2/165)
ومن ذلك أيضًا جرَّ الشيء يجرّه, قدموا الجيم لأنها حرف شديد, وأول الجر بمشقة1 على الجار والمجرور جميعًا, ثم عقَّبوا ذلك بالراء وهو حرف مكرر, وكررها مع ذلك في نفسها. وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتزَّ عليها واضطرب صاعدًا عنها ونازلًا إليها, وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة2 والقلق. فكانت الراء -لما فيها من التكرير؛ ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها في "جر" و"جررت"- أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا هو محجة هذا ومذهبه.
فإن أنت رأيت شيئًا من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه, ولا يتابعك على ما أوردناه, فأحد أمرين 3: إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه, أو لأن لهذه اللغة أصولًا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا "كما قال سيبويه:"4 أو لأنَّ الأول وصل إليه علم5 لم يصل إلى الآخر.
فإن قلت: فهلّا أجزت أيضًا أن يكون ما أوردته في هذا الموضع شيئًا اتفق، وأمرًا وقع في صورة المقصود، من غير أن يعتقد (وما الفرق) 6؟.
قيل: في هذا حكم بإبطال ما دلت الدلالة عليه من حكمة العرب التي تشهد بها العقول، وتتناصر7 إليها أغراض ذوي التحصيل, فما ورد على وجه يقبله
__________
1 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "المشقة".
2 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "المعنفة".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "الأمرين". وفي ج: "فلأحد أمرين".
4 ما بين القوسين في ش، ب، ج. وسقط في أ.
5 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "و".
6 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
7 كذا في أ، ج. وفي ش، ب "يتناضل".(2/166)
القياس, وتقتاد إليه دواعي النظر والإنصاف, حمل عليها ونسبت الصنعة فيه إليها. وما تجاوز ذلك فخفي لم توءس1 النفس منه, ووكل إلى "مصادقة2 النظر فيه", وكان الأحرى به أن يتهم الإنسان نظره، ولا يخفّ إلى ادعاء النقض3 فيما قد ثبَّت الله أطنابه, وأحصف بالحكمة أسبابه. ولو لم يتنبه "على ذلك"4 إلّا بما جاء عنهم من تسميتهم5 الأشياء بأصواتها؛ كالخازباز لصوته6، والبط لصوته، والخاقباق لصوت الفرج عند الجماع, والواق7 للصرد8 لصوته، وغاق للغراب9 لصوته، "وقوله"10: "تداعين باسم الشيب"11 لصوت مشافرها, وقوله:
بينما نحن مرتعون بفلج ... قالت الدلّح الرواء إنيه12
فهذا حكاية لرزمة السحاب وحنين الرعد, وقوله:
كالبحر يدعو هيقما وهيقما13
وذلك لصوته, ونحو منه قولهم: حاحيت وعاعيت وهاهيت, إذا قلت: حاء وعاء وهاء. وقولهم: بسملت وهيللت وحولقت؛ كل ذلك "وأشباهه"14 إنما يرجع في اشتقاقه إلى الأصوات. والأمر أوسع.
__________
1 كذا في أ، ب، ج: وفي ش: "تيأس".
2 كذا في أ. وفي ش، ب، ج: "معاودة".
3 في ج: "النقص".
4 كذا في أ. وفي ش، ب: "لذلك".
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "تشبيهم".
6 كذا في ش، ب. وفي أ: "لجنونه" والحازباز، الذباب.
7 الواق -بكسر القاف حكاية لصوته, ويقال فيه: الواقي.
8 كذا في ب، وفي ج: "الصرد" وفي أ، "المصرّ", وهو تحريف عن المصرصر, أي: المصوّت. وفي ش: "المصرد". والصرد: طائر فوق العصفور، وهو الواقي والواق.
9 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "الغراب".
10 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "في قوله".
11 الشيب "بالكسر": حكاية صوت مشافر الإبل عند الشرب, والكلمة من بيت لذي الرمة وهو:
تداعين باسم الشيب في متثلم ... جوانبه من بصرة وسلام
12 انظر ص24 من الجزء الأول.
13 الهيقم: حكاية صوت اضطراب البحر.
14 كذا في ش، ب، وفي أ: "بأشباهه".(2/167)
" ومن طريف ما مرَّ بي في هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بُعْدُها, ولا يحاط بقاصيها, ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير, فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما"1.
من2 ذلك "الدالف" للشيخ الضعيف, والشيء التالف والطليف3، "والظليف"4 المّجان5, وليست له عصمة الثمين, والطنف لما أشرف خارجًا عن البناء, وهو إلى الضعف لأنه ليست له قوة الراكب الأساس6, والأصل والنطف: العيب، "وهو إلى الضعف"7، والدنف: المريض. ومنه "التنوفة"8 وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك, ألا تراهم يقولون لها: مهلكة, وكذلك قالوا لها: بيداء, فهي فعلاء من بادٍ يبيد. ومنه الترفة9؛ لأنها إلى اللين والضعف, وعليه قالوا: الطرف؛ لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه, قال الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} 10. وقال11 الطائي الكبير:
كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ... ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا
ومنه "الفرد"؛ لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المرء كثير بأخيه"12. والفارط المتقدّم, وإذا تقدَّم انفرد, وإذا انفرد
__________
1 ما بين القوسين ساقط من أ.
2 كذا في ب، ج. وفي أ: "ومن".
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "اللطيف" وهو خطأ.
4 كذا في ش، ب. وسقط في أ، ج. والظليف لغة في اللطيف. ويقال: ذهب به مجانًا وظليفًا وطليفًا إذا أخذه بغير عن.
5 كذا في أ، ج. وفي ش، ب. "المحاز". وهو تحريف.
6 كذا في أ. وفي ش, ب. "للأساس"، وفي ج: "على الأساس".
7 كذا في أ. وفي ب: "وهو إلى الضعة والغض". وفي ش. "وهي الضعة والغض". وفي ج: "وهو إلى الضعة والنقص".
8 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "الدنوفة" وهو تحريف.
9 هي التنعم ولين العيش, وتقال الترفة أيضًا للطعام الطيب.
10 آية: 41، سورة الرعد.
11 كذا في ش، ب، ج. وسقطت الواو في أ.
12 رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان عن سهل بن سعد الساعدي. وانظر الجامع الصغير في حرف الميم.(2/168)
"أعرض للهلاك"1, ولذلك2 ما يوصف بالتقدّم ويمدح به لهول مقامه وتعرّض راكبه. وقال محمد بن حبيب في الفرتَنَى الفاجرة: إنها من الفرات، وحكم بزيادة النون والألف, فهي3 على هذا كقولهم4 لها "هلوك". قال الهذلي5:
السالك الثغرة اليقظان كالئها ... مَشْي الهلوك عليها الخيعل الفضل6
وقياس مذهب سيبويه أن تكون "فرتنى" فعللى7 رباعية كجحجبى8, ومنه الفرات؛ لأنه الماء العذب, وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه, ألا ترى إلى قوله:
ممقرٌ مُرّ على أعدائه ... وعلى الأدنين حلو كالعسل9
وقال الآخر 10:
تراهم يغمزون من استركوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا11
ومنه الفتور للضعف, والرفت للكسر والرديف؛ لأنه ليس له تمكّن الأول, ومنه الطفل للصبي لضعفه, والطفل للرخص, وهو ضد الشثن, والتفل للريح المكروهة, فهي منبوذة مطروحة. وينبغي أن تكون "الدفلى"12 من ذلك لضعفه عن صلابة النبع والسراء13 والتنضب، والشوْحَط. وقالوا: الدفر للنتن، وقالوا:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "ملك".
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "كذلك".
3 كذا في أ. وفي ش، ب: "فهو".
4 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "قولهم".
5 هو المتنخل يرثي ابنه أثيلة. وانظر ديوان الهذليين "الدار" 2/ 34.
6 الثغرة موضع المخافة، وكالئها: حافظها. والحيعل: ثوب يخاط أحد شقيه ويترك الآخر. والفل هو الحيعل ليس تحته إزار ولا سراويل. يقول: إن من شأنه سلوك موضع المخافة متمكنًا منها غير هياب, كما تمشي المرأة المتبخترة. وانظر الحرانة 4/ 288.
7 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "فعلل". وهو خطأ.
8 هم حي من الأنصار.
9 قائله لبيد، وهو من قصيدة في مرثية أربد في الديوان. وأمقر الشيء: إذا كان مرًّا كالمقر وهو الصبر.
10 هو القطامي. والنظر الديوان 40.
11 استركوا: استضعفوا. والمصاع: المجالدة بالسيوف.
12 شجر مرٌّ أخضر يكون في الأودية.
13 كذا في أ، ب، ش، وفي ج: والشرا" وهو تصحيف. "والسراء" من كبار الشجر ينبت في الجبال وتتخذ منه القسي.(2/169)
للدنيا1 "أم دفر" سب لها وتوضيع منها. ومنه "الفلتة" لضعفة الرأي, وفتل المغزل لأنّه تثنّ واستدارة, وذاك إلى وهي وضعفة, والفطر: الشق, وهو إلى الوهن.
الآن قد أنَّستك بمذهب القوم فيما هذه حاله, ووقفتك على طريقه, وأبديت لك عن مكنونه, وبقي عليك أنت التنبه لأمثاله, وإنعام الفحص عمَّا هذه حاله, فإنني إن زدت على هذا مللت وأمللت. ولو شئت لكتبت من مثله أوراقًا مئين, فأبه له ولاطفه, ولا تجفّ عليه فيعرض عنك ولا يبهأ2 بك.
__________
1 كذا في ش، ب. وفي أ، ج: "والدنيا".
2 يقال: بهأ بالشيء: أنس به.(2/170)
باب في مشابهة معاني الإعراب معاني الشعر:
نبَّهنا أبو علي -رحمه الله- من هذا الموضع على أغراض حسنة, من ذلك قولهم في لا النافية للنكرة: إنها تبنى معها فتصير كجزء1 من الاسم, نحو: لا رجل في الدار, ولا بأس عليك, وأنشدنا في هذا المعنى "قوله "2:
خيط على زفرة فتمَّ ولم ... يرجع إلى دقَّة ولا هضم
وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه وإجفار محزمه3 كأنه زَفَر, فلما اغترق4 نفسه بُنِي على ذلك, فلزمته تلك الزفرة, فصيغ عليها لا يفارقها "كما أن الاسم بني مع لا حتى خلط بها لا تفارقه ولا يفارقها"5 وهذا موضع متناهٍ في حسنه, آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه.
__________
1 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "كجزء واحد".
2 كذا في أ. وسقط في ش، ب، ج. والبيت للنابغة الجعدي كما في اللسان في هضم، والخيل لأبي عبيدة في أواخره.
3 كذا في أ، ب. وفي ش: "محرمة" وهو تصحيف. وإجفار مجزمة: سعة وسطه. وفي معاني ابن قتيبة 1/ 139. "يقول: كأنه زافر أبدًا من عظم جوفه. والهضم: استقامة الضلوع ودخول أعالبها، وهو عيب".
4 يقال: اغترف النفس: استوعب في الزفير.
5 ما بين القوسين ساقط من أ.(2/170)
ومثله أيضًا من وصف الفرس:
بنيت معاقمها على مطوائها1
أي: كأنَّها تمطت, فلمَّا تناءت أطرافها ورحبت شحوتها2 صيغت على ذلك.
ومن ذلك قولهم: ما أدري أأذّن أو أقام, إذا قالها بأو لا بأم. فهو أنه لم يعتدّ أذانه أذانًا, ولا قال: فمثل ذلك قول عبيد 3:
أعاقر كذات رحم ... أم غانم كمن يخيب
فكان ينبغي أن يعادل بقوله: ذات رحم، نقيضتها, فيقول: أغير ذات رحم كذات رحم, وهكذا أراد لا محالة, ولكنه جاء بالبيت على المسألة4. وذلك أنه لما لم تكن العاقر ولودًا صارت وإن كانت ذات رحم كأنها لا رحم لها, فكأنه قال: أغير ذات رحم كذات رحم, كما أنه لما لم يوفِّ أذانه ولا إقامته حقهما لمن يثبت له واحدًا منهما؛ لأنه قاله بأو, ولو قال: ما أدري أأذَّن أم أقام "بأم"5 لأثبت له أحدهما لا محالة.
ومن ذلك قول النحويين: إنهم لا يبنون من ضرب وعلم, وما كانت عينه لامًا أو راء مثل: عنسل. قالوا: لأنّا نصير به إلى ضنرب وعنلم, فإن أدغمنا ألبس بفعل, وإن أظهرنا النون قبل الراء واللام ثقلت, فتركنا بناءه أصلًا. وكان ينشد في هذا المعنى قوله 6:
__________
1 شطر بيت للمسيب بن علس صدره:
بمحالة تقص الذباب بطرفها
وانظر المصباح المنير 349, والمعاقم فقر في مؤخر الصلب. ويقال: فرس مدلوك المعاقم, أي: ليس برهل, والمطواء النمطي. والمحالة: الشديدة المحلل, أي: الفقار، ووقصها الذاب أنها تقتله إذا دنا منه. وقد نسب ابن قتيبة في معانيه 1/ 44 البيت إلى المرقش, وأورد قبله:
ومغيرة تسج الجنوب شهدتها ... تمضي سوابقها على غلوائها
2 الشحوة: الخطوة.
3 يريد عبيد بن الأوص, والبيت في معلقته.
4 يريد بالمسألة ما أسلفه: أن الشيء إذا لم يوفّ ما يتوقع منه فكأنه لم يكن.
5 ما بين القوسين ساقط من أ.
6 أي: الأعشى، وانظر الصبح المنير 126.(2/171)
فقال:
ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار
وقول الآخر:
رأى الأمر يفضى إلى آخر ... فصيّر آخره أوَّلا
ووجدت أنا من هذا الضرب أشياء صالحة.
منها: أن الشعر المجزوء إذا لحق ضربه قطع لم تتداركه العرب بالردف, وذلك أنه لا يبلغ من قدره1 أن يفي بما حذفه الجزء, فيكون هذا أيضًا "كقولهم للمغني غير المحسن: تتعب ولا أطرب"2. ومنهم من يلحق الردف على كل حال, فنطير معنى هذا معنى قول الآخر 3:
ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح4
وقول الآخر:
فإن لم تنل مطلبًا رمته ... فليس عليك سوى الاجتهاد
ومن ذلك قول من اختار إعمال الفعل الثاني؛ لأنه العامل الأقرب نحو: ضربت وضربني زيد, وضربني وضربت زيدًا. فنظير معنى هذا معنى قول الهذلي 5:
بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي
وعليه قول أبي نواس:
أمر غدٍ أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس
فإنما العيش عيش يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس
__________
1 كذا في ش، ب، ج. وفي أ: "هذه" وهو خطأ.
2 ما بين القوسين في ش، ب، ج، وسقط في أ.
3 هو عروة بن الورد. والشعر في الحماسة.
4 هذا عجز بيت صدره:
ليبلغ عذرًا أو يصيب رغيبة
وقبله:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترًا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
5 هو أبو خراش. وانظر الأمالي 1/ 271، واللآلي 601.
6 كذا في أ. وفي سائر الأصول: "وإنما".(2/172)
ومنه قول تأبط شرًّا: وما قَدُمَ نُسِي ومن كان ذا شر خشي. في كلام له, وقوله:
وإذا مضى شيء كأن لم يفعل1
وقول الآخر: أنشدناه أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن الأصمعي عن أبي عمرو أن رجلًا من أهل نجد أنشده:
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيّتما حالٍ دهارير2
ومن ذلك أيضًا قول شاعرنا:
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل3
ومما جاء في معنى إعمال الأول قول الطائي الكبير:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلّا للحبيب الأول
وقول كُثَيِّر:
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم
وقول الآخر:
تمر به الأيام تسحب ذيلها ... فتبلى به الأيام وهو جديد
ومن ذلك ما جاء عنهم من الجوار في قولهم: هذا جحر ضب خرب, وما يحكى أن أعرابيًّا أراد امرأة له فقالت له: إني حائض, فقال: فأين الهنة الأخرى, فقالت له: اتق الله, فقال:
كلا ورب البيت ذي الأستار ... لأهتكنّ حلق الحتار4
قد يؤخذ الجار بجرم الجار
__________
1 صدره:
فإذا وذلك ليس إلّا حينه
وهو من قصيدة لأبي كبير الهذلي. وانظر رغبة الآمل، شرح الكامل 2/ 113.
2 جاء هذا في الأمالي 2/ 182، والكتاب 1/ 122، ويقول فيه البكري في اللآلي: "أنشد سيبويه" ولم ينسبه الجرمي" وانظر اللآلي, وسمطه 800، والمعمرين 40.
3 "الشمس" كذا في أ. وفي سائر الأصول: "البدر".
4 الحتار: حلقة الدير.
5 "يجرم" كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "بذنب", وهذا الشطر مَثَلٌ أورده الميداني في حرف القاف 7/ 474 "بولاق", وقال: "مَثَلٌ إسلاميّ، وهو في شعر الحكمي.(2/173)
ومنه قول العرب: أعطيتك إذ سألتني وزدتك إذ شكرنني. ف"إذ" معمولة العطية والزيادة, وإذا عمل الفعل في ظرف زمانيًّا كان أو مكانيًّا, فإنه لا بُدَّ أن يكون واقعًا فيه, وليست العطية واقعة في وقت المسألة, وإنما هي عقيبه؛ لأن المسألة سبب العطية, والسبب جارٍ مجرى العلة, فيجب أن يتقدَّم المعلول والمسبب؛ لكنه لما كانت العطية مسببة عن المسألة وواقعة على أثرها, وتقارب وقتاهما, صار لذلك كأنهما في وقت واحد. فهذا تجاور في الزمان, كما أن ذاك تجاور في الإعراب.
ومنه قول الله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} 1. طاولت أبا علي -رحمه الله تعالى- في هذا وراجعته فيه عودًا على بدء, فكان أكثر ما2 برد منه في اليد أنّه لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا لا فاصل بينهما, إنما هي هذه فهذه, صار ما يقع في الآخرة كأنه واقع في الدنيا, فلذلك أجرى اليوم وهو الآخرة3 مجرى وقت4 الظلم وهو قوله: إذ طلمتم ووقت الظلم إنما كان في الدنيا. فإن لم تفعل هذا وترتكبه بقي "إذا ظلمتم" غير متعلق بشيء, فيصير ما قاله أبو علي إلى أنه كأنه أبدل "إذ ظلمتم" من اليوم, أو5 كرره عليه, وهو كأنه هو.
فإن قلت: لم لا تكون "إذ" محمولة على فعل آخر, حتى كأنه قال: ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون "اذكروا" إذ ظلمتم, أو نحو ذلك.
__________
1 آية: 39، سورة الزخرف.
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "برز". ويقال: بررالشيء في اليد: أي: ثبت.
3 كذا في ش، ب. وسقط في أ.
4 خرج من هذا الإشكال متأخرو النحاة بأن إذ في الآية لمحض التعليل، وليست للوقت، فلا يطلب لها فعل يقع فيه. وانظر المغني في ترجمة "إذ".
5 كذا في ش، ب، ج.(2/174)
قيل: ذلك يفسد من موضعين: أحدهما اللفظ والآخر المعنى, أما اللفظ فلأنك تفصل بالأجنبي -وهو قوله: "إذ ظلمتم"- بين الفعل وهو "ينفعكم", وفاعله وهو "أنكم في العذاب مشتركون", وأنت عالم بما في الفصل بينهما بالأجنبي. وإن كان الفصل بالظرف متجوزًا فيه. وأما المعنى فلأنَّك لو فعلت ذلك لأخرجت من الجملة الظرف الذي هو "إذ ظلمتم", وهذا ينقض معناها. وذلك لأنها معقودة على دخول الظرف الذي هو "إذ" فيها, ووجوده في أثنائها, ألا ترى أن عدم انتفاعهم بمشاركة أمثالهم لهم في العذاب إنما سببه وعلته ظلمهم, فإذا كان كذلك كان احتياج الجملة إليه نحوًا من احتياجها إلى المفعول له، نحو قولك 1: قصدتك رغبة في برِّك, وأتيتك طمعًا في صلتك, ألا ترى أن معناه: أنكم عدمتم سلوة التأسِّي بمن شارككم في العذاب لأجل ظلمكم فيما مضى, كما قيل في نظيره: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 2 أي: ذق بما كنت تعد في أهل العز والكرم. وكما قال الله تعالى في نقيضه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} 3. ومن الأول قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} 4 ومثله في الشعر كثير, منه قول الأعشى:
على أنها إذ رأتني أُقَاد ... تقول بما قد أراه بصيرا5
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب: "قولهم".
2 آية: 49 سورة الدخان.
3 آية: 24 سورة الدخان.
3 آية: 61 سورة البقرة.
4 "أنها كذا في أ. وفي ش، ب: "أثنى". "أفاد". كذا في أ. وفي ش. ب: "تقاد". وقوله: "بما قد أراه". "ما" هنا كفَّت الباء عن الجزء وأحدثت معها معنى التقليل. ف"يما" تساوي ربما. انظر المغني في مبحث الباء المفردة. وابن جني هنا لا يرى هذا, ويرى أنها هنا بمعنى البدل. فقوله: بما قد أراه بصيرًا. أي: الضعف المشاهد الآن, وسوء البصر بدل ما قد مضى من الفترة وصحة البصر، وانظر قوله هنا: أي هذا الضعف بتلك القوة. والشعر للأعشى في الصبح المنير 69.
وما سقته عن الغني هو رأي أبي عمرو، فقد قال: "بما بمعنى ربما" وانظر شرح ثعلب. ورأي ابن جني تبع فيه الأصمعي. فقد قال: "قالت بما قد أراه. هذا العمى: بداك البصر، أي: هذا بذباك".(2/175)
ومنه قولهم حكاية عن الشيخ: بما لا أخشى بالذئب, أي: هذا الضعف بتلك القوة. ومنه1 أبيات العجاج "أنشدناها سنة إحدى وأربعين "2:
إمّا تربني أصل القُعّادا ... وأتقي أن أنهض الإرعادا3
من أن تبدّلت بآدي آدا ... لم يك ينآد فأمسى انآدا4
وقصبا حنى حتى كادا ... يعود بعد أعظمٍ أعوادا5
فقد أكون مرة روّادًا ... أطّلع النجاد فالنجادا6
وآخر من جاء به على كثرته شاعرنا "فقال "7:
وكم دون الثويّة من حزين ... يقول له قدومي ذا بذاكا8
فكشفه وحرّره. ويدل على الانتفاع بالتأسي في9 المصيبة قولها 10:
__________
1 كذا في أ. وفي ش، ب. "من".
2 ما بين القوسين ساقط في ش، ب. وقوله: "أنشدناها" أي: أبو علي. وقوله "سنة إحدى وأربعين" أي: ثلاثمائة. وبعض هذا الرجز في ملحق الديوان 76.
3 القعاد: جمع قاعد. وقوله أصل القعاد: أي: أكون منهم وأفعل فعلهم. والإرعاد مفعول, "أتقي" أي: أتقي الإرعاد من أن أنهض.
4 الآد: القوة كالآبد. وانآد: أنثني وأعوجّ، وقد ورد هذا البيت وما قبله في شواهد إصلاح المنطق لابن السيرافي، الورقة 89.
5 القصب: كل عظم ذي مخ.
6 الرؤاد: مبالغة الرائد، وهو الذي يتقدّم قومه يلتمس لهم النجعة والكلأ, والنجاد: جمع نجد وهو ما أشرف من الأرض.
7 كذا في أ، وسقط في ش، ب.
8 التوبة: موضع قريب من الكوفة, وقوله: "دون الثوية" كذا في أ. وفي ش، ب: "تحت الثوية".
9 كذا في أ، ب. وفي ش: "من".
10 أي: الخنساء.(2/176)
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي1
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
ومنه قول أبي داود:
ويصيخ أحيانًا كما اس ... تمع المضل لصوت ناشد2
وهو كثير جدًّا.
ولسنا نريد ههنا الجوار الصناعي, نحو قولهم في الوقف: هذا بكُرْ, ومررت ببِكرْ, وقولهم: صُيمَّ3 وقُيمَّ وقول جرير 4:
لحبّ المؤقدان إلي مؤسى
وقولهم: هذا مصباح5، ومقلات5، ومطعان5، وقوله 6:
__________
1 "إخوانهم" كذا في ش، ب. وفي أ: "أحبابهم". والشعر من مرثيئها لأخيها صخر. وانظر الديوان 49.
2 هذا في وصف فرص، بصفة بحدة السمع. البيت في أربعة أبيات لأبي داود. انظر تهذيب الألفاظ 475.
3 يريد أن "صيما" كان قياسه التصحيح؛ فيقال: صوم، ولكن العين لمجاورتها اللام اكتسبت الإعلال؛ فإن الواو إذا وقعت لا ما نقلب ياء في الجمع؛ نحو: جثيّ وعصيّ.
4 من قصيدة لجرير يمدح بها هشام بن عبد الملك, وعجزه:
وجعدة إذا أضاءهما الوقود
وقبل البيت:
نظرنا نار جعدة هل نراها ... أبعد غال ضوءك أم همود
وجعدة ابنته، وموسى ابنه. وانظر الديوان (الصاوي) 147، وشواهد المغني للسيوطي 325, وللبغدادي 2/ 1052. وأثر الجوار في البيت إبدال الواو في "الموقدان" و"مؤسّى" همزة لمجاورتها للضمَّة قبلها، فكأنها مضمومة، والهمز يجوز في الواو المضمومة؛ تحسو أجوه في وجوه، وأقنت في وقنت. وانظر المغني، في القاعدة الثانية من الباب الثامن.
5 يريد أن هذه الألفاظ جرت فيها الإمالة؛ لأن الحرف المتحرك كأنه جاور المكسور؛ إذ الحاجز ساكن وهو لا يمنع الجوار أو كأنَّ كسر الحرف السابق على حرف الاستعلاء في حرف الاستعلاء نفسه، وحرف الاستعاء المكسور لا يمنع الإمالة؛ نحو: غلاب وطعان، وهذا هو الذي يريده المؤلف.
6 هو عامر بن كثير المحابي، كما في اللسان ف شقد.(2/177)
إذا اجتمعوا عليَّ وأشقذوني ... فصرت كأنني فرأٌ متار1
وما جرى مجرى ذلك. وإنما اعتزامنا هنا الجوار المعنويّ لا اللفظيّ الصناعي. ومن ذلك قول سيبويه في نحو قولهم: هذا الحسن الوجه: إن الجرَّ فيه من وجهين, أحدهما: طريق الإضافة, والآخر: تشبيهه2 بالضارب الرجلِ, هذا مع العلم بأن الجرَّ في الضارب الرجل إنما جاءه وجاز فيه لتشبيههم إياه بالحسن الوجه, فعاد الأصل فاستعاد من الفرع نفس الحكم الذي كان الأصل بدأ أعطاه إياه3، حتى دلَّ ذلك على تمكّن الفروع وعلوها في التقدير. وقد ذكرنا ذلك, ونظيره في المعنى قول ذي الرمة:
ورملٍ كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس4
وإنما المعتاد5 في نحو هذا تشبيه أعجاز بكثبان الأنقاء. وقد تقدَّم ذكر6 هذا المعنى في باب قبل هذا لاتصاله به, ومنه7 قول الآخر:
__________
1 قبله:
فإني لست من غطفان أصلي ... ولا بيني وبينهم اعتشار
والاعتشار: العشرة, وقوله: "اجتمعوا" في رواية اللسان: "غضبوا"، "أشقدوني": طردوني. والفرأ: حمار الوحش. ومثار: أصله منأر، اسم مفعول من أناره، أفزعه وطرده؛ فنقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وكان الواجب بعد هذا حذف الهمزة, فيقال: متر، ولكنه قدر السكون على الحرف قبل الهمزة رافعًا على الهمزة، فقدر في الكلمة همزة ساكنة، وحفها الإبدال فأبدلها ألفًَا نظرًا لها الجوار. وزعم ابن حمزة أن هذا تصحيف، وأن صوابه: منار -بالنون- أي: مفزع، يقال: أثرته أي: أفزعته. وانظر اللسان في شقذ، وتأر. وقوله: "مئار" بالمثناة في أ، وهو الصواب, وبالمثلثة في ش، ب. وهو تصحيف. وقوله: "فرأ" بالفاء كذا في أ، ب، ش، وفي ج: "قرأ" وهو تصحيف. وانظر المحتسب في آخر صورة الفاتحة.
2 كذا في أ، ب، ج. وفي ش: "تشبيه".
3 كذا في أ، ج. وفي ش، ب: "وآتاه".
4 انظر ص301 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
5 كذا في ش، ب. وفي أ: "العادة".
