الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم
قال أبو عبيد الله محمد بن يحيى: قرأت على ابن وَلاَّد، وهو ينظر(1/3)
في كتاب أبيه. وسمعته يُقرأ على أبي جعفر أحمدَ بن محمدٍ، المعروف بابن النَّحَّاس.
وأخذَه أبو القاسم بن ولاد عن أبيه عن المبرد.
وأخذه المبرد عن المازني عن الأخفش عن سيبويه.(1/4)
الحمد لله الذي افتتح بالحمد كتابه، وجعله آخر دعاء أهل الجنة فقال جلّ ثناؤه: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله الطَّيبين.
قال لنا أبو جعفر أحمد بن محمد: لم يزل أهل العربّية يفضَلون كتابَ أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر؛ المعروف بسيبوية، حتّى لقد قال محمد بن يزيد: " لم يُعْمَل كتابٌ في علم من العلوم مثلُ كتاب سيبويه، وذلك أن الكتب المصنَّفة في العلوم مُضْطَّرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره ".
وقال: سمعت أبا بكر بن شُقَير يقول: حدثني أبو جعفر الطبري قال: سمعتُ الجَرْمىَّ يقول: أنا مُذْ(1/5)
ثلاثون أُفتِى الناس في الفقه من كتاب سيبويه.
قال: فحدَّثت به محمد يزيدَ على وجه التعجُّب والإِنكار فقال: " أنا سمعت الجرمىَّ يقول هذا - وأومأ بيديه إلى أذنيه. وذلك أن أبا بكر عُمر الجرمى كان صاحبَ حديث، فلما علِم كتاب سيبويه تفقّه في الحديث؛ إذ كان كتاب سيبويه يتعلَّم منه النظر والتَّفتيش ". انتهى.
قال أبو جعفر: وقد حكى بعضُ النحويين أن الكسائي قرأ الأخفش كتاب سيبويه ودفع له مائتي دينار.
وحكى أحمد بن جعفر أن كتاب سيبويه وجد بعضه تحت وسادة الفرَّاء التي كان يجلس عليها.
وأصل ما جاء به سيبويه عن الخليل.
قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يقول: إذا قال سيبويه بعد قول(1/6)
الخليل: " وقال غيره " فإنّما يعنى نفسه، لأنه أجلَّ الخليل عن أن يذكر نفسه معه. وإذا قال: " وسألته " فإنما يعنى الخليل.
وقال أبو إسحاق: إذا تأمّلتَ الأمثلةَ من كتاب سيبويه تبينتَ أنه أعلمُ الناس باللغة.
قال أبو جعفر: وحدثني علي بن سليمان قال حدثنى محمد بن يزيد أن المفتَّشين من أهل العربية ومَن له المعرفُة باللُّغة، تتبعوا على سيبويه الأمثلةَ فلم يَجدوه ترك من كلام العرب إلاَّ ثلاثة أَمثلة: منها الهُنْدَلعِ، وهي بقلة. والدراقس، وهو عظمٌ في القفا. وشَمَنْصِير، وهو اسمُ أرض.
وقال أبو إسحاق: حدثني القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثني(1/7)
نصر بن علي قال: سمعت الأخفش يقول: يُعدُّ من أصحاب الخليل في النحو أربعة: سيبويه، والنضر بن شميل، وعلى بن نصر - وهو أبو نصر ابن على - ومؤرَّج السَّدوسى.
قال: وسمعت نصراً يحكي عن أبيه قال: قال لي سيبويه حين أراد أن يضع كتابه: تعال حتى نتعاونَ على إحياء علم الخليل.
قال أبو جعفر: وقد رأيت أبا جعفر بن رستم يروي كتاب سيبويه عن المازِنّى غير أن الذي اعتمد عليه أبو جعفر في كتاب سيبويه إبراهيم ابن السرىّ؛ لمعرفته به وضبطه إياه.(1/8)
وذكر أن علي بن سليمان حكى أنَّ أبا العباس كان لا يكاد يقرئ أحداً كتابَ سَيبويه حتى يقرأه على أبي إسحاق، لصحة نسخته، ولذكر أسماء الشعراء فيها.
قال الجَرمىّ: نظرتُ في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتا. فأمّا ألفّ فَعَرَفت أسماء قائليها فأثبتُّ أسماءهم، وأما خمسون فلم أعرف قائليها.
قال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: نظرت في نسخة كتاب سيبويه التي أُمِليتْ بمصر فإذا فيها مائتا حرف خطأ. قال: ورأيت أبا إسحاق قد أنكر الإسناد الذي في أولها إنكاراً شديداً. وقال: لم يقرأ أبو العباس محمد بن يزيد كتابَ سيبويه كلَّه على الجرمّى، ولكن قال أبو إسحاق: قرأته أَنا على أبي العباس محمد بن يزيد وقال لنا أبو العباس: قرأت نحو ثلثه على أبي عُمَر الجرمىّ، فتوفَي أبو عمر فابتدأت قراءته على أبي الحسن سَعيد بن مَسعدة الأخفش، وقال الأخفش: كنت أسأل سيبويه عمّا أشكلَ عليَّ منه، فإن تعصّب علّى الشيءُ منه قرأته عليه.(1/9)
وأما أبو القاسم بن ولاّد فإنه حدّثنا عن أبيه أبي الحُسَين قال: حدَّثني أبو العباس المبرد قال: قرأ المازنيّ كتاب سيبويه على الجَرمى وساءلَ الأخفشَ عنه، وقرأه الجرمىّ على الأخفش.
قال: وحدثني المبرد قال: قرأت بعض هذا الكتاب على الجرمى، وبعضه على المازنيّ، ومنه ما قرأته عليهما جميعاً.
قال: وسمعت المبرد يقول: قد أدرك أبو عُمَر من أخذ عنه سيبويه، واختلف إلى حَلْقة يونس.
وحدثنا أبو القاسم بن ولاد عن أبيه قال: حدثنا أبو العباس قال: حدثني الزيادىُّ أبو إسحاق قال: عَمَدت إلى أبي عُمَر الجرمىَّ أقرأ عليه كتاب سيبويه، ووافيت المازنَّى يقرأ عليه في أثناء " هذا باب ما يرتفع بين الجزأين " فكنَّا نَعجب من حِذقه وجودة ذهنه. وكان قد بلغ من أوّل الكتاب إلى هذا الموضع.
قال أبو الحُسين بن ولاّد: يعنى أن المازنىّ كان قد بلغ على الأخفش إلى هذا الموضع.
وسمعت أبا القاسم بن ولاّد يقول: كان أبي قد قِدم على أبي العباس المبَرد(1/10)
ليأخذ منه كتاب سيبويه، فكان المبّرد لا يمكَّن أحداً من أصله، وكان يضنّ به ضنّة شديدة، فكلّمَ ابنه عَلَى أن يَجْعلَ له في كل كتابٍ منها جُعلاً قد سمَّاه. فأكملَ نَسْخَه. ثم إنّ أبا العباس ظَهَر على ذلك بعدُ، فكان قد سعى بأبي الحُسَين إلى بعض خَدَمة السلطان ليحبسَه له ويعاقبه في ذلك، فامتنع أبو الحسين منه بصاحب خراج بغداد يومئذ - وكان أبو الحسين يؤدّب ولده - فأجاره منه. ثم إن صاحب الخراج ألظَّ بأبي العباس يطلب إليه أن يقرأ عليه الكتابَ حتّى فعل.
قال أبو عبد الله: فقرأته أنا على أبي القاسم وهو ينظر في ذلك الكتاب بعينه، وقال لي: قرأته على أبي مراراً.(1/11)
هذا باب علم الكَلِمُ من العربية
فالكَلِم: اسمٌ، وفِعْلٌ، وحَرْفٌ جاء لمعنّى ليس باسم ولا فعل.
فالاسمُ: رجلٌ، وفرسٌ، وحائط.
وأما الفعل فأمثلة أُخذتْ من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيتْ لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينَقطع.
فأما بناء ما مضى فذَهَبَ وسَمِعِ ومِكُث وحُمِدَ. وأما بناء ما لم يقع فإنّه قولك آمِراً: اذهَب واقتُلْ واضرِبْ، ومخبراً: يَقْتُلُ ويَذهَبُ ويَضرِبُ ويُقْتَلُ ويُضرَبُ. وكذلك بناء ما لم يَنقطع وهو كائن إذا أخبرتَ.
فهذه الأمثلة التي أُخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة ستبيَّن إن شاء الله.
والأحداث نحو الضَّرْبِ والحمد والقتل.
وأما ما جاء لمعنّى وليس باسم ولا فعلٍ فنحو: ثُمَّ، وسَوْف، وواو القسم ولام الإضافة، ونحوها.(1/12)
هذا باب مجارى أواخر الكلم من العربية
وهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والجرَّ والرفع والجزم، والفتح والضمّ والكسر والوقف.
وهذه المجارى الثمانيةُ يَجمعهنّ في اللفظ أربعةُ أضرب: فالنصبُ والفتح في اللفظ ضربٌ واحد، والجرّ والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضمّ، والجزم والوقف.
وإنّما ذكرتُ لك ثمانية مجار لأفُرقَ بين ما يدخله ضربٌ من هذه الأربعة لما يُحِدثُ فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يُبْنَى عليه الحرفُ بناءً لا يزول عنه لغير شيء أحدثَ ذلك فيه من العوامل، التي لكلّ منها ضربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرفُ حرف الإعراب.
فالرفع والجر والنصب والجزم لحروفِ الإعراب. وحروفُ الإعراب للأسماء المتمكّنة، وللأفعال المضارِعة لأسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائدُ الأربع: الهمزة، والتاء، والياء، والنون. وذلك قولك: أفْعَلُ أنا، وتَفعل أنتَ أو هي، ويَفعل هو، ونَفعل نحن.(1/13)
والنصب في الأسماء: رأيت زيداً، والجرّ: مررت بزيد، والرفع: هذا زيدٌ. وليس في الأسماء جزم، لتمكنها وللحاق التنوين، فإذا ذهب التنوين لم يَجمعوا على الاسم ذهابَه وذهاب الحركة.
والنصب في المضارع من الأفعال: لن يَفعلَ، والرفع: سيَفعل، والجزم: لم يفعلْ. وليس في الأفعال المضارعة جرٌّ كما أنّه ليس في الأسماء جزم؛ لأن لمجرور داخلٌ في المضاف إليه معاقبٌ للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال. وإنما ضارعتْ أسماء الفاعلينَ أنَّك تقول: إن عبد الله لَيَفعلُ، فيوافِقُ قولَك: لفاعل، حتَّى كأنّك قلت: إن زيداً لفاعلٌ فيما تُريد من المعنى. وتلحقه هذه اللام كما لحقت الاسمَ، ولا تلحق فَعَل اللامُ. وتقول سيفعلُ ذلك وسوفَ يفعل ذلك فُتلحِقهُا هذين الحرفين لمعنى كما تَلحق الألف واللام الأسماء للمعرفة.
ويبّن لك أنَّها ليست بأسماءٍ أنّك لو وضعتَها مواضعَ الأسماء لم يجزْ ذلك. ألاَ ترى أنّك لو قلت إنَّ يَضْرِبَ يأتينا وأشباه هذا لم يكن كلاماً؟! إلاّ أنّها ضارعت الفاعل لاجتماعهما في المعنى. وسترى ذلك أيضاً في موضعه.(1/14)
ولدخول اللام قال الله جلّ ثناؤه: " وإن ربك ليحكم بينهم " أي لحاكمٌ.
ولِمَا لحقها من السين وسوف كما لحقت الاسم والألف واللام للمعرفة. وأمْا الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء غير المتمكَّنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنًى ليس غيُر، نحو سَوْفَ وقَدْ، وللأفعال التي لم تَجر مجرى المضارِعة، وللحروف التي ليست بأسماءٍ ولا أفعال ولم تجئْ إلاّ لمعنى.
فالفتح في الأسماء قولهم: حيثَ وأينَ وكيفَ. والكسر فيها نحو: أولاد وحذار وبداد. والضم نحو: حيثُ وقبلُ وبعدُ. والوقف نحو: مَنْ وكمْ وقطْ وإذْ.(1/15)
والفتح في الأفعال التي لم تَجْرِ مجرى المضارعة قولهم: ضرب، وكذلك كلُّ بناء من الفعل كان معناه فعل. ولم يسكنو آخِر فَعَلَ لأنّ فيها بعض ما في المضارعَة، تقول: هذا رجلٌ ضَربَنَا، فتَصف بها النكرة، وتكون في موضع ضاربٍ إذا قلت هذا رجلٌ ضارب. وتقول: إن فَعَل فعلتُ، فيكون في معنى إن يَفْعَلْ أفعلْ، فهي فعْلٌ كما أنَّ المضارع فِعْلٌ وقد وقعتْ موقعها في إنْ، ووقعت موقعَ الأسماء في الوصف كما تقع المضارعَة في الوصف، فلم يسكّنوها كما لم يسكنو من الأسماء ما ضارع المتمكَّن ولا ما صيُرِّ من المتمكَّن في موضعٍ بمنزلة غير المتمكّن. فالمضارع: مِنْ عَلُ، حرَّكوه لأنّهم قد يقولون من عَلٍ فُيجْروُنه. وأمَّا المتمكن الذي جُعل بمنزلة غير المتمكَّن في موضع فقولك ابدأ بهذا أول، ويا حكم.(1/16)
والوقف قولهم: اضرب في الأمر، ولم يحرِّكوها لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة، فبعدت من المضارعة بعدكم وإذ من المتمكنة.
وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه افْعَلْ.
والفتح في الحروف التي ليست إلا لمعنى وليست بأسماء ولا أفعال، قولهم: سوف، وثم.
والكسر فيها قولهم في باء الإضافة ولامها: بزيدٍ ولزيد.
والضم فيها: منذ، فيمن جرّبها، لأنها بمنزلة مِنْ في الأيام.
والوقف فيها قولهم: مِنْ، وهَلْ، وبل، وقد.
ولا ضَمَّ في الفعل؛ لأنه لم يجيء ثالثٌ سوى المضارع. وعلى هذين المعنيين بناءُ كل فعل بعد المضارع.
واعلم أنك إذا ثنَّيت الواحدَ لحقتْه زيادتان: الأولى منهما حرف المد والين وهو حرف الإعراب غير متحرِّك ولا منوَّن، يكون في الرفع ألفاً، ولم يكن واواً ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية، ويكون في الجرّ ياء مفتوحا ما قبلها، ولم يكسَرْ ليُفْصَل بين التثنية والجمع الذي على حدّ التثنية. ويكون في النصب كذلك، ولم يجعلوا النصب ألفاً ليكون مثله في الجمع، وكان مع ذا أنْ يكون تابعاً لما الجَرُّ منه أولى، لأنَّ الجرَّ للاسم لا يجاوِزه، والرفُع قد ينتقل إلى الفعل، فكان هذا أغلبَ وأقوى. وتكون الزيادة الثانية نوناً(1/17)
كأنها عوضٌ لما منع من الحركة والتنوين، وهي النون وحركتها الكسر، وذلك قولك: هما الرجلانِ، ورأيت الرجلَينِ، ومررت بالرجلَيْنِ.
وإذا جمعتَ على حدَّ التثنية لحقتْها زائدتان: الأولى منهما حرف المد والين، والثانية نون. وحال الأولى في السكون وتركِ التنوين وأنّها حرف الإعراب، حال الأولى في التثنية، إلا أنها واو ومضموم ما قبلها في الرفع، وفي الجر والنصب ياءٌ مكسورٌ ما قبلها ونونها مفتوحة، فرقوا بينها وبين نون الاثنين كما أنَّ حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلِفٌ فيهما. وذلك قولك: المسلمُوَن، ورأيت المسلِمينَ ومررت بالمسلمين. ومن ثَمّ جعَلوا تاء الجمْع في الجرَّ والنصب مكسورة، لأنهم جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب كالواو والياء، والتنوينَ بمنزلة النُّون لأنها في التأنيث نظيرة الواو والياء في التذكير فأجروها مجراها.(1/18)
واعلم أنّ التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامةً للفاعلين لحقتها ألف ونون، ولم تكن الألف حرفَ الإعراب لأنك لم ترد أن تثنِّى يَفْعَلُ هذا البناءَ فتَضمَّ إليه يفعل آخَرَ، ولكنك إنما ألحقته هذا علامة للفاعلين، ولم تكن منونة، ولا يَلزمها الحركةُ لأنّه يدُرِكُها الجزمُ والسكونُ فتكون الأولى حرف الإعراب، والثانية كالتنوين، فكلما كانت حالها في الواحد غير حال الاسم وفي التثنية لم تكن بمنزلته، فجعلوا إعرابه في الرَّفع ثباتَ النون لتكون له في التثنية علامةً للرَّفع كما كان في الواحد إذْ مُنع حرفَ الإعراب.
وجعلوا النون مكسورةً كحالها في الاسم، ولم يجعلوها حرف الإعراب إذْ كانت متحَرّكة لا تثُبتُ في الجزم ولم يكونوا ليحذفوا الألفَ لأنّها علامةُ الإضمار والتثنية في قول من قال: أكلوني البراغيثُ، وبمنزلة التاء في قلتُ وقالتْ، فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم كما حذفوا الحركة في الواحد.
ووافَق النصبُ الجزمَ في الحذف كما وافَق النصبُ الجرَّ في الأسماء؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، والأسماء ليس لها في الجزم نصيبٌ كما أنه ليس للفعل في الجر نصيب. وذلك قولك: هما يَفعَلاَنِ، ولم يَفعَلاَ، ولن يَفعَلاَ.
وكذلك إذا لحقت الأفعالَ علامةُ للجمع لحقتها زائدتان، إلا أنّ الأولى واو مضموم ما قبلها لئلا يكون الجمع كالتثنية، ونونُها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء كما فعلتَ ذلك في التثنية، لأنّهما وقعتا في التثنية والجمع ههنا كما أنّهما في الأسماء كذلك، وهو قولك: هم يَفْعَلُونَ ولم يَفعلوا ولن يفعلوا.(1/19)
وكذلك إذا ألحقتَ التأنيثَ في المخاطبة، إلاّ أنّ الأولى ياء وتَفتَحُ النونَ لأنّ الزيادة التي قبلها بمنزلة الزيادة التي في الجمع، وهي تكون في الأسماء في الجرّ والنصب، وذلك قولك: أنت تَفْعَلين ولم تفعِلى ولن تفعَلى.
وإذا أردتَ جمعَ المؤنَّث في الفعل المضارع ألحقتَ للعلامة نونَّا، وكانت علامةَ الإضمار والجمع فيمن قال أكلوني البراغيث، وأسكنتَ ما كان في الواحد حرفَ الأعراب، كما فعلت ذلك في فَعَلَ حين قلت فَعَلْت وفَعَلْنَ، فأُسكنَ هذا ههنا وبنى على هذه العلامة، كما أُسكن فَعَلَ، لأنّه فِعلٌ كما إنه فَعْلٌ، وهو متحرَّك كما أنّه متحرك، فليس هذا بأبعد فيها - إذا كانت هي وفعَلَ شيئاً واحداً - مِن يَفعَلُ، إذ جاز لهم فيها الإعراب حين ضارعت الأسماء وليست باسم، وذلك قولك: هن يَفْعَلْنَ ولن يفعلن ولم يفعَلْنَ. وتفتحها لأنّها نون جمع، ولا تُحذَف لأنها علامةُ إضمار وجمع في قول من قال أكلوني البراغيث. فالنون ههنا في يَفعَلْنَ بمنزلتها في فَعَلْنَ. وفُعل بلام يَفْعَلُ ما فُعل بلام فَعَلَ لما ذكرتُ لك، ولأنّها قد تُبنَى مع ذلك على الفتحة في قولك هل تفعلن. وألزموا لام فعل السكون وبنوها على العلامة وحذفوا الحركة لمّا زادوا، لأنها في الواحد ليست في آخرها حرفَ إعراب لما ذكرت لك.
وأعلم أنَّ بعض الكلام أثقلُ من بعض، فالأفعالُ أثقلُ من الأسماء لأنّ الأسماء هي الأُولَى، وهي أشدُّ تمكّنا، فِمن ثم لم يَلحقها تنوينٌ ولحقها الجزْم(1/20)
والسكون، وإنَّما هي من الأسماء. ألا تَرى أنّ الفعل لا بدّ له من الاسم وإلاّ لم يكن كلاماً، والاسمُ قد يَستغنى عن الفعل، تقول: اللهُ إلهُنا، وعبدُ الله أخونا.
واعلم أن ما ضارع الفعلَ المضارِعَ من الأسماء في الكلام ووافقه في البناء أُجرَى لفظُه مُجرى ما يَستثقِلون ومنعوه ما يكون لَما يَستخفُّونَ وذلك نحو أَبْيَضَ وأَسْوَدَ وأَحْمَرَ وأَصفرَ، فهذا بناء أذْهَبُ وأَعْلَم فيكون في موضع الجرَّ مفتوحا، استثقلوه حين قارب في الكلام ووافق في البناء.
وأما مضارعته في الصفة فإنك لو قلت: أتأتني اليومَ قويٌّ، وأَلاَ بارداً ومررت بجميل، كان ضعيفاً، ولم يكن في حُسنِ أتاني رجلٌ قويّ وألاّ ماءَ بارداً، ومررت برجل جميل. أفلا ترى أنّ هذا يقبح ههنا كما أن الفعل المضارع لا يُتكلَّم به إلاّ ومعه الاسم؛ لأنّ الاسم قبل الصفة، كما أنّه قبل الفعل. ومع هذا أنّك ترى الصفة تَجرى في معنى يَفْعَلُ، يعني هذا رَجلٌ ضاربٌ زيداً، وتَنْصِب كما ينصِب الفعلُ. وسترى ذلك إن شاء الله.
فإن كان اسماً كان أخفَّ عليهم، وذلك نحو أفْكَلٍ وأَكْلبٍ، ينَصرفانِ في النكرة.
ومضارعةُ أفعلَ الذي يكون صفةً للاسم أنّه يكون وهو اسمٌ صفة(1/21)
كما يكون الفعل صفة، وأمَّا يشكر فإنّه لا يكون صفة وهو اسم، وإنما يكون صفة وهو فعل.
وأعلم أن النكرة أخفُّ عليهم من المعرفة، وهي أشدُّ تمكُّنا؛ لأنّ النكرة أولّ، ثم يَدْخلُ عليها ما تُعَرَّف به. فمن ثَمّ أكثرُ الكلام ينصرف في النكرة.
وأعلم أن الواحد أشدُّ تمكنا من الجميع، لأنّ الواحد الأوّل، ومن ثم لم يَصْرِفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد، نحو مَساجِدَ ومَفاتيحَ.
واعلم أن المذكَّر أخفّ عليهم من المؤنّث لأنّ المذكر أوّل، وهو أشدُّ تمكنا، وإنّما يخرج التأنيثُ من التذكير. ألا ترى أنّ " الشيء " يقع على كلَّ ما أخبر عنه من قبل أن يُعْلَم أذكرٌ هو أو أُنثى، والشيء ذكر، فالتنوين علامة للأمكن عندهم والأخفَّ عليهم، وتركُه علامةٌ لما يستثقلون. وسوف يُبَيَّن ما ينصرف وما لا ينصرف إن شاء الله.
وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلتَ عليه الألفَ واللام أو أضيف انجرَّ؛ لأنها(1/22)
أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرف. ودخل فيها الجر كما يَدخلُ في المنصرف، ولا يكون ذلك في الأفعال، وأمِنوا التنوينَ. فجميع ما يتْرَكُ صرفهُ مضارَعٌ به الفعل، لأنّه إنما فُعِل ذلك به لأنه ليس له تمكُّنُ غيره، كما أنَّ الفعل ليس له تمكّنُ الاسم.
وأعلم أن الآخِرَ إذا كان يسكن في الرفع حُذف في الجزْم، لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع، فحذفوا كما حذفوا الحركة ونون الاثنين والجَمِيع. وذلك قولك لم يَرْمِ ولم يَغْزُ ولم يَخْشَ. وهو في الرفع ساكن الآخر، تقول: هو يَرْمِي ويَغْزُو ويَخْشَى.
هذا باب المسند والمسند إليه
وهما ما لا يَغْنَى واحدٌ منهما عن الآخر، ولا يَجد المتكلّمُ منه بداً. فمن ذلك الاسم المتدأ والمبنىُّ عليه. وهو قولك عبدُ الله أخوك، وهذا أخوك.
ومثل ذلك يذهب عبد الله، فلا بدَّ للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأوَّلِ بدٌ من الآخرِ في الابتداء.
ومما يكون بمنزلة الابتداء قولك: كانَ عبدُ الله منطلقا، ولَيْتَ زيدا منطلقٌ؛ لأن هذا يَحتاج إلى ما بعده كاحتياج المبتدأ إلى ما بعده.
واعلم أن الاسم أولُ أحواله الابتداء، وإنما يَدخل الناصبُ والرافع(1/23)
سوى الابتداء والجارُّ على المبتدأ. ألا ترى أن ما كان مبتدأ قد تَدخل عليه هذه الأشياء حتى يكون غير مبتدأ، ولا تصل إلى الابتداء ما دام مع ما ذكرت لك إلا أن تَدعَه. وذلك أنّك إذا قلت عبدُ الله منطلقٌ إن شئت أدخلت رأيتُ عليه فقلت رأيتُ عبدَ الله منطلقا، أو قلت كان عبدُ الله منطلقا، أو مررتُ بعبد الله منطلقا، فالمبتدأ أول جزء كما كان الواحدُ أول العدد، والنكرةُ قبل المعرفة.
هذا باب اللفظ للمعاني
اعلم أنّ من كلامِهم اختلاف اللفظينِ لاختلاف المعنيينِ، واختلافَ اللفظينِ والمعنى واحدٌ، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين. وسترى ذلك إن شاء الله تعالى.
فاختلافُ اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلسَ وذهبَ. واختلاف اللفظين والمعنى واحدٌ نحو: ذهبَ وانطلقَ. واتفاق اللفظين والمعنى مختلِف قولك: وجَدتُ عليه من المَوْجِدة، ووجَدت إذا أردت وجِدان الضّالَّة. وأشباه هذا كثيرٌ.
هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض
اعلم أنّهم مما يَحذفون الكلم وإنْ كان أصلُه في الكلام غير ذلك،(1/24)
ويحذفون ويعوِّضون، ويَستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يستعمل حتَّى يصير ساقطاً. وسترى ذلك إن شاء الله.
فما حُذف وأصله في الكلام غير ذلك. لَمْ يَكُ ولا أَدْرِ، وأشباهُ ذلك. وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء فإنّهم يقولون يَدَعُ ولا يقولون وَدَع، استغنوا عنها بتَرَكَ. وأشباهُ ذلك كثير.
والعوض قولهم: زنادقة وزناديق، وفرازنة وفرازين، حذفوا الياء وعوّضوها الهاءَ. وقولهم أسْطاع يُسْطيعُ وإنّما هي أطاع يُطيع، زادوا السينَ عوضا من ذهاب حركة العين من أَفْعَلَ. وقولهم الّلهُم، حذفوا " يا " وألحقوا الميمَ عوضاً.
هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة
فمنه مستقيم حسنٌ، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
فأما المستقيم الحسن فقولك: أتيتُك أمْسِ وسآتيك غداً، وسآتيك أمس.(1/25)
وأما المستقيم الكذب فقولك: حَمَلتُ الجبلَ، وشربت ماء البحر " ونحوه.
وأما المستقيم القبيح فأنْ تضع اللفظ في غير موضعه، نحو قولك: قد زيداً رأيت، وكي زيداً يأتيك، وأشباه هذا.
وأما المحال الكذب فأن تقول: سوف أشرب ماء البحر أمسٍ.
هذا باب ما يحتمل الشعر اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يشبهونه بما قد حُذف واستعمل محذوفا، كما قال العجَّاج:
قَواطِناً مكةَ من وُرْقِ الحَمِى(1/26)
يريد الحمام. وقال خُفاَف بن نُدْبة السُّلَمىّ:
كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت بالثتين عصف الإثمد
وكما قال:
دارٌ لسُعْدَى إذْهِ من هَواكا
وقال:
فَطِرتُ بمُنْصُلِى في يَعْمَلاتٍ ... دَوامِى الأَيِد يَخْبِطْنَ السَّريحاَ
وكما قال النَّجاشّي:
فلستُ بآتِيه ولا أَستطِيعُه ... ولاكِ أسْقِني إِن كان ماؤُكِ ذا فضل(1/27)
وكما قال مالك بن خُرَيْمٍ الهمْدانيّ:
فإنْ يَكُ غَثَا أو سَميناً فإنّنى ... سأَجْعَلُ عينَيْه لنفسه مَقنْعَاَ
وقال الأعشى:
وأخو الغَوانِ متَى يشأ يصرمنه ... ويَعُدْنَ أَعداءً بُعَيْدَ وِدادِ
وربَّما مَدُّوا مثل مَساجد ومَنابر، فيقولون مَساجيد ومنابير، شبّهوه بما جُمع على غير واحدهِ في الكلام، كما قال الفرزدق:
تَنْفِي يَداها الحَصَى في كلَّ هاجرة ... نَفْىَ الدَّناَنيرِ تَنقادُ الصَّياريفِ(1/28)
وقد يبلغون بالمعتلّ الأصل فيقولون رداد في رادّ، وضننوا في ضنّوا، ومررتم بجواري قبل. قال قَعْنَبُ بن أمّ صاحب:
مَهْلاً أَعاذِلَ قد جربت من خلقى ... أنى أجود لأقوام وإن ضَنِنوا
ومن العرب من يثقَّل الكلمةَ إذا وقف عليها ولا يثقِّلها في الوصل، فإذا كان في الشعر فهم يُجرونه في الوصل على حاله في الوقف نحو: سَبْسَبَّا وكَلْكلاّ لأنهم قد يثقلونه في الوقف، فأثبتوه في الوصل كما أثبتوا الحذف في قوله لنفسه مقنعا، وإنما حذفُه في الوقف. قال رؤبة:
ضَخْمٌ يُحِبُّ الخُلُقَ الأَضْخَمَّا
يُروى بكسر الهمزة وفتحها. وقال بعضهم: " الضَّخَمَّا " بكسر الضاد.(1/29)
وقال أيضاً ي مثله، وهو الشمَّاخ:
له زَجَلٌ كأنهُ صوتُ حادٍ ... إذا طَلب الوَسيقَة أو زَميرُ
وقال حَنظلة بن فاتك:
وأَيْقَنَ أنّ الخيلَ إنْ تَلتبِسْ به ... يكنْ لفَسيلِ النّخلِ بعدَهُ آبِرُ
وقال رجلٌ من باهلة:
أو مُعْبَرُ الظّهْرِ يُنْبِي عن وَلِيتهِ ... ما حجّ رَبَّهُ في الدنيا ولا اعتمروا
وقال الأعشى:
وما لَهُ من مجدٍ تليدٍ وما لَهُ ... من الريح حظ لا الجنوب ولا الصبا(1/30)
وقال:
بيناهُ في دار صدقٍ قد أقام بها ... حيناً يُعَلَّلُناَ وما نُعلَّلهُ
ويحتمِلون قُبحَ الكلام حتَّى يضعوه في غير موضعه، لأنه مستقيم ليس فيه نقيض فمن ذلك قوله:
صَددْتِ فأطولتِ الصُّدودَ وقلّما ... وصال على طُولِ الصُّدود يَدومُ
وإنما الكلام: وقلَّ ما يَدوم وصالٌ.
وجعلوا ما لا يَجرى في الكلام إلاَّ ظرفاً بمنزلة غيره من الأسماء، وذلك قول المَّرار بن سَلاَمة العِجلىّ:
ولا يَنْطِقُ الفحشاءَ مَنْ كْان منهْم ... إذا جلسوا مِنَّا ولا مِنْ سَوائنا(1/31)
وقال الأعشى:
وما قَصدتْ من أَهلهَا لسَوائكا
وقال خِطامٌ المُجاشِعىّ:
وصالياتٍ كَكماَ يُؤَثْفَيْنْ
فعلوا ذلك لأَنَّ معنى سَواء معنى غيرٍ، ومعنى الكاف معنى مثل.
وليس شيء يضُطَرّون إليه إلا وهمْ يحاوِلون به وجها. وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره لك ههنا، لأنّ هذا موضع جُمَلٍ، وسنبيّن ذلك فيما نَستقبِلُ إن شاء الله.(1/32)
هذا باب الفاعل الذي لم يتعدّه فعلُه
إلى مفعول
والمفعول الذي لم يتعد إليه فِعْلُ فاعلٍ ولا يتعدَّى فعلُه إلى مفعول آخَر، وما يَعْملُ من أسماء الفاعلينَ والمفعولينَ عَمَلَ الفعل الذي يتعدَّى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر ذلك العملَ، وما يَجري من الصفات التي لم تَبلغ أن تكون في القوّة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تَجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعولٍ مَجراها، وما أُجرى مُجرى الفعل وليس بفعل ولم يَقْوَ قُوَّتَه، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرتُ لك ولا الصفَّاتِ التي هي من لفظ أحداث الأسماء وتكون لأَحداثها أمثلةٌ لما مضى ولما لم يَمْض، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين، التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدِّي إلى مفعول مَجراها، وليست لها قوّة أسماء الفاعلين التي ذكرتُ لك ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوّة الفعل ما جرى مجراها وليس بفعل.
هذا باب
الفاعل الذي لم يتعده فعله إلى مفعول آخر
والمفعول الذي لم يتعد إليه فاعلٍ ولم يتعدَّه فعلُه إلى مفعول آخر.
والفاعل والمفعول في هذا سَواء، يَرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل، لأنّك لم تَشْغَلٍ الفعل بغيره وفرغته، كما فعلت ذلك بالفاعل.
فأمَّا الفاعل الذي لا يَتعدّاه فعله فقولُك: ذَهَبَ زيدٌ وجَلَسَ عمروٌ.(1/33)
والمفعولُ الذي لم يتعدَّه فعله ولم يتعدَّ إليه فعلُ فاعلٍ فقولُك: ضُربَ زيدٌ ويُضْربُ عمرو. فالأسماء المحدَّثُ عنها، والأمثلةُ دليلةُ على ما مضى وما لم يمض من المحدَّث به عن الأسماءِ، وهو الذَّهاب والجلوس والضّرْب، وليست الأمثلة بالأحداث ولا ما يكون منه الأحداثُ وهي الأسماء.
هذا باب
الفاعل الذي يَتعداه فعلُه إلى مفعول
وذلك قولك: ضَرَبَ عبدُ الله زيداً. فعبدُ الله ارتفع ههنا كما ارتفع في ذَهبَ، وشغَلْت ضربَ به كما شغلتَ به ذهَب، وانتصب زيدٌ لأنه مفعول تعدّى إليه فعلُ الفاعل. فإن قدمتَ المفعولَ وأخَّرتَ الفاعل جرى اللفظُ كما جرى في الأوّل، وذلك قولك: ضَرَبَ زيداً عبدُ الله؛ لأنّك إنَّما أردت به مُؤخّرا ما أردت به مقدَّمًا، ولم تُرد أن تَشغلَ الفعل بأوَّلَ منه وإنْ كان مؤخراً في اللفظ. فَمن ثمَّ كان حدّ اللفظ أن يكون فيه مقدَّما، وهو عربيٌّ جيَّد كثير، كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أغنى، وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم.
وأعلم أنَّ الفعل الذي لا يَتعدّى الفاعل يتعدى إلى اسم الحَدَثان الذي أُخذ منه؛ لأنه إنما يُذْكَر لَيدلّ على الحدث. ألا ترى أنَّ قولك قد ذَهَبَ بمنزلة قولك قد كان منه ذَهَابٌ. وإذا قلت ضربَ عبدُ الله لم يستَبِن أنَّ المفعول زيدٌ أو عمرو، ولا يَدلُّ على صنفٍ كما أنُّ ذهَبَ قد دلّ على صِنف، وهو(1/34)
الذّهاب، وذلك قولك ذهَب عبدُ الله الذهابَ الشدِيد، وقَعَدَ قعدة سَوء، وقَعدَ قَعدتينِ، لمّا عَمِلَ في الحدث عمل في المرّة منه والمرّتينِ وما يكون ضرباً منه. فمن ذلك: قَعَدَ القُرفُصاءَ، واشتَمل الصَّمَّاءَ، ورَجَعَ القهقَرى، لأنه ضربٌ من فِعِلِه الذي أُخذ منه.
ويَتعدّى إلى الزَّمان، نحو قولك ذَهَبَ لأنه بُنى لمَا مضى منه وما لم يمض، فإذا قال ذَهَبَ فهو دليل على أنَّ الحدث فيما مضَى من الزمان، وإذا قال سَيذْهَبُ فإنه دليل على أنه يكون فيما يُستقبَل من الزَّمان، ففيه بيانُ ما مضَى وما لم يمضِ منه، كما أنّ فيه استدلالاً على وقوع الحدث. وذلك قولك قَعد شهرين، وسيقعد شهرين، وتقول: ذهبتُ أَمْسِ، وسأَذهَب غداً، فإن شئت لم تجعلهما ظرفا، فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان كما جاز في كل شيء من أسماء الحدث.
ويتعدّى إلى ما اشتُقّ من لفظه اسماً للمكان وإلى المكان؛ لأنه إذا قال ذهب أو قعد فقد عُلم أنَّ للحدث مكانا وإن لم يَذكره كما عُلم أنه قد كان ذهابٌ، وذلك قولك ذَهبتُ المذهبَ البعيدَ، وجَلستُ مجلساً حسنا، وقَعدْتُ مقعداً كريما، وقعدْتُ المكانَ الذي رأيت، وذهبتُ وجهاً من الوجوه. وقد قال بعضهم ذهب الشامَ، يشبّهه بالمبهَم، إذ كان مكاناً يَقع عليه المكانُ والمذهبُ. وهذا شاذَّ؛ لأنّه ليس في ذهبَ دليلً على الشام، وفيه دليلٌ على المذهبِ والمكانِ. ومثلُ ذهبت الشامَ: دخلتُ البيت. ومثل ذلك قول ساعدة بن جوية:(1/35)
لَدْنٌ بهَزَّ الكَفَّ يَعْسِل مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
ويَتعدّى إلى ما كان وقتا في الأمكنة كما يتعدّى إلى ما كان وقتا في الأزمنة لأنّه وقتٌ يقع في المكان، ولا يخُتصُّ به مكانٌ واحدٌ، كما في الزمن كان مثلَه؛ لأنَّك قد تَفْعَل بالأماكن ما تفعل بالأزمنة وإن كان الأزمنة أقوى في ذلك. وكذلك ينبغي أن يكون إذْ صار فيما هو أبعدُ نحو ذهبتُ الشامَ، وهو قولك ذهبتْ فرسخين، وسرتُ الميلينِ، كما تقول ذهبتُ شهرين وسرتُ اليومينِ. وإنَّما جُعِل في الزمان أقوى لأنَّ الفعلَ بنُى لما مضى منه وما لم يمض، ففيه بيانُ متى وقع، كما أنّ فيه بيانَ أنه قد وقع المصدرُ وهو الحَدَثُ. والأماكنُ لم يبن لها فعل، وليست بمصادر أُخِذَ منها الأمثلة، والأماكن إلى الأناسىَّ ونحوهم أقرب. ألا ترى أنهم يخصونها بأسماء كزيد وعمرو، وفي(1/36)
قولهم مكة وعمان ونحوها، ويكون منها خلق لا تكون لكلَّ مكان ولا فيه، كالجبل والوادي، والبحر. والدَّهرُ ليس كذلك. والأماكنُ لها جُثَّةٌ، وإنَّما الدهرُ مُضِىُّ الليلِ والنهارِ، فهو إلى الفعل أقربُ.
هذا باب الفاعل
الذي يَتعَّداهُ فعلُه إلى مفعولين فإن شئت اقتصرتَ
على المفعول الأول وإن شئت تعدّى إلى الثاني كما تعدى إلى الأول.
وذلك قولك: أعطَى عبدُ الله زيداً درهماً، وكسوتُ بشراً الثَّيابَ الجيادَ. ومن ذلك: اخترتُ الرجاَل عبدَ الله، ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " واختار موسى قومه سبعين رجلا "، وسميته زيداً، وكسيت زيداً أبا عبد الله، ودعوته زيداً إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سميته، وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحداً. ومنه قول الشاعر:
أسْتغفِرُ الله ذَنْباً لستُ مُحْصِيةَ ... ربَّ الِعبادِ إليه الوجْهُ والعَملُ
وقال عمرو بن معدٍ يكَرِب الزُّبيدىّ:
أَمَرتْكُ اَلخيَر فافْعَلْ ما أُمِرتَ به ... فقد تركتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ(1/37)
وإنما فُصِلَ هذا أنَّها أفعالٌ تُوصَلُ بحروفِ الإضافة، فتقولُ: اخترتُ فلاناً من الَّرجالِ، وسمّيته بفلان، كما تقول: عرّفتُه بهذه العلامة وأوضحتهُ بها، وأستغفِرُ الله من ذلك، فلمَّا حذفوا حرَف الجر عَمِلَ الفعلُ. ومثل ذلك قول المتلمَّس:
آلْيتَ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطعمُهُ ... والحبُّ يأكله في القرية السوس
يريد: على حَبَّ العراق.
وكما تقول: نُبَّئتُ زيداً يقول ذاك، أي عن زيد. وليست عن وعلى ههنا بمنزلة الباء في قوله: " كفى بالله شهيدا "، وليس بزيد؛ لأنَّ عن وعلى لا يفعَلُ بها ذاك، ولا بمنْ في الواجب.
وليست أستغفِرُ الله ذنباً وأمرتك الخيَر أكثرَ في كلامهم جميعاً، وإنَّما يَتكلّم بها بعضهم. فأمَّا سمَّيتُ وكنّيت فإنما دخلتْها الباءُ على حدّ ما دخلتْ في عرّفتُ، تقول عرّفتُه زيداً ثم تقول عرّفته بزيد، فهو سوى ذلك المعنى، فإنما تَدخل في سمَّيت وكنَّيت على حدّ ما دخلتْ في عرّفُته بزيد. فهذه(1/38)
الحروفُ كان أصلُها في الاستعمال أن توصل بحرف الإضافة.
وليس كل الفعل يُفعَلْ به ذها، كما أنه ليس كلُّ فعل يتعدَّى الفاعلَ ولاَ يَتعدَّى إلى مفعولين. ومنه قول الفرزدق:
منّاَ الذي اختِيرَ الرَّجالَ سَماحةً ... وجُوداً إذا هَبَّ الرياحُ الزّعازِعُ
وقال الفرزدق أيضاً:
نبئتُ عبدَ اللهِ بِالجَوّ أَصْبَحَتْ ... كِراماً مَوَالِيها لَئِيماً صميمهُا
هذا باب الفاعل
الذي يتَعدّاه فعلُه إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر
على أحد المفعولين دون الآخر
وذلك قولك: حَسِبَ عبد الله زيداً بكراً، وظن عمرو وخالداً أباك، وخالَ عبدُ الله زيداً أخاك. ومثل ذلك: رأي عبدُ الله زيداً صاحبنَا، ووجدَ عبدُ الله زيداً ذا الحِفاظ.(1/39)
وإنما مَنعك أن تقَتصر على أحد المفعولين ههنا أنَّك إنّمَا أردْتَ أن تبيّن ما استَقّر عندك من حال المفعول الأوّل، يقيناً كان أو شكّا، وذكرتَ الأوّلَ لتُعلِم الذي تُضيفُ إليه ما استَقّر له عندَكَ مَن هو. فإنّما ذكرتَ ظننتُ ونحوَه لتجعلَ خبر المفعول الأوّل يقينا أو شكّا، ولم ترد أن تَجعل الأوّل فيه الشَّك أو تقيم عليه في اليقين.
ومثل ذلك: علمتُ زيداً الظريفَ، وزعَم عبدُ الله زيدا أخاك.
وإن قلت رأيتُ فأردْتَ رؤيةَ العين، أو وجدتُ فأردْتَ وِجدانَ الضالة، فهو بمنزلة ضربتُ ولكنّك إنما تريد بوجدت عَلِمْتُ، وبرأيت ذلك أيضاً. ألا ترى أنَّه يجوز للأَعمى أن يقول: رأيتُ زيداً الصالحَ.
وقد يكون علمتُ بمنزلة عرفتُ لا تريد إلاَّ عِلْمَ الأوّل. فمن ذلك قوله تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت "، وقال سبحانه: " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " فهي ههنا بمنزلة عرفتُ كما كانت رأيت على وجهينِ.
وأمَّا ظننتُ ذاك فإنما جاز السكوتُ عليه لأنك قد تقول ظننت، فتقصر، كما تقول ذهبت، ثم تعمله في الظن كما تعمل ذهبت في الذهاب. فذاك ههنا هو الظّنُّ، كأنك قلت: ظننت ذاك الظن. وكذلك خِلتُ وحسِبت.
ويدَلُّك على أنَّه الظنُّ أنّك لو قلتَ خلتُ زيدا وأُرَى زيدا لم يجز.(1/40)
وتقول: ظننتُ به، جعلتَه موضعَ ظنَّك كما قلت نزلتُ به ونزلتُ عليه. ولو كانتِ الباءُ زائدة بمنزلتها في قوله عزّ وجلَّ: " كفى بالله " لم يجز السكْت عليها، فكأَنّك قلتَ: ظننتُ في الدارِ. ومثله شككتُ فيه.
هذا باب
الفاعل الذي يتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولينَ
ولا يجوز أن تقَتصر على مفعول منهم واحدٍ دون الثلاثة، لأنّ المفعول ههنا كالفاعل في الباب الأوَّل الذي قبله في المعنى.
وذلك قولك: أَرَى اللهُ بشراً زيداً أباك، ونَبَّأُتُ زيداً عمراً أبا فلان، وأَعْلَمَ الله زيْداً عمراً خيراً منك.
واعلم أنَّ هذه الأفعال إذا انتهتْ إلى ما ذكرت لك من المفعولينَ فلم يكن بعد ذلك متعدَّى، تَعدَّتْ إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعلُ الذي لا يتعدَّى الفاعل، وذلك قولك: أعْطَى عبدُ الله زيدًا المالَ إعطاءً حميلاً، وسرقتُ عبدَ الله الثوب الليلةَ، لا تَجعله ظرفاً، ولكن كما تقول: يا سارِقَ الليلة زيداً الثوب، لم تجعلها ظرفاً.
وتقول: أعملت هذا زيدا قائماً العلمَ اليقين إعلاماً، وأدخل اللهُ عمراً المُدْخَلَ الكريمَ إدخالا؛ لأنّها لما انتهت صارت بمنزلة ما لا يَتَعدّى.
هذا باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعولٌ
وذلك قولُك: كُسِيَ عبدُ الله الثوب، وأُعْطَى عبدُ الله المالَ. رفعتَ عبدَ الله ههنا كما رفعتَه في ضُرب حين قلتَ ضُرِبَ عبدُ الله، وشَغلتَ(1/41)
به كُسِيَ وأُعْطِىَ كما شغلت به ضُرِب. وانتصَب الثوبُ والمالُ لأنهما مفعولان تَعدّى إليهما مفعولٍ هو بمنزلة الفاعل.
وإن شئتَ قدّمتَ وأخّرتَ فقلتَ كُسىَ الثوبَ زيدٌ، وأُعْطِىَ المالَ عبدُ الله كما قلت ضرب زيداً عبدُ الله. فأمره في هذا كأمر الفاعل.
واعلم أنّ المفعولَ الذي لا يتعداهُ فعله إلى مفعول، يتعدى إلى كل شيء تعدى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعلُه إلى مفعول، وذلك قولك: ضرِبَ زيدٌ الضربَ الشديد، وضُرِبَ عبدُ الله اليومينِ الّلذينِ تَعْلَمُ، لا تَجعلُه ظرفا، ولكن كما تقول: يا مضروبَ الليلةِ الضربَ الشديدَ، وأُقْعِدَ عبدُ الله المُقْعَدَ الكريمَ.
فجميعُ ما تَعدَّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعله إلى مفعولٍ يَتعدَّى إليه فِعْلُ المفعول الذي لا يَتعدَّاه فعلُه.
وأعلم أنَّ المفعولَ الذي لم يَتعَّد إليه فعلُ فاعل في التعدِّى والاقتصار بمنزلة إذا تَعدَّى إليه فعلَ الفاعل؛ لأنَّ معناه متعدِّيا إليه فعلُ الفاعلِ وغيرَ متعدَّ إليه فعلُه سَواءٌ. ألا ترى أنّك تقول ضربتُ زيداً، فلا تُجاوِزُ هذا المفعولَ، وتقولُ ضُربِ زيدٌ فلا يَتعدَّاه فعلُه، لأن المعنى واحدٌ.(1/42)
وتقول: كَسَوْتُ زيداً ثوباً فتجاوِز إلى مفعولٍ آخَر، وتقول: كِسىَ زيدٌ ثوباً، فلا تجاوِزُ الثوبَ، لأنَّ الأوّل بمنزلة المنصوب، لأنّ المعنى واحدٌ وإن كان لفظُه لفظَ الفاعل.
هذا باب المفعول
الذي يَتعدَّاه فعلُه إلى مفعولين،
وليس لك أن تَقتصر على أحدهما دونَ الآخَر.
وذلك قولك: نُبّئتُ زيداً أبا فلان. لمَّا كان الفاعُل يَتعدَّى إلى ثلاثةٍ تَعدَّى المفعوُل إلى اثنين. وتقول أُرَى عبدَ الله أبا فلان، لأنّك لو أدخلتَ في هذا الفعل الفاعل وبنيته له لتَعدَّاه فعلُه إلى ثلاثةِ مفعولينَ.
وأعلم أنَّ الأفعال إذا انتهتْ ههنا فلم تجاوِزْ، تَعَدَّتْ إلى جميع ما تَعدَّى إليه الفعلُ الذي لا يَتعدَّى المفعولَ. وذلك قولك: أعطى عبدُ الله الثوبَ إعطاءً جميلا، ونُبِّئْتُ زيدًا أبا فلان تنبيئاً حسناً، وسُرق عبدُ الله الثوبَ الليلَةَ، لا تَجعلُه ظرفاً ولكن على قولك يا مسروقَ الليلةِ الثوبَ، صُيَّر فعلُ المفعول والفاعلِ حيث انتَهى فعلهما بمنزلة الفعل الذي لا يَتعدَّى فاعلَه ولا مفعولَه، ولم يكونا ليكونا بأضعفَ من الفعل الذي لا يَتعدَّى.(1/43)
هذا باب ما يَعْمَلُ فيه الفعلُ فيَنتصبُ وهو حالٌ
وقع فيه الفعلُ وليس بمفعولٍ
كالثَّوب في قولك كسوتُ الثوبَ، وفي قولك كسوتُ زيداً الثوبَ، لأنَّ الثوب ليس بحال وقع فيها الفعلُ ولكنّه مفعولٌ كالأوّل. ألاَ ترى أنّه يكون معرفةً ويكون معناه ثانياً كمعناه أوّلاً إذا قلت كسوتُ الثوبَ، وكمعناه إذا كان بمنزل الفاعلِ إذا قلتَ كُسِىَ الثوبُ.
وذلك قولك: ضربتُ عبدَ الله قائماً، وذهبَ زيدٌ راكباً. فلو كان بمنزلة المفعول الذي يَتعدّى إليه فعلُ الفاعلِ نَحْوُ عبد الله وزيدٌ ما جاز في ذهبتُ، ولجاز أن تقول ضربتُ زيداً أباك، وضربتُ زيداً القائمَ، لا تريد بالأب ولا بالقائم الصفةَ " ولا البَدَلَ "، فالاسم الأول المفعول في ضربتُ قد حالَ بينه وبين الفعل أن يكون فيه بمنزلته، كما حال الفاعلُ بينه وبين الفِعل في ذهبَ أنْ يكون فاعلا، وكما حالتِ الأسماء المجرورةُ بين ما بعدها وبين الجارّ في قَولك: لي مثلُه رَجُلاً، ولي مِلؤُهُ عَسَلاً، وكذلك ويحهُ فارساً؛ وكما منعتِ النُّونُ في عشرين أن يكونَ ما بعدها جرَّا إذا قلتَ: له عشرون درهما. فعَملُ الفعلِ هنا فيما يكون حالاً كعمل مثلُه فيما بعده، ألا ترى أنه لا يكون إلاّ نَكِرةً كما أنَّ هذا لا يكون(1/44)
إلاّ نكرةً، ولو كان هذا بمنزلة الثوب وزيدٍ في كسوتُ لما جاز ذهبتُ راكباً، لأنه لا يتعدى إلى مفعول كزيد وعمرو. وإنما جاز هذا لأنه حالٌ، وليس معناه كمعنى الثوب وزيدٍ، فّعمِل كعملِ غير الفعل ولم يكنْ أضْعَفَ منه، إذ كان يَتعدّى إلى ما ذكرتُ من الأزمنة والمصادر ونحوه.
هذا باب
الفعل الذي يَتعدّى اسمَ الفاعل إلى اسم المفعول
واسمُ الفاعل والمفعولِ فيه لشيء واحدٍ
فمن ثَمَّ ذُكِرَ على حِدَته ولم يُذْكَرْ مع الأول، ولا يجوز فيه الاقتصارُ على الفاعل كما لم يجز في ظَننتُ الاقتصارُ على المفعول الأوَّل، لأن حالك في الاحتياج إلى الآخر ههنا كحالك في الاحتياج إليه ثَمَّةَ. وسنبيَّن لك إن شاء الله.
وذلك قولك: كان ويكون، وصار، وما دام، وليسَ وما كان نحوهنَّ من الِفعل مما لا يَستغني عن الخبر. تقول: كان عبدُ الله أخاك، فإنَّما أردْتَ أن تُخْبِرَ عن الأُخوّة، وأدخلتَ كانَ لتَجعلَ ذلك فيما مضى. وذكرت الأول كما ذكرت المفعول الأول في ظننت. وإن شئتَ قلتَ: كان أخاك عبدُ الله، فقدّمتَ وأخّرتَ كما فعلتَ ذلك في ضَربَ لأنه فِعْلٌ مثلُه وحالُ التقديم والتأخير فيه كحالِه في ضرَبَ، إلاّ أنّ اسمَ الفاعل والمفعول فيه لشيءٍ واحد.(1/45)
وتقول: كُنَّاهم، كما تقول ضربناهم وتقول: إذا لم نكنْهم فمَن ذا يكونُهم، كما تقول إذَا لم نَضربُهم فمن يضربهم. قال أبو الأسود الدُّؤَلىّ:
فإنْ لا يَكُنْها أو تَكُنْه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
فهو كائن ومكَونٌ، كما تقول ضاربٌ ومضروبٌ.
وقد يكون لكاَنَ موضعٌ آخَرُ يُقتصَرُ على الفاعل فيه تقول: قد كان عبدُ الله، أي قَد خُلِق عبدُ الله. وقد كان الأمرُ، أي وقعَ الأمرُ. وقد دام فلانٌ، أي ثبت. كما تقول رأيتُ زيداً تريد رؤْية العين، وكما تقول أنا وَجَدتْهُ تريد وِجدان الضَّالَّة، وكما يكون أصبحَ وأَمسىَ مرّةً بمنزلة كان، ومرّةً بمنزلة قولك أسْتَيْقَظُوا ونامُوا.
فأمْا ليس فإَّنه لا يكون فيها ذلك، لأنها وضعَتْ موضعاً واحدا، ومن ثم لم تصرف تصَرُّفَ الفعلِ الآخَر.
فمَّما جاء على وَقَعَ قوله، وهو مقَّاسٌ العائِذِىُّ:(1/46)
فِدّى لبنْى ذُهْلِ بن شَيْبانَ ناقتى ... إذا كانَ يَوْمٌ ذو كواكِبَ أَشْهَبُ
" أي إذا وقع ". وقال الآخر، عمرو بنُ شَأْس:
بنى أَسَدٍ هل تَعْلَمُون بَلاءَنا ... إذا كان يَوْماً ذا كَواكب أشْنَعا
إذا كانت الحُوُّ الطوالُ كأَنما ... كساها السلاحُ الأرجوانَ المضلَّعا
أَضْمَرَ لعلم المخاطَبِ بما يَعْنى، وهو اليومُ. وسمعتُ بعض العرب يقول أشنعا ويرفَعُ ما قبلَهُ، كأَنَّه قال: إذا وقعَ يوم ذو كواكبَ أشنعَا.
واعلم أنه إذا وقع في هذا البابِ نكرةٌ ومعرفةٌ فالذي تَشْغَلُ به كان المعرفةُ، لأنه حد الكلام، لأنهما شيء واحد، وليس بمنزلة قولك: ضرب رجل زيداً لأنهما شيئان مختلفانِ، وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا قلت عبد الله منطلق. تبتدئ بالأعرف ثم تَذكر الخبرَ، وذلك قولك: كان زيدٌ حليماً، وكان حليماً زيدٌ، لا عليك أقدمت أم أخَّرتَ، إلا أنه على ما وصفتُ لك في قولك: ضربَ زيداً عبدُ الله. فإذا قلت: كان زيدٌ فقد ابتدأتَ بما هو معروف(1/47)
عنده مثلَه عندك فإنَّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: حليما فقد أعلمتَه مثلَ ما علمتَ. فإذا قلتَ كان حليماً فإنَّما ينتِظُر أن تعرفه صاحب الصفة، فهو مبدوء به في الفعل وإنْ كان مؤخَّراً في اللفظ. فإن قلتَ: كان حليم أو رجلٌ فقد بدأْتَ بنكرةٍ، ولا يستقيم أن تُخبِرَ المخاطَبَ عن المنكور، وليس هذا بالذي يَنْزِلُ به المخاطَبُ منزلتَك في المعرفة، فكرهوا أن يَقْرَبوا بابَ لبْسِ.
وقد تقول: كان زيدٌ الطويلٌ منطلقاً، إذا خفت التباسَ الزيدَيْنِ، وتقول: أسفيها كانَ زيدٌ أم حليما، وأَرَجُلا كان زيدٌ أم صبيًّا، تجعلها لزيد، لأنه إنما ينبغي لك أن تَسْأَلَه عن خبرِ مَن هو معروفٌ عنده كما حدَّثته عن خبر من هو معروفٌ عندك فالمعروفُ هو المبدوءُ به.
ولا يبدأ بما يكون فيه اللبسُ، وهو النكرة. أَلا ترى أنَّك لو قلت: كان إنسان حليماً أو كان رجل منطلقاً، كنتَ تُلْبسُ، لأنَّه لا يُستنكَرُ أن يكونَ في الدنيا إنسانٌ هكذا، فكرهوا أن يَبْدَءوا بما فيه الَّلبس ويَجعلوا المعرفة خبراً لما يكون فيه هذا اللبسُ.
وقد يجوز في الشعر وفي ضعْفٍ من الكلام. حَمَلَهم على ذلك أنه فِعْلٌ بمنزلة ضَرَبَ، وأنّه قد يُعلَم إذا ذكرتَ زيداً وجعلته خبرا أنه صاحبُ الصَّفة على ضعفٍ من الكلام، وذلك قول خِداش بن زُهير:
فإنّكَ لا تُبالي بعد حَوْلٍ ... أَظَبْىٌ كان أُمك أم حِمارُ(1/48)
وقال حسان بن ثابت:
كأَن سَبِيئَةً من بَيْتِ رَأْسِ ... يَكونُ مِزاجَها عَسَلٌ ومَاءُ
وقال أبو قيس بن الأَسلت الأنصاريّ:
أَلاّ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عنّي ... أَسِحْرٌ كانَ طِبَّك أَمْ جُنونُ
وقال الفرزدق:
أَسَكْرَانُ كانَ ابنَ المَرَاغِةِ إِذ هَجا ... تَمِيماً بجَوْفِ الشامِ أَمْ مُتَساكِرُ
فهذا إنشاء بعضهم. وأكثرُهم يَنْصِبُ السكرانَ ويَرْفع الآخِر على قطع وابتداء.
وإذا كان معرفةً فأنت بالخيار: أيُّهما ما جعلتَه فاعلا رفعته ونصبت(1/49)
الآخَر، كما فعلتَ ذلك في ضربَ، وذلك قولك: كان أخوك زيدا، وكان زيدٌ صاحبَك، وكان هذا زيدا، وكان المتكِلمُ أخاك.
وتقول: من كان أَخاك، ومن كان أخوك، كما تقول: مَن ضربَ أباك إذا جعلتَ مَنْ الفاعلَ، ومن ضربَ أبُوك إذا جعلت الأبَ الفاعلَ. وكذلك أَيُّهم كان أخاك وأيَّهم كان أخوك.
وتقول: ما كان أخاك إلاَّ زيدٌ كقولك ما ضربَ أخاك إلاَّ زيدٌ. ومثل ذلك قوله عز وجل: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ": " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا ". وقال الشاعر:
وقد عَلِمَ الأقوام ما كان داءها ... بثَهلانَ إلاّ الخِزْىُ مِمَّنْ يَقودُها
وإن شئت رفعتَ الأوّل كما تقول: ما ضرب أخوك إلا زيداً. و " قد " قرأ بعض القرّاء ما ذكرنا بالرفع.
ومثلُ قولهم: من كان أخاك، قولُ العرب ما جاءتْ حاجتَك، كأنّه قال: ما صارت حاجتَك، ولكنّه أدخل التأنيث على ما، حيث كانت(1/50)
الحاجَة، كما قال بعض العرب: من كانت أُمَّك، حَيْثُ أَوقع مَنْ على مؤنَّث. وإنما صُيَّرَ جاء بمنزلة كان في هذا الحرف وحده لأنه كان بمنزلة المثَل، كما جعلوا عَسَى بمنزلة كان في قولهم: " عسى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً "، ولا يقال: عَسَيْتَ أخانا. وكما جعلوا لَدُنْ مع غُدْوَةَ منّونةً في قولهم لَدُنْ غُدْوَةً. ومن كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضعٍ على غير حاله في سائر الكلام، وسترى مثل ذلك إن شاء الله.
ومن يقول من العرب: ما جاءتْ حاجتُك، كثيرٌ، كما يقول من كانتْ أمُّك. ولم يقولوا ما جاء حاجتَك كما قالوا مَنْ كان أمَّك، لأنَّّه بمنزلة المَثَل فألزموه التاءَ، كما اتفقوا على لعمر كان في اليمين.
وزعم يونسُ أنه سمع رُؤبة يقول: ما جاءتْ حاجتُك؛ فيرفَع.
ومثلُ قولهم ما جاءتْ حاجتَك إذ صارتْ تقَع على مؤنَّث، قراءةُ بعض القرّاء: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا " و " تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَِةِ ". وربَّما قالوا في بعض الكلام: ذهبتْ بعض أصابعه، وإنما أنث البعضَ لأنّه أضافه إلى مؤنّثٍ هو منه، ولو لم يكن منه لم يُؤنَّثْه، لأنه لو قال: ذهبتْ عبدُ أمَّك لم يَحْسُنْ.(1/51)
ومما جاء مثلُه في الشعر قول الشاعر، الأعشى:
وتَشْرَق بالقول الّذي قد أذَعْتَهُ ... كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّمِ
لأن صدرَ القناة من مؤنثٍ. ومثله قول جرير:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليَتيم
لأنَّ " بعضَ " ههنا سِنونَ. ومثله قول جريرٍ أيضاً:
لَمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
ومثله قول ذي الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مَرُّ الرياحِ النّواسمِ(1/52)
وقال العجّاج:
طُولُ الليالي أسْرعتْ في نَقْضِى
وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق به: اجتَمعتْ أهلُ اليمامِة، لأنَّه يقول في كلامه: اجتمعتِ اليمامةُ، يعني أهل اليمامة، فأنّث الفِعْلَ في اللفظ إذْ جعله في اللفظ لليمامة، فترك اللفظَ يكونُ على ما يكون عليه في سعة الكلام.
ومثل " في هذا " يا طَلْحَةَ أَقْبِلْ، لأنَّ أكثَر ما يَدعُو طلحةَ بالترخيم فَتَرَك الحاَء على حالها. ويا تيم تيم عدي أَقبِلْ. وقال الشاعر جرير:
يا تَيْمَ تَيْمَ عَدِىًّ لا أبا لكمُ ... لا يُلْقِيَنَّكُمُ في سوءة عمر
وسترى هذا مبيناً في مواضعه إن شاء الله.
وتركُ التاء في جميع هذا " الحدُّ والوجهُ. وسترى ما " إثباتُ التاء فيه حسنٌ إن شاء الله " من هذا النحو، لكثرته في كلامهم. وسيبيَّن في بابه ".
فإن قلت: مَنْ ضَرَبَتْ عبدُ أُمّك، أو هذه عبدُ زَيْنَبَ لم يجُز،(1/53)
لأنه ليس منها ولا بها، ولا يجوز أن تلفظ بها و " أنت " تريد العبد.
هذا باب تخبر فيه عن النّكرِة بنكرة
وذلك قولك: ما كان أحدٌ مثلَك، وما كان أحدٌ خيراً منك، وما كان أحدٌ مجترِئا عليك.
وإنّما حَسُنَ الإخبارُ ههنا عن النكرة حيث أردت أن تَنفِىَ أنْ يكونَ في مثل حاله شىءٌ أو فوقه، ولأن المخاطَبَ قد يحتاج إلى أن تُعْلِمهَ مثلَ هذا.
وإذا قلت كان رجلٌ ذاهِباً فليس في هذا شيءٌ تُعِلمهُ كان جَهِلَه. ولو قلت كان رجلٌ من آل فلانٍ فارساً حسن؛ لأنه قد يحتاج إلى أن تعلمه أن ذاك في آل فلانٍ وقد يَجْهلَُه. ولو قلتَ كان رجلٌ في قومٍ عاقلا لم يَحسنْ؛ لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل وأن يكونَ من قومٍ. فعلى هذا النحوِ يَحْسُنُ ويَقْبُُحُ.
ولا يجوز لأحدٍ أن تَضعه في موضعِ واجبٍ، لو قلتَ كان أحد من(1/54)
آل فلان لم يجز، لأنّه إنما وقع في كلامهم نفْياً عاماً. يقول الرجلُ: أتاني رجلٌ، يريد واحداً في العدد لا اثنين فيقال: ما أتاك رجلٌ، أي أتاك أكثرُ من ذلك، أو يقول أتاني رجلٌ لا أمرأةٌ فيقال: ما أتاك رجل، أي امرأة أتتْك. ويقول: أتاني اليومَ رجلٌ، أي في قوّته ونفاذه، فتقُول: ما أتاك رجلٌ، أي أتاك الضُّعفاءُ. فإذا قال: ما أتاك أحدٌ صار نفياً " عامّا " لهذا كلَّه، فإنما مجراه في الكلام هذا. ولو قال: ما كان مثلُك أحداً، أو ما كان زيدٌ أحداً كان ناقضاً؛ لأنه قد عُلمَ أنه لا يكون زيدٌ ولا مثلُه إلاّ من الناس. ولو قلتَ ما كان مثلَك اليومَ أحدٌ فإِنّه يكون أن لا يكون في اليوم إنسانٌ على حاله، إلاَّ أن تقول: ما كان زيدٌ أحداً، أي من الأحَدِينَ. وما كان مثلك أحد على وجه تصغيره، فَتصير كأنَّك قلت: ما ضَرَبَ زيدٌ أحداً وما قَتلَ مثلُك أحداً.
والتقديمُ والتأخيرُ في هذا بمنزلته في المعرفة وما ذكرتُ لك من الفعل. وحسنُتِ النّكرةُ " ههنا " في هذا الباب لأنّك لم تجعلِ الأعرفَ في موضع الأنكرِ، وهما مُتكافِئان كما تكافأتِ المعرفتان، ولأنّ المخاطَبَ قد يَحتاج إلى عِلم ما ذكرتُ لك وقد عَرَفَ من تَعْنِى بذلك كمعرفتك.
وتقول: ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك، وما كان أحدٌ مثلُك فيها، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك، إذا جعلتَ فيها مستقَرَّا ولم تَجعلْه على قولك فيها زيدٌ قائم، أَجريتَ الصفة على الاسم. فإن جعلتَه على قولك فيها زيدٌ(1/55)
قائمٌ " نصبتَ "، تقول: ما كان فيها أحدٌ خيراً منك، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها، إلاّ أنك إذا أردت الإلغاء فكلّما أَخّرتَ الذي تلغيهِ كان أحسنَ. وإذا أردت أن يكون مستقراً تكتفي به فكلما قدمته كان أحسن، لأنه إذا كان عاملاً في شيء قدمته كما تقدم أظن وأحسب، وإذا أَلغيتَ أَخّرتَه كما تؤخَّرهما، لأنهما ليسا يَعملانِ شيئاً.
والتقديمُ ههنا والتأخير " فيما يكون ظرفاً أو يكون اسماً، في العناية والاهتمامِ، مثلُه فيما ذكرتُ لك في باب الفاعل والمفعول. وجميعُ ما ذكرت لك من التقديم والتأخير " والإلغاء والاستقرار عربي جيّد كثير، فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: " ولم يكن له كفوا أحد ". وأهل الجَفاَء من العرب يقولون: ولم يكن كفواً له أَحدٌ، كأنهم أخّروها حيث كانت غيرَ مستقَرَّة. وقال الشاعر:
لَتَقْْرُبِنَّ قَرَباً جُلْذِياَّ ... ما دامَ فيهن فصل حياَّ
فقدْ دَجا اللَّيلُ فَهَِيَّا هِيَّا(1/56)
هذا باب
ما أُجْرَى مَجْرى لَيْسَ في بعض المواضع
بلغة أهل الحجاز، ثم يَصيرُ إلى أصله وذلك الحرفُ " ما ". تقول: ما عبدُ الله أخاك، وما زيدٌ منطلقاً.
وأمّا بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل، أي لا يعلمونها في شيء وهو القياس، لأنه ليس بفعل وليس ما كليس، ولا يكون فيها إضمار.
وأما أهلُ الحجاز فيشبَهونها بلَيْسَ إذ كان معناها كمعناها، كما شبّهوا بها لاتَ في بعض المواضع، وذلك مع الحِين خاصّةً، لا تكون لاتَ إّلا مع الحين، تُضْمِرُ فيها مرفوعا وتَنْصِبُ الحين لأنّه مفعول به، ولم تَمكَّنْ تمكُّنَها ولم تستعمل إلا مضَمراً فيها، لأنها ليس كليس في المخاطَبة والإِخبار عن غائبٍ، تقول لستَ " ولستِ " وليسوا، وعبدُ الله ليس ذاهبا، فتَبْنِى على المبتدإ وتُضْمِرُ فيه، ولا يكون هذا في لات لا تقول: عبدُ الله لات منطلقاً، ولا قومك لاتوا منطلقين.
ونظير لاتَ في أنّه لا يكون إِلاَّ مضمرَا فيه: ليس ولا يكون في الاستثنار، إذا قلت أتَوْني ليس زيداً ولا يكونُ بشراً.(1/57)
وزعموا أنّ بعضَهم قرأ: " وَلاَتَ حِينُ مناَص " وهي قليلة، كما قال بعضهم في قول سعد بن مالك القيسى:
مَنْ فَرَّ عن نِيرانِها ... فأنا ابْنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
جَعلها بمنزلة ليس، فهي بمنزلة لاتَ في هذا الموضع في الرفع.
ولا يجاوَزُ بها هذا الحين رفعتَ أو نصبتَ، ولا تَمكَّنُ في الكلام كتمكُّن ليس، وإنَّما هي مع الحين كما أن لَدُنْ إنّما يُنْصَبُ بها(1/58)
مع غُدْوَةً، وكما أنّ التاء لا تَجرُّ في القسم ولا في غيره إلاّ في الله، إذا قلت تاللهِ لأَفْعَلَنَّ.
ومثلُ ذلك قوله عزّ وجلّ: " ما هذا بشرا " في لغة أهل الحجاز. وبنو تميم يَرْفعونها إلاَّ من دَرى كيف هي في المُصحَفِ. فإذا قلت: ما منطلقٌ عبدُ الله، أو ما مُسِئٌ مَنْ أعْتَبَ، رفعتَ. ولا يجوز أن يكونَ مقدّما مثلَه مؤخَّرا، كما أنَّه لا يجوز أن تقول: إنَّ أخوك عبدَ الله على حدّ قولك: إنَّ عبدَ اللهِ أخوك، لأنَّها ليست بفعل، وإنَّما جُعلتْ بمنزلته فكما لم تتصرَّف إنَّّ كالفعل كذلك لم يَجُزْ فيها كلُّ ما يجوز فيه ولم تَقْوَ قوّتَه فكذلك ما.
وتقول: ما زيدٌ إلاّ منطلقٌ، تَستَوي فيه اللغتان. ومثله قوله عزّ وجل: " ما أنتم إلا بشر مثلنا " لما تَقْوَ ما حيثُ نقضْتَ معنى ليس كما لو تَقْوَ حين قدّمتَ الخبرَ. فمعنى ليس النفىُ كما أنّ معنى كان الواجبُ، وكل واحدٍ منهما، يعني وكان وليس، إذا جرّدته فهذا معناه. فإن قلتَ ما كان، أَدخلتَ عليها ما يُنْفَى به. فإن قلتَ ليس زيدٌ إلاّ ذاهبا أَدخلتَ ما يوجِبُ كما أدخلتَ ما يَنْفِي. فلم تَقْوَ ما في بابِ قَلْبِ المعنى كما لم تَقْوَ في تقديم الخبر.(1/59)
وزعموا أنّ بعضَهم قال، وهو الفرزدق:
فأصبْحُوا قد أعادَ اللهُ نِعْمَتَهُمْ ... إذ هُمْ قْرَيْشٌ وإذا ما مِثلَهُمْ بَشَرُ
وهذا لا يَكاد يُعْرَف، كما أنّ " لاتَ حينُ مَناصٍ " كذلك. ورُبَّ شيء هكذا، وهو كقول بعضهم: هذه ملحفة جديدة، في القِلَّةِ.
وتقول: ما عبدُ الله خارجاً ولا مَعْنٌ ذاهبٌ، تَرفعه على أن لا تُشَركَ الاسمَ الآخِرَ في ما ولكن تَبْتَدِئُهُ، كما تقول: ما كان عبدُ الله منطلقا ولا زيدٌ ذاهبٌ، إذا لم تجعله على كانَ وجعلتَه غير ذاهب الآن. وكذلك ليس. وإن شئت جعلتها لا التي يكون فيها الاشتراك فتنصب كما تقوم في كان: ما كان زيدٌ ذاهبا ولا عمرو منطلقا. وذلك قولُك: ليس زيدٌ ذاهبا ولا أخوك منطلقا، وكذلك ما زيدٌ ذاهبا ولا معنٌ خارجا.
وليس قولُهم لا يكون في ما إلاّ الرفعُ بشيء، لأنَّهم يَحتجّون بأنّك لا تستطيعُ أن تقول ولا ليس ولا ما، فأنت تقول ليس زيدٌ ولا أخوه ذاهَبيْنِ وما عمرو ولا خالدٌ منطلقَيْنِ، فُتشْرِكُه مع الأوّل في ليس وفي ما.(1/60)
فما يجوز في كان، إلاَّ أنّك إن حملتَه على الأوّل أو ابتدأتِ فالمعنى أنّك تَنْفِى شيئاً غيرَ كائن في حال حديِثك. وكانَ " الابتداءُ " في كانَ أَوْضَحَ، لأنّ المعنى يكونُ على ما مضى وعلى ما هو الآن. وليس يمتَنِع أن يراد به الأوّل كما أردتَ في كان.
ومثلُ ذلك قولك إن زيداً ظريف وعمرو وعمراً، فالمعنى في الحديث واحدٌ وما يراد من الإِعمال مختلِفٌ " في كان وليس وما ".
وتقول: ما زيدٌ كريما ولا عاقلا أبوه، تَجعلُه كأنّه للأوّل بمنزلةِ كريمٍ لأنه ملتبسٌ به، إذا قلتَ أبوه تُجريه عليه كما أجريتَ عليه الكريمَ، لأنّك لو قلت: ما زيدٌ عاقلا أبوه نصبتَ وكان كلاماً.
وتقول: ما زيد ذاهباً ولا عاقل عمرو، لأنك لو قلتَ ما زيدٌ عاقلاً عمرو لم يكن كلاماً، لأنّه ليس من سببِه، فتَرفعُه على الابتداء والقطع من الأوّلِ، كأنّك قلت: وما عاقل عمرو. ولو جعلتَه من سببِه لكانَ فيه له إضمارٌ كالهاء في الأبِ ونحوِها، ولم يَجُزْ نصبهُ على ما، لأنّك لو ذكرتَ ما ثُمَّ قدَّمتَ الخبرَ لم يكنْ إلاّ رفعاً. وإن شئت قلت: ما زيد ذهباً ولا كريمٌ أخوه، إن ابتدأتَه ولم تجعله على ما، كما فعلت ذلك حين بدأتَ بالاسم.
ولكنّ ليس وكان يجوز فيهما النصبُ وإن قدّمت الخبرَ ولم يكن ملتبساً لأنّك لو ذكرتهما كان الخبرُ فيهما مقدَّما مثلَه مؤخَّرا، وذلك قولك: ما كان زيدٌ ذاهبا ولا قائماً عمروٌ.(1/61)
وتقول ما زيدٌ ذاهبا ولا مُحْسِنٌ زيدٌ، الرفعُ أَجْوَدُ وإن كنت تريد الأوّلَ، لأنَّك لو قلتَ ما زيدٌ منطلقا زيدٌ لم يكن حدَّ الكلام، وكان ههنا ضعيفا، ولم يكن كقولك ما زيدٌ منطلقا هو، لأنّك قد استغنيتَ عن إظهاره وإنَّما ينبغي لك أن تُضْمِرَه. ألاَ ترى أنّك لو قلتَ ما زيدٌ مُنْطلقاً أبو زيدٍ لم يكن كقولك ما زيدٌ منطلقا أبوه، لأنّك قد استغنيتَ عن الإظهار، فلّما كان هذا كذلك أُجرى مُجرى الأجْنَبىَّ واستُؤْنِفَ على حاله حيثُ كان هذا ضعيفاً فيه. وقد يجوز أن تنصب. قال الشاعر، وهو سواد ابن عدي:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقِيرا(1/62)
فأعاد الإظهارَ. وقال الجعدىّ:
إذا الوَحْشُ ضَمَّ الوَحْشَ في ظُلُلاتَهِا ... سَواقِطُ مِنْ حَرٍّ وقد كانَ أظْهَراَ
والرفعُ الوجهُ. وقال الفرزدق:
لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتارِكِ حَقَّهِ ... ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسَّرُ
وإذا قلت: ما زيدٌ منطلقا أبو عمرو، وأبو عمرو أبوه، لم يجز، لأنّك لم تُعرَّفْه به ولم تَذْكُرْ له إضماراً ولا إظهاراً فيه، فهذا لا يجوز لأنك لم نجعل له فيه سبباً.
وتقول: ما أَبو زَيْنَبَ ذاهباً ولا مقيمةٌ أمُّها ترفع، لأنّك لو قلتَ: ما أبو زَيْنَبَ مُقَيمة أمُّها لم يجزْ، لأنها ليست من سببه وإنما عَمِلتْ ما فيه لا في زينبَ. ومن ذلك قول الشاعر، وهو الأعْوَرُ الشَّنَّىّ:(1/63)
هَوَّنْ عليكَ فإِنّ الأُمور ... بكَفَّ الاِلهِ مَقاديُرها
فَليس بآتِيكَ مَنْهيِهُّا ... ولا قاصِرٌ عنك مأْموُرهُا
لأنه جعل المأمورَ من سبب الأُمور ولم يجعله من سبب المذكَّر وهو المَنهىّ. وقد جره قوم فجعلوه المأمورَ للمنهىّ، والمنِهىُّ هو الأُمورُ لأنّه من الأُمور وهو بعضُها، فأجراه وأَنّثه كما قال جرير:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فَقدَ أَبى اليَتِيمِ
ومثل ذلك قول الشاعر، النابغة الجعدىّ:
فلَيْسَ بِمَعْروفٍ لنا أنْ نَرُدَّها ... صِحاحاً ولا مُسْتَنْكَرٌ أَنْ تعُقَّرَا
كأنّه قال: ليس بمعروف لنا رَدُّها صحاحا ولا مستَنْكَرٌ عَقرُها، والعَقْر ليس للردّ. وقد يجوز أن يَجُرَّ ويَحملَه على الردّ ويؤنَّثَ لأنَّه من الخيل، كما قال ذو الرُّمّة:(1/64)
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها من الرَياح النُّواسِمِ
كأنّه قال: تسفَّهَتْها الرّياحُ، وكأنه قال: ليس بآتِيَتَكَ مَنْهِيُّها وليس بمعروفةٍ ردُّها، حين كان من الخيل والخيل مؤنثة فأَنّث.
ومثل هذا قوله تعالى جدّه: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "، أَجْرَى الأوّلَ على لفظ الواحد والآخِرَ على المعنى. هذا مثلُه في أنه تُكُلَّمَ به مذكّراً ثم أُنَّثَ، كما جَمَعَ ههنا، وهو في قوله ليس بآتِيَتِكَ مَنْهِيُّها، كأنّه قال: ليس بآتيتك الأُمورُ. وفي ليس بمعرفة ردها، كأنه قال: ليس بمعرفة خيلُنا صِحاحاً.
وإن شئتَ نَصَبْتَ فقْلتَ: ولا مستنكَراً أن تُعَقَّرا ولا قاصراً عنك مأمورها، على قولك: ليس زيد ذاهبا ولا عمرو ومنطلقاً، أو ولا منطلقا عمرو.
وتقول: ما كلُّ سوداء تمرةً ولا بيضاءَ شحمةٌ، وإن شئت نصبتَ(1/65)
شحمةً. وبيضاءُ في موضع جرٍّ، كأنك أظهرت كلَّ فقلتَ ولا كلُّ بيضاءَ. قال الشاعر أبو داود:
أكُلَّ امرئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأَ ... ونارٍ تَوَقَّدُ باللَّيْلِ نارَا
فاستغنيتَ عن تثنية كل لذكرك إِيَّاه في أوّل الكلام ولقلّة التباسِه على المُخاطَبِ. وجاز كما جاز في قولك: ما مِثْلُ عبدِ الله يقول ذاك ولا أخِيهِ، وإن شئتَ قلت: ولا مثلُ أخيه. فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه. وتفريقُه أن تقول: ما مثلُ عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يَكْرَهُ ذاك. ومثل ذلك ما مثلُ أخيك ولا أبيك يقولانِ ذاك. فلمّا جاز في هذا جاز في ذلك.
هذا باب
ما يُجَرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله
وذلك قولك: ليس زيدٌ بجبَانٍ ولا بَخيلا، وما زيد بأخيك ولا صاحبَك.(1/66)
والوجهُ فيه الجرُّ لأنَّك تريد أن تُشْرِكَ بين الخبرَيْنِ، وليس ينقض إجْرَاؤُهُ عليك المعنى. وأن يكونَ آخِرهُ على أوّله أولى، ليكون حالُهما في الباء سواءً كحالهما في غير الباء، مع قُربه منه.
وقد حَمَلَهم قُربُ الجِوارِ على أنْ جرُّوا: هذا جُحْرُ ضبٍ خربٍ، ونحوَه، فكيف ما يصِحُّ معناه.
وممَّا جاء من الشعر في الإِجراءِ على الموضع قول عقيبة الأسدي:
معاوي إننا بَشَرٌ فأَسْجِحْ ... فلسنا بالجِبال ولا الحديداً
لأن الباء دخلت على شيء لو لم تَدخل عليه لم يُخِلَّ بالمعنى ولم يُحْتَجْ إليها وكان نصبا. ألا ترى أنَّهم يقولون حسبُك هذا وبحسبِك هذا، فلم تغير الباء(1/67)
مَعنّى. وجرى هذا مَجْراهُ قبْلَ أن تَدْخُلَ الباءُ، لأنّ بحسبِك في موضعِ ابتداءٍ. ومثلُ ذلك قول لبيد:
فإنْ لَمْ تَجِدْ مِن دونِ عَدْنانَ والِداً ... ودونَ معدٍ فَلْتَزَعْكَ العَوَاذِلُ
والجَرُّ الوجهُ.
ولو قلت: ما زيدٌ على قومِنا ولا عندَنا كان النصبُ ليس غيرُ، لأنّه لا يجوز حَمْلُه على على. ألا ترى أنك لو قلت: ولا علَى عندِنا لم يكن، لأنّ عندّنا لا تُستَعْمَلُ إلاَّ ظرفاً، وإنما أزدت أن تُخْبِرَ أنه ليس عندكم.
وتقول: أخذَتَنْا بالجَوْد وفَوْقَه، لأنّه ليس من كلامهم وبفَوْقِهِ.
ومثل ودُونَ معدٍ قول الشاعر، وهو كعبُ بن جُعَيْلٍ:
أَلاَ حَىَّ نَدْمَانىِ عُمَيْرِ بنِ عامرٍ ... إذا ما تلاَقَينا من اليومِ أو غدا(1/68)
وقال العجّاج:
كَشْحّا طَوَى مِنْ بَلَدَ مُخْتارَا ... مِنْ يَأْسِة اليائسِ أو حِذارَا
وتقول: ما زيد كعمرو ولا شبيهاً به، وما عمرو كخالدٍ ولا مُفْلِحاً، النصبُ في هذا جيّدٌ، لأنَّك إنما تريد ما هو مثلَ فلانٍ ولا مُفْلِحاً. هذا وجه الكلام. فإن أردت أن تقول ولا بمنزلة من يشبهه جررت، وذلك قولك ما أنت كزيد ولا شبيهٍ به، فإنما أردت ولا كشبيهٍ به.
وإذا قلت ما أنت بزيد ولا قريبا منه فإنه ليس ههنا معنى بالباء لم يكن قبل أن تَجئ بها، وأنت إذا ذكرتَ الكافَ تُمَثَلُ. وتكون قريباً ههنا إن شئتَ ظرفاً. فإِن لم تجعل قريباً ظرفا جاز فيه الجرُّ على الباء والنصبُ على الموضع.
هذا باب
الإضمار في ليسَ وكانَ كالإِضمار في إن
إذا قلت: إنه من يأتينا نأْتِه، وإنّه أَمَةُ الله ذاهبةٌ.(1/69)
فمن ذلك قولُ بعض العرب: ليس خَلَقَ اللهُ مثلَه. فلولا أنّ فيه إضماراً لم يجز أن تَذْكُرَ الفعلَ ولم تُعْمِله في اسم، ولكن فيه الإضمار مثلُ ما في إنَّهُ.
وسوف نبيَّنُ حالَ هذا في الإضمارِ وكيف هو إن شاء الله. قال الشاعر، وهو حُمَيْدٌ الأرْقَطُ:
فأصْبَحُوا والنَّوىَ عالي مُعَرَّسِهِمْ ... وليسَ كلَّ النَّوَى تُلْقِى المسَاكينُ
فلو كان كلّ على ليس ولا إضمارَ فيه لم يكن إلا الرفعُ في كل، ولكنه انتصَب على تُلْقى. ولا يجوز أن تَحملَ المساكين على ليس وقد قدَّمت فجعلتَ الذي يعْمَلُ فيه الفعلُ الآخِرُ يَلِى الأوّلَ، وهذا لا يَحْسُن. لو قلتَ كانتْ زيداً الحُمىَّ تَأْخُذُ أو تَأخذ الحُمَّى لم يجز، وكان قبيحاً.(1/70)
ومثلُ ذلك في الإضمار قولُ بعض الشعراء، العجَيْر، سمعناه ممّن يوثَقُ بعربّيته:
إذا مِتُّ كانَ الناسُ صِنفانِ: شامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنِ بالّذى كنتُ أصْنَعُ
أضمرَ فيها. وقال بعضهم: كانَ أنت خير منه كأنّه قالَ إنّه أنت خيرٌ منه. ومثله: كادَ تَزِيغُ قُلوُبُ فَرِيقٍ منْهُمْ، وجاز هذا التفسيرُ لأنَّ معناه كادتْ قلوبُ فريق منهم تزيغ، كما قلت: ما كان الطّيبُ إلاّ المسكُ على إعمالِ ما كان الأمرُ الطيبُ إلاّ المسكُ، فجاز هذا إذ كان معناه ما الطيبُ إلاَّ المسكُ.
وقال هشامٌ أخو ذى الرمة:
هي الشفاء لدائى لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول
ولا يجوز ذا في ما في لغة أهل الحجاز؛ لأنَّه لا يكون فيه إضمارٌ.
ولا يجوز أن تقول: ما زيداً عبدُ الله إضماراً، وما زيداً أنا قاتلاً، لأنَّه لا يَستقيم كما لم يَستقيم في كان وليس، أن تقدَّم ما يَعْمَلُ فيه الآخِرُ. فإِن رفعتَ الخبرَ حَسُنَ حملُه على اللغة التَّميمية، كما قلت: أمّا زيداً فأنا ضاربٌ،(1/71)
كأنّك لم تذكر أمّا وكأنّك لم تذكر ما، وكأنّك قلت: زيداً أنا ضاربٌ.
وقال مزاحم العقيلى:
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى منى أنا عارف
وقال بعضهم:
وما كلُّ مَنْ وافَى مِنّى أنا عارِفُ
لزِمَ اللغةَ الحجازِيَّة فرفعَ، كأنّه قال: ليس عبدُ الله أنا عارِفٌ، فأضمرَ الهاء في عارفٍ. وكان الوجهُ عارفهُ حيث لم يُعْمَلْ عارفٌ في كلٍّ، وكان هذا أحسنَ من التقديم والتأخير، لأنَّهم قد يَدَعُون هذه الهاء في كلامهم وفي الشعرِ كثيراً، وذلك ليس في شيء من كلامهم ولا يكاد يكون في شعرٍ. وستَرى ذلك إن شاء الله.
هذا باب
ما يَعْمَلُ عَمَلَ الفعل ولم يَجْرِ مَجرى الفعل
ولم يَتمكَّن تمكُّنَه
وذلك قولك ما أحْسَنَ عبدَ الله. زعم الخليلٌ أنه بمنزلة قولك: شيء أحسنَ عبدَ اللهِ، ودَخَلَه معنى التعجُّب. وهذا تمثيل ولم يُتَكلَّم به.(1/72)
ولا يجوز أن تُقَدَّمَ عبدَ الله وتؤخَّرَ ما ولا تزيلَ شيئاً عن موضعه، ولا تقول فيه ما يُحْسِنُ، ولا شيئاً مما يكون في الأفعال سوى هذا.
وبناؤه أبدا من فَعَلَ وَفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، هذا؛ لأنهم لم يريدوا أن يتَصرَّف، فجعلوا له مثالاً واحدا يَجرى عليه، فشُبَّهَ هذا بما ليس من الفعل نحو لاتَ وما. وإن كان من حَسُنَ وكَرُمَ وأَعْطَى، كما قالوا أَجْدَلٌ فجعلوه اسماً وإن كان من الجَدْل وأْجرى مُجْرَى أَفْكلٍ.
ونظير جعلِهم ما وحدها اسماً قولُ العرب: إنَّى ممّا أنْ أصنعَ، أي من الأمر أن أَصنعَ، فجُعل ما وحدهَا اسماً.
ومثلُ ذلك غَسَلْتُه غَسْلاً نِعِمَّا، أى نِعْمَ الغسلُ.
وتقول: ما كان أحسنَ زيداً، فتَذْكر كان لتدلّ أَنه فيما مضى.
هذا باب الفاعلَيْنِ والمفعولَيْن
اللذين كلُّ واحد منهما يَفْعَلُ بفاعله مثل الذى يَفْعَلُ به وما كان نحو ذلك
وهو قولك: ضربتُ وضَربَنَى زيدٌ، وضربَنى وضربتُ زيداً، تَحمل الاسمَ على الفعل الذى يَليه. فالعاملُ في اللفظ أحدُ الفعلينِ، وأمّا في المعنى(1/73)
فقد يُعْلم أنَّ الأوّل قد وقع إلاّ أنّه لا يُعْمَلُ في اسمٍ واحدٍ نصبٌ ورفعٌ.
وإنّما كان الذى يليه أوْلَى لقُربِ جِواره وأنه لا ينقُضُ معنىً، وأنّ المخاطَبَ قد عَرَفَ أنَّ الأوّلَ قد وقع بزَيْدٍ، كما كان خَشَّنْتُ بصدرِه وصدرِ زيدٍ، وجهَ الكلاِم، حيث كان الجرُّ في الأول وكانتِ الباءُ أقربَ إلى الاسم من الفعل ولا تَنقض معنّى، سَوَّوْا بيْنهما في الجرّ كما يَسْتَوِيان في النصب.
ومما يقوَّى تركَ نحوِ هذا لعلم المخاطَب، قولُه عزّ وجلّ: " والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " فلم يُعْمِل الآخِرَ فيما عمل فيه الأوّلُ استغناءً عنه ومثلُ ذلك: ونَخْلَعُ ونَتْرُكُ من يَفْجُرك.
وجاء في الشعر من الاستغناء أشدُّ من هذا، وذلك قول قيسِ بن الخَطيم:(1/74)
نَحْنُ بِما عِنْدنا وأنتَ بِما ... عِنْدَكَ راضٍ والرأي مختلف
وقال ضابيء البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رَحْلُهُ ... فإِنّى وقَيّاراً بها لَغَرِيبُ
وقال ابن أَحمرَ:
رَمانى بأمرٍ كنتُ منه ووالِدِى ... بَرِيئاً ومن أَجْلِ الطوِىَّ رَمانِى(1/75)
فوَضع في موضع الخبر لفظَ الواحد لأنّه قد عَلِم أنَّ المخاطَبَ سيَستدلّ به على أن الآخَرِين في هذه الصفة. والأولُ أجودُ لأنّه لم يَضَعْ واحداً في موضع جمعٍ، ولا جمعاً في موضع واحدٍ.
ومثله قولُ الفرزدق:
إنَّى ضَمِنْتُ لمنْ أَتانِى ما جَنَى ... وأَبَى فكانَ وكنتُ غيرَ غَدُورِ
تركَ أن يكون للأول خبرٌ حين استغنى بالآخِر لعِلم المخاطَب أنَّ الأوّلَ قد دخل في ذلك. ولو تَحْمِل الكلامَ على الآخِرِ لقلتَ: ضربتُ وضربوني قومَك، وإنّما كلامُهم: ضربتُ وضربَنى قومُك. وإذا قلت ضربَنىِ، لم يكنَ سبيلٌ للأوّلَ، لأنّك لا تقول ضربَنى وأنت تَجعْلُ المُضْمَر جميعاً، ولو أعملتَ الأوّلَ لقلتَ مررتُ ومرَّ بي بزيدٍ. وإنَّما قُبح هذا أَنَّهم قد جعلوا الأقربَ أولى إذا لم يَنْقُضْ معنًى. قال الشاعر، وهو الفرزدق:(1/76)
ولكِنّ نِصفاً لو سبَبَْتُ وسبَنَّى ... بَنُو عَبْدِ شَمْسِ من مَنافٍ وهاشم
وقال طُفيلٌ الغنوىّ:
وكمْتاً مُدَمّاةً كأنّ مُتونَها ... جَرَى فوقَها واسْتَشْعَرَتْ لَوْنَ مُذْهَبِ
وقال رجل من باهلةَ:
ولَقَدْ أَرَى تَغْنَى به سَيْفانَة ... تُصْبِى الحَلِيمَ ومثلُها أَصْبَاهُ
فالفعلُ الأوّل في كل هذا مُعْمَلٌ في المعنى وغيرُ مُعْمَلِ في اللفظ، والآخِرُ مُعْمَلٌ في اللفظ والمعنى.(1/77)
فإِن قلتَ: ضربتُ وضربوني قومَك نصبتَ، إلا في قول من قال: أَكَلُونى البراغيثُ، أو تَحملُه على البَدَل فتجعله بدلاً من المضمَر، كأنّك قلت: ضربتُ وضربنى ناسٌ بنو فلان.
وعلى هذا الحدَّ تقول: ضربتُ وضربنى عبدَ الله، تُضْمِرُ فى ضربَنْى كما أضمرتَ فى ضربونى.
فإن قلت: ضربَنى وضربَتُهم قومُك رفعتَ لأنَّك شغلتَ الآخِر فأضمرتَ فيه، كأنّك قلت ضربَنْى قومُك وضربتهم على التقديم والتأخير، إلاّ أن تَجعل ههنا البدل كما جعلته فى الرفَع. فإن فعلت ذلك لم يكن بدٌّ من ضربونى لأنّك تضْمِرُ فيه الجمعَ. قال عُمَرُ بنُ أبى ربيعةَ:
إذا هى لم تَسْتَكْ بِعُودِ أراكَةٍ ... تُنُخَّلَ، فاسْتَاكتْ به، عُودُ إسْحِلِ
لأنه أضمرَ فى آخر الكلام. وقال المرار الأسدي:
فرد على الفُؤاد هَوًى عَميداً ... وسُوئلَ لو يُبينُ لنا سؤالاَ
وقد نَغْنَى بها ونرى عُصوراً ... بها يَقْتَدْنَنَا الخُرُدَ الخِدالاَ(1/78)
حدّثنا به أبو الخَطَّاب عن شاعرِه.
وإذا قلت: ضربونى وضربتُهم قومَك جعلتَ القومَ بدلا من هُمْ؛ لأنَّ الفعل لا بد له من فاعلٍ، والفاعلُ ههنا جماعةٌ وضميرُ الجماعة الواوُ.
وكذلك تقول: ضربوني وضربتُ قومَك، إذا أَعْمَلْتَ الآخِر فلا بدَّ فى الأّوّل من ضمير الفاعلِ لئلاَّ يَخْلُوَ من فاعلٍ. وإنَّما قلت: ضربتُ وضربَنى قومُك فلم تَجعل في الأوّل الهاءَ والميمَ، لأنّ الفعل قد يكون بغير مفعول ولا يكون الفعلُ بغير فاعل.
وقال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفانِى ولم أطْلُبْ قليلٌ مِنَ المَالِ
فإنَّما رفعَ لأنَّه لم يَجعل القليلَ مطلوباً، وإنَّما كانَ المطلوبُ عندهَ المُلْكَ وجعل القليل كافياً، ولو لم يرد ونصبَ فَسَدَ المعنى.
وقد يجوز ضربتُ وضربَنى زيدا؛ لأنَّ بعضَهم قد يقول: متى رأيتَ أو قلتَ زيداً منطلقاً، والوجهُ متى رأيتَ أو قلتَ زيدٌ منطلقٌ.
ومثلُ ذلك فى الجوازِ ضربَنى وضربتُ قومُك، والوجهُ أن تقولَ: ضربونى وضربتُ قومَك، فتحملَه على الآخِر. فإن قلت: ضربَنى وضربتُ قومَك(1/79)
فجائز وهو قبيحٌ، أَنْ تَجعل اللفظ كالواحد كما تقول: هو أَحسنُ الفِتيانِ وأجملُه وأَكرمُ بَنِيه وأَنبَلُه.
ولا بد من هذا، لأنّه لا يَخلو الفعلُ من مضمَرٍ أو مظهَرٍ مرفوعٍ من الأسماء، كأنّك قلت إذا مثّلتَه: ضربَنى مَن ثَمَّ وضربتُ قومَك. وتركُ ذلك أجود وأحسن، للتبيان الذي يجيء بعده، فأُضمر مَنْ لذلك.
قال الأخفش: فهذا رديء في القياس يَدخل فيه أنْ تقول: أَصحابُك جلس، تضمر شيئاً يكون في اللفظ واحداً. فقولهم: هو أَظْرَفُ الفِتيانِ وأجملُه لا يُقاس عليه، ألا ترى أنَّك لو قلت وأنت تريد الجماعةَ: هذا غلامُ القومِ وصاحبهُ لم يَحسن.
هذا باب
ما يكون فيه الاسمُ مبنياً على الفعل قُدَّمَ أو أُخَّرَ
وما يكون فيه الفعلُ مبنيّا على الاسم
فإذا بنيتَ الاسمَ عليه قلتَ: ضربتُ زيدا، وهو الحدُّ، لأنّك تريد أن تُعْمِلَه وتَحملَ عليه الاسمَ، كما كان الحدُّ ضَربَ زيدٌ عمراً، حيث كان زيدٌ أوّلَ ما تشغَل به الفعل. وكذلك هذا إذا كان يَعْمَلُ فيه. وإن قدمتَ الاسمَ فهو عربيٌ جيّد كما كان ذلك عربيّا جيّدا، وذلك قولك: زيداً ضربتُ، والاهتمام(1/80)
والعناية هنا فى التقديم والتأخير سَواءٌ، مثلُه في ضرب زيد عمراً وضرب عمراً وزيد.
فإذا بنيتَ الفعلَ على الاسم قلتَ: زيدٌ ضربته، فلزمته الهاء. وإنما تريد بقولك مبنى عليه الفعل أنّه فى موضع منطلقٍ إذا قلتَ: عبدُ الله منطلقٌ، فهو فى موضع هذا الذى بُنى على الأول وارتَفع به، فإنّما قلت عبدُ الله فنسبته له ثمّ بنيتَ عليه الفعلَ ورفعتهَ بالابتداء.
ومثلُ ذلك قولُه جلّ ثناؤه: " وأما ثمود فهديناهم " وإنما حَسُنَ أن يُبْنَى الفعلُ على الاسم حيث كان مُعْمَلاً فى المُضْمَرِ وشَغَلْتَه به، ولولا ذلك لم يحسن؛ لأنك لم تشغله بشيء.
وإن شئت قلت: زيداً ضربتُه، وإنَّما نصبهُ على إضمار فعلٍ هذا يفَّسره، كأنّك قلتَ: ضربتُ زيدأً ضربتُه، إلاّ أنّهم لا يُظهِرون هذا الفعلَ هنا للاستغناءِ بتفسيره. فالاسمُ ها هنا مبني على هذا المضمَرِ.
ومثلُ ترك إظهار الفعل ها هنا تركُ الإظهار فى الموضع الذى تَقَدَّمَ فيه الإضمارُ، وستراه إن شاء الله.(1/81)
وقد قرأ بعضُهم: " وأما ثمود فهديناهم ". وأنشدوا هذا البيتَ على وجهينِ: على النصب والرفع، قال بِشْرُ بنُ أبى خَازِمٍ:
فأمّا تميمٌ تميمُ بنُ مُرٍّ ... فأَلفاهُم القومُ رَوْبَى نِيامَا
ومنه قول ذى الرمّة:
إذا ابْنُ أبي مُوسَى بِلالٌ بَلَغْتِهِ ... فقامَ بَفأسٍ بينَ وِصْلَيْكِ جازر
فالنصب عربيٌ كثيرٌ والرفْعُ أَجودُ، لأنّه إذا أراد الإِعمال فأقرب(1/82)
إلى ذلك أن يَقولَ: ضربتُ زيدا وزيداً ضربتُ، ولا يُعمِل الفعلَ في مضمَر، ولا يَتناولَ به هذا المتناوَلَ البعيدَ. وكلُّ هذا من كلامهم. ومثل هذا: زيدا أُعطيتُ وأُعطيت زيدا وزيدٌ أُعطيتُه؛ لأن أُعطيتُ بمنزلة ضُربتُ. وقد بُيّن المفعولُ الذى هو بمنزلة الفاعل فى أول الكتاب.
فإن قلت: زيدٌ مررتُ به فهو من النصب أَبْعَدُ من ذلك، لأنَّ المضمَر قد خَرَجَ من الفعل وأُضيفَ الفعلُ إليه بالباء، ولم يوصَلْ إليه الفعلُ فى اللفظ، فصار كقولك: زيدٌ لقيتُ أخاه. وإن شئت قلتَ: زيداً مررتُ به تريد أن تُفَسَّرَ به مضمَرا، كأنّك قلت إذا مثّلتَ ذلك: جعلتُ زيدا على طريقى مررتُ به، ولكنَّك لا تُظهر هذا الأوّلَ لما ذكرتُ لك.
وإذا قلت: زيدٌ لقيتُ أخاه فهو كذلك، وإن شئتَ نصبتَ، لأنّه إذا وقع على شيء من سببه فكأنّه قد وقع به. والدليلُ على ذلك أنّ الرجل يقول أهَنْتَ زيداً بِإهانتك أخاه وأكرمتَه بإِكرامك أخاه. وهذا النحوُ فى الكلام كثيرٌ، يقول الرجلُ إنْما أعطيتُ زيداً، وإنما يريد لمكان زيد أَعطيتُ فلانا. وإذا نصبتَ زيداً لقيتُ أخاه، فكأنّه قال: لا بست زيدا لَقِيتُ أخاه. وهذا تمثيلٌ ولا يُتكلَّم به، فجرى هذا على ما جرى عليه قولك أَكرمتُ زيدا، وإِنَّما وصلت الأُثرةُ إلى غيره.(1/83)
والرفع فى هذا أحسنُ وأجود، لأنّ أقربَ إلى ذلك أن تقول: مررتُ بزيد ولقيتُ أخا عمرو.
ومثلُ هذا فى البناء على الفعل وبناء الفعل عليه أَيُّهم وذلك قولهم: أَيَّهم تَر يأتِك، وأَيُّهم تَرَهُ يأْتِك. والنصبُ على ما ذكرتُ لك، لأنه كأنه قال: أيَّهم تَرَ تَرَهُ يأتِك، فهو مثلُ زيدٍ فى هذا الباب. وقد يفارِقهُ فى أشياءَ كثيرةٍ ستُبَيّنُ إن شاء الله.
هذا باب ما يَجْرِى ممّا يكون ظرفاً هذا المجرَى وذلك قولك يومُ الجُمعة أَلقاك فيه، وأقلُّ يومٍ لا أَلقاك فيه، وأَقلُّ يومٍ لا أصومُ فيه، وخَطيئُة يومٍ لا أَصيدُ فيه، ومكانُكم قمتُ فيه. فصارت هذه الأَحرفُ تَرتفع بالابتداء كارتفاع عبِد الله، وصار ما بعدها مبنيَّا عليها كبناء الفعل على الاسم الأوّل، فكأنّك قلتَ: يومُ الجمعةُ مبارَكٌ ومكانُكم حسنٌ، وصار الفعُل فى موضع هذا.
وإنَّما صار هذا كهذا حين صار فى الآخِرِ إضمارُ اليوم والمكانِ، فخرج مِنْ أنْ يكونَ ظرفا كما يخُرجُ إِذا قلتَ: يومُ الجمعةِ مبارَكٌ، فإِذا قلت: يومُ الجمعة صُمتْهُ فصُمتهُ فى موضع مباركٍ حيثُ كان المُضْمَرُ هو الأوَّلَ كما كان المبارَكُ هو الأوّلَ.(1/84)
ويدَخل النصبُ فيه كما دخل فى الاسم الأوّل، ويجوز فى ذلك يومَ الجمعةِ آتيك فيه وأَصومُ فيه، كما جاز فى قولك: عبدَ الله مررتُ به كأنه قال: أَلقاك يومَ الجمعةِ، فنصبَه لأنّه ظرفٌ ثم فسَّر فقال أَلقاكَ فيه. وإن شاء نصبه على الفعل نفسِه كما أَعمل فيه الفعلَ الذى لا يتعدى إلى مفعول، كل ذلك عربي جيّد. أوْ نَصبهَ لأنّه ظرفٌ لفعلٍ أَضْمَرَه، وكأنّه قال: يومَ الجمعةِ أَلقاك.
والنصبُ فى: يومَ الجمعة صُمْته ويومَ الجمعة سِرْتُه، مثلُه فى قولِك: عبدَ الله ضربتُه، إِلاّ أنّه إِن شاء نصبَهَ بأنّه ظرفٌ، وإِن شاء أَعمَلَ فيه الفعلَ كما أَعملَهُ فى عبد الله، لأنّه يكونُ ظرفاً وغيرَ ظرفٍ.
ولا يحسُنُ فى الكلام أن يَجْعَلَ الفعلَ مبنيَّا على الاسم ولا يَذْكُرَ علامةَ إِضمارِ الأوّل حتى يَخرج من لفظِ الإِعمال فى الأوّل ومن حالِ بناء الاسم عليه ويَشْغَلَه بغير الأوّل حتى يمتنِعَ من أن يكونَ يَعْمَلُ فيه، ولكنّه قد يجوز فى الشعر، وهو ضعيفٌ فى الكلام. قال الشاعر، وهو أبو النجم العِجْلىّ:
قد أَصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعى ... علّى ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ
فهذا ضعيفٌ، وهو بمنزلته فى غير الشَّعر؛ لأنّ النصب لا يسكر البيتَ ولا يُخِلُّ به تركُ إِظهار الهاء. وكأنه قال: كلُّه غيرُ مصنوع. وقال امرُؤُ القيس:(1/85)
فأَقْبَلتُ زَحْفاً علَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فثَوْبٌ لبست وثَوْبٌ أَجُرّْ
وقال النَّمِرُ بن تَوْلَبٍ:
فَيْومٌ عَلينا ويوم لنا ... ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَرّْ
سمعناه من العرب ينشدونه. يريدون: نُساءُ فيه ونُسَرّْ فيه.
وزعموا أنّ بعض العرب يقول: شهرٌ ثَرى، وشهرٌ تَرى، وشهرٌ مرْعَى. يُريد: تَرى فيه. وقال:
ثَلاثُ كلّهُنّ قَتلتُ عَمْدا ... فاَخْزَى الله رابعة تَعُودُ
فهذا ضعيفٌ، والوجهُ الأكثرُ الأعرفُ النصبُ، وإنَّما شبّهوه بقولهم:(1/86)
الذى رأيتُ فلانٌ، حيث لم يَذكروا الهاء. وهو فى هذا أحسن، لأن رأيتُ تمامُ الاسم، به يتم، وليس بخبرٍ ولا صفةٍ، فكَرهوا طولَه حيث كان بمنزلة اسمٍ واحدٍ، كما كرِهوا طولَ اشْهِيبابٍ فقالوا: اشْهِباب. وهو فى الوصف أمثلُ منه فى الخبر وهو على ذلك ضعيفٌ، ليس كحُسنْه بالهاء، لأنّه فى موضع ما هو من الاسم وما يَجْرِى عليه، وليس بمنقطعٍ منه خبرا مبنيًّا عليه ولا مبتدأً، فضارَعَ ما يكون من تَمامِ الاسم وإن لم يكن تماماً له ولا منه فى البناء. وذلك قولُك: هذا رجلٌ ضربتهُ، والناسُ رجلانِ: رجلٌ أكرمته ورجلٌ أهنتهُ، كأنّه قال: هذا رجلٌ مضروبٌ، والناسُ رجلانِ: رجلٌ مُكْرَمٌ ورجلٌ مْهان. فإن حذفتَ الهاء جاز وكان أَقْوَى ممّا يكون خبراً. وممّا جاء فى الشعر من ذلك قولُ جرير:
أَبَحْتَ حمَى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح(1/87)
يريد الهاء. وقال الشاعر، الحرث بن كَلَدَةَ:
فما أَدْرِى أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ ... وطُولُ العَهْدِ أَمْ مالٌ أَصَابُوا
يريد: أصابوه، ولا سبيلَ إلى النصب وإن تركَتَ الهاء لأنَّه وصفٌ، كما لم يكن النصبُ فيما أَتممتَ به الاسم، يعنى الصلةَ. فمن ثمَّ كان أقوى مما يكون فى موضع المبنىّ على المبتدإ، لأنه لا يُنْصَبُ به. وإنّما مَنَعَهم أن يَنْصِبُوا بالفعل الاسمَ إذا كان صفةً له أن الصفة تمامُ الاسم، ألا ترى أنّ قولَك مررتُ بزيدٍ الأَحمرِ كقولك مررتُ بزيد، وذلك أنكّ لو احتجتَ إلى أن تَنعت فقلتَ: مررتُ بزيد وأنت تريد الأحمرَ وهو لا يُعْرَفُ حتّى تقول الأَحمر، لم يكن تَمَّ الاسمُ، فهو يَجرِى منعوتا مَجْرى مررت بزيد إذا كان يُعْرَف وحدَه، فصار الأَحمر كأنّه من صلته.
باب ما يُختار فيه إعمالُ الفعل مما
يكون فى المبتدإ مبنياً عليه الفعلُ وذلك قولك: رأيتُ زيدا وعمراً كلَّمتهُ ورأيتُ عبد الله وزيداً مررتُ به، ولقيتُ قيسا وبكراً أخذْتُ أباه، ولقيتُ خالدا وزيدا اشتريتُ له ثوبا.
وإنَّما اختيرَ النصبُ ههنا لأنّ الاسم الأوّلَ مبنىٌّ على الفعل، فكان بناءُ الآخِرِ على الفعل أحسنَ عندهم إذ كان يُبْنَى على الفعل وليس قبله اسمٌ مبنىٌّ على الفعل، لَيجرىَ الآخِرُ على ما جَرَى عليه الذي يليه قبله، إذ كان(1/88)
لا ينقض المعنى لو بنيتهَ على الفعل. وهذا أولى أن يُحمَلَ عليه ما قَرُبَ جِوارهُ منه، إذ كانوا يقولون: ضربونى وضربتُ قومَك، لأنّه يليه، فكان أن يكونَ الكلامُ على وجهٍ واحدٍ - إذا كان لا يمتَنِعُ الآِخرُ من أن يكونَ مبنياً على ما بُنى عليه الأولُ - أقربَ فى المأْخَذ.
ومثلُ ذلك قوله عزَّ وجلَّ: " يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ". وقوله عزَّ وجلَّ: " وَعَاداً وَثَمُوداً وَأَصْحَابَ الرَّسَّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً. وكُلاَّ ضَرَبْنَا لهُ اْلأَمثَالَ ". ومثلُه: " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ". وهذا فى القرآن كثير.
ومثل ذلك: كنتُ أخاك وزيدا كنتُ له أخاً، لأنّ كنتُ أخاك بمنزلة ضربتُ أخاك. وتقول: لستُ أخاك وزيدا أعنتُك عليه، لأنها فعلّ وتَصَرَّفُ فى معناها كتصرُّف كانَ. وقال الشاعر، وهو الربيعُ بن ضَبُعٍ الفَزارِىُّ:
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السّلاحَ ولا ... أَملك رَأْسَ البعَيرِ إن نَفَرَا(1/89)
والذّئْبَ أَخْشاه إن مررتُ به ... وَحْدِى وأَخْشَى الرياح والمطرا
وقد يبتد أفيحمل على مثل ما يُحْمَلُ عليه وليس قبله منصوبَّ، وهو عربى جيدَّ. وذلك قولك: لَقيتُ زيدا وعمروٌ كلَّمته، كأنَّك قلت: لقيتُ زيدا وعمروٌ أفضلُ منه. فهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأنك لم تذكر فعلا. فإذا جاز أن يكون فى المبتدإ بهذه المنزلة جاز أن يكون بين الكلامين. وأقربُ منه إلى الرفع: عبد الله لقيت وعمرو لقيت أخاه، وخالدا رأيت وزيدٌ كلَّمت أباه. هو ها هنا إلى الرفع أقربُ، كما كان فى الابتداء من النصب أَبعدَ.
وأما قوله عزَّ وجلَّ: " يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم "، فإنما وجهوه على أنه يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ فى هذه الحال، كأنه قال: إذ طائفةٌ فى هذه الحال، فإنَّما جَعَلَه وقتاً ولم يُرِدْ أن يجعلها واوَ عطفٍ، وإنما هى واوُ الابتداء.
ومما يُختار فيه النصب لنصب الأوّل قوله: ما لقيتُ زيداً ولكن عمرا مررتُ به، وما رأيتُ زيدا بل خالدا لقيتُ اباه، تُجرِيه على قولك: لقيت زيداً وعمرا لم أَلْقَهُ، يَكون الآخِرُ فى أنه يُدْخِلُه فى الفعل بمنزلة هذا حيث(1/90)
لم يُدخِله، لأن بل ولكن لا تَعملانِ شيئاً وتشركانِ الآِخرَ مع الأوّل، لأنّهما كالواو وثُمَّ والفاء، فأَجرهما مُجراهنّ فيما كان النصبُ فيه الوجهَ وفيما جاز فيه الرفعُ.
هذا باب يُحْمَلُ فيه الاسمُ
على اسمٍ بُنِىَ عليه الفعلُ مَرَّةً ويُحْمَلُ مَرَّةً أُخْرَى على اسمٍ مبنيّ على الفعل أىَّ ذلك فعلتَ جاز. فإِن حمَلتَه على الاسم الذى بُنى عليه الفعلُ كان بمنزلته إذا بنيتَ عليه الفعل مبتدأ، يجوز فيه ما يجوز فيه، إذا قلتَ: زيدٌ لقيتهُ، وإن حَملته على الذى بُنَى على الفعل اختيرَ فيه النصبُ كما اختير فيما قبله، وجاز فيه ما جاز فى الذى قبله.
وذلك قولك: عمرو ولقيته وزيد كلمته، إن حملت الكلام على الأول. وإن حملته على الآخر قلت: عمرو لقيته وزيداً كلمته.
ومثل ذلك قولك: زيد لقيت أباه وعمرا مررت به، إن حملته على الأب. وإن حملته على الأول رفعت.
والدليلُ على أنّ الرفع والنصب جائز كلاهما، أنَّك تقول: زيدٌ لقيتُ أباه وعمراً، إن أردت أنَّك لقيتَ عمراً والأبَ. وإن زعمتَ أنّك لقيتَ أبا عمرو ولم تَلْقَهُ رفعتَ.
ومثل ذلك: زيدٌ لقيتهُ وعمروٌ، إنْ شئت رفعتَ وإنْ شئتَ قلت: زيدٌ لقيتهُ وعمراً. وتقول أيضاً: زيد ألقاه وعمراً وعمر. فهذا يُقَوَّى أنكّ بالخيار فى الوجهَيْنِ.(1/91)
وتقول: زيد ضربني وعمرو مررت به، إن حملتَه على زيد فهو مرفوعٌ لأنّه مبتدأ والفعلُ مبنىٌّ عليه، وإن حملتَه على المنصوب قلت زيدٌ ضربَنى وعمراً مررت به لأن هذا الإضمار بمنزلة الهاء فى ضربته. فإِن قلت: ضربنى زيدٌ وعمراً مررت به، فالوجهُ النصبُ لأنّ زيدا ليس مبنياَّ عليه الفعل مبتدأ، وإنما هو ههنا بمنزلة التاء فى ضربتُه، وذكرتَ المفعولَ الذى يجوز فيه النصب فى الابتداء، فحملتَه على مثل ما حملت ما قبله وكان الوجهَ، إذ كان ذلك يكون فيه فى الابتداء.
وإذا قلتَ: مررتُ يزيد وعمراً مررتُ به، نصبتَ وكان الوجهَ، لأنّك بدأت بالفعل ولم تَبتدئ اسما تَبنيه عليه، ولكنّك قلت: فعلتُ ثم بنيتَ عليه المفعول وإن كان الفعلُ لا يَصِلُ إليه إلاَّ بحرف الإِضافة، فكأَنّك قلت: مررتُ زيدا. ولولا أنّه كذلك ما كان وجهُ الكلام زيدا مررتَ به، وقمتُ وعمراً مررتُ به. ونحوُ ذلك قولك: خَشّنْتُ بصدره فالصدرُ فى موضع نصب وقد عملت الباء. و " كَفَى باِلله شَهِيداً بَيْنِى وبَيْنَكُمْ " إنّما هى كفى اللهُ، ولكنَّك لمّا أَدخلتَ الباءَ عَمِلَتْ، والموضُع موضعُ نصب وفى معنى النصب. وهذا قولُ الخليل رحمه الله.(1/92)
وإذا قلت: عبدُ الله مررتُ به أَجريتَ الاسم بعدَه مُجراه بَعْدَ: زيدٌ لقيتهُ، لأنّ مررتُ بعبدِ الله يُجرى مُجْرَى لقيتُ عبدَ الله. وتقول: هذا ضاربٌ عبدَ الله وزيداً يَمُرُّ به إن حملتَه على المنصوب، فإِن حملته على المبتدإ وهو هذا رفعتَ. فإِن أَلقيتَ النونَ وأنت تُريدُ معناها فهو بتلك المنزلة، وذلك قولك: هذا ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً سيَضْرِبهُ. ولولا أنّه كذلك لما قلتَ: أَزيداً أنت ضاربُه وما زيدا أنا ضاربهُ. فهذا نحُو مررتُ بزيد، لأنًَّ معناه منَّوناً وغيرَ منوَّن سواءٌ، كما أنَّك إذا قلت: مررتُ بزيد فكأَنّك قلت: مررتُ زيدا.
وتقول: ضربتُ زيدا وعمراً أنا ضَاربُه، يُختارُ هذا كما يُختارُ فى الاستفهام.
وممّا يُختار فيه النصبُ قولُ الرجل: مَنْ رأَيتَ وأَيَّهم رأيتَ، فتقول: زيدا رأيتُه، تُنْزِله منزلة قولك: كلّمتُ عمرا وزيداً لقيتُه. ألا ترى أن الرَّجُلَ يقول: مَنْْ رأيتَ فتقولُ: زيداً على كلامه فيَصيرُ هذا بمنزلة قولك رأيتُ زيدا وعمرا، يجرى على الفعل كما يجرى الآخِر على الأوّل بالواو. ومثل ذلك قولك: أرأيتَ زيدا، فتقولُ لا ولكنْ عمراً مررتُ به. ألاَ ترى أنّه لو قال لا ولكن عمراً، لَجَرى على أرأيتَ. فإِن قال: من رأيتَه وأيُّهم رأيتَه فأجَبْْتَه قلتَ زيدٌ رأيتُه، إلاّ فى قول من قال زيدا رأيتُه فى الابتداء، لأنّ هذا كقولك: أيُّهم منطلقٌ ومَنْ رسولٌ؟ فيقول فلانٌ. وإن قال: أعبدَ اللهِ مررتَ به أمْ زيداً قلت: زيداً مررتُ به، كما فعلتَ ذلك فى الأوّل. فإِن قلت لا بل زيداً فانْصِبْ أيضاً كما تقول زيداً إذا قال من رأيت؟ لأنّ مررتُ به تفسيرهُ لقيتُه ونحوُها.(1/93)
فإِنّما تَحْمِل الاسمَ على ما يَحْمِلُ السائلُ، كأنّهم قالوا: أيَّهم أَتَيْتَ؟ فقلتَ زيداً.
ولو قلت: مررتُ بعمروٍ وزيدا لكانَ عربيا، فكيف هذا؟ لأنّه فعِلٌ والمجرورُ فى موضع مفعولٍ منصوبٍ، ومعناه أتيتُ ونحوُها، تحمل الاسمُ إذا كان العاملُ الأوّلُ فعلا وكان المجرورُ فى موضع المنصوب على فعلٍ لا ينقض المعنى. كما قال جرير:
جِئْنِى بِمثلِ بنى بَدْرٍ لقومهم ... أو مثل أسرة منظورة بن سَيَّارِ
ومثله قول العجّاج:
يَذْهَبْنَ فى نَجْدٍ وغَوْراً غائراَ
كأنه قال: ويَسلكن غورا غائرا، لأنّ معنى يَذْهَبْنَ فيه يسلكُن.
ولا يجوز أن تُضْمِرَ فعلاً لا يَصلُ إلاّ بحرف جرّ، لأنّ حرف الجرّ لا يُضْمَرُ، وسترى بيان ذلك. ولو جاز ذلك لقلت زيدٍ تريد مُرَّ بزيد.(1/94)
ومثل هذا وحوراً عيناً في قراءة أُبَىَّ بن كعبِ.
فإِنْ قلتَ: لقيتُ زيدا وأَماَّ عمروٌ فقد مررتُ به، ولقيتُ زيدا وإذا عبدُ الله يَضربهُ عمروٌ فالرفعُ، إلاّ فى قول من قال: زيداً رأيتهُ وزيدا مررتُ به، لأنَّ أَمَّا وإذا يُقطَعُ بهما الكلامُ، وهما من حروف الابتداء يَصرفانِ الكلامَ إلى الابتداء إلاّ أن يَدْخُلَ عليهما ما يَنْصِب، ولا يُحْمَلُ بواحدٍ منهما آخِرٌ على أوّلَ كما يُحْمَل بثُمَّ والفاءِ، ألا ترى أنهّم قرءُوا: " وأما ثمود فهديناهم " وقبله نصبٌ، وذلك لأنها تَصرِفُ الكلامَ إلى الابتداءِ، إلاّ أن يُوقَع بعدَها فعلٌ، نحو أمّا زيداً فضربتُ.
ولو قلت: إنَّ زيداً فيها أو إنّ فيها زيدا وعمروٌ أَدخلتُه أو دخلتُ به، رفعتهَ إلاَّ فى قول من قال: زيداً أدخلته وزيداً دخلت به، لأنّ إنّ ليس بفعل وإنّما هو مشبَّهٌ به. ألا ترى أنّه لا يُضْمَرُ فيه فاعلٌ ولا يؤّخَّرُ فيه الاسمُ، وإنّما هو بمنزلة الفعل كما أن عشرين درهما وثلاثين رجلا بمنزلة ضارِبينَ عبدَ الله وليس بفعل ولا فاعل.(1/95)
وكذلك ما أحسنَ عبدَ الله وزيدٌ قد رأيناه، فإِنما أجريتهَ - يُعنَى أحسن - فى الموضع مُجرَى الفعل في عمِله، وليس كالفعل ولم يجيء على أمثلته ولا على إضمارِه، ولا تقديمهِ ولا تأخيره ولا تصرُّفِه، وإنّما هو بمنزلة لَدُنْ غُدْوَةً وكمْ رَجُلاً، فقد عَمِلاَ عَمَلَ الفعل وليسا بفعل ولا فاعلٍ.
ومما يُختَار فيه النصبُ لنصبِ الأوّل ويكون الحرفُ الذى بين الأول والآخر بمنزلة الواو والفاءِ وثُمَّ قولك: لقيتُ القومَ كلَّهم حتَّى عبدَ الله لقيتُه، وضربتُ القوم حتّى زيداً ضربت أباه، وأتيت القوم أجمعين حتى زيدا مررت به، ومررت بالقوم حتى زيداً مررتُ به. فحتّى تَجْرِى مَجْرى الواو وثُمّ، وليست بمنزلة أمّا لأنّها إنَّما تكون على الكلام الذى قبلها ولا تُبْتَدَأُ وتقول: رأيتُ القومَ حتّى عبدَ الله، وتسكتُ، فإِنّما معناه أنّك قد رأيت عبدَ الله مع القوم كما كان رأيتُ القومَ وعبدَ الله على ذلك. وكذلك ضربتُ القومَ حتّى زيداً أنا ضاربُه.
وتقول: هذا ضاربُ القومِ حتّى زيدا يَضربه، إذا أردتَ معنى التنوين، فهى كالواو إلاّ أنّك تَجرّ بها إذا كانت غايةً والمجرورُ مفعولٌ كما أنَّك إذا قلت هذا ضاربُ زيدٍ غداً تجر بكفّ التنوين. وهو مفعولٌ بمنزلته منصوباً منوّنا ما قبله.
ولو قلت: هَلَك القومُ حتّى زيداً أَهلكتهُ، أخْتِير النصبُ، ليُبنَى على الفعل كما بُنى ما قبله مرفوعا كان أو منصوبا، كما فُعِل ذلك بعد ما بُنى على الفعل وهو مجرور.(1/96)
فإن قلت: إنما هو لنصب اللفظ، فلا تنصبْ بعد مررتْ بزيد وانصِبْ بعد إنَّ فيها زيدا. وإن كان الأوّل لأنّه فى معنى الحديث مفعولٌ، فلا ترفَعْ بعد عبِد الله إذا قلت عبدُ الله ضربتُه إذا كان بعده: وزيداً مررت به.
وقد يحسُنُ الجرُّ فى هذا كلَّه، وهو عربىّ. وذلك قولك لقيت القوم حتى عبد الله لقيته، فإِنَّما جاء بلقيتهُ توكيداً بعد أنْ جعله غايةً، كما تقول مررتُ بزيدٍ وعبدِ الله مررتُ به. قال الشاعر وهو ابن مروان النحوى:
أُلْقَى الصَّحِيفةَ كَىْ يُخَفَّفَ رَحْلَهُ ... والزَّادَ حتّى نَعْلِهِ، أَلقَاهَا
والرفعُ جائزٌ كما جاز فى الواو وثّم، وذلك قولُك لقيتُ القومَ حتى عبد الله لقيته، كأنك لقيتُ القومَ حتّى زيدٌ مَلْقِىٌّ، وسَرّحتُ القومَ حتّى زيدٌ مسرَّحٌ، وهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأنك لم تذكر فعلا، فإذا كان فى الابتداء زيدٌ لقيتُه بمنزلة زيدٌ منطلق جاز ههنا الرفع.(1/97)
بابُ ما يخُتارُ فيه النصبُ وليس قبلَه منصوبٌ
بُنىَ على الفعل، وهو بابُ الاستفهام وذلك أنّ من الحُروفِ حُروفاً لا يُذْكَرُ بعدها إلاّ الفعلُ ولا يكون الذى يَليها غيره، مظهراً أو مضمراً.
فما لا يليه الفعلُ إلاّ مظهراً: قَدْ، وسَوْفَ، ولَمَّا، ونحوُهنَّ. فإِن اضطُرّ شاعرٌ فقَدّم الاسمَ وقد أوقع الفعل على شيء من سببه لم يكن حدُّ الإِعراب إلاَّ النَّصبَ، وذلك نحوُ لم زَيدا أَضرِبْهُ، " إذا اضطُرّ شاعرٌ فقدَّم لم يكن إلاّ النصبُ في زيد ليس غير، ولو كان فى شعرٍ "، لأنّه يُضمِرُ الفعلَ إذا كان ليس ممّا يليه الاسمُ، كما فعلوا ذلك فى مواضع ستراها إن شاء الله.
وأمّا ما يجوز فيه الفعلُ مضمرا ومظهرا، مقدّما ومؤخَّرا، ولا يستقيم أن يُبْتَدَأ بعده الأسماء، فهَلاَّ ولوْلا ولَوْمَا وأَلاّ، لو قلت: هَلاَّ زيداً ضربتَ ولولا زيداً ضربتَ وألاّ زيداً قتلتَ جاز. ولو قلتَ: ألاّ زيدا وهلا زيدا على إضمار الفعل ولا تذكُره جاز. وإنّما جاز ذلك لأنَّ فيه معنى التحضيض والأمر، فجاز فيه ما يجوز فى ذلك.
ولو قلتَ: سَوْفَ زيدا أضربُ لم يحسُنْ، أو قد زيدا لقيتُ لم يحسُنْ، لأنّها إنما وُضِعَتْ للأفعال، إلاّ أنّه جاز فى تلك الأحرف التأْخيرُ والإضمارُ، لما(1/98)
فابتدءوا بعدها الأسماء والأصلُ غيرُ ذلك، ألا ترى أنّهم يقولون: هَلْ زيدٌ منطلقٌ، وهل زيدٌ فى الدار، " وكيف زيدٌ آخِذٌ ". فإِن قلت: هل زيداً رأيتَ وهل زيدٌ ذهب قَبُحَ ولم يجُزْ إلاّ فى الشعر، لأنّه لمّا اجتمع الاسمٌ والفعلُ حملوه على الأصل فإِن اضطُرَّ شاعرٌ فقدّم الاسمَ نصبَ كما كنتَ فاعلاً ذلك بقَدْ ونحوِها. وهو فى هذه أحسنُ، لأنّهُ يبتدأُ بعدها الأسماءُ. وإنَّما فعلوا ذلك بالاستفهام لأنه كالأمر فى أَنّه غيّرْ واجبٍ، وأنه يريد " به " من المخاطّبِ أمراً لم يَسْْتقِرَّ عند السائل. ألا ترى أن جوابه جزم فلهذا اختير النصبُ وكَرِهُوا تقديمَ الاسم، لأنّها حروفٌ ضارَعَتْ بما بعدها ما بعد حروف الجزاء، وجوابُها كجوابه وقد يَصير معنى حديثها إليه. وهى غيرُ واجبهٍ كالجزاء، فقَبُحَ تقديمُ الاسم " لهذا ". ألا ترى أنّك إذا قلت: أَيْنَ عبدُ الله آتهِ، فكأَنكّ قلتَ: حيثُما يَكُنُ آتِه.
وأمّا الألفُ فتقديمُ الاسم فيها قبل الفعل جائزٌ كما جاز ذلك فى هَلاّ، " وذلك " لأنّها حرفُ الاستفهام الذى لا يزول " عنه " إلى غيره، وليس للاستفهام فى الأصل غيُره. وإنّما تركوا الألفُ فى مَنْ، ومتَى، وهَلْ، وهنحوهن حيث أمنوا الالتباس، ألا ترى أنك تدخلهاعلى مَنْ إذا تمَّتْ بصلتها، كقول الله عزّ وجلّ: " أَفَمَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَاتِى آمِناً يَوْمَ الْقِيَامِة ". وتقول:(1/99)
أَمْ هَلْ، فإِنّما هى بمنزلة قد، ولكنّهم تركوا الألفَ استغناء، إذ كان هذا " الكلامُ " لا يقَعُ إلاّ فى الاستفهام. وسوف تراه إن شاء الله متبيّنا أيضاً. فهى ههنا بمنزلة إن فى باب الجزاء، فجاز تقديمُ الاسمِ فيها، كما جاز فى قولك: إنِ شاء اللهُ أَمْكَنَنى من فلانٍ فعلتُ " كذا وكذا ". ويُختار فيها النصبُ، لأنّك تُضْمِرُ الفعلَ فيها، لأنّ الفعَل أولَى إذا اجتمع هو والاسمُ. وكذلك كنت فاعلاً فى إن، لأنّها إنّما هى للفِعْلِ. وسترى بيان ذلك إن شاء الله.
فالألفُ إذا كان معها فعلٌ، بمنزلة لولا وهلاّ، إلاّ أنَّك إن شئت رفعتَ فيها، وهو فى الألِف أمثلُ منه فى متى ونحوها، لأنه ق صار فيها مع أنك تبتدي بعدها الأسماء أنّك تُقَدَّمُ الاسمَ قبل الفعل، والرفُع فيها على الجواز.
ولا يجوز ذلك فى هَلاّ ولولا، لأنّه لا يُبتدأُ بعدهما الأسماءُ. وليس جوازُ الرفع فى الألف مثلَ جواز الرفع فى ضربتُ زيدا وعمراً كلمتهُ، لأنه ليس هاهنا حرف هو بالفعل أولى، وإنما اختير هذا على الجواز، وليكونَ معنىً واحداً،(1/100)
فهذا أقوى. والذى يُشْبِههُ من حروف الاستفهام الألف.
" واعلم أ، حروف الاستفهام كلَّها يقبح أن يصيرّ بعدها الاسمُ إذا كان الفعل بعد الاسم: لو قلت: هل زيدٌ قام وأينَ زيدٌ ضربتَه، لم يجز إلاَّ فى الشعر، فإذا جاء فى الشعر نصبتَه، إلاَّ الألفَ فإِنه يجوز فيها الرفع والنصب، لأن الألف قد يُبتدأ بعدها الاسمُ. فإِن جئت فى سائر حروف الاستفهام باسم وبعد ذلك الاسمِ اسمٌ من فِعْلٍ نحُو ضارب، جاز فى الكلام، ولا يجوز فيه النصب إلاّ فى الشعر، لو قلت: هل زيدٌ أنا ضاربُه لكان جيَّدا فى الكلام، لأن ضارباً اسمٌ وإن كان فى معنى الفعل. ويجوز النصب فى الشعر ".
هذا باب ما ينصب فى الألف
تقول: أَعبدَ الله ضربتَه، وأزيداً مررتَ به، وأعمرا قتلتَ أخاه، وأعمراً اشتريتَ له ثوبا. ففى كلّ هذا قد أضمرتَ بين الألف والاسم فعلا هذا تفسيرُه، كما فعلتَ ذلك فيما نصبتَه فى هذه الأحرف فى غير الاستفهام. قال جرير:(1/101)
أَثَعْلَبةَ الفَوارِسَ أم رِيَاحاً ... عدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
فإِذا أوقعتَ عليه " الفعلَ " أو على شيء من سببه نصبتهَ، وتفسيرُه ههنا هو التفسيرُ الذى فُسَّرَ فى الابتداء: أنّك تُضمِر فِعلاً هذا تفسيرهُ. إلاَّ أنّ النصب هو الذى يُختار ههنا، وهو حدُّ الكلام. وأمّا الانتصابُ ثَمَّ وها هنا فمن وجهٍ واحدٍ. ومثلُ ذلك أَعبدَ الله كنتَ مِثلَه، لأنَّ كنتَ فعلٌ والِمثلُ مضافٌ إليه وهو منصوبٌ. ومثلُه أزيداً لستَ مثلَه، لأنّه فعلٌ، فصار بمنزلة قولك أزيداً لقيتَ أخاه. وهو قول الخليل.
ومثلُ ذلك: ما أَدْرِى أَزيداً مررتُ به أم عمراً، وما أُبالِى أعبدَ الله لقيتُ أخاه أم عمراً، لأنه حرفُ الاستفهام، وهى تلك الألفُ التى فى قولك أزيداً لقيتَه أم عمرا.
وتقول: أعبدُ الله ضَرَبَ أخوه زيداً، لا يكون إلاّ الرفعُ، لأنَّ الذى من سبب عبِد الله " مرفوعٌ " فاعِل، والذى ليس من سببه مفعولٌ، فيرَتفع إذا ارتَفع الذى من سببه، كما ينتَصب إذا انتصَب، ويكون المضمرُ ما يَرْفَعُ كما(1/102)
أضمرتَ فى الأوّل ما يَنْصِب، فإِنما جُعِلَ هذا المظهر بينا ما هو مثلُه. فإِن جعلتَ زيدا الفاعِلَ قلت: أعبدَ الله ضربَ أخاه زيدٌ.
وتقول: أَعبدُ الله ضرب أخوه غلامَه إذا جعلت الغلامَ فى موضع زيد حين قلت أعبدُ الله ضرب أخوه زيدا، فيصيرُ هذا تفسيرا لشيء رَفَعَ عبدَ الله لأنّه يكون مُوقِعا الفعلَ بما يكون من سببه كما يوقِعُه بما ليس من سببه، كأنّه قال فى التمثيل وإن كان لا يُتكلَّمُ به: أَعبدُ الله أَهانَ غلامَه أو عاقبَ غلامَه، أو صار فى هذه الحال " عند السائل وإن لم يكن " ثُم فسَّر.
وإن جعلتَ الغلامَ فى موضع زيدٍ حين رفعتَ زيداً نصبتَ فقلت: أعبدَ الله ضَرَبَ أخاه غلامُه، كأنه جعله تفسيراً لفعلٍ غلامُهُ أوقعَهُ عليه، لأنّه قد يوُقع الفعلَ عليه ما هو من سببه كما يوقِعُه هو على ما هو من سببه، وذلك قولك: أعبدُ الله ضربَ أباه، وأعبدَ الله ضَرَبَهُ أبوه، فجرى مجرى أعبدُ الله هو ضرب زيداً، وأعبد ضَرَبه زيدٌ، كأنه فى التمثيل تفسيرٌ لقوله: أعبدَ الله أهانَ أباهُ غلامُه، وأعبدَ الله ضربَ أخاه غلامُه. ولا عليك أقدّمتَ الأخَ أمْ أخَّرتَه، أمْ قدّمت الغلام أمْ أخَّرته، أيهما ما جعلتَه كزيدٍ مفعولا فالأوّل رفعٌ. وإن جعلتَه كزيد فاعِلا فالأوّلُ نصبٌ.
وتقول: آلسَّوْطَ ضُرِبَ به زيدٌ، وهو كقولك: آلسّْوطَ ضُربتَ به. وكذلك آلخِوانَ أُكِلَ اللحمُ عليه، و " كذلك " أزيداً سُمّيتَ به أو سُمَّى به(1/103)
عمروٌ، لأنّ هذا فى موضع نصب، وإنّما تعتَبره أنك لو قلت: آلّسّوْطَ ضُربْتَ فكان هذا كلاماً، أو آلِخوانَ أُكِلْتَ، لم يكن إلاَّ نصبا، " كما أنك لو قلت: أزيداً مررتَ فكان كلاماً لم يكن إلاَّ نصبا ". فمن ثُّمَّ جُعِل هذا الفعلُ الذى لا يَظهر تفسيُره تفسيرَ ما يَنْصِب.
فاعتَبِرْ ما أشْكَلَ عليك من هذا بذا. فإِن قلت: أزيدٌ ذهب به أو أزيد انطلِقَ به، لم يكن إلاّ رفعاً، لأنك لو لم تقل " به " فكان كلاماً لم يكن إلا رفعا، كما قلت: أزيد ذهب أخوه، لأنك لو قلت: أزيد ذهب لم يكن إلا رفعا.
وتقول: أزيداً ضَربتَ أخاه، لأنكَ لو ألقيت الأخَ قلت: أزيداً ضربتَ. فاعتبِرْ هذا بهذا، ثم اجعَلْ كلَّ واحدٍ جئتَ به تفسيرَ " ما هو " مثلُه.
واليومُ والظروفُ بمنزلة زيدٍ وعبدِ الله، إذا لم يكنَّ ظروفا، وذلك " قولك ": أَيَوْمَ الجُمُعَةِ يَنطلِقُ فيه عبدُ الله، كقولك: أعمراً تكلَّمَ فيه عبدُ الله، وأيومُ الجمعة يُنْطَلَقُ فيه، كقولك: أزيدٌ يُذْهَبُ به.
وتقول: أَأَنت عبدُ الله ضربتَه، تُجْرِيه هاهنا مُجرى أنا زيدٌ ضربتُه، لأنّ الذى يَلِى حرفَ الاستفهام أَنْتَ ثمّ ابتدأتَ هذا وليس قبله حرف استفهام ولا شيء هو بالفعل وتقديمِه أَوْلى. إلاّ أنك إن شئت نصبته كما تنصب زيداً ضربتُه، فهو عربىٌّ جَيّدٌ، وأمرهُ " ها " هنا على قولك: زيدٌ ضربتهُ.
فإِن قلت: أَكُلَّ يوم زيدا تَضرِبُه فهو نصبٌ، كقولك: أزيداً تضربه(1/104)
كلَّ يوم، لأنَّ الظرف لا يَفصلِ فى قولك: ما اليومَ زيدٌ ذاهباً، وإنّ اليومَ عمراً منطلق، فلا يحجز هاهنا كما لا يحَجُزُ ثَمَّةََ.
وتقول: أعبدُ الله أخوه تَضربه، كما تقول: أَأَنت زيدٌ ضربتَه، لأن الاسم هاهنا بمنزلة مبتدأ ليس قبله شيء. وإن نصبته على قولك: زيدا تضربه قلت: أزيداً أخاه تضربُه، لأنك نصبت الذى من سببه بفعل هذا تفسيره.
ومن " قال: زيدا ضربته " قال: أزيداً أخاه تضربه، فإِنما نصب زيداً لأنَّ ألف الاستفهام وقعت عليه، والذى من سببه منصوبٌ. وقد يجوز الرفع فى أعبدُ الله مررتَ به، على ما ذكرت لك، وأعبدُ الله ضربتَ أخاه. " وأما قولك: أزيدا مررتبه فبمنزلة قولك: أزيدا ضربتَهُ ". والرفع فى هذا أقوى منه فى أعبدُ الله ضربتَه، وهو أيضاً قد يجوز إذا جاز هذا كما كان " ذلك فيما " قبله من الابتداء، وما جاء بعدَ ما بُنى على الفعل. وذلك أنه ابتدأَ عبدَ الله وجعل الفعلَ فى موضع(1/105)
المبنىّ عليه، فكأَنه قال: أعبدُ الله أخوك. فمن زعم أنّه إذا قال: أزيداً مررت به إنما ينصبه بهذا الفعل فهو ينبغى له أن يَجَّره، لأنّه لا يَصل إلا بحرف إضافة.
وإذا أعملتِ العربُ شيئاً مضمراً لم يَخرج عن عمله مظهراً فى الجر والنصب والرفع؛ تقول: وبلدٍ، تريد: ورُبَّ بلدٍ. وتقول: زيدا تريد: عليك زيدا. وتقول: الهلالُ، تريد: هذا الهلال، فكلُّه يَعمل عملَه مظهرا.
ومما يقبح بعده ابتداءُ الأسماء ويكون الاسم بعده إذا أوقعت الفعل على شيء من سببه نصباً فى القياس: إذَا، وحَيْثُ. تقول: إذا عب الله تلَقْاه فأكرمه،(1/106)
وحيث زيدا تجدهُ فأَكرمْه؛ لأنّهما يكونانِ فى معنى حروف المجازاة. ويقبح إن ابتدأت الاسم بعدهما إذا كان بعده الفعل. لو قلت: اجلسْ حيث زيدٌ جَلَسَ وإذا زيدٌ يجلسُ كان أقبحَ من قولك: إذا جلس زيدٌ وإذا يجلسُ، وحيث " يجلسُ، وحيث " جلس. والرفع بعدهما جائز، لأنك قد تبتدئ الأسماء بعدهما فتقول: اجلسْ حيث عبد الله جالسٌ، واجلس إذا عبد الله جلس.
ولإذا مواضع آخر يحسن ابتداءُ الاسم بعدها فيه. تقول: نظرت فإذا زيد يضربه عمرو، لأنك لو قلت: نظرتُ فإِذا زيدٌ يذهبُ، لَحُسنَ. وأَمَّا إِذْ فيَحسن ابتداء الاسم بعدها. تقول: جئت إذ عبد الله قائم، و " جئت " إذ عبدُ الله يقوم، إلاّ أنها فى فَعَلَ قبيحة، نحو قولك: جئت إذ عبدُ الله قام. ولكنّ " إذْ " إنما يقع فى الكلام الواجب، فاجتمع فيها هذا وأنك تبتدئ الاسمَ بعدها، فحسن الرفعُ.
ومما ينتصب أوّلُه لأن آخِره ملتبِس بالأول، قوله: أزيدا ضربتَ عمراً وأخاه، وازيداً ضربت رجلاً يحبه، وأزيدا ضربتَ جاريتينِ يحبّهما، فإنما نصبت الأوّل لأنّ الآخِرَ ملتبِس به، إذ كانت صفتُه ملتبسة به. وإذا أردت أن تَعْلَم التباسه به فأَدخلْه فى الباب الذى تقدَم فيه الصفَة، فما حسنُ تقديمُ صفته فهو ملتبس بالأول، وما لا يحسن فليس ملتبسا به. ألا ترى أنكَّ تقول: مررت برجل منطلقةٍ جاريتان يحبّهما، ومررت برجل منطلقٍ زيدٌ وأخوه؛ لأنَّك لما أشركت(1/107)
بينهما فى الفعل صار زيدٌ ملتبسا بالأخ فالتَبس برجل، ولو قلت: أزيدا ضربتَ عمرا وضربت أخاه لم يكن كلاما، لأنَّ عمرا ليس فيه من سبب الأول شيء ولا ملتبسا به. ألا ترى أنّك لو قلت: مررت برجل قائم عمرو وقائم أخوه لم يجز، لأنَّ أحدهما ملتبس بالأول والآخَر ليس ملتبسا.
هذا باب ما جَرَى فى الاستفهام..
من أَسماءِ الفاعلينَ والمفعولينَ مَجرَى الفعل كما يَجرى فى غيره مَجرى الفعل وذلك قولك: أزيداً أنت ضاربُه، وأزيدا أنت ضاربٌ له، وأعمراَ أنت مُكرِمٌ أخاه، وأزيدا أنت نازلٌ عليه. كأَنّك قلت: أنت ضاربٌ، وأنت مُكْرِمٌ، وأنت نازل، كما كان ذلك فى الفعل، لأنّه يَجرى مَجراه ويَعْمَلُ فى المعرفة كلَّها والنكرةِ، مقدَّما ومؤخَّرا، ومظْهَرا ومضْمرا.(1/108)
وكذلك: آلدّارَ أنت نازلٌ فيها.
وتقول: أعمراً أنت واجدٌ عليه، وأخالداً أنت عالم به، وأزيدا أنت راغبٌ فيه، لأنك لو ألقيت عليه وبه وفيه مما ها هنا لتعتبِرَ، لم يكن ليكون إلاّ مما ينتصب، كأَنّه قال: أعبدَ الله أنت ترغَبُ فيه، وأعبدَ الله أنت تعلَمُ به، وأعبدَ الله أنت تجِدُ عليه، فإِنما استفهمتَه عن علمه به ورغْبَتِه فيه فى حال مسألتك.
ولو قال: آلدَّارُ أنت نازلٌ فيها، فجَعَل نازلاً اسماً رفَع، كأنّه قال: آلدارُ أنت رجل فيها.
ولو قال: ازيدٌ أنت ضاربةُ فجعله بمنزلة قولك: " أزيداً " أنت أخوه جاز. ومثل ذلك فى النصب: أزيدا أنت محبوسٌ عليه، وأزيداً أنت مُكابَرٌ عليه. وإن لم يرد به الفعلَ وأراد به وجهَ الاسم رَفَع.
وكذلك جميعُ هذا، فمفعولٌ مثلُ يُفعَلُ، وفاعِلُ مثلُ يَفعَلُ.
وممّا يُجرىَ مجرى فاعلٍ من أسماء الفاعلين فَواعِلُ، أَجْروَه مُجرى فاعِلَةٍ حيث كانوا جمعوه وكسَّروه عليه، كما فعلوا ذلك بفاعلينَ وفاعِلاتٍ. فمن ذلك قولهم: هنّ حَواجٌّ بيتَ الله. وقال أبو كبير الهذلي:
مما حَمَلنَ به وهنّ عَواقِدٌ ... حُبُكَ النَّطاقِ فعاشَ غير مهبل(1/109)
وقال العجّاج:
أَوَالِفاً مَكّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِى
وقد جعل بعضهم فعالاً بمنزلة فواعل، فقالوا: قُطّانٌ مكّةَ، وسُكّانٌ البلدَ الحرامَ، لأنه جمعٌ كفواعِلَ.
وأجروا اسمَ الفاعل، إذا أرادوا أن يبالِغوا فى الأمر، مُجراه إذا كان على بناء فاعلٍ، لأنّه يريد به ما أراد بفاعل من إيقاع الفعل، إلاّ أنّه يريد أن يُحدَّثَ عن المبالغة. فمَا هو الأصلُ الذى عليه أكثُر هذا المعنى: فَعولٌ، وفعّال ومفعال، وفَعِلٌ. وقد جاء: فَعيلٌ كَرحيمٍ وعَليم وقَدير وسَميع وبَصير، يجوز فيهنّ ما جاز فى فاعِلٍ من التقديم والتأخير، والإِضمار والإظهار. لو قلت: هذا ضروب رؤوس الرجال وسوقَ الإِبل، على: وضروبٌ سوقَ الإِبل جاز، كما تقول: " هذا " ضارِبُ زيدٍ وعمرا، تُضمِر وضاربٌ عمرا.
ومما جاز فيه مقدَّما ومؤخَّرا على نحو ما جاء فى فاعِلٍ، قول ذى الرُّمّة:
هَجُومٌ عليها نَفسَه غيرَ أَنّه ... متى يُرْمَ فى عينَيه بالشَّبْحِ يَنْهَضِ(1/110)
وقال أبو ذُؤيْبٍ الهذلىُّ:
قَلَى دِينَه وأهتاجَ للشَّوْقِ إنّها ... عَلَى الشَّوقِ إخْوانَ العَزاءِ هَيوجُ
وقال القلاُخُ:
أَخا الحَرْبِ لَبّاساً إليها جِلالَها ... وليس بولاّجِ الخَوالفِ أَعْقَلاَ
وسمعنا من يقول: " أمّا العَسَلَ فأنا شَرّابٌ ". وقال:
بكيتُ أخا اللأواء يحمد يومه ... كريم، رؤوس الدَّارِعينَ ضَروبُ
وقال أبو طالب بن عبد المطّلب:
ضَروبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ... إذا عَدِموُا زاداً فإنّكَ عاقِرُ(1/111)
وقد جاء فى فَعِل وليس فى كثَرة ذلك، قال، وهو عمرو بن أحمر:
أو مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادةَ سَمْحَجٍ ... بسَرَاته نَدَبٌ لها وكلوم
وقل: " إنّه لَمِنحارٌ بوَائكَها ".
وفَعِلٌ أقلُّ من فَعيلٍ بكثير.
وأجروه حين بنوه للجمع كما أُجرىَ فى الواحد ليكونَ كفَواعِلَ حين أُجرىَ مثل فاعلٍ، من ذلك قول طرفة:(1/112)
ثم زادوا أنّهمْ في قومِهمْ ... غُفُرٌ ذنَبهُمُ غيرُ فجُرْ
ومما جاء على فَعِل قوله:
حَذِرٌ أُمورا لا تُخافُ وآمِنٌ ... ما ليس مُنْجِيهُ من الأقدارِ
ومن هذا الباب قولُ رؤبة:
برأس دماغ رؤوس العز
ومنه قول ساعدة بن جوية:(1/113)
حتى شآها كليل موهنا عمل ... باتتْ طِراباً وباتَ الليلَ لم يَنَمِ
وقال الكُميت:
شُمًّ مَهاويِنَ أبْدَانَ الجَزُورِ مَخا ... مِيصِ العَشِيّاتِ لا خُورٍ ولا قَزَمِ(1/114)
ومنه قَدِيرٌ وَعليم ورَحيم، لأنه يريد المبالغة " فى الفعل ".
وليس " هذا " بمنزلة قولك حسنٌ وجهَ الأخ، لأن هذا لا يُقلَبُ ولا يضمر، وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام أو نكرةً، ولا تعْنِى به أنك أوقعت فِعْلاً سلفَ منك إلى أحدٍ.
ولا يَحْسُنُ أن تَفصل بينهما فَتقولَ: هو كريمٌ فيها حَسَبَ الأب.
ومما أُجرى مُجرى الفعل من المصادر قول الشاعر:
يمرون بالدَّهْنا خِفافاً عِيابُهمْ ... ويَخْرُجن من دارِينَ بُجْرَ الحقائب(1/115)
على حِينَ أَلْهَى الناسَ جُلُّ أُمورِهْم ... فنَدْلاً زُرَيقُ المالَ نَدلَ الثَّعالِبِ
كأنّه قال: أندلْ. وقال المرّار الأسدىّ:
أَعَلاقةً أُمَّ الولَيَّدِ بعد ما ... أَفْنانُ رأْسِكَ كالثَّغامِ المُخْلِسِ
وقال:
بضَرْبٍ بالسيوف رؤوس قَوْمٍ ... أزَلنا هامَهنّ عَنِ المَقِيلِ(1/116)
وتقول: أَعبدُ الله أنت رسولٌ له ورسولُه، لأنّك لا تريد بفَعولِ ههنا ما تريد به فى ضَروبٍ، لأنك لا تريد أن تُوقِعَ منه فِعلاً عليه، فإنما هو بمنزلة " قولك ": أَعبدُ الله أنتِ عَجوزٌ له. وتقول: أعبدُ الله أنتَ له عديلٌ وأعبدُ الله أنت لَه جليسٌ، لأنك لا تريد به مبالغةً فى فِعْلٍ، ولم تقل: مُجالِسٌ فيكونُ كفاعِلٍ، فإنما هذا اسمٌ بمنزلة قولك: أزيدٌ أنت وَصِيفٌ له أو غُلامٌ له. وكذلك: آلبَصرةُ أنتَ عليها أميرٌ.
فأمّا الأصلُ الأكثُر الذي جرى مجرى الفعل في من الأسماء ففاعِلٌ. وإِنَّما جاز فى التى بُنيتْ للمبالغة لأنَّها بُنِيَتْ للفاعِلِ من لفظِه والمعنى واحدٌ، وليستْ بالأبنيِة التى هى فى الأصل أن تَجْرِىَ مجرى الفعل، يَدلّك على ذلك أنَّها قليلة. فإذا لم يكن فيها مبالغةُ الفِعل فإِنّما هى بمنزلة غلامٍ وعبدٍ، لأنَّ الاسم على فَعَلَ يَفْعَلُ فاعِلٌ، وعلى فُعِلَ يُفْعَلُ مَفْعولٌ. فإِذا لم يكن واحدٌ منهما ولا الذى لمبالغة الفاعل لم يكن فيه إلاّ الرفعُ.
وتقول: أكلُّ يومٍ أنت فيه أميرٌ، ترفعه لأنَّه ليس بفاعلٍ، وقد خرج " كلُّ " من أن يكونَ ظرفاً، فصار بمنزلة عبدُ اللهِ ألا ترى أنّك إذا قلت: أكلُّ يومٍ يُنطَلقُ فيه، صار كقولك: أزيدٌ يُذهَبُ به ولو جاز أن تَنصبَ كلَّ يوم وأنت تريد بالأمير الاسمَ لقُلتَ: أعَبْدَ اللهِ عليه ثوبٌ لأَنك تقول: أكلَّ يوم لك(1/117)
ثوب، فيكونُ نصباً. فإِن قلت: أكلَّ يوم لك فيه ثوب فنصبت، وقد جعلته خارجاً من أن يكون ظرفاً، فإِنه ينبغى أن تنصب: أعبد الله عليه ثوب. وهذا لا يكون، لأن الظرف هنا لم ينصبه فعل، إنما عليه ظرف للثوب، وكذلك فيه.
هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى
فهي ظننت، وحَسِبتُ، وخِلتُ، وأُريتُ ورأَيتُ، وزعمتُ، وما يتصرفّ من أفعالهن.(1/118)
فإِذا جاءتْ مستعمَلةً فهى بمنزلة رأيت وضربتُ وأََعطيتُ فى الإِعمال والبناءِ على الأوَّل، فى الخبر والاستفهام وفي كل شيء. وذلك قولك: أظُنُّ زيدا منطلقا، وأظنّ عمراً ذاهباً، وزيدا أظنُّ أخاك، وعمرا زعمتُ أباك.
وتقول: زيدٌ أظنّه ذاهبا. ومن قال: عبدَ الله ضربتُه نصَبَ " فقال ": عبدَ الله أظنّه ذاهبا.
وتقول: أظنُّ عمراً منطلقا وبكرا أظنّه خارجاً، كما قلت: ضربت زيداً وعمراً كلمه، وإن شئتَ رفعتَ على الرفع فى هذا.
فإِن ألغيتَ قلت: عبدُ الله أظنُّ ذاهبٌ، وهذا إخالُ أخوك، وفيها أُرَى أبوك. وكلَّما أردتَ الإِلغاء فالتأخيرُ أقوى. وكلٌّ عربىٌّ " جيدّ ".
وقال اللَّعين يهجو العجَّاج:(1/119)
أَبِالأراجيزِ يا ابنَ اللُّؤْمِ توعدُِنُي ... وفى الأراجيز خِلْتُ اللُّؤْمُ والخَوَرُ
أنشدَنَاه يونسُ مرفوعا عنهم. وإنما كان التأخير أقوى لأنه " إنما " يجيء بالشكّ بعدما يَمْضِى كلامُه على اليقين، أو بعدما ما بتبدئ وهو يريد اليقينَ ثم يُدْرِكُه الشكُّ، كما تقول: عبدُ الله صاحبُ ذاك بلغَنى، وكما قال: من يقول ذاك تَدرِى، فأَخّرَ ما لم يَعمَلْ فيأوله كلامه. وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مَضى كلامُه على اليقين، وفيما يَدرى.
فإذا ابتدأ كلامَه على ما فى نيّته من الشكَ أَعْملَ الفعلَ قدّم أوْ أخَّر، كما قال: زيداً رأيتُ، ورأَيتُ زيدا.
وكلَّما طال الكلامُ ضعُفَ التأخيرُ إذا أعملتَ، وذلك قولك: زيداً أخاك أظنُّ، فهذا ضعيفً كما يضعُفُ زيداً قائماً ضربتُ؛ لأنّ الحدَّ أن يكونَ الفعلُ مبتدأً إذا عَمِلَ.(1/120)
وممّا جاء فى الشعر معمّلا فى زعمتُ زعمتُ قول أبى ذؤيب:
فإِن تَزْعُمينى كنتُ أجل فيكم ... فإني شربت الحِلَم بعدكِ بالجَهلِ
وقال النابغة الجعدىّ:
عَددتَ قُشَيْراً إذ عَددتَ فلم أُسَأْ ... بذاك ولم أَزْعمْكَ عن ذاك مَعْزِلاَ
وتقول: أين تُرَى عبدَ الله قائما، وهل تُرَى زيداً ذاهبا، لأنَّ هل وأين كأَنَّك لم تذكرهما، لأنّ ما بعدهما ابتداءٌ، كأَنك قلت: أَتُرَى زيداً ذاهبا، وأتَظُنُّ عمرا منطلقا.
فإِن قلت: أين، وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة " فيها " إذا استغنَى بها الابتداءُ، قلت: أين ترى زيدٌ، وأين تُرَى زيدا.(1/121)
واعلم أن " قلت " إنما وقعت في كلام العرب على أن يُحْكى بها، وإنما تَحْكِى بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً، نحو قلتُ: زيدٌ منطلقٌ لأنه يَحسن أن تقول: زيدٌ منطلقٌ، ولا تدخل " قلت ". وما لم يكن هكذا أسقط القول عنه.
وتقول: قال زيدٌ إنّ عمراً خيرُ الناس. وتصديق ذلك قوله جل ثناؤه: " وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك "، ولولا ذلك لقال: " أَنّ " الله " ".
وكذلك " جميع " ما تصرَّفَ من فعله، إلاّ " تَقولُ " فى الاستفهام، شبهوها بتظن، ولم يجعلوا كيظن وأظنّ في الاستفهام، لأنّه لا يَكادُ يُستفهَمُ المخاطَبُ عن ظنَّ غيره ولا يُستفَهم هو إلاّ عن ظنَّه، فإِنما جُعلتْ كتَظنّ، كما أنّ ما كَليسَ فى لغة أهل الحجاز ما دامت فى معناها، وإذا تَغّيرت عن ذلك أو قُدّم الخبرُ رجعتْ إلى القياس، وصارت اللُّغاتُ فيها كلغة تميمٍ.
ولم تُجْعَلْ " قلتُ " كظننتُ لأنَّها إنّما أصلُها عندهم أن يكون ما بعدها محكياً، فلم تُدْخَلْ فى باب ظننتُ بأكثرَ من هذا، كما أنّ " ما " لم تَقْوَ قوّةَ(1/122)
ليس، ولم تقع فى كلّ مواضعها؛ لأنّ أصلها " عندهم " أن يكون ما بعدها مبتدأ.
وسأفسَّر لك إن شاء الله ما يكون بمنزلة الحرف فى شيء ثم لا يكون معه على أكثر أحواله، وقد بُيّن بعضُه فيما مضى.
وذلك قولك: متى تقول زيداً منطلقا، وأتقول عمراً ذاهبا، وأكلَّ يوم تقول عمراً منطلقاً، لا يفصل بها كما لا يُفْصَلْ بها فى: أكلَّ يوم زيدا تضربه. فإِن قلت: أََأَنت تقول زيدٌ منطلقٌ رفعتَ، لأنه فُصِلَ بينه وبين حرف الاستفهام، كما فصل فى قولك: أَأَنت زيدٌ مررتَ به، فصارت بمنزِلة أخواتها، وصارت على الأصل. قال الكميت:
أَجُهّالاً تَقول بنى لُؤَيٍّ ... لَعَمْرُ أَبيكَ أم متجاهلينا(1/123)
وقال عُمَرُ بن أبى ربيعة:
أمّا الرَّحيلُ فدونَ بَعْدِ غَدٍ ... فَمتى تقولُ الدارَ تَجْمَعُنا
وإن شئتَ رفعتَ بما نصبتَ فجعلته حكاية.
وزعم أبو الخطّاب - وسألتُه عنه غير مرّة - أنا ناساً من العرب يوقف بعربيّتهم، وهم بنو سُلَيْمٍ، يجعلون بابَ قلتُ أجْمَعَ مثلَ ظننتُ.
واعلم أنَّ المصدر قد يُلْغَى كما يُلْغَى الفعلُ، وذلك قولُك: متى زيدٌ ظَنُّك ذاهبَّ، وزيدٌ ظنىَّ أخوك، وزيدٌ ذاهب ظني. فإن ابتدأ فقلت: ظنى زيدٌ ذاهبٌ كان قبيحاً، " لا يجوز البتّة، كما ضَعُفَ أَظُنُّ زيدٌ ذاهبٌ. وهو فى متى وأين أَحسنُ، إذا قلت: متى ظَنُّك زيدٌ ذاهبٌ "، ومتى تَظنُّ عمرو منطلقٌ؛ لأنَّ قبله كلاماً. وإنَّما ضعف هذا فى الابتداء كما يَضْعُفُ: غيرَ شكٍّ زيدٌ ذاهبٌ، وحقاَّ عمروٌ منطلقٌ.(1/124)
وإن شئتَ قلتَ: متى ظنُّك زيداً أميراً، كقولك: متى ضربُك عمراً.
وقد يجوز أن تقول: عبدُ الله أظنُّه منطلقٌ، تجعلُ هذه الهاء على ذاك، كأَنَّك قلت: زيدٌ منطلقٌ أظنُّ ذاك، لا تجعل الهاء لعبد الله، ولكنّك تجعلُها ذاك المصدرَ، كأَنه قال: أظنُّ ذاك الظنَّ، أو أظنُّ ظنّى. فإِنّما يَضعُف هذا إذا ألغيتَ، لأنَّ الظنَّ يُلْغَى فى مواضعِ أَظنُّ حتى يكونَ بدلاً من اللفظ به، فكرِهَ إظهارُ المصدرِ ههنا، كما قَبُحَ أ، يظهر ما انتصب عليه سَقْياً. " وسترى ذلك إن شاء الله مبيَّنا ".
ولفظك بذاك أحسن من لفظ بظني. فإذا قلت: أظنُّ ذاك عاقلٌ، كان أحسنَ من قولك: زيدٌ أظنُّ ظنىَّ عاقل ذاك أحسن، لأنه ليس بمصدر، وهو اسمٌ مُبْهَمٌ يقع على كل شيء. ألا ترى أنَّك لو قلت: زيدٌ ظنىَّ منطلقٌ، لم يحسُن ولم يجز أن تضع ذاك موضع ظنّى. وتَرْكُ ذاك فى أظنُّ إذا كان لَغْواً أقوى منه إذا وقع على المصدر " لأنَّ ذاك إذا كان مصدراً فإنك لا تجيء به، لأن المصدر يقبح أن تجيء به ههنا، فإِذا قَبُحَ المصدرُ فمجيئُك بذاك أقبحُ لأنّه مصدر ". وإذا ألغيت فقلت: عبد الله أظنُّ منطلق، فهذا أجمل من قولك: أظنّه. وأظنّ بغير هاءٍ أحسن لئلا يلتبس بالاسم، وليكون أبْينَ فى أنه ليس يَعْمَلُ.
فأمّا ظننت أنّه منطلقٌ فاستُغْنى بخبر أنَّ، تقولُ: أظنُّ أّنّه فاعلٌ كذا(1/125)
وكذا، فتستغنى. وإنّما يُقْتصَرُ على هذا إذا علم أنه مستغن بخبر أنه.
وقد يجوز أن تقول: ظننتُ زيداً، إذا قال: من تظنُّ، أى من تَتهمُ؟ فتقول: ظننتُ زيداً، كأَنه قال: أتَّهَمْتُ زيدا. وعَلَى هذا قيل: ظَنينٌ " أى مُتَّهَمٌ ". ولم يَجْعَلوا ذاك فى حَسِبتُ وخِلْتُ وأُرَى؛ لأنّ من كلامهم أن يدخلوا المعنى في الشيء لا يَدْخل فى مثله.
وسألتُه عن أيُّهم، لِمَ لَمْ يقولوا: أَيَّهم مررتَ به؟ فقال: لأن أَيَّهم " هو " حرف الاستفهام، لا تَدخل عليه الألفُ وإِنما تُرِكَتِ الألفُ استغناءً فصارت بمنزلة الابتداء. ألا ترى أنّ حَدّ الكلام أن تؤخَّرَ الفعلَ فتقولَ: أَيَّهم رأيتَ، كما تَفْعَلُ ذلك بالألف، فهى نفسُها بمنزلة الابتداء.
وإن قلت: أَيُّهم زيداً ضَرَبَ قَبُح، كما يقبح فى متى ونحوها، وصار أَن يَلِيَهَا الفعلَ هو الأصلُ، لأنّها من حروف الاستفهام، ولا يُحتاجُ إلى الألف،(1/126)
فصارت كأََينَ.
وكذلك مَنْ وما، لأنَّهما يَجريان معها ولا يُفارِقانها. تقول: مَنْ أَمَةَ الله ضَرَبَها، وما أَمَةَ الله أَتاها، نَصْبٌ فى كلَّ ذا، لأنّه أَنْ يَلِىَ هذه الحروفَ الفعلُ أولى، كما أنه لو اضطُرَّ شاعرٌ فى متى وأخواتها نصبَ. فقال: متى زيداً رأيته.
باب منَ الاستفهام يكون الاسمُ فيه رَفعاً
لأنّك تبتدئه لتُنبَّهَ المخاطَبَ، ثم تَستفهم بعدَ ذلك وذلك قولك: زيدٌ كَمْ مَرّةً رأيتَه، وعبدُ الله هل لقيتَه، وعمروٌ هلاّ لِقيتَه، وكذلك سائرُ حروف الاستفهام؛ فالعاملُ فيه الابتداءُ، كما أنّك لو قلت: أَرأيتَ زيداً هل لقيتَه، كان علمتُ هو العامل، فكذلك هذا. فما بعد المبتدإ من هذا الكلام فى موضع خبره.
فإن قلت: زيد كم مرة رأيتَ، فهو ضعيفٌ، إلاّ أن تُدْخِلَ الهاءَ، كما ضعَُفَ فى قوله: " كلُّه لم أَصنْعِ ".
ولا يجوز أن تقول: زيدا هل رأيتَ، إلا أن تردي معنى الهاء مع ضعفه فَترفَعُ، لأنّك قد فَصَلت بين المبتدإ وبين الفعل، فصار الاسمُ مبتدأَ والفعلُ بعد حرف الاستفهام. ولو حَسُنَ هذا أو جاز لقلتَ: " قد علمتُ زيدٌ كم ضرب،(1/127)
ولقلت: أرأيتَ زيدٌ كم مّرةً ضُربَ على الفعل الآخِر. فكما لا تَجِدُ بُدّاً من إعمال الفعل " الأوّل " كذلك لا تجد بدًّا من إعمال الابتداء، لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعدما تَفْرُغُ من الابتداء. ولو أرادوا الإعمالَ لمَا ابتدءوا بالاسم، ألا تَرى أنَّك تقول: زيدٌ هذا أعمروٌ ضَرَبَه أم بِشرٌ، ولا تقول: عمراً أَضَرَبْتَ. فكما لا يجوز هذا لا يجوز ذلك. فحرفُ الاستفهام لا يُفْصَلُ به بين العامل والمعمولِ، ثمّ يكون على حاله إذا جاءت الألفُ أوّلاً، وإنّما يَدخل على الخَبَر.
وممّا لا يكون إلاّ رفعاً قولُك: أَأخَواك اللّذانِ رأيتُ؛ لأنّ رأيتُ صلَةٌ للّذَينِ وبه يتُّم اسماً، فكأَنّك قلت: أَأخَواك صاحبَانا. ولو كان شيء من هذا يَنْصِبُ شيئاً فى الاستفهام لقلت فى الخَبَر: زيداً الذى رأيتُ، فنصبتَ كما تقول: زيدا رأيتُ.
وإذا كان الفعلُ فى موضعِ الصَّفة فهو كذلك، وذلك قولك: أزيدٌ أنت رجلٌ تضربه، وأكلَّ يومٍ ثوبٌ تَلْبَسُه. فإِذا كان وصفاً فأحسنُه أَنْ يكون فيه الهاءُ، لأنّه ليس بموضعِ إعمالٍ، ولكنّه يجوز فيه كما جاز فى الوَصْل، لأنّه فى موضع ما يكون من الاسم. ولم تكن لتقول: أزيداً أنت رجلٌ تضربه، وأنت إذا جعلتَه وصفا للمفعول لم تنصبه، لأنّه ليس بمبنىّ على الفعل، ولكن(1/128)
الفعل فى موضع الوصف كما كان فى موضع الخبر.
فمن ذلك قول الشاعر:
أكُلَّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهْ ... يُلْقِحُه قَوْمٌ وتَنْتِجونَهْ
وقال زيد الخَيْر:
أفي كلَّ عامٍ مَأْتَمٌ تَبعثونه ... على مِحْمَرٍ ثَوَّبْتُمُوه وما رُضَا(1/129)
وقال جريرٌ فيما ليس فيه الهاءُ:
أَبَحتَ حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حَمَيْتَ بمُستَباحِ
وقال آخر:
فما أَدْرِى أَغَيَّرهْم تَناءٍ ... وطُولُ العَهْدِ أم مالٌ أَصابُوا
وممّا لا يكون فيه إلا الرفعُ قوله: أَعبدُ الله أنت الضاربُه؛ لأنّك إنما تريد معنَى أنت الذى ضَرَبَه. وهذا لا يجرى مجرى يَفْعَلُ. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: ما زيداً أنا الضاربُ ولا زيداً أنت الضاربُ، " وإنّما تقولُ: الضاربُ زيداً، على مثل قولك الحسنُ وجها ". ألا ترى أنّك لا تقول: أنت المائةَ الواهبُ كما تقول: أنت زيداً ضاربٌ.
وتقول: هذا ضاربٌ كما ترى، فيجيء على معنى هذا يضْرِبُ وهو يَعمل فى حال حديثك، وتقول: هذا ضارب فيجيء على مغنى هذا سيَضْربُ. وإذا قلت: هذا الضاربُ فإِنّما تعرَّفُه على معنى الذى ضَرب فلا يكون إلاَّ رفعا، كما أنك لو قلت: أزيدٌ أنت ضاربهُ إذا لم تُرِدْ بضاربُه الفعلَ وصار(1/130)
معرفة " رفعت "، فكذلك هذا الذي لا يجيء إلاَّ على هذا المعنى فإِنّما يكون بمنزلة الفعل نكرةً.
وأصلُ وقوع الفعل صفةً للنكرة، كما لا يكون الاسمُ كالفعل إلا نكرةً. ألا ترى انكّ لو قلت: أكلَّ يوم زيدا تَضربُه لم يكن إلاّ نصباً، لأنَّه ليس بوصف. فإِذا كان وصفاً فليس بمبنىّ عليه الأوَّلُ، كما أنّه لا يكون الاسمُ مبنياً عليه فى الخبر، فلا يكون ضاربٌ بمنزلة يَفْعَل وتفعل إلاّ نكرَةً.
وتقول: أَذَكَرٌ أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى، كأنّه قال: أَذَكَرٌ نتِاجُها أحَبُّ إليك أم أُنْثَى. فأَن تَلِدَ اسمٌ، وتَلِدُ به يَتمُّ الاسمُ كما يتمُّ الذى بالفعل، فلا عَمَلَ له " هنا " كما ليس يكون لصلةِ الذى عمل.
وتقول: أزيد أني ضربه عمرو أَمثَلُ أم بِشْرٌ، كأنه قال: أزيدٌ ضرب عمرو إياه أمثلُ أم بشرٌ، فالمصدر مبتدأ وأمثلُ مبنىٌّ عليه، ولم يُنْزَلْ منزلة يَفْعلُ، فكأَنّه قال: أزيد ضاربُه خيرٌ أم بشر. وذلك لأنك ابتدأْته وبنيت عليه فجعلته اسماً، ولم يَلتبس زيدٌ بالفعل إذ كان صلةً له، كما لم يلتبس به الضاربُه حين قلت: زيدٌ أنت الضاربُه، إلاّ أنّ الضاربُه فى معنى الذى ضَرَبه، والفعل تمَامُ هذه الأسماء، " فالفعل لا يلتبس بالأول إذا كان هكذا ".
وتقول: أَأَن تلد ناقُتك ذكراً أحبُّ إليك أم أُنْثَى، لأنَّك حملته على الفعل الذى هو صلةُ أَنْ، فصار فى صلته، فصار كقولك: الذى رأيتُ أخاه(1/131)
زيدٌ. ولا يجوز أن تبتدئَ بالأخ قبل الذى وتُعْمِلَ فيه رأيتُ " أخاه زيد ". فكذلك لا يجوز النصب فى قولك: أذَكَرٌ أَنْ تَلِدَ ناقتُك أحب إليك أم أنثى. وذلك أنك لو قلت: أخاه الذى رأيتُ زيدٌ لم يجز، وأنت تريد: الذى رأيتُ أخاه زيدٌ.
وممَّا لا يكون فى الاستفهام إلاّ رفعاً " قولك ": أَعبدُ الله أنت أكرمُ عليه أم زيدٌ، وأعبدُ الله أنت له أصدقُ أم بِشرٌ، كأنّك قلت: أعبدُ الله أنت أخوه أم بشر، لأنّ أَفْعَلَ ليس بفعلٍ، ولا اسمٍ يَجرى مجرى الفعل، وإنّما هو بمنزلة حسَنٍ وشديد ونحوِ ذلك. ومثلُه: أَعبدُ الله أنتَ له خيرٌ أم بشرٌ.
وتقول: أزيدٌ أنت له أشدُّ ضَرْباً أم عمرو، فإِنَّما انتصابُ الضَّرْبِ كانتصاب زيد فى قولك: ما أحْسَنَ زيداً، وانتصابِ وجهٍ فى قولك: حَسَنٌ وجهَ الأخِ. فالمصدرُ هنا كغيره من الأسماء، كقولك: أزيدٌ أنت له أطْلَقُ وجهاً أم فلانٌ. وليس له سبيلٌ إلى الإِعمال، وليس له وجهٌ فى ذلك.
ومَّما لا يكون فى الاستفهام إلا رفعا قولك: أعبد الله إنْ تَرَهُ تضربْه، وكذلك إنْ طرحتَ الهاء مع قبحه فقلت: أبعد الله إنْ تَرَ تضربْ، فليس للآخِر سبيل على الاسم، لأنَّه مجزوم، وهو جوابُ الفعل الأوّل، وليس للفعل الأوّل سبيلٌ، لأنّه مع إن بمنزلة قولك: أعبد الله حين يأتيني أضرب فليس(1/132)
لعبد الله فى يأتينى حَظٌّ، لأنّه بمنزلة قولك: أعبدَ الله يومَ الجمعة أضرِبُ. ومثل ذلك: زيدٌ حين أَضْربُ يَأْتينى؛ لأنَّ المعَتمِدَ على زيدٍ آخِرُ الكلام وهو يَأْتينى. وكذلك إذا قلت: زيدا إذا أتانى أضرِبُ، وإنما هو بمنزلة حينَ.
فإِن لم تَجْزِمِ الآخِرَ نصبتَ، وذلك قولك: أزيداً إنْ رأيتَ تضربُ. وأحْسنُه أن تُدْخِلَ فى رأيتَ الهاءَ، لأنّه غيرُ مُسْتَعْمَلٍ، فصارت حروفُ الجزاء فى هذا بمنزلة قولك: زيدٌ كم مرّةً رأيْتَه. فإِذا قلتَ: إنْ تَرَ زيدا تضربْ، فليس إلاّ هذا، صار بمنزلة قولك: حين ترى زيدا يأْتيك، لأنّه صار فى موضع المُضْمْرَ حين قلت: زيدٌ حين تَضْرِبُه يكون كذا وكذا. ولو جاز أن تجعل زيداً مبتدأَ على هذا الفعل لقلتَ: القِتالُ زيداً حين تأتى، تريد القتالُ حين تأتى زيداً.(1/133)
وتقول فى الخبر وغيره: إنْ زيدا تَرَه تضربْ، تَنصبُ زيدا، لأن الفعل أنْ يَلِىَ إنْ أولى، كما كان ذلك فى حروف الاستفهام، وهى أبعدُ من الرفع لأنه لا يُبْنَى فيها الاسم على مبتدإ.
وإنّما أجازوا تقديمَ الاسم فى إنْ لأنّها أمُّ الجزاء ولا تزول عنه، فصار ذلك فيها كما صار فى ألف الاستفهام ما لم يجز فى الحروف الأُخَرِ.
وقال النَّمِرُ بنُ تَوْلَبٍ:
لا تَجْزَعِى إنْ مُنْفِساً أَهْلكتُهُ ... وإذا هلكتُ فعند ذلكِ فاجْزَعىِ
وإن اضطَّر شاعرٌ فأجرى إذا مجرى إنْ فجازَى بها قال: أَزَيدٌ إذا تَرَ تَضْرِبْ، إن جعلَ تضربْ جَوَاباً. وإنْ رفعَها نصبَ، لأنّه لم يجعلها جواباً. وتَرَفعُ الجوابَ حين يَذهب الجزمُ من الأوّل فى اللفظ. والاسمُ ههنا مبتدأٌ إذا جزمتَ، نحو قولهم: أيُّهم يأْتِكَ تضْربْ، إذا جزمتَ، لأنَّك جئت بتضرب مجزوما بعد أن عَمِلَ الابتداءُ فى أيُّهم ولا سبيل له عليه. وكذلك هذا حيث جئتَ به مجزوما بعد أن عَمِلَ فيه الابتداءُ. وأمّا الفعل الأوّل فصار مع ما قبله بمنزلة(1/134)
حينَ وسائرِ الظروف.
وإن قلتَ: زيد إذا يأْتينى أَضرْبُ، تريد معنى الهاء ولا تريد زيداً أضربُ إذا يأتينى، ولكنكّ تضع أَضربُ ههنا مثلَ أضربْ إذا جزمت وإن لم يكن مجزوماً؛ لأنّ المعنى معنى المجازاة فى قولك: أزيدٌ إِنْ يأْتِك أضربْ ولا تريد به أضربُ زيداً، فيكونَ على أوّل الكلام، كما لم تُرِدْ بهذا أوّل الكلام، رفعتَ. وكذلك حينَ، إذا قلت: أزيدٌ حين يأتيك تضربُ.
وإنما رفعتَ الأوّل فى هذا كلَّه لأنَّك جعلت تضربُ وأَضربُ جواباً، فصار كأنه من صلته إذ كان من تمامه، ولم يَرجع إلى الأوّل. وإنّما تَرُدّه إلى الأوّل فيمن قال: إن تَأْتِنى آتيك، وهو قبيحٌ وإنّما يجوز فى الشعر.
وإذا قلت: أَزيدٌ إن يأتك تضرب فليس تكون الهاءُ إلاّ لزيد، ويكونُ الفعلُ الآخِرُ جواباً للأوّل. ويدلّك على أنّها لا تكون إلاّ لزيد أنك لو قلت: أزيدٌ إن تَأْتكَ أَمَةُ الله تضربْها لم يجز، لأنك ابتدأ زيداً ولا بد من خبرٍ، ولا يكون ما بعده خبراً له حتّى يكون فيه ضميرهُ.
وإذا قلت: زيداٌ لَمْ أضربْ، أو زيداً لن أضربَ، لم يكن فيه إلاّ النصبُ، لأنك لم توقِع بعد لَمْ ولَنْ شيئاً يجوز لك أن تقدَّمَه قبلهما فيكون على غير حاله بعدهما " كما كان ذلك فى الجزاء ". ولن أَضْرِبَ نفىٌ لقوله:(1/135)
سَأَضْرِبُ، كما أنّ " لا تَضْرِبْ نفى لقولِه: اضْرِبْ "، ولم أَضرب نفىٌ لِضربتُ.
وتقول: كلَّ رجلٍ يأْتيك فاضربْ، " نصبٌ " لأنَّ يأتيك ههنا صفةٌ، فكأَنكّ قلت: كلَّ رجل صالحٍ اضربْ.
فإِنْ قلت: أيُّهم جاءك فاضرِبْ، رفعتَه لأنه جَعل جاءك فى موضع الخبر، وذلك لأنّ قوله: فاضربْ فى موضع الجواب، وأىٌّ من حروف المجازاة وكلُّ رجل ليستْ من حروف المجازاة. ومثله: زيدٌ إنْْ أتاك فاضرِبْ، إلاّ أن تريد أوّلَ الكلام، فتنصبُ ويكونُ على حدّ قولك: زيدا إن أتاك تَضْرِبْ، وأيَّهم يأتك تضرب، إذا كان بمنزلة الذى.
وتقول: زيداً إذا أتاك فاضرب. فإن وضعته في موضع زيد عن يأتك تضربْ رفعتَ، فارفعْ إذا كانت تضربْ جواباً ليأتك، وكذلك حينَ. والنصبُ فى زيد أحسنُ إذا كانت الهاءُ يَضْعُفُ تركُها ويَقبُحُ.
فأعمِلْه فى الأوّل، وليس هذا فى القياس لأنَّها تكون بمنزلة حينَ، وإذا وحينَ لا يكون واحداً منهما خبراً لزيد. ألاّ ترى أنَّك لا تقول: زيدٌ حينَ يأتينى؛ لأنَّ حينَ لا تكون ظرفاً لزيد.
وتقول: الحَرُّ حينَ تأتينى، فيكون ظرفاً، لما فيه من معنى الفعل. وجميعُ ظروف الزَّمان لا تكون ظروفاً للجُثَثِ.(1/136)
فإن قلت: زيداً يومَ الجمعة أَضربُ، لم يكن فيه إلاّ النصبُ، لأنَّه ليس ههنا معنى جزاء، ولا يجوز الرفع إلاّ على قوله:
كلُّه لم أصْنَعِ
ألا تَرى أنك لو قلت: زيدٌ يومَ الجمعة فأنا أضربُهُ لم يكن، " ولو قلت: زيدٌ إذا جاءنى فأنا أضربُه كان جيَّداً ". فهذا يدلّك على أنّه يكون على غير قوله زيداً أضرب حين يأتيك.
هذا باب الأمر والنهى
والأمرُ والنهىُ يُختار فيهما النصبُ فى الاسم الذى يُبْنَى عليه الفعلُ ويُبْنَى على الفعل، كما اختير ذلك فى باب الاستفهام؛ لأن الأمر والنهى إنما هما للفعل، كما أنّ حروف الاستفهام بالفعل أولى، وكان الأصل فيها أن يبتدأ بالفعل قبل الاسم، فهكذا الأمرُ والنَّهى، لأنهما لا يقعان إلاَّ بالفعل، مظهراً أو مضمرا.
وهما أقوى فى هذا من الاستفهام؛ لأنّ حروف الاستفهام قد يُستفهم بها(1/137)
وليس بعدها إلا الأسماءُ نحو قولك: أزيدٌ أخوك، ومتى زيدٌ منطلق، وهل عمروٌ ظريفٌ. والأمرُ والنهىُ لا يكونان إلاّ بفعلٍ، وذلك قولك: زيداً اضربْه، وعمراً أمرُرْ به، وخالداً اضربْ أباه، وزيداً اشترِ له ثوبا. ومثلُ ذلك: أَمَّا زيداً فاقتُلْه، وأَمَّا عمراً فاشترِ له ثوباً، وأَمّا خالداً فلا تَشْتِمْ أباه، وأَمّا بكراً فلا تمرر به. ومنه: زيداً ليضربه عمرو، وبشراً ليقتل أباه بكر، لأنّه أَمْرٌ للغائب بمنزلة افعَلْ للمخاطَب.
وقد يكون فى الأمر والنهى أن يُبْنَى الفعل على الاسم، وذلك قولك: عبدُ الله اضربْه، ابتدأْتَ عبدَ الله فرفعته بالابتداء، ونبَّهتَ المخاطَبَ له لتُعرَّفَه باسمه، ثم بنيتَ الفعلَ عليه كما فعلت ذلك فى الخبر. ومثل ذلك: أمّا زيد فاقتْله. فإِذا قلت: زيدٌ فاضربْه، لم يَستقم أَنْ تَحملَه على الابتداء. ألاَ ترى أنّك لو قلت: زيدٌ فمنطلقٌ لم يستقم، فهو دليلٌ على أنّه لا يجوز أن يكون مبتدأ. فإِنْ شئتَ نصبته على شيء هذا تفسيرُه، كما كان ذلك فى الاستفهام، وإن شئت على عليك، كأَنك قلت: عليكَ زيدا فاقتلْه.
وقد يَحْسُنُ ويستقيمُ أنْ تقولَ: عبد الله فاضربه، إذا كان مبيناً على مبتدإ مُظْهَرٍ أو مُضْمَرٍ. فأمّا فى المظهر فقولُك: هذا زيدٌ فاضربْه، وإن شئت لم تُظْهِرْ " هذا " ويَعمل كعمله إذا أظهرته، وذلك قولك: الهلالُ واللهِ فانظْر إليه، كأنّك قلت: هذا الهلالُ، ثم جئتَ بالأمر.
وممّا يَدُلُّك على حُسنِ الفاء ههنا أنّك لو قلت: هذا زيدٌ فحَسَنٌ جميلٌ،(1/138)
كان " كلاماً " جيّداً. ومن ذلك قول الشاعر:
وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهمْ ... وأُكرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هِيَا
هكذا سُمِعَ من العرب تُنْشِدُه.
وتقول: هذا الرجلَ فاضربْه، إذا جعلته وصفاً ولم تجعله خبراً. وكذلك: هذا زيد فاضربْه، إذا كان معطوفا على " هذا " أو بدَلا.
وتقول: الَّلِذينِ يأتيانِك فاضربْهما، تنصبُه كما تنصب زيدا، وإن شئت رفعتَه على أَنْ يكون مبنياً على مظهر أو مضمر. وإن شئت كان مبتدأَ، لأنّه يستقيم أن تجعلَ خبرهَ من غير الأَفعال بالفاء. ألاَ ترى أنّك لو قلت: الذى يأْتينى فله درهمٌ، والذي يأتيني فمكرم محموم، كان حسناً. ولو قلت: زيدٌ فله درهمٌ لم يجز. وإنَّما جاز ذلك لأنّ قوله: الذى يأَتينى فله درهمٌ، فى(1/139)
معنى الجزاءِ، فدخلت الفاءُ فى خبره كما تدخل فى خبر الجزاءِ.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبَّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ".
ومن ذلك قولهم: كلُّ رجل يأْتيك فهو صالحٌ، وكلُّ رجل جاءَ فله درهمانِ؛ لأنّ معنى الحديث الجزاءُ.
وأمَّا قول عَدِىَّ بن زيد:
أَرَواحٌ مُوَدَّعٌ أم بُكورُ ... أنتَ فانظُرْ لأىَّ ذاكَ تصير(1/140)
فإنّه على أن يكون فى الذى يَرْفَعُ على حالة المنصوب فى النصب. يعنى أن الذى من سببه مرفوع فترفعه بفعلٍ هذا يفسَّره، كما كان المنصوبُ ما هو من سببه ينتصب، فيكون ما سقط على سببيَّهِ تفسيره في الذي ينصب على أنه شيء هذا تفسيره. يقول: ترفع " أنت " على فعل مضمر، لأن الذى من سببه مرفوع، وهو الاسم المضمر الذى فى انظْر.
وقد يجوز " أن يكون " أنت على قوله: أنت الهالِكُ، كما يقال: إذا ذُكِرَ إنسان لشيء، قال الناسُ: زيدٌ. وقال الناس: أنت. ولا يكون على أن تضمِرَ هذا، لأنَّك لا تُشيرُ للمخاطَب إلى نفسه ولا تحتاج إلى ذلك وإنما تُشير له إلى غيره. ألا ترى أنَّك لو أشرت له إلى شخصه فقلت: هذا أنت، لم يستقم.
ويجوز هذا أيضاً على قولك: شاهِداك، أى ما ثبت لك شاهِداكَ. قال الله تعالى جدّه: " طاعة وقول معروف ". فهو مثله. فإمّا أَن يكونَ أَضْمَرَ الاسمَ وجَعل هذا خبرَه كأنّه قال: أمرى طاعة " وقولٌ معروف "، أو يكون أَضْمر الخبَر فقال: طاعةٌ وقولٌ معروف أمثلُ.(1/141)
واعلم أَنّ الدعاءَ بمنزلة الأمر والنهى، وإنما قيل: " دعاءٌ " لأنه استُعْظِمَ أَنْ يقال: أمرٌ أو نَهْىٌ. وذلك قولُك: اللهمَّ زيداً فاغفرْ ذنبَه، وزيدا فأَصلحْ شأنَه، وعَمْراً لِيَجْزِه اللهُ خيراً. وتقول: زيداً قَطعَ اللهُ يدَه، وزيداً أَمَرَّ اللهُ عليه العيشَ، لأن " معناه معنى " زيداً لِيَقطعِ اللهُ يده.
