وقال ابن السراج في الأصول: " ومما ألزم حذف الهمزة لكثرة استعمالهم مَلَكٌ إنما هو مَلْأَك، (فلما) (2) جمعوه ردوه إلى أصله قالوا ملائكة وملائك، وقد قال الشاعر - فرد الواحد إلى أصله حين احتاج - * فَلَسْت لإنسي ... البيت " انتهى.
وقد أخذ هذه من تصريف المازني، قال ابن جني في شرحه: " اعلم أنه يريد بالحذف هنا التخفيف، ألا ترى أنهم يحركون اللام من مَلَك لفتحة الهمزة من ملاك كما تقول في تخفيف مَسْأَلة: مَسَلَة، وهذا هو التخفيف، إلا أنهم ألزموه التخفيف في الأمر الشائع في الواحد، وصارت ميم مَفْعَل كأنها بدل من إلزامهم إياه
التخفيف، كما أن حرف المضارعة في نَرَى وتَرَى ويرى وأرى كأنه بدل من إلزامهم إياه التخفيف في الأمر الشائع، حتى إن التحقيق وإن كان هو الأصل قد صار مستَقْبَحاً لقلة استعماله، وينبغي أن تعلم أن أصل تركيب مَلَك على أن الفاء لام والعين همزة واللام كاف، لأن هذا هو الأكثر وعليه يُصرَف الفعل، قال الشاعر: (من الطويل) ألِكْنِي إلى قَوْمي السَّلاَمَ رِسَالَةً * بِآيَةِ مَا كانُوا ضِعَافاً وَلاَ عُزْلاَ فأصل ألكني ألئكنى فخفف الهمزة بأن طرح كسرتها على اللام، وقال الآخر: (من المتقارب) ألِكْنِي إلَيْهَا وَخَيْرُ الرسول * أعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ وعلى هذه اللغة جاء ملك، وأصله مَلْأَك، وعلى هذا جمعوه، فقالوا: ملائك وملائكة، لأن جمع مَفْعَل مَفَاعِل، ودخلت الهاء في ملائكة لتأنيث الجمع، وقد قدموا الهمزة على اللام فقالوا: مَأْلُك ومَأَلُكة للرسالة، قال عدي بن زيد: (من الرمل) أبْلِغْ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً * أنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وانتظار
__________
(1) زيادة يقتضيها المقام (*)(4/288)
وقال لبيد رضي الله عنه: (من الرمل) وغلاَمٍ أرْسَلَتْهُ أُمُّهُ * بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ ولم نرهم استعملوا الفعل بتقديم الهمزة، فهذا يدل على أن الفاء لام والعين همزة " انتهى.
قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل: " البيت لعلقمة بن عَبَدَة أحد بنى ربيعة مالك بن زيد مناة بن تميم، وهو علقمة الْفَحْل (1) ، من قصيدته التي يقول فيها: (من الطويل)
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خبطت بِنِعْمَةٍ * فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذنوب وهو آخر القصيدة " اه.
وقد بحثت (عنه) فلم أجده فيها من رواية المفضل في المفضليات، وكذلك لم أره في ديوانه قال السهيلي: " هذا البيت مجهول، وقد نسبه ابن سيده إلى علقمة، وأُنْكِرَ ذلك عليه، ثم قال اللخمي: وحكى أبو عبيد أنه لرجل من عبد القيس من كلمة يمدح بها النعمان، وحكى السيرافى: أنه لابي وجرة (2) السُّلَمِي المعروف بالسعدي من قصيدة يمدح بها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقوله " تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء " (يحتمل وجهين: الأول (3)) أنه ليس بقديم في الأرض فتلحقه طباع الآدميين، والثاني أن كل ملك قرب عهده بالنزول من السماء فليس بمنزلة من لم يكن قريب العهد، ويصوب: ينحدر إلى أسفل، وقوله " لملاك " في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، والتقدير أنت لملاك.
" ولانسى " في موضع خبر ليس والتقدير فلست منسوباً بالانسى، والجواب
__________
(1) انظر (ح 2 ص 346) من القسم الاول من هذا الكتاب.
(2) في القاموس: أبو وجزة يزيد بن عبيد أو أبى عبيد شاعر سعدى (3) زيادة لابد منها ليصح الكلام (*)(4/289)
بين السماء والأرض، و " يصوب " في موضع نصب على الحال من ضمير تنزل، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لملاك " انتهى.
وفى الصحاح، صاب الماء يصوب نزل، وأنشد البيت لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح بعض الملوك وقال الطيبي: يصوب: بمعنى يميل وهو استئناف على سبيل البيان والتعليل، وفي معناه قول صواحب يوسف (مَا هَذَا بَشَراً إنْ هَذَا إلاَّ مَلَك) وأنشده الزمخشري عند قوله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بأمر ربك) على أن التنزل بمعنى
النزول مطلقاً، لأنه مطاوع نزل، ولا أثر للتدريج في غرض الشاعر وقبله: تَعَالَيْتَ أنْ تُعْزَى إلَى الإنْسِ خَلَّةً * وَلِلأِنْسِ مَنْ يَعزُوكَ فَهْوَ كَذُوبُ وتَعَالَيْتَ تعاظمت، وتعزى: تنسب، وخلة: تمييز وهو بفتح الخاء المعجمة، وهو بمعنى الخصلة.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الأربعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 140 - * دار لسعدى إذه من هو اكا * على أن هوى من " هواكا " مصدر بمعنى اسم المفعول: أي من مهوياتك وأنشده سيبويه في باب ضرائر الشعر من أول كتابه على أن الياء حذفت للضرورة، والأصل إذ هي من هواكا، وقبله: * هَلْ تَعْرِفِ الدَّارَ عَلَى تِبْرَاكَا * بكسر المثناة الفوقية الموحدة: موضع في ديار بني فقعس، وصف داراً خلت من سعدى هذه المرأة، وبَعُدَ عهدها بها فتغيرت بعدها، وذكرَ أنها كانت لها داراً ومستقراً، إذ كانت مقيمة بها، فكان يهواها بإقامتها فيها، وقد تكلمنا(4/290)
عليه بأكثر من هذا في الشاهد الثالث والثمانين من أوائل شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائة -: (من الطويل) 141 - فَإِنْ تَكُنْ الْمُوسَى جَرَتْ فوق بظرها * فما ختنت إلا ومصان قاعد على أن الموسى مؤنثة بدليل جرت، فإن المؤنث إذا أسند إلى فعله وجب إلحاق علامة التأنيث لفعله، وأما إذا أسند الفعل إلى ظاهر فيجوز إلحاق العلامة
ويجوز تركها، كما في تكن، وأما تذكيره فلم أر له شاهداً إلا في كلام المولدين، وما أحسن ما كتب بعضهم بمصر إلى الأمير موسى بن يغمور وقد أهدَى إليه موسى: وأهديت موسى نحو مُوسَى وَإنْ يَكُنْ * قَدْ اشْتَرَكا في الإسْمِ مَا أخْطَأَ الْعَبْدُ فَهَذَا لَهُ حَدٌّ وَلاَ فَضْلَ عِنْدَهُ * وَهَذَا لَهُ فَضْلٌ وَلَيْسَ لَهُ حَدُّ وهذا البيت قبله: لَعَمرِكَ مَا أدْرِي وإني لسائل * أبْظْرَاءُ أمْ مَخْتُونَةٌ أُمُّ خَالِدِ وروي أيضاً: * لَعَمْرِكَ مَا أدْرِي وإن كُنْتَ دَارِيا * والبظراء: المرأة التي لها بظر، والبَظْر: لحمة بين شفري المرأة، وهي القلفة التي تقطع في الختان، وبَظِرَت المرأة - بالكسر - فهي بظراء، إذا لم تختن، وأم خالد: مبتدأ، وبظراء: خبر مقدم، وروي مخفوضة بدل مختونة، وخُفِضَتْ بدل ختنت، والختان مشترك بين الذكر والأنثى، يقال: ختن الخاتن الصبي ختناً من باب ضرب، والاسم الختان والختانة، بكسرهما، ويطلق الختان على موضع القطع من الفرج، وفي الحديث (إذا التقى الختانان) وهو كناية لطيفة عن تغييب(4/291)
الحشفة، فالمراد من التقائهما تقابل موضع قطعهما، فالغلام مختون والجارية مختونة وغلام وجارية ختين أيضاً، والخفض خاص بالانثى، يقال: خَفَضت الخافضة الجارية خِفاضاً: ختنتها، فالجارية مخفوضة، ولا يقال: الخفض إلا على الجارية دون الغلام، وهو بالخاء والضاد المعجمتين بينهما فاء، قال الجواليقي: وروي أيضاً وضعت وبضعت، والكل بمعنى واحد، قال ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق وتبعه الجواليقي: " يقول أنا في شك أمختونة هي أم لا، ثم قال: وإن كنت
أعلم أنها كذلك، فإن كانت مختونة فما ختنت إلا بعد ما كبر ابنها فختنت بحضرته وعنى بحصان ابنها " انتهى.
وقال ابن السَّيِّد في شرح أبيات أدب الكاتب: " وفي معنى البيت قولان: قيل: إنه أراد بالمصَّان الحجَّام لأنه يمص المحاجم، يقول: إن كانت ختنت فإنما ختنها لتبذلها وقلة حيائها، لأن العادة جرت أن يختن النساء النساء، وقيل: أراد بالمصان ابنها خالداً، لأن العرب تقول لمن تسبه: يا مصان: أي يا من مص بظر أمه، يقول إن كانت ختنت فإنما خُتِنَتْ بعد أن بلغ ابنها المصان القعود، فقد مص بظرها على كل حال، وأجرى مصان مجرى الأسماء الأعلام، فلذلك لم يصرفه " انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا، فإن مَصَّان وصف له كَسلْمَان فمنع صرفه للوصفية والزيادة (1) وقد اختلف في قائلها والمهجو بهما، قال يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق
__________
(1) هذا كلام غير مستقيم، لانه ليس كل وصف على فعلان يمتنع صرفه، بل ذلك خاص بما كان مؤنثه على فعلى، أو بما لا يكون مؤنثه على فعلانة، وقد قيل: للانثى مصانة، فمطان مصروف، فامتناع صرف مصان في البيت لضرورة الشعر وهو جائز عند الكوفيين (*)(4/292)
وتبعه الجواليقي في شرح أبيات أدب الكاتب، وابنُ بري في حاشيته الصحاح وغيرُهما: " وأنشد الفراء في تأنيث الموسى لزياد الأعجم يهجو خالد بن العتاب بن ورقاء لما أعطى إليه خالد بَدْرةً من الدراهم وقال له مازحاً: أدخلها في حرأمك، وكذا قال أبو عمرو الشيباني، وقيل: قائلها أعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ويكنى أبا الْمُصَبِّح، قالهما في خالد بن عبد الله القسري، وهذا قول
أبي الفرج الأصبهاني في الاغانى: قال: حدثنا الخراز عن المدائني عن عيسى بن زيد ابن جعدبة قالا: كانت أم خالد القسري رومية نصرانية: فبنى لها كنيسة في قبلة مسجد الجامع في الكوفة فكان إذا أراد المؤذن بالمسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس، وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم فقال أعشى همدان يهجوه وَيعيره بأمه، وكان الناس إذا ذكروه قالوا: ابن البظراء فأنف من ذلك، فيقال: إنه ختن أمه كارهة فعيره الأعشى بذلك حين يقول: (من الطويل) لَعَمْرِكَ مَا أدْرِي وَإنِّي لَسَائِلٌ * أبْظْرَاءُ أمْ مَخْتُونَةٌ أُمُّ خَالِدِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُوسَى جَرَتْ فَوْقَ بَظْرِهَا * فَمَا خُتِنَتْ إلاَّ وَمَصَّانُ قاعِدِ يَرَى سَوْأةً مِنْ حَيْثُ أطْلَعَ رَأْسَهُ * تَمُرُّ عَلَيْهَا مُرْهَفَاتُ الْحَدَائِدِ وقال أيضاً يرميه باللواط: ألْمَ تَرَ خَالِداً يَخْتَارُ مِيماً * وَيَتْرُكُ فِي النِّكَاحِ مَشَقَّ صَادِ وَيُبْغِضُ كُلَّ آنِسَةٍ لَعُوبٍ * وَيَنْكِحُ كُلَّ عَبْدٍ مُسْتَقَادِ وقال أبو عبيدة: حدثني أبو الهذيل العلاف، قال: صَعِدَ خالد القسري المنبر فقال: إلى كم يغلب باطِلُنَا حقَّكم، أما آن لربكم أن يغضب لكم، وكان زنديقاً وأمه نصرانية، فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين ويأمرهم بضربهم وامتهانهم، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئونهن، فيطلق ذلك(4/293)
لهم ولا يغيره عليهم، وله يقول الفرزدق من أبيات: (من الطويل) وَأَنْتَ ابْنُ نَصْرَانِيَّةٍ طَالَ بظرها * غدتك بِأَوْلاَدِ الْخَنَازِيرِ وَالْخَمرْ وقال فيه أيضاً: (من الطويل) ألاَ لَعَنَ الرَّحْمَنُ ظَهْرَ مِطِيَّةٍ * أتَتْنَا تَخَطَّى مِنْ بَعِيدٍ بِخَالِدِ
وَكَيْفَ يَؤُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَأُمُّهُ * تَدِينُ بِأَنَّ الله ليس بواحد وأورد له صاحب الأغاني حكايات كفريات كثيرةً صريحةً في كفره وزندقته، وروى بسنده عن خالد بن صفوان بن الأهتم أنه قال: " ولم تزل أفعال خالد به حتى عزله هشام وعذبه وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطاً قد شد به وَالصبيان يجرونه، فدخلت إلى هشام فحدثته فأطلت، فتنفس ثم قال: يا خالد، رُبَّ خالدٍ كان أحبَّ إلَيَّ قُرْباً وألَذَّ عندي حديثاً منك، قال: يعني خالداً القسري، فانتهزتها ورجوت أن أشفع فيكون لي عند أمير المؤمنين يد، قلت: يا أمير المؤمنين فما يمنعك من استئناف الصَّنيعة عنده فقد أدبته بما فرط منه، فقال: هيهات، إن خالداً أوجف فأعجف، وأدَلَّ فَأَذَلَّ، وأفرط في الإساءة فأفرطنا في المكافأة، فحَلِم الأدِيم (1) ونَغِل (2) الجرحُ، وبلغ السيل الزُّبَى و (جاوز) الحِزَامُ الطُّبْيَيَن (3) ، فلم يبق فيه مستصلَح، ولا للصنيعة عنده موضع "
__________
(1) يقال: حلم الاديم - بالكسر - أصابته الحلمة، وهى دودة تخرقه فلا ينفع فيه الدباغ (2) في الاصول " بتل الجرح " ولا معنى له والصواب ما أثبتناه، والنغل - بفتحتين -: الفساد، وفى الحديث: ربما نظر الرجل نظرة فنغل قلبه كما ينغل الاديم في الدباغ فيتثقب (3) الزبى: جمع زبية - بالضم - وهى حفرة تحفر للاسد إذا أرادوا صيده والطبيان: مثنى طبى - بالضم أو الكسر - وهو لذى الحافر والسباع كالضرع لغيرها، وهذان مثلان يضربان إذا تجاوز الامر قدره، وفى معناه " بلغ الدم الثنن " (*)(4/294)
وأعشى همدان شاعر فصيح كوفي من شعراء الدولة الأموية، وكان زوج أخت الشعبي الفقيه، والشعبي زوج أخته، وكان أحد القراء الفقهاء، ثم ترك
ذلك وقال الشعر، وخرج مع ابن الأشعث فأُتِيَ به الحجاج فقتله صبراً، وكان الأعشى ممن أغزاه الحجاج الديلم فأُسرَ، فلم يزل أسيراً في أيدي الديلم مدة، ثم إن بنتاً لِلعِلْج الذي كان أسره هويته، وسارت إليه ليلاً ومكنته من نفسها، فواقعها ثماني مرات، فقالت له: أهكذا تفعلون بنسائكم، فقال لها: نعم، فقالت: بهذا الفعل نُصِرتم، أفرأيت إن خلصتك أتصطفيني لنفسك؟ فقال: نعم، وعاهدها، فحلت قيوده وأَخَذَتْ به طريقاً تعرفها حتى خلصته، فقال شاعر من أُسراء المسلمين: (من الطويل) وَمَنْ كَانَ يَفْدِيهِ مِنَ الأَسْرِ مَالَُهُ * فَهَمْدَانُ تَفْدِيهَا الْغَدَاةَ أيُورُهَا وكان الأعشى مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي بالرِّيّ، وأملق الأعشى يوماً فأتاه فقال: (من الطويل) رَأَيْتُ ثَنَاءَ النَّاسِ بِالْغَيْبِ (1) طَيِّباً * عَلَيْكَ وَقَالُوا: مَاجِدٌ وَابْنُ مَاجِدِ بَنِي الْحَارِثِ السَّامِينَ لِلْمَجْدِ إنَّكُمْ * بَنَيْتُمْ بِنَاءً ذِكْرُهُ غَيْرُ بَائِدِ فَإِنْ يَكُ عَتَّابٌ مَضَى لِسَبْيلِهِ * فَمَا مَاتَ مَنْ يَبْقَى لَهُ مثل خالد وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الوافر) 142 - أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ: مَنُونَ أنْتُمْ؟ * فَقَالُوا: الجِنَّ، قُلْتُ: عِمُوا ظَلاَماَ فَقُلْتُ: إلَى الطَّعَامِ، فَقَالَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ: نَحْسُدُ الانس الطعاما
__________
(1) في الاغانى (ج 6 ص 57) " بالقول " وفى ديوان الاعشى مثل ما هنا (*)(4/295)
على أن قوله " الإنْسَ " يدل على أن همزة إنسان أصل، وأنه مأخوذ من الأُنْس لامن النسيان، وأنشد سيبويه البيت الأول على أن يونس يجوِّز فيه الحكاية
بمن وصلا، كما في البيت، و " عِمُوا " معناه: أنْعِمُوا، وهي كلمة تحية عند العرب، يقال: عِمُوا صباحاً، وإنما قال لهم: عِمُوا ظلاماً، لأنهم جِنٌّ وانتشارهم بالليل، كما يقال لبني آدم إذا أصبحوا: عِمُوا صباحاً وقد شرحناه شرحاً وافياً في الشاهد الواحد والخمسين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده أيضاً، وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد الماية: (من الخفيف) 143 - إنَّما أنْفَسُ الأَنْيس سِبَاعٌ * يَتَفَارَسْنَ جَهْرَةً وَاغْتِيَالاً على أن قوله " الإنِيس " وهو بمعنى الأنس يدل أيضاً على أن إنسان أصله كما تقدم قبله والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها سيف الدولة، مطلعها: (من الخفيف) ذِي الْمَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى * هَكَذَا هكذا وإلا فلالا وبعده وهو آخر القصيدة: مَنْ أطَاقَ الْتِمَاسَ شئ غِلاَباً * واغْتِصَاباً لَمْ يَلْتَمِسْهُ سُؤَالاَ كُلُّ غَادٍ لِحَاجَةٍ يَتَمَنَّى * أنْ يَكُونَ الْغَضنْفَرَ الرِّئْبَالاَ وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائة -: (من الكامل) 144 - إن الْمَنَايَا يَطَّلِعْنَ عَلَى الأُنَاسِ الآمنينا(4/296)
وقد شرحناه مفصلاً في الشاهد السابع والعشرين بعد المائة من شواهد شرح الكافية وأنشد أيضاً - وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائة -: (من الكامل) 145 - لا تنسين تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا * سُمِّيْتَ إنْسَاناً لأَنَّكَ نَاسِي
على أن قوله " سميت إنساناً لأنك ناسي " يدل على أن همزة إنسان زائدة من النسيان، فلامه محذوفة، ورد بأنه لم يذهب به مذهب الاشتقاق، وإنما هو تخيل شعر، على أن شعر أبي تمام لا يحتج به، لأنه من المولدين والبيت من قصيدة مدح بها أحمد بن المأمون بن هرون الرشيد وقبله - وهو في الغزل -: قَالَتْ وَقَدْ حُمَّ الْفِرَاقُ وَكَأْسُهُ * قَدْ خُوْلِطَ السَّاقِي بِهَا وَالْحَاسِي لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ * ... البيت ومنها: هَدَأَتْ عَلَى تَأْمِيلِ أحْمَدَ هِمَّتِي * وَأَطَافَ تَقْلِيدِي بِهِ وَقِيَاسِي ومنها في المديح - وهو المشهور -: إقْدَامُ عَمْرٍو في سَمَاحَةِ حَاتِمٍ * في حِلْمِ أحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إيَاسِ لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ من دونه * مثلا شردوا فِي النَّدَى وَالْبَاسِ فَالله قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ * مَثَلاً مِنَ المشكاة والنبراس وزعم بعضهم أن هذه القصيدة في مدح الخليفة، وقال: " لما أنشد * إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمٍ *(4/297)
قال الفيلسوف الكندي: ما قدر هؤلاء حتى تشبه بهم مولانا ومولاهم (1) ، فنظر إليه أبو تمام وزاد ارتجالا في القصيدة - وإن لم يقطع إنشاده -: * لا تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلاً * إلى آخر البيتين وكان من الحاضرين في مجلس الخليفة جبريل بن بَخْتَيْشُوع الطبيب، فقال: والله لقد شَمِمْتُ رائحة كبده لفرط اتقاده، فمات أبو تمام بعد أيام " انتهى، والله أعلم وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائة -: (من البسيط)
146 - أُدْعَى بِأَسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا * كَأنَّ أَسْمَاءَ أضْحَتْ بَعْضَ أسْمَائِي على أن الشاعر لقب بأسماء، لمنا بينه وبين أسماء من الملابسة والشهرة في محبتها و " أُدْعَى " بالبناء للمفعول، بمعنى أسمَّى، يتعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه وتارة بالباء، يقال: دعوت الولد زيداً، وبزيد إذا سميته بهذا الاسم، و " أسماء " من أعلام النساء، وأصله وَسْمَاء، من الوسامة بمعنى الجمال، " ونبزا " تمييز، والنبز: اللقب تسمية بالمصدر، يقال: نبزه بكذا نبزاً - من باب ضرب - إذا لقبه به والبيت من قصيدة لأبي محمد خازن كتب الصاحب بن عَبَّاد مدحه بها، مطلعها: هَذَا فُؤَادُكَ نُهْبَى بَيْنَ أهْوَاءِ * وَذَاكَ رَأْيُكَ شُوْرَى بَيْنَ آرَاءِ لاَ تَسْتَقِرُّ بِأَرْضٍ أوْ تَسِيرَ إلَى * أُخْرَى بِشَخْصٍ قَرِيبٍ عَزْمُهُ نَاءِ يَوْماً بحذوى ويوما بالعقيق وبالعذيب * يَوْماً وَيَوْماً بالْخُلَيْصَاءِ كَذَا تَهِيمُ بِسُعُدْى بُرْهَةً وَإذَا * هَوَيْتَ عزَّةَ تبغى وصل عفراء
__________
(1) في الاصول " حتى تشبه به " وهو تحريف (*)(4/298)
ومن المديح: هُوَ الْوَزِيرُ أدَامَ الله نِعْمَتَهُ * وَعُمْرَهُ وَوَقَاهُ كُلَّ أسْوَاءِ لَوْ أنَّ سَحْبَانَ بَارَاهُ لأَسْحَبَهُ * عَلَى فَصَاحَتِهِ أذْيَالَ فَأْفَاءِ وَلَوْ رَآهُ زُهَيْرٌ لَمْ يَزُرْ هَرِماً * وَلَمْ يَعْرُجْ عَلَى التَّنْوُّمِ والْآءِ أرَى الأَقَالِيمَ أعْطَتْهُ مَقَالِدَهَا * إِلَيْهِ مُسْتَلْقِيَاتٍ أيَّ إلْقَاءِ تُسَاسُ سَبْعَتُهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةٍ * أمْرٍ وَنَهْيٍ وَتَثْبِيتٍ وَإمْضَاءِ
كَذَاكَ تَوْحِيْدُهُ أوْدَى بِأَرْبَعَةٍ * كُفْرٍ وَجَبْرٍ وَتَشْبِيهٍ وَإرْجَاءِ وقَدْ تَجَنَّبَ " لاَ " يَوْمَ الْعَطَاءِ كَمَا * تَجَنَّبَ ابْنُ عَطَاءٍ لَثْغَةَ الراء ياليت أعْضَاء جِسْمِي كُنَّ ألْسِنَةً * فَصَارَ يثنى على كُلُّ أعْضَائي روي أنه لما أنشدها بين يدي الصاحب (كان) مقبلاً عليه حسن الإصغاء إليه حتى عجب الحاضرون، فلما بلغ البيت الشاهد مال الصاحب عن دَسْته طرباً، فلما ختمها قال له: " أحسنت، ولله أنت " وتناول النسخة منه تم أمر له بخلعة من ملابسه، وفرس من مراكبه، وصلة وافرة.
وأبو محمد هذا هو عبد الله بن أحمد الخازن، كان خازناً لكتب الصاحب إسماعيل بن عباد، وزير مؤيد الدولة بن بُوَيْه، وكان أو محمد حسنة من حسنات أصبهان وأفرادها في الشعر، ومن خَوَاصِّ الصاحب، وترجمة الثعالبي في اليتيمة، وأوْرَدَ له أشعاراً جيدة وحكايات مفردة.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة -: (من الطويل) 147 - لقد تركتني منجنيق بن بجدل * أحيد من العصفور حتى يطير على أن المنجنيق مؤنث، ولهذا قال " تركتني " كذا في الصحاح والعباب وغيرهما.(4/299)
وأحيد: مضارع حَادَ عن كذا حيد وحُيُوداً، إذا تنحى وبعد عنه، ويتعدى بالحرف والهمزة، فيقال: حدت به، وأحدته، وابن بَحْدَل - بالموحدة والحاء المهملة -: هو حُمَيْد بن حُرَيْث بن بَحْدَل، من بني كلب بن وَبْرَة، وينتهي نسبه إلى قُضَاعَة، وكانت عمته مَيسُون بنت بَحْدَل أم يزيد بن معاوية، ولما مات يزيد وثب زُفَر بن الحارث على قِنَّسْرين فتملكها، وبايع لابن الزبير رضي الله عنه،
وخرج عُمَيْر بن الْحُباب السُّلَمي مُغِيراً على بني كلب بالقتل والنهب، فلما رأت كلب ما وقع لهم واجتمعت إلى حميد بن حَرَيث بن بحدل، فقتل حميد بن فزارة قتلاً ذريعاً وحاصر زفر بن الحارث، وفى ذلك زفر: * لَقَدْ تَرَكَتْنِي مَنْجَنِيقُ بْن بَحْدَل * البيت وزفر بن الحارث الكلابي كان سيد قيس في زمانه، في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الجزيرة، من أمراء العرب، سمع عائشة وميمونة وشهد وقعة صِفَّين مع معاوية أميراً على أهل قِنَّسْرِين، وهرب من قنسرين فلحق بِقَرقِيسِياء (1) ، ولم يزل متحصِّناً بها حتى مات في مدة عبد الملك بن مروان، في بضع وسبعين من الهجرة وأنشد أيضاً - وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائة -: (من الرجز) 148 - * وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدٌ * على أن عُرُداً - بضمتين فتشديد - يدل على زيادة النون في عُرُنْد - بضمتين فسكون، لأنه بمعناه قال الصاغاني في العباب: " ووتر عُرُدْ كَعُتُلْ وعُرُنْد كتُرُنْج: شديد غليظ
__________
(1) قرقيساء - بفتح فسكون فكسر فياء، وبعد السين المهملة ياء، ومنهم من يرويه بدونها، وآخره همزة -: بلد عند مصب نهر الخابور في الفرات (*)(4/300)
وكذلك رشاء عرد وعرند، وكذلك من كل شئ، قال حنظلة بن ثعلبة بن يسار يومَ ذي قارٍ: مَا علتى وأنا شئ إدُّ * وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدُّ مِثْلُ ذِرَاعِ الْبَكْرِ أوْ أشَدُّ ويروى " مثل ذراع الفيل " (1) وفي نوادر ابن الأعرابيّ
قَد جَدَّ أشيَاعُكُمُ فَجِدُّوا * وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدُّ والإد - بكسر الهمزة -: الداهية، والأشياع: جمع مشايع (2) ، وهو الصاحب وَالْبَكُر - بفتح الموحدة -: الفتى من الإبل، ويوم ذي قار: يوم للعرب غلبوا فيه جنود كسرى، وكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد بعده - وهو الشاهد التساع والأربعون بعد المائة - (من الرجز) 149 - * أمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أبِي * على أن الهاء في " أمَّهتي " زائدة قال ابن جني في سر الصناعة: " كان أبو العباس يخرج الهاء من حروف الزيادة، ويذهب إلى أنها إنما تلحق في الوقف في نحو " أخْشَه " " وارْمُهْ " و " هُنَهْ " (ولكنَّهْ، وتأتي بعد تمام الكلمة) (3) وهذه مخالفة منه للجماعة، وغير مرضى (منه) عندنا، وذلك أن الدلالة قد قامت على زيادة الهاء في غير
__________
(1) في اللسان (ع ر د) روايته: * مثل جران الفيل أو أشد * (2) كذا في الاصول، وهو غير مستقيم، والاشياع: جمع شيع - بكسر ففتح - وهوجمع شيعة، وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، واختص في العرف بشيعة على كرم الله وجهه (1) الزيادة من سر الصناعة لابن جني في باب الهاء والكلام على زيادتها (*)(4/301)
ما ذكره، فمما زيدت فيه الهاء قولهم " أمَّهَات " ووزنه فُعْلَهَات، والها زائدة، لأنه بمعنى الأم، والواحدة أمهة، قال: * أمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أبِي * (أي أمي) .
قولهم: أم بَيِّنة الأمومة، قد صح لنا منه أن الهمزة فيه فاء
الفعل، والميم الأولى عين الفعل، والميم الآخرة لام الفعل، فأم بمنزلة دُرّ وحرّ وحُبّ وجُلّ مما جرى على وزن فُعْلٍ وعينه ولامه من موضع واحد وأجاز أبو بكر في قول من قال أمَّهة في الواحد أن تكون الهاء أصلية وتكون فعَّلة، وهى في قول أبي بكر بمنزلة تُرَّهة وأُبَّهة وَقُبَّرة، ويُقوِّي هذا الأصل قول صاحب العين: تأمهت أمَّا، (فتأمهت) بين أن تَفَعَّلَت بمنزلة تَفَوَّهَتْ وَتَنَبَّهَتْ، إلا أن قولهم في المصدر الذي هو الأصل أمُومة يُقَوِّي زيادة الهاء في أمَّهة وأن وزنها فُعْلَهة، ويزيد في قوة ذلك قولهم: إذا الأَمَّهَاتُ قَبْحْنَ الْوُجُوهَ * ... البيت وقرأتها على أبي سهل أحمد بن القطان * قَوَّالِ مَعْرُوفٍ وفَعَّالِهِ * البيت وهذا فيمن أثبت الهاء في غير الآدميين، وقال الآخر: لَقَدْ وَلَدَ الأَخَيْطِلَ أمُّ سُوءٍ (عَلَى بَابِ اسْتِهَا صُلْبٌ وَشَامُ) فجاء بلا هاء فيمن يعقل، وقال الراعي: (كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحْرِّقٍ) * أمَّاتِهِنَّ وَطِرْقُهُنَّ فَحِيلاَ فجاء بغير هاء، إلا أنه في غالب الأمر فيمن يعقل بالهاء، وفيمن لا يعقل بغير هاء زادوا الهاء فرقاً بين من يعقل وبين ما لا يعقل، فإن قال قائل: ما الفرق بينك وبين من عكس الامر عليك فقال: ما تنكر أن تكون الهاء إنما حذفت في غالب الامر مما لا يعقل وأثبتت فيمن يعقل، وهي أصل فيه للفرق؟ فالجواب(4/302)
أن الهاء أحد (الحروف العشرة التي تسمى) حروف الزيادة لا حروف النقص، وإنما سميت حروف الزيادة لأن زيادتها في الكلام هو الباب المعروف وأما الحذف فإنما جاء في بعضها، وقليل ذلك، ألا ترى إلى كثرة زيادة الواو والياء
في الكلام وأن ذلك أضعاف أضعاف حذفهما إذا كانتا أصليَّتَيْن نحو يَدٍ وَدَمٍ (وغَدٍ) وأب وأخ وهَنٍ، فهذه ونحوها أسماء يسيرة محدودة محتقرة في جنب الأسماء المزيد فيها الياء والواو (1) ، وكذلك الهاء أيضاً إنما حذفت في نحو شفة: واست وعِضَةٍ فيمن قال: عَاضِه، وسَنة فيمن قال: سَانَهْتُ، وما يقلُّ جداً، وقد تراها تزاد للتأنيث فيما لا يحاط به، نحو جَوْزَة ولَوْزَة، ولبيان الحركة في نحو (مَالِيْهِ) و (كِتَابِيهِ) ولبيان حرف المد نحو " وَازَيْدَاه "، ألا ترى أن من حروف الزيادة ما يزاد ولا يحذف في شئ من الكلام البتة؟ وذلك اللام والسين والميم، فقد علمت أن الزيادة في هذه الحروف أفشى من الحذف، فعلى هذا القياس ينبغي أن تكون الهاء في أمَّهَة زيادة على أم، فأما قول من قال: تَأَمَّهَتْ أُمّاً وإثباته، الهاء فنظيره مما يعارضه قولهم: أم بينة الأمومة، بحذف الهاء، فرواية برواية، وبقي الذي قدمناه حاكماً بين القولين، وقاضياً بأن زيادة الهاء أولى من اعتقاد حذفها، على أن الأمومة قد حكاها ثعلب، وحسبك به ثقة، وأما " تأمَّهَتْ أما " فإنما حكاها صاحب العين، وفي كتاب العين من الخطل والاضطراب مالا يدفعه نَظَّار جَلْد " إلى آخر ما ذكر من الْقَدْح في هذا الكتاب.
وكذا حكم الزمخشري في المفصل بزيادة الهاء في لفظ المفرد والجمع، وقال: تأمهت مسترذل، وأنشد البيت في الكشاف عند قوله تعالى (فِي بُطُونِ أمهاتكم) على أن زيادة الهاء في المفرد شاذة.
والبيت لقُصَيِّ بن كلاب جَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقبله:
__________
(1) هنا في سر الصناعة أمثلة والواو الزائدتين (*)(4/303)
إن لَدَى الْحَرْبِ رَخيُّ اللَّبَبِ * عِنْدَ تَنَادِيهِمْ بِهَالٍ وَهَبِ مَعْتَزِمُ الصَّوْلَةِ عَالِي النَّسَبِ * أمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أبِي
كذا في شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري، والروض الأنف للسهيلي، وزعم العيني أن بعده: * وحاتم الطائي * وهو خطأ قافيةً ونسباً، وإنما هذا البيت من أبيات لامرأة من اليمن تقدم شرحه في هذا الكتاب وقوله " إني لدى الحرب - إلخ " الرخي: المرتخي، واللبب: ما يشد على ظهر الدابة ليمنع السرج والرحل عن الاستئخار، والارتخاء إنما يكون عن كثرة جرْي الدابة، وهو كناية عن كثرة مبارزته للأقران، ويقال أيضاً: فلان في لَبَب رخيٍ، إذا كان في حالة واسعة، وليس هذا بمراد هنا، والعجب من شارح شواهد التفسيرين في شرحه بهذا، وقوله " عند تناديهم " ظرف متعلق برخي، وهالٍ: اسم فعل زجر للخيل، كذا في العباب، وتنوينه للتنكير، وهب وكذا هبى: اسم فعل دعاء للخيل: أي أقدمي وأقبلي، كذا في القاموس، وقوله " معتزم الصَّوْلة " من الْعَزْم، وهو عَقْد القلب على فعل، والصَّوْلَة: من صَال الْفَحْل صولة، إذا وثبت على الإبل يقاتلها، وقوله " أمهتي خندف " يريد أم جده مدركة بن إلياس بن مضر، وكذا يريد بقوله " وإلياس أبي " جَدَّه إلياس بن مضر، وخندف: بكسر الخاء المعجمة وكسر الدال، والنونُ بينهما ساكنةٌ.
وفي سيرة ابن هشام: " ولد إلياس بن مُضر ثلاثةَ نفرٍ: مدركه بن إلياس، وطابخة ابن إلياس، وقَمَعَة بن إلياس، وأمهم خندف امرأة من اليمن، وهي خندف بنت عمران بن الحارث بن قضاعة، وكان اسم مدركة عامراً واسم طابخة عمرا، وزعموا أنهما كان في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيداً، فقعدا عليه يطبخانه، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل أو تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها، فلما ردَّاها على أبيهما حدثاه(4/304)
شأنهما، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة " انتهى
قال السهيلي: " وفي هذا الخبر زيادة، وهو إن إلياس قال لأمهم - واسمها ليلى، وأمها ضَرِيَّة بنت ربيعة بن نزار التي ينسب إليها حِمَى ضَرِيَّة وقد أقبلت تخندف في مشيها -: مالك تخندفين، فسميت خندف، والْخَنْدَفَة في اللغة: سرعة في مشي، وقال لمدركة: وأنت قد أدركت ما طلبت، وقال لطابخة: وأنت قد أنضجت ما طبخت، وقال لِقَمَعَة وهو عمير: وأنت قد قعدت وانقمعت، وخندف التي عرف بها بنو إلياس هي التي ضربت الأمثال بحزنها على إلياس، وذلك أنها تركت بنيها وساحت في الأرض تبكيه حتى ماتت كمداً، وكان مات يوم خميس، فكانت إذا جاء الخميس بكت من أول النهار إلى آخره، فمما قيل من الشعر في ذلك: إذَا مُؤْنِسٌ لاَحَتْ خَرَاطِيمُ شَمْسِهِ بَكَتْهُ بِهِ حَتَّى تَرَى الشَّمْسَ تَغْرُبُ فمَا ردَّ بَأْساً حُزْنُهَا وَعَوِيلُهَا * وَلَمْ يُغْنِهَا حُزْنٌُ وَنَفْسٌ تعذب وكان يسمون يوم الخميس مؤنساً، قال الزبير: وإنما نُسِبَ بنو إلياس إلى أمهم لأنها حين تركتهم شغلا بحزنها على أبيهم رحمهم الناس، فقالوا: هؤلاء أولاد خندف الذين تركتهم وهم صغار أيتام حتى عرفوا ببنى خندف " انتهى ونقل ابن المستوفي في تسميتها خندف وجهاً آخر، قال: " فقد هم إلياس يوماً، فقال لها: اخرجي في طلب أولادك، فخرجت وعادت بهم، فقالت: ما زلت أُخَنْدِف في طلبهم حتى ظفرت بهم، فقال لها إلياس: أنت خِنْدِف " انتهى وأما إلياس - بنقطتين من تحت - فهو أخو الناس - بالنون - الملقب بعيلان على قول وقول الشارح " يريد بن إلياس - بقطع الهمزة - فوصلها للضرورة " هذا قول ابن الأنباري، وجعَله غريباً مأخوذاً مما يأتي.
ويردُّ على قوله أن فيه ضرورة أخرى وهو حذف التنوين، ولو جعله أعجمياً لم يرد هذا، قال السهيلي في الروض: " قال ابن الأنباري: إلياس بكسر الهمزة، وجعله موافقاً(4/305)
لاسم إلياس النبي عليه السلام، وقال في اشتقاقه أقوالاً: منها أن يكون فِعْيَالاً من الألْسِ، وهي الخديعة والخيانة ومنها، أن الألْس اختلاط العقل، وأنشدوا: (من البسيط) : * إنِّي إذاً لَضَعِيفُ الْعَقْلِ مَأْلُوسُ * ومنها أنه إفْعَال من قولهم: رجل أَلْيَس، وهو الشجاع الذي لا يفر، والذى قاله غير ابن الأنباري أصح، وهو أنه اليأس، سمي بضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة همزة وصل، وقاله قاسم بن ثابت في الدلائل، وأنشد أبياتاً شواهد، منها قول قصي هذا.
ويقال: إنما سمي السُّلُّ " داء ياس " و " داء اليأس " لأن إلياس مات منه، قال ابن هرمة: (من الوافر) يَقُولُ الْعَاذِلُونَ إذَا رَأَوْنِي * أُصِيبَ بِدَاءِ يَأْسٍ فَهْوَ مُودِي وقال ابن أبي عاصية: (من الطويل) فَلَوْ كَانَ دَاءُ اليْأسِ بِيَ وَأَغَاثَنِي * طَبِيبٌ بِأْرْوَاحِ الْعَقِيقِ شَفَانِيا وقول عُرْوة بن حزام: (من الطويل) بِيَ الْيَأَسُ أوْ دَاءُ الْهُيَامِ أصَابَنِي * فَإِيَّاكِ عَنِّي لا يكن بك ما بيا ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تَسُبُّوا إلْيَاسَ فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِناً ".
وذكر أنه كان يسمع في صلبة تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، وإلياس أوَّل من أَهْدَى الْبُدْن إلى البيت، قال الزبير: وأم إلياس الرباب (1) بنت حَيْدَة بن مُعَدَّ بن عدنان، قاله الطبري، وهو خلاف ما قاله ابن هشام في هذا الكتاب " انتهى والذي قاله ابن هشام أن أم إلياس وعَيْلاَن جُرْهُمِية وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: " هذا الرجز حجة من قال إن
__________
(1) في شرح المفضليات لابن الانباري " الرئاب " بالهمز (*)(4/306)
إلياس بن مضر اللام فيه للتعريف، وألفه ألف وصل، قال المفضل بن سلمة وقد ذكره إلياس النبي عليه السلام: وأما إلياس بن مضر فألفه ألف وصل، واشتقاقه من اليأس، وهو السّل، وقال الزبير بن بكار: إلياس بن مضر أول من مات من السل، فسمي السل يأساً، ومن قال إن إلياس بن مضر بقطع الألف على لفظ اسم النبي عليه السلام ينشد: * أمهتى خنف إلياس أبى * يعنى لا واو، ثم قال: واشتقاقه من قولهم: رجل ألْيَس: أي شجاع، والألْيَس: الذي لا يفرُّ ولا يبرح من مكانه، وقد تليس أشد التليس، وأسُود لِيسٌ وَلَبُؤَةٌ لَيْسَاء " انتهى كلامه.
وهذا يقتضي أنه عربي، فيكون حذف التنوين منه للضرورة، وأما حذف التنوين من خِنْدِف فللعلمية والتأنيث وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: " إلياس اسم أعجمى، وقد سمت العرب به، وهو إلياس بن مضر، وكان يجب قطع همزته، ألا ترى إلى قوله تعالى (وإن إلياس لمن المرسلين) ؟ لكنه وصلها للضرورة " هذا كلامه وقصيّ ناظم هذا الرجز هو أحد اجداد النبي صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي (1) : " اسمه زيد، وهو تصغير قَصِي: أي بعيد، لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قُضَاعَة حين احتملته أمه فاطمة مع بعلها ربيعة بن حَرَام، فنشأ ولا يعلم لنفسه (أبا) إلا ربيعة، ولا يدعى إلا له، فلما كان غلاماً سابّه رجل من قضاعة فعيره بالدِّعوة، وقال: لست منا، وإنما أنت فينا مُلْصَق، فدخل على أمه وقد وَجَمَ لذلك، فقالت له: يا بني، صدق، إنك لست منهم، ولكن رهطك
خير من رهطه، وآباؤك أشرف من آبائه، وإنما أنت قرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام، فدخل في سيارة حتى أتى مكة، ثم
__________
(1) أنظر الروض الانف (ح 1 ص 6، 84) (*)(4/307)
تزوج فيها، وأخرج منها خزاعة، وقام بأمرها وأنشد بعده - وهو الشاهد الخمسون بعد المائة -: (من المتقارب) 150 - إذَا الأُمَّهَاتً قَبَحْنَ الوُجُوهَ * فَرَجْتَ الظَّلاَمَ بِأُمَّاتِكَا على أن الأغلب استعمال الأمات في البهائم، والأمهات في الإنسان، وقد جاء العكس كما في البيت، وقَبَحَهُ يقبَحُه - بفتح العين فيهما - بمعنى أخزاه وَشوهه.
والخزي: انكسار يعتري وجه الإنسان بذُل.
والوجوه: مفعول قبح، وأما قبحُ يقبُح - بضم العين فيهما - فهو خلاف حسنُ، وفَرَجَه فَرْجاً من باب ضرب لغة في فرجه تفريجا بمعنى كشفه.
وصف أمهات المخاطب بنقاء الأعراض، وقال: إذا قبَحت الأمهات بفجورهن وجوهَ أولادهن عند الناس كشفتَ الظلام بضياء أفعالهن، والمراد طهارتهن عما يتندس به العرض والبيت لمروان بن الحكم، كذا قاله ابن المستوفي وغيره.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد والخمسون بعد المائة -: (من السريع) 151 - قَوَّالِ مَعْرُوفٍ وَفَعَّالِهِ * عَقَّارِ مَثْنَى أُمَّهَاتِ الرِّبَاعْ لما تقدم قبله، والبيت من قصيدة للسفاح بن بُكَيْرِ اليربوعي رثى بها يحيى بن مَيْسَرَة صاحب مصعب بن الزبير مذكورةٍ في المفضليات، وقبله: يَا سيِّداً مَا أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ * موطأ البنت رَحِيبِ الذِّرَاعْ وقد شرحناهما مع أبيات أخر منها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية
وقوله " قَوَّالِ مَعْرُوف وفعالة * عقارا " الثلاثة بالجر صفات لسيبد مبالغة قائل، وفاعل، وعاقر من العقر، وهو ضرب قوائم الإبل بالسيف، لا يطلق العقر(4/308)
في غير القوائم، وربما قيل: عقره، إذا نحره فهو عقير، وفِعْله من باب ضرب، وفي رواية * وهّاب مثنى إلخ * والرباع - بالكسر -: جمع رُبَع - بضم ففتح - قال ابن الأنباري: " المعنى أنه لا يقول إلا فَعَل، ولا يعد إلا وفى، ولا يخلف وعداً، والربع واحد الرِّباع، وهو ما نتج في أول النِّتاج، وهو أحمد النتاج، وخص أم الرباع لأنها أطيب الإبل، وقوله " مثنى " أي: واحدة بعد أخرى " انتهى وأنشد بعده: * مَا بَالُ عَيْنِي كالشعيب العين * وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والعشرين من هذا الكتاب وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائة -: (من الرجز) 152 - أطْعَمْتُ رَاعِيَّ مِنْ الْيَهْيَرِّ على أن صاحب الصحاح قال: " يَهْيَرُّ يَفْعَلُّ، بمعنى صَمْغِ الطلح، وأنشد متصلاً به فَظَلَّ يَعْوِي (1) حَبِطاً بِشَرِّ * خَلْفَ اسْتِهِ مِثْلَ نَقِيقِ الْهِرِّ ثم قال بعده: وقال الأحمر: الحجر اليَهْيَرُّ: الصُّلْب، ومنه سمى صبغ الطلع يهيرا، وقال أبو بكر بن سراح: ربما زادوا فيه الألف فقالوا يهيرى (2)
__________
(1) كذا في الاصول كلها، وهو موافق لما في اللسان عن أبى عمرو، وفى الصحاح و " يغرى " مضارع أغراه بالشئ إغراء (2) في اللسان: " يقال للرجل إذا سألته عن شئ فأخطأ: ذهبت في اليهيرى، وأين تذهب تذهب في اليهيرى، وأنشد: لما رأت شيخا لها دودرى * في مثل خيط العهن المعرى
ظلت كأن وجهها يحمرا * تربد في الباطل واليهيرى والدودرى: من قولك: فرس درير: أي جواد " اه (*)(4/309)
قال: وهو من أسماء الباطل، وقولهم: أكذب من اليهيرهو السراب " انتهى.
وقال الصاغاني في العباب بعد ما ذُكِر: " وقال الليث: اليهير حجارة أمثالُ الكف، ويقال: دويبة تكون في الصحاري أعظم من الجرز، الواحدة يهيرة، قال: واختلفوا في تقديرها، فقالوا: يفعلة، وقالوا فعللة، وقالوا فَعْيَلَّة " انتهى.
فحكى ثلاثة أقوال: أصاله الياءين، أصالة الأولى، أصالة الثانية: والطَّلْح الموز، وشجر من شجر العَضَاة، و " يعوي " من عوى الكلب والذئب وابن آوى يعوي عُوَاءً: أي صاح، وحبط - بفتح المهملة وكسر الموحدة - وصف من الْحَبَطِ - بفتحتين -: وهو أن تأكل الماشية فتُكْثِر حتى ينتفخ لذلك بطنها ولا يخرج عنها ما فيها.
والنقيق: صوت الضفدع والدجاجة، وفي العُباب " يقال: نقت الضفدع تنِق - بالكسر - نقيقاً: أي صاحت، ويقال أيضاً: نقت الدجاجة، وربما قيل للهر أيضاً " وأنشد هذا الرجز ومراده الصراط، ولم يكتب ابن بري في أماليه على الصحاح هنا شيئاً، ولم أقف على قائله، والله تعالى أعلم الامالة أنشد فيها - وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد المائة -: (من المنسرح) 153 - * أنَّى وَمِنْ أيْنَ آبَكَ الطَّرَبُ * وهو صدر، وعجزه: * مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلاَ رِيَبُ * على أن " أنَّى " فيه للاستفهام، بمعنى كيف، أو بمعنى مِن أيْنَ، والجملة
المستفهم عنها محذوفة، لدلالة ما بعده عليها، والتقدير أنى آبك، ومن أين آبك فحذف للعلم به، واكتفى بالثاني.
وأنشده الزمخشري في المفصل في غير باب الإمالة على أن فيه " أنَّى " بمعنى(4/310)
كيف، كقوله تعالى (فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ) قال ابن يعيش: " الشاهد فيه أنى بمعنى كيف، ألا ترى أنه لا يحسن أن تكون بمعنى من أين؟ لأن بعدها من أين، فيكون تكريراً، ويجوز أن تكون بمعنى من أين، وكررت على سبيل التوكيد، وحَسُنَ التكرار لاختلاف اللفظين، فاعرفه " انتهى.
وأورده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى: (أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ) على أن أنَّى فيهما بمعنى كيف.
وآبك: جاءك وغشيك، وهو فعل ماضى من الأوْب، والطرب: خفة من فرح أو حزن، والمراد الأول.
والصبوة: الصِّبى، والشوق.
والرِّيَب: جمع ريبة وهي الشبهة.
يقول: كيف طربت مع كبر سِنِّك من حيث لا يوجد الطرب ومواضعه؟ الصبوة للفرح، والرِّيَب للحزن، وعدَّد ما يقع معه الطرب، فقال: لاَ مِنْ طِلاَبِ الْمُحَجَّبَاتِ إذَا * أُلْقِيَ دُونَ الْمَعَاصِرِ الْحُجُبُ إلى أن انتهى إلى قوله: * فَاعْتَتَبَ الشوق * والعامل في " أنى " آبك المحذوفة والبيت مطلع قصيدة للكميت بن زيد الأسدي، رضي الله عنه، مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَدَّد بعده ما يقع منه الطرب وأطال، وذكر غيره، فقال: فَاعْتَتَبَ الشَّوْقُ من فؤادي * والشعر إلَى مَنْ إِلَيْهِ مُعْتَتَبُ إلى السَّرَاجِ الْمُنِيرِ أحْمَدَ لاَ * تَعْدِلُنِي رَغْبَةٌ وَلاَ رَهَبُ
عَنْهُ إلَى غيره ولو رفع * الناس إلَيَّ الْعُيُون وَارْتَقَبُوا وَقِيلَ: أَفْرَطْتَ، بَلْ قَصَدْتَ وَلَوْ * عَنَّفَنِي الْقَائِلُونَ أوْ ثَلَبُوا إلَيْكَ يَا خَيْرَ من تضمنت * الارض وَلَوْ عَابَ قَوْلِي الْعُيَبُ لَجَّ بِتَفْضِيلِكَ اللِّسَانُ واو * أُكْثِرَ فِيكَ الضِّجَاجُ وَالصَّخَبُ(4/311)
في الصحاح: " الاعتتاب: الانصراف عن الشئ " وأنشد هذا البيت وثلبه ثلباً، إذا صَرَّح بالعيب وتنقّصه، وفيه أيضا: " الصخب: الصياخ والجلبة، تقول منه: صَخِب - بالكسر - فهو صاخب ".
قال السيد المرتضى في أماليه وابن رشيق في العمدة: " وقد عيب عليه هذا المدح، قالوا: من هذا الذى يقول في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرطت، أو يعنفه ويثلبه ويعيبه، حتى يكثر الضِّجَاج والصخب، هذا كله خطأ منه وجهل بمواقع المدح " وقال من احتج له: " لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليّاً كرَّم الله وجهه، فَوَرَّى عنه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من بني أمية " وقال السيد: " فوجّه القول إليه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، إذ مراده وإن أكثر في مدح أهل بيته وذريته عليه السلام الضِّجاج والتقريع والتعنيف " والقصيدة طويلة تزيد على مائة وثلاثين بيتاً وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد المائة - (من الرجز) 154 - * بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ * على أن يجوز تثنية الجمع، لتأويله بالجماعتين واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى: (اثنتى عشرة أسباطا) على جمع الأسباط، مع أن مميز ما عدا العشرة لا يكون مفرداً، لأن المراد بالأسباط القبيلة، ولو قيل سِبْطاً لأوهم أن المجموع قبيلة واحدة، فوضع
(أسباطاً) موضع قبيلة، كما وضع الرماح وهو جمع رمح موضع جماعتين من الرماح، وثنى على تأويل رماح هذه القبيلة ورماح هذه القبيلة، فالمراد لكل فرد من أفراد هذه التثنية جماعة، كما أن لكل فرد من أفراد هذا الجمع - وهو أسباط - قبيلة(4/312)
والبيت من أرجوزة طويلة لأبي النجم العِجْلي أولها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ * الْوَاسِعِ الْفَضْلِ الْوَهُوبِ الْمُجْزِلِ أعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ * كرم الذُّرَى مِنْ خَوَلِ الْمُخْوِّلِ تَبَقَّلَتْ مِنْ أوَّلِ التَّبَقُّلِ * بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ والْبُخْل: منع السائل مما يفضل، والمبخَّل: مِنْ بَخّله - بالتشديد - إذا نسبه إلى البخل، وأما أبْخَلَه بالهمزة فمعناه وجده بخيلاً، و " كوم الذرى " مفعول أعطى، وهو جمع كَوْمَاء - بالفتح والمد - وهي الناقة العظيمة السنام، والذّرى بالضم: جمع ذُرْوَة - بالكسر والضم -: أعلى السِّنَام، والْخَوَلُ - بفتح المعجمة والواو -: العطية، والمخوِّل: اسم فاعل من خَوَّله تخويلاً، إذا أعطاه وملكه، وتبقلت: رعت الْبَقْل، وهو كل نبات يأكله الإنسان والحيوان، وفاعل " تبقلت " ضمير كوم الذرى، ومالك: قبيلة من هوازن، ونهشل: قبيلة من ربيعة، قال الأصبهاني في الأغاني: " إنما ذكر هاتين القبيلتين لأنه كانت دماء وحروب بينهما، فتحامى جميعهم الرعى فيما بين فَلْج والصَّمَّان - وهما موضعان في طريق الحج من البصرة - مخافة الشر، حتى كثر النبت وطال، فجاءت بنو عجل لعزها وقوتها إلى ذَيْنكَ الموضعين فرعته ولم تخف رماح هذين الحيَّيْن، ففخر به أبو النجم ".
وبين: ظرف متعلق بقوله " تبقلت " وقد تكلمنا على هذه الأبيات وأبيات أخر من هذه الأرجوزة بأبسط
مما هنا مع ترجمة أبي النجم في الشاهد الثامن والأربعين بعد المائة من شواهد شرح الكافية تخفيف الهمزة أنشد فيه - وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة -: (من الكامل)(4/313)
155 - ما شد أنفسهم وأعلمهم بما * يحمي الذمار بِهِ الْكَرِيمُ الْمُسْلِم على أن أصله " ما أشد أنفسهم " فحذفت الألف لضرورة الشعر، وأنشده ابن عصفور في كتاب الضرائر لذلك، وقال المرادي في شرح التسهيل: حذف الألف في هذا البيت نادر، وهو تعجب من شدة أنفسهم، من شَدَّ الشئ يَشدُّ - من باب ضربَ - شِدَّةً، إذا قوي، وكذا تعجب من كثرة علمهم بما ذكر، وحَمَيْتُ الشئ من كذا - من باب رمى - إذا منعته عنه وصنته، والذمار مفعوله، والكريم فاعله، والذمار - بكسر الذال المعجمة - قال صاحب الصحاح: وقولهم فلان حامي الذمار: إي إذا ذُمِّرَ غضبَ وَحَمَى، وفلان أمنع ذماراً من فلان، ويقال: الذمار ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه، وسمي ذماراً لأنه يجب على أهله التذمر له وهو من قولهم: ظَلَّ يتذمر على فلان، إذا تنكر له وأوعده.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السادس والخمسون بعد المائة -: (من المتقارب) 156 - أرَيْتَ امْرَأً كُنْتُ لَمْ أَبْلُهُ * أتَانِي فَقَالَ اتَّخِذْنِي خَلِيلاَ على أن أصله " أرأيت " فحذفت الهمزة، وهي عين الفعل، والهمزة الاولى للاستفهام، ورأيت: بمعنى أخبرني، وفيه تجوز إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار،
لأن الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب، والرؤية هنا منقولة من رؤية البصر، ولهذا تعدت إلى مفعول واحد، ولم أبْلُهُ - بضم اللام والهاء - من بَلاَه يَبْلُوه بَلْواً، إذا جربه واختبره، والخليل: الصديق الخالص المودة، وأراد به هنا امرأته(4/314)
البيت من أبيات لأبي الأسود الدؤلي، روى الأصبهاني في الأغاني، قال: كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة، فيتحدث إليها، وكانت جميلة، فقالت: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك فإني صناع الكف حسنة التدبير قانعة بالميسور؟ قال: نعم، فجمع أهلها وتزوجته، فوجدها بخلاف ما قالت، وأسرعت في ماله، ومدت يدها إلى جبايته، وأفشت سره، فغدا على من كان حضر تزويجها، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا، فقال لهم: أرَيْتَ امرأ كنت لم أبله * أتَانِي فَقَالَ: اتَّخِذْنِي خَلِيلاَ فَخَالَلْتُهُ ثُمَّ أَكْرَمْتُهُ * فَلَمْ أسْتَفِدْ مِنْ لديه فتيلا وألفيته حبن جَرَّبْتُهُ * كَذُوبَ الْحَدِيثِ سَرُوقاً بَخِيلاَ فَذَكَّرْتُهُ ثُمَّ عَاتَبْتُهُ * عِتَاباً رَفِيقاً وَقَوْلاً جَمِيلاَ فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ * وَلاَ ذَاكِرِ الله إلاَّ قَلِيلاَ ألَسْتُ حَقِيقاً بِتَوْدِيعِهِ * وَإتْبَاعِ ذَلِكَ صُرْماً طَوِيلاَ فقالوا: بلى والله يا أبا الأسود، فقال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرته من أمرها، فانصرفت معهم " انتهى وخاللته: اتخذته خليلا، والفتيل: الشئ الحقير، والرفيق: من الرِّفق، وهو ضد العُنْف، وألفيته: وجدته، يتعدى إلى مفعولين، ومستعتب: اسم فاعل، وهو الراجع بالعتاب، وحذف التنوين للضرورة من " ذاكِرِ الله "، ولفظ الجلالة
منصوب، وروي بالإضافة، والتوديع: هنا الترك والفراق، والصوم - بالضم -: الهجر.