6 كذا في أ، وسقط هذا في ش، ب.(2/178)
وقرّبوا كل جُمَّاليٍّ عضه ... قريبةٍ ندوته من محمضه1
وقد ذكرنا حاله, وشرحنا الغرض فيه في باب متقدِّم, فلا وجه لإعادته ههنا.
وسبب تمكّن هذه الفروع عندي أنها في حال استعمالها على فرعيتها تأتي مأتى الأصل الحقيقي لا الفرع التشبيهي, وذلك قولهم: أنت الأسد, وكفُّك البحر, فهذا لفظه لفظ الحقيقة, ومعناه: المجاز والاتساع, ألا ترى أنه إنما يريد: أنت2 كالأسد، وكفُّك مثل البحر, وعليه جاء قوله:
ليلى قضيب تحته كثيب3
وإنما يريد: نصف ليلى الأعلى كالقضيب, وتحته ردف مثل الكثيب, وقول طرفة:
جازت القوم إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفورٍ خدر4
أي: بشخص أو بإنسان مثل اليعفور, وهو واسع كثير. فلمَّا كثر استعمالهم إياه وهو مجاز استعمال الحقيقة, واستمرَّ واتلأبَّ, وتجاوزوا به ذاك إلى أن أصاروه كأنه هو الأصل والحقيقة, فعادوا فاستعاروا معناه لأصله فقال:
ورمل كأوراك العذارى..
__________
1 انظر ص304 من الجزء الأول.
2 كذا في أ، ب. وفي ش: "أنه".
3 انظر ص301 من الجزء الأول.
4 هذا البيت من قصيدته التي أولها:
أصوت اليوم أم شاقتك هرّ ... ومن الحب جنون مستعر
وقوله: "القوم" يُروى "البيد", وقوله: "جازت" يعنى: خيالها، وأنَّثَه لأنه كأنه هي، والخبر عنه خبر عنها. إنما قال: "آخر الليل"؛ لأن التعريس, أي: النزول وقطع السير يكون آخر الليل، وعند التعريس والنوم يأتيه خيالها. واليعفور: ظبي تعلوه حمرة. والحدر: الفاتر العظام البطيء عند القيام. يقول: قطعت البيد لينًا بمثل ظبي ملاحته وحسنه. وإنما عناها نفسها، وهذا من باب التجربة, وانظر شرح الشنتمري لديوان طرفة المطبوع في أوربا.(2/179)
وهذا من باب تدريج اللغة، وقد ذكر1 فيما مضى. وكان أبو علي -رحمه الله- إذا أوجبت القسمة عنده أمرين كلَّ واحد منهما غير جائز يقول فيه: قسمة الأعشي يريد قوله:
فاختر وما فيهما حظ لمختار
وسأله مرة بعض أصحابه فقال له: قال الخليل في ذراع: كذا وكذا, فما عندك أنت في هذا2؟ فأنشده مجيبًا له:
إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام
ويشبه هذا ما يحكى عن الشعبيّ أنه ارتُفِع إليه في رجل بخص عين رجل, ما الواجب في ذلك؟ فلم يزدهم على أن أنشدهم بيت الراعي:
لها مالها حتى إذا ما تبوأت ... بأخفافها مرعًى تبوأ مضجعًا3
فانصرف القوم مجابين. أي: ينتظر بهذه العين المبخوصة، فإن ترامى أمرها إلى الذهاب ففيها الدية كاملة, وإن لم تبلغ ذاك ففيها حُكُومة4.
__________
1 انظر ص348 من الجزء الأول من هذا الكتاب.
2 أي: في تسمية المذكر بذراع، هل يصرف أو يمنع من الصرف. ورأى الخليل صرفه. وانظر الكتاب 2/ 19، واللسان "ذرع".
3 بهذا البيت سمي الشاعر عبيد بن حصين بالراعي, وهو في وصف إبل. وانظر الاشتقاق لابن دريد 179.
4 هي جزاء مالي غير مقدَّر في الشرع، وإنما يرجع في تقديره إلى الحاكم.(2/180)
باب 1 في خلع الأدلة 2:
من ذلك حكاية يونس قول3 العرب: ضرب مَنٌ منا, أي: إنسان إنسانًا, أو رجل4 رجلًا, أفلا تراه كيف جرد "مَنْ" من5 الاستفهام ولذلك أعربها.
ونحوه قولهم في الخبر: مررت برجل أيِّ رجل. فجرد "أيّا" من الاستفهام أيضًا, وعليه بيت الكتاب:
والدهر أينما حالٍ دهارير6
__________
1 من هنا تبدأ نسخة ش.
2 يراد بالأدلة أعلام المعاني في العربية. فالهمزة دليل الاستفهام، وإن دليل الشرط، وهكذا. ويراد بالمعاني: المعاني التي تحدث في الكلام من خبر واستخبار ونحو ذلك، وأكثر ما يوضع لها الحروف والأدوات، فلا يعني أسماء الأجناس، وخلع الأدلة تجريدها من المعاني المعروفة لها, والمتبادرة فيها, وإرادة معانٍ أخر لها، أو تجريدها من بعض معانيها.
ومن أمثلة هذا الباب ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله تعالى في سورة مريم: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} . ذلك أن اللام الداخلة على المضارع تخلصه للحال، وهذا معنى عرف لها، وسوف تخلصه للاستقبال، فقد نوارد على المضارع "أخرج" دليلان متدافعان، والمخرج من هذا هو القول بخلع الحال من اللام, وإرادة التوكيد بها فحسب. ومن ذلك ما ذكروه في نداء لفظ الجلالة، ذلك أن ال تثبت في ندائه فيقال: يا الله، على حين أن المألوف من أمر النداء لما فيه ال أن تسقط أداة التعريف, فيقال: يا رجل، ولا يقال: يا الرجل. ولكن الذي سوّغ أن يقال يا الله أنَّ أل في لفظ الجلالة ليست للتعريف، وإنما قصد بها التعويض من الفاء المحذوفة؛ إذ أصل (الله) الإله -كما هو أحد الأوجه- فزال المعنى الذي يدفع أن يجتمع آل والنداء؛ إذ إن المانع أن يقال: يا الرجل, هو أن النداء يكسب المنادى تعريفًا بالتعيين, فلا يجتمع مع أداءة التعريف؛ لأن من شأن العرب ألا يجمعوا بين علامتين لمعنى واحد. فقد ترى كي خلع اللام عن الحال في "لسوف أخرج"، وأل عن التعريف في لفظ الجلالة. وانظر المعنى في مبحث اللام المفردة.
وقد ترجم السيوطي في الأشباه والنظائر 1/ 220، لهذا الباب، ونقل فيه معظم ما هنا.
3 في ش: "من قول". وفي الأشباه والنظائر، "ما حكاه يونس من قول".
4 في ش: "و".
5 سقط في ج، ش.
6 انظر ص 173 من هذا الجزء.(2/181)
أي: "والدهر"1 في كل وقت وعلى كل حال دهارير, أي: متلوّن ومتقلّب بأهله. وأنشدنا أبو علي:
وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إلي وأصحابي بأيّ وأينما2
قال: فجرّد "أي"3 من الاستفهام ومنعها الصرف, لما فيها من التعريف والتأنيث. وذلك أنه وضعها علمًا على الجهة التي حلَّتها.
فأما قوله4: "وأينما" فكذلك أيضًا, غير5 أن لك في أينما وجهين:
أحدهما: أن تكون الفتحة هي التي تكون6 في موضع "جرما"7 لا ينصرف؛ لأنه جعله علمًا للبقعة أيضًا، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث، وجعل "ما" زائدة8 بعدها للتوكيد.
والآخر: أن تكون فتحة النون من "أينما" فتحة التركيب، ويضمّ "أين" إلى "ما", فيبنى الأوّل على الفتح, كما يجب في نحو: حضرموت "وبيت بيت"9 فإذا أنت فعلت ذلك "قدرت"10 في ألف "ما" فتحة ما لا ينصرف في موضع الجرِّ؛ كمررت بأحمد وعمر. ويدل على أنه قد يضم "ما" هذه إلى ما قبلها, ما أنشدناه11 أبو علي عن أبي عثمان:
أثورٌ ما أصيدكم أم ثورين ... أم تيكم الجماء ذات القرنين12
__________
1 سقط في أ، م.
2 "أدلجت" كذا في ج، ش، وفي سائر الأصول: "أدلجوا" وانظر ص131 من الجزء الأول.
3 في ج: "أيا".
4 كذا في أ، م. وفي سواهما: "وأمّا".
5 في ش: "إلّا".
6 سقط في ش.
7 في ش: "الجر لما".
8 في أ، م: زيادة.
9 سقط في ش، ب.
10 في ش: "جعلت.
11 في ش: "أنشده".
12 "أم ثورين", في أ "أو ثورين". "الجماء". كذا في ب، ش. وفي أ، ش: "الحماء" بالحاء، والجماء: التي لا قرنين لها، وهذا لا يتفق مع قوله: "ذات القرنين" غير أنه يحمل على هذه الرواية على الهزء والتهكم, وقال المبرد: كان قرناها صغيرين فشبهها بالجماء. وانظر اللسان "قرن".
والحماء: السوداء, والكلام عليها ظاهر لا غبار عليه. وانظر اللسان. "ثور".(2/182)
فقوله: "أثور ما" فتحة الراء منه فتحة تركيب "ثور" مع "ما" بعده، كفتحة راء حضرموت ولو كانت فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة؛ لأنه مصروف. وبنيت "ما" مع الاسم, وهي مبقاة على حرفيتها كما بنيت "لا" مع النكرة, في نحو: لا رجل. ولو جعلت "ما" مع "ثور" اسمًا ضممت إليه "ثورًا" لوجب مدها؛ لأنها قد صارت اسمًا فقلت: أثور ماء أصيدكم. وكما1 أنك لو جعلت "حاميم" من قوله:
يذكرني حاميم والرمح شاجر2
اسمين مضمومًا أحدهما إلى صاحبه لمددت "حا" فقلت: حاء ميم, ليصير كحضرموت.
ومثل3 قوله: "أثور ما أصيدكم" في أنه اسم ضمَّ إلى حرف في قول أبي عثمان "ما أنشدناه أبو علي "4:
ألا هيَّما مما لقيت وهيما ... وويحًا لمن لم يلق منهن ويحما
__________
1 كذا في أ، م. وفي غيرهما: "كما".
2 عجزه:
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وهذا ينسب لشريح بن أرفى العبسي، وقيل: للأشتر النخعي. والضمير المرفوع في "يذكرني" لمحمد بن طلحة، قتله الأشتر أو سريح. وانظر اللسان "حمم". وفي طبقات ابن سعد 5/ 39, أن ذلك كان في وقعة الجمل، وأن في قاتله خلافًا، وأن قاتله قال:
وأشعث قوَّام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخرَّ صريعًا لليدين والفم
يذكرني حم والرمح شارع ... فهلّا تلا حم قبل التقدم
على غير شيء أن ليس تابعًا ... عليًّا ومن لا يتبع الحق يندم
وقوله: "يذكرني حاميم" فذلك أن شعار شيعة علي -رضي الله عنه- كان حم. وانظر البخاري وشروحه في أول تفسير سور غافر.
3 كذا في أ، م. وفي ش، ب: "مثله.
4 سقط ما بين القوسين في ش، ب.(2/183)
وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت ... إليّ وأصحابي بأي وأينما1
فكلام في "ويحما" هو الكلام في "أثور ما".
فأما قول الآخر:
وهل لي أمٌّ غيرها إن هجوتُها ... أبى الله إلّا أن أكون لها أبنما2
فليس من هذا الضرب في شيء, وإنما هي ميم زيدت آخر ابن, وجرت قبلها حركة الإتباع, فصارت هذا ابنم, ورأيت ابنما ومررت بابنم. فجريان حركات الإعراب على الميم يدل على أنها ليست "ما". وإنما الميم في آخره كالميم في آخر ضرزم3، ودقعم، ودردم4.
وأخبرنا أبو علي أن أبا عثمان ذهب في قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 5 إلى أنه جعل "مثل"6 و"ما" اسمًا واحدًا, فبنى الأول على الفتح, وهما جميعًا عنده في موضع رفع لكونهما صفة ل"حق".
فإن قلت: فما موضع {أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قيل: هو جرّ بإضافة "مثل ما"8 إليه.
__________
1 انظر ص182 من هذا الجزء.
2 هذا من قصيدة للمتلمس يقول فيها:
يعيرني أمي رجال ولا أرى ... أخا كرم إلّا بأن يتكرَّما
ومن كان ذا عرض كريم ولم يصن ... له حسبًا كان اللئيم المذمَّمَا
وانظر مختارات ابن الشجري 32، والخزانة 4/ 214، 216، الأغاني 21/ 133، 137، والأصمعيات.
3 يقال ناقة ضرزم: مسنة.
4 انظر ص53 من هذا الجزء.
5 آية: 23، سورة الذاريات.
6 في ش، ب: "مثل ما".
7 في ش، ب: "لكونها".
8 في ش، ب: "مثل" ورسم في أ، م: "مثلما".(2/184)
فإن قلت: ألا تعلم أنَّ "ما" على بنائها؛ لأنها على حرفين, الثاني منهما حرف لين, فكيف تجوز إضافة المبني؟ قيل: ليس المضاف "ما" وحدها, إنما المضاف الاسم المضموم إليه "ما"1, فلم تعد "ما" هذه أن تكون كتاء2 التأنيث في نحو: هذه جارية زيد, أو كالألف والنون في سرحان عمرو, أو كتاء الإضافة في بصريّ القوم، أو كألفي التأنيث في صحراء3 زتم، أو كالألف والتاء في:
في غائلات الحائر المتوّه4
فهذا وجه.
وإن شئت قلت: و"ما" في إضافة المبنيّ! ألا ترى إلى إضافة "كم" في الخبر نحو: كم عبد ملكت, وهي مبنية, وإلى إضافة أيّ من قول الله سبحانه: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} 5 وهي مبنية عند سيبويه.
وأيضًا فلو ذهب ذاهب واعتقد معتقد أن الإضافة كان يجب أن تكون داعية إلى البناء من حيث كان المضاف من المضاف إليه بمنزلة صدر الكلمة من عجزها, وبعض الكلمة صوت, والأصوات إلى الضعف والبناء لكان قولًا! .
__________
1 في ش: "فما" و"تعد" على هذا يجب أن يكون "تعدر".
2 في ش: "كهاء".
3 زمّ: بئر بحفائر سعد بن مالك. وقد ورد (صحراء زمّ) في قول الأعشى:
وما كان ذلك إلّا الصبا ... وإلّا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة ... محل الخليط بصحراء زمّ
وانظر الصبح المنير 28، واللسان "زمم".
4 هذا من أرجوزة لرؤبة في الديوان 166، و"المنوّه" ضبط في أعلى صيغة اسم الفاعل بكسر الواو المشدَّدة، وفي ب ضبط بفتح الواو على صيغة اسم المفعول، وهو وصف من توه نفسه, أي: حيرها، والرواية المعروفة: المنهته" في مكان "المنوّه" أي: المردد في الباطل.
5 آية: 19 سورة مريم.(2/185)
ومما خلعت عنه دلالة الاستفهام قول الشاعر -أنشدناه سنة إحدى وأربعين:
أني جزوا عامرًا سيئًا بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن1
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رثمان أنف إذ ما ضنَّ باللبن1
فأم في أصل الوضع للاستفهام, كما أن "كيف" كذلك. ومحال "اجتماع2 حرفين" لمعنى واحد3؛ فلا بُدَّ أن يكون أحدهما قد خُلِعت عنه دلالة الاستفهام. وينبغي أن يكون ذلك الحرف "أم" دون "كيف"؛ حتى كأنه قال: بل4 كيف ينفع, فجعلها بمنزلة "بل" في الترك "والتحول"5.
ولا يجوز أن تكون "كيف" هي المخلوعة عنها دلالة الاستفهام؛ لأنها لو خلعت عنها لوجب إعرابها؛ لأنها إنما بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام, فإذا زال ذلك عنها وجب إعرابها, كما أنه لما خلعت دلالة الاستفهام عن "مَنْ" أعربت في قولهم: ضرب مَنٌ منًا. وكذلك قولك: مررت برجل أيّ رجل, لما خلعت عنها دلالة الاستفهام "جرت وصفًا"6. وهذا واضح جلي.
__________
1 من قصيدة لأفنون التغلبي. و"سيئا" هو مخفف سبي. وهو بهذه الصورة في أ. وفي ش، ب، ج: "شبئًَا" وهو تصحيف. وفي ش: "سوءا". وعامر هي القبيلة المعروفة. وقابل "السوأى" بالحسن للقافية. ولولا ذلك لقال: من الحسنى، والعلوق من الإبل: التي لا ترأم ولدها، ولا تدر عليه؛ ورئمانها: عطفها ومحبتها. وانظر الخزانة 4/ 455، 519، وشرح المفضليات لابن الأنباري 534، وأمالي ابن الشجري 1/ 37.
2 في أ: "اجتماعهما", وهو يريد بالحرف الأداة وإن كانت اسمًا في الاصطلاح النحوي. ومن هذا جعل "كيف" حرفًا، وهي في عداد الأسماء, وهو يريد اجتماع الحرفين لغير توكيد.
3 في م "في موضع واحد".
4 سقط هذا الحرف في أ، م.
5 سقط في أ.
6 كذا في أ. وفي غيرها: "أعربت".(2/186)
ومن ذلك كاف المخاطب للمذكر والمؤنث -نحو: رأيتك وكلمتك- هي تفيد شيئين: الاسمية والخطاب, ثم قد خلع1 عنها دلالة الاسم في قولهم 2: ذلك وأولئك وهاك وهاءك وأبصرك زيدًا, وأنت تريد: أبصر زيدًا, وليسك أخاك, في معنى ليس أخاك.
وكذلك قولهم: أرأيتك زيدًا ما صنع؟ وحكى أبو زيد: بلاك والله, وكلاك والله, أي: بلي وكلا. فالكاف في جميع ذلك حرف خطاب مخلوعة عنه دلالة الاسمية, وعليه قول3 سيبويه. ومن زعم أن الكاف في "ذلك" اسم انبغى له أن يقول: ذلك نفسك. وهذا كله مشروح في أماكنه. فلا موضع إذًا لهذه الكاف من الإعراب, وكذلك هي إذا وصلت بالميم والألف والواو نحو: ذلكما وذلكمو. فعلى هذا يكون قول الله سبحانه: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} 4. " كُمَا" من "أنهكما" منصوبة الموضع و"كما" من "تلكما" لا موضع لها؛ لأنها حرف خطاب5.
فإن قيل: فإذا كانت حرفًا لا اسمًا, فكيف جاز أن تكون الألف المنفصلة التي قبلها تأسيسًا6 في نحو قوله7:
__________
1 كذا في أ. وفي ب، ش: "تخلع" وفي ش: "ثم يخلع".
2 في ش، ب: "قولك".
3 انظر الكتاب 2/ 304.
4 آية: 22، سورة الأعراف.
5 في ش، ب: "للخطاب".
6 التأسيس: ألف بينه وبين الروي حرف، وهو مما يلتزم. ومن شرطه أن يكون في كلمة الروي، ولا يكون في غيرها إلّا إذا كان الروي ضميرًا. ومن هنا جاء هذا البحث. فإن الألف في "ذلك" جعلت تأسيسًا في الشعرين المسوقين بدليل التزامها، وهي من كلمة الرويّ، والروي كان (ذلك) , وهذا يقضي بأن تكون الكاف فيها ضميرًا.
7 أي: طرفة، وانظر الديوان 44، والأصمعيات 55.(2/187)
. . . . . . . . . . . . ... على صدفيّ كالحنية بارك1
ولا غرو إلا جارتي وسؤالها ... أليس لنا أهل سئلت كذلك2
وقول خفاف بن ندبة:
وقفت له علوي وقدم خام صحبتي ... لأبني مجدًا أو لأثار هالكا2
أقول له والرمح بأطر متنه ... تأمل خفافًا إنني أنا ذلكا4
__________
1 هاك هذا الشطر مع صدر البيت وبيت قبله، على ما في الديوان:
ظللت بذي الأرطي فويق مثقب ... بكينة سوء هالكًا أو كهالك
تلف على الريح ثوبي قاعدًا ... إلى صدفيّ كالحنية بارك
وترى "إلى صدفي" ورواية الأصمعيات "لدى صدفي", والصدفى: المنسوب إلى الصدف -بزنة كنف- وهي قبيلة يمنية. وأراد بالصدفى جملًا, وفي اللسان: "والصدفي ضرب من الإبل" والحنية: الفوس، شبه بعيره بها في صلابته وضميره.
2 هذا البيت بعد تسعة أبيات من البيت السابق "فليس متصلًا به" كما يوهمه وضع الكتاب, وإنما قرنهما ليبني على ذلك ما يذكره، وقوله: "أليس لنا أهل" في ش: "ألا هل لنا أهل", وهي رواية الديوان، وبعد هذا البيت:
تعيرني جوب البلاد ورحلتي ... ألا رب دارلي سوى حرّ دارك
يذكر أنه دائب الترحال والضرب في البلاد لطلب الرزق، وقد بلغ به الأمر أن أنكرت ذلك جارته -وهي زوجه- فقالت له: أليس لك أهل نشوى لديهم، وتقيم عندهم! فقال في الرد عليها سئلت كذلك, وهذه جملة دعائية، أي: صبرك الله غريبة, فتسألين هذا السؤال كما سألتيني.
3 قبل هذا البيت:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدًا على عيني يتممت مالكا
الخيل: الفرسان، وصميم الخيل: عميدهم ومقدمهم. ويريد به معاوية بن عمرو أخا الخنساء, ومالك هو مالك بن حمار, سيد بني شمخ من فزارة. وعلوي: اسم فرسه، وفي اللسان "جلا" أن سامها جلوى، وأورد البيت، رخام أي: جبن، وفي ش، ب: "نام".
4 "بأطر متنه" أي: يثنيه ويعطفه، وذلك كسره بالطعن. وقوله: "إنني أنا ذلكا" أي: أنا ذلك الذي سمعت به. وانظر الكامل 7/ 162، والأغاني 16/ 139، والخزانة 2/ 470 والإنصاف304.(2/188)
ألا ترى أن الألف في "هالكا" و"بارك" تأسيس لا محالة, وقد جمعهما مع الألف في "ذلكا" و [ذلك] 1 وهي منفصلة, وليس الروي -وهو الكاف- اسمًا مضمرًا "كياء قوله"2 "بداليا"3, ولا من جملة اسم مضمركميم "كماهما"4. وهذا يدل على أن الكاف في "ذلك" اسم مضمر لا حرف.
قيل: هذا كلام لا يدخل على المذهب في كونها حرفًا, وقد قامت الدلالة على ذلك من عدة أوجه.
ولكن بقي علينا الآن أن نرى وجه5 علة جواز كون الألف في "ذلك" تأسيسًا مع أن الكاف ليست باسم مضمر.
وعلة ذلك أنها وإن تجرَّدت في هذا الموضع من معنى الاسمية, فإنها في أكثر أحوالها اسم, نحو: رأيتك وكلمتك ونظرت إليك, واشتريت لك ثوبًا, وعجبت منك, ونحو ذلك. فلما جاءت ههنا على لفظ تلك التي هي اسم -وهو أقل الموضعين- حملت على الحكم في أكثر الأحوال، لا سيما6 وهي هنا وإن جردت من معنى الاسمية, فإن ما كان فيها من معنى الخطاب باقٍ عليها وغير مختزل7 عنها. وإذا جاز حمل همزة علباء على همزة حمراء للزيادة, وإن عريت من التأنيث
__________
1 ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق خلت منها الأصول.
2 في ش، ب: "كيا في قوله".
3 كأنه يريد قول مالك بن الريب:
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه ... يقر بعيني أن سهيل بداليا
وانظر الخزانة في شواهد المنادى.
4 يريد قوله عوف بن عطية الخرع.
وإن شئتم ألحقتم وتتجتم ... وإن شلتم عينًا بعين كاهما
وانظر في الخزانة 3/ 358.
5 سقط في ش، ب.
6 في ش: "ولا سيما".
7 في ش، ب: "متحرك".(2/189)
الذي دعا إلى قلبها في صحراوات1، وصحراويّ, كأن حمل كاف "ذلك" على كاف رأيتك جائزًا أيضًا, وإن لم يكن أقوى لم يكن أضعف.
وقد2 اتَّصل بما نحن عليه موضع طريف. ونذكره لاستمرار مثله.
وذلك أن أصغر الناس قدرًا قد يخاطب أكبر الملوك محلًّا بالكاف من غير احتشام منه ولا إنكار عليه. وذلك نحو قول التابع الصغير للسيد الخطير: قد خاطبت ذلك الرجل, واشتريت تينك الفرسين, ونظرت إلى ذينك الغلامين, فيخاطب3 الصاحب الأكبر بالكاف, وليس الكلام شعرًا, فتحتمل4 له جرأة الخطاب فيه كقوله5: لقينا بك الأسد, وسألنا منك البحر, وأنت السيد القادر, ونحو ذلك.
وعلة جواز ذلك عندي أنه إنما لم تخاطب الملوك بأسمائها إعظامًا لها؛ إذ كان الاسم دليل المعنى وجاريًا في أكثر الاستعمال مجراه, حتى دعا ذاك قومًا إلى أن زعموا6 أنّ الاسم هو المسمَّى. فلمَّا أرادوا7 إعظام الملوك وإكبارهم تجافوا وتجانفوا عن ابتذال أسمائهم التي هي شواهدهم, وأدلة عليهم إلى الكناية بلفظ الغيبة, فقالوا: إن رأي الملك أدام الله علوّه, ونسأله حرس الله ملكه، ونحو ذلك، وتحاموا "إن رأيت"، و"نحن نسألك"، لما ذكرنا. فهذا هذا. فلمّا خلعت عن هذه الكاف دلالة الاسمية, وجردت8 للخطاب البتة, جاز استعمالها؛ لأنها ليست
__________
1 في ش: "صحراوان" وسقط في ش، ب، وحمل همزة علباء على همزة حمراء في قلبها واوًا عند النسب والتثنية.
2 سقط في ش، ب.
3 في ش، ب: "فتخاطب".
4 في ش: "فتحمل" وفي ب. "فيحمل".
5 في ش، ب: "كقولنا".
6 في اللسان "سما": "وسئل أبو العباس عن الاسم أهو المسمَّى أو غير المسمى؟ فقال: قال أبو عبيدة: الاسم هو المسمَّى، وقال سيبويه: الاسم غير المسمى" وبه مسألة كلامية جرى فيها بحث واختلاف بين المتكلمين. وانظر الإنصاف المنسوب للباقلاني 53، وتفسير البيضاوي في سورة الفاتحة.
7 في ش، ب: "أراد الناس".
8 في ش، ب: "تجردت".(2/190)
باسم, فيكون في اللفظ به ابتذال له. فلمّا خلصت هذه الكاف خطابًا البتة, وعريت من معنى الاسمية استعملت في خطاب الملوك لذلك.
فإن قيل: فهلّا جاز على هذا أن يقال للملك ومن يلحق به في غير الشعر "أنت"؛ لأن التاء هنا أيضًا للخطاب, مخلوعة عنها دلالة الاسمية؟ قيل: التاء في "أنت" وإن كانت حرف خطاب لا اسمًا, فإن معها نفسها الاسم, وهو "أن" من "أنت", فالاسم على كل حال حاضر, وإن لم تكن الكاف, وليس كذا1 قولنا: "ذلك"؛ لأنه ليس للمخاطب بالكاف هنا اسم غير الكاف, كما كان له مع التاء في "أنت" اسم للمخاطب نفسه، وهو "أن" فاعرف ذلك فرقًا بين الموضعين.
ونحو من ذلك ما رآه2 أبو الحسن في أن الهاء والياء في "إياه" و"إياي" حرفان؛ أحدهما للغيبة وهو الهاء, والآخر للحضور وهو الياء. وذلك أنه كان يرى أن الكاف في "إياك" حرف للخطاب, فإذا أدخلت عليه الهاء والياء في "إياه" و"إياي" قال: هما أيضًا حرفان للغيبة والحضور, مخلوعة3 عنهما دلالة الاسمية في رأيته، وغلامي وصاحبي. وهذا مذهب هول4. وهو5 -وإن كان كذلك- جارٍ على القوة، ومقتاس بالصحة.
واعلم أن نظير الكاف في رأيتك إذا خلعت عنها دلالة الاسمية, واستقرّت للخطاب -على ما أرينا- التاء في قمت وقعدت ونحو ذلك, هي هنا تفيد الاسمية والخطاب, ثم تخلع عنها دلالة الاسمية, وتخلص للخطاب البتة في أنت وأنت. فالاسم "أن" وحده، والتاء "من بعد"6 للخطاب.
__________
1 في ش، ب، "كذلك".
