الكتاب الفضيحة!(3)
"مقدمة فى فقه اللغة العربية"؟
أم فى الجهل والحقد والبهلوانية؟
د. إبراهيم عوض
الموقع والمدونة:
http://ibrawa.coconia.net/index.htmhttp://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
ولا يقتصر عبث "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على المجال اللغوى، بل يتعداه إلى الإسلام والإساءة إليه. ولنأخذ بعض الأمثلة: فعلى طريقة "سمك لبن تمر هندى" يعتمد أسلوب الإفتاء المصاطبى فى "حياة" و"حواء" و"وَحَوِى يا وَحَوِى إيّاحَه" و"عائشة" و"عست" و"عشتروت" و"إيزيس" و"باندورا" وغير ذلك من أسماء الجنس وأسماء الأعلام جميعا فى نفس واحد وفى فقرة واحدة على بُعْد ما بين هذه الأسماء فى المغزى والزمان والمكان والسياق الحضارى واللغوى، بحيث تختفى فى النهاية الفروق بين الوثنى والإسلامى، وبين اليونانى والمصرى والعربى، وكل هذا دون أدنى أَثَارَةٍ من علم أو أقلّ شبهة من دليل! وهل على منجعصى المصاطب من حرج؟ لقد رُفِع عنهم القلم رفعًا، فمن حقهم أن يضربوا بفتاواهم أينما يعنّ لهم ومتى يحلو لجُشَائهم! وهات يا دكتور لويس ما لديك، فمغفورة لك خطاياك الشنيعة التى لا أدرى أى شيطان سوَّل لك بها وبثَّها فى رُوعك ووَزَّك على التصايح بها ونَشْرها فى الناس، وكلها عورات وسوآت تفضح صاحبها وتلقى به فى مهاوى الردى وتجعل منه عرضة للتهكم والتشنيع!(1/1)
ذلك أنه بعد الهلس الذى أتحفنا به وظن أنه يستطيع تسويقه بين البُلْه المتخلفين الذين هم نحن حسبما زين له شيطانُه (أو لَيْطَانُه) الغبى الأبله المتخلف، وبعد عدة قفزات وشقلباظات فى الهواء لزوم الإبهار انتقل إلى القول بأنه من كلمة "كويه" الجرمانية العالية القديمة خرجت "كويكو" فى الأنجلوسكسونية، ثم "كويك" الإنجليزية (بمعنى "سريع") التى تقابلها فى الفرنسية كلمة "فيت: Vite" المأخوذة من "Vie: حياة"، ثم أضاف أن الجذر فى العربية بالحاء فى "حىّ" و"حياة"، وأننا لو رجعنا إلى هجاء الكلمة الأخيرة قديما لوجدناه "حيوة"، ومن ثم تكون "حواء" مشتقة من "الحياة". وما دام علماء اللغة يربطون بين جذر "حياة" وجذر "عاش" كانت عائشة من نفس الجذر، فهى و"عشت/ عست" (أى الربّة إيزيس) شىء واحد، وكلتاهما صورة من "حواء". ثم يطلب منا أن نقارن هذه الأسماء بـ"عزة وعُزَّى وناعسة" و"عشتار وعشتروت". هل فهمت شيئا أيها القارئ الكريم؟ إن لويس عوض يعتمد هنا على أسلوب "دوخينى يا ليمونة"، لذلك فهو يلقى بالكلام الكثير الذى لا رابط بينه فى سرعة ولهوجة وموالاة دون أن يعطى القراء فرصة للهضم والتمثل والمراجعة لأنه يعلم تمام العلم أنه لا يكتب علما بل هَلْسًا وهَجْسًا، وأنه لو خفف الخناق عن القراء وأعطاهم فرصة لالتقاط الأنفاس فلسوف يكشفون عواره ويتبينون ضحالة علمه وعوار كلامه. إنه يرمى بالأحكام ويقرر النتائج دون أن يقدم دليلا على أى شىء مما يقول، ظنا منه أنه يكفى جنابه أن يقول، فإذا بالجهل يُضْحِى علما، وإذا بالهَلْس يمسى جِدًّا.(1/2)
لكنْ فاته أن هناك من يستطيع أن يتوقف ويوقفه هو أيضا وأن يفضح زيف ما يكتب ويهتك سترته وسوأته، وكل ذلك بالتفكير المنطقى والمنهج العلمى، وإلا فلو كان هذا هو العلم لما كانت العين بكت، وعندئذ فقل على العلم: يا رحمن يا رحيم! إن الناس جميعا بهذه الطريقة يمكن ما بين غمضة عين وانتباهتها أن يصبحوا بقدرة قادر علماء، وعلماء لغة يستطيعون أن يكتبوا مقدمات فى فقه اللغة العربية تناطح السماء وتصل إلى الجوزاء!
إنه يذكرنى هنا بالشيخ الذى يصف فى "الليلة الكبيرة" الطريق لأحد الريفيين، فإذا به يغرقه فى دوامة من التفصيلات التى تصيب السامع بالدوار من مثل "انعطف يمينا، ثم عد فانعطف شمالا، ثم ارتد من حيث أتيت، ثم ارجع على أعقابك، ثم خذ فى طريقك إلى الأمام، ثم تحول وخذ فى طريقك مرة أخرى إلى الخلف، ثم سُخْ فى الأرض، ثم اصعد فى السماء، ثم طِرْ فى الجو، ثم قَعْ على جذور رقبتك..."، وهكذا حتى فقد الريفى عقله مع انتهاء صاحبنا من وصفته وهو يقول له: "وهكذا تجد نفسك قد تهت"، فيرد عليه الريفى الساذج وهو يهلل ويرقص من الفرح بأنها "وصفة سهلة"، بل "صفة هائلة"، ثم ضاع فى الحوارى فلم يعرف طريقه، ومن يومها وهو لا يدرى كيف الخروج، ولا أهله يعرفون له "طريق جُرّة". أغلب الظن أن صلاح جاهين فى "الليلة الكبيرة" كان يقصد لويس عوض و"مقدمته" التى نحمد الله حمدا كثيرا يليق بجلاله وكرمه أن صاحبها لم يشفعها بـ"مؤخرته"، وإلا لكانت كارثة! ويكفينا مؤخرة الثعلب المصرى الذى حدثنا عنه الدكتور لويس وما تخرجه من روائح عبقة بإيسانس "إف"!(1/3)
لكن إذا كان المتكلم أبله فليكن القارئ عاقلا، وليتساءل القارئ العاقل: يا ترى لماذا لم يعرف المصريون قبل الإسلام أسماء "حواء" أو "ناعسة" أو "عائشة"، وعرفوها بعد الإسلام؟ وهل هم ينطقون الاسم الأخير فعلا: "عائشة"؟ أم إنهم يقولون: "عِيشة" بحذف الهمزة وإمالة العين؟ فلماذا إذن يصر لويس عوض المغرم بالعامية والداعى إليها على أن يقول: "عائشة"، وهذا (كما نعرف) هو الاسم الذى نطلقه بهذه الصيغة على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها، ولا رضى عمن يريد الإساءة لها ويعمل على خَلْط الإسلام بالوثنية وتمييع الحدود بين الشرك والإيمان بحيث لا تبقى لأى من الرموز الإسلامية الكريمة مكانتها فى نفوسنا؟ إن هذا ليفسر لنا السر فى حرصه على إمطارنا هنا بأسماء الآلهة الوثنية من كل صوب وحَدَب: من مصر القديمة التى خرجنا والحمد لله من عقائدها الشركية المتخلفة، ومن بلاد سومر وأكاد، ومن بلاد الإغريق، حتى نغرق فى هذا الطوفان فلا نستطيع التنفس ونختنق.(1/4)
وهو السر كذلك فى الربط بين هلال رمضان و"باندورا" الإغريقية التى يؤكد الدكتور أثناء حديثه عنها أن أغنية "وحوى يا وحوى إياحة" هى نفسها وصف ميلاد باندورا فى الأدب الإغريقى، وأنها تذكرنا بأسطورة البقرة إيو فى اليونان القديمة. وكنا نحب أن يأتينا بالنص الخاص بميلاد باندورا، وكذلك النص الخاص بالبقرة إيو كى نقارن بين الموضوعين على علم بدلا من نتش المعرفة على السماع ممن لا يمكننا أن نأتمنهم على شىء ومن إذا اضطرتنا الظروف القاهرة على مصافحتهم لسارعنا بجذب أيدينا من أيديهم وعدّ أصابعها للاطمئنان على أنها لا تزال خمسة لم يضع منها شىء! ولكن لا وألف لا، فالحمد لله أنْ وهبنا بصيرة نافذة تستطيع أن تسمع دبة الثعلب المكار من على بعد سبعين خريفا وبذلك نحذر كيده فنعد له مصيدة نمسكه بها ونقيّده ونضع على فمه وأنفه كمامة ونلبسه صديرية كالقرد ميمون ونرقّصه على واحدة ونصف ونجعل منه أضحوكة ومسلاة للأطفال بدلا من أن يختلنا هو ويعيث فى مزارعنا وحظائرنا فسادا! إن الرجل يلدغ لدغته السامة ثم يولى الأدبار قبل أن نتنبه فنقبض عليه ونسحقه، أو على الأقل: قبل أن ننزع زُبَانَاه.(1/5)
إن أنشودة "وحوى يا وحوى" هى تعبير عن فرحة المسلمين المصريين بمجىء شهر الصيام لا بميلاد الهلال عموما، وإلا فالهلال يأتى فى العام اثنتى عشرة مرة، فلماذا لا يغنّون له إلا إذا كان هلالا لرمضان فقط؟ ولماذا يبتهلون فى أنشودتهم إلى "الله الغفار"؟ أترى الإغريق كانوا أيضا يشكرون ربهم أنْ مَدَّ فى عمرهم حتى رأوْا هلال رمضان الكريم الذى ينتظرونه بفارغ الصبر من السنة للسنة؟ وهل كان الأطفال الإغريق يطوفون بالشوارع يعلنون مولد هلال الشهر الفضيل ومعهم الفوانيس الملونة طالبين "العادة"؟ ثم ما علاقة "عشتروت" و"نا- عست" بـ"ناعسة" و"عائشة" و"حواء" يا ترى؟ ألا خيبة الله على البكاشين! إن "عائشة" من "العيش"، على حين أن "حواء" من "الحُوّة"، وهو لون الحمرة المشربة بالسواد أو شىء قريب من هذا (ومذكَّره هو "أحوى" كما فى قوله تعالى يصف ما يحدث للنبات بعد أن يجف: "والذى أَخْرَج المرعى* فجعله غُثَاءً أحوى")، ولا صلة بين الاسمين الكريمين وذينك الاسمين الوثنيين كما نرى جميعا! وبالمناسبة فهناك اسم "حياة" (وهو عَلَمٌ للأنثى)، فلو كان المراد بـ"حواء" أنها من "الحياة" لقالوا لها: "حياة" بدلا من ذلك. أليس هذا ما يقتضيه العقل ويقول به المنطق؟ أما قوله إن كلمة "حياة" كانت تكتب قديما: "حيوة" فهو يظن أنه نافعه فى الزعم بأن "حواء" (بالواو، و"كُلّه بالواو" على رأى أحمد رمزى) مأخوذة من "حياة" (بالياء). لكننا نعرف أن الكتابة لا تتماشى دائما مع النطق، والعبرة بالنطق لا بالكتابة، فليست له إذن حجة فى ذلك. وهذا يدل على قلة بضاعته من العلم باللغة التى هجم على دراستها بغشمٍ واعتسافٍ أرعن كما قلنا مرارا.(1/6)
أما الربط بين "وحوى يا وحوى إياحه" واللغة المصرية القديمة فيحتاج إلى إثبات أن المسلمين المصريين كانوا ينشدون هذه الأغنية منذ القديم، على الأقل منذ أن اتسع نطاق الإسلام فى أرض الكنانة وأضحى المسلمون يشكلون الأغلبية بين السكان، وإلا فما الذى يجعلهم يتذكرون تلك العبارة المصرية القديمة فجأة بعد كل هاتيك القرون؟ ذلك أنى حاولت أن أعثر على تلك العبارة فى كتبنا القديمة فلم أجدها رغم أن بعضهم تكلم عن عادات المصريين عند دخول رمضان كابن بطوطة، الذى زا بلادنا وعاش فيها زمنا أثناء تجواله فى مناحى الأرض، والجبرتى مؤرخنا المصرى العظيم الذى لم يكن يترك شاردة ولا واردة فى البلاد رآها أو سمع بها إلا أوردها فى كتابه: "عجائب الآثار". وكل ما وجدته عند الأول هو قوله عن قرية إبيار التى تقع على مبعدة ثمانية كيلومترات عن قريتى كتامة الغابة (التابعة لمركز بَسْيُون بمحافظة الغربية): "ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر. حضرت عنده مرة يوم الرَّكْبَة، وهم يسمون ذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلاً: بسم الله، سيدنا فلان الدين فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب من معه أجمعون، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مُرْتَقَب الهلال عندهم، وقد فُرِش ذلك الموضع بالبُسُط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس.(1/7)
ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة".
أما الجبرتى فقد عثرت فى كتابه المذكور أثناء بحثى تحت عنوان "هلال رمضان" على ستة نصوصٍ هذه بعضها للائتناس بها ليس إلا، وليس فى الباقى أى جديد فى الموضوع. قال فى رؤية الهلال لسنة 1213هـ: "وفيه أعرض حسن آغا محرم المحتسب لساري عسكر أمر ركوبه المعتاد لإثبات هلال رمضان، فرسم له بذلك على العادة القديمة فاحتفل لذلك المحتسب احتفالاً زائدًا وعمل وليمة عظيمة في بيته أربعة أيام أولها السبت وآخرها الثلاثاء: دعا في أول يومٍ العلماء والفقهاء والمشايخ والوجاقلية وغيرهم، وفي ثاني يومٍ التجار والأعيان، وكذلك ثالث يوم، ورابع يومٍ دعا أيضًا أكابر الفرنساوية وأصاغرهم، وركب يوم الثلاثاء بالأبهة الكاملة زيادة عن العادة وأمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم، وشق القاهرة على الرسم المعتاد ومر على قائمقام وأمير الحاج وساري عسكر بونابارته، ثم رجع بعد الغروب الى بيت القاضي بين القصرين فأثبتوا هلال رمضان ليلة الأربعاء، ثم ركب من هناك بالموكب وأمامه المشاعل الكثيرة والطبول والزمور والنقاقير والمناداة بالصوم، وخلفه عدة خيّالة عارية رؤوسهم وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشيع مهول وانقضى شهر شعبان وحوادثه".(1/8)
وفى رؤية هلال رمضان لسنة 1222 من الهجرة: "وفي ليلة الأحد كانت رؤية هلال رمضان فلم يُعْمَل الموسم المعتاد، وهو الاجتماع ببيت القاضي وما يُعْمَل به من الحراقة والنفوط والشنك وركوب المحتسب ومشايخ الحِرَف والزمور والطبول واجتماع الناس للفرجة بالأسواق والشوارع وبيت القاضي، فبطل ذلك كله ولم تثبت الرؤية تلك الليلة، وأصبح يوم الأحد والناس مفطرون. فلما كان وقت الضحوة نودي بالإمساك ولم تعلم. وفي ليلته بين العصر والمغرب ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وأردفوا ذلك بالبنادق الكثيرة المتتابعة، وكذلك العسكر الكائنون بالبلدة فعلوا كفعلهم من كل ناحية ومن أسطحة الدور والمساكن، وكان شيئًا هائلاً، واستمر ذلك إلى بعد الغروب. وذلك شنك قدوم رمضان في دخوله وانقضائه". وفى رؤية هلال الشهر المبارك لعام 1229 نقرأ: "وفي يوم السبت تاسع عشرينه الموافق لآخر يوم من شهر أبيب القبطي أوفى النيل المبارك أذرعه، وكان ذلك اليوم أيضًا ليلة رؤية هلال رمضان، فصادف حصول الموسمين في آن واحد، فلم يعمل فيها موسم ولا شنك على العادة، ولم يركب المحتسب ولا أرباب الحرف بموكبهم وطبولهم وزمورهم، وكذلك شنك قطع الخليج وما كان يعمل في ليلته من المهرجان في النيل وسواحله وعند السد، وكذلك في صبحه وفي البيوت المطلة على الخليج، فبطل ذلك جميعه ولم يشعر بهما أحد".(1/9)
كما حاولت العثور على ذات العبارة عند إدوار وليم لين المستشرق البريطانى المعروف الذى أنفق من عمره سنوات طوالا فى مصر مختلطا بطوائف الشعب المختلفة مشاركا لهم فى أفراحهم وأتراحهم ومرتديا أزياءهم، وصاحب أكبر معجم عربى- إنجليزى (هو "مَدّ القاموس")، ومؤلف أهم كتاب فى "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، فلم أجده أتى بذكر لذلك النشيد رغم أنه لم يكد يترك شيئا يتعلق برمضان والصيام دون أن يدونه فى كتابه الأخير (انظر:An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians, Ward, Lock & Co., 1992, 436- 442). وأحسب أنه لو كان الأطفال المصريون فى عصره ينشدون هذا النشيد عند دخول الشهر الفضيل لسجّله بكل تأكيد، وبخاصة أنه كانت تفتنه مثل تلك المناظر فكان لا يكتفى بوصفها بالقلم، وإنما كان يشفعه بتصويرها بالريشة فى كثير من الأحيان. أما ما قرأته على المشباك فى موقع "بُصّ وطُلّ"، وتحت عنوان "الأغنية الرمضانية"، من أن "أصلها فرعوني: وأن كلمة "أيوح" معناها القمر، وكانت الأغنية تحية للقمر، وأصبحت منذ العصر الفاطمي تحية خاصة بهلال رمضان" فينقصه تقديم النص من كتب التاريخ أو الأدب القديم على هذا الكلام، وهو ما حاولت أن أصنعه مستعينا بمحركات البحث فى عشرات المواقع ومئات الكتب، وعلى رأسها موقع "الوراق" و"الموسوعة الشعرية" التى تضم الشعر العربى كله تقريبا منذ الجاهلية إلى منتصف القرن العشرين وما يقرب من ثلاثمائة كتاب من كتب التراث بعضها يتكون من عدد كبير من المجلدات ككتاب "الأغانى" الذى يضم أكثر من عشرين مجلدا، فلم أخرج بشىء. وفوق ذلك فإن الأطفال لا يقتصرون على إنشاد هذه الأغنية لدى دخول رمضان ورؤية هلاله بل يكررون ذلك كل ليلة، فضلا عن أن كلمات الأغنية لا علاقة لها بأى شىء وثنى من عقائد المصرييين القدامى.(1/10)
ومثل ذلك نقوله عند قراءتنا للنص التالى الذى وجدته فى صحيفة "الأخبار" المصرية بتاريخ الأربعاء الخامس من نوفمبر 2003م (الموافق للحادى عشر من رمضان 1424م) لمحمود أحمد فضل، وعنوانه: "وحوى يا وحوى أغنية فرعونية": "من صفات الأغنية الشعبية أن لها بعدا تاريخيا وأن هذا البعد التاريخى موغل في القدم لا يمكن تحديده بدقة متناهية. كما أن للأغنية الشعبية بعدا جغرافيا وأن هذا البعد الجغرافى قد يظل محصورا في منطقة معينة، وقد ينتشر انتشارا واسعا ليشمل القطر كله. ومن الأغانى الشعبية القديمة أغنية "وحوى يا وحوى"، وهي أغنية موغلة في القدم ترجع الي 6 آلاف سنة، وهي أيضا من الأغانى النادرة التي ترددت طوال التاريخ المصرى حتى يومنا هذا بنفس نطق كلمات اللغة المصرية القديمة بخطوطها الأربعة: الهيروغليفية، الهيراطيقية، الديموطيقية القبطية. والنص الأصلى للأغنية هو: "قاح وي، واح وي، إحع"، وترجمتها باللغة العربية: "أشرقت أشرقت ياقمر!"، وتكرار الكلمة فى اللغة المصرية القديمة يعني التعجب. ويمكن ترجمتها أيضا: "ما أجمل قرفتك يا قمر!". وأغنية "وحوى يا حوى إيوحه" هي من أغانى الاحتفاء بالقمر والليالي القمرية، وكان القمر عند الفراعنة يطلق عليه اسم "إحع"، بينما كان يطلق على إله القمر اسم "خنسو"، وهو الإله الابن المكمل لثالوث مدينة طيبة، فالأب هو الإله أمون، والأم هي الإلهة موت. والمصرى القديم غنى للقمر "إحع"، ولم يغن لإله القمر "خنسو"، أي غنى للطبيعة ولم يغن للعقيدة. وبعد دخول الفاطميين إلى مصر وانتشار ظاهرة الفوانيس أصبحت الأغنية مرتبطة بشهر رمضان فقط بعد أن ظلت أزمنة مديدة مرتبطة بكل الشهور القمرية".(1/11)
وبعد، فإذا لم نجد أحدا من الكتاب المصريين أو الرحالة الذين مروا بها أو المستشرقين الذين زاروها أو أقاموا فيها قد ذكر أن المصريين كانوا يتغنَّوْن بذلك النشيد، فهل من الجائز القول بأنه شىء أُدْخِل على احتفالات المصريين بدخول الشهر الكريم بأُخَرة، وبخاصة أنه غير معروف فى القرى، ولم أسمع به إلا بعد أن كبرت وأخذت أنصت باهتمام إلى البرامج الرمضانية فى الإذاعة؟ لكن من أدخله يا ترى؟ ومتى؟ ولم؟ وما معناه فعلا؟ ألا يمكن أن يكون الكلام عن حِوَاية الدار ضد الثعابين والحيات، وبالذات أن هناك أغنية مصرية مشهورة يؤديها أحمد عبد القادر وتذاع كلما هلّ رمضان، وفيها بعد الديباجة المشهورة عبارة "وحَوِينا الدار"؟ فهل إذا صح ما سمعته (ولم تكن: "وحوى نضار" كما وجدتها مكتوبة فى أحد المواقع، وهو ما لا يعنى شيئا مفهوما) يكون المعنى مثلا: عزّمنا عليها حتى نطرد عنها أذى الزواحف السامة؟ لكن ما علاقة ذلك برمضان؟ أم هل المقصود بحواية الدار حوايتها من العفاريت؟ لكن هل تستخدم هذه الكلمة لطرد الشياطين، وبخاصة أن حلول رمضان نفسه يطرد الشياطين كما يعتقد كثير من المسلمين؟ وربما يجرى فى نفس المجرى هذا البيت من قصيدة وجدتها فى موقع من المواقع المشباكية: "وحوي يا وحوي، وقلبي بيحوي. جرح القدس بقى له سنين". أيا ما يكن الأمر فلنلاحظ أن كلمة "حَوَى (الدار)" مشتق من نفس الجذر الذى منه كلمة "حية". ومن اللغويين من يقول إنها سميت كذلك لأنها تتحوَّى، أى تلتف حول نفسها. كما سُمِّىَ "الحوّاء" بهذا الاسم لأنه يجمع الحيات حسبما جاء فى "لسان العرب" لابن منظور، وهو مصرى كما نعلم.(1/12)
وبعد أن كتبتُ ما كتبتُ عن هذه القضية: ما فات منه وما هو آت، رجعت إلى كتاب د. أحمد أمين: "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" فوجدته كتب تحت عنوان "وحوى يا وحوى" أنها أغنية تنتشر فى رمضان ينشدونها بعد الفَطُور وهم يمسكون فى أيديهم بالفوانيس الملونة، وكلما قال المنشد عبارة أجابوه فى نفس واحد: "إياحة"، كقوله: "بنت السلطان" فيردون: "إياحة"، "لابسة فستان/ إياحة"، "بالأحمر/ إياحة"، "بالأخضر/ إياحة"، "بالأصفر/ إياحة". ثم يعقب قائلا: "ولا أدرى معناها: هل هى كلمة مصرية قديمة أو هى مشتقة من "حوى يحوى"، أى عمل كما يعمل الحواة، بدليل قولهم: لولا فلان ما جينا، ولا تعبنا رجلينا، ولا حوينا ولا جينا...؟" (د. أحمد أمين/ قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1953م/ 414- 415). وأرجو من القارئ الكريم أن يتنبه إلى تواضع الكاتب والتعبير عن حيرته ورغبته الصادقة فى الوصول إلى الحقيقة، على عكس الدكتور لويس عوض، الذى لا يبالى إلا بتقرير ما دخل به الموضوع منذ البداية دون اهتمام بمنهج البحث وما يوجبه من التقصى وتقليب الأمر على كل وجوهه ثم إيراد ما توصل له بشىء من الحذر. وتحت عنوان "أغاني الأطفال الرمضانية" فى أحد المواقع المشباكية قرأت ما يلى: "ومن أشهر أغاني الأطفال الشعبية أغنية "وحوي"، وفيها يقوم أحدهم بترديد مقطع، ويرد عليه الأطفال: "إياحا", ولا يوجد معنى حقيقي لكلمة "إياحا"، وقد تعني: "إياها"، أي هي ذاتها".(1/13)
كما وجدت لحسَن شكرى فلفل كلمة فى جريدة "الوطن" القطرية تحت عنوان "سهرة شريعى" يقول فيها: "حل شهر البركة وراح عمار الشريعي يؤانسنا كل ليلة من خلال سهراته المنتقاة وضيفانه من أهل المغنى. وأول ما يلفت النظر في هذه السهرات حرص الفنان الشريعي على توجيه المشاهدين إلى أسرار الإبداع فيما يعرضه من أغنيات وموسيقى، وذلك من خلال التفسير اللغوي والشرح الموسيقي الأكاديمي بلغة مبسطة متدفقة كما شاهدناه في تقديم أغنيات مثل "وحوي يا وحوي" حيث ردها الى أصلها اللغوي، وهو "أحوي" بمعنى: أمتلك. "أحوي يا أحوي إياها" بمعنى: أمتلكها، وهي بنت السلطان... إلخ". يقصد أن الأغنية فى أصلها تقول: "وحوى يا وحوى إياحة. بنت السلطان، إياحا. لابسة فستان، إياحا...". وفى موقع آخر هو موقع "الديرة" الخليجى، وتحت عنوان "فولكلور رمضانى" ألفيت الكاتب الذى لم يذكر اسمه يقول إن معنى "وحوى يا وحوى" هو "الْوَحَا الْوَحَا"، أى هيّا عجِّلوا ولا تتأخروا. لكن معلقا نوبيا ظريفا فى موقع "محاورات المصريين" ذكر أن أم أحمس كانت تسمَّى: "إياحا"، ولما انتصر ابنها على الهكسوس خرج الناس إلى الشوارع نحو بيتها يهتفون باسمها تمجيدا وتهنئة لها. ومن هذا يرى القارئ الكريم بنفسه أن ما جزم به الدكتور لويس عوض ليس بالأمر السهل كما أراد أن يوهمنا.(1/14)
ومع مضحكات الدكتور لويس عوض نمضى فنقرأ أن جذر "تارَه:Tarah " السنسكريتى (بمعنى "نجمة"كما يقول، رغم أنه لا يوجد فى العربية الفصحى "نجمة"، إنما هو "نجم"، وهو ما يدل على ضحولة معرفة الرجل باللغة موضوع دراسته وفتاواه الشيطانية) قد اشتُقّت منه كلمات "دُرّة" (وجمعها "درارى" بمعنى "نجوم"، ومنها "الكوكب الدُّرِّى" كما يقول) و"ثُرَيّا" و"سِدْرَة" (بمعنى "نجمة" أيضا كما يقول) كما فى "سدرة المنتهى" حسب كلامه، التى هى نفسها كلمة "Ultima siedera" اللاتينية، بمعنى "النجوم الأخيرة" فى هلاويسه (ص 233). نعم هى مضحكات لأن صاحبها يكتب بطريقة "سمك، لبن، تمر هندى"، وإليك البيان أيها القارئ العزيز: فأما أن "درة" أو "سدرة" معناها "نجم" فهذا ليس بعربى، ولا حتى خواجاتى، إذ الخواجات الدارسون للغة العربية يعرفون أن "دُرّة" إنما هى "اللولؤة العظيمة"، وأن "الكوكب الدُّرِّىّ" إنما سمى كذلك نسبة إلى الدُرّ "فى صفائه وحسنه وبهائه وضيائه" كما جاء فى "تاج العروس" و"لسان العرب" و"المعجم الوسيط" مثلا، وأن "السدرة" إنما هى شجرة النبق أو شجرة تشبهها لا النجم ولا يحزنون، وأن "سدرة المنتهى" إنما هى آخر الحدود التى سُمِح لجبريل والنبى أن يصلا إليها فى الرحلة السماوية، رحلة "المعراج"، دون أن يتخطياها، أو هى المكان الذى لا يتجاوزه علم مخلوق أيا كان، وهى شجرة عندها جنة المأوى، ولا يمكن أن تكون نجما، إذ لم نعهد أن يسمى نجم باسم شجرة، علاوة على أن اللقاء لا يمكن أن يتم عند نجم من النجوم لأن النجوم تحرق بل تبخّر من مسافات هائلة كما هو معروف، فكيف لو تم اللقاء عندها؟ وهذا مرة أخرى يرينا كيف أن الرجل يكتب دون تفكير.(1/15)
وكل ما قلناه هنا فى تفسير "الدُّرّة" و"الكوكب الدُّرِّىّ" و"سِدْرة المنتهَى" تقوله أيضا كتب اللغة وكتب التفسير على السواء، أما لويس عوض فهو يخبطها خبط مكر وإساءة. إن الحديث الآن هو عن عبارات وألفاظ من لغة القرآن الكريم لم يكن الجاهليون يعرفونها، وإلا فهل سبق لأحدهم أن قام بالعروج إلى السماء السابعة ورأى "سدرة المنتهى" كما وقع للرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل كان الجاهليون يستخدمون كلمة "الكوكب الدرى"؟ فما مغزى عَمْلة لويس عوض هذه إذن؟ لقد قلنا إنه جاهل بموضوع كتابه، لكن هذا لا يعنى أنه لم يُرِدْ ما كتب ولم يقصد هذا القصد السئ من ورائه، وإلا فعلى الجاهل أن يجتهد فى نزع أغلفة الجهل عن عينه وعقله وقلبه، وهو ما لم يفعله لويس عوض ولم تتجه إرادته إليه، بل كانت إرادته كلها متوجهة إلى الطعن اللئيم فى القرآن؟(1/16)
ولقد كان بمكنته أن يرجع إلى كتب اللغة والتفسير حتى لو لم يقتنع بما جاء فيها، وعندئذ كان عليه أن يناقش هذا الذى يعترض عليه ويبدى وجهة نظره فيه. بَيْدَ أنه يعلم تمام العلم أنه لا يستطيع أن يصمد فى مناقشة تلك الكتب لأنه ليس لديه من العلم ما يمكنه من ذلك، ولأنه لا يريد للقارئ أن يتنبه إلى الجريمة التى يرتكبها، بل يريد أن تكون تلك الجريمة قد تمت قبل أن يعى بهذا الذى يعمله أحد! ثم بعيدا عن الجهل والنيات السيئة هل يستطيع لويس عوض أن يتتبع، تاريخيا (لا تخمينًا عشوائيًّا ولا ضربًا بالودع ولا خَطًّا فى الرمل)، المسار الذى سارته الكلمة اليونانية حتى أصبحت "دُرّة" و"ثريّا" و"سِدْرة" فى لغتنا؟ إن هذا لهو المستحيل ذاته، وإن حاول أن يوهم الأغرار من معجبيه أنه يستطيع ذلك لا بالنسبة لهاته الكلمات الثلاث وحدهن بل بالنسبة لكل مفردات اللغة، وبطرقعة بسيطة من إصبعه. فإذا أضفنا ما استبان لنا الآن من أنه جاهل ولا يعرف الألف من كوز الذرة فى القرآن وفى لغة القرآن، ثم إذا ما أضفنا إلى هذا وذاك ما نعرفه من أغراضه الخبيثة من وراء هذه السفسطات والخزعبلات والبهلوانيات والشقلباظات، ظهرت أمامنا حقيقة الأمر عارية مخجلة! ورغم ذلك كله فإن بعض الناس يسمونه: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"! صحيح: أساتذة وتلامذة آخر زمن!(1/17)
وأشنع من ذلك أن المستشرقين الذين ترجموا القرآن إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وهى اللغات الأجنبية التى تحتوى مكتبتى الخاصة على عدد من الترجمات القرآنية بها، لم يُقْدِموا على شىء مما أَقْدَم عليه لويس عوض بدم بارد واستبلاه بلغ الغاية: فمثلا فى ميدان الترجمات الفرنسية يقول كل من كازيمرسكى ومونتيه فى "كوكبٍ دُرِّىّ" فى الآية 35 من سورة "النور": "une étoile brillante"، كما يقول كل من بلاشير وشوراكى: "un astre étincelant"، أما من الترجمات الإنجليزية فقد اخترنا ترجمات جورج سيل ورودويل وبالمر وآربرى، التى جاءت على التوالى هكذا: "a shining star"، "a glistening star"، "a glittering star"، "a glittering star"، ثم نختم بما قاله بعض المترجمين الألمان: ففى ترجمة ماكس هننج تقابلنا "ein flimmernden Stern"، وعند لودفيج أولمان "ein leuchtender Stern"، أما رودى باريت فيترجمها هكذا: "ein funkelnder Stern". فهم جميعا، كما ترى، يترجمون كلمة "دُرِّىّ" على أنها صفة تعنى "شدة الضياء" (تشبيها للكوكب بالدُّرّ فى صفائه وبهائه حسبما سبق القول)، وليست جزءا من اسم عَلَمٍ خاصٍّ بكوكب معين. ونفس الشىء فى ترجمة "سِدْرَة المنتهَى" فى الآية 14 من سورة "النجم"، وها هى ذى بين يَدَىِ القارئ ترجمات المستشرقين السابقين بذات الترتيب: "le lotus de la limite"، "le lotus de la limite"، "le jujubier d'al-Montahâ"، "le lotus de la limite"، و"the lote-tree"، "the Sidra-tree which marks the boundry"، "the lote tree none may pass"، "the Lote-Tree of the Boundry"، و"der Lotosbaum"، "der Lotusbaum an dem nicht vorbeigeschritten werden darf, am Ende aller Ziele"، "der Zizyphusbaum am ?u?ersten Ende (des heiligen Bezirks?) ".(1/18)
بل لقد عاد بعضهم فى الهامش فكرر القول، خلال ما زاده من تفصيلات، بأنها شجرة لا نجم: إذ ذكر كازيمرسكى ومونتيه أنها شجرة تحدّد نهاية الجنة، كما أورد سيل ما قاله علماء التفسير فيها لم يعترض على شىء منه، وهو ما فعله أيضا رودويل، وإن كان قد أورد تفاصيل أكثر، وقال كل من ماكس هننج ولودفيج أولمان إنها شجرة فى السماء السابعة على يمين عرش الله. وحتى بلاشير الذى، بعد أن أثبتَ فى الهامش ما قاله علماء القرآن المسلمون فى تفسير هذه الكلمة، ثَنَّى بتعضيد ما ذكره كايتانى الإيطالى من أن المقصود شجرة على حدود مكة وليست شجرة سماوية، بلاشير هذا لم يفسرها على أنها نجم كما صنع عبقرى زمانه لويس عوض، بل استمر على القول بأنها شجرة من أشجار السدر: "عُنّاب" على وجه التحديد. وأخيرا فإن كلام لويس عوض ليس له من معنى إلا أن صاحب القرآن، أيا كان، لم يكن يعرف اللغة اللاتينية التى استعار منها عبارة "سدرة المنتهى" لأنها فى اللاتينية إنما تعنى النجوم الأخيرة، لكنه أخطأ فحسب أن "سيديرا" اللاتينية تعنى "شجرة السدر"، وإن كان قد خمّن معنى "الأخيرة" وترجمها ترجمة مقاربة فقال: "(الخاصة بـ)"المنتهى"، أما "سيديرا" فاستعصت عليه فظنها "السدرة" وقال: "سدرة المنتهى"، أى "السدرة الأخيرة" أو شيئا من هذا القبيل. مسكين، فهو لا يعرف اللاتينية كما ينبغى! فما هو المغزى من وراء هذا كله إذن؟ طبعا لا يمكن أن يكون فاعل هذا هو الله! ولكن إذا كان هو الرسول فكيف يا ترى جاءته تلك العبارة اللاتينية وحده دون العرب جميعا منذ أن كان هناك عرب ولسان عربى إلى أن كشف السر كله لويس عوض؟(1/19)
