1 - مسألة الاختلاف في أصل اشتقاق الإسم
ذهب الكوفيون إلى أن الأسم مشتق من الوسم وهو العلامة وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو وهو العلو
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مشتق من الوسم لأن الوسم في اللغة هو العلامة والإسم وسم على المسمى وعلامة له يعرف به ألا ترى أنك إذا قلت زيد أو عمرو دل على المسمى فصار كالوسم عليه فلهذا قلنا إنه مشتق من الوسم ولذلك قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب الإسم سمة توضع على الشيء يعرف بها
والأصل في اسم وسم إلا أنه حذفت منه الفاء التي هي الواو في وسم وزيدت الهمزة في أوله عوضا عن المحذوف ووزنه إعل لحذف الفاء منه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مشتق من السمو لأن السمو في اللغة هو العلو يقال سما يسمو سموا إذا علا ومنه سميت السماء سماء لعلوها والإسم يعلو على المسمى ويدل على ما تحته من المعنى ولذلك قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد الإسم ما دل على مسمى تحته وهذا القول كاف في الإشتقاق لا في التحديد فلما سما الإسم على مسماه وعلا على ما تحته من معناه دل على أنه مشتق من السمو لا من الوسم (1/6)
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا إنه مشتق من السمو وذلك لأن هذه الثلاثة الأقسام التي هي الإسم والفعل والحرف لها ثلاث مراتب فمنها ما يخبر به ويخبر عنه وهو الأسم نحو الله ربنا ومحمد نبينا وما أشبه ذلك فأخبرت بالأسم عنه ومنها ما يخبر به ولا يخبر عنه وهو الفعل نحو ذهب زيد وانطلق عمرو وما أشبه ذلك فأخبرت بالفعل ولو أخبرت عنه فقلت ذهب ضرب وانطلق كتب لم يكن كلاما ومنها مالا يخبر به ولا يخبر عنه وهو الحرف نحو من ولن ولم وبل وما أشبه ذلك فلما كان الأسم يخبر به ويخبر عنه والفعل يخبر به ولا يخبر عنه والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه فقد سما الأسم على الفعل والحرف أي علا فدل على أنه من السمو والأصل فيه سمو على وزن فعل بكسر (1/7)
الفاء وسكون العين فحذفت اللام التي هي الواو وجعلت الهمزة عوضا عنها ووزنه إفع لحذف اللام منه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم إنما قلنا إنه مشتق من الوسم لأن الوسم في اللغة العلامة والأسم وسم على المسمى وعلامة عليه يعرف به قلنا هذا وإن كان صحيحا من جهة المعنى إلا أنه فاسد من جهة اللفظ وهذه الصناعة لفظية فلا بد فيها من مراعاة اللفظ
ووجه فساده من جهة اللفظ من خمسة أوجه الوجه الأول أنا أجمعنا على أن الهمزة في أوله همزة التعويض وهمزة التعويض إنما تقع تعويضا عن حذف اللام لا عن حذف الفاء ألا ترى (1/8)
أنهم لما حذفوا اللام التي هي الواو من بنو عوضوا عنها الهمزة في أوله فقالوا ابن ولما حذفوا الفاء التي هي الواو من وعد لم يعوضوا عنها الهمزة في أوله فلم يقولوا إعد وإنما عوضوا عنها الهاء في آخره فقالوا عدة لأن القياس فيما حذف منه لامه أن يعوض بالهمزة في أوله وفيما حذف منه فاؤه أن يعوض بالهاء في آخره والذي يدل على صحة ذلك أنه لا يوجد في كلامهم ما حذف فاؤه وعوض بالهمزة في أوله كما لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه (1/9)
وعوض بالهاء في آخره فلما وجدنا في أول اسم همزة التعويض علمنا أنه محذوف اللام لا محذوف الفاء لأن حمله على ماله نظير أولى من حمله على ما ليس له نظير فدل على أنه مشتق من السمو لا من الوسم