وقد تكلمنا على هذه الأبيات بأبسط مما هنا في الشاهد الثاني والأربعين بعد التسعمائة من شواهد شرح الكافية(4/315)
وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والخمسون بعد المائة -: (من الخفيف) 157 - صَاحِ هَل رَيْتَ أوْ سَمِعْتَ براع رد في الضرع ما قَرَى فِي الْعِلاَبِ على أن أصله " هل رأيت " فحذفت الهمزة واستشهد به صاحب الكشاف على قراءة الكسائي (أرَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين) وروي: * صَاحِ أبْصَرْتَ أوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ * وعلى هذا لا شاهد فيه، ومعناه كقول المتنبي: (من الوافر) وَمَا مَاضِي الشَّبَابِ بِمُسْتَرَدٍ * وَمَا يَوْمٌ يَمُرُّ بِمُسْتَعَادِ وصاح: منادى مرخم صاحب، وهل ريت: استفهام إنكاري، ويجوز أن يكون تقريريا، وقوله " براع " متعلق بمسعت، وسمع له استعمالات أربعة ذكرناها في شواهد شرح الكافية: منها أن يتعدى بالباء، ومعناه الإخبار، ويدخل على غير المسموع، ولا يحتاج إلى مصحح من صفة ونحوه، تقول: ما سمعت بأفضل منه، وفي المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، قابله بالرؤية لأنه بمعنى الإخبار عنه المتضمن للغيبة، وقال الشاعر (من البسيط) وَقَد سَمِعْتُ بِقَوْمٍ يُحْمَدُونَ فَلَمْ * أسْمَعْ بِمِثْلِكَ لاَ حِلْماً وَلاَ جُودَا والراعي: الذي يرعى الماشية، ومن شأنه أن يحلبها، ورده: رجعه، والضَّرع
لذوات الظلف كالثدي للمرأة، والظِّلْف - بالكسر - من الشاء والبقر ونحوهما كالظفر من الإنسان، وما: مفعول رد، وهو اسم موصول: أي اللبن الذي قراه: أي جمعه، والعلاب - بكسر العين المهملة - جمع عُلْبة - بضمها وهي محلب من جلد، وقال ابن دريد في الجمهرة: " الْعُلْبَة: إناء من جلد جِنْبِ بعير، وربما كان من أديم، والجمع علاب، يتخذ كالعُسِّ، يحتلب فيه " وأنشد هذا البيت (1) ،
__________
(1) قبل أن ينشد البيت قال: " أحسب هذا البيت للربيع بن ضبع الفزارى " (*)(4/316)
وروى " في الحِلاَب " بكسر الحاء المهملة، قال صاحب العباب: الإناء الذي يحلب فيه، وأنشد هذا البيت لاسماعيل بن يسار النِّسائي، ونقل خَضِر الموصلي من الصحاح أنه لا سماعيل المذكور، وهذا لا أصل له، فإنه لم ينشده إلا في مادة الرؤية، ولم ينشده إلا غفلاً غير معزو، ولهذا قال ابن بري في أمالية عليه: هذا البيت مجهول لا يعرف قائله، وقد أورده صاحب الأغاني في قصيدة لإسماعيل أولها: مَا عَلَى رَسْمِ مَنْزِلٍ بِالْجَنَابِ * لَوْ أبَانَ الْغَدَاةَ رَجْعَ الْجَوَابِ غَيَّرْتْهُ الصَّبا وَكُلُّ مُلِثٍّ * دَائمِ الْوَدْقِ مُكْفَهِرِّ السَّحَابِ دَارَ هِنْدٍ وَهُلْ زَمَانِي بِهِنْدٍ * عَائِدٌ بِالْهَوَى وَصَفْوِ الْجنَابِ كَالَّذِي كَانَ وَالصِّفَاءُ مَصُونٌ * لَمْ تَشِنْهُ (1) بِهِجْرَةٍ واجْتِنَابِ ذَاكَ مِنْهَا إذْ أنْتَ كَالْغُصْنِ غَضًّا (2) وَهْيَ رُودٌ كَدُمْيَةِ الْمِحْرَابِ غَادَةٌ تَسْتَبِي الْعُقُولَ بِثَغْرٍ (3) * طَيِّبِ الطَّعْمِ بَارِدِ الأَنْيَابِ وَأثيثٍ مِنْ فَوْقِ لَوْنٍ نَقِيٍّ * كَبَياضِ اللُّجَيْنِ في الزِّرْيَابِ فأَقِلَّ الْمَلاَمَ فِيهَا وأقْصِرْ *
لَجَّ قَلْبي منْ لَوْعَتِي وَاكْتِئَابيِ (4)
__________
(1) في الاغانى (ح 4 ص 411) : " لم تشبه " (2) في الاغانى " غض " (3) في الاغانى " بعذب " (4) في الاغانى: " من لوعة واكتئاب " وفى نسخة أخرى من الاغانى: " من عولتى وَاكْتِئَابيِ " (*)(4/317)
صَاحِ أَبْصَرْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ * رَدَّ في الضرع ما قرى في الحلاب (1) وقال فيما يفخر عَلَى العرب بالعجم: رُبَّ خَالٍ مُتَوَّجٍ لِي وَعَمٍّ * مَاجِدِ الّمُجْتَدَى (2) كَرِيمِ النِّصَابِ إنَّمَا سُمِّيَ الفوارس بالفرس * مضاهاة رفعة الانساب فاتزكى الْفَخْرَ يَا أُمَامُ عَلَيْنَا * وَاتْرُكِي الْجَوْرَ وَانْطِقِي (3) بِالصَّوَابِ إذْ نُرَبِّي بناتنا وتدسون * سفاها ببالكم فِي التُّرَابِ قال صاحب الأغاني: " كان إسماعيل بن يسار النِّسَائي مولى بني تيم بن مرة تيم قريش، وكان منقطعاً إلى ابن الزبير، فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وفد إليه مع عُرْوَة بن الزبير، ومدحه، ومدح الخلفاء من ولده، وعاش عمراً طويلاً إلى أن أدرك آخر سلطان بني أمية، ولم يدرك الدولة العباسية وإنما سمي إسماعيل بن يسار النِّسَائيَّ لأن أباه كان يصنع طعام العرس ويبيعه، فيشتره منه من أراد التعريس (من المتجملين و) (4) ممن لا تبلغ حاله اصطناع ذلك، وقيل: إنما سمي به لأنه كان يبيع النَّجْد والفُرْشَ التي تتخذ
للعرائس، وقيل: إنما لقب به لأن أباه كان يكون عنده طعام العرسات مصلحاً أبداً، فمن طرقه وجده عنده معدا
__________
(1) في الاغانى: " في العلاب " (2) في الاغانى: " ماجد مجتدى " (3) في الاصول: " وانصفى " والصواب ما أثبتناه (4) الزيادة عن الاغانى (ح 4 ص 408) (*)(4/318)
وروى المدائني قال: استأذن إسماعيل على الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك يوماً فحجبه ساعة، ثم أذن له، فدخل يبكي، فقال له: مالك تبكي؟ قال: كيف لا أبكي وأنا على مَروَانِيتي ومروانية أبي أحجب عنك؟ فجعل الغَمْر يعتذر إليه، وهو يبكي، فما سكت حتى وصله الغَمْر بحلة لها قدر، وخرج من عنده، فلحقه رجل، فقال له: أخبرني - ويلك يا إسماعيل - أيُّ مروانية كانت لك ولأبيك؟ قال: بُغْضُنَا إياهم، امرأته طالق إن لم يكن يلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: لعن الله مروان، تقرباً بذلك إلى الله، وإقامة له مقام التوحيد وكان إسماعيل يكنى أبا فائد، وكان أخواه محمد وإبراهيم شاعرين أيضاً، وهم من سبي فارس، وكان إسماعيل شُعُوبيّاً (1) شديد التعصب للعجم، له شعر كثير يفخر بالأعاجم، أنشد يوماً في مجلس فيه أشعيب: إذ نربى بناتنا وتدسون * سَفَاهاً بَنَاتِكُمْ فِي التُّرَابِ فقال أشعب: صدقت والله يا أبا فائد، أراد القوم بناتهم لغير ما أردتموهن له، قال: وما ذاك؟ قال: دفن القوم بناتهم خوفاً من العار عليهن، وربيتموهن لتنكحوهن، فضحك القوم حتى استغربوا، وخجل إسماعيل، حتى
لو قدر أن يسيخ في الأرض لفعل ومدح إسماعيل رجلاً من أهل المدينة يقال له عبد الله بن أنس، وكان قد لحق ببنى مروان، وأصاب منهم خيراً، وكان إسماعيل صديقاً له فرحل إليه إلى دمشق، فأنشده مدائح له، ومَتَّ إليه بالجوار والصداقة فلم يعطه شيئاً، فقال يهجوه (من الوافر)
__________
(1) الشعوبى - بضم الشين -: الرجل الذى يحتقر أمر العرب ويصغر من شأنهم، وهو منسوب إلى شعوب، وهو جمع شعب، والنسب إلى الجمع مما أجازه الكوفيون.
(*)(4/319)
لَعَمْرُكَ مَا إلَى حَسَن رَحَلْنَا * ولا زرنا حُسَيْناً يَا ابْنَ أنْسِ وَلاَ عَبْداً لِعَبدِهِمَا فَنَحْظَى * بِحُسْنِ الْحَظِّ مِنْهُمْ غَيْرَ بَخْسِ وَلَكِنْ ضَبَّ جَنْدَلَةٍ أتَيْنَا * مُضِبّاً فِي مَكَامِنِهِ يُفَسِّي فَلَمَّا أنْ أتَيْنَاهُ وَقُلْنَا * بَحَاجَتِنا تَلَوَّنَ لَوْنَ وَرْسِ فَقُلْتُ لِأَهْلِهِ: أبِهِ كُزَازٌ؟ * وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أتْرَاهُ يُمْسي؟ فَكَانَ الْغُنْمُ أنْ قُمْنَا جَمِيعاً * مَخَافَةَ أنُ نُزَنَّ بِقَتْلِ نَفْسِ وترجمته في الأغاني طويلة، واكتفينا منها بهذا القدر وقال خضر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين: البيت الشاهد لمُضَاضِ ابن عَمْرو الجرهمي، من أبيات أولها: قَدْ قَطَعْتُ الْبِلاَدَ فِي طلب الثروة وَالمَجْدِ قَالِصَ الأَثْوَابِ وَسَرَيْتُ الْبِلاَدَ قَفْراً لِقَفْرٍ * بِقَنَاتِي وَقُوَّتِي وَاكْتِسَابِي فَأَصَابَ الرَّدَى بَنَاتِ فُؤَادِي * بِسِهَامٍ مِنَ الْمَنَايَا صُيَابِي فَانْقَضَتْ شرَّتِي وَأقْصرَ جَهْلِي * وَاسْتَرَاحَتْ عَوَاذِلِي مِنْ عِتَابِي
وَدَفَعْتُ السَّفَاهَ بِالْحِلْمِ لَمَّا * نَزَلَ الشَّيْبُ فِي مَحَلِّ الشَّبَابِ صَاحَ هَلْ رَيْتَ أوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ * ... البيت وقال السهيلي في الأرض الأنف (1) : " كان عبد الله بن جدعان في ابتداء أمرء صُعْلًُوكاً وكان مع ذلك شِرِّيراً فاتكاً لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه، فخرج في شعاب مكة حائراً يتمنى الموت، فرأى شقاً في جبل فظن حية فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله، فدخل فيه فإذا به ثعبان عظيم له عينان كالسِّرَاجَين، فحمل عليه الثعبان فأفرج له فانساب عنه، فوقع في قلبه أنه مصنوع، فأمسكه بيده فإذا هو مصنوع من
__________
(1) أنظر الروض الانف (ح 1 ص 92) (*)(4/320)
ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت فإذا جُثَث على سُرُر طِوال (1) لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رؤسهم لوح من فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جُرْهُم، وآخرهم موتاً الحارث بن مُضَاض، وعليهم ثياب لا يُمَس منها شئ إلا انتثر كالهباء من طول الزمن، وشعرٌ مكتوب (في اللوح) فيه عظات، آخر بيت منه: صَاحَ هَلْ رَيْتَ أوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... البيت وقال ابن هشام: " كان اللوح من رخام، وفيه: أنا نُفَيْلة بن عبد الْمَدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جُرْهم بن قحطان بن هود نبي الله عليه صلوات الله، عشت خمسمائة عام وقطعت الأرض في طلب الثروة والمجد والملك، فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب الأبيات السابقة: * قَدْ قَطَعْتُ الْبِلاَدَ ... إلى آخرها * وفي ذلك (البيت) كَوْمٌ عظيم من اليواقيت والزَبَرْجَد والذهب والفضة،
فأخذ منه ما أخذ، ثم علَّم على الشَّق بعلامة وَأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به ليسترضيه، ووصل عشيرته كلهم فَسَادَهُمْ، وجعل ينفق من الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف، حتى ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستظل في الهاجرة بظل جَفْنَته، وكانت بحيث يأكل منها الراكب على بعيره، وسقط فيها مرة غلام فغرق فيها فمات ومُضَاض بن عمرو الجُرْهمي جاهلي، من شعره المشهور من قصيدة: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلى الصَّفَا * أنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ " انتهى ما أورده الموصلي باختصار
__________
(1) في الاصول " على سرير طويل " والتصحيح عن الروض الانف (*)(4/321)
ورأيت هذه الأبيات لأبي نُفَيْلة وكان من الْمُعْمَّرِين وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد المائة -: (من الطويل) 158 - إذَا قَامَ قَوْمٌ يأسلون مليكهم * عطاء فدهماء الَّذِي أنَا سَائِلَه على أنه قدم فيه الهمزة التي هي عين الفعل على السين التي هي فاء الفعل، للاستكراه من تخفيفها بالحذف لو أبقيت على حالها و " الذي " مبتدأ، وجملة " أنا سائله " من المبتدأ والخبر صلة الموصول، ودهماء - وهي اسم امرأة - خبر الذى، والجمل جواب إذا، و " دَهْمَاء " يحتمل أن يكون اسم امرأة، ويحتمل أن يكون اسم فرس (1) وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والخمسون بعد المائة -: (من الوافر) 159 - أُرِي عَيْنَي ما لم تَرْأياهُ * كِلاَنَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ على أنه جاء لضرورة الشعر إثبات الهمزة في " تَرْأياه " والقياس نقل
حركتها إلى الراء وحذفها، قال ابن جني في سر الصناعة: " وقد رواه أبو الحسن " ما لَمْ تَرَيَاه " على التخفيف الشائع عنهم في هذا الحرف " انتهى وقال في المحتسَب من سورة البقرة: " قرأ أبو عبد الرحمن السلمي (أَلَمْ ترأ إلى الملا) ساكنة الراء، وهذا لعمري أصل هذا الحرف، رأى يرأى كرعى يرعى، إلا أن أكثر لغات العرب فيه تخفيف بحذفها وإلقاء حركتها على الراء قبلها، وصار حرف المضارعة كأنه بدل من الهمزة، وكذلك أفْعَلُ مِنْهُ كقوله تعالى (لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بما أراك الله " أصله أرآك الله، وحكاها صاحب الكتاب عن أبي الخطاب، ثم إنه قد جاء مع هذا تحقيق هذه الهمزة وإخراجها على أصلها كقوله:
__________
(1) قد اضطرب كلام المؤلف هنا، فتأمله.
(*)(4/322)
* أُرِي عَيْنَي مَا لَمْ تَرْأيَاهُ * فخفف أُري وحقق ترأياه، ورواه أبو الحسن " تَرَيَاه " على زحاف الوافر، وأصله " ترأياه " على أن مُفَاعَلَتُنْ لحقها العصب بسكون لامها، فنقلت إلى مفاعيلن، ورواية أبى الحسن " يمالت " مفاعيلُ، فصار الجُزء بعد العصب إلى النقص " انتهى.
وقال الزجاجي في أمالية الكبرى (1) : " أما قوله ترأياه فإنه إلى أصله، والعرب لم تستعمل يرى وترى ونرى وأرى إلا بإسقاط الهمزة تخفيفاً، فأما في الماضي فإنها مثبتة، وكان المازني يقول: الاختيار عند أن أرْوِيه " لَمْ تَرَيَاه " بغير همز، لأن الزحاف أيسر من رَدِّ هذا إلى أصله، وكذلك كان ينشد قول الآخر: (من الطول) ألم تر ما لا قيت وَالدَهْرُ أعْصُرٌ * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأ ويَسْمَعُ
بتخفيف الهمزة (2) " انتهى.
__________
(1) انظر أمالى أبى القاسم الزجاجي (ص 57) طبع مصر سنة 1324 (2) قوله " بتخفيف الهمزة " كذا في جميع الاصول، والمراد الهمزة التى في " ألم تر " وأصله " ألم ترأ " ووقع في أمالى الزجاجي " بتحقيق الهمزة " وهى صواب أيضا، والمراد الهمزة التى في قوله " يرأ ويسمع "، ويدل لصحة ما ذكرنا - من أن الرواية في عجز البيت بالتحقيق وفى صدره به أو بالتخفيف - قول شيخ هذه الصناعة أبى الفتح بن جنى في سر الصناعة: وقرأت على أبي على في نوادر أبي زيد * ألَمْ ترَ مَا لاقيت ... البيت * كذا قرأته عليه مخففا، ورواه غيره ألم ترأ ما لاقيت ... * (*)(4/323)
وقال قبل هذا (1) " أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حَمْدان البصري وأبو غانم الغنوي قالا: أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الْحُباب (الْجُمَحِي) عن محمد بن سلام، قال: كان سراقة البارقي شاعرا ظريفا زوارا للملوك حلو الحديث، فخرج في جملة من خرج لقتال المختار فوقع أسيراً فأتى به المختار، فلما وقف بين يديه قال: يا أمين آل محمد (2) إنه لم يأسرني أحد ممن بين يديك، قال: ويحك! فمن أسرك؟ قال: رأيت رجالاً على خيل بُلْق يقاتلوننا ما أراهم الساعة: هم الذين أسروني، فقال المختار لأصحابه: إن عدوكم يرى من هذا الامر ما لاترون، ثم أمر بقتله، فقال: يا آمين آل محمد (2) : إنك لتعلم أنه ما هذا أوان تقتلني فيه، قال: فمتى أقتلك؟ قال: إذا فَتَحْتَ دِمَشْق ونقضتها حجراً ثم جلست على كرسي في أحد أبوابها، فهناك تدعوني فتقتُلني وتَصْلِبُنِي، فقال المختار: صدقت، ثم
التفت إلى صاحب شُرْطته، فقال: ويحك! من يخرج سري إلى الناس، ثم أمر بتخليه سراقة، فلما أفلت أنشأ يقول - وكان المختار يكنى أبا إسحق -: ألاَ أبلِغْ أبا إسحق أنِّي * رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْماً مُصْمَتَاتِ أُرِي عَيْنَيَّ ما لم ترأياه * كلانا عالم بالترهات
__________
(1) وقرأت عليه أيضا: ثم استمر بها شيخان بمتجح * بالبين منك بما يرآك شنئانا بوزن يرعاك، ووزن " يرأ " يرع، كما أن وزن " ترأياه " ترعياه، هذا كله على التحقيق المرفوض في هذه الكلمة في غالب الأمر وشائِع الاستعمال " اه (1) انظر أمالى الزجاجي (ص 56) (2) في أمالى الزجاجي " يا أمير آل محمد " وما هنا أوضح (*)(4/324)
كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْراً (1) عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى الْمَمَاتِ " انتهى كلام الزجاجي وحديث القتل وفتح دمشق نسبه الجاحظ لغير سراقة، قال في كتاب المحاسن والأضداد في فضل محاسن الدهاء والحيل: " الهيثم بن الحسن بن عمارن، قال: قدم شيخ من خزاعة أيام المختار، فنزل على عبد الرحمن بن أبان الخزاعي، فلما رأى ما يصنع سوقة المختار بالمختار من الإعظام جعل يقول: يا عباد الله، أبا لمختار يصنع هذا؟ والله لقد رأيته يتبع الإماء بالحجاز (2) فبلغ ذلك المختار، فدعا به وقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، فأمر بضرب عنقه، فقال: لا والله لا تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قال: أمّا دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجراً حجراً وقتلت المقاتلة وسبيت الذرية ثم تصلبني على شجرة على
نهر (فلا) (3) والله إني لأعرف الشجرة الساعة، وأعرف شاطئ ذلك النهر، فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم: أمَا إن الرجل قد عرف الشجرة، فحبس، حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال: يا أخا خُزاعة، أو مُزاح عند القتل؟ قال: أنشدك الله أن أقتل ضياعاً، قال: وما تطلب ها هنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني، قال: ادفعوا له بذلك، وإياك أن تصبح بالكوفة، فقبضها وخرج، وعنه قال: كان سراقة البارقيّ من ظرفاء أهل الكوفة، فأسره رجل من أصحاب المختار فأتى به المختار فقال له: أسرك هذا؟ قال سراقة: كذب، والله ما أسرني إلا رجل على ثياب بيض على فرس أبلق، فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين الملائكة، خلوا سبيله، فلما أفلت أنشأ يقول:
__________
(1) في أمالى الزجاجي " ورأيت نذرا " (2) في نسخة " رأيته بالحجاز يتبع الاماء " (3) زيادة لابد منها (*)(4/325)
* ألا أبلغ أبا إسحق ... * إلى آخر الأبيات الثلاثة.
وكذا روى هذه الحكاية الأصبهاني في الأغاني من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي.
وفي هذه الروايات اختصار، فإن هذه الأبيات قالها بعد ما أسر ثَالثاً، قال ابن عبد ربه وفى العقد الفريد (1) : أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة، قال: أُخِذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جَبَّانة السَّبيع (2) فَقُدِّم في الأسرى إلى المختار، فقال: (من الرجز) امننن عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ معَدْ * يَا خَيْرَ مَنْ لَبَّى وصًلَّى وَسَجَدْ فعفى عنه المختار وخلى سبيله، ثم خرج مع (إسحق) ابن الأشعث، فأُتى به
المختار أسيراً، فقال له: ألم أعف عنك وأمنُنْ عليك؟ أما والله لأقتلنك، قال: لا، والله لا تفعل إن شاء الله، قال: ولم؟ قال: لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معكم، ثم أنشده: (من الوافر) ألا أبلغ أبا إسحق أنَّا * حَمَلْنَا حَمْلَةً كَانَتْ عَلَيْنَا (3) خَرَجْنَا لاَ نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئاً (4) * وَكَانَ خُرُوجُنَا بَطَراً وَحَيْنَا (5) نَرَاهُمْ فِي مَصَفِّهُمُ قَلِيلاً * وَهُمْ مِثْلُ الدَّبَا لَمَّا الْتَقَيْنَا فَأسْجحْ إذْ قَدَرْتَ فَلَوْ قَدَرْنَا * لَجُرْنَا في الْحُكُومَةِ واعْتَدَيْنَا تَقَبَّل تَوْبَةً مِنِّي، فإنى * سأشكر إن جعلت النقد دينا
__________
(1) انظر العقد (ج 1 ص 183) طبع بولاق (2) جبانة السبيع: محلة بالكوفة، وكانت فيها وقعة المختار بن عبيد الخارجي (3) في عيون الاخبار (ح 1 ص 203) : " نزونا نزوة " (4) كذا في الاصل وهو الموافق لما في عيون الاخبار، وفى العقد " منا " وهو تحريف (5) في الاصول " بطرا علينا " وهو خطأ (*)(4/326)
قال: فخلى سبيله، ثم خرج (إسحق) ابن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتى به المختار، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك، يا عدو الله، هذه ثالثة، فقال سراقة: أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني، فأين هم؟ لا أراهم! إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بُلْق تطير بين السماء والأرض، فقال المختار: خلوا سبيله ليخبر الناس، ثم عاد (1) لقتاله، فقال: ألاَ من مُبَلِّغُ الْمُخْتَارِ عَنِّي * بِأَنَّ الْبُلْقَ دُهْمٌ مُضْمَرَاتِ أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرَأيَاهُ * إلخ الشعر " انتهى
وقوله " رأيت الْبُلْقَ دُهْماً إلخ " هو جمع أبْلَق وَبلقاء، وأراد الخيل الْبُلْق، وهي ما فيها بياض وسواد، ودهم: جمع أدهم ودَهْماء، من الدُّهْمَة - بالضم - وهي السواد، وأراد أن الخيل الْبُلْق التي ذكرت أنها تطير إنما هي خيل دهم نحاربك عليها، والمُصْمَت - بضم الميم الأولى وفتح الثانية - قال الجوهري: هو من الخيل البهيم: أي لون كان لا يخالط لونَه لونٌ آخر، وروي بدله " مضمرات " بوزنه، يقال: أضمرت الفرس، إذا أعددته للسباق، وهو أن تعلقه قُوتاً بعد السمن (2) ، وقوله " أُرِي عَيْنَيَّ إلخ " بضم الهمزة، مضارع من الإراءة خفف بحذف الهمزة من آخره، و " ما " نكرة بمعنى شئ مفعول ثان لأرى، والأول هو عَيْنيَّ، وكلانا: أي أنا وأنت والبيت كذا أورده أبو زيد بمفرده في نوادره (3) ورواه أبو حاتم عن أبي عبيدة " ما لَمْ تُبْصِرَاهُ إلخ " وحينئذٍ لا شاهد فيه، والترهة: بضم المثناة وتشديد الراء المفتوحة
__________
(1) كذا في عيون الاخبار، وفى العقد " ثم دعا لقتاله " (2) في الصحاح: وتضمير الفرس أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت، وذلك في أربعين يوما وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذى تضمر فيه الخيل أيضا مضمار (3) انظر (ص 185) من النوادر (*)(4/327)
قال الأخفش فيما كتبه على النوادر: التَّرَّهات الاباطليل، وفي الصحاح قال الأصمعي: التُّرَّهات: الطرق الصغار غير الجادَّة، تتشعب عنها، الواحدة تُرَّهة فارسيّ معرب، ثم استعير في الباطل وسُراقة بن مِرْداس البارقي بضم السين وآخره قاف، ومِرداس بكسر الميم، قال الآمدي في المؤتلف والمختلف: بارق اسم جبل نزل به سعد بن علي بن حارثة
بن عمرو بن عامر، فنُسبوا إلى ذلك الجبل، وبارق: أخو خزاعة، وهذا هو سُراقة بن مرداس الأصغر، وهو شاعر مشهور خبيث قال يهجو جريراً من قصيدة: (من الكامل) أبْلِغْ تَمِيماً غثَّها وَسَمِينَهَا * وَالْحُكْمُ يَقْصِدُ مَرَّة وَيَجُورُ أنَّ الفَرْزْدَقُ بَرَّزَتْ حَلَبَاتُهُ * عَفْواً وَغُودِرَ فِي التُّرَابِ جَرِيرُ هَذَا قَضَاءُ الْبَارقِيِّ وَإنَّنِي * بِالْمَيْلِ فِي مِيزَانِهِمْ لَبَصِيرُ فهجاه جرير في القصيدة التي خاطب فيها بشر بن مروان (من الكامل) : يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ (1) ... قَدْ كَانَ بَالُكَ أنْ تَقُولَ لِبَارِقٍ * يَا آل بَارِقَ فِيمَ سُبَّ جرير وذكر الآمدي شاعرين آخرين متقدمين عليه في الزمان، يقال لكل منهما: سُرَاقة بن مِرداس البارقي: أحدهما سراقة بن مدارس الأكبر، والآخر هو شاعر فارس له شعر في يوم أوطاس، (2) ثم قال الآمدي: " وفي شعراء العرب
__________
(1) هذا صدر بيت ليس أول القصيدة، وتمامه: * هلا غضبت لنا وأنت أمير * (2) قال ياقوت في معجم البلدان: " وأوطاس واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين للنبى صلى الله عليه وسلم ببنى هوازن، ويومئذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: حمى الوطيس، وذلك حين استعرب الحرب، وهو صلى الله عليه وسلم أول من قاله " اه.
(*)(4/328)
من يقال له سُراقة جماعة لم نقصد إلى ذكرهم وإنما ذكرت سراقة بن مرداس لاتفاق الاسم واسم الأب " انتهى، ولم يَرْفع نسب واحد من الثلاثة إلى قبيلة وأنشد الجاحظ لسراقة صاحب البيت الشاهد (من البسيط) :
قَالُوا سُرَاقَةُ عِنِّينٌ فَقُلْتُ لَهُمْ * الله يَعْلَمُ أنِّي غَيْرُ عِنِّينِ فإنْ طلبتم بى الشئ الَّذِي زَعَمُوا * فَقَرِّبُونِي مِنْ بِنْتِ ابْنِ يَامِينِ وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الستون بعد الماية -: (من الطويل) 160 - ألم تر ما لاقيت والدهر أعْصُرٌ * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْءَ وَيَسْمَعُ على أنه جاء على الأصل لضرورة الشعر، كما تقدم قبله وقال ابن جني في سر الصناعة: " قرأت على أبي على في نوادر أبي زيد: * ألَمْ ترَ مَا لاقيت والدهر أعْصُرٌ * كذا قرأته عليه " تَرَ " مخففاً، ورواه غيره، " تَرْء ما لاقيت " على وزن تَرْعَ، وهذا على التحقيق المرفوض في هذه الكلمة في غالب الأمر وشائِع الاستعمال " انتهى.
ولم يتعرض لما في الصمراع الثاني، لأنه لم يتزن إلا بذكر الهمزة، فيكون على غير رواية أبي علي في كل من المصراعين ضرورة وهذا البيت والذي قبل كذا في الصحاح، وقد أنشدهما أبو زيد في النوادر وفي كتاب الهمز، قال في كتاب الهمز: " وعامة كلام العرب في يَرَى ونَرَى وتَرَى وأرى ونحوه على التخفيف، وبعضهم يحققه وهو قليل في كلام العرب، كقولك زيد يرأى رَأْياً حسناً، نحو يَرْعَى رَعْياً حسناً، قال سراقة البارقي: أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأيَاهُ * ... البيت.
وقال الأعلم بن جَرَادة السعدي - وأدرك الاسلام -: ألم ترما لاَقَيْتُ وَالدَّهْرُ أعْصُرٌ * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْءَ وَيَسْمَعُ(4/329)
بِأَنَّ عَزِيزاً ظَلَّ يَرْمِي بِجَوْزِهِ * إليَّ ورَاءَ الحاجزين ويفرع وأنشدني أعرابي من بني تميم لنفسه (من البسيط) : هَلْ تَرْجِعَنَّ لَيَالٍ قَدْ مَضَيْنَ لَنَا * وَالعَيْشُ مُنْقَلِبٌ إذْ ذَاكَ أفْنَانَا
إذْ نَحْنُُ فِي غَرَّةِ الدُّنْيَا وَبَهجَتِهَا * والدَّارُ جَامِعَةٌ أزْمَانَ أزمانا لما استمر بها شَيْحَانُ مُبْتَجِحٌ * بِالْبَيْنِ عَنْكَ بِمَا يَرْآكَ شَنْآنَا فكل هؤلاء حقق الهمزة من يرى، وهو قليل في الكلام، والتحقيق الأصل " انتهى كلامه.
وقوله " ألم تر " استفهام والرؤيا بصرية، و " ما " مفعولها، ولاقيت بضم التاء، والدهر مبتدأ وأعصر خبره، وهو جمع عَصْر يريد أن الدهر مختلف أزمانه لا يبقى على حال سرور وصفاء، بل غالبه كدر، وقوله " ومن يتمل العيش إلخ " مَنْ شرطية، ويتمل: شرط مجزوم بحذف الألف، ويرء: جواب الشرط، ويسمع: معطوف عليه، وكسر للقافية، وقافية البيت الثاني مرفوع فيكون في الأول إقواء، وكذا رواهما أبو زيد في الكتابين، قال ابن بري في أمالية على الصحاح: " ويروى ويسمعُ بالرفع على الاستئناف، لأن القصيدة مرفوعة " وذكر البيت الثاني.
أقول: ليس المعنى على الاستئناف، ولعله أراد بالاستئناف ابتناءه على مبتدأ محذوف، والتقدير وهو يسمع، وإطلاق الاستئناف على هذا شائع، فيكون موضع الجملة جزماً بالعطف على يرء، وجَازَفَ ياقوت فيما كتبه على الصحاح قال: بخط أبي سهل يَرْءَ ويَسْمِعِ بجزمهما، وهو سهو منه والقصيدة مرفوعة، وصوابه: * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ * بالرفع يريد أن " مَنْ " فيه موصولة مبتدأ ويتملى: صلته، ويرأى وَيسمع: خبره، وتحقيق الهمزة ضرورة أيضاً، وهذا صحيح معنى وإعراباً، إلا أنه طعن فيه رواية أبي زيد:(4/330)
وتملى عيشه: استمتع به ملاوة، والملاوة - مثلثة الميم -: الزمان الواسع، يريد من يعش كثيراً يَرَوَ يسمع ما لم يكن رآه وسمعه، والعيش: مصدر عاش،
إذا صار ذا حياة، فهو مصدر عائش، والأنثى عائشة، وقوله " بأنّ عزيزاً " خبر أن غير مذكور في هذا البيت، وإنما هو في بيت بعده، وظل: استمر، والجوز: بفتح الجيم وآخره زاي معجمة، ورمْيُ الجوز عبارة عن الإسراع في الذهاب، " وإليَّ " متعلق بيرمي، وكذلك ورَاء، والحاجزين: جمع حاجز من حجزه، إذا منعه، يريد أن الأعداء قدامه تمنعه من الوصول إليه، " ويفرع " معطوف على يرمي، وهو مضارع أفْرَعَ، قال أبو زيد بعد إنشاده: أي يصير الفَرْع، ويقال: أفرع إذا أخذ في بطن الوادي خلافُ المصعد، قال: (من البسيط) * لاَ يُدْرِكَنَّكَ إفْرَاعِي وَتَصْعِيدِي * وفرع رأسه بالعصا إذا علاه " انتهى وفي الصحاح: فَرَعْت الجبل صَعِدْته، وأفرعت في الجبل انحدرت وقد أورد أبو تمام البيت الشاهد من أبيات للأعلم في كتاب مختار أشعار القبائل، وليس فيها البيت الثاني الذي أورده أبو زيد، وأبو تمام كذا أوردها (من الطويل) : وَإنِّي لأَقْتَادُ الْقَرِينَ إلَى الْهَوَى * وَيَقْتادُنِي يَوْماً قَرِينِي فَأتْبَعُ وأطمع بما لَمْ يَحْتَضِرْنِي يَأْسُهُ * وَأْيْأَسُ مِمَّا لاَ يُرَى فِيهِ مَطْمَعُ وأُبْغِضُ أصْحَابَ الْمَلاَذَةِ وَالقِلَى * وَيُطْلَبُ بِالْمَعْرُوفِ خَيْرِي فَأُخْدَعُ وَتَزْعُمُ هِنْدٌ أنَّنِي قَاتِلِي الْهَوَى * إلَيْهَا وَقَدْ أهْوَى فَلاَ أتَوَجَّعُ ألِكنِي إلَيْهَا بالسَّلاَمِ فلا يسؤ * بَنَا ظَنُّهَا، إنَّ النَّوَى سَوْفَ تَجْمَعُ وَلاَ تَرْعَ لِلَوَاشِي الظُّنُونَ فَإِنَّهُ * بِتَفْرِيقِ مَا بَيْنَ الأَحِبَّةِ مولع أل تر مالا قيت ... البيت نَصَحْتُ لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَ فَضَيَّعُوا * لِنُصْحِي فَلاَ يَحْزُنْكَ نُصْحٌ مُضَيَّعُ(4/331)
هذا ما أورده أبو تمام، وقال: الملاذة: كذب المودة "
وقوله " هَلْ تَرْجِعَنَّ لَيَال ... البيت " أورده ابن هشام في بحث إذ من المغني، قال: " وقد يحذف أحد شطري الجملة فيظن من لاخبرة له أنها أضيفت إلى المفرد، كهذا البيت، والتقدير إذ ذاك كذلك ".
واسم الإشارة الأول أشير به إلى العيش باعتبار حاله، والثاني المحذوف إلى حال الأفنان، وهي الأغصان والأحوال، ونصبه حال من ليال، و " إذ " متعلقة بمنقلب، والمعنى هل ترجع ليالينا حال كونها مثل الأغصان الملتفة في نضارتها وحسنها؟ أو حال كونها ذات فنون من الحسن وقال أبو زيد بعد إنشاد الأبيات في النوادر: الشَّيْحَانُ: الغيور، والمبتجح: المفتخر والذي يُعْرف (1) " انتهى وأنشد بعده - وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 161 - أانْ رَأَتْ رِجُلاً أَعْشَى أَضَرَّبِهِ * رَيْبُ الْمَنُونِ وَدَهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلُ ونص سيبويه: " والمخففة فيما ذكرنا بمنزلتها محققة في الزنة، يدلك على ذلك قول الأعشى أان رأتْ رَجُلاً ... البيت
__________
(1) هذه العبارة غير واضحة المراد، والذى وجدناه في النوادر لابي زيد وشرحها لابي حسن الاخفش بعد الابيات هو " أبو حاتم: متبجحا أو مبتجح، وجعل الكاف مخاطبة المذكر.
الرياشى: الذى نعرف شيحان (بكسر الشين) والشيحان: الغيور، والمبتجح: المفتخر، قال أبو الحسن: لا اختلاف بين الرواة أنه يقال: رجل شيحان (كعطشان) والانثى شيحى كعطشي) فسروه تفسيرين: أحدهما أنه الجاد في أمره، والاخر الغيور السيئ الخلق، ولان أنثاه فعلى لم يصرفوه، ولو كان كما حكى عن الرياشى لكان قد ترك صرف ما ينصرف، وهذا لا يجوز عند القياسيين المفسرين، وهذا سهو من الرياشى " اه (*)(4/332)
فلو لم تكن بزنتها محققة لانكسر البيت " انتهى وقال الأعلم: " استشهد به على تخفيف الهمزة الثانية من قوله: أان، وجعلها بَيْن بَيْن، والاستدلال بها على أن همزة بين بين في حكم المتحركة، ولولا ذلك لانكسر البيت، لأن بَعْد الهمزة نوناً ساكنة، فلو كانت الهمزة المخففة في الحكم ساكنة لالتقى ساكنان، وذلك لا يكون في الشعر إلا في القوافي " انتهى والبيت من قصيدة الأعشى المشهورة التي أولها: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ، إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ * وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّها الرَّجُلُ وهي ملحقة بالقصائد المعلقات، وقد شرحنا غالبها في مواضع متعددة من شواهد شرح الكافية، وقبله: صَدَّتْ هُرَيْرَةُ عَنَّا مَا تُكَلِّمُنَا * جَهْلاً بِأُمِّ خُلَيْدٍ، حَبْلَ مَنْ تَصِلُ؟ وبعده: قَالَتْ هُرَيْرَةُ لَمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا * وَيْلِي عَلَيْكَ وَوَيْلِي مِنْكَ يَا رَجُلُ وقوله " صدَّت هريرة إلخ " روى أبو عبيدة: صدت خُلَيْدة، وقال: هي هريرة، وهي أم خُلَيد، وخُلَيْد: مصغر خالد تصغير الترخيم، وصدت: أعرضت وقوله " جهلا بأم خليد " علة للنفي، والباء للملابسة، وأعاد اسمها للتلذذ به، وحسنه ذكره بغير لفظه الأول و " حَبْل " مفعول تصل، وقدم وجوباً لإضافته إلى ماله الصدارة، وهو مَنْ، فإنها للاستفهام التعجبي، يريد: حبل أيِّ رجل تصل إذا لم تصلنا؟ كذا قال الخطيب التبريزي وغيره، وعليه تبقى الجملة غير مرتبطة بما قبلها، والجيد أن تكون مَنْ موصولة " وحبل " مفعول لقوله " جَهْلاً " والحبل هنا مستعار للعُلْقة.
والوصل: ضد القطع، وقوله " أن رأت رجلاً إلخ " الهمزة الأولى للاستفهام.
و" أن " بالفتح هي أن المصدرية.
وهي مع مدخولها مجرورة بلام
العلة، أو من التعليلية، والتقدير أصدّت لأجل أن رأت رجلاً هذه صفته.
و" رأت " أبصرت، و " رجلاً " مفعوله، و " أعشى " صفته.
والأعشى الذي(4/333)
لا يبصر بالليل، والأجهر - بالجيم -: الذي لا يبصر نهاراً، والمؤنث عشواء وجهراء، وجملة " أضربه " حال من أعشى، ويجوز أن تكون صفة ثانية لرجلاً.
قال صاحب المصباح: " ضره يضره - من باب قتل - إذا فعل به مكروهاً، وأضربه يتعدى بنفسه ثلاثيا بالباء باعيا ".
قال الأزهري: " كل ما كان سوء حال وفقر وَشدة في بدن فهو ضُرٌّ - بالضم - وما ضد النفع فهو بفتحها، ورجل ضرير: به ضرر من ذهاب عين أو ضنىً " والريب: التردد بين موقعي تهمة، بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل منهما، وأصله قلق النفس واضطرابها، ومنه ريب الزمان لنوائب الزوجة ومصائبه المقلقة، كذا في مُهِمَّات التعاريف للمناوي.
و" المنون " المنية، قال الاصمعي: هو واحد لاجمع له، وذهب إلى أنه مذكر، وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له، ومُتْبِل: اسم فاعل، قال صاحب العباب: " وأتبله الدهر مثل تبله، وأنشد هذا البيت، وقال: أي يذهب بالأهل والولد، وتَبَله الحب: أي أسقمه، وتبلهم الدهر: أي أفناهم، والتبل، كفَلْسٍ: التِّرةُ والذحل (1) يقال: أصيب بتبل وهو متبول، وروي بدله " مفسد " من الإفساد، وروي " مفند " أيضاً بمعناه، قال التبريزي: والمفند من الفَنَد وهو الفساد، ويقال: فَنَّده، إذا سَفَّهه، قال تعالى (لَوْلاَ أن تفندون) وخَبل - بفتح المعجمة وكسر الموحدة - قال صاحب العباب: ودهر خَبِل: أي ملتو على أهله، وأنشد البيت، وقوله " قالت هريرة إلخ " قال بعضهم: هذا أخنث بيت قالته العرب، و " زائرَها " حال من التاء: أي زائر لها وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائة، وهو من شواهد
سيبويه -: (من الكامل)
__________
(1) الذحل: الثأر، أو طلب مكافأة بجناية حنيت عليك (*)(4/334)
162 - راحت بمسلمة البغال عشية * فارعي فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ على أن أصله هنأك - بالهمز - فأبدلت ألفاً، قال سيبويه: " واعلم أن الهمزة التي يحقق أمثالها أهل التحقيق من بني تميم وأهل الحجاز وتجعل في لغة أهل التخفيف بَيْنَ بَيْن تبدل مكانها الألف إذا كان ما قبلها مفتوحاً، والياء إذا كان ما قبلها مكسوراً، والواو إذا كان ما قبلها مضموماً، وليس ذا بقياس متلئب، (1) وإنما يحفظ عن العرب كما يحفظ الشئ الذي تبدل التاءُ من واوه، نحو أتْلَجْت، فلا يجعل قياساً في كل شئ من هذا الباب، وإنما هي بدل من واو أوْلجت، فمن ذلك قولهم: منساة، وإنما أصلها منسأة (2) ، وقد يجوز في ذاكله البدل حتى يكون قياساً متلئباً إذا اضطر الشاعر، قال الفرزدق: * رَاحَتْ بِمَسْلَمَة البِغَالُ *..البيت فأبدل الألف مكانها، ولو جعلها بين بين لانكسر البيت، وقال حسان ابن ثابت رضي الله عنه: سَالَتْ هُذَيْلُ رَسُولَ الله ... البيت الآتي وقال القرشي زيد بن عمرو: سَالَتَانِي الطَّلاَق ... البيت الآتي فهؤلاء ليس من لغتهم سِلْتُ ولا يَسَالُ، وبَلَغَنَا أن سَلْت تَسالُ لغة، وقال عبد الرحمن بن حسان: وَكُنْتُ أذَلَّ مِنْ وَتِدٍ ... البيت الآتي: يريد الواجئ، وقالوا: نبيّ وبريّة، فألزمها أهل التحقيق البدل، وليس
كل شئ نحوهما يفعل به ذا، إنما يؤخذ بالسمع، وقد بلغنا أن قوماً من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون نبيئا وبريئة، وذلك قليل ردئ، فالبدل ههنا
__________
(1) بهامش الاصل: قوله متلئب " في الصحاح اتلاب الامر اتلئبابا استقام انتهى من خط المؤلف (2) المنسأة: العصا (*)(4/335)
كالبدل في مِنْسأة، وليس بدل التخفيف، وإن كان اللفظ واحداً " انتهى كلام سيبويه قال الأعلم: " الشاهد في إبداله الألف من الهمزة في قوله: هَنَاك، ضرورة وإن كان حقها أن تجعل بَيْن بَيْن لأنها متحركة، يقول هذا حين عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق ووليها عمر بن هُبَيْرَة الفَزَارِي فهجاهم الفرزق ودعا على قومه أن لا يهنئوا النعمة بولايته، وأراد بغال البريد التي قدمت بمسلمة عند عزله " انتهى.
وكذا قال المبرد في الكامل عند ما أنشد قول العُديل بن الفَرْخ العِجْلِيّ (من الطويل) : فَلَوْ كانت في سلمى أجا وشعاثها * لَكَانَ لِحَجَّاجٍ عَلَيَّ دَلِيلُ قال: أجا وسلمى: جبلا طيّئ، وأجأُ مهموز، والشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمز قلبه على حركة ما قبله، وأنشد هذه الأبيات، وقال: أما الفرزدق فإنه يقول لما عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق بعد قتله يزيد بن المهلب لحاجة الخليفة إلى قربه ووُلي عمر بن هُبَيْرَة الفزاري فقال: رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عشية * فارعي فزارة لاهناك الْمَرْتَعُ وَلَقَدْ عَلِمْتُ إذَا فزَارَةُ أُمِّرَتْ * أنْ سَوْفَ تَطْمَعُ فِي الإِمَارَةِ أشْجَعُ
فَأَرَى الأُمُورَ تَنَكَّرَتْ أعْلاَمُهَا * حَتَّى أُمَيَّةُ عَنْ فَزَارَةَ تَنْزَعُ ولخلق ربك ماهم وَلَمِثْلُهُمْ * فِي مِثْلِ مَا نَالَتْ فَزَارَةُ يَطْمَعُ عُزِلَ ابْنُ بِشْرٍ وابن عمر وقبله * وأخُو هَرَاةَ لِمِثْلِهَا يَتَوَقَّعُ فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هُبَيْرَة قال رجل من بني أسد يجيب الفرزدق (من الكامل) :(4/336)
عجب الفرزدق من فزارة إذْ رَأَى * عَنْهَا أُمَيَّةَ فِي الْمَشَارِقِ تَنْزَعُ فَلَقَدْ رَأَى عَجَباً وَأُحْدِثَ بَعْدَهُ * أمْرٌ تَضِجُّ لَهُ الْقُلُوبُ وَتَفْزَعُ بَكَتْ الْمَنَابِرُ مِنْ فَزَارَة شَجْوَهَا * فَاليَوْمَ مِنْ قَسْرٍ تّذُوبُ وَتَجْزَعُ وَمُلُوكُ خِنْدِفَ أسْلَمُونَا لِلْعِدَى * لِلهِ دَرُّ مُلُوكِنَا مَا تَصْنَعُ! كانُوا كَتَارِكَةٍ بَنِيهَا جَانِباً * سَفَها وَغَيْرَهُمُ تَصُونُ وَتُرْضِعُ انتهى.
وفي الأغاني: " كان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب، فلبث بها غير كثير، ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن هُبَيْرَة على العراق فأساء وعزل قبيحاً، فقال الفرزدق: * وَلَّتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عَشَيَّةً * إلى آخر الأبيات الخمسة ابن بشر: عبد الملك بن بشر بن مروان، كان على البصرة، أمَّرَه عليها مسلمة، وابن عمرو: سعيد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأخو هراة: سعيد بن عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاص " انتهى.
وقال ابن السيرافي: " ابن عمرو هو سعيد بن عمرو بن الحارث بن الحكم ابن أبي العاص، عزل عن الكوفة، وأخو هراة سعيد بن الحارث بن الحكم " انتهى.
وقوله " راحت بمسلمة إلخ " قال صاحب المصباح: راح يروح رواحا - وتروح
مثله - يكون بمعنى الغُدُو، وبمعنى الرجوع، وقد يتوهم بعض الناس أن الروح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس كذلك، بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أيّ وقت كان: من ليل أو نهار، قاله الأزهري وغيره، وعليه قوله عليه الصلاة والسلام " مَنْ رَاحَ إلَى الْجُمْعَةِ في أوَّلِ النَّهَارِ فَلَهُ كَذَا " أي: من ذهب، والعشية: واحدة العَشِيِّ، قال صاحب المصباح: العشي: قيل: ما بين الزوال إلى الغروب ومنه يقال للظهر وَالعصر: صلاتا العشي، وقيل: هو آخر(4/337)
النهار، وقيل: من الزوال إلى الصباح، وقوله " فارعى فزارة " هو أمر من الرعي، من رَعَتِ الماشية تَرْعَى إذا سرحت بنفسها إلى المرعى، وهو ما ترعاه الدواب، وفزارة: أبو قبيلة من غطفان، وهو هنا مبني على الضم، لأنه منادى وحرف النداء مقدر، وباعتبار القبيلة (قال) فارعَيْ بالخطاب إلى المؤنث وجعلهم بهائم ترعى، وقوله " لا هناك المرتع " لا: هُنا دعائية، دعا عليهم بأن لا يكون مرتعهم هنيئاً لهم، وهَنأنِي الطعام يَهنؤني - بفتح العين فيهما - ومهموز الآخر: أي ساغَ وَلذَّ بلا مشقة، والكاف مكسورة، والمرتع: مصدر ميمي، يقال: رتعت الماشية رَتْعاً، من باب نفع، ورتوعاً: رعت كيف شاءت، والمرتع: موضع الرتوع أيضاً، وقد صار هذا المصراع مثلاً، قال الميداني في أمثاله: " ارْعَيْ فزارة لا هَنَاكِ الْمَرْتَع " يضرب لمن يصيب شيئاً ينفس به عليه، وقد استشهد بالبيت في التفسيرين في سورة طه على أن طه في قراءة الحسن رحمه الله أمر للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطأ الأرض بقدميه معاً، فإنه كان عليه السلام يقوم في تهجده على إحدى رجليه.
والأصل " طَأْ " قلبت الهمزة ألفاً كما في لا هَنَاكِ، ثم بني الأمر عليه، كالأمر من يرى " رَ " ثم ألحق هاء السكت فصار طَهْ وقد خبط خَضِر الموصلي خبط عشواء في شرح أبياتهما قال: " الرواح نقيض
الغدو، ومسلمة هذا هو عبد الملك بن بشر، وهو الممدوح، وكان على العراق فعزل عنها، وولي موضعه عمر بن هُبَيْرَة، ولا هَنَاك المرتع: دعاء على الناقة أي لاهناك رعي هذا المرتع، والمعنى أن ممدوحك مسلمة قد عزل وراح على البغال عشية فاقصدي بني فزارة وارعي مرعاها، وفي بعض الحواشي ارعْيْ يا فزارة فإن الخطاب لهم، قال: وكان مسلمة هذا يمنعهم المرعى، فلما عزل خاطبهم بذلك وأمرهم بالمرعى " هذا كلامه.
وخطؤه من وجوه ظاهرة، وقبيح بمثله أن يكتب على العمياء من غير مراجعة(4/338)
وتنقير، مع أن البيت من أبيات سيبويه والمفصل وغيرهما، والله الموفق للصواب.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه - (من الخفيف) 163 - سَالَتَانِي الطَّلاَقَ أنْ رَأَتَامَا * لى قليلا قد جئتانى بِنُكْر لما تقدم قبله، ونقلنا كلام سيبويه فيه، وقبله.
تِلْكَ عِرْسَايَ تَنْطِقَانِ بِهُجْرٍ * وَتَقُولاَنِ قَوْلَ زُورٍ وَهَتْر وقوله " تلك عِرْساي " مبتدأ وخبر، و " عرساي " مثنى عرس، مضاف إلى الياء، والعِرْس - بالكسر - الزوجة: أي هما عرساي، ويجوز أن يخالف اسم الإشارة المشار إليه كقوله تعالى: (عَوَانٌ بين ذلك) والهُجْر - بالضم - الفُحْش من الكلام، والهتر: مصدر هتره، من باب نصر، إذا مزق عرضه، وقوله " سالتاني الطلاق " قال الأعلم: هذه لغة معروفة، وعليه قراءة من قرأ (سالَ سَائِلٌ بَعَذَابٍ وَاقِعٍ) وروي " تَسْألاني الطلاق " فلا شاهد فيه، وقوله " قد جئتماني بنكر " التفات من الغيبة إلى الخطاب، والنُّكر - بالضم - الأمر القبيح، وروى أيضاً:
سَالَتَانِي الطَّلاَقَ أنْ رَأَتَانِي * قَلَّ مَالِي قَدْ جِئْتُمَانِي بِنُكْر وهما من أبيات قد شرحناها مفصلة مع ترجمة قائلها، والاختلاف فيه، في الشهر الشاهد الثامن والسبعين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكفاية وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 164 - سَاْلتْ هذيل رسول الله فاحشة * ضلت هُذَيْلٌ بِمَا قَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ(4/339)
لما تقدم قبله، وتقدم نقل كلام سيبويه فيه قال المبرد في الكامل: " وأما قول حسان: سالت هذيل، فليس من لغته سِلْتُ أسَالُ مثل خِفْتُ أخاف، وهما يتساولان، هذا من لغة غيره، وكانت هذيل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل لها الزنا، ويروى أن أسَدِيّاً وهُذَلِيّاً تفاخراً فرضيا برجل، فقال: إني ما أقضي بينكما إلا على أن تجعلا لي عَقْداً وثيقاً أن لا تضرباني ولا تشتماني، فإني لست في بلاد قومي، ففعلا، فقال: يا أخا بني أسد، كيف تفاخر العرب وأنت تعلم أنه ليس حى أحب إلى الجيش ولا أبغض إلى الضيف ولا أقل تحت الرايات منكم؟ وأما أنت يا أخا هذيل فكيف تظلم الناس وفيكم خلال ثلاث: كان منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خَوْلَة ذات النَّحْيَيْن، وسألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل لكم الزنا، ولكن إذا أردتم بيتي مضر فعليكم بهذين الحيين من تميم وقيس، قوما في غير حفظ الله " انتهى.
وفي الروض الأنف للسُّهَيْلي: " قوله: سالت هذيل، ليس على تسهيل الهمزة، ولكنها لغة، بدليل قولهم: تسايل القوم، ولو كان تسهيلاً لكانت الهمزة بين بين، ولم يستقم وزن الشعر بها، لأنها كالمتحركة، وقد تقلب ألفاً ساكنة كما
قالوا: المِنْساة، لكنه شئ لا يقاس عليه، وإذا كانت سال لغة في سأل فيلزم أن يكون المضارع يسيل، ولكن حكى يونس سِلْتَ تَسَألُ مثل خِفْتَ تخاف، وهو عنده من ذوات وقال الزجاج: الرجلان يتسايلان، وقال النحاس والمبرد: يتساولان، وهو مثل ما حكى يونس وقال صاحب مختصر أسد الغابة: إن أبا كبير الهذلي الشاعر أسلم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أحِلَّ لي الزنا، فقال: أتحب أن يؤتى إليك مثل ذلك؟ قال: لا، قال: فارض للناس ما ترضى لنفسك، قال: فادع الله أن يذهب ذلك عني، وقال حسان يذكر ذلك:(4/340)
سالت هذيل رسول الله فاحشة * ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ سَالُوا رَسُولَهُمُ مَا لَيْسَ مُعْطِيَهُمْ * حَتَّى الْمَمَاتِ وَكَانُوا سُبَّةَ الْعَرَبِ انتهى.
وزاد ابن هشام في السيرة بعدهما بيتين آخرين، وهما: وَلَنْ تَرَى لِهُذَيْلٍ دَاعِياً أبَداً * يَدْعُو لِمَكْرُمَةٍ عَنْ مَنْزِلِ الْحَرْبِ لَقَدْ أرداوا الْفُحْشِ وَيْحَهُمُ * وَأنْ يُحَلُّوا حَرَاماً ما كَانَ فِي الْكُتُبِ وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الوافر) 165 - وَكُنْتَ أذَلَّ مِنْ وَتِدٍ بِقَاعٍ * يُشَجِّجُ رَأْسَهُ بِالْفِهْرِ وَاجِي على أن أصله واجِئ - بالهمز - فقلبت الهمزة ياء لضرورة الشعر عند سيبويه كما تقدم نصه واعترض عليه الشارح المحقق تبعاً لابن الحاجب بأن هذا القلب جائز في الوقف قياساً، والقلب في مثله إنما يكون ضرورة لو كان في غير الوقف
واعتراض ابن الحاجب في شرح المفصل، قال: " وأصله واجئ، فقلبت الهمزة ياء، وقد أنشده سيبويه أيضاً على ذلك، وهو عندي وَهَمٌ، فإن هذه الهمزة موقوف عليها، فالوجه أن تسكن لأجل الوقف، وإذا سكنت جرها حركة ما قبلها، فيجب أن تقلب ياء، فليس لإيرادهم لها فيما خرج عن القياس من إبدال الهمزة حرف لين وجه مستقيم، وقد اعْتُذِرَ لهم عن ذلك بأن القصيدة مطلقة بالياء، وياء الإطلاق لا تكون مبدلة عن همزة، لأن المبدل عن الهمزة في حكم الهمزة، فجلعها ياء الإطلاق ضرورة، فصح إيرادهم لها فيما خرج عن القياس في قلب الهمزة حرف لين، والجواب أن ذلك لا يدفع كون التخفيف ياء جائزاً على القياس،(4/341)
لأن الضرورة في جعل الياء مبدلة عن الهمزة ياء للإطلاق، لا أن إبدالها على خلاف القياس، لأنهما أمران متقاطعان، فتخفيفها إلى الياء أمر، وجعلها ياء للإطلاق أمر آخر، والكلام إنما هو إبدالها ياء، ولا ينفع العدول إلى الكلام في جعلها ياء الإطلاق، فثبت أن قلبها في مثل هذا مثل قياس تخفيف الهمزة، وأن كونها إطلاقاً لا يضر في كونها جارية على القياس في التخفيف، نعم يضر في كونه جعل ما لا يصح أن يكون إطلاقاً، وتلك قضية ثانية، هذا بعد تسليم أن الياءات والواوات والألفات المنقلبات عن الهمزة لا يصح أن تكون إطلاقاً، وهو في التحقيق غير مسلم، إذ لا فرق في حرف الإطلاق بين أن يكون عن همزة وبين أن يكون غير ذلك، كما في حرف الردف وألف التأسيس " هذا آخر كلامه وكأنه لم يقف على ما كتبه الزمخشري هنا من مناهيه على المفصل، وهو قوله: " لا يقال: وقف على الهمزة واجئ ثم قَلَبها ياء لكسرة ما قبلها، لأنه لو وقف لوقف على الجيم الذي هو حرف الروى " انتهى.