وقال أبو الأسود الدُّؤَلِىُّ:
أَميرانِ كَانَا آخَيَانِى كِلاهما ... فكلاَّ جزاه اللهُ عَنِّى بما فَعَلْ
ويجوز فيه من الرفع ما جاز فى الأمر والنهى، ويَقبح فيه ما يقبح فى الأمر والنهى.
وتقول: أَمّا زيداً فَجدْعاً له، وأَمّا عمراً فسَقْياً له؛ لأنّك لو أظهرتَ الذى انتَصَبَ عليه سَقياً وجَدعا لنصبتَ زيداً وعمراً، فإِضمارُه بمنزلة إظهاره، كما تقول: أَمّا زيداً فضرباً.
وتقول: أمّا زيدٌ فسلامٌ عليه، وأَمّا الكافرُ فلعنةُ الله عليه؛ لأنَّ هذا ارتَفَعَ بالابتداء.
وأمّا قوله عزّ وجلّ: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ". وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "، فإِن(1/142)
هذا لم يُبْنَ على الفعل، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى: " مَثَلُ الجَنَّة اَّلِتى وُعِدَ المُتَّقُونَ ". ثمَّ قال بَعْدُ: " فيها أنهار من ماء "، فيها كذا وكذا. فغنما وُضِعَ المَثَلُ للحديث الذى بعده، فذكر أخباراً وأحاديثَ، فكأَنه قال: ومن القَصَص مَثَلُ الجنّة، أو مما يقص عليهكم مَثَلُ الجنّة، فهو محمول على هذا الإِضمارِ " ونحوِه ". والله تعالى أعلم.
وكذلك " الزانية والزاني "، " كأنه " لمّا قال جلّ ثناؤُه: " سورة أنزلناها فرضناها ". قال: فى الفراِئض الزَّانِيَةُ والزَّانِى، " أو الزانيةُ والزانِى فى الفرائض ". ثم قال: فاجْلِدُوا، فجاءَ بالفعل بعد أن مَضَى فيهما الرفعُ، كما قال:
وقائلة: خَوْلانُ، فانْكِحْ فتاتَهم
فجاء بالفعل بعد أنْ عَمل فيه المضمَرُ. وكذلك: " والسارق والسارقة " " كأنه قال: و " فيما فرض عليكم " السارقُ والسارقةُ، أو السَّارق والسارقة فيما فرض عليكم ". فإِنَّما دخلت هذه الأسماءُ بعد قصَص وأحاديثَ. ويحمل على نحوٍ من هذا " ومثلِ ذلك ": " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ".(1/143)
وقد يَجْرِى هذا فى زيدٍ وعمرو على هذا الحدّ، إذا كنتَ تُخبِرُ " بأشياء " أو توصي. ثم تقول: زيدٌ، فيمن أُوِصى به فأَحْسِنْ إليه وأَكرْمْه.
وقد قرأ أناس: " والسارق والسارقة " و " الزانية والزانِىَ "، وهو فى العربيّة على ما ذكرت لك من القوَّة. ولكن أَبَتِ العامَّةُ إلاّ القراءةَ بالرفع.
وإنَّما كان الوجهُ في الأمر والنَّهى النصبَ لأنّ حدَّ الكلام تقديمُ الفعل، وهو فيه أوجبُ، إذ كان ذلك يكون فى ألف الاستفهام، لأنّهما لا يكونان إلا بفعل.
وقَبُحَ تقديمُ الاسم فى سائر الحروف، لأنّها حروفٌ تَحْدُثُ قبل الفعل. وقد يصير معنى حديثهن إلى الجزاء، والجزاء لا يكون إلاّ خبراً، وقد يكون فيهنّ الجزاءُ فى الخبر، وهى غيرُ واجبة كحروف الجزاء فأُجْرِيَتْ مُجراها. والأمر ليس يَحْدُثُ له حرفٌ سوى الفعل، فيُضارِع حروفََ الجزاء، فيقبُح حذفُ الفعل منه كما يَقبح حذفُ الفعل بعد حروف الجزاء. وإنّما يقبح حذفُ الفعل وإضمارُه بعد حروف الاستفهام لمضارعتها حروفَ الجزاء.
وإنما قلت: زيداً اضربْه، واضربْه مشغولةٌ بالهاء، لأنَّ الأمرَ والنهى لا يكونان إلاّ بالفعل، فلا يستغنى عن الإضمار إن لم يظهَرْ.(1/144)
باب حروفٍ أُجريتْ مُجرى حروف الاستفهام وحروفِ الأمر والنهى وهى حروف النَّفى، شبّهوها بحروف الاستفهام حيث قُدّم الاسمُ قبل الفعل، لأنَّهنَّ غيرُ واجبات، كما أنّ الألف وحروف الجزاء غير واجبة، وكما أنَّ الأمر والنهى غير واجبَيْنِ.
وسَهُل تقديم الأسماء فيها لأنّها نفىٌ لواجبٍ، وليست كحروف الاستفهام والجزاء، وإنّما هى مضارعة، وإنما تجيء لخلاف قوله: قد كان.
وذلك قولك: ما زيداً ضربتُه ولا زيداً قتلتُه، وما عَمْراً لقيتُ أباه ولا عمراً مررتُ به ولا بِشرا اشتريتُ له ثوبا. وكذلك إذا قلت: ما زيداً أنا ضاربُه، إذا لم تجعله اسماً معروفا. قال هُدْبةُ بن الخَشْرَمْ العُذْرىّ:
فلا ذا جلال هبنه لجلاله ... ولا ذاع ضيَاعٍ هنَّ يَتركْنَ للفَقْرِ
وقال زُهير:
لا الدَّارَ غَيَّرَها بَعْدِى الأَنيسُ ولا ... بالدّارِ لو كَلَّمَتْ ذا حاجةٍ صَمَمُ(1/145)
وقال جرير:
فَلا حَسَباً فَخَرْتَ به لتَيْمٍ ... ولا جَدّاً إذا ازدَحَمَ الجُدودُ
وإن شئت رفعتَ، والرَّفعُ فيه أقوى إذْ كان يكون فى ألف الاستفهام، لأنَّهنَّ نفىُ واجبٍ يُبتدأ بعدهنّ ويُبنَى على المبتدإ بعدهنّ، ولم يَبلغنَ أَن يكنَّ مثل ما شُبَّهْنَ به.
فإِنْ جعلتَ " ما " بمنزلة ليس فى لغة أهل الحجاز لم يكن إلا الرفع، لأنك تجيء بالفعل بعد أن يَعمل فيه ما هو بمنزلة فِعلٍ يَرفع، كأنَّك قلت: ليس زيدٌ ضربتُه.
وقد أَنشد بعضهم هذا البيتَ رَفعاً، " قول مزاحم العقيلى ":
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى منى أنا عارف
فإِن شئت حملتَه على ليس، وإن شئت حملته على " كُلُّهُ لم أَصنعِ ". فهذا أبعدُ الوجهين.(1/146)
وقد زعم بعضهم أنّ ليس تجعل كما، وذلك قليل لا يَكادُ يُعْرَفُ، فهذا يجوز أن يكون منه: ليس خَلَقَ اللهُ أَشْعَرَ منه، وليس قالها زيد. قال حُمَيْدٌ الأرْقَطُ:
فأصْبَحُوا والنَّوىَ عالي مُعَرَّسِهِمْ ... وليسَ كل النوى يلقي المساكين
وقال هشام أخو ذى الرمة:
هي الشفاء لدائى لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداءِ مَبْذولُ
هذا كلُّه سُمِعَ من العرب. والوجه والحدّ أن تَحْمِلَه على أَنّ فى ليس إضماراً وهذا مبتدأٌ، كقوله: إنَّه أمةُ الله ذاهبةٌ. إلاَّ أنَّهم زعموا أنَّ بعضهم قال: ليس الطَيبُ إلاّ المِسكُ، وما كانَ الطيبُ إلا المسكُ.
فإِن قلت: ما أنا زيدٌ لقيتُه، رفعتَ إلاّ فى قول من نَصَبَ زيداً لقيتُه لأنَّك قد فصَلتَ كما فصلت فى قولك: أنت زيدٌ لقيتَه. " وإن كانتْ ما التى هى بمنزلة ليس، فكذلك، كأنّك قلت: لستُ زيدٌ لقيتُه "، لأنّك شغلت الفعل " بأنا "، وهذا مبتدأٌ بعد اسم، وهذا الكلام فى موضع خبره، وهو فيه أقوى لأنَّه عاملٌ فى الاسم الذى بعده. وألفُ الاستفهام، وما فى لغة بنى تميم، يفصلنَ فلا يَعْمَلنَ. فإِذا اجتمع أَنك تَفصِلُ وتعمل الحرفَ فهو أقوى.(1/147)
وكذلك: إنَّى زيدٌ لقيتُه، وأنا عمرو ضربتُه، ولَيْتَنِى عبدُ الله مررتُ به، لأنّه إنما هو اسمٌ مبتدأُ " ثم ابْتُدِئَ بعده "، أو اسمٌ قد عَمِلَ فيه عاملٌ ثم ابتُدئ بعده الكلام فى موضع خبره.
فأما قوله عزّ وجلّ: " إنا كل شيء خَلِقْنَاهُ بِقَدَرٍ "، فإِنّما هو على قوله: زيداً ضربتُه، وهو عربىٌّ كثير. وقد قرأَ بعضهم: " وأما ثمود فهديناهم "، إلاَّ أنّ القراءة لا تُخالَفُ؛ لأنّ القراءة السُّنَّةُ.
وتقول: كنتُ عبدُ الله لقيتُه، لأنَّه ليس من الحروف التى يُنْصَبُ ما بعدها كحروف الاستفهام وحروفِ الجزاء ولا ما شُبّه بها، وليس بفعلٍ ذكرتَه ليعمل في شيء فيَنْصِبَه أو يَرفعَه، ثم يُضَمَّ إلى الكلام الأوّل الاسمُ بما يُشْرَكُ " به "، كقولك: زيدا ضربت وعمراً مررت به، ولكنه شيء عَمِلَ فى الاسم، ثم وضعتَ هذا فى موضع خبره، مانعاً له أن ينصبَ، كقولك: كان عبدُ الله أبوه منطلقٌ. ولو قلت: كنتُ أخاك وزيدا مررتُ به نصبتَ، لأنَّه قد أُنفذ إلى مفعول ونُصبَ ثم ضممتَ إليه اسما وفعلا.(1/148)
وإذا قلت: كنتُ زيدٌ مررتُ به، فقد صار هذا فى موضع أخاك ومَنَعَ الفعَل أن يَعْمَلَ.
وكذلك: حَسِبْتُنى عبدُ الله مررتُ به، لأنّ هذا المضمَرَ المنصوبَ بمنزلة المرفوع فى كنتُ؛ لأنّه يَحتاج إلى الخبر كاحتياج الاسم فى كنتُ، وكاحتياجِ المبتدإ، فإِنَّما هذا فى موضع خبره، كما كان فى موضع خبرِ كان، فإِنَّما أراد أن يقولَ: كنتُ هذه حالى، وحَسِبتُنى هذه حالى، كما قال: لقيتُ عبدَ الله وزيد يضربه عمرو، فإنما قال: لقيت عبد الله وزيد هذه حالُه، ولم يَعْطِفه على الحديث الأوَّل ليكون في مثل معناه، ولم يُرِدْ أن يقول: فعلتُ وفَعَلَ، وكذلك لم يُرِدْه فى الأوّل. ألا ترى أنّه لم يُنْفِذِ الفعلَ فى كنتُ إلى المفعول الذى به يَسْتَغنىِ الكلامُ كاستغناء كنتُ بمفعوله. فإِنَّما هذه فى موضع الإِخبارِ، وبها يَسْتَغنِى الكلامُ.
وإذا قلتَ: زيدا ضربتُ وعمراً مررتُ به، فليس الثانى فى موضع خبر، ولا تريد أن يستغنى به شيء لا يتم غلا به، فإِنّما حالُه كحال الأول " فى أنه مفعولٌ "، وهذا " الثانى " لا يَمْنَعُ الأوّلَ مفعوله أَنْ يَنْصِبَهُ لأنّه ليس فى موضع خبره، فكيف يُختار فيه النّصبُ، وقد حال بينه وبين مفعوله، وكان فى موضعه، إلاّ أن تَنصبه على قولك: زيداً ضربتُه.
ومثل ذلك: قد علمتُ لَعَبْدُ الله تضربه، فدخولُ اللام يدلُّك أنَّه إنَّما(1/149)
أراد به ما أراد إذا لم يكن قبله شيء، لأنها ليست مما يضم به الشيء إلى الشيء كحروف الاشتراك، فكذلك تركُ الواو فى الأول هو كدخول اللام هنا. وإن شاءَ نصبَ، كما قال الشاعر، وهو المَرَّار الأسدى:
فلو أنّها إياكَ عَضَّتْكَ مِثْلُها ... جَرَْرتَ على ما شئتَ نَحْراً وكَلْكَلاَ
هذا بابٌ من الفعل يستعمَلُ فى الاسم
ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسمٌ آخَرَ فيَعْمَلُ فيه كما عَمِلَ فى الأوّل وذلك قولك: رأيتُ قومَك أكثرَهم، ورأيتُ بنى زيد ثُلُثَيْهم، ورأيتُ بنى عمّك ناساً منهم، ورأيتُ عبدَ الله شخصهَ، وصَرفْتُ وجوهها أولها. فهذا يجيء على وجهينِ: على أنَّه أراد: رأيتُ أكثرَ قومك، و " رأيت " ثُلُثَى قومك، وصرفتُ وجوهَ أوّلِها، ولكنَّه ثَنَّى الاسمَ توكيداً، كما قال جلّ ثناؤه: " فَسَجَدَ الملائكة كلهم(1/150)
أجْمَعُونَ " وأشباه ذلك. فمن ذلك قوله عزّ وجل: " يسألونك عن الشر الحرام قتال فيه ". وقال الشاعر:
وذكر تَقْتُدَ بَرْدَ مائها ... وعَتَكُ البَوْلِ على أنسائِها
ويكون على الوجه الآخرَ الذى أذكره لك، وهو أن يَتكلّمَ فيقولَ: رأيتُ قومَك، ثم يَبْدوَ له أن يبيَّنَ ما الذى رأى منهم، فيقولَ: ثُلُثَيْهم أَو ناساً منهم.
ولا يجوز أن تقول: رأيتُ زيدا أباه، والأبُ غيرُ زيد، لأنّك لا تبينَّه بغيره ولا بشيء ليس منه. وكذلك لا تثنَّى الاسم توكيداً وليس بالأول ولا شيء منه، فإِنَّما تثنَّيه وتُؤكَّدُهُ مُثَنًّى بما هو منه أو هو هو. وإنّما يجوز رأيتُ زيداً أباه(1/151)
ورأيت عمراً، أَن يكون أراد أن يقول: رأيتُ عمرا أو رأيتُ ابا زيد، فَغَلِطَ أو نَسِىَ، ثم استَدرك كلامَه بعدُ؛ " وإمّا أن يكون أَضْرَبَ عن ذلك فنَحَّاه وجعل عمراً مكانَه ".
فأَمّا الأوّل فجيّدٌ عربى، مثلُه قوله عزّ وجلّ: " ولله على الناس حج البيت من استطاع عليه سبيلا " لأنهم من الناس. ومثلُه إلاَّ أنَّهم أعادوا حرفَ الجرّ: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين اشتضعفوا لمن آمن منهم ".
ومن هذا الباب " قولك ": بعت متاعك أسفله قبل أَعلاه، واشتريتُ متاعَك أسفلَه أسَرعَ من اشترائى أَعلاه، واشتريتُ متاعَك بعضَه أعجلَ من بعض، وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كِبارَها، وضربت الناسَ بعضَهم قائما وبعضَهم قاعداً، فهذا لا يكون فيه إلاَّ النصبُ؛ لأنَّ ما ذكرتَ بعده ليس مبنيّا عليه فيكونَ مبتدأ، وإنَّما هو من نعتِ الفعل، زعمتَ أنّ بَيْعَه أسفلَه كان قبل بيعه أعلاه، وأنّ الشَّراءَ كان فى بعضٍ أعجلَ من بعض، وسَقْيَه الصغارَ كان أحسنَ من سَقيه الكبار، ولم تَجعله خبراً لما قبله.
ومن ذلك قولك: مررتُ بمتاعك بعضِه مرفوعاً وبعضِه مطروحاًن فهذا(1/152)
لا يكون مرفوعاً؛ لأنك حملت النعتَ على المرور فجعلته حالاً " للمرور " ولم تجعلْه مبنياًّ على المبتدأ. وإن لم تجعله حالاً للمرور جاز الرفع.
ومن هذا الباب: أَلزمتُ الناسَ بعضَهم بعضاً، وخَوّفتُ الناس ضعيفَهم قَوِيَّهم. فهذا معناه في الحديث المعنى " الذي " في قولك: خاف الناس ضعيفهم قويهم، ولَزِمَ الناسُ بعضُهم بعضاً، فلما قلت: أزلمت وخوّفتُ صار مفعولا، وأجريتَ الثانىَ على ما جرى عليه الأوّلُ وهو فاعلٌ، فصار فِعْلا تعدّى إلى مفعولينِ.
وعلى ذلك دَفعتُ الناسَ بعضَهم ببعضٍ، على قولك: دَفَعَ الناسُ بعضُهم بعضاً. ودخولُ الباء ههنا بمنزلة قولك: ألزمتُ، كأنَّك قلت فى التمثيل: أَدْفَعْتُ، كما أنكَ تقول: ذهبتَ به " من عندنا " وأَذهبتَه من عندنا، وأخرجتَه " معك " وخرجتَ به معك. وكذلك مَيَّزتُ متاعَك بعضَه من بعضٍ، وأَوصلتُ القومَ بعضَهم إلى بعضٍ، فجعلتَه مفعولا على حدّ ما جَعلتَ الذى قبله وصار قوله إلى بعض ومن بعض، فى موضع مفعولٍ منصوبٍ.
ومن ذلك: فضَّلتُ متاعَك أسفلَه على أعلاه، " فإنَّما جعله مفعولا من قوله: خَرَجَ متاعُك أسفُله على أعلاه "، كأنه قال فى التمثيل: فضَلَ متاعُك أسفلُه على أعلاه، " فعلى أعلاه فى موضع نصب ".
ومثل ذلك: صَكَكتُ الحَجَريْنِ أَحَدَهما بالآخَر، على أنَّه مفعول، من أصْطَكَّ الحجرانِ أحدُهما بالآخَر. ومثل ذلك " قوله عزّ وجلّ ": " وَلَوْلاَ دِفَاعُ(1/153)
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ".
وهذا ما يَجرى منه مجرورا كما يجرى منصوبا، وذلك قولك: عجبتُ من دَفْعِ الناسِ بعضِهم ببعضٍ، إذا جعلت الناسَ مفعولِينَ كان بمنزلة قولك: عَجِبْتُ من إذهابِ الناسِ بعضِهم بعضاً، لأنَّك إذا قلت: أَفعلتُ، استغنيتَ عن الباء، وإذا قلت: فَعلتُ احتجتَ إليها، وجرى فى الجرّ على قولك: دفعتُ الناسَ بعضَهم ببعضٍ. وإن جعلت الناسَ فاعِلينَ قلت: عجبتُ من دفعِ الناسِ بعضِهم بعضاً، جرى فى الجرَّ على حدَّ مجراه فى الرفع، كما جرى فى الأوَّل على مجراه فى النَّصب، وهو قولك: دفعَ الناسُ بعضُهم بعضاً.
وكذلك جميعُ ما ذكرنا إذا أَعملتَ فيه المصدرَ فجرى مجراه فى الفعل.
و" من " ذلك قولك: عَجِبْتُ من موافقةِ الناسِ أسودِهم أَحمرَهم، جرى على قولك: وافَقَ الناسُ أَسودُهم أَحمرَهم. وتقول: سمعتُ وَقعَ أَنْيابِه بعضِها فوقَ بعض، جرى على قولك: أَنْيابُه بعضُها فوق بعض. وتقول: عجبت من إيقاع أنيابه فوق بعض، على حد قولك: أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض.
هذا وجهُ اتّفاقِ الرفعِ والنصبِ فى هذا الباب، واختيارِ النصب، واختيار الرفع.(1/154)
تقول: رأيتُ متاعَك بعضُه فوقَ بعضٍ، إذا جعلتَ فوقاً فى موضع الاسم المبنىّ على المبتدإ وجعلتَ الأوّل مبتدأَ، كأنك قلت: رأيتُ متاعَك بعضُه أَحسنُ من بعض، ففوق فى موضع أحسَنُ.
وإن جعلتَه حالاً بمنزلة قولك: مررتُ بمتاعك بعضِه مطروحا وبعضِه مرفوعا، نصبتَه لأنه لم تَبْنِ عليه شيئاً فتَبتدِئَه. وإن شئت قلت: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، فيكون بمنزلة قولك: رأيتُ بعضَ متاعِك الجيَّد، فوصلتَه إلى مفعولين لأنَّك أَبدلت، فصرتَ كأنّك قلت: رأيتُ بعضَ متاعك. والرفعُ فى هذا أَعْرَفُ، لأنّهم شبَّهوه بقولك: رأيتُ زيداً أبوه أَفضلُ منه، لأنّه اسمٌ هو للأوّل ومن سببه، " كما أن هذا له ومن سببه "، والآخِرُ هو المبتدأ الأول، كما أن الآخِر ههنا هو المبتدأُ الأوّل. وإن نصبتَ فهو عربىّ جيدّ.
ومما جاء فى الرفع قوله تعالى: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ".
وممَّا جاء فى النصب أنّا سمعنا من يُوثَق بعربيّته يقول: خَلَقَ الله الزرافة يديها طول من رِجْلَيْها.
وحدّثنا يونسُ أنَّ العرب تُنْشِدُ هذا البيت، وهو لعَبْدةَ بن الطَّبيب:(1/155)
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحِدٍ ... ولكنّه بُنيانُ قومٍ تَهَدَّمَا
وقال رجل من بَجيلَة أو خَثْعَمٍ:
ذَرِينى إنّ أَمْرَكِ لَنْ يُطاعَا ... وما أَلفَيْتِنِى حلِْمى مُضاعَا
وقال آخر فى البدل:
إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعَا
فهذا عربىٌّ حسَن، والأوّل أَعرف وأَكثر.
وتقول: جعلتُ متاعَك بعضَه فوقَ بعض، فله ثلاثةُ أَوجُهٍ فى النصب: إن شئتَ جعلتَ فَوْقَ فى موضع الحال، كأنه قال: علمت متاعَك وهو بعضُه على بعض أى فى هذه الحال، كما جعلت ذلك فى رأيتُ في رؤية(1/156)
العين. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه رأيته زيدا وجهَه أَحسَنَ من وجه فلان، " تريد رؤية القلب ".
وإن شئت نصبتَه على أنّك إذا قلت: جَعَلتُ متاعَك يدخله معنى أَلقيتُ، فيصيرُ كأَنّك قلت: أَلقيتُ متاعَك بعضَه فوقَ بعض؛ لأنّ أَلقيتُ كقولك: أَسقطتُ متاعَك بعضَه على بعضٍ، وهو مفعولٌ من قولك: سَقَط متاعُك بعضُه على بعضٍ، فجرى كما جرى صَكَكْتُ الحَجَرَينِ أحدَهما بالآخَر. فقولك " بالآخر " ليس فى موضع اسمٍ هو الأوّلُ، ولكنّه فى موضعِ الاسم الآخِر فى قولك: صَكَّ الحَجَرَانِ أحدُهما الآخَرَ، ولكَّنك أَوصلتَ الفعلَ بالباء، كما أنّ مررتُ بزيدٍ الاسمُ منه في موضع اسمٍ منصوبٍ.
ومثل هذا: طرحتُ المتاعَ بعضَه على بعضٍ، لأن معناه أَسقطتُ فأُجرى مُجراه وإن لم يكن من لفظه فاعلٌ. وتصديقُ ذلك قولُه عزّ وجلّ: " ويجعل الخبيث بعضه على بعض ".
والوجه الثالث: أن تجعله مثل: ظننتُ متاعَك بعضَه أحسنَ من بعض. والرفعُ فيه أيضاً عربىّ كثير. تقول: جعلتُ متاعَك بعضُه على بعض، فوجهُ الرفع فيه على ما كان فى رأيتُ.
وتقول: أَبكيتُ قومَك بعضَهم على بعض، وحَزَّنتُ قومَك بعضَهم على بعض، فأَجريتَ هذا على حدّ الفاعل إذا قلت: بَكى قومُك بعضُهم على بعض، " وحَزِن قومُك بعضُهم على بعض "، فالوجه هنا النصب؛ لأنك(1/157)
إذا قلت: أَحزنتُ قومَك بعضَهم على بعض، وأَبكيتُ قومَك بعضهم على بعض، لم ترد أن تقول: بعضُهم على بعض فى عَونٍ، ولا أَنّ أَجسادَهم بعضُها على بعض، فيكونَ الرفعُ الوَجْهَ؛ ولكنَّك أَجريته على قولك: بَكى قومك بعضها بعضاً، فإِنَّما أَوصلتَ الفعلَ إلى الاسم بحرف جرّ، والكلامُ فى موضع اسم منصوب، كما تقول: مررتُ على زيد ومعناه مررت زيداً.
فإِنْ قيل: حزَّنتُ قومَك بعضُهم أَفضلُ من بعضٍ، " وأَبكيتُ قومَك بعضُهم أكرمُ من بعضٍ "، كان الرفعة الوجهَ؛ لأنَّ الآخِر هو الأوّل ولم تجعله فى موضع مفعولٍ هو غيرُ الأوّل. وإن شئت نصبته على قولك: حزنت قومك بعضهم قائماً وبعضَهم قاعداً على الحال، لأنك قد تقول: رأيت قومك أكثرهم وحزنت قومك بعضَهم، فإِذا جاز هذا أَتْبَعتَهُ ما يكون حالاً. وإن كان مما يَتعدَّى إلى مفعولينِ أَنفذتَه إليه، لأنَّه كأَنه لم تذكر قبله شيئاً كأنه رأيتُ قومَك، وحزّنت قومك. إلاّ أَنَّ أَعربَه وأكثرَه إذا كان الآخِرُ هو الأوّلَ أن يُبْتَدَأَ. وإنْ أَجريتَه على النَّصب فهو عربىٌّ جيّد.
هذا باب من الفعل
يُبْدَلُ فيه الآخِرُ من الأوّل ويُجْرَى على الاسم
كما يُجْرَى أَجْمعُونَ على الاسم، وَيُنْصَبُ بالفعل لأنه مفعول
فالبَدَلُ أن تقول: ضرِبَ عبدُ الله ظهرُه وبطنهُ، وضُرِبَ زيدٌ الظَّهرُ والبطنُ، وقُلِبَ عمروٌ ظهرهُ وبطنهُ، ومُطِرْنَا سَهْلُنا وجَبَلُنا، ومُطِرنا السَّهْلُ والجبل. ون شئتَ كان على الاسم بمنزلة أَجمعين توكيداً.(1/158)
وإنْ شئت نصبت، تقول: ضُرِبَ زَيدٌ الظَّهرَ والبطنَ، ومُطِرْنا السَّهلَ والجبلَ، وقُلِبَ زيدٌ ظهرَه وبطنَه. فالمعنى أنَّهم مُطِرُوا فى السَّهل والجبل، وقُلِبَ على الظَّهرِ والبطنِ. ولكنّهم أجازوا هذا، كما أجازوا " قولَهم ": دَخَلتُ البيتَ، وإنَّما معناه دخلتُ فى البيت. والعامل فيه الفعلُ، وليس المنتصبُ ههنا بمنزلة الظرف؛ لأنّك لو قلت: " قُلِبَ " هو ظهرُه وبطنُه وأنت تعنى على ظهره لم يجز.
ولم يُجيزوه فى غير السَّهل والجبل، والظَّهر والبطن، كما لم يَجز دخلت عبد الله، فجاز هذا في هذا وحده، كما لم يجز حذف حرف الجرّ إلاّ فى الأماكن، فى مثل: دخلتُ البيتَ. واختُصَّت بهذا، كما أنَّ لَدُنْ مع غُدْوَةً لها حالٌ ليستْ فى غيرها من الأسماء، وكما أنَ عَسَى لها فى قولهم: " عَسَى الغُوَيرُ أَبؤساً " حالٌ لا تكون فى سائر الأشياء.
ونظير هذا أيضاً فى أنَّهم حذفوا حرف الجرّ ليس إلاّ، قولُهم: نُبَّئْتُ زيداً قال ذاك، إنَّما يريد عن زيد، إلاَّ أنّ معنى الأوّل معنى الأَماكن.
وزعم الخليل رحمه الله أنّهم يقولون: مُطِرْنا الزَّرْعَ والضرع.(1/159)
وإن شئت رفعتَ على البدل وعلى أن تصيَّره بمنزلة أجمعين تأكيداً.
فإن قلت: ضُرِبَ زَيدٌ اليَدُ والرِّجْلُ، جاز " على " أن يكون بدلا، وأَن يكون توكيدا. وإنْ نصبته لم يحسن؛ لأن الفعل إنما أنفذ في هذه الأسماء خاصة إلى المنصوب إذا حذفتَ منهُ حرف الجرّ، إلاّ أن تَسمعَ العربَ تقول فى غيره، وقد سَمعناهم يقولون: مَطَرَتهُمْ ظهراً وبطنا.
وتقول: مُطِرَ قومُك اللَّيلَ والنهارَ، على الظَّرف وعلى الوجه الآخَر. وإن شئت رفعته على سَعَةِ الكلام، كما قال: صِيدَ عليه اللَّيلُ والنهارُ، وهو نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ، وكما قال جرير:
لقد لُمْتِنا يا أُمَّ غَيْلانَ فى السُّرَى ... ونمْتِ وما لَيْلُ الْمَطِىَّ بنائمِ
فكأنَّه فى كلَّ هذا جَعل الليلَ بعضَ الاسمِ. وقال آخر:(1/160)
أَمَّا النَّهارُ ففى قَيدٍ وسِلْسِلَةٍ ... والليلُ فى قَعْرِ مَنْحُوتٍ من السَّاج
فكأَنه جَعل النَّهارَ فى قيدٍ والليلَ فى بطن منحوتٍ، أو جعلَه الاسمَ أو بعضَه.
وإن شئت قلت: ضُرِبَ عبدُ الله ظهرُه، ومُطِرَ قومُك سهلهم، على قولك: رأَيتُ القومَ أَكثَرهم، ورأَيتُ عمراً شخصه، كما قال:
فكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبِيَهْ مُعَيَّنٌ بسَوادِ
" يريد: كأنَّ حاجبيِْه، فأَبدل حاجبيه من الهاء التى فى كأنّه، وما زائدة ".
وقال الجَعْدىّ:
مَلَكَ الخَوَرْنَقَ والسَّدِيرَ وداته ... ما بين حمير أهلها وأوال(1/161)
" يريد: ما بين أهل حمير، فأَبدلَ الأهل من حمير ".
ومثل ذلك قولهم: صَرفتُ وجوهَها أولها. و " مثله ": ما لي بهم عِلمٌ أمرِهم.
وأمّا قولُ جرير:
مَشَقَ الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلا كلاً وصدورا
فإنما هو على قوله: ذهب قُدُماً، وذَهَبَ أُخُراً.
وقال عمرو بن عمَّارٍ النَّهدىّ:
طويلُ مِتَلَّ العُنْقِ أشْرَف كاهِلاً ... أَشَقُ رَحيبَ الجَوْفِ مُعْتَدِلُ الجِرْمِ(1/162)
كأنه قال: ذهَبَ صُعُداً، فإِنَّما خبَّر أنّ الذهاب كان على هذه الحال.
ومثله: " قول رجل من عُمانَ ":
إذا أَكلتُ سمَكاً وفَرْضَا ... ذَهَبْتُ طولاً وذَهبتُ عَرْضاَ
فإِنَّما شبَّه هذا الضَّربَ من المصادر.
وليس هذا مثلَ قول عامرِ بن الطُّفيل:
فَلأَبَغِيَنّكُمُ قَناً وعُوارِضاً ... وَلأُقْبِلنَّ الخَيْلَ لابَةَ ضَرْغَدِ
لأنَّ قناً وعُوارضَ مكانان، وإنَّما يريد: بقناً وعُوارضَ، ولكن الشاعر شبّهه بدخلتُ البيتَ، وقُلِبَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ.(1/163)
هذا باب من
اسم الفاعل " الذى " جَرَى مَجرى الفِعل المضارعِ
فى المفعول فى المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت فى يَفعَلُ كان نكرةً منوّنا وذلك قولك: هذا ضارب زيداً غداً. فمعنا وعملُه مثلُ هذا يَضْرِبُ زيداً " غداً ". فإِذا حدّثت عنِ فعلٍ فى حينِ وقوعِه غيرِ منقطعٍ كان كذلك. وتقول: هذا ضاربٌ عبدَ الله الساعةَ، فمعناه وعملُه مثلُ " هذا " يَضرب زيداً الساعةَ. وكان " زيدٌ " ضارباً أباك، فإِنَّما تُحدَّث أيضاً عن اتَّصال فعلٍ فى حال وقوعه. وكان مُوَافقاً زيداً، فمعناه وعملُه كقولك: كان يَضرب أباك، ويوافِقُ زيدا. فهذا جرى مجرى الفعِل المضارعِ فى العمل والمعنى منوَّنا.
ومما جاء فى الشعر: منوَّنا " من هذا الباب قوله ":
إنّى بحَبْلِكَ واصِلٌ حَبلِى ... وبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائشٌ نَبلِى
وقال " عُمَرُ " بن أبى ربيعة:(1/164)
ومن مالي عينيه من شيء غيرهِ ... إذا راحَ نحوَ الجمرَةِ البِيضُ كالدُّمَى
وقال زُهير:
بَدَا لِىَ أَنَّى لستُ مُدْرِكَ ما مضَى ... ولا سابِقاً شيئاً إذا كان جائيا
وقالَ الأَخْوَصُ الرَّياحُّى:
مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحِينَ عَشِيرًة ... ولا ناعِباً إلاّ ببَْينٍ غُرابُها
واعلم أنَّ العرب يَستخفّون فيحذفون التنوينَ والنون، ولا يتغير من المعنى،(1/165)
ولا يَجعلُه معرفةً. فمن ذلك " قوله عزّ وجلّ ": " كل نفس ذائقة الموت " و " إنَّا مرسلو النَّاقَةِ " و " لَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤوسهم " و " غير محلي الصيد ". فالمعنى معنى " ولا آمين البيت الحرام ".
" و " يزيد هذا عندك بياناً قولُه تعالى جَدُّه: " هديا بالغ الكعبة " و " عارض ممطرنا ". فلو لم يكن هذا فى معنى النَّكرة والتنوين لم توصَفْ به النّكرةُ.
وستراه مفصَّلاً أيضاً فى بابه، مع غير هذا من الحجج إن شاء الله.
وقال الخليل: هو كائنُ أَخِيك، على الاستخفاف، والمعنى: هو كائنٌ أَخاك.
وممّا جاء فى الشَّعر غيرَ منَّونٍ قول الفرزدق:(1/166)
أتانى على القَعْساءِ عادِلَ وَطْبِه ... برِجْلَىْ لِئيمٍ واسْتِ عبدٍ تُعاِدلُهْ
يريد: عادِلاً وَطْبَه. وقال الزِّبْرِقانُ بن بدر:
مُسْتَحْقِبى حَلَقِ الماذِىَّ يَحْفِزُه ... بالْمَشْرَفيِّ وغابٌ فوقَه حَصِدُ
وقال السُّلَيكُ بن السلكة:
تراها من يبيس الماء شهباً ... مخالظ درة منها غرار(1/167)
" يريد: عرف الخيل ".
وممَّا يَزيدُ هذا البابَ إيضاحا " أَنّه " على معنى المنَّون قول النابغة:
احْكُمْ كحُكْم فَتاةِ الحَىَّ إذْ نظرتْ ... إلى حَمَامٍ شِراعٍ وارِدِ الثَّمَدِ
" فوصَف به النكرةَ ". وقال المّرار الأَسدىّ:
سَلَّ الهُمومَ بكلَّ مُعْطِى رأْسِه ... ناجٍ مخالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعيَّسِ
فهو على المعنى لا على الأصل، والأصلُ التنوين؛ لأنّ هذا الموضع لا يقع فيه معرفة. ولو كان الأصلُ ههنا تَرْكَ التنوين لَمَا دخلَه التنوينُ ولا كان ذلك نكرةً، وذلك أَنّه لا يَجرى مجرى المضارع فيما ذكرت لك.(1/168)
وزعم عيسى أَن بعض العرب يُنشد هذا البيت، " لأبي الأسود الدؤلي ":
فألفيته غير مستعب ... ولا ذاكِرِ اللهِ إلاّ قَلِيلاً
لم يَحذف التنوينَ استخفافاً ليُعاقِبَ المجرورَ، ولكنه حَذَفَه لالتقاء الساكنينِ، " كما قال: رَمَى القومُ ". وهذا اضطرارٌ، وهو مشبَّهٌ بذلك الذى ذكرتُ " لك ".
وتقول في هذا الباب: هذا ضاربُ زيدٍ وعمرو، إذا أَشركتَ بين الآخِر والأوّل فى الجارّ؛ لأنه ليس فى العربية شيء يَعْمَلُ فى حرف فيَمتنع أن يُشْرَكَ بينه وبين مثلِه. وإن شئت نصبت على المعنى وتُضمِرُ له ناصِباً، فتقولُ: هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً، كأنّه قال: ويَضرِبُ عمراً، أو وضارِبٌ عمراً.
وممّا جاءَ على المعنى قول جَريرٍ:(1/169)
جئنى بمثل بنى بدر لقومهم ... أو مثل أُسْرَةِ مَنْظورِ بنِ سَيَّارِ
وقال كعبُ بن جُعْيلٍ " التَّغلبُّى ":
أَعِنَّى بخَوّارِ العِنانِ تَخالُهُ ... إذَا راحَ يَرْدِى بالمُدَجَّجِ أَحردَاَ
وَأبْيَضَ مَصقولَ السَّطامِ مُهَنَّداً ... وذا حَلَقٍ من نَسْجِ داوُدَ مُسْرَدَا
فَحَمَلَه على المعنى، كأنه قال: وأَعْطِنِى أَبيضَ مصقولَ السَّطام، وقال: هاتِ مثلَ أُسرِة منظورِ " بنِ سيَّارٍ ".
والنَّصبُ فى الأوّل أقوى وأحسنُ، لأنَّكَ أَدخلت الجرَّ على الحرف الناصب ولم تجيء ههنا إلاّ بما أصله الجرُّ ولم تُدْخِلْه على ناصبٍ ولا رافعٍ. وهو على ذلك عربىٌ جيد. والجُّر أجودُ. وقال " رجل من قيس عيلان ":(1/170)
بينا نحن نَطلُبه أَتانا ... مُعَلَّقَ وَفْضةٍ وزِنادَ راعِ
وزعم عيسى أنَّهم يُنشِدون هذا البيت:
هل أنتَ باعثُ دينارٍ لحاجِتنا ... أو عبدَ رب أخا عون بنِ مِخراقِ
فإِذا أَخْبَرَ أَنّ الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير تنوين ألبَتَّةَ، لأنَّه إنما أُجْرِىَ مُجرى الفِعل المضارِع له، كما أَشبَهه الفعلُ المضارعُ فى الإِعراب، فكلُّ واحد منهما داخل على صاحبه، فلما أَراد سِوى ذلك المعنى جرى مجرى الأسماء التى من غير ذلك الفعل، لأنَّه إنما شُبِّهَ بما ضارعه من الفعل كما شبه به فى الإعراب. وذلك قولك: هذا ضاربُ عبدِ الله وأخيه. وجهُ الكلام وحدُّه الجرُّ، لأنَّه ليس موضعاً للتنوين. وكذلك قولك: هذا ضارِبُ زيدٍ فيها وأخيه، وهذا قاتلُ عمروٍ أَمسِ وعبدِ الله، وهذا ضاربُ عبدِ الله ضَربْا شديدا وعمروٍ.
ولو قلت: هذا ضاربُ عبدِ الله وزيداً، جاز على إضمارِ فِعل،(1/171)
أى وضَرَبَ زيداً. وإنما جاز هذا الإِضمارُ لأنّ معنى الحديث فى قولك هذا ضاربُ زيدٍ: هذا ضَرَبَ زيدا، وإن كان لا يَعمْلُ عملَه، فحُمِلَ على المعنى، كما قال جلّ ثناؤه: " ولحم طير مما يشتهون. وحور عين " لمّا كان المعنى فى الحديث على قوله: لهم فيها، حمله على شيء لا يَنْقُضُ الأوّلَ فى المعنى. وقد قرأه الحسن. ومثله قول الشاعر:
يهْدِى الخَمِيس نِجاداً فى مَطالِعها ... إمَّا المِصَاعَ وإمّا ضَرْبَةٌ رُغُبُ
حمله على شيء لو كان عليه الأوّلُ لم يَنقُض المعنى.(1/172)
ومثله قول كعب بن زهير:
فلم يجد إلا مناخ مطية ... تجافى بَها زَورٌ نَبِيلٌ وكَلْكلُ
ومُفْحَصهَا عنها الحَصىَ بجرانها ... ومثنى نواج لم يخنهن مفصل
ومسر ظماء واترتهن بعدما ... مضتْ هَجْعَةٌ من آخِرِ الليلِ ذُبَّلُ
كأنّه قال: وثَمّ سُمْرٌ " ظِماءٌ ". وقال:
بادتْ وغَيَّرَ آيَهنّ مع البلَى ... إلاّ رَواكِدَ جَمْرُهنّ هَباءُ(1/173)
ومُشَجَّجٌ أَمّا سَواءُ قَذالهِ ... فَبدا وغيَّرَ سارَهُ المَعْزاءُ
لأنّ قولَه " إلاّ رَواكَد " هى فى معنى الحديث: بها رواكد، فحمله على شيء لو كان عليه الأول لن ينَقض الحديثَ. والجرُّ فى هذا أَقوى، يعنى هذا ضاربُ زيدٍ وعمروٍ وعمراً بالنصب. وقد فَعل لأنّه اسمٌ وإن كان قد جرى مجرى الفعل بعينه. والنصبُ فى الفصل أَقوى، إذا قلت: هذا ضاربُ زيدٍ فيها وعمراً، وكلما طال الكلامُ كان أَقوى؛ وذلك أَنّكَ لا تَفصل بين الجارّ وبين ما يَعْملُ فيه، فكذلك صار هذا أَقوى.
فمن ذلك قوله جلّ ثناؤه: " وَجاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً والشّمسَ والْقَمَرَ حسباناً ".(1/174)
وكذلك إنْ جئت باسم الفاعل الذى تَعدَّى فعلُه إلى مفعولَيْنِ وذلك قولك: هذا مُعْطِى زيدٍ درهما وعمروٍ، إذا لم تُجرِه على الدَّرهم، والنصب على ما نصبتَ عليه ما قبله. وتقول: هذا مُعْطِى زيدٍ وعبدَ الله. والنصبُ إذا ذكرتَ الدرهمَ أقوى، لأنك " قد " فصلت بينهما.
وإن لم ترد بالاسم الذى يَتعدّى فعلُه إلى مفعولينِ أَن يكون الفعلُ قد وقع أَجريتَه مُجرى الفعلِ الذى يَتعدّى إلى مفعولٍ في التنوين وتَرْكِ التنوين وأنت تريد معناه، و " في " النصب والجرّ وجميعِ أَحواله، فإِذا نوّنتَ فقلت: هذا معط زيداً درهماً لا تبالي أيَّهما قدّمتَ، لأنَّه يَعمَلُ عَمَلَ الفعل. وإن لم تنوَّن لم يجز هذا مُعْطِى درهماً زيدٍ، لأنك لا تَفصل بين الجارّ والمجرور، لأنه داخلٌ فى الاسم فإِذا نوّنتَ انفَصَل كانفصاله فى الفعل. فلا يجوز إلاّ " فى قوله " هذا معطى زيداً، كما قال تعالى جدُّه: " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ".
بابٌ جرى مجرى الفاعل الذى يتعداه فعلُه
إلى مفعولَيْنِ فى اللفظ لا في المعنى
وذلك قولك:
يا سارق الليل أهل الدار(1/175)
" و " تقول على هذا الحد: سرقت الليل أهلَ الدار، فتجْرِى الليلةَ على الفعل فى سَعَةِ الكلام، كما قال: صِيدَ عليه يومان، ووُلِدَ له ستّون عاماً. فاللفظُ يَجرى على قوله: هذا مُعْطِى زيدٍ درهَماً، والمعنى إنّما هو فى الليلة، وصِيدَ عليه فى اليومين، غيرَ أنّهم أَوقعوا الفعلَ عليه لسَعة الكلام.
وكذلك لو قلت: هذا مُخْرجُ اليومِ الدرهمَ وصائدُ اليومِ الوحشَ.
ومثلُ ما أُجْرِىَ مُجرى هذا فى سَعة الكلام والاستخفافِ قوله عزّ وجلّ: " بل مكر الليل والنهار ". فالليلُ والنهار لا يَمكُرانِ، ولكنّ المكرَ فيهما.
فإِنْ نوّنتَ فقلت: يا سارقاً الليلةَ أهلَ الدار، كان حدُّ الكلام أن يكونَ أهلُ الدار على سارقٍ منصوبا، ويَكون الليلةُ ظرفاً، لأنّ هذا موضعُ انفصالٍ. وإن شئت أجريته على الفعل على سَعة الكلام.
ولا يجوز: يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار إلاّ فى شعرٍ، كراهيةَ أن يفصلوا(1/176)
بين الجارّ والمجرور. فإِذا كان منوَّنا فهو بمنزلة الفعل الناصبِ، تكون الأسماءُ فيه منفصلة. قال الشاعر، وهو الشَّمَّاخ:
رُبَّ ابنِ عَمَّ لسُلَيمَى مُشْمَعِلّْ ... طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ
" هذا على: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار ". وقال الأخطل:
وكرار خلف المحجرين وجواده ... إذا لم يُحامِ دونَ أُنثَى حَليلها
فإِنْ قلت: كرّارٍ وطبّاخٍ، صار بمنزلة طبختُ وكررت، تُجرِيها مجرى السَّارق حين نوّنتَ، على سعة الكلام.(1/177)
وقال " رجل من بنى عامر ":
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعَامِراً ... قليلٍ سِوىَ الطَّعْنِ النَّهالِ نَوافِلُهْ
" وكما قال: ثَمانِىَ حِجَجٍ حَجَجْتُهنّ بيت اللهِ ".
ومما جاء فى الشعر قد فُصِلَ بينه وبين المجرور قول عمرو بن قَمِيئَةَ.
لمّا رأت ساتسدما اسْتَعْبَرَت ... لله درُّ اليومَ مَنْ لاَمَهَا
وقال أبو حَيَّةَ النُّمَيْرىُّ:(1/178)
كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يُزيلُ
وهذا لا يكون فيه إلاّ هذا، لأنَّه ليس فى معنى فِعلٍ ولا اسمِ الفاعلِ الذى جرى مَجرى الفعل.
وممّا جاء مفصولا بينه وبين المجرور قولُ الأعشى:
ولا نقاتل بالعص ... ي ولا نرامي بالحجاره
إلا علالة أو بدا ... هة قارحٍ نَهْدِ الجُزارَهْ
وقال ذو الرمّة:
كأَنَّ أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج(1/179)
فهذا قبيحٌ.
ويجوز فى الشعر على هذا: مررتُ بخيرِ وأَفضلِ مَن ثَمَّ.
وقالت دُرْناَ بنت عَبعَبَةَ، من بني قيس بن ثعلبة:
هما أَخَوَا فى الحَرْبِ مَنْ لا أَخاَ له ... إذا خافَ يوماً نَبْوةً فدَعاهما
وقال الفرزدق:
يا من رأى عارضاً أسر به ... بَيْنَ ذِراعَىْ وجَبْهِة الأَسَدِ
وأما قوله عزّ وجلّ: " فبما نقضهم ميثاقهم " فإِنَّما جاء لأنه ليس(1/180)
ل " مَا " معنىً سِوى ما كان قبل أن تجيء إلا التوكيد، فمن ثم جاء ذلك، إذْ لم تُرِدْ به أكثرَ من هذا، وكانا حرفينِ أحدُهما فى الآخَر عاملٌ. ولو كان اسماً أو ظرفا أو فعلاً لم يجزْ.
وأمّا قوله: أُدْخِلَ فُوهُ الحَجَرَ، فهذا جرى على سَعة الكلام " والجيِّد أُدخل فاه الحجر "، وكما قال: أَدخلتُ فى رأسى القَلَنْسُوَةَ " والجيّد أَدخلتُ فى القَلنسوة رأسى ". وليس مثلَ اليوم والليلة لأنهما ظرفان، فهو مخالف له فى هذا، مُوافِقٌ " له " فى السعة. قال الشاعر:
تَرى الثَّورَ فيها مُدخِلَ الظل رأْسَهُ ... وسائرُه بادٍ إلى الشمس أَجْمَعُ
فوجه الكلام فيه هذا، كراهيةَ الانفصال.
وإذا لم يكن فى الجرَّ فحدُّ الكلام أن يكون الناصبُ مبدوءاً به.
هذا بابٌ صار الفاعِلُ فيه بمنزلة
الّذى فَعَلَ فى المعنى، وما يَعْمَلُ فيه
وذلك قولك: هذا الضاربُ زيداً، فصار فى معنى " هذا " الّذى ضرَبَ(1/181)
زيداً، وعَمِلَ عَمَله، لأنّ الألفَ واللام مَنَعَتا الإِضافة وصارتا بمنزلة التنوين. وكذلك: هذا الضاربُ الرّجلَ، وهو وجهُ الكلام.
وقد قال قومٌ من العرب تُرضىَ عربيَّتُهم: هذا الضاربُ الرجلِ، شبّهوه بالحَسَنِ الوجهِ، وإن كان ليس مثلَه فى المعنى ولا فى أَحواله إلاّ أنّه اسمٌ، وقد يَجُرُّ كما يجر وَيَنْصِبُ أيضاً كما يَنْصِبُ، وسيبيَّن ذلك فى بابه " إن شاء الله ".
وقد يشبهون الشيء بالشيء وليس مثلَه فى جميع أحواله، وسترى ذلك فى كلامهم كثيراً. وقال المَرّار الأسدىّ:
أَنا ابنُ التارِكِ البَكْرِىَّ بشْرٍ ... عليه الطَّيْرُ تَرْقُبُه وقوعا
سمعناه ممن يرويه عن العبر، وأَجرى بشرا على مجرى المجرور، لأنَّه جعله بمنزلة ما يُكَفُّ منه التنوينُ.
ومثل ذلك فى الإِجراء على ما قبله: هو الضاربُ زيداً والرَّجُلَ، لا يكون فيه إلاّ النصبُ، لأنَّه عَمِلَ فيهما عمل المنَّون، ولا يكون: هو الضاربُ عمروٍ كما لا يكون: هو الحسنُ وجهٍ. ومن قال: هذا الضاربُ الرجلِ، قال: هو الضاربُ الرجلِ وعبدِ الله.(1/182)
ومن ذلك إِنشادُ بعض العرب قول الأعشى:
الواهب المائه الهجان وعبدها ... عوذا تزجى بينها أطفالها
وإذا ثنيت أو جمعت فأثبت النون قلت: هذان الضاربان زيدا وهؤلاء الضاربون الرجل، لا يكون فيه غير هذا، لأن النون ثابتة.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ". وقال ابن مُقْبِلٍ:(1/183)
يا عَيْنِ بَكَّى حُنَيفْاً رأَسَ حيِّهِمِ ... الكاسرينَ القَنَا فى عَوْرَةِ الدُّبُرِ
فإِنْ كففتَ النون جررت وصار الاسم داخلاً في الجار، " و " بدلاً من النُّون، لأنَّ النون لا تعاقِبُ الألفَ واللامَ ولم تَدخل على الاسم بعد أن ثبتتْ فيه الألفُ واللام؛ لأنَّهْ لا يكون واحداً معروفا ثم يثنّى؛ فالتنوينُ قبلَ الألف واللام، لأنَّ المعرفة بعد النكرة، فالنّونُ مكفوفةٌ والمعنى معنى ثبات النون، كما كان ذلك فى الاسم الذى جرى مجرى الفعل المضارع، وذلك قولك: هما الضارب زيدٍ، والضاربِوُ عمروٍ.
وقال الفرزدق:(1/184)
أُسَيَّدُ ذو خُرَيَّطَةٍ نَهاراً ... مِنَ المُتَلَقَّطِى قَرَدِ القمام
وقال رجل من بني ضبة:
الفراجي بابِ الأميرِ المُبْهَمِ
وقال رجل من الأنصار:(1/185)
الحافِظُو عَوْرَةَ العشيرةِ لا ... يَأتِيهِمُ من وَرائنا نَطَفُ
لم يَحذف النون للإِضافة، ولا ليُعاقِبَ الاسمُ النّونَ، ولكن حذفوها كما حذفوها من الّلذَينِ والّذينَ حيثُ طال الكلامُ وكان الاسمُ الأوّل مُنتهاه الاسمُ الآخِرُ. وقال الأَخطل:
أَبَنِى كُلَيْبٍ إنّ عَمَّىَّ الَّلذَا ... سَلَبَا المُلوكَ وفَكَّكَا الأَغْلاَلاَ
لأن معناه " معنى " الذينَ فعلوا وهو مع المفعول بمنزلة اسم مُفْرَدٍ لم يَعْمَلْ في شيء، كما أنّ الذينَ فعلوا مع صلته بمنزلة اسم.
وقال أَشهَبُ بن رُمَيلةَ:(1/186)
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القول كلُّ القومِ يا أُمَّ خالِدِ
وإذا قلت: هم الضاربوك وهما الضارباك، فالوجه فيه الجرّ، لأنَّك إذا كففتَ النونَ من هذه الأسماءِ في المظر كان الوجهُ الجرَّ، إلاَّ فى قول من قال: " الحافظو عورةَ العشيرة ".
ولا يكون فى قولهم: هم ضاربوك، أن تكون الكف فى موضع النصب، لأنَّك لو كففتَ النون فى الإِظهار لم يكن إلاَّ جرًّا، ولا يجوز في الإظهار: هم ضاربوا زيداً، لأنَّها ليست فى معنى الذى، " لأنها " ليست فيها الألفُ واللام كما كانت فى الذى.
واعلم أنَّ حذفَ النون والتنوينِ لازمٌ مع علامة المضمرَ غيرِ المنفصل، لأنّه لا يُتكلّم به مفرَداً حتّى يكون متّصِلا بفعلٍ قبله أو باسم فيه ضمير، فصار كأنّه النونُ والتنوينُ فى الاسم، لأنَّهما لا يكونان إلاَّ زَوائَد ولا يكونانِ إلاّ فى أَواخر الحرُوف. والمظهَرُ وإن كان يعاقِبُ النُّونَ والتنوينَ فإِنَّه ليس كعلامة المضمَرِ المتَّصلِ؛ لأنه اسمٌ يَنفصِل ويُبْتَدَأُ، وليس كعلامة الإِضمار لأنها فى اللفظ كالنون(1/187)
والتنوين، فهى أَقربَ إليها من المظهرَ، اجتَمع فيها هذا والمعاقبةُ.
وقد جاء فى الشَّعر، وزعموا أنّه مصنوع:
هُمُ القائلونَ الخيرَ والآمِرونه ... إذا ما خَشُوا من مُحدثِ الأمْرِ مُعْظَمَا
وقال:
ولم يَرْتِفقْ والناس مُحْتَضِرونُه ... جميعاً وأَيْدِى المعتفين رواهقه(1/188)
بابٌ من المصادر جَرَى مَجرى الفعل المضارِع
فى عمله ومعناه
وذلك قولك: عَجِبتُ مِن ضَرْبٍ زيدا، " فمعناه أَنّه يَضرب زيدا. وتقول: عجبتُ مِن ضَرْبٍ زيداً " بكرٌ، ومن ضَرْبٍ زيدٌ عمراً، إذا كان هو الفاعل، كأنّه قال: عجبتُ من أنّه يَضرب زيدٌ عمراً، ويَضرب عمراً زيدٌ.
وإنَّما خالَف هذا الاسمَ الذى جرى مَجرى الفعل المضارعِ فى أَنَّ فيه فاعِلاً ومفعولا، لأنّك إذا قلت: هذا ضارِبٌ فقد جئت بالفاعل وذكرتَه، وإذا قلت: عجبتُ من ضربٍ فإِنَّك لم تذكر الفاعلَ، فالمصدرُ ليس بالفاعل وإن كان فيه دليلٌ على الفاعل، " فلذلك احتجتَ فيه إلى فاعل ومفعول ولم تحتج حين قلت: هذا ضاربٌ زيدا إلى فاعل ظاهر، لأنَّ المضمر فى ضارب هو الفاعل ".
فمما جاء من هذا قولُه عزّ وجلّ: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة ". وقال:
فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد صاروا لنا كالموارد
وقال:
أخذت بسجلهم فنفحت فيه ... محافطة لهن إخا الذمام(1/189)
وقال:
يضرب بالسيوف رؤوس قَوْمٍ ... أَزَلْنا هامَهنّ عَنِ المَقِيلِ
وإنْ شئت حذفتَ التنوينَ كما حذفت فى الفاعل، وكان المعنى على حاله، إلاَّ أنك تَجرُّ الذى يلى المصدرَ، فاعلا كان أو مفعولاً، لأنَّه اسمٌ قد كففتَ عنه التنوين، كما فعلت ذلك بفاعِلٍ، ويصير المجرورُ بدلاً من التنوين معاقباً له. وذلك قولك: عَجبِتُ من ضَرْبِه زيداً، إن كان فاعلا؛ ومن ضَرْبِه زيدٌ، إن كان المُضَمْرَ مفعولا.
وتقول: عجبت من كِسْوَةٍ زيدٍ أبوه، وعجبت من كِسُوةِ زيدٍ أباه، إذا حذفت التنوين.
وممَّا جاء لا ينَّون قولُ لبيد:
عَهْدِى بها الحَىَّ الجميعَ وفيهِمُ ... قبلَ التفرُّقِ مَيْسِرٌ ونِدامُ(1/190)
ومنه قولهم: " سَمْعُ أُذُنِى زيداً يقولُ ذاك ". قال رؤبة:
ورَأْى عَيْنَىَّ الفَتَى أَخاكا ... يُعْطِى الجَزِيلَ فعليكَ ذاكا
وتقول: عجبتُ من ضربِ زيدٍ وعمروٍ، إذا أشركتَ بينهما كما فعلت ذلك في الفاعل. ومن قال هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً قال: عجبتُ له من ضَرْبِ زيدٍ وعمراً، كأنَّه أَضْمَرَ: ويَضرب عَمراً، " أو وضَرَبَ عمراً ". قال رؤبة:
قد كنتُ دايَنْتُ بها حسَّانَا ... مخافةَ الإِفلاسِ واللَّيَّانَا(1/191)
يحسِنُ بَيْعَ الأصلِ والِقيانَا
وتقول: عجبتُ من الضَّرْبِ زيداً، كما قلتَ: عجبتُ من الضارِبِ زيدا، يَكون الألفُ واللام بمنزلة التنوين. وقال الشاعر:
ضعيفُ النَّكايَةِ أَعْدَاءَه ... يَخالُ الفِرارَ يُراخِى الأَجلْ
وقال المرّار " الأسدىّ ":(1/192)
لقد عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرَةِ أنّنى ... لحقت فلم أَنْكُِلْ عن الضْربِ مِسْمَعَا
ومن قال: هذا الضاربُ الرَّجُلِ لم يقل: عجبتُ له من الضَّربِ الرجلِ؛ لأنّ الضَّاربَ الرجلِ مشبَّهٌ بالحَسَنِ الوجهِ، لأنه وصفٌ للاسم كما أن الحَسَنَ وَصْفٌ، وليس هو بحدَّ الكلامِ مع ذلك.
وقد ينبغى فى قياس من قال: الضَّاربُ الرَّجلِ أن يقولَ: الضاربُ أََخى الرجلِ، كما يقول: الحَسَنُ الأخِ والحسنُ وجهِ الأخِ. وكان الخليل يَراه.
وإن شئت قلت: هذا ضَرْبُ عبدِ الله، كما تقول: هذا ضارب عبدِ الله، فيما انَقطع من الأفعال.
وتقول: عجبتُ من ضَرْبِ اليومِ زيداً، كما قال:
يا سارق الليل أهل الدار(1/193)
وليس مثلَ:
لله دَرُّ اليَوْمَ مَنْ لامَها
لأنَّهم لم يجعلوه فعلا أو فَعَلَ شيئاً فى اليوم، إنما هو بمنزلة: لله بِلادُك.
ويجوز: عجبتُ له من ضَرْبِ أخيه، يكون المصدرُ مضافاً فَعَلَ أو لم يَفْعَلْ، ويكونُ منوناً وليس بمنزلة ضارب.
باب الصفة المشبَّهة بالفاعل فيما عَمِلتْ فيه
ولم تقوم أن تَعمل عَمَلَ الفاعل لأنّها ليست فى معنى الفِعل المضارِع، فإِنَّما شُبَّهَتْ بالفاعل فيما عَملتْ فيه. وما تَعْمَلُ فيه معلومٌ، إنَّما تَعمل فيما كان من سببها مُعَرَّفا بالألف واللام أو نكرةً، لا تُجاوِز هذا؛ لأنَّه ليس بفعلٍ ولا اسم هو فى معناه.
والإضافةُ فيه أحسنُ وأكثر، لأنَّه ليس كما جرى مجرى الفعل ولا فى معناه، فكان أحسنَ عندهم أن يَتباعدَ منه فى اللفظ، كما أنَّه ليس مثلَه فى المعنى وفى قوّته فى الأشياء. والتنوينُ عربىٌّ جيّدٌ. ومع هذا إنهم(1/194)
لو تركوا التنوينَ أو النونَ لم يكن أَبداً إلاّ نكرةً على حاله منوَّنا. فلما كان تركُ التنوين فيه والنون لا يُجاوَزُ به معنى النون والتنوين، كان تركُهما أخفَّ عليهم، فهذا يقوَّى " أَنَّ " الإِضافة " أَحسنُ "، مع التفسير الأوَّلِ.
فالمضافُ قولك: هذا حَسَنُ الوجهِ، وهذه حَسَنَةُ الوجهِ. فالصَّفةُ تَقَعُ على الاسم الأوَّل ثم توصِلُها إلى الوجه وإلى كلّ شيء من سببه على ما ذكرتُ لك، كما تقول: هذا ضاربُ الرجلِ، وهذه ضاربةُ الرجلِ؛ إلاَّ أنَّ الحُسن فى المعنى للوجه والضَّربُ ههنا للأوَّل.
ومن ذلك قولهم: هو أَحْمَرُ بَيْنِ العينينِ، وهو جيَّدُ وجهِ الدار.
وممّا جاء منَّونا قول زُهَيْر:
أَهْوَى لها أَسْفَعُ الخَدَّيْنِ مُطَّرِقٌ ... رِيشَ القَوَادِمِ لم تُنصَبْ له الشبك(1/195)
وقال العجّاج:
مُحْتَبِكٌ ضَخْمٌ شئوُنَ الرَّأْسِ
وقال أيضاً النابغة:
ونَأْخُذْ بعدَه بِذِنابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرَ ليس له سَنامُ
وهو فى الشعر كثير.
واعلم أنّ كينونة الألف واللام فى الاسم الآخِرِ أكثرُ وأحسنُ من أن لا تكون فيه الألفُ واللام، لأنَّ الأوَّل فى الألف واللام وفى غيرِهما ههنا على حالةٍ واحدةٍ، وليس كالفاعل، فكان إدخالُهما أَحسنَ وأَكثرَ، كما كان تركُ التنوين أكثرَ، وكان الألفُ واللام أَولَى لأنَّ معناه حَسَنٌ وجهُه. فكما لا يكون(1/196)
هذا إلاّ معرفةً اختاروا فى ذلك المعرفةَ. والأُخرى عربيّةٌ، كما أنَّ التنوين " والنون " عربىٌّ مطَّرِدٌ.
فمن ذلك قوله: " " هو " حديثُ عَهْدٍ بالوَجَعِ ". وقال عَمرو بن شأسٍ:
أَلِكْنْى إلى قومى السَّلامَ رِسالةً ... بآيَةِ ما كانوا ضِعافاً ولا عزلاً
ولا سيئي زِىًّ إذا ما تَلَبّسوا ... إلى حاجةٍ يوماً مخيسة بُزْلاَ
وقال حُميدٌ الأرقطُ:
لاحِقُ بَطْنِ بِقَراً سمين(1/197)
ومما جاء منوناً قول أبى زُبَيْدٍ " يَصِفُ الأسدَ ":
كأَنّ أَثوابَ نَقّادٍ قُدِرْنَ له ... يَعْلُو بِخَمْلتِها كَهْبَاءَ هُدَّابَا
وقال أيضاً:
هَيْفاءُ مُقْبِلةً عَجْزاءُ مُدْبِرةً ... مَحْطوطةٌ جُدِلتْ، شَنْباءُ أَنْياباَ
وقال عيد بن زيد:
من حبيب أو أخي ثقة ... أو عَدُوًّ شاحطٍ دارَا(1/198)
وقد جاء فى الشعر حسنةُ وَجْهِها، شَبّهوه بحسنة الوجه، وذلك رديء " لأنّه بالهاء معرفة كما كان بالألف واللام، وهو من سبب الأوّل كما أنه من سببه بالألف واللام ". قال الشمّاخ:
أَمِنْ دِمْنَتَيْنِ عرس الركب فيهما ... بحقل الرُّخامَى قد عَفا طَللاَهما
أَقامتْ على رَبْعَيهما جارَتَا صَفاً ... كُمَيْتَا الأَعالِى جَوْنَتَا مُصطَلاهما
واعلم أنه ليس فى العربية مضافٌ يَدخل عليه الألفُ واللام غيرُ المضاف(1/199)
إلى المعرفة فى هذا الباب، وذلك قولك: هذا الحَسَنُ الوجهِ، أدخلوا الألفَ واللام على حسنِ الوجهِ، لأنه مضافٌ إلى معرفة لا يكون بها معرفةً أبداً، فاحتاجَ إلى ذلك حيث مُنعَ ما يكون فى مثله البتَّةَ، ولا يُجاوَزُ به معنى التنوين. فأَمَّا النكرة فلا يكون فيها إلاّ الحَسَنُ وجهاً، تكون الألفُ واللام بدلاً من التنوين، لأنَّك لو قلت: حديثُ عهد، أو كريمُ أبٍ، لم تخلل بالأول في شيء فتُحتَمَل له الألفُ واللام، لأنَّه على ما ينبغى أن يكون عليه. قال رؤبة:
الحَزْنُ باباً والعقورُ كَلْبَا(1/200)
وزعم أبو الخَطّاب أنه سمع قوما من العرب يُنشدون هذا البيت للحارث ابن ظالم:
فما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشُّعْرَى رِقابا
فإنَّما أُدخلت الألفُ واللام فى الحسن ثم أعملته، كما قال: الضاربُ زيدا.
وعلى هذا الوجه تقول: هو الحسنُ الوجهَ، وهي عربية جيدة. قال الشاعر:
فما قولي بثعلبةَ بن سعدٍ ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرَّقابا
وقد يجوز فى هذا أن تقول: هو الحَسَنُ الوجهِ، على " قوله ": هو الضَّاربُ الرَّجلِ. فالجرُّ فى هذا الباب من وجهين: " من الباب الذى هو له وهو الإِضافة، ومن إعمال الفعل ثم يُستخَفُّ فيضاف ".
فإِذا ثنَّيتَ أو جمعت فأَثبتَّ النون فليس إلاّ النصبُ، وذلك قولهم: هم الطّيبون الأَخبارَ، وهما الحسنانِ الوجه. ومن ذلك قوله تعالى: " قُلْ هلْ نُنَبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً ".(1/201)
وقالتْ خِرْنِقُ، " من بنى قيس ":
لا يَبْعَدَنْ قومى الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النّازِلون بكلّ مُعْتَرَكٍ ... والطّيبونَ مَعاقِدَ الأَزْرِ
فإِنْ كففتَ النونَ جررتَ، كان المعمولُ فيه نكرةً أو فيه ألفٌ ولام، كما قلت: هؤلاء الضارِبُو زيدٍ، وذلك قولهم: هم الطَّيّبو أََخبارٍ. وإن شئتَ نصبتَ على قوله: الحافِظُو عَوْرَةَ العشيرة وتقول فيما لا يقع إلاَّ منوَّنا عملاً فى نكرةٍ " وإنما وقع منونَّا " لأنّه فُصِلَ فيه بين العامل والمعمول فالفصلُ لازمٌ له أبداً مظهَراً أو مضمراَ، وذلك قولك: هو خير منك أباً، و " هو " أحسنُ منك وجهاً. ولا يكون المعمول فيه إلا من(1/202)
سببه. وإن شئت قلت: هو خيرٌ عَمَلا وأنت تَنْوِى " منك ". وإن شئت أَخّرت الفصَل فى اللفظ وأصلُه التقديم، لأنه لا يَمنعه تأخيره عمله مقدماً، كما قال: ضرب زيد عمروٌ، فعمروٌ مؤخَّر فى اللَّفظ مبدوءٌ به فى المعنى، وهذا مبدوءٌ به فى أنه يُثبِت التنوينَ ثم يُعْمِلُ. ولا يَعْمَلُ إلاَّ فى نكرة، كما أنَّه لا يكون إلاَّ نكرة، ولا يَقوَى قوَّة الصفة المشبَّهة، فأَلزم فيه وفيما يَعْمَلُ فيه وجهاً واحدا. ويعمل فى الجمع كقولهم: هو خيرٌ منك أعمالاً. فإِن أضفتَ فقلت: " هذا " أوّلُ رَجُلٍ، اجتَمع فيه لزومُ النكرة وأَنْ يُلفَظ بواحدٍ " وهو يريد الجمع "؛ وذلك لأنه أراد أن يقول: أوّلُ الرَّجالِ، فحذف استخفافاً واختصارا، كما قالوا: كلُّ رجلٍ، يريدون كلَّ الرجال. فكما استَخفُّوا بحذف الألف واللام استخفّوا بترك بناء الجمِيع واستغنوا عن الألف واللام، وعن قولهم: خيرُ الرجال وأوَّلُ الرجال.
ومثلُ ذلك فى ترك الألف واللام وبناءِ الجميع، قولهم: عِشْرُونَ درهماً، إنما أرادوا عِشرينَ من الدَّراهم، فاختَصروا واستَخفّوا. ولم يَكن دُخولُ الألف واللام يغَّير العشرين عن نكرته، فاستخفوا بتركما لم يُحتَجْ إليه.
ولم تَقْوَ هذه الأحرفُ قوَّةَ الصفة المشبَّهة. ألاَ ترى أنك تؤنَّثها وتذكَّرها وتَجمعها كالفاعل، تقول: مررت برجلٍ حَسَنِ الوجهِ أبوه، " كما تقول: مررت برجلٍ حسنٍ أبوه، وهو " مثل قولك: مررت برجلٍ ضاربٍ(1/203)
أبوه. فإِن جئت بخيرٍ منك، أو عشرينَ، رفعتَ، لأنّها مُلْحَقَةٌ بالأسماء " لا تَعمل عملَ الفعل "، فلم تقو قوة المشبهة، كما لم تَقْوَ المشبَّهةُ قوَّةَ ما جرى مجرى الفعل.
وتقول: هو خيرُ رَجُلٍ فى النَّاس وأَفْرَهُ عبدٍ فى الناس؛ لأن الفارِهَ هو العبد، ولم تُلْقِ أَفْرَهَ ولا خيراً على غيره ثم تَختصُّ شيئاً، فالمعنى مختلف. وليس هُنا فصلٌ ولم يَلزم إلاَّ تركُ التنوين، كما أنَّ عشرين وخيراً منك لم يَلزم فيه إلاّ التنوينُ. ولم يُدْخِلوا الألفَ واللام، كما لم يُدخِلوه فى الأوّل، وتفسيرُه تفسيرُ الأوّلُ. وإنَّما أرادوا: أَفْرَهَ العَبيدِ وخيرَ الأعمالِ.
وإنَّما أَثبتوا الألفَ واللام فى قولهم: أفضلُ الناس، لأنَّ الأولَ قد يصير به معرفةً، فأثبتوا الألف واللام وبناء الجميع ولم ينَّونْ، وفرَقوا بترك النون والتنوين بين معنيين.
وقد جاء من الفعل ما قد أُنفذ إلى مفعولٍ ولم يَقْوَ قوّةَ غيره مما قد تَعدّى إلى مفعولٍ، وذلك قولك: امتَلأَتُ ماءً وتفقَّأْتُ شَحْماً، ولا تقول: امتلأتُه(1/204)
ولا تفقَّأتُه. ولا يَعمل فى غيره من المَعارف، ولا يقدَّم المفعولُ فيه فتقولَ: ماءً امتَلأْتُ، كما لا يُقَدَّمُ المفعولُ فيه فى الصفةّ المشبَّهةِ، ولا فى هذه الأسماء، لأنها ليست كالفاعل. وذلك لأنَّه فعلٌ لا يتَعدّى إلى مفعول، وإنَّما هو بمنزلة الانفعال، لا يتعدَّى إلى مفعول، نحو كسرته فانكسر، ودفعته فاندفع. فهذا النحو إنما يكون فى نفسه ولا يقع على شيء، فصار امتلأت من هذا الضرب، كأَنك قلت: ملأنى فامتلأت. ومثله: دحرجته فتدحرج. وإنما أصلُه امتَلأت من الماء، وتفقَّأتُ من الشَّحم، فحُذف هذا استخفافاً، وكان الفعلُ أَجدرَ أن يَتعدّى إنْ كان هذا ينفُذ، وهو - فى أنّهم ضعَفَّوه - مثله.
وتقول: هو أشجعُ الناس رجلاً، وهما خيرٌ الناس إثنينِ. فالمجرورُ هُنا بمنزلة التنوين، وانتَصب الرجلُ والاثنانِ، كما انتَصب الوجهُ فى قولك: هو أحسنُ منه وجهاً. ولا يكون إلاّ نكرةً. والرجلُ هو الاسم المبتدأُ والاثنان كذلك. إنَّما معناه هو خيرُ رجُلٍ فى الناس، وهما خيرُ اثنين(1/205)
فى الناس. وإن شئت لم تَجعله الأوّلَ. فتقول: هو أكثرُ الناس مالاً.
وممّا أُجْرِىَ هذا المُجرى أسماء العدد: تقول فيما كان لأَدنى العِدّة بالإِضافة إلى ما يُبْنَى لجمع أَدنى العدد، إلى أدنى العُقود، وتُدْخِل فى المضاف إليه الألف واللام، لأنَّه يكون الأوّلُ به معرفةً. وذلك قولك: ثلاثة أبواب وأربعة أنفس وأربعة أثواب. وكذلك تقول: فيما بينك وبين العَشَرَة؛ وإذا أَدخلتَ الألفَ واللام قلت: خمسة الأثواب، وستة الجمال. فلا يكون هذا أبداً إلا غيرَ منوَّن يَلزمه أمرٌ واحدٌ، لما ذكرتُ لك. فإِذا زدتَ على العشَرَة شيئاً من أَسماء أدنى العدد فإِنّه يُجعَل مع الأوّل اسماً واحداً استخفافاً، ويكونُ فى موضع " اسمٍ " منَّونٍ. وذلك قولك: أَحَدَ عَشَرَ درهماً، واثناَ عَشَرَ درهماً، وإحْدَى عشر جاريةً. فعلى هذا يُجرَى من الواحد إلى التسعة. فإِذا ضاعفتَ أَدنى العُقود كان له اسمٌ من لفظه ولا يثنَّى العَقدُ. ويُجْرَى ذلك الاسمُ مُجرى الواحدِ الذى لحقتْه الزيَّادةُ للجمع كما لحقتْه الزيادةُ للتثنية ويكون حرفُ الإِعراب الواوَ والياء وبعدهما النونُ؛ وذلك قولك: عِشْرُونَ درهماً. فإِن أردتَ أنْ تثلَّثَ أدنى العُقود كان له اسمٌ من لفظ الثلاثة يَجرى مجرى الاسم الذى كان للتثنية،(1/206)
وذلك قولك: ثَلاثونَ عبداً. وكذلك إلى أن تتسَّعَه، وتكونُ النونُ لازمةً له، كما كان تركُ التنوين لازماً للثلاثة إلى العشرة. وإنَّما فعلوا هذا بهذه الأسماءِ وأَلزموها وجهاً واحدا لأنها ليست كالصفة فى معنى الفعل، ولا التى شُبَّهَتْ بها، فلم تقوى تلك القوّةَ، ولم يَجُز حين جاوزتَ أدنى العُقود فيما تُبَيَّنُ به من أىَّ صِنْفٍ العددُ إلاّ أنْ يكون لفظُه واحدا، ولا تكون فيه الألفُ واللام، لما ذكرتُ لك.
وكذلك هو إلى التسعين فيما يَعمْلُ فيه ويبيَّن به من أىَ صِنفٍ العددُ. فإِذا بلغت العدد " الذى يليه " تركتَ التنوينَ والنونَ وأَضفتَ، وجعلت الذى يَعْمَلُ فيه ويبَّين به العددُ من أي صنف هو واحداً، كما فعلت فيما نوَّنت فيه، إلاّ أنَّك تُدْخِلُ فيه الألف واللام، لأن الأوَّل يكون به معرفةً ولا يكونُ المنَّونُ به معرفةً. وذلك قولك: مِائَةُ درهمٍ ومِائَةُ الدرهمِ. وذلك إنْ ضاعفتَه قلتَ: مِائَتا درهمٍ ومائتا الدينارِ.
وكذلك العَقْدُ الذى بعده، واحداً كان أو مثنَّى، وذلك قولك: ألْفُ درهمٍ وأَلْفاَ درهمٍ.(1/207)
وقد جاء فى الشَّعر بعضُ هذا منوَّنا. قال الربيع بن ضبع الفزاري:
عاشَ الفَتَى مِائَتَيْنِ عاماً ... فقد أَوْدَى المَسَرَّةُ والفناء
وقال:
أَنعَتُ عِيراً من حَمِيرِ خَنْزَرَهْ ... فى كلَّ عِيرٍ مِائتانِ كَمَرَةْ(1/208)
وأما ثلثُمائةٍ إلى تسعِمائةٍ فكان ينبغى أن تكون في القياس مئين أو مِئاتٍ، ولكنَّهم شبّهوه بعشرينَ وأَحَدَ عَشَرَ، حيث جعلوا ما يبيَّنُ به العددُ واحداً، لأنَّه اسمٌ لعددٍ كما أَنّ عشرينَ اسمٌ لعددٍ. وليس بمستنكَرٍ فى كلامهم أنْ يكون اللفظُ واحداً والمعنى جميعٌ، حتَّى قال بعضُهم في الشعر " من ذلك " مالا يُسْتَعْمَلُ فى الكلام. وقال عَلقَمةُ بن عَبَدةَ:
بها جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها ... فَبيِضٌ وأَما جِلْدُها فصَلِيبُ
وقال:
لا تُنكِرُوا القَتْلَ وقد سُبينا ... فى حَلقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجِينَا(1/209)
فاختُصّ " التثليث " بهذا الباب إلى تسعمائة.
كما أن لدن فى غُدْوَةً حالٌ ليست فى غيرها تُنْصَبُ بها، كأَنّه أَلحقَ التنوينَ فى لغة من قال: لَدُ. وذلك قولك: " من " لَدُنْ غُدْوَةٌ. وقال بعضهم: لَداً غدوةٌ كأنه أَسكن الدالَ ثم فتحها، كما قال: اضرب زيداً، ففتح الباء لمَّا جاء بالنون الخفيفة. والجرُّ فى غُدْوَةٍ هو الوجهُ والقياس. وتكونُ النون في نفس الحرف بمنزلة نونِ مِنْ وعَنْ؛ فقد يشذ الشيء من كلامهم عن نظائره، ويستخفون الشيء في موضع " و " لا يستخفونه في غيره. وذلك قولهم: ماشعرت به شِعْرَةً، ولَيْتَ شِعْرِى. ويقولون: العَمْرُ والعُمْرُ، لا يقولون فى اليمين إلاّ بالفتح، يقولون كُلُّهم: لَعَمْرُك. وسترى أَشباهَ هذا أيضاً فى كلامهم إنْ شاء الله.
ومما جاء فى الشَّعر على لفظ الواحد يراد به الجميعُ:
كُلُوا فى بَعْضِ بَطنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإِنّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
ومثل ذلك " فى الكلام " قوله تبارك وتعالى: " فإن طبن لكم عن شيء مِنْهُ نَفْساً "، وقَرِرْنَا به عَيْناً، وإن شئت قلت: أَعْيُناً وأَنفُساً،(1/210)
كما قلت: ثلثمائةٍ وثلاثِ مِئينَ ومِئاتٍ، ولم يُدْخِلوا الألفَ واللام، كما لم يُدْخلوا فى امتلأت ماءً.
باب استعمال الفعل فى اللَّفظ لا فى المعنى
لاتَّساعِهم فى الكلام، والإيجاز والاختصار فمن ذلك أَنْ تقولَ على قول السائل: كَمْ صِيدَ عليه؟ وكَمْ غيرُ ظَرْفٍ لما ذكرت لك من الاتّساع والإِيجاز، فتقول: صِيدَ عليه يومانِ. وإنَّما المعنى صِيدَ عليه الوحشُ فى يومينِ، ولكنّه اتَّسع واختَصر. ولذلك أيضاً وَضَعَ السائلُ كَم غيرَ ظرفٍ.
ومن ذلك أن تقول: كم وُلِدَ له؟ فيقول: ستّون عاما. فالمعنى ولد له الأولاد ولد له الوَلَدُ سِتّينَ عاماً، ولكنَّه اتَّسع وأَوْجَزَ.
ومن ذلك أن تقول: كَمْ سِيرَ عليه؛ وكم غَيرُ ظرفٍ، فيقول: يومُ الجُمُعةِ ويومان. فكم هاهنا بمنزلة قوله: ما صِيدَ عليه، وما وُلدَ له من الدَّهر والأَيَّامِ؟ فليس كم ظرفاً كما أنّ " ما " ليس بظرف.(1/211)
ومن ذلك أن يقول: كم ضرِبَ به؟ فنقول: ضُربَ به ضربتان، وضُرِبَ به ضَرْبٌ كثيرٌ.
ومما جاء على اتّساع الكلام والاختصارِ قوله تعالى جدّه: " واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " إنّما يريد: أهلَ القرية، فاختصر، وعمل الفعل في القرية كم كان عاملاً في الأهل لو كان هاهنا.
ومثله: " بل مكر الليل والنهار "، وإنّما المعنى: بل مكر كم فى الليل والنهار. وقال عزّ وجلّ: " ولكن البر من آمن بالله "، وإنّما هو: ولكنّ البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخِر.
ومثله فى الاتّساع " قولُه عزّ وجلّ ": " وَمَثَلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً "، وإنَّما شُبّهوا بالمنعوق به. وإنَّما المعنى: مَثَلُكم ومَثَلُ الذين كفروا كمثل الناعِق والمنعوقِ به الذى لاُ يَسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإِيجاز لعلم المخاطَب بالمعنى.(1/212)
ومثل ذلك " من كلامهم ": بنو فلانٍ يَطَؤُهم الطريقُ، يريد: يَطَؤُهم أهلُ الطريق. وقالوا: صِدْنَا قَنَوَيْنِ، وإنّما يريد صدنا بقَنَوَيْنِ، أو صِدنا وحَش قنوينِ، وإنَّما قنَوَانِ اسمُ أرضٍ.
ومثُله في السعة: أنت أكرم على من أَضربَك، وأنت أَنكدُ من أَن تَتْرُكَه. إنّما يريد: أنت أَكرمُ علَّى من صاحب الضَّربِ، وأنت أَنكدُ من صاحب تَرْكِه؛ لأنَّ قولك: أَنْ أضربك وأن تتركه، هو الضَّرْبُ والتَّرْكُ، لأنّ أَن اسمٌ، وتتركَه " وأَضربكَ " من صلته، كما تقول: يَسوءُنى أَنْ أَضربك، أى يَسوءُنىٍ ضَرْبُك، وليس يريد: أنت أَكرمُ علَّى من الضرب، ولكن أَكرَمُ علىَّ من صاحب الضربِ.
وقال الجعدىّ:(1/213)
كأنّ عَذِيرهَم بجُنوبِ سِلَّى ... نَعامٌ قاقَ فى بَلَدٍ قِفارِ
العَذير: الصوت. ومن ذلك قولُ عامرِ بن الطُّفيل:
فَلأَبَغِيَنّكُمُ قَناً وعُوارِضاً ... وَلأُقْبِلنَّ الخيل لابة ضرغد
إنما يريد: عذير نعام. وقَناً وعُوارض، يريد بقَناً وعُوارض، ولكنّه حَذَفَ وأَوصَلَ الفعلَ.
" ومن ذلك قول ساعدة:
لدن بهز الكفيعسل مَتنُه ... فيه كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
يريد: فى الطريق ".
ومن ذلك قولهم: أكلتُ أرضِ كذا وكذا وأكلتُ بلدةَ كذا وكذا، إنما أراد أصاب من خيرها وأكلَ من ذلك وشرب. وهذا الكلام كثير، منه(1/214)
ما مضى، وهو أكثر من أحصيَه. ومنه ما ستراه أيضاً فيما يستقبَل إن شاء الله.
ومنه قولُهم: " هذهِ الظُّهْرُ أو العَصرُ أو المغرب "، إنّما يريد صلاةَ هذا الوقت. و " اجتمع القَيْظُ "، يريد: اجتَمع الناسُ فى القيظ. وقال الحُطَيئة:
وشرُّ المَنَايا مَيَّتٌ بين أَهلِه ... كهُلْكِ الفَتَى قد أَسْلَمَ الحَىَّ حاضِرُهْ
يريد: مَنيّةُ مَيَّتٍ.
وقال النابغةُ الجعدىّ:
وكيف تُواصِلُ مَنْ أصبحت ... خلالته كأبي مرحب(1/215)
يريد: كخلالة أبي مرحب.
باب وُقوع الأسماء ظُروفا
وتصحيح اللفظ على المعنى
فمن ذلك قولك: متى يُسارُ عليه؟ وهو يجعله ظرفاً. فيقولُ: اليومَ أو غداً، أو بعد غدٍ أو يومَ الجمعة. وتقول: متى سِيرَ عليه؟ فيقول: أَمْسِ أَوْ أَوّلَ من أَمسِ، فيكونُ ظرفاً، على أنه كان السير في ساعة دونَ سائر ساعات اليوم، أو حين دون سائر أحيانِ اليوم. ويكونُ أيضاً على أنه يكون السَّيرُ فى اليوم كلَّه، لأنَّك قد تقول: سِيرَ عليه فى اليوم ويُسارُ عليه فى يوم الجمعة، والسَّيرُ كان فيه كلَّه.
وقد تقول: سِيرَ عليه اليومُ، فترفعُ وأنت تعنى فى بعضِه، كما تقول فى سعة الكلام: الليلةُ الهلالُ، وإنَّما الهلالُ فى بعض الليلة، وإنَّما أراد الليلةُ ليلةُ الهلالِ، ولكنه اتَّسع وأَوجز. وكذلك أيضاً هذا كلُّه، " كأنّه قال: سِيرَ عليه سَيْرُ اليوم. والرفعُ فى جميع هذا عربىّ كثير فى جميع لغات العرب، على ما ذكرتُ لك من سعة الكلام والإِيجاز، يكونُ على كَمْ غيرَ ظرف وعلى مَتَى غيرَ ظرف ". كأَنّه قال: أىُّ الأَحيان سيرَ عليه أو يُسارُ عليه.
وممَّا لا يكون العملُ فيه من الظروف إلاَّ متّصِلا فى الظّرف كلَّه، قولك: سير عليه الليلَ والنهارَ، والدَّهرَ، والأَبدَ. وهذا جوابٌ لقوله: كم سير عليه؟ إذا جعلَه ظرفا، لأنه يريد: فى كَمْ سِيرَ عليه. فتقول مجيباً له: الليلَ ولنهار " والدهر " والأبد، علة معنى فى الليل والنهار وفى الأبد.
ويدلُّك على أنه لا يكون أن يجعل العمل فيه فى يومٍ دونَ الأيّام(1/216)
وفى ساعة دون الساعات، أنَّك لا تقول: لقيتُه الدهرَ " والأبدَ، وأنت تريد يوماً منه، ولا لقيته الليل وأنت تريد لقاءهفي ساعةٍ دون الساعات، وكذلك النَّهارُ، إلاّ أن تريد سير عليه الدهرَ أَجمعَ والليلَ " كلَّه، على التكثير. وإنْ لم تَجعله ظرفاً فهو عربىٌّ كثيرٌ فى كلامهم. وإنَّما جاء هذا على جوابِ كَمْ، لأنَّه جَعَله على عدّة الأيَّام واللَّيالى، فجرى على جواب ما هو للعدد، كأنه قال: سِيرَ عليه عدّةُ الأيّام، أو عدّةُ الليالى.
ومن ذلك، " مما يكون متّصِلا "، قولك: سِيرَ عليه يومَيْنِ، " أو ثلاثةَ أيامٍ، لأنَّه عددٌ. ألا ترى أنَّه لا يجوز أن تجعله ظرفاً وتجعلَ اللقاءَ فى أحدهما دون الآخَر. ولو قلت: سِير عليه المؤمنين "، وأنت تعنى أنّ السيرَ كان فى أحدهما، ولم يجز. هذا على أن تَجعل كَمْ ظرفا وغير ظرف.
وأمّا متى فإِنَّما تريد " بها " أن يوُقِّتَ لك وقتا ولا تريد بها عدداً، فإِنما الجوابُ " فيه ": اليومَ أو يومَ كذا، أو شهرَ كذا أو سنَة كذا، أو الآنَ، أو حينَئذٍ وأَشباهُ هذا.
ومما أُجرِى مجرى " الأبد " والدَّهر واللَّيل والنهار: المحرَّمُ وصَفَرٌ " وجُمادَى "، وسائرُ أََسماء الشُّهور إلى ذى الحجة؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعِدّة أيّام، كأنّهم قالوا: سيرَ عليه الثلاثون يوماً. ولو قلت: شهرُ رمضانَ أو شهر ذي الحجة لكان بمنزلة يوم الجمعة والبارحةِ والليلةِ،(1/217)
ولصار جوابَ مَتَى. وجميعُ ما ذكرت لك مما يكون على مَتى، يكون مجرًى على كَمْ ظرفا وغيرَ ظرف.
وبعضُ ما يكون فى كَمْ لا يكون فى مَتَى، نحوُ اللَّيلَ " والنَّهارَ " والدَّهرَ؛ لأنَّ كَمْ " هو " الأوّلُ فجُعلَ الأخِرُ تَبَعاً له. ولا يكون الدَّهرُ واللَّيل والنهار إلا على العِدّة، جوابا لكَمْ.
وتقول: سيرَ عليه الليلُ، تعنى ليلَ ليلتك، وتَجرى على الأصل. كما تقول فى الدهر: سيرَ عليه الدَّهرُ، وإنما تعنى بعضَ الدهر، ولكنَّه يكثَّر. كما يقول الرجلُ: جاءنى أهلُ الدنيا، وعسى أن لا يكونَ جاءه إلا خمسة، فاستَكثرهم.
وكذلك شَهْرَا ربيعٍ، حين ثنّيتَ جاء على العدد عندهم، لا يجوز أن تقول: يَضرب شَهْرَى ربيعٍ، وأنت تريد فى أحدهما، كما لا يجوز لك فى اليومينِ وأَشباهِهما. فليس لك فى هذه الأشياءِ إلاّ أَنْ تُجْرِيَهَا على ما أَجروها، ولا يجوز لك أن تريد بالحرف إلا ما أرادوا.(1/218)
وتقول: ذهبتُ الشتاءَ ويضربُ الشتاء. وسمعنا العربَ الفصحاءَ يقولون: انطلقتُ الصَّيفَ، أَجروه على جواب مَتَى، لأنَّه أَراد أن يقول فى ذلك الوقتِ، ولم يُرِد العددَ وجوابَ كَم.
وقال ابن الرِّقاع:
فقُصِرْنَ الشتَّاءَ بعدُ عليه ... وَهوَ للذَّوْدِ أَنْ يُقَسَّمْنَ جارُ
فهذا يكون على مَتَى ويكون على كَمْ، ظرفينِ وغيرَ ظرفينِ.
واعلم أنّ الظُّروف من الأَماكنِ مثل الظروف من اللَّيالى والأَيَّام، فى الاختصار وسعة الكلام.
فمن ذلك أن يقول: كَمْ سيرَ عليه من الأرض؟ فتقول: فرسخان أو ميلان أو بريدان، كما قالت: يومانِ. وكذلك لو قال: كَمْ صِيدَ عليه من الأرض؟ يجرى " على " هذا المجرى. وإن شئتَ نَصبت وجعلت كَمْ ظرفا، كما فعلت ذلك فى اليومينِ، " فلا يكون ظرفا وغيرَ ظرف إلاّ على كَمْ، لأنّه عددٌ كما كان ذلك فى اليومينِ ".
ونظيرُ مَتَى من الأَماكن: " أَيْنَ ". ولا يكون أَيْنَ إلاَّ للأَماكن، كما(1/219)
لا يكون مَتَى إلاّ للأَيام والليالى. فإِن قلت: أَيْنَ سيرَ عليه؟ قال: سِير عليه مكانُ كذا وكذا، وسيرَ عليه المكان الذى تَعلم، فهو بمنزلة قوله: يومُ كذا وكذا، واليومُ الذى تَعلم. فأَجْرِ " كَمْ " فى الأَماكن مُجراها فى الأيّام والليالى، وأَجْر أَيْنَ فى الأَماكن مجرى مَتَى فى الأيّام.
ويقال: أين سير عليه؟ فتقول: خَلْفَ دارك وفوقَ دارك. فإِنْ لم تَجعله ظرفا وجعلتَه على سعة الكلام رفعته على " أَنّ " كَمْ غيرُ ظرف، وعلى " أنّ " أين غيرُ ظرف، كما فعلت ذلك فى مَتَى.
وتقول سير عليه ليلٌ طويلٌ وسير عليه نهارٌ طويل، وإن لم تَذكر الصفةَ وأردتَ هذا المعنى رَفعتَ، إلاّ أنَّ الصفة تبيَّن بها معنى الرفع وتُوَضَّحُه، وإن شئت نصبت على نصبِ اللّيل والنهار ورمضانَ.
وتقول: سير عليه يومٌ فترفُعه على حدّ قولك: يومانِ " وتَنصبهُ عليه ". وإن شئت قلت: سير عليه يوم أتانا فيه فلان، كأنّه قال: متى سير عليه؟ فيقول: يوماً كنتَ فيه عندنا. فهذا يحسن فيه على مَتَى، ويصير بمنزلة يومَ كذا وكذا؛ لأنك قد وقته وعرفته بشيء.
وتقول: سير عليه غُدْوَةُ يا فَتى وبُكْرةُ، فترفع على مثل ما رفعتَ ما ذكرنا. والنصبُ فيه على ذلك، لأنك قد تُجريه وإن لم يتَصرَّف مُجْرَى يومِ الجمعةِ، تقول: مَوْعِدُك غُدْوةُ أو بُكْرةُ فترفع على مثل ما رفعتَ ما ذكرنا، والنصبُ فيه على ذلك.
وتقول: ما لقيتُه مذْ غدوةُ أو بكرُة، وكذلك: غداُة أَمْسِ وصبَاحُ(1/220)
يوم الجمعة والعشّيةُ وعشيّة يوم الجمعة ومَساءُ ليلة الجمعة. وتقول: سير عليه حِينَئِذٍ ويَوْمَئِذٍ، والنصب على ما ذكرت لك.
وكذلك: نِصفُ النَّهار، لأنك قد تقول فى هذا: بعد نصفِ النهار، وموعدُك نصفُ النهار.
وكذلك، سَواءُ النَّهار، لأنّك تقول: هذا سواءُ النهارِ، إذا أردت وسطه، كما تقول: هذا نصفُ النهار.
وأما سَراةُ اليوم فبمنزلة أوّل اليوم.
وتقول: سير عليه ضَحْوَةٌ من الضَّحَوات، إذا لم تَعْنِ ضَحْوةَ يومِك، لأنَّها بمنزلة قولك: ساعة من الّساعات. وكذلك قولك: سير عليه عَتَمَة من الليل، لأنك تقول: أتانا بعد ما ذهبتْ عَتَمَةٌ من الليل.
وتقول: قد مُضِىَ لذلك ضَحْوَةٌ وضحوةً، والنصب فيه وجهُه على ما مَضَى.
وتقول فى الأماكن: سِيرَ عليه ذاتُ اليَمينِ وذاتُ الشَّمالِ، لأنك تقول: دارهُ ذاتُ اليمين وذاتُ الشمال. والنصب على ما ذكرت لك.
وتقول: سير عليه أَيْمُنٌ وأَشمُلٌ، وسير عليه اليَمينُ والشَّمالُ، لأنه يَتَمكن. تقول: على اليمين وعلى الشمالُ، ودارك اليمين ودارك الشمال. وقال أبو النجم:
يأتي لها من أَيْمُنٍ وأشمل(1/221)
وإن شئت جعلته ظرفاً كما قال عمرو بن كُلْثُومٍ:
وكانَ الكَأْسُ مَجْراها اليَميناَ
ومثل ذاتَ اليمين وذاتَ الشَّمال: شَرْقىُّ الدار وغَرْبىُّ الدارِ، تجعلُه ظرفا وغيرَ ظرف. قال جرير:
هبت جنوبا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التى شَرْقِىَّ حَوْرَاناَ
وقال بعضُهم: دارهُ شَرقىُّ المسجدِ.
ومثلُ: مجراها اليَميناَ. قوله: البُقولُ يمينَها وشِمالَها.
هذا باب
ما يكون فيه المصدرُ حِيناً لسعة الكلام
والاختصار
وذلك قولك: مَتَى سير عليه؟ فيقول الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلانس، وصَلاةَ العَصْر. فإِنَّما هو: زَمَنَ مَقْدمِ الحاجَّ، وحينَ خُفوقِ النجم، ولكنَّه على سعة الكلام والاختصار.(1/222)
وإن قال: كَمْ سيرَ عليه، فكذلك.
وإن رفعته أجمع كان عربياً كثيراص. وينتصب على أن تَجعل كَمْ ظَرْفا. وليس هذا فى سعة الكلام والاختصار بأَبعدَ من: صيد عليه يومان، وولد له ستون عاما.
وتقول: سير عليه فرسخانِ يومَيْنِ، لأنَّك شغلت الفعلَ بالفرسخَيْنِ، فصار كقولك: سير عليه بَعيرُك يومَيْنِ. وإن شئت قلت: سير عليه فرسخَيْنِ يومانِ، أيُّهما رفعتَه صار الآخَرُ ظرفا. وإن شئت نصبته على الفعل فى سعة الكلام لا على الظَّرف، كما جاز: يا ضارِبَ اليوم زيدا، أوْ يا سائرَ اليومِ فرسخَينِ.
وتقول: صِيدَ عليه يومَ الجُمُعةِ غُدوةُ يا فتى، وإن شئتَ جعلته ظرفاً؛ لأنّك كأنَّك قلت: السَّيْرُ فى يوم الجُمُعة فى هذه الساعة. وإن شئت قلت: سير عليه الجُمُعَةِ غُدوةَ، كما تقول: سيرَ عليه يومُ الجُمُعة صَباحاً، أى سيرَ عليه يومُ الجمعة فى هذه الساعة. وإنَّما المعنى كان ابتداءُ السَّير فى هذه الساعة.
ومثلُ ذلك: ما لقِيتُه مُذْ يومِ الجمعة صَباحاً، أى فى هذه الساعة، وإنّما معناه أنَّه فى هذه الساعة وقَعَ الَّلقاءُ، كما كان ذلك فى: سِيرَ عليه يومُ الجمعة غدوةَ.
وتقول: سيرَ عليه يومُ الجمعة غدوةُ، تجعل غدوةُ بَدَلا من اليوم، كما تقول: ضُرِبَ القومُ بعضُهم.(1/223)
وتقول: إذا كان غد فأتى، وإذا كان يومُ الجمعة فالْقَنى؛ فالفعل لغدٍ واليوم، كقولك: إذا غد فأتى. وإن شئت قلت: إذا كان غداً فأتى، وهى لغة بنى تميم، والمعنى أَنّه لقى رجلا فقال له: إذا كان ما نحن عليه من السَّلامة أو كان ما نحن عليه من البلاء في غد فأتى، ولكنَّهم أَضمروا استخفافاً، لكثرةِ كانَ فى كلامهم، لأنَّه الأصلُ لما مَضى وما سَيَقَعُ. وحذفوا كما قالوا: حِينَئِذٍ الآنَ، وإنّما يريد: حينئذٍ واسْمَعْ إلىَّ الآنَ، فحَذَفَ واسمعْ، كما قال: تالله ما رأيت كاليوم زجلاً، أى كرجلٍ أَراه اليومَ رَجُلاً.
وإنَّما أضمرُوا ما كان يقَع مُظهَرا استخفافاً، ولأن المخاطَب يعلم ما يعنى، فجرى بمنزلة المثل، كما تقول: لا عليكَ، وقد عَرَفَ المخاطبُ ما تعنى، أَنّه لا بأْسَ عليك، ولا ضَرَّ عليك، ولكنَّه حُذِف لكثرة هذا فى كلامهم. ولا يكون هذا في غير عليك.
وقد تقول: إذا كان غَداً فأْتِنى، كأنّه ذكر أمراً إمَّا خُصومًة وإمّا صُلحاً، فقال: إذا كان غداً فأْتِنى.
فهذا جائزٌ فى كلّ فِعْلٍ، لأنَّك إنما أَضمرتَ بعد ما ذكرتَ مظهَراً، والأوَّلُ محذوفٌ منه لفظُ المظهَر، وأضمروا استخفافاً.
فإِن قلت: إذا كان الليلَ فأتِنى، لم يَجُزْ ذلك، لأنَّ الليل لا يكون(1/224)
ظرفاً إلاَّ أَنْ تَعْنِىَ الَّليلَ كلَّه على ما ذكرت لك من التكثير؛ فإِن وجَّهتَه على إضمار شيء قد ذكرتَ على ذلك الحدّ جاز، وكذلك: أخوات الليل.
ومما لا يسن فيه إلاّ النصبُ قولهم: سير عليه سَحَرَ، لا يكون فيه إلاّ أن يكون ظرفاً، لأنَّهم إنما يتكلّمون به فى الرفع والنصب والجرّ، بالألف واللام، يقولون: هذا السَّحَرُ، وبأَعلى السَّحرِ، وإنّ السَّحَرَ خيرٌ لك من أوّل الليل. إلاّ أن تَجعله نكرةً فتقولَ: سير عليه سَحَرٌ من الأسحار، لأنَه يَتمكّن فى الموضع. وكذاتحقيره إذا عنيت سَحَرَ ليلتِكَ، تقول: سيرَ عليه سُحَيْراً. ومثله: سير عليه ضُحىً، إذا عنيتَ ضُحَى يومِك، لأنَّهما لا يَتمكّنان من الجرّ فى هذا المعنى، لا تقول: موعدُك ضُحىً ولا عند ضُحىً ولا موعدُك سُحَيْرٌ، إلاَّ أن تنصبَ.
ومثل ذلك: صِيدَ عليه صَباحا، ومَساءً، وعشيّةً، وعِشاءً، إذا أردت عِشاء يومِك ومَساءَ ليلتك؛ لأنَّهم لم يَستعملوه على هذا المعنى إلاَّ ظرفا. ولو قلت: موعدُك مساءٌ، أو أتانا عند عشاءٍ، لم يحسُن.
ومثل ذلك: سير عليه ذاتَ مرةٍ، نصبٌ، لا يجوز إلاّ هذا. ألاَ ترى أنَّك لا تقول: إنَّ ذاتَ مرّةٍ كان موعدَهم، ولا تقولُ: إنَّما لك ذاتُ مرّةٍ، كما تقول: إنَّما لك يومٌ.
وكذلك: إنَّما يُسارُ عليه بُعَيْداتِ بَيْنٍ، لأنَّه بمنزلة ذاتِ مرّةٍ.(1/225)
ومثل ذلك: سير عليه بَكَراً. ألا تَرى أنه لايجوز: موعدك بكراً، ولا مُذْ بَكَرٌ. فالبَكَرُ لا يَتمكّن فى يومك، كما لم يتمكن مرّة وبُعَيداتِ بَينٍ.
وكذلك: ضَحْوَةٌ فى يومك الذى أنت فيه، يجرى مجرى عشيّةِ يومِك الذى أنت فيه. وكذلك: سير " عليه " عَتَمةً، إذاأردت عتمةَ ليلتِك، كما تقول: صبَاحا ومساءً وبَكَراً.
وكذلك: سير عليه ذاتَ يومٍ، وسِيرَ عليه ذات ليلةٍ، بمنزلة ذاتَ مرةٍ.
وكذلك: سير عليه ليلاً ونهارا، إذا أردت ليلَ ليلِتك ونهارَ نهارِك، لأنَّه إنما يُجْرَى على قولك: سير عليه بََصراً، وسير عليه ظَلاما، إلاّ أن تريدَ " معنى " سير عليه ليلُ طويلُ ونهارُ طويلُ، فهو على ذلك الحدّ غيرُ متمكنَّ، وفى هذا الحال متمكنُ، كما أنَّ السَّحَرَ بالألف واللام متصرفُ في المواصع التى ذكرتُ، وبغَيْرِ الألف واللام غيرُ متمكَّن فيها.
وذو صباحٍ بمنزلة ذاتَ مرةٍ. تقول: سير عليه ذا صباحٍ، أَخبرَنا بذلك يونسُ عن العرب، إلا أنّه قد جاء فى لغةٍ لخَثْعَم مفارقا لذاتِ مرةٍ وذاتِ ليلةٍ. وأَمّا الجيّدةُ العربيّة فأن تكون بمنزلتها.
وقال رجل من خَثعَمٍ:(1/226)
عزمت على إقامة ذي صباح ... لشيء مّا يسوَّدُ مَنْ يَسُودُ
فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفعُ.
وجميع ما ذكرنا من غير المتمكَّن إذا ابتدأتَ اسماً لم يجز أن تبنيَه عليه وترفعَ إلاَّ أَن تجعلَه ظرفا، وذلك قولك: موعدُك سُحَيراً، وموعدُك صباحا. ومثل ذلك: إنّه لَيُسارُ عليه صباحَ مَساءَ، إنما معناه صَبَاحاً ومَساءً، وليس يريد بقوله صباحا ومساءً صباحا واحداً ومساءً واحداً، ولكنه يريد صباحَ أَيّامه ومساءَها. فليس يجوز هذه الأسماءُ التى لم تتمكّنْ من المصادر التى وُضِعَتْ للحِين وغيرِها من الأسماء أن تُجْرَى مُجرى يوم الجمعة وخُفوقِ النجم ونحوِهما.
ومما يُختار فيه أن يكون ظرفاً ويقبُحُ أن يكون غيرَ ظرف، صفةُ الأحيان، تقول: سير عليه طويلاً، وسير عليه حديثا، وسير عليه كثيراً، وسير عليه قليلا، وسير عليه قديما. وإنّما نُصِبَ صفةُ الأَحيان على الظرف ولم يجز الرفعُ لأنَّ الصفَّة لا تقع مَواقِعَ الاسم، كما أنَّه لا يكون إلاّ حالا قولُه: أَلاَ ماءَ ولو بارداً، لأنه لو قال: ولو أتانى باردٌ، كان قبيحا. ولو قلت: آتيك بجيدٍ، كان قبيحا حتَّى تقولَ: بدِرْْهَمٍ جيّدٍ، وتقولَ: آتيك به جيّداً. فكما(1/227)
لا تَقوى الصَّفةُ فى هذا إلاَّ حالاً أو تجري على اسم، كذلك هذه الصفة لا تجوز إلاَّ ظرفا أو تَجرِىَ على اسم. فإِنْ قلت: دهرٌ طويل، أي شيء كثيرٌ أو قليلٌ، حَسُنَ.
وقد يَحْسُنُ أن تقول: سير عليه قَريبٌ؛ لأَنك تقول: لقيتُه مُذْ قَريبٌ. والنصب عربىّ جيّد كثير.
وربَّما جرت الصفةُ فى كلامهم مجرى الاسم، فإِذا كان كذلك حَسُنَ. فمن ذلك: الأَبرقُ والأبطحُ وأَشباهُهما، ومن ذلك ملىٌ من النهار واللَّيل، تقول: سير عليه ملىٌ، والنصبُ فيه كالنصب فى قريبٍ.
ومما يبيَّن لك أنَّ الصفة لا يَقْوَى فيها إلاّ هذا، أنَّ سائلا لو سأَلَك فقال: هل سير عليه؟ لقلت: نَعَمْ سير عليه شديدا، وسير عليه حسناً. فالنصبُ فى هذا على أنَّه حال. وهو وجهُ الكلام، لأنَّه وصفُ السَّيْرِ. ولا يكون فيه الرفعُ لأنَّه لا يقع موقعَ ما كان اسماً. ولم يكن ظرفاً، لأنه ليس بحينٍ يقع فيه الأمرُ. إلاَّ أن تقول: سِيرَ عليه سَيْرٌ حسنٌ، أو سيرَ عليه سَيْرٌ شديدٌ. فإِن قلت: سيرَ عليه طويلٌ من الدهر وشديدٌ من السير، فأطلت الكلام ووصفتَ، كان أَحسنَ وأَقوى وجاز، ولا يَبلغ فى الحُسْن الأسماءَ. وإنَّما جاز حين وصفتَ وأَطلتَ، لأنَّه ضارَعَ الأسماءَ، لأنَّ الموصوفةَ فى الأصل هى الأسماءُ.
هذا باب ما يكون من المَصادر مفعولا
فيرتَفعُ كما يَنتصب إذا شغلت الفعل به، ويَنتصب إذا شغلتَ الفعل بغيره.(1/228)
وإنما يجيء ذلك على أَن تبيَّنَ أَىَّ فعلٍ فعلتَ أو توكيدا.
فمن ذلك قولك على قول السائلِ: أََىَّ سَير سيرَ عليه؟ فتقول: سِيرَ عليه سَيْرٌ شديدٌ، وضُرِبَ به ضربٌ ضعيفٌ. فأَجريتَه مفعولا، والفعلُ له.
فإِن قلت: ضُرِبَ به ضَرْباً ضعيفاً، فقد شغلتَ الفعلَ بغيره عنه. ومثله: سير عليه سيراً شديداً. وكذلك إن أردتَ هذا المعنى ولم تَذْكر الصفَّة، تقول: سير عليه سيرٌ وضُرِبَ به ضربٌ، كأَنَّك قلت: سير عليه ضربٌ من السير، أو سير عليه شيء من السير.
وكذلك جميع المصادر تَرتفعُ على أفعالها إذا لم تشغَل الفعلَ بغيرها.
وتقول: سيرَ عليه أَيُّما سَيرٍ سَيْراً شديدا، كأَنك قلت: سير عليه بَعيرُك سَيرا شديدا.
وتقول: سيرَ عليه سَيرَتانِ أيَّما سَيرٍ، كأنك قلت: سير عليه بعيرُك أيَّما سيرٍ، فجرى مجرى ضرب زيد أيما ضرب، وضرب عمرو ضرباً شديدا.
وتقول على قول السائل: كَمْ ضَربةً ضرب به، وليس في هذا إضمار شيء سوى كَمْ والمفعولُ كَمْ، فتقول: ضُرِبَ به ضربتانِ، وسير عليه سَيْرتانِ، لأنه أراد أن يبيَّن له العدّةَ، فجرى على سعة الكلام والاختصار، وإنْ كانت الضربتانِ(1/229)
لا تُضْربَان، وإنما المعنى: كَمْ ضُرِبَ الذى وقع به الضَّربَ من ضربةٍ، فأَجابه على هذا المعنى، ولكنه اتَّسع واختَصر.
وكذلك هذه المصادرُ التى عَمِلتْ فيها أَفعالُها إنما يُسألُ عن هذا المعنى، وكلنه يَتّسِعُ ويَخْزِلُ الذى يقع به الفعلُ اختصاراً واتّساعا. وقد عُلم أنَّ الضرب لا يُضرَبُ.
ومن ذلك: سير عليه خَرْجتانِ، وصِيدَ عليه مرّتانِ. وليس ذلك بأَبعدَ من قولك: وُلِدَ له ستّون عاماً.
وسمعتُ من أَثِقُ به من العرب يقول: بُسِطَ عليه مرّتانِ، وإنَّما يريد: بُسِطَ عليه العذابُ مرتّين.
وتقول: سير عليه طَورانِ: طَوْرٌ كذا وطَوْرٌ كذا، والنصبُ ضعيف جداً إذا ثنّيتَ كقولك: طورٌ كذا وطورٌ كذا. وقد يكون في هذا النصبُ إذا أَضمرتَ.
وقد تقول: سير عليه مرّتينِ، تجعله على الدَّهر، أىْ ظرفا. وتقول: سير عليه طَوْرَيْنِ، وتقول: ضُرِبَ به ضربتَيْنِ، أى قَدْرَ ضربتينِ من الساعات، كما تقول: سير عليه تَرْويحتَيْنِ. فهذا على الأحيان.
ومثل ذلك: انتُظر به نَحْرَ جَزُورَيْنِ، إنَّما جعله على الساعات، كما قال: مَقْدَمَ الحاجّ وخفُوقَ النجم، فكذلك جَعَلَه ظرفا. وقد يجوز فيه الرفع إذا شغلتَ به الفعل.
وإن جعلتَ المرّتينِ، وما أشبههما مثل السّيَر رفعتَ ونصبت إذا أضمرت.(1/230)
ومما يجيء توكيداً ويُنْصَبُ قوله: سيرَ عليه سَيْراً، وانطُلِقَ به انطلاقا، وضُرِبَ به ضَربْا، فيُنْصَبُ على وجهينِ: أحدهُما على أنّه حال، على حدّ قولك: ذُهِبَ به مَشْياً وقُتِلَ به صَبْراً. وإن وصفتَه على هذا الحدّ كان نصباً، تقول: سيرَ به سيرا عَنيفاً، كما تقول: ذُهِبَ به مَشْياً عَنيفاً.
وإن شئت نصبتَه على إضمار فعلٍ آخرَ، ويكون بدلا من اللفظ بالفعل فتقول: سِير عليه سيراً وضُرب به ضَربا، كأنّك قلت بعد ما قلت: سِير عليه وضُرب به: يَسيرونَ سَيْرا ويَضربون ضَربا، ويَنطلقون انطلاقا، ولكنَّه صار المصدر بدلاً من اللفظ بالفعل، نحو يَضربون ويَنطلقون، وجرى على قوله: إنَّما أنت سَيْراً سَيْراً، وعلى قوله: الحَذَرَ الحذَرَ. وإنْ أنت قلت على هذا المعنى: سير عليه وضُرب به الضَّربَ جاز، على قوله: الحَذَرَ الحَذَرَ، وعلى ما جاء فيه الألفُ واللام نحوُ العِرَاك وكان بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو عربىّ جيدَّ حسن.
ومثله: سِير عليه سيرَ البَريِد، وإن وصفتَ على هذه الحال لم يغيره الوصفُ كما لم يغيَّر الوصفُ ما كان حالاً.
ولا يجوز أن تُدْخِلَ الألفَ واللام فى السَّير إذا كان حالاً، كما لم يجز أن تقول: ذُهِبَ به المَشْىَ العَنيفَ وأنت تريد أن تجعله حالاً. قال الرَّاعى:(1/231)
نَظَّارةً حِينَ تَعْلُو الشَّمسُ راكبَها ... طَرحاً بعَيْنَىْ لياحٍ فيه تَحْديدُ
فأَكّد بقوله طَرْحاً وشَدّد، لأنَّه يَعلم المخاطَبُ حين قال: نَظَّارةً أنها تطَرح.
وإن شئت قلت: سيرَ عليه السَّيرُ، كما قلت: سيرَ عليه سَيرٌ شديدٌ. وإنْ وصفتَه كان أقوى وأَبيَنَ، كما كان ذلك فى قوله: سيرَ عليه ليلٌ طويلٌ ونهارٌ طويلٌ.
وجميعُ ما يكون بدلاً من اللفظ بالفعل لا يكون إلاّ على فِعلٍ قد عَمِل فى الاسم، لأنك لا تَلْفِظُ بالفعل فارِغاً، فمن ثمَّ لم يكن فيه الرفعُ فى كلامهم، لأنَّه إنما يَعمَلُ فيه ما هو بمنزلة اللفظ به إلاَّ أنَّه صار كأَنه فِعْلٌ قد لُفِظَ به، فأَوْلَى ما عَمِلَ فيه ما هو بمنزلة اللفظ به.
ومما يسبق فيه الرفع لأنَّه يراد به أن يكون فى موضع غير المصدر قوله: قد خِيفَ منه خوفٌ، وقد قيل فى ذلك قول. إنَّما يريد: قد(1/232)
خيف منه أمر أو شيء، وقد قيل فى ذلك خيرٌ أو شرٌ. ومثل هذا فى المعنى كان منه كونٌ، أى كان من ذلك أمرٌ. وإنْ حملتَه عليه السَّيرَ والضربَ فى التوكيد، حالاً وقع فيه الفعلُ، أو بدلاً من اللفظ بالفعل، نصبتَ.
وإن كان المَفْعَلُ مصدراً أُجرى مُجَرى ما ذكرنا من الضَّرب والسيرِ وسائرِ المَصادر التى ذكرنا؛ وذلك قولك: إنّ فى ألفِ درهمٍ لمَضرَبا، أى إن فيها لضرباً؛ فإِذا قلت: ضُرِبَ به ضَرباً، قلت: ضُرِبَ به مَضْربا، وإن رفعتَ رفعتَ.
ومثل ذلك: سُرَّحَ به مُسَرَّحاً، أى تسريحا. فالمُسَرَّحُ والتسريح بمنزلة الضَّرب والمَضرَب. قال جرير:
أَلَمْ تَعْلَم مُسَرَّحِىَ القَوافى ... فلا عِيًّا بهنّ ولا اجتلابَا
أى تسريحى القوافى.
وكذلك تَجرى المَعْصِيَةُ مجرى العِصيانِ، والمَوجِدة بمنزلة المصدر لو كان(1/233)
الوَجْْدُ يُتكلم به.
قال الشاعر، وهو أبن أَحمرَ:
تَداركْنَ حيًّا من نُمَيْرِ بنِ عامرٍ ... أُسارَى تُسامُ الذُّلَّ قَتْلاً ومَحْرَبَا
فإِنْ قلت: ذُهِبَ به مذهبٌ، أو سُلِكَ به مَسْلَكٌ، رفعتَ لأنَّ المَفْعَلَ ههنا ليس بمنزلة الذَّهابِ والسُّلوكِ، وإنما هو الوجه الذى يُسْلَكُ فيه والمكانُ الذى يُذْهَبُ إليه، وإنَّما هو بمنزلة قولك: ذُهِبَ به السُّوقُ وسُلِكَ به الطريقُ.
وكذلك المَفعَل إذا كان حيناً، نحوُ قولهم: أتت الناقة على مضربها، أى على زمان ضرِابِها. وكذلك مَبعَثُ الجُيوش، تقول: سيرَ عليه مَبعَثُ الجيوش، ومَضْرِبُ الشَّوْلِ. قال حُمَيْدُ بن ثور:(1/234)
وما هى إلاّ فى إزارٍ وعلقةٍ ... مُغارَ ابنِ هَمّامٍ على حَىَّ خَثْعَماً
فصَيَّرَ مُغاراً وقتاً، وهو ظرفٌ.
هذا باب ما لا يَعْمَلُ فيه ما قبله من الفعل
الذى يتعدى إلى المفعول ولا غيره
لأنه كلامٌ قد عَمِلَ بعضه فى بعض، فلا يكون إلاّ مبتدأَ لا يَعمل فيه شيء قبله، لأنَّ ألف الاستفهام تَمنعُه من ذلك.(1/235)
وهو قولك: قد علمتُ أَعبْدُ الله ثَمَّ أم زيدٌ، وقد عرفتُ أَبو مَنْ زيدٌ، وقد عرفت أيُّهم أبوه، وأَمَا ترى أَىُّ برقٍ ها هنا. فهذا فى موضع مفعول، كما أنَّك إذا قلت: عبد الله هلرأيته، فهذا الكلامُ فى موضع المبنىّ على المبتدإ الذى يَعمَلُ فيه فيَرفعُه.
ومثل ذلك: لَيْتَ شِعْرِى أَعبدُ الله ثَمَّ أم زيدٌ، وليتَ شِعرى هل رأيتَه، فهذا فى موضع خَبَرِ ليتَ. فإِنَّما أَدخلتَ هذه الأشياءَ على قولك: أَزيدٌ ثَمَّ أم عمرو وأيُّهم أبوك، لِمَا احتَجتَ إليه من المعانى. وسنَذكر ذلك فى باب التسوية.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا "، وقوله تعالى: " فلينظر أيها أزكى طعاما ".
ومن ذلك: قد علمتُ لَعبدُ الله خيرٌ منك. فهذه اللامُ تمنَعُ العملَ، كما تمنعُ ألفُ الاستفهامِ، لأنَّها إنَّما هى لامُ الابتداء، وإنما أَدخلتَ عليه علمتُ لتُؤكَّدَ وتجعلَه يقيناً قد علمتَه، ولا تُحيلَ على علم غيرك. كما أنَّك إذا قلت: قد علمتُ أَزيدٌ ثَمَّ أم عمروٌ، أردتَ أن تُخبِرَ أنّك قد علمت أَيُّهما ثَمَّ، وأردتَ أن تسوَّىَ عِلْمَ المخاطَب فيهما كما استَوى علمُك فى المسألة حين قلت: أزيد ثم(1/236)
أم عمرو. ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " وَلَقَدْ عَلِمُوا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ".
ولو لم تَستفهم ولم تُدْخِلْ لام الابتداء لأعملت عملت كما تُعْمِل عرفتُ ورأيتُ، وذلك قولك: قد عملت زيداً خيرا منك، كما قال تعالى جدُّه: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " وكما قال جلَّ ثناؤه: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " كقولك: لا تَعرِفونهم اللهُ يَعرِفُهم. وقال سبحانه: " والله يعلم المفسد من الصالح ".
وتقول: قد عرفتُ زيداً أبُو مَنْ هو، وعلمتُ عمراً أَأَبوك هو أم أبو غيرِك، فأَعملتَ الفعلَ فى الاسم الأوّل لأنَّه ليس بالمُدْخَلِ عليه حرفُ الاستفهام، كما أنّك إذا قلت: عبدُ الله أَأَبوك هو أم أبو غيرِك، أو زيدٌ أبو مَنْ هو، فالعاملُ فى هذا الابتداءُ ثم استفهمتَ بعده.
ومما يُقَوَّى النصبَ قولك: قد عَلمتُه أبو مَنْ هو، وقد عَرفتُك أىُّ رجلٍ أنت. وتقول: قد دَرَيْتُ عبدَ الله أبو من هو، كما قلت ذلك فى علمتُ. ولم يؤخَذْ ذلك إلاّ من العرب. ومن ذلك: قد ظننتُ زيداً أبو من هو.
وإن شئت قلت: قد علمتُ زيدٌ أبو من هو، كما تقول ذاك فيما لا يَتعدّى إلى مفعولٍ، وذلك قولك: اذْهَبْ فانظرْ زيدٌ أبو من هو،(1/237)
ولا تقول: نظرتُ زيدا. واذْهَبْ فسَلْ زيدٌ أبو من هو، وإنَّما المعنى: اذهبْ فسَلْ عن زيدٍ، ولو قلت: اسأَلْ زيدا، على هذا الحدّ لم يجز.
ومثل ذلك: دَرَيْتُ فى أكثرِ كلامهم؛ لأنَّ أكثرهم يقول: ما دريتُ به، مثلَ: ما شعرتُ به.
ومثل ذلك: ليتَ شِعْرِى زيدٌ أَعندَك هو أم عند عمرو.
ولا بُدّ منْ هُوَ لأنَّ حرف الاستفهام لا يَستغنى بما قبله، إنما يَستغنى بما بعده، فإِنَّما جئت بالفعل قبل مبتدإٍ قد وُضِعَ الاستفهامُ فى موضع المبنىَّ عليه الذى يَرفعُه، فأدخلتَه عليه كما أدخلتَه على قولك: قد عرفتُ لَزَيْدٌ خيرٌ منك.
وإنَّما جاز هذا فيه مع الاستفهام لأنَّه فى المعنى مستفهَم عنه، كما جاز لك أن تقول: إن زيداً فيها وعمرو. ومثله: " أن الله بريء مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ". فابتدأ لأنَّ معنى الحديث حين قال: إن زيداً منطلق: زيد منطلق، ولكنّه أَكَّدَ بإِنّ، كما أَكَّدَ فأَظهرَ زيداً وأَضمره.
والرفعُ قولُ يونُسَ.
فإِن قلت: قد عرفتُ أبو من زيدٌ لم يجز إلاَّ الرفعُ، لأنك بدأتَ بما(1/238)
لا يكون إلاّ استفهاما وابتدأتَه ثم بنيتَ عليه، فهو بمنزلة قولك: قد علمتُ أَأَبوك زيدٌ أم أبو عمرو.
فإِن قلت: قد عرفتُ أَبَا مَن زيدٌ مَكْنِىٌّ، انتَصب على مَكْنِيّ، كأَنَّك قلت: أَبَا مَنْ زيدٌ مَكنىٌّ، ثم أدخلتَ عَرفتُ عليها. ومثله قولك: قد علمتُ أَأَباَ زيد تُكْنىّ أم أبا عمرو، ثم أدخلت عليه علمت كما أدخلته حين لم يكن ما بعده إلاَّ مبتدأْ، فلا يَنتصب إلاّ بهذا الفعل الآخِر، كما لم يكن فى الأوّل إلاّ مبتدأ.
وإذا قلت: قد عرفتُ زيداً أبو من هو، قلت: قد عرفتُ زيداً أبا من هو مَكنىٌّ. ومَن رفع زيد ثَمَّةَ رَفَعَ زيداً ها هنا. ونَصَبَ الآخِرَ كما نصبَه حين قال: قد عرفتُ أَبا مَنْ أنت مَكنىٌّ، وكأنه قال: زيد أبا من هو مكنى. ثم أَدخل الفعل عليه، وكأنّه قال: زيدٌ أَأَباَ بشرٍ يُكْنَى أم أبا عمرو ثم أَدخل الفعل عليه، وعَمِلَ الفعلُ الآخِرُ حين كان بعد ألف الاستفهام.
وتقول: قد عرفت زيدا أَبُو أَيَّهم يُكْنَى به، وعلمتُ بِشراً أَيُّهم يُكْنَى به، تَرفعه كما تَرفع أَيُّهم ضربتَه.
وتقول: أَرَأَيتَكَ زيداً أبو مَنْ هو، وأَرَأَيْتَكَ عمراً أَعندك هو أم عند فلان، لا يَحسن فيه إلاَّ النصبُ فى زيد. ألاَ ترى أنَّك لو قلت: أرأيتَ أبو من أنت، أو أرأيت أزيدٌ ثَمَّ أم فلانٌ، لم يَحسن، لأنّ فيه معنى أَخْبِرْنى عن زيد، وهو الفعل الذي لا يَسْتَغْنِى السكوتُ على مفعوله الأوّل، فدخولُ هذا المعنى فيه لم(1/239)
يَجعله بمنزلة أَخبْرنى فى الاستغناء، فعلى هذا أُجْرِىَ وصار الاستفهامُ فى موضع المفعول الثانى.
وتقول: قد عرفتُ أَىَّ يومٍ الجُمَعةُ، فَتنصب على أنَّه ظرفٌ، لا على عرفتُ. وإنْ لم تَجعله ظرفا رفعتَ.
وبعضُ العرب يقول: لقد علمتُ أىَّ حينٍ عُقْبَتى، وبعضهم يقول: لقد عملت أىُّ حين عُقْبَتِى. وأمّا قوله:
حتّى كأَنْ لم يكنْ إلاّ تَذَكُّرُهُ ... والدهرُ أَيَّتَمَا حالٍ دهارير(1/240)
فإِنَّما هو بمنزلة قولك: والدهرُ دَهاريرُ كلَّ حالٍ وكلَّ مرّة، أى فى كلّ حال وفى كلّ مرَّة، فانتَصب لأنه ظرف، كما تقول: القتالُ كلَّ مرّة، وكلَّ أحوالِ الدَّهر.
باب من الفعل سمى الفعل فيه بأسماء
لم تؤخَذْ من أَمثلة الفعل الحادث
وموضعُها من الكلام الأَمرُ والنَّهْىُ، فمنها ما يَتعدّى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما لا يَتعدّى المأمورَ، ومنها ما يَتعدَّى المَنهىَّ إلى منهي عنه، ومنها ما لا يَتعدَّى المَنهىَّ.
أَمّا ما يتَعدّى فقولك: رُوْيْدَ زيداً، فإنما هو اسم لقولك: أَرْوِدْ زيدا. ومنها هَلُمَّ زيدا، إنَّما تريد هاتِ زيدا. ومنها قول العرب: حَيَّهَلَ الثَّريدَ. وزعم أبو الخَطّاب أنَّ بعض العرب يقول: حَيَّهَلَ الصَّلاَة، فهذا اسمُ ائتِ الصلاةَ، أى ائتوا الثريدَ وأْتوا الصَّلاةَ.
ومنه قوله:
تَراكِها من إبلٍ تَراكِها(1/241)
فهذا اسم لقوله لهُ: اتُركْها. وقال:
مَناعِها من إبلٍ مَناعِها
وهذا اسم لقوله لهُ: امنعها.
وأما ما لا يَتعدّى المأمورَ ولا المَنهىَّ إلى مأمورٍ به ولا إلى منهىٍ عنه، فنحوُ قولك: مَهْ مَه، وصَهْ صه، وآهٍ وإيهٍ، وما أَشبه ذلك.
واعلم أنَّ هذه الحروف التى هى أَسماءٌ للفعل لا تَظهرُ فيها علامةُ المضمر، وذلك أنّها أََسماءٌ، وليست على الأَمثلة التى أُخِذَتْ من الفعل الحادث فيما مضى وفيما يُستقبل وفى يومِك، ولكنَّ المأمور والمنهىّ مضمرانِ في النية. وإنما كان من أصلُ هذا فى الأمر والنهى وكانا أَوْلَى به، لأنهما لا يكونانِ إلاّ بِفعل، فكان الموضعُ الذى لا يكون إلاَّ فعِلاً أَغلبَ عليه.
وهى أَسماءُ الفعل، وأُجريت مُجرى ما فيه الألفُ واللام، نحو: النَّجاءَ، لئلاّ يخالِفَ لفظُ ما بعدها لفظَ ما بعد الأمر والنهى. ولم تَصَرَّف تَصَرُّفَ(1/242)
المصادر، لأنَّها ليست بمصادرَ، وإنَّما سُمّى بها الأمرُ والنهى، فَعمِلَتْ عملَهما ولم تجاوِزْ، فهى تقوم مقام فِعْلِهما.
هذا باب متصرَّف رُوَيْد
تقول: رُوَيدَ زيدا، وإنَّما تريد أَرْوِدْ زيدا.
قال الهُذَلىّ:
رُوَيْدَ عَلِيَّا جُدَّ ما ثَدْىُ أُمَّهِمْ ... إلينا ولكنْ بُغْضُهُمْ مُتَمايِنُ
وسمعنا من العرب من يقول: واللهِ لو أردتَ الدَّراهمَ لأعطيتُك رُوَيْدَ ما الشّعْرَ. يريد: أَرْوِدِ الشعر، كقول القائل: لو أردتَ الدراهمَ لأَعطيتُك فدَع الشَّعَر.
فقد تَبَيَّنَ لك أنّ رُوَيْدَ فى موضع الفِعْلِ.
ويكونُ رُوَيْدَ أيضاً صفًة، كقولك: سارُوا سَيْراً رُوَيْداً. ويقولون(1/243)
أيضاً: ساروا رُوَيداً، فَيحذفون السَّيرَ ويجعلونه حالاً به وَصَفَ كلامَه، واجتزأ بما فى صدر حديثه من قول ساروا، عن ذكر السَّير.
ومن ذلك قول العرب: ضَعْهُ رُوَيداً، أى وَضعاً رُوَيْداً. ومن ذلك قولك للرجل تراه يُعالجِ شيئاً: رُوَيْداً، إنَّما تريد: عِلاجاً رُوَيْداً. فهذا على وجه الحال إلاَّ أَنْ يَظْهَرَ الموصوفُ فيكونَ على الحال وعلى غير الحال.
واعلم أن رُوَيْداً تَلحقها الكافُ وهى فى موضع افعل، وذلك كقولك: رويدك زيداً، ورويد كم زيدا. وهذه الكاف التى لحقت رويداً إنّما لحقت لتُبيَّنَ المخاطَبَ المخصوصَ، لأنّ رُوَيْدَ تقع للواحد والجميع، والذَّكر والأُنثى، فإِنَّما أَدخل الكافَ حين خاف الْتباسَ مَنْ يَعنى بمن لا يعنى، وإنَّما حذفَها فى الأوَّل استغناء بعلم المخاطبَ أنّه لا يَعنى غيرَه.
فلَحاقُ الكاف كقولك: يا فلانُ، للرَّجُل حتَّى يُقْبِلَ عليك. وتركُها كقولك للرجل: أنت تَفعلُ، إذا كان مُقْبِلا عليك بوجهه مُنْصِتاً لك. فتركتَ يا فلانُ حين قلت: أنت تَفعَلُ؛ استغناءً بإِقبالِه عليك. وقد تقول أيضاً: رُوَيْدَكَ، لمن لا يُخاف أن يَلتبسَ بسِواه، توكيداً، كما تقول للمقبِلِ عليك المُنْصِت لك: أنتَ تَفعلُ ذاك يا فلانُ، توكيداً. وذا بمنزلة قول العرب: هاءَ وهاءَك وهأْْ وهأْك، وبمنزلة قولك: حَيَّهَلَ وحيهلك، وكقولهم: النجاءك. فهذه الكاف لم تجيء علماً للمأمورين والمنبهين المضمَرينَ، ولو كانت عَلَماً للمضمَرينَ لكانت خطأُ، لأنّ المضمرينَ ها هنا فاعِلون، وعلامة المضمرينَ(1/244)
الفاعلينَ الواوُ كقولك: افْعَلُوا. وإنَّما جاءت هذه الكافُ توكيداً وتخصيصا، ولو كانت اسماً لكان النَّجاءَك مُحالا، لأنَّه لا يُضاف الاسمُ الذى فيه الألف واللام.
وينبغى لمن زعم أنَّهنّ أسماءٌ أَنْ يزعُمَ أنّ كافَ ذاك اسمٌ، فإِذا قال ذلك لم يكن له بدٌّ من أنْ يزعُمَ أنّها مجرورة أو منصوبة، فإن كانت منصوبةً انبغى له أن يقول: ذاك نفسَك زيدٌ، إذا أراد الكاف، وينبغى له أن يقول: إن كانت مجرورة ذاك نفسِك زيدٌ، وينبغى له أن يقول: إنّ تاءَ أنتَ اسمٌ؛ وإنَّما تاء أنتَ بمنزلة الكاف.
وممّا يدلّك على أنَّه ليس باسمٍ قولُ العرب: أَرَأَيْتَكَ فلاناً ما حالُه، فالتاءُ علامة المضمر المخاطَب المرفوع، ولو لم تُلحِق الكافَ كنتَ مستغنياً كاستغنائك حين كان المخاطَبُ مقبِلاً عليك عن قولك: يا زيدُ، ولحَاقُ الكاف كقولك: يا زيدُ، لمَنْ لو لم تَقُلْ له يا زيدُ استغنيتَ. فإِنَّما جاءت الكاف فى أَرأيتَ والندَّاءُ فى هذا الموضع توكيداً. وما يجيء فى الكلام توكيداً لو طُرِحَ كان مُسْتَغنى عنه، كثير.
وحدّثنا من لا نَتَهِمُ أنه سمع من العرب من يقول: رُوَيْدَ نفسِه، جعَله مصدراً كقوله: " فضرب الرقاب ". وكقوله:(1/245)
عَذِيرَ الحىَّ
ونظيرُ الكاف فى رُوَيْدَ فى المعنى لا في اللفظ لك التي تجيء بعد هَلُمَّ، فى قولك: هَلُمَّ لك، فالكاف ههنا اسمٌ مجرورٌ باللام، والمعنى فى التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التى فى رُوَيْدَ وأشباهها كأَنه قال: هَلُمَّ، ثم قال: إرادتى بهذا لك، فهو بمنزلة سَقياً لك. وإنْ شئت قلت: هَلُمَّ لى، بمنزلة هاتِ لى، وهَلُمَّ ذاك لك، بمنزلة أَدْنِ ذاك منك.
وتقول فيما يكون معطوفاً على الاسم المضمَرِ فى النّية وما يكون صفة له فى النّية، كما تقول فى المظَهر.
أَمّا المعطوف فكقولك: رُوَيْدَكُمْ أنتم وعبدُ الله، كأَنّك قلت: افعلوا أنتم وعبدُ الله، لأنَّ المضمر فى النيّة مرفوع، فهو يَجرى مجرى المضمر الذى يبيّن(1/246)
علامتُه فى الفعل. فإِن قلت: رُوَيْدَكم وعبدُ الله، فهو أيضاً رفعٌ وفيه قُبْحٌ، لأنَّك لو قلت: اذهبْ وعبدُ الله كان فيه قُبحٌ، فإِذا قلت: اذهبْ أنت وعبدُ الله، حسُنَ. ومثل ذلك فى القرآن: " فاَذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقٌَاتِلاَ "، و " اسكن أنت وزوجك الجنة ".
وتقول: رُوَيْدَكُمْ أنتم أَنْفُسُكم، فيحسنُ الكلام، كأَنك قلت: افعلوا أنتم أَنفسُكم. فإِن قلت: رويَدَكم أنفسُكم، رفعتَ وفيها قبحٌ، لأنَّ قولك: افعلوا أنفسُكم فيها قبحٌ، فإذا قلت: أنتم أنفسُكم حَسُنَ الكلام.
وتقول: رُوَيْدَكُمْ أجمعون، ورُوَيْدَكُمْ أنتم أَجمعونَ، كلٌّ حَسَنٌ لأنَّه يَحسن فى المضمر الذى له علامةٌ فى الفعل. ألا ترى أنك تقول: قُومُوا أَجمعونَ، وقوموا أنتم أجمعونَ.(1/247)
وكذلك: رُوَيْدَ إذا لم تُلْحِقْ فيها الكافَ، تجري هذا المجرى. وكذلك الحروف التي هي أسماءٌ للفعل جميعاً، تَجرى هذا المجرى، لحقتها الكافُ أو لم تَلحقها، إلاّ أنَّ هَلُمَّ إذا لحقتْها لك، فإِنْ شئت حملتَ أجمعين ونفسَك على الكاف المجرورة، فتقول: هَلُمَّ لكم أجمعين وهَلُمَّ لكم أنفسِكم. ولا يجوز أن تَعْطِفَ على الكاف المجرورة الاسمَ، لأنَّك لا تَعْطِفُ المُظْهَرَ على المضمر المجرور. ألا ترى أنّه يجوز لك أن تقول: هذا لك نفسِك ولكم أجمعين، ولا يجوز أن تقول: هذا لك وأَخيك. وإن شئت حملت المعطوف والصفة على المضمر المرفوع فى النيّة، فتقولُ: هَلُمَّ لك أنتَ وأَخوك، وهَلُمَّ لكم أجمعونَ. كأَنَّك قلت: تَعالَوْا أنتم أجمعون، وتَعالَ أنت وأخوك. فإِن لم تُلْحِقْ لك جرت مجرى رويد.
هذا باب من
الفِعلِ سُمّى الفعلُ فيه بأَسماءٍ مضافةٍ
ليستْ من أمثلة الفِعل الحادثِ، ولكنها بمنزلة الأسماء المفردة التى كانتْ للفعل، نحو رُوَيْدَ وحَيَّهَلَ، ومجراهنّ واحد وموضعَّهنّ من الكلام الأمرُ والنهىُ إذا كانت للمخاطب المأمور والمنهىّ.
وإنما استوت هي ورويد وما أشبه رويد كما استوى المفرد والمضاف إذا كانا اسمين، نحو عبد الله وزيد، مجراهما في العربية سواء.
ومنها ما يتعدى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما يتعدى المنهى إلى المنهى عنه، ومنها ما لا يتعدى المأمور ولا المنهى.(1/248)
فأما ما يَتعدّى المأمورَ إلى مأمورٍَ به فهو قولُك: عَلَيْكَ زيداً، ودُونَكَ زيداً، وعِنْدَكَ زيداً، تَأْمُرُه به. حدّثنا بذلك أبو الخطّاب.
وأمّا ما تَعدّى المنهىَّ إلى منهىّ عنه فقولك: حَذَرَك زيداً، وحَذارِكَ زيداً، سمعناهما من العرب.
وأما ما لا يَتعدّى المأمورَ ولا المنهىَّ فقولك: مكانَك وبَعدَك، إذا قلت: تأَخَّرْ أو حذَّرتَه شيئاً خَلفَه. كذلك عِنْدَكَ، إذا كنتَ تُحَذَّرُه من بين يديْه شيئاً أو تأمره أن يَتَقدّمَ. وكذلك فَرَطَك إذا كنت تحذره من بين يديه شيئا أو تأمره أن يَتقدّم. ومثلها أَمامك إذا كنت تحذَّره أو تُبصَّرهُ شيئاً. وإليك إذا قلت: تَنَحَّ. ووَراءَك إذا قلت: افطُنْ لما خلفك.
وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقال له: إلَيْكَ،(1/249)
فيقول: إِلىَّ. كأَنه قيل له: تَنَحَّ. فقال: أَتَنَحَّى. ولا يقال إذا قيل لأحدهم: دونك: دونى ولا علىَّ. هذا النحو إنّما سمعناه فى هذا الحرف وحدَه، وليس لها قوّةُ الفعل فتقاسَ.
واعلم أنَّ هذه الأسماءَ المضافة بمنزلة الأسماء المفرَدة فى العطف والصفاتِ، وفيما قَبُحَ فيها وحَسُنَ، لأنَّ الفاعل المأمور والفاعل المنهىّ فى هذا الباب مضمرانِ فى النيّة.
ولا يجوز أن تقول: رُوَيْدَهُ زيداً ودوُنَهُ عمراً وأنت تريد غيرَ المخاطَب، لأنَّه ليس بفعلٍ ولا يَتصرَّف تصرُّفَه. وحدَّثنى من سمعه أن يعضهم قال: عليه رجلاً لَيْسَنِى. وهذا قليلٌ شبّهوه بالفعل.
وقد يجوز أن تقول: عليكم أَنْفُسِكم، وأجمعينَ، فتحملَه على المضمر المجرور الذى ذكرتَه للمخاطب، كما حملتَه على لك حين ذكرتَها بعد هَلُمَّ، ولم تَحمل على المضمر الفاعلِ فى النيّة، فجاز ذلك.
ويدلّك على أنَّك إذا قلت: عَليْكَ فقد أَضمرت فاعلاً فى النيّة، وإِنَّما الكافُ للمخاطبة، قولُك: عَلَىَّ زيدا، وإنَّما أدخلتَ الياءَ على مِثْل قولك للمأمور: أَوْلِنِى زيداً. فلو قلت: أنت نفسُك لم يكن إلاّ رفعا، ولو قال: أنا نفسى لم يكن إلا جراً. ألا ترى أنَّ الياءَ والكاف إنما جاءتا لتَفصِلا بين المأمور والأمر فى المخاطبة. وإذِا قال: عليك زيداً فكأَنَّه قال له: ائْتِ(1/250)
زيدا. ألا ترى أنَّ للمأمور اسمينِ: اسماً للمخاطبة مجرورا، واسمَه الفاعلَ المضمر فى النيّة، كما كان له اسمٌ مضمَر فى النيّة حين قلت: علىَّ. فإِذا قلت: عليك فله اسمان: مجرورٌ ومرفوعٌ. ولا يَحسن أن تقول: عليك وأحيك، كما لا يحسن أنْ تقول: هَلُمَّ لك وأخيك.
وكذلك: حَذَرَكَ، يدلّك على أنّ حَذَرَكَ بمنزلة عليك، قولك: تحذيرى زيداً، إذا أردتَ حَذَّرْنى زيدا. فالمصدرُ وغيره فى هذا الباب سواءٌ.
ومن جعل رُوَيْداً مصدراً، قال: رُوَيْدَكَ نفسِك، إذا أراد أن يَحمل نفسَك على الكاف، كما قال: عليك نفسِك حين حَمَلَ الكلامَ على الكاف. وهى مثلُ: حَذَرَكَ سواءٌ، إذا جعلتَه مصدراً؛ لأنّ الحَذَرَ مصدرٌ وهو مضافٌ إلى الكاف. فإِن حملتَ نفسَك على الكاف جررتَ، وإِن حملتَه على المضمر فى النيّة رفعتَ. وكذلك: رُوَيْدَكُمْ، إِذا أردت الكاف تقول: رُوَيْدَكُم أَجمعينَ.
وأَمّا قولُ العرب: رُوَيْدَكَ نفسَك، فإِنَّهم يَجعلون النفسَ بمنزلة عبد الله إذا أمرت به، كأَنَّك قلت: رُوَيْدَكَ عبدَ الله، إذا أردت: أَرْوِدْ عبدَ الله.
وأَمّا حيهلك وهاءَكَ وأخَواتُها، فليس فيها إلاّ ما ذكرنا، لأنهن لم(1/251)
يُجْعَلْنَ مَصادرَ.
واعلمْ أنَّ ناسا من العرب يَجعلون هَلُم بمنزلة الأمثلة التى أُخِذَتْ من الفعل، يقولون: هلمَّ وهَلُمَّى وهَلُمَّا وهَلُمُّوا.
واعلم أنَّك لا تقول: دُونى، كما قلت: عَلَىَّ، لأنه ليس كل فعل يجيء بمنزلة أَوْلِنى قد تَعدّى إلى مفعولينِ، فإِنَّما عَلَىّ بمنزلة أَوْلِنى، ودُونَكَ بمنزلة خُذْ. لا تقول: آخِذْنِى درهماً ولا خُذْنِى درهماً.
واعلمْ أنَّه لا يجوز لك أن تقول: علَيهِ زيدا، تريد به الأمرَ، كما أردت ذلك فى الفعل حين قلت: لِيَضربْ زيداً، لأنّ علَيهِ ليس من الفعل، وكذلك حَذَرَهُ زيداً قبيحةٌ، لأنَّها ليست من أمثلة الفعل. فإِنَّما جاء تَحذيرى زيداً لأنَّ المصدر يتَصرّف مع الفعل، فيصيرُ حَذَرَك فى موضع احْذَرْ، وتَحذيرى فى موضع حَذَّرنى؛ فالمصدرُ أبداً فى موضعِ فِعْلِه. ودُونَك لم يؤْخَذ من فعلٍ، ولا عندك يُنتَهَى فيها حيث انتهتِ العربُ.
واعلم أنَّه يَقبح: زيداً عَلَيْكَ، وزيداً حَذَرَكَ، لأنّه ليس من أمثلة الفعل، فقَبُحَ أن يَجرى ما ليس من الأمثلة مجراها، إلاّ أنْ تقول: زيداً،(1/252)
فتنصبَ بإِضمارك الفعلَ ثم تَذكُر عليك بعد ذلك، فليس يَقْوَى هذا قوّةَ الفعل، لأنَّه ليس بِفعل، ولا يتَصرف تصرّفَ الفاعل الذى فى معنى يَفْعَلُ.
هذا باب
ما جرى من الأمر والنهى على إضمار الفِعل
المستعمَلِ إظهارُه إذا عَلِمْت أنّ الرجل مُسْتَغْن عن لَفْظِكَ بالفِعل
وذلك قولك: زيداً، وعمراً، ورأسَه. وذلك أنَّك رأيت رجلا يَضْرِبُ أو يَشْتِمُ أو يَقتل، فاكتفيتَ بما هو فيه من عمله أن تَلفظَ له بعمله فقلت: زيداً، أى أَوْقِعْ عملَك بزيدٍ. أو رأيتَ رجلاً يقول: أَضْرِبُ شَّر الناسِ، فقلتَ: زيداً. أو رأيتَ رجلا يحدَّثُ حديثا فقَطَعَهُ فقلتَ: حديثَك. أو قَدِمَ رجلٌ من سفرٍ فقلت: حديثَك. استغنيتَ عن الفعل بعلمه أنّه مستخبرٌ، فعلى هذا يجوز هذا وما أَشبهه.
وأَمَّا النَّهْى فإِنَّه التحذيرُ، كقولك: الأَسَدَ الأَسَدَ، والجِدارَ الجِدارَ، والصبىَّ الصبىَّ، وإنّما نهيتَه أن يَقرَبَ الجِدارَ المَخوفَ المائِلَ، أو يَقربَ الأَسدَ، أو يوطئ الصبىَّ. وإن شاء أَظْهَرَ فى هذه(1/253)
الأشياء ما أَضْمر من الفعل، فقال: اضربْ زيدا، واشتمْ عمرا، ولا توطِئ الصبىَّ، واحذَر الجدار، ولا تَقرب الأسدَ. ومنه أيضاً قوله: الطريق الطريقَ، إنْ شاء قال: خَلَّ الطريقَ، أو تَنَحَّ عن الطريق. قال جرير:
خَلَّ الطريقَ لمن يَبْنِى المَنارَ به ... وابرُزْ بِبَرْزَةَ حيث اضطَرَّكَ القَدَرُ
ولا يجوز أن تُضْمِرَ تَنَحَّ عن الطريق، لأنّ الجارّ لا يُضْمَرُ، وذلك أنَّ المجرورَ داخلٌ فى الجارّ غيرُ مُنفَصِلٍ، فصار كأنه شيء من الاسم لأنه مُعْاقِبٌ للتنوين، ولكنَّك إن أضمرتَ أضمرتَ ما هو فى معناه ممّا يَصِلُ بغير حرفِ إضافةٍ، كما فعلتَ فيما مضى.
واعلم أنّه لا يجوز أن تقول: زيدٌ، وأنت تريدُ أن تقول: لِيُضْرَبْ زيدٌ، أو لِيَضْرِبْ زيدٌ إذا كان فاعلا، ولا زيداً، وأنت تريد ليَضرب عمرو زيداً. ولا يجوز: زيدٌ عمرا، إذا كنتَ لا تُخاطِبُ زيداً، إذا أردتَ لِيَضْرِب زيدٌ عمراً وأنت تخاطِبُنى، فإِنَّما تريد أَنْ أُبْلِغَه أنا عنك أنك قد أمرته أن يضرب عمراً، وزيدٌ وعمروٌ غائبانِ، فلا يكون أن تُضْمِرَ فِعْلَ الغائبِ. وكذلك لا يجوز زيدا، وأنت تريد أن أُبْلِغَه أنا عنك أن يَضْرِبَ زيداً؛ لأنك إذا أضمرتَ فعل الغائب(1/254)
ظنَّ السامعُ الشاهدُ إذا قلت: زيداً أنك تأْمُرُه هو بزيد، فكرهوا الالتباس هنا ككراهيتهم فيما لم يؤخذْ من الفعل نحوُ قولك: عَليكَ، أن يقولوا عليه زيداً، لئلاَّ يشبَّهَ ما لم يؤخَذْ من أمثلة الفعل بالفعل. وكرهوا هذا فى الالتباس وضَعُفَ حيث لم يُخاطبِ المأمورَ، كما كُرِهَ وضَعُفَ أن يشبَّهَ عَلَيْكَ ورُوَيْدَ بالفعل.
وهذه حُجَجٌ سُمِعَتْ من العرب وممّن يوثق به، يَزْعُمُ أنه سَمِعَها من العرب. من ذلك قولُ العرب فى مَثَلٍ من أمثالهم: " اللَّهُمَّ ضَبُعاً وذِئباً " إذا كان يدعو بذلك على غم رجُل. وإذا سألتَهم ما يَعْنُون قالوا: اللهُمَّ اجْمَعْ أو اجعلْ فيها ضَبُعاً وذئبا. وكلُّهم يفسَّرُ ما يَنْوِى. وإنَّما سَهُلَ تفسيرُه عندهم لأنَّ المضمَر قد استُعمل فى هذا الموضعِ عندهم بإِظهارٍ.
حدّثنا أبو الخطّاب أنَّه سمع بعض العرب وقيل له: لِمَ أَفسدتم مكانَكم هذا؟ فقال: الصبيان بأَبى. كأَنَّه حَذِرَ أن يُلامَ فقال: لُمِ الصبيانَ.
وحدَّثنا من يوثَق به أن بعض العرب قيل له: أَمَا بمكانِ كذا وكذا(1/255)
وجد؟ وهو موضعٌ يُمسِكُ الماءَ. فقال: بَلَى، وِجَاذاً. أى فأَعْرِفُ بها وجاذا. ومن ذلك قول الشاعر، وهو المسكين:
أخاك أَخاكَ إنّ مَنْ لا أخَا له ... كسَاعٍ إلى الهَيْجَا بغَيْرِ سِلاح
كأَنّه يريد: الزَمْ أخاك.
ومن ذلك قولُك: زيداً وعمرا، كأَنّك تريد: اضربّ زيداً وعمرا، كما قلتَ: زيداً وعمرا رأيتُ.
ومنه قول العرب: " أَمرَ مُبْكِياتِك لا أمر مضحكاتك "، و " الظباء على الْبَقَر ". يقول: عليك أَمْرَ مبكياتِك، وخَلَّ الظَّباءَ على البَقَرِ.(1/256)
هذا باب
ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره
فى غير الأمر والنهى
وذلك قولك، إذا رأيتَ رجلاً متوجَّها وِجْهَةَ الحاجّ، قاصدا في هيئة الحاجّ، فقلت: مَكّةَ ورَبَّ الكعبة. حيث زَكِنتَ أنَّه يريد مكّةَ، كانَّك قلت: يريد مكّةَ واللهِ.
ويجوز أن تقول: مكّةَ واللهِ، على قولك: أَرادَ مكّةَ واللهِ، كأَنّك أخبرتَ بهذه الصفِّة عنه أنّه كان فيها أمسِ، فقلتَ: مكة والله، أي أراد مكة إذ ذاك.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: " بل ملة إبراهيم حنيفا "، أى بل نَتَّبعُ ملّةَ إبراهيم حنيفا، كأَنه قيل لهم: اتَّبِعوا، حين قِيل لهم: " كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى ".
أو رأيتَ رجلاً يسدَّدُ سَهْماً قِبَلَ القِرطاسِ فقلتَ: القِرطاسَ واللهِ، أى يُصيبُ القِرطاسَ. وإذا سمعتَ وَقْعَ السَّهم فى القرطاس قلت: القرطاسَ واللهِ، أى أَصاب القرطاسَ.
ولو رأيت ناساً يَنظرون الهِلالَ وأنت منهم بَعيدٌ فكبَّروا لقلتَ: الهلالَ وربَّ الكعبةِ، أى أَبَصروا الهلالَ. أو رأيتَ ضَرْباً فقلت على وجهِ التَّفَاؤُلِ: عبدَ الله، أى يَقَعُ بعبدِ الله أو بعبدِ الله يكونُ.
ومثل ذلك أن ترىرجلاً يريد أن يوقِعَ فِعْلا، أو رأيتَه فى حالِ رجلٍ قد أَوْقَعَ فعلا، أو أُخبرتَ عنه بفعلٍ، فتقول: زيداً. تريد: اضربْ زيداً، أو أَتَضربُ زيداً.(1/257)
ومنه أن ترى الرجل أن تُخبَرَ عنه أنّه قد أَتى أمراً قد فَعَله فتقول: أَكلَّ هذا بُخلاً، أى أَتَفْعَلُ كلَّ هذا بُخْلاً. وإنْ شئت رفعتَه فلم تحمله على الفعل، ولكنّك تجعله مبتدأً.
وإنما أضمرت الفعل ها هنا وأنت مخاطب لأنَّ المخاطَب المُخبَرَ لستَ تجعلُ له فعلا آخَرَ يعمل فى المُخْبَرِ عنه. وأنت فى الأمر للغائب قد جعلتَ له فعلا آخَرَ يعمل، كأَنّك قلت: قُلْ له لِيَضربْ زيداً، أو قل له: اضربْ زيداً، أو مُرْهُ أن يَضْرِبَ زيداً، فضَعُفَ عندهم مع ما يَدخل من اللَّبس فى أمرٍ واحدٍ أَنْ يُضْمَرَ فيه فِعْلانِ لشيئينِ.
هذا باب
ما يُضْمَرُ فيه الفعلُ المستعمَل إظهارُه بعد حرفٍ
وذلك قولك: " الناسُ مَجزيُّونَ بأَعمالهم إنْ خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌ "، و " المرء مقتولٌ بما قَتَلَ به إنْ خِنْجَراً فخنجرٌ وإن سيفاً فسيفٌ ".
وإن شئتَ أَظهرتَ الفعلَ فقلت: إن كان خِنجَرا فخنجرٌ وإن كان شرّا فشرٌ. ومن العرب من يقول: إنْ خِنجرا فخِنْجَراً، وإنْ خيرا فخيراً وإن شرّا فشرّا، كأَنه قال: إن كان الذى عَمل خَيرا جُزىَ خيرا، وإن كان شرّا جزىَ شرًّا. وإنْ كان الذى قَتَلَ به خنجرا كانَ الذى يُقْتلُ به خنجرا.
والرفعُ أكثرُ وأحسن فى الآخِر؛ لأنَّك إذا أدخلتَ الفاء فى جواب الجزاء استأنفتَ ما بعدها وحَسَنَ أن تقع بعدها الأسماءُ.(1/258)
وإنّما أجازوا النصبَ حيث كان النصبُ فيما هو جوابُه، لأنه يُجْزَمُ كما يُجْزَمُ، ولأنَّه لا يَستقيم واحدٌ منهما إلاّ بالآخَر، فشبّهوا الجواب بخبر الابتداء وإن لم يكن مثلَه فى كلّ حالةٍ، كما يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله ولا قريباً منه. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى، وسنذكره أيضاً إن شاء الله.
وإذا أضمرتَ فأن تُضْمِرَ الناصبَ أحسَنُ، لأنك إذا أضمرتَ الرافع أضمرتَ لهُ أيضاً خبراً، أو شيئاً يكون فى موضع خبره. فكلَّما كَثُرَ الإِضمارُ كان أضعفَ.
وإنْ أضمرتَ الرافع كما أضمرتَ الناصبَ فهو عربىٌّ حسن، وذلك قولك: إن خيرٌ فخيرٌ، وإنْ خِنْجرٌ فخِنجَر، كأَنه قال: إنْ كان معه خنجر حيث قَتَلَ فالذى يُقْتَلُ به خِنجرٌ، وإن كان فى أعمالِهم خيرٌ فالذى يُجْزَوْنَ به خيرٌ. ويجوز أن تجعل إنْ كان خيرٌ على: إنْ وَقَعَ خيرٌ، كأَنه قال: إن كان خيرٌ فالذى يُجْزَوْنَ به خيرٌ.
وزعَم يونسُ أنَّ العرب تُنْشِدُ هذا البيتَ لهُدْبَةَ بن خَشْرَمٍ:
فإِنْ تَكُ فى أموالِنا لا نَضِق بها ... ذراعاً، وإن صبر فنصبر لصبر(1/259)
والنصبُ فيه جيّدٌ بالغٌ على التفسير الأوّلِ، والرفعُ على قوله: وإن وقع صَبْرٌ أو إن كان فينا صبرٌ فإنّا نَصبرُ. وأمّا قول الشاعر، لنُعمانَ بنِ المُنْذِر:
قد قيل ذلك إنْ حَقَّا وإنْ كَذِباً ... فما اعتذارُك من شيءٍ إذا قبلا
فالنصبُ فيه على التفسير الأوّلِ، والرفعُ يجوز على قوله إنْ كان فيه حقٌّ وإن كان فيه باطِلٌ، كما جاز ذلك فى: إن كان في أَعمالهم خيرٌ. ويجوز أيضاً على قوله: إنْ وقع حقٌّ وإن وقع كذبٌ.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: " وَإنْ كَانَ ذُو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ ". ومثل ذلك قولُ العرب فى مَثَلٍ مِن أمثالهم: " إن لا حظية(1/260)
فلا إليهٌَّ " أى إن لا تكن له فى الناس حظية فإني غير أليةٍ، كأنها قالت في المعنى: إن كنت ممن لا يحظى عنده فإِنى غيرُ أَلِيَّةٍ. ولو عنتْ بالحظيّة نفسَها لم يكنْ إلاّ نصبا إذا جعلتَ الحظّيةَ على التفسير الأوّل.
ومثلُ ذلك: قد مررتُ برجلٍ إن طويلاً وإنْ قَصيرا، وامرر بِأيُّهم أَفْضَلُ إنْ زيداً وإنْ عمراً، وقد مررتُ برجل قبلُ إن زيداً وإنْ عمراً لا يكون فى هذا إلاّ النصبُ، لأنَّه لا يجوز أن تحملَ الطويلَ والقصيرَ على غير الأوّل، ولا زيداً ولا عمراً. وأمّا إنْ حقٌّ وإنْ كَذِبٌ فقد تستطيع أن لا تَحملَه على الأوّل، فتقولَ: إنْ كان فيه حقٌّ أو كان فيه كَذِبٌ، أو إنْ وَقَعَ حقٌّ أو باطلٌ. ولا يستقيم فى ذا أن تريد غيرَ الأوّل إذا ذكرتَه، ولا تستطيعُ أن تقولَ: إنْ كان فيه طويلٌ أو كان فيه زيدٌ، ولا يجوز على إن وقع.
وقال ليلى الأَخْيَلِيّةُ:
لا تَقَرَبَنَّ الدَّهْرَ آل مطرفٍ ... إنْ ظالماً أَبَداً وإنْ مظلومَا(1/261)
وقال ابن همّامٍ السَّلولىّ:
وأحضرتُ عُذْرِى، عليه السهو ... د، إن عاذِراً لى وإن تارِكا
فنَصبَهَ لأنَّه عنى الأميرَ المخاطَبَ. ولو قال: إِنْ عاذرٌ لى وإنْ تاركٌ، يريد: إِنْ كان لى فى الناس عاذرٌ أو غيرُ عاذرٍ، جاز.
وقال النابغة الذُّبيانى:
حَدِبَتْ علىّ بُطونُ ضِنَّةَ كلُّها ... إِنْ ظالماً فيهمْ وإِنْ مظلومَا
ومن ذلك أيضاً قولك: مررتُ برجل صالحٍ، وإن لا صالحاً فطالحٌ. ومن العرب من يقول: إِن لا صالحاً فطالحاً، كأَنه يقول: إن لا يكنْ صالحاً فقد مررتُ به أو لقيتُه طالحاُ.
وزعم يونسُ أنّ من العرب من يقول: إن لا صالحٍ فطالحٍ، على: إن لا أكنْ مررتُ بصالحٍ فبطالحٍ وهذا قبيح ضعيف، لأنّك تُضمِر بعد إن لا فعلا آخَرَ فيه حذف غيرَ الذى تضمِر بعد إن لا فى قولك: إن لا يكن(1/262)
صالحاً فطالحٌ. ولا يجوز أن يضمَر الجارُّ، ولكنّهم لمّا ذكروه فى أوّلِ كلامهم شبّهوه بغيره من الفعل. وكان هذا عندهم أَقْوَى إِذا أُضمرتْ رُبَّ ونحوُها فى قولهم:
وبلدةٍ ليس بها أَنيسُ
ومن ثَمَّ قال يونسُ: امرر على أيهم أفضل إن زيداً وإنْ عمروٍ. يعنى: إِنْ مررتَ بزيد أو مررت بعمرو.
واعلم أنه لا ينتصب شيء بعد إنْ ولا يَرتَفِعُ إلاَّ بفعلٍ؛ لأن إنْ من الحروف التى يُبْنَى عليها الفعلُ، وهى إن المجازاةِ، وليست من الحروف التى يُبْتَدَأُ بعدها الأسماء ليُبْنَى عليها الأسماءُ. فإِنّما أراد بقوله: إن زيد وإن عمرو، إن مررت بزيد أو مررت بعمرو، فجرى الكلامُ على فعلٍ آخَرَ، وانجرَّ الاسمُ بالباء لأنَّه لا يَصِلُ إليه الفعلُ إلاَّ بالباءِ، كما أنّه حِين نَصَبَه كان مَحْمُولا على كان أخر لا على الفعل الأوّل. ومَنْ رَأَى الجرَّ فى هذا قال: مررتُ برجلٍ(1/263)
إن زيد وإن عمرو، يريد: إنْ كنتُ مررتُ بزيدٍ أو كنتُ مررتُ بعمرو.
ولو قلتَ: عندَنا أيُّهم أَفْضَلُ أو عندَنا رجل، ثم قلتَ: إنْ زيداً وإن عمراً، كان نصبهُ على كان، وإن رفعتَه رفعتَه على كان، كأَنّك قلت: إنْ كان عندنا زيدٌ أو كان عندنا عمروٌ. ولا يكونُ رفعُه على عندَنا، من قِبَلِ أنّ عندنا ليس بفعلٍ، ولا يجوز بعد إن عندنا أن تبنى الأسماء على الأسماء، ولا الأسماء تبنى على عندنا، كما لم يجزُ لك أن تَبْنى بَعْدَ إن الأسماءَ على الأسماءِ.
واعلم أنّه لا يجوز لك أن تقول: عَبْدَ الله المقتولَ، وأنت تريد: كنْ عبدَ الله المقتولَ، لأنه ليس فعلاً يصل من شيء إلى شيء، ولأنّك لستَ تشير له إلى أحدٍ.
ومن ذلك قول العرب:
من بد شَوْلاً فإِلى إتْلائها(1/264)
نَصَبَ لأنَّه أراد زمانا. والشَّوْلُ لا يكون زماناً ولا مكاناً فيجوز فيها وكقولك: مِنْ لَدُ صلاةِ العصر إلى وقتِ كذا، وكقولك: من لد حائط إلى مكانِ كذا، فلمَّا أراد الزمانَ حَمَلَ الشول على شيء يَحسُن أن يكون زماناً إذا عَمِلَ فى الشَّوْل، ولم يَحسنْ إلاَّ ذا كما لم يَحسن ابتداءُ الأسماءِ بعد إِنْ حَتّى أضمرتَ ما يَحسن أن يكون بعدها عاملا فى الأسماء. فكذلك هذا، كأَنك قلت: من لَدُ أَنْ كانتْ شَوْلاً فإِلى إتلائها.
وقد جرَّه قومٌ على سَعة الكلام وجعلوه بمنزلة المصدر حين جعلوه على الحين، وإنَّما يريد حينَ كذا وكذا، وإن لم يكن فى قوّة المصادر لأنه لا يتصرّفُ تصرّفَها.
واعلم أنَّه ليس كلُّ حرف يَظْهَرُ بعده الفعلُ يُحْذفُ فيه الفعلُ، ولكنّك تُضمِر بعد ما أَضمرتْ فيه العربُ من الحروف والمَواضِعِ، وتُظهِرُ ما أظهروا،(1/265)
وتُجْرِى هذه الأشياءَ التى هى على ما يَستخفون بمنزلة ما يَحذفون من نفس الكلام ومما هو في الكلام على ما أَجرَوْا، فليس كل حرفٍ يحذف منه شيء ويُثْبَتُ فيه، نحوُ: يَكُ ويَكُنْ، ولم أُبَلْ وأُبالِ، لم يَحملهم ذاك على أن يَفعلوه بِمثله، ولا يحملهم إذا كانوا يُثْبِتون فيقولون: في مر أومر، أن يقولوا: فى خُذْ أُوخُذْ، وفى كُلْ أوكل.
فقف على هذه الأشياء حيث وقَفوا ثم فسَّرْ.
وأمّا قول الشَّاعر:
لَقد كَذَبَتكَ نفسُك فاكذبَنْها ... فإِنْ جَزَعاً وإنْ إِجْمالَ صَبْرِ
فهذا على إما، وليس على إنِ الجزاءِ، كقولك: إنْ حقّا وإنْ كِذبا.(1/266)
فهذا على إمّا محمولٌ. ألا ترى أنَّك تُدْخِلُ الفاءَ، ولو كانتْ على إنِ الجزاءِ، وقد استَقبلتَ الكلام، لاحتجتَ إلى الجواب. فليس قولُه: فإِنْ جزعاً كقوله: إن حقّا وإن كذبا، ولكنّه على قوله تعالى: " فإما منا بعد وإما فداء ".
ولو قلت: فإِنْ جزعٌ وإن إِجمالُ صَبرِ، كان جائزا، كأَنك قلت: فإِمّا أَمْرِى جزعٌ وإمّا إِجمالُ صبرٍ، لأنَّك لو صحّحتَها فقلتَ: إمّا جاز ذلك فيها. ولا يجوز طَرْحُ ما مِنْ إمّا إلاَّ فى الشعر. قال النَّمِرُ بن تَوْلَبٍ:
سَقَتْه الرَّواعِدُ مِنْ صيفٍ ... وإنْ مِنْ خريفٍ فَلنْ يَعدَما
وإنَّما يريد: وإمَّا من خريفٍ. ومَنْ أجز ذلك فى الكلام دَخَلَ عليه(1/267)
أن يقول: مررت برجل إن صالحٍ أن طالحٍ، يريد إمَّا. وإن أراد إِنِ الجزاءِ فهو جائزٌ، لأنه يضمر فيها الفعل، وإما يجري ما بعدها ههنا على الابتداء وعلى الكلام الأوّل، ألا ترى أنَّك تقول: قد كان ذلك صلاحا أو فسادا. ولو قلت: قد كان ذلك إنْ صلاحا وإنْ فسادا كان النصبُ على كَانَ أُخْرَى، ويجوز الرفعُ على ما ذكرنا.
ومما ينَتصب على إضمار الفِعل المستْعَمِل إظهارُه، قولك: هَلاَّ خيراً من ذلك، وأَلا خيراً من ذلك، أو غيرَ ذلك. كأَنك قلت: أَلا تَفعلُ خيراً من ذلك، أو أَلا تَفعلُ غيرَ ذلك، وهلا تأتي خيراً من ذلك. ورِّبما عَرَضتَ هذا على نفسك فكنتَ فيه كالمخاطب، كقولك: هَلاَّ أًفْعَلُ، وأَلاَّ أَفعلُ.
وإن شئتَ رفعتَه؛ فقد سمعنا رَفْعَ بعضِه من العرب، وممن سمعه من العرب. فجاز إضمارُ ما يَرْفَعُ كما جاز إضمارُ ما يَنْصِبُ.
ومن ذلك قولك: أوَ فَرَقاَ خَيْراً من حبٍ، أى أوَ أَفْرَقُك فَرَقاً(1/268)
خيراً من حبٍ. وإنما حَمَله على الفِعل لأنّه سُئل عن فعلِه فأجابه على الفعل الذي هو عليه. ولو رفع جاز، كأنه قال: أوَ أًمْرِى فَرَقٌ خيرٌ من حُبّ.
وإنما انتَصب هذا النحوُ على أنَّه يكون الرجل في فعل فيريد أن ينقله أو ينتقِل هو إلى فِعْلِ آخَرَ. فمن ثَمّ نَصَبَ أوَ فَرَقاً؛ لأنه أجابَ على أفَرَقكَ وتَرَكَ الحُبَّ.
ومما يَنتصب على إضمار الفِعل المستعمَلِ إظهارُه قولك: أَلاَ طَعامَ ولو تَمْراً، كأَنك قلت: ولو كان تَمْراً، وأْتِنى بدابّة ولو حِماراً. وإن شئت قلت: أَلاَ طَعامَ ولو تمرٌ، كأَنّك قلت: ولو يكون عندنا تمرٌ، ولو سقط إلينا تمرٌ.
وأحسنُ ما يُضْمَرُ منه أحسنُه فى الإِظهار. ولو قلت: ولو حمارٍ، فجررت كان بمنزلة فى إنْ. ومثلُه قول بعضهم إذا قلتَ: جئتُك بدرهمٍ: فهَلاَّ دينارٍ. وهو بمنزلة إنْ فى هذا الموضع يُبْنَى عليها الأَفعالُ والرفع قبيح فى: فَهلاَّ دينارٌ، وفى: ولو حِمارٌ؛ لأنَّك لو لم تحمله على إضمارِ يكون ففِعلُ المخاطب أولى به. والرفعُ فى هذا وفى: ولو حمارٌ، بعيد، كأََنه يقول: ولو يكون مما يأتينى به حمارٌ.
ولو بمنزلة إنْ، لا يكون بعدها إلاّ الأَفعالُ؛ فإِن سقط بعدها اسمٌ ففيه فِعلٌ مضمَرٌ فى هذا الموضع تُبْنَى عليه الأَسماءُ. فلو قلت: أَلاَ ماءَ ولو بارداً،(1/269)
لم يحسن إلاَّ النصبُ، لأنّ بارداً صفةٌ. ولو قلت: ائتِنى بباردٍ كان قبيحا، ولو قلت: ائتِنى بتمرٍ كان حسنا، ألا ترى كيف قَبُحَ أن يَضَعَ الصَّفةَ موضعَ الاسم.
ومن ذلك قولُ العرب: ادْفَع الشرَّ ولو إصْبَعاً، كأَنه قال: ولو دفعتَه إصبعاً، ولو كان إصبعا. ولا يحسن أن تحملَه على ما يَرْفَعُ لأنكّ إن لم تَحمله على إضمارِ يكون ففعلُ المخاطب المذكور أولى وأقرب، فالرفعُ فى هذا وفى ائتنى بدابّة ولو حمار، بعيد، كأنه يقول: ولو يكون مما تأتينى به حمارٌ، ولو يكون مما تَدفع به إصبعٌ.
ومما يَنتصب على إضمار الفعل المستعمَل إظهارُه، أن ترى الرجلَ قد قَدِمَ من سفرٍ فتقولَ: خَيْرَ مَقْدَمٍ. أو يقولَ الرجلُ: رأيتُ فيما يرى النائمُ كذا وكذا، فتقول: خيراً وما شر، وخيراً لنا وشرًّا لعدوّنا. وإن شئت قلت: خيرُ مَقْدَمٍ، وخيرٌ لنا وشرٌّ لعدوّنا.
أمّا النَّصبُ فكأَنَّه بناه على قوله قَدِمْتُ، فقال: قَدِمْتَ خيرَ مَقْدَمٍ، وإن لم يُسَمَعْ منه هذا اللفظُ، فإنَّ قدومَه ورؤيتَه إيّاه بمنزلة قوله: قدمتُ. وكذلك إن قيل: قَدِم فلانٌ، وكذلك إذا قال: رأيتُ فيما يرى النائم كذا وكذا، فتقول: خيراً لنا وشرّا لعدوّنا. فإِذا نصبَ فعلى الفعل.
وأمّا الرفع فعلى أنه مبتدأ أو مبنيٌ على مبتدأ ولم يرد أن يحمله(1/270)
على الفعل، ولكنَّهُ قال: هذا خيرُ مَقْدَمٍ، وهذا خيرٌ لنا وشرٌّ لعدوّنا، وهذا خيرٌ وما سَرَّ. ومن ثَمّ قالُوا: مصاحَبٌ مُعانٌ، ومبرورٌ مأجورٌ، كأنه قال: أنت مصاحَبٌ، وأنت مبرور.
فإِذا رفعتَ هذه الأشياءَ فالذى فى نفسك ما أظهرتَ، وإذا نصبت فالذى فى نفسك غيرُ ما أظهرتَ، وهو الفعل والذى أظهرت الاسمُ.
وأما قولهم: راشداً مهدياّ، فإِنهم أضمروا اذْهَبْ راشدا مهديّا. وإن شئتَ رفعتَ كما رفعت مصاحَبٌ مُعانٌ، ولكنه كَثُرَ النصبُ فى كلامهم، لأنَّ راشدا مهديّا بمنزلة ما صار بدلاً من اللفظ بالفعل، كأَنه لَفَظَ برشدت وهديت. وسترى بيان ذلك إن شاء الله. ومثله: هنيئاً مَرِيئاً.
وإن شئت نصبت فقلت: مبروراً مأجورا، ومصاحَبا مُعانا. حدّثنا بذلك عن العرب عيسى ويونس وغيرُهما، كأَنَّه قال: رجعتَ مبروراً، واذهبْ مصاحَبا.
ومما يَنتصب أيضاً على إضمار الفعل المستعمَل إظهارُه، قول العرب: حَدَّث فلانٌ بكذا وكذا، فتقولُ: صادقاً والله. أو أَنشدك شِعرا فتقول: صادقا والله، أى قالَه صادقا. لأنَّك إذا أَنشدك فكأَنَّه قد قال كذا.(1/271)
ومن ذلك أيضاً أن ترى رجلاً قد أوْقَعَ أمراً أو تعرَّض لِه فتقول: متعرَّضاً لعنن لم تعنه، أى دنا من هذا الأمر متعرَّضاً لعَنَن لم يَعنِه. وتَرَكَ ذكرَ الفعل لما يَرى من الحال.
ومثله: بَيْعَ المَلَطَى لا عهدَ ولا عقَدَ، وذلك إنْ كنتَ فى حال مساومةٍ وحالِ بيعٍ، فتَدَعُ أُبايِعُك استغناءً لما فيه من الحال. ومثله:
مَواعيدَ عرقوبٍ أخاه بَيثْرِبِ
كأَنه قال: واعَدْتَنى مَواعيدَ عرقوبٍ أخاه، ولكنه ترك واعدتَنى استغناءً بما هو فيه من ذكر الخُلْفِ، واكتفاءً بعلم من يعنى بما كان بينهما قبل ذلك.(1/272)
ومن العرب من يقول: مُتَعَرَّضٌ، ومنهم من يقول: صادقٌ واللهِ. وكلٌّ عربىٌّ.
ومثله: غَضَبَ الخيلِ على اللُّجُم، كأَنه قال: غضِبتَ، أو رآه غَضبانَ فقال: غَضَبَ الخيلِ، فكأَنَّه بمنزلة قوله: غَضِبتَ غضبَ الخيلِ على اللَّجم. ومن العرب من يَرفع فيقول: غَضَبُ الخيل على اللُّجم، فرفعَه كما رفع بعضُهم: الظَّباءُ على البقر.
ومثله أن تسمع الرجل ذكر رجلاً فتقول: أَهلَ ذاك وأهلهَ، أى ذكرتَ أهلَه، لأنك فى ذكره، تحمله على المعنى. وإن شاء رَفَعَ على هو. ونصبُه وتفسيرُه تفسيرُ خَيْرَ مَقْدَمٍ.
هذا باب
ما يَنْتصب على إضمار الفعل المتروك إظهارُه
استغناءً عنه
وسأمثَّله لك مظهَرا لتَعلم ما أرادوا، إن شاء الله تعالى.
هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير وذلك قولك إذا كنتَ تحذر: إياك. كأنك قلت: إياك بح، وإيّاك باعِدْ، وإيّاك اتّقِ، وما أشبه ذا. ومن ذلك أن تقول: نفسَك يا فلانُ، أى اتّقِ نفسَك، إلاَّ أنّ هذا لا يجوز فيه إظهارُ ما أضمرتَ، ولكن ذكرتُه لأمثل لك ما لا يُظهَر إضمارُه.
ومن ذلك أيضاً قولك: إيّاك والأسدَ، وإيّاىَ والشَّر، كأَنّه قال:(1/273)
إيّاك فأتّقِيَنَّ والأسدَ، وكأَنه قال: إيّاىَ لأَتّقِيَنَّ والشَّر. فإِيَّاك مُتَّقىً والأسدُ والشرُ مُتَّقَيانِ، فكلاهما مفعول ومفعول منه.
ومثله: إيّاىَ وأَن يَحذف أحدُكم الأرنَبَ. ومثله: إياك، وإياه، وإيّاىَ، وإيّاه، كأَنه قال: إيّاك باعِدْ، وإيّاه، أو نَحَّ.
وزعم أنَّ بعضهم يقال له: إيّاك، فيقولُ: إيّاىَ، كأَنه قال: إيّاى أَحْفَظُ وأَحْذَرُ.
وحذفوا الفعلَ من إيّاك لكثرة استعمالهم إيّاه فى الكلام، فصار بدلاً من الفعل، وحذفوا كحذفهم: حينئذٍ الآن، فكأَنّه قال: احذرِ الأسدَ، ولكن لا بدّ من الواو لأنَّه اسمٌ مضموم إلى آخَرَ.
ومن ذلك: رأسَه والحائطَ، كأَنّه قال: خَلَّ أو دَعْ رأسَه والحائط، فالرأس مفعول والحائط مفهول معه، فانتصبا جميعاً.
ومن ذلك قولهم: شأنك والحج، كأنه قال: عليك شأنَك مع الحجّ. ومن ذلك: امْرَأَ ونفسَه، كأَنّه قال: دَعَ امرَأً مع نفسه، فصارت الواو في معنى مع كما صارتْ فى معنى مَعَ فى قولهم: ما صنعتَ وأخاك. وإنْ شئت(1/274)
لم يكن فيه ذلك المعنى، فهو عربىٌّ جيّد، كأَنه قال: عليك رأٍَسك وعليك الحائطَ، وكأنه قال: دَعِ امرأ ودع نفسَه؛ فليس يَنْقُضُ هذا ما أردتَ فى معنى مَعَ من الحديث.
ومثل ذلك: أَهْلَكَ والليلَ، كأَنّه قال: بادِرْ أهلَك قبل الليل، وإنَّما المعنى أن يحذَّره أن يُدرِكه الليلُ. والليلُ محذَّرٌ منه، كما كان الأسدُ محتفَظا منه.
ومن ذلك قولهم: مازِ رأسَك والسيفَ، كما تقول: رأسَك والحائطَ وهو يحذَّره، كأَنّه قال: اتقِ رأسَك والحائطَ.
وإنّما حذفوا الفعلَ فى هذه الأشياءِ حين ثَنَّوْا لكثرتها فى كلامهم، واستغناءً بما يرون من الحال، ولما جرى من الذكر، وصار المفعولُ الأوّلُ بدلاً من اللفظ بالفعل، حين صار عندهم مثلَ: إيّاك ولم يكن مثلَ: إيَّاك لو أَفردتَه، لأنه لم يَكثْر فى كلامهم كَثْرَةَ إيّاك، فشُبَّهتْ بإِيّاك حيث طال الكلامُ وكان كثيرا فى الكلام.
فلو قلت: نفسَك، أو رأسَك، أو الجِدارَ، كان إظهارُ الفعل جائزاً نحو قولك: اتّقِ رأسَك، واحفظْ نفسك، واتّقِ الجدارَ. فلمّا ثنّيتَ صار بمنزلة إيّاك، وإيّاك بدلٌ من اللفظ بالفعل، كما كانت المصادرُ كذلك، نحوَ: الحَذَرَ الحَذَرَ.
ومما جُعل بدلاً من اللفظ بالفعل قولهم: الحَذَرَ الحَذَرَ، والنَّجاءَ النَّجاءَ، وضَرْباً ضَرْباً. فإِنَّما انتَصب هذا على الْزَمِ الحَذَرَ، وعليك النجاءَ،(1/275)
ولكنّهم حذفوا لأنَّه صار بمنزلة افْعَل. ودخولُ الزم وعليك على افعَلْ مُحالٌ.
ومن ثمّ قالوا، وهو لعمرو بن مَعْد يِكَرِبَ:
أُرِيدُ حِبَاءَه ويرُيدُ قَتلى ... عَذِيرَك من خَليِلك من مُرادِ
وقال الكُمَيت:
نَعاءٍ جُذاماً غيرَ موتٍ ولا قَتْلِ ... ولكن فِراقاً للدَّعائم والأصلِ(1/276)
وقال ذو الإِصبعَ العَدْوانىّ:
عَذيرَ الحىَّ من عدوا ... ن كانوا حيّةَ الأرضِ
فلم يجز إظهارُ الفعل وقَبُحَ، كما كان ذلك مُحالا.
هذا باب
ما يكون مَعطوفا فى هذا الباب
على الفاعل المضمَرِ
فى النيّةِ ويكونُ معطوفا على المفعول، وما يكون صفةَ المرفوعِ المضمَرِ فى النيّة ويكونُ على المفعول وذلك قولك: إيّاك أنتَ نفسُك أَنْ تَفْعَلَ، وإيّاك نفسَك أَنْ تفعلَ. فإِن عنيت الفاعِلَ المضمَرَ فى النيّة قلت: إِيّاك أنت نفسُك، كأَنّك قلت: إيّاك نَحَّ أنت نفسُك، وحملتَه على الاسم المضمَرِ فى نَحَّ. فإِنْ قلتَ: إيّاك نفسُك تريد الاسَم المضمَرَ الفاعل فهو قبيح، وهو على قُبْحِه رَفْعٌ، ويدلُّك على قبحه أَنّك لو قلت: اذهبْ نفسُك، كان قبيحاً حتَّى تقولَ: أنتَ نفسُك. فمن ثَمّ(1/277)
كان نصباً، لأنَّك إذا وصفتَ بنفسِك المضمَر المنصوبَ بغير أنتَ جاز، تقول: رأيتُك نفسَك ولا تقول: انطلقتَ نفسُك. وإذا عطفتَ قلت: إيّاك وزيداً والأَسَدَ، وكذلك: رأسَك ورِجْلَيْك والضرْبَ. وإنّما أمرتَه أن يتَّقِيَهما جميعاً والضَّربَ.
وإن حملت الثانىَ على الاسم المرفوع المضمر فهو قبيحٌ، لأنَّك لو قلت: اذهَبْ وزيدٌ كان قبيحا، حتَّى تقول: اذهبْ أنت وزيدٌ. فإِن قلتَ إيّاك أنت وزيدٌ فأنت بالخيار، إن شئت قلتَ ذاك أنت وزيدٌ جاز، فإِن قلت: رأيتك قلت ذاك وزيداً فالنصبُ أحسنُ، لأنَّ المنصوب يُعْطَفُ على المنصوب المضمَر، ولا يُعْطَفُ على المرفوع المضمَر إلاَّ فى الشعر، وذلك قبيح.
أنشدنا يونس لجرير:
إيّاك أنت وعبدَ المسيحِ ... أَنْ تَقْرَبَا قبلة المسجد(1/278)
أَنشدَناه منصوبا، وزعم أنّ العرب كذا تُنشِده.
واعلم أنَّه لا يجوز أن تقول: إيّاك زيداً، كما أنّه لا يجوز أن تقول: رأسَك الجِدارَ، حتّى تقولَ: من الجدار أو والجدارَ. وكذلك أنْ تَفْعَلَ، إذا أردتَ إيّاك والفعلَ. فإِذا قلت: إيّاك أن تفعلَ، تريد إياك أعظ مخافة أن تفعل، أومن أَجْلِ أَن تفعلَ جاز، لأنَّك لا تريد أن تَضُمَّه إلى الاسم الأوّل، كأَنَّك قلت: إيّاك نَحَّ لمكان كذا وكذا.
ولو قلت: إيّاك الأسدَ، تريد من الأسد، لم يجز كما جاز فى أََنْ، إلاَّ أَنّهم زعموا أنّ ابنَ أبى إسحاقَ أجاز هذا البيت في شعر:
إيّاك إيّاك المِرَاءَ فإِنّه ... إلى الشَرّ دعاءٌ وللشّرّ جالِبُ
كأَنّه قال: إيّاك، ثم أَضْمَرَ بعد إيّاك فعلاً آخرَ، فقال: اتّقِ المِِرَاءَ.
وقال الخليل: لو أنّ رجلاً قال: إيّاك نفسِك لم أُعَنَّفْه، لأنَّ هذه الكاف مجرورة.
وحدَّثنى من لا أَتهِمُ عن الخليل أنه سمع أَعرابياً يقول: إذا بلغ الرجلُ السَّتّينَ فإِيّاه وإِيّا الشَّوابَّ.(1/279)
هذا بابٌ يُحْذَفُ منه الفعل لكثرته فى كلامهم
حتى صار بمنزلة المَثَل وذلك قولك: " هذا ولا زَعَماتِك ". أى: ولا أَتَوَهَّمُ زَعَماتِك. ومن ذلك قول الشاعر، وهو ذو الرُّمّة، وذكر الديار والمنازل:
ديار مية إذا مَىٌّ مُساعِفةٌ ... ولا يَرى مثلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ
كأَنه قال: أذْكُرُ ديارَ مَيّة. ولكنّه لا يذكر أذكر لكثرة ذلك فى كلامهم، واستعمالهم إيّاه، ولَما كان فيه من ذكر الدَّيار قبل ذلك، ولم يَذكر: ولا أتوهَّمُ زعماتِك لكثرة استعمالهم إيَّاه، ولاستدلاله مما يَرَى من حاله أنَّه يَنْهاه عن زَعْمه.
ومن ذلك قول العرب: " كِلَيْهما وتمراً "، فذا مَثَلٌ قد كَثُرَ(1/280)
فى كلامهم واستعمل، وتُرك ذكرُ الفعل لِما كان قبل ذلك من الكلام، كأَنّه قال: أََعْطِنى كِلَيْهما وتَمْراً.
ومن ذلك قولهم: " كلَّ شيء ولا هذا " و " كل شيء ولا شتيمة حر "، أي ائت كل شيء ولا تَرتكِبْ شتيمةَ حُرٍّ، فحذف لكثرة استعمالهم إيّاه، فأُجرى مُجرى: ولا زَعَماتِك. ومن العرب من يقول: " كِلاهما وتمراً "، كأَنه قال: كلاهما لي ثابتان وزدني تمراً. و " كل شيء ولا شتيمة حر ". كأنه قال: كل شيء أَمَمٌ ولا شتيمةَ حُرٍّ، وتَرك ذكرَ الفعل بعد لا، لما ذكرتُ لك، ولأنه يَستدلٌ بقوله: كل شيء، أنَّه يَنهاه.
ومن العرب من يرفع الديارَ، كأَنَّه يقول: تلك ديارُ فلانة.
وقال الشاعر:
اعتادَ قَلْبَك مِنْ سَلْمَى عَوائدُه ... وهاج أَهواءَك المكنونةَ الطَّلَلُ
رَبعٌ قَواءٌ أَذاعَ المُعْصِراتُ به ... وكلُّ حَيرانَ سارٍ ماؤُه خَضِلُ(1/281)
كأَنه قال: وذاك رَبْعٌ، أو هو رَبعٌ، " رَفَعَه على ذا وما أشبهَه، سمعناه ممّن يرويه عن العرب ".
ومثله " لعمر بن أبي ربيعةَ ":
هل تَعْرِفُ اليومَ رَسْمَ الدّارِ والطَّلَلاَ ... كما عرفتَ بجَفْنِ الصَّيقَلِ الخِلَلاَ
دارٌ لَمَروةَ إذْ أهْلِى وأهلُهُمُ ... بالكانِسّيِة نَرعَى اللَّهْوَ والغَزَلاَ
فإِذا رفعتَ فالذى فى نفسك ما أظهرتَ، وإذا نصبت فالذى فى نفسك غيرُ ما أظهرتَ.