2 في ش: "رواه". وفي شرح الرضي للكافية 2/ 12 أن الأخفش -وهو أبو الحسن- يرى أن الهاء والياء في إياه وإياي اسمان أضيف إليهما إياه. وهذا الرأي يعزى إلى الخليل.
3 في ش: "مخلوع".
4 يريد بالهول الشديد غير المتوقع، الغريب. وهو من الوصف بالمصدر، وفي ش: "مقول".
5 سقط حرف العطف في أ.
6 في ش، ب: "بعده".(2/191)
وللتاء موضع آخر تخلص فيه للاسمية البتة, وليس "ذلك للكاف"1. وذلك الموضع قولهم: أرأيتك زيدًا ما صنع. فالتاء اسم مجرَّد من الخطاب, والكاف حرف للخطاب مجرد من الاسمية. هذا هو المذهب. ولذلك لزمت التاء الإفراد والفتح في الأحوال كلها, نحو قولك للمرأة: أرأيتك زيدًا ما شأنه, وللاثنين "وللاثنتين"2 أرأيتكما زيدًا أين جلس؟ ولجماعة المذكر والمؤنث: أرأيتكم زيدًا ما خبره؟ وأرأيتكن عمرًا ما حديثه؟ فالتغيير للخطاب لاحق للكاف والتاء -"لأنه" لا خطاب فيها- على صورة واحدة؛ لأنها مخلصة اسمًا.
فإن قيل: هذا ينقض عليك أصلًا مقررًا3. وذلك أنك إنما4 تعتلّ لبناء الأسماء المضمرة بأن تقول: إن شبه الحرف "غلب عليها ومعنى الاسم بعد عنها"5 وذلك نحو قولك: "ذلك"6 وأولئك, فتجد الكاف مخلصة للخطاب, عارية من معنى الاسم. وكذلك التاء في أنتَ وأنتِ عارية من معنى الاسم, مجردة لمعنى الحرف. وأنت مع هذا تقول: إن التاء في أرأيتك زيدًا "أين هو7، ونحو ذلك, قد أخلصتها اسمًا, وخلعت عنها دلالة الخطاب. فإذا كانت قد تخلص في موضع اسمًا، كما خلصت في آخر حرفًا تعادل أمرها8، ولم يكن لك عذر في الاحتجاج بإحدى حاليها.
__________
1 في ش، ب: "كذلك الكاف".
2 سقط في ش، ب.
3 في ش، ب: "مطردًا".
4 سقط في ش، ب.
5 في أ، م: "أغلب عليها من معنى الاسم فتأخّر عنها".
6 سقط في أ.
7 من: "أين هو ونحو ذلك" إلى: "والتاء في أرأيتك زيدًا" سقط في أ.
8 كذا في ش، وفي ب، ش: "أمرها".(2/192)
"قيل: إن"1 الكاف في "ذلك" جُرّدت من معنى الاسمية, ولم تقرن باسم المخاطب بها. والتاء في أرأيتك زيدًا ما صنع, لم تجرّد من معنى الحرفية إلّا مقترنة بما كان مرة اسمًا, ثم جرد من معنى الاسمية, وأخلص للخطاب والحرفية وهو الكاف في "أرأيتك زيدًا ما صنع" ونحوه. فأنت2 وإن خلعت عن تاء "أرأيتك زيدًا ما خبره" معنى الحرفية, فقد قرنت بها ما جردته من معنى الاسمية, وهو الكاف بعدها, فاعتدل الأمران باقتران الاسم3 البتة بالحرف البتة. وليس كذلك "ذلك"؛ لأنك إنما معك4 الكاف المجرَّدة لمعنى الخطاب, لا اسم معها للمخاطب بالكاف, فاعرف ذلك. وكذلك أيضًا في "أنت" قد جرّدت الاسم وهو "أن" من معنى الحرفية, وأخلصت التاء البتة بعده للخطاب, كما أخلصت الكاف بعد التاء في "أرأيتك عمرًا ما شأنه" حرفًا للخطاب.
فإن قلت: ف"أن" من "أنت" لم تُستعمل قط حرفًا, ولا خلعت دلالة الاسمية عنها, فهذا يقوي حكم الأسماء المضمرة, كما أضعفها ما قدمت أنت من حالها في تجردها من معنى الأسمية5 وما غلب عليها من حكم الحرفية.
قيل: لسنا ندَّعي أن كل اسم مضمر لا بُدَّ من6 أن يخلع عنه حكم الاسمية, ويخلص للخطاب والحرفية, فيلزمنا ما رمت إلزامنا إياه, وإنما قلنا: إن معنى الحرفية قد أخلص له بعضها, فضعف لذلك حكم جميعها, وذلك أن الخلع العارض فيها إنما لحق متصلها دون منفصلها -وذلك لضعف المتصل- فاجترئ عليه لضعفه، فخلع معنى الاسمية منه. وأما المنفصل فجارٍ بانفصاله مجرى الأسماء الظاهرة القوية المعربة. وهذا واضح.
__________
1 في ش: "فإن".
2 كذا في أ، وفي سواها: "وأنت".
3 كذا في أ، م، ش. وفي ب، ش: "الاسمية".
4 في ش: "جعلت".
5 يوجد فيما عد أ، ش بعد "الاسمية" ما يأتي: "ويقوى في غير ذهاب معنى الاسمية".
6 سقط في ش.(2/193)
فإن قلت: في1 الأسماء الظاهرة كثيرة من المبنية, نحو: هذا وهذي "وتاك"2 وذلك والذي والتي وما ومن وكم وإذ ونحو ذلك, فهلّا لمّا وجد البناء في كثير من المظهرة3 سرى في جميعها, كما أنه لما غلب شبه الحرف في بعض المضمرة أجرى عليها جميعها على ما قدمته؟
قيل: إن الأسماء المظهرة من حيث كانت هي الأُوَل القدائم القوية, احتمل ذلك فيها لسبقها وقوتها, والأسماء المضمرة ثوانٍ لها وأخلاف منها, "ومعوضة"4 عنها، فلم تقو قوة ما هي تابعة له، ومعتاضة5 منه، فأعلها ما لا يعله، ووصل إليها ما يقصر دونه.
وأيضًا, فإن المضمر المتصل وإن كان أضعف من الضمير المنفصل, فإنه أكثر وأسير6 في الاستعمال منه, ألا تراك تقول: إذا قدرت على المتَّصل لم تأت بالمنفصل. فهذا يدلك على أن المتَّصل أخف عليهم وآثر في أنفسهم7. فلما كان كذلك وهو مع ذلك أضعف من المنفصل, وسرى فيه لضعفه حكم, لزم المنفصل, أعني: البناء؛ لأنه مضمر مثله, ولا حق في سعة الاستعمال به.
فإن قيل: وما الذي رغَّبهم في المتصل حتى شاع استعماله, وصار متى قدر عليه لم يؤت بالمنفصل مكانه؟
__________
1 في ش، ب: "ففي".
2 سقط في غير ش.
3 في ش، ب: "المظهر".
4 في أ: "ومغرومة". وفي ب: "مفرومة" وفي م: "مقرومة" أي: مقطوعة منها، والقرم: القشر والقطع.
5 في ش: "معوضة".
6 كذا في أ. وفي ش، ب، م: "أيسر" وفي ش: "أسبق".
7 كذا في أ، م. وفي سواهما، "نفوسهم".(2/194)
قيل: علة ذلك أن الأسماء المضمرة إنما رغب فيها وفزع إليها طلبًا للخفة بها بعد زوال الشك بمكانها, وذلك أنك لو قلت: زيد ضرب زيدًا, فجئت بعائده1 مظهرًا مثله, لكان في ذلك إلباس واستثقال.
أما الإلباس فلأنك إذا قلت: "زيد ضربت زيدًا, لم تأمن أن يظن أن زيدًا الثاني غير الأول, وأن عائد الأول متوقع مترقب. فإذا قلت: "زيد ضربته" عُلِمَ بالمضمر أن الضرب إنما وقع بزيد المذكور لا محالة, وزال تعلق القلب2 لأجله وسببه3. وإنما كان كذلك لأنّ المظهر يرتجل, فلو قلت: زيد ضربت زيدًا لجاز أن يتوقّع4 تمام الكلام, وأن4 يظنَّ أن الثاني غير الأول, كما تقول: زيد ضربت عمرًا, فيتوقع أن تقول: في داره أو معه أو لأجله. فإذا قلت: زيد ضربته, قطعت بالضمير سبب الإشكال من حيث كان المظهر يرتجل, والمضمر تابع غير مرتجل في أكثر اللغة.
فهذا وجه كراهية الإشكال.
وأما وجه الاستخفاف: فلأنك إذا قلت: العبيثران5 شممته, فجعلت موضع التسعة6 واحدًا, كان أمثل من أن تعيد التسعة كلها فتقول: العبيثران شممت العبيثران. نعم, وينضاف إلى الطول قبح التكرار المملول. وكذلك ما تحته من العدد الثماني والسباعي فما تحتهما, هو على كل حال أكثر من الواحد.
فلمَّا كان الأمر الباعث عليه والسبب المقتاد إليه إنما هو طلب الخفة به, كان المتصل منه آثر في نفوسهم وأقرب رحمًا عندهم, حتى إنهم متى قدروا عليه لم يأتوا بالمنفصل مكانه.
__________
1 في أ: "بعائدة".
2 في أ، م: "الفكر".
3 في ش، ب: "لسببه".
4 في ش، ب: "نتوقع.... تظن".
5 هو نبت طيب الريح، من نبات البادية. وتفتح التاء فيه وتضم.
6 أي: من الأحرف. وهي أحرف "العبيثران".(2/195)
فلذلك لما غلب شبه الحرفية على المتصل بما ذكرناه: من خلع دلالة1 الاسمية عنه في ذلك وأولئك وأنتَ وأنتِ, وقاما أخواك, وقاموا إخوتك:
ويعصرن السليط أقاربه2 ... وقلن الجواري ما ذهبت مذهبا3
حملوا المنفصل عليه في البناء؛ إذ كان ضميرًا مثله, وقد يستعمل في بعض الأماكن في موضعه, نحو قوله:
إليك حتى بلغت إياكا4
أي: بلغتك, وقول أبي بجيلة "وهو بيت الكتاب "5:
كأنَّا يوم قرى إذّ ... ما نقتل إيانا6
__________
1 في ش، ب، أ: "الأدلة".
2 من بيت الفرزدق, وهاكه بتمامه:
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقبله في هجو عمرو بن عفراء الضبي:
فلو كنت ضبيًّا صفحت ولو مرت ... على قدمي حياته وعقاريه
ديافي منسوب إلى دياف, وهي من قرى الشأم يسكنها النبط. يذكر أنه نبطي غير خالص العربية. وحوران: كورة واسعة من أعمال دمشق ذات قرى كثيرة, والسليط: الزيت. وانظر الخزانة 2/ 386.
3 هذا من رجز أنشده الفراء في "معاني القرآن" 1/ 4 عن أبي ثروان، وبعده:
وعبتني ولم أكن معيبًا
وفيه "قال الجواري" وكذا في اللسان "عيب".
4 قبله: أئتك عنس تقطع الأراكا
وهو لحميد الأرقط، وانظر الكتاب 1/ 383، والخزانة 2/ 456.
5 سقط ما بين القوسين في أ.
6 ورد في سيبويه 1/ 383 معزوًا إلى بعض اللصوص, وورد أيضًا في ص 271، وقال الأعلم: "وصف أن قومه أوقعوا ببني عمه فكأنهم قتلوا أنفسهم ... وقرّى: اسم موضع، نسب ابن الشجري في أماليه 1/ 39 إلى ذي الإصبع العدواني. ومصدر هذا تهذيب الألفاظ 210. وانظر الخزانة 2/ 406.(2/196)
وبيت أمية:
بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير1
وكذلك قد يستعمل المتصل موضع المنفصل؛ نحو قوله:
فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألّا يجاورنا إلّاك ديار1
فإن قلت: زعمت أن المتصل آثر في نفوسهم من المنفصل, وقد ترى إلى أكثر استعمال المنفصل موضع المتصل, وقلة استعمال المتصل موضع المنفصل, فهلّا دلَّك ذلك على خلاف مذهبك؟
قيل: لمَّا كانوا متى قدروا على المتَّصل لم يأتوا مكانه بالمنفصل, غلب حكم المتصل, فلمَّا كان كذلك عوَّضوا منه أن جاءوا في بعض المواضع بالمنفصل في موضع المتصل, كما قلبوا الياء إلى الواو في نحو2: الشروي والفتوي؛ لكثرة دخول الياء على الواو في اللغة.
ومن ذلك قولنا: ألا قد كان كذا, وقول الله سبحانه: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} 3 ف"ألا" هذه فيها هنا شيئان: التنبيه وافتتاح الكلام, فإذا جاءت4 معها "يا" خلصت افتتاحًا "لا غير"5, وصار التنبيه الذي كان فيها ل"يا" دونها. وذلك نحو6 قول الله -عز اسمه: "أَلَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ"7 وقول الشاعر:
ألا يا سنا برق على قُلَل الحمى ... لهنَّك من برق علي كريم8
__________
1 انظر ص308 من الجزء الأول.
2 سقط في ش، ب.
3 آية: 5 سورة هود.
4 في ش، ب: "جاء".
5 في أ: "لا غيره".
6 سقط في أ.
7 آية: 25، سورة النمل. والاستشهاد بالآية على تخفيف ألا, وهي قراءة الكسائي وأبي جعفر وابن عباس وآخرين. وقراة العامة: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ، بتشديد "ألّا".
8 انظر ص316 من الجزء الأول.(2/197)
ومن ذلك واو العطف؛ فيها معنيان: العطف ومعنى الجمع. فإذا وضعت موضع "مع" خلصت للاجتماع, وخلعت عنها دلالة العطف, نحو قولهم: استوى الماء والخشبة, وجاء البرد والطيالسة.
ومن ذلك فاء العطف فيها معنيان: العطف والإتباع. فإذا استعملت في جواب الشرط خلعت عنها دلالة العطف وخلصت للإتباع, وذلك قولك: إن تقم فأنا أقوم, ونحو ذلك.
ومن ذلك همزة الخطاب في "هاء يا رجل"، و"هاء يا امرأة" كقولك: "هاكَ" و"هاكِ", فإذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب؛ لأنه يصير بعدها في الكاف, وتفتح هي أبدًا. وهو قولك: هاءكَ وهاءَكِ وهاءكما وهاءكم.
ومن ذلك "يا" في النداء؛ تكون تنبيهًا ونداء في نحو: يا زيد, ويا عبد الله. وقد تجردها من النداء للتنبيه البتة, نحو قول الله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} "كأنه قال: ألا ها اسجدوا"1.
وكذلك قول العجاج:
يا دار سلمة يا اسلمي ثم اسلمي2
إنما هو كقولك: ها اسلمي. وهو كقولهم: "هَلُمَّ" في التنبيه على الأمر.
وأما3 قول أبي العباس: إنه أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا, فمردود4 عندنا. وقد كرر4 ذلك أبو علي في غير موضع فغنينا عن إعادته5.
__________
1 سقط ما بين القوسين في أ.
2 هذا مطلع أرجوزة له في الديوان 58. وقوله: "يا دار سلمى" كذا في ش. وفي أ، ب، ش: "يا دارميّ".
3 في أ، ب، ش: "مردود". ووجه رده أن في حذف المنادى مع حذف الفعل الذي ناب عنه حرف النداء وحذف فاعله إحجافًا. وقد بسط الكلام على هذا أبو حيان في البحر 7/ 69.
4 في ش: "ذكر".
5 إلى هنا تنتهي نسخة ب.(2/198)
باب في تعليق الأعلام على المعاني دون الأعيان:
هذا باب من العربية غريب الحديث, أراناه أبو علي -رحمه الله تعالى, وقد كنت شرحت حاله في صدر1 تفسيري أسماء شعراء الحماسة بما فيه مقنع, إلّا أنا أردنا ألّا نخلّي كتابنا هذا منه؛ لإغرابه وحسن التنبيه عليه.
اعلم أن الأعلام أكثر وقوعها في كلامهم إنما هو على الأعيان دون المعاني. الأعيان هي الأشخاص نحو: زيد وجعفر وأبي محمد "وأبي القاسم"2، وعبد الله, وذي النون وذي يزن, وأعوج "وسبل"2، والوجيه ولاحق وعلوي3، وعتوة3، والجديل، "وشدقم"3 وعُمَان، ونجران4، والحجاز والعراق والنجم والدبران, والثريا، وبرقع5، والجرباء5. ومنه محوة للشمال؛ لأنها على كل حال جسم وإن لم تكن مرئية.
وكما جاءت الأعلام في الأعيان, فكذلك أيضًا قد جاءت في المعاني نحو قوله 6:
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
فسبحان "اسم"7 علم لمعنى8 البراءة والتنزيه, بمنزلة عثمان وحمران.
__________
1 سقط في أ. وتفسير أسماء شعراء الحماسة. طبع في دمشق باسم "المنهج", وانظر ص64، من مقدمة هذا الكتاب. وهذا البحث في المبهج ص11.
2 سقط في أ.
3 هو اسم فرس.
4 في ش: "نجد".
5 من أسماء السماء.
6 أي: الأعشى. وانظر الصبح المنير 104 وما بعدها. وهو يعني علقمة بن علانة يهجوه, وينتصر لعامر بن الطفيل، وقوله: "فخره" و"الفاخر" في الديوان: "فجره" و"الفاجر".
7 سقط في أ، م.
8 ش: "بمعنى".(2/199)
ومنه1 قوله:
وإن قال غاو من تنوخ قصيدة ... بها جربٌ عدت عليّ بزوبرا
سألت أبا علي عن ترك صرف "زوبر" فقال: علّقه علمًا على القصيدة, فاجتمع فيه التعريف والتأنيث, كما اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون.
ومنه -فيما ذكره أبو علي- ما حكاه أبو زيد من قولهم: كان ذلك الفينة, وفينة, وندرى, والندرى. فهذا مما اعتقب عليه تعريفان: العلمية والألف واللام, وهو كقولك: شعوب, والشعوب للمنية. " وعروبة, والعروبة"2. كما أنَّ الأول كقولك: في الفرط والحين. " ومثله غدوة, جعلوها علمًا للوقت"3. وكذلك أعلام الزمان نحو: صفر ورجب وبقية الشهور, "وأول وأهون وجبار, وبقية تلك الأسماء"3.
ومنه أسماء الأعداد كقولك: ثلاثة نصف ستة, وثمانية ضعف أربعة, إذا أردت قدر العدد لا نفس المعدود, فصار هذا اللفظ علمًا لهذا المعنى.
ومنه4 ما أنشده صاحب الكتاب من قوله 5:
أنا اقتسمنا خُطَّتينا بيننا ... فحملت برّة واحتملت فجار
__________
1 أي: ابن أحمر، كما في اللسان "زبر". وفي شرح المفصّل لابن يعيش 1/ 38 نسبته للطرماح. وانظر الخزانة 4/ 379, ففيها بيتان قريبان من هذا في قصيدة للفرزدق. وانظر المخصص 15/ 183, وقوله: "عدت علي بزوبرا" أي: بأجمعها وكليتها.
2 ما بين القوسين سقط في ش, وعروبة والعروبة يوم الجمعة. وانظر ص 38 من الجزء الأول.
3 ما بين القوسين سقط في أ.
4 في ش "مثله".
5 أي: النابغة، يهجو زرعة بن عمرو الكلابي، وكان لقي النابغة بسوق عكاظ، وحبب إليه الغدر ببني أسد، فأبى عليه النابغة. وقيل البيت:
أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحت الغبار فما خططت غباري
فقوله: "أنا اقتسمنا ... " مفعول قوله: "أعلمت". وانظر الخزنة 3/ 68.(2/200)
فبرّة اسم علم لمعنى البرِّ, فلذلك لم يصرف للتعريف والتأنيث. وعن مثله عُدِل فجار, أي: عن فجرة. وهي علم غير مصروف, كما أن برّة كذلك. وقول1 سيبويه: إنها معدولة عن الفجرة تفسير على2 طريق المعنى لا على3 طريق اللفظ. وذلك أنه أراد أن يعرف أنه معدول عن فجرة علمًا, ولم تستعمل تلك علمًا, فيريك ذلك, فعدل عن لفظ العلمية المراد إلى لفظ التعريف فيها المعتاد. وكذلك لو عدلت عن برّة هذه لقلت: برار, كما قال: فجار. وشاهد ذلك أنهم عدلوا حذام وقطام عن حاذمة وقاطمة, وهما عَلَمان, فكذلك يجب أن تكون فَجَارِ معدولة عن فَفْرَة علمًا أيضًا.
ومن الأعلام المعلَّقة على المعاني ما استعمله النحويون في عباراتهم من المثل المقابل بها الممثّلات, نحو قولهم: "أفعل" إذا أرادت به الوصف, وله "فعلاء" لم تصرف. فلا4 تصرف أنت "أفعل" هذه من حيث صارت علمًا لهذا المثال نحو: أحمر وأصفر وأسود وأبيض. فتجري5 "أفعل" هذا مجرى أحمد وأصرم علمين. وتقول: "فاعلة" لا تنصرف معرفة, وتنصرف نكرة. فلا تصرف "فاعلة"؛ لأنها علم لهذا الوزن, فجرت مجرى فاطمة وعاتكة. وتقول: "فعلان" إذا كانت له فَعْلَى, فإنه لا ينصرف معرفة ولا نكرة. فلا تصرف فعلان هذا؛ لأنه عَلَم لهذا الوزن بمنزلة حَمْدان وقحطان. وتقول: وزن طلحة "فَعْلة" ومثال عَبَيْثُرَان "فَعَيْلُلان" ومثال إسحارّ6 "إفعالّ" ووزن إستبرق "إستفعل", ووزن طريفة "فعيلة". وكذلك جميع ما جاء من هذا الطرز. وتقول: وزن إبراهيم "فعلاليل" فتصرف هذا المثال؛ لأنه لا مانع له من الصرف،
__________
1 انظر الكتاب 2/ 39.
2 سقط في ش.
3 في ش: "هذا".
4 في أ: "فلم".
5 في أ: "فجرى".
6 هو يقل: يسمن عليه المال، أي: الإبل.(2/201)
ألا ترى أنه ليس فيه أكثر من التعريف, والسبب الواحد لا يمنع الصرف. ولا تصرف إبراهيم للتعريف والعجمة. وكذلك وزن جبرئيل "فعلئيل" فلا تصرف جبرئيل, وتصرف مثاله. والهمزة فيه زائدة لقولهم: جبريل. وتقول: مثال جعفر "فعلل" فتصرفهما جميعًا؛ لأنه ليس في كل واحد منهما أكثر من التعريف.
وقد1 يجوز إذا قيل لك ما مثال "أَفْكَلٍ" أن تقول: مثاله: "أفعلٍ", فتصرفه حكاية لصرف أفكلٍ كما جررته حكاية لجره؛ ألا تراك إذا قيل لك: ما مثال ضرب قلت: فُعِل فتحكى في المثال بناء ضرب, فتبنيه كما بنيت مثال المبنيّ, كذلك حكيت إعراب أفكلٍ وتنوينه, فقلت في جواب ما مثال أفكلٍ: مثاله أفعلٍ فجررت كما صرفت. فاعرف ذلك.
ومن ذلك قولهم: قد صرّحت2 بِجدّانَ وجلدانَ. فهذا3 علم لمعنى الجِدّ.
ومنه قولهم: أتى على ذي بليان. فهذا علم للبعد4؛ قال:
تنام ويذهب الأقوامُ حتى ... يقالَ أتوا على ذي بِلِّيان5
فإن قلت: ولم قلت الأعلام في المعاني، وكثرت في الأعيان، نحو: زيد وجعفر، وجميع ما علق عليه علم وهو شخص؟ قيل: لأن الأعيان أظهر للحاسَّة وأبدى إلى المشاهدة، فكانت6 أشبه بالعلمية مما لا يرى ولا يشاهد حسًّا7، وإنما يعلم تأمّلًا واستدلالًا، وليست كمعلوم8 الضرورة للمشاهدة.
__________
1 سقط في أ.
2 هذا مثل يضرب للأمر إذا بان وصرح ووضح بعد التباسه.
3 كذا في ش. وفي غيرها: "وهو".
4 في أ: "للحبور".
5 هذا لا يعرف قائله, وفي اللسان أن الكسائي كان ينشده في رجل يطيل النوم. يعني أنه أطال النوم, ومضى أصحابه في سفرهم حتى صاروا إلى موضع لا يعرفه. وقوله: "يذهب الأقوام، في هامش "سفر السعادة" عند هذا البيت: "الرواية: يدلج الأقوام", وهذا من نسخة صاحب الخزانة المحفوظة بدار الكتب.
6 في أ: "وكانت".
7 في أ: "حيا".
8 في أ: "كتعلق".(2/202)
باب في الشيء يرد مع نظيره مورده 1 مع نقيضه:
وذلك أضرب:
منها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المؤنثة؛ نحو: رجل علَّامة, وامرأة علَّامة, ورجل نسَّابة, وامرأة نسابة, ورجل همزة لمزة, وامرأة همزة لُمَزة, ورجل صرورة وفروقة, وامرأة صرورة وفروقة, ورجل هلباجة فقاقة2، وامرأة كذلك. وهو كثير.
وذلك أن الهاء في نحو ذلك لم تلحق لتأنيث الموصوف بما هي فيه, وإنما لحقت لإعلام المسامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ الغاية والنهاية, فجعل تأنيث الصفة أمارة3 لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة, وسواء كان ذلك الموصوف بتلك الصفة مذكرًا أم4 مؤنثًا. يدل على ذلك أن الهاء لو كانت في نحو: امرأة فروقة, إنما لحقت؛ لأن المرأة مؤنثة لوجب أن تحذف في المذكر فيقال: رجل فروق, كما أن التاء في "نحو امرأة"5 قائمة، وظريفة, لما لحقت لتأنيث الموصوف حذفت مع تذكيره في نحو:6 رجل ظريف وقائم وكريم. وهذا واضح.
ونحو من تأنيث هذه الصفة7 لا يعلم أنها بلغت المعنى الذي هو مؤنث أيضًا تصحيحهم العين في نحو: حول وصيد واعتونوا واجتوروا, إيذانًا بأن ذلك في معنى ما لا بُدَّ من تصحيحه. وهو احولَّ واصيدَّ وتعاونوا، وتجاوروا،
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "وروده". وهذا الباب في "الأشباه والنظائر" 1/ 230.
2 سقط في أ. والهلياجة والفقافة كلاهما الأحمق، الذكروالأنثى في ذلك سواء.
3 في أ: "أمثلة".
4 في ش: "أو".
5 زيادة في ش.
6 سقط في غيرش، أ.
7 كذا في أ. وفي غيرها: "الصيغة".(2/203)
وكما كررت الألفاظ لتكرير المعاني نحو: الزلزلة والصلصلة والصرصرة. وهذا1 باب واسع.
ومنها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المذكرة, وذلك نحو: رجل خصم, وامرأة خصم, ورجل عدل وامرأة عدل, ورجل ضيف وامرأة ضيف, ورجل رضا وامرأة رضًا. وكذلك ما فوق الواحد نحو: رجلين2 رضا وعدل, وقوم رضا وعدل, قال زهير3:
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضًا وهم عدلُ4
وسبب اجتماعهما هنا في هذه الصفة أن التذكير إنما أتاها من قبل المصدرية5، فإذا قيل: رجل عدل فكأنه وصف بجميع الجنس مبالغة كما تقول: استولى على الفضل, وحاز جميع الرياسة والنبل, ولم يترك لأحد نصيبًا في الكرم والجود, ونحو ذلك. فوصف بالجنس أجمع6، تمكينًا "لهذا الموضع"7 وتوكيدًا.
وقد ظهر منهم ما يؤيد هذا المعنى ويشهد به. وذلك نحو قوله: أنشدناه أبو علي:
ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل ... وضنَّت علينا والضنين من البخل8
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "هو".
2 كذا في أ. وفي ش: "رجلان".
3 ثبت في ش، وسقط في غيرها.
4 من قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق والثقل
قالها في هرم بن سنان, والحارث بن عوف المزبين. انظر الديوان "طبعة دار الكتب" 107.
5 في ش: "الصيغة".
6 في ش: "الجميع"، وسقط في غيرها.
7 سقط في أ.
8 نسبه في اللسان "ضئن" إلى البعيث, وقد أورد ابن قتيبة في الشعراء البعيث أربعة أبيات على هذا الروي، وليس منها البيت، وورد غير معزو في أمالي ابن الشجري 1/ 72.(2/204)
فهذا كقولك: هو مجبول من الكرم, ومطين من الخير, وهي مخلوقة1 من البخل. وهذا أوفق معنى من أن تحمله2 على القلب وأنه يريد به 3: والبخل من الضنين؛ لأن فيه من الإعظام والمبالغة ما ليس في القلب.