وهذا تحقيق منه وشرح لمراد سيبويه، لأنه إنما منع الوقوف على الهمزة في
واجئ، لأنه كان يصير حرف الروى همزة، فيختلف الرويان اختلافاً شديداً، بخلاف الإكفاء في نحو قوله: (من الرجز) بنى إلى البر شئ هَيِّنٌ * الْمَنْطِقُ اللَّيِّنُ وَالطُّعَيِّمْ فلا يجوز أن يقال: وقف على الهمزة، وأنه فعل به بعد الوقف على الجيم ما فعل من إسكان الهمزة وقلبها ياء للضرورة، وإنما يقال: أبْدل منها إبدالاً محضاً ولا يخففها التخفيف القياسي، فإن التخفيف القياسي هو إبدالها إذا سكنت بالحرف الذي منه حركة ما قبلها، نحو رأس في رأس، وإذا خففت تخفيفاً قياسياً كانت في حكم المحققة، وإذا كانت في حكم المحققة اختلف الرويان، ولذلك أبدلوا في الشعر وَلم يحققوا، خوفاً من انكساره، ومن اختلاف رويه، وهذا البدل(4/342)
هو الذي ذكره سيبويه في قوله: " وقد يجوز في ذا كله البدل حتى يكون قياساً إذا اضطر الشاعر " وذكر أن البدل في المفتوحة بالألف وفي المكسورة بالياء وفي المضمومة بالواو ليس بقياس (1) ، يريد أن القياس أن تجعل بَيْن بَيْن، وقلبها على وجه البدل شاذ وهو من ضرورة الشعر، وقول الزمخشري: " لأنه لو وقف لوقف على الجيم إلخ " يريد أنه إذا أدى الأمر إلى أن تقلب الهمزة ياء صار واجي كقاضي، وحكمن الوقف على المنقوص المنون في الرفع والجر في الاختيار حذف الياء والوقف على الحرف الذي قبلها، نحو هذا قاض ومرت بقاضْ، وإن جاز إثبات الياء فيهما، لكن المختار حذفها هذا، والبيت من قصيدة لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت رضي الله عنه هجا بها عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص وكان يهاجيه، وقبله: وَأمَّا قَوْلُكَ الْخُلَفَاءُ مِنَّا * فَهُمْ منعوا وريدك من وداجى ولولاهم لَكُنْتَ كَحُوتِ بَحْرٍ * هَوَى فِي مُظْلِمِ الْغَمَرَاتِ دَاجِي
وَكُنْتَ أذَلَّ مِنْ وَتِدٍ بِقَاعٍ * ... البيت افتخر ابن الحكم على ابن حَسَّان بأن الخلفاء منا لا منكم، أن الخلافة في قريش، وبنو أمية منهم، وابن حسان من الأنصار، والأنصار هم الأوس والخزرج، وهم من أزد غَسَّان من عرب اليمن قحطان.
والوريد: عرق غليظ في العنق، وهما وريدان في صفحتي مُقَدَّم العنق، ويقال: له: الوَدَج - بفتحتين - والوداج أيضاً بكسر الواو، والوَدَجَانِ: عرقان غليظان يكتنفان نقرة النحر يميناً وشمالاً، وقيل: هما عرقان في العنق يتفرعان من الوريدين، ويقال للودج الأخْدَع أيضاً، والأخْدَعَان: الودجان، وقوله " وداجي " كذا جاء بالإضافة إلى الياء، والوداج: مصدر وادج، فاعل،
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ح 2 ص 159) (*)(4/343)
وليس بمراد، وإنما المراد مصدر وَادَجَ كسافر بمعنى سَفَرَ، يقال: ودَجْتُ الدابة وَدْجاً - من باب وعَد - إذا قطعت وَدَجَها، وهُوَ لها كالفصد للإنسان، ولو رُوِي وِدَاج، بدون ياء، لحمل على أنه جمع ودج، كجمال جمع جَمَلٍ، وقدر مضاف: أي صَفْع وِدَاج، ونحوه، ويكون الجمع باعتبار ما حوله، يقول: لولا أن الخلفاء من قومك وقد احتميت بهم لذبحتك أو لصفعتك على أخْدَعَيْكَ، والغَمرات: جمع غَمرة: - بالفتح - وهي قطع الماء التي بعضها فوق بعض، وَداجي: أسود، من دَجَا الليل يَدْجو دَجْواً إذا أظلم، يريد لولاهم لكنت خاملاً لعدم نباهتك مختفياً لا يراك أحد كالحوت في البحر لا يرى لعمقه وتكاثف المياه عليه، ورواه شراح أبيات المفصل * ولولاهم لكنت كعَظْم حُوتٍ * وقالوا: لكنت كعظم سمكة وقع في البحر لا يُشْعر به.
وقوله " وكنت أذَلّ إلخ " الوتد: بفتح الواو وكسر التاء، والقاع
المستوي من الأرض، ويشجج: مبالغة يُشجُّ رأسه، إذا جرحه وشق لحمه، والفهر - بكسر الفاء -: الحجر ملء الكف، ويؤنث، والواجي: الذي يدق، اسمُ فاعل من وجأت عنقه - بالهمز - إذا ضربته، وفي أمثال العرب " أذَلُّ مِنْ وَتَِدٍ بِقَاع " لأنه يدق ومن أمثالهم " أيضاً أذَلُّ مِنْ حِمَارٍ مُقَيَّدٍ " وقد جمعهما الشاعر فقال: (من البسيط) وَلاَ يُقِيمُ بِدَارِ الذُّلِّ يَأْلَفُهَا * إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرِ الدَّارِ والْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ * وَذَا يُشَجُّ فَلاَ يَرْثِي لَهُ أحَدُ وقال المبرد في الكامل: " كانا يتهاجيان، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم أن يؤدبها، وكانا تقاذفا، فضرب ابن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لابن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فأشِِد بذكره وارفعه إلى(4/344)
معاوية، فقال: والله إذن لا أفعل وقد حدَّني حد الرجال الأحرار وجعل أخاه كنصف عبد، فأوجعه بهذا القول: وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد السادس والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 166 - * وَأُمِّ أوْعَالٍ كها أو أقرابا * على أن دخول الكاف على الضمير شاذ في الاستعمال، لا في القياس، إذ القياس أن يدخل الكاف على الاسم، ظاهراً كان أو مضمراً، كسائر حروف الجر، والبيت من أرجوزة للعجاج، وقبله: * خَلَّى الذِّنَابَاتِ شَمالاً كَثَباً * وهذا في وصف حمار الوحش أراد أن يرد الماء مع أُتُنِه فرأى الصياد، وفاعل " خلَّى " ضميرٌ، وهو مضمن معنى جعل، والذِّنابات: مفعوله الاول،
وشمالا: ضرف في موضع المفعول الثاني، والذنابات: جمع ذِنابة - بالكسر - وهو آخر الوادي ينتهي إليه السيل، والكثب - بفتح الكافي والمثلثة -: القرب، وأراد القريب، وأ أوعال: قيل بالنصب معطوف على الذِّنابات، وقيل مرفوع بالابتداء، و " كها " الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ، و " أقرب " معطوف على مدخول الكاف، وأم أوعال: هضبة في ديار بني تميم، والهضبة: الجَبل المنبسط على وجه الأرض، وضمير " كها " للذِّنابات وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا في الشاهد السادس والثلاثين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية.(4/345)
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة - (من الطويل) : 167 - وَيُسْتَخْرَجَ الْيَرْبُوعُ مِنْ نافِقَائِهِ * وَمِنْ جُحْرِهِ بالشَّيْحَةِ اليُتَقَصَّعُ على أن دخول " أل " على الفعل شاذ مخالف للقياس والاستعمال، إذ هي خاصة بالاسم، وصوابه فيستخرج بالفاء السبيبة، ونصبه بأن مضمرة بعدها، وبالبناء للمفعول، و " اليربوع " نائب الفاعل، وهو دُوَيْبَة تحفر الأرض وله جُحْران: أحدهما القاصعاء، وهو الذي يدخل فيه، وثانيهما النافقاء، وهو الجحر الذي يكتمه وَيظهر غيره، وهو موضع يرققه، فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه، فانتفق: أي خرج، والجحر، - بضم الجيم - يطلق على مأوى اليربوع والضب والحية، وقوله " بالشيحة " رواه أبو عمرو الزاهد وغيره تبعاً لابن الأعرابي " ذِي الشيحة " وقال: لكل يربوع شيحة عند جحره، ورد عليه أبو محمد الأعرابي في " ضالَّة الأديب ": صوابه بالشيخة - بالخاء المعجمة - وهي رملة بيضاء في بلاد بنى أسد وحنظلة، وقوله " اليتقطع " رواه الرياشي بالبناء
للمفعول، يقال: تقطع اليربوع دخل في قاصعائه، فيكون صفة للجحر، وصلته محذوفة: أي من جحره الذي يتقطع فيه، وروي بالبناء للفاعل، فيكون صفة اليربوع: ورواه أبو زيد في نوادره " المتقصِّعُ " باسم المفعول " فيكون من صفة اليربوع أيضاً، لكن فيه حذف الصلة.
والبيت من أبيات شرحناها وافياً في أول شاهد من شواهد شرح الكفاية وأنشدب بعده - وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل)(4/346)
168 - أيا ضبية الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ * وَبَيْنَ النَّقَا آأنت أمْ أُمُّ سَالِم على أنه فصل بين الهمزتين بألف قال سيبويه: " ومن العرب ناس يدخلون بين ألف الاستفهام وبين الهمزة ألفاً إذا التقتا، وذلك أنهم كرهوا التقاء همزتين ففصلوا، كما قالوا: أخْشَيْنَانِّ، ففصلوا بالألف كراهية التقاء هذه الحروف المضاعفة، قال ذو الرمة: أيا ضبية الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... البيت " اه (1) وبزيادة الألف يكون قوله " نقا آأن " مفاعيلين، جزءاً سالماً، ويجوز أن تحقق الهمزتان بلا زيادة ألف فيكون قوله " نقا أأن " مفاعلن، جزءاً مقبوضاً، وأورده الشارح والزمخشري في المفصل تبعاً لسيبويه بزيادة الألف، لأنه معها يمتد الصوت ويكون جزءاً سالماً، وهو أحسن، وحملا على الأصل، لأن الزحاف فرع ومراعاة الأصل أولى، وأما البيت بعده فلا يستقيم إلا بإقحام الألف بين الهمزتين، قال أبو علي في كتاب الشعر: فيه حذف خبر المبتدأ، التقدير أأنْتِ هي أمْ أمُّ سالم، فإن قلت: فما وجه هذه المعادلة؟ وهل يجوز أن يشكل هذا عليه حتى يستفهم عنه،
وهو بندائه، لها قد أثبت أنها ظبية الْوَعْساء؟ ألا ترى أنه لو نادى رجلاً بما يوجب القذف لكان في ندائه بذلك كالخبر عنه؟ فكذلك إذا قال: يا ظبية الوعساء قد أثبتها ظبية الوعساء، وإذا كان كذلك فلا وجه لمعادلته إياها بأم سالم حتى يصير كأنه قال: أيكما أمُّ سالم؟ فالقول في ذلك أن المعنى على شدة المشابهة من هذه الظبية لأم سالم، فكأنه أراد التبستمَا عليّ واشتبهتما، حتى لا أفصل بينكما، فالمعنى على هذا الذي ذكرناه شدة المشابهة، لأنه ليس ظبية الوعساء من أم سالم ... إلى آخر ما ذكره " والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة، وقبله:
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ح 2 ص 168) (*)(4/347)
أقُولُ لِدَهْنَاوِيَّةٍ عَوْهَجٍ جَرَتْ * لَنَا بَيْنَ أعْلَى عُرْفَةٍ فالصَّرائِمِ وبعده: هِيَ الشِّبْهُ إلاَّ مِدْرَيَيْهَا وَأُذْنَهَا * سَوَاءً وَإلاَّ مَشْقَةً فِي الْقَوَائِمِ وقوله " أقول لدَهْنَاوِية " أي: لظبية منسوبة إلى الدهناء - بالمد وبالقصر وهو موضع في بلاد تميم، والعوهج - بفتح العين المهملة وآخره جيم -: الطويلة العنق، وَجَرَتْ: سنحت، والعرفة - بضم العين المهملة وبالفاء -: القطعة المشرفة من الرمل، والصرائم: قطع من الرمل، جمع صَرِيمة، وقوله " أيَا ظَبْيَة إلخ " هو مقول القول، ويروى " فيا ظبية " - بالفاء - وليس بالوجيه، وَالْوَعْسَاء، الرابية اللينة من الرمل، ويقال: الوَعْسَاء: الأرض اللينة ذات الرمل، والمكان أوْعَسُ، و " جلاجل " بجيمين أولاهما مضمومة، وروى بفتحها أيضاً، وروي " حُلاحِل " - بمهملتين أولاهما مضمومة - وهو اسم مكان، والنقا: التل من الرمل، وأم سالم: هي محبوبته، وقوله " هي الشِّبه إلخ "
المْدْرَى - بكسر الميم وسكون الدال المهملة -: القرن، والمَشْقَةُ: الدِّقة، يقال: فلان ممشوق الجسم: أي دقيق خفيف، يقول: هي أشبه شئ بأم سالم إلا قرنيها وأذنيها، وإلا حُموشة (1) في قوائمها، فأما العنق والعين والملاحة فهي شبيهة بها، قال الأصمعي في شرح ديوانه هنا: " يقال: إن مسعوداً أخاه وهشاماً عابا عليه كثرة تشبيهه المرأة بالظبية، وقِيلِهِ: إنها دقيقة القوائم، وغير ذلك، فقال هذه القصيدة، واستثنى هذا الكلام فيها " وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائة -: (من الطويل)
__________
(1) الحموشة: الدقة، قال الشاعر يصف براغيث: وحمش القوائم حدب الظهور * طرقن بليل فأرقننى(4/348)
169 - حزق إذا ما الناس أبدوا فكاهة * تفكر آإيَّاهُ يَعْنُونَ أم قِرْدَا لما تقدم قبله والبيت أورده أبو زيد في كتاب الهمز، وقال: وبعض العرب يقول: يا زيد، آأعطيت فلاناً؟ فيفرق بين الهمزتين بالألف الساكنة، ويحققهما، قال الشاعر: حُزُقٍ إذَا مَا الْقَوْمُ أبْدَوْا فُكَاهَةً ... البيت وأورده ابن جني في سر الصناعة، والزمخشري في المفصل و " الحُزق " بضمتي الحاء المهملة والزاي المعجمة وتشديد القاف، فسره أبو زيد بالقصير، وكذا في العباب.
قال: والحُزُقُّ وَالْحُزُقَّةُ القصير، قال جامع بن عمرو بن مرخية الكلابي: وليس بجواز لأحلاس رحله * ومزوده كيسا من الرأي أو زهدا حزق إذا ما القوم ... البيت وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُرَقِّصُ الحسن أو الحسين رضي
الله عنهما، ويقول: حُزُقَّة حُزُقَّهْ تَرَقَّ عَيْنَ بَقَّهْ، فترقى الغلام حتى وضع قدميه على صدره عليه الصلاة والسلام، قال ابن الأنباري: حُزُقَّةٌ حُزُقَّةْ: معناها المداعبة والترقيص له، وهي في اللغة الضعيف الى يقارب خَطْوَه من ضعف بدنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لضعف كان فيه ذلك الوقت، قال: وَالحُزُقَّة في غير هذا الضِّيق (1) ، قالها الأصمعي، وقال أبو عبيدة: الحزقة القصير العظيم البطن الذي إذا مشى أدار أليته، ومعنى تَرَقْ: أي اصْعَد، عَيْنَ بَقَّهْ: أي
__________
(1) قد أطلق الضيق في عبارة الاصمعي هنا، ولكن قيده صاحب اللسان فقال: " قال الاصمعي: رجل حزقة، وهو الضيق الرأى من الرجال والنساء وأنشد بيت امرئ القيس: وأعجبني مشى الحزقة خالد * كمشى أتان حلئت بالمناهل (*)(4/349)
يا ضمير العين، لأن عين البقة نهاية في الصغر " انتهى وهذان البيتان من قصيدة لجامع المذكور أورد منها أبو محمد الأعرابيّ في ضالة الأديب ثلاثة عشر بيتاً وهي هذه: تَعَالَى بِأَيْدٍ ذَارِعَاتٍ وَأرْجُلٍ * مُنْكَبَّةٍ روحٍ يَخِدْنَ بِنَا وَخْدَا سَعَالِيَ لَيْلٍ مَا تَنَامُ وَكُلِّفَتْ * عشِيَّةَ خْمِس الْقَوْمِ هَاجِرَةً صَخْدَا فَجِئْنَ بِأَغْبَاشٍ وَمَا نَزَلَ الْقَطَا * قَرَامِيصَ مَأْوَاهُ وَكَانَ لَهَا وِرْدَا وَجِئْنَ يُنَازِعْنَ الأَزِمَّةَ مُقْدِماً * مَحَاوِيقَ قَدْ لاَقَتْ مَلاَوِيحُهَا جَهْدَا إلى طَامِيَاتٍ فَوْقَهَا الدِّمْنُ لَمْ نَجِدْ * لَهُنَّ بَأَوْرَاد وَلاَ حَاضِرٍ عَهْدَا فَشَنَّ عَلَيْهَا فِي الإزَاءِ بِسُفْرَةٍ * فَتىً مَاجِدٌ تثْنِي صَحَابَاتُهُ حَمْدَا كَأَنَّهُمْ أرْبَابُهُ وَهْوَ خَيْرُهُمْ * إذَا فِزِعُوا يَوْماً وَأَوْرَاهُمُ زَنْدَا وَأجْدَرُهُمْ أنْ يُعْمِلَ العيس تَشْتَكِي * مَنَاسِمُهَا في الْحَجِّ أوْ قَائِداً وَفْدَا
خَفيفٌ لَهُمْ فِي حَاجِهِمْ وَكَأَنَّمَا * يُعِدُّونَ لِلأَبْطَالِ ذَا لبدة وردا إذا ما دعو لِلْخَيْرِ أوْ لِحَقِيقَةٍ * دَعَوْا رَعْشَنِيّاً لَمْ يَكُنْ خَالُهُ عَبْدَا وَلَيْسَ بحَوَّازٍ لأَحْلاَسِ رَحْلِهِ * وَمِزْوَدِهِ كيسا من الرأي أو زهدا حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهة * تذكر آإياه يعنوم أمْ قِرْدَا وَلاَ هَجْرَعٍ سَمْجٍ إذَا مَاتَ لَمْ يَجِدْ * بِهِ قَوْمُهُ فِي النَّائِبَاتِ لَهُ فَقْدَا وقوله " تعالى بأيد " أي: تتعالى وترتفع الابل بأيد، ذارعات: أي مسرعات، والذرع والتذريع: تحريك الذراعين في المشي، وَ " مُنَكَّبَةٍ " اسم فاعل من نكب تنكبيا، إذا عدل عن الطريق، ويقال: نَكَبَ عن الطريق يَنْكُبُ نكوباً، بالتخفيف أيضاً، ورُوح: جمع أرْوَح، وروحاء، من الرَّوَح - بفتحتين ومهملتين - وهو سعة في الرجلين، وهو أن تتباعد صدور القدمين وتتدانى الْعَقِبَانِ، وَالْوَخْدُ - بالخاء المعجمة -: ضرب من سير الإبل، وهو رمي القوائم(4/350)
كمشي النعام، وقوله " سَعَالِيَ لَيْلٍ " أي: كسعالي ليل، شبه الإبل بالسِّعْلاَة، وهي أنثى الغول وأخبثها، وأضافها إلى الليل لكمال قوتها فيه، و " كُلِّفَتْ " بالبناء للمفعول، وَالْخِمْس - بالكسر - هو أن ترد الإبل الماء يوماً ولا ترد بعده إلا في اليوم الخامس، فيكون صبرها عن الماء ثلاثة أيام، والهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر، وأراد سَيْرَ هاجرة، والصَّخْد - بالصاد المهملة والخاء المعجمة -: مصدر بمعنى اسم الفاعل، يقال: صَخَدته الشمس، من باب منع: أي أصابته وأحرقته، وقوله " فجئن بأغباش ": أي جاءت الإبل بأغباش جَمعِ غَبَش - بفتحتين - وهو البقية من الليل، ويقال: ظلمة آخر الليل، والقطا أسبق الطير إلى الماء، والقَرَامِيص: حُفَر صِغَار يستكنُّ فيها الإنسان من البرد، الواحد قُرْموص، والوِرْدُ - بالكسر -: ورود الماء، يريد أن الإبل سبقت
القطا إلى الورد، وقوله " وجئن ينازعن إلخ " أي يُجَاذِبْنَ، وَالأَزِمَّة: جمع زِمام، والمُقْدِم: اسم فاعل من أقدم إذا جدّ، وهو المنازعُ منه، و " محاويق " حال من فاعل ينازعن، وهو جمع مَحْوقة - بالفتح - وهي التي دعكها السفر وأتعبها، اسم مفعول من حاقة يَحُوقه حَوْقاً، وهو الدلك والتمليس، و " ملاويحها " فاعل لافت، جمع مِلْوَاح - بالكسر - وهي الشديدة العطش، من لاَحَ لَوْحاً من باب نصر، إذا عطش، ولاحة السفر: أي غيره، والجهد: المشقة، وقوله " إلى طاميات " أي: جاءت الابل إلى مياه طاسيات: أي مرتفعات في الأحواض، من طما الماء يَطْمُو طُمُوًّا - بالطاء المهملة - إذا ارتفع وملأ النهر، والدِّمْن - بكسر الدال -: البَعر، وماء متدمن، إذا سقط فيه أبعار الإبل والغنم، وَأوْرَادٌ: جمع وِرْدٍ - بالكسر - والورد هنا.
القوم الذين يردون الماء، والحاضر: المقيم، يقال: على الماء حاضر، وقوم حُضَّار، إذا حضروا المياه، وقوله " فَشَنَّ عَلَيْهَا " أي: على الإبل، وَشَنَّ الماء على الشراب: أي فَرَّقه عليه، والإزاء - بكسر(4/351)
الهمزة بعدها زاي معجمة والمد -: مصب الماء في الحوض، قال أبو زيد: هو صخرة، وما جَعَلْتَ وقاية على مصب الماء حين يفرغ الماء، وَالسُّفْرة - بالضم - الجلدة التي يؤكل عليها الطعام، و " فتى " فاعل شَن، و " تُثْنِي " من الثناء وهو الذكر الجميل، و " أرْبَابه " ساداته، والمناسم: جمع مَنْسِم - كَمَجْلِس -: طرف خف البعير، وحاجٌ: جمع حَاجَة، و " يُعِدّون " من أعدّه لكذا: أي هيأه، و " ذالبدة " مفعولهُ، أراد به الأسد، واللبدة - بكسر اللام - وهو الشعر المتلبد بين كتفي الأسد، قال صاحب الصحاح: الوَردُ: الذي يُشَمُّ، وبلونه قيل للأسد وَرْد، وللفرس وَرْد، وقوله " إذا ما دَعَوْا إلخ " أراد إذا دعا القوم لبذل الخير أو لحماية حقيقة، وأراد به من يحق عليه حمايته من عشيرة وغيرها، والرعشنى: المسرع،
وقوله " وليس بجواز إلخ " هو مبالغة حائز، من حاز الشئ، إذا جمعه، والإحْلاس: جمع حِلْس - بالكسر -: أثاث البيت، والرَّحْلُ: المنزل والمأوى، ومِزْوَدِهِ معطوف على أحلاس، وَالْمِزْوَد - بالكسر -: ما يجعل فيه الزاد، وهو طعام السفر، وكَيْساً: مفعوله لاجله: أي لا يحوز: إمَّا لكيسه وإما لزهده، والْكَيْسُ: الكياسة، وهي خلاف الْحُمْقِ، وقوله " حزق " بالجر صفة لِحِوَّاز، والفُكاهة - بالضم - المزاح وانبساط النفس، يقول: هو ليس ممن إذا تمازح القوم تفكر أيَعْنُونه ويريدونه أم يعنون القِرْد لشبهه به، فيشتبه عليه الأمر، وقوله " ولا هِجْرَعٍ " بالجر معطوف على حُزُقّ، والهِجْرَعِ بكسر الهاء والراء (1) وسكون الجيم بينهما، وهو الطويل، و " سَمْج " صفته من السماجة، أي: ليس بطويل قبيح، وقوله " إذا مات إلخ " يقول: هو ليس ممن لا يبكي عليه قومه في الشدائد بعد موته، بل يبكون عليه، لأنه يدفع عنهم نوائب الدهر.
__________
(1) هجرع: فيها لغتان حكاهما صاحب القاموس: إحداهما كدرهم، والثانية كجعفر، وليس فيها كسر الراء كما يتوهم من عبارة المؤلف (*)(4/352)
الاعلال أنشد فيه - وهو الشاهد السبعون بعد المائة -: (من الوافر) 170 - * أعَارَتْ عَيْنُهُ أمْ لَمْ تَعَارَا * على أنه قد يُعل باب فَعِلَ من العيوب، فإن عارت أصله عَوِرت - بكسر الواو - فقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو قليل، والكثير عَوِرَ يَعْوَرُ، لأنه في معنى اعْوَرَّ يعوَرُّ، فلما كان اعور لابد له من الصحة لسكون ما قبل الواو صحت العين في عَوِرَ وَحَوِلَ ونحوهما، لأنها قد صحت فيما هو بمعناها، فجعلت
صحة العين في فَعِلَ أمارة لأنه في معنى افْعَلَّ قال سيبويه: لم يَذْهب به مذهبَ افْعَلَّ، فكأنه قال: عارت تَعْوَرُ، ومن قال هكذا فالقياس أن يقول: أعار الله عينه، وقد رواه صاحب الصحاح - وتبعه صاحب العباب - بالعين المهملة والغين المعجمة، ومعنى عارت عينه صارت عوراء، وقالا في المعجمة: وغارت عينه تغُور غَوْراً وغُؤوراً: دخلت في الرأس، وغارت تغار لغة فيه، وصدره عنده: * وَسَائِلَةٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ عَنِّي * أي: رب سائلة وأنشده ابن قتيبة في أدب الكاتب: * تُسَائِلُ بابْنِ أحْمَرَ مَنْ رَآهُ * على أن الباء بمعنى عن قال الجواليقي في شرحه: " عمرو بن أحمر من باهلة، وهو أحد عُوران قيس، وهم خمسة شعراء: تَمِيم بنُ أبيّ بن مقبل، والراعي، والشماخ، وحميد بن ثور، وابن أحمر، يقول: تسائل هذه المرأة عن ابن أحمر أصارت عينه عوراء أم لم تَعْوَرّ؟ يقال: عارت العين وعُرتُها أنا وعوَّرتها، ويروى تِعَارَا - بفتح التاء(4/353)
وكسرها - وهي لغة فيما كان مثله، وأراد تَعَارَنْ بالنون الخفيفة - التي للتأكيد فأبدل منها ألفاً لينه للوقف " انتهى.
وروى ابن دريد صدره في الجمهرة * ورُبَّتَ سَائِلٍ عَنِّي حفى * قال: وربما قالوا: في معنى رُبَّ، وأنشد البيت و " الحفي " بالحاء المهملة والفاء: المستقصى في السؤال
وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: " هذا البيت لعمرو بن أحمر، وهذا من الشعر الذي يدل على قائله، ويغنى عن ذكره، ووقع في شعره: ورُبَّتَ سَائِلٍ عَنِّي حَفّي، وهو الصحيح، لأنه ليس قبل هذا البيت مذكور يعود إليه الضمير من قوله: تُسَائِل، ولعل الذي ذكر ابن قتيبة رواية ثانية مخالفة للرواية التي وقعت إلينا من هذا الشعر، وبعد هذا البيت: فَإنْ تَفْرَحْ بِمَا لاَقَيْتُ قَوْمِي * لِئَامُهُمُ فَلَمْ أكثرْ حِوَارَا والحوار - بالحاء المهملة -: مصدر حاورته في الأمر إذا راجعته فيه، يقول: لم أكثر مراجعة من سُرَّ بذلك من قومي، ولا أعنفه في سروره لما أصابني، وكان رماه رجل يقال له مَخْشِيٌّ بسهم ففقأ عينه، وفي ذلك بقول: (من البسيط) شَلَّتْ أنَامِلُ مَخْشِي فَلاَ جَبَرَتْ * وَلاَ اسْتَعَانَ بِضَاحِي كَفِّهِ أبَدَا أهْوَى لَهَا مِشْقَصاً حَشْراً فَشَبْرَقَهَا * وَكُنْتُ أدْعُو قَذَاهَا الإثْمدَ الْقَرِدَا أعْشُو بِعَيْنٍ وأُخْرَى قَدْ أضَرَّبِهَا * رَيبُ الزَّمَانِ فَأمْسى ضَوْءُهَا خَمِدَا وقوله " أم لم تعارا " قياسه أن يقول: أم لم تَعَرْ كَلَمْ تخف، ولكنه أراد النون الخفيفة " انتهى كلامه وأورده ابن عصفور في الضرائر قال: " ومنها ردّ حرفِ العلة المحذوف لا لتقاء(4/354)
الساكنين اعتداداً بتحريك الساكن الذي حذف من أجله وإن كان تحريكه عارضاً، كقوله: * أعَارَتْ عَيْنُهُ أمْ لَمْ تَعَارَا * كان الوجه لم تَعَرْ، إلا أنه اضطر فرد حرف العلة المحذوف واعتد بتحريك الآخر وإن كان عارضاً، ألا ترى أن الراء من تَعارا إنما حركت لأجل النون الخفيفة المبدل منها الألف؟ والأصل لم تَعَرَنْ، ولحقت النون الخفيفة الفعل المنفي بلم كما
لحقته في قول الآخر: * يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا * " انتهى ولم يتصل خبرُ عَوَرِ عينه بسهم إلى بعض فضلاء العجم فقال في شرح أبيات المفصل: " وأراد بغُؤور العين ما هو سببه، وهو الهزل والنحافة، فسألت عنه أنَحْفَ جسمه وضعف بعدي أم هو على حاله؟ " هذا كلامه، وظن أن هذا الكلام من التغزل، وأجْحف ابن المستوفي وظن أن عينيه عَوِرتا فحمل عارت عينه على الواحدة وتَعارا على العينين، واعتذر للافراد أولا بأن كل شئ لا يخلو عن قرين يجوز أن يُعَبَّر (فيه) بالواحد عن الاثنين، فالألف في " تعارا " على قوله ضمير تثنية، والجزم بحذف النون، وتندفع الضرورتان عنه برد الألف والتوكيد مع لم، لكنه خلاف الواقع وعمرو بن أحمر شاعر مخضرم إسلامي قد ترجمناه في الشاهد الستين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد الواحد والسبعون بعد المائة -: (من الرجز) 171 - أيَّ قَلُوصٍ رَاكِبٍ تَرَاهَا * طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا(4/355)
على أن القياس عليهِنَّ وعَلَيْها، لكن لغة أهل اليمن قلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفاً، وهذا الشعر من كلامهم كذا أوردهما الجوهري في الصحاح، وهما من رجز أورده أبو زيد في نوادره نقلنا وشرحناه في الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة من شواهد شرح الكافية وقوله " أي قَلُوصٍ راكبٍ " باضافة قلوص إلى راكب، و " أي " استفهامية تعجبية، وقد اكتبست التأنيث من قلوص، ولهذا أعاد الضمير إليها مؤنثاً،
و" أي " منصوب، من باب الاشتغال، ويجوز رفعه على الابتداء، والقلوص - بفتح القاف -: الناقة الشابة، وطاروا: أسرعوا وأنشد بعده: (من المنسرح) نستوقد النبل بالحضيض ونصطاد نفوسا عَلَى الْكَرَمِ وتقدم شرحه في الشاهد التاسع عشر من هذا الكتاب وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من مجزوء الكامل) 172 - عَيُّوا بِأَمْرِهِمُ كَمَا * عَيَّتْ ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من * نشم وآخر من ثُمَامَهْ على أنه أدغم المثلان جوازاً في عَيُّوا قال سيبويه: " وقد قال بعضهم: حيوا وعَيُّوا لَمَّا رأوها في الواحد والاثنين والمؤنث، إذ قالوا: حيت المرأة، بمنزلة المضاعف من غير الياء، أجروا الجمع على ذلك، قال الشاعر: * غيرا بأمرهم ... البيت (1) * "
__________
(1) انظر الكتاب (ح 2 ص 387) (*)(4/356)
قال الأعلم: " الشاهد فيه إدغام عَيُّوا وجَعْلُه كالمضاعف الصحيح السالم من الإعلال والحذف، لادغامه " والبيتان من قصيدة لعَبِيد بن الأبرص الأسَديَّ خاطب بها حُجْراً أبا امرئ القيس، واستعطفه لبني أسد، وذلك أن حجراً كان يأخذ منهم إتاوة فمنعوه إياها فأمر بقتلهم بالعصى، فلذلك سموا عَبِيد الْعَصَى، ونفى من نفى منهم إلى تهامة، وأمسك منهم عمرو بن مسعود وعَبِيد بن الأبرص وحلف أن لا يساكنوه،
فلما خاطبه بها رق لهم حجر، وأمر برجوعهم إلى منازلهم، فاضطغنوا عليه ما فعل بهم فقتلوه، وأولها: يَا عَيْنُ مَا فَابْكِي بَنِي أسَدٍ * هُمُ أهْلُ النِّدَامَهْ (1) أهْلُ الْقِبَابَ الْحُمْرِ وَالنِّعَم الْمُؤْبَّلِ وَالْمُدَامَهْ وَذَوُو الْجِيَادِ الْجُرْدِ والأسل * الْمُثَقَّفَةِ الْمُقَامَهْ (2) حِلاًّ أبَيْتَ اللَّعْنَ حِلْلاً * إنَّ فيما قُلْتَ آمَهْ فِي كُلِّ وَادٍ بَيْنَ يثرب * فَالْقُصُورِ إلَى الْيَمَامَهْ تَطْرِيب عَانٍ أوْ صِيَا * حُ مُحرَّق وَزُقَاء هَامَهْ (3) وَمَنَعْتَهُمْ نَجْداً فَقَدْ * حَلُّوا عَلَى وَجَلٍ تَهَامَهْ عَيُّوا بِأَمْرِهِمُ كَمَا * عيت بيضتها الحمامه (4) جعلت لها عودين من * نشم وآخر من ثمامه
__________
(1) رواية الاغانى " يا عين فابكى ما بنى " (2) رواية الاغانى " وذوى الجياد " (3) رواية الاغانى " أو صوت هامه " (4) رواية الاغانى " برمت بنو أسد كما * برمت ببيضتها الحمامه " (*)(4/357)
فَنَمَتْ بِهَا في رَأْسِ شَا * هِقَةٍ عَلَى فَرْعِ الْبَشَامَهْ إمَّا ترت تَرَكْتَ عَفْواً * أوْ قَتَلْتَ فَلاَ مَلاَمَهْ أنْتَ الْمَلِيكُ عَلَيْهِمِ * وَهُمُ الْعَبِيدُ إلَى الِقِيَامَهْ ذُلُّوا وَأعْطُوكَ القيا * د كذل أدْبَرَ ذِي حَزَامَهْ (1) قوله " يا عين ما فابكي " ما: زائدة، والنعم: المال الراعي، وهو جمع لا واحد
له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد: النعم: الجمال فقط، وقيل: الإبل خاصة (2) ، يؤنث ويذكر، وهو هنا مذكر لوصفه بالمؤبَّل، باسم المفعول، ومعناه الْمُقْتَنَى، يقال: أبَّلَ الرجل تأبيلاً: أي اتخذ إبلاً واقتناها، والأسل: القنا، والتثقيف: التعديل، والمقامة: اسم المفعول من أقام الشئ بمعنى عدَّله وسواه، وفي العُباب: يقال: حِلاَّ: أي استَثْنِ، ويا حالف اذكر حِلاًّ، قال عَبِيد بن الأبرص لأبي امرئ القيس - وحلف أن لا يساكنوه -: حِلاًّ أبَيْتَ اللَّعْنَ ... البيت و " آمه " وفيه أيضاً في مادة (أوم) : الآمة العيب، وأنشد البيت أيضاً، وطرَّب تطريباً: أي مَدَّ صوته، والعاني: الاسير، والزُّقاءُ - بضم الزاي المعجمة بعدها قاف -: صياح الديك ونحوه، و " الهامة " تزعم العرب أن روح القتيل الذى لم يُدْرك بثأره تصير هامة - وهو من طيور الليل - فتزقو تقول: اسقوني اسقوني (3) ، فإذا أدرك بثأره طارت، وقوله " عَيّوا بأمرهم " الضمير لبنى أسد،
__________
(1) فسر المؤلف الحزامة على أنها بالحاء المهملة مفتوحة، والذى في الاغانى: ذلوا بسوطك مثلما * ذل الاشيقر ذى الخزامه والخزامة - بكسر الخاء المعجمة -: برة تجعل في أنف البعير ليذل ويقاد (2) هذا مقابل لقول لم يذكر، وهو: النعم يطلق على الابل والبقر والغنم (3) قال ذو الاصبع العدواني: يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني(4/358)
وفي الصحاح: يقال: عَيَّ بأمره وعييى إذا لم يهتد لوجهه، والإدغام أكثر، وأنشد البيت، والنشم - بفتح النون والشين المعجمة -: شجر يتخذ منه القِسِّيُّ، والثمام - بضم المثلثة -: نبت ضعيف لو خوص أو شبيه بالخصوص، وربما حُشِي به وسد به خَصاص البيوت، الواحدة ثمامة
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: " أصحاب المعاني يقولون: إنه أراد جعلت لها عودين: عوداً من نشم، وآخر من ثمامة، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه، فقوله: وآخر، على هذا التأويل ليس معطوفاً على عودين، لأنك إن عطفته عليهما كانت ثلاثة، وإنما هو معطوف على الموصوف الذي حذف وقامت صفته مَقَامه، فهو مردود على موضع المجرور، وهذا قبيح في العربية، لأن إقامة الصفة مُقام الموصوف إنما يحسن في الصفات المحضة، فإذا لم تكن محضة وكانت شيئا ينوب مناب الصفة من مجرور أو جملة أو فعل لم يجز إقامتها مقام الموصوف، لا يجوز جاءني من بني تميم وأنت تريد رجل من بني تميم، وقد جاء شئ قليل من ذلك في الشعر، وأما تشبيه أمر بني أسد بأمر الحمامة فتلخيصه أنه ضرب النشم مثلاً لذوي الحزم وصحة التدبير، وضرب الثُّمام مثلاً لذوي العجز والتقصير، فأراد أن ذوي العجز منهم شاركوا ذوي الحزم في آرائهم فأفسدوا عليهم تدبيرهم، فلم يقدر الحكماء على إصلاح ما جناه السفهاء، كما أن الثمام لما خالط النشم في بنيان العُش فسد العُش وسقط، لو هن الثمام وَضعفه، ولم يقدر النشم على إمساكه بشدته وقوته " هذا كلامه وفيه نظر من وجهين: أما أولاً: فلأنه لا ضرورة في تخريجه على الضرورة، ولا مانع في المعنى من عطف " آخَرَ " على عودين، إذ المراد جعلت عشها من هذين الجنسين: النشم، والثمامة: سواء كان أحدهما أكثر من الآخر أم لا، وليس المراد أنها لم تجعله سوى عودين لعدم، إمكانه بديهة، والمراد من العدد القلة لا ظاهره،(4/359)
وأما ثانياً: فلأنه ليس معنى التشبيه على ما ذكره، وإنما المراد من تشبيههم بها عدم الاهتداء لصلاح الحال قال الأعلم: " وصف خُرْق قومه وعجزهم عن أمرهم، وضرب لهم مثلاً
بِخُرْق الحمامة وتفريطها في التمهيد لعشها، لأنها لا تتخذ عشها إلا من كُسَار العيدان، فربما طارت عنها فتفرق عشها وسقطت البيضة فانكسرت، وذلك قالوا في المثل: أَخْرَقُ مِنْ حَمَامة، وقد بين خرقها في بيت بعده، وهو: جَعَلَتْ لَهَا عُوْدَيْن ... البيت: أي: جعلت لها مهاداً من هذين الصنفين من الشجر، ولم يرد عودين فقط ولا ثلاثة كما يتأول بعضهم، لأن ذلك غير ممكن " انتهى.
واستدل ابن يَسْعَوْن والصَّقَلِيْ وجماعة ممن شرح أبيات الإيضاح الفارسى على أنه لا بيد من حذف الموصوف بأن العرب فيما زعموا لا تقول: ما رأيت رجلين وآخر، لأن آخَرَ إنما يقابل به ما قبله من جنسه: من إفراد أو تثنية أو جمع، فلزم لذلك أن يكون التقدير عُوداً من نشم وآخر من ثُمامة، حتى يكون قد قابل مفرداً بمفرد، وهو الذي ذكروا من أنه إنما يكون على وفق ما قبله من إفراد أو تثنية أو جمع، هذا ما قالوه، وهو ليس بصحيح، بدليل قول ربيعة بن مُكَدَّم: (من الكامل) * وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بآخَرَ ثَالِثٍ (1) * ألا ترى أنه قابل بآخر اثنين؟ وقولُ أبي حية: (من البسيط) وَكُنْتُ أمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً * فَصِرْتُ أمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
__________
(1) هذا صدر بيت لربيعة بن مكدم، وعجزه قوله: * وأبى الفرار لى الغداة تكرمي * (*)(4/360)
وقول امرئ القيس: (من الطويل) فَوَالَى ثَلاثَاً وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبعاً * وَغَادَرْتُ أُخْرَى فِي قَنَاةِ رَفِيض وقول أبي ذؤيب: (من الطويل)
فَأبْلِغْ لَدَيْكَ مَعْقِلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ * مَآلِكَ تُهْدِيهَا إلَيْهِ هَدَاتُهَا عَلَى إثْرِ أُخْرَى قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أتَتْ * إلَيْنَا فَجَاءَتْ مُقْشَعِرّاً شواتُها المالِك: الرسائل، والشَّواة: جلدة الرأس، وهي أول ما يقشعر من الإنسان إذا فزع، وهذا مثل، ألا ترى أن أخرى في البيت مفردة مع أن ما قبلها ليس كذلك؟ وأما ما ذكروه من أن آخَرَ إنما يقابل به ما قبله من جنسه فأنهم يعنون به أن يكون الاسم الموصوف بآخر في اللفظ والتقدير يصح وقوعه على التقدير الذي قوبل بآخر على جهة التواطئ، نحو جاءني زيد ورجل آخرُ، وكذلك جاءني زيد وآخَرُ، لأن التقدير ورجل آخَرُ، وكذلك جاءني زيد وآخرى، تريد ونسمةٌ أخرى، فكذلك اشتريت فرساً ومركوباً آخَرَ وأنت تريد بالمركوب جملاً، لأن المركوب يصح وقوعه على الفرس والجمل على جهة التواطئ، وامتنع رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب وبالاخر عاقِدَ البيع، وإذا قوبل بآخر ما هو من جنسه فهل يشترط مع صحة وقوعه عليهما اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف: ذهب المبرد إلى أنه غير شرط، والصحيح أنه شرط، تقول: أتتني جاريتك وامرأة أخرى، فإن قلت أتتني جاريتك ورجل آخَرُ لم يجز، وكذلك لو قلت أتاني أخوك وامرأة أخرى، وإن قلت أتاني أخوك وإنسان آخَرُ جاز إن قصدت بالإنسان المرأة، وكذا جاءني أخوك وإنسان آخَرُ إن أريد بالإنسان الرجل، وهذا الذي ذكروه من أن آخر يقابل به ما قبله من جنسه هو المختار، وقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شئ من جنسه، وزعم أبو الحسن في الكبير له: أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فقال: لو قلت جاءني(4/361)
آخر من غير أن يُتكلم قبله بشئ لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفاً وهذا قميص آخر لم يحسن، ثم قال: وهذا جائز في الشعر كقول، أم الضحاك: (من الطويل)
فَقَالُوا شِفَاءُ الْحُبِّ حُبٌّ يُزِيلُهُ * مِنَ آخَرَ أوْ نَأْيٌ طَويلٌ عَلَى هَجْرِ أي من محبوب آخر، ولم يتقدم ذكر المحبوب، وإنما ذكر الحب الدال عليه، وأحسن من ذلك قوله: (من الوافر) إذَا نَادَى مُنَادٍ باسْم أُخْرَى * عَلَى اسْمِكِ سَرَّنِي ذَاكَ النِّدَاءُ لأن أخرى، وإن لم يتقدم قبلها في اللفظ شئ من جنسها فقد تقدم في النية، لأنه أراد إذا نادى مناد على اسمك باسم أخرى وروى جماعة: جَعَلَتْ لَهَا عُوْدَيْنِ مِنْ * ضَعَةٍ وَآخَرَ مِنْ ثُمَامَهْ والضَّعة - بفتح الضاد المعجمة بعدها عين مهملة -: شجر من الْحَمْض، يقال: ناقة واضعة للتي ترعاها، ونوق واضعات، قال ابن حبيب في أمثاله التي على أفْعَلْ مِنْ كَذَا: " يقال: هُوَ أخْرَقُ مِنْ حمامة، وذلك أنها تجئ إلى الغصن في الشجرة فتبنى عليها عشاً وتستودعه بيضها، قال عَبيد بين الأبرص: جَعَلَتْ لَهَا عُوْدَيْنِ مِنْ * ضَعَةٍ ... إلخ والضعة: شبيه بالأسَل، والثمام: فوق الذراع شبيه بالأسل وليس به، وروى الْخُوَارِزْمي: عُوْدَيْن مِنْ نَشَمٍ " هذا كلامه قال ابن المستوفي: رواية ضعة أجود، لضعف شجره وإن جاز النشم، وقالوا: أحمق من حمامة، لأنها تُعِشُّ بثلاثة أعواد في مهب الريح وبيضها أضيع شئ، وقال ابن السيرافي: " وَضَعَتْ لَهَا عُوْدَيْنِ مِنْ ضَعَةٍ ... الخ يريد أنهم لم يتوجهوا للخلاص مما وقعو فيه، وإنما جعلهم كالحمامة لأن فيها خرقاً، وهي قليلة الحيلة، ويقال في الأمثال: هُوَ أخْرَقُ مِنْ حَمَامَة، وذلك(4/362)
لأنها تبيض في شر المواضع وأخوفها على البيض، فإن اشتدت الريح وتحركت الشجرة سقط بيضها، والضعة: ضرب من الشجر " انتهى.
وقوله " فَنَمت بها " أي: بالبيضة، والنُّمُوّ معروف، وأراد في رأس شجرة شاهقة: أي عالية، والفرع: الغصن، والبشامه: شجرة طيبة الريح يستاك بعيدانها، وقوله " كذُلِّ أدْبَرَ ذي حَزَامَة " الأدْبر: وصف بمعنى المدبر من الإدبار ضد الإقبال، والْحَزَامَة - بالفتح -: مصدر حُزُمَ الرجل - بالضم - حزامة فهو حازم، والحزم: ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة وعَبِيد بن الأبرص - بفتح العين وكسر الموحدة - شاعر جاهلي ترجمناه في الشاهد السادس عشر بعد المائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 173 - وَكُنَّا حَسِبْنَاهُمْ فَوَارِسَ كَهَمْس * حَيُوا بَعْدَ ما ما توا مِنَ الدَّهْرِ أعْصُرَا على أنه مَنْ أظهر في حَيي ولم يدغِم قال في الجمع حَيُوا كخَشُوا مخففاً كما في البيت، وأصلهما حييوا وخشيوا، نقلت ضمة الياء الثانية إلى الياء الأولى بعد حذف كسرتها، فاجتمع ساكنان: الياء الثانية والواو فحذفت الياء، فصار حَيُوا وخَشُوا قال سيبويه: " فإذا قلت: فَعَلُوا وَأُفْعِلُوا قلت: حَيُوا وأُحْيُوا، لأنك قد تحذفها في خَشُوا وأخْشُوا، قال الشاعر: * وَكُنَّا حَسِبْنَاهُمْ ... البيت * " وقال ابن السراج في الأصول: " فإذا قلت: فَعَلُوا وَأُفْعِلُوا قلت: حَيُوا كما تقول: خَشُوا، فتذهب الياء، لأن حركتها قد زالت كما زالت في ضربوا، فتحذف لالتقاء الساكنين ولا تحرك بالضم، لثقل الضمة في الياء، وأحْيَوْا مثل(4/363)
اخْشُوا " وأنشد البيت أيضاً.
وقد اشتهر رواية البيت بكُنَّا حَسِبْنَاهُمْ، واستشهد به جماعة كذا، وصوابه: وَحَتَّى حِسبْنَاهُمْ، وفيه شاهد آخر وهو جمع فاعل الوصفي على فَوَاعِل وهو آخر أبيات أربعة لأبي حُزابة أوردها الأصبهاني في الأغاني، قال: " أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثني محمد بن الهيثم الشامي قال: حدثني عمي أبو فراس عن العُذْري قال: دخل أبو حُزابة على عُمَارة بن تميم ومحمد بن الحجاج وقد قدما سجستان لحرب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان عبد الرحمن لما قدماها هَرَب ولم يبق بسجستان من أصحابه إلا نحو سبعمائة رجل من بني تميم كانوا مقيمين بها، فقال لهما أبو حُزَابة: إن الرجل قد هرب منكما ولم يبق من أصحابه أحد، وإنما بسجستان من كان بها من بني تميم قبل قدومه، فقالا له: ما لهم عندنا أمان، لأنهم قد كانوا مع ابن الأشعث وخلعوا الطاعة، فقال ما خلعوها ولكنه ورد عليهم في جمع عظيم لم يكن لهم بدفعه طاقة، فلم يجيباه إلى ما أراد، وعاد إلى قومه وحاصرهم أهل الشام فاستقتلت بنو تميم، فكانوا يخرجون إليهم في كل يوم فيدافعونهم ويكبسونهم بالليل، وينهبون أطرافهم حتى ضَجِرُوا بذلك، فلما رأى عُمَارَة فعلهم صالحم وخرجوا إليه، فلما رأى قلتهم قال: أما كنتم إلا ما أرى؟ قالوا: لا، فإن شئت أن نقيلك الصلح أقلناك وعدنا للحرب، فقال: أنا غنيّ عن ذلك، فأمَّنهم، فقال أبو حزابة في ذلك: فلِلَّه عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فَوَارِسٍ * أكَرَّ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْهُمْ وَأَصْبَرَا وَأَكْرَمَ لَوْ لاَقَوْا سَدَاداً مُقَارِباً * وَلَكِنْ لقواطما مِنَ الْبَحْرِ أخْضَرَا فَمَا بَرِحُوا حَتَّى أعَضُّوا سُيُوفَهُمْ * ذُرَى الْهَامِ مِنْهُمْ وَالْحَدِيدَ الْمُسْمَّرَا وَحَتَّى حَسِبْنَاهُمْ فوارس كهمس * حيوا بعد ما مَاتُوا مِنَ الدَّهْرِ أعْصُرَا " انتهى ما أورده الأصبهاني(4/364)
و " كهمس " على وزن جعفر، قال صاحب الصحاح: الكَهْمَسُ: القصير، وكهمس: أبو حي من العرب، وأنشد هذا البيت بلفظ " وكنا حسبناهم "، وكذا قال صاحب العباب، قال ابن بري في أمالية على الصحاح: " البيت لموْدود العنبري، وقيل لأبي حُزابة الوليد بن حنيفة، وكَهْمَسٌ هذا هو كهمس ابن طَلْق الصرِيميّ، وكان من جملة الخوارج مع بلال بن مِرْداس، وكانت الخوارج وقعت بأسلم بن زُرْعة الكلابي، وهم في أربعين رجلاً وهو في ألفي رجل، فقتلت قطعة من أصحابه وانهزم إلى البصرة، فقال مودود هذا الشعر في قوم من بني تميم فيهم شدة، وكانت لهم وقعة بسجستان، فشبههم في شدتهم بالخوارج الذين كان فيهم كهمس ابن طلق، وقوله " حيوا " يعني الخوارج أصحاب كهمس: أي كأن هؤلاء القوم أصحاب كهمس في شدتهم وقوتهم ونصرتهم، وأنشد الأبيات قبله وعلم من هذا أن كهمساً في البيت ليس أبا حي من العرب وإنما هو أحد الخوارج من أصحاب بلال بن مرداس الخارجي قال المبرد في الكامل: " وكان مرداس أبو بلال بن حُدَيْر - وهو أحد بني ربيعة ابن حنظلة - يعظمه الخوارج وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، وكان مِرْدَاس قد شهد صفِّين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكر التحكيم، وشهد النَّهْرَوَان، ونجا فيمن نجا، وكان حبسه ابن زياد بن أبيه فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى جِدّاً ابن زياد في طلب الشُّرَاة عزم على الخروج، فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حُرَيث ابن حَجَل، وكَهْمَسُ بن طلق الصَّرِيمِيُّ، فأرادوا أن يولوا أمرهم حُرَيثاً فأبى، فولوا أمرهم مِرْداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رَباح الأنصاري - وكان له صديقاً - فقال له: يا أخي أين تريد؟ فقال: أريد أن أهرب بدينى وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة، فقال له: أعَلِمَ بكم أحد؟ قال: لا،
قال: فارجع، قال: أو تخاف عَلَيَّ مكروهاً؟ قال: نعم، وأن يؤتى بك، قال: فلا(4/365)
تخف، فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً ولا أقاتل إلا من قاتلني، ثم مضى حتى نزل آسَكَ، وهو ما بين رامَهُرْمُزَ وأرَّجان، فمر به مال يُحمل لابن زياد - وقد قارب أصحابه الأربعين - فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وَأعْطِيَة أصحابه ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما أخذنا أعطيتنا، فجهز عبيد الله بن زياد أسلم بن زُرْعة في أسْرع وقت، فلما صار إليهم أسلمُ صاح بهم أبو بلال: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نريد قتالاً، فما الذي تريده؟ قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مِرداس: إذاً يقتلنا، قال وإن قتلكم؟ قال تَشْرِكُهُ في دمائنا، قال: إني أدين بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حُرَيْثُ ابْنُ حَجَل: أهو محق وهو يطيع الفجرة - وهو أحدهم - ويقتل بالظنة ويخص بالفئ ويجور في الحكم؟ ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال، فلما ورد على ابن زياد غضب عليه، وقال: ويلك، أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟ ثم ندب ابنُ زياد لهم الناسَ فاختار عَبَّادَ بن أخضر فوجهه في أربعة آلاف والتقوا في يوم جمعة، فلم يزالوا يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: يا قوم هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا، قالوا: لك ذلك، فرمى القوْم أجمعون بأسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عَبَّاد ومن معه - والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد - حتى مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعاً، وكان فيهم كَهْمَسٌ، روي أنه كان من أبر الناس بأمه فقال لها يوماً: يا أُمَّهْ لولا مكانك لخرجت، فقالت: يا بُنَيَّ قد وهبتك لله، فخرج مع مرداس فقتل وصُلب " هذا ما لخصته من الكامل باختصار
وأبو حُزَابة: بضم الحاء المهملة بعدها زاي معجمة وبعد الألف موحدة، قال صاحب الأغاني: " أبو حزابة اسمه الوليد بن حنيفة، أحد بني ربيعة بن حنظلة(4/366)
ابن مالك بن زياد مَنَاة بن تميم، شاعر من شعراء الدولة الأموية القدماء، بدَوِيّ حضرى سكن البصرة، واكتتب في الديوان، وضرب عليه البعث إلى سجستان، فكان بها مدة وعاد إلى البصرة، وخرج مع ابن الأشعث لما خرج على عبد الملك، وأظنه قتل معه، وكان شاعراً راجزاً خبيث اللسان هَجَّاء ".
وروى بسنده إلى العذري قال: " دخل أبو حُزَأبة على طلحة الطلحات الخزاعي وقد استعمله يزيد بن معاوية على سِجِستان، وكان أبو حُزَابة قد مدحه فأبطأت عليه الجائزة من جهته، ورأى ما يعطى غيره، فأنشده: (من الطويل) وَأدْلَيْتُ دَلْوِي فِي دِلاءٍ كَثِيرَةٍ * فَجِئْنَ مِلاَءً غَيْرَ دلوى كما هيا وأهلكنى أنْ لاَ تَزَالُ رَغِيبَةٌ * تُقَصِّر دُونِي أوْ تَحُلُّ وَرَائِيَا أرَانِي إذا اسْتَمطَرْتُ مِنْكَ سَحَابَةً * لِتُمْطِرَنِي عَادَتْ عَجَاجاً وَسَافِيَا قال: فرماه طلحة بحُقّ فيه دُرَّة، فأصاب صدره، ووقعت في حجره، ويقال: بل أعطاه أربعة أحجارٍ، وقال: لا تُخْدَعْ عنها، فباعها بأربعين ألفاً، وكان هوى طلحة الطلحات أمَويّاً، وكان بنوا أمية يكرمونه، وأنشدَه أبو حزابة يوماً: (من الرجز) يَا طَلْحَ يَأْبَى مَجْدُكَ الإِخْلاَفَا * وَالْبُخْلُ لاَ يَعْتَرِفُ اعْتِرَافَا إنَّ لَنَا أحْمِرَةً عِجَافَا * يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا فأمر له طلحة بإبل ودراهم، وقال له: هذه مكان أحمرتك " وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز)
174 - * لاَثٍ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * على أن فيه قلباً مكانياً، وأصله لائث(4/367)
وأورده سيبويه في موضعين من كتابه: الأول في باب تحقير ما كان فيه قلب، قال: " اعلم أن كل ما كان فيه قلب لا يرد إلى الأصل، وذلك لأنه اسم بني على ذلك كما بني قائل على أن يبدل من الواو الهمزَة، ولكن الاسم يثبت على القلب في التحقير كما تثبت الهمزة في أدْؤُرٍ إذا حقرت، وفي قائل، وإنما قلبوا كراهية الواو والياء، كما همزوا كراهية الواو وَالياء، فمن ذلك قول العجاج: * لاَثٍ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * إنما أراد لائِثٌ، ولكنه أخر الواو وقدم الثاء، وقال طريف بن تميم: (من الكامل) فَتَعَرَّفُونِي إنَّنِي أنا ذاكم * شاك سلاحي فِي الْحَوَادِثِ مُعْلِمُ فإنما أراد الشائك فقلب " (1) انتهى.
والموضع الثاني في باب ما الهمزة فيه في موضع اللام من ذوات الياء والواو، قال فيه: " وأما الخليل فكان يزعم أن قوله جاء وشاء ونحوهما اللامُ فيهنَّ مقلوبة، وقال: ألزموا ذلك هذا، واطرد فيه، إذ كانوا يقلبون كراهية الهمزة الواحدة، وذلك نحو قولهم للعجاج: * لاثب بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * وقال: * فَتَعَرُّفُونِي إنَّنِي ... البيت * وأكثر العرب تقول: لاثٌ وشاكٌ سلاحُهُ، فهؤلاء حذفوا الهمزة " انتهى (2) .
قال ابن جني في شرح تصريف المازنى: " ولا ث من لاَثَ يَلُوث إذا جمع
__________
(1) هذا تلخيص لكلام سيبويه، انظر الكتاب (ح 2 ص 129) (2) انظر الكتاب (ح 2 ص 378) (*)(4/368)
ولفّ، وأصله لائث، فقلبوا العين إلى موضع اللام، فزالت الهمزة التي إنما وجبت لمصاحبة العين ألفَ فاعِل، وحكي أنهم يقولون: شاكٌ ولاثٌ، بحذف العين أصلاً، وأنشد: * لاَثٌ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * ووجه هذا أنهم لما قالوا في الماضي: شَاكَ، ولاَثَ، وسكنت العين بانقلابها ألفاً وجاءت ألف فاعِل التقت ألفان، فحذفت الثانية حذفاً، ولم يحركها حتى تنقلب همزة كما فَعَل من يقول: قَائِم، وبِائعْ " انتهى.
وفي العُباب: " ونبات لائثٌ ولاثٍ، على القلب، إذا التف والتبس بعضه على بعض، قال العجاج: في أيْكِةٍ فَلاَ هُوَ الضْحيُّ * وَلاَ يَلُوحُ نَبْتُهُ الشَّتِيُّ لاثٍ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * فَتَمَّ مِنْ قَوَامِهَا قُومِيُّ " انتهى والأيكة: غَيْضَة تنبت السِّدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر، وقال أيضاً في مادة (ع ب ر) بالعين المهملة والباء الموحدة: والعبري - بالضم -: ما نبت من السِّدْر على شطوط الأنهار وعَظُم، وقال عُمارة: العبري من السِّدْر ضخم الورق قليل الشوك، وهو أطول من الضِّال.