ومما يَنتصب فى هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهارُه: " انتهوا خيرا لكم "، و " وَراءَك أَوْسَعَ لك "، وحَسْبُك خيراً لك، إذا كنتَ تأمر. ومن ذلك قول " الشاعر، وهو " ابن أبى ربيعةَ:(1/282)
فَواعِدِيه سَرْحَتَىْ مالِكٍ ... أَوِ الرُّبَا بينهما أَسهَلاَ
وإنَّما نصبتَ خيراً لك وأَوسَعَ لك، لأنَّك حين قلت: " انْتَه " فأنت تريد أن تخْرِجَه من أَمْرٍ وتُدخِلَه فى آخرَ.
وقال الخليل: كأَنَّك تحملُه على ذلك المعنى، كأَنّك قلت: انْتَهِ وادخَّلْ فيما هو خيرٌ لك، فنصبتَه لأنَّك قد عرفتَ أنّك إذا قلت له: انْتَهِ، أنَّك تحمله على أمرٍ آخَرَ، فلذلك انتَصب، وحذَفوا الفعل لكثرة استعمالِهم إيَّاه فى الكلام، ولعلم المخاطَب أَنّه محمولٌ على أمرٍ حين قال له: انتَهِ، فصار بدلاً من(1/283)
قوله: ائت خيراً " لك "، وادْخُلْ فيما هو خير لك.
ونظير ذلك من الكلام قوله: انْتَهِ يا فلانُ أَمْراً قاصِداً. فإنما قلت: انته وائت أمراً قاصدا، إلاَّ أنَّ هذا يجوز لك فيه إظهارُ الفعل، فإِنَّما ذكرتُ لك ذا لامثَّلَ لك الأوّلَ به، لأنَّه قد كَثُرَ فى كلامهم حتّى صار بمنزلة المَثلِ، فَحُذِفَ كحذفهم: ما أريت كاليومِ رَجُلا.
ومثل ذلك قول القُطامِىّ:
فكَرَّتْ تَبْتَغِيه فوافقتْه ... على دَمِهِ ومَصْرَعِه السَّباعَا(1/284)
ومثله قوله، " وهو ابن الرقيات ":
لن تراها ولو تأمَّلتَ إلاّ ... ولها فى مَفارقِ الرَّأسِ طِيبَا
وإنَّما نَصَبَ هذا لأنه حين قال وافقتْه " و " قال: لن تراها، فقد عُلِم أنّ الطَّيبَ والسَّباع قد دخلا فى الرُّؤْيِة والموافَقَةِ، وأنَّهما قد اشتَملا على ما بعدَهما فى المعنى.
ومثل ذلك قول ابن قميئة:
تذكر أَرْضاً بها أهلُها ... أَخْوَالَها فيها وأََعْمامَها(1/285)
لأنّ الأخوال والأَعمامَ قد دخلوا فى التذكُّرِ.
ومثل ذلك فيما زعم الخليل:
إذا تَغَنَّى الحَمامُ الوُرقُ هَيَّجَنى ... ولو تغرَّبتُ عنها أُمَّ عَمّارِ
قال الخليل رحمه الله: لمّا قال هَيّجنى عُرف أنّه قد كان ثَمَّ تَذَكُّرٌ لتَذكرةِ الحمام وتَهْيِيِجه، فأَلْقَى ذلك الذى قد عُرف منه على أمّ عمّارٍ، كأَنه قال: هيَّجنى فذكَّرنى أمَّ عمّار.
ومثل ذلك أيضاً قول الخليل رحمه الله، وهو قول أبى عمرو: ألا رَجُلَ إمّا زيداً وإمّا عمرا، لأنّه حين قال: أَلاَ رجلَ، فهو مُتَمَنٍّ شيئاً يَسألُه ويريده، فكأَنه قال: اللهمَّ اجعلْه زيداً أو عمراً، أو وفَّقْ لى زيدا أو عمرا.
وإن شاء أظهر فيه وفى جميع هذا الذى مُثّل به، وإن شاء اكتَفى فلم يذكر الفعلَ؛ لأنه قد عُرِف أنه مُتَمَنٍ سائلٌ شيئاً وطالبُه.
ومثل ذلك قول الشاعر، " وهو عبد بنى عبس ":(1/286)
قد سالَمَ الحيّاتُ منه القَدَمَا ... الأُفْعُوانَ والشُّجاعَ الشجعما
وذات قرنين ضموزاً ضرزما
فإِنَّما نصب الأُفعُوانَ والشُّجاعَ لأنّه قد عُلم أنَّ القدم ههنا مسالِمةٌ كما أنها مسالَمَة، فَحمَل الكلامَ على أنّها مسالِمة.
ومثلُ هذا البيت إنشادُ بعضِهم، لأَوس بن حَجَر:
تُواهِقُ رجلاها يداها ورَأْسُهُ ... لها قَتَبٌ خَلفَ الحقيبة رادِفُ(1/287)
وإنشاد بعضهم للحارق بن نهيك:
ليبك يزيد ضارع لخصومةومختبط مما تطيح الطوائح لما قال: ليبك يزيدُ، كان فيه معنى ليَبْكِ يزيدَ، كما كان فى القَدَمِ أنَّها مسالِمة، كأَنه قال: لِيَبْكِهِ ضارعٌ.
ومن ذلك قول عبد العزيز " الكلابىّ ":
وَجَدْنا الصَّالحينَ لهم جزاءٌ ... وجَنّاتٍ وعَيناً سلسيلا
لأنّ الوِجْدانَ مشتمِلٌ فى المعنى على الجزاء، فَحَمَلَ الآخِرَ على المعنى. ولو نَصب الجزاءََ كما نَصب السَّباعَ لجاز. وقال:(1/288)
أَسْقَى الإِلهُ عُدُواتِ الوادى ... وجَوْفَة كلَّ مُلِثٍّ غادِى
كلُّ أَجَشَّ حالِكِ السَّوادِ
كأَنه قال: سقاها كلُّ أجشَّ، كما حُمل ضارعٌ لخصومة على ليبك يزيد، لأنه فيه معنى سقاها كلُّ أجشَّ.
ولا يجوز أن تقول: يَنتهِى خيراً له، ولا أَأَنتهِى خيراً لي؛ لأنك إذا نهيت فأنت تزيجه إلا أمر، وإذا أَخبرتَ أو استفهمت فأنت لست تريد شيئاً من ذلك، إنما تعلم خبراً أو تَسترشِدُ مُخْبِراً، وليس بمنزلة وافقته على دمِه ومَصرعِه السَّباعا؛ لأنّ السَّباعَ داخل فى معنى وافقته، كأَنه قال: وافقتِ السَّباعَ على مصرعِه، " والخيرُ والشرُّ لا يكون محمولاً على يَنتهى وشبهِه، لا تستطيع أن تقول: انَتهيتُ خيراً، كما تقول: قد أصبتُ خيرا ".
وقد يجوز أن تقول: أَلاَ رَجُلَ إمّا زيدٌ وإمّا عمرو، كأَنه قيل له: من هذا المتمنَّى؟ فقال: زيدٌ أو عمروٌ.(1/289)
ومثلُ: ليُبْكَ يزيدُ قراءة بعضهِم: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم "، رَفَع الشُّركاءَ على " مثل " ما رُفع عليه ضارِعٌ.
هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل
المتروك إظهارُه فى غير الأمر والنَّهى
وذلك قولك: أخذته بدرهم فصاعِداً، وأخذتُه بدرهم فزائدا. حذفوا الفعَل لكثرة استعمالهم إيّاه، ولأنَّهم أمِنوا أن يكونَ على الباء، لو قلتَ: أخذتُه بصاعد كان قبيحا، لأنه صفة ولا تكون في موضع الاسم، كأنه قال: اخذته بدرهم فزاد الثمنُ صاعداً، أو فذهَبَ صاعِداً.
ولا يجوز أن تقول: وصاعدٍ، لأنَّك لا تريد أن تُخْبِرَ أنّ الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء، كقولك: بدرهمٍ وزيادةٍ، ولكنَّك أخبرت بأَدنى الثمن فجلته(1/290)
أولاً، ثم قروت شيئاً بعد شيء لأَثمانٍ شتَّى. فالواوُ لم تُرِدْ فيها هذا المعنى، ولم تلزم الواو الشيئين أَنْ يكون أحدُهما بعد الآخَر. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو، لم يكن في هذا دليل أنك مررت بعمرو بعد زيد. وصاعد بدل من زاد ويزيد.
وثم بمنزلة الفاءِ، تقول: ثُمَّ صاعداً، إلاّ أَنَّ الفاءَ أكثرُ فى كلامهم.
ومما يَنتصب فى غير الأمر والنهى على الفعل المتروك إظهارُه قولك: يا عبد الله، والنَّداءُ كلُّه. وأَمّا يا زيدُ فله عِلَّةٌ ستراها فى باب النَّداء إن شاء الله تعالى، حذفوا الفعلَ لكثرة استعمالهم هذا فى الكلام، وصار يَا بدلا من اللَّفظ بالفعل، كأَنه قال: يَا، أُريدُ عبدَ الله، فحذَف أُريدُ وصارت يا بدلاً منها، لأنّك إذا قلت: يا فلانُ، علم أنك تريده.
ومما يدلك على أنّه يَنتصب على الفعل وأنّ يا صارت بدلا من اللفظ بالفعل، قولُ العرب: يا إيّاك، إنما قلتَ: يا إيّاك أَعْنى، ولكنَّهم حذفوا الفعلَ وصار يا وأَيَا وأَىْ بَدَلاً من اللفظ بالفعِل.
وزعم الخليل رحمه الله أنّه سمعَ بعضَ العرب يقول: يا أنت. فزعَم أنهم جعلوه موضعَ المفرد. وإن شئت قلت: يا فكان بمنزلة يا زيد، ثم تقول: إياك. أى إيَّاكَ أعنى. هذا قول الخليل رحمه الله فى الوجهين.(1/291)
ومن ذلك قول العرب: مَنْ أنتَ زيداً، فزعم يونسُ أنّه على قوله: مَنْ أنت تَذكُر زيداً، ولكنه كثر فى كلامهم واستُعمل واستغنوا عن إظهارِه، فإِنّه قد عُلم أنَّ زيداً ليس خبراً " ولا مبتدأ "، ولا مبنياًّ على مبتدإ، فلا بدَّ من أنْ يكونَ على الفعل، كأَنه قال: مَنْ أنتَ، معرَّفاً ذا الاسمَ، ولم يحمل زيداً على مَنْ ولا أنت. ولا يكون مَنْ أنتَ زيداً إلاَّ جوابا، كأَنَّه لمّا قال: أنا زيدٌ، قال: فَمَنْ أنتَ ذاكِراً زيداً.
وبعضُهم يَرفع، وذلك قليل، كأَنه قال: مَنْ أنت كلامُك أو ذكرُك زيدٌ. وإنَّما قَلَّ الرفعُ لأن إعمالَهم الفعلَ أحسنُ من أن يكون خبراً لمصدرٍ ليس له، ولكنه يجوز على سعة الكلام، وصار كالمثل الجارى، حتّى إنهم لَيسْألون الرجل عن غيره فيقولون للمسؤول: مَنْ أنتَ زيدا، كأَنّه يكِلّمُ الذى قال: أنا زيدٌ، أى أنت عندى بمنزلة الذى قال: أنا زيدٌ، فقيل له: من أنت زيداً، كما تقول للرجل: " أَطِرَّى إنّكِ ناعلةٌ واجمعى ". أى أنتَ عندى بمنزلة التى يقال لها هذا.(1/292)
سمعنا رجُلا منهم يَذكر رجلا، فقال لرجل ساكتٍ لم يَذكْر ذلك الرجلَ: مَنْ أنتَ فلاناً.
ومن ذلك قول العرب: أَمّا أنتَ منطلقاً انطلقت معك، وأَمّا زيدٌ ذاهباً ذهبتُ معه.
وقال الشاعر، وهو عباس بن مِرداسٍ:
أَبا خُراشَةَ أَمَّا أنتَ ذا نَفَرِ ... فإِنّ قومِىَ لم تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ
فإِنَّما هى " أَنْ " ضُمَّت إليها " ما " وهى ما التوكيِد، ولزمتْ كراهيةَ أن يُجحفِوا بها لتكون عوضاً من ذَهابِ الفعل، كما كانت الهاءُ والألفُ عوضا(1/293)
فى الزَّنادقة واليَمانِى من الياء.
ومثل أَنْ فى لزوم " ما " قولُهم إمَّا لاَ، فألزموها ما عوضاً. وهذا أَحْرَى أن يُلزموا فيه إذْ كانوا يقولون: آثِراً ما، فيُلزِمُون ما، شبّهوها بما يَلزم من النُّونات فى لأفعلنَّ، واللامِ فى إن كان لَيَفعلُ، وإن كان ليس مثلَه، وإنَّما هو شاذٌ كنحوِ ما شُبّه بما ليس مثلَه، فلمّا كان قبيحّا عندهم أن يذكروا الاسمَ بعد أَنْ ويَبتدئوه بعدها كقُبْحِ كَىْ عبدُ الله يقولَ ذاك، حملوه على الفعلِ حتَّى صار كأَنّهم قالوا: إذ صرتَ منطلقا فأنا أَنطلِقُ " معك "، لأنَّها فى معنى إذْ فى هذا الموضع وإذ في معناها أيضاً في هذا الموضع، إلاّ أنّ إذ، لا يُحذَفُ معها الفعل.
و" أما " لا يُذْْكَرُ بعدها الفعلُ المضمَرُ، لأنَّه من المضمَرِ المتروكِ إظهارُه، حتَّى صار ساقطاً بمنزلة تركِهم ذلك فى النداء وفى مَنْ أنت زيداً. فإن أظهرتَ الفعلَ قلت: إمَّا كنتَ منطلقاً انطلقتُ، إنّما تريد: إنْ كنتَ منطلقا انطلقتُ، فحذفُ الفعل لا يجوز ههنا كما لم يجز ثَمَّ إظهارُه؛ لأنَّ أمّا كثرتْ في كلامهم واستعملت حتَّى صارت كالمثل المستعمَل.
وليس كلُّ حرفٍ هكذا، كما أنَّه ليس كلُّ حرف بمنزلة لم أُبَلْ ولم يَكُ، ولكنهم حذفوا هذا لكثرته وللاستخفاف، فكذلك حذفوا الفعل من أَمّا.
ومثل ذلك قولهم: إمّا لاَ، فكأَنَّه يقول: افْعَلْ هذا إنْ كنتَ لا تَفْعَلْ(1/294)
غيرَه، ولكنهم حذفوا " ذا " لكثرة استعمالهم إيّاه وتصرفُّهم حتى استغَنوا عنه بهذا.
ومن ذلك قولهم: مَرْحَباً، وأَهلاً، وإن تأتِنى فأَهْلَ اللَّيل والنهارِ.
وزعم الخليل رحمه الله حين مثّله، إنّه بمنزلة رَجُلٍ رأيتَه قد سدَّد سهمه فقلتَ: القِرطاسَ، أى أَصَبتَ القرطاسَ، أى أنت عندى ممن سيُصِيبُه. وإن أَثْبتَ سهمَه قلت: القرطاسَ، أى قد استَحقَّ وقوعَه بالقرطاس. فإنَّما رأَيتَ رجلاً قاصدا إلى مكانٍ أو طالبا أمرّا فقلتَ: مَرْحَباً وأَهْلاً، أى أدركتَ ذلك وأُصبتَ، فحذفوا الفعلَ لكثرة استعمالهم إيّاه، وكأَنّه صار بدلاً من رَحُبَتْ بلادُك وأَهِلَتْ، كما كان الحَذَرَ بَدَلا من احْذَرْ. ويقول الرادُّ: وبكَ وأَهْلاً وسَهْلاً، وبك أَهْلاً. فإذا قال: وبك وأهلاً، فكأَنّه قد لَفَظَ بمرحباً بك وأهلا. وإذا قال: وبك أهلا فهو يقول: ولك الأَهْلُ إذا كان عندك الرُّحْبُ والسعةُ. فإِذا رددتَ فإِنَّما تقول: أنت عندى ممّن يقال له هذا لو جئَتنى. وإنَّما جئتَ ببك لنبين مَن تَعنى بعد ما قلتَ: مرحبّا، كما قلتَ: لك، بعد سَقْياً. ومنهم من يَرفع فيجَعل ما يُضمِرُهُ هو ما أَظْهَرَ. وقال طفيل الغنوي:(1/295)
وبالسهب ميمون القبة قولُه ... لمُلتمِسِ المعروفِ: أَهْلٌ ومَرْحَبُ
أى هذا أهلٌ ومرحبٌ. وقال أبو الأسود:
إذا جئتُ واباً له قال: مَرْحَباً ... أَلا مَرْحَبٌ واديكَ غير مَضِيقِ
فاعرفْ فيما ذكرتُ لك أنّ الفِعْلَ يَجرى فى الأسماءِ على ثلاثة مَجارٍ: فِعْلٌ مُظْهَرٌ لا يَحسن إضمارُه، وفِعْلٌ مُضْمَرٌ مستعمَلٌ إظهارُه، وفِعْلٌ مُضمَرٌ متروكٌ إظهارُه.
فأَمّا الفعل الذى لا يَحسن إضمارُه فإنّه أَنْ تَنْتَهِىَ إلى رجل لم يكن فى ذِكْرِ ضَرْبٍ ولم يَخطُرِْ بباله، فتقول: زيدا. فلا بدَّ له من أن تقول له:(1/296)
اضربْ زيدا، وتقولَ له: قد ضربتَ زيدا. أو يكون موضعاً يقبح أن يعرى من الفعل نحو أَنْ وقَدْ وما أَشبه ذلك.
وأمّا الموضعُ الذى يُضْمَرُ فيه وإظهارُه مستعمَلٌ، فنحوُ قولك: زيداً، لرجلٍ فى ذِكْرِ ضَرْبٍ، تريد: اضرب زيداً.
وأما الموضع الذي لا يستعمَل فيه الفعلُ المتروكُ إظهاره فمِن الباب الذى ذُكِرَ فيه إيّاك إلى الباب الذى آخِرُه ذكرُ مرحباً وأهلاً. وسترى ذلك فيما يستقبل إن شاء الله.
باب ما يَظْهَرُ فيه الفعلُ ويَنتصب فيه الاسمُ
لأنَّه مفعولٌ معه ومفعولٌ به، كما انَتصب نَفْسَه فى قولك: امرأَ ونفسَه. وذلك قولك: ما صَنَعْتَ وأَباك، ولو تُركت النَّاقةُ وفَصِيلَها لَرَضِعَها، إنَّما أردتَ: ما صنعتَ مع أَبيك، ولو تُركت الناقةُ مع فصيِلها. فالفصيلُ مفعولٌ معه، والأَبُ كذلك، والواوُ لم تغيَّر المعنى، ولكنَّها تُعْملُ فى الاسم ما قبلها.(1/297)
ومثل ذلك: ما زلت وزيداً " حتى فَعلَ "، أى ما زلتُ بزيد حتى فعل، فهو مفعول به. وما زلت أَسِيرُ والنَّيلَ، أى مع النّيِل، واستَوَى الماء والخَشَبَةَ، أى بالخَشَبَةِ. وجاء البَرْدُ والطَّيالِسَةَ، أى مع الطَّيالسةِ. وقال:
فكُُونُوا أنتُمُ وبنى أَبيكم ... مكان الكُلْيَتَيْنِ مِنَ الطَّحالِ
وقال:
وكان وإيّاها كحران لم يفق ... عن الماء إذا لاقاهُ حتّى تقدَّدَا
ويدّلك على أنَّ الاسم ليس على الفعل فى صنعتَ، أنّك لو قلتَ: اقْعُدْ وأخوك كان قبيحاً حتَّى تقول: أنتَ، لأنه قبيحٌ أَنْ تَعطف على المرفوع المُضْمَرِ. فإِذا قلت: ما صنعتَ أنتَ، ولو تُركتْ هى، فأنت بالخيار إن شئت حملتَ الآخِر على ما حملتَ عليه الأوّلَ، وإن شئت حملته على المعنى الأول.(1/298)
بابٌ معنى الواو فيه كمعناها فى الباب الأوّلِ
إلاّ أنّها تَعْطِفُ الاسمَ هنا على ما لا يكونُ ما بعده إلاَّ رفّعا على كلّ حال.
وذلك قولك: أنت وشأنُك، وكلُّ رجل وضَيْعتُه، وما أنت وعبدُ الله وكيف أنت وقَصْعةٌ من ثَريدٍ، وما شأنُك وشأنُ زيد. وقال " المخبل ":
يا زبرقان أَخا بنى خَلَفٍ ... ما أنتَ وَيْبَ أبيك والفَخْرُ
وقال جَميل:
وأنت امرؤٌ من أهل نَجْدٍ وأهلُنا ... تَهامٍ فما النَّجْدىُّ والمتغوَّرُ(1/299)
وقال:
وكنتَ هناك أنتَ كريمَ قيسِ ... فما القَيْسىُّ بعدَك والفِخارُ
وإنَّما فُرق بين هذا وبين الباب الأوّل لأنَّه اسمٌ، والأوّلُ فعلٌ فأُعمل، كأَنّك قلت فى الأوّل: ما صنعتَ أخاك، وهذا مُحالٌ، ولكنْ أردتُ أن أمثَّلَ لك.
ولو قلتَ: ما صنعتَ مع أخيك وما زلتُ بعبد الله، لكان مع أخيك وبعبدِ الله فى موضع نصبٍ. ولو قلت: أنتَ وشأنُك كنتَ كأَنّك قلت: أنتَ وشأنُك مَقرونانِ، وكلُّ امرئٍ وضيَعْته مقرونانِ؛ لأنَّ الواو في معنى مع عنا، يَعمل فيما بعدها ما عَمِلَ فيما قبلها من الابتداء والمبتدإ.
ومثله: أنتَ أَعلَمُ ومالُكَ، فإِنَّما أردتَ: أنت أَعلمُ مع مِالك. وأنتَ أعلم وعبد الله، أي أنت علم مع عبد الله. وإن شئت كان على الوجه الآخَر، كأنك قلت: أنت وعبد الله أعلم من غيركما. فإن قلت: أنت أعلم وعبد الله فى الوجه الآخَر فإِنَّها أيضاً تعمل فيما بعدها الابتداء، كما أعملت فى ما صنعتَ وأخاك، " صنعتَ ". فعلى أَىَّ الوجَهْينِ وجَّهتَه صار على المبتدإ،(1/300)
لأنّ الواو فى المعنيينِ جميعاً يَعمل فيما بعدها ما عَمل فى الاسم الذى تَعطفه عليه.
وكذلك: ما أنتَ وعبدُ الله، وكيف أنتَ وعبدُ الله، كأَنك قلت: ما أنت وما عبدُ الله، وأنت تريد أن تحقَّر أمره أو ترفع أمره.
و" كذلك ": كيف أنت وعبدُ الله، وأنت تريد أن تَسأل عن شأنهما، لأنك إنَّما تَعطف بالواو إذا أردت معنى مَعَ على كَيْفَ، وكيف بمنزلة الابتداء، كأَنك قلت: وكيف عبدُ الله، فعملت كما عَمِلَ الابتداءُ لأنَّها ليستْ بفعِل، ولأنَّ ما بعدها لا يكون إلاَّ رفعا. يدّلك على ذلك قول الشاعر، " وهو زيادٌ الأَعجمُ، ويقال غيرهُ ":
تكلَّفُنِى سَوِيقَ الكَرْمِ جَرمٌ ... وما جَرْمٌ وما ذاك السَّويقُ(1/301)
ألاَ ترى أنه يريد معنى مَعَ، والاسمُ يَعمل فيه ما.
ومثلُ ذلك قول العرب: إنَّك مَا وخَيْرا، تريد: إنّك مع خَيْرٍ. وقال، وهو لأبى عنترة العبسىّ:
فَمنْ يَكُ سائِلاً عنّى فإِنّى ... وجِرْوَةَ لا تَرودُ ولا تُعارُ
فهذا كلُّه يَنتصب انتصابَ إنّى وزيداً منطلقان، ومعناهن مع، لأن إني ها هنا بمنزلة الابتداءِ ليست بِفعلٍ ولا اسمٍ بمنزلة الفِعل.
وكيف أنت وزيدٌ، وأنت وشأنُك، مثالُهما واحد، لأن الابتداء وكيف وما وأنت، يَعْمَلْنَ فيما كان معناه مَعَ بالرفعَ فيحسن، ويُحْمَلُ على " المبتدإ كما يُحْمَلُ على " الابتداءِ. ألا ترى أنّك تقول: ما أنت وما زيدٌ فيَحسنُ، ولو قلت: ما صنعتَ وما زيدٌ، لم يَحسن ولم يستقِمْ إذا أردتَ معنى ما صنعتَ وزيداً، ولم يكن لِتَعملَ ما أنت وكيف أنت، عَمَلَ صنعتَ، وليستا بفعل، ولم(1/302)
نَرَهم أعملوا شيئاً من هذا كذا. فإِذا نصبتَ فكأَنّك قلت: ما صنعتَ زيداً مثلَ ضربتَ زيداً ورأيت. ولم نَرَ شيئاً من هذا ليس بِفعل فُعل به هذا فتُجريَهُ مُجرى الفعل.
وزعموا أنَّ ناسا يقولون: كيف أنت وزيداً، وما أنت وزيدا. وهو قليل فى كلام العرب، ولم يحملوا الكلام على ما ولا كيف، ولكنهم حملوه على الفِعل، على شيء لو ظَهَرَ حتَّى يَلفظوا به لم يَنقُضْ ما أرادوا من المعنى حين حملوا الكلام على ما وكيف، كأَنه قال: كيف تكون وقصعةً من ثريد، وما كنتَ وزيداً؛ لأنَّ كنتَ وتكونُ يقعان ها هنا كثيرا ولا يَنقضانِ ما تريد من معنى الحديث. فمَضى صدرُ الكلام وكأَنّه قد تَكلم بها " وإن كان لم يَلفظ بها، لوقوعها ههنا كثيرا ". ومن ثَمَّ أنشد بعضهم:
فما أنا والسَّيرَ فى مَتلَفٍ ... يبَرَّحُ بالذّكَرِ الضّابِطِ(1/303)
لأنهم يقولون: " ما كنتَ " هنا كثيرا ولا يَنْقُضُ هذا المعنى. وفى " كيف " معنى يكون، فجرى " ما أنَت " مجرى " ما كنتَ "، كما أنّ كيف على معنى يكون.
وإذا قال: أنتَ وشأنُك فإِنما أَجرى كلامَه على ما هو فيه الآن، لا يريد كان ولا يكونُ. وإن كان حَمَلَه على هذا ودعاه إليه شيء قد كان بلغَه فإِنَّما ابتدأَ وحمله على ما هو فيه الآن، وجرى على ما يُبْنَى على المبتدإ. ولذلك لم يستعمِلوا ههنا الفعلَ مِنْ كان ويكونُ، لِما أرادوا من الإِجراءِ على ما ذكرتُ لك.
وزعم أبو الخَطاّب أنَّه سمع بعضَ العرب الموثوقِ بهم يُنْشِدُ " هذا البيت نصبا ":
أَتوعِدُنى بقَوْمِك يا ابن حجل ... أشابات يخالون العبادا
بما جمت من حضن وعمرو ... وما حضن وعمرو والجيادا(1/304)
وزعموا أنالراعي كان يُنْشِدُ هذا البيت نصباً:
أَزْمانَ قومِى والجماعةَ كالذى ... مَنَعَ الرَّحالةَ أَنْ تَميلَ مَمِيلاَ
كأَنّه قال: أَزْمانَ كان قومى والجماعةَ، فحملوه على كان. أنّها تقعُ فى هذا الموضع كثيراً، ولا تَنقض ما أرادوا من المعنى حين يَحملون الكلام على ما يَرفع، فكأَنّه إذا قال: أزمانَ قومى، كان معناه: أزمانَ كانوا قومى والجماعة كالذى، وما كان حضَن وعمرو والجيادا. ولو لم يقل: أزمان كن قومى لكان معناه إذا قال: أزمان قومى، أزمان كان قومى؛ لأنه أمرٌ قد مضى.
وأَمّا أنت وشأَنُك، وكلُّ امرئٍ وضيعَتُه، وأنت أعلم وربك، وأشبه ذلك، فكلُّه رَفعٌ لا يكون فيه النصبُ، لأنَّك إنّما تريد أن تُخْبِرَ بالحال التى فيها المحدَّثُ عنه فى حال حديثك، فقلتَ: أنت الآنَ كذلك، ولم ترد أن تَجعل ذلك فيما مضى ولا فيما يُستقبل، وليس موضعاً يُستعمل فيه الفعلُ.(1/305)
وأَمّا الاستفهامُ فإنَّهم أجازوا فيه النَّصب، لأنهم يَستعملون الفعلَ فى ذلك الموضع كثيراً، يقولون: ما كنتَ؟ وكيف تكون؟ إذا أرادوا معنى مَعَ ومن ثَمَّ قالوا: أَزْمانَ قومى والجماعةَ، لأنَّه موضع يَدخل فيه الفعلُ كثيراً، يقولون: أَزْمانَ كان وحينَ كان.
وهذا مشبّه بقول صرمة الأنصاري:
بداء لى أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كانَ جائيَا
فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرا.
ومثله " قول الأَخْوص ":
مَشائيمُ ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غُرابُها
فحملوه على ليسوا بمُصلحِين، ولستُ بمدركٍ.
ومثلُه لعامرِ بن جُوَيْنٍ الطائىّ:(1/306)
فلم أَرَ مِثلَها خُبَاسةَ واحدٍ ... ونَهُنَهْتُ نفسى بعدَ ما كِدتُ أَفْعَلَهْ
فحملوه على أَنْ، لأنّ الشعراءَ قد يَستعملون أَنْ ههنا مضطَّرين كثيراً.
بابٌ منه يُضمِرون فيه الفِعْلَ لقبح الكلام
إذا حُمل آخِرُه على أوّله
وذلك قولك: مالك وزيدا، وما شأُنُك وعمراً. فإِنَّما حدُّ الكلام ههنا: ما شأنك وشأن عمرو. فإن حملت الكلام على الكاف المضمرة فهو قبيح، وإن حملتَه على الشأنِ لم يجزْ لأنّ الشأنَ ليس يَلتبس بعبدِ الله، إنّما يَلتبس به الرجُل المضمَرُ فى الشأْنِ. فلما كان ذلك قبيحاً حملوه على الفعل، فقالوا: ما شأْنُك وزيدا، أى ما شأْنُك وتناولُك زيدا. قال المسْكينُ الدارمىُّ:(1/307)
فما لكَ والتلدُّدَ حَوْلَ نَجْدٍ ... وقد غَصَّتْ تِهامةُ بالرَّجالِ
وقال:
وما لكُم والفَرْطَ لا تقربوه ... وقد خِلْتُه أَدْنَى مَرَدٍّ لعاقِلِ
ويدلّك أيضاً على قبحه إذا حمل على الشأنِ، أنّك إذا قلت: ما شأنُك وما عبدُ الله، لم يكن كحُسْنِ ما جَرْمٌ وما ذاك السَّوِيقً، لأنك تُوهِمُ أنّ الشأنَ هو الذى يَلتبس بزيد، " وإنّما يَلتبس شأنُ الرجل بشأن زيد ". ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يَسبق إلى أفْئِدتِهم.(1/308)
فإِذا أَظهر الاسمَ فقال: ما شأنُ عبدِ الله وأخيه يَشْتِمُه فليس إلاّ الجرُّ، لأنه قد حسن أن تَحْمِلَ الكلام على عبد الله، لأنّ المظهَر المجرورَ يُحملُ عليه المجرورُ.
وسمعنا بعد العرب يقول: ما شأن عبد الله والعبر يشتمها. وسمعنا أيضاً من العرب الموثوق بهم مَنْ يقول: ما شأَنُ قيس والبُرَّ تَسْرِقُه. لمّا أظهروا الاسمَ حسُن عندهم أن يَحملوا عليه الكلامَ الآخِرَ.
فإِذا أضمرتَ فكأَنّك قلتَ: ما شأنُك وملابسةٌ زيداً، أو وملابستُك زيدا، فكان أن يكون زيدٌ على فِعْلٍ وتكونَ الملابسةُ على الشأن، لأن الشأن معه ملابسةٌ له، أحسنَ من أن يُجْرُوا المظهَرَ على المضمَرِ.
فإن أظهرتَ " الاسمَ فى الجرّ " عَمِلَ عَمَلَ كَيْفَ فى الرفع.
ومَنْ قال: ما أنت وزيداً، قال: ما شأنُ عبدِ الله وزيدا. كأَنه قال: ما كان شأنُ عبدِ الله وزيدا، وحمله على كانَ لأنّ كان تقع ههنا.
والرفعُ أجودُ وأكثر " فى: ما أنت وزيدٌ "، والجر فى قولك: ما شأنُ عبدِ الله وزيدٍ، أحسنُ وأجودُ، كأَنه قال: ما شأنُ عبدِ الله وشأنُ زيدٍ ومَن(1/309)
نصب فى: ما أنت وزيداً أيضاً قال: ما لزيدٍ وأخاه، كأَنه قال: ما لزيدٍ وأخاه، كأنّه قال: ما كانَ شأنُ زيدٍ وأخاه؛ لأنه يَقع فى هذا المعنى ههنا، فكأَنّه قد كان تكلَّم به.
ومن ثَمَّ قالوا: حسبُك وزيداً؛ لمّا كان فيه معنى كَفاك، وقبح أن يَحملوه على المضمَر، نَوَوُا الفعل، كأَنّه قال: حسبُك ويُحْسِبُ أخاك درهمٌ.
وكذلك: كَفْيُك، " وقَدكَ، وقَطْكَ ".
وأمّا وَيْلاً له وأخاه، وويْلَه وأباه، فانتَصب على معنى الفعلِ الذى نصبهَ، كأنك قلت: ألزمه الله ويله وأباه، فانتصب على معنى الفعل الذى نصبه، فلمّا كان كذلك - وإن كان لا يَظْهَرُ - حَمَلَه على المعنى.
وإن قلتَ: ويلٌ له وأَباه نصبتَ لأنّ فيه ذلك المعنى، كما أنّ حسبُك يرتفع بالابتداءِ وفيه معنى كفاك. وهو نحو مررتُ به وأبَاه، وإن كان أَقْوَى، لأنَّك ذكرتَ الفعلَ، كأَنك قلت: ولقيتُ أباه.
وأما هذا لك وأباك، فقبيح " أن تنصبالأب "، لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً في معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل.(1/310)
باب ما يُنْصَبُ من المصادر
على إضمارِ الفعل غير المستعمل وإظهاره
وذلك قولك: سَقياً وَرْعياً، ونحو قولك: خَيْبةً، ودَفراً، وجَدْعاً وعَقْراً، وبؤُساً، وأُفَّةً وتُفَّةً، وبُعْداً وسُحْقاً. ومن ذلك قولك: تَعْساً وتَبًّا، وجُوعاً " وجُوساً ". ونحوُ قول ابن مَيّادةَ:
تَفاقَدَ قومى إذ يَبيعون مُهجِتى ... بجارِيةٍَ بَهْراً لهمْ بعدها بَهْرَا
أى تبًّا.
" وقال:
ثمَّ قالوا تُحِبُّها قلتُ بَهْراً ... عَدَدَ النَّجْمِ والحَصَى والتُّرابِ(1/311)
كأَنه قال: جَهْداً، أى جَهْدى ذلك ".
وإنما يَنتصب هذا وما أشبهه إذا ذُكر مذكورٌ فدعوتَ له أو عليه، على إضمار الفعل، كأَنّك قلت: سَقاك الله سَقياً، ورَعاك " الله " رعياً، وخيبك الله خيبة. فكل هذا وأشباهه على هذا يَنتصب.
وإنَّما اختُزل الفعلُ ها هنا لأنَّهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، كما جُعل الحَذَرَ بدلا من احذرْ. وكذلك هذا كأَنَّه بدلٌ من سَقاك اللهُ ورَعاك " اللهُ "، ومِن خَيَّبَك الله.
وما جاء منه لا يَظهر له فِعلٌ فهو على هذا المثال نصب، كأنك جعلت بهراً بدلاً من بَهَرَك اللهُ، فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلَّم به.
وممَّا يدلّك أيضاً على أنَّه على الفعلِ نُصب، أنّك لم تَذكر شيئاً من هذه المصادر لتَبنَى عليه كلاما كما يبنى على عبد الله إذا ابتدأتَه، وأَنّك لم تجعله مبنيَّا على اسمٍ مضمَر فى نِيّتك، ولكنه على دُعائِك له أو عليه.
وأمّا ذكرُهم " لك " بعد سَقْياً فإنّما هو ليبيَّنوا المعنَّى بالدعاءِ. وربَّما تركوه استغناءً، إذا عَرَفَ الدّاعِى أنّه قد عُلم مَنْ يَعنى. وربَّما جاء به على(1/312)
العلم توكيداً، فهذا بمنزلة قولك: " بِكَ " بعد قولك: مَرْحَباً، يَجريانِ مَجْرًى واحداً فيما وصفتُ لك.
وقد رَفعتِ الشعراءُ بعضَ هذا فجعلوه مبتدأ وجعلوا ما بعده مبنيّا عليه.
قال أبو زُبَيْدٍ:
أَقامَ وأَقْوى ذاتَ يومٍ وخَيْبَةٌ ... لأول من يَلْقَى وشَرٌّ مُيسَّرُ
وهذا شبيهٌ رفعه ببيتٍ سمعناه ممَّن يوثق بعربيته، يَرويه لقومه، قال:
عَذِيُركَ من مَوْلًى إذا نِمْتَ لم يَنَمْ ... يقولُ الخَنَا أو تَعْتَرِيكَ زَنابِرُه
فلم يَحمل الكلام على اذعرين، ولكنّه قال: إنَّما عُذرُك أيّاى من مولّى هذا أمره.(1/313)
ومثله قول الشاعر:
أَهاجَيْتُمُ حَسّانَ عند ذَكائِه ... فَغَىٌّ لأَولادِ الحِماسِ طَويلُ
وفيه المعنى الذى يكونُ فى المنصوب، كما أنّ قولَك: رحمةُ اللهِ عليه، فيه معنى الدّعاءِ، كأنّه قال: رَحِمهُ اللهُ.
هذا باب
ما جرى من الأسماءِ مجرى المَصادِرِ
التى يُدْعَى بها
وذلك قولك: تُرْباً، وجَنْدَلاً، وما أِشبه هذا. فإِن أدخلت " لك " فقلت: ترباً لك. فإن تفسيراً ههنا كتفسيرها فى الباب الأوّل، كأَنه قال: أَلْزَمك اللهُ وأَطعَمك اللهُ تُرباً وجندلاً، وما أشبه " من الفعل "، واختزل(1/314)
الفعلُ ها هنا لأنَّهم جعلوه بدلاً من قولك: تَرِبَتْ يداك " وجُنْدِلتَ ".
وقد رَفَعَه بعض العرب فجعله مبتدأَ مبنيًّا عليه ما بعده، قال الشاعر:
لقد أَلَبَ الواشون أَلْباً لبَيْنهِمْ ... فتُرْبٌ لأَفواهِ الوُشاةِ وجَنْدَلُ
وفيه ذلك المعنى الذى فى المنصوب كما كان ذلك فى الأوّل. ومن ذلك قول العرب: فَاهَا لفيكَ، وإنما تريد: فا الدَّاهيِة كأَنه قال: تُرْباً لفيك فصار بدلا من اللفظ بالفعل وأََضمر له كما أَضمر للتُرْب والجندلِ، فصار بدلا من اللفظ بقوله: دهاك اللهُ. وقال أبو سِدْرةَ " الهُجَمى ":
تَحسَّبَ هَوَّاسٌ، وأَقْبَلَ، أَنّنى ... بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا أُغامِرُهْ(1/315)
فقلتُ له: فاها لفيكَ فإنّها ... قَلوصُ امْرِئٍ قارِيكَ ما أنت حاذِرُه
ويدلُّك على أنه يريد به الداهية قوله، وهو عامر ابن الأحوص:
وداهية من دواهي المنو ... ن تَرْهَبُها الناسُ لا فَالَها
فجعل للداهية فَماً، حدثنا بذلك من يوثق به.
وهذا باب
ما أُجرى مُجرى المَصادر المَدْعُوَّ بها
من الصفات
وذلك قولك: هَنِيئاً مَرِياً " كأَنّك قلت: ثَبَتَ لك هَنيئاً مَريئاً، وهَنأَه(1/316)
ذلك هَنيئاً ". وإنَّما نصبتَه لأنّه ذَكر " لك " خيراً أًصابه رجلٌ فقلتَ: هنيئاً مريئاً، كأَنّك قلت: ثَبَتَ ذَلك له هنيئاً مريئاً أو هنأه ذلك هنيئاً، فاختُزِلَ الفعلُ، لأنه صار بدلاً من اللفظ بقولك: هَنَأَك.
ويدلُّك على أنَّه على إضمار هنأَك ذلك هنيئاً، قولُ الشاعر، وهو الأخطل:
إلى إمامٍ تُغادِينا فَواضِلُه ... أَظْفَرَهَ اللهُ فَلْيَهْنِئْ له الظَّفَرُ
كأَنّه إذا قال: هنيئاً له الظَّفرُ، فقد قال: ليَهْنِئْ له الظفرُ، وإذا قال: ليهنِئْ له الظَّفرُ، فقد قال: هنيئاً له الظَّفرُ، فكلُّ واحد منهما بدلٌ من صاحبه، فلذلك اختَزَلَوا الفعلَ هنا، كما اختزلوه فى قولهم: الحَذَرَ. فالظفرُ والهنئ عَمِلَ فيهما الفعلُ، والظَّفرُ بمنزلة الاسم فى قوله: هَنأهُ ذلك حين مُثّل. وكذلك قول الشاعر:(1/317)
هَنيئاً لأَربابِ البُيوتِ بُيوتهم ... وللعَزَب المِسْكينِ ما يتلمس
باب ما جرى من المَصادر المضافِة مَجرى
المصادر المُفرَدَةِ المَدْعُوَّ بها
وإنَّما أُضيفت ليكونَ المضافُ فيها بمنزلته فى اللام إذا قلت: سَقْياً لك، لتبيَّن من تَعنى.
وذلك: وَيْلَكَ، ووَيْحَكَ، ووَيْسَكَ، ووَيْبَكَ. ولا يجوز: سَقْيَكَ، إنما تجرىي ذا كما أَجرت العربُ.
ومثلُ ذلك: عَددتُك وكِلْتُك " ووزنُتك "، ولا تقول: وهَبْتُك، لأنَّهم لم يُعَدّوه. ولكنْ: وهبتُ لك.
وهذا حرفٌ لا يُتكلَّم به مفرَدا إلاّ أن يكون على وَيْلَك، وهو قولك: وَيْلَك وعَوْلَك، ولا يجوز: عَوْلَك.
هذا باب
ما يَنتصب على إضمار الفِعل المتروكِ إظهارُه
من المَصادر فى غير الدُّعاء
من ذلك قولك: حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً وعَجَبا، وأَفْعَلُ ذلك وكَرامةً(1/318)
ومَسَرَّةً ونُعْمَةَ عَيْنٍ، وحُبّاً ونَعامَ عَيْنٍ، ولا أَفْعَلُ ذاك ولا كَيْداً ولا هَمًّا، ولأََفعلنّ ذاك ورَغْماً وهواناً.
فإنّما يَنتصب هذا على إضمار الفعل، كأَنك قلت: أَحْمَدُ الله حمدا وأشك الله شُكْرا، وكأَنَّك قلت: أَعْجَبُ عَجَبا، وأُكْرِمُك كَرامةً، وأَسُرُّك مَسَرّةً، ولا أَكادُ كَيْدا ولا أَهُمُّ هَمّاً، وأُرْغِمُك رَغْماً.
وإنّما اختُزِلَ الفعلُ ههنا لأنَّهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل، كما فعلوا ذلك فى باب الدُّعاء. كأَنّ قولك: حَمْداً فى موضع أَحْمَدُ الله، وقولك: عَجَباً منه فى موضع أَعْجَبُ منه، وقولَه: ولا كَيْداً فى موضع ولا أَكادُ ولا أَهُمُّ.
وقد جاء بعضُ هذا رفعاً يُبتدأُ ثمّ يُبنَى عليه. وزعم يونسُ أنّ رؤبة ابن العّجاجِ كان يُنْشِدُ هذا البيتَ رفعاً، وهو لبعض مذحج، " وهو هني ابن أَحمرَ الكِنانى ":
عَجَبٌ لِتلْكَ قَضِيّةً وإقامتى ... فيكمْ على تلك القضِيّة أَعْجَبُ
وسمعنا بعضَ العرب الموثوقَ به، يقال له: كيف أَصبحتَ؟ فيقولُ: حمدُ اللهِ وثناءٌ عليه، كأَنَّه يَحمله على مضمَرٍ فى نيّته هو المظهَرُ، كأَنّه يقول: أمري(1/319)
" وشأنى " حمدُ الله وثناءٌ عليه. ولو نَصَبَ لكان الذى فى نفسه الفعلَ، ولم يكن مبتدأ لبيني عليه ولا ليكون مبنياً على شيء هو ما أَظْهَرَ.
وهذا مثلُ بيتٍ سمعناه من بعض العرب الموثوق به يَرويه:
فقالت حَنانٌ ما أَتى بك ههنا ... أَذَو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحىِّ عارِفُ
لم تُرِدْ حِنَّ، ولكنها قالت: أمرنُا حَنانٌ، أو ما يصيبنا حنانٌ. وفى هذا المعنى كلّه معنى النصب.
ومثلُه فى أنَّه على الابتداء وليس علِى فعلٍ قولُه عزّ وجلَّ: " قالوا معذرة إلى ربكم ". لم يريدُوا أن يَعتذروا اعتذاراً مستأنَفاً من أمرٍ لِيمُوا عليه، ولكنَّهم قيل لهم: " لِمَ تَعِظُونَ " قَوْماً "؟ قالوا: مَوْعِظتُنا مَعْذِرَةٌ إلَى رَبَّكُم.
ولو قال رجلٌ لرجلٍ: معذرةً إلى الله وإليك من كذا وكذا، يريد اعتذاراً، لنصب.(1/320)
ومثل ذلك قولُ الشاعر:
يَشْكو إلىَّ جَمَلِى طُولَ السُّرَى ... صَبرٌ جَميل فكِلانا مُبْتَلَى
والنصبُ أكثر وأجود؛ لأنه يأمره. ومَثَلُ الرفع " فصبر جميل والله المستعان "، كأنه يقول: الأمرُ صبرٌ جميلٌ.
والذى يُرْفَعُ عليه حَنانٌ وصبرٌ وما أشبه ذلك لا يُستعمل إظهارُه، وتركُ إظهاره كتركِ إظهارِ ما يُنْصَبُ فيه.
ومثلُه قول بعض العرب: مَنْ أنتَ زيدٌ، أى من أنت كلامُك زيدٌ، فتركوا إظهارَ الرافع كترك إظهار الناصب، ولأنَّ فيه ذلك المعنى وكان بدلاً من اللفظ بالفعل، وسترى مثلَه إن شاء الله.(1/321)
هذا بابٌ أيضاً من المصادر يَنتصب
بإضمار الفعل المتروك إظهارُه
ولكنَّها مصادرُ وُضعَتْ موضعاً واحدا لا تَتصرَّفُ فى الكلام تصرُّفَ ما ذكرنا من المصادر. وتصرُّفُها أنّها تَقَعُ فى موضع الجرَّ والرفع وتدخلُها الألفُ واللام.
وذلك قولك: سُبْحانَ اللهِ، ومَعاذَ اللهِ ورَيْحانَه، وعَمْرَك الله إلاّ فعلتَ " وقِعدَك الله إلاَّ فعلتَ "، كأَنّه حيث قال: سُبْحانَ اللهِ قال: تسبيحاً، وحيث قال: وريحانَه قال: واستِرْزاقاً؛ لأنَّ معنى الرَّيْحانِ الرَّزْقُ. فَنصَبَ هذا على أُسَبَّحُ الله تسبيحا، وأَستْرزِقُُ الله استرزاقا؛ فهذا بمنزلة سبحانَ اللهِ وريْحانَه، وخُزِلَ الفعلُ ههنا لأنَّه بدلٌ من اللفظ بقوله: سبحك وأَسترزقُك.
وكأَنّه حيث قال: معاذَ اللهِ، قال: عِياذاً باللهِ. وعياذاً انتَصب على أَعوذُ باللهِ عياذا، ولكنهم لم يُظْهرِوُا الفعل ههنا كما لم يُظهر فى الذى قبله.
وكأَنّه حيث قال: عَمْرَك الله وقعِدْك الله. قال: عَمّرتُك الله بمنزلة نَشدتُك الله، فصارت عَمْرَك الله منصوبةً بعمَّرتُك الله، كأَنك قلتَ: عمّرتُك عَمرا، ونشدتك نَشْداً، ولكنَّهم خَزلوا الفعل لأنَّهم جعلوه بدلاً من اللفظ به.(1/322)
قال الشاعر:
عمرتك الله إذا ما ذَكْرتِ لنا ... هل كنتِ جارتَنا أَيّامَ ذى سَلَمِ
فقِعْدَك الله يَجرى هذا المجرى وإن لم يكن له فِعْل. وكأَنّ قوله: عَمْرَك الله وقِعْدَك الله بمنزلة نَشْدَك الله وإن لم يُتكلَّم بنَشْدَك الله، ولكن زعم الخليل رحمه الله أنّ هذا تمثيلٌ يمثَّل به. قال الشاعر، ابن أحمرَ:
عَمَّرتُكَ الله الجَليلَ فإِنّنى ... أَلْوِى عليكَ لَوَ أنّ لُبَّكَ يَهْتَدِى
والمصدرُ النَّشدانُ والنَّشدَةُ.(1/323)
وهذا ذكرُ معنى " سُبحانَ "، وإنَّما ذُكر ليبيَّن لك وجهُ نصبِه وما أِشبهه.
زعم أبو الخَطّاب أنّ سُبْحانَ اللهِ كقولك: بَرَاءَةَ اللهِ من السُّوءِ، كأَنَّه يقول: " أبرَّئُ " براءةَ الله من السُّوء. وزعم أنَّ مثلَه قولُ الشاعر، وهو الأعشى:
أقول لما جاءَنى فَخْرُه ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخِرِ
أى براءةً منه.
وأمّا تركُ التنوين فى سُبْحانَ فإِنما تُرك صرفُهُ لأنه صار عندهم معرفةً، وانتصابُه كانتصاب الحمدَ لله.
وزعم أبو الخَطّاب أَنّ مثَلَه قولُك للرجل: سَلاماً، تريد تسلُّماً منك، كما قلت: براءَةً منك، تريد: لا ألتبس بشيء من أمرك. وزعم أنّ أبا ربيعةَ كان(1/324)
يقول: إذا لقيتَ فلانا فُقْل " له " سَلاماً. فزعم أنه سأَله ففَسَّرَه له بمعنى براءةً منك. وزعم أنّ هذه الآية: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " بمنزلة ذلك، لأنّ الايَةَ فيما زَعم مكّيّةٌ، ولم يؤمَرِ المسلمون يومئذ أن يسلَّموا على المشركين، ولكنّه على قولك: " براءة منكم " وتسلُّما، لا خيرَ بيننا وبينكم ولا شرَّ.
وزعم أنّ قولَ الشاعر، وهو أُميّةُ بن أبى الصَّلْت:
سَلامَك ربَّنا فى كلّ فَجرٍ ... بَرِيئاً ما تَغَنَّثُكَ الذُّمومُ
على قوله: براءتَك ربَّنا من كلّ سوء.
فكلُّ هذا يَنتصب انتصاب حَمداً وشُكْراً، إلاّ أنَّ هذا يَتصرّف وذاك لا يَتصرّف.
ونظير سُبْحانَ الله فى البناء من المصادر والمجرى لا فى المعنى " غُفْرانَ "؛ لأنّ بعض العرب يقول: غُفْرانَك لا كُفْرانَك، يريد استغفاراً لا كُفْراً.
ومثل هذا(1/325)
قوله جلّ ثناؤه: " ويقولون حجرا محجورا، أى حراماً محرماً، يريدبه البراءةَ من الأمر ويبعَّدُ عن نفسه أمراً، فكانه قال: أُحَرَّمُ ذلك حَراماً محرَّما.
ومثل ذلك أن يقول الرجلُ للرجل: أتَفعل كذا وكذا؟ فيقولُ: حِجراً، أى سِتْرا وبراءةً من هذا. فهذا يَنتصب على إضمار الفعل، ولم يُرِدْ أن يَجعله مبتدأ خبره بعده ولا مبنيًّا على اسم مضمَرٍ.
واعلم أنَّ من العرب من يَرفع سلاما إذا أراد معنى المبارأةِ، كما رفعوا حَنانٌ. سمعنا بعضَ العرب يقول " لرجل ": لا تكونن مني " في شيء " إلاَّ سلامٌ بسَلامٍ، أى أمرى وأمرُك المبارأةُ والمتاركةُ. وتركوا لفظ ما يَرفعُ كما تركوا فيه لفظَ ما يَنصب، لأنَّ فيه ذلك المعنى، ولأنَّه بمنزلة لفظِك بالفعل.
وقد جاء سُبْحانَ منوَّنا مفرَداً فى الشعر، قال الشاعرُ، وهو أمية ابن أبى الصلت:
سُبحانَه ثم سُبْحاناً يَعودُ له ... وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِىُّ والجُمُدُ(1/326)
شبّهه بقولهم: حِجْراً وسَلاما.
وأمّا سُبّوُحاً قُدُّوساً رَبَّ الملائكةِ والرُّوحِ، فليس بمنزلة سُبحانَ اللهِ؛ لأنّ السُّبّوحَ والقُدّوسَ اسمٌ، ولكنَّه على قوله: أَذْكرُ سُبُّوحاً قُدّوساً. وذاك أنَّه خَطَرَ على باله أو ذكره ذاكر فقال: سبوحاً، أى ذكرتَ سُبّوحاً، كما تقولُ: أهلَ ذاك، إذا سمعتَ الرجلَ ذَكَرَ الرجلَ بثناءٍ أو يذم، كأَنّه قال: ذكرتَ أهلَ ذاك؛ لأنَّه حيث جرى ذكرُ الرجل " فى منطقة " صار عنده بمنزلة قوله: أَذكُرُ فلانا، أو ذكرتَ فلانا. كما أنَّه حيثُ أَنْشَدَ ثم قال: صادِقاً، صار الإِنشادُ عنده بمنزلة قاَلَ، ثم قال: صادِقاً وأهلَ ذاك، فحملَه على الفعل متابِعاً للقائل والذاكرِ. فكذلك: سُبُّوحاً قُدّوسا، كأَنَّ نفسهَ " صارت " بمنزلة الرجل الذاكر والمنشِدِ حيث خطر على باله الذكرُ، ثم قال: سبُّوحا قُدّوسا، أى ذكرتَ سُبُّوحا، متابِعاً لها فيما ذكَرت وخطَر على بالها.
وخَزَلوا الفعلَ لأنَّ هذا الكلام صار عندهم بدلا من سبَّحت، كما كان مَرْحبا بدلا من رَحُبَت بلادُك وأَهِلَتْ.
ومن العرب من يَرفع فيقولُ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ " رَبَّ الملائكة والرُّوح "، كما قال: أهلُ ذاك وصادقٌ واللهِ. وكلُّ هذا على ما سمعنا العربَ تَتكلَّم به رفعا ونصباً.
ومثلُ ذلك: خَيْرُ ما رُدَّ فى أهلٍ ومالٍ، " وخَيْرَ ما رُدَّ فى أهلٍ ومالٍ " أُجرى مُجرى خيرَ مقدمٍ وخيرُ مقدمٍ.(1/327)
ومما يَنتصب فيه المصدرُ على إضمار الفعلِ المتروك إظهارُه، ولكنَّه فى معنى التعجُّبِ، قولُك: كَرَماً وصَلَفاً، كأَنَّه قال: أَلْزَمَك اللهُ وأَدامَ لك كَرَماً وأُلْزِمْتَ صَلَفاً، ولكنهم خَزَلُوا الفعلَ ههنا كما خزلوه فى الأوّل، لأنَّه صار بدلا من قولك: أَكرِمْ به وأَصْلِفْ به، كما انتَصب مَرْحَباً. وقلتَ " لَكَ "، كما قلت " بِكَ " بعد مَرْحَباً، لتبيّن من تَعنى، فصار بدلاً فى اللفظ من رَحُبَتْ " بلادُك.
وسمعتُ أَعرابيا وهو أبو مُرْهِبٍ، يقول: كَرَماً وطُولَ أنف، أي أكرم بك وأطول بأنفك ".
بابٌ يُختار فيه أن تكون المصادرُ مبتدأة
مبنياً عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات وذلك قولك: الحمدُ لله، والعَجَبُ لك، والوَيلُ لك، والتُّرابُ لك، والخَيْبةُ لك.
وإنّما استحبّوا الرفعَ فيه لأنَّه صار معرفةً وهو خَبَرٌ فقَوىَ فى الابتداء، بمنزلة عبد الله والرجل الذي تَعلم، لأنَّ الابتداءَ إنَّما هو خَبَرٌ، وأَحسنْه إذا اجتمع نكرة ومعرفة أن يبتدئ بالأعرف؛ وهو أصل الكلام.(1/328)
ولو قلت: رجلٌ ذاهبٌ لم يَحسن حتَّى تعرفه بشيء فتقولَ: راكبٌ من بنى فلان سائرٌ. وتَبيعُ الدارَ فتقولُ: حدٌّ منها كذا وحدٌّ منها كذا، فأصلُ الابتداء للمعرفةِ. فلما أدخلتَ فيه الألف واللام وكان خبراً حَسُنَ الابتداءُ، وضَعُفَ الابتداءُ بالنكرة إلاَّ أن يكون فيه معنى المنصوب.
وليس كلُّ حرف يُصْنَعُ به ذاك، كما أنّه ليس كلُّ حرفٍ يَدخل فيه الألفُ واللام من هذا الباب. لو قلت: السَّقْىُ لك والرَّعْىُ لك، لم يجز.
واعلم أنَّ الحمدُ لله وإن ابتدأتَه ففيه معنى المنصوب، وهو بدل من اللفظ بقولك: أَحمَدُ الله.
وأما قوله: شيء ما جاءَ بك، فإِنه يَحسُن وإن لم يكن على فعل مضمَرٍ، لأنّ فِيهِ معنى ما جاء بك إلا شيء. ومثلُه مَثَلٌ للعرب: " شرٌّ أهَرَّ ذا ناب ".
وقد ابتُدئَ فى الكلام على غير ذا المعنى وعلى غير ما فيه معنى المنصوبِ وليس بالأصل، قالوا فى مَثَلٍ: " أَمْتٌ فى الحجر لا فيكَ ".
ومن العرب من يَنصب بالألف واللام، من ذلك قولك: الحمدَ لله، فينصبها عامَّةُ بنى تميم وناسٌ من العرب كثير.(1/329)
وسمعِنا العرب الموثوقَ بهم يقولون: التُّرابَ لك والعَجَب لك. فتفسيرُ نصبِ هذا كتفسيره حيث كان نكرةً، كأَنّك قلت: حمداً وعجباً، ثم جئت بلَكَ لتبيَّن مَنْ تَعنى، ولم تَجعله مبنيًّا عليه فتبَتدئَهُ.
هذا بابٌ من النكرة
يَجرى مجرى ما فيه الألفُ واللام من المصادر والأسماء
وذلك قولك: سلامٌ عليك ولَبَّيْك، وخيرٌ بين يديك، ووَيْلٌ لك، ووَيْحٌ لك، ووَيْسٌ لك، ووَيلةٌ لك، وعَوْلةٌ لك، وخيْرٌ له، وشرٌّ له، و " لعنة الله على الظالمين ".
فهذه الحروف كلها مبتدأ مبنىٌّ عليها ما بعدها، والمعنى فيهنَّ أنّك ابتدأ شيئاً قد ثَبَتَ عندك، ولَسْتَ فى حال حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها، وفيها ذلك المعنى، كما أنّ حسبُك فيها معنى النهى، وكما أنّ رحمةُ الله عليه فيه معنى رَحِمَه اللهُ. فهذا المعنى فيها، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذا ذكرته كنتَ فى حال ذكرك إيّاها تَعملُ فى إثباتها وتزجيتها، كما أنَّهم لم يجعلوا سَقْياً ورعيا بمنزلة هذه الحروف، فإنما تجريها كما أجرت العرب، وتضعها في المواضع التى وُضعن فيها، ولا تُدْخِلَنَّ فيها ما لم يُدخِلوا من الحروف. ألا أترى أنَّك لو قلت: طَعاماً لك وشَراباً لك ومالاً لك، تريد معنى سَقْياً، أو معنى المرفوعِ الذى فيه معنى الدعاءِ لم يجز، لأنَّه لم يُستعمَل هذا الكلامُ كما استُعمل ما قبله. فهذا يدلك ويبصرك أنه ينبغي لك أن تجري هذا الحروفَ كما أجرتِ(1/330)
العربُ وأَنْ تَعْنِىَ ما عَنَوْا " بها ". فكما لم يجز أن يكون كلُّ حرف بمنزلة المنصوب الذى أنت فى حال ذكرك أياه تَعملُ فى إثباته وتزجيته، ولم يجز لك أن تَجعل المنصوبَ بمنزلة المرفوع. إلاّ أنَّ العرب ربَّما أجرتِ الحروفَ على الوجهينِ.
ومَثَلُ الرفع: " طُوبَى لَهُمْ وَحُسنُ مآبٍ "، يدلُّك على رفعها رفع حسن مآب. وأمَّا قوله تعالى جدُّه: " ويل يومئذ للمكذبين " و " ويل للمطففين "، فإِنّه لا ينبغى أن تقول إنّه دعاءٌ ههنا، لأنّ الكلام بذلك قبيح، واللفظ " به " قبيحٌ، ولكنّ العبادَ إنَّما كُلَّموا بكلامهم، وجاء القرآنُ على لغتهم وعلى ما يَعنون، فكأَنَّه واللهُ أعلمُ قيل لهم: وَيلٌ لِلْمُطَفَّفِينَ، ووَيْلُ " يَوْمَئِذٍ " لِلمُكَذَّبِينَ، أى هؤلاءِ ممن وجب هذا القولُ لهم، لأنَّ هذا الكلامَ إنّما يقال لصاحب الشر والهلكلة، فقيل: هؤلاء ممن دخل فى الشرّ والهلكة ووجَبَ لهم هذا.
ومِثل ذلك " قوله تعالى ": " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ". فالعلمُ قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهَبَا أنتما فى رَجائكما وطَمَعِكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثرُ من ذا ما لم يَعْلَما.(1/331)
ومثله: " قاتلهم الله "، فإِنما أُجرى هذا على كلام العباد وبه أُنزل القرآنُ.
وتقول: وَيلٌ له وَيْلٌ طويلٌ، فإِنْ شئت جعلته بدلاً من المبتدإ الأوّل، وإن شئت جعلته صفةً له، وإن شئت قلت: وَيلٌ لك وَيْلاً طويلا، تجعلُ الويلَ الاخِرَ غيرَ مبدول ولا موصوف به، ولكنَّك تَجعله دائماً، أى ثَبَتَ لك الويلُ دائما.
ومن هذا الباب: فِداءٌ لك أبى وأمّى، وحِمى لك أبى، ووِقاءُ لك أمّى.
ولا تقول: عَولةٌ لك إلاَّ أن يكون قبلها وَيْلةٌ لك، ولا تقول: عَوْلٌ لك حتَّى تقول: وَيْلٌ لك؛ لأنّ ذا يتبع ذا، كما أنّ يَنُوءُك يَتْبَعُ يَسُوءُك ولا يكون ينوءُك مبتدأ.(1/332)
واعلم أن بعض العرب يقول: وَيْلاً له وويلةً له، وعولةً لك، ويجريها مجرى خَيْبَةً. من ذلك قول الشاعر، وهو جرير:
كَسَا اللؤم تيماً خضرة في جولدها ... فَوْيلاً لتيمٍ من سرَابِيلها الخُضْرِ
ويقول الرجل: يا وَيْلاهُ! فيقولُ الآخَر: وَيْلاً كَيْلاً! كأَنّه يقول: لك ما دعوتَ به وَيْلاً كَيْلاً. يدلك على ذلك قولهم إذا قال يا ويلاه: نعم ويلا كيلاً، أي كذلك أمرك، أو لك الويل ويلا كيلا. وهذا مشبَّة بقوله: ويل له وَيْلاً كَيْلاً. وربَّما قالوا: يا ويلاً كيلاً، وإن شاء جعله على قوله: جَدْعاً وعقراً.(1/333)
بابٌ منه استَكرهه النحويّون، وهو قبيح
فوضعوا الكلامَ فيه على غير ما وضعت العرب وذلك قولك: وَيحٌ له وتَبٌّ، وتبًّا لك ووَيْحاً. فجعلوا التَّبَّ بمنزلة الوَيْحِ، وجعلوا ويحٌ بمنزلة التَّبَّ، فوضعوا كلَّ واحد منهما على غير الموضع الذي وَضَعَتْه العربُ.
ولا بُدَّ لوَيْحٍ مع قبحها من أن تُحْمَلَ على تب، لأنها إذا ابتدأت لم يجزْ حتى يُبْنَى عليها كلامٌ، وإذا حملتها على النصب كنت تبنيها على شيء مع قُبْحِها. فإِذا قلتَ: وَيحٌ له ثم ألحقتَها التبَّ فإِنّ النصبَ فيه أحسنُ؛ لأن تبًّا إذا نصبتَها فهى مستَغنيةٌ عن لَك، فإِنمَّا قَطعتَها من أوّلِ الكلام كأَنك قلتَ: وتبًّا لك، فأجريتَها على ما أجرتْها العربُ.
فأمْا النَّحويّون فيجعلونها بمنزلة وَيْحٍ. ولا تُشبههُا لأنَّ تبًّا تَستغنى عن لَكَ ولا تَستغنى وَيْحٌ عنها، فإِذا قلتَ: تبًّا له ووَيْحٌ له فالرفعُ ليس فيه كلامٌ، ولا يَختلف النحويّون فى نصبِ التبّ إذا قلت: وَيحٌ له وتبّا له. فهذا يدلّك على أنَّ النصبَ فى تبّ فيما ذكرنا أحسنُ، لأنّ " له " لم يَعمْلْ فى التبَّ.(1/334)
هذا بابُ ما ينتصب فيه المصدرُ
كان فيه الألفُ واللام أو لم يكن فيه على إضمارِ الفعلِ المتروكِ إظهارُه، لأنه يَصيرُ فى الإِخبارِ والاستفهامِ بدلا من اللفظ بالفعل، كما كان الحَذَرَ بدلا من احْذَرْ فى الأمر وذلك قولك: ما أنت إلاّ سَيراً، وإلاَّ سَيراً سَيْراً، وما أنت إلاّ الضَّربَ الضربَ، وما أنت إلاّ قَتْلا قَتْلا، وما أنت ألاّ سَيرَ البَريِد " سيرَ البريِد ". فكأَنه قال فى هذا كلَّه: ما أنت إلاّ تَفْعَلُ فعلاً، وما أنت إلاّ تَفعَلُ الفعلَ، ولكنَّهم حذفوا الفعل لما ذكرتُ لك.
وصار فى الاستفهام والخَبَرِ بمنزلته فى الأمرِ والنهى لأنَّ الفعلَ يقع ههنا كما يقع فيهما، وإن كان الأمرُ والنهىُ أقوى، لأنَّهما لا يكونان بغير فعلٍ، فلم يَمتنع المصدرُ ههنا " أن يَنتصب "، لأنَّ العمل يقع ههنا مع المصدر فى الاستفهام " والخبرِ، كما يقع فى الأمر والنهى، والآخِرُ غيرُ الأوّل كما كان ذلك فى الأمر والنهى، إذا قلت: ضَرْباً فالضربُ غيرُ المأمور ".
وتقول: زيدٌ سيراً سيراً، وإن زيداً سيرا سيرا، وكذلك فى لَيْتَ ولَعَلَّ ولكنّ وكأَنّ وما أشبه ذلك، " وكذلك إن قلت: أنت الدَّهرَ سَيْرا سَيْرا "، وكان عبدُ الله الدَّهرَ سَيْراً سيرا، وأنت مُذُ اليومِ سَيرا سيراً.(1/335)
واعلم أنَّ السيرَ إذا كنتَ تخبر عنه فى هذا الباب فإنَّما تُخْبِرُ بسَيْرٍ متّصِلٍ بعض ببعضٍ فى أىَّ الأحوال كان. وأمَّا قولك: إنما أنت سيرٌ فإِنما جعلتَه خبراً لأنتَ ولم تضمِرُ فِعْلا. وسنبيَّن لك وجهَه إن شاء الله.
ومن ذلك قولك: ما أنت إلاّ شُرْبَ الإِبل، وما أنت إلاّ ضربَ الناس، وما أنت إلاّ ضرباً الناسَ. وأمّا شربَ الإِبلِ فلا ينوَّنُ لأنك لم تشبّهه بشرب الإِبل، وأنَّ الشربَ ليس بفعلٍ يَقع منك على الإِبل.
ونظيرُ ما انتَصب قولُ الله عزّ وجلّ فى كتابه: " فإما منا بعد وإما فداء "، إنّما انتصب على: فإمّا تَمنّون منًّا وإمّا تُفادون فداءً، ولكنَّهم حذفوا الفعلَ لما ذكرتُ لك.
ومثله قول " الشاعر، وهو " جرير:
أَلَمْ تَعْلَم مُسَرَّحِىَ القَوافِى ... فلا عِيًّا بهنّ ولا اجتلابا
كانّه نَفَى قولَه: فِعيًّا بهنّ واجتلابا، أى فأَنا أَعْيَا بهنّ وأَجتلِبُهن اجتلابًا، ولكنه نَفَى هذا حين قال: " فلا ".
ومثُله قولك: أَلم تَعلم يا فلانُ مَسِيرى فإِتعاباً وطَرداً. فإِنَّما ذَكَرَ مُسرَّحَه وذكر مَسيره، وهما عَمَلانِ، فجعل المسيرَ إتعابا وجعل المسرح لا عي فيه، وجعله فعلاً متَّصِلا إذا سار وإذا سَرَّحَ.
وإِنْ شئتَ رفعت هذا كلَّه فجعلتَ الآخِرَ هو الأوّلَ، فجاز على سعة الكلام. من ذلك قولُ الخنساء:(1/336)
تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ حتَّى إذا ادَّكرتْ ... فإِنَّما هى إقبالٌ وإدبارُ
فجعلها الإِقبالَ والإِدبارَ، فجاز على سعة الكلام، كقولك: نهارُك صائمٌ وليلك قائمٌ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو متمَّم بن نُويرْة:
لَعَمْرى وما دَهْرِى بتَأْبينِ هالِكٍ ... ولا جَزَعٍ مما أصابَ فأَوْجَعَا
جَعَلَ دهرَه الجَزَعَ. والنصبُ جائزٌ على قوله: فلا عيًّا بهنّ ولا اجتلابَا. وإنّما أراد: وما دهرى دهرُ جزَعٍ، ولكنَّه جاز على سعة الكلام، واستخفوا واختصوا كما فُعل ذلك فيما مضى.(1/337)
وأمّا ما يَنتصب فى الاستفهام من هذا الباب فقولُك: أَقِياماً يا فلانُ والناسُ قعودٌ، وأََجُلوساً والناسُ يعدُون، لا يريد أن يُخبرِ أنه يَجلس ولا أنَّه قد جلس وانقضى جلوسُه، ولكنه يُخبرِ أنَّه فى تلك الحال فى جُلوسٍ وفى قيامٍ.
وقال الراجز، وهو العّجاج:
أَطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِىُّ
وإنّما أراد: أَتَطْرَبُ، أى أنت فى حال طَرَبٍ؟ ولم يُرِد أن يُخبِر عما مضى ولا عما يُستقبَل.
ومن ذلك قول بعض العرب: " أَغُدّةً كغُدّة البعير ومَوْتاً فى بيتِ سَلُولِيَّةٍ "، كأَنه إنما أراد: أَأَغَدُّ غُدّةً كغُدّة البعير وأَموتُ موتا فى بيتِ سَلوليّةٍ. وهو بمنزلة أَطَرَباً، وتفسيره كتفسيره.(1/338)
وقال جريرٌ:
أَعَبْداً حَلَّ فى شُعَبَى غَرِيباً ... ألؤماً لا أبا لك واغترابا
يقول: أَتَلؤُم لُؤْمًا وأَتَغترب اغترابا، وحَذَفَ الفعلين فى هذا الباب، لأنَّهم جعلوه بدلاً من اللفظ بالفعل، وهو كثيرٌ فى كلام العرب.
" وأما عبداً فيكون على ضربينِ: إن شئت على النداء، وإن شئت على قوله: أَتَفتخر عبداً، ثم حذف الفعل ".
وكذلك إن أخبرتَ ولم تَستفهم، تقول: سَيْراً سيراً، عنيتَ نفسَك أو غيرَك، وذلك أنَّك رأيت رجلاً فى حال سيرٍ أو كنت في حال سير، أو ذكر رجل يسير أو ذُكرتَ أنت بِسيرٍ، وجَرى كلامٌ يَحسن بناءُ هذا عليه كما حسن فى الاستفهام. لأنَّك إنما تقول: أَطَرَبًا وأَسَيْراً، إذا رأيتَ ذلك من الحال أو ظننتَه فيه.
وعلى هذا يجرى هذا البابُ إذا كان خبراً أو استفهاما، إذا رأيتَ رجلا فى حال سيرٍ أو ظننتَه فيه، فأَثبتَّ ذلك له.
وكذلك " أنت " فى الاستفهام، إّذا قلتَ: أَأَنت سيراً. ومعنى هذا الباب أنَّه فِعْلٌ متّصِلٌ فى حال ذكرِك إيّاه استفهمتَ أو أَخبرتَ، وأَنّك فى حال ذكِرك شيئاً من هذا الباب تَعْمَلُ فى تثبيِته لك أو لغيرك.(1/339)
ومثل ما تَنصبه فى هذا الباب وأنت تَعنى نفسَك قولُ الشاعرِ:
سَماعَ اللهِ والعُلمَاءِ أَنَّى ... أَعوذ بحَقْوِ خالِكَ يا ابنَ عَمْرِو
وذلك أنه جعل نفسَه فى حالِ مَنْ يُسْمِعُ، فصار بمنزلة من رآه فى حال سيْرٍ فقال: إسَماعا الله، بمنزلة قولك: ما أنت إلاَّ ضربًا الناسَ، وإلاّ ضَربَ الناسِ، إذا حذفتَ التنوينَ تخفيفا.
هذا باب ما ينتصب من الأسماء
التى أُخذت من الأفعالِ انتصابَ الفعل، استفهمتَ أو لم تَستفهم وذلك قولك: أَقائماً وقد قَعَدَ الناسُ، وأَقاعِداً وقد سار الرَّكْبُ. وكذلك إن أردتَ هذا المعنى ولم تَستفهم، تقول: قاعِداً عَلِمَ اللهُ وقد سار الركبُ، وقائماً قد عَلِمَ اللهُ وقد قَعَدَ الناسُ.
وذلك أنّه رأى رجلاً فى حال قيامٍ أو حال قُعودٍ، فأراد أن ينبَّهه، فكأَنّه لَفَظَ بقوله: أتقومُ قائما وأَتَقُعد قاعدا، ولكنَّه حذف استغناءً بما يرى من الحال، وصار(1/340)
الاسمُ بدلاً من اللفظ بالفعل، فجرى مجرى المصدر فى هذا الموضع.
ومثل ذلك: عائذاً بالله من شرّها، كأَنَّه رأى شيئاً يُتَّقَى فصار عند نفسه فى حال استعاذةٍ، حتَّى صار بمنزلة الذى رآه فى حال قيامٍ وقُعودٍ، لأنه يَرَى نفسَه فى تلك الحال، فقال: عائذاً " بالله "، كأَنّه قال: أعوذ بالله عائذاً بالله، ولكنَّه حذف الفعل لأنَّه بدلٌ من قوله: أَعوذُ بالله، فصار هذا يَجرى ها هنا مجرى عِياذاً بالله. ومنهم من يقول: عائذٌ بالله من شرّ فلان.
وإذا ذكرتَ شيئاً من هذا الباب فالفعل متّصِلٌ فى حال ذكرِك وأنت تَعمل فى تثبيته لك أو لغيرك فى حال ذكرِك إيّاه، كما كنتَ فى باب حمداً وسَقياً وما أشبهه، إذا ذكرتَ شيئاً منه فى حال تزجيةٍ وإثباتٍ، وأَجريتَ عائذا " بالله " فى الإِضمارِ والبدل مجرى المصدر، كما كان هَنيئاً بمنزلة المصدر فيما ذكرتُ لك.
وقال الشاعر، وهو عبد الله بن الحارث السَّهمىُّ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/341)
ألحق عذابك بالقوم الذي طَغَوْا ... وعائذَا بك أَنْ يَعْلُوا فيُطْغونِى
فكأَنه قال: وعياذاً بك.
ومثله قوله:
أراك جمعتَ مسألة وحرصاً ... وعند الحق زحاراً أنانا
كأنه قال: " تزحر " زحيراً و " تئن " أَنينا، " ثم وضعه مكان هذا، أى أنت عند الحقّ هكذا ".(1/342)
هذا باب
ما جرى من الأسماء التى لم تؤخذ من الفعل
مجرى الأسماء التى أُخذت من الفعل
وذلك قولك: أَتمَيميًّا مرّة وقَيْسِيًّا أُخْرَى.
وإنَّما هذا أنَّك رأيتَ رجلاً في حال تلون وتنقل، فقلت: أتميماً مرّةً وقيسيًّا أُخْرَى، كأنك قلت: أتحول تميمياً مرة وقيسياً أخرى. فأنت فى هذه الحال تعمل في تثبين هذا له، وهو عندك فى تلك الحال في تلوم وتنقُّلٍ، وليس يَسأله مسترشِداً عن أمرٍ هو جاهلٌ به ليفهَّمَه إيّاه ويُخبِرَه عنه، ولكنه وبَّخه بذلك.
وحدّثنا بعضُ العرب، أنّ رجلاً من بنى أَسَدٍ قال يومَ جَبَلَةَ واستَقبله بَعِيرٌ أَعْوَرُ فتَطَيَّرَ " منه "، فقال: يا بنى أسد، أَعْوَرَ وذا نابٍ! فلْم يرد أن يَسترشدهم ليُخبِروه عن عَوَرِه وصحّته، ولكنه نَبَّهَهم، كأَنه قال: أَتَستقبلون أَعْوَرَ وذا ناب! فالاستقبالُ فى حال تنبيهه إيّاهم كان واقعاً، كما كان التلوُّنُ والتنقَّلُ عندك ثابتينِ فى الحال الأول، وأراد أن يثبت لهم الأعور ليحذوره.
ومثل ذلك قول الشاعر:(1/343)
أَفى السَّلْمِ أَعْيَاراً جَفَاءً وغِلْظَةً ... وفى الحَرْبِ أَشباهَ الإِماءِ العَوارِكِ
أى تَنقَّلُون، وتَلوَّنُونَ مّرةً كذا ومرّةً كذا. وقال:
أَفى الوَلائِمِ أَولاداً لواحِدةٍ ... وفى الِعيادةِ أَولاداً لعَلاَّتِ
وأما قول الشاعر:
أَعبْداً حَلَّ فى شُعَبَى غَريباً(1/344)
فيكون على وجهين: على النداء، على أنَّه رآه في حال افتخار وإجتراءٍ، فقال: أَعبداً، أى أَتَفْخَرُ عبدا، كما قال: أَتميميًّا " مرّةً ".
وإنَ أَخبرتَ فى هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضاً كما نصب فى حال الخبر الاسمَ الذى أُخذ من الفعل، وذلك قولك: تمَيميًّا قد عَلِمَ اللهُ مرة وقيسيًا أُخرى. فلم ترد أن تخبر القوم بأمر قد جهلوه، ولكنك أردت أن تشتمه بذلك، فصار بدلاً من اللفظ بقولك: أتتم مرّةً وتَتَقَيَّسُ أخرى، وأَتَمضون وقد استَقبلكم هذا، وتَنَقَّلُون وتَلَوَّنُون، فصار هذا كهذا، كما كان تُرْباً وجَنْدَلاً بدلاً من اللفظ بتَرِبتَ وجَنْدَلْتَ لو تُكُلَّمَ بِهما.
ولو مثَّلت ما نصبتَ عليه الأعيارَ والأعورَ فى البدل من اللفظ لقلت: أتعيرون مرة، وأتعورون إذا أوضحتَ معناه، لأنَّك إنما تُجريه مجرى ما له فِعْلٌ من لفظه، وقد يجرى مجرى الفعل ويَعمل عملَه، ولكنَّه كان أحسنَ أن توضَّحه بما يُتكلّم به إذا كان لا يغيَّر معنى الحديث. وكذلك هذا النحوُ ولكنه يُتْرَكُ استغناءً بما يَحسُن من الفعل الذى لا يَنقض المعنى.(1/345)
وأما قوله جَلَّ وعزّ: " بلى قادرين "، فهو على الفعل الذى أُظهر، كأَنّه قال: بَلَى نَجمعُها قادرينَ. حدّثنا بذلك يونسُ.
وأما قوله، وهو الفرزدق:
على حَلْفةٍ لا أَشْتِمُ الدَّهْرَ مسلماً ... ولا خارجاً من في وزر كَلامِ
فإِنَّما أراد: ولا يَخرج فيما أَستقبلُ، كأَنّه قال: ولا يَخرج خُروجاً. ألا تراه ذكر " عاهدتُ " فى البيت الذى قبله فقال:
أَلمْ تَرَنِى عاهدتُ ربىَّ وإنَّنى ... لبَيْنَ رِتاجٍ قائماً ومَقامِ
ولو حمله على أنَّه نَفَى شيئاً هو فيه ولم يرد أن يَحمله على عاهدتُ جاز. وإلى هذا الوجه كانَ يَذْهَبُ عيسى فيما نُرَى، لأنَّه لم يكن يَحمله على عاهدتُ.
فإِذا قلتَ: ما أنت إلاّ قائمٌ وقاعدٌ، وأنت تَميمىٌّ مرّةً وقيسىٌّ أخرى، وإنّى عائذ بالله، ارتَفع. ولو قال: هو أَعْوَرُ وذو نابٍ، لَرَفَعَ. هذا كلُّه ليس فيه إلاَّ الرفعُ، لأنّه مبنىّ على الاسم الأوّل، والآخِرُ هو الأوّل فجرى عليه.(1/346)
وزعم يونس أن من العرب من يقول: عائذ بالله، يريد: أنا عائذ بالله، كأَنه أمرٌ قد وقع، بمنزلة الحمدُ لله وما أِشبهه.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ رجلاً لو قال: أَتميمىٌّ، يريد: " أنتَ " ويُضمِرها لأَصاب.
وإنما كان النصبُ ها هنا الوجهَ لأنَّه موضع يكون الاسم فيه عاقباً للّفظِ بالفعل، فاختير فيه كما يختار فيما مضى من المصادر التى فى غير الأسماءِ. والرفُع جيّدٌ لأنَّه المحدَّثُ عنه والمستفهَمُ. ولو قال: أَعوَرُ وذو نابٍ، كان مصيبا.
وزعم يونس أنّهم يقولون: عائذٌ بالله. فإِن أَظهر هذا المضمرَ لم يكن إلاّ الرفعُ، إذ جاز الرفعُ وأنت تُضْمِرُ، وجاز لك أن تحمل عليه المصدَر، وهو غيرُه، فى قوله: أنت سر سَيْرٌ فلم يجز حيث أَظْهَرَ الاسم عندهم إلا الرفع، كما أنّه لو أَظْهَرَ الفعلَ الذى هو بدلٌ منه لم يكن إلاّ نصباً.(1/347)
فكما لم يجزْ فى الإِضمار أن تُضْمِرَ بعد الرفع ناصباً كذلك لم تضمر بعد الإِظهار، وصار المبتدأُ والفعلُ يَعمل كلُّ واحد منهما على " حِدةٍ فى هذا الباب، لا يدخل واحد على " صاحبه.
باب ما يجيء من المصادر مُثَنًّى منتصِبا
على إضمارِ الفعل المتروكِ إظهارُه وذلك قولك: حَنانَيْكَ، كأَنه قال: تحنُّنًا بعد تحنّنِ، " كأَنّه يَسترحمه ليَرحمه "، ولكنَّهم حذفوا الفعل لأنَّه صار بدلاً منه.
ولا يكونُ هذا مثنًّى إلاّ فى حالِ إضافةٍ، كما لم يَكن سُبْحانَ اللهِ ومَعاذَ اللهِ إلا مضافاً. فحنانيك لا يتصرف، كما لا يَتصرّفْ سُبحانَ الله وما أِشبه ذلك. قال الشاعر، وهو طَرَفة بن العبد:
أَبا مُنْذرٍ أَفْنَيْتَ فأسْتْبَقِ بَعْضَنا ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشرَّ أَهْوَنُ من بَعْضِ
وزعم الخليل رحمه الله أنّ معنى التثنية أنّه أراد تحنُّنا بعد تحنّنٍ، كأنه قال:(1/348)
كلّما كنتُ فى رحمةٍ وخيرٍ منك فلا يَنْقَطِعَنَّ وَليَكُنْ موصولا بآخرَ من رحمتك.
ومثلُ ذلك: لَبَّيْك وسَعْدَيْك، وسمعنا من العرب من يقول: سبحانَ اللهِ وحَنانَيْهِ، كأَنّه قال: سبحانَ اللهِ واسترحاماً، كما قال: سبحانَ اللهِ ورَيْحانَه، يريد: واسترزاقَه.
وأمّا قولك: لَبَّيْك وسَعْدَيْك فانتَصب " هذا " كما انتَصب سبحانَ اللهِ، وهو أيضاً بمنزلة قولك إذا أخبرتَ: سَمْعاً وطاعةً. إلاَّ أنّ لَبَّيْك لا يتصرّف، كما أنَّ سبحانَ اللهِ وعَمْرَك الله وقِعْدَك الله لا يتصرّف.
ومن العرب من يقول: سَمْعٌ وطاعةٌ، أى أَمْرى سَمْعٌ وطاعةٌ، بمنزلة:
فقالت حَنانٌ ما أتى بك هاهنا
وكما قال: سَلامٌ.
والذى يَرتفع عليه حَنانٌ وسمع وطاعة غيرُ مستعمَل، كما أنّ الذى يَنتصب عليه لَبَّيْك وسبحانَ اللهِ غير مستعمَل.
وإذا قال: سَمْعاً وطاعةً فهو فى تزجيِة السَّمعِ والطاعةِ، كما قال: حَمْداً وشُكْراً، على هذا التفسير.
ومثل ذلك: حَذارَيْكَ، كأَنَّه قال: لِيكنْ منك حَذَرٌ بعد حَذَرٍ، كما(1/349)
أنَّه أراد بقوله لَبَّيْك وسَعْدَيْك: إِجابةً بعد إجابةٍ، كأنّه قال: كلَّما أَجبتُك فى أمرٍ فأنا فى " الأمر " الآخَر مجيبٌ، وكأَنّ هذه التثنية أشد توكيداً.
ومثله إذا أنَّه قد يكون حالاً وقع عليه الفعلُ، قول الشاعر، وهو عبدُ بنى الحَسْحاسِ:
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى ليس للبُرْدِ لابِسُ
أى مداوَلَتك، ومداوَلةً " لك ". وإن شاء كان حالاً. ومثله أيضاً:
ضَرْباً هذاذيك وطعناً وخضاً(1/350)
ومعنى " تثنية " دَوالَيْكَ أَنَّه فِعْلٌ من اثنينِ، لأنّى إذا داولتُ فمن كلَّ واحدٍ منَّا فعل. وكذلك هذاذيك، كأنه يقلو: هذًّا بعد هذٍّ من كلَّ وجهٍ. وإن شاء حَمَلَه على أنّ الفعلَ وَقَعَ هذًّا بعد هذا، " فَنَصَبَه " على الحال.
وزعم يونس أنّ لَبَّيْك اسمٌ واحدٌ ولكنَّه جاء على " هذا " اللفظ فى الإِضافة، كقولك: عَلَيْكَ.
وزعم الخليل أنَّها تثنيةٌ بمنزلة حَوالَيْكَ، لأنَّا سمعناهم يقولون: حَنانٌ. وبعضُ العرب يقول: " لَبَّ " فيُجريه مُجرى أَمْسِ وغاقِ، ولكنّ موضعَه نصبٌ. وحَوالَيْكَ بمنزلة حَناَنَيْكَ.
ولستَ تحتاج فى هذا الباب إلى أن تُفْرِدَ، لأنَّك إذا أَظهرت الاسمَ تَبَيَّن أنه ليس بمنزلة عَلَيْكَ وإِلَيْكَ؛ لأنك " لا " تقول: لَبَّى زيدٍ وسَعْدَى زيدٍ.
وقد قالوا: حَوالَكَ " فأَفردوا "، كما قالوا: حَنانٌ. قال الراجز:
أَهَدَمُوا بيتك لا أبا لكا ... وحسبوا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا(1/351)
وقال:
دَعَوْتُ لِما نابَنْى مِسْوَراً ... فَلَبَّى فَلبَّىْ يَدَىْ مِسْوَرِ
فلو كان بمنزلة عَلَى لقال: فَلَبَّى يَدَىْ مسور، لأنّك تقول: عَلَى زيدٍ، وإذا أظهرت الاسم.
باب ذكر معنى لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ وما اشتُقّا منه
وإنما ذُكر ليبيَّن لك وجهُ نصبِه، كما ذُكر معنى سُبْحانَ الله.(1/352)
حدّثنا أبو الخَطّاب أنّه يقال للرجل المداوِمِ على الشيء لا يفارِقه ولا يُقلِعُ عنه: قد أَلَبَّ فلانٌ على كذا وكذا. ويقال: قد أَسْعَدَ فلانٌ فلاناً على أمره وساعَدَه، فالإِلبابُ والمساعَدةُ دنو ومتابعة: إذا ألب على الشيء فهو لا يفارِقُه، وإذا أَسعده فقد تابَعَه. فكأَنّه إذا قال الرجلُ للرجل: يا فلانُ، فقال: لَبَّيك وسَعْدَيْك، فقد قال له: قُرْباً منك ومتابعة لك. فهذا تمثيل وإن كان لا يُستعمل فى الكلام، كما كان بَراءةَ الله تمثيلاً لسبحانَ اللهِ ولم يُستعمل.
وكذلك إذا قال: لَبَّيْك وسَعْدَيْك، يعنى بذلك الله عزّ وجلّ، فكأَنّه قال: أَىْ رب لا أنأى عنك في شيء تأمُرنى به. فإِذا فعَل ذلك فقد تقَرَّب إلى الله بَهواه.
وأمَّا قوله: وسَعْدَيْك فكأَنّه يقول: أنا متابعٌ أمرَك وأوْلياءَك، غيرُ مُخالِفٍ. فإِذا فعل ذلك فقد تابَعَ وطاوع وأطاع.
وإنّما حملَنا على تفسير لَبَّيْك وسَعْدَيْك لنوضِحَ به وجه نصبِهما؛ لأنَّهما ليسا بمنزلة سَقياً وحَمْداً وما أِشبه هذا. ألا ترى أنك تقول للسائل عن تفسير سَقيًا وحَمْداً: إنَّما هو سَقاك اللهُ سَقْيًا وأَحمدُ الله حَمْداً، وتقول: حَمْداً بدلٌ من أَحمدُ الله، وسَقيًا بدلٌ من سَقاك اللهُ. ولا تقدر أن تقولَ: أُلِبُّك لَبًّا وأُسْعِدك سَعْداً، ولا تقولُ: سَعْداً بدلٌ من أُسعِد، ولا لَبًّا بدلٌ من أُلِبُّ. فلمّا لم يَكُنْ ذاك فيه التمس له شيء من غير لفظه معناه كبراءةَ اللهِ، حين ذكرناها لنبيَّن معنى سُبْحانَ اللهِ. فالتَمستُ " ذلك " لَلبَّيْك وسَعْدَيْك واللفظ الذى أشتُقّا منه، إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحَمْدِ والسَّقْى فى فعِلهما، ولا يَتصرَّفان تصرُّفَهما.(1/353)
فمعناهما القربُ والمتابَعة، فمثّلتُ بهما النصبَ فى لبَّيك وسَعْدَيك، كما مثَّلتُ ببراءةَ النصبَ فى سُبْحانَ الله.
ومثل ذلك تمثيلُك: أُفَّةً وتُفَّةً، إذا سُئِلتَ عنهما، بقولك: أنتنًا لأنّ معناهما وحدَّهما واحد، مثلَ تمثيلك بَهْراً بتَبًّا، ودَفْراً بنتناً.
وأما قولهم: سبح ولبى وأفف، فإنهما أراد أن يُخبِرك أنَّه قد لَفظَ بسُبْحانَ اللهِ وبَلبَّيْك وبأُفَّ، فصار هذا بمنزلة قوله: قد دَعْدَعَ وقد بَأْبَأَ، إّذا سمعتَه يَلفظ بدَعْ وبقوله: بأَبِى. ويدلّك على ذلك قولهم: هَلَّلَ، إذا قال: لا إلهَ إلاّ اللهُ.
وإنَّما ذكرتُ هَلَّلَ وما أِشبهها لتقول قد لُفِظَ بهذا. ولو كان هذا بمنزلة كلّمتُه من الكلام، لكان سُبحانَ " اللهِ " ولَبَّ وسَعْدَ مصادرَ مستعمَلةً متصرَّفةً فى الجر والرَّفع والنصب والألف واللامِ، ولكن سَبَّحْتُ وَلبَّيْتُ، بمنزلة هَلَّلْتُ ودَعْدَعْتُ، إذا قال: دَعْ، ولا إله إلاّ الله.(1/354)
باب ما يَنتصب فيه المصدرُ المشبَّهُ به
على إضمار الفعل المتروك إظهاره وذلك قولك: مررتُ به فإِذا له صَوْتٌ صَوْتَ حِمار، ومررتُ به فإِذا له صُراخٌ صُراخَ الثَّكْلَى.
" و " قال الشاعر، وهو النابغة الذُّبْيانّى:
مَقْذوفةٍ بدَخيسِ النَّحْضِ بازِلُها ... له صَريفٌ صَريفَ القَعْو بالمَسَدِ
وقال:
لها بَعْدَ إسنْادِ الكَليمِ وهَدْئِه ... ورَنَّةِ مَنْ يبكَى إذا كان باكِيَا
هَديرٌ هَديرَ الثَّورِ يَنفض رأسَه ... يَذُبُّ برَوْقَيه الكِلابَ الضَّواريَا(1/355)
فإنَّما انتَصب هذا لأنَّك مررتَ به فى حال تصويتٍ، ولم ترد أن تَجعل الآخِرَ صفةً للأوّل ولا بدلاً منه. ولكنَّك لمَّا قلتَ: له صوتٌ، عُلم أنه قد كان ثَمَّ عَمَلٌ، فصار قولُك: له صوتٌ بمنزلة قولك: فإِذا هو يصوَّتُ، فحملتَ الثانَى على المعنى.
وهذا شبيهٌ فى النصب لا فى المعنى بقوله تبارك وتعالى: " وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً "، لأنّه حين قال: " جاعلُ الليلِ "، فقد عَلِمَ القارئُ أنّه على معنى جَعَلَ، " فصار كأَنه قال: وَجَعَلَ اللّيلَ سَكَنًا "، وحَمَلَ الثانىَ على المعنى. فكذلك " له " صوتٌ، فكأَنّه قال: فإِذا هو يصوَّتُ، " فَحَمَلَه على المعنى فنَصَبَهُ، كأَنّه توهَّم بعد قوله له صوتٌ: يُصوَّتُ " صوتَ الحمار أو يُبْديه، أو يُخْرِجُه صوتَ حمار، ولكنّه حذف هذا لأنه صار " له صوتٌ " بدلاً منه.
فإِذا قلت: مررتُ به " فإِذا هو " يصوَّتُ صوتَ الحمار فعلى الفعل غير حال. فإِن قلت: صوتَ حمارٍ " فألقيتَ الألفَ واللامَ " فعلى إضمارك فعلاً بعد الفعل المظهَر سوى الفعل المظهر، وتَجعل صوتَ حِمارٍ مثالاً عليه يُخرج الصوتُ أو حالاً، كما أردتَ ذلك حين قلتَ: فإِذا له صوتٌ. وإن شئتَ(1/356)
أوصلتَ إليه يصوّت، فجعلته العامَل فيه، كقولك: يَذهب ذَهابا.
ومثل ذلك: مررتُ به فإِذا له دَفْعٌ دَفعَك الضعيفَ. ومثل ذلك أيضاً: مررتُ به فإذا له دَقٌ دَقَّك بالمِنحازِ حبَّ الفُلْفُلِ.
ويدّلك " على أنّك " إذا قلت: " فإِذا " له صوتٌ صوتَ حَمارٍ، فقد أَضمرت فعلاً بعد " له صوتٌ "، وصوتَ حمارٍ انتَصب على أنه مثالٌ أو حالٌ يَخرج عليه الفعلُ أنّك إذا أَظهرتَ الفعلَ الذى لا يكون المصدرُ بدلا منه احتجتَ إلى فعلٍ آخَرَ تُضمِره. فمن ذلك قول الشاعر:
إذا رأتني سقط أَبْصَارُهَا ... دَأْبَ بِكارٍ شايَحتْ بِكارُهَا(1/357)
ويكون على غير الحال، " وإن شئت بفعل مضمرٍ، كأَنّك قلت: تَدْأَبُ، فيكونُ أيضاً مفعولاً وحالاً، كما يكون غير حال ".
فما لا يكون حالا ويكون على الفعل، قولُ الشاعر، وهو رؤبة:
لَوَّحَها من بَعْدِ بُدْنٍ وسَنَقْ ... تَضميرَك السابقَ يُطْوَى للسَّبَقْ
" وإن شئت كان على: أَضمرها، وإن شئت كان على: لَوَّحَها؛ لأنّ تلويحه تضمير ".(1/358)
ومثله قوله، وهو العجّاج:
ناجٍ طَواهُ الأَيْنُ مما وجفا ... طي اللَّيالى زُلَفاً فزُلَفَا
سَماوةَ الهِلالِ حتى احقَوْقَفَا
وقد يجوز أن تُضمِر فعِلاً آخَر كما أَضمرتَ بعد " له صوتٌ "، يدلُّك على ذلك أنَّك لو أَظهرتَ فعلاً لا يجوز أن يكون المصدرُ مفعولاً عليه صار بمنزلة: له صوتٌ، وذلك قولُه، وهو أبو كَبيرٍ الهذلى:
ما إنْ يَمَسُّ الأرضَ إلاّ مَنْكِبٌ ... منه وحرف الساق، طي المحمل(1/359)
صار " ما إنْ يَمَسُّ الأرضَ " بمنزلة له طَىٌّ، لأنَّه إذا ذَكر ذا عُرف أنه طَيّانُ.
وقد يَدخل فى صوتَ حمار: إنَّما أنت شُرْبَ الإِبِلِ " إذا " مُثّل " بقوله ": إنَّما أنت شُرْباً. فما كان معرفةً كان مفعولا ولم يكن حالا، وشركته النكرة. وإن شئتَ جعلتَه حالاً عليه وقع الأمر، وهو تشبيهه للأوّل، يدلُّك على ذلك أنَّك لو أَدخلتَ " مِثْلَ " ههنا كان حسنا وكان نصباً، فإِذا أَخرجتَ " مِثْلَ " قام المصدرُ النكرةُ مقامَ مِثْلٍ، لأنه مِثْله نكرةٌ، فدخولُ مِثْلٍ يَدُّلك على أنه تشبيه. فإِذا قلتَ: فإِذا هو يصوتُ صَوْتَ حِمارٍ، فإِنْ شئت نصبتَ على أنَّه مثالٌ وقع عليه الصوتُ، وإن شئت نصبتَ على ما فسَّرنا وكان غير حال، وكأَنَّ هذا جوابٌ لقوله: على أَىّ حالٍ وكيفَ ومِثلُه. وكأَنَّه قيل له: كيف وقع الأمرُ، أو جعل المخاطَبَ بمنزلة مَن قال ذلك، فأراد أن يبيَّن كيف وقع الأمرُ وعلى أىّ مثالٍ، فانتصَب وهو مَوْقُوعٌ فيه وعليه، وعَمل فيه ما قبله وهو الفعلُ.
وإذا كان معرفةً لم يكن حالاً وكان على فعلٍ مظهَرٍ إنْ جاز أن يَعمل فيه، أو على مضمَرٍ إنْ لم يجز المظهَرُ، كما يَنتصب " طَىَّ المِحْمَلِ " على غيرِ " يِمَسُّ ".(1/360)
وإنْ شئت قلت: له صَوْتٌ صوتُ حِمارٍ، وله صوتٌ خُوارُ ثَوْرٍ، وذلك إذا جعلته صفةً للصوت ولم ترد فعلاً ولا إضماره.
وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة لنكرة كما لا يكون حالا. وسترى هذا مبيناً فى بابه إن شاء الله.
وزعم الخليل أنه يجز له صوتٌ صوتُ الحمار على الصفة لأنّه تشبيه، فمن ثم جاز أن توصف النكرة به.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن يقول الرجلُ: هذا رَجُلٌ أخو زيدٍ، إذا أردتَ أن تشبَّهه بأخى زيد. وهذا قبيح ضعيف لا يجوز إلاّ فى موضع الاضطرار، ولو جاز هذا لقلتَ: هذا قصيرٌ الطويلُ، تريد: مثلُ الطويلِ. فلم يجز هذا كما قبح أن تكون " المعرفة " حالاً للنكرة إلاّ فى الشعر. وهو فى الصَّفة أقبحُ، لأنك تَنقض ما تَكلّمتَ به، فلم يُجامِعه فى الحال، كما فارَقَه فى الصفة. وسيبَّين لك فى بابه إن شاء الله تعالى.
هذا باب يختار فيه الرفع
وذلك قولك: له عِلْمٌ عِلْمُ الفُقَهاءِ، وله رَأَىٌ رأىُ الأُصَلاءِ. وإنَّما كان الرفعُ فى هذا الوجهَ لأنَّ هذه خِصالٌ تَذكرها فى الرجل، كالحلم والعلم والفضل، ولم ترد أن تُخبِر بأنك مررت برجل فى حال تعلُّمٍ ولا تفهُّمٍ، ولكنّك(1/361)
أردت أن تَذكر الرجل بفضلٍ فيه، وأَنْ تَجعل ذلك خَصلةً قد استَكملها، كقولك: له حَسَبٌ حَسَبُ الصالحينَ؛ لأَنَّ هذه الأشياءَ وما يُشْبِهها صارت تَحليةً عند الناس وعلاماتٍ. وعلى هذا الوجهِ رُفع الصوتُ.
وإن شئت نصبتَ فقلت: له عِلْمٌ علمَ الفقهاءِ، كأَنَّك مررت به فى حال تعلُّمٍ وتفقُّهِ، وكأَنّه لم يَستكمل أن يقال: له عالِمٌ.
وإنما فُرق بين هذا وبين الصَّوت لأنّ الصوت عِلاجٌ، وأنّ العِلْم صار عندهم بمنزلة اليَدِ والرَّجلِ. ويدلُّك على ذلك قولهم: له شَرَفٌ، وله ديِنٌ، وله فَهَمٌ. ولو أرادوا أنّه يُدْخِلُ نفسَه فى الدَّينِ ولم يَستكمل أن يقال: له دِينٌ، لقالوا: يَتديَّنُ وليس بذلك، ويَتشرَّفُ وليس له شَرَفٌ، ويَتفهَّمُ وليس له فَهَمٌ. فلمّا كان هذا اللفظُ للّذين لم يَستكملوا ما كان غيَر علاجٍ، بَعُدَ النصبُ فى قولهم: له عِلْمٌ علمُ الفقهاءِ.
وإذا قال: له صوتٌ صوتَ حمارٍ، فإِنَّما أَخبر أنَّه مرّ به وهو يصوَّت صوتَ حمارٍ.
وإذا قال: له علمٌ علمُ الفقهاءِ، فهو يُخبِر عمَّا قد استقرّ فيه قبل رؤيته وقبل سَمْعِه منه، أو رَآه يَتعلَّم فاستدَلّ بحُسْن تعلُّمهِ على ما عنده من العلم، ولم يردْ أن يُخبِر أَنَّه إنما بدأَ فى عِلاج العلم في حال ليقه إيّاه، لأنَّ هذا ليس مما يُثْنَى به، وإنَّما الثناءَ فى هذا الموضع أن يُخبِر بما استَقرّ فيه، ولا يُخبِر أنّ أَمْثَلَ شيء كان منه التعلُّمُ فى حال لقائِه.(1/362)
هذا باب
ما يختار فيه الرفعُ إذا ذكرتَ المصدرَ
الذى يكون علاجا وذلك إذا كان الآخِرُ هو الأوّل.
وذلك نحو قولك: له صوتٌ صوتٌ حَسَنٌ؛ لأنّك إنما أردت الوصف، كأَنّك قلت: له صوتٌ حسن، وإنَّما ذكرتَ الصَّوت توكيداً ولم تُردْ أنْ تَحمله على الفعل، لمّا كان صفةً، وكان الآخرُ هو الأوّلَ، كما قلتَ: ما أنتَ إلاَّ قائمٌ وقاعدٌ، حملتَ الآخِرَ على أنتَ لمّا كان الآخِرُ هو الأوّلَ.
ومثل ذلك: له صوتٌ أَيُّمَا صوتٍ، وله صوتٌ مِثلُ صوتِ الحمارِ لأنّ أيًّا والمِثلَ صفةً أبدا. وإذا قُلتَ: أيُّما صوتٍ، فكأَنّك قلت: له صوتٌ حَسَنٌ جدّا، وهذا صَوتٌ شبيهٌ بذلك. فأَىٌّ ومِثْلٌ هما الأولُ.
فالرفعُ فى هذا أحسنُ، لأنَّك ذكرت اسماً يَحسن أن يكون هذا الكلامُ منه يحمل عليه، كقولك: هذا رجلٌ مِثْلُك، وهذا رجلٌ حَسَنٌ، وهذا رجلٌ أَيُّما رجلٍ.
وأمّا: له صوتٌ صوتُ حمارٍ، فقد علمت أن صوت حمار ليس بالصوت الأول، وإنما " جاز " رفعه على سَعة الكلام، كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلاّ سَيْرٌ.(1/363)
فكأَنَّ الّذين يقولون: صوتَ حمارٍ اختاروا هذا، كما اختاروا: ما أنت إلاَّ سيراً، إذْ لم يكن الآخر هو الأول، فحملوه على فِعلِه كراهةَ أن يَجعلوه من الاسم الذى ليس به، كما كرهوا أن يقولوا: ما أنت إلاّ سَيْرٌ إذا لم يكن الآخِرُ هو الأوّلَ. فحملوه على فعله، فصار له صوتٌ صوتَ حمارٍ يَنتصب على فعلٍ مضمَرٍ كانتصاب " تَضميرَك السَّابقَ " على الفعل المضمَر.
وإنْ قلت: له صوتٌ أَيَّما صوتٍ، أو مِثْلَ صوتِ الحمار، أو له صوتٌ صوتاً حَسَنًا، جاز. زعم ذلك الخليلُ رحمه الله. ويقوَّى ذلك أنّ يونس وعيسى جميعاً زعما أنَّ رؤبةَ كان يُنشِد هذا البيت نصباً:
فيها ازْدِهافٌ أَيَّما ازدِهافِ
يحمله على الفعل الذى يَنصب صوتَ حمار، لأنَّ ذلك الفعلَ لو ظَهَرَ نَصَبَ ما كان صفةً وما كان غيرَ صفة، لأنَّه ليس باسمٍ تُحْمَلُ عليه الصفاتُ. ألاَ ترى أنَّه لو قال: مِثلَ تضميرِك، أو مِثْلَ دأْبِ بِكارٍ، نَصَبَ. فلمَّا أَضمروه فيما يكون غيرَ الأوَّل أَضمروه أيضاً فيما يكون هو الأوّل، كأَنّه قال: تَزْدهف أَيَّما ازدهافٍ، ولكنَّه حذفه، لأنَّ له ازدهافٌ قد صار بدلاً من الفعل.(1/364)
هذا باب ما الرفع فيه الوجه
وذلك قولك؛: هذا صَوْتٌ صوتُ حمارٍ، لأنَّك لم تَذكر فاعِلا، ولأنّ الآخِرَ هو الأوّلُ حيث قلت: " هذا ". فالصوت هذا، ثمّ قلت: هو صوتُ حمارٍ، لأنّك سمعت نُهاقاً. فلا شَكَّ فى رفعِه. وإن شبَّهتَ أيضاً فهو رفعٌ لأنّك لم تَذكر فاعِلا يَفعله، وإنَّما ابتدأتَه كما تبتدئ الأسماء، فقلتَ: هذا، ثم بنيتَ عليه شيئاً هو هو، فصار كقوله: هذا رَجُلٌ رَجُلٌ حَرْبٍ.
وإذا قلتَ: له صوتٌ، فالذى فى اللام هو الفاعِلُ وليس الآخِرُ به، فلمّا بنيتَ أوّلَ الكلام كبناء الأسماِء كان آخِرُه أَنْ يُجْعَلَ كالأسماءِ أحسنَ وأجودَ، فصار كقولك: هذا رَأْسُ رأس حِمارٍ، وهذا رَجُلٌ أَخو حَرْبٍ، إذا أردتَ الشَّبهَ.
ومن ذلك: عليه نَوْحٌ نَوْحُ الحَمامِ، على غير صفة، لأنّ الهاءَ التى فى علْيِه ليست بفاعل، كما أنَّك إذا قلت: فيها رَجُلٌ، فالهاءُ ليست بفاعل فَعَلَ بالرَّجُلِ شيئاً، فلمَّا جاء على مثال الأسماءِ كان الرفعُ الوجهَ.(1/365)
وإن قلت: لهنَّ نَوْحٌ نَوْحَ الحَمامِ، فالنصبُ لأن الهاءَ هى الفاعلُة. يدلّك على " ذلك " أنّ الرفَعَ فى هذا وفى عليه أحسنُ، لأنَّك إذا قلت: هذا أو عليه، فأنتَ لا تريد أن تقول مررتُ بهذه الأسماء تَفعل فِعلاً، ولكنك جعلت " عليه " موضعا للنَّوْح و " هذا " مبنى عليه نفسِه. ولو نصبتَ كَان وجهاً؛ لأنَّه إذا قال: هذا صوتٌ أو هذا نَوْحٌ أو عليه نوحٌ، فقد عُلم أنّ مع النَّوح والصوتِ فاعلْينِ، فحمله على المعنى، كما قال:
ليُبْكَ يَزيدُ ضارعٌ لخُصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممّا تُطِيحُ الطَّوائحُ
هذا باب لا يكون فيه إلا الرفع
وذلك قولك: له يدُ الثورِ، وله رأْسٌ رأسُ الحمارِ؛ لأنَّ هذا اسم ولا يتوهم على الرَّجُلِ أنّه يَصنع يداً ولا رِجْلاً، وليس بِفعل.
هذا بابٌ لا يكون فيه إلاّ الرفعُ
وذلك قولك: صَوْتُه صوتُ حمارٍ، وتلويحُه تضميرُك السابقَ، وَوَجْدى بها وَجْدُ الثَّكْلَى؛ لأنَّ هذا ابتداءٌ، فالذى يُبْنَى على الابتداءِ بمنزلة الابتداءِ. ألا ترى أنَّك تقول: زيدٌ أخوك، فارتفاعُه كارتفاع زيد أبدا، فلمَّا ابتدأَه وكان محتاجاً إلى ما بعده لم يُجْعَلْ بدلاً من اللفظ بيُصَوَّتُ، وصار كالأسماء. قال الشاعر " وهو مزاحِمٌ العُقيلىّ ":(1/366)
وَجْدِى بها وَجْدُ المضِلَّ بَعيرَه ... بنَخْلَةَ لم تَعْطِفْ عليه العَواطِفُ
وكذلك لو قلت: مررتُ به فصوتُه صوتُ حمارٍ. فإِن قال: فإِذا صوتُه، يريد الوجَه الذى يُسكَتُ عليه، دخله نصبٌ، لأنّه يُضْمِرُ بعدُ ما يَستغنى عنه.
باب ما يَنتصب من المصادر
لأنَّه عُذْرٌ لوقوع الأمر
فانتَصبَ لأنَّه موقوع له، ولأنَّه تفسيرٌ لما قبلَهِ لِمَ كان؟ وليس بصفةٍ لمَا قبله ولا منه، فانتَصب كما انتَصب درهم فى قولك: عِشْرونَ دِرْهَماً.
وذلك قولك: فعلت ذاك حذار الشر، وفعلت ذاك مخافة فلان وادخار فلان. قال الشاعر، هو " حاتِم " بن عبد الله " الطائىّ:(1/367)
وأَغْفِرُ عَوْراءَ الكريمِ ادَّخارَه ... وأُعرضُ عن شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا
وقال الآخَر، وهو النابغة الذُّبْيانىّ:
وحَلَّتْ بُيوتِى فى يَفاعٍ ممنّعٍ ... يُخالُ به راعِى الحَمولِة طائِرَا
حِذاراً على أَنْ لا تُنالَ مَقادَتِى ... ولا نِسْوتى حتّى يَمُتْنَ حَرائرَا(1/368)
وقال آخر، وهو الحارث بن هشامٍ:
فصَفَحْتُ عنهُمْ والأَحبَّةُ فيهِمِ ... طَمَعاً لَهُمْ بعِقابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ
وقال الراجز، وهو العَجّاج:
يَرْكَبُ كُلَّ عاقِرٍ جُمْهُورِ ... مَخافةً وزَعَلَ المَحْبورِ
والهَوْلَ مِنْ تَهَوُّلِ القبورِ
وفعلتُ ذاك أَجْلَ كذا " وكذا ". فهذا كلُّه يَنتصب لأنَّه مفعول له، كأَنه قيل له: لِمَ فَعَلتَ كذا " وكذا " فقال: لكذا " وكذا "، ولكنَّه لمّا طَرَحَ اللامَ عَمِلَ فيه ما قبله كما عمل فى " دأبَ بِكارٍ " ما قبله، حين طَرح(1/369)
مثل وكان حالاً. وحسُن فيه الألفُ واللام لأنَّه ليس بحال، فيكونَ فى موضع فاعلٍ حالاً. ولا يشبَّه بما مضى من المصادر فى الأمر والنهى ونحوِهما؛ لأنَّه ليس فى موضع ابتداء ولا موضِعاً يُبْنَى على مبتدأ. فمن خالَفَ بابَ رحمةُ الله عليه، وسَقْياً لك، وحمدا لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال
وقع فيه الأمرُ فانتَصب لأنه موقوعٌ فيه الأمرُ
وذلك قولك: قَتلتُهَ صَبْراً، ولقَيتُه فُجاءةً ومفاجأةً، وكفاحاً ومكافحةً، ولقيته عِيانًا، وكلّمتُه مُشافَهةً، وأتيتُه رَكْضاً وعَدْواً ومَشْياً، وأخذتُ ذلك عنه سَمْعاً وسَماعاً. وليس كلُّ مصدرٍ وإنْ كان فى القياس مثلَ ما مضى من هذا الباب يوُضَعُ هذا الموضعَ؛ لأنّ المصدر ههنا فى موضع فاعِلٍ إذا كان حالاً.(1/370)
ألا ترى أنه لا يَحسن أَتانا سُرْعَةً ولا أَتانْا رُجْلةً، كما أنّه ليس كلُّ مصدر يُستعمل فى بابِ سَقْيًا وحَمْداً.
واطَّرد فى هذا البابُ الذى قبله لأنَّ المصدر هناك ليس فى موضع فاعِلٍ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو زُهير بن أبى سُلْمَى:
فَلأْياً بَلأْىٍ مَا حَمَلْنا وَليدَنا ... على ظَهْرِ مَحْبوكٍ ظِماءٍ مَفاصِلُه
كأنّه يقول: حَمَلْنا " وليدنَا " لأياً بلأى، كأَنّه يقول: " حملناه " جَهْداً بعد جهد. هذا لا يتكلم به ولكنه تمثيل.
ومثلُه قول الراجز:
ومَنْهَلٍ وَردتُه التقاطَا
" أى فجاءةً ".(1/371)
واعلمْ أنَّ هذا البابَ أتاه النصبُ كما أتَى البابَ الأوّلَ، ولكنَّ هذا جوابٌ لقوله: كيف لقيتَه؟ كما كان الأوّلُ جوابا لقوله: لمه؟
وهذا ما جاء منه في الألف واللام
وذلك قولك: أَرْسَلَها العِراكَ. قال لبيدُ بن رَبيعةَ:
فأَرْسَلَها العِراكَ ولم يَذُدْها ... ولم يُشْفِقْ على نَغَصِ الدَّخالِ
كأَنّه قال: اعتراكاً.
وليس كلُّ المصادر فى هذا الباب يدخله الألف واللام، كما أنه ليس كل مصدر فى باب الحمدَ لله، والعَجَبَ لك، تَدخله الألفُ واللام، وإنَّما شُبّه بهذا حيث كان مصدراً وكان غَير الاسم الأوّل.(1/372)
وهذا ما جاء منه مضافا معرفةً
وذلك قولك: طلبتَه جَهْدَك، كأَنّه قال: اجتهادا. وكذلك طلبَته طاقَتَك.
وليس كلُّ مصدرٍ يضاف، كما أنَّه ليس كلُّ مصدر تَدخله الألفُ واللام فى هذا الباب. وأمَّا فعلتُه طاقتى فلا تُجْعَلُ نكرة، كما أَنّ مَعاذَ اللهِ لا تُجْعَلُ نكرةً. ومثل ذلك: فَعَلَه رَأْىَ عَيْنِى، وسَمْعَ أُذُنِى قال ذاك.
وإن قلت: سَمْعاً جاز، إذا لم تَخْتَصَّ نفسَك، ولكنَّه كقولك: أخذتُه عنه سَماعاً.
هذا باب ما جُعل من الأسماء مصدراً
كالمضاف فى الباب الذى يَليه وذلك قولك: مررتُ به وَحْدَه، ومررتُ بهم وَحْدَهم، ومررتُ برجل وَحْدَه.
ومثل ذلك فى لغة أهل الحجاز: مررتُ بهم ثلاثَتهم وأربعتَهم، وكذلك إلى العَشَرَة.(1/373)
وزعم الخليل رحمه الله أنه إذا نَصَبَ ثلاثَتهم فكأنَّه يقول: مررتُ بهؤلاءِ فقط، لم أُجاوِزْ هؤلاءِ. كما أنّه إذا قال: وَحْدَه فإِنَّما يريد: مررتُ به فقط لم أُجاوِزْهُ.
وأمّا بنو تميم فُيجْرونه على الاسم الأوّل: إنْ كان جرًّا فجرًّا، وإن كان نصبا فنصباً، وإن كان رفعا فرفعا.
وزعم الخليل أنّ الّذين يُجرونه فكأَنّهم يريدون أن يَعُمُّوا، كقولك: مررتُ بهم كلَّهم، أى لم أَدَعْ منهم أحداً.
وزعم الخليل رحمه الله، حيث مثّلَ نَصْبَ وحدَه وخمستَهم، أنّه كقولك: أَفردتهم إفراداً. فهذا تمثيل، ولكنه لم يُستعمل فى الكلام.
ومثل خمستَهم قول الشماخ:
أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حولي بالبقيع سبالها
كأَنّه قال: انقضاضَهم، " أى " انقضاضاً. ومررتُ بهم قضهم بقضيضهم،(1/374)
كأَنّه يقول: مررتُ بهم انقضاضاً. فهذا تمثيل وإن لم يُتكلَّم به كما كان إفراداً تمثيلا.
وإنّما ذَكرنا الإِفرادَ فى وَحْدَه، والانقضاضَ فى قَضَّهم، لأنَّه إذا قال: قضَّهم فهو مشتق من في معنى الانقضاض، لأنّه كأَنه يقول: انقَضَّ آخرهم على أوّلِهم. وكذلك وَحْدَه إنَّما هو من معنى التفرُّدِ، فكذلك أيضاً يكونُ خمستَهم نصباً إذا أردتَ معنى الانفراد، فإِنْ أردتَ أنَّك لم تَدَعْ منهم أحداً جررتَ، كما كان ذلك فى قَضَّهم.
وبعضُ العرب يَجعل قَضَّهم بمنزلة كلَّهم، يُجريه على الوجوه.
هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدراً
كالمصدر الذى فيه الألفُ واللامُ نحو العِراك
وهو قولك: مررتُ بهم الجَمَّاءَ الغَفيَر، والناسُ فيها الجَمَّاءَ الغفيَر. فهذا يَنتصب كانتصاب العِراك.
وزعم الخليل رحمه الله أنّهم أدخلوا الألفَ واللام فى هذا الحرف وتَكلّموا به على نيَّةِ مالا تدخله الألفُ واللام، وهذا جُعل كقولك: مررتُ بهم قاطِبةّ(1/375)
ومررتُ بهم طُراً، " أى جميعاً؛ إلاّ أنَّ هذا نكرةٌ لا يَدخله الألفُ واللام، كما أنَّه ليس كلُّ المصادرِ بمنزلة العِراك، كأَنّه قال: مررتُ بهم جميعاً. فهذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلّم به. فصار طُراً " وقاطبة بمنزلة سُبْحانَ " اللهِ " فى بابه، لأنَّه لا يَتصرّف كما أنّ طُراً وقاطِبةً لا يَتصرّفان، وهما فى موضع المصدر، ولا يكونان معرفةً، ولو كانا صفةً لَجَرَيَا على الاسم أو بُنِيَا على الابتداءِ فلم يوجَدْ ذا فى الصفة. وقد رأينا المصادرَ قد صُنع ذا بها لأنها لا تصرف، فشبه هذا بها.
باب ما يَنتصب أنه حالٌ
يقع فيه الأمرُ وهو اسمٌ
وذلك قولك: مررتُ بهم جميعاً، وعمةً وجماعةً، كأَنّك قلت: مررتُ بهم قِياماً.
وإنَّما فرقنا بين هذا الباب والباب الأوّل لأنّ الجميعَ وعامّةً اسمان متصرَّفان، تقول: كيف عامّتُكم؟ وهؤلاءِ قومٌ جميعٌ.(1/376)
فإِذا كان الاسمُ حالا يكون فيه الأمرُ لم تَدخله الألفُ واللام ولم يُضَف. لو قلتَ: ضربتُه القائمَ تريد: قائماً كان قبيحا، ولو قلت: ضربتُهم قائميهم تريد: قائمينَ كان قبيحا. فلما كان كذلك جعلوا ما أضيف ونُصب نحوَ خَمْستَهم بمنزلة طاقتَه وجَهْدَه " ووَحْدَه "، وجعلوا الجَمّاءَ الغَفيرَ بمنزلة العِراك، وجعلوا قاطِبة وطُرًّا إذا لم يكونا اسمينِ بمنزلة الجميع وعامّة، كقولك: كِفاحاً ومكافَحةً وفجاءَةً. فجعلت هذه كالمصادر المعروفةِ البيّنة، كما جعلوا عَلَيْكَ وروُيْدَكَ كالفعل المتمكَنّ، وكما جعلوا سُبْحانَ اللهِ ولبَّيْك، بمنزلةِ حَمْداً وسَقْياً. فهذا تفسيرُ الخليل رحمه الله وقولُه.
وزعم يونس أنّ وَحدَه بمنزلة عِنْدَه، وأنّ خَمْستَهم والجمّاءَ الغفيرَ وقَضَّهم كقولك: جميعاً " وعامَّة "، وكذلك: طُرًّا وقاطبُة بمنزلة وحدَه، وجَعل المضاف بمنزلة كلّمتُه فاَهُ إلى فِىَّ.
وليس مثلَه، لأنّ الآخِرَ هو الأوّل عند يونس فى المسألة الأولى، وفاه إلى فِىًّ ههنا غيرُ الأوّلِ، وأمّا طُرّا وقاطبةً فَأَشْبَهُ بذلك، لأنه جيَّدٌ أن يكون حالاً غيرُ المصدرِ نكرةً، والذى نأْخُذُ به الأوَلُ.
وأمَّا كلُّهم وجميعُهم وأَجمعون وعامَّتُهم وأنفسُهم فلا يكنَّ أبدا إلاّ صفةً. وتقول: هو نَسِيجُ وَحْدِه، لأنّه اسمٌ مضافٌ إليه بمنزلة نفسِه إذا قلت: هذا جُحَيْش وَحْدِه(1/377)
وجعل يونسُ نَصْبَ وَحْدَه كأَنّك قلت: مررتُ برجل على حِيالِه، فطرحتَ " علَى "، فمن ثَمّ قال: هو مثلُ عندَه. وهو عند الخليل كقولك: مررتُ به خُصوصاً.
ومررتُ بهم خمستَهم مثلُه، ومثلُ قولك: مررتُ بهم عَمًّا. ولا يكون مثلَ جميعاً لِما ذكرتُ لك، وصار وَحْدَه بمنزلة خمستَهم لأنه مكانَ قولك: مررتُ به واحِدَه، " فقام وَحْدَه مقامَ واحِدَه ". فإِذا قلت: وَحْدَه فكأَنَّك قلت هذا.
هذا باب
ما يَنتصب من المصادر توكيداً لما قبله
وذلك قولك: هذا عبدُ الله حَقًّا، وهذا زيد الحق لا الباطل، وهذا زيد غير ما تقول.
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ قوله: هذا القولُ لا قولَك، إنما نصبهُ كنصبِ غيرَ ما تقول لأنَّ " لا قولَك " فى ذلك المعنى. ألا ترى أنَّك تقول: هذا القولُ لا ما تقول، فهذا فى موضعِ نصبٍ. فإِذا قلتَ: لا قولَك، فهو فى موضع لا ما تقول.(1/378)
ومثل ذلك فى الاستفهام: أَجِدَّك لا تَفعلُ كذا وكذا؟ كأَنّه قال: أَحَقًّا لا تَفعل كذا وكذا؟ وأصلهُ من الجِدّ كأَنّه قال: أجدا، ولكنه لا يتصلاف ولا يفارقه الإِضافةُ كما كان ذلك في لَبَّيْك ومَعاذَ اللهِ.
وأمّا " غيرَ ما تقول " فلا تَعْرَى من أن تكون فى هذا الموضع مضافة إلى اسم معروفٍ، نحو قولَك؛ لأنه لو قال غير قول، أولا قولاً، لم يكن فى هذا بيانٌ، لأنه ليس كلُّ قول باطلا، وإنَّما يريد أن يحقَّق الأوّلَ بأمر معروف.
ولو قال: هذا الأمرُ غيرَ قِيلٍ باطلٍ كان حسنا، لأنَّه قد وكدَّ أوّلَ كلامه بأمر معروفْ وقد اختصَّه، فصار بمنزلة قولك: لا قولَك حين جعله مضافا، لأنك قد اختصصتَه من جميع القول بإضافتك، وأنَّه يسوغ أن يكون قولُه باطلا ولا يسوغ أن يكون جميعُ الأقوال باطلا.
ومن ذلك قولك: قد قعد البتّةَ، ولا يُستعمل إلاّ معرفةً بالألف واللام، كما أن جهدك وأجدك لا يُستعملان إلاَّ معرفةً بالإِضافة.
وأمّا الحقُّ والباطل فيكونان معرفةً بالألف واللام ونكرةً؛ لأنهما لم(1/379)
يُنزَلا منزلةَ ما لم يَتمكّن من المصادر كسُبْحانَ وسَعْدَيْك، ولكنَّهم أَنزلوهما منزلةَ الظنَّ، وكذلك اليَقين لأنَّك تحقَّقُ به كما تَفعل ذلك بالحقّ. فأَنْزِلْ ما ذكْرنا غيرَ هذا بمنزلة عَمْرَك الله وقِعْدَك الله.
هذا باب
ما يكون المصدرُ فيه توكيداً لنفسه نصباً
وذلك قولك: له علَّى أَلْفُ درهمٍ عُرْفاً. ومثلُ ذلك قولُ الأَحْوَص:
إنّى لأمْنَحُكَ الصُّدودَ وإنّنى ... قَسَماً إليك مع الصُّدودِ لأَمْيَلُ
وإنَّما صار توكيداً لنفسه لأنه حين قال: له علىّ، فقد أقرَّ واعتَرف؛ وحين قال: لأَمْيَلُ، عُلم أنَّه بعد حَلِفٍ؛ ولكنه قال: عُرْفاً وقَسَماً وتوكيداً كما " أنه إذا " قال: سِيرَ عليه فقد عُلم أنَّه كان سَيْرٌ، ثم قال: سَيْراً توكيداً.(1/380)
واعلم أنه قد تَدخل الألفُ واللام فى التوكيد فى هذه المصادر المتمكَّنة التى تكون بدلاً من اللفظ بالفعل: كدخولها فى الأمر والنهى والخبر والاستفهام، فأَجْرها فى هذا الباب مُجراها هناك.
وكذلك الإِضافةُ بمنزلة الألف واللام.
فأمّا المضاف فقول الله تبارك وتعالى: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله " وقال الله تبارك وتعالى: " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. وعد الله لا يخلف الله وعده ". وقال جلّ وعزّ: " الَّذِى أَحْسَنَ كل شيء خَلْقَه ". وقال جل ثناؤه: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ". ومن ذلك: اللهُ أَكبرُ دَعْوةَ الحَقَّ. لأنَّه لمّا قال جلّ وعزّ: " مر السحاب "، وقال: " أحسن كل شيء "، عُلم أنَّه خَلْقٌ وصُنعٌ، ولكنَّه وكَّد وثَّبت للعباد. ولما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " حتّى انقضى الكلام، علم الخاطبون أنّ هذا مكتوبٌ عليهم، مثَّبت عليهم، وقال: كِتَابَ اللهِ، توكيداً كما قال: صُنْعَ اللهِ، وكذلك: وَعْدَ اللهِ، لأنَّ الكلام الذى قبله وعد(1/381)
وصُنعٌ، فكأَنّه قال جلّ وعزّ: وَعْداً وصُنعا وخَلْقا وكِتابا. وكذلك: دَعْوةَ الحَقَّ؛ لأنَّه قد عُلم أنَّ قولك: اللهُ أكبرُ، دُعاءُ الحقَّ ولكنَّه توكيدٌ، كأَنَّه قال: دعاءً حقًّا. قال رؤبةُ:
إنّ نِزاراً أَصبحتْ نِزارَا ... دَعْوةَ أَبْرارٍ دَعَوْا أَبْرارَا
لأنّ قولك: أصبحتْ نزاراً، بمنزلة: هم على دَعوةٍ بارّةٍ.
وقد زعم بعضُهم أنّ كِتَابَ اللهِ " نصب " على قوله: عليكم كتابَ الله. وقال: قومٌ صبغة الله منصوبةٌ على الأمر. وقال بعضُهم: لا بل توكيداً. والصَّبغةُ: الدينُ.
وقد يجوز الرفعُ فيما ذكرنا أجمعَ على أن يضمِرَ شيئاً هو المظهَرُ، كأنَّك قلت: ذاك وعدُ اللهِ، وصبغةُ الله، أو هو دَعْوةُ الحقّ. على هذا ونحوِه رفعُه. ومن ذلك قوله جلّ وعزّ: " كَأَن لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَار بَلاَغٌ "، كأَنه قال: ذاك بَلاغٌ.(1/382)
واعلمْ أنّ، هذا البابَ أتاه النصبُ كمنصوبٍ بما قبله من المصادر فى أنّه ليس بصفة ولا من اسمٍ قبله، وإنَّما ذكرتَه لتؤَكَّدَ به، ولم تَحمله على مضمَرٍ يكون ما بعده رفعا وهو مفعولٌ به.
ومثلُ نصبِ هذا الباب قول الشاعر، وهو الراعى:
دَأَبْتُ إلى أن يَنْبُتَ الظَّلُّ بعد ما ... تَقَاصَرَ حتّى كاد فى الآلِ يَمْصَحُ
وَجِيفَ المطَايَا ثمّ قلتُ لصُحْبتى ... ولم يَنْزِلوا أَبرَدتُمُ فتَرَوَّحُوا
لأنّه قد عُرف أنّ قوله " دأَبتُ ": سرت، لمّا ذُكر فى صدر قصيدتِه، فصار دأبتُ بمنزلة أوجفتُ عنده، فَجَعلَ وَجيفَ المطَايا توكيداً لأَوجفتُ الذى هو فى ضميرِه.
واعلم أنَّ نصب هذا " الباب " المؤكَّدِ به العامُّ منه وما وُكّد به نفسُه، ينصب على إضمار فعل غيرِ كلامِك الأوّلِ، لأنه ليس فى معنى كَيْفَ ولا لِمَ، كأَنّه قال: أَحُقُّ حَقًّا، فجَعله بدلاً كظَنًّا من أَظُنُّ، ولا أَقولُ قولَك(1/383)
وأقولُ غيرَ ما تقول، وأَتَجِدُّ جِدَّك، وكَتب اللهُ تبارك وتعالى كتابَه، وادْعُوا دعاءً حقًّا، وصَبغ اللهُ صِبغَة، ولكن لا يَظهر الفعلُ لأنَّه صار بدلاً منه بمنزلة سَقيا.
وكذلك توجَّهُ سائرَ الحروفِ من هذا البابِ، كما فعلت ذلك في باب سقياً وحمداً لك.
باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال
صار فيه المذكور وذلك قولك: أَمّا سِمَناً فسَمينٌ، وأَمّا عِلْماً فعالم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه بمنزلة قولك: أنت الرجل علماً ودِيناً، وأنت الرجلُ فَهماً وأَدَباً، أي أنت الرجلُ فى هذه الحال. وعَمِلَ فيه ما قبله وما بعده، ولم يَحسن فى هذا الوجه الألفُ واللام كما لم يَحسن فيما كان حالاً وكان فى موضع فاعلٍ حالا. وكذلك هذا، فانتَصب المصدرُ لأنَّه حالٌ مَصِيرٌ فيه.
ومن ذلك قولك: أَمّا عِلْماً فلا عِلْمَ له، وأَمّا عِلْماً فلا عِلْمِ عنده، وأَمّا عِلْماً فلا عِلْمَ وتضمِرُ له، لأنَّك إنّما تَعنى رجلا.
وقد يُرْفَعُ هذا فى لغة بنى تميم، والنصبُ فى لغتها أحسن؛ " لأنهم(1/384)
يَتوهَّمون الحالَ ". فإِن أُدخلت الألفُ واللام رَفعوا، لأنه يَمتنع من أن يكون حالا.
وتقولُ: أَمّا العلْمُ فعالمٌ بالعلم، وأَمّا العلمَ فعالمٌ بالعلم. فالنصبُ على أنَّك لم تَجعل العلم الثانىَ العلمَ الأوّلَ الذى لفظتَ به قبله، كأنك قلت: أَمَّا العلمَ فعالمٌ بالأشياء. وأما الرفعُ فعلى أنه جعل العلمَ الآخِرَ هو العلمَ الأوّلَ، فصار كقولك: أَمّا العلمُ فأَنا عالمٌ به، وأما العلمُ فما أَعلمنى به. فهذا رفعٌ لأنَّ المضمر هو العِلمُ، فصار كقولك: أَما العلمُ فحسنٌ.
فإِنْ جعلتَ الهاءَ غيرَ العلم الأوّل نصبتَ، كأَنَّك قلت: أَمّا علماً فما أَعلمنى بعبد الله.
وإذا قلت: أَما الضَّرْبَ فضاربٌ، فهذا يَنتصب على وجهينِ: على أن يكون الضربُ مفعولا كقولك: أَمّا عبدَ الله فأَنا ضاربٌ، ويكونُ نصباً على قولك: أَمّا عِلْماً فعالمٌ، كأَنّك قلت: أَمّا ضَرْباً فضاربٌ، فيصير كقولك: أَمّا ضربا فذو ضربٍ.
وقد يَنصب أهلُ الحجاز فى هذا الباب بالألف واللام، لأنهم قد يتوهمون في هذا الباب غيرَ الحال، وبنو تميم كأَنهم لا يَتوهّمون غيرَه، فمن ثَمّ لم يَنصبوا فى الألف واللام، وتركوا القُبْحَ. فكأَنَّ الذى تَوهّم أهلُ الحجاز البابُ الذى يَنتصب لأنه موقوعٌ له، نحوَ قولك فعلتُه مَخافةَ ذلك. وذلك قولهم:(1/385)
أَمّا النُّبْلَ فنبيلٌ، وأمّا العقلَ فهو الرجلُ الكاملُ، كأَنّه قال: هو الرجلُ الكاملُ العقلَ والرأي، أي للعَقل والرأىِ، وكأَنّه أَجاب مَنْ قال: لِمَه؟ وعلى هذا الباب فأَجْرِ جميعَ ما أَجريتَه نكرةً حالا إذا أَدخلتَ فيه الألف واللام. قال الشاعر:
أَلا ليت شِعْرِى هل إلى أُمَّ مَعْمَرٍ ... سَبيلٌ فأَمّا الصَّبْرَ عنها فلا صَبْرَا
وأَمَّا بنو تميم فيرَفعون لِما ذكرتُ لك، فيقولون: أَمّا العلمُ فعالمٌ، كأَنه قال: فأنَا أو فهو عالمٌ به. وكان إضمارُ هذا أحسنَ عندهم من أن يُدخِلوا فيه مالا يجوز، كما قال سبحانه: " يوما لا تجزي نفس "، أَضمر " فِيهِ " وقال الشاعر، " عبد الرحمن بن حسّان ":
أَلا يا لَيْلَ وَيْحَك نَبِّئينا ... فأَمّا الجُودُ منكِ فليس جودُ
أى فليس لنا منك جودٌ.(1/386)
ومما ينتصب من الصِفات حالاً كما انتَصب المصدرٌ الذى يوضع موضعه ولا يكون إلاّ حالاً، قوله: أما صديقاً مصافياً فليس بصديق مُصافٍ، وأَمّا طاهراً فليس بطاهرٍ، وأَمّا عالما فعالمٌ. فهذا نصبٌ لأنَّه جعله كائنا فى حال علمٍ وخارجا من حال طهورٍ ومصادقةٍ.
والرفعُ لا يجوز هنا، لأنَّك قد أَضمرت صاحبَ الصفةِ، وحيث قلتَ أمّا العلمُ فعالمٌ فلم تضمِرْ مذكورا قبل كلامك وهو العلمُ، فمن ثمّ حَسُنَ فى هذا الرفعُ ولم يَجز الرفع في الصَّفة. ولا يكون فى الصفة الألفُ واللام؛ لأنَّه ليس بمصدَر فيكونَ جوابا لقوله لمَهْ، وإنَّما المصدرُ تابعٌ له ووُضع فى موضعه حالا.
واعلم أَنَّ ما ينتصب فى هذا الباب فالذى بعده أو قبله من الكلام قد عَمِلَ فيه، كما عَمل فى الحَذَرِ ما قبله، إذا قلت: أَكرمتُه حَذَرَ أن أُعابَ، وكما عَمل فى قوله: أتاه مشياً وماشياً.
باب ما يختار فيه الرفعُ ويكون فيه
الوجهَ فى جميع اللغات
وزعم يونسُ أنه قول أبِى عَمرو. وذلك قولكَ: أَمّا العَبِيدُ فذو عَبيدٍ، وأمّا العبدُ فذو عبدٍ، وأَمّا عبدانِ فذو عبدينِ.(1/387)
وإنَّما اختير الرفعُ لأنّ ما ذكرت فى هذا الباب أسماءٌ والأسماءُ لا تجرى مجرى المصادر. ألا تَرى أنَّك تقولُ: هو الرجلُ عِلْماً وفِقْهاً، ولا تقول: هو الرجلُ خَيْلاً وإبلاً. فلمّا قبح ذلك جعلوا ما بعده خبراً له، كأَنّهم قالوا: أَمّا العبيدُ فأنت فيهم أو أنت منهم ذو عَبيدٍ، أى لك من العبيد نَصيبٌ، كأَنَّك أردتَ أن تقول: أَمّا مِن العبيد أو أَمّا فى العبيد فأنت ذو عَبيدٍ. إلاَّ أنك أَخَّرتَ فى ومن وأضمرتَ فيهما أَسماءَهم.
وأَمَّا قولُه: أَمّا العبدُ فأنت ذو عبدٍ، فكأنه قال: أمّا فى العبدِ فأنت ذو عبدٍ، ولكنه أخَّرَ فِى وأَضمرِ فيهِ اسمَه كما فَعل ذلك فى العبيد، فلما قبح عندهم أ، يكون بمنزلة المصدر ولم يكن ممّا يجوز فيه عندهم ذلك حملوه على هذا، فِراراً من أن يُدْخِلوا فى المصدر ما ليس منه، كما فعلتْ تميمٌ ذلك فى العِلْم حين رفعوه. وكأنك قلت: أَمّا العبيدُ فهم لك، وأَمّا العبدُ فهو لك، لأنّك ذلك المعنى تُريدُ.
وسَمِعْنا من العرب من يقول: أَمّا ابنُ مُزَنيَّةٍ فأنا ابن مُزنيَّةٍ؛ كأَنه قال: أما ابنُ مُزنيّةٍ فأنا ذاك، جعل الآخر هو الأول كماكان قائلاً ذلك فى الألف واللام: أمّا ابنُ المُزنيَّةِ فأنا ابن المُزنيَّةِ. وإن شئت نصبتَه على الحال كما قلت: أَمَّا صَديقا فأنت صديقٌ وأمَّا صاحبا فأنت صاحبٌ.(1/388)
وزعم يونس أن قوماً من العرب يقولون: أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبدٍ، يُجرونه مُجرى المصدر سَواءً. وهو قليل خبيث. وذلك أنَّهم شبّهوه بالمصدر كما شبَّهوا الجمَّاءَ الغفيرَ بالمصدر، وشبَّهوا خمستَهم بالمصدر. كأنَّ هؤلاء أجازوا: هو الرجل العبيد والدراهم، أى للعبيد وللدراهم، وهذا لا يُتكلَّم به، وإنما وجهه وصوابه الرفع، وهو قول العرب وأبى عمرو ويونسَ، ولا أعلم الخليلَ خالَفَهُما. وقد حملوه على المصدر، فقال النحويّون: أمّا العِلْمَ والعَبيدَ فذو علم وذو عبيد. وهذا قبيح، لأنَّك لو أفردتَه كان الرفعُ الصوابَ، فخَبُثَ إذْ أُجرى غيرُ المصدر كالمصدر، وشبّهوه بما هو فى الرَّدَاءةِ مثلُه، وهو قولُهم: وَيلٌ لهم وتَبٌّ.
وأمّا قوله: أمَّا البَصْرةُ فلا بَصْرةَ لك، وأمَّا الحارثُ فلا حارثَ لك، وأمّا أبوك فلا أبا لك، فهذا لا يكون فيه أبداً إلاَّ الرفعُ؛ لأنَّه اسمٌ " مَعروفٌ " ومعلومٌ؛ قد عرف المخاطَبُ منه مثلَ ما قد عرفتَ، كأَنَّك قلت: أَمَّا الحارِثُ فلا حارثَ لك بعده أو فلا حارثَ لك سواه، وكأنّه قال: أَمّا البَصْرةُ فليستْ لك، وأما الحارث فليس لك؛ لأن ذلك المعنى تريد.
ولو قال: أَمَّا العبيدُ فأنت ذو عبيد، يريد عبيداً بأَعيانهم قد عرفَهم المخاطَبُ كمعرفتك، كأنّك قلت: أَمَّا العبيدُ الذين تعرف، لم يكنْ إلاّ رفعا. وقولُه ذو عبيدٍ كأنّه قال: أنت فيهم أو منهم ذو عبيدٍ. ولو قال: أَمَّا أبوك(1/389)
فلك أبٌ، لكان على قوله: فلك به أبٌ أو فيه أبٌ، وإنما يريد بقوله: فيه أبٌ مَجرى الأب على سعة الكلام، وليس إلى النصب ههنا سبيل.
وإنَّما جاز النصبُ فى العبيدِ حين لم يَجعلهم شيئاً معروفا بعينه لأنه يشبّهه بالمصدر، والمصدر قد تَدخله الألفُ واللام ويَنتصب على ما ذكرتُ لك. فإذا أردتَ شيئاً بعينه وكان هو الذي تلزمه الإشارة، جرى مجرى زيد وعمرو وأبيك.
وأمَّا قول الناس للرَّجلِ: أَمّا أن يكون عالما فهو عالمٌ، وأَمَّا أن يَعلم شيئاً فهو عالمٌ، فقد يجوز أن تقول: أَمَّا أَنْ لاَ يكونَ يَعلمُ فهو يَعلم وأنت تريد " أَنْ " يكونَ، كما جاءَتْ: " لئلا يعلم أهل الكتاب " فى معنَى لأَنْ يَعلَم أهلُ الكتاب. فهذا يُشْبِهُ أن يكونَ بمنزلة المصدر، لأنَّ أنْ مع الفعل الذى يكون صلةً بمنزلة المصدر، كأنك قلت: أما علما وأماكينونة علم فأنت عالمٌ. ألا ترى أنَّك تقول: أنت الرجل أن تنازل أو " أن " تخاصم، كأنك قلت نِزالاً وخُصومةٌ، وأنت تريد المصدر الذى فى قوله فَعَلَ ذاك مَخافةَ ذاك. ألا ترى أنك تقول: سكتُّ عنه أَنْ أجْتَرَّ مودته، كما تقول: اجترار مودَّته. ولا تقع أنْ وصِلتُها حالاً يكونُ الأوّلُ فى حالِ وقوعِهِ، لأنَّها إنما تُذْكَرُ لما لم يَقع بعدُ. فمن ثم أُجريَت مُجرى المصدر الأول الذي هو جواب لمه؟(1/390)
باب ما يَنتصب من الأسماء التى ليست بصفةٍ
ولا مصادرَ لأنَّه حالٌ يَقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول به
وبعضُ العرب يقول: كلّمتُه فُوهُ إلى فِىَّ، كأنَّه يقول: كلّمتُه وفُوهُ إلى فِىَّ، أى كلّمتُه وهذه حالهُ. فالرفعُ على قوله كلّمتُه وهذه حالهُ، والنصبُ على قوله: كلّمتُه فى هذه الحال، فانتَصب لأنه حال وقع فيه الفعل. وأما بايعته يدا بيد، فليس فيه إلا النصب، لأنه لا يَحسن أن تقول: بايعته ويد بيد، ولم يرد أن يُخبر أنَّه بايَعه ويدُه فى يده، ولكنَّه أراد أن يقولَ: بايعتُه بالتعجيل، ولا يبالِى أقَريباً كان أم بعيدا.
وإذا قال: كلّمتُه فُوهُ إلى فِىَّ، فإنَّما يريد أن يُخبِر عن قُربه منه، وأنَّه شافَهه ولم يكن بينهما أحدٌ.
ومثله من المصادر فى أن تَلزمه الإِضافةُ وما بعدها مما يجوز فيه الابتداءُ ويكونُ حالا، قولُه: رَجَعَ فلانٌ عودة على بَدْئه، وانثنى فلانٌ عَوْدَه على(1/391)
بَدْئه، كأنه قال: انثنى عَوْداً على بَدْءٍ. ولا يُستعمل فى الكلام رجَعَ عَوْداً على بَدْءٍ، ولكنَّه مُثّل به.
ومَنْ رَفَعَ فوه إلى فىَّ، أجاز الرفع فى قوله: رَجَعَ فلانٌ عَودُه على بَدْئه.
ومما يَنتصب لأنَّه حالٌ وقع فيه الفعلُ قولك: بِعْتُ الشاءَ شاةً ودرهماً، وقامرتُه درهماً فى درهمٍ، وبعتُه دارى ذراعاً بدرهم، وبعت البرقفيز بن بدرهم، وأخذتُ زكاةَ مالِه درهماً لكلّ أربعين درهما، وبيّنتُ له حِسابَه باباً باباً، وتَصدَّقتُ بمالى درهما درهما.
واعلم أنَّ هذه الأشياءَ لا ينفرد منها شيء دون ما بعده، وذلك أنَّه لا يجوز أن تقول: كلّمتُه فاه حتّى تقول إلى فىَّ، لأنَّك إنَّما تريد مشافَهةً، والمُشافهةُ لا تكون إلاّ من اثنين، فإنَّما يَصحّ المعنى إذا قلت إلى فِىَّ، ولا يجوز أن تقول بايعتُه يداً، لأنَّك إنَّما تريد أن تقول: أخَذَ منّى وأعطانى، فإِنَّما يَصحَ المعنى إذا قلت: بيدٍ لأنهما عَمَلانِ. ولا يجوز أن تقول: انثَنى عَوْدَه لأنَّك إنّما تريد أنّه لم يَقطع ذهابَه حتَّى وصلَه برجوع، وإنّما أردتَ أنه رجع فى حافِرِته أى نَقَضَ مجيئَة برجوعٍ، وقد يكون أن يَنقطع مجيئه ثم يَرجع فيقول: رجعتُ عَوْدِى(1/392)
على بَدئى، أى رجعتُ كما جئتُ.. فالمجئُ موصولٌ به الرجوعُ، وهو بَدءٌ والرجوعُ عَوْدٌ.
ولا يجوز أن تقول: بعتُ دِارى ذراعا، وأنت تريد بدرهم، فيُرَى المخاطَبُ أنَّ الدار كلَّها ذراعٌ. ولا يجوز أن تقول: بعتُ شائى شاةً شاةً، وأنت تريد بدرهم، فيُرَى المخاطَبُ أَنَّك بعتها الأوّلَ فالأولَ على الوِلاءِ. ولا يجوز أن تقول: بيّنتُ له حِسابَه باباً، فيُرَى المخاطَب أنك إنما جعلت له حسابه باباً واحدا غيرَ مفسَّرٍ. ولا يجوز تَصدّقتُ بمالى درهماً، فيُرَى المخاطَبُ أنك تَصدّقت بدرهم واحد. وكذلك هذا وما أشبهه.
وأمّا قول الناس: كان البُرُّ قَفيزَيْنِ، وكان السَّمْنُ مَنَوَينِ، فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدَّرهم لِما فى صدورهم من عِلمه، ولأنَّ الدرهم هو الذى يسعَّر عليه، فكأنّهم إنّما يَسألون عن ثمن الدرهم فى هذا الموضع، كما يقولون: البربستين، وتركوا ذكر الكُرَّ؛ استغناءً بما فى صدورهم من عِلمه، وبعلم المخاطَب، لأنَّ المخاطب قد علم ما يَعنى، فكأَنّه إنّما يَسأل هنا عن ثمن الكُرّ كما سألَ الأوّلُ عن ثمن الدرهم. وكذلك هذا وما أشبهه فأَجْرِه كما أجرتْه العربُ.
وزعم الخليل أنه يجوز: بعتُ الشاءَ شاةٌ ودرهمٌ، إنَّما يريد شاةً بدرهمٍ، ويَجعل بدرهمٍ خبراً للشاة وصارت الواوُ بمنزلة الباء فِى المعنى، كما كانت فى قولك: كلُّ رَجُلٍ وضيعتُه، فى معنى مع.(1/393)
وإذا قلت شاةً بدرهم، فإِنّ بدرهمٍ ليس مبنيًّا على اسمٍ قبله ولكنَّه إنّما جاءَ ليبيَّن به السعرُ، كما جاءتْ " لَكَ " فى سَقْيًا، لتبيَّنَ من تَعنى. فالباءُ هاهنا بمنزلة إلَى فى قولك: فاهُ إلى فِىّ، ولم تُبْنَ على ما قبلها.
وكذلك ما انتَصب فى هذا الباب وكان ما بعده ممّا يجوز أن يُبْنَى على ما قبله فى هذا الباب.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: بعتُ الدَّارَ ذراعٌ بدرهم، كما جاز لك فى الشاء. وزعم أنه يقول: بعتُ دارى الذراعانِ بدرهم، وبعتُ البُرَّ القَفيزانِ بدرهم. ولم يشبَّهْ هذا بقوله: فاه إلى فِىَّ، لأنَّ هذا فى بابه بمنزلة المصار التى تكون حالاً يقع فيها الأمرُ، نحو قولك: لقيتُه كِفاحاً، ونحو قوله: أَرْسَلَها العِراكَ، وفعلتُ ذاك طاقتى.
وليس كلُّ مصدرٍ فى هذا الباب تَدخله الألُف واللام ويكونُ معرفةً بالإِضافة، وليس كلُّ المصادر فى هذا الباب يكون فيها هذا فالأسماءُ أَبْعَدُ.
فلذلك كان الذراعُ رفعاً لأنّه لا يجوز أن " تجعله معرفة وتجعله حالاً يكون فيه الأمر، كما أنه لا يجوز لَك أن " تَدخل الألفُ واللام في قولك لقيته قائماً وقاعداً، أن تقولك لقيتُه القائمَ والقاعدَ، ولا " تقولُ ": ضربتُه القائمَ، فلمّا قبح ذلك فى الذَّراع جُعل بمنزلة قولك: لقيتُه يدُه فوق رأسه. ومثلُ ذلك: بعته ربح الدرهم درهم، لا يكون فيه النَّصبُ على حال.(1/394)
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: رَبِحَتُ الدرهمَ درهماً، محالٌ، حتَّى تقول: فى الدرهمِ وللدّرهمِ.
وكذلك وجدنا العربَ تقول.
فإِنْ قال قائل: فاحذف حرف الجر وأنوه. قيل له: لا يجوز ذلك كما لا تقول مررتُ أخاك وأنت تريد بأخيك. فإِنْ قال: لا يجوز حذفُ الباِء من هذا قيل له: فهذا لا يقال أيضا.
وقال الخليل رحمه الله: كَلّمَنِى يدُه فى يدى الرفع لا يكون غيره؛ لأن هذا لايكون من صفة الكلام.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلت: رجعت عودك في بَدْئك مفعولاً بمنزلة قولك: رجعتَ المالَ علىَّ، أي رددت المال علي، كأنه قال: ثنيت عَوْدى على بَدْئى.
هذا باب
ما يَنتصب فيه الاسمُ لأنه حال يقع فيه السَّعرُ
وإن كنتَ لم تَلفظ بفعلٍ، ولكنّه حال يقع فيه السَّعْرُ، فيَنتصبُ كما انَتصب لو كان حالاً وقع فيه الفعل، لأنه في أنه حال وقع فيه أمرٌ فى الموضعين سَواءٌ.(1/395)
وذلك قولُك: لك الشّاءُ شاةٌ بدرهم شاةً بدرهم. وإن شئت أَلغيت لَكَ فقلتَ: لك الشاءُ شاةٌ بدرهمٍ شاةٌ بدرهمٍ، كما قلتَ: فيها زيدٌ قائمً، رفعتَ.
وإذا قلت: الشاءُ لك، فإن شئتَ رفعتَ، وإن شئتَ نصبتَ، وصار لك الشاءُ إذا نصبتَ بمنزلة وَجَبَ الشاءُ، كما كان فيها زيدٌ قائماً بمنزلة: استقر زيد قائماً.
بابٌ يختار فيه الرفعُ والنصبُ، لقُبْحِه
أَن يكونَ صفة
وذلك قولك: مررتُ ببُرًّ قبلُ قَفيزٌ بدرهم قَفيزٌ بدرهم. وسمعنا العربَ الموثوقَ بهم يَنصبونه، سمعناهم يقولون: العَجَبُ من بُرًّ مررنا به قبلُ قَفيزاً بدرهم " قفيزا بدرهم "، فحملوه على المعرفة وتركوا النَّكرة، لقبح النكرة أن تكون موصوفةً بما ليس صفةً، وإنّما هو اسمٌ كالدرهم والحديد. ألاَ ترى أنّك تقول: هذا مالُك درهما، وهذا خاتَمُكَ حديدا ولا يَحسن أن تَجعلَه صفةً، فقد يكون الشيء حَسنًا إذا كان خبرا وقبيحاً إذا كان صفةً. وأمَّا الّذين رفعوه فقالوا:(1/396)
مررتُ ببُرّ قبلُ قَفيزٌ بدرهم، فجعلوا القفيزَ مبتدأ. وقولك بدرهم مبنياً عليه.
باب ما ينتصب من الصفات كانتصاب الأسماء
فى الباب الأوّل وذلك قولك: أبيعكَه الساعةَ ناجِزا بناجِزٍ، وسادُوكَ كابراً عن كابرٍ. فهذا كقولك: بعته رأساً برأس.
باب ما يَنتصب فيه الصفةُ لأنّه حالٌ
وقع فيه الألفُ واللام
شبّهوه بما يشبَّه من الأسماء بالمصادر، نحوَ قولك: فاهُ إلى فىَّ، وليس بالفاعل ولا المفعول. فكما شبّهوا هذا بقولك عَوْدَه على بَدْئه وليس بمصدر، كذلك شبّهوا الصفة بالمصدر، وشذّ هذا كما شذّتِ المصادرُ فى بابها حيث كانت حالاً وهى معرفةٌ، وكما شذّت الأسماءُ التى وُضعت موضعَ المصدر.
وما يشبه بالشيء فى كلامهم وليس مثلَه فى جميع أحواله كثيرٌ، وقد بُيّن فيما مضى وستراه أيضا إن شاء الله.(1/397)
وهو قولك: دخلوا الأول فالأول، وجرى على قولك واحداً فواحداً ودخلوا رجُلا رَجُلا.
وإن شئت رفعتَ فقلت: دخَلوا الأوّلُ فالأوّلُ، جعله بدلا وحمله على الفعل، كأنه قال: دخل الأوّلُ فالأوّلُ.
وإن شئت قلت: دخلوا رجلٌ فرجلٌ، تجعله بدلاً كما قال عزّ وجلّ: " بالناصية. ناصية كاذبة ".
فإِن قلتَ: ادْخُلوا، فأمرتَ فالنَّصبُ الوجهُ، ولا يكون بدلاً؛ لأنك لو قلت: ادْخُلِ الأوّلُ فالأوّلُ أو رجلٌ رجلٌ، لم يجز، ولا يكون صفةً، لأنه ليس معنى الأوّلِ فالأوّلِ أَنّك تريد أن تعرفه بشيء تحلَّيه به. لو قلت: قومُك الأوّلُ فالأوّلُ أَتَوْنا لم يَستقم، وليس معناه معنى كلَّهم فأُجرىَ مجرى خمستَهم ووحدَه.
ولا يجوز فى غير الأول هذا، كما لا يجوز أن تقول: مررتُ به واحِدَه ولا بهما اثْنَيْهما.
وكان عيسى يقول: ادْخُلوا الأَوّلُ فالأوّلُ؛ لأنّ معناه ليَدخل، فحمله على المعنى، وليس بأَبعدَ من: " ليُبْكَ يَزيدُ ضارِعٌ لخصُومةٍ "(1/398)
فإِذا قلت: ادْخُلوا الأوّلُ والآخِرُ والصغيرُ والكبيرُ، فالرفع؛ لأن معناه معنى كلهم، كأنه قالك ليَدْخلوا كلُّهم.
وإذا أردتَ بالكلام أن تُجريه على الاسم كما تُجرى النعتَ لم يجز أن تُدْخِلَ الفاءً؛ لأنَّك لو قلت: مررتُ بزيد أخيك وصاحبك، كان حسنا، ولو قلت: مررتُ بزيدٍ أخيك فصاحِبك، والصاحبُ زيدٌ، لم يجز. وكذلك لو قلت: زيد أخزك فصاحبُك ذاهبٌ، لم يجزْ. ولو قلتَها بالواو حَسُنتْ، كما أنشد كثيرٌ من العرب، والبيت لأمّيهَ بن أبى عائذٍ:
ويَأْوِى إلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثٍ مَراضِيعَ مِثْلِ السَّعالِى
ولو قلتَ " فشعث " قبح.(1/399)
" وقال الخليل: ادخلوا الأول فالأول والوسط والآخِرُ. لا يكون فيه غيرُه وقال: يكونُ على جواز كلُّكم، حملَه على البدل ".
هذا باب
ما يَنتصب من الأسماءِ والصفات لأنَّها أَحوالٌ
تقع فيها الأمورُ وذلك قولك: هذا بُسراً أَطْيَبُ منه رُطَباً. فإِنْ شئت جعلتَه حيناً قد مضى، وإن شئتَ جعلتَه حينًا مستقبَلا. وإنَّما قال الناسُ هذا منصوبٌ على إضمارِ إذَا كانَ فيما يُستقبل، وإذْ كانَ فيما مضى، لأن هذا لمّا كان ذا معناه أَشْبَهَ عندهم أن يَنتصب على إذَا كانَ. " ولو كان على إضمارٍ كانَ لقلت: هذا التَّمْرَ أطيبُ منه البُسْرَ؛ لأنّ كانَ قد يَنصب المعرفةَ كما يَنصب النكرةَ، فليس هو على كانَ ولكنَّه حال ".
ومنه: مررتُ برَجُلٍ أَخْبَثَ ما يكونُ أَخْبَثَ منك أَخْبَثَ ما تكونُ، وبرجل خيرَ ما يكون خيرٍ منك خيرَ ما تكونُ، وهو أخْبَثَ ما يكون(1/400)
أخبث منك أخبث ما تكون. فهذا كلُّه محمولٌ على مثل ما حملت عليه ما قبله.
وإنْ شئت قلتَ: مررتُ برجلٍ خيرُ ما يكون خيرٌ منك، كأَنّه يريد برجلٍ خيرُ أَحوالهِ خيرٌ منك، أى خيرٌ من أَحوالك. وجاز لهُ أن يقول: خيرٌ منك، وهو يريد: " خير " من أَحوالك، كما جاز أن تقول: نهارُك صائمٌٍ وليلُكَ قائم.
وتقول: البُرُّ أَرخصُ ما يكون قَفيزانِ، أى البرُّ أَرخصُ أَحوالِه التى يكون عليها قَفيزانِ، كأَنّك قلت: البرُّ أَرخصُه قَفيزان.
ومن ذلك هذا البيتُ تُنشِده العربُ على أَوْجُهٍ، بعضُهم يقول، وهو قول عمرو بن مَعْدِ يكَرِبَ:
الحَرْبُ أوّل ما تكونْ فتية ... تسعى ببزتها لكل جهول(1/401)
أي أعرب أوّلُها فتيَّة ولكنّه أنَّث الأوّلَ، كما تقول: ذهبتْ بعضُ أصابعه. وبعضُهم يقول:
" الحربُ أوّلَ ما تكون فُتَيَّةٌ "
أى إذا كانت فى ذلك الحينِ. وبعضهم يقول:
" الحربُ أوّلُ ما تكون فُتَيَّةً "
كأَنّه قال: الحربُ أوّلُ أَحوالِها إذا كانتْ فتَيَّةً، كما تقول: عبدُ الله أحسنُ ما يكون قائما. ومن رَفَعَ الفُتَيَّة ونَصَب الأوّل على الحال قال: البُرُّ أَرْخَصَ ما يكون قَفيزانِ. ومن نَصَبَ الفُتَيَّة ورَفَعَ الأوّل قال: البُرُّ أَرْخَصُ ما يكون قَفيزَيْن.
وأمَّا عبدُ الله أحسنُ ما يكونُ قائماً فلا يكون فيه إلاّ النصبُ؛ لأنه لا يجوز لك أن تَجعل أحسنَ أَحوالِه قائماً على وجهٍ من الوجوه.
وتقول: عبدُ الله أَخْطَبُ ما يكون يومَ الجمعة، والبَداوة أطيبُ ما تكون شهرَىْ ربيع، كأَنّك قلت: أخطبُ ما يكون عبدُ الله فى يوم الجمعة، وأطيبُ ما تكون البَداوةُ فى شهرى ربيع.(1/402)
ومن العرب من يقول: أخطبُ ما يكون الأميرُ يومُ الجمعة، وأطيبُ ما تكون البَداوةُ شهرَا ربيع، كأنّه قال: أَخطبُ أيّام الأمير يومُ الجمعة، وأطيبُ أَزمنِة البداوة شهرا ربيع. وجاز أخطبُ أيّامه يومُ الجمعة على سعة الكلام، وكأنّه قال: أطيبُ الأزمنة التى تكون فيها البداوةُ شهرا ربيع، وأخطبُ الأيّام التى يكون فيها الأمير خَطيبًا يومُ الجمعة.
وتقول: آتيك يوم الجمعة أبطوه، على معنى ذاك أبطؤه. كأنّه قيل له أىُّ غاية هذه عندك وأىُّ إتيان ذا عندك، أسريع أم بطيء؟ فقال: أبطوه، على معنى: ذاك أَبْطَؤُه.
وتقول: آتيك يومَ الجمعة أَو يومَ السبت أبطؤُه أو يومُ السَّبتِ أبطؤه، وأَعطُيته درهما أو درهمين أكثرَ ما أعيته، " وأعطيتهُ درهما أو درهمان أكثرُ ما أعطيتُه ". وإن شَاء نصب الدرهمين وقال: أكثر ما أعطيته. وإن شاء نصب أكثرَ أيضاً على أنّه حالٌ وقعت فيه العطيةُ. وإن شاء قال: آتيك يومَ الجمعة أبطأه، أي أبطأ الإتيان يوم الجمعة.
باب ما ينتصب من الأماكن والوقت
وذلك لأنها ظروف تقع فيها الأشياءُ، وتكون فيها، فانتَصب لأنّه(1/403)
موقوعٌ فيها ومَكون فيها، وعَمِلَ فيها ما قبلها، كما أَنَّ العِلْم إذا قلتَ أنت الرَّجُلُ عِلْماً عَمِلَ فيه ما قبله، وكما عَمِلَ فى الدرهمِ عشرون إذا قلت: عشرون درهما. وكذلك يَعمل فيها ما بعدها وما قبلها.
فالمكانُ قولُك هو خَلْفَك، وهو قُدّامَك وأَمامَك، وهو تَحْتَكَ وقُبالَتَك، وما أِشبه ذلك.
ومن ذلك قولك أيضاً: هو ناحيةً من الدار، " وهو ناحيةَ الدارِ، وهو ناحيتَك وهو نَحْوَك "، وهو مكاناً صالحاً، ودارُه ذات اليمين، وشرقِىَّ كذا قال الشاعر، وهو جرير:
هَبَّتْ جنوبا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التى شَرْقِىَّ حَوْرانَا
وقالوا: منازلهم يميناً " ويَساراً " وشِمالا. قال الشاعر، وهو عمرو ابن كلثوم:(1/404)
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأْسُ مَجْراها اليَمينَا
أى على ذاتِ اليمينِ، حدّثنا بذلك يونس عن أبى عمرو، وهو رأيُه. وتقول: هو قَصْدَك، كما قال الشاعر، وسمعنا بعضَ العرب يُنشِده كذا:
سَرَى بعدما غارَ الثُّرَيَّا وبعدما ... كأنّ الثُّريَّا حِلَّةَ الغَوْرِ مُنْخلُ
أى قَصْدَه، يقال هو حِلَّةَ الغور أى قَصْدَه، سمعنا ذلك ممن يوثق به من العرب.
ويقال: هما خَطَّانِ جَنابَتَىْ أنفِها يعنى الخطَّيْن اللّذَيْنِ اكتَنفا جنَبْى أنف الظبية. وقال الشاعر، وهو الأعشى:(1/405)
نحن الفوارِسُ يومَ الِحنْوِ ضاحِيةً ... جَنبَى فُطَيْمةَ لا مِيلٌ ولا عُزُلُ
فهذا كلُّه انتَصب على ما هو فيه وهو غيرُه، وصار بمنزلة المنوَّن الذى يعمل فيما بعده نحو العشرين، ونحو قوله: " هو " خَيْرٌ منك عَمَلاً، فصار " هو " خَلفَك، وزيدٌ خلفَك بمنزلة ذلك. والعاملُ فى خَلْفٍ الذى هو مَوضعٌ له والذى هو فى موضع خبرِه، كما أنَّك إذا قلت: عبدُ الله أخوك فالآخِرُ قد رَفَعَه الأوّلُ وعَمِلَ فيه، وبه استَغنى الكلامُ، وهو منفصِلٌ منه.
ومن ذلك قول العرب: هو موضعَه، وهو مكانَه، وهذا مكانَ هذا، وهذا رجلٌ مكانك، إذا أردتَ البَدَلَ. كأنَّك قلت: هذا فى مكان ذا، وهذا رجلٌ فى مكانكِ. ويقال للرجل: اذهبْ معك بفلان، فيقول: معي رجل(1/406)
مكانَ فلان، أى معى رجلٌ يكونُ بدلاً منه ويُغنِى غَناءه، ويكون فى مكانه.
واعلم أنَّ هذه الأشياء كلّها انتصابُها من وجه واحد.
ومثلُ ذلك: هو صَدَدك، وهو سَقَبَكَ، وهو قُرْبَك.
واعلم أنَّ هذه الأشياءَ كلَّها قد تكون أسماءً غيرَ ظروف، بمنزلة زيد وعمرِو. سمعنا من العرب من يقول: دارُك ذاتُ اليمينِ. وقال الشاعر، وهو لبيد:
فَغَدَتْ، كِلاَ الفَرْجَينِ تَحْسَبُِ أنَّه ... مَوْلَى المخَافة خَلْفُها وأَمامُها
ومن ذلك أيضاً: هذا سَواءَك، وهذا رجلٌ سَواءَك فهذا بمنزلة مكانَك إذا جعلتَه في معنى بذلك. ولا يكون اسماً إلاّ فى الشعر. قال بعض العرب، لما اضطُرَّ فى الشَّعر جعله منزلة غيرٍ، قال الشاعرُ وهو رجل من الأنصار:(1/407)
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا قعدوا مِنّا ولا من سَوائنَا
وقال الآخَر، وهو الأعشى:
تَجانَفُ عن جَوّ اليَمامةِ ناقتى ... وما قصدت من أهلِها لِسَوائكاَ
ومثل ذلك: أنت كعبْدِ الله، كأَنّه يقول: أنت كعبد الله، أى أنت فى حال كعبد الله، فأُجرى مُجرى بعبدِ الله. إلاّ أنَّ ناسا من العرب إذا اضطُرُّوا فى الشعر جعلوها بمنزلة مِثْلٍ. قال الراجز " وهو حُمَيْدٌ الأَرقطُ ":
فصُيَّرُوا مِثلَ كَعَصْفٍ مَأْكولْ
وقال خِطامٌ المُجاشِعى:
وصالياتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ(1/408)
ويدلك على أن سواءك وكزيد يمنزلة الظروف، أنَّك تقول: مررتُ بمن سَواءَك وعلى من سواءك، والذى كزيدٍ، فحَسُنَ هذا كحُسْن مَنْ فيها والذى فيها، ولا تَحسن الأسماءُ ههنا ولا تَكثُر فى الكلام. لو قلتَ: مررتُ بمن فاضِلٌ، أو الذى صالحٌ، كان قبيحا. فهكذا مَجْرَى كزَيْدٍ وسَواءَك.
وتقول: كيفَ أنت إذا أُقبل قُبْلُك ونُحِىَ نَحْوك، كأَنّه قال: كيف أنت إذا أُريدت ناحيتُك وإذا أُريد ما عندك حين قال: إذا نُحِىَ نَحْوك، وأمّا حين قال: أُقبل قُبْلُك فكأَنّه قال: كيف أنت إذا أُقبلَ النَّقْبَ الرَّكابُ، جعلهما اسمَينِ.
وزعم الخليل رحمه الله أن النصب جيّدٌ إذا جعله ظرفا، وهو بمنزلة قول العرب: هو قَريبٌ منك، وهو قَريباً منك، أى مكانًا قريبا منك.
حدّثنا يونسُ أنَّ العربَ تقول فى كلامها: هَلْ قريباً منك أحدٌ، كقولهم: هل قُرْبَك أحدٌ.
وأمّا دونَك فإِنه لا يُرْفَعُ أبداً، وإن قلت: هو دونَك فى الشَّرَف؛ لأنَّ هذا إنَّما هو مَثَلٌ كما كانَ هذا مكانَ ذا فى البدل مثلا، ولكنَّه على(1/409)
السَّعة. وإنما الأصلُ فى الظروف الموضعُ والمستقَرُّ من الأرض ولكنّه جاز هذا كما تقول: إنّه لَصُلبُ القَناةِ، وإنّه لمِنْ شجرةٍ صالحةٍ، ولكنه على السعة. وأمّا قُصِدَ قصدُك فمثُل نُحِىَ نحوُك، وأُقبل قبُلُك، يَرتفع كما يَرتفعان ويَنتصب كما ينتصبان. وإن شئت قلت: هو دونُك، إذا جعلتَ الأوّلَ الآخِرَ ولم تَجعله رجُلا. وقد يقولون: هو دُونٌ، فى غير الإِضافة، أى هو دُونٌ من القوم، وهذا ثَوبٌ دُون، إذا كان رَديئاً.
واعلم أنّه ليس كل موضع و " لا " كلُّ مكان يَحسُن أن يكون ظرفاً فممَّا لا يحسن أن يكون ظرفاً أنّ العربَ لاتقول هو جَوفَ المسجد ولا هو داخِلَ الدار ولا هو خارِجَ الدار، حتى تقول: هو فى جوفها، وفى داخل الدار، ومن خارجها. وإنَّما فُرّق بين خلَف وما أِشبهها وبين هذه الحروف، لأن(1/410)
خَلفَ وما أِشبهها للأماكن التى تَلى الأسماءَ من أَقطارها. على هذا جرتْ عندهم، والجَوْفُ والخارج عندهم بمنزلة الظهْرِ والبطن والرأٍس واليد، وصارتْ خلف وما أشبهها تَدخل على كلّ اسم فتصير أمكنةً تَلى الاسمَ من نواحيه وأقطاره، ومن أعلاه وأسفلِه، وتكونُ ظروفا كما وصفتُ لك، وتكون أسماءَ كقولك: هو ناحيةُ الدارِ إذا أردتَ الناحيةَ بعينها، وهو فى ناحيةِ الدار، فتصير بمنزلة قولك: هو فى بيتك وفى دارك.
ويدلُّك على أنَّ المجرورَ بمنزلة الاسم غيرِ الظَّرف أنّك تقول: زيدٌ وَسْطَ الدار وضربتُ وَسَطَه، وتقول: فى وَسَطِ الدار، فيصيرُ بمنزلة قولك: ضربتُ وَسَطَه مفتوحا مثلَه.
واعلم أنَّ الظروفَ بعضُها أَشَدُّ تمكّنا من بعضٍ فى الأسماءِ، نحوَ القُبْل والقَصد والنَّاحية. وأمّا الخَلف والأَمام والتَّحْت فهنّ أقلُّ استعمالاً فى الكلام أن تُجْعَل أسماءً. وقد جاءت على ذلك فى الكلام والأشعار.
وهذه حروف تَجرى مَجرى خَلْفك وأَمامك، ولكنَّا عزلناها لنفسَّر معانيَها، لأنَّها غَرائبُ.
فمن ذلك حرفانَ ذكرناهما في الباب الأول ثم لم نفسَّر معناهما، وهما صَدَدَكَ ومعناه القَصْد، وسقَبَكَ ومعناه القُرب، ومنه قول العرب: هو وَزْنَ الجبلِ أى ناحيةً منه، وهم زِنةَ الجبل أى حِذاءَه.
ومن ذلك قول العرب: هم قُرابَتك أى قُرْبَك، يعنى المكانَ.(1/411)
وهم قُرابَتك فى العلم، أى قَريباً منك فى العلم. وكان هذا بمنزلة قول العرب: هو حِذاءَه وإزاءَه، وحَوالَيْةِ بنو فلانٍ، وقومُك أَقطارَ البلاد.
ومن ذلك قول الشاعر، وهو أبو حَيَّةَ النُّمَيرىّ:
إذا ما نَعَشْناه على الرَّحْلِ يَنْثَنِى ... مُسالَيهِ عنه من وراءٍ ومُقْدَمِ
ومسالاه: عطفاه، فصار بمنزلة " جنبي فطيمة ":
باب ما شُبّه من الأماكن المختصّةِ
بالمكِان غيرِ المختصَّ شُبّهت به إذ كانتْ تَقع على الأماكن وذلك قول العرب، سمعناه منهم: هو مِنَّى منزلةَ الشَّغافِ، وهو منّى منْزلةَ الوَلَدِ.
ويدلك على أنه ظرفٌ قولك: هو منّى بمنزلة الولد فإنما أردتَ أن(1/412)
تَجعله فى ذلك الموضع، فصار كقولك: مَنزلى مكانَ كذا وكذا وهو منّى مَزْجَرَ الكَلْبِ، وأنتَ منّى مَقعَدَ القابلةِ، وذلك إذا دنا فَلَزِقَ بك من بين يَدَيك. قال الشاعر، وهو أبو ذُؤَيبٍ:
فَورَدْنَ والعَيُّوقُ مَقعَدَ رابِئ ال ... ضرباء خلفَ النَّجْمِ لا يتتلَّعُ
وهو منك مَناطَ الثُّرَيَّا.
وقال الأحوَص:
وإنّ بنى حَربٍ كما قد عَلِمْتُمُ ... مَناطَ الثُّرَيَّا قد تَعَلَّتْ نُجومُهَا(1/413)
وقال: هو منَّى مَعْقِدَ الإِزَارِ، فأجرىَ هذا مجرى قولك: هو منّى مكانَ السارية، وذلك لأنّها أماكنُ، ومعناها هو منّى فى المكان الذي يقعد فيه الضرباءُ، وفى المكان الذى نيطَ به الثُّريَّا، وبالمكان الذى يَنزل به الولدُ، وأنت منى فى المكان الذى تَقعد فيه القابلةُ، وبالمكان الذى يُعْقَدُ عليه الإِزارُ، فإِنَّما أراد هذا المعنى ولكنه حَذف الكلامَ. وجاز ذلك كما جاز دخلتُ البيتَ وذهبتُ الشأمَ؛ لأنَّها أماكنُ وإن لم تكنْ كالمكان.
وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو منّى مَجْلِسَكَ أو مُتَّكأََ زيدٍ، أو مَربِطَ الفرسِ، لم يجز. فاستَعملْ من هذا ما استَعملتِ العربُ، وأَجِزْ منه ما أجازوا.
ومن ذلك قول العرب: هو منّى دَرَجَ السَّيْلٍ، أى مكانَ درجِ السيل من السيل. قال الشاعر، وهو ابن هَرْمةَ:(1/414)
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالى أم هم درج السُّيولِ
ويقال رَجَعَ أَدْراجَه، أى رَجع فى الطريق الذى جاء فيه. هذا معناه فأُجرى مجرى ما قبله، كما أَجروا ذلك المجرى دَرَجَ السيول.
وأمّا ما يَرتفع من هذا الباب فقولك: هو منّى فَرْسَخَانَ، وهو منّى عَدْوةُ الفَرسِ، ودَعْوةُ الرجُل، " وغَلْوةُ السهمِ "، وهو منّى يومانٍ، وهو منّى فَوْتُ اليد. فإِنَّما فارَقَ هذا البابَ الأوّلَ لأنَّ معنى هذا أنه يخبر أن بينه وبينه فرسخين ويومين، ودعوة الرجل، وفوتاً. ومعنى فوت اليد أنه يريد أن يقرَّبَ ما بينه وبينه. فهذا على هذا المعنى، وجرى على الكلام الأوّل، كأنَّه هو لسَعة الكلام، كما قالوا: أَخْطَبُ ما يكون الأميرُ يومُ الجمعة.
وأمّا قول العرب: أنت منّى مَرْأَى ومَسْمَعٌ، فإِنما رفعوه لأنّهم جعلوه هو الأوّلَ، حتى صار بمنزلة قولهم: أنت مني قريب.(1/415)
وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالى أم هم درج السُّيولِ
فجعَلَهُم هم الدّرَجَ، كما تقول: زيدٌ قَصْدُك، إذا جعلتَ القصدَ زيداً، وكما يجوز لك أن تقول: عبدُ الله خَلْفُك، إذا جعلتَه هو الخَلْفَ.
واعلمْ أنّ هذه الحروف بعضُها أشدُّ تمكُّنًا فى أن يكون اسماً من بعض، كالقصد والنجو، والقُبْل والناحية، وأمّا الخَلْفُ والأمام والتّحْت والدُّونُ فتكون أسماءً، وكينونةُ " تلك " أسماءً أكثرُ وأَجرى في كلامهم. وكذلك مرأى ومسمع كينونتهما أسماء أكثرُ، ومع ذلك إنّهم جعلوه اسماً خاصاً، بمنزلة المجلس والمُتَّكأَ وما أِشبه ذلك، فكرهوا أنْ يَجعلوه ظرفا. وقد زعموا أنّ بعض الناس يَنصبه، يَجعله بمنزلة دَرَجَ السُّيول، فينصبُه، وهو قليل، كأَنّهم لمّا قالوا: بمرأى ومسمعٍ فصار غيرَ الاسم الأوَّل فى المعنى واللفظ، شبهوه بقوله: هو مني يمنزلة الولد.
وقد زعم يونسُ أنّ ناسا يقولون: هو منّى مَزْجَرُ الكلب، يجعلونه بمنزلة مَرْأًى ومسمع. وكذلك مَقْعَدٌ ومَناطٌ، يجعلونه هو الأوّلَ فيُجرَى، كقول الشاعر:(1/416)
وأنتَ مَكانُك من وائِلٍ ... مَكانُ القرادِ مِنِ أستِ الجَمَلْ
وإنما حسن الرفعُ ههنا لأنَّه جَعَل الآخِرَ هو الأوّلَ، كقولك: له رأسٌ رأسُ الحِمار. ولو جَعل الآخِرَ ظرفًا جاز، ولكنّ الشاعر أراد أن يشبَّهَ مكانَه بذلك المكان.
وأمَّا قولهم: دارى خَلْفَ دارك فرسَخاً، فانتَصب لأنَّ خَلْفَ خَبَرٌ للدار، وهو كلامٌ قد عَمِلَ بعضُه فى بعض واستَغنى، فلمَّا قال: دارى خلف دارك أَبْهَمَ، فلم يُدْرَ ما قدرُ ذاك، فقال: فرسَخاً وذِراعا ومِيلا، أراد أن يبيَّنَ. فيَعملُ هذا الكلامُ فى هذه الغايات بالنَّصب كما عَمل: له عِشْرون درهماً في الدرهم، كأن هذا الكلام شيء منَّونٌ يَعمل فيما ليس من اسمه ولا هو هو، كما كان: أفضلُهم رَجُلا، بتلك المنزلة.
وإنْ شئت قلت: دارى خلفَ دارك فرسخانِ، تُلْغِى خلفَ كما تُلغِى فيها إذا قلت: فيها زيدٌ قائمٌ.
وزعم يونسُ أنّ أبا عمرو كان يقول: دارى من خَلْفِ دارك فرسخانِ، فشبَّهه بقولك: دارُك منّى فرسخانِ، لأنَّ خلفَ ههنا اسمٌ، وجَعَل مِنْ فيها بمزلتها فى الاسم. وهذا مذهبٌ قوىٌّ.
وأما العربُ فتَجعلُه بمنزلة قولك: خَلْفَ، فتَنصبُ وتَرفعُ، لأنك تقول: أنت من خَلْفى، ومعناه أنت خَلْفى، ولكنّ الكلام حَذْف. ألاَ ترى أنَّك تقول: دارُك من خلفِ دارى، فيَستغنى الكلامُ.
وتقول: أنت منّى فرسخَينِ، أى أنت منّى ما دُمْنَا نَسيرُ فرسخَينِ، فيكون ظرفاً كما كان ما قبله مما شُبّه بالمكان.(1/417)
وأما الوَقت والساعاتُ والأيّام والشُّهور والسَّنون، وما أشبه ذلك من الأزمنة والأحيان التى تكون فى الدهر، فهو قولك: " القِتالُ يومَ الجمعة "، إذا جعلت يوم الجمعة ظرفاً، و " الهلال الليلة ". وإنَّما انتَصبا لأنك جعلتهما ظرفًا وجعلتَ القتال في يوم الجمعة، والهلالَ فى الليلة.
وإن قلت: الليلةَ الهلالُ، واليومَ القِتالُ نصبتَ، التقديمُ والتأخيرُ فى ذلك سَواءٌ. وإن شئت رفعتَ فجعلتَ الآخِرَ الأوّلَ.
وكذلك: اليومَ الجمعةُ واليومَ السبتُ، وإن شئت رفعتَ. فأمّا اليومُ الأحَدُ، واليومُ الاثنانِ، فإِنّه لا يكون إلاّ رفعاً، وكذلك إلى الخميس، لأنه ليس يعمل فيه كأَنّك أردت أن تقول: اليومُ الخامسُ والرابعُ. وكذلك: اليومُ خَمسةَ عَشَرَ من الشهر، إنَّما أردت هذا اليومُ تمامُ خَمْسةَ عَشَرَ من الشهر،(1/418)
ويومان من الشهر رُفع كلُّه، فصار بمنزلة قولك: العامُ عامُها.
ومن العرب من يقول: اليومَ يومْك، فيَجعلُ اليومَ الأوّلَ بمنزلة الآنَ، لأنّ الرجل قد يقول: أنا اليومَ أَفعل ذاك، ولا يريد يومًا بعينه.
وتقول: عَهْدى به قَريبًا وحَديثًا، إذا لم تَجعلِ الآخِرَ هو الأوّلَ. فإِن جعلتْ الآخِر هو الأوّلَ رفعتَ. وإذا نصبتَ جعلتَ الحديثَ والقريبَ من الدهر. وتقول: عَهْدى به قائمًا وعِلْمى به ذا مالٍ، فتَنصبُ على أنَّه حال وليس بالعهد ولا العلم، وليسا هنا ظرفَيْنِ.
وتقول: ضَربى عبدَ الله قائماً، على هذا الذى ذكرتُ لك.
واعلم أنَّ ظروفَ الدهرِ أشدُّ تمكّنا فى الأسماء، لأنها تكون فاعِلةً ومفعولةً. تقول: أَهْلَكَك الليلُ والنهارُ، واستَوفيتَ أيّامَك، فأُجرِىَ الدهرُ هذا المجرى. فأَجْرِ الأشياءَ كما أَجروها.
هذا باب الجَرّ
والجرُّ إنما يكون فى كلّ اسمٍ مضافٍ إليه. واعلم أنّ المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء: بشيء ليس باسم ولا ظرف، وبشيء يكون ظرفا، وباسم لا يكون ظرفا.
فأمّا الذى ليس باسم ولا ظرف فقولك: مررتُ بعبدِ الله، وهذا لعبدِ الله، وما أنت كزيدٍ، ويالَبَكْرٍ، وتَاللهِ لا أفعلُ ذاك ومِنْ وفي(1/419)
ومُذْ، وعنْ ورُب وما أشبه ذلك، وكذلك أخذتُه عن زيدٍ، وإلى زيدٍ.
وأمّا الحروفُ التى تكون ظرفاً فنحو خَلفَ وأَمامَ، وقدام ووراء، وفوق وتحت، وعند وقبل، ومع وعلى، لأنك تقول: من عليك، كما تقول: من فوقك، وذهب من معه.
وعن أيضاً ظرف بمنزلة ذات اليمين والناحية. ألا ترى أنك تقول: من عن يمينك، كما تقول: من ناحية كذا وكذا.
وقبالة، ومكانك، ودون، وقبل، وبعد، وإزاء، وحذاء، وما أشبه هذا من الأمكنة والأزمنة. وذلك قولك: أنت خلف عبد الله، وأمام زيد، وقُدّام أخيك، وكذلك سائُر هذه الحروف.
وهذه الظروفُ أسماءٌ، ولكنها صارت مواضعَ للأشياءِ.
وأمّا الأسماءُ فنحوُ: مِثلٍ، وغَيرٍ، وكُلَّ، وبَعْضٍ. ومثلُ ذلك أيضاً الأسماءُ المختصَّةُ نحوُ: حِمارٍ، وجِدارٍ، ومالٍ، وأَفعَلَ نحوَ قولك: هذا أَعْمَلُ الناس، وما أشبه هذا من الأسماء كلَّها، وذلك قولك: هذا مِثْلُ عبدِ الله، وهذا كل مالك وبعض، وهذا حمار زيد وجدار أخيك، ومال عمرو. وهذا أَشَدُّ الناسِ.
وأمَّا الباء وما أشبهها فليست بظروف ولا أسماءٍ، ولكنَّها يضاف بها(1/420)
إلى الاسم ما قبله أو ما بعده. فإِذا قلتَ: يا لَبَكْرٍ فإِنَّما أردت أن تَجعل ما يَعمل فى المُنادَى من الفعل المضمر مُضافا إلى بكرٍ باللام.
وإذا قلتَ: مررتُ بزيدٍ، فإِنَّما أضفتَ المرورَ إلى زيد بالباء، وكذلك هذا لِعبدِ الله. وإذا قلت: أنت كعبدِ الله، فقد أضفتَ إلى عبد الله الشبَهَ بالكاف. وإذا قلت: أخذتُه من عبدِ الله فقد أضفتَ الأَخذَ إلى عبد الله بِمن. وإذا قلت: مُذْ زمانٍ فقد أضفتَ الأمرَ إلى وقتٍ من الزمان " بمُذ ". وإذا قلت: أنت فى الدارِ فقد أضفت كينونتَك فى الدار إلى الدار بِفى. وإذا قلت: فيك خصلة سوء، فقد أضفت إليه الرَّداءَةَ بفِى. وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب. وإذا قلت: بالله والله وتالله فإِنما أضفتَ الحَلْفَ إلى الله سبحانه. كما أضفتَ النداءَ باللام إلى بكرٍ حينَ قلت: يالَبَكْرٍ. وكذلك رَوَيتُه عن زيدٍ، أضفتَ الرواية إلى زيد بعن.
باب مَجرى النعتِ على المنعوتِ..
والشَّريكِ على الشَّريكِ والبَدَلِ على المُبْدِلَ منه وما أشبه ذلك
فأما النَّعت الذى جرى على المنعوت فقولك: مررتُ برجُلٍ ظَريفٍ قَبْلُ، فصار النعتُ مّجروراً مثلَ المنعوت لأنّهما كالاسم الواحدِ. " وإنما(1/421)
صارا كالاسم الواحد " من قِبَلِ أنَّك لم تُرِدِ الواحدَ من الرجال الَّذين كل واحدٍ منهم رجُلٌ، ولكنَّك أردت الواحدَ من الرجال الَّذين كلُّ واحد منهم رجُلٌ ظريفٌ، فهو نكرةٌ، وإنَّما كان نكرةً لأنه من أُمّةٍ كلُّها له مثلُ اسمه. وذلك أَنَّ الرجالَ كلُّ واحدٍ منهم رجلٌ، والرَّجالُ الظرفاءُ كلُّ واحد منهم رجلٌ ظريفٌ، فاسمُه يَخِلطه بأُمّته حتَّى لا يُعْرَفَ منها.
فإِنْ أَطلتَ النعتَ فقلتَ: مررتُ برجل عاقِلٍ كَريمٍ مُسْلمٍ، فأَجْرِه على أوّله.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ أَيَّما رجلٍ، فأَيُّما نعتٌ للرجل فى كماله وبَذَّه غيرَه، كأَنه قال: مررتُ برجلٍ كاملٍ.