والوجه الثاني أنك تقول أسميته ولو كان مشتقا من الوسم لوجب أن تقول وسمته فلما لم تقل إلا أسميت دل على أنه من السمو وكان الأصل فيه أسموت إلا أن الواو التي هي اللام لما وقعت رابعة قلبت ياء كما قالوا أعليت وأدعيت والأصل أعلوت وأدعوت إلا أنه لما وقعت الواو رابعة قلبت ياء فكذلك ها هنا
وإنما وجب أن تقلب الواو ياء رابعة من هذا النحو حملا للماضي على المضارع والمضارع يجب قلب الواو فيه ياء نحو يعلى ويدعى ويسمى والأصل فيه يعلو ويدعو ويسمو وإنما وجب قلبها ياء في المضارع لوقوعها ساكنة (1/10)
مكسورا ما قبلها لأن الواو متى وقعت ساكنة مكسورا ما قبلها وجب قلبها ياء ألا ترى أنهم قالوا ميقات وميعاد وميزان والأصل موقات وموعاد وموزان لأنه من الوقت والوعد والوزن إلا أنه لما وقعت الواو ساكنة مكسورا ما قبلها وجب قلبها ياء فكذلك هاهنا
وإنما حملوا الماضي على المضارع مراعاة لما بنوا عليه كلامهم من اعتبار حكم المشاكلة والمحافظة على أن تجري الأبواب على سنن واحد ألا ترى أنهم حملوا المضارع على الماضي إذا اتصل به ضمير جماعة النسوة نحو تضربن وحذفوا الهمزة من أخوات أكرم نحو نكرم وتكرم ويكرم والأصل فيه نؤكرم وتؤكرم ويؤكرم كما قال
( فإنه أهل لأن يؤكرما ... ) (1/11)
حملا على أكرم
وإنما حذفت إحدى الهمزتين من أكرم لأن الأصل فيه أأكرم فلما اجتمع فيه همزتان كرهوا اجتماعهما فحذفوا إحداهما تخفيفا ثم حملوا سائر أخواتها عليها في الحذف وكذلك حذفوا الواو من أخوات يعد نحو أعد ونعد وتعد والأصل فيها أوعد ونوعد وتوعد حملا على يعد وإنما حذفت الواو من يعد لوقوعها بين ياء وكسرة ثم حملوا سائر (1/12)
أخواتها عليها في الحذف كل ذلك لتحصيل التشاكل والفرار من نفرة الإختلاف فكذلك هاهنا حملوا الماضي على المضارع وبل أولى وذلك لأن مراعاة المشاكلة بالقلب أقيس من مراعاة المشاكلة بالحذف لأن القلب تغيير يعرض في نفس الحرف والحذف إسقاط لأصل الحرف والإسقاط في باب التغيير أتم من القلب فإذا جاز أن يراعوا المشاكلة بالحذف فبالقلب أولى
وأما قلب الواو ياء في الماضي في نحو تغازيت وترجيت وإن لم تقلب ياء في المضارع لأن الأصل في تغازيت غازيت وفي ترجيت رجيت فزيدت التاء فيهما لتدل على المطاوعة وغازيت ورجيت يجب قلب الواو فيهما ياء في المضارع ألا ترى أنك تقول في المضارع أغازى وأرجى فكذلك في الماضي وإذا لزم هذا القلب قبل الزيادة في غازيت أغازى ورجيت أرجى فكذلك بعد الزيادة في تغازيت وترجيت حملا لتغازيت على غازيت وترجيت على رجيت مراعاة للتشاكل وفرارا من نفرة الإختلاف
والوجه الثالث أنك تقول في تصغيره سمى ولو كان مشتقا من الوسم لكان يجب أن تقول في تصغيره وسيم كما يجب أن تقول في تصغير زنة وزينة وفي تصغير عدة وعيدة لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها فلما لم يجز أن يقال إلا سمى دل على أنه مشتق من السمو لا من الوسم
والأصل في سمى سميو إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشددة كما قالوا سيد وجيد وهين وميت
والأصل فيه سيود وجيود وهيون وميوت لأنه من السودد والجودة والهوان والموت إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشددة وكذلك أيضا قالوا طويت طيا ولويت ليا وشويت شيا والأصل فيه طويا ولويا وشويا إلا أنه لما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشددة وإنما وجب قلب الواو إلى الياء دون قلب الياء إلى (1/13)