وقال أبو زياد: الْعُبْرِيُّ ما لا شوك فيه من السِّدر، وإنما الشوك في الضال من السدر، ولم يقل أبو زياد إن الْعُبْرِيّ من السدر ما نبت على الماء، والرواة على أن العبري منه ما نبت على الماء، قال العجاج يصف البَرْدِيَّ:
لاَثٌ بِهِ الأَشَاءُ وَالْعُبْرِيُّ " انتهى والغيضة: الشجر الملتف، وقوله " في أيكة " أي: ذلك الْبَرْدِيّ في أيكة، والبردى: نبات ضعيف يعمل من الحصر على لفظ المنسوب إلى الْبَرْد، و " هو "(4/369)
ضمير البردي، والضَّحِيُّ: البارز للشمس، وهو فَعِيل من ضَحِيَ للشمس - بكسر الحاء وفتحها - ضَحَاءً بالمد وفي المستقبل بفتحها لا غير: أي برز إليها، والشَّتِي: فعيل المنسوب إلى الشتاء وفي الصحاح " الأشاء بالفتح والمد صغار النخل الواحدة أشَاءَ، والهمزة فيه منقلبة من الياء لأن تصغيرها أُشَيٌّ، ولو كانت الهمزة أصلية لقيل أشيئ، و " تم " فعل ماضى من التمام، والقوام - بالفتح -: الاعتدال، والقومي - بالضم -: القامة وحسن الطول " وقال الأعلم: " وصف مكاناً مُخْصِباً كثير الشجر، والأشاء: صغار النخل واحدتها أشاءة، والْعُبْرِيّ: ما نبت من الضال على شطوط الأنهار، وهو منسوب إلى الْعُبْر، وهو شاطئ النهر، واللائث: الكثير الملتف " وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الكامل) 175 - فتعرفوني إنني أنا ذاكم * شاك سلاحي في الحوادى مُعْلِمُ على أن أصله شائك، فقلبت العين إلى موضع اللام، وتقدم نقل كلام سيبويه والبيت ثاني أبيات لطريف بن تميم العنبري وقبله: أو كلما وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيْلَةٌ * بَعَثُوا إليَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ وبعده:
تَحْتِي الأَغَرُّ وَفَوْقَ جِلْدِي نَثْرَةٌ * زَغْفٌ تَرُدُّ السَّيْفَ وَهْوَ مُثَلَّمُ وَلِكُلِّ بَكْرِيٍّ لَدَيَّ عَدَاوَةٌ * وَأَبُو رَبِيْعَةَ شَانِئٌ وَمُحَرَّمُ حَوْلِي أُسَيْدٌ وَالْهَجِيمُ وَمَازِنٌ * وَإذَا حَلَلْتُ فَحَوْلَ بَيْتِي خَضَّمُ(4/370)
وقوله " أو كلما وردت عكاظ " هو شاهد من شواهد سيبويه، قال: " وقد جاء شئ من هذه الأشياء المتعدية التي هي على فاعِل على فَعِيل حين لم يريدوا به الفعل شبهوه بظريف ونحوه، وقالوا: ضَرِيبُ قِدَاح، وصَرِيمٌ للصارم، والضريب: الذي يضرب بالقداح بينهم، وأنشد البيت، وقال: يريد عارفهم " انتهى.
وقوله " أو كلما " استفهام، وعكاظ: أعظم أسواق العرب قريبة من عرفات، كانت تقوم في النصف من ذي القَعْدة إلى هلال ذي الحِجَّة، قال صاحب العباب: " العارف والعريف بمعنى، كالعالم والعليم، وأنشد البيت، ثم قال: والعريف هو النقيب، وهو دون الرئيس، وعَرُف فلان - بالضم - عرافة - بالفتح - أي: صار عريفاً، وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت عَرَف فلان علينا سنين يَعرُفُ عرافة مثل كتب يكتب كتابة " انتهى ورواه ابن دريد في الجمهرة " بَعَثوا إليَّ قبيلهم " قال: قبيل القوم: عريفهم، يقال: نحن في قِبالة فلان: أي في عرافته، وأنشد البيت.
وقال: قالوا: معناه عريفهم، ويتوسم: يتفرس ويتطلب الوسم، وهي العلامة، وهو مشروح بأبسط من هذا في الطويل وقوله " فتعرفوني إلخ " أي: فقلت لهم: تعرفوني، وتَعَرَّفَه: تطلب معرفته بالعلامات، وقوله " إنني " بالكسر استئناف: أي أنا ذاكم الذي حُدِّثْتُم حديثه، ورى أيضاً " فتوسموني ": أي تطلبوا سمتي وعلامتي
وقوله " شاكٍ سلاحي " الشاكي: التام السلاح، وقيل: معناه الحاد السلاح، شبه بالشوك، روي بكسر الكاف وضمها، فمن كسر جعله منقوصاً مثل (قاضٍ) وفيه قولان: قيل: أصله شائك فقلب، كما قالوا: جرف هَار، واشتقاقه على هذا من الشوكة، وقيل: أصله شاكك من الشِّكَّة وهي(4/371)
السلاح، كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا الآخر منهما ياء وأعلوه إعلال قاضٍ، ومن ضم الكاف ففيه قولان أيضاً: أحدهما أن أصله شَوِك - بكسر الواو - قلبت ألفاً، وقيل: أصله شائك، فحذفت الهمزة كما قالوا: جُرُفٌ هارٌ - بضم الراء - وفيه لغة ثالثة لا تجوز في هذا البيت، وهي شاكُّ - بتشديد الكاف - وهذا مشتق من الشِّكَّة لا غير و " معلم " اسم فاعل من أعلم نفسه في الحرب بعلامة: أي شهر نفسه بها ليعرف، والأغر: اسم فرسه، ومعناه الفرس الذي له غرة، والنَّثرة - بفتح النون -: الدرع السابغة، وكذلك الزغف - بفتح الزاي وسكون الغين المعجمتين - ومنه يقال: زغف في الحديث، إذا زاد فيه، وقيل: هي اللينة الْمَجَسَّة، وأُسيْد والْهُجَيْم - بتصغيرهما - ومازن: قبائل من تميم، وخضم - بفتح الخاء وتشديد الضاد المعجمتين -: لقب لبني العنبر بن عمرو بن تميم وسبب هذا الشعر على ما رواه المفضل بن سلمة في الفاخر ومحمد بن حبيب في كتاب المقتولين، وابن عبد ربه في العقد الفريد.
قالوا: كانت سوق عكاظ يتوافَوْن بها من كل جهة، ولا يأتيها أحد إلا ببرقُع، ويعتم على برقُعه خشية أن يؤسر فيكثر فداؤه، فكان أول عربي استقبح ذلك وكشف القناع طريف ابن تميم العنبريِّ لَمَّا رآهم يتطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح الله من وطن نفسه على الاسر، وأنشد يقول:
أو كلما وردت ... الابيات وقال أبو عبيدة مَعْمَرُ بن المثنى: كانت الفرسان إذا وردت عكاظ في الأشهر الحرم أمن بعضهم بعضاً فتلثموا أو تقنعوا، لئلا تعرف فيقصد إليها في الحرب، وكان طريف بن تميم لا يتقنع مكا يتقنعون، فوافى عكاظ - وقد حشدت بكر بن وائل، وكان طريف قبل ذلك قتل شُراحيل أحد بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان(4/372)
ابن ثعلبة، فقال حَمَصِيصَة أحد بني شيبان: أرُوني طريفاً، فأروه إياه، فجعل كلما مر به طريف تأمله ونظر إليه حتى فطن له طريف فقال: مالك تنظر، قال: أتوسمك لأعرفك فإن لقيتك في حرب فلله عليَّ أن أقتلك إلا أن تقتلني، فقال طريف في ذلك: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... الابيات فمضت مدة، ثم إن عائذة - وهم يقولون: إنهم من قريش يقال لها: عائذة بن لؤي بن غالب، وهم حلفاء لبني أبي ربيعة - خرج منهم رجلان يتصيدان فعرض لهما رجل من بني شيبان فذَعَرَ صيداً لهما فقتلاه، فتنادتْ بنو مُرِّ بن ذُهْل فأرادوا قتلهما بصاحبهم، فمنعهم بنو أبي ربيعة، فقال هانئ بن مسعود: يا بني أبي ربيعة إن إخوتكم قد أرادوا ظلمكم فامتازوا عنهم، فاعتزلتهم بنو أبي ربيعة وساروا حتى نزلوا ماء لهم يقال له: مبائض، فلما نزلوه هَرَب عبد منهم فأتى بلاد تميم فأخبرهم أن حيّاً جريداً من بني بكر بن وائل قد نزلوا على مبائض وهم بنو أبي ربيعة، فقال: طريف هؤلاء من كنت أبغي، إنما هم أكلة رأس، وهو أول من قال هذا المثل، يراد بذلك القلة، أي: عدتهم عدة يسيرة رأس يشبعها، فأقبل طريف في بني عمرو بن تميم واستغزى قبائل من بني تميم فأقبلوا متساندين وتقاتلوا وتشاغلت تميم بالغنائم، وأقبل حَمصِيصَة بن جندل وليس له هَمٌّ غير
طريف، فلما رآه طعنه فقلته فانهزمت بنو تميم، وقال حمصيصة يرد على طريف: (من الكامل) وَلَقَدْ دَعَوْتَ، طَرِيفُ، دَعْوَةَ جَاهِلٍ * سَفَهَاً وَأنْتِ بِمَنْظَرٍ قَدْ تَعْلَمُ فَأَتَيْتَ حَيّاً فِي الْحُرُوبِ مَحِلُّهُمْ * وَالْجَيْش باسْمِ أَبِيهِمُ يُسْتَهْزَمُ فَوَجَدْتَ قَوْماً يَمْنَعُونَ ذِمَارَهُمْ * بُسُلاَ إذَا هَابَ الْفَوَارِسُ أُقْدَمُوا(4/373)
وَإذَا دَعَوْتُ بَنِي رَبِيعَةَ أقْبَلُوا * بِكَتَائِبٍ دُونَ النِّسَاءِ تَلَمْلَمُ سَلَبُوكَ درعا والاغر كليهما * وبنو أُسَيْدٍ أسْلَمُوكَ وَخَضَّمُ وطريف بن تميم شاعر فارس جاهلي، وقيل: هو ابن عمرو، والعنبر: قبيلة من بني تميم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السادس والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 176 - وَكَحَّلَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَوَاوِرِ عَلَى أن أصله العواوير فحذفت الياء ضرورة وبقيت كسرتها دليلاً عليها.
قال الأعلم: " الشاهد فيه تصحيح واو العواور الثانية، لأنه ينوي الياء المحذوفة والواو إذا وقعت في هذا الموضع لم تهمز لبعدها من الطريف الذي هو أحق بالتغيير والاعتلال، ولو لم تكن فيه ياء منوية للزم همزها، كما قالوا في جمع أوَّل: أوائل، والأصل أواول، والعواوير، جمع عُوَّار، وهو وجع العين، وهو أيضاً ما يسقط في العين، وجَعَلَ ذلك كُحْلاً للعين على الاستعارة " انتهى.
والبيت من رجز لجندل بن المثنى الطُّهَوِيّ وقبله: غَرَّكِ أنْ تَقَارَبَتْ أبَاعِرِي * وَأنْ رَأَيْتِ الدَّهْرَ ذَا الدوائر
حنى عِظَامِي وَأُرَاهُ ثَاغِرِي * وَكَحَّلَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَوَاوِرِ قال ابن السيرافي: " خاطب امرأته وأراد أنه ترك السفر لكبره، وقوله: تقاربت أبا عرى، يريد أنه ترك السفر والرحلة إلى الملوك فإبله مجتمعة لا يفارق بعضها بعضاً " ورد عليه أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب بأنه غلط، وإنما معناه قلّت: يعني من قلتها قَرُبَ بعضها من بعض، وقال العيني: " معناه قربت من(4/374)
الدناءة، من قولك: شئ مُقَارِبٌ، إذا كان دوناً، وكذلك رجل مقارب " انتهى.
وقوله " غركِ " بكسر الكاف، وهو من قولهم: ما غرك بفلان غرّاً، من باب قتل: أي اجترأت عليه؟ فيكون التقدير هنا غرك بي، و " أن تقاربت " و " أن رأيت " فاعله، ويمكن أن يكون من قولهم غَرَّته الدنيا، من باب قَعَد: أي خدعته بزينتها.
فهي غَرُور، مثل رَسول، ولا يجوز أن يكون من قولهم: غر الشخصُ يغِر من باب ضرب غَرارة - بالفتح - فهو غار، وغِر - بالكسر -: أي جاهل بالأمور غافل عنها، لأنه فعل لازم، و " أباعر " جمع بعير، قال الأزهري: " البعير مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبْتُ بعيري، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والبكر والبَكْرَة، مثل الفتى والفتاة، والقَلُوص كالجارية، هكذا حكاه جماعة منهم ابن السِّكَّيت، وهذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة " وكذا قال ابن جني والدوائر: جمع دائرة وهي المصيبة والنائبة، و " ذا " صفة الدهر، والرؤية بصرية، وجملة " حتى عظامي " حال من الدهر، وحنيت الشئ: عطفته وأملته، و " عظامي " مفعول حنى، وقوله " وأراه ثاغري " أرى بالبناء للمفعول من أراني الله زيداً فاضلاً، يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فلما بني للمفعول ناب
المفعول الأول - وهو هنا ضمير المتكلم - مناب الفاعل، والهاء من أراه ضمير الدهر هو المفعول الثاني، و " ثاغري " المفعول الثالث، هذا هو الأصل، ولكن غلب على استعمال المبني للمفعول بمعنى الظن، وثاغري - بالثاء المثلثة والغين المعجمة - مضاف إلى الياء، قال الجوهري: ثغَرْتُه: أي كسرت ثغره، وفي المصباح: الثَّغْر: الْمَبْسَم، ثم أطلق على الثنايا، وإذا كسر ثغر الصبي قيل: ثُغِرَ ثغوراً، بالبناء للمفعول، وثَغَرْتُه أثْغَرُهُ - من باب نفع - كسرته، وإذا نبتت(4/375)
بعد السقوط قيل: أثْغَر إثغاراً مثل أكرم إكراماً، وإذا ألقى أسنانه قيل: اثَّغَرَ - على افتعل - قاله ابن فارس، وبعضهم يقول إذا نبتت أسنانه: قيل اثَّغَر - بالتشديد - وقال أبو زيد: ثُغِر الصبي بالبناء للمفعول يُثْغَرُ ثَغْراً، وهو مثغور، إذا سقط ثغره، وكَحَلْتُ عينه كَحْلاً - من باب قتل -: أي جعلت فيها الكحل، وأما كَحِلتْ عينُه كَحَلاً - من باب تَعِب - فهو سواد يعلو جفونها خِلقة، والرجل أكْحَل والمرأة كَحْلاء، وجملة " كحَّل " معطوفة على جملة " حَنَى عظامي " ورواه أبو محمد الأعرابي: " وكَاحِلَ " فيكون معطوفاً على ثاغري، والأول أولى، لأنه يصف عجزه وضعف بصره، والعُوَّار - بضم العين المهملة وتشديد الواو - قال الجوهري: هو القَذى في العين، وفان ابن جني: هو الرمد، وقيل: الرمد الشديد، وقيل: هو وخز يجده الإنسان في عينه، يريد أن الدهر جعل في عينيه القذى والرمد بدل الكحل وجَنْدَل الطُّهَوِي: قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: هو شاعر راجز إسلامي مُهاجٍ للراعي، وجندلٌ من بني تميم، وطُهَيَّة هي بنت عبد شمس بن سعد بن زيد بن تميم غلب نسبة أولادها إليها.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد
سيبويه -: (من الرجز) 177 - فِيهَا عَيَأئِيلُ أسُودٍ وَنُمُرْ على أن أصله عيائل بهمزة مكسورة، والياء حصلت من إشباع كسرتها لضرورة الشعر كياء الصياريف (1) ، فَلَمْ يُعْتَدّ بها فصارت الياء بعد الالف
__________
(1) وذلك كقول الفرزدق تنفى يداها الحصا في كل هاجرة * نفى الدارهيم تنقاد الصياريف (*)(4/376)
في الحكم مجاورة للطرف فهمزت لذلك، كذا في المفصل وشروحه وقال السخاوي في سفر السعادة: " والياء الثانية في عيائيل مثل ياء الصياريف للإشباع، لأنه جمع عَيِّل، وإنما يجمع عَيِّل على عيائل، فلهذا يهمز ولا يعتد بياء الإشباع، وتكون الياء فيه كأنها قد وَلِيت الطرف، ومن جعل عياييل جمع عَيَّالٍ من عال يَعِيل، إذا تمايل في مشيه، كما قال في وصف الأسد: (من البسيط) * كَالْمَرْزُبَانِيِّ عَيَّالٍ بِآصَالِ * فالياء على هذا التقدير بعيدة من الطرف، لأن الياء الثانية ليست للإشباع فلا تهمز.
فإن قيل: فكيف جمع عَيَّالاً على عياييل؟ قيل: لأن فعّالاً مُؤَاخٍ لفَعُّول وفِعِّيل، وهما يجمعان على فعاعيل، والمؤاخاة من أجل وقوع حرف اللين في الثلاثة بين العين واللام " انتهى.
وبهذا فسره ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه، قال: " العيال المتبختر وجمعه عياييل " وكذا في شرحها للأعلم، قال: " العياييل جمع عَيّال، وهو الذي يتمايل في مشيه لعباً أو تبختراً، يقال: عال في مشيه يعيل، إذا تبختر ".
وتبعهما
ابن بري في حواشي الصحاح.
وحمل الصاغاني في العباب ما في البيت على الأول قال: " وعِيال الرجل: من يعوله، وواحد العيال عَيِّل، والجمع عيائل، مثل جيد وجياد وجيائد، وقد جاء عيائيل كما في البيت " وقال ابن السيرافي: " كأنه قال فيها متبخترات أسود، ولم يجعلها جمع عَيِّل، لكن جعلها جمع عيال - بالفتح والتشديد - " انتهى.
وخبط الأندلسيُّ في شرح المفصل خبط عشواء قال: " روى أبو عثمان قال:(4/377)
سمعت الأصمعي يقول في جمع عَيِّل - بكسر العين - وهو المتبختر: عيائيل، وهو من عال يعيل، إذا افتقر " انتهى وكتب عليه: " عَيْلٌ: بكسر العين الملفوظ بها عيناً المكتوبة صورتها خطاً، ولعله أراد بها عين اللفظ التي هي ياء " هذا كلامه.
وقد نسب إليه شيئاً ولم يقله، وإنما قال أبو عثمان المازني في تصريفه ما نصه: " وكذلك إذا جمعت سيِّداً وعَيِّلاً (على هذا المثال (1)) قلت: عيائل وسيائد، شبهوا هذا بأوائل، وسألت الأصمعي عن عيِّل كيف تُكَسِّره العرب؟ فقال: عيائل، يهمزون كما يهمزون في الواوين " انتهى كلامه.
وأنت ترى انه لم يقيد عَيِّلاً بكسر أوله، ولم يقل: إنه بمعنى المتبختر، وكذا أورده ابن جني في شرحه عَيِّل وعيائل، والكسر في عَيِّل إنما هو في الياء المشددة، والذى هو بمعنى المتبختر إنما هو العيَّال، وكذا لم يصب صدر الأفاضل على ما نقل عنه بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل في قوله: عيائيل، تكسير، والمراد به المتبختر، وقول الأندلسي: إنه من عال يعيل إذا افتقر لا يصح، لأن المتبختر بعيد من المفتقر، وكان الواجب أن يقول: من عال يَعِيل إذا
تبختر، أو من عال الفرس يَعِيل إذا تكفَّأ في مشيه وتمايل، فهو فرس عَيَّال، وذلك لكرمه، وكذلك الرجل إذا تبختر في مشيه وتمايل، وقد زاد في الطُّنْبُور نَغْمَةً أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب: " صحف ابن السيرافي في قوله: عيائيل إنه بالعين غير المعجمة، فكذب، والصواب غياييل - بالغين المعجمة - جَمْعُ غِيْل على غير قياس " انتهى.
وهذه مجازفة منه، فإن الأئمة الثقاتِ نقلوا كما قال ابن السيرافي، وهو تابع
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من تصريف المازنى، ويريد بهذا المثال " فواعل " ولم ينقل المؤلف عبارة المازنى هنا بنصها، وإنما لخصها (*)(4/378)
لهم فيه، ولم يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا في مفرده هل هو عَيِّل أم عَيَّال؟ وحمله على أنه جمع غِيل - بكسر المعجمة - وهي الأجمة لم يرد، ولم يقل به أحد هذا، وقد أورد سيبويه في باب جمع التكسير فيما كان على ثلاثة أحرف وتحركت جميع حروفه، أنشده وقال: " فعل به ما فعل بالأسد حين قالوا: أُسْد " قال الأعلم: " الشاهد فيه جمع نَمِر على نمر كما جمع أَسَدٌ على أُسْدٍ، لأنهما متساويان في عدد الحروف وتحرك جميعها، وحَرَّكَ الميم بالضم إتباعاً للنون في الوقف " انتهى.
وحمله الجوهري على أنه مخفف من نمور، وصحف عيائيل بتماثيل، قال: " النَّمر سبع، والجمع نمور، وقد جاء في الشعر نُمَر وهو شاذ، ولعله مقصور منه، قال: * فِيهَا تَمَاثِيلُ أسُودٍ وَنُمُرْ * " وقد نبّه على تصحيفه ابن بري في أماليه، والمشهور أن أُسوداً وما بعده بالرفع، قال الأعلم: والاسود بدل من عيائيل وتبين لها، قال ابن السيرافي:
والذي في شعره أسودٍ مجرورةً بإضافة عيائيل إليه، وقال صدر الأفاضل: " أسودٌ بالرفع عطف بيان لعيائيل، ويروى بالجر بإضافة عيائيل إليه إضافة بيان، وقال العيني: هو من إضافة الصفة إلى موصوفها على قول ابن السيرافي وأقول: هذا جميعه على تقدير عياييل جمع عَيَّال بمعنى المتبختر، ويلزم منه أن يكون عياييل بياءين دون همز، كما تقدم عن سفر السعادة، وأما على قول من جعله جمع عَيِّل واحد العِيَال فالمراد به أولاد الأسُود والنمور إن روي بجر ما بعد عيائيل.
وإن روي بالرفع فالمراد بعيائيل نفس الأسُود والنمور، وفيه ركاكة لا تخفى، والجر هي الرواية الجيدة، والأجمة إذا كان فيها أولادها تكون أحمى من غيرها، وضمير " فيها عيائيل " راجع إلى " أشِب الغيطان " في بيت(4/379)
قبله، وروي أيضاً " فيه عيائيل " بتذكير الضمير على أنه راجع إلى أشِب والبيت من رجز لحكيم بن معية من بني تميم، وهو: أحْمِي قَنَاةً صُلْبَةً مَا تَنْكَسِرْ * صَمَّاءَ تَمَّتْ في نِيَافٍ مُشْمَخِرْ حُفَّتْ بِأَطْوَادٍ عِظَامٍ وَسَمُرْ * في أشِبِ الغيطان مُلْتَفّ الْحَظِرْ فِيهَا عَيَائِيلُ أسُودٌ وَنُمُرْ * خَطَّارَةٌ تُدْمِي خَيَاشِيمَ النَّعِرْ إذَا الثِّقَافُ عَضَّهَا لَمْ تَنْأطِرْ وكأن هذه الأبيات لم تبلغ الأعلم، زعم أن ضمير " فيها " لفلاة، قال: " وصف فلاة كثرت السباع فيها " هذا كلامه، وقال ابن السيرافي: وصف قناة نبتت في موضع محفوف بالجبال والشجر، وقد أطال لسانه عليه أبو محمد الأعرابي، فقال: قوله " وصف قناة " يُهَوَّس الإنسان فيتوهم أنه أراد بالقناة رُمْحاً طعن به، وإنما المراد بالقناة هنا العزة القساء والشرف العَرْد وأقول: هذا بعيد من معنى الشعر، غير دال عليه، وجميع ألفاظه أولى
بالدلالة على ما ذكره ابن السيرافي وغيره من العلماء و " أحْمِي " من حَمَيْت المكان من الناس حَمْياً من باب رمي، وحِمْيَة - بالكسر - إذا منعته عنهم، والحماية: اسم منه، وأما على قول أبي محمد فهو من حَمَيْت القوم حماية، إذا نصرتهم، والقناة: الرمح، والصلبة - بالضم -: وصف من صلب الشئ - بالضم - صلابة إذا اشتد وقوي، فهو صُلْب وهي صُلْبة، والصَّماء: التي جوفها غير فارغ، وتمت: كملت واستوت في منبته، وقوله " في نياف " أي: في جبل نياف، والنياف - بكسر النون -: العالي المرتفع، قال صاحب العباب: وجمل نِيَاف وناقة نياف: أي طويل وطويلة في ارتفاع، والأصل نِوَاف، وكذلك جبل نياف، ومشمخر: اسم فاعل من اشْمَخَرَّ اشْمِخْرَاراً: أي ارتفع وعلا،(4/380)
وقوله " حُفَّت - إلخ " قال ابن السيرافي: " يريد حُفَّ موضع هذه القناة التي نبتت فيه بأطواد الجبال، الواحد طَوْدٌ، والسَّمُر - بفتح فضم -: جمع سَمُرة، وهي شجرة عظيمة، والأشِب - بفتح الهمزة وكسر الشين -: الموضع الملتف الذي يتداخل حتى لا يمكن أن يُدْخل فيه إلا بشدة، والغيطان: جمع غائط، وهو المنخفض من الأرض، والْحَظِر - بفتح المهملة وكسر المعجمة -: الموضع الذي حوله الشجر مثل الحظيرة، وقوله " فيه " أي: في هذا الموضع أسود تقيل تذهب وتجئ فيه وتتبختر " انتهى كلام ابن السيرافي وقال العيني: الْحُظُر - بضمتين -: جمع حَظِيرَة، وقوله " خَطَّارَة " أي: تلك الأسُود والنمر خَطَّارة من خَطَر يخطُر - من باب نصر - خَطَرَاناً، إذا اهتز في المشي وتبختر، وتدمى: مضارع أدماه، أي: أخرج دَمَه بالجرح، والنَّعِر - بفتح النون وكسر العين المهملة -: المتكبر، والثَّقاف - بكسر المثلثة -: ما تُسَوَّى به الرماح، وثَقَّفْتُ الرماح تثقيفاً، إذا سويتها، وتنأطر: مطاوع
أطَرْتُه: أي حنيته وثنيته وحُكَيْم بن مُعَيَّة راجز إسلامي معاصر للعجاج وحُمَيدٍ الأرقط، ومُعَيَّة: مصغر معاوية وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة -: (من الطويل) 178 - * فَمَا أرَّقَ النُّيَّامَ إلاَّ سَلاَمُهَا * على أن النُّيَّام أشذُّ من صُيَّم، لأن ألف فُعَّال لما حجزت بين العين واللام قَوِيت العين، فلم يجز قلبها، وصُوَّم لما كان مع قرب واوه من الطرف الْوَجْهُ فيه التصحيح كان التصحيح إذا تباعدت الواو من الطرف لا يجوز غيره قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " وقد جاء حرف شاذ، وهو قولهم:(4/381)
فلان في صُيَّابة قومه، يريدون صُوَّابة: أي في صميمهم وخالصهم، وهو من صَابَ يَصُوب، إذا نزل، كأن عِرْقه فيهم قد ساخ وتمكن، وقياسه التصحيح، ولكن هذا مِمَّا هُرب فيه من الواو إلى الياء لثقل الواو، وليس ذلك بعلة، وأنشد ابن الأعرابي: ألاَ طَرَقَتْنَا مَيَّةُ ابْنَةُ مُنْذِرٍ * فَمَا أرَّق النُّيَّامَ إلاَّ سَلاَمُهَا وقال: أنشدنيه أبو الغمر هكذا بالياء، وهو شاذ " انتهى وقوله " أنشدنيه أبو الغَمْر " هو أبو الغَمْر الكلابي، وفي مثله يحتمل أن يكون أنشده لنفسه وأن يكون أنشده لغيره، وجزم العينى بأنه لو، وهو خلاف الصواب، فإن البيت من قصيدة لذي الرمة، والرواية في ديوانه كذا: ألاَ خَيَّلَتْ مَيُّ وَقَدْ نَامَ صُحْبَتِي * فمَا أرَّقَ النُّيَّامَ إلاَّ سَلاَمُهَا وروي أيضاً: * فَمَا نَفَّرَ التَّهْوِيمَ إلا سلامها *
وهذا لا شاهد فيه، وبعده: طُرُوقاً وَجِلْبُ الرَّحْلِ مَشْدُودَةٌ بِهِ * سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ * قَلِيلٍ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُهَا وقوله " ألا خيلت ميّ " أي بَعَثَت خيالها، ومية: معشوقة ذي الرمة، وأرَّقهُ تأريقاً: أسهره، والنُّيَّام: جمع نائم، ونَفَّرَه تنفيراً: شَرَّدَهُ تشريداً، والتهويم: هَزُّ الرأس من النعاس، والسلام: التحية، والطروق، المجئ في الليل، وجِلْبُ الرحل - بكسر الجيم وسكون اللام -: خشبة، وأراد بسفينة البر الناقة، وقوله " أنيخت فألقت إلخ " هذا البيت شرحناه في باب الاستثناء من أبيات شرح الكافية قال بعض فضلاء العجم: " قوله: ألا طرقتنا - إلخ، يجوز أن يريد بطروقها(4/382)
طروق خيالها، فإنهم يقيمون الخيال مقام صاحبته، واستيقاظُهُمْ بسلام الخيال لاستعظامهم إياه، والحمل على ظاهره من إتيانها نفسها ظاهر " انتهى كلامه وقد ظهر لك من الرواية الأخرى أن الطارق خيالها، لا هي، وروى العيني " كلامها " بدل سلامها، وهذا بعيد ساقط.
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد التاسع والسبعون بعد المائة -: (من الطويل) 179 - وَكُنْتُ إذَا جَاري دَعَا لِمَضُوفَةٍ * أشمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي على أن مَضُوفَة شاذ قال المازني في التصريف الملوكي (1) : أصلها مَضْيُفَة، فنقلت الضمة إلى الضاد فانقلبت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها، وهو حرف شاذ، لا يعلم له نظير،
فينبغي أن لا يقاس عليه وقال الزمخشري في المفصل: وَالْمَضُوفة كالْقَوَد والْقُصْوَى عند سيبويه، وعند الأخفش قياس قال ابن يعيش: " في مضوفة تَقْوية لمذهب أبي الحسن الأخفش، لأنه جاء على قياسه، وعند سيبويه شاذ في القياس والاستعمال، كالشذوذ في القَوَد والْقُصْوى، والقياس مَضِيفَة، والْقَادُ كباب، والْقُصْيا كالدنيا، ومَضُوفة هنا من ضِفْتُ إذا نزلت عنده ضيفاً، والمراد بالْمَضُوفة ما ينزل من حوادث الدهر
__________
(1) كذا، والتصريف الملوكى لابن جنى لا للمازني، وللمازني كتاب التصريف، غير موصوف (*)(4/383)
ونوائب الزمان: أي إذا جاري دعاني لهذا الأمر شَمَّرْت عن ساقي وقمت في نصرته " انتهى.
وقال الزمخشري في مناهيه على المفصل: هي من ضَافَ يَضيف، إذا مال والتجأ، وأضافه ألجاه، وفلان يحمي الْمُضَاف: أي الْمُلْجأ والْمُحْرَج، وقال الأصمعي: أضَفْتُ من الأمر: أي أشفقت وَحذِرْت، ومنه المضوفة، وهو الأمر يشفق منه، كقوله: * وكنت إذا جاري ... البين * وفلان يُضِيف من كذا أي يشفق، والإضافة: الشفقة قال أبو سعيد: والبيت يروى عن ثلاثة أوجه: الْمَضُوفة، وَالْمَضِيفة، والْمُضَافَة، وكل من تكلم على هذه الكلمة جعلها يائية، إلا الصاغاني، فإنه نظر إلى ظاهر فجعلها واوية، قال في مادة (ض وف) : المضوفة الهم، ويقال بي إليك مضوفة: أي حاجة، وأنشد البيت، ولم يذكر هذه المادة غيرها، فإن ثبت
أنها واوية فهي على القياس كَمَقُولَة، من القول والبيت من أبيات لأبي جندَب بن مُرَّة الهذلي الجاهلي أخي أبي خِراش الهذلي الصحابي، وهي: ألاَ أبْلِغَا سَعْدُ بْنَ لَيْثٍ وَجُنْدَبا * وَكَلْباً أُثِيبُوا الْمَنَّ غَيْر المُكَدَّرِ وَنَهْنَهْتُ أُولَى الْقَوْمِ عَنْكُمْ بِضَرْبَةٍ * تَنَفَّسَ منها كل حشيان مجحر وَكُنْتُ إذَا جَارٌ دَعَا لِمَضُوفَةٍ * أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي فَلا تَحْسَبَنْ جَارِي لَدَى ظِلِّ مَرْخَةٍ * وَلاَ تَحْسَبَنْهُ فقعْ قَاعٍ بِقْرْقَرِ وَلَكِنَّنِي جَمْرُ الْغَضَا مِنْ وَرَائِهِ * يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إذَا لَمْ أخَفّرِ أبَى النَّاسُ إلاَّ الشَّرَّ منى فذرهم * وإياى ما جاءوا إليَّ بِمُنْكَرِ(4/384)
قوله " أُثيبوا " من الإثابة، وهي إعطاء الثواب، يقال: أثابه، أي جازاه وكافأه، والمن: الإنعام، ونَهْنَهْتُ: كففت، وأُولي الناس: أي الجماعة المتقدمة، والْحَشْيَان - بفتح المهملة -: الذي قد حُشِيَ جوفه من خوف العدو، والمحجر: المنهزم، وهو اسم مفعول من أجحرته - بتقديم الجيم على الحاء المهملة - أي: ألجأته إلى أن دخل جحره: أي تنفس من ضربتي الذي كان لا يقدر أن يتنفس وقوله " وكنت إذا جارٌ " كذا في شعره بالتنكير، وهو أفخر، ونصف الشئ ينصفُه - من باب نصر - إذا بلغ نِصْفَه، والساقَ: مفعول مقدم، ومئزري: فاعل مؤخر، يقول: إذا دعاني جار للأمر الشاق الذي نزل به شَمَّرت حتى يصل مئزري إلى نصف ساقي، جعله مثلاً لاجتهاده في كف ما دعاه جاره إليه، قوله " فلا تَحْسَبَنْ " بنون التوكيد الخفيفة، والْمَرْخة - بالخاء المعجمة -: شجرة صغيرة لا تمنع من لاذ بها، والْفَقْع - بفتح الفاء وسكون القاف -: ضَرْب ردئ من الكماة، أي لا يمتنع على من أراده، والقَرْقَر: الصلب، أي: لا تحسبه كالكمأة
التي توطأ وتؤخذ ليس عليها ستر فلا شئ أذل منها، وفي شرح إصلاح المنطق: " يقولون: هَذَا فَقْعُ قَرْقَرة، الفَقْعُ - بفتح الفاء وكسرها -: الكَمْأة الابيض، روا أبو زيد والأحمر، والقَرْقَرَة: الأرض الملساء المستوية، وقيل: القاع من الأرض ويقال للذليل: فقع قرقرة، أي أنه بمنزلة الكمء النابت في السهل، فكلما وطئته الْقَدَم شَدَخَتْه، وإذا نبت في دكادك الرمل لم تكد القدم تأخذه " انتهى وقوله " إلا الشر مني " ويروى " منهم " وما: مصدرية ظرفية وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الثمانون بعد المائة -: (من الطويل) 180 - تَبَيَّنَ لي أنَ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ * وَأنَّ أعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيالُهَا على أن " طيالها " شاذ قياساً واستعمالاً، والقياس طِوَالَها، وهو الكثير(4/385)
المستعمل، وقوله " لصحتها في المفرد " ليس كذلك، بل لتحركها فيه، ولو كانت ساكنة لأُعِلَّت، ولو كانت صحة العين في المفرد سبباً لصحتها في الجمع لما أعل نحو حِيَاض وثياب وسياط.
والقماءة - بفتح القاف والمد -: مصدر قَمُؤ الرجل - بضم الميم مهموز اللام - أي: صار قميئاً، على وزن فعيل، وهو الصغير الذليل، ويقال: قَمَاء أيضاً، بدون الهاء على وزن فَعَال وفَعَالة، كذا في الصحاح في نسخة صحيحة، ولم يورد ابن ولاَّد في المقصور والممدود إلا فَعَالَة، قال: " والقماءة: الذل والمهانة، يقال: قَمُؤ فهو قمئ بين القماءة " انتهى.
وذكر أبو بكر بن الأنباري في كتاب المقصور والممدود همزة على فَعَل - بفتحتين -، وأورده مع سبأٍ ونبأٍ، ومده على فعالة، قال: والْقَمَأ من القماءة، قال الشاعر: * تَبَيَّنَ لِي أنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... البيت * ونقله عنه القالي في كتاب المقصور والممدود، قال: باب ما جاء من المقصور
المهموز على مثال فَعَل من الأسماء والصفات، وعدّد أمثلة إلى أن قال: والْقَمَأ من القماءة، وهو الصغير، كذا قال أبو بكر بن الانباري على فعل، قال الشاعر: * تَبَيَّنَ لِي أنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... البيت * وقال أبو زيد: " قَمُؤَ الرجل قماءة، إذا صغر، وقمأت الماشية قموا وقمئا وقموءة وقمؤت قَمَاءة، إذا سمنت " انتهى.
فمصدر قمؤ الرجل على كلام أبي زيد فَعَالة، ومصدر قَمَأَت الماشية - بفتح الميم - فعول وفعولة - بضم وفعل - بفتح الفاء وسكون العين - ومصدر قمؤت - بضم الميم - فعالة.
والعجب من العين أنه قال بعد أن نقل كلام القالي: " الحاصل أن مصدر قَمُؤَ على قَمَأٍ، على وزن فَعَلٍ - بالتحريك - وقَمَأةٍ - بالتاء - وإنما مُدَّ في الشعر(4/386)
المذكور للضرورة " هذا كلامه.
وهو ناشئ من قراءته قَمَاءة على وزن فعالة بسكون الميم والهمز على وزن فَعْلَة، ولم يقل به أحد.
قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: البيت من قصيدة لأُنَيْفِ بن زَبَّانَ النهابى من طيّ، وهو إسلامي، ومطلعها: تَذَكَّرْتَ حُبِّي وَاعْتَرَاكَ خَيَالُهَا * وَهَيْهَاتَ حُبِّي لَيْسَ يُرْجَى وِصَالُهَا وقد أورد أبو تمام منها بيتين (1) في أوائل الحماسة، وهما: فَلَمَّا أتَيْنَا السَّفْحَ مِنْ بَطْنِ حَائِلٍ * بحيث تلاقى صلحها وسيالها دعوا لنزار وانتمينا لطئ * كأسْدِ الشِّرَى إقْدَامُهَا وَنِزَالُهَا وأُنيف - بضم الهمزة وفتح النون -: مصغر أنف، وزَبَّان بالزاي المعجمة
وتشديد الموحدة، ونَبْهَان بفتح النون وسكون الموحدة.
وأنشد الشارح المحقق من (الكامل) : عَنْ مُبْرِقَاتٍ بِالْبُرِينَ وَتَبْدُو * بالأَكُفِّ اللاَّمِعَاتٍ سُوُرْ وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والستين من هذا الكتاب.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المائة -: (من الكامل) 181 - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسُبُونَكَ سَيِّداً * وَإخَالُ أنك سيد مغيون
__________
(1) ذكر أبو تمام عشرة أبيات من هذه الكلمة، انظر شرح التبريزي (1: 166) (*)(4/387)
على أن قوله " مَغْيُون " جاء على لغة تميم، ولغة غيرهم مغين والبيت من أبيات للعباس بن مرداس السُّلّمي، روى صاحب الاغانى بسنده عن أبي عبيدة وأبي عمرو الشيباني: " أن حَرْب بن أمية لما انصرف من حرب عُكَاظٍ هو وإخوته مرّ بالقُرَيَّة، وهي غَيْضَة شجر ملتفّ لا يُرام، فقال له مرداس بن أبي عامر: أما ترى هذا الْغَرْسَ؟ قال: بلى، فماله؟ قال: نعم المُزْدَرَع هو، فهل لك أن تكون شريكين فيه، ونحرق هذه الغَيْضة ثم نزدرعه بعد ذلك؟ فقال: نعم، فأضْرَمَا النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وصجيج كثير، ثم ظهرت من حيات بيض تطير حيت قطعتها وخرجت منها، وقال مرداس بن أبي عامر: (من البسيط) إنِّي انْتَخَبْتُ لَهَا حَرْباً وإخْوَتَهُ * إنِّي بِحَبْلٍ وَثِيقِ الْعَهْدِ دَسَّاسُ أنِّي أُقَوِّمُ قَبْلَ الأَمْرِ حَجَّتَهُ * كَيْمَا يُقَالُ: وَلِيّ الأَمْرِ مِرْدَاسُ قال: فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة: (من الرجز) وَيْلٌ لِحَرْبٍ فَارِسَا * مُطَاعِناً مُخَالِسَا
وَيْلٌ لِعَمْرٍو فَارِسَا * إذْ لَبِسُوا الْقَوَانِسَا لَنَقْتُلَنْ بِقَتْلِهِ * جَحَاجِحاَ عَنَابِسَا ولم يلبث حرب بن أمية ومرداس بن أبي عامر أن ماتا، فأما مرداس فدفن بالقُرَيَّة، ويقال: إن الجن قتلتهما لإحراقهما شجر القُرَيَّة وازدراعهما إياها، وهذا شئ قد ذكرته العرب في أشعارهم وتواترت الروايات بذكره فذكرته، ثم إن القُرَيَّة ادَّعَاها بعد ذلك كليب بن عُيَيْمَة السلمي ثم الظَّفَرِي، فقال في ذلك عَبَّاس بن مرداس: أكُلَيْبُ مَالَكَ كُلَّ يَوْمٍ ظَالِماً * وَالظُّلْمُ أنْكَدُ غِبُّهُ مَلْعُونُ(4/388)
قد كان قومك يحسبونك سيدا * وَإخَالُ أنَّكَ سَيِّدٌ مَغْيُونُ أتُرِيدُ قَوْمَك مَا أرَادَ بِوَائِلٍ * يَوْمَ الْقَلِيبِ سَمِيُّكَ الْمَطْعُونُ وَأظُنُّ أنَّكَ سَوْفَ يُنْفِذُ مِثْلُهَا * فِي صَفْحَتَيْكَ سِنَانِيَ الْمَسْنُونُ إنَّ الْقُرَيَّةَ قَدْ تَبَيَّنَ أمْرُهَا * إنْ كَانَ يَنْفَعُ عِنْدَكَ التَّبْيِينُ حِينَ انْطَلَقْتَ بِحَظِّهَا لي ظَالِماً * وأبُو يَزِيدَ بِجَوِّهَا مدفون وأبو يزيد: هو مِرْدَاس بن أبي عامر " انتهى.
قال ابن الشجري في أماليه: عُيَيْمَة منقول من محقر الْعَيْمة، وهي شهوة اللبن، أو محقر العِيَمة - بكسر العين - وهي خيار المال، ومنه قولهم: اعتام الرجل: أي أخذ العيمة، وقوله " أكليب " الهمزة للنداء، وقوله " مالك " ما: استفهامية مبتدأ، ولك: الخبر، وكل: ظرف، والنَّكَد: الْعُسْر، وخروج الشئ إلى طالبه بشدة، وغِبُّه: عاقبته، واللعن: الطرد والإبعاد، وأخال - بفتح الهمزة - وهو الأصل، وإخال بالكسر فيه لغة الذين كسروا حرف المضارعة مما جاء على مثال تِفْعل نحو تِعْجَب وتِعْلَم وتِرْكَب، لتدل كسرته على كسرة العين
من عَجِب وعَلِمَ ورَكِب ونحو ذلك، يقولون: أنا إعْجَب وأنت تِعْلَم ونحن نِرْكب، واستثقلوا الكسرة على الياء فألزموها الفتح، ومغيون - بالغين المعجمة -: اسم مفعول من قولهم: غين على قلبه، أي: غُطِّي عليه، وفي الحديث " إنَّهُ لَيَغَانُ عَلَى قَلبِي " ولكن الناس ينشدونه بالباء، وهو تصحيف، وقد روي بالعين غير المعجمة: أي مصاب بالعين، والأول هو الوجه، وكلاهما مما جاء فيه التصحيح وإن كان الاعتلال فيه أكثر، كقولهم: طعام مَزْيُوت، وبُرٌّ مَكْيُول، وثوب مخيوط والقياس مغين ومزين ومَكِيل ومَخِيط، حَمْلاً على غِينَ وزِيتَ وكِيلَ وخِيطَ.
قال أبو علي: " ولو جاء التصحيح فيما كان من الواو لم ينكر،(4/389)
ألا تراهم قد قالوا: الْغُؤور، فهو مثل مفعول من الواو لو صح " انتهى.
وقد صححوا أحرفاً من ذوات الواو، قالوا: مسك مَدْوُوف، وثوب مَصْوُون، وفرس مَقْوُود، والغؤور: مصدر غارت عينه تغور غؤوراً، وإنما صح اسم المفعول من هذا التركيب فخالف بذلك اسم الفاعل، لأن اسم المفعول غير جار على فعله في حركاته وسكونه كما تجري أسماء الفاعلين على أفعالها، فلما خالف اسم المفعول فعله فيما ذكرناه خالفه في إعلاله.
وقوله " أتريد قومك - إلخ " الهمزة للاستفهام، وأراد بقومك، بدليل ما بعده، ولما حذف الباء ظهر النصب، وفاعل " أراد " سَمِيُّك، ويوم القَلِيب ويروى يوم الغدير، وهو اليوم الذي قتل فيه كُلَيب وائل، والقَلِيب: البئر وأراد بوائل بكرا وتغلب ابني وائل بن قاسط بن هِنْب بن أفْصى بن دعمى ابن جَدِيلة بن اسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وأارد بِسَميَّة المطعون كُلَيْب بن ربيعة بن مُرَّة بن الحارث بن زهير بن خُثَيْم بن حُبَيْب بن تغلب ابن وائل، طعنه جَسَّاس بن مُرَّة بن ذهل بن شيبان بن ثَعْلَبَة، فقتله، وكانت
العرب تضرب المثل بكُلَيْب في العز، فيقولون: أعَزُّ من كُلَيْب وَائل، وكان سيد ربيعة بن نزار في دَهْرِهِ، هو الذي كان يُنْزِلهم في منازلهم، لم يكونوا يظعنون من منزل ولا ينزلون إلا بأمره، فبلغ من عزه وبَغْيه أنه اتخذَ جِرْو كلب، وكان إذا نزل منزلا ملكئا قَذَف بذلك الجِرْوِ فيه فَيَعْوِي، فلا يَقْرب أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، أو أن يُؤْذِن بحرب، وكذلك كان يفعل في الماء، وفي أرض الصيد، وكان إذا ورد الماء قذف بالجرو، وعند الحوض فلا يقرب أحد ذلك الماء حتى تصدر إبله، وكان يحمي الصيد: فيقول: صيد أرض كذا في جواري، فلا يُهَاج ذلك الصيد، وكان لا يَخُوض معه احد في حديث ولا يَمُرُّ أحد بين يديه وهو جالس، ولا يحتبى في مجلسه غيره، فصار في العز والبَغْي مثلاً.(4/390)
وكان سَبَب قتله أن البسوس - وهي امرأة من غَنِيّ، وضربت العرب بها المثل في الشؤم، فقالوا: أشْأَمُ مِنَ الْبَسُوسِ - كانت في جوار جَسَّاس بن مُرَّة، فمرت إبلٌ لكليب تريد الماء، فاختلطت بها ناقة للبسوس، فوردت معها الماء، فرآها كليب، فأنكرها، فقال: لمن هذه الناقة؟ فقال الرِّعَاء: للبسوس جَارَة جَسَّاس، فرماها بسهم، فانتظم ضَرْعَها، فأقبلت الناقة تعجّ وضَرْعُهَا يسيل دماً ولبناً، فلما رأتها البسوس قذفت خِمَارها، ثم صاحت: واذُلاَّهُ! وجَارَاهُ! فأغضبت جسَّاساً، فركب فرسه، وأخذ رمحه، وتبعه عمرو بن الحارث ابن ذُهْل بن شيبان على فرسه، ومعه رمح، فركضا نحو الْحِمَى والخباء، فَلَقِيَا رجلاً فسألاه: من رمى الناقة؟ فقال: من حلا كما عن بَرْد الماء وسامكما الخسف، فأقررتما به، فزادهما ذلك حَمِيَّةً وغَضَباً يقال: حلأه عن الماء: إذا طرده عنه، وسام فلان فلاناً الخسف: إذا
أولاه الدَّنِيَّة.
فأقبلا حتى وقفا على كليب، فقال له جساس: يا أبا الماجد، أما علمت أنها (ناقة) جارتي؟ فقال كليب: وإن كانت ناقة جارتك! فَمَهْ؟ أتراك ما نعى أن أذُبَّ عن حِمَاي؟ فأغضبه ذلك، فحمل عليه، فطعنه وطعنه عمرو، فقتلاه، وفيه هاجت حرب بكر وتغلب ابن وائل أربعين عاماً، وقالت الشعراء في بغي كليب، وضَربوه مثلاً.
وقوله " ينفذ مثلها " أي: مثل الطعنة التي طعنها جَسَّاس بن مرة كليبَ ابن ربيعة، وحَسُن إضمار الطعنة وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر المطعون دَلَّ عليها وتقدمت ترجمة العباس بن مرداس في الشاهد السابع عشر من شواهد شرح الكافية.(4/391)
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد المائة -: (من الرجز) 182 - ياليت أنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ * حَتَّى يَعُودَ الْوَصْلُ كَيَّنُونَهْ على أن " كَيْنُونة " أصلها بياء مشددة، فحذفت الياء الزائدة، وبقيت عين الكلمة، وهي الياء الثانية المنقلبة عن الواو، والأصل كَيْوَنُونَة، فانقلبت الواو ياء لاجتماعها مع الياء الساكنة وأدغمت فيها، ثم حذفت الياء الأولى تخفيفاً وجوباً، ولا يجوز ذكرها إلا في الشعر، كما في البيت قال أبو العباس المبرد: أنشدني النهشلي: قَد فَارَقَتْ قَرِينَهَا القرينه * وشحطت عَنْ دَارِهِا الظعِينَهْ قوله " يا ليت أنا - إلخ " وقرينها: مفعول مقدم، والقرين: زوج المرأة، والقرينة: فاعل، وهى زوجة الرجل، وشحط الرجل - من باب (1)
فرح - إذا بعد، والظعينة: المرأة ما دامت في الْهَوْدَج، وقوله " يا ليت أنا " بفتح الهمزة - أنا مع اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد معمولي ليت، وضمنا: جمعنا، وسفينة: فاعل، وكينونة: مصدر كان، والمراد به اسم المفعول: أي حتى يعود الوصل موجوداً.
والبيتان كذا أنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني وابن بري في أماليه على الصحاح.
وأنشد بعده: (من الرجز) * مَا بَالُ عَيْنِي كالشعيب العين * وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والعشرين من هذا الكتاب.
__________
(1) واللغة المشهورة من باب منع (*)(4/392)
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة -: (من الخفيف) 183 - كُلُّ أنْثَى وَإنْ بدالك مِنْهَا * آيَةُ الْحُبِّ حُبُّها خَيْتَعُورُ على أن فَيْعَلُولاً موجود كخَيْتَعُور، وما فسّره به هو كلام صاحب الصحاح، وفسّره بعضهم بالْغُرور الذي لا يصح منه شئ.
وقال صاحب العباب: وربما سموا الذئب خَيْتَعُوراً، لأنه لا عهد له، ولا وفاء، والخيتعور: الغول والداهية والدنيا والأسد.
والبيت من أبيات لِجَدِّ جَدِّ امرئ القيس واسمه حُجْراً آكل الْمُرَار، وقبله (1) : إن من غره النساء بشئ * بَعْدَ هِنْدٍ لَجَاهِلٌ مَغْرُورُ حُلْوَةُ الْقَوْلِ وَاللِّسَانِ ومر * كل شئ أجَنَّ مِنْهَا الضَّمِيرُ
كُلُّ أنْثَى وإنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا * ... البيت وحُجر: بضم الحاء المهملة وسكون الجيم، والمُرار - كغراب -: اسم شجر مرّ، وحُجْر: هو ابن عمرو بن معاوية بن الحارث، وينتهي نسبه إلى كندة، ومن كندة إلى يعرب بن قحطانَ، قال الأصبهاني في الأغاني: " أخبرني ابن دريد إجازة عن عمه عن ابن الكلبي عن أبيه عن الشَّرَقي بن القُطَامِيَّ قال: أقبل تُبّع حين سار إلى العراق فنزل بأرض معدٍ فاستعمل عليهم حُجْر بن عمرو، وهو آكل المُرار، فلم يزل ملكاً حتى خُرف، ثم إن زياد بن الهَبُولة بن عمرو بن عوف
__________
(1) روى صاحب الاغانى قبل هذه الابيات بيتين، وهما: لمن النار أوقدت بحفير * لم ينم عند مصطل مقرور أو قدتها إحدى الهنود وقالت * أنت ذا موثق وثاق الاسير(4/393)
ابن ضُجعُم، وهو حَمَاطة بن سعد بن سَلِيح القُضَاعِي أغار على حجر آكل المرار وهو غائب فأخذ مالاً كثيراً وسبا امرأة حجر، وهي هند بنت ظالم بن وهب ابن الحارث بن معاوية، وأخذ نسوة من نساء بكر بن وائل، فلما بلغ حُجْراً وبكر ابن وائل مُغارُه وما أخذ أقبلوا عليه، ومعه أشراف بكر بن وائل منهم عوف ابن مُحَلَّم بن ذُهْل بن شَيبان، فأقبل حجر في أصحابه حتى إذا كان بمكان يقرب من عين أُباغ (1) بعث سد وسا وصليعا (2) يتجسسان له الخبر، فخرجا حتى هجما على عسكرهِ وقد أوقد ناراً ونادى منادٍ (له) من جاء بُحزمة من حطب فله فِدْرة (3) من تمر، وكان ابن الهَبُولَة قد أصاب في عسكر حجر تمراً كثيراً فضرب قِبابه وأجَّج ناره ونثر التمر بين يديه، فاحتطب سدوس وصلِيع ثم أتيا به ابن الهَبُولَة فطرحاه بين يديه فناولهما من التمر وَجلسا قريباً من القُبَّة، فأما صَلِيعٌ فقال: هذه آية، فانصرف إلى حجر فأعلمه بعسكره وأراه التمر، وأما سدوس
فقال: لا أبرح حتى آتيه بخبر جلِيّ، فلما ذهب هَزِيع من الليل أقبل ناس من أصحابه يحرسونه وقد تفرق أهل العسكر، فقرُب سدوس إلى جليس له فقال له: من أنت؟ مخافة أن يُسْتَنكر، فقال: أنا فلان بن فلان، قال: نعم ودنا سدوس من القبة فكان بحيث يسمع الكلام، فدنا ابن الهبولة من هند امرأة حُجْر فقبلها وداعبها، ثم قال لها: ما ظنك بحُجْر لو علم بمكاني منك؟ قالت: ظني والله أنه لن يدع طلبك حتى يطالع القُصور الحمر، وكأني أنظر إليه في فوارس من بني شيبان وهو شديد الكلب سريع الطلب يُزْبد شدقاه كأنه بعير آكل مرار، فسمى المُرار يومئذٍ، قال: فرفع يده فلطمها ثم قال: ما قلت هذا إلا
__________
(1) بضم الهمزة وفتحها وكسرها، وهى موضع بين الرقة والكوفة (2) في الاصول " ضبيعا " وهو تحريف والتصحيح عن الاغانى (3) الفدرة: القطعة (*)(4/394)
من عُجْبِكِ به وحبك له، فقالت: والله ما أبغضت ذا نسمة قط بغضي له، ولا رأيت رجلاً قط أحزم منه نائماً ومستيقظاً، إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه حيّ لا ينام، وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عُسّاً (1) مملوءاً لبناً، فبينما هو ذات ليلة نائم وأنا قريبة منه أنظر إليه إذ أقبل أسود سالخ (2) فمال إلى العس فشربه ثم مجه، فقلت: يستيقظ فيشرب فأستريح منه، فانتبه من نومه فقال: عليَّ بالإناء، فناولته فشمه فاضطربت يداه حتى سقط الإناء فأريق، وكل هذا يسمعه سدوس، فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته حتى صبح حُجْراً، فقال: (من الوافر) أتَاكَ الْمُرْجِفُونَ بِرَجْمِ غَيْبٍ * عَلَى دَهَشٍ وَجِئْتُكَ بِالْيَقِينِ فَمِنْ يَكُ قَدْ أتَاكَ بِأمْرِ لَبْسٍ * فَقَد آتِي بِأمْرٍ مُسْتَبِينِ
ثم قص عليه ما سمع، فأسف ونادى في الناس بالرحيل، فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهَبُولة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن الهَبُولة وعرفه سدوس فحمل عليه فاعتنقه وصرعه فقتله، وبصر به عمرو بن أبي ربيعة (3) فشد عليه فأخذ رأسه منه وأخذ سدوس سلبه وأخذ حُجْر هنداً فربطها بين فرسين ثم ركضا بها حتى قطعاها قطعاً، هذه رواية ابن الكلبي وأما أبو عبيدة فإنه ذكر أن ابن الهبولة لما غَنِمَ عسكر حُجْر غَنِمَ مع ذلك زوجته هند بنت ظالم وأُم أُناس بنت عوف بن محلم الشيباني - وهي أم الحارث بن حُجْر - وهند بنتَ حُجْر، قال: وكان ابن الهبولة بعد أن غَنِمَ يسوق ما معه من السبايا والنعم ويتصيد في المسير لا يمر بوادٍ إلا أقام به يوماً أو يومين حتى أتى
__________
(1) العس - بالضم -: القدح العظيم، وجمعه عساس (2) الاسود السالخ: الحية العظيمة تخرج عن قشرها (3) في الاغانى عمرو بن معاوية (*)(4/395)
على ضَريَّة (1) فوجدها معشبة فأعجبته فأقام بها أياماً، وقالت له أم أُناس: إني لأرى كأني قد نظرت إلى رجل أسود أدْلَمَ (2) كأن مشافره مشافر بعير آكلِ مُرار قد أخذ برقبتك، فسمي حجر آكل المُرار بذلك، وذكر باقي القصة نحو ما مضى، وروي أيضاً أنه إنما سمي آكل الْمُرَار لأن سدوساً لما أتاه بخبر ابن الهَبُولة ومداعبته لهند وأن رأسه كان في حجرها وحدثه بقولها له، جعل يسمع ذلك وهو يعبث بالمُرار - وهو نبت شديد المرارة - وكان جالساً في موضع فيه منه شئ كثير، فجعل يأكل من ذلك المرار غَضَباً وهو يسمع من سدوس وهو لا يعلم أنه يأكله من شدة الغضب، حتى انتهى سدوس إلى آخر الحديث فعلم حينئذٍ بذلك، ووجد طعمه، فسمي يومئذٍ آكل الْمُرار، قال ابن الكلبى:
وقال جحر في هند: * إنَّ مَنْ غَرَّهُ النساء بشئ ... الابيات " انتهى ما ساقه صاحب الأغاني باختصار قليل.