ومنه: مررتُ برجُلٍ حَسْبِك من رجُلٍ. فهذا نعت للرجل بإِحسابهِ إيّاك من كلّ رجلٍ. وكذلك: كافيك من رجلٍ، وهَمَّك من رجلٍ، " وناهيك من رجلٍ "، ومررتُ برجلٍ ما شئتَ من رجلٍ، ومررتُ برجلٍ شَرْعِك من رجلٍ، ومررتُ برجلٍ هَدَّك من رجلٍ، " وبامرأةٍ هَدَّك من امرأةٍ ". فهذا كلُّه على معنىً واحدٍ، وما كان منه يَجرى فيه الإِعرابُ فصار نعتاً لأوّله جرى على أوّله.(1/422)
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: مررتُ برجلٍ هَدَّك من رجلٍ، ومررتُ بامرأةٍ هدَّتْك من امرأةٍ؛ فجعله فعلا " مفتوحاً، كأَنه قال: فَعَلَ وفَعَلَتْ "، بمنزلة كَفاك وكَفَتْك.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ مِثْلِك. فمِثْلُك نعتٌ على أنك قلت هو رجل كما أنك رجل، ويكون نعتاً أيضاً على أنه لم يَزِدْ عليك ولم ينقص عنك في شيء من الأمور. ومثلُه: مررتُ برجلٍ مِثْلِك، أى صُورتُه شَبيهةٌ بصورتِك، وكذلك: مررتُ برجلٍ ضَرْبِك وشِبْهِكَ. وكذلك نَحْوِك، يُجْرَيْنَ فى المعنى والإِعرابِ مُجْرًى واحدا، وهنّ مضافاتٌ إلى معرفةٍ صفاتٌ لنكرةٍ.
" ويونسُ يقول: هذا مِثلُكَ مُقبِلا، وهذا زيدٌ مِثْلَك، إذا قدَّمه جعله معرفة وإذا أخَّره جعله نكرة. ومن العرب من يوافِقُه على ذلك ".
ومنه: مررتُ برجلٍ شَرًّ منك، فهو نعتٌ على أنه نقصَ أَنْ يكون مثَله.
ومنه: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك، فهو نعتٌ له بأنَّه قد زاد على أن يكون مثلَه.
ومنه: مررتُ برجلٍ غَيْرِك، فغيرُك نعتٌ يُفصَل به بين مَنْ نَعَتَّه بغَيْرٍ وبين من أضَفتَها إليه حتَّى لا يكون مثلَه أو يكونَ مَرَّ باثنين.
ومنه: مررتُ برجلٍ آخَرَ، " فآخر " نعتٌ على نحو غَيْرِ.(1/423)
ومنه: مررتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهِ، نعتَّ الرجلَ بحسن وجهه ولم تجعل فيه الهاء هى إضمارُ الرجلِ، كما تقول: حَسَنٌ وجههُ، لأنَّه إذا قيل حَسَنُ الوجهِ عُلم أنه لا يَعنى من الوجوه إلاَّ وجهَه.
ومثل ذلك: مررت بامرأة حسنة الوجهِ، إنَّما أَدخلتَ الهاءَ فى الحسَنَةِ لأَِنّ الحسَنَة إنَّما وقعتْ نعتاً لها ثم بلغتَ به بعد ما صار نعتاً لها حيث أردتَ، فمن ثم صارتْ فيها الهاءُ. وليست بمنزلة حَسَن وجههُ فى اللفظ وإن كان المعنى واحداً؛ لأنّ الحُسْنَ ههنا للأوَّل ثم تضيفه إلى من تريد، وحَسَن الوجه مضافٌ إلى معرفةٍ صفةٌ للنكرة، فلمَّا كانت صفةً للنكرة أُجريت مُجراها كما جرت مجراها أخواتُها مِثْلٌ وما أِشبهها.
وممَّا يكون نعتاً للنكرة وهو مضافٌ إلى معرفةٍ قول الشاعر، امرؤ القيس:
بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ لاحَهُ ... طِرادُ الهَوادِى كلَّ شأ ومغرب
ومنه أيضاً: مررتُ على ناقةٍ عُبْر الهَواجِرِ.(1/424)
وممّا يكون مضافاً إلى المعرفة ويكون نعتاً للنكرة الأسماءُ التى أُخذت من الفعلِ فأُريدَ بها معنى التنوين. من ذلك: مررتُ برجلٍ ضاربك، فهو نعت على أنه سيَضربه، كأَنك قلت: مررتُ برجلٍ ضارِبٍ زيداً، ولكن حُذف التنوينُ استخفافا. وإن أظهرتَ الاسمَ وأردتَ التخفيف والمعنى معنى التنوين، جرى مجراه حين كان الاسمُ مضمَراً، وذلك قولُك: مررتُ برجلٍ ضاربه رجل؛ فإنْ شئت حملتَه على أنّه سيفَعل، وإن شئتَ على أنَّك مررت به وهو فى حالِ عملٍ، وذلك قوله عزّ وجلّ: " هذا عارض ممطرنا ". فالرفعُ ههنا كالجرّ فى باب الجرّ.
واعلم أنَّ كل مضافٍ إلى معرفةٍ وكان للنكرة صفةً فإِنّه إذا كان موصوفاً أو وَصْفا أو خَبَراً أو مبتدأَ، بمنزلة النكرة المُفرَدةِ. ويدلّك على ذلك قول " الشاعر، وهو " جرير:
ظَلِلنا بمُسْتَنَ الحَرورِ كأَنّنا ... لَدَى فَرَسٍ مُسْتَقْبِل الريح صائم(1/425)
كأَنه قال: لدى مستقبل صائمٍ.
وقال المَرّار الأَسدىّ:
سَلَّ الهُمومَ بكلَّ مُعْطِى رأْسِه ... ناجٍ مُخالِطِ صُهْبةٍ متَعيَّسِ
مُغتالِ أَحْبُلِهِ مُبينٍ عُنْقُه ... فى مَنْكِبٍ زَبَنَ المَطَّى عَرَنْدسِ
سمعناه ممّن يَرويه من العرب يُنشِدُه هكذا. ومنه أيضاً قول ذى الرُّمّة:
سَرَتْ تَخْبِطُ الظلْمَاءَ من جانِبَىْ قَساً ... وحُبّ بها من خابِطِ اللَّيْلِ زائِرِ
فكأَنّهم قالوا: بكلَّ مُعْطٍ " رأسَه "، ومن خابط " الليل ". ومثله قول جرير:(1/426)
يارب غابطِنا لو كان يَعرفُكْم ... لاقَى مُباعدةً منكْم وحِرْمانَا
وقال أبو مِحْجَنِ الثَّقَفّى:
يا رُبّ مثلك فى النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطَلاقٍ
فرُبّ لا يقع بعدها إلاّ نكرةٌ، فذلك يدلّك على أنّ " غابطنا " " ومثلك " نكرةٌ.
ومن ذلك قول العرب: لى عِشْرون مِثْلَه ومائةُ مثلِه، فأَجروا ذلك بمنزلة عشرين درهما ومائة درهمٍ. فالمِثْلُ وأخَواتُه كأَنّه كالذى حُذف منه التنوينُ فى قوله مِثْلٌ زيدا وقَيدٌ الأوابد. وهذا تمثيل، ولكنها كمائة وعشرين، فلزمها شيء واحد وهو الإِضافة. يريد أنَّك أردت معنى التنوين. فمثلُ ذلك قولهم: مائةُ درهمٍ.(1/427)
وزعم يونس أنه يقول: عشرونَ غَيرَك، على قوله عشرون مثلكَ.
وزعم يونس والخليل رحمهما الله، أنّ الدّرهم ليست نكرة؛ لأنّهم يقولون: مائةُ الدرهمِ التى تَعلم، فهى بمنزلة عبد الله.
وزعم يونس والخليل أنّ هذه الصفاتِ المضافةَ إلى المعرفة، التى صارت صفةً للنكرة، قد يجوز فيهن كلهن أن يكون معرفةً، وذلك معروفٌ فى كلام العرب. يدلّك على ذلك أَنّه يجوز لك أن تقول: مررتُ بعبد الله ضاربِك، فجعلتَ ضاربك بمنزلة صاحبك.
وزعم يونس أنه يقول: مررتُ بزيدٍ مثلك، إذا أرادوا مررت بزيد المعروف بشبهك، فتجعل مثلك معرفة. ويدلك على ذلك قوله: هذا(1/428)
مثلك قائما، كأنه قال هذا أخوك قائما. إلا حسن الوجه فإنه بمنزلة رجل، لا يكون معرفة. وذاك أنه يجوز لك أن تقول: هذا الحسن الوجه، فيصير معرفة بالألف واللام، كما يصير الرجل معرفة بالألف واللام ولا يكون معرفة إلا بهما.
ومن النعت أيضا: مررت برجلٍ إمّا قائمٍ وإمّا قاعدٍ، فقد أَعلمهم أنه ليس بمُضْطَجِعٍ " ولكنه " شكّ فى القيام والقعودِ، وأَعلمهم أنّه على أحدهما.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ، جُرّ لأنّه نعتٌ، كأَنك قلت: مررتُ برجلٍ قائمٍ، وكأَنّك تحدَّثُ مَن فى قلبه أَنَّ ذاك الرجلَ قائمٌ أو قاعدٌ، فقلتَ: لا قائم ولا قاعد، لتُخْرِجَ ذلك من قلبه.
ومنه: مررتُ برجلٍ راكبٍ وذاهبٍ، واستحقهما لا لأن الرُّكوب قبل الذَّهاب. ومنه: مررْت برجل راكبٍ فذاهبٍ استحقَّهما إلا أنه بَيَّنَ أَنَّ الذهابَ بعد الركوب وأَنّه لا مُهلة بينهما وجعله متَّصلا به.
ومنه: مررتُ برجلٍ راكب ثمّ ذاهبٍ، فبيَّن أنَّ الذهاب بعده، وأنّ بينهما مُهلةً، وجعله غيرَ متّصلِ به فصيَّره على حِدةٍ.
ومنه: مررتُ برجلٍ راكعٍ أو ساجد، فإنما هي بمنزلة إما وإما، إلاّ أَنّ إمّا يُجاءُ بها ليُعْلَمَ أنّه يريد أحدَ الأمرينِ، وإذا قال " أو " ساجدٍ فقد يجوز أن يُقتصر عليه.(1/429)
ومنه: مررتُ برجلٍ راكعٍ لا ساجِدٍ، لإِخراجِ الشكَّ أو لتأكيد العِلم فيهما.
ومنه: مررت: برجلٍ راكع بل ساجد، إما غلط فاستدرك، وإما نسىَ فذكر.
ومنه: مررتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهِ جَميِلة، جُرَّ لأنَّه حَسنُ الخاصَّةِ جَميلُها، والوجهُ ونحوُه خاصٌّ، ولو كان حَسَنَ العامّةِ لقال حَسَنٍ جميل.
ومنه: مررتُ برجلٍ ذى مالٍ، أى صاحبِ مالٍ.
ومنه: مررتُ برجلٍ رجلِ صِدْقٍ، منسوبٍ إلى الصَّلاح. كأنّك قلت: مررتُ برجلٍ صالحٍ. وكذلك: مررتُ برجلٍ رجلِ سَوءٍ، كأَنّك قلت: مررتُ برجلٍ فاسدٍ؛ لأنَّ الصَّدقَ صلاحٌ والسَّوءَ فَسادٌ. وليس الصدقُ ههنا بصدقِ اللسان، لو كان كذلك لم يجز لك أن تقول هذا ثَوبُ صِدْقٍ وحِمارُ صِدْقٍ، وكذلك السَّوْءُ ليس فى معنى سُؤْتُه.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلينِ مِثْلَيْنِ، فتفسيرُ المثلينِ أنَّ كلّ واحد منهما مِثلُ صاحبه. ومثل ذلك سِيّانِ، وسَواءٌ.
ومنه: مررتُ برجلينِ مِثْلِكَ، أى كلُّ واحد منهما مِثلُك، ووجهٌ آخَرُ على أنّهما جميعاً مِثْلُك. وكلُّ ذلك جر.(1/430)
ومنه: مررتُ برجلينِ غيرِك، فإِنْ شئت حملتَه على أنَّهما غيرُه فى الخِصال وفى الأمور، وإن شئت على قوله: مررتُ برجلينِ آخَرَينِ إذا أردت أنَّه قد ضَمّ معك فى المرور سِواك، فيصيرُ كقولك: برجلٍ آخَرَ، إذا ثَنَّى به.
ومنه: مررت برجلين سواء، على أنهما لي يزيدا على رجلين ولي يَنقصَا من رجلِين. وكذلك مررتُ بدرهمٍ سَواءٍ.
ومنه أيضاً: مررتُ برجلينِ مُسْلِمٍ وكافرٍ، جمعت الاسمَ وفرّقتَ النعتَ. وإن شئت كان المسلمُ والكافر بدلاً، كأَنّه أجاب من قال: بأَىَّ ضربٍ مررتَ؟ وإن شاءَ رَفَعَ كأَنّه أجاب مَنْ قال: فما هما؟ فالكلامُ على هذا وإن لمَ يلفظ به المخاطَبُ؛ لأنّه إنما يَجرى كلامُه على قدر مسألتك عنده لو سألتَهِ.
وكذلك: مررتُ برجلِين رجلٍ صالحٍ ورجلٍ طالح، إن شئت صيَّرته تفسيراً لنعتٍ، وصار إعادتك الرجل توكيداً. وإن شئت جعلتَه بدلاً، كأَنّه جوابٌ لمن قال: بأَىَّ رجل مررتَ. فتركتَ الأوّلَ واستَقبلتَ الرجلَ بالصفة. وإن شئت رفعتَ على قوله فما هما؟ ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم وفُرّق النعتُ وصار مجروراً قوله، " وهو رجل من باهِلَة ":
بَكَْيتُ وما بُكَا رَجُلٍ حَلِيمٍ ... على رَبْعيِن مسلوبٍ وبالٍ(1/431)
كذا سمعنا العرب تنشده، والقوافي مجرورة.
ومنه أيضاً: مررتُ بثلاثةِ نَفَرٍ: رجلينِ مسلمينِ ورجلٍ كافرٍ، جَمعتَ الاسمَ وفصَّلتَ العدّةَ ثم نعتَّه وفسّرتَه. وإن شئت أَجريتَه مُجْرى الأوّل فى الابتداء فترفعُه، وفى البدلِ فتجرُّه. قال " الرجز، وهو " العجاج:
خَوَّى على مُسْتَوِياتٍ خَمسِ ... كِرْكَرِةٍ وثَفِناتٍ مُلْسِ
وهذا يكون على وجهينِ: على البدل، وعلى الصفة.
ومثال ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل، قوله عزّ وجلّ: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ". ومن الناس من يَجرّ والجَرُّ على وجهين: على الصفة، وعلى البدل. ومنه قول كُثَيَّرِ عَزّةَ:(1/432)
وكنت كذى رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمانُ فشَلَّتِ
فأَمّا مررتُ برَجُلٍ راكعٍ وساجدٍ، ومررتُ برجلٍ رجلٍ صالحٍ، فليس الوجهُ فيه إلاّ الصفةَ، وليس هذا بمنزلة مررتُ برجلينِ مُسلمٍ وكافر ولا ما أشبهه، من قبل أنك ثم تُبعَّض، كأنَّك قلت: أحدُهما كذا والآخر كذا، ومنهم كذا " ومنهم كذا ".
وإذا قلت: مررتُ برجلٍ قائمٍ، ومررتُ برجلٍ قاعدٍ، فهذا اسمٌ واحدٌ. ولو قلت: مررتُ برجلٍ مسلمٍ وثلاثةِ رِجالٍ مسلمينَ لم يَحسن فيه إلاّ الجرُّ لأنك جعلت الكلامَ اسماً واحداً حتّى صار كأنك قلت: مررتُ بقائمٍ ومررتُ برجالٍ مسلمينَ.
وهذا قولُ يونسَ: ولو جاز الرفعُ لقلت: كان عبدُ الله راكعٌ؛ لأنّك إن شبّهتَه بالتبعيض فالتبعيضُ ههنا رفعٌ، إذا قلت: كان أَخواك راكع وساجد.(1/433)
ومثل ذلك: مرت برجل وامرأة وحمار قيام، فرقت الأسماء وجمعت النعت، فصارجمع النعت ههنا بمنزلة قولك: مررتُ برَجلينِ مسلمَينِ، لأن النعت ههنا ليس مبعَّضا، ولو جاز فى هذا الرفعُ لجاز مررتُ بأخيك وعبدِ الله وزيدٍ قيامٌ، فصار النعتُ ههنا مع الأسماء بمنزلة اسمٍ واحد.
وتقول: مررتُ بأََربعة صَريعٌ وجَريحٌ، لأنّ الصَّريع والجريح غيرُ الأربعة، فصار على قولك: منهم صريع ومنهم جريحُ.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ مِثلِ رَجُلَين، وذلك فى الغَناء " والجَزْءِ ". وهذا مثلُ قولك: مررتُ بُبَّر مِلء قَدَحَين، فالذى يضاف إليه المِلْءُ مِقْيَاسٌ ومِكْيَالٌ ومِثقَالٌ ونحوُه، والأوّلُ مَوْزُونٌ ومَقيسٌ ومكِيلٌ. وكذلك: مررتُ برَجلين مِثْلِ رجلٍ في الغناء، كقولك: ببرين ملء قدح. وتقول: مررتُ بَرَجُلٍ مثل رجلٍ، وتقول: مررت برجلٍ أَسَدٍ شِدّةً وجُرأةً، إنّما تريد مِثْلَ الأسِد. وهذا ضعيفٌ قبيح، لأنَّه اسمٌ لم يُجْعَلْ صفةً، وإنَّما قاله النحويُّون، شبَّه بقولهم: مررتُ بزيدٍ أَسداً شِدّةً.
وقد يكون خَبَراً ما لا يكون صفةً. " ومثله: مررتُ برَجُلٍ نارٍ حُمْرةً ".
ومنه أيضاً: مررت برجل صالح بل طالح، وما مررتُ برجلٍ كَريمٍ بل لئيمٍ، أَبدلتَ الصفةَ الآخِرَةَ من الصفة الأولى وأَشركَتْ بينهما بَلْ فى الإِجراءِ على المنعوت. وكذلك: مررتُ برجل صالح بل طالح، ولكنه يجيء على النَّسيان أو الغَلطِ، فيَتداركُ كلامَه؛ لأنه ابتدأ بواجب.(1/434)
ومثله: ما مررتُ برجلٍ صالحٍ لكنْ طالحٍ، أَبدلتَ الآخِرَ من الأوّل فجرى مجراه فى بَلْ.
فإِن قلتَ: مررتُ برجلٍ صالحٍ ولكنْ طالحٍ، فهو مُحالٌ، لأنّ لكنْ لا يُتدارك بها بعد إيجاب، ولكنّها يُثْبتُ بها بعد النفى. وإن شئت رفعتَ فابتدأتَ على هُوَ فقلتَ: ما مررتُ برجلٍ صالحٍ ولكنْ طالحٌ، وما مررتُ برجلٍ صالحٍ بل طالحٌ، ومررتُ برجلٍ صالح بل طالحٌ؛ لأنَّها من الحروف التى يُبْتَدأُ بها.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ". فالرفعُ ههنا بعد النصب كالرفع بعد الجرّ. وإن شئت كان الجرُّ على أن يكون بدلاً على الباء.
واعلم أنّ بَلْ، ولا بَلْ، ولكِنْ، يُشرِكْنَ بين النعتينِ فيُجْرَيانِ على المنعوت، كما أشركَتْ بينهما الواوُ والفاءُ، وثمّ وأَوْ، ولا، وإمّا وما أشبه ذلك.
وتقول: ما مررتُ برجلٍ مسلمٍ فكيفَ رجلٌ راغبٌ فى الصّدَقة، بمنزلة: فأَينَ راغبٌ في الصدقة.
وزعم يونسُ أن الجرّ خطأ؛ لأنّ أَيْنَ ونَحْوَها يبتدأ بهن ولا يضمر بعدهن شيء، " كقولك: فهَّلا دينارا، إلاّ أنَّهما مما يكون بعدهما الفعل ".(1/435)
ألا ترى أنّك لو قلت: رَأيتُ زيداً فأَيْنَ عمراً، أو فهَلْ بشراً لم يجز. وقد بُيَّن تركُ إضمارِ الفعلِ فيما مضى. ولكنْ وبَلْ لا يُبتدآنِ ولا يكونانِ إلاّ على كلامٍ، فشُبَّهْن بَإِمّا وأَوْ ونحوهما.
وممّا جرى نعتاً على غير وجه الكلام: " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ "، فالوجهُ الرفعُ، وهو كلامُ أكثرِ العربِ وأفصحهِم. وهو القياسُ، لأنّ الخَرِبَ نعتُ الجُحْرِ والجحرُ رفعٌ، ولكنّ بعض العرب يجُرُّه. وليس بنعتٍ للضبّ، ولكنّه نعتٌ للذى أُضيف إلى الضبّ، فجرّوه لأنه نكرةٌ كالضبّ، ولأنَّه فى موضعٍ يقع فيه نعتُ الضبّ، ولأنه صار هو والضب بمنزلة اسم واحدٍ. ألا ترى أنّك تقول: هذا حَبُّ رُمّانٍ. فإِذا كان لك قلت: هذا حَبُّ رُمّانى، فأَضفتَ الرمّانَ إليك، وليس لك الرمّانُ إنَّما لك الحَبُّ.
ومثلُ ذلك: هذه ثلاثةُ أَثوابِك. فكذلك يقع على جُحْرِ ضبّ ما يقع على حَبَّ رُمّانٍ، تقول: هذا جُحْرُ ضَبَّى، وليس لك الضبُّ إِنَّما لك جُحْرُ ضبَّ، فلم يَمنعك ذلك من أَنْ قلتَ جحرُ ضبّى، والجحرُ والضبُّ بمنزلة اسم مفرَدٍ، فانجرَّ الخَرِبُ على الضبَّ كما أضفتَ الجحرَ إِليك مع إضافة الضبَّ. ومع هذا أنّهم أَتبعوا الجرَّ كما أَتبعوا الكَسْرَ الكسرَ، نحوَ قولهم: بهم وبدارِهِم، وما أِشبه هذا.(1/436)
وكِلا التفسيرَيْنِ تفسيرُ الخليل، وكان كلُّ واحد منهما عنده وجهاً من التفسير.
وقال الخليل رحمه الله: لا يقولون إِلاَّ هذانِ جُحْرَا ضَبَّ خَرِبانِ، من قِبَل أنّ الضبّ واحدٌ والجحر جحران، وإنما بغلطون إذا كان الآخِرُ بعدّة الأوّل وكان مذكَّراً مثلَه أو مؤنَّثًا، وقالوا: هذه جِحرَةُ ضِبابٍ خربة، لأن الضباب مؤنثة ولأن الجحرة مؤنثهة، والعدّة واحدة، فغَلِطوا.
وهذا قولُ الخليل رحمه الله، ولا نُرَى هذا والأوَّلَ إلاّ سَواءً، لأنّه إذا قال: هذا جُحْرُ ضبَّ مُتَهَدمٍ، ففيه من البيان أنّه ليس بالضبَّ، مثلُ ما فى التثنية من البيان أنّه ليس بالضب. وقال العجاج:
كأن نسج العنكبوت المرمل
فالنسج مذكر والعنكبوت أنثى.
باب ما أَشْرَكَ بين الاسمْينِ فى الحرف الجارّ
فَجَرَيا عليه كما أَشرك بينهما فى النَّعْت فَجَرَيا على المنعوت
وذلك قولك: مررتُ برجل وحمار قبل. قالوا وأشركت بينهما فى الباءِ فجريا عليه، ولم تَجعلْ للرَّجل منزلةً بتقديمك إيّاه يكون بها أَوْلَى من الحمار،(1/437)
كأنك قلت مررتُ بهما. فالنفىُ فى هذا أن تقولَ: ما مررتُ برجلٍ وحمار، أي ما مررت بهما، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء مع شيء، لأن يجوز أن تقول: مررت بزيد وعمرو والمبدوء به في المرور عمرو، " ويجوز أن يكون زيداً "، ويجوز أن يكون المرورُ وَقَعَ عليهما فى حالةٍ واحدة.
فالواوُ تَجمع هذه الأشياءَ على هذه المعانى. فإذا سمعتَ المتكلَّمَ يَتكلّم بهذا أَجبتَه على أيَّها شئتَ؛ لأنها قد جَمعتْ هذه الأشياءَ. وقد تقول: مررت بزيد وعمرو، على أنّك مررت بهما مُرُورَيْن، وليس فى ذلك " دليلٌ " على المرور المبدوء به، كأنّه يقول: ومررت أيضاً بعمرو. فنفْىُ هذا: ما مررتُ بزيد وما مررتُ بعمرو.
وسنبَّين النفىَ بحروفه فى موضعه إنْ شاء الله.
ومن ذلك " قولك ": مررت بزيد فعمرو، ومررت برجل فامرأة. فالفاء أشركت بينهما فى المرور، وجَعلتِ الأوّلَ مبدوءاً به. ومن ذلك: مررتُ برجلٍ ثُمّ امرأَةٍ، فالمرورُ ههنا مُرورانِ، وجَعلَتْ ثُمّ الأوّلَ مبدوءاً به وأَشركتْ بينهما فى الجرّ.
ومن ذلك " قولك ": مررتُ برجلٍ أَوِ امْرأةٍ، فأَوْ أَشْركتْ بينهما فى الجرّ، وأثبتِت المرورَ لأَحَدِهما دون الآخَرِ، وسَوّتْ بينهما فى الدعْوَى. فَجوابُ الفاءِ: ما مررت بزيد فعمرو. وجوابُ ثُمّ: ما مررتُ بزيدٍ(1/438)
ثمّ عمرو. وجوابُ أَوْ إن نَفيتَ الاسمينِ: ما مررتُ بواحدٍ منهما، وإن أَثْبَتّ أحدَهما قلتَ: ما مررتُ بفلان.
ومن ذلك: مررتُ برجل لا امرأََة، أشركَتْ بينهما لاَ فى الباءِ وأحقَّتِ المرورَ للأوّل وفصلَتْ بينهما عند من التَبَساَ عليه فلم يَدْرِ بأيّهما مررتَ.
هذا باب المُبْدَل من المُبدَل منه
والمبدل يشرك المبدل منه فى الجر وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حِمارٍ. فهو على وجهٍ محالٌ، وعلى وجهٍ حَسَنٌ.
فأَمَّا المحُالُ فأَن تَعنَى أنَّ الرجلَ حِمارٌ. وأَما الذى يَحسُن فهو أن تقول: مررتُ برجلٍ، ثم تُبْدِلَ الحِمارَ مَكَانَ الرجل فتقولَ: حِمارٍ، إمَّا أن تكونَ غلِطتَ أو نَسِيتَ فاستَدركتَ، وإمّا أن يَبْدُوَ لك أَن تُضربَ عن مرورك بالرجل وتَجعلَ مكانه مرورَك بالحمار بعد ما كنتَ أردتَ غيْرَ ذلك.
ومثل ذلك قولك: لا بَلْ حِمارٍ.
ومن ذلك قولك مررتُ برجلٍ بَلْ حمار، وهو على تفسير: مررتُ برجلٍ حِمارٍ.
ومن ذلك: ما مررتُ برجلٍ بَلْ حِمارٍ، وما مررتُ برجلٍ ولكن حمار، أبدلت الآخر من لأول وجعلتَه مكانَه. وقد يكونُ فيه الرفُع على أن يُذْكَرَ الرجُل فيقال: مِن أمِره ومن أمره، فتقولُ أنت: قد مررت به، فما مررت برجل بل حمار ولكن حِمارٌ، أى بل هو حمارٌ ولكنْ هو حمار.(1/439)
ولو ابتَدأتَ كلاماً فقلتَ: ما مررتُ برجلٍ ولكنْ حِمارٌ، تريد: ولكنْ هو حمارٌ، كان عربيَّا؛ أو بلْ حمارٌ، أو لا بل حمارٌ، كان كذلك، كأنّه قال: ولكنِ الذى مررتُ به حمارٌ.
وإذا كان قبل ذلك منعوتٌ فأَضمرتَه، أو اسم فأضمرتَه أو أَظهرتَه، فهو أَقْوَى؛ لأنك تُضْمرُ ما ذكرتَ وأنت هنا تُضْمرُ ما لم تَذكر. وهو جائزٌ عربي، لأن معناه ما مررت بشيء هو رجل؛ فجاز هذا كما جاز المنعوتُ المذكورُ نحُو قولك: " ما " مررتُ برجلٍ صالحٍ بل طالحٌ.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ". فهذا على أنَّهم قد كانوا ذكروا الملائكةَ قبل ذلك بهذا، وعلى الوجه الآخرِ. والمعرفةُ والنكرة فى لكنْ وبَلْ ولا بلْ سَواءٌ.
ومن المبدَلِ أيضاً قولك: قد مررتُ برجلٍ أو امرأَةٍ، إنَّما ابتَدأَ بيقينٍ ثمّ جعل مكانَه شكّا أَبدلَه منه، فصار الأوّلُ والآخِرُ الادَّعاءُ فيهما سَواءٌ، فهذا شبيهٌ بقوله: ما مررت بزيد ولكن عمرو، ابتدأ بنفىٍ ثم أَبدل مكانَه يقينًا.
وأمّا قولهم: أَمررتَ برجل أَمِ امرأةٍ؟ إذا أردتَ معنى أيُّهما مررتَ به، فإِنَّ أَمْ تُشْرِك بينهما كما أَشركتْ بينهما أَوْ.(1/440)
وأمّا: ما مررتُ برجلٍ فكيف امرأةٌ، فزعم يونسُ أنّ الجرَّ خطأ، وقال: هو بمنزلة أَيْنَ. ومَنْ جَرَّ هذا فهو يَنبغى له أن يقول: ما مررتَ بعبد الله فلِمَ أخيه، وما لَقيِتَ زيداً مرّة فكَمْ أبا عمرو؟ تريد: فلِمَ مررتَ بأخيه؟ وفَكَمْ لقيتَ أبا عمرو؟ واعلم أنّ المعرفة والنكرة فى باب الشَّريكِ والبدلِ سواءٌ.
واعلم أنّ المنصوب والمرفوع في الشركة والبدل كالمجرور.(1/441)
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
؟
هذا باب مجرى نعت المعرفة عليها
فالمعرفةُ خمسة أشياء: الأسماء التي هي أعلامٌ خاصة، والمضاف إلى المعرفة، إذا لم ترد معنى التنوين، والألف واللامُ، والأسماء المبهمة، والإضمارُ. فأما العلامة المختصة فنحو زَيدٍ وعَمرٍو، وعبدِ الله، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة لأنه اسمٌ وقع عليه يُعرف به بعينه دون سائر أمته.
وأما المضاف الى معرفة فنحو قولك: هذا أخوك، ومررتُ بأبيك، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة بالكاف التي أضيف إليها، لأن الكاف يراد بها الشيء بعينه دون سائر أمته.
وأما الألف واللام فنحو الرجل والفرس والبعير وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة لأنك أردت بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأنك قلت: مررتُ برجلٍ، فإنك إنما زعمت أنك إنما مررت بواحدٍ ممن يقع عليه هذا الاسمُ، لا تريد رجلا بعينه يعرفه المخاطَب. وإذا أدخلتَ الألف واللام فإنما تُذكّره رجلا قد عرَفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا؛ ليتوهم الذى كان عهدَه ما تذكر من أمره.
وأما الأسماء المبهمة فنحو هذا وهذه، وهذان وهاتان، وهؤلاء، وذلك وتلك، وذانك وتانك، وأولئك، وما أشبه ذلك. وإنما صارت معرفة لأنها صارت أسماء إشارة إلى الشيء دون سائر أمّته.(2/5)
وأما الإضمار فنحو: هو، وإياه، وأنتَ، وأنا، ونحن، وأنتم، وأنتن، وهن، وهم، وهي، والتاء التي في فعَلتُ وفعلَتْ وفعلْتِ، وما زِيدَ على التاء نحو قولك: فعلتما وفعلتم وفعلتن، والواو التي في فعلُوا، والنون والألف اللتان في فعلْنا في الاثنين والجميع، والنون في فعلْنَ، والإضمار الذي ليست له علامة ظاهرة نحو: قد فعل ذلك، والألف التي في فعَلا، والكاف والهاء في رأيتُكَ ورأيته، وما زيدَ عليهما نحو: رأيتكما ورأيتكم، ورأيتهما، ورأيتهم، ورأيتكن ورأيتهن، والياء في رأيتُني، والألف والنون اللتان في رأيتَنا وغُلامُنا، والكاف والهاء اللتان في بكَ وبه وبها، وما زيد عليهن نحو قولك: بكما وبكم وبكن وبهما وبهم وبهن، والياء في غلامي وبى.
وإنما صار الإضمار معرفة لأنك إنما تضمِر اسما بعد ما تعلم أن مَنْ يحدَّث قد عرف مَن تعنى وما تعنى، وأنك تريد شيئا يعلمه.
واعلم أن المعرفة لا توصَف إلا بمعرفة، كما أن النكرة لا توصَف إلا بنكرة.
واعلم أن العَلَم الخاص من الأسماء يوصَف بثلاثة أشياء: بالمضاف إلى مثله، وبالألف واللام، وبالأسماء المبهمة.
فأما المضاف فنحو: مررتُ بزيدٍ أخيك. والألف واللام نحو قولك: مررت بزيد الطويل، وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللام. وأما المبهمة فنحو: مررتُ بزيد هذا وبعمرو ذاك.(2/6)
والمضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء: بما أضيف كإضافته، وبالألف واللام، والأسماء المبهمة؛ وذلك: مررتُ بصاحبك أخي زيد، ومررتُ بصاحبك الطويل ومررت بصاحبك هذا.
فأما الألف واللام فتوصف بالألف واللام، وبما أضيف إلى الألف واللام؛ لأن ما أضيف إلى الألف واللام بمنزلة الألف واللام فصار نعتا، كما صار المضاف إلى غير الألف واللام صفة لما ليس فيه الألف واللام، نحو مررتُ بزيد أخيك، وذلك قولك: مررتُ بالجميل النبيل، ومررتُ بالرجل ذى المال.
وإنما منع أخاك أن يكون صفة للطويل أن الأخ إذا أضيف كان أخصَّ، لأنه مضاف إلى الخاص وإلى إضماره، فإنما ينبغي لك أن تبدأ به وإن لم تكتفِ بذلك زدتَ من المعرفة ما تزداد به معرفة.
وإنما منع هذا أن يكون صفة للطويل والرجل أن المخبِر أراد أن يقرب به شيئا ويشير إليه لتعرفه بقلبك وبعينك، دون سائر الأشياء. وإذا قال الطويل فإنما يريد أن يعرفك شيئا بقلبك ولا يريد أن يعرفكه بعينك، فلذلك صار هذا يُنعت بالطويل ولا يُنعت الطويل بهذا، لأنه صار أخصَّ من الطويل حين أراد أن يعرفه شيئا بمعرفة العين ومعرفة القلب. وإذا قال الطويل فإنما عرفه شيئا بقلبه دون عينه، فصار ما اجتمع فيه شيئان أخص.
واعلم أن المبهمة توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام والصفات التي فيها الألف واللام جميعا. وإنما وُصفتْ بالأسماء التي فيها الألف واللام(2/7)
لأنها والمبهمة كشيء واحد، والصفات التي فيها الألف واللام هي في هذا الموضع بمنزلة الأسماء وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو إذا قلتَ مررتُ بزيد الطويل، لأني لا أريد أن أجعل هذا اسما خاصا ولا صفة له يُعرف بها، وكأنك أردت أن تقول مررت بالرجل، ولكنك إنما ذكرت هذا لتقرب به الشيء وتشير إليه.
ويدلك على ذلك أنك لا تقول: مررتُ بهذين الطويل والقصير وأنت تريد أن تجعله من الاسم الأول بمنزلة هذا الرجل، ولا تقول: مررتُ بهذا ذى المال كما قلت: مررتُ بزيد ذى المال.
واعلم أن صفات المعرفة تجرى من المعرفة مجرى صفات النكرة من النكرة، وذلك قولك: مررتُ بأخوَيْك الطويلَيْن؛ فليس في هذا إلا الجر كما ليس في قولك: مررت برجل طويل، إلا الجر.
وتقول: مررت بأخوَيْك الطويل والقصير، ومررتُ بأخوَيك الراكع والساجد، ففي هذا البدل، وفي هذا الصفة، وفيه الابتداء، كما كان ذلك في مررت برجلين صالح وطالح.
وإذا قلت: مررت بزيد الراكع ثم الساجد، أو الراكع فالساجد، أو الراكع لا الساجد، أو الراكع أو الساجد، أو إما الراكع وإما الساجد، وما أشبه هذا، لم يكن وجه كلامه إلا الجر كما كان ذلك في النكرة. فإن أدخلتَ بل ولكنْ جاز فيهما ما جاز في النكرة. فعلى هذا فقِس المعرفة. وقد مضى الكلام في النكرة فأغنى عن إعادته في المعرفة، لأن الحكم واحد.
واعلم أن كل شيء كان للنكرة صفة فهو للمعرفة خبر، وذلك قولك:(2/8)
مررت بأخويك قائمَيْن، فالقائمان هنا نصب على حد الصفة في النكرة. وتقول: مررت بأخويك مسلما وكافرا هذا على مَن جر وجعلهما صفة للنكرة، ومن جعلهما بدلا من النكرة جعلهما بدلا من المعرفة كما قال الله عز وجل: " لَنَسْفَعاً بالناصيةِ. ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئة ". وأنشدنا لبعض العرب الموثوق بهم:
فإلى ابنِ أمّ أناسٍ ارحلُ ناقتي ... عمرٍو فتُبلغُ حاجتى أو تُزحِفُ
ملِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِهِ ... عرَفوا مواردَ مُزبِدٍ لا يُنزَفُ(2/9)
ومَن رفع في النكرة رفع في المعرفة. قال الفرزدق:
فأصْبَحَ فى حيثُ الْتَقَيْناَ شريدُهمْ ... طليقٌ ومكتوفُ اليدينِ ومُزعِفُ
وقال آخر، رجل من بنى قُشير:
فلا تَجعلى ضيفَيّ ضيفٌ مُقرَّبٌ ... وآخرُ معزولٌ عن البيتِ جانبُ
والنصبُ جيِّد كما قال النابغة الجعدى:
وكانتْ قُشَيرٌ شامِتا بصَديقها ... وآخرَ مَرزيّا وآخرَ رازِيا(2/10)
وقال الآخر، وهو ذو الرمة:
تَرى خلقَها نِصفٌ قَناة قَويمةٌ ... ونصفٌ نَقاً يَرتجُّ أو يتمرْمرُ
وبعضهم ينصب على البدل. وإن شئت كان بمنزلة رأيتُه قائما، كأنه صار خبرا على حد من جعله صفة للنكرة على الأوجه الثلاثة. واعلم أن المضمر لا يكون موصوفا، من قِبل أنك إنما تضمِر حين ترى أن المحدَّث قد عرف مَن تعنى، ولكن لها أسماء تُعطَف عليها، تعم وتؤكد، وليست صفة؛ لأن الصفة تحلية نحو الطويل، أو قرابة نحو أخيك وصاحبك وما أشبه ذلك، أو نحو الأسماء المبهمة، ولكنها معطوفة على الاسم تجرى مجراه، فلذلك قال النحويون صفة. وذلك قولك: مررت بهم كلهم، أى لم أدعْ منهم أحداً، ويجيء توكيداً كقولك: لم يبق منهم مُخبّر وقال بقي منهم. ومثله أيضا: مررتُ بهم أجمعين أكتعين، ومررتُ بهم جُمَعَ كُتَع، ومررتُ بهم أجمعَ أكتعَ، ومررتُ بهم جميعهم. فهكذا هذا وما أشبه.(2/11)
ومنه مررتُ به نفسِه، ومعناه مررتُ به بعينه.
واعلم أن الخاص من الأسماء لا يكون صفة، لأنه ليس بحليةٍ ولا قرابة ولا مبهم، ولكنه يكون معطوفا على الاسم كعطف أجمعين. وهذا قول الخليل رحمه الله، وزعم أنه من أجل ذلك قال: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ. قال: لو لم يكن على الرجل كان غيرَ منوَّن. وإنما صار المبهم بمنزلة المضاف لأن المبهم تقرِّب به شيئا أو تُباعده، وتُشير إليه.
ومن الصفة: أنت الرجل كلُّ الرجل، ومررت بالرجل كلِّ الرجل. فإن قلت: هذا عبد الله كلُّ الرجل، أو هذا أخوك كلُّ الرجل، فليس في الحُسن كالألف واللام؛ لأنك إنما أردت بهذا الكلام هذا الرجل المبالغ في الكمال، ولم ترد أن تجعل كل الرجل شيئا تعرف به ما قبله وتبينه للمخاطب، كقولك: هذا زيد. فإذا خفت أن يكون لم يُعرَف قلت: الطويل، ولكنك بنيت هذا الكلام على شيء قد أثبت معرفته، ثم أخبرت أنه مستكمِلٌ للخِصال.
ومثل ذلك قولك: هذا العالِم حقُّ العالِم وهذا العالم كلُّ العالم، إنما أراد أنه مستحقٌ للمبالغة في العلم. فإذا قال هذا العالم جِدُّ العالم(2/12)
فإنما يريد معنى هذا عالِم جدا، أي هذا قد بلغ الغاية في العلم. فجرى هذا الباب في الألف واللام مجراه في النكرة إذا قلت: هذا رجلٌ كلُّ رجل، وهذا عالمٌ حقُّ عالم، وهذا عالمٌ جدُّ عالم.
ويدلك على أنه لا يريد أن يثبت بقوله كلُّ الرجل الأول أنه لو قال: هذا كلُّ الرجل، كان مستغنيا به، ولكنه ذكر الرجل توكيدا، كقولك: هذا رجلٌ صالحٌ، ولم يرد أن يبين بقوله كلُّ الرجل ما قبله، كما يبين زيدا إذا خاف أن يلتبس فلم يرد ذلك بالألف واللام، وإنما هذا ثناء يحضُرك عند ذكرك إياه.
ومن الصفة قولك: ما يَحسن بالرجل مثلِك أن يفعل ذاك، وما يحسن بالرجل خيرٍ منك أن يفعل ذاك.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما جر هذا على نية الألف واللام، ولكنه موضعٌ لا تدخله الألف واللام كما كان الجَمّاء الغفيرَ منصوبا على نية إلقاء الألف واللام، نحو طُرّاً وقاطبة والمصادر التي تشبهها.
وزعم رحمه الله أنه لا يجوز في: ما يحسن بالرجل شبيهٍ بك، الجر، لأنك تقدر فيه على الألف واللام. وقال: وأما قولهم: مررتُ بغيرك(2/13)
مثلك، وبغيرك خيرٍ منك، فهو بمنزلة مررتُ برجل غيرك خيرٍ منك، لأن غيرك ومثلك وأخواتها يكن نكرة، ومَن جعلها معرفة قال: مررتُ بمثلك خيرا منك، وإن شاء خيرٍ منك على البدل. وهذا قول يونس والخليل رحمهما الله.
واعلم أنه لا يَحسن ما يحسن بعبد الله مثلِك على هذا الحد. ألا ترى أنه لا يجوز: ما يَحسن بزيد خيرٍ منك، لأنه بمنزلة كل الرجل في هذا. فإن قلت: مثلِك وأنت تريد أن تجعله المعروف بشبهه جاز، وصار بمنزلة أخيك. ولا يجوز في خيرٍ منك، لأنه نكرة، فلا تُثبِت به المعرفة. ولم يُرد في قوله: ما يحسن بالرجل خيرٍ منك، أن يُثبِت له شيئا بعينه ثم يعرفه به إذا خاف التباسا.
واعلم أن المنصوب والمرفوع يجري معرفتُهما ونكرتُهما في جميع الأشياء كالمجرور.
؟
باب بدل المعرفة من النكرة
والمعرفة من المعرفة وقطع المعرفة من المعرفة مبتدأة
أما بدل المعرفة من النكرة فقولك: مررتُ برجلٍ عبدِ الله. كأنه قيل له: بمَن مررت؟ أو ظنّ أنه يقال له ذاك، فأبدل مكانه ما هو أعرفُ منه.
ومثل ذلك قوله عز وجل ذكره: " وإنك لَتَهدي إلى صِراطٍ مستقيمٍ صِراطِ الله ".(2/14)
وإن شئت قلت: مررتُ برجلٍ عبدُ الله، كأنه قيل لك: مَن هو؟ أو ظننت ذلك.
ومن البدل أيضا: مررتُ بقوم عبدِ الله وزيد وخالد، والرفعُ جيد. وقال الشاعر، وهو بعض الهُذليين، وهو مالك بن خُويلد الخُناعي:
يا مَيّ إنْ تَفقِدي قوماً وَلدتِهمِ ... أو تُخلَسيهم فإِّنْ الدهر خلاسُ
عمرٌو وعبدُ مَنافٍ والذى عهدَتْ ... ببَطْنِ عرعرَ آبِى الضَّيْمِ عباسُ(2/15)
والرفع جائز قوى، لأنه لم ينقض معنى كما فعل ذلك في النكرة.
وأما المعرفة التي تكون بدلا من المعرفة، فهو كقولك: مررتُ بعبد الله زيد، إما غلطتَ فتداركتَ، وإما بدا لك أن تُضرِب عن مرورك بالأول وتجعله للآخر.
وأما الذي يجيء مبتدأ فقول الشاعر، وهو مُهلهلٌ:
ولقد خبَطنَ بيوتَ يَشكُرَ خَبطةً ... أخوالُنا وهُمُ بنو الأعمامِ
كأنه حين قال: خبطنَ بيوت يشكرَ قيل له: وما هم؟ فقال: أخوالُنا وهم بنو الأعمام.
وقد يكون مررتُ بعبد الله أخوك، كأنه قيل له: مَن هو؟ أو مَن عبدُ الله، فقال: أخوك. وقال الفرزدق:
ورثتُ أَبى أخلاقَه عاجِلَ القِرى ... وعَبطَ المَهاري كُومُها وشَبوبُها(2/16)
كأنه قيل له: أيُّ المهارى؟ فقال: كومُها وشَبوبُها.
وتقول: مررتُ برجلٍ الأسدِ شدة، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنَه. وإن شئت استأنفتَ، كأنه قيل له: ما هو.
ولا يكون صفة كقولك: مررتُ برجلٍ أسدٍ شدة، لأن المعرفة لا توصَف بها النكرة، ولا يجوز أن توصَف بنكرة أيضا لما ذكرتُ لك. والابتداء في التبعيض أقوى. وهذا عربي جيد: قوله أخولُنا، وقد جاء في النكرة في صفتها، فهو في ذا أقوى. قال الراجز:
وساقيَيْن مثلِ زيدٍ وجُعَل ... سَقْيانٍ مَمشوقان مَكنوزاً العَضَلْ(2/17)
؟ باب ما يجرى عليه صفةُ ما كان من سببه
وصفتُ ما التبس به أو بشيء من سببه كمجرى صفته التي خَلصتْ له هذا ما كان من ذلك عملا. وذلك قولك: مررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه رجلا، ومررتُ برجلٍ ملازمٍ أبوه رجلا. ومن ذلك أيضا: مررت برجل ملازم أباه رجلٌ، ومررت برجل مخالط أبه داءٌ. فالمعنى فيه على وجهين: إن شئت جعلته يلازمه ويخالطه فيما يُستقبل، وإن شئت جعلته عملا كائنا في حال مرورك. وإن ألقيتَ التنوينَ وأنت تريد معناه جرى مثله إذا كان منونا.
ويدلك على ذلك أنك تقول: مررتُ برجلٍ ملازمك. فيَحسُن ويكون صفة للنكرة، بمنزلته إذا كان منونا. وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أباه رجلٌ، وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، فكأنك قلت في جميع هذا: مررتُ برجل ملازم أباه، ومررتُ برجلٍ ملازم أبيه، لأن هذا يجري مجرى الصفة التي تكون خالصة للأول.
وتقول: مررتُ برجلٍ مخالِطِ بَدنه أو جسدِه داءٌ، فإن ألقيتَ(2/18)
التنوينَ جرى مجرى الأول إذا أردتَ ذلك المعنى، ولكنك تلقى التنوين تخفيفا.
فإن قلت: مررتُ برجلٍ مخالطِه داء، وأردتَ معنى التنوين جرى على الأول، كأنك قلت: مررتُ برجل مخالطٍ إياه داء. فهذا تمثيل، وإن كان يقبحُ في الكلام.
فإذا كان يجري عليه إذا التبس بغيره فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه.
وإن زعم زاعمٌ أنه يقول مررتُ برجل مخالطِ بدنه داء، ففرق بينه وبين المنوَّن. قيل له: ألستَ تعلم أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء، إذا أردت بإسقاط التنوين معنى التنوين، نحو قولك: مررتُ برجل ملازمٍ أباك، ومررت برجلٍ ملازمِ أبيك، أو ملازمِك، فإنه لا يجد بُدّاً من أن يقول نعم، وإلا خالف جميعَ العرب والنحويين. فإذا قال ذلك قلتَ: أفلستَ تجعل هذا العمل إذا كان منونا وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به، بمنزلته إذا كان للأول؟ فإنه قائل: نعم،(2/19)
وكأنك قلت مررتُ برجل ملازم. فإذا قال ذلك قلتَ له: ما بالُ التنوين وغير التنوين استويا حيث كانا للأول واختلفا حيث كانا للآخِر، وقد زعمتَ أنه يجري عليه إذا كان للآخِر كمجراه إذا كان للأول. ولو كان كما يزعمون لقلتَ: مررتُ بعبد الله الملازمِه أبوه؛ لأن الصفة المعرفة تجري على المعرفة كمجرى الصفة النكرة على النكرة. ولو أن هذا القياس لم تكن العرب الموثوق بعربيتها تقوله لم يُلتفت إليه، ولكنا سمعناها تنشد هذا البيت جرا، وهو قول ابن ميادة المُرّيّ، من غَطَفان:
وارتَشْنَ حين أردنَ أن يَرميننا ... نَبلاً بلا ريشِ ولا بقِداحِ
ونظرْنَ من خَلَل الخدور بأعيُنٍ مَرضى مُخالطها السّقامُ صِحاحِ وسمعنا من العرب من يرويه ويروى القصيدة التي فيها هذا البيت، لم يلقنه أحدٌ هكذا.
وأنشد غيره من العرب بيتا آخر فأجروه هذا المجرى، وهو قوله:(2/20)
حَمينَ العَراقيبَ العصا وتركنَه ... به نَفَسٌ عالٍ مُخالطُه بُهْرُ
فالعمل الذي لم يقع والعمل الواقع الثابت في هذا الباب سواء، وهو القياس وقولُ العرب.
فإن زعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا فهم ينصبون: به داء مخالطَه، وهو صفة للأول.
وتقول: هذا غلامٌ لك ذاهباً. ولو قال: مررتُ برجل قائما جاز، فالنصب على هذا.
وإنما ذكرنا هذا لان ناسا من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين، ويفرقون إذا لم ينونوا بين العمل الثابت الذي ليس فيه علاجٌ يرونه، نحو الآخذ واللازم والمخالط وما أشبهه، وبين ما كان علاجا يرونه، نحو الضارب والكاسر، فيجعلون هذا رفعا على كل حال، ويجعلون اللازم وما أشبهه نصبا إذا كان واقعاً، ويُجرونه على الأقل إذا كان غير واقع. وبعضهم يجعله نصبا إذا كان واقعا ويجعله على كل حال رفعا إذا كان غير واقع. وهذا قول يونس، والأول قول عيسى.(2/21)
فإذا جعله اسما لم يكن فيه إلا الرّفعُ على كل حال. تقول: مررتُ برجلٍ ملازمُه رجل، أى مررت برجلٍ صاحبُ ملازَمتِه رجلٌ، فصار هذا كقولك: مررتُ برجل أخوه رجل.
وتقول على هذا الحد: مررت برجلٍ ملازمُوه بنو فلان. فقولك ملازموه يدلك على أنه اسم، ولو كان عملا لقلت: مررت برجلٍ ملازمه قومُه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ ملازمٍ إياه قومُه، أى قد لزم إياه قومُه.
؟
هذا باب
ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول
إذا كان لشيء من سببه
وذلك قولك: مررت برجلٍ حسَنٍ أبوه، ومررتُ برجلٍ كريمٍ أخوه وما أشبه هذا، نحو المسلم والصالح والشيخ والشاب.
وإنما أُجريت هذه الصفات على الأول حتى صارت كأنها له لأنك قد تضعها في موضع اسمِه فيكون منصوبا ومجرورا ومرفوعا، والنعتُ لغيره. وذلك قولك: مررت بالكريم أبوه، ولقيتُ موسَّعاً عليه الدنيا، وأتاني الحسنةُ أخلاقُه، فالذي أتاك والذي أتيتَ غيرُ صاحب الصفة، وقد وقع موقعَ اسمه وعمل فيه ما كان عاملا فيه، وكأنك قلت: مررتُ بالكريم، ولقيتُ موسَّعاً عليه، وأتاني الحسنُ، فكما جرى مجرى اسمه كذلك جرى مجرى صفته.(2/22)
؟
باب الرفع فيه وجه الكلام
وهو قول العامة
وذلك قولك: مررتُ بسرجٍ خَزٌّ صُفَّتُه، ومررت بصحيفةٍ طينٌ خاتَمُها، ومررت برجلٍ فضّةٌ حِليةٌ سيفه. وإنما كان الرفع في هذا أحسن من قبل أنه ليس بصفة. لو قلت: له خاتمٌ حديدٌ، أو هذا خاتمٌ طينٌ، كان قبيحا، إنما الكلام أن تقول: هذا خاتم حديد وصُفّةُ خز، وخاتمٌ من حديد وصفةٌ من خز. فكذلك هذا وما أشبهه.
ويدلك أيضا على أنه ليس بمنزلة حسنٍ وكريمٍ، أنك تقول: مررت بحسَنٍ أبوه وقد مررت بالحسن أبوه، فصار هذا بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت: مررتُ بحسَنٍ، إذا جعلتَ الحسن للمرور به. فمن ثم أيضا قالوا: مررتُ برجل حسنٍ أبوه، ومررتُ برجل ملازمِه أبوه؛ كأنهم قالوا:(2/23)
مررت برجل حسنٍ، وبرجل ملازمٍ. ولا تقول: مررت بخز صُفَّتُه، ولا بطينٍ خاتَمُه، لأن هذا اسم.
وقد يكون في الشعر: هذا خاتَم طينٌ وصُفَّةٌ خَزٌّ، مستكرَهاً.
فالجر يكون في: مررت بصحيفة طينٍ خاتمُها على هذا الوجه. ومن العرب من يقول: مررت بقاعٍ عرفَجٍ كلُه، يجعلونه كأنه وصفٌ.
؟
باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة
مجرى الأسماء التي لا تكون صفة
وذلك أفعلُ منه ومثلُك وأخواتُهما، وحسبُك من رجلٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشر، وأيُّما رجلٍ، وأبو عَشَرةٍ، وأبٌ لك وأخٌ لك وصاحبٌ لك، وكلُ رجل، وأفعلُ شيء نحو خيرُ شيء وأفضلُ شيء، وأفعلُ ما يكون، وأفعلُ منك.
وإنما صار هذا بمنزلة الأسماء التي لا تكون صفة من قبَل أنها ليست بفاعلة، وأنها ليست كالصفات غير الفاعلة، نحو حَسَنٍ وطويل وكريم،(2/24)
من قبل أن هذه تُفرَد وتؤنث بالهاء كما يُؤنّث فاعلٌ، ويدخلها الألف واللام وتضاف إلى ما فيه الألف واللام، وتكون نكرة بمنزلة الاسم الذي يكون فاعلا حين تقول هذا رجلٌ ملازمُ الرجل. وذلك قولك: هذا حسنُ الوجه.
ومع ذلك أنك تدخِل على حسَن الوجه الألف واللام فتقول: الحسنُ الوجه، كما تقول الملازم الرجل. فحسنٌ وما أشبهه يتصرف هذا التصرف. ولا تستطيع أن تُفرد شيئا من هذه الأسماء الأُخَر، لو قلت: هذا رجلٌ خيرٌ، وهذا رجلٌ أفضلُ، وهذا رجلٌ أبٌ، لم يستقم ولم يكن حسنا.
وكذلك أيٌّ. لا تقول: هذا رجلٌ أيٌّ.
فلما أضفتَهنّ وأوصلتَ إليهن شيئا حَسُنّ وتممنَ به، فصارت الإضافة وهذه اللواحقُ تحسنه. ولا تستطيع أن تدخِل الألف واللام على شيء منها كما أدخلتَ ذلك على الحسن الوجه، ولا تنون ما تنون منه على حد تنوين الفاعل فتكون بالخيار في حذفه وتركه، ولا تؤنث كما تؤنث الفاعل فلم يَقوَ قوة الحَسَن إذا لم يُفرد إفرادَه. فلما جاءت مضارعة للاسم الذي لا يكون صفة البتة إلا مستكرَهاً، كان الوجهُ عندهم فيه الرفعَ إذا كان النعتُ للآخِر، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٌ أبوه.
ومع ذلك أيضا أن الابتداء يحسُن فيهن، تقول: خيرٌ منك زيدٌ، وأبو عشرةٍ زيدٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشر. ولا يحسن الابتداء في قولك: حسنٌ زيد.
فلما جاءت مضارعة للأسماء التي لا تكون صفة وقَويت في الابتداء(2/25)
كان الوجه فيها عندهم الرفعَ، إذا كان النعت للآخِر. وذلك قولك: مررت برجلٍ خيرٌ منه أبوه، ومررتُ برجل سواءٌ عليه الخيرُ والشر، ومررت برجل أبٌ لك صاحبُه، ومررت برجل حَسبُك من رجلٍ هو، ومررتُ برجل أيُّما رجل هو.
وإن قلت: مررتُ برجلٍ حسبُك به من رجلٍ رفعلتَ أيضا.
وزعم الخليل رحمه الله أن به ههنا منزلة هو، ولكن هذه الباء دخلت ههنا توكيدا كما قال: كفى الشيبُ والإسلامُ وكفى بالشيب والإسلام.
فإن قلت: مررتُ برجل شديدٍ عليه الحر والبردُ جررتَ، من قبل أن شديدا قد يكون صفة وحدَه مستغنيا عن عليه، وعن ذكر الحر والبرد، ويدخل في جميع ما دخل الحَسنُ.
وإن قلت: مررت برجلٍ سواءٍ في الخير والشر جررت، لأن هذا من صفة الأول، فصار كقولك: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.(2/26)
وإن قلت: مررتُ برجل مُستوٍ عليه الخيرُ والشر جررتَ أيضا لأنه صار عملا بمنزلة قولك: مررتُ برجلٍ مفضّضٍ سيفُه، ومررتُ برجل مسمومٍ شرابُه؛ ويدخله جميعُ ما يدخل الحَسنَ. فإذا قلت سمٌّ وفضّةٌ رفعت.
وتقول: مررت برجل سواءٌ أبوه وأمه، إذا كنت تريد أنه عدلٌ وتقول: مررت برجل سواءٌ درهمُه، كأنك قلت: مررت برجل تامٍ درهمُه.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يجرون هذا كما يجرون مررتُ برجلٍ خَزٍّ صُفَّتُه.
ومما يقويك في رفع هذا أنك لا تقول مررتُ بخيرٍ منه أبوه، ولا بسواء عليه الخير والشر، كما تقول بحسَنٍ أبوه.
وتقول: مررتُ برجل كلُّ ماله درهمان، لا يكون فيه إلا الرفع؛ لأن كل مبتدأ والدرهمان مبنيان عليه. فإن أردت بقولك: مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه جاز، لأنه قد يوصف به، تقول هذا مال كلُّ مالٍ. وليس استعماله وصفا بقوة أبي عشرةٍ ولا كثرته، وليس بأبعد من مررت برجل خز صُفته، ولا قاعٍ عرْفجٍ كلُّ.
ومن جواز الرفع في هذا الباب أني سمعت رجلين من العرب عربيين(2/27)
يقولان: كان عبد الله حسبُك به رجلا. وهذا أقرب إلى أن يكون فيه الإجراء على الأول إذا كان في الخز والفضة؛ لأن هذا يوصَف به ولا يوصَف بالخز ونحوه.
؟
هذا باب ما يكون من الأسماء صفة منفرداً
وليس بفاعل ولا صفةٍ تشبَّه بالفاعل كالحَسن وأشباهه
وذلك قولك: مررت بحيةٍ ذراعٌ طولُها، ومررت بثوب سبعٌ طوله، ومررت برجلٍ مائةٌ إبله، فهذه تكون صفاتٍ كما كانت خيرٌ منك صفة. يدلك على ذلك قول العرب: أخذ بنو فلان من بنى فلان إبلا مائة، فجعلوا مائة وصفا. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
لئن كنتَ فِي جُبّ ثَمانِينَ قامةً ... ورُقّيتَ أسبابَ السماء بسلّمِ
فاختير الرفعُ فيه لأنك لا تقول: ذراعٌ الطول، منوَّناً ولا غير منون. ولا تقول مررت بذراعٍ طوله. وبعض العرب يجره كما يجر الخز حين يقول: مررت برجل خز صُفّته، ومنهم من يجره وهم قليل، كما تقول: مررت(2/28)
برجلٍ أسد أبوه، إذا كنت تريد أن تجعله شديدا، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنتَ تشبهه.
فإن قلت: مررت بدابة أسدٌ أبوها فهو رفعٌ، لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السبع. فإن قلت: مررتُ برجل أسدٌ أبوه على هذا المعنى رفعتَ، إلا أنك لا تجعل أباه خَلقُه كخِلقة الأسد ولا صورته. هذا لا يكون، ولكنه يجيء كالمثل.
ومن قال: مررت برجلٍ أسد أبوه قال: مررت برجل مائةٍ ابله. وزعم يونس أنه لم يسمعه من ثقة ولكنهم يقولون: هو نارٌ حُمرةً، لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها؛ فالرفعُ فيه الوجه، والرفع فيه أحسنُ وإن كنتَ تريد معنى أنه مبالغٌ في الشدة، لأنه ليس بوصف.
ومثل ذلك: مررت برجلٍ رجل أبوه، إذا أردتَ معنى أنه كامل. وجره كجر الأسد. وقد تقوله على غير هذا المعنى، تقول: مررت برجل رجلٌ أبوه، تريد رجلا واحدا لا أكثر من ذلك.
وقد يجوز على هذا الحد أن تقول: مررت برجل حسنٌ أبوه. وهو فيه أبعد، لأنه صفة مشبهة بالفاعل. وإن وصفته فقلت: مررت برجل حسنٌ ظريفٌ أبوه فالرفع فيه الوجه والحد، والجر فيه قبيح، لأنه يفصل بوصف بينه وبين العامل. ألا ترى أنك لو قلت مررتُ بضاربٍ ظريفٍ زيدا، وهذا ضاربٌ عاقلٌ أباه كان قبيحا، لأنه وصفه فجعل حاله كحال الأسماء، لأنك إنما تبتدئ بالاسم ثم تصفه.(2/29)
فإن قلت: مررت برجل شديدٌ رجلٌ أبوه، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفة فقد جعلته في هذا الموضع اسما بمنزلة أبى عشرة أبوه، يقبح فيه ما يقبح في أبى عشرة.
ومن قال: مررت برجلٍ أبى عشرة أبوه قال: مررت برجل شديد رجلٍ أبوه. وإذا قال: مررت برجل حسنٍ الوجه أبوه فليس بمنزلة أبى عشرةٍ أبوه، لأن قولك: حسن الوجه أبوه، بمنزلة قولك مررت برجل حسنٍ الوجه، فصار هذا بدخول التنوين يشبه ضاربا إذا قلت: مررتُ برجل ضاربٍ أباه.
وأبو عشرة لا يدخله التنوين ولا يجرى مجرى الفعل، ولكنك ألقيتَ التنوين استخفافا، فصار بمنزلة قولك: مررت برجلٍ ملازم أباه رجلٌ، ومررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، إذا أردتَ معنى التنوين، فكأنك قلت: مررتُ برجلٍ حسن أبوه.
وتقول: مررتُ برجل حسن الوجه أبوه، كما تقول: مررت بالرجل الحسن الوجه أبوه، وكما تقول: مررتُ بالرجل الملازمِه أبوه. فصار حسنُ الوجه بمنزلة حسن، ومُلازمٌ أباه بمنزلة ملازمٍ. وليس هذا بمنزلة أبى(2/30)
عشرة وخير منك. ألا ترى أنك لا تقول: مررتُ بخير منه أبوه ولا بأبي عشرة أبوه، كما لا تقول مررتُ بالطين خاتمُه.
وأما قوله: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ، فهو قبيح حتى تقول: هو والعدمُ، لأن في سواء اسما مضمَراً مرفوعا، كما تقول مررتُ بقوم عربٍ أجمعون، فارتفع أجمعون على مضمر في عربٍ بالنية. فهي هنا معطوفة على المضمر وليست بمنزلة أبى عشرة. فإن تكلّمتَ به على قبحه رفعتَ العدمَ، وإن جعلته مبتدأ رفعتَ سواء.
وتقول: ما رأيت رجلا أبغضَ إليه الشر منه إليه، وما رأيت أحدا أحسنَ في عينه الكُحل منه في عينه. وليس هذا بمنزلة خيرٌ منه أبوه، لأنه مفضل للأب على الاسم في مِن، وأنت في قولك: أحسن في عينه الكحلُ منه في عينه، لا تريد أن تفضل الكحل على الاسم الذي في من، ولا تزعم أنه قد نقص عن أن يكون مثله، ولكنك زعمت أن للكحل ههنا عملا وهيئة ليست له في غيره من المواضع، فكأنك قلت: ما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحل كعمله في عين زيد؛ وما رأيت رجلا مبغضا إليه الشرُّ كما بُغِّض إلى زيد.(2/31)
ويدلك على أنه ليس بمنزلة خيرٌ منه أبوه، أن الهاء التي تكون في مِن، هي الكحلُ والشر، كما أن الإضمار الذي في عمله وبُغّض، هو الكحل والشر.
ومما يدلك على أنه على أوله ينبغي أن يكون، أن الابتداء فيه مُحال: أنك لو قلت: أبغضُ إليه منه الشرُّ لم يجز، ولو قلت: خيرٌ منه أبوه جاز.
ومثل ذلك: ما من أيامٍ أحبَّ إلى الله عز وجل فيها الصومُ منه في عشرِ ذى الحجة.
وإن شئت قلت: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه، وما رأيت رجلا أبغضَ إليه الشر منه، وما من أيامٍ أحبَّ إلى الله فيها الصومُ من عشر ذى الحجة؛ فإنما المعنى الأول، إلا أن الهاء هنا الاسم الأول، ولا تخبر أنك فضلت الكحلَ عليه ولا أنك فضلت الصوم على الأيام، ولكنك فضلت بعضَ الأيام على بعضٍ. والهاء في الأول هو الكحل، وإنما فضلته في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع، ولم ترد أن تجعله خيراً من نفسه البتة. قال الشاعر، وهو سُحيمُ بن وَثيل:
مررتُ على وادى السِّباعِ ولا أَرى ... كوادى السِّباع حين يُظلمُ وادِياَ(2/32)
أقلَّ به ركْبٌ أتَوْه تَئيّةً ... وأخوفَ، إلاّ ما وَقى اللهُ، سارياَ
وإنما أراد: أقلَّ به الرّكبُ تَئيّةً منهم به، ولكنه حذف ذلك استخفافا، كما تقول: أنت أفضل، ولا تقول من أحد. وكما تقول: الله اكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء. وكما تقول: لا مالَ ولا تقول لك، وما يشبهه. ومثل هذا كثيرٌ.
واعلم أن الرفع والنصبَ تجرى الأسماء ونعتُ ما كان من سببها ونعتُ ما التبس بها وما التبس بشيء من سببها فيهما مجراهن في الجر.
واعلم أن ما جرى نعتا على النكرة فإنه منصوب في المعرفة، لأن ما يكون نعتا من اسم النكرة يصير خبرا للمعرفة، لأنه ليس من اسمه. وذلك قولك: مررتُ بزيد حسنا أبوه، ومررتُ بعبد الله ملازمك.
واعلم أن ما كان في النكرة رفعا غير صفة فإنه رفعٌ في المعرفة. من ذلك قوله جل وعز: " أمْ حَسِبَ الذين اجتَرحوا السّيّئاتِ أن تجعلَهُم(2/33)
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءٌ مَحياهُم ومَماتُهُم ".
وتقول: مررت بعبد الله خيرٌ منه أبوه. فكذلك هذا وما أشبهه. ومن أجرى هذا على الأول فإنه ينبغي له ان ينصبه في المعرفة فيقول: مررتُ بعبد الله خيراً منه أبوه. وهي لغةٌ رديئة. وليست بمنزلة العمل نحو ضارب وملازم، وما ضارعه نحو حَسن الوجه. ألا ترى أن هذا عملٌ يجوز فيه يَضربُ ويلازم وضربَ ولازَمَ. ولو قلت: مررت بخيرٍ منه أبوه كان قبيحا، وكذلك بأبى عشرة أبوه. ولكنه حين خلَص للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
ومن قال: مررتُ برجلٍ أبى عشرةٍ أبوه، فشبّه بقوله: مررتُ برجل حسنٍ أبوه. فهو ينبغي له أن يقول: مررتُ بعبد الله أبى العشرة أبوه، كما قال: مررتُ بزيدٍ الحسنِ أبوه.
ومن قال: مررتُ بزيدٍ أخوه عمرٌو لم يكن فيه إلا الرفع، لأن هذا اسمٌ معروف بعينه، فصار بمنزلة قولك: مررتُ بزيدٍ عمرٌو أبوه ولو أن العشرة كانوا قوما بأعيانهم قد عرفهم المخاطَب لم يكن فيه إلا الرفع؛(2/34)
لأنك لو قلت: مررتُ بأخيه أبوك، كان مُحالاً أن ترفع الأبَ بالأخ، وهي في مررتُ بأبى عشرة أبوه وبأبى العشرة أبوه، إذا لم يكن شيئا بعينه، تجوز على استكراهٍ. فإن جعلتَ الأخَ صفة للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ بأخيك، فصار الشيء بعينه نحو زيد وعمرو، وضارع أبو عشرة حَسنٌ حين، ولم يكن شيئا بعينه قد عرفه كمعرفتك، على ضعفه واستكراهه.
واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو حسن وكريم، إذا أدخلتَ فيه الألفَ واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرة، كقولك: مررت بزيد الحَسن أبوه، ومررتُ بأخيك الضاربِهِ عمرو.
واعلم أن العرب يقولون: قومٌ مَعْلُوجاء، وقومٌ مَشيخةٌ، وقوم مَشيوخاء، يجعلونه صفة بمنزلة شيوخ وعُلوج.(2/35)
؟
هذا باب
ما جرى من الأسماء التى من الأفعال وما أشبهها
من الصفات التي ليست بعمل نحو الحسن والكريم وما أشبه ذلك
مجرى الفعل إذا أظهرتَ بعده الأسماء أو أضمرتَها
وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٍ أبواه، وأحسنٌ أبَواه، وأخارجٌ قومُك. فصار هذا منزلة قال أبواك وقال قومُك، على حد من قال: قومك حسنون إذا أخروا، فيصير هذا بمنزلة أذاهبٌ أبواك، وأمنطلِقٌ قومُك.
فإن بدأتَ بالاسم قبل الصفة قلت: قومُك منطلقون، وقومك حسنون، كما تقول أبواك قالا ذاك، وقومك قالوا ذاك.
فإن بدأتَ بنعتٍ مؤنث فهو يجرى مجرى المذكر إلا أنك تُدخِل الهاء، وذلك قولك: أذاهبةٌ جاريتاك، وأكريمةٌ نساؤكم. فصارت الهاء في الأسماء بمنزلة التاء في الفعل، إذا قلت: قالت نساؤكم، وذهبتْ جاريتاك. وإنما قلت: أكريمةٌ نساؤكم على قول من قال: أنساؤكم كريمات، إذا أخر الصفة. والألفُ والتاء، والواو والياء والنون في الجميع، والألفُ والنون في التثنية، بمنزلة الواو والألف في قالا وقالوا، وبمنزلة الواو والنون في يقولون.
وكذلك: أقُرَشيٌّ قومُك وأقرشى أبواك، إذا أردت الصفة جرى مجرى حسن وكريم. وإنما قالت العرب: قال قومُك وقال أبواك؛ لأنهم(2/36)
اكتفوا بما أظهروا عن أن يقولوا قالا أبواك، وقالوا قومك، فحذفوا ذلك اكتفاء بما أظهروا.
قال الشاعر:
أليسَ أكرمَ خلقِ اللهِ قد علِموا ... عند الحِفاظِ بَنو عمرِو بنِ حُنجودِ
صار لَيْسَ ههنا بمنزلة ضرب قومَك بنو فلان؛ لأن ليس فعلٌ، فإذا بدأتَ بالاسم قلت: قومُك قالوا ذاك، وأبواك قد ذهبا؛ لأنه قد وقع ههنا إضمارٌ في الفعل وهو أسماؤهم، فلابد للمضمَر أن يجيء بمنزلة المظهر. وحين قلت: ذهب قومُك لم يكن في ذهب إضمار. وكذلك قالت جاريتاك وجاءت نساؤك. إلا أنهم أدخلوا التاء ليفصلوا بين التأنيث والتذكير، وحذفوا الألف والنون لما بدءوا بالفعل في تثنية المؤنث وجمعه، كما حذفوا ذلك في التذكير.
فإن بدأتَ بالاسم قلت: نساؤك قُلنَ ذاك، كما قلت: قومُك قالوا(2/37)
ذاك. وتقول: جاريتاك قالتا كما تقول: أبواك قالا، لأن في قُلن وقالتا إضمارا كما كان في قالا وقالوا.
وإذا قلت: ذهبتْ جاريتاك أو جاءتْ نساؤك، فليس في الفعل إضمارٌ، ففصلوا بينهما في التأنيث والتذكير، ولم يفصلوا بينهما في التثنية والجمع. وإنما جاءوا بالتاء للتأنيث لأنها ليست علامةَ إصمار كالواو والألف، وإنما هي كهاء التأنيث في طَلْحة، وليست باسم.
وقال بعض العرب: قال فُلانةُ.
وكلما طال الكلام فهو أحسنُ، نحو قولك: حضر القاضي امرأةٌ؛ لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، وكأنه شيءٌ يصير بدلا من شيء، كالمعاقبة نحو قولك: زنادقة وزناديق، فتحذف الياء لمكان الهاء، وكما قالوا في مُغتَلِم: مُغَيلِم ومُغَيليم، وكأن الياء صارت بدلا مما حذفوا.
وإنما حذفوا التاء لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الجميعُ والاثنان حين اظهروهم عن الواو والألف.
وهذا في الواحد من الحيوان قليل، وهو في المَوات كثير، فرقوا بين المَوات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم. تقول: هم ذاهبون،(2/38)
وهم في الدار، ولا تقول: جمالُك ذاهبون، ولا تقول: هم في الدار وأنت تعنى الجِمال، ولكنك تقول: هي وهن ذاهبة وذاهبات.
ومما جاء في القرآن من المَوات قد حُذفت فيه التاء قوله عز وجل: " فمنْ جاءهُ موعظةٌ من ربه فانتهى " وقوله: " مِن بعدِ ما جاءهُم البَيّناتُ ".
وهذا النحو كثيرٌ في القرآن، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان. ألا ترى أن لهم في الجميع حالا ليست لغيرهم، لأنهم الأولون وأنهم قد فُضِّلوا بما لم يفضَّل به غيرهم من العقل والعلم. وأما الجميع من الحيوان الذي يكسر عليه الواحد فبمنزلة الجميع من غيره الذي يكسَّر عليه الواحد في أنه مؤنث. ألا ترى أنك تقول: هو رجلٌ، وتقول: هي الرجال، فيجوز لك. وتقول: هم جملٌ وهي الجِمال، وهو عَيْرٌ وهي الأعيار؛ فجرت هذه كلها مجرى هي الجُذوع. وما أشبه ذلك يُجرى هذا المجرى؛ لأن الجميع يؤنث وإن كان كلُّ واحد منه مذكرا من الحيوان. فلما كان كذلك صيروه بمنزلة المَوات؛ لأنه قد(2/39)
خرج من الأول الأمكن حيث أردت الجميع. فلما كان ذلك احتملوا أن يُجروه مُجرى الجميع المَوات، قالوا: جاء جواريك، وجاء نساؤك، وجاء بناتُك. وقالوا فيما لم يكسَّر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع كما قالوا في هذا، كما قال الله تعالى جده: " ومنهم مَن يستمعون إليكَ "، إذ كان في معنى الجميع، وذلك قوله تعالى: " وقال نسوةٌ في المدينة ".
واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومُك، وضرباني أخواك، فشبهوا هذا بالتاء التي يُظهرونها في قالت فُلانة، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامة كما جعلوا للمؤنث، وهي قليلة. قال الشاعر: وهو الفرزدق:
ولكنْ دِيافيٌّ أبوه وأمُّه ... بحَورانَ يعصِرنَ السّليطَ أقاربُهْ(2/40)
وأما قوله جل ثناؤه: " وأسَرّوا النجوى الذين ظلموا " فإنما يجيء على البدل، وكأنه قال: انطلقوا فقيل له: مَن؟ فقال: بنو فلان. فقوله جل وعز: " وأسَرّوا النجوى الذين ظلموا " على هذا فيما زعم يونس.
وقال الخليل رحمه الله تعالى: فعلى هذا المثال تجرى هذه الصفات. وكذلك شابٌّ وشيخٌ وكهلٌ، إذا أردتَ شابّينَ وشيخينَ وكهلينَ. تقول: مررتُ برجلٍ كهلٍ أصحابه، ومررتُ برجلٍ شابٍّ أبواه.
قال الخليل رحمه الله: فإن ثنّيتَ أو جمعتَ فإن الأحسن أن تقول: مررتُ برجلٍ قُرَشيان أبواه، ومررتُ برجلٍ كهلون أصحابه؛ تجعله اسما بمنزلة قولك: مررت برجلٍ خزٌّ صُفّته.
وقال الخليل رحمه الله: من قال أكلوني البراغيث أجرى هذا على أوله فقال: مررت برجل حَسنيْن أبواه، ومررتُ بقومٍ قُرَشيّينَ آباؤهم. وكذلك أفعل نحو أعورَ وأحمر، تقول: مررت برجل أعورَ أبواه وأحمرَ أبواه. فإن ثنيت قلت: مررتُ برجلٍ أحمران أبواه تجعله اسما. ومن قال أكلوني البراغيث قلت على حدّ قوله: مررتُ برجلٍ أعورَيْن أبواه.(2/41)
وتقول: مررت برجل أعورَ آباؤه، كأنك تكلمت به على حد أعورِينَ وإن لم يُتكلّم به، كما توهموا في هَلكى وموتى ومرضى أنه فُعل بهم، فجاءوا به على مثال جَرحى وقتلى، ولا يقال هُلِك ولا مُرض ولا مُوِت. قال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
ولا يَشعُرُ الرّمحُ الأصمُّ كُعوبُه ... بثروةِ رهطِ الأعيَطِ المتظلِّمِ
وأحسنُ من هذا أعورٌ قومُك؟ ومررتُ برجلٍ صُمٍّ قومُه.
وتقول: مررت برجلٍ حسانٍ قومُه، وليس يجرى هذا مجرى الفعل، إنما يجرى مجرى الفعل ما دخله الألفُ والنون والواو والنون في التثنية والجمع ولم يغيره، نحو قولك: حسنٌ وحسنان، فالتثنية لم تغير بناءَه. وتقول: حسنون، فالواو والنون لم تغير الواحدَ، فصار هذا بمنزلة قالا وقالوا؛ لأن الألف والواو لم تغير فعلَ. وأما حِسانٌ وعُورٌ فإنه اسمٌ كُسّر عليه الواحد، فجاء مبنيا على مثالٍ كبناء الواحد، وخرج من بناء الواحد(2/42)
إلى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قُرشيّ في الاثنين والجميع. فهذا الجميع له بناءٌ بُني عليه كما بُني الواحد على مثاله، فأُجرى مجرى الواحد.
ومما يدلك على أن هذا الجميع ليس كالفعل، أنه ليس شيءٌ من الفعل إذا كان للجميع يجيء مبنيا على غير بنائه إذا كان للواحد؛ فمن ثم صار حِسانٌ وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد، نحو مررتُ برجلٍ جُنُبٍ أصحابُه، ومررت برجل صَرورةٍ قومُه. فاللفظُ واحدٌ والمعنى جميعٌ.
واعلم أن ما كان يُجمع بغير الواو والنون نحو حَسَنٍ وحِسان، فإن الأجود فيه أن تقول: مررتُ برجلٍ حِسان قومُه. وما كان يُجمع بالواو والنون نحو منطلِق ومنطلقين، فإن الأجود فيه أن يُجعل بمنزلة الفعل المتقدم، فتقول: مررتُ برجلٍ منطلِق قومُه.
واعلم أنه من قال ذهبَ نساؤك قال: أذاهبٌ نساؤك. ومن قال: " فمَنْ جاءهُ موعظةٌ من ربه " قال: أجائيَّ موعظةٌ، تذهب الهاء هاهنا كما تذهب التاء في الفعل.
وكان أبو عمرو يقرأ: " خاشعاً أباصرُهُم ". قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهُذَليّ:(2/43)
بعيدُ الغَزاة فما إن يَزا ... لُ مُضطَمراً طُرّتاه طَليحا
وقال الفرزدق:
وكُنا وَرثناه على عهدِ تُبّعٍ ... طويلاً سَواريه شديداً دعائمُهْ
وقال الفرزدق أيضا:
قَرَنْبى يَحكّ قَفَا مُقرِفٍ ... لئيمٍ مآثرُه قُعدُدِ(2/44)
وقال آخر، وهو أبو زبيد الطائى:
مُستَحِنٌّ بها الرياحُ فما يَجْ ... تابُها في الظَّلامِ كلُّ هَجودِ
وقال آخر، من بنى أسد:
فلاقَى ابنَ أُنْثَى يَبْتغِى مثلَ ما ابتَغى ... من القوم مَسقيَّ السِّمام حدائدُهْ
وقال آخر، الكُميت بن معروف:
ومازِلت مَحمولاً عليَّ ضغينةٌ ... ومُضطَلِعَ الأَضْغان مُذ أنا يافعُ
وهذا فى الشعر أكثر من أن أحصيه لك. ومن قال ذهب فلانةُ قال: أذاهبٌ فلانةُ وأحاضرٌ القاضيَ امرأةٌ. وقد يجوز في الشعر موعظةٌ جاءنا، كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء. وقال الشاعر، وهو الأعشى:(2/45)
فإمّا ترَيْ لِمّتي بُدِّلَتْ ... فإِنَّ الحَوادِثَ أَوْدَى بها
وقال الآخر، وهو عامرُ بن جُوَين الطائى:
فلا مُزنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أبقَلَ إبقالَها
وقال الآخر، وهو طُفَيلٌ الغَنَويّ:
إذْ هِىَ أحْوى مِنَ الرِّبعيّ حاجبُهُ ... والعينُ بالإثمِدِ الحارىِّ مَكحولُ(2/46)
وزعم الخليل رحمه الله أن " السماء منفطِرٌ به " كقولك: معضِّلٌ للقَطاة. وكقولك: مُرضِعٌ، للتى بها الرِّضاعُ. وأما المنفطرة فيجيء على العمل، كقولك منشقّةٌ، وكقولك مرضعة للتى ترضع. وأما " كُلٌّ في فَلَك يسبحون "، و " رأيتُهُم لي ساجدين "، و " يا أيها النّملُ ادخُلوا مساكنكم " فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع، لما ذكرهم بالسجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدّثتَ عنه كما تحدث عن الأناسى. وكذلك " في فلك يسبحون " لأنها جُعلت - في طاعتها وفى أنه لا ينبغى لأحد أن يقول: مُطرنا بنَوْء كذا، ولا ينبغي لأحد أن يعبد شيئا منها - بمنزلة من يَعقل من المخلوقين ويُبصر الأمور.
قال النابغة الجعدى:
شَربتُ بها والدّيكُ يدعو صَباحهُ ... إذا ما بنو نعشٍ دَنوْا فتَصَوَّبُوا(2/47)
فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تُؤمَر وتُطيع، وتفهم الكلام وتعبد، بمنزلة الآدميين.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: ما أحسنَ وجوهَهما؟ فقال: لأن الاثنين جميعٌ، وهذا بمنزلة قول الاثنين: نحن فعلنا ذاك، ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفردا وبين ما يكون شيئا من شيء. وقد جعلوا المفردين أيضاً جميعاً، قال الله جلّ ثناؤه: " وهل أتاكَ نبأ الخصمِ إذ تسوروا المِحرابَ. إذ دخلوا على داودَ ففزِعَ منهم قالوا لا تخَفْ خَصمانِ بَغى بعضُنا على بعض ".
وقد يثنُّون ما يكون بعضاً لشيء. زعم يونس أن رؤية كان يقول: ما أحسنَ رأسيهما. قال الراجز، وهو خِطام: ظَهرْاهما مثلُ ظهورِ التُّرسَين(2/48)
وقالوا: وضعا رِحالَهما، يريد: رحلَيْ راحلتين. وحدُّ الكلام أن يقول: وضعتُ رحلى الراحلتين؛ فأجرَوه مجرى شيئين من شيئين.
باب إجراء الصفة فيه على الاسم
في بعض المواضع أحسن وقد يَستوى فيه إجراء الصفة على الاسم، وأن تجعله خبرا فتنصبه فأما ما استويا فيه فقوله: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدٍ به، إن جعلته وصفا. وإن لم تحمله على الرجل وحملتَه على الاسم المضمَر المعروف نصبتَه فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدا به، كأنه قال: معه بازٌ صائدا به، حين لم يرد أن يحمله على الأول.
وكما تقول: أتيتُ على رجلٍ ومررتُ به قائم، إن حملتَه على الرجل؛ وإن حملته على مررت به نصبته، كأنك قلت: مررتُ به قائما.
ومثله: نحن قومٌ ننطلق عامدون إلى بلد كذا، إن جعلتَه وصفا. وإن لم تجعله وصفا نصبتَ، كأنه قال: نحن ننطلق عامدين.
ومنه: مررتُ برجلٍ معه بازٌ قابضٍ على آخَر، ومررت برجلٍ معه(2/49)
جُبّةٌ لابسٍ غيرَها. وإن حملتَه على الإضمار الذي معه نصبتَ. وكذلك مررت برجلٍ عنده صقرٌ صائدٍ ببازٍ. إن حملتَه على الوصف فهو هكذا. وإن حملتَه على ما فى عنده من الإضمار نصبت، كأنك قلت: عنده صقر صائدا ببازٍ.
وكذلك: مررت برجلٍ معه الفرسُ راكب بِرذَوْناً، إن لم ترد الصفة نصبتَ، كأنك قلت: معه الفرسُ راكبا برذونا. فهذا لا يكون فيه وصفٌ ولا يكون إلا خبرا. ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون لفَسَدَ كلامٌ كثير، ولكان الوجه: مررتُ برجل جميلِه حسنِ الوجه. ولقال مررتُ بعبد الله معه بازك الصائدَ به، فتنصب. فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالا يقع فيه شيء. ولم تقل جميلَه لأنك لم ترد أن تقول إنه حسنُ الوجه في هذه الحال، ولا أنه حسنٌ وجهه جميلا، أى في هذه الحال حسنَ وجهه. فلم يرد هذا المعنى ولكنه أراد أن يقول: هذا(2/50)
رجلٌ جميلُ الوجه، كما يقال. هذا رجلٌ حسنُ الوجه. فهذا الغالب في كلام الناس.
وإن أردتَ الوجه الآخرَ فنصبت فهو جائزٌ لا بأس به، وإن كان ليس له قوة الوصف فى هذا. فهذا الذي الوصفُ فيه أحسنُ وأقوى.
ومثله في أن الوصف أحسن: هذا رجلٌ عاقلٌ لبيب، لم يجعل الآخرَ حالا وقع فيه الأول، ولكنه أثنى عليه وجعلهما شرعا سواء، وسوى بينهما في الإجراء على الاسم. والنصبُ فيه جائز على ما ذكرت لك. وإنما ضَعُفَ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال، ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان، لم يكن واحدٌ منهما قبل صاحبه، كما تقول: هذا رجلٌ سائرٌ راكبا دابة. وقد يجوز في سعة الكلام على هذا، ولا ينقُض المعنى في أنهما شَرْعٌ سواء فيه. وسترى هذا النحو في كلامهم.
فأما القلب فباطلٌ. لو كان ذلك لكان الحدُّ والوجه في قوله: مررتُ بامرأة آخذةٍ عبدَها فضاربته النصبَ، لأن القلب لا يصلح، ولقلت: مررت برجلٍ عاقلةٍ أمُّه لبيبة؛ لأنه لا يصلح أن تقدم لبيبة فتضمر فيها الأمَّ ثم تقول عاقلةٍ أمُّه.
وسمعناهم يقولون: هذه شاةٌ ذات حَملٍ مُثقلةٌ. وقال الشاعر، وهو حسان بن ثابت:
ظننتُمْ بأَنْ يَخفى الذي قد صنعتُمُ ... وفينا نبيٌّ عنده الْوَحْى واضِعُهْ(2/51)
ومما يُبطِل القلبَ قوله: زيدٌ أخو عبد الله مجنون به، إذا جعلتَ الأخ صفة والجنون من زيدٍ بأخيه، لأنه لا يستقيم زيدٌ مجنون به أخو عبد الله.
وتقول: مررت برجل معه كيسٌ مختوم عليه، الرفع الوجهُ لأنه صفة الكيس. والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائما، وهذا رجلٌ ذاهبا.
واعلم أنك إذا نصبتَ في هذا الباب فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدا به غدا، فالنصبُ على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يُشبه: فيها عبدُ الله قائمٌ غدا؛ لأن الظروف تُلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع، فإذا صار الاسم مجرورا أو عاملا فيه فعلٌ أو مبتدأ، لم تُلغِه لأنه ليس يرفعه الابتداء، وفي الظروف إذا قلت: فيها أخواك قائمان يرفعه الابتداء.
وتقول: مررتُ برجلٍ معه امرأةٌ ضاربتُه، فهذا بمنزلة قوله: معه كيسٌ مختومٌ عليه. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربِها، جررتَ ونصبت على ما فسّرتُ لك. وإن شئت قلت ضاربَها هو فنصبت، وإن شئت جررتَ ويكون هو وصفَ المضمَر في ضاربها حتى يكون كأنك لم تذكرها. وإن شئت جعلتَ هو منفصلا، فيصير بمنزلة اسمٍ ليس من علامات المضمَر.(2/52)
وتقول: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربُها هو، فكأنك قلت: معه امرأةٌ ضاربُها زيدٌ. ومثل قولك ضاربُها هو قوله: مررتُ برجل معه امرأة ضاربُها أبوه، إذا جعلتَ الأب مثل زيد، فإن لم تُنزل هو والأبَ منزلة زيد وما ليس من سببه ولم يلتبس به قلت: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربِها أبوه أو هو. وإن شئت نصبت، تُجرى الصفة على الرجل ولا تُجريها على المرأة، كأنك قلت: ضاربِها وضاربَها، وخصَصتَه بالفعل، فيجرى مجرى مررتُ برجلٍ ضاربِها أبوه، ومررت بزيد ضاربَها أخوه. ولا يجوز هذا في زيد، كما أنه لا يجوز مررتُ برجلٍ ضاربِها زيدٌ، ولا مررتُ بعبد الله ضاربَها خالدٌ، وكما كان لم يجز يا ذا الجاريةِ الواطئَها زيدٌ، فتحملَه على النداء. ولكن الجر جيد؛ ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بالذي وطئها أبوه جاز، ولو قلت بالذي وطئها زيد لم يكن. فإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها أبوه، جررتَ كما تجر في زيد حين قلت: يا ذا الجارية الواطئِها زيد. وتقول: يا ذا الجارية الواطئَها أبوه، تجعل الواطئَها من صفة المنادى، ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجارية الواطئَها زيد، من قبل أن الواطئَها من صفة المنادى، فلا يجوز كما لا يجوز أن تقول: مررتُ بالرجل الحَسن زيدٌ، وقد يجوز أن تقول بالحَسن أبوه.
وكذلك إن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها هو، وجعلت هو منفصلا. وإن شئت نصبتَه كما تقول: يا ذا الجارية الواطئَها، فتُجريه على المنادى ولا تُجريه على الجارية.(2/53)
وإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها، وأن تريد الواطئِها هو لم يجز، كما لا يجوز مررتُ بالجارية الواطئِها تريد هو أو أنت، كما لا يجوز هذا وأنت تريد الأبَ أو زيدا. وليس هذا كقولك: مررتُ بالجارية التي وطئَها زيد أو التي وطئَها، لأن الفعل يضمَر فيه وتقع فيه علامة الإضمار، والاسم لا تقع فيه علامةُ الإضمار، فلو جاز ذلك لجاز أن يوصَف ذلك المضمَر بهو، فإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعا إذا لم يوصف به شيء غيرُ الأول، وذلك قولك يا ذا الجارية الواطئَها، ففي هذا إضمار هو، وهو اسمُ المنادى، والصفة إنما هي للأول المنادى. ولو جاز هذا لجاز مررتُ بالرجل الآخِذِ به، تريد أنت، ولجاز مررتُ بجاريتك راضيا عنها، تريد أنت. ولو قلت مررت بجاريةٍ رضيت عنها، ومررت بجاريتك راضيا عنها، أو مررتُ بجاريتك قد رضيتَ عنها، كان جيدا، لأنك تضمِر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار ولا يكون ذلك في الاسم إلا أن تضمِر اسمَ الذي هو وصفة، ولا يوصف به شيء غيره مما يكون من سببه ويلتبس به.
وأما رُبَّ رجلٍ وأخيه منطلقَين، ففيها قبحٌ حتى تقول: وأخٍ له. والمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله وأخيه في موضع نكرة، لأن المعنى إنما هو وأخٍ له.(2/54)
فإن قيل: أمضافة إلى معرفة أو نكرة؟ فإنك قائلا إلى معرفة، ولكنها أجريت مُجرى النكرة، كما أن مثلك مضافة إلى معرفة وهي توصف بها النكرة، وتقع مواقعَها. ألا ترى أنك تقول رب مثلِك. ويدلك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول: رب رجلٍ وزيدٍ، ولا يجوز لك أن تقول: رب اخيه حتى تكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.
ومثل ذلك قول بعض العرب: " كل شاةٍ وسَخلتِها "، أي وسخلةٍ لها، ولا يجوز حتى تذكر قبله نكرة فيُعلَم أنك لا تريد شيئاً بعينه، وأنك تريد شيئاً من أمة كلُّ واحد منهم رجل، وضممتَ إليه شيئا من أمة كلهم يقال له أخٌ. ولو قلت: وأخيه وأنت تريد به شيئا بعينه كان مُحالاً. وقال:
أَيُّ فَتَى هَيْجاءَ أنت وجارِها ... إذا ما رجالٌ بالرجالِ استقلّتِ
فالجار لا يكون فيه أبدا ههنا إلا الجر، لأنه لا يريد أن يجعله جار شيء آخر فتى هيجاء، ولكنه جعله فتى هيجاء جار هيجاء، ولم يردْ(2/55)
أن يعنى إنسانا بعينه، لأنه لو قال: أيُّ فتى هيجاءَ أنت وزيدٌ لجعل زيدا شريكه في المدح. ولو رفعه على أنت، لو قال: أيُّ فتى هيجاء أنت وجارُها، لم يكن فيه معنى أى جارها، الذي هو فيه معنى التعجب.
وقال الأعشى:
وكَمْ دون بيتكَ من صفصَفٍ ... ودَكداكِ رَملٍ وأعقادِها
ووضْعِ سِقاءٍ وإحقابِه ... وحَلِّ حُلوسٍ وإغمادِها
هذا حجةٌ لقوله: رُبّ رجلٍ وأخيه. فهذا الاسم الذي لم يكن ليكون نكرة وحدَه، ولا يوصف به نكرة، ولم يحتمل عندهم أن يكون نكرة، ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يَشغلُ به العاملَ نكرة، ثم يُعطف عليه ما أضيف إلى النكرة، ويصير بمنزلة مثلك ونحوه.(2/56)
ولم يُبتدأ به كما يُبتدأ بمثلك لأنه لا يجري مجراه وحدَه. ولم يَصر هذا نكرة إلا على هذا الوجه، كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفا، وكما أن أيُّ تكون في النداء كقولك: يا هذا، ولا يجوز إلا موصوفا. وليس هذا حالَ الوصف والموصوف في الكلام، كما أنه ليس حالُ النكرة كحال هذا الذي ذكرتُ لك. وفيه على جوازه وكلامِ العرب به ضَعفٌ.
هذا باب ما يُنصب فيه الاسمُ لأنه
لا سبيل له إلى أن يكون صفة
وذلك قولك: هذا رجلٌ معه رجلٌ قائمين. فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة فأشركَ بينهما وكأنه قال: معه امرأةٌ قائمين.
ومثله: مررت برجلٍ مع امرأة ملتزمين، فله إضمارٌ في مع كما كان له إضمار في معه، إلا أن للمضمَر في معه علَما وليس له في مع امرأة علَم إلا بالنية. ويدلك على أنه مضمَرٌ في النية قولُك: مررت بقومٍ مع فلان أجمعون.
ومما لا يجوز فيه الصفة: فوق الدار رجلٌ وقد جئتك برجل آخَر عاقلَين مسلمين.
وتقول: اصنعْ ما سَرّ أخاك وأحبَّ أبوك الرجلان الصالحان، على الابتداء؛ وتنصبه على المدح والتعظيم، كقول الخِرْنق من قيس بن ثعلبة:
لا يَبعَدنْ قومى الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ(2/57)
النازلين بكل معترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
ولا يكون نصبُ هذا كنصب الحال، وإن كان ليس فيه الألف واللام، لأنك لم تجعل في الدار رجل وقد جئتك بآخر، في حال تنبيهٍ يكونان فيه لإشارة، ولا في حال عمَلٍ يكونان فيه، لأنه إذا قال: هذا رجلٌ مع امرأة، أو مررت برجلٍ مع امرأة فقد دخل الآخرُ مع الأول في التنبيه والإشارة وجعلتَ الآخِرَ في مرورك، فكأنك قلت: هذا رجلٌ وامرأة، ومررت برجلٍ وامرأةٍ. واما الألف واللام فلا يكونان حالا ألبتة، لو قلت: مررت بزيدٍ القائمَ، كان قبيحا إذا أردت قائما.
وإن شئت نصبتَ على الشتم، وذلك قولك: اصنعْ ما ساء أباك وكرِه أخوك الفاسقين الخبيثين. وإن شاء ابتدأ. ولا سبيل إلى الصفة في هذا ولا في قولك: عندي غُلام وقد أتيتُ بجارية فارهين، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفة للأول والآخِر، ولا سبيل إلى أن يكون بعض الاسم جرا وبعضه رفعا، فلما كان كذلك صار بمنزلة ما كان معه معرفة من النكرات، لأنه لا سبيل إلى وصف هذا كما أنه لا سبيل إلى وصف ذلك، فجُعل نصبا كأنه قال: عندي عبد الله وقد أتيت بأخيه فارهين، جعل الفارهين ينتصبان على: النازلينَ بكلِّ معترَكٍ وفروا من الإحالة في عندي غلامٌ وأُتيتُ بجارية، الى الصب، كما فروا إليه في قولهم: فيها قائما رجلٌ.(2/58)
واعلم أنه لا يجوز أن تصف النكرة والمعرفة، كما لا يجوز وصفُ المختلفين، وذلك قولك: هذه ناقة وفصيلها الراتعان. فهذا محال، لأن الراتعان لا يكونان صفة للفصيل ولا للناقة، ولا تستطيع أن تجعل بعضَها نكرة وبعضَها معرفة. وهذا قول الخليل رحمه الله.
وزعم الخليل أن الجرين أو الرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع، وذلك قولك: هذا رجلٌ وفي الدار آخَرُ كريمين. وقد أتاني رجلٌ وهذا آخَرُ كريمين، لأنهما لم يرتفعا من وجهٍ واحد. وقبحه بقوله: هذا لابن إنسانَين عندنا كِراماً، فقال: الجر ههنا مختلفٌ ولم يُشرَك الآخِرُ فيما جر الأول.
ومثل ذلك: هذه جارية أخَوَي ابنين لفلان كِراماً؛ لأن أخَوَي ابنين اسمٌ واحدٌ والمضاف إليه الآخِرُ منتهاه، ولم يُشركِ الآخِرَ بشيء من حروف الإشراك فيما جر الاسم الأول.
ومثل ذلك: هذا فرسُ أخَوَي ابنَيْك العُقلاء الحُلَماء، لأن هذا(2/59)
في المعرفة مثل ذاك في النكرة، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين، ولا يجوز أن يُجرى وصفاً لما انجرّ من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابُه.
ومما لا تجري الصفةُ عليه نحوُ هذان أخواك وقد تولى أبواك الرجالُ الصالحون، إلا أن ترفعه على الابتداء، أو تنصبه على المَدْح والتعظيم.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على هما صاحباى أنفسهما، والنصب على أعنيهما، ولا مدح فيه لأنه ليس مما يُمدح به.
وتقول: هذا رجلٌ وامرأتُه منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجهٍ واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقَدِم عمرو الرجلان الحليمان.
واعلم أنه لا يجوز: مَن عبد الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبتَ؛ لأنك لا تُثني إلا على من أثبته وعلمتَه، ولا يجوز أن تَخلِط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علَمٌ فيمن قد علمتَه.
؟
هذا باب ما ينتصب لأنه حالٌ
صار فيها المسئول والمسئول عنه وذلك قولك: ما شأنُك قائما، وما شأن زيدٍ قائما، وما لأخيك قائما. فهذا حالٌ قد صار فيه، وانتصب بقولك: ما شأنُك كما ينتصب(2/60)
قائما في قولك: هذا عبد الله قائما، بما قبله. وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيه معنى لِمَ قمتَ في ما شأنُك وما لكَ. قال الله تعالى: " فما لَهُم عَنِ التّذكِرَة مُعرضين ".
ومثل ذلك مَن ذا قائما بالباب، على الحال، أي مَن ذا الذي هو قائمٌ بالباب. هذا المعنى تريد. وأما العامل فيه فبمنزلة هذا عبدُ الله، لأن مَن مبتدأ قد بُني عليه اسم. وكذلك: لمن الدارُ مفتوحاً بابُها.
أما قولهم: مَن ذا خيرٌ منك، فهو على قوله: من الذي هو خيرٌ منك، لأنك لم ترد أن تشير أو تومِئ إلى إنسان قد استبان لك فضلُه على المسئول فيُعلِمَكه، ولكنك أردت مَن ذا الذي هو أفضل منك. فإن أومأتَ إلى إنسان قد استبان لك فضلُه عليه، فأردتَ أن يُعلِمَكَه نصبتَ خيراً منك، كما قلت: مَن ذا قائما، كأنك قلت: إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حالٍ قد فَضَلَك بها. ونصبُه كنصب ما شأنُك قائماً.(2/61)
؟
باب ما ينتصب على التعظيم والمدح
وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعتَه فابتدأتَه. وذلك قولك: الحمد لله الحميد هو، والحمد لله أهلَ الحمد، والمُلك لله أهلَ المُلك. ولو ابتدأته فرفعتَه كان حسنا، كما قال الأخطل:
نفسي فداءُ أميرِ المؤمنين إذا ... أبْدَى النواجذَ يومٌ باسلٌ ذكَرُ
الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه ... خليفةُ الله يُستسقى به المطرُ
وأما الصفة فإن كثيرا من العرب يجعلونه صفة، فيُتبعونه الأولَ(2/62)
فيقولون: أهلِ الحمد والحميد هو، وكذلك الحمد لله أهلِه: إن شئت جررت، وإن شئت نصبت. وإن شئت ابتدأت كما قال مُهلهِل:
ولقد خبطن بيوتَ يشكُرَ خبطة ... أخوالنا وهمُ بنو الأعمامِ
وسمعنا بعض العرب يقول: " الحمد لله ربَّ العالمين "، فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية.
ومثل ذلك قول الله عز وجل: " لكِنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلكَ والمقيمينَ الصلاةَ والمؤتون الزكاة ". فلو كان كله رفعاً كان جيداً. فأما المؤمنون فمحمولٌ على الابتداء.
وقال جل ثناؤه: " وَلَكِنَّ البرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المالَ عَلَى حُبه ذَوِى القُربى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينَ وابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفىِ الرِّقَابِ وَأَقاَمَ الصَّلاَةَ وَآتى الزكاةَ والموفونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاَهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى البأساءِ(2/63)
وَالضّرَّاءِ وَحِينَ البأسِ ". ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيدا. ولو ابتدأتَه فرفعته على الابتداء كان جيدا كما ابتدأتَ في قوله: " والْمُؤْتُونَ الزكاةَ ".
ونظير هذا النصب من الشعر قول الخِرنِق:
لا يبعَدَنْ قومي الذي همُ ... سمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل مُعترَكٍ ... والطَّيِّبون معاقدَ الأَزْرِ
فرفعُ الطيبين كرفع المؤتين.
ومثل هذا في هذا الابتداء قول ابن خياط العُكلي:
وكلُّ قوِم أطاعوا أمرَ مُرشدهم ... إلا نُمَيراً أمرَ غاوِيهاَ
الظّاعنينَ ولمِّا يُظعنوا أَحَداً ... والقائلونَ لمنْ دارٌ نُخلّيها(2/64)
وزعم يونس أن من العرب من يقول: " النازلون بكل معترك والطيبين " فهذا مثل " والصابرين ". ومن العرب من يقول: الظاعنون والقائلين، فنصبُه كنصب الطيبين إلا أن هذا شتمٌ لهم وذمٌّ كما أن الطيبين مدحٌ لهم وتعظيم. وإن شئت أجريتَ هذا كله على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأتَه جميعا فكان مرفوعا على الابتداء. كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما، كلُّ ذلك واسع.
وزعم عيسى أنه سمع ذا الرمة يُنشد هذا البيت نصباً:
لقد حملتْ قيسُ بن عَيلانَ حربَها ... على مستقلّ للنَّوائبِ والحربِ
أخاها إذا كانتْ عِضاضاً سما لَها ... على كلِّ حالٍ من ذَلول ومن صعبِ
زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا مَن تخاطب بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فجعله ثناء وتعظيماً(2/65)
ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكرُ أهلَ ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعلٌ لا يستعمل إظهارُه.
وهذا شبيهٌ بقوله: إنا بنى فلانٍ نفعل كذا، لأنه لا يريد أن يخبر مَن لا يدرى أنه من بنى فلان، ولكنه ذكر ذلك افتخارا وابتهاء. إلا أن هذا يجرى على حرف النداء، وستراه إن شاء الله عز وجل في بابه في باب النداء مبيناً. وتُرك إظهار الفعل فيه حيث ضارع هذا وأشباهه، لأن إنا بنى فلان ونحوه بمنزلة النداء. وقد ضارعه هذا الباب.
ومن هذا الباب في النكرة قول أميةَ بن أبى عائذ:
ويَأْوِى إلى نِسوة عُطّلٍ ... وشُعثاً مراضيعَ مِثْلِ السَّعالِى
كأنه حيث قال: إلى نسوة عُطّل صِرنَ عنده ممن عُلم أنهن شُعثٌ، ولكنه، ذكر ذلك تشنيعا لهن وتشويها. قال الخليل: كأنه قال: وأذكرهن شُعثاً، إلا أن هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه. وإن شئت جررت على الصفة.(2/66)
وزعم يونس أنك تقول: مررت بزيد أخيك وصاحبك، كقول الراجز:
بأعيُن منها مَليحاتِ النُّقَبْ ... شكلِ التِّجارِ وحلالِ المكتسَبْ
كذلك سمعناه من العرب. وكذلك قال مالك بن خويلد الخُناعي:
يا ميَّ لا يُعجز الأيامَ ذو حِيَدٍ ... فى حَومةِ الموتِ رزّامٌ وفرّاسُ(2/67)
يَحمى الصريمةَ أُحدانُ الرِّجالِ، له ... صيدٌ، ومجترئٌ بالليل همّاسُ
وإن شئت حملته على الابتداء كما قال:
فَتي الناس لا يَخْفى عليهمْ مكانُه ... وضِرغامةٌ إنْ هَمَّ بالحَرْب أَوْقَعا
وقال آخر:
إذا لَقَى الأعداءَ كان خلاتَهم ... وكلبٌ على الأَدَْنْينَ والجارِ نابحُ(2/68)
كذلك سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.
واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظَّم بها. لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحبَ الثياب أو البزّاز، لم يكن هذا مما يعظَّم به الرجل عند الناس ولا يفخَّم به. وأما الموضع الذي لا يجوز فيه التعظيم فأن تذكر رجلاً بنبيهٍ عند الناس، ولا معروفٍ بالتعظيم ثم تعظمه كما تعظم النبيه. وذلك قولك: مررت بعبد الله الصالح. فإن قلت مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت المُطعِمين في المَحل، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عُرف منهم ذلك، وجاز له أن يجعلهم كأنه قد عُلموا. فاستحسن من هذا ما استحسن العربُ، وأجِزْه كما أجازته.
وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيما لله عز وجل يكون تعظيما لغيره من المخلوقين: لو قلت: الحمدُ لزيد تريد العظمةَ لم يجز، وكان عظيماً.(2/69)
وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرام، إذا جعلت المخاطَب كأنه قد عرفهم، كما قال مررت برجلٍ زيدٌ، فتُنزله منزلةَ من قال لك من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تُنزله هذه المنزلة وإن كان لم يعرفهم.
؟
باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم
وما أشبهه
تقول: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيث: لم يرد أن يكرره ولا يعرفك شيئا تُنكره، ولكنه شتمه بذلك.
وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا: " وامرأتُه حمّالةَ الحطب " لم يجعل الحمالة خبرا للمرأة، ولكنه كأنه قال: أذكرُ حمّالةَ الحطب، شتما لها، وإن كان فعلاً لا يُستعمل إظهاره.
وقال عروة الصعاليك العبسي:
سقَوْني الخمرَ ثمَّ تَكنَّفوني ... عُداةَ الله من كَذِبٍ وزورِ
إنما شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطَبين. وقال النابغة:
لَعمري وما عَمري علىَّ بهيّنٍ ... لقد نطقتْ بُطلاً عليّ الأقارعُ(2/70)
أقارعُ عَوفٍ لا أُحاوِلُ غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تبتغي من تُجاذع
وزعم يونس أنك إن شئت رفعتَ البيتين جميعا على الابتداء، تُضمر في نفسك شيئا لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعا. ومثل ذلك:
متىَ ترَ عينيْ مالكٍ وجِرانَه ... وجَنبَيْه تعلمْ أنه غيرُ ثائرِ
حِضْجَرٌ كأُمِّ التوأمَين توكّأَتْ ... على مِرفقيها مستهلةَ عاشرِ
وزعموا أن أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصبا، وهذا الشعرُ لرجل معروف من أزْدِ السّراة:(2/71)
قُبّح من يزني بعو ... فٍ من ذوات الخُمُرْ
الآكلَ الأشداء لا ... يحفِلُ ضَوْء القَمَرْ
وإن شاء جعله صفة فجره على الاسم.
وزعم يونس أنه سمع الفرزدق يُنشد:
كم عمةٍ لكَ يا جريرُ وخالةٍ ... فَدْعاءَ قد حلبتْ على عِشاري
شَغَّارةً تَقِذُ الفصيلَ برِجْلها فَطّارةٌ لقوادمِ الأبكارِ(2/72)
جعله شتما، وكأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطَب عنده عالماً بذلك. ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان ذلك جائزا عربيا. وقال:
طليقُ الله لم يمنُنْ عليه ... أبو داودَ وابنُ أبي كثيرِ
ولا الحجاجُ عينيْ بنتِ ماءٍ ... تقلّبُ طَرفها حَذَرَ الصُّقورِ
فهذا بمنزلة وجوه قرودٍ.
وأما قول حسان بن ثابت:
حارِ بنَ كَعْب ألا أحلامَ تزجُركم ... عَنِّي وأنتم من الجُوف الجماخيرِ(2/73)
لا بأسَ بالقوم من طُولٍ ومن عِظمٍ ... جسمُ البِغال وأحلامُ العصافيرِ
فلم يردْ أن يجعله شتما، ولكنه أراد أن يعدد صفاتهم ويفسرها، فكأنه قال: أما أجسامهم فكذا وأما أحلامهم فكذا.
وقال الخليل رحمه الله: لو جعله شتما فنصبه على الفعل كان جائزا.
وقد يجوز أن ينصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا يريد مدحا ولا ذما ولا شيئا مما ذكرت لك. وقال:
وما غرّني حوزُ الرِّزاميّ مِحصَناً ... عَواشِيَها بالجَوّ وهو خصيبُ
ومِحصن: اسم الرزامى، فنصبه على أعني، وهو فعل يظهر، لأنه لم يرد أكثر من أن يعرفه بعينه، ولم يرد افتخارا ولا مدحا ولا ذما. وكذلك سُمع هذا البيت من أفواه العرب، وزعموا أن اسمه مِحصَنٌ.
ومن هذا الترحم، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون(2/74)
بكل صفة ولا كل اسم، ولكن ترحم بما ترحم به العرب.
وزعم الخليل أنه يقول: مررت به المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحم، وبدله كبدل مررت به أخيك. وقال:
فأصبحتْ بقَرْقَرى كَوانِساً ... فلا تلُمه أنْ يَنامَ البائِسا
وكان الخليل يقول: إن شئت رفعته من وجهين فقلت: مررت به البائس، كأنه لما قال مررت به قال المسكين هو، كما يقول مبتدئا: المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين، كما قال: بنا تماماً يُكشَف الضّبابْ(2/75)
وفيه معنى الترحم، كما كان في قوله رحمةُ الله عليه معنى رحمه الله. فما يُترحّم به يجوز فيه هذان الوجهان، وهو قول الخليل رحمه الله. وقال أيضا: يكون مررت به المسكين على: المسكين مررت به، وهذا بمنزلة لقيته عبد الله، إذا أراد عبد الله لقيتُه. وهذا في الشعر كثير.
وأما يونس فيقول: مررت به المسكينَ على قوله: مررت به مسكينا.
وهذا لا يجوز لأنه لا ينبغي أن يجعله حالا ويدخل فيه الألف واللام، ولو جاز هذا لجاز مررت بعبد الله الظريف، تريد ظريفا. ولكنك إن شئت حملته على أحسنَ من هذا، كأنه قال: لقيت المسكينَ، لأنه إذا قال مررت بعبد الله فهو عملٌ، كأنه أضمر عملا. وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه عليه فِراراً من أن يصفوا المضمَر، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يقول إنه المسكين أحمق، على الإضمار الذي جاز فى مررت، كأنه قال: إنه هو المسكين أحمق. وهو ضعيف. وجاز هذا أن يكون فصلا بين الاسم والخبر لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى: إنا تميما ذاهبون. فإذا قلت: بى المسكينَ كان الأمر، أو بك المسكينَ مررت، فلا يحسن فيه البدل، لأنك إذا عنيت المخاطَب أو نفسَك فلا يجوز أن يكون لا يدرى من تعنى، لأنك لست تحدث عن غائب،(2/76)
ولكنك تنصبه على قولك: بنا تميما، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله. فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد.
واما يونس فزعم أنه ليس يرفع شيئا من الترحم على إضمار شيء يرفع، ولكنه إن قال ضربته لم يقل أبدا إلا المسكين، يحمله على الفعل. وإن قال ضربانى قال المسكينان، حمله أيضا على الفعل. وكذلك مررت به المسكين، يحمل الرفعَ على الرفع، والجرَّ على الجر، والنصب على النصب. ويزعم أن الرفع الذي فسرنا خطأ. وهو قول الخليل رحمه الله وابن أبي إسحاق.
؟
باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني
على ما هو قبله من الأسماء المبهمة
والأسماء المبهَمة: هذا، وهذان، وهذه، وهاتان، وهؤلاء، وذلك(2/77)
وذانك، وتلك وتانك، وتيك، وأولئك، وهو وهي، وهما، وهم وهن، وما أشبه هذه الأسماء، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة.
فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك: هذا عبد الله منطلقا، وهؤلاء قومك منطلقين، وذاك عبد الله ذاهبا، وهذا عبد الله معروفاً. فهذا اسمٌ مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله. ولم يكن ليكون هذا كلاما حتى يُبنى عليه أو يبنى على ما قبله. فالمبتدأ مُسند والمبنى عليه مسند إليه، فقد عمل هذا فيما بعده كما يعمل الجار والفعل فيما بعده. والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقا، لا تريد أن تعرفه عبد الله؛ لأنك ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقا، فمنطلقٌ حالٌ قد صار فيها عبد الله وحالَ بين منطلق وهذا، كما حال بين راكب والفعل حين قلت: جاء عبد الله راكبا، صار لعبد الله وصار الراكب حالا. فكذلك هذا.
وذاك بمنزلة هذا. إلا أنك إذا قلت ذاك فأنت تنبهه لشيء مُتراخ.
وهؤلاء بمنزلة هذا، وأولئك بمنزلة ذاك، وتلك بمنزلة ذاك. فكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام.
وأما هو فعلامة مضمَر، وهو مبتدأ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا. وذلك قولك: هو زيد معروفا، فصار المعروف حالا. وذلك أنك ذكرت للمخاطَب إنسانا كان يجهله أو ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: أثبتْه(2/78)
أو الزَمْه معروفا، فصار المعروف حالا، كما كان المنطلق حالا حين قلت: هذا زيد منطلقا. والمعنى أنك أردت أن توضح أن المذكور زيد حين قلت معروفا، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف، لأنه يعرف ويؤكد، فلو ذكر هنا الانطلاق كان غير جائز، لأن الانطلاق لا يوضح أنه زيد ولا يؤكده. ومعنى قوله معروفا: لا شك؛ وليس ذا فى منطلق. وكذلك هو الحق بينا، ومعلوما، لأن ذا مما يوضَّح ويؤكَّد به الحق.
وكذلك هى وهما وهم وهن، وأنا وأنت وإنه. قال ابن دارة:
أنا ابن دارةَ معروفاً بها نسبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ(2/79)
وقد يكون هذا وصواحبه بمنزلة هو، يعرَّف به، تقول: هذا عبد الله فاعرفْه؛ إلا أن هذا علامة للمضمَر، ولكنك أردت أن تعرف شيئا بحضرتك.
وقد تقول: هو عبد الله، وأنا عبد الله، فاخرا أو مُوعداً. أى اعرِفْني بما كنتَ تعرف وبما كان بلغك عني، يم يفسر الحال التي كان يعلمه عليها أو تبلغه فيقول: أنا عبد الله كريما جوادا، وهو عبد الله شجاعا بطلا.
وتقول: إني عبد الله؛ مصغِّراً نفسه لربه، ثم تفسر حال العبيد فتقول: آكِلاً كما تأكل العبيد.
وإذا ذكرت شيئا من هذه الأسماء التي هي علامة للمضمَر فإنه مُحال أن يظهر بعدها الاسم إذا كنت تُخبر عن عمل، أو صفة غير عمل، ولا تريد أن تعرفه بأنه زيدٌ أو عمرو. وكذلك إذا لم توعد ولم تفخر أو تصغر نفسك؛ لأنك في هذه الأحوال تعرف ما تُرى أنه قد جُهل، او تُنزل المخاطَب منزلة من يجهل فخرا أو تهدُّداً او وعيدا، فصار هذا كتعريفك إياه باسمه.
وإنما ذكر الخليل رحمه الله هذا لنعرف ما يُحال منه وما يَحسن، فإن النحويين مما يتهاونون بالخلفْ إذا عرفوا الإعراب. وذلك أن رجلا من(2/80)
إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقا، وهو زيد منطلقا كان مُحالاً؛ لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمَر، وإنما يضمِر إذا علم أنك عرفت من يعنى. إلا أن رجلا لو كان خلفَ حائط، أو فى موضع تجهله فيه فقلت من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقا في حاجتك، كان حسنا.
واما ما ينتصب لأنه خبر مبنى على اسم غير مبهم، فقولك: أخوك عبد الله معروفا. هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها.
؟
هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة
وذلك قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين. وإنما نصبت للمنطلقين لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة لعبد الله، ولا أن يكون صفة للاثنين، فلما كان ذلك مُحالاً جعلته حالا صاروا فيها، كأنك قلت: هذا عبد الله منطلقا.
وهذا شبيه بقولك: هذا رجل مع امرأةٍ قائمَيْن.
وإن شئت قلت: هذان رجلان وعبد الله منطلقان، لأن المنطلقين في هذا الموضع من اسم الرجلين، فجريا عليه.(2/81)
وتقول: هؤلاء ناسٌ وعبد الله منطلقين، إذا خلطتَهم. ومن قال: هذان رجلان وعبد الله منطلقان قال: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون؛ لأنه لم يُشرك بين عبد الله وبين ناسٍ في الانطلاق.
وتقول: هذه ناقة وفصيلها راتعين. وقد يقول بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان. وهذا شبيه بقول من قال: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، إنما يريد كل شاةٍ وسخلة لها بدرهم. ومن قال كل شاةٍ وسخلتها، فجعله يمنزلة كل رجل وعبد الله منطلقا لم يقل في الراتعين إلا النصب، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة، ولا يريد أن يُدخل السخلة في الكل لأن كل لا يدخل في هذا الموضع إلا على النكرة. والوجه كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا أكثر في كلامهم، وهو القياس. والوجه الآخر قد قاله بعض العرب.(2/82)
؟ هذا باب
ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة
وذلك قولك: هذا عبد الله منطلقٌ، حدثنا بذلك يونس وأبو الخطاب عمن يوثق به من العرب.
وزعم الخليل رحمه الله أن رفعه يكون على وجهين:
فوجهٌ أنك حين قلت: هذا عبد الله أضمرت هذا أو هو، كأنك قلت هذا منطلق أو هو منطلق. والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعا خبرا لهذا، كقولك: هذا حلوٌ حامضٌ، لا تريد أن تنقض الحلاوة، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين. وقال الله عز واجلّ: " كلا إنها لظى. نزاعة للشوى ". وزعموا أنها في قراءة أبى عبد الله. " هذا بعلى شيخٌ ".(2/83)
قال: سمعنا ممن يروى هذا الشعر من العرب يرفعه:
من يكُ ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظٌ مصيّفٌ مُشَتِّى
وأما قول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزل ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا ليس على إضمار أنا. ولو جاز هذا على(2/84)
إضمار أنا لجاز: كان عبد الله لا مسلمٌ ولا صالح على إضمار هو. ولكنه فيما زعم الخليل رحمه الله: فأبيت بمنزلة الذي يقال لا حرجٌ ولا محروم. ويقويه في ذلك قوله، وهو الربيع الأسدى:
على حين أنْ كانتْ عُقَيلٌ وشائِظا ... وكانتْ كلابٌ خامِرِى أمَّ عامرِ
فإنما أراد: كانت كلاب التي يقال لها خامرى أم عامر.
وقد زعم بعضهم أن رفعه على النفى، كأنه قال: فأبيتُ لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به. وقال الخليل رحمه الله: كأنه حكاية لما كان يُتكلّم به قبل ذلك، فكأنه حكى ذلك اللفظ، كما قال:
كذَبْتُم وبيتِ الله لا تنكحونَها ... بني شابَ قرناها تصُرُّ وتحلُبُ(2/85)
أى بنى من يقال له ذلك.
والتفسير الآخر الذي على النفى كأنه أسهل.
وقد يكون رفعه على أن تجعل عبد الله معطوفا على هذا كالوصف، فيصير كأنه قال: عبد الله منطلقٌ. وتقول: هذا زيدٌ رجلٌ منطلقٌ على البدل، كما قال تعالى جدُّه: " بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ ". فهذه أربعة أوجه فى الرفع.
؟
هذا باب
ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبنى على مبتدإ
أو ينتصب فيه الخبر لأنه حال لمعروفٍ مبنى على مبتدإ فأما الرفع فقولك: هذا الرجل منطلقٌ، فالرجل صفة لهذا، وهما بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: هذا منطلقٌ. قال النابغة:
توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لِستّةِ أَعْوامٍ وذا العامُ سابعُ
كأنه قال: وهذا سابعٌ.
وأما النصب فقولك: هذا الرجل منطلقا، جعلتَ الرجل مبنيا على هذا،(2/86)
وجعلت الخبر حالا له قد صار فيها، فصار كقولك: هذا عبد الله منطلقا. وإنما يريد في هذا الموضع أن يُذكَر المخاطَب برجلٍ قد عرفه قبل ذلك، وهو في الرفع لا يريد أن يُذكره بأحد، وإنما أشار فقال هذا منطلقٌ، فكأن ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حالٌ مفعول فيها، لأن المبتدأ يعمل فيما بعده كعمل الفعل فيما يكون بعده، ويكن فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحولُ بين الخبر والاسم المبتدإ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر، فيصير الخبر حالا قد ثبت فيها وصار فيها كما كان الظرف موضعا قد صِيرَ فيه بالنية وإن لم يذكر فعلا. وذلك أنك إذا قلت فيها زيدٌ فكأنك قلت استقر فيها زيد وإن لم تذكر فعلاً؛ والنصب بالذى هو فيه كانتصاب الدرهم بالعشرين لأنه ليس من صفته ولا محمولا على ما حُمل عليه، فأشبه عندهم ضاربٌ زيدا.
وكذلك هذا عمل فيما بعده عمل الفعل، وصار منطلقٌ حالا، فانتصب بهذا الكلام انتصابَ راكب بقول: مرّ زيد راكبا.
وأما قوله عز وجل " هو الحقُّ مصدقا " فإن الحق لا يكون صفة(2/87)
لهو، من قبل أن هو اسم مضمَر والمضمر لا يوصَف بالمظهر أبدا؛ لأنه قد استغنى عن الصفة. وإنما تُضمِر الاسم حين يستغنى بالمعرفة، فمن ثم لم يكن في هذا الرفع كما كان في هذا الرجلُ. ألا ترى أنك لو قلت: مررت بهو الرجل، لم يجز ولم يَحسن، ولو قلت: مررت بهذا الرجل، كان حسناً جميلاً.
؟
باب ما ينتصب فيه الخبر
لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء، قدمته أو أخرته وذلك قولك: فيها عبد الله قائما، وعبد الله فيها قائما. فعبد الله ارتفع بالابتداء لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وإنما هو موضعٌ له، ولكنه يجرى مجرى الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله حسُن السكوت وكان كلاما مستقيما، كما حسن واستُغنى في قولك: هذا عبد الله. وتقول: عبد الله فيها، فيصير كقولك عبد الله أخوك. إلا أن عبد الله يرتفع مقدَّماً كان أو مؤخرا بالابتداء.
ويدلك على ذلك أنك تقول: إن فيها زيدا، فيصير بمنزلة قولك: إن زيدا فيها؛ لأن فيها لما صارت مستقَراً لزيد يستغنى به السكوت وقعَ(2/88)
موقع الأسماء، كما أن قولك: عبد الله لقيتُه يصير لقيتُه فيه بمنزلة الاسم، كأنك قلت: عبد الله منطلق، فصار قولك فيها كقولك: استقر عبد الله، ثم أردت أن تُخبِر على أية حالٍ استقر فقلت قائما، فقائم حال مستقَرٌّ فيها. وإن شئت ألغيت فيها فقلت: فيها عبد الله قائمٌ. قال النابغة:
فبتُّ كأنّى ساورتْني ضئيلةٌ ... من الرُقشِ فى أَنيابِها السمُ ناقعُ
وقال الهذلى:
لا درَّ درّيَ إنْ أطعمتُ نازلَكم ... قِرفَ الحَتىِّ وعندى البُرُّ مكنوزُ(2/89)
كأنك قلت: البرُّ مكنوزٌ عندي، وعبد الله قائمٌ فيها.
فإذا نصبت القائم ففيها قد حالت بين المبتدإ والقائم واستُغني بها، فعمل المبتدإ حين لم يكن القائم مبنيا عليه، عمل هذا زيدٌ قائما، وإنما تجعل فيها، إذا رفعت القائم، مستقرَّاً للقيام وموضعا له، وكأنك لو قلت: فيها عبد الله، لم يجز عليه السكوت. وهذا يدلك على أن فيها لا يُحدث الرفع أيضا في عبد الله؛ لأنها لو كانت بمنزلة هذا لم تكن لتُلغى، ولو كان عبد الله يرتفع بفيها لارتفع بقولك عبد الله مأخوذٌ؛ لأن الذي يرفع وينصب ما يستغني عليه السكوت وما لا يستغنى، بمنزلة واحدة. ألا ترى أن كان تعمل عمل ضرب، ولو قلت كان عبد الله لم يكن كلاما، ولو قلت ضرب عبد الله كان كلاما.
ومما جاء فى الشعر أيضا مرفوعا قوله، لابن مقبل:
لا سافِرُ النّيّ مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... عاري العِظامِ عليه الودْع منظومُ(2/90)
فجميع ما يكون ظرفا تلغيه إن شئت، لأنه لا يكون آخِراً إلا على ما كان عليه أولا قبل الظرف، ويكون موضع الخبر دون الاسم، فجرى في أحد الوجهين مجرى ما لا يستغنى عليه السكوت، كقولك: فيك زيدٌ راغبٌ فرغبتُه فيه.
ومثل قولك فيها عبد الله قائما: هو لك خالصا، وهو لك خالصٌ؛ كأن قولك هو لك بمنزلة أهبُه لك ثم قلت خالصا. ومن قال فيها عبد الله قائم، قال هو لك خالص، فيصير خالص مبنيا على هو كما كان قائم مبنيا على عبد الله، وفيها لَغوٌ، إلا أنك ذكرت فيها لتبين أين القيام، وكذلك لك إنما أردت أن تبين لمن الخالصُ.
وقد قُرئ هذا الحرف على وجهين: " قُل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة "، بالرفع والنصب.
وبعض العرب يقول: هو لك الجماء الغفيرُ، يرفع كما يرفع الخالص.(2/91)
والنصبُ أكثر، لأن لجمّاء الغفير بمنزلة المصدر، فكأنه قال هو لك خُلوصاً. فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلم به.
ومما جاء في الشعر قد انتصب خبرُه وهو مقدَّم قبل الظرف، قوله:
إنّ لكمْ أصلَ البِلادِ وفرعَها ... فالخَيْرُ فيكمْ ثابِتا مَبذولاَ
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: أتكلم بهذا وأنت ههنا قاعدا.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر قول العرب: هو رجلُ صدقٍ معلوما ذاك، وهو رجل صدق معروفا ذاك، وهو رجل صدق بينا ذاك، كأنه قال: هذا رجل صدق معروفا صلاحُه، فصار حالا وقع فيه أمر، لأنك إذا قلت: هو رجل صدقٍ فقد أخبرتَ بأمر واقع، ثم جعلتَ ذلك الوقوع على هذه الحال. ولو رفعتَ كان جائزا على أن تجعله صفة، كأنك قلت: هو رجل معروفُ صلاحُه.
ومثل ذلك: مررت برجل حسنةٍ أمه كريما أبوها، زعم الخليل أنه أخبر عن الحُسن أنه وجبَ لها في هذه الحال. وهو كقولك: مررت برجلٍ ذاهبةٍ فرسُه مكسورا سرجُها، والأول كقولك: هو رجل صدق معروفا صدقه، وإن شئت قلت معروفٌ ذلك ومعلوم ذلك، على قولك: ذاك معروفٌ وذاك معلوم. سمعتُه من الخليل.(2/92)
؟ هذا بابٌ من المعرفة
يكون فيه الاسم الخاص شائعا في الأمة
ليس واحدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوهّم به واحدٌ دون آخر له اسمٌ غيره، نحو قولك للأسد: أبو الحارث وأسامة، وللثعلب: ثُعالة وأبو الحُصَين وسَمسَم، وللذئب: دأَلان وأبو جَعدة، وللضّبُع: أم عامر وحَضاجر وجَعار وجيْأل وأم عنثل وقَثام، ويقال للضِّبعان قُثَم.
ومن ذلك قولهم للغراب: ابن بَريح.
فكل هذا يجرى خبره مجرى خبر عبد الله. ومعناه إذا قلت هذا أبو الحارث أو هذا ثُعالة أنك تريد هذا الأسد وهذا الثعلب؛ وليس معناه كمعنى زيد وإن كانا معرفة. وكان خبرهما نصبا من قبل أنك إذا قلت هذا زيدٌ فزيد اسم لمعنى قولك هذا الرجل إذا أردتَ شيئا بعينه قد عرفه المخاطَب بحلْيته أو بأمر قد بلغه عنه قد اختُص به دون من يعرف. فكأنك إذا قلت هذا زيد قلت: هذا الرجل الذى من حِليته ومن أمره كذا وكذا بعينه، فاختُصّ هذا المعنى باسم عَلَم يلزم هذا المعنى، ليُحذف(2/93)
الكلام وليُخرَج من الاسم الذى قد يكون نكرة ويكون لغير شيء بعينه. لأنك إذا قلت هذا الرجل فقد يكون أن تعنى كماله، ويكون أن تقول هذا الرجل وأن تريد كل ذكَر تكلم ومشى على رجلين فهو رجل. فإذا أراد أن يُخلِص ذلك المعنى ويختصه ليُعرَف من يُعنى بعينه وأمره قال زيد ونحوه.
وإذا قلت: هذا أبو الحارث فأنت تريد هنا الأسد، أى هذا الذى سمعتَ باسمه، أو هذا الذى قد عرفتَ أشباهه، ولا تريد أن تشير الى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك، كمعرفته زيدا، ولكنه أراد هذا الذى كل واحد من أمته له هذا الاسم، فاختُصّ هذا المعنى باسم كما اختُص الذي ذكرنا بزيد لأن الأسد يتصرف تصرف الرجل ويكون نكرة، فأرادوا أسماء لا تكون إلا معرفة وتلزم ذلك المعنى.
وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسمٌ معناه معنى زيد، أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس فيحتاجوا إلى أسماء يعرفون بها بعضا من بعض، ولا تحفَظ حُلاها كحفظ ما يَثبت مع الناس ويقتنونه ويتخذونه. ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما تثبت معهم واتخذوه، بأسماء كزيد وعمرو.
ومنه أبو جُخادب، وهو شيء يشبه الجندُب غير أنه أعظم منه،(2/94)
وهو ضربٌ من الجنادب كما أن بنات أوبَر ضربٌ من الكمأة، وهى معرفة.
ومن ذلك ابنُ قِتْرة، وهو ضربٌ من الحيات، فكأنهم إذا قالوا هذا ابن قتْرة فقد قالوا هذا الحية الذى من أمره كذا وكذا.
وإذا قالوا بنات أوبَر فكأنهم قالوا هذا الضرب الذى من أمره كذا وكذا من الكمأة، وإذا قالوا أبو جُخادب فكأنهم قالوا هذا الضرب الذى سمعتَ به من الجنادب أو رأيته. ومثل ذلك ابنُ آوى كأنه قال هذا الضرب الذى سمعته أو رأيته من السباع؛ فهو ضرب من السباع كما أن بنات أوبر ضربٌ من الكمأة. ويدلك على أنه معرفة أن أوى غير مصروف وليس بصفة. ومثل ذلك ابنُ عِرس وأم حُبَين وسام أبرص. وبعض العرب يقول أبو بُريص وحمار قبان، كأنه قال فى كل واحد من هذا الضرب الذى يعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا. وكأنه قال فى المؤنث نحو أم حُبين هذه التى تعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا.
واختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسما على معنى الذى تعرفها به لا تدخله النكرة كما أن الذى تعرف لا تدخله النكرة، كما فعلوا ذلك بزيد والأسد. إلا أن هذه الضروب ليس لكل واحد منها اسم يقع(2/95)
على كل واحد من أمته يدخله المعرفة والنكرة، بمنزلة الأسد يكون معرفة ونكرة، ثم اختُص باسم معروف كما اختُص الرجل بزيد وعمرو، وهو أبو الحارث، ولكنها لزمت اسما معروفا، وتركوا الاسم الذى تدخله المعانى المعرفة والنكرة، ويدخله التعجب، وتوصَف به الأسماء المبهمة كمعرفته بالألف واللام نحو الرجل.
والتعجب كقولك: هذا الرجل وأنت تريد أن ترفع شأنه.
ووصفُ الأسماء المبهمة نحو قولك: هذا الرجل قائم. فكأن هذا اسمٌ جامع لمعان.
وابن عِرس يراد به معنى واحد، كما أريد بأبى الحارث وبزيد معني واحد واستُغني به.
ومثَل هذا فى بابه مثَل رجل كانت كُنيته هى الاسم وهى الكنية.
ومثَل الأسد وأبى الحارث كرجل كانت له كنية واسمٌ.
ويدلك على أن ابن عرس وأم حُبين وسامَّ أبرص وابن مَطَر معرفة، أنك لا تدخل في الذي أُضِفن إليه الألف واللام، فصار بمنزلة زيد وعمرو. ألا ترى أنك لا تقول أبو الجُخادب.
وهو قول أبى عمرو، حدثنا به يونس عن أبى عمرو.
وأما ابن قترة وحمار قبان وما أشبههما، فيدلك على معرفتهن ترك صرف ما أُضفن إليه.(2/96)
وقد زعموا أن بعض العرب يقول: هذا ابنُ عرس مُقبلٌ، فرفعه على وجهين: فوجهٌ مثل: هذا زيد مقبل، ووجه على أنه جعل ما بعده نكرة فصار مضافا إلى نكرة، بمنزلة قولك هذا رجلٌ منطلق.
ونظير ذلك هذا قيسُ قُفّةٍ آخر منطلق. وقيسُ قُفة لقب، والألقاب والكُنى بمنزلة الأسماء نحو زيد وعمرو، ولكنه أراد في قيس قُفة ما أراد في قوله هذا عُثمان آخر، فلم يكن له بد من أن يُجعل ما بعده نكرة حتى يصير نكرة، لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف إلى معرفة.
وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق، كأنك قلت هذا رجل منطلق، فإنما دخلت النكرة على هذا العلَم الذي إنما وُضع للمعرفة ولهذا جيء به، فالمعرفة هنا الأوْلى.
وأما ابن لَبون وابن مَخاض فنكرة، لأنها تدخلها الألف واللام. وكذلك ابن ماء. قال جرير، فيما دخل فيه الألف واللام:
وابنُ اللَبون إذا ما لُزّ فى قَرَن ... لمَ يستطعْ صولةَ البُزْلِ القناعيسِ(2/97)
وقال أبو عطاء السِّندي:
مفدَّمةً قَزَا كأنّ رِقابها ... رِقاب بناتِ الماءِ أفزَعها الرّعدُ
وقال الفرزدق:
وَجَدْنا نهشَلاً فضلَتْ فقيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفصيلِ(2/98)
فإذا أخرجتَ الألف واللام صار الاسم نكرة. قال ذو الرمة:
ورَدتُ اعتِسافاً والثرّيَّا كأنّها ... على قِمّةِ الرأس ابنُ ماءٍ مُحلّقُ
وكذلك ابن أفعلَ إذا كان أفعل ليس باسمٍ لشيء.
وقال ناسٌ: كلُ ابن أفعلَ معرفة لأنه لا ينصرف. وهذا خطأ؛ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول هذا أحمرُ قُمُذٌ فترفعه إذا جعلته صفة للأحمر، ولو كان معرفة كان نصبا، فالمضاف إليه بمنزلته. قال ذو الرمة:
كأنَّا على أولادِ أحقَبَ لاحَها ... ورمْيُ السّفا أنفاسَها بِسَهامِ(2/99)
جَنوبٌ ذَوَتْ عنها التَّناهى وأنزلتْ ... بها يومَ ذبّابِ السَّبيبِ صيامِ
كأنه قال: على أولاد أحقبَ صيامٍ.
؟ باب ما يكون فيه الشيء غالبا عليه اسم
يكون لكل من كان من أمته، أو كان في صفته، من الأسماء التي يدخلها الألف واللام، وتكون نكرتُه الجامعة لما ذكرتُ لك من المعاني.
وذلك قولك فلان بنُ الصَّعِق. والصعقُ في الأصل صفة تقع(2/100)
على كل من أصابه الصعق، ولكنه غلب عليه حتى صار عَلَماً بمنزلة زيد وعمرو.
وقولهم النجمُ، صار علَماً للثريا.
وكابن الصّعِق قولُهم: ابن رالان، وابنُ كُراع، صار علما لإنسان واحد، وليس كل من كان ابنا لرألان وابنا لكُراع غلب عليه هذا الاسم. فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصعق لم يكن معرفة، من قبل أنك صيرته معرفة بالألف واللام، كما صار ابنُ رألان معرفة برألان، فلو ألقيتَ رألان لم يكن معرفة.
وليس هذا بمنزلة زيد وعمرو وسَلْم، لأنها أعلامٌ جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما منعهم أن يُدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام أنهم لم يجعلوا الرجل الذي سُمّي بزيد من أمةٍ كلُّ واحد منها يلزمه هذا الاسم، ولكنهم جعلوه سُمّي به خاصا.
وزعم الخليل رحمه الله أن الذين قالوا الحارث والحَسَن والعباس، إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سُمّي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصفٌ له غلَب عليه. ومن قال حارثٌ وعباس فهو يُجريه مُجرى زيد.
وأما ما لزمته الألف واللام فلم يسقُطا منه، فإنما جُعل الشيء الذي يلزمه ما يلزم كل واحد من أمته.(2/101)
وأما الدّبَران والسِّماك والعيوق وهذا النحو، فإنما يُلزَم الألفَ واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه.
فإن قال قائل: أيقال لكل شيء صار خلف شيء دَبَران، ولكل شيء عاق عن شيء عيّوق، ولكل شيء سمك وارتفع سِماك، فإنك قائل له: لا، ولكن هذا بمنزلة العِدل والعَديل. والعديل: ما عادَلك من الناس، والعِدل لا يكون إلا للمتاع، ولكنهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا بين المتاع وغيره.
ومثل ذلك بناء حصين وامرأة حصان، فرقوا بين البناء والمرأة، فإنما أرادوا أن يُخبروا أن البناء مُحرز لمن لجأ إليه، وأن المرأة محرزة لفرجها.
ومثل ذلك الرزين من الحجارة والحديد، والمرأة رزان، فرقوا بين ما يُحمَل وبين ما ثقُل في مجلسه فلم يخف.
وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب؛ فقد يكون الاسمان مشتقّين من شيء والمعنى فيهما واحد، وبناؤهما مختلف، فيكون أحد البناءين مختصاً به شيء دون شيء ليفرق بينهما. فكذلك هذه النجوم اختُصّت بهذه الأبنية.
وكل شيء جاء قد لزم الألف واللام فهو بهذه المنزلة. فإن كان عربيا نعرفه ولا نعرف الذي اشتُق منه فإنما ذاك لأنا جهلنا ما علم غيرُنا،(2/102)
أو يكون الآخِر لم يصل إليه علم وصل إلى الأول المسمى.
وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء، إنما يرايد الرابع والثالث. وكلها أخبارها كأخبار زيد وعمرو.
فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، وهذان عَمران منطلقان، لم يكن هذا الكلام إلا نكرة، من قبل أنك جعلته من أمة كل رجل منها زيد وعمرو، وليس واحد منها أولى به من الآخَر. وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق. ألا ترى أنك تقول: هذا زيد من الزيدين، أي هذا واحد من الزيدين، فصار كقولك: هذا رجل من الرجال.
وتقول: هؤلاء عَرَفات حسنة، وهذان أبانان بينين. وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات، وبين زيدَين وزيدِين، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علما لرجلين ولا لرجال بأعيانهم، وجعلوا الاسم الواحد علماً لشيء بعينه، كأنهم قالوا، إذا قلت ائتِ بزيد إنما تريد: هاتِ هذا الشخص الذي نشير لك إليه. ولم يقولوا إذا قلنا جاء زيدانِ فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عُرفا قبل ذلك وأُثبتا، ولكنهم قالوا إذا قلنا قد جاء زيد فلان وزيدُ بن فلان فإنما نعني شيئين بأعيانهما فهكذا تقول إذا أردت أن تُخبر عن معروفين.(2/103)
وإذا قالوا هذان أبانان وهؤلاء عرفات فإنما أرادوا شيئا أو شيئين بأعيانهما اللذين نشير إليهما. وكأنهم قالوا إذا قلت ائت أبانين، فإنما نعني هذين الجيلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا: امرر بأبان كذا وأبن كذا، لم يفرقوا بينهما لأنهما جعلوا أبانين اسماً لهما يُعرفان به بأعيانهما.
وليس هذا في الأناسى ولا في الدواب، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك، من قبل أن الأماكن والجبال أشياء لا تزول، فيصير كل واحد من الجبلين داخلا عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبُه من الحال في الثبات والخِصب والقحط، ولا يشار إلى واحد منهما بتعريف دون الآخر، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسى وفي الدواب. والإنسانان والدابتان لا يثبتان أبدا بأنهما يزولان ويتصرفان، ويشار إلى أحدهما والآخر عنه غائب.
واما قولهم: أعطِكم سُنّة العُمَرين فإنما أُدخلت الألف واللام على عُمَرين وهما نكرة فصارا معرفة بالألف واللام كما صار الصّعِق معرفة بهما، واختُصا به كما اختُص النجم بهذا الاسم، فكأنهما جُعلا من آمة(2/104)
كل واحد منهم عُمر، ثم عُرّفا بالألف واللام فصارا بمنزلة الغرِيَّيْن المشهورين بالكوفة، وبمنزلة النَّسرين، إذا كنتَ تعني النجمين.
؟
باب
ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة
إذا بُني على ما قبله، وبمنزلته في الاحتياج إلى الحشو، ويكون نكرة بمنزلة رجل. وذلك قولك: هذا مَن أعرف منطلقا، وهذا مَن لا أعرف منطلقا، أي هذا الذي علمتُ أني لا أعرفه منطلقا. وهذا ما عندي مَهيناً، وأعرف ولا أعرف وعندي حشوٌ لهما يتمان به، فيصيران اسما كما كان الذي لا يتم إلا بحشوه.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلتَ مَن بمنزلة إنسان وجعلت ما بمنزلة شيء نكرتين، ويصير منطلقٌ صفة لمن ومَهينٌ صفة لمَا. وزعم أن هذا البيت عنده مثل ذلك، وهو قول الأنصارى:
فكَفَى بنا فَضْلاً على مَن غيرِنا ... حبُّ النبيّ محمَّدٍ إيّاناَ.(2/105)
ومثل ذلك قول الفرزدق:
إنَّي وإيّاكَ إذْ حَلَّتْ بأرحُلنا ... كَمنْ بِوادِيهِ بَعْدَ المَحْلِ ممطورِ
وأما هذا ما لديّ عنيد فرفعُه على وجهين: على شيء لدى عنيد، وعلى هذا بعلى شيخٌ.
وقد أدخلوا في قول من قال إنها نكرة فقالوا: هل رأيتم شيئا يكون موصوفا لا يُسكَت عليه؟ فقيل لهم: نعم، يا أيها الرجل. الرجل وصفٌ لقوله يا أيها، ولا يجوز أن يُسكَت على يا أيها. فرُب اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفُه عندهم كأنه به يتم الاسم، لأنهم إنما جاءوا بيا أيها ليصلوا إلى نداء الذي فيه الألف واللام، فلذلك جيء به. وكذلك مَن وما إنما يُذكران لحشوهما ولوصفهما، ولم يُرَد بهما خِلوَين شيء، فلزمه الوصف كما لزمه الحشو، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى، فمن ثم كان الوصف والحشو واحدا.(2/106)
فالوصف كقولك: مررت بمَن صالحٍ، فصالحٍ وصف. وإن أردتَ الحشو قلت مررت ممن صالحٌ. والحشو لا يكون أبدا لمن وما إلا وهما معرفة. وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي، فكما أن الذي لا يكون إلا معرفة لا يكون ما ومَن إذا كان الذي بعدهما حشوا، وهو الصلة، إلا معرفة.
وتقول: هذا مَن أعرف منطلقٌ، فتجعل أعرف صفة. وتقول: هذا مَن أعرف منطلقا، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلقٌ على قولك: هذا عبد الله منطلق.
ومثل ذلك الجماء الغفير، فالغفير وصفٌ لازم، وهو توكيد لأن الجماء الغفير مَثَل، فلزم الغفيرُ كما لزم ما في قولك إنك ما وخَيراً.
واعلم أن كفى بنا فضلا على مَن غيرُنا أجود وفيه ضعفٌ إلا أن يكون فيه هو، لأن هو من بعض الصلة، وهو نحو مررت بأيُّهم أفضلُ،(2/107)
وكما قرأ بعض الناس هذه الآية: " تماما على الذي أحسَنُ ".
واعلم أنه يقبح أن تقول هذا مَن منطلق إذا جعلتَ المنطلق حشوا أو وصفا، فإن أطلتَ الكلام فقلت مَن خيرٌ منك، حسُن في الوصف والحشو.
زعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب رجلا يقول: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءا، وما أنا بالذي قائل لك قبيحا. فالوصف بمنزلة الحشو المَحشو لأنه يَحسن بما بعده كما أن الحشو المحشوَّ إنما يتم بما بعده.
ويقوى أيضا أن مَن نكرة، قول عمرو بن قَميئة:
يا رُبَّ مَن يُبغض أذوادَنا ... رُحنَ على بغْضائه واغتدَيْنْ
ورُبّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة. وقال أمية بن أبي الصلت:(2/108)
رُبّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فَرْجةٌ كحَلّ العِقالِ
وقال آخر:
أَلا رُبّ مَن تغتَشَّهُ لكَ ناصحٍ ... ومؤتَمن بالغَيب غيرِ أمينِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن قَلْبِي له اللهَ ناصحٌ ... ومَن هو عندي في الظباء السوانحِ(2/109)
؟
باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة
وذلك قولك هذا أول فارسٍ مُقبلٌ، وهذا كلُّ متاعٍ عندك موضوعٌ، وهذا خيرٌ منك مقبلٌ.
ومما يدلك على أنهن نكرة أنهن مضافات إلى نكرة، وتوصَف بهن النكرة. وذلك أنك تقول فيما كان وصفاً: هذا رجل خيرٌ منك، وهذا فارسٌ أول فارسٍ، وهذا مالٌ كلُّ مالٍ عندك.
ويُستدلُّ على أنهن مضافات إلى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصَف به النكرة ولا تصفه بما توصَف به المعرفة، وذلك قولك: هذا اول فارس شُجاع مقبلٌ.
وحدثنا الخليل أنه سمع من العرب من يوثق بعربيته يُنشد هذا البيت، وهو قول الشماخ:
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو معازِرُ(2/110)
فجعله صفة لكل.
وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قبَلنا منهمُ كلَّ ... فَتًى أبيضَ حُسّانا
فجعله وصفا لكل.
ومثل ذلك: هذا أيما رجل منطلقٌ، وهذا حسبُك من رجل منطلقٌ.
ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة فتقول: هذا رجل حسبُك من رجل، فهو بمنزلة مثلك وضاربك إذا أردت النكرة.
ومما يوصَف به كلٌّ قول ابن أحمر:
وَلِهَت عليه كلُّ معصِفة ... هوجاء ليس للُبّها زَبرُ(2/111)
سمعناه ممن يرويه من العرب.
ومن قال هذا أول فارسٍ مقبلا، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول هذا أولُ الفارس، فيُدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة، فلا ينبغي له أن يصفه بالنكرة، وينبغي له أن يزعم أن درهما في قولك عشرون درهماً معرفة، فليس هذا بشيء، وإنما أرادوا من الفرسان، فحذفوا الكلام استخفافا، وجعلوا هذا يُجزِئُهم من ذلك. وقد يجوز نصبُه على نصب: هذا رجلٌ منطلقا، وهو قول عيسى.
وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبُه كنصبه في المعرفة، جعله حالا ولم يجعله وصفا.
ومثل ذلك: مررتُ برجل قائما، إذا جعلتَ الممرورَ به في حال قيامٍ. وقد يجوز على هذا: فيها رجلٌ قائما، وهو قول الخليل رحمه الله.
ومثل ذلك: عليه مائةٌ بيضا؛ والرفعُ الوجهُ. وعليه مائةٌ عينا؛ والرفعُ الوجه.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون: مررتُ بماءٍ قِعدةَ رجلٍ؛ والجر الوجهُ. وإنما كان النصب هنا بعيدا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالا حين قالوا: هذا زيد الطويل، وهذا عمرو أخوك، وألزموا(2/112)
صفة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفةَ؛ وأرادوا أن يجعلوا حالَ النكرة فيما يكون من اسمها كحال المعرفة فيما يكون من اسمها.
وزعم مَن نثق به أنه سمع رؤبةَ يقول: هذا غلامٌ لك مُقبلاً، جعله حالا ولم يجعله من اسم الأول.
واعلم أن ما كان صفة للمعرفة لا يكون حالا ينتصب انتصابَ النكرة، وذلك أنه لا يَحسُن لك أن تقول: هذا زيدٌ الطويلَ، ولا هذا زيدٌ أخاك، من قبل أنه من قال هذا فينبغي له أن يجعله صفة للنكرة، فيقول: هذا رجلٌ أخوك.
ومثل ذلك في القبح: هذا زيدٌ أسودَ الناس، وهذا زيدٌ سيدَ الناس، حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.
ولو حسُن أن يكون هذا خبرا للمعرفة لجاز أن يكون خبرا للنكرة، فتقول هذا رجلٌ سيدَ الناس، من قبل أن نصب هذا رجلٌ منطلقا كنصب هذا زيد منطلقا، فينبغي لما كان حالا للمعرفة أن يكون حالا للنكرة. فليس هكذا، ولكن ما كان صفة للنكرة جاز أن يكون حالاً(2/113)
للنكرة كما جاز حالا للمعرفة. ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالا كما تكون النكرة، فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت: هذا أخوك عبد الله، إذا كان عبد الله اسمه الذي يُعرف به. وهذا كلامٌ خبيث يوضع في غير موضعه. إنما تكون المعرفة مبنيا عليها أو مبنية على اسم أو غير اسم، وتكون صفة لمعروف لتبينه وتؤكده أن تقطعه من غيره. فإذا أردت الخبر الذي يكون حالا وقع فيه الأمر فلا تضع في موضعه الاسم الذي جُعل ليوضح المعرفة أو تبين به. فالنكرة تكون حالا وليست تكون شيئا بعينه قد عرفه المخاطَب قبل ذلك.
فهذا أمر النكرة، وهذا أمر المعرفة، فأجرِه كما أجروه، وضعْ كل شيء موضعه.
؟
باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة
وهي معرفة لا توصَف ولا تكون وصفا وذلك قولك: مررت بكلٍّ قائما، ومررتُ ببعضٍ قائما وببعضٍ جالسا. وإنما خروجهما من أن يكونا وصفين أو موصوفين، لأنه لا يحسن لك أن تقول: مررت بكلٍّ الصالحين ولا ببعضٍ الصالحين. قبُح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه، لأنه مخالف لما يضاف، شاذ منه،(2/114)
فلم يجرِ في الوصف مجراه. كما أنهم حين قالوا يا أللهُ، فخالفوا ما فيه الألف واللام، لم يصلوا ألفَه وأثبتوها.
وصار معرفة لأنه مضاف إلى معرفة، كأنك قلت: مررت بكلهم وببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه، فجاز ذلك كما جاز: لاهِ أبوك، تريد: لله أبوك، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقةَ الكلام، ولا سبيله؛ لأنه ليس من كلامهم أن يُضمروا الجار.
ومثله في الحذف: لا عليك، فحذفوا الاسم. وقال: ما فيهم يفضلك في شيء، يريد ما فيهم أحد يفضلك كما أراد لا بأس عليك أو نحوه. والشواذ في كلامهم كثيرةٌ.
ولا يكونان وصفا كما لم يكونا موصوفين، وإنما ينضعان في الابتداء أو يُبنَيان على اسم أو غير اسم.
فالابتداء نحو قوله عز وجل: " وكلٌّ أتوه داخرين ". فأما جميعٌ فيجري مجرى رجلٍ ونحوه في هذا الموضع. قال الله عز وجل: " وإنْ كلٌّ(2/115)
لَماَ جميعٌ لَدَيْناَ مُحضَرون "، وقال: أتيته والقومُ جميعٌ؛ وسمعته من العرب، أي مجتمعون.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستضعف أن يكون كلهم مبنيا على اسم أو على غير اسم، ولكنه يكون مبتدأ أو يكون كلهم صفة. فقلت: ولمَ استضعفت أن يكون مبنيا؟ فقال: لأن موضعه في الكلام أن يُعمّ به غيره من الأسماء بعدما يُذكر فيكون كلهم صفة أو مبادأ. فالمبتدأ قولك إن قومك كلهم ذاهبٌ، أو ذكر قوم فقلت: كلهم ذاهبٌ. فالمبتدأ بمنزلة الوصف؛ لأنك إنما ابتدأت بعدما ذكرت ولم تبنه على شيء فعممت به.
وقال: أكلتُ شاة كلَّ شاةٍ حسن، وأكلت كلَّ شاةٍ ضعيف؛ لأنهم لا يعمون هكذا فيما زعم الخليل رحمه الله. وذلك أن كلهم إذا وقع موقعا يكون الاسم فيه مبنيا على غيره، شُبّه بأجمعين وأنفسهم ونفسه، فألحق بهذه الحروف، لأنها إنما توصَف بها الأسماء ولا تُبنى على شيء. وذاك أن موضعها من الكلام أن يُعمّ ببعضها، ويؤكد ببعضها بعد ما يُذكر الاسم؛ إلا أن كلهم قد يجوز فيها أن تُبنى على ما قبلها، وإن كان فيها بعض الضعف؛ لأنه قد يُبتدأ به، فهو يشبه الأسماء التي تُبنى على غيرها. وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى كلهم، وأما جميعهم فقد يكون على وجهين: يوصَف به المضمَر والمظهر كما يوصَف بكلهم، ويُجرى في الوصف مجراه، ويكون في سائر ذلك بمنزلة عامتهم وجماعتهم، يُبتدأ ويُبنى على غيره؛ لأنه يكون نكرة تدخله الألف واللام، وأما كل شيء(2/116)
وكل رجل فإنما يبنيان على غيرهما؛ لأنه لا يوصَف بهما.
والذي ذكرتُ لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما يمعناه.
؟
باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة
وذلك قولك: هذا راقودٌ خَلاّ، وعليه نِحيٌ سَمناً. وإن شئت قلت راقودُ خل وراقودٌ من خل.
وإنما فررتَ إلى النصب في هذا الباب، كما فررت إلى الرفع في قولك: بصحيفةٍ طينٌ خاتَمها؛ لأن الطين اسم وليس مما يوصَف به، ولكنه جوهرٌ يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا وما أشبهه.
ومن قال: مررتُ بصحيفة طينٍ خاتَمها قال: هذا راقودٌ خلٌّ، وهذه صفّةٌ خزّ.(2/117)
وهذا قبيح أجرى على غير وجهه، ولكنه حسن أن يُبنى على المبتدأ ويكون حالا. فالحال قولك: هذه جُبّتك خَزاً. والمبنى على المبتدأ قولك: جُبتك خزّ. ولا يكون صفةًفيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل، ولكنهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجر. فأجره كما أجروه، فإنما فعلوا به ما يُفعل بالأسماء، والحال مفعولٌ فيها. والمبنى على المبتدإ بمنزلة ما ارتفع بالفعل، والجار بتلك المنزلة، يجري في الاسم مجرى الرافع والناصب.
؟
باب ما ينتصب لأنه ليس من اسم ما قبله
ولا هو هو
وذلك قولك هو ابنُ عمى دِنْياً، وهو جارى بيتَ بيتَ. فهذه أحوال قد وقع في كل واحد منها شيء. وانتصب لأن هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت: أنت الرجل عِلْماً. فالعلمُ منتصبٌ على ما فسرت لك، وعمل فيه ما قبله كما عمل عشرون في الدرهم، حين قلت عشرون درهما؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هي.
ومثل ذلك: هذا درهم وزنا. ومثل ذلك: هذا حسيب جدا. ومثل ذلك هذا عربي حسبَه. حدثنا بذلك أبو الخطاب عمن نثق به من العرب. جعله بمنزلة الدِّنْي والوزن، كأنه قال هو عربي اكتفاءً. فهذا تمثيل ولا يتكلّ به، ولزمته الإضافة كما لزمت جَهده وطاقته.
وما لم يُضَف من هذا ولم تدخله الألف واللام، فهو بمنزلة ما لم يُضَف(2/118)
فيما ذكرنا من المصادر، نحو لقيتُه كفاحا، وأتيته جهارا.
ومثل ذلك هذه عشرون مِراراً، وهذه عشرون أضعافا.
وزعم يونس أن قوما يقولون: هذه عشرون أضعافُها وهذه عشرون أضعافٌ، أي مضاعفةٌ. والنصب أكثر.
ومثل ذلك: هذا درهمٌ سواء. كأنه قال هذا درهم استواء. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. قال عز وجل: " في أربعة أيامٍ سَواءً للسائلين ". وقد قرأ ناسٌ: " في أربعةِ أيامٍ سواءٍ ". قال الخليل: جعله بمنزلة مستويات.
وتقول: هذا درهمٌ سواءٌ، كأنك قلت: هذا درهمٌ تام.(2/119)
؟
وهذا شيء ينتصب على أنه
ليس من اسم الأول ولا هو هو
وذلك قولك: هذا عربي محضا، وهذا عربي قلبا، فصار بمنزلة دِنياً وما أشبهه من المصادر وغيرها.
والرفع فيه وجه الكلام، وزعم يونس ذلك. وذلك قولك: هذا عربي محضٌ، وهذا عربي قلبٌ، كما قلت هذا عربيٌّ قُحٌّ، ولا يكون القحُّ إلا صفة.
ومما ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو، قولك: هذه مائلةٌ وزنَ سبعةٍ ونقدَ الناس، وهذه مائة ضربَ الأمير، وهذا ثوبٌ نسجَ اليمن، كأنه قال: نسجا وضربا ووزنا. وإن شئت قلت وزنُ سبعة.
قال الخليل رحمه الله: إذا جعلتَ وزنَ مصدرا نصبت، وإن جعلته اسما وصفتَ به، وشبه ذلك بالخَلق، قال: قد يكون الخلق المصدر ويكون الخلقُ المخلوق، وقد يكون الحلَب الفعل والحلَب المحلوب، فكأن الوزن ههنا اسمٌ، وكأن الضرب اسم، كما تقول رجلٌ رِضاً وامرأة عدلٌ ويومٌ غمٌّ، فيصيرُ هذا الكلام صفة. وقال: أستقبح أن أقول هذه مائة ضربُ الأمير، فأجعلَ الضرب صفة فيكون نكرةً وُصفت(2/120)
بمعرفة، ولكن أرفعه على الابتداء، كأنه قيل له ما هي؟ فقال: ضربُ الأمير. فإن قال: ضربُ أمير حَسنت الصفة؛ لأن النكرة توصف بالنكرة.
واعلم أن جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على انه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسما لم تستطع أن تبنى عليه شيئا مما انتصب في هذا الباب؛ لأنه جرى في كلام العرب أنه ليس منه ولا هو هو. لو قلتَ ابنُ عمي دنْيٌ وعربيٌ جِدٌ، لم يجز ذلك، فإذا لم يجز أن يُبنى على المبتدإ فهو من الصفة أبعد؛ لأن هذه الأجناس التي يضاف إليها ما هو منها ومن جوهرها ولا تكون صفة، وقد تُبنى على المبتدإ كقولك: خاتمك فضة، ولا تكون صفة.
فما انتصب في هذا الباب فهو مصدر أو غير مصدر قد جُعل بمنزلة المصدر، وانتصب من وجهٍ واحد.
واعلم أن الشيء يوصَف بالشيء الذي هو هو وهو من اسمه، وذلك قولك: هذا زيدٌ الطويل. ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك: هذا زيدٌ ذاهبا. ويوصَف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه، كقولك: هذا درهم وزنا، لا يكون إلا نصبا.(2/121)
؟
هذا باب
ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده
ويبنى على ما قبله
وذلك قولك هذا قائما رجل، وفيها قائما رجلٌ. لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقُبح أن تقول: فيها قائمٌ، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت القائم حالا وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.
ولو حسُن أن تقول: فيها قائم لجاز فيها قائم رجلٌ، لا على الصفة، ولكنه كأنه لما قال فيها قائم، قيل له مَن هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.
وحُمل هذا النصب على جواز فيها رجلٌ قائما، وصار حين أخر وجه الكلام، فرارا من القبح. قال ذون الرمة:(2/122)
وتَحْتَ العّوالِى في القَناَ مستِظلةً ... ظِباءٌ أعارتُها العيونَ الجآذرُ
وقال الآخر:
وبالجِسْم مِنِّي بَيِّناً لو علمْتِه ... شُحوبٌ وإنْ تَستشهِدِى العينَ تشهدِ
وقال كُثيّر: لمَيَّةَ موحِشاً طللُ(2/123)
وهذا كلامٌ أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام.
واعلم أنه لا يقال قائما فيها رجلٌ. فإن قال قائل: أجعله بمنزلة راكبا مر زيدٌ، وراكبا مر الرجلُ، قيل له: فإنه مثله في القياس، لأن فيها بمنزلة مر، ولكنهم كرهوا ذلك فيما لم يكن من الفعل، لأن فيها وأخواتها لا يتصرفن تصرف الفعل، وليس بفعل، ولكنهن أنزلن منزلة ما يستغنى به الاسم من الفعل. فأجرِه كما أجرته العرب واستحسنتْ.
ومن ثم صار مررت قائما برجل لا يجوز، لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حسن هذا لحسن قائما هذا رجل.
فإن قال: أقول مررت بقائما رجل، فهذا أخبث، من قبل أنه لا يُفصل بين الجار والمجرور، ومن ثم أُسقط رُبّ قائما رجلٍ. فهذا كلام قبيح ضعيف؛ فاعرفْ قبحه، فإن إعرابه يسير. ولو استحسناه لقلنا هو بمنزلة فيها قائما رجل، ولكن معرفة قبحه أمثل من إعرابه.
وأما بك مأخوذٌ زيد فإنه لا يكون إلا رفعا، من قبل أن بك لا تكون مستقرا لرجل. ويدلك على ذلك أنه لا يستغنى عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم منطلقٌ زيدٌ، واليومَ قائمٌ زيد.
وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة مأخوذ زيد. وتأخير الخبر على الابتداء أقوى، لأنه عاملٌ فيه.
ومثل ذلك: عليك نازلٌ زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد، وأنت تريد النزول، لم يكن كلاماً.(2/124)
وتقول: عليك أميرا زيد، لأنه لو قال عليك زيد وهو يريد الإمرةَ كان حسنا. وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر، لأنه ليس بفعل. وكلما تقدم كان أضعف له وأبعد، فمن ثم لم يقولوا قائما فيها رجل، ولم يحسن حُسن: فيها قائما رجلٌ.
؟ باب ما يثنى فيه المستقر توكيدا
وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية، ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنى.
وذلك قولك: فيها زيد قائما فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد بفيها. وإن زعمتَ أنه انتصب بالآخِر فكأنك قلت: زيد قائما فيها. فإنما هذا كقولك قد ثبت زيد أميرا قد ثبت، فأعدتَ قد ثبت توكيدا، وقد عمل الأول في زيد وفي الأمير.
ومثله في التوكيد والتثنية: لقيتُ عمرا عمرا.
فإن أردتَ أن تُلغي فيها قلت فيها زيدٌ قائم فيها، كأنه قال زيد قائم فيها فيها، فيصير بمنزلة قولك فيك زيدٌ راغبٌ فيك.(2/125)
وتقول في النكرة: في دارك رجلٌ قائم فيها، فتجرى قائم على الصفة.
وإن شئت قلت: فيها رجل قائما فيها على الجواز، كما يجوز فيها رجلٌ قائما. وإن شئت قلت أخوك في الدار ساكنٌ فيها، فتجعل فيها صفة للساكن.
ولو كانت التثنية تنصب لنصبتْ في قولك: عليك زيدٌ حريص عليك، ونحو هذا مما لا يُستغنى به.
فإن قلت: قد جاء: " وأَمَّا الَّذِينَ سَعِدوا ففي الجثّة خالدِينَ فِيهَا " فهو مثل " إن المتقين في جنات وعُيون. آخذين " وفي آية أخر: " فاكهين ".
؟
هذا باب الابتداء
فالمبتدأ كل اسم ابتُدى ليُبنى عليه كلامٌ. والمبتدأ والمبنى عليه رفعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبنى عليه. فالمبتدأ الأول والمبنى ما بعده عليه فهو مسنَد ومسنَد إليه.(2/126)
واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنى عليه شيئا هو هو، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يُذكر كل واحدٍ منها بعد ما يُبتدأ.
فأما الذي يُبنى عليه شيء هو هو فإن المبنى عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق؛ ارتفع عبد الله لأنه ذُكر ليُبنى عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبنى على المبتدأ بمنزلته.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستقبح أن يقول قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائما مقدَّماً مبنيا على المبتدإ، كما تؤخر وتقدم فتقول: ضرب زيدا عمرٌو، وعمرٌو على ضرب مرتفع. وكان الحد أن يكون مقدَّماً ويكون زيد مؤخرا. وكذلك هذا، الحد فيه أن يكون الابتداء فيه مقدَّماً. وهذا عربي جيد. وذلك قولك تميميٌّ أنا، ومَشنوءٌ مَن يشنَؤك، ورجلٌ عبدُ الله، وخزٌّ صُفّتك.
فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقوله يقوم زيدٌ وقام زيد قبح، لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجرى مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه؛ كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول: هذا ضاربٌ زيدا وأنا ضارب زيدا ولا يكون ضاربٌ زيدا على ضربتُ زيدا وضربت عمرا.(2/127)
فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجرى مجرى الفعل المبتدإ، وليكون بين الفعل والاسم فصيل وإن كان موافقا له في مواضع كثيرة؛ فقد يوافق الشيء الشيءَ ثم يخالفه، لأنه ليس مثله.
وقد كتبنا ذلك فيما مضى، وسنراه فيما يُستقبل إن شاء الله.
؟
باب ما يقع موقع الاسم المبتدإ ويسد مسده
لأنه مستقَرٌّ لما بعد وموضع، والذي عمل فيما بعده حتى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله؛ ولكن كلُّ واحد منهما لا يُستغنى به عن صاحبه، فلما جُمعا استغنى عليهما السكوت، حتى صارا في الاستغناء كقولك: هذا عبد الله.
وذلك قولك: فيها عبد الله. ومثله: ثمَّ زيدٌ، وههنا عمرٌو، وأين زيدٌ، وكيف عبد الله، وما أشبه ذلك.
فمعنى أين في: أي مكان، وكيف: على أية حال. وهذا لا يكون إلا مبدوءا به قبل الاسم؛ لأنها من حروف الاستفهام، فشُبّهت بهل وألف الاستفهام؛ لأنهن يستغنين عن الألف، ولا يكنَّ كذا إلا استفهاماً.(2/128)
؟ باب من الابتداء يُضمَر فيه
ما يُبنى على الابتداء وذلك قولك: لولا عبد الله لكان كذا وكذا.
أما لكان كذا وكذا فحديثٌ معلّقٌ بحديث لولا. وأما عبد الله فإنه منحديث لولا، وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام، كقولك: أزيدٌ أخوك، إنما رفعتَه على ما رفعتَ عليه زيدٌ أخوك. غير أن ذلك استخبارٌ وهذا خبرٌ. وكأن المبنى عليه الذي في الإضمار كان في مكان كذا وكذا، فكأنه قال: لولا عبد الله كان بذلك المكان، ولوا القتال كان في زمان كذا وكذا، ولكن هذا حُذف حين كثُر استعمالُهم إياه في الكلام كما حُذف الكلام من إمالا، زعم الخليل رحمه الله أنهم أرادوا إن كنت لا تفعل غيره فافعلْ كذا وكذا إمالا، ولكنهم حذفوه لكثرته في الكلام.
ومثل ذلك حينئذ، الآن، إنما تريد: واسمع الآن. وما أغفلَه عنك، شيئاً، أي دعِ الشكّ عنه؛ فحُذف هذا لكثرة استعمالهم.(2/129)
وما حُذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير. ومن ذلك: هل من طعام؟ أي هل من طعام في زمان أو مكان، وإنما يريد: هل طعامٌ، فمِن طعامٍ في موضع طعامٌ، كما كان ما أتاني من رجل في موضع ما أتاني رجلٌ. ومثله جوابه: ما من طعام.
؟ بابٌ يكون المبتدأ فيه مُضمَراً
ويكون المبنى عليه مظهَراً وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص فقلت: عبد الله وربي، كأنك قلت: ذاك عبد الله، أو هذا عبد الله. أو سمعتَ صوتا فعرفتَ صاحبَ الصوت فصار آية لك على معرفته فقلت: زيد وربى. أو مسِسْتَ جسدا أو شممت ريحا فقلت: زيد، أو المِسك. أو ذقتَ طعاما فقلت: العسل.
ولو حُدِّثتَ عن شمائل رجلٍ فصار آية لك على معرفته لقلت: عبد الله. كأن رجلا قال: مررتُ برجل راحم للمساكين بارٍّ بوالديه، فقلت: فلان واللهِ.(2/130)
؟
هذا باب الحروف الخمسة
التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده
وهي من الفعل يمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، لا تصَرَّف تصرُّف الأفعال كما ان عشرين لا تصرف تصرف الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال بمنزلة الأسماء التي أُخذت من الأفعال وشُبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهما لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حُمل العشرون عليه، ولكنه واحد بين به العدد فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا ضاربٌ زيدا، لأن زيدا ليس من صفة الضارب، ولا محمولا على ما حُمل عليه الضارب.
وكذلك هذه الحروف، منزلتها من الأفعال. وهي أنّ، ولكن، وليت، ولعل، وكأن.
وذلك قولك: إن زيدا منطلقٌ، وإن عمرا مسافرٌ، وإن زيدا أخوك. وكذلك أخواتها.
وزعم الخليل أنها عملت عملين: الرفعَ والنصب، كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت: كان أخاك زيدٌ. إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبدَ الله، تريد كأن عبدَ الله أخوك، لأنها لا تصرف تصرف الأفعال، ولا يضمَر فيها المرفوع كما يضمَر في كان. فمن ثم فرقوا بينهما كما فرقوا بين ليس وما، فلم يجروها مجراها، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال.
وتقول: إن زيدا الظريف منطلق، فإن لم يُذكر المنطلق صار الظريف(2/131)
في موضع الخبر كما قلت: كان زيد الظريف ذاهبا، فلما لم تجئ بالذاهب قلت: كان زيدٌ الظريفَ، فنصب هذا في كان بمنزلة رفع الأول في أن وأخواتها.
وتقول: إن فيها زيدا قائما، وإن شئت رفعت على إلغاء فيها، وإن شئت قلت: إن زيدا فيها قائما وقائمٌ. وتفسير نصب القائم ههنا ورفعه كتفسيره في الابتداء، وعبد الله ينتصب بإن كما ارتفع ثم بالابتداء، إلا أن فيها ههنا بمنزلة هذا في انه يستغنى على ما بعدها السكوت، وتقع موقعه. وليست فيها بنفس عبد الله كما كان هذا نفسَ عبد الله، وإنما هي ظرفٌ لا تعمل فيها إن، بمنزلة خلفَك، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه.
وقد يقع الشيء موقع الشيء وليس إعرابه كإعرابه، وذلك قولك: مررت برجل يقول ذاك، فيقول في موضع قائل، وليس إعرابه كإعرابه.
وتقول: إن بك زيدا مأخوذ، وإن لك زيدا واقفٌ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرين لعبد الله، ولا موضعين. ألا ترى أن السكوت لا يستغنى على عبد الله إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف.
ومثل ذلك: إن فيك زيدا لراغب. قال الشاعر:(2/132)
فلا تلْحِني فيها فإن بحبّها ... أخاكَ مُصابُ الثلب جمٌّ بلابِلُهْ
كأنك أردت: إن زيدا راغبٌ، وإن زيدا مأخوذٌ، ولم تذكر فيك ولا بكَ، فألغيتا ههنا كما أُلغيتا في الابتداء. ولو نصبت هذا لقلت إن اليوم زيدا منطلقا، ولكن تقول إن اليوم زيدا منطلق، وتُلغي اليومَ كما ألغيتَه في الابتداء.
وتقول: إن اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، من قبل أن إن عملت في اليوم، فصار كقولك: إن عمرا فيه زيدٌ متكلم. ويدلك على أن اليوم قد عملت فيه إن، أنك تقول اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، فترفع بالإبتداء، فكذلك تنصب بأن.
وتقول: إن زيدا لفيها قائما، وإن شئت ألغيتَ لفيها، كأنك قلت: إن زيدا لقائم فيها. ويدلك على أن لفيها يُلغى أنك تقول إن زيدا(2/133)
لَبك مأخوذ. قال الشاعر، وهو أبو زُبيد الطائي:
إنّ اَمْرَأَ خَصِني عًمْداً مودّتَه ... على التَّنائى لَعندي غيرُ مكفورِ
فلما دخلت اللام فيما لا يكون إلا لغوا عرفنا أنه يجوز في فيها، ويكون لغوا لأن فيها قد تكون لغوا.
وإذا قلت: إن زيدا فيها لقائمٌ، فليس إلا الرفع، لأن الكلام محمول على إن، واللام تدل على ذلك، ولو جاز النصبُ ههنا لجاز فيها زيدٌ لقائماً في الابتداء. ومثله: إن فيها زيدا لقائمٌ.
وروى الخليل رحمه الله أن ناسا يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذ، فقال: هذا على قوله إنه بك زيدٌ مأخوذ، وشبّه بما يجوز في الشعر، نحو قوله، وهو ابن صريم اليشكري:
ويوماً تُوافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ(2/134)
وقال الآخر:
ووجهٌ مشرقُ النحرِ ... كأنْ ثدياهُ حُقّانِ
لأنه لا يحسن ههنا إلاّ الإضمار.
وزعم الخليل أنَّ هذا يشبه قول من قال: وهو الفرزدق:(2/135)
فلو كنتَ ضبِّياً عرفتَ قرابِتي ... ولكِنَّ زَنجيّ عظيمُ المشافرِ
والنصب أكثر في كلام العرب، كأنه قال: ولكن زنجيا عظيمَ المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا كما يُضمر ما بنى على الابتداء نحو قوله عز وجل: " طاعةٌ وقولٌ معروفٌ "، أي طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الشاعر:
فما كنتُ ضَفّاطاً ولكنّ طالباً ... أناخ قليلاً فوقَ ظَهْرِ سبيلِ
أي ولكن طالبا منيخا أنا.
فالنصب أجود؛ لأنه لو أراد إضمارا لخفف، ولجعل المضمَر مبتدأ كقولك: ما أنت صالحا ولكنْ طالحٌ.
ورفعه على قوله ولكنّ زَنْجِىٌّ.(2/136)
وأما قول الأعشى:
في فتيةٍ كسُيوفِ الهِنْدِ قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَن يحفى وينتعلُ
فإن هذا على إضمار الهاء، لم يحذفوا لأنْ يكون الحذف يُدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكن، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف علَماً لحذف الإضمار في إن، كما فعلوا ذلك في كأن.
وأما ليتما زيدا منطلقٌ فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة ابن العجاج ينشد هذا البيت رفعا، وهو قول النابغة الذبياني:
قالت ألاَ لَيْتَمَا هذا الحمامُ لنا ... إلى حمامتنا ونصفُ فقدِ(2/137)
فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: مثلا ما بَعوضةٌ، أو يكون بمنزلة قوله: إنما زيدٌ منطلقٌ.
وأما لعلما فهو بمنزلة كأنما. وقال الشاعر، وهو ابن كُراع:
تحلّلْ وعالجْ ذاتَ نفِسكَ وانظُرَنْ ... أيا جُعَلٍ لَعَلَّمَا أنت حالِمُ
وقال الخليل: إنما لا تعمل فيما بعدها، كما أن أرى إذا كانت لغوا لم تعمل، فجعلوا هذا نظيرها من الفعل. كما كان نظيرَ إن من الفعل ما يعمل.
ونظيرُ إنما قول الشاعر، وهو المرار الفَقْعَسي:(2/138)
أعَلاقةً أمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَما ... أفنانُ رأسكَ كالثَّغَام المُخْلِسِ
جعل بعد مع ما بمنزلة حرفٍ واحد، وابتدأ ما بعده.
واعلم أنهم يقولون: إن زيدٌ لذاهبٌ، وإنْ عمرٌو لخيرٌ منك، لما خففها جعلها بمنزلة لكنْ حين خففها، وألزمها اللام لئلا تلتبس بإن التي هي بمنزلة ما التي تنفى بها.
ومثل ذلك: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظٌ "، إنما هي لَعلَيهْا حافظٌ.
وقال تعالى: " وإنْ كلُّ لَما جميعٌ لدينا مُحضَرون " إنما هي: لجميعٌ، وما لغوٌ.(2/139)
وقال تعالى: " وإنْ وجدنا أكثرَهم لَفاسقين "، " وإنْ نظنك لمِن الكاذبين ".
وحدثنا من نثق به، أنه سمع من العرب من يقول: إن عمرا لَمنطلقٌ. وأهل المدينة يقرءون: " وإنْ كُلاً لَما لَيوفينّهم ربُّك أعمالَهم " يخففون وينصبون، كما قالوا: كأنْ ثدْيَيهْ حُقّانِ وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حُذف من نفسه شيء لم يغيَّر عملُه كما لم يغيَّر عملُ لم يكُ ولم أُبَل حين حُذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء حين حذفوا كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضموا إليها ما.(2/140)
؟
هذا باب
ما يَحسن عليه السكوتُ في هذه الأحرف
الخمسة
لإضمارك ما يكون مستقَرّاً لها وموضعا لو أظهرته، وليس هذا المضمَر بنفس المظهر. وذلك: إن مالا وإن ولدا وإن عددا، أي إن لهم مالا. فالذي أضمرت لَهُمْ.
ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ إن الناس ألْبٌ عليكم، فيقول: إن زيدا، وإن عمرا، أي إن لنا. وقال الأعشى:
إنّ مَحَلاًّ وإنّ مُرتحَلاً ... وإنَّ في السّفْر ما مَضَى مَهَلا
وتقول: إن غيرها إبلا وشاء كأنه قال: إن لنا غيرَها إبلا وشاء، أو عندنا غيرَها إبلا وشاء. فالذي تضمِر هذا النحو وما أشبهه. وانتصب الإبلُ والشاء كانتصاب فارسٍ إذا قلت: ما في الناس مثلُه فارسا.(2/141)
ومثل ذلك قول الشاعر: يا ليتَ أيامَ الصِّبَا رَواجِعَا فهذا كقوله: ألا ماء باردا، كأنه قال: ألا ماء لنا مارداً، وكأنه قال: يا ليت لنا أيام الصبا، وكأنه قال: يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجعَ.
وتقول: إن قريبا منك زيدا، إذا جعلت قريباً منك موضعه. وإذا قلت جعلت الأول هو الآخِر قلت: إن قريبا منك زيدٌ.
وتقول: إن قريبا منك زيدٌ، والوجهُ إذا أردتَ هذا أن تقول: إن زيدا قريبٌ منك أو بعيد منك، لأنه اجتمع معرفةٌ ونكرة. وقال امرؤ القيس:
وإنّ شِفاءَ عَبرَةٌ مُهراقةٌ ... فهل عند رَسمٍ دارِسٍ من مُعَوَّلِ(2/142)
فهذا أحسن لأنهما نكرة.
وإن شئت قلت: إن بعيدا منك زيدا. وقلما يكون بعيدا منك ظرفا وإنما قل هذا لأنك لا تقول إن بُعدَك زيدا وتقول إن قربَك زيد. فالدنو أشدُّ تمكينا في الظرف من البُعد.
وزعم يونُس أن العرب تقول: إن بدلَك زيدا، أي إن مكانك زيدا. والدليل على هذا قول العرب: هذا لك بدلَ هذا، أي هذا لك مكان هذا. وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إن بدلَك زيدٌ، أي إن بديلَك زيدٌ.
وتقول: إن ألفا في دراهمك بيضٌ، وإن في دراهمك ألفا بيضٌ. فهذا يجرى مجرى النكرة في كان وليس؛ لأن المخاطَب يحتاج إلى أن تُعلمه ههنا كما يحتاج إلى أن تعلمه في قولك ما كان أحدٌ فيها خيرا منك. وإن شئت جعلت فيها مستقرا وجعلت البيض صفة.
واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هنا، مثلُه في باب كان، ومثل ذلك قولك: إن أسدا في الطريق رابضا، وإن بالطريق أسدا رابضٌ. وإن شئت جعلت بالطريق مستقرا ثم وصفتَه بالرابض، فهذا يجرى هنا مجرى ما ذكرتُ من النكرة في باب كان.(2/143)
؟ باب ما يكون محمولا على إن
فيشاركه فيه الاسم الذي ولِيها ويكون محمولا على الابتداء
فأما ما حُمل على الابتداء فقولك: إن زيدا ظريفٌ وعمرٌو، وإن زيدا منطلقٌ وسعيدٌ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين، فأحدُ الوجهين حسنٌ، والآخر ضعيف.
فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء، لأن معنى إن زيدا منطلقٌ، زيدٌ منطلق، وإن دخلتْ توكيدا، كأنه قال: زيدٌ منطلق وعمرو. وفي القرآن مثله: " إنَّ الله بَرَئٌ مِنَ المُشْرِكينَ ورسولُه ".
واما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضمَر في المنطلق والظريف، فإن أردتَ ذلك فأحسنه أن تقول: منطلقٌ هو وعمرٌو، وإن زيدا ظريفٌ هو وعمرو.
وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت: إن زيدا منطلقٌ وعمرا ظريفٌ، فحملته على قوله عز وجل: " وَلَوْ أَنَّ ماَ فِى الأَرْضِ مِنْ شجرةٍ أقلامٌ والبحرَ يمدُّه مِنْ بَعْدِهِ سبعةُ أبحُرٍ ". وقد رفعه قومٌ على قولك: لو ضربتَ عبدَ الله وزيدٌ قائم ما ضرك، أي لو ضربت عبد الله وزيدٌ في هذه الحال، كأنه قال: ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلامٌ والبحر هذا أمره، ما نفدت كلمات الله.(2/144)
وقال الراجز، وهو رؤبة بن العجاج:
إنَّ الربيعَ الجوْدَ والخَريفاَ ... يَدا أبى العبّاس والصُّيوفَا
ولكن المثقلة في جميع الكلام بمنزلة إن.
وإذا قلت إن زيدا فيها وعمرٌو، جرى عمرٌو بعد فيها مجراه بعد الظريف؛ لأن فيها في موضع الظريف، وفي فيها إضمار. ألا ترى أنك تقول: إن قومك فيها أجمعون، وإن قومك فيها كلهم، كما تقول: إن قومك عرب أجمعون وفي فيها اسمٌ مضمَر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون. وقال جرير:
إن الخِلافةَ والنُّبوَّةَ فيهمُ ... والمَكرُمات وسادةٌ أطهارُ(2/145)
وإذا قلت: إن زيدا فيها، وإن زيدا يقول ذاك، ثم قلت نفسه، فالنصب أحسن. وإن أردت أن تحمله على المضمَر فعلى: هو نفسه.
وإذا قلت إن زيدا منطلقٌ لا عمرٌو، فتفسيره كتفسيره مع الواو. وإذا نصبتَ فتفسيرة كنصبة مع الواو، وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ لا عمراً.
واعلم أن لعل وكأن وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في أن، إلا أنه لا يُرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار الناس ليتَ زيدا منطلقٌ وعمرا وقَبُح عندهم أن يحملوا عمرا على المضمر حتى يقولوا هو، ولم تكن ليت واجبة ولا لعل ولا كأن، فقبح عندهم أن يُدخلوا الواجب في موضع التمنى فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه بمنزلة إن.
ولكن بمنزلة إن.
وتقول: إن زيدا فيها لا بل عمرٌو. وإن شئت نصبت. ولا بلْ تجرى مجرى الواو ولا.(2/146)
؟ باب ما تستوي فيه الحروفُ الخمسة
وذلك قولك: إن زيدا منطلق العاقلُ اللبيبُ. فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين: على الاسم المضمَر في منطلق، كأنه بدلٌ منه، فيصير كقولك: مررت به زيدٌ إذا أردت جوابَ بمن مررتَ. فكأنه قيل له: من ينطلق؟ فقال: زيدٌ العاقلُ اللبيب. وإن شاء رفعه على: مررتُ به زيدٌ، إذا كان جوابَ مَن هو؟ فنقول: زيد، كأنه قيل له: مَن هو؟ فقال: العاقل اللبيب.
وإن شاء نصَبَه على الاسم الأول المنصوب.
وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: " قُل إن ربي يقذف بالحق علاّمُ الغُيوب "، و " علامَ الغُيوب ".
؟ بابٌ ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة
انتصابَه إذا صار ما قبله مبنيا على الابتداء
لأن المعنى واحدٌ في أنه حالٌ، وأن ما قبله قد عمِل فيه، ومنعه الاسمُ الذي قبله أن يكون محمولا على إن. وذلك قولك: إن هذا عبدُ الله منطلقا، وقال تعالى: " إن هذه أمتُكم أمة واحدة ". وقد قرأ بعضهم: " أمتَكم(2/147)
أمةٌ وَاحِدَةٌ " حمل أمتكم على هذه، كأنه قال، إن أمتكم كلها أمةٌ واحدة.
وتقول: إن هذا الرجل منطلقٌ، فيجوز في المنطلق هنا ما جاز فيه حين قلت: هذا الرجل منطلقٌ، إلا أن الرجل هنا يكون خبرا للمنصوب وصفة له، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدأ أو خبرا له.
وكذلك إذا قلت: ليتَ هذا زيدٌ قائما، ولعل هذا زيدٌ ذاهبا، وكأن هذا بِشرٌ منطلقا. إلا أن معنى إن ولكن لأنهما واجبتان كمعنى هذا عبدُ الله منطلقا، وأنت في ليت تمناه في الحال، وفي كأن تشبّه إنسانا في حال ذهابه كما تمنيته إنسانا في حال قيام. وإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب. فلعل وأخواتها قد عملنَ فيما بعدهن عملين: الرفع والنصب، كما أنك حين قلت: ليس هذا عمراً وكان هذا بشراً، عملنا عملين، رفعتا ونصبتا، كما قلت ضربَ هذا زيدا، فزيدا ينتصب بضرب، وهذا ارتفع بضرب ثم قلت: أليس هذا زيدا منطلقا، فانتصب المنطلق لأنه حال وقع فيه الأمر، فانتصب كما انتصب في إن، وصار بمنزلة المفعول الذي تعدى إليه فعل الفاعل بعدما تعدى إلى مفعول قبله، وصار كقولك: ضرب عبد الله زيدا قائما، فهو مثله في التقدير، وليس مثله في المعنى.
وتقول: إن الذي في الدار أخوك قائما، كأنه قال: من الذي في الدار؟(2/148)
فقال: إن الذي في الدار أخوك قائما، فهو يجرى في أن ولكن في الحُسن والقُبح، مجراه في الابتداء: إنْ قبُح في الابتداء أن تذكر المنطلق قبُح ههنا، وإن حسُن أن تذكر المنطلق حسُن ههنا، وإن قبُح أن تذكر الأخ في الابتداء قبُح ههنا، لأن المعنى واحد، وهو من كلامٍ واجب.
وأما في ليت وكأن ولعل، فيجرى مجرى الأول.
ومن قال: إن هذا أخاك منطلقٌ قال: إن الذي رأيتُ أخاك ذاهبٌ. ولا يكون الأخ صفة للذي، لأن أخاك أخصُّ من الذي، ولا يكون له صفة من قبل أن زيدا لا يكون صفة لشيء.