ومنه ما أنشدناه أيضًا من قوله:
وهنّ من الإخلاف قبلك والمطل4
و"قوله"5:
وهن من الإخلاف والولعان6
وأقوى التأويلين في قولها 7:
فإنما هي إقبالٌ وإدبار
أن يكون8 من هذا، أي: كأنها مخلوقة9 من الإقبال والإدبار لا على أن يكون من باب حذف المضاف, أي: ذات إقبال وذات إدبار. ويكفيك من هذا كله قول الله -عز وجل: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 10 وذلك لكثرة فعله إياه واعتياده له, وهذا أقوى معنى من أن يكون أراد: خلق العجل من الإنسان؛ لأنه أمر قد
__________
1 في أ: "مملوءة".
2 كذا في أ، ش، وفي غيرهما: "يحمله".
3 سقط في ش.
4 نسبه في اللسان "ولع" إلى البعيث، وكأنه من القصيدة التي فيها البيت السابق.
5 سقط في غير ش، أ.
6 صدره كما في اللسان "ولع":
لخلابة العينين كذابة المنى
والولعان: الكذب. وانظر إصلاح المنطق طبعة المعارف 298، وشواهد ابن السيرافي.
7 أي: الخنساء في رثاء أخيها صخر، وصدره:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
ونظر الخزانة 1/ 207.
8 في أ: "تكون".
9 كذا في أ. وفي غيرها: خلفت.
10 آية 37، سورة الأنبياء.(2/205)
اطَّرد واتَّسع, فحمله على القلب يبعد في الصنعة و"يصغِّر المعنى"1. وكأن هذا الموضع لما خفي على بعضهم قال في تأويله: إن العَجَل هنا الطين. ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه في هذا الموضع لا يراد به إلّا نفس العجلة والسرعة, ألا تراه عزَّ اسمه كيف قال عقبه: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} 2 فنظيره قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} 3 {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 4؛ لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن5 به من الضرورة والحاجة.
فلمَّا كان الغرض في قولهم: رجل عدل وامرأة عدل إنما هو إرادة المصدر والجنس, جعل الإفراد والتذكير أمارة للمصدر6 المذكر.
فإن قلت: فإن نفس7 لفظ المصدر قد جاء مؤنثًا نحو: الزيادة والعبادة8، والضئولة، والجهومة والمحمية والموجدة والطلاقة، والسياطة. وهو كثير جدًّا. فإذا كان نفس المصدر قد جاء مؤنثًا فما هو في معناه ومحمول بالتأويل عليه أحجى بتأنيثه.
قيل: الأصل لقوّته أحمل لهذا المعنى من الفرع لضعفه. وذلك أن الزيادة، والعبادة8، والجهومة والطلاقة ونحو ذلك مصادر غير مشكوك فيها, فلحاق التاء لها9 لا يخرجها عمَّا ثبت في النفس من مصدريتها. وليس كذلك الصفة؛ لأنه ليست في الحقيقة مصدرًا, وإنما هي متأولة عليه ومردودة بالصنعة إليه. فلو قيل: رجل عدل, وامرأة عدلة, وقد جرت صفة
__________
1 في الأشياء للسيوطي: "يصغر في المعنى".
2 آية: 37، سورة الأنبياء.
3 آية: 11، سورة الإسراء.
4 آية: 28، سورة
5 كذا في ش. وفي غيرها: "يؤذن".6 في أ: "المصدر".
7 كذا في أ، ش. وسقط في غيرهما.
8 في ش: "القيادة".
9 في ش: "بها".
10 في أ: "عدل" هو خطأ في النسخ.(2/206)
كما ترى لم يؤمن أن يظن بها1 أنها صفة حقيقية؛ كصَعْبة من صعب, وندبة من ندب, وفخمة من فخم, ورطبة من رطب. فلم يكن فيها من قوة الدلالة على المصدرية ما في نفس المصدر نحو: الجهومة والشهومة والطلاقة والخلاقة. فالأصول2 لقوّتها يتصرف فيها, والفروع لضعفها يتوقف بها، ويقصر عن بعض ما تسوغه القوة لأصولها.
فإن قلت: فقد قالوا: رجل عدل, وامرأة عدلة, وفرس طوعة القياد, وقال أمية -أنشدناه:
والحيّة الحتفة الرّقشاء أخرجها ... من بيتها آمِنَات الله والكلم2
قيل: هذا مِمَّا خرج على صورة الصفة؛ لأنهم لم يؤثروا أن يبعدوا كل البعد عن أصل الوصف الذي بابه أن يقع الفرق فيه بين مذكره ومؤنثه, فجرى هذا في حفظ3 الأصول والتلفت إليها، "للمباقاة لها"4، والتنبيه عليها, مجرى إخراج بعض المعتل على أصله نحو: استحوذ وضننوا -وقد تقدَّم ذكره- ومجرى إعمال صغته وعدته، وإن كان قد نقل إلى "فَعُلت" لما كان أصله "فَعَلت". وعلى ذلك أنَّث بعضهم فقال: خصمة وضيفة؛ وجمع5، فقال 6:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
وعليه قول الآخر:
إذا نزل الأضياف كان عذورًا ... على الحي حتى تستقلّ مراجله7
__________
1 سقط في أ.
2 كذا في ش، أ. وفي غيرهما: "والأصول".
3 انظر ص155 من الجزء الأول.
4 في أ: "للمناواة بها".
5 كذا في أ، ش. وفي غيرهما: "جمعوا".
6 كذا في أ، ش. وفي غيرهما: "قال", والقائل هو لبيد. وانظر الأغاني 5/ 123، والديوان 1/ 19، والسمط 298،والكامل 8/ 167.
7 انظر ص122من هذا الجزء.(2/207)
الأضياف هنا بلفظ القلة ومعناها أيضًا, وليس كقوله 1:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دمًا
في أن المراد به2 معنى الكثرة, وذلك أمدح؛ لأنه إذا قرى الأضياف وهم قليل بمراجل الحي أجمع, فما ظنك به3 لو نزل به الضيفان الكثيرون!
فإن قيل: فلم أنَّث المصدر أصلًا؟ وما الذي سوَّغ التأنيث فيه مع معنى العموم والجنس وكلاهما إلى التذكير, حتى احتجت إلى الاعتذار له بقولك 4: إنه أصل, وإن الأصول تحمل ما لا تحمله الفروع.
قيل: علة جواز تأنيث المصدر مع ما ذكرته من وجوب تذكيره أن المصادر أجناس للمعاني "كما غيرها"5 أجناس للأعيان, نحو: رجل وفرس وغلام ودار وبستان. فكما6 أن أسماء أجناس الأعيان قد تأتي مؤنثة الألفاظ, ولا حقيقة تأنيث في معناها نحو: غرفة، ومشرقة7، وعلية ومروحة، ومِقْرَمَة8؛ وكذلك جاءت أيضًا أجناس المعاني مؤنثًا بعضها لفظًا لا معنى, وذلك نحو: المحمدة والموجدة والرشاقة، والجباسة9، والضئولة، والجهومة.
__________
1 أي: حسان بن ثابت -رضي الله عنه. وصدره:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وانظر الخزانة 3/ 430، وسيبويه 2/ 181.
2 كذا في أ. وفي غيرها: "بها".
3 سقط في ش.
4 كذا في د، هـ، والأشباه. وفي أ: "وذلك".
5 في الأشباه: "كما أن غيرها".
6 كذا في أ. وفي د، هـ: "وكما".
7 المشرفة -مثلثة الراء: موضع القعود في الشمس بالشتاء.
8 في ستر دقيق.
9 كذا في د، هـ، ز. والجباسة كأنه يريد بها ثقل الروح، من الجبس الثقيل الروح، والردئ، وإن لم يرد منه فعل ولا مصدر. وفي أ: "الحباسة".(2/208)
نعم، وإذا جاز تأنيث المصدر وهو على مصدريته غير موصوف به، لم يكن تأنيثه وجمعه, وقد ورد1 وصفًا2 على المحل الذي من عادته أن يفرق فيه بين مذكره ومؤنثه, وواحده وجماعته قبيحًا ولا مستكرهًا, أعني: ضيفة3 وخصمة، وأضيافًا وخصومًا, وإن كان التذكير والإفراد أقوى في اللغة وأعلى في الصنعة, قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 4.
وإنما كان التذكير والإفراد أقوى من قبل أنك لما وصفت بالمصدر أردت المبالغة بذلك, فكان من تمام المعنى وكماله أن تؤكد ذلك بترك التأنيث والجمع, كما يجب للمصدر في أول أحواله, ألا ترى أنك إذا أنثت وجمعت سلكت به مذهب الصفة الحقيقة التي لا معنى للمبالغة5 فيها، نحو: قائمة ومنطلقة وضاربات ومكرمات, فكان ذلك يكون نقضًا للغرض أو كالنقض له. فلذلك قلَّ حتى وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنثًا أو مجموعًا.
ومما جاء من المصادر مجموعًا ومعملًا أيضًا قوله 6:
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب7
و"بيترب".
ومنه عندي قولهم: تركته بملاحس البقر أولادها. فالملاحس جمع ملحس, ولا يخلو أن يكون مكانًا أو مصدرًا, فلا يجوز أن يكون هنا مكانًا، لأنه قد عمل
__________
1 كذا في أ. وفي غيرها: "جرى".
2 كذا في أ. وفي غيرها "وحل".
3 في أ: "ضيفًا".
4 آية: 21، سورة ص.
5 في أ: "لمبالغة".
6 في أ: "قولهم".
7 هذا عجز بيت أوله:
وواعدتني مالًا أحاول نفعه
وهو من أبيات الشماخ أوردها في "فرحة الأديب" في المقطوعة 34. وقد روى ابن السيرافي: "بيترب" بالتاء والراء المفتوحة، فردَّ عليه صاحب الفرحة وذكر أن الرواية "بيثرب" اسم مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.(2/209)
في الأولاد فنصبها, والمكان لا يعمل في المفعول به, كما أنَّ الزمان لا يعمل فيه. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان المضاف هنا محذوفًا مقدَّرًا, وكأنه قال: تركته بمكان ملاحس البقر أولادها, كما أن قوله:
وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغار ابن همام على حيِّ خَثْعَما1
محذوف المضاف, أي: وقت إغارة ابن همام على حيِّ خثعم, ألا تراه قد عداه إلى "على في"2 قوله: "على حيِّ خثعما". ف"ملاحس البقر" إذًا مصدر مجموع معمل في المفعول به، كما أن "مواعيد عرقوب أخاه بيثرب" كذلك. وهو غريب. وكان أبو علي -رحمه الله- يورد "مواعيد عرقوب" مورد الطريف المتعجَّب منه.
فأما قوله:
قد جرَّبوه فما زادت تجاربهم ... أبا قدامة إلّا المجد والفنعا3
__________
1 نسب هذا البيت ابن السيرافي إلى حميد بن ثور، ولا يوجد في ميمية حميد التي في ديوانه طبعة دار الكتب، وقد ردَّ عليه ذلك صاحب "فرحة الأديب" فقال: "غر ابن السيرافي قصيدة حميد الميمية التي أوَّلها:
سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما
فتوهَّم أن هذا البيت منها.. والبيت للطماح بن عامر بن الأعلم بن خويلد العقيل، وهو شاعر مجيد، وله مقطعات حسان. قال الطماح العقلي:
عرفت لسلمى رسم دار تخالها ... ملاعب جنٍّ أو كتابًا منمما
وعهدي بسلمى والشباب كأنه ... عسيب نمى في ريه فتقوَّما
وما هي إلا ذات وثر وشوذر ... مغار ابن همام على حيّ خثعما
والعلقة: قميص بلا كمين، أو هو ثوب صغير للصبيان، والشوذر: ثوب بلا كمين تلبسه المرأة، والوتر تلبسه الجارية قبل أن تدرك. الكامل 2/ 26، وتاريخ ابن الأثير 1/ 7.
2 سقط ما بين القوسين في غير أ.
3 من قصيدة للأعشى في مدح هوذة بن علي. والقنع: الكرم والعطاء والجود الواسع. وانظر "الصبح المنير) 72 وما بعدها. قوله: "قد جربوه" في أ: كم جربوه".(2/210)
فقد يجوز أن يكون من هذا, وقد يجوز أن يكون "أبا قدامة" منصوبًا ب"زادت", أي: فما زادت أبا قدامة تجاربهم إيّاه إلا المجد. والوجه أن ينصب1 ب"تجاربهم"؛ لأنه2 العامل الأقرب, ولأنه لو أراد إعمال الأوَّل لكان حريّ أن يعمل الثاني أيضًا, فيقول: فما زادت تجاربهم إياه أبا قدامة إلّا كذا, كما تقول 3: "ضربت فأوجعته زيدًا"، وتضعَّف4 "ضربت فأوجعت زيدًا" على إعمال الأول. وذلك أنك إذا كنت تعمل الأول على بعده وجب إعمال الثاني أيضًا لقربه؛ لأنه لا يكون الأبعد أقوى حالًا من الأقرب.
فإن قلت: أكتفي بمفعول5 العامل الأول من مفعول العامل الثاني؛ قيل لك: فإذا كنت مكتفيًا مختصرًا فاكتفاؤك بإعمال الثاني الأقرب أولى من اكتفائك بإعمال الأول الأبعد. وليس لك في هذا مالك في الفاعل لأنك تقول: لا أضمر على غير تقدّم6 ذكر إلا مستكرهًا, فتعمل الأول فتقول: "قام وقعدا أخواك". فأما المفعول فمنه بُدّ, فلا ينبغي أن تتباعد بالعمل إليه وتترك ما هو أقرب إلى المعمول7 فيه منه.
ومن ذلك "فرس وساعٌ" الذكر والأنثى فيه سواء, وفرس جواد, وناقة ضامر, وجمل ضامر، وناقة بازل، وجمل بازل، وهو لباب قومه، وهي لباب قومها، وهم لباب قومهم؛ قال جرير:
تذري فوق متنيها قرونًا ... على بشر وآنسة لباب8
__________
1 في ش: "تنصبه".
2 في ش: "لأنها". وترى ابن جني يجيز إعمال المصدر مجموعًا، فقد سواه بالفعل، والمتأخرون من النحاة لا يرون هذا، ويجعلون لا يرون هذا، ويجعلون إعمال التجارب إذا أعمل شاذًّا، وقد وافق ابن جني بعض المتأخرين كابن عصفور، وانظر الأشموني والصبان عليه.
3 كذا في أ، ش. وفي غيرهما: "يقول".
4 أي: تنسبه إلى الضعف. وضبط في أ: "تضعف" بصيغة مضارع الثلاثي, أي: تضعف هذه الصيغة. وفي الأشباه: "يضعف".
5 في ش: "بمعمول".
6 كذا في ش، وفي د، هـ "تقديم" وسقط في أ.
7 في د: "المفعول".
8 ورد في الديوان مفردًا. وجاء في اللسان "لبب". وفي اللسان "تدري" بصيغة المبني للفاعل، وفي ش: "تجري" وضبط في أبصيغة المبني للمفعول, وكأن معنى تدريه القرون من الشعر تسريحها وترجيلها.(2/211)
وقال ذو الرمة:
سبحلا أبا شرخين أحيا بناته ... مقاليتها فهي اللباب الحبائس1
فأما ناقة هجان, ونوق هجان, ودرع دلاص, وأدرع دلاص, فليس من هذا الباب, فإن فعالًا منه في الجمع تكسير فعال في الواحد. وقد تقدَّم ذكر ذلك في باب ما اتفق لفظه واختلف تقديره.
__________
1 هذا في وصف فحل الإبل. والسبحل: الضخم، والشرخ: نتاج السنة من أولاد الإبل. والمقاليت جمع المقلات، وهي التي لا يعيش لها ولد. يقول: إن المقاليت إذا طرفها هذا الفحل عاش نسله منها، فهن يجبين بنائه لذلك. والحبائس: يحبسها من يملكها, فلا يخرجها من ملكه. وانظر الديوان 321 والمخصص 17/ 33.(2/212)
باب في ورود الوفاق مع وجود الخلاف:
هذا الباب ينفصل1 من الذي قبله بأن2 ذلك تبع فيه اللفظ ما ليس وفقًا له نحو: رجل نسابة وامرأة عدل, وهذا الباب الذي نحن فيه ليس بلفظ تبع لفظًا, بل هو قائم برأسه. وذلك قولهم: غاض الماء وغضته سوَّوا فيه بين المتعدي وغير المتعدي. ومثله: جبرت يده وجبرتها, وعمر المنزل وعمرته, وسار الدابة وسرته, ودان الرجل ودنته, من الدين في معنى أدنته, وعليه جاء مديون في لغة التميميين, وهلك الشيء وهلكته, قال العجاج:
ومهمهٍ هالك من تعرّجا3
__________
1 د، هـ: "منفصل".
2 ش: "فإن".
3 بعده: هائلة أهواله من أدلجا
وهو من أرجوزته التي أولها:
ما هاج أحزانًا وشجرًا قد شجا
وانظر الديوان 7، وإلى هنا ينتهي الجزء الأول من نسخة ش.(2/212)
فيه قولان: أحدهما أن "هالكًا" بمعنى مهلك, أي: مهلك من تعرج فيه. والآخر: ومهمهٍ هالك المتعرجين فيه, كقولك: هذا رجل حسن الوجه, فوضع "من" موضع الألف واللام. ومثله هبط الشيء وهبطته, قال:
ما راعني إلا جناح هابطًا ... على البيوت قوطه العلابطا1
أي: مهبطًا قوطه. وقد يجوز أن يكون أراد: هابطًا بقوطه, فلمَّا حذف حرف الجر نصب بالفعل2 ضرورة. والأوّل أقوى.
فأما قول الله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 3 فأجود القولين فيه أن يكون معناه: وإن منها لما يهبط من نظر إليه لخشية الله. وذلك أن الإنسان إذا فكر في عظم هذه المخلوقات تضاءل وتخشع4، وهبطت نفسه لعظم ما شاهد. فنسب الفعل إلى تلك الحجارة لما كان السقوط والخشوع مسببًا عنها وحادثًا لأجل النظر إليها, كقول الله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 5 وأنشدوا بيت6 الآخر:
فاذكر موقفي إذا التقت الخي ... ل وسارت إلى الرجال الرجالا7
أي: وسارت الخيل الرجال إلى الرجال.
__________
1 جناخ: اسم راع. والقوط، القطيع من الغنم. والعلابط: القطيع أيضًا وأقله خمسون. و"قوطه" مفعول هابطًا. وللبيت صلة في اللسان "قوط". وانظر "نوادر أبي زيد" 173.
2 سقط في ش.
3 آية: 74، سورة البقرة.
4 ش: "خشع".
5 آية: 17، سورة الأنفال.
6 كذا في أ. وفي غيرها: "قول".
7 في اللسان "سار" البيت بهذه العمورة:
فاذكرن موضعًا إذا التقت الخي ... ل وقد سارت الرجال الرجالا(2/213)
وقد يجوز أن يكون أراد: وسارت إلى الرجال بالرجال, فحذف حرف الجر فنصب. والأول أقوى. وقال خالد بن زهير:
فلا تغضبن من سيرة أنت سِرتَها ... فأول راضٍ سيرة من يسيرها1
ورجنت الدابة بالمكان إذا أقامت فيه, ورجنتها, وعاب2 الشيء وعبته3، وهجمت على القوم, وهجمت غيري عليهم أيضًا, وعفا الشيء: كثر وعفوته: كثرته وفغر فاه, وفغر فوه, وشحا فاه3, وشحا فوه, وعثمت يده وعثمتها, أي: جبرتها على غير استواء, ومدَّ النهر ومددته, قال الله -عز وجل: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 4 وقال الشاعر:
ماء خليج مده خليجان5
وسرحت الماشية وسرحتها، وزاد الشيء وزدته, وذرا الشيء وذروته: طيرته, وخسف المكان وخسفه الله, ودلع اللسان ودلعته, وهاج القوم وهجتهم, وطاخ الرجل وطخته, أي: لطخته بالقبيح -في معنى أطخته6، ووفر
__________
1 هذا من شعر يقوله في أبي ذؤيب الهذلي. وكان يرسل خالدًا إلى صديقة له فخانه فيها، وقال فيه شعرا. وكان أبو ذؤيب فعل ذلك برجل يقال عويم بن مالك كان أبو ذؤيب رسوله إليها, فخانه فيها, فيذكره خالد هذا. وقيل هذا البيت:
ألم تنقذها من عويم بن مالك ... وأنت صفىّ نفسه وسجيرها
وانظر الأغاني طبعة دار الكتب 6/ 277، وقوله: "فأول", في أ: "أول".
2 كذا في أ، ش. وفي د، هـ: "عاد ... عدته".
3 يقال: شحا فاه: فتحه، وشحا فوه: انفتح.
4 آية 27، سورة لقمان.
5 في اللسان: "خليج" هذا البيت.
إلى فتى فاض أكف الفتيان ... فيض الخليج مدَّه خليجان
وفي المخصص 10/ 32 الشطر الشاهد فقد, وهو في الجزء 15/ 54 منسوبًا إلى أبي النجم.
6 الوارد في اللسان والقاموس من مزيد المادة (طيخه) من التفصيل.(2/214)
الشيء ووفرته. وقال الأصمعيّ: رفع البعير ورفعته -في السير المرفوع- وقالوا: نفى الشيء ونفيته, أي: أبعدته, قال القطامي 1:
فأصبح جاراكم قتيلًا ونافيا
ونحوه: نكرت البئر ونكرتها2, أي: أقللت ماءها ونزفت ونزفتها.
فهذا كله شاذ عن القياس وإن كان مطردًا في الاستعمال, إلا أنَّ له عندي وجهًا لأجله جاز. وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه, فإنما الفعل منه شيء أعيره وأعطيه, وأقدر عليه, فهو وإن كان فاعلًا فإنه لما كان معانًا مقدرًا صار كأن فعله لغيره, ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 3 نعم, وقد قال بعض الناس: إن الفعل لله, وإن العبد مكتسبه, وإن كان هذا خطأ عندنا فإنه قول لقوم. فلما كان قولهم: غاض الماء أن غيره أغاضه, وإن جرى لفظ الفعل له تجاوزت العرب ذلك إلى أن أظهرت هناك فعلًا بلفظ الأول متعديًا؛ لأنه قد كان فاعله في وقت فعله إياه إنما هو مشاء4 إليه أو معان عليه. فخرج اللفظان لما ذكرنا خروجًا واحدًا. فاعرفه5.
__________
1 كذا نسبه اللسان "نفى" في القطامي. وفي ديوان القطامي 80 نسبته في بيتين إلى الأخطل في قصة. والبيتان هما:
لو كان حبل ابني طريف معلقًا ... بأحقى كرام أحدثوا فيهما أمرَا
أأصبح جراهم قتيلًا ونافيًا ... أصم فزادوا في مسامعه وقرا
وفي ديوانه 271 البيت هكذا من قصيدة للأخطل:
لقد كان جاراهم قتيلًا وخائفًا ... أصم فقد زادوا مسامعه وقرا
2 الوارد في اللسان "نكزها" بالتشديد بضبط القلم.
3 آية: 17، سورة الأنفال.
4 هو وصف من أشاءه إلى الشيء: ألجأه إليه، وهو لغة في أجاءه، وتنسب إلى تميم. وانظر القاموس وشرحه "شبأ".
5 إلى هنا تنتهي نسخة أ.(2/215)
باب في نقض العادة 1:
المعتاد المألوف في اللغة أنه إذا كان فعل غير متعدٍّ كان أفعل متعديًا؛ لأن هذه الهمزة كثيرًا2 ما تجيء للتعدية. وذلك نحو: قام زيد وأقمت زيدًا, وقعد بكر وأقعدت بكرًا. فإن كان فعل متعديًا إلى مفعول واحد فنقلته بالهمزة صار متعديًا إلى اثنين, نحو: طعم زيد خبزًا وأطعمته خبزًا, وعطا بكر درهمًا وأعطيته درهمًا.
فأمَّا كسى زيد ثوبًا وكسوته ثوبًا, فإنه وإن لم ينقل بالهمزة فإنه نقل بالمثال3، ألا تراه نقل من فعل إلى فعل. وإنما جاز نقله بفعَل لمَّا كان فعل وأفعل كثيرًا ما يعتقبان4 على المعنى الواحد, نحو: جدَّ في الأمر وأجدَّ, وصددته عن كذا وأصددته, وقصر عن الشيء وأقصر, وسحته الله وأسحته, ونحو ذلك. فلما كان فعل وأفعل على ما ذكرنا: من الاعتقاب والتعاوض ونقل بأفعل, نقل أيضًا فَعِل بفَعَل, نحو: كسى وكسوته، وشترِت5 عينه وشترها5، وعارت6 وعرتها6, ونحو ذلك.
__________
1 ترجم لهذا الباب السيوطي في "الأشباه والنظائر" 1/ 338 هكذا: "وورد الشي على خلاف العادة".
2 كذا في ش. وفي د، هـ: "أكثر", وفي الأشباه: "كثر".
3 أي: بالوزن والبناء، فوزن فعل -بكسر العين- لازم في هذه الأمثلة، فإذا نقل إلى فعل -بفتح العين- صار متعديًا. وقد ذكر هذا الوجه من وسائل التعدية صاحب "المغني" في آخر الباب الرابع، وعبر عنه بتحويل حركة العين، ونسب القول به للكوفيين، ثم قال: "وهذا عندنا من باب المطاوعة؛ يقال: شرته فشتر، كما يقال: ثرمة فثرم. ومنه كسوته الثوب فكسيه". وقد قدم في الفصل السابق على هذا أن المطاوعة تنقص المطاوع -بكسر الواو- عن المطاوع -بفتح الواو- درجة في التعدية؛ كما تقول: ألبسته الثوب فلبسه، وكسرت الإناء فانكسر.
4 في د، هـ، ز: "يعقبان".
5 أي: انقلب جفنها، وشرها: قلب جفها.
6 الضمير للعين، أي: أصابها العور. و"عرتها" أي: أصبتها بالعور. وفي د، هـ، ز، والأشباه: "غارت وغرتها". والذي في اللسان: "وأغار عينه وغارت تغور غورًا وغثورًا، وغوّرت: دخلت في الرأس" وترى أنه لم يجيء فيه غارٍ عينه دون همز.(2/216)
هذا هو الحديث 1: أن "تنقل بالهمز"2 فيحدث النقل تعديًا لم يكن قبله.
غير أن ضربًا من اللغة جاءت فيه هذه القضية معكوسة مخالفة، فنجد فعل فيها متعديًا، وأفعل غير متعد.
وذلك قولهم: أجفل الظليم، وجفلته3 الريح, وأشنق البعير إذا رفع رأسه, وشنقته, وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ونزفتها، وأقشع4 الغيم وقشعته الريح, وأنس5 ريش الطائر ونسلته, وأمرت الناقة إذا در لبنها ومَرَيتها6.
ونحو من ذلك ألوت7 الناقة بذنبها، ولوت ذنبها، وصرّ8 الفرس أذنه، وأصرّ8 بأذنه، وكبَّه الله على وجهه, وأكبَّ هو, وعلوت الوسادة وأعليت عنها9.
فهذا نقض عادة الاستعمال10، لأن فعلت فيه متعد وأفعلت غير متعد.
وعلة ذلك -عندي- أنه جعل تعدي فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من غلبة أفعلت لها على التعدي, نحو: جلس وأجلسته, ونهض وأنهضته, كما جعل قلب الياء واوًا في التقوى11 والرعوى والثنوى والفتوى عوضًا للواو من كثرة دخول الياء عليها, وكما جعل لزوم الضرب الأول من المنسرح لمفتعلن وحظر مجيئه تمامًا
__________
1 في ج: "الحدّ".
2 "تنقل" كذا في ش. وفي ز: "ينقل" و"بالهمز" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "بالهمز".
3 ظاهر الأمر عنده أن الحديث عن الظليم، ولا يقال هذا في الظليم، وفي اللسان "جفلت الربح السحاب", فكأنه يريد هذا, فتكون الكناية في "جفلته" للسحاب.
4 يرى الزمخشري أن أفشع من باب أصبح, أي: دخل في الصباح، فلا غرابة فيه. وهذا في كشافه عند قوله تعالى في سورة الملك، آية 22: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} . ويرى الفخر الرازي عند قوله تعالى في سورة البقرة، آية 26: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} أن الهمزة في نحو أفشع للتعدية وأن الفعل متعد إلى مفعولين محذوفين.
5 أي: سقط وتقطع.
6 أي: مسحت ضرعها لتدر.
7 أي: حركت ذنبها.
8 اي: سوى أذنه ونصبها للاستماع، وذلك إذا جد في السير.