ليس ذلك فقط، بل إن كلمة "المعراج" عنده مأخوذة من اللفظ المصرى القديم: "'r"، الذى يعنى "الأغنام الصغيرة" ويعنى أيضا فى صيغته الكاملة: "العلو والارتفاع"، كما أن "المعراج" فى اللاتينية هو "Scala Coelum"، أى السُّلَّم، أو إذا أردنا المعنى الحرفى: "سقالة السماء" (ص 274). فانظر إلى شغل البهلوانات الذى على أصوله وتأمَّل، وقَهْقِهْ على هذا الخبص واللبص. فأولا: ما الحكمة فى أن يذكر "أستاذنا الدكتور لويس عوض" هنا فى هذا السياق الكريم، سياق المعراج المحمدى، معنى "الأغنام الصغيرة" لكلمة "'r" التى يقول إنها أصل كلمة "معراج"، بغض النظر عن مدى صحة هذا الكلام أصلا أو لا، إذ إنى لا أثق بـ"أستاذنا الدكتور لويس عوض" فى ميدان العلم، وبالذات علم اللغة العربية، ولا قدر أنملة! نحن نتكلم عن المعراج، والكلمة المصرية القديمة (حسبما تقول) تعنى "العلو والارتفاع"، فما دخل الأغنام الصغيرة هنا ما دام هذا ليس هو المعنى المطلوب؟ إنه ربط مقصود بين "المعراج المحمدى" (لأنه ليس ثمة معراج آخر فى لغة العرب ولا فى الإسلام دين الناس الذين يكتب لهم هذا الطراش) وبين الأغنام الصغيرة، وذلك بغية الإساءة إلى تلك المعجزة عن طريق الإيحاء. ثم "السقالة السماوية"، ما داعيها؟ لم يبق إلا أن تقول إنه كان هناك فواعلية يبنونها وهم يحملون على أكتافهم قصاع المونة ويغنون: "هيلا هوب هيلا"! ومرة أخرى إنه الربط بنيّة الإساءة إلى المعراج من خلال الإيحاء! ثم إننا نتكلم هنا عن معراج لا عن سقالات، اللهم إلا إذا كان علمه اللدنى قد قال له إنه صلى الله عليه وسلم قد صعد إلى السماوات العلا عند "النجوم الأخيرة: Ultima siedera" التى أفرزها خيالك السقيم على سقالة وسلالم!(1/20)
لكن أعود فأقول إننا ينبغى أن نحمد الله ونقبل أيدينا بطنا لظهر، وظهرا لبطن، أنه لم يأتنا الخبر بأن المونة كانت مغشوشة وأن المعراج انهد على رأس المقاول والفواعلية الصعايدة الغلابى (أليس يُبْنَى فى مصر حيث فساد عالم المعمار للرُّكَب؟) وأنه كان واقفا هناك يفرك يديه فى حبور شيطانى تصورا منه أن الرسول قد راح فيها! يا رجل، هذه الألاعيب لا تليق بدنيا العلم، وإن لاقت بدنيا السيرك والعروض المسرحية الشعبية! أية أغنام؟ وأية سقالات؟ يا رجل، هذا لا يصح! ويا ليتك بعد هذا كله جئت بلفظ يقترب من كلمة "المعراج" رغم كل هذا الخبص واللبص! بل كل ما حوته جعبتك هو "'r" التى يقولونها للماعز حين يريدون أن يبعدوها أو يسوقوها أمامهم. يا قراء يا كرام، أرجو أن تنظروا أنتم وتقولوا لى: أين الصلة بين الكلمتين حتى يكون هناك شىء من المعنى فى كل ذلك القىء الذى كُتِب علينا فى هذا الزمن الأغبر أن نقرأه؟ مرة أخرى بالله عليكم أيها القراء المحترمون ما وجه الصلة بين "إر" و"المعراج"؟ يا إلهى، أين نحن؟ أفى بحث علمى أم فى لعبة "الثلاث ورقات"؟ لكن لا، فنحن بكل تأكيد لسنا فى مولد وصاحبه غائب، فما الذى أتى بالحواة إلى هنا بألاعيبهم وكوتشيناتهم؟(1/21)
وفى نوبة أخرى من النوبات البهلوانية يجرجرنا الدكتور لويس وراءه جرجرة مرهقة يراد بها إفقادنا عقلنا والتعمية على وعينا حتى نسلم له بالبكش اللغوى الذى يظن أنه قادر على إبهارنا به، مع أنه عند المحققين لا يزيد على أن يكون لعب عيال مثل البمب والسواريخ (وقد كتبتها بالسين عن عمد كى أضعها فى موضعها العيالى الذى لا تسحق أفضل منه) وحبش الأطايلة الذى كنا نلعب به فى الريف ونحن أطفال، ولا أدرى هل ما زالوا ينتجونه حتى الآن أو لا، فى نوبة من هذه النوبات يمطرنا الدكتور لويس بكلام لا رأس له ولا ذنب عن اشتقاقات كلمات "تين" و"جميز" و"توت" وعلاقة بعضها ببعض، شامًّا على ظهر يده مَلِيًّا استجلابا للوحى اللدنى، وهو ما كان يمكن أن نغضى الطَّرْف عنه ونفوّته له كما فَوَّتْنا معظم ما خطَّه فى كتابه السطحى من هلاوس وتشنجات، إلا أنه (كعادته كلما سنحت له فرصة) لم يطق أن يسكت عما يجنّه ضميره تجاه القرآن فقال إن شجرة "سيكامينوس" فى اللاتينية (و"سوكامينوس" فى اليونانية)، ومعناها شجرة التوت، هى فى الغالب شجرة "الزقوم" فى الأدب الدينى. ولم يكتف بهذا على شناعته وبشاعته، بل أتحفنا بتحفة أخرى لا تقل شناعة عن هذه فقال إن اسم "التين الشوكى"، رغم أنه حرفيا وظاهريا مأخوذ من "شوك"، هو فى الواقع مشتق من الجذر "كاكتوس: Cactus"، ومعناه "الصبار"، فهو تعبير توتولوجى بمثابة قولنا: "تين التين" (ص 517- 518).(1/22)
فأما هذا "التوتولوجى" فقد بينا من قبل أنه هَلْسٌ فى هَلْسٍ، فلا حاجة بنا إلى العودة إليه، وأما أن "التين الشوكى" مأخوذ حرفيا وظاهريا كما يقول لويس عوض (وأزيد أنا فأقول: ومعنويا أيضا، إذ إن قشرته وأوراقه مملوءة بالشوك) من الجذر: "شوك"، رغم إصراره على أنه ليس مأخوذا فعلا من هذا الجذر بل من كلمة "كاكتس" التى تعنى الصبار ولا علاقة لها بالتين من قريب ولا من بعيد، فهو الخَرَف بعينه، نعوذ بالله من الخرف ومن أهل الخرف ومن كل شىء يمت بصلة للخرف ومن كل طريق يؤدى بنا إلى الخرف والخرفان على السواء: ذلك أن الصبار مر، والتين حلو، ومن ثم كان الصبار لا يؤكل، بينما التين يؤكل. ثم ما حكاية "تين التين" هذه؟ أترى التين الآخر الذى نسميه فى مصر بـ"التين البرشومى" ليس "تين التين" بل "تين الزيتون" مثلا؟ أم تراه "تينا" فقط دون التكرار الذى يعلّم الشطّار، على حين أن التين الشوكى "تينان اثنان"؟ بالله ما هذا السخف؟ وما هذا التنطع؟ وماذا يقول لويس عوض فى أن أهل الخليج يطلقون على "التين الشوكى": "التين البرشومى"، ويسمون "التين البرشومى" أو شيئا قريبا منه: "الحماط"؟ هيا أرنا شطارتك يا دكتور لويس! ومثل ذلك قوله إن "دودة القز" و"سوق عكاظ" معناهما فى الأصل: "دودة الدودة" و"سوق السوق" (218) على التوالى. "يا صلاة النبى" على رأى إسماعيل يس!(1/23)
ثم نأتى لـ"شجرة الزَّقُّوم" التى يرجح سيادته أنها هى التين قائلا إنها وردت فى الأدب الدينى. وهو هنا يهدف إلى عدة أشياء: الأول إشاعة الاضطراب فى النص القرآنى وفى فهمه وتفسيره على السواء. ذلك أن القرآن المجيد قد صرح عقب ذلك بأنها "شجرة تخرج فى أصل الجحيم* طَلْعُها كأنه رؤوس الشياطين"، فكيف تكون تينا بالله عليكم أيها القراء؟ هل التين ينبت فى أصل الجحيم؟ وهل طلعه يشبه رؤوس الشياطين؟ أَمَا إن البعداء ليس عندهم دم ولا عقل. ثم كيف يكون الجحيم جحيما إذا كان فيه توت؟ الواقع أنه لو كان كلام لويس عوض صحيحا لهتفت من أعماق قلبى أَنْ خذونى من هنا إلى الجحيم خبط لزق. ذلك أنه فى هذه الحالة لن يكون جحيما بل جنة فواكه! لكن أيها القراء الكرام، هل تظنون أن كلمةً ككلمة"الزَّقُّوم" التى تقطع الخميرة من البيت بوجهها الكالح البغيض وجَرْسها الغليظ يمكن أن يكون معناها "التوت"، تلك الفاكهة الرقيقة الأنيقة الحلوة؟ والله لو لم يكن للويس عوض إلا هذه السقطة لكفته عارا إلى الأبد! لكن ماذا نفعل وعندنا من يسميه: "أستاذنا الدكتور لويس عوض"؟(1/24)
وثانيا متى كان القرآن الكريم يسمَّى: "أدبا دينيا"، وعلى هذا النحو الوقح من التجهيل؟ القرآن الكريم، يا سيد يا محترم يا من أخبرنى أحد من يعرفونك أنك لم تكن تستطيع أن تكتم حقدك الشديد كلما سمعت كتاب الله يتلى فى إذاعة القرآن الكريم وتدعو إلى إغلاقها: يا سيد يا محترم، القرآن الكريم وحى سماوى نزل على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وليس مجرد "أدب دينى"، وتسميته "أدبا دينيا" هو قلة أدب دينى ودنيوى معا! صحيح أن لويس عوض لم يكن يؤمن بالقرآن بوصفه وحيا سماويا، فليكن، وهذا حقه، لكنه كان يستطيع أن يقول: "القرآن" حتى دون أن يصفه بـ" الكريم" بدلا من حكاية "الأدب الدينى"، التى تعنى أن "شجرة الزقوم" موجودة فى العهد القديم وفى العهد الجديد وفى غيرهما من الآداب الدينية التى خطّتها يد البشر. فهل "شجرة الزَّقُّوم" موجودة فى تلك الآداب الدينية؟ بطبيعة الحال كلا وألف كلا! إننى أقلب الأمر على جميع وجوهه لأبين للقارئ ماذا يتغيّا السيد المحترم الدكتور لويس عوض. إن السيد المحترم يتغيا من وراء هذا أن يضرب القارئ المسلم فى صميم عقيدته دون أن يتنبه هذا القارئ للضربة عند وقوعها، ثم إذا ما تنبه يفاجأ بأن القرآن لم يعد قرآنا، بل تحول إلى "أدب دينى"، فهى ضربة معقدة إذن. ثم ماذا يعنى أن "الزقوم" هو التوت وأنه مأخوذ من الكلمة التى لا أدرى إلى أية لغة أوربية تنتمى بعد أن أنبأنا الدكتور لويس أن القرآن هو مجرد"أدب دينى"؟ الذى يعنيه هذا هو أن صاحب القرآن قد أخذ هذه الكلمة من تلك اللغة الأجنبية، إذ لم يكن العرب يعرفونها قبل أن يأتى بها القرآن، ومن ثم لا يمكن توجيه تهمة أخذها إليهم، بل إلى القرآن والذى ألفه! أرأيتم مدى الالتواء فى الكيد والخبث والإساءة؟(1/25)
وكل هذا فى جهل بالعلم وبمنهج العلم! وهو أمر طبيعى تماما، فالبكاشون يكرهون العلم ويحاذرون الاقتراب منه كما يحاذر القاتل واللص الاقتراب من قسم الشرطة ورجال الشرطة! ولنفترض بعد هذا كله أننا قلنا مع كل بكاش نتاش إن الجذر واحد بالنسبة للكلمة العربية والكلمة الأجنبية، فلماذا بالله عليكم أيها القراء ينبغى أن تكون الكلمة القرآنية هى المأخوذة من اللغة الأجنبية وليس العكس؟ أترى العرب كانوا متخلفين لا يستطيعون أن ينتجوا التوت فكانوا يستوردونه من أوربا البلد واستوردوا معه اسمه؟ وهل زَرْع التوت يحتاج إلى علم وتقنية خاصة لم يكن يقدر عليها العرب والقرآن؟ فهذه هى عبقرية "أستاذنا الدكتور لويس عوض" كما سماه أحد تلاميذه العباقرة مثله! ومن شابه أستاذه فى هذا النوع من العبقرية فقد ظلم!(1/26)
وفى علم الكلام أيضا لا يتورع "أستاذنا الدكتور لويس عوض" عن عبثه المعتاد، إذ يزعم مثلا أن الشهرستانى بقول بتأثر المعتزلة بالفلاسفة وبالنساطرة النصارى واليهود (ص90- 91). فأما بالنسبة للجزء الأول من دعواه فقد قال ذلك العالم عن كبار المعتزلة إنهم قرأوا أقوال الفلاسفة وخلطوها بكلامهم. لكنه لم يقل، عند كلامه عن واصل بن عطاء والنظّام والجاحظ، إنهم تأثروا بفكر النساطرة وبمفكرى النصرانية أمثال يحيى الدمشقى وتيودور أبى قرة كما زعم لويس عوض. كل ما وجدته هو قول العالم المسلم عند كلامه عن فرقة النسطورية النصرانية إنهم "أصحاب نسطور الحكيم الذى ظهر فى زمان المأمون وتصرف فى الأناجيل بحكم رأيه، وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة" (الملل والنحل/ تحقيق محمد سيد كيلانى/ مكتبة مصطفى البابى الحلبى/ 1396هـ- 1976م/ 1/ 224). ثم قال بعد عدة أسطر: "وأشبه المذاهب بمذهب نسطور فى الأقانيم أحوال أبى هاشم من المعتزلة، فإنه يثبت خواصَّ مختلفةً لشىء واحد". ثم بعد عدة فقرات نقرأ هذه العبارة: "ومن النسطورية من ينفى التشبيه ويثبت القول بالقدر خيره وشره من العبد كما قالت القَدَريّة (أى المعتزلة)" (1/ 225). فهذا ما قاله ذلك العالم، وكما نرى معا فليس فيما قال أى شىء عن تأثر المعتزلة بالنساطرة، بل كل ما هنالك قوله إن هناك شبها بين بعض آرائهم وبعض آراء المعتزلة، الذين لم يذكر منهم إلا أبا هاشم، ولم يتعرض لواصل ولا النظّام ولا الجاحظ من قريب أو بعيد.(1/27)
وبالمناسبة فواصل بن عطاء قد توفى سنة 131هـ، أى قبل عصر المأمون الذى يقول الشهرستانى إن نسطور إنما ظهر أثناءه، بعشرات الأعوام، فكيف يقال إنه تأثر بنسطور هذا؟ وذلك إن سلمنا بما قاله الشهرستانى عن العصر الذى ظهرت فيه عقيدة نسطور، أما إذا علمنا أن نسطور، وكان بطرقا للقسطنطينية، إنما عاش قبل الإسلام بزمن طويل (إذ وُلِد فى 386م، ومات فى 451م) تبين لنا أن النص الذى يستند إليه الدكتور لويس لا قيمة له من هذه الناحية لأن صاحبه، حسبما هو بيّن، يتكلم عن مسألة غير واضحة فى ذهنه. وهذا ما قصده ابن الأثير حين قال فى كتابه: "الكامل فى التاريخ": "ومن العجائب أن الشهرستاني مصنّفَ كتاب "نهاية الاقدام في الأصول"، ومصنّفَ كتاب "الملل والنحل" في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنّ نسطور كان أيّام المأمون، وهذا تفرَّد به، ولا أعلم له في ذلك موافقا". وعلى أى حال فكما رأينا لم يقل الشهرستانى إن المعتزلة قد تأثروا بنسطورس أو غير نسطورس من النصارى، بل كل ما هنالك أنه رأى شبها بين بعض آرائهم وبعض آراء هؤلاء، وجعل الأساس فى هذا الشبه غالبًا هم المعتزلة لا العكس، ولهذا دلالته التى لا تخفى من أنه لا يمكن أن يكون مقصده القول بأن المعتزلة تأثرت بالنساطرة أو سواهم.(1/28)
وأما دعوى لويس عوض بأن الشهرستانى يقرر تأثر المعتزلة باليهود فقد استند فيه إلى قول ذلك العالم الجليل عن اليهود وموقفهم من عقيدة القضاء والقدر: "وأما القول بالقَدَر فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين فى الإسلام: فالربّانيون كالمعتزلة فينا، والقرّاؤون كالمجبِّرة والمشبِّهة" ( 1/ 212). فأين، بالله عليك أيها القارئ المحترم، فى هذا النص ما يُفْهَم منه، ولو على سبيل التمحّل البعيد، أن المعتزلة قد تأثروا باليهود؟ إن كل ما قاله الرجل هو أن هناك شبها بين فكر اليهود فى عقيدة القدر وفكر المعتزلة فى ذات القضية. كما أنه إنما يشبّه اليهود هنا بالمعتزلة لا العكس. وهذا، كما هو واضح حتى لمن لا يبصر، شىء، والزعم بما زعمه لويس عوض عن الشهرستانى شىء آخر. وتفسير ذلك فى رأيى أحد أمرين: فإما أنه لم يفهم ما قرأ، وهذا أمر عادى عنده كما رأينا وكما سنرى، وإما أنه فهم ما قرأ، لكنه يريد أن يجعل الفرقة العقلانية فى الإسلام مجرد تابعة فى أفكارها لليهود والنصارى. والواقع، حسبما أتصور، هو أنه لا يدقق فى القراءة والفهم بوجه عام، ومع هذا فإنه ما إن وقع على شىء ظن أنه يمكن توظيفه فى الإساءة إلى المسلمين حتى سارع إلى الابتهاج به والطنطنة بما فهمه منه دون أن يتريث قليلا ليتبين مدى صحة فهمه لما قرأ.
*****(1/29)
وإلى جانب قلة البضاعة العلمية فى الكتاب الحالى هناك عيب التدليس. ومما دلس به "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على القراء بالكذب والباطل قوله إن لفظ "الصمد" يدل على التثليث! يا خبر أسود ومطيّن! هكذا مرة واحدة؟ ألم يجد إلا "الصمد"؟ بلى لم يجد، أو بالأحرى، لم ينتق إلا "الصمد" عن وعىٍ وسبقِ تخطيطٍ وحقدٍ على القرآن الكريم، الذى فضح التثليث وكفّر القائلين به ووسمه ووصمه بأنه شرك صراح لا مثنوية فى ذلك! ولكن كيف توصل بسلامته إلى ذلك الخرف؟ لقد زعم كاذبا (ص 304) أن كلمة "الصمد" مأخوذة من "خمتو" المصرية القديمة التى تعنى الرقم 3، وهذا إن صدقنا هذا الذى يقول لأنى، كما أكرر دائما، لا أثق بهذا النوع من الكتاب أبدا، ولو كان كُتِب علىّ يوما أن أصافحه لسحبت يدى من يده بسرعة ولعددت أصابعها حتى أتحقق أنها كاملة وسليمة لم تُمَسّ. ترى ما العلاقة بين "الصمد" و"خمت"؟ وهل يمكن لويس عوض أو أى لويس غير عوض أو أى عوض غير لويس أو أى إنسان بأى اسم غير لويس وعوض جميعا أن يثبت لنا أن "الصمد" هى "خمت" المصرية القديمة؟ بل هل هناك أى سبب يدعو إلى القول بهذا الهلواس؟ لا المعنى هو المعنى، ولا الحروف هى الحروف، ولا التشكيل هو التشكيل.(1/30)
ثم لماذا كان على العرب أن يغيروا فى نطق حروف كلمة "خمت"؟ هل ثَمَّ شىء فيها لا وجود له فى لسانهم، قَصَّ الله لسان كل كاذب فشّار؟ لا، بل كل حرف فيها موجود فى لغة العرب، والحمد لله! الخاء موجودة، والميم موجودة، والتاء موجودة، فلماذا إذن حين انتقلت تلك الكلمة إلى اللغة العربية كان عليها أن تتغير إلى "صمد"؟ ولماذا "الصمد" بالذات رغم أنه لا يربطها شىء بكلمة "خمت" كما قدمنا"؟ نعم لماذا الصمد بالذات، وليس "خمط" مثلا أو "خمد"؟ ولا يقل أحد إن هاتين الكلمتين لا تعنيان الرقم ثلاثة، فإن "الصمد" أيضا لا تعنى هذا المعنى، ومع ذلك فقد زعم لويس عوض بشأنها ما زعم! أما هاتان الكلمتان فعلى الأقل تشبهان كلمة "خمت"، على العكس من "الصمد" التى لا تشبهها من قريب أو بعيد! واضح من كل ما تقدم أن لويس عوض قد قصد قصدا كلمة "الصمد" ليصوب لها سهمه، تلك الكلمة التى لم ترد إلا مرة واحدة فى القرآن، وفى سورة اقتصرت على إقرار مبدإ التوحيد ونفى التثليث حتى لقد أصبحت هذه الكلمة اسما للسورة وعلامة على الوحدانية وإنكار التثليث واستنكاره على أهله، ولكن طلع نقب "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على شونة، فالعلم دائما للجهل بالمرصاد!(1/31)
كذلك لماذا هذا الرقم بالذات يا ترى دون سائر الأرقام من أولها إلى آخرها؟ أعلى رأسه ريشة؟ لكن هأنذا أستدعيه وأوقفه أمامى و"أُتْئِر فيه النظر" (كما كان يقول المازنى أو شيئا قريبا من ذلك) لأرى هل ثَمَّ وجود لهذه الريشة أَوْ لا، بل لقد مددت يدى وتحسست رأسه طويلا لعلى فاتنى أن أرى تلك الريشة اللعينة بعينى فألمسها بيدى وأتحقق من وجودها، لكن كانت النتيجة "سلبية" حسب المصطلحات التى تستخدمها تقارير معامل الأشعة وتحليل البول والبَرَاز. هل يمكن أن نصدق أن العرب لم يكونوا يعرفون هذا الرقم وظلوا يقفزون فوقه كلما عن لهم أن يعدوا شيئا قائلين: واحد، اثنان (ثم يقفون قليلا حائرين بائرين لا يُحِيرون كلمة إلى أن تضيق صدروهم بذلك التوقف الطويل الذى لا ثمرة ترجى من ورائه فيضطروا إلى الاستمرار مضيفين وأمرهم إلى الله:) أربعة، خمسة... حتى وجدوه فى المصرية القديمة فأعجبهم شكله وحسن هندامه وأدبه الذى ينبئ أنه ابن ناس ومتربٍّ واطمأنوا أنه لن يسبب لهم أى إزعاج فأخذوه ووضعوه مع زملائه بعدأن أَوْصَوْهم به حتى يأخذ عليهم ويأخذوا عليه؟ لكن هل هذا ممكن؟ أجل أيمكن أن تكون هناك أرقام ناقصة رقما، وبالذات من أرقام الآحاد التى هى أصل كل الأرقام؟(1/32)
أما قوله إن معظم الأرقام متقاربة بين العربية والمصرية القديمة، ويدلل على ذلك بأن "وع" تقابل الرقم واحد، وسنو تقابل الرقم اثنان، وسفح تقابل الرقم سبعة، فهو كما يرى القارئ كلام لا يدخل عقلا ولا يرضى أى ضمير علمى. هل كان العرب عاجزين عن نطق أى حرف من حروف الأرقام المصرية القديمة حتى يحوروها كل هذا التحوير؟ الإجابة هنا، كهناك، هى النفى التام! ثم لماذا هجر العرب الرقم "صمد" الذى يقابل رقم "خمت" هذا وقالوا: ثلاثة؟ ومتى تم هذا الهجران يا ترى؟ ولماذا؟ وهل يستطيع هو أو غيره أن يمدنا بنص عربى يرد فيه لفظ "صمد" بمعنى "ثلاثة"؟ أم هل هناك فى أى معجم عربى أنها تدل، فيما تدل عليه، على الرقم ثلاثة؟ وإذا كانوا قد استعملوه ثم هجروه لأى سبب من الأسباب (ولا داعى للتفتيق فى الأمر، فالله حليم ستار، وقد أمرنا بالستر)، فلماذا ظلوا محتفظين به، ولما أرادوا أن يفعّلوه (على كراهيتى لتلك الكلمة) لم يجدوا مجالا يستعملونه فيه إلا أسماء الله الحسنى؟(1/33)
وإذا كان النصارى المصريون القائلون بأنهم، دون نظرائهم من المسلمين، هم وحدهم سلالة المصريين القدماء (الذين كان لديهم هم أيضا ثالوث كما لدى النصارى) لم يأخذوا هذه الكلمة ليستعملوها فى الدلالة على العقيدة المحورية فى ديانتهم، عقيدة التثليث، فكيف يمكن أن نتصور أخذ العرب الجاهليين لها، وهم لم يكونوا يعرفون التثليث يوما؟ ثم كيف، فوق ذلك، لم يجد القرآن لوصف "الله" إلا هذه الكلمة التى تتناقض مع عقيدة الوحدانية فيه، تلك العقيدة التى يدور حولها الإسلام من أوله إلى آخره، ويختلف بسببها مع النصرانية الحالية اختلافا جذريا حتى لقد سفهها وسفه من يعتنقونها ويشركون مع الله عيسى والروح القدس جاعلين الوحدانية ثالوثا؟ بل كيف، بعد ذلك كله، لم يجد العرب الأوائل إلا المصريين القدماء كى يأخذوا منهم هذا الرقم؟ ألم يكونوا يعرفون أن لويس عوض سوف يأتى فى آخر الزمان ويفتح لهم هذا الملف ويشوشر على الدين الذى سيأتى به واحد من أبنائهم فيما بعد؟(1/34)
على أية حال تعالَوْا نقرأ معا مادة "صمد" فى بعض المعاجم. يقول "القاموس المحيط": "الصَّمْدُ: القَصْدُ والضَّرْبُ والنَّصَبُ، وماءٌ للضِّباب، والمكانُ المُرْتَفِعُ الغَلِيظُ، وتأثيرُ لَفْحِ الشمسِ في الوَجْهِ. وبالتحريك: السَّيِّدُ لأَنَّهُ يُقْصَدُ، والدائمُ والرفيعُ، ومُصْمَتٌ لا جَوفَ له، والرجلُ لا يَعْطَشُ ولا يَجوعُ في الحَرْبِ، والقومُ لا حِرْفَةَ لهم ولا شيءَ يَعيشونَ به. وككتابٍ: سِدادُ القارورَةِ أو عِفاصُها، وقد "صَمَدَها" كـ"مَنَع"، والجِلادُ والضِّرابُ وما يلُفُّهُ الإِنْسانُ على رأسِه من خِرْقَةٍ أو مِنْديلٍ دون العِمامَةِ. والصَّمْدَةُ: صَخْرَةٌ رأسِيةٌ في الأرْضِ مُسْتويةٌ بها أو مُرْتَفِعةٌ، والناقةُ المُتَعَيِّطَةُ التي لم تَلْقَحْ. والمُصَوْمِدُ: الغليظُ. والمُصَمَّدُ، كـ"مُعَظَّم": المقصودُ، والشيءُ الصُّلْبُ ما فيه خَوَرٌ. وناقةٌ مِصْمادٌ: باقِيةٌ على القُرِّ والجَدْبِ دائمةُ الرِّسْلِ. ج "مَصامِدُ ومَصاميد"...". وفى معجم "المحيط": "الصَّمَدُ: من أسماء اللهِ الحسنى: "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ". -: المقصود لقضاء الحاجات: "توجهنا إلى هذا الصَمَد لحلّ مشكلتنا". -: المُصْمَتُ الذي لا جوف له". وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى النصرانى: "الصّمَد من صفاته تعالى وتقدّس لأَنه أُصْمِدَتْ إِليه الأُمور فلم يَقْضِ فيها غيره. وقيل: هو المُصْمَتُ الذي لا جَوْفَ له، وهذا لا يجوز على الله عز وجل. والمُصْمَدُ: لغةٌ في المُصْمَت، وهو الذي لا جَوف له. وقيل: الصَّمَد: الذي لا يَطْعَم. وقيل: الصمد: السيِّد الذي ينتهي إِليه السُّؤدَد. وقيل: الصمد: السيد الذي قد انتهى سُودَدُه. قال الأَزهري: أَما الله تعالى فلا نهاية لسُودَدِه لأَن سُودَدَه غير مَحْدود. وقيل: الصمد: الدائم الباقي بعد فناء خَلقه.(1/35)
وقيل: هو الذي يُصمَد إليه الأَمر فلا يُقْضَى دونه، وهو من الرجال الذي ليس فوقه أَحد. وقيل: الصمد: الذي صَمَد إِليه كل شيء، أَي الذي خَلق الأَشياءَ كلها لا يَسْتَغْني عنه شيء، وكلها دالّ على وحدانيته. ورُوِيَ عن عمر أَنه قال: أَيها الناس، إِياكم وتَعَلُّمَ الأَنساب والطَّعْن فيها. فوَالذي نفسُ محمد بيده لو قلت: لا يخرج من هذا الباب إِلا صَمَدٌ ما خرج إِلا أَقَلُّكم. وقيل: الصَّمَد: هو الذي انتهى في سُؤْدَده والذي يُقْصَد في الحوائج. وقال أَبو عمرو: الصمد من الرجال: الذي لا يَعْطَشُ ولا يَجوع في الحرب. وأَنشد :
وسَاريةٍ فَوْقَها أَسْوَدُ* بِكَفِّ سَبَنْتَى ذَفيفٍ صَمَدْ
قال: السارية: الجبل المُرْتَفِعُ الذاهبُ في السماء كأَنه عمود. والأَسْوَد: العَلَم بِكَفِّ رجل جَرِيء. والصَّمَد: الرَّفَيعُ من كل شيء" .(1/36)
فهذه نصوص مأخوذة من ثلاثة معاجم عربية (مادة "صمد")، وكما يلاحظ القارئ ليس فيها أى شىء يتعلق بالرقم ثلاثة من قريب أو من بعيد. وكان لويس عوض قد أورد فى مذكرة رفعها للقضاء أثناء نظر قضية كتابه هذا نُسَخًا لما جاء فى ذات المادة فى عدد من أشهر معاجم اللغة قديما، وليس فى أى نص منها ما يشير إلى علاقتها بالأرقام، بله الرقم ثلاثة بالذات. لكنه أخذ يسفسط ويجادل قائلا إن كلمة "صمد" ملغزة غير واضحة المعنى لتعدد دلالاتها، ولأن بعض معانيها لا يليق بالله، غافلا (أو قل: متغافلا) عن أن معظم كلمات اللغة تدل على عدة معان، وأن الصلة بين هذه المعانى قد تكون خافية فى بعض الأحيان بحيث يصعب أو يستحيل التوصل لها نظرا لما يكون قد اعترى اللغة من تطور فى الاستعمال والدلالة، وأن الكلمة التى تستعمل فى الكلام عن الله والبشر جميعا لا بد أن يراعى فى استعمالها هذا الاعتبار، كلفظ "العِلْم": فهو بالنسبة للبشر محدود ومكسوب وموهوب ومؤقت وعرضة للخطإ والنقص والزيادة ولا يشمل كل شىء، أما بالنسبة لله فهو ذاتى لم يُوهَبْه سبحانه أو يَكْسِبْه، بل هو صفة ملازمة له أزلا وأبدا، فضلا عن أنه مطلق لا تحده حدود ولا يعتريه نقص ولا زيادة ولا خطأ مثل سائر صفات الله سبحانه. وقس على ذلك صفة الرفعة والمجد والرحمة والقدرة والإرادة. بل إن هناك صفات إذا وُصِف بها البشر كانت مَذَمّة، لكن إذا وصف بها الله انتفت عنها صفة الذم. مثال ذلك المكر والنسيان، ففى القرآن: "ومَكَروا ومَكَر الله، والله خير الماكرين" (آل عمران/ 49)، و"نَسُوا الله فنَسِيَهم. إن المنافقين هم الفاسقون" (التوبة/ 67)، وهو ما يأتى عادة فى سياق المشاكلة، أى استخدام صفة لله لا يوصف بها عادة، كى تكون هناك مشاكلة مع نفس الصفة التى وُصِف بها البشر فى ذات الجملة.(1/37)
وعلى هذا فلا معنى لاحتجاج "أستاذنا الدكتور لويس عوض" بأن الفعل "صمد" معناه "قصد"، ومن ثم لا يصلح لاستعماله مع الله، أو أن "الصمد" هو "السيد الذى تنتهى إليه السيادة"، ومن هنا لا يصلح لاستعماله لله... إلخ. ذلك أنه إذا استُعْمِل اللفظ لله كان لا بد من مراعاة معنى الألوهية فيه كما سبق القول ولا يظل اللفظ على محدوديته. وعلى هذا فـ"الصمد" إذا وُصِف به الله كان معناه أنه سبحانه هو مقصود كل الخلائق، وَعَوْا هذا أم لم يَعُوه، وأقرّوا به أم لم يُقِرّوا، إذ إن حياتهم وبقاءهم وإشباع حاجاتهم لا يتم إلا من خلال عطائه وكرمه، وأنه عز وجل هو صاحب السيادة والسلطان والرفعة والمجد التى تُسْتَمَدّ منهما كل سيادة وكل سلطان وكل رفعة وكل مجد، وإليه وحده تعالى ينتهى كل شىء.(1/38)
وفوق ما مرّ فإن السياق الذى وردت فيه الكلمة يحدد المعنى إلى حد كبير. فهل فى سياق سورة "التوحيد"، وهو السياق الأصغر للكلمة، أو فى سياق القرآن كله، وهو السياق الأكبر، ما يمكن أن يشير إلى أن هذه الكلمة تعنى "ثلاثة"؟ وهل فيها ما يستطيع الاستنادَ إليه أى إنسان فى الزعم بأنها تعنى "بناء التوحيد على قبول نظرية "الانبثاق" (Transubstantiation) ورفض مساواة المسيح لله فى الجوهر (Consubstantiation) فى أهم مدرستين للاهوت المسيحى نبعتا من الفكر البيزنطى" كما يقول سيدنا لويس بن عوض؟ كذلك يفسر لويس عوض "الانبثاق" بأنه لا يخرج عن قوله سبحانه فى القرآن الكريم: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشرا سويا" (مريم/ 17)، وقوله عز من قائل: "ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" (التحريم/ 12)، وقوله تعالى: "إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فآمِنوا بالله ورسله، ولا تقولوا: ثلاثة. انتهُوا خيرا لكم. إنما الله إله واحد، سبحانه" (النساء/ 171). لكن بالله عليكم أيها القراء كيف يمكن لكلمة تعنى "ثلاثة" أن تدل على "واحد"؟ وهلا أرانا المؤلف المحترم كيف تطور معنى الكلمة بحيث أضحى يدل على الواحد بدل الثلاثة؟ واضح أن ذلك العبقرى كان يظن أنه سيكون بمنجاة من التبعات حين يحتقر عقولنا نحن القراء. ولكى يتبين القراء أن لويس عوض لم يكن بريئا فى جهله نعيد تذكير القراء الكرام بأن بعض المواقع النصرانية التى تهاجم الإسلام قد نشرت كتابه نكاية فى المسلمين، وأن القمص المنكوح ذا الدبر المقروح زيكو الشرشوح يملأ الدنيا ضجيجا بالتفعيص فيما فعّص فيه لويس عوض.(1/39)
لكن، بغض النظر عن كل هذا الهلس، أتعرف أيها القارئ الكريم ما معنى هذا الـ"Transubstantiation"؟ أرجو أن تستعد لهذه المفاجأة المذهلة، إذ إن معنى الكلمة هو أن الخبز والخمر اللذين يطعمهما النصرانى من يد القسيس فى سر التناول يتحولان فيصبحان جسد المسيح وروحه وألوهيته رغم بقاء الخبز والخمر على حالهما المادى فى رأْى العين ولَمْس اليد وتذوُّق اللسان. ولا أدرى كيف لم يتنبه لهذا الجهل، بل العمى الحيسى، الأستاذ نسيم مجلى مؤلف كتاب "لويس عوض ومعاركه الأدبية"، الذى اعتمدتُ عليه فى مطالعة ما كتبه لويس عوض من تقرير يدافع به عن نفسه على طريقة "جاء يكحّلها فأعماها" (الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1995م/ 571- 572) رغم أن الأستاذ مجلى هو أيضا، فيما أعرف، خريج قسم اللغة الإنجليزية. ولكن إذا كان العبقرى لويس عوض يعكّ كل هذا العَكّ، فهل من المناسب أن ننتظر من الحوارىّ شيئا أفضل؟ وهذه، على كل حال، بعض نصوص من كتب القوم تبرهن على جهل "أستاذنا الدكتور لويس عوض" أو استبلاهه وحربائيته، وكلا الأمرين أضرط من أخيه. تقول الموسوعة المشباكية المسماة: "الويكيبيديا: Wikipaedia" تحت هذا العنوان:
"Transubstantiation (in Latin, transsubstantiatio) is the change of the substance of bread and wine into that of the body and blood of Christ that, according to the belief of the Roman Catholic Church and other Christians, occurs in the Eucharist and that is called in Greek ???????????".