الواو لأن الياء أخف من الواو فلما وجب قلب أحدهما إلى الآخر كان قلب الأثقل إلى الأخف أولى من قلب الأخف إلى الأثقل
والوجه الرابع أنك تقول في تكسيره أسماء ولو كان مشتقا من الوسم لوجب أن تقول أوسام وأواسيم فلما لم يجز أن يقال إلا أسماء دل على أنه مشتق من السمو لا من الوسم
والأصل في أسماء أسماو إلا أنه لما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة كما قالوا سماء وكساء ورجاء ونجاء
والأصل فيه سماو وكساو ورجاو ونجاو لقولهم سموت وكسوت ورجوت ونجوت إلا أنه لما وقعت الواو طرفا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة
ومنهم من قال إنما قلبت ألفا لأن الألف التي قبلها لما كانت ساكنة خفية زائدة والحرف الساكن حاجز غير حصين لم يعتدوا بها فقدروا أن الفتحة التي قبل الألف قد وليت الواو وهي متحركة والواو متى تحركت وانفتح ما قبلها وجب أن تقلب ألفا ألا ترى أنهم قالوا سما وعلا ودعا وغزا والأصل فيها سمو وعلو ودعو وغزو لقولهم سموت وعلوت ودعوت وغزوت (1/14)
إلا أنه لما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فكذلك ها هنا قلبوا الواو في أسماو ألفا فاجتمع فيه ألفان ألف زائدة وألف منقلبة عن لام الكلمة والألفان ساكنان وهما لا يجتمعان فقلبت الألف الثانية المنقلبة عن لام الكلمة همزة لالتقاء الساكنين وإنما قلبت إلى الهمزة دون غيرها من الحروف لأنها أقرب الحروف إليها لأن الهمزة هوائية كما أن الألف هوائية فلما كانت أقرب الحروف إليها كان قلبها إليها أولى من قلبها إلى غيرها
والوجه الخامس أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا في اسم سمى على مثال على والأصل فيه سمو إلا أنهم قلبوا الواو منه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار سمى قال الشاعر
( والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا ) (1/15)
وفيه خمس لغات اسم بكسر الهمزة وإسم بضمها وسم بكسر السين وسم بضمها قال الشاعر
( وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه )
( مبتركا لكل عظم يلحمه ... )
وقال
( باسم الذي في كل سورة سمه ... قد وردت على طريق تعلمه )
ويروى سمه بضم السين وسمى على وزن على على ما بينا
والله أعلم (1/16)
2 - سألة الإختلاف في إعراب الأسماء الستة
ذهب الكوفيون إلى أن الأسماء الستة المعتلة وهي أبوك وأخوك وحموك وهنوك وفوك وذو مال معربة من مكانين
وذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد والواو والألف والياء هي حروف الإعراب
وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش في أحد القولين
وذهب في القول الثاني إلى أنها ليست بحروف إعراب ولكنها دلائل الإعراب كالواو والألف والياء في التثنية والجمع وليست بلام الفعل
وذهب على بن عيسى الربعي إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب
وذهب أبو عثمان المازني إلى أن الباء حرف الإعراب وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات (1/17)
وقد يحكى عن بعض العرب أنهم يقولون هذا أبك ورأيت أبك ومررت بأبك من غير واو ولا ألف ولا ياء كما يقولون في حالة الإفراد من غير إضافة
وقد يحكى أيضا عن بعض العرب أنهم يقولون هذا أباك ورأيت أباك ومررت بأباك بالألف في حالة الرفع والنصب والجر فيجعلونه اسما مقصورا قال الشاعر
( إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها )
ويحكى عن الإمام أبي حنيفة أنه سئل عن إنسان رمى إنسانا بحجر فقتله هل يجب عليه القود فقال لا ولو رماه بأبا قبيس بالألف على هذه اللغة لأن أصله أبو فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفا بعد إسكانها إضعافا لها كما (1/18)
قالوا عصا وقفا وأصله عضو وقفو فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفا فكذلك هاهنا
والذي يعتمد عليه في النصرة أهل الكوفة والبصرة القولان الأولان فهذا منتهى القول في تفصيل المذاهب واللغات فلنبدأ بذكر الحجج والاستدلالات
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أن هذه الحركات التي هي الضمة والفتحة والكسرة تكون إعرابا لهذه الأسماء في حال الإفراد نحو قولك هذا أب لك ورأيت أبا لك ومررت بأب لك وما أشبه ذلك والأصل فيه أبو فاستثقلوا الإعراب على الواو فأوقعوه على الباء وأسقطوا الواو فكانت الضمة علامة للرفع والفتحة علامة للنصب والكسرة علامة للجر فإذا قلت في الإضافة هذا أبوك وفي النصب رأيت أباك وفي الجر مررت بأبيك والإضافة طارئة على الإفراد كانت الضمة والفتحة والكسرة باقية على ما كانت عليه في حال الإفراد لأن الحركة التي تكون إعرابا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابا له في حال الإضافة ألا ترى أنك تقول هذا غلام ورأيت غلاما ومررت بغلام فإذا أضفته قلت هذا غلامك ورأيت غلامك ومررت بغلامك فتكون الضمة والفتحة والكسرة التي كانت إعرابا له في حال الإفراد هي بعينها إعرابا له في حال الإضافة فكذلك هاهنا والذي يدل على صحة هذا تغير الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر وكذلك الواو والألف والياء بعد هذه الحركات تجري مجرى الحركات في كونها إعرابا بدليل أنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر فدل على أن الضمة والواو علامة للرفع والفتحة والألف علامة للنصب والكسرة والياء علامة للجر فدل على أنه معرب من مكانين (1/19)
ومنهم من تمسك بأن قال إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلة حروفها تكثيرا لها وليزيدوا بالإعراب في الإيضاح والبيان فوجب أن تكون معربة من مكانين على ما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه معرب من مكان واحد لأن الإعراب إنما دخل الكلام في الأصل لمعنى وهو الفصل وإزالة اللبس والفرق بين المعاني المختلفة بعضها من بعض من الفاعلية والمفعولية إلى غير ذلك وهذا المعنى يحصل بإعراب واحد فلا حاجة إلى أن يجمعوا بين إعرابين لأن أحد الإعرابين يقوم مقام الآخر فلا حاجة إلى أن يجمع بينهما في كلمة واحدة
ألا ترى أنهم لا يجمعون بين علامتي تأنيث في كلمة واحدة نحو مسلمات وصالحات وإن كان الأصل فيه مسلمتات وصالحتات لأن كل واحدة من التاءين تدل على ما تدل عليه الأخرى من التأنيث وتقوم مقامها فلم يجمعوا بينهما فكذلك ها هنا
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلام العرب فإن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان فبان أن ما ذهبنا (1/20)
إليه له نظير في كلامهم وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم والمصير إلى ماله نظير أولى من المصير إلى ما ليس له نظير
ومنهم من تمسك بأن قال لو جاز أن يجتمع في إسم واحد إعرابان متفقان لجاز أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان فكما يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان فكذلك يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان متفقان لامتناع اجتماع إعرابين في كلمة واحدة