وسألت الخليل عن قوله، وهو لرجل من بني أسد:
إن بها أكتلَ أو رِزاما ... خُوَيْرِبَين ينقُفان الهَامَا(2/149)
فزعم أن خويربين انتصبا على الشتم، ولو كان على إن لقال خُويرباً، ولكنه انتصب على الشتم، كما انتصب " حمالةَ الحطب " - " والنازلينَ بكلّ معترَكِ " على المدح والتعظيم. وقال:
أمِنْ عمل الجرّاف أمسِ وظلمه ... وعدوانه أعتَبْتُمونا براسمِ
أميرَيْ عداءٍ إنْ حَبَسْنا عليهما ... بهائمَ مالٍ أوْدَيَا بالبَهائِمِ
نصبهما على الشتم؛ لأنك إن حملت الأميرين على الإعتاب كان محالا، وذلك لأنه لا تحمل صفة الاثنين على الواحد ولا تحمل الذي جر الأعتابُ على الذي جر الظلم، فلما اختلف الجران واختلطت الصفتان صار بمنزلة(2/150)
قولك: فيها رجلٌ وقد أتاني آخرُ كريمين، ولو ابتدأ فرفع كان جيدا.
ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق:
ولكنَّني استبقيتُ أعراضَ مازنٍ ... وأيامَها من مستنيرٍ ومظلمِ
أُناساً بثغرٍ لاتزالُ رِماحُهمْ ... شوارعَ من غيرِ العشيرةِ في الدمِ
ومما ينتصب على أنه عظم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدى:
ولَمْ أرَ لَيْلَى بعد يومٍ تعرّضتْ ... لنا بين أثوَاب الطِّراف من الأدَمْ
كِلابيّةً وبرِيّةً حَبْتريّةً ... نأتْكَ وخانتْ بالمواعيد والذممْ(2/151)
أُناساً عِدّي عُلّقتُ فيهمْ وليتني ... طلبتُ الهَوَى في رأس ذي زَلَقٍ أشتمّ
وقال الآخر:
ضننْتُ بنفسى حِقْبةً ثم أصبحتْ ... لبنتِ عطاء بينُها وجميعها
ضِبابيةً مُرّيّةً حابيّةً ... مُنيفاً بنعفِ الصّيدلَين وضيعُها
فكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصبا.
ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح، أنك لو حملت الكلام على أن تجعل حالا لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفا. وليس هنا تعريفٌ ولا تنبيهٌ، ولا أراد أن يوقع شيئا في حال، لقبحه ولضعف المعنى.(2/152)
وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابنُ سعدٍ أكرمَ السَّعدْيِنا.
نصبه على الفخر.
وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيدا، على إلغاء كان، وشبهه بقول الشاعر، وهو الفرزدق:
فكيف إذا رأيتَ ديارَ قومٍ ... وجِيران لنا كانوا كرامِ
وقال: إن من أفضلهم كان رجلا يقبح؛ لأنك لو قلت إن من خيارهم رجلا، ثم سكت كان قبيحا حتى تعرّفه بشيء، أو تقول: رجلا من أمره كذا وكذا.
وقال: إن فيها كان زيد، على قولك: إنه فيها كان زيدٌ، وإلا فإنه لا يجوز أن تحمل الكلام على إن.
وقال: إن أفضلهم كان زيدٌ وإن زيدا ضربتُ، على قوله: إنه زيدا(2/153)
ضربت، وإنه كان أفضلهم زيدٌ. وهذا فيه قبحٌ، وهو ضعيف، وهو في الشعر جائز. ويجوز أيضا على: إن زيدا ضربتُه، وإن أفضلَهم كانه زيد فتنصبه على إن، وفيه قبحٌ كما كان في إن.
وسألت الخليل رحمه الله تعالى عن قوله: " ويْكأنّه لا يُفلح " وعن قوله تعالى جدّه: " ويْكأن الله " فزعم أنه ويْ مفصولةٌ من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نُبّهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم.
وأما المفسرون فقالوا: ألم تر أن الله.(2/154)
وقال القرشي، وهو زيد بن عمرو بن نُفَيل:
سَالَتَانِى الطلاقَ أنْ رَأَتاَنى ... قَلَّ مالى، وقد جِئتُمانى بنُكرِ
وَيْ كأنْ مَن يَكُنْ له نشبٌ يُح - بَبْ ومَن يَفْتَقِرْ يعِشْ عَيْشَ ضُرِّ واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان؛ وذاك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أنه قال: هم، كما قال: ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائياَ على ما ذكرتُ لك.
وأما قوله عز وجل: " والصابئون "، فعلى التقديم والتأخير، كأنه ابتدأ على قوله " والصابئون " بعدما مضى الخبر.(2/155)
وقال الشاعر، بشر بن أبى خازم:
وإلاّ فاعلَموا أنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بَقِينا فى شِقاقِ
كأنه قال: بُغاةٌ ما بقينا وأنتم.
؟ هذا باب كَمْ
اعلم أن لكَم موضعين: فأحدهما الاستفهام، وهو الحرف المستفهَم به، بمنزلة كيف وأين. والموضع الآخر: الخبر، ومعناها معنى رُبّ.
وهي تكون في الموضعين اسما فاعلا ومفعولا وظرفا، ويُبنى عليها، إلا أنها لا تصرّف تصرّف يوم وليل، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرف تحتك وخلفك، وهما موضعان بمنزلتهما، غير أنهما حروفٌ لم تتمكن في الكلام، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام. ومثل ذلك(2/156)
في الكلام كثير وقد ذكر فيما مضى، وستراه فيما يُستقبَل إن شاء الله.
أما كم في الاستفهام إذا أُعملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم يتصرف في الكلام منون، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته، ولا محمولا على ما حُمل عليه. وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.
وإذا قال لك رجل: كم لك، فقد سألك عن عدد؛ لأن كمْ إنما هي مسألة عن عدد ههنا، فعلى المجيب أن يقول: عشرون أو ما شاء، مما هو أسماءٌ لعدة. فإذا قال لك: كم لك درهما؟ أو كم درهما لك؟ ففسر ما يسأل عنه قلت عشرون درهما، فعملت كم في الدرهم عمل العشرين في الدرهم، ولك مبنية على كم.
واعلم أن كمْ تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم؛ لأن العشرين عددٌ منون وكذلك كمْ هو منون عندهم، كما أن خمسةَ عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا خمسةَ عشر درهما، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منون. وكذلك كمْ موضعها موضع اسم منون، وذهبتْ منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غيرُ متمكنين في الكلام.
وذلك أنك لو قلت: كم لك الدرهمَ، لم يجز كما لم يجز في قولك عشرون الدرهم، لأنهم إنما أرادوا عشرين من الدراهم. وهذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألفَ واللام، وصيروه إلى الواحد، وحذفوا من استخفافا كما قالوا:(2/157)
هذا أول فارس في الناس، وإنما يريدون هذا أول من الفرسان. فحُذف الكلام.
وكذلك كمْ، إنما أرادوا كم لك من الدراهم، أو كم من الدراهم لك.
وزعم أن كم درهما لك أقوى من كم لك درهما وإن كانت عربية جيدة. وذلك أن قولك العشرون لك درهما فيها قبح، ولكنها جازت في كم جوازا حسنا، لأنه كأنه صار عوضا من التمكن في الكلام، لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخَّر فاعلة ولا مفعولة. لا تقول: رأيتَ كم رجلا، وإنما تقول: كم رأيت رجلا. وتقول: كم رجلٍ أتانى، ولا تقول أتانى كم رجل. ولو قال: أتاكَ ثلاثون اليوم درهما كان قبيحا في الكلام، لأنه لا يقوى قوةَ الفاعل وليس مثل كم لما ذكرت لك. وقد قال الشاعر:
على أَنّنى بعدَ ما قد مضى ... ثلاثون للهَجْر حَولاً كَميلاً
يُذَكِّرُنِيكِ حنينُ العَجول ... ونوحُ الحماَمةِ تَدْعُو هَديلا(2/158)
وكم رجلا أتاك، أقوى من كم أتاك رجلا، وكم ههنا فاعلة. وكم رجلا ضربت، أقوى من كم ضربت رجلا، وكم ههنا مفعولة.
وتقول: كم مثله لك، وكم خيرا منه لك، وكم غيره لك، كل هذا جائز حسن؛ لأنه يجوز بعد عشرين فيما زعم يونس. تقول: كم غيره مثله لك، انتصب غير بكم وانتصب المثل لأنه صفة له.
ولم يُجز يونس والخليل رحمهما الله كم غِلماناً لك، لأنك لا تقول عشرونَ ثيابا لك، إلا على وجه لك مائةٌ بيضا، وعليك راقودٌ خَلا. فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غِلماناً، ويقبح أن تقول كم غلمانا لك؛ لأنه قبيح أن تقول: عبد الله قائما فيها، كما قبح أن تقول قائما فيها زيدٌ. وقد فسرنا ذلك في بابه.
وإذا قلت: كم عبد الله ماكثٌ، فكم أيامٌ وعبد الله فاعلٌ. وإذا قلت: كم عبد الله عندك، فكم ظرفٌ من الأيام، وليس يكون عبد الله تفسيرا للأيام لأنه ليس منها. والتفسير: كم يوما عبد الله ماكثٌ، أو كم(2/159)
شهرا عبد الله عندك، فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلا ضرب عبد الله.
فإذا قلت: كم جريبا أرضُك، فأرضك مرتفعةٌ بكَم لأنها مبتدأةٌ، والأرض مبنية عليها، وانتصب الجريب لأنه ليس بمبنى على مبتدإ، ولا مبتدإ، ولا وصف، فكأنك قلت: عشرون درهما خيرٌ من عشرة.
وإن شئت قلت: كم غلمانٌ لك؟ فتجعل غلمان في موضع خبر كمْ، وتجعل لك صفة لهم.
وسألته عن قوله: على كم جذعٍ بيتُك مبني؟ فقال: القياس النصب وهو قول عامة الناس. فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى مِن، ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفا على اللسان، وصارت على عوضا منها.
ومثل ذلك: اللهِ لا أفعل، وإذا قلت لاها الله لا أفعلِ لم يكن إلا الجر، وذلك أنه يريد لا والله، ولكنه صار ها عوضا من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.(2/160)
ومثل ذلك: اللهِ لتفعلن؟ إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجر وحذفوا، تخفيفا على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلا منه في اللفظ معاقبا.
واعلم أن كم في الخبر بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منون، يجر ما بعده إذا أُسقط التنوين، وذلك الاسم نحو مائتي درهم، فانجر الدرهم لأن التنوين ذهب ودخل فيما قبله. والمعنى معنى رُبّ، وذلك قولك: كم غلامٍ لك قد ذهب.
فإن قال قائل: ما شأنُها في الخبر صارت بمنزلة اسمٍ غير منون؟ فالجواب فيه أن تقول: جعلوها في المسألة مثل عشرين وما أشبهها، وجُعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة إلى العشرة، تجر ما بعدها، كما جرت هذه الحروف ما بعدها. فجاز ذا في كم حين اختلف الموضعان، كما جاز في الأسماء المتصرفة التي هي للعدد.
واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رُبّ، لأن المعنى واحدٌ، إلا أن كم اسمٌ ورُبّ غير اسم، بمنزلة مِنْ. والدليل عليه أن العرب تقول: كم رجلٍ أفضلُ منك، تجعله خبرَ كم. أخبرناه يونس عن أبي عمرو.
واعلم أن ناسا من العرب يُعملونها فيما بعدها في الخبر كما يُعملونها في الاستفهام، فينصبون بها كأنها اسمٌ منون. ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه رُبّ إلا أنها تنصب، لأنها منونة، ومعناها منونة وغير منونة سواءٌ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطُرّ شاعرٌ فقال ثلاثةٌ أثواباً(2/161)
كان معناه ثلاثة أثواب. وقال يزيد بن ضَبّة:
إذا عاشَ الفَتَى مائَتْينِ عامّا ... فقد ذَهَب المسرّةُ والفتاءُ
وقال الآخر:
أنعتُ عَيراً من حميرِ خَنزرَهْ ... فى كلِّ عَيرٍ مائَتانِ كَمَرَهْ
وبعض العرب ينشد قول الفرزدق:
كم عَمّةً لكَ يا جريرُ وخالة ... فَدْعاءَ قد حلبتْ على عِشاري
وهم كثيرٌ، فمنهم الفرزدق والبيت له.
وقد قال بعضهم: كم على كل حال منونة، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا مِن كما جاز لهم أن يضمروا رُبّ.
وزعم الخليل أن قولهم: لاهِ أبوك ولقيتُه أمس، إنما هو على: لله(2/162)
أبوك، ولقيته أمس، ولكنهم حذفوا الجار والألف واللام تخفيفا على اللسان، وليس كل جار يضمَر؛ لأن المجرور داخلٌ في الجار، فصارا عندهم بمنزلة حرفٍ واحد، فمن ثم قبُح، ولكنهم قد يُضمِرونه ويحذفونه فيما كثر من كلامهم، لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعمالَه أحوج. وقال الشاعر العَنبري:
وجدّاءَ ما يُرجى بها ذو قرابةٍ ... لعطفٍ وما يَخشى السُّماةَ رَبيبُها
وقال امرؤ القيس:
ومثلِك بِكراً قد طرقتُ وثَيّباً ... فألهيتُها عن ذى تمائمَ مُغيَلِ(2/163)
أى رب مثلك. ومن العرب من ينصبه على الفعل.
وقال الشاعر:
ومثلَك رَهْبى قد تركتُ رَذيّةً ... تُقَلِّبُ عيَنيْها إذا مَرَّ طائرُ
سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.
والتفسير الأول في كمْ أقوى؛ لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذ إذا كان له وجهٌ جيد.
ولا يقوى قول الخليل في أمس، لأنك تقول ذهب أمس بما فيه.
وقال: إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء، استغنى عليه السكوت أو لم يستغن، فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منون، لأنه قبيحٌ أن تفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجار، فصارا كأنهما كلمة واحدة. والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضاربٌ بك زيدا، ولا تقول: هذا ضاربُ بك زيدٍ. وقال زهير:(2/164)
تؤمُّ سناناً وكم دونَه ... من الأرض مُدودباً غارُها
وقال القطامى:
كَمْ نالَني منهمُ فَضْلاً على عدمٍ ... إذ لا أكادُ من الإقتارِ أحتملُ
وإن شاء رفع فجعل كمِ المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل بنالَني، فصار كقولك: كم قد أتانى زيدٌ، فزيد فاعلٌ وكم مفعول فيها، وهي المرار التي أتاه فيها، وليس زيدٌ من المرار. وقد قال بعض العرب:(2/165)
كم عمّةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلَبتْ علىَّ عِشارِى
فجعل كم مرارا، كأنه قال: كم مرة قد حلبت عشارى على عماتك. وقال ذو الرمة، ففصل بين الجار والمجرور:
كأنّ أصواتَ، مِن أيغالِهنّ بنا، ... أواخِرِ الميسِ أصواتُ الفراريجِ
وقال الآخر:
فكم قد فاتَني بطلٌ كميٌّ ... وياسرُ فتيةٍ سمحٌ هَضومُ
وقد يجوز في الشعر أن تجر وبينها وبين الاسم حاجزٌ، فتقول: كم فيها رجلٍ، كما قال الأعشى:
إلاّ عُلالةَ أو بُدا ... هةَ قارحٍ نهدِ الجُزارَهْ
فإن قال قائلٌ: أضمر مِن بعد فيها. قيل له: ليس في كل موضع يضمر الجار، ومع ذلك إن وقوعها بعد كم أكثر. وقد يجوز في الشعر(2/166)
أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجز، على قول الشاعر:
كم بجودٍ مقرفٌ نال العُلى ... وكريمٌ بخلُه قد وضَعهْ
الجر والرفع والنصب على ما فسّرناه، كما قال:
كم فهيم ملكٍ أغرَّ وسوقةٍ ... حكمٍ بأرديةِ المَكارمِ مُحتبى(2/167)
وقال:
كم في سعدِ بن بَكْر سيدٍ ... ضخمِ الدَّسيعِة ماجدٍ نفّاعِ
وتقول: كم قد أتانى لا رجلٌ ولا رجلان، وكم عبد لك لا عبدٌ ولا عبدان. فهذا محمول على ما حُمل عليه كم لا على ما تعمل فيه كم، كأنك قلت: لا رجلٌ أتانى ولا رجلان، ولا عبدٌ لك ولا عبدان. وذاك لأن كم تفسر ما وقعتْ عليه من العدد بالواحد المنكور، كما قلت عشرون درهما، او بجميع منكور، نحو ثلاثة أثواب. وهذا جائزٌ في التي تقع في الخبر. فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.
ولو قلت: كم لا رجلا ولا رجلين، في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز، لأنه ليس هكذا تفسيرُ العدد، ولو جاز ذا لقلت: له عشرون لا عبدا ولا عبدين، فلا رجلٌ ولا رجلان توكيدٌ لكم لا للذي عمل فيه، لأنه لو كان عليه كان محالاً، وكان نقضاً.
ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبدا؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبُدٍ،(2/168)
حمل الكلام على ما حمل عليه كم، ولم يُرد السائل من المسئول أن يفسر له العدد الذي يسأل عنه، إنما على السائل أن يفسر العدد حتى يجيبه المسئول عن العدد، ثم يفسره بعد إن شاء، فيعمل في الذي يفسر به العدد كما أعمل السائل كم في العبد، ولو أراد المسئول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على كم، كان قد أحال، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله: كم عبدا فيصير سائلا.
ومع ذلك أنه لا يجوز لك أن تُعمل كم وهي مضمرة في واحدٍ من الموضعين، لأنه ليس بفعل ولا اسم أُخذ من الفعل، ألا ترى أنه إذا قال المسئول عبدين أو ثلاثة أعبدٍ فنصب على كم، أنه قد أضمر كم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: كم غلاما لك ذاهبٌ؟ تجعل لك صفة للغلام، وذاهبا خبرا لكم.(2/169)
ومن ذلك أن تقول: كم منكم شاهدٌ على فلان، إذا جعلت شاهدا خبرا لكم، وكذلك هو في الخبر أيضا، تقول: كم مأخوذٌ بك، إذا أردت أن تجعل مأخوذا بك في موضع لك إذا قلت: كم لك؛ لأن لك لا تعمل فيه كم، ولكنه مبنيٌّ عليها، كأنك قلت كم رجلٍ لك وإن كان المعنيان مختلفين، لأن معنى كم مأخوذٌ بك؛ غير معنى كم رجلٍ لك، ولا يجوز في رُبّ ذلك، لأن كم اسمٌ ورب غير اسم، فلا يجوز أن تقول رُبّ رجلٌ لك.
؟
هذا باب
ما جرى مجرى كم في الاستفهام
وذلك قولك: له كذا وكذا درهما، وهو مبهمُ في الأشياء بمنزلة كم، وهو كنايةٌ للعدد، بمنزلة فلان إذا كنيتَ به في الأسماء، وكقولك: كان من الأمر ذَيّةَ وذيةَ، وذيتَ وذيتَ، وكيتَ وكيتَ. صار ذا بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.
وكذلك كأيّنْ رجلا قد رأيتُ، زعم ذلك يونس، وكأين قد أتانى رجلا. إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع مع مِن؟ قال عز وجل: " وكأيّنْ مِن قريةٍ ". وقال عمرو بن شأس:
وكائنْ رَدَدْنَا عنكمُ مِن مُدجِجٍ ... يجيء أَمامَ الألفِ يَردي مُقنّعا(2/170)
فإنما ألزموها مِن لأنها توكيد، فجُعلت كأنها شيء يتم به الكلام، وصار كالمثل. ومثل ذلك: ولاسيما زيدٍ، فرب توكيدٍ لازمٌ حتى يصير كأنه من الكلمة.
وكأيّنْ معناها معنى رُبّ. وإن حذفتَ مِن وما فعربى.
وقال: إن جرها أحدٌ من العرب فعسى أن يجرها بإضمار مِن كما جاز ذلك فيما ذكرنا في كم.
وقال: كذا وكأين عملتا فيما بعدهما كعمل أفضلهم في رجل حين قلت: أفضلُهم رجلا، فصار أيٌّ وذا بمنزلة التنوين، كما كان هُم بمنزلة التنوين.
وقال الخليل رحمه الله كأنهم قالوا: له كالعدد درهما، وكالعدد من قرية. فهذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلّم به.
وإنما تجيء الكاف للتشبيه، فتصير وما بعدها بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولُك: كأن، أدخلتَ الكاف على أن للتشبيه.(2/171)
؟
هذا باب ما ينصب نصب كم
إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام
وذلك ما كان من المقادير، وذلك قولك: ما في السماء موضع كف سحابا، ولى مثلُه عبدا، وما في الناس مثلُه فارسا، وعليها مثلُها زُبداً.
وذلك أنك أردت أن تقول: لي مثلُه من العبيد، ولى مِلؤه من العسل، وما في السماء موضع كف من السحاب، فحذف ذلك تخفيفا كما حذفه من عشرين حين قال: عشرون درهما، وصارت الأسماء المضافُ إليها المجرورةُ بمنزلة التنوين، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولا على ما حُملت عليه، فانتصب بملءِ كف ومثلِه، كما انتصب الدرهم بالعشرين؛ لأن مثل بمنزلة عشرين، والمجرور بمنزلة التنوين، لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.
وزعم الخليل رحمه الله أن المجرور بدلٌ من التنوين، ومع ذلك أنك إذا قلت لي مثلُه فقد أبهمتَ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع، فإذا قلت درهما فقد اختصصتَ نوعا، وبه يُعرَفُ من أي نوع ذلك العدد. فكذلك مثلُه هو مبهَم يقع على أنواع: على الشجاعة، والفروسة، والعبيد. فإذا قال عبدا فقد بين من أي أنواع المِثلُ. والعبدُ ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل، فاستخرج على المقدار نوعا، والنوع هو المِثل ولكنه ليس من اسمه، والدرهم ليس من العشرين(2/172)
ولا من اسمه، ولكنه ينصب كما تنصب العشرون، ويُحذف من النوع كما يُحذف من نوع العشرين، والمعنى مختلف.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دَيناً، الشَّعر مقدارٌ. وكذلك: لي ملء الدار خيرا منك، ولي خيرٌ منك عبدا، ولي ملء الدار أمثالَك، لأن خيرا منك نكرةٌ، وأمثالك نكرةٌ.
وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلا، وأنت تريد جميعا، فيجوز ذلك، ويكون كمزلته في كم وعشرين.
وإن شئت قلت: رجالا، فجاز عنده كما جاز عنده في كم حين دخل فيها معنى رُبّ؛ لأن المقدار معناه مخالفٌ لمعنى كم في الاستفهام، فجاز في تفسيره الواحد والجميع كما جاز في كم إذ دخلها معنى رُبّ، كما تقول ثلاثةٌ أثوابا، أي من ذا الجنس، تجعله بمنزلة التنوين.
ومثل ذلك: لا كزيدٍ فارسا، إذا كان الفارسُ هو الذي سميته، كأنك قلت: لا فارسَ كزيد فارسا. وقال كعب بن جعيل:
لنا مِرفَدٌ سبعون ألف مُدجّج ... فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفدا
كأنه قال: فهل في معد مرفدٌ فوق ذلك مرفداً.(2/173)
ومثل ذلك: تالله رجلا، كأنه أضمر تالله ما رأيتُ كاليوم رجلا، وما رأيت مثلَه رجلاً.
؟ باب ما ينتصب انتصابَ الاسم بعد المقادير
وذلك قولك: ويحَه رجلا، ولله درُّه رجلا، وحسبُك به رجلا، وما أشبه ذلك. وإن شئت قلت: ويحَه من رجلٍ، وحسبُك به من رجل، ولله درُّه من رجل، فتدخل من ههنا كدخولها في كم توكيدا. وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول، فصارت الهاء بمنزلة التنوين.
ومع هذا أيضاً أنك إذا قلت وحيه فقد تعجبت وأبهمتَ، من أي أمور الرجل تعجبت، وأي الأنواع تعجبت منه. فإذا قلت فارسا وحافظا فقد اختصصت ولم تُبهم، وبينت في أي نوع هو.
ومثل ذلك قول عباس بن مرداس:
ومُرةُ يحميهمْ إذا ما تبدّدوا ... ويطعنُهم شَزراً فأبرحْتَ فارِساً(2/174)
فكأنه قال: فكفى بك فارسا، وإنما يريد كفيتَ فارسا. ودخلتْه هذه الباء توكيدا.
ومن ذلك قول الأعشى:
تقول ابنتى حين جَدَّ الرحيلُ ... فأبْرحتَ ربًّا وأبرحتَ جاراً
ومثله: أكرمْ به رجلاً.
؟ باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمَرا
وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير وذلك نووا، فجرى ذلك في كلامهم هكذا كما جرتْ إن بمنزلة الفعل الذي تقدم مفعولُه قبل الفاعل، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم، كما لزمتْ إن هذه الطريقة في كلامهم.
وما انتصب في هذا الباب فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب حسبُك به وويحه، وذلك قولهم: نِعمَ رجلا عبدُ الله، كأنك قلت: حسبُك به رجلا عبدُ الله؛ لأن المعنى واحد.(2/175)
ومثل ذلك: رُبّه رجلا، كأنك قلت: ويحه رجلا، في أنه عمل فيما بعده، كما عمل ويحه فيما بعده لا في المعنى. وحسبُك به رجلا مثل نِعم رجلا في العمل وفي المعنى؛ وذلك لأنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة.
ولا يجوز لك أن تقول نعمَ ولا رُبّه وتسكت، لأنهم إنما بدؤوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمار مقدم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز عليه السكوت نحو زيدٌ ضربتُه إنما أضمر بعد ما ذكر الاسم مظهرا، فالذي تقدم من الإضمار لازمٌ له التفسير حتى يبينه، ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر.
ومما يضمر لأنه يفسره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرٌ قول العرب: إنه كِرامٌ قومُك، وإنه ذاهبةٌ أمتُك. فالهاء إضمارُ الحديث الذي ذكرتَ بعد الهاء، كأنه في التقدير - وإن كان لا يُتكلم به - قال: إن الأمر ذاهبةٌ أمتُك وفاعلةٌ فلانة، فصار هذا الكلام كله خبرا للأمر، فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره.
وأما قولهم: نعم الرجل عبد الله، فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله، عمل نِعم في الرجل ولم يعمل في عبدُ الله.
وإذا قال: عبد الله نعمَ الرجلُ، فهو بمنزلة: عبد الله ذهب أخوه؛ كأنه(2/176)
قال نِعمَ الرجلُ فقيل له مَن هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال عبدُ الله فكأنه فقيل له: ما شأنه؟ فقال: نِعم الرجل.
فنعمَ تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده، فتكون هي وهو بمنزلة ويحه ومثلَه، ثم يعملان في الذي فسر المضمر عمل مثله وويحه إذا قلت لي مثله عبدا. وتكون مرة أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه. فهي مرة بمنزلة رُبّه رجلا، ومرة بمنزلة ذهب أخوه، فتجرى مجرى المضمر الذي قُدّم لما بعده من التفسير وسد مكانه، لأنه قد بينه، وهو نحو قولك: أزيدا ضربتَه.
واعلم أنه محال أن تقول: عبد الله نعمَ الرجل، والرجلُ غيرُ عبد الله، كما أنه محال أن تقول عبد الله هو فيها، وهو غيره.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: قومُك نِعمَ صغارُهم وكبارهم، إلا أن تقول: قومك نعمَ الصغار ونعم الكبار، وقومُك نعمَ القومُ؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلهم صالحٌ، كما أنك إذا قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، فإنما تريد أن تجعله من أمةٍ كلهم صالح، ولم ترد أن تعرف شيئا بعينه بالصلاح بعد نعمَ.
ومثل ذلك قولك: عبدُ الله فارِهُ العبدِ فاره الدابة؛ فالدابة لعبد الله ومن سببه، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، ولست تريد أن تُخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها، وإنما تريد أن تقول إن في مِلكِ زيد العبدَ الفارِه والدابة الفارهة؛ إذ لم ترد عبدا بعينه ولا دابة بعينها. فالاسمُ الذي يظهر بعد نعمَ إذا كانت نِعمَ عاملةَ فيه الاسمُ الذي فيه(2/177)
الألف واللام، نحو الرجل، وما أضيف إليه وما أشبهه نحو غلام الرجل، إذا لم ترد شيئا بعينه. كما أن الاسم الذي يظهر في رُبّ قد يُبدأ بإضمار الرجل قبله حين قلت: رُبّه رجلا لما ذكرتُ لك، وتبدأ بإضمار الرجل في نعمَ لما ذكرتُ لك. فإنما منعك أن تقول نعمَ الرجلَ إذا أضمرتَ أنه لا يجوز أن تقول حسبُك به الرجل، إذا أردت معنى حسبُك به رجلا.
ومن زعم أن الإضمار الذي في نعمَ هو عبد الله، فقد ينبغي له أن يقول نعمَ عبد الله رجلا، وقد ينبغي له أن يقول: نعمَ أنت رجلا، فتجعل أنت صفة للمضمَر.
وإنما قبُح هذا المضمر أن يوصَف لأنه مبدوء به قبل الذي يفسره، والمضمَر المقدَّم قبل ما يفسره لا يوصَف، لأنه إنما ينبغي لهم أن يبينوا ما هو.
فإن قال قائل: هو مضمر مقدم، وتفسيره عبد الله بدلا منه محمولا على نعمَ، فأنت قد تقول عبد الله نعمَ رجلا، فتبدأ به، ولو كان نعمَ يصير لعبد الله لما قلت عبدُ الله نعمَ الرجلُ فترفعه، فعبد الله ليس من نعمَ في شيء، والرجل هو عبدُ الله ولكنه منفصلٌ منه كانفصال الأخ منه إذا قلت: عبد الله ذهب أخوه. فهذا تقديره وليس معناه كمعناه.
ويدلك على أن عبد الله ليس تفسيرا للمضمَر أنه لا يعمل فيه نعمَ بنصبٍ ولا رفع ولا يكون عليها أبدا في شيء.
واعلم أن نعمَ تؤنث وتذكر، وذلك قولك: نعمتِ المرأةُ، وإن شئت قلت: نعمَ المرأةُ، كما قالوا ذهبَ المرأة. والحذفُ في نعمت أكثر.(2/178)
واعلم أنك لا تُظهر علامةَ المضمرين في نعمَ، لا تقول: نِعْموا رجالا، يكتفون بالذي يفسره كما قالوا مررتُ بكلٍّ. وقال الله عزّ وجلّ: " وكلٌّ آترهُ داخرين "، فحذفوا علامة الإضمار وألزموا الحذف، كما ألزموا نِعمَ وبئسَ الإسكان، وكما ألزموا خُذ الحذف، ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.
وأصلُ نعمَ وبئسَ: نعم وبئسَ، وهما الأصلان اللذان وُضعا في الرداءة والصلاح، ولا يكونُ منهما فعلٌ لغير هذا المعنى.
واما قولهم: هذه الدار نعمتِ البلدُ فإنه لما كان البلد الدارَ أقحموا التاء، فصار كقولك: مَن كانت أمَّك، وما جاءت حاجتَك.
ومن قال نعمَ المرأةُ قال نعمَ البلدُ، وكذلك هذا البلد نعمَ الدارُ، لما كانت البلد ذُكّرتْ. فلزم هذا في كلامهم لكثرته، ولأنه صار كالمثَل، كما لزمت التاء في ما جاءت حاجتَ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو لبعض السَّعْدِيِّينَ:(2/179)
هل تعرفُ الدار يعفّيها المُورْ ... والدّجْنُ يوماً والعجاجُ المهمورْ
لكلّ ريحٍ فيه ذيلٌ مسفورْ فقال فيه لأن الدارَ مكانٌ، فحمله على ذلك.
وزعم الخليل رحمه الله أن حبّذا بمنزلة حبّ الشيء، ولكن ذا وحب بمنزلة كلمة واحدة نحو لولا، وهو اسم مرفوع كما تقول: يا ابنَ عمَّ، فالعمُّ مجرورٌ، ألا ترى أنك تقول للمؤنث حبذا ولا تقول حبّذهِ، لأنه صار مع حب على ما ذكرتُ لك، وصار المذكر هو اللازم، لأنه كالمثَل.
وسألتُه عن قوله: وهو الراعي:
فأومأْتُ إيما خَِفَّيا لحبترٍ ... وللهِ عَيْنَا حبترٍ أيُّما فَتَى
فقال: أيما تكون صفة للنكرة، وحالا للمعرفة، وتكون استفهاماً(2/180)
مبنيا عليها ومبنية على غيرها، ولا تكون لتبيين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك أتَوْني إلا زيدا. ألا ترى أنك لا تقول: له عشرون أيما رجلٍ، ولا أتَوْني إلا أيما رجلٍ، فالنصبُ في: لي مثلُه رجلا، كالنصب في عشرين رجلا.
فأيما لا تكون في الاستثناء، ولا يختص بها نوع من الأنواع، ولا يُفسَّر بها عدد.
وأيما فتى استفهامٌ. ألا ترى أنك تقول سُبحان الله مَن هو وما هو فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبرا لم يجز ذلك، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول مَن هو وتسكت.
وأما أحدٌ وكَرّابٌ وأرمٌ وكَتيعٌ وعريبٌ، وما أشبه ذلك، فلا يقعن واجباتٍ ولا حالا ولا استثناء، ولا يُستخرج به نوعٌ من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم إذا قلت عشرون درهما، ولكنهن يقعن في النفى مبنيا عليهن ومبنية على غيرهن. فمن ثم تقول: ما في الناس مثلُه أحدٌ، حملتَ أحدا على مثل ما حملت عليه مثلا. وكذلك ما مررت بمثلِك أحدٍ، وقد فسرنا لمَ ذلك. فهذه حالُها كما كانت تلك حال أيما.
فإذا قلت: له عسلٌ ملءُ جرة، وعليه دَينٌ شَعَرُ كلبين، فالوجهُ الرفع، لأنه وصفٌ. والنصب يجوز كنصب عليه مائةٌ بيضا بعد التمام.
وإن شئت قلت: لي مثلُه عبدٌ، فرفعتَ. وهي كثيرة في كلام العرب. وإن شئت رفعتَه على أنه صفةٌ وإن شئت كان على البدل.
فإذا قلت: عليها مثلُها زُبدٌ، فإن شئت رفعت على البدل، وإن(2/181)
شئت رفعت على قوله ما هو؟ فتقول: زبدٌ، أي هو زُبدٌ. ولا يكون الزبد صفة لأنه اسم. والعبد يكون صفة، وتقول: هذا رجلٌ عبدٌ. وهو قبيح لأنه اسم.
؟
هذا باب النداء
اعلم أن النداء، كل اسم مضاف فيه فهو نصبٌ على إضمار الفعل المتروك إظهارُه. والمفرد رفعٌ وهو في موضع اسمٍ منصوب.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم نصبوا المضافَ نحو يا عبدَ الله ويا اخانا، والنكرة حين قالوا: يا رجلا صالحا، حين طال الكلام، كما نصبوا: هو قبلَك(2/182)
وهو بعدَك. ورفعوا المفردَ كما رفعوا قبلُ وبعدُ وموضعهما واحد، وذلك قولك: يا زيدُ ويا عمرو. وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبلُ.
قلت: أرأيتَ قولهم يا زيدُ الطويلَ علامَ نصبوا الطويل؟ قال: نُصب لأنه صفةٌ لمنصوب. وقال: وإن شئت كان نصبا على أعني.
فقلت: أرأيتَ الرفعَ على أي شيء هو إذا قال يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفةٌ لمرفوع.
قلت: ألستَ قد زعمت أن هذا المرفوع في موضع نصبٍ، فلمَ لا يكون كقوله لقيتُه أمس الأحدثَ؟ قال: من قبل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبدا، وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجرورا، فلما اطرد الرفعُ في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل، فجعلوا وصفَه إذا كان مفردا بمنزلته.
قلت: أفرأيت قول العرب كلهم:
أزيدُ أَخا ورقاءَ إن كنتَ ثائراً ... فقد عرضَتْ أحناءُ حقٍ فخاصمِ(2/183)
لأي شيء لم يجز فيه الرفعُ كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وُصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه، ولو جاز هذا لقلت يا أخونا، تريد أن تجعله في موضع المفرد؛ وهذا لحنٌ. فالمضاف إذا وُصف به المنادى فهو بمنزلته إذا ناديته، لأنه هنا وصفٌ لمنادى في موضع نصبٍ، كما انتصب حيث كان منادى لأنه في موضع نصب، ولم يكن فيه ما كان في الطويل لطوله.
وقال الخليل رحمه الله: كأنهم لما أضافوا ردوه إلى الأصل. كقولك: إن أمسَك قد مضى.
وقال الخليل رحمه الله وسألته عن يا زيد نفسَه، ويا تميمُ كلَّكم، ويا قيسُ كلَّهم، فقال: هذا كله نصبٌ، كقولك: يا زيدُ ذا الجُمّة. وأما يا تميمُ أجمعون فأنته فيه بالخيار، إن شئت قلت أجمعون، وإن شئت قلت أجميعن، ولا ينتصب على أعنى، من قبل أنه مُحال أن تقول أعني أجمعين. ويدلك على أن أجمعين ينتصب لأنه وصفٌ لمنصوب قول يونس: المعنى في الرفع والنصب واحدٌ. وأما المضاف في الصفة فهو ينبغي له أن لا يكون إلا نصبا إذا كان المفردُ ينتصب في الصفة.
قلت: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيدا أقبل؟ قال: عطفوه على هذا(2/184)
المنصوب فصار نصبا مثله، وهو الأصل، لأنه منصوب في موضع نصبٍ. وقال قوم: يا أخانا زيدُ.
وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله: وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قولُه يا زيدُ أخانا بمنزلة يا أخانا، فيُحملُ وصفُ المضاف إذا كان مفرَداً بمنزلته إذا كان منادى. ويا اخانا زيدا أكثرُ في كلام العرب؛ لأنهم يردونه إلى الأصل حيث أزالوه عن الموضع الذي يكون فيه منادى، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ إلى أصله، وكما ردوا أتقولُ حين جعلوه خبرا إلى أصله. فأما المفرد إذا كان منادى فكلُ العرب ترفعه بغير تنوين، وذلك لأنه كثُر في كلامهم، فحذفوه وجعلوه بمنزلة الأصوات نحو حَوب وما أشبهه.
وتقول: يا زيدُ زيدُ الطويل، وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول يا زيدُ زيدا الطويلَ. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يا زيدُ الطويلٌ، وتفسيره كتفسيره. وقال رؤبة:
إنَّي وأسطارٍ سُطِرنَ سَطْرَا ... لَقائلٌ يا نصرُ نَصْراً نَصْرَا(2/185)
وأما قول رؤبة فعلى أنه جعل نصرا عطفَ البيان ونصبَه، كأنه على قوله يا زيدُ زيدا. وأما قول أبي عمرو فكأنه استأنف النداء. وتفسير يا زيدُ زيدُ الطويلُ كتفسير يا زيدُ الطويلُ، فصار وصفُ المفرد إذا كان مفردا بمنزلته لو كان منادى. وخالف وصف أمسِ لأن الرفع قد اطرد في كل مفردٍ في النداء. وبعضُهم ينشد: ين نصرُ نصرُ نَصْرَا وتقول: يا زيدُ وعمرو، ليس إلا لأنهما قد اشتركا في النداء في قوله يا. وكذلك يا زيدُ وعبد الله، ويا زيدُ لا عمرو، ويا زيدُ أو عمرو؛ لأن هذه الحروف تُدخل الرفعَ في الآخِر كما تدخل في الأول، وليس ما بعدها بصفة، ولكنه على يا.
وقال الخليل رحمه الله من قال يا زيدُ والنّضْرَ فنصب، فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُردّ فيها الشيء إلى أصله. فأما العرب فأكثر(2/186)
ما رأيناهم يقولون: يا زيدُ والنضرُ. وقرأ الأعرج: " يا جِبالُ أوبي معه والطيرُ ". فرفع.
ويقولون: يا عمرو والحارثُ، وقال الخليل رحمه الله: هو القياس، كأنه قال: ويا حارثُ. ولو حمل الحارثُ على يا كان غيرَ جائز البتة نصب أو رفع، من قبل أنك لا تنادى اسما فيه الألفُ واللام بيا، ولكنك أشركت بين النضر والأول في يا، ولم تجعلها خاصة للنضر، كقولك ما مررت بزيد وعمرو، ولو أردت عملين لقلت ما مررتُ بزيد ولا مررتُ بعمرو.
وقال الخليل رحمه الله: ينبغي لمن قال النّضرَ فنصب، لأنه لا يجوز يا النضرُ، أن يقول: كلُّ نعجةٍ وسخلتها بدرهمٍ فينصب، إذا أراد لغة من يجر، لأنه محال أن يقول كل سخلتها، وإنما جر لأنه أراد وكلُّ سخلةٍ لها. ورفع ذلك لأن قوله والنضرُ بمنزلة قوله ونضرُ، وينبغي أن يقول: أيُّ فَتَى هَيْجاءَ أنتَ وجارَها لأنه محالٌ أن يقول وأيُّ جارِها.
وينبغي أن يقول: رُبّ رجلٍ وأخاه. فليس ذا من قبل ذا، ولكنها(2/187)
حروفٌ تُشرك الآخِر فيما دخل فيه الأول. ولو جاءت تلى ما وليه الاسم الأول كان غير جائز؛ لو قلت: هذا فصيلها لم يكن نكرة كما كان هذه ناقة وفصيلها. وإذا كان مؤخَّراً دخل فيما دخل فيه الأول.
وتقول: يا أيها الرجل وزيدُ، ويا أيها الرجلُ وعبدَ الله؛ لأن هذا محمول على يا، كما قال رؤبة: يا دارَ عفراءَ ودارَ البَخدَنِ وتقول يا هذا ذا الجمة، كقولك: يا زيدُ ذا الجمة، ليس بين أحدٍ فيه اختلاف.
؟
باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعا
ولا يقع في موقعه غيرُ المفرد
وذلك قولك، يا أيها الرجلُ، ويا أيها الرجلان، ويا أيها المرأتان.
فأىُّ ههنا فيما زعم الخليل رحمه الله كقولك يا هذا، والرجل وصفٌ له كما يكون وصفا لهذا. وإنما صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع لأنك لا تستطيع أن تقول يا أيُّ ولا يا أيها وتسكت، لأنه مبهَم يلزمه التفسيرُ، فصار هو والرجل بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت يا رجل.(2/188)
واعلم أن الأسماء المبهَمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام تُنزَل بمنزلة أى، وهي هذا وهؤلاء وأولئك وما أشبهها، وتوصَف بالأسماء. وذلك قولك، يا هذا الرجلُ، ويا هذان الرجلان. صار المبهَم وما بعده بمنزلة اسمٍ واحد.
وليس ذا بمنزلة قولك يا زيدُ الطويل، من قبل أنك قلت يا زيدُ وأنت تريد أن تقف عليه، ثم خِفْتَ أن لا يُعرف فنعته بالطويل. وإذا قلت يا هذا الرجل، فأنت لم ترد أن تقف على هذا ثم تصفه بعد ما تظن أنه لم يُعرف، فمن ثم وُصفت بالأسماء التي فيها الألف واللام، لأنها والوصف بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل.
فهذه الأسماء المبهمة إذا فسرتها تصير بمنزلة أى، كأنك إذا أردت أن تفسرها لم يجزْ لك أن تقف عليها. وإنما قلت: يا هذا ذا الجمة، لأن(2/189)
ذا الجمة لا توصف به الأسماء المبهمة، إنما يكون بدلا أو عطفا على الاسم إذا أردت أن تؤكد، كقولك: يا هؤلاء أجمعون، وإنما أكدت حين وقفتَ على الاسم. والألف واللام والمبهَم يصيران بمنزلة اسم واحد، يدلك على ذلك أن أي لا يجوز لك فيها أن تقول يا أيها ذا الجُمّة. فالأسماء المبهمة توصَف بالألف واللام ليس إلا، ويفسَّر بها، ولا توصَف بما يوصف به غير المبهمة، ولا تفسَّر بما يفسر به غيرها إلا عطفا. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو ابن لَوذان السدوسى:
يا صاحِ يا ذا الضامر العنْس ... والرّحْلِ ذي الأنساع والحِلسِومثله قول ابن الأبرص:(2/190)
يا ذا المخوّفُنا بمَقْتَلِ شيخِه ... حُجرٍ تَمَنَّيَ صاحبِ الأحلامِ
ومثله يا ذا الحسن الوجه. وليس ذا بمنزلة يا ذا ذا الجمة، من قبل أن الضامر العنسِ والحسن الوجه كقولك: يا ذا الضامر ويا ذا الحسن، وهذا المجرور ها هنا بمنزلة المنصوب إذا قلت يا ذا الحسن الوجه، ويا ذا الحسنُ وجها. ويدلك على أنه ليس بمنزلة ذى الجمة، أن ذا معرفة بالجمة، والضامرُ والحسن ليس واحدٌ منهما معرفة بما بعده، ولكن ما بعده تفسيرٌ لموضع الضمور والحُسن، إذا أردت أن لا تُبهمهما. فكل واحد من المواضع من سبب الأول، لا يكونان إلا كذلك. فإذا قلت الحسن فقد عمّمتَ. فإذا قلت الوجهِ فقد اختصصت شيئاً منه. وإذا قلت الضامرُ فقد عمّمت، وإذا قلت العنس فقد اختصصتَ شيئا من سببه كما اختصصت ما كان منه، وكأن العنسَ شيءٌ منه، فصار هذا تبيينا لموضع ما ذكرتَ كما صار الدرهمُ يبيَّن به مم العشرون، حين قلت: عشرون درهما.
ولو قلت: يا هذا الحسن الوجه، لقلت يا هؤلاء العشرين رجلا، وهذا بعيد، فإنما هو بمنزلة الفعل إذا قلت يا هذا الضارب زيدا، ويا هذا الضارب الرجلَ، كأنك قلت يا هذا الضارب، وذكرت ما بعده لتبين موضع الضرب ولا تبهمه، ولم يُجعَل معرفة بما بعده. ومن ثم كان الخليل يقول: يا زيد الحسنُ الوجه، قال: هو بمنزلة قولك يا زيدُ الحسن. ولو لم يجز فيما بعد زيد الرفع لما جاز في هذا، كما أنه إذا لم يجز يا زيد ذو الجمة لم يجز يا هذا ذو الجمة.(2/191)
وقال الخليل رحمه الله: إذا قلت يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكونُ عطفا عليه، فأنت فيه بالخيار: إن شئت رفعت وإن شئت نصبت، وذلك قولك يا هذا زيد، وإن شئت قلت زيدا، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين. وكذلك يا هذان زيدٌ وعمرو، وإن شئت قلت زيدا وعمرا، فتُجري ما يكون عطفا على الاسم مُجرى ما يكون وصفا، نحو قولك: يا زيدُ الطويلُ ويا زيدُ الطويلَ.
وزعم لي بعض العرب أن يا هذا زيدٌ كثير في كلام طيّء.
ويقوى يا زيد الحسنُ الوجه - ولا تلتفتْ فيه إلى الطول - أنك لا تستطيع أن تناديه فتجعله وصفا مثلَه منادى.
واعلم أن هذه الصفات التي تكون والمبهمة بمنزلة اسم واحد، إذا وُصفت بمضاف أو عُطف على شيء منها، كان رفعا، من قبل أنه مرفوع غيرُ منادى. واطرد الرفع في صفات هذه المبهمة كاطراد الرفع في صفاتها إذا ارتفعت بفعلٍ أو ابتداء، أو تبنى على مبتدإ، فصارت بمنزلة صفاتها إذا كانت في هذه الحال. كما أن الذين قالوا يا زيدُ الطويل جعلوا زيداً مبنزلة ما يرتفع بهذه الأشياء الثلاثة. فمن ذلك قول الشاعر: يا أَيُّها الجاهلُ ذو التَّنزِّى(2/192)
وتقول: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ، وإنما تنون لأنه موضعٌ يرتفع فيه المضاف، وإنما يُحذف منه التنوين إذا كان في موضع ينتصب فيه المضاف.
وتقول: يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة، إذا جعلته صفة للطويل، وإن حملته على زيد نصبت. فإذا قلت يا هذا الرجلُ فأردتَ أن تعطف ذا الجمة على هذا جاز فيه النصب، ولا يجوز ذلك في أي لأنه لا تعطف عليه الأسماء. ألا ترى أنك لا تقول: يا أيها ذا الجمة، فمن ثم لم يكن مثله.
وأما قولك يا أيها ذا الرجل، فإن ذا وصفٌ لأي كما كان الألف واللام وصفا لأنه مبهَم مثله، فصار صفة له كما صار الألف واللام وما أضيف إليهما صفة للألف واللام؛ وذلك نحو قولك: مررتُ بالحسن الجميل، وبالحسن ذي المال. وقال ذو الرمة:
أَلا أَيُّها ذا المنزلُ الدارِسُ الذي ... كأنك لم يَعْهَدْ بك الحيَّ عاهدُ
ومن قال يا زيدُ الطويلَ قال ذا الجمة، لا يكون فيه غيرُ ذلك إذا جاء بها من بعد الطويل. وإن رفع الطويلَ وبعده ذو الجمة كان فيه الوجهان.
وتقول: يا زيدُ الناكي العدوَّ وذا الفضل، إن حملتَ ذا الفضل على زيد نصبتَ، لأنه وصفٌ لمنادى وهو مضاف. وإن حملته على غير زيد انتصب على يا كأنك قلت: ويا ذا الفضل.(2/193)
؟
هذا باب
ما ينتصب على المدح والتعظيم أو الشتم
لأنه لا يكون وصفا للأول ولا عطفا عليه وذلك قولك: يا أيها الرجل وعبدَ الله المسلمَين الصالحَين. وهذا بمنزلة قولك: اصنعْ ما سر أباك وأحب أخوك الرجلين الصالحين. فإذا قلت يا زيد وعمرو ثم قلت الطويلين، فأنت بالخيار إن شئت نصبت وإن شئت رفعت؛ لأنه بمنزلة قولك يا زيدُ الطويلُ.
وتقول: يا هؤلاء وزيدُ الطّوالُ والطوالَ؛ لأنه كله رفعٌ، والطوالُ ها هنا رفع عطف عليهم.
وتقول: يا هذا ويا هذان الطوالَ، وإن شئت قلت الطوالُ، لأن هذا كله مرفوع والطوالُ ههنا عطفٌ، وليس الطوالُ بمنزلة يا هؤلاء الطوالُ، لأن هذا إنما هو من وصف غير المبهَمة.
وإنما فرقوا بين العطف والصفة لأن الصفة تجيء بمنزلة الألف واللام، كأنك إذا قلت مررتُ بزيدٍ أخيك فقد قلت مررتُ بزيد الذي تعلم. وإذا قلت مررت بزيد هذا فقد قلت بزيدٍ الذي ترى أو الذي عندك.
وإذا قلت مررتُ بقومك كلهم، فأنت لا تريد أن تقول مررتُ بقومك الذين من صفتهم كذا وكذا، ولا مررتُ بقومك الهَنينَ.
وعلى هذا المثال جاء مررتُ بأخيك زيدٍ، فليس زيدٌ بمنزلة الألف واللام. ومما يدلك على أنه ليس بمنزلة الألف واللام أنه معرفةٌ بنفسه(2/194)
لا بشيء دخل فيه ولا بما بعده. فكل شيء جاز أن يكون هو والمبهَم بمنزلة اسم واحد هو عطفٌ عليه. وإنما جرت المبهَمة هذا المجرى لأن حالها ليس كحال غيرها من الأسماء.
وتقول يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين، من قبل أن رفعهما مختلف؛ وذلك أن زيدا على النداء والرجل نعت، ولو كان بمنزلته لقلت يا زيدُ ذو الجُمة، كما تقول يا أيها الرجل ذو الجمة. وهو قول الخليل رحمه الله.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادى اسما فيه الألف واللام البتة؛ إلا أنهم قد قالوا: يا الله اغفِر لنا، وذلك من قبل أنه اسمٌ يلزمه الألف واللام لا يفارقانه، وكثر في كلامهم فصار كان الألف واللام فيه بمنزلة الألف واللام التي من نفس الحروف، وليس بمنزلة الذي قال ذلك، من قبل أن الذي قال ذلك وإن كان لا يفارقه الألف واللام ليس اسما بمنزلة زيد وعمرو غالبا. ألا ترى أنك تقول يا أيها الذي قال ذاك، ولو كان اسما غالبا بمنزلة زيد وعمرو لم يجز ذا فيه، وكأن الاسم والله أعلمُ إلهٌ، فلما أُدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلَفاً منها. فهذا أيضا مما يقويه أن يكون بمنزلة ما هو من نفس الحرف.(2/195)
ومثل ذلك أناسٌ، فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس؛ إلا أن الناس قد تفارقهم الألف واللام ويكون نكرة، واسمُ الله تبارك وتعالى لا يكون فيه ذلك.
وليس النجم والدبرانُ بهذه المنزلة؛ لأن هذه الأشياء الألف واللام فيها بمنزلتها في الصعق، وهي في اسم الله تعالى بمنزلة شيء غير منفصل في الكلمة، كما كانت الهاء في الجحاجحة بدلا من الياء، وكما كانت الألف في يَمانٍ بدلا من الياء.
وغيروا هذا لأن الشيء إذا كثُر في كلامهم كان له نحوٌ ليس لغيره مما هو مثلُه. ألا ترى أنك تقول: لم أكُ ولا تقول لم أقُ، إذا أردت أقُلْ. وتقول: لا أدرِ كما تقول: هذا قاضٍ، وتقول لم أُبَل ولا تقول لم أرَمْ تريد لم أُرامِ. فالعرب مما يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره.
وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداءٌ والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه الله آخرَ الكلمة بمنزلة يا في أولها، إلا أن الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها. فالميم في هذا الاسم حرفان أولُهما مجزومٌ، والهاء مرتفعةٌ لأنه وقع عليها الإعراب.
وإذا ألحقتَ الميم تصف الاسم، من قبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة صوتٍ كقولك: يا هناهْ.
وأما قوله عز وجلّ: " اللهمّ فاطرَ السموات والأرض " فعلى يا،(2/196)
فقد صرفوا هذا الاسم على وجوه لكثرته في كلامهم، ولأن له حالا ليست لغيره.
وأما الألف والهاء اللتان لحقتا أي توكيدا، فكأنك كررت يا مرتين إذا قلت: يا أيها، وصار الاسم بينهما كما صار هو بين ها وذا إذا قلت ها هو ذا. وقال الشاعر:
مِنَ أجْلِكَ يا التي تيّمتِ قلبي ... وأنتِ بخيلةٌ بالوُدِّ عَنِّى
شبهه بيا الله.
وزعم الخليل رحمه الله أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة. وذلك أنه إذا قال يا رجل ويا فاسقُ، فمعناه كمعنى يا أيها الفاسقُ ويا أيها الرجل، وصار معرفة لأنك أشرت إليه وقصدت قصدَه، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو لهذا وما أشبه ذلك، وصار معرفة بغير ألف ولام لأنك إنما قصدت قصدَ شيء بعينه. وصار هذا بدلا في النداء من الألف واللام، واستُغني به عنهما كما استغنيت بقولك اضربْ عن لتضربْ،(2/197)
وكما صار المجرور بدلا من التنوين، وكما صارت الكاف في رأيتك بدلا من رأيتُ إياكَ.
وإنما يُدخلون الألف واللام ليعرفوك شيئا بعينه قد رأيتَه أو سمعت به، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه، ولم يجعلوه واحدا من أمة، فقد استغنوا عن الألف واللام. فمن ثم لم يُدخلوهما في هذا ولا في النداء.
ومما يدلك على أن يا فاسقُ معرفة قولك: يا خباثِ ويا لَكاعِ ويا فساقِ، تريد يا فاسقةُ ويا خبيثةُ ويا لَكعاءُ، فصار هذا اسما لهذا كما صارت جَعار اسما للضّبُع، وكما صارت حَذام ورقاش اسما للمرأة، وأبو الحارث اسما للأسد.
ويدلك على أنه اسم للمنادى أنهم لا يقولون في غير النداء جاءتني خَباثِ ولَكاعِ، ولا لُكَع ولا فُسَقُ. فإنما اختُصّ النداء بهذا الاسم أن الاسم معرفة، كما اختُص الأسد بأبى الحارث إذ كان معرفة. ولو كان شيء من هذا نكرة لم يكن مجرورا؛ لأنها لا تُجرّ في النكرة.
ومن هذا النحو أسماء اختُص بها الاسم المنادى لا يجوز منها شيء في غير النداء، نحو: يا نومانُ، ويا هناء، ويا فل.(2/198)
ويقوى ذلك كله أن يونس زعم أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسقُ الخبيثُ.
ومما يقوى أنه معرفة تركُ التنوين فيه، لأنه ليس اسمٌ يشبه الأصوات فيكون معرفة إلا لم ينون، وينون إذا كان نكرة. ألا ترى أنهم قالوا هذا عمرَوَيْهِ وعمرَوَيهٍ آخرُ.
وقال الخليل رحمه الله: إذا أردت النكرة فوصفتَ أو لم تصف فهذه منصوبة؛ لأن التنوين لحقها فطالت، فجُعلت بمنزلة المضاف لما طال نُصب ورُدّ إلى الأصل، كما فُعل ذلك بقبلُ وبعدُ.
وزعموا أن بعض العرب يصرف قبلا وبَعْداً فيقول: ابدأ بهذا قَبلاً، فكأنه جعلها نكرة.
فإنما جعل الخليل رحمه الله المنادى بمنزلة قبل وبعد، وشبهه بهما مفردين إذا كان مفردا، فإذا طال وأضيف شبهه بهما مضافين إذا كان مضافا، لأن المفرد في النداء في موضع نصبٍ، كما أن قبلُ وبعدُ قد يكونان في موضع نصب وجر ولفظُهما مرفوع، فإذا أضفتهما رددتَهما إلى الأصل. وكذلك نداء النكرة لما لحقها التنوين وطالت، صارت بمنزلة المضاف. وقال ذو الرمة:
أَدَارًا بحُزوى هِجْتِ للعين عَبرةً ... فماءُ الهَوَى يرفَضُّ أَو يترقْرَق(2/199)
وقال الآخر، توبةُ بن الحُميّر:
لعَلَكَ يا تَيْساً نَزَا في مريرةٍ ... مُعذّبُ لَيْلَى أَنْ تَرانى أَزورُهاَ
وقال عبدُ يغوث:
فيا راكباً إمّا عرَضْتَ فبلّغنَ ... ندامايَ من نجرانَ أنْ لا تَلاَِقياَ
وأما قول الطّرِمّاح:(2/200)
يا دارُ أَقْوَت بعدَ أصرامِها ... عاماً وما يَعْنيكَ من عامِهاَ
فإنما ترك التنوين فيه لأنه لم يجعل أقوَتْ من صفة الدار، ولكنه قال: يا دارُ، ثم أقبل بعدُ يحدث عن شأنها، فكأنه لما قال: يا دارُ، أقبل على إنسان فقال: أقوتْ وتغيّرتْ، وكأنه لما ناداها قال: إنها أقوتْ يا فلان. وإنما أردت بهذا أن تعلم أن أقوتْ ليس بصفة.
ومثل ذلك قول الأحوص:
يا دارُ حسرَها البِلى تَحْسيراَ ... وسَفتْ عليها الريحُ بعدكَ مُورا
وأما قول الشاعر، لعمرو بن قِنعاس:
أَلاَ يا بيتُ بالعَلْياءِ بيتُ ... ولولا حبُّ أَهْلِكَ ما أتيتُ(2/201)
فإنه لم يجعل بالعلياء وصفا، ولكنه قال: بالعلياء لي بيتٌ، وإنما تركتُه لك أَيُّها البيتُ لحبِّ أَهله.
وأما قول الأحوص:
سلامُ الله يَا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ ياَ مطرُ السلامُ
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف، لأنه بمنزلة اسم لا ينصرف، وليس مثل النكرة؛ لأن التنوين لازمٌ للنكرة على كل حال والنصبَ. وهذا بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين اضطرارا؛ لأنك أردت في حال التنوين في مطرٍ ما أردت حين كان غير منون، ولو نصبتَه في حال التنوين لنصبته في غير حال التنوين، ولكنه اسم اطرد الرفعُ فيه وفي أمثاله في النداء، فصار كأنه يُرفع بما يرفع من الأفعال والابتداء، فلما لحقه التنوين اضطرارا لم يغيَّر رفعه كما لا يغير رفع ما لا ينصرف إذا كان في موضع رفع، لأن مطرا وأشباهه في النداء بمنزلة ما هو في موضع رفع، فكما(2/202)
لا ينتصب ما هو في موضع رفع كذلك لا ينتصب هذا.
وكان عيسى بن عمر يقول يا مطراً، يشبّه بقوله يا رجلا، يجعله إذا نُوّن وطال كالنكرة. ولم نسمع عربيا يقوله، وله وجه من القياس إذا نُوّن وطال كالنكرة.
ويا عشرين رجلا كقولك: يا ضاربا رجلا.
؟
هذا باب
ما يكون الاسمُ والصفة فيه بمنزلة اسم واحد
ينضمّ فيه قبل الحرف المرفوع حرفٌ، وينكسر فيه قبل الحرف المجرور الذي ينضم قبل المرفوع، وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف. وهو ابْنُمٌ وامرؤٌ. فإن جررت قلت: في ابنِمٍ وامرئٍ، وإن نصبت قلت: ابنَماً وامرَأً، وإن رفعت قلت: هذا ابنُمٌ وامرُؤٌ.
ومثل ذلك قولك: يا زيدَ بنَ عمرو. وقال الراجز، وهو من بنى الحِرماز: يا حكمَ بنَ المنذرِ بنِ الجارودْ(2/203)
وقال العجاج: يا عمرَ بنَ معمرٍ لا منتَظَرْ وإنما حملهم على هذا أنهم أنزلوا الرفعة التي في قولك زيد بمنزلة الرفعة في راء امرئ، والجرة بمنزلة الكسرة في الراء والنصبة كفتحة الراء وجعلوه تابعا لابن. ألا تراهم يقولون: هذا زيدُ بنُ عبد الله، ويقولون: هذه هندُ بنتُ عبد الله فيمن صرف، فتركوا التنوين ها هنا لأنهم جعلوه بمنزلة اسم واحد لما كثُر في كالمهم، فكذلك جعلوه في النداء تابعا لابن.
وأما مَن قال: يا زيدُ بنَ عبد الله، فإنه إنما قال هذا زيدُ بنُ عبد الله وهو لا يجعله اسما واحدا، وحذف التنوين لأنه لا ينجزم حرفان.
فإن قلت: هلا قالوا: هذا زيدُ الطويلُ؟ فإن القول فيه أن تقول جُعل هذا لكثرته في كلامهم بمنزلة قولهم: لَدُ الصلاة، حذفها لأنه لا ينجزم حرفان ولم يحركها. واختُصّ هذا الكلام بحذف التنوين لكثرته كما اختُصّ لا أدرِ ولم أُبَلْ لكثرتهما. ومن جعله بمنزلة لَدُنْ فحذفه لالتقاء(2/204)
الساكنين ولم يجعله بمنزلة اسم واحد قال: هذه هندٌ بنتُ فلان.
وزعم يونس أنها لغةٌ كثيرة في العرب جيدة.
وأما زيدُ ابنَ أخينا فلا يكون إلا هكذا، من قبل أنك تقول: هذا زيدٌ ابنُ أخينا، فلا تجعله اسما واحدا كما تقول هذا زيدٌ أخونا. وزيدٌ في قولك يا زيدُ بنَ عمرو في موضع نصب، كما أن الأم في موضع جر في قولك: يا ابنَ أمَّ، ولكنه لفظه كما ذكرت لك، وهو على الأصل.
؟
باب يكرر فيه الاسم في حال الإضافة
ويكون الأول بمنزلة الآخر وذلك قولك: يا زيدَ زيدَ عمرٍو، ويا زيدَ زيدَ أخينا ويا زيدَ زيدَنا.
زعم الخليل رحمه الله ويونس أن هذا كله سواء، وهي لغة للعرب جيدة. وقال جرير:
يا تَيْمَ تيمَ عَديّ لا أبا لكمُ ... لا يُلقيَنّكمُ في سَودةٍ عمرُ
وقال بعض ولدِ جرير:(2/205)
يا زيدَ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ وذلك لأنهم قد علموا أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصبا، فلما كرروا الاسمَ توكيدا تركوا الأول على الذي كان يكون عليه لو لم يكرروا.
وقال الخليل رحمه الله: هو مثلُ لا أبالك، قد علم أنه لو لم يجئ بحرف الإضافة قال أباكَ، فتركه على حاله الأولى؛ واللام وها هنا بمنزلة الاسم الثاني في قوله: يا تيمَ تيمَ عديّ، وكذلك قول الشاعر إذا اضطُرّك(2/206)
يا بؤسَ للحَرب إنما يريد: يا بؤسَ الحرب. وكأن الذي يقول: يا تيمَ تيم عَديّ لو قاله مضطَرّاً على هذا الحد في الخبر لقال: هذا تيمُ تيمُ عدىًّ.
قال: وإن شئت قلت يا تيمُ تيمُ عدىًّ، كقولك: يا تيمُ أخانا، لأنك تقول هذا تيمٌ تيمُ عدى، كما تقول: هذا تيمٌ أخونا.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: يا طلحةَ أقبلْ، يشبه: يا تسمَ تيمَ عدىٍّ، من قبل أنهم قد علموا أنهم لو لم يجيئوا بالهاء لكان آخرُ الاسم مفتوحا، فلما ألحقوا الهاء تركوا الاسم على حاله التي كان عليها قبل أن يُلحقوا الهاء. وقال النابغة الذبياني:
كِليِنِى لهَِمّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أُقاسِيه بطيءِ الكواكبِ
فصار يا تيمَ تيمَ عدى اسما واحدا، وكان الثاني بمنزلة الهاء في طلحة،(2/207)
تحذف مرة ويجاء بها أخرى. والرفع في طلحة، ويا تيمُ تيمَ عدى القياس.
واعلم أه لا يجوز في غير النداء أن تُذهب التنوين من الاسم الأول، لأنهم جعلوا الأول والآخِر بمنزلة اسم واحد، نحو طلحةَ في النداء، واستخفوا بذلك لكثرة استعمالهم إياه في النداء ولا يُجعل بمنزلة ما جُعل من الغايات كالصوت في غير النداء، لكثرته في كلامهم. ولا يُحذف هاء طلحة في الخبر فيجوز هذا في الاسم مكررا، يعني طرح التنوين من تيمٍ تيمِ عدى في الخبر. يقول: لو فُعل هذا بطلحة جاز هذا.
وإنما فعلوا هذا بالنداء لكثرته في كلامهم، ولأن أول الكلام أبدا النداء، إلا أن تدعه استغناء بإقبال المخاطَب عليك، فهو أول كل كلام لك به تعطف المكلَّم عليك، فلما كثر وكان الأول في كل موضع، حذفوا منه تخفيفا؛ لأنهم مما يغيرون الأكثر في كلامهم، حتى جعلوه بمنزلة الأصوات وما أشبه الأصوات من غير الأسماء المتمكنة، ويحذفون منه، كما فعلوا في لم أُبَلْ. وربما ألحقوا فيه كقولهم: أُمَّهاتٌ.(2/208)
ومن قال يا زيدُ الحسنُ قال يا طلحةَ الحسنُ، لأنها كفتحة الحاء إذا حذفت الهاء. ألا ترى أن من قال يا زيدُ الكريمُ قال يا سلَمَ الكريمُ.
؟
باب إضافة المنادى إلى نفسك
اعلم أن ياء الإضافة لا تثبت مع النداء كما لم يثبت التنوين في المفرد لأن ياء الإضافة في الاسم بمنزلة التنوين، لأنها بدل من التنوين، ولأنه لا يكون كلاما حتى يكون في الاسم، كما أن التنوين إذا لم يكن فيه لا يكون كلاما، فحُذف وتُرك آخرُ الاسم جرا ليُفصَل بين الإضافة وغيرها، وصار حذفها هنا لكثرة النداء في كلامهم، حيث استغنوا بالكسرة عن الياء. ولم يكونوا ليثبتوا حذفها إلا في النداء ولم يكن لُبسٌ في كلامهم لحذفها وكانت الياء حقيقة بذلك لما ذكرتُ لك، إذ حذفوا ما هو أقل اعتلالا في النداء، وذلك قولك: يا مومِ لا بأسَ عليكم، وقال الله جل ثناؤه: " يا عبادِ فاتّقونِ ".
وبعض العرب يقول: يا رَبُّ اغفِرْ لى، ويا قومُ لا تَفعلوا. وثباتُ الياء فيما زعم يونس في الأسماء.(2/209)
واعلم أن بقيان الياء لغة في النداء في الوقف والوصل، تقول: يا غلامي أقبل. وكذلك إذا وقفوا.
وكان أبو عمرو يقول: " يا عِبَادى فاتّقونِ ". وقال الراجز، وهو عبد الله بن عبد الأعلى القرشي:
وكنت إذ كنتَ إلهي وَحْدَكا ... لم يكُ شيء يا إلِهى قَبْلَكاَ
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخف، وسنبين ذلك إن شاء الله، وذلك قولك: يا ربا تجاوز عنا، ويا غلاما لا تفعل. فإذا وقفت قلت: يا غُلاماه. وإنما ألحقتَ الهاء ليكون أوضح للألف؛ لأنها خفية. وعلى هذا النحو يجوز: يا أباه، ويا أُمّاه.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: يا أبَهْ، ويا أبَتِ لا تفعلْ، ويا أبتاه(2/210)
ويا أمتاه، فزعم الخليل رحمه الله أن هذه الهاء مثل الهاء في عمةٍ وخالة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب من يقول: يا أمةُ لا تَفعلى. ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة وخالة أنك تقول في الوقف: يا أمة ويا أبَهْ، كما تقول يا خالَهْ. وتقول: يا أمّتاهْ كما تقول يا خالتاهْ. وإنما يُلزمون هذه الهاء في النداء إذا أضفتَ إلى نفسك خاصة، كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء، وأرادوا أن لا يخلوا بالاسم حين اجتمع فيه حذف الياء، وأنهم لا يكادون يقولون يا أباهْ ويا أماه، وهي قليلة في كلامهم وصار هذا محتملا عندهم لما دخل النداء من التغيير والحذف، فأرادوا أن يعوضوا هذين الحرفين كما قالوا أيْنُقٌ لما حذفوا العين رأسا جعلوا الياء عوضا، فلما ألحقوا الهاء في أبَهْ وأمّهْ، صيروها بمنزلة الهاء التي تلزم الاسم في كل موضع، نحو خالة وعمة. واختُصّ النداء بذلك لكثرته في كلامهم كما اختُصّ النداء بيا أيها الرجلُ.(2/211)
ولا يكون هذا في غير النداء، لأنهم جعلوها تنبيها فيها بمنزلة يا. وأكدوا التنبيه ب ها حين جعلوا يا مع ها، فمن ثم لم يجز لهم أن يسكتوا على أي، ولزمه التفسير.
قلت: فلمَ دخلت الهاء في الأب وهو مذكّر.
قال: قد يكون الشيء المذكر يوصَف بالمؤنث ويكون الشيء المذكر له الاسم المؤنث نحو نَفْس، وأنت تعنى الرجل به. ويكون الشيء المؤنث يوصَف بالمذكر، وقد يكون الشيء المؤنث له الاسم المذكر. فمن ذلك: هذا رجلٌ ربْعةٌ وغلامٌ يَفَعةٌ. فهذه الصفات.
والأسماء قولهم: نَفْسٌ، وثلاثة أنفس، وقولهم ما رأيت عينا، يعنى عين القوم. فكأن أبَهْ اسم مؤنث يقع للمذكر، لأنهما والدان كما تقع العين للمذكر والمؤنث لأنهما شخصان. فكأنهم إنما قالوا أبوان لأنهم جمعوا بين أبٍ وأبةٍ، إلا أنه لا يكون مستعمَلاً إلا في النداء إذا عنيت المذكر. واستغنوا بالأم في المؤنث عن أبة، وكان ذلك عندهم في الأصل على هذا، فمن ثم جاءوا عليه بالأبوين؛ وجعلوه في غير النداء أباً بمنزلة الوالد، وكأن مؤنثه أبةٌ كما أن مؤنث الوالد والدة.
ومن ذلك أيضاً قولك للمؤنث: هذه امرأةٌ عَدْلٌ. ومن الأسماء فرَسٌ، هو للمذكر، فجعلوه لهما، وكذلك عدْل وما أشبه ذلك.(2/212)
وحدثنا يونس أن بعض العرب يقول: يا أمَّ لا تفعلى، جعلوا هذه الهاء بمنزلة هاء طلحة إذ قالوا: يا طلحَ أقبلْ؛ لأنهم رأوها متحركة بمنزلة هاء طلحة فحذفوها، ولا يجوز ذلك في غير الأم من المضاف.
وإنما جازت هذه الأشياء في الأب والأم لكثرتهما في النداء، كما قالوا: يا صاح في هذا الاسم. وليس كل شيء يكثر في كلامهم يغيَّر عن الأصل، لأنه ليس بالقياس عندهم، فكرهوا ترك الأصل.
؟ باب ما تضيف إليه ويكون مضافا إليك
قبل المضاف إليه
وتثبت فيه الياء، لأنه غير منادى، وإنما هو بمنزلة المجرور في غير النداء.
فذلك قولك: يا ابنَ أخي، ويا ابنَ أبي، يصير بمنزلته في الخبر. وكذلك يا غلامَ غلامي. وقال الشاعر أبو زُبيد الطائي:
يا ابنَ أمي ويا شُقَيّقَ نَفْسِى ... أنتَ خَلَّيْتَني لدهرٍ شديدِ(2/213)
وقالوا: يا ابنَ أمَّ ويا ابنَ عمَّ، فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد، لأن هذا أكثرُ في كلامهم من يا ابنَ أبي ويا غلامَ غلامي. وقد قالوا أيضا: يا ابنَ أمِّ ويا ابنَ عم، كأنهم جعلوا الأول والآخر اسما، ثم أضافوا إلى الياء، كقولك: يا أحدَ عشرَ أَقبِلوا. وإن شئت قلتَ: حذفوا الياء لكثرة هذا في كلامهم.
وعلى هذا قال أبو النجم: يا ابنةَ عمّا لا تلومي واعجَعي واعلم أن كل شيء ابتدأتُه في هذين البابين أولا فهو في القياس. وجميع ما وصفناه من هذه اللغات سمعناه من الخليل رحمه الله ويونس عن العرب.(2/214)
؟
باب ما يكون النداء فيه مضافا
إلى المنادى بحرف الإضافة
وذلك في الاستغاثة والتعجب، وذلك الحرفُ اللامُ المفتوحة، وذلك قول الشاعر، وهو مهلهل:
يا لَبكرٍ أنشِروا لي كُليباً ... ويا لَبكرٍ أينَ أينَ الفرارُ
فاستغاث بهم ليُنشروا له كُليباً. وهذا منه وعيد وتهدد. وأما قوله يا لَبكرٍ أين أينَ الفِرارُ فإنما استغاث بهم لهم، أي لمَ تفرون؟ استطالة عليهم ووعيدا.
وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي:(2/215)
أَلا يا لَقوم لطَيفَ الخَيالِ ... أَرَّقَ، مِنْ نازِحِ ذى دَلالِ
وقال قيس بن ذريح:
تَكَنَّفنِى الوُشاةُ فأَزْعَجوني ... فيَا لَلناس للْواشى المطاعِ
وقالوا يا لله، يا لَلناس، إذا كانت الاستغاثة. فالواحد والجميع فيه سواء. وقال الآخر:
يا لَقوم مَن للعُلى والمساعي ... ويا لَقوم مَن للنّدى والسماحِ(2/216)
ويا لَعطّافنا ويا لَرياح ... وأبِى الحشرجِ الفَتَى النّفّاحِ
ألا تراهم كيف سووا بين الواحد والجميع.
وأما في التعجّب فقوله، وهو فرار الأسدى: لَخُطّابُ لَيلى يا لَبُرثنَ منكمُ أدلُّ وأمضى من سُليك المقانبِ وقالوا: يا لَلعجب، ويا لَلفليقة؛ كأنهم راوا أمرا عجبا فقالوا: يا لَبُرثن، أي مثلكم دُعي للعظائم.
وقالوا: يا لَلعجب ويا لَلماء، لما رأوا عجبا أو رأوا ماء كثيرا، كانه يقول: تعالَ يا عجبُ أو تعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك.
ومثل ذلك قولهم: يا لَدواهي، أي تعالينَ فإنه لا يُستنكر لكن،(2/217)
لأنه من أبانكن وأحيانكن.
وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة، وإلا لم يجز. ألا ترى أنك لو قلت يا لَزيد وأنت تحدثه لم يجز.
ولم يلزم في هذا الباب إلا يا للتنبيه؛ لئلا تلتبس هذه اللام بلام التوكيد كقولك: لَعمرو خيرٌ منك. ولا يكون مكان يا سواها من حروف التنبيه نحو أي وهَيا وأيا؛ لأنهم أرادوا أن يميزوا هذا من ذلك الباب الذي ليس فيه معنى استغاثة ولا تعجب.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذه اللام بدلٌ من الزيادة التي تكون في آخر الاسم إذا أضفتَ، نحو قولك: يا عجَباه ويا بَكراه، إذا استغثتَ أو تعجبت. فصار كلُ واحد منهما يعاقب صاحبَه، كما كانت هاء الجحاجحة معاقبة ياء الجحاجيح، وكما عاقبت الألف في يمانٍ الياء في يَمَني.
ونحو هذا في كلامهم كثير، وستراه إن شاء الله عز وجلّ.
؟
باب ما تكون اللام فيه مكسورة
لأنه مدعوّ له ها هنا وهو غير مدعو
وذلك قول بعض العرب: يا لِلعجب ويا لِلماء، وكأنه نبّه بقوله(2/218)
يا غيرَ الماء للماء. وعلى ذلك قال أبو عمرو: يا ويلٌ لك ويا ويحٌ لك كأنه نبه إنسانا ثم جعل الويل له. وعلى ذلك قول قيس بن ذريح: فيا لَلناس للواشي المُطاع يا لقومي لِفرْقةِ الأحبابِ كسروها لأن الاسم الذي بعدها غير منادى، فصار بمنزلته إذا قلت هذا لزيدٍ. فاللام المفتوحة أضافت النداء إلى المنادى المخاطَب، واللام المكسورة أضافت المدعو إلى ما بعده لأنه سببُ المدعو. وذلك أن المدعو إنما دُعي من أجل ما بعده، لأنه مدعو له.
ومما يدلك على أن اللام المكسورة ما بعدها غيرُ مدعو قوله:
يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سِمعانَ من جارِ(2/219)
فيا لغير اللعنة.
وتقول: يا لَزيدٍ ولعمرو وإذا لم تجئ بيا إلى جنب اللام كسرتَ ورددتَ الى الأصل.
؟
هذا باب الندبة
اعلم أن المندوب مدعو ولكنه متفجع عليه، فإن شئت ألحقتَ في آخر الاسم الألف، لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها؛ وإن شئت لم تُلحق كما لم تلحق في النداء.
واعلم أن المندوب لابد له من أن يكون قبل اسمه يا أو وا، كما لزم يا المستغاثَ به والمتعجَّبَ منه.
واعلم أن الألف التي تلحق المندوب تُبتح كلُّ حركة قبلها مكسورة كانت أو مضمومة لأنها تابعة للألف، ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا.
فأما ما تلحقه الألف فقولك: وازيداه، إذا لم تُضف إلى نفسك، وإن أضفتَ إلى نفسك، فهو سواء، لأنك إذا أضفتَ زيدا إلى نفسك فالدالُ مكسورة وإذا لم تُضف فالدال مضمومة، ففتحت المكسور كما فتحت(2/220)
المضموم. ومن قال يا غلامي وقرأ يا عبادي قال: وازيدِيا إذا أضاف؛ من قبل أنه إنما جاء بالألف فألحقها الياء وحركها في لغة من جزم الياء؛ لأنه لا ينجزم حرفان، وحركها بالفتح لأنه لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا.
وزعم الخليل أنه يجوز في الندبة واغلامِيَهْ؛ من قبل أنه قد يجوز أن أقول واغُلاميَ فأبين الياء كما أبينها في غير النداء، وهي في غير النداء مبيّنة فيها للغتان: الفتح والوقف. ومن لغة مَن يفتح أن يُلحق الهاء في الوقف حين يبين الحركة، كما أُلحقت الهاء بعد الألف في الوقف لأن يكون أوضحَ لها في قولك يا رَبّاه. فإذا بينت الياء في النداء كما بينتها في غير النداء جاز فيها ما جاز إذا كانت غيرَ نداء. قال الشاعر، وهو ابن قيس الرُقيّات:
تَبكيهم دَهماءُ مُعولةً ... وتقول سَلْمَى وارَزِيّتِيَهْ
وإذا لم تُلحق الألفَ قلت: وازيدُ إذا لم تُضف، ووازيدِ أذا أضفت، وإن شئت قلت: وازيدي. والإلحاق وغير الإلحاق عربي فيما زعم الخليل رحمه الله ويونس.(2/221)
وإذا أضفت المندوب وأضفتَ إلى نفسك المضاف إليه المندوبُ فالياء فيه أبدا بينة، وإن شئت ألحقت الألف، وإن شئت لم تُلحق. وذلك قولك: وانقطاع ظهرياهْ، ووا انقطاعَ ظهرى. وإنما لزمتْه الياء لأنه غير منادى.
واعلم أنك إذا وصلتَ كلامَك ذهبتْ هذه الهاء في جميع الندبة، كما تذهب في الصلة إذا كانت تبيَّن به الحركة.
وتقول: واغلامَ زيداه، إذا لم تُضف زيدا إلى نفسك. وإنما حذفت التنوين لأنه لا ينجزم حرفان. ولم يحركوها في هذا الموضع في النداء إذ كانت زيادة غير منفصلة من الاسم، فصارت تعاقب، وكانت أخفَّ عليهم، فهذا في النداء أحرى، لأنه موضع حذف. وإن شئت قلت: واغلامَ زيد، كما قلت وازيدُ.
وزعموا أن هذا البيت يُنشَد على وجهين، وهو قول رؤبة:(2/222)
فهْي تُنادي بأبِى وابْنِيما ويروى: بأَباَ وابناَما، فما فضلٌ، وإنما حكى نُدبتَها.
واعلم أنه إذا وافقت الياء الساكنة ياءَ الإضافة في النداء لم تحذف أبدا ياء الإضافة ولم يُكسر ما قبلها، كراهية للكسرة في الياء، ولكنهم يلحقون ياءَ الإضافة وينصبونها لئلا ينجزم حرفان. وإذا ندبت فأنت بالخيار: إن شئت ألحقت الألفَ وإن لم تُلحق جاز كما جاز ذلك في غيره. وذلك قولك: واغلامَيّاهْ وواقاضياهْ، وواغلاميّ وواقاضيّ، يصير مجراه ها هنا كمجراه في غير الندبة، إلا أن لك في الندبة أن تلحق الألف. وكذلك الألف إذا أضفتها إليك مجراها في الندبة كمجراها في الخبر إذا أضفت إليك.
وإذا وافقت ياء الإضافة ألفا لم تحرَّك الألف، لأنها إن حرِّكت صارت ياء، والياء لا تدخلها كسرةٌ في هذا الموضع. فلما كان تغييرهم إياها يدعوهم إلى ياء أخرى وكسرة تركوها على حالها كما تُركت ياء قاضي، إذ لم يخافوا التباسا وكانت أخف، وأثبتوا ياء الإضافة ونصبوها لأنه لا ينجزم حرفان. فإذا ندبت فأنت بالخيار إن شئت ألحقت الألف كما ألحقتها في الأول وإن شئت لم تُلحقها، وذلك قولك: وامُثنّاياه وامُثنّاي. فإن لم تُضف الى(2/223)
نفسك قلت: وا مُثنّاه، وتحذف الأول لأنه لا ينجزم حرفان ولم يخافوا التباسا: فذهبتْ كما تذهب في الألف واللام، ولم يكن كالياء لأنه لا يدخلها نصبٌ.
؟ باب تكون ألفُ الندبة فيه تابعة لما قبلها
إن كان مكسورا فهي ياء، وإن كان مضموما فهي واو.
وإنما جعلوها تابعة ليفرقوا بين المذكر والمؤنث، وبين الاثنين والجميع، وذلك قولك: واظهْرَهُوهْ، إذا أضفت الظهر إلى مذكر، وإنما جعلتها واوا لتفرق بين المذكر والمؤنث إذا قلت: واظهرَهاهْ.
وتقول: واظهرهُموه، وإنما جعلت الألف واوا لتفرق بين الاثنين والجميع إذا قلت: واظهرهُماه.
وإنما حذفت الحرف الأول لأنه لا ينجزم حرفان، كما حذفت الألف الأول من قولك وامُثنّاه.
وتقول: واغلامَكِيهْ، إذا أضفت الغلام إلى مؤنث. وإنما فعلوا ذلك ليفرقوا بينها وبين المذكر إذا قلت: واغُلامَكاه.
وتقول: واانقطاعَ ظهرهُوه، في قول من قال: مررت بظهرهو قبل. وتقول: وانقطاع ظهرِهيهْ. في قول من قال: مررتُ بظهرهي قبلُ.
وتقول: واأبا عمرياه وإن كنت إنما تندب الأب، وإياه تضيف إلى نفسك لا عَمراً، من قبل أن عمرا مجراه هنا كمجراه لو كان لك، لأنه(2/224)
لا يستقيم لك إضافة الأب إليك حتى تجعل عمرا كانه لك، لأن ياء الإضافة عليه تقع، ولا تحذفها لأن عمرا غير منادى. ألا ترى أنك تقول يا أبا عَمري. ومما يدلّك على أن عمراً ها هنا بمنزلته لو كان لك، أنه لا يجوز أن تقول هذا أبو النّضرِك، ولا هذه ثلاثةُ الأثوابِك، إذا أردت أن تضيف الأب والثلاثة، من قبل أنه لا يسوغ لك ولا تصل إلى أن تضيف الأول حتى تجعل الآخِر مضافا إليك كأنه لك.
؟
هذا باب
ما لا تلحقه الألف التي تلحق المندوب
وذلك قولك: وازيدُ الظريفُ والظريفَ. وزعم الخليل رحمه الله أنه منعه من أن يقول الظريفاه أن الظريف ليس بمنادى، ولو جاز ذا لقلت: وازيدُ أنت الفارسُ البَطَلاهْ؛ لأن هذا غير منادى كما أن ذلك غير نداء.(2/225)
وليس هذا كقولك: واأميرَ المؤمنيناه، ولا مثل: واعبدَ قيساه؛ من قبل أن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد منفرد، والمضاف إليه هو تمام الاسم ومقتضاه، ومن الاسم. ألا ترى أنك لو قلت عبدا أو أميرا، وأنت تريد الإضافة لم يجز لك. ولو قلت هذا زيد كنتَ في الصفة بالخيار، إن شئت وصفتَ وإن شئت لم تصف. ولستَ في المضاف إليه بالخيار، لأنه من تمام الاسم، وإنما هو بدل من التنوين. ويدلك على ذلك أن ألف الندبة إنما تقع على المضاف إليه كما تقع على آخر الاسم المفرد، ولا تقع على المضاف، والموصوف إنما تقع ألفُ الندبة عليه لا على الوصف.
وأما يونس فيلحق الصفة الألف، فيقول: وازيدُ الظريفاه، واجُمجمتيّ الشّاميّتيْناه.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا خطأ.
وتقول: واقهسرُوناه، لأن هذا اسم مفرد. وكذلك رجل سُمّي باثنَيْ عشر تقول: واثنا عشرَاه، لأنه اسم مفرد بمنزلة قِنّسرين.
وإذا ندبت رجلا يسمى ضربوا قلت: واضَربوه. وإن سُمي ضربا(2/226)
قلت: واضرباه. فهذا بمنزلة واغلامَهاه، جعلت ألف الندبة تابعة لتفرق بين الإثنين والجميع.
ولو سميتَ رجلا بغلامهم أو غلامهما لم تحرف واحدا منهما عن حاله قبل أن يكون اسما، ولتركته على حاله الأول في كل شيء. فكذلك ضربا وضربوا، إنما تحكى الحال الأولى قبل أن يكونا اسمين، وصارت الألف تابعة لهما كما تبعت التثنية والجمع قبل أن يكونا اسمين، نحو غلامهما وغلامهم، لأنهما كما لم يتغيرا في سائر المواضع لم يتغيرا في الندبة.
؟ هذا باب ما لا يجوز أن يُندب
وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويونس أنه قبيح، وأنه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إنما قبح لأنك أبهمت. ألا ترى أنك لو قلت واهذاه، كان قبيحا، لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تفجع بأعرف الأسماء، وأن تخص ولا تُبهم؛ لأن الندبة على البيان، ولو جاز هذا لجاز يا رجلا ظريفا، فكنت نادبا نكرة. وإنما كرهوا ذلك أنه تفاحَش عندهم أن يختلطوا وان يتفجعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم في المبهَم لإبهامه؛ لأنك إذا ندبت تُخبر أنك قد وقعت في عظيم، وأصابك جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أن تُبهم.(2/227)
وكذلك: وامَن في الداراه، في القبح.
وزعم أنه لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأن هذا معروف بعينه، وكأن التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب. ولو قلت هذا لقلت وامن لا يعنين أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنه لا يُعذر على أن يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجع ويُبهم، كما لا يُعذر على أن يتفجع على من لا يعنيه أمره.
؟
باب يكون الاسمان فيه بمنزلة اسم واحد
ممطول وآخر الاسمين مضموم إلى الأول بالواو
وذلك قولك: واثلاثة وثلاثيناه. وإن لم تندب قلت: يا ثلاثة وثلاثين، كأنك قلت يا ضاربا رجلا.
وليس هذا بمنزلة قولك يا زيدُ وعمرو، لأنك حين قلت يا زيدُ وعمرو جمعت بين اسمين كلُ واحد منهما مفرد يُتوهّم على حياله، وإذا قلت يا ثلاثة وثلاثين فلم تُفرد الثلاثة من الثلاثين لتُتوهّم على حيالها، ولا الثلاثين من الثلاثة. ألا ترى أنك تقول يا زيدُ ويا عمرو، ولا تقول يا ثلاثة ويا ثلاثون، لأنك لم ترد أن تجعل كل واحد منهما على حياله، فصار بمنزلة قولك ثلاثة عشر، لأنك لم ترد أن تفصل ثلاثة من العشرة ليتوهموها على حيالها. ولزمها النصب كما لزم يا ضاربا رجلا، حين طال الكلام.(2/228)
وقال: يا ضاربا رجلا معرفة كقولك يا ضاربُ، ولكن التنوين إنما يثبت لأنه وسط الاسم، ورجلا من تمام الاسم، فصار التنوين بمنزلة حرف قبل آخر الاسم. ألا ترى أنك لو سميت رجلا خيرا منك، لقلت يا خيرا منك فألزمته التنوين وهو معرفة، لأن الراء ليست آخر الاسم ولا منتهاه، فصار بمنزلة الذي، إذا قلت هذا الذي فعل. فكما أن خيرا منك لزمه التنوين وهو معرفة، كذلك لزم ضاربا رجلا، لأن الباء ليست منتهى الاسم، وإنما يُحذب التنوين في النداء من آخر الاسم. فلما لزمت التنوينة وطال الكلام رجع إلى أصله. وكذلك ضارب رجل إذا ألقيت التنوين تخفيفاً، لأن الرجل لا يجعل ضاربا نكرة إذا أردت معنى التنوين، كما لا يجعله معرفة في غير النداء إذا أردت معنى التنوين وحذفته، نحو قولك: هذا ضاربُك قاعدا. ألا ترى أن حذف التنوين كثباته لا يغير الفاعل إذا كنت تحذفه وأنت تريد معناه.
وأما قولك يا اخا رجل، فلا يكون الأخ ها هنا إلا نكرة، لأنه مضاف إلى نكرة، كما أن الموصوف بالنكرة لا يكون إلا نكرة، ولا يكون الرجل ههنا بمنزلته إذا كان منادى، لأنه ثم يدخله التنوين، وجاز لك أن تريد معنى الألف واللام ولا تلفظ بهما وهو هنا غير منادى وهو نكرة، فجُعل ما أضيف إليه بمنزلته.
؟
باب الحروف التي ينبه بها المدعو
فأما الاسم غيرُ المندوب فينبَّه بخمسة أشياء: بيا، وأيا، وهَيا، وأى، وبالألف. نحو قولك: أحارِ بنَ عمرٍو. إلا أن الأربعة غير الألف قد(2/229)
يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخى عنهم، والإنسان المعرض عنهم، الذي يُرَون أنه لا يُقبل عليهم إلا بالاجتهاد، أو النائم المستثقل. وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. وقد يجوز لك ان تستعمل هذه الخمسة غيروا إذا كان صاحبك قريبا منك، مقبِلاً عليك، توكيدا.
وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء كقولك: حار بنَ كعبٍ، وذلك أنه جعلهم بمنزلة مَن هو مقبِلٌ عليه بحضرته يخاطبه.
ولا يحسن أن تقول: هذا، ولا رجلُ، وأنت تريد: يا هذا، ويا رجلُ ولا يجوز ذلك في المبهم؛ لأن الحرف الذي ينبَّه به لزم المبهم كأنه صار بدلا من أيُّ حين حذفته، فلم تقل يا أيها الرجل ولا يا أيهذا، ولكنك تقول إن شئت: مَن لايزال مُحسناً افعل كذا وكذا؛ لأنه لا يكون وصفا لأي.
وقد يجوز حذفُ يا من النكرة في الشعر، وقال العجّاج:(2/230)
جاريَ لا تستنكِري عَذيري يريد يا جاريةُ. وقال في مَثَل: افتَدِ مخنوقُ، وأصبِحْ ليلُ، وأطرِقْ كَرا. وليس هذا بكثير ولا بقوى.
واما المستغاث به فيا لازمة له؛ لأنه يجتهد. فكذلك المتعجَّب منه، وذلك: يا لَلناس ويا لَلماء. وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخ أو غافل والتعجب كذلك. والندبة يلزمها يا ووا؛ لأنهم يحتلطون ويدعون ما قد فات وبعد عنهم. ومع ذلك أن الندبة كأنهم يترنمون فيها، فمن ثم ألزموها المد، وألحقوا آخر الاسم المدَّ مبالغة في الترنم.
؟
هذا باب
ما جرى على حرف النداء وصفا له
وليس بمنادى ينبهه غيره، ولكنه اختُصّ كما أن المنادى مختص من(2/231)
بين أمته، لأمرك ونهيك أو خبرك. فالاختصاص أجرى هذا على حرف النداء، كما أن التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا استفهام على حرف الاستفهام؛ لأنك تسوى فيه كما تسوى في الاستفهام. فالتسوية أجرتْه على حرف الاستفهام، والاختصاصُ أجرى هذا على حرف النداء.
وذلك قولك: ما أدرى أفَعلَ أم لم يفعل. فجرى هذا كقولك أزيدٌ عندك أم عمرو، وأزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ، إذا استفهمتَ؛ لأن علمك قد استوى فيهما كما استوى عليك الأمران في الأول. فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء.
وذلك قولك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونفعل نحن كذا وكذا أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعةُ أيها البائع، واللهم اغفِر لنا أيتها العصابة، وأردت أن تختص ولا تُبهم حين قلت: أيتها العصابةُ وأيها الرجل، أراد أن يؤكد لأنه قد اختص حين قال أنا، ولكنه أكد كما تقول للذي هو مقبلٌ عليه بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا فلان، توكيدا. ولا تُدخل يا ها هنا لأنك لست تنبه غيرك. يعني: اللهمّ غفر لنا أيتها العصابة.(2/232)
؟ هذا باب من الاختصاص يجري على ما جرى عليه النداء فيجيء لفظه على موضع النداء نصبا لأن موضع النداء نصب، ولا تجري الأسماء فيه مجراها في النداء، لأنهم لم يجروها على حروف النداء، ولكنهم أجروها على ما حمل عليه النداء.
وذلك قولك: إنا معشرَ العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال: أعني، ولكنه فعلٌ لا يظهر ولا يُستعمل كما لم يكن ذلك في النداء؛ لأنهم اكتفوا بعلم المخاطَب، وأنهم لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده محمول على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:
إنَّا بنى مِنقرٍ قومٌ ذَوُو حسَبٍ ... فينا سَراةُ بنى سعدٍ وناديَها
وقال الفرزدق:(2/233)
ألم ترَ أنّا بنى دارِمٍ ... زُرارةُ منّا أبو معبدِ
فإنما اختُصّ الاسم هنا ليعرَف بما حُمل على الكلام الأول، وفيه معنى الافتخار. وقال رؤبة: بنا تَميماً يُكشف الضّبابْ وقال: نحن العُربَ أقرى الناس لضيف، فإنما أدخلتَ الألف واللام لأنك أجريت الكلام على ما النداء عليه، ولم تُجره مجرى الأسماء في النداء. ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: يا العربَ، وإنما دخل في هذا الباب من حروف النداء أيُّ وحدَها، فجرى مجراه في النداء.
وأما قول لبيد:(2/234)
نحن بنو أمِّ البنينَ الأربعة ... ونحن خيرُ عامر بنِ صَعصعَهْ
فلا يُنشدونه إلا رفعا، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يُعرَفوا بأن عدّتهم أربعة، ولكنهم جعل الأربعة وصفا ثم قال: المُطعمِون الفاعلون، بعدما حلاهم ليُعرَفوا.
وإذا صغّرتَ الأمر فهو بمنزلة تعظيم الأمر في هذا الباب، وذلك قولك: إنا معشرَ الصعاليك لا قوةَ بنا على المُروّة.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: بك اللهَ نرجو الفضلَ، وسُبحانك اللهَ العظيمَ، نصبُه كنصب ما قبله، وفيه معنى التعظيم. وزعم أن دخول أى(2/235)
في هذا الباب يدل على أنه محمول على ما حُمل عليه النداء، يعني أيتها العصابة فكان هذا عندهم في ألأصل أن يقولوا فيه يا، ولكنهم خزلوها وأسقطوها حين أجروه على الأصل.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تُبهم في هذا الباب فتقول: إني هذا أفعلُ كذا وكذا، ولكن تقول: إني زيدا أفعلُ. ولا يجوز أن تذكر إلا اسما معروفا؛ لأن الأسماء إنما تُذكرها توكيدا وتوضيحا هنا للمضمَر وتذكيرا وإذا أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر. ولو جاز هذا لجازت النكرةُ فقلتَ إنا قوما، فليس هذا من مواضع النكرة والمبهَم، ولكن هذا موضعُ بيان كما كانت الندبةُ موضعَ بيان، فقبُح إذ ذكروا الأمر توكيدا لما يعظمون أمرَه أن يذكروا مبهما.
وأكثر الأسماء دخولا في هذا الباب بنو فلان، ومعشَر مُضافةً، وأهل البيت، وآل فلان. ولا يجوز أن تقول إنهم فعلوا أيتها العصابةُ، إنما يجوز هذا للمتكلم والمكلَّم المنادى، كما أن هذا لا يجوز إلا لحاضر.
وسألت الخليل رحمه الله ويونس عن نصب قول الصّلَتان العبدي:(2/236)
يا شاعراً لا شاعرَ اليومَ مثلَه ... جَريرٌ ولكنْ في كليبٍ تواضعُ
فزعما أنه غير منادى وإنما انتصب على إضمار كأنه قال يا قائل الشعر شاعرا، وفيه معنى حسبُك به شاعرا.
كأنه حيث نادى قال حسبُك به، ولكنه أضمر كما أضمروا في قوله: تالله رجلا وما أشبهه، مما ستجده في الكتاب إن شاء الله عز وجل.
ومما جاء وفيه معنى التعجب كقولك: يا لك فارسا، قولُ الأخوص ابن شُريح الكلابي:(2/237)
تمنّاني ليلقاني لَقيطٌ ... أعامِ لك بنَ صعصعةَ بنِ سعدِ
وإنما دعاهم لهم تعجبا، لأنه قد تبين لك أن المنادى يكون فيه معنى أفعِل به، يعنى يا لك فارسا.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا البيت مثلُ ذلك؛ للأخطل:
أيامَ جُملِ خَليلاً لو يَخافُ لها ... صُرماً لَخولِط منه العقلُ والجسدُ(2/238)
وقال في قول الشاعر: يا هندُ هندٌ بين خِلبٍ وكَبدْ أنه أراد: أنتِ بين خِلب وكبِد، فجعلها نكرةً.
وقد يجوز أن تقول بعد النداء مقبِلاً على مَن تحدثه: هندٌ هذه بين خِلبٍ وكبدٍ، فيكون معرفة.
؟
هذا باب الترخيم
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفا، كما حذفوا غير ذلك من كلامهم تخفيفا، وقد كتبناه فيما مضى، وستراه فيما بقى إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء إلا أن يُضطرّ شاعرٌ، وإنما كان ذلك في النداء لكثرته في كلامهم، فحذفوا ذلك كما حذفوا التنوين، وكما حذفوا الياء من قومى ونحوه في النداء.(2/239)
واعلم أن الترخيم لا يكون في مضاف إليه ولا في وصف؛ لأنهما غيرُ منادَيين، ولا يرخم مضاف ولا اسمٌ منون في النداء؛ من قبل أنه جرى على الأصل وسلِم من الحذف، حيث أُجري مجراه في غير النداء إذا حملتَه على ما ينصب. يقول: إن المحذوف في الترخيم إنما يقع على النداء لا على الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، ومع ذلك إنه إنما ينبغى أن تحذف آخر شيء في الاسم، ولا يُحذف قبل أن تنتهي إلى آخره، لأن المضاف إليه من الاسم الأول بمنزلة الوصل من الذي إذا قلت الذي قال، وبمنزلة التنوين في الاسم.
ولا ترخم مستغاثا به إذا كان مجرورا، لأنه بمنزلة المضاف إليه. ولا ترخم المندوب لأن علامته مستعملة، فإذا حذفوا لم يحملوا عليه مع الحذف الترخيم.(2/240)
وإذا ثنيت لم ترخم؛ لأنها كالتنوين.
واعلم أن الحرف الذي يلي ما حذفت ثابتٌ على حركته التي كانت فيه قبل أن تحذف، إن كان فتحا أو كسرا أو ضما أو وقفا؛ لأنك لم ترد أن تجعل ما بقي من الاسم اسما ثابتا في النداء وغير النداء، ولكنك حذفت حرف الإعراب تخفيفا في هذا الموضع وبقي الحرف الذي يلي ما حُذف على حاله، لأنه ليس عندهم حرفَ الإعراب. وذلك قولك يا حارث: يا حار، وفي سلَمة: يا سَلَم، وفي بُرثُن: يا بُرثُ، وفي هرقل: يا هِرَقْ.
؟
باب ما أواخر الأسماء فيه الهاء
اعلم أن كل اسم كان مع الهاء ثلاثة أحرف أو أكثر من ذلك، كان اسما خاصا غالبا، أو اسما عاما لكل واحد من امة، فإن حذف الهاء منه في النداء أكثر في كلام العرب. فأما ما كان اسما غالبا فنحو قولك: يا سلَمَ أقبل. وأما الاسم العام العام فنحو قول العجاج: جاريَ لا تَستنكرى عَذِيرِى إذا أردت يا سَلَمةُ، ويا جاريةُ.
وأما ما كان على ثلاثة أحرف مع الهاء فنحو قولك: يا شا ارْجُني ويا ثُبَ أقبِلي، إذا أردت: شاة وثُبةً.(2/241)
واعلم أن ناسا من العرب يثبتون الهاء فيقولون: يا سلمةُ أقبلْ، وبعض من يُثبت يقول: يا سلمةَ أقبل.
واعلم أن العرب الذين يحذفون في الوصل إذا وقفوا قالوا: يا سلمهْ ويا طلحَهْ. وإنما ألحقوا هذه الهاء ليبينوا حركة الميم والحاء، وصارت هذه الهاء لازمة لهما في الوقف كما لزمت الهاء وقف ارمه، ولم يجعلوا المتكلم بالخيار وحذف الهاء عند الوقف وإثباتها، من قبل أنهم جعلوا الحذف لازماً لهاء التأنيث في الوصل، كما لزم حذفُ الهاء من ارمِهْ في الوصل وكأنهم ألزموا هذه الهاء في ارْمِهْ في الوقف ولم يجعلوها بمنزلتها إذا بيّنتَ حركة ما لم يحذف بعده شيء نحو علَيَّهْ وإليّهْ، ولكنها لازمة كراهية أن يجتمع في ارمِه حذف الهاء وترك الحركة، فأرادوا أن تثبت الحركة على كل حال، ليكون ثباتُها عوضا من الحذف للياء والهاء، فبُيّنت الحركة بالهاء في السكوت ليكون ثباتُها في الاسم على كل حال؛ لئلا يُخلّوا به.
واعلم أن الشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف، وذلك لأنهم يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلا منها.
وقال الشاعر، ابن الخرع:(2/242)
كادت فزارةُ تَشقَى بنا ... فأُوْلَى فزارةُ أَوْلَى فَزارا
وقال القُطامي: قِفِى قبل التفرِّق يا ضُباعا وقال هُدبةُ: عُوجي علينا واربَعي يا فاطِما(2/243)
وإنما كان الحذف ألزمَ للهاءات في الوصل، وفيها أكثر منه في سائر الحروف في النداء، من قبل أن الهاء في الوصل في غير النداء تبدل مكانَها التاء، فلما صارت الهاء في موضع يحذف منه لا يُبدّل منه شيء تخفيفا، كان ما يُبدّل ويُغيّر أولى بالحذف، وهو له ألزم، وجعلوا تغييره الحذف في موضع الحذف إذ كان متغيرا لا محالة.
وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حَرملْ، يريد يا حَرمَلَهْ، كما قال بعضهم: إرْمْ، يقفون بغير هاء.
واعلم أن هاء التأنيث إذا كانت بعد حرف زائد لو لم تكن بعده حُذف، أو بعد حرفين لو لم تكن بعدهما حُذفا زائدين، لم يحذف، من قبل أن الحروف الزوائد قبل الهاء في الترخيم بمنزلة غير الزوائد من الحروف وذلك قولك في طائفية: يا طائفى أقبلى، وفي مَرجانة: يا مرجانَ أقبلى.(2/244)
وفي رعشنةٍ: يا رَعْشَنَ أقبلى، وفي سِعلاةٍ: يا سِعلا أقبلى. ولو حذفتَ ما قبل الهاء كحذفك إياه وليس بعده هاء لقلت في رجل يسمى عُثمانةَ يا عُثمَ أقبل، لأن الهاء لو لم تكن ههنا لقلت يا عُثْمَ أقبل؛ فإنما الكلام أن تقول يا عُثمان أقبل. فأجْرِ ترخيمَ هذا بعد الزوائد مجراه إذا كان بعدما هو من نفس الحرف.
ومَن حذف الزوائد مع الهاء فإنه ينبغي له أن يقول في فاظمة: يا فاطِ لا تفعلي، من قبل أن الهاء لو لم تكن بعد الميم لقلت يا فاطِ كما تقول يا حارِ، فأنت تحذف ما هو من نفس الحرف كما تحذف الزوائد، فإذا ألحقته الزوائد لم تحذفه مع الزوائد. فكذلك الزوائد إذا ألحقتَها مع الزوائد لم تحذفها معها.
؟ باب يكون فيه الاسم بعدما يُحذف منه الهاء
بمنزلة اسم يتصرف في الكلام لم يكن فيه هاء قط
وذلك قول بعض العرب، وهو عنترة العبسى:(2/245)
يَدعون عنترُ، والرماحُ كأنَّها ... أشطانُ بيرٍ فى لَبان الأدهمِ
جعلوا الاسم عنترا وجعلوا الراء حرف الإعراب.
وقال الأسود بن يعفُر تصديقا لهذه اللغة:
أَلا هل لهذا الدَّهرِ من مُتعلّلِ ... عن الناس، مهما شاء بالناس أن يَفْعَلِ
ثم قال:
وهذا رِدائِى عنده يَستعيرُه ... ليسلُبَني حَقّى أمالِ بنَ حنظلِ(2/246)
وذلك لأن الترخيم يجوز في الشعر في غير النداء، فلما رخم جعل الاسم بمنزلة اسمٍ ليست فيه هاء. وقال رؤبة:
إمَّا تَرَيني اليومَ أمَّ حمزِ ... قاربتُ بين عَنَقي وجَمزي
وإنما أراد: أمَّ حمزة. وأما قول ذى الرمة:
ديارَ ميّةَ إذْ مَيٌّ تُساعفُنا ... ولا يَرى مثلَها عُجمٌ ولا عربُ
فزعم يونس أنه كان يسميها مرة مية ومرة ميا، ويجعل كل واحد من الاسمين اسما لها في النداء وفي غيره.(2/247)
وعلى هذا المثال قال بعض العرب إذا رخموا: يا طَلحُ ويا عنترُ. وقد يكون قولهم يدعون عنترُ بمنزلة ميَّ؛ لأن ناساً من العرب يسمونه عنتراً في كل موضع. ويكون أن تجعله بمنزلة مى بعد ما حذفت منه، وقد يكون ميٌّ أيضا كذلك، يجعلها بمنزلة ما ليس فيه هاء بعد ما تحذف الهاء.
وأما قول العرب: يا فُلُ أقبلْ، فإنهم لم يجعلوه اسما حذفوا منه شيئا يثبت فيه في غير النداء، ولكنهم بنوا الاسمَ على حرفين، وجعلوه بمنزلة دم. والدليل على ذلك أنه ليس أحدٌ يقول يا فُلَ فإن عنوا امرأة قالوا: يا فُلةُ: وهذا الاسم اختُصّ به النداء، وإنما بُني على حرفين لأن النداء موضعُ تخفيف، ولم يجز في غير النداء لأنه جُعل اسما لا يكون إلا كناية لمنادى، نحو يا هَناهْ، ومعناه يا رجلُ. وأما فلان فإنما هو كناية عن اسم سُمي به المحدث عنه، خاص غالب. وقد اضطُرّ الشاعرُ فبناه على حرفين في هذا المعنى. قال أبو النجم: فى لّجَةٍ أمسِكْ فُلاناً عن فُلِ(2/248)
؟ هذا باب إذا حذفتَ منه الهاء
وجعلت الاسم بمنزلة ما لم تكن فيه الهاء أبدلتَ حرفا مكان الحرف الذي يلي الهاء وإن لم تجعله بمنزلة اسم ليس فيه الهاء لم يتغير عن حاله التي كان عليها قبل أن تحذف.
وذلك قولك في عَرقوةٍ وقَمَحدوَةٍ وإن جعلت الاسم بمنزلة اسم لم تكن فيه الهاء على حالٍ: يا عَرقي ويا قَمَحْدي؛ من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ آخر كذا. وكذلك إن رخّمتَ رَعومٌ وجعلته بهذه المنزلة، قلت يا رَعي.
وإن رخَّمْت رجلا يسمى قَطَوان فجعلته بهذه المنزلة قلت: يا قَطا أقبلْ.(2/249)
فإن رخمت رجلا اسمُه طُفاوةُ قلت: يا طُفاءُ أقبلْ، من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ هكذا آخِره يكون حرفَ الإعراب، يعني الواو والياء إذا كانت قبلهما ألف زائدة ساكنة لم يثبتا على حالهما، ولكن تُبدّل الهمزة مكانَهما. فإن لم تجعلهما حروف الإعراب فهي على حالها قبل أن تحذف الهاء، وذلك قولك: يا طُفاوَ أقبلْ، إذا لم ترد أن تجعله بمنزلة اسم ليست فيه الهاء.
واعلم أن ما يُجعل بمنزلة اسم ليست فيه هاء أقلُّ في كلام العرب، وترك الحرف على ما كان عليه قبل أن تُحذف الهاء أكثر؛ من قبل أن حرف الإعراب في سائر الكلام غيره. وهو على ذلك عربي.
وقد حملهم ذلك على أن رخَّموه حيثُ جعلوه بمنزلة ما لا هاء فيه. قال العجاج:
فقد رأى الراءونَ غيرَ البُطَّلِ ... أنَّك يا مُعاوِ يا ابنَ الأفضلِ(2/250)
يريد: يا مُعاوية.
وتقول في حَيْوَةَ: يا حَيوَ أقبلْ، فإن رفعت الواو تركتها على حالها لأنه حرف أُجري على الأصل وجُعل بمنزلة غزوٍ، ولم يكن التغيير لازما وفيه الهاء.
واعلم أنه لا يجوز أن تحذف الهاء وتجعل البقية بمنزلة اسم ليست فيه الهاء إذا لم يكن اسما خاصا غالبا، من قبل أنهم لو فعلوا ذلك التبس المؤنث بالمذكر. وذلك أنه لا يجوز أن تقول للمرأة: يا خبيثُ أقبلى. وإنما جاز في الغالب لأنك لا تذكر مؤنثا ولا تؤنث مذكرا.
واعلم أن الأسماء التي ليس في اواخرها هاء أن لا يُحذف منها أكثر، لأنهم كرهوا أن يُخِلّوا بها فيحملوا عليها حذف التنوين وحذف حرف لازم للاسم لا يتغير في الوصل ولا يزول.
وإن حذفتَ فحسن. وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيرا في الشعر، وأكثروا التسمية بها للرجال. قال مهلهل بن ربيعة:
يا حارِ لا تجهلْ على أشياخِنا ... إنّا ذَوو السّوراتِ والأَحْلامِ(2/251)
وقال امرؤ القيس:
أحارِ تَرى بَرْقاً أُريكَ وميضَهُ ... كلمعِ اليَدَيْنِ في حَبيّ مكلّلِ
وقال الأنصاري: يا مالِ والحقُّ عنده فقِفُوا وقال النابغة الذبياني:
فصالحِونا جميعاً إن بَدَا لكلم ... ولا تَقولوا لنا أمثالَها عامِ
وهو في الشعر أكثر من أن أحصيه.(2/252)
وكل اسم خاص رخمته في النداء فالترخيم فيه جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر. فمن ذلك قول الشاعر:
فقُلتمْ تَعالَ يا يَزي بنَ مُخرِّم ... فقلتُ لكُمْ إنّى حَليفُ صُداءِ
وهو يزيد بن مخرم.
وقال مجنون بني عامر:
أَلا يا ليلَ إن خُيّرتِ فينا ... بنفسي فانسري أينَ الخيارُ
يريد في الأول: يزيد، وفي الثاني ليلى.
وقال أوس بن حجر:(2/253)
تسكّرتِ منّا بعدَ معرفةٍ لَمي يريدُ: لميسَ.
واعلم أن كل شيء جاز في الاسم الذي في آخره هاء بعد أن حذفت الهاء منه في شعر أو كلام، يجوز فيما لا هاء فيه بعدُ أن تحذف منه. فمن ذلك قول امرئ القيس:
لَنِعمَ الفَتَى تَعشو إلى ضَوْءِ نارهِ ... طريفُ بنُ مالٍ ليلةَ الجُوعِ والخصَرْ
جعل ما بقي بعد ما حذف، بمنزلة اسم لم يُحذف منه شيء، كما جعل(2/254)
ما بقي بعد حذف الهاء بمنزلة اسمٍ لم تكن فيه الهاء.
وقال رجل من بني مازن:
علىَّ دِماءُ البُدنِ إن لم تُفارِقِى ... أبا حردَبٍ ليلاً وأصحابَ حردَبِ
وقال، وهو مصنوع على طرفة، وهو لبعض العِباديين:
أسعدَ بنَ مالٍ ألم تَعلموا ... وذو الرأى مَهْمَا يقُل يصدُقِ
واعلم أن كل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم تكن آخره الهاء. فزعم الخليل رحمه الله أنهم خففوا هذه الأسماء التي ليست أواخرها الهاء ليجعلوا ما كان على خمسة على أربعة، وما كان على أربعة على ثلاثة. فإنما أرادوا أن يقربوا الاسم من الثلاثة أو يصيروه إليها، وكان غاية التخفيف عندهم؛ لأنه أخف شيء عندهم في كلامهم ما لم يُنتقص،(2/255)
فكرهوا أن يحذفوه إذ صار قصاراهم أن ينتهوا إليه.
واعلم أنه ليس من اسم لا تكون في آخره هاء يُحذف منه شيء إذا لم يكن اسما غالبا نحو زيد وعمرو، من قبل أن المعارف الغالبة أكثر في الكلام وهم لها أكثر استعمالا، وهم لكثرة استعمالهم إياها قد حذفوا منها في غير النداء، نحو قولك: هذا زيد بن عمرو، ولم يقولوا هذا زيد ابنُ أخيك.
ولو حذفت من الأسماء غير الغالبة لقلت في مسلمين: يا مُسلم أقبِلوا، وفي راكب: يا راكِ أقبلْ. إلا أنهم قد قالوا: يا صاح، وهم يريدون يا صاحبُ؛ وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف، فحذفوا كما قالوا: لم أُبَلْ، ولم يكُ، ولا أدرِ.
؟ هذا باب ما يُحذف من آخره حرفان
لأنهما زيادة واحدة بمنزلة حرف واحد زائد
وذلك قولك في عثمان: يا عُثْمَ أقبلْ، وفي مَرْوانَ: يا مرْوَ أقبل، وفي(2/256)
أسْماءَ: يا أسمَ أَقبلى.
وقال الفرزدق: يا مَروَ إنّ مَطّيتى مَحْبوسةً تَرْجُو الحِباء ورَبُّها لم ييأسِ وقال الراجز: يا نعمَ هل تحلف لا تَدينُها(2/257)
وقال لبيد:
يا أسمَ صَبْراً على ما كان من حدثٍ ... إن الحوادث مَلقيٌّ ومنتظَرُ
وإنما كان هذان الحرفان بمنزلة زيادة واحدة من قبل أنك لم تُلحق الحرفَ الآخِر أربعة أحرف رابعهن الألف، من قبل أن تزيد النون التي في مروان، والألف التي في فَعلاء، ولكن الحرف الاخر الذي قبله زيدا معا، كما أن ياءَي الإضافة وقعتا معا. ولم تلحق الآخرةَ بعد ما كانت الأولى لازمة، كما كانت ألف سلمى إنما لحقتْ ثلاثة أحرف ثالثها الميم لازمها، ولكنهما زيادتان لحقتا معاً فحذفتا جميعاً كما لحقنا جميعاً.(2/258)
وكذلك ترخيم رجل يقال له مسلمون، بحذف الواو والنون جميعا من قبل أن النون لم تلحق واوا ولا ياء قد كانت لزمت قبل ذلك. ولو كانت قد لزمت حتى تكون بمنزلة شيء من نفس الحرف ثم لحقتها زائدة لم تكن حرف الإعراب.
وكذلك رجل اسمه مُسلمان: تحذف الألف والنون.
وأما رجل اسمه بَنون فلا يُطرح منه إلا النون، لأنك لا تصير اسما على أقل من ثلاثة أحرف. ومن جعل ما بقى من الاسم بعد الحذف بمنزلة اسم يتصرف في الكلام لم تكن فيه زيادة قط قال يا بَني، لأنه ليس في الكلام اسم يتصرف آخره كآخِر بَنو.
هذا باب يكون فيه الحرف
الذي من نفس الاسم وما قبله بمنزلة زائد وقع وما قبله جميعا
وذلك قولك في منصور: يا مَنصُ أقبلْ، وفي عمارٍ: يا عمّ أقبل، وفي رجل اسمه عنتريسٌ: يا عنتَرِ أقبلْ. وذلك لأنك حذفت الآخر كما حذفت الزائد، وما قبله ساكن بمنزلة الحرف الذي كان قبل النون زائدا فهو زائد كما كان ما قبل النون زائدا، ولم يكن لازما لما قبله من الحروف ثم لحقه ما بعده، لأن ما بعده ليس من الحروف التي تُزاد. فلما كانت حال هذه الزيادة حالَ تلك الزيادة وحُذفت الزيادة وما قبلها، حُذف هذا الذي من(2/259)
نفس الحرف.
؟
باب تكون الزوائد فيه بمنزلة
ما هو من نفس الحرف
وذلك قولك في قَنَوَّرٍ: يا قنوَّ أقبلْ، وفي رجل اسمه هَبَيّخ: يا هَبَيّ أَقبل؛ لأن هذه الواو التي في قنوّر والياء التي في هبيّخ، بمنزلة الواو التي في جَدْوَلٍ، والياء التي في عِثيَر.
وإنما لحقنا لتُلحقا ما كان على ثلاثة أحرف ببنات الأربعة، وليصير بمنزلة حرف من نفس الحرف؛ كفاء جعفر في هذا الاسم.
ويدلك على أنها بمنزلتها أن الألف التي تجيء لتُلحق الثلاثة بالأربعة منونة كما ينون ما هو من نفس الحرف، وذلك نحو مِعزى. ومع ذلك أن الزوائد تلحقها كما تلحق ما ليس فيه زيادة، نحو جِلواخٍ وجِريال وقِرواح، كما تقول سِرداح. وتَقَدّمُ قبل هذه الزيادة الياء والواو زائدتين كما تقدم الحرف الذي من نفس الحرف في فَدَوْكس وخَفَيدَد، وهي الواو(2/260)
التي في قَنَّورٍ الأولى، والياء التي في هبيّخ الأولى بمنزلة ياء سَميدَع، فصار قَنَوّرٌ بمنزلة فدوْكَس، وهبيّخ بمنزلة سَميدَع، وجَدْوَلٌ بمنزلة جَعْفَر، فأجروا هذه الزوائد بمنزلة ما هو من نفس الحرف، فكرهوا أن يحذفوها إذ لم يحذفوا ما شبهوها به وما جعلوها بمنزلته. ولو حذفوا من سميدع حرفين لحذفوا من مهاجر حرفين فقالوا: يا مُها، وهذا لا يكون، لأنه إخلال مُفرط بما هو من نفس الحرف.
؟ باب تكون الزوائد فيه أيضا بمنزلة
ما هو من نفس الحرف
وذلك قولك في رجل اسمه حَولايا أو بَردَرايا: يا بَردراي أقبلْ، ويا حَولاي أقبل؛ من قبل أن هذه الألف لو جيء بها للتأنيث والزيادة التي قبلها لازمة لها يقعان معا لكانت الياء ساكنة وما كانت حية، لأن الحرف الذي يجعل وما بعده زيادة واحدة ساكن لا يتحرك، ولو تحرك لصار بمنزلة حرف من نفس الحرف، ولجاء بناء آخرُ. ولكن هذه الألف بمنزلة الهاء التي في درحاية وفي عفارية، لأن الهاء إنما تلحق للتأنيث، والحرف الذي قبلها بائن منها قد لزم ما قبله قبل أن تلحق.
وكذلك الألف التي تجيء للتأنيث إذا جاءت وحدها، لأن حال الحرف الذي قبلها كحال الحرف الذي قبل الهاء، والهاء لا تكون أبداً مع شيء(2/261)
قبلها زائد بمنزلة زيادة واحدة وإن كان ساكنا نحو ألف سِعلاة. ولو كانت بمنزلة زيادة واحدة لم يقولوا سُعَيلِية، ولكانت في التحقير ياء مجزومة كالياء التي تكون بدل ألف سِرحان إذا قلت سُرَيحين، أو بمنزلة عُثمان إذا قلت عُثيمان، ولكنها لحقت حرفاً جيء به ليلحق الثلاثة ببنات الأربعة. وكذلك ألف التأنيث إذا جاءت وحدها، يدلك على ذلك تحرك ما قبلها وحياته.
وإنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء والواو والألف، وما بعدها، بمنزلة زيادة واحدة لسكونها وضعفها، فجعلتْ وما بعدها بمنزلة حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية.
ويدلك على أن الألف التي في حَولايا بمنزلة الهاء أنك تقول: حَولائي كما تقول: دِرحائي. ولو كانت وما قبلها بمنزلة زيادة واحدة لم تحذف الألف، كما لا تحذفها إذا قلت: خُنفساوي.
؟ باب ما إذا طُرحت منه الزائدتان
اللتان بمنزلة زيادة واحدة رجعت حرفا
وذلك قولك في رجل اسمه قاضون: يا قاضى أقبل، وفي رجل اسمه ناجيّ: يا ناجي أقبل، أظهرت الياء لحذف الواو والنون، وفي رجل اسمه مُصطَفون: يا مصطفى أقبل.
وإنما رددت هذه الحروف لأنك لم تَبن الواحد على حذفها كما بُنيت دمٌ على حذف الياء، ولكنك حذفتهن لأنه لا يسكن حرفان معا، فلما ذهب(2/262)
في الترخيم ما حذفتهن لمكانه رجعتهن. فحذف الواو والنون ههنا كحذفها في مسلمين؛ لأن حذفها لم يكن إلا لأنه لا يسكن حرفان معا والياء، والألف يعني في قاضي ومصطفى تثبتان كما ثبتت الميم في مسلمين.
ومثل ذلك: " غيرَ مُحِلّي الصيدِ وأنتم حُرُم ". وهذا قول الخليل رحمه الله. فإذا لم تذكر الصيد قلت مُحلّي.
؟ باب يحرَّك فيه الحرف الذي يليه المحذوف
لأنه لا يلتقى ساكنان
وهو قولك في رجل اسمه رادٌّ: يا رادِ أقبل. وإنما كانت الكسرة أولى الحركات به لأنه لو لم يُدغم كان مكسورا، فلما احتجتَ إلى تحريكه كان أولى الأشياء به ما كان لازماً له لو لم يُدغم. وأما مفرٌّ فإذا حذفت منه وهو اسم رجل، لم تحرَّك الراء لأن ما قبلها متحرك. وإن حذفت من اسم مُحمارّ أو مُضارّ، قلت: يا مُحمارِ ويا مُضارِ، تجيء بالحركة التي هي له في الأصل، كأنك حذفت من مُحمارر، حيث لم يجز لك أن تُسكِن الراء الأولى. ألا ترى أنك إذا احتجت إلى تحريكها والراء الآخرة ثابتة لم تحرك إلا على الأصل، وذلك قولك لم يَحمارِرْ، فقد احتجت إلى تحريكها في الترخيم(2/263)
كما احتجت إليه هنا حين جزمت الراء الآخرة.
وإن سميته بمضار وأنت تريد المفعول قلت: يا مُضارَ أقبل، كأنك حذفت من مُضارَر.
وأما مُحمرٌّ إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخمته تركت الراء الأولى مجزومة، لأن ما قبلها متحرك فلا تحتاج إلى حركتها. ومن زعم أن الراء الأولى زائدة كزيادة الواو والياء والألف، فهو لا ينبغي له أن يحذفها مع الراء الآخرة، من قبل أن هذا الحرف ليس من حروف الزيادة، وإنما يُزاد في التضعيف، فأشبه عندهم المضاعَف الذي لا زيادة فيه نحو مرتد وممتد، حين جرى مجراه ولم يجئ زائدا غير مضاعَف، لأنه ليس عندهم من حروف الزيادة، وإنما جاء زائدا في التضعيف، لأنه إذا ضوعِف جرى مجرى المضاعَف الذي ليس فيه زيادة.
ولو جعلت هذا الحرف بمنزلة الياء والألف والواو لثبت في التحقير والجمع الذي يكون ثالثة ألفا. ألا ترى أنه صار بمنزلة اسم على خمسة أحرف ليس فيه زيادة نحو جردَحْل وما أشبه ذلك.
وأما رجل اسمه إسحارٌّ فإنك إذا حذفت الراء الآخرة لم يكن(2/264)
لك بدٌّ من أن تحرك الراء الساكنة لأنه لا يلتقى حرفان ساكنان. وحركته الفتحة، لأنه يلى الحرف الذي منه الفتحة، وهو الألف. ألا ترى أن المضاعف إذا أُدغم في موضع الجزم حُرّك آخر الحرفين لأنه لا يلتقي ساكنان، وجُعل حركته كحركة أقرب المتحركات منه. وذلك قولك: لم يردُّ ولم يرتد ولم يفر ولم يعض. فإذا كان أقرب من المتحرك إليه الحرف الذي منه الحركة المفتوحة ولا يكون ما قبله إلا مفتوحا، كان أجدرَ أن تكون حركته مفتوحة، لأنه حيث قرب من الحرف الذي منه الفتحة وإن كان بينهما حرف كان مفتوحا، فإذا قرب منه هو كان أجدرَ أن تفتحه، وذلك لم يُضارّ.
وكذلك تقول: يا أَسحارَّ أَقبلْ، فعلت بهذه الراء ما كنت فاعلا بالراء الآخرة لو ثبت الراءان ولم تكن الآخرة حرف الإعراب، فجرى عليها ما كان جاريا على تلك كما جرى على ميم مُدّ ما كان بعد الدال الساكنة، وامُدُد هو الأصل. إن شئت فتحت اللام إذا أسكنتَ على فتحة انطلق، ولم يلْدَ إذا جزموا اللام. وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع(2/265)
العرب يقولون، وهو قول رجل من أزْد السَّراة:
أَلا رُبّ مَوْلودٍ وليس له أبٌ ... وذى وَلد لم يلْدَهُ أبوانِ
جعلوا حركته كحركة أقرب المتحركات منه. فهذا كأينَ وكيف.
وإنما منع أسحارا أن يكون بمنزلة مُحمارّ أن أصل محمار مُحمارِر، يدلك على ذلك فعله إذا قلت لم يَحمارِر. وأما إسحارٌّ فإنما هو اسم وقع مُدّغماً آخره، وليس لرائه الأولى في كلامهم نصيب في الحركة، ولا تقع إلا ساكنة، كما أن الميم الأولى من الحُمّر، والراء الأولى من شراب(2/266)
لا يقعان إلا ساكنين، ليستا عندهم إلا على الإسكان في الكلام وفي الأصل.
وسنبين ذلك في باب التصريف إن شاء الله.
؟
باب الترخيم في الأسماء
التي كل اسم منها من شيئين كانا بائنين فضُمّ أحدهما إلى صاحبه فجُعلا اسما واحدا بمنزلة عَنتريس وحَلكوك وذلك مثل حَضرَموت، ومَعدي كَرب، وبُخْتَ نصر، ومارَسَرجِس، ومثل رجل اسمه خمسة عشر، ومثل عمرَوَيه. فزعم الخليل رحمه الله أنه تحذف الكلمة التي ضُمّت إلى الصدر رأسا وقال: أراه بمنزلة الهاء. ألا ترى أنى إذا حقرته لم أغير الحرف الذي يليه كما لم أغير الذي يلي الهاء في التحقير عن حاله التي كان عليها قبل أن يُحقَّر، وذلك قولك في تَمرة تُميرَة، فحال الراء واحدة. وكذلك التحقير في حضرمَوت تقول حُضَيرَموت، وقال: أُراني إذا أضفت إلى الصدر وحذفت الآخر فأقول في مَعدي كَرب: معدى، وأقول في الإضافة إلى أربعة عشر أربعى، فحذف الاسم الآخر بمنزلة الهاء، فهو في الموضع الذي يُحذف فيه ما يثبت(2/267)
في الإضافة أجدر أن يحذف إذا أردت أن ترخم.
وهذا يدل على أن الهاء تُضمّ إلى الأسماء كما يُضمّ الاسم الآخر إلى الأول. ألا ترى أنها لا تُلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة، كما أن هذه الأسماء الآخرة لم تُضمّ إلى الصدر لتُلحق الصدر ببنات الأربعة، ولا لتُلحقه ببنات الخمسة، وذلك لأنها ليست زائدات في الصدور، ولا هي منها، ولكنها موصولة بها وأُجريت مجرى عنتَريس ونحوه، ولا يغيَّر لها بناء كما لا يغير لياء الإضافة أو ألف التأنيث أو لغيرهما من الزيادات. وسترى ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل ذكره.
كما أن الأسماء الآخرة لم تغير بناء الأولى عن حالها قبل أن تُضمّ إليها، لم تغير خمسة في خمسة عشر عن حالها. فالهاء وهذه الأسماء الآخرة مضمومة إلى الصدور كما يُضمّ المضاف إليه إلى المضاف لأنهما كانا بائنين وُصل أحدهما بالآخر، فالآخر بمنزلة المضاف إليه في أنه ليس من الأول ولا فيه، وهما من الإعراب كاسم واحد لم يكن آخره بائنا من أوله.
وإذا رخمت رجلا اسمه خمسة عشر قلت: يا خمسةَ أقبل، وفي الوقف تبين الهاء - يقول لا تجعلها تاء - لأنها تلك الهاء التي كانت في خمسة(2/268)
قبل أن تُضمّ إليها عشرَ. كما أنك لو سميت رجلا مُسلمين قلت في الوقف: يا مُسلِمَهْ؛ لأن الهاء لو أبدلت منها تاء لتُلحق الثلاثة بالأربعة لم تحرك الميم.
وأما اثنا عشر فإذا رخمته حذفت عشر مع الألف، لأن عشر بمنزلة نون مُسلمين، والألف بمنزلة الواو، وأمره في الإضافة والتحقير كأمر مُسلمين. يقول: تُلقي عشر مع الألف كما تُلقي النون مع الواو.
واعلم أن الحكاية لا ترخَّم، لأنك لا تريد أن ترخم غير منادى، وليس مما يغيره النداء، وذلك نحو تأبط شرا وبرق نحرُه وما أشبه ذلك. ولو رخمت هذا لرخمت رجلا يسمى بقول عنترة:
يا دار عبلةَ بالجِواء تكلّمي
؟ باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطرارا قال الراجز: وقد وسطْتُ مالِكا وحَنْظَلاً(2/269)
وقال ابن أحمر:
أبو حَنَش يؤرقُنا وطلْقٌ ... وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا
يريد: أثالة.
وقال جرير:
أَلا أضحتْ حِبالكمُ رِماما ... وأَضحتْ منكَ شاسِعةً أُماما(2/270)
يَشُقُّ بها العساقِل مُؤْجَداتٌ ... وكلُّ عرَنْدَس يَنْفِى اللُّغاما
وقال زهير:
خذُوا حَظَّكمْ يا آلَ عِكرم واذْكُرُوا ... أواصِرَنا والرِّحمُ بالغَيْبِ تُذكرُ
وقال آخر، وهو ابن حَبْناء التميمي:(2/271)
إنّ ابنَ حارثَ إنْ أشتَقْ لرُؤْيِته ... أو أمتدِحه فإنّ الناسَ قد عَلِمُوا
وأما قول الأسود بن يعفر:
أَوْدَى ابنُ جُلهُمَ عبّادٌ بصرْمته ... إنّ ابن جُلهُم أَمْسَى حَيّةَ الوادِى
فإنما أراد أمه جُلهم. والعرب يسمون المرأة جُلهم والرجل جُلهُمة.
وأما قوله، وهو رجل من بنى يشكر:(2/272)
لَها أَشاريرُ من لْحَمٍ تُتَمّرُه ... من الثَّعالِى ووزخزٌ من أرانيَها
فزعم أن الشاعر لما اضطر إلى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة. وقال أيضا:
ومنهلٍ ليس له حَوازق ... ولِضفادي جَمّه نقانقُ(2/273)
وإنما أراد ضفادع، فلما اضطر إلى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفا لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفا يوقَف في الجر والرفع. وليس هذا لأنه حذف شيئا فجعل الياء عوضا منه؛ لو كان ذلك لعوضت حارثا الياء حيث حذفت الثاء وجعلت البقية بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام على ثلاثة أحرف، وذلك حين قلت يا حارُ. ولو قلت هذا لقلت يا مَروي إذا أردت أن تجعل ما بقى من مروان بمنزلة ما بقى من حارث حين قلت: يا حارُ.
؟
هذا باب النفى بلا
ولا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب إن لما بعدها.
وترك التنوين لما تعمل فيه لازم، لأنها جُعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم، وهو الفعل وما أجرى مجراه، لأنها لا تعمل إلا في نكرة، ولا وما تعمل فيه في موضع ابتداء، فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. فلا لا تعمل إلا في نكرة كما أن رب لا تعمل إلا في نكرة، وكما أن كم لا تعمل في الخبر والاستفهام إلا في النكرة، لأنك لا تذكر بعد لا إذا كانت عاملة شيئا بعينه كما لا تذكر ذلك بعد رب، وذلك لأن رب إنما هى للعدة بمنزلة كم، فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما(2/274)
خولف بأيُّهم حين خالفت الذي، وكما قالوا يا الله حين خالفت ما فيه الألف واللام، وسترى أيضا نحو ذلك إن شاء الله عز وجل.
فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهى عاملة فيما بعدها، كما قالوا يا ابن أم، فهى مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر. وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هى خمسة وعشرة.
فلا لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب، فيما زعم الخليل رحمه الله في قولك: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.
واعلم أن لا وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما أنك إذا قلت: هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدإ. وكذلك: ما من رجل، وما من شيء، والذي يُبنى عليه في زمان أو في مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته. وكذلك لا رجل ولا شيء، إنما تريد لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان.
والدليل على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ، وما من رجل في موضع(2/275)
اسم مبتدإ في لغة بنى تميم قول العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ أفضل منك.
وأخبرنا يونس أن من العرب من يقول: ما من رجل أفضلُ منك، وهل من رجل خيرٌ منك، كأنه قال: ما رجلٌ أفضلُ منك، وهل رجلٌ خيرٌ منك.
واعلم أنك لا تفصل بين لا وبين للنفي، كما لا تفصل بين من وبين ما تعمل فيه، وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول: لا فيها رجلَ، كما أنه لا يجوز لك أن تقول في الذي هو جوابه هل من فيها رجل. ومع ذلك أنهم جعلوا لا وما بعدها بمنزلة خمسة عشر، فقُبح أن يفعلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة وعشر بشيء من الكلام؛ لأنها مشبهة بها.
؟
باب المنفى المضاف بلام الإضافة
اعلم أن التنوين يقع من المنفى في هذا الموضع إذا قلت: لا غلامَ لك كما يقع من المضاف إلى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثلَ زيد. والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامَيْ لك، ولا مُسلمَيْ لك.
وزعم الخليل رحمه الله أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة.
وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك، في معنى لا أبالك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطا كسقوطه في لا مثل زيد(2/276)
فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحدا، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تَيْم تَيْم عَديّ، وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحةَ في النداء، لم يغيروا آخر طلحةَ عما كان عليه قبل أن تلحق، وذلك قولهم: كِلينى لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطُر، للنابغة:(2/277)
يا بؤسَ للجَهْلِ ضَرّاراً لأقوامِ حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤسَ الجهل.
وإنما فُعل هذا في المنفى تخفيفا، كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذ قالوا يا طلحةَ أقبلْ فكأنهم لم يذكروا الهاء، وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة لا تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق، كما لا تغير الهاء الاسمَ عن حاله قبل أن تلحق، فالنفيُ في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف، فمن ثم جاء فيه مثل ما جاء في النداء.
وإنما ذهبت النون في لا مُسلمَيْ لك على هذا المثال، جعلوه بمنزلة ما لو حُذفت بعده اللام كان مضافاً إلى اسم وكان في معناه إذا ثبتت بعده اللام، وذلك قولك: لا أباك؛ فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا لا مُسلمَيْك فعلى هذا الوجه حذفوا النون في لا مُسلمَي لك، وذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلم بلا(2/278)
مسلمَيْكَ. قال مسكين الدارمى:
وقد مات شماخٌ وماتَ مزَرِّدٌ ... وأيُّ كريمٍ لا أباكَ يمتَّعُ
ويُروى: مخلّدُ.
وتقول: لا يَدَينِ بها لك، ولا يدينِ اليوم لك، إثبات النون أحسن، وهو الوجه. وذلك أنك إذا قلت: لا يَدَيْ لك ولا أبالك، فالاسمُ بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء؛ نحو لا مِثل زيد؛ فكما قبح أن تقول لا مثل بها زيد فتفصل، قبح أن تقول لا يَدَي بها لك، ولكن تقول: لا يَدَين بها لك، ولا أبَ يوم الجمعة لك، كأنك قلت: لا يدين بها ولا أبَ يوم الجمعة، ثم جعلت لك خبرا، فرارا من القبح.
وكذلك إن لم تجعل لك خبرا ولم تفصل بينهما، وجئت بلك بعد أن تضمر مكانا وزمانا كإضمارك إذا قلت: لا رجلَ. ولا بأس، وإن أظهرت(2/279)
فحسن. ثم تقول لك لتبين المنفى عنه، وربما تركتَها استغناء بعلم المخاطب، وقد تذكرها توكيدا وإن عُلم من تعنى. فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قُبح أن تفصل بين لك وبين المنفى الذي قبله؛ لأن المنفى الذي قبله إذا جعلته كأنه اسمٌ لم تفصل بينه وبين المضاف إليه بشيء، قبح فيه ما قُبح في الاسم المضاف إلى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئا؛ لأن اللام كأنها ههنا لم تُذكر.
ولو قلت هذا لقلت لا أخا هذينِ اليومين لك. وهذا يجوز في الشعر؛ لأن الشاعر إذا اضطرّ فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال الشاعر، وهو ذو الرمة:
كأن أصواتَ من إيغالهن بنا ... أواخرِ المَيس أصواتُ الفراريجِ
وإنما اختير الوجهُ الذي تثبَت فيه النون في هذا الباب كما اختير في كم إذا قلت كم بها رجلا مصابا، وأنت تُخبر، لغة من ينصب بها، لئلا يفصَل بين الجار والمجرور: ومن قال: كم بها رجل مصاب فلم يُبالِ القبح قال: لا يَدَيْ بها لك، ولا أخا يوم الجمعة لك، ولا أخا فاعلم لك.
والجر في كم بها رجلٍ مصابٍ، وترك النون في لا يَديْ بها لك، قول(2/280)
يونس، واحتج بأن الكلام لا يستغنى إذا قلت كم بها رجلٍ. والذي يستغنى به الكلام وما لا يستغنى به قبحهما واحدٌ إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجار والمجرور. ألا ترى أن قبح كم بها رجلٍ مصاب، كقبح رُبّ فيها رجل، فلو حسن بالذي لا يستغنى به الكلام لحسُن بالذي يستغنى به، كما أن كل مكان حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت. وذلك قولك: إن بها زيدا مصابٌ، وإن فيها زيدا قائمٌ، وكان بها زيد مصابا، وكان فيها زيدٌ مصابا. وإنما يفرَق بين الذي يحسُن عليه السكوت وبين الذي لا يحسن عليه في موضع غير هذا.
وإثبات النون قول الخليل رحمه الله.
وتقول: لا غلامَينِ ولا جريتَيْ لك، إذا جعلت الآخِر مضافا ولم تجعله خبراً له، وصار الأول مضمَراً له خبرٌ، كأنك قلت: لا غلامين في مِلكك ولا جاريتيْ لك، كأنك قلت: ولا جاريتَيك في التمثيل، ولكنهم لا يتكلمون.
فإنما اختُصّت لا في الأب بهذا كما اختُصّ لدُن مع غُدوةَ بما ذكرت لك. ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعمل في كلامهم، نحو(2/281)
قولهم: ملامحُ ومذاكيرُ، لا يستعملون لا مَلمَحةً ولا مِذكاراً؛ وكما جاء عذيرك على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو ضَرباً وضرْبَك، ولا يُتكلم به إلا معرفة مضافة. وسترى نحو هذا إن شاء الله. ومنه ما قد مضى.
وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جريتين لك، إذا جعلت لك خبرا لهما، وهو قول أبى عمرو. وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك وجعلت لك خبرا، لأنه لا يكون إضافة وهو خبرٌ لأن المضاف يحتاج إلى الخبر مضمَراً او مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تيمُ تَيمُ عدى في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمارُ مكان، ولكنه تُرك استخفافا واستغناء. قال الشاعر، وهو نهارُ بن تَوسِعة اليشكُريّ فيما جعله خبرا:
أبِى الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ ... اذا افتَخروا بقيسٍ أو تميمِ(2/282)
وإذا ترك التنوين فليس الاسم مع لا بمنزلة خمسة عشر، لأنه لو أراد ذلك لجعل لك خبرا وأظهر النون، أو أضمر خبرا ثم جاء بعدها بلك توكيدا، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء، لأنه موضع حذف وتخفيف، كما أن النداء كذلك.
وتقول أيضا إن شئت: لا غلامين ولا جاريتين لك، ولا غلامين وجاريتين، كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك، فجاء بلك بعد ما بنى على الكلام الأول في مكان كذا وكذا، كما قال: لا يَدَين بها لك، حين صيره كأنه جاء بلك فيه بعد ما قال لا يَدين بها في الدنيا.
واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يك لك فإنما يُذهب منه التنوين كما أُذهب من آخر خمسة عشر، كما أُذهب من المضاف. والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك، ولا غلامين فيها، ولا أبَ فيها؛ وأثبتوا النون لأن النون لا تُحذف من الاسم الذي يُجعل وما قبله أو وما بعده بمنزلة اسم واحد. ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جُعلا اسما واحدا، ولم يحذفوا النون لأنها لا تجيء على حد التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف.(2/283)
وإنما صارت الأسماء حين وَلِيَت لك بمنزلة المضاف لأنهم كأنهم ألحقوا اللام بعد اسمٍ كان مضافا، كما أنك حين قلت: يا تيمَ تيمَ عَديّ فإنما ألحقتَ الاسم اسماً كان مضافاً، ولم يغير الثاني المعنى كما أن اللام لم تغير معنى لا أباكَ. وإذا قلت: لا أبَ فيها، فليست فى من الحروف التي إذا لحقتْ بعد مضاف لم تغير المعنى الذي كان قبل أن تلحق. ألا ترى أن اللام لا تغير معنى المضاف إلى الاسم إذا صارت بينهما، كما أن الاسم الذي يثنى به لا يغير المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه، فمن ثم صارت اللام بمنزلة الاسم يثنى به.
وتقول: لا غلامَ وجارية فيها، لأن لا إنما تُجعل وما تعمل فيه اسما واحدا إذا كانت إلى جنب الاسم، فكما لا يجوز أن تفصل خمسة من عشر، كذلك لم يستقم هذا لأنه مشبه به، فإذا فارقه جرى على الأصل. قال الشاعر:(2/284)
لا أبَ وابناً مثلُ مَروانَ وابنِه ... اذا هو بالمَجْد ارْتَدى وتأَزَّرَا
وتقول: لا رجلَ ولا امرأةً يا فتى إذا كنت لا بمنزلتها في ليس حين تقول: ليس لك لا رجلٌ ولا امرأة فيها. وقال رجل من بنى سُليم، وهو أنس بن العباس:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلةً ... اتَّسَعَ الخَرقُ على الراقِع(2/285)
وتقول: لا رجلَ ولا امرأةَ فيها، فتُعيد لا الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فتكون حالُ الآخرة في تثنيتها كحال الأولى. فإن قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا كانت الثانية هي الأولى، أثبت النون، لأن لكَ خبرٌ عنهما، والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد، لأن النون أقوى من التنوين، فلم يُجروا عليها ما أجرَوا على التنوين في هذا الباب؛ لأنه مفارِق للنون، ولأنها تثبت فيما لا يَثبت فيه.
واعلم أن كل شيء حسن لك أن تُعمل فيه تُبّ حسُن لك أن تعمِل فيه لا.
وسألت الخليلَ رحمه الله عن قول العرب: ولاسيما زيدٍ، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثلَ زيدٍ، وما لَغوٌ. وقال: ولاسيما زيدٌ كقولهم دعْ ما زيدٌ، وكقوله: " مثلا ما بَعوضةٌ "؛ فسيٌّ في هذا الموضع بمنزلة مثل، فمن ثم عملتْ فيه لا كما تعمل رُبّ في مثل، وذلك قولك: رب مثلِ زيدٍ. وقال أبو محجن الثقفى:
يا رُبّ مثلِكِ فى النساء غريرةٍ ... بيضاءَ قد متّعْتُها بطَلاقِ(2/286)
هذا باب
ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية
وذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهى الاسم، فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم، وإنما يُحذف في النفى والنداء منتهى الاسم. وهو قولك: لا خيرا منه لك، ولا حسَناً وجهُه لك، ولا ضاربا زيدا لك؛ لأن ما بعد حسنٍ وضاربٍ وخيرٍ صار من تمام الاسم فقبح عندهم أن يحذفوا قبل أن ينتهوا إلى منتهى الاسم؛ لأن الحذف في النفى في أواخر الأسماء. ومثل ذلك قولك: لا عشرين درهما لك.
وقال الخليل رحمه الله: كذلك لا آمِراً بالمعروف لك، إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلتَه متصلا به، كأنك قلت: لا آمِراً معروفا لك. وإن قلت لا آمِرَ بمعروف، فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيتَ على الأول كلاما، كقولك: لا آمِرَ في الدار يوم الجمعة. وإن شئت جعلته كأنك قلت: لا آمِر يوم الجمعة فيها؛ فيصير المبني على الأول مؤخَّراً، ويكون المُلغى مقدما. وكذلك لا راغبا إلى الله لك، ولا مُغيراً على الأعداء لك، إذا جعلت الآخِر متصلا بالأول كاتصال منك بأفعل. وإن جعلته منفصلا من(2/287)
الأول كانفصال لك من سَقياً لك لم تنوّن، لأن يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة. وإن شئت قلت: لا آمرا يومَ الجمعة إذا نفيتَ الآمرينَ يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين، فإذا قلت: لا آمرَ يومَ الجمعة فأنت تنفى الآمرين كلهم ثم أعلمت في أى حين. وإذا قلت لا ضاربا يوم الجمعة فإنما تنفى ضاربى يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره، وتجعل يوم الجمعة فيه منتهى الاسم. وإنما نونت لأنه صار منتهى الاسم اليوم، كما صار ما ذكرتُ منتهى الاسم، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخِره نحو واو مضروب وألف مُضارب، فنونت كما نونتَ في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه.
فنوِّنْ في هذا ما نوّنتَه في النداء مما ذكرت لك إلا النكرة فإن النكرة، في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء. ولا تعمل لا إلا في النكرة، تُجعل معها بمنزلة خمسة عشر، فالنكرة ههنا بمنزلة المعرفة هناك، إلا ما ذكرت لك.
؟
هذا باب وصف المنفى
اعلم أنك إذا وصفت المنفى فإن شئت نونت صفةَ المنفى وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنون. وذلك قولك: لا غلام ظريفا لك، ولا غلامَ ظريفَ لك.(2/288)
فأما الذين نونوا فإنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد، وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير النفى.
وأما الذين قالوا: لا غلامَ ظريفَ لك، فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.
فإذا قلت: لا غلامَ ظريفاً لك، فأنت في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منونا؛ من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد.
ومثل ذلك: لا غلامَ فيها ظريفا، إذا جعلتَ فيها صفة أو غير صفة.
وإن كررتَ الاسمَ فصار وصفا فأنت فيه بالخيار، إن شئت نوّنتَ وإن شئت لم تنون. وذلك قولك: لا ماءَ ماءَ باردا، ولا ماءَ ماءَ باردا. ولا يكون باردا إلا منوّناً، لأنه وصفٌ ثانٍ.
؟
باب لا يكون الوصف فيه إلا منونا
وذلك قولك: لا رجلَ اليوم ظريفا ولا رجلَ فيها عاقلا، إذا جعلت فيها(2/289)
خبرا أو لغوا، ولا رجلَ فيك راغبا، من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسمٍ واحد وقد فصلتَ بينهما، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر وخمسة في خمسة عشر.
ومما لا يكون الوصفُ فيه إلا منونا قوله: لا ماء سماءٍ لك باردا، ولا مثلَه عاقلا، من قبل أن المضاف لا يُجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر، وإنما يذبه التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع، فمن ثم صار وصفُه بمنزلته في غير هذا الموضع. ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافا لم يكن إلا منونا كما يكون في غير باب النفى؛ وذلك قولك: لا ضاربا زيدا لك، ولا حسنا وجهَ الأخ فيها. فإذا كففتَ التنوين وأضفت كا بمنزلته في غير هذا الباب كما كان كذلك غيرَ مضاف، فلما صار التنوين إنما يُكَفّ للإضافة جرى على الأصل. فإذا قلت: لا ماءَ ولا لبنَ، ثم وصفت اللبن، فأنت بالخيار في التنوين وتركه. فإذا جعلت الصفة للماء لم يكن الوصفُ إلا منونا؛ لأنه لا يُفصَل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمَراً أو مظهَراً، لأنهما قد صارا اسما واحدا بمنزلة زيد، ويحتاجان إلى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تَيمُ تيمُ عدى لم يستقم إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمار مكان.
؟ باب لا تسقط فيه النون وإن وَلِيَتْ لك
وذلك قولك: لا غلامين ظريفين ولا مسلمين صالحين لك، من قبل(2/290)
أن الظريفين والصالحين نعتٌ للمنفى ومن اسمه، وليس واحدٌ من الاسمين ولِيَ لا ثم ولِيتَه لك، ولكنه وصف وموصوف، فليس للموصوف سبيل إلى الإضافة. ولم يجئ ذلك في الوصف لأنه ليس بالمنفى، وإنما هو صفة، وإنما جاز التخفيف في النفى فلم يجز ذلك إلا في المنفى، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه، من الحذف والاستخفاف. وقد بُيّن ذلك.
؟
باب ما جرى على موضع المنفى
لا على الحرف الذي عمل في المنفى فمن ذلك قول ذى الرمة:
بها العِينُ والآرامُ لا عِدَّ عندَها ... ولا كَرَعٌ إلا المَغاراتُ والرَّبْلُ
وقال رجل من بني مَذحِج:(2/291)
هذا لعَمرُكم الصَّغارُ بعينِهِ ... لا أمَّ لى إن كان ذاك ولا أبُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا يجرى على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم، كما أن الشاعر حين قال: فَلسْنَا بالجِبال ولا الحَديدَا أجراه على الموضع.
ومن ذلك أيضا قول العرب: لا مالَ له قليلٌ ولا كثير، رفعوه على الموضع.
ومثل ذلك أيضا قول العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. وإن شئت حملتَ الكلام على لا فنصبت.
وتقول: لا مثلَه رجلٌ إذا حملته على الموضع، كما قال بعضُ العرب: لا حولَ ولا قوة إلا بالله. وإن شئت حملته على لا فنونته ونصبته. وإن شئت قلت: لا مثلَه رجلا، على قوله: لى مثلُه غلاما. وقال ذو الرمة:
هى الدارُ إذ مَيٌّ لاهْلِكِ جيرةٌ ... لياليَ لا أمثالَهنّ لياليا(2/292)
وقال الخليل رحمه الله: يدلك على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدإ مرفوع، قولك: لا رجلَ أفضلُ منك، كأنك قلت: زيدٌ أفضل منك. ومثل ذلك: بحَسبك قول السّوْء، كأنك قلت: حسبك قولُ السّوْء.
وقال الخليل رحمه الله: كأنك قلت: رجلٌ أفضل منك، حين مثله.
وأما قول جرير:
يا صاحبَيّ دَنا الرّواحُ فسِيرا ... لا كالعشيةِ زائراً ومَزورا
فلا يكون إلا نصبا؛ من قبل أن العشية ليست بالزائر، وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائرا، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلا، فكاليوم كقولك في اليوم، لأن الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجب، كما قال: تالله رجلا، وسبحان الله رجلا، وإنما أراد: تالله ما رأيت رجلا، ولكنه(2/293)
يترك الإظهار استغناء، لأن المخاطَب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمَر فيه هذا الفعل، لكثرة استعمالهم إياه.
وتقول: لا كالعشية عشيةٌ، ولا كزيد رجلٌ؛ لأن الآخِر هو الأول، ولأن زيدا رجل، وصار لا كزيد كأنك قلت: لا أحدَ كزيد، ثم قلت رجلٌ، كما تقول: لا مال له قليلٌ ولا كثير، على الموضع. قال الشاعر، امرؤ القيس:
ويْلِمِّها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبُ
كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرتُ لك. وإن شئت نصبته على نصبه: فهل في مَعدّ فوقَ ذلك مِرفَدا كأنه قال: لا أحدَ كزيد رجلا، وحمل الرجل على زيد، كما حمل المرفد على ذلك. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه لا مال له قليلا ولا كثيرا.(2/294)
ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولُهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.
؟ باب ما لا تُغيّر فيه لا الأسماء عن حالها
التي كانت عليها قبل أن تدخل لا
ولا يجوز ذلك إلا أن تُعيد لا الثانية؛ من قبل أنه جواب لقوله: أغلامٌ عندك أم جارية، إذا ادّعيتَ أن أحدهما عنده. ولا يحسن إلا أن تُعيد لا، كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه أم إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.
وإذا قال لا غلامَ، فإنما هي جوابٌ لقوله: هل من غلام، وعملتْ لا فيما بعدها وإن كان في موضع ابتداء، كما عملتْ مِن في الغلام وإن كان في موضع ابتداء.
فمما لا يتغير عن حاله قبل أن تدخل عليه لا قولُ الله عز وجل ذكره: " لا خوفَ عليهم ولا هُم يحزنون ". وقال الشاعر، الراعى:
وما صرَمْتُكِ حتّى قلتِ مُعلنةً ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ(2/295)
وقد جُعلت، وليس ذلك بالأكثر، بمنزلة ليس.
وإن جعلتها بمنزلة ليس كانت حالُها كحال لا، في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة. فمن ذلك قول سعد بن مالك:
مَن صَدَّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
واعلم أن المعارف لا تجرى مجرى النكرة في هذا الباب، لأن لا لا تعمل في معرفة أبدا. فأما قول الشاعر: لا هيثَمَ الليلةَ للمَطيّ فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهيثمَين. ومثل ذلك: لا بضرةَ لكم. وقال ابن الزبير الأسدى:(2/296)
أرى الحاجاتِ عند أبى خُبَيبٍ ... نكِدْنَ ولا أميّةَ بالبلادِ
وتقول: قضية ولا أبا حسن، تجعله نكرة. قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليا رضى الله عنه فقال: لأنه لا يجوز لك أن تعمِل لا في معرفة، وإنما تعملها في النكرة فإذا جعلت أبا حسنٍ نكرة حسن لك أن تعمِل لا، وعلم المخاطَب أنه قد دخل في هؤلاء المنكورين عليٌّ، وأنه قد غُيِّب عنها.
فإن قلت: إنه لم يُردْ أن ينفى كل من اسمُه على؟ فإنما أراد أن ينفى منكورين كلهم في قضيته مثلُ على كأنه قال: لا أمثالَ على لهذه القضية، ودل هذا الكلام على أنه ليس لها على، وأنه قد غيب عنها.
وإن جعلته نكرة ورفعته كما رفعت لا بَراحُ، فجائز. ومثله قول الشاعر، مُزاحم العُقَيلي:(2/297)
فرَطْنَ فلا رَدٌ لِما بُتّ وانقضى ... ولكنْ بغوضٌ أن يقالَ عديمُ
وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة، ولا تثنى لا. قال الشاعر:
بكتْ جَزْعّا واسترجعت ثم آذنتْ ... ركائبُها أن لا إلينا رجوعُها
واعلم أنك إذا فصلت بين لا وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد لا الثانية، لأنه جُعل جواب: إذا عندك أم ذا؟ ولم تُجعل لا في هذا الموضع(2/298)
بمنزلة ليس، وذلك لأنهم جعلوها، إذا رفعتْ، مثلها إذا نصبتْ؛ لا تفصل لأنها ليست بفعل.
فمما فُصل بينه وبين لا بحشوٍ قوله جل ثناؤه: " لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون ". ولا يجوز لا فيها أحد إلا ضعيفا، ولا يحسن لا فيك خيرٌ؛ فإن تكلمت به لم يكن إلا رفعا؛ لأن لا لا تعمل إذا فُصل بينها وبين الاسم، رافعة ولا ناصبة، لما ذكرت لك.
وتقول: لا أحد أفضل منك، إذا جعلته خبرا، وكذلك: لا أحدَ خيرٌ منك: قال الشاعر:
ورَدَّ جازرُهم حَرفاً مُصَرّمةً ... ولا كريمَ من الوِلدان مصبوحُ(2/299)
لما صار خبرا جرى على الموضع؛ لأنه ليس بوصف ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحدَ فيها إلا زيد. وإن شئت قلت: لا أحدٌ أفضلَ منك، في قول من جعلها كليس ويُجريها مجراها ناصبة في المواضع، وفيما يجوز أن يُحمَل عليها. ولم تُجعل لا التي كليس مع ما بعدها كاسم واحد، لئلا يكون الرافع كالناصب. وليس أيضاً كل شيء يخالف بلفظه يجري مجرى ما كان في معناه.
؟
باب لا تجوز فيه المعرفة إلا
أن تُحمَل على الموضع لأنه لا يجوز للا أن تعمل في معرفة، كما لا يجوز ذلك لرب
فمن ذلك قولك: لا غلام لك ولا العبّاسُ. فإن قلت: أحملُه على لا؟ فإنه ينبغي لك أن تقول: رب غلامٍ لك والعباس، وكذلك لا غلام لك وأخوه.
فأما من قال: كلَّ شاة وسخلتِها بدرهم فإنه ينبغي له أن يقول: لا رجلَ(2/300)
لك وأخاه، لأنه كأنه قال: لا رجلَ لك وأخاً له.
؟
باب ما إذا لحقته لا لم تغيره عن حاله
التي كان عليها قبل أن تلحق
وذلك لأنها لحقت ما قد عمل فيه غيرُها، كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق. ولا يلزمك في هذا الباب تثنية لا، كما لا تثنى لا في الأفعال التي هي بدل منها.
وذلك قولك: لا مرحَباً ولا أهلا، ولا كرامة، ولا مسرة، ولا شللاً، ولا سقياً ولا رَعياً، ولا هنيئا ولا مريئا، صارت لا مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه لا، لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق لا.
ومثل ذلك: لا سلامٌ عليك، لم تغير الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق.
وقال جرير:
ونُبّئتُ جَوَّاباً وسَكناً يَسُبُّني ... وعمَرو بن عَفْرَا لا سلامٌ على عمرِو
فلم يلزمك في ذا تثنية لا، كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه، وذلك لا سلم الله عليه. فدخلتْ في ذا الباب لتنفي ما كان دُعاء كما دخلت على الفعل الذي هو بدلٌ من لفظه.(2/301)
ومثلُ لا سلامٌ على عمرو: لا بك السّوْء؛ لأن معناه لا ساءك الله.
ومما جرى مجرى الدعاء مما هو تطلُّقٌ عند طلب الحاجة وبشاشة، نحو كرامة ومسرة ونُعمةَ عين. فدخلتْ على هذا كما دخلتْ على قوله: ولا أُكرمُك ولا أسُرّك، ولا أُنعمُك عينا. ولو قبح دخولها هنا لقبح في الاسم، كما قبح في لا ضَرباً، لأنه لا يجوز: لا اضربْ، في الأمر.
وقد دخلت في موضع غير هذا فلم تغيره عن حاله قبل أن تدخله، وذلك قولهم: لا سَواء، وإنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعتْ عليه سواء. ألا ترى أنك لا تقول هذان لا سواءٌ، فجاز هذا كما جاز: لا ها اللهِ ذا، حين عاقبتْ ولم يجز ذكر الواو.
وقالوا: لا نَوْلك أن تفعل؛ لأنهم جعلوه معاقِباً لقوله: لا ينبغي أن تفعل كذا وكذا، وصار بدلا منه، فدخل فيه ما دخل في ينبغي، كما دخل في لا سلامٌ ما دخل في سلم.
واعلم أن لا قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء، وذلك نحو قولك: أخذتَه بلا ذَنب، وأخذته بلا شيء، وغضبتَ من لا شيء، وذهبتَ بلا عتاد؛ والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد، وأخذتَه بغير ذنب، إذا لم ترد أن تجعل غيرا شيئا أخذه به يعتد به عليه.(2/302)
ومثل ذاك قولك للرجل: أجئتَنا بغير شيء، أي رائقاً.
وتقول إذا قلّلتَ الشيءَ أو صغّرتَ أمره: ما كان إلا كلا شيء، وأنك ولا شيئا سواءٌ. ومن هذا النحو قول الشاعر، وهو أبو الطفيل:
تركتَني حينَ لا مالٍ أعيشُ به ... وحينَ جُنّ زمانُ الناسِ أو كَلِبا
والرفع عربي على قوله: حينَ لا مُستَصْرَخُ(2/303)
و: لا بَراحُ والنصبُ أجودُ وأكثر من الرفع؛ لأنك إذا قلت لا غلامَ فهي أكثر من الرافعة التي بمنزلة ليس. قال الشاعر، وهو العجاج: حَنَّتْ قَلوصي حينَ لا حينَ مَحَنّْ(2/304)
وأما قول جرير:
ما بالُ جهلِك بعد الحِلم والدينِ ... وقد علاكَ مَشيبٌ حينَ لا حينِ
فإنما هو حينَ حينٍ، ولا بمنزلة ما إذا أُلغيتْ.
واعلم أنه قبيح أن تقول: مررتُ برجل لا فارسٍ، حتى تقول: لا فارسٍ ولا شجاع. ومثلُ ذلك: هذا زيدٌ لا فارسا، لا يحسن حتى تقول: لا فارسا ولا شجاعا. وذلك أنه جوابٌ لمن قال، أو لمن تجعله ممن قال: أبرجلٍ شجاع مررتَ أم بفارسٍ؟ وكقوله: أفارسٌ زيدٌ أم شجاع؟ وقد يجوز على ضعفه، في الشعر. قال رجلٌ من بني سَلول:
وأنتَ امرؤٌ منَّا خُلقتَ لغيرِنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ(2/305)
فكذلك هذه الصفات وما جعلته خبرا للأسماء، نحو: زيدٌ لا فارسٌ ولا شجاع.
واعلم أن لا في الاستفهام تعمل فيما بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله، البيت لحسان بن ثابت:
أَلاَ طِعانَ ولا فُرسانَ عادِيةً ... إلاّ تَجشّؤُكم عند التنانيرِ
وقال في مثل: أفلا قُماصَ بالعَير.(2/306)
ومن قال: لا غلام ولا جارية، قال: ألا غلامٌ وألا جارية.
واعلم أن لا إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملتْ فيما بعدها فنصبته، ولا يحسن لها أن تعمل في هذا الموضع إلا فيما تعمل فيه في الخبر، وتسقط النون والتنوين في التمني كما سقطا في الخبر. فمن ذلك: ألا غلامَ لى وألا ماءَ باردا. ومن قال: لا ماءَ باردَ قال: ألا ماء باردَ.
ومن ذلك: ألا أبا لي، وألا غلامَيْ لي.
وتقول: ألا غلامين أو جاريتين لك كما تقول: لا غلامين وجاريتين لك.
وتقول: ألا ماءَ ولبنا كما قلت: لا غلامَ وجارية لك، تُجريها مجرى لا ناصبة في جميع ما ذكرتُ لك.(2/307)
وسألت الخليل رحمه الله عن قوله:
ألا رجلاً جزَاه اللهُ خيراً ... يَدلُّ على محصلةٍ تبيتُ
فزعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلا خيرا من ذلك، كأنه قال: ألا تُروني رجلا جزاه الله خيرا.
وأما يونس فزعم أنه نون مضطرا، وزعم أن قوله:(2/308)
لا نسبَ اليومَ ولا خُلّةً على الاضطرار. وأما غيره فوجهه على ما ذكرتُ لك. والذي قال مذهب.
ولا يكون الرفع في هذا الموضع، لأنه ليس بجواب لقوله: إذا عندك أم ذا؟ وليس في ذا الموضع معنى ليس.
وتقول: ألا ماء وعسلا باردا حلوا، لا يكون في الصفة إلا التنوين، لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلتَ البرد للماء، والحلاوةَ للعسل.
ومن قال: لا غلامَ أفضلُ منك، لم يقل في ألا غلامَ أفضلَ منك إلا بالنصيب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنيا عن الخبر كاستغناء اللهم غلاما، ومعناه اللهم هب لي غلاما.
؟
هذا باب الاستثناء
فحرفُ الاستثناء إلا. وما جاء من الأسماء فيه معنى إلا فغيرٌ، وسوى. وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون، وليس، وعدا، وخلا. وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشى وخلا في بعض اللغات.
وسأبين لك أحوال هذه الحروف إن شاء الله عز وجل الأولَ فالأول.(2/309)
؟
باب ما يكون استثناء بإلا
اعلم أن إلا يكون الاسم بعدها على وجهين: فأحدُ الوجهين أن لا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن لا حين قلت: لا مرحبا ولا سلامٌ، لم تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى.
والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجا مما دخل فيه ما قبله، عاملا فيه ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهما.
فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق إلا فهو أن تُدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه، وذلك قوله: ما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيدا، وما مررتُ إلا بزيدٍ، تُجري الاسم مجراه إذا قلت ما أتاني زيدٌ، وما لقيتُ زيدا، وما مررتُ بزيد، ولكنك أدخلت إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفى ما سواها، فصارت هذه الأسماء مُستثناة. فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق إلا؛ لأنها بعد إلا محمولة على ما يجر ويرفع وينصب،(2/310)
كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق إلا، ولم تشغل عنها قبل أن تلحق إلا الفعلَ بغيرها.
؟ باب ما يكون المستثنى فيه بدلا مما
نفى عنه ما أُدخل فيه وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ، وما رأيتُ أحدا إلا زيدا، جعلت المستثنى بدلا من الأول، فكأنك قلت: ما مررتُ إلا بزيدٍ، وما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيدا. كما أنك إذا قلت: مررت برجلٍ زيدٍ، فكأنك قلت: مررتُ بزيدٍ. فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلا من الذي قبله، لأنك تُدخله فيما أخرجتَ منه الأول.
ومن ذلك قولك: ما أتاني القومُ إلا عمرو، وما فيها القومُ إلا زيدُ، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررتُ بالقوم إلا أخيك. فالقوم ههنا بمنزلة أحد.
ومن قال: ما أتاني القومُ إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القومُ إلا أباك، فإنه ينبغي له أن يقول: " مَا فَعَلُوهُ إلاَّ قَليلاً مِنْهُمُ ".
وحدثني يونس أن أبا عمرو كان يقول: الوجهُ ما أتاني القومُ إلا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم لما جاز أن تقول: ما أتاني أحد، كما أنه(2/311)
لا يجوز أتاني أحدٌ، ولكن المستثنى في هذا الموضع مبدَلٌ من الاسم الأول، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: " ولم يكنْ لهم شُهداءُ إلا أنفسُهُم " ولكان ينبغي له أن يقول ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذاك إلا زيد، لأنه ذكر واحدا.
ومن ذلك أيضا: ما فيهم أحدٌ اتخذتُ عنده يداً إلا زيدٌ، وما فيهم خيرٌ إلا زيدٌ، إذا كان زيد هو الخير.
وتقول: ما مررتُ بأحد يقول ذاك إلا عبدِ الله، وما رأيت أحدا يقول ذاك إلا عبد الله، وما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا. هذا وجه الكلام. وإن حملتَه على الإضمار الذي في الفعل فقلت: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيد ورفعت فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحدا يقول ذاك إلا زيدا. وإن شئت رفعت فعربي. قال الشاعر، وهو عدى بن زيد:
في ليلةٍ لا نَرى بها أحداً ... يَحكى علينا إلاَّ كواكبُها(2/312)
وكذلك ما أظن أحدا يقول ذاك إلا زيدا. وإن رفعتَ فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحدا يقول ذاك إلا زيدا، وإن شئت رفعت.
وإنما اختير النصبُ هنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدَل منه، وأن لا يكون بدلا إلا من منفى، فالمبدَل منه منصوب منفى ومضمَره مرفوع، فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلا منه لأنه هو المنفى، وهذا وصف أو خبر وقد تكلموا بالآخر، لأن معناه النفي إذا كان وصفا لمنفى، كما قالوا: قد عرفت زيدٌ أبو مَن هو، لما ذكرتُ لك، لأن معناه معنى المستفهَم عنه.
وقد يجوز: ما أظن أحداً فيها إلا زيدٌ، ولا أحدَ منهم اتخذتُ عنده يداً إا زيدٍ، على قوله: إلاَّ كواكبُها.
وتقول: ما ضربتُ أحدا يقول ذاك إلا زيدا، لا يكون في ذا إلا النصب، وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلِك، ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذاك إلا زيد، ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا. والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدٌ،(2/313)
ولكنك قلت رأيتُ أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت. ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت. قال الخليل رحمه الله: ألا ترى أنك تقول: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما ظننته يقوله إلا عمرو. فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القول ولم ترد أن تجعل عبد الله موضعَ فعل كضربتُ وقتلت، ولكنه فعلٌ بمنزلة ليس يجيء لمعنى، وإنما يدل على ما في علمك.
وتقول: أَقلُّ رجلٍ يقولُ ذاك إلاَّ زيدٌ، لأنه صار في معنى ما أحدٌ فيها إلا زيد.
وتقول: قَلَّ رجلٌ يقولُ ذاك إلاَّ زيدٌ، فليس زيدٌ بدلا من الرجل في قلَّ، ولكن قلَّ رجلٌ في موضع أقلُّ رجل، ومعناه كمعناه. وأقل رجلٍ مبتدأ مبني عليه، والمستثنى بدل منه؛ لأنك تُدخله في شيء تُخرج منه مَن سواه.
وكذلك أقل من يقول ذلك، وقل من يقول ذاك، إذا جعلتَ(2/314)
مَن بمنزلة رجلٍ. حدثنا بذلك يونس عن العرب، يجعلونه نكرة، كما قال:
رُبَّ ما تكره النفوسُ مِن الأ ... مر له فَرجةٌ كحلِّ العِقالِ
فجعل ما نكرة.
؟ باب ما حُمل على موضع العامل
في الاسم والاسم
لا على ما عمل في الاسم، ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب.
وذلك قولك: ما أتاني من أحدٍ إلا زيدٌ، وما رأيت من أحدٍ إلا زيدا.(2/315)
وإنما منعك أن تحمل الكلام على مِن أنه خلفٌ أن تقول: ما أتاني إلا من زيد، فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلا منه كأنه قال: ما أتاني أحد إلا فلان؛ لأن معنى ما أتاني أحد وما أتاني من أحدٍ واحدٌ، ولكن مِن دخلت هنا توكيدا، كما تدخل الباء في قولك: كفى بالشيب والإسلام، وفي: ما أنت بفاعل، ولستَ بفاعلٍ.
ومثل ذلك: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، من قبل أن بشيء في موضع رفع في لغة بني تميم، فلما قبُح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع، وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب، ولكنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، استوت اللغتان، فصارت ما على أقيس الوجهين؛ لأنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به فكأنك قلت: ما أنت إلا شيء لا يُعبَأ به.
وتقول: لستَ بشيء إلا شيئا لا يُعبَأ به، كأنك قلت: لستَ إلا شيئا لا يُعبَأ به، والباء ههنا بمنزلتها فيما قال الشاعر:(2/316)
يا ابْنَيْ لُبَينَي لستُما بيدٍ ... إلاَّ يَداً ليست لها عضُدُ
ومما أجرى على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدإ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ، من قبل أنه خلفٌ أن تحمل المعرفة على مِن في ذا الموضع، كما تقول لا أحدَ فيها لا زيدٌ ولا عمرو؛ لأن المعرفة لا تُحمل على لا؛ وذلك أن هذا الكلام جواب لقوله: هل مِن أحد، أو هل أتاك من أحد؟ وتقول: لا أحدَ رأيته إلا زيد، إذا بنيتَ رأيته على الأول، كأنك قلت: لا أحدَ مرئى. وإن جعلت رأيته صفة فكذلك، كأنك قلت لا أحدَ مرئيا.
وتقول: ما فيها إلا زيدٌ، وما علمتُ أن فيها إلا زيدا. فإن قلبتَه فجعلتَه يلي أن وما في لغة أهل الحجاز قبح ولم يَجز؛ لأنهما ليسا بفعل فيُحتمل قلبُهما كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير ولم يجز ما أنت إلا ذاهبا، ولكنه لما طال الكلام قويَ واحتُمل ذلك، كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتزداد حُسناً. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنها ما قد مضى.(2/317)
وتقول: إن أحدا لا يقول ذاك، وهو ضعيف خبيث، لأن أحدا لا يستعمل في الواجب، وإنما نفيتَ بعد أن أوجبتَ، ولكنه قد احتُمل حيث كان معناه النفي، كما جاز في كلامهم: قد عرفتُ زيدٌ أبو مَن هو، حيث كان معناه أبو مَن زيدٌ. فمن أجاز هذا قال: إن أحداً لا يقول هذا إلا زيدا، كما أنه يقول على الجواز: رأيتُ أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا، يصير هذا بمنزلة ما أعلمُ أن أحدا يقول ذاك، كما صار هذا بمنزلة ما رأيتُ حيث دخله معنى النفي. وإن شئت قلت إلا زيدٌ، فحملته على يقول، كما جاز: يَحكى علينا إلاَّ كواكبُها وليس هذا في القوة كقولك: لا أحدَ فيها إلا زيدٌ، وأقلُّ رجلٍ رأيتُه إلا عمرو؛ لأن هذا الموضع إنما ابتُدئ مع معنى النفي، وهذا موضعُ إيجاب، وإنما جيء بالنفي بعد ذلك في الخبر، فجاز الاستثناء أن يكون بدلا من الابتداء، حين وقع منفيا. ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولا لو لم يقل أقلُّ رجلٍ ولا رجلَ، لأن الاستثناء لابد له ها هنا من النفي. وجاز أن يُحمل على إن هاهنا، حيث صارت أحد كأنها منفية.(2/318)
؟ باب النصب فيما يكون مستثنى مبدَلاً
حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوقَ بعربيته يقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدا. وعلى هذا: ما رأيت أحدا إلا زيدا، فينصب زيدا على غير رأيت؛ وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلاً من الأول، ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول. والدليل على ذلك أنه يجيء على معنى: ولكن زيدا، ولا أعني زيدا. وعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم إذا قلت عشرون درهما.
ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفُلان والله مالا إلا أنه شقي؛ فأنه لا يكون أبدا على إن لفلان، وهو في موضع نصبٍ وجاء على معنى: ولكنه شقي.
؟ هذا بابٌ يختار فيه النصب
لأن الآخِر ليس من النوع الأول وهو لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: ما فيها أحد إلا حمارا، جاءوا به على معنى ولكن حمارا، وكرهوا أن يُبدلوا الآخِر من الأول، فيصيرَ كأنه من نوعه، فحُمل على معنى ولكن، وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم.
وأما بنو تميم فيقولون: لا أحدَ فيها إلا حمارٌ، أرادوا ليس فيها إلا حمار، ولكنه ذكر أحدا توكيدا لأن يُعلم أن ليس فيها آدميّ،(2/319)
ثم أبدل فكأنه قال: ليس فيها إلا حمارٌ. وإن شئت جعلته إنسانها. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي:
فإنْ تُمسِ في قبرٍ برَهوَةَ ثاوِيا ... أنيسُك أصداءُ القُبورِ تصيحُ
فجعلهم أنيسَه. ومثل ذلك قوله: ما لي عتابٌ إلاَّ السيفُ، جعله عتابه. كما أنك تقول: ما أنت إلا سيرا، إذا جعلته هو السير. وعلى هذا أنشدت بنو تميم قولَ النابغة الذبياني:(2/320)
يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسّندِ ... أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... عيّتْ جَواباً وما بالرَّبْعِ مِن أحدِ
إلا أُواريُّ لأياً ما أبيّنها ... والنّؤيُ كالحَوْض بالمَظْلومة الجلَدِ
وأهل الحجاز ينصبون.
ومثل ذلك قوله:(2/321)
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلاّ اليَعافيرُ وإلا العيسُ
جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسرته في الحمار اول مرة.
وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدلٌ.
ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، لأن التكلف ليس من السلطان. وكذلك: إلا أنه يتكلف، هو بمنزلة التكلف. وإنما يجيء هذا على معنى ولكنْ. ومثل ذلك قوله عز وجل ذكره: " ما لهم به من عِلمٍ إلا اتّباعَ الظن "، ومثله: " وإن نشأْ نُغرقْهُم فلا صريحَ لهم ولا هُم يُنقَذون. إلا رحمة منا ". ومثل ذلك قول النابغة:
حلفتُ يَميناً غيرَ ذى مَثنَوِيةٍ ... ولا عِلمَ إلا حُسنَ ظنٍّ بصاحبِ(2/322)
وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله، يجعلون اتباع الظن علمهم، وحُسنَ الظن علمه، والتكلف سلطانه. وهم يُنشدون بيت ابن الأيهم التغلبي رفعا:
ليس بيني وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلى وضربِ الرّقابِ
جعلوا ذلك العتاب.
وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا.
وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:
وخيلٍ قد دلَفتُ لها بخيلٍ ... تحيةُ بينِهم ضربٌ وَجيعُ
جعل الضرب تحيّتَهم، كما جعلوا اتِّباعَ الظن علمَهم. وإن شئتَ(2/323)
كانت على ما فسّرتُ لك في الحمار إذا لم تجعله أنيسَ ذلك المكان. وقال الحارث بن عُبار:
والحربُ لا يبقى لجا ... حمِها التّخيلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبّارُ في الن ... جَدَات والفرسُ الوَقاحُ
وقال:
لم يغذُها الرِّسلُ ولا أيسارُها ... إلا طريُّ اللحمِ واستجزارُها
وقال:(2/324)
عشيةَ لا تُغني الرماحُ مكانها ... ولا النّبلُ إلا المشرَفيّ المصَمّمُ
وهذا يقوى: ما أتاني زيدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه إخوانُكم إلا إخوانُه؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها.
؟
باب ما لا يكون إلا على معنى ولكن
فمن ذلك قوله تعالى: " لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رحم " أي ولكن من رحم. وقوله عز وجل: " فلولا كانت قرية آمنتْ فنفعها إيمانُها إلا قومَ يونسَ لما آمنوا " أي ولكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله عز وجل: " فلَوْلاَ كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قبلِكم أُولُوا بقيةٍ ينهونَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قلِيلاً ممن أنجينا منهم "، أي ولكن قليلاً مما أنجينا منهم. وقوله عز وجل: " أُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا الله "، أي ولكنهم يقولون: ربُنا الله.
وهذا الضربُ في القرآن كثير.(2/325)
ومن ذلك من الكلام: لا تكونن من فلان في شيء إلا سلاما بسلام.
ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر. فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضرر. كما أنك إذا قلت: ما أحسنَ ما كلم زيدا، فهو ما أحسنَ كلامَ زيدا. ولولا ما لم يجز الفعل بعدُ إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسنَ بغير ما، كأنه قال: ولكنه ضر، وقال: ولكنه نقص. هذا معناه.
ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
ولا عيبَ فيهمْ غيرَ أنْ سيوفَهم ... بهن فلولٌ من قِراعِ الكَتائِبِ
أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدى:(2/326)
فَتىً كمُلت خيراتُه غيرَ أنه ... جوادٌ فلا يُبقي من المالِ باقيِاَ
كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق:
وما سَجَنوني غيرَ أنّي ابنُ غالبٍ ... وأنّى من الأثرَيْنَ غيرِ الزّعانفِ
كأنه قال: ولكني ابنُ غالب. ومثل ذلك في الشعر كثيرٌ. ومثل ذلك قوله، وهو قول بعض بني مازن يقال له عنزُ بن دجاجة:(2/327)
من كانَ أشركَ في تفرُّقِ فالجٍ ... فلَبُونه جرِبَت معاً وأغدّتِ
إلاّ كناشرةَ الذي ضيّعتُم ... كالغُصن في غُلوائه المنبّتِ
كأنه قال: ولكن هذا كناشرة. وقال:
لولا ابنُ حارِثَة الأميرُ لقد ... أغضيْتَ من شَتْمى على رغمِ(2/328)
إلاّ كمُعرضٍ المحسّرِ بَكرَه ... عَمداً يسبّبُني على الظُلْم
؟ باب ما تكون فيه أنَّ وأنْ مع صلتهما
بمنزلة غيرهما من الأسماء
وذلك قولهم ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا، فأَنَّ في موضع اسم مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولُهم كذا وكذا.
ومثل ذلك قولهم: ما مَنَعَني إلاّ أنْ يَغضب علىّ فلانٌ.
والحجةُ على أنّ هذا في موضع رفع أنّ أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم، مَن يُنشد هذا البيت رفعا للكناني:
لَمْ يَمُنعَ الشربَ منها غيرُ أنْ نطقَتْ ... حَمامة في غصونٍ ذات أوقالِ(2/329)
وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل رحمه الله: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت. وكما قال النابغة:
على حين عاتَبتُ المشيبَ على الصِّبا ... وقلتُ ألَمَّا أصْحُ والشيبُ وازعُ
كأنه جعل حين وعاتبتُ اسما واحدا.
؟
باب لا يكون المستثنى فيه إلاَّ نصبا
لأنه مخرَجٌ مما أدخلت فيه غيره، فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت: له عشرون درهما. وهذا قول الخليل رحمه الله، وذلك(2/330)
قولك: أتاني القومُ إلا أباك، ومررتُ بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك وانتصب الأب إذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العاملُ فيه ما قبله من الكلام؛ كما أن الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمولٍ على ما حُملت عليه وعمل فيها.
وإنما منع الأبَ أن يكون بدلا من القوم أنك لو قلت أتاني إلا أبوك كان مُحالاً. وإنما جاز ما أتاني القومُ إلا أبوك لأنه يحسن لك أن تقول: ما أتاني إلا أبوك فالمبدَل إنما يجيء أبداً كأنه لم يُذكَر قبله شيء لأنك تُخلي له الفعل وتجعله مكان الأول. فإذا قلت: ما أتاني القومُ إلا أبوك فكأنك قلت: ما أتاني إلا أبوك.
وتقول: ما فيهم أحدٌ إلا وقد قال ذلك إلا زيدا، كأنه قال: قد قالوا ذلك إلا زيداً.
؟
باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً
بمنزلة مثلٍ وغيرٍ
وذلك قولك: لو كان مَعَنا رجلٌ إلاّ زيدٌ لغُلِبنا.
والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكْنا وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلتَ. ونظر ذلك قوله عز وجل:(2/331)
" لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدَتا ".
ونظير ذلك من الشعر قوله، وهو ذو الرمة:
أنيخَت فألقتْ بَلْدَةً فوقَ بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
كأنه قال: قليلٍ بها الأصوات غيرُ بغامها، إذا كانت غيرُ غيرَ استثناء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " لاَ يَسْتَوى الْقاَعِدُونَ مِنَ الْمْؤمِنينَ غيرُ(2/332)
أُولىِ الضّرَر "، وقوله عز وجل ذكره: " صراطَ الذِينَ أنعمتَ عَلَيْهمْ غير المغضوبِ عَلَيْهمْ ". ومثل ذلك في الشعر للبيد بن ربيعة:
وإذا أُقرضتَ قرضاً فاجرِه ... إنَّما يَجْزِى الفَتَى غيرُ الجملْ
وقال أيضا:
لو كان غيري سُليمى اليومَ غيّرَهُ ... وقعُ الَحوادثِ إلاّ الصارمُ الذّكرُ(2/333)
كأنه قال: لو كان غيري غيرُ الصارم الذكر، لغيره وقع الحوادث، إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى. والمعنى أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيّره شيء.
وإذا قال: ما أتاني أحد إلا زيد، فأنت بالخيار إن شئت جعلت إلا زيد بدلا، وإن شئت جعلته صفة. ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيدٌ وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل، وإنما يجوز ذلك صفة.
ونظير ذلك من كلام العرب أَجْمَعُونَ، لا يجرى في الكلام إلا على اسم، ولا يعمل فيه ناصبٌ ولا رافعٌ ولا جار.
وقال عمرو بن معدى كرب:
وكلُ أخٍ مُارقُه أخوه ... لعَمْرُ أبيك إلاّ الفرقدانِ(2/334)
كأنه قال: وكلُ أخ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه، إذا وصفتَ به كُلاً، كما قال الشماخ:
وكلُ خليلٍ غيرُ هاضم نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو مُعازرُ
ولا يجوز رفع زيد على إلا أن يكون، لأنك لا تضمِر الاسم الذي هذا من تمامه، لأن أنْ يكون اسما.
؟ هذا باب ما يقدَّم فيه المستثنى
وذلك قولك: ما فيها إلا أباك أحدٌ، وما لي إلا أباك صديقٌ.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم إنما حملهم على نصب هذا أن المستثني إنما وجهه عندهم أن يكون بدلا ولا يكون مبدَلاً منه؛ لأن الاستثناء إنما حده أن تَدارَكَه بعد ما تنفى فتُبدِله، فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز إذا أخّرتَ المستثني، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفة في قولهم: فيها قائما رجلٌ، حملوه على وجه قد يجوز لو أخّرتَ الصفة، وكان هذا الوجهُ أمثلَ عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه. قال كعب بن مالك:(2/335)
الناسُ ألبٌ علينا فيكَ، ليس لنا ... إلا السيوفَ وأطرافَ القَنَا وزَرُ
سمعناه ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم، كراهية أن يجعلوا ما حدُّ المستثني أن يكون بدلا منه بدلاً من المستثنى.
ومثل ذلك: ما لي إلا أباك صديقٌ.
فإن قلت: ما أتاني أحدٌ إلا أبوك خيرٌ من زيد، وما مررتُ بأحدٍ إلا عمرو خيرٍ من زيد وما مررتُ بأحد إلا عمرو خيرٍ من زيدٍ، كان الرفع والجر جائزين، وحسُن البدل لأنك قد شغلت الرافعَ والجار، ثم أبدلتَه من المرفوع والمجرور، ثم وصفتَ بعد ذلك.
وكذلك: مَن لي إلا أبوك صديقا؛ لأنك أخليت مَن للأب ولم تُفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ.(2/336)
وقد قال بعضهم: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدا خيرٍ منه، وكذلك مَن لي إلا زيداً صديقاً، وما لي أحدٌ إلا زيدا صديقٌ؛ كرهوا أن يقدموا وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصبا، كما كرهوا أن يقدَّم قبل الاسم إلا نصبا.
وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد، فيجعلون أحدا بدلا كما قالوا: ما مررتُ بمثله أحد، فجعلوه بدلا. وإن شئت قلت: ما لي إلا أبوك صديقا، كأنك قلت: لى أبوك صديقا، كما قلت: مَن لي إلا أبوك صديقا حين جعلتَه مثلَ: ما مررتُ بأحدٍ إلا أبيك خيراً منه. ومثله قول الشاعر، وهو الكَلحَبة الثعلبي:
أمرتُكمُ أمرى بمنقطَع اللِّوى ... ولا أمرَ للمَعصيّ إلا مضيَّعا(2/337)
كأنه قال: للمعضيّ أمرٌ مضيعا، كما جاز فيها رجلٌ قائما. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضا على قوله: لا أحدَ فيها إلا زيدا.
؟
هذا باب
ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار
وذلك قولك: ما لي إلا زيدا صديقٌ وعمرا وعمرٌو، ومَن لي إلا أباك صديقٌ وزيدا وزيدٌ.
أما النصب فعلى الكلام الأول، وأما الرفع فكأنه قال: وعمرو لي، لأن هذا المعنى لا ينقضُ ما تريد في النصب. وهذا قول يونسَ والخليل رحمهما الله.
هذا باب تثنية المستثنى
وذلك قولك: ما أتاني إلا زيدٌ إلا عمرا. ولا يجوز الرفعُ في عمرو، من قبل أن المستثنى لا يكون بدلا من المستثنى. وذلك أنك لا تريد أن تُخرج الأول من شيء تُدخل فيه الآخِر.
وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيدا إلا عمرٌو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون زيد منتصبا من حيث انتصب عمرو، فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر، وإن شئت نصبتَ الآخِر ورفعت الأول.(2/338)
وتقول: ما أتاني إلا عمرا إلا بِشراً أحدٌ، كأنك قلت: ما أتاني إلا عمرا أحدٌ إلا بِشرٌ، فجعلتَ بشرا بدلا من أحد ثم قدّمت بشراً فصار كقولك: ما لي إلا بشراً أحدٌ؛ لأنك إذا قلت: ما لي إلا عمرا أحدٌ إلا بشرٌ، فكأنك قلت: ما لي أحدٌ إلا بشرٌ.