ولا يخفى أن المشهور أن أُم أُناس زوجة عمرو المقصور بن حُجْر بن الحارث ابن عمرو (3) ، وإنما سميت أم أُناس لأن أباها عوف بن مُحَلِّم أمر أمَّها لما ولدتها أن تئدها، فقالت: قد فعلت، فربتها حتى أدركت فنظر إليها عوف يوماً مقبلة فأعجبه شبابها فقال: من هذه يا أمامة؟ قالت: وصيفة لنا، ثم قالت: أيسرك أنها ابنتك؟ فقال: كيف لي بذلك؟ قالت: فإنها التي أمرتني أن أئدها، فقال: دعيها فلعلها أن تلد لنا أُناساً، فسميت أم أُناس، وهي أم الحارث بن عمرو المقصور بن حُجْر.
__________
(1) ضرية: بلدة بين البصرة ومكة.
(2) الادلم: الشديد السواد.
(3) يدل على ذلك قول عبيد بن الابرص بعد مقتل حجر: هلا على حجر بن أمم * أناس تبكى لا علينا (*)(4/396)
وابن الهَبُولة - بفتح الهاء وضم الموحدة -: هو عمرو بن عوف بن ضُجْعُم، وهو بطن، وهم الضجاعمة، وكانوا الملوكَ بالشام قبل غسَّان، وضجعم هو حَمَاطَةُ كما تقدم وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد المائة -: (من الكامل) 184 - درس المنا بتمالع فَأَبَانِ * فَتَقَادَمَتْ بالحُبْسِ فَالسُّوبَانِ على أن أبان فيه قيل: وزنه أفْعَلُ، وقيل: وزنه فَعَال والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي، وأراد المنازل جمع منزل، وهو حذف قبيح، ودرس يكون فعلا لازما ومتعديا، والمراد هنا الأوّل، يقال:
درس المنزلُ يدرُس درُوساً: أي عفى وانمحى أثره، ودرسته الريح، ومُتالع - بضم الميم بعدها مثناة فوقية واللام مكسورة والعين مهملة - قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: هو جبل لغني بالحِمي قاله الخليل، وأبانُ قال ياقوت في معجم البلدان: " أبانُ الأبيضُ وأبان الأسودُ: فأبان الأبيضُ شرقي الحاجر فيه نخل وماء يقال له: أكْرَةُ - وهو العلم - لبني فزارة (وعبس، وأبانُ الأسودُ: جبل لبني فزارة) (1) خاصة وبينه وبين الارض ميلان، وقال أبو بكر بن موسى: أبانُ جبل بين فَيْدَ والنبهانية أبيض، وأبان جبل أسود: وهما أبانان وكلاهما محدد الرأس كالسنان، وهما لبني مناف بن دارم بن تميم بن مُرّ، وقال الأصمعي: وادي الرّمة يمر بين أبانين، وهما جبلان يقال لأحدهما: أبان الأبيض، وهو لبني فزارة ثم لبني جُرَيْد منهم، وأبان الأسود لبني أسد، ثم لبني والبة بن الحارث بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أسد، وبينهما ثلاثة أميال، وقال آخرون: أبانان تثنية أبانٍ ومتالع، غلب أحدهما
__________
(1) سقطت العبارة التى بين القوسين من أصول الكتاب ولا يتم الكلام إلا بها، وهى في ياقوت.
(*)(4/397)
كما قالوا: القمران، في الشمس والقمر، وهما بِنَوَاحِي البحرين، واستدلوا على ذلك بقول لبيد: * دَرَسَ الْمَنَا بِمُتَالِعٍ فَأَبَانِ * أراد درس المنازل، فحذف بعض الاسم ضرورة، وهو من أقبح الضرورات وقال أبو سعيد السكري في قوله (1) : (من الوافر) تَؤَمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ * وَفِيهَا عَنْ أبَانَيْنِ ازْوِرَارِ " أبان جبل معروف، وقيل: أبانين، لأنه يليه جبل نحو منه يقال له: شَرَوْرَى، فغلبوا أبانا عليه فقالوا: أبانان " انتهى.
و" الحبس " قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: " بكسر الحاء المهملة، وقد نضم، وسكون الباء الموحدة، وبالسين المهملة: موضع في ديار غطفان، قال لبيد: * دَرَسَ الْمَنَا ... البيت * وقال لحارث بن حلزة: (من الكامل) لِمَنِ الدِّيَارُ عَفَوْنَ بالْحُبْسِ * آياتُهَا كَمَهَارِقِ الْفُرْسِ والأعرف في بيت الحارث ضم الحاء، كما أن الأعرف في بيت لبيد كسرها، ولعلهما موضعان " انتهى، والسُّوبان - بضم السين المهملة وبعد الواو باء موحدة - اسم واد، كذا في الصحاح، وفي بعض نسخه وسوبان اسم واد، وصوبه ياقوت في هامشه باللام كما في البيت.
__________
(1) هو من كلام بشر بن أبى خازم وقبله: ألا بان الخليط ولم يزاروا * وقلبك في الظعائن مستعار أسائل صاحبي ولقد أرانى * بصيرا بالظعائن حيث صاروا (*)(4/398)
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد المائة -: (من الرجز) 185 - يَا عَجَباً لِهَذِهِ الْفَلِيقَهْ * هَلْ تَغْلِبَنَّ الْقُوَبَاءَ الرّيقَهْ على أن القوباء داء يعالج بالريق قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: " هذا الشعر لأعرابي أصابته القوباء فقيل له: اجعل عليها شيئاً من ريقك وتعهدها فإنها تذهب، فتعجب من ذلك واستغربه، وروي " هل تُذْهِبَنَّ الْقُوْبَاء " قال ابن السيرافي: " عجب هذا الشاعر من تفل الناس على القوباء ورقيتها لتذهب، قال: كيف تغلب الريقة القوباء؟ ومن روي القوباء بالرفع فقد أفسد المعنى " وقال التبريزي: ورواية الرفع على القلب، وقال التُّدْميريِّ: هو على جهة المفاعلة
كأن القوباء والريقة يتغالبان، وكل من غالب شيئاً فقد غالبه ذلك الشئ، فكل واحد منهما في المعنى فاعل ومفعول، وقال الشمني: أو على معنى أن الأعرابي كان يعتقد أن الريقة تبرئ من القوباء فسمع قائلاً يقول: إن الريقة لا تبرئها، فأنكر ذلك، وفيه نظر، لاقتضائه أن يكون المنكر المتعجب منه أن لا تبرئ، وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل: هذا البيتان مجهولا لا يعلم قائلهما والفليقة: الداهية، والريقة: القطعة من الريق، يقول: إن من العجب أن تُذْهِب هذه القوباء الريقة، لأنهم يزعمون أن ريقة الصائم إذا نفث بها على القوباء أزالتها وقال الصاغاني في العباب: " الفليق والفليقة: الداهية، والعرب تقول: يا للفليقة: وتقول في مثل هذا: " يا عَجَبِي لهذه الفليقة إلخ " ويروى " يا عَجَباً وهذه الفليقة " قال أبو عمرو: معناه أنه يعجب من تغير العادات، لأن الريقة تُذْهِب القوباء على العادة فتفل على قوبائه فما برئب، فتعجب مما تعهده، وجعل القوباء على الفاعلة والريقة على المفعولة " انتهى.
وقال اللخمي: " يروي يا عجباً بالتنوين ويا عَجَباً بغير تنوين "(4/399)
أقول: التنوين على وجهين: أحدهما أن يكون عجباً منادى منكراً أو مطولاً لطوله بما اتصل به، والثاني أن يكون مفعولاً مطلقاً والمنادى محذوف، كأنه قال: يا قومَ اعجبوا عجبا، وروايته بلا تنوين له أيضاً وجهان: أحدهما أن يكون منادى مضافاً على لغة من يَقُول: يا غلاماً أقبل، بإبدال ياء المتكلم ألفاً، وثانيهما أن يريد يا عجباه، وأكثر ما يستعمل مثل هذا في الندبة، وقد جاء في غير الندبة، كقول الآخر: (من الرجز) يَا مَرْحَبَاهُ بحِمَار نَاجِيَهْ * إذَا أتَى قرَّبْتُه لِلسَّانِيَهْ
وقال ابن هشام في المغنى: " ألف يا عجبا لمدّ الصوت بالمنادى المتعجب منه، ولا يخفى أن المتعجب منه إنما هو قوله: * هَلْ تَغْلِبَنَّ الْقُوَبَاءَ الرِّيقَهْ * " وأنشد الشارح - وهو الشاهد السادس والثمانون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 186 - أنا اللّيْث مَعْدِيًّا عَلَيْهِ وعَادِيا على أن أصله معدُوًّا عليه، وهو القياس، وقلب الواو ياء في مثله نادر، لأنه غير جمع، قال الأعلم: " الشاهد فيه قلب معدو إلى معدي استثقالاً للضمة والواو تشبيهاً له بالجمع، وبعض النحويين يجعل معدياً جارياً على عُدِيَ في القلب والتغيير، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه من شذوذه تشبيهاً بالجمع، لأن مفعولاً يجري على فَعَلْتُه كما يجري على فُعِل، تقول: عَدَوْت عليه فهو معدو عليه كما يقال: عُدِي عليه فهو معدو عليه، وقد استويا في التغيير مع اختلاف فعليهما فيه " انتهى.
وكذا في شرح تصريف المازني لابن جني قال: " وينبغي أن تكون الألف(4/400)
في آخر أرطىً فيمن قال: مَرِطِيٌّ منقلبة عن ياء، لأنه لو كان من الواو لقالوا: مرطو، وإنما مرطى كمرمى، ولانحمله على قوله: * أنَا اللَّيْثُ مَعْدِيّاً عليه وعاديا * وهو يريد معدوا عليه، ولا على مَسْنِيَّةٍ، وهم يريدون مَسْنُوَّة، لأن هذا شاذ لا يقاس عليه " انتهى.
وكذا قال في سر الصناعة وجعل الزمخشري في المفصل المفرد والمصدر شيئاً واحداً مقابلاً للجمع، قال ابن يعيش: " ويجوز القلب في الواحد فيقال: مَغزِيّ ومَدْعِيٌّ قال:
* أنَا اللَّيْثُ مَعْدِيًّا عَلَيْهِ وَعَادِيَا * أنشده أبو عثمان مَعْدُوّاً بالواو على الاصل، ورواه غير مَعْدِياً " انتهى.
وفيه أن أبا عثمان إنما أنشده في تصريفه بالياء لا غير والمصراع عجزه، وصدره: * وَقَدْ عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي * والعرس - بالكسر -: زوجة الرجل، ومُلَيْكة بالتصغير والبيت من قصيدة لعبد يغوث الحارثي الجاهلي، قالها لما أسرته تَيْم الرِّباب، وقد أوردناها برمتها مع سببها في شواهد المنادى من شواهد شرح الكافية.
وقد وقع هذا المصراع عجزاً في شعرٍ لحنظلة بن فاتك، وصدره: * تُسَائِلُنِي مَاذَا تَكُونُ بَدَاهَتِي * والْبُداهة - بضم الموحدة -: الفجاءة والمباغتة، والأول هو المشهور، وقد أنشده سيبويه وغيره.(4/401)
وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والثمانون بعد المائة -: (من البسيط) 187 - مَوَالِيٌ كَكِبَاشِ الْعُوس سُحَّاحُ على أن تحريك الياء بالرفع شاذ، كذا في المفصل، وفي فرحة الأديب: وروي مواليٌّ بالهمز، وفيهما ضرورة أخرى وهي صرف ما لا ينصرف.
قال ابن المستوفي: أنشده أبو بكر السراج في كتابه لجرير رضي الله عنه: قد كاد يَذْهَبُ بالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا * مَوَالِئٌ كَكِبَاشِ الْعُوسِ سُحَّاحُ مَا مِنْهُمُ وَاحِدٌ إلاَّ بحُجْزَتِهِ * لِبَابِهِ مِنْ عِلاَجِ الْقَيْنِ مِفْتَاحُ وقال: أبدل الهمزة في موالئ من الياء في الشعر ضرورة، لأنهم يبدلون الحرف من الحرف في الشعر في الموضع الذي لا يبدل مثله في الكلام لمعنى يحاولونه: من
تحريك ساكن، أو تسكين متحرك، ليصح وزن الشعر، أورد شئ إلى أصله أو تشبيه بنظير، لأنه لو فُعل بها ما فُعل بالياء في المنقوص لانكسر البيت.
أقول: يريد لو قال في البيت: موالي، بتسكين الياء، لا نكسر، ولو حركت بالضمة لاستثقلت، قال ابن السيرافي: همزة الياء من موالئ لاستقامة البيت وكذا في الضرائر لان عصفور، قال: " ومنه إبدال الهمزة من الياء حيث لا يجوز ذلك في الكلام نحو قوله: قَدْ كَادَ يَذْهَبُ بِالدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا * مَوَالئٌ كَكِبَاشِ الْعُوسِ سُحَّاحُ وقوله: (من الطويل) كمُشْتَرئٍ بالْخَيْلِ أحْمِرَةً بُتْرا وإنما أبدلت الياء من موالى ومشتر للاضطرار إلى التحريك واستثقال الضمة والكسرة في الياء، وكان المبدل همزة إجراء لها في ذلك مُجرى الألف لمشابهتها لها في الاعتلال واللين " انتهى.(4/402)
قوله " قد يذهب إلخ " قال بعض فضلاء العجم: مواليٌ فاعل يذهب وفي كاد ضمير الشأن، و " موالي " جمع مولى، وله معان: المولى السيد والمولى ابن العم، والمولى العصبة، والمولى الناصر، والمولى الحليف وهو الذى يقال له: مولى الموالاة، والمولى المعتِقُ، وهو مولى النعمة، والمولى العتيقُ، وهم موالي بني هاشم: أي عتقاؤهم، وكأنه يريد المعنى الأول، يذم رؤساء زمانه، و " كباش " جمع كبش، وهو الفحل من الضأن، و " العوس " بضم العين المهملة، قال الزمخشري في مناهي المفصل: العوس مكان أو قبيلة، يقال: كبش عوسيٌّ، وقال أبو سهل الهروي في شرح فصيح ثعلب: يقال كبس عوسيٌّ، إذا كان قوياً يحمل عليه، وقيل: بل هو منسوب إلى موضع يقال له العُوس بناحية الجزيرة، وقيل: بل هو
السمين، وما في البيت لا يوافق المعنى الأخير، وفي الصحاح: العوس بالضم ضرب من الغنم و " سحاح " بالضم جم ساح، يقال: سحت الشاة تِسحّ - بالكسر - سُحوحاً وسُحوحة: أي سمنت، وغنم سُحَّاحٌ: أي سِمان، وهو - بالرفع - نعت لموالي، شبههم بهذه الكباش لطول رعيهم في مراتع اللذات، و " بحجزته " جار ومجرور خبر مقدم، ومفتاح مبتدأ مؤخر، والحُجْزة - بضم الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها زاي معجمة -: هي مَعْقِدِ الإزار، وحجزة السراويل التي فيها التِّكّة، يريد أنهم يحملون مفاتيح أبوابهم، فهي مقفلة لا يدخلها أحد من الضيوف، والقَيْن - بفتح القاف: الحداد، وأراد بعلاج القَيْن صنيعه، يقال: عالجت الشئ معالجة وعلاجاً، إذا زاولته فإذا كان المفتاح مما يزاوله القين بعمله فقفله محكم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة -: (من الكامل) 188 - كَجَوَارِيٍ يَلْعَبْنَ بِالصَّحْرَاءِ(4/403)
على أن قوماً من العرب يجرون الياء مجرى الحرف الصحيح في الاختيار فيحركها بالجر والرفع، وقال في شرح الكافية: إن هذا ضرورة، وهو المشهور، قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: " فيه ضرورتان: إحداهما إثبات الياء وتحريكها وكان حقه أن يحذفها فيقول: كجوار، والثانية أنه صرف ما لا ينصرف، وكان الوجه لما أثبت الياء إجراء لها مجرى الصحيح أن يمنع الصرف، فيقول: كجواري " انتهى.
وهذا المصراع عجز، وصدره: * مَا إنْ رَأَيْتُ وَلاَ أرَى فِي مُدَّتي * و " إن " زائدة، وجملة " ولا أرى في مدتي " أي في مدة عمري معترضة
بين أرى البصرية وبين مفعولها، وهو الكاف من قوله كجواري، فإنها اسم، ولا يجوز أن تكون هنا حرفاً، والجواري: جمع جارية وهي الشابة، والصحراء: هي البرية والخلاء وقد تكلمنا عليه بأكثر من هذا في الشاهد الواحد والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد المائة -: (من الطويل) 189 - أبى الله أنْ أسْمُو بِأُمٍّ وَلاَ أبِ على أن تسكين الواو من أسمو مع الناصب شاذ.
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: حذَفَ الفتحة من آخر أسمو إجراء للنصب مجرى الرفع.
والمصراع عجز وصدره:(4/404)
وَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ والبيت من قصيدة لعدو الله ورسوله عامر بن الطُّفْيل العامريّ، وقوله: " وما سودتني عامر " أي: ما جعلتني سيد قبيلة بني عامر بالإرث عن آبائهم، بل سدت بأفعالي، وقوله " أبى الله " أبى له معنيان: أحدهما كره، وهو المراد هنا، والثانى امتنع، و " أن أسمو " في موضع المفعول لأبَى، والسموُّ: العلو والشرف وقد شرحناه شرحاً وافياً في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الستمائة هناك.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التسعون بعد المائة -: (من الطويل) 190 - وَلَوْ أنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ * وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمُوتَ اهْتَدَى لِيَا على أن تسكين الياء من واشٍ مع الناصب شاذ، وحذفت لالتقائها ساكنة
مع نون التنوين، وروي " فلو كان واش " فلا شاهد فيه ولا ضرورة، والواشي: النَّمَّام الذي يُزَوِّق الكلام ليفسد بين شخصين، وأصله من وشى الثوب يَشِيه وشياً، إذا نقشه وحسنه، واليمامة: بلد في نجد، وحضرموت: مدينة في اليمن، والبيت من قصيدة طويلة لمجنون بني عامر أوردنا مع هذا البيت بعضا منها في الشاهد الخامس والثمانين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد بعد المائة -: (من الرجز) 191 - كَأَنَّ أيْدِيهِنَّ بِالْقَاعِ القرق * أيدي جوار (1) يتعاطين الورق
__________
(1) في نسخة " عذارى " بدل جوار، وهى جمع عذراء (*)(4/405)
على أن تسكين الياء مع الناصب شاذ، كما تقدم.
قال ابن الشجري: " قال المبرد: هذا من أحسن الضروروات، لأنهم ألحقوا حالة بحالتين، يعني أنهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع، مع أن السكون أخف من الحركات، ولذلك اعتزموا على إسكان الياء في ذوات الياء من المركبات، نحو معدي كرب وقَالِي قَلا " انتهى والبيتان من الرجز نسبهما ابن رشيق في العمدة إلى رؤبة بن العجاج، ولم أرهما في ديوانه (1) وضمير " أيديهن " للإبل، والقاع: المكان المستوي، والْقَرِق - بفتح القاف وكسر الراء -: الأملس، وقال الشريف المُرْتَضَى: هو الخشن الذي فيه الحصا، وجَوَار - بفتح الجيم -: جمع جارية، ويتعاطين: يناول بعضهن بعضاً، والورق - بكسر الراء -: الدراهم، شبه حَذْف مناسم الإبل للحصى بحذف جَوارٍ يلعبن بدراهم، وخص الجواري لأنهن أخف يداً من النساء
وقد شرحناه بأكثر مما هنا في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الستماية من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والتسعون بعد المائة -: (من البسيط) 192 - هَجَوْتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ معتذرا * من هجو زبان لَمْ تَهْجُو ولَمْ تَدَعِ على أنه سكنت الواو من تهجو شذوذاً مع وجود المقتضى لحذفها وهو الجازم، قال ابن جني في سر الصناعة: " يجوز أيضاً أن يكون ممن يقول في الرفع: هو
__________
(1) رجعنا إلى ديوان رؤبة فلم نجد هما، ولكننا وجدناهما في زيادات الديوان(4/406)
يَهْجُو، فيضم الواو ويجريها مجرى الصحيح، فإذا جزم سكنها، فيكون علامة الجزم على هذا القول سكون الواو من يهجو، كما أسكن الآخر ياء يأتي في موضع الجزم، فقال: * ألَمْ يَأْتِيْكَ وَالاَنْبَاءُ تَنْمِي * وكأنه ممن يقول: هو يأتِيُكَ، بضم الياء، وقد يتوجه عندي أن يكون على إشباع لاضمة، وكأنه أراد لم تهجُ فحذف الواو للجزم، ثم أشبع ضمة الجيم فنشأت بعدها واو " انتهى.
و" هجوت " بالخطاب من الهجو، وهو الذم، و " زَبَّان " - بالزاي المعجمة والباء الموحدة -: اسم رجل، واشتقاقه من الزَّبَبِ وهو كثرة الشعر وطوله، وثم للترتيب وتراخي الزمان، أشار إلى أن اعتذاره من هجوه إنما حصل بعد مدة، و " من " متعلقة بالحال وهو معتذر، وقوله " لم تهجو ولم تدع " مفعلولهما محذوف: أي لم تهجوه ولم تدعه، وتدع مجزوم، وكسرت العين للقافية، والمعنى أنك هجوت واعتذرت فكأنك لم تهج، على أنك لم تدع الهجو، وقال العيني: والجملتان
كاشفتان لما قبلهما، فلذا ترك العاطف بينهما وأراد بهذا الكلام الإنكار عليه في هجوه ثم اعتذاره عنه، حيث لم يستمر على حالة واحدة.
والبيت مع شهرته لم يعرف قائله (1) والله أعلم:
__________
(1) ينسبه بعضهم إلى عمرو بن العلاء، واسمه زبان، يقوله للفرزدق الشاعر المعروف، وكان قد هجاه ثم اعتذر إليه، وروى المرتضى في شرح القاموس: * لم أهجو ولم أدع * وهذا يستدعى أن يكون هجوت وما بعده بتاء المتكلم، فيكون القائل هو من هجا أبا عمر.
(*)(4/407)
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الوافر) 193 - ألَمْ يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لَبُونُ بَنِي زِيَادِ لما تقدم قبله قال ابن جني في شرح تصريف المازني: قدَّر الشاعر ضمة الواو في " لم تهجو " فأسكنها للجزم كما أسكن الياء في ألم يأتيك للجزم، وهذا في الياء أسهل منه في الواو، لأن الواو وفيها الضمة أثقل من الياء وفيها الضمة، و " ما " فاعل يأتي، والباء زيدت فيه ضرورة، والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر، وتنمى: تشيع من نمى الشئ ينمي إذا ارتفع وزاد، والجملة معترضة بين الفعل وفاعله، واللبون: الإبل ذوات اللبن، وهو اسم مفرد أراد به الجنس، وبنو زياد: هم الربيع، وعمارة، وقيس، وأنس، بنو زياد بن سفيان الْعَبْسِي، والمراد لَبُون الرَّبيع ابن زياد، وكان سيد عَبْس.
والبيت مطلع قصيدة لقيس بن زهير العبسي، وكان سيد قومه، وحصل بينه
وبين الربيع عداوة في شأن دِرْع ساومه فيها، فلما نظر إليها الربيع وهو على ظهر فرسه وضعها على الْقَرَبُوس (1) ثم ركض بها فلم يردها عليه، فنهب قيس بن زهير إبله وإبل إخوته، فقدم بها مكة، فباعها من عبد الله بن جُدْعَان التيمي القرشي معاوضة بأدراع وسيوف، فافتخر بهذا وبما بعده، وهو: ومَحْبِسُهَا عَلَى الْقُرَشِيِّ تشرى * بأدراع وأسياف حداد ومحبسها: معطوف على فاعل يأتيك، وهو - بكسر الباء - مصدر ميمى، والقرشي: هو ابن جدعان
__________
(1) القربوس - بفتح القاف والراء - حنو السرج (*)(4/408)
وقد شرحناهما مع القصيدة شرحاً لا مزيد عليه في الشاهد السادس والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والتسعون، بعد المائة -: (من الرجز) 194 - * وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تَمَلَّقِ * لما تقدم، وقبله: * إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّق * قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " شبهت الألف بالياء في أن ثبتت في موضع الجزم، فإنه قدر الحركة هنا وحذفها للجزم، وهذا بعيد، لأن الألف لا يمكن تحريكها أبداً " انتهى.
ويجوز تخريجه على أن " لا " فيه نافيه لا ناهية، والتقدير فطلِّقها غير مترضٍ لها، ويكون قوله " ولا تملق " معطوفاً على قوله فطلق، قاله ابن عصفور في كتاب الضرائر.
وقد شرحناه بأكثر من هذا في الشاهد الخامس والثلاثين بعد الستمائة من
شواهد شرح الكافية.
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الخامس والتسعون بعد المائة -: (من الطويل) 195 - * كَمُشْتَرِيٍ بِالْخَيْلِ أحْمِرَةً بُتْرَا * لما تقدم في قوله: * مَوَاليٌ كَكِبَاشِ الْعُوسِ سُحَّاحُ *(4/409)
والقياس فيهما كمشترٍ ومَوَالٍ، بحذف الياء والتنوين، ورواهما ابن عصفور في كتاب الضرائر كمشترئ وموالئ، بالهمز والتنوين، كما تقدم، والمعنى كمن أعطى الخيلَ وأخذ الحمير بدلها، وهو جمع حمار، والبتر: جمع أبتر، وهو المقطوع الذنب وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السادس والتسعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 196 - يادار هِنْدٍ عَفَتْ إلاَّ أثَافِيهَا هو صدر، وعجزه: * بَيْنَ الطَّوِيِّ فَصَارَاتٍ فَوَادِيهَا * على أنه كان حق " أثافيها " النصب على الاستنثاء، وسكنت الياء شذوذاً قال سيبويه: " وسألت الخليل رحمه الله عن الياءات لَمْ تنصب في موضع النصب، إذا كان الأول مضافاً، وذلك قولك: رأيت معدي كرب، واحتملوا أيَادِيَ سَبَا، فقال: شبهوا هذه الياءات بألف مثنى حيث عَرَّوْها من الجر والرفع، فكما عَرَّوُا الألف منه عَرَّوْها من النصب أيضاً، فقالت الشعراء حيث اضطروا، قال بعض السعديين:
- * يَا دَارَ هِنْد عَفَتْ إلاَّ أثَافِيهَا * ونحو ذلك، وإنما اختصت هذه الياءات في هذا الموضع بذا لانهم يجعلون الشيئين ههنا اسماً واحداً، فتكون الياء غير حرف الإعراب، فيسكنونها بياء زائدة ساكنة، نحو ياء دردبيس " إلى آخر ما ذكره قال الأعلم: " الشاهد فيه تسكين الياء من الأثافي في حال النصب، حملاً(4/410)
لها عند الضرورة على الألف، لأنها أختها، والألف لا تتحرك " انتهى.
وقال صدر الأفاضل: " يحتمل أن يكون قوله: إلا أثافيها، من باب الحمل على المعنى، كأنه قال: لم يبق إلا أثافيها، وحينئذٍ لا يكون البيت شاهدا لا سكان الياء، وهذا تحسر على اندراس الدار معنى، وإن كان لفظه خبراً " انتهى.
وكذا قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل، وقال: " ولو نصب أثافيها على أن يكون البيت غير مُصَرَّع لجاز، وهذا على لغة من يقول: أثافِيَ، بتخفيف الياء، وفيها لغتان: تخفيف الياء، وتشديدها، قال الجوهري: الأثْفِيَّة لِلْقِدْر، تقديره أُفْعُولَة، والجمع الأثَافيُّ، وإن شئت خففت، وثَفَّيْتُ القدر تَثَفِية: أي وضعتها على الأثافي، وأثفيت القدر: جعلت لها أثافي، وقال الأخفش: قولهم أثافٍ، لم يسمع من العرب بالتثقيل، وقال الكسائي: سمع، وأنشد: (من الطويل) أُثَافِيَّ سُفْعاً فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلِ والطوِيّ: البئر المطوية بالحجارة، والصارة - بالصاد والراء المهملتين -: رأى الجبل والوادي، معروف، و " بين الطوِيِّ " نصب على الحال، والعامل فيها ما في النداء من معنى الفعل، مثل قول النابغة: (من البسيط) يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السابع والتسعون بعد المائة -: (من البسيط)
197 - يَا بَارِيَ الْقَوْسِ بَرْياً لَيْسَ يُحْكِمُهُ * لاَ تُفْسِدِ الْقَوْسَ أعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا على أنه سكن ياء " باريها " شذوذاً، والقياس فتحها، لأن باريها المفعول الثاني لأعْطِ.(4/411)
قال الزمخشري في أمثاله: " أعْطِ الْقَوْسَ بِارِيها، قيل: إن الرواية عن العرب بَارِيها بسكون الياء لا غير، يضرب في وجوب تفويض الامر من يحسنه وَيَتَمَهَّر فيه " انتهى.
وكذا أورده في المفصل بعد البيت السابق.
وقال الميداني في أمثاله: أي اسْتعِنْ على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه، وينشد: يَا بَارِيَ الْقَوْسِ بريا ليست تُحْسِنُهَا * لا تُفْسِدَنْهَا وَأعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا قال ابن السيرافى: " قرأت هذا البيت على شيخنا أبي الحرم مكي بن زيان في الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني: أعْطِ الْقَوْسَ بِارِيَهَا، بفتح الياء، وكان في الأصل " ليس يحسنه " وجعله " برياً ليست تحسنها "، وهو كذلك في نسخ كتاب الميداني، ولعل الزمخشري إنما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور فأورده على ما قاله الشاعر، لا على ما ورد من المثل في النثر فإنه ليس بمحل ضرورة، ويروى: يَا بَارِيَ الْقَوْسِ بَرْياً لَيْسَ يُصْلِحُهُ * لاَ تَظْلِمِ الْقَوْسَ أعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا والأول أصح، ويجوز أن يُسَكَّنَ ياء باريها - وإن كان مثلاً - برأيه " هذا كلامه.
ولو رأى ما في أمثال الزمخشري لاستغنى عما أورده
وقال المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر: يقال: إن أول من قال ذلك المثل هو الحطيئة، وساق حكايته مع سعيد بن العاص أمير المدينة في آخر الفاخر.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة -: (من الكامل)(4/412)
198 - مَا أَنْسَ لاَ أنْسَاهُ آخِرَ عيشتى * مالاح بِالْمَعْزَاءِ رَيْعُ سَرَابِ على أنه أثبت الياء (1) في أنساه شذوذاً، كما ثبت الواو في لم تهجو ولم تدع، والقياس لا أنسه ولم تَهْجُ، بحذفهما.
و" ما " اسم شرط يجزم فعلين، وهو هنا منصوب بشرطه، والمعنى مهما أنس من شئ من الأشياء لا أنس هذا الميت، وهو كثير في الأشعار وغيرها، قال ابن ميَّادة: (من الطويل) مَا أنْسَ مِ الأَشْيَاءِ لاَ أنْسَ قَوْلَهَا * وَأَدْمُعُهَا يُذْرِينَ حَشْوَ الْمَكَاحِلِ تَمَتَّعْ بِذَا اليَوْمِ الْقصِيرِ فَإِنَّهُ رَهِينٌ بِأَيَّامِ الشُّهُورِ الأَطَاوِلِ ومعناه مهما أنس من شئ لا أنس قولها، والمكاحل: مواضع الكحل، وآخر عيشتي: منصوب على الظرف، والعيشة: الحياة، والمعنى إلى آخر عيشتي، وما: مصدرية دوامية، والتقدير: مدة دوام لوح الْمَعزَاء، وهو ظرف لقوله: لا أنساه، والمراد التأبيد، وهو أعم من قوله آخر عيشتي، وجوز ابن المستوفي أن يكون بدلاً من آخر، والْمَعْزاء - بفتح الميم وسكون العين المهملة بعدها زاي معجمة - الأرض الصُّلْبة الكثيرة الحصا، ومكان أمعزبين المعز، بفتح العين، والريع - بمهملتين -: مصدر رَاعَ السَّرَابُ يَريع: أي جاء وذهب، وكذلك تَرَيَّع السَّرَابُ تَرَيُّعاً.
وقال ابن السيرافى: " وأنشده ابن الأعرابي ريع
- بكسر الراء - والريعُ: الطريق، وكأنه أراد بريع سراب بياضه، وقال ابن دريد: الريع: العلو في الأرض حتى يمتنع أن يسلك، وكذلك هو في التنزيل "
__________
(1) كذا، وصوابه الالف (*)(4/413)
هذا ما سطره..وأورده ابن الأعرابي في نوادره مع بيت قبله، وهو بَكَرَ النَّعِيُّ بِخَيْرِ خِنْدَفَ كُلِّهَا * بُعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شهاب وقال: هما لحصين بن قَعْقَاع بن معبد بن زرارة، وبَكَر هنا: بمعنى بادر وسارع، والنَّعِيُّ فعيل بمعنى الناعي، وهو الذي يأتي بخبر الميت، ويكون النعيُّ بالتشديد أيضاً مصدراً كالنَّعْي بسكون العين وهو إشاعة مت الميت، قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيهم ميت له قدر ركب راكب فرساً وجعل يسير في الناس، ويقول: نَعَاءِ فُلاَناً، أي انْعَهُ وأظهر خبر وفاته، وهي مبنية مثل نَزَالِ، بمعنى انزل، وعُتَيْبَة بالتصغير: فارس من فرسان الجاهلية، وهو ابن الحارث بن شهاب بن عبد قيس بن الْكُبَاس بن جعفر بن يربوع، اليربوعي وكان قد رأس بيت بني يربوع، وقتله ذؤاب بن ربيعة لما قاتل بني نصر بن قُعَيْن، وكانت تحت عتيبة يومئذٍ فرس فيها مَرَاح واعتراض، فأصاب زُجُّ غلام من بني أسد يقال له: ذؤاب بن ربيعة، أرْنَبَةَ عتيبة، فنزف حتى مات، فحمل ربيع بن عتيبة على ذؤاب فأخذه من سرجه، وقتلوا ثمانية من بني نصر وبنى غاضرة، واستنقدوا النعم، وساروا إلى منزلهم فقتلوه، فقال ربيعة أبو ذؤاب: (من الكامل) إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَللْتَ عُرُوشَهُمْ * بعُتَيْبَةَ بِنْ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ بأشدهم ضرار عَلَى أعْدَائِهِمْ * وَأعَزِّهِمْ فَقْداً عَلَى الأَصْحَابِ والحصين بن القعقاع صاحب الشعر من بني حنظلة بن دارم التميمي.
الإبدال أنشد فيه الجاربردي في أوله - وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة -: (من الكامل)(4/414)
199 - تَرَّاكَ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَهَا * أوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا على أن أبا عبيدة قال: " بعض " في البيت بمعنى كل، واستدل به لقوله تعالى: (وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يعدكم) ولم يرتضه الزمخشري، قال القاضي: هو مردود، لأنه أراد بالبعض نفسه، وقال في الآية: فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار الانتصاف (1) وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذباً، أو يصيبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم، وقال الزمخشري في سورة المائدة عند قوله تعالى (فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم ببعض ذنوبهم) : " يعني بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أن لهم ذنوباً جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمة بعظها واحد منها، وهذا الابهام لتظيم التولي، ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد: * أوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا * أراد نفسه، وإنما قصد تفخييم شأنها بهذا الامام، كأنه قال: نفسا كبيرة ونفسا أيَّ نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو في معنى البعضية فكذلك إذا صرح بالبعض " انتهى.
وكذا قال القاضي والبيت من معلقة لبيد بن ربيعة العامري الصحابي رضي الله عنه، قال الزوزني في شرحه: " أراد ببعض النفوس هنا نفسه، ومن جعل بعض النفوس
بمعنى كل النفوس فقد أخطأ، لأن بعضاً لا يفيد العموم والاستيعاب " انتهى.
و" ترَّاك " مبالغة تارك، وأمكنة: جمع مكان، و " إذا " ظرف لتراك لا شرطية - وَالحِمام - بكسر الحاء المهملة - الموت وهو فاعل يرتبط، و " بعضَ " مفعوله
__________
(1) في نسخة الانصاف (*)(4/415)
ويرتبط بمعنى يعلق، وأو بمعنى إلا، والفعل بعدها ينتصب بأن، وسكن يرتبط هنا لضرورة الشعر، والمعنى أني أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما أكره، إلا أن يدركني الموت فيحبسني.
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: " ومنه حذفهم الفتحة التي هي علامة الإعراب من آخر الفعل المضارع كقول لبيد: أو يرتبط، ألا ترى أنه أسكن يرتبط وهو في الأصل منصوب لأنه بعد أو التي بمعنى " إلا أن " وإذا كانت بمعنى " إلا أن " لم يكن الفعل الواقع بعدها إلا منصوباً بإضمار أن وحذفها من آخر الفعل المعتل أحسن، كقوله: أبى الله أنْ أسْمُو بِأمّ وَلاَ أبِ انتهى وهذا مرضيّ الزوزني، قال: " معناه إني تراك أمكنة إذا لم أرضها إلا أن يرتبط نفسه حمامها، فلا يمكنها الْبَراح، هذا أوجه الأقوال وأحسنها، وتحرير المعنى: إني لاترك الاماكن التى أجتويها وأقليها إلا أن أموت ".
وقال أبو جعفر النحوي في شرحه: " جزم يرتبط عطفاً على قوله إذا لم أرضها، وهذا أجود الاقوال، والمعنى على هذا إذا لم أرضها، وإذا لم يرتبط بعض النفوس حِمامها، وقيل: إنّ يرتبط في موضع رفع إلا أنه أسكنه لأنه رد الفعل إلى أصله، لأن أصل الأفعال أن لا تعرب وإنما أعربت للمضارعة، وقيل: يرتبط في موضع
نصب، ومعنى " أو " معنى " إلا أن " أي: إلا أن يرتبط بعض النفوس حمامها، إلا أنه أسكن، لأنه رد الفعل أيضاً إلى أصله، وإنما اخترنا القول الأول، وهو أن يكون مجزوماً، لأن أبا العباس قال: لا يجوز للشاعر أن يسكن الفعل المستقبل لأنه قد وجب له الإعراب لمضارعته الأسماء وصار الإعراب فيه يفرق بين المعاني " هذا كلامه وعلى مختاره لا ضرورة فيه، إلا أن علة اختياره واهية، لأن تسكين المرفوع(4/416)
والمنصوب ثابت في أفصح الكلام نثراً ونظماً، ومحصل الجزم بالعطف أنِّي إذا لم يكن أحد الأمرين: الرضا والموت، فالترك حاصل، أما إذا رضيت بها بأن رأيت فيها ما أحب فلا، وأما إذا مت فلعدم الإمكان، وهذا يدل على شهامة نفسه في أنه لا يقيم في موضع ذل.
وتراك: خبر بعد خبر " لأنّ " في البيت قبله، وهو: أو لم تَكُنْ تَدْرِي نَوَارُ بِأَنَّنِي * وَصَّالُ عَقْدِ حَبَائِلٍ جذامها الالف للاستفهام، ونوار - بفتح النون - اسم امرأة، و " وصّال " خبر أنَّني، و " جذّامها " خبر ثان و " ترّاك " خبر ثالث، و " وصّال " مبالغة واصل، و " وجذامها " بالجيم والذال المعجمة مبالغة جاذم وهو القطع، والحبائل: جمع حِبَالَة، وحِبَالة: جمع حَبْل، وهو هنا مستعار للعهد والمودة، يقول: أليست تدرى نوار أني واصل عقد العهود والمودات وقطَّاعها؟ يريد أنه يصل من استحق الوصل ويقطع من استحق القطع.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الموفى المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 200 - يَسْتَنُّ في عَلْقَى وَفِي مُكُورِ على أن من رواه علقى - بلا تنوين - جعل ألفه للتأنيث ولم يقل في واحده:
علقاة، ومن نونه جعل ألفه للالحاق وجعل واحده علقاة، وهذا جواب ما استشكله أبو عبيدة.
قال الصاغاني في العباب: " قال سيبويه العلقى نبت يكون واحدا وجمعا وألفه للتأنيث، قال العجاج يصف ثورا:(4/417)
فحط في عَلْقَى وَفِي مُكُورِ * بَيْنَ تَوَارِي الشَّمْسِ والذروو وقال غيره: ألفه للإلحاق وينون، الواحدة علقاة، وقال أبو نصر: العَلقي شجرة تدوم خضرتها في القيظ، ومنابت العلقى الرَّمْل والسهول، وقال أبو حنيفة الدَيْنَوَرِيّ: أراني بعض الأعراب نبتاً زعم أنه العْلْقَى له أفنان طوال دقاق وورق لِطاف يسمى بالفارسية " خلواه " يتخذ منه الْمُجْتَلُّون مكانس الْجِلَّة (1) ، وعن الأعراب الأوائل: العلقاة.
شجرة تكون في الرمل خضراء ذات ورق، قالوا: ولا خير فيها " انتهى.
والمكور: جمع مَكْر - بفتح الميم وسكون الكاف - قال الجوهري والصاغاني: هو ضرب من الشجر، وأورده سيبويه في باب ما لحقته الألف فمنعته من الانصراف، قال الأعلم: " الشاهد فيه ترك صرف عَلْقَى، لأنها آخره ألف التأنيث، ويجوز صرفه على أن تكون للالحق، ويؤنث واحده بالهاء، فيقال: علقاة وصف ثوراً يرتعِي في ضروب الشجر، ومعنى يَسْتَنُّ يرتعِي، وسَنُّ الماشية: رعيها، وأصله أن يقام عليها حتى يسمن وتَمْلاَسّ جلودها، فتكون كأنها قد سنت وصُقلت كما يسن الحديد " انتهى وهذا خلاف ما فسره الجاربردي (2) ، والعجاج وصف ثوراً وحْشيّاً شبه جمله به وقوله " حط في عَلقَى وفي مكور "، أي: اعتمدهما في رعيه، قال شارح شواهد أبي علي الفارسي: " وسمع عَلْقَى في هذا البيت من رؤبة غير منون، وكذا
رَوَى عن أبيه، فدل على أن ألفه للتأنيث، ولو كان للإلحاق لنون " انتهى.
وفي رواية الصحاح والعباب " فَحَطَّ " والفاعل في الروايتين ضمير الثور،
__________
(1) الجلة - بكسر الجيم - البعر، والمجتلون: الذين يلقطونها (2) حيث فسر الاستنان بالقماص فقال: " واستن الفرس وغيره: أي قمص، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجن برجليه ".
(*)(4/418)
وتواري الشمس: غيبوبتها، وذرورها: طلوعها وإشراقها، يريد أنه يستن من طلوع الشمس إلى غروبها وأول الارجوزة: * جارى لا تسنكرى عَذِيرِي * يريد يا جارية، والعجاج تقدمت ترجمته في الشاهد الأول.
وأنشد الشارح - وهو الشاهد الواحد بعد المائتين -: (من الرجز) 201 - تَضْحَكُ مِنِّي أنْ رَأَتْنِي أحْتَرِشْ * وَلَوْ حَرَشْتِ لَكَشَفْتِ عَنْ حِرِشْ على أن الشين في حِرِش شين الكشكشة، وهي بدل من كاف المؤنث، وأصله حِرِكِ، وهي لغة بني عمرو بن تميم، وقوله " أن رأتني إلخ " بدل اشتمال من الياء " في منّي " والاحتراش: صيد الضب خاصة، والعرب تأكله، يقال: حَرَشَ الضب يَحْرِشه حَرْشاً، من باب ضرب، وكذلك احترشه، وهو أن يحرك الحارش يده على جحره فيظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وإنما ضحكت منه استخفافاً به، لان الصب صيد العجزة والضعفاء، وقوله " ولو حرشت " التفات من الغيبة إلى الخطاب، يعني لو كنت تصيدين الضب لأدخلته في فرجك دون فمك إعجاباً به وإعظاماً للذته.
وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا في الشاهد السادس والخمسين بعد التسعمائة من آخر شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني بعد المائتين -: (من الرجز)(4/419)
202 - ينفحن منه لهبا منفوحا * لمعا يُرَى لا ذَاكياً مَقْدُوحا على أنه قد جاء في الشعر شذوذاً إبدال الخاء المعجمة حاء مهملة.
قال ابن جني في سر الصناعة: " الحاء حرف مهموس يكون أصلاً لا غير، ولا يكون بدلاً ولا زائداً، إلا فيما شد عنهم، أنشد ابن الأعرابي: * يَنْفُحْنَ مِنْهُ لَهَباً مَنْفُوحَا * إلخ قال: أراد منفوخاً، فأبدل المعجمة حاء، قال: ومثله قول رؤبة: (من الرجز) غَمْرُ الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ * أبْلَجُ لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ قال: يريد السِّنْخ، وأما حثث تحثيثاً وحَثْحَثَ حَثْحَثَةً فأصْلاَن، قال أبو علي: فأما الحاء فبعيدة من الثاء وبينهما تفاوت يمنع من قلب إحداهما إلى أختها.
وإنما حثحثت أصل رباعى، وحثث أصل ثلاثي، وليس واحد منهما من لفظ صاحبه، إلا أن حثحث من مضاعف الأربعة، وحثث من مضاعف الثلاثة، فلما تضارعا بالتضعيف الذي فيهما اشتبه على بعض الناس أمرهما، وهذا هو حقيقة مذهب البصريين.
ألا ترى أن أبا العباس قال: ليس ثَرَّة عند النحويين من لفظ ثرثارة، وإن كانت من معناها، هذا هو الصواب، وهو قول كافة أصحابنا، على أن أبا بكر محمد بن السَّرِيِّ قد كان تابع الكوفيين، وقال في هذا بقولهم، وإنما هذه أصول تقاربت ألفاظها فتوافقت معانيها، وهي مع ذلك مضعفة، ونظيرها من غير التضعيف قولهم: دَمْثٌ ودِمَثْرٌ، وسَبْط وسِبَطْرُ،
ولُؤْلُؤٌ ولئَّال، وحيّة وحواء، ودِلاص ودُلامِص، وله نظائر كثيرة، وإذا قامت الدلالة على أن أصل حَثْحَثَ ليس من لفظ حَثَّثَ، فالقول في هذا وفي جميع ما جاء منه واحد، نحو تَمَلْمَلَ وتَمَلَّلَ ورَقْرَقَ ورَقَّقَ وصَرْصَرَ وصَرَّ " انتهى كلام ابن جني.(4/420)
وينفُحْن أيضاً أصله بالخاء المعجمة، ولهب النار معروف، و " لَمْعاً " بفتح اللام وسكون الميم، و " يُرى " بالبناء للمفعول.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث بعد المائتين -: (من الرجز) 203 - غَمْرُ الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ * أبْلَجُ لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ لِمَا تقدم قبله، فإن المعروف السِّنخ - بكسر السين وسكون النون، وآخره خاء معجمة - ومعناه الأصل، والحاء المهملة بدل من المعجمة.
وجعل الصاغانى في العباب السنخ - بالمهملة - لغةً أصلية كالسنخ بالمعجمة من غير إبدال، قال في مادة سنح بالمهملة: " والسنح الأصل، قال رؤبة: * عمر الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ * وبعضهم يروي السنخ - بالخاء المعجمة - ويجعله إكفاء، والصحيح أنه ليس بإكفاء " انتهى.
وقد أنشده ابن قتيبة في أدب الكاتب في أبيات الإكفاء، قال شارح بياته ابن السيد: " السنخ والسنج - بالخاء والجيم - الأصل، وقد روي السنح بالحاء غير المعجمة " انتهى، ولم أر في الصحاح والعباب السنج - بالجيم - بهذا المعنى وممن أورده في الإكفاء قدامة في فصل عيوب القافية من نقد الشعر، قا شارحه عبد اللطيف البغدادي: " وما كان من هذا التغيير في موضع التصريع فقد يمكن
أن لا يكون عيباً وأن يكون الشاعر لم يقصد التصريع، لكن أتى بما يشبه التصريع " هذا كلامه.
ولا يخفى أن التصريع إنما يكون في أول بيت من القصيدة أو عند الخروج(4/421)
في القصيدة من معنى إلى معنى غيره، وبيتا رؤبة من آخر القصيدة لم يخرج بهما من معنى إلى غيره هذا، وقد أورد يعقوب بن السكيت اثني عشر كلمة من هذا النمط في كتاب القلب والإبدال، قال (1) : " باب الخاء والحاء، قال: الخَشِيُّ والحَشِيُّ اليابس، ويقال: خَبَجَ وحَبَجَ إذا ضرط، وقد فاحت منه رائحة طيبة وفاخت، أبو زيد، قال: ويقال: خَمَصَ الْجُرْح يَخْمُص خُموصاً وَحَمَصَ يَحْمُص حُموصاً وانْحَمَصَ انحماصاً إذا ذهب ورمه، أبو عبيدة: المخسول والمحسول المرذول، وقد خَسَلْتُهُ وحسلته، أبو عمرو الشيباني: الْجُحَادِيُّ والجُخَادِيُّ الضخم، قال: ويقال: طحرور وطخرور للسحابة، قال الأصمعي: الطّخارير من السحاب قطع مستدقة رقاق والواحدة طُخْرورة، والرجل طخرور إذا لم يكن جلدا ولا كثيفا، ولم يعرف بالحاء، وسمعت الكلابي يقول: ليس على السماء طُحْرور وليس على الرجل طحْرُور، ولا يتكلم به إلا مع الجحد، والطخارير (من السحاب) شئ قليل في نواحي السماء واحدها طُخْرور يتكلم به بجحد وبغير جحد، اللحياني، يقال: شرب حتى اطْمَحَرَّ وحتى اطْمَخَرَّ: أي امتلأ، وقد دَرْبح ودَرْبخ إذا حنى ظهره، ويقال: هو يتحوف مالي ويتخوفه: أي يتنقصه ويأخذ من أطرافه، قال تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ) أي: تنقص، ويقال: قرئ (إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً) وَ (سَبْخاً) قرأها يحيى بن يَعْمَرَ قال الفراء: معناهما واحد، وقال غيره: سَبْحاً: فراغاً، وَسَبْخاً: نوماً، ويقال: قد سبخ
الحر إذا حاد وانكسر، ويقال: اللهم سَبَّحْ عنه الحمى: أي خَفِّفْها، ويقال لِمَا يسقطُ من ريش الطائر: السبيخ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها حين دعت على سارق سرقها (لا تُسَبِّخي عنه) لا تخففى
__________
(1) انظر (ص 30) من كتاب القلب والابدال طبع بيروت سنة 903 (*)(4/422)
عنه إثمه، ويقال: زاخ عن كذا وزاح " هذا ما أورده ابن السكيت ببعض اختصار وأورد الزجاجي في أَمالية الكبرى في باب المعاقبة والإبدال كلماتٍ أُخر لم يذكرها ابن السكيت، قال: " باب الحاء والخاء: يقال: رحمته ورخمته ومرحوم ومرخوم، ومنه نضحته ونضخته، قال تعالى (فِيهِمَا عَيْنَانِ نضاختان) وقال الأعشى: (من الكامل) * وَوِصَالِ ذى رحم نضحت بلالَها * ويروى نضخت، ويقال: صَمَحَتْهُ الشمس وَصَمَخَتْهُ: أي غيّرت لونه، وأحرقته، يقال: مُخٌّ (1) وَمُحٌّ، ولَحْم ولخْم، وَشَحْم وشَخْم، ومَطَرٌ سَحٌّ وسخ كثير الماء، قال الراجز: (من الرجز) يَا هِنْدُ أُسْقِيتِ السَّحَابَ السُّخَّخَا * لا تجْعَلِنِّي كَهِجَانٍ أبْزَخَا ويقال: رجل رحُوثٌ وَرَخُوثٌ: أي كبير البطن، وأورد كلمتين مما أورده ابن السكيت، وهما فاح ريح المسك يفوح وفاخ يفوخ فيحانا وفيخانا، وفوحانا وفوخانا، وتخوفت الشئ وَتَحَوَّفْتُه: أي تنقصته " هذا جميع ما أورده الزجاجي.
والبيتان وقعا في أدب الكاتب كذا: أزْهَرُ لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ * مُيَمَّمُ الْبَيْتِ كَرِيمُ السِّنْحِ وقال شارحه ابن السيد: " هذا الرجز يروى لرؤبة بن العجاج، ولم أجده
في ديوان شعره، وَالميَمَّمُ: المقصود لكرمه " هذا كلامه وهذا من قصيدة ثابتة في ديوانه من رواية الأصمعي (2) مدح بها أبان بن
__________
(1) مخ كل شئ: خالصه، وكذا محه، بالخاء والحاء جميعا.
(2) أكثر هذه الابيات غير موجود في ديوان رؤبة بن العجاج المطبوع في لبزج، ولا في زيادات هذا الديوان، ولا في الاصمعيات، ولكن الشاهد موجود (*)(4/423)
الوليد البَجَليّ، وهي طويلة، إلى أن قال: مِنْهُ فُرَاتٌ فَاضَ غَيْرُ مِلْحِ * غَمْرُ الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السنح إذا فتام الْبَاخِلِينَ الْبُلْحِ * أغْبَرَ فِي هَيْجٍ كَذُوبِ اللَّمْحِ أمْطَرَ عَصْرَاً مُدْجِنٍ مِسَحِّ * أبْلَجَ لَمْ يُوْلَدْ بِنَجْمِ الشح وهذا آخر القصيدة، وقوله " غمر الأجَارِيِّ " الْغَمْر - بفتح الغين المعجمة - الماء الكثير الساتر، وَالأَجَارِيُّ جمع إجْرِيّاً - بكسر الهمزة والراء - بمعنى الجري وَالقَتام - بفتح القاف والمثناة الفوقية -: الغبار، والبلج: جمع أبْلح من بَلَح الرجل بُلوحاً: أي أعيا، قال الأصمعي: الْبُلْحُ الْمُعْيُونَ (2) ، وأراد البُخْل و " أغبر " بالغين المعجمة والموحدة، قال الأصمعي: هو من قولك: أغْبَرَ في أمرك فهو مُغْبِر إذا جد، و " الهَيْجُ " قال الأصمعي: هو سحاب لا ماء فيه، والكذوب: مبالغة الكاذب، واللَّمح: مصدر لَمَحَ البرق والنجم لَمْحاً: أي لَمَعَ، وأمطر: فعل ماض جواب إذا، وَ " عَصْراً " فاعله وهو مثنى عُصْرٍ حذفت نونه للإضافة قال الأصمعي: العصران الغدوة والعشية، و " أبلج " مفعول أمطر، في الصحاح: مَطَرَتِ السماء وأمطرها الله، والْمُدْجِنُ - بالجيم -: اسم فاعل من أدجنت السماء دام مطرها، وسحابة داجنة ومدجنة، والدجن المطر الكثير، كذا في الصحاح، وَالمِسَحُّ - بكسر الميم -: الكثير السَّح، مِفْعَل من سَحَّ المطر سَحَّا: أي سال، والأبلج
بالجيم: المشرق المضئ، والشح بالضم البخل مع حرض، والنجم الوقت المعين وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع بعد المائتين: (من الرجز)
__________
(1) في زيادات الديوان مع أبيات سابقة عليه قد ذكرناها في كتابتنا على شرح الرضى (ح 3 ص 200 وما بعدها) (*)(4/424)
204 - يا ابن الزبير طالما عصيكا * وطالما عنيتنا إلَيْكَا * لنَضْرِبَنْ بِسَيْفِنَا قَفَيْكَا * على أنه قد جاء الكاف بدلاً من التاء كما في عصيكا، والأصل عَصَيْتَ قال ابن جني في سر الصناعة: " أبدل الكاف من التاء، لأنها أختها في الهمس وكان سحيم إذا أُنْشِد شعراً قال: أحسَنْكَ والله، يريد أحسنت " انتهى وسحيم هذا عبد حبشي كانت (1) في لسانه لُكْنة، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعرف له صحبة وقد أورد الزجاجي هذا الشعر في أماليه الكبرى في بحث إبدال الحروف بعضها من بعض، قال في باب التاء والكاف في المكنى: " يقال: ما فَعَلْتَ وما فَعَلْكَ قال الراجز: يا بن الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا * وَطَالَمَا عَنَّيْكَنَا إلَيْكَا * لِنَضْرِبَنْ بِسَيْفِنَا قفيكا * يريد عصيتا وعنيتنا " انتهى.
ولم يذكر ابن السكيت هذا الإبدال في كتاب القلب والإبدال.
قال الشارح: " ويجوز أن يكون من وضع الضمير المنصوب مقام المرفوع " وكذا جوز الوجهين أبو علي في المسائل العسكرية عن الأخفش، قال: إن شئت قلت: أبدل من التاء الكاف لاجتماعهما في الهمس، وإن شئت قلت:
أوقع الكاف - وإن كان في أكثر الاستعمال للمفعول لا للفاعل - (موقع التاء) لإقامة القافية، ألا تراهم يقولون: رأيتك أنت، ومررت به هو، فيَجْعلون علامات الضمير المختص بها بعض الأنواع في أكثر الأمر موقع الآخر، ومن ثم
__________
(1) في نسخة " كان " (*)(4/425)
جاء لولاك، وإنما ذلك لأن الاسم لا يصاغ معرباً، وإنما يستحق الإعراب بالعامل " انتهى.
ورد ابن هشام في بحث " عَسَى " من المغني الوجه الثاني، قال: " إنابة ضمير عن ضمير إنما ثبت في المنفصل (نحو) : ما أنا كانت ولا أنت كأنا، وأما قوله: * يَا بْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا * فالكاف بدل من التاء بدلا تصريفيا، لامن إنابة ضمير عن ضمير كما ظن ابن مالك " ولم يكتب الدماميني هنا شيئاً، وقال ابن المُنْلاَ: " قيل: كيف يكون هذا البدل تصريفياً ولم يُذكر في كتب الصرف؟ وأجيب بأن التصريفي ما شأنه أن يذكر في كتب التصريف ذكر أو لم يذكر " هذا ما كتبه، وقد نقلنا لك عن الفارسي وابن جني وغيرهما أنه بدل تصريفي، وكذا قال الشارح وقول ابْنِ المُنْلا - بعد قول ابن هشام: لا من إنابة ضمير عن ضمير، ما نصه: إذ لو كان من باب الإنابة لم يسكن آخر الفعل، إذ لا تسكين لاتصال الضمير المنصوب " انتهى - ساقط، لأن الكاف قامت مقام التاء فأعطيت حكمها.
وقوله: " وطالما عنَّيْتَنا إليكا " أي: أتعبتنا بالمسير إليكا، وقوله: " لنَضْرِبَنْ " بنون التوكيد الخفيفة، واللام في جواب قسم مقدّر، وقوله: " قفيكا " أصله قفاكا، فأبدلت الألف ياء عند الإضافة إلى الكاف، وخصه الشارح في شرح
الكافية في باب الإضافة بالشعر، وإنما كان سبيله الشعر لانه ليس مع ياء المتكلم، فإنها تقلب معه ياء نثراً ونظماً في لغة هذيل، يقولون: هَوَيّ وقَفَيَّ في إضافة الْهَوَى والْقَفَا إلى الياء، وإنما قيد بالكاف لأن السماع جاء معه.
وقد بسطنا الكلام على هذا في الشاهد الحادي والعشرين بعد الثلثماية من شواهد شرح الكافية.(4/426)
وهذا الرجز أورده أبو زيد في نوادره ونسبه لراجز من حمير، والله تعالى أعلم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس بعد المائتين -: (من البسيط) 205 - أعَنْ تَرَسَّمْتَ مِنْ خَرْقَاءَ مَنْزِلَةً * مَاءُ الصَّبَابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُومُ على أن الأصل أَأَن ترسمت، فأُبدلت الهمزة المفتوحة عيناً في لغة تميم، قال الشارح: " هذه الأبْدال في الأبيات وغيرها جميعها شاذ، ولهذا لم يذكرها ابن الحاجب ".