والإعتماد على الاستدلال الأول وهذا الاستدلال عندي فاسد لأن الإعراب في الأصل إنما دخل للفصل بين المعاني بعضها من بعض من الفاعلية والمفعولية على ما بينا فلو جوزنا أن يجمع في إسم واحد إعرابان مختلفان لأدى ذلك إلى التناقض لأن كل واحد من الإعرابين يدل على نقيض ما يدل عليه الآخر ألا ترى أنا لو قدرنا الرفع والنصب في إسم واحد لدل الرفع على الفاعلية والنصب على المفعولية وكل واحد منهما نقيض الآخر بخلاف ما لو قدرنا إعرابين متفقين فإنه لا يدل أحد الإعرابين على نقيض ما يدل عليه الآخر فبان الفرق بينهما وأن الإعتماد على الاستدلال الأول
وأما من ذهب إلى أنها ليست بحروف إعراب ولكنها دلائل الإعراب فقال لأنها لو كانت حروف إعراب كالدال من زيد والراء من عمرو لما كان فيها دلالة على الإعراب ألا ترى أنك إذا قلت ذهب زيد وانطلق عمرو لم يكن في نفس الدال والراء دلالة على الإعراب فلما كان (1/21)
هاهنا هذه الأحرف تدل على الإعراب دل على أنها دلائل الإعراب وليست بحروف إعراب
وهذا القول فاسد لأنا نقول لا يخلو أن تكون هذه الأحرف دلائل الإعراب في الكلمة أو في غيرها فإن كانت تدل على الإعراب في الكلمة فوجب أن يكون الإعراب فيها لأنها آخر الكلمة فيئول هذا القول الى قول الأكثرين وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فيؤدي الى أن تكون الكلمة مبنية وليس من مذهب هذا القائل أنها مبنية فسنبين فساد مذهبه أن الواو والألف والياء في التثنية والجمع ليست بحروف إعراب ولكنها دلائل الإعراب مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى
فأما من ذهب إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب فقال لأن الأصل في قولك هذا أبوه هذا أبوه فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت إلى ما قبلها وبقيت الواو على حالها فكان فيه نقل بلا قلب والأصل في قولك رأيت أباه رأيت أبوه فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فكان فيه قلب بلا نقل والأصل في قولك مررت بأبيك مررت بأبوك فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى ما قبلها فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فكان فيه نقل وقلب (1/22)
وأما من ذهب إلى أن الباء حرف الإعراب وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات فقال لأن الباء تختلف عليها الحركات في حالة الرفع والنصب والجر كما تختلف حركات الإعراب على سائر حروف الإعراب فدل على أن الباء حرف الإعراب وأن هذه الحركات التي هي الضمة والفتحة والكسرة حركات إعراب وإنما أشبعت فنشأت عنها هذه الحروف التي هي الواو والألف والياء فالواو عن إشباع الضمة والألف عن إشباع الفتحة والياء عن إشباع الكسرة وقد جاء ذلك كثيرا في استعمالهم قال الشاعر في إشباع الضمة
( الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى إخواننا صور ) (1/23)
( وأنني حيثما يثني الهوى بصرى ... من حيثما سلكوا أدنو فأنظور )
أراد فأنظر فأشبع الضم فنشأت الواو وقال الآخر
( هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع )
أراد لم تهج وقال الآخر
( كأن في أنيابها القر نفول ... ) (1/24)
أراد القرنفل وقال الشاعر في إشباع الفتحة
( وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح )
أراد بمنتزح فأشبع الفتحة فنشأت الألف وقال الآخر
( أقول إذ خرت على الكلكال ... يا ناقتا ما جلت من مجال ) (1/25)
أراد الكلكل وقال الآخر
( إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضاها ولا تملق )
أراد ولا ترضها وقال عنترة
( ينباع من ذفرى غضوب جسرة ... زيافة مثل الفنيق المكدم ) (1/26)
أراد ينبع
وقال الشاعر في إشباع الكسرة
( تنفى يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف ) (1/27)
أراد الدراهم والصيارف فأشبع الكسرة فنشأت الياء ويحتمل أن يكون الدراهيم جمع درهام ولا يحتمل الصياريف هذا الإحتمال وقال الآخر
( كأنى بفتخاء الجناحين لقوة ... على عجل منى أطأطىء شيمالي ) (1/28)
أراد شمالي وقال الآخر
( لما نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل )
أراد المراجل وقال الآخر
( لا عهد لي بنيضال ... أصبحت كالشن البال )
أراد بنضال وقال الآخر (1/29)
( ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد )
أراد ألم يأتك فأشبع الكسرة فنشأت الياء
وإشباع الحركات حتى تنشأ عنها هذه الحروف كثير في كلامهم فكذلك ها هنا (1/30)
وهذا القول ظاهر الفساد لأن إشباع الحركات إنما يكون في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات وأما في حال أختيار الكلام فلا يجوز ذلك بالإجماع وهاهنا بالإجماع تقول في حال الإختيار هذا أبوك ورأيت أباك ومررت بأبيك وكذلك سائرها فدل على أنها ليست للإشباع عن الحركات وأن الحركات ليست للإعراب على ما سنبين في الجواب عن كلمات الكوفيين
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن هذه الحركات تكون حركات إعراب في حال الإفراد فكذلك في حال الإضافة قلنا هذا فاسد لأن حرف الإعراب في حال الإفراد هو الباء لأن اللام التي هي الواو من أبو لما حذفت من آخر الكلمة صارت العين التي هي الباء بمنزلة اللام في كونها آخر الكلمة فكانت الحركات عليها حركات إعراب فأما في حال الإضافة فحرف الإعراب هو حرف العلة لأنهم لما أرادوا أن يجعلوا اختلاف الحروف بمنزلة اختلاف الحركات ردوا اللام في الإضافة ليدلوا على أن من شأنهم الإعراب بالحروف توطئه لما يأتي من باب التثنية والجمع وإذا كان حرف الإعراب هو حرف العلة لم تكن هذه الحركات على الباء في حال الإضافة حركات إعراب لأن حركات الإعراب لا تكون في حشو الكلمة وصار هذا بمنزلة تاء التأنيث إذا اتصلت ببناء الإسم نحو قائم وقائمة فإنها تصير حرف الإعراب لأنها صارت (1/31)
آخر الكلمة وتخرج ما قبلها عن تلك الصفة لأنه قد صار بمنزلة حشو الكلمة فكذلك هاهنا وبل أولى فإن تاء التأنيث زائدة على بناء الإسم وليست أصلية وحرف العلة هاهنا أصلي في بناء الأسم وليس زائدا وإذا ترك ما قبل الزائد حشوا فلأن يترك ما قبل الأصلي حشوا كان ذلك من طريق الأولى
وأما قولهم إن الحركة التي تكون إعرابا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابا له في حال الإضافة نحو هذا غلام وهذا غلامك قلنا إنما تكون الحركة فيهما واحدة إذا كان حرف الإعراب فيهما واحدا نحو هذا غلام وهذا غلامك وقد بينا اختلاف حرف الإعراب فيهما فلا يقاس أحدهما على الآخر وإن ادعوا أن حرف الإعراب فيهما واحد على خلاف التحقيق من مذهبهم وزعموا أن الحرف للإعراب وليس بلام الكلمة وأنه والحركة مزيدان للإعراب فقد بينا أن ذلك لا نظير له في كلامهم وأن أحدهما زيادة بغير فائدة وأوضحنا فساده بما يغني عن الإعادة