والدليل على ذلك قول الشاعر، وهو الكُميتُ:
فما لِىَ إلاّ اللهُ لا رَبَّ غيرَه ... وما لىَ إلاّ اللهَ غيرَك ناصرُ
فغيرَك بمنزلة إلا زيدا.
وأما قوله، وهو حارثة بن بدر الغُدانيّ:(2/339)
يا كعبُ صَبْراً على ما كان من حدثٍ ... يا كعبُ لم يبقَ منّا غيرُ أجلادِ
إلاَّ بقيّاتُ أنفاسٍ تُحشرِجُها ... كراحلٍ رائحٍ أو باكرٍ غادِى
فإن غير ههنا بمنزلة مثل، كأنك قلت: لم يبقَ منها مثلُ أجلادٍ إلا بقياتُ أنفاس.
وعلى ذا أنشدَ بعض الناس هذا البيت رفعا للفرزدق:
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلاّ دارُ مروانِ(2/340)
جعلوا غير صفة بمنزلة مثل، ومَن جعلها بمنزلة الاستثناء لم يكن له بد من أن ينصب أحدَهما، وهو قول ابن أبي إسحاق.
وأما إلا زيدٌ فإنه لا يكون بمنزلة مثل إلا صفة.
ولو قلت: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله كان جيدا، إذا كان أبو عبد الله زيدا ولم يكن غيره، لأن هذا يكرَّر توكيدا، كقولك: رأيت زيدا زيدا.
وقد يجوز أن يكون غيرَ زيد على الغلط والنسيان، كما يجوز أن تقول: رأيتُ زيداً عمراً، لأه إنما أراد عمرا فنسى فتدارك.
ومثلُ ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، إذا أردت أن تبيّن وتُوضحَ قوله:
ما لك من شيخِك إلاّ عملُه ... إلاّ رسيمُه وإلاّ رَمَلُهْ(2/341)
؟
هذا باب ما يكون مبتدأ بعد إلا
وذلك قولك: ما مررتُ بأحد إلا زيدٌ خيرٌ منه، كأنك قلت: مررت بقوم زيدٌ خيرٌ منهم، إلا أنك أدخلت إلا لتجعل زيدا خيرا من جميع من مررتَ به.
ولو قال: مررتُ بناس زيدٌ خيرٌ منهم، لجاز أن يكون قد مر بناس آخرين هم خيرٌ من زيد، فإنما قال: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه ليخبر أنه لم يمر بأحدٍ يفضل زيدا.
ومثل ذلك قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا. فأنْ أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا، وهو مبني على حِلّ، وحِلّ مبتدأ، كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا.
وأما قولهم: والله لا أفعلُ إلا أن تفعل، فأنْ تفعل في موضع نصب، والمعنى حتى تفعل، أو كأنه قال: أو تفعل. والأول مبتدأ ومبني عليه.(2/342)
؟
هذا باب غيْرٍ
اعلم أن غيرا أبدا سوى المضاف إليه، ولكنه يكون فيه معنى إلا فيُجرى مُجرى الاسم الذي بعد إلا، وهو الاسم الذي يكون داخلاً فيما يخرج منه غيره وخارجا مما يدخل فيه غيره.
فأما دخوله فيما يخرج منه غيرُه فأتاني القومُ غيرَ زيد، فغيرهم الذين جاءوا ولكن فيه معنى إلا، فصار بمنزلة الاسم الذي بعد إلا.
وأما خروجه مما يدخل فيه غيره فما أتاني غيرُ زيدٍ. وقد يكون بمنزلة مثل ليس فيه معنى إلا.
وكلُ موضع جاز فيه الاستثناء بالا جاز بغيْر، وجرى مجرى الاسم الذي بعد إلا، لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا. ولو جاز أن تقول: أتاني القومُ زيدا، تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبا.
ولا يجوز أن يكون غير بمنزلة الاسم الذي يُبتدأ بعد إلا؛ وذلك أنهم لم يجعلوا فيه معنى إلا مبتدأ، وإنما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل موضع يكون فيه بمنزلة مثل ويُجزئ من الاستثناء. ألا ترى أنه لو قال: أتاني غيرُ عمرٍو كان قد أخبر أنه لم يأته وإن كان قد يستقيم أن يكون قد أتاه، فقد يُستغنى به في مواضع من الاستثناء. ولو قال: ما أتاني غيرُ زيد، يريد بها منزلة مثل لكان مُجزِئاً من الاستثناء، كأنه قال: ما أتاني الذي هو غيرُ زيد،(2/343)
فهذا يُجزئ من قوله: ما أتاني إلا زيدٌ.
باب ما أُجري على موضع غير
لا على ما بعد غير.
زعم الخليل رحمه الله ويونس جميعا أنه يجوز: ما أتاني غيرُ زيد وعمرو. فالوجه الجر. وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيدٌ وفي معناه، فحملوه على الموضع كما قال: فلسنا بالجبال ولا الحَديدَا فلما كان في موضع إلا زيدٌ وكان معناه كمعناه، حملوه على الموضع.
والدليل على ذلك أنك إذا قلت غيرُ زيد فكأنك قد قلت إلا زيد. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني غيرُ زيد وإلا عمرٌو، فلا يقبحُ الكلام، كأنك قلت: ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو.
؟ باب يُحذف المستثنى فيه استخفافا
وذلك قولك: ليس غيرُ، وليس إلا، كأنه قال: ليس إلا ذاك(2/344)
وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفيفا واكتفاءً بعلم المخاطَب وما يعنى.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيتُه في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحدٌ مات. ومثل ذلك قوله تعالى جده: " وإن مِن أهلِ الكتاب إلا لَيُؤمننّ به قبلَ موته ". ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
كأنك من جِمال بنى أُقَيشٍ ... يقعقَعُ خلفَ رجليْه بشّنِّ
أى كأنك جملٌ من جمال بنى أقيش.
ومثل ذلك أيضا قوله:
لو قلتَ ما فى قومِها لم تيثَمِ ... يَفضُلُها فى حَسبٍ وميسَمِ(2/345)
يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا هذا كما قالوا: لو أن زيدا هنا، وإنما يريدون: لكان كذا وكذا. وقولهم: ليس أحدٌ أي ليس هنا أحدٌ. فكل ذلك حُذف تخفيفا، واستغناء بعلم المخاطَب بما يعني.
ومثل البيتين الأولين قول الشاعر، وهو ابن مُقبل:
وما الدهرُ إلاّ تارتانِ فمنهما ... أموتُ وأُخرى أَبتغى العيشَ أكدحُ
إنما يريد منهما تارةٌ أموتُ وأُخرى.
ومثل قولهم ليس غير: هذا الذي أمسِ، يريد الذي فعل أمس.(2/346)
وقوله، وهو العجّاج: بعد اللَّتيّا واللّتيا والتِّي فليس حذف المضاف إليه في كلامهم بأشدّ من حذف تمام الاسم.
؟
باب لا يكون وليس وما أشبههما
فإذا جاءتا وفيهما معنى الاستثناء فإن فيهما إضمارا، على هذا وقع فيهما معنى الاستثناء، كما أنه لا يقع معنى النهى في حسبك إلا أن يكون مبتدأ.
وذلك قولك: ما أتاني القومُ ليس زيدا، وأتوني لا يكون زيدا، وما أتاني أحدٌ لا يكون زيدا، كأنه حين قال: أتوني، صار المخاطَب عنده قد وقع في خلَده أن بعض الآتين زيدٌ، حتى كأنه قال: بعضُهم زيدٌ، فكأنه قال: ليس بعضهم زيدا. وترك إظهار بعضٍ استغناء، كما ترك الإظهار في لاتَ حينَ.(2/347)
فهذه حالهما في حال الاستثناء، وعلى هذا وقع فيهما الاستثناء؛ فأجرهما كما أجروهما.
وقد يكون صفة، وهو قول الخليل رحمه الله. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ ليس زيدا، وما أتاني رجل لا يكون بشرا إذا جعلت ليس ولا يكون بمنزلة قولك: ما أتاني أحدٌ لا يقول ذاك، إذا كان لا يقول في موضع قائلٌ ذاك.
ويدلك على أنه صفة أن بعضهم يقول: ما أتتني امرأةٌ لا تكون فلاة، وما أتتني امرأة ليست فلانة. فلو لم يجعلوه صفة لم يؤنثوه لأن الذي لا يجيء صفة فيه إضمار مذكَّر. ألا تراهم يقولون: أتينني لا يكون فلانة وليس فلانة، يريد: ليس بعضُهن فلانة، والبعض مذكر.
وأما عدا وخلا فلا يكونان صفة، ولكن فيهما إضمار كما كان في ليس ولا يكون، وهو إضمارٌ قصته فيهما قصته في لا يكون وليس. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ خلا زيدا، وأتاني القومُ عدا عمرا، كأنك قلت: جاوز بعضُهم زيدا. إلا أن خلا وعدا فيهما معنى الاستثناء، ولكني ذكرت جاوز لأمثل لك به، وإن كان لا يُستعمل في هذا الموضع.(2/348)
وتقول: أتاني القومُ ما عدا زيدا، وأتَوني ما خلا زيدا. فما هنا اسمٌ، وخلا وعدا صلة له كأنه قال: أتوني ما جاوز بعضُهم زيدا. وما هم فيها عدا زيدا، كأنه قال: ما هم فيها ما جوز بعضُهم زيدا، وكأنه قال: إذا مثّلتَ ما خلا وما عدا فجعلتَه اسما غير موصول قلت: أتوني مجاوزتَهم زيدا، مثّلتَه بمصدر ما هو في معناه، كما فعلتَه فيما مضى. إلا أن جاوز لا يقع في الاستثناء.
وإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيدٌ فالرفع جيدٌ بالغ، وهو كثير في كلام العرب، لأن يكونُ صلةٌ لأنْ وليس فيها معنى الاستثناء، وأن يكون في موضع اسم مستثنى كأنك قلت: يأتونك إلا أن يأتيك زيد.
والدليل على أن يكون ليس فيها هنا معنى الاستثناء: أن ليس وعدا وخلا، لا يقعن ههنا.
ومثلُ الرفع قولُ الله عز وجل: " إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم ". وبعضهم ينصب، على وجه النصب في لا يكون، والرفع أكثر.
وأما حاشا فليس باسم، ولكنه حرفٌ يجر ما بعده كما تجر حتى ما بعدها، وفيه معنى الاستثناء. وبعضُ العرب يقول: ما أتاني القومُ خلا عبدِ الله،(2/349)
فيجعل خلا بمنزلة حاشا. فإذا قلت ما خلا فليس فيه إلا النصب، لأن ما اسمٌ ولا تكون صلتُها إلا الفعل ها هنا، وهي ما التي في قولك: أفعلف ما فعلتَ. ألا ترى أنك لو قلت: أتوني ما حاشا زيدا، لم يكن كلاما.
وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل رحمه الله أن هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك، إلا أن في سواك معنى الاستثناء.
؟ باب مجرى علاماتِ المضمرين
وما يجوز فيهن كلهن وسنبين ذلك إن شاء الله.
؟
باب علامات المضمرين المرفوعين
اعلم أن المضمَر المرفوع، إذا حدث عن نفسه فإن علامته أنا، وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال: نحنُ، وإن حدث عن نفسه وعن آخرين قال: نحنُ.
ولا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلْتُ، لا يجوز أن تقول فعل أنا، لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا. ولا يقع نحنُ في موضع نا التي في فعَلْنا، لا تقول فعلَ نحن.
وأما المضمَر المخاطَب فعلامته إن كان واحدا: أنت، وإن خاطبتَ اثنين فعلامتُهما: أنتُما، وإن خاطبتَ جميعا فعلامتُهم: أنتم.(2/350)
واعلم أنه لا يقع أنتَ في موضع التاء التي في فعَلْتَ، ولا أنتما في موضع تُما التي في فعلتُما. ألا ترى أنك لا تقول فعل أنتُما. ولا يقع أنتم في موضع تُمْ التي في فعلتُم، لو قلت فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنت في موضع التاء في فعلْتَ، ولا يقع أنتُنّ في موضع تنَّ التي في فعلتُنّ، لو قلت فعلَ أنتُنّ لم يجز.
وأما المضمَر المحدَّث عنه فعلامتُه: هو، وإن كان مؤنثا فعلامته: هي، وإن حدّثتَ عن اثنين فعلامتُهما: هُما. وإن حدّثتَ عن جميع فعلامتهم: هُم، وإن كان الجميع جميع المؤنث فعلامته: هُنّ. ولا يقع هو في موضع المضمَر الذي في فعل، لو قلت فعل هو لم يجز إلا أن يكون صفة. ولا يجوز أن يكون هُما في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في يضربان، لو قلت ضرب هُما أو يضربُ هُما لم يجز. ولا يقع هُم في موضع الواو التي في ضربوا، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت ضرب هُم أو يضربُ هُم لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي في فعلتْ، لأن ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا يقع هُنّ في موضع النون التي في فعلْنَ ويفعلنَ، لو قلت فعل هُنّ لم يجز إلا أن يكون صفة، كما لم يجز ذلك في المذكر؛ فالمؤنث يجري مجرى المذكّر.
فأنا وأن ونحن، وأنتما وأنتم وأنتن، وهو وهي وهُما وهُم وهنّ(2/351)
لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا ولا في موضع المضمَر الذي لا علامةَ له، لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك.
؟
باب استعمالهم علامة الإضمار
الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل إذا لم يقع موقعه
فمن ذلك قولهم: كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء ههنا، ولا على الإضمار الذي في فعلَ. ومثل ذلك: نحن وأنتم ذاهبون؛ لأنك لا تقدر هنا على التاء والميم التي في فعلتُم كما لا تقدر في الأول على التاء في فعلتَ. وكذلك جاء عبد الله وأنت؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول: فيها أنتم، لأنك لا تقدر على التاء والميم التي في فعلتُم ها هنا. وفيها هم قياما، بتلك المنزلة؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في الفعل.
ومثل ذلك: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك: كنا وأنتم ذاهبين، ومثل ذلك أهو هو. وقال الله عز وجل: " كأنه هو وأوتينا العلم "؛ فوقع هو ها هنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعلَ. وقال الشاعر:(2/352)
فكأَنَّها هي بعد غِبّ كلالِها ... أو أسفعُ الخدّيْن شاةُ إرانِ
وتقول: ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدى كرب:
قد علمَتْ سَلْمَى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارِسَ إلاَّ أنا
وكذلك هاأناذا، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها هما ذانك، وها هم أولئك، وها أنت ذا، وها أنتما ذان، وها أنتم أولاء، وها أنتن أولاء، وها هنّ أولئك.(2/353)
وإنما استُعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامة في الفعل، ولا على الإضمار الذي في فعلَ.
وزعم الخليل رحمه الله أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا، وإنما أرادوا أن يقولوا هذا أنت، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا؛ وأرادوا أن يقولوا أنا هذا وهذا أنا، فقدموا ها وصارت أنا بينهما.
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوقَ بهم يقولون: أنا هذا، وهذا أنا.
ومثل ما قال الخليل رحمه الله في هذا قول الشاعر:
ونحن اقَتسمنا المالَ نِصْفينِ بيننا ... فقلتُ: لهم هذا لها ها وذالِيَا
كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصير الواو بين ها وذا.
وزعم أن مثل ذلك: إي ها الله ذا، إنما هو هذا.
وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في هذا؛ يدلك على هذا قوله عز وجل: " ها أنتم هؤلاء "(2/354)
فلو كانت ها ها هنا هي التي تكون أولا إذا قلت هؤلاء، لم تُعَد ها ها هنا بعد أنتم.
وحدثنا يونس أيضا تصديقا لقول أبي الخطاب، أن العرب تقول: هذا أنت تقول كذا وكذا، لم يرِد بقوله هذا أنت، أن يعرفه نفسَه، كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره. هذا محال، ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضرُ عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت.
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب، قال تعالى: " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسَكم ".
؟
باب علامة المضمرين المنصوبين
اعلم أن علامة المضمرين المنصوبين إيَّا ما لم تقدَر على الكاف التي في رأيتك، وكُما التي في رأيتُكما، وكُم التي في رأيتكم، وكُنّ التي في رأيتكن، والهاء التي في رأيته، والهاء التي في رأيتها، وهُما التي في رأيتهما، وهُم التي في رأيتهم، وهن التي في رأيتهن، ونى التي في رأيتني، ونا التي في رأيتنا.
فإن قدرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم تُوقع إيا ذلك الموضع(2/355)
لأنهم استغنوا بها عن إيا، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها.
؟ باب استعمالهم إيا
إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنا
فمن ذلك قولهم: إياك رأيتُ وإياك أعني، فإنما استعلمت إياك ها هنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عز وجل: " وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضَلال مُبين " من قبل أنك لا تقدر على كُم ههنا. وتقول: إنى وإياك منطلقان، لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى جده: " ضل من تدعون إلا إياه ".
فلو قدرتَ على الهاء التي في رأيته لم تقل إياه. وقال الشاعر:
مُبَرّأٌ من عُيوبِ الناس كلِّهمِ ... فاللهُ يَرْعَى أبا حربٍ وإيَّانَا
لأنه لا يقدر على نا التي في رأيتَنا. وقال الآخر:(2/356)
لعمُرك ما خشيتُ على عدىٍّ ... سيوفَ بني مقيِّدة الحمارِ
ولكنّي خشيتُ على عدىٍّ سيوفَ القوم أو إيَّاك حارِ
ويُروى: رماح القوم؛ لأنه لم يقدر على الكاف.
وتقول: إن إياك رأيتُ، كما تقول إياك رأيت؛ من قبل أنك إذا قلت إن أفضلهم لقيتُ فأفضلَهم منتصب بلقيت.
فإن قلت: إن أفضلهم لقيت، فنصبت أفضلهم بإن فهو قبيح حتى تقول لقيتُه، وقد بُيّن وجه ذلك، وقد بيناه في باب إن وأخواتها، واستُعملت إياك لقبح الكاف والهاء ها هنا.
وتقول: عجبتُ من ضربي إياك. فإن قلت: لِمَ وقد تقع الكاف ها هنا وأخواتها، تقول عجبتُ من ضربيكَ ومن ضربيه ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلم بهذا، وليس بالكثير.(2/357)
ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيا مواقعها كما استحكمت في الفعل، لا يقال عجبت من ضربكَني إن بدأت به قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبُح هذا عندهم ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع صارت إيا عندهم في هذا الموضع لذلك بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف.
ومثل ذلك: كان إياه، لأن كانَه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف ها هنا، لا تقول كأنني وليسني، ولا كانَك. فصارت إيّا ههنا بمنزلتا في ضربي إياك.
وتقول: أتوني ليس إياك ولا يكون إياه؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء ها هنا، فصارت إيا بدلا من الكاف والهاء في هذا الموضع.
قال الشاعر:
لَيْتَ هذا الليلَ شهرٌ ... لا نرى فيه عَريبا
ليس إيَّاىَ وإيّا ... كَ ولا نَخْشَى رقيبَا(2/358)
وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني وكذلك كانني.
وتقول: عجبتُ من ضَرب زيد أنت، ومن ضربك هو، إذا جعلت زيدا مفعولا، وجعلت المضمَر الذي علامته الكاف فاعلا فجاز أنت ههنا للفاعل كما جاز إيا للمفعول، لأن إيا وأنت علامتا الإضمار، وامتناع التاء يقوى دخولَ أنت ههنا.
وتقول: قد جرّبتُك فوجدتُك أنت أنت، فأنتَ الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كأنك قلت فوجدتُك وجهُك طليق. والمعنى أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف.
ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلتَ هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجَلْد، كما تقول: الناس الناس، أي الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف.
وإن شئت قلت: قد وليتَ عملا فكنتَ أنت إياك، وقد جرّبتُك فوجدتُك أنت إياك، جعلتَ أنت صفة وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا(2/359)
قلت: فوجدتُك أنت الظريف. والمعنى أنك أردت أن تقول وجدتُك كما كنتُ أعرف. وهذا كله قول الخليل رحمه الله، سمعناه منه.
وتقول: أنت أنت، تكررها، كما تقول للرجل أنت وتسكت، على حد قولك: قال الناس زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جُرّبْتَ فكنتَ كنت، إذا كررتها توكيدا، وإن شئت جعلت كنتَ صفة، لأنك قد تقول: قد جُرّبت فكنت، ثم تسكت.
؟
باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل
وذلك إن ولعلّ وليتَ وأخواتها، ورُويد ورُويدك وعليكَ وهلم وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن ها هنا كحالهن في الفعل، لا تقوى أن تقول: عليك إياه ولا رُويدَ إياه؛ لأنك قد تقدر على الهاء، تقول عليكَه ورُويدَه. ولا تقول: عليك إياى، لأنك قد تقدر على نى.(2/360)
وحدثنا يونس أنه سمع من العرب من يقول عليكَني، من غير تلقين، ومنهم من لا يستعمل نى ولا نا في ذا الموضع استغناء بعليك بي وعليك بنا عن نى ونا، وإياى وإيانا.
ولو قلت عليك: إياه كان ها هنا جائزا في عليك وأخواتها، لأنه ليس بفعل وإن شبِّه به. ولم تقو العلامات ها هنا كما قويت في الفعل، فهى مضارعة في ذلك الأسماء.
واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيت فيها إياك، ورأيت اليوم إياه؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي هو سوى إيا، وهو الكاف التي في رأيتك فيها، والهاء التي في رأيته اليوم، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا لم تكلموا بأياك، استغنوا بهذا عن إياك وإياه. ولو جاز هذا لجاز ضربَ زيدٌ إياك وإن فيها إياك، ولكنهم لما وجدوا إنك فيها وضربَه زيدٌ، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو قالوا: إن فيها إياك، وضرب زيدٌ إياك استغنوا به عن إيا.
وأما: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إياك، فإنه لا يدخل على هذا؛(2/361)
من قبل أنه لو أخر إلا كان الكلام محالا. ولو أسقط إلا كان الكلام منقلب المعنى وصار الكلام على معنى آخر.
؟ باب ما يجوز في الشعر من إيا
ولا يجوز في الكلام فمن ذلك قول حُميد الأرقط:
إليكَ حتَّى بلغتْ إيَّاكَا وقال الآخر، لبعض اللصوص:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيانا
قتلنا منهمُ كلَّ ... فتى أبيضَ حُسّانا
؟
باب علامة إضمار المجرور
اعلم أن أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور، من قبل أن أنت اسم مرفوع، ولا يكون المرفوع مجرورا. ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بزيد وأنت، لم يجز. ولو قلت: ما مررتُ بأحد إلا أنت لم يجز. ولا يجوز إيا(2/362)
أن تكون علامة لمضمر مجرور، من قبل أن إيا علامةٌ للمنصوب، فلا يكون المنصوب في موضع المجرور، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع مواقعَهن إيا، إلا أن تضيف إلى نفسك نحو قولك: بى ولى وعندى.
وتقول: مررتُ بزيد وبك، وما مررتُ بأحد إلا بك، أعدتَ مع المضمَر الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة، فلذلك أعادوا الجار مع المضمَر. ولم توقِع إيا ولا أنت ولا أخواتها ههنا من قبل أن المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور.
؟ باب إضمار المفعولَين
اللذين تعدى إليهما فعلُ الفاعل
اعلم أن المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أُضمَر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيا موقعها، وقد تكون علامتُه إذا أُضمَر إيا.
فأما علامة الثاني التي لا تقع إيا موقعها فقولك: أعطانيه وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكَني، أو بدأ بالغائب قبل نفسه فقال: قد أعطاهوني، فهو قبيح(2/363)
لا تكلّمُ به العرب، ولكن النحويين قاسوه.
وإنما قبُح عند العرب كراهيةَ أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب، ولكن تقول أعطاك إياى، وأعطاه إياى، فهذا كلام العرب. وجعلوا إيا تقع هذا الموقع إذ قبُح هذا عندهم كما قالوا: إياك رأيتُ، وإياى رأيت، إذ لم يجز لهم ني رأيتَ ولا كَ رأيتُ.
فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطَباً وغائبا، فبدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامةُ التي لا تقع موقعها إيا، وذلك قوله: أعطيتُكَه وقد أعطاكَه، وقال عز وجل: " فعُمّيَتْ عليكم أنُلزمُكموها وأنتم لها كارهون ". فهذا هكذا إذا بدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب.
وإنما كان المخاطَب أولى بان يُبدأ به من قبل أن المخاطَب أقرب إلى المتكلم من الغائب، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه قبل المخاطَب، كان المخاطَب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يُبدأ به من الغائب.
فإن بدأت بالغائب فقلت: أعطاهوكَ، فهو في القبح وأنه لا يجوز، بمنزلة الغائب والمخاطَب إذا بُدئ بهما قبل المتكلم، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت قد أعطاه إياك.
وأما قول النحويين: قد أعطاهوك وأعطاهوني، فإنما هو شيء قاسوه لم تكلم به العرب، ووضعوا الكلام في غير موضعه، وكان قياس هذا لو تُكلّم به كان هينا.(2/364)
ويدخل على مَن قال هذا أن يقول الرجل إذا منحته نفسه: قد منحتنيني. ألا ترى أن القياس قد قبُح إذا وضعت نى في غير موضعها، فإذا ذكرتَ مفعولين كلاهما غائب فقلت أعطاهوها وأعطاهاه، جاز، وهو عربي. ولا عليك بأيهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب.
وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إياه. على أنه قد قال الشاعر:
وقد جعلتْ نفسى تطيبُ لضَغمةٍ ... لضغمِهِماها يقرعُ العَظمَ نابُها
ولم تستحكم العلامات ها هنا كما لم تستحكم في: عجبت من ضَربي إياك، ولا في كان إياه، ولا في ليس إياه.
وتقول: حسبتُك إياه، وحسبتني إياه؛ لأن حسبتُنيه وحسبتُكَه قليل في كلامهم؛ وذلك لأن حسبتُ بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدإ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال.
ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه(2/365)
مبتدأ. والمنصوبان بعد حسبتُ بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبتُ وكان؛ لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقينا أو شكا أو عِلماً، وليس بفعل أحدثته منك إلى غيرك كضربتُ وأعطيتُ، إنما يجعلان الأمر في علمك يقينا أو شكا فيما مضى.
ولا يجوز أن تقول ضربتُني ولا ضربتُ إياى، لا يجوز واحدٌ منهما لأنهم قد استغنوا عن ذلك بضربتُ نفسي وإيّاي ضربتُ.
؟ باب لا تجوز فيه علامة المضمَر
المخاطَب ولا علامة المضمَر المتكلم، ولا علامة المضمَر المحدَّث عنه الغائب
وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطَب: اضرِبْكَ، ولا اقتُلْكَ ولا ضربْتَك، لما كان المخاطب فاعلا وجعلت مفعوله نفسه قبُح ذلك، لأنهم استغنوا بقولهم اقتُل نفسك وأهلكتَ نفسك، عن الكاف ها هنا وعن إياك.(2/366)
وكذلك المتكلم، لا يجوز له أن يقول أهلكتُني ولا أُهلكُني لأنه جعل نفسه مفعولة فقبُح؛ وذلك لأنهم استغنوا بقولهم أنفعُ نفسي عن نى، وعن إياي.
وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول ضربة إذا كان فاعلا وكان مفعوله نفسه؛ لأنهم استغنوا عن الهاء وعن إياه بقولهم ظلم نفسه وأهلك نفسه، ولكنه قد يجوز ما قبح ها هنا في حسبتُ وظننت وخلتُ، وأُرى وزعمتُ، ورأيت إذا لم تعنِ رؤية العين، ووجدتُ إذا لم ترد وجدان الضالة، وجميع حروف الشك، وذلك قولك: حسبتُني وأرانى ووجدتُني فعلت كذا وكذا، ورأيتُني لا يستقيم لي هذا. وكذلك ما أشبه هذه الأفعال، تكون حال علامات المضمَرين المنصوبين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب.
ومما يثبت علامة المضمَرين المنصوبين ها هنا أنه لا يحسن إدخال النفس ها هنا. لو قلت يظن نفسه فاعلة وأظن نفسى فاعلةً على حد يظنه وأظنني ليُجزئَ هذا من ذا لم يُجزئ كما أجزأ أهلكتَ نفسك عن أهلكتَك، فاستُغنى به عنه.(2/367)
وإنما اقترفتْ حسبتُ وأخواتها والأفعال الأُخَر لأن حسبت وأخواتها إنما أدخلوها على مبتدإ ومبنى عليه لتجعل الحديث شكا او علما. ألا ترى أنك لا تقتصر على المنصوب الأول كما لا تقتصر عليه مبتدأ، والأفعال الأخَر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ والأسماء مبنية عليها. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبنى على المبتدأ، فلما صارت حسبتُ وأخواتُها بتلك المنزلة جُعلتْ بمنزلة إن وأخواتها إذا قلت إنني ولعلني ولكنني وليتني، لأن إن وأخواتها لا يُقتصر فيها على الاسم الذي يقع بعدها لأنها إنما دخلت على مبتدإ ومبنى على مبتدأ.
وإذا أردت برأيتُ رؤية العين لم يجز رأيتُني؛ لأنها حينئذ بمنزلة ضربْتُ. وإذا أردتَ التي بمنزلة علمتُ صارت بمنزلة إن وأخواتها، لأنهن لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى. وكذلك هذه الأفعال إنما جئن لعلمٍ أو شك، ولم يُردْ فعلاً سلف منه الى إنسان يبتدئه.
؟
باب علامة إضمار المنصوب
المتكلم والمجرور المتكلم
اعلم أن علامة إضمار المنصوب المتكلم نى، وعلامة إضمار المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرتَ نفسك وأنت منصوب: ضربني وقتلني، وإنني ولعلني.(2/368)
وتقول إذا أضمرت نفسك مجرورا: غلامي، وعندي ومعي.
فإن قلت: ما بال العرب قد قالت: إني وكأني ولعلي ولكني؟ فإنه زعم أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة في كلامهم، وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف، فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف، حذفوا التي تلي الياء.
فإن قلت: لعلي ليس فيها نون. فإنه زعم أن اللام قريب من النون، وهو أقرب الحروف من النون. ألا ترى أن النون قد تُدغَم مع اللام حتى تبدَل مكانها لام، وذلك لقربها منها، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه.
وسألته رحمه الله عن الضاربي فقال: هذا اسم، ويدخله الجر، وإنما قالوا في الفعل: ضربني ويضربني، كراهية أن يدخلوا الكسرة في هذه الباء كما تدخل الأسماء، فمنعوا هذا أن يدخله كما مُنع الجر.
فإن قلت: قد تقول اضرِب الرجل فتكسرُ، فإنك لم تكسرها كسرا يكون للأسماء، إنما يكون هذا لالتقاء الساكنين. قد قال(2/369)
الشعراء: ليتى إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا الضاربى والمضمَر منصوب. قال الشاعر زيد الخليل:
كمُنية جابرٍ إذ قال لَيْتي ... أُصادِفُه وأفقدُ جلَّ مالِى
وسألته رحمه الله عن قولهم عني وقدْني، وقطْني ومني ولدُنّي، فقلت: ما بالهم جعلوا علامة إضمار المجرور ها هنا كعلامة إضمار المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحركا مكسورا، ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في قطْ ولا النون التي في مِن، فلم يكن لهم بد من أن يجيئوا بحرف لياء الإضافة متحرك إذ لم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات؛ لأنها لا تئكَر أبدا إلا وقبلها حرف متحرك مكسور. وكانت النون أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم؛ فجاءوا(2/370)
بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا أن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار.
وإنما حملهم على أن لا يحركوا الطاء والنونات كراهيةُ أن تشبه الأسماء نحو يدٍ وهَنٍ. وأما ما تحرك آخره فنحو مع ولدُ كتحريك أواخر هذه الأسماء؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثم لم يجعلوها بمنزلتها. فمن ذلك قولك معي، ولدى في لَدُ.
وقد جاء في الشعر: قطِي وقَدي. فأما الكلام فلابدّ فيه من النون، وقد اضطر الشاعر فقال قدِي، شبهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد. قال الشاعر:
قدْني مِن نَصر الخُبيبَين قدِي ... ليس الإمامُ بالشَّحيح المُلحدِ(2/371)
لما اضطر شبهه بحسبي وهَني؛ لأن ما بعد هنٍ وحسب مجرور كما أن ما بعد قد مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال ليتى حيث اضطر فشبهه بالاسم نحو الضاربي؛ لأن ما بعدهما في الإظهار سواء، فلما اضطر جُعل ما بعدهما في الإضمار سواء.
وسألناه رحمه الله عن إلى ولدى وعلى فقلنا: هذه الحروف ساكنة، ولا ترى النون دخلتْ عليها. فقال: من قبل أن الألف في لدى والياء في على اللذين قبلهما حرف مفتوح لا تحرّكُ في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة، ويكون التحريك لازما لياء الإضافة، فلما علموا أن هذه المواضع ليس لياء الإضافة عليها سبيلٌ بتحريك، كما كان لها السبيل على سائر حروف المُعجم لم يجيئوا بالنون، إذ علموا أن الياء في ذا الموضع والألف ليستا من الحروف التي تحرك لياء الإضافة.
ولو أضفت إلى الياء الكاف التي تجر بها لقلت: ما أنت كِي، والفتح(2/372)
خطأ وهي متحركة كما أن اواخر الأسماء متحركة، وهي تجر كما أن الأسماء تجر، ولكن العرب قلما تكلموا بذا.
وأما قطْ وعن ولدُن فإنهن تباعدنَ من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك على الفعل نحو خُذْ وزِنْ، فضارعت الفعل وما لا يُجَرّ أبدا، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحركوه.
؟
هذا باب
ما يكون مضمَراً فيه الاسم متحولا عن حاله
إذا أُظهر بعده الاسم
وذلك لولاك ولولاى، إذا أضمرت الاسم فيه جُرّ، وإذا أظهرت رُفع. ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت لولا أنت، كما قال سبحانه: " لولا أنتم لكنا مؤمنين "؛ ولكنهم جعلوه مضمَراً مجرورا.
والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامةَ مضمَر مرفوع. قال الشاعر، يزيد بن الحكَم:(2/373)
وكَمْ موطنٍ لولايَ طِحتَ كما هَوَى ... بأَجْرامه من قُلةِ النّيقِ مُنهَوي
وهذا قول الخليل رحمه الله ويونس.
وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز، وهو رؤبة:(2/374)
يا أَبَتَا عَلَّكَ أو عَساكَا والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتُك نى. قال عمران بن حطان:
ولى نفسٌ أقولُ لها إذا ما ... تُنازعني لَعَلّى أو عَسانِى
فلو كانت الكاف مجرورة لقال عساى، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع.
فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان للدُنْ حالٌ مع غُدوة ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تُعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها، فهى معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. ولا يستقيم أن(2/375)
تقول وافق الرفعُ الجرَّ في لولاى، كما وافق النصبُ الجرّ حين قلت: معك وضربَك؛ لأنك إذا أضفت إلى نفسك اختلفا، وكان الجر مفارِقاً للنصب في غير الأسماء. ولا تقل: وافق الرفعُ النصبَ في عساني كما وافق النصبُ الجر في ضرْبَك ومعك، لأنهما مختلفان إذا أضفت إلى نفسك كما ذكرتُ لك.
وزعم ناس أن الياء في لولاى وعسانى في موضع رفع، جعلوا لولاى موافقة للجر، ونى موافقة للنصب، كما اتفق الجر والنصب في الهاء والكاف. وهذا وجه ردىء لما ذكرت لك، ولأنك لا ينبغي لك أن تكسر الباب وهو مطرد وأنت تجد له نظائر. وقد يوجَّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجَد غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بُيّن بعض ذلك وستراه فيما تستقبل إن شاء الله.
؟ باب ما ترده علامةُ الإضمار إلى أصله
فمن ذلك قولك: لعبد الله مالٌ، ثم تقول لك مالٌ وله مال، فتفتح اللام، وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالْتبستْ بلام الابتداء إذا قال إن هذا لعلى ولهذا أفضل منك، فأرادوا أن يميزوا بينهما، فلما أضمروا(2/376)
لم يخافوا أن تلتبس بها، لأن هذا الإضمار لا يكون للرفع ويكون للجر. ألا تراهم قالوا: يا لَبكرٍ، حين نادوا؛ لأنهم قد علموا أن تلك اللام لا تدخل ها هنا.
وقد شبهوا به قولهم: أعطيتُكموه، في قول من قال: أعطيتُكم ذلك فيجزم، رده بالإضمار إلى أصله، كما رده بالألف واللام، حين قال: أعطيتُكم اليوم، فشبهوا هذا بلكَ وله وإن كان ليس مثله، لأن من كلامهم أن يشبهوا الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله. وقد بينا ذلك فيما مضى، وستراه فيما بقى.
وزعم يونس أنه يقول: أعطيتُكُمْهُ وأعطيتُكُمْها، كما يقول في المظهر. والأول أكثر وأعرف.
باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمَر
فيما عمل وما يقبح أن يشرك المظهر المضمَر فيما عمل فيه.
أما ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب، وذلك قولك: رأيتك وزيدا، وإنك وزيدا منطلقان.(2/377)
وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو المضمر في الفعل المرفوع وذلك قولك: فعلت وعبدُ الله، وأفعل وعبدُ الله.
وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يُبنى عليه الفعل، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمَراً يغير الفعل عن حاله إذا بعد منه.
وإنما حسنتْ شِركتُه المنصوب لأنه لا يغيَّر الفعل فيه عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر، فأشبه المظهر وصار منفصلا عندهم بمنزلة المظهر، إذ كان الفعل لا يتغير عن حاله قبل أن يضمَر فيه.
وأما فعلتُ فانهم قد غيروه عن حاله في الإظهار، أُسكنتْ فيه اللام فكرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً يُبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيتُ.
فإن نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيدٌ، وقال الله عز وجل: " اذهبْ أنت وربُّك " و: " اسكُنْ أنت وزوجُك الجنة ". وذلك أنك لما وصفتَه حسن الكلام حيث طوله وأكده كما قال: قد علمتُ أن لا تقول ذاك، فإن أخرجتَ لا قبُح الرفع.(2/378)
فأنت وأخواتها تقوى المضمَر وتصير عوضا من السكون والتغيير ومِن ترك العلامة في مثل ضربَ. وقال الله عز وجل: " لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرمنا "، حسُن لمكان لا. وقد يجوز في الشعر، قال الشاعر:
قلتُ إذْ أقبلتْ وزُهْرٌ تَهادى ... كنعاجِ المَلا تعسّفْنَ رَمْلاَ
واعلم أنه قبيح أن تصفَ المضمَر في الفعل بنفسك وما أشبهه؛ وذلك أنه قبيح أن تقول فعلتَ نفسُك، إلا أن تقول: فعلت أنت نفسُك. وإن قلت فعلتم أجمعون حسن؛ لأن هذا يعم به. وإذا قلت نفسُك فإنما تريد أن تؤكد الفاعل، ولما كانت تفسُك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يُجرّ ويُنصب ويُرفع، شبهوها بما يشرك المضمَر، وذلك قولك: نزلتُ بنفس الجبل، ونفس الجبل مُقابلي، ونحو ذلك.
وأما الأجمعون فلا يكون في الكلام إلا صفة.(2/379)
وكلُّهم قد تكون بمنزلة أجمعين لأن معناها معنى أجمعين، فهي تجرى مجراها.
وأما علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغير ما عمل فيها عن حاله إذا أُظهر فيه الاسم فإنه يشركها المظهر؛ لأنه يشبه المظهر، وذلك قولك: أنت وعبدُ الله ذاهبان، والكريم أنت وعبدُ الله.
واعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبت وعبدُ الله، وذهبتُ وعبدُ الله، وذهبت وأنا، لأن أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجيء في الشعر. قال الراعى:
فلمَّا لَحِقنْا والجيادُ عشيةً ... دعَوا يا لَكَلبٍ واعتزَيْنا لعامرِ(2/380)
ومما يقبح أن يشركه المظهر علامةُ المضمَر المجرور، وذلك قولك: مررتُ بك وزيدٍ، وهذا أبوك وعمرٍو، كرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً داخلا فيما قبله؛ لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعتْ أنها لا يُتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها، وأنها بدلٌ من اللفظ بالتنوين، فصارت عندهم بمنزلة التنوين، فلما ضعفتْ عندهم كرهوا أن يُتبعوها الاسمَ، ولم يجز أيضا أن يُتبعوها إياه وإن وصفوا؛ لا يحسن لك أن تقول مررت بك أنت وزيدٍ كما جاز فيما أضمرتَ في الفعل نحو قمتَ أنت وزيد، لأن ذلك وإن كان قد أُنزل منزلة آخر الفعل، فليس من الفعل ولا من تمامه، وهما حرفان يستغنى كلُ واحدٍ منهما بصاحبه كالمبتدإ والمبني عليه، وهذا يكون من تمام الاسم، وهو بدل من الزيادة التي في الاسم، وحال الاسم إذا أضيف إليه مثلُ حاله منفردا، لا يستغنى به، ولكنهم يقولون: مررتُ بكُم أجمعين، لأن أجمعين لا يكون إلا وصفا.
ويقولون: مررتُ بهم كلهم؛ لأن أحد وجهَيها مثلُ أجمعين.
وتقول أيضا: مررتُ بك نفسك، لما أجزْتَ فيها ما يجوز(2/381)
في فعلتُم مما يكون معطوفا على الأسماء احتملت هذا؛ إذ كانت لا تغير علامة الإضمار ها هنا ما عمل فيها، فضارعتْ ها هنا ما ينتصب، فجاز هذا فيها.
وأما في الإشراك فلا يجوز، لأنه لا يحسن الإشراكُ في فعلتَ وفعلتُم إلا بأنت وأنتم. وهذا قول الخليل رحمه الله وتفصيله عن العرب.
وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور، إذا اضطر الشاعر.
وجاز قمتَ أنت وزيدٌ، ولم يجز مررتُ بك أنت وزيدٍ؛ لأن الفعل يستغنى بالفاعل، والمضاف لا يستغنى بالمضاف إليه، لأنه بمنزلة التنوين. وقد يجوز في الشعر. قال:
آبَكَ أيّهْ بي أو مُصدَّرِ ... من حُمُر الجِلَّة جأبٍ حَشْوَرِ(2/382)
وقال الاخر:
فاليومَ قرّبتَ تَهْجُونا وتشتمِنا ... فاذهبْ فما بك والأيامِ من عجبِ
؟
هذا باب
ما لا يجوز فيه الإضمارُ من حروف الجر
وذلك الكاف في أنت كزيد، وحتى، ومُذ.
وذلك لأنهم استغنوا بقولهم مثلى وشِبهي عنه فأسقطوه.
واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم: رأيتُهم حتى ذاك، وبقولهم: دعْهُ حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعهُ حتى ذاك، وبالإضمار في إلى إذا قال دعهُ إليه؛ لأن المعنى واحد، كما استغنوا بمثلى ومثله عن كى وكَهُ.
واستغنوا عن الإضمار في مُذ بقولهم: مذ ذاك؛ لأن ذاك اسمٌ مبهَم، وإنما يذكر(2/383)
حين يُظن أنه قد عرفت ما يعنى. إلا أن الشعراء إذا اضطُروا أضمروا في الكاف، فيجرُونها على القياس. قال العجاج: وأمَّ أوعالٍ كَها أو أقرَبا وقال العجاج:
فلا تَرَى بَعْلاً ولا حَلائِلاً ... كَهُ ولا كهُنّ إلاَّ حاظِلا(2/384)
شبهوه بقوله له ولهن.
ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف إلى نفسه قال: ما أنت كِي. وكَي خطأ؛ من قبل أنه ليس في العربية حرفٌ يُفتح قبل ياء الإضافة.
؟
باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحن
وهو وهى وهم وهن وأنتن وهما وأنتما وأنتم وصفا
اعلم أن هذه الحروف كلها تكون وصفاً للمجرور والمرفوع والمنصوب للمضمرين، وذلك قولك: مررتُ بك أنت، ورأيتُك أنت، وانطلقْتَ أنت.
وليس وصفا بمنزلة الطويل إذا قلت مررتُ بزيدٍ الطويل، ولكنه بمنزلة نفسه إذا قلت مررتُ به نفسه وأتاني هو نفسه، ورأيتُه هو نفسَه. وإنما تريد بهنّ ما تريد بالنفس إذا قلت: مررتُ به هو هو، ومررت به نفسِه ولست تريد أن تحليه بصفة ولا قرابة كأخيك، ولكن النحويين صار ذا عندهم صفة لأن حاله كحال الموصوف كما أن حال الطويل وأخيك(2/385)
في الصفة بمنزلة الموصوف في الإجراء، لأنه يلحقها ما يلحق الموصوفَ من الإعراب.
واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفا للمظهر، كراهيةَ أن يصفوا المظهر بالمضمَر، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسُه معطوفا على النكرة في قولهم: مررتُ برجلٍ نفسِه ومررتُ بقوم أجمعين.
فإن أردت أن تجعل مضمَراً بدلا من مضمَر قلت: رأيتُك إياك، ورأيتُه إياه. فإن أردت أن تبدل من المرفوع قلت: فعلتَ أنت، وفعل هو. فأنت وهو وأخواتهما نظائر إياه في النصب.
واعلم أن هذا المضمَر يجوز أن يكون بدلا من المظهر، وليس بمنزلته في أن يكون وصفا له؛ لأن الوصف تابع للاسم مثلُ قولك: رأيت عبدَ الله أبا زيد. فأما البدل فمنفرد كأنك قلت: زيدا رأيت أو رأيت زيدا ثم قلت إياه رأيت. وكذلك أنت وهو وأخواتُهما في الرفع.(2/386)
واعلم أنه قبيح أن تقول مررتُ به وبزيدٍ هما، كما قبُح أن تصف المظهر والمضمَر بما لا يكون إلا وصفا للمظهر. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: مررتُ بزيدٍ وبه الظريفين. وإن أراد البدل قال: مررتُ به وبزيدٍ بهما؛ لابد من الباء الثانية في البدل.
؟
هذا باب من البدل أيضا
وذلك قولك: رأيتُه إياه نفسَه، وضربتُه إياه قائما.
وليس هذا بمنزلة قولك: أظنه هو خيرا منك، من قبل أن هذا موضع فصل، والمضمَر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنك تقول رأيت زيدا هو خيرا منك، وقال الله عز وجل: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزلَ إليك من ربك هو الحق ". وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء. فأما ضربتُ وقتلتُ ونحوهما فإن الأسماء بعدها بمنزلة المبني على المبتدإ، وإنما تذكر قائما بعد ما يستغنى الكلام ويكتفى، وينتصب على أنه حال، فصار هذا كقولك: رأيته إياه يوم الجمعة. فأما نفسه حين قلت: رأيته إياه نفسه، فوصفٌ بمنزلة هو، وإياه بدل، وإنما ذكرتهما توكيدا، كقوله جل ذكره: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون "؛ إلا أن إياه بدلٌ والنفس وصف، كأنك قلت: رأيت الرجلَ زيدا نفسه، وزيد بدل ونفسه على الاسم. وإنما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما(2/387)
كان الفصل في أظن ونحوها لأنه موضع يلزم فيه الخبر، وهو ألزم له من التوكيد؛ لأنه لا يجد منه بدا. وإنما فصل لأنك إذا قلت كان زيدٌ الظريف، فقد يجوز أن تريد بالظريف نعتا لزيد، فإذا جئت بهو أعلمت أنها متضمنة للخبر. وإنما فصل لما لابد له منه، ونفسه يجزئ من إيا، كما تُجزئ منه الصفة؛ لأنك جئت بها توكيدا وتوضيحا، فصارت كالصفة.
ويدلك على بُعده أنك لا تقول أنت إياك خيرٌ منه. فإن قلت أظنه خيرا منه، جاز أن تقول إياه؛ لأن هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام، فصار كقولك: ضربتُه إياه.
وكان الخليل يقول: هى عربية: إنك إياك خيرٌ منه. فإذا قلت إنك فيها إياك، فهو مثل أظنه خيرا منه، يجوز أن تقول: إياك.
ونظير إيا في الرفع أنت وأخواتُها.(2/388)
واعلم أنها في الفعل أقوى منها في إن وأخواتها. ويدلك على أن الفصل كالصفة، أنه لا يستقيم أظنه هو إياه خيرا منك إذا كان أحدهما لم يكن الآخر، لأن أحدهما يُجزئ من الآخر؛ لأن الفصل هو كالصفة، والصفة كالفصل.
وكذلك أظنه إياه هو خيرا منه؛ لأن الفصل يجزئ من التوكيد، والتوكيد منه.
؟
باب ما يكون فيه هو وأنت
وأنا ونحن وأخواتهن فصلا
اعلم أنهن لا يكن فصلا إلا في الفعل، ولا يكن كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه إلى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء، إعلاما بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقعه منه، مما لابد له من أن يذكره للمحدَّث؛ لأنك إذا ابتدأت الاسم فإنما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابد منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر هو ليستدل المحدَّث أن ما بعد الاسم ما يُخرجه مما وجب عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه. هذا تفسير الخليل رحمه الله.(2/389)
وإذا صارت هذه الحروف فصلا وهذا موضع فصلها في كلام العرب، فأجرِه كما أجروه. فمن تلك الأفعال: حسبتُ وخلْتُ وظننت ورأيت إذا لم ترد رؤية العين؛ ووجدتُ إذا لم ترد وجدانَ الضالة، وأُرى، وجعلتُ إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت ولكن تجعلها بمنزلة صيرته خيرا منك، وكان وليس وأصبح وأمسى.
ويدلك على أن أصبح وأمسى كذلك، أنك تقول أصبح أباك، وأمسى أخاك، فلو كانتا بمنزلة جاء وركب، لقبُح أن تقول أصبح العاقلَ وأمسى الظريفَ، كما يقبح ذلك في جاء وركب ونحوهما. فمما يدلك على أنهما بمنزلة ظننتُ أنه يُذكر بعد الاسم فيهما ما يُذكر في الابتداء.
واعلم أن ما كان فصلا لا يغير ما بعده عن حاله التي كان عليها قبل أن يُذكر، وذلك قولك: حسبتُ زيدا هو خيرا منك، وكان عبد الله هو الظريف، وقال الله عز وجل: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق ".
وقد زعم ناسٌ أن هو ها هنا صفة، فكيف يكون صفة وليس من الدنيا عربي يجعلها ها هنا صفة للمظهر. ولو كان ذلك كذلك لجاز مررتُ بعبد الله هو نفسه، فهو ها هنا مستكرهة لا يتكلم بها العرب لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا(2/390)
لنحن الصالحين. فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون. ولو كان صفة لم يجز أن يدخل عليه اللام؛ لأنك لا تُدخلها في ذا الموضع على الصفة فتقول: إن كان زيد للظريف عاقلا. ولا يكون هو ولا نحن ها هنا صفة وفيهما اللام.
ومن ذلك قوله عز وجل: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم "، كأنه قال: ولا يحسبن الذين يبخلون البُخل هو خيرا لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطَب بأنه البخل، لذكره يبخلون.
ومثل ذلك قول العرب: " مَنْ كَذَب كان شرَّا له "، يريد كان الكذب شرا له، إلا أنه استغنى بأن المخاطَب قد علم أنه الكذب، لقوله كذب في أول حديثه؛ فصار هو وأخواتُها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغوا، في أنها لا تغير ما بعدها عن حاله قبل أن تُذكَر.(2/391)
واعلم أنها تكون في إن وأخوتها فصلا وفي الابتداء، ولكن ما بعدها مرفوع، لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل.
واعلم أن هو لا يحسن أن تكون فصلا حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة، مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيدا وعمرا نحو خير منك ومثلك، وأفضل منك وشر منك، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة أو ما ضارعها، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. لو قلت: كان زيد هو منطلقاً، كان قبيحاً حتى تذكر الأسماء التي ذكرتُ لك من المعرفة أو ما ضارعها من النكرة مما لا يدخله الألف واللام.
وأما قوله عز وجل: " إنْ تَرَنِى أنَا أقلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً " فقد تكون أنا فصلا وصفة، وكذلك " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظمَ أجراً ".
وقد جعل ناسٌ كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسمٍ مبتدأ وما بعده مبني عليه، فكأنك تقول: أظن زيدا أبوه خيرٌ منه، ووجدتُ عمرا أخوه خيرٌ منه. فمن ذلك أنه بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيدا هو خيرٌ منك. وحدثنا عيسى أن ناساً كثيراً يقرؤونها:(2/392)
" وَمَا ظَلَمنْاهُمْ وَلَكِنْ كَانوا هُمُ الظَّالِمُونَ ". وقال الشاعر، قيس بن ذريح:
تُبَكّي على لُبنى وأنتَ تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أقدرُ
وكان أبو عمرو يقول: إن كان لهو العاقل.
وأما قولهم: " كلُّ مولود يُولَدُ على الفطرة، حتى يكون أبواه اللذان يهودانه وينصرانه "، ففيه ثلاثة أوجه: فالرفع وجهان والنصب وجه واحد.
فأحد وجهى الرفع أن يكون المولود مضمَراً في يكون، والأبوان مبتدآن، وما بعدهما مبني عليهما، كأنه قال: حتى يكون المولود أبواه(2/393)
اللذان يهودانه وينصرانه. ومن ذلك قول الشاعر، رجل من بني عبس:
إذا ما الَمرْءُ كانَ أبوه عَبْسٌ ... فحسبُك ما تريد إلَى الكَلامَ
وقال آخر:
متى ما يُفِد كسبًا يكنْ كلُ كسبه ... له مطعمٌ من صدرِ يومٍ ومأكلُ
والوجه الآخر: أن تعمل يكون في الأبوين، ويكون هُما مبتدأ وما بعده خبرا له.
والنصب على أن تجعل هُما فصلا.
وإذا قلت: كان زيد أنت خيرٌ منه، وكنت أنا يومئذ خيرٌ منك فليس إلا الرفع؛ لأنك إنما تفصل بالذي تعنى به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو الأول وكان خبره، ولا يكون الفصل ما تعنى به غيره. ألا ترى أنك(2/394)
لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغير المعنى، وإذا اخرجت هو من قولك كان زيد هو خيرا منك لم يفسد المعنى.
وأما إذا كان ما بعد الفصل هو الأول قلت: هذا عبد الله هو خيرٌ منك، وضربتُ عبدَ الله هو قائمٌ، وما شأن عبد الله هو خيرٌ منك، فلا تكون هو وأخواتها فصلاً فيها وفي أشباهها ها هنا؛ لأن ما بعد الاسم ها هنا ليس بمنزلة ما يُبنى على المبتدإ، وإنما ينتصب على أنه حالٌ كما انتصب قائم في قولك: انظُر إليه قائما. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد هو القائم، ولا ما شأنُك أنت الظريفُ. أوَلا ترى أن هذا بمنزلة راكبٍ في قولك مر زيدٌ راكبا.
فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلا؛ لأن ما بعد الأسماء هنا لا يفسد تركُه الكلام، فيكون دليلا على أنه فيما تكلمه به، وإنما يكون هو فصلاً في هذه الحال.
؟
باب لا تكون هو واخواتها فيه فصلا
ولكن يكن بمنزلة اسم مبتدإ.
وذلك قولك: ما أظن أحداً هو خير منك، وما أجعلُ رجلا هو أكرم منك، وما إخالُ رجلا هو أكرمُ(2/395)
منك. لم يجعلوه فصلا وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفا ولا بدلا لنكرة، وكما أن كلهم وأجمعين لا يكرَّران على نكرة، فاستقبحوا أن يجعلوها فصلا في النكرة كما جعلوها في المعرفة لأنها معرفة، فلم تصر فصلا إلا لمعرفة كما لم تكن وصفا ولا بدلا إلا لمعرفة.
وأما أهل المدينة فينزلون هو ها هنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها فصلا في هذا الموضع. فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحنا، وقال: احتبى(2/396)
ابنُ مروان في ذِه في اللحن. يقول: لحنَ، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول: اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: " هؤلاء بناتي هن أطهرَ لكم "، فنصب.
وكان الخليل يقول: والله إنه لعظيمٌ جعلهم هو فصلا في المعرفة وتصييرهم إياها بمنزلة ما إذا كانت ما لغوا، لأن هو بمنزلة أبوه، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغوا كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس. وإنما قياسُها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما. ومما يقوى ترك ذلك في النكرة أنه لا يستقيم أن تقول: رجلٌ خيرٌ منك. ويقول: لا يستقيم أظن رجلا خيرا منك، فإن قلت: لا أظن رجلا خيرا منك فجيد بالغ. ولا تقول: أظن رجلا خيرا منك، حتى تنفى وتجعله بمنزلة أحد، فلما خالفَ المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء، لم يجرِ في النفي مجراه لأنه قبيح في الابتداء وفيما أجرى مجراه من الواجب، فهذا مما يقوى ترك الفصل.(2/397)
؟
هذا باب أى
اعلم أن أيا مضافا وغير مضاف بمنزلة مَن. ألا ترى أنك تقول: أيٌ أفضل، وأيُ القوم أفضلُ. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى مَن، كما أن زيدا وزيدَ مَناة يجريان مجرى عمرو، فحال المضاف في الإعراب والحُسن والقبح كحال المفرد. قال الله عز وجل: " أَيَّا مَا تَدْعُو فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسنى "؛ فحسُن كحسنه مضافا.
وتقول: أيها تشاء لك، فتشاء صلةٌ لأيها حتى كمل اسما، ثم بنيتَ لك على أيها، كأنك قلت: الذي تشاء لك. وإن أضمرت الفاء جاز وجزمت تشأ، ونصبت أيها. وإن أدخلتَ الفاء قلت: أيها تشأ فلك؛ لأنك إذا جازيت لم يكن الفعل وصلا، وصار بمنزلته في الاستفهام إذا قلت أيها تشاء؟ وكذلك مَن تجرى مجرى أيٍ في الذي ذكرنا وتقع موقعه.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن قولهم: اضربْ أيُّهم أفضل؟ فقال: القياس النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضلُ، لأن أيا في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي، كما أن مَن في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي.(2/398)
وحدّثنا هارون أن ناساً، وهم الكوفيون يقرؤونها: " ثم لننزِعنّ من كل شيعةٍ أيَّهم أشدُّ عَلى الرَّحْمَنِ عُتيّا "، وهي لغة جيدة، نصبوها كما جروها حين قالوا: امرُرْ على أيهم أفضلُ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت: اضربِ الذي أفضلُ، لأنك تُنزل أيا ومَن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام.
وزعم الخليل أن أيُّهم إنما وقع في اضربْ أيهم أفضل على أنه حكاية، كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيهم أفضلُ، وشبهه بقول الأخطل:
ولقد أبيتُ مِن الفتاة بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ(2/399)
وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك: أشهدُ إنك لَرسولُ الله.
واضربْ معلّقةٌ. وأرى قولهم: اضربْ أيهم أفضلُ على أنهم جعلوا هذه الضمة بمنزلة الفتحة في خمسةَ عشرَ، وبمنزلة الفتحة في الآنَ حين قالوا من الآنَ إلى غدٍ، ففعلوا ذلك بأيهم حين جاء مجيئا لم تجئ أخواته عليه إلا قليلا، واستُعمل استعمالا لم تُستعمله أخواته إلا ضعيفا. وذلك أنه لا يكاد عربي يقول: الذي أفضل فاضربْ، واضربْ مَن أفضلُ، حتى يدخلَ هو. ولا يقول: هاتِ ما أحسنُ حتى يقول ما هو أحسن. فلما كانت أخواته مفارِقة له لا تستعمل كما يُستعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على غير ما استُعملت عليه أخواته إلا قليلا. كما أن قولك: يا اللهُ حين خالف سائرَ ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفَه، وكما أن ليس لما خالفت سائر الفعل ولم تصرف تصرف الفعل تُركت على هذه الحال.
وجاز إسقاط هو في أيهم كما كان: لا عليك، تخفيفا، ولم يجزْ في أخواته إلا قليلاً ضعيفاً.(2/400)
وأما الذين نصبوا فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة قولنا اضربِ الذين أفضلُ، إذا أثرنا أن نتكلم به. وهذا لا يرفعه أحد.
ومن قال: امرُرْ على أيهم أفضل قال: امرُرْ بأيهم أفضل؛ وهما سواء. فإذا جاء أيهم مجيئاً يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر رجع الى الأصل والى القياس، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ إلى الأصل وإلى القياس.
وتفسير الخليل رحمه الله ذلك الأول بعيد، إنما يجوز في شعر أو في اضطرار. ولو ساغ هذا في الأسماء لجاز أن تقول: اضربِ الفاسقُ الخبيثُ تريد الذي يقال له الفاسقُ الخبيثُ.
وأما قول يونس فلا يشبه أشهد إنك لمنطلق. وسترى بيان ذلك في باب إن وأن إن شاء الله.
ومن قولهما: اضربْ أيٌ أفضلُ. وأما غيرهما فيقول: اضربْ أيا أفضلُ. ويقيس ذا على الذي وما أشبهه من كلام العرب، ويسلم في ذلك المضاف إلى قول العرب ذلك، يعني أيهم، وأجروا أيا على القياس.(2/401)
ولو قالت العرب اضربْ أيٌ أفضلُ لقلته، ولم يكن بدٌ من متابعتهم. ولا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في القياس، كما أنك لا تقيس على أمس أمسك، ولا على أيقول، ولا سائر أمثلة القول، ولا على الآن أنَك. وأشبه هذا كثير.
ولو جعلوا أيا في الانفراد بمنزلته مضافا لكانوا خُلقاء إن كان بمنزلة الذي معرفة أن لا ينون؛ لأن كل اسم ليس يتمكن لا يدخله التنوين في المعرفة ويدخله في النكرة. وسترى بيان ذلك فيما ينصرف ولا ينصرف إن شاء الله.
وسألته رحمه الله عن أيّي وأيُّك كان شرا فأخزاه الله؟ فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب منى ومنك، إنما يريد منا. وكقولك: هو بيني وبينك، تريد هو بيننا. فإنما أراد أيُّنا كان شرا، إلا أنهما لم يشتركا في أي ولكنه أخلصَه لكل واحدٍ منهما. وقال الشاعر، العباس ابن مرداس:
فأيِّى ما وأيُّك كان شرَّا ... فسيقَ إلى المُقامةِ لا يَرَاها(2/402)
وقال خداشُ بن زهير:
ولقد علمتُ إذا الرجالُ تَناهَزُوا ... أيِّى وأيّكمُ أعزُّ وأمنعُ
وقال خداش أيضا:
فأيَّى وأيُّ ابنِ الحُصين وعثعثٍ ... غداةَ التقينا كان عندك أعذرا
؟ باب مجرى أى مضافاً على القياس
وذلك قولك: اضربْ أيَّهم هو أفضل، واضرب أيَّهم كان أفضل، واضرب أيهم أبوه زيد. جرى ذا على القياس لأن الذي يحسن ها هنا.
ولو قلت: آضربْ أيهم عاقلٌ رفعت، لأن الذي عاقل قبيحة.(2/403)
فإذا أدخلتَ هو نصبتَ لأن الذي هو عاقل حسن. ألا ترى أنك لو قلت: هذا الذي هو عاقل، كان حسنا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع عربيا يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. وهذه قليلة، ومن تكلم بهذا فقياسه اضربْ أيهم قائل لك شيئا.
قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: لا. فقلت: فما بالُ المسألة الأولى؟ فقال: لأنه إذا طال الكلام فهو أمثلُ قليلا، وكأن طولَه عوض من ترك هو. وقلّ من يتكلم بذلك.
؟ باب أي مضافاً الى ما لا يكمل
اسما إلا بصلة
فمن ذلك قولك: اضربْ أيُّ مَن رأيتَ أفضلُ. فمَن كمل اسما برأيتَ فصار بمنزلة القوم، فكأنك قلت: أيُّ القوم أفضل، وأيهم أفضلُ، وكذلك أيُ الذين رأيت في الدار أفضلُ. وتقول: أي الذين رأيتَ في الدار أفضل؟ لأن رأيت من صلة الذين، وفيها متصلة برأيت، لأنك ذكرت موضع الرؤية، فكأنك قلت أيضا: أي القوم أفضل وأيهم أفضل؛ لأن فيها لم تغير الكلام عن حاله. كما أنك إذا قلت: أيُ مَن رأيتَ قومَه أفضل؟(2/404)
كان بمنزلة قولك: أيُ مَن رأيتَ أفضلُ. فالصلة معملة وغيرَ معملةٍ في القوم سواءٌ.
وتقول: أيَّ من في الدار رأيت أفضلَ، وذاك لأنك جعلت في الدار صلة فتم المضاف إليه أيٌ اسما، ثم ذكرتَ رأيت، فكأنك قلت: أي القوم رأيت أفضل، ولم تجعل في الدار ها هنا موضعا للرؤية.
وتقول: أيُّ مَن في الدار رأيتَ أفضل، كأنك قلت: أيُ من رأيتَ في الدار أفضلُ. ولو قلت أيُ من في الدار رأيتَه زيدٌ، إذا أردت أن تجعل في الدار موضعا للرؤية لجاز. ولو قلت: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، قدّمتَ أو أخّرتَ سواء.
وتقول في شيء منه آخر: أيُ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرمه. فهذا إن جعلته استفهاما فإعرابه الرفع، وهو كلام صحيح، من قبل إن يأتنا نعطِه صلةٌ لمَن فكمل اسما. ألا ترى أنك تقول مَن إن يأتنا نعطِه بنو فلان، كأنك قلت: القومُ بنو فلان، ثم أضفتَ أيا إليه، فكأنك قلت: أيُ القوم نُكرمه وأيهم نُكرمه؟ فإن لم تدخل الهاء في نُكرم نصبتَ، كأنك قلت: أيهم نُكرم.
فإن جعلتَ الكلام خبرا فهو محال؛ لأنه لا يحسن أن تقول في الخبر: أيهم نُكرمه.
ولكنك إن قلت أيَّ مَن إن يأتنا نعطِه نُكرم تُهين، كان(2/405)
في الخبر كلاما، لأن أيهم بمنزلة الذي في الخبر، فصار نكرم صلةً، وأعملت تُهين، كأنك قلت: الذي نُكرمُ تُهين.
وتقول: أيَّ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرم تُهن، كأنك قلت: أيَّهم نُكرِم تُهن.
وتقول: أيُ مَن يأتينا يريد صلتنا فنحدثه، فيستحيل في وجه ويجوز في وجه.
فأما الوجه الذي يستحيل فهو أن يكون يريد في موضع مُريدٍ إذا كان حالا فيه وقع الإتيان، لأنه معلّق بيأتينا، كما كان فيها معلقا برأيت في: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، فكأنك قلت: أيُهم فنحدثه. فهذا لا يجوز في خبر ولا استفهام.
وأما الوجه الذي يجوز فيه فإن يكون يريدُ مبنيا على ما قبله، ويكون يأتينا الصلة. فإن أردت ذلك كان كلاما، كأنك قلت: أيهم يريد صلتَنا فنحدثه وفنحدثه إن أردت الخبر.
وأما أيَّ مَن يأتينا فنحدثه فهو محال. لأن أيَّهم فنحدثه محال. فإن أخرجت الفاء فقتل: أيَّ من يأتيني نُحدّثُه، فهو كلام في الاستفهام، محالٌ في الإخبار.
وتقول: أيَّ مَن إن لم يأته مَن إن يأتِنا نُعطه تأتِ يكرمْك. وذلك أن مَن الثانية صلتها إن يأتنا نعطه، فصار بمنزلة زيد، فكأنك قلت: أي مَن إن يأته زيدٌ يُعطه تأتِ يكرمْك، فصار إن يأته زيدٌ يعطِه صلة لمن الأولى، فكأنك قلت: أيهم تأتِ يُكرمْك.(2/406)
فجميع ما جاز وحسن في أيهم ها هنا جاز في: أي مَن إن يأته من إن يأتنا نعطه يُعطِه، لأنه بمنزلة أيهم.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: أيهن فلانة وأيتهن فلانة فقال: إذا قلت أي فهو بمنزلة كل لأن كلا مذكر يقع للمذكر والمؤنث وهو أيضا بمنزلة بعض، فإذا قلت أيتهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل رحمه الله يقول: كلَّتهن منطلقة.
؟ باب أي إذا كنتَ مستفهما بها عن نكرة
وذلك أن رجلا لو قال: رأيت رجلا قلت: أيا؟ فإن قال: رأيت رجلين قلت: أيّيْن؟ وإن قال: رأيت رجالا قلت: أيِّين؟ فإن ألحقتَ يا فتى في هذا الموضع فهي على حالها قبل أن تلحق يا فتى.
وإذا قال رأيت امرأة قلت: أية يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ امرأتين قلت: أيَّتَين يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ نسوة قلت: أيّاتٍ يا فتى؟ فإن تكلم بجميع ما ذكرنا مجرورا جررتَ أيا، وإن تكلم به مرفوعا رفعتَ أيا، لأنك إنما تسألهم على ما وضع عليه المتكلم كلامه.
قلت: فإن قال: رأيت عبدَ الله أو مررت بعبد الله؟ قال: فإن الكلام أن لا تقول أيا، ولكن تقول: مَن عبدُ الله؟ وأيٌ عبدُ الله؟(2/407)
لا يكون إذا جئت بأي إلا الرفع، كما أنه لا يجوز إذا قال: رأيت عبدَ الله أن تقول مَنَا؟ وكذلك لا يجوز إذا قال رأيت عبدَ الله أن تقول أيا؟ ولا تجوز الحكاية فيما بعد أي كما جاز فيما بعد مَن وذلك أنه إذا قال رأيت عبدَ الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإذا قال: مررتُ بعبد الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإنما جازت الحكاية بعد مَن في قولك مَن عبد الله، لأن أيا واقعة على كل شيء، وهي للآدميين. ومَن أيضا مُسكّنةٌ في غير بابها، فكذلك يجوز أن تجعل ما بعد مَن في غير بابه.
؟ باب مَن اذا كنت مستفهما عن نكرة
اعلم أنك تثنى مَن إذا قلت رأيت رجلين كما تثنى أيا، وذلك قولك: رأيت رجلين، فتقول: مَنَيْن كما تقول أيين. وأتاني رجلان فتقول: مَنان، وأتاني رجال فتقول: مَنون. وإذا قال: رأيت رجالا قلت: مَنين، كما تقول أيِّين. وإن قلت رأيت امرأة قلت: مَنَهْ؟ كما تقول(2/408)
أية. فإن وصل قال مَن يا فتى، للواحد والاثنين والجميع. وإن قال رأيت امرأتين قلت مَنَتيْن كما قلت أيّتَين، إلا أن النون مجزومة. فإن قال: رأيت نساءَ قلت: مَناتْ كما قلت أيّاتٍ، إلا أن الواحد يخالف أيا في موضع الجر والرفع، وذلك قولك: أتاني رجلٌ فتقول مَنُو، وتقول مررت برجل فتقول مَني. وسنبين وجه هذه الواو والياء في غير هذا الموضع إن شاء الله.
فأي في موضع الجر والرفع إذا وقفتَ بمنزلة زيد وعمرو؛ وذلك لأن التنوين لا يلحق مَن في الصلة وهو يلحق أيا فصارت بمنزلة زيد وعمرو وأما مَن فلا ينون في الصلة، فجاء في الوقف مخالفا.
وزعم الخليل أن مَنَهْ ومَنَتَيْن ومَنَيْن ومَناتْ ومَنِين كل هذا في الصلة مُسكن النون، وذلك أنك تقول إذا رأيت رجالا أو نساء أو امرأة أو امرأتين، أو رجلاً أو رجلين: مَني يا فتى.
وزعم الخليل رحمه الله أن الدليل على ذلك أنك تقول مَنو في الوقف، ثم تقول مَن ي فتى، فيصير بمنزلة قولك مَن قال ذاك؟ فتقول: مَن يا فتى إذا عنيت جميعا، كأنك تقول مَن قال ذاك، إذا عنيت جماعةً. وإما فارق باب مَن باب أي أن أيا في الصلة يثبت فيه التنوين، تقول: أيٌ ذا وأيةٌ ذهْ.
وزعم أن من العرب، وقد سمعناه من بعضهم، من يقول: أيّونَ(2/409)
هؤلاء، وأيان هذان. فأيٌ قد تُجمع في الصلة وتضاف وتثنى وتنون، ومَن لا يثني ويُجمع في الاستفهام ولا يضاف، وأيٌ منون على كل حال في الاستفهام وغيره، فهو أقوى.
وحدثنا يونس أن ناسا يقولون أبدا: مَنَا ومَنِي ومَنو، عنيت واحدا أو اثنين أو جميعا في الوقف. فمن قال هذا قال أيا وأيٍ وأيٌ إذا عنى واحدا أو جميعا أو اثنين. فإن وصل نون أيا. وإنما فعلوا ذلك بمَن لأنهم يقولون: مَن قال ذاك؟ فيعنون ما شاءوا من العدد. وكذلك أيٌ، تقول أيٌ يقول ذاك؟ فتعنى بها جميعا وإن شاء عنى اثنين.
وأما يونس فإنه كان يقيس مَنَهْ على أية، فيقول: مَنَةٌ ومنة ومنةٍ، إذا قال يا فتى. وكذلك ينبغى له أن يقول إذا أثر أن لا يغيرها في الصلة.
وهذا بعيد، وإنما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لم يُسمع بعدُ:(2/410)
أتَوا نارى فقلتُ مَنونَ أنتْم ... فقالوا الجِنُّ قلتُ عِموا ظَلامَا
وزعم يونس أنه سمع أعرابيا يقول: ضرب مَنٌ مَناً؟ وهذا بعيد لا تكلم به العرب ولا يستعمله منهم ناس كثير. وكان يونس إذا ذكرها يقول لا يقبل هذا كلُ أحد. فإنما يجوز مَنونَ يا فتى على ذا.
وينبغي لهذا أن لا يقول مَنو في الوقف، ولكن يجعله كأي. وإذا قال رأيت امرأة ورجلا، فبدأت في المسألة بالمؤنث قلت: مَن ومَنا؛ لأنك تقول مَن يا فتى في الصلة في المؤنث. وإن بدأت بالمذكر قلت مَن ومَنَهْ؟ وإنما جُمعت أيٌ في الاستفهام ولم تُجمع في غيره لأنه إنما الأصل فيها الاستفهام، وهي فيه أكثر في كلامهم، وإنما تشبه الأسماء التامة التي لا تحتاج إلى صلة في الجزاء وفي الاستفهام. وقد تشبه مَن بها في هذه المواضع لأنها تجرى مجراها فيها. ولم تقوَ قوةَ في أيٍ لما ذكرت لك، ولما يدخلها من التنوين والإضافة.(2/411)
؟ باب ما لا تحسن فيه مَن
كما تحسُن فيما قبله
وذلك أنه لا يجوز أن يقول الرجل: رأيت عبدَ الله، فتقول مَنَا، لأنه إذا ذكر عبد الله فإنما يذكر رجلا تعرفه بعينه، أو رجلا أنت عنده ممن يعرفه بعينه فإنما تسأله على أنك ممن يعرفه بعينه، إلا أنك لا تدرى الطويلُ هو أم القصير أم ابنُ زيد أم ابن عمرو؟ فكرهوا أن يُجرى هذا مجرى النكرة إذا كانا مفترقين. وكذلك رأيته ورأيت الرجل، لا يحسن لك أن تقول فيهما إلا مَن هو ومنِ الرجل.
وقد سمعنا من العرب من يقال له ذهبنا معهم فيقول: مع مَنِينْ؟ وقد رأيته، فيقول: مَنا أو رأيت مَنا. وذلك أنه سأله على أن الذين ذكر ليسوا عنده ممن يعرفه بعينه، وأن الأمر ليس على ما وضعه عليه المحدِّث، فهو ينبغي له أن يسأل في ذا الموضع كما سأل حين قال رأيت رجلاً.(2/412)
؟
باب اختلاف العرب في الاسم
المعروف الغالب إذا استفهمت عنه بمَن
اعلم أن أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيدا: مَن زيدا؟ وإذا قال مررتُ بزيد قالوا: مَن زيد؟ وإذا قال: هذا عبد الله قالوا: من عبد الله؟ وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال. وهو أقيسُ القولين.
فأما أهل الحجاز فإنهم حملوا قولهم على أهم حكوا ما تكلم به المسئول، كما قال بعض العرب: دعنا من تَمْرتان، على الحكاية لقوله: ما عنده تمرتان. وسمعتُ عربيا مرة يقول لرجل سأله فقال: أليس قُرشياً؟ فقال: ليس بقرشيا، حكاية لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون علَماً غالبا على ذا الوجه، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه، وذلك أنه الأكثر في كلامهم، وهو العلَم الأول الذي به يتعارفون. وإنما يُحتاج الى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنما حكى مبادرة للمسئول، أو توكيدا عليه أنه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلم به. والكُنية بمنزلة الاسم.
وإذا قال: رأيت أخا خالد لم يجز مَن أخا خالد إلا على قول من قال: دعنا مِن تمرتان، وليس بقرشيا. والوجه الرفع لأنه ليس باسم غالب.
وقال يونس: إذا قال رجلٌ: رأيت زيدا وعمرا، أو زيدا وأخاه،(2/413)
أو زيدا أخا عمرو، فالرفع يرده إلى القياس والأصل إذا جاوز الواحد، كما تُردّ ما زيدٌ إلا منطلقٌ إلى الأصل. وأما ناسٌ فإنهم قاسوه فقالوا: تقول مَن أخو زيد وعمرو، ومن عمرا وأخا زيدٍ، تُتبع الكلام بعضه بعضا. وهذا حسن.
فإذا قالوا مَن عمرا ومن أخو زيد، رفعوا أخا زيد، لأنه قد انقطع من الأول بمن الثاني الذي مع الأخ، فكأنك قلت مَن أخو زيد؟ كما أنك تقول تبا له وويلا؛ وتبا له وويلٌ له.
وسألت يونس عن: رأيت زيدَ بنَ عمرو فقال: أقول مَن زيدَ ابن عمرو؛ لأنه بمنزلة اسم واحد. وهكذا ينبغي، إذا كنت تقول يا زيدَ ابن عمرو، وهذا زيدُ بن عمرو، فتسقط التنوين. فأما مَن زيدٌ الطويل فالرفع على كل حال؛ لأن أصل هذا جرى للواحد لتعرفه له بالصفة، فلما جاوز ذلك رده إلى الأعرف. ومَن نون زيدا جعل ابن صفة منفصلة ورفع في قول يونس. فإذا قال رأيت زيدا قال: أيٌ زيدٌ، فليس فيه إلا الرفع، يُجريه على القياس. وإنما جازت الحكاية في مَن لأنهم لمَن أكثر استعمالا وهم مما يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإن أدخلت الواو والفاء في مَن فقلت: فمَن أو وَمَنْ، لم يكن فيما بعده إلا الرفع.(2/414)
؟ باب مَن إذا أردت أن يضاف لك
مَن تسأل عنه
وذلك قولك: رأيت زيدا، فتقول: المَنيَّ. فإذا قال رأيت زيدا وعمرا قلت: المَنيَّيْن. فإذا ذكر ثلاثة قلت: المَنيِّينْ، وتحمل الكلام على ما حمل عليه المسئول إن كان مجرورا أو منصوبا أو مرفوعا، كأنك قلت: القُرشيَّ أم الثّقَفيّ. فإن قال القرشي نصب، وإن شاء رفع على هو، كما قال صالحٌ في: كيف كنتَ؟ فإن كان المسئول عنه من غير الإنس فالجواب الهَنُ والهنَةُ، والفلانُ والفلانة؛ لأن ذلك كناية عن غير الآدميين.
؟ باب إجرائهم صلةَ مَن وخبره
إذا عنيت اثنين صلة اللذين، وإذا عنيت جميعا كصلة الذين
فمن ذلك قوله عز وجل: " ومنهم من يستعمون إليك ". ومن ذلك قول العرب فيما حدثنا يونس: مَن كانت أمَّك وأيُّهنّ كانت أمَّك، أَلحقَ تاء التأنيث لما عنى مؤنثا كما قال: يستعمون إليك حين عنى جميعا.
وزعم الخليل رحمه الله أن بعضهم قرأ: " ومَن تقنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ "، فجُعلت كصلة التي حين عنيتَ مؤنثا. فإذا ألحقت التاء(2/415)
في المؤنث ألحقت الواو والنون في الجميع. قال الشاعر حين عنى الاثنين، وهو الفرزدق:
تعال فإنْ عاهدتَني لا لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبان
؟
باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي
وليس يكون كالذي إلا مع ما ومَن في الاستفهام، فيكون ذا بمنزلة الذي ويكون ما حرف الاستفهام، وإجرائهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد.(2/416)
أما إجراؤهم ذا بمنزلة الذي فهو قولك: ماذا رأيت؟ فيقول: متاعٌ حسنٌ. وقال الشاعر، لبيد بن ربيعة:
أَلا تَسْأَلانِ المَرْءَ ماذا يُحاوِلُ ... أنَحْبٌ فيُقضى أم ضَلال وباطلُ
وأما إجراؤهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك: ماذا رأيت؟ فتقول: خيرا؛ كأنك قلت: ما رأيت؟ ومثل ذلك قولهم: ماذا ترى؟ فنقول: خيرا. وقال جل ثناؤه: " ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ". فلو كان ذا لغوا لما قالت العرب: عماذا تسأل؟(2/417)
ولقالوا: عم ذا تسأل، كأنهم قالوا: عم تسأل، ولكنهم جعلوا ما وذا اسما واحدا، كما جعلوا ما وإن حرفا واحدا حين قالوا: إنما.
ومثل ذلك كأنما وحيثما في الجزاء.
ولو كان ذا بمنزلة الذي في ذا الموضع ألبتة لكان الوجه في ماذا رأيت إذا أجاب أن يقول: خيرٌ. وقال الشاعر، وسمعنا بعض العرب يقول:
دعي ماذا عملتِ سأتّقيهِ ... ولكنْ بالمغيَّبِ نَبِّئينِي
فالذي لا يجوز في هذا الموضع، وما لا يحسن أن تُلغيها.
وقد يجوز أن يقول الرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، إذا جعلت ما وذا اسما واحدا كأنه قال: ما رأيت خيرٌ، ولم يُجبه على رأيت.
ومثل ذلك قولهم في جواب كيف أصبحت؟ فيقول: صالحٌ، وفي مَن رأيت فيقول: زيدٌ، كأنه قال: أنا صالح ومن رأيت زيدٌ. والنصب في هذا الوجه، لأنه الجواب، على كلام المخاطَب، وهو أقرب إلى أن(2/418)
تأخذ به. وقال عز وجل: " ماذا أنزل ربكم قالوا أساطيرُ الأولين ". وقد يجوز أن تقول إذا قلت من الذي رأيتَ: زيدا؛ لأن ها هنا معنى فعل فيجوز النصب ها هنا كما جاز الرفعُ في الأول.
؟
باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهام
إذا أنكرتَ أن تُثبت رأيَه على ما ذكر أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر.
فالزيادة تتبع الحرف الذي هو قبلها، الذي ليس بينه وبينها شيء. فإن كان مضموماً فهو واو، وإن كان مكسورا فهي ياء، وإن كان مفتوحا فهي ألف، وإن كان ساكنا تحرّك، لئلا يسكن حرفان، فيتحرك كا يتحرك في الألف واللام والساكن مكسورا، ثم تكون الزيادة تابعة له.
فمما تحرك من السواكن كما وصفتُ لك وتبعته الزيادةُ قول الرجل: ضربت زيدا، فتقول منكِراً لقوله: أزيدَنيه. وصارت هذه الزيادة(2/419)
علَماً لهذا المعنى، كعلَم الندبة، وتحركت النون لأنها ساكنة، ولا يسكن حرفان.
فإن ذكر الاسم مجرورا جررته، أو منصوبا نصبته، أو مرفوعا رفعته، وذلك قولك إذا قال: رأيت زيدا: أزيدَنيه؟ وإذا قال مررتُ بزيد: أزيدِنيه؟ وإذا قال هذا زيدٌ: أزيدُنيه؟، لأنك إنما تسأل عما وضع كلامه عليه.
وقد يقول لك الرجل: أتعرف زيدا؟ فتقول: أزيدَنيه. إما منكِراً لرأيه أن يكون على ذلك، وإما على خلاف المعرفة.
وسمعنا رجلا من أهل البادية قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنِيه؟ منكِراً لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج.
ويقول: قد قدم زيد، فتقول: أزيدُنيه؟ غيرَ راد عليه متعجبا أو منكرا عليه أن يكون رأيهُ على غير أن يقدم؛ أو أنكرتَ أن يكون قدِم فقلت: أزيدُنيه؟ فإن قلت مجيبا لرجل قال: قد لقيتُ زيدا وعمرا قلت: أزيدا وعمرَنيه؟ تجعل العلامة في منتهى الكلام. ألا ترى أنك تقول إذا ضربتُ عمرا: أضربتَ عمرَاهْ؟ وإن قال: ضربتُ زيداً الطويل قلت: أزيدا الطويلاه؟ تجعلها في منتهى الكلام.
وإن قلت: أزيدا يا فتى، تركت العلامة كما تركت علامة التأنيث والجمع حرف اللين في قولك: مَنا ومَني ومَنو، حين قلت يا فتى، وجعلت يا فتى بمنزلة(2/420)
ما هو في مَن حين قلت مَن يا فتى، ولم تقل مَنين ولا مَنَهْ ولا مَني، أذهبتَ هذا في الوصل، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو من مسألتك يمنع هذا كله، وهو قولك مَن ومَنَهْ إذا قال رأيت رجلا وامرأة. فمَنَهْ قد منعتْ مَن من حروف اللين، فكذلك هو ها هنا يمنع كما يمنع ما كان في كلام المسئول العلامة من الأول. ولا تدخل في يا فتى العلامة لأنه ليس من حديث المسئول فصار هذا بمنزلة الطويل حين منع العلامة زيدا كما منع مَن ما ذكرتُ لك؛ وهو كلام العرب.
ومما تُتبعه هذه الزيادة من المتحركات، كما وصفتُ لك قوله: رأيت عُثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررت بعثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررتُ بحذام فتقول: أحَذاميهُ، وهذا عمر فتقول: أعُمرُوهْ، فصارت تابعة كما كانت الزيادة التي في واغُلامهوهْ تابعة.
واعلم أن من العرب من يجعل بين هذه الزيادة وبين الاسم إنْ فيقول: أعُمَرُ إنِيه، وأزيدُ إنيه، فكأنهم أرادوا أن يزيدوا العلمَ بيانا وإيضاحا، كما قالوا: ما إنْ، فأكدوا بإن. وكذلك أوضحوا بها ها هنا، لأن في العلم الهاء، والهاء خفية، والياء كذلك، فإذا جاء الهمزة والنون جاء حرفان لو لم يكن بعدهما الهاء وحرف اللين كانوا مستغنين بهما.(2/421)
ومما زادوا به الهاء بيانا قولهم: اضرِبه.
وقالوا في الياء في الوقف: سعدِجْ يريدون سعدى.
فإنما ذكرت لك هذا لتعلم أنهم قد يطلبون إيضاحها بنحو من هذا الذي ذكرتُ لك.
وإن شئت تركتَ العلامة في هذا المعنى كما تركت علامة الندبة.
وقد يقول الرجل: إني قد ذهبت، فتقول: أذهبتُوه؟ ويقول: أنا خارج، فتقول: أنا إنِيه، تُلحق الزيادة ما لفظ به، وتحكيه مبادرةً له وتبييناً أنه يُنكر عليه ما تكلم به، كما فُعل ذلك في: مَن عبدَ الله؟ وإن شاء لم يتكلم بما لفظ به، وألحق العلامة ما يصحح المعنى، كما قال حين قال: أتخرج إلى البادية: أنا إنِيه.
وإن كنت متثبتا مسترشدا إذا قال ضربت زيدا، فإنك لا تُلحق الزيادة. وإذا قال ضربتُه فقلت: أقلتَ ضربتُه؟ لم تلحق الزيادة أيضا؛ لأنك إنما أوقعت حرف الاستفهام على قلت، ولم يكن من كلام المسئول، وإنما جاء على الاسترشاد، لا على الإنكار.(2/422)
الجزء الثالث
بسم الله الرّحمن الرّحيم
باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء
اعلم أن هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها لا تعمل في الأسماء، كما أن حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال، وهي: أن، وذلك قولك: أريد أن تفعل. وكي، وذلك جئتك لكي تفعل. ولن.
فأما الخليل فزعم أنها لا أن، ولكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: ويلمه يريدون وي لامه، وكما قالوا يومئذٍ، وجعلت بمنزلة حرفٍ واحد، كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد، فإنما هي هل ولا.
وأما غيره فزعم أنه ليس في لن زيادة وليست من كلمتين ولكنّها بمنزلة شئ على حرفين ليست فيه زيادة، وأنها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم، في أنه ليس واحد من الحرفين زائداً. ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت: أما زيداً فلن أضرب لأن هذا اسم والفعل صلة فكأنه قال: أما زيداً فلا الضرب له.
باب الحروف التي تضمر فيها أن
وذلك اللام التي في قولك: جئتك لتفعل. وحتى، وذلك قولك:(3/5)
حتى تفعل ذاك فإنما انتصب هذا بأن، وأن ههنا مضمرة؛ ولو لم تضمرها لكان الكلام محالاً، لأن اللام وحتى إنما يعملان في الأسماء فيجران، وليستا من الحروف التي تضاف إلى الأفعال. فإذا أضمرت أن حسن الكلام لأن أن وتفعل بمنزلة اسم واحد، كما أن الذي وصلته بمنزلة اسم واحد؛ فإذا قلت: هو الذي فعل فكأنك قلت: هو الفاعل، وإذا قلت: أخشى أن تفعل فكأنك قلت: أخشى فعلك. أفلا ترى أن أن تفعل بمنزلة الفعل، فلما أضمرت أن كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما، لأنهما لا يعملان إلا في الأسماء ولا يضافان إّلا إليهما، وأن وتفعل بمنزلة الفعل.
وبعض العرب يجعل كي بمنزلة حتى، وذلك أنهم يقولون: كيمه في الاستفهام، فيعملونها في الأسماء كما قالوا حتى مه. وحتى متى، ولمه.
فمن قال كيمه فإنه يضمر أن بعدها، وأما من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فإنها عنده بمنزلة أن، وتدخل عليها اللام كما تدخل على أن. ومن قال كيمه جعلها بمنزلة اللام.(3/6)
واعلم أن لا تظهر بعد حتى وكي، كما لا يظهر بعد أما الفعل في قولك: أما أنت منطلقاً انطلقت، وقد ذكر حالها فيما مضى. واكتفوا عن إظهار أن بعدهما بعلم المخاطب أن هذين الحرفين لا يضافان إلى فعل، وأنهما ليسا مما يعمل في الفعل، وأن الفعل لا يحسن بعدهما إلا أن يحمل على أن، فأن ههنا بمنزلة الفعل في أما، وما كان بمنزلة أما مما لا يظهر بعده الفعل، فصار عندهم بدلاً من اللفظ بأن.
وأما اللام في قولك: جئتك لتفعل، فبمنزلة إن في قولك: إن خيراً فخير وإن شراً فشر؛ إن شئت أظهرت الفعل ههنا، وإن شئت خزلته وأضمرته. وكذلك أن بعد اللام إن شئت أظهرته، وإن شئت أضمرته.
واعلم أن اللام قد تجئ في موضع لا يجوز فيه الإظهار وذلك: ما كان ليفعل، فصارت أن ههنا بمنزلة الفعل في قولك: إياك وزيداً، وكأنك إذا مثلت قلت: ما كان زيدٌ لأن يفعل، أي ما كان زيدٌ لهذا الفعل. فهذا بمنزلته، ودخل فيه معنى نفي كان سيفعل. فإذا قلت هذا قلت: ما كان ليفعل، كما كان لن يفعل نفياً لسيفعل. وصارت بدلاً من اللفظ بأن كما كانت ألف الاستفهام بدلاً من واو القسم في قولك: آلله لتفعلن. فلم تذكر(3/7)
إلا أحد الحرفين إذ كان نفياً لما معه حرف، لم يعمل فيه شئ ليضارعه فكأنه قد ذكر أن. كما أنه إذا قال: سقياً له فكأنه قال: سقاه الله.
باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها
وذلك: لم، ولما، واللام التي في الأمر، وذلك قولك: ليفعل، ولا في النهي، وذلك قولك لا تفعل؛ فإنما هما بمنزلة لم.
واعلم أن هذه اللام ولا في الدعاء بمنزلتهما في الأمر والنهي، وذلك قولك: لا يقطع الله يمنيك، وليجزك الله خيراً.
واعلم أن هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرةٌ، كأنهم شبهوها بأن إذا أعملوها مضمرةً. وقال الشاعر:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نفسَكَ كلُّ نفسٍ ... إذا ما خفت من شئ تَبالاَ
وإنما أراد: لتفد. وقال متمم بن نويرة:(3/8)
على مِثْلِ أَصْحَابِ البَعوضة فاخْمُشِي ... لَكِ الويلُ حُرَّ الوجْهِ أو يَبْكِ مَن بَكَى
أراد: ليبك. وقال أحيحة بن الجلاح:
فمن نال الغنى فليصطنعه ... صنيعته وَيَجْهَدْ كُلَّ جَهْدِ
واعلم أن حروف الجزم لا تجزم إلا الأفعال، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال
المضارعة للأسماء، كما أن الجر لا يكون إلا في الأسماء.
والجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، فليس للاسم في الجزم نصيبٌ، وليس للفعل في الجر نصيب، فمن ثم لم يضمروا الجازم كما لم يضمروا الجار. وقد أضمره الشاعر، شبهه بإضمارهم رب وواو القسم في كلام بعضهم.
باب وجه دخول الرفع في هذه الأفعال
المضارعة للأسماء
اعلم أنها إذا كانت في موضع اسمٍ مبتدإٍ أو موضع اسمٍ بني على مبتدإ(3/9)
أو في موضع اسمٍ مرفوع غير مبتدإ ولا مبنيٍ على مبتدإ، أو في موضع اسمٍ مجرور أو منصوب، فإنها مرتفعة، وكينونتها في هذه المواضع ألزمتها الرفع، وهي سبب دخول الرفع فيها.
وعلته: أن ما عمل في الأسماء لم يعمل في هذه الأفعال على حد عمله في الأسماء كما أن ما يعمل في الأفعال فينصبها أو يجزمها لا يعمل في الأسماء. وكينونتها في موضع الأسماء ترفعها كما يرفع الاسم كينونته مبتدأٌ.
فأما ما كان في موضع المبتدإ فقولك: يقول زيدٌ ذاك.
وأما ما كان في موضع المبني على المبتدإ فقولك: زيدٌ يقول ذاك.
وأما ما كان في موضع غير المبتدإ ولا المبني عليه فقولك: مررت برجلٍ يقول ذاك، وهذا يومٌ آتيك، وهذا زيدٌ يقول ذاك، وهذا رجلٌ يقول ذاك، وحسبته ينطلق. فهكذا هذا وما أشبهه.
ومن ذلك أيضاً: هلا يقول زيدٌ ذاك، فيقول في موضع ابتداء وهلا لا تعمل في اسم ولا فعل، فكأنك قلت: يقول زيدٌ ذاك. إلا أن من الحروف ما لا يدخل إلا على الأفعال التي في موضع الأسماء المبتدأة وتكون الأفعال أولى من الأسماء حتى لا يكون بعدها مذكورٌ يليها إلا الأفعال. وسنبين ذلك إن شاء الله، وقد بين فيما مضى.(3/10)
ومن ذلك أيضاً ائتني بعد ما تفرغ، فما وتفرغ بمنزلة الفراغ، وتفرغ صلةٌ، وهي مبتدأة، وهي بمنزلتها في الذي إذا قلت بعد الذي تفرغ، فتفرغ في موضع مبتدإ لأنّ الذي لا يعمل في شئ، والأسماء بعده مبتدأةٌ.
ومن زعم أن الأفعال ترتفع بالابتداء فإنه ينبغي له أن ينصبها إذا كانت في موضعٍ ينتصب فيه الاسم، ويجرها إذا كانت في موضعٍ ينجر فيه الاسم؛ ولكنها ترتفع بكينونتها في موضع الاسم.
ومن ذلك أيضاً: كدت أفعل ذاك وكدت تفرغ، فكدت فعلت وفعلت لا ينصب الأفعال ولا يجزمها وأفعل ههنا بمنزلة في كنت، إلا أن الأسماء لا تستعمل في كدت وما أشبهها.
ومثل ذلك: عسى يفعل ذاك، فصارت كدت ونحوها بمنزلة كنت عندهم، كأنك قلت: كدت فاعلاً، ثم وضعت أفعل في موضع فاعلٍ. ونظير هذا في العربية كثيرٌ، وستراه إن شاء الله تعالى. ألا ترى أنك تقول: بلغني أن زيداً جاء، فأن زيداً جاء كله اسمٌ. وتقول: لو أن زيداً جاء لكان كذا وكذا، فمعناه: لو مجيء زيدٍ، ولا يقال لو مجيء زيد.(3/11)
وتقول في التعجب: ما أحسن زيداً، ولا يكون الاسم في موضع، فتقول: ما محسنٌ زيداً. ومنه: قد جعل يقول ذاك، كأنك قلت: صار يقول ذاك، فهذا وجه دخول الرفع في الأفعال المضارعة للأسماء. وكأنهم إنما منعهم أن يستعملوا في كدت وعسيت الأسماء أن معناها ومعنى غيرها معنى ما تدخله أن نحو قولهم: خليقٌ أن يقول ذاك وقارب أن لا يفعل. ألا ترى أنهم يقولون: عسى أن يفعل. ويضطر الشاعر فيقول: كدت أن، فلما كان المعنى فيهنّ ذلك تركوا الأسماء لئلا يكون ما هذا معناه كغيره، وأجروا اللفظ كما أجروه في كنت، لأنه فعلٌ مثله.
وكدت أن أفعل لا يجوز إلا في شعر، لأنه مثل كان في قولك: كان فاعلاً ويكون فاعلاً. وكأن معنى جعل يقول وأخذ يقول، قد آثر أن يقول ونحوه. ثمن ثم منع الأسماء، لأن معناها معنى ما يستعمل بأن فتركوا الفعل حين خزلوا أن، ولم يستعملوا الاسم لئلا ينقضوا هذا المعنى.
؟
هذا باب إذن
اعلم أن إذن إذا كانت جواباً وكانت مبتدأة عملت في الفعل عمل رأى في الاسم إذا كانت مبتدأة. وذلك قولك: إذن أجيئك، وإذن آتيك.
ومن ذلك أيضاً قولك: إذن والله أجيئك. والقسم ههنا بمنزلته في أرى إذا قلت: أرى والله زيداً فاعلاً.
ولا تفصل بين شئ مما ينصب الفعل وبين الفعل سوى إذن، لأنّ إذن(3/12)
أشبهت أرى، فهي في الأفعال بمنزلة أرى في الأسماء وهي تلغى وتقدم وتؤخر، فلما تصرّفت هذا التصرّف اجتروا على أن يفصلوا بينها وبين الفعل باليمين.
ولم يفصلوا بين أن وأخواتها وبين الفعل كراهية أن يشبهوها بما يعمل في الأسماء، نحو ضربت وقتلت؛ لأنها لا تصرف تصرف الأفعال نحو ضربت وقتلت، ولا تكون إلا في أوّل الكلام لاؤمة لموضعها لا تفارقه، فكرهوا الفصل لذلك، لأنه حرف جامدٌ.
واعلم أن إذن إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنك فيها بالخيار: إن شئت أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدةٌ منهما بين اسمين؛ وذلك قولك: زيداً حسبت أخاك، وإن شئت ألغيت إذن كإلغائك حسبت إذا قلت زيدٌ حسبت أخوك.
فأما الاستعمال فقولك: فإذن آتيك وإذن أكرمك.
وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف: " وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلاً ". وسمعنا بعض العرب قرأها فقال: " وإذن لا يلبثوا ".(3/13)
وأما الإلغاء فقولك: فإذن لا أجيئك. وقال تعالى: " فإذن لا يؤتون الناس نقيراً ".
واعلم أن إذن إذا كانت بين الفعل وبين شئ الفعل معتمدٌ عليه فإنها ملغاة لا تنصب البتة، كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أرى زيدٌ ذاهباً، وكما لا تعمل في قولك: إني أرى ذاهبٌ. فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب. فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، فهي ههنا بمنزلة أرى حيت لا تكون إلا ملغاة.
ومن ذلك أيضاً قولك: إن تأتني إذن آتك، لأن الفعل ههنا معتمد على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي:
أرْدُدْ حِمارَك لا تُنْزَعْ سَوِيَّتُه ... إذَنْ يُرَدَّ وَقَيْدُ العَيْرِ مَكْروبُ
من قبل أن هذا منقطعٌ من الكلام الأول وليس معتمداً على ما قبله، لأن ما قبله مستغنٍ.
ومن ذلك أيضاً: والله إذن لا أفعل، من قبل أن أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغوٌ.(3/14)
وليس الكلام ههنا بمنزلته إذا كانت إذن في أوله، لأن اليمين ههنا الغالبة. ألا ترى أنك تقول إذا كانت إذن مبتدأةً: إذن والله لا أفعل، لأن الكلام على إذن ووالله لا يعمل شيئاً.
ولو قلت: والله إذن أفعل تريد أن تخبر أنك فاعلٌ لم يجز، كما لم يجز والله أذهب إذن إذا أخبرت أنك فاعل. فقبح هذا يدلك على أن الكلام معتمد على اليمين. وقال كثيّرة عزة:
لئنْ عادَ لِي عبدُ العزيزِ بمثْلِها ... وأمكنني منها إذَنْ لا أُقيِلُها
وتقول: إن تأتني آتك وإذن أكرمك، إذا جعلت الكلام على أوله ولم تقطعه، وعطفته على الأول. وإن جعلته مستقبلاً نصبت، وإن شئت رفعته على قول من ألغى. وهذا قول يونس، وهو حسن، لأنك إذا قطعته من الأول فهو بمنزلة قولك: فإذن أفعل، إذا كنت مجيباً رجلاً.
وتقول: إذن عبد الله يقول ذاك، لا يكون إلا هذا؛ من قبل أن إذن الآن بمنزلة إنما وهل، كأنك قلت: إنما عبد الله يقول ذاك. ولو جعلت إذن ههنا بمنزلة كي وأن لم يحسن، من قبل أنه لا يجوز لك أن تقول: كي زيدٌ(3/15)
يقول ذاك، ولا أن زيدٌ يقول ذاك. فلما قبح ذلك جعلت بمنزلة هل وكأنما وأشباههما.
وزعم عيسى بن عمر أن ناساً من العرب يقولون: إذن أفعل ذاك، في الجواب. فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدن ذا. ولم يكن ليروي إلا ما سمع، جعلوها بمنزلة هل وبل.
وتقول إذا حدثت بالحديث: إذن أظنه فاعلاً، وإذن إخالك كاذباً، وذلك لأنك تخبر أنك تلك الساعة في حال ظن وخيلةٍ، فخرجت من باب أن وكي، لأن الفعل بعدهما غير واقع وليس في حال حديثك فعلٌ ثابتٌ. ولما لم يجز ذا في أخواتها التي تشبه بها جعلت بمنزلة إنما.
ولو قلت: إذن أظنك، تريد أن تخبره أن ظنك سيقع لنصبت، وكذلك إذن يضربك، إذا أخبرت أنه في حال ضربٍ لم ينقطع.
وقد ذكر لي بعضهم أن الخليل قال: أن مضمرةٌ بعد إذن. ولو كانت مما يضمر بعده أن فكانت بمنزلة اللام وحتى لأضمرتها إذا قلت عبد الله إذن يأتيك؛ فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك لأن المعنى واحد، ولم يغير فيه المعنى الذي كان في قوله: إذن يأتيك عبد الله، كما يتغير المعنى في حتى في الرفع والنصب. فهذا مارووا. وأما ما سمعت منه فالأول.
هذا باب حتّى
اعلم أنّ تنصب على وجهين:(3/16)
فأحدهما: أن تجعل الدخول غايةً لمسيرك، وذلك قولك: سرت حتى أدخلها، كأنك قلت: سرت إلى أن أدخلها، فالناصب للفعل ههنا هو الجار للاسم إذا كان غايةً. فالفعل إذا كان غايةً نصبٌ، والاسم إذا كان غايةً جرٌ. وهذا قول الخليل.
وأما الوجه الآخر فأن يكون السير قد كان والدخول لم يكن، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلمته حتى يأمر لي بشيء.
واعلم أن حتى يرفع الفعل بعدها على وجهين: تقول: سرت حتى أدخلها، تعني أنه كان دخولٌ متصلٌ بالسير كاتصاله به بالفاء إذا قلت: سرت فأدخلها، فأدخلها ههنا على قولك: هو يدخل وهو يضرب، إذا كنت تخبر أنه في عمله، وأن عمله لم ينقطع. فإذا قال حتى أدخلها فكأنه يقول: سرت فإذا أنا في حال دخول، فالدخول متصل بالسير كاتصاله بالفاء. فحتى صارت ههنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الابتداء،(3/17)
لأنّها لم تجئ على معنى إلى أن، ولا معنى كي، فخرجت من حروف النصب كما خرجت إذن منها في قولك: إذن أظنك.
وأما الوجه الآخر: فإنه يكون السير قد كان وما أشبهه، ويكون الدخول وما أشبهه الآن، فمن ذلك: لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع، أي حتى أني الآن أدخلها كيفما شئت. ومثل ذلك قول الرجل: لقد رأى مني عاماً أول شيئاً حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء، ولقد مرض حتى لا يرجونه. والرفع ههنا في الوجهين جميعاً كالرفع في الاسم. قال الفرزدق:
فيا عَجَباً حتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ
فحتى ههنا بمنزلة إذاً، وإنما هي ههنا كحرف من حروف الابتداء.
ومثل ذلك: شربت حتى يجئ البعير يجر بطنه، أي حتى إن البعير ليجئ يجر بطنه.
ويدلك على حتى أنها حرف من حروف الابتداء أنك تقول: حتى إنه(3/18)
ليفعل ذاك كما تقول: فإذا إنه يفعل ذاك. ومثل ذلك قول حسان ابن ثابت:
يُغْشَوْنَ حتَّى لا تَهِرُّ كِلابُهمْ ... لا يَسالون عن السَّواد المُقْبِلِ
ومثل ذلك: مرض حتى يمر به الطائر فيرحمه، وسرت حتى يعلم الله أني كالٌ. والفعل ههنا منقطع من الأول، وهو في الوجه الأول الذي ارتفع فيه متصلٌ كاتصاله به بالفاء، كأنه قال سيرٌ فدخولٌ، كما قال علقمة ابن عبدة:
تُرادَى على دِمْنِ الحِياضِ فإنْ تَعَفْ ... فإنّ المُنَدَّى رِحْلةٌ فركُوبُ
لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضى، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضى، ولكن الآخر متصل بالأول، ولم يقع واحدٌ دون الآخر.(3/19)
وإذا قلت: لقد ضرب أمس حتى لا يستطيع أن يتحرك اليوم، فليس كقولك: سرت فأدخلها، إذا لم ترد أن تجعل الدخول الساعة، لأن السير والدخول جميعاً وقعا فيما مضى. وكذلك مرض حتى لا يرجونه، أي حتى إنه الآن لا يرجونه؛ فهذا ليس متصلاً بالأول واقعاً معه فيما مضى.
وليس قولنا كاتصال الفاء يعني أن معناه معنى الفاء، ولكنك أردت أن تخبر أنه متصلٌ بالأول، وأنهما وقعا فيما مضى.
وليس بين حتى في الاتصال وبينه في الانفصال فرقٌ في أنه بمنزلة حرف الابتداء، وأن المعنى واحدٌ إلا أن أحد الموضعين الدخول فيه متصلٌ بالسير وقد مضى السير والدخول، والآخر منفصل وهو الآن في حال الدخول، وإنما اتصاله في أنه كان فيما مضى، وإلا فإنه ليس بفارق موضعه الآخر في شئ إذا رفعت.
باب الرفع فيما اتصل بالأول
كاتصاله بالفاء وما انتصب لأنه غاية
تقول: سرت حتى أدخلها، وقد سرت حتى أدخلها سواء، وكذلك إني سرت حتى أدخلها، فيما زعم الخليل.
فإن جعلت الدخول في كل ذا غايةً نصبت وتقول: رأيت عبد الله سار حتى يدخلها، وأرى زيداً سار حتى يدخلها ومن زعم أن النصب يكون في ذا لأن المتكلم غير متيقن فإنه يدخل عليه سار زيدٌ حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري ويدخل عليه عبد الله سار حتى يدخلها أرى.(3/20)
فإن قال: فإني لم أعمل أرى، فهو يزعم أنه ينصب بأرى الفعل.
وإن جعلت الدخول غايةً نصبت في ذا كله.
وتقول: كنت سرت حتّى أدخلها، إذا لم تجعل الدخول غايةً. وليس بين كنت سرت وبين سرت مرةً في الزمان الأول حتى أدخلها شئ، وإنّما ذا قول كان النحويّون يقولونه ويأخذونه بوجه ضعيف. يقولون: إذا لم يجز القلب نصبنا فيدخل عليهم قد سرت حتى أدخلها أن ينصبوا وليس في الدنيا عربيٌ يرفع سرت حتى أدخلها إلا وهو يرفع إذا قال: قد سرت.
وتقول: إنّما سرت حتى أدخلها، وحتى أدخلها، إن جعلت الدخول غايةً. وكذلك ما سرت إلا قليلاً حتى أدخلها، إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، لأنّ معنى هذا معنى سرت قليلاً حتّى أدخلها، فإن جعلت الدخول غايةً نصبت.
ومما يكون فيه الرفع شئ ينصبه بعض الناس لقبح القلب، وذلك: ربما(3/21)
سرت حتى أدخلها، وطالما سرت حتى أدخلها، وكثر ما سرت حتى أدخلها ونحو هذا. فإن احتجوا بأنه غير سيرٍ واحد فكيف يقولون إذا قلت: سرت غير مرة حتى أدخلها.
وسألنا من يرفع في قوله: سرت حتى أدخلها، فرفع في ربما ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في قد.
وتقول: ما أحسن ما سرت حتى أدخلها وقلما سرت حتى أدخلها، إذا أردت أن تخبر أنك سرت قليلاً وعنيت سيراً واحداً، وإن شئت نصبت على الغاية.
وتقول: قلما سرت حتى أدخلها، إذا عنيت سيراً واحداً، أو عنيت غير سير، لأنك قد تنفي الكثير من السير الواحد كما تنفيه من غير سير.
وتقول: قلما سرت حتى أدخلها إذا عنيت غير سير، وكذلك أقل ما سرت حتى أدخلها، من قبل أن قلما نفيٌ لقوله كثر ما، كما أن ما سرت نفيٌ لقوله سرت. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: قلما سرت فأدخلها كما يقبح في ما سرت، إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل.
وتقول: قلما سرت فأدخلها، فتنصب بالفاء ههنا كما تنصب في ما، ولا يكون كثر ما سرت فأدخلها لأنه واجبٌ، ويحسن أن تقول: كثر ما سرت فإذا أنا أدخل. وتقول: إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقراً لسيرك الذي أدى إلى الدخول، ويقبح إنما سرت حتى أدخلها، لأنه ليس في هذا اللفظ(3/22)
دليلٌ على انقطاع السير كما يكون في النصب، يعني إذا احتقر السير، لأنك لا تجعله سيراً يؤدي الدخول وأنت تستصغره، وهذا قول الخليل.
وتقول: كان سيرى أمس حتى أدخلها ليس إلا، لأنك لو قلت: كان سيرى أمس فإذا أنا أدخلها لم يجز، لأنك لم تجعل لكان خبراً.
وتقول: كان سيرى أمس سيراً متعباً حتى أدخلها، لأنك تقول: ههنا فأدخلها وفإذا أنا أدخلها، لأنك جئت لكان بخبرٍ، وهو قولك: سيراً متعباً.
واعلم أن ما بعد حتى لا يشرك الفعل الذي قبل حتى في موضعه كشركة الفعل الآخر الأوّل إذا قلت: لم أجئ فأقل، ولو كان ذلك لاستحال كان سيرى أمس شديداً حتّى أدخل، ولكنها تجئ كما تجئ ما بعد إذا وبعد حروف الابتداء.
وكذلك هي أيضاً بعد الفاء إذا قلت: ما أحسن ما سرت فأدخلها؛ لأنها منفصلة يعني الفاء؛ فإنما عنينا بقولنا الآخر متصلٌ بالأول أنهما وقعا فيما مضى، كما أنه إذا قال:
فإنَّ المُنَدَّى رِحْلَةٌ فرُكُوب
فإنما يعني أنهما وقعا في الماضي من الأزمنة، وأن الآخر كان مع فراغه من الأول.(3/23)
فإن قلت: كان سيرى أمس حتى أدخلها، تجعل أمس مستقراً، جاز الرفع لأنه استغنى، فصار كسرت، لو قلت فأدخلها حسن، ولا يحسن كان سيري فأدخل، إلاّ أن تجئ بخبر لكان.
وقد تقع نفعل في موضع فعلنا في بعض المواضع، ومثل ذلك قوله، لرجل من بني سلولٍ مولدٍ:
ولقد أمُرُّ على اللَّئيم يَسُبُّني ... فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني
واعلم أن أسير بمنزلة سرت إذا أردت بأسير معنى سرت.
واعلم أن الفعل إذا كان غير واجب لم يكن إلا النصب، من قبل أنه إذا لم يكن واجباً رجعت حتى إلى أن وكي، ولم تصر من حروف الابتداء كما لم تصر إذن في الجواب من حروف الابتداء إذا قلت: إذن أظنك، وأظن غير واقعٍ في حال حديثك.
وتقول: أيهم سار حتى يدخلها، لأنك قد زعمت أنه كان سيرٌ ودخولٌ،(3/24)
وإنما سألت عن الفاعل. ألا ترى أنك لو قلت: أين الذي سار حتى يدخلها وقد دخلها لكان حسناً، ولجاز هذا الذي يكون لما قد وقع، لأن الفعل ثم واقعٌ، وليس بمنزلة قلما سرت إذا كان نافياً لكثرما، ألا ترى أنه لو كان قال: قلما سرت فأدخلها، أو حتى أدخلها، وهو يريد أن يجعلها واجبةً خارجةً من معنى قلما، لم يستقم إلا أن تقول: قلما سرت فدخلت وحتّى دخلت، كما تقول: ما سرت حتى دخلت. فإنما ترفع بحتى في الواجب، ويكون ما بعدها مبتدأ منفصلاً من الأول كان مع الأول فيما مضى أو الآن. وتقول: أسرت حتى تدخلها نصب، لأنك لن تثبت سيراً تزعم أنه قد كان معه دخول.
باب ما يكون العمل فيه من اثنين
وذلك قولك: سرت حتّى يدخلها زيداً، إذا كان دخول زيدٌ لم يؤده سيرك ولم يكن سببه، فيصير هذا كقولك: سرت حتى تطلع الشمس؛ لأن سيرك لا يكون سبباً لطلوع الشمس ولا يؤديه، ولكنك لو قلت: سرت حتى يدخلها ثقلى، وسرت حتى يدخلها بدنى، لرفعت لأنك جعلت دخول ثقلك يؤديه سيرك، وبدنك لم يكن دخوله إلا بسيرك.
وبلغنا أن مجاهداً قرأ هذه الآية: " وزلزلوا حتى يقول الرسول "؛ وهي قراءة أهل الحجاز.
وتقول: سرت حتى يدخلها زيدٌ وأدخلها، وسرت حتى أدخلها ويدخلها(3/25)
زيدٌ إذا جعلت دخول زيد من سبب سيرك وهو الذي أداه، ولا تجد بداً من أن تجعله ههنا في تلك الحال، لأن رفع الأول لا يكون إلا وسبب دخوله سيره.
وإذا كانت هذه حال الأول لم يكن بد للآخر من أن يتبعه، لأنك تعطفه على دخولك في حتى. وذلك أنه يجوز أن تقول: سرت حتى يدخلها زيدٌ، إذا كان سيرك يؤدي دخوله كما تقول: سرت حتى يدخلها ثقلى. وتقول: سرت حتى أدخلها وحتى يدخلها زيدٌ، لأنك لو قلت: سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس كان جيداً، وصارت إعادتك حتى كإعادتك له في تباً له وويلٌ له، ومن عمراً ومن أخو زيد. وقد يجوز أن تقول: سرت حتى يدخلها زيد إذا كان أداه سيرك. ومثل ذلك قراءة أهل الحجاز: " وزلزلوا حتى يقول الرسول ".
واعلم أنه لا يجوز سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس يقول: إذا رفعت طلوع الشمس لم يجز، وإن نصبت وقد رفعت فهو محالٌ حتى تنصب فعلك من قبل العطف، فهذا محالٌ أن ترفع، ولم يكن الرفع لأنّ(3/26)
طلوع الشمس لا يكون أن يؤديه سيرك فترفع تطلع وقد حلت بينه وبين الناصبة.
ويحسن أن تقول: سرت حتى تطلع الشمس وحتى أدخلها، كما يجوز أن تقول: سرت إلى يوم الجمعة، وحتى أدخلها. وقال امرؤ القيس:
سَرَيْتُ بهمْ حتَّى تَكَّل مَطِيُّهمْ ... وحتَّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأَرْسانِ
فهذه الآخرة هي التي ترفع.
وتقول: سرت وسار حتى ندخلها، كأنك قلت: سرنا حتى ندخلها.
وتقول: سرت حتى أسمع الأذان، هذا وجهه وحده النصب، لأن سيرك ليس يؤدي سمعك الأذان، إنما يؤديه الصبح، ولكنك تقول: سرت حتى أكل لأن الكلال يؤديه سيرك.
وتقول: سرت حتى أصبح، لأن الإصباح لا يؤديه سيرك إنما هي غاية طلوع الشمس.(3/27)
هذا باب الفاء
اعلم أن ما انتصب في باب الفاء ينتصب على إضمار أن، وما لم ينتصب فإنه يشرك الفعل الأول فيما دخل فيه، أو يكون في موضع مبتدإ أو مبني على مبتدإ أو موضع اسم مما سوى ذلك. وسأبين ذلك إن شاء الله.
تقول: لا تأتيني فتحدثني، لم ترد أن تدخل الآخر فيما دخل فيه الأول فتقول: لا تأتيني ولا تحدثني، ولكنك لما حولت المعنى عن ذلك تحول إلى الاسم، كأنك قلت: ليس يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، فلما أردت ذلك استحال أن تضم الفعل إلى الاسم، فأضمروا أن، لأن أن مع الفعل بمنزلة الاسم، فلما نووا أن يكون الأول بمنزلة قولهم: لم يكن إتيانٌ، استحالوا أن يضموا الفعل إليه، فلما أضمروا أن حسن؛ لأنه مع الفعل بمنزلة الاسم.
وأن لا تظهر ههنا، لأنه يقع فيها معان لا تكون في التمثيل، كما لا يقع معنى الاستثناء في لا يكون ونحوها، إلا أن تضمر. ولولا أنك إذا قلت لم آتك صار كأنك قلت: لم يكن إتيانٌ، لم يجز فأحدثك، كأنك قلت في التمثيل فحديث. وهذا تمثيل ولا يتكلم به بعد لم آتك، لا تقول: لم آتك فحديثٌ. فكذلك لا تقع هذه المعاني في الفاء إلا بإضمار أن، ولا يجوز إظهار أن، كما لا يجوز إظهار المضمر في لا يكون ونحوها.
فإذا قلت: لم آتك، صار كأنك قلت: لم يكن إتيانٌ، ولم يجز أن تقول فحديثٌ، لأن هذا لو كان جائزاً لأظهرت أن.
ونظير جعلهم لم آتك ولا آتيك وما أشبهه بمنزلة الاسم في النية، حتّى(3/28)
كأنهم قالوا: لم يك إتيانٌ، إنشاد بعض العرب قول الفرزدق:
مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحِينَ عشيرةً ... ولا ناعِبٍ إلاَّ ببَيْنٍ غُرابُهَا
ومثله قول الفرزدق أيضاً:
وما زُرْتُ سَلْمَى أن تكون حبيبَةً ... إلىَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالبُهْ
جره لأنه صار كأنه قال: لأن.
ومثله قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيَا
لما كان الأول تستعمل فيه الباء ولا تغير المعنى، وكانت مما يلزم الأول نووها في الحرف الآخر، حتى كأنهم قد تكلموا بها في الأول.(3/29)
وكذلك صار لم آتك بمنزلة لفظهم بلم يكن إتيانٌ، لأن المعنى واحد.
واعلم أن ما ينتصب في باب الفاء قد ينتصب على غير معنىً واحدٍ، وكل ذلك على إضمار أن، إلا أن المعاني مختلفةٌ، كما أن يعلم الله يرتفع كما يرتفع يذهب زيدٌ، وعلم الله ينتصب كما ينتصب ذهب زيدٌ، وفيهما معنى اليمين.
فالنصب ههنا في التمثيل كأنك قلت: لم يكن إتيانٌ فإن تحدث والمعنى على غير ذلك، كما أن معنى علم الله لأفعلن غير معنى رزق الله. فأن تحدث في اللفظ مرفوعةٌ بيكن؛ لأنّ المعنى: بم يكن إتيان فيكون حديث.
وتقول: ما نأتيني فتحدثني، فالنصب على وجهين من المعاني: أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدثني، أي لو أتيتني لحدثتني.
وأما الآخر: فما تأتيني أبداً إلا لم تحدثني، أي منك إتيانٌ كثيرٌ ولا حديثٌ منك.
وإن شئت أشركت بين الأول والآخر، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأول فتقول: ما تأتيني فتحدثني كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني.
فمثل النصب قوله عز وجل: " لا يقضى عليهم فيموتوا ". ومثل الرفع قوله عز وجل: " هذا يوم لا ينطقون. ولا يؤذن لهم فيعتذرون ".(3/30)
وإن شئت رفعت على وجهٍ آخر، كأنك قلت: فأنت تحدثنا. ومثل ذلك قول بعض الحارثيين:
غير أنّا لم تأتنا بيقين ... فترجّي ونُكْثِرُ التأْميلاَ
كأنه قال: فنحن نرجى. فهذا في موضع مبني على المبتدإ.
وتقول: ما أتيتنا فتحدثنا، فالنصب فيه كالنصب في الأول، وإن شئت رفعت على: فأنت تحدثنا الساعة، وارفع فيه يجوز على ما.
وإنما اختير النصب لأن الوجه ههنا وحد الكلام أن تقول: ما أتيتنا فحدّثتنا، فلّما صرفوه عن هذا الحد ضعف أن يضموا يفعل إلى فعلت فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضموه إلى الاسم في قولهم: ما أنت منا فتنصرنا ونحوه.
وأما الذين رفعوه فحملوه على موضع أتيتنا، لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع، وتحدثنا ههنا في موضع حدثتنا.(3/31)
وتقول: ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل. فالمعنى أنّك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل، ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن، وتمثيله كتمثيل الأول وإن شئت رفعت على الشركة كأنه قال: وما تكلم إلاّ الجميل.
ومثل النصب قول الفرزدق:
وما قام منَّا قائمٌ في نَديِّنا ... فيَنْطِقَ إِلاَّ بالتي هي أعرف
وتقول: لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبةً، فالنصب ههنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدثني إذا أردت معنى: ما تأتيني محدثاً، وإنما أراد معنى: ما أتيتني محدثاً إلا ازددت فيك رغبةً. ومثل ذلك قول اللعين:
وما حلَّ سعْديٌّ غريباً ببلدةٍ ... فيُنْسَبَ إِلاَّ الزِّبْرِقانُ له أبُ
وتقول: لا يسعني شئ فيعجز عنك، أي لا يسعني شئ فيكون عاجزاً(3/32)
عنك ولا يسعني شئ إلا لم يعجز عنك. هذا معنى هذا الكلام. فإن حملته على الأول قبح المعنى؛ لأنك لا تريد أن تقول: إن الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك، فهذا لا ينويه أحدٌ.
وتقول: ما أنت منا فتحدثنا، لا يكون الفعل محمولاً على ما؛ لأن الذي قبل الفعل ليس من الأفعال فلم يشاكله، قال الفرزدق:
ما أنتَ من قيسٍ فتَنْبِحَ دُونها ... ولا من تَميمٍ في اللهَا والغَلاصِمِ
وإن شئت رفعت على قوله:
فنُرَجِّى ونكثر التأميلا
وتقول: ألا ماء فأشر به، وليته عندنا فيحدثنا. وقال أميه بن أبي الصلت:
ألا رَسولَ لنا مِنّا فيُخْبِرنَا ... ما بُعْدُ غايتِنا من رأسِ مُجْرانَا(3/33)
لا يكون في هذا إلا النصب، لأن الفعل لم تضمه إلى فعلٍ.
وتقول: ألا تقع الماء فتسبح، إذا جعت الآخر على الأول، كأنك قلت: ألا تسبح. وإن شئت نصبته على ما انتصب عليه ما قبله، كأنك قلت: ألا يكون وقوعٌ فأن تسبح. فهذا تمثيلٌ وإن لم يتكلم به.
والمعنى في النصب أنه يقول: إذا وقعت سبحت.
وتقول: ألم تأتنا فتحدثنا، إذا لم يكن على الأول. وإن كان على الأول جزمت. ومثل النصب قوله:
ألم تَسأل فتُخْبِرَكَ الرسومُ ... على فِرْتاجَ، والطَّلَلُ القديمُ
وإن شئت جزمت على أول الكلام.
وتقول: لا تمددها فتشقها، إذا لم تحمل الآخر على الأول. وقال عز وجل: " لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ". وتقول: لا تمددها فتشققها، إذا أشركت بين الآخر والأول كما أشركت بين الفعلين في لم.
وتقول: ائتني فأحدّثك. وقال أبو النجم:(3/34)
ياناق سيري عنقاً فسيحاً ... إلى سليمان فنستريحا
ولا سبيل ههنا إلى الجزم؛ من قبل أن هذه الأفعال التي يدخلها الرفع والنصب والجزم، وهي الأفعال المضارعة، لا تكون في موضع افعل أبداً، لأنها إنما تنتصب وتنجزم بما قبلها، وافعل مبنية على الوقف.
فإن أردت أن تجعل هذه الأفعال أمراً أدخلت اللام، وذلك قولك: ائته فليحدثك، وفيحدثك إذا أردت المجازاة. ولو جاز الجزم في: ائتني فأحدثك ونحوها لقلت: تحدثني تريد به الأمر.
وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدثنا، إذا جعلته جواباً ولم تجعل الحديث وقع إلا بالإتيان؛ وإن أردت فحدثتنا رفعت.
وتقول: كأنك لم تأتنا فتحدثنا؛ وإن حملته على الأول جزمت. وقال رجل من بني دارم:
كأنَّك لم تَذبح لأهلِك نَعْجةً ... فيصْبِحَ مُلْقىً بالفِناء إِهابُهَا(3/35)
وتقول: ودّلو تأتيه فتحدثه. والرفع جيد على معنى التمني. ومثله قوله عز وجل: " ودوا لو تدهن فيدهنون ". وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: " ودوا لو تدهن فيدهنوا ".
وتقول: حسبته شتمني فأثب عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعاً، ومعناه: أن لو شتمني لوثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع؛ لأن هذا بمنزلة قوله: ألست قد فعلت فأفعل.
واعلم أنك إن شئت قلت: ائتني فأحدثك، ترفع. وزعم الخليل: أنك لم ترد أن تجعل الإتيان سبباً لحديث، ولكنك كأنك قلت: ائتني فأنا ممن يحدثك البتة، جئت أو لم تجئ. قال النابغة الذبياني:
ولا زالً قبرٌ بين تُبْنَى وجاسمٍ ... عليه من الوَسْميّ جَوْدٌ ووابلُ(3/36)
فيُنْبتُ حَوْذاناً وعَوْفاً مُنَوِّراً ... سأُتْبِعُه مِن خيرِ ما قال قائلُ
وذلك أنه لم يرد أن يجعل النبات جواباً لقوله: ولا زال، ولا أن يكون متعلقاً به، ولكنه دعا ثم أخبر بقصة السحاب، كأنه قال: فذاك ينبت حوذاناً. ولو نصب هذا البيت قال الخليل لجاز، ولكنّا قبلناه رفعاً:
ألم تسأل الرّبع القَواءَ فيَنْطِقُ ... وهل تُخْبِرَنْكَ اليومَ بَيْداءُ سَمْلَقُ
لم يجعل الأول سبباً للآخر، ولكنه جعله ينطق على كل حال، كأنه قال: فهو مما ينطق كما قال: ائتني فأحدثك، فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال.
وزعم يونس: أنه سمع هذا البيت بألم. وإنما كتبت ذا لئلا يقول(3/37)
إنسانٌ: فلعل الشاعر قال ألا. وسألت الخليل عن قول الأعشى:
لقد كانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ ... تُقَضَّى لُباناتٌ ويَسْأمُ سائِمُ
فرفعه وقال: لا أعرف فيه غيره؛ لأن أول الكلام خبرٌ وهو واجب، كأنه قال: ففي حول تقضي لُباناتٌ ويسأم سائمٌ. هذا معناه.
واعلم أن الفاء لا تضمر فيها أن في الواجب، ولا يكون في هذا الباب إلا الرفع، وسنبين لم ذلك. وذلك قوله: إنه عندنا فيحدثنا، وسوف آتيه فأحدثه ليس إلا، إن شئت رفعته على أن تشرك بينه وبين الأول، وإن شئت كان منقطعاً؛ لأنك قد أوجبت أن تفعل فلا يكون فيه إلا الرفع. وقال عز وجل: " فلا تكفر فيتعلمون " فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلمون، ليجعلا كفره سبباً لتعليم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلّمون.(3/38)
ومثله: " كن فيكون "، كأنه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون.
وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر، ونصبه في الاضطرار من حيث انتصب في غير الواجب، وذلك لأنك تجعل أن العاملة. فمما نصب في الشعر اضطراراً قوله:
سأتْرُكُ منزلي لبني تميم ... وأَلَحْقُ بالحجاز فأَستَرِيحَا
وقال الأعشى، وأنشدناه يونس:
ثُمَّتَ لا تجزونني عند ذاكم ... ولكنْ سَيَجْزيني الإلهُ فيُعقِبَا(3/39)
وهو ضعيف في الكلام. وقال طرفة:
لنا هَضْبَةٌ لا يدخل الذُّلُّ وسطَها ... ويَأْوي إليها المُستجيرُ فيُعْصَمَا
وكان أبو عمرو يقول: لا تأتنا فنشتمك.
وسمعت يونس يقول: ما أتيتني فأحدثك فيما أستقبل، فقلت له: ما تريد به؟ فقال: أريد أن أقول ما أتيتني فأنا أحدثك وأكرمك فيما أستقبل.
وقال: هذا مثل ائتني فأحدثك، إذا أراد ائتني فأنا صاحب هذا.
وسألته عن: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة "، فقال: هذا واجبٌ، وهو تنبيهٌ، كأنك قلت: أتسمع أن الله أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا. وإنما خالف الواجب النفي لأنك تنقض النفي إذا نصبت وتغير المعنى، يعني أنك تنفي الحديث وتوجب الإتيان، تقول: ما أتيتني قط فتحدثني إلا بالشر، فقد نقضت نفي الإتيان وزعمت أنه قد كان.
وتقول: ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى فكيف تحدثني، فأنت لا تنفي الحديث، ولكنك زعمت أن منه الحديث، وإنما يحول بينك وبينه ترك الإتيان.(3/40)
وتقول: ائتني فأحدثك، فليس هذا من الأمر الأوّل في شئ.
وإذا قلت: قد كان عندنا فسوف يأتينا فيحدثنا، لم تزده على أن جئت بواجب كالأول، فلم يحتاجوا إلى أن، لما ذكرت لك، ولأنّ تلك المعاني لا تقع هاهنا، ولو كانت الفاء والواو وأو ينصبن لأدخلت عليهن الفاء والواو للعطف، ولكنها كحتى في الإضمار والبدل، فشبهت بها لما كان النصب فيها الوجه؛ لأنهم جعلوا الموضع الذي يستعملون فيه إضمار أن بعد الفاء كما جعلوه في حتى، إنما يضمر إذا أراد معنى الغاية، وكاللام في ما كان ليفعل.
هذا باب الواو
اعلم أن الواو ينتصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء، وأنها قد تشرك بين الأول والآخر كما تشرك الفاء، وأنها يستقبح فيها أن تشرك بين الأول والآخر كما استقبح ذلك في الفاء، وأنها يجئ ما بعدها مرتفعاً منقطعاً من الأول كما جاء ما بعد الفاء.
واعلم أن الواو وإن جرت هذا المجرى فإن معناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى الأخطل قال:(3/41)
لاتنه عن خُلُقٍ وتأْتِيَ مِثْلَهُ ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
فلو دخلت الفاء ههنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمعنّ النهي والإتيان، فصار تأتي على إضمار أن.
ومما يدلك أيضاً على أن الفاء ليست كالواو قولك: مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد فعمرو، تريد أن تعلم بالفاء أن الآخر مر به بعد الأول.
وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فلو أدخلت الفاء ههنا فسد المعنى. وإن شئت جزمت على النهي في غير هذا الموضع. قال جرير:
ولا تشتم المَوْلَى وتَبْلُغْ أَذاتَه ... فإنك إن تَفعلْ تُسَفَّهْ وتَجْهَلِ
ومنعك أن ينجزم في الأول لأنه إنما أراد أن يقول له: لا تجمع بين(3/42)
اللبن والسمك، ولا ينهاه أن يأكل السمك على حدةٍ ويشرب اللبن على حدةٍ، فإذا جزم فكأنه نهاه أن يأكل السمك على كل حال أو يشرب اللبن على كل حال.
ومثل النصب في هذا الباب قول الحطيئة:
أَلم أَكُ جارَكُمْ ويَكونَ بيني ... وبينَكُم الموَدّةُ والإخاءُ
كأنه قال: ألم أك هكذا ويكون بيني وبينكم. وقال دريد بن الصمة:
قتلتُ بعبد الله خيرَ لِداتِهِ ... ذُؤَاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا
وتقول: لا يسعني شئ ويعجز عنك، فانتصاب الفعل هاهنا من الوجه الذي انتصب به في الفاء، إلا أن الواو لا يكون موضعها في الكلام موضع الفاء.(3/43)
وتقول: ائتني وآتيك، إذا أردت ليكن إتيانُ منك وأن آتيك، تعني إتيانٌ منك وإتيانٌ مني. وإن أردت الأمر أدخلت اللام كما فعلت ذلك في الفاء حيث قلت: ائتني فلأحدثك، فتقول ائتني ولآتك.
ومن النصب في هذا الباب قوله عز وجل: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين "، وقد قرأها بعضهم: " ويعلم الصابرين ".
وقال تعالى: " ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "، إن شئت جعلت وتكتموا على النهي، وإن شئت جعلته على الواو.
وقال تعالى: " ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ". فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأول. والآخر على قولك: دعني ولا أعود، أي فإني ممن لا يعود، فإنما يسأل الترك وقد أوجب على نفسه أن لا عودة له البتة ترك أو لم يترك، ولم يرد أن يسأل أن يجتمع له الترك وأن لا يعود. وأما عبد الله بن أبي إسحاق فكان ينصب هذه الآية.(3/44)
وتقول: زرني وأزورك، أي أنا ممن قد أوجب زيارتك على نفسه، ولم ترد أن تقول لتجتمع منك الزيارة وأن أزورك، تعني لتجتمع منك الزيارة فزيارةٌ مني، ولكنه أراد أن يقول زيارتك واجبةٌ على كل حال، فلتكن منك زيارةٌ. وقال الأعشى:
فقلتُ ادْعِي وأدُعْو إنَّ أنْدَى ... لِصَوْتٍ أنْ يُنادِيَ دَاعِيانِ
ومن النصب أيضاً قوله:
لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني ... أحبُّ إلىّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ(3/45)
لما لم يستقم أن تحمل وتقر وهو فعلٌ على لبس وهو اسمٌ، لما ضممته إلى الاسم، وجعلت أحب لهما ولم ترد قطعه، لم يكن بدٌ من إضمار أن. وسترى مثله مبيناً.
وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب، وهو لكعبٍ الغنوي:
وما أنا للشيء الذي ليس نافِعِي ... ويَغْضَبَ منه صاحِبي بقَؤُولِ
والرفع أيضاً جائزٌ حسن، كما قال قيس بن زهير بن جذيمة:
فلا يَدْعُني قومي صَريحاً لُحرّةٍ ... لئن كنتُ مقتولا ويَسْلمُ عامرُ
ويغضب معطوف على الشيء، ويجوز رفعه على أن يكون داخلاً في صلة الذي.
هذا باب أو
اعلم أن ما انتصب بعد أو فإنه ينتصب على إضمار أن كما انتصب في الفاء والواو على إضمارها، ولا يستعمل إظهارها كما لم يستعمل في الفاء والواو، والتمثيل هاهنا مثله ثم. تقول إذا قال لألزمنك أو تعطيني، كأنه يقول: ليكونن اللزوم أو أن تعطيني.(3/46)
واعلم أن معنى ما انتصب بعد أو على إلا أن، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء على غير معنى التمثيل تقول: لألزمنك أو تقضيني، ولأضربنك أو تسبقني؛ فالمعنى لألزمنك إلا أن تقتضيني ولأضربنك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب. قال امرؤ القيس:
فقلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنَّما ... نُحاوِلُ مُلْكاً أو نَموتَ فنُعْذَرَا
والقوافي منصوبةٌ، فالتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على إلا أن نموت فنعذرا، وإلا أن تعطيني، كما كان تمثيل الفاء على ما ذكرت لك، وفيه المعاني التي فصلت لك.
ولو رفعت لكان عربياً جائزاً على وجهين: على أن تشرك بين الأول والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأول، يعني أو نحن ممن يموت.
وقال جل وعز: " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون "، إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على: أو هم يسلمون.(3/47)
وقال ذو الرمة:
حَراجيجُ لا تنْفَكُّ إلاَّ منُاخَةَ ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بَلَدَا قَفْرَا
فإن شئت كان على لا تنفك نرمي بها، أو على الابتداء.
وتقول: الزمه أو يتقيك بحقك، واضربه أو يستقيم. وقال زياد الأعجم:
وكنتُ إذا غَمَزْتُ قَنَاةَ قومٍ ... كَسَرْتُ كُعوبَها أو تستقيما(3/48)
معناه إلا أن، وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء؛ لأنه لا سبيل إلى الإشراك.
وتقول: هو قاتلي أو أفتدي منه؛ وإن شئت ابتدأته كأنه قال: أو أنا أفتدي، وقال طرفة بن العبد:
ولكنّ مولايَ امرؤ هو خانِقِي ... على الشُّكْر والتَّسْآلِ أو أَنا مُفْتَدِي
وسألت الخليل عن قوله عز وجل: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء "، فزعم أن النصب محمول على أن سوى هذه التي قبلها. ولو كانت هذه الكلمة على أن هذه لم يكن للكلام وجهٌ، ولكنه لما قال: " إلا وحيا أو من وراء حجاب " كان في معنى إلا أن يوحي، وكان أو يرسل فعلاً لا يجري على إلا، فأجري على أن هذه، كأنه قال: إلا أن يوحي أو يرسل؛ لأنه لو قال: إلا وحياً وإلا أن يرسل كان حسناً، وكان أن يرسل بمنزلة الإرسال، فحملوه على أن، إذ لم يجز أن يقولوا: أو إلا يرسل، فكأنه قال: إلا وحياً أو أن يرسل.
وقال الحصين بن حمام المرّي:(3/49)
ولولا رِجالٌ من رِزامٍ أَعِزّةٌ ... وآلُ سُبَيْعٍِ أو أسُوءَك عَلْقَمَا
يضمر أن، وذاك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على لولا فأضمر أن، كأنه قال: لولا ذاك، أو لولا أن أسوءك.
وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " فكأنه والله أعلم قال الله عز وجل: لا يكلم الله البشر إلا وحياً أو يرسل رسولاً، أي في هذه الحال وهذا كلامه إياهم، كما تقول العرب: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل. وقال الشاعر، وهو عمرو بن معدي كرب:
وخَيْلٍ قد دَلَفْتُ لها بخَيْلٍ ... تَحِيّةُ بَيْنهِم ضَرْبٌ وَجيعُ
وسألت الخليل عن قول الأعشي:(3/50)
إن تَركبوا فرُكوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تَنْزلونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُل
فقال: الكلام هاهنا على قولك يكون كذا أو يكون كذا، لما كان موضعها لو قال فيه أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابقٍ شيئاً. وأما يونس فقال: أرفعه على الابتداء، كأنه قال: أو أنتم نازلون. وعلى هذا الوجه فسر الرفع في الآية، كأنه قال: أو هو يرسل رسولاً، كما قال طرفة:
أو أنا مُفتدِي
وقول يونس أسهل، وأما الخليل فجعله بمنزلة قول زهير:
بَدا ليَ أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيَا
والإشراك على هذا التوهم بعيد كبعد ولا سابقٍ شيئاً. ألا ترى أنه لو كان هذا كهذا لكان في الفاء والواو. وإنما توهم هذا فيما خالف معناه التمثيل. يعني مثل هو يأتينا ويحدثنا. يقول: يدخل عليك نصب هذا على(3/51)
توهم أنك تكلمت بالاسم قبله، يعني مثل قولك: لا تأته فيشتمك؛ فتمثيله على لا يكن منك إتيانٌ فشتيمةٌ، والمعنى على غير ذلك.
باب اشتراك الفعل في أن
وانقطاع الآخر من الأول الذي عمل فيه أن
فالحروف التي تشرك: الواو، والفاء، وثم، وأو. وذلك قولك: أريد أن تأتيني ثم تحدثني، وأريد أن تفعل ذاك وتحسن، وأريد أن تأتينا فتبايعنا، وأريد أن تنطق بجميل أو تسكت. ولو قلت: أريد أن تأتيني ثم تحدثني جاز، كأنك قلت: أريد إتيانك ثم تحدثني.
ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال. وقال عز وجل: " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله "، ثم قال سبحانه: " ولا يأمركم "، فجاءت منقطعة من الأول، لأنه أراد: ولا يأمركم الله. وقد نصبها بعضهم على قوله: وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا.
وتقول: أريد أن تأتيني فتشتمني، لم يرد الشتيمة، ولكنه قال: كلما أردت إتيانك شتمتني. هذا معنى كلامه، فمن ثمّ نقطع من أن. قال رؤبة:(3/52)
يريدُ أن يُعْرِبَهُ فيُعْجِمُهْ
أي فإذا هو يعجمه.
وقال الله عز وجل: " لنبين لكم ونقر في الأرحام "، أي ونحن نقر في الأرحام؛ لأنه ذكر الحديث للبيان ولم يذكره للإقرار. وقال عز وجل: " أن تضل إحداهما الأخرى فتذكر إحدهما الأخرى "، فانتصب لأنّه أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى ومن أجل أن تذكر.
فإن قال إنسانٌ: كيف جاز أن تقول: أن تضل ولم يعد هذا للضلال وللالتباس؟ فإنما ذكر أن تضل لأنه سبب الإذكار، كما يقول الرجل: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه، وهو لا يطلب بإعداد ذلك ميلان الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدعم وبسببه.(3/53)
وقرأ أهل الكوفة: " فتذكر " رفعاً.
وسألت الخليل عن قول الشاعر، لبعض الحجازيين:
فما هو إلاّ أن أراها فجاءة ... فأَبْهَتُ حتّى ما أكادُ أُجيبُ
فقال: أنت في أبهت بالخيار، إن شئت حملتها على أن، وإن شئت لم تحملها عليه فرفعت، كأنك قلت: ما هو إلا الرأي فأبهت.
وقال ابن أحمر فيما جاء منقطعاً من أن:
يُعالِجُ عاقِراً أُعْيَتْ عليه ... ليُلْقِحَها فينْتِجُها حوارا(3/54)
كأنه قال: يعالج فإذا هو ينتجها. وإن شئت على الابتداء.
وتقول: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد، وإن شئت رفعت، كأنك قلت لا يعدو ذلك فيصنع ما تريد.
وتقول: ما عدا أن رآني فيثب، كأنه قال ما عدا ذلك فيثب، لأنه ليس على أول الكلام. فإن أردت أن تحمل الكلام على أن فإن أحسنه ووجهه أن تقول: ما عدا أن رآني فوثب، فضعف يثب هاهنا كضعف ما أتيتني فتحدثني، إذا حملت الكلام على ما.
ونقول: ما عدوت أن فعلت، وهذا هو الكلام، ولا أعدوا أن أفعل، وما آلو أن أفعل، يعني لقد جهدت أن أفعل.
وتقول: ما عدوت أن آتيك، أي ما عدوت أن يكون هذا من رأي فيما أستقبل. ويجوز أن يجعل أفعل في موضع فعلت، ولا يجوز فعلت في موضع أفعل إلا في مجازاةٍ، نحو: إن فعلت فعلت.
وتقول: والله ما أعدو أن جالستك، أي أن كنت فعلت ذلك، أي ما أجاوز مجالستك فيما مضى. ولو أراد ما أعدو أن جالستك غداً كان محالاً ونقضاً، كما أنه لو قال: ما أعدو أن أجالسك أمس كان محالا.(3/55)
وإنما ذكرت هذا لتصرف وجوهه ومعانيه، وأن لا تستحيل منه مستقيماً، فإنه كلامٌ يستعمله الناس.
ومما جاء منقطعا قول الشاعر، وهو عبد الرحمن بن أم الحكم:
على الحَكَم المأْتيِّ يوماً إذا قَضَى ... قَضيْتَه أن لا يَجوزَ ويَقْصِدُ
كأنه قال: عليه غير الجور، ولكنه يقصد أو هو قاصدٌ، فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن، كما تقول: عليه أن لا يجور، وينبغي له كذا وكذا، فالابتداء في هذا أسبق وأعرف؛ لأنها بمنزلة قولك، كأنه قال: ونولك. فمن ثم لا يكادون يحملونها على أن.
هذا باب الجزاء
فما يجازي به من الأسماء غير الظروف: من، وما، وأيهم. وما يجازي به من الظروف: أي حينٍ، ومتى، وأين، وأنى، وحيثما. ومن غيرهما: إن، وإذ ما.
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحد منهما ما(3/56)
فتصير إذ مع ما بمنزلة إنما وكأنما، وليست ما فيهما بلغو، ولكن كل واحد منهما مع ما بمنزلة حرف واحد.
فمما كان من الجزاء بإذما قول العباس بن مرداس:
إذْ ما أتيتَ على الرسول فقُلْ له ... حَقّاً عليك إذا اطْمَأَنَّ المَجْلِسُ
وقال الآخر، قالوا: هو لعبد الله بن همام السّلوليّ:
إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أُصَعِّدُ سَيْراً في البلاد وأُفْرِعُ
فإِنَّي من قوم سواكم وإنّما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع(3/57)
سمعناهما ممن يرويهما عن العرب. والمعنى إما.
ومما جاء من الجزاء بأني قول لبيد:
فأَصبحتَ أنّي تأتها تلتبس بها ... كلا مر كبيها تحت رِجْلك شاجِرُ
وفي أين قوله، وهو ابن همام السلولي:
أيْن تَضربْ بنا الُعداةُ تجدْنا ... نَصْرِفُ العِيسَ نَحْوَها للتَّلاقِي
وإنما منع حيث أن يجازي بها أنك تقول: حيث تكون أكون، فتكون وصلٌ لها، كأنك قلت: المكان الذي تكون فيه أكون.
ويبين هذا أنها في الخبر بمنزلة إنما وكأنما وإذا، أنه يبتدأ بعدها الأسماء، أنك تقول: حيث عبد الله قائمٌ زيدٌ، وأكون حيث زيدٌ قائمٌ. فحيث كهذه الحروف التي تبتدأ بعدها الأسماء في الخبر، ولا يكون هذا من(3/58)
حروف الجزاء. فإذا ضممت إليها ما صارت بمنزلة إن وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجئ بما، وصارت بمنزلة إما.
وأما قول النحويين: يجازى بكلّ شئ يستفهم به، فلا يستقيم، من قبل أنك تجازي بإن وبحيثما وإذ ما ولا يستقيم بهن الاستفهام، ولكن القول فيه كالقول في الاستفهام. ألا ترى أنك إذا استفهمت لم تجعل ما بعده صلةً. فالوجه أن تقول: الفعل ليس في الجزاء بصلةٍ لما قبله كما أنه في حروف الاستفهام ليس صلةً لما قبله، وإذا قلت: حيثما تكن أكن، فليس بصلةٍ لما قبله، كما أنك إذا قلت أين تكون وأنت تستفهم فليس الفعل بصلةٍ لما قبله، فهذا في الجزاء ليس بصلةٍ لما قبله، كما أن ذلك في الاستفهام ليس بوصلٍ لما قبله. وتقول: من يضربك في الاستفهام، وفي الجزاء: من يضربك أضربه، فالفعل فيهما غير صلة.
وسألت الخليل عن مهما فقال: هي ما أدخلت معها ما لغواً، بمنزلتها مع متى إذا قلت متى ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع إن إذا قلت إن ما تأتني آتك، وبمنزلتها مع أين كما قال سبحانه وتعالى: " أينما تكونوا يدرككم(3/59)
الموت " وبمنزلتها مع أيٍ إذا قلت: " أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى "، ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظاً واحداً فيقولوا: ماما، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. وقد يجوز أن يكون مه كإذ ضم إليها ما.
وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنع أصنع. فقال: هي مستكرهة وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأن معناها على أي حالٍ تكن أكن.
وسألته عن إذا، ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال: الفعل في إذا بمنزلته في إذ، إذا قلت: أتذكر إذ تقول، فإذا فيما تستقبل بمنزلة إذ فيما مضى. ويبيّن هذا أنّ إذا تجئ وقتاً معلوماً؛ ألا ترى أنك لو قلت: أتيك إذا احمر البسر كان حسناً، ولو قلت: آتيك إن احمر البسر، كان قبيحاً. فإن أبداً مبهمة، وكذلك حروف الجزاء. وإذا توصل بالفعل، فالفعل في إذا بمنزلته في حين كأنك قلت: الحين الذي تأتيني فيه آتيك فيه. وقال ذو الرمة:
تُصْغِي إذا شَدَّها بالرَّحْلِ جانحةً ... حتّى إذا ما استوى في غَرْزِها تَثِبُ.(3/60)
وقال الآخر، ويقال وضعه النحويون:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
وقد جازوا بها في الشعر مضطرين، شبهوها بإن، حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بدّلها من جواب.
وقال قيس بن الخطيم الأنصاري:
إذا قَصُرَتْ أَسْيافُنا كان وَصْلُها ... خُطانَا إلى أَعْدائنا فنُضارِبِ
وقال الفرزدق:(3/61)
تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يرفَعُ لي ... ناراً إذا خَمَدَتْ نِيرانُهمْ تَقِدِ
وقال بعض السلوليين:
إذا لم تَزل في كلِّ دارٍ عرفتَها ... لها واكفٌ مِن دَمْعِ عينِك يَسْجُمِ
فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيد قول كعب بن زهير:
وإذا ما تشاءُ تَبعثُ منها ... مَغْرِبَ الشمسِ ناشِطاً مَذْعوراً
واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال وينجزم الجواب بما قبله.(3/62)
وزعم الخليل أنك إذا قلت: إن تأتني آتك، فآتك انجزمت بإن تأتني، كما تنجزم إذا كانت جوابا للأمر حين قلت: ائتني آتك.
وزعم الخليل أن إن هي أم حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قبل أنى أرى حروف الجزاء قد يتصرفن فيكن استفهاما ومنها ما يفارقه ما فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حالٍ واحدة أبدا لا تفارق المجازاة.
واعلم أنه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء فأما الجواب بالفعل فنحو قولك: إن تأتني آتك، وإن تضرب أضرب، ونحو ذلك.
وأما الجواب بالفاء فقولك: إن تأتني فأنا صاحبك. ولا يكون الجواب في هذا الموضع بالواو ولا بثم. ألا ترى أن الرجل يقول افعل كذا وكذا فتقول: فإذن يكون كذا وكذا. ويقول: لم أغث أمس، فتقول: فقد أتاك الغوث اليوم. ولو أدخلت الواو وثم في هذا الموضع تريد الجواب لم يجز.
وسألت الخليل عن قوله جل وعز: " وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت(3/63)
أيديهم إذا هم يقنطون " فقال: هذا كلام معلقٌ بالكلام الأول كما كانت الفاء معلقةً بالكلام الأول وهذا ها هنا في موضع قنطلوا كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل. قال: ونظير ذلك قوله: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " بمنزلة أم صمتم. ومما يجعلها بمنزلة الفاء أنّها لا تجئ مبتدأة كما أنّ الفاء لا تجئ مبتدأةً.
وزعم الخليل أن إدخال الفاء على إذا قبيحٌ، ولو كان إدخال الفاء على إذا حسنا لكان الكلام بغير الفاء قبيحا؛ فهذا قد استغنى عن الفاء كما استغنت الفاء عن غيرها، فصارت إذا هاهنا جوابا كما صارت الفاء جوابا.
وسألته عن قوله: إن تأتني أنا كريمٌ، فقال: لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعرٌ، من قبل أنّ أنا كريم يكون كلا ما مبتدأ، والفاء وإذا لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء. وقد قاله الشاعر مضطراً، يشبهه بما يتكلم به من الفعل. قال حسان بن ثابت:(3/64)
مَن يَفعلِ الحَسَناتِ الله يَشْكُرُها ... والشرُّ بالشرّ عند الله مثلان
وقال الأسدي:
بَنِي ثُعَلٍ لا تَنْكَعُوا العَنْزَ شِربْهَا ... بني ثُعَلٍ مَن يَنكَعِ العَنْزَ ظالمُ
وزعم أنه لا يحسن في الكلام إن تأتني لأفعلن، من قبل أنّ لأفعلنّ تجئ مبتدأةً. ألا ترى أن الرجل يقول لأفعلن كذا وكذا. فلو قلت:(3/65)
إن أتيتني لأكرمنك، وإن لم تأتني لأغمنك، جاز لأنه في معنى لئن أتيتني لأكرمنك ولئن لم تأتني لأغمنك، ولا بد من هذه اللام مضمرةً أو مظهرةً لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن أتيتني لأكرمنك.
فإن قلت: لئن تفعل لأفعلن قبح، لأن لأفعلن على أول الكلام، وقبح في الكلام أن تعمل إن أو شئ من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله. ألا ترى أنك تقول: آتيك إن أتيتني، ولا تقول آتيك إن تأتني، إلا في شعر، لأنك أخرت إن وما عملت فيه ولم تجعل لإن جوابا ينجزم بما قبله.
فهكذا جرى هذا في كلامهم. ألا ترى أنه قال عز وجل: " وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " وقال عز وجل: " وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين " لما كانت إن العاملة لم يحسن إلا أن يكون لها جوابٌ ينجزم بما قبله. فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت.
وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي آتيك إن أتيتني. قال زهير:
وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ(3/66)
ولا يحسن إن تأتني آتيك، من قبل أن إن هي العاملة. وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجلي:
يا أَقْرَعُ بنَ حابسٍ يا أَقْرَعُ ... إنَّك إن يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ
أي إنك تصرع إن يصرع أخوك. ومثل ذلك قوله:
هذا سُراقةُ للقُرْآن يَدْرُسُهُ ... والمرءُ عند الرُّشا إن يلقها ذيب(3/67)
أي والمرء ذئب إن يلق الرشا. قال الأصمعيّ: هو قديم، أنشدينه أبو عمرو. وقال ذو الرمة:
وأنِّي متى أُشْرِفْ على الجانِب الذي ... به أنتِ من بين الجَوانبِ ناظرُ
أي ناظرٌ متى أشرف. فجاز هذا في الشعر، وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً؛ لأن المعنى واحد، كما شبّه الله يشكرها وظالم بإذا هم يقنطون، جعله بمنزلة يظلم ويشكرها الله، كما كان هذا بمنزلة قنطوا، وكما قالوا في اضطرارٍ: إن تأتني أنا صاحبك، يريد معنى الفاء، فشبهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه.
وقد يقال: إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك، لأن هذا في موضع الفعل المجزوم، وكأنه قال: إن تفعل أفعل.
ومثل ذلك قوله عز وجل: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها "، فكان فعل. وقال الفرزدق:(3/68)
دَسَّتْ رسولاً بأنًّ القوم إنْ قَدَروا ... عليكَ يَشْفُوا صُدوراً ذاتَ تَوْغيرِ
وقال الأسود بن يعفر:
ألا هَلْ لهذا الدَّهرِ مِن مُتَعَلَّلِ ... عن النّاس مَهْمَا شاءَ بالناس يَفْعَلِ
وقال: إن تأتني فأكرمك، أي فأنا أكرمك، فلا بد من رفع فأكرمك إذا سكت عليه، لأنه جواب، وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ.
ومثل ذلك قوله عز وجل " ومن عاد فينتقم الله منه " ومثله: " ومن كفر فأمتعه قليلا " ومثله: " فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً ".
باب الأسماء التي يجازي بها
وتكون بمنزلة الذي
وتلك الأسماء: من، وما، وأيهم. فإذا جعلتها بمنزلة الذي، قلت: ما تقول أقول، فيصير تقول صلةً لما حتى تكمل اسماً، فكأنك قلت: الذي تقول أقول. وكذلك: من يأتني آتيه وأيها تشاء أعطيك. وقال الفرزدق:(3/69)
ومَنْ يَميلُ أَمالَ السَّيفُ ذِرْوَتَه ... حيثُ التقَى من حفا في رأسِه الشَّعَرُ
وتقول: آتي من يأتيني، وأقول ما تقول، وأعطيك أيها تشاء. هذا وجه الكلام وأحسنه، وذلك أنه قبيح أن تؤخر حرف الجزاء إذا جزم ما بعده فلما قبح ذلك حملوه على الذي، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول: آتيك إن تأتني. فإذا قلت: آتي من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت أتاني صلةً وإن شئت كانت بمنزلتها في إن.
وقد يجوز في الشعر: آتي من يأتني، وقال الهذلي:
فقلتُ تَحَمَّلْ فوق طَوْقِك إنَّها ... مُطَبَّعةٌ مَن يأتِها لا يضيرها(3/70)
هكذا أنشدناه يونس، كأنه قال: لا يضيرها من يأتها، كما كان: وإني متى أشرف ناظر، على القلب، ولو أريد به حذف الفاء جاز فجعلت كإن. وإن قلت: أقول مهما تقل، وأكون حيثما تكن، وأكون أين تكن، وآتيك متى تأتني، وتلتبس بها أنى تأتها، لم يجز إلا في الشعر، وكان جزماً. وإنما كان من قبل أنهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجاً إلى الصلة حتى يكمل اسماً. ألا ترى أنه لا تقول مهما تصنع قبيحٌ، ولا في الكتاب مهما تقول، إذا أراد أن يجعل القول وصلا. فهذه الحروف بمنزلة إن لا يكون الفعل صلةً لها. فعلى هذا فأجر ذا الباب.
باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازي بها
بمنزلة الذي
وذلك قولك: إن من يأتيني آتيه، وكان من يأتيني آتيه، وليس من يأتيني آتيه.
وإنما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنك أعملت كان وإن، ولم يسغ(3/71)
لك أن تدع كان وأشباهه معلقةً لا تعملها في شئ فلما أعملتهن ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه. ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى، تريد إن إن وإن متى، كان محالا. فهذا دليلٌ على أن الجزاء لا ينبغي له أن يكون هاهنا بمن وما وأيٍ. فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت.
فمن ذلك قولك: إنه من يأتنا نأته، وقال جل وعز: " إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا "، وكنت من يأتني آته. وتقول: كان من يأته يعطه، وليس من يأته يحببه، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس، لأنه حينئذ بمنزلة لست وكنت. فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفنا.
وقد جاء في الشعر إن من يأتني آته. قال الأعشى:
إنَّ مَن لامَ في بني بنت حسّا ... ن ألُمهْ وأَعْصِه في الخُطوبِ(3/72)
وقال أمية بن أبي الصلت:
ولكنَّ مَن لا يلق أمراً ينوبه ... بعدّته يَنْزِلْ به وَهْوَ أَعْزَلُ
فزعم الخليل أنه إنما جازى حيث أضمر الهاء، وأراد إنه ولكنه، كما قال الراعي:
فلو أنَّ حُقَّ اليومَ منكمْ إقامةٌ ... وإن كان سَرْحٌ قد مضى فتَسَرَّعَا
أراد: فلو أنه حق اليوم. ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا.
وتقول: قد علمت أن من يأتني آته، من قبل أن أن هاهنا فيها إضمار الهاء، ولا تجئ مخففةٌ هاهنا إلا على ذلك، كما قال، وهو عدي بن زيد:(3/73)
أُكاشِرُه وأَعْلَمُ أَنْ كِلانا ... على ما ساءَ صاحبَه حَريصُ
ولا يجوز أن تنوي في كان وأشباه كان علامة إضمار المخاطب ولا تذكرها. لو قلت: ليس من يأتك تعطه، تريد لست، لم يجز. ولو جاز ذلك لقلت كان من يأتك تعطه، تريد به كنت. وقال الشاعر، الأعشى:
في فِتْيةٍ كسُيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
فهذا يريد معنى الهاء.
ولا تخفف أن إلا عليه، كما قال: قد علمت أن لا يقول ذاك، أي أنه لا يقول. وقال عز وجل: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ". وليس هذا بقويٍ في الكلام كقوة أن لا يقول، لأن لا عوض من ذهاب العلامة. ألا ترى أنّهم لا يكادون يتكلّمون به بغد الهاء، فيقولون: قد علمت أن عبد الله منطلق.
باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء
كما ذهب في إن وكان وأشباههما.
غير أن إن وكان عوامل فيما بعدهن،(3/74)
والحروف في هذا الباب لا يحدثن فيما بعدهن من الأسماء شيئاً كما أحدثت إن وكان وأشباههما، لأنها من الحروف التي تدخل على المبتدإ والمبنيّ عليه فلا تغيّر الكلام عن حاله، وسأبين لك كيف ذهب الجزاء فيهن إن شاء الله.
فمن ذلك قولك: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وما من يأتينا نأتيه، وأما من يأتينا فنحن نأتيه.
وإنما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه. ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، كما لم يجز أن تقول: إن إن تأتنا نأتك، فلما ضارع هذا الباب باب إن وكان كرهوا الجزاء فيه.
وقد يجوز في الشعر أن يجازي بعد هذه الحروف، فتقول: أتذكر إذ من يأتنا نأته. فإنما أجازوه لأن إذ وهذه الحروف لا تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجئ بها، فقالوا: ندخلها على من يأتنا نأته ولا تغير الكلام، كأنا قلنا من يأتنا نأته، كما أنا إذا قلنا إذ عبد الله منطلقٌ فكأنا قلنا: عبد الله منطلقٌ؛ لأن إذ لم تحدث شيئاً لم يكن قبل أن تذكرها. وقال لبيد:
على حينَ مَن تَلْبَثْ عليه ذَنوبُهُ ... يَرِثْ شِرْبُهُ إذ في المقام تَدابُرُ(3/75)
ولو اضطر شاعرٌ فقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، جاز له كما جاز في من.
وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت بين إذ ومن، كما فصل الاسم في كان بين كان ومن. وتقول: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هاهنا. ألا ترى أنك تقول: مررت به فإذا أجمل الناس، ومررت به فإذا أيما رجلٍ. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: فإذا هو من يأته يعطه. فإذا لم تضمر وجعلت إذا هي لمن، فهي بمنزلة إذ لا يجوز فيها الجزم.
وتقول: لا من يأتك تعطه، ولا من يعطك تأته، من قبل أن لا ليست كإذ وأشباهها، وذلك لأنها لغو بمنزلة ما في قوله عز وجل: " فبما رحمة من الله لنت لهم "، فما بعده كشيء ليس قبله لا. ألا تراها تدخل على المجرور فلا تغيره عن حاله، تقول: مررت برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ. وتدخل(3/76)
على النصب فلا تغيره عن حاله، تقول: لا مرحباً ولا أهلاً، فلا تغير الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن تنفيه، ولا تنفيه مغيراً عن حاله، يعني في الإعراب التي كان عليها، فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه لا، وإذ وأشباهها لا يقعن هذه المواقع ولا يكون الكلام بعدهن إلا مبتدأ. وقال ابن مقبل:
وقِدْرٍ ككَفِّ القِرْدِ لا مُسْتعيرُها ... يُعارُ ولا مَنْ يَأْتِها يَتَدَسَّمِ
ووقوع إن بعد لا يقوي الجزاء فيما بعد لا. وذلك قول الرجل: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا؛ ولا لغوٌ في كلامهم. ألا ترى أنك تقول: خفت أن لا تقول ذاك وتجري مجرى خفت أن تقول.
وتقول: إن لا يقل أقل، فلا لغوٌ، وإذ وأشباهها ليست هكذا، إنما يصرفن الكلام أبداً إلى الابتداء.
وتقول: ما أنا ببخيلٍ ولكن إن تأتني أعطك، جاز هذا وحسن لأنّك(3/77)
قد تضمرها هنا كما تضمر في إذا. ألا ترى أنك تقول: ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق. وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت ذلك في إذا. قال طرفة:
ولستُ بحَلاَّلِ التِلاعِ مخَافةً ... ولكنْ متى يَسْتَرْفِد القومُ أَرْفِدِ
كأنه قال: أنا. ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من والذي. وسمعناهم ينشدون قول العجير السلولي:
وما ذاك أنْ كانَ ابنَ عَمِيّ ولا أخي ... ولكنْ متى ما أَملِكِ الضرَّ أنْفَعُ
والقوافي مرفوعةٌ كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أملك الضر، ويكون(3/78)
أملك على متى في موضع جزاء، وما لغوٌ، ولم يجد سبيلا إلى أن يكون بمنزلة من فتوصل، ولكنها كمهما.
وأما قوله عز وجل: " وأما إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين " فإنما هو كقولك: أمّا غداً فلك ذاك. وحسنت إن كان لأنه لم يجزم بها، كما حسنت في قوله: أنت ظالم إن فعلت.
بابٌ إذا ألزمت فيه الأسماء التي تجازي بها
حروف الجر لم تغيرها عن الجزاء
وذلك قولك: على أي دابةٍ أحمل أركبه، وبمن تؤخذ أو خذ به.
هذا قول يونس والخليل جميعا.
فحروف الجر لم تغيرها عن حال الجزاء، كما لم تغيرها عن حال الاستفهام. ألا ترى أنك تقول: بمن تمر، وعلى أيها أركب؟ فلو غيرتها عن الجزاء غيرتها عن الاستفهام. وقال ابن همام السلولي:(3/79)
لمَّا تمكَّنَ دُنْياهُم أطاعهمُ ... في أَيِّ نَحْوٍ يُميلوا دِينَه يَمِل
وذاك لأن الفعل إنما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها، فالفعل مع الباء بمنزلة فعلٍ ليس قبله حرف جرٍ ولا بعده، فصار الفعل الذي يصل بإضافة كالفعل الذي لا يصل بإضافة؛ لأن الفعل يصل بالجر إلى الاسم كما يصل غيره ناصباً أو رافعاً. فالجر هاهنا نظير النصب والرفع في غيره.
فإن قلت: بمن تمر به أمر، وعلى أيهم تنزل عليه أنزل، وبما تأتيني به آتيك، رفعت لأن الفعل إنما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية والباء الأولى للفعل الآخر، فتغير عن حال الجزاء كما تغير عن حال الاستفهام، فصارت بمنزلة الذي؛ لأنك أدخلت الباء للفعل حين أوصلت الفعل الذي يلي الاسم بالباء الثانية إلى الهاء، فصارت الأولى ككان وإن - يقول: لا يجازي بما بعدها - وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإن فيما بعدهما.(3/80)
وقد يجوز أن تقول: بمن تمرر أمره، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه وبه؛ وليس بحد الكلام، وفيه ضعفٌ. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو بعض الأعراب:
إنّ الكريم وأبيك يَعْتَمِلْ ... إنْ لم يَجِدْ يوماً على مَنْ يَتَّكِل(3/81)
يريد: يتكل عليه، ولكنه حذف. وهذا قول الخليل.
وتقول: غلام من تضرب أضربه؛ لأنَّ ما يضاف إلى من بمنزلة من. ألا ترى أنك تقول: أبوأيهم رأيته، كما تقول: أيهم رأيته. وتقول: بغلام من تؤخذ أو خذ به، كأنك قلت: بمن تؤخذ أؤخذ به.
وحسن الاستفهام ها هنا يقوِّي الجزاء، تقول: غلام من تضرب، وبغلام من مررت. ألا ترى أن كينونة الفعل غير وصلٍ ثابتةٌ.
وتقول: بمن تمرر أمرر به، وبمن تؤخذ أوخذ به. فحدُّ الكلام أن تثبت الباء في الآخر لأنه فعلٌ لا يصل إلا بحرف الإضافة. يدلك على ذلك أنك لو قلت: من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول عليه، إلا في شعر.
فإن قلت: بمن تمرر أمرر أو بمن تؤخذ أوخذ، فهو أمثل وليس بحد الكلام. وإنما كان في هذا أمثل لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول، فعلم أنّ الآخر مثله لأنه ذلك الفعل.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
باب الجزاء إذا أدخلت فيه ألف الاستفهام
وذلك قولك: أإن تأتني آتك. ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء، ومتى مثلها؛ فمن ثم أدخل عليه الألف، تقول: أمتى تشتمني أشتمك وأمن يفعل ذاك أزره؛ وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عملَ بعضه في بعض فلم يغيَّره، وإنما الألف بمنزلة الواو والفاء ولا ونحو ذلك، لا تغيَّر الكلام عن حاله، وليست كإذ وهل وأشباههما. ألا ترى أنها تدخل على المجرور والمنصوب والمرفوع فتدعه على حاله ولا تغيره عن لفظ المستفهم. ألا ترى(3/82)
أنه يقول: مررت بزيدٍ فتقول: أزيد إن شئت قلت أزيدنيه، وكذلك تقول في النصب والرفع؛ وإن شئت أدخلتها على كلام المخبر ولم تحذف منه شيئاً، وذلك إذا قال: مررت بزيدٍ قلت: أمررت بزيدٍ. ولا يجوز ذلك في هل وأخواتها.
ولو قلت: هل مررت بزيدٍ كنت مستأنفاً. ألا ترى أنَّ الألف لغوٌ. فإن قيل: فإن الألف لا بدَّ لها من أن تكون معتمدةً على شىء فإنَّ هذا الكلام معتمدٌ لها، كما تكون صلةً للذي إذا قلت: الذي إن تأته يأتك زيدٌ. فهذا كلُّه وصلٌ.
فإن قال: الذي إن تأته يأتيك زيدٌ، وأجعل يأيتكَ صلةَ الَّذي لم يجد بدَّاً من أن يقول: أنا إن تأتني آتيك؛ لأنَّ أنا لا يكون كلاماً حتى يبنى عليه وأمَّا يونس فيقول: أإن تأتني آتيك. وهذا قبيحٌ يكره في الجزاء وإن كان في الاستفهام. وقال عزَّ وجلَّ: " أفإن متَّ فهم الخالدون. " ولو كان ليس موضعَ جزاء قبح فيه إن، كما يقبح أن، تقول: أتذكر إذ إن تأتني آتيك. فلو قلت: إن أتيتني آتيك على القلب كان حسناً.(3/83)
؟ باب الجزاء إذا كان القسم في أوَّله
وذلك قولك: والَّله إن أتيتني لا أفعل، لا يكون إلا معتمدةً عليه اليمين. ألا ترى أنَّك لو قلت: والله إن تأتني آتك لم يجز ولو قلت والَّله من يأتني آته كان محالاً، واليمين لا تكون لغواً كلا والألف؛ لأن اليمين لآخر الكلام وما بينهما لا يمنع الآخر أن يكون على اليمين وإذا قلت أإن تأتني آتك فكأنك لم تذكر الألف واليمين ليست هكذا في كلامهم. ألا ترى أنك تقول: زيدٌ منطلقٌ، فلو أدخلت اليمن غيَّرت الكلام.
وتقول: أنا والَّله إن تأتني لا آتك؛ لأن هذا الكلام مبنيٌ على أنا ألا ترى أنه حسنٌ أن تقول: أتا والله إن تأتني آتك فالقسم ها هنا لغوٌ. فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه. ألا ترى أنك تقول: لئن أتيتني لا أفعل ذاك، لأنها لام قسمٍ. ولا يحسن في الكلام لئن تأتني لا أفعل؛ لأنَّ الآخر لا يكون جزماً.
وتقول: والَّله إن أتيتني آتيك، وهو معنى لا آتيك، وهو معنى لا آتيك. فإن أردت أن الإتيان يكون فهو غير جائز، وإن نفيت الإتيان وأردت معنى لا آتيك فهو مستقيم. وأمَّا قول الفرزدق:(3/84)
وأنتم لهذا الناسِ كالقِبْلة التي ... بها أن يضلَّ الناس يُهْدَى ضَلالُهَا
فلا يكون الآخر إلا رفعاً، لأنَّ أن لا يجازى بها وإنما هي مع الفعل اسمٌ فكأنه قال: لأن يضلَّ الناس يهدى. وهكذا أنشده الفرزدق.
باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما
فأمَّا ما يرتفع بينهما فقولك: إن تأتني تسألني أعطك، وإن تأتني تمش أمش معك. وذلك لأنك أردت أن تقول إن تأتني سائلاً يكن ذلك، وإن تأتني ماشياً فعلت. وقال زهير:
ومَن لا يَزَلْ يَسْتحْمِلُ النَّاس نفسَه ... ولا يُغْنِها يوماً مِن الدهر يُسْأَمِ
إنما أراد: من لا يزل مستحملاً يكن من أمره ذاك. ولو رفع يغنها جاز وكان حسناً، كأنَّه قال: من لا يزل لا يغني نفسه.(3/85)
ومما جاء أيضاً مرتفعاً قول الحطيئة:
مَتى تأتِه تَعْشو إلى ضَوْءِ نارِه ... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ
وسألت الخليل عن قوله:
متى تأتنا بلمم بنا في دِيارنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأَجَّجَا
قال: تلمم بدلٌ من الفعل الأول. ونظيره في الأسماء: مررت برجلٍ عبد الَّله، فأراد أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسَّر الاسم الأوَّل بالاسم الآخر.
ومثل ذلك أيضاً قوله، أنشدنيهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد:(3/86)
إن يَبْخَلوا أو يَجْبُنوا ... أو يَغْدِروا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجَّلين كأنهم لم يفعلو
فقوله يغدوا: بدلٌ من لا يحفلوا، وغدوهم مرجَّلين يفسِّر أنَّهم لم يحفلوا.
وسألته: هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك؟ فقال: هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول، لأنَّ الأول الفعل الآخر تفسيرٌ له، وهو هو، والسُّوال لا يكون الإتيان، ولكنَّه يجوز على الغلط والنَّسيان ثم يتدارك كلامه.
ونظير ذلك في الأسماء: مررت برجلٍ حمارٍ، كأنه نسي ثم تدارك كلامه.
وسألته عن قوله جلَّ وعزَّ: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة " فقال: هذا كالأول؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيٌّ الآثام.
ومثل ذلك من الكلام: إن تأتنا بحسن إليك نعطك ونحميك، تفسر الإحسان بشيء هو هو، وتجعل الآخر بدلاً من الأول.
فإن قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك، كان غير جائز؛ لأنَّ القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا وأمَّا ما ينجزم بين المجزومين فقولك: إن تأتني ثمَّ تسألني أعطك، وإن(3/87)
تأتني فتسألني أعطك، وإن تأتنيي وتسألني أعطك. وذلك لأنَّ هذه الحروف يشركن الآخر فيما دخل فيه الأول. وكذلك أو وما أشبههنَّ.
ولا يجوز في ذا الفعل الرفع. وإنَّما كان الرفع في قوله متى تأته تعشو، لأنَّه في موضع عاش، كأنه قال: متى تأته عاشياً. ولو قلت متى تأته وعاشياً كان محالا. فإنَّما أمرهن أن يشركن بين الأول والآخر.
وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثني أحدثك، وإن تأتني وتحدثني أحدِّثك، فقال: هذا يجوز، والجزم الوجه.
ووجه نصبه على أنه حمل الآخر على الاسم، كأنه أراد إن يكن إتيانٌ فحديث أحدِّثك، فلمَّا قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى أن، لأن الفعل معها اسمٌ.
وإنما كان الجزم الوجه لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراد من الحديث، فلما كان ذلك كان أن يحمل على الذي عمل فيما يليه أولى؛ وكرهوا أن يتخطَّوا به من بابه إلى آخر إذا كان يريد شيئاً واحداً.
وسألته عن قول ابن زهير:(3/88)
ومَن لا يقدِّم رِجْلَه مُطْمَئِنَّة ... فيُثْبِتَها في مُسْتَوَى الأرضِ يَزْلَقِ
فقال: النصب في هذا جيِّد، لأنه أرادها هنا من المعنى ما أراد في قوله: لا تأتينا إلا لم تحدِّثنا، فكأنه قال: من لا يقدَّم إلا لم يثبت زلق.
ولا يكون أبداً إذا قلت: إن تأتني فأحدثك الفعل الآخر الا رفعا، وإنَّما منعه أن يكون مثل ما انتصب بين المجزومين أنّ هذا منقطع من الأوّل؛ شريكٌ له وإذا قلت إن يكن إتيانٌ فحديثٌ أحدثك، فالحديث متصل بالأول؛ ألا ترى أنَّك إذا قلت: إن يكن إتيانٌ فحديثٌ ثم سكتَّ وجعلته جواباً لم يشرك الأول، وكان مرتفعاً بالابتداء.
وتقول: إن تأتني لآتك فأُحدثك. هذا الوجه، وإن شئت ابتدأتَ. وكذلك الواو وثمَّ، وإن شئت نصبت بالواو والفاء كما نصبت ما كان بين المجزومين.
واعلم أن ثمَّ لا ينصب بها كما ينصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها مما يضمر بعده أن، وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء، وليس معناها معنى الواو، ولكنها تشرك ويبتدأ بها.
واعلم أن ثمَّ إذا أدخلته على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلَّا جزماً، لأَّنه ليس مما ينصب. وليس يحسن الابتداء لأنَّ ما قبله لم ينقطع. وكذلك الفاء والواو وأو إذا لم ترد بهن النصب، فإذا انقضى الكلام ثم(3/89)
جئت بثمَّ، فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت. وكذلك الواو والفاء. قال الَّله تعالى: " وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثمَّ لا ينصرون " وقال تبارك وتعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم " إِّلا أنَّه قد يجوز النصب بالفاء والواو.
وبلغنا أنَّ بعضهم قرأ: " يحاسبكم به الَّله فيغفر لمن يشاء ويعذِّب من يشاء " والَّله على كل شيء قدير " وتقول: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك، وإن تأتني فأنا لآتيك وأحسن إليك. وقال عزَّ وجلَّ: " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم ". والرفع ههنا وجه الكلام، وهو الجيِّد؛ لأنَّ الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء فجرى الفعل هنا كما كان يجري في غير الجزاء.
وقد بلغنا أنَّ بعض القرَّاء قرأ: " من يضلل الَّله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون "؛ وذلك لأنَّه حمل الفعل على موضع الكلام؛ لأنَّ(3/90)
هذا الكلام في موضع يكون جواباً؛ لأن أصل الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء؛ ولكنَّهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره.
؟ ومثل الجزم ههنا النصب في قوله:
فلسْنا بالجبالِ ولا الحديدَا
حمل الآخر على موضع الكلام وموضعه موضع نصبٍ، كما كان موضع ذاك موضع جزمِ.
وتقول: إن تأتني فلن أوذيك وأستقبلك بالجميل، فالرفع ههنا الوجه إذا لم يكن محمولاً على لن كما قال الرفع الوجه في قوله فهو خير لك وأكرمك ومثل ذلك إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك فالرفع الوجه إذا لم تحمله على لم كما كان ذلك في لن.
وأحسن ذلك أن تقول: إن تأتني لا آتك، كما أن أحسن الكلام أن تقول: إن أتيتني لم آتك. وذلك أن لم أفعل نفي فعل وهو مجزوم بلم، ولا أفعل نفي أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل وهو مجزوم بالجزاء. فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل. وإذا قال إن فعلت فأحسن(3/91)
الكلام أن تقول: فعلت، لأنَّه مثله. فكما ضعف فعلت مع أفعل، وأفعل مع فعلت، قبح لم أفعل مع يفعل، لأن لم أفعل نفي فعلت. وقبح لا أفعل مع فعل لأنها نفي أفعل.
واعلم أنَّ النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني لآتك وأعطيك ضعيف، وهو نحومن قوله:
وَأَلحقُ بالحجاز فأسترِيحَا
فهذا يجوز وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلَّا أنَّه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل، إلا أن يكون من الأول فعلٌ، فلمَّا ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، وإن كان معناه كمعنى ما قبله إذا قال وأعطيك. وإنَّما هو في المعنى كقوله أفعل إن شاء الَّله، يوجب بالاستثناء. قال الأعشى فيما جاز من النصب:
ومَن يَغترِبْ عن قومه لا يزل يرى ... مصرع مظلومٍ مَجَرّاً ومَسْحَبا(3/92)
وتُدفَنَ منه الصالحاتُ وإن يُسيءُ ... يكنْ ما أساء النار في رأس كبكبا
باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل
إذا كان جواباً لأمرٍ أو نهي أو استفهامٍ أو تمنِّ أو عرض
فأما ما انجزم بالأمر فقولك: ائتني آتك.
وأما ما انجزم بالنهي فقولك: لا تفعل يكن خيراً لك.
وأما ما انجزم بالاستفهام فقولك: ألا تأتيني أحدثِّك؟ وأين تكون أزرك؟ وأما ما انجزم بالتمني فقولك: ألا ماءَ أشربه، وليته عندنا يحدَّثنا.
وأمَّا ما انجزم بالعرض فقولك: ألا تنزل تصب خيراً.
وإنَّما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب إن تأتني، بإن تأتني، لأنَّهم(3/93)
جعلوه معلَّقاً بالأوّل عير مستغنٍ عنه إذا أرادوا الجزاء، كما أنَّ إن تأتني عير مستغنية عن آتك.
وزعم الخليل: أنَّ هذه الأوائل كلَّها فيها معنى إن، فلذلك انجزم الجواب؛ لأنه إذا قال ائتني آتك فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيانٌ آتك، وإذا قال: أين بيتك أزرك، فكأنه قال إن أعلم مكان بيتك أزرك؛ لأن قوله أين بيتك يريد به: أعلمني. وإذا قال ليته عندنا يحدثنا، فإن معنى هذا الكلام إن يكن عندنا يحدَّثنا، وهو يريد ههنا إذا تمنَّى ما أراد في الأمر. وإذا قال لو نزلت فكأنَّه قال انزل.
ومما جاء من هذا الباب في القرآن وغيره قوله عز وجل: " هل أدلُّكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابِ أليم. تؤمنون بالَّله ورسوله وتجاهدون في سبيل الَّله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون " فلمَّا انقضت الآية قال: " يغفر لكم ".
ومن ذلك أيضاً: أتينا أمس نعطيك اليوم، أي إن كنت أتيتنا أمس(3/94)
أعطيناك اليوم. هذا معناه فإن كنت تريد أن تقررِّه بأنه قد فعل فإنَّ الجزاء لا يكون، لأنَّ الجزاء إنَّما يكون في غير الواجب.
ومما جاء أيضاً منجزماً بالاستفهام قوله، وهو رجل من بني تغلب، جابر ابن حنى:
أَلا تَنْتَهِي عنَّا مُلوكٌ وتَتقِي ... مَحارِمَنَا لا يَبؤِ الدَّم بالدَّم
وقال الراجز:
متى أَنامُ لا يُؤَرِّقْنْي الكَرِي ... ليلاً ولا أسمع أجراس المطى
كأنّه قال: إ، يكن منِّى نومٌ في غير هذه الحال لا يؤرقني الكرىُّ، كأنَّه لم يعَّد نومه في هذه الحال نوماً.
وقد سمعنا من العرب من يشمُّه الرَّفع، كأنه يقول: متى أنام غير مؤرق.
وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن(3/95)
لا تجعله معلقاً بالأوَّل، ولكنَّك تبتدئه وتجعل الأول مستغنياً عنه، كأنَّه يقول: ائتني أنا آتيك. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو الأخطل:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف أمريءٍ يَمْضِي لمِقْدارِ
وقال الأنصاري:
يا مالِ والحقُّ عنده فقِفُوا ... تَؤتَوْنَ فيه الوفاءَ مُعْترَفَا
كأنه قال: إنكم تؤتون فيه الوفاء معترفاً. وقال معروف:(3/96)
كونوا كَمن واسَى أخاه بنفسه ... نعيشُ جميعاً أو نموتُ كلانَا
كأنه قال: كونوا هكذا إنا نعيش جميعاً أو نموت كلانا إن كان هذا أمرنا.
وزعم الخليل: أنَّه يجوز أن يكون نعيش محمولا على كونوا، كأنه قال: كونوا نعيش جميعاً أو نموت كلانا.
وتقول: لا تدن منه يكن خيراً لك. فإن قلت: لا تدن من الأسديا كلك فهو قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس؛ لأنَّك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سبباً لأكله. وإن رفعت فالكلام حسنٌ، كأنك قلت: لا تدن منه فإنَّه يأكلك. وإن أدخلت الفاء فهو حسنٌ، وذلك قولك: لا تدن منه فيأكلك.
وليس كلُّ موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء. ألا ترى أنه يقول: ما أتيتنا فتحثنا، والجزاء ههنا محال. وإنما قبح الجزم في هذا لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء.(3/97)
وسمعنا عربياً موثوقاً بعربيته يقول: لا تذهب به تغلب عليه؛ فهذا كقوله: لا تدن من الأسد يأكلك.
وتقول: ذره يقل ذاك، وذره يقول ذاك فالرفع من وجهين: فأحدهما الابتداء، والآخر على قولك: ذره قائلاً ذاك؛ فتجعل يقول في موضع قائل.
فمثل الجزم قوله عز وجل: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل " ومثل الرفع قوله تعالى جدٌّه: " ذرهم في خوضهم يلعبون ".
وتقول: ائتني تمشي، أي ائتني ماشياً، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشي فيما يستقبل فيما يستقبل. وإن شاء رفعه على الابتداء.
وقال عز وجل: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ". فالرفع على وجهين: على الابتداء، وعلى قوله: اضربه غير خائفٍ ولا خاشٍ.
وتقول: قم يدعوك؛ لأنك لم ترد أن تجعله دعاء بعد قيامه ويكون القيام سبباً له، ولكنَّك أردت: قم إنه يدعوك. وإن أردت ذلك المعنى جزمت.
وأما قول الأخطل(3/98)
كرُّوا إلى حرَّيتكم تعمرونهما ... كما تكرُّ إلى أوطانها البَقَرُ
فعلى قوله: كرُّوا عامرين. وإن شئت رفعت على الابتداء.
وتقول: مره يحفرها، وقل له يقل ذاك. وقال الَّله عز وجل: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ممَّا رزقناهم ". ولو قلت مره يحفرها على الابتداء كان جيَّداً. وقد جاء رفعه على شىء هو قليلٌ في الكلام، على مره أن يحفرها، فإذا لم يذكروا أن، جعلوا المعنى بمنزلته في عسينا نفعل. وهو في الكلام قليلٌ، لا يكادون يتكلمون به، فإذا تكلموا به فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب، كأنه قال: عسى زيدٌ قائلا، ثم وضع يقول في موضعه. وقد جاء في الشعر، قال طرفة بن العبد:
ألا أبهذا الزاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى ... وأَنْ أَشْهَدَ الَّلذات هل أنت مخلدي(3/99)
وسألته عن قوله عز وجل: " قل أفغير الَّله تأمروني أعبد أيُّها الجاهلون " فقال: تأمرونِّي كقولك: هو يقول ذاك بلغني، فبلغني لغوٌ فكذلك تأمرونِّي، كأنه قال: فيما تأمرونِّي، كأنه. قال فيما بلغني. وإن شئت كان بمنزلة:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى
باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي
لأن فيها معنى الأمر والنهي
فمن تلك الحروف: حسبك، وكفيك، وشرعك، وأشباهها.
تقول: حسبك ينم الناس. ومثل ذلك: " اتقي الَّله امرؤ وفعل خيراً يثب عليه " لأن فيه معنى ليتَّق الَّله امرؤ وليفعل خيراً. وكذلك ما أشبه هذا.
وسألت الخليل عن قوله عز وجل: " فأصَّدق وأكن من الصالحين " فقال: هذا كقول زهير:
بَدا ليَ أنّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا(3/100)
فإنَّما جروا هذا، لأنَّ الأول قد يدخله الباء، فجاءوا بالثاني وكأنَّهم قد أثبتوا في الأول الباء، فكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلموا بالثاني، وكأنهم قد جزموا قبله، فعلى هذا توهموا هذا.
وأما قول عمرو بن عمار الطائي:
فقلتُ له صوِّب ولا تجهدنَّه ... فيُدْنِك من أُخْرَى القطاةِ فتَزْلَقِ
فهذا على النهي كما قال: لا تمددها فتشققها، كأنَّه قال: لا تجهدنه ولا يدنينك من أخرى القطاة ولا تزلقن.
ومثله من النهي: لا يرينَّك ههنا، ولا أرينَّك ههنا.
وسألته عن آتي الأمير لا يقطع الِّصَّ، فقال: الجزاء ها هنا خطأ، لا يكون الجزاء أبداً حتى يكون الكلام الأول غير واجب، إلا أن يضطرَّ شاعرٌ. ولا نعلم هذا جاء في شعر البتَّة.
وسألته عن قوله: أما أنت منطلقاً انطلق معك، فرفع. وهو قول أبي عمرو، وحدثنا به يونس. وذلك لأنه لا يجازي بأن كأنه قال: لأن صرت منطلقاً أنطلق معك.(3/101)
وسألته عن قوله: ما تدوم لي أدوم لك، فقال: ليس في هذا جزاء، من قبل أن الفعل صلةٌ لما؛ فصار بمنزلة الذي، وهو بصلته كالمصدر، ويقع على الحين كأنه قال: أدوم لك دوامك لي. فما، ودمت، بمنزلة الدَّوام. ويدلك على أنَّ الجزاء لا يكون ها هنا أنك لا تستطيع أن تستفهم بما تدوم على هذا الحد.
ومثل ذلك: كلَّما تأتيني آتيك، فالإتيان صلة لما، كأنه قال: كلَّ إتيانك آتيك، وكلَّما تأتيني يقع أيضاً على الحين كما كان ما تأتيني يقع على الحين. ولا يستفهم بما تدوم.
وسألته عن قوله: الذي يأتيني فله درهمان، لم جاز دخول الفاء ها هنا والَّذي يأتيني بمنزلة عبد اللَّه، وأنت لا يجوز لك أن تقول عبد الَّله فله درهما؟ فقال: إنَّما يحسن في الَّذي لأنه جعل الآخر جواباً للأوَّل، وجعل الأول به يجب له الدرهمان، فدخلت الفاء ها هنا، كما دخلت في الجزاء إذا قال: إن يأتني فله درهمان. وإن شاء قال: الذي يأتيني له درهمان، كما تقول: عبد الَّله له درهمان غير أنَّه إنما أدخل الفاء لتكون العطّية مع وقوع الإتيان، فإذا أدخل الفاء فإنما يجعل الإتيان سبب ذلك. فهذا جزاء وإن لم يجزم، لأنَّه صلة.(3/102)
ومثل ذلك قولهم: كل رجل يأتينا فله درهمان. ولو قال: كل رجل فله درهمان كان محالاً، لأنه لم يجيْ بفعل ولا بعمل يكون له جوابٌ.