كما ورد كلام كثير فى "الموسوعة الكاثوليكية: Catholic Encyclopedia " عن هذا المصطلح تحت العنوان التالى، وهو عنوان يدل بذاته على ما نريد قوله، ولا يخرج قيد أنملة عما ورد فى "الويكيبيديا": "The Real Presence of Christ in the Eucharist". وفى "Skeptic Dictionary" لصاحبهRobert Todd Carroll نقرأ فى مادة "transubstantiation":(1/40)
"Transubstantiation is the alleged process whereby the bread and wine offered up at the communion service have their substances changed to that of the body, blood, soul, and divinity of Jesus Christ while their accidents remain that of bread and wine. What looks like, tastes like, etc., bread and wine is actually another substance altogether. How this happens is a mystery and defies logic. How it can happen would require a mmiracle.
In Catholicism, transubstantiation is also known as the doctrine of the real presence, though other Christian traditions mean something different by real presence."
وفى كتاب " Understanding Roman Catholicism" الصادر سنة 1995م والمنشور فى موقع "www.chick.com"، وتحت ذات العنوان يكتب مؤلفهRick Jones ما نصه:
"During the mass, priests allegedly have the power to supernaturally turn the bread and wine into the actual and literal body and blood of Jesus Christ:
The Council of Trent summarizes the Catholic faith by declaring: "Because Christ our Redeemer said that it was truly his body that he was offering under the species of bread, it has always been the conviction of the Church of God, and this holy Council now declares again, that by the consecration of the bread and wine there takes place a change of the whole substance of the bread into the substance of the body of Christ our Lord and of the whole substance of the wine into the substance of his blood. This change the holy Catholic Church has fittingly and properly called transubstantiation".(1/41)
ثم يضيف المؤلف قائلا إن الكاثوليكية تعلّم أتباعها كيف يشتركون فى أكل لحوم البشر بالمعنى الحرفى: "Catholicism is teaching members to partake in literal cannibalism"، وإن كان ينبغى تغيير العبارة فى كلمة واحدة بحيث تصبح: "أكل لحم الإله" بدلا من "أكل لحوم البشر" فتكون على هذا النحو أدق وأوفى بالمراد. وهذا ما قاله أيضا، ولكن بتفصيل شديد، الفيلسوف الفرنسى فولتير، الذى فتحتُ قاموسه الفلسفى على تلك المادة، فإذا به يمطر من يؤمنون بهذا الهراء من سخرياته وتهكماته ما هو كفيل بشى جلودهم وأكبادهم وإنضاجها من الغيظ والغم، قائلا إن البروتستانت يعدون هذا الاعتقاد أكبر برهان على وقاحة الرهبان التى ما بعدها وقاحة، وعلى البلاهة الشديدة التى يتسم بها رعاياهم، ويصفونه بالتوحش مؤكدين أنه لا يمكن أى إنسان عنده شىء من الفهم أن يعتقد فى هذا الاعتقاد الذى يصل فى السخف والتناقض ومخالفة القوانين الطبيعية إلى الحد الذى يصبح فيه نوعا من إفناء الله... إلى آخر ما قال، وهذا نصه أولا بالفرنسية، ثم بالإنجليزية بعد ذلك:(1/42)
1-"Les protestants, et surtout les philosophes protestants, regardent la transsubstantiation comme le dernier terme de l’impudence des moines, et de l’imbécillité des laïques. Ils ne gardent aucune mesure sur cette croyance qu’ils appellent monstrueuse; ils ne pensent pas même qu’il y ait un seul homme de bon sens qui, après avoir réfléchi, ait pu l’embrasser sérieusement. Elle est, disent-ils, si absurde, si contraire à toutes les lois de la physique, si contradictoire, que Dieu même ne pourrait pas faire cette opération, parce que c’est en effet anéantir Dieu que de supposer qu’il fait les contradictories. Non seulement un dieu dans un pain, mais un dieu à la place du pain; cent mille miettes de pain devenues en un instant autant de dieux, cette foule innombrable de dieux ne faisant qu’un seul dieu; de la blancheur sans un corps blanc; de la rondeur sans un corps rond; du vin changé en sang, et qui a le goût du vin; du pain qui est changé en chair et en fibres, et qui a le goût du pain: tout cela inspire tant d’horreur et de mépris aux ennemis de la religion catholique, apostolique et romaine, que cet excès d’horreur et de mépris s’est quelquefois changé en fureur."(1/43)
2-"Protestants, and above all, philosophical Protestants, regard transubstantiation as the most signal proof of extreme impudence in monks, and of imbecility in laymen. They hold no terms with this belief, which they call monstrous, and assert that it is impossible for a man of good sense ever to have believed in it. It is, say they, so absurd, so contrary to every physical law, and so contradictory, it would be a sort of annihilation of God, to suppose Him capable of such inconsistency. Not only a god in a wafer, but a god in the place of a wafer; a thousand crumbs of bread become in an instant so many gods, which an innumerable crowd of gods make only one god. Whiteness without a white substance; roundness without rotundity of body; wine changed into blood, retaining the taste of wine; bread changed into flesh and into fibres, still preserving the taste of bread—all this inspires such a degree of horror and contempt in the enemies of the Catholic, apostolic, and Roman religion, that it sometimes insensibly verges into rage ."
وفى مقال بنفس العنوان فى "Wikinfo" يقرر الكاتب أن:
" La transsubstantiation est, littéralement, la transformation d'une substance en une autre. Le terme désigne, pour les chrétiens catholiques, la transformation du pain et du vin en chair et sang du Christ lors de l'Eucharistie.(1/44)
Sur le plan religieux, les chrétiens catholiques latins, arméniens et maronites emploient le terme de « transsubstantiation » pour expliquer que, dans l'Eucharistie, le pain et le vin, par la consécration de la messe, sont « réellement » transformés ou convertis en corps et sang du Christ, tout en conservant leurs caractéristiques physiques ou espèces (texture, goût, odeur : les apparences) initiales."
ومما جاء فى هذا المقال قول كاتبه إن الكنائس الأرثوذكسية تشارك فى هذا الاعتقاد، وإن كانت لا تمضى بعيدا فى التعقيدات الفلسفية. أما البروتستانت فيرون فيه مجرد رمز، إلا أن بعضهم لا يقف عند هذا الحد، بل يعدّه ذا طابع وثنى، وهو ما أكده كاتب نفس المقال باللغة الإنجليزية فى الموسوعة ذاتها الذى لم يكتف بالقول بأن بعض البروتستانت يَسِمون ذلك الاعتقاد بالوثنية، بل يضيف إليه قولهم إنه تجديف أيضا.
وبالمناسبة كذلك فإن الـ"Consubstantiation"، كما ورد فى مادة بهذا الاسم بـ"الويكيبيديا: Wikipaedia"، هو:(1/45)
"A theological doctrine that, like the competing theory of transubstantiation, attempts to describe the nature of the Christian in Eucharist concrete metaphysical terms. It holds that during the sacrament the fundamental "substance" of the body and blood of Christare present alongside the substance of the bread and wine, which remain present. Transubstantiation differs from consubstantiation in that it postulates that through consecration, according to some, that one set of substances (bread and wine) is exchanged for another (the Body and Blood of Christ) or, according to others, that the reality of the bread and wine become the reality of the body and blood of Christ. The substance of the bread and wine do not remain, but their accidents (superficial properties like appearance and taste) remain".(1/46)
ومن هذا وحده يتبين لنا مدى التدليس الذى يلجأ له لويس عوض، أما إذا أضفنا إلى ذلك ما فضحناه به آنفا وما سنفضحه به نائفا فإن المسألة تكون قد تحولت من فضيحة إلى كارثة كبرى! ومن هذا الوادى أيضا قوله إن "الله" هو الكلمة، و"الآب" هو الروح القدس (ص 106)، عازيا ذلك إلى القاضى عبد الجبار المعتزلى، وهو تدليس لا يليق، فعبد الجبار لا يمكن أن يقول ذلك متدهديا إلى الهاوية التى كثيرا ما يقع فيها لويس عوض بحذلقته وغروره ولا مبالاته تصورا منه أنه قد حاز العلم كله فى رأسه، وأن كل ما عليه متى ما أراد أن يكتب فى موضوع ما هو أن يمد يده إلى برميل العلم الذى فى ذلك الرأس ليغترف ما يريد دون أن يكلف نفسه مراجعة أى شىء أو التوقف إزاءه قليلا كى يتبين له مدى ما فيه من صواب أو خطإ، فضلا عن أنه حين يكتب فى موضوع كالذى نحن بصدده الآن لا يبغى بلوغ الحقيقة، بل تكون فى ذهنه أفكار معينة يعمل بكل قواه على نشرها ومحاولة إيهام القراء بصحتها دون أن يطرف له جفن. المهم أن الله لا يمكن أن يكون هو الكلمة عندهم ولا عندنا، بل هو سبحانه الذى يقول الكلمة كما لا يغيب عن أى إنسان عنده مُسْكة من عقل. كما أن الروح القدس لا يمكن أن يكون هو الآب عندهم بأى معنى من المعانى، أما عندنا فلا آب ولا هباب، بل عندنا: الله رب كل شىء، ثم تأتى بعد ذلك مخلوقاته، ومنها البشر. ومن هؤلاء البشر الأنبياء والمرسلون، وعيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله ونبى من أنبيائه أوحى الله له الإنجيل فحرفه بعض أتباعه وكتبوه بأيديهم ثم قالوا: "هذا من عند الله" ليشتروا به ثمنا قليلا. ومع ذلك فإننى لا أتدخل فى ضمير الدكتور لويس، بل كل ما أبغيه هو تصحيح سقطاته المدوية حتى فما يخص دينه. وقانا الله شرور الفضائح!(1/47)
وجريا على إشاعة الاضطراب فى عقائد المسلمين يربط جنابه بين أسماء "السلام" و"حليم" (وهذان، كما نعرف، اسمان من أسماء الله الحسنى) و"حليمة" (التى يسميها بـ"المرضعة الأسطورة"، وهى طبعا حليمة السعدية رضى الله عنها، التى أرضعت النبى محمدا فى طفولته الأولى، وهل هناك غيرها؟ لكن "أستاذنا الدكتور الروزا ميستيكى" يزعم، بخفة يد وصنعة لطافة مع قليل من سَوْق البله على الشيطنة، أنها أسطورة)! نعم يربط أستاذنا الدكتور بين هذا كله وبين البقرة حتحور، التى يقول عنها إنها هى نفسها حليمة المرضع الأسطورة (ص 546). وإذا كنت شاطرا أيها القارئ الكريم فحاول أن تفهم شيئا من فوضى هذا الغثاء. أرأيتم كيف يتعمد تدويخ القارئ حتى يستسلم له، لمعرفته أنْ ليس كل القراء مستعدين لإزعاج أمخاخهم بالتثبت من كل ما يقرؤونه؟ لكن على أية حال لا يمكننا أن نغفل عن الربط فى حد ذاته بين الله وحليمة والبقرة حتحور، وعن الزعم بأن حليمة هى مجرد أسطورة، أو قل: إنها هى نفسها تلك البقرة.(1/48)
ترى أيمكن أن يكون كل هذا قد صدر من الرجل عفو الخاطر، فضلا عن أن يقال إنه جاء نتيجة بحث علمى؟ الواقع أن هذه أول مرة أسمع أن هناك بقرة مرضعة اسمها حليمة! والله ما بقرة ولا ثور ولا حمار ولا حلّوف إلا من يريد الإساءة إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وإلى محمد سيد الأنبياء والمرسلين والأولين والآخرين، وإن رغمت أنوفٌ نجسةٌ منتنةٌ فى الرَّغام والطين بل فى الخراء، مهما تظاهر أى مسيلمة دجال برداء العلم وزَعَم المبخّراتية من حوله أنه عبقرى كبير! نعم، قد يكون عبقريا كبيرا، ولكن فى الزيف والأَوَنْطة وجمود الوجه وبرودة الأعصاب والبجاسة شأن كل بكّاش نصّاب! وبالمناسبة فحتحور، حسبما تتبّعنا، مرة تكون بقرة، ومرة تتشكل فى صورة لبؤة، ومرة ينصّبونها حارسة للنساء، ومرة يجعلونها أُمًّا للفرعون، ومرة يعتقدونها أُمًّا لحورس الرضيع أو زوجة له بوصفه "الملك الحى"، ومرة تتبوأ مكانة المعبود الرئيسى لإقليم القوصية فى الصعيد، ومرة تقابلنا بوصفها "سيدة الفيروز" (أى إلهة سيناء)، ومرة نراها بين آلهة الموتى، ومرة يقولون إنها إلهة الحب والجمال عند الفراعنة، ومرة نسمع أنها ربة الأمومة والموسيقى والبهجة، ومرة نطالع أنها الأم الأولى للآلهة بوصفها البقرة السماوية التى أنجبتهم وأرضعتهم جميعا. أَنْعِمْ وأَكْرِمْ بتلك الأبقار وأولاد الأبقار من آلهة! لكنى لم أسمع أنها تسمى: "حليمة"، اللهم إلا إذا كان هذا ما يقوله بعض من لا يدينون بدين الرسول الكريم تشفيًا وحقدًا ومحاولةً للتلويث، وهيهات، فإن من يفعل ذلك لا يلوثنّ إلا نفسه هو وصنفه ابتداءً وأصلاً. ومع هذا فقد ترك لويس عوض كل ما قلناه فى "حتحور" وأمسك بشىء واحد هو أنها "البقرة" المرضعة، وفوق ذلك سماها: "حليمة"!(1/49)
والمهم فى كل هذا أن الرجل لم يقدم هنا ما اعتاد تقديمه من النصب والقول بأن هذه الكلمة أو تلك مأخوذة من اللغة الفلانية بالطريقة العلانية. لكن سوف نعطى القارئ مثالا على ذلك البكش من كلامه السابق على هذا مباشرة، وهو كلامه عن مصدر كلمة "سماء"، فاستعد أيها القارئ، وكان الله فى عونك على قراءة ذلك الغثاء بل الفساء! يقول عبقرينا الذى لم تلد مثله أم فى تاريخ البشرية: "وهناك ألفاظ عديدة فى القاموس الدينى العربى يمكن أن نشتبه فى أن لها صلة بجذر "كوو- كون- كابل- كوبل- جو" بمعنى "سماء". والأرجح أن "سماء" أصلا كانت "سئام" من "سئال" من "كيل:" من "كؤو: K??". فانظر الآن أيها القارئ إلى هذا البكش الذى يمارسه الرجل بكل جرأة، وكأنه فلاحٌ بارِشٌ فى الجرن يلعب السِّيجة ببعض الحصا ينقلها بين عدة مربعات صغيرة! أقصد أنه قد فرش أمامه خريطة عالمية تحوى كل لغات الأرض على مدى التاريخ من "طقطق لسلام عليكم"، وما عليه إلا أن ينقل حصاة من هذه العين إلى تلك! انظر إليه أيها القارئ كيف يتخيل أن "سماء" لم تكن فى البداية "سماء" بل "سئام".(1/50)
طيب، ولماذا لم تكن "مساء" أو "أسام" أو "مآس" أو "سائم" أو "مائس" أو"آمس" أو "آسم" أو "ماسئ" أو "سامئ" مثلا؟ وهذا إن قبلنا أصلا حكاية الانقلاب هذه التى يقررها عبقرينا الفذ بجمود وجه وعدم شعور بالحياء العلمى، وكأن الله أشهده خلق السماوات والأرض فى الأزل الأول واتخذه له عضدا، فهو قد أحاط بكل شىء علما! ولكن لم كل هذا؟ لكى يلوى عنق الكلمة التى صاحبها سيادته عبر انتقالاتها المتتابعة على مدى العصور والأحقاب من لغة إلى أخرى فلم تغب عن عينه لحظة، حتى أتمت فى النهاية مشوارها التاريخى وهى تلهث وتكاد أن تطلع روحها من طول الرحلة، لتصبح "سئال" فتقترب، فيما يتوهم، من الكلمة اليونانية "كيل" التى لا يعرف حضرته عنها شيئا أكثر مما يعرف أىّ أُمِّىّ لا يفرق بين الألف وكوز الذرة، والتى يرجح جنابه أنها مأخوذة من كلمة "كيل" بمعنى "جَوّ"، وكلها فركة كعب ما بين "الجَوّ" و"السماء"! ولا تدقق أيها القارئ ولا تكن حنبليا، فما بين الجيّدين حساب! وكل عُدّته فى هذا البكش العلمى هو أنه "يشتبه" مرة، و"يرجّح" أخرى. ولله يا زمرى إذا كان هذا هو سبيل العلم! والله إن كلام المصاطب الفلاحىّ لأهون مليون مرة من هذا، فعلى الأقل إن له لنكهة فلكلورية وخفة ظل لم يكتبها "فاطر السماوات والأرض" للويس عوض. وهو أمر طبيعى، إذ هو سبحانه وتعالى إله عادل، لذلك لم يشأ أن يَهَب "أستاذنا الدكتور لويس" العبقرية وخفة الظل معا، بل قيل: كفاية عليه العبقرية! (بعيدٌ عنا وعن السامعين)، أما خفة الظل فلها ناسها!(1/51)
وكما استطاعت عبقرية "أستاذنا الدكتور لويس عوض" أن تجعل من الفسيخ شربات وتحوّل "كو" عَبْر "كيل" إلى "سماء" فكذلك تستطيع عبقريته أيضا أن تحول نفس كلمة "كو"، ولكنْ هذه المرة عَبْر تكرارها مرتين، إلى "كوكو"، التى يقول إنها أساس كلمة "كوكب"، ولكن بعد تمريرها بعدة مراحل خمنها بطريقته المعهودة، ألا وهى طريقة الشم على ظهر الكف. و"الكواكب السبع" عنده هى "السماوات السبع" (ص 446). ألا يذكرك هذا ببياع إبر البوابير فى الأوتوبيسات: "كده توليع! كده تسليك!"، فالكلمة الواحدة على يديه تتحول مرة إلى "سماء" إذا قلبناها على أحد وجهيها (وهذا هو التوليع!)، ومرة إلى "كوكب" إذا قلبناها على الوجه الآخر (وهذا هو "التسليك"! وهو، بحمد الله، رجل سالك ومسلّكاتى لا تقف فى طريقه عقبة). لو أنه قال إن كلمة "كوكو" أساس كلمة "شكوكو" لسلمنا له على العين وعلى الرأس دون أن نفتح فمنا بكلمة، فالمسافة بين الفنان الظريف الخفيف الظل محمود شكوكو وشغل الحواة هذا لا تُذْكَر، بل تكاد أن تكون معدومة، أو هى معدومة فعلا، فقد اشتغل الرجل رحمه الله بأدوار الحواة فى تمثيلياته وأفلامه ومونولوجاته، ونحن الآن مع الدكتور لويس فى صميم شغل الحواة. أليس الحاوى قادرا على أن يخرج لك من قبعته ما تريد حتى لو طلبت منه لبن العصفور؟ فهكذا الدكتور لويس يقدر على أن يولّد لك كل ما تريد من كلمات، من أى كلمات تريد توليدها منها. والقبعة، والحمد لله، جاهزة، فما المشكلة إذن؟ فاطمئن ولا تقلق، قأنت مع الدكتور لويس فى أيد أمينة. أقصد: فى أيد خفيفة خفة يد الحواة!(1/52)
لكنك يا سيادة الدكتور تتكلم عن السماوات السبع، وهذه لم يكن لها ذكر قبل القرآن. فأنت إذن تقصد القرآن الكريم، فهل فى القرآن أن السماوات السبع هى الكواكب السبع يا مفترى؟ لن أدخل معك فى جدال نظرى، فما أنا بالمطيق حوارًا من هذا النوع مع حاوٍ! بل سأورد لك هذا النص من القرآن المجيد، نعم القرآن المجيد الذى كان يسبب لك التواء فى المصارين ونغلا فى القلب. يقول مولاك سبحانه وتعالى: "إنا زيَّنّا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكبِ* وحِفْظًا من كل شيطانٍ مارد" (الصافّات/ 6- 7). وواضح يا دكتور لويس (يا من نصَّبك بعضهم "أستاذا" له، ولنا أيضا دون أن يسألنا رأينا فى هذه التنصيبة المصيبة) أن الكواكب شىء يختلف عن السماء اختلافا كليا. ولا تقل لى: "كيف؟" كيلا أغضب منك لأنى أعرف حق المعرفة أن الموضوع هذه المرة ليس فوق مستوى عقلك. ألم يقل المولى جل جلاله إنه قد زيّن السماء الدنيا بالكواكب؟ أليس معنى ذلك أن الكواكب (الكواكب كلها بإطلاقٍ، لا سبعة منها فقط) ليست هى السماء الدنيا، بل مجرد زينة لها؟ فما بالك بمن يقول إن "الكواكب السبع" (السبع وحدها يا مفترى، وليست الكواكب كلها!) هى السماوات السبع (السماوات السبع كلها يا مفترى، وليست السماء الدنيا وحدها!)؟ أترك الجواب للقراء!(1/53)
ثم نمضى فنجد "أستاذنا الدكتور لويس عوض" يقرر أن كلمة "جاه" (بمعنى "سلطان" كما يقول) مأخوذة من "وجا: Waja" فى المصرية القديمة، ومنها "وجيه" التى يؤكد أنها لا تعنى "الوسيم" أو "حَسَن الهندام" (وكأن هناك من العلماء لا من أمثاله من يقول إنها تعنى هذا أو ذاك)! ثم يستمر فى هلاوسه زاعما أن القرآن، حين يصف المسيح بقوله: "وجيها فى النيا والآخرة" فالأرجح أن المقصود كونه "صاحب سلطان أو قوة" لا أنه كان وسيما (وكأن أحدا من العلماء لا من أمثاله قد قال ذلك حتى يسارع هو فينفيه!). ثم يدعو القارئ إلى مقارنة ذلك بقوله تعالى عن موسى (وإن لم يقل هو إن الكلام عن موسى): "فبرّأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيها" (ص 272).(1/54)
ترى بأى وجه يقرر سيادته بهذه البساطة المضحكة أن كلمة "جاه" العربية مأخوذة من "Waja" المصرية القديمة؟ أنزل عليه وحى بذلك؟ فلْيُرِناه إن كان من الصادقين! أم فى يده برهان على هذا الذى يزعم؟ فليطلعنا عليه وله منا الشكر وعرفان الجميل! ثم لماذا يا ترى لا يكون العكس هو الصحيح ما دامت المسألة بهذه السهولة؟ كذلك أىّ سلطان سوف يكون للمسيح عليه السلام فى الآخرة؟ أمّا أنه كان "وجيها فى الدنيا والآخرة" فهذا نسلم به ولا نجحده، ويكفى أنه كان نبيا رسولا وأن الله حماه من أذى اليهود ومكرهم ومؤامراتهم، وإلا لقتلوه شر قتلة! هذا كله مفهوم، أما أنه كان صاحب سلطان وقوة فها هى ذى الأناجيل الأربعة كلها بين أيدينا، وليس فيها البتة أنه كان صاحب قوة وسلطان فى الدنيا بالمعنى الذى نفهمه من القوة والسلطان، بل الذى فيها هو التأكيد بأن مملكته ليست من هذا العالم الدنيوى. لكنها (وآه من "لكنها" هذه!) تقول على لسانه عليه السلام (افتراء وكذبا حسب عقيدتنا) إنه سوف يجلس على يمين أبيه فى ملكوت السماوات ويحاسب الناس على ما قدمت أيديهم، بصفته (طبعا) إلها أو ابنا للإله. وأعتقد أن هذا هو السلطان والقوة اللذان يقصدهما الدكتور لويس ويريد من قرائه أن يتابعوه على تفسيره هذا الحلمنتيشى لهما متناسيا أن الإسلام قد وضع عيسى عليه السلام فى الموضع الذى لا ينبغى أن يَعْدُوَه إنسان رغم نبوته ورسالته.(1/55)
وخير شاهد نسوقه فى هذا الصدد هو قوله سبحانه فى سورة "المائدة" يصف ما سيدور يوم القيامة من حوار بين الله سبحانه وتعالى وبين عبده السيد المسيح عليه السلام: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)".(1/56)
فهل من يوجه الله إليه السؤال بهذه الصيغة وبهذه القوة، ومن يجيب ربَّه سبحانه بهذه الخشية وهذا الإجلال، يمكن أن يقال إن القرآن قد وصفه بأنه صاحب سلطان وقوة فى الدنيا والآخرة؟ ثم هل من يتحدث عنه المولى الجبار بمثل العبارات التالية فى نفس السورة يمكن أن يقال إن القرآن قد وصفه بأنه صاحب سلطان وقوة فى الدنيا والآخرة؟ فلنسمع إذن: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)"، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)".(1/57)
إن القرآن، على النقيض مما يهرف به لويس عوض، يقرر فى وضوح لا تشوبه أدنى شائبة من لبس أو غموض أن المسيح لا يملك لا لنفسه ولا لأحد آخر نفعا ولا ضرا. فأين السلطان والقوة المدّعاة إذن؟ ومادام الشىء بالشىء يذكر فالمواقع النصرانية التى تشتم نبينا عليه السلام وتقارن بينه وبين المسيح الإله (فى زعمهم) لصالح الأخير بطبيعة الحال تتبنى مثل هذا الكلام الذى يردده لويس عوض فى عجلة ولهوجة كأنه لا يبحث فى العلم بل يسلق بيضا، وهذا يبين لنا سوء نية الرجل وأنه ذو َكيْد وشَرّ!(1/58)
ومن ملاعيبه المفقوسة أيضا محاولته البائخة لجعل لفظ "فاطر" (فى "فاطر السماوات والأرض"، وهو الله سبحانه) مأخوذة من "فا" المأخوذة بدورها من "پا"، أساس كلمة "أب" كما يقول. وعلى ذلك فتسميته عز وجل فى لغة العرب بـ"فاطر السماوات والأرض" لا تعنى فالق السماوات والأرض" كما يُظَنّ عادةً" (وهذه عبارته)، بل تعنى "أبا السماوات والأرض" بمعنى "خالقهما". كما أن "عيد الفطر" (الذى يتصادف مروره اليوم من عام 1427هـ وأنا أرد على كلامه هذا الغث) لا علاقة له بالإفطار بعد الصيام، بل معناه "عيد الخلق". لكن أى خلق؟ "خلق العالم فى بعض المعتقدات الدينية أو خلق القرآن أو تنزيله على أقل تقدير فى كل تفسير معتمد" (ص 318). يا داهية سوداء! أرأيتم، أيها القراء، التخبيص الذى على أصوله؟ ما كل هذا الهجس؟ ما كل هذا الهلس؟ ما كل هذا الخرف؟ وإلام يقصد ذلك الرجل بكل تلك الهلاوس؟ إنه يقصد الترويج لحكاية الله الآب فى النصرانية، ولكن على طريقة الخطوة خطوة، فإن لم ينجح فعلى أقل تقدير يُشِيع الاضطراب فى اللغة والقرآن ويترك القارئ، فيما يأمل، حيران فى مكانه لا يريم ولا يستطيع ذهابًا أو إيابًا! إنه يبدأ كلامه بقوله: "يبدو" أن العربية عرفت صيغة "فا" التى تعنى "الأب" كما عرفت صيغة "پا". أى أن الأمر غير يقينى، وكل ما هنالك أنه "يبدو" كذلك! لكن من أين له أنه يبدو كذلك؟ من وحى الشياطين طبعا! لكننا بعد قليل نفاجأ بأنه "يغلّب" أن يكون معنى قوله عز شأنه: "فاطر السماوات والأرض" هو "أبو السماوات والأرض"!(1/59)
عجايب يا دكتور لويس! لقد بدأت بـ"يبدو أن"، ثم فى قفزة بهلوانية واحدة قلبتها إلى "فالأغلب أن"، وجعلت تفسير "فاطر" بـ"فالق" تفسيرا ظنيا، أو بعبارتك: "كما يُظَنّ عادة". ثم رجعت إلى "يبدو أن" فى ادعائك الجاهل أن "عيد الفطر" لا علاقة بانتهاء الصيام، بل بخلق العالم فى بعض المعتقدات الدينية! لكن هل هناك دليل، أى دليل، على هذا الذى تهرف به وتخرف؟ إن العلماء كلهم تقريبا يفسرون "فاطر السماوات والأرض" بما معناه أنه مبدع السماوات والأرض على غير مثال سابق، اللهم إلا من يقول إنه "شاقُّهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض" كما جاء فى تفسير الرازى للآية الأولى من سورة "فاطر" فى رأىٍ من الآراء، وهو تفسير ضعيف غير مقنع كما هو ظاهر. ثم أية معتقدات دينية تقول إنه سبحانه وتعالى خلق العالم فى عيد الفطر؟ اذكرها يا مداور! إنك طبعا تقصد الإسلام لأنه هو الدين الوحيد الذى يوجد فيه شىء اسمه "عيد الفطر"! أم تراك ستحاور وتناور كشأنك فى كل ما سخّمته فى هذا الكتاب؟ أيا ما يكن الأمر فهل كان هناك عيد فطر قبل خلق العالم حتى يخلق الله العالم فيه؟ فكيف إذن تترك السبيل الواضحة المستقيمة إلى هذه الدخانيق الملتوية التى لا يسلكها سوى المريبين؟ ويعود المداور قائلا إن الذى تم خلقه فى عيد الفطر هو القرآن؟ فهل قال القرآن ذلك أو قاله الرسول أو قاله أحد من المسلمين أو حتى من غير المسلمين؟ ثم تعود فتقول إنه يمكن أن يكون المقصود بذلك تنزيل القرآن. لكن من قال لك إن تنزيل القرآن يعنى خلقه؟ ستقول: "المعتزلة"، ولك الحق فى أن تأخذ جانبهم، فهذا رأيك لا نشاحنك عليه.(1/60)
لكنك هنا إنما تتناول القرآن بالتفسير وتهدم كل شىء وتقلب كل شىء رأسا على عقب! فحناينك على العلم ومنهج العلم والمنطق والعقل، ودعك من الخرف والتخريف، فما كان التخريف يوما بموصِّلٍ صاحبه إلى شىء! ذلك أن تنزيل القرآن لم يقع فى عيد الفطر، ولا قال به المعتزلة ولا الملتزمة، بل هو من بُنَيّات شطحاتك الشيطانية!