وأما قولهم تغير الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر يدل على أنها حركات إعراب قلنا هذا لا يدل على أنها حركات إعراب لأنها إنما تغيرت توطئة للحروف التي بعدها لأنها من جنسها كما قلنا في الجمع السالم نحو مسلمون ومسلمين فإن ضمة الميم في الرفع تتغير الى الكسرة في حال الجر والنصب وليس ذلك بإعراب وإنما جعلت الضمة توطئة للواو والكسرة توطئة للياء فكذلك هاهنا وإذا بطل أن تكون هذه الحركات حركات إعراب وأجمعنا على أن هذه الحروف التي هي الواو والألف والياء تدل على الرفع والنصب والجر الذي هو جملة الإعراب فلا حاجة إلى أن يكون معربا من مكان آخر (1/32)
وأما قولهم إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلة حروفها قلنا هذا ينتقض بغد ويد ودم فإنها قليلة الحروف و لا تعرب في حال الإضافة إلا من مكان واحد
وأما قولهم ليزيدوا بالإعراب في الإيضاح والبيان قلنا الإيضاح والبيان قد حصل بإعراب واحد فصار الإعراب الزائد لغير فائدة والحكيم لا يزيد شيئا لغير فائدة فوجب أن تكون معربة من مكان واحد كسائر ما أعرب من الكلام والله أعلم
مسألة القول في إعراب المثنى والجمع على حده
ذهب الكوفيون إلى أن الألف والواو والياء في التثنية والجمع بمنزلة الفتحة والضمة والكسرة في أنها إعراب وإليه ذهب أبو علي قطرب بن المستنير وزعم قوم أنه مذهب سيبويه وليس بصحيح
وذهب البصريون إلى أنها حروف إعراب
وذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرد وأبو عثمان المازني إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ولكنها تدل على الإعراب
وذهب أبو عمر الجرمى إلى أن انقلابها هو الإعراب
وحكى عن أبي إسحاق الزجاج أن التثنية والجمع مبنيان وهو خلاف الإجماع
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها إعراب كالحركات أنها تتغير كتغير الحركات ألا ترى أنك تقول قام الزيدان ورأيت الزيدين ومررت (1/33)
بالزيدين وذهب الزيدون ورأيت الزيدين ومررت بالزيدين فتتغير كتغير الحركات نحو قام زيد ورأيت زيدا ومررت بزيد وما أشبه ذلك فلما تغيرت كتغير الحركات دل على أنها إعراب بمنزلة الحركات ولو كانت حروف إعراب لما جاز أن تتغير ذواتها عن حالها لأن حروف الإعراب لا تتغير ذواتها عن حالها فلما تغيرت تغير الحركات دل على أنها بمنزلتها ولهذا سماها سيبويه حروف الإعراب لأنها الحروف التي أعرب الإسم بها كما يقال حركات الإعراب أي الحركات التي أعرب الإسم بها والذي يدل على ذلك أنه جعل الألف في التثنية رفعا فقال يكون في الرفع ألفا وجعل الياء فيها جرا فقال يكون في الجر ياء مفتوحا ما قبلها وجعل الياء أيضا نصبا حملا على الجر فقال ويكون في النصب كذلك وهكذا جعل الواو والياء في الجمع رفعا وجرا ونصبا والرفع والجر والنصب لا يكون إلا إعرابا فدل على أنها إعراب
قالوا ولا يجوز أن يقال إن هذا يؤدي إلى أن يكون معربا لا حرف إعراب له وهذا لا نظير له وذلك لا يجوز لأنا نقول هنا إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف لأن الحركة تدخل في الحرف بخلاف ما إذا كان معربا بالحرف لأن الحرف لا يدخل في الحرف والذي يدل على ذلك الخمسة الأمثلة وهي يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين يا امرأة فإنها لما كانت معربة بالحرف لم يكن لها حرف إعراب ألا ترى أن النون علامة الرفع كالضمة في تضرب وإذا جاز أن تكون هذه الخمسة الأمثلة معربة ولا حرف إعراب لها لأن إعرابها بالحرف فكذلك هاهنا يجوز أن يكون الإسم في التثنية والجمع معربا ولا حرف إعراب له لأن إعرابه بالحرف