وأقول: سيأتي إن شاء الله تعالى في شرح قوله: * أُبَابُ بَحْرٍ ضَاحِكٍ هَزُوقِ * أن هذا كثير والبيت من قصيدة لذي الرمة، والهمزة للاستفهام التقريري، و " عن " حرف مصدري، واللام مقدر قبله علة للمصراع الثاني، وترسمت الدار: تأملت رسمها - بالراء المهملة، والتاء للخطاب - و " خرقاء " اسم معشوقته، وَ " مَنْزِلةً " مفعول ترسمتء والصبابة: رقة الشوق، و " مسجوم " من سجمت العين الدمع: أي أسالته، والتقدير أَلأَجْل ترسمك ونظرك دارها التي نزلت فيها بكت عينك وقد تكلمنا عليه في فصل حروف المصدر من أواخر شرح الكافية
وأنشد بعده: * صَبْراً فَقَدْ هَيَّجْتِ شَوْقَ الْمُشْتَئِقِ * وتقدم شرحه في الشاهد التسعين من هذا الكتاب(4/427)
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس بعد المائتين: (من الرجز) 206 - يَا دار سلمى يا اسلمى ثم اسلمي * فخِنْدِفٌ هَامَةُ هذَا الْعَأْلَمِ على أن العجاج همز العألم، ليكون موافقاً لقوافي القصيدة، نحو " اسلمي " في عدم التأسيس، فلو لم يهمز للزم السناد وهو من عيون القافية قال ابن جني في سر الصناعة: " قد روي عن العجاج أنه كان يهمز الخأتم والعألم، وقد روي عنه في هذا الهمز، وعده ابن عصفور من ضرائر الشعر، وقال: أَبْدل (1) الاف همزة لتكون القافية غير مؤسسة كأخواتها، وكانت الهمزة المبدلة منها ساكنة، لأن التحريك يبطل الوزن، ولأنها بدل من ألف زائدة ساكنة في اللفظ والتقدير " انتهى والسناد على خمسة أقسام: أحدها سناد التأسيس، وهو أن يجئ بيت مؤسس مع بيت غير مؤسس.
والتأسيس: ألف قبل حرف الروي (2) بحرف يسمى الدخيل، كاللام في العالم بين الألف والميم.
وقوله " يا درا سَلْمَى يَا اسْلَمِي ثم اسْلَمِي " هذا مطلع الأرجوزة، دعا لدار سلمى بالسلامة، و " يا " الثانية للتنبيه، واسلمي أمر بمعنى دومي على السلامة، وبعده: * بِسَمْسَمٍ وَعَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ * و " سَمْسَمْ " بفتح السينين المهملتين: مكان (3) ، ثم قال بعد أبيات كثيرة: * فخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العألم *
__________
(1) في نسخة أخرى " إبدال " (2) في الاصول " قبل حرف التأسيس " وهو خطأ (3) قال ابن السكيت: هي رملة معروفة، وقال الحفصى: سمسم نقى بين القصيبة وبين البحر بالبحرين، وأنشد بيت رؤبة (*)(4/428)
وإنما جمع الشارح بينهما ليبين القافية غير المؤسسة مع المؤسسة على تقدير عدم الهمز، و " خندف " هي امرأة إلياس بن مضر، وهي أم مُدْركة وطابخة وقَمَعة (1) وأبو الثلاثة إلياس، وأراد نسل خندف، وقد ترجمناها بالتفصيل في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة من هذا الكتاب وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع بعد المائتين: (من الوافر) 207 - * أحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إلَيّ مُؤْسَى * تمامه: * وَجَعْدَةُ إذْ أضَاءَهُمَا الْوَقُودُ * على أنه روي بهمز المؤقدين ومؤسى، حكاه ابن جني في سر الصناعة عن أبي علي، قال: " وروى قنبل عن ابن كثير (بالسؤْقِ) فهمز الواو، ووجه ذلك أن الواو وإن كانت ساكنة فإنها قد جاورت ضمة الميم فصارت الضمة كأنها فيها، فمن حيث همزت الواو في نحو (أُقِّتَتْ) وأجوه وأُعِد لانضمامها، كذلك كان همز الواو في المؤقِدين ومُؤْسى على ما قدمناه " وقال في المحتسب: " همز الواو في الموضعين جميعاً من البيت لأنهما جاورتا الميم قبلهما فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضماً لازماً فهمزها جائز، نحو (أُقِّتَتْ) في وُقِّتَتْ، وأجوه في وجوه، ونظائر ذلك كثيرة، وكذلك الفتحة قبل الألف في بازٍ لما جاورتها صارت على ما ذكرنا كائها فيها، والألف إذا حركت همزت على ما ذكرنا في الضِّأَلِّين، وجَأَنٍّ، فهذا وجهه " وكذا قال في الخصائص، وقال
__________
(1) اسمها ليلى بنت حلوان بن عمران، وكلما إلياس خرج في نجعة فنفرت إبله من أرنب فخرج إليها ابنه عمرو فأدركها، وخرج عامر فتصيد الارنب وطبخها، وانقمع عمير في الخباء، وخرجت أمهم تسرع، فقال لها إلياس: أنت تخندفين، فقالت: ما زلت أُخَنْدِف في إثركم، فلقبوا مدركة وطابخة وقمعة وخندف (*)(4/429)
في شرح تصريف المازني بعد إنشاد البيت: " همز الواو الساكنة لأنه توهم الضمة قبلها فيها، وإنما يجوز مثل هذا الغلط منهم لما يستهويهم من الشُّبَه، لأنهم ليست لهم قياسات يعتصمون بها، وإنما يميلون إلى طبائعهم، فمن أجل ذلك قرأ الحسن البصري (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطُون) لأنه توهمه جمع التصحيح نحو الزيدون، وليس منه، وكذلك قراءته (وَلاَ أدْرَأْتُكُمْ بِهِ) جاء به كأنه من درأته: أي دفعته، وليس منه، إنما هو من دريت الشئ: أي علمت به، وكذلك قراءة من قرأ (عَاداً لُؤْلَى) فهمز فهو خطأ منه بمنزلة قول الشاعر: * لحب المؤقدان إلى موسى * فهمز الواو الساكنة لأنه توهم الضمة قبلها فيها، ولهذا الغلط في كلامهم نظائر، فإذا جاء فاعرفه لتستعمله كما سمعته ولا تقس عليه " انتهى.
وأورد ابن عصفور هذا الإبدال في الضرائر، وخصه بالشعر، وقال العصام في حاشية القاضي: " روى سيبويه البيت بهمز مؤقدان ومؤسى " وهذا لا أصل له، فإن سيبويه لم يرو هذا البيت في كتابه، وروى ابن جني صدره في سر الصناعة، وفي إعراب الحماسة * أحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ * بصيغة أفعل التفضيل فيكون أحب مبتدأ مضافاً إلى المؤقدين بالجمع، و " مؤسى " خبره - ورواه في الخصائص وفي شرح تصريف المازنى وفي المحتسب * لَحَبَّ الْمُؤْقِدَانِ * فيكون اللام في جواب قسم محذوف و " حب " للمدح والتعجب وأصلها حَبَبَ - بفتح
العين - فعل متعد كقوله: * فو الله لولا تمره ما حببته (1) *
__________
(1) هذا صدر بيت لغيلان بن شجاع النهشلي وعجزه: * ولا كان أدنى من عبيد ومشرق * (*)(4/430)
ثم نقل إلى باب فُعل بالضم للمدح للإلحاق بنِعْم، ولنا نقل ضمة العين إلى الفاء، ولنا حذفها لأجل الإدغام في الصورتين، وقد روي بالوجهين فصارت كنِعْم فعلاً جامداً، ولهذا لم تدخل قد مع اللام عليها كما لم تدخل قد على نعم، و " المؤقدان " فاعل حب، و " مؤسى وجعدة " هو المخصوص بالمدح، و " إليّ " بمعنى عندي، و " إذ " ظرف متعلق بحب، و " أضَاءُهما " بمعنى أنارهما وأظهرهما، ويأتي أضاء لازماً، يقال: أضاء الشئ بمعنى أشرق، والاسم الضياء، و " الوُقود " بالضم مصدر وقدت النار: أي اشتعلت، والوَقود - بالفتح - الحطب الذي يوقد، وقد روي هنا بالوجهين، وأريد به هنا وَقُود نار الْقِرَى كما هو عادة العرب، يوقد الكريم منهم نارا على موع عال ليهتدي بها إليه الغريب والمسافر فيأتي إلى قِرَاه، قال خَضِرٌ الموصلي: " مدح ابنية بالكرم والاشتهار به فكنى عن الأول بإيقاد نار القِرى، وعن الثاني بإضاءة الوقود إياهما، والمعنى ما أحبهما إليّ وقت إضاءة وقودهما، واسْتعمال الإضاءة شديد الطباق في هذا المقام لترددها بين الحقيقة والمجاز " انتهى.
وقال العصام: " عنى بالإضاءة بالوقود الاشتهار، وصف ابنيه ونفسه بالكرم، حيث جعل محبته لهما من حين اشتهارهما بالكرم، وفي ذلك كمال وصفه بالكرم حتى غَلَبَتْ محبّته الطبيعية لهما المحبةُ للاشتهار بالكرم، والتحقت في مقابلة المحبة للاشتهار بالعدم إلى أن جعل محبته لهما من وقت الاشتهار "
هذا كلامه وقال السيوطي في شرح أبيات المغني: " مُؤْسَى وجَعْدة عطفاً بيان للمؤقدان، كانا يوقدان نار القِرى، وإذ أضاءهما: بدل اشتمال منهما " انتهى.
وتبعه ابن المُنْلا في شرح المغني، وخَضِرٌ الموصلي في شرح أبيات التفسيرين، وهذا غير جيد، فإن حَبَّ هنا بمنزلة نعم تطلب فاعلاً ومخصوصاً بالمدح، وهو إما(4/431)
مبتدأ أو خبر لمبتدأ، وإذا كان كذلك لا يجوز أن يكون إذ بدلاً منهما، لأنه ظرف غير متصرف.
والبيت من أول قصيدة لجرير مَدَح بها هشام بن عبد الملك المرْواني، وموسى وجعدة: ولدا جرير، وروي حَزْرَة بدل جعدة، وهو ابنه أيضاً، وقال السيوطي رحمه الله: جعدة بنته، وفيه بعدٌ، والبيت مستقل في معناه لا حاجة لنا إلى إيراد شئ من القصيدة.
وأنشد بعده - وهو الشاهد بعد المائتين -: (من الرجز) 208 - أُبَابُ بَحْرٍ ضاحِكٍ هَزُوقِ على أن أصله " عُبَاب بحر " فأبدلت العين همزة، وهذا أشذ مما قبله، لأنه لم يثبت قلب العين همزة في موضع، وما نقله عن ابن جني قاله في سر الصناعة، وهذه عبارته: " فأما ما أنشده الأصمعي من قول الراجز: أُبَابُ بَحْرٍ ضَاحِكٍ هَزُوقِ فليست الهمزة فيه بدلاً من عين عُبَاب، وإن كان بمعناه، وإنما هو فُعَالٌ من أبَّ إذا تهيأ، قال الأعشى: (من الطويل) * وكَانَ طَوَى كَشْحاً وأب ليذهبا (1) *
__________
(1) رواه في اللسان:
صَرَمْتُ وَلَمْ أصْرِمْكُمْ وَكَصَارِمٍ * أخٌ قَدْ طَوى كَشْحاً وأبَّ لِيَذْهَبَا وكذلك هو في الديوان (ص 89) وسيأتى للمؤلف الاعتراض بهذه الرواية على ما رواه الرضى تبعا لابن جنى (*)(4/432)
وذلك أن البحر يتهيأ لما يزخر به، فلهذا كانت الهمزة أصلاً غير بدل من عين، ولو قلت: إنها بدل منها فهو وجه، وليس بالقوي " انتهى.
ومفهومه أن إبدال العين همزة ضعيف لقلته، وإليه ذهب ابن مالك قال في التسهيل: " وتبدل الهمزة قليلاً من الهاء والعين " ومثل شراحة بالبيت، ولم يقيد الزمخشري في المفصل بقلة، بل قال: " الهمزة أبدلت من حروف اللين ومن الهاء والعين " ثم مثل، إلى أن قال: " فأبدالها من الهاء في ماء وأمواء، ومن العين في قوله: " أُبَابُ بَحْرٍ ... البيت " نعم تفهم القلة من ذكره أخيراً بالنسبة إلى ما قبله، ولم يقيد بشئ شارحه ابن يعيش، وإنما قال: " أبدل الهمزة لقرب مخرجيهما كما أبدلت العين من الهمزة في نحو * أعَنْ تَرَسَّمْتَ ... البيت * " وليس في هذا شذوذ فضلاً عن الأشَذِّيَّة، وتوجيه الشارح الأشَذِّيَّة بما قاله تبعاً للمصنف ممنوع، فإنه جاءت كلمات كثيرة، وقد ذكر له ابن السكيت في كتاب القلب والإبدال باباً، وكذا عقدا له فصلاً أبو القاسم الزجاجي في أماليه الكبرى، أما ابن السكيت فقد قال: " باب العين والهمزة: قال الأصمعي: يقال: آديته على كذا وكذا وأعديته: أي قويته وأعنته، ويقال: استأديت الأمير على فلان في معنى استعديت، ويقال: قد كَثَأَ اللبنُ وكَثَعَ وهي الكَثْأَةُ والكَثْعَةُ، وهو أن يعلو دسمه وخُثُورته على رأسه في الإناء، قال: (من
الطويل) وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَد كَثَّأَتْ لَكَ لِحْيَةٌ * كَأَنَّكَ مِنْهَا بَيْنَ تَيْسَيْنِ قَاعِدْ والعرب تقول: موت زعاف وزؤاف وذعاف وذُؤاف، وهو الذي يعجل(4/433)
القتل، ويقال: عُباب الموج وأبابه، ويقال: لأطِه بعين وَلأَطَه بسهم ولَعَطَه إذا أصابه به، أبو زيد: يقال: صَبَأْتُ على القوم أصْبَأ صَبْأ وصَبَعْت عليهم أصْبَعُ صَبْعاً، وهما واحد، وهو أن تدخل عليهم غيرهم، الفراء: يقال: يوم عَكٌّ، ويوم أَكَّ من شدة الحر، ويقال: ذهب القوم عباديد وأباديد، وعباييد وأبَابِيدَ، ويقال: انْجَأَفَتْ النخلة وانْجَعَفَتْ، إذا انْقَلَعَتْ من أصلها، وقال الاصمعي: سمعت أبا الصقر ينشد: (من الطويل) أريني جَوَاداً مَاتَ هَزْلاً لأَلَّنِي * أرَى مَا تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلَّدا يريد لعلّني، وقال أبو عمرو: سمعت أبا الحصين العبسي يقول: الأُسُنُ قديم الشَحم، وبعضهم يقول العُسُنُ، الأصمعي: يقال: التُمئ لونه والتُمع لونه، وهو السَّأَف والسَّعَف، وقال الفراء: سمعت بعض بني نَبْهَانَ من طيّئ يقول: دَأْنِي، يريد دعين، وقال: ثُؤاله، يريد ثُعاله، فيجعلون مكان العين همزة، كما جعلوا مكان الهمزة عيناً في قوله: لعنك قائم، وأشهد عنكم رسول الله، وهي لغةٌ في تميمٍ وقيسٍ كثيرةٌ، ويقال: ذَأَته وَذَعَتَهُ إذا خنقه " هذا ما أورده ابن السكيت.
ولا شك أن هذه الكلمات المشهور فيها بالعين والهمزةُ بدل منها، وقد أسقطنا من كلامه ما المشهور فيه الهمزة والعين بدل منها، ومنها قال الأصمعي: سمعت أبا ثعلب ينشد بيت طُفَيْل: (من الطويل)
فَنَحْنُ مَنَعْنَا يَوْمَ حَرْسٍ (1) نِسَاءَكُمْ * غَدَاةَ دَعَانَا عَامِرٌ غَيْرَ مُعْتَلِي
__________
(1) حرس - بالحاء المهملة مفتوحة -: ماء من مياة بنى عقيل بنجد، وهما ماءان اثنان يسميان حرسين، قال مزاحم العقيلى:(4/434)
يريد مُؤْتلي، يعني غير مُقَصِّر، ومنها يقال: ردت أن تفعل كذا، وبعض العرب يقول: أردت عَنْ تفعل، ومنها إن بَيْنَهُمْ لَعِهْنَةً: أي إحْنَةً وأما ما أورده الزجاجي فهو عَبَدَ عليه وأبد: أي غضب عليه، وهو عِيصك وإيصك، أي أصلك، وهو يوم وأَكٌّ، وعَكيك وأكِيك: أي حَارٌّ، وذكر محمد ابن يحيى العنبري أن رجلاً من فصحاء ربيعة أخبره أنه سمع كثِيراً من أهل مكة: يا أبد الله، يريدون يا عبد الله، ويقال: الْخَنْأَبَة وَالْخَنْعَبَة، لِخَنْأبة الأنف، وهي صفحته، تهمز ولا تهمز، وهي دون المحْجِر مما يلي الفم، وتكَعْكَعَ وَتَكَأْكَأَ عن الشئ، قال الأعشى: (من المتقارب) تكَأْكَأَ مَلاَّحُهَا فَوْقَهَا * مِنَ الْخَوْفِ كَوْثَلَهَا يَلْتَزِمْ وهذا ما أورده الزجاجي، وقد أسقطنا منه أيضاً ما توافق فيه مع ابن السكيت، وما المشهور فيه الهمزة وأبدلت عيناً، وقلب العين همزة أقيس من العكس، لأن الهمزة أخف من العين.
ولو استحصر ابن جني عدة الكلمات لم يقل ما قال، ولاذهب ابن الحاجب إلى ما ذهب، ولله در الزمخشري في صنعه، والله الموفق تبارك وتعالى.
و" الهزوق " فسره الشرح بالمستغرق في الضحك، وهو كذا في سر الصناعة وغيره، وفي العُباب للصاغاني: " وأهْزَقَ الرجل في الضحك إذا أكثر منه " انتهى.
ولم أر فيه أكثر من هذا، وعليه يكون الهَزْوق فَعُولاً من أهزق،
والقياس أن يكون من الثلاثي.
__________
نظرت بمفضى سيل حرسين والضحى * يلوح بأطراف المخارم آلها وحرس أيضا واد بنجد، وقيل: جبل، وقالوا في تفسير بيت طفيل الذى أنشده المؤلف: إن حرسا ماء لغنى.
(*)(4/435)
ووقع في المفصل زَهُوق - بتقديم الزاي على الهاء - قال بعض أفاضل العجم في شرح أبياته: " الا باب العُباب، وهو معظم الماء وكثرته وارتفاعه، أبدل الهمزة من العين، وضحك البحر كناية عن امتلائه، وقال بعض الشارحين: الظاهر أنه كناية عن أمواجه، وقال الجوهري: البئر البعيدة القعر، وعن المصنف زَهُوق: مرتفع، يصف بحراً ممتلئاً أو ذا أمواج بعيد القعر أو مرتفع الماء " انتهى كلامه.
وقال ابن السيرافى: " عُباب البحر: معظم مائه وكثرته وارتفاعه، والضاحك من السحاب كالعارض إلا أنه إذا برق ضحك، وقال الخُوَارِزْمي: الزهوق: البئر البعيدة القعر، وقال في الحواشي: ضاحك: أي يضحك بالموج، وزهوق: مرتفع، والزهوق المرتفع أولى بالوصف من البئر البعيدة القعر، لأن العباب إذا كان الكثير المرتفع فإنما يكون ذلك لارتفاع ماء البحر " انتهى ولم أقف عليه بأكثر من هذا والله سبحانه وتعالى أعلم وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع بعد المائتين -: (من الطويل) 209 - وَكَانَ طَوَى كَشْحاً وأبَّ لِيَذْهَبَا هكذا وقع في سر الصناعة، وصوابه كذا: فأبْلِغْ بَنِي سَعْدِ بنى قَيْسٍ بِأَنَّنِي *
عَتَبْتُ فَلَمَّا لَمْ أجِدْ ليَ مَعْتَبَا صَرَمْتُ وَلَمْ أصْرِمْكُمْ وَكَصَارِمٍ * أخٌ قَدْ طَوى كَشْحاً وأبَّ لِيَذْهَبَا وهو من قصيدة للأعشى ميمون الجاهلي، قال أبو عبيد القاسم بن سلام(4/436)
في الغريب المصنف: أببت أَؤُبُّ أبّاً، من باب نصر، إذا عزمت على المسير وتهيأت، وأنشد البيت وفي العُباب: أبو زيد: أب يَؤُبُّ أبّاً وأبَاباً وأبَابَةً تهيأ للذهاب وتجهز، يقال: هو في أَبابه إذا كان في جِهَازه، وأنشد البيت أيضاً، وقال ابن دريد في الجمهرة: طويتُ كشحي على كذا إذا أضمرته في قلبك وسترته، وأنشد البيت أيضاً، وفي الصحاح: طوى كشحه إذا أعرض بوده، يقول لبني سعد: لما عتبت عليكم لترجعوا عن مساءتي وما أكرهه لم أجد عندكم موضع عَتْب، يريد أنه لم يجد فيهم من يسمع عَتْبه ويسعى في إزالة ما يكره، يقول: لما يئست من عودكم إلى ما أحب تركتكم غير صارم (1) لكم بقلبي ولا مفارق فراق بغضةٍ، إنما فارقتكم لاجل ما علتمونى به، ومن طوى كشحه عنكم يُرِي (2) أنه انصرف، فهو كالذي صرم: أي هجر عن قِلىً وبغضةٍ، ويجوز أن يكون " مُعْتب " اسم فاعل من أعتبه: أي أزال عتبة، والعتب مصدر عتب عليه: أي وَجِد عليه وغضب وأنشد بعده - وهو الشاهد العاشر بعد المائتين -: (من الرجز) 210 - وَبَلْدَةٍ قَالِصَةٍ أمْوَاؤُهَا * يَسْتَنُّ في رَأْدِ الضُّحَى أفْيَاؤُهَا على أن الأصل أمواهها فأبدلت الهاء همزة، وهو شاذ قال ابن جني في سر الصناعة: " وأما إبدال الهمزة عن الهاء فقولهم: ماء،
وأصله مَوَهٌ، لقولهم أمواه، فقلبت الواو ألفاً، وقلبت الهاء همزة، وقد قالوا في الجمع
__________
(1) في الاصول " ترك الصارم " وهو غير مستقيم المعنى (2) في الاصول " يريد " ولم يظهر لنا وجهه، والظاهر أنه محرف عما أثبتناه ومن اسم موصول مبتدأ خبره جملة " فهو كالذى صرم " (*)(4/437)
أيضا: أمواء، فهذه الهمزة أيضاً بدل من هاء أمواه، أنشدني أبو علي: * وَبَلْدَةٍ قالِصَةٍ أَمْوَاؤُهَا * " وقال في شرح تصريف المازني بعد البيت: " فهذه الهمزة في الجمع إما أن تكون الهمزة التي كانت في الواحد، وإما أن تكون بدلاً من الهاء التي تظهر في أمواه، فكأنه لفظ بالهاء في الجمع، ثم أبدل منها الهمزة، كما فعل في الواحد " انتهى وأورد ابن السكيت في كتاب القلب والإبدال (1) كلمات أبدلت هاؤها همزة وبالعكس، فالأول قال الأصمعي: يقال للصَّبَا: هِيرٌ وهَيْر وإير وأَيْر، وأنشد: (من الطويل) وإنا لا يسار إذا هبت الصبا * وإنا لا يسار إذَا الأَيْرُ هَبَّتِ ويقال للقشور التي في أصول الشعر: إبْرِيَة وَهِبْرِية، الأصمعي: يقال: اتْمَأَلَّ السَّنَام واتمهل وَاتْمَهَلَّ، إذا انتصب، ويقال للرجل الحسن القامة، إنه لَمُتْمَهِلٌّ ومُتْمَئِلٌّ، أبو عبيدة عن يونس: (يقال) : دعِ المتاع كَأَيْأَته، يريدون كهيئته، الفراء: ازمأرت عينه وازْمَهَرَّت، إذا احمرت، وهَيْهَات وأيْهَات، ويقال: قد أبَزْتُ له وهَبَزْت له، وهو الْوَثْب ومما أورده الزجاجي في أماليه: رأيت منه هَشَاشاً وَأَشَاشاً، وقد هَشَّ إليَّ وأشَّ إليّ، والْهَزْل والأَزْل، وقد أَهْزَلْته وَأَزَلْتُه، وهو مَهْزُول ومَأْزُول، وما زال ذلك إجْرِيَّاهُ وهِجْرِيَّاه: أي دأْبَهُ، وصَهَل الفرس وصأل، وصَهَّال وَصَئَّال
ومما أورده ابن السكيت من الثاني: يقال: أيَا فلان وهَيَا فلان، ويقال: أرَقْتُ الْمَاءَ وهَرَقْتُهُ فهو مَاءٌ مُرَاق ومُهْرَاق، وحكى الفراء: أهْرَقْتُ الماء فهو مُهراق، ويقال: إياك أن تفعل وهياك أن تفعل، وإنما يقولون: هياك في موضع زجر،
__________
(1) انظره (ص 25) (*)(4/438)
ولا يقولون: هياك أكرمت، الكسائي يقال: أرَحْتُ دابتي وَهَرَحْتها، وقد أنَرْتُ له وهَنَرْت له، يونس: وتقول العرب: أما والله لأفعلن وهَمَا والله لأفْعَلَنَّ وأيْم الله وهَيْم الله، الأصمعي: ينشَدُ هذا البيت (1) : (من المتقارب) وَقَد كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَاٍ * فَلَمْ أُعْطَ شَيْئاً وَلَمْ أُمْنَع وبعض العرب يقول: ذاتُدْرَه ومما أورده الزجاجي: هرَّشْتُ وأرَّشْتُ، وهم أهْلُ عبد الله وآل عبد الله، وهم آلى وهَالِي، وهؤلاء وآؤلاء، انتهى قلت: وفي هَلْ فعلت، يقال: ألْ فَعَلْت، نقله المرادي في الْجَنَى الداني عن قُطْرُب، وكذلك ابن هشام في المغني عنه وبما سقناه يعلم أن قلب الهاء همزة ليس من ضرائر الشعر كما زعمه ابن عصفور وأنشد له هذا الشعر قال ابن جني في شرح تصريف المازني: وأما قولهم الْبَاءة والباهة في النكاح، فقد يمكن أن يكونا أصلين، وقد يجوز أن تكون الهاء بدلاً من الهمزة، لأنه من لأنه من الباءة والبواء، وهو الرجوع والتكافؤ، لأن الإنسان كأنه يرجع إلى أبيه ويقوم مقامه، فيكون على هذا معتل العين واللام، وإن كانت الهاء فيه أصلاً فهو من لفظ بُوهَة، فالألف فيه منقلبة عن الواو، والبوهة: الاحمق
__________
(1) البيت للعباس بن مرداس السلمى، يقوله لسيدنا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، من كلمة أولها: أتجعل نهبى ونهب العبيد * بين عيينة والاقرع وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع (*)(4/439)
العاجز (1) فيكون من هذا، لان النكاح مؤدّ إلى العجز والهرم، أو لأن البوهة لم يكمل ولم يتوفر عقله فكأنه نئ لم ينضج، فهو كالْمَوَات على حاله الأولى وقت حصوله في الرحم وقال في سر الصناعة: وأما قولهم: رجل تُدْرَأٌّ وتُدْرَه للدافع عن قومه فليس أحد الحرفين فيهما بدلاً من صاحبه، بل هما أصلان، يقال: دَرَأَ ودره وقوله " وبلدةٍ " بجر واوِ رُبّ، و " قالصة " صفة بلدة، وأمواؤها: فاعل قالصة، والبلدة في اللغة: مطلق الأرض والبقعة، وقالصة: من قَلَصَ الماء في البئر إذا ارتفع، فهو ماء قالص، وقليص، ويقال للماء الذي يُجِمُّ في البئر: أي يكثر ويرتفع: قَلَصَةٌ بفتحات، ويَسْتَنُّ: يجري في السَّنَن - بفتحات - وهو وجه الطريق والأرض، وأفياؤها: فاعله، والجملة صفة ثانية لبلدة.
وجواب رُبَّ في بيت آخر وهو " قطعتها " أو " جبتها " ورأد الضحى - بالهمز والتسهيل - بمعنى ارتفاعه، والرواية في سر الصناعة والمفصل: مَا صِحَةٍ رَأْدَ الضُّحَى، من مَصَح الظلُّ بمهملتين: أي ذهب، ورَأَدَ: منصوب على الظرف، والمعنى أن هذه البلدة كثيرة الفئ لكثرة ظلال أشجارها حتى يذهبه ارتفاع الضحى بارتفاع الشمس، وأفياء: جمع فئ - بالهمز - والمشهور أنه ما نسخته الشمس، والظل: ما نسخ الشمس، من فاء فَيْئاً: أي رجع، لأنه كان ظلاً فنسخته الشمس فرجع، وقال ابن كيسان: المعروف أن الفئ والظل واحد، كذا قاله اللِّبَلِيُّ في شرح أدب الكاتب، وقال
صاحب المقتبس: المعنى أن تلك البلدة قليلة الأشجار لا تدوم ظلالها، بل إذا
__________
(1) ومنه قول امرئ القيس أيا هند لا تنكحي بوهة * عليه عقيقته أحسبا مرسعة بين أرساغه * به عسم يبتغى أرنبا (*)(4/440)
ارتفع الضحى ذهبت ظلالها، ولم تبق، فتأمل.
وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائتين -: (من الطويل) 211 - فَآلَيْتُ لاَ أَمْلاَهُ حَتَّى يُفَارِقَا على أن أصله لا أمّله، من مللت الشئ بالكسر ومَلِلْتُ منه أيضاً مَلَلاً وملالة ومَلَّة، إذا سئمته وأنشد الشارح - وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 212 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ * وَلِضَفَادِي جَمِّهِ نُقَانِقُ على أن أصله ولضفادع، فأبدلت العين ياء ضرورة وأورده سيبويه في باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطراراً، قال: " وأما قوله وهو رجل من بني يشكر: (من البسيط) لها أشارير من لحم تتمره * من الثَّعَالِي وَوَخْزٌ مِنْ أَرانِيهَا فزعم أن الشاعر لما اضطر إلى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة، وقال أيضاً: وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ * وَلِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ وإنما أراد ضفادع، فلما اضطر إلى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفاً لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفاً يوقف في الجر والرفع " انتهى
قال الأعلم: " ووجه الإبدال أنه لما اضطر إلى إسكان الحرفين لإقامة الوزن، وهما مما لا يسكن في الوصل، أبدل مكان الباء والعين الياء، لأنها تسكن في حالة الرفع والخفض، وإنما ذكر سيبويه هذا لئلا يتوهم أنه من باب الترخيم،(4/441)
وأن الياء زيدت كالعوض، لأن المطرد في الترخيم أن لا يعوض من الحرف المحذوف شئ، لأن التمام منوي فيه، ولأن الترخيم تخفيف، فلو عوض منه لرجع فيه إلى التثقيل، والمنهل: المورد، والحوازق: الجماعات، واحدتها حَزِيقة، فجمعها جمع فاعله كأن واحدتها حازقة، لأن الجمع قد يبنى على غير واحده: أي هو منهل قفرلا وارد له، والْجَمُّ: جمع جَمَّة، وهِي مُعْظَم الماء ومَجْتَمَعه، والنقانق: أصوات الضفادع واحدتها نَقْنَقة " انتهى.
فيكون وصف المنهل بالبعد والمخافة، يعني أن هذا المنهل لا يقدر أحد أن يرده لبعده وهو له، ولكن لإقدامي وجُرْأتي أرد مثله من المياه، وأراد أنه ليس به إلا الضفادع النقاقة.
ومنهل: مجرور برُبَّ المقدرة بعد الواو، وجوابها في بيت آخر، وحوازق - بالحاء المهملة والزاى المعجمة، وهو اسم ليس، وله: خبرها، الجملة صفة لمنهل، ولضفادى جِمِّه: خبر مقدم، وضفادي: مضاف إلى حمه، وجم مضاف إلى ضمير المنهل، ونقانق: مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية لمنهل، والجم - بالجيم -: وصف بمعنى الكثير، وأصله المصدر، قال صاحب المصباح: " جم الشئ جما من باب ضرب: كثر، فهو جَمٌّ تسمية بالمصدر، ومال جم: أي كثير " انتهى، والجم أيضاً: ما اجتمع من ماء البئر، وقد ذكر الجوهري الحازقة بمعنى الجماعة، فيكون جمعه على القياس، والنَّقْنَقَة - بفتح النونين، وسكون القاف الأولى -: صوت الضفدع إذا ضُوعف والدّجاجة تُنَقْنِق للبيض، ويقال: نَقَّت الضفدعة تَنِق، بالكسر نقيقاً: أي
صاحت قال الشاعر: (من الرجز) تُسَامِرُ الضِّفْدَعَ فِي نَقِيقِهَا وكذلك النقيق للعقرب والدجاجة، قال: (1) (من الطويل)
__________
(1) البيت لجرير (*)(4/442)
كَأَنَّ نَقِيقَ الْحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ * فَحيحُ الأَفَاعِي أوْ نَقِيقُ الْعَقَارِبِ وربما قيل للمهر، قال (1) : (من الرجز) * خَلْفَ اسْتِهِ مِثْلَ نقيقِ الْهِرِّ * كذا في العباب وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " قال صدر الأفاضل الحَزْق: الشَّدُّ والحبس، والمراد بالحوازق الجوانب، لأنها تمنع الماء أن ينبسط، وقيل: إنه لا يمنع الواردة لسهولة جوانبه، لأنها منبسطة، يصف منهلاً واسعاً فيقول: رب مهل ليس له جوانب تمنع الماء من انبساطه فانبسط ماؤه حوله، إذ ليس (له) موانع وحوابس تمنع الواردين، لأنه سهل الورود " هذا كلامه، وتبعه الجاربردي، قال الأعلم: هذا الرجز يقال صنعه خلف الأحمر وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث عشر بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 213 - لَهَا أشِارِيرُ من لحم تتمره * من الثعالي وَوَخْزٌ مِنْ أرَانِيهَا على أن الاصل من الثعالب وأرانبها، فأبدلت الموحدة فيهما ياء لضرورة الشعر، كما تقدم وقال ابن عصفور في كتاب الضرائر: " وقد يمكن أن يكون جمع ثُعَالة،
فيكون الأصل فيه إذ ذاك الثَّعَائِل إلا أنه قلب " انتهى.
__________
(1) قد أنشد أبو عمرو قبله: أطعمت راعى من اليهير * فظل يبكى حبجا بشر (*)(4/443)
والبيت من قصيدة لأبي كاهل اليشكري، وقبله كَأنَّ رَحْلِي عَلَى شُغْوَاءَ حَادِرَةٍ * ظَمْيَاءَ قَدْ بُلَّ مِنْ طَلٍّ خَوَافِيهَا لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لحم تتمره * من الثعالي وَوَخْزٌ مِنْ أرَانِيهَا فأَبْصَرَتْ ثَعْلَباً من دُونِهِ قَطَنٌ * فَكَفَّتَتْ مِنْ ذُنَابَاهَا تَوَالِيهَا ضَغَا وَمِخْلَبُهَا فِي دَفِّهِ عَلِقٌ * يَا وَيْحَه إذْ تُفَرِّيهِ أشَافِيهَا وأبو كاهل: هو والد سُوَيْد بن أبي كاهل، وسويد: شاعر مخضرم، قد ترجمناه في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية.
وأبو كاهل شبه ناقته في سرعتها بالْعُقَاب، الموصوفة بما ذكره، والرحل للإبل أصغر من الْقَتَب، وهو من مراكب الرجال دون النساء، والشغواء - بالشين والغين المعجمتين - الْعقاب، وروي " كَأَنَّ رَحْلِي عَلَى صَقْعَاءَ " وهي العقاب التي في وسط رأسها بَياض، والأصقع من الخيل والطير: ما كان كذلك، والاسم الصُّقْعة - بالضم - وموضعها: الصُّوقعة، وحادرة - بمهملات - من الْحُدُور، وهو النزول من عال إلى أسفل كالصَّبَب وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " حاذره - بالذال المعجمة - المتيقظة، وإنما وصف الْعُقَاب بأنها حاذرة ليشير إلى حذر فؤاد ناقته، لأنه مَدْحٌ لها قال أبو العلاء: (من البسيط) * فُؤَادَ وَجْنَاءَ مِثْلِ الطَّائِرِ الْحَذَرِ * ورواه بعض الشارحين بالدال المهملة، وقال: الحادرة المكتنزة الصُّلبة "
هذا ما سطره قال ابن بري في أمالية على الصحاح: والظمياء العطشى إلى دم الصيد، وقيل: التي تضرب إلى السواد، وبُلَّ: فعل مبني للمجهول من الْبَلَل، فإذا بلها المطر(4/444)
أسرعت إلى وَكرها، وكذلك جميع الطير، والطَّلُّ: المطر الضعيف، والخوافي: جمع خافية، وهى ريشة الجناح القصيرة تلى الابط، والخوافي: أربع ريشات، وسميت خوافي لأن الطائر جناحه خفيت، والأشارير: جمع إشرارة - بكسر الهمزة - وهي اللحم القديد، وتُتَمِّرُهُ: فعل مضارع، والجملة صفة أشارير أو حال منها، وروي مُتَمَّرة - على وزن اسم المفعول - وبالجر على الصفة، وبالنصب على الحال، والتَّتْمِير - بالمثناة الفوقية لا بالمثلثة -: هو تجفيف اللحم والتمر، قال النحاس في شرح أبيات سيبويه: ويقال: إن المبرد صحفه بالثاء المثلثة، وتعجب منه ثعلب، وكان معاصرة، فقال: إنما كان يُتَمَّر اللحم بالبصرة فكيف غلط في هذا؟ والوخز - بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة بعدها زاى -: الشئ القليل، كذا في الصحاح، وقيل: الوخز قَطعَ اللحم واحدتها وخزة، والمتمرة المقددة، يريد أنه يبقى في وكرها حتى يجَفُّ لكثرته.
وقال الأعلم: الوخز: قَطْع اللحم، وأصله الطعن الخفيف وأراد ما تقطعه بسرعة، يريد أنها قطعته وجففته، وأضاف الأرانب إلى ضميرها لكونها صادته، ثم وصف صيدها فقال: فأبصرت ثعلباً - إلخ، وقَطَن بفتحتين - جبل لبني أسد، وكفَّتَتْ - بتشديد الفاء للمبالغة، والتاء الثانية للتأنيث، يقال: كَفَتَ الشئ كَفْتاً - من باب ضرب - إذا ضمه إلى نفسه، والذُّنابي: بضم الذال المعجمة بعدها نون وبعد الألف موحدة فألف مقصورة، قال صاحب الصحاح: " وفي جناح الطائر أربع ذُنَابى بعد الخوافي " ولم يذكرها ابن قتيبة في أدب الكاتب، قال: " قالوا جناح الطائر عشرون ريشة: أربع قوادم، وأربع
مناكب، وأربع أباهر، وأربع خوافي، وأربع كُلىً " انتهى.
ولم ينبه عليها شرحه، وإنما قال شارحه اللِّبَلِيِّ: وقُدَاماه أوله، وذناباه آخره، انتهى.
وتواليها: الضمير للذنابي، والتوالي: جمع تالية، وهي الريشات التي تلي الذنابي، يريد أنها لما انحدرت على الثعلب ضمت جناحها إليها كما تفعل الطيور المنقَضّة على الصيد، وتواليها: مفعول(4/445)
كفتت ووجب تأخيره لأن الضمير فيها راجع للذُّنابى، وقوله " ضَغَا " بالضاد والغين المعجمتين، قال صاحب الصحاح: ضغا الثعلب والسَّنَّور يَضغُو ضَغْواً: أي صاح، وكذلك صوت كل ذليل مقهور، والمخلب - بالكسر - للطائر والسباع بمنزلة الظفر للإنسان، والدف - بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء -: الجنب، وَعَلِقٌ - بفتح العين وكسر اللام - أي: ناشب به، وقوله " يا ويحه " المنادى محذوف وويح: كلمة ترحُّم وتوجع، والضمير للثعلب، وتُفَرِّيه: تشققه وتقطعه، مبالغة فَرَتْه - بتخفيف الراء - والأشافي: جمع إشْفَى - بكسر الهمزة وبعد الفاء ألف مقصورة - وهي آلة للإسكاف، قال ابن السكيت: الإشْفى: ما كان للأسقية والمزاود وأشباهها، والمِخْصَف للنعال، وأراد هنا المخالب، شبهها بالأشافي وبما شرحنا ظهر أنه شبه راحلته بعقاب ذاهبة إلى وكرها وقد بلها المطر، وهو أشَدُّ لسرعتها، ثم وصف صيدها وسرعة انقضاضها عليه من جو السماء وزعم الجوهري أنه وصف فرخة عقاب تسمى غُبَّة - بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة - وهو اسم فرخ بعينه، لا اسم جنس، وليس في الشعر شئ منه، وتبعه على هذا عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة، فقال: يصف فرخة عقاب تسمى عبة كانت لبني يشكر، ولها حديث، وكذا قال العيني، وأنشده صاحب الصحاح في ثلاثة مواضع: في مادة تمر، ومادة شر، ومادة وخز، وفي هامشة قيل: هو لأبي كاهل، وقيل للنمر بن تَوْلب اليشكري، وجمع بينهما العيني فقال:
قائله هو أبو كاهل النمر بن تولب اليشكري، وهذا غير جيد منه وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائتين -: (من الوافر) 214 - إذَا مَا عُدَّ أَرْبَعَةٌ فِسَالٌ * فَزَوْجُكِ خَامِسٌ وَأَبُوكِ سَادِي على أن أصله سادس، فأبدلت السين ياء، وهذا لضرورة الشعر.
(*)(4/446)
ومثله ما في كتاب القلب والإبدال، قال: " كان رجل له امرأة تقارعه ويقارعها أيهما يموت قَبْلُ، وكان تزوج نساء قبلها فمتن وتزوجت هي أزواجاً قبله فماتوا، فقال: (من الطويل) وَمِنْ قَبْلِهَا أَهْلَكْتُ بِالشُّؤْمِ أرْبَعاً * وَخَامِسَةً أَعْتَدُّهَا مِنْ نِسَائِيَا بُوَيْزِلَ أعْوَامٍ أذَاعَتْ بِخَمْسَةٍ * وَتَعْتَدُّنِي إنْ لَمْ يَقِ الله سَادِيَا وقوله " بو يزل أعوام " أي مسنّة، حال من خامسة، مصغر بازل، وهو مستعار من البازل في الإبل، وهو الداخل في السنة التاسعة، وهو آخر أسنانه، ويقال في العاشرة: بازل عام، وبازل عامين، وبازل أعوام، ومثله قول الآخر: (من البسيط) خَلاَ ثَلاَثُ سِنِينَ مُنْذُ حَلَّ بَهَا * وعَامُ حَلَّتْ وهَذَا التَّابِعُ الْخَامِي وأصلهما سادساً، والخامس، فأبدلت الياء من السين فيهما.
وأما قول الآخر: (من الطويل) ثَلاَثَةُ أيَّامٍ كِرَامٍ وَرَابِعٌ * وَمَا الْخَامِ فِيهِمْ بالبْخِيلِ الْمُلَوَّمِ فإن لما أبدل السين من الخامس ياء اكتفى بالكسرة منها، كذا قال ابن عصفور في كتاب الضرائر.
وأما البيت الأول فقد أورده الجوهري في مادة فَسَل، قال: الفَسْل من الرجال
الرَّذْل، والمفسول مثله، وقد فَسُل - بالضم - فسَالَةً وَفُسُولَةً فهو فَسْل من قوم فُسلاَء وأفسال وفسال وَفُسُول، قال الشاعر: إذَا مَا عُدَّ أرْبَعَةٌ إلخ وروى ابن السكيت حَمُوك بدل أبُوك، ولم يكتب ابن بري ولا الصفدي(4/447)
على المادة شيئاً، وقال ياقوت فيما كتبه على هامش الصحاح: البيت يروى للنابغة الجعدي، يهجو به ليلى الأخيلية.
وأما قوله " خلا ثلاث سنين - البيت " فقال ابن السكيت: أنشدنيه القاسم بن معن، ونقل عنه ان المستوفي: أنه للحادرة، ولم أره في ديوانه.
وصريح كلام ابن عصفور أن هذا كله ضرورة، ويرد عليه ما نقله ابن السكيت عن الفراء عن الكسائي أنه قال: العرب تقول: جاء ساتا، وجاء ساتيا، تريد سادسا، فلما ثقل المشدد بدل بالياء، وكانت خلفاً من التاء، وأخرجت الدال لأنها من الأصل، ومن قال ساتا فعلى لفظ ستة وستين، ومن قال سادساً فعل الأصل، قالوا: جاء سادسَهم، وساتَّهم، وسادِيهم، وسادَيَتُهُنّ، للمرأة، قال: وزعم الكسائي أنه سمع أعراييا يقول: وكانت آخر ناقة نحرها والدي أو جدي سادية وستين، وأنشد بعض العرب: (من البسيط) يا لهف نفسي لهفا غير ما كَذِبٍ * عَلَى فَوَارِسَ بِالْبَيْدَاءِ أنْجَادِ كَعْبٌ وعَمْرُو وَعبْدُ الله بَيْنَهُمَا * وابْنَاهُمَا خَمْسَةٌ وَالحَارِثُ السَّادِي أي السادس وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس عشر بعد المائتين -: (من الرجز) 215 - يَفْدِيكَ يَا زُرْعَ أبِي وخالي * قد مر يومان وهذا الثالي
وأنت بِالْهِجْرَانِ لاَ تُبَالِي على أن الأصل " وهذا الثالث " فأبدل الياء من الثاء.
وخصه ابن عصفور بالضرورة أيضاً، ولم يذكره ابن السكيت في كتاب الإبدال،(4/448)
ولا الزجاجي في أماليه، ولا رأيته إلا في كتب التصريف، وقائله مجهول، والله أعلم به، وزُرْعَ: مرخم زُرْعَة.
وأنشد بعده: (من الطويل) هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِمَا * عَلَى النّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ على أن " فما " عند الأخفش أصلة فَوْه، بدليل رجوعها في التثنية وقد تقدم في الشاهد السابع والخمسين من هذا الكتاب.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السادس عشر بعد المائتين -: (من الرجز) 216 - لا تَقْلُوَاها وادلواها دلوا * إن مع اليوم أخَاهُ غَدَوْا على أن " غداً " أصله غَدْو، بدليل هذا البيت.
وجاء في بيت لبيد الصحابي رضى الله تعالى عنه كذلك، قال من قصيدة: (من الطويل) وَمَا النَّاسُ إلاَّ كَالدِّيَارِ وَأَهْلُهَا * بِها يَوْمَ حَلُّوهَا وَغَدْواً بَلاَقِعِ واستدل سيبويه بهذا البيت على أن أصله غَدْو، بإسكان الدال، وإذا نسب إلى الأصل فقيل " غَدْوِيّ " لم تسلب الدال الحركة، لأن النسبة جرت على التحرك بعد الحذف، خلافاً للأخفش، فإنه زعم أن الحركة تحذف عند النسبة إلى الأصل، فيقول: غَدْوِيٌّ وَيَدْيِيٌّ، بإسكان دالهما.
قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " والقول قول سيبويه، ألا ترى(4/449)
أن الشاعر لمّا رَدَّ الحرف المحذوف بَقَّى الحركةَ التي أحدثها الحذف بحالها قبل الرد في قوله: يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلِّمٍ فتحريك الدال بعد رد الياء دلالة على صحة ما ذهب إليه سيبويه، قال أبو علي: فإن قيل: فما تصنع بغَدْوا في البيتين، فإنه يشهد لصحة قول الأخفش؟ فالجواب أن الذي قال: غَدْوا ليس من لغته أن يقول: غَدٌ، فيحذف، بل الذي يقول: غَدٌ غير الذى يقول: غدوا " انتهى كلامه.
وأنشده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء) على أن التقدير كمَثَل ذوي صَيِّب، لأن التشبيه ليس بين ذات المنافقين والصَّيبِ نفسه، بل بين ذواتهم وذوات ذوي الصيِّبِ، كما فعل لبيد بإدخاله حرف التشبيه على الديار، مع أنه لم يرد تشبيه الناس بالديار، إذ لا يستقيم ذلك، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وتركهم منازلهم خالية، بحلول أهل الديار فيها ونهوضهم عنها وتركها خالية، فهي بالحلول مأهولة، وبالرحيل خالية، والتقدير: وما الناس إلا كالديار حال كون أهلها بها يوم حلولهم فيها وهي في غد خالية، وأهلها: مبتدأ، وخبره: بها، ويوم: ظرف متعلق بمتعلق الخبر، وغَدْوا: ظرف لبلاقع، وبلاقع: خبر مبتدأ محذوف: أي وهي خالية غَدْواً.
والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه لأمه في الجاهلية، وهو أرْبَدُ، ومطلعا: بَلِينَا وَمَا تَبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ * وَتَبْقَى الْجِبَالُ بَعْدَنَا وَالْمَصَانِعُ وَلاَ جَزعٌ أنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا * وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْماً لَهُ الدَّهْرُ فَاجِعُ وَمَا النَّاسُ إلاَّ كَالدِّيَارِ وَأَهْلُهَا * بِها يَوْمَ حَلُّوهَا وَغَدْواً بَلاَقِعُ(4/450)
وَمَا الْمَرْءُ إلاَّ كالشِّهَابِ وَضَوْءُهُ * يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ وأما البيت الأول فقوله " لا تقلواها " نهي: أي لا تسوقا الناقة سَوْقاً عنيفاً، من قَلاَ الحمارُ أتانه يَقْلُوها قَلْواً، إذا طردها وساقها، وقوله " وادلواها دَلْوا " هو أمر، والجملة معطوفة على جملة النهي، قال صاحب الصحاح: دَلَوْتُ النَّاقةَ دَلْواً سَيَّرتها سيراً رويداً، وأنشد هذا الشعر.
وقول الآخر: * لاَ تَعْجَلاَ بِالسَّيْرِ وَادْلُوَاهَا * ولم يذكر قائله، ولا كتب عليه شيئاً ابن بري، ولا الصفدي، وقوله " إن مع اليوم - إلخ " قال الزمخشري في مستقصى الأمثال: إن مع اليوم غداً، مَثَلٌ يضربه الراجي للظفر بمراده في عاقبة الأمر، وهو في بدئه غير ظافر، وأنشد هذا الشعر.
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد السابع عشر بعد المائتين -: (من المنسرح) 217 - ذَاكَ خَلِيلِي وَذَو يُعاتِبُنِي * يَرْمِي وَرَائِي بِامْسَهْم وَامْسَلِمَهْ على أن إبدال لام " أل " المعرفة ميماً ضعيف.
وقال ابن جني في سر: الصناعة هذا الإبدال شاذ لا يسوغ القياس عليه، وفيه نظر، فإنه لغة قوم بأعيانهم، قال صاحب الصحاح: هي لغة لحمير، وقال الرضي رضي الله عنه في شرح الكافية: هي لغة حمير ونفر من طئ، وقال الزمخشري في المفصل: وأهل اليمن يجعلون مكانها الميم، ومنه ليس من امْبرِّ امْصِيَامُ في امْسَفَر، وقال: * يَرْمِي وَرَائي ... البيت * وحينئذٍ لا يجوز الحكم على لغة قوم بالضعف، ولا بالشذوذ، نعم لا يجوز القياس بإبدال كل لام ميماً، ولكن يُتْبَع إن سمع،(4/451)
وقد حكى الزجاجي أربع كلمات وقع التبادل (فيها) بينهما، قال: " غُرْلَة وغُرْمَة، وهي القُلْفَة، وامرأة غَرْلاء وغرْماء ولا يقال قلفاء، وأصابته أزْلَةَ وأزمة: أي سنة، وانجبرت يَدُه على عَثَم وعَثَل، وشمِمْت ما عنده وشمِلْت ما عنده: أي خبرته " انتهى، ولم يروا ابن السكيت فيهما شيئاً.
والبيت من أبيات لبجير بن عنمة الطائي الجاهلي، قال الآمدي في المؤتلف والمختلف: " بحير بن عَنَمة الطائي: أحد بني بَوْلاَن بن عمرو بن الْغَوْث بن طئ، وأراه أخا خالد بن غنمة الطائي الشاعر الجاهلي، وبجير القائل في أبيات: وَإنَّ مَوْلاَيَ ذُو يُعَاتِبُنِي * لاَ إحْنَةٌ عِنْدَهُ وَلاَ جَرْمَهْ ينصرني مِنْكَ غَيْرَ معْتَذِرٍ * يَرْمِي وَرَائِي بامْسَهْمِ وَامْسَلِمَهْ " انتهى والمولى: ابن العم، والناصر، والحليف، والمعتِق، والعتيق، والظاهر أن المراد هنا إما الاول وإما الثاني، وذو: كلمة طائية بمعنى الذي محلُّها الرفع خبر إنَّ، ويعاتبني: صلتها، والمعاتبة: مخاطبة الا دلال، والاسم العتاب، قال الشاعر: * وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ * وروي بدله " يعيريى " وهو غير مناسب، وقوله " لا إحنة " مبتدأ، وعنده الخبر، والجملة حال من فاعل يعاتبني، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً لإن، وجَرِمَة: معطوف على إحنة - بكسر الهمزة - وهي الضغينة والحقد، والجرمة - بفتح الجيم وكسر الراء - هو الجرم والذنب، كذا في القاموس، وقوله " يرمى ورائي " قال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " وراء: من الاضداد، بمعنى قدام وخلف، ويحتمل المعنيين هنا، والرمي وراءه عبارة عن الذبّ والمدافعة عنه " اه، والمعنى هذا الرجل يعاتبني ويسلك طريق بقاء الود، يدافع عني مرة بالسهام ومرة(4/452)
بالسِّلام، وقيل: يشكو إعراضه، يقول: إذا غبت رماني بهما، وهذا ليس بصحيح كما هو ظاهر، وورائي بالمد وفتح الياء (1) وقوله " بامسهم " بكسر الميم دون تنوين، لأنه معرف باللام لكن الكسرة مشبعة للوزن (2) وقوله " وبامسلمة " بياء الجر بعد الواو، وبها يتزن (3) الشعر، والسلمة - بفتح السين وكسر اللام -: واحدة السلام، رهى الحجارة، كذا روى البيتين الآمدي وابن بري في أماليه على الصحاح، ورواه الجوهري في مادة سلم كذا.
ذَاكَ خَلِيلِي وَذُو يُعَاتِبُنِي * يرمى ورائي بالسهم وامسلمه وقال: يريد والسلمة، وكذا رواه صدر الأفاضل، وقال: " الرواية بالسهم - بتشديد السين - على اللغة المشهورة، وامْسَلِمَة - بالميم الساكنة بعد الواو - على اللغة اليمانية " انتهى.
ولا يخفى أن هذا غير متزن، إلا إن حركت الهمزة بعد الواو، وتحريكها لحن، قال ابن برى: وصواب الرواية ما ذكرنا، قال ابن هشام في المغني: " قيل إن هذه اللغة مختصة بالاسماء التى لا تدغم لام التعريف في أولها، نحو: غلام، وكتاب، بخلاف رجل وناس، وحكى لنا بعض طلبة اليمن أنه سمع في بلادهم من يقول: خذ الرمح، واركب امفرس، ولعل ذلك لغة بعضهم، لا لجميعهم، ألا ترى إلى البيت السابق وأنها في الحديث على النوعين؟ " انتهى.
وقد تابع الناس الجوهري في ذكر المصراع الأول من هذا البيت، قال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم: " روى الجوهري (يعاتبني) بدل يواصلني، وزعم
__________
(1) لا، بل بسكون الياء، والبيتان من المنسرح: يرمى ورا مستفعلن، ئى بامسهم مفعولات، وامسلمه مفتعلن (2) لا، بل بكسرة غير مشبعة، لان الوزن لا يستقيم مع الاشباع (3) لا، بل بدون باء الجر (*)(4/453)
أن الواو زائدة، وكأن ذلك لأنه رأى أن قوله: يرمي، محط الفائدة، فقدره خبراً وقدر خليلي تابعاً للإشارة، وذو: صفة لخليلي، فلا يعطف عليه، وتبعية خليلي للإشارة بأنه بدل منها، لانعت، بل ولا بيان، لأن البيان بالجامد كالنعت بالمشتق، ونعت الإشارة بما ليست فيه أل ممتنع، وبهذا أبطل أبو الفتح كون بعلي فيمن رفع شيخاً بياناً، ولك أن تعرب خليلي خبراً، وذو عطفاً عليه، ويرمي حالاً منه وإن توقف المعنى عليه، مثل (وهذا بعلى شيخا) " انتهى كلامه أقول: ليس في كلام الجوهري ما يدل على زيادة الواو، ولعل القائل غيره، وأما الحديث الذي أورده الزمخشري - وهو مشهور في كتب النحو والصرف - فقد قال السخاوي في شرح المفصل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك لمن كانت هذه لغته، أو تكون هذه لغة الراوي التي لا ينطق بغيرها، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبدل اللام ميماً، قال الأزهري: الوجه أن لا تثبت الألف في الكتابة، لأنها ميم جعلت كالألف واللام، ووجد في خط السيوطي في كتاب الزبرجد رسمه كذا " ليس من ام برام صيام في ام سفر " وقد اشتهر أنها رواية النمر بن تَوْلب، وليس كذلك قال ابن جني في سر الصناعة: " وأما إبدال الميم من اللام فيروى أن النمر بن توْلَب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس من امبر امصيام في امسفر، فأبدل اللام المعرفة ميماً، ويقال: إن النمر لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، إلا أنه شاذ لا يسوغ القياس عليه " انتهى.
وتبعه الزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه، وابن هشام في المغني، قال: " تكون أم للتعريف، ونقلت عن طيئ، وعن حمير، وأورد البيت والحديث، وقال: كذا رواه النمر بن تولب " انتهى.