وعلى أية حال فالقرآن الكريم قد نزل فى ليلة القدر التى لم يحددها الله ولا حددها الرسول، بل أقصى ما يمكن أن يقال هو أنه صلى الله عليه وسلم نصح المسلمين أن يلتمسوها فى العشر الأواخر من رمضان. أى أنها فى رمضان وليست فى عيد الفطر يا...يا ماذا؟ والله إنى لحيران! فكيف بالله يحق للجاهلين أن ينتفشوا ويفتروا على المفسرين المساكين قائلين إن كتب التفسير المعتمدة (ولاأدرى: معتمدة ممن؟ إلا أن يكون أصحابها قد حصلوا لها على شهادة اثنين من الموظفين ممن لا يقل مرتبهم عن ثلاثين جنيها فى الشهر مختومة بخاتم النسر!) هى التى قالت بذلك. ففى أى تفسير يا ترى نجد هذا؟ ثم لماذا كل هذا الالتواء فى التفسير والتحريف؟ يا أخى، إن المسلمين يصومون رمضان، وهذا هو الصيام. ويفطرون فى أول شوال، وهذا هو الفطر. واليوم الذى يبدأ فيه ذلك الفطر (كهذا اليوم المفترج الذى نحن فيه الآن) يسمى عند المسلمين بـ"عيد الفطر". فما وجه الصعوبة فى هذا؟ أهى حِسْبَة برما؟ أم هى قضية الشرق الأوسط؟ أم أننا بإزاء صنع قنبلة نووية؟ هل من المعقول أن تكون هناك قلوب قد طُمِس عليها كل هذا الطمس؟ لكن نعود فنقول: نعم إن ثمة قلوبا خلقها الله ووضع عليها أقفالا، وآذانا خلقها الله وجعل فيها وَقْرًا، فأصحابها لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يفهمون، فمَثَلهم هم ومن يناديهم كمَثَل الذى يَنْعِق بما لا يَسْمَع إلا دعاءً ونداءً كما قال القرآن الكريم. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ، فهم لا يفقهون ولا يعلمون ولا يكسبون!(1/61)
وهو فى نهاية هذا الخبص واللبص يقرر بكل عبقرية أن "الإفطار" بمعنى "إنهاء الصيام" هو "الهومونيم الذى استغرق المعنى الأصلى" (ص 318). وهذا جهل آخر أشنع وأفظع، لأن الهومونيم (homonym) هو الجناس، أى وجود كلمتين متطابقتين (أو على الأقل: متشابهتين) لفظا مختلفتين معنى. وهذا يقتضى أن تكون عندنا هنا كلمتان كل منهما تُنْطَق: "إفطار"، وفى نفس الوقت يكون معنى إحداهما مختلفا عن معنى الأخرى: الأولى بمعنى إنهاء الصيام، والأخرى مشتقة من الأبوة. فأين نحن من هذا؟ الذى نعرفه هو أن عندنا كلمة واحدة تعنى "إنهاء الصيام"، فليدلنا الدكتور لويس على الثانية. أقصى مايستطيع زعمَه مَيْنًا وافتراءً أنه: كان يا ما كان، كان هناك أيام الشاطر حسن وأمنا الغولة مثل تلك الكلمة. متى؟ منذ دهور ودهور! هذا كل ما يمكنه أن يقوله، أما أن تكون تلك الكلمة موجودة فعلا وتشكّل مع الأولى جناسا، فعلى جثتى! ذلك أن الجناس لا يكون بالشُّكُك، بل بالناجز الحاضر بين أيدينا. أما ما سوى ذلك فـ"كان زمان وجَبَر" أيها العبقرى! كما أن الجناس ليس فيه كلمة أصلية وأخرى فرعية، بل كل كلمة فيه مستقلة بذاتها، وما يهرف به لويس عوض هو الجهل المبين بعينه وأذنه وأنفه وفمه، وذقنه أيضا فوق البيعة!(1/62)
ومن هلفطاته التى يبغى من ورائها إشاعة الاضطراب فى عقيدة المسلمين ونظرتهم إلى رموزهم قوله إن كلمة "Amen" (وأصلها، كما يزعم، اسم الإله "آمون") هى أساس أسماء الأعلام العربية: "أمين" و"أمينة" و"آمنة"، وعلى رأسها "الأمين"، اسم من أسماء النبى الحسنى على حد هلوساته (ص 255- 256). ترى هل هناك ما يعرف فى الإسلام بـ"أسماء النبى الحسنى"؟ طبعا لا وألف لا. فهذه واحدة، وهى تدل على جهل شنيع أو استبلاه أشنع ممن يتخيل أنه مستطيع إيهامنا بقدرته على بحث أمر اللغات البشرية كلها حاضرها وماضيها الذى يقاس بالقرون بل بالدهور! صحيح أن النبى محمدا عليه الصلاة والسلام اشتهر بين قومه بـ"الأمين" نظرا لصدقه وإخلاصه واستقامة ضميره وخلقه، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له "أسماء حسنى"، فهذه لله وحده سبحانه وتعالى. ونحن المسلمين، رغم إجلالنا إياه صلى الله عليه وسلم وحبنا الشديد له، لا نعدو به قدره بوصفه عبدا نبيا لا أكثر ولا أقل، ولسنا كمن يؤلهون أنبياءهم ثم يعودون فيأكلون لحومهم ويشربون دماءهم. كما أننا لسنا كالمصريين القدماء ممن كانوا يعبدون الشمس ويدعونها: "آمون"، التى يقول الشاطر حسن، ربنا يحرسه من العين، إنها هى أساس "آمين" المعروفة فى أدعيتنا بمعنى "يا رب، استجب"، ويعربها النحاة: "اسم فعل أمر".(1/63)
فلم إذن تلك المحاولة الآثمة لربط الرسول بهذه الوثنيات المصرية القديمة التى خلصنا الله وطهرنا منها تطهيرا والتى أخرجْناها من الباب وكسرنا وراءها ألف قلة قديمة، ومعها ألف برطوشة لا تقل عنها قِدَمًا، فإذا بالمحروس يريد أن يعيدها لنا من الشباك؟ الأمر وما فيه بكل بساطة ودون هلفطات سمجة هو أن "الأمين" مشتق من "الأمن" أو "الأمانة" أو من كليهما، فما المشكلة فى ذلك؟ وما الداعى لأن يذهب الإنسان وراء الخيالات والهلوسات والأوهام الوثنية إذا كان التفسير المنطقى الصحيح تحت أيدينا؟ أهى فراغة عين وتطلع إلى الأساطير والشِّرْكيّات، والسلام؟ ثم أين الدليل على أن "آمين" وبقية أفراد أسرتها مأخوذة من "آمون"؟ هل لديك دليل؟ فأبرزه إذن وأرحنا، ودعك من هذه البهلوانيات التى لا تؤكّل عيشا فى دنيا البحث والعلم.(1/64)
ومن العجيب الغريب بل من المضحك فى زمنٍ عَزّ فيه الضحك وأصبح يُشْتَرَى بشىءٍ وشويّات أن يقول أحد الدراويش تعليقا على هذا السخف إنه "من اللافت للنظر أن "القاموس المحيط" و"لسان العرب" ذكرا أن "الأمان" (على وزن "رمان") هو "الزراع"، فهل هذا من ذكريات آمون رب المصريين، والمصريون زراع؟... كذلك ذكر "القاموس المحيط" أن "آمين" و"أمين" بالمد والقصر اسم من أسماء الله. وهذه مسألة فى غاية الأهمية والخطورة حيث يوحى قول "القاموس المحيط" باستعارة اللغة العربية أحد أسماء الله من المصرية القديمة. وهذا أمر أشبه بالحق لعراقة المصريين فيما يتصل بالإلهيات" (انظر مقال على الألفى: "لويس عوض وداعا: قراءة فى مقدمة فى فقه اللغة العربية" بمجلة "أدب ونقد"/ عدد أكتوبر 1990م). وخاطّ هذ الكلمات يتهم الفيروزابادى العالم المسلم الجليل بالإلماح إلى أن أحد الأسماء الحسنى، وهو اسم "الأمين"، مأخوذ من اسم الإله الوثنى المصرى القديم: "آمون"، وهو الإله الشمس. أى أن الإسلام الذى كان حملة شعواء على الوثنية والوثنيين وعلى عبادة الشمس والقمر قد ضرب بحملته هذه عُرْض الحائط أمام سحر عيون "آمون" الإله الشمس (جريا على مذهب فضيلة الشيخة صباح البيروتية التى تصدح بصوتها الآسر المغناج: "من سحر عيونك ياه! من رمش جفونك ياه!")! وحجته أنه هو وابن منظور قد ذكرا ضمن معانى "الأُمّان": "الزُّرّاع". وبما أن المصريين زراع، وبما أنهم كانوا يعبدون آمون، فلا بد أن يكون المسلمون قد أخذوا اسم الإله "آمون" وسَمَّوْا به اللهَ سبحانه وتعالى. وكأن كلمة "أمين" لم تكن موجودة قبل ذلك بدهور ودهور فى لغة العرب، وكأن المسلمين لم يشرحوا معنى هذه التسمية الإلهية وأنها من "الأمن".(1/65)
فانظر إلى العلم اللدنى والحجج التى لا يخر منها الماء! أية خفة تلك التى تُتَناوَل بها أخطر القضايا الفكرية والعقيدية؟ فعلاً يا أخى، لقد كنا عن أن المصريين قوم زارعون من الغافلين حتى أتانا اليقين من مقالات المؤبنين لعبقرى العبقريين! وكأنه لم يكن هناك زارعون إلا المصريين! وهذا هو العلم الذى يراد لنا اكتسابه فى آخر الزمان، فى بلاد الأمن والأمان!(1/66)
طيب، وفى "لسان العرب" أيضا تقابلنا "ناقةٌ أمُون"، وهو نفس الوصف الذى استخدمه طرفة بن العبد لناقته فى معلقته، فهل نقول نحن بدورنا إن طرفة وابن منظور يريان أن البقرة هى أصل الإله آمون، ما دام العلم قد هان وهانت مناهجه إلى هذا الحد، وبخاصة أن "أمون" أقرب جدا من "أمين" إلى "آمون" وأحرى أن تكون هى صورتها العربية إذا ما كان العرب لسبب أو لآخر قد تجنبوا استعمال "آمون" ذاتها؟ لكننا نربأ بأنفسنا أن نستخدم تلك الطريقة المضحكة فى التفكير والاستنتاج؟ وإذا كان اسم الله: "أمين" مأخوذا من اسم الإله الوثنى: "آمون"، فما الذى جعل العرب يحرفون هذا إلى "أمين"؟ هل صيغة "آمون" غريبة على لغتهم؟ أبدا، فمَثََلُها مَثَلُ "طاووس" و"باسوس" و"ناووس" و"ناموس" و"قاموس" و"قابوس" و"قادوس" و"فانوس" و"جاموس" و"عاموس" و"راعوث" و"جالوص" و"باغوص" و"جارود" و"داوود" و"بارود" و"طاروت" و"طالوت" و"جالوت" و"حانوت" و"لاهوت" و"ناسوت" و"باهور" و"سابور" و"باسور" و"ساجور" و"ساطور" و"خابور" و"فاثور" و"هامور" و"باجور" و"عاشور" و"حاسوب" و"كاتوب" و"عاكوب" و"بانوب" و"دانوب" و"ناسوخ" و"يافوخ" و"صاروخ" و"باروخ" و"هارون" و"خاتون" و"ماعون" و"طاعون" و"طابون" و"صابون" و"صالون" و"جالون" و"بارون" و"ماسون" و"كانون" و"قالون" و"حانون" و"جابون" و"شارون" و"فاروق" و"قاووق" و"طابوق" و"راووق" و"خازوق" و"داعوق" و"هالوك" و"داموك" و"ثالوث" و"ثامون" و"تاسوع" و"شاقول" و"عاقول" و"حامول" و"جاروف" و"شادوف" و"شاكوش" و"هاموش" و"فاشوش" و"صاروج" مما هو عربى أصيل أو معرَّب أو علم أعجمى.(1/67)
وكما عرف اللسان العربى هذه الكلمات، لقد كان المنطقى أن يحافظ على صيغة "آمون" كما هى دون تبديل لا داعى له، ولو إلى جانب الصورة المحوَّرة كما يحدث فى كثير من الأحيان مع أسماء الأعلام الأعجمية مثلما هو الحال فى "جبرائيل/ جبرئيل/ جبريل/ جبرين" و"إسماعيل/ إسماعين" و"ميكائيل/ ميكال/ ميشيل/ ميخائيل" و"سَيْناء/ سِيناء/ سِينا/ سِينِين"... وهكذا. ولو كان العرب قد أخذوا فعلا اسم "الأمين" من اسم الإله "آمون" فلماذا لم يجعلوه هو الاسم الأساسى للألوهية بدلا من "الله"، الذى لم يكن له وجود آنذاك حسب ما يقضى به منطق المتحذلقين الجاهلين؟ أليس هذا ما يقوله العقل؟ ثم ماذا عن أسماء الله الحسنى؟ أولها صلة بمولانا "آمون" هى أيضا؟(1/68)
كذلك فقول الفيروزابادى وابن منظور إن "أُمّان" معناها "الزُّرّاع" لا علاقة له بـ"الأمين"، إذ "الأُمّان" هو جمعٌ مفرده "آمِن" لا "أمين" كما يوحى كلام صاحب السطور، مثل "قارئ/ قُرّاء" و"حاجّ/ حُجّاج" و"ناسخ/ نُسّاخ" و"شاذّ/ شُذّاذ" و"حافِظ/ حُفّاظ" و"سارق/ سُرّاق" و"مالِك/ مُلاّك" و"هالِك/ هُلاّك" و"ساكن/ سُكّان" و"كاهن/ كُهّان" و"زارِع/ زُرّاع" و"صانِع/ صُنّاع" و"زائر/ زُوّار" و"ناظر/ نُظّار" و"سامر/ سُمّار" و"عامر/ عُمّار" و"فاجر/ فُجّار" و"تاجر/ تُجّار" و"عامِل/ عُمّال" و"جاهل/ جُهّال" و"عاذل/ عُذّال" و"قائم/ قُوّام" و"صائم/ صُوّام" و"نائم/ نُوّام" و"لائم/ لُوّام" و"خادم/ خُدّام" و"طالِب/ طُلاّب" و"كاتِب/ كُتّاب" و"نائب/ نُوّاب" و"راكب/ رُكّاب" و"شائب/ شُيّاب" و"حاجب/ حُجّاب" و"جالِس/ جُلاّس" و"حارس/ حُرّاس" و"حارث/ حُرّاث" و"زاهد/ زُهّاد" و"عابد/ عُبّاد" و"عائد/ عُوّاد" و"وارد/ وُرّاد" و"رائد/ رُوّاد". وبالمثل نقرأ فى "لسان العرب" العبارة التالية: "وفي الحديث: "الزَّرعُ أَمانةٌ والتاجِرُ فاجرٌ"، جعل الزرع أَمانَةً لسلامتِه من الآفات التي تقع في التِّجارة من التَّزَيُّدِ في القول والحَلِف وغير ذلك". ومعنى ذلك أن استخدام كلمة "الأمانة" فى الحديث هو استخدام مجازى، وإلا فهل معنى "تاجر" هو "الشخص الفاجر" كما جاء أيضا فى الحديث نفسه؟ وعلى هذا ينبغى أن نفهم وصف الزارع بأنه "آمِن"، ولا علاقة لهذا بـ"آمون" ولا يحزنون! ولا داعى لأن نقف مع التلميذ أطول من هذا، فهو درويش أخذته الجلالة فليس عليه من حرج. كما أن مرادى من التعريج عليه هو إطلاع القراء على طبيعة تلاميذ مفكرنا الجهبذ وعبقريتهم التى تشبه عبقرية زعيمهم ليس إلا. وقد تم المراد، والحمد لله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه! ومن شابه أستاذه فما ظلم!(1/69)
ثم إن المصريين لم يكونوا وحدهم الزُّرّاع بين الأمم حتى ينصرف الذهن ضربة لازب إليهم فى هذا السياق رغم تهافت الحجة أصلاً وفصلاً حسبما وضّحْتُ وشَرَحْتُ. كذلك إذا كانت "أمين" هى تعريب "آمون" الإله (على رغم ما قلناه من أنها لا يمكن عقلاً ولا منطقًا أن تكون كذلك) فلماذا سُمِّىَ بها النبى محمد عليه السلام، وهو ليس إلها؟ بل لماذا سُمِّىَ بها الناس العاديون ذكرانا وإناثا فقيل: "أمين، وأمينة" و"أَمُّونَة" أيضا فوق البيعة، وسميت بها البلاد فقيل عن مكة: "البلد الأمين"؟ وهل تؤنَّث أصلا أسماء الآلهة كما هو الحال فى "أمينة" و"أمّونة"؟ ثم لماذا لم نسمع فى الجاهلية بـ"عبد الأمين" كما سمعنا بـ"عبد الله" و"عبد اللات" و"عبد ودّ" و"عبد العُزَّى" و"عبد يَغُوث" و"تيم اللات" و"وهب اللات" مثلا، وكما سمعنا عند اليهود بـ"إشرئيل" و"إيليئيل" و"أوئيل" و"أوريئيل" و"بتوئيل" و"بصلئيل" و"جاوئيل" و"جديل" وجملئيل" وحزيئيل" و"حموئيل" و"حنمئيل" و"حنّيئيل" و"حينئيل" و"دعوئيل" و"رعوئيل" و"رفائيل" و"زبديئيل" و"شألتيئيل" و"صموئيل" و"عبديئيل" و"عثينئيل" و"عدريئيل" و"عديئيل" و"عُزّيئيل" و"عسائيل" و"عمانوئيل" و"غمالائيل" و"فلطيئيل" و"فوطيئيل" و"فنوئيل" و"فنيئيل" و"قموئيل" و"متوشائيل" ومشيزيئيل" و"مهيطيئيل" و"ميشائيل" و"نثنائيل" و"نعيئيل" و"نموئيل" و"ياحلئيل" و"يحصئيل" و"يحزئيل" ويحزقيئيل" و"يحيئيل" و"يدعيئيل" و"يرحمئيل" و"يزرعيل" و"يزوئيل" و"يسميئيل" و"يعسيئيل" و"يعيئيل" و"يقوثيئيل" و"يموئيل" و"يهللئيل" و"يوئيل" بإلحاق اسم "إيل" الدال على "الإله" عند اليهود بآخر أسماء الأعلام، وكذلك بالأسماء المبتدئة بـ"ياهو" (أى "الرب")، مثل "يهوآحاز" و"يهوآش" و"يهوحانان" و"يهوخل" و"يهورام" و"يهوشافاط" و"يهوشوع" و"يهوصاداق" و"يهوعدة" و"يهوناثان" و"يهوناداب" و"يهوهياداع" و"يهوياريب" و"يهوياقيم" و"يهوياكين"؟ ولنفترض جدلا أن المسلمين(1/70)
أو العرب عموما، لسبب أو لآخر لا نفهمه، قد حوّروا اسم "آمون" وجعلوه "أمين" و"آمين"، فلِمَ يا ترى نطقت الأمم الأخرى كلمة "آمين" كما ينطقها العرب (هكذا: "Amen") ولم يقولوا عند تأمينهم على ما يسمعونه من دعاءٍ: "آمون" بصورتها الصحيحة؟ وأخيرا وليس آخرا لماذا ترك صاحب السطور كل المعانى الأخرى لكلمة "آمِن" ("آمِن" وليس "أمين" كما بينتُ قبل قليل) وشَبَطَ فى "الزارع" التى يظن خطأً أنها لا تنطبق إلا على المصريين؟ لا لا، لا يمكن أن يكون العلم بهذه الطريقة الهازلة المضحكة، وإلا فعلى العلم العفاء!
ومن "آمين" إلى "أوزيريس" إله تعشير الأبقار والجواميس وضرب العشرات (أى الاستمناء) كما يصوره لنا "أستاذنا الدكتور لويس عوض" يا قلبى لا تحزن! فسعادته يدّعى أنها هى أيضا جذر كلمة "الإسراء" (254)! فانظر إلام يرمى الرجل! وكيف لم يجد لكلمة "الإسراء" المرتبطة ارتباطا لا ينفك أبد الدهر برحلة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، تلك الرحلة الإعجازية التى وصل فيها صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فى عُلْيَا السماوات وصلى أثناءها بجميع الرسل الكرام إمامًا بوصفه زعيمهم وأكبرهم وصاحب الدين العالمى بينهم، فلم يجد لها لويس عوض أصولا ولا جذورا إلا فى الوثنيات وضرب العشرات! وهى الموضوعات التى لا يفلح بعض العباقرة إلا فى الكلام عنها وعن أمثالها؟ أإلى هذا الحد يا لويس يقتلك ذكر النبى ومعجزاته من قرآن وإسراء فلا تجد إلا هذا الأسلوب العيالى فى محاولة الإساءة إليه؟ والله لو اجتمع كل الكافرين بالرسول الكريم وصنعوا كل ما يخطر وما لا يخطر على بالهم النجس ما نالوا منه منالا. هل تستطيع الكلاب النابحات أن تطول القمر، فضلا عن أن تضره؟ صدق من قال: لايعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل! ولكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟(1/71)
كذلك يضيف فى هذه الفقرة عبقرينا الهمام الذى عبقريته تمام التمام ("تمام التمام" بالتوتولوجى! خذ بالك!) أن أوزيريس هو أيضا جذر "عزرائيل"، مع أنه قال إنه إله الخصب والبعث، فما الذى جمع الشامى على المغربى؟ أليس عزرائيل هو ملك الموت؟ ترى كيف يكون ذلك؟ أبَعْثِىٌّ ومَوْتِىٌّ؟ على أن المسرحية لما تتم فصولا، إذ قالت ضاربة الودع اللويسعوضية إن أوزوريس وراء اسم "عنترة العبسى" أيضا! كيف؟ أقول لك: أليس "أوزير" هو المقابل للإله "أندرا" بن "أبسو" الهندى؟ إذن فعنترة العبسى هو عند عمنا الدكتور: "أندرا الأبسو"! وهو ما يعنى بالبلدى أن قبيلة "عبس" التى كان ينتمى إليها عنترة كانت تعرف أنها من نسل ذلك الإله، فكانت تنتظر منذ آلاف السنين (بلاش "آلاف" هذه المرة لأن لويس عوض لا يرجع بالعرب إلى كل هذا الزمن الطويل. خلها "ألفًا" واحدا، ففيها البركة والكفاية)، نقول: كانت تنتظر أن تسنح لها فرصة كى يكون عندها نسخة أخرى من "أندرا بن أبسو". ولم لا؟ أهى تقلّ عن الهنود عبدة الأبقار؟ فليكن لها إذن "عنترا بن عبسو"، وقد كان. وهذا ما أغضب الهنود فظلوا يتحينون الفرص كى يكون عندهم "أندرا بن أبسو" آخر حتى لا يساويهم العرب، إلى أن حملت واحدة من نسائهم بعد نحو ألفٍ ونصف ألفٍ آخر من السنوات فتوقعوا أن يكون الجنين ذكرا، إلا أنه كمصادفات الأفلام المصرية اللعينة جاء أنثى، فاضطروا أن يسموها: "أنديرا غاندى" (لاحظ الياء التى زادوها للتأنيث.(1/72)
ولاحظ كذلك "الميتاطيز" (بالطاء حتى تناسب ما نحن فيه) الذى حول "أبسو" إلى "أندو" فـ"غاندو" فـ"غاندى"! أىّ كلام والسلام!)، ومعناها: إلهة ضرب العشرات (وطبعا هى لم تكن تضرب العشرات، بل كانت تنضرب بها لأنها امرأة وليست رجلا، وكله فى عالم الوثنية هردميسه يا ام عيسى)! وأتحداك أنت وهو أن تثبتا خطأ أى شىء مما أقول! ولكن ما العلاقة بين "أنترة الأبسى" و"أندرا بن أبسو"؟ أكان هو أيضا يضرب عشرات؟ خيب الله كل عُتُلٍّ زَنِيم!