ومثل ذلك: " الذَّين ينفقون أموالهم بالَّليل والنَّهار سرَّاّ وعلانية فلهم أجرهم عند ربِّهم " وقال تعالى جدُّه: " قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم " ومثل ذلك: " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنَّم ولهم عذاب الحريق.
وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: " حتَّى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها " أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب "، " ولو يرى إذ وقفوا على النَّار " فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبر لأيِّ شيءٍ وضع هذا الكلام.
وزعم أنَّه قد وجد في أشعار العرب ربَّ لا جواب لها. من ذلك قول الشماخ:(3/103)
ودوّيّةٍ قفرٍ تمشِّى نَعامُها ... كمَشْي النَّصارى في خفافِ الأَرنْدَجِ
وهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجيء فيها جوابٌ لربَّ؛ لعلم المخاطب أنه يريد قطعتها، وما فيه هذا المعنى:
باب الأفعال في القسم
اعلم أنَّ القسم توكيدٌ لكلامك. فإذا حلفت على فعلٍ غير منفي لم يقع لزمته اللامُ. ولزمت اللام النونُ الخفيفة أو الثقيلة في آخر الكلمة. وذلك قولك: والَّله لأفعلنَّ.
وزعم الخليل: أن النون تلزم اللام كلزوم اللام في قولك: إن كان لصالحاً، فإن بمنزلة اللام، واللام بمنزلة النون في آخر الكلمة.
واعلم أن من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين، يجري الفعل بعدها مجراه بعد قولك واللَّه، وذلك قولك: أقسم لأفعلنَّ، وأشهد لأفعلنَّ، وأقسمت باللَّه عليك لتفعلنَّ.(3/104)
وإن كان الفعل قد وقع وحلفت عليه لم تزد على اللام؛ وذلك قولك: والَّله لفعلت. وسمعنا من العرب من يقول: والَّله لكذبت، وواللَّه لكذب.
فالنون لا تدخل على فعلٍ قد وقع، إنَّما تدخل على غير الواجب.
وإذا حلفت على فعلٍ منفيٍّ لم تغيِّره عن حاله التي كان عليها قبل أن تحلف، وذلك قولك: والَّله لا أفعل. وقد يجوز لك وهو من كلام العرب أن تحذف لا وأنت تريد معناها، وذلك قولك: والَّله أفعل ذلك أبداً، تريد: والَّله لا أفعل ذلك أبداً. وقل:
فحالِفْ فلا والَّله تَهْبِطُ تَلْعةً ... من الأَرضِ إلا أنتَ للذل عارِفُ
وسألت الخليل عن قولهم: أقسمت عليك إلاَّ فعلت ولما فعلت، لم جاز هذا في هذا الموضع، وإنما أقسمت ها هنا كقولك: والَّله؟ فقال: وجه الكلام(3/105)
لتفعلنَّ، هاهنا ولكنهم إنما أجازوا هذا لأنهم شبهوه بنشدتك الله، إذ كان فيه معنى الطلب. وسألته عن قوله إذا جاءت مبتدأةً ليس قبلها ما يحلف به؟ فقال: إنما جاءت على نيَّة اليمين وإن لم يتكلَّم بالمحلوف به.
واعلم أنَّك إذا أخبرت عن غيرك أنَّه أكَّد على نفسه أو على غيره فالفعل يجري مجراه حيث حلفت أنت؛ وذلك قولك: أقسم ليفعلنَّ، واستحلفه ليفعلن، وحلف ليفعلنَّ ذلك، وأخذ عليه لا يفعل ذلك أبداً. وذاك أنَّه أعطاه من نفسه في هذا الموضع مثل ما أعطيت أنت من نفسك حين حلفت، كأنَّك قلت حين قلت أقسم ليفعلَّن قال واللَّه ليفعلنَّ، وحين قلت استحلفه ليفعلنَّ قال له واللَّه ليفعلنَّ.
ومثل ذلك قوله تعالى جدُّه: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاَّ الَّله ".
وسألته: لِمَ لَم يجز والَّله تفعل يريدون بها معنى ستفعل؟ فقال: من قبل أنَّهم وضعوا تفعل ها هنا محذوفة منها لا، وإنما تجيء في معنى لا أفعل، فكرهوا أن تلتبس إحداهما بالأخرى. فقلت: فلم ألزمت(3/106)
النون آخر الكلمة؟ فقال: لكي لا يشبه قوله إنه ليفعل، لأن الرجل إذا قال هذا فإنما يخبر بفعلٍ واقعٍ فيه الفاعل، كما ألزموا اللام: إن كان ليقول، مخافة أن يلتبس بما كان يقول ذاك، لأن إن تكون بمنزلة ما.
وسألته عن قوله عز وجل: " وإذ أخذ الَّله ميثاق النَّبييِّن لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنَّه " فقال: ما ههنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على إن حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، واللام التي في ما كهذه التي في إن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا.
ومثل هذه هذه اللام الأولى أن إذا قلت: والَّله أن لو فعلت لفعلت. وقال:
فأُقْسِمُ أن لوِ التَقينْا وأنْتُمُ ... لكان لكمْ يومٌ من الشرِّ مُظْلِمُ
فأن في لو بمنزلة اللام في ما، فأوقعت ها هنا لامين: لامٌ للأول ولامٌ للجواب، ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم، فكذلك الامان في قوله عز وجل: " لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءكم رسول مصدَّق لما(3/107)
معكم لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه " لامٌ للأول وأخرى للجواب.
ومثل ذلك " لمن تبعك منهم لأملأنَّ " إنما دخلت اللام على نية اليمين. والَّله أعلم.
وسألته عن قوله عز وجل: " ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون " فقال: هي في معنى ليفعلنَّ، كأنه قال ليظلَّن، كما تقول: والَّله لا فعلت ذاك أبداً، تريد معنى لا أفعل.
وقالوا: لئن زرته ما يقبل منك، وقال: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعلٌ وما يفعل، كما كان لظلُّوا مثل ليظلن، وكما جاءت: " سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " على قوله: أم صمتٌّم فكذلك جاز هذا على ما هو فاعلٌ. قال عز وجل: " ولئن أتيت الذين أوتوا(3/108)
الكتاب بكلِّ آيةٍ مَّا تبعوا قبلتك " أي ما هم تابعين.
وقال: سبحانه: " ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدٍ من بعده " أي ما يمسكهما من أحدٍ.
وأما قوله عز وجل: " وإنَّ كلاً لما ليوفِّينهم ربُّك أعمالهم " فإن إن حرف توكيد، فلها لامٌ كلام اليمين، لذلك أدخلوها كما أدخلوها في: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظ "، ودخلت اللام التي في الفعل على اليمين، كأنَّه قال: إن زيداً لما واللَّه ليفعلنَّ.
وقد يستقيم في الكلام إن زيداً ليضرب وليذهب، ولم يقع ضربٌ. والأكثر على ألسنتهم كما خبَّرتك في اليمين، فمن ثمَّ ألزموا النون في اليمين، لئلا يلتبس بما هو واقعٌ. قال الَّله عز وجل: " إنَّما جعل السَّبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربَّك ليحكم بينهم يوم القيامة ". وقال لبيد:(3/109)
ولقد علمتُ لَتَأْتِيَن منيَّتي ... إنَّ المَنايا لا تَطِيشُ سِهامُهَا
كأنَّه قال: والَّله لتأتين، كما قال: قد علمت لعبد الله خيرٌ منك، وقال: أظنُّ لتسبقنني، وأظنُّ ليقومنَّ، لأنه بمنزلة علمت. وقال عز وجل: " ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه "؛ لأنه موضع ابتداء. ألا ترى أنك لو قلت: بدا لهم أيُّهم أفضل، لحسن كحسنه في علمت، كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضل أم هذا.
هذا باب
الحروف التي لا تقدِّم فيها الأسماء الفعل
فمن تلك الحروف العوامل في الأفعال الناصبة. ألا ترى أنك لا تقول: جئتك كي زيدٌ يقول ذاك، ولا خفت أن زيدٌ يقول ذاك. فلا يجوز أن تفصل بين الفعل والعامل فيه بالاسم، كما لا يجوز أن تفصل بين الاسم وبين إن وأخواتها بفعلٍ.(3/110)
ومما لا تقدَّم فيه الأسماء الفعل الحروف العوامل في الأفعال الجازمة، وتلك: لم، ولما، ولا التي تجزم الفعل في النهيولا التي تجزم في الأمر. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: لم زيدٌ يأتك، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بشيء، كما لم يجز أن تفصل بين الحروف التي تجر وبين الأسماء بالأفعال، لأن الجزم نظير الجر. ولا تجوز أن تفصل بينها وبين الفعل بحشوٍ، كما لا تجوز لك أن تفصل بين الجار والمجرور بحشوٍ، إلا في شعر.
ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب، كراهة أن تشبَّه بما يعمل في الأسماء. ألا ترى أنه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بحشوٍ، كراهية أن يشبهوه بما يعمل في الاسم؛ لأن الاسم ليس كالفعل، وكذلك ما يعمل فيه ليس كما يعمل في الفعل. ألا ترى إلى كثرة ما يعمل في الاسم وقلة هذا.
فهذه الأشياء فيما يجزم أردأ وأقبح منها في نظيرها من الأسماء، وذلك أنك لو قلت: جئتك كي بك يؤخذ زيدٌ لم يجز، وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجر؛ لقلة ما يعمل في الأفعال، وكثرة ما ينسى في الأسماء.(3/111)
واعلم أن حروف الجزاء يقبح أن تتقدم الأسماء فيها قبل الأفعال، وذلك لأنهم شبهوها بما يجزم مما ذكرنا، إلا أن حروف الجزاء قد جاز فيها ذلك في الشعر لأن حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل، ويكون فيها الاستفهام فترفع فيها الأسماء، وتكون بمنزلة الذي، فلما كانت تصرَّف هذا التصُّرف وتفارق الجزم ضارعت ما يجبرُّ من الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة نحو: ضارب عبد الَّله، لأنك إن شئت نونت ونصبت، وإن شئت لم تجاوز الاسم العامل في الآخر، يعني ضاربٍ، فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي واللام في الأمر؛ لأنهن لا يفارقن الجزم.
ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ، نحو قوله:
عاوِدْ هَراةَ وإنْ معمورُها خَرِبَا
فإن جزمت ففي الشعر، لأنه يشبَّه بلم، وإنما جاز في الفصل ولم يشبه لم لأن لم لا يقع بعدها فعل، وإنما جاز هذا في إن لأنها أصل الجزاء(3/112)
ولا تفارقه، فجاز هذا كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا: إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرُّ.
وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعفٌ في الكلام، لأنَّها ليست كإن، فلو جاز في إن وقد جزمت كان أقوى إذ جاز فيها فعل.
وممَّا جاء في الشعر مجزوماً في غير إن قول عدىَّ بن زيد:
فَمتى واغلٌ ينبهم يحيّو ... هـ هو وَتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقِي
وقال كعب بن جعيل:
صَعْدَةٌ نَابِتَةٌ فِي حَائِرٍ ... أَيْنَمَا الريحُ تميَّلها تَمِلْ
ولو كان فعل كان أقوى إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام.
واعلم أن قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنما ارتفع على فعلٍ(3/113)
هذا تفسيره، كما كان ذلك في قولك: إن زيداً رأيته يكن ذلك؛ لأنه لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبنى عليها.
فإن قلت: إن تأتني زيدٌ يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيداً ضربته، وهذا موضع ابتداء ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت: إن تأتني فأنا خيرٌ لك، كان حسناً. وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله:
اللهُ يَشكرُها
ومثل الأوّل قول هشام المرّى:
فَمن نحن نُؤْمِنْه يَبِتْ وهْوَ آمِن ... ومَنْ لا نُجِرْهُ يُمْسِ منّا مفزّعَا
هذا باب
الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل
ولا تغير الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون قبله شيء منها
فمن تلك الحروف قد، لا يفصل بينها وبين الفعل بغيره، وهو جوابٌ لقوله أفعل كما كانت ما فعل جواباً لهل فعل؟ إذا أخبرت أنه لم يقع. ولما(3/114)
يفعل وقد فعل، إنَّما هما لقومٍ ينتظرون شيئاً. فمن ثم أشبهت قد لما، في أنَّها لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف أيضاً سوف يفعل؛ لأنها بمنزلة السين التي في قولك سيفعل. وإنما تدخل هذه السين على الأفعال، وإنَّما هي إثباتٌ لقوله لن يفعل، فأشبهتها في أن لا يفصل بينها وبين الفعل.
ومن تلك الحروف: ربما وقلما وأشباههما، جعلوا ربَّ مع ما بمنزلة كلمة واحدة، وهيئوها ليذكر بعدها الفعل، لأنهم لم يكن لهم سبيلٌ إلى " ربَّ يقول "، ولا إلى " قلَّ يقول "، فألحقوهما ما وأخلصوهما للفعل.
ومثل ذلك: هلا ولولا وألاَّ، ألزموهن لا وجعلوا كلَّ واحدة مع لا بمنزلة حرف واحد، وأخلصوهن للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض.
وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم، قال:
صددن فأطولت الصدودِ وقلَّما ... وِصالٌ على طُول الصدود يَدْومُ
واعلم أنه إذا اجتمع بعد حروف الاستفهام نحو هل وكيف ومن اسمٌ وفعلٌ، كان الفعل بأن يلي حرف الاستفهام أولى؛ لأنها عندهم في الأصل من الحروف التي يذكر بعدها الفعل. وقد بيِّن حالهنَّ فيما مضى.(3/115)
هذا باب
الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء
ويجوز أن يليها بعدها الأفعال
وهي لكن، وإنما، وكأنما، وإذ، ونحو ذلك، لأنَّها حروفٌ لا تعمل شيئاً، فتركت الأسماء بعدها على حالها كأنَّه لم يذكر قبلها شيءٌ، فلم يجاوز ذا بها إذ كانت لا تغيَّر ما دخلت عليه، فيجعلوا الاسم أولى بها من الفعل.
وسألت الخليل عن قول العرب: انتظرني كما آتيك، وارقبني كما ألحقك، فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيِّرت للفعل كما صيِّرت للفعل ربَّما، والمعنى لعلِّى آتيك؛ فمن ثم لم ينصبوا به الفعل، كما لم ينصبوا بربما. قال رؤبة:
لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ
وقال أبو النجم:
قلتُ لِشَيْبانَ ادْنُ مِن لقائهْ ... كما تغدِّى النَاسَ مِن شِوائِه(3/116)
هذا باب نفي الفعل
إذا قال: فعل فإنَّ نفيه لم يفعل. وإذا قال: قد فعل فإن نفيه لمَّا يفعل. وإذا قال: لقد فعل فإنَّ نفيه ما فعل. لأنه كأنَّه قال: والَّله لقد فعل فقال: والله ما فعل. وإذا قال هو يفعل، أي هو في حال فعل، فإنَّ نفيه ما يفعل. وإذا قال هو يفعل ولم يكن الفعل واقعاً فنفيه لا يفعل. وإذا قال لفعلنَّ فنفيه لا يفعل، كأنه قال: والَّله ليفعلنَّ فقلت والَّله لا يفعل. وإذا قال: سوف يفعل فإنَّ نفيه لن يفعل
باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء
يضاف إليها أسماء الدهر. وذلك قولك: هذا يوم يقوم زيدٌ، وآتيك يوم يقول ذاك. وقال الَّله عز وجل: " هذا يوم لا ينطقون " وهذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ". وجاز هذا في الأزمنة واطرد فيها كما جاز للفعل أن يكون صفةً؛ وتوسَّعوا بذلك في الدهر لكثرته في كلامهم، فلم يخرجوا الفعل من هذا كما لم يخرجوا الأسماء من ألف الوصل نحو ابنٍ، وإنما أصله للفعل وتصريفه.
ومما يضاف إلى الفعل أيضاً قولك: ما رأيته منذ كان عندي. ومذ جاءني ومنه أيضاً " آية ".(3/117)
قال الأعشى:
بآيةِ تُقْدمون الخيلَ شُعْثاً ... كأنّ على سَنابِكِها مُدامَا
وقال يزيد بن عمرو بن الصعق:
ألا مَن مبلغٌ عنِّي تميماً ... بآيةِ ما تحبُّون الطعامَا
فما لغوٌ.
ومما يضاف إلى الفعل قوله: لا أفعل بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلمان، ولا أفعل بذي تسلمون، المعنى: لا أفعل بسلامتك، وذو مضافة إلى الفعل كإضافة ما قبله، كأنَّه قال: لا أفعل بذي سلامتك. فذو ههنا الأمر الذي بسلّمك وصاحب سلامتك.(3/118)
ولا يضاف إلى الفعل غير هذا كما أن لدن لا تنصب إلاَّ في غدوة.
واطَّردت الأفعال في آية اطّرد الأسماء في أتقول إذا قلت: أتقول زيداً منطلقاً، شبّهت بتطنّ.
وسألته عن قوله في الأزمنة كان ذاك زمن زيدٌ أمير؟ فقال: لمَّا كانت في معنى إذ أضافوها إلى ما قد عمل بعضه في بعضٍ، كما يدخلون إذ على ما قد عمل بعضه في بعض ولا يغيرونه، فشبَّهوا هذا بذلك. ولا يجوز هذا في الأزمنة حتَّى تكون بمنزلة إذ. فإن قلت: يكون هذا يوم زيدٌ أميرٌ، كان خطأ.
حدثنا بذلك يونس عن العرب؛ لأنَّك لا تقول: يكون هذا إذا زيدٌ أميرٌ.
جملة هذا الباب أنَّ الزمان إذا كان ماضياً أضيف إلى الفعل، وإلى الابتداء والخبر؛ لأنَّه في معنى إذ، فأضيف إلى ما يضاف إليه إذ. وإذا كان لما لم يقع لم يضف إلاَّ إلى الأفعال؛ لأنه في معنى إذا، وإذا هذه لا تضاف ألاَّ إلى الأفعال.
هذا باب إنَّ وأنَّ
أما أنَّ فهي اسم وما عملت فيه صلةٌ لها، كما أن الفعل صلة لأن الخفيفة وتكون أن اسماً. ألا ترى أنك تقول: قد عرفت أنك منطلقٌ، فأنك(3/119)
في موضع اسم منصوبٌ كأنك قلت: قد عرفت ذاك.
وتقول: بلغني أنك منطلقٌ، فأنَّك في موضع اسم مرفوع، كأنك قلت: بلغني ذاك.
فأن الأسماء التي تعمل فيها صلةٌ لها، كما أن أنِ الأفعال التي تعمل فيها صلةٌ لها.
ونظير ذلك في أنه وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد لا في غير ذلك، قولك: رأيت الضارب أباه زيدٌ، فالمفعول فيه لم يغيَّره عن أنه اسمٌ واحد، بمنزلة الرجل والفتى. فهذا في هذا الموضع شبيهٌ بأن، إذ كانت مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، فهذا ليعلم أنَّ الشيء يكون كأنه من الحرف الأول وقد عمل فيه.
وأما إنَّ فإنَّما هي بمنزلة الفعل لا يعمل فيها ما يعمل في أنَّ، كما لا يعمل في الفعل ما يعمل في الأسماء، ولا تكون إن إلا مبتدأة، وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ، وإنك ذاهب.
هذا باب من أبواب أن
تقول: ظننت أنَّه منطلقٌ، فظننت عاملة، كأنّك قلت: ظننت ذاك. وكذلك وددت ذاك.
وتقول: لولا أنَّه منطلقٌ لفعلت، فأنَّ مبنيَّة على لولا كما تبنى عليها الأسماء.(3/120)
وتقول: لو أنه ذاهبٌ لكان خيراً له، فأنَّ مبنيَّة على لو كما كانت مبنيَّة على لولا، كأنك قلت: لو ذاك، ثم جعلت أنَّ وما بعدها في موضعه فهذا تمثيل وإن كانوا لا يبنون على لو غير أن، كما كان تسلم في قولك بذي تسلم في موضع اسم، ولكنَّهم لا يستعملون الاسم لأنّهم مما مستغنون بالشيء عن الشيء حتَّى يكون المستغنى عنه مسقطاً.
وقال الَّله عز وجل: " قل لو أنتم تملكون جزائن رحمة ربِّي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ". وقال:
لو بغيرِ الماء حَلِقي شَرِقٌ(3/121)
وسألته عن قول العرب: ما رأيته مذ أنَّ الَّله خلقني؟ فقال: أنَّ في موضع اسمٍ، كأنه قال: مذ ذاك.
وتقول: أما إنَّه ذاهبٌ، وأما أنه منطلقٌ، وإذا قال: أما إنه منطلقٌ، فسألت الخليل عن ذلك فقال: إذا قال: أما أنه منطلقٌ، فإنه يجعله كقولك: حقاً أنه منطلقٌ، وإذا قال: أما إنه منطلقٌ، فإنه بمنزلة قوله: ألا، كأنَّك قلت: ألا إنَّه ذاهبٌ.
وتقول: قد عرفت أنه ذاهبٌ ثم أنه معجل، ولأن الآخر شريك الأول في عرفت. وتقول قد عرفت أنه ذاهبٌ ثم إني أخبرك أنه معجل، لأنك ابتدأت إني ولم تعجل الكلام على عرفت. أما والَّله ذاهب أنه ذاهبٌ، كأنك قلت: قد علمت والَّله أنه ذاهبٌ. وإذا قلت: أما والَّله إنه ذاهبٌ: كأنك قلت: ألا إنه والَّله ذاهبٌ.
وتقول: رأيته شاباً وإنه يفخر يومئذٍ، كأنك قلت: رأيته شاباً وهذه حاله. تقول هذا بتداء ولم يجعل الكلام على رأيت. وإن شئت حملت الكلام على الفعل ففتحت. قال ساعدة بن جؤيَّة:(3/122)
رأتهْ على شَيْبِ القَذالِ وأنْها ... تُوَاقِعُ بَعْلاً مَّرة وتئيمُ
وزعم أبو الخطَّاب: أنَّه سمع هذا البيت من أهله هكذا.
وسألته عن قوله عز وجل: " وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون "، ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذا في ذا الموضع، إنما قال: وما يشعركم، ثم ابتدأ فأوجب فقال: إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون. ولو قال: وما يشعركم أنَّها إذا جاءت لا يؤمنون، كان ذلك عذراً لهم.
وأهل المدينة يقولون " أنها ". فقال الخليل: هي بمنزلة قول العرب: ائت السُّوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي لعلَّك، فكأنه قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.
وتقول: إنَّ لك هذا علي وأنَّك لا تؤذي، كأنك قلت: وإن لك أنَّك لا تؤذي. وإن شئت ابتدأت ولم تحمل الكلام على إنَّ لك. وقد قرئ هذا الحرف على وجهين، قال بعضهم: " وأنك لا تظمأ فيها ". وقال بعضهم: " وأنّك ".(3/123)
واعلم أنه ليسس يحسن لأنَّ أن تلي إنَّ ولا أن كما قبح ابتداؤك الثقيلة المفتوحة وحسن ابتداؤك الخفيفة؛ لأن الخفيفة لا تزول عن الأسماء، والثقيلة تزول فتبدأه. ومعناها مكسورة ومفتوحة سواء. واعلم أنه ليس يحسن أن تلي إن أنَّ ولا أنَّ إن. ألا ترى أنك لا تقول إن أنك ذاهبٌ في الكتاب، ولا تقول قد عرفت أ، إنِّك منطلقٌ في الكتاب. وإنما قبح هذا ههنا كما قبح في الابتداء، ألا ترى أنه يقبح أن تقول أن تقول أنك منطلقٌ بلغني أو عرفت، لأنَّ الكلام بعد أن وإن غير مستغنٍ كما أن المبتدأ غير مستغن. وإنما كرهوا ابتداء أن لئَّلا يشبِّهوها بالأسماء التي تعمل فيها إنَّ، ولئلا يشِّبهوها بأن الخفيفة، لأنَّ أن والفعل بمنزلة مصدر فعله الذي ينصبه، والمصادر تعمل فيها إن وأنَّ.
ويقول الرجل للرجل: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لم أنه ظريفٌ، كأنه قال: قلت لمه قلت لأن ذاك كذلك.
وتقول إذا أردت أن تخبر ما يعني المتكلم: أي إني تجد إذا ابتدأت كما تبتدىء أي أنا نجدٌ. وإن شئت قلت أي أنِّى نجدٌ، كأنك قلت: أي لأني نجدٌ.(3/124)
هذا باب آخر من أبواب أنَّ
تقول: ذلك وأن لك عندي ما أحببت، وقال الَّله عز وجل: " ذلكم وأن الَّله موهن كيد الكافرين " وقال: " ذلكم فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النار "؛ وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه، كأنه قال: الأمر ذلك وأن الَّله. ولو جاءت مبتدأةً لجازت، يدلك على ذلك قوله عزَّ وجل: " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمَّ بغي عليه لينصرنه الَّله. فمن ليس محمولاً على ما حمل عليه ذلك فكذلك يجوز أن يكون إن منقطعةً من ذلك قال الأحوص:
عَوّدتُ قومي إذا ما لضيَّف نبَّهي ... عَقْرَ العِشارِ على عُسْرِي وإيساري
إنَّي إذا خَفِيَتْ نارٌ لمرملةٍ ... أُلْفَي بأَرْفعِ تلٍّ رافعاً ناري(3/125)
ذاك وإنَّي على جاري لذو حدبٍ ... أَحْنو عليه بما يُحْنَى على الجارِ
فهذا لا يكون إلا مستأنفاً غير محمول على ما حمل عليه ذاك. فهذا أيضاً يقوي ابتداء إن في الأول.
هذا باب آخر من أبواب أن
تقول: جئتك أنك تريد المعروف، إنَّما أراد: جئتك لأنك تريد المعروف، ولكنك حذفت اللام ههنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت:
وأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكريمِ أّدِخاره ... وأُعْرِضُ عن ذَنْب الَّلئيم تكرُّمَا
أي: لادخاره.
وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربُّكم فاتقون "، فقال: إنَّما هو على حذف(3/126)
اللام، كأنه قال: ولأن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون.
وقال: ونظيرها: " لإيلاف قريشٍ " لأنه إنما هو: لذلك " فليعبدوا ".
فإن حذفت اللام من أن فهو نصبٌ، كما أنَّك لو حذفت اللام من لإيلاف كان نصباً. هذا قول الخليل. ولو قرؤها: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " كان جيداً، وقد قرىء.
ولو قلت: جئتك إنَّك تحب المعروف، مبتدأ كان جيداً.
وقال سبحانه وتعالى: " فدعا ربه أنِّي مغلوبٌ فانتصر ". وقال: " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أنَّي لكم نذير مبين "، إنما أراد بأنِّي مغلوبٌ، وبأنيِّ لكم نذيرٌ مبين، ولكنه حذف الباء. وقال أيضاً: " وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الَّله أحدا " بمنزلة: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة "، والمعنى: ولأن هذه أمتكم فاتقون، ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الَّله أحداً.
وأما المفِّسرون فقالوا: على أوحي، كما كان " وأنه لما قام عبد الله يدعوه " على أوحي. ولو قرئت: وإن المساجد لله كان حسناً.(3/127)
واعلم أن هذا البيت ينشد على وجهين على إرادة اللام، وعلى الابتداء. قال الفرزدق.
منعتٌ تميماً منك أنِّى أنا ابنُها ... وشاعرُها المعروفُ عند المَواسِمِ
وسمعنا من العرب من يقول: إنِّي أنا ابنها.
وتقول: لبيك إن الحمد والنعمة لك، وإن شئت قلت أن. ولو قال إنسان: إن " أنَّ في موضع جرٍّ في هذه الأشياء، ولكنه حرفٌ كثر استعماله في كلامهم، فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا رب في قولهم:
وبلدٍ تَحْسَبُه مَكْسُوحاً
لكان قولاً قوياً. وله نظائر نحو قوله: لاه أبوك والأول قول الخليل. ويقوي ذلك قوله: " وأن المساجد لله "؛ لأنهم لا يقدِّمون أنّ(3/128)
ويبتدئونها ويعملون فيها ما بعدها. إلا أنه يحتجُّ الخليل بأن المعنى معنى اللام. فإذا كان الفعل أو غيره موصلاً إليه باللام جاز تقديمه وتأخيره، لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى، فاحتملوا هذا المعنى كما قال: حسبك ينم الناس؛ إذ كان فيه معنى الأمر. وسترى مثله، ومنه ما قد مضى.
هذا باب إنَّما وأنَّما
اعلم أنَّ كلِّ موضع تقع فيه أنَّ تقع فيه أنَّما، وما ابتدىء بعدها صلةُ لها كما أنّ الذي ابتدىْ بعد الذي صلة له. ولا تكون هي عاملةً فيما بعدها كما لا يكون الذي عاملاً فيما بعده.
فمن ذلك قوله عز وجل: " قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحدٌ ". وقال الشاعر، ابن الإطنابة:
أبلغ الحارث بن ظالم المو ... عد والناذِرَ النُّذور عليَّا
أنَّما تقتل النِّيام ولا تقت ... ل يقظان ذا سلاحٍ كميَّا(3/129)
فإنما وقعت أنما ههنا لأنك لو قلت: أن إلهكم إلهٌ واحدٌ، وأنك تقتل النيام كان حسناً. وإن شئت قلت: إنَّما تقتل النيام، على الابتداء. زعم ذلك الخليل.
فأما إنَّما فلا تكون اسماً، وإنما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل ملغى، مثل: أشهد لزيد خير منك، لأنَّها تعمل فيما بعدها ولا تكون إلاَّ مبتدأة بمنزلة إذا، لا تعمل في شيء.
واعلم أن الموضع الذي لا يجوز فيه أنَّ لا تكون فيه إنَّما إلاَّ مبتدأة وذلك قولك: وجدتك إنما أنت صاحب كل خنىً لم يجز ذلك، لأنَّك إذا قلت أرى أنه منطلقٌ فإنما وقع الرأي على شيء لا يكون الكاف التي في وجدتك ونحوها من الأسماء(3/130)
فمن ثم لم يجز لأنك لو قلت وجدتك أنك صاحب كل خنى رأيتك أنك منطلقٌ، فإنما أدخلت إنَّما على كلامٍ مبتدإ؛ كأنك قلت: وجدتك أنت صاحب كلِّ خىً، ثم أدخلت إنما على هذا الكلام، فصار كقولك: إنَّما أنت صاحب كل خنىً، لأنَّك أدخلتها على كلام قد عمل بعضه في بعض. ولم تضع إنَّما في موضع ذاك إذا قلت وجدتك ذاك، لأن ذاك هو الأول، وأنَّما وأنَّ إنما يصيِّران الكلام شأناً وحديثاً، فلا يكون الخبر ولا الحديث الرجل ولا زيداً، ولا أشباه ذلك من الأسماء. وقال كثيَّر.
أراني ولا كُفْرَانَ لَّله إنَّما ... أواخي مِن الأقوامِ كلَّ بخيلٍ
لأنه لو قال: " أنَّى " ههنا كان غير جائز لما ذكرنا، فإنَّما ههنا بمنزلتها في قولك: زيدٌ إنما يواخي كلَّ بخيل. وهو كلام مبتدأ، وإنَّما فى موضع خبره، كما أنك إذا قلت: كان زيدٌ أبوه منطلقٌ. فهو مبتدأ وهو في موضع خبره.
وتقول: وجدت خبره أنَّما يجالس أهل الخبث؛ لأنك تقول: أرى أمره أنَّه يجالس أهل الخبث، فحسنت أنَّه ها هنا لأنّ الآخر هو الأوّل.(3/131)
بابٌ تكون فيه أنَّ بدلا من شيءٍ
هو الأول
وذلك قولك: بلغتني قصَّتك أنك فاعلٌ، وقد بلغني الحديثُ أنَّهم منطلقون، وكذلك القصة وما أشبهها.
هذا بابٌ تكون فيه أنَّ بدلا
من شيءٍ ليس بالآخر
من ذلك: " وإذ يعدكم الَّله إحدى الطائفتين أنَّها لكم "، فأنَّ مبدلة من إحدى الطَّائفتين، موضوعةٌ في مكانها، كأنك قلت: وإذ يعدكم الَّله إن، ّ إحدى الطائفتين لكم، كما أنَّك إذا قلت: رأيت متاعك بعضه فوق بعض، فقد أبدلت الآخر من الأول، وكأنَّك قلت: رأيت بعض متاعك فوق بعض، كما جاء الأول على معنى وإذ يعدكم الَّله أن إحدى الطائفتين لكم.
ومن ذلك قوله عز وجل: " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنَّهم إليهم لا يرجعون ". فالمعنى والَّله أعلم: ألم يروا أنَّ القرون الذين أهلكناهم إليهم لا يرجعون.
ومما جاء مبدلاً من هذا الباب: " أيعدكم أنَّكم إذا متُّم وكنتم ترابا وعظاما أنَّكم مخرجون "، فكأنه على: أيعدكم أنَّكم مخرجون(3/132)
إذا متم، وذلك أريد بها، ولكنه إنما قدمت أنَّ الأولى ليعلم بعد أي شيءٍ الإخراج.
ومثل ذلك قولهم: زعم أنه إذا أتاك أنَّه سيفعل، وقد علمت أنه إذا فعل أنّه سيمضي.
ولا يستقيم أن تبتدىء إنَّ ها هنا كما تبتدىء الأسماء أو الفعل، إذا قلت: قد علمت زيداً أبوه خيرٌ منك، وقد رأيت زيداً يقول أبوه ذاك، لأن إنَّ لا تبتدأ في كل موضع، وهذا من تلك المواضع.
وزعم الخليل: أ، ّ مثل ذلك قوله تبارك وتعالى: " ألم يعلموا أنَّه من يحادد اللَّه ورسوله فأن له نار جهنم ". ولو قال: " فإن " كانت عربيه جيدة.
وسمعناهم يقولون في قول ابن مقبلٍ:(3/133)
وعِلْمِي بأسْدامِ المِياهِ فلم تَزَلْ ... قَلائصُ تَخْدِى في طريقٍ طَلائحُ
وأنَّى إذا ملَّت رِكابي مُناخَها ... فإنِّي على حظَّي من الأمر جامحُ
وإن جاء في الشعر قد علمت أنك إذا فعلت إنَّك سوف تغتبط به، تريد معنى الفاء جاز. والوجه والحد ما قلت لك أول مرةٍ.
وبلغنا أن الأعرج قرأ: " أنَّه من عمل منكم سوأ بجهالةٍ ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفورٌ رحيم ". ونظيره ذا البيت الذي أنشدتك.
هذا باب من أبواب أن
تكون أن فيه مبنية على ما قبلها
وذلك قولك: أحقاً أنَّك ذاهبٌ، وآلحقَّ أنَّك ذاهبٌ، وكذلك(3/134)
إن أخبرت فقلت: حقا " ً أنَّك ذاهبٌ. والحق أنك ذاهبٌ وكذلك أأكبر ظنَّك أنك ذاهبٌ، وأجهد رأيك أنَّك ذاهبٌ. وكذلك هما في الخبر.
وسألت الخليل فقلت: ما منعهم أن يقولوا: أحقاً إنَّك ذاهبٌ على القلب، كأنَّك قلت: إنَّك ذاهبٌ حقاً، وإنَّك ذاهب الحقَّ، وأنَّك منطلقٌ حقاً؟ فقال: ليس هذا من مواضع إنَّ؛ لأن إنَّ لا يبتدأ بها في كل موضع. ولو جاز هذا لجاز يوم الجمعة، إنك ذاهبٌ، تريد إنك ذاهبٌ يوم الجمعة ولقلت أيضاً لا محالة إنك ذاهبٌ، تريد إنك لا محالة ذاهبٌ، فلما لم يجز ذلك حملوه على: أفي حق أنَّك ذاهبٌ، وعلى: أفي أكبر ظنَّك أنَّك ذاهبٌ، وصارت أنَّ مبنيةً عليه، كما يبنى الرحيل على غدٍ إذا قلت: غداً الرحيل. والدليل على ذلك إنشاد العرب هذا البيت كما أخبرتك.
زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر:
أَحَقَّا بنيِ أبناءِ سَلْمَى بنِ جندلٍ ... تهدُّدكم إيَّاي وَسْطَ المجالس(3/135)
فزعم الخليل: أنَّ التهدّدها هنا بمنزلة الرحيل بعد غدٍ، وأنَّ أن بمنزلته، وموضعه كموضعه.
ونظير: أحقاً أنَّك ذاهبٌ من أشعار العرب قول العبدي:
أحَقَّا أنَّ جيرتَنا استَقّلوا ... فنيَّتنا ونيَّتهم فَريِقُ
قال: فريق، كما تقول للجماعة: هم صديق. وقال الَّله تعالى جدَّه: " عن اليمين وعن الشَّمال قعيد ". وقال عمر بن أبي ربيعة:
أألحقَّ أنْ دارُ الرَّباب تبَاعدتْ ... أوِ أنبتَّ حَبْلٌ أنَّ قلبكَ طائر(3/136)
وقال النابغة الجعدي
أَلا أبلغْ بني خلفٍ رسولاً ... أَحقّاً أنّ أَخْطَلَكم هَجانِي
فكلُّ هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا.
والرفع في جميع ذا حيّد قوي، وذلك أنَّك إن شئت قلت: أحقُّ أنَّك ذاهبٌ، وأأكبر ظنَّك أنك ذاهبٌ، تجعل الآخر هو الأول.
وأما قولهم: لا محالة أنَّك ذاهبٌ، فإنما حملوا أن على أنَّ فيه إضمار من، على قوله: لا محالة من أنَّك ذاهبٌ كما تقول لا بد أنك ذاهبٌ كأنك قلت لا بد من أنك ذاهبٌ حين لم يجز أن يحملوا الكلام على القلب.
وسألته عن قولهم: أما حقاً فإنك ذاهبٌ، فقال: هذا جيد، وهذا الموضع من مواضع إنَّ. ألا ترى أنَّك تقول: أما يوم الجمعة فإنَّك ذاهبٌ وأما فيها فإنَّك داخلٌ. فإنما جاز هذا في أماَّ لأنَّ فيها معنى يوم الجمعة مهما يكن من شيء فإنَّك ذاهبٌ.(3/137)
وأما قوله عز وجل: " لا جرم أنَّ لهم النار " فأنَّ جرم عملت فيها لأنَّها فعلٌ، ومعناها: لقد حقَّ أن لهم النار. ولقد استحق أن لهم النار وقول المفسَّرين: معناها: حقاً أنَّ لهم النار، يدلُّك أنَّها بمنزلة هذا الفعل إذا مثَّلت، فجرم بعد عملت في أنَّ عملها في قول الفزاري:
ولقد طَعنتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمتْ فزارةَ بعدها أنْ يَغْضَبُوا
أي: أحقت فزارة.
وزعم الخليل: أنَّ لا جرم إنَّما تكون جواباً لما قبلها من الكلام، يقول الرجل كان كذا وكذا، وفعلوا كذا وكذا فتقول: لا جرم أنَّهم سيندمون أو أنَّه سيكون كذا وكذا.(3/138)
وتقول: أمّا جهذ رأيي فأنَّك ذاهبٌ؛ لأنَّك لم تصطَّرَّ إلى أن تجعله ظرفاً كما اضطررت في الأول. وهذا من مواضع إنَّ، لأنَّك تقول: أما في رأيي فإنَّك ذاهب، أي فأنت ذاهب، وإن شئت قلت فأنَّك. وهو ضعيف؛ لأنَّك إذا قلت: أما جهد رأيي فإنك عالمٌ لم تضطر إلى أن تجعل الجهد ظرفاً للقصة، لأنَّ ابتداء إنَّ يحسن ها هنا.
وتقول: أما في الدار فإنك قائمُ، لا يجوز فيه إلاَّ إنَّ، تجعل الكلام قصةً وحديثاً، ولم ترد أن تخبر أن في الدار حديثه، ولكنَّك أردت أن تقول: أما في الدار فأنت قائمٌ فمن ثم لم يعمل في أي شيء أردت أن تقول. أما في الدار فحديثك وخبرك قلت: أما في الدار فأنك منطلقٌ، أي هذه القصَّة.
ويقول الرجل: ما اليوم؟ فتقول: اليوم أنَّك مرتحلٌ، كأنَّه قال: في اليوم رحلتك. وعلى هذا الحد تقول: أما اليوم فأنَّك مرتحلٌ.
وأما قولهم: أما بعد فإنّ الَّله قال في كتابة، فإنه منزلة قولك: أما اليوم فإنَّك، ولا تكون بعد أبداً مبنياً عليها إذا لم تكن مضافةً ولا مبنية على شيء، إنَّما تكون لغوا.
وسألته عن شدَّ ما أنَّك ذاهٌب، وعزَّ ما أنَّك ذاهبٌ، فقال: هذا بمنزلة حقاً أنك ذاهٌب، كما تقول: أما أنك ذاهبٌ، بمنزلة حقاً أنَّك ذاهبٌ. ولو بمنزلة لولا، ولا تبتدأ بعدها الأسماء سوى أنَّ، نحو لو أنك ذاهبٌ. ولولا تبتدأ(3/139)
بعدها الأسماء، ولو بمنزلة لولا، وإن لم يجز فيها ما يجوز فيما يشبهها. تقول: لو أنه ذهب لفعلت. وقال عز وجل: " لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربيّ ". وإن شئت جعلت شدَّما وعزَّما كنعم ما، كأنك قلت: نعم العمل أنك تقول الحقَّ.
وسألته عن قوله: كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الَّله عنه، وهذا حقُّ كما أنّك ها هنا، فزعم أن العاملة في أنَّ الكاف وما لغو، إلا أن ما لا تحذف من ها هنا كراهية أن يجيء لفظها مثل لفظ كأنَّ، كما ألزموا النون لأفعلنَّ، واللام قولهم إن كان ليفعل، كراهية أن يلتبس اللفظان.
ويدلّلك على أن الكاف هي العاملة قولهم: هذا حقُّ مثل ما أنّك ها هنا. وبعض العرب يرفع فيما حدَّثنا يونس، وزعم أنه يقول أيضاً: " إنَّه لحقُّ مثل ما أنَّكم تنطقون "، فلولا أنَّ ما لغوٌ لم يرتفع مثل، وإن نصبت مثل فما أيضاً لغوٌ، لأنَّك تقول: مثل أنك ها هنا. وإن جاءت ما مسقطةً من الكاف في الشعر جاز، كما قال النابغة الجعدي:(3/140)
قرومٍ تَسامَى عند بابٍ دفِاعُهُ ... كَأنْ يُؤْخّذُ المرء الكريم فيقتلا
فما لا تحذف ها هنا كما لا تحذف في الكلام من أنَّ، ولكنه جاز في الشعر، كما حذفت ماالتي في إما كقوله:
وإن من خريف فلن يعدما(3/141)
هذا بابٌ من أبواب إنَّ
تقول: قال عمرو إن زيداًُ خيرٌ منك، وذلك لأنك أردت أن تحكي قوله، ولا يجوز أن تعمل قال في إنَّ كما لا يجوز لك أن تعملها في زيد وأشباهه إذا قلت: قال زيدٌ عمروٌ خير الناس، فأنَّ لا تعمل فيها قال كما لا تعمل قال فيما تعمل فيه أنَّ؛ لأن أنَّ تجعل الكلام شأنا، وأنت لا تقول قال الشأن متفاقماً، كما تقول: زعم الشأن متفاقماً. فهذه الأشياء بعد قال حكايةٌ.
ومثل ذلك: " وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " وقال أيضا: " قال الَّله إني منزَّلها عليكم ". وكذلك جميع ما جاء من ذا في القرآن.
وسألت يونس عن قوله: متى تقول أنه منطلقٌ؟ فقال: إذا لم ترد الحكاية وجعلت تقول مثل تظنُّ، قلت: متى تقول أنَّك ذاهبٌ. وإن أردت الحكاية قلت: متى تقول إنك ذاهبٌ. كما أنَّه يجوز لك أن تحكي فتقول: متى تقول زيدٌ منطلقٌ، وتقول: قال عمروٌ إنه منطلقٌ. فإن جعلت الهاء عمراً أو غيره فلا تعمل قال، كما لا تعمل إذا قلت قال عمروٌ هو منطلقٌ. فقال: لم تعمل ها هنا شيئاً وإن كانت الهاء هي القائل،(3/142)
كما لا تعمل شيئاً إذا قلت قال وأظهرت هو. فقال لا تغّيَّر الكلام عن حاله قبل أن تكون فيه قال، فيما ذكرناه.
وكان عيسى يقرأ هذا الحرف: " فدعا ربَّه أني مغلوبٌ فانتصر أراد أن يحكي، كما قال عز وجل: " والذَّين اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم " كأنه قال والَّله أعلم: قالوا ما نعبدهم. ويزعمون أنَّها في قراءة ابن مسعود كذا. ومثل ذلك كثيرٌ في القرآن.
وتقول: أول ما أقول أني أحمد الَّله، كأنك قلت: أول ما أقول الحمد لَّله، وأنَّ في موضعه. وإن أردت الحكاية قلت: أول ما أقول إني أحمد الله.
هذا بابٌ آخر من أبواب إن
وذلك قولك: قد قاله القوم حتى إنَّ زيدا يقوله، وانطلق القوم حتى إن زيداً لمنطلق. فحتَّى ها هنا معلَّقة لا تعمل شيئاً في إنَّّ، كما لا تعمل إذا قلت: حتى زيدٌ ذاهبٌ، فهذا موضع ابتداء وحتَّى بمنزلة إذا. ولو أردت أن تقول حتّى أن تقول حتى أن في ذا الموضع كنت محيلا، لأنَّ أنَّ وصلتها بمنزلة(3/143)
الانطلاق، ولو قلت: انطلق القوم حتى الانطلاق أو حتى الخبر كان محالا لأنَّ أنَّ تصيَّر الكلام خبراً، فلما لم يجز ذا حمل على الابتداء.
وكذلك إذا قلت: مررت فإذا إنه يقول أنَّ زيدا خير منك.
وسمعت رجلا من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به:
وكنتُ أَرْىَ زيداً كما قيل سَيْدّاً ... إذا إنّه عبدُ القَفَا والَّلهازم
فحال إذا هاهنا كما لهل إذا قلت: إذا هو عبد القفا واللازم وإنما جاءت إن ها هنا لأنَّك هذا المعنى أردت، كما أردت في حتَّى معنى حتى هو منطلقٌ.
ولو قلت: مررت فإذا أنه عبدٌ، تريد مررت به فإذا أمره العبوديّة واللؤم، كأنَّك قلت: مررت فإذا العبودية واللؤم، ثم وضعت أنَّ في هذا الموضع جاز.
وتقول: قد عرفت أمورك حتَّى أنك أحمق، كأنك قلت عرفت أمورك حتى حمقك، ثم وضعت أنَّ في هذا الموضع. هذا قول الخليل.(3/144)
وسألته هل يجوز: كما أنك ههنا على حد قوله: كما أنت هاهنا، فقال: لا؛ لأن إنَّ لا يبتدأ بها في كل موضع، ألا ترى أنك لا تقول: يوم الجمعة إنك ذاهبٌ، ولا كيف إنك صانعٌ. فكما بتلك المنزلة.
هذا بابٌ آخر من أبواب إنِّ
تقول: ما قدم علينا أميرٌ إِّلا إنه مكرمٌ لي؛ لأنَّه ليس ههنا شيءٌ يعمل في إنَّ. ولا يجوز أن تكون عليه أنَّ، وإنَّما تريد أن تقول: ما قدم علينا أميرٌ إَّلا هو مكرمٌ لي، فكما لا تعمل في ذا لا تعمل في إنّ.
ودخول اللام ههنا يدلّك على أنه موضع ابتداء. وقال سبحانه: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إَّلا إنَّهم ليأكلون الطَّعام ". ومثل ذلك قول كثير:
ما أعْطَياني ولا سأَلتُهما ... إلاّ وإنِّي لَحاجزِيِ كَرَمِي(3/145)
وكذلك لو قال: إَّلا وإنِّي حاجزي كرمي.
وتقول: ما غضبت عليك إلا أنك فاسقٌ، كأنك قلت: إلا لأنَّك فاسقٌ.
وأما قوله عز وجل: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إَّلا أنهم كفروا بالله "، فإنما حمله على منعهم.
وتقول إذا أردت معنى اليمين: أعطيته ما إنَّ شرَّه خيرٌ من جيِّد ما معك، وهؤلاء الذين إَّن أجنبهم لأشجع من شجعائكم. وقال الله عز وجل: " وآتيناه من الكنوز ما إَّن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوَّة؛ فإن صلةٌ لما، كأنك قلت: ما والله إن شرَّه خير من جيد ما معك.
هذا باب آخر من أبواب إَّن
تقول: أشهد إنه لمنطلقٌ، فأشهد بمنزلة قوله: والله إنه لذاهب. وإَّن غير عاملة فيها أشهد، لأن هذه اللام لا تلحق أبداً إلا في الابتداء. ألا ترى أنك تقول: أشهد لعبد الله خيرٌ من زيد، كأنك قلت: والله لعبد الله خيرٌ من زيد، فصارت إنَّ مبتدأة حين ذكرت اللام هنا، كما كان عبد الله مبتدأ حين أدخلت فيه اللام. فإذا ذكرت اللام ههنا لم تكن إلا مكسورةً، كما أن(3/146)
عبد الله لا يجوز هنا إَّلا مبتدأ. ولو جاز أن تقول: أشهد أنك لذاهبٌ، لقلت أشهد بلذاك. فهذه اللام لا تكون إلاَّ في الابتداء، وتكون أشهد بمنزلة والله.
ونظير ذلك قول الله عز وجلَّ: " والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون " وقال عز وجلَّ: " فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الصَّادقين "؛ لأن هذا توكيدُ كأنه قال: يحلف بالله إنه لمن الصادقين.
.وقال الخليل: أشهد بأنك لذاهبُ غير جائز، من قبل أنَّ حروف الجر لا تعَّلق. وقال: أقول أشهد إنه لذاهبٌ وإنه لمنطلقٌ، أتبع آخره أوله. وإن قلت: أشهد أنه ذاهبُ، وإنه لمنطلقُ،. لم يجز إلاَّ الكسر في الثاني، لأن اللام لا تدخل أبداً على أنَّ، وأن محمولةُ على ما قبلها ولا تكون إلا مبتدأة باللام.
ومن ذلك أيضاً قولك: قد علمت إنه لخيرٌ منك. فإنَّ ههنا مبتدأةُ وعلمت ههنا بمنزلتها في قولك: لقد علمت أيهم أفضل، معلقةَّ في الموضعين جميعا.(3/147)
وهذه اللام تصرف إنَّ إلى لابتداء، كما تصرف عبد الله إلى الابتداء إذا قلت قد علمت لعبد الله خيرُ منك، فعبد الله هنا بمنزلة إنَّ في أنه يصرف إلى الابتداء.
ولو قلت: قد علمت أنه لخيرُ منك، لقلت: قد علمت لزيداً خيراً منك، ورأيت لعبد الله هو الكريم، فهذه اللام لا تكون مع أنَّ ولا عبد الله إلاَّ وهما مبتدءان.
ونظير ذلك قوله عز وجل: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ "، فهو ههنا مبتدأ.
ونظير إنَّ مكسورةً إذا لحقتها اللام قوله تعالى: " ولقد علمت الجنةَّ إنَّهم لمحضرون " وقال أيضاً: " هل ندلكم على رجلٍ ينبئِّكم إذا مزقتم كلَّ ممزَّقٍ إنَّكم لفي خلق جديد "، فإنكم ههنا بمنزلة أيهم إذا قلت: ينبئهم أيهم أفضل.
وقال الخليل مثله: إنَّ الله يعلم ما تدعون من دونه من شيءٍ فما ههنا بمنزلة أيهم، ويعلم معلقة.(3/148)
قال الشاعر:
ألم تر إنّيِ وابنَ أَسْوَدَ ليلةً ... لَنَسْرِي إلى نارينِ يَعلْو سَناهُمَا
سمعناه ممن ينشده من العرب.
وسألت الخليل عن قوله: أحقاً إنَّك لذاهبٌ، فقال: لا يجوز، كما لا يجوز: يوم الجمعة إنه لذاهبٌ.
وزعم الخليل ويونس أنه لا تلحق هذه اللام مع كل فعل. ألا ترى أنك لا تقول: وعدتك إنك لخارجٌ، إنما يجوز هذا في العلم والظن ونحوه، كما يبتدأ بعدهن أيهم. فإن لم تذكر اللام قلت: قد علمت أنه منطلقٌ، لا تبتدئه وتحمله على الفعل، لأنه لم يجيء ما يضطرك إلى الابتداء، وإنما ابتدأت إنَّ حين كان غير جائز أن تحمله على الفعل، فإذا حسن أن تحمله على الفعل لم تخطَّ الفعل إلى غيره.
ونظير ذلك قوله: إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشرٌّ، حملته على الفعل حين لم يجز أن تبتدىء بعد إن الأسماء، وكما قال: أما أنت منطلقاً(3/149)
انطلقت معك، حين لم يجز إن تبتدىء الكلام بعد أمَّا، فاضطررت في هذا الموضع إلى أن تحمل الكلام على الفعل. فإذا قلت: إن زيداً منطلقٌ لم يكن في إنَّ إلا الكسر لأنَّك لم تضطر إلى شيء. ولذلك تقول: أشهد أنك ذاهبٌ، إذا لم تذكر اللام. وهذا نظير هذا.
وهذه كلمةٌ تكلم بها العرب في حال اليمين، وليس كلُّ العرب تتكلم بها، تقول: لهنَّك لرجل صدق، فهي إنَّ ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف كقوله: هرقت، ولحقت هذه اللام إنَّ كما لحقت ما حين قلت: إن زيدا لما لينطلقنَّ، فلحقت إنَّ اللام في اليمين كما لحقت ما فاللام الأولى في لهنك لام اليمين، والثانية لام إنَّ. وفي لما لينطلقنَّ اللام الأولى لإن، والثانية لليمين. والدليل على ذلك النون التي معها كما أنَّ اللام الثانية في قولك: إن زيدا لما ليفعلنَّ لام اليمن، وقد يجوز في الشعر: أشهد إن زيدا ذاهبٌ، يشبهها بقوله: واّلله إنه ذاهبٌ؛ لأن معناها معنى اليمين، كما أنه(3/150)
لو قال: أشهد أنت ذاهبٌ ولم يذكر اللام إلاَّ ابتداء، وهو قبيح ضعيف إلا باللام.
ومثل ذلك في الضعف: علمت إنَّ زيدا ذاهبٌ، كما أنَّه ضعيف: قد علمت عمروٌ خيرٌ منك، ولكنَّه على إرادة اللام، كما قال عز وجل: " قد أفلح من زكَّاها "، وهو على اليمين. وكان في هذا حسناً حين طال الكلام.
وسألت الخليل عن كأنَّ، فزعم أنهَّا إنَّ، لحقتها الكاف للتشبيه، ولكنهَّا صارت مع إنَّ بمنزلة كلمة واحدة، وهي نحو كأيٍّ رجلاً، ونحو له كذا وكذا درهماً.
وأما قول العرب في الجواب إنَّه، فهو بمنزلة أجل. وإذا وصلت قلت إنَّ يا فتى، وهي التي بمنزلة أجل.
قال الشاعر:
بكر العواذل في الصَّبو ... ح يلمنني وألومهنهَّ
ويلقن شيبٌ قد علا ... ك وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّه
؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هذا باب أن وإن
فإن مفتوحةً تكون على وجوه:(3/151)
فأحدها أن تكون فيه أن وما تعمل فيه من الأفعال بمنزلة مصادرها، والآخر: أن تكون فيه بمنزلة أي. ووجهٌ آخر تكون فيه لغواً. ووجهٌ آخر هي فيه مخففةَ من الثقيلة. فأما الوجه الذي تكون فيه لغواً فنحو قولك: لمَّا أن جاءوا ذهبت، وأما والله أن لو فعلت لأكرمتك.
وأما إن فتكون للمجازاة، وتكون أن يبتدأ ما بعدها في معنى اليمين، وفي اليمين، كما قال الله عز وجل: " إن كل نفسٍ لما عليها حافظٌ " " وإن كل لما جميع لدينا محضرون ".
وحدثني من لا أتهم، عن رجل من أهل المدينة موثوق به، أنه سمع عربياً يتكلم بمثل قولك: إن زيدٌ لذاهبٌ، وهي التي في قوله جل ذكره: " وإن كانوا ليقولون. لو أنَّ عندنا ذكرا من الأوَّلين " وهذه إنَّ محذوفةٌ.
وتكون في معنى ما. قال الله عز وجل: " إن الكافرون إلاَّ في غرورٍ "، أي: ما الكافرون إلا في غرور.(3/152)
وتصرف الكلام إلى الابتداء، كما صرفتها ما إلى الابتداء في قولك: إنمَّا، وذلك قولك: ما إن زيدٌ ذاهبٌ. وقال فروة بن مسيك:
وما إنْ طِبُّنا جبنٌ ولكنْ ... منَايانا ودَوْلةٌ آخريِنَا
هذا بابٌ من أبواب أن
التي تكون والفعل بمنزلة مصدر
تقول: أن تأتيني خيرٌ لك، كأنك قلت: الإتيان خيرٌ لك. ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: " وأن تصوموا خيرٌ لكم "، يعني الصوم خيرٌ لكم.
وقال الشاعر، عبد الرحمن بن حسان:
إنّي رأيتُ من المكارمِ حَسْبَكم ... أنْ تَلْبَسوا حرَّ الثياب وتشبعوا(3/153)
كأنه قال: رأيت حسبكم لبس الثياب.
واعلم أن اللام ونحوها من حروف الجر قد تحذف من أن كما حذفت من أنَّ، جعلوها بمنزلة المصدر حين قلت: فعلت ذاك حذر الشرِّ، أي لحذر الشر. ويكون مجروراً على التفسير الآخر.
ومثل ذلك قولك: إنما انقطع إليك أن تكرمه، أي: لأن تكرمه.
ومثل ذلك قولك: لا تفعل كذا وكذا أن يصيبك أمر تكرهه، كأنه قال: لأن يصيبك أو من أجل أن يصيبك. وقال عز وجل: " أن تضلَّ إحداهما "، وقال تعالى: " أأن كان ذا مالٍ وبنين " كأنه قال: ألأن كان ذا مال وبنين. وقال الأعشى:
أأنْ رأت رجلا أَعْشَى أضربَّه ... ريبُ المنونِ ودهرٌ مفسدٌ خَبِلُ
فأن هاهنا حالها في حذف حرف الجر كحال أنَّ، وتفسيرها كتفسيرها، وهي مع صلتها بمنزلة المصدر.(3/154)
ومن ذلك أيضاً قوله: ائتني بعد أن يقع الأمر، وأتاني بعد أن وقع الأمر، كأنَّه قال: بعد وقوع الأمر.
ومن ذلك قوله: أما أن أسير إلى الشأم فما أكرهه، وأمّا أن أقيم فإن فيه أجراً، كأنه قال: أما السيرورة فما أكرهها، وأما الإقامة فلي فيها أجرٌ.
وتقول: لا يلبث أن يأتيك، أي لا يلبث عن إتيانك. وقال تعالى: " فما كان جواب قومه إلاَّ أن قالوا "، فأن محمولة على كان، كأنَّه قال: فما كان جواب قومه إلا قول كذا وكذا. وإن شئت رفعت الجواب فكانت أن منصوبةً.
وتقول: ما منعك أن تأتينا، أراد من إتياننا. فهذا على حذف حرف الجر.
وفيه ما يجيء محمولاً على ما يرفع وينصب من الأفعال، تقول: قد خفت أن تفعل، وسمعت عربياً يقول: أنعم أن تشدَّه، أي بالغ في أن يكون ذلك هذا المعنى، وأن محمولة على أنعم. وقال جل ذكره: " بئسما اشتروا به أنفسهم "، ثم قال: أن يكفروا على التفسير، كأنه قيل له ما هو؟ فقال: هو أن يكفروا.(3/155)
وتقول: إني مما أن أفعل ذاك، كأنه قال: إني من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك، فوقعت ما هذا الموقع، كما تقول العرب: بئسما له، يريدون بئس الشيء ماله.
وتقول: ائتني بعد ما تقول ذاك القول، كأنك قلت: ائتني بعد قولك ذاك القول، كما أنك إذا قلت بعد أن تقول فإنما تريد ذاك، ولو كانت بعد مع ما بمنزلة كلمةٍ واحدة لم تقل: ائتني من بعد ما تقول ذاك القول، ولكانت الدال على حالٍ واحدة.
وإن شئت قلت: إني مما أفعل، فتكون ما مع من بمنزلة كلمة واحدة نحو ربمَّا. قال أبو حيّة النميّري:
وإنّا لممَّا نَضربُ الكَبْشَ ضَربةً ... على رأسه تُلقِي اللسانَ من الفَمِ
وتقول إذا أضفت إلى الأسماء: إنه أهل أن يفعل، ومخافة أن يفعل، وإن شئت قلت: إنه أهلٌ أن يفعل، ومخافةً أن يفعل، كأنك قلت: إنه أهلٌ لأن يفعل، ومخافةً لأن يفعل. وهذه الإضافة كإضافتهم بعض الأشياء إلى أن. قال:(3/156)
تَظَلُّ الشمسُ كاسِفةً عليه ... كآبةَ أنّها فَقَدتْ عَقيلا
وتقول: أنت أهلٌ أن تفعل، أهلٌ عاملة في أن، كأنك قلت: أنت مستحقٌ أن تفعل. وسمعنا فصحاء العرب يقولون: لحق أنه ذاهبٌ، فيضيفون، كأنه قال: ليقين أنه ذاهبٌ، أي ليقين ذاك أمرك. وليست في كلام كل العرب.
وتقول: إنه خليقٌ لأن يفعل، وإنه خليقٌ أن يفعل، على الحذف.
وتقول: عسيت أن تفعل، فأن هاهنا بمنزلتها في قولك: قاربت أن تفعل، أي: قاربت ذاك، وبمنزلة: دنوت أن تفعل.
واخلو لقت السماء أن تمطر، أي: لأن تمطر. وعسيت بمنزلة اخلولقت السماء.(3/157)
ولا يستعملون المصدر هنا كما لم يستعملوا الاسم الذي الفعل في موضعه كقولك: اذهب بذي تسلم، ولا يقولون: عسيت الفعل، ولا عسيت للفعل.
وتقول: عسى أن يفعل، وعسى أن يفعلوا، وعسى أن يفعلا وعسى محمولة عليها أن، كما تقول: دنا أن يفعلوا، وكما قالوا: اخلولقت السماء أن تمطر، وكلَّ ذلك تكلَّم به عامة العرب.
وكينونة عسى للواحد والجميع والمؤنثَّ تدلك على ذلك. ومن العرب من يقول: عسى وعسيا وعسوا، وعست وعستا وعسين. فمن قال ذلك كانت أن فيهن بمنزلتها في أنَّها منصوبة.
واعلم أنَّهم لم يستعملوا عسى فعلك، استغنوا بأن تفعل عن ذلك، كما استغنى أكثر العرب بعسى عن أن يقولوا: عسيا وعسوا، وبلو أنه ذاهبٌ عن لو ذهابه. ومع هذا أنَّهم لم يستعملوا المصدر في هذا الباب، كما لم يستعملوا الاسم الذي في موضعه يفعل في عسى وكاد، فترك هذا لأنَّ من كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء.
واعلم أن من العرب من يقول: عسى يفعل، يشبهها بكاد يفعل، فيفعل حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قوله: عسى الغوير أبؤساً. فهذا مثل من أمثال العرب أجروا فيه عسى محرى كان. قال هدبة:(3/158)
عَسَى الكَرْبُ الذي أمسيَتُ فيه ... يكَونُ وراءه فرجٌ قريب
وقال:
عسى اّلله يغنى بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرَّباب سكوب
وقال:
فأمّا كيَّسٌ فنَجا ولكنْ ... عَسَى يَغْتَرُّ بي حمقٌ لَئيمُ
وأما كاد فإنَّهم لا يذكرون فيها أن، وكذلك كرب يفعل، ومعناهما واحد. يقولون: كرب يفعل، وكاد يفعل ولا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال لما ذكرت لك في الكراسة التي تليها.(3/159)
ومثله: جعل يقول، لا تذكر الاسم ههنا. ومثله أخذ يقول، فالفعل ههنا بمنزلة الفعل في كان إذا قلت: كان يقول، وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته ثمَّ، وهو ثمَّ خبرٌ كما أنه ههنا خبر، إلاَّ أنَّك لا تستعمل الاسم، فأخلصوا هذه الحروف للأفعال كما خلصت حروف الاستفهام للأفعال نحو: هلاَّ وألاَّ.
وقد جاء في الشعر كاد أن يفعل، شبهوه بعسى. قال رؤبة:
قد كادَ مِن طُولِ البِلىَ أنْ يَمْصَحَا
والمحص مثله.
وقد يجوز في الشعر أيضاً لعلِّى أن أفعل، بمنزلة عسيت أن أفعل.
وتقول: يوشك أن تجيء، وأن محمولة على يوشك. وتقول: توشك أن تجيء، فأن في موضع نصب، كأنك قلت: قاربت أن تفعل.
وقد يجوز يوشك يجيء، بمنزلة عسى يجيء، وقال أمية بن أبي الصَّلت:(3/160)
يوشِكُ مَن فرَّ من مَنيّتِه ... في بعض غِرّاتِه يُوافِقُهَا
وهذه الحروف التي هي لتقريب الأمور شبيهةٌ بعضها ببعض، ولها نحوٌ ليس لغيرها من الأفعال.
وسألته عن معنى قوله: أريد لأن أفعل، إنَّما يريد أن يقول إرادتي لهذا، كما قال عزَّ وجلَّ: " وأمرت لأن أكون أوَّل المسلمين " إنما هو أمرت لهذا.
وسألت الخليل عن قول الفرزدق:
أَتَغَضبُ إنْ أُذْنَا قُتَيْبَة حزَّتا ... جِهاراً ولم تَغْضَبِ لقَتْلِ ابن خازِمِ
فقال: لأنه قبيح أن تفصل بين أن والفعل، كما قبح أن تفصل بين كي(3/161)
والفعل، فلما قبح ذلك ولم يجز حمل على إن، لأنَّه قد تقدم فيها الأسماء قبل الأفعال.
باب ما تكون فيه أن بمنزلة أي
وذلك قوله عز وجل: " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا " زعم الخليل أنه بمنزلة أي، لأنك إذا قلت: انطلق بنو فلان أن امشوا، فأنت لا تريد أن تخبر أنهم انطلقوا بالمشي، ومثل ذلك: ما قلت لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله. وهذا تفسير الخليل. ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما قوله: كتبت إليه أن افعل، وأمرته أن قم، فيكون على وجهين: على أن تكون أن التي تنصب الأفعال ووصلتها بحرف الأمر والنهي، كما تصل الذي بتفعل إذا خاطبت حين تقول أنت الذي تفعل، فوصلت أن بقم لأنه في موضع أمر كما وصلت الذي بتقول وأشباهها إذا خاطبت.
والدليل على أنها تكون أن التي تنصب، أنَّك تدخل الباء فتقول: أوعزت إليه بأن افعل، فلو كانت أي لم تدخلها الباء كما تدخلها الباء كما تدخل في الأسماء.
والوجه الآخر: أن تكون بمنزلة أي، كما كانت بمنزلة أي في الأول.(3/162)
وأما قوله عزَّ وجلَّ: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين "، وآخر قولهم أن لا إله إلا الله، فعلى قوله أنه الحمد لله، ولا إله إلا الله. ولا تكون أن التي تنصب الفعل؛ لأن تلك لا يبتدأ بعدها الأسماء. ولا تكون أي، لأن أي إنما تجيء بعد كلام مستغنٍ ولا تكون في موضع المبنيِّ على المبتدإ.
ومثل ذلك: وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدَّقت الرؤيا كأنه قال جل وعز: ناديناه أنَّك قد صدقت الرؤيا يا إبراهيم.
وقال الخليل: تكون أيضاً على أي. وإذا قلت: أرسل إليه أن ما أنت وذا؟ فهي على أي، وإن أدخلت الباء على أنَّك وأنَّه، فكأنه يقول: أرسل إليه بأنَّك ما أنت وذا، جاز ويدلك على ذلك: أنَّ العرب قد تكلم به في ذا الموضع مثقلاً.
ومن قال: والخامسة أن غضب الله عليها، فكأنه قال: أنَّه غضب الله عليها، لا تخِّففها في الكلام أبداً وبعدها الأسماء إلاَّ وأنت تريد(3/163)
الثقيلة مضمراً فيها الاسم، فلو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون في الشعِّر إذا اضطروا بكأن إذا خففوا، يريدون معنى كأنَّ، ولم يريدوا الإضمار، وذلك قوله:
كأنْ وَريدَيْه رِشاءُ خُلْبِ
وهذه الكاف إنَّما هي مضافة إلى أن، فلمَّا اضطررت إلى التخفيف فلم تضمر لم يغيِّر ذلك أن تنصب بها، كما أنَّك قد تحذف من الفعل فلا يتغير عن عمله، ومثل ذلك قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالكٌ كلُّ مَن يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
كأنه قال: أنَّه هالك: ٌ(3/164)
ومثل ذلك: أول ما أقول أن بسم الله، كأنه قال: أول ما أقول أنَّه بسم الله. وإن شئت رفعت في قول الشاعر:
كأَنْ وَريداه رِشاءُ خُلْبِ
على مثل الإضمار الذي في قوله: إنَّه من يأتها تعطه، أو يكون هذا المضمر هو الذي ذكر، كما قال:
كأنْ ظبيةٌ تَعُطو إلى وارِقِ السَّلم
ولو أنَّهم إذ حذفوا جعلوه بمنزلة إنما كما جعلوا إن بمنزلة لكن لكان وجهاً قوياً.
وأما قوله: أن بسم الله، فإنما يكون على الإضمار، لأنك لم تذكر مبتدأ أو مبنياً عليه. والدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار الهاء، أنك تستقبح: قد عرفت أن يقول ذاك، حتى تقول أن لا، أو تدخل سوف أو السين أو قد. ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعاً بعدها كما تذكره بعد هذه الحروف، كما تقول: إنما تقول ولكن تقول
باب آخر تكون أن فيه مخففة
وذلك قولك: قد علمت أن لا يقول ذاك، وقد تيقنت أن لا تفعل ذاك، كأنه قال: أنَّه لا يقول وأنَّك لا تفعل.(3/165)
ونظير ذلك قوله عزَّ وجلَّ: " علم أن سيكون منكم مرضى " وقوله: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً "، وقال أيضاً: " لئلاَّ يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء ".
وزعموا أنَّها في مصحف أبيّ ٍ: أنَّهم لا يقدرون.
وليست أن التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع، لأن ذا موضع يقين وإيجابٍ.
وتقول: كتبت إليه أن لا تقل ذاك، وكتبت غليه أن لا يقول ذاك وكتبت إليه أن لا تقول ذاك.
فأما الجزم فعلى الأمر. وأما النصب فعلى قولك لئلاَّ يقول ذاك. وأما الرفع فعلى قولك: لأنك لا تقول ذاك أو بأنَّك لا تقول ذاك، تحبره بأن ذا قد وقع من أمره.
فأما ظننت وحسبت وخلت ورأيت، فانَّ أن تكون فيها على وجهين: على أنها تكون أن التي تنصب الفعل، وتكون أنَّ الثقيلة. فإذا رفعت قلت: قد حسبت أن لا يقول ذاك، وأرى أن سيفعل ذاك. ولا تدخل هذه السين في الفعل ههنا حتى تكون أنه. وقال عزَّ وجلَّ: " وحسبوا أن لا تكون فتنةٌ "، كأنك قلت: قد حسبت أنَّه لا يقول ذاك. وإنما حسنت أنَّه ههنا لأنك قد أثبتَّ هذا في ظِّنك كما أثبتَّه في علمك، وأنَّك أدخلته في ظنك على أنه ثابتٌ الآن كما كان في العلم، ولولا ذلك لم يحسن(3/166)
أنَّك ههنا ولا أنَّه، فجرى الظن ههنا مجرى اليقين لأنَّه نفيه. وإن شئت نصبت فجعلتهن بمنزلة خشيت وخفت، فتقول: ظننت أن لا تفعل ذاك.
ونظير ذلك: تظن أن يفعل بها فاقرةٌ و: إن ظنَّا أن يقيما حدود الله. فلا إذا دخلت ههنا لم تغير الكلام عن حاله وإنما منع خشيت أن تكون بمنزلة خلت وظننت وعلمت إذا أردت الرفع أنك لا تريد أن تخبر أنك تخشى شيئاً قد ثبت عندك ولكنه كقولك: أرجو، وأطمع، وعسى. فأنت لا توجب إذا ذكرت شيئاً من هذه الحروف، ولذلك ضعف أرجو أنَّك تفعل، وأطمع أنَّك فاعلٌ.
ولو قال رجلٌ: أخشى أن لا تفعل، يريد أن يخبر أنه يخشى أمراً قد استقرّ عنده كائن، جاز. وليس وجه الكلام.
واعلم أنَّه ضعيفٌ في الكلام أن تقول: قد علمت أن تفعل ذاك ولا قد علمت أن فعل ذاك حتَّى تقول: سيفعل أو قد فعل، أو تنفي فتدخل لا؛ وذلك لأنَّهم جعلوا ذلك عوضاً مما حذفوا من أنَّه، فكرهوا أن يدعوا السين أو قد إذ قدروا على أن تكون عوضاً، ولا تنقص ما يريدون لو لم يدخلوا قد ولا السين.
وأما قولهم: أما أن جزاك الله خيراٍ، فإنَّهم إنما أجازوه لأنه دعاءٌ، ولا يصلون إلى قد ههنا ولا إلى السين. وكذلك لو قلت: أما أن يغفر الله(3/167)
لك جاز لأنه دعاءٌ، ولا تصل هنا إلى السين. ومع هذا أيضاً أنَّه قد كثر في كلامهم حتى حذفوا فيه إنَّه، وإنَّه لا تحذف في غير هذا الموضع. سمعناهم يقولون: أما إن جزاك الله خيراً، شبهوه بأنَّه، فلمَّا جازت إنَّ كانت هذه أجوز.
وتقول: ما علمت إلاَّ أن أن تقوم، وما أعلم إلا أن تأتيه، إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئاً كائناً البتة، ولكنك تكلمت به على وجه الإشارة كما تقول: أرى من الرأي أن تقوم، فأنت لا تخبر أن قياماً قد ثبت كائناً أو يكون فيما تستقبل البتَّة، فكأنه قال: لو قمتم. فلو أراد غير هذا المعنى لقال: ما علمت إلاَّ أن ستقومون.
وإنمَّا جاز قد علمت أن عمروٌ ذاهبٌ، لأنك قد جئت بعده باسم وخبر كما كان يكون بعده لو ثقَّلته وأعملته، فلمَّا جئت بالفعل بعد أن(3/168)
جئت بشيء كان سيمتنع أن يكون بعده لو ثقلته أو قلت: قد علمت أن يقول ذاك، كان يمتنع، فكرهوا أن يجمعوا عليه الحذف وجواز ما لم يكن يجوز بعده مثقلاً، فجعلوا هذه الحروف عوضاً.
؟ ؟؟؟؟
هذا باب أم وأو
أما أم فلا يكون الكلام بها إلاَّ استفهاماً. ويقع الكلام بها في الاستفهام على وجهين: على معنى أيهما وأيهم، وعلى أن يكون الاستفهام الآخر منقطعاً من الأول.
وأما أو فإنما يثبت بها بعض الأشياء، وتكون في الخبر. والاستفهام يدخل عليها على ذلك الحد. وسأبين لك وجوهه إن شاء الله تعالى.
؟ باب أم إذا كان الكلام بها بمنزلة أيهما
وأيهم
وذلك قولك: أزيدٌ عندك أم عمروٌ، وأزيداً لقيت أم بشراً؟ فأنت الآن مدَّع أنَّ عنده أحدهما، لأنَّك إذا قلت: أيهما عندك، وأيَّهما لقيت. فأنت مدّعٍ أن المسئول قد لقي أحدهما، أو أن عنده أحدهما، الاَّ أن علمك قد استوى فيهما لا تدري أيهما هو.
والدليل على أن قولك: أزيدٌ عندك أم عمروٌ بمنزلة قولك: أيهما عندك، أنَّك لو قلت: أزيدٌ عندك أم بشرٌ فقال المسئول: لا، كان محالاً، كما أنَّه إذا قال: أيهما عندك، فقال: لا فقد أحال.
واعلم أنك إذا أردت هذا المعنى فتقديم الاسم أحسن، لأنك لا تسأله عن اللقى، وإنَّما تسأله عن أحد الاسمين لا تدري أيهما هو، فبدأت بالاسم(3/169)
لأنَّك تقصد قصد أن يبين لك أي الاسمين في هذا الحال، وجعلت الاسم الآخر عديلاً للأول، فصار الذي لا تسأل عنه بينهما.
ولو قلت: ألقيت زيداً أم عمراً كان جائزاً حسناً، أو قلت: أعندك زيدٌ أم عمرو كان كذلك.
وإنما كان تقديم الاسم ههنا أحسن ولم يجز للآخر إلاَّ أن يكون مؤخراً، لأنه قصد قصد أحد الاسمين، فبدأ بأحدهما، لأن حاجته أحدهما، فبدأ به مع القصة التي لا يسأل عنها، لأنه إنما يسأل عن أحدهما من أجلها، فإنما يفرغ مما يقصد قصده بقصته ثم يعدله بالثاني.
ومن هذا الباب قوله: ما أبالي أزيداً لقيت أم عمرا، وسواءٌ عليَّ أبشراً كلمت أم زيدا، كما تقول: ما أبالي أيَّهما لقيت. وإنَّما جاز حرف الاستفهام ههنا لأنك سويت الأمرين عليك كما استويا حين قلت: أزيدٌ عندك أم عمرو، فجرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النِّداء قولهم: اللهمَّ اغفر لنا أيَّتها العصابة.(3/170)
وإنما لزمت أم ههنا لأنك تريد معنى أيَّهما. ألا ترى أنَّك تقول: ما أبالي أي ذلك كان، وسواءٌ عليَّ أي ذلك كان، فالمعنى واحد، وأي ههنا تحسن وتجوز كم جازت في المسألة.
ومثل ذلك: ما أدري أزيدٌ ثمَّ أم عمروٌ، وليت شعري أزيدٌ ثمَّ أم عمروٌ، فإنَّما أوقعت أم ههنا كما أوقعته في الذي قبله؛ لأن ذا يجري على حرف الاستفهام حيث استوى علمك فيهما كما جرى الأول. ألا ترى أنك تقول، ليت شعري أيهما ثم، وما أدري أيهما ثمَّ، فيجوز أيهما ويحسن، كما جاز في قولك: أيهما ثمَّ.
وتقول: أضربت زيداً أم قتلته، فالبدء ههنا بالفعل أحسن، لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما، فالبدء بالفعل ههنا أحسن، كما كان البدء بالاسم ثمَّ فيما ذكرنا أحسن كأنك قلت: أي ذاك كان بزيدٍ. وتقول: أضربت أم قتلت زيداً لأنك مدَّعٍ أحد الفعلين: ولا تدري أيهما هو، كأنك قلت: أي ذاك كان بزيد.
وتقول: ما أدري أقام أم قعد، إذا أردت: ما أدري أيهما كان. وتقول: ما أدري أقام أو قعد، إذا أردت: أنه لم يكن بين قيامه وقعوده شيءٌ، كأنه قال: لا أدَّعي أنه كان منه في تلك الحال قيامٌ ولا قعودٌ بعد(3/171)
قيامه أي: لم أعدَّ قيامه قياماً ولم يستبن لي قعودٌ بعد قيامه، وهو كقول الرجل: تكلمت ولم تكلَّم.
هذا باب أم منقطعةً
وذلك قولك: أعمروٌ عندك أم عندك زيدٌ، فهذا ليس بمنزلة: أيهَّما عندك. ألا ترى أنك لو قلت: أيهما عندك عندك، لم يستقم إلاَّ على التكرير والتوكيد.
ويدلك على أن هذا الآخر منقطعٌ من الأول قول الرجل: إنِّها لإبلٌ ثم يقول: أم شاءٌ يا قوم. فكما جاءت أم ههنا بعد الخبر منقطعةً، كذلك تجيء بعد الاستفهام، وذلك أنه حين قال: أعمروٌ عندك فقد ظنَّ أنَّه عنده، ثم أدركه مثل ذلك الظن في زيد بعد أن استغنى كلامه، وكذلك: إنها لإبلٌ أم شاءٌ، إنما أدركه الشك حيث مضى كلامه على اليقين.
وبمنزلة أم ههنا قوله عز وجلَّ: " آلم تنزيل الكتاب(3/172)
لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه "، فجاء هذا الكلام على كلام العرب قد علم تبارك وتعالى وذلك من قولهم، ولكن هذا على كلام العرب ليعرَّفوا ضلالتهم.
ومثل ذلك: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين، كأنَّ فرعون قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء. فقوله: أم أنا خيرٌ من هذا، بمنزلة: أم أنتم بصراء؛ لأنهم لو قالوا: أنت خيرٌ منه كان بمنزلة قولهم: نحن بصراء عنده وكذلك: أم أنا خيرٌ بمنزلته لو قال: أم أنتم بصراء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " أم اتَّخذ ممَّا يخلق بناتٍ وأصفاكم بالبنين ". فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون: أن الله عز وجلَّ لم يتخَّذ ولداً، ولكنه جاء حرف الاستفهام ليبصَّروا ضلالتهم. ألا ترى أن الرجل يقول للرجل: آلسعادة أحب إليك أم الشقاء؟ وقد علم أن السعادة أحب إليه من الشقاء، وأن المسئول سيقول: السعادة، ولكنَّه أراد أن يبصر صاحبه وأن يعلمه.(3/173)
ومن ذلك أيضاً: أعندك زيدٌ أم لا، كأنه حيث قال: أعندك زيدٌ، كان يظن أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال: أم لا.
وزعم الخليل أنّ قول الأخطل:
كذبتك عنك أم رأيتَ بواسطٍ ... غَلَسَ الظّلامِ من الرَّباب خَيالاَ
كقولك: إنَّها لإبلٌ أم شاءٌ. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو كثَّير عزة:
أليس أبِي بالَّنضر أم ليس والِدِي ... لكل نَجيبٍ من خُزاعةَ أزْهَرَا
ويجوز في الشعر أن يريد بكذبتك الاستفهام ويحذف الألف. قال التميمي، وهو الأسود بن يعفر:(3/174)
لَعَمْرُك ما أدْرِي وإن كنتُ دارياً ... شُعَيْثُ بن سهمٍ أم شُعَيْثُ بن مِنْقَر
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لَعَمْرُك ما أدَرِي وإنْ كنتُ دارياً ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بَثمانِ
هذا باب أو
تقول: أيَّهم تضرب أو تقتل، تعمل أحدهما، ومن يأتيك أو يحدثك أو يكرمك؛ لا يكون ههنا إلاَّ أو؛ من قبل أنك إنما تستفهم عن الاسم المفعول، وإنما حاجتك إلى صاحبك أن يقول: فلانٌ.
وعلى هذا الحد يجري ما، ومتى، وكيف، وكم، وأين.
وتقول: هل عندك شعيرٌ أو برٌّ أو تمرٌ؟ وهل تأتينا أو تحدثنا، لا يكون إلاَّ ذلك. وذاك أن هل ليست بمنزلة ألف الاستفهام، لأنك(3/175)
إذا قلت: هل تضرب زيداً، فلا يكون أن تدَّعي أن الضرب واقعٌ، وقد تقول: أتضرب زبداً وأنت تدَّعي أنَّ الضرب واقعٌ.
ومما يدلك على أن ألف الاستفهام ليست بمنزلة هل أنك تقول للرجل: أطرباً! وأنت تعلم أنه قد طرب، لتوبَّخه وتقِّرره. ولا تقول هذا بعد هل.
وإن شئت قلت: هل تأتيني أم تحدّثني، وهل عندك برٌّ أم شعيرٌ، على كلامين. وكذلك سائر حروف الاستفهام التي ذكرنا.
وعلى هذا قالوا: هل تأتينا أم هل تحدثنا. قال زفر بن الحارث:
أبا مالِكٍ هل لُمَتْنَي مذ حَضَضتَني ... على القتل، أم هل لامني لك لائمُ(3/176)
وكذلك سمعناه من العرب. فأمَّا الذين قالوا: أم هل لامني لك لائم فإنَّما قالوه على أنه أدركه الظن بعد ما مضى صدر حديثه. وأما الذين قالوا: أو هل فإنَّهم جعلوه كلاماً واحداً.
وتقول: ما أدري هل تأتينا أو تحدثنا، وليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا، فهل ههنا بمنزلتها في الاستفهام إذا قلت: هل تأتينا، وإنما أدخلت هل ههنا لأنك إنما تقول: أعلمني، كما أردت ذلك حين قلت: هل تأتينا أو تحدثنا، فجرى هذا مجرى قوله عزَّ وجلَّ: " هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون "، وقال زهير:
ألا لَيْتَ شِعْري هل يَرى الناسُ ما أرَى ... من الأمرِ أو يَبْدُو لهم ما بداليا(3/177)
وقال مالك بن الريب:
ألا لَيْتَ شَعْري هل تغيرَّت الرَّحا ... رَحَا الحَزْنِ أو أضْحَتْ بفلجٍ كما هِيَا
فهذا سمعناه ممن ينشده من بني عِّمه. وقال أناسٌ: أم أضحت على كلامين، كما قال علقمة بن عبدة:
هل ما علمتَ وما استُودِعْتَ مَكْتومُ ... أم حَبْلُها إذ نَأَتْك اليومَ مصْرومُ
أم هل كبيرٌ بَكى لم يَقْضِ عَبْرتَه ... إثْرَ الأَحِبْةِ يومَ البَينِ مَشْكومُ(3/178)
؟
هذا باب آخر من أبواب أو
تقول: ألقيت زيدا أو عمرا أو خالدا، وأعندك زيد أو خالدٌ أو عمروٌ، كأنك قلت: أعندك أحدٌ من هؤلاء، وذلك أنّك للم تدَّع أن أحداً منهم ثمَّ. ألا ترى أنه إذا أجابك قال: لا، كما يقول إذا قلت: أعندك أحدٌ من هؤلاء.
واعلم أنَّك إذا أردت هذا المعنى فتأخير الاسم أحسن؛ لأنك إنَّما تسأل عن الفعل بمن وقع. ولو قلت: أزيداً لقيت أو عمرا أو خالدا، وأزيدٌ عندك أو عمروٌ أو خالدٌ كان هذا في الجواز والحسن بمنزلة تأخير الاسم إذا أردت معنى أيهما. فإذا قلت: أزيدٌ أفضل أم عمرو لم يجز ههنا إلاَّ أم، لأنك إنَّما تسأل عن أفضلهما ولست تسأل عن صاحب الفضل.(3/179)
ألا ترى أنَّك لو قلت: أزيدٌ أفضل لم يجز، كما يجوز: أضربت زيداً فذلك يدلك أن معناه معنى أيهما. إلا أنَّك إذا سألت عن الفعل استغنى بأول اسمٍ.
ومثل ذلك: ما أدري أزيدٌ أفضل أم عمروٌ، وليت شعري أزيدٌ أفضل أم عمروٌ. فهذا كله على معنى أيهما أفضل.
وتقول: ليت شعري ألقيت زيدا أو عمراً، وما أدري أعندك زيدٌ أو عمروٌ، فهذا يجري مجرى ألقيت زيداً أو عمراً، وأعندك زيدٌ أو عمروٌ. فإن شئت قلت: ما أدري أزيدٌ عندك أو عمروٌ، فكان جائزا حسا كما جاز أزيدٌ عندك أو عمرو.
وتقديم الاسمين جميعا مثله وهو مَّؤخر وإن كانت أضعف. فأما إذا قلت: ما أبالي أضربت زيداً أم عمراً، فلا يكون هنا إلاَّ أم، لأنه لا يجوز لك السكوت على أوّل الاسمين، فلا يجيء هذا إلاَّ على معنى أيهَّما، وتقديم الاسم ههنا أحسن.
وتقول: أتجلس أو تذهب أو تحدثنا، وذلك إذا أردت هل يكون شيءٌ من هذه الأفعال. فأمَّا إذا
ادَّعيت أحدهما فليس إلاَّ أتجلس أم تذهب أم تأكل، كأنَّك قلت: أيَّ هذه الأفعال يكون منك.
وتقول: أتضرب زيداً أم تشم عمرا أم تكلم خالدا. ومثل ذلك(3/180)
أتضرب زيدا أو تضرب عمرا أو تضرب خالداً، إذا أردت هل يكون شيءٌ من ضرب واحد من هؤلاء. وإن أردت أي ضرب هؤلاء يكون قلت: أم.
قال حسان بن ثابت:
ما أبالِي أنبَّ بالحَزْن تيسٌ ... أم لحَانِى بظَهْرِ غيبٍ لَئيمُ
كأنه قال: ما أبالي أي الفعلين كان.
وتقول: أزيدا أو عمرا رأيت أم بشراً، وذلك أنَّك لم ترد أن تجعل عمراً عديلا لزيد حتى يصير بمنزلة أيهما، ولكنَّك أردت أن يكون حشواً، فكأنك قلت: أأحد هذين رأيت أم بشراً. ومثل ذلك قول صفَّية بنت عبد المطلب:(3/181)
كيف رأيت زبرا أأقطاً أو تَمْرا أم قرشيَّا صَقْرَا
وذلك أنَّها لم ترد أن تجعل لتمر عديلاً للأقط؛ لأن المسئول عندها لم يكن عندها ممن قال: هو إما تمرٌ وإما أقطٌ وإما قرشيٌّ، ولكنها قالت: أهو طعامٌ أم قرشيٌّ، فكأنها قالت: أشيئاً من هذين الشيئين رأيته أم قرشياً.
وتقول: أعندك زيدٌ أو عندك عمروٌ أو عندك خالدٌ؟ كأنَّك قلت: هل عندك من هذه الكينونات شيءٌ؟ فصار هذا كقولك: أتضرب زيدا أو تضرب عمرا أو تضرب خالدا. ومثل ذلك: أتضرب زيداً أو عمراً أو خالدا؟(3/182)
وتقول: أعاقلٌ عمروٌ أو عالمٌ؟ وتقول: أتضرب عمرا أو تشتمه؟ تجعل الفعلين والاسم بينهما بمنزلة الاسمين والفعل بينهما؛ لأنَّك قد أثبتَّ عمراً لأحد الفعلين كما أثبتَّ الفعل هناك لأحد الاسمين، وادعَّيت أحدهما كما ادَّعيت ثمَّ أحد الاسمين. وإن قدمت الاسم فعربيٌّ حسن.
وأما إذا قلت: أتضرب أو تحبس زيداً؟ فهو بمنزلة أزيدا أو عمراً تضرب. قال جرير:
أثَعْلَبَةَ الفَوارِسَ أو رِياحاً ... عَدَلتَ بهمِ طُهَيّةَ والخِشابَا
وإن قلت: أزيدا تضرب أو تقتل؟ كان كقولك: أتقتل زيداً أو عمراً وأم في كل هذا جيدّةٌ.
وإذا قال: أتجلس أم تذهب، فأم وأو فيه سواءٌ؛ لأنك لا تستطيع أن تفصل علامة المضمر فتجعل لأو حالاً سوى حال أم. وكذلك: أتضرب زيداً أو تقتل خالدا، لأنَّك لم تثبت أحد الفعلين لسمٍ واحد.
وإن أردت معنى أيهما في هذه المسألة قلت: أتضرب زيداً أم تقتل خالدا؟ لأنَّك لم تثبت أحد الفعلين لاسمٍ واحد.(3/183)
هذا باب أو في غير الاستفهام
تقول: جالس عمراً أو خالدا أو بشراً، كأنَّك: قلت: جالس أحد هؤلاء ولم ترد إنساناً بعينه، ففي هذا دليلٌ أن كلهم أهلٌ أن يجالس، كأمَّك قلت: جالس هذا الضرب من الناس.
وتقول: كل لحماً أو خبزا أو تمراً، كأنك: قلت: كل أحد هذه الأشياء. فهذا بمنزلة الذي قبله.
وإن نفيت هذا قلت: لا تأكل خبزا أو لحما أو تمرا. كأنك قلت: لا تأكل شيئاً من هذه الأشياء.
ونظير ذلك قوله عزَّ وجلَّ: " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " أي: لا تطع أحداً من هؤلاء.
وتقول: كل خبزا أو تمراً، أي: لا تجمعهما.
ومثل ذلك أن تقول: ادخل على زيد أو عمروٍ أو خالدٍ، أي: لا تدخل على أكثر من واحدٍ من هؤلاء. وإن شئت جئت به على معنى ادخل على هذا الضرب.
وتقول: خذه بما عزَّ أو هان، كأنه قال: خذه بهذا أو بهذا، أي(3/184)
لا يفوتَّنك على كل حال ومن العرب من يقول: خذه بما عن وهان، أي خذه بالعزيز والهين، وكل واحدة منهما تجزئ عن أختها.
وتقول: لأضربنَّه ذهب أو مكث، كأنه قال: لأضربنَّه ذاهباً أو ماكثاً، ولأضربنَّه إن ذهب أو مكث. وقال زيادة بن زيد العذري:
إذا ما انتَهى عِلمْي تَناهَيْتُ عنده ... أطالَ فأَمْلَى أو تَناهَى فأَقْصَرَا
وقال:
فلستُ أبالِي بعد يومِ مطرّفٍ ... حُتوفَ المَنايا أكْثرتْ أو أقلَّت(3/185)
وزعم الخليل أنَّه يجوز: لأضربنَّه أذهب أم مكث، وقال: الدليل على ذلك أنَّك تقول: لأضربنَّك أي ذلك كان.
وإنما فارق هذا سواء وما أبالي، لأنَّك إذا قلت: سواءٌ عليَّ أذهبت أم مكثت فهذا الكلام في موضع سواءٌ عليَّ هذان. وإذا قلت: ما أبالي أذهبت أم مكثت هو في موضع: ما أبالي واحداً من هذين. وأنت لا تريد أن تقول في الأول: لأضربنَّ هذين، ولا تريد أن تقول: تناهيت هذين، ولكنك إنَّما تريد أن تقول: إن الأمر يقع على إحدى الحالين. ولو قلت: لأضربنَّه أذهب أو مكث لم يجز، لأنَّك لو أردت معنى أيهما قلت: أم مكث، ولا يجوز لأضربنَّه مكث فلهذا لا يجوز: لأضربنَّه أذهب أو مكث، كما يجوز: ما أدري أقام زيدٌ أو قعد. ألا ترى أنَّك تقول: ما أدري أقام كما تقول: أذهب، وكما تقول: أعلم أقام زيدٌ، ولا يجوز أن تقول: لأضربنَّه أذهب.
وتقول: وكل حقٍ له سميناه في كتابنا أو لم نسمِّه، كأنه قال: وكل حق له علمناه أو جهلناه، وكذلك كل حقٍّ هو لها داخلٍ فيها أو خارجٍ منها، كأنه قال: إن كان داخلا أو خارجا. وإن شاء أدخل الواو كما قال: بما عزَّ وهان.(3/186)
وقد تدخل أم في: علمناه أو جهلناه وسميناه أو لم نسمه، كما دخلت في: أذهب أم مكث وتدخل أو على وجهين: على أنه يكون صفة للحق، وعلى أن يكون حالاً، كما قلت: لأضربنَّه ذهب أو مكث، أي: لأضربنَّه كائنا ما كان. فبعدت أم ههنا حيث كان خبراً في موضع ما ينتصب حالاً، وفي موضع الصفة.
باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام
وذلك قولك: هل وجدت فلانا عند فلانٌ؟ فيقول: أو هو ممن يكون ثمَّ؟ أدخلت ألف الاستفهام.
وهذه الواو لا تدخل على ألف الاستفهام، وتدخل عليها الألف، فإنما هذا استفهامٌ مستقبلٌ بالألف، ولا تدخل الواو على الألف، كما أن هل لا تدخل على الواو. فإنما أرادوا أن لا يجروا هذه الألف مجرى هل، إذ لم تكن مثلها، والواو تدخل على هل.
وتقول: ألست صاحبنا أو لست أخانا، ومثل ذلك: أما أنت أخانا أو ما أنت صاحبنا، وقوله: ألا تأتينا أو لا تحدثنا، إذا أردت التقرير(3/187)
أو غيره ثم أعدت حرفاً من هذه الحروف لم يحسن الكلام، إلا أن تستقبل الاستفهام.
وإذا قلت: ألست أخانا أو صاحبنا أو جليسنا، فإنك إنما أردت أن تقول: ألست في بعض هذه الأحوال، وإنما أردت في الأول أن تقول: ألست في هذه الأحوال كلِّها. ولا يجوز أن تريد معنى ألست صاحبنا أو جليسنا أو أخانا، وتكرِّر لست مع أو، إذا أردت أن تجعله في بعض هذه الأحوال ألا ترى أنك إذا أخبرت فقلت: لست بشراً أو لست عمراً، أو قلت: ما أنت ببشر، أو ما أنت بعمرو، لم يجيء إلا على معنى لا بل ما أنت بعمرو، ولا بل لست بشراً. وإذا أرادوا معنى أنك لست واحداً منهما قالوا: لست عمرا ولا بشرا، أو قالوا: أو بشرا، كما قال عزَّ وجل: " ولا تطع منهم آثما أو كفوراً:. ولو قلت: أو لا تطع كفورا انقلب المعنى. فينبغي لهذا أن يجيء في الاستفهام بأم منقطعا من الأول، لأن أو هذه نظيرتها في الاستفهام أم، وذلك قولك: أما أنت بعمرو أم ما أنت ببشر، كأنه قال: لا بل ما أنت ببشر. وذلك: أنه أدركه الظن في أنه بشرٌ بعدما مضى كلامه الأول، فاستفهم عنه.
وهذه الواو التي دخلت عليها ألف الاستفهام كثيرةٌ في القرآن. قال الله(3/188)
تعالى جده: " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ". فهذه الواو بمنزلة الفاء في قوله تعالى: " أفأمنوا مكر لله " وقال عزَّ وجلَّ: " أئنَّا لمبعوثون. أو آباؤنا الأوَّلون "، وقال: " أو كلّما عاهدوا عهداً ".
باب تبيان أم لم دخلت على حروف الاستفهام
ولم تدخل على الألف تقول: أم من تقول، أم من تقول، ولا تقول: أم أتقول؟ وذاك لأن أم بمنزلة الألف، وليست: أي ومن وما ومتى بمنزلة الألف، وإنما هي أسماء بمنزلة: هذا وذاك، إلاَّ أنهم تركوا ألف الاستفهام ههنا إذ كان هذا النحو من الكلام لا يقع إلا في المسألة، فلما علموا أنه لا يكون إلا كذلك استغنوا عن الألف.
وكذلك هل إنمَّا تكون بمنزلة قد، ولكنهم تركوا الألف إذ كانت هل لا تقع إلاَّ في الاستفهام.(3/189)
قلت: فما بال أم تدخل عليهن وهي بمنزلة الألف؟ قال: إنّ أم تجيء ههنا بمنزلة لا بل، للتحوَّل من الشيء إلى الشيء، والألف لا تجيء أبدا إلاَّ مستقبلة، فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها واحتاجوا إلى أم؛ إذ كانت لترك شيء إلى شيء؛ لأنهم لو تركوها فلم يذكروها لم يتبيّن المعنى.(3/190)
باب ما ينصرف وما لا ينصرف
هذا باب أفعل
اعلم أن أفعل إذا كان صفةً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة، وذلك لأنَّها أشبهت الأفعال نحو: أذهب وأعلم.
قلت: فما باله لا ينصرف إذا كان صفةً وهو نكرةٌ؟ فقال: لأنَّ الصفات أقرب إلى الأفعال، فاستثقلوا التنوين فيه كما استثقلوه في الأفعال، وأرادوا أن يكون في الاستثقال كالفعل، إذ كان مثله في البناء والزيادة وضارعه، وذلك نحو: أخضر، وأحمر، وأسود، وأبيض، وآدر. فإذا حقرت قلت: أخيضر وأحيمر وأسيود، فهو على حاله قبل أن تحقره، من قبل أن الزيادة التي أشبه بها الفعل مع البناء ثابتةٌ، وأشبه هذا من الفعل ما أميلح زيداً، كما أشبه أحمر أذهب.(3/193)
هذا باب أفعل إذا كان اسماً وما أشبه الأفعال من الأسماء التي في أوائلها الزوائد فما كان من الأسماء أفعل، فنحو: أفكلٍ، وأزملٍ، وأيدعٍ، وأربعٍ، لا تنصرف في المعرفة، لأنَّ المعارف أثقل، وانصرفت في النكرة لبعدها من الأفعال، وتركوا صرفها في المعرفة حيث أشبهت الفعل، لثقل المعرفة عندهم.
وأما ما أشبه الأفعال سوى أفعل فمثل اليرمع واليعمل، وهو جماع اليعملة، ومثل أكلبٍ. وذلك أن يرمعاً مثل: يذهب، واكلبٌ مثل: أدخل. ألا ترى أنَّ العرب لم تصرف أعصر، ولغةٌ لبعض العرب يعصر، لا يصرفونه أيضاً، وتصرف ذلك في النكرة، لأنَّه ليس بصفة.
واعلم أن هذه الياء والألف لا تقع واحدةٌ منهما في أول اسمٍ على أربعة أحرف إلا وهما زائدتان. ألا ترى أنَّه ليس اسمٌ مثل أفكلٍ يصرف وإن لم يكن له فعلٌ يتصرف.
ومما يدلك أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة، وكذلك(3/194)
الياء أيضا. وإن لم تقل هذا دخل عليك أن تصرف أفكل وأن تجعل الشيء إذا جاء بمنزلة الرجازة والربابة لأنه ليس له فعلٌ، بمنزلة القمطرة والهدملة.
فهذه الياء الألف تكثر زيادتهما في بنات الثلاثة، فهما زائدتان حتى يجيء أمرٌ بين نحو: أولقٍ، فانَّ أولقاً إنمَّا الزيادة فيه الواو، يدلك على ذلك قد ألق الرجل فهو مألوقٌ. ولو لم يتبين أمر أولقٍ لكان عندنا أفعل؛ لأن أفعل من هذا الضرب أكثر من فوعلٍ. ولو جاء في الكلام شيءٌ نحو أكللٍ وأيققٍ فسميت به رجلاً صرفته، لأنه لو كان أفعل لم يكن الحرف الأول إلا ساكناً مدغما.
وأما أوَّل فهو أفعل. يدلَّك على ذلك قولهم: هو أول منه، ومررت بأول منك، والأولى وإذا سميت الرجل بالبب فهو غير مصروف، والمعنى عليه، لأنه من اللب، وهو أفعل. وهو أفعل. ولو لم يكن المعنى هذا لكان فعلل. والعرب تقول: قد علمت ذاك بنات ألبيه يعنون لبّه.(3/195)
ومما يترك صرفه لأنه يشبه الفعل ولا يجعل الحرف الأول منه زائداً إلاّ بثببتٍ، نحو تنضبٍ، فإنما التاء زائدة لأنه ليس في الكلام شيءٌ على أربعة أحرف ليس أوله زائدة يكون على هذا البناء؛ لأنه ليس في الكلام فعلل.
ومن ذلك أيضاً: ترتب وترتب - وقد يقال أيضاً: ترتب - فلا يصرف. ومن قال ترتبٌ صرف؛ لأنه وإن كان أوله زائداً فقد خرج من شبه الأفعال.
وكذلك التدرأ، إنما هو من درأت. وكذلك التتفل. ويدلك على ذلك قول بعض العرب: التتَّفل، وأنه ليس في الكلام كجعفر.
وكذلك رجلٌ يسَّمى: تألب، لأنَّه تفعل. ويدلك على ذلك أنَّه يقال للحمار ألب يألب، بفعل، وهو طرده طريدته. وإنما قيل له تألبٌ من ذلك.
وأما ما جاء نحو: نهشل وتولب فهو عندنا من نفس الحرف، مصروفٌ(3/196)
حتىَّ يجيء أمرٌ يبينَّه. وكذلك فعلت به العرب؟ لأنَّ حال التاء والنون في الزيادة ليست كحال الألف والياء، لأنَّهما لم تكثرا في الكلام زائدتين ككثرتهما. فإن لم تقل ذلك دخل عليك أن لا تصرف نهشلا ونهسراً. وهو قول العرب، والخليل، ويونس.
وإذا سميت رجلاً بإثمدٍ لم تصرفه، لأنَّه يشبه إضرب، وإذا سميت رجلاً بإصبع لم تصرفه، لأنه يشبه إصنع. وإن سميته بأبلمٍ لم تصرفه، لأنه يشبه أقتل. ولا تحتاج في هذا إلى ما احتجت إليه في ترتبٍ وأشباهها لأنَّها ألفٌ. وهذا قول الخليل ويونس.
وإنما صارت هذه الأسماء بهذه المنزلة لأنهم كأنهم ليس أصل الأسماء عندهم على أن تكون في أولها الزوائد وتكون على هذا البناء. ألا ترى أن تفعل ويفعل في الأسماء قليل. وكان هذا البناء إنما هو في الأصل للفعل، فلما صار في موضع قد يستثقل فيه التنوين استثقلوا فيه ما استثقلوا فيما هو أولى بهذا البناء منه. والموضع الذي يستثقل فيه التنوين المعرفة. ألا ترى أكثر ما لا ينصرف في المعرفة قد ينصرف في النكرة وإنما صارت أفعل في الصفات أكثر لمضارعة الصِّفة الفعل.(3/197)
وإذا سمَّيت رجلاً بفعل في أوله زائدة لم تصرفه، نحو يزيد ويشكر وتغلب ويعمر. وهذا النحو أحرى أن لا تصرفه، وإنَّما أقصى أمره أن يكون كتنضبٍ ويرمعٍ.
وجميع ما ذكرنا في هذا الباب ينصرف في النكرة فإن قلت: فما بالك تصرف يزيد في النكرة، وإنما منعك من صرف أحمر في النكرة وهو اسم أنه ضارع الفعل؟ فأحمر إذا كان صفةً بمنزلة الفعل قبل أن يكون اسماً فإذا كان اسماً ثم جعلته نكرة فإنما صيرَّته إلى حاله إذ كان صفة.
وأما يزيد فإنك لمَّا جعلته اسماً في حالٍ يستثقل فيها التنوين استثقل فيه ما كان استثقل فيه قبل أن يكون اسماً، فلَّما صيرَّته نكرة لم يرجع إلى حالة قبل أن بكون اسماً. وأحمر لم يزل اسماً.
وإذا سمَّيت رجلاً بإضرب أو أقتل أو إذهب لم تصرفه وقطعت الألفات حتَّى يصير بمنزلة الأسماء، لأنك قد غيِّرتها عن تلك الحال. ألا ترى أنك ترفعها وتنصبها. وتقطع الألف؛ لأن الأسماء لا تكون بألف الوصل، ولا يحتج باسمٍ ولا ابن، لقلة هذا مع كثرة الأسماء. وليس لك أن تغيِّر(3/198)
البناء في مثل ضرب وضورب وتقول: إن مثل هذا ليس في الأسماء؛ لأنك قد تسمِّى بما ليس في الأسماء، إلاَّ أنك استثقلت فيها التنوين كما استثقلته في الأسماء التي شبهَّتها بها نحو: إثمدٍ وإصبعٍ وأبلمٍ، فإنما أضعف أمرها أن تصير إلى هذا.
وليس شيء من هذه الحروف بمنزلة امرىءٍ، لأن ألف امرىءٍ كأنك أدخلتها حين أسكنت الميم على مرءٌ ومرأ ومرءٍ، فلمَّا أدخلت الألف على هذا الاسم حين أسكنت الميم تركت الألف وصلا، كما تركت ألف إبنٍ، وكما تركت ألف إضرب في الأمر، فإذا سمَّيت بامرىءٍ رجلاً تركته على حاله، لأنَّك نقلته من اسم إلى اسم، وصرفته لأنَّه لا يشبه لفظه لفظ الفعل.
ألا ترى أنك تقول: امرؤٌ وامرىءٍ وامرأً، وليس شيء من الفعل هكذا. وإذا جعلت إضرب أو أقتل اسماً لم يكن له بدٌّ من أن تجعله كالأسماء، لأنَّك نقلت فعلا إلى اسم. ولو سمَّيته انطلاقا لم تقطع الألف، لأنَّك نقلت اسما إلى اسم.
واعلم أن كلَّ اسم كانت في أوله زائدة ولم يكن على مثال الفعل(3/199)
فإنّه مصروف؛ وذلك نحو: إصليتٍ وأسلوبٍ وينبوبٍ وتعضوض، وكذلك هذا المثال إذا اشتققته من الفعل، نحو يضروبٍ وإضريب وتضريب، لأن ذا ليس بفعل وليس باسم على مثال الفعل، وليس بمنزلة عمر. ألا ترى أنك تصرف يربوعا، فلو كان يضروبٌ بمنزلة يضرب لم تصرفه.
وإن سمَّيت رجلا هراق لم تصرفه، لأن هذه الهاء بمنزلة الألف زائدة، وكذلك هرق بمنزلة اقم.
وإذا سمَّيت رجلا بتفاعلٍ نحو تضاربٍ، ثم حقَّرته فقلت تضيرب لم تصرفه، لأنه يصير بمنزلة تغلب، ويخرج إلى ما لا ينصرف، كما تخرج هند في التحقير إذا قلت: هنيدة إلى ما لا ينصرف البتَّة في جميع اللغات.
وكذلك أجادل اسم رجل إذا حقَّرته، لأنَّه يصير أجيدل مثل أميلح. وإن سمَّيت رجلاً بهرق قلت: هذا هريق قد جاء، لا تصرف.
هذا باب ما كان من أفعل صفة
في بعض اللغات واسما في أكثر الكلام
وذلك: أجدلٌ وأخيلٌ وأفعى. فأجود ذلك أن يكون هذا النحَّو اسماً، وقد جعله بعضهم صفة؛ وذلك لأن الجدل شدَّة الخلق، فصار أجدل عندهم بمنزلة شديدٍ.(3/200)
وأما أخيلٌ فجعلوه أفعل من الخيلان للونه، وهو طائر أخضر، وعلى جناحه لمعة سوداء مخالفة للونه.
وعلى هذا المثال جاء أفعى، كأنَّه صار عندهم صفة وإن لم يكن له فعلٌ ولا مصدر.
وأما أدهم إذا عنيت القيد، والأسود إذا عنيت به الحَّية، والأرقم إذا عنيت الحية، فإنك لا تصرفه في معرفة ولا نكرة؛ لم تختلف في ذلك العرب.
فإن قال قائل: أصرف هذا لأني أقول: أداهم وأراقم. فأنت تقول: الأبطح والأباطح، وأجارع وأبارق وإنما الأبرق صفة. وإنما قيل: أبرق لأن فيه حمرةٌ وبياضا وسوادا كما قالوا: تيسٌ أبرق، حين كان فيه سواد وبياض. وكذلك الأبطح إنما هو المكان المنبطح من الوادي، وكذلك الأجرع إنما هو المكان المستوي من الرمل المتمكِّن. ويقال: مكانٌ جرعٌ. ولكن الصفة ربَّما كثرت في كلامهم واستعملت وأوقعت مواقع الأسماء حتَّى يستغنوا بها عن الأسماء، كما يقولون: الأبغث(3/201)
فهو صفة جعل اسماً، وإنما هو لون. ومما يقوي إنه صفة قولهم: بطحاء وجرعاء، وبرق، فجاء مؤنثه كمؤنث أحمر.
هذا باب أفعل منك اعلم أنك إنما تركت صرف أفعل منك لأنه صفة.
فإن سميت رجلاً بأفعل هذا، بغير منك، صرفته في النكرة، وذلك نحو أحمدٍ وأصغرٍ وأكبر، لأنك لا تقول: هذا رجلٌ أصغر ولا هذا رجل أفضل، وإنَّما يكون هذا صفة بمنك. ولو سميته أفضل منك لم تصرفه على حال.
وأما أجمع وأكتع فإذا سميت رجلا بواحدٍ منهما لم تصرفه(3/202)
في المعرفة وصرفته في النكرة، وليس واحد منهما في قولك: مررت به أجمع أكتع، بمنزلة أحمر لأن أحمر صفة للنكرة، وأجمع وأكتع إنما وصف بهما معرفة فلم ينصرفا لأنهما معرفة. فأجمع ههنا بمنزلة كلَّهم.
؟؟ باب ما ينصرف من الأمثلة وما لا ينصرف تقول: كل أفعلٍ يكون وصفا لا تصرفه في معرفة ولا نكرة، وكل أفعل يكون اسماً تصرفه في النكرة. قلت: فكيف تصرفه وقد قلت: لا تصرفه. قال لأن هذا مثالٌ يمثلَّ به، فزعمت أنَّ هذا المثال ما كان عليه من الوصف لم يجر، فإن كان اسماً وليس بوصف جرى.
ونظير ذلك قولك: كل أفعلٍ أردت به الفعل نصبٌ أبداً، فإنمَّا زعمت أنَّ هذا البناء يكون في الكلام على وجوه، وكان أفعل اسماً، فكذلك منزلة أفعل في المسألة الأولى، ولو لم تصرفه ثمَّ لتركت أفعل ههنا نصباً، فإنَّما أفعل ههنا اسمٌ بمنزلة أفكلٍ. ألا ترى أنَّك تقول: إذا كان هذا البناء وصفاً لم أصرفه. وتقول: أفعل إذا كان وصفا لم اصرفه. فإنَّما تركت صرفه ههنا كما تركت صرف أفكلٍ إذا كان معرفةً.
وتقول: إذا قلت هذا رجلٌ أفعل لم أصرفه على حال، وذلك لأنَّك(3/203)
مثلت به الوصف خاصةً، فصار كقولك كل أفعل زيد نصبٌ أبداً؛ لأنَّك مثَّلت به الفعل خاصَّة.
قلت: فلم لا يجوز أن تقول: كل أفعل في الكلام لا أصرفه إذا أردت الذي مثَّلت به الوصف كما أقول: كل آدم في الكلام لا أصرفه؟ فقال: لا يجوز هذا، لأنَّه لم يستقرِّ أفعل في الكلام صفةً بمنزلة آدم، وإنَّما هو مثال. ألا ترى أنَّك لوسميَّت رجلا بأفعلٍ صرفته في النكرة؛ لأنَّ قولك أفعلٌ لا يوصف به شيء، وإنَّما يمَّثل به. وإنَّما تركت التنوين فيه حين مثلَّت به الوصف، كما نصبت أفعلاً حين مثلَّت به الفعل. وأفعلٌ لا يعرف في الكلام فعلا مستعملاً. فقولك: هذا رجلٌ أفعلٌ بمنزلة قولك: أفعل زيدٌ، فإذا لم تذكر الموصوف صار بمنزلة أفعل إذا لم يعمل في اسم مظهر ولا مضمر.
قلت: فما منعه أن يقول: كل أفعل يكون صفةً لا أصرفه، يريد(3/204)
الذي مثلَّت به الوصف. فقال: هذا بمنزلة الذي ذكرنا قبل، لو جاز هذا لكان أفعل وصفا بائنا في الكلام غير مثال، ولم نكن نحتاج إلى أن أقول: يكون صفة ولكني أقول: لأنَّه صفة؛ كما أنَّك إذا قلت: لا تصرف كل آدم في الكلام قلت: لأنه صفة، ولا تقول: أردت به الصفة، فيرى السائل أن آدم يكون غير صفة لأن آدم الصفة بعنيها.
وكذلك إذا قلت: هذا رجلٌ فعلان يكون على وجهين؛ لأنك تقول: هذا إن كان عليه وصفٌ له فعلى لم ينصرف، وإن لم يكن له فعلى انصرف. وليس فعلان هنا بوصفٍ مستعمل في الكلام له فعلى، ولكنه هاهنا بمنزلة أفعلٍ في قولك: كل أفعلٍ كان صفةً فأمره كذا وكذا. ومثله كل فعلانٍ كان صفة وكانت له فعلى لم ينصرف. وقولك: كانت له فعلى وكان صفة، يدلك على أنه مثال.
وتقول: كل فعلًى إو فعلى كانت ألفها لغير التأنيث انصرف، وإن كانت الألف جاءت للتأنيث لم ينصرف، قلت: كل فعلى أو فعلى، فلم ينَّون؛ لأن هذا الحرف مثال. فإن شئت أنثته وجعلت الألف للتأنيث، وإن شئت صرفت وجعلت الألف لغير التأنيث.
وتقول: إذا قلت: هذا رجلٌ فعنلًى نونت لأنك مثلت به وصف(3/205)
المذكَّر خاصةً، وفعنلًى مثل حبنطًى، ولا يكون إلا منوَّناً ألا ترى أنك تقول: هذا رجلٌ حبنطًى يا هذا. فعلى هذا جرى هذا الباب.
وتقول: كل فعلى في الكلام لا ينصرف وكل فعلاء في الكلام لا ينصرف لأن هذا المثال لا ينصرف في الكلام البتة كما أنك لو قلت: هذا رجل أفعل لم ينصرف، لأنك مثلَّته بما لا ينصرف وهي صفة، فأفعل صفة كفعلاء.
هذا باب ما ينصرف من الأفعال إذا سميت به رجلا زعم يونس: أنك إذا سميت رجلاً بضارب من قولك: ضاربٌ، وأنت تأمر، فهو مصروف.
وكذلك إن سميته ضارب، وكذلك ضرب. وهو قول أبي عمرو والخليل، وذلك لأنَّها حيث صارت اسماً في موضع الاسم المجرور والمنصوب والمرفوع، ولم تجيء في أوائلها الزوائد التي ليس في الأصل عندهم أن تكون في أوائل الأسماء إذا كانت على بناء الفعل غلبت الأسماء عليها إذا أشبهتها في البناء وصارت أوائلها الأوائل التي هي في الأصل للأسماء، فصارت بمنزلة ضارب الذي هو اسم، وبمنزلة حجرٍ وتابلٍ، كما أنَّ يزيد وتغلب يصيران بمنزلة تنضبٍ ويعمل إذا صارت اسماً.
وأما عيسى فكان لا يصرف ذلك. وهو خلاف قول العرب، سمعناهم يصرفون الرجل يسَّمى: كعبساً؛ وإنَّما هو فعل من الكعسبة، وهو العدو الشديد(3/206)
مع تداني الخطا. والعرب تنشد هذا البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي:
أنا ابنُ جَلاَ وطلاّع الثنّايا ... مثى أَضَعِ العمِامةَ تَعْرِفونِي
ولا نراه على قول عيسى ولكنَّه على الحكاية، كما قال:
بَني شابَ قَرناها تَصُرُّ وتَحْلُبُ
كأنه قال: أنا ابن الذي يقال له: جلا.
فإن سميت رجلاً ضَّرب أو ضرِّب أو ضورب لم تصرف. فأما فعَّل فهو مصروف، ودحرج ودحرج لا تصرفه لأنَّه لا يشبه الأسماء.(3/207)
ولا يصرفون خضَّم، وهو اسم للعنبر بن عمرو بن تميم.
فإن حقرت هذه الأسماء صرفتها، لأنَّها تشبه الأسماء، فيصير ضاربٌ وضاربٌ ونحوهما بمنزلة ساعد وخاتم.
فكل اسم يسمى بشيء من الفعل ليست في أوله زيادة وله مثال في الأسماء انصرف؛ فإن سميته باسمٍ في أوله زيادة وأشبه الأفعال لم ينصرف.
فهذه جملة هذا كله.
وإن سميِّت رجلاً ببقِّم أو شلَّم وهو بيت المقدس لم تصرفه البتة؛ لأنه ليس في العربية اسمٌ على هذا البناء، ولأنه أشبه فعِّلا، فهو لا ينصرف إذا صار اسما؛ لأنه ليس له نظيرٌ في الأسماء، لأنَّه جاء على بناء الفعل الذي(3/208)
إنما هو في الأصل للفعل لا للأسماء، فاستثقل فيه ما يستثقل في الأفعال. فإن حقرته صرفته.
وإن سميت رجلا ضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيث قلت: هذا ضربون قد أقبل، تلحق النون كما تلحقها في أولى لو سميت بها رجلاً من قوله عز وجل: " أولي أجنحةٍ ". ومن قال: هذا مسلمون في اسم رجل قال: هذا ضربون، ورأيت ضربين. وكذلك يضربون في هذا القول.
فإن جعلت النون حرف الإعراب فيمن قال هذا مسلمينٌ قلت: هذا ضربينٌ قد جاء. ولو سميت رجلا: مسلمينٌ على هذه اللغة لقلت: هذا مسلمينٌ، صرفت وأبدلت مكان الواو ياءً، لأنَّها قد صارت بمنزلة الأسماء، وصرت كأنَّك سميّته بمثل: يبرين. وإنَّما فعلت هذا بهذا حين لم يكن(3/209)
علامةً للإضمار، وكان علامةً للجمع، كما فعلت ذلك بضربت حين كانت علامةً للتأنيث، فقلت هذا ضربة قد جاء. وتجعل التاء هاء لأنهَّا قد دخلت في الأسماء حين قلت هذه ضربه، فوقفت إذا كانت بعد حرف متحرك قلبت التاء هاء حين كانت علامة للتأنيث.
وإن سميَّته ضرباً في هذا القول ألحقته النون، وجعلته بمنزلة رجل سمي برجلين. وإنما كففت النون في الفعل، لأنك حين ثنيت وكانت الفتحة لازمةً للواحد حذفت أيضاً في الاثنين النون، ووافق الفتح في ذاك النصب في اللفظ، فكان حذف النون نظير الفتح، كما كان الكسر في هيهات نظير الفتح في: هيهات.
وإن سميت رجلا بضربن أو يضربن، لم تصرفه في هذا، لأنه ليس له نظيرٌ في الأسماء؛ لأنَّك إن جعلت النون علامة للجمع فليس في الكلام مثل: جعفرٍ، فلا تصرفه. وإن جعلته علامةً للفاعلات حكيته. فهو في كلا القولين لا ينصرف.
باب ما لحقته الألف في آخره فمنعه ذلك من الانصراف في المعرفة والنكرة، وما لحقته الألف فانصرف في النكرة ولم ينصرف في المعرفة
أمّا لا ينصرف فيهما فنحو: حبلى وحبارى، وجمزى ودفلى، وشروى وغضبى. وذاك أنَّهم أرادوا أن يفرقوا بين الألف التي تكون بدلاً من(3/210)
الحرف الذي هو من نفس الكلمة، والألف التي تلحق ما كان من بنات الثلاثة ببنات الأربعة، وبين هذه الألف التي تجيء للتأنيث.
فأما ذفرى فقد اختلفت فيها العرب، فيقولون: هذه ذفرى أسيلةٌ، ويقول بعضهم: هذه ذفرى أسيلةٌ، وهي أفلّهما، جعلوها تلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة، كما أن واو جدولٍ بتلك المنزلة.
وكذلك: تترى فيها لغتان.
وأما معزىً فليس فيها إلا لغة واحدة، تنوَّن في النكرة.
وكذلك: الأرطى كلهم يصرف. وتذكيره مما يقوى على هذا التفسير.
وكذلك: العلقى. ألا ترى أنَّهم إذا أنثوا قالوا: علقاةٌ وأرطاةٌ، لأنهما ليستا ألفي تأنيث.
وقالوا: بهمى واحدة، لأنَّها ألف تأنيث، وبهمى جميع.(3/211)
وحبنطًى بهذه المنزلة، إنما جاءت ملحقة بجعفلٍ. وكينونته وصفاً للمذكَّر يدلك على ذلك، ولحاق الهاء في المؤنث.
وكذلك قبعثرى؛ لأنك لم تلحق هذه الألف للتأنيث. ألا ترى أنك تقول: قبعثراةٌ، وإنما هي زيادة لحقت بنات الخمسة، كما لحقتها الياء في قولك: دردبسٍ.
وبعض العرب يؤنث العلقى، فينزِّلها منزلة: البهمى، يجعل الألف للتأنيث. وقال العجاج.
يَسْتَنُّ في عَلْقَى وفي مكُورِ
فلم ينونه.
وإنما منعهم من صرف: دفلى وشروى ونحوهما في النكرة أن ألفهما حرف يكسَّر عليه الاسم إذا قلت: حبالى، وتدخل تاء التأنيث لمعنىً(3/212)
يخرج منه، ولا تلحق به أبدا بناءً ببناء، كما فعلوا ذلك بنون رعشنٍ وبتاء سنبتة وعفريت. ألا تراهم قالوا: جمزىً فبنوا عليها الحرف، فتوالت فيه ثلاث حركات، وليس شيء يبنى على الألف التي لغير التأنيث نحو نون رعشنٍ، توالى فيه ثلاث حركات فيما عدته أربعة أحرف، لأنَّها ليست من الحروف التي تلحق بناءً ببناء، وإنما تدخل لمعنى، فلما بعدت من حروف الأصل تركوا صرفها، كما تركوا صرف مساجد حيث كسروا هذا البناء على ما لا يكون عليه الواحد.
وأما موسى وعيسى فإنهما أعجميان لا ينصرفان في المعرفة، وينصرفان في النكرة، أخبرني بذلك من أثق به.
وموسى مفعل، وعيسى فعلى؛ والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة بمنزلة ياء معزى. وموسى الحديد مفعل، ولو سميت بها رجلا لم تصرفها لأنها مؤنثة بمنزلة معزى إلا أن الياء في موسى من نفس الكلمة.
هذا باب
ما لحقته ألف التأنيث بعد ألف فمنعه ذلك من الانصراف في النكرة والمعرفة وذلك نحو حمراء، وصفراء، وخضراء، وصحراء، وطرفاء، ونفساء،(3/213)
وعشراء، وقوباء، وفقهاء، وسابياء، وحاوياء، وكبرياء. ومثله أيضا: عاشوراء ومنه أيضا: أصدقاء وأصفياء. ومنه زمكاَّء وبروكاء وبراكاء، ودبوقاء، وخنفساء، وعنظباء، وعقرباء، وزكرياَء.
فقد جاءت في هذه الأبنية كلَّها للتأنيث. والألف إذا كانت بعد ألفٍ، مثلها إذا كانت وحدها، إلا أنَّك همزت الآخرة للتحريك، لأنه لا ينجزم حرفان، فصارت الهمزة التي هي بدلٌ من الألف بمنزلة الألف لو لم تبدل، وجرى عليها ما كان يجري عليها إذا كانت ثابتة، كما صارت الهاء في هراق بمنزلة الألف.
واعلم أن الألفين لا تزادان أبدا إلا للتأنيث، ولا تزادان أبداً لتلحقا بنات الثلاثة بسرداحٍ ونحوها. ألا ترى أنك لم ترقطّ فعلاء مصروفةً ولم نر شيئاً من بنات الثلاثة فيه ألفان زائدتان مصروفا.
فإن قلت: فما بال علباءٍ وحرباء؟ فإ، َّ هذه الهمزة التي بعد الألف إنما هي بدل من ياءٍ، كالياء التي في درحايةٍ وأشباهها، وإنَّما جاءت هاتان الزائدتان هنا لتلحقا علباءً وحرباءً، بسرداحٍ وسربالٍ. ألا ترى أن هذه الألف والياء لا تلحقان اسما فيكون أوله مفتوحاً، لأنه ليس في الكلام مثل(3/214)
سرداحٍ ولا سربالٍ، وإنما تلحقان لتجعلا بنات الثلاثة على هذا المثال والبناء، فصارت هذه الياء بمنزلة ما هو من نفس الحرف، ولا تلحق ألفان للتأنيث شيئاً فتلحقا هذا البناء به، ولا تلحق ألفان للتأنيث شيئاً على ثلاثة أحرف وأول الاسم مضموم أو مكسور، وذلك لأنَّ هذه الياء والألف إنما تلحقان لتبلغا بنات الثلاثة بسرداحٍ وفسطاط لا تزادان ههنا إلا لهذا، فلم تشركهما الألفان اللتان للتأنيث، كما لم تشركا الألفين في مواضعهما، وصار هذا الموضع ليس من المواضع التي تلحق فيها الألفان اللتان للتأنيث، وصار لهما إذا جاءتا للتأنيث أبنية لا تلحق فيها الياء بعد الألف، يعني الهمزة. فكذلك لم تلحقا في المواضع التي تلحق فيها الياء بعد الألف.
واعلم أنَّ من العرب من يقول: هذا قوباءٌ كما ترى، وذلك لأنهم أرادوا أن يلحقوه ببناء فسطاط والتذكير يدلك على ذلك والصرف.
وأما غوغاء، فمن العرب من يجعلها بمنزلة عوراء، فيؤنث ولا يصرف، ومنهم من يجعلها بمنزلة قضقاضٍ، فيذكر ويصرف، ويجعل الغين والواو مضاعفتين، بمنزلة القاف والضاد. ولا يجيء على هذا البناء إلا ما كان مردَّداً. والواحدة غوغاء.
هذا باب ما لحقته نونٌ بعد ألف فلم ينصرف في معرفة ولا نكرة وذلك نحو: عطشان، وسكران، وعجلان، وأشباهها. وذلك أنهم جعلوا(3/215)
النون حيث جاءت بعد ألف كألف حمراء، لأنها على مثالها في عدَّة الحروف والتحرك والسكون، وهاتان الزائدتان قد اختص بهما المذكر. ولا تلحقه علامة التأنيث، كما أن حمراء لم تؤنَّث على بناء المذكَّر. ولمؤنث سكران بناءٌ على حدةٍ كما كان لمذكَّر حمراء بناءٌ على حدة.
فلما ضارع فعلاء هذه المضارعة وأشبهها فيما ذكرت لك أجري مجراها.
باب ما لا ينصرف في المعرفة مما ليست نونه بمنزلة الألف التي في نحو: بشرى، وما أشبهها وذلك كل نون لا يكون في مؤنثها فعلى وهي زائدةٌ؛ وذلك نحو: عريانٍ وسرحانٍ وإنسانٍ. يدلك على زيادته سراحٍ فإنما أرادوا حيث قالوا: سرحانٌ أن يبلغوا به باب سرداحٍ، كما أرادوا أن يبلغوا بمعزى باب هجرعٍ.
ومن ذلك: ضبعانٌ. يدلَّك على زيادته قولك: الضَّبع والضبِّاع أشباه هذا كثير.
وإنما تعتبر أزيادة هي أم غير زيادة بالفعل، أو الجمع، أو بمصدر، أو مؤنث نحو: الضَّبع وأشباه ذلك.(3/216)
وإنما دعاهم إلى أن لا يصرفوا هذا في المعرفة أن آخره كآخر ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فجعلوه بمنزلته في المعرفة، كما جعلوا أفكلاً بمنزلة ما لا يدخله التنوين في معرفة ولا نكرة. وذلك أفعل صفة؛ لأنه بمنزلة الفعل، وكان هذه النون بعد الألف في الأصل لباب فعلان الذي له فعلى، كما كان بناء أفعل في الأصل للأفعال فلما صار هذا الذي ينصرف في النكرة في موضع يستثقل فيه التنوين جعلوه بمنزلة ما هذه الزيادة له في الأصل.
فإذا حقرت سرحان اسم رجل فقلت: سريحينٌ صرفته، لأن آخره الآن لا يشبه آخر غضبان، لأنك تقول في تصغير غضبان: غضيبان؛ ويصير بمنزلة غسليٍن وسنينٍ فيمن قال: هذه سنينٌ كما ترى. ولو كنت تدع صرف كل نون زائدة لتركت صرف رعشنٍ، ولكنك إنَّما تدع صرف ما آخره كآخر غضبان، كما تدع صرف ما كان على مثال الفعل إذا كانت الزيادة في أوله. فإذا قلت: إصليت صرفته لأنه لا يشبه الأفعال، فكذلك صرفت هذا لأن آخره لا يشبه آخر غضبان إذا صغرته. وهذا قول أبي عمروٍ والخليل ويونس.
وإذا سميّت رجلاً: طّحان، أو سمّان من السمن، أو تبان من التبن، صرفته في المعرفة والنكرة، لأنها نونٌ من نفس الحرف، وهي بمنزلة دال حمادٍ.
وسألته: عن رجل يسَّمى: دهقان، فقال: إن سميَّته من التَّدهقن فهو مصروف. وكذلك: شيطان إن أخذته من التشيَّطن. فالنون عندنا في مثل(3/217)
هذا من نفس الحرف إذا كان له فعل يثبت فيه النون. وإن جعلت دهقان من الدَّهق، وشيطان من شيَّط لم تصرفه.
وسألت الخليل: عن رجل يسمى مراناً، فقال: أصرفه، لأنَّ المران إنما سمِّى للينه، فهو فعّالٌ، كما يسمَّى الحماض لحموضته. وإنَّما المرانة اللين.
وسألته: عن رجل يسَّمى فيناناً فقال: مصروف، لأنَّه فيعالٌ، وإنما يريد أن يقول لشعره فنونٌ كأفنان الشجر.
وسألته: عن ديوانٍ، فقال: بمنزلة قيراطٍ، لأنَّه من دونت. ومن قال ديوانٌ فهو بمنزلة بيطار.
وسألته: عن رمان فقال: لا أصرفه، وأحمله على الأكثر إذا لم يكن له معنى يعرف.
وسألته: عن سعدان والمرجان، فقال: لا أشك في أن هذه النون زائدة، لأنه ليس في الكلام مثل: سرداحٍ ولا فعلالٌ إلا مضعَّفاً. وتفسيره كتفسير عريانٍ، وقصته كقصته.
فلو جاء شيء في مثال: جنجانٍ، لكانت النون عندنا بمنزلة نون مرّان، إلاّ أن يجيء أمر بيِّن، أو يكثر في كلامهم فيدعوا صرفه، فيعلم أنَّهم جعلوها زائدة، كما قالوا: غوغاء فجعلوها بمنزلة: عوراء. فلَّما لم يريدوا ذلك(3/218)
وأرادوا أن لا يجعلوا النون زائدة صرفوا، كما أنَّه لو كان خضخاضٌ لصرفته وقلت: ضاعفوا هذه النون.
فإن سمعناهم لم يصرفوا قلنا: لم يريدوا ذلك، يعني التضعيف، وأرادوا نوناً زائدة، يعنى في: جنحان.
وإذا سميت رجلا: حبنطي، أو علقي لم تصرفه في المعرفة، وترك الصرف فيه كترك الصرف في: عريان، وقصتَّه كقصته.
وأما علباءٌ وحرباء اسم رجل فمصروف في المعرفة والنكرة، من قبل أنَّه ليست بعد هذه الألف نون فيشَّبه آخره بآخر غضبان، كما شبه آخر علقى بآخر شروى. ولا يشبه آخر حمراء، لأنه بدلٌ من حرفٍ لا يؤنَّث به كالألف، وينصرف على كل حال، فجرى عليه ما جرى على ذلك الحرف، وذلك الحرف بمنزلة الياء والواو اللتين من نفس الحرف.
وسألته عن تحقير علقى، اسم رجل، فقال: أصرفه، كما صرفت سرحان حين حقرته، لأنَّ آخره حينئذ لا يشبه آخر ذفرى. وأما معزى فلا يصرف إذا حقرتها اسم رجل، من أجل التأنيث. ومن العرب من يؤنث علقى فلا ينوِّن. وزعموا أنَّ ناساً يذكِّرون معزًى، زعم أبو الخطّاب أنهى سمعهم يقولون:
ومِعْزًى هَدِباً يَعلو ... قِرانَ الأرضِ سودانا(3/219)
ونظير ذلك قول الله عز وجلَّ: " والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون " وقال عز وجلَّ: " فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الصَّادقين "؛ لأن هذا توكيدُ كأنه قال: يحلف بالله إنه لمن الصادقين.
.وقال الخليل: أشهد بأنك لذاهبُ غير جائز، من قبل أنَّ حروف الجر لا تعَّلق. وقال: أقول أشهد إنه لذاهبٌ وإنه لمنطلقٌ، أتبع آخره أوله. وإن قلت: أشهد أنه ذاهبُ، وإنه لمنطلقُ،. لم يجز إلاَّ الكسر في الثاني، لأن اللام لا تدخل أبداً على أنَّ، وأن محمولةُ على ما قبلها ولا تكون إلا مبتدأة باللام.
ومن ذلك أيضاً قولك: قد علمت إنه لخيرٌ منك. فإنَّ ههنا مبتدأةُ وعلمت ههنا بمنزلتها في قولك: لقد علمت أيهم أفضل، معلقةَّ في الموضعين جميعا.
وهذه اللام تصرف إنَّ إلى لابتداء، كما تصرف عبد الله إلى الابتداء إذا قلت قد علمت لعبد الله خيرُ منك، فعبد الله هنا بمنزلة إنَّ في أنه يصرف إلى الابتداء.
ولو قلت: قد علمت أنه لخيرُ منك، لقلت: قد علمت لزيداً خيراً منك، ورأيت لعبد الله هو الكريم، فهذه اللام لا تكون مع أنَّ ولا عبد الله إلاَّ وهما مبتدءان.
ونظير ذلك قوله عز وجل: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ "، فهو ههنا مبتدأ.
ونظير إنَّ مكسورةً إذا لحقتها اللام قوله تعالى: " ولقد علمت الجنةَّ إنَّهم لمحضرون " وقال أيضاً: " هل ندلكم على رجلٍ ينبئِّكم إذا مزقتم كلَّ ممزَّقٍ إنَّكم لفي خلق جديد "، فإنكم ههنا بمنزلة أيهم إذا قلت: ينبئهم أيهم أفضل.
وقال الخليل مثله: إنَّ الله يعلم ما تدعون من دونه من شيءٍ فما ههنا بمنزلة أيهم، ويعلم معلقة. قال الشاعر:
ألم تر إنّيِ وابنَ أَسْوَدَ ليلةً ... لَنَسْرِي إلى نارينِ يَعلْو سَناهُمَا
هذا باب هاءات التأنيث اعلم أن كل هاء كانت في اسم للتأنيث فإن ذلك الاسم لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة.
قلت: فما باله انصرف في النكرة وإنما هذه للتأنيث، هلا ترك صرفه في النكرة، كما ترك صرف ما فيه ألف التأنيث؟
قال: من قبل أن الهاء ليست عندهم في الاسم، وإنما هي بمنزلة اسم ضمَّ إلى اسم فجعلا اسما واحداً نحو: حضرموت. ألا ترى أن العرب تقول في حبارى: حبير، وفي جحجبى: جحيجب ولا يقولون في دجاجةٍ إلا دجيجة، ولا في قرقرةٍ إلا قريقرة، كما يقولون في حضرموت، وفي خمسة عشر: خميسة عشر، فجعلت هذه الهاء بمنزلة هذه الأشياء.
ويدلك على أن الهاء بهذه المنزلة أنها لم تلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة قط، ولا الأربعة بالخمسة، لأنها بمنزلة: عشر وموت، وكرب في معد يكرب. وإنما تلحق بناء المذكر، ولا يبنى عليها الاسم كالألف، ولم يصرفوها في المعرفة، كما يصرفوا معد يكرب ونحوه. وسأبين ذلك إن شاء الله.
هذا باب ما ينصرف في المذكر البتة مما ليس في آخره حرف التأنيث كلَّ مذكر سمي بثلاثة أحرف ليس فيه حرف التأنيث فهو مصروف(3/220)
كائناً ما كان، أعجمياً أو عربياً، أو مؤنثاً، إَّلا فعل مشتقاً من الفعل، أو يكون في أوله زيادة فيكون كيجد ويضع، أو يكون كضرب لا يشبه الأسماء. وذلك أن المذكر أشد تمكنا، فلذلك كان أحمل للتنوين، فاحتمل ذلك فيما كان على ثلاثة أحرف، لأنَّه ليس شيء من الأبنية أقلُّ حروفا منه، فاحتمل التنوين لخفته ولتمكنه في الكلام.
ولو سميت رجلا قدماً أو حشاً صرفته. فإن حّقرته قلت: قد بمٌ فهو مصروف، وذلك لاستخفافهم هذا التحقير كما استخفوا الثلاثة، لأنَّ هذا لا يكون إَّلا تحقير أقلَّ العدد، وليس محقَّر أقلُّ حروفا منه، فصار كغير المحَّقر الذي هو أقُّل ما كان غير محَّقر حروفا. وهذا قول العرب والخليل ويونس.
واعلم أن كل اسم لا ينصرف فإن الجر يدخله إذا أضفته أو أدخلت فيه الألف واللام، وذلك أنَّهم أمنوا التنوين، وأجروه مجرى الأسماء. وقد أوضحته في أول الكتاب بأكثر من هذا وإن سميت رجلاً ببنتٍ أو أختٍ صرفته، لأنك بنيت الاسم على هذه التاء وألحقها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا: سنبتةً بالأربعة. ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها، إنما هذه التاء فيها كتاء عفريتٍ، ولو كانت كألف التأنيث لم ينصرف في النكرة. وليست كالهاء لما ذكرت لك، وإنَّما هذه زيادة في الاسم بني عليها وانصرف في المعرفة. ولو أنَّ الهاء التي في دجاجة كهذه التاء انصرف في المعرفة.(3/221)
وإن سمَّيت رجلاً بهنه، وقد كانت في الوصل هنتٌ، قلت هنة يا فتى، تحرك النون وتثبت الهاء؛ لأنك لم تر مختصاً متمكنِّا على هذه الحال التي تكون عليها هنة قبل أن تكون اسماً تسكن النون في الوصل، وذا قليل. فإن حولته إلى الاسم لزمه القياس.
وإن سميت رجلاً ضربت قلت: هذا ضربه، لأنه لا يحرَّك ما قبل هذه التاء فتوالى أربع حركات؛ وليس هذا في الأسماء، فتجعلها هاء، وتحملها على ما فيه هاء التأنيث.
هذا باب فعل اعلم أنَّ كل فعلٍ كان اسماً معروفاً في الكلام أو صفةً فهو مصروف. فالأسماء نحو: صردٍ وجعلٍ، وثقبٍ وحفرٍ، إذا أردت جماع الحفرة والثقُّبة.
وأما الصفات فنحو قولك: هذا رجلٌ حطمٌ.
قال الحطم القيسي:(3/222)
قد لفَّها الليلُ بسواقٍ حطمٌ فإنما صرفت ما ذكرت لك، لأنه ليس باسمٍ يشبه الفعل الذي في أوله زيادة، وليست في آخره زيادة تأنيث، وليس بفعل لا نظير له في الأسماء، فصار ما كان منه اسماً ولم يكن جمعاً بمنزلة حجرٍ ونحوه وصار ما كان منه جمعاً بمنزلة كسرٍ وإبرٍ.
وأما ما كان صفة فصار بمنزلة قولك: هذا رجلٌ عملٌ، إذا أردت معنى كثير العمل.
وأما عمر وزفر، فإنما منعهم من صرفهما وأشباههما أنَّهما ليسا كشيء مما ذكرنا، وإنما هما محدودان عن البناء الذي هو أولى بهما، وهو بناؤهما في الأصل، فلما خالفا بناءهما في الأصل تركوا صرفهما، وذلك نحو: عامرٍ وزافرٍ.
ولا يجيء عمر وأشباهه محدوداً عن البناء الذي هو أولى به إلا وذلك البناء معرفة. كذلك جرى في الكلام.(3/223)
فإن قلت: عمرٌ آخر صرفته، لأنه نكرة فتحول عن موضع عامرٍ معرفةً.
وإن حقَّرته صرفته؛ لأن فعيلاً لا يقع في كلامهم محدوداً عن فويعلٍ وأشباهه، كما لم يقع فعلٌ نكرةً محدوداً عن عامرٍ، فصار تحقيره كتحقير عمرٍو، كما صارت نكرته كصردٍ وأشباهه. وهذا قول الخليل. وزحل معدول في حالةٍ، إذا أردت اسم الكوكب فلا ينصرف. وسألته عن جمع وكتع فقال: هما معرفة بمنزلة كلُّهم، وهما معدولتان عن جمع جمعاء، وجمع كتعاء، وهما منصرفان في النكرة.
وسألته عن صغر من قوله: الصغري وصغر فقال: أصرف هذا في المعرفة لأنه بمنزلة: ثقبةٍ وثقبٍ، ولم يشبهَّ بشيء محدود عن وجهه.
قلت: فما بال أخر لا ينصرف في معرفة ولا نكرة؟ فقال: لأن أخر خالفت أخواتها وأصلها، وإنما هي بمنزلة: الطول والوسط والكبر، لا يكنَّ صفة إلا وفيهن ألف ولام، فتوصف بهنَّ المعرفة. ألا أنك لا تقول:(3/224)
نسوةٌ صغرٌ، ولا هؤلاء نسوةٌ وسطٌ، ولا تقول: هؤلاء قومٌ أصاغر. فلما خالفت الأصل وجاءت صفة بغير الألف واللام تركوا صرفها، كما تركوا صرف لكع حين أرادوا يا ألكع، وفسق حين أرادوا يا فاسق. وترك الصرف في فسق هنا لأنه لا يمكن بمنزلة يا رجل للعدل. فإن حقرت أخر اسم رجل صرفته، لأن فعيلاً لا يكون بناءً لمحدد عن وجهه، فلما حقَّرت غيرت البناء الذي جاء محدوداً عن وجهه.
وسألته عن أحاد وثناء ومثنى وثلاث ورباع، فقال: هو بمنزلة أخر، إنما حدُّه واحداً واحداً، واثنين اثنين، فجاء محدوداً عن وجهه فترك صرفه.
قلت أفتصرفه في النكرة؟ قال: لا، لأنه نكرة يوصف به نكرة، وقال لي: قال أبو عمرو: " أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع " صفةٌ، كأنك قلت: أولي أجنحةٍ اثنين اثنين، وثلاثةٍ ثلاثةٍ. وتصديق قول أبي عمروٍ وقول ساعدة بن جؤية:
وَعاودَني دِيني فبتُّ كأنَّما ... خِلالَ ضُلوعِ الصَّدر شرعٌ ممدَّد.(3/225)
ثم قال:
ولكنَّما أهلي بوادٍ أنيسُه ... ذئابٌ تبغَّى الناسَ مثْنَى ومَوْحَدُ.
فإذا حَّقرت ثناء وأحاد صرفته، كما صرفت أخيراً وعميراً، تصغير عمر وأخر إذا كان اسم رجل؛ لأنَّ هذا ليس هنا من البناء الذي يخالف به الأصل.
فإن قلت: ما بال قال صرف اسم رجل، وقيل التي هي فعل، وهما محدودان عن البناء الذي هو الأصل؟ فليس يدخل هذا على أحد في هذا القول، من قبل أنك خففت فعل وفعل نفسه، كما خففت الحركة(3/226)
من علم، وذلك من لغة بني تميم، فتقول: علم كما حذفت الهمزة من يرى ونحوها، فلَّما خفَّت وجاءت على مثال ما هو في الأسماء صرفت. وأمَّا عمر فليس محذوفاً من عامرٍ كما أن ميتاً محذوف من مّيتٍ، ولكنه اسمٌ بني من هذا اللفظ وخولف به بناء الأصل. يدلك على ذلك: أن مثنى ليس محذوفاً من اثنين.
وإن سميت رجلاً ضرب ثم خففته فأسكنت الراء صرفته؛ لأنك قد أخرجته إلى مثال ما ينصرف كما صرفت قيل، وصار تخفيك لضرب كتحقيرك إيَّاه، لأنَّك تخرجه إلى مثال الأسماء. ولو تركت صرف هذه الأشياء في التخفيف للعدل لما صرفت اسم هارٍ، لأنه محذوف من هائرٍ.
باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل اعلم أنه ليس شيءٌ يكون على هذا المثال إلاَّّ لم ينصرف في معرفة ولا نكرة. وذلك لأنه ليس شيء يكون واحداً يكون على هذا من البناء والواحد الذي هو أشدُّ تمكناً وهو الأول فلما لم يكن هذا من بناء الواحد هو أشد تمكناً وهو الأول تركوا صرفه؛ إذ خرج من بناء الذي هو أشد تمكناً. وإنما صرفت مقاتلاً وعذافراً، لأن هذا المثال يكون للواحد.
قلت: فما بال ثمانٍ لم يشبه: صحارى وعذارى؟ قال: الياء في ثماني ياء الإضافة أدخلتها على فعالٍ، كما أدخلتها على يمانٍ وشآمٍ، فصرفت(3/227)
الاسم إذ خفَّفت كما إذ ثقلت يمانيٌّ وشآميٌّ. وكذلك: رباٍع، فإنَّما ألحقت هذه الأسماء ياءات الإضافة.
قلت: أرأيت صياقلةً وأشباهها؛ لم صرفت؟ قال: من قبل أن هذه الهاء إنَّما ضُّمت إلى صياقل، كما ضمت موت إلى حضر، وكرب إلى معدي في قول من قال: معد يكرب. وليست الهاء من الحروف التي تكون زيادةً في هذا البناء، كالياء والألف في صياقلةٍ، وكالياء ةالألف اللتين يبنى بهما الجميع إذا كسرت الواحد، ولكنَّها إنَّما تجيء مضمومة إلى هذا البناء كما تضم ياء الإضافة إلى مدائن ومساجد بعد ما يفرغ من البناء، فتلحق ما فبه الهاء من نحو: صياقلةٍ باب طلحةٍ وتمرةٍ، كما تلحق هذا بباب تميمىٍّ، وقيسىٍّ، يعني قولك مدائنيٌّ ومساجديٌّ فقد أخرجت هذه الياء مفاعيل ومفاعل إلى باب تميمي، كما أخرجته الهاء إلى باب طلحةٍ. ألا ترى أنَّ الواحد تقول له: مدائنىٌّ، فقد صار يقع للواحد ويكون من أسمائه.
وقد يكون هذا المثال للواحد نحو: رجلٍ عباقيةٍ، فلما لحقت هذه الهاء لم يكن عند العرب مثل البناء الذي ليس في الأصل للواحد، ولكنه صار عندهم بمنزلة اسمٍ ضم إليه فجعل اسماً واحداً، فقد تغير بهذا عن حاله، كما تغيَّر بياء الإضافة.
ويقول بعضهم: جندلٌ وذلذلٌ، يحذف ألف جنادل وذلاذل وينونون، يجعلونه عوضاً من هذا المحذوف.
واعلم أنَّك إذا سميت رجلاً مساجد، ثم حقَّرته صرفته؛ لأَّنك قد حوّلت(3/228)
هذا البناء. وإن سميته حضاجر ثم حقَّرته صرفته، لأنها إنما سِّميت بجمع الحضجر؛ سمعنا العرب يقولون: أوطبٌ حضاجر. وإنَّماجعل هذا اسما لضَّبع لسعة بطنها.
وأما سراويل فشيءٌ واحد، وهو أعجمي أعرب كما أعرب الآجرُّ، إَّلا أنَّ سراويل أشبه من كلامهم مالا ينصرف في نكرة ولا معرفة كما أشبه بقَّم الفعل ولم يكن له نظير في الأسماء. فإن حقرتها اسم رجل لم تصرفها كما لا تصرف عناق اسم رجل.
وأما شراحيل فتحقيره ينصرف؛ لأنَّه عربيٌّ ولا يكون إَّلا جماعا. وأمّا أجمالٌ وفلوس ق فإنها تنصرف وما اشبهها، ضارعت الواحد. ألا ترى أنك تقول: أقوالٌ وأقاويل، وأعرابٌ وأعاريب، وأيدٍ وأيادٍ. فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل إذا كسر للجميع كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع.
وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن(3/229)
هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت؛ كما أدخلوا الرفع والنصب في يفعل حين ضارع فاعلاً، وكما ترك صدف أفعل حين ضارع الفعل.
وكذلك الفعول لو كسّرت، مثل الفلوس، لأن تجمع جمعاً لأخرج إلى فعائل، كما تقول: جدودٌ وجدائد، وركوبٌ وركائب. ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم تجاوز هذا ويقوَّي ذلك أنَّ بعض العرب يقول: أتيٌ للواحد، فيضمُّ الألف.
وأما أفعالٌ فقد يقع للواحد، من العرب من يقول: هو الأنعام.
وقال الله عز وجل " نسقيكم مما في بطونه ".
وقال أبو الخطاب: سمعت العرب يقولون: هذا ثوبٌ أكياشٌ، ويقال: سدوسٌ لضرب من الثياب، كما تقول: جدورٌ. ولم يكسَّر عليه شيء كالجلوس والقعود.
وأما بخاتيُّ فليس بمنزلة مدائنيٍّ لأنك لم تلحق هذه الياء بخاتٍ للإضافة، ولكنها التي كانت في الواحد إذا كسرته للجمع، فصارت بمنزلة الياء في حذريةٍ، إذا قلت حذارٍ، وصارت هذه الياء كدال مساجد، لأنهَّا(3/230)
جرت في الجمع مجرى هذه الدال، لأنَّك بنيت الجمع بها، ولم تلحقها بعد فراغ من بنائها.
وقد جعل بعض الشعراء ثماني بمنزلة حذارٍ. حدثني أبو الخطَّاب أنَّه سمع العرب ينشدون هذا البيت غير منوَّن، قال:
يحدو ثماني مولعاً بلَقاحِها ... حتَّى هَمَمْنَ بَزْيغةِ الأرْتاجِ
وإذا حقَّرت بخاتيَّ اسم رجل صرفته، كما صرفت تحقير مساجد.
وكذلك صحارٍ فيمن قال: صحيرٌ، لأنه ليس ببناء جمع.
وأما ثمانٍ إذا سميت به رجلاً فلا تصرف؛ لأنها واحدة كعناقٍ.
وصحارٍ جماعٌ كعنوقٍ، فإذا ذهب ذلك البناء صرفته. وياء ثمانٍ كياء قمريٍّ وبختىٍّ، لحقت كلحاق ياء يمانٍ وشآمٍ وإن لم يكن فيهما معنى إضافة إلى بلد ولا إلى أب، كما لم يك ذلك في بختيٍّ.(3/231)
ورباعٍ بمنزلته وأجري مجرى سداسيٍ. وكذلك حواريٌ. وأما عواريُّ وعواديَّ وحواليٌّ فإنه كسر عليه حوليٌ وعاديٌ وعاريّةٌ، وليست ياء لحقت حوالٍ.
باب تسمية المذكر بلفظ الاثنين والجميع الذي تلحق له الواحد واواً ونوناً
فإذا سميَّت رجلاً برجلين فإن أقيسه وأجوده أن تقول: هذا رجلان ورأيت رجلين، ومررت برجلين، كما تقول: هذا مسلمون ورأيت مسلمين. ومررت بمسلمين. فهذه الياء والواو بمنزلة الياء والألف. ومثل ذلك قول العرب: هذه قنَّسرون وهذه فلسطون. ومن النحويين من يقول: هذا رجلان كما ترى، يجعله بمنزلة عثمان.
وقال الخليل: من قال هذا قال: مسلمينٌ كما ترى، جعله بمنزلة قولهم: سنينٌ كما ترى، وبمنزلة قول بعض العرب: فلسطينٌ وقنَّسرينٌ كما ترى. فإن قلت: هل تقول: هذا رجلينٌ، تدع الياء كما تركتها في مسلمين؟ فإنه إنما منعهم من ذلك أن هذه لا تشبه شيئاً من الأسماء في كلامهم، ومسلمينٌ مصروف كما كنت صارفاً سنياً.(3/232)
وقال في رجل اسمه مسلماتٌ أو ضرباتٌ: هذا ضرباتٌ كما ترى ومسلماتٌ كما ترى. وكذلك المرأة لو سميتها بهذا انصرفت. وذلك أن هذه التاء لما صارت في النصب والجر جراً أشبهت عندهم الياء التي في مسلمين، والياء التي في رجلين، وصار التنوين بمنزلة النون. ألا ترى إلى عرفاتٍ مصروفةً في كتاب الله عز وجلَّ وهي معرفةٌ. الدَّليل على ذلك قول العرب: هذه عرفاتٌ مباركاً فيها. ويدلك أيضاً على معرفتها أنك لا تدخل فيها ألفاً ولاما، وإنما عرفاتٌ بمنزلة أبانين، وبمنزلة جمع. ومثل ذلك أذرعاتٌ، سمعنا أكثر العرب يقولون في بيت امرئ القيس:
تنورَّتها مِن أذرعاتٍ، وأهُلها ... بيَثْرِبَ، أَدْنَى دارِها نظرٌ عالِ
ولو كانت عرفات نكرةً لكانت إذاً عرفات في غير موضع.(3/233)
ومن العرب من لا ينون أذرعات ويقول: هذه قريشيات كما ترى، شبهوها بهاء التأنيث، لأن الهاء تجئ للتأنبث ولا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة.
فإن قلت: كيف تشبهها بالهاء وبين التاء وبين الحرف المتحرك ألف؟ فإن الحرف الساكن ليس عندهم بحاجز حصين، فصارت التاء كأنِّها ليس بينها وبين الحرف المتحرك شيء. ألا ترى أنِّك تقول: اقتل فتتبع الألف التاء، كأنها ليس بينها شيء وسترى أشباه ذلك إن شاء الله مما يشبَّه بالشيء وليس مثله في كل شيء. ومنه ما قد مضى هذا باب الأسماء الأعجمية اعلم أن كلَّ اسم أعجمي أعرب وتمكن في الكلام فدخلته الألف واللام وصار نكرة، فإنك إذا سميت به رجلاً صرفته، إَّلا أن يمنعه من الصرف ما يمنع العربي. وذلك نحو: اللجام، والديباج، واليرندج، والنَّيروز، والفرند، والزَّنجبيل، والأرندج، والياسمين فيمن قال: ياسمينٌ كما ترى، والسهريز، والآجر فإن قلت: أدع صرف الآجر، لأنه لا يشبه شيئاً من كلام العرب، فإنه(3/234)
قد أعرب وتمكن في الكلام، وليس بمنزلة شيء ترك صرفه من كلام العرب؛ لأنَّه لا يشبه الفعل وليس في آخره زيادة، وليس من نحو عمر، وليس بمؤنث، وإنمَّا هو بمنزلة عربيٍّ ليس له ثلنٍ في كلام العرب، نحو إبل، وكدت تكاد، وأشباه ذلك وأما إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب، وهرمز، وفيروز، وقارون، وفرعون، وأشباه هذه الأسماء فإنَّها لم تقع في كلامهم إلا معرفة على حد ما كانت في كلام العجم ولم تمكن في كلامهم كما تمكن الأول، ولكنها وقعت معرفة، ولم تكن من أسمائهم العربيَّة فاستنكروها ولم يجعلوها بمنزلة أسمائهم العربية: كنهشلٍ وشعثمٍ، ولم يكن شيء منها قبل ذلك اسماً يكون لكل شيء من أمةٍ. فلما لم يكن فيها شيء من ذلك استنكروها في كلامهم.
وإذا حقرت اسماً من هذه الأسماء فهو على عجمته كما أن العناق إذا حقرتها اسم رجل كانت على تأنيثها.
وأما صالحٌ، فعربي، وكذلك شعيبٌ.
وأما نوحٌ، وهودٌ، ولوطٌ فتنصرف على كل حال، لخفتها.
هذا باب تسمية المذكر بالمؤنث اعلم أن كل مذكّر سّميته مؤنّث على أربعة أحرف فصاعداً لم ينصرف.
وذلك أن أصل المذكر، عندهم أن يسمى بالمذكر، وهو شكله والذي يلائمه،(3/235)
فلما عدلوا عنه ما هو له في الأصل، وجاءوا بما لا يلائمه ولم يكن منه فعلوا ذلك به، كما فعلوا ذلك بتسميتهم إيَّاه بالمذكر وتركوا صرفه كما تركوا صرف الأعجمي.
فمن ذلك: عناق، وعقرب، وعقاب، وعنكبوت، وأشباه ذلك.
وسألته: عن ذراع فقال: ذراعٌ كثر تسميتهم به المذكر، وتمكن في المذكر وصار من أسمائه خاصَّة عندهم، ومع هذا أنهَّم يصفون به المذكر فيقولن: هذا ثوبٌ ذراعٌ. فقد تمكن هذا الاسم في المذكر.
وأما كراع فإن الوجه ترك الصرف، ومن العرب من يصرفه يشبهه بذراع؛ لأنه من أسماء المذكر. وذلك أخبث الوجهين.
وإن سمَّيت رجلاً ثماني لم تصرفه لأن ثماني اسم لمؤنث، كما أنك لا تصرف رجلا اسمه ثلاث؛ لأنَّه ثلاثا كعناق.
ولو سميت رجلا حبارى، ثم حقرته فقلت: حبير لم تصرفه، لأنَّك لو حقرت الحبارى نفسها فقلت: حبيرٌ كنت إنمَّا تعني المؤنَّث، فالياء إذا ذهبت فإنما هي مؤنثة؛ كعنيّقٍ.
واعلم أنك إذا سميت المذكر بصفة المؤنَّث صرفته، وذلك أن تسِّمى رجلاً بحائضٍ أو طامثٍ أو متئمٍ. فزعم أنه إنما يصرف هذه الصفات لأنَّها مذكرةٌ وصف بها المؤنث، كما يوصف المذكر بمؤنث لا يكون إلا لمذكَّر،(3/236)
وذلك نحو قولهم: رجلٌ نكحةٌ، ورجلٌ ربعةٌ، ورجل خجأةٌ فكأنَّ هذا المؤنَّث وصفٌ لسلعة أو لعين أو لنفس، وما أشبه هذا. وكأنَّ المذكر وصف لشيء، كأنك قلت: هذا شيءٌ حائضٌ ثم وصفت به المؤنَّث، كما تقول هذا بكرٌ ضامرٌ، ثم تقول: ناقةٌ ضامرٌ.
وزعم الخليل أن فعولاً ومفعالاً إنَّما امتعتنا من الهاء لأنَّهما إنما وقعتا في الكلام على التذكير، ولكنَّه يوصف به المؤنث، كما يوصف بعدلٍ وبرضاً. فلو لم تصرف حائضا لم تصرف رجلا يسَّمى قاعداً إذا أردت صفة القاعد من الزوج ولم تكن لتصرف رجلاً يسمى ضارباً إذا أردت الناقة الضارب، ولم تصرف أيضاً رجلاً يسمى عاقراً؛ فإنَّ ما ذكرت لك مذكَّر وصف به مؤنَّث، كما أن ثلاثةٌ مؤنثٌ لا يقع إَّلا لمذكرين.
ومما جاء مؤنَّثاً صفةً تقع للمذكر والمؤنَّث: هذا غلامٌ يفعةٌ، وجاريةٌ يفعةٌ، وهذا رجل ربعةٌ، وامرأة ربعةٌ.
فأما ما جاء من المؤنَّث لا يقع إَّلا لمذكر وصفاً، فكأنه في الأصل صفة لسلعة أو نفسٍ، كما قال: " لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمةٌ " والعين عين القوم وهو ربيثتهم، كما كان الحائض في الأصل صفةً لشيء وإن لم يستعملوه؛ كما أنَّ أبرق في الأصل عندهم وصفٌ، وأبطح، وأجرع، وأجدل، فبمن ترك الَّصرف، وإن لم يستعملوه وأجروه مجرى الأسماء. وكذلك جنوبٌ وشمالٌ، وحرورٌ وسمومٌ وقبولٌ ودبورٌ، إذا سميت رجلاً بشيء منها صرفته(3/237)
لأنَّها صفاتٌ في أكثر كلام العرب: سمعناهم يقولون: هذه ريح حرورٌ، وهذه ريحٌ شمالٌ، وهذه الريح الجنوب، وهذه ريح سمومٌ، وهذه ريحٌ جنوبٌ. سمعنا ذلك من فصحاء العرب، لا يعرفون غيره. قال الأعشى:
لها زجلٌ كحفيف الحصا ... د صادَفَ باللَّيل رِيحاً دَبورَا
ويجعل اسماً، وذلك قليل، قال الشاعر.
حَالت وحِيلَ بها وغَيَّرَ آيَها ... صرفُ البِلَى تَجري به الرِيّحانِ
ريحُ الجَنوبِ مع الَّشمال وتارةً ... رِهَمُ الرَّبيع وصائبُ التَّهتان
فمن جعلها أسماء لم يصرف شيئاً منها اسم رجل، وصارت بمنزلة: الصعَّود والهبوط، والحرور، والعروض.(3/238)
وإذا سميت رجلاً بسعاد أو زينب أو جيأل، وتقديرها جيعل، لم تصرفه؛ من قبل انَّ هذه أسماءٌ تمكنت في المؤنث واختص بها وهي مشتقة، وليس شيء منها يقع على شيء مذكر: كالرَّباب، والثوَّاب، والدَّلال. فهذه الأشياء مذكرة، وليست سعاد وأخواتها كذلك، ليست بأسماء للمذكر، ولكنهَّا اشتقَّت فجعلت مختصاً بها المؤنث في التسمية، فصارت عندهم كعناقٍ. وكذلك تسميتك رجلا بمثل: عمان؛ لأنَّها ليست بشيء مذكر معروف، ولكنَّها مشتقة لم تقع إلا علما لمؤنث وكان الغالب عليها المؤنَّث، فصارت عندهم حيث لم تقع إلاَّ لمؤنّثٍ كعناق لا تعرف إلا َّعلما لمؤنَّث، كما إن هذه مؤنثة في الكلام. فإن سمَّيت رجلاً بربابٍ، أودلالٍ صرفته؛ لأنه مذكر معروف.
واعلم أنَّك إذا سميت رجلاً خروقاً، أو كلابا، أو جمالا، صرفته في النكرة والمعرفة، وكذلك الجماع كلُّه. ألا تراهم صرفوا: أنماراً، وكلاباً؛ وذلك لأنَّ هذه تقع على المذكر، وليس يختص به واحد المؤنَّث فيكون مثله. ألا ترى أنَّك تقول: هم رجالٌ فتذكِّر كما ذكرت في الواحد، فلمَّا لم تكن فيه علامة التأنيث وكان يخرج إليه المذكر ضارع المذكر الذي يوصف به المؤنّث، وكان هذا مستوجبا لصرف إذا صرف ذراعٌ وكراعٌ لما ذكرت لك.(3/239)
فإن قلت: ما تقول في رجل يسمَّى: بعنوق فإن عنوقا بمنزلة خروقٍ؛ لأن هذا التأنيث هو التأنيث الذي يجمع به المذكَّر، وليس كتأنيث عناق، ولكن تأنيثه تأنيث الذي يجمع المذكَّرين، وهذا التأنيث الذي في عنوقٍ تأنيث حادث، فعنوقٌ البناء الذي يقع للمذكرين، والمؤنث الذي يجمع المذكرين. وكذلك رجل يسمَّى: نساءً، لأنها جمع نسوةٍ.
فأمَّا الطًّاغون فهو اسمٌ واحدٌ مؤنث، يقع على الجميع كهيئة للواحد. وقال عزَّ وجلَّ: " والذين اجتنبوا الطَّاغوت أن يعبدوها ".
وأمَّا ما كان اسماً لجمع مؤنث لم يكن له واحدٌ فتأنيثه كتأنيث الواحد، لا تصرفه اسم رجل، نحو: ابل، وغنم؛ لأنَّه ليس له واحد، يعني أنه إذا جاء اسماً لجمع ليس له واحد كسر عليه، فكان ذلك الاسم على أربعة أحرف، لم تصرفه اسماً لمذكر.
هذا باب تسمية المؤنث اعلم أن كل مؤنث سميته بثلاثة أحرف متوالٍ منها حرفان بالتحرك لا ينصرف، فإن سميته بثلاثة أحرف فكان الأوسط منها ساكناً وكانت شيئاً مؤنثاً أو اسماً الغالب عليه المؤنث كسعاد، فأنت بالخيار: إن شئت صرفته وإن شئت لم تصرفه. وترك الصرف أجواد.(3/240)
وتلك الأسماء نحو: قدر، وعنز، ودعد، وجمل، ونعم، وهند.
وقال الشاعر فصرفت ذلك ولم يصرفه:
لم تتلفَّع بِفَضْلِ مِئْزَرِها ... دعدٌ ولم تغذ دعد في العلب
فصرفت ولم يصرف. وإنمَّا كان المؤنث بهذه المنزلة ولم يكن كالمذكر لأن الأشياء كلَّها أصلها التذكير ثم تختصَّ بعد، فكل مؤنث شيءٌ، والشيء يذكَّر، فالتذكير أول، وهو أشد تمكناً، كما أنَّ النكرة هي أشد تمكناً من المعرفة، لأنَّ الأشياء إنمَّا تكون نكرةً ثم تعرف فالتذكير قبل، وهو أشد تمكناً عندهم. فالأول هو أشد تمكناً عندهم.(3/241)
فالنكرة تعرف بالألف واللام والإضافة، وبأن يكون علماً. والشيء يختص بالتأنيث فيخرج من التذكير، كما يخرج المنكور إلى المعرفة.
فإن سميت المؤنث بعمرو أو زيد، لم يجز الصرف.
هذا قول ابن أبي إسحاق وأبي عمرو، فيما حدثنا يونس، وهو القياس؛ لأنَّ المؤنث أشد ملاءمة للمؤنث. والأصل عندهم أن يسمىَّ المؤنث بالمؤنث، كما أنَّ أصل تسمية المذكَّر بالمذكر.
وكان عيسى يصرف امرأة اسمها عمرو، لأنَّه على أخف الأبنية.
هذا باب أسماء الأرضين إذا كان اسم الأرض على ثلاثة أحرف خفيفةٍ وكان مؤنثاً، أو كان الغالب عليه المؤنث كعمان، فهو بمنزلة: قدر، وشمس، ودعد.
وبلغنا عن بعض المفسَّرين أن قوله عزَّ وجلَّ: " اهبطوا مصر "، إنما أراد مصر بعينها.
فإن كان الاسم الذي على ثلاثة أحرف أعجميَّا، لم ينصرف وإن كان خفيفا، لأن المؤنث في ثلاثة الأحرف الخفيفة إذا كان أعجمياً، بمنزلة المذكَّر في الأربعة فما فوقها إذا كان اسما مؤنثاً. ألا ترى أنَّك لو سَّميت مؤنثَّا بمذكر خفيف لم تصرفه، كما لم تصرف المذكَّر إذا سميته بعناق ونحوها.(3/242)
فمن الأعجمَّية: حمص، وجور، وماه. فلو سميت امرأة بشىء من هذه الأسماء لم تصرفها، كما لا تصرف الرَّجل لو سميَّته بفارس ودمشق.
وأمَّا واسطٌ فالتذكير والصرف أكثر، وإنمَّا سمي واسطاً، لأنه مكانٌ وسط البصرة والكوفة. فلو أرادوا التأنيث قالوا: واسطةٌ. ومن العرب من يجعلها اسم أرض فلا يصرف.
ودابقٌ الصرف والتذكير فيه أجود. قال الراجز، وهو غيلان:
ودابِقُ وأَيْنَ مِّني دابِقُ
وقد يؤنث فلا يصرف.
وكذلك منًى، الصرف والتذكير أجود، وإن شئت أنثت ولم تصرفه.
وكذلك هجر، يؤنث ويذكَّر. قال الفرزدق:
منهنّ ايَّام صِدْقٍ قد عُرِفْتُ بها ... أيَّام فارِسَ والأَيَّامُ منْ هجرا(3/243)
فهذا أنت.
وسمعنا من يقول: " كجالب التَّمر إلى هجر " يا فتى.
وأمَّا حجر اليمامة فيذكَّر ويصرف. ومنهم من يؤنث فيجريه مجرى امرأةٍ سميِّت بعمروٍ، لأن حجرا شيء مذكر سِّمي به المذكَّر.
فمن الأرضين: ما يكون مؤنَّثا ويكون مذكَّرا، ومنها مالا يكون إلا على التأنيث، نحو: عمان، والزاب، وإراب، ومنها ما لا يكون إَّلا على التذكير نحو فلجٍ، وما وقع صفة كواسطٍ ثم صار بمنزلة زيد وعمرو، وإنمَّا وقع لمعنى، نحو قول الشاعر:
ونابِغةُ الجعديُّ بالرَّمل بيتُه ... عليه ترابٌ من صَفيحٍ موضَّع
أخرج الألف واللام وجعله كواسط.
وأمَّا قولهم: قباء وحراء، فد اختلفت العرب فيهما، فمنهم من يذكر ويصرف، وذلك أنهَّم جعلوهما اسمين لمكانين، كما جعلوا واسطاً بلداً أو مكانا. ومنهم من أنَّث ولم يصرف، وجعلهما اسمين لبقعتين من الأرض.
قال الشاعر، جرير:(3/244)
ستَعْلَمُ أَيُّنَا خَيْرٌ قديمَا ... وأَعْظَمُنَا ببَطْنِ حِرَاءَ نارَا
وكذلك أضاخ؛ فهذا أنَّث، وقال غيره فذكر. وقال العجاج:
وربِّ وجهٍ من حراءٍ مُنْحَنِ
وسألت الخليل فقلت: أرأيت من قال: قباء يا هذا، كيف ينبغي له أن يقول إذا سمَّى به رجلاً؟ قال: يصرفه، وغير الصرف خطأٌ، لأنَّه ليس بمؤنَّث معروف في الكلام، ولكنَّه مشتق كجلاس، وليس شيئاً قد غلب عليه عندهم التأنيث كسعاد وزينب. ولكه مشتقٌّ يحتمله المذكَّر ولا ينصرف في المؤنث، كهجر وواسط. ألا ترى أنَّ العرب قد كفتك ذلك لمَّا جعلوا واسطا للمذكَّر صرفوه، فلو علموا أنَّه شيء للمؤَّنث كعناق(3/245)
لم يصرفوه، أو كان اسماً غلب التأنيث لم يصرفوه، ولكنَّه اسمٌ كغرابٍ ينصرف في المذكَّر ولا في المؤنث؛ فإذا سميت به الرجل فهو بمنزلة المكان.
قلت: فإن سمَّيته بلسان، في لغة من قال: هي اللسان؟ قال: لا أصرفه، من قبل أنَّ اللَّسان قد استقر عندهم حينئذٍ أنَّه بمنزلة: عناق قبل أن يكون اسماً لمعروف، وقباء وحراء ليسا هكذا، إنَّما وقعا علماً علماً على المؤنَّث والمذكر مشتقين وغير مشتقين في الكلام لمؤنَّث من شيء، والغالب عليهما التأنيث، فإنَّما هما كمذكر إذا وقع على المؤنَّث لم ينصرف. وأمَّا اللِّسان فبمنزلة اللذاذ واللذَّاذة، يؤنِّث قوم ويذكر آخرون.
هذا باب أسماء القبائل والأحياء وما يضاف إلى الأب والأم أمَّا ما يضاف إلى الآباء والأمهات فنحو قولك: هذه بنو تميمٍ، وهذه بنو سلولٍ، ونحو ذلك.(3/246)
فإذا قلت: هذه تميمٌ، وهذه أسدٌ، وهذه سلولٌ، فإنَّما تريد ذلك المعنى، غير أنَّك إذا حذفت المضاف تخفيفاً، كما قال عزَّ وجلَّ: " واسأل القرية "، ويطؤهم الطريق، وأنَّما يريدون: أهل القرية وأهل الطريق. وهذا في كلام العرب كثير، فلمَّا حذفت المضاف وقع عل المضاف إليه ما يقع على المضاف، لأنه صار في مكانه فجرى مجراه. وصرفت تميماً وأسداً؛ لأنك لم تجعل واحداً منهما اسماً للقبيلة؛ فصارا في الانصراف على حالهما قبل أن تحذف المضاف. ألا ترى أنَّك لو قلت: اسأل واسطاً كان في الانصراف على حاله إذا قلت: أهل واسطٍ فأنت لم تغير ذلك المعنى وذلك التأليف، إلا أنَّك حذفت. وإن شئت قلت: هؤلاء تميمٌ وأسدٌ؛ لأنَّك تقول: هؤلاء بنو أسدٍ وبنو تميم، فكما أثبتَّ اسم الجميع ههنا أثبت هنالك اسم المؤنث، يعني في: هذه تميمٌ وأسدٌ.
فإن قلت: لم لم يقولوا: هذا تميمٌ، فيكون الفظ كلفظه إذا لم ترد معنى الإضافة حين تقول: جاءت القرية، تريد: أهلها؟ فلأنَّهم أرادوا أن يفصلوا بين الإضافة وبين إفرادهم الرجل، فكرهوا الالتباس.
ومثل هذا القوم، هو واحدٌ في اللفظ، وصفته تجري على المعنى، لا تقول القوم ذاهبٌ.
وقد أدخلوا التأنيث فيما هو أبعد من هذا، أدخلوه فيما لا يتغير منه المعنى(3/247)
لو ذكرَّت، قالوا: ذهبت بعض أصابعه وقالوا: ذهبت بعض أصابعه، وقالوا: ما جاءت حاجتك. وقد بين أشباه هذا في موضعه.
وإن شئت جعلت تميماً وأسداً اسم قبيلة في الموضعين جميعاً فلم تصرفه. والدليل على ذلك قول الشاعر
نَبَا الخزُّ عن روحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ ... وعَجّتْ عجيجاً مِن جُذامَ المَطارِفُ
وسمعنا من العرب من يقول، للأخطل:
فإنْ تَبْخَلْ سَدُوسُ بدِرْهَمَيْها ... فإنَّ الريح طيَّبة قَبولُ(3/248)
فإذا قالوا: ولد سدوسٌ كذا وكذا، أو ولد جذامٌ كذا وكذا، صرفوه: ومما يقويِّ ذلك أن يونس زعم: أنَّ بعض العرب يقول: هذه تميم بنت مرٍّ. وسمعناهم يقولون: قيس بنت عيلان، وتميم صاحبة ذلك. فإنَّما قال: بنت حين جعله اسماً لقبيلة.
ومثل ذلك قوله: باهلة بن أعصر، فباهلة امرأةٌ ولكنَّه جعله اسماً للحي، فجاز له أن يقول: ابن.
ومثل ذلك تغلب ابنة وائلٍ.
غير أنه قد يجيء الشيء يكون الأكثر في كلامهم أن يكون أباً، وقد يجيء الشيء يكون الأكثر في كلامهم أن يكون اسماً للقبيلة. وكلٌّ جائز حسن.
فإذا قلت: هذه سدوس، فأكثرهم يجعله اسماً للقبيلة. وإذا قلت: هذه تميمٌ فأكثرهم يجعله اسماً للأب. وإذا قلت: هذه جذام فهي كسدوس. فإذا قلت: من بني سدوسٍ فالصرف، لأنَّك قصدت قصد الأب.(3/249)
وأما أسماء الأحياء فنحو: معدٍّ، وقريشٍ، وثقيفٍ. وكلُّ شيء لا يجوز لك أن تقول فيه: من بني فلان، ولا هؤلاء بنو فلان، فإنمَّا جعله اسم حي فإن قلت: لم تقول هذه ثقيفٍ، فإنهم إنما أرادوا: هذه جماعة ثقيف أو هذه جماعة فإنهم إنما أرادوا: هذه جماعة ثقيفٍ أو هذه جماعةٌ من ثقيف ثم حذفوها ههنا كما حذفوا في تميمٍ. ومن قال: هؤلاء جماعة ثقيف قال: هؤلاء ثقيف. فإن أرادت الحيَّ ولم ترد الحرف قلت: هؤلاء ثقيف، كما تقول: هؤلاء قومك، والحيّ جينئذٍ بمنزلة القوم، فكينونة هذه الأشياء للأحياء أكثر.
وقد تكون تميمٌ اسماً للحي. وإن جعلتها اسماً للقبائل فجائز حسن، ويعني قريش وأخواتها. قال الشاعر:
غلَبَ المَساميحَ الوَليدُ سَماحةً ... وكَفَى قُرَيشَ المُعْضِلاتِ وسادَهَا
وقال:
عَلِمَ القَبائِلُ مِن معدَّ وغيرِها ... أنّ الجَوادَ محمَّد بنُ عُطارِدِ(3/250)
وقال:
ولَسْنا إذا عدَّ الحَصَى بأقلةٍ ... وإنْ معدَّ اليومَ مودٍ ذَليلُهَا
وقال:
وأنت أمرؤٌ من خير قومِك فيهِمُ ... وأنتَ سِواهمْ في معدَّ مخيَّر
وقال زهير:
تمدُّ عليهمْ من يمينٍ واشملٍ ... بحورٌ له مِن عَهْدِ عادَ وتبعَّا
وقال:
لو شَهْدَ عادَ في زمانِ عاد ... لا بتزَّها مبارك الجلاد(3/251)
وتقول: هؤلاء ثقيف بن قسيٍ، فتجعله اسم الحي وتجعل ابن وصفاً، كما تقول: كلٌّ ذاهبٌ وبعضٌ ذاهبٌ، فهذه الأشياء إنمَّا هي آباءٌ، والحدُّ فيها أن تجري ذلك المجرى، وقد جاز فيها ما جاز في قريشٍ إذا كانت جمعاً لقوم. قال الشاعر فيما وصف به الحيُّ ولم يكن جمعاً:
بحيٍّ نميريٍّ عليه مهابةٌ ... جميعٍ إذا كان اللِّئامُ جَنادِعَا
وقال
سادُوا البِلادَ وأصْبَحُوا في آدمٍ ... بَلَغُوا بها بِيضَ الوجُوهِ فُحولاَ
فجعله كالحي والقبيلة.
وقال بعضهم: بنو عبد القيس؛ لأنه أب.
فأما ثمود وسبأ، فهما مرةً للقبيلتين، ومرةً للحيين، وكثرتهما سواءٌ. وقال تعالى: " وعاداً وثموداً " وقال تعالى: " ألا(3/252)
إنَّ ثموداً كفروا ربَّهم " وقال: " وآتينا ثمود النَّاقة مبصرةً "، وقال: " وأمَّا ثمود فهديناهم "، وقال: " لقد كان لسبأٍ في مساكنهم " وقال " من سبأٍ بنبأٍ يقين " وكلن أبو عمرٍ ولا يصرف سبأ، يجعله اسماً للقبيلة. وقال الشاعر:
مِنْ سَبَأَ الحاضِرينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنونَ مِنْ دُونِ سَيْله العَرِمَا
وقال في الصرف، للنابغة الجعدي:
أضحت ينفرها الوالدان مِنْ سبأٍ ... كأنّهم تحت دَفَّيْها دَحاريج(3/253)
هذا باب ما لم يقع إلا اسما للقبيلة كما أنّ عمان لم يقع إَّلا اسما لمؤنث، وكان التأنيث هو الغالب عليها وذلك: مجوس، ويهود. قال امرؤ القيس:
أحارِ أريكَ بَرْقاً هَبَّ وَهْناً ... كنارِ مَجوسَ تَسْتَعِرُ اسْتِعارَا
وقال:
أولئك أوْلَى من يَهودَ بِمَدْحهِ ... إذا أنْت يوماً قلتَها لم تؤنَّب
فلو سميت رجلاً بمجوس لم تصرفه، كما لا تصرفه إذا سميته بعمان.
وأما قولهم: اليهود والمجوس، فإنما أدخلوا الألف واللام ههنا كما أدخلوها في المجوسّ واليهودي، لأنهم أرادوا اليهوديِّين والمجوسِّيين، ولكنهم حذفوا ياءي الإضافة، وشبهوا ذلك بقولهم: زنجيٌّ وزنجٌ، إذا أدخلوا(3/254)
الألف واللام على هذا، فكأنك أدخلتها على: يهودِّيين ومجوسييِّن، وحذفوا ياءي الإضافة وأشباه ذلك. فإن أخرجت الألف واللام من المجوس صار نكرة، كما أنك لو أخرجتها من المجوسييِّن صار نكرة.
وأما نصارى فنكرة، وإنمَّا نصارى جمع نصران ونصرانةٍ، ولكنهَّ لا يستعمل في الكلام إلاّ بباءي الإضافة إلا في الشعر، ولكنهم بنو الجميع على حذف الياء، كما أن ندامى جمع ندمان، والنَّصاري ههنا بمنزلة: النصرانييِّن. ومما يدلك على ذلك قول الشاعر.
صدَّت، كما صدَّ عمَّا لا يحلُّ له ... ساقي نَصارَى قُبَيْلَ الفِصْحِ صُوّامِ
فوصفه بالنكرة، وإنمَّا النَّصاري جماع نصران ونصرانةٍ. والدليل على ذلك قول الشاعر:(3/255)
فكلتاهما خرَّت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانةٌ لم تحنَّف
فجاء على هذا كما جاء بعض الجميع على غير ما يستعمل واحداً في الكلام، نحو: مذاكير وملامح.
هذا باب أسماء السُّور تقول: هذه هودٌ كما ترى، إذا أردت أن تحذف سورة من قولك: هذه سورة هود، فيصير هكذا كقولك هذه تميمٌ كما ترى.
وإن جعلت هوداً اسم السورة لم تصرفها، لأنَّها تصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو. والسُّور بمنزلة النسِّاء، والأرضين.
وإذا أردت أن تجعل اقتربت اسماً قطعت الألف، كما قطعت ألف إضرب حين سمَّيت به الرجل، حتَّى يصير بمنزلة نظائره من الأسماء: نحو إصبع.
وأمّا نوح بمنزلة هودٍ، تقول: هذه نوحٌ، إذا أردت أن تحذف سورة من قولك: هذه سورة نوحٍ. ومما يدلُّك على أن ّك حذفت سورةً(3/256)
قولهم: هذه الرَّحمن. ولا يكون هذا أبداً إلا وأنت تريد: سورة الرَّحمن. وقد يجوز أن تجعل نوح اسماً ويصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو، إن جعلت نوح اسماً لها لم تصفره.
وأمَّا حم فلا ينصرف، جعلته اسماً لسورة أو أضفته إليه، لأنَّهم أنزلوه بمنزلة اسم أعجمي، نحو: هابيل وقابيل. وقال الشاعر: وهو الكميت:
وَجَدْنا لكم في آلِ حاميمَ آيةً ... تأوَّلها مِنّا تقيٌّ ومُعْرِبُ
وقال الحمَّاني:
أو كُتُباً بينَّ مِن حامِيما ... قد عَلِمَتْ أَبناءُ إبراهيما(3/257)
وكذلك: طاسين، وياسين.
واعلم أنه لا يجيء في كلامهم على بناء: حاميم وياسين، وإن أردت في هذا الحكاية تركته وقفاً على حاله. وقد قرأ بعضهم: " ياسين والقرآن "، و " قاف والقرآن ". فمن قال هذا فكأنه جعله اسما أعجميا، ثم قال: أذكر ياسين.
وأما صاد فلا تحتاج إلى أن تجعله اسما أعجميّا، لأنَّ هذا البناء والوزن من كلامهم، ولكنَّه يجوز أن يكون اسماً للسُّورة فلا تصرفه.
ويجوز أيضاً أن يكون ياسين وصاد اسمين غير متمكنين، فيلزمان الفتح، كما ألزمت الأسماء غير المتمكنة الحركات، نحو: كيف، وأين، وحيث، وأمس.
وأما طسم فإن جعلته اسماً لم يكن بدٌّ من أن تحرَّك النون، وتصيَّر ميماً كأنك وصلتها إلى طاسين، فجعلتها اسماً واحداً بمنزلة دراب جرد وبعل بكَّ. وإن شئت حكيت وتركت السواكن على حالها.
وأما كهيعص وآلمر فلا يكنَّ إلاَّ حكاية. وإن جعلتها بمنزلة طاسين لم يجز لأنهم لم يجعلوا طاسين كحضرموت ولكنهم جعلوها بمنزلة: هابيل، وقابيل، وهاروت.
وإن قلت: اجعلها بمنزلة: طاسين ميم لم يجز، لأنَّك وصلت ميماً إلى طاسين، ولا يجوز أن تصل خمسة أحرف فتجعلهن اسماً واحداً.
وإن قلت: اجعل الكاف والهاء اسماً، ثم اجعل الياء والعين اسماً، فإذا(3/258)
صارا اسمين ضممت أحدهما إلأى الآخر فجعلتها كاسم واحدا، لم يجز ذلك لأنَّه لم يجيء مثل حضرموت في كلام العرب موصولاً بمثله. وهذا أبعد، لأنك تريد أن تصله بالصاد.
فإن قلت: أدعه على حاله واجعله بمنزلة إسماعيل لم يجز؛ لأنَّ إسماعيل قد جاء عدة حروف على عدة حروف أكثر العربية، نحو: اشهيبابٍ. وكهيعص ليس على عدّة خروفه شىء، ولا يجوز فيه إلاَّ الحكاية.
وأما نون فيجوز صرفها في قول من صرف هنداً، لأن النون تكون أنثى فترفع وتنصب.
ومما يدلُّ على أن حاميم ليس من كلام العرب أن العرب لا تدري ما معنى حاميم. وإن قلت: إنَّ لفظ حروفه لا يشبه لفظ حروف الأعجمي فإنه قد يجيء الاسم هكذا وهو أعجميٌ، قالوا: قابوس ونحوه من الأسماء.
باب تسمية الحروف والكلم التي تستعمل وليست ظروفاً ولا أسماء غير ظروف؛ ولا أفعالاً فالعرب تختلف فيها، يؤنثها بعضٌ ويذكِّرها بعض، كما أن اللَّسان يذكَّر(3/259)
ويؤنَّث، زعم ذلك يونس، وأنشدنا قول الراجز:
كَافاً وميمَيْنِ وسِيناً طاسِما
فذكَّر ولم يقل: طاسمة. وقال الراعي:
كما بيِّنت كافٌ تَلوحُ ومِيمُهَا
فقال: بيِّنت فأنث
وأما إنَّ وليت، فحركت أواخرهما بالفتح، لأنَّهما بمنزلة الأفعال نحو كان فصار الفتح أولى، فإذا صيرت واحداً من الحرفين اسماً للحرف فهو ينصرف على كل حال. وإن جعلته اسماً للكلمة وأنت تريد بلغة من ذكر لم تصرفها، كما لم تصرف امرأة اسمها عمرو، وإن سميتها بلغة من أنث كنت بالخيار. ولا بدَّ لكلِّ واحدٍ من الحرفين إذا جعلته اسماً أن يتغير عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون اسماً، كما أنَّك إذا جعلت فعل اسما تغيّر عن حاله وصار بمنزلة الأسماء، وكما أنَّك إذا سمَّيته بأفعل غيرته عن حاله في الأمر. قال الشاعر: وهو أبو طالب:(3/260)
ليت شعري مسافر بن أبي عم ... رو ولَيْتٌ يَقولُها المَحْزونُ
وسألت الخليل عن رجلٍ سمَّيته أنَّ فقال: هذا أنَّ لا أكسره، وأنَّ غير إنَّ: إنَّ كالفعل وأنَّ كالاسم. ألا ترى أنَّك تقول: علمت أنك منطلق فمعناه: علمت انطلاقك، ولو قلت هذا لقلت لرجل يسمَّى بضاربٍ: يضرب، ولرجل يسمى يضرب: ضارب. ألا ترى أنَّك لو سميته بإن الجزاء كان مكسوراً، وإن سميته بأن التي تنصب الفعل كان مفتوحاً.
وأما لو، وأو، فهما ساكنتا الأواخر، لأن قبل آخر كل واحدٍ منهما حرفاً متحركاً، فإذا صارت كلُّ واحدة منهما اسماً، فقصتّها في التأنيث والتذكير والانصراف، كقصة ليت وإنَّ، إلاَّ أنَّك تلحق واواً أخرى فتثقل؛ وذلك لأنَّه ليس في كلام العرب اسمٌ آخره واوٌ قبلها حرف مفتوح.