9 في د، هـ، والأشباه "عليها".
10 في ش: "استعمال".
11 انظر في هذه الألفاظ ص88، 308 من الجزء الأول.(2/217)
أو مخبونًا, بل توبعت فيه الحركات الثلاث البتة تعويضًا للضرب من كثرة السواكن فيه, نحو: مفعوان ومفعولان ومستفعلان, ونحو ذلك مما التقى في آخره من الضروب ساكنان.
ونحوٌ من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول1، وذلك نحو: أحببته فهو محبوب, وأجنَّه الله فهو مجنون, وأزكمه فهو مزكوم, وأكزه2 فهو مكزوز، وأقره فهو مقرور, وآرضه3 الله فهو مأروض, وأملأه3 الله فهو مملوء, وأضأده3 الله فهو مضئود, وأحمه الله -من الحُمَّى- فهو محموم, وأهمه -من الهم- فهو مهموم, وأزعقته فهو مزعوق, أي: مذعور.
ومثله ما أنشدناه أبو علي من قوله:
إذا ما استحمَّت أرضه من سمائه ... جرى وهو مودوع وواعد مصدق4
وهو من أودعته, وينبغي أن يكون جاء على ودع.
وأما أحزنه الله فهو محزون, فقد حمل على هذا, غير أنه قد قال أبو زيد: يقولون: الأمر يحزنني, ولا يقولون: حزنني, إلا أن مجيء المضارع يشهد للماضي. فهذا أمثل5 مما مضى. وقد قالوا فيه أيضًا: مُحْزَنٌ على القياس. ومثله قولهم: محب, منه بيت عنترة:
ولقد نزلت فلا تظنِّى غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم6
__________
1 انظر في هذا "المزهر" 2/ 167.
2 أي: أصابه بالكزاز. وهو تشنج يصيب الإنسان من شدة البرد، وتعتريه منه وعدة.
3 أي: أصابه بالزكام. وانظر ص109، من هذا الجزء.
4 هذا من قصيدة الخفاف بن ندبة في الجزء الأول من منتهى الطلب، و"الأصمعيات" 48.
وهو في وصف فرس, وأرض الدابة: أسفل قوائمها، والسماء ظهره. واستحمام أرضه من العرق, وقوله: "مودوع" أي: ساكن لا يجتهد. وأصل مودوع مفعول من ودَعَه, أي: تركه، فهو متروك من الزجر والضرب. وقوله: "واعد مصدق" أي: يعد راكبه بمواصلة المد ويصدق في رعاه، ولا يخبس فيه.
وانظر اللسان "وَدَعَ" ومعاني ابن قتيبة.
5 وذلك أن محزونًا جاء فعله الثلاثي, وإن قرن أيضًا بالريد استثناء به عن وصفه منه. والأمثلة السابقة ليس في هذا المعنى.
6 هذا في معلقته المشهورة.(2/218)
ومثله قول الأخرى 1:
لأنكحن بَبَّه ... جارية خدبه
مكرمة محبه ... تجب أهل الكعبة
وقال الآخر:
ومن يناد آل يربوع يُجَبْ ... يأتيك منهم خير فتيان العرب
المنكب الأيمن والردف المحب2
قالوا: وعِلَّة ما جاء من أفعلته فهو مفعول -نحو: أجنه الله فهو مجنون, وأسله الله فهو مسلول, وبابه- أنهم إنما جاءوا به على فعل نحو: جُنَّ فهو مجنون, وزُكِمَ فهو مزكوم, وسُلَّ فهو مسلول. وكذلك بقيته.
فإن قيل لك3 من بعد: وما بال هذا خالف فيه الفعل مسندًا إلى الفاعل صورته مسندًا إلى المفعول, وعادة الاستعمال غير هذا, وهو أن يجيء الضربان معًا في عدة4 واحدة؛ نحو: ضربته وضرب وأكرمته وأكرم, وكذلك مقاد5 هذا الباب؟
__________
1 هي هند بنت أبي سفيان أخت معاوية -رضي الله عنهما. كانت ترقص ابنها عبد الله من زوجها الحارث بن نوفل بن عبد المطلب بهذا. وقد لقبته "ببه" وهي حكاية صوت الصبي. و"خدبة": ضخمة. تقول: لأنكحن عبد الله جارية هذه صفتها. وقولها: "تجب أهل الكعبة" أي: تغلب نساء قريش بحسنها، وانظر اللسان "ببب".
2 "يأتيك" كذا في ج. وفي ش: "يأتك". والمنكب: العريف على قومه أو رئيسهم، والردف: الذي يخلف الرئيس أو الملك ويعينه، نحو الوزير. وفي اللسان "ردف": "وكانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع، لأنه لم يكن في العرب أكثر إغارة على ملوك الحميرة، من بني يربوع. فصالحوهم على أن جعلوا لهم الردافة، ويكفوا عن أهل العراق الغارة.
3 سقط في د، هـ.
4 في د، هـ: "قاعدة"، وفي ج: "وعادة الاستعمال أن يستويا في عدد الحروف"، وههنا موافق لما في اللسان "زعق".
5 في ش: "مفاد" وما هنا موافق لما في اللسان.(2/219)
قيل: إن العرب لما قوي في أنفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل, وحتى1 قال سيبويه فيهما: "وإن كانا2 جميعًا يهمّانهم ويعنيانهم " خصّوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة 3: أحدهما: تغيير صورة4 المثال مسندًا إلى المفعول, عن صورته مسندًا إلى الفاعل, والعدة واحدة, وذلك نحو: ضرب "زيد"5 وضرب وقتل وقتل وأكرم وأكرم ودحرج ودحرج. والآخر: أنهم لم يرضوا ولم يقنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه إلى أن غيروا عدّة الحروف مع ضمِّ أوله, كما غيَّروا في الأول الصورة والصيغة6 وحدها. وذلك نحو7 قولهم: أحببته وحُبَّ, وأزكمه الله وزكم, وأضأده الله وضئد, وأملاه الله وملئ.
قال أبو علي: فهذا8 يدلك على تمكن المفعول عندهم، وتقدّم9 حاله في أنفسهم، إذ10 أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو للفاعل.
وهذا ضرب من تدريج اللغة عندهم الذي قدمت11 بابه، ألا ترى أنهم لما غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو: ضَرَب وضُرب و"شَتَم وشُتِم"12 تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة نحو: أزكمه13 الله وزكم، وآرضه13 الله وأرض.
__________
1 سقط حرف العطف في د، هـ.
2 انظر ص15 ج1 من "الكتاب".
3 في د، هـ، اللسان: "الصيغة".
4 د، هـ، اللسان: "الصيغة".
5 زيادة في د، هـ.
6 كذا في د، هـ، اللسان، وفي ش: "الصنعة".
7 زيادة في د، هـ.
8 د، هـ: "وهذا".
9 د، هـ: "تقرير".
10 ش: "إذا". وما هنا في ج.
11 انظر ص348 من الجزء الأول.
12 د، هـ: "شرب، وشرب".
13 زيادة في د، هـ.(2/220)
فهذا كقولهم1 في حنيفة: حنفيّ لما حذفوا هاء2 حنيفة حذفوا أيضًا ياءها, ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فتحذف لها الياء صحت الياء, فقالوا فيه: حنيفيّ. وقد تقدَّم القول على ذلك.
وهذا الموضع هو3 الذي دعا أبا العباس أحمد بن يحيى في كتاب فصيحه أن أفرد له بابًا, فقال: هذا باب فُعِل -بضم الفاء- نحو قولك: عُنِيت بحاجتك, وبقية الباب. إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول, ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة, ألا تراهم4 يقولون: نخى زيد من النخوة, ولا يقال: نخاه كذا, ويقولون: امتقع لونه, ولا يقولون: "امتقعه كذا, ويقولون: انقطع بالرجل, ولا يقولون"5: انقطع به كذا. فلهذا جاء بهذا الباب أيّ ليريك أفعالًا خصت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل, كما خصت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول, نحو: قام زيد, وقعد جعفر, وذهب محمد, وانطلق بشر. ولو كان غرضه أن يرك صورة ما لم يسمّ فاعله مجملًا غير مفصَّل على ما ذكرنا لأورد فيه6 نحو: ضرب وركب وطلب وقتل وأكل وسمل7 وأكرم وأحسن إليه واستقصى8 عليه, وهذا يكاد يكون إلى ما لا نهاية [له] 9.
فاعرف هذا الغرض, فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة.
ونظير مجيء اسم المفعول ههنا على حذف الزيادة -نحو: أجببته فهو محبوب- مجيء اسم الفاعل على حذفها أيضًا, وذلك نحو قولهم: أورس10 الرمث فهو وارس،
__________
1 في د، هـ، ز: "قولهم".
2 يريد بالهاء تاء التأنيث.
3 سقط في د، هـ.
4 كذا في ش. وفي د، هـ: "ترى أنهم".
5 ما بين القوسين سقط في د، هـ.
6 سقط في د، هـ.
7 في د، هـ: "شمل".
8 في د، هـ: "استعدى".
9 زيادة في الأشباه.
10 أي: اصفر ورقه. والرمث: شجر ترعاه الإبل.(2/221)
وأيفع الغلام فهو يافع, وأبقل المكان فهو باقل, قال الله -عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 1 وقياسه ملاقح؛ لأن الريح تلقح السحاب فتستدرّه. وقد يجوز أن يكون على لقحت هي, فإذا لقحت فزكت ألقحت السحاب, فيكون هذا مما اكتُفِيَ فيه بالسبب من المسبب, وضده قول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 2 أي: فإذا أردت قراءة القرآن فاكتفي بالمسبب الذي هو القراءة من السبب الذي هو الإرادة. وقد جاء عنهم مبقل, حكاها أبو زيد. وقال داود ابن أبي دواد لأبيه في خبر لهما, وقد قال له أبوه ما أعاشك بعدي:
أعاشني بعدك واد مبقل ... آكل من حوذانه وأنسل3
وقد جاء أيضًا حببته، قال "الشاعر "4:
ووالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق5
ونظير مجيء اسم الفاعل والمفعول جميعًا على حذف الزيادة فيما مضى مجيء المصدر أيضًا على حذفها, نحو قولهم: جاء زيد وحده. فأصل هذا أوحدته بمروري إيحادًا, ثم حذفت زيادتها6 فجاء على الفعل. ومثله قولهم: عمرك الله إلا فعلت, أي: عمرتك الله تعميرًا. ومثله7 قوله:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل8
__________
1 آية: 22، سورة الحجر.
2 آية: 98، سورة النحل.
3 انظر ص98 من الجزء الأول.
4 زيادة في د، هـ، والشاعر هو غبلان بن شجاع النهشلي، وانظر اللسان "حبب"، والكامل 4/ 4
5 قبله:
أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أن الجار بالجار أرفق
وترى في الشاهد إقراء: "ويروي أبو العباس المبرد الشطر الأخير هكذا:
وكان عياض منه أدق ومشرق
6 كذا في د، هـ، وفي ش: "زيادته", وفي اللسان "وحد" "زيادته"، ويرى بزيادته الهمزة الأولى والألف بعد الخاء.
7 زيادة في د، هـ.
8 عجز بيت صدره:
وقد اغتدى والطير في وكناتها
وهو من معلقة امرئ القيس في وصف فرس.(2/222)
أي: تقييد الأوابد, ثم حذف زائدتيه1؛ وإن شئت قلت: وصف2 بالجوهر لما فيه من معنى الفعل, نحو قوله 3:
فلولا الله والمهر المفدَّى ... لرُحْتَ وأنت غربال الإهاب
فوضع الغربال موضع مخرق, وعليه ما أنشدناه عن أبي عثمان:
مئبرة العرقوب إشفى المرفق
أي: دقيقة4 المرفق. "وهو كثير"5.
فأما6 قوله7:
وبعد عطائك المائة الرتاعا8
فليس على حذف الزيادة, ألا ترى أن في عطاء ألف إفعال9 الزائدة, ولو كان على حذف الزيادة لقال: وبعد عطوك فيكون كوحده. وقد ذكرنا هذا فيما مضى.
ولما كان الجمع مضارعًا للفعل بالفرعية فيهما جاءت فيه أيضًا ألفاظ على حذف الزيادة التي كانت في الواحد.
__________
1 كذا في ش. وفي د: "زيادته". وفي هـ: "زيادتيه".
2 أي: يراد بالقيد قيد الداية، وهو اسم وصف به لما فيه من التقييد، فلا يكون فيه حذف.
3 أي: حسان في الحارث بن هشام.
4 كذا في د، هـ، ج. وفي ش: "حادة". والأشفى في الأصل مخرز الإسكاف. والمثبرة: الإبرة. يهجو امرأة.
5 سقط ما بين القوسين في ش.
6 كذا في ش. وفي د، هـ: "وأما".
7 أي: القطامي. وانظر الديوان.
8 من قصيدته التي أولها:
قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا
وهي في مدح زفر بن الحارث الكلابي، وكان أسره في حرب, فمنَّ عليه وأعطاه مائة من الإبل. وهاك هذا الشطر مع سابقه وبيت قبله:
قمن يكن استلام إلى ثويّ ... فقد أكرمت يا زفر المتاعا
أكفرًا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاها
استلام: فعل ما يلام عليه. والثويّ: الضيف. والمتاع: الزاد.
9 كذا في ج. وفي ش: "فعال".(2/223)
وذلك نحو قولهم: كَرَوان وكِرْوان, ووَرَشان ووِرْشان. فجاء هذا على حذف زائدتيه حتى كأنه صار إلى فَعَل, فجرى مجرى خَرَبٍ وخِرْبان, وبَرَقٍ وبِرْقان, قال:
أبصر خربان فضاء فانكدر1
وأنشدنا لذي الرمة:
من آل أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكِرْوان أبصرن بازيا2
ومنه تكسيرهم فَعَالًا على أفعال حتى كأنه إنما كُسِّر فَعَل, وذلك نحو: جواد وأجواد، وعياءٍ3 وأعياءٍ "وحياء وأحياء"4 وعراءٍ5 وأعراءٍ, وأنشدنا:
أو مُجْنَ عنه عَرِيت أعراؤه6
فيجوز أن يكون جمع عَراءٍ, ويجوز أن يكون جمع عُرْى, ويجوز أن يكون جمع عَرًا من قولهم: نزل بِعَرَاه أي: ناحيته.
__________
1 من أرجوزة العجاج التي أولها:
قد جبر الدين الإله فجبر
وهي في مدح عمر عبيد الله بن معمر، وقبله:
إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر ... داتي جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذا البازي كسر
وانظر الديوان 17.
2 هذا البيت الثالث والثلاثون من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة الأشعري. وأولها:
ألا حي بالزرق الرسوم الخواليا ... وإن لم تكن إلّا رميًا بواليا
وانظر الديوان 154، والخزانة 1/ 296.
3 يقال: فحل عياء: لا يهتدي الضراب، وكذلك الرجل.
4 زيادة في د، هـ. والحياء للناقة رحمها وفرجها.
5 هو ما استوى من ظهر الأرض، أو هو المكان الخالي.
6 من أرجوزة رؤبة التي أولها:
وبلد عامية أعماؤه
وقبله: إذا السراب انتسجت إضاؤه
وترى أنه في وصف السراب والإضاة: الغدران، وهو ما يتراض فيه من الماء. يقول في السراب: يظهر فيه تارة مثل الغدران، وتارة تموج عنه وتذهب.(2/224)
ومن ذلك قولهم: نِعمة وأَنْعُم, وشِدّة وأشُدّ, في قول1 سيبويه: جاء ذلك على حذف التاء كقولهم: ذئب وأَذْؤب, وقِطْع2 وأقُطع, وضِرْس وأَضْرُس, قال:
وقرعن نابك قَرْعة بالأضرِس
وذلك كثير جدًّا.
وما يجيء مخالفًا ومنتقضًا أوسع من ذلك, إلّا أن لكل شيء منه عذرًا وطريقًا. وفصل للعرب طريف, وهو إجماعهم على مجيء عين مضارع فَعَلته إذا كانت من3 فاعلي4 مضمومة البتة. وذلك نحو قولهم: ضاربني فضربته أضربه, وعالمني فعلمته أعلمه, وعاقلني -من العقل- فعقلته أعقله, وكارمني فكرمته أكرمه, وفاخرني ففخرته أفخره، وشاعرني فشعرته أشعره. وحكى الكسائي: فاخرني ففخرته أفخَره -بفتح الخاء, وحكاها أبو زيد أفخُره -بالضم- على الباب. كل5 هذا إذا كنت أقوم بذلك الأمر منه.
ووجه6 استغرابنا له أن خصَّ مضارعه بالضم. وذلك أنا قد دللنا7 على أن قياس باب مضارع فَعَل أن يأتي بالكسر, نحو: ضرب يضِرب, وبابه, وأرينا وجه دخول يفعُل على يفعِل فيه, نحو: قَتَل يقْتُل, ونخل ينخُلُ, فكان الأحجى به هنا إذ أريد الاقتصار به على أحد وجهيه أن يكون ذلك الوجه هو الذي كان القياس مقتضيًا له في مضارع فَعَل وهو يفعِل بكسر العين. وذلك أن العُرْف والعادة إذا أريد
__________
1 انظر الكتاب 2/ 183، وانظر أيضًا ص87 من الجزء الأول من الخصائص.
2 هو نصل صغير عريض.
3 ج: "عن"، وفي ز: "عين".
4 كذا في د، هـ، ج، والأشباه. وفي ش: "فاعله".
5 كذا في د، هـ. وفي ش: "وكل".
6 سقط في د، هـ، عرف العطف.
7 انظر ص380 من الجزء الأول.(2/225)
الاقتصار على أحد1 الجائزين أن يكون ذلك المقتصر عليه هو أقيسهما فيه, ألا تراك2 تقول في تحقير أسود وجذول: أسيد وجديل بالقلب3، وتجيز من بعد الإظهار وأن4 تقول: أسيود وجديول, فإذا صرت إلى باب مقام وعجوز اقتصرت على الإعلال البتة فقلت: مقيِّم وعجيِّز, فأوجبت أقوى القياسين لا أضعفهما, وكذل نظائره.
فإن قلت: فقد تقول: فيها رجل قائم وتجيز فيه النصب فتقول: فيها رجل قائمًا, فإذا قدَّمت أوجبت أضعف الجائزين. فكذلك أيضًا تقتصر في هذه الأفعال -نحو: أكرمه وأشعُره- على أضعف الجائزين5 وهو الضمّ.
قيل: هذا إبعاد في التشبيه. وذلك أنك لم توجب النصب في "قائمًا"6 من قولك: فيها رجل قائمًا، و"قائمًا" هذا متأخر عن رجل في مكانه في حال الرفع, وإما اقتصرت على النصب فيه لما لم يجز فيه الرفع, أو لم يقو, فجعلت أضعف الجائزين واجبًا ضرورة لا اختيارًا, وليس كذلك كرمته أكرمه؛ لأنه لم ينقض7 شيء عن موضعه ولم يقدّم ولم يؤخر. ولو قيل: كرمته أكرمه؛ لكان كشتمته أشتمه, وهزمته أهزمه.
وكذلك8 القول في نحو قولنا: ما جاءني إلّا زيدًا أحد, في إيجاب نصبه, وقد كان النصب لو تأخَّر "زيد" أضعف الجائزين فيه إذا قلت: ما جاءني أحد إلّا زيدًا, الحال فيهما واحدة, وذلك أنك لمَّا لم تجد مع تقديم المستثنى ما تبدله منه عدلت به -للضرورة- إلى النصب الذي كان جائزًا فيه متأخرًا. هذا كنصب "فيها قائمًا رجل" البتة، والجواب عنهما واحد.
__________
1 ش: "آكد".
2 ش: "أراك".
3 سقط في د، هـ. ويريد قلب الواو ياء.
4 سقط حرف العطف في ش.
5 كذا في ش. وفي د، هـ: "الحالين".
6 د، هـ: "قائم".
7 ش "ينقص" وهو تصحيف.
8 د، هـ: "فكذلك".(2/226)
وإذا كان الأمر كذلك فقد وجب البحث عن علة مجيء هذا الباب في الصحيح كله بالضم, نحو: أكرمه وأضرُبه.
وعلّته عندي أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبة, فدخله بذلك1 معنى الطبيعة والنحيزة التي تغِلب ولا تُغلب, وتلازم ولا2 تفارق. وتلك الأفعال بابها: فَعُل يفُعل, نحو: فقُه يفقُه إذا أجاد الفقه, وعلُم يعلُم إذا أجاد العلم. وروينا عن أحمد ابن يحيى عن الكوفيين: ضَرُبتِ اليدُ يدهُ، على وجه المبالغة.
وكذلك نعتقد نحن أيضًا في الفعل المبني منه فعل التعجب أنه قد نُقِلَ3 عن فَعَل وفَعِل إلى فَعُلَ, حتى صارت له صفة التمكن والتقدم, ثم بُنِيَ منه الفعل4، فقيل: ما أفعله, نحو: ما أشعره, إنما هو من شَعُر, وقد حكاها أيضًا أبو زيد. وكذلك ما أقتله وأكفره: هو عندنا من قَتُل وكَفُر تقديرًا, وإن لم يظهر5 في اللفظ استعمالًا.
فلمَّا كان قولهم: كارمني فكرمته أكرمه6 وبابه صائرًا إلى معنى فَعُلت أفُعل أتاه الضمّ من هناك. فاعرفه.
فإن قلت: فهلّا لما دخله هذا المعنى تَمَّموا فيه الشبه فقالوا: ضربته أضرُبه, وفَخُرْتُه أفْخُرهُ "ونحو ذلك؟ "7.
قيل: منع من ذلك أن فَعُلْت لا يتعدَّى8 إلى المفعول به أبدًا, ويفعُل قد يكون في المتعدي9, كما يكون في غيره, ألا ترى إلى قولهم: سلبه يسلُبه, وجلبه يجلبه،
__________
1 في الأشباه: "لذلك".
2 سقط في د، هـ.
3 أخذ بهذا متأخرو النحاة, وانظر الرضي شرح الكافية 2/ 308.
4 في ج: "أفعل".
5 د، هـ، الأشباه: "إلى".
6 سقط في د، هـ.
7 ما بين القوسين سقط في د، هـ، ز.
8 كذا في د، هـ. وفي ش، والأشباه: "تتعدّى".
9 ش: "المتعدية".(2/227)
ونخله ينخُله, فلم يمنع من المضارع ما منع من الماضي, فأخذوا منهما1 ما ساغ, واجتنبوا ما لم يسغ.
فإن قلت: فقد قالوا: قاضاني فقضيته أقضيه, وساعاني فسعيته أسعيه؟ قيل: لم يكن من "يفعله" ههنا بُدّ, مخافة أن يأتي على يفُعل فينقلب الياء واوًا, وهذا مرفوض في هذا النحو من الكلام.
وكما لم يكن من هذا بد ههنا لم يجئ أيضًا2 مضارع فَعَل منه مما فاؤه واو بالضم, بل جاء بالكسر على الرسم وعادة العرب. فقالوا: واعدني فوعدته أعده, وواجلني فوجلته أجِلُه, وواضأني فوضأته أَضؤه. فهذا كوضعته -من هذا الباب- أضعهُ.
ويدلّك على أن لهذا الباب أثرًا في تغييره باب فَعَل في مضارعه قولهم: ساعاني فسعيته أسعيه, ولم يقولوا: أسعاه على قولهم: سعى يسعى, لما كان مكانًا قد رُتِّب وقرر وزوى3 عن نظيره في غير هذا الموضع.
فإن قلت: فهلا غيروا ما فاؤه واو كما غيروا ما لامه ياء فيما ذكرت, فقالوا: واعدني فووعدته أَوعُدُه, لما دخله من المعنى المتجدّد4.
قيل: "فَعَل" مما فاؤه واو لا يأتي مضارعه أبدًا بالضمّ, إنما هو بالكسر, نحو: وجد يجد, ووزن يزن, وبابه, وما لامه ياء فقد5 يكون على يفعِل كيرمي ويقضي, وعلى يفعَل كيرعَى ويسعَى. فأمر الفاء إذا كانت واوًا في فَعَلَ أغلظ حكمًا من أمر اللام إذا كانت ياء. فاعرف ذلك فرقًا.
__________
1 ش: "منها" والضمير في "منهما" لصيفتيّ فعل ويفعل المضموم العين.
2 د، هـ: "هنا".
3 أي: نحى وأبعد.
4 د، هـ: "المجدد".
5 د، هـ: "قد".(2/228)
باب في تدافع الظاهر:
هذا نحو من اللغة له انقسام.
فمن ذلك استحسانهم لتركيب ما تباعدت مخارجه من الحروف, نحو: الهمزة مع النون, والحاء مع الباء, نحو: آن ونأى وحبَّ وبحّ، واستقباحهم1 لتركيب ما تقارب من الحروف؛ وذلك نحو: صس وسص وطث وثط. ثم إنا من بعد نراهم يؤثرون في الحرفين المتباعدين أن يقربوا أحدهما من صاحبه, ويدنوه إليه, وذلك نحو قولهم في سويق 2: صَوِيق، وفي مساليخ: مصاليخ, وفي السوق: الصوق، وفي اصتبر 3: اصطبر, وفي ازتان: ازدان, ونحو ذلك ما أُدْنِي فيه الصوتان أحدهما من الآخر مع ما قدمناه: من إيثارهم لتباعد الأصوات؛ إذ كان الصوت مع نقيضه أظهر منه مع قرينه4 ولصيقه؛ ولذلك كانت الكتابة بالسواد5 في السواد خفية, وكذلك سائر الألوان.
والجواب عن ذلك أنهم قد علموا أنَّ إدغام الحرف في الحرف أخف عليهم من إظهار الحرفين, ألا ترى أن اللسان ينبو عنهما معًا نبوة واحدة, نحو قولك: شدَّ وقطَّع وسلَّم6؛ ولذلك ما حققت الهمزتان إذ كانتا عينين نحو: سآل ورآس, ولم تصحا في الكلمة الواحدة غير عينين, ألا ترى إلى قولهم: آمن وآدم وجاء وشاء7، ونحو ذلك. فلأجل8 هذا ما قال9 يونس في الإضافة إلى مُثَنَّى: مُثَنَّوِيّ
__________
1 انظر ص55 من الجزء الأول.
2 انظر في هذا وما بعده ص145 من هذا الجزء.
3 في ش، هـ: "استبر"، والصواب ما أثبت.
4 كذا في د، هـ، ج، وفي ش: "قريبه".
5 سقط في د، هـ.
6 في ش بعده: "كذلك".
7 في د، هـ: "ساء". والمراد اسم الفاعل من جاء وشاء وساء.
8 كذا في ش. وفي د، هـ: "ولأجل".
9 انظر الكتاب 2/ 29.(2/229)
فأجرى المدغم مجرى الحرف الواحد, نحو: نون مَثْنَّى إذا قلت: مَثْنِوَيّ, قال الشاعر 1:
حلفتُ يمينًا غير ذي مَثْنَوِيَّةٍ2
ولأجل ذلك كان من قال: "هم قالوا" فاستخفَّ بحذف الواو, ولم يقل في "هن قلن" إلّا بالإتمام.
ولذلك كان الحرف المشدد إذا وقع رويًّا في الشعر المقيد خُفِّفَ, كما يسكن المتحرك إذا وقع رويًّا فيه. فالمشدد نحو قوله 3:
أصحوت اليوم أم شاقتك هِرّ ... ومن الحب جنونٌ مستعرْ
فقابل براء "هرّ" راء "مستعرْ" وهي خفيفة أصلًا. وكذلك قوله 4:
ففداء لبني قيس على ... ما أصاب الناس من سوء وضر
ما أقلّت قدمي إنهم ... نعم الساعون في الأمر المبر
وأمثاله كثيرة. والمتحرك "نحو قول رؤبة "5:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
ونحو ذلك مما كان مفردًا محركًا فأسكنه تقييد الروي.
__________
1 سقط في ش، ج. وهو النابغة.
2 عجزه:
ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
3 أي: طرفة. وهو مطلع القصيدة. وهرّ: اسم امرأة.
4 أي: طرفة أيضًا في القصيدة السابقة، والأمر المبر: الغالب الذي يعجز الناس، وقوله: "قيس" في د، هـ: "عبس", والذي في الديوان الأول، وانظر 4/ 11.
5 كذا في د. وفي هـ: "في قول رؤبة"، وفي ش: "نحو قوله".(2/230)
ومن ذلك أن تبنى مما عينه واو مثل فِعَّل فتصح العين للإدغام نحو: قِوَّل وقِوَّم، فتصح العين للتشديد، كما تصح للتحريك1 في نحو قولهم: عِوَض وحِوَل وطِوَل.