إن المسألة كلها إنما تتعلق بالأرقام لا بالجذر الذى يزعم سيادته أنه مصدر كل هذا القرف. ومما يدل على ذلك أن "الاستمناء" لا يؤدى إلى تعشير (أىْ تحبيل) لأنه ماء مراق فى الهواء بلا أية فائدة، فلا علاقة له من ثم بالتعشير الذى يجعل كاتبُنا العبقرىُّ الجذرَ الذى نحن بصدده هو الأصل فيه وفى عبارة "يضرب عشرة"... إلخ. والدليل على ذلك أيضا أن هناك رقما آخر يُسْتَخْدَم للتعبير عن عملية "الاستمناء"، ألا وهو الرقم: "31"، ولا علاقة به بالعُشْر ولا بالتعشير. وهناك كلمة كنت أسمع الشبان الجرءاء يصفون بها ذلك، إذ يقولون إن فلانا "يسَرْتِن"، وكنت أفهم معناها رغم جهلى بأصلها وفصلها، إلى أن أخبرنى أحد المترجمين المعروفين أنها اشتقاق تعريبى لفعلٍ من ذلك الرقم الإنجليزى مع تحويل حرف "الثاء" فى "ثرتى وان: thirty one" إلى "سين" على عادة المصريين فى عدم إخراجهم ألسنتهم فى حروف "الثاء" و"الذال" و"الظاء" لأنهم مؤدبون ولا تخرج منهم العيبة. ومثلها أيضا فى الأرقام كلمة "يخمّس" التى كانت متداولة بين الطلبة الفقراء المدخنين، وأخبرنى بعضهم أنها فعل مشتق من الرقم "خمسة" حيث يجتمع خمسة أو نحو ذلك من هذا النوع من الطلاب على سيجارة واحدة حصلوا عليها بشِقّ الأَنْفُس ويظلون يتداولونها بينهم إلى أن يأتوا على آخر نَفَسٍ فيها.(1/73)
وعالم الأرقام عالم عجيب كما نعرف، ومنه فى التعابير العامية: "فلانة بترقص على واحدة ونص"، "واحد ونص وتلات اربع"، "واحد اتنين تلاتة اربعة، آلو ألوه" (عند تجريب مكبر الصوت فى الأفراح والمآتم)، "واحد شايل دقنه، التانى زعلان ليه؟"، "واحد ما فيش غيره"، "الأولة آه، والتانية آه، والتالتة آه"، "القُفّة اللى لها ودنين يشيلوها اتنين"، "التالتة تابتة"، "تلاتة أيمان بالله العظيم"، "علىّ الطلاق بالتلاتة"، "تالِت ومتَلِّت"، "يشيلوك مرابعة يا بعيد"، "جاك كُبّة مربَّعة"، "سلام مربَّع للجدعان"، "خمسة وخميسة"، "مبروك عليك سبع بركات"، "سبع سواقى بتِنْعِى"، "راح سبعة اسبانى" (ذهب هباءً)، "العَشَرة الأوائل"، "عَشَرة على عَشَرة"، "يلعب عشرة كوتشينة" (التى لا علاقة لها بذلك الجذر المقرف ولا بضرب العشرات على الإطلاق إلا إذا لطس الهواء دماغ أحدهم وزعم بشأنها المزاعم على طريقة الدكتور لويس عوض!)، ولعبة "عِدّ العشرة الشايبين" التى كنا نرى مَنْ حولنا يلعبونها ونحن صغار، وقول المصرى حين يضع يده فى يد محدثه كى يقسم له أن ما يخبره به هو الصدق بعينه: "وحياة العشرة دُول" (أى "وحياة أصابع يدينا العشرة المتشابكة")، "العشرة الطيبة"، "حطيت صوابعى العشرة منك فى الشق" (وهو ما طوّرتُه فى خطاب لى كتبته لأستاذى الدكتور شوقى ضيف وأنا فى السنة الثالثة بالكلية عام 1968- 1969م، إذ قلت له، أقصده هو وبقية الأساتذة: "إذا كنتم قد وضعتم أصابعكم العشرة منا فى الشق فقد وضعنا نحن فى الشق أصابعنا العشرين منكم: أصابع يدينا وأصابع قدمينا معا"، فجاء فى اليوم التالى وكنت أجلس فى الصف الأول من قاعة المحاضرة متحفزا وأخبرنى أنه قرأ رسالتى وأنه سيهدينى كتابا. وقد كان، إذ تكرَّم علىّ بعدها بقليل بكتابه: "العصر العباسى الثانى"، الذى كان حديث عهد بالصدور آنذاك فى طبعة جديدة.(1/74)
فكانت لفتة كريمة ونبيلة منه، رحمه الله وأسكنه بحبوحة الجنة)،"قمر اربعتاشر" (للفتاة الجميلة الصبيحة الوجه)، و"ابن ستين فى سبعين"، و"ابن ستة وستين كلب فى بعض"...إلخ!
وننتقل إلى كلمة " صحراء" حيث نجد "أستاذنا الدكتور لويس عوض" (المتخصص فى مبحث ضرب العشرات، والتسعات والثمانيات والسبعات والستات والبنات فوق البيعة) يزعم أن "اسم "دوشيرت: Doshert Doshret," بمعنى "صحراء" هو فى تقديرى (تقديره هو، أبو تقدير) صيغة من "اسم "سقارة" المصرية، و"سَقَر" أو "صَقَر" العربية، بمعنى "جهنم" أو "مملكة الموتى". وبهذا المعنى يمكن تفسير تردد كلمة "المستقرّ" و"المقرّ" فى القرآن عند ذكر "الآخرة". فالجذر إذن هو "قر" أو "كر" أو "خر" أو "حر" أو "جر" أو "شر" (بالميتاتيز: "روك")، وقد دخلت عليها "س" أو "ص" أو "ح" الابتدائية: إما لأنها صُوَرٌ من "dh-d"، وإما لأنها أداة السببية (ترى هل فهمتَ من هذا الكلام شيئا أيها القارئ؟ وهل عند أحد من الوقت أو القدرة أصلا ما يراجع به تلك الكتب، إن كان ثمة كتب بهذا الشكل، ليكشف هذا الهراء؟ إنه كلام وطحينة على حد قول المصريين! إن الرجل يزعم لنا أنه قد أحصى نجوم السماء فوجدها مليون تريليون نجم، وعلى المكذّب أن يعدها بنفسه ويرينا شطارته!). وهكذا خرجت من "قر": "سقر" و"سقارة" و"صحراء" و"صخر" و"حجر"...إلخ. و"طوكر" فى العامية المصرية هى صيغة من "صقر" و"سقر" و"سقارة"، وبهذا المعنى يكون اصطلاح "يرسل إلى طوكر" معناها غالبا: "يرسل إلى الجحيم" أصلا، وليس النفى إلى طوكر فى السودان كما يظن عادة، لأن النفى إلى السودان كان عادة فى "فازوغلى" فى السودان وليس إلى "طوكر".(1/75)
ولأن "سقر" و"سقارة" و"قر" و"قرارة" كانت من أقدم العصور تنصرف إلى مملكة الموت أو جهنم بمثل ما تنصرف إلى معنى "الصحراء" ظهرت فى العربية عبارات مثل "سكرات الموت" دون أن يكون لها علاقة واضحة بفعل "سَكِر يَسْكَر"، أى "ثَمِل يَثْمَل". والكلمتان المتطابقتان من مجرد الهومونيمات التى تدعو إلى المجاز فى الاستعمال البلاغى: "وجاءت سَكْرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد" (ق/ 19)، "وترى الناس سُكارَى، وما هم بسُكَارى، ولكن عذاب الله شديد" (الحج/ 2). ومن جذر "كر" أيضا الألفاظ المتعلقة بمملكة الموت مثل اسم الملكين: "ناكر" و"نكير" ومادة "نشر- نشور"، وهى من "ناكر: نا+ شر"، وكذلك مادة "حشر" ومادة "الآخرة". واسم "قرارة= مملكة الموتى" بجوار "شارونة" فى المنيا. قارن "Acheren" (ص 543- 544).
منه لله لويس عوض، فقد أصابنى بصداع رهيب من جراء هذه الثرثرة السخيفة الفارغة! ولا أدرى، بعد شارونة، لماذا لم يذكر اسمه فى هذه الهيصة والزمبليطة قائلا إن "لويس" مأخوذ من "إبليس" كبير قاطنى جهنم، أو من "هاديس" ملك جهنم مستقرّ إبليس، وبئس المصير! ذلك أن شارونة هى بلد الدكتور لويس، ولهذا أستغرب أنه لم تأخذه الجلالة فى غمرة الإسهال اللفظى الذى برع فيه أيما براعة حتى أصبح اسمه عنوانا مسجلا فى الشهر العقارى على ذلك، فلم يذكر اسمه فى هذا السياق!(1/76)
والآن نبدأ فى مناقشة هذا الكلام المصاطبى، وليكن آخر شىء قاله هو أول شىء نتناوله، وهو "قرارة"، التى يزعم كما يحلو له دون رقيب أو حسيب أنها مملكة الموتى، والتى قال فيها قبل ذلك إنها (كما هو الحال فى "سقر" و"سقارة" و"قر") كانت منذ أقدم العصور تنصرف إلى مملكة الموت أو جهنم، وإنه "بهذا المعنى يمكن تفسير السبب فى تكرر "المستقرّ" و"المقرّ" فى القرآن عند ذكر "الآخرة"...". فهل صحيح ما قاله عن تكرر كلمة "المستقر" و"المقر" فى القرآن الكريم؟ كعادتى سوف أترك النصوص تتكلم حتى لا أتحول إلى مفتى مصاطب كبعض الناس الذين لا تحس، رغم ما حصلوا عليه من شهادات دكتورية من الجامعات الأجنبية (أو "الأدنبية" بلغة المصاطب)، أنهم يمتازون عن أهل المصاطب فى شىء.(1/77)
وأهل المصاطب هم الريفيون السذج كما عهدتهم فى قريتى فى خمسينات القرن الماضى وستيناته الذين يظن الواحد منهم أنه أهل لتناول أى موضوع مع أنه لا يفهم الألف من كوز الذرة، فتراه يتحدث عن إسرائيل على أنه رجل ويسميه: "إسرائين ابن الكلب"، ويتمنى أن يلقاه يوما حتى يخنقه ويريح الناس من شره، أو تسمعه يقول عن "الميكروكروم": "المَكْرَفون" وعن "الكبريت": "الكَسْفَرِيت" وعن "كيس الشاى": "كَسْكَرِة (أى تذكرة) الشاى" وعن "الراديو": "الرَّضْوُنْ" و"التلفزيون": "الفِلْفِزْيُون"، ويدّعى أن محمود سليمان السفاح الذى شغل مصر فى أول الستينات من القرن الماضى، وحوّل نجيب محفوظ حكايته إلى رواية سياسية فلسفية بعنوان "اللص والكلاب"، قد عرض على جمال عبد الناصر أن يأتيه برئيس وزراء إسرائيل فى غَلَق (لاحظ: "فى غَلَقٍ صغير" لا فى "قُفَّةٍ كبيرة") ويسلمه له ويريحه منه ومن شرّه، لكن عبد الناصر (منه لله! ألا يقول أعداؤه عنه إنه كان أمريكى الهوى رغم كراهيته الظاهرية لـ"إسرائين ابن الكلب"؟) رفض هذا العرض السخىّ مفوِّتًا على مصر بهذا التصرف الأخرق فرصة التخلص من عدوها الألدّ إلى الأبد! فهذا هو كلام المصاطب كما كنت أسمعه فى قريتى وأنا طفل صغير!(1/78)
فماذا تقول النصوص القرآنية يا ترى؟ أوّلاً ليس فى القرآن المجيد (الذى يمثل القَذَى والأذى لعيون بعض الناس والسم الهارئ لبطونهم) كلمة "مقرّ" البتة، اللهم إلا إذا كان الكاتب يقصد "مقر الاتحاد الاشتراكى" المغدور مثلا مما لا صلة بينه وبين القرآن. وهذه أول بركة من بركات المصاطب، إذ واضح أن الكاتب قد جلس متسلطنا منجعصا كما كان أحلاس المصاطب فى القرية يفعلون أثناء طفولتى قبل أن يهدمها المجلس المحلى ليوسع الشوارع والحوارى ويقضى (منه لله هو أيضا!) على هذا الملمح الطريف من ملامح الفلكلور، وأخذ يهذى بكلام ما أنزل الله به من سلطان ويرصّ جملا وعبارات لا وجود لها خارج مخه! فهذه واحدة، أما الثانية فقد وردت كلمة "مستقر" فى كتاب الله العظيم 10 مرات: منها ستٌّ للدنيا (أكرر: للدنيا، وليس لعالم الموتى يا مفتئت!)، ومرتان للجنة ("للجنة"، لاحظ!)، ومرة واحدة (واحدة فقط يا خلق هوه!) لجهنم الحمراء التى ستُشْوَى فيها جلود بعض الناس المُفْتَرِيَة على الله الكذب. كذلك لا توجد فى كتاب الله كلمة اسمها"قرارة"، ومع ذلك فسوف نستعيض عنها بكلمة "قرار"، التى تكررت فى القرآن 9 مرات: سبعٌ منها فى أمور الدنيا، ومرةٌ للآخرة بوجه عام، ومرةٌ واحدةٌ (واحدة فقط يا عالم!) لجهنم الحمراء التى ستُشْوَى فيها... إلخ.(1/79)
هذه هى الحقيقة الساطعة التى تخزق عين كل مكابر جهول، ومن يقل بغير ذلك فهو مصطبىٌّ من بتوع "إسرائين ابن الكلب" و"المَكْرَفون" و"الفِلْفِزْيُون"، وإن قال عنه بعض الناس: "أستاذنا الدكتور فلان"! نعم مصطبىٌّ يريد أن يربط الناسُ فى أذهانهم بين الإسلام ووثنيات اليونان القدماء التى تتحدث عن مملكة الموتى تحت الأرض وما إلى ذلك، حتى لا يكون أحد أحسن من أحد وحتى يكون الإسلام الموحد النقى تمام النقاء مشوبا معيبا فلا يشمخ بأنفه على غيره من الديانات التى حُرِّفَتْ وزُيِّفَتْ وتحولت من أديان توحيدية إلى أديان وثنية تُعَدِّد الآلهة وتُؤَنْسِنهم وتأكل لحومهم وتشرب دماءهم كمتوحشى الزمن القديم!(1/80)
والآن نذهب إلى "سَكَرات الموت"، التى يزعم "أستاذنا الدكتور لويس عوض على سن ورمح" أنها لا علاقة لها بالسُّكْر، بل بسَقَر. طيب، فماذا نقول فى كلام النبى وهو فى أيامه الأخيرة يعانى من آلام مرضه الذى انتهى به إلى الوفاة، وذلك حين قال: "إن للموت لسَكَرات"؟ أوكان صلى الله عليه وسلم يقصد أنه يعانى من عذاب "سَقَر"؟ أستغفر الله العظيم! وعندما يقول القرآن الكريم عن الكافر فى نزعه الأخير: "وجاءت سَكْرَة الموت بالحقّ. ذلك ما كنتَ منه تَحِيد"، أكان يقصد أن هناك جهنّمًا فى الدنيا قبل جهنّم الآخرة؟ ترى ما وجه الصعوبة فى أن يكون للموت "سكرات"، بمعنى أنه قد يُغْشَى على الميّت كما يُغْشَى على السكران، أو يصيبه ما يصيبه من ذهول، أو يفقد السيطرة على نفسه مثله؟ إن للسُّكْر فى كلام العرب استعمالات متعددة لا صلة بينها وبين الخمر بمعناها الحرفى، استعمالات مجازية للتعبير عن تأثير نظرات عين الحبيبة وحديثها، والشعور بالسعادة أو الغم حسب حالة كل منا، وعن تسلط الآثام على نفوس البشر، وعن الغفلة عن الحقائق المرة التى تنتظر الإنسان فى منعطف الطريق... إلخ، و"سكرة الموت" أحد تلك الاستعمالات. وقد استعمل القرآن إلى جانب "سكرات الموت" تعبيرات أخرى تؤدى ذات المعنى تقريبا، كقوله عَزّ مِنْ قائل: "ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت..." (الأنعام/ 93)، وقوله يصف رعب المنافقين من القتال: "فإذا جاء الخوفُ رأيتَهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يُغْشَى عليه من الموت" (الأحزاب/ 19). كذلك فللسُّكْر مكان متميز فى دنيا المتصوفة وأشعارهم يعبرون به عن مشاعر الوجد والانتشاء بما يقولون إنه الاقتراب الحميم من الله، ولا أزيد. ونَفْسَ الشىء قُلْ فى أشعار الغزل والحب فى الأدب العربى.(1/81)
والعامة تقول: "راحت السَّكْرة، وجاءت الفكرة"، وهذا عكس ما يقول لويس عوض تماما، إذ الفكرة هنا تشير إلى المعاناة والندم والألم، أما السكرة فترمز إلى الفرح التام وعدم المبالاة. وكانت هناك قريبة لنا تقول ضاحكة كلما ألح الأطفال عندها على طلب السُّكّر: "جاك (أى "جاءتك"، بمعنى "أصابتك") سَكْرة يَنِّى!" (تدعو عليهم بالذهول والحيرة والدوخة، مداعبةً طبعًا ليس إلا)، ومن المؤكد أن يَنِّى ليس خازنا من خَزَنة سقر، بل هو خمارٌ إجريجىّ كما يدلّ اسمه. أم إن لـ"أستاذنا الدكتور" رأيا آخر؟ كذلك لو كانت "السَّكْرة" مأخوذة من "سَقَر" كما يزعم لويس عوض لقالوا (بالفصحى): "سَقَرات الموت" (لا "سكرات الموت")، و(بالعامية): "سَأَرات أو سَجَرات الموت" على عادة المتحدثين بالعامية من قلب القاف همزةً أو جيمًا قاهريةً حسب نطق البلد الذى ينتمى إليه المتحدث. أليس كذلك؟
أما أنا فلا أصدق للحظة واحدة أن الدكتور لويس عوض يجهل شيئا من هذا، وإلا كانت كارثة، وإن كان جاهلا فى أشياء أخرى كثيرة جهلا فاحشا مخزيا كما لاحظنا، لكنه فى كلا الحالين يعمل على إشاعة الاضطراب فى كل شىء، وما عبارة "الفوضى الخلاقة" التى قالتها الآنسة كوندى بالمنفصلة عما كان لويس عوض يرمى إليه، إذ هم كلهم ينزعون عن قوس واحدة، ويصوبونها نحو ذات الهدف! وما دفاعه وحده من بين الكتاب المصريين عن مجلة "حوار" فى الستينات حين انكشف المستور وعرف القاصى والدانى أنها تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتعمل على تنفيذ غايات الولايات المتحدة الأمريكية فى بلاد العرب والمسلمين ببعيد! وما انتهازه كل فرصة لتحريض الدولة على الإسلام والتعبير عن الضيق به بالذى يمكن أن يغيب عن الأذهان!(1/82)
ومن ذلك أنه فى ورقة قرأها فى مؤتمر اتحاد الخريجين الأمريكيين العرب فى 31 أكتوبر 1971م فى بوسطن سخر سخرية شديدة كلها غيظ وكراهية نارية حقود من وعاظ القرى المتخلفين المنتمين إلى العصور الوسطى على حد تعبيره، وكذلك المنابر التى أتاحتها لهم الدولة لكى يتغلغلوا بها إلى عقول الملايين (يقصد المساجد بطبيعة الحال)، حتى إنه عند نداء "الله أكبر" تحسب أن القاهرة غارقة فى حلم من التقوى الشاملة منذ عهد الخلفاء الراشدين. كما عرّج فى ذات الورقة على القومية العربية فتهكم بها وأبدى غيظه من اتساعها لتشمل كل شىء بدءا من العنصرية السافرة إلى الجامعة الإسلامية طبقا لمراعمه الكاذبة المدلسة. وبالمثل هبش فى كل من يقول إن هناك اشتراكية عربية تنبع من آيات القرآن، كما زعم كذبا ومينا أن هذا فكر ثيوقراطى، مع أن الثيوقراطية هى حكم رجال الدين، وهو ما لم يحدث فى بلاد الإسلام، بل مارسته الكنيسة فى العصور الوسطى المظلمة عندهم، المنيرة عندنا، ويريد بعض كبارهم الآن أن يعيدوا تلك الأيام السود، بل أعادوا بعض جوانبها فعلا (انظر لويس عوض/ رحلة الشرق والغرب/ سلسلة "اقرأ"/ يونيه 1972م/ العدد 354/ 111- 112، 117). وتنظر فى الكتاب لعلك أن تجد شيئا مناظرا لهذا فى السخرية من الكنيسة أو التحذير من جهل قساوستها وتخلف عقول وعاظها ومرتاديها والشعور بالانزعاج من ضجة نواقيسها والانتقاد الحاد لثيوقراطيتها فلا تسمع إلا صمتا إن كان الصمت يُسْمَع! إذن فليس هناك تخلف إلا فى المساجد وعند المسلمين، أما الأقباط فهم مثال التقدم والتحضر، وأما كنائسهم فهى جنة الله على الأرض وقمة التقدم والتنوير!(1/83)
وعودةً إلى موضوعنا نشير إلى أن فى اللغة الفرنسية مثلا التعبير التالى: "ivre d'orgueil: سكرانُ من الكِبْر"، وهو ما نقول عنه فى لغتنا: "منتفخٌ كبرا وغرورا"، و"ivress de joie: سكرة البهجة"، أو "نشوة السعادة" مثلما نقول نحن، إذ النشوة هى السَّكْرة كما هو واضح، ولا علاقة للأمر بسَقَر من قريب أو بعيد. وفى الإنجليزية أيضا: "intoxicated by success: أسكره النجاح" و"intoxicated with joy: نشوان من الفرحة". وفى الكتاب المقدس: "أُسْكِر سهامي بدمٍ، ويأكل سيفي لحما: بدم القتلى والسبايا، ومن رؤوس قواد العدو" (تثنية/ 32/ 42)، "ليُرْوِك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها أسْكَرُ دائما" (أمثال/ 5/ 19)، "بابل كأس ذهبٍ بيد الرب تسكر كل الأرض" (إرميا/ 17/ 5)، "فدُسْتُ شعوبا بغضبي، وأسكرتُهم بغيظي، وأجريتُ على الأرض عصيرهم" (إشعياء/ 6/ 63)، "وأُطْعِم ظالميك لحم أنفسهم، ويسكرون بدمهم كما من سُلاَف، فيعلم كل بشر أني أنا الرب مخلّصك وفاديك " (إشعياء/ 26/ 49)، "قد سَكِروا، وليس من الخمر. ترنحوا، وليس من المُسْكِر" (إشعياء/ 29/ 9)، "وتشربون الدم إلى السُّكْر من ذبيحتى التى ذبحتُها لكم" (حزقيال/ 39/ 17)، "ورأيت المرأة سكرى من دم القديسين ومن دم شهداء يسوع" (رؤيا يوحنا/ 6/ 17)، "وسَكِر سُكّان الأرض من خمر زِنَاها" (رؤيا يوحنا/ 17/ 3).(1/84)
كذلك يترجم المستشرق ورتبات صاحب "Arabic-English Dictionary" على سبيل المثال "سكرة الموت" بـ"agony or confusion of mind caused by the approach of death"، كما يترجم "سَكْرة الهمّ" (وهى قريبة من "سَكْرة الموت" إلى حد بعيد) بـ"oppressive sensation arising from anxiety" قولا واحدا دون مماحكات أو تنطعات فاضية! ومثله المستشرق هانز فير صاحب المعجم العربى- الإنجليزى: "A Dictionary of Modern Written Arabic"، الذى ترجمها بـ"agony of death"، وكذلك إلياس أنطون إلياس صاحب القاموس العصرى العربى- الإنجليزى، الذى ترجمها بـ"death pang, agony". بل إن فى كلتا اللغتين تعبيرا يربط بين السُّكْر والموت، وهو "ivre mort"، "dead drunk"، أى "سكران لدرجة الموت"، أو كما نقول بالعامية: "سكران طينة"، ولا علاقة لهذا التعبير بـ"سَقَر" على الإطلاق كما لا يحتاج الأمر إلى شرح. وقد ترجم عدد من أشهر مترجمى القرآن إلى الفرنسية، وهم إدوار مونتيه وريجى بلاشير ود. ماسون ومحمد حميد الله وچان- لوى ميشون، قوله تعالى: "سكرة الموت" بـ"l'ivresse de la mort"، وواضح أنهم قد ترجموا العبارة كما هى بما يدل على أن الفرنسية تعرف مثل هذا التعبير حرفيا أو على الأقل: تتسع له ولا تجد فيه أدنى غرابة، وأنه ليس من "سَقَر" فى قليل أو كثير.(1/85)
أما طوكر (التى تتبع ولاية البحر الأحمر فى السودان ويبلغ تعداد سكانها الآن حوالى 22700 نسمة، وكانت مسرحا لمعارك طاحنة بين عثمان دقنة الثائر السودانى المسلم وعتاولة الجيش البريطانى فى أواخر القرن التاسع عشر أوقع بهم البطل العربى المسلم خلالها عدة هزائم ساحقة دفعت رديارد كبلنج الشاعر البريطانى المتعصب إلى الإشادة القوية به وبجنوده فى قصيدةٍ جِدِّ مشهورة، ونجا ونستون تشرشل، الذى كان مراسلا صحفيا آنذاك، من الموت فى إحداها بأعجوبة) فليس لى من تعليق على كلام المصاطب الذى قاله بشأنها "أستاذنا الدكتور لويس عوض" إلا أن التعبير المرتبط بها لم يكن له وجود، بل إن اسمها نفسه لم يكن يدور على ألسنة المصريين، قبل انتشار عقوبة النفى إليها من قِبَل السلطات المصرية التى كانت تبسط سلطانها آنذاك على السودان ومصر معا (وكان رفاعة رافع الطهطاوى ممن وُقِّعَتْ عليهم تلك العقوبة فى عهد عباس الأول)، وإلا فليدلنا "أستاذنا الدكتور لويس عوض" على عكس ما نقول. وليس من المعقول أن يزعم زاعم أن المصريين كانوا لا يزالون بعد كل تلك الدهور المتطاولة يحتفظون بمعاجم اللغات القديمة التى ماتت وانجحمت كى يفتحوها ويبحثوا عن الكلمة التى تدل على العالم السفلى، عالم الأموات وجهنم الحمراء، ليُدْخِلوها فى كلامهم كى تدل على مدينة اسمها "طوكر" فى السودان، وتسوقهم المصادفة المحضة إلى كلمةٍ شبيهةٍ بـ"طوكر" هذه من دون كل الكلمات الأخرى التى تعد بعشرات الألوف! اسم النبى حارسك وصائنك يا دكتور لويس! عجيب أمر كل تلك المصادفات التى تتفوق على مصادفات الأفلام المصرية القديمة! وكل هذا من أجل إغراقنا فى وثنيات الإغريق وما أشبه! فلْيُسَوِّق "أستاذنا الدكتور بتاع روزا مستيكا" وثنيات الإغريق فى مكان آخر غير بلاد المسلمين، وإلا أحضرت له البُعْبُع المرعب محمود شاكر!(1/86)
وأما "ناكر ونكير" فقد بحثتُ فى موقع آل البيت الأردنى (www.altafsir.com) الذى يضم عشرات التفاسير من مختلف الاتجاهات والمذاهب والعصور فلم أجد فى كلام المفسرين إلا هذا النص اليتيم فى كتاب "مجمع البيان في تفسير القران" للطَّبَرْسِىّ الشيعى الاثنى عشرى: "روى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (ع) قال: سورة المُلْك هي المانعة تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة: "سورة المُلْك". ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يُكْتَب من الغافلين. وإني لأركع بها بعد العشاء الآخرة وأنا جالس. وإن الذي كان يقرأها في حياته في يومه وليلته إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قِبَل رجليه قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قِبَلي سبيل. قد كان هذا العبد يقوم عليَّ فيقرأ سورة الملك في كل يوم وليلة. فإذا أتياه من قِبَل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قِبَلي سبيل. كان هذا العبد وقد وعى سورة الملك. وإذا أتياه من قِبَل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قِبَلي سبيل. قد كان هذا العبد يقرأ في كل يوم وليلة سورة الملك". وهذا، كما ترى، كلام لا رأس له ولا ذنب، وهو كلام عامى من أوله إلى آخره حسبما هو واضح، وفوق ذلك فليس فى القرآن الكريم ولا فى السنة المطهرة شىء أىّ شىء عن ناكر ونكير هذين!(1/87)
والآن لابأس أن نعرّج فى طريقنا على ما قاله فى ص 257 بشأن الأصل الخاص بلفظ "حماطة"، الذى يقول إنه مأخوذ، فيما يبدو، من الاسم: "أبتا: Ab-ta"، وهو أحد أسماء الثعابين المتعددة التى يصارعها الميت فى الدار الآخرة، فى الأساطير بطبيعة الحال. لكن أنَّى له بأن "الحماطة" تعنى "الثعبان"؟ الجواب، كما يدَّعى، هو أن المعرى قال هذا فى "رسالة الغفران". فهل هذا صحيح؟ لقد سبق أن أتى لويس عوض بالمعجز الباهر فى الجهل والغشم والتغشمر والهجوم على العلم هجوم الثيران ذات الحوافر الغبية على محالّ الخزف والبلور التى تبيع التحف الرقيقة وتتعامل مع الناس الأنيقة، وذلك عندما طلع علينا فى ستينات القرن الماضى بنظرية متهافتة عن تأثر أبى العلاء براهب اللاذقية، وقرأ بعبقريته الفريدة كلمة "الصِّلِّيان"، وهو نبات ترعاه الإبل فى الصحراء، على أنه "الصُّلْبان" ليقرر من وراء ذلك شيئا فى صالح دينه وصليبه بإيهام القراء المساكين أن حلب صارت تغصّ أيام أبى العلاء بالصُّلْبان مما يكشف عن أعماقه الحقيقية، وهو الرجل المشتهر بالعلمانية. وكان من ثماره المرة ذلك الدرس الذى حاول أن يعلمه إياه محمود شاكر لعله أن يتعلم كيف يبحث ويكتب ويؤلف، وكانت فضيحته على الملإ فضيحة لم تحدث من قبل، فضيحة بجلاجل مما يسمونه: "جُرْسَة"، ورغم ذلك لم يتعلم شيئا رغم تأكيده فى مقدمة كتابه: "على هامش الغفران" أنه قد استفاد من الأستاذ شاكر رحمه الله، فعاد اليوم يكرر ذات الجهل وذات الغشم وذات التغشمر وذات الهجوم الثيرانى الأظلافى. ولكن لا ينبغى أن نستبق الأحداث، وتعالَوْا أولا نقرأ ما كتبه المعرى فى رسالته. والحمد لله أنه لن يكون علينا أن نذهب بعيدا فى البحث عن هذه الكلمة، إذ هى موجودة فى أول فقرة من الكتاب، وهذا نص ما كتبه شاعر المعرة وفيلسوفها:(1/88)
"قد علم الجبر الذي نسب إليه جبريل، وهو إلى كلّ الخيرات سبيل، أن في مسكني حماطة ما كانت قطّ أفانية، ولا الناكزة بها غانية، تثمر من مودّة مولاي الشيخ الجليل، كبت الله عدوّه، وأدام رواحه إلى الفضل وغدّوه، ما لو حملته العالية من الشجر، لدنت إلى الأرض غصونها، وأذيل من تلك الثمرة مصونها. والحماطة ضرب من الشجر، يقال لها إذا كانت رطبة: أفانية، فإذا يبست فهي حماطة. قال الشاعر:
إذا أمّ الوُلَيِّد لم تطعني ... حَنَوْتُ لها يدي بعصا حماطِ
وقلت لها: عليك بني أقيش* فإنّك غير معجبة الشَّطاط
وتوصف الحماطة بإلف الحيّات لها، قال الشاعر:
أتيح لها، وكان أخا عيال، ... شجاعٌ في الحماطة مستكنُّ
وإن الحماطة التي في مقرّي لتجد من الشوق حماطة، ليست بالمصادفة إماطة. والحماطة حرقة القلب. قال الشاعر: وهَمٍّ تملأ الأحشاء منه. فأما الحماطة المبدوء بها فهي حبة القلب. قال الشاعر:
رمت حماطة قلب غير منصرفٍ ... عنها، بأسهم لحظ لم تكن غربًا"
فهل فى كلام المعرى ما يدل على أن "الحماطة" التى يتفلسف عبقرينا ويضرب بشأنها الودع ليتتبع تاريخها الضارب فى أغوار الدهور هى الثعبان؟ إنها هى حبة القلب مرة، وحرقته مرة أخرى، وشجرة كشجرة التين مرة ثالثة. وهذه الشجرة قد يستكن فيها الثعبان، ولكن ذلك لا يجعلها هى نفسها ثعبانا، وإلا صار الشق هو أيضا ثعبانا، وصار الماء كذلك ثعبانا، وصارت الكتب ثعابين، وصارت المخالى والأسفاط ثعابين، إذ الثعابين قد تسكن الشقوق، وقد تسبح فى المياه، وقد تختبئ بين الكتب، وقد توضع فى المخالى والأسفاط، ولكن الجاهلين لا يفقهون.(1/89)
وعلى أية حال هذه هى معانى "الحماطة" حسبما قال ابن منظور، ابن منظور اليابانى الأصلى لا ابن منظور التجارى المضروب المغشوش الذى لا يصلح إلا للرمى به فى الزبالة، وهذه المعانى لا تخرج عما قرأناه فى "رسالة الغفران". يقول ابن منظور: "الحَماطةُ: حُرْقةٌ وخُشونةٌ يجدُها الرجل في حَلْقِه. وحَماطةُ القلب: سَوادُه. وأَنشد ثعلب:
ليتَ الغُرابَ رَمى حَماطَةَ قَلْبِه ... عَمْروٌ بأسْهُمِه التي لم تُلْغَبِ
وقولهم: أَصَبْتُ حَماطةَ قلبِه، أَي حَبَّةَ قَلبِه. الأَزهري: يقال: إذا ضَرَبْتَ فأَوْجِع، ولا تُحَمِّطْ، فإِن التَّحْميطَ ليس بشيء. يقول: بالِغْ. والتحْمِيطُ: أَن يُضْرَبَ الرجلُ فيقولَ: ما أَوْجَعني ضرْبُه، أَي لم يُبالِغْ. الأَزهري: الحَماطُ: من ثَمَر اليمن معروف عندهم يُؤكل. قال: وهو يشبه التِّين. قال: وقيل إِنه مثل فِرْسِكِ الخَوْخِ. ابن سيده: الحَماطُ: شجر التين الجبليّ. قال أَبو حنيفة: أَخبرني بعض الأَعراب أَنه في مثل نبات التين غير أَنه أَصغر ورقًا، وله تين كثير صغار من كل لون: أَسود وأَملح وأَصفر، وهو شديد الحلاوة يُحْرِقُ الفم إذا كان رطبًا ويَعْقِرُه، فإِذا جَفَّ ذهب ذلك عنه. وهو يُدَّخَر، وله إذا جَفَّ مَتانةٌ وعُلوكة، والإِبل والغنم ترعاه وتأْكل نَبْتَه. وقال مرّة: الحَماط: التين الجبليّ. والحَماطُ: شجر من نبات جبال السَّراةِ، وقيل: هو الأَفانَى إذا يَبِسَ. قال أَبو حنيفة: هو مثل الصِّلِّيانِ، إِلا أَنه خَشِنُ المَسِّ. الواحدة منها حَماطةٌ. أَبو عمرو: إذا يبس الأَفانَى فهو الحَمَاط. قال الأَزهري: الحَمَاطةُ عند العرب هي الحَلَمةُ وهي من الجَنْبةِ، وأَما الأَفانَى فهو من العُشْب الذي يَتناثَر. الجوهري: الحَماطُ يَبِيسُ الأَفانَى، تأْلفه الحيات. يقال: شيطانُ حَمَاطٍ، كما يقال: ذئبُ غَضًا، وتَيْسُ حُلَّبٍ. قال الراجز، وقد شبه المرأَة بحَيَّةٍ له عُرْف:(1/90)
عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ، ... كمِثْل شَيْطانِ الحَماطِ أَعْرَفُ
الواحدة حَماطة. الأَزهري: العرب تقول لجِنْسٍ من الحيّاتِ: شيطانُ الحَماط، وقيل: الحماطة (بلغة هذيل): شجر عِظامٌ تنبت في بلادهم تأْلفها الحيات. وأَنشد بعضهم: " كأَمْثالِ العِصِيِّ من الحَماطِ". والحَماطُ: تبن الذُّرة خاصّة؛ عن أَبي حنيفة".