قال السيوطي في حاشيته على المغني: " هذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده،(4/454)
والطبراني في معجمه الكبير من حديث كعب بن عاصم، ومسنده صحيح، وقوله " كذا رواه النِّمْرِ بنِ تَوْلَب " وكذا ذكره ابن يعيش والسخاوي: كلاهما في شرح المفصل، وصاحب البسيط، زاد ابن يعيش: ويقال: إن النمر لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث، وكلهم تواردوا على مالا أصل له، أما أولاً فلأن النمر بن تولبٍ مختلف في إسلامه وصحبته، وأما ثانياً فإن هذا الحديث، قال أبو نعيم في " معرفة الصحابة ": النمر بن تولب الشاعر، كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً، وروي من طريق مُطَرِّف عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من سره أن يذهب كثير من وَحَرِ صدره، فليصم شهر الصبر رمضان وثلاثة أيام من كل شهر " انتهى كلام السيوطي رحمه الله قلت: وكذا قال ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن حجر في الإصابة، إن النمر بن تولب لم يرو إلاَّ حديثاً واحدا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَغَرَ الصدر و " بُجَيْر " بضم الموحدة وفتح الجيم بعدها ياء ساكنة فراء مهملة، و " عنمة " بفتح العين المهملة والنون بعدها ميم و " بولان " بفتح الموحدة وسكون الواو وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائتين -: (من الرجز) 218 - يَا هال ذات المنطق التمتام * وَكَفِّكِ الْمُخَضَّبِ الْبَنَامِ على أن الأصل البنان، فأبدلت النون المتحركة ميماً بضعف كما أبدلت في طَامَهُ الله على الخير، والأصل طانه، قال ابن جني في سر الصناعة: " فأما قول رؤبة: * وَكَفِّكِ الْمُخَضّبِ الْبَنَامِ *(4/455)
فإنه أراد البنان، وإنما جاز ذلك لما فيها من الغنة والهُوِيِّ، وعلى هذا جمعوا بينهما في القوافي فقالوا: (من السريع) يَا رُبَّ جَعْدٍ فِيهِمُ لَوْ تدرين * يضرب ضربب السُّبُطِ الْمَقَادِيمْ وقال الآخر: يَطْعَنُهَا بِخِنْجَرٍ مِنْ لَحْمٍ * دُونَ الذُّنَابَى فِي مَكَانٍ سُخْنِ وهو كثير " انتهى ولم يذكروا إبدال النون من الميم وقد أورد ابن السكيت في كتاب الإبدال كلمات كثيرة للقسمين فمن القسم الأول: ماء آجن وآجم للمتغير، ويقال لريح الشَّمال: نِسْع ومِسْع، وَالحُلاَّنُ والحُلاَّمُ، وهو الجدى الصغير، قال أبو عبيدة (1) في قول مُهَلْهَل: (من السريع) كُلُّ قتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ حُلاَّمْ * حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ هَمَّامْ ويقال: نَجِرَ من المَاء يَنْجَرُ نَجْراً ومَجَرَ يَمْجَرُ مَجراً، إذا أكثر من شربه ولم يكد يَرْوَى، وقال اللحياني: يقال رُطَب مُحَلْقِنٌ ومُحَلْقِمٌ، وقال الأصمعي: إذا بلغ الترطيب ثلثي البُسْرة فهي حُلْقَانَة، وحُلقان للجميع، وهي ملحقنة، والْمُحَلْقِن للجميع، والحَزْن والْحَزْمُ: ما غلظ من الأرض، وهي الحُزُون والحُزُوم، وقال غير الاصمعي من الأعراب: الْحَزْمُ أرفع، وَالحَزْنُ أغلظ، يقال: قد أَحْزَنَّا: أي صرنا إلى الحزونة، ولا يقال أحْزَمْنَا، أبو عُبَيْدَة يقال: انْتَطَلَ فلان من الزق
__________
(1) لم يذكر ما قال أبو عبيدة في شرح بين المهلهل، وقوله هو: " أي فرغ، ويقال: الفرغ، للباطل الذى لا يؤدى، يقال: ذهب دمه فرغا: أي باطلا " اه نقلا عن كتاب القلب والابدال لابن السكيت (ص 19) .
والفرغ بكسر الفاء
وسكون الراء (*)(4/456)
نَطْلة: أي امتص منه شيئاً يسيراً، وتقول: امتطل من الزِّق مطلة، والمعنى واحد ويقال: قد نَشْنَشَها الرجل والفحل: أي قد نكحها، وقال بعضهم: مَشْمَشَهَا، في ذلك المعنى، ويقال: إن فلاناً لشراب بأَنْقُعٍ، جمعٌ، وقال بعضهم: بأمقع، قال الأصمعي: معناه المعاود لما يكره مرة بعد مرة ومن القسم الثاني: الأصمعي، يقال: للحية أيْمٌ وأَيْنٌ، والأصل أيِّم، فخفف ويقال: الغيم والغَيْن، وقال بعضهم: الغين إلباس الغيم السماء، ومنه: إنه ليغان على قلبي: أي يغطي عليه ويلبس، وسمعت أبا عمرو يقول: الغِيم العطش، يقال: غيم وغين، وقد غامت وغانت: أي عطِشت، وهي تغِيم وتغِين، الأصمعي: يقال: امْتُقِعَ لونه وانْتُقِعَ لونه، إذا تغير لفزع، وهو ممتقع اللون ومنتقع اللون، الفراء: يقال: مَخَجْتُ بالدَّلْوِ ونَخَجْتُهَا، إذا جذبتها لتمتلئ، الأصمعي: الْمَدَى والنَّدَى للغاية، يقال: بلغ فلان الْمَدَى والنَّدَى، الكسائي: تَمَدَّلت بالمنديل وتَنَدَّلت، الأصمعي: يقال: أمْغَرَتِ الناقة والشاة وأنْغَرَتْ، إذا خالطت لبنها حمرةٌ من دم، الأصمعي: يقال للبعير إذا قارب الخطو وأسرع: بعير دُهَامِجٌ وبعير دُهَانِجٌ، وقد دهْمَجَ يُدَهْمِجُ دَهْمَجَةً ودَهْنج يُدَهْنِجُ دَهنجة، ويقال: أسود قاتم وقاتن، أبو عمرو والفراء: يقال: كَرْزَم، " للفأس الثقيلة كرزن، الكسائي يقال: عُرَاهِمَة وعُرَاهِنَةٌ، وسمع الفراء حَنْظَل وحَمْظَل، وقال أبو عمرو: الدِّمْدِم الصِّلِّيان المحيل في لغة بني أسد، وهو في لغة تميم الدِّنْدِن، الكِلابي: يقال: أطَمَّ يده وأطَنَّها " هذا ما ذكره ابن السكيت بحذف الشواهد وزاد الزجاجي من الأول: نَثَّ جسدُه من السمن، ينت نثاً، ومثّ يمثّ مثاً، ومَن الثاني: تَكَهَّمَ به وتكهن: أي تهزأ به
وأما الشعر فقد نسبه ابن جني والزمخشري والشارح إلى رؤبة، وليس موجوداً في ديوانه، و " هَال " مرخم هالة، و " ذاتَ " بالنصب صفة لهالة(4/457)
تبعه على المحل، والمنطق: هو النطق، و " التَّمتام " صفة لمنطق، وأصل التمتام الإنسان الذي يتردد في التاء عند نطقه، قال ابن المستوفي: عطف " كَفِّكَ " على المنطق، وكان الواجب أن يقول: والكفِّ المخضب، لأن ذا وذات يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، غير أن المعطوف يجوز فيه ما لا يجوز في المعطوف عليه، وقال بعض فضلاء العجم: " التمتام الذي فيه تمتمة: أي تردد في كلامه، ووصفُ المنطق بالتَّمتام مجاز، وتمتمتها في المنطق عبارة عن حيائها، قال صاحب المقتبس: ورأيت في نسخة الطباخي بخطه أن الواو في: وكفِّك: واو القسم، هذا كلامه، وقيل: يجوز أن يكون جواب القسم محذوفاً دل عليه قوله: ذات المنطق، يريد أقسم بكفك أن منطقك تمتام وأنك مستحية، وقال بعض الشارحين: أقسم بكفها، والمقسم عليه في بيت بعده، ولم يذكر ذلك البيت، ويجوز أن يكون (وكفِّك) معطوفاً على المنطق، وإنما قال: المخضب ولم يقل المخضبة، لأن المؤنث بغير علامة يجوز تذكيره حملاً على اللفظ، أو لأنه ذهب بالكف إلى العضو " هذا ما ذكره ذلك الفاضل وقوله " لأن المؤنث بغير علامة إلخ " هذا يقتضي جواز (الشمس طلع) مع أنه يحب إلحاق العلامة عند الإسناد إلى ضمير المؤنث المجازي، وفي المصباح المنير: " الكف من الإنسان وغيره أنثى، قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كف مخضب، فعلى معنى ساعد مخضب، قال الأزهري: الكف الراحة مع الأصابع سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن " انتهى.
وفيه أن الخضاب لا يوصف به الساعد، وقال العيني: ذات المنطق، يجوز رفعه حملاً على اللفظ ونصبه حملاً على المحل.
أقول: لا يجوز هنا إلا النصب، فإن المنادى إذا كان موصوفاً بمضاف يجب(4/458)
نصب وصفه، نحو: يا زيد أخا عمرو، وقال أيضاً: يجوز أن يكون: كفك، مرفوعاً على الابتداء وخبره في البيت الآتي، أو محذوف، أقول: هذا عدول عن واضح إلى خفي مجهول.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائتين -: (من الطويل) 219 - ألاَ كُلُّ نفسٌ طِينَ مِنْهَا حَيَاؤُها (1) قال ابن السكيت في كتاب الإبدال: " قال الأحمر: يقال طانه الله على الخير وطامه: يعني جبله، وهو يَطيمه ويَطِينه، وأنشد: ألاَ تِلْكَ نَفْسٍ طِينَ فِيهَا حَيَاؤُها وسمعت الكلابي يقول: طانه الله على الخير وعلى الشر " انتهى.
وكذا نقله الجوهري عنه، قال ابن بري في أماليه على الصحاح: " صواب الشعر: إلى تلك، بإلى الجارّة، والشعر يدل على ذلك، أنشد الأحمر: لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا لَهُ قَدْ تَزَيَّنَتْ * عَلَى الأَرْضِ حَتَّى ضَاقَ عَنْهَا فَضَاؤُهَا لَقَدْ كَانَ حُرّاً يَسْتَحِي أنْ تَضُمَّهُ * إلى تِلْكَ نَفْسٌ طِينَ فِيهَا حَيَاؤُهَا يريد أن الحياء من جبلتها وسجيتها " انتهى.
ففي ما في الشرح ثلاث تحريفات، وفي الصحاح تحريف واحد تبعاً لابن السكيت، والأحمر: هو خلف بن حيَّان بن محرز، ويكنى أبا محرز البصري، وهو مولى بلال بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه من أبناء
الصغد الذين سباهم قتيبة بن مسلم لبلال، وهو أحد رواة الغريب واللغة والشعر
__________
(1) انظر (ص 20) من كتاب القلب والابدال لابن السكيت (*)(4/459)
ونقاده والعلماء به، قال الأصمعي: أول من نعى أبا جعفر المنصور بالبصرة خلفٌ الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس فمر بنا خلف فسلم، ثم قال: فقد طَرَّقَتْ بِبَكْرِهَا بِنْتُ طَبَقْ فقال له يونس: هِيْه، فقال: فَنَتَجُوهَا خَبَراً ضَخْمَ العُنُق فقال: وما ذاك، قال: مَوْتُ الإِمَامِ فِلْقَةٌ مِنَ الْفِلَقْ كذا في طبقات النحويين لمحمد بن الحسين اليمني، وساق له نوادر وأشعاراً وحكاياتٍ كثيرةً.
وأنشد بعده - وهو الشاهد العشرون بعد المائتين -: (من الرجز) 220 - هَلْ يَنْفَعَنْكَ الْيَوْمَ إنْ همت بهم * كثرة ما توصي وتعقاد الرَّتَمْ على أن ميم الرتم أصلية من الرتيمة غير مبدلة من الياء، وهذا الفصل جميعه من سر الصناعة لابن جني، قال صاحب الصحاح: الرتيمة: خيط يشد في الإصبع لتستذكر به الحاجة، وكذلك الرتمة، تقول فيه: أرتمت الرجل إرتاماً، قال الشاعر: (من الطويل) إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا فِي نُفُوسِكُمْ * فَلَيْسَ بِمُغْنٍ عَنْكَ عَقْدُ الرَّتَائِمِ والرتمة بالتحريك: ضرب من الشجر، والجمع رَتَمٌ، قال الشاعر: نَظرْتُ وَالْعَيْنُ مُبِينَةُ التُّهَمْ * إلَى سَنَا نَارٍ وَقُودُهَا الرَّتَمْ
وكان الرجل إذا أراد سفراً عمد إلى شجرة فشد غصنين منها فإن رجع(4/460)
ووجدهما على حالهما قال: إن أهله لم تخنه، وإلا فقد خانته، وقال: هل ينفعك الْيَوْمَ إنْ هِمْتَ بِهِمْ * ... البيت وقال ابن بري في أماليه: " قوله: وكذلك الرتمة، قال ابن حمزة: الرتمة - بفتح التاء -: هي الرتيمة، والرتم في قوله: وتعقاد الرتم: جمع رتمة، وهى الرتمية، وليس هو النبات المعروف، لأن الأغصان التي كانت تعقد لا تخص شجراً دون شجر " انتهى.
ويؤيده ما نقله الزيلعي في شرح الكنز، فإنه ذكر مثل كلام الجوهري، وقال: " هكذا المروي عن الثقات، إلا أن الليث ذكر الرتم بمعنى الرتيمة كذا في المغرب " انتهى.
وقال ياقوت فيما كتبه على هامش الصحاح: صواب البيت الأول: إذا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا في نُفُوسِنَا * لإخْوَانِنَا لَمْ يُغْنِ عَقْدُ الرَّتَائِمِ وقائل الشعر الثاني هو شيطان بن مُدْلِج، وفي كلام ابن جني بعض مخالفة لصاحب الصحاح، فإنه قال: عمدَ إلى شجرة فشد غصنين منها، وقال ابن جني: عمد إلى غصنين من شجرتين تقرب إحداهما من الأخرى.
وحاصل ما ذكره الشارح والمصنف تبعاً لابن جني أن الميم تكون بدلاً من الياء في ثلاث كلمات.
وقد ذكر ابن السكيت في كتاب الإبدال كلمات كثيرة في تبادلهما قال: " يقال: للظليم أرْبد وأرمد، وهو لون إلى الغبزة، وأربد: أغبر، ومنه تَرَبَّد وجهه وارْبَدَّ، ويقال: سمعت ظَأْبَ تيس بني فلان، وظأْم تيسهم، وهو صياحه، والظأب والظأم أيضاً سَلِف الرجل، يقال: قد تظاءنا وتظاءما، إذا تزوجا أختين، ويقال للرجل إذا
كبر ويبس من الهزال: ما هو إلا عَشَمة وعَشَبَة، ويقال: قد عشِم الخبز وعشِب،(4/461)
إذا يبس، وقد عَشِم الشجر، ويقال: سابَّ فلان فلاناً فأرْبى عليه وأرمى عليه، إذا زاد عليه في سِبابه، ويقال: قد أرمى على الخمسين: أي زاد عليها، قال الفراء: يقال منه: قد أرميت ورَمَيْت، وكذا يقال: أرميت على السبعين ورَمَيْت، وأرْبيت ورَبيت، بألف فيهما وبلا ألف: أي زدت، وقال أبو عبيدة: الرُّجْبَة والرُّجْمَة أن تطول النخلة، فإذا خافوا عليها أن تقع أو تميل رجَّبُوها: أي عَمَدُوها ببناء حجارة، أبو عبيدة عن يونس قال: ينشد هذا البيت: (من المتقارب) وَأَهْدَى لَنَا أكْبَشاً * تَبَحْبَحُ فِي المربد وَإنْ شئت تمحح: أي تلزم المكان وتتوسطه، ويقال: قد سَمَّد شعره وسَبَّده، والتسبيد: أن يستأصل شعره حتى يُلْصقه بالجلد، ويكون التسبيد أن يحلق الرأس ثم ينبت منه الشئ اليسير، قال الأصمعي: يقال للرجل حين ينبت شعره ويسود ويستوي: قد سَبَّد، وإذا اسود الفرخ من الريش فغطى جلده ولم يطل فقد سَبَّد، أبو عمرو: يقال: صَبَأْت الجيش عليهم وَصَمَأْته عليهم، إذا هجمته عليهم، أبو عبيدة السأسم والسأسب شجر، ويقال: هو الشِّيزُ، الفراء: يقال: أومأت إليه وأوْبَأْتُ إليه، اللحياني: يقال للعجوز: قَحْمَة وقَحْبَة، أبو عبيدة: إذا شربت بطَرَف فم السقاء ثَنَيْتَه أو لم تثنه أو شربت من وسطه قيل: قد اقتبعت السقاء واقتمعت، اللحياني: يقال: أتانا وما عليه طِحْربَةٌ وطِحْرِمة: أي خرقة، وكذلك يقال: ما في السماء طِحْرِبة: أي لَطْخٌ من غيم، ويقال: ما في نحى فلان عبَقة ولا عَمَقَةٌ: أي لَطَخ، ولا وضَرٌ، وقئمت في الشراب وقئبت وصِئمت وصَئِبْت وصَئِمَ من الماء وصئب، إذا
امتلأ، والقَرْهَمُ والقَرْهَبُ السيِّد، وهو أيضاً الثور المسن، يونس: يقال: رَجَمَتْهُ بقول سيّئ ورَجَبْتُه: يعنون صككته، الفراء: اطمأننت إليه، ولغة بني أسد(4/462)
اطبأننت، الكسائي: النُّغْمَةُ والنُّغْبَةُ من الشراب، إذا تناولت منه شيئاً قليلاً، وقد نَغَبَ وَنَغَمَ، ويقال: هو يَتَمَجَّحُ وَيَتَبَجَّحُ بمعنى واحد، وهو من الفخر، الفراء: ذهب القوم شَذَرَ مَذَر، وشذر بَذَر - بفتح أولهما وكسرهما - أبو زيد: الرَّمِيز من الرجال العاقل الثخين، وقال بعضهم الرَّبيز، وقد رَمُز رَمَازَة ورَبُز ربازة، أبو عبيدة: العِقْمَة والعِقْبَة ضرب من الوشي، الفراء: يقال: تعرف فيه عِقْبة الكرم وعقمته أيضاً، والعقمة والعقبة أيضا ضربو ثياب الهودج، اللحياني: أسود غيهب وغيهم، وإنه لميمون النقيبة والنقيمة، وعَجْب الذنب وعَجْمه: أي أصله، والعمرى والعبرى للسدر الذى ينبت على الأنهار والمياه، اللحياني: ضربة لازب ولازم، ويقال: ثوب شَبَارِق وشَمَارِق، وَمُشَبْرق ومُشَمْرَق، إذا كان ممزقاً، ويقال: وقع في بنات طَمَارِ، وطَبَارِ: أي داهية، ويقال: رجل دِنَّبَة ودنَّمة للقصير، ويقال: أدْهقْت الكأس إلى أصْبَارها وأصْمَارها: أي ملأتها إلى رأسها، الواحد صُبْر وَصُمْر، الأصمعي: يقال: أخذ الأمر بأصباره وأصماره: أي بكلِّه، وأخذها بأصبارها وأصمارها: أي تامة بجميعها، اللحياني: أصابتهم أزْمَة وأزْبَة، وآزِمة وآزبة، وهو الضيق والشدة، الكسائي: اضْمَأَكَّتْ الأرض واضْبَأَكَّتْ، إذا اخضرت من النبات، ويقال: كمَحْتُه باللجام وكَبَحْتُه وَأكْمَحْتَهُ وأكْبَحْتُهُ، أبو عمرو: الذام والذاب والذان العيب، اللحياني: ذأبْته وذأمْته، إذا طردته وحقرته، ورأبْت القِدْح ورأمته، إذا شَعَبته، ويقال: زَكَم بنُطْفته وزَكَب، إذا حذف بها، ويقال: هو ألأم زَكْمَةٍ في الأرض وزَكْبَةٍ معناه ألام شئ لقطه شئ، ويقال أبِدَ عليه وأمِدَ: أي غضب، ويقال:
وقعنا في بَعْكُوكاء ومَعْكُوكاء: أي في غبار وجلبة وشر، الفراء: جرد بت في الطعام وجَردَمْت، وهو أن يستر بيده ما بين يديه من الطعام لئلا يتناوله أحد، وتكبكب الرجل في ثيابه وتكَمَكم: أي تزمل، وكَبَن اللصوص في الجبل(4/463)
وكمنوا، وقال أبو صاعد: العطاميل هي البكرات التَّوَامُّ الخلق، والعطابيل " هذا ما أورده ابن السكيت وقد حذفنا منه الشواهد.
وزاد الزجاجي مَكَّةَ وَبَكَّةَ، ورجل سَهْلَبٌ وَسَلْهُمٌ: أي الطويل، والموماة والبوباة: أي الصحراء الخالية: ورجل شيظم وشيظب: أي طويل أنشد الجاربردي - وهو الشاهد الواحد والعشرون بعد المائتين -: (من الوافر) 221 - هَلْ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا * نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَام على أن الأصل لعلنا، فأبدلت اللام نوناً بضعف.
وقد أورد ابن السكيت في كتاب الإبدال كلمات كثيرة وقع التبادل فيها بين اللام والنون، وهي: " قال الأصمعي: هَتَنَتْ السماء تَهْتِن تَهْتَاناً وهَتَلَت تهْتِل تَهتالاً، وهن سحائب هُتن وَهُتَّل، وهو فوق الهطل، والسدول والسدون: ما جلل به الهودج من الثياب وأرخى عليه، والكَتَلُ والكَتَنُ التلزج ولزوق الوسخ بالشئ، ويقال: رأيت في بني فلان لَعَاعَة حسنة ونعاعة حسنة، وهو بقل ناعم في أول ما يبدو رقيق ولم يغلظ، وتلعيت اللعاعة إذا اجتنيتَها، ويقال: بعير رِفَنٌّ ورِفَلٌّ، إذا كان سابغ الذنب، ويقال: للحَرَّة لُوبة ونُوبة، ومنه قيل: للاسود لُوبيّ ونوبي، الأصمعي: يقال: طَبَرْزَنٌ وطَبَرْزَل للسكَّر، ويقال: رَهْدَنَة ورَهْدَلَة ورَهَادِين ورَهاديل، وهي الرهادن والرهادل، وهو طُوَيْر شبيه
القبِّرة، إلا أنه ليست له قُنْزَعة (1) والرهدن والرهدل: الضعيف أيضا، ويقال:
__________
(1) يريد أنها ليس ريشات في رأسها (*)(4/464)
لقيته أصيلالا وأُصَيْلاناً: أي عشياً، وأُصَيْلالٌ تصغير أَصيل على غير قياس، والدَّحِن والدَّحِل، قال أبو زيد: الدَّحِن من الرجال العظيم البطن، وقد دَحِنَ دَحَناً، وقال الأصمعي: هو الدَّحِل باللام، أبو عبيدة: صَلَّ اللحم صُلُولاً وأصَلَّ اللحم، وقوم يجعلون اللام نوناً فيقولون: قد أصَنَّ اللحمُ، أبو عمرو الشيباني: الْغِرْيَنُ والْغِرْيَلُ: ما يبقى من الماء في الحوض، والغديرُ، أبو عمرو: الدمال السرجين (1) ويقال: الدَّمان، الفراء: هو شَئْنُ الاصابع وشثلها، وقد شثنت كفه شثونة وشثانة، وشثلت، وهو الغليظ الخشن، وأتَن الرجل يَأْتِنُ وأتَل يَأْتِلُ، وهو الأتَلان والأتَنان، وهو أن يقارب خطوه في غضب، الكسائي: أتاني هذا الأمر وما مأَنْتُ مَأْنَهُ وما مَأْلْتُ مَأْلَهُ: أي ما تهيأت له، وهو حَنَك الغراب وحَلَكه لسواده، وهو العبد زلَمة وزُلْمة وزَنَمَة وزُنْمَة: أي قَدُّه قَدّ العبد، معناه إذا رأيته رأيت أثر العبد فيه، وأبَّنْتُهُ وأبَّلْتُهُ إذا أثنيت عليه بعد موته، وتأسَّنَ أباه وتأسَّله، إذا نزع إليه في الشبه، وعُنْوان الكتاب وعُلْوانه، اللحياني: يقال: عَتَلْتُه إلى السجن وعَتنْتُه، وأنا أعتُله - بالضم والكسر - وأعْتُنه كذلك، وارمَعَلَّ الدَّمعُ وارمعنَّ، إذا تتابع، ويقال: لاَبَنَ ولاَبَلَ، وإسماعيل وإسماعين، وميكائيل وميكائين، وإسرافيل وإسرافين، وإسرائيل وإسرائين، وشراحيل وشراحين وجبرئيل وحبرئين.
وسمعت الكلابي يقول: آلصت الشئ أليصه إلاصة وآنصته أُنيصه إناصة، إذا أدَرْته، ويقال ذلاذل القميض وذناذنه لأسافله، الواحدة ذَلْذَلٌ وَذَنْذَنٌ: ويقال: هو خامل الذكر وخامِنُ الذكر، الفراء: ما أدري أيُّ الطَّبْن هو وأيُّ الطَّبْل (2) هو، وحُكي: بَنْ أنا فَعَلْتُ، يريد
بَل، أبو زيد: نَمَّق ينمقه ولمقه يلمقه، وقنة الجبل وقلته لاعلاه "
__________
(1) السرجين: الزبل، وهو معرب فارسيته سركين - بالفتح وبالكاف - (2) أي: أي الناس هو (*)(4/465)
هذا ما ذكره ابن السكيت باختصار الشواهد.
وزاد الزَّجاجي: السَّلِيطُ والسَّنِيطُ (2) ، وَنَفَحْتُه بالسيف ولَفَحْتُه، ولَفَحَتْه النار ونَفَحَتْه، وكَلِعَت يَدَُه وكَنِعَت: أي دَرِنَتْ وَوَسِخَت، ولَجلَجَ في كلامه ونَجْنَج، ونَقَس الْقَوْمَ يَنْقُسُهُمْ نَقْساً، ولَقَسَ لَقْساً: أي لقيهم والبيت الشاهد مطلع قصيدة للفرزدق مدح بها هشام بن عبد الملك وهجاً جريراً، ورُوِي أيضاً: * ألستم عائجبين بِنَا لَعَنَّا * و " عائج " اسم فاعل من عُجْت البعير أعوجه إذا عطفت رأسه بالزمان، والباء بمعنى مع، وعرصة الدرا: ساحتها، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء، وسميت عَرْصَة لان الصبيان يعترصون فيها: أي يلعبون ويمرحون، وقد شرحنا بعض أبياتها في الشاهد الحادي والثلاثين بعد السبعمائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين: (من المديد) 222 - رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثُعَلٍ * مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قتتره على أن أصله مُولج فأُبدلت الواو تاء، وأورد ابن جني في سر الصناعة شيئاً كثيراً من هذا، ثم قال: " وهذه الألفاظ وإن كانت كثيرة فإنه لا يجوز القياس عليها، لقلتها بالإضافة إلى ما لم تقلب فاؤه تاء، فأما ما تقيس عليه لكثرته فهو افْتَعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه واواً، نحو اتَّزَن واتَّلَجَ واتَّصَفَ، والاصل
او تزن، واوْتَلَجَ واوتَصَفَ وجميع ما ذكره ابن جني أخذه من كتاب الإبدال لابن السكيت، ولم يورد الزجاجي شيئا من هذا
__________
(1) السليط: الزيت (*)(4/466)
والبيت مطلع قصيدة لامرئ القيس، وجواب رُبَّ في بيت بعده، وهو: قَدْ أتَتْهُ الْوَحْشُ وَارِدَةً * فَتَنَحَّى النَّزْعُ فِي يَسَرِهِ فَرَمَاهَا فِي فَرَائِصِهَا * بَإزَاءِ الْحَوْضِ أوْ عُقُرِهْ بَرَهِيشٍ مِنْ كِنَانَتِهِ * كَتَلَظِّي الْجَمْرِ فِي شَرَرِهْ رَاشَهُ مِنْ ريشه نَاهِضَةٍ * ثُمَّ أمْهَاهُ عَلَى حَجَرِهْ فَهْوَ لا تَنْمِي رمِيَّتُهُ * مَالَهُ لاَ عُدَّ مِنْ نَفَرِهْ مَطْعَمٌ لِلصَّيْدِ لَيْسَ لَهُ * غَيْرَهَا كَسْبٌ عَلَى كِبَرِهْ قوله " رب رَامِ إلخ " ثُعل - بضم المثلثة وفتح المهملة -: هو أبو قبيلة من طي هم أرمى العرب، ويضرب المثل بهم في جودة الرمي، وهو ثُعل بن عمرو بن الغوث بن طي، وهو غيرُ مُنْصرف للعلمية والعدل، وجره هنا للضرورة، و " مُتْلِجٍ " بالجر صفة ثانية لرام، وقتر - بضم القاف وفتح المثناة الفوقية -: جمع قُتْرَة - بضم فسكون - وهي حُفَيرة يكَمُن فيها الصياد لئلا يراه الصيد فينفر، وإنما أدخل كفيه في قُتَره لئلا يعلم به الوحش فيهرُب، وصفه بحِذْق الرمي، وروي في سُتَره: جمع سُترة، وهو الموضع الذي يستتر فيه، وقيل هو الكُمّ، وهو سترة اليد والذراع، وأراد بقوله " رُبَّ رام " عمرو بن المُسَبِّح بن كعب بن طَرِيف بن عبد بن عَصَر بن غَنْم بن حارثة بن ثَوْب بن مَعْن بن عَتُود بن عنين بن سلامان ابن ثُعَل، والْمُسَبِّح بوزن اسم الفاعل من التسبيح، وابنه عمرو صحابي، قال صاحب الاستيعاب: " قال الطبري عاش عمرو بن المسبح مائه وخمسين، ثم أدرك
النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد إليه وأسلم، قال: وكان أرمى العرب، وله يقول امرؤ القيس * رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثعل *(4/467)
وقال فيه أيضاً: * يَحَاذِرْنَ عَمْراً صاحِبَ الْقُتَرَات * " انتهى وكذا قال أبو حاتم في كتاب الْمُعَمِّرين، وقال: " إنه مات في زمن عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وهو القائل: لَقَدْ عُمِّرْتُ حَتَّى شَفَّ عُمْرِي * عَلَى عُمْرِ ابْنِ عُكْوَةَ وَابْنِ وَهْبِ وَعُمْرِ الْحَنْظَلِيِّ وَعُمْرِ سَيْفٍ * وَعُمْرِ ابْنِ الوداة قريع كعب " انتهى.
وقال ابن المُسْتَوفي في شرح أبيات المفصل: " قدم على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذٍ ابن مائة وخمسين سنة - فسأله عن الصيد، فقال: كُلْ مَا أصْمَيْتَ ودَعْ ما أنْمَيْت، وله يقول الشاعر: (من الكامل) نَعَبَ الْغُرَابُ ولَيْتَهُ لَمْ يَنْعَبِ * بِالبَيْنِ مِنْ سَلْمَى وَأُمِّ الْحَوْشَبِ لَيْتَ الْغُرَابَ رَمَى حَمَاطَةَ قَلْبِهِ * عمرو بأسهمه التى لم تغلب " انتهى.
وقوله " قد أتَتْه إلخ " هذا جواب رب، وتنحى: اعترض، وروي " فَتَمَتَّى " أي مدَّ ونزع القوس، وقيل: التمتي في نزع القوس مَدُّ الصلب، واليسر: حيالَ الوجه والشَّزْرُ يمنة ويسرة، وقالوا: إنما هو اليَسْر فحركة بالفتح، يقال: حَرَّف لها السهم حيال وجهه، وقال بعضهم من يَسِرَه: أراد يسره يديه، وقوله " فرماها إلخ " الفريصة: لحمة في الإبط، وإزاء الحوض - بكسر الهمزة -: مصب الماء فيه، والعُقْر - بضمتين -: مقام الشاربة من الحوض، والرهيش: السهم
الخفيف، والكِنانة: الجَعْبة، وشبه السهم بالجر في التهابه، والناهضة: العقاب وأمَهَاه: سَنَّه وحدده وأراد بالحجر المِسَنّ، وقوله " فهو لا تنمي " في المصباح نَمَى الصيدُ يَنْمِي من باب وَفَى: غاب عنك، ومات بحيث لا تراه، ويتعدى(4/468)
بالألف، فيقال: أنْمَيْتُه، وفي الحديث: كُلْ ما أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أنْمَيْتَ: أي لا تأكل ما مات بحيث لم تره، لأنك لا تدري هل مات بسهمك وكلبك أو بغير ذلك، وصَمَى الصيدُ - من باب رمى -: مات وأنت تراه، ويتعدى بالالف فيقال: أصميته، إذا قتلته بين يديك وأنت تراه، والبيت يروى بالوجهين لا تُنْمَى - بالبناء للمفعول - من أنماه: ولا تُنْمِي - من نمى الصيدُ، بإسناد الفعل إلى الرَّمْيَة، وقوله " ماله " استفهام تعجبي، وجملة " لا عد من نفره " دعاء عليه، والمراد مدحه كقولهم في المدح: قاتله الله ما أشعره، وأراد بالنفر قومه، والضمير للرامي: أي لا كان معدوداً في قومه، بأن عدموه وفقدوه، وهذا تأكيد لمعنى التعجب في " ماله " وقوله " مُطْعَم " هو اسم مفعول من أطعم، يريد أن وجه كسبه من الصيد فهو يُرْزق منه.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين -: (من الرجز) 223 - يَا قَاتَلَ الله بَنِي السِّعْلاَتِ * عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ شرار النات * غير أعفاء ولا أكْيَاتِ * على أن الأصل شرار الناس، ولا أكياس، فأبدلت السين فيهما تاء كما فعل بسِتّ، وأصلها سِدْس بدليل قولهم التسديس وسُدَيْسَة، فقلبوا السين تاء فصارت سِدْتٌ، فتقارب مع الدال في المخرج، فأبدلت الدال تاء فأدغمت فيها، وقالوا أيضاً في طَسٍ طَسْتٌ، وفي حَسِيس (1) حِتيتٌ، هذا ما ذكره ابن جني في سر الصناعة ولم يزد على هذه الاربعة، وزاد عليها ابن السكيت في كتاب
الإبدال عن الأصمعي: " يقال: هو على سُوسِه وتوسه: أي خليقته، ويقال:
__________
(1) الحسيس: الصوت الخفى قال تعالى: (لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) (*)(4/469)
رجل خَفَيْسَأُ وخَفَيْتَأُ، إذا كان ضخم البطن إلى القِصَر ".
وزاد الزجاجي: الاماليس والاماليت، لما استوي من الأرض، ونصيب خَسِيسٌ وخَتِيتٌ، ومنه أخَسّ حقه وأخَتَّه: أي قَلَّلَه، وهو شديد الحساسة والختاتة.
وهذه الأبيات الثلاثة أوردها أبو زيد في موضعين من نوادره ونسبها في الموضع الأول إلى قائلها، وهو عَلْياء بن أرقم اليَشْكُري، وهو شاعر جاهلي، وكذا نسبها إليه الأسود أبو محمد الأعرابي، وقال في ضالة الأديب وهي أمالي أملاها على نوادر ابن الأعرابي: هي ثلاثة أبيات لا غير، وأنشدها الجوهري في مادة (س ي ن) من الصحاح، ونسبها ابن بري في أمالية عليه لعَلْياء أيضاً، وقال أبو زيد في الموضع الثاني: " قال المفصل: بلغني أن عمر بن يَرْبُوع بن حنظلة تزوج السِّعلاة فقال لها أهلها: إنك تجدُ بها خير امرأة ما لم تر برقاً، فسَتِّر بيتك إذا خفت ذلك، فمكثت عنده حتى ولدت له بنين، فأبصرت ذات يوم برقاً فقالت: (من الرجز) الْزَمْ بَنِيكَ عَمْرُو إنِّي آبِقٌ * بَرْقٌ عَلَى أرْضِ السَّعَالِي آلِقُ فقال عمرو: (من الوافر) ألاَ لِلَّهِ ضَيْفُكِ يَا أُمَامَا * رَأَى بَرْقاً فَأَوْضَعَ فَوْقَ بَكْر * فَلاَ بِكِ مَا أَسَالَ وَمَا أغَاَمَا * وقال الشاعر في عمرو هذا: * يَا قَاتَلَ الله بَنِي السِّعْلاَةِ * إلى آخر الأبيات الثلاثة " انتهى.
وقوله " يا قاتل الله إلخ " المنادى محذوف تقديره يا قوم، أو أنها للتنبيه، ولا حذف، وجملة " قاتل الله إلخ " دعاء عليهم بالهلاك لعدم عفتهم، وعدم كياستهم، وروي " يا قَبَّح الله " يقال: قبحه الله يقبَحُه - بفتح العين فيهما - قبْحاً: أي نحاه عن الخير، وفي التنزيل: (هُمْ مِّنَ المقبوحين) أي: المبعدين عن الفوز،(4/470)
والسِّعلاة بالكسر، وهي أنثى الغول، وقيل: ساحرة الجن اشتهر في العرب أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم تزوج سِعْلاَة فأقامت دهراً في بني تميم وأولدها عمرو أولاداً، وكان عمروٌ إذا رأى برقاً أسبل عليها الستور فغفل عنها يوماً وقد لاح برق من ناحية بلاد السَّعَالِي فحنت إلى أهلها فقعدت على بكر من الإبل وذهبت فكانَ ذاك آخرَ عهده بها، واشتهر أولادها من عمرو ببني السِّعلاة قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: عِسْل بن عمرو بن يربوعٍ وضَمْضَم أبناء عمرو بن يربوع من السعلاة، وجاء الإسلام وهم: يمانية فاختطوا خُطَّة بالبصرة، ومنهم ربيعة بن عِسْل، ولاه معاوية رضي الله عنه هَرَاة وقوله " عمرو بن يربوع " بالجر بدل من السِّعلاة، ولم يصب بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل في قوله: " عمرو بدل من بني السِّعلاة، أو نصب على الذم، وشرار النات: صفة عمرو، لأنه قبيلة هنا، جعل أمهم سِعْلاة لقبحها، وقيل: تزوج عمرو بن يربوع سِعْلاة وولدت له أولاداً، ثم تناسل الأولاد فصار عمرو بن يربوع اسم القبيلة " هذا كلامه مع عُجْزِه وبجره (1) وروي في بعض نسخ الشرح وغيره عمرو بن مسعود، وهو غير صحيح، و " شرارِ " بالجر صفة لبني، وهو جمع شَرِير ككرام جمع كريم، و " غير " بالجر أيضاً صفة أخرى لبني، وأعفاء: جمع عفيف من العفة وهي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين
الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والجمود الذي هو تفريطها، وأكياس: جمع كَيِّس بالتشديد كأجياد جمع جَيْد، مأخوذ من الكَيْس - كَفَلْس - وهو الظَّرْف والفطنة، وقال ابن الأعرابي: هو العقل، وقولها " الزم بنيك عمرو " هو منادى وآبق: هارب، وآلِق: لامع، وقوله " ألا لله ضَيْفُكِ يَا أُمَامَا " قال أبو زيد: " لم نسمع بقافيته، ويروى:
__________
(1) العجر والبجر: العيوبه (*)(4/471)
* ألاَ لِلَّهِ ضِيفُكِ * والضِّيفُ: الناحية والمحلة، وكذلك ضِيفُ الوادي ناحيته ومحلته، وقوله " فَلاَ بِكِ مَا أسَالَ " أي: فلابك ما وافقت سيلانه وإغامته، وأراد الغيم الذي رأت فيه البرق " انتهى كلامه.
يريد أن " ضيفك " روي بفتح الضاد وكسرها، وقوله " فلا بك " أورده ابن جني في موضعين من سر الصناعة على أن الباء فيه للقسم، وقال السخاوي في سفر السعادة: ذَكَّر " رأى، وأوضع " وهو يريد السعلاة، لأنه ذهب إلى معنى الحبيب والخليل، فيكون في قوله " فلابك " التفات من الغيبة إلى خطابها، وأوضع متعدي وَضَع البعير وغيره: أي أسرع في سيره، وأوضعه راكبه: أي جعله واضعا: أي مسرعاً، والبَكْر - بفتح الموحدة - الفَتِيُّ من الإبل، وجملة " ما أسَالَ إلخ " جواب القسم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائتين -: (من الرجز) 224 - صَفْقَةَ ذِي ذَعَالِتٍ سُمُولِ * بَيْعَ امْرِئٍ لَيْسَ بِمُسْتَقِيلِ على أن الذعالِت أصله الذعالب، فأُبدلت الموحدة مثناة فوقية.
قال ابن جني في سر الصناعة: " قال أعرابي من بني عوف بن سعد: صَفْقَةَ
ذِي ذَعَالِتٍ سُمُول إلخ، وهو يريد ذَعَالب، فينبغي أن يكونا لغتين، وغير بعيد أن تبدل التاء من الباء، وقد أبدلت من الواو وهي شريكة الباء في الشفة، والوجه أن تكون التاء بدلاً من الباء، لأن الباء أكثر استعمالاً، ولما ذكرناه أيضاً من إبدالهم التاء من الواو " انتهى كلامه.
ولم يذكر ابن السكيت شيئاً من هذا في كتاب الإبدال " ولا الزجاجي.
و" صفقة " منصوبة بخط ابن جني على أنه مفعول مطلق، يقال: صفقت له(4/472)
بالبيعة صفقاً: أي ضربت بيدي على يده، وكانت العرب إذا وجب البيع ضرب أحدهما على يد صاحبه، ثم استعملت الصفقة في العقد، فقيل بارك الله لك في صفقة يمينك، قال الأزهري: وتكون الصفقة للبائع والمشتري، و " الذعالب " بالذال المعجمة قَطع الخِرَق، وقد فسرها الشارح، و " سُمُول " بضم السين المهملة والميم، جمع سَمَل - بفتحتين -: الثوب الْخَلَق المقطع، و " بَيْع " مفعول مطلق، و " مستقيل " من استقاله البيع: أي طلب فسخه وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائتين - (من الرجز) 225 - * مُنْسَرِحاً عَنْهُ ذَعَالِيبُ الْحَرَق * على أن صاحب الصحاح أنشده وقال: الذعاليب: قطع الخِرَق، واحدها ذُعْلُوب.
والبيت من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج تزيد على مائتي بيت، شبه ناقته في الجلادة وقطع الفيافي بسرعة بحمار الوحش وأُتُنِهِ، وقبله: أحْقبُ كَالْمحْلَجِ مِنْ طُولِ الْقَلَقْ * كَأنَّهُ إذْ رَاحَ مَسْلُوسُ الشَّمَقْ نُشِّرَ عَنْهُ أوْ أسِيرٌ قَدْ عَتَقْ * مُنْسَرِحاً عَنْهُ ذَعَالِيبُ الْحَرَقْ
والأحقب: حمار الوحش، والأنثى حقباء، والمِحْلَج: آلة الحلج، وهو تخليص الحبّ من القطن، وقال الاصمعي في شرحه: شبههه بالمِحْلج لصلابته، وينبغي أن يقال: لكثرة حركته واضطرابه، ومن طول القلق: وجه الشبه، وهو كناية عن عدم سكونه، والقلق: الاضطراب، وراح: نقيض غَدَا، يقال: سَرَحَتْ الماشية بالغداة، وراحت بالعشي: أي رجعت، والعامل في " إذ " ما في كأنَّ من معنى التشبيه، يصف رجوعه إلى مأواه " ومَسْلُوسُ " خبر كأنه، وهو من السُّلاس - بالضم - وهو ذهاب العقل، والشَّمَق: النشاط، وقيل:(4/473)
مَرَح الجنون، ونُشِّر - بالبناء للمجهول بالتخفيف والتشديد -: أي رُقِيَ وَعُوِّذ، كما نشر عن المسحور فبرأ، والنشرة - بالضم -: الرقية والعُوذَة، وعَتَق: خلص من الأسر، يقول: كأن هذا الحمار الذي شبه ناقته به كالامن كثرة حركته فحين أراد الرجوع إلى مأواه نَشِطَ شوقاً إليه فكأنه مجنون نشاط، أو أسير صادف غِرَّة فتفلت من أسره، فهرب أشد الهرب، والمنسرح: الخارج من ثيابه، وهو حال من ضمير راح سببية، وذعاليب: فاعلها، وضمير عنه للأحقب، وهذا تمثيل، يريد أن هذا الحمار تساقط عنه وبره وشعره وهذا مما ينشِّطه، والرواية في ديوانه: * مُنْسَرِحاً إلاَّ ذَعَالِيبَ الْحَرَق * يعني أنه انسرح من وَبَره إلا بقايا بقيت عليه، والحرق - بالحاء والراء المهملتين المفتوحتين -: تحات الوبر، من قولهم: حَرِق شعره - من باب فرح -: أي تقطع ونسل، وضبطه بعضهم بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء، وليس له وجه هنا وإنما جعله كذلك اتباعاً لما شرحوا به الذعاليب.
وقد شرحنا منها أبياتاً كثيرة في الشاهد الخامس، وفي الشاهد الواحد والثلاثين
بعد الثمانمائة، من شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائتين -: (من البسيط) 226 - وَقَدْ أكُونُ عَلَى الحاجات ذالبث * وَأحْوَذِيّاً إذَا انْضَمَّ الذَّعَالِيبُ وقد شرحه وأغنانا عن شرحه (1)
__________
(1) البيت لجرير، واللبث: المكث، والاحوذي: الخفيف في العمل لحذقه (*)(4/474)
وأنشد الشارح - وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائتين -: (من الكامل) 227 - فَتَرَكْنَ نَهْداً عُيّلاً أبْنَاؤُهَا * وَبَنِي كِنَانَة كَاللُّصُوتِ الْمُرَّدِ على أن أصله كاللصوص، فأبدلت الصاد تاء قال ابن السكيت في كتاب الإبدال: " قال الفراء: وطيّئ يسمون اللُّصُوصَ اللصوت، ويسمون اللص لِصْتاًَ، وهم الذين يقولون للطَّسِّ طَسْت، وأنشد لرجل من طي: * فَتَرَكْنَ نَهْداً * البيت " وقال أيضاً في كتاب المذكر والمؤنث: " وبعض أهل اليمن يقول: الطِّسْتُ، كما قالوا في اللص: لِصْتُ " ونسب الصاغاني في العباب هذا البيت إلى عبد الأسود بن عامر بن جُوَيْن الطائي قال ابن الحاجب في أماليه على المفصل: " معناه أن هؤلاء تركوا هذه القبيلة أبناؤها فُقَرَاء، لأنهم قتلوا آباءهم، وبنى كنانة كذلك، وانضم إلى ذلك أنهم بَقُوا من شدة الفقر لصوصا مردة " انتهى.
ونَهْدٌ: أبو قبيلة: من اليمن، وهو نهد بن زيد بن لَيْث بن سود بن قضاعة، ووقع في موضعين من جمهرة بن دريد " فتركن جَرْماً " بفتح الجيم، وَجَرْمٌ
بطنان في العرب: أحدهما في قضاعة، وهو جَرْمُ بن زَبَّان، والآخر في طي، وعُيَّل: جمع عائل، كرُكَّع جمع راكع، من عَالَ يَعِيلُ عِيْلَةً، إذا افتقر فهو عائل، وأبناؤها: فاعل عُيَّل، ومُرَّد: جمع مارد، من مَرَدَ يَمْرُد - من باب قتل - إذا عتا وخبث، ورواه ابن جني في سر الصناعة " فتركْتُ " بضمير المتكلم وعامر بن جُوَيْن: شاعر فارس جاهلي، وابنه مثله جاهلي
__________
(1) والذعاليب: أطراف الثياب، واحدها ذعلوب، وإذا انضمت أطراف الثياب كان ذلك أعون على النشاط (*)(4/475)
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين -: (من الطويل) 228 - فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي إنْ تَوَسَّعَتْ * مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ الْمَصَادِر على أن أصله " إياك " فأبدلت الهمزة هاء وهذا الفصل كله من سر صناعة الإعراب لابن جني، وأطال الكلام في أمثلته إن شئت راجع باب الهاء منه والبيت أنشده أبو تمام في باب الأدب من الحماسة بحذف الفاء على أنه مخروم مع بيت ثان، وهو: فَمَا حَسَنٌ أنْ يَعْذِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ * وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ عَاذِرُ ونسبهما إلى مُضَرِّس بن رَبْعِي الفَقْعَسي، وإياك: منصوب على التحذير، والأمرَ: معطوف عليه، وعاملهما محذوف، تقديره: إياك باعد من الأمر، والامرَ منك، والمَوْرِد: المدخل، والْمَصْدَر: المصرف، وعَذَرْتُه فيما صنع عذراً - من باب ضرب -: رفعت عنه اللوم، والاسم الْعُذْر - بالضم - وجملة " وليس له " حال من المرء
ومُضَرِّس: شاعر جاهليّ قد ترجمناه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الثلاثمائة من شواهد شرح الكافية وأورده أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل لطُفَيْل الْغَنَوِيّ الجاهلي من جملة أبيات كذا: " فما لى كِرَامَ الْقَوْمِ وَانْمِ إلَى الْعُلَى * وَدَعْ مَنْ غَوَى لاَ يُجْدِيَنْ لَكَ طَائِرُهْ وَلاَ تَكُ مِنْ أخْدَانِ كُلِّ يَرَاعَةٍ * خَرِيعٍ كَسَقْبِ الباز جُوفٍ مَكَاسِرُهْ(4/476)
وَإيَّاكَ وَالأَمْرُ الَّذِي إنْ تَرَاحَبَتْ * مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ مَصَادِرُهْ وَلاَ تَمْنَعَنَّ الدَّهْرَ مَاءً عَمَرْتَهُ * وَإنْ كَانَ أوْلَى النَّاسِ بِالْمَاءِ عَامِرُهْ وَإنْ قِيلَ قَوْلٌ سَيِّئٌ فِي مَقَامَةٍ * فَلاَ تَكُ مَوْلَى قَوْلِ سُوءٍ تُبَادِرُهْ " انتهى.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائتين -: (من الكامل) 229 - وَأَتَتْ صَوَاحِبُهَا فَقُلْنَ هَذَا الَّذِي * مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا على أن أصله أذَا الذي، فأبدلت همزة الاستفهام هاء قال ابن جني في المحتسَب: " لا يريد هذا الذي، بل يريد أذا الذى، تم أبدل همزة الاستفهام هاء، وقد يجوز مع هذا أن يكون أراد هذا الذي مخبراً، ثم حذف الالف " انتهى.
فيكون حذفت الألف من هاء التنبيه المركبة مع ذا الإشارية، ويكون الكلام خبراً لا إنشاء والبيت مشهور: أنشده الجوهري في آخر الصحاح، وأنشده ابن جني في سر
الصناعة عن الأخفش، والزمخشري في المفصل، وغيرهم، وقائله مجهول، ويشبه أن يكن من شعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فإن في غالب شعره أن النساء يتعشقنه، وروي " وأتى صواحبها " فاعل جمع صاحبة، وزعم الجاربردي أنه مفعول، والفاعل ضمير، ويرده رواية " وأتت صَوَاحِبُهَا " وروي الأزهري في التهذيب عجزه كذا: * رامَ القَطِيعَةَ بَعْدَنَا وجفانا * والقطيعة: الهجر، ومنح: بمعنى أعطى، والله سبحانه أعلم بقائله:(4/477)
وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الثلاثون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 230 - بحَيَّهَلاَ يُزْجُونَ كُلَّ مَطِيَّةٍ * أمَامَ الْمَطَايَا سَيْرُهَا المُتَقَاذِفُ على أن حَيَّهَلاَ جاء بالألف كما في البيت، وهو مركب من حَيَّ ومن هَلا، كتركيب خمسة عشرَ، وهو محكيّ أريد لفظه بدون تنوين قال الأعلم في شرح أبيات سيبويه: " الشاهد في قوله " بحَيَّهَلاَ " فتركه على لفظه محكيّاً، يقول: لعجلتهم يسوقون المطايا بقولهم: حَيَّهَلاَ، ومعناه الأمر بالعجلة، على أنها متقدمة في السير متقاذفة عليه: أي مترامية، وجعل التقاذف للسير اتساعاً ومجازاً " انتهى.
والإزجاء - بالزاي والجيم -: السوق، والمطية: الدابة، وأمامَ - بالفتح - قال ابن الحاجب في أماليه: " يريد أنهم مسرعون في السير يسوقون بهذا الصوت لتسرع في سيرها، وقال: أمام المطايا، لأنه إذا سبقت الأولى تبعها ما بعدها، بخلاف سَوْق الأواخر، وقال: سيرها المتقاذف، يعني أنهم يسوقونها مع كون سيرها متقاذفاً، والتقاذف: الترامي في السير، وإذا سيق المتقاذف كان سيره
أبلغ مما كان عليه، وأمام المطايا: في موضع وصف لمطية، وسيرها المتقاذف: جملة ابتدائية صفة لمطية، والجار والمجرور متعلق بِيُزْجُونَ " انتهى.
والأجود أن يكون سَيْرُهَا فاعل الظرف، لاعتماده على الموصوف، والمتقاذف صفة لسيرها، ويجوز ما قاله الجاربردي (1) وقد شرحناه بأكثر من هذا في الشاهد الثالث والستين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية وأما " حيهلا " في الحديث فقد قال ابن الأثير في النهاية: " من حديث ابن
__________
(1) ذكر الجاربردى أن " سيرها " مبتدأ، و " المتقاذف " صفته و " أمام المطايا " متعلق بمحذوف خبر، والجملة صفة لمطية (*)(4/478)
مسعود (إذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلاَ بِعُمَرَ) أي: أقبل به وأسرع، وهي كلمتان جعلتا كلمة واحدة، فَحَيّ: بمعنى أقبل، وهَلاَ: بمعنى أسرع، وقيل: بمعنى اسكن عند ذكره حتى تنقضي فضائله " انتهى.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد والثلاثون بعد المائتين -: (من مشطور الرجز) 231 - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمْكِنَهْ * من ها هنا وَمِنْ هُنَهْ * إنْ لَمْ أُرَوِّهَا فَمَهْ * على أن الأولى أن تكون الهاء في مَهْ بدلاً من الألف، وأن تكون دِعَامَةً لما الاستفهامية بعد حذف ألفها بدون جارّ على قلة، وهذا الوجه الثاني لم أره لأحد غيره، ولم يقل أحد إن " ما " الاستفهامية تحذف ألفها بلا جار، نعم قالوا: إن ألفها تثبت مع الجار، وخرّجوا على هذا آيات، وأما الوجه الأول فهو المعروف، وذكره ابن جني في شرح تصريف المازني وفي المحتسَب، وفي سر الصناعة، قال في المحتسب بعد إنشاد الأبيات: " يريد إن لم أرَوِّهَا فما أصنع؟ أو فما مغناي؟ أو فما مقداري؟ فحذف الألف وألحق الهاء لبيان الحركة " انتهى.
وقال في سر الصناعة: " أخبرنا بهذه الابيات بعض أصحبانا يرفعه بإسناده إلى قُطْرُب، ويريد بقوله: من هنه، من هنا، فأبدل الالف في الوقف هاء، فأما قوله: فمه، فالهاء فيه يحتمل تأولين: أحدهما أنه أراد فما: أي إن لم أرَوِّ هذه الإبل الواردة من هنا ومن هنا، فما أصنع؟ منكراً على نفسه أن لا يرويها، فحذف الفعل الناصب لما التي في معنى الاستفهام، والوجه الآخر أن يكون أراد إن لم أُرَوِّها فمه: أي فاكفف عنى فلست بشئ ينتفع به، وكأن التفسير الأول أقوى في نفسي " انتهى.
وقوله " قد وردت " أي: الابل، والورد: الوصول إلى الماء من غير دخول(4/479)
فيه، وقد يكون دخولاً، وأمْكِنَه: جمع مكان، ومن ها هنا - إلى إلى آخره: بدل من امكنه، وروي " إن لم تُرَوِّها بالخطاب " وأنشد بعده: (من الرجز) لَمَّا رأى أن لا دعه ولا شبع * مال إلى أرطاة حقف فالْطَجَعْ على أن أصله اضطجع، فأبدلت الضاد لاما، قال ابن جني في المحتسب: " إن قيل: قد أحطنا علماً بأن أصل هذا الحرف اضتجع، افتعل من الضَّجْعَة، فلما جاءت الضاد قبل تاء افتعل أبدلت لها التاء طاء فهلا لما زالت الضاد فصارت بإبدالها إلى اللام رُدَّت التاء فقيل: التجع كما تقول: التجم والتجأ، قلنا: هذا إبدال عرض للضاد في بعض اللغات، فلما كان أمراً عارضاً أقَرُّوا الطاء بحالها إيذاناً بقلة الْحَفْل بما عرض من البدل، ودلالةً على الأصل المعتمد، وله غير نظير، ألا ترى إلى قوله * وكَحَّل الْعَيْنَيْنِ بالعواور * وكيف صحح الواو الثانية وإن كان قبلها الواو الأولى وبينهما ألف، وقد جاورت الثانية الطرف، ولم يقلبها كما قلبها في أوائل، وأصلها أواول، لما ذكرنا؟ إذ كان الأصل العواوير، وإنما حذفت الياء
تخفيفاً وهي مرادة، فجعل تصحيح الواو دليلاً على إرادة الياء، وقد حكي إدغام الضاد في الطاء في قولهم في اضطجع: اطَّجَعَ، ومنه قراءة ابن مُحَيْصن (ثُمَّ أطَّرُّه) هذه لغة مَرْذُولة، لما فيها من الامتداد والفُشُو، وأنها من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي: الشين، والضاد، والراء، والفاء، والميم، ويجمعها قولهم: ضُمَّ شَفْر، ويروى " فاضْطَجَعَ " وهو الأكثر والأقيس وقد تقدم شرح هذا الرجز في الشاهد الثالث والثلاثين بعد المائة من هذا الكتاب وأنشد الجاربردى - وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين -: (من البسيط)(4/480)
232 - وقفت فيها أصيلا لا أُسَائِلُهَا * أعْيَتْ جَوَاباً وَمَا بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ على أن أصله أصيلان، فأبدلت النون لاماً، وأصيلان: مصغرُ جمعِ أصيل والبيت من قصيدة للنابغة الذبيانى، وقبله وهو مطلع القصيدة: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ * أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَبَدِ والمطلع شرحناه في الشاهد التاسع والثمانين بعد الثمانمائة، وشرحنا الثاني في الشاهد الثاني والسبعين بعد المائتين، وقد ذكرنا سبب القصيدة مع شرح أبيات من أولها في الشاهد السابع والأربعين بعد المائتين من شواهد شرح الكافية، وقد شرحت هذه القصيدة جميعها في مواضع متعددة هناك وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث بعد المائتين -: (من الوافر) 233 - فَقُلْتُ لِصَاحِبي لا تَحْبِسَانَا * بِنَزْعِ أصُولِهِ وَاجْدَزَّ شِيحَا على أن أصله اجْتَزَّ، فقلبت تاء الافتعال دالاً والبيت من أبيات للمُضرِّس بن رِبْعِيّ الفقعسيّ الأسديّ، وهي
وَضَيْفٍ جَاءَنَا وَاللَّيْلُ دَاج * وَرِيحُ القُرِّ تَحْفِزُ مِنْهُ رُوحَا فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي فِي يَعْمَلاَتٍ * خِفَافِ الْوَطْءِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا فَعَضَّ بِسَاقِ دَوْسَرَة عَلَيْهَا * عتِيقُ النَّيِّ لَمْ تَحْفِزُ لَقُوحَا وَقُلْتُ لِصَاحِبِي لاَ تَحْبِسَنِّي * بِنَزْعِ أصْولِهِ وَاجْدَزَّ شِيحَا فَلَمَّا أنْ تَعَجَّلْنَا شَوَاءً * قَلِيلَ النُّضْجِ لَكِنْ قَدْ أُلِيحَا خَلَطْتُ لَهُمْ مُدَامَةَ أذْرِعَاتٍ * بِمَاءِ سَحَابَةٍ خَضِلاً نَضُوحَا(4/481)
وفتيان شويت لهم شواء * سريع الشَّيِّ كُنْتُ بِهِ نَجِيحَا قوله " وضيف - الخ " الواو واورب، وجملة " جاءنا " صفةُ مجرورِها، وجملة " والليل داج " أي: مظلم، حال، وكذلك جملة " وريح القر - إلخ " والقر - بالضم -: الْبَرْد، وتحفز - بالحاء المهملة والفاء والزاي -: تدفع، كأنه لضعفه تدفع رُوحَه ريحُ الْقُر وتنازعها، وجواب رُبَّ محذوف: أي تَلَقَّيْته بإكرام، وجملة " فَطِرْت " أي أسرعت، معطوفة على الجواب المحذوف، والْمنْصُل - بضم الميم والصاد المهملة -: السيف، وَالْيَعْمَلَة: الناقة القوية على العمل، وخِفَاف: جمع خفيفة، وأنشد سيبويه هذا البيت في موضعين من كتابه كذا: * دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا * على أن الشاعر حذف الياء من الأيْدِي لضرورة الشعر، والسريح: سيور نعال الإبل، ويخبطن السريح: يطأن بأخفافهن الأرض، وفي الأخفاف السريح، والدوامي: التي قد دميت من شدة السير ووطئها على الحجارة، وقيل: السريح خِرَقٌ تُلَفُّ بها أيدي الجمال إذا دَمِيت وأصابها وجع، وقوله " بمُنْصُلي " في موضع الحال من التاء: أي أسرعت ومعي سيفي، وأقبلت على اليَعْمَلات فعرقبت ناقة منها وأطعمت لحمها لضيفي، يريد أنها نحر لضيفه راحلةً من رواحله وهو مسافر،
وقوله " فَعَضَّ " فاعله ضمير المنصل، والد وسرة: الناقة الضخمة، والجمل دَوْسر، وجملة " عليها عتيق النَّيِّ " صفة لدَوْسَرة، والنى - بفتح النون -: الشحم، والعتيق: القديم، يريد أنها سمينة، وفاعل تحفز ضمير الدَّوْسَرة، ولَقُوحاً: حال، واللَّقُوح: الْحَلُوب: أي لم تكن الدوسرة قريبة العهد بالنِّتَاج فتكون ضعيفة، وقوله " وقلت لصاحبي " أراد بالصاحب من يَحْتَطِب له، بدليل رواية " وقلت لحاطبي " وقوله " لا تحبسانا " يأتي توجيهه، وروي " لا تحبسني " هذا ظاهر، وقوله " بنزع أصوله " الباء سببية، وروي بدل الباء باللام التعليلية، والضمير في(4/482)
" أصوله " راجع إلى الحطب المفهوم من حاطبي، والجز: القطع، وأصله في الصوف، يقول: لا تقلع أصول الحطب وعروقه واكْتَفِ بقطع الشيخ فهو أسل وأسرع، وأليج: من قولهم: ألحت الشئ بالنار - ولوحته: أي أحميته بها، والمدامة: الخمر، وأجودها عندهم خمر أذْرِعَات، وهي قرية بالشام، والخضل: الشئ الرَّطْب، وأراد مَزْجَها بالماء، والنَّضْح: الشرب دون الري، والنضوح من قولهم: نَضَحَ عَطَشَه ينضَحه: أي أزاله، وضمير " كنت به " للشئ: أي كنت بشيئ لهم، ويجوز أن يريد كنت بعملي، لأن الذي ذكره عمل، والنجيح: الْمٌنْجح.