فلما كان في إدغامهم الحرف في الحرف ما أريناه من استخفافهم إياه صار تقريبهم الحرف "من الحرف"2 ضربًا من التطاول إلى الإدغام. وإن لم يصلوا إلى ذلك, فقد حاولوه واشرأبوا نحوه, إلّا أنهم مع هذا لا يبلغون بالحرف المقرَّب من الآخر أن يصيروه إلى أن يكون من مخرجه لئلّا يحصلوا من ذلك بين أمرين كلاهما مكروه.
أما أحدهما: فأن يدغموا مع بعد3 الأصلين وهذا بعيد.
وأما الآخر: فأن يقربوه منه حتى يجعلوه من مخرجه, ثم لا يدغموه, وهذا كأنه انتكاث وتراجع؛ لأنه إذا بلغ من قربه إلى أن يصير من مخرجه وجب إدغامه, فإن لم يدغموه حرموه المطلب المروم4 فيه، ألا ترى أنك إذ قربت السين في سويق من القاف بأن تقلبها صادًا, فإنك لم تخرج السين من مخرجها, ولا بلغت بها مخرج القاف, فيلزم إدغامها فيها. فأنت إذًا قد رمت تقريب الإدغام المستخَفّ, لكنك لم تبلغ الغاية التي توجبه5 عليك, وتنوط أسبابه بك.
وكذلك إذا قلت في اصتبر: اصطبر، فأنت6 قد قرَّبت التاء من الصاد بأن قلبتها إلى أختها في الإطباق7 والاستعلاء، والطاء8 مع ذلك من جملة مخرج التاء.
__________
1 في هـ: "للمتحرك" وفي د: " للمحرك".
2 ما بين القوسين سقط في د، هـ.
3 د، هـ: "أبعد".
4 كذا في هـ. وفي د: "المرموم" وفي ش: "الملزوم".
5 د، هـ: "توجه" والضمير المنصوب في "توجيه" للإدغام.
6 د، هـ: "فإنك".
7 كذا في د، هـ، ج. وفي ش "الطباق".
8 د، هـ فيهما زيادة بعد: "باقية".(2/231)
وكذلك إذا قلت في مصدر: مزدر فأخلصت الصاد زايًا , قد قربتها من الدال بما في الزاي من الجهر, ولم تختلجها1 عن مخرج الصاد. وهذه2 أيضًا صورتك إذا أشممتها رائحة الزاي فقلت: مصدر3، هذا المعنى قصدت، إلا أنك لم تبلغ بالحرف غاية القلب الذي فعلته مع إخلاصها4 زايًا.
فإن كان الحرفان جميعًا من مخرج واحد فسلكت هذه الطريق, فليس إلّا أن تقلب أحدهما إلى لفظ الآخر البتة, ثم تدغم لا غير. وذلك نحو: اطَّعن القوم, أبدلت تاء أطتعن طاء البتة, ثم أدغمتها فيها لا غير. وذلك أن الحروف إذا كانت5 من "مخرج واحد ضاقت مساحتها أن تدنى بالتقريب منها؛ لأنها إذا كانت معها"6 من مخرجها فهي الغاية في قربها, فإن زدت على ذلك شيئًا فإنما هو أن تخلص الحرف إلى لفظ أخيه البتة فتدغمه7 فيه لا محالة.
فهذا وجه التقريب مع إيثارهم الإبعاد.
ومن تدافع8 الظاهر ما تعلمه من إيثارهم الياء على الواو. وذلك لويت ليًّا, وطويت طيًّا, وسيد وهيّن "وطيّ"9 وأغريت10 ودانيت, واستقصيت, ثم إنهم مع ذلك قالوا: الفتوى والتقوى والثنوى, فأبدلوا الياء واوًا عن غير قوة علة أكثر من الاستحسان والملاينة.
__________
1 أي: لم تنتزعها وتجتذبها.
2 د، هـ: "هذا".
3 ينبغي أن يكتب فوق الصاد هنا زاي صغيرة إشارة إلى الإشمام, وانظر سر الفصاحة ص22.
4 د، هـ "إصلاحها".
5 د، هـ فيهما زيادة بعد: "معها".
6 سقط ما بين القوسين في د، هـ.
7 في د، هـ: "وتدغمه".
8 د، هـ، ز: "تباعد تدافع".
9 سقط في د، هـ.
10 كذا في ج، وفي، هـ: "أعربت", وفي ش: "أغويت", وهو مصحَّف عمَّا أثبت، وأغربت لامها واو. وأصل المادة الغراء وهو يقيد اللصوق، فإذا قبل: أغرى بيتهم العداوة, أي: ألصقها بهم. والأشبه أن يكون: "أغزيت" الغزو.(2/232)
والجواب عن هذا أيضًا أنهم -مع ما أرادوه من الفرق بين الاسم والصفة على ما قدمناه- أنهم1 أرادوا أن يعوضوا الواو من كثرة دخول الياء عليها.
ومثله في التعويض لا الفرق قولهم 2: تقي، وتقواء3، ومضى على مضوائه4، وهذا أمر5 ممضوّ عليه.
ونحوه في الإغراب قولهم: عوى الكلب عوة, وقياسه عيَّة. وقالوا في العلم للفرق بينه وبين الجنس: حَيْوة وأصله حيَّة, فأبدلوا الياء واوًا. وهذا -مع إيثارهم خص العلمِ بما ليس للجنس- إنما هو لما قدمنا ذكره: من تعويض الواو من كثرة دخول الياء عليها.
فلا ترينَّ من ذلك شيئًا ساذجًا عاريًا من غرض وصنعة.
ومن ذلك استثقالهم المثلين, حتى قلبوا أحدهما في نحو: أمليت -وأصلها أمللت- وفيما حكاه أحمد بن يحيى -أخبرنا به أبو علي عنه- من قولهم: لا وربيك لا أفعل, يريدون: لا وربك لا أفعل. نعم, وقالوا6 في أشد من ذا:
ينشب في المسعل واللهاء ... أنشب من مآشر حداء7
__________
1 أعيد "أنهم" توكيدًا لطول الفصل.
2 زيادة من د، هـ.
3 فالواو في تقواء أصلها الياء. إذ مادة الوقاية يائية اللام.
4 المضواء: التقدم.
5 د، هـ: "الأمر".
6 القائل واحد منهم، ونسب القول إليهم, أي: إلى العرب لاشتراكهم جميعًا في إمضائه.
7 قبله: يا لك من تمر ومن شيشاء
والشيشاء من التمر: الشبص، وهو الذي لا يشتدّ نواه. والمسعل موضع السعال من الحلق، واللهاء أصله اللهي، واحدها لهاة, وهي اللحمة المشرفة على الحلق. والمآشر أصله المآشير جمع المئشار وهو المنشار وتراه يصف الثمر بأنه يعلق في الحلق لما فيه من اللين, وأنه ليس بيابس قحل. وانظر اللسان "حدد، وشيش"!(2/233)
قالوا: يريد حداد1، فأبدل الحرف الثاني, وبينهما ألف حاجزة, ثم قال2 مع هذا:
لقد تعللت على أيانق ... صهب قليلات القراد اللازق3
فجمعوا بين ثلاثة أمثال مصحَّحة, وقالوا: تصببت عرقًا.
وقال العجاج:
إذا حجاجا مقلتيها هججا4
وأجازوا في مثل فرزدق من رددت رَدَدّد, فجمعوا بين أربع دالات, وكرهوا أيضًا حنيفي, ثم جمعوا بين أربع ياءات فقال بعضهم: أمَيِّيّ5 وعَدِتِّيّ, وكرهوا أيضًا أربع ياءات بينهما6 حرف صحيح حتى حذفوا الثانية منها. وذلك قولهم في الإضافة إلى أُسَيّدٍ: أُسَيْديّ, ثم إنهم جمعوا بين خمس ياءات مفصولًا بينهما بالحرف الواحد, وذلك قولهم في الإضافة إلى مُهيتم7 مُهَيّيمِىّ. ولهذه الأشياء أخوات ونظائر كثيرة.
والجواب عن كل فصل من هذا8 حاضر.
أمَّا أمليت فلا إنكار لتخفيفه9 بإبداله.
__________
1 ج: "حدادًا".
2 كذا في د، هـ. وفي ش: "قالوا".
3 جاء هذا الرجز في اللسان "قرد" من غير عزو, وعقَّبه بقوله: "عني بالقراد الجنس؛ فلذلك أفرد نعتها وذكره. ومعنى (قليلات القراد" أن جلودها ملس لا يثبت عليها قراد، سمان ممتلئة". وانظر النوادر لأبي زيد 129.
4 الحجاج -بفتح الحاء وكسرها: منبت شعر الحاجب من العين, ويقال هجج البعير إذا غارت عينه من جوع أو عطش أو إعياء غير خلقة. وهذا في وصف ناقته وقبله:
تعدو إذا ما بدنها تفضجا
يقال: تفضح عرقًا: سال عرقه. يقول: إنها تعدو في حال الإعياء والكلال، حين عرفها وحين غثور حجاجي عينها: وانظر الديوان.
5 انظر ص72ج2 من الكتاب، وشرح الشافية للرضي 2/ 30.
6 أي: بين الياءين المشددتين اللتين مجموعها أربع ياءات.
7 هو تصغير مهوم، وهو وصف من هوم الرجل إذا نام. والياء الساكنة يعد ياء التصغير للتعويض من حذف إحدى الواوين. وانظر الكتاب 2/ 86، وشرح الشافية 2/ 34.
8 د، هـ. "هذه".
9 د، هـ: "في تخفيفه".(2/234)
وأما "تعللت" و"هججا" ونحو ذلك مما اجتمعت فيه ثلاثة أمثال فخارج على أصله، وليس من حروف العلة, فيجب تغييره. والذي فعلوه في "أمليت" و"لا وربيك لا أفعل", و"أنشب من مآشر حداء" لم يكن واجبًا فيجب هذا أيضًا، وإنما غيِّر استحسانًا, فساغ ذلك1 فيه، ولم يكن موجبًا لتغيير كل ما اجتمعت فيه أمثال, ألا ترى أنهم لما قلبوا ياء طيء ألفًا في الإضافة فقالوا: طائي, لم يكن ذلك واجبًا في نظيره لما كان الأول مستحسنًا.
وأما حنفيّ فإنهم لما حذفوا التاء شجَّعوا2 أيضًا على حذف الياء فقالوا: حنفي. وليس كذلك عديي وأمّييّ فيمن أجازهما، "ألا ترى"3 عديًّا لما جرى مجرى الصحيح في اعتقاب حركات الإعراب عليه -نحو: عديِّ وعديَّا وعدييِّ- جرى4 مجرى حنيف, فقالوا: عديِّيِّ كما قالوا: حنيفيّ. وكذلك أُمَيِّيّ أجروه مجرى نميريّ وعقيليّ. ومع هذا فليس أمّييّ وعدييّ بأكثر في كلامهم. وإنما يقولها بعضهم.
وأما جمعهم في مهييمي بين خمس ياءات, وكراهيتهم في أسيدي أربعًا, فلأن الثانية من أسيديّ لما كانت متحركة وبعدها حرف متحرك قلقت, لذلك وجفت. ولما تبعتها في مهييميّ ياء المد لانت ونعمت. وذلك من شأن المدات. ولذلك استعملن في الأرداف والوصول والتأسيس والخروج، وفيهن يجري الصوت للغناء والحداء والترنم والتطويح.
وبعد فإنهم إذا خفَّفوا في موضع وتركوا آخر في نحوه كان أمثل من ألا يخففوا في أحدهما, وكذلك جميع ما يرد عليك مما ظاهره ظاهر التدافع, يجب أن ترفق به ولا تعنف عليه ولا تسرع إلى إعطاء اليد بانتقاض بابه. والقياس القياس.
__________
1 سقط في د، هـ.
2 كذا في د، هـ، ج. وفي ش: "أجمعوا".
3 في ز: "الآن", وهو محرَّف عن "إلا أن".
4 د، هـ: "فجرى".(2/235)
باب في التطوع بما لا يلزم:
هذا أمر قد جاء في الشعر القديم والمولّد جميعًا مجيئًا واسعًا.
وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه ليدل بذلك على غُزره1 وسعة ما عنده. فمن ذلك ما أنشده الأصمعي لبعض الرجاز:
وحسدٍ أوشلت من حظاظها ... على أحاسي الغيظ واكتظاظها2
حتى ترى الجوّاظ من فظاظها ... مدلوليًّا بعد شدا أفظاظها3
وخُطَّةٍ لا روح كظاظها ... أنشطت عني عروتي شظاظها4
بعد احتكاء أربتي أشظاظها ... بعزمة جلت غشا إلظاظها5
بجك كرش الناب لافتظاظها6
__________
1 الغزر -بضم الغين وفتحها- الكثرة والغزارة.
2 جاء هذان للشطران في اللسان "حفظ"، و"كظظ". أوشل حظه: أقله وأخسه. والحفاظ واحده الحظ. والأحاسي كأنه جمع الحساء على غير قياس، وهو ما يشرب أو الشرب نفسه، والاكتظاظ من الكظة وهو الامتلاء من الطعام، ويقول ابن سيده كما في اللسان: "إنما أراد اكتظاظي عنها فحذف وأرسل، وهو يريد امتلاءه من الغمّ، ويريد بأحاسي الغيظ: تضمنه الغيظ منهم، الأنسب أن يكون احتساء الغبظ الاكتظاظ من الحد، والإضافة في "اكتظاظها" على وجهها، وانظر اللسان "حظظ، وكظظ، وحسا".
3 الجواظ، المتكبر الجافي. الفظاظ: الفظاظة. ويقال: اذلولي: ذلَّ وانكسر قلبه، والشدا بالدال المهملة، وفي اللسان بالذال المعجمة. والأول: الحد والبقية، والثاني: الحدة، وهو أيضًا الأذى. والأفظاظ واحده الفظ، وجاء الشطران في اللسان "فظظ".
4 الخطة: الخطب والأمر المهم. والروح: الراحة والنجاة من غمّ القلب، وأصله برد نسيم الريح، والكظاظ: الملازمة على الشدة، والشظاظ العود الذي يجعل في عروة الجوالق. وأنشط العقدة: حلها. يقول: إنه يحل بثاقب فكره وأصيل رأيه ما تعقَّد من الأمور وأشكل من الأحداث. وورد الشطران في اللسان "كظظ".
5 الأربة: العقدة. والإشظاظ مصدر قولك: أشظه: جعل فيه الشظاظ. واحتكاء الأربة أن يحكم شدها. والغشا جمع الغشوة وهو الغطاء، والإلظاظ: لزوم الشيء والمثابرة عليه. وورد الشطر الأول في اللسان "كظظ".
6 أفتظه: شق عنه الكرش أو عصره منها، والبج: الشق. وبج كرش الناب في المفارز عند الحاجه إلى الماء وورد هذا الشطر في اللسان "فظظ".(2/236)
فالتزم في جميعها ما تراه من الظاء الأولى مع كون الرويّ ظاء, على عزة ذلك مفردًا من الظاء الأول, فكيف به إذا انضمَّ إليه ظاء قبله1. وقلَّما رأيت في قوة الشاعر مثل هذا.
وأنشد الأصمعي أيضًا من مشطور السريع رائية طويلة التزم قائلها2 تصغير قوافيها في أكثر الأمر, إلا القليل النزر, وأولها:
عزَّ على ليلى بذي سدَير ... سوء مبيتي ليلة الغُمير3
مقبضًا نفسي في طمير ... تجمع القنفذ في الحجير4
تنتهض الرعدة في ظهيري ... يهفو إلى الزور من صديري5
مثل هرير الهرّ للهرير ... ظمآن في ريح وفي مطير
وأرز قرّ ليس بالقرير ... من لدما ظهر إلى سحير6
حتى بدت لي جبهة القمير ... لأربع غبرن من شهير7
__________
1 في ز: "الأولى" و"قبلها".
2 في العيني 3/ 429 على هامش الخزانة أن قائلها راجز من رجاز طيء. وهذه الأرجوزة اعندَّها المصنف من مشطور السريع. ويعدّها المتأخرون من مشطور الرجز, وقد جرى القطع في الجزء الأخير من الخبن.
3 ذو سدير: قرية لبني العنبر، والغمير: موضع بين ذات عرق والبسنان، وانظر معجم البلدان.
4 الطمير: مصغر الطمر، وهو الثوب البالي. وفي المثل السائر "النوع الرابع من المقالة الأولى" "طميري" والحجير مصغر الحجر.
5 "تنهض" كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "تنتقض". وما أثبت موافق لما في اللسان "نهض"، ولما في شواهد العيني على هامش الخزانة 3/ 429. والزور: أعلى الصدر أو وسطه، أو هو الصدر. والمناسب هنا أحد المعنيين الأولين.
6 الأرز: شدّة البرد. يقال: ليلة آرزة. وقد ورد الشطر الأول في اللسان "أرز"، والشطر الثاني ورد في اللسان, وفي شواهد العيني بعد الشطر السابق.
تنتهض الرعدة في ظهيري
هكذا:
من لدن الظهر إلى العصير
7 "غبرن" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "خلون".(2/237)
ثم غدوت غرضًا من فوري ... وقطقط البلة في شعيري1
يقذفني مور إلى ذي مور ... حتى إذا ورَّكت من أيبري2
سواد ضيفيه إلى القصير ... رأت شحوبي وبذاذ شوري3
وجردبت في سمل عفير ... راهبة تكنَّى بأم الخير4
جافية معوى ملاث الكور ... تتحزم فوق الثوب بالزنير5
__________
1 غرضًا أي: قلقًا. وفي د، هـ، ز: "حرصًا" وهو محرّف عن "حرضًا" وهو المريض، والقطقط: صغار البرد -بفتح الراء- وهو المطر المتفرق، وانظر اللسان "بلل" ففيه الشطر الأخير.
2 المور: الطريق. وقوله: "ذي مور" فكأنه "ذي" ملغاة في التقدير، وكأنه قال: إلى مور. وقوله: "أييرى" تصغير الأير، وهو الذكر. وقوله: "من أييري" كذا في اللسان, "ورك" إذ جاء هذا الشطر والشطران بعده. وفي نسخ الخصائص: "في أبيري". وورد في اللسان "ضوف" "أتير" وهو تصحيف, ويقال: ورك الشيء: جعله حيال وركه.
3 الضيف في الأصل: جانب الوادي، استعارة للذكر، وسواد الضيفين كأنه يريد شخص الذكر ومعظمه, وقد قرأها من نسخ من ش: "سواء" أي: وسط. وهو قريب من "سواد", فإن سواد الشيء شخصه ومعظمه, والقصير تصغير القصر, وهو مع القصرة لأصل العنق. وقد جمع القصرة وما حولها فأتى بلفظ الجمع. والبذاذ: سوء الحالة ورثاثتها. والشور: الزينة. وقوله: "شحوبي" كذا في ش واللسان، وفي د، هـ، ز: "شجوني".
4 جردبت: أي بخلت بالطعام. والجردبة في الطعام أن يستر ما بين يديه في الطعام بشمال لئلّا يتناوله غيره. والسمل: الخلق من الثياب. وعفير: كأنه تصغير أعفر, على تصغير الترخيم, أي: مصبوغ بصبغ بين البياض والحمرة. وانظر اللسان "عفر".
5 ورد الشطر الأول في اللسان "كور". والمعوي: مكان العي, وهو الليّ والعطف والثنى. يقال: عوى الشيء يعويه، والملاث كذلك من اللوث, يقال: كار العمامة لفهاولواها. وكأنه يصف غطاء رأسها، وأنها قلقه على رأسها, لفة جافية: غير رقيقة, والزنير لغة في الزنار. وهو ما يلبسه النصراني يشده في وسطه, وقد ورد الشطر وما بعده في اللسان "زنر".(2/238)
تقسم أستيّا لها بنير ... وتضرب الناقوس وسط الدير1
قبل الدجاج وزقاء الطير ... قالت ترثِّي لي ويح غيري
إني أراك هاربًا من جور ... من هذه السلطان قلت جير2
ما زلت في منكظة وسير ... لصبية أغيرهم بغير3
كلهم أمعط كالنغير ... وأرملاتٍ ينتظرن ميري4
قالت ألا أبشر بكل خير ... ودهنت وسرحت ضفيري5
وأدمت خبزي من صبير ... من صير مصرين أو البحير6
وبزييت نمس مرير ... وعدس قشّر من قشير7
__________
1 الأستي: الثوب المسدَّى. والنير: العلم في الثوب. وهو بكسر النون، وكأنَّ فتح النون للضرورة والخروج من عيب السناد.
2 "من جور" في اللسان "جير": "للجور", حيث ورد هذا البيت. والسلطان: قدرة الملك يذكر ويؤنث، كما هنا. وفي اللسان: "هدّة السلطان" والهدّ: الكسر والظلم.
3 ورد الشطران في اللسان "نكظ". والمنكظة: الجهد في السفر والشدة، و"أغيرهم" أي: أميرهم، والغير: هو المير أمي إحضار الميرة وهي الطعام يجلب.
4 الأمعط: من لا شعر على جسده. والنفير: طائر يشبه العصفور.
5 ورد الشطر الأخير في اللسان "ضفر". والضفير تصغر الضفر -بسكون الفاء- وهو خصلة الشعر.
6 ورد الشطران في اللسان "صير، ومضر", الصير: سمك مملوح يتخذ منه طعام، و"عصرين" ضبط بكسر الراء وفتح النون على صيغة الجمع، وكأنه أراد: مصر, فجمعها باعتبار تعدد أقالميها, فكأن كل إقليم منها مصر. وضبط أيضًا بالتثنية، وهذا هو الأقرب, ويراد البصرة والكوفة، وكان عليه أن يقول: المصرين، ولكن لم يتهأ له ذلك لضيق الوزن. وقوله: "أو البحير" فالأقرب أن يريد "البحرين", ويرى بعضهم أنه يريد البحر فصغَّره.
7 ورد الشطر الأول في اللسان "نمس"، والآخر فيه "فشا"، والنمس: الفاسد المتغير. وفي د، هـ، ز: "نمش" وهو تصحيف. وقوله: "قشر" كذا في ش. وفي ز، واللسان: "فشى" هو بمعناه.(2/239)
وقبصات من فغى تمير ... وأتأرتني نظرة الشفير1
وجعلت تقذف بالحجير ... شطري وما شطري وما شطيري
حتى إذا ما استنتفدت خبيري ... قامت إلى جنبي تمسّ أيري2
فزفَّ رألى واستطير طيري ... وقلت: حاجاتك عند غيري3
حُقِّرت ألا يوم قُدَّ سيري ... إذ أنا مثل الفلتان العير4
حمسًا ولا إضت كالنسير ... وحين أقعيت على قبيري5
أنتظر المحتوم من قديري ... كلا ومن منفعتي وخيري6
بكفه ومبدئي وحوري7
أفلا ترى إلى قلة غير المصغّر في قوافيها, وهذا أفخر ما فيها، وأدله على قوة قائلها، وأنه إنما لزم التصغير في أكثرها سباطة وطبعًا، لا تكلفًا وكرهًا؛ ألا ترى أنه
__________
1 القبصات جمع القبصة -وهو بضم القاف وفتحها: ما تناولته بأطراف أصابعك. والفغي: الرديء، وقد كتب في اللسان بالياء كما ترى. ويقال: أتأره بصره. أتبعه إياه. والشفير تصغير الشفر، وهو للعين ما نبت عليه الشعر.
2 ورد الشطر الأخير مع الشطر الأول من البيت التالي في اللسان "رأل".
3 الرأل: ولد النعام، وزفيفه: سرعته. ويقال: زفَّ رأله إذا فزع ونفر, يريد أن فيه وحشية كالرأل. ويقال: استطير الرجل: فزع، واستطير طيره: كناية عن فزعه.
4 "حقرت" يدعو عليها بالتحقير. وقوله: "ألا يوم قُدَّ سيري" أي: هلا كان ما تبغين مني ومراودتك إياي عن نفسي في شبابي وقوتي. والسير: واحد السيور، وهو ما يقدّ من الجلد، وقد سيره: قد يريد به أنه طليق غير مقيد, فقدَّ قطع قيده، أو يريد جدته بجدة سيره، والسير: الحمار الوحشي. والفلتان: الجريء، ويقال: فرس فلتان: نشيد حديد الفؤاد.
5 حمسًا, أي: شدة وقوة ونشاطًا. وهو راجع إلى قوله قبل: "إذ أنا مثل الفلتان". والنسير: تصغير النسر.
6 القدير تصغير القدر -بفتح الدال- وهو ما قدره الله وقضاء على العبد.
7 الحرر: الرجوع.(2/240)
لو كان ذلك منه تجشمًا وصنعة لتحامي غير المصغَّر ليتمَّ له غرضه، ولا ينتقض عليه ما اعتزمه.
وكذلك ما أنشده الأصمعي من قول الآخر:
قالوا ارتحل فاخطب فقلت هلَّا ... إذ أنا روقاي معًا ما انفلاَ1
وإذ أؤل المشي ألْا ألَّا ... وإذ أنا أرى ثوب الصبا رفلاَ2
علي أحوي نديًّا مخضلّا ... حتى إذا ثوب الشباب ولَّى
وانضمَّ بدن الشيخ واسمألَّا ... وانشنج العلباء فاقفعلّا3
مثل نضي السقم حين بلّا ... وحرّ صدر الشيخ حتى صلّا4
على حبيب بان إذ تولَّى ... غادر شغلًا شاغلًا وولَّى5
قلت تعلق فيلقًا هوجلّا ... عجاجة هجاجة6 تألَّى
__________
1 روقاي: قرناي, والانفلال: الائتلام, يريد: قوة الشباب واجتماع أسباب الحمية والأنفة، وضرب الروقن مثلًا لأنَّ الحيوان يدفع بهما.
2 أوّل المشي: أسرع فيه واهتز, ويقال: ثوب رفل: طويل. وأصل ذلك في الفرس الرفل، وهو الطويل الذيل.
3 البدن مصدر بدن, وبدن من بابي كرم ونصر إذا سمن. ويريد به هنا: الشحم الذي به يكون سمينًا، وانضمامه: تقبضه ونقصه، يريد هزاله. واسمألّ: ضمر. وانشنج: تقبض, والعلباء: عصب العتق. واقفعل: يبس من الكبر. وقد ورد الشطر الأول في اللسان في "بدن"، والشطر الأخير مع ما بعده في "نضا".
4 "نضي" كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "بطيّ", والنضي: الذي أبلاه السفر. ويقال: بلّ من عرضه: شفى ونجا. وحر صدره: اشتدت حرارته وصلا الألف فيه للإطلاق، يقال: صل صليلًا: صوت.
5 كأنه يريد بالحبيب المولى الشباب.
6 الفيلق: الصخابة، والهوجل: المرأة الفاجرة، وشدده إجراء للوصل مجرى الوقف. والعجاجة: الصياحة. والهجاجة: الحمقاء، ويقال لذكر أيضًا، وهو الوارد في المعاجم، وتألَّى أصله تتألَّى, أي: تقسم. والمقسم عليه ما يأتي في البيت بعد. وقوله: "قلت تعلق" البيت جواب قوله قبل: "إذا ثوب الشباب ولّى" وورد البيت في اللسان في "فلق".(2/241)
لأصبحنّ الأحقر الأذلَّا ... وأن أعلَّ الرغم علَّا علَّا1
فإن أقل يا ظبي حلَّا حلَّا ... تقلق وتعقد حبلها المنحلّا2
وحملقت حوليّ حتى احولَّا ... مأقان كرهان لها واقبلّا3
إذا أتت جارتها تفلَّى ... تريك أشغى قلحًا أفلّا4
مركَّبًا راو وله مثعلّا ... كأن كلبًا لثقًا مبتلّا5
وغلفة معطونة وجلّا ... أنداه يوم ماطر فطلّا6
وعلهبا من التيوس علّا ... يغل تحت الردن منها غلّا7
منتوفة الوجه كأن ملاّ ... يمل وجه العرس فيه ملاّ8
كأن صابًا آل حتى امطلّا ... تسفه وشبرما وخلّا9
إن حلَّ يومًا رحله محلّا ... حَمْوٌ لها أزجت إليه صِلّا10
__________
1 ورد الشطر الأخير في اللسان، وقال عقبه: "جعل الرغم بمنزلة الشراب, وإن كان الرغم عرضًا، كما قالوا: جرعته الذل. وعداه إلى مفعولين".
2 في ز: "يا طمر" بدل "يا ظبي" والطمر: الثوب البالي، ناداها بالظبي تهكمًا، وناداها بالطمر لبلائها وقدمها, و"حلّا" أي: تحللي مما عزمت عليه، يقال لمن أقسم على شيء: حلّا أي: تحلل من يمينك، وتقلق: تضجر، وعقد حبلها كأنها تريد الرحيل والانصراف عنه.