وبعد، فقد خطر لى أن أعود إلى كتاب لويس عوض: "على هامش الغفران" لأرى ما لعله يكون قد قاله فى "حماطة" التى وردت فى كتاب المعرى موضوع "الهامش"، فوجدته قد فهمها على وجهها الصحيح، فتأكد لدىّ أنه قد فعلها هنا عن عمد ما دام قد فهمها الفهم السليم قبل ذلك بعشرين عاما، وإن كان كديدنه الخبيث قد حاول رغم ذلك هناك أن يثلِّث عقيدة المعرى بخلع معانى الخطيئة الأولى والسقوط وصكوك الغفران على ما كتبه الشاعر المسلم رحمه الله، ولا رحم من أراد صبغ فكره بالصبغة النصرانية!(1/91)
ومن التفسيرات القرآنية لسيدنا الشيخ لويس عوض تفسيره لـ"العين الحَمِئَة" فى قوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)" بأنها "عين شمس" أو "هليوبوليس" أو "مدينة الشمس"، فهى "عين هليوس" أو "عين حورس" أو "عين حميم" أو "عين شمس"، وإلا كان صعبًا علينا، كما يقول، أن نتصور غروب الشمس فى بئر من نار يقيم عندها الناس (ص 573). ولكن من قال إن العين بئر، وإنها بئر من نار، وإن الشمس غربت فيها فعلا؟ إن العين قد تكون بئرا، وقد تكون بحيرة مثلا. كما أن "حمئة" لا تعنى أنها مملوءة نارا بالضرورة، بل قد تعنى أن ماءها حار، وطينها أسود كما يقول المفسرون. أما إن أصر على أنها مملوءة نارا فمن الممكن أن تكون فى موضعٍ مشبَّعٍ بالنفط تشتعل فيه النار على الدوام أو لفترات طويلة. ويبقى غروبها فى تلك العين. وبطبيعة الحال فإن الشمس لا تغرب فى العيون، ولا فى غير العيون، والقرآن واضح تمام الوضوح فى النص على أنها فى السماء وأنها مستمرة فى الجريان فى موضعها هذا إلى أجلها المقدور.(1/92)
وعلى هذا فالقول بأنها تغرب فى الموضع المعروف قرب القاهرة والمسمى: "عين شمس" لن يحل المشكلة، إذ الشمس لا تغرب لا فى عينٍ حمئةٍ ولا فى عين شمس، بل هى لا تغرب فى أى مكان على الإطلاق بالمعنى الحرفى، لسبب بسيط هو أنها لا تصعد من الأرض ولا تهبط فيها، بل الأرض هى التى تتحرك حولها مع دورانها فى ذات الوقت حول نفسها على محور مائل كما هو معروف، فينشأ عن ذلك ابتعاد المواضع التى فوق الأرض عن الشمس تدريجا ثم العودة إلى مواجهتها لها بنفس الطريقة على التوالى، وهو ما نسميه: "غروبا" و"شروقا" على سبيل الظاهر لا أكثر ولا أقل. والقرآن قد جرى على تلك الطريقة لأنه نزل بلغة العرب، ولغة العرب ومعها كل لغات العالم تقول ذلك فى مثل تلك الظروف.(1/93)
وهذه طائفة من الشواهد النثرية والشعرية فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية يتحدث فيها أصحابها لا على أن الشمس تشرق وتغرب فحسب، بل عن سقوطها أو غوصها أو غروبها فى البحر أو فى السهل أو ما إلى هذا: "Alone stood I atop a little hill, And beheld the light-blue sea lying still, And saw the sun go down into the sea" )من قصيدة بعنوان "AN EPISTLE" لـ (Numaldasan،"The sun sinks down into the sea" (من رواية"The Water-Babies" لـ(Charles Kingsley، "The Sun came up upon the left, out of the sea came he! And he shone bright, and on the right Went down into the sea" (من قصيدة"The Rime of the Ancient Mariner" لكوليردج)، "The red sun going down into the sea at Scheveningen" (من"Letter from Theo van Gogh to Vincent Gogh van Auvers-sur-Oise, 30 June 1890")، "The sun sank slowly into the sea" (من مقال"The Light Of The Setting Sun" لـRocky)، "Just then the sun plunged into the sea it popped out from behind the gray cloud screen that had obscured the fiery disk" (من مقال بعنوان "Taps for three war buddies" فى موقع ("sun-herald.com"،"le soleil descendre dans l'ocean ... " (من"L'Ile des Pinguins" لأناتول فرانس)، "Le soleil, disparu dans la mer, avait laissé le ciel tout rouge, et cette lueur saignait aussi sur les grandes pierres, nos voisines" (من " En Bretagne" لجى دى موباسان)، "Spectacle saisissant, que le soleil couchant dans ces dunes impressionnantes" (من مقال"Raid en Libye " لـRoger Vacheresse)، "On comprend aussi que la blessure de Réginald a quelque chose du Soleil plongeant dans la mer" (من"Les Chants de Maldoror". لـle comte de Lautréamont)(1/94)
بقى أن نقول إنه لو كان القرآن قد أراد منطقة عين شمس كما زعم سيدنا الشيخ لويس بن عوض المصرى مولدًا، الكمبريدجىّ دكتوريّةً، البكاش علمًا لما نكَّرها قائلا إنها مجرد "عينٍ حمئةٍ" من عيونٍ حمئةٍ كثيرة، بل لقال: "وجدها تغرب فى عين شمس" أو "فى مكان يقال له: عين شمس": هكذا باستخدام اسم العَلَم كما هو دون ترجمته لأن أسماء الأعلام لا تترجم. ثم إنه لا يقال إن المصريين كانوا بالنسبة لذى القرنين "قوما": هكذا بالتنكير والتجهيل، بل كانوا شعبا ذا حضارة ومدنية وله دولة مستقرة مشهورة فى العالمين تحدث عنها القرآن فى عدة مواضع منه. لكل هذا لا أملك إلا أن أقهقه مما اجترحت يد لويس عوض من تفسيرٍ حلمنتيشىّ فى سياق لا يحتمل التفسيرات الحلمنتيشية!
وهناك وجه آخر فى تفسير الآية الكريمة رأيت ابن حزم فى كتابه العبقرى العظيم: "الفِصَل فى الملل والنِّحَل يقول به ويرفض كل ما سواه، وهو أن الذى كان فى "عينٍ حمئةٍ" ليس هو الشمس، بل ذو القرنين نفسه. والمعنى حينئذ هو أن الرجل قد أدركه المغرب (أو أدرك هو المغرب) وهو فى العين الحمئة. وتركيب الجملة يسمح بهذا بشىء غير قليل من الوجاهة، وإن لم يكن هو المعنى الذى يتبادر للذهن للوهلة الأولى. وشِبْه جملة "فى عين حمئة" فى هذه الحالة سيكون ظرفًا متعلقًا بفاعل "وجدها" وليس بالمفعول، أى أنه يصور حال ذى القرنين لا الشمس، وإن كان من المفسرين من يرفض هذا التوجيه كأبى حيان فى "البحر المحيط"، إذ يرى فيه لونا من التعسف. وسأضرب لهذا التركيب مثلا أَبْسَط يوضح ما أقول، فمثلا لو قلنا: "ضرب سعيدٌ رشادًا واقفا" لجاز أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، وسعيد واقف، أو أن يكون المعنى هو أن سعيدا ضرب رشادا، ورشاد واقف. والسياق هو الذى يوضح ما يراد.
*****(1/95)
ولأن صاحب الكتاب لا يعتمد على علم ولا يريد بلوغ الحقيقة بل يكتب ما يعنّ له لغاية فى نفس يعقوب نراه يتناقض بقول شىء فى أمر ما فى موضع من المواضع، وقول شىء غيره فى الأمر ذاته فى موضع آخر. ذلك أن كل ما يكتبه فى هذا الكتاب إنما هو خطرات من وساوسه لا علم فيها ولا منطق ولا عقل. مثال ذلك أنه فى ص 172- 173 يقول إن كلمة "طور: tur" فى العبرية معناها سور من الحجر يحيط بمكان ما، وإن كلمة "طيارة: tyara" فى السريانية تعنى "حظيرة البهائم". ولذلك يطلب من القارئ أن يقارن بها كلمة "طوالة" المصرية بلغة الفلاحين، بمعنى "حظيرة بهائم". ثم يقفز إلى القول بأن جذر كلمة "سور" هو نفسه، فيما يبدو، جذر "طور" العبرية أو "طيارا" السريانية، وربما أيضا لا أدرى ماذا من اللغات الأخرى. لكنه فى ص 267- 268 يقول إن "كلمة "أطت: at.t" أو "طت: t.t" فى المصرية القديمة تعنى "خوان، مائدة (ما+ ئدت)". وجذر كلمة "منضدة (من+ ضدت)" هو غالبا جذر كلمة "تابوت" عن طريق "طاؤات: tau.t"، بل هو غالبا جذر "تابولا: tabula" الهندية الأوربية بمعنى "مائدة" (قارن "طاولة" و"طبلية"). وصيغة "طاولة" الشامية بمعنى "مائدة" تدل على أن "تابولا" الهندية الأوربية هى أصلا "طاؤلا". ومن هذا يُفْهَم أن كلمة "طوالة" المألوفة فى الريف المصرى بمعنى "مخول" أو "مائدة طعام البهائم" داخل الحظيرة من نفس الجذر".(1/96)
إنه رجل سالك، وسككه كلها مسالك! لكنها للأسف لا تؤدى إلا إلى المآزق والمهالك! فى النص الأول نرى كلمة "طوالة" تعنى: "حظيرة البهائم"، أما فى النص الثانى فأصبحت تعنى: "مائدة طعام البهائم داخل الحظيرة". هيه؟ ما رأيكم فى هذه الخنفشاريات اللويسعوضية؟ ثم هل هناك يا ترى مائدة طعام للبهائم؟ لم يبق إلا أن يقول جنابه الأعز الأكرم إن هناك خَدَمًا وحَشَمًا يقومون على خدمة البهائم ويقفون "زنهار" حول المائدة، وقد وضع بعضهم طراطيرهم البيضاء على رؤوسهم، وتمنطق بعضهم الآخر بالشالات الحريرية، وأخذوا ينحنون لحصان باشا وحمارة هانم وكبش بك وربة الصون والعفاف مدموازيل بقرة، ويعرضون خدماتهم منتظرين إشارة منهم كى يهرول بعضهم إلى المطبخ، ويفتح فريق آخر منهم الثلاجات ليحضروا ما لذ وطاب من الكفتة والكباب، وعصائر التفاح والعنّاب! الواقع أن "الطوالة" هى بكل بساطة "مِذْوَد البهائم"، أى أنه لا زريبة ولا مائدة ولا دياولو! الله يخرب بيت شيطانك يا دكتور لويس!(1/97)
وعلى كل حال فأين الثرثرة الفارغة التى طوف بنا معها بين لغات العالم المختلفة وهو يضرب الودع وينادى "أبيّن زين أبيّن" كما كانت تفعل هدى سلطان (بلدياتى من قرية أبو جندى التى تبعد عن قريتنا 4 كيلومترات بمحافظة الغربية) فى أغنيتها المشهورة التى كنت أنسجم كلما سمعتها وأنا ولد صغير؟ وما حكاية "الطيارة" هذه التى فلق بها دماغنا قبلا والتى قال إنها "الطُّوَالة"؟ إنه كلام الليل المدهون بزبدة والذى يطلع عليه النهار فيسيح! ولو أخذنا ندقق مع "أستاذنا الدكتور لويس عوض" فسوف نتعبه ونتعب أنفسنا دون داع لأنه لا يسمع الكلام، ولا يريد العَلاَم، بل هو صاحب هدف محدد يريد بلوغه والسلام! وبدلا من ذلك سأُسِرّ لك أيها القارئ الآن بسر هامّ، ألا وهو أننى أستفدت من تلك الفقرة للويس عوض، لكن دون أن يكون له أدنى فضل فى هذه الاستفادة. كيف؟ لقد كان لنا جيران فى القرية لهم زريبة مَوَاشٍ فى الغيط قريبا من البلد كانوا يربطون فيها البهائم طوال النهار، فإذا حل المغرب حَلُّوها ورجعوا بها إلى زريبة البيت مرة أخرى. وكنت أسمعهم يطلقون عليها: "طيارة"، ولم أك أفهم معناها ولا السبب الذى حدا بهم إلى تسميتها هكذا بدلا من "زريبة". والآن، والآن فقط، أحسب أننى وقعت على السر، وهو أنها كلمة سريانية بمعنى "الزريبة" أيضا، إذا صح ما يقوله لويس عوض طبعا.(1/98)
لكن يبقى السؤال قائما: لماذا يفرق الفلاح المصرى بين زريبة البيت وزريبة الغيط؟ "تلك هى المسألة" كما يقول الشيخ زبير، الذى يسمونه تحريفا بالإنجليزية: شكسبير! خلاصة القول إن الدكتور لويس عوض رجل جاهز ولا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء، مما يذكرنى بباعة اللبان الذكر فى الأوتوبيسات أيام زمان، أيام الجنيه الجِبْس والكُفْتَة التى كانت تباع بالمتر (يا لها من أيام!)، إذ كانوا أول ما ينط الواحد منهم فى الأوتوبيس ينطلق فى موال طويل عريض عن مزايا اللبان الذكر: فهو يحمّر الخدود، ويبرم الكعوب، ويَجْلِى الصدور، ويطرد البلغم، وينقّى الفم... إلى آخر ما لا أدريه أيضا من مزايا ذلك اللبان العجيب. فكذلك الدكتور لويس عوض الجاهز لإرجاع أية كلمة إلى أصلها، أيا كان العصر الذى تنتمى إليه أو اللغة التى نفضت الذين خلّفوها، فهو قد أحاط بكل شىء علما، وسبحان المعطى، إن لم أقل: سبحانه هو، أستغفر الله!(1/99)
مثال آخر: فهو فى ص 179 يردّ كلمة "إلْيَة" إلى المادة التى خرجت منها فى المصرية القديمة كلمتا "hbs: فخذ، زند" و":hpd إلية/ إليتان"، وهى المادة التى يقول إنها أساس كلمة "فخذ" بالميتاتيز (لعنة الله على الميتاتيز والذين أشاروا به، فهو منذ أن سمع به وهو كالهبلة التى أمسكت بطبلة، وهات يا رَقْع فى الدماغ!). لكنّ هذا قِيلَ بليْل، ونحن نعرف (وبخاصة مع كاتب عبقرى كلويس عوض لا يحترم عقلا ولا منطقا ولا منهجا علميا، بل يكفيه أن ينساق وراء خطرات وساوسه، فإذا بها هى العلم كل العلم، والمنهج كل المنهج، والمنطق كل المنطق! ذلك أن العباقرة لا يخضعون لقاعدة، بل لنزوات شياطينهم ليس إلا)، نحن نعرف أن كلام الليل عند لويس عوض يمحوه النهار، ولا دائم إلا وجه الله! ففى ص 196، أى بعد سبع عشرة صفحة لا غير، نسى هذا الميتاتيزى ما قاله وقال كلاما آخر، وكأننا عيال صغار ليست لنا كلمة! ذلك أنه، بعد عدة تنطيطات وحركات ميتاتيزية وتوتولوجية قرعاء من التى لا تساوى بصلة، أصدر جنابه فرمانا ساميا بأن كلمة "إلْيَة" (التى أدعو الله أن يَنْشَكّ فيها حتى يريحنا من خوتة الدماغ الكذابة هذه) مأخوذة من الجذر (ولاحظوا التوافق الذى يعجب القمص المنكوح ذا الدبر المقروح فى هذا السياق بين الإلية والجذر) اليونانى: ":????t?s جيلوت" الذى انقلب إلى ":ylout يلوت". وطبعا المسافة بسيطة بين "يلوت" هذه و"الإلية"! فما قولكم دام فضلكم فى هذا العلم الخارج من...؟ من أين؟ أترك لكم الإجابة! وبالمناسبة أرجو ألا تسألونى كيف كتبتُ هذه الكلمة اليونانية وأمثالها هنا وأنا لا أعرف من تلك اللغة أبيض ولا أسود! وإلا فالجواب حاضر، وهو أن الذى أقدر لويس عوض على أن يكتبها وهو لا يفقه منها شيئا قد أقدرنى على ذلك، ولا أحد أحسن من أحد. ثم إن الله كريم مع عباده، ولا يرضيه أن يُبَيِّتَنى مكسور الخاطر أمام الدكتور لويس.(1/100)
ولا تنسوا أننى أيضا من آل عوض، أى أنها وراثة فى الأسرة! ومع ذلك فأنا، وأعوذ بالله من قولة: "أنا"، لا أحب البكش ولا البكاشين!
مثال ثالث: أنه فى ص 191 يُرْجِع كلمات "صوّر" و"قوّر" و"صاغ" العربية إلى جذر افتراضى، أى ليس له وجود، لكنه يخمنه ويخترعه، وطبعا هو يفعل هذا بعد آلاف السنين. ولم لا؟ ألم يوكّله الله سبحانه وتعالى فى التصرف فى شؤون اللغات؟ ما علينا، فالجذر الافتراضى المخترع هو "جهورما: Ghworma"، الذى يقول إنه مركب من "جهوير+ ما"، وصيغته الافتراضية النوستراتية هى "كور/ قور: Kawar"، أى أن المسألة كلها "من ساسها لراسها" اختراع فى اختراع وتدجيل فى تدجيل. ومع هذا فإنه فى ص 216- 217 يرجع بكلمات "كرة" و"أكرة" و"كورة" (وكلها مشتقة من "كور" كما نعرف جميعا) إلى الجذر: "كلو" الذى لا أدرى إلى أية لغة ينتمى لأن سيادته نسى أن ينظر فى البنّورة المسحورة فيخبرنا بأصله وفصله!
مثال رابع: هو ما هرف به فى ص 194- 195، إذ يقول إن كلمة "شَعْر" مأخوذة من الأصل اللاتينى: "كابيلوس: Capillus" أو "بيلوس: pillus"، الذى أصبح بعد عدة تنطيطات وحركات نصف كم عبر القرون واللغات المختلفة التى أحاط بها الوكيل الكونى لشؤون اللغات واللهجات، وإشارات الصم والبكم أيضا بالمرّة، على شويّة ميتاتيزات من التى هى، على حبة آهات، على ليلى يا عينى، على يا لالَلِّى، أعود فأقول إن هذا اللفظ اللاتنيى أصبح فى النهاية كلمة "شَعْر" فى العربية، ولا عزاء "للصُّلْع" بعد كل هذه الحركات "القرعاء". المهم هذا ما هرف به فى الصفحة المذكورة، لنفاجأ به فى ص 348- 349 يجعل كلمة "شَعْر" العربية هى الجذر الأساسى للكلمات التى تناظرها فى ما لا أدرى عدده من اللغات الأوربية وغير الأوربية، وذلك فى طوفان من الثرثرة المملة وغير العلمية عبر اللغات واللهجات والتاريخ الطويل. أما كلمة "Capillus" فلم تؤخذ منها هذه المرة إلا كلمة "Cheveux" الفرنسية!(1/101)
مثال خامس: نقابله فى ص 232، إذ يرجع الكلمات التى تعنى "صدر" أو "ثدى" فى اللغات الأوربية إلى كلمة "بِزّ" التى يقول إنها عامية مصرية. لكنه يعود فى ص 364 ليقول إن كلمة "بِزّ" (التى لا يزال يصرّ على أنها عامية والتى سنرى بعد قليل أنها عربية فصيحة) قد تكون صيغة مدغمة من جذر كلمة "Breast" الإنجليزية، ليعود مرة أخرى فى ص 412 فيقول إن كلمة "بِزّ" (التى ما زال على موقفه فيها من أنها عامية مصرية) مأخوذة من الجذر: "بييس" الذى لم يذكر إِلاَمَ ينتمى من اللغات. أفرأيت، أيها القارئ، مدى التطجين اللويسعوضى؟ لن أتكلم أنا، بل سأترك الأمر لك لتحكم فيه بنفسك! على أن ها هنا كلمة أحب أن أضيفها فى هذا السياق، وهى أن لفظة "بُِزّ" (بكسر الزاى أو ضمها) عربية فصيحة، إذ نقرأ مثلا فى "لسان العرب" لابن منظور الحقيقى (لا ابن منظور المزيف) ما يلى: "والبُِزُّ (بضم الباء وكسرها) للحيوان كالثدي للإنسان. ولعلَّهُ مأخوذٌ من الإِبزاء، وهو الإرضاع. ج: بِزَاز وأَبزاز"، وإن كان "المعجم الوسيط" قد أرجعها إلى أصل فارسى، وهو ما ينقض أيضا (حتى لو صحت فارسيتها) دعوى لويس عوض فى أنها عامية مصرية، إذ هى على أى الحالين موجودة فى العربية منذ القديم، وهذا ما يهمنا هنا. وأحب أيضا أن أشكر الدكتور لويس، الذى دفعنى بسخافاته وثرثراته المملة المتنفجة غير العلمية إلى مراجعة المعاجم العربية القديمة فى هذه الكلمة ليتبين لى أن الجمع الذى يستخدمه العامة لهذه الكلمة، وهو "بِزَاز"، جمع فصيح صحيح، وكنت أظنه تحريفا لصيغة "أفعال: أبزاز" الصحيحة الفصيحة أيضا كما رأينا عند ابن منظور.(1/102)
مثال سادس: فى ص 233 نرى الدكتور لويس يرجع كلمة "ثريا"، وكذلك كلمة "درّة"، إلى الجذر السنسكريتى لكمة "ترح: Tarah" وجمعها "تارا: Tara"، أما فى ص 547 فالأمر مختلف، وهذا شىء طبيعى، وإلا أفتريد من لويس عوض أن يتذكر ما قاله قبل أكثر من مائتى صفحة؟ إنك إذن لظالم ليس لديك رحمة ولا شفقة بالرجل ولا مراعاة لمشاغله العظام التى تليق بأمثاله من أنصاف الآلهة ممن يشتركون فى تدبير أمور الكون كله ولا يقتصر مجال عملهم على أبحاث اللغة العربية. وماذا تكون اللغة العربية بإزاء الكون أجمع بسمائه وأرضه ونجومه وكواكبه ومجراته وشهوده وغيبه؟ فلا تكونوا إذن من الظالمين ولا تأخذوه بهذا التدقيق الذى لا يصلح لبلاد العرب، فمن المعروف أنه كله عند العرب صابون. ولويس عوض، وإن كره العرب، هو واحد منهم رغم أنه نصف إله، إلا أنه نصف إله عربى، نعم عربى ولو بالجوار لا بالشعور الحى المخالط للحم والدم، ففيه ما فى العرب من إهمال ونسيان ولامبالاة واستبلاه فى هذه الآونة البائسة التاعسة من تاريخهم الذى كان يوما مجيدا ثم جارت عليهم الأيام، ولحقهم العار والشنار، وجار عليهم لويس فيمن جار، هو والقمّص الحمار، ذو الدبر الهرّار! فماذا قال أستاذنا الدكتور فى الصفحة المذكورة؟ قال إن "كلمة "ثريا" فى العربية تعنى "كوكبة من النجوم"، ولكن جذرها هو جذر "ستيلا: Stella" و"ستيرولا: Sterula" اللاتينية، و"ستار: Star" الإنجليزية، و"إيتوال: étoile" الفرنسية، و"إستير: a????" اليونانية (قارن اسم "إستير: Esther"، وربما "عشتار: Ashtar" و"عشتروت: Ashtaroth"و"أستارتى: Astarte" فى الأساطير)، وكلها بمعنى "نجم" و"نجمة". وهى فى السنسكريتية "ستاراس: Staras"، وفى الألمانية "شتيرن: Stern"، وفى اليونانية "صيغة ستورنومى: ??o??v?µ?". وجذر "ستار" و"ستيل" بمعنى "نجم" واحد فى هذه اللغات.(1/103)
أما كوكبة النجوم التى تسمى: "ثريا" فى العربية فهى فى اللاتينية "سيدوس: Sidus"، وجمها "سيديرا: Sidera"، وهى عادة تستعمل فى الجمع، أى "سيديرا". وهى فى العربية "سدرة" كما فى اصطلاح "سدرة المنتهى" التى تسمى فى اللاتينية: "أولتيماسيديرا: Ultima Sidera" حرفيا بمعنى "الثريا الأخيرة"... وفى تقديرى أن "Sidera" هى مجرد صيغة من "Stella وAster (Star)"، وأن جذرها جميعا واحد، وهو نفس جذر "ثريا"...".(1/104)
مثال سابع: فى ص 277 ينفى عالمنا العلامة، وحبرنا الفهامة (ربنا يستر علينا ويكتب لنا منه السلامة!) أن يكون فى كلمة "غنّاجة" أى معنى من معانى الدلال أو أصوات المرأة فى الفراش، وهذا نص ما قال: ""كلمة "عنج (بالجيم المعطشة): 'nd" المصرية القديمة بمعنى "عاز" أو"افتقر" أو"احتاج" أو"نقص" أو"قَلَّ" أو "قليل" فيها عناصر "غنج" التى نعرفها فى المثل المصرى: "المحتاجة غناجة"، وهو فيما يبدو تعبير توتولوجى تتكرر فيها كلمة "الحاجَة" باللغتين لتعليم اللغة الجديدة العربية بتجاور المترادفين، مع اللعب على اللفظ. ومعنى هذا أن "غناجة" ليست من الغنج الذى يعنى فى العربية والشامية الحديثة "دلال" المرأة، ويعنى فى المصرية الحديثة الأصوات الانفعالية التى تصدرها المرأة وقت الجماع، وإنما هى بالمجاز". خلاص؟ والآن ننتقل إلى ص 438 حيث يقول جلالته كلاما آخر غير ذلك، بل عكسه، إذ رجع إلى ما كان قد نفاه فأخذ به لاحسًا سخافاته السابقة التى أخذ يتحنجل بها ويتنطط أمامنا كأنه طفل رذيل ليس عنده ما يشغله كى نستريح قليلا من وجع الدماغ الذى يسببه لنا. أجل، فقد قال إن "من المعانى البائدة فى الإنجليزية لكلمة "ناج: Nag" معنى "شرموطة"، وهذا يوحى على الأقل بأن فعل "غنج" على الأقل فى العامية المصرية معناها الأصلى "صهل" كالفرس، وهو بإيجاز ما تفعله المرأة وقت النكاح. والمعنى محفوظ فى العبارة المصرية: "المحتاجة غناجة". وقد اتخذت مادة "غنج" فى اللهجة الشامية معنى أكثر تهذيبا، فهو يقتصر على "دلال المرأة"، ولكن المعنى المصرى واضح لا لبس فيه، وهو "أصوات المرأة وقت النكاح"...".(1/105)
وبعيدا عن الركاكة الأسلوبية التى تليق بـ"أستاذنا الدكتور لويس عوض"، لكنها لا تليق بكاتب درجة ثالثة ولا حتى بكاتب "دوبية"، نتساءل: منذ متى تصهل النساء فى السرير حين الجماع؟ أيكون بعض الناس عندهم شذوذ فهم يجامعون الأفراس التى تصهل عندما تصل شهوتها إلى الذروة فيظنون أنها نساء تغنج؟ بل إنى لا أستبعد أن تكون شريكة فراشهم "أَتَانًا" (أو بالمصرى الفصيح: "حمارة") ما داموا لا يميزون بين "حا" و"شِى" ويظنون الكلمتين كلتيهما لزَجْر الحمير! لا أظن أن هناك تفسيرا أكثر وجاهة من هذا! خيبة الله على كل همباكٍ هنكار، لا يفرق بين الغنج والصهيل ولا بين الحصان والحمار!(1/106)
مثال ثامن: فى ص 353 نراه يربط بين كلمة "زور" التى يصفها بأنها مصرية (أى لا توجد فى العربية) وبين كلمات "Throat" (الإنجليزية) و"Gorge" (الفرنسية) و"Thorax" (اللاتينية) وغيرها من الكلمات الأوربية الأخرى التى تعنى ذات المعنى. ثم نجده رغم ذلك يقول فى ص 421 إنها فى الغالب مأخوذة من الجذر اللاتينى: "Gula" المأخوذ بدوره من الجذر: "Gar" (بمعنى "يبتلع")، الذى نتجت عنه عدة كلمات فى اللغات الأوربية المختلفة بمعنى "خيشوم"! واعجبا! ورغم هذا فإنى أود ألا أترك هذه الفقرة دون أن أسجل خطأ الدكتور لويس الفاحش المضحك فى الزعم بأن لفظ "زور" عامية مصرية (يقصد أنها ليس لها وجود فى الفصحى)، إذ جاء فى "القاموس المحيط" أن "الزَّوْر" هو "وسَطُ الصَّدْرِ أو ما ارْتَفَعَ منه الى الكَتِفَينِ أو مُلْتَقَى أطْرافِ عِظامِ الصَّدْرِ حيثُ اجْتَمَعَت"... إلى جانب معان أخرى. وفى معجم "المحيط" نجد أن من بين معانيه "ملتقى أطراف عظام الصدر حيث اجتمعت، (و) ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين". وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى أنه "الصَّدْرُ، وقيل: وسط الصدر، وقيل: أَعلى الصدر، وقيل : مُلْتَقَى أَطراف عظام الصدر حيث اجتمعت"... إلى آخر ما ذكره من معان. إذن فاللفظ عربى فصيح، أما وجوده فى هذه العامية أو تلك فطبيعى جدا لأن اللهجات العامية لأية لغة ليست شيئا مستوردا من الخارج، بل هى نفس الألفاظ الفصيحة فى العادة: إما كما هى، وإما بتحوير بسيط فى النطق أو فى المعنى. وتزيد العاميات العربية على ذلك بوجه عام أنها تُسْقِط الإعراب من حُسْبانها.(1/107)
مثال تاسع: فهو فى ص 368 يتكلم عن أصل كلمة "طيز"، التى يقول إنها من ذات جذر "Thigh" الإنجليزية، وكذلك "Theh"، "Dkje"، "Dioh"، "Thjo"... إلخ فى اللغة الأنجلوسكسونية والهولندية والجرمانية العالية القديمة والنوردية القديمة على الترتيب، بمعنى "الفخذ" أو "العجز" أو "الإلية" أو "الطيز"، ألا وهو جذر "تخ:Tech, Tekh "، الذى يعنى حرفيًّا السمنة أو الثخانة. لكنه فى ص 388، أى بعد عشرين صفحة لا غير، نزل عليه وحى آخر من شياطين الثرثرة والهلاوس اللفظية يقول إن "طيز" يمكن أن تكون مأخوذة من "Teej" عن طريق "Teji" عن طريق "Terj" عن طريق "Terg" عن طريق "Terga" اللاتينية بمعنى "عجز". وهذا كله لا وجود له فى أى مصدر خارجى، إنما هو تخيلات وتنطعات فارغة يخمنها هو عبر التاريخ الطويل الذى من الواضح أنه فرشه أمامه وقعد يقلب فيه كما تفعل ضاربات الرمل وقارئات البخت حتى يصل إلى مشتهاه بأسلوب الحواة الذى شرحناه سابقا، وهو أسلوب وضع العين على نتيجة معينة سلفا، ثم لىّ كل شىء بعد ذلك من أجل الوصول إلى تلك النتيجة بأى ثمن. وهو ما يذكّرنى بالمثل العامى: "يا تحلبى يا اكْسَرْ قرنك" الذى يردده الفلاحون! لكننا هنا لا نتعامل مع الأبقار والجواميس والضروع والألبان، بل مع العلم ومنهجه!(1/108)
وليلاحظ القارئ غير مأمور أننى اختصرت له هذا السخف اختصارا ولم آته بكل ما كتب العبقرى الأوحد، عبقرى الغبرة. والبركة طبعا فى الجرمانية العالية والفريزية والنوردية القديمة والسنسكريتية والخيبة القوية التى يمطرنا بأسمائها "أستاذنا الدكتور لويس عوض"، الذى يعرف تماما أنه لن يحاسبه أحد على هذا الذى يقول، إذ مَنْ ذلك المخبول الذى سيضيع وقته فى تعلم هذه اللغات أولا، ثم مراجعة كل كلمة خطتها يراعة عبقرينا ثانيا، ومواجهته باكتشاف البكش الذى يمارسه علينا ثالثا، ثم تحذير القراء منه رابعا... إلخ؟ إنه لو حدث المستحيل وتعلم أحدهم مثلا (أقول: مثلا!) كل تلك اللغات وتحقق أن الرجل يُهَمْبِك علينا ويستغفلنا، فلن يكون ذلك بمفيده شيئا، لأن عبقرينا سيكون قد مات وشيع موتا منذ أجيال! والحق أنه لو شاء أى أحد أن يسوّد الصفحات بمثل هذا الكلام الذى يشبه تعاويذ الأحجبة وتمتمات السحرة ما كلفه شيئا سوى أن يكون جامد الوجه لا يبالى، ثم إن الباقى سهل جدا، واسألوا الدكتور العبقرى وحوارييه!(1/109)