وما ذكرناه من الشعر وقائله روايةُ الخالدَّيْين، ونسب الجوهري البيت الشاهد ليزيد بن الطثرية، ورواه كذا عن الكسائي في مادة (ج ز ز) : فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسَانَا * بِنَزْعِ أصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا قال: ويروى " وأجد شيحاً " وقوله " لا تحبسانا " فإن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين، كما قال الراجز: (من الطويل) فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ أنْزَجِرْ * وَإنْ تَدَعَانِي أحْم عِرْصاً مُمَنَّعَا " انتهى.
قال ياقوت فيما كتبه على الصحاح: " هذا البيت الذي عزاه إلى يزيد ابن الطثرية وجدته لمُضَرِّس بن رِبْعِيّ الفقعسي، وعِوَض صاحبي " فقلت لحاطبي " قرأت بخط الخلال أبي الغنائم، وذكر أنه نقله من خط اليزيدي " انتهى.
قلت: ولا ينبغي أن يقول: قال الراجز: بل يقول: قال الشاعر، لأن البيت الثاني ليس من الرجز.
وقال ابن بري في أمالية على الصحاح: البيت إنما هو لمضرس ابن رِبْعي الأسدي، وليس هو ليزيد كما ذكره عن الكسائي، وقبله: وفتيان شويت لهم شواءا * سَرِيعَ الشَّيِّ كُنْتُ بِهِ نَجِيحَا(4/483)
فَطِرْتُ بِمُنْصَلِي في يَعْمَلاَتٍ * دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا وَقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تحسبنا كذا في شعره، يقول: لا تحبسنا عن شى اللحم بأن تقلع أصول الشجر، بل خذ ما تيسر من قضبانه وعيدانه وأسرع لنا في الشئ، وقوله " وإن تزجراني ... البيت " هو لسُوَيْد بن كُرَاع الْعُكْلي، وكان سُوَيْد قد هجا به عبد الله بن دارم فاسْتَعْدَوا عليه سعيد بن عثمان فأراد ضربه، فقال سويد قصيدة أولها: تَقُولُ ابْنَةُ الْعُوفِيِّ في لَيْلَى ألاَ تَرَى * إلى ابْنِ كُراعٍ لاَ يزال مقزعا مَخَافَةَ هَذَيْنِ الأَمِيرَيْنِ سَهَّدَتْ * رُقَادِي وغشتني بيضا مُفَرَّعَا وهذا يدل على أنه خاطب اثنين سعيد بن عثمان ومن ينوب عنه أو من يحضر معه، ثم قال بعد أبيات: فإن أنتما أحكمتنمانى فَازْجُرَا * أرَاهِطَ تُؤْذِينِي مِنَ النَّاسِ رُضِّعَا وَإنْ تزجراني يا ابن عَفَّانَ أنْزَجِرْ * ... البيت فقوله " فإن أنتما أحكمتانى " دليل على أنه يخاطب اثنين، وقوله
" أحكمتماني " أي منعتماني من هجائه، وأصله من أحْكَمْتُ الدابة، إذا جعلت في فيها حَكَمَةَ اللجام، وقوله " وإن تَدَعَانِي " أي: إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني، وإن زجرتماني انزجرت وصبرت، وَالرُّضْع: جمع راضع، وهو اللئيم، هذا آخر كلام ابن بري: وأنشد بعده: (من الرجز) * لاَ هُمَّ إنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتجْ * وتقدم شرحه في الشاهد السادس بعد المائة(4/484)
وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين -: (من الرجز) 234 - كَأنَّ في أذْنَابِهِنَّ الشُّوَّلِ * مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرُونَ الأَجَّلِ على أن أصله الأيَّل فأبدلت الياء المشددة جيماً للوقف، كما في المفصل قال ابن السكيت في كتاب الإبدال: " بعض العرب إذا شَدَّد الياء جعلها جيما، وأنشد عن ابن الأعرابي * كَأَنَّ فِي أذْنَابِهِنَّ * إلخ " انتهى.
ونقله ابن جني في سر الصناعة، ولم يقيداه بالوقف والبيتان من أرجوزة طويلة لأبي النجم العِجْلي وصف فيها الابل لهشام ابن عبد الملك، أولها: * الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَهُوبِ الْمُجْزِلِ * والضمير في " أذنابهن " للإبل، والشُّوّل: جمع شائل بلا هاء، وهي الناقة التي تشول بذنبها للقاح، ولا لبن بها أصلاً، وأما الشائلة فجمعها شَوْلٌ - بفتح فسكون - وهي النوق التي جَفَّتْ ألبانها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، والْعَبَس - بفتحتين -: ما يتعلق في أذناب الإبل من أبعارها وأبوالها
فيجف عليها، يقال منه: أعْبَسَت وعَبِسَ الوسخ في يد فلان: أي يَبِسَ، وخص العبس بالصيف لانه يكون أقوى وأصلب، فشبهه بقرون الإيَّل لأنها أصلب من قرون غيرها، والأُيَّل - بضم الهمزة وكسرها -: الذكر من الاوعال، وأنشد أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي قبلهما: * حَتَّى إذَا مَا بُلْنَ مِثْلَ الْخَرْدَلِ * وأنشد بعدهما: * ظَلَّتْ بِنِيْرَانِ الْحُرُوبِ تَصْطَلِي * وقال: إذا كلت اليبس خثرت أبو الهن فتراها تتلزق بأسوقهن كالخْطَمِي(4/485)
والخردل، فإذا ضرَبْنَ بأذنابها على أعجازها وهي رطبة من أموالها ثم بركت اجتمع الشَّعَر وتلصَّق وقام قياماً كأنه قرون الأُيَّل.
قال ابن المستوفي: إنما اختص إبدال الجيم من الياء المشددة في الوقف، لأن الياء تزداد خَفَاء في الوقف لسكونها، فأبدلوا منها حرفاً أظهر منها، وهو الجيم، لقربهما في المخرَج، واجتماعهما في الجهر، ومتى خرج هذا الإبدال عن هذين الشرطين، وهما الياء المشددة والوقف، عدوه شاذاً.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين -: (من الرجز) 235 - * حتى إذا ما أمسجت وأمسحا * على أن أصله أمْسَيَتْ وأمْسَى، فأبدلت الياء فيهما جيماً.
قال ابن جني في سر الصناعة: " هذا من أحد ما يدل على ما ندعيه من أن أصل رَمَتْ رَمَيَت، ألا ترى انه لما أبدل الياء من أمْسَيَتْ جيماً، والجيم حرف صحيح يحتمل الحركات ولا يلحقه الانقلاب الذي يلحق الياء والواو، صحَّحَها كما يجب في الجيم، فبهذا ونحوه استدل أهل التصريف على أصول
الأشياء المغيَّرة، كما استدلوا بقوله عزّ اسمه: (استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان) أن أصل اسْتَقَامَ اسْتَقْوَمَ، ولولا ما ظهر من هذا ونحوه لما أقدموا على القضاء بأصول هذه الأشياء، أو لما جاز ادعاؤهم إياها " انتهى.
وقال ابن المستوفي: " وأورد الزمخشري الأُجَّل، لأن الإبدال فيه وقع حَشْواً في كلمة وهو أشد شذوذاً من الأول، وأشد منه بعدا إبدال الجيم من الياء في أمْسَجَتْ وأمْسَجَا: أبدلها حَشْواً وأجرى الوصل مجرى الوقف متوهِّماً أنها ملفوظ بها ياء، لأن أصل الألف فيها الياء " انتهى.
وقال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي: قيل: " إن هذا الشطر للعجاج،(4/486)
يريد أمْسَتْ الأُتُن وأمْسَى الْعَيْرُ، وقيل: أراد أمْسَتِ النعامة وأمْسَى الظلِيم، ولم أعرف له صلة فأتبين الصحيح من ذلك " انتهى.
ولم أقف أنا أيضاً على تتمة هذا الرجز وقائله بشئ، والله تعالى أعلم: باب الإدغام أنشد الجاربردي في أوله - وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائتين -: (من الرجز) 236 - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرِ * وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ على أن هذا البيت لثقله بقرب مخارج حروفه لا يكاد يقوله أحد ثلاثَ مرات.
قال الزمخشري في ربيع الأبرار: " يزعمون أن علقمة بن صفوان وحرب بن أمية من فتلى الجن، قالوا: وقالت الجن: * وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرِ * إلخ قالوا: ومن الدليل على أن هذا من شعر الجن أن أحداً لا يقدر أن ينشد ثلاث مرات متصلة من غير تَتَعْتُع ويقدر على تكرار أشق بيت من أبيات
الأنس عشر مرات من غير تتعتع، والله أعلم " انتهى.
وكذا قال الجاحظ في كتاب البيان، وفي شرح تلخيص المفتاح للقُونَويّ: " وفي البيت الأقواء، وهو من عيوب الشعر، وإنما قلنا فيه الإقواء، لأن البيت مصرع، وكل واحد من المصراعيين فيه كبيت كامل " هذا كلامه.
وقال بعضهم: قَفْر: مرفوع على تقدير: هو قفر، ويكون من القطع في النكرة بقلة، والقفر: المفازة وأرض لا نبات فيها ولا ماء، وحرب: هو جد معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.
وأنشد بعده أيضا - وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد المائتين -: (من الطويل)(4/487)
237 - يُذَكِّرُنِيكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ والَّذِي * أخَافُ وأرْجُو والَّذي أتَوَقَّعْ على أن هذا البيت خفيفٌ على اللسان لبعد مخارج حروفه.
والبيت أورده أبو تمام في الحماسة مع بيت قبله في باب النسيب، وهو: رَعَاكِ ضَمَانُ الله يَا أمَّ مَالِكٍ * وَلِلَّهُ أنْ يُشْفِيكِ أغْنَى وأوْسَعُ ووقع مثله في شعر مسلم بن الوليد، قال: وإنِّي وإسْمَاعِيلَ يَوْمَ وَدَاعِهِ * لَكَالْغِمْدِ يَوْمَ الرَّوْعِ فَارَقَهُ النَّصْلُ أمَا وَالْخَيَالاَتِ المُمِرَّاتِ بَيْنَنَا * وَسَائِلَ أدَّتْهَا الْمَوَدَّةُ وَالْوَصْلُ لَمَا خُنْتُ عَهْداً مِنْ إخَاءٍ ولا نَأَى * بذِكْرِكِ نَأْيٌ عَنْ ضَمِيرِي ولا شُغْلُ وإنِّيَ فِي مَالِي وأهْلِي كَأَنَّنِي * لِنَأْيِكِ لاَ مَالٌ لَدَيَّ ولاَ أهْلُ يُذَكرُنِيكَ الدِّينُ والْفَضْلُ والْحِجَى * وقِيلُ الْخَنَى والْعِلْمُ والْحِلْمُ والْجَهْلُ فَأَلْقَاكَ فِي مَذْمُومِهَا مُتَنَزِّهاً * وأَلْقَاكَ فِي مَحْمُودِهَا وَلَكَ الْفَضْلُ وأحْمَدُ مِنْ أخْلاَقِكَ الْبُخْلَ إنَّهُ * بِعِرْضِكَ لاَ بِالْمَالِ حَاشَا لَكَ الْبُخْلُ
ثَنَاءٌ كَعَرْف الطَّيبِ يُهْدَى لأَهْلِهِ * ولَيْسَ لَهُ إلاَّ بَنِي خَالدٍ أهْلُ فَإنْ أغْشَ قَوْماً بَعْدَهُمْ أوْ أزُورَهُمْ * فَكَالْوَحْشِ يَسْتَدْنِيهِ لِلْقَنْصِ الْمَحْلُ وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائتين، وهو من شوهد سيبويه -: (من البسيط) 238 - لاَ دَرَّ دَرِّي إن أطعمت نازلهم * قرف الحثى وعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ(4/488)
لَوْ أَنَّهُ جَاءَنِي جَوْعَانُ مُهْتَلِكٍ * مِنْ بُؤْسِ النَّاسِ عَنْهُ الْخَيْرُ مَحْجُوزُ على أن بُؤساً فيه الإدغام للهمزتين، وهو جمع بائس، وهو الفقير، والرواية إنما هي " من جُوَّعِ الناس عنه الخير محجوز ".
والبيتان أول قصيدة لأبي ذؤيب الهذلى، والاولى من شواهد سيبويه، قال الأعلم: الشاهد رفع مكنوز خبراً عن البُر، على إلغاء الظرف، ولو نصب على الحال لكان حسناً، قال السُّكَّرِيّ في أشعاره: قال أبو نصر: ويقال إنها للمتنخل الهذلي، وجواب لو بعد أبيات أربعة، وهو: لَبَاتَ أسْوة حَجَّاج وإخوَتِهِ * فِي جَهْدِنَا أوْلَه شِفٌّ وتَمْزِيزٌ قال شارح أشعار الهذليين: كان نزل بقوم فجُفِي، وكان قراه عندهم الْحَتِيُّ وهو سويق الْمُقْل، والحتي - بالحاء المهملة بعدها المثناة الفوقية على وزن فعيل - والمقل - بالضم -: ثمر الدَّوْم، والْقِرف - بكسر القاف وسكون الراء بعدها فاء -: القشر، يقول: إن أطعمت نازلهم مثل ما أطعموني فلا درَّ دَرِّي، وقوله " لو أنه جاءني جوعان - إلخ " ضمير أنه للشأن وجَوْعان - بفتح الجيم - بمعنى الجائع فاعل جاءني، وروي " جَوْعَانَ مهتلكاً " بنصبهما على الحالية،
فتكون الهاء في " أنه " ضمير نازلهم، والمحجوز: المحروم والممنوع، ومن: بيانية، وعن: متعلقة بمحجوز، وحجاج: ابن الشاعر، والجهد - بفتح الجيم وضمها -: القوت، وأصل معناه الطاقة، وقيل: الضر الذي قد أصابه، وأصل معناه المشقة، والشفِّ - بالكسر -: الفضل، وتمزيز: تفضيل من المِز - بالكسر - أي: يكون له مزَّ على أولادي، يقال: هذا أمَزُّ من هذا: أي أفضل، وكذلك أشَفَّ، يقول: لو نزل بي مثل هذا ما قَصَّرت به ولا أطعمته قشر المُقْل، بل بات عندنا أسوة أولادي، بل كان متميزاً عنهم بزيادة الإكرام.(4/489)
وأنشد الشارح - وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 239 - مَهْلاً أعاذل قد جربت من خلقي * أني أجُودُ لأَقْوَامٍ وإنْ ضَنِنُوا على أن " ضننوا " شاذ للضرورة، والقياس ضَنُّوا بالإدغام، وأنشده سيبويه في موضعين من كتابه: الأول في باب ما يحتمل الشعر من أول كتابه، والثاني في باب اختلاف العرب في تحريك الآخر من أواخر كتابه، قال فيه: " واعلم أن الشعراء إذا اضطروا إلى ما يجتمع أهل الحجاز وغيرهم على إدغامه أجْرَوْه على الأصل، قال قَعْنَب ابن أم صاحب: * مَهْلاَ أعَاذِلُ ... البيت " وقال آخر: * يَشْكُو الْوَجَا مِنْ أظْلَلٍ وَأظْلَلِ * " انتهى.
قال ابن خلف: مَهْلاً منصوب بإضمار فعل، كأنه قال أمهلي يا عاذلتي ولا تبادري باللوم، ومهلاً: في موضع إمهالاً، وعاذل: منادى مرخم عاذلة، أراد يا عاذلة قد جربت من خلقي أني أجود على من بخل عليّ وأعطي من لا ألتمس
منه المكافأة، وإن ضنوا شرط محذوف الجواب، كأنه قال: وإن ضنوا لم أضن، وصف أنه جَوَاد لا يصرفه الْعَذْل عن الجود.
وقَعْنَب بفتح القاف وسكون العين المهملة وفتح النون، ومعناه في اللغة الشديد الصلب من كل شئ، وهو غطفاني.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الأربعون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز)(4/490)
240 - * تَشْكُو الْوَجَى مِنْ أظْلل وأظْلَلِ * على أنه شاذ ضرورة، والقياس أظلّ بالإدغام قال الأعلم: " الشاهد فيه إظهار التضعيف في الأظلّ ضرورة، وهو باطن خف البعير، والوجى: الْحَفَى، يعني أنه حمل عليه في السير حتى اشتكى خفيه " انتهى وبعده: * مِنْ طُولِ إمْلاَلٍ وظَهْرِ ملل * وتشكو بالمثناة الفوقية، وفاعله ضمير الإبل، والوجى بالجيم، قال الزجاج: مَلَّ عليه السفر وأمَلَّ، إذا طال عليه، والمراد بالإملال السفر، أو أنه من أمَلَّه وأملَّ عليه: أي أسامه، ومُمَلَل: شاذ أيضاً، والقياس مُمَلٌّ، بالإدغام والبيتان من رجز طويل لأبي النجم العِجْليّ وصف فيه الإبل لهشام بن عبد الملك وأوله: * الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ * وهذا أيضاً ضرورة، والقياس الأجل.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد والأربعون بعد المائتين -: (من الطويل)
241 - لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ * رخيم الحواشي لا هراء ولا نَزْرُ على أن الرَّخيم الصوتُ اللَّيِّن، والترخيم: تَلْيِينُ الصَّوْت والبيت من قصيدة لذي الرُّمَّة نَسَب فيها بِمَيَّة محبوبته وَبَشَرَةُ الإنسان - بالتحريك -: ظَاهِرُ بدنه، والجمع بَشَر، ويقال: فلان رقيق البشرة والبشر، بمعنى واحد، والمنطق: اسم مصدر بمعنى النطق، والرخيم:(4/491)
الناعم اللين، والهراء - بالضم والمد - قال أبو عبيد في الغريب المصنف: هو المنطق الفاسد، ويقال: الكثير، وأنشد البيت، والنَّزْر: القليل، قال ابن جني في المحتسب: " وما أظرف قوله: رخيم الحواشي: أي لا ينتشر حواشيه فَتَهْرَأُ فيه، ولا يضيق عما يحتاج من مثلها إليه للسماع والْفُكاهة، لكنه على اعتدال " انتهى.
ومثله للسيد المرتضى في أماليه قال: الهراء الكثير، فكأنه قال إن حديثها لا يقلّ عن الحاجة ولا يزيد عليها " انتهى.
وقال ابن السيرافي " وصفها باعتدال الخِلْقَة والأخلاق " وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين -: (من البسيط) 242 - واذْكُرْ غُدَانَةَ عِدَّاناً مُزَنَّمَةً * مِنَ الْحَبَلَّقِ تُبْنَى حَوْلَهَا الصِّيَرُ على أن عدانا عِتْدَان، فأبدلت التاء دَالاً فأدغم وهو جمع عَتُود، وهو الْجَذَعُ من الْمِعْزَى، وهو ما رعيَ وقوِي وأتى عليه حَوْل، وَالْحَبَلَّق - بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة واللام المشددة -: أولاد المعز الصغار الأجسام القصار، وغُدَانة - بضم الغين المعجمة -: أبو قبيلة من تميم، وهو غُدانة بن يربوع، يريد واذكر لغدانة: أي لهذه القبيلة أولادَ المعز، فإنها رعاة ليس
لها ذِكْر ولا شرف، والْمُزَنَّمة: التي لها زَنَمَة، والزَّنَمَة - بالتحريك -: شئ يقطع من أذن البعير والمعز فيترك مُعَلَّقاً، والضأن لا زنمة لها، وضمير " حولها " للعِدّان، وتبنى - بالبناء للمفعول -: من البناء: والصير - بكسر ففتح -: جمع صيرة، قال الجوهرى: الصيرة حضيرة الغنم، وجمعها صير مثل سيرة، وأنشد هذا البيت وهو من قصيدة طويلة للأخطل النصراني مدح بها عبد الملك بن مروان وذكر فيها قتل عُمَيْر بن الْحُبَاب، وكان قد خرج على عبد الملك، ويغريه بقتل زُفُر بن الحارث الكلابي ثم تدرج لهجو قبائل قيس عَيْلاَن لكونهم كانوا مع(4/492)
ابن الْحُبَاب وزُفَرَ بن الحارث، وهذه أبيات منها: أَمَّا كُلَيْبُ بْن يَرْبُوعٍ فَلَيْسَ لَهُمْ * عِنْدَ الْمَكَارِمِ لا وِرْدٌ وَلاَ صَدَرُ مُخَلَّفُون وَيَقْضِي النَّاسُ أمْرَهُمُ * وهُمْ بِغَيْبٍ وفِي عَمْيَاءَ مَا شَعَرُوا مُلَطَّمُونَ بِأَعْقَارِ الْحِيَاضِ فَمَا * يَنْفَكُّ مِنْ دَارِمَيٍّ فِيهِمُ أثَرُ الآكِلُونَ خَبيثَ الزَّادِ وَحْدَهُمُ * وَالسَّائِلُونَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مَا الْخَبَرُ واذْكُرْ غُدَانَةَ عدانا مزنمة * من الحبلق تبنى حولها الصير وما غدانة في شئ مَكَانَهُمْ * الْحَابِسُو الشَّاءِ حَتَّى تَفْضُلَ السُّؤَرُ جمع سُؤْر، وهو الْفَضْلة قَدْ أقْسَمَ الْمَجْدُ حَقّاً لاَ يحالفهم * حَتَّى يُحَالِفَ بَطْنَ الرَّاحَةِ الشَّعَرُ وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 243 - هُوَ الْجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ * عَفْواً وَيُظْلَمُ أحْيَاناً فَيَظْطَلِمُ على أنه جاء بالأوجه الثلاثة، وهو ترك الإدغام والإدغام على الوجهين بالظاء
والطاء.
وقال ابن جني في سر الصناعة: " روي على أربعة أوجه هذه الثلاثة، والرابعة فينظلم، وهذه ينفعل " وأورد سيبويه على الإدغام بالوجهين، قال الأعلم: " الشاهد فيه قلب الطاء من يظطلم ظاء معجمة، لما أرادوا إدغام الطاء فيها، والظاء أصلية، والطاء مبدلة من تاء الافتعال الزائدة، فلما أرادوا الإدغام قلبوا الأصلي ليدغم فيه(4/493)
الزائد، والأقيس الأكثر فيَطَّلِمُ - بطاء غير معجمة - لأن حكم الإدغام أن يدغم الأول في الثاني، ولا يراعى فيه أصل ولا زيادة، والبيت يقوله لهَرِم بن سنان المري، ومعنى يُظْلم يُسْأل في حال عسرته ويكلف ما ليس في وسعه أي: فيَظَّلِم: أي يتحمل ذلك ويتكلفه "، انتهى.
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى، مدح بها هر ما المذكور، وأولها: قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُها الْقِدَمُ * بَلَى وَغَيَّرَهَا الأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ والنائل: الإحسان، والعفو: ما كان سهلاً من غير مَطْلٍ، ومعنى " ويُظْلَم أحياناً - إلخ " أنه يُطلب منه في غير وقت الطلب ولا موضعه فَيُعْطى، جعل السؤال منه في وقت السؤال ظلماً، وجعل إعطاءَهُ ما سئل على تلك الحال وتكلًُّفَه لذلك أظَّلاماً وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 244 - وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطَّ بِنِعْمَةٍ * فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ على أن أصله خَبَطْتٍّ، فَقَلب وأدغم
قال سيبويه: " وسمعناهم ينشدون هذا البيت لعلمقة بن عَبَدَة * وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطَّ - إلخ * وأعْرَفُ اللغتين وأجودهما أن لا تقلبها طاء، لأن هذه التاء علامة الإضمار، وإنما تجئ لمعنى، وليست تلزم هذه التاء الفعل، ألا ترى أنك إذا أضمرت غائبا قلت فعلت؟ فلم تكن فيه تاء ... إلى آخر ما ذكره "(4/494)
قال الأعلم: " الشاهد فيه إبدال التاء من خبطت طاء لمجاورتها الطاء ومناسبتها في الجهر والإطباق، فأراد أن يكون العمل من وجه واحد، وأن يكون الحرفان في الطبع وجهارة الصوت كحرف واحد، وهَذا البدل يطرد في تاء مُفْتَعِل إذا وقعت بعد الطاء، كقولك مُطَّلب في مفتعل من الطَّلَب، ولا يطرد في مثل خَبَطْتَ، لأن الفعل يكون لغير المخاطب والمتكلم، فلا تقع من التاء في آخره، فلم تلزمه لزوم التاء الطاء في مُفْتَعِل، يقول: هذا للحارث بن أبي شِمْر الغسّاني، وكان قد أوقع ببني تميم وأسر منهم تسعين رجلاً فيهم شأس بن عَبَدَة أخو عَلقَمَة بن عَبَدَةَ فوفد عليه علقمةُ مادحاً له وراغباً في أخيه فلما أنشده القصيدة وانتهى منها إلى هذا البيت قال له الحارث: نعم، وإذْنِبَةٌ، والذَّنوب: الدَّلْو مَلأَى، فضربت مثلا في القسمة والحظ ومعنى خَبَطْت أسْدَيْت وأنعمت، وأصل الخبط ضرب الشجر بالعصا ليتحات ورقها فتعلفه الابل، فجعل ذلك مثل في العطاء، وجعل كل طالبٍ معروفاً مختبطاً، وكل مُعْطٍ خابطاً.
وبعد البيت: فَلاَ تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ * فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ والجبابة: الغُربة، فحيره الحارث بين الحباء الجزل وإطلاق أسْرَى بني تميم، فقال له علقمة: عرضتني لالسن بني تميم، دعني يومي هذا حتى أنظر في أمري،
فأتاهم في السجن، فعرفهم تخيير الحارث له، فقالوا له: وَيْلَكَ! أتدعنا وتنصرف؟ قال: فإن الملك سيكسوكم ويحملكم ويزودكم، فإذا بلغتم الحي فلي الكسوة والحملان وبقية الزاد إن اخترت إطلاقكم؟ قالوا: نعم، فدخل من غده على الحارث وعرفه أنه قد اختار إطلاقهم على الحباء، فأطلقهم وكساهم وحملهم، فلما انتهوا إلى الحي وَفَوْا لعلقمة بما جعلوا له، وهذا البيت آخر أبيات كتاب سيبويه "، انتهى كلام الأعلم.(4/495)
أقول: القصيدة التي منها البيت الشاهد مذكورة في المفضليات، وذكر ابن الأنباري في شرحها ما ذكره الأعلم، والبيت الذي أورده الأعلم ليس بعده، وإنما هو قبله بأبيات كثيرة، ومطلع القصيدة: طحابك قلب فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ * بُعَيْدَ الشَّبَابِ عصر خان مَشِيبُ ويعجبني منها قوله: فإنْ تَسْأَلُوني بِالنِّسَاءِ فَإنِّنِي * بَصيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ إذا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أوْ قَلَّ مَالُهُ * فَلَيْسَ لَهْ مِنْ وَدِّهِنَّ نَصِيبُ يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ * وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ وعلقمة بن عَبَدَة - بفتح العين والموحدة -: شاعر جاهلي من الفحول، وكان صديقاً لامرئ القيس، وقد ترجمناه في الشاهد الثاني عشر بعد المائتين من شرح أبيات شرح الكافية.
الحذف أنشد المصنف في المتن - وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين -: (من الطويل) 245 - تَقِ الله فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
على أن " تق أمر من يتقى بفتح المخففة، وماضيه تَقَى، وأصلهما اتَّقَى يَتَّقِي بالتشديد على افتعل يفتعل من الوقاية، والأصل اوتقى يوتقي، فقلبت الواو في الأولى ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت تاء وأدغمت وأبدلت في الثانية تاء، وأدغمت، ولم تحذف لعدم انكسار ما بعدها، فلما كثر الاستعمال(4/496)
كذا حذفوا التاء الساكنة منهما، وهي فاء الفعل، فصارا: تَقَى يَتَقِي بتخفيف التاء المفتوحة، وحذفت الهمزة من الماضي لعدم الحاجة إليها فصار تَقَى، ووزنه تَعَلَ محذوفَ الفاء، فأخذ الأمر وهو تَقِ من يَتَقِ، بدون همزة وصل، لأن ما بعد حرف المضارعة مُحَرَّك.
وقول الجاربردي: قالوا تَقَى يَتَقِي كَرَمَى يَرْمِي يلزمه أن يقال في أمره: اتقِ، وفي اسم فاعله تَاقٍ، وغير ذلك، ولم يسمع شئ منها.
وقد بينا فيما كتبناه على البيت الأول من شرح بانت سعاد لابن هشام منشأ قوله هذا، وبسطنا الكلام عليه.
وهذا المصراع عجز وصدره: * زِيَادَتَنَا نُعْمَانُ لاَ تَنْسَيَنَّهَا * وهو من قصيدة لعبد الله بن همام السلولى خاطب بها النعمان بن بَشير الأنصاري، وكان أميراً على الكوفة في مدة معاوية رضي الله عنه، وكان معاوية قد زاد ناساً في عَطَائهم عَشَرَةً، فأنفذها النعمان، وترك بعضهم، لانهم جاءوا بكتب بعد ما فرغ من الجملة، وكان ابن همام ممن تخلف، فكلمه، فأبى عليه، فقال ابن همام هذه القصيدة يُرَقَّقه عليه، ويتشفع بالأنصار، ويمدح معاوية رضي الله عنه، وقد أوردنا أبياتاً منها هناك وشرحناها.
وقوله " زيادتنا " منصوب بفعل محذوف يفسره الفعل المؤكد بالنون، قال
الرضى: إن الفعل المؤكد بالنون لا يعمل فيما قبله، وروي " لا تحرمَنَّنا " بدل لا تنسينها، ونُعْمان: منادى، وهو النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثماني سنين، وحدث حديثين أو ثلاثة، وكان أميراً على الكوفة لمعاوية تسعة أشهر تم صار أميراً على حِمْص له، ثم ليزيد، فلما مات يزيد صار النعمان زُبَيْريا، فخالفه أهل حمص، فأخرحوه وقتلوه، كذا في الاستيعاب(4/497)
وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائتين - (من الطويل) 246 - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ * وَعَاجَتْ صُدُورُ الْخَيْلِ شَطْرَ تمِيمِ على أن أصله " على الماء " كما بَيَّنه.
قال المبرد في الكامل: يريد على الماء، والعرب إذا التقت في مثل هذا اللامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون: عَلْمَاءِ بنو فلان، وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر منه اللام المعرفة، فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك: بنو، لقرب النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بَلْحَارِث، وبَلْعَنْبَر، وبَلْهُجَيْم والبيت من قصيدة عدتها اثنا عشر بيتاً لأحد الخوارج قالها في وقعة دُولاب (1) وهزموا أهل البصرة حتى غرق أكثرهم وعطفوا على بني تميم فأصابوا وقوله " غَدَاةَ " بدل من يوم في قوله " وَلَوْ شَهِدْتَنِي يَوْمَ دُولاب " في البيت قبله، وقوله " طَفَتْ عَلْمَاء " أي: علت على الماء جثث الذين غرقوا في الماء من بكر لما فَرُّوا من الخوارج، وعاجت: عطفت ومالت، وصدور: فاعل، واللام في " الخيل " عوض من ضمير المتكلم: أي صدور خيلنا، وشطر: ظرف بمعنى
__________
(1) دولاب - قرية بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ، كانت بها وقعة بين أهل البصرة وأميرهم مسلم بن عُبَيْس بن كُرَيْز بن حبيب بن حبيب بن عبد شمس وبين الخوارج، قتل فيها نافع بن الأزرق رئيس الخوارج وخلق منهم، وقتل مسلم بن عبيس فولوا عليهم ربيعة بن الاجذم وولى الخوارج عبد الله بن الماخور، فقتلا أيضا، وولى أهل البصرة الحجاج بن ثابت وولى الخوارج عثمان بن الماخور، ثم التقوا فقتل الاميران، فاستعمل أهل البصرة حارثة بن بدر الغدانى، واستعمل الخوارج عبيد الله ابن الماخور، فلما لم يقدم بهم حارثة قال لاصحابه: كرنبوا ودولبوا وحيث شئتم فاذهبوا، وكرنبى.
موضع بالاهواز أيضا، وكان ذلك سنة 65 هـ، انظر يا قوت (*)(4/498)
جهة متعلق بعاجت، ويأتي عاج متعدياً أيضاً، وهو الأكثر، يقال: عُجْتُ البعير أعوجه عَوْجاً وَمَعَاجاً، إذا عطفت رأسه بالزمام، وبه روي أيضا، " وعجنا صُدُورَ الْخَيْلِ شَطْرَ تَمِيم " وكأنَّ الجار بردى لم يقف على منشأ الشعر حتى قال: " يعني قُتِل هؤلاء وقُصد هؤلاء، وقيل: طَفْت علماء يذكر في موضع المدح، والمعنى أنهم عَلُوا في المنزلة والعزِّ بحيث لا يعلوهم أحد، كما أن الميتة تطفو على الماء، وتعلو عليه " هذا كلامه، وكذا لم يفهم معناه خَضِر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين، قال: " المعنى أن هذه القبيلة زمان علوا في المنزلة والغلبة على العدو حتى كأنهم طَفَوا وعَدُوُّهم رسب، وأقبلت صدور خيلهم وعطفتها نحو القبيلة المسماة بتميم، والبيت لم أطلع على قائله " انتهى كلامه أقول: البيت من قصيدة أوردها المبرد في قصص الخوارج من الكامل، ونسبها لِقَطريّ بن الفجاءة المازني، وهي: لَعَمْرُكَ إنِّي فِي الْحَيَاةِ لَزَاهِدٌ * وَفِي الْعَيْشِ مَا لَمْ ألْقَ أمَّ حكيم من الحفرات الْبِيضِ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا * شِفَاءً لِذِي بَثٍّ وَلاَ لِسَقِيمِ
لَعَمْرُكَ إنِّي يَوْمَ ألْطِمُ وَجْهها * عَلَى نَائِبَاتِ الدَّهْرِ جِدُّ لَئِيمِ وَلَوْ شَهِدْتَنِي يَوْمَ دَولاَبَ أبْصَرَتْ * طِعَانَ فَتىً فِي الْحَرْبِ غَيْرِ ذَمِيمِ غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ * وَعُجْنَا صُدُورَ الْخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمِ وَكَان لِعَبْدِ الْقَيْسِ أوَّلُ جَدِّهَا * وَأحْلاَفِهَا مِنْ يَحْصَبٍ وَسَلِيمِ وَظَلَّتْ شُيُوخُ الأَزْدِ فِي حوْمَةِ الْوَغَا * تَعُومٌ وَظَلْنَا في الْجِلاَدِ نَعُومُ فَلَمْ أرَ يَوْماً كَانَ أكْثَرَ مُقْعَصاً * يَمُجُّ دَماً مِنْ فَائِظٍ وَكَلِيمِ(4/499)
وَضَارِبَةً خَدّاً كَرِيماً عَلَى فَتًى * أغرَّ نَجِيبِ الأمَُّهاتِ كَرِيمِ أُصِيبَ بدُولاَبٍ وَلَمْ تَكُ مَوْطِناً * لَهُ أرْضُ دُوْلاب وَدَيْرُ حَمِيمِ فَلَوْ شَهِدَتْنَا يَوْمَ ذَاكَ وَخَيْلُنَا * تُبِيحُ مِنَ الكُفَّارِ كلَّ حَرِيمِ رَأَتْ فِتْيَةٌ بَاعُوا الإلهَ نُفُوسَهُمْ * بِجَنَّاتِ عَدْنِ عِنْدَهُ ونَعِيمِ وقال الأصبهاني في الأغاني: " ذكر المبرد أن الشعر بن الْفُجَاءة، وذكر الهيثم بن عدى وخالد بن خِداش أنه لعمرو الْقَنَا، وذكر وَهْب بن جرير أنه لحبيب ابن سهم التميمي، وذكر أبو مخنف أنه لعبيد بن هلال اليشكري، وقال المديني: هو لصالح بن عبد الله الْعَبْشَمِي " والله تعالى أعلم وقوله " ما لم ألق أم حكيم " بفتح الحاء وكسر الكاف، قال صاحب الأغاني: " أخبرني أحمد بن جعفر جَحَظَة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: حُدِّثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قَطَرِيّ بن الْفُجَاءَة يقال لها أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجْهاً وأحسنهم بدينهم تَمَسُّكاً، وخطبها جماعة منهم فردتهم، ولم تجب إلى ذلك، فأخبر من شهدها أنها كانت تحمل على الناس،
وترتجز: (من الرجز) أَحْمِلُ رَأْساً قَدْ سَئِمْتُ حَمْلَهُ * وَقَدْ مَلِلْتُ دَهْنَهُ وَغسْلَهُ * ألاَ فَتَىً يَحْمِلُ عَنِّي ثِقْلَهُ * قال: وهم يُفَدُّونها بالآباء والأمهات، فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها " وقوله " جِدُّ لئيم " بكسر الجيم، خَبَرُ إني، يريد أني لئيم جداً، ودُولاب - بالضم -: قرية من عمل الأهواز بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ، وكانت بها الحرب بين الأزارقة من الخوارج وبين مسلم بن عبيس (1) بن كريز خليفة عبد الله
__________
(1) كذا في الكامل، والذى في ياقوت في مادة (دولاب) " ابن عنبس " وفى نسختين من أصول هذا الكتاب (عنبسة) (*)(4/500)
ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ذلك في أيام ابن الزبير سنة خمس وستين.
وقوله " غداة طفت علماء - البيت " هكذا رأيته في نسختين قديمتين صحيحتين جداً من نسخ الكامل، وكذلك هو المشهور أيضاً، ورأيت صاحب الأغاني أدرج بينهما بيتاً، ورواه هكذا غداةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ * وَأُلاَّفُها من حمير وسليم ومال الححازيون دون بلادهم * وَعُجْنَا صُدُورَ الْخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمِ وقوله " وكان لعبد القيس - إلخ " هو قبيلة، وأحلافِها - بالجر - معطوف عليه، جمع حِلْف - بالكسر - وهو المحالف والمعاهد، ويَحْصِبُ وسليم: قبيلتان، بيان لأحلافها، وأولُ جدها - بالرفع -: اسم كان، وخبرها المجرور قبله، والجد - بفتح الجيم -: الاجتهاد، والمعنى كقول الشاعر: إذَا لمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله لِلْفَتَى * فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وقوله " وظلت شيوخ الأزد - إلخ " أي: شجعانها تعوم في دمائها، والجلاد
- بكسر الجيم -: المجالدة والمضاربة بالسيف، والمقعص: اسم مفعول: الذي قتل في مكانه فلم يبرح، والفائظ: الذي فاظت نفسه: أي خرجت روحه، والكليم: المجروح، وقوله " رأت فتية باعوا الإله نفوسهم " بزعمهم هذا سَمَّوْا أنفسهم شُرَاة، وهو جمع، شار، قال الجوهرى: والشراء الخوارج، الواحد شارٍ، سموا بذلك لقولهم: إنا شَرَيْنَا أنفسنا في طاعة الله تعالى: أي بعناها بالجنة حين فارقنا الائمة الجائزة، يقال منه: تشرى الرجل وهذا خبر وقعة دولاب، روى صاحب الأغاني (1) بسنده إلى خالد بن خِداش قال: " إن نافع بن الأزرق لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم في أصول مقالتهم أقام بسوق الأهواز وأعمالها لا يعترض الناس وقد كان متشككاً في ذلك، فقالت له امرأته
__________
(1) انظر (ح 6 ص 142) دار الكتب و (6 ص 3) بولاق (*)(4/501)
إن كنت قد كفرت بعد إيمانكم وشككت فدع نحْلتك ودَعوتك، وإن كنت قد خرجت من الكفر إلى الإسلام فاقتل الكفار حيث لقيتهم وأنخن في النساء والصبيان، كما قال نوح عليه السلام (لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً) فقبل قولها بسط سيفه فقتل الرجال والنساء والولدان، وجعل يقول: إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم، فإذا وطئ بلداً فَعَلَ هذا به إلى أن يجيبه أهله، ويدخلوا في ملته فيرفع السيف ويضع الجبابة، فعظم أمره واشتدت شوكته وفشا عماله في السواد، فارتاع لذلك أهل البصرة ومشوا إلى الأحنف بن قيس وشكوا إليه أمرهم، قالوا: ليس ببننا وبين القوم إلا ليلتان وسيرتهم ما عَلِمْتَ، فقال لهم الأحنف: إن سيرتهم في مصركم إذا ظفروا به مثل سيرتهم في سوادكم، فخذوا في جهاد عدوكم، وحرضهم فاجتمع إليه عشرة آلاف رجل بالسلاح فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل وسأله أن يؤمر عليهم أميراً، فاختار لهم مسلم بن عُبَيْس بن كُرَيْز بن ربيعة
وكان فارساً شجاعاً ديِّناً، فأمَّره عليهم فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس وقال: إني ما خرجت لامتيار ذهب ولا فضة، وإنى لا حارب قوما إذا ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع، فرجع نفر يسير، فلما صاروا بدُوْلاب خرج إليهم نافع واقتتلوا قتالاً شديداً حتى تكسرت الرماح، وعُقِرت الخيل، وكثرت الجراح والقتْلى، وتضاربوا بالسيوف والعَمَد فقتل في المعركة ابن عُبَيس وذلك في جمادى الآخرة سنة خمسة وستين، وقتل نافع بن الأزرق، والشُّراة يومئذٍ ستمائة رجل، وكانت الحدَّة وبأس الشُّراة واقعاً ببني تميم وبنى سدوس، واسخلف ابن عُبَيْس وهو يجود بنفسه الربيعَ بن عمرو الغُدَانِيَّ وكان يقال له: الأجذم، وكانت يده أصيبت بكابل مع عبد الرحمن بن سَمُرة، واستخلف نافعُ بن الأزرق عُبَيْد الله بن بشير أحد بنى سليط ابن يربوع، ولم يزل الربيع يقاتل الشُّراة نيفاً وعشرين يوماً، ثم أصبح ذات يوم فقال لأصحابه: إني مقتول لا محالة، إني رأيت البارحة كان يدي التي أصيبت بكابل(4/502)
انحطت من السماء فجذبتني، فلما كان من الغد قاتل إلى الليل ثم غاداهم فقتل يومئذٍ، فلما قتل الربيع تدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحَجَّاج بن باب الحِمْيَرِيِّ، وقد اقتتل الناس يومئذٍ وقبله يومين قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله: تطاعنوا بالرماح حتى تقصَّفتْ، ثم تضاربوا بالسيف والعَمَد حتى لم يبق لأحد منهم قوة، حتى كان الرجل يضرب الرجل فلا يغني شيئاً من الإعياء، وحتى كانوا يترامون بالحجارة ويتكادمون بالافواه، فلما تدافع القوم الراية اتفقوا على الحجاج وامتنع من أخذها، فقال له كُرَيب بن عبد الرحمن: خذها ولا تخف، فإنها مَكْرُمة، فقال إنها لراية مشئومة ما أخذها أحد إلا قتل، فقال له كريب: يا أعور تقارعت العرب (على أمرها) ثم صيروها إليك
فتأبى خوف القتل؟ خذ اللواء، فإن حضر أجلك قتلت: كانت معك أو لم تكن، فأخذ اللواء وناهضهم واقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس (1) ، والخوارج أقوى عُدَّة بالدروع والجواشِن (2) ، فجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشُّراة ويَطْعُن فيهم، ويقتل حتى يظن أنه قد قتل، ثم يرفع رأسه وسيفه يقطر دماً، ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يُقاتل كلُّ قوم في ناحية، ثم التقى الحجاج وعِمْرَان بن الحارث الراسبيُّ فاختلفا ضربتين: كل منهما قتل صاحبه، ثم تحاجزوا فأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم وولوا حارثة بن بدر الغُدَانِيَّ أمرهم، فلما تسلم الراية نادى فيهم أن يثبتوا فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة، وندب الناس فالتقوا وليس بأحد منهم قوة وقد فشت فيهم الجراحات، وما تطأ الخيل إلا على القتلى، فبينا هم كذلك إذا أقبل من اليمامة جمع من الشُّرَاة يقول المُكَثِّر إنهم مائتان، والمقلل: إنهم أربعون، فاجتمعوا وهم مريحون مع أصحابهم فصاروا كوكبة واحدة، فحملوا على الناس فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال:
__________
(1) الكراديس جمع كردوسة - كعصفورة - وهو كتيبة الخيل.
(2) الجواشن: جمع جوشن، وهو الزرد يلبس على الصدر (*)(4/503)
كرنبوا ودلبوا * وحَيْثُ شِئْتُمْ فاذْهَبُوا وقال: أيْرُ الْحِمَارِ فَرْيَضَة لِعَبِيدَكُمْ * والْخُصْيَتَانِ فَرِيضَةُ الأَعْرَابِ فتتابع الناس على أثره منهزمين، وتبعهم الخوارج فألقوا أنفسهم في دجيل (1) فغرق منهم خلق كثير، وسلمت بقيتهم، وكان ممن غرق دَغْفَل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان، ولحقت قطعة من الشُّراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم
فعطفت عليهم خيل بني تميم فعاونوهم وقاتلوا الشُّراة حتى كشفوهم، فانصرفوا إلى أصحابهم وعبرت بقية الناس، فصار حارثة ومن معه بنهرِ تِيْرى والشُّراة بالأهواز، فأقاموا ثلاثة أيام، وكان على الأزد يومئذٍ قَبِيصة بن أبي صُفْرة أخو الْمُهَلَّب، وغرق من الأزد يومئذٍ عدد كثير، فقال شاعر الأزارقة: (من الوافر) يَرَى مَنْ جَاءَ يَنْظُرُ في دُجَيْلٍ * شُيُوخَ الأَزْدِ طَافِيَةً لِحَاهَا " وأنشد أيضاً: (من الرجز) يَا قاتل الله بني السعلاة * عمرو بْنِ يَرْبُوعٍ شِرَارِ النَّاتِ وتقدم شرحه مفصلا في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائتين.
مسائل التمرين أنشد فيها: (من الرجز) لا تَقْلُوَاهَا وادْلُوَاهَا دلوا * إن مع اليوم أخاه غدوا وتقدم شرحه في الشاهد السادس عشر بعد المائتين.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين -: (من الوافر)
__________
(1) دجيل: نهر صغير بالاهواز حفره أزدشير بن بابك.
(*)(4/504)
مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ * رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا على أن قوله " وتسطارا " من استطاره: أي طيره.
" ومتى " اسم شرط، و " تلقني " شرطه و " ترجف " جزاؤه، وروي بدله " تُرْعَدْ " بالبناء للمفعول، و " روانف " فاعل ترجف، و " فردين " حال من الفاعل والمفعول.
قال أبو على: " تستطارا، جزم عطف على تُرْعد، حملته على الأليتين أو على معنى الروانف، لأنهما اثنان في الحقيقة، وهذا أحسن من أن تحمله على أن
في (تستطارا) ضمير الروانف، وتجعل الألف بدلاً من النون الخفيفة، لأن الجزاء واجب " انتهى.
والروانف: جمع رانفة، بالراء المهملة والنون والفاء، وهي طرف الألية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان قائماً، و " تستطارا " بمعنى تطلب منك أن تطير خوفاً وجبناً، والعرب تقول: لمن اشتد به الخوف: طارت نفسه خوفاً.
وقد شرحنا هذا البيت على وجوه شتى من الإعراب، ونقلنا ما للناس فيه في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من شواهد شرح الكافية.
وهو من أبيات ثلاثة عَشَر لعنترة العبسى الجاهلي خاطب بها عُمارة بن زياد العبسي، وقد شرحناها هناك على وجه لا مزيد عليه بعون الله وفضله.
وأنشد بعده: (من الرجز) * مَا بال عيني كالشعيب الْعَيَّنِ * وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والعشرين من أوائل هذا الكتاب مقدمة علم الخط أنشد فيها: (من الطويل) * قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ *(4/505)
وتقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة من هذا الكتاب.
وأنشد بعده: (من الرجز) * بل جوز تيهاء كظهر الْحَجَفَتْ * وهذا أيضاً قد تقدم شرحه في الشاهد الواحد بعد المائة من هذا الكتاب.
وأنشد الْجَارَبَرَدِيُّ فيها - وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين -: (من الرجز)
248 - بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا * حُرَّاسُ أبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا على أن عمرا إذا دخله اللام لضرورة الشعر لا تلحقه الواو المميزة بينه وبين عمر وحُرَّاس: جمع حارس، فاعل باعد: أي جعلوه بعيداً لا يقدر على القرب من بابها، وأم العمر: مفعول باعد، والْقُصُور: جمع قصر وهو بيت على بيت، و " على " بمعنى اللام وهذا البيت أنشده ابن جني في سر الصناعة عن الأصمعي لزيادة اللام في العلم ضرورة، وتبعه ابن هشام في بحث " أل " من المغني، وهو لأبي النجم العِجْلِيِّ، وبعده: وغَيْرَةٌ شَنْعَاءَ مِنْ غَيُورِهَا * فَالسِّحْرُ لاَ يُفْضِي إلَى مَسْحُورِهَا وغيره: معطوف على حُرَّاس، وأراد بالغَيُور زوجها، وأراد بالسِّحْر كلامها اللذيذ الذي يستميل القلوب كما تستمال بالسحر، والإفضاء: الوصول، وأراد بالمسحور نفْسَه.
وأبو النجم من بني " عِجْل "، واسمه الفضل بن قدام، وهو أحد رجاز الإسلام المتقدمين في الطبقة الأولى، قال أبو عمرو بن العلاء: هو أبلغ من العجاج في النعت، وله مع هشام بن عبد الملك نوادر وحكايات مضحكات أوردها(4/506)
الأصبهاني في كتاب الأغاني: وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين -: (من الرجز) 249 - هُمُ الأُلَى إنْ فَاخَرُوا قَالَ الْعُلَى * بفى امرئ فاخر كم عَفْرُ الْبَرَى على أن الألى المقصور لا يكتب بعد ألفه واو، لأن الألف واللام قبله
اشتباهه بإلى الجارة.
والبيت من مقصورة ابن دريد اللُّغَوِيِّ، وقبله: بَلْ قَسَماً بِالشُّمِّ مِنْ يَعْرُبَ هَلْ * لِمُقْسمٍ مِنْ دُونِ هَذَا مُنْتَهَى كان أقسم أولاً بابل الْحَجَّاج على طريقة العرب، ثم أضرب فأقسم بالشُّمِّ من يَعْرُبَ، والشم: السادات والأشراف، جمع أشم، وهو المرتفع الأنف، وهو من صفات الشريف، و " من يعرب " في موضع الحال للشُّم، أو صفة له، لأن لامه للجنس، ويعرب: أبو قبيلة من عرب اليمن، وهو يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام، وإنما أقسم به لأنه أبو الأزد، وابن دريد أزدي، فيكون أقسم بآبائه وأجداده العظماء، و " هل " للاستفهام التقريري، وهو حمل المخاطب على الإقرار و " مُقْسِم " اسم فَاعل من أقسم، و " دون " بمعنى غير، اسم الإشارة ليعرب، و " منتهى " غاية ينتهي إليها، وهو فاعل الظرف، والجملة اعتراض بين القسم وبين جوابه الآتي بعد أربعة أبيات.
وقوله " هم الألى إلخ " استئناف بياني في جواب لِمَ لا يكون دون يعرب مُنْتَهَى لِلْمُقْسِم، و " الالى " بمعنى الذين، واحده الذي من غير لفظه و " فاخروا " عارضوا بالفخر، والفخر: التمدح بالخصال المحمودة، والعلى: الرفعة.
وقوله " بفِي امْرِئٍ " خبر مقدم، وجملة " فاخركم " صفة امرئٍ و " عَفْرُ الْبَرَى " مبتدأ مؤخر(4/507)
والجملة دعائية مقول القول، والعفو - بفتح العين المهملة وسكون الفاء -: التراب المنبث في الهواء، والبَرَى - بفتح الموحدة -: التراب، و " هم " مبتدأ و " الأُلى " خبره، والجملة الشرطية مع جوابها صلة الالى، وجواب القسم بعد أبيات ثلاثة على هذا النمط، وهو: أزَالُ حَشْوَ نَثْرَةٍ مَوْضُونَةٍ * حَتَّى أُوَارَى بَيْنَ أثْنَاءِ الْجُثَى
أي: لا أزال، فحذفت لا النافية، كقوله تعالى: (تفتؤ تذكر يوسف) وحَشْو: بمعنى لابس، لأن حشو الشئ يلبس الشئ، والنثرة: الدرع السابغة، والموضونة: المحكمة، وَأُوَارَى: بالبناء للمفعول بمعنى أغَطَّى، والأثناء: جمع ثِنْي - بكسر فسكون - وهو تراكب الشئ بعضه على بعض، والْجُثَى - بضم الجيم -: جمع جَثْوَة بفتحها، وهو التراب المجموع ويعني به تراب القبر.
وابن دريد هو أبو بكر محمد بن الحسن الأزْدِي، ولد بالبصرة ونشأ بها، أخذ العلم عن جم غفير من المشاهير، كأبي حاتم، والرياشى، والأُشْنَانَدَانِيِّ، وابنْ أخي الأصمعي، ثم خرج إلى نواحى فارس، وصحب جماعة من ملوكها وصحب ابْنَ مِيَكَال الشاه، وأخاه، وكانا يومئذٍ على عمالة فارس، فعمل لهما كتاب الجمهرة في اللغة، وقلداه ديوان فارس، ثم مدحهما بهذه القصيدة المقصورة وهي تشتمل على نحو الثلث من المقصور، وفيها كل مثل سائر، وخبر نادر، والمواعظُ الحسنة، والحكمُ البالغةُ، وقد شرحتها قديماً شرحاً مختصراً فيه حَلُّ ألفاظها وبيان معانيها وعاش رحمه الله ثلاثاً وتسعين سنة، ومات في سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وقد استوفينا الكلام على ترجمته وسرد مؤلفاته وأحواله في شرح المقصورة ولنختم الكلام بحمد الله ذي الإنعام، والصلاة والسلام على أفضل رسله الكرام محمد وعلى آله وصبحه العظام(4/508)
(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين، وبعد فهذا فهرس تراجم الشعراء الذين ترجمتهم في شرح شواهد شرحي الشافية لنجم الائمة الرضى، والفاضل الجاربردى، ولم تذكر في شرح شواهد الكافية
حرف الالف أبو الاخزر الحمانى: في الشاهد الثلاثين والازرق العنبري: في الخامس والستين وأعشى همدان: في الواحد والاربعين بعد المائة وإسماعيل بن يسار النساء: في السابع والخمسين بعد المائة والاعلم بن جرادة: في الستين بعد المائة وأنيف بن زبان: في الثمانين بعد المائة حرف الجيم جامع بن عمرو الكلابي: في الشاهد التاسع والستين بعد المائة وجندل بن المثنى الطهوى: في السادس والسبعين بعد المائة حرف الحاء حيى بن وائل: في الشاهد التاسع والاربعين وأبو حزابة التميمي: في الثالث والسبعين بعد المائة وحجر والد امرئ القيس: في الثالث والثمانين بعد المائة وحصين بن قعقاع: في الثامن والتسعين بعد المائة حرف الخاء خلف الاحمر: في الشاهد الثاني بعد المائتين.(4/509)
حرف الدال دكين الراجز: في الشاهد الخامس والاربعين.
حرف الراء المهملة رهيم بن حزن: في الشاهد الواحد والخمسين.
حرف السين سؤر الذئب: في الشاهد الواحد بعد المائة وسكين بن نضرة: في الثاني عشر بعد المائة.
حرف الشين الشاطبي المقرئ: في الشاهد المائة حرف الصاد الصمة الجشمى: في الشاهد الثالث والاربعين حرف الطاء طريف بن تميم: في الشاهد الخامس والسبعين بعد المائة حرف العين أبو عمرو بن العلاء: في الشاهد السادس عشر وعياض بن درة: في الثاني والاربعين وعذافر الكندى: في الثاني عشر بعد المائة.
وعمرو بن المسبح الطائى: في الثاني والعشرين بعد المائتين.
وعبد الله خازن كتب الصاحب بن عَبَّاد: في السادس والاربعين بعد المائة.
حرف الفاء الفضل بن العباس: في الشاهد السادس والعشرين(4/510)
حرف القاف قصى بن كلاب: في التاسع والاربعين بعد المائة.
وقعنب ابن أم صاحب: في الثامن والثلاثين بعد المائتين.
حرف الكاف
الفضل بن العباس: في الشاهد السادس والعشرين(4/511)
حرف القاف قصى بن كلاب: في التاسع والاربعين بعد المائة.
وقعنب ابن أم صاحب: في الثامن والثلاثين بعد المائتين.
حرف الكاف أبو كاهل اليشكرى: في الشاهد الثالث عشر بعد المائتين.
حرف اللام لقيم بن أوس: في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة.
حرف الميم مرة بن محكان: في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة.
ومضاض بن عمرو الجرهمى: في السابع والخمسين بعد المائة.
حرف النون أبو النجم العجلى: في الشاهد الثامن والأربعين بعد المائتين.
حرف الواو الوليد بن عقبة بن أبي معيط: في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة وعدة الجميع أربعة وثلاثون(4/511)
وكان الفراغ من تسويد هذه الاوراق بعد المغرب من ليلة الجمعة الثالثة عشر من صفر الخير عام ثمانين وألف بعد الهجرة النبوية قال ذلك وكتبه مؤلفه الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه عبد القادر بن عمر البغدادي، لطف الله به وبآبائه وبجميع المسلمين آمين.
انتهى من خط المؤلف(4/512)