قال الشاعر، أبو زبيد:
لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ منِّي لَيْتَ ... إنّ لَيْتاً وإنَّ لَوّاً عَنَاءُ(3/261)
وقال:
ألامُ عَلَى لوٍّ وَلَوْ كنتُ عالماً ... بِأَذنَابِ لوٍّ لم تَفُتْني أَوَائلُهْ
وكان بعض العرب يهمز، كما يهمز النؤور، فيقول: لوءٌ. وإنَّما دعاهم إلى تثقيل لوٍّ الذي يدخل الواو من الإجحاف لو نوَّنت وما قبلها متحرك مفتوح، فكرهوا أن لا يثقِّلوا حرفاً لو انكسر ما قبله أو انضمَّ ذهب في التنوين، ورأوا ذلك إخلالاً لو لم يفعلوا.
فممَّا جاء فيه الواو وقبله مضموم: هو، فلو سمَّيت به ثقَّلت، فقلت: هذا هوٌّ وتدع الهاء مضمومة، لأنَّ أصلها الضمُّ تقول: هما وهم وهنَّ.
ومما جاء وقبله مكسور: هي، فإن سميت به رجلاً ثقلته، كما ثقلت هو. وإن سميت مؤنثاً بهو لم تصرفه لأنه مذكر.
ولو سميت رجلاً ذو لقلت: هذا ذوّاً، لأن أصله فعلٌ. ألا ترى أنك(3/262)
تقول: هاتان ذواتا مالٍ. فهذا دليلٌ على أن ذو فعلٌ، كما أنَّ أبوان دليلٌ على أن أباً فعلٌ.
وكان الخليل يقول: هذا ذوٌّ بفتح الذال، لأنَّ أصلها الفتح، تقول: ذوا، وتقول: ذوو.
وأمَّا كي فتثقَّل ياؤها لأنه ليس في الكلام حرف آخره ياءً ما قبله مفتوح. وقصَّتها كقصَّة لو.
وأمَّا في فتثقَّل ياؤها، لأنهَّا لو نونت أجحف بها اسماً. وهي كياء هي وكواو هو، وليس في الكلام اسم هكذا، ولم يبلغوا بالأسماء هذه الغاية أن تكون في الوصل لا يبقى منها إَّلا حرف واحد، فإذا كانت اسماً لمؤنث لا ينصرف ثقلت أيضاً؛ لأنه إذا أثر أن يجعلها اسماً فقد لزمها أن تكون نكرة وأن تكون اسماً لمذكَّر، فكأنَّهم كرهوا أن يكون الاسم في التذكير والنكَّرة على حرف، كما كرهوا أن يكون كذلك في الوصل. وليس من كلامهم أن يكون في الانصراف والوصل على بناء وفي غير الانصراف والوصل على آخره، فصار الاسم لغير منصرف يجيء على بنائه إذا كان اسماً(3/263)
لمنصرف، ومن ثمَّ مدَّوا لا وفي في الانصراف وغير الانصراف، والتأنيث والتذكير، ككي ولو، وقصتها كقصتَّهما في كل شيء.
وإذا صارت ذا اسماً أو ما مدَّت، ولم تصرف واحداً منهما إذا كان اسم مؤنث، لأنهما مذكران. فأمَّا لا فتمدهُّا، وقصتها قصَّة في، في التذكير والتأنيث، والانصراف وتركه.
وسألته عن رجل اسمه: فو، فقال: العرب قد كفتنا أمر هذا، لما أفردوه قالوا: فمٌ، فأبدلوا الميم مكان الواو، حتَّى يصير على مثال تكون الأسماء عليه، فهذا البدل بمنزلة تثقيل لو ليشبه الأسماء فإذا سميتَّه بهذا فشبهه بالأسماء كما شبهت العرب ولو لم يكونوا قالوا: فمٌ لقلت: فوهٌ لأنَّه من الهاء قالوا: أفواهٌ كما قالوا سوط وأسواط.
وأما البا والتا والثا واليا والحا والخا والرا والطا والظا والفا فإذا صرن أسماء فهنّ مددن كما مدت لا مدت إلا أنهن إذا كن أسماء يجرين مجرى رجلٌ ونحوه، ويكنَّ نكرة بغير ألف ولام. ودخول الألف واللام فيهنَّ يدلك على أنهن نكرة إذا لم يكن فيهن ألف ولام، فأحريت هذه الحروف مجرى ابن مخاضٍ وابن لبونٍ، وأجريت الحروف الأول مجرى سام أبرص وأمٍ حبينٍ ونحوهما. ألا ترى أن الألف واللام لا تدخلان فيهن.(3/264)
واعلم أن هذه الحروف إذا تهجيت مقصورةٌ، لأنها ليست بأسماء وإنمَّا جاءت في الَّتهجيَّ على الوقف. ويدلك على ذلك: أن القاف والصاد والدال موقوفة الأواخر، فلولا أنهَّا على الوقف حركت أواخرهن. ونظير الوقف ههنا الحذف في الباء وأخواتها. وإذا أردت أن تلفظ بحروف المعجم قصرت وأسكنت، لأنك لست تريد أن تجعلها أسماء، ولكنك أردت أن تقطع حروف الاسم، فجاءت كأنها أصواتٌ يصوت بها، إلا أَّنك تقف عندها لأنها بمنزلة عه.
فإن قلت ما بالي أقول: واحدٌ اثنان، فأشمُّ الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف؟ فلأن الواحد اسمٌ متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج، وليس أصلها الإدراج، وهي ههنا بمنزلة لا في الكلام، إَّلا أنهَّا ليست تدرج عندهم؛ وذلك لأن لا في الكلام على غير ما هي عليه إذا كانت اسماً.
وزعم من يوثق به: أنهَّ سمع من العرب من يقول: ثلاثة أربعة، طرح همزة أربعة على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء، لأنهَّ جعلها ساكنة، والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.(3/265)
واعلم أنَّ الخليل كان يقول: إذا تهجَّيت فالحروف حالها كحالها في المعجم والمقَّطع، تقول: لام ألف، وقاف لام. قال: تُكَتّبانِ في الطريق لاَم ألِفْ وأمَّا زاي ففيها لغتان: فمنهم من يجعلها في التهجي ككي، ومنهم من يقول: زاي، فيجعلها بزنة واو، وهي أكثر.
وأمَّا أم ومن وإن، ومذ في لغة من جر، وأن، وعن إذا لم تكن ظرفا، ولم ونحوهن إذا كنَّ أسماء لم تغيرَّ، لأنَّها تشبه الأسماء نحو: يدٍ، ودمٍ، تجريهنَّ إن شئت إذا كن أسماء للتأنيث.
وأما نعم وبئس ونحوهما فليس فيهما كلامٌ، لأنهما لا تغيران لأنَّ عامة الأسماء على ثلاثة أحرف. ولا تجريهن إذا كن أسماء للكلمة، لأنَّهن أفعالٌ، والأفعال على التذكير، لأنهَّا تضارع فاعلاً.
واعلم أنك إذا جعلت حرفاً من حروف المعجم نحو: البا والتا وأخواتهما(3/266)
اسماً للحرف أو للكلمة أو لغير ذلك جرى مجرى لا إذا سميت بها، تقول: هذا باءٌ كما تقول: هذا لاءٌ فاعلم.
باب تسميتك الحروف بالظروف وغيرها من الأسماء اعلم أنَّك إذا سميت كلمةً بخلف أو فوق أو تحت لم تصرفها، لأنهَّا مذكَّرات. ألا ترى أنك تقول: تحيت ذاك، وخليف ذاك، ودوين ذاك. ولو كن مؤنّثاتٍ لدخلت فبهن الهاء، كما دخلت في قد يديمةٍ ووريئّةٍ.
وكذلك قبل وبعد، تقول: قبيل وبعيد. وكذلك أين وكيف ومتى عندنا، لأنَّها ظروف، وهي فيعندنا على التذكير، وهي الظروف بمنزلة ما ومن في الأسماء، فنظيرهنَّ من الأسماء غير الظروف مذكر. والظروف قد تبيَّن لنا أن أكثرها مذكر حيث حقرت، فهي على الأكثر وعلى نظائرها.
وكذلك إذ، هي كالحين وبمنزلة ما هو جوابه، وذلك متى.
وكذلك ثمَّ وهنا، هما بمنزلة أين، وكذلك حيث، وجواب أين كخلف ونحوها.
وأما أمام فكلُّ العرب تذكَّره. أخبرنا بذلك يونس.
وأما إذا ولدن فكعند، ومثلهن عن فيمن فال: من عن يمينه. وكذلك منذ في لغة من رفع، لأنهَّا كحيث.(3/267)
ولو لم تجد في هذا الباب ما يؤكد التذكير لكان أن تحمله على التذكير أولى حتىَّ يتبين لك أنه مؤنث.
وأما الأسماء غير الظروف فنحو بعض، وكل، وأي، وحسب. ألا ترى أنَّك تقول: أصبت حسبي من الداء.
وقط كحسب، وإن لم تقع في جميع مواقعها. ولو لم يكن اسماً لم تقل: قطك درهمان، فيكون مبنياً عليه، كما أنَّ على بمنزلة فوق وإن خالفتها في أكثر الواضع. سمعنا من العرب من يقول: نهضت من عليه، كما تقول: نهضت من فوقه.
واعلم أنهَّم إنمَّا قالوا: حسبك درهمٌ، وقطك درهمٌ، فأعربوا حسبك لانهَّا أشد تمكنا. ألا ترى أنهَّا تدخل عليها حروف الجرّ، تقول: بحسبك، وتقول: مررت برجلٍ حسبك، فتصف به. وقط لا تمكَّن هذا التمكَّن.
واعلم أنَّ جميع ما ذكرنا لا ينصرف منه شيءٌ إذا كان اسماً للكلمة، وينصرف جميع ما ذكرنا في المذكر، إلا أن وراء وقدام لا ينصرفان، لأنهَّما مؤنثان.
وأما ثمَّ وأين وحيث ونحوهن إذا صيرن اسماً لرجل أو امرأة أو حرفٍ أو كلمة، فلا بد لهنَّ من أن يتغيرن عن حالهنَّ ويصرن بمنزلة زيد وعمرو، لأنَّك وضعتهن بذلك الموضع، كما تغيرت ليت وإنَّ. فإن أردت حكاية هذه الحروف تركتها على حالها قال: " إن الله ينهاكم عن قيل وقال "، ومنهم من يقول: عن قبل وقالٍ، لما جعله اسماً. قال ابن مقبل:(3/268)
أَصْبَحَ الدهرُ وقد ألْوَى بهمْ ... غيرَ تَقْوالِك مِن قيلٍ وقالِ
والقوافي مجرورة. قال:
ولم أسمع به قِيلاً وقالاَ
وفي الحكاية قالوا: مذشبَّ إلى دبَّ، وإن شئتٍّ: مذشبٍّ إلى دب: وتقول إذا نظرت في الكتاب: هذا عمروٌ، وإنمَّا المعنى هذا اسم عمرو وهذا ذكر عمروٍ، ونحو هذا، إلا أنَّ هذا يجوز على سعة الكلام، كما تقول: جاءت القرية. وإن شئت قلت: هذه عمروٌ، أي هذه الكلمة اسم عمرو، كما تقول: هذه ألفٌ وأنت تريد هذه الدراهم الفٌ. وإن جعلته اسماً للكلمة لم تصرفه، وإن جعلته للحرف صرفته.
وأبو جادٍ وهوّازٌ وحطّيٌّ، كعمروٍ وفي جميع ما ذكرنا، وحال هذه الأسماء حال عمروٍ. وهي أسماءٌ عربية، وأمَّا كلمن وسعفص وقريشيات فإنهنَّ أعجمية لا ينصرفن، ولكنهَّن يقعن مواقع عمروٍ وفيما ذكرنا، إلا أنَّ قريشيات بمنزلة عرفاتٍ وأذرعاتٍ. فإمَّا الألف وما دخلته الألف واللام فإنمَّا يكنَّ معارف بالألف واللام، كما أنَّ الرجل لا يكون معرفة بغير ألف ولام.(3/269)
باب ما جاء معدولا عن حده من المؤنث كما جاء المذكر معدولا عن حده نحو: فسق، ولكع، وعمر، وزفر وهذا المذكر نظير ذلك المؤنث.
فقد يجيء هذا المعدول اسماً للفعل، واسماً للوصف المنادى المؤنث، كما كان فسق ونحوه المذكّر، وقد يكون اسماً للوصف غير المنادى وللمصدر ولا يكون إلاَّ مؤنثاً لمؤنث. وقد يجيء معدولاً كعمر، ليس اسماً لصفة ولا فعلٍ ولا مصدرٍ.
أما ما جاء اسماً للفعل وصار بمنزلته فقول الشاعر:
مَناعِها مِن إبِلٍ مناعها ... ألا ترى الموت لدى ارباعها(3/270)
تَراكِها مِن إبِلٍ تَراكِهَا ... ألا ترى الموتَ لَدَى أَوْراكِهَا
وقال أبو النجم:
حَذارِ من أرْماحِنا حَذارِ
وقال رؤبة:
نَظارِ كَيْ أرْكَبَها نَظارِ
ويقال: نزال، أي انزل. وقال زهير:
ولَنِعْمَ حَشْوُ الدّرْعِ أنتَ إذا ... دُعِيَتْ نَزالِ ولجَّ في الذَّعر(3/271)
ويقال للضَّبع: دباب، أي دبي. قال الشاعر:
نَعاء ابنَ لَيْلَى للسمَّاحة والنَّدى ... وأَيْدِي شمالٍ بارِداتِ الأنامِلِ
وقال جرير:
نَعاءُ أبا لَيْلَى لكْلِ طمرةٍ ... وجَرْداء مِثْلِ القوْس سمحٍ حُجولُها
فالحد في جميع هذا افعل ولكنه معدول عن حده وحرك آخره لأنه لا يكون بعد الألف ساكن. وحرّك بالكسر، إنَّ الكسر مما يؤنث به. تقول: إنك ذاهبةٌ وأنت ذاهبة، وتقول: هاتي هذا للجارية، وتقول: هذي أمة الله، واضر. إذا أردت المؤنث، وإنَّما الكسرة من الياء.
ومما جاء من الوصف منادّى وغير منادّى: يا خباث وبالكاع. فهذا(3/272)
اسم للخبيثة وللَّكعاء ومثل ذلك قول الشاعر، النابغة الجعدي:
فقلتُ لها عِيثِي جَعارِ وجرِّري ... بلحم امرىء لم يَشْهَدِ اليومَ ناصِرُهُ.
وإنَّما هو اسم للجاعرة، وإنَّما يريد بذلك الضَّبع. ويقال لها: فثام، لأنَّها تقثم أي تقطع. وقال الشاعر:
لِحَقَتْ حَلاقِ بهمْ على أكْسائهمْ ... ضَرْبَ الرِّقاب ولا يهمُّ المغنم
فحلاق معدول عن الحالقة، وإنَّما يريد بذلك المنية لأنها تحلق. وقال الشاعر، مهلهلٌ:(3/273)
ما أرجّى بالعيش بعد ندامى ... قد أراهم سقوا بكأسِ حَلاقِ
فهذا كله معدولٌ عن وجهه وأصله، فجعلوا آخره كآخر ما كان للفعل، لأنَّه معدول عن أصله، كما عدل: نظار وحذار وأشباههما عن حدهن، وكلهن مؤنث، فجعلوا بابهنَّ واحدا.
فإن قلت: ما بال فسقٌ ونحوه لا يكون جزماً كما كان هذا مكسورا؟ فإنَّما ذلك لم يقع في موضع الفعل فيصير بمنزلة: صه، ومه ونحوهما، فيشبَّه ها هنا به في ذلك الموضع. وإنَّما كسروا فعال ها هنا، لأنَّهم شبهوها بها في الفعل.
ومما جاء اسماً للمصدر قول الشاعر النابغة:
إنّا اقْتَسَمْنا خطَّتينا بيننا ... فَحَمَلْتُ بَرّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ
ففجار معدول عن الفجرة. وقال الشاعر:
فقال امْكُثِي حتَّى يَسارِ لَعَلَّنا ... نحجُّ معاُ قالتْ: أعاماً وقابله(3/274)
فهي معدولة عن الميسرة. وأجري هذا الباب مجرى الذي قبله أنه عدل كما عدل، ولأنَّه مؤنّث بمنزلته. وقال الشاعر الجعدي:
وذكرتَ مِن لَبَنِ المحلَّق شُرْبةً ... والخَيْلُ تَعْدو بالصعَّيد بَدَادِ
فهذا بمنزلة قوله: تعدو بدداً، إَّلا أنَّ هذا معدولٌ عن حده مؤنثاً.
وكذلك عدلت عليه مساس. والعرب تقول: أنت لا مساس، ومعناه لا تمسنُّي ولا أمسُّك. ودعني كفاف، فهذا معدول عن مؤنث وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك المؤنث الذي عدل عنه بداد وأخواتها.
ونحو ذا في كلامهم. ألا تراهم قالوا: ملامح ومشابه وليالٍ، فجاء جمعه على حدِّ ما لم يستعمل في الكلام، لا يقولون: ملمحة ولا ليلاة. ونحو ذا كثير. قال الشاعر، الملتمس:(3/275)
جَمادِ لها جَمادِ ولا تَقولي ... طَوالَ الدهرِ ما ذُكِرَتْ حَمادِ
فهذا بمنزلة جموداً؛ ولا تقولي: حماد عدل عن قوله: حمداً لها، ولكنه عدل عن مؤنث كبداد.
وأما ما جاء معدولاً عن حده من بنات الأربعة فقوله:
قالت: له ريحُ الصَّبا قَرْقارِ
فإنَّما يريد بذلك قال له: قرقر بالرَّعد للسَّحاب، وكذلك عرعار، وهو بمنزلة قرقار، وهي لعبة وإنمَّا هي من عرعرت. ونظيرها من الثلاثة خراج، أي اخرجوا، وهب لعبة أيضاً.(3/276)
واعلم أنَّ جميع ماذكرنا إذا سميت به امرأةً فإنَّ بني تميم ترفعه وتنصبه وتجريه مجرى اسمٍ لا ينصرف؛ وهو القياس، لأنَّ هذا لم يكن اسماً علما، فهو عندهم بمنزلة الفعل الذي يكون فعال محدوداً عنه، وذلك الفعل افعل؛ لأن فعال لا يتغير عن الكسر، كما أنَّ افعل لا يتغير عن حال واحدة. فإذا جعلت افعل اسماً لرجل أو امرأة تغَّير وصار بمنزلة الأسماء، فينبغي لفعال التي هي معدولة عن افعل أن تكون بمنزلة بل هي أقوى. وذلك أنَّ فعال اسمٌ للفعل، فإذا نقلته إلى الإسم إلى شيء هو مثله والفعل إذا نقلته إلى الاسم إلى الاسم نقلته إلى الاسم نقلته إلى شيء هو منه أبعد.
وكذلك كل فعال إذا كانت معدولة عن غير افعل إذا جعلتها اسماً، لأنَّك إذا جعلتها علماً فأنت لا تريد ذلك المعنى. وذلك نحو حلاق التي هي معدولة عن الحالقة، وفجار التي هي معدولة عن الفجرة، وما أشبه هذا. ألا ترى أنَّ بني تميم يولون: هذه قطام وهذه حذام؛ لأنَّ هذه معدولة عن حاذمة، وقطام معدولة عن قاطمة أو قطمة وإنمَّا كل واحدةٍ منهما معدولةٌ(3/277)
عن الاسم هو علم ليس عن صفة، كما أن عمر معدول عن عامرٍ علماً لا صفةً. لولا ذلك لقلت: هذا العمر، تريد: العامر.
وأما أهل الحجاز فلما رأوه اسماً لمؤنث ورأوا ذلك البناء على حاله لم يغيِّروه؛ لانَّ البناء واحد، وهو ههنا اسم للمؤنث كما كان ثمَّ اسماً للمؤنث، وهو ههنا معرفة كما كان ثمَّ، ومن كلامهم أن يشبهٍّوا الشيء بالشيء، وإن لم يكن مثله في جميع الأشياء. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنه ما قد مضى.
فأما ما كان آخره راءً فإنَّ أهل الحجاز وبني تميم فيه متفقون، ويختار بنو تميم فيه لغة أهل الحجاز كما اتفقوا في يرى، والحجازية هي اللغة الأولى القدمى.
فزعم الخليل: أن إجناح الألف أخفُّ عليهم، يعني: الإمالة، ليكون العمل من وجهٍ واحد، فكرهوا ترك الخفة وعلموا أنهَّم إن كسروا الراء وصلوا إلى ذلك، وأنهَّم إن رفعوا لم يصلوا.(3/278)
وقد يجوز أن ترفع وتنصب ما كان في آخره الراء. قال الأعشى:
ومرَّ دهرٌ على وَبارِ ... فهَلَكَتْ جَهْرةً وَبارُ
والقوافي مرفوعة.
فمما جاء وآخره راءٌ: سفار وهو اسم ماء، وحضار وهو اسم كوكب، ولكنَّهما مؤنثان كماوية والشِّعري، كأنَّ تلك اسم الماءة وهذه اسم الكوكبة.
ومما يدلَّك على أن فعال مؤنثة قوله: دعيت نزال، ولم يقل دعي نزال وأنهم لا يصرفون رجلاً سموه رقاش وحذام ويجعلونه بمنزلة رجل سموه يضق وأعلم أن جميع ما ذكر في هذا الباب من فقال ما كان منه بالراء وغير ذلك إذا كان شيء منه اسماً لمذكر لم ينجزّ أبداً، وكان المذكر في هذا بمنزلته إذا سمي بعناقٍ، لأنَّ هذا البناء لا يجيء معدولاً عن مذكّر فيشبَّه به.
تقول: هذا حذام ورأيت حذام قبل، ومررت بحذام قبل سمعت ذلك ممن يوثق بعلمه.
وإذا كان جميع هذا نكرةً انصرف كما ينصرف عمر في النكرة، لأنَّ ذا لا يجيء معدولاً عن نكرة.(3/279)
ومن العرب من يصرف رقاش وغلاب إذا سمى به مذكَّرا، لا يضعه على التأنيث، بل يجعله اسماً مذكراً كأنه سمى رجلاً بصباح.
وإذا كان الاسم على بناء فعال نحو: حذامٍ ورقاش، لا تدري ما أصله أمعدولٌ أم غير معدول، أم مؤنث أم مذكر، فالقياس فيه أن تصرفه؛ لأنَّ الأكثر من هذا البناء مصروف غير معدولٍ، مثل: الذَّهاب، والصَّلاح والفساد، والربَّاب.
واعلم أن فعال جائزة من كل ما كان على بناء فعل أو فعل أو فعل، ولا يجوز من أفعلت، لأنا لم نسمعه من بنات الأربعة، إلاَّ أن تسمع شيئاً فتجيزه فيما سمعت ولا تجاوزه. فمن ذلك: قرقار وعرعار.
واعلم أنَّك إذا قلت: فعال وأنت تأمر امرأة أو رجلاً أو أكثر من ذلك، أنَّه على لفظك إذا كنت تأمر رجلاً واحداً. ولا يكون ما بعده إلا نصباً؛ لأن معناه افعل كما أنَّ ما بعد افعل لا يكون إلا نصباً. وإنما منعهم أن يضمروا في فعال الاثنين والجميع والمرأة، لأنهَّ ليس بفعل، وإنما هو اسمٌ في معنى الفعل.
واعلم أن فعال ليس بمطرد في الصفات نحو: حلاق، ولا في مصدر نحو: فجار، وإنَّما يطرد هذا الباب في النداء وفي الأمر.
باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت علاماتٍ خاصة وذلك: ذا، وذي، وتا، وألا، وألاء وتقديرها أولاع. فهذه الأسماء لما كانت مبهمة تقع على كلّ شكل شيء، وكثرت في كلامهم، خالفوا بها ما سواها(3/280)
من الأسماء في تحقيرها وغير تحقيرها، وصارت عندهم بمنزلة لا وفي نحوها، وبمنزلة الأصوات نحو: غاق وحاء. ومنهم من يقول: غاقٍ وأشباهها؛ فإذا صار اسماً عمل فيه ما عمل بلا؛ لأنَّك قد حولته إلى تلك الحال كما حولت لا.
وهذا قول يونس والخليل ومن رأينا من العلماء، إلا أنك لا تجري ذا اسم مؤنث لأنه مذكر إلا في قول عيسى، فإنه كان يصرف امرأة سميتّها: بعمرو.
وأم ذي فبمنزلة: في، وتا بمنزلة: لا.
وأما ألاء فتصرفه اسم رجل وترفعه وتجره وتنصبه، وتغيره كما غيرت هيهات لو سميت رجلاً به، وتصرفه لأنه ليس فيه شيء مما لا ينصرف به.
وأما ألا فبمنزلة: هدىً منوَّنا، وليس بمنزلة: حجا ورمى لأنَّ هذين مشتقان، وألا ليس بمشتق ولا معدولا، وإنَّما ألا وآلاء بمنزلة: البكا والبكاء، إنمَّا هما لغتان.
وأمَّا الذي فإذا سميت به رجلاً أو بالتي أخرجت الألف واللام لأنك تجعله علماً له، ولست تجعله ذلك الشيء بعينه كالحارث، ولو أردت ذلك لأثبتّ الصلة. وتصرفه وتجربه مجري عمٍ.(3/281)
وأمّا اللائي واللاتي فبمنزلة: شآتي وضاري، وتحرج منه الألف واللام. ومن حذف الياء رفع وجرَّ ونصب أيضاً، لأنه بمنزلة الباب. فمن أثبت الياء جعلها بمنزلة قاضي، وقال فيمن قال: اللاء ولاء، لأنه يصيرها بمنزلة بابٍ حرف الإعراب العين، وتخرج الألف واللام هاهنا كما أخرجتهما في الذي وكذلك: ألا في معنى الذين بمنزلة: هديٍ.
وسألت الخليل: عن ذين اسم رجل فقال: هو بمنزلة رجلين ولا أغيِّره لأنه لا يختلُّ الاسم لأن يكون هكذا.
وسألته: عن رجل سمَّي بأولى من قوله: نحن أولو قوَّةٍ وأولو بأسٍ شديد، أو بذوي، فقال: أقول هذا ذوون، وهذا ألون، لأني لم أضف، وإنما ذهبت النون في الإضافة. وقال الكميت:
فلا أَعْنِي بذلك أَسْفَلِيكم ... ولكنّي أُريد به الذّوينَا
قلت: فإذا سميت رجلاً بذي مالٍ هل تغيره؟ قال لا، ألا تراهم قالوا: ذو يزنٍ منصرف، فلم يغيروه كأبي فلانٍ، فذا من كلامهم مضاف؛ لأنهَّ صار المجرور منتهى الاسم، وآمنوا التنوين وخرج من حال التنوين حيث أضفت،(3/282)
ولم يكن منتهى الاسم، واحتملت الإضافة ذا كما احتملت أبازيدٍ، وليس مفردٌ آخره هكذا فاحتملته كما احتملت الهاء عرقوةٌ.
وسألته عن أمسٍ اسم رجل؟ فقال: مصروفٌ؛ لأن أمس ليس هاهنا على الحد ولكنَّه لما كثر في كلامهم وكلن من الظروف تركوه على حالٍ واحدة، كما فعلوا ذلك بأين؛ وكسروه كما كسروا غاقٍ، إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب، كما أنَّ حركة غاق لغير إعراب. فإذا صار اسماً لرجل انصرف؛ لأنكَّ قد نقلته إلى غير ذلك الموضع، كما أنكَّ إذا سميّت بغلق صرفته. فهذا يجري مجرى هذا، كما جرى ذا مجرى لا.
واعلم أنَّ بني تميم يقولون في موضع الرفع: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، فلا يصرفون في الرَّفع، لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام لا عن ما ينبغي له أن يكون عليه في القياس. ألا ترى أنَّ أهل الحجاز يكسرونه في كلّ المواضع، وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في النصب والجر، فلما عدلوه عن أصله في الكلام ومجراه تركوا صرفه كما تركوا صرف أخر حين فارقت أخواتها في حذف الألف واللام منها، وكما تركوا صرف سحر ظرفاً؛ لأنه إذا كان مجروراً أو مرفوعاً أو منصوباً غير ظرف لم يكن معرفةً إلا وفيه الألف واللام، أو يكون نكرةً إذا أخرجتا منه، فلمّا(3/283)
صار معرفةً في الظرف بغير ألف ولام خالف في هذه المواضع، وصار معدولاً عندهم كما عدلت أخر عندهم. فتركوا صرفه في هذا الموضع كما ترك صرف أمس في الرفع.
وإن سميت رجلاً بأمس في هذا القول صرفته، لأنهَّ لا بد لك من أن تصرفه في الجر والنصب، لأنه في الجر والنصب مكسورٌ في لغتهم، فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرَّفع، لأنك تدخله في الرفع وقد جرى له الصَّرف في القياس في الجر والنصب؛ لأنكَّ لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفاً للقياس. ولا يكون أبداً في الكلام اسمٌ منصرف في الجر والنصب ولا ينصرف في الرفع. وكذلك سحر اسم رجل تصرفه، وهو في الرجل أقوى؛ لأنه لا يقع ظرفاً ولو وقع اسم شيء وكان ظرفاً. صرفته وكان كأمس لو كان أمس منصوباً غير ظرف مكسورٍ كما كان.
وقد فتح قوم أمس في مذ لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع، شَّبهوها بها. قال:(3/284)
لقد رأيتُ عَجَباً مُذْ أمْسَا ... عَجائزاً مِثْلَ السَّعالي خَمْسَا
وهذا قليل.
وأما ذه اسم رجل فأنَّك تقول: هذا ذهٌ قد جاء، والهاء بدلٌ من الياء في قولك ذي أمة الله كما أن ميم فمٍ بدلٌ من الواو. والياء التي في قولك: ذهي أمة الله، إنما هي ياءٌ ليست من الحرف، وإنما هي لبيان الهاء. فإذا صارت اسماً لم تحتج إلى ذلك لما لزمتها الحركة والتنوين، والدَّليل على ذلك أنَّك إذا سكت: ذه.
وسمعنا العرب الفصحاء يقولون: ذه أمة الله، فيسكنون الهاء في الوصل كم يقولون: بهم في الوصل.
هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة وذلك لأنهَّا لا تضاف ولا تصرَّف تصرَّف غيرها، ولا تكون نكرة. وذاك: أين، ومتى، وكيف، وحيث، وإذ، وإذا، وقبل، وبعد. فهذه الحروف وأشباهها لما كانت مبهمة غير متمكنة شبِّهت بالأصوات وبما ليس باسمٍ ولا ظرف. فإذا التقى في شيء منها حرفان ساكنان حركوا الآخر(3/285)
منهما. وإن كان الحرف الذي قبل الآخر متحرَّكا أسكنوه كما قالوا: هل، وبل، وأجل، ونعم، وقالوا: جير فحركوه لئلا يسكن حرفان.
فأمّا ما كان غايةً نحو: قبل، وحيث فإنَّهم يحركونه بالضمة. وقد قال بعضهم: حيث، شبهَّوه بأين. ويدلَّك على أن قبل وبعد غير متمكنين أنه لا يكون فيهما مفردينٍ ما يكون فيهما مضافين؛ لا تقول: قبل وأنت تريد أن تبني عليها كلاماً، ولا تقول: هذا قبل، كما تقول: هذا قبل العتمة، فلمّا كانت لا تمكَّن، وكانت تقع على كلّ، شبهّت حين بالأصوات وهل وبل؛ لأنهَّا ليست متمكنة.
وجزمت لدن ولم تجعل كعند لأنَّها لا تمكن في الكلام تمكن عند ولا تقع في جميع مواقعه، فجعل بمنزلة قط لأنها غير متمكنة.
وكذلك قط وحسب، إذا أردت ليس إلاَّ وليس إَّلا وليس إَّلا ذا. وذا بمنزلة قطُّ إذا أردت الزمان، لما كن غير متمكنات فعل بهنَّ ذا. وحركوا قطُّ وحسب بالضمة لأنهمَّا غايتان. فحسب للانتهاء، وقط كقولك: منذ كنت.
وأما لد فهي محذوفةً، كما حذفوا يكن. ألا ترى أنَّك إذا أضفت إلى مضمر رددته إلى الأصل، تقول: من لدنه ومن لدني؛ فإنمَّا لدن كعن.
وسألت الخليل عن معكم ومع، لأيِّ شيء نصبتها؟ فقال: لأنَّها استعملت غير مضافة اسماً كجميع، ووقعت نكرة، وذلك قولك: جاءا معاً(3/286)
وذهبا معاً وقد ذهب معه، ومن معه، صارت ظرفاً، فجعلوها بمنزلة: أمام وقداَّم. قال الشاعر فجعلها كهل حين اضطر، وهو الراعي:
وريشي منكمُ وهَوايَ مَعْكُمْ ... وإنْ كانت زِيارتُكُمْ لماما
وأمّا منذ فضمّت لأنهَّا للغاية، ومع ذا أن من كلامهم أن يتبعوا الضمَّ الضمَّ، كما قالوا: ردُّ يافتى.
وسألت الخليل عن من عل، هلا جزمت اللام؟ فقال: لأنهَّم قالوا: من علٍ، فجعلوها بمنزلة المتمكّن، فأسبه عندهم من معالٍ، فلما أرادوا أن يجعل بمنزلة قبل وبعد حرَّكوه كما حركوا أوَّل فقالوا: ابدأ بهذا أوَّل، كما قالوا: يا حكم أقبل في النداء؛ لأنهَّما لما كانت أسماء متمكنة كرهوا أن يجعلوها(3/287)
بمنزلة غير المتمكنة، فلهذه الأسماء من التمكن ماليس من التمكن ما ليس لغيرها، فلم يجعلوها في الإسكان بمنزلة غيرها وكرهوا أن يخلوا بها. وليس حكم وأوَّل ونحوهما كالذَّي ومن؛ لأنهَّا لا تضاف ولا تتم اسماً، ولا تكون نكرة، ومن أيضاً لا تتم اسما في الخبر، ولا تضاف كما تضاف أيٌ، ولا تنوَّن كما تنوَّن أيٌّ.
وجميع ما ذكرنا من الظروف التي شبهت بالأصوات ونحوها من الأسماء غير الظروف إذا جعل شيء منها اسماً لرجل أو امرأة تغيَّر، كما تغيَّر لو وهل وبل وليت، كما فعلت ذلك بذا وأشباهها؛ لأن ذا قبل أن تكون اسما خاصاً كمن، في أنهَّ لا يضاف ولا يكون نكرةً، فلم يتمكن تمكُّن غيره من الأسماء.
وسألت الخليل عن قولهم: مذ عامٌ أوَّل، ومذ عامٍ أوَّل فقال: أوَّل ههنا صفة، وهو أفعل من عامك، ولكنَّهم ألزموه هنا الحذف استخفافاً، فجعلوا هذا الحرف بمنزلة أفضل منك. وقد جعلوه اسماً بمنزلة أفكّلٍ، وذلك قول العرب: ما تركت له أولاً ولا آخراً، وأنا أوَّل منه، ولم يقل رجلٌ أوَّل منه، فلمَّا جاز فيه هذان الوجهان أجازوا أم يكون صفة وأن يكون اسما. وعلى أي الوجهين جعلته اسماً لرجل صرفته اسماً في النكرة. وإذا قلت عامٌ أوَّل فإنما جاز هذا الكلام لأنك تعلم به أنك تعني العام الذي يليه عامك، كما أنَّك إذا قلت أوَّل من أمس أو بعد غدٍ فإنمَّا تعني الذي يليه أمس والذي يليه غدٌ. وأما قولهم: ابدأ به أوَّل وابدأ بها أوَّل فإنمَّا تريد أيضاً أوَّل من كذا، ولكن الحذف جائز جيدِّ، كما تقول: أنت أفضل، وأنت تريد من غيرك. إلاَّ أن الحذف لزم صفة عامٍ لكثرة استعمالهم إياه حتى استغنوا عنه. ومثل هذا في الكلام كثير. والحذف يستعمل في قولهم: ابدأ به أوَّل أكثر. وقد يجوز أن يظهروه، إلا أنهَّم إذا أظهروه لم يكن إلا الفتح.(3/288)
وسألته عن قول بعض العرب، وهو قليل: مذ عامٌ أول؟ فقال: جعلوه ظرفاً في ها الموضع، فكأنه قال: مذ عامٌ قبل عامك.
وسألته عن قوله: زيد أسفل منك؟ فقال: هذا ظرف، كقوله عز وجل: " والرَّكب أسفل منكم " كأنه قال: زيدٌ في مكانٍ أسفل من مكانك. ومثل الحذف في أوَّل لكثرة استعمالهم إياه قولهم: لا عليك. فالحذف في هذا الموضع كهذا.
ومثله: هل لك في ذلك؟ ومن له في ذلك؟ ولا تذكر له حاجة، ولا لك حاجة ونحو هذا أكثر من أن يحصى قال يا لَيْتَها كانت لأهْلي إِبِلاَ أو هُزِلَتْ في جَدْبِ عامٍ أَوَّلاَ يكون على الوصف والظرف.
وسألته عن قوله: من دونٍ، ومن فوقٍ، ومن تحتٍ، ومن قبلٍ، ومن بعدٍ، ومن دبرٍ؟ ومن خالف؟ فقال: أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنة، لأنهَّا تضاف وتستعمل غير ظرف. ومن العرب من يقول: من فوق ومن تحت، يشبهه بقبل وبعد. وقال أبو النجم:(3/289)
أقبٌّ مِنْ تَحْتُ عريضٌ مِنْ عَلُ
وقال آخر:
لا يَحْمِلُ الفارسَ إلاَّ المَلْبُونْ ... المَحْض من أَمامِه ومِنْ دُونْ
وكذلك من أمامٍ ومن قدّامٍ، ومن وراءٍ، ومن قبلٍ، ومن دبرٍ.
وزعم الخليل أنهن نكراتٌ كقول أبي النجم:
يأتي لها من أيمنٍ وأَشْمُلٍ
وزعم أنهّن نكراتٌ إذا لم يضفن إلا معرفة، كما يكون أيمن وأشمل نكرة.
وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونه، ويجعلونه كقولك: من يمنةٍ وشأمةٍ، وكما جعلت ضحوةٌ نكرة وبكرة معرفة.(3/290)
وأما يونس فكان يقول: من قدام، ويجعلها معرفة، وزعم أنهَّ منعه من الصرف أنهَّا مؤنثة. ولو كانت شأمةٌ كذا لما صرفها وكانت تكون معرفةً. وهذا مذهبٌ، إلا أنهَّ ليس يقوله أحدٌ من العرب.
وسألنا العلويين والتمَّيميّين، فرأيناهم يقولون: من قد يديمةٍ ومن ورئيِّةٍ لا يجعلون ذلك إلاَّ نكرة، كقولك: صباحاً ومساءً، وعشيةً وضحوةً. فهذا سمعناه من العرب.
وتقول في النصب على حد قولك: من دونٍ ومن أمامٍ: جلست أماماً وخلفاً، كما تقول يمنةً وشأمةً. قال الجعدي.
لها فرطٌ يكون ولا تراه ... أماماً من معرسَّنا وودنا
وسألته عن قوله: جاء من أسفل يا فتى؟ فقال: هذا أفعل من كذا وكذا، كما قال عز وجل: " إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم ".
وسألته عن هيهات اسم رجل وهيهاة؟ فقال: أما من قال: هيهاة فهي عنده بمنزلة علقاة. والدليل على ذلك أنَّهم يقولون في السكوت: هيهاه. ومن قال: هيهات فهي عنده كبيضاتٍ. ونظير الفتحة في الهاء الكسرة في التاء،(3/291)
فإذا لم يكن هيهات ولا هيهاة علماً لشيء. فهما على حالهما لا يغيرَّان عن الفتح والكسر؛ لأنهَّما بمنزلة ما ذكرنا مماَّ لم يتمكن.
ومثل هيهاة ذيَّة، إذا لم يكن اسماً، وذلك قولك: كان من الأمر ذيَّة وذيَّة، فهذه فتحةٌ كفتحة الهاء ثمَّ؛ وذلك أنهَّا ليست أسماءً متمكنِّاتٍ، فصارت بمنزلة الصَّوت.
فإن قلت: لم تسكن الهاء في ذيةَّ وقبلها حرف متحرك؟ فإنَّ الهاء ليست ههنا كسائر. الحروف ألا ترى أنهَّا تبدل في الصلة تاءً وليست زائدة في الاسم، فكرهوا أن يجعلوها بمنزلة ما هو في الاسم ومن الاسم، وصارت الفتحة أولى بها لأن ما قبل هاء التأنيث مفتوح أبداً، فجعلوا حركتها كحركة ما قبلها لقربها منه، ولزوم الفتح، وامتنعت أن تكون ساكنة كما امتنعت عشر في خمسة عشر، لأنهَّا مثلها في أنهَّا منقطعة من الأوَّل، ولم تحتمل أن يسكن حرفان وأن يجعلوهما كحرف.
ونظير هيهات وهيهاة في اختلاف اللغتين، قول العرب: استأصل الله عرقاتهم، واستأصل الله عرقاتهم، بعضهم يجعله بمنزلة عرسٍ وعرساتٍ، كأنك قلت: عرقٌ وعرقان وعرقاتٌ. وكلاً سمعنا من العرب.
ومنهم من يقول: ذيت فيخفِّف، ففيها إذا خففت ثلاث لغات: منهم من يفتح كما فتح بعضهم حيث وحوث، ويضمّ يعضهم حيث وحوث، ويضم بعضهم كما ضمتها العرب، ويكسرون أيضاً كما أولاء؛ لأنَّ التاء الآن إنمَّا هي بمنزلة ما هو من نفس الحرف.(3/292)
وسالت الخليل عن شتّان فقال: فتحها كفتحة هيهاة، وقصتها في غير المتمكن كقصتها ونحوها، ونونها كنون سبحان زائدةٌ. فإن جعلته اسم رجل فهو كسبحان.
باب الأحيان في الانصراف وغير الانصراف اعلم أن غدوة وبكرة جعلت كلَّ واحدةٍ منهما اسماً للحين، كما جعلوا أمَّ حبينٍ اسماً للدابة معرفة.
فمثل ذلك قول العرب: هذا يوم اثنين مباركاً فيه، وأتيتك يوم اثنين مباركاً فيه. جعل اثنين اسماً له معرفةً، كما تجعله اسماً لرجل.
وزعم يونس عن أبي عمرو، وهو قوله أيضاً وهو القياس، انكَّ إذا قلت: لقيته العام الأول، أو يوماً من الأيام، ثم قلت: غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون وكذلك إذا لم تذكر العام الأول ولم تذكر، إلاَّ المعرفة ولم تقل يوماً من الأيام، كأنك قلت: هذا الحين في جميع هذه الأشياء. فإذا جعلتها اسماً لهذا المعنى لم تنوّن. وكلك تقول العرب.(3/293)
فأما ضحوةٌ وعشيةٌ فلا يكونان إلاَّ نكرةً على كلّ حال، وهما كقولك: آتيك غذاً وصباحاً ومساءً. وقد تقول: أتيتك ضحوةً وعشيةً، فيعلم أنكَّ تريد عشيّة يومك وصحوته، كما تقول: عاماً أول فيعلم أنك تريد العام الذي يليه عامك.
وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول: آتيتك اليوم غدوةً وبكرةً، تجعلها بمنزلة ضحوةٍ.
وزعم أبو الخطَّاب أنهَّ سمع من يوثق به من العرب يقول: آتيك بكرةً وهو يريد الإتيان في يومه أو في غده. ومثل ذلك قول الله عز وجل: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياَّ ". هذا قول الخليل.
وأمَّا سحر إذا كان ظرفا فإنَّ ترك الصرف فيه قد بينته لك فيما مضى.
وإذا قلت: مذ السَّحر أو عند السَّحر الأعلى، لم يكن إلا بالألف واللام. فهذه حاله، لا يكون معرفةً إلا بهما. ويكون نكرةً إلا في الموضع الذي عدل فيه.
وأما عشيّةٌ فإنَّ بعض العرب يدع فيه التنوين، كما ترك في غدوة.
هذا باب الألقاب إذا لقَّبت مفرداً بمفرد أضفته إلى الألقاب، وهو قول أبي عمرو، ويونس والخليل، وذلك قولك: هذا سعيد كرزٍ، وهذا قيس قفَّة قد جاء، وهذا زيدٌ بطَّةً، فإنما جعلت قفَّة معرفةً لأنَّك أردت المعرفة التي أردتها إذا قلت:(3/294)
هذا قيسٌ. فلو نونت قفةً. صار الاسم نكرةً، لأن المضاف إنَّما يكون نكرة ومعرفة بالمضاف إليه، فيصير قفة هاهنا كأنها كانت معرفة قبل ذلك ثم أضفت إليها.
ونظير ذلك انه ليس عربيٌّ يقول: هذه شمس فيجعلها معرفة، إلا أن يدخل فيها ألفاً ولاماً. فإذا قال: عبد شمس صارت معرفة، لأنه أراد شيئاً بعينه، ولا يستقيم أن يكون ما أضفت إليه نكرةً.
فإذا لقَّبت المفرّد بمضاف والمضاف بمفرد، جرى أحدهما على الآخر كالوصف، وهو قول أبي عمرو ويونس والخليل. وذلك قولك: هذا زيدٌ وزن سبعةٍ، وهذا عبد الله بطَّة يا فتى، وكذلك إن لقبت المضاف بالمضاف.
وإنمَّا جاء هذا مفترقاً هو والأول لأنَّ أصل التسمية والذي وقع عليه الأسماء، أن يكون للرجل اسمان: أحدهما مضاف، والآخر مفرد أو مضاف، ويكون أحدهما وصفاً للآخر؛ وذلك الاسم والكنية، وهو قولك: زيدٌ أبو عمروٍ، وأبو عمرٍو زيدٌ، فهذا أصل التسمية وحدُّها. وليس من أصل التسمية عندهم أن يكون للرجل اسمان مفردان، فإنما أجروا الألقاب على أصل(3/295)
التسمية، فأرادوا أن يجعلوا اللفَّظ بالألقاب إذا كانت أسماءًٍ على أصل تسميتهم، ولا يجاوزوا ذلك الحَّد.
باب الشيئين الَّلذين ضم أحدهما إلى الآخر فجعلا بمنزلة اسم واحد كعيضموزٍ وعنتريس وذلك نحو: حضرموت وبعلبك. ومن العرب من يضيف بعل إلى بكٍّ، كما اختلفوا في رام هرمز، فجعله بعضهم اسماً واحداً، وأضاف بعضهم رام إلى هرمز. وكذلك مار سرجس، وقال بعضهم:
مارَ سَرْجِسُ لا قِتالاَ
وبعضهم يقول في بيت جرير:
لقيّم بالجزيرة خَيْلَ قيسٍ ... فقلتمْ مارَ سَرْجِسَ لا قِتَالاَ
وأما معد يكرب ففيه لغات: منهم من يقول: معد يكربٍ فيضيف، ومنهم من يقول: معد يكرب فيضيف ولا يصرف، يجعل كرب اسماً مؤنثاً(3/296)
ومنهم من يقول: معد يكرب فيجعله اسماً واحداً فقلت ليونس: هلا صرفوه إذ جعلوه اسماً واحداً وهو عربي؟ فقال: ليس شيءٌ يجتمع من شيئين فيجعل اسماً سميِّ به واحدٌ إلا لم يصرف. وإنما استثقلوا صرف هذا لأنَّه ليس أصل بناء الأسماء. يدلك على هذا قلته في كلامهم في الشيء الذي يلزم كلَّ من كان من أمته ما لزمه، فلما لم يكن هذا البناء أصلاً ولا متمكنِّا كرهوا أن يجعلوه بمنزلة المتمكن الجاري على الأصل، فتركوا صرفه كما تركوا صرف الأعجمي. وهو مصروف في النكرة، كما تركوا صرف إبراهيم وإسماعيل لأنهما لم يجيئا على مثال ما لا يصرف في النكرة كأحمر، وليس بمثال يخرج إليه الواحد للجميع نحو: مساجد ومفاتيح، وليس بزيارة لحقت لمعنىً كألف حبلى، وإنمَّا هي كلمة كهاء التأنيث، فثقلت في المعرفة إذ لم يكن أصل بناء الواحد؛ لأنَّ المعرفة أثقل من النكرة. كما تركوا صرف الهاء في المعرفة وصرفوها في النكرة لما ذكرت بك، فإنما معد يكرب واحدٌ كطلحة، وإنما بني ليلحق بالواحد الأول المتمكن، فثقل في المعرفة لما ذكرت بك، ولم يحتمل ترك الصرف في النكرة. وأما خمسة عشر وأخواتها وحادي عشر وأخواتها، فهما شيئان جعلا شيئاً واحداً. وإنمَّا أصل خمسة عشر: خمسةٌ، وعشرةٌ، ولكنهم جعلوه(3/297)
بمنزلة حرف واحد. وأصل حادي عشر أن يكون مضافاً كثالث ثلاثةٍ، فلمَّا خولف به عن حال أخواته مما يكون للعدد خولف به وجعل كأولاء، إذ كان موافقاً له في أنهَّ مبهم يقع على كل شيء. فلمَّا اجتمع فيه هذان أجري مجراه، وجعل كغير المتمكن. والنون لا تدخله كما تدخل غاقٍ، لأنَّها محالفة لها ولضربها في البناء؛ فلم يكونوا لينونوا لأنهَّا زائدة ضمت إلى الأول، فلم يجمعوا، عليه هذا والتنوين.
ونحو هذا في كلامهم: حيص بيص مفتوحة، لأنهَّا ليست متمكِّنة.
قال أمية بن أبي عائذ
قد كنتُ خَرّاجا وَلُوجاً صَيْرَفاً ... لم تلتَحِصْني حَيْصَ بَيْصَ لَحاصِ
واعلم أنَّ العرب تدع خمسة عشر في الإضافة والألف واللام على حال(3/298)
واحدة، كما تقول: اضرب أيهُّم أفضل، وكالآن، وذلك لكثرتها في الكلام وأنهَّا نكرة فلا تغيَّر.
ومن العرب من يقول: خمسة عشرك، وهي لغة رديئة.
ومثل ذلك: الخازباز، وهو عند بعض العرب: ذبابٌ يكون في الرَّوض، وهو عند بعضهم: الداء، جعلوا لفظه كلفظ نظائره في البناء، وجعلوا آخره كسراً كجير وغاق؛ لأنَّ نظائره في الكلام التي لم تقع علاماتٍ إنما جاءت متحركة بغير جرٍ ولا نصب ولا رفع، فألحقوه بما بناؤه كبنائه، كما جعلوا حيث في بعض اللغات كأين، وكذلك حينئذٍ في بعض اللغات، لأنَّه مضاف إلى غير متمكن، وليس كأين في كل شيء. كما جعلوا الآن كأين وليس مثله في كل شيء، ولكنه يضارعه في أنه ظرف، ولكثرته في الكلام كما يضارع حينئذٍ أين في أنه أضيف إلى اسم غير متمكن. فكذلك صار هذا: ضارع خمسة عشر في البناء، وأنهَّ غير علم.
ومن العرب من يقول: الخربار، ويجعله بمنزلة سربال. قال الشاعر:(3/299)
مِثْلُ الكِلابِ تهرَّ عند دِرَابِها ... وَرِمَتْ لَهازِمُها من الخرباز
وأما صهيل التي للأمر فمن شيئين يدلك على ذلك حي على الصلاة وزعم أبو الحطَّاب: أنهَّ سمع من يقول: حي هل الصلاة. والدَّليل على أنهما جعلا اسماً واحداص قول الشاعر:
وهيَّج الحيَّ مِن دارٍ فظلَّ لهم ... يومٌ كثيرٌ تناديه وحيَّهله
والمواقي مرفوعة. وأنشدناه هكذا أعرابيٌّ من أفصح الناس، وزعم أنه شعر أبيه.
وقد قال بعضهم: الخازباء، جعلها بمنزلة: القاصعاء والنافقاء.
وجميع هذا إذا صار شيءٌ منه علماً أعرب وغيِّر، وجعل كحضرموت، كما غيرّت أولاد واذ ومن والأصوات ولو ونحوها، حين كنَّ علامات.
قال الشاعر، وهو الجعدي:(3/300)
بحيهَّلا يُزْجونَ كلَّ مطيّةٍ ... أَمامَ المطايا سَيْرُها المُتقاذِفُ
وقال بعضهم:
وجنَّ الخازِبازِ به جُنونَا
ومن العرب من يقول: هو الخازباز والخازباز، وخازبازٍ فيجعلها كحضرموتٍ.
ومن العرب من يقول: حيهَّلا، ومن العرب من يقول: حهيَّل إذا وصل، وإذا وقف أثبت الألف. ومنهم من لا يثبت الألف في الموقف والوصل.
وقد قال بعضهم: الخازباز جعله بمنزلة حضرموت.
وأما عمرويه فإنهَّ زعم أنه أعجميٌّ، وأنه ضربٌ من الأسماء الأعجمية، وألزموا آخره شيئاً لم يلزم الأعجمية، فكما تركوا صرف الأعجمية جعلوا ذا بمنزلة الصوَّت، لأنهمَّ رأوه قد جمع أمرين، فحطوه درجةً عن إسماعيل وأشباهه؛ وجعلوه في النكرة بمنزلة غاقٍ، منونةً مكسورة في كلِّ موضع.(3/301)
وزعم الخليل: أن اللذين يقولون: غاق غاق، وعاء وحاء، فلا ينونون فيها ولا في أشباهها، أنها معرفة، وكأَّنك قلت في عاء وحاء الإتباع، وكأنه قال: قال الغراب هذا النحو. وأنَّ الذين قالوا: عاء وحاء وغاقٍ، جعلوها نكرة.
وزعم الخليل: أن الذين قالوا: صهٍ ذاك أرادوا النكرة، كأنهم قالوا: سكوتاً: إيهٍ وإيهاً وويهٍ وويهاً، إذا وقفت قلت: ويهاً، ولا يقول: إيهٍ في الوقف. وإيهاً وأخواته نكرةٌ عندهم، وهو صوتٌ.
وعمرويه عندهم بمنزلة حضرموت، في أنهَّ ضم الآخر إلى الأول. وعمرويه في المعرفة مكسورة في حال الجر والرفع والنصب غير منوَّن. وفي النكرة تقول: هذا عمرويهٍ آخر، ورأيت عمرويهٍ آخر.
وسألت الخليل عن قوله: فداءٍ لك، فقال: بمنزلة أمس؛ لأنهَّا كثرت في كلامهم، والجرُّ كان أخفَّ عليهم من الرفع إذ أكثروا استعمالهم إيَّاه، وشبهوه بأمس، ونون لأنه نكرة. فمن كلامهم أن يشبِّهوا الشيء بالشيء وإن كان ليس مثله في جميع الأشياء.
وأما يوم يومٍ، وصباح مساءٍ، وبيت بيتٍ، وبين بينٍ، فإنَّ(3/302)
العرب تختلف في ذلك: يجعله بعضهم بمنزلة اسمٍ واحد، وبعضهم يضيف الأوّل إلى الآخر ولا يجعله اسماً واحداً. ولا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسمٍ واحد إلا في حال الظرف أو الحال، كما يجعلوا: يا ابن عمَّ ويا ابن أمَّ بمنزلة شيء واحدٍ إلا في حال النداء.
والآخر من هذه الأسماء في موضع جر، وجعل لفظه كلفظ الواحد وهما اسمان أحدهما مضاف إلى الآخر. وزعم يونس، وهو رأيه، أنَّ أبا عمرٍو كان يجعل لفظه كلفظ الواحد إذا كان شيءٌ منه ظرفاً أو حالا.
وقال الفرزدق:
ولولا يَوْمُ يومٍ ما أردنا ... جَزاءَك والقُروضُ لها جَزاءُ
فالأصل في هذا والقياس الإضافة. فإذا سميت بشيء من هذا رجلاً أضفت، كما أنَّك لو سميته ابن عم لم يكن إلا على القياس.
وتقول: أنت تأتينا في كل صباح مساءٍ، ليس إلاَّ.
وجعل لفظهنَّ في ذلك الموضع كلفظ خمسة عشر، ولم يبن ذلك البناء في غير هذا الموضع. وهذا قول جميع من نثق بعلمه وروايته عن العرب. ولا أعلمه إلا قول الخليل.(3/303)
وزعم يونس: أن كفة كفّةٍ كذلك، تقول: لقيته كفة كفّةٍ، وكفة كفة. والدليل على أنَّ الآخر مجرور ليس كعشر من خمسة، أنَّ يونس زعم أن رؤية كان يقول: لقيته كفةً عن كفّةٍ يا فتى. وإنمَّا جعل هذا هكذا في الظرف والحال لأنَّ حد الكلام وأصله أن يكون ظرفاً أو حالاً.
وأمَّا أيادي سبا وقالي قلا، وبادي بدا، فإنما هي بمنزلة: خمسة عشر. تقول: جاءوا أيادي سبا. ومن العرب من يجعله مضافاً فينون سباً.
قال الشاعر، وهو ذو الرمة:
فيالكِ من دارٍ تحمَّل أهلُها ... أيادِي سَباً بعدي وطال احتيالُهَا
فينون ويجعله مضافاً كمعد يكربٍ.
وأما قوله: كان ذلك بادي بدا؛ فإنهَّم جعلوها بمنزلة: خمسة عشر. ولا نعلمهم أضافوا، ولا يستنكر أن تضيفها، ولكن لم أسمعه من العرب. ومن العرب من يقول: بادي بدي. قال أبو نخيلة:(3/304)
وقد عَلَتْني ذُرْأةٌ بادِي بَدِي ... ورثَيْةٌ تَنْهَضُ في تَشَدُّدِي
ومثل أيادي سبا وبادي بدا قوله: ذهب شغر بغر. ولا بد من أن يحرِّكوا آخره كما ألزموا التحريك الهاء في ذيَّة ونحوها؛ لشبه الهاء بالشيء الذي ضم إلى الشيء.
وأما قالي قلا فمنزلة حضرموت. قال الشاعر:
سيُصْبِحُ فوقي أقْتَمُ الرِّيشِ واقِعاً ... بِقاليِ قَلاَ أومِن وراء دَبِيلِ
وسألت الخليل عن الياءات لم لم تنصب في موضع النصب إذا كان(3/305)
الأول مضافاً، وذلك قولك: رأيت معد يكرب، واحتملوا أيادي سباً؟ فقال: شبَّهوا هذه الياءات بألف مثنى حيث عرَّوها من الرفع والجر، فكما عروا الألف منهما عرَّوها من النصب أيضاً، فقالت الشعراء حيث اضطرّوا، وهو رؤية:
سوَّي مساحيهنَّ تَقْطيطَ الْحُقَقْ
وقال بعض السّعدييِّن:
يا دار هند عفت إلاَّ أثافيها
وإنما اختصت هذه الياءات في هذا الموضع بذا لأنهم يجعلون الشيئين ههنا(3/306)
اسماً واحداً، فتكون الياء غير حرف الإعراب، فيسكنونها ويشبِّهونها بياء زائدة ساكنةٍ نحو ياء دردبيس ومفاتيح. ولم يحركوها كتحريك الراء في شغر لاعتلالها، كما لم تحرك قبل الإضافة وحركت نظائرها من غير الياءات، لأن للياء والواو حالاً ستراها إن شاء الله، فألزموها الإسكان في الإضافة ههنا إذ كانت قد تسكن فيما لا يكون وما بعده بمنزلة اسمٍ واحدٍ في الشعر.
ومثل ذلك قول العرب: لا أفعل ذاك حيرى دهرٍ. وقد زعموا أن بعضهم ينصب الياء، ومنهم من يثقل الياء أيضاً.
وأما اثنا عشر فزعم الخليل أنه لا يغير عن حاله قبل التسمية، وليس بمنزلة خمسة عشر، وذلك أن الإعراب يقع على الصدر فيصير اثنا في الرفع، واثني في النصب والجر، وعشر بمنزلة النون ولايجوز فيها الإضافة. كما لا يجوز في مسلمين، ولا تحذف عشر مخافة أن يلتبس بالاثنين فيكون علم العدد قد ذهب. فإن صار اسم رجل فأضفت حذفت عشر لأنك لست تريد العدد، وليس بموضع التباس، لأنك لا تريد أن تفرق بين عددين فإنما هو بمنزلة زيدين.
وأما أخول أخول فلا يخلو من أن يكون كشغر بغر، وكيوم يوم.(3/307)
باب ما ينصرف ومالا ينصرف من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات منهن لامات اعلم أن كل شيء كانت لامه ياء أو واواً، ثم كان قبل الياء والواو حرفٌ مكسور أو مضموم، فإنها تعتلُّ وتحذف في حال التنوين، واواً كانت أو ياءً، وتلزمها كسرة قبلها أبداً، ويصير اللفظ بما كان من بنات الياء والواو سواء.
واعلم أن كل شيء من بنات الياء والواو كان على الصفة فإنه ينصرف في حال الجر والرفع. وذلَّك أنَّهم حذفوا الياء فخف عليهم، فصار التنوين عوضاً. وإذا كان شيء منها في حال النصب نظرت: فإن كان نظيره من غير المعتلة مصروفاً صرفته، وإن كان غير مصروف لم تصرفه؛ لأنَّك تتم في حال النصب كما تتم غير بنات الياء والواو. وإذا كانت الياء زائدة وكانت حرف الإعراب، وكان الحرف الذي قبلها كسراً فإنها بمنزلة الياء التي من نفس الحرف، إذ كانت حرف الإعراب.
وكذلك الواو تبدل كسرةً إذا كان قبلها حرف مضموم وكانت حرف الإعراب وهي زائدة: تصير بمنزلتها إذا كانت من نفس الحرف وهي حرف الإعراب.
فمن الياءات والووات اللواتي ما قبلها مكسورٌ قولك: هذا قاضٍ، وهذا غازٍ، وهذه مغاز، وهؤلاء جوارٍ. وما كان ما منهن ما قبله مضموم فقولك: هذه أدلٍ وأظبٍ، ونحو ذلك.
هذا ما كانت الياء فيه والواو من نفس الحرف.(3/308)
وأما ما كانت الياء فيه زائدة وكان الحرف قبلها مكسوراً فقولك: هذه ثمانٍ وهذه صحارٍ، ونحو ذلك.
وأما ما كانت الواو فيه زائدة وكان الحرف قبلها مضموماً فقولك: هذه عرق كما ترى، إذا أرت جمع عرقوة. قال الرجز:
حتَّى تُقضِّي عَرْقِيَ الدلىِّ
وجميع هذا في حال النصب بمنزلة غير المعتل. ولو سميت رجلاً بقيل فيمن ضم القاف كسرتها اسماً حتى تكون كبيضٍ.
واعلم أنَّ كل ياء أو واو كانت لاماً، وكان الحرف قبلها مفتوحاً، فإنَّها مقصورة تبدل مكانها الألف، ولا تحذف في الوقف، وحالها في التنين وترك التنوين بمنزلة ما كان غير معتل؛ إلاَّ أنَّ الألف تحذف لسكون التنوين ويتمُّون الأسماء في الوقف.
وإن كانت الألف زائدة فقد فسرنا أمرها.
وإن جاءت في جميع ما لا ينصرف فهي غير منونة، كما لا ينون غير(3/309)
المعتل، لأنَّ الاسم متمٌّ. وذلك قولك: عذارى وصحارى، فهي الآن بمنزلة مدارى ومعايا لأنها مفاعل، وقد أتم وقلبت ألفاً.
وإن كانت الياء والواو قبلها حرف ساكن وكانت حرف الإعراب، فهي بمنزلة غير المقتل وذلك نحو قولك ظبيٌ ودلوٌ وسألت الخليل عن رجل يسمى بقاض فقال هو بمنزلة قبل أن يكون اسماً في الوقف والوصل وجميع الأشياء كما أن مثنى ومعلى إذا كان إسماً فهو إذا كانت نكرة، ولا يتغير هذا عن حالٍ كان عليها قبل أن يكون اسماً كما لم يتغيَّر معلَّى، وكذلك عمٍ. وكل شيء كان من بنات الياء والواو انصرف نظيره من غير المعتل فهو بمنزلته.
وسألت الخليل عن رجل يسمى بجوارٍ، فقال: هو في حال الجر والرفع بمنزلته قبل أن يكون اسماً. ولو كان من شأنهم أن يدعوا صرفه في المعرفة لتركوا صرفه قبل أن يكون معرفة، لأنَّه ليس شيء من الانصراف بأبعد من مفاعل، فلو امتنع من الانصراف في شيء لامتنع إذا كان مفاعل وفواعل ونحو ذلك. قلت: فإن جعلته اسم امرأة؟ قال: أصرفها؛ لأن هذا التنوين جعل عوضاً، فيثبت إذا كان عوضاً كما ثبتت التنوينة في أذرعات إذ صارت كنون مسلمين.(3/310)
وسألته عن قاضٍ اسم امرأة، فقال: مصروفة في حال الرفع والجر، تصير ههنا بمنزلتها إذ كانت في مفاعل وفواعل. وكذلك أدلٍ اسم رجل عنده؛ لأنَّ العرب اختارت في هذا حذف الياء إذا كانت في موضع غير تنوين في الجر والرفع، وكانت فيما لا ينصرف، وأن يجعلوا التنوين عوضاً من الياء ويحذفوها.
وسألته عن رجلٍ يسمَّى أعمى فقلت: كيف تصنع به إذا حقرته؟ فقال: أقول: أعيمٍ، أصنع به ما صنعت به قبل أن يكون اسماً لرجل؛ لأنَّه لو كان يمتنع من التنوين ههنا لامتنع منه في ذلك الموضع قبل أن يكون اسماً لرجلٍ، كما أنَّ أحيمر وهو اسمٌ لرجل وغير اسم سواءٌ. ومن أبى هذا فخذه بقاضٍ اسم امرأة، فإن لم يصرفه فخذه بجوارٍ فجوارٍ فواعل، وفواعل أبعد من الصرف من فاعل معرفةً وهو اسم امرأة، لأنَّ ذا قد ينصرف في المذكر، وفواعل لا يتغير على حال، وفاعلٌ بناءٌ ينصرف في الكلام معرفةً ونكرةً وفواعل بناء لا ينصرف. فأشد أحوال قاضٍ اسم امرأة أن يكون بمنزلة هذا المثال الذي لا ينصرف البتَّة في النكرة. فإن كانت هذه، يعني قاض،(3/311)
لا تنصرف ههنا لم تنصرف إذا كانت في فواعل. فإن صرف فجوارٍ قبل أن يكون اسماً بمنزلة قاضٍ اسم امرأة.
وسألته عن رجل يسمَّى برمي أو أرمي؟ فقال: أنوِّنه، لأنَّه إذا صار اسماً فهو بمنزلة قاضٍ إذا كان اسم امرأة.
وسألت الخليل فقلت: كيف تقول مررت بأفيعل منك، من قوله مررت بأعيمي منك؟ فقال: مررت بأعيمٍ منك، لأنَّ ذا موضع تنوين. ألا ترى بأنك تقول: مررت بخيرٍ منك، وليس أفعل منك بأثقل من أفعل صفة.
وأما يونس فكان ينظر إلى كل شيء من هذا إذا كان معرفة كيف حال نظيره من غير المعتل معرفةً، فإذا كان لا ينصرف لم ينصرف، يقول: هذا جواري قد جاء، ومررت بجواري قبل. وقال الخليل: هذا خطأٌ لو كان من شأنهم أن يقولوا هذا في موضع الجرّ لكانوا خلقاء أن يلزموا الرفع والجر، إذ صار عندهم بمنزلة غير المعتل في موضع الجر، ولكانوا خلقاء أن ينصبوها في النكرة إذا كانت في موضع الجر، فيقولوا: مررت بجواري قبل، لأنَّ ترك التنوين في ذا الاسم في المعرفة والنكرة على حالٍ واحدة.
ويقول يونس للمرأة تسمَّى بقاضٍ: مررت بقاضي قبل، ومررت بأعيمي منك. فقال الخليل: لو قالوا هذا لكانوا خلقاء أن يلزموها الجر والرفع، كما قالوا حين اضطروا في الشعر فأجروه على الأصل، قال الشاعر الهذلىّ:(3/312)
أبِيتُ عَلَى مَعارِيَ واضِحاتٍ ... بهنّ ملوَّب كدَمِ العِباطِ
وقال الفرزدق:
فلو كانَ عبدُ الله مَوْلَى هجوتُه ... ولكنّ عبدَ الله مَوْلَى مَوَالِيَا
فلمَّا اضطرُّوا إلى ذلك في موضع لا بدَّ لهم فيه من الحركة أخرجوه على الأصل.
قال الشاعر، ابن قيس الرقيات:(3/313)
لا بَارَكَ اللهُ في الغوانِيِ هَلْ ... يُصْبِحْنَ إلاّ لهنَّ مطَّلب
وقال: وأنشدني أعرابي من بني كليب، لجرير:
فيَوْماً يُوافيني الهَوَى غيرَ ماضىٍ ... ويوماً ترى منهنّ غُولاْ تغوَّل
قال: ألا تراهم كيف جرُّوا حين اضطرُّوا، كما نصبوا الأول حين اضطرُّوا. وهذا الجر نظير النصب.
فإن قلت: مررت بقاضي قبل اسم امرأة، كان ينبغي لها أن تجرَّ في الإضافة فتقول: مررت بقاضيك.
وسألناه عن بيتٍ أنشدناه يونس:(3/314)
قد عَجِبتُ منيِّ ومِن يُعَيْلِيَا ... لمَّا رأتْنيِ خَلَقاً مُقْلَوْلِيَا
فقال: هذا بمنزلة قوله:
ولكنَّ عبد الله مولى مَوالِيَا
وكما قال:
سَمَاءُ الإلِه فوقَ سبعِ سَمَائِيَا
فجاء به على الأصل؛ وكما أنشدناه من نثق بعربيَّته:(3/315)
ألم يأتيِكَ والأنبَاءُ تَنْمِي ... بمَا لاقَتْ لَبونُ بي زياد
فجعله حين اضطرّ مجروماً من الأصل. وقال الكميت:
خَريعُ دَوَادِيَ في مَلْعبٍ ... تأزَّر طوَّراً وتُلْقيِ الإزارَا
اضطر فأخرجه كما قال: ضنينوا وسألته عن رجل يسمّى يغزو، فقال: رأيت يغزى قبل، وهذا يغزٍ، وهذا يغزي زيدٍ، وقال: لا ينبغي له أن يكون في قول يونس إلا يغزي، وثبات الواو خطأ، لأنه ليس في الأسماء واو قبلها حرف مضموم، وإنما هذا بناءٌ اختصَّ به الأفعال، ألا ترى أنَّك تقول: سرو الرجل ولا ترى في الأسماء فعل على هذا البناء. ألا ترى أنَّه قال: أنا أدلو حين كان فعلاً، ثم قال: أدلٍ حين جعلها اسماً. فلا يستقيم أن يكون الاسم إلا هكذا.(3/316)
فإن قلت: أدعه في المعرفة على حاله وأغيِّره في النكرة. فإن ذلك غير جائز، لأنك لم تر اسماً معروفاً أجري هكذا.
قال الشاعر:
لا مَهْلَ حتَّى تَلْحَقِي بعَنْسِ ... أهل الريِّاط البيض والقلنسي
عنس: قيبلة. ولم يقل القلنسو.
ولا يبنون الاسم على بناءٍ إذا بلغ حال التنوين تغيَّر وكان خارجاً من حد الأسماء، كما كرهوا أن يكون إي وفي، في السكوت وترك التنوين، على حالٍ يخرج منه إذا وصل ونون فلا يكون على حدّ الأسماء، فقرّوا من هذا كما فرُّوا من ذاك. ويكفيك من ذا قولهم: هذه أدلي زيدٍ.
فإن قلت: إنما أعرب في النكرة، فلم يغيِّر البناء. كذلك أيضاً لا يكون في المعرفة على بناء يتغيَّر في النكرة.
وتقول في رجل سمَّيته بارمه: هذا إرمٍ قد جاء، وينون، في قول الخليل، وهو القياس.(3/317)
وتقول: رأيت إرمي قبل، يبين الياء، لأنها صارت اسماً وخرجت من موضع الجزم، وصارت من موضعٍ يرتفع فيه وينجر وينتصب.
وإذا سميت رجلا بعه قلت: هذا وعٍ قد جاء، صيَّرت آخره كآخر إرمه حين جعلته اسماً. فإذا كان كذلك كان مختلاً؛ لأنَّه ليس اسم على مثال عٍ، فتصيره بمنزلة الأسماء، وتلحقه حرفاً منه كان ذهب، ولا تقول: عيٌّ فتلحقه بالأسماء بشيء ليس منه، كما وأنَّك لو حقَّرت شيةً وعدةً لم تلحقه ببناء المحقَّر الذي أصل بنائه على ثلاثة أحرف بشيء ليس منه وتدع ما هو منه، وذلك قولك: هذا وعٍ كما ترى.
ولو سمَّيت رجلاً لأعدت الهمزة والألف فقلت: هذا إرأ قد جاء، وتقديره: إدعي، تلحقه بالأسماء بأن تضم إليه ما هو منه، كما تقول: وعيدةٌ وشيَّةٌ ولا تقول: عديَّةٌ ولا وشيَّةٌ، لأنك لا تدع ما هو منه وتلحق ما ليس منه.
ولا يجوز أن تقول: هذا عه، كما لم يجز ذلك في آخر إرمه.(3/318)
وإن سمَّيت رجلاً قل أو خف أو بع أو أقم قلت: هذا قولٌ قد جاء وهذا بيعٌ قد جاء، وهذا خافٌ قد جاء، وهذا أقيمٌ قد جاء؛ لأنَّك قد حركت آخر حرفٍ وحوَّلت هذا الحرف من المكان وعن ذلك المعنى، فإنّما حذقت هذه الحروف في حال الأمر لئَّلا ينجزم حرفان، فإذا قلت: قولا أو خافا أو بيعا أو أقيموا، أظهرت للتحرك، فهو ههنا إذا صار اسماً أجدر أن يظهر.
ولو سميت رجلا لم يرد أو لم يخف، لوجب عليك أن تحكيه؛ لأنَّ الحرف العامل هو فيه، ولو لم تظهر هذه الحروف لقلت: هذا يريد وهذا يخاف.
وكذلك لو سمَّيته بتردد من قولك: إن تردد أردد، وإن تخف أخف لقلت: هذا يخاف ويرد. ولو لم تقل ذا لم تقل في إرمه إرمي، ولتركت الياء محذوفة، ولكنما أظهرتها في موضع التحرُّك، كما تظهرها إذا قلت: ارميا وهو يرمي.
وإذا سمَّيت رجلا باعضض قلت: هذا إعض كما ترى، لأنك إذا حرَّكت اللام من المضاعف أدغمت، وليس اسمٌ من المضاعف تظهر عينه ولامه فإذا جعلت إعضض اسماً قطعت الألف كما قطعت ألف إضرب، وأدغمت كما تدغم أعضُّ إذا أردت أنا أفعل؛ لأنّ آخره كآخره، ولو لم(3/319)
تدغم ذا لما أدغمت إذا سميت بيعضض من قولك: إن يعضض أعضض، ولا تعضض.
وإذا سميت رجلاً بألببٍ من قولك:
قد علمت ذاك بنات ألبب
تركته على حاله، لأن هذا اسم، جاء على الأصل، كما قالوا: رجاء ابن حيوة، وكما قالوا: ضيون، فجاءوا به على الأصل. وربَّما جاءت العرب بالشيء على الأصل ومجرى بابه في الكلام على غير ذلك.
باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد قال الخليل يوماً وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك والكاف التي في مالك، والباء التي في ضرب؟ فقيل له: نقول: باء الكاف. فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف. وقال: أقول كه وبه. فقلنا: لم ألحقت الهاء، فقال: رأيتهم قالوا: عه فألحقوا هاءاً حتى صيروها يستطاع الكلام بها، لأنَّه لا يلفظ بحرف. فإن وصلت قلت: ك وب فاعلم يا فتى، كما قالوا: ع يا فتى. فهذه طريقة كلِّ حرفٍ كان متحركاً، وقد يجوز أن يكون الألف هنا بمنزلة الهاء، لقربها منها وشبهها بها، فتقول: با وكا، كما تقول: أنا.(3/320)
وسمعت من العرب من يقول: ألاتا، بلى فا؛ فإنما أرادوا ألا تفعل وبلى فافعل، ولكنه قطع كما كان قاطعاً بالألف في أنا، وشركت الألف الهاء كشركتها في قوله: أنا، بيّنَوها بالألف كبيانهم بالهاء في هيه وهنَّه وبغلتيه. قال الراجز:
بالخَيْر خيراتٍ وإن شرافا ... ولا أريد الشرَّ إلاَّ أنْ تَا
يريد: إن شرَّا فشرٌّ، ولا يريد إلا أن تشاء.
ثم قال: كيف تلفظون بالحرف الساكن نحو ياء غلامي وباء اضرب ودال قد؟ فأجابوا بنحوٍ مما أجابوا في المرة الأولى فقال: أقول إب وإي وإد، فألحق ألفاً موصولة. قال: كذاك أراهم صنعوا بالساكن، ألا تراهم قالوا: ابنٌ واسمٌ حيث أسكنوا الباء والسين، وأنت لا تستطيع أن تكلَّم بساكنٍ في أول اسم كما لا تصل إلى اللفظ بهذه السواكن، فألحقت ألفاً حتى وصلت اللفظ بها، فكذلك تلحق هذه الألفات حتى تصل إلى اللفظ بها كما ألحقت المسكَّن الأول في الاسم. وقال بعضهم: إذا سمَّيت رجلاً بالباء من ضرب قلت: رب فأردُّ العين. فإن جعلت هذه المتحركة اسماً حذفت(3/321)
الهاء كما حذفتها من عه حين جعلتها اسماً، فإذا صارت اسماً صارت من بنات الثلاثة؛ لأنَّه ليس في الدنيا اسمٌ أقل عدداً من اسمٍ على ثلاثة أحرف، ولكنَّهم قد يحذفون مما كان على ثلاثةٍ حرفاً وهو الأصل له، ويردونه في التحقير والجمع؛ وذلك قولهم في ذمً: دميٌ، وفي حرٍ: حريحٌ، وفي شفة: شفيهةٌ، وفي عدة: وعيدةٌ. فهذه الحروف إذا صيرت اسماً صارت عندهم من بنات الثلاثة المحذوفة، وصارت من بنات الياء والواو؛ لأنَّا رأينا أكثر بنات الحرفين التي أصلها الثلاثة أو عامتها، من بنات الياء والواو، وإنَّما يجعلونها كالأكثر، فكأنهم إن كان الحرف مكسوراً ضموا إليه ياءً لأنَّه عندهم له في الأصل حرفان، كما كان لدمٍ في الأصل حرفٌ؛ فإذا ضممت إليه ياء صار بمنزلة في، فتضم إليه ياءً أخرى تثقله بها حتىَّ يصير على مثال الأسماء. وكذلك فعلت بفي.
وإن كان الحرف مضموماً ألحقوا واواً ثم ضموا إليها واواً أخرى حتَّى يصير على مثال الأسماء، كما فعلوا بذلك بلو وهو وأو. فكأنَّهم إذا كان الحرف مضموماً صار عندهم من مضاعف الواو، كما صارت لو وأو وهو إذ كانت فيهن الواوات من مضاعف الواو. وإن كان مكسوراً فهو عندهم من مضاعف الياء كما كان ما فيه نحو في وكي من مضاعف الياء عندهم(3/322)
وإن كان الحرف مفتوحاً ضموا إليه ألفاً ثم ألحقوا ألفا أخرى حتَّى يكون على مثال الأسماء، فكأنَّهم أرادوا أن يضاعفوا الألفات فيما كان مفتوحاً كما ضاعفوا الواوات والياءات فيما مكسوراً أو مضموماً، كما صارت ما ولا ونحوهما إذ كانت فيهما ألفات مما يضاعف.
فإن جعلت إي اسماً ثقلته بياء أخرى واكتفيت بها حتى يصير بمنزلة اسمٍ وابنٍ.
فأما قاف وياء وزاي وباء وواو فإنَّما حكيت بها الحروف ولم ترد أن تلفظ بالحروف كما حكيت بغاقٍ صوت الغراب، وبقب وقع السيف، وبطيخ الضحك، وبنيت كلَّ واحد بناء الأسماء. وقب هو وقع السيف. وقد ثقَّل بعضهم وضم ولم يسلم الصوت كما سمعه فكذلك حين حكيت الحروف حكيتها ببناء للأسماء ولم تسلم الحروف كما لم تسلَّم الصوت. فهذا سبيل هذا الباب.
ولو سميت رجلاً بأب قلت: هذا إبٌ، وتقديره في الوصل: هذا آبٌ كما ترى، تريد الباء وألف الوصل من قولك: اضرب. وكذلك كلَُ شىء(3/323)
مثله لا تغيره عن حاله؛ لأنك تقول: إبٌ، فيبقى حرفان سوى التنوين. فإذا كان الاسم ههنا في الابتداء هكذا لم يختل عندهم أن تذهب ألفه في الوصل، وذلك أنَّ الحرف الذي يليه يقوم مقام الألف. ألا تراهم يقولون: من آبٌ فلا يبقى إلا حرف واحد فلا يختل ذا عندهم إذ كان كنونه حرف لا يلزمه في الابتداء وفي غير هذا الموضع إذا تحرك ما قبل الهمزة في قولك ذهب آبٌ لك وكذلك إب، لا يختلُّ أن يكون في الوصل على حرف إذا كان لا يلزمه ذلك في كل المواضع، ولولا ذلك لم يجز؛ لأنَّه ليس في الدنيا اسمٌ يكون على حرفين أحدهما التنوين، لأنَّه لا يستطاع أن يتكلم به في الوقف المبتدأ.
فإن قلت: يغيَّر في الوقف. فليس في كلامهم أن يغيروا بناءه في الوقف عما كان عليه في الوصل، ومن ثمَّ تركوا أن يقولوا هذا في، كراهية أن يكون الاسم على حرفين أحدهما التنوين فيوافق ما كان على حرف.
وزعم الخليل أن الألف واللام اللتين يعرفون بهما حرفٌ واحد كقد، وأن ليست واحدةٌ منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف الاستفهام في قوله: أأريد، ولكن الألف كألف أيم في أيم الله، وهي موصولة كما أن ألف أيمٍ موصولة، حدثنا بذلك يونس عن أبى عمرو، وهو رأيه.
والدليل على أن ألف أيمٍ ألف وصل قولهم: إيم الله، ثم يقولون:(3/324)
ليم الله. وفتحوا ألف أيمٍ في الابتداء شبهوها بألف أحمر لأنَّها زائدة مثلها. وقالوا في الاستفهام: آلرجل، شبهوها أيضاً بألف أحمر، كراهية أن يكون كالخبر فيلتبس، فهذ1 قول الخليل. وأيم الله كذلك، فقد يشبَّه الشيء بالشيء في موضع ويخالفه في أكثر من ذلك، نحو: يا ابن عمَّ في النداء.
وقال الخليل: وممَّا يدل على أنَّ أل مفصولة من ألرَّجل ولم يبن عليها، وأنَّ الألف واللام فيها بمنزلة قد، قول الشاعر:
دع ذا وعجَّل ذا وألحقنا بذل ... بالشَّحم إنّا قد مَلِلْناه بَجَلْ
قال: هي ههنا كقول الرجل وهو يتذكَّر: قدي، فيقول: قد فعل ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيءٍ مما كان من الحروف الموصولة.
ويقوا الرجل: ألي، ثم يتذكر، فقد سمعناهم يقولون ذلك، ولولا أنَّ الألف واللام بمنزلة قد وسوف لكانتا بناءً بني عليه الاسم لا يفارقه، ولكنَّهما جميعاً بمنزلة هل وقد وسوف، تدخلان لتعريف وتخرجان.
وإن سميت رجلاً بالضاد من ضرب قلت: ضاءٌ، وإن سميته بها من(3/325)
ضراب قلت: ضىٌّ، وإن سميته بها من ضحى قلت: ضوٌّ. وكذلك هذا الباب كله. وهذا قياس قول الخليل ومن خالفه رد الحرف الذي يليه.
باب الحكاية التي لا تغيَّر فيها الأسماء عن حالها في الكلام وذلك قول العرب في رجل يسمَّى تأبَّط شراً: هذا تأبَّط شراً وقالوا: هذا برق نحره، ورأيت برق نحره. فهذا لا يتغير عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون اسماً.
وقالوا أيضاً في رجل اسمه ذرَّى حبَّا: هذا ذرَّى حباً. وقال الشاعر من بني طهية:
إنّ لها مركَّناً إرزبَّا ... كأنّه جَبْهةُ ذرَّى حَبّا
فهذا كله يترك على حاله. فمن قال: أغيِّر هذا دخل عليه أن يسمَّى الرجل ببيت شعرٍ، أو بله درهمان، فإن غيره عن حاله فقد ترك قول الناس وقال ما لا يقوله أحد. وقال الشاعر:
كَذَبْتُمْ وبيتِ الله لا تَنْكِحْونَها ... بَنيِ شابَ قَرْنَاهَا تصرُّ وتَحْلُبُ
وعلى هذا يقول: بدأت بالحمد لله رب العالمين. وقال الشاعر:(3/326)
وجدْنا في كتابِ بني تميمٍ ... أحقُّ الخيلِ بالرَّكض المُعارُ
وذلك لأنه حكى أحقُّ الخيل بالركض المعار فكذلك هذه الضروب إذا كانت أسماءً. وكلُّ شيء عمل بعضه في بعض فهو على هذه الحال.
واعلم أن الاسم إذا كان محكياً لم يثن ولم يجمع، إلا أن تقول: كلهم تأبَّط شرَّا، وكلاهما ذرَّى حباً، لم تغيِّره عن حاله قبل أن يكون اسما. ولو تثنيت هذا أو جمعته لثنيت أحقُّ الخيل بالركض المعار إذا رأيته في موضعين.
ولا تضيعه إلى شيء إلا أن تقول: هذا تأبَّط شرّاً صاحبك أو مملوكك. ولا تحقره قبل أن يكون علماً. ولو سميت رجلاً زيدٌ أخوك لم تحقره.
فإن قلت: أقول زييد أخوك، كما أقول قبل قبل أن يكون اسماً. فإنَّك إنَّما حقرت اسماً قد ثبت لرجل ليس بحكاية، وإنَّما حقرت اسماً على حياله.(3/327)
فإذا جعلا اسماً فليس واحدٌ به من صاحبه ولم يجعل الأوَّل والآخر بمنزلة حضرموت، ولكن الاسم الآخر مبني على الأول. ولو حقرتهما جميعاً لم يصيرا حكايةً، ولكان الأول اسماً تاماً.
وإذا جعلت هذا زيدٌ اسم رجل فهو يحتاج في الابتداء وغيره إلى ما يحتاج إليه زيد، ويستغني كما يستغني. ولا يرخَّم المحكيُّ أيضاً ولا يضاف بالياء؛ وبذلك لأنَّك لا تقول: هذا زيدٌ أخوكي ولا برق نحر هي، وهو يضيف إلى نفسه، ولكنَّه يجوز أن يحذف فيقول: تأبَّطي وبرقي، فتحذف وتعمل به عملك بالمضاف، حتى تصير الإضافة على شيء واحد لا يكون حكايةً لو كان اسماً فمن لم يقل ذا فطول له الحديث فإنه يقبح جداً.
وسألت الخليل عن رجلٍ يسمَّى خيراً منك، أو مأخوذاً بك، أو ضارباً رجلاً، فقال: هو على حاله قبل أن يكون اسماً. وذلك أنَّك تقول: رأيت خيراً منك، وهذا خيرٌ منك، ومررت بخيرٍ منك.
قلت: فإن سميت بشيءٍ منها امرأة؟ فقال: لا أدع التنوين، من قبل أن خيراً ليس منتهى الاسم، ولا مأخوذاً، ولا ضارباً. ألا ترى أنك إذا قلت: ضاربٌ رجلا أو مأخوذٌ بك وأنت تبتدئ الكلام احتجت ههنا إلى الخبر كما احتجت إليه في قولك: زيدٌ، وضاربٌ ومنك بمنزلة شئ من الاسم، في أنَّه لم يسند إلى مسند وصار كمال الاسم، كما أنَّ المضاف إليه(3/328)
منتهى الاسم وكماله. ويدلك على أنَّ ذا ينبغي له أن يكون منوناً قولهم: لا خيراً منه لك، ولا ضارباً رجلاً لك، فإنَّما ذا حكاية، لأن خيراً منك كلمة على حدة، فلم يحذف التنوين منه في موضع حذف التنوين من غيره، لأنَّه بمنزلة شئ من نفس الحرف، إذ لم يكن في المنتهى. فعلى هذا المثال تجري هذه الأسماء. وهذا قول الخليل.
وإن سميت رجلا بعاقلةٍ لبيبةٍ أو عاقلٍ لبيبٍ، صرفته وأجريته مجراه قبل أن يكون اسماً. وذلك قولك: رأيت عاقلةً لبيبةً يا هذا، ورأيت عاقلاً لبيباً يا هذا. وكذلك في الجر والرفع منوَّن؛ لأنه ليس بشيء عمل بعضه في بعض فلا ينوَّن، وينوَّن لأنك نونتنه نكرةً، وإنَّما حكيت.
فإن قلت: ما بالي إن سميته بعاقلة لم أنوِّن؟ فإنك إن أردت حكاية النكرة جاز، ولكن َّ الوجه ترك الصرف. والوجه في ذلك الأول الحكاية وهو القياس، لأنَّهما شيئان، ولأنَّهما ليس واحدٌ منهما الاسم دون صاحبه، فإنما هي الحكاية وإنما ذا بمنزلة امرأةً بعد ضارب إذا قلت هذا ضاربٌ امرأةً إذا أردت النكرة، وهذا ضاربٌ طلحة إذا أردت المعرفة.
وسألت الخليل عن رجلٍ يسمَّى من زيدٍ وعن زيدٍ فقال: أقول: هذا(3/329)
من زيدٍ، وعن زيدٍٍ. وقال أغيره في ذا الموضع وأصيَّره بمنزلة الأسماء كما فعل ذلك به مفرداً يعني عن ومن ولو سمّيته قط لقلت زيدٍ لقلت: هذا قط زيدٍ، ومررت بقط زيد، حتَّى تكون بمنزلة حسبك، لأنَّك قد حولته وغيرته، وإنما عمله فيما بعده كعمل الغلام إذا قلت: هذا غلام زيدٍ. ألا ترى أنَّ من زيدٍ لا يكون كلاماً حتَّى يكون معتمداً علة غيره. وكذلك قط زيدٍ، كما أنَّ غلام زيدٍ لا يكون كلاماً حتَّى يكون معه غيره. ولو حكيته مضافاً ولم أغيره لفعلت به ذلك مقرداً، لأني رأيت المضاف لا يكون حكايةً كما لا يكون المفرد حكايةً. ألا ترى أنَّك لو سميت رجلا وزن سبعة قلت: هذا وزن سبعة فتجعله بمنزلة طلحة. والدَّليل على ذلك أنَّك لو سميت رجلا خمسة عشر زيدٍ لقلت: هذا خمسة عشر زيدٍ، تغير كما تغير. أمس، لأنَّ المضاف من حد التسمية.
قلت: فإن سمَّيته بفي زيدٍ لا تريد الفم؟ قال: أثقِّله فأقول: هذا فيُّ زيدٍ كما ثقلَّته إذا جعلته اسماً لمؤنث لا ينصرف. ولا يشبه ذا فاعبد الله، لأن ذا إنما احتمل عندهم في الإضافة حيث شبهوا آخره بآخر أبٍ، يعني الفم مضافاً، وصار حرف الإعراب غير محرك فيه إذ كان مفرداً على غير حاله في الإضافة. فأما في فليست هذه حاله، وياؤه تحرك في النصب. وليس شيءٌ يتحرك حرف إعرابه في الإضافة ويكون على بناءٍ إلا لزمه ذلك في الانفراد. وكرهوا أن يكون على حالٍ إن نون كان مختلاً عندهم.(3/330)
ولو سميته طلحة وزيداً، أو عبد الله زيداً، وناديت نصبت ونونت الآخر ونصبته، لأن الأول في موضع نصب وتنوين.
واعلم أنك لا تثَّني هذه الأسماء، ولا تحقرها، ولا ترخمها، ولا تضيفها ولا تجمعها. والإضافة إليها كالإضافة إلى تأبَّط شرَّا؛ لأنَّها حكايات.
وسألت الخليل عن إنَّما وأنَّما وكأنَّما وحيثما وإمَّا في، قولك: إمَّا أن تفعل وإما أن لا تفعل، فقال: هن حكايات، لأنَّ ما هذه لم تجعل بمنزلة موت في حضرموت. ألا ترى أنها لم تغيِّر حيث عن أن يكون فيها اللغتان: الضمُّ ولافتح. وإنّما تدخل لمنع أن من النصب، ولتدخل حيث في الجزاء، فجاءت مغيِّرة، ولم تجيء كموت في حضر ولا لغواً.
والدَّليل على أن ما مضمومة إلى إن قول الشاعر:(3/331)
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعا وإن إجْمالَ صَبْرِ
وإنَّما يريدون إمَّا. وهي بمنزلة ما مع أن في قولك: أمَّا أنت منطلقاً انطلقت معك.
وكان يقول: إلاَّ التي للاستثناء بمنزلة دفلى، وكذلك حتَّى. وأما إلاِّ وإما في الجزاء فحكاية. وأما التي في قولك: أمَّا زيدٌ فمنطلقٌ فلا تكون حكايةً، وهي بمنزلة شروى. وكان يقول: أمَّا التي في الاستفهام حكاية، وألا التي في الاستفهام حكاية. وأما قولك: ألا إنه ظريف، وأما إنه ظريف، فبمنزلة قفاً ورحى ونحو ذلك. ولعلّ حكاية؛ لأنَّ اللام ها هنا زائدة، بمنزلتها في لأفعلن. ألا ترى أنك تقول: علَّك. وكذلك كأنَّ، لأنَّ الكاف دخلت للتشبيه. ومثل ذلك كذا وكأي، وكذلك: ذلك، لأنَّ هذه الكاف لحقت للمخاطبة، وكذلك أنت التاء بمنزلة الكاف.
وقال: ولو سميت رجلاً: هذا، أو هؤلاء، تركته على حاله، لأنِّي إذا تركت هاء التنبيه على حالها فإنما أريد الحكاية، فمجراها ها هنا مجراها قبل أن تكون اسماً.
وأما هلَّم فزعم أنَّها حكاية في اللغتين جميعاً، كأنَّها لمَّ أدخلت عليها الهاء، كما أدخلت ها على ذا؛ لأنِّي لم أر فعلاً قط بني على ذا ولا اسماً ولا شيئاً يوضع موضع الفعل وليس من الفعل. وقول بني تميم: هلممن يقوّي ذا، كأنَّك(3/332)
قلت: الممن فأذهبت ألف الوصل. قال: وكذلك لوما ولولا. وسمعت من العرب من يقول: لا من أين يا فتى، حكى ولم يجعلها اسماً.
ولو سميت رجلاً بو زيدٍ، أو وزيداً، أو زيد، فلا بدَّ لك من أن تجعله نصباً أو رفعا أو جرّا تقول: مررت بوزيداً، ورأيت وزيداً وهذا زيداً. كذلك الرفع والجر، لأنَّ هذا لا يكون إلا تابعا.
وقال: زيدٌ الطَّويل حكايةٌ، بمنزلة زيدٌ منطلقٌ، وهو اسم امرأة بمنزلته قبل ذلك، لأنهما شيئان، كعاقلةٍ لبيبةٍ. وهو النداء على الأصل، تقول: يا زيد الطويل. وإن جعلت الطويل صفةً صرفته بالإعراب، وإن دعوته قلت: يا زيداً الطويل. وإن سميته زيداً وعمراً، أو طلحة عمر لم تغيِّره. ولو سميت رجلا أولاء قلت: هذا أولاءٌ. وإذا سميت رجلاً: الذي رأيته والذي رأيت، لم تغيَّره عن حاله قبل أن يكون اسماً؛ لأن الذي ليس منتهى الاسم، وإنَّما منتهى الاسم الوصل؛ فهذا لا يتغير عن حاله كما لم يتغير ضاربٌ أبوه اسم امرأة عن حاله، فلا يتغير الذي كما لم يتغير وصله. ولا يجوز لك أن تناديه كما لا يجوز لك أن تنادي الضارب أبوه إذا كان اسماً، لأنَّه بمنزلة اسمٍ واحد فيه الألف واللام. ولو سمّيته الرجل المنطلق جاز أن تناديه فتقول يا الرجل منطلقٌ لأنك سميته بشيئين كلُّ واحدٍ منهما اسمٌ تامٌ.
والذي مع صلته بمنزلة اسم واحد نحو الحارث، فال يجوز فيه النداء كما لا يجوز فيه قبل أن يكون اسماً. وأما الرَّجل منطلقٌ فبمنزلة تأبَّط شراً، لأنَّه لا يتغير عن حاله، لأنه قد عمل بعضه في بعض. ولو سميته الرجل والرجلان لم يجز فيه النداء، لأنَّ ذا يجري مجراه قبل أن يكون اسماً في الجر والنصب والرفع.(3/333)
ولا يجوز أن تقول: يا أيُّها الذي رأيت؛ لأنه اسمٌ غالب كما لا يجوز يا أيُّها النَّضر وأنت تريد الاسم الغالب. وإذا ناديته والاسم زيدٌ وعمروٌ، قلت: يا زيداً وعمراً؛ لأن الاسم قد طال ولم يكن الأوّل المنّهى ويشرك الآخر، وإنَّما هذا بمنزلته إذا كان اسمه مضافاً.
وإن ناديته واسمه طلحة وحمزة نصبت بغير تنوين كنصب زيد وعمرو، وتنون زيداً وعمراً وتجريه على الأصل. وكذلك هذا وأشباهه يردُّ إذا طال على الأصل، كما رد ضارباً رجلاً.
وأما كزيدٍ وبزيدٍ فحكايات، لأنَّك لو أفردت الباء والكاف غيَّرتها ولم تثبت كما ثبتت من.
وإن سميت رجلا عمَّ فأردت أن تحكي في الاستفهام، تركته على حاله كما تدع أزيد وأزيدٌ، إذا أردت النداء.
وإن أردت أن تجعله اسماً قلت: عن ماءٍ لأنَّك جعلته اسماً وتمد ماءٍ كما تركت تنوين سبعة؛ لأنَّك تريد أن تجعله اسماً مفردا أضيف هذا إليه بمنزلة قولك: عن زيد. وهن ههنا مثلها مفردةً؛ لأن المضاف في هذا بمنزلة الألف واللام لا يجعلان الاسم حكاية؛ كم أن الألف واللام لا تجعلان الاسم حكاية؛ وإنما هو داخلٌ في الاسم وبدلٌ من التنوين، فكأنه الألف واللام.(3/334)
هذا باب الإضافة، وهو باب النسبة
اعلم أنَّك إذا أضفت رجلاً إلى رجل فجعلته من آل ذلك الرجل، ألحقت ياءي الإضافة.
فإن أضفته إلى بلد فجعلته من أهله، ألحقت ياءي الإضافة؛ وكذلك إن أضفت سائر الأسماء إلى البلاد، أو إلى حيٍّ أو قبيلةٍ.
واعلم أن ياءي الإضافة إذا لحقتا الأسماء فإنَّهم مما يغيرونه عن حاله قبل أن تلحق ياءي الإضافة. وإنَّما حملهم على ذلك تغييرهم آخر الاسم ومنتها، فشجعهم على تغييره إذا أحدثوا فيه ما لم يكن.
فمنه ما يجيء على غير قياس، ومنه ما يعدل وهو القياس الجاري في كلامهم وستراه إن شار الله.
قال الخليل: كلُّ شيء من ذلك عدلته العرب تركته على ما عدلته عليه، وما جاء تاماً لم تحدث العرب فيه شيئاً فهو على القياس.
فمن المعدول الذي هو على غير قياس قولهم في هذيلٍ: وفي فقيم كنانة: فقميٌّ، وفي مليح خزاعة: ملحيٌّ، وفي ثقيفٍ: ثقفيٌّ، وفي زبينة:(3/335)
زبانيٌّ، وفي طّيءٍ: طائيٌّ، وفي العالية: علويٌّ، والبادية بدويٌّ، وفي البصرة: بصريٌّ، وفي السَّهل سهليٌّ، وفي الدَّهر: دهريٌّ، وفي حيٍّ من بني عديٍ يقال لهم بنو عبيدة: عبديٌّ فضموا العين وفتحوا الباء فقالوا عبديٌّ؟ وحدَّثنا من نثق به أنَّ بعضهم يقول في بني جذيمة جذميٌّ، فيضم الجيم ويجريه مجرى عبديٌّ.
وقالوا في بني الحبلى من الأنصار: حبليٌّ، وقالوا في صنعاء: صنعائيٌّ، وفي شتاء: شتويٌّ، وفي بهراء قبيلة من قبيلة قضاعة: بهرانيٌّ، وفي دستواء: دستوانيٌّ مثل بحرانيٍّ.
وزعم الخليل أنَّهم بنوا البحر على فعلان، وإنَّما كان للقياس أن يقولوا: بحريٌّ.
وقالوا في الأفق: أفقيٌّ، ومن العرب من يقول: أفقيٌّ فهو على القياس. وقالوا في حروراء، وهو موضع: حروريٌّ، وفي جلولاء: جلوليٌّ، كما قالوا في خراسان: خرسيٌّ، وخراسانيٌّ أكثر، وخراسيٌّ لغةٌ.
وقال بعضهم: إبل حمضيةٌ إذا أكلت الحمض، وحمضية أجود. وقد يقال: بعيرٌ حامضٌ وعاضةٌ إذا أكل العضاه، وهو ضربٌ من الشجر. وحمضيةٌ أجود وأكثر وأقيس في كلامهم.
وقال بعضهم: خرفيَّ، أضاف إلى الخريف وحذف الياء. والخرفيٌّ في كلامهم أكثر من الخريفي إما أضافه إلى الخرف، وإما بني الخريف على فعلٍ.
وقالوا: إبلٌ طلاحيةٌ، إذا أكلت الطَّلح. وقالوا في عضاهٍ: عضاهيٌّ في قول من جعل الواحدة عضاهة مثل قتادةٍ وقتادٍ. والعضاهة بكسر العين،(3/336)
على القياس. فأما من جعل جميع العضة عضوات، وجعل الذي ذهب الواو فإنَّه يقول: عضويٌّ. وأما من جعله بمنزلة المياه وجعل الواحدة عضاهةً فإنه يقول عضاهيٌّ.
وسمعنا من العرب من يقول: أمويٌّ. فهذه الفتحة كالضمة في السَّهل إذا قالوا سهليٌّ.
وقالوا: روحانيٌّ في الروَّحاء، ومنهم من يقول: روحاويٌّ كما قال بعضهم بهراويٌّ، حدثنا بذلك يونس. وروحاويٌّ أكثر من بهراويٌ.
وقالوا: في القفا: قفيٌّ، وفي طهية: طهويٌّ، وقال بعضهم طهويٌّ على القياس، كما قال الشاعر:
بكلِّ قريشيٍّ إذا ما لَقِيتُه ... سريعٍ إلى داعِي النَّدى والتكرُّم
ومما جاء محدوداً عن بنائه محذوفة منه إحدى الياءين ياءي الإضافة قولك في الشَّأم: شآم، وفي تهامة: تهامٍ، ومن كسر التاء قال: تهاميٌّ، وفي اليمن يمانٍ.
وزعم الخليل أنهم ألحقوا هذه الألفات عوضاً من ذهاب إحدى الياءين، وكأنَّ الذين حذفوا الياء من ثقيفٍ وأشباهه جعلوا الياءين عوضاً منها. فقلت: أرأيت تهامة، أليس فيها الألف؟ فقال: إنَّهم كسَّروا الاسم على(3/337)
أن يجعلوه فعلياً أو فعلياً، فلمَّا كان من شأنهم أن يحذفوا إحدى الياءين ردوا الألف، كأنَّهم بنوه تهميٌّ أو تهميٌّ، وكأنَّ الذين قالوا: تهامٍ، هذا البناء كان عندهم في الأصل، وفتحتهم التاء في تهامة حيث قالوا: تهامٍ يدٌّلك على أنَّهم لم يدعوا على بنائه.
ومنهم من يقول: تهاميٌّ ويمانيٌّ وشآميٌّ، فهذا كبحراني وأشباهه مما غيَّر بناؤه في الإضافة. وإن شئت قلت: يمنيٌّ.
وزعم أبو الخطَّاب أنه سمع من العرب من يقول في الإضافة إلى الملائكة والجن جميعاً روحانيٌّ، وللجميع: رأيت روحانيِّين.
وزعم أبو الخطاب، أن العرب تقوله لكل شيء فيه الرُّوح من الناس والدوابّ والجن.
وجميع وزعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول شآمي هذا إذا صار اسماً في غير هذا الموضع فأضفت إليه جرى على القياس، كما يجري تحقير ليلة ونحوهما إذا حوّلتَّهما فجعلتها اسماً علما.
وإذا سمّيت رجلاص زبينة لم تقل: زبانيٌّ، أو دهراً لم تقل: دهريٌّ، ولكن تقول في الإضافة إليه: زبنيٌّ، ودهريٌّ.(3/338)
باب ما حذف الياء والواو فيه القياس
وذلك قولك في ربيعة: ربعيٌّ، وفي حنيفة: حنفيٌّ، وفي جذيمة: جذميٌّ، وفي جهينة: جهنيٌّ، وفي قتيبة: قتبيٌّ، وفي شنوءة: شنىءٌّ وتقديرها: شنوعة وشنعيٌّ؛ وذلك لأن هذه الحروف قد يحذفونها من الأسماء لما أحدثوا في آخرها لتغييرهم منتهى الاسم، فلما اجتمع في آخر الاسم تغييره وحذف لازم لزمه حذف هذه الحروف؛ إذ كان من كلامهم أن يحذف لأمرٍ واحد، فكلما ازداد التغيير كان الحذف ألزم، إذ كان من كلامهم أن يحذفوا لتغييرٍ واحد.
وهذا شبيهٌ بإلزامهم الحذف هاء طلحة، لأنَّهم قد يحذفون ممَّا لا يتغيَّر، فلمَّا كان هذا متغيَّراً في الوصل كان الحذف له ألزم.
وقد تركوا التغيير في مثل حنيفة، ولكنه شاذٌّ قليل، قد قالوا في سليمة: سليميٌّ، وفي عميرة كلبٍ: عميريٌّ. وقال يونس: هذا قليلٌ خبيث. وقالوا في خريبة: خريبيٌّ. وقالوا سليقيٌّ للرجل يكون من أهل السليقة.
وسألته عن شديدةٍ فقال: لا أحذف، لاستثقالهم التضعيف، وكأنَّهم تنكَّبوا التقاء الدالين وسائر هذا من الحروف.
قلت: فكيف تقول في بني طويلة؟ فقال: لا أحذف، لكراهيتهم تحريك هذه الواو في فعل، ألا ترى أنَّ فعل من هذا الباب العين فيه ساكنة والألف مبدلةٌ، فيكره هذا كما يكره التضعيف، وذلك قولهم في بني حويزة: حويزيٌّ.(3/339)
باب الإضافة إلى اسم
كان على أربعة أحرف فصاعداً إذا كان آخره ياءً ما قبلها حرفٌ منكسر فإذا كان الاسم في هذه الصفة أذهبت الياء إذا جئت بياءي الإضافة، لأنَّه لا يلتقي حرفان ساكنان. ولا تحرَّك الياء إذا كانت في هذه الصفة لم تنكسر ولم تنجر، ولا تجد الحرف الذي قبل ياء الإضافة إلا مكسوراً. فمن ذلك قولهم في رجل من بني ناجية: ناجيٌّ، وفي أدلٍ: أدليٌّ، وفي صحارٍ: صحاريٌّ، وفي ثمانٍ: ثمانيٌّ، وفي رجل اسمه يمان: يمانيٌّ. وإنَّما ثقلَّت لأنك لو أضفت إلى رجل اسمه بخاتيٌّ يمنيٌ أو هجريٌ أحدثت ياءين سواهما وحذفتهما. والدليل على ذلك أنك لو أضفت إلى رجل اسمه بخاتي لقلت بخاتيٌ كما ترى.
ولو كنت لا تحذف الياءين اللتين في الاسم قبل الإضافة لم تصرف بخاتيٌّ ولكنهما ياءان تحدثان وتحذف الياءان اللتان كانتا في الاسم قبل الإضافة.
وتقول إذا أضفت إلى رجل اسمه يرمي: يرميٌّ كما ترى.
وإذا أضفت إلى عرقوةٍ قلت: عرقيٌّ.
وقال الخليل: من قال في يثرب: يثربيٌّ، وفي تغلب تغلبيٌّ ففتح مغيِّراً(3/340)
فإنه غيَّر مثل يرمي على ذا الحد قال: يرمويٌّ، كأنه أضاف إلى يرمي. ونظير ذلك قول الشاعر:
فكييف لنا باشُّرب إنْ لم تكن لنا ... دَوانِيقُ عند الحانويِّ ولا نَقْدُ
والوجه الحانيُّ، كما قال علقمة بن عبدة:
كأسُ عَزيزِ مِنَ الأعْنابِ عتَّقها ... لبعضِ أَرْبابِها حانِيّةٌ حُومُ
لأنَّه إنَّما أضاف إلى مثل: ناجية، وقاض.
وقال الخليل: الذين قالوا: تغلبيٌّ ففتحوا مغيِّرين كما غيَّروا حين قالوا سهليٌّ وبصريٌّ في بصري، ولو كان ذا لازماً كانوا سيقولون في يشكر:(3/341)
يشكريٌّ، وفي جلهم: جلهميٌّ. وأن لا يلزم الفتح دليلٌ على أنَّه تغيير كالتغيير الذي يدخل في الإضافة ولا يلزم؛ وهذا قول يونس.
باب الإضافة إلى كل شيءٍ من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات لاماتهنَّ، إذا كان على ثلاثة أحرف وكان منقوصاً للفتحة قبل اللام تقول في هدىً: هدويُّ، وفي رجل اسمه حصىً: حصويٌّ، وفي رجل اسمه رحى: رحويٌّ. وإنما منعهم من الياء إذا كانت مبدلة استثقالاً لإظهارها أنهم لم يكونوا ليظهروها إلى ما يستخفُّون، إنما كانوا يظهرونها إلى توالي الياءات والحركات وكسرتها، فيصير قريبا من أميٍّ؛ فلم يكونوا ليردُّوا الياء إلى ما يستثقلون إذ كانت معتلَّة مبدلة فراراً ممّا يستثقلون قبل أن يضاف الاسم، فكرهوا أن يردُّوا حرفا قد استثقلوه قبل أن يضيفوا إلى الاسم في الإضافة، إذ كان ردُّه إلى بناء هو أثقل منه في الياءات وتوالي الحركات؛ وكسرة اليا، وتوالي الياءات مما يثقله، لأنَّا رأيناهم غيَّروا للكسرتين والياءين الاسم استثقالاً، فلما كانت الياءان والكسرة والياء فيما توالت حركاته ازدادوا استثقالا. وستراه إن شاء الله.
وإذا كانت الياء ثالثة، وكان الحرف قبل الياء مكسورا، فإن الإضافة إلى ذلك الاسم تصيره كالمضاف إليه في الباب الذي فوقه، وذلك(3/342)
قولهم في عمٍ: عمويٌّ، وفي ردٍ: ردويٌّ. وقالوا كلهم في الشجَّي: شجويٌّ، وذلك لأنَّهم رأوا فعل بمنزلة رأوا فعل بمنزلة فعل في غير المعتل، كراهية للكسرتين مع الياءين ومع توالي الحركات، فأقروا الياء وأبدلوا، وصيروا الاسم إلى فعلٍ، لأنَّها لم تكن لتثبت ولا تبدل مع الكسرة، وأرادوا أن يجري مجرى نظيره من غير المعتل، فلما وجدوا الباب والقياس في فعلٍ أن يكون بمنزلة فعلٍ أقرُّوا الياء على حالها وأبدلوا، إذ وجدوا فعل قد اتلأبَّ لأن يكون بمنزل فعلٍ.
وما جاء من فعلٍ بمنزلة فعلٍ قولهم في النَّمر: نمريٌّ، وفي الحبطات حبطيٌّ، وفي شقرة: شقريٌّ، وفي سلمة: سلمىٌّ. وكأنَّ الذين قالوا: تغلبيٌّ أرادوا أن يجعلوه بمنزلة تفعل، كما جعلوا فعل كفعلٍ للكسرتين مع الياءين، إلاَّ أنَّ ذا ليس بالقياس اللازم، وإنما هو تغيير؛ لأنَّه ليس توالي ثلاث حركات. والذين قالوا: حانويٌّ شبهوه بعمويٍ.
وإن أضفت إلى فعلٍ لم تغيره، لأنها إنما هي كسرة واحدة، كلُّهم يقولون: سمريٌّ. والدٌّئل بمنزلة النَّمر، تقول: دؤليٌّ. وكذلك سمعناه من يونس وعيسى.
وقد سمعنا بعضهم يقول في الصَّعق: صعقيَّ، يدعه على حاله وكسر الصاد، لأنَّه يقول: صعقٌ، والوجه الجيد فيه: صعقيٌّ، وصعقيٌّ جيد.
فإن أضفت إلى علبطٍ قلت: علبطيٌّ، وإلى جندلٍ قلت: جندليٌّ لأنَّ(3/343)
ذا ليس كالنَّمر ليس فيه إلا حرفاً واحدا وهو النون وحدها، فلما كثر فيه الكسر والياءات ثقل، فلذلك غيَّروه إلى الفتح.
باب لإضافة إلى فعيل وفعيل من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات لاماتهن، وما كان في اللفظ بمنزلتهما وذلك في قولك في عديٍ: وفي غنيٍ: غنويٌّ، وفي قصيٍّ: قصويٌّ وفي أميَّة: أمويٌّ. وذلك أنهم كرهوا أن توالى في الاسم أربع ياءات، فحذفوا الياء الزائدة التي حذفوها من سليم وثقيف حيث استثقلوا هذه الياءات، فأبدلوا الواو من الياء التي تكون منقوصة، لأنَّك إذا حذفت الزائدة فإنَّما تبقى التي تصير ألفا، كأنه أضاف إلى فعلٍ أو فعلٍ.
وزعم يونس أنّ أناساً من العرب يقولون: أميِّيٌّ، فلا يغيِّرون لمَّا صار(3/344)
إعرابها كإعراب ما لا يعتل، شبهوه به كما قالوا طيَّئيٌّ. وأما عديِّيٌّ فيقال وهذا أثقلن لأنه صارت مع الياءات كسرةٌ.
وسألته عن الإضافة إلى حيةٍ فقال: حيويٌّ، كراهية أن تجتمع الياءات. والدليل على ذلك قول العرب في حية بن بهدلة: حيويٌّ، وحركت الياء لأنَّه لا تكون الواو ثابتةً وقبلها ياء ساكنة. فإن أضفت إلى ليةٍ قلت: لوويٌّ؛ لأنَّك احتجت إلى أن تحرك هذه الياء كما احتجت إلى تحريك ياء حيّةٍ. فلما حركتها رددتها إلى الأصل كما تردُّها إذا حركتها في التصغير. ومن قال: أميِّيٌّ قال: حييٌّ.
وكان أبو عمرو يقول: حييٌّ وليِّيٌّ. وليّةٌّ من لويت يده ليةً.
وسألته عن الإضافة إلى عدوَ فقال: عدوّيٌّ. وإلى كوّةٍ فقال: كوّيٌّ، وقال: لا أغيره لأنه لم تجتمع الياءات، وإنَّما أبدل إذا كثرت الياءات فأفرُّ إلى الواو فإذا قدرت على الواو ولم أبلغ من الياءات غاية الاستثقال لم أغيَّره، ألا تراهم قالوا في الإضافة إلى مرمىٍ مرميٌّ، فجعله بمنزلة البختي إذ كان آخره كآخره في الياءات والكسرة. وقالوا في مغزوٍّ: مغزوّيٌّ؛ لأنَّه لم تجتمع الياءات. فكذلك كوةٌ وعدوٌّ. وحيّةٌ قد اجتمعت فيه الياءات. فإن أضفت إلى عدوّةٍ قلت: عدويٌّ من أجل الهاء، كما قلت في شنوءة: شنئىٌّ.(3/345)
وسألته عن الإضافة إلى تحيَّةٍ فقال: تحويٌّ، وتحذف أشبه ما فيها بالمحذوف من عديٍ وهو الياء الأولى، وكذلك كلُّ شيء كان في آخره هكذا.
وتقول في الإضافة إلى قسيٍ وثديٍ: ثدويٌّ وقسويٌّ؛ لأنَّها فعول فتردُّها إلى أصل البناء، وإنما كسر القاف والثاء قبل الإضافة لكسرة ما بعدهما وهو السين والدال، فإذا ذهبت العلَّةُ صارتا على الأصل. تقول في الإضافة إلى عدوٍ: عدويٌّ، وإلى عدوةٍ: عدويٌّ، وإلى مرمّىٍ: مرميٌّ تحذف اليائين وتثبت ياءي الإضافة. وإلى مرميةً مرميٌّ، تحذف اليائين الأوليين. ومن قال: حانويٌّ قال: مرمويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ياءً
وكان الحرف الذي قبل الياء ساكنا، وما كان آخره واواً وكان الحرف الذي قبل الواو ساكنا وذلك نحو ظبيٍ ورميٍ وغزوٍ ونحوٍ، تقول، ظبييٌّ ورمييٌّ وغزويٌّ ونحويٌّ، ولا تغيّر الياء والواو في هذا الباب؛ أنه حرف جرى مجرى غير المعتل. تقول: غزوٌ فلا تغيِّر الواو كما تغير في غدٍ. وكذلك الإضافة إلى نحيٍ وإلى العري.
فإذا كانت هاء التأنيث بعد هذه الياءات فإنَّ فيه اختلافاً: فمن الناس من يقول في رمية: رمييٌّ وفي ظبيةٌّ، وفي دميةٍ: دمييٌّ، وفي فتيةٍ: فتييٌّ، وهو القياس، من قبل أنَّك تقول رميٌّ ونحيٌّ فتجريه مجرى ما لا يعتل نحو درع وترس ومتن، فلا يخالف هذا النحو، كأنَّك أضفت إلى شيء ليس فيه ياء.(3/346)
فإذا جعلت هذه الأشياء بمنزلة ما لا ياء فيه فأجره في الهاء مجراه وليست فيه هاء، لأنَّ القياس أن يكون هذا النحو من غير المعتل في الهاء بمنزلته إذا لم تكن فيه الهاء، ولا ينبغي أن يكون أبعد من أمييٍّ، فإذا جاز في اميَّة أمييٌّ، فهو أن يجوز في رمييٍّ أجدر، لأنَّ قياس أميَّة وأشباهها التغيير. فهذا الباب يجرونه مجرى غير المعتل.
وحدثنا يونس أنَّ أبا عمروٍ وكان يقول في ظبيةٍ: ظبييٌّ. ولا ينبغي أن يكون في القياس إلاَّ هذا إذ جاز في أمية وهي معتلة، وهي أثقل من رمييٍ: وأما يونس فكلن يقول في ظبيةٍ: ظبويٌّ، وفي دميةٍ: دمويٍ، وفي فتيةٍ: فتويٍ. فقال الخليل: كأنهم شبَّهوها حيث دخلتها الهاء بفعلةٍ؛ لأنَّ اللَّفظ بفعلةٍ إذا أسكنت العين وفعلةٍ من بنات الواو سواء. يقول: لو بينت فعلةً من بنات الواو لصارت ياءً، لو أسكنت العين على ذلك المعنى لثبتت ياءً ولم ترجع إلى الواو، فلمَّا رأوها آخرها يشبه آخرها جعلوا إضافتها كإضافتها، وجعلوا دميةً كفعلةٍ، وجعلوا فتيةً بمنزلة فعلةٍ.
هذا قول الخليل: وزعم أنَّ الأول أقيسهما وأعربهما. ومثل هذا قولهم في حي من العرب يقال لهم: بنو زنية: زنويٌّ، وفي البطية: بطويٌّ.(3/347)
وقال: لا أقول في غزوةٍ إلاَّ غزويٌّ، لأنَّ ذا لا يشبه آخره آخر فعلة إذا أسكنت عينها. ولا تقول في غدوةٍ إلا غدويٌّ لأنه لا يشبه فعلةً ولا فعلةً، ولا يكون فعلةٌ ولا فعلةٌ من بنات الواو هكذا.
ولا تقول في عروةٍ إلا عرويٌّ لأن فعلةً من بنات الواو إذا كانت واحدةً فعلٍ لم تكن هكذا وإنما تكون ياءً، ولو كانت فعلة ليست على فعلٍ كما أن بسرةً على بسرٍ لكان الحرف الذي قبل الواو يلزمه التحريك، ولم يشبه عروةً، وكنت إذا أضفت إليه جعلت مكان الواو ياءً كما فعلت ذلك بعرقوةٍ، ثم يكون في الإضافة بمنزلة فعلٍ.
وإن أسكنت ما قبل الواو في فعلةٍ من بنات الواو التي ليست واحدة فعلٍ فحذفت الهاء لم تغيَّر الواو، لأنَّ ما قبلها ساكن. ويقوَّي أنَّ الواوات لا تغيَّر قولهم في بني جروة، وهم حي من العرب: حرويٌّ.
وأما يونس فجعل بنات الياء في ذا وبنات الواو سواءُ، ويقول في عروةٍ: عرويٌّ. وقولنا: عرويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى كل شيء لامه ياءٌ أو واو وقبلها ألف ساكنة غير مهموزة وذلك نحو سقايةٍ وصلابةٍ ونفايةٍ وشقاوةٍ وغباوةٍ. تقول في الإضافة(3/348)
إلى سقاية: سقائيٌّ، وفي صلاية: صلائيٌّ، وإلى نفاية: نفائيٌّ، كأنَّك أضفت إلى سقاء وإلى صلاءٍ، لأنَّك حذفت الهاء، ولم تكن الياء لتثبت بعد الألف فأبدلت الهمزة مكانها، لأنَّك أردت أن تدخل ياء الإضافة على فعالٍ أو فعالٍ أو فعالٍ.
وإن أضفت إلى شقاوة وغباوة وعلاوةٍ قلت: شقاويٌّ وغباويٌّ وعلاويٌّ؛ لأنَّهم قد يبدلون مكان الهمزة الواو لثقلها، ولأنَّها مع الألف مشبَّهة بآخر حمراء حين تقول: حمراويٌّ وحمراوان. فإن خففت الهمزة فقد اجتمع فيها لأنَّها تستثقل وهي مع ما شبهها وهي الألف، وهي في موضع اعتلال وآخره كآخره حمراء. فإن خفّفت الهنزة اجتمعت حروف مشابهة كأنها ياءات، وذلك قولك في كساء: كساوان، ورداء: رداوان، وعلباء: علباوان.
وقالوا في غداء: غداويٌّ، وفي رداء: رداويٌّ، فلما كان من كلامهم قياساُ مستمراً أن يبدلوا الواو مكان هذه الهمزة في هذه الأسماء استثقالاً لها، صارت الواو إذا كانت في الاسم أولى؛ لأنَّهم قد يبدلونها وليست في الاسم فراراً إليها، فإذا قدروا عليها في الاسم لم يخرجوها، ولا يفرُّون إلى الياء لأنَّهم لو فعلوا ذلك صاروا إلى نحو ما كانوا فيه؛ لأنَّ الياء تشبه الألف فيصير بمنزلة ما اجتمع فيه أربع ياءات؛ لأنَّ فيها حينئذٍ ثلاث ياءات، والألف شبيهة بالياء فتضارع أمييٌّ؛ فكرهوا أن يفروا إلى ما هو أثقل ممَّا هم فيه، فكرهوا الياء كما كرهوا في حصىً ورحىً. قال الشاعر، وهو جرير، في بنات الواو:(3/349)
إذا هَبَطْنَ سَماوِياً مَوارِدُهُ ... من نحو دَومْةِ خبث قلَّ تعريسى
وياء درحاية بمنزلة الياء التي من نفس الحرف، ولو كان مكانها واو كانت بمنزلة الواو التي من نفس الحرف؛ لأنَّ هذه الواو والياء يجريان مجرى ما هو نفس الحرف، مثل السَّماوي والطَّفاوي.
وسألته عن الإضافة إلى رايةٍ وطايةٍ وثايةٍ وآيةٍ ونحو ذلك، فقال: أقول رائيٌّ وطائيٌّ وثائيٌّ وآئيٌّ. وإنَّما همز والاجتماع الياءات مع الألف، والألف تشبَّه بالياء، فصارت قريباً مما تجتمع فيه اربع ياءات، فهمزوها استثقلاً، وأبدلوا مكانها همزة، لأنَّهم جعلوها بمنزلة الياء التي تبدل بعد الألف الزائدة؛ لأنهم كرهوها هاهنا كما كرهت ثمَّ، وهي هنا بعد ألف كما كانت ثمَّ، وذلك نحو ياء رداءٍ.
ومن قال: أمييٌّ قال: آييٌّ وراييٌّ بغير همز، لأنَّ هذه لامٌ غير(3/350)
معتلّة، وهي أولى بذلك أنه ليس فيها أربع ياءات، ولأنَّها أقوى. وتقول واوٌ فتثبت كما تثبت في غزوٍ. ولو أبدلت مكان الياء الواو فقلت: ثاوىٌّ وآوىٌّ وطاويٌّ وراويٌّ جاز ذلك، كما قالوا: شاويٌّ، فجعلوا الواو مكان الهمزة. ولا يكون في مثل سقايةٍ سقاييٌّ فتكسر الياء ولا تهمز، لأنَّها ليست من الياءات التي لا تعتل إذا كانت نتهى الاسم، كما لا تعتل ياء أمية إذا لم تكن فيها هاءٌ.
ومثل ذلك قصيٌّ، منهم من يقول: قصيٍّ.
وإذا أضفت إلى سقاية فكأنَّك أضفت إلى سقاءٍ، كما أنك لو أضفت إلى رجلٍ اسمه ذو جمَّةٍ قلت: ذوويٌّ كأنك أضفت إلى ذواً. ولو قلت: سقاويٌّ جاز فيه وفي جميع جنسه كما يجوز في سقاءٍ.
وحولايا وبرداريا بمنزلة سقايةٍ؛ لأنَّ هذه الياء لا تثبت إذ كانت منتهى الاسم، والألف تسقط في النسبة لأنَّها سادسة فهي كهاء درحاية.
واعلم أنك إذا أضفت إلى ممدود منصرف فإن القياس والوجه أن تقره على حاله؛ لأن الياءات لم تبلغ غاية الاستثقال، ولأنَّ الهمزة تجري على وجوه العربية غير معتلة مبدلة. وقد أبدلها ناسٌ من العرب كثيرٌ على ما فسَّرنا، يجعل مكان الهمزة واواً.
وإذا كانت الهمزة من أصل الحرف فالإبدال فيها جائز، كما كان فيما(3/351)
كان بدلاً من واو أو ياء، وهو فيها قبيح. وقد يجوز إذا كان أصلها الهمز مثل قراء ونحوه.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم آخره ألف مبدلة من حرف من نفس الكلمة على أربعة أحرف وذلك نحو ملهى ومرمىً، وأعشى وأعمى وأعيا، فهذا يجري مجرى ما كان على ثلاثة أحرف وكان آخره ألفاً مبدلة من حرف من نفس الكلمة نحو حصَّى ورحىً.
وسألت يونس عن معزى وذفرى فيمن نون فقال: هما بمنزلة ما كان من نفس الكلمة، كما صار علباء حين انصرف بمنزلة رداء في الإضافة والتثنية، ولا يكون أسوأ حالاً في ذا من حبلى.
وسمعنا العرب يقولون في أعيا: أعيويٌّ. بنو أعيا: حيٌ من العرب من جرمٍ. وتقول في أحوى: أحوويٌّ. وكذلك سمعنا العرب تقول.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفاً زائدة لا ينون وكان على أربعة أحرف وذلك نحو حبلى ودفلى؛ فأحسن القول فيه أن تقول: حبلىٌّ ودفلىٌّ؛ لأنها زائدة لم تجيء لتلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة، فكرهوا أن يجعلوها بمنزلة ما هو من نفس الحرف وما أشبه ما هو من نفس الحرف.(3/352)
وقالوا في سلَّى: سلِّىٌّ.
ومنهم من يقول: دفلاويٌّ، فيفرق بينها وبين التي من نفس الحرفبأن يلحق هذه الألف فيجعله كآخر ما لا يكون آخره إلا زائداً غير منون، نحو: حمراويٍّ وضهياويٌ، فهذا الضرب لا يكون إلا هكذا، فبنوه هذا البناء ليفرقوا بين هذه الألف وبين التي من نفس الحرف، فقالوا في دهنا: دهناويٌّ، وقالوا قي دنيا: دنياويٌّ وإن شئت قلت دنييٌّ على قولهم سلىٌّ.
ومنهم من يقول: حبلوي فيجعلها بمنزلة ما هو نفس الحرف. وذلك أنَّهم رأوها زائدة يبنى عليها الحرف، ورأوا الحرف في الغدَّة والحركة والسُّكون كملهى فشبَّهوها بها، كما أنهم يشبهون الشيء بالشيء الذي يخالفه في سائر المواضع.
قال: فإن قلت في ملهى: ملهيٌ لم أر بذلك بأساً، كما لم أر بحبلوىٍّ بأساً. وكما قالوا: مدارى فجاءوا به على مثال: حبالى وعذارى ونحوهما من فعالى، وكما تستوي الزيادة غير المنونة والتي من نفس الحرف إذا كانت كل واحدة منهما خامسة.
ولا يجوز ذا في قفا، لأنَّ قفا وأشباهه ليس بزنة حبلى، وإنما هي على ثلاثة أحرف فلا يحذفونها.(3/353)
وأمَّا جمزى فلا يكون جمزاويٌّ ولا ولكن جمزيٌّ، لأنَّها ثقلت وجاوزت زنة ملهى فصارت بمنزلة حبارى لتتابع الحركات. ويقوِّي ذلك أنَّك لو سميت امرأة قدما لم تصرفها كما لم تصرف عناق.
والحذف في معزى أجوز، إذ جاز في ملهى لأنها زائدة.
وأما حبلى فالوجه فيها ما قلت لك.
قال الشَّاعر:
كأنَّما يقعُ البصريٌّ بيْنهمُ ... مِن الطَّوائف والأعناق بالوَذَمِ
يريد: بصرى.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفاً وكان على خمسة أحرف تقول في حبارى: حباريٌّ، وفي جمادى: جماديٌّ، وفي قرقرى: قرقريٌّ. وكذلك كلُّ اسم كان آخره ألفاً وكان على خمسة أحرف.(3/354)
وسألت يونس عن مرامى فقال: مراميٌ، جعلها بمنزلة الزيادة. قال: لو قلت: مرامويٌّ لقلت: حبارويٌّ، كما أجازوا في حبلى حبلويٌّ. ولو قلت ذا لقلت في مقلولى: مقلولويٌّ. وهذا لا يقوله أحد، إنَّما يقال: مقلوليٌّ، كما تقول في يهيرى يهيريٌّ. فإذا سوِّى بين هذا رابعاً وبين الألف فيه زائدة نحو حبلى لم يجز إلا أن تجعل ما كان من نفس الحرف إذا كان خامساً بمنزلة حبارى. وإن فرَّقت، بين الزائد وبين الذي من نفس الحرف دخل عليك أن تقول في قبعثرى: قبعثرويٌّ، لأنَّ آخره منَّون فجرى مجرى ما هو من نفس الكلمة. فإن لم تقل ذا وأخذت بالعدد فقد زعمت أنهما يستويان. وإنَّما ألزموا ما كان على خمسة أحرف فصاعداً الحذف لأنه حين كان رابعاً في الاسم بزنة ما ألفه من نفسه، فلمَّا كثر العدد كان الحذف لازماً، إذ كان من كلامهم أن يحذفوه في المنزلة الأولى.
وإذا ازداد الاسم ثقلاً كان الحذف ألزم، كما أنَّ الحذف لربيعة حين اجتمع تغييران.
وأمَّا الممدود، مصروفاً كان أو غير مصروف، كثر عدده أو قلَّ، فإنه لا يحذف، وذلك قولك في خنفساء: خنفساويٌّ، وفي حرملاء: حرملاويٌّ وفي معيوراء معيوراويٌّ. وذلك أنَّ آخر الاسم لما تحرك وكان حيّاً(3/355)
يدخله الجر والرفع والنصب صار بمنزلة: سلامانٍ وزعفرانٍ، وكالأواخر التي من نفس الحرف نحو: آحر نجامٍ واشهيبابٍ، فصارت هكذا كما صار آخر معزى حين نون بمنزلة آخر مرمى. وإنَّما جسروا على حذف الألف لأنَّها ميتة لا يدخلها جر ولا رفع ولا نصب فحذفوها كما حذفوا ياء ربيعة وحنيفة. ولو كانت الياءان متحركتيتن لم تحذفا لقوة المتحرك. وكما حذفوا الياء الساكنة من ثمانٍ حيث أضفت إليه. فإنَّما جعلوا ياءي الإضافة عوضاً. وهذه الألف أضعف، تذهب مع كلِّ، تذهب مع كلِّ حرف ساكن، فإنَّما هذه معاقبةٌ كما عاقبت هاء الجحاجحة ياء الجحاجيح، فإنَّما يجسرون بهذا على هذه الحروف الميتة.
وسترى للمتحرك قوةً ليست للساكن في مواضع كثيرة إن شاء الله تعالى.
ولو أضفت إلى عثيرٍ، وهو التراب، أو حثيلٍ، لأجريته مجرى حميريٍ.
وزعم يونس أن مثنى بمنزلة معزى ومعطى، وهو بمنزلة مرامى، لأنَّه خمسة أحرف. وإن جعلته كذلك فهو ينبغي له أن يجيز في عبدَّي: عبدَّويٌّ، كما جاز(3/356)
في حبلى: حبلويٌّ. فإن جعل النون بمنزلة حرفٍ واحد، وجعل زنته كزنته فهو ينبغي له إن سمَّى رجلاً باسم مؤنَّث على زنة معدٍّ مدغم مثله أن يصرفه، ويجعل المدغم كحرف واحد. فهذه النون الأولى بمنزلة حرف ساكنٍ ظاهر. وكذلك يجرى في بناء الشِّعر وغيره.
فأما المصروف نحو حراءٍ فمن العرب من يقول: حراويٌّ، ومنهم من يقول حرائيٌّ، لا يحذف الهمزة.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم ممدود لا يدخله التنوين كثير العدد كان أو قليله فلإضافة إليه أن لا يحذف منه شيء، وتبدل الواو مكان الهمزة ليفرقوا بينه وبين المنوّن الذي هو من نفس الحرف وما جعل بمنزلتة، وذلك قولك في زكريَّاء: زكريّاويٌّ، وفي بروكاء: بروكاويٌّ.
هذا باب الإضافة إلى بنات الحرفين اعلم أن كل اسم على حرفين ذهبت لامه ولم يردَّ في تثنيته إلى الأصل ولا في الجمع بالتَّاء، كان أصله فعل أو فعل أو فعل، فإنَّك فيه بالخيار، إن شئت تركته على بنائه قبل أن تضيف إليه، وإن شئت غيرته فرددت إليه ما خذف منه، فجعلوا الإضافة تغيَّر فترد كما تغيَّر فتحذف، نحو ألف حبلى، وياء ربيعة وحنيفة، فلما كان ذلك من كلامهم غيَّروا بنات الحرفين التي حذفت لاماتهن بأن ردوا فيها ما حذف منها، وصرت في الرد وتركه على حاله بالخيار، كما صرت في حذف ألف حبلى وتركها بالخيار.(3/357)
وإنما صار تغيير بنات الحرفين الردَّ لأنَّها أسماء مجهودةٌ، لا يكون اسمٌ على أقل من حرفين، فقويت الإضافة على ردِّ اللامات كما قويت على حذف ما هو من نفس الحرف حين كثر العدد، وذلك قولك: مرامى.
فمن ذلك قولهم في دمٍ: دميٌّ، وفي يدٍ: يديٌّ، وإن شئت قلت: دمويٌّ ويدويٌّ، كما قالت العرب في غدٍ: غدويٌّ. كلُّ ذلك عربي.
فإن قال: فهلاَّ قالوا: غدويٌّ، وإنَّما يدٌ وغدٌ كلُّ واحد منهما فعلٌ، يستدل على ذلك بقول ناسٍ من العرب: آتيك غدواً، يريدون غداً.
قال الشاعر:
وما الناسُ إلاّ كالديارِ وأَهْلُها ... بها يومَ حلَّوها وغَدْواً بَلاقِعُ
وقولهم: أيدٍ، وإنَّما هي أفعلٌ، وأفعلٌ جماع فعلٍ؟ لأنَّهم ألحقوا ما الحقوا ولا يريدون أن يخرجوا من حرف الإعراب التحرُّك الذي كان فيه، لأنَّهم أرادوا أن يزيدوا، لجهد الاسم، ما حذفوا منه، فلم يريدوا أن يخرجوا منه شيئاً كان فيه قبل أن يضيفوا، كما أنَّهم لم يكونوا ليحذفوا حرفاً من الحروف من ذا الباب، فتركوا الحروف على حالها، لأنَّه ليس موضع حذف.
ومن ذلك أيضا قولهم في ثبةٍ: ثبيٌّ وثبويٌّ، وشفةٍ: شفيٌّ وشفهيٌّ.(3/358)
وإنَّما جاءت الهاء لأنَّ اللام من شفةٍ الهاء. ألا ترى أنك تقول: شفاهٌ وشفيهةٌ في التصغير.
وتقول في حرٍ: حريٌّ، وحرحيٌّ، لأنَّ اللام الحاء، تقول في التصغير: حريحٌ، وفي الجمع: أحراحٌ.
وإن أضفت إلى رب فيمن خفَّف فرددت قلت ربيٌّ. وإنَّما أسكنت كراهية التضعيف، فيعاد بناؤه. ألا تراهم قالوا في قرة قريٌّ لأنَّها من التضعيف، كما قالوا في شديدة: شديديٌّ كراهية التضعيف، فيعاد بناؤه.
باب ما لا يجوز فيه من بنات الحرفين إلا الرَّدّ وذلك قولك في أب أبويٌّ، وفي أخٍ: أخويٌّ، وفي حمٍ: حمويٌّ، ولا يجوز إلاَّ ذا، من قبل أنَّك ترد من بنات الحرفين التي ذهبت لاماتهن إلى الأصل ما لا يخرج أصله في التثنية، ولا في الجمع بالتاء؛ فلما أخرجت التثنية الأصل لزم الإضافة أن تخرج الأصل، إذ كانت تقوى على الرد فيما لا يخرج لامه في تثنيته ولا في جمعه بالتاء، فإذا رد في الأضعف في شيءٍ كان في الأقوى أردَّ:(3/359)
واعلم أنَّ من العرب من يقول: هذا هنوك ورأيت هناك ومررت بهنيك، ويقول: هنوان فيجريه مجرى الأب. فمن فعل ذا قال: هنواتٌ، يردُّه في التثنية والجمع بالتاء، وسنةٌ وسنوات، وضعة وهو نبتٌ ويقول: ضعواتٌ، فإذا أضفت قلت: سنويٌّ وهنويٌّ.
والعلة ههنا هي العلة في: أبٍ وأخٍ ونحوهما.
ومن جعل سنةً من بنات الهاء قال: سنيهةٌ وقال: سانهت، فهي بمنزلة شفة، تقول: شفهيٌّ وشنهيٌّ.
وتقول في عضةٍ: عضويٌّ، على قول الشاعر:
هذا طَريقٌ يَأْزِمُ المَآزِمَا ... وعِضَواتٌ تَقْطَعُ اللَّهازما
ومن العرب من يقول: عضيهةٌ، يجعلها من بنات الهاء بمنزلة شفةٍ إذا قالوا ذلك.
وإذا أضفت إلى أختٍ قلت: أخويٌّ، هكذا ينبغي له أن يكون على القياس.(3/360)
وذا القياس قول الخليل، من قبل أنَّك لما جمعت بالتاء حذفت تاء التأنيث كما تحذف الهاء، وردت إلى الأصل. فالإضافة تحذفه كما تحذف الهاء، وهي أردُّله إلى الأصل.
وسمعنا من العرب من يقول في جمع هنتٍ: هنواتٌ. قال الشاعر:
أَرَى ابنَ نِزارٍ قد جَفاني وملَّني ... على هَنَواتٍ كلُّها مُتَتابِعُ
فهي بمنزلة أختٍ وأما يونس فيقول أختيٌ وليس بقياس.
هذا باب الإضافة إلى ما فيه الزوائد من بنات الحرفين فإن شئت تركته في الإضافة على حاله قبل أن يضيف، وإن شئت حذفت الزوائد ورددت ما كان له في الأصل. وذلك: ابنٌ واسمٌ واستٌ، واثنان واثنتان وابنةٌ. فإذا تركته على حالة قلت: اسمىٌّ واستىٌّ وابنىٌّ واثنىٌّ في اثنين واثنتين.
وحدثنا يونس: أن أبا عمرو كان يقوله.
وإن شئت حذفت الزوائد التي في الاسم ورددته إلى أصله فقلت: سمويٌّ وبنويٌّ وستهيٌّ. وإنَّما جئت في استٍ بالهاء لأنَّ لامها هاء، ألا ترى أنَّك تقول: الأستاه وستيهةٌ في التحقير، وتصديق ذلك أنَّ أبا الخطاب كان يقول: إنَّ بعضهم إذا أضاف إلى أبناء فارسٍ قال: بنويٌّ. وزعم يونس أن أبا عمرو وزعم أنَّهم يقولون: ابنيٌّ، فيتركه على حاله كما ترك دم.(3/361)
وأما الذين حذفوا الزوائد وردُّوا فإنهم جعلوا الإضافة تقوى على حذف الزوائد كقوتها على الرد كما قويت على الرد في دمٍ، وإنَّما قويت على حذف الزوائد لقوتها على الردّ، فصار ماردّ عوضاً. ولم يكونوا ليحذفوا ولا يردوا لأنهم قد ردوا ما ذهب من الحرف للإخلال به، فإذا حذفوا شيئاً ألزموا الرد، ولم يكونوا ليردّوا والزائد، لأنَّه إذا قوي على رد الأصل قوي على حذف ما ليس من الأصل، لأنهما متعاقبان.
وسألت الخليل عن الإضافة إلى ابنمٍ فقال: إن شئت حذفت الزوائد فقلت: بنويٌّ كأنك أضفت إلى ابنٍ. وإن شئت تركته على حاله فقلت: ابنميٌّ كما قلت: ابنيٌّ واستيٌّ.
واعلم أنَّك إذا حذفت فلا بدَّ لك من أن ترد، لأنه عوضٌ وإنَّما هي معاقبة، وقد كنت ترد ما عدة حروفه حرفان وإن لم يحذف منه شيء، فإذا حذفت منه شيئاً ونقصته منه كان العوض لازماً. وأمَّا بنتٌ فإنك تقول: بنويٌّ من قبل أن هذه التاء التي هي للتأنيث لا تثبت في الإضافة كما لا تثبت في الجمع بالتاء.
وذلك لأنهم شبَّهوها بهاء التأنيث، فلمَّا حذفوا وكانت زيادة في الاسم كتاء سنبتةٍ وتاء عفريتٍ، ولم تكن مضمومة إلى الاسم كالهاء، يدلك على ذلك سكون ما قبلها، جعلناها بمنزلة ابنٍ.
فإن قلت: بنيٌّ جائز كما قلت: بناتٌ، فإنَّه ينبغي لك أن تقول بنيٌّ في(3/362)
ابني؛ كما قلت في بنون، فإنَّما ألزموا هذه الردَّ في الإضافة لقوتها على الرد، ولأنَّها قد ترد ولا حذف، فالتاء يعوَّض منها كما يعوَّض من غيرها. وكذلك: كلتا وثنتان، تقول: كلويٌّ وثنويٌّ، وبنتان: بنويٌّ.
وأما يونس فيقول ثنتيٌّ، وينبغي له أن يقول: هنتيٌّ في هنه؛ لأنَّه إذا وصل فهي تاء كتاء التأنيث.
وزعم الخليل أنَّ من قال بنتي قال هنتي وهذا لا يقوله أحد وأعلم ذيت بمنزلة بنتٍ، وإنَّما أصلها ذية عمل بها ما عمل بينت. يدلُّك عليه اللفظ والمعنى، فالقول في هنت وذيت مثله في بنت، لأن ذيت يلزمها التثقيل إذا حذفت التاء.
ثمَّ تبدل واواً مكان التاء، كما كنت تفعل لو حذفت التاء من أخت وبنت، وإنَّما ثقلَّت كتثقيلك كي اسما.
وزعم أن أصل بنت وابنةٍ فعل كما أن أخت فعلٌ؛ يدلك على ذلك أخوك وأخاك وأخيك، وقول بعض العرب فيما زعم يونس آخاءٌ. فهذا جمع فعل.
وتقول في الإضافة إلى ذيَّة وذيت: ذيويٌ فيهما؛ وإنَّما منعك من ترك التاء في الإضافة أنه كان يصير مثل: أختيٍّ، وكما أن هنت أصلها(3/363)
فعل، يدلك على ذلك قول بعض العرب: هنوك، وكما أن استٌ فعل يدلك على ذلك أستاهٌ.
فإن قيل: لعله فعل أو فعل فإنه يدلك على ذلك قول بعض العرب سهٌ، لم يقولوا: سه ولا سه، وقولهم: ابن ثم قالوا: بنون ففتحوا يدلُّك أيضا.
واثنتان بمنزلة ابنة، أصلها فعلٌ، لأنَّه عمل بها ما عمل بابنة؛ وقالوا في الاثنين: أثناء؛ فهذا يقوِّي فعل، وأنَّ نظائرها من الأسماء أصلها تحرك العين، وهنت عندنا متحركة العين تجعلها بمنزلة نظائرها من الأسماء، وتلحقها بالأكثر.
ولم يجيء شيء هكذا ليست عينه في الأصل متحركة إلا ذيت؛ وليست باسم متمكِّن.
وأما كلتا فيدلك على تحريك عينها قولهم: رأيت كلا أخويك: فكلاً كمعاً واحد الأمعاء ومن قال: رأيت كلتا أختيك، فإنَّه يجعل الألف ألف تأنيث. فإن سمَّى بها شيئاً لم يصرفه في معرفة ولا نكرة، وصارت التاء بمنزلة الواو في شروى.
ولو جاء شيء مثل بنتٍ وكان أصله فعل أو فعل واستبان لك أن أصله فعل أو فعل؛ لكان في الإضافة متحرك العين، كأنّك(3/364)
تحذف إلى اسم قد ثبت في الكلام على حرفين، فإنما تردُّ والحركة قد ثبتت في الاسم.
وكل اسم تحذف منه في الإضافة شيئاً فكأنك ألحقت ياءي الإضافة اسماً لم يكن فيه شيء مما حذف، لأنَّك إنَّما تلحق ياءي الإضافة بعد بناء الاسم.
ومن ثم جعل ذيت في الإضافة كأنَّها اسمٌ لم يكن فيه قبل الإضافة تاء، كذلك ثقلَّتها كتثقيلك: كي، ولو، وأو، أسماء.
وأمَّا فم فقد ذهب من اصله حرقان، لأنه كان أصله فوهٌ، فأبدلوا الميم مكان الواو، ليشبه الأسماء المفردة من كلامهم، فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم دمٍ، ثبتت في الاسم في تصرفه في الجر والنصب، والإضافة والتثنية. فمن ترك دمٌ على حاله إذا أضاف، ترك فمٌ على حاله، ومن ردَّ إلى دمٍ اللام ردَّ إلى فمٍ العين فجعلها مكان اللام، كما جعلوا الميم مكان العين في فمٍ.
قال الشاعر وهو الفرزدق:
هما نفثا في فيَّ من فمويها ... على الناتج العوي أشدَّ رجام(3/365)
وقالوا: فموان، فإنما ترد في الإضافة كما ترد في التثنية وفي الجمع بالتاء، وتبني الاسم كما تثنِّي به، إلاَّ أن الإضافة أقوى على الردِّ. فإن قال: فمان فهو بالخيار، إن شاء قال: فمويٌّ، وإن شاء قال: فميٌّ. ومن قال: فموان قال: فمويٌّ على كل حال.
وأما الإضافة إلى رجل اسمه ذو مالٍ فإنَّك تقول: ذوويٌّ، كأنَّك أضفت إلى ذواً. وكذلك فعل به حين أفرد وجعل اسماً، ردَّ إلى أصله؛ لأنَّ أصله فعل، يدلَّك على ذلك قولهم: ذواتا، فإن أردت أن تضيف فكأنك أضفت إلى مفرد لم يكن مضافاً قطٌّ، فافعل به فلعك به إذا كان اسماً غير مضاف.(3/366)
وكذلك الإضافة إلى ذاه ذوويٌّ، لأنَّك إذا أضفت حذفت الهاء، فكأنَّك تضيف إلى ذي، إلا أنَّ الهاء جاءت بالألف والفتحة، كما جاءت بالفتحتين في امرأة، فلأصل أولى به، إلا أن تغيِّر العرب منه شيئاً فتدعه على حاله نحو: فمٍ.
وإذا أضفت إلى رجل اسمه فوزيد فكأنَّك إنما تضيف إلى فمٍ، لأنَّك إنَّما تريد أن تفرد الاسم ثم تضيف إلى الاسم. فافعل به فعلك به إذا أفردته اسماً. وأما الإضافة إلى شاءٍ فشاويٌّ، كذلك يتكلَّمون به.
قال الشاعر:
فلستُ بشاويٍّ عليه دَمَامةٌ ... إذا ما غدَا يَغْدُو بقَوْسٍ وأَسْهُمِ
وإن سمَّيت به رجلاً أجريته على القياس تقول، شائيٌّ، وإن شئت قلت شاويٌ كما قلت: عطاويٌّ، كما تقول في زبينة وثقيفٍ بالقياس إذا سمت به رجلاً.
وإذا أضفت إلى شاةٍ قلت: شاهيٌّ، ترد ما هو من نفس الحرف، وهو الهاء. ألا ترى أنك تقول: شويهةٌ، وإنما أردت أن تجعل شاةً بمنزلة الأسماء، فلم يوجد شيء هو أولى به مما هو من نفسه، كما هو التحقير كذلك.(3/367)
وأما الإضافة إلى لاتٍ من اللات والعزَّى، فإنك تمدُّها كما تمد لا إذا كانت اسماً، كما تثقل لو وكي إذا كان كل واحد منهما اسماً. فهذه الحروف وأشباهها التي ليس لها دليل بتحقير ولا جمع ولا فعلٍ ولا تثنية إنما تجعل ما ذهب منه مثل ما هو فيه ويضاعف، فالحرف الأوسط ساكن على ذلك يبنى، إلا أن تستدل على حركته بشيء. وصار الإسكان أولى به لأن الحركة زائدة، فلم يكونوا ليحرِّكوا إلا بثبتٍ، كما أنهم لم يكونوا ليجعلوا الذّهب من لو غير الواو إلا بثبت، فجرت هذه الحروف على فعل أو فعل أو فعل.
وأما الإضافة إلى ماءٍ فمائيٌّ، تدعه على حاله، ومن قال: عطاويٌّ قال: ماويٌّ يجعل الواو مكان الهمزة، وشاويٌّ بقوِّى هذا.
وأما الإضافة إلى امرئٍ فعلى القياس تقول امرئتي وتقديرها إمرعي لأنه ليس من بنات الحرفيين وليس الألف ههنا بعوض فهو كالانطلاق اسم رجل وإن أضعت إلى امرأة فكذلك تقول امرئي، امرئ، لأنك كأنك تضيف إلى امرئٍ، فالإضافة في ذا كالإضافة إلى استغاثةٍ إذا قلت: استغاثيٌ. وقد قالوا: مرئيٌ تقديرها: مرعيٌ في امرئ القيس، وهو شاذ.(3/368)
هذا باب الإضافة إلى ما ذهبت فاؤه من بنات الحرفين وذلك عدةٌ وزنةٌ. فإذا أضفت قلت: عديٌّ وزنيٌّ، ولا ترده الإضافة إلى أصله، لبعدها من ياءي الإضافة، لأنَّها لو ظهرت لم يلزمها اللام لو ظهرت من التغير، لوقوع الياء عليها.
ولا تقول: عدويٌ بعد اللام شيئاً ليس من الحرف، يدلُّك على ذلك التصغير. ألا ترى أنَّك تقول: وعيدةٌ فترد الفاء، ولا ينبغي أن تلحق الاسم زائدةً، فتجعلها أولى من نفس الحرف في الإضافة كما لم تفعل ذلك في التحقير، ولا سبيل إلى رد الفاء لبعدها، وقد ردوا في التثنية والجمع بالتاء بعض ما ذهبت لاماته، كما ردوا في الإضافة، فلو ردوا في الإضافة الفاء لجاء بعضه مردوداً في الجميع بالتاء فهذا دليلٌ على أن الإضافة لا تقوى حيث لم يردُّوا في الجميع بالتاء.
فإن قلت: أضع الفاء في آخر الحرف لم يجز، ولو جاز ذا لجاز أن تضع الواو والياء إذا كانت لاماً في أول الكلمة إذا صغرت. ألا تراهم جاءوا بكل شيءٍ من هذا في التحقير على أصله. وكذا قول يونس، ولا نعلم أحداً يوثق بعلمه قال خلاف ذلك.
وتقول في الإضافة إلى شيةٍ: وشويٌّ، لم تسكن العين كما لم تسكن الميم إذا قال: دمويٌّ، فلما تركت الكسرة على حالها جرت مجرى شجويٍّ، وإنَّما ألحقت الواو ههنا كما ألحقتها في عه حين جعلتها اسماً ليشبه الأسماء، لأنَّك(3/369)
جعلت الحرف على مثال الأسماء في كلام العرب. وإنَّما شيةٌ وعدةٌ فعلةٌ، لو كان شيء من هذه الأسماء قعلة لم يحذفوا الواو، كما لم يحذفوا في الوجبة والوثبة والوحدة وأشباهها. وسترى بيان ذلك في بابه إن شاء الله.
فإنَّما ألقوا الكسرة فيما كان مكسور الفاء على العينات وحذفوا الفاء، وذلك نحو عدةٍ وأصلها وعدةٌ وشيةٍ وأصلها وشيةٌ، فحذفوا الواو وطرحوا كسرتها على العين. وكذلك أخواتها.
هذا باب الإضافة إلى كل اسم ولي آخره ياءين مدغمةً إحداهما في الأخرى وذلك نحو أسيّدٍ، وحميّرٍ، ولبيّدٍ، فإذا أضفت إلى شيء من هذا تركت الياء الساكنة وحذفت المتحركة لتقارب الياءات مع الكسرة التي(3/370)
في الياء والتي في آخر الاسم، فلما كثرت الياءات وتقاربت وتوالت الكسرات التي في الياء والدال استثقلوه، فحذفوا، وكان حذف المتحرك هو الذي يخففه عليهم؛ لأنهم لو حذفوا الساكن لكان ما يتوالى فيه من الحركات التي لا يكون حرفٌ عليها مع تقارب الياءات والكسرتين في الثقل مثل أسيّدٍ، لكراهيتهم هذه المتحرِّكات. فلم يكونوا ليفروا من الثقل إلى شيءٍ هو في الثِّقل مثله وهو أقل في كلامهم منه، وهو أسيديٌّ وحميريٌّ ولبيديٌّ. وكذلك تقول العرب.
وكذلك سيدٌ وميتٌ ونحوهما؛ لأنهما ياءان مدغمة إحداهما في الأخرى، يليها آخر الاسم. وهم ممَّا يحذفون هذه الياءات في غير الإضافة. فإذا أضافوا فكثرت الياءات وعدد الحروف ألزموا أنفسهم أن يحذفوا.
فما جاء محذوفاً من نحو سيد وميت: هينٌ وميتٌ، ولينٌ وطيبٌ وطيءٌ، فإذا أضفت لم يكن إلاَّ الحذف، إذ كنت تحذف هذه الياء في غير الإضافة. تقول: سيديٌّ وطيبيٌّ إذا أضفت إلى طيبٍ. ولا أراهم قالوا طائيٌّ إلا فراراً من طيئيٌّ وكان القياس طيئيٌّ وتقديرها طيغيٌّ ولكنهم جعلوا الألف مكان الياء، وبنوا الاسم على هذا كما قالوا في زبينة: زبانيٌّ.
وإذا أضفت إلى مهيمٍ قلت: مهيِّيميٌّ لأنَّك إذ حذفت الياء التي تلي الميم صرت إلى مثل أسيدي فتقول: مهيميٌّ، فلم يكونوا ليجمعوا على(3/371)
الحرف هذا الحذف كما أنَّهم إذا حقروا عيضموز لم يحذفوا الواو لأنَّهم لو حذفوا الواو احتاجوا إلى أن يحذفوا حرفاً آخر حتَّى يصير إلى مثال التحقير، فكرهوا أن يحملوا عليه هذا وحذف الياء. وستراه مبينَّاً في بابه إن شاء الله. فكان ترك هذه الياء إذ لم تكن متحركة كياء تميمٍ، وفصلت بين آخر الكلمة والياء المشدَّدة، فكان أحبَّ إليهم ممَّا ذكرت لك، وخفَّ عليهم تركها لسكونها، تقول: مهيَّيميٌّ فلا تحذف منها شيئاً، وهو تصغير مهوّم.
باب ما لحقته الزائدتان للجمع والتثنية وذلك قولك: مسلمون ورجلان ونحوهما؛ فإذا كان شيءٌ من هذا اسم رجل فأضفت إليه حذفت الزائدتين الواو والنون، والألف والنون، والياء والنون لأنَّه لا يكون في الاسم رفعان ونصبان وجراَّان، فتذهب الياء لأنَّها حرف الإعراب، ولأنه لا تثبت النون إذا ذهب ما قبلها لأنَّهما زيدتا معاً ولا تثبتان إلا معاً. وذلك قولك رجليٌّ ومسلميٌّ.
ومن قال من العرب: هذه قنَّسرون، ورأيت قنَّسرين، وهذه يبرون، ورأيت يبرين، قال: يبريٌّ وقنسريٌّ. وكذلك ما أشبه هذا.
ومن قال: هذه يبرين، قال: يبرينيٌّ كما تقول: غسلينيٌّ، وسريحين سريحينيٌّ. فأمّا قنَّسون ونحوها فكأنهم ألحقوا الزائدتين قنَّسر، وجعلوا الزائدة التي قبل النون حرف الإعراب، كما فعلوا ذلك في الجمع.(3/372)
هذا باب الإضافة إلى كل اسم لحقته التاء للجمع وذلك مسلماتٌ وتمراتٌ ونحوهما. فإذا سميت شيئاً بهذا النحو ثم أضفت إليه: مسلميٌّ وتمريٌّ، وتحذف كماا حذفت الهاء، وصارت كالهاء في الإضافة كما صارت في المعرفة حين قلت: رأيت مسلماتٍ وتمراتٍ قبل. ولا يكون أن تصرف التاء بالنصب في هذا الموضع.
ومثل ذلك قول العرب في أذرعاتٍ: أذرعيٌّ، لا يقول أحدٌ إلا ذاك. وتقول في عاناتٍ: عانيٌّ، أجريت مجرى الهاء، لأنَّها لحقت لجمع مؤنث، كما لحقت الهاء الواحد للتأنيث، فكذلك لحقته للجمع. ومع هذا أنها حذفت كما حذفت واو مسلمين في الإضافة، كما شبهوها بها في الإعراب. وتقول في الإضافة إلى محىّ: محتىٌّ، وإن شئت قلت: محويٌّ.(3/373)
هذا باب الإضافة إلى الاسمين اللذين ضم أحدهما إلى الآخر فجعلا اسماً واحداً كان الخليل يقول: تلقي الآخر منهما كما تلقي الهاء من حمزة وطلحة؛ لأنَّ طلحة بمنزلة حضرموت. وقد بينا ذلك فيما ينصرف وما لا ينصرف.
فمن ذلك خمسة عشر ومعدي يكرب في قول من لم يضف. فإذا أضفت قلت: معديٌّ وخمسيٌّ. فهكذا سبيل الباب. وصار بمنزلة المضاف في إلقاء أحدهما حيث كان من شيئين ضم أحدهما إلى الآخر. وليس بزيادةٍ في الأول كما أن المضاف إليه ليس بزيادة في الأول المضاف.
ويجيء من الأشياء التي هي من شيئين جعلا اسماً واحداً ما لا يكون على مثاله الواحد، نحو: أيادي سبا، لأنه ثمانية أحرف، ولم يجيء اسم واحد عدته ثمانية أحرف. ونحو: شغر بغر، ولم يكن اسمٌ واحد توالت فيه ولا بعدته من المتحركات ما في هذا كما أنه قد يجيء في المضاف والمضاف إليه ما لا يكون على مثله الواحد نحو صاحب جعفرٍ وقدم عمر ونحو هذا مما لا يكون الواحد على مثاله. فمن كلام العرب أن يجعلوا الشيء كالشيء إذا أشبهه في بعض المواضع. وقالوا: حضرميٌّ كما قالوا: عبدريٌّ، وفعلوا به ما فعلوا بالمضاف.
وسألته عن الإضافة إلى رجل اسمه اثنا عشر، فقال، ثنويٌّ في قول من قال: بنويٌّ في ابن، وإن شئت قلت: اثنىٌّ في اثنين، كما قلت: ابنيٌّ؛ وتحذف(3/374)
عشر كما تحذف نون عشرين، فتشبَّه عشر بالنون كما شبَّهت عشر في خمسة عشر بالحاء. وأمّا اثنا عشر التي العدد فلا تضاف ولا يضاف إليها.
هذا باب الإضافة إلى المضاف من الأسماء اعلم أنه لا بد من حذف أحد الاسمين في الإضافة. والمضاف في الإضافة يجري في كلامهم على ضربين. فمنه ما يحذف منه الاسم الآخر، ومنه ما يحذف منه الأول.
وإنما لزم الحذف أحد الاسمين لأنَّهما اسمان قد عمل أحدهما في الآخر، وإنما تريد أن تضيف إلى الاسم الأول، وذلك المعنى تريد. فإذا لم تحذف الآخر صار الأول مضافاً إلى مضاف إليه؛ لأنَّه لا يكون هو والآخر اسماً واحداً، ولا تصل إلى ذلك كما لا تصل إلى أن تقول: أبو عمرين، وأنت تريد أن تثنَّي الأول. وقد يجوز: أبو عمرين إذا لم ترد أن تثنّيى الأب وأردت أن تجعله أبا عمرين اثنين. فالإضافة تفرد الاسم.
فأما ما يحذف منه الأول، فنحو: ابن كراع، وابن الزُّبير، تقول زبيريٌّ وكراعيٌّ، وتجعل ياءي الإضافة في الاسم الذي صار به الأول معرفة فهو أبين وأشهر إذ كان به صار معرفةً.
ولا يخرج الأول من أن يكون المضافون إليه وله. ومن ثمَّ قالوا(3/375)
في أبي مسلمٍ: مسلميٌّ، لأنَّهم جعلوه معرفة بالآخر، كما فعلوا ذلك بابن كراع، غير أنَه لا يكون غالباً حتى يصير كزيد وعمرو، وكما صار ابن كراع غالباً.
وأبو فلان عند العرب كابن فلانٍ. ألا تراهم قالوا في أبي بكر بن كلابٍ: بكريٌّ كما قالوا في ابن دعلجٍ: دعلجيٌّ، فوقعت الكنية عندهم موقع ابن فلانٍ. وعلى هذا الوجه يجري في كلامهم، وذلك يعنون، وصار الآخر إذا كان الأول معرفة بمنزلته لو كان علماً مفرداً.
وأما ما يحذف منه الآخر فهو الاسم الذي لا يعرَّف بالمضاف إليه ولكنَّه معرفة كما صار معرفةً يزيد، وصار الأوَّل بمنزلته لو كان علماً مفرداً؛ لأنَّ المجرور لم يصر الاسم الأول به معرفةً؛ لأنك لو جعلت المفرد اسمه صار به معرفةً كما يصير معرفةً إذا سميته بالمضاف. فمن ذلك: عبد القيس، وامرؤ القيس، فهذه الأسماء علامات كزيد وعمر، فإذا أضفت قلت: عبديٌّ وامرئيٌّ، ومرئيٌّ، فكذلك هذا أشباهه.
وسألت الخليل عن قولهم في عبد منافٍ منافيٌّ فقال: أما القياس فكما ذكرت لك، إلا أنَّهم قالوا منافيٌّ مخافة الالتباس، ولو فعل ذلك بما جعل اسماً من شيئين جاز؛ لكراهية الالتباس.
وقد يجعلون للنَّسب في الإضافة اسماً بمنزلة جعفر، ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر، ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف، كما قالوا سبطرٌ، فجعلوا فيه حروف السَّبط إذ كان المعنى واحدا. وسترى بيان ذلك في بابه إن شاء الله.
فمن ذلك: عبشميٌّ، وعبدريٌّ. وليس هذا بالقياس، إنَّما قالوا هذا كما(3/376)
قالوا: علويٌّ وزبانيٌّ. فذا ليس بقياس كما أنَّ علويٌّ ونحو علويٌّ ليس بقياس.
هذا باب الإضافة إلى الحكاية فإذا أضفت إلى الحكاية حذفت وتركت الصدر بمنزلة عبد القيس وخمسة عشر، حيث لزمه الحذف كما لزمها، وذلك قولك في تأبَّط شراً تأبطيٌّ. ويدلك على ذلك أنَّ من العرب من يفرد فيقول: يا تأبَّط أقبل، فيجعل الأول مفرداُ. فكذلك تفرده في الإضافة. كذلك حيثما وإنما ولولا وأشباه ذلك تجعل الإضافة إلى الصدر.
وسمعنا من العرب من يقول: كونيٌّ، حيث أضافوا إلى كنت، وأخرج الواو حيث حرك النون.(3/377)
هذا باب الإضافة إلى الجمع اعلم أنك إذا أضفت إلى جميع أبداً فإنَّك توقع الإضافة على واحده الذي كسر عليه؛ ليفرق بينه إذا كان اسماُ لشيء واحد وبينه إذا لم ترد به إلا الجميع. فمن ذلك قول العرب في رجل من القبائل: قبليٌّ وقبليةٌّ للمرأة. ومن ذلك أيضاً قولهم في أبناء فارس بنويٌّ، وقالوا في الرباب: ربيٌّ وإنَّما الربِّاب جماعٌ وواحده ربةٌ، فنسب إلى الواحد وهو كالطوائف.
وقال يونس: إنَّما هي ربة ورباب، كقولك: جعفرة وجفار، وعلبة وعلاب، والربةٌّ: الفرقة من الناس.
وكذلك لو أضفت إلى المساجد قلت: مسجديٌّ، ولو أضفت إلى الجمع قلت: جمعيٌّ كما تقول: ربيٌّ. وإن أضفت إلى عرفاء قلت: عريفيٌّ. فكذلك ذا وأشباهه. وهذا قول الخليل، وهو القياس على كلام العرب وزعم الخليل أن نحو ذلك قولهم في المسامعة مسمعيٌ والمهالبة مهلبيٌ لأن المهالبة والمسامعة ليس منهما واحدٌ اسماً لواحد.
وتقول في الإضافة إلى نفرٍ نفريٌّ، ورهط رهطيٌّ، لأن نفر بمنزلة حجر لم يكسر له واحد وإن كان فيه معنى الجميع. ولو قلت: رجليٌّ في الإضافة إلى نفر لقلت في الإضافة إلى الجمع: واحديٌّ، وليس يقال هذا.(3/378)
وتقول في الإضافة إلى أناس: إنسانيٌّ وأناسيٌّ، لأنه لم يكسر له إنسان وهو أجود القولين. وقال أبو زيد: النسسبة إلى محاسن محاسني؛ لأنه لا واحد له. فصار بمنزلة نفر.
وتقول في الإضافة إلى نساء: نسويٌّ، أنه جماع نسوة وليس نسوة بجمع كسر له واحد.
وإن أضفت إلى عباديد قلت: عباديديٌّ؛ لأنه ليس له واحد؛ وواحده يكون على فعلولٍ أو فعليلٍ أو فعلال؛ فإذا لم يكن واحدٌ لم تجاوزه حتَّى تعلم؛ فهذا أقوى من أن أحدث شيئاً لم تكلَّم به العرب.
وتقول في الأعراب: أعرابيٌّ؛ أنه ليس له واحد على هذا المعنى. ألا ترى أنَّك تقول: العرب فلا تكون على هذا المعنى؟ فهذا يقوِّيه.
وإذا جاء شيء من هذه الأبنية التي توقع الإضافة على واحدها اسماً لشيءٍ واحدٍ تركته في الإضافة على حاله، ألا تراهم قالوا في أنمارٍ: أنماريٌّ؛ لأن أنماراً اسم رجل، وقالوا في كلابٍ: كلابيٌّ.
ولو سميت رجلاً ضرباتٍ لقلت: ضربيٌّ، لا تغيَّر المتحرِّكة لأنك لا تريد أن توقع الإضافة على الواحد.(3/379)
وسألته عن قولهم: مدائنيٌّ فقال: صار هذا البناء عندهم اسماً لبلد.
ومن ثم قالت بنو سعدٍ في الأبناء: أبناويٌّ، كأنهم جعلوه اسم الحي والحيُّ كالبلد، وهو واحد يقع على الجميع، كما يقع المؤنث على المذكر. وسترى ذلك إن شاء الله.
وقالوا في الضِّباب إذا كان، اسم رجل: ضبابيَّ، وفي معافر: معافريٌّ. وهو فيما يزعمون معافر بن مرٍّ، أخو تميم بن مرّ.
هذا باب ما يصير إذا كان علماً في الإضافة على غير طريقته وإن كان في الإضافة قبل أن يكون علماً على غير طريقة ما هو بنائه فمن قولهم في الطَّويل الجَّمة: جمَّاني، وفي الطَّويل اللَّحية: اللحيانيِّ، وفي الغليظ الرقبة: الرقبانيِّ. فإن سميت، برقبة أو جمة أو لحية قلت: رقبيٌّ ولحيٌّ وجمَّيٌّ ولحويٌّ، وذلك لأن المعنى، قد تحول، إنما أردت حيث قلت: جمانيٌّ الطويل الجمَّة، وحيث قلت: اللِّحياني الطَّويل اللِّحية، فلما لم تعن ذلك أجري مجرى نظائره التي ليس فيها ذلك المعنى.
ومن ذلك أيضاً قولهم في القديم السنِّ: دهريٌّ، فإذا جعلت، الدَّهر اسم رجل قلت: دهريٌّ.(3/380)
وكذلك ثقيف إذا حولته من هذا الموضع قلت ثقيفيٌّ. وقد بينا ذلك فيما مضى.
باب من الإضافة تحذف فيه ياءي الإضافة وذلك إذا جعلته صاحب شيء يزاوله، أو ذا شيء.
أما ما يكون صاحب شيء يعالجه فإنه مما يكون فعَّالاً، وذلك قولك لصاحب الثياب: ثوَّاب، ولصاحب العاج: عواجٌ؛ ولصاحب الجمال التي ينقل عليها: جمَّال، ولصاحب الخمر التي يعمل عليها: حمارٌ، وللذي يعالج الصرف: صرافٌ. وذا أكثر من أن يحصى. وربَّما ألحقوا ياءي الإضافة كما قالوا: البتِّيٌّ، أضافوه إلى البتوت، فأوقعوا الإضافة على واحده، وقالوا: البتات.
وأمَّا ما يكون ذا شيء وليس بصنعة يعالجها فإنَّه مما يكون فاعلا وذلك قولك لذي الدرع: ولذي النَّبل: نابلٌ، ولذي النُّشاب: ناشبٌ، ولذي التَّمر: تامرٌ، ولذي اللبن: لابنٌ.
قال الحطيئة:
ففررتني وزعمتَ أنَّك ... لابِنٌ بالصيف تامرِ(3/381)
وتقول لمن كان شيءٌ من هذه الأشياء صنعته: لبَّان، وتمارٌ، ونبَّال.
وليس في كلِّ شيءٍ من هذا قيل هذا. ألا ترى أنَّك لا تقول لصلحب البر: برارٌ، ولا لصاحب الفاكهة: فكَّاه، ولا لصاحب الشَّعير: شعارٌ، ولا لصاحب الدَّقيق: دقَّاق.
وتقول: مكانٌ آهلٌ، أي: ذو أهلٍ. وقال ذو الرمَّة:
إلى عطنٍ رحْبِ المَبَاءةِ آهِلِ
وقالوا لصاحب الفرس: فارسٌ.
وقال الخليل: إنَّما قالوا: عيشةٌ راضيةٌ، وطاعمٌ وكاسٍ على ذا، أي: ذات رضاً وذو كسوة وطعامٍ، وقالوا: ناعلٌ لذي النَّعل.
وقال الشاعر:
كِليني لهمٍّ يا أميمة ناصِبِ
أي: لهمٍّ ذي نصبٍ.
وقالوا: بغَّال لصاحب البغل، شبَّهوه بالأوَّل، حيث كانت الإضافة؛ لأنَّهم يشبَّهون الشيء بالشيء وإن خالفه.(3/382)
وقالوا لذي السيف: سيافٌ، وللجميع: سيافةٌ. وقال امرؤ القيس:
وليس بذي رمحٍ فيَطْعنَني به ... وليس بذي سيفٍ وليس بنَبْالِ
يريد: وليس بذي نبل. فهذا وجه ما جاء من الأسماء ولم يكن له فعل. وهذا قول الخليل.
؟؟؟؟ باب ما يكون مذكَّرا يوصف المؤنَّث
وذلك قولك: امرأةٌ حائضٌ، وهذه طامثٌ، كما قالوا: ناقةٌ ضامرٌ، يوصف به المؤنَّث وهو مذكر. فإنَّما الحائض وأشباهه في كلامهم على أنَّه صفة شيء، والشيء مذكر، فكأنهم قالوا: هذا شيء حائضٌ، ثمَّ وصفوا به المؤنَّث كما وصفوا المذكر بالمؤنَّث فقالوا: رجلٌ نكحةٌ. فزعم الخليل أنَّهم إذا قالوا حائضٌ فإنَّه لم يخرجه على الفعل، كما انه حين قال: دارع(3/383)
لم يخرجه على فعل، وكأنَّه قال: درعيٌّ. فإنَّما أراد ذات حيضٍ ولم يجيء على الفعل.
وكذلك قولهم: مرضعٌ، إذا أراد ذات رضاعٍ ولم يجرها على أرضعت. ولا ترضع. فإذا أراد ذلك قال: مرضعةٌ. وتقول: هي خائضة غداًُ لا يكون إلا ذلك، لأنَّك إنَّما أجريتها على الفعل، على هي تحيض غداً.
هذا وجه ما لم يجر على فعله فيما زعم الخليل، مما ذكرنا في هذا الباب.
وزعم الخليل أنَّ فعولا، ومفعالا، ومفعلا، نحو قؤول ومقوالٍ، إنَّما يكون في تكثير الشيء وتشديده والمبالغة فيه، وإنَّما وقع كلامهم على أنَّه مذكر. وزعم الخليل أنَّهم في هذه الأشياء كأنهم يقولون: قوليٌّ، وضربيٌّ. ويستدل على ذلك بقولهم: رجل عملٌ وطعمٌ ولبسٌ، فمعنى ذا كمعنى قؤول ومقوال في المبالغة، إلا أن الهاء تدخله، يقول: تدخل في فعلٍ في التأنيث.
وقالوا: نهرٌ، وإنما يريدون نهاريٌّ فيجعلونه، بمنزلة عمل، وفيه ذلك المعنى.
وقال الشاعر:
لستُ بليليٍ ولكنَّي نَهِرْ ... لا أُدْلِجُ الليلَ ولكنْ أَبْتَكِرْ(3/384)
فقولهم: نهرٌ في نهاريٌ يدُّل على أن عملاً كقوله: عمليٌّ؛ أن في عمل من المعنى ما في نهرٍ، وقؤولٌ كذلك، لأنه في معنى قولي.
وقالوا: رجل حرحٌ ورجل ستةٌ، كأنه قال: حريٌّ واستيٌّ.
وسألته عن قولهم: موت مائت، شغل شاغل، وشعر شاعر، فقال: إنَّما يريدون في المبالغة والإجادة، وهو بمنزلة قولهم: هم ناصبٌ، وعيشةٌ راضيةٌ في كل هذا.
فهذا وجه ما كان من الفعل ولم يجر على فعله، وهذا قول الخليل: يمتنع من الهاء في التأنيث في فعولٍ وقد جاءت في شيء منه. وقال: مفعالٌ ومفعيلٌ قل ما جاءت الهاء فيه، ومفعلٌ قد جاءت الهاء فيه كثيراً نحو مطعنٍ ومدعسٍ، ويقال: مصكٌّ ومصكٌّة ونحو ذلك.
؟
هذا باب التثنية
اعلم أنَّ التثنية تكون في الرفع بالألف والنون، وفي النصب والجر بالياء والنون، ويكون الحرف الذي تليه، الياء والألف مفتوحاً.
أمَّا ما لم يكن منقوصاً ولا ممدوداً فإنك لا تزيده في التثنية على أن تفتح آخره كما تفتحه في الصلة إذا نصبت في الواحد، وذلك قولك: رجلانٍ، وتمرتان، ودلوان، وعدلان، وعودان، وبنتان، وأختان، وسيفان، وعريانان، وعطشانان، وفرقدان، وصمحمحان، وعنكبوتان، وكذلك هذه الأشياء ونحوهما.
وتقول في النصب والجرِّ: رأيت رجلين؛ ومررت بعنكبوتين؛ تجريه كما وصفت لك.(3/385)
هذا باب
تثنية ما كان من المنقوص على ثلاثة أحرف
اعلم أنَّ المنقوص إذا كان على ثلاثة أحرف فإن الألف بدلٌ؛ وليست بزيادة كزيادة ألف حبلى.
فإذا كان المنقوص من بنات الواو أظهرت الواو في التثنية؛ لأنَّك إذا حركت فلا بد من ياء أو واو؛ فالذي من الأصل أولى.
وإن كان المنقوص من بنات الياء أظهرت الياء.
فأمَّا ما كان من بنات الواو فمثل قفاً، لأنه من قفوت الرجل، تقول: قفوان، وعصاً عصوانٍ؛ لأنَّ في عصاً ما في قفاً. تقول: عصوت ولا تميل ألفها، وليس شيءٌ من بنات الياء لا يجوز فيه إمالة الألف، ورجاً رجوان، لأنَّه من بنات الواو، يدلُّك على ذلك قول العرب: رجا فلا يميلون الألف، وكذلك الرِّضا تقول: رضوان، لأنَّ الرِّضا من الواو، يدلك على ذلك مرضوٌّ والرضوان. وأما مرضيٌّ فبمنزلة مسنية. والسَّنا بمنزلة القفا، تقول: سنوان وكذلك ما ذكرت لك وأشباهه، وإذاعلمت أنه من بنات الواو وكانت الإمالة تجوز في الألف أظهرت الواو، لأنَّها ألف مكان الواو، فإذا ذهبت الألف فالتي الألف بدلٌ منها أولى. يدلك على ذلك أنَّهم يقولون:(3/386)
غزا فيميلون الألف، ثم يقولون: غزوا، وقالوا: الكبا ثم قالوا الكبوان، بذلك أبو الخطاب عن أهل الحجاز.
وسألت الخليل عن العشا الذي في العينين فقال: عشوان، لأنَّه من الواو، غير أنَّهم قد يلزمون بعض ما يكون من بنات الواو انتصاب الألف ولا يجيزون الإمالة تخفيفاً للواو.
وأما الفتى فمن بنات الياء، قالوا: فتيانٌ وفتيةٌ، وأما الفتوَّة والندوَّة فإنما جاءت فيهما الواو لضمَّة ما قبلهما، مثل لقضو الرجل من قضيت، وموقنٌ، فجعلوا الياء تابعةً.
ولو سمَّيت رجلا بخطا قم ثنَّيت لقلت: خطوان، لأنَّها من خظوت. ولو جعلت على اسما ثم ثنَّيت لقلت: علوان، لأنَّها من علوت، ولأنَّ ألفها لازمة الانتصاب، وهي التي في قولك: على زيدٍ درهمٌ، وكذلك الجميع بالتاء في جميع ذا، لأنَّه يحرك، ألا تراهم قالوا: قنوات وأدواتٌ، وقطواتٌ.
وأما ما كان من بنات الياء فرحىً، وذلك لأنَّ العرب لا تقول إلاَّ رحىً ورحيان، والعمى كذلك: عمى وعميان وعميٌ: وتقول: عميانٌ، والهدى هديان، لأنَّك تقول: هديت، ولأنَّك قد تميل الألف في هدى. فهذا سبيل ما كان المنقوص على ثلاثة أحرف، وكذلك الجميع بالتاء.
فأمَّا ربا فربوان؛ لأنَّك تقول: ربوت.(3/387)
فإذا جاء شيء من المنقوص ليس له فعلٌ تثبت فيه الواو، ولا له اسمٌ تثبت فيه الواو، وألزمت ألفه الانتصاب، فهو من بنات الواو؛ لأنَّه ليس شيء من بنات الياء يلزمه الانتصاب لا تجوز فيه الإمالة، إنَّما يكون ذلك في بنات الواو، وذلك نحو لدى، وإلى؛ وما أشبههما. وإنَّما تكون التثنية فيهما إذا صارتا اسمين؛ وكذلك الجميع بالتاء.
فإن جاء شيء من منقوص ليس له فعلٌ تثبت فيه الياء، ولا اسم تثبت فيه الياء، وجازت الإمالة في ألفه؛ فالياء أولى به في التثنية؛ إلا أن تكون العرب قد ثنته فتبيَّن لك تثنيتهم من أي البابين هو، كما استبان لك بقولهم: قنوان وقطوات، أن القناة والقطاة من الواو. وإنَّما صارت الياء أولى حيث كانت الإمالة في بنات الواو وبنات الياء أنَّ الياء أغلب على الواو حتى تصيِّرها ياءً من الواو على الياء حتى تصيِّرها واواً.
وسترى ذلك في أفعل؛ وفي تثنية ما كان على أربعة أحرف. فلمَّا(3/388)
لم يستبن كان الأقوى أولى حتَّى يستبين لك، وهذا قول يونس وغيره؛ لأنَّ الياء أقوى وأكثر.
وكذلك نحو متى إذا صارت اسماً وبلى، وكذلك الجميع بالتاء.
هذا باب
تثنية ما كان منقوصا
وكان عدة حروفه أربعة أحرف فزائداً إن كانت ألفه بدلاً من الحرف
الذي من نفس الكلمة، أو كان زائداً غير بدل أما ما كانت الألف فيه بدلاً من حرف من نفس الحرف فنحو أعشى، ومغزى وملهى ومغتزى، ومرمى ومجرى، تثنى ما كان من ذا من بنات الواو كتثنية ما كان من بنات الياء؛ لأنَّ أعشى ونحوه لو كان فعلا لتحول إلى الياء.
فلما صار لو كان فعلا لم يكن إلاَّ من الياء، صار هذا النحو من الأسماء متحولا إلى الياء، وصار بمنزلة الذي عدَّة حروفه ثلاثة وهو من بنات الياء. وكذلك مغزى، لأنَّه لو كان يكون في الكلام مفعلت لم يكن إلا من الياء، لأنَّها أربعة أحرف كالأعشى، والميم زائدة كالألف وكلَّما ازداد الحرف كان من الواو أبعد.
فلمّا صار لو كان فعلا إلاَّ من الياء، صار هذا النحو من الأسماء متحولا إلى الياء، وصار بمنزلة الذي عدَّة حروفه ثلاثة وهو من بنات الياء. وكذلك مغزى، لأنَّه لو كان يكون في الكلام مفعلت لم يكن إلا من الياء، لأنَّها أربعة أحرف كالأعشى، والميم زائدة كالألف وكلمَّا ازداد الحرف كان من الواو أبعد.
وأما مغتزي فتكون تثنيته بالياء، كما أن فعله متحول إلى الياء.(3/389)
وذلك أعشيان ومغزيان، ومغتزيان.
وكذلك، جمع ذا بالتاء كما كان جمع ما كان على ثلاثة أحرف بالتاء مثل التثنية.
وأما ما كانت ألفه زائدةً فنحو: حبلى، ومعزى، ودفلى، وذفرى، لا تكون تثنيته إلا بالياء، لأنك لو جئت بالفعل من هذه الأسماء بالزيادة لم يكن إلا من الياء كسلقيته، وذلك قولك: حبليان، ومعزيان، ودفليان، وذفريان. وكذلك جمعها بالتاء.
باب جمع المنقوص بالواو والنون في الرفع وبالنون والياء في الجر والنصب اعلم أنَّك تحذف الياء وتدع الفتحة التي كانت قبل الألف على حالها، وإنما حذفت لأنه لا يلتقي ساكنان، ولم يحركا كراهية الياءين مع الكسرة والياء مع الضمة والواو حيث كانت معتلة، وإنما كرهوا ذا كما كرهوا في الإضافة إلى حصى حصيٌّ. وإن جمعت قفاً اسم رجل قلت: قفون، حذفت كراهية الواوين مع الضمَّة وتوالي الحركات.(3/390)
وأما ما كان على أربعة ففيه ما ذكرنا مع عدة الحروف وتوالي حركتين لازماً، فلما كان معتلاً كرهوا أن يحر؟ كوه على ما يستثقلون إذ كان التحريك مستثقلاً، وذلك قولك: رأيت مصطفين، وهؤلاء مصطفون؛ ورأيت حبنطين؛ وهؤلاء خبنطون؛ ورأيت قفين؛ وهؤلاء قفون.
؟
هذا باب تثنية الممدود
اعلم أنَّك كلَّ ممدود كان منصرفاً فهو في التثنية والجمع بالواو والنون في الرفع، وبالياء والنون في الجر والنصب؛ بمنزلة ما كان آخره غير معتل من سوى ذلك. وذلك نحو قولك: علباءان؛ فهذا الأجود الأكثر.
فإن كان الممدود لا ينصرف وآخره زيادةٌ جاءت علامةً للتأنيث فإنك إذا ثنيته أبدلت واواً كما تفعل ذلك في قولك: حنفاويٌّ؛ وكذلك إذا جمعته بالتاء.
واعلم أنَّ ناساً كثيراً من العرب يقولون: علباوان وحرباوان، شبّهوها ونحوهما بحمراء، حيث كان زنة هذا النحو كزنته، وكان الآخر زائداً كما كان آخره حمراء زائداً، وحيث مدت كما مدت حمراء.
وقال ناسٌ: كساوان وغطاوان، وفي رداء رداوان، فجعلوا ما كان آخره بدلاً من شيء من نفس الحرف بمنزلة علباء، لأنَّه في المد مثل(3/391)
وفي الإبدال، وهو منصرف كما انصرف، فلمَّا كان حاله كحال علباء إلاَّ أنَّ آخره بدلٌ من شيء من نفس الحرف تبع علباءٍ كما تبع علباءٌ حمراء، وكانت الواو أخف عليهم حيث وجد لها شبهٌ من الهمزة. وعلباوان أكثر من قولك كساوان في كلام العرب، لشبهها بحمراء.
وسألت الخليل عن قولهم: عقلته بثنايين وهنايين، لم لم يهمزوا؟ فقال: تركوا ذلك حيث لم يفرد الواحد ثم يبنوا عليه، فهذا بمنزلة السَّماوة، لمَّا لم يكن لها جمع كالعظاء والعباء يجيء عليه جاء على الأصل. والذين قالوا: عباءة جاءوا به على العباء. وإذا قلت: عباية فليس على العباء. ومن ثم زعم قالوا مذروان، فجاءوا به على الأصل، فشبهوها بذا حيث لم يفرد واحده. وقالوا لك نقاوةٌ ونقاوةٌ. وإنَّما صارت واواً لأنها ليست آخر الكلمة. وقالوا لواحده: نقوةٌ، لأنَّ أصلها كان من الواو.
بابٌ لا تجوز فيه التثنية والجمع
بالواو والياء والنون وذلك نحو: عشرين، وثلاثين، والاثنين. لو سميت رجلاً بمسلمين قلت:(3/392)
هذا مسلمون، أو سميته برجلين قلت: هذا رجلان، لم تثنَّه أبداً ولم تجمعه كما وصفت لك، من قبل أنَّه لا يكون في اسم واحد رفعان ولا نصبان ولا جران ولكنك تقول: كلُّهم مسلمون، واسمهم مسلمون، وكلُّهم رجلان، واسمهم رجلان. ولا يحسن في هذا إلا هذا الذي وصفت لك وأشباهه.
وإنَّما امتنعوا أن يثنوا عشرين حين لم يجيزوا عشرونان، واستغنوا عنها بأربعين. ولو قلت ذا لقلت مائانان، وألفانان، واثنانان، وهذا لا يكون وهو خطأ لا تقوله العرب.
وإنما أوقعت العرب الاثنين في الكلام على حد قولك: اليوم يومان واليوم خمسة عشر من الشهر. والذين جاءوا بها فقالوا: أثناءٌ إنَّما جاءوا بها على حد الاثن كأنَّهم قالوا: اليوم الاثن. وقد بلغنا أنَّ بعض العرب يقول: اليوم الثُّنى. فهكذا الاثنان كما وصفنا، ولكنَّه صار بمنزلة الثَّلاثاء والأربعاء اسماً غالبا، فلا تجوز تثنيته.
وأما مقبلاتٌ فتجوز فيها التثنية إذا صارت اسم رجل، لأنَّه لا يكون فيه رفعان ولا نصبان ولا جران فهي بمنزلة ما في آخره هاءٌ في التثنية والجمع بالتاء. وذلك قولك في أذرعتان: أزرعاتان وفي تمراتٍ اسم رجل: تمراتان. فإذا جمعت بالتاء قلت: تمرات، تحذف تحذف وتجيء أخرى كما تفعل ذلك بالهاء إذا قلت: تمرة وتمرات.(3/393)
؟
باب جمع الاسم الذي في آخره هاء
التأنيث
زعم يونس أنَّك إذا سميت رجلا طلحة أو امرأة أو سلمة أو جبلة، ثم أردت أن تجمع جمعته بالتاء، كما كنت جامعة قبل أن يكون اسماً لرجل أو امرأة على الأصل. ألا تراهم وصفوا المذكّر وبالمؤنث، قالوا: رجلٌ ربعةٌ وجمعوها بالتاء: فقالوا ربعاتٌ ولم يقولوا: ربعون. وقالوا: طلحة الطلحات ولم يقولوا: طلحة الطَّلحين. فهذا يجمع على الأصل لا يتغير عن ذلك، كما أنَّه إذا صار وصفا للمذكر لم تذهب الهاء.
فأما حبلى فلو سميت بها رجلا أو حمراء أو خنفساء لم تجمعه بالتاء، وذلك لأن تاء التأنيث تدخل على هذه الألفات فلا تحذفها. وذلك قولك حبليات، وحباريات، وخنفساوات. فلمَّا صارت تدخل فلا تحذف شيئاً أشبهت هذه عندهم أرضات ودريهمات. فأنت لو سميت رجلاً بأرض لقلت: أرضون ولم تقل: أرضات؛ لأنه ليس ههنا حرف تأنيث يحذف، فغلب على حبلى التذكير حيث صارت الألف لا تحذف، وصارت بمنزلة ألف حبنطي التي لا تجيء للتأنيث. ألا تراهم قالوا: زكرياوون فيمن مد، وقالوا زكريَّون فيمن قصر.
واعلم أنَّك لا تقول في حبلى وعيسى وموسى إلاَّ حبلون وعيسون وموسون، وعيسون وموسون خطأٌ. ولو كنت لا تحذف ذا لئلا يلتقي ساكنان، وكنت إنَّما تحذفها وأنت كأنك تجمع حبلٌ وموسٌ لحذفتها في التاء، فقلت: حبارات وحبلات وشكاعات، وهو نبت. وإذا جمعت(3/394)