3 حملق إليه: نظر نظر شديدًا. والإقبيلال من القبل, وهو إقبال إحدى الحدقتين على الأخرى. وكرهان: مكروهان. وورد البيت في اللسان "كره".
4 أشغى وصف من الشغاء, وهو اختلاف نبتة الأسنان بالطول والقصر. والأفلّ: المتثلم المتكسر.
5 الراوول: السن الزائدة لا تنبت على نبتة الأضراس. والمثعل من الثعل, وهو دخول سن تحت أخرى. وورد الشطر الأول مع ما قبله في اللسان "رول". واللثق: المبتل النديّ.
6 الغلفة: عشبة تنفع في مائها الجلود فيزول ما عليها. والجل: كأنه يريد به ما تلبسه الدابة لتصان به.
7 العلهب: التيس من الظباء, والعلّ: الضخم من التيوس. ويغل يدخل, يقال: غله: أدخله. والردن: أصل الكم. رود الشطر الأول في اللسان "علل".
8 الملل: الرماد الحار الذي يحمي ليدفن فيه الخبز لينضج، ويقال: مل الشيء في الجمر، أدخله فيه.
9 آل: خثر، وامطلّ: امتد، وورد الشطر الأول في اللسان "مطل". والشبرم: نبات له حسب كالعدس.
10 حمو المرأة فريب زوجها؛ كأبيه وأخيه. وأزجت: ساقت. والعمل: الداهية، وأصله: الحية. يريد أنها آذنه أبلغ إيذاء.(2/242)
وعقربًا تمتلّ ملًّا ملَّا ... ذاك وإن ذو رحمها استقلّا1
من عثرة ماتت جوى وسلّا ... أو كثر الشيء له أو قلّا
قالت لقد أثرى فلا تملَّى ... وإن تقل يا ليته استبلّا
من مرض أحرضه وبلّا ... تقل لأنفيه ولا تعلَّى2
تسر إن يلق البلاد فلّا ... مجروزة نفاسة وغلّا3
وإن وصلت الأقرب الأخلّا ... جنت جنونًا واستخفت4 قلّا
وأجللت من ناقع أفكلّا ... إذا ظبي الكنسات انغلّا5
تحت الإران سلبته الظلّا ... وإن رأت صوت السباب علَّى6
سحابة ترعد أو قسطلّا ... أجت إليه عنقًا مثلّا7
أج الظلم رعته فانشلّا ... ترى لها رأسا وأي قندلّا8
__________
1 تمتل: تسرع, واستقلَّ من العثرة: نهض منها وارتفع.
2 هذا البيت والشطر الذي قبله في اللسان "علا", وتعلّ: ارتفع وبرأ من مرضه, وقوله: "لأنفيه" كأنها تريد: رغم لأنفيه، تدعو عليه بالذل. وأنفاه: منخراء، أي: جانبا الأنف.
3 الفلّ: الأرض الفقر. ويقال: أرض مجروزة. لا تثبت. والنفاسة: مصدر قولك: نفس -من باب فرخ- عليه الشيء: لم يره أهلًا له. وقوله: "إن يلق البلاد" في ز: "أن يلقي البلاد" وورد البيت في اللسان "حرز".
4 الأخل: المعدم المحتاج. والقل: الرعدة.
5 "أجللت" كذا في النسخ، وكأن الصواب: "جللت" أي: غشيت، والأفكل: الرعدة، وكأنه يريد بالناقع السم، وكأنّ الكلام على القلب, أي: جللت سمًّا من الأفكل الذي اعتراها، والكنسات جمع الكنس -بوزن الكتب- جمع الكناس، وهو ما يستكن فيه الوحش من الظباء والبقر. وأنغل دخل. ورد الشطر الأخير مع ما بعده في اللسان "كنس".
6 الإران: كناس الوحش.
7 القسطل: الغبار. وأجّ: أسرع في سيره، ومثلّا: سريعًا.
8 انشل مطاوع شله أي: طرده. والوأي: الشديد الخلق: والقندل: الضخم، وثقله للضرورة.(2/243)
لو تنطح الكنادر العتلّا ... للكندر الزوازي الصملّا1
الصتم والشنظيرة المتلّا ... فمضت شئون رأسه وأفتلّا2
تقول لأبنيها إذا ما سلّا ... سليلة من سرق أو غلّا3
أو فجعا جيرتها فشلّا ... وسيقة فكرّشا وملّا4
أحسنتما الصنع فلا تشلّا ... لا تعدما أخرى ولا تكلّا5
يا ربِّ ربَّ الحج إذ أهلّا ... محرمه ملبيًا وصلَّى
وحلّ حَبْلَى رحله إذ حلّا ... بالله قد أنضى وقد أكلّا
وأنقب الأشعر والأظلّا ... من نافه قد انضوى واختلّا6
يحمل بلو سفر قد بلَّى ... أجلاده صيامه وألّا7
__________
1 الكنادر: الغليظ من حمر الوحش؛ والعتل: الصلب الشديد, والكندر: الغليظ أيضًا, والزوازي: القصير الغليظ. والصمل: الشديد الحلق العظيم. وقد ورد الشطر الأول مع الشطر الأخير من البيت التالي في اللسان "فلل".
2 الصتم: الضخم الشديد. والشنطيرة: البذيء السيئ الخلق. والمنثل: الشديد. وافتل: سلم وتكسر. والشئون: مجاري الدموع إلى العين.
3 اليسل: السرقة. والسليلة: مصغر السلة: وهي اسم السرقة، والغلول الخيانة.
4 الشل: الطرد. والوسيقة: القطعة من الإبل المجتمعة, فإذا سرقت ذهبت معًا. وكرشا: أي: طبخًا اللحم في الكرش، وملّا: وضعاه في الملة وهي الجمر الحار. وانظر اللسان "كرش" ففيه الشطران.
5 لا تشلّا: لا يصيبكما الشلل.
6 الأشعر: ما استدار بالحافر من منتهى الجلد حيث تنبت الشعرات حوالي الحافر. والأظل: ما تحت منسم البعير. والنافه: البعير المعيي الكال. وانضوى: هزل، والوارد الثلاثي. واختلّ: هزل ونحف. وفي د، هـ، ز: "انطوى" في مكان "انضوى".
7 بلو السفر: الذي أبلاه السفر وأهزله. وأجلاده: شخصه, وبلاها الصوم: أهزلها. وقوله: "وألا يزال نضو غزوة" أي: بلاء أيضًا كثرة غزوه وجهاده في سبيل الله.(2/244)
يزال نضو غزوة مملّا ... وصّال أرحام إذا ما ولَّى1
ذو رحم وصّله وبلّا ... سقاء رحم منه كان صلّا2
وينفق الأكثر والأقلّا ... من كسب ما طاب وما قد حلّا
إذا الشحيح غلّ كفًّا غلّا ... بسط كفيه معًا وبلّا3
وحلّ زاد الرحل حلًّا حلّا ... يرقب قرن الشمس إذ تدلَّى
حتى إذا ما حاجباها انفلَّا ... تحت الحجاب بادر المصلَّى4
أحذى القطيع الشارف الهبلّا ... فجال مخطوف الحشَى شملّا6
حتى إذا أوفى بلالًا بلّا ... بدمعه لحيته وانغلّا7
بها وفاض شرقًا فابتلّا ... جيب الرداء منه فارمعلّا8
وحفز الشأنين فاستهلَّّا ... كما رأيت الوشلين انهلّا9
__________
1 "نضو غزوة"، كذا في ش، وكتب في هامشها: "نقض", وكذا هو "نقض" في د، هـ، ز. والنقض: المهزول.
2 "وصله" الضمير المنصوب يعود على الرحم، والمعروف فيها التأنيث، وكأنه أراد بالرحم قرب النسب فذكر. يقول: إنه يبل سقاء الرحم بالصلة، وهذا استعارة، جعل للرحم سقاء وقرابة ووصف أن سقاء الرحم كان قد يبس حتى صوت من القطيعة.
3 ورد هذا البيت في اللسان "بسط".
4 "انغلّا تحت الحجاب" أي: دخلا تحته، يريد غروب الشمس.
5 الخل: الطريق في الرمل، وتسدّاه: علاه وركبه، ونضوه: بعيره المهزول.
6 القطيع: السوط. والشارف: المسنّ من النوق، والشمل: السريع. ويقال: أحذاه: أعطاه. أراد أنه ينحي على المطية بالسوط, فكأنه يعطيها إياه.
7 "بلالًا" يبدو أنه محرف من "ألالا" وألال: جبل بعرفات، يريد أنه وصل إلى عرفات، فهناك يبكي من ذنبه ويدعو الله سبحانه.
8 أرمعلّ: ابتلّ.
9 الشأنان: عرقان يخدران من الرأس إلى الحاجبين ثم إلى العينين, وقوله: "الشأنين" كذا في ش. وفي د، هـ، ز:"الشأنان", والوشل: الماء القليل يتحلّب من صخرة أوجبل يقطر قليلًا قليلًا.(2/245)
حتى إذا حبل الدعاء انحلّا ... وانقاض زبرا جاله فابتلّا1
أثنى على الله علا وجلّا ... ثم انثنى من بعد ذا فصلَّى2
على النبي نهلًا وعلّا ... وعمّ في دعائه وخلّا3
ليس كمن فارق واستحلّا ... دماء أهل دينه وولَّى
وجهته سوى الهدى مولَّى ... مجتنبًا كبرى الذنوب الجلّى
مستغفرًا إذا أصاب القلَّى ... لما أتى المزدلفات صلَّى4
سبعًا تباعًا حلهن حلّا ... حتى إذا أنف الفجير جلَّى
برقعه ولم يسرّ الجلّا ... هب إلى نضيه فعلَّى5
رحيله عليه فاستقلّا
التزم اللام المشددة من أولها إلى آخرها؛ وقد "كان"6 يجوز له معها7 نحو: قبلًا ونخلًا، ومحلًا، فلم يأت به.
ومثله ما رويناه لأبي العالية من قوله:
إني امرؤ أصفي الخليل الخلّه ... أمنحه ودّي وأرعى إلَّه8
وأبغض الزيارة المملَّه ... وأقطع المهامه المضلَّه
__________
1 الزبر: طيّ البئر بالحجارة، والجال: جانب البئر، وانقاض: تصدَّع وتشقق كأنما الدموع كانت محجوزة فتصدع حجازها وحجابها, فانسكبت فابتل الرجل منها, وورد البيت في اللسان "زبر".
2 "انثنى" كذا في د، هـ، ز وفي ش: "ثنى", وقد ورد الشطر الأخير مع ما بعده في اللسان "علل".
3 خل في دعائه: خصص. وورد في اللسان "خلل" هذا البيت:
قد عمّ في دعائه وخلّا ... وخطّ كانباه واستملّا
4 يريد بقوله: "صلى سبعًا": صلى العشاء وسنتها ووترها.
5 الجل -بالضم والفتح- ما تلبسه الدابة لتصان به، يريد أنه لا يزال بعض الضلام، فهو لم يلق جله كله حتى ينكشف ظهره.
6 سقط في ش
7 في د، هـ، ز: "فيها".
8 الخلة: الود والصداقة، والإل: الحلف والعهد.(2/246)
لست بها لركبها تعلَّه ... إلّا نجاء الناجيات الجلّهْ1
على هبلِّ أو على هِبِلَّهْ ... ذات هباب جسرة شملّه2
ناجية في الخرق مشمعلّهْ ... تنسلُّ بعد العقب المكلّه3
مثل انسلال العضب من ذي الخلَّه ... وكاشح رقيت منه صلّه4
بالصفح عن هفوته والزلَّه ... حتى استللت ضغنه وغلّه5
وطامح ذي نخوة مدلّه ... حملته على شباة ألّه6
ولم أملَّ الشر حتى ملَّه ... وشنج الراحة مقفعلَّه7
ما إن تبضّ كفه ببلّه ... أفاد دثرًا بعد طول خلّه8
وصار ربَّ إبل وثلَّه ... لما ذممت دقه وجلّه9
تركته ترك ظبيٍّ ظلّه ... ومعشر صيد ذوي تجلّه
ترى عليهم للندى أدلّه ... سماؤهم بالخير مستهلّه
__________
1 الجملة: المسانّ. واحدها جليل؛ كصبي وصبية.
2 الهباب: النشاط، والجمرة: الماضية.
3 الخرق: القفر والأرض الواسعة تتحرق فيها الرياح، والمشمعلة: النشيطة، والعقب: جمع العقبة، وهي النوبة، ويراد بها مسافة من السير.
4 العضب: السيف، وذو الخلة: الغمد. والخلة: بطانة يغشى بها الغمد. والكاشح: مضمر العداوة، وصله: حقده وبغضته، وأصل الصل للجية لا تنفع فيها الرقبة.
5 في د، هـ، ز: "امتألت" ولم يظهر وجهها.
6 الآلة: الحربة. وشباتها: حدّها.
7 شنج الراحة: منقبضها. وهذا كناية عن البخل. والانفعلال: البيس. و"مقفعلة" كأنه حال من الراحة أي: حال كونها مقفعلة، وقد يكون وصف "شنج الراحة", فالأصل: "مقفعلة" بهاء الضمير في آخره، وهو يعود على الراحة على تأويلها بمذكر كالعضوء.
8 البلة: الخير والرزق. والدثر: المال الكثير، والخلة: الحاجة.
9 الثلة: القطعة من الغنم.(2/247)
أوفى بهم دهر على مزلّه ... ثم تلفّاهم بمصمئلّه1
فبدّلت كثرتهم بقلّه ... وأعقبت عزتهم بذلّه
وغادروني بعدهم ذا غلَّه ... أبكيهم بعبرة منهلّه
ثم صبرت واعتصمت بالله ... نفسًا بحمل العبء مستقلَّه2
ودول الأيام مضمحلّه ... يشعبها ما يشعب الجبلّه
تتابع الأيام والأهلًّه
وأنشدنا أبو علي:
شلَّت يدًا قارية فرتها ... وفقئت عين التي أرتها3
مسك شبوب ثم وفَّرتها ... لو خافت النزع لأصغرتها4
فلزم التاء والراء، وليست واحدة منهما بلازمة. والقطعة هائية لسكون ما قبل الهاء, والساكن لا وصل له. ويجوز مع هذه القوافي ذرها5 ودعها.
وأنشد ابن الأعرابي ليزيد بن الأعور الشنيّ وكان أكرى بعيرًا له, فحمل عليه محملان أوّل ما علمت المحامل. وهو7 قوله:
__________
1 المزلة -بفتح الزاي وكسرها- موضع الزلل: والمصمئلة: الداهية.
2 تقرأ "بالله" باختلاس فتحة اللام في لفظ الجلالة.
3 فرشها: قدرتها وعملها. وهو حديث عن دلو من جلد، وانظر اللسان "فرى".
4 الشبوب: الشاب من الثيران، ومسكه: جلده، ويقال: أصغر القربة: خرزها صغيرة، و"مسك شبوب" مفعول "أرتها" قبله. ويقال: "وفر المزاد إذا لم يقطع من أديمها فضلته, يدعو على المرأة التي أرت الخارزة مسك الشوب, فعملت منه الدلو التي يستقي بها: وينزع من البئر.
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "خذها"، وهذا على أن الرويّ الهاء، وهذا مذهب المتقدمين، ويرى بعض العروضين أن الرويّ التاء، فلا يجوز حذفها ونحوه. وانظر مقدمة اللزوميات للمعري.
6 المحمل -بزنة مجلس ومقود- شقان على البعير، يركب في كل شقٍّ راكب يكون عديلًا للآخر. وقد عملت في زمن الحجاج الثقفي, ونسبت إليه. وانظر اللسان "حمل".
7 كذا في ش. وفي د، ز: "هي".(2/248)
لما رأيت محمليه أنَّا ... مخدّرين كدت أن أجنَّا1
قرّبت مثل العلم المبنَّى ... لا فاني السنِّ وقد أسنَّا2
ضخم الملاط سبطًا عبنَّا ... يطرح بالطرف هُنَا وهَنّا3
وافتنَّ من شأو النشاط فنَّا ... يدقّ حنو القتب المحنَّى5
إذا علا صوَّانة أرنَّا ... يرمعها والجندل الأغنَّا6
ضخم الجفور سهبلًا رفنَّا ... وفي الهباب سدمًا معنَّى7
كأنما صريفه إذ طنَّا ... في الضالتين أخطبانٌ غنَّى8
__________
1 "أنا" من الأنين، يريد أنهما صوتًا, وجاء في آخر اللسان "هنا": "هنا" بدل "أنا", وهو ظرف في معنى "هنا", والمفعول الثاني على عدَّ هو "مخدرين". و"مخدرين" أي: عليهما حدور وستور.
2 العلم: القصر، والمبني: المبني, شبه بعيه بالقصر المبني, وقد أورد صاحب اللسان البيت في "بنى" وفسره.
3 يقال: جمل عين: ضخم، والملاط: الجنب.
4 المسحل والمثبَّى: ضربان من الحبال، فالمسحل: الحبل يفتل وحده، وكأن المثنى ما يفتل مرتين.
5 المحنَّى: وصف من حنى الشيء: حناه وعطفه. وورد الشطر الأخير والشرط الذي بعده في اللسان "حنى"، وحنوه: ما أعوج منه.
6 الصوّانة: ضرب من الحجارة شديد، وجمعه صوّان. وفي اللسان "حنا"، وز "صوانه". واليرمع: حجارة رخوة, وقد استعمل "أرن" متعدية، أي: جعل اليرمع والجندل يرن ويصبح.
7 الجفور: جمع جفرة -بضم الجيم- وهو جوف الصدر. وجفرة الفرس: وسطه، والمعروف جمع الجفرة على جفر وجفار. والسهيل: الجرئ. وفي: ز، "سجلّا" وهو الضخم. والرفن: الطويل الذيل، وهو مبدل من الرفل، والسدم: الهائج. والمعنى: الذي حبس ومنع الضراب، فهو أقوى له.
8 الضالتان: تتنيه الضالة، وهي ضرب من الشجر، والأخطبان: طائره, وقوله: "في الضالتين" متعلق بقوله: "عنى", ويقرب من هذا قول بشر في الأخطب:
إذا أرقلت كأن أخطب ضالة ... على خدب الأنياب لم يتئلم
وانظر التكملة للصاغاني "خدب".(2/249)
مستحملًا أعرف قد تبنّى ... كالصدع الأعصم لما اقتنّا1
يقطع بعد الفيف مهوأنّا ... وهو حديد القلب ما ارفأنّا2
كأن شنًا هزِمًا وشنّا ... قعقعه مهزج تغنَّى3
تحت لبان لم يكن أدنَّا4
ألتزم النون المشددة في جميعها على ما تقدم ذكره.
وقال آخر:
إليك أشكو مشيها تدافيا ... مشي العجوز تنقل الأثافيا5
فالتزم الفاء وليست واجبة.
وقال آخر:
كأن فاها واللجام شاحيه ... جنوا غبيط سلس نواحيه6
__________
1 "مستحملًا أعرف" أي: حاملًا سنامًا، ويقال: سنام أعرف، أي: طويل ذو عرف، وتبنَّى: سمن، والصدع: الوعل الشاب القوي، والأعصم: ما في ذراعيه أو أحدهما بياض وسائره أسود أو أحمر. وانتن. انتصب على القنة، وهو افتعال منها, وجاء الشطر الأخير في اللسان "فتن".
2 الفيف: المكان المستوي, أو المفازة لا ماء فيها. والمهوان: ما اطمأنّ من الأرض واتسع. ورفأنّ: نفرتم وسكن وضعف واسترخى.
3 الشنّ: القرية الخلق الصغيرة. والهزم من قولهم: تهزم السقاء إذا يبس فتكسر، أو من قولهم: فرس هزم الصوت، يشبه صوته بصوت الشن. وذلك أنه إذا كان متشققًا كان له صوت.
4 اللبان: الصدر، وأدنّ وصف من الدنن، وهو انحناء في الظهر.
5 التدافي: شيء جاف: أو هو المشي في شق.
6 شاحيه: فاتحه. والغبيط: رجل يوضع على ظهر البعير.(2/250)
التزم الألف والحاء والياء, وليست واحدة منهنَّ لازمة؛ لأنه قد يجوز مع هذه القوافي نحو:1 يحدوه ويقفوه, وما كان مثله. وأنشد أبو الحسن:
ارفعن أذيال الحقيّ وأربعن ... مشي حييات كأن لم يفزعن2
إن تمنع اليوم نساء تمنعن
فالتزم العين وليست بواجبة.
وقال آخر:
يا رُبَّ بكر بالرداقى واسج ... اضطره الليل إلى عواسج2
عواسج كالعجز النواسج
التزم الواو والسين وليست واحدة منهما بلازمة.
وقال آخر:
أعينيّ ساء الله من كان سرّه ... بكاؤكما ومن يحبّ أذاكما4
ولو أن منظورًا وحبّة أسلما ... لنزع القذى لم يبرئا لي قذاكما
التزم الذال والكاف, وقالوا: حبة, امرأة هويها رجل من الجن يقال له منظور، وكانت5 حبة لتطبب بما يعلمها منظور.
__________
1 سقط في د، هـ، ز.
2 "ارفعن" في د، هـ، ز: "رفعن". والحقي جمع الحقو. وهو هنا الإزار، وأصله الكشح؛ حيث يعقد الإزار، "تمنع" في د، هـ، ز: "يمنع", و"تمنعن" في الأصول السابقة: "يمنعن"، والرجز لغلام من بني جذيمة، وهو يسوق بأمه وأختين له, وقد هرب بهن من جيش خالد ابن الوليد حين أغار على بني جذيمة بعد فتح مكة. وانظر السيرة على هامش الروض 2/ 286.
3 البكر: الفتى من الإبل. والردافي: الحداة وأعوانهم، والواسج: وصف من الوسج، وهو ضرب من السير. والعواسج: جمع العوسجة وهي ضرب من الشجر، ووردت الأشطار الثلاثة في اللسان "عسج".
4 ورد البيتان في اللسان "حبب".
5 في د: هـ، ز: "فكانت".(2/251)
وأنشد الأصمعيّ لغيلان الربعي:
هل تعرف الدار بنعف الجرعاء ... بين رحا المثل وبين الميثاء1
كأنها باقي كتاب الإملاء ... غيَّرها بعذي مرّ الأنواء
نوء الثريَّا أو ذراع الجوزاء ... قد اغتدى والطير فوق الأصواء2
مرتبئات فوق أعلى العلياء ... بمكرب الخلق سليم الأنقاء3
طرف تنقيناه خير الأفلاء ... لأمهاتٍ نسبت وآباء4
ثمَّت قاظ مرفها في إدناء ... مداخلًا في طولٍ وأغماء5
وفي الشعير والقضيم الأجباء ... وما أراد من ضروب الأشياء6
دون العيال وصغار الأبناء ... مقفى على الحي قصير الأظماء7
__________
1 نعف الجرها ورحا المثل والميثاء: مواضع. وفي ياقوت: أن رحا المثل موضع بنجد.
2 "أو ذراع" كذا في د، هـ، ز، وفي ش: "وذراع": والذراع: نجم من نجوم الجوزاء. والأصواء: جمع الصوى، وهو جمع الصوّة، وهو حجر يكون علامة. وورد الشطران في اللسان "ذرع".
3 مرتبئات: وصف من ارتبأ إذا أشرف. ومكرب الخلق: شديد قوي. أراد به فرسًا يقال للحيوان الوثيق المفاصل: مكرب الخلق. والأنفاء من العظام: ذوات المخ، واحدها نقي، بكسر النون وسكون القاف، وورد الشطر الأول مع ما قبله في اللسان "ربأ".
4 الطرف: الكريم من الخبل. والأفلاء جمع الفلق، وهو المهر حين يفطم.
5 "قاظ" من القيظ، وفي ز: "قاظ" وهذا غير ظاهر هنا، فإن معنى "قاظ" مات, والطول: حبل طويل يشد في إحدى يدي الفرس ليرعى. والآغماء: واحدها الغمى، وهو ما يغطَّى به الفرس ليعرق فيضمر، وورد الشطر الأخير في اللسان "غما".
6 القضيم: شعير الدابة، والأجباء كأنه يريد المختار: ولم يظهر وجه هذه الكلمة.
7 المقفى: المكرم المؤثر، والأظماء: جمع الظلم، وهو ما بين الشربين أو ما بين الوردين، وقد ورد الشطر الأخير في اللسان "ظمأ".(2/252)
أمسوا فقادوهنّ نحو الميطاء ... بمائتين بغلاء الغلاء1
أوفيته الزرع وفوق الإيفاء ... قد فزّعوا غلمانها بالإيصاء2
مخافة السبق وجدّ الأنباء ... فلحقت أكبادهم بالأحشاء
باتت وباتوا كبلايا الأبلاء ... مطلنفئين عندها كالأطلاء3
لا تطعم العيون نوم الإغفاء ... حتى إذا شقّ بهيم الظلماء
وساق ليلًا مرجحنّ الأثناء ... غبره مثل حداء الحداء4
وزقت الديك بصوت زقاء ... ثمت أجلين وفوق الإجلاء5
__________
1 الميطاء: الأرض المنخفضة. وهو هنا يصف حلبة الخيل، وقد كان الميطاء مضمارًا لها. وقوله: بمائتين" أي: بمائتي غلوة، وهي مقدار رمية سهم. والغلاء: أن يرفع يديه بالسهم يرميه ليبلغ أقصى الغاية، الغلا بعيد الغلوّ بالسهم. يريد أن المسافة التي أعدت لجري الخيل كانت مائتي غلوة. وورد الشطر الأول في اللسان "وطأ" والشطران فيه في "غلا".
2 "أوفينه الزرع" كذا في اللسان "وفي". وفي ش: "أوفيت الزرع" وفي ز: "أوفيت الدرع" وكأنَّ الزرع يراد به تربيته وإنياته والقيام عليه، ويبدو إن صح هذا أن هذا الشطر محله بعد قوله: "مقفى على الحيّ...." وأنه زحزح عن مكانه، وقوله: "قد فزعوا غلمانها بالإيصاء" أو إن أصحاب خبل السباق أوصوا الغلمان الموكلين بها أن يعنوا بها هذه الليلة ويعدوها للغد. وقوله: "فزعوا" كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "فزقوا", وهو من الفرق -بالتحريك- بمعنى "فزعوا"، وفي حديث أبي بكر -رضي الله عنه: أبا لله تفرقني. وانظر اللسان "فرق".
3 البلايا: جمع البلية, وهي الراحلة التي أعيت وصارت نضوا هالكًا. والأبلاء: جمع البلور وهي التي أبلاها للسفر وأهزلها. وكأنَّ الإضافة للمبالغة، كما يقال: عابد العابدين. وتطلق البلية أيضًا على الناقة التي كانت تعقل في الجاهلية عند قبر صاحبها لا تعلف ولا تسقى حتى تموت، كانوا يقولون: إن صاحبها يحشر عليها، ويقال: أطلنفأ لزق بالأرض, أو استلقى على ظهره. والأطلاء جمع الطلا، وهو الولد من ذوات الحف أو الظلف. وورد الشطران في اللسان "بلا".
4 أرجحنّ: مال. وليل مرجحن: ثقيل واسع. وغير الليل: آخره.
5 أنث فعل الديك على إرادة الدجاجة. وانظر اللسان "ديك".(2/253)
مستويات كنعال الحذاء ... فهنّ يعبطن جديد البيداء1
ما لا يستوي عبطه بالرفاء ... يتبعن وقعًا عند رجع الأهواء2
بسلبات كمساحي البناء ... يتركن في متن أديم الصحراء3
مساحبًا مثل احتفار الكماء ... وأسهلوهنّ دقاق البطحاء4
يثرن من أكدارها بالدفعاء ... منتصبًا مثل حريق القصباء5
كأنها لما رآها الرآء ... وأنشرتهنّ علاة البيداء6
ورفع اللامع ثوب الإلواء ... عقبان دجن في ندى وأسداء7
كل أغرّ محكٍّ وغراء ... شادخة غرتها أو قرحاء8
__________
1 "يعبطن" كذا في ش، وفي د، هـ، ز: "يخبطن"، ويقال: عبط الأرض: حفر منها موضعها لم يحفر من قبل.
2 "ما لا يستوي عبطه بالرفاء" يريد: أنهن يحدثن في الأرض حفرًا وشفوقًا بعسر تسويتها. وقوله: "الأهواء" كأنه جمع الهيء، وهو صوت للزجر، كأنهم كانوا يزجرونها بذلك. وقد جاء هكذا في د، هـ، ز، وفي ش "الأهراء", ولم يظهر وجهها. وفي ط: عطه.
3 فرس سلب القوائم: طويلها. والمساحي: جمع المسحاة, وهي ما يسحى به الطين ويقشر ويجرف.
4 الكماء هنا: جاني الكمأة. وقوله: "وأسهلوهن دقاق البطحاء" أي: أسهلوا بهنَّ في دقاق البطحاء, أي: نزلوا بهنَّ السهل في ذلك, فحذف الحرف وأوصل. وانظر اللسان "سهل".