مثال عاشر: إذ قال فى ص 159 إن الصرف العربى يبحث فى اشتقاق مواد الكلمات وانتقالها من حالة الفعل إلى الاسم، أو من حالة الاسم إلى الفعل، مستشهدا بالفعل: "كتب" الذى اشتُقَّ منه الاسم: "كتاب"، وكذلك اسم "أسد" الذى يقول هو بعظمة لسانه إن الفعل: "استأسد" مشتق منه، وهو ما كرره ص 490 حين قرر بالنص أنه "ليس هناك ما يمنع أن يكون الفعل مشتقا من الاسم أو العكس": هكذا بإطلاق دون أن يقيد ما قاله بأى قيد كان. لكننا نراه فى ص 489 يقول كلاما مناقضا لهذا الكلام، إذ ادعى أن "الأسماء الأصلية فى كل الأفعال صماء وليست مشتقة من الأفعال". وعبثا تحاول أن تعرف ما تلك الأسماء الأصلية، وما الذى يميزها عن الأسماء الفرعية، ولماذا استثناها الدكتور لويس من قاعدته العامة التى أكدها من قبل. أما تفسيرى أنا فهو أن ما قاله هنا ليس إلا خطرات من وساوسه لا أقل ولا أكثر، ولا علاقة له بالعلم ولا بالمنهج العلمى. وكان قد قال فى ص 304 إن كلمة "الصَّمَد" لا اشتقاق لها فى العربية، وذلك لكى يعبث بمعناها حسبما يوسوس له خاطره الإبليسى، مع أن ذلك اللفظ مشتق من الفعل: "صَمَدَ"، الذى يعنى: "قصد، وثبت واستمرّ"، علاوة على ما اشتق منه من لفظ "الصَّمْد"، وهو المكان المرتفع، إذ "الصَّمَد" هو الرفيع الدرجات المقصود فى الحوائج والدائم الذى لا يزول. ومَنْ غير الله يصدق عليه هذا الوصف؟ وهذه عبارة عبقرينا: "ويلاحظ أن كلمة "صمد" فى العربية، وهو من الأسماء الحسنى، كلمة محيرة لأنها مادة جامدة لم تُشْتَقّ من فعل ولم يشتق منها فعل، ولا صلة لها بالهومونيم: "صمد يصمد". وهى مورفولوجيًّا ثابتة: الاسم فيها هو الصفة، والصفة هى الاسم".(1/110)
أى أن "أستاذنا الدكتور لويس عوض" من الذين يُحِلّونه عاما، ويحرّمونه عاما. أو بالتعبير البلدى: من بتوع "كده توليع! كده تسليك!" لأن المبدأ عنده جاهز للتطويع فى أى اتجاه، فهو إنسان يَفُوت فى الحديد! ومن العبث محاولتك أن تعرف على أى أساس قال إن كلمة "الصمد" كلمة جامدة، وإنها ثابتة لأنها اسم وصفة، ومن ثم فلا أصل لها فى العربية. كل ما نعرفه أنه قال ذلك لكى يتخذها توطئة للقول بأن "الصمد" معناه "الثلاثة"، وهو مما شرَحناه وشرّحناه وسحقناه وذَرَوْناه وسفّهناه وتفّهناه من قبل! إنك تتعامل هنا مع عبقرى يُوحَى إليه، ومن كان الوحى يتنزل عليه فليس لك الحق فى أن تقول له: "بِمْ" حتى لو كان الوحى المتنزِّل عليه هو وحى إبليس الخِنّيس، كما هو الحال فى أمر الدكتور لويس!(1/111)
لكن فليكن رأيه فى نفسه ما يكون، فلن يعفينا هذا من مناقشته وتبيين جهله وغشمه العلمى للقراء حتى يلمسوا بأنفسهم صحة ما نقوله فيه، إذ لسنا ممن يطلبون من الناس أن يخرّوا على أذقانهم سُجَّدًا لما نقول، بل نشفع دائما كلامنا بالدليل والشاهد. وهذا الذى يقوله "أستاذنا الدكتور لويس عوض" هو الهلس بعينه، إذ من قال إن الألفاظ الأصول فى العربية جامدة بالضرورة؟ ومن قال إن الألفاظ الجامدة لا يُشْتَقّ منها غيرها كما زعم فى "صمد"؟ إن علماء العربية مختلفون ما بين المصدر والفعل: أيهما الأصل؟ وأيهما الفرع؟ وأيا ما يكن الأمر فلا شك أن هناك مصادر وأفعالا مشتقة من ألفاظ أخرى كما فى لفظة "شمس"، التى اشتُقّ منها الفعل: "تَشَمَّسَ" والمصدر: "تشمُّس"، وكلفظة "ناقة"، التى اشتُقَّ منها "اسْتَنْوَقَ (البعيرُ، أى أصبح كالناقة)"، والمصدر: "استنواق"، وكلفظة "حَجَر"، التى اشتُقَّ منها الأفعال: "حَجَرَ" و"حجَّر" و"تحجَّر"، و"استحجر" و"احتجر"، والمصادر: "حَجْر" و"تحجير" و"تحجُّر" و"استحجار" و"احتجار"، إلى جانب الأسماء التالية: "حُجْرة" و"حَجْر" و"حَجْرة" و"حاجِر" و"حِجَار" و"حاجور" و"حجّار" و"مَحْجِر" و"مَحْجَر" و"مِحْجَر" و"حُجُر"، وكذلك الصفة: "حَجِر". فالربط إذن بين الأصلية والجمود لا معنى له. كذلك من قال إن الجامد لا يُشْتَقّ منه غيره؟ إنهم يقولون مثلا إن لفظة "شمس" لفظة جامدة لأنها لم تُشْتَقّ من غيرها، لكنها مع ذلك قد اشتُقَّ منها "شَمَسَ شِمَاسا" و"تشمَّس تشمُّسًا" و"شمَّس تشميسا" و"شامَسَ مشامسة" و"تشامَسَا تشامُسًا" و"شَمَسَ وأشمس (اليوم)، فهو شامس ومُشْمِس"، وكذلك لفظة "حِمّص"، التى اشتُقّ منها "حَمَصَ وانحمص (الورمُ، أى انفشّ)" و"حمَّصَ تحميصًا" و"تحمَّصَ تحمُّصًا" و"مِحْمَصَة"... إلخ.(1/112)
بل إن من الحروف ذاتها ما يُشْتَقّ منها ألفاظ أخرى، مثل الحرف" عن"، الذى اشتقوا منه "عَنْعَنَ يُعَنْعِنُ عَنْعَنَةً"، وهو ما كان فى مؤخرة عقلى حين كنت، أول عهدى بلندن فى أواسط السبعينات من القرن المنصرم، أقول ضاحكا لمن يكثر أمامى من تكرار لفظة "but": "لا تُبَطْبِطْ"، أى لا تكثر من قول "but"! ذلك أن الجامد هو ما لا يُشْتَقّ من غيره، لكن من الممكن جدا أن يُشْتَقّ منه غيره. ليس ذلك فقط، فقد قال لويس عوض إن لفظة "صمد" هى اسم وصفة معا، ومعروف أن الصفات مشتقة، ومع هذا فقد اتخذ عبقرينا الهمام العلام من قوله بأن تلك اللفظة اسم وصفة معا دليلا على أنها جامدة. وبناء على ما قلناه يستطيع القارئ أن يلمس بنفسه مدى جهل الرجل بأَوّليّات اللغة التى يطنطن بأنه قد فتح فيها بكتابه هذا التافه فتحًا لم يسبق لسواه أن فتحه!
المثال الحادى عشر: ومن تناقضاته العجيبة فى هذا المضمار أيضا قوله (ص 177) إن كلمة "خط" العربية مأخوذة من الكلمة المصرية القديمة: "ht" بمعنى "مخاضة/ معبر"، إلا أنه يعود فى ص 289 فيرجعها إلى الجذر المصرى القديم: "ss"، الذى يشير إلى "الرسم". وفى هذا برهان على أن الدكتور لويس يكتب ما يخطر له دون تمحيص ودون أن تكون هناك قاعدة تحكم هذا الذى يكتبه. المهم تحبير الصفحات وتحيير الأذهان وترك كل شىء فوضى لا نظام له والتشكيك فى كل شىء بحيث لا يبقى لدى القارئ العربى المسلم، وهو المقصود بكل هذا الهراء، أى ثقة فى أى شىء مما كان يؤمن به قبلا، وهو ما يسهّل ويسرّع هزيمته وتحطيمه بعد أن تم تحطيم كل يقين لديه! سترك اللهم وحمايتك!(1/113)
المثال الثانى عشر: فقد سبق أن رأيناه فى ص 546 يقول إن البقرة حتحور فى الأساطير المصرية الوثنية القديمة هى نفسها حليمة المرضع الأسطورة، لكننا فى ص 415 نسمعه يقول شيئا مختلفا، إذ أرجع كلمة "حليم" و"حليمة" إلى لفظ "Selnum: سلنوم" الذى يفترضه عظمته افتراضا بوصفه جذرا لكلمة "Sein" الفرنسية بمعنى "صدر"، مناقضا بذلك أهل اللغة الفرنسية الذين يقولون إنه "Sinum". ثم أضاف قائلا إن المقابل لـ"Selnum" فى مجموعة لغوية حاميّة (؟) هو "Helnum"، وإنه بهذا تكون "حلمة" و"حب" و"حليب" من نفس الجذر، وأصلهما غالبا هو "حلم" أو "حليم"، وإن العامية المصرية قد حفظت فى لاوعيها "حليم" الأصلية حين أطلقت اسم "حليمة" على المرضع بالذات. سمك، لبن، تمر هندى! هل فهمت أو استطعت أن تتصور شيئا؟ لا لا ، ليس من يصنع هذا بشرا، هذا إله يعلم دبّة النملة فى أى مكان فى الكون! بل ماذا يكون خفاء دبّة النملة بالنسبة لحركات الكلمات من صيغة إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى، ومن أمة إلى أمة أخرى، ومن معنى إلى آخر، ومن عصر إلى عصر آخر، وهى حركات ذهنية لا صوت لها يمكن أن تحس به الأذن؟ آمنت بالله ربًّا، وكفرت بالسخف الذى يأتى بهذه الطريقة من عند لويس عوض عِلْمًا! وهناك أمثلة أخرى أُعَدِّى عنها، وإلا فلن ننتهى من هذا الموال! وسبحان الكبير المتعال!
*****(1/114)
والآن إلى ما هرف به "أستاذنا الدكتور لويس عوض عن أصل العرب القوقازى وما إلى ذلك، وهو ما نطرح بشأنه الأسئلة التالية: أليس غريبا أنه لا العرب ولا القوقازيون يعترفون بشىء من هذا الذى يقوله لويس عوض أو يذكرونه؟ ولقد فتح العرب بلاد القوقاز ودخل أهلها الإسلام، ولو كان هناك نسب مشترك لكانت فرصة لاستعادة الروابط القديمة. لكننا ننظر فلا نجد شيئا من ذلك البتة. بل أين فى تاريخ بلاد القوقاز ما يدل على أن هجرات قوقازية قد انطلقت فى ذلك التاريخ ووصلت لجزيرة العرب؟ (ص 126 مثلا). صحيح: لماذا لم يحتفظ القوقازيون بذكريات الأجداد الذين هاجروا إلى بلاد العرب؟ وأين فى تراث العرب ما يدل على أصلهم القوقازى سواء فى الروايات التاريخية أو الأساطير أو الدين أو الجغرافيا أو العادات والتقاليد أو حتى الأسماء: أسماء الأشخاص أو أسماء المواضع؟ ولماذا أخفى العرب أصلهم القوقازى ولم يفتخروا به كما تفعل الأمم؟ ثم أين ذهب سكان جزيرة العرب الذين حل محلهم القوقازيون إذا كانوا قد أزاحوهم وأجلوهم عن ديارهم؟ أو لماذا سكتوا إذا كانوا لم يجلوهم بل شاركوهم تلك البلاد؟ هل يمكن أن يكونوا قد تقبلوهم برحابة صدر وأريحية وكرم نفس فلم تثر بين القادمين وأصحاب البلاد الأصلاء أية منازعات أو خلافات؟ لكن هل هذا مما يقع فى حياة البشر؟(1/115)
كذلك أين ملامح العرب من ملامح القوقازيين؟ أين فى الملامح العربية العيون الضيقة المسحوبة والبشرة الصفراء والشعر الناعم الغزير الفاحم والوجود الناتئة العظام التى تشبه المجانّ المطرَّقة، وبخاصة أن العرب فى جزيرتهم كانوا شبه منعزلين عن الدنيا بحيث لا يختلطون بأحد إلا لماما وبحيث كان كل منهم يعرف نسبه إلى أبعد جد، أو على الأقل: يحرص على ذلك، بما يدل على أنهم كانوا من أنقى شعوب الأرض دما وبما كان جديرا أن يجعلهم يحتفظون بملامحهم القوقازية لو كانوا فعلا قوقازيين كما يزعم لويس عوض؟ لقد وصف كاتب مادة "Arabs" فى "Encyclopaedia of the Orient" ملامح وجوه العرب قائلا إنهم فى الغالب ذوو شعر داكن وعينين بنيتين وبشرة لا فاتحة ولا غامقة بل بين بين، وإن لم يمنع هذا أن يكون من بينهم من له شعر أسود أو أشقر نظرا لما حدث من اختلاط بغيرهم من الشعوب: "Ethnically, Arabs are mostly dark haired with brown eyes, and medium light skin. But there are Arabs that are black, and Arabs that are quite blond. These differences are regional, and a result of the process described above."، فأين هذه الملامح من ملامح أهل القوقاز؟(1/116)
ثم لماذا سكت الشعوبيون، وبالذات الفرس الذين مرت عبر بلادهم الحشود القوقازية إلى بلاد العرب، وهم الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة مما يمكن أن يعيبوهم به إلا ولوّحوا بها فى وجوههم وشهروا بهم بسببها فى العالمين؟ ومن أين أتاهم اسم العرب؟ ولقد تكلم العهد القديم عن العرب منذ وقت طويل قبل التاريخ الذى حدده لويس عوض، وإن كان سماهم: "الإسماعيليين" بما يدل على أن العرب ينتمون فعلا إلى إسماعيل وإبراهيم، على الأقل فى قسم كبير منهم؟ ومن هنا فالرد على قول لويس عوض بأن العرب لم يُعْرَفوا فى التاريخ باسم العرب إلا قبل الميلاد بألف عام تقريبا (ص 45) ليس معناه أنهم لم يكونوا موجودين قبل هذا، بل قد يكون معناه، إن صح كلامه، أنهم كانوا يُسَمَّوْن شيئا آخر قبل ذلك. وهو نفسه قد قال إن الهجرات إما أن تذوب فى سكان البلاد الأصليين أو تزيحهم وتحل محلهم (ص 300)، فأين هذا أو ذاك فى حالة العرب والجزيرة العربية؟ لقد كانت مصر مثلا تُعْرَف قديما بـ"خيمى"، ثم بعد ذلك بـ"إيجبتوس"، ثم عُرِفَتْ فى تاريخها الإسلامى بـ"مصر"، ثم عرفت على عهد عبد الناصر بالإقليم الجنوبى من الجمهورية العربية المتحدة، لكن الجميع يتكلمون عنها الآن على أساس أنها كانت طوال تاريخها "مصر" منذ أن كانت حتى وقتنا هذا. وبالمثل كان هناك الشام، ثم أصبحت هناك سوريا والأردن وفلسطين بدلا منه. كما اختفت أسماء النبط والكنعانيين والأشوريين والكلدانيين والفينيقيين، وظهر بدلا من ذلك الأردنيون والسوريون واللبنانيون والعراقيون. ومثلهم فى هذا السبئيون والمعينيون والقتبانيون، الذين ظهر بدلا من أسمائهم القديمة أسماء العمانيين والحضرميين واليمنيين. وكذلك هناك الآن أسماء الإماراتيين والقطريين والبحرينيين والكويتيين، ولم تكن موجودة من قبل، ولم يقل أحد إنه قد جدت على تلك المناطق شعوب أخرى وبادت الشعوب السابقة. وهذا كله لو كان كلام الدكتور لويس عوض صحيحا.(1/117)
ثم إن كلامه عن العماليق معناه أن الجزيرة كان يسكنها ناس قبل القوقازيين وأن هؤلاء هم العرب أو أصل العرب. وفى الأحاديث النبوية إشارات متعددة إلى أن أبا العرب إبراهيم، وفى القرآن إشارة إلى ذلك فى سورة "الحج". وكان العرب يؤمنون بأن أباهم إبراهيم، فلماذا يتنكرون لأصلهم الحقيقى القوقازى وينتسبون إلى جد اليهود ذاك، وهم لم يكونوا يحترمون اليهود ولا يرضَوْن أخلاقهم؟ ولماذا وافقهم اليهود على ذلك وجعلوهم أبناء إسماعيل وسمَّوْهم الإسماعيليين وسجلوا كل هذا فى كتابهم المقدس؟ هل نكذّب هذا كله؟(1/118)
ثم أين فى تراث البلاد التى مر بها القوقازيون حتى استقروا فى جزيرة العرب ما يدل على أن الألوف المؤلفة قد مرت ببلادهم عابرة إلى الجزيرة؟ وكيف ترك أصحابُ تلك البلاد القوقازيين يعبرون بلادهم بهذه البساطة وكأنها باب بلا بواب؟ إن هذا لا يحدث إلا إذا كان العابرون من القوة بحيث يكون لهم جيش ودولة. وفى هذه الحالة فإنهم لا يخترقون بلدا مجاورا أو قريبا منهم كى يتركوه إلى بلد آخر، بل ليحتلوه ويستولوا على خيراته أو على الأقل يشاركون فيها، ثم قد ينطلقون ليضموا مزيدا من الأرض لسلطانهم. لكننا ننظر فى كلام لويس عوض فإذا به سخيف يدابر العقل والمنطق وقوانين التاريخ. وحتى لو لم يكن القوقازيون أهل قوة وجيوش وفتك، فكيف يا ترى لم تجذبهم تلك البلاد الخصبة المجاورة لبلادهم فيحطوا رحالهم فيها بدلا من أن يواصلوا الرحلة إلى المجهول ثم يستقروا فى نهاية المطاف فى الصحارى القاحلة المهلكة؟ ثم ما الذى كان فى دماغهم حين قاموا بتلك الرحلة المزعومة، وهم لم يكونوا بطبيعة الحال يعرفون شيئا عن بلاد العرب؟ أكانوا يتبعون مبدأ "بختك يا بو بخيت" ويتركون أنفسهم للظروف تسيرهم كما تصنع الرياح بريشة من الريش؟ والله إن هذا أمر قد بلغ الغاية فى السخف والتفاهة؟ وما الذى حببهم فى بلاد العرب وأبقاهم فيها بعد أن أخذوا خازوقا كبيرا حين لم يجدوا فيها ما يبحث عنه أمثالهم ممن يتركون بلادهم بحثا عن بلاد أرغد وأوسع رزقا؟(1/119)
و المؤلف نفسه (ص 126) يعدد أسباب الهجرات البشرية فلا ينطبق كلامه على هذه الحالة. ذلك أن القوقازيين كانوا يعيشون فى منطقة رعوية كما يقول (ص 126)، فكيف تركوها وانتقلوا إلى البادية القليلة الخضرة والأعشاب؟ وكيف مروا بكل تلك البلاد التى تفصلهم عن الجزيرة؟ أكانوا جيوشا اخترقت تلك البلاد؟ فأين ذلك فى كتابات مؤرخى تلك الدول؟ أم كانت مجرد هجرات صغيرة متتابعة؟ فلم اختارت الجزيرة بالذات دون بقية تلك البلاد؟ يقول إنهم آثروا حياة البداوة على حياة الاستقرار لأنهم آتون من مناطق رعوية (ص 52، وانظر أيضا ص 126). لكنه يقولها تخمينا ويعترف بأنه من الناحية التاريخية لا يوجد ما يكشف سر هذه الهجرة المفترضة. كذلك كيف عبرت كل تلك الدول دون أن توقفها سلطات تلك الدول؟ ولماذا بعد أن رأت جفاف الجزيرة لم تفكر فى تركها والعدول عنها إلى بلاد أخرى خضراء؟ إننا لا نعرف أنه كانت هناك هجرات كبيرة ومنظمة للجزيرة العربية، إذ إن ظروف المناخ والأوضاع الاقتصادية هناك من العوامل الطاردة لا الجاذبة، ولم تتغير الحال إلا بعد اكتشاف البترول فى العصر الحديث فكثرت الهجرة إلى دول الخليج لرفع مستوى المعيشة، وهو ما لم يحدث من قبل. وعلى كل حال فالهجرات إنما تتم من المناطق الفقيرة إلى المناطق الميسورة لا العكس، اللهم إلا إذا كان هناك سبب قهرى يخص مجموعة صغيرة وجدت نفسها فى مأزق يستلزم أن تغادر ديارها تجنبا لمصيبة أكبر.(1/120)
وعلى كل حال فإننا نراه يقول بعد كل هذا إنه ليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الهجرات القوقازية إلى الهلال الخصيب قد استمرت فى طريقها إلى جزيرة العرب (ص 55). أى أن المسألة مجرد احتمال. لكن هل من المعقول أن يترك هؤلاء الخصوبة فى بلاد الرافدين ويُؤْثِروا عليها جفاف الجزيرة وبداوة العيش وخشونته فيها؟ ومع هذا كله يعود (ص60) فيقول جازما إن العرب قد هاجروا من القوقاز إلى جزيرة العرب، ناسيا أنه كان يجعل الهجرة مجرد احتمال كما رأينا قبل قليل! ثم ما السبب فى أن بلاد العرب لم تحمل اسم أى بلد أو مكان قوقازى كما هو المتوقع والمتبع فى هذه الحالة؟ ومع أنه يقول (ص 61) إن سكان شبه الجزيرة هم خليط من السكان الأصليين والقوقازيين الوافدين فإنه يأبى إلا أن يجعلهم قوقازا أنقياء. ومن هذا كله نلمس بأيدينا لمسا تهافت نظريته المسروقة من العلماء الأوربيين وسخف منطقه وتفاهة تفكيره ورداءة كيده!(1/121)
والمفهوم أن كل مكان على وجه الأرض كان ولا يزال مسكونا من قِبَل شعبٍ ما، ومنه الجزيرة العربية. ومعنى هذا أن العرب كانوا هناك دائما، إلا إذا ثبت أن الشعب الذى كان هناك قبل القوقازيين (بفرض صحة تلك النظرية المتهافتة تماما) قد أُبِيد أو أُجْبِر على ترك البلاد وحلوا هم محله كما هو الحال مثلا مع الهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين، وكذلك مع الفلسطينيين إلى حد ما، فهل هناك دليل على هذا أو ذاك؟ وعلى أية حال فمن المعروف، كما سبق القول، أن الشعب يمكن أن يكون موجودا على الدوام، لكن بأسماء مختلفة كما هو الأمر فى أسماء بعض الدول الأوربية فى العصر الحديث حيث تغيرت التسميات مثلا بالنسبة لروسيا والاتحاد السوفييتى، وبروسيا وألمانيا، ويوغوسلافيا والبحر الأسود والبوسنة والهرسك وصربيا... إلخ. والعجيب الغريب أنه يحدد تاريخ الهجرات القوقازية منذ 20000 سنة (ص 128)، فلماذا يتأخر بظهور العرب إذن دون سائر نتاج الهجرات القوقازية؟ وهو نفسه يقول إن الشعب يظل هو نفس الشعب مهما تغيرت لغته (ص 158)، ونحن نقول بدورنا إن الشعب يظل هو نفس الشعب مهما تغير اسمه أو خالطته بعض الدماء الأجنبية. أى أن العرب كانوا هناك فى شبه الجزيرة منذ قديم الزمان. وإذا كان قد توافد عليهم ناس من خارجها، وهو قليل، فذلك لا يغير من الأمر شيئا.(1/122)
وهناك كاتب يهودى يحاول، على طريقة لويس عوض، أن ينكر قِدَم العرب فى التاريخ فيقول إن اسم "بلاد العرب" لا يرجع إلى أبعد من ألف سنة قبل الميلاد، بيد أنه سرعان ما يخونه لسانه فيضيف أنه إذا كنا لا نستطيع الحديث عن العرب فى العصور القديمة، فمن الممكن مع ذلك الحديثُ عن أسلافهم. وهذا ما نقصده بالضبط، إذ ليس المعوَّل على التسميات، بل على حقائق الأشياء، أما الأسماء فمعروف أنها تتغير من وقت إلى آخر. وقد ورد هذا الكلام فى مقال بعنوان: "Origin and Identity of the Arabs" يستطيع القارئ أن يجده فى موقع "www.imninalu.net". وهذا نص ما قاله الكاتب: "It seems that the name "Arabia" was applied to the whole peninsula only around the first century b.c.e., as defined by Diodorus of Sicily in his "Bibliotheca Historica" and by Strabo in his "Geography", yet it is rather a geographic definition, not closely related with the actual ethnicity of the inhabitants, whom they declare to be of several kinds and call them by their own tribal names. Arabs are the most recent of all Semitic peoples according to their appearance in history. In fact, it is not possible to speak about Arabs in ancient times, but only about their ancestors".(1/123)
وعلى كل حال فالنظرية القوقازية الخاصة بأصل العرب مأخوذة من عالم أوربى هو آرثر كيت (ص 128، وانظر ص 156 أيضا)، وليست من بُنَيّات عقل لويس عوض كما يزعم. كما أن قوله (ص 48) إن أبحاثه دلته على أن اللغات البشرية ترجع فى الأصل إلى 3 لغات فقط هو كلام مأخوذ من العلماء الأوربيين جاهزا (ص 118) دون أن يكون له فضل فيه. وبالمناسبة فكل كلام أولئك العلماء هو مجرد تخمينات ينقض بعضها بعضا كما فى الفصل الثالث من الكتاب بدءا من ص 116، وكما نرى بالتفصيل فى الفصل السادس من المجلد الأول من كتاب الدكتور جواد على: "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"، وعنوانه: "صلات العرب بالساميين" حيث لم يترك العلماء أى احتمال فى المكان الذى خرج منه الساميون وانتشروا فى منطقة الشرق الأوسط إلا وذكروه: كالجزيرة العربية نفسها، والحبشة، والصومال، والهند، وأوربا، وآسيا الصغرى، وبلاد الأفغان، وأرمينيا، والقوقاز، وبابل، ومنطقة جبال الأطلس فى شمال شرق إفريقيا. وهو ما يدل على ان الأمر كله ليس أكثر من تخمينات، إذ ما من نظرية من هذه النظريات إلا وتجد من يرد عليها ويفنّدها ولا يترك فيها شيئا قائما على قدم وساق، ومنها النظرية القوقازية. والدكتور لويس نفسه يقول إن بنفنيست (Benveniste) لا يربط بين اللغة والجنس، فبرغم سيادة اللغة القوقازية فى مناطق خارج القوقاز فإن الشعوب التى سادتها تلك اللغة كانت مختلفة الجنس عن القوقازيين (ص 130). وأخيرا نراه (ص 162) يقول إن عمله هو تحويل ما خمنه العلماء من قبل على أنه احتمال إلى نظرية مبنية على أسس متينة. وهذا كله خبص ولبص لا طعم له وليس ثمة أساس ينهض عليه، بل هو عبث يلبس لبوس العلم، لكنه ليس من العلم فى قليل أو كثير.(1/124)
ثم أين اللغة القوقازية من لسان يعرب وقحطان؟ هل هناك وجوه شبه قوية تسوّغ ولو بعض التسويغ هذه النظرية المتهالكة التى لا أدرى كيف طقَّت أو شعشعت فى رأس الدكتور لويس؟ هل درس المفردات والاشتقاقات ونظم التركيب والصور فوجد أنها متقاربة بين اللغتين؟ إن كل ما قاله بعبقريته التى لم يُرْزَقها بشر من قبل، ولا أظن بشرا من بعد يمكن أن يُرْزَقها، هو أنه لا يُوجَد منها فى العربية الحالية إلا الحاء فى مثل قولنا: "حايعمل، حايضرب"، وهى الحاء التى يقول إنها بديل من السين على اعتبار أن الحاء حامية، والسين سامية (ص 133)، فتأمل تلك العبقرية! مع أن الحاء هنا إنما هى فى الواقع اختصار لـ"(رايـ)ـح يعمل، (رايـ)ــح يضرب"، فضلا عن أنه لم يستطع أن يدلنا على أى مثال آخر غير هذا المثال الذى لا علاقة به بالقوقازية ولا القوقازيين! ومعروف أن حرف السين أحد حروف الألفباء العربية، كما أن الألفاظ التى يوجد فيها حرف السين فى لغة الضاد ألفاظ كثيرة جدا "بالويبة" كما نقول فى مصر، ولم نسمع أَن نطق هذا الحرف قد شكّل يوما أية صعوبة بالنسبة لجهاز النطق العربى! ثم أين الدليل على أن قلب السين فى هذا التركيب هو ثمرة التأثر بلغة القوقازيين؟ وهذا لو صدقنا أصلا ما يقوله عن انقلاب السين هنا حاء، وهو ما فنّدناه وسخّفناه وتفّهناه آنفا! وهذا الاختصار يشبه قولنا: "أَيْوَهْ"، بدلا من "أىْ والله"، و"لِسَّه"، أى "للساعة (الحالية)"، و"عَبْعَال"، بدلا من "عبد العال"، و"صَالْخِير" اختصارا لـ"مساء الخير"، و"يالَهْ" اختصارا لـ"يا ولد"، وقول القطريين: "مُبْ طيّب" عوضا عن "ما هو بطيب"... وهكذا.(1/125)
أما قوله هنا إن كلمة "راح" فى قولنا: "راح يشرب، راح يأكل" تفيد الماضى لا المستقبل، وإن المقصود هو أنه شرب وأكل فى الماضى وانتهى الأمر، فكلام لا يصح. ذلك أن قولنا: "راح يأكل" يعنى أنه راح فعلا، لكن لا يعنى أنه أكل، فالماضى إنما يتعلق بالرواح لا بالأكل. ولقد قلت إن أصل الكلام هو "رايح يلعب/ رايح يشرب" (كقول سكينة الخنّاقة السكندرية المشهورة أخت رَيّا عند إعدامها فى ديسمبر 1921م: "هو انا رايحة اهرب او امنع الشنق بيدي؟" كما ورد فى تحقيق جريدة "الأهرام" فى اليوم التالى)، حيث يُسْتَخْدَم اسم الفاعل لا الفعل الماضى الذى يتخذه لويس عوض دون أى حقٍّ تكأة للمداورة والمحاورة. كما أن اللغة لا تؤخذ بهذه النظرة الساذجة التى تبرهن على أن صاحبها ما زال خامًا غُفْلاً لم يُصْقَل بعد، وربما لن يصقل بعد أيضا، وإلا فهل يعنى قولنا: "أودّ لو قام فلان" أننى كنت أتمنى أن يكون قد قام فى الماضى، أو قولنا: "إن استذكر نجح" أنه لم يستذكر، ومن ثم لم ينجح؟ إن المعنى فى الجملتين على التوالى هو أننى أود أن يقوم الآن، وأنه حين يستذكر فسوف ينجح. وبالمثل يستعمل الإنجليز الزمن الماضى فى بعض التراكيب للدلالة على الاستقبال كما هو معروف. ومعنى ذلك أن اعتراض لويس عوض هو اعتراض يبعث على القهقهة!(1/126)
والغريب الشاذ أنه فى الوقت الذى يدعى أن أصل العرب يرجع إلى القوقاز وأن لغتهم فى الأصل كانت القوقازية نراه يقول، بما لا يتلاءم مع هذا الزعم، بأن كثيرا جدا جدا من كلمات اللغة العربية مأخوذ من جذور مصرية قديمة (180 وما قبلها وما بعدها)، وإن كان قد حَنَّ عليها فذكر أنها أعارت المصرية القديمة ألفا ومائتين من الكلمات (ص 59). يا سلام على الإحصاءات التى لا تصلح إلا لبَلّها وشرب مائها على الريق! ترى كيف يمكن حساب مثل هذه الاستعارات بالضبط على هذا النحو؟ أوكان فى يده ساعة كرونومتر تَصْفِر كلما تم أخذٌ أو عطاءٌ بين اللغتين وتسجل ذلك فى ذاكرتها الألكترونية؟ ألا إن هذا لأمر مضحك حقا! وأيا ما يكن الأمر فعجيب أن يقول بقوقازية أصل العرب ثم يرجع كثير جدا جدا من ألفاظ لغة العرب إلى المصرية القديمة حتى فى أمور إنسانية عامة لا تختص بقوم دون قوم مثل "خبر" و"طيب" لا فى اختراعات أو حيوانات معينة مثلا لا توجد إلا فى بيئات معينة، وليس لها أسماء خارجها. ثم لماذا ينبغى أن تكون العربية هى المستعيرة لا المعيرة؟ وعلى سبيل المثال نسمعه يقول إن كلمة "خن" المصرية القديمة هى أساس كلمة "حرن" العامية (ص 180)، مع أن كلمة "حرن" فصيحة قديمة جدا فى العربية. ومثلها ظنه الجاهل أن كلمة "عيّل" عامية تحولت فيها العين عن الخاء فى "خِى" من المصرية القديمة (ص 184)، مع أن الكلمة عربية فصيحة من الفعل: "عال يعول".(1/127)
وبمناسبة زعمه تحول السين "حاءً" فى العامية المصرية ينبغى أن نسوق هنا زعمه الآخر عن صعوبة نطق الأوربيين لهذا الصوت، إذ يقول إن عجز الأوربى عن نطق الحاء دليل على أن تركيب جهازه الصوتى مختلف عن تركيب نظيره عند العربى (انظر كلامه فى هذه القضية بوجه عام بدءا ص 137 فصاعدا). وهو، كما ترى، كلام غير مقنع، فالعبرة بالتربية والممارسة المبكرة فى حياة الشخص. والدليل على هذا أن أولادنا حين يتربَّوْن فى وسط أوربى ولا يتعلمون فى صغرهم العربية فإنهم يشبون عاجزين عن نطق الحاء والعين والغين مثلا، كما أن الأوربى لو تربى فى وسط عربى منذ ولادته لنطق هذه الأصوات بسهولة. أما كلامه عن عجز الإسبان أو بعضهم عن نطق الفاء مثلا فيُرَدّ عليه بأن الإسبان كلهم تقريبا كانوا ينطقون العربية بما فيها الفاء وغيرها من الأصوات التى لا يستطيعون الآن نطقها، ولا أظن جهازهم الصوتى قد تغير تشريحيا بعد ذلك. وقد أراد الدكتور لويس فى هذا الصدد الاتكاء على كلام أحد علماء اللغة الغربيين، متجاهلا أن ذلك العالم لم يزد على أن يقول: "ويبدو" دون أن يؤكد ما يقول، فضلا عن أن يقطع به (ص 136). فكلمة "يبدو"، كما هو معروف، لا تفيد قطعا ولا علما، ولا تزيد عن أن تكون مجرد تخمين.(1/128)
ويرتبط بهذا ما قاله (ص 135) من أن الشين صوت مركب من السين والهاء إذا نُطِقا دفعة واحدة. وهو كلام يبعث على القهقهة، إذ كيف بالله يمكن أن ننطق بالصوتين معا؟ أم تراه يقصد أن شخصا ينطق بالسين، وشخصا آخر ينطق فى ذات الوقت بالهاء فينتج عن ذلك صوت "الشين" ثم نقوم بمونتاج للجمع بينهما؟ ألا يوافقنى القارئ العزيز على أن هذا هو ما يسمونه: "كلام وطحينة"؟ إن الدكتور لويس يخلط بين الكتابة والنطق، وما دام الإملاء الإنجليزى إذا أراد أن يكتب ما يدل على صوت "الشين" (الذى لا وجود له فى الأبجدية الإنجليزية كما هو معروف) كتب حرفى الـ"s" والـ"h" متتابعين بنفس هذا الترتيب فإن الدكتور لويس يظن أن ذلك نفسه هو ما يحدث فى النطق خالطا بذلك بين الرمز الكتابى والنطق الفعلى. وهذا أمر لا يمكن تصوره إلا إذا تجرد الإنسان من عقله. ثم لقد فاته أن حرف "الإتش" ليس "هاء"، وإنْ نطقه الإنجليز وحده "هاء"، وهو ما لا يُعَدّ دليلا، وإلا فإنهم كثيرا ما يتجاهلون نطقه كأنه لا وجود له. أما أن الفرنسية تضع مكان الـ"s" حرف الـ"c"، فينبغى ألا ننسى أن "السِّى" هذه إنما تنطق "كافا" فى العادة لا "سينا" كما يحاول أن يوهمنا عبثا. وقس على ذلك كلامه أيضا عن تكوين كل من صوت الثاء وصوت الذال عند الإنجليز من اجتماع حَرْفَىِ الـ"t" والـ"h" بهذا الترتيب (ص 230).(1/129)
والآن نعود لما كنا فيه فنقول: ترى كيف، حين فتح المسلمون بلاد القوقازيين، لم يحدث أن أثار أحد الطرفين الأصل المشترك القديم؟ ألم تكن هذه فرصة لاستعادة الذكريات كما هو الحال فى تذكر قسم كبير من العرب أن أباهم هو إبراهيم وأن أمهم هى هاجر؟ بل إن الشعوبيين واليهود والنصارى يعيّرون العرب بأن أمهم هاجر أَمَةٌ على عكس أمهم هم سارة الحُرّة. فكيف يعيرونهم بذلك، بل كيف يقبل العرب هذا التعيير رغم أنهم لا علاقة لهم بهاجر بناءً على فتوى لويس عوض؟ كيف لم ينهض منهم أحد يستعيد ماضيهم القوقازى قائلا: لا علاقة لنا بهاجر الأَمَة، بل نحن أحرارٌ أولادُ حُرّاتٍ؟
وقد ذكر جواد على فى "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" أن اسم العرب قد ورد فى الكتابات الأكادية قبل الميلاد بأكثر من ألفين من السنين، مؤكدا أنه على الرغم من صعوبة التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وحكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التاريخية المعروفة التي وقف العلماء على بعض ملامحها ومعالمها من الآثار لما بيننا وبينها من حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب، فإن ثمة خبرا عن نرام - سين (Naram-sin) الملك الأكادي 2270-2223 قبل الميلاد، الذى استولى على الأرضين المتصلة بأرض بابل والتي كان سكانها من العرب (Aribu, Arabu). وهذا الخبر، كما يقول، أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق، وهو خبر ينبئ بأن العرب المعاصرين لنرام- سن كانوا في تلك المناطق قبل أيامه بالطبع، وهي مناطق كوّنوا فيها "مشيخات" و "إمارات" مثل إمارة الحيرة الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد.(1/130)
كذلك ورد اسم العرب أيضا فيما بعد فى الكتابات الآشورية، ومنها نص يرجع إلى نحو ألف عام قبل الميلاد في كتابات الملك شلمنصر الثالث ملك آشور، الذى سجل نصرا حربيا أحرزه في السنة السادسة من حكمه على حلف ألّفه ضده ملك دمشق وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي اسمه جندب، وكان ذلك سنة 853 أو 854 قبل الميلاد. وقد قصد شلمنصر بلفظ "عرب": الأعراب، أي البدو حسبما جاء عند الدكتور جواد على. وإذا كان العالم العراقى فى الفصل الخامس من كتابه، وعنوانه: "طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها" قد علق على هذا النص قائلا: "وليست لدينا مع الأسف نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الأشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت انه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تاريخه إلى سنة 854 ق. م. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الأشورية"، فلا ينبغى أن ننسى ما نقلناه عنه قبل قليل من أن هناك نصا أكاديا سابقا على ذلك بأكثر من ألفى سنة جاء فيه ذكر العرب، كما لا ينبغى أيضا أن يفوتنا قوله إنه "لما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية سكنها ملك فلا يعقل أن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى أن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد.(1/131)
ولهذا كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت ننتقل في هذه البادية الواسعة لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحلّ الذي يلائم طبعها"، وهو ما كرره فى الفصل الثالث عشر من ذات الكتاب، وعنوانه "تاريخ الجزيرة القديم"، حيث قال: "ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين أو قبل ذلك بقليل، فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلان الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب، وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير، في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حرّ ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام".
هذا عن العرب البادين، أما الحَضَر منهم فقد كانوا يُدْعَوْن، كما قال، بأسماء الأماكن التى يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها، وذلك لأن لفظ "العرب" لم يكن قد صار علما على ذلك الجنس المكون من البدو ومن الحَضَر بالمعنى الذى نعرفه الآن. ولم يكن هذا الاستعمال مقتصرا على الآشوريين، بل كان ذلك عاما حتى بين العرب أنفسهم. وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويّات شعوبٍ ذُكِرَتْ في النصوص الآشورية وغيرها، وكذلك فى العهد القديم دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور. وبالمناسبة فهذا النص الآشورى هو النص الذى أشار إليه الدكتور لويس عوض وأهمل ما سبقه فى الكتابات الأكادية قبل ذلك بأكثر من ألف عام طبقًا لما ذكره الدكتور جواد على حسبما أشرنا آنفا.(1/132)
وفى مادة "Arabs" فى موسوعة "LoveToKnow1911"، وهى تطوير وتحديث لطبعة"الموسوعة البريطانية" لعام 1911م، التى تعد فى نظر المعنيين بهذه الموسوعة أفضل طبعاتها)، نقرأ ما يلى:
"The origin of the Arab race can only be a matter of conjecture. From the remotest historic times it has been divided into two branches, which from their geographical position it is simplest to call the North Arabians and the South Arabians. Arabic and Jewish tradition trace the descent of the latter from Joktan (Arabic Kahtan) son of Heber, of the former from Ishmael. The South Arabians- the older branch- were settled in the south-western part of the peninsula centuries before the uprise of the Ishmaelites. These latter include not only Ishmael's direct descendants through the twelve princes (Gen. xxv. 16), but the Edomites, Moabites, Ammonites , Midianites and other tribes. This ancient and undoubted division of the Arab race- roughly represented to-day by the universally adopted classification into Arabs proper and Bedouin Arabs (see Bedouins) - has caused much dispute among ethnologists. All authorities agree in declaring the race to be Semitic in the broadest ethnological signification of that term, but some thought they saw in this division of the race an indication of a dual origin. They asserted that the purer branch of the Arab family was represented by the sedentary Arabs who were of Hamitic (Biblical Cushite), i.e. African ancestry, and that the nomad Arabs were Arabs only by adoption, and were nearer akin to the true Semite as sons of Ishmael. Many arguments were adduced in support of this theory. ((1/133)
I) The unquestioned division in remote historic times of the Arab race, and the immemorial hostility between the two branches. (2) The concurrence of pre-Islamitic literature and records in representing the first settlement of the "pure" Arab as made in the extreme south-western part of the peninsula, near Aden. (3) The use of Himyar, "dusky" or "red" (suggesting African affinities), as the name sometimes for the ruling class, sometimes for the entire people. (4) The African affinities of the Himyaritic language. (5) The resemblance of the grammar of the Arabic now spoken by the "pure" Arabs, where it differs from that of the North, to the Abyssinian grammar. (6) The marked resemblance of the pre-Islamitic institutions of Yemen and its allied provinces - its monarchies, courts, armies and serfs - to the historical Africo-Egyptian type and even to modern Abyssinia. (7) The physique of the "pure" Arab, the shape and size of the head, the slenderness of the lower limbs, all suggesting an African rather than an Asiatic origin. (8) The habits of the people, viz. their sedentary rather than nomad occupations, their fondness for village life, for dancing, music and society, their cultivation of the soil, having more in common with African life than with that of the western Asiatic continent. ((1/134)
9) The extreme facility of marriage which exists in all classes of the southern Arabs with the African races, the fecundity of such unions and the slightness or even total absence of any caste feeling between the dusky "pure" Arab and the still darker African, pointing to a community of origin. And further arguments were found in the characteristics of the Bedouins, their pastoral and nomad tendencies; the peculiarities of their idiom allied to the Hebrew; their strong clan feeling, their continued resistance to anything like regal power or centralized organization. Such, briefly, were the more important arguments; but latterly ethnologists are inclined to agree that there is little really to be said for the African ancestry theory and that the Arab race had its beginning in the deserts of south Arabia, that in short the true Arabs are aborigines."
وهو ما يدل على أن الأمر ليس بالبساطة التى يتوهمها، أو بالحرى: يريد أن يوهمناها الدكتور لويس، إذ هأنتذا أيها القارئ الكريم ترى بنفسك كيف أن النظريات الخاصة بنشأة الأمة العربية عند العلماء الغربيين متعددة، وليس هناك كلام حاسم لديهم فى ذلك الموضوع، وأن ما يقولونه اليوم ينقضونه غدا، وإن كان هذا غير مقصور على أصل العرب، بل هو عام يشمل كل الأمم القديمة تقريبا، وأن أسخف ما قيل فى هذا الصدد هو النظرية التافهة التى تبناها لويس عوض ولطشها من أولئك العلماء ثم راح ينتفش وهو يعرضها علينا كأنه ابن بَجْدَتها دون أى شعور بالخجل من هذا التنفج الكاذب!(1/135)
وأخطر من ذلك كله أنه لا توجد عند الرجل قاعدة ثابتة تحكم تحول النطق من صوت إلى صوت آخر: فالتاء تتحول إلى ثاء وإلى دال وإلى ذال وإلى صاد وإلى ضاد وإلى طاء وإلى ظاء، والخاء تتحول إلى جيم قاهرية وإلى جيم معطشة وإلى حاء وإلى دال وإلى شين وإلى تشين وإلى صاد وإلى ضاد وإلى طاء، وكل من الكاف والقاف والخاء والجيم بنوعيها يمكن أن تتحول إلى تاء وإلى دال وإلى ضاد وإلى ذال وإلى زاى وإلى سين، والسين تتحول إلى حاء وإلى صاد وإلى زين، والجيم إلى حاء وإلى غين وإلى كاف وإلى قاف... وهكذا مع كل الحروف، والعكس فى كل ذلك صحيح (انظر الفصول الخاصة بتبادل الأصوات بدءا من الفصل الخامس ص 165)، وذلك فضلا عن "الميتاتيز"، وهو ما يسمى فى الصرف العربى: "القلب المكانى"، أى التقديم والتأخير فى حروف اللفظ كـ"جَبَذَ" فى "جَذَبَ" مثلا.(1/136)
ومعنى ذلك أن كل كلمة يمكن أن تصبح أية كلمة، والبهلوانية جاهزة لتمرير الجمل من سم الخياط وصَرّ الفيل فى المنديل وتعبئة الشمس فى زجاجات ودهن الهواء دوكو باللون الذى يحب كل إنسان. وفوق هذا فإن الصلة بين كثير من اللغات التى يقول لويس عوض بالاتصال بينها معدومة، والكلام فيها أشبه بالكلام فى الغيبيات التى يتشدقون بالهجوم عليها فى موضعها، على حين يلجأون إليها فى غير موضعها. والحق أن لويس عوض، فى ألاعيبه التى يمارسها فى هذا الكتاب، لا يفترق عن أى فلاح منجعص فوق مصطبة من مصاطب القرية وفى يده جريدة قد أمسكها بالمقلوب فظن أن الموتوسيكل الذى يركبه صاحبه قد انقلب به وأصبح الرجل تحت، والموتوسيكل فوقه، وهات يا فتاوى فى كل أمور الحياة من سياسة واقتصاد ومسائل زراعية ومشاكل اجتماعية وحروب وكرة قدم وقرآن وحديث وفقه وزواج وطلاق وقُعُور مجالس وصفقات مواشٍ وبيع محاصيل وقياس أراضٍ ووصفات شعبية للربو والدودة المعوية وفيروس سى والإيدز الذى حير البرية وجاء بداغ الأطباء كلهم بربطة المعلم الأرض دون جدوى... باختصار: بتاع كلّه!(1/137)
وهل بمستطاع أى إنسان كائنا من كان أن يسد حنك مثل ذلك المفتى المنجعص، وبخاصة إذا كان عبقريا عبقرية "أستاذنا الدكتور لويس عوض" حسب قول بعضهم؟ إن الرجل قد بسط أمامه خريطة اللغات الإنسانية كلها على مدار التاريخ كله تقريبا وشرع فى تتبع مسار كل كلمة من لغة إلى أخرى إلى ثالثة إلى رابعة... وعرف ما حدث لها على وجه الدقة واليقين قبل أن يحط بها أخيرا فوق مَدْرَج اللغة العربية بمطار الدراسات اللغوية بسلامة الله، ويصفق له الركاب على عادة المصريين كلما نزلت بهم الطائرة سالمة فى القاهرة، يفعل كل هذا وكأنه يعلق على مباراة فى كرة القدم تقع تحت بصره فى التو واللحظة، وليس على أمور تمت قبل الأحقاب المتطاولة، وكان مسرح وقوعها الكرة الأرضية جمعاء، واشتركت فى توجيهها عوامل تجلّ عن الحصر من سياسية واجتماعية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وبيولوجية، غير السهو والكسل والخطإ والالتباس... إلى آخر ما يعتور الألفاظ فى رحلتها الطويلة منذ أن توجد إلى أن تفنى، أو على أقل تقدير: إلى أن تتوارى ولو مؤقتا فى بطون المعاجم!(1/138)
ثم إنه هو نفسه وبعظمة لسانه، إن كان للألسن عظام، قد قال إن البحث فى مثل هذه القضايا يحتاج إلى الاستعانة بعدة علوم هى علم اللغة، وهذا قد رأينا مستواه المخزى فيه، ثم علم الأنثروبوليوجيا الطبيعية (علم الأجناس)، ثم الأنثروبولوجيا الاجتماعية المقارنة، ثم ألأثنولوجيا المقارنة، ثم الفونوطيقا المقارنة، ثم الأديان المقارنة، ثم الأساطير المقارنة، ثم الآثار بفروعها المختلفة، ثم تاريخ الفنون والآداب، ثم هو بعد ذلك كله يبرز مدى الصعوبة التى تكتنف هذه الدراسة من كل الجوانب (ص 131- 132)، ورغم ذلك كله نراه لا يبالى بعشر معشار ما قاله، فهو ينجعص كما قلت على مصطبة الفكر وهات يا فتاوى فى مسير ومصير اللغات المختلفة وكأنه ساحر من سحرة القرون الخوالى ينظر فى البلورة المسحورة ويرى من خلالها وفيها كل شىء، وقد جهل كل شىء وكل علم مما صدَّع أدمغتنا به حتى علم التمرهندى والعرقسوس!(1/139)
إن عبقرينا يتعامل مع هذه القضية كأنها لا تحتاج إلى أكثر من فرقعة بإصبع من أصابعه، فإذا كل شىء على ما يرام، وإذا كل شىء كما يقول. وهو، كما ترى، غرور ما بعده غرور، وبخاصة إذا علمتَ أنه لم يكن يعرف من كل تلك اللغات التى لا حصر لها إلا الإنجليزية والفرنسية، وكذلك إذا علمت أنه فى كلامه السخيف ذاك إنما كان ينقل فى معظم الأحيان عن بعض العلماء الغربيين الذين أحضر كتبهم ووضعها أمامه وأخذ يفتى بسرعة الصاروخ. ولم لا؟ أليس هو أبو سريع اللميع؟ أليس هو أبو زيد السالك الذى سكته كلها مسالك؟ وهل سمعتم أن أبو سريع اللميع قد خَفِىَ عليه شىء أو استعصى على قدرته شىء؟ خَسِئَ من يقول: نعم! على أن هذا لم يكن يملأ عين أبو سريع اللميع، بل رأسه وألف برطوشة قديمة أن يصدع رؤوسنا بكم مصطلح أوربى لزوم إبهار الدراويش الجاهزين للوقوع فى دباديب أية كلمة أو فكرة تافهة ينطق بها، وكأنه كاهن بين قوم وثنيين، فهم ينظرون إلى كل ما يتلفظ به وكأنه وحى لا يخرّ منه الماء! ولهذا فهو يكثر من "الميتاتيز، والهومونيم، والأوتوموبيا، والتوتولوجى، والمورفولوجى، والإيتمولوجى، والفونوطيقا، والجرمانية العالية، والإنجلوسكسونية... إلخ"، وكله كلام فى الهجايص كما رأينا وتحققنا بأنفسنا!(1/140)
ومن الوسائل التى يلجأ إليها لويس عوض أيضا لإرباك عقل القارئ كثرة التفصيلات وتتابعها (دون مراجع فى العادة) كى يصاب القارئ بالرعب والدوار فيتصور أنه أمام عالمٍ نحريرٍ ولا يجرؤ من ثم أن يطالب الكاتب بالدليل. إنه لا يقدم فى العادة مراجع ولا مصادر بل يكثر من الـ"ربمات" والـ"قد يكونات" والـ"ليس ما يمنعات" ثم يسهّينا فيحول الافتراضات التعسفية غير المدعومة بدليل أو منطق أومنهج إلى حقائق يبنى عليها نتائج فى منتهى الخطورة. ذلك أنه لا يقيم أيا من أفكاره على أسس منهجية، إذ إن الافتراضات العلمية إنما تكون حيث تتطلبها كثير من الوقائع مما يجعل الفرضية تفرض نفسها فرضا لا لمجرد أنها طقَّت فى مخّ الباحث دون مؤشرات. ثم إنه عادةً ما يقطع بالنتائج رغم أنه لا يقدم دليلا على صحة ما يقول، أو على الأقل: على معقوليته. كما أنه ينتقى ما يظن أنه موصّله إلى ما يريد تقريره من نتائج، مع إهمال ما يرى أنه لا يوصله إلى غايته. فعلى سبيل المثال نراه فى باب الأعداد يحاول أن يقنعنا بأن " رقم اثنين" عندنا هى "تُو" و"دُو" و"تِسْفَاىْ"... الإنجليزية والفرنسية والألمانية على التوالى عن طريق كلمات "صِنْو وسَواء وسِيّان وسوا"، مع أن "الصنو" هو "الشبيه"، و"السواء" هو "المتماثل"، و"سوا" (بالعامية المصرية) تعنى: "معا"، ولا علاقة لشىء من هذا بالأرقام. ولنلاحظ أنه لم يقل: "الزوج" ولا "المكرر" ولا "المُعَاد" ولا "الشبيه" ولا "المطابق" ولا "الموازى" ولا "المُنَاظِر" وما أشبه، بل اختار ما يظن أنه ينفعه فى ترويج بهلوانيته.(1/141)
وإلى القارئ مثالين على ما نقول مما خطه الدكتور لويس فى كتابه: فأما المثال الأول فهو ما كتبه عن كلمة "بنان" (ص 417- 418)، التى يظن بعبقريته الفذة أن معناها "إصبع" ضربة لازب، مع أنها تعنى "الإصبع" أو "طرف الإصبع". قال: "فى الإنجليزية والإنجليزية الوسيطة والأنجلوسكسونية كلمة "فنجر: Finger" تعنى "أصبع"، وهى فى السكسونية وفى الجرمانية العالية القديمة "فنجار: Fingar"، وفى النوردية القديمة "فنجر: Fingr"، وهى فى الهولندية "فنجر: Vingr"، وفى الدنماركية والسويدية والألمانية "فنجر: Finger"، وفى القوطية "فيجرس: Figgrs" (من "فنجرس: Fingrs"). وفى "سكيت" أن أصلها التيوتونى الافتراضى هو "فنجروز: Fingroz"، ونموذجها الهندى الأوربى "بنكروس: Penkros"، (تعليق من إبراهيم عوض: الكلام إلى هنا معقول، فاللغات الأوربية متقاربة تقاربا كبيرا فى كثير من الحالات لاستمدادها من نفس المصدر أو لاستعارة بعضها من بعض. ولكن هذا الكلام المعقول ليس للويس عوض، بل نقله نقلا من بعض الباحثين الأوربيين. ولكن انظر كلامه هو من هنا إلى آخر النص، ولسوف تجد البكش كله على أصوله! يقول:) وهذه يمكن أن تؤدى فونطيقيا إلى "بنسروز: Pensros" التى تصلح أساسا لكلمة "بنصر". وفى "وبستر" اشتباه بأن "Fingr" قد تكون لها علاقة بكلمة "Five" بمعنى "خمسة" باعتبار أن أصابع اليد خمسة. فإذا كان هذا صحيحا عدنا إلى جذر "بنديس: Pend-is" اليونانى بمعنى "خمسة" (قارن "فونف: Fünf" الألمانية) وإلى جذر "كوينكوى: Quinque" اللاتينية بمعنى "خمسة" (فونطيقيا: p = f، وf= q). وهذا يفسر ظهور "بنصر" من "Penzer" افتراضية، و"خنصر" من "Quenzer" (أصلا "بنجر" و"كنجر" بقيمة "ج: dj" وسطى). وبهذا تكون "بنصر" هى "خنصر"، ومعناها إما ببساطة "أصبع" (=Fingr) أو "أحد" الخمسة أو "الخامس" بمعنى "الأصبع" الخامس.(1/142)
ومع ذلك فالخامس فى العربية هو "الخنصر"، أما "البنصر" فهو الرابع، فالتوزيع غير مفهوم. وحتى لو افترضنا أن "خنخ" خنصر (أصلا "ك") جاءت من "Quatrus" بمعنى "أربعة" فى اللاتينية ("تترا" باليونانية) لما طابق هذا الواقع لأن "الخنصر" هو الخامس لا الرابع، وكان ينبغى أن توجد صيغة "تِنْصَر" أو "تِتْصَر" لتدل على الأصبع الرابع. و"بنان" يحتمل أن تكون من نفس جذر "Fingr" (Pendroz>)، ولأنه ليس لها جمع فهى لا تدل على "أصبع" بالمعنى العام، وإنما تدل على أحد الأصابع، وهو السبابة. ومن "بنان" نعرف أن صيغة "بنجن:Pengen " وجدت قبل "Fingr"، ولسقوط "g" خرجت "Penen" بالمد لتحل محل الصوت الساقط. ومع ذلك فيحسن البحث عن جذر آخر أو هومونيم آخر لأن "أنامل" بمعنى "أصابع" (دائما فى حالة الجمع، ونادرا ما نراه مفردا، أى "أنملة") تتواتر سواكنها الأساسية مع كلمة "بنان". ونخرج من هذا المأزق بأن نفترض أن "خنصر" و"بنصر" تعنى باختصار "أحد الخمسة" وأن توزيعها تم بناء على اعتبارات تحتاج إلى مزيد من البحث. ويبدو أن "أصبع" و"سبابة" من جذر واحد. يوحى بذلك كلمة "صباع"، وهى فونطيقيا قريبة من "سبابة"، ولكنى لم أهتد إلى جذر هذه المادة من مجموعة أتيمولوجية أخرى".(1/143)
أما المثال الثانى فلن يكون طويلا على هذا النحو، بل سأقلل النقل تقليلا. قال فى الكلام عن أصل اشتقاق كلمتى "نمر" و"نمس": "أما "نمر" و"نمس" فوحدة جذورهما واضحة، وهو جذر "مينك: Mink" الإنجليزية ("Mynk" فى الإنجليزية الوسيطة). والجذر الافتراضى فى تقديرى هو "مينس: Myns ,Mins" ("نمس" بالميتاتيز)، ويمكن أن نخرج منها "منر: Minr" و"Mynr" ("نمر" بالميتاتيز)، وكذلك حيوان "الليمور"، وهو نوع من "النمس"، و"ليمور" صورة من "نمر". أما "تيجر" فجذرها فى تقديرى هو غالبا جذر "ضرغام" و"ضيغم". أى أن جذرها هو "تيرج- طيرج- ديرج- ضيرج" (ص 450). أرأيت أيها القارئ عبقرية متعبقرة كهذ العبقرية؟ الرجل يجلس إلى مكتبه ويبدأ الفشر فيتناول خط سير كلمات كل هذا العدد الكبير من اللغات على مدار الدهور المتطاولة، وينتهى من ذلك فى لحظات. ونحن بهذ الطريقة يمكننا أن نقول إن كلمات "ليمون" و"أَمّور" و"نور" و"تنّور" و"تنّورة" و"بندورة" و"بيرون" مأخوذة كلها من نفس الجذر، إذ كانت تطلق فى مبتدإ الحال على بعض الحيوانات الوحشية، ثم تطورت دلالتها وأضحت تعنى ما تعنيه اليوم. ستقول لى: كيف؟ ومتى؟ وأين الدليل؟ أقول لك: ولماذا لا تسأل عبقرينا هذه الأسئلة ذاتها؟ إن استطاع أن يجيب فتعال وأنا أجيبك ساعتها، وإلا فاقبل كلامى، وهو ما لا أنصحك به لأنى أعترف وأقرّ أمامك بأنه كله كلام فارغ اخترعته عفو اللحظة، أو فانبذ هذا السخف اللويسعوضى، وهو ما أنصحك به أشد النصح حتى لا تضيع فى أبو نكلة! والسلام عليكم ورحمة الله.
الموقع والمدونة: http://ibrawa.coconia.net/index.htmhttp://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9(1/144)