5 الدقعاء: التراب الدقيق. وقوله: "من أكدارها" كذا في ش. وفي ز: "أكدرها", ويريد بالمنتصب الغبار: المتماسك المجتمع.
6 ورد الشطر الأوّل في الجزء الأول من هذا الكتاب في ص281، وقد رسم فيه "الرواء" هكذا بصيغة الجمع، وجاء في اللسان "رأي" مضبوطًا بصيغة الفعال مبالغة الرائي، ففيه: "ورجل راء: كثير الرؤية، وأنشد هذا البيت. والعلاة: الصخر. وأنشرتهن: أظهرتهن ورفعتهن.
7 يقال: ألوى بثوبه إذا لمع به وأشار، فاللامع هو الذي يشير بثوبه، وهو يشير السباق. والسدي: ندى الرزع.
8 الأغرّ: الذي في جبيته غرة, أي: بياض. والمحك: الذي يلج في المدر. والغرة الشادخة: التي تتسع في الوجه وتسبل, والقرحاء تكون قدر الدرهم.(2/254)
قد لحقت عصمتها بالأطباء ... من شدة الركض وخلج الأنساء1
كأنما صوت حفيف المعزاء ... معزول شذان حصاها الأقصاء2
صوت نشيش اللحم عند القلاء3
اطَّرد4 جميع قوافيها على جر واضعها إلّا "بيتًا واحدًا وهو"5 قوله:
كأنها لما رآها الراء
فإنه مرفوع الموضع, وفيه مع ذلك سر لطيف يرجعه إلى حكم المجرور بالتأويل.
وذلك أن لمَّا مضافة إلى قوله: رآها الرآء, والفعل لذلك مجرور الموضع بإضافة الظرف الذي هو "لمّا" إليه, كما أن قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 6 الفعل الذي هو "جاءَ" في موضع جر بإضافة الظرف "الذي" هو إذا إليه. وإذا كان كذلك, وكان صاحب الجملة التي هي الفعل والفاعل إنما هو الفاعل, وإنما جيء بالفعل له ومن أجله, وكان أشرف جزءيها وأنبههما7, صارت الإضافة "كأنها"8 إليه, فكأن الفاعل لذلك في موضع جر, لا سيما وأنت لو لخَّصت الإضافة هنا وشرحتها لكان تقديرها: كأنها وقت رؤية الرآء لها. " فالرآء"9 إذًا مع الشرح مجرور لا محالة.
__________
1 "بالأطباء" كذا في اللسان "عصم" وفي ش، ج، هـ، ز، "بالأبطال" والأطباء: جمع الطبي، وهو لذوات الحافر كالتثدي للمرأة وكالضرع لغيرها. والعصمة: بياض في الذراع. والأنساء جمع النساء، وهو عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين, ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر، وخلجها: جذبها.
2 "معزول" بدل من "المعزاء" وهو الأرض الصلبة، والشذان: المتفرق. والأقصاء جمع القاصي أو القصي، وهو وصف الحصى.
3 التشيش: صوت الغليان.
4 في د، هـ، ز: "يطرد".
5 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز: وثبت في ش.
6 آية: 1، سورة النصر.
7 في ز: "أثبتهما".
8 في د، هـ، ز: "كأنما هي".
9 ما بين القوسين سقط في د، هـ، ز, وثبت في ش.(2/255)
نعم، وقد ثبت أن الفعل مع الفاعل في كثير من الأحكام والأماكن كالشيء الواحد.
وإذا كان الفعل مجرور الموضع, والفاعل معه كالجزء منه, دخل الفاعل منه في اعتقاد تلخيصه مجرورًا في اللفظ موضعه, كما أنّ النون من إذن لما كانت بعض حرف جرى عليها ما يجري على الحرف المفرد من إبداله في الوقف ألفًا, وذلك قولهم: لأقومنَّ إذًا كما تقول: ضربت زيدًا, ومع النون الخفيفة للواحد: إضربًا. فكما أجريت على بعض الحرف ما يجري على جميعه من القلب كذلك أجريت على بعض الفعل -وهو الفاعل- ما يجري على جميعه من الحكم.
ومما أجري فيه بعض الحرف مجرى جميعه قوله 1:
فبات متصبًا وما تكردسا2
فأُجري "منتصبًا"3 مجرى فخذ, فأسكن ثانيه, وعليه حكاية الكتاب 4: أراك منتفخًا, ونحو من قوله: "لما رآها الرآء" في توهم جر الفاعل قول5 طرفة:
وسديف حين هاج الصنبر
كأنه أراد: الصنبر, ثم تصور معنى الإضافة, فصار إلى أنه كأنه قال:
حين هيج الصنّبر ثم نقل الكسرة على حدّ مررت ببكر, وأجرى صنَبِر من الصنّبر مجرى بكر على قوله: أراك منتفخًا.
__________
1 أي: العجاج. وانظر شرح شواهد الشافية 32.
2 بعده:
إذا أحس نبأة توجسًا
وقوله: "منتصبًا" كذا في اللسان "نصب", وفيه في كردس ونصص: "منتصًا" وهو وصف من انتص, أي: استوى واستقام، وهو في وصف ثور وحشي.
3 كذا في ز، ج. وفي ش: "منتصها".
4 انظر الكتاب 2/ 258.
5 انظر ص282 من الجزء الأول من هذا الكتاب.(2/256)
وأعلى من هذا أن مجيء هذا البيت في هذه القصيدة مخالفًا لجميع أبياتها يدل على قوة شاعرها وشرف صناعته1، وأن ما وجد من تتالي قوافيها على جرِّ مواضعها ليس شيئًا سعى فيه, ولا أكره طبعه عليه, وإنما هو مذهب قاده إليه علوّ طبقته2، وجوهر فصاحته.
وعلى ذلك ما أنشدناه أبو بكر3 محمد بن علي عن أبي إسحاق لعبيد4 من قوله:
يا خليليّ أربعًا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الحلال5
مثل سحق البرد عفّى بعدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشمال6
ولقد يفنى به جيرانك ال ... ممسكو منك بأسباب الوصال7
ثم أودى ودّهم إذ أزمعوا ال ... بين والأيام حال بعد حال8
فانصرف عنهم بعنس كالوأي ال ... جاب ذي العانة أو شاة الرمال9
__________
1 في ج: "صناعتها".
2 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "طبيعته".
3 يبدو أنه مبرمان شارح الكتاب، أخذ عن أبي إسحق الزجاج، وأخذ عن السيرافي والفارسي، ولا بعد أن يأخذ عنه ابن جني. وانظر ترجمته في البغية 74.
4 سقط في د، هـ، ز. وثبت في ش. وهو عبيد بن الأبرص.
5 الحلال جمع الحلة -بكسر الحاء- وهي جماعة البيوت، أو مائة بيت.
6 السحق: الليالي. يريد أن المنزل درس وصار كالبرد البالي، وعفى: محا. وتأويب الشمال: رجوعها وتردد هبوبها.
7 "الممسكو" أصله الممسكون، فحذف النون لطول الاسم.
8 "أودى ردهم": انقطع. وأصل ذلك في الهلاك. ورواية الديوان: "كدى ردهم" وهو بهذا المعنى، يقال: أكدى إذا انقطع. وأصل ذلك أن يقال:! ندى الحفر إذا حفر, فبلغ الكدي -وهي الصخور- فانقطع عن الحفر، وقوله: "إذا أزمعوا" في الديوان: "أن أومعوا".
9 وردَّ هذا البيت في الديوان هكذا:
فاسل عنهم بأمون كالوأي ال ... جاب ذي العانة أو تيس الرمال
والعنس: النافه الصلبة، والأمون: الناقة الوثيقة الخلق التي لا يخاف عليها الإعياء، والوأي: الحمار الوحشي، والعانة: القطيع من حمر الوحش، وشاة الرمال يريد به هنا الثور الوحشي. والتيس هنا الذكر من الظباء.(2/257)
نحن قدنا من أهاضيب الملا ال ... خيل في الأرسان أمثال السعالي1
شزّبًا يعسفن من مجهولة ال ... أرض وعثًا من سهول أو رمال2
فانتجعنا الحارث الأعرج في ... جحفل كالليل خطّار العوالي3
يوم غادرنا عديًّا بالقنا الذ ... بل السمر صريعًا في المجال4
ثم عجناهنّ خوصًا كالقطا ال ... قاربات الماء من أين الكلال5
__________
1 الأهاضيب: جمع الأهضوية، وهي كالهضب الجبل الطويل المنبسط، والملا: موضع في أرض كلب وآخر في ديار طيء، والسعالي: جمع السعلاة وهي نثى الغول. شبه الخيل بهنَّ من النشاط والمرح, وقد ورد البيت في اللسان "هضب".
2 الشزب: جمع الشازب، وهو اليابس الضامر. "وعثًا" ضبط في ش -بضم الواو، وهي جمع الوعث -بفتح الواو، وهو المكان السهل اللين الذي تغيب فيه قوائم الإبل، و"يعسفن" فالعسف الأخذ على غير الطريق المألوف، وفي د، هـ، ز: "يغشين" في مكان "يعسفن", هو كذلك في الديوان. وقوله: "من مجهولة الأرض" أي: من الأرض، وهي التي لا يهتدي فيها. وفي د، هـ، ز: "مجهولة الأرض". وقوله: "أو رمال" في الديوان: "وجبال".
3 "فانتجعنا" في ابن الشجر، "فانتجعن" يريد الخيل. والحارث الأعرج: من الغسانين ملوك الشام. وفي الشرح أنه جدّ امرئ. القيس. وهذا أظهر، فإن العداوة بين أسرة امرئ القيس الكندية وبني أسد أسرة عبيد معروفة. وهذا يوافق ما سيأت أن عديًّا من كندة. والعوالي: الرماح "وخطارها" مضطربها. وجاء البيت في اللسان "نجع".
4 سقط هذا البيت في ش، وعديّ هو ابن أخت الحارث، قتل يومئذ، وقيل: هو رجل من كندة. وقوله: "صريعًا" كذا في الديوان وابن الشجري. وفي د، هـ، ز: "سريعًا", ويبدو أنه تحريف عمَّا في الديوان.
5 عاج الحيوان: عطفه بالزمام. والخوص: من الخوص، وهو غثور العينين. والفاريات: من القريب، وهو سير الليل لورد الغد. والأين: الإعياء، وقوله: "القاربات الماء" كذا في نسخ الخصائص. وفي الديوام: "القارب المنهل" يريد تشبيه الخليل بالقطا في السرعة.(2/258)
نحو قوص يوم جالت حوله ال ... خيل قبًّا عن يمين أو شمال1
كم رئيس يقدم الألف على السا ... بح الأجرد ذي العقب الطوال2
قد أباحت جمعه أسيافنا ال ... بيض في الروعة من حيٍّ حلال3
ولنا دار ورثناها عن ال ... أقدم القدموس من عمّ وخال4
منزل دمّنه آباؤنا ال ... مورثونا المجد في أولَى الليالي5
ما لنا فيها حصون غير ما ال ... مقربات الخيل تعدو بالرجال6
__________
1 "قوص" كذا في ش, وهو يوافق ما في الخزانة، ويقول صاحبها: "وقوله: نحو قوص -بالضم- موضع". وفي د، هـ، ز: "فرس". وفي الديوان، وابن الشجري: "فرص. وكأنه الأشبه بالصواب. وفي ياقوت أنه تل بأرض غسَّان، وفسر به هذا البيت، وفي هامش ابن الشجري أنه رجل من غسان، أو من كندة أو من بني عامر بن صعصعة. وقب وصف من القبب، وهو دقة الحصر وضمور البطن.
2 السابح: الفرس الحسن الجري، والأجرد: القصير الشعر. وفي ش، والديوان: الأجود، وكذا في الخزانة وإن كان صاحبها في شرح القصيدة شرح الأجرد ولم يعرض للأجود. والظاهر أن هذا تحريف عمَّا أثبت. وقد يذهب الوهم إلى أنه أفعل للجواد وإن لم يعرف هذا, والعقب: الجري بعد الجري الأول, وهو العدو الثاني.
3 أباحت جمعه أسيافنا، أي: تمكنا من نهيهم والعلوّ عليهم بالقتل وغيره، وقوله: "في الروعة" أي: هذا الرئيس الذي استبحنا جمعه كان فيما يروع ويعجب من حبه وقومه, والروعة مصدر قولك: راعني الشيء: أعجبني. ويقال: حي حلال أي: كثير, أو نازلون في بيوت مجتمعة.
4 القدوس: القديم، وهو هنا مبالغة القديم. ويريد بيت مجدهم وشرفهم، وفي الديوان البيت هكذا:
ولنا دار ورثنا عزها ال ... أقدم القدموس عن عمٍّ وخال
5 يقال: دمن القول المنزل: سؤدوه, وأثروا فيه بالدن -بكسر فسكون- وهو البعر. وفي ش: "منزل في دمنة آباؤنا ... " أي: منزل في موضع الدمنة وآثار العمران والإقامة، وقوله: آباؤنا على هذا بدل من "منزل".
6 في الديوان بعد المقربات: "الجرد تردي بالرجال", والمقربات: التي أعدت للركوب فكانت قريبة، "وتردي": ترجم الأرض بحوافرها وتعدو.(2/259)
في روابي عدمليّ شامخ ال ... أنف فيه إرث مجدٍ وجمال1
فاتَّبعنا ذات أولانا الألى ال ... موقدي الحرب وموفٍ بالحبال2
فقاد القصيدة كلها، على أن آخر مصراع كل بيت منها منتهٍ إلى لام التعريف، غير بيت واحد؛ وهو قوله:
فانتجعنا الحارث الأعرج في
فصار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضي على ترتيب واحد هو أفخر ما فيها, وذلك أنه دلَّ على أن هذا الشاعر إنما تساند إلى ما في طبعه ولم يتجشَّم إلّا ما في نهضته ووسعه من غير اغتصاب له ولا استكراه أجاءه إليه؛ إذ لو كان ذلك على خلاف ما حدَّدْناه, وأنه إنما صنع الشعر صنعًا, وقابله بها ترتيبًا ووضعًا؛ لكان قمنا ألا ينقض ذلك كله3 بيت واحد يوهيه ويقدح فيه. وهذا واضح.
وأما قول الآخر:
قد جعل النعاس يغرنديني ... أدفعه عني ويسرنديني4
فلك فيه وجهان: إن شئت جعلت رويَّه النون؛ وهو الوجه. وإن شئت الياء، وليس بالوجه.
وإن أنت جعلت النون هي الروي فقد التزم الشاعر فيها أربعة أحرف غير واجبة, وهي الراء والنون والدال والياء. " ألا ترى أنه يجوز معها يعطيني
__________
1 الروابي: جمع الرابية، وهي ما علا من الأرض. العدملي: القديم. يصف بيت شرفه ومجده.
2 "ذات أولانا" كلمة "ذات" صلة، وهذا من إضافة الملغي إلى المعتبر، أي: اتبعنا أولانا, أي: قبيلنا الأول، والألى أصله الأول، فجرى في الكلمة قلب مكاني. وقوله: "وموف بالحيال" فالمراد: ومنهم موف. والحبال. العهود.
3 سقط هذا في ش.
4 الآغر نداء والآسر نداء: العلو والغلبة. وورد الرجز في اللسان في "سرد"، "غرند" من غير عزو.(2/260)
ويرضيني ويدعوني ويغزوني"1؛ ألا ترى أنك إذا جعلت الياء هي الروي فقد زالت الياء أن تكون ردفًا لبعدها عن الروي. نعم وكذلك لما كانت النون رويًّا كانت الياء غير لازمة. وإن أنت جعلت الياء الروي فقد التزم فيه خمسة أحرف غير لازمة, وهي الراء والنون والدال والياء والنون؛ لأن الواو يجوز معها "ألا ترى أنه يجوز معها"1 في القولين جميعًا يغزوني ويدعوني.
ومما يسأل عنه من هذا النحو قول الثقفي يزيد بن الحكم:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى بها ... بأجرامه من قلّة النيق منهو2
التزم الواو والياء فيها كلّها.
والجواب أنها واوية لأمرين: أحدهما أنك إذا جعلتها واويَّة كانت مطلقة, ولو جعلتها يائية كانت مقيدة، والشعر المطلق أضعاف المقيد، والحمل3 إنما يجب أن يكون على4 الأكثر لا على الأقل.
والآخر أنه قد التزم الواو, فإن جعلت القصيدة واويَّة فقد التزم واجبًا, وإن جعلتها يائية فقد التزم غير واجب, واعتبرنا هذه اللغة وأحكامها ومقاييسها, فإذا الملتزم أكثره واجب "وأقله غير واجب"5 والحمل على الأكثر دون الأقل.
فإن قلت: فإن هذه القلّة أفخر من الكثرة, ألا ترى أنها دالة على قوة الشاعر. وإذا كانت أنبه وأشرف كان الأخذ يجب أن يكون بها, ولم يحسن العدول عنها مع القدرة عليها. وكما أن الحمل على الأكثر, فكذلك يجب أن يكون الحمل على الأقوى أولى من الحمل على الأدنى.
__________
1 سقط ما بين القوسين في ش.
2 تقدم شيء منها في ص107 من هذا الجزء.
3 كذا في د، هـ،، ز. وفي ش: "المحمل" وهو مصدر ميمي بمعنى الحمل.
4 سقط في ش.
5 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.(2/261)
قيل: كيف تصرَّفت الحال فينبغي أن يعمل1 على الأكثر لا على الأقل, وإن كان الأقل أقوى قياسًا, ألا ترى إلى2 قوة قياس قول بني تميم في "ما ", وأنها ينبغي أن تكون غير عاملة3 في أقوى القياسين عن سيبويه. ومع ذا فأكثر المسموع عنهم إنما هو لغة أهل الحجاز, وبها نزل القرآن. وذلك "أننا بكلامهم ننطق"4, فينبغي أن يكون على ما استكثروا5 منه يحمل. هذا هو "قياس مذهبهم" وطريق اقتفائهم. ووجدت أكثر قافية رؤبة مجرورة الموضع. وإذا تأملت ذلك وجدته, أعني: قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
وقد التزم العجاج في رائيته:
قد جبر الدين إلاله فجبر
وذلك أنه التزم الفتح قبل رويّها البتة. ولَعَمْري إن هذا مشروط في القوافي, غير أنك قلَّمَا تجد قافية مقيدة إلّا وأتت الحركات قبل رويها مختلفة, وإنما المستحسن من هذه الرائية سلامتها, مما لا يكاد يسلم منه غيرها. فإن6 كانت المقيدة مؤسسة ازداد اختلاف الحركات قبل رويّها قبحًا. وذلك أنه ينضاف إلى قبح اختلافه أن هناك
__________
1 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "يحمل".
2 كذا في د، هـ، ز. وفي ش: "أن".
3 في ش: "هي". وما أثبت في د، هـ، ز.
4 كذا في ش. وفي ج، هـ، ز: "أنك إنما بكلامهم تنطق".
5 كذا في ش. وفي د، هـ، ز: "القياس في مذهبهم".
6 كذا في ش، وفي ج، هـ، ز: "وإن".(2/262)
تأسيسًا؛ ألا ترى أنه يقبح اختلاف الإشباع1 إذا كان الروي مطلقًا نحو قوله 2: فالفوارع مع قوله: فالتدافع2. فما ظنّك إذا كان الروي مقيدًا, وقد أحكمنا هذا في كتابنا المعرب3 في شرح قوافي أبي الحسن.
وقد قال هميان بن قحافة 4:
لما رأتني أم عمرو صدفت ... قد بلغت بي ذرأة فألحفت5
وهامة كأنها قد نُتِفْت ... وانعاجت الأحناء حتى احلنقفت6
وهي تسعة وثلاثون بيتًا التزم في جميعها الفاء وليست واجبة, وإن كانت قريبةً من صورة7 الوجوب. وذلك أن هذه التاء في الفعل إذا صارت إلى الاسم صارت في الوقف هاء في قولك: صادفة وملحفة ومحلنقفة "فإذا صارت هاء"8 لم يكن الروي إلّا ما قبلها, فكأنها لما سقط حكمها مع الاسم من ذلك الفعل
__________
1 هو حركة الدخيل, وهو الحرف الذي يسبق الروي بعد التأسيس.
2 أي: النابغة الذبياني, وقوله: "فالفوارع" يريد قوله في مطلع القصيدة:
عفا ذو حسا من فرتني فالقوارع ... فجنبًا أريك فالتلاع الدوافع
وقوله: "التدافع" يريد قوله في البيت الثاني والعشرين:
بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزون ألالا سيرهنّ التدافع
وترى أن الجزء الاول: "فالقوارع" ليس في الضرب, بل في العروض, فلا يدخل في التقفية، غير أن البيت مصرع، فآخر العروض كأنه آخر الضرب.
3 في ش "المعروف" وانظر ص68 من مقدمة هذا الكتاب.
4 نسب الرجز هنا إلى هميان، وفي اللسان: "باع" نسب إلى حسان، ويبدو أنه محرَّف عن هميان. وكتب "بلغت" وصوابه: "بلغت" بالعين المهملة وشد اللام، يقال: بلّع فيه السيب تبليعًا: بدأ وظهر. وفي اللسان بعد إيراد البيت الأول: "فإنما عدّاه بقوله: بي لأنه في معنى: قد ألمت, أو أراد: في: فوضع "بي" مكانها للوزن حين لم يستقم له أن يقول: "في".
5 ذرأة أي: شيب.
6 الأحناء: الجوانب، واحلتقف الشيء: أفرط اعوجاجه.
7 كذا في ش، ج. وفي د، هـ، ز: "صور".
8 سقط ما بين القوسين في د، هـ، ز.(2/263)
صارت في الفعل نفسه قريبة من ذلك الحكم, وهذا الموضع لقطرب, وهو جيد.
ومن ذلك تائية كثيِّر:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا1
لزم2 في جميعها اللام والتاء.
ومنه قول منظور 3:
من لي من هجران ليلى من لي
لزم اللام المشدد إلى آخرها.
وفي المحدثين من يسلك هذا الطريق وينبغي أن يكونوا إليه أقرب وبه أحجى؛ إذ كانوا في صنعة الشعر أرحب ذراعًا وأوسع خناقًا؛ لأنهم فيه متأنون وعليه متلومون4، وليسوا بمرتجليه ولا مستكرهين فيه.
وقد كان ابن الرومي رام ذلك لسعة حفظه وشدة مأخذه. فمن ذلك رائيته في وصف العنب وهي قوله:
ورازقيّ مُخْطَفِ الخصور ... كأنه مخازن البلور
__________
1 عجزه:
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وهو مطلع قصيدة غزلية عدتها 42 بيتًا في الديوان 1/ 36، وفي الأمالي 2/ 109.
2 في الخزانة 2/ 387 في الحديث عن هذه التائية: "والتزم فيها ما لا يلزم الشارع -وذلك اللام قبل حرف الروي- اقتدارًا في الكلام وقوة في الصناعة. وما حرم ذلك إلّا في بيت واحد، وهو:
فما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلي وأما بالنوال فضنَّت
3 يريد منظور بن مرثد الأسدي, وبعد الشطر الشاهد:
والحبل من حبالها المنحل
انظر شرح الشافية للبغدادي 248.
4 التلوم على الأمر: التمكث فيه والانتظار.
5 الرازق: ضرب من عنب الطائف أبيض طويل الحب، ومخطف الحضور: ضامرها. انظر الديوان تحقيق د. حسين نصار 3/ 987 "المصحح".(2/264)
التزم فيها الواو البتَّة ولم يجاوزها غالبًا1. وكذلك تائيته 2: أترفتها وخطرقتها وسفسفتها, التزم فيها الفاء وليست بواجبة, وكذلك ميميته التي يرثي بها أمه:
أفيضا دَمًا إن الرزايا لها قيَم2
أوجب على نفسه الفتحة قبل الميم على حدّ رائية العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر
غير أنِّي أظن أن4 في هذه الميمية بيتًا ليس من قبل رويّه مفتوحًا5.
وأنشدني مرة بعض أحداثنا شيئًا سماه شعرًا على رسم للمولدين6 في مثله، غير أنه عندي أنا قوافٍ منسوقة غير7 محشوة في معنى قول سلم الخاسر 8:
موسى القمر
غيث بكر
ثم انهمر
وقول الآخر 9:
طيف ألم
بذي سلم
يسري العتم10
بين الخيم
"جاد بفم"11
__________
1 كذا في ش وفي د، هـ، ز: "بالياء".
2 هذه التائية في مدح إسماعيل بن بلبل. ويوجد فيها "سفسفتها", وكأن "خطرقتها" محرفة عن "تطرقتها" وهو أترفتها" محرّفة عن "طرفتها". انظر الديوان 1/ 359 "المصحح".
3 عجزه:
فليس كثيرًا أن تجود لها بدم
انظر الديوان 6/ 2299 "المصحح".
4 سقط هذا الحرف في د، هـ، ز.
5 انظر القصيدة رقم 1212 بالديوان الجزء السادس من ص229 إلى ص312، "المصحح".
6 في د، هـ، ز: "المولدين". والزجاج لا يأبى تسمية هذا شعرًا، ويجعله من الرجز. ويجعله الأخفش والخليل وغيرهما سجعًا. وانظر الدماميني على الخزرجية والدمئهوري على الكافي في مبحث الرجز.
7 سقط في اللفظ في د، هـ، ز.
8 من شعراء الدولة العباسية, وهو في هذا الشعر يمدح موسى الهادي, وانظر معجم الأدباء "الحلبي" 11/ 240، والعمدة "باب في الرجز والقصيدة، في الجزء الأول".
9 في العمدة في الموطن السابق أن هذا الشعر ينسب -فيما يظن- إلى علي بن يحيى أو يحيى بن علي المنجم.
10 أصله العتمة، وهي ظلام الليل، فحذف التاء وفي رواية اللسان "عتم": "يسري عتم" وجوز في عتم أن يكون كما ذكرت محذوف التاء فيكون ظرفًا، وأن يكون المراد به البطء, أي: يسري بطيئًا فيكون حالًا. وانظر اللسان في الموطن المذكور.
11 سقط هذا الشطر في د، هـ، ز.(2/265)
وقول الآخر1:
قالت حيل
شؤم الغزل
هذا الرجل
حين احتفل
أهدى بصل2
والقوافي المنسوقة التي أنشدنيها صاحبنا هذا ميمية في وزن قوله: طيف ألم, لا يحضرني الآن حفظها غير أنه التزم فيها الفتحة البتة إلّا قافية واحدة وهو3 قوله: فاسلم ودم، ورأيته قلقًا لاضطراره إلى مخالفة بقية القوافي بها4 فقلت له: لا عليك فلك أن تقول: فاسلم ودم، أمرًا من قولهم 5: دام يدام، وهي لغة، قال:
يا مي لا غرو ولا ملامًا ... في الحب إن الحب لن يداما6
فسر بذلك وقال: أسير بها إلى بلدي.
وأفضينا إلى هذا القدر لاتصاله بما كنا عليه، قال 7:
وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يذكر للأمر
وأكثر هذه الالتزامات في الشعر؛ لأنه يخطر على نفسه ما تبيحه الصنعة إياه إدلالًا وتغطرفًا واقتدارًا وتعاليًا, وهو كثير. وفيما أوردناه منه كافٍ.
__________
1 هو عبد الصمد بن المعذل، كما في الدماميني على الخزرجية.
2 "حيل" كذا في نسخ الخصائص. وفي الدماميني على الخزرجية: "خبل", ويبدو أن هذا محرّف عن "جبل" وهي جارية مغنية كان عبد الصمد يتعشقها هو وأبو رهم، فاشتراها الآخر وكان يبخل، فلجت المهاجاة بين عبد الصمد وأبي رهم، ويبدو أنه المعنى بهذا الهجاء. وانظر الأغاني 12/ 66.
3 في د، هـ، ز: "هي".
4 د، هـ، ز: "لها".
5 سقط هذا في ش، وثبت في د، هـ، ز.
6 انظر ص381 من الجزء الأول.
7 يظهر أن القائل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: وأن المعنى بسعيد في البيت ابن المسيب، وأورد له صاحب الأغاني بيتين في هذا المذهب، وهما:
سألت سعيد بن المسيب مفتي ال ... مدينة هل في حب ظمياء من وزر
فقال سعيد بن المسيب إنما ... تلام على ما تستطيع من الأمر
وانظر الأغاني طبعة دار الكتب 9/ 147. وفي مجالس ثعلب 501 بعد إيراد البيت: "أي ذكرتك عند سعيد، وكان سعيد والي المدينة, وقد دعا به للقتل. يقول: إذا ذكرتك في هذا الوقت فكيف سائر الأوقات".(2/266)