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها حروف إعراب وليست بإعراب لأن هذه الحروف إنما زيدت للدلالة على التثنية والجمع ألا ترى أن الواحد يدل على مفرد فإذا زيدت هذه الحروف دلت على التثنية والجمع فلما زيدت بمعنى التثنية والجمع صارت من تمام صيغة الكلمة التي وضعت لذلك المعنى فصارت بمنزلة التاء (1/34)
في قائمة والألف في حبلى وكما أن التاء والألف حرفا إعراب فكذلك هذه الحروف هاهنا
وأما من ذهب إلى أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ولكنها تدل على الإعراب فقال لأنها لو كانت إعرابا لما اختل معنى الكلمة بإسقاطها كإسقاط الضمة من دال زيد في قولك قام زيد وما أشبه ذلك ولو أنها حروف إعراب كالدال من زيد لما كان فيها دلالة على الإعراب كما لو قلت قام زيد من غير حركة وهي تدل على الإعراب لأنك إذا قلت رجلان علم أنه رفع فدل على أنها ليست بإعراب ولا حروف إعراب ولكنها تدل على الإعراب
وهذا القول فاسد وذلك لأن قولهم إن هذه الحروف تدل على الإعراب لا يخلو إما أن تدل على إعراب في الكلمة أو في غيرها فإن كانت تدل على إعراب في الكلمة فوجب أن تقدر في هذه الحروف لأنها أواخر الكلمة فيؤول هذا القول إلى أنها حروف الإعراب كقول أكثر البصريين وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فوجب أن تكون الكلمة مبنية وليس من مذهب أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد وأبي عثمان المازني أن التثنية والجمع مبنيان
وأما من ذهب إلى أن انقلابها هو الإعراب فقد أفسده بعض النحويين من وجهين أحدهما أن هذا يؤدي إلىأن يكون الإعراب بغير حركة ولا حرف وهذا لا نظير له في كلامهم
والوجه الثاني أن هذا يؤدي إلى أن يكون التثنية والجمع في حال الرفع مبنيين لأن أول أحوال الإسم الرفع ولا انقلاب له وأن يكونا في حال النصب والجر معربين لانقلابهما
وليس من مذهب أبي عمر الجرمي أن التثنية والجمع مبنيان في حال من الأحوال
وأما من ذهب إلى أنهما مبنيان فقال إنما قلت ذلك لأن هذه الحروف زيدت (1/35)
على بناء المفرد في التثنية والجمع فنزلا منزلة ما ركب من الإسمين نحو خمسة عشر وما أشبهه
وهذا القول أيضا يفسد من وجهين أحدهما أن التثنية والجمع وضعا على هذه الصيغة لأن يدلا على معنييهما من التثنية والجمع وإنما يفرد المفرد في الحكم لوجود لفظه وإذا كان كذلك لم يجز أن يشبها بما ركب من شيئين منفصلين كخمسة عشر وما أشبهه والوجه الثاني أنهما لو كانا مبنيين لكان يجب أن لا يختلف آخرهما باختلاف العوامل فيهما لأن المبني مالا يختلف آخره باختلاف العوامل فيه فلما اختلف هاهنا آخر التثنية والجمع باختلاف العوامل فيهما دل على أنهما معربان لا مبنيان
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنها هي الإعراب كالحركات بدليل أنها تتغير تغير الحركات فالجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن القياس كان يقتضي أن لا تتغير كقراءة من قرأ إن هذان لساحران على لغة بني الحارث بن كعب إلا أنهم عدلوا عن هذا القياس لإزالة اللبس ألا ترى أنك لو قلت ضرب الزيدان العمران لوقع الالتباس وليس هذا بمنزلة المقصور في نحو ضرب موسى عيسى لأن المقصور يزول عنه اللبس بالوصف والتوكيد لأنه ليس من شرط وصف المقصور أن يكون مقصورا وكذلك التوكيد بخلاف المثنى والمجموع لأنه من شرط وصف المثنى أن يكون مثنى ومن شرط وصف المجموع أن يكون مجموعا وكذلك التوكيد فبان الفرق بينهما (1/36)
والذي يدل على أن هذه الأحرف ليست إعرابا كالحركات أنها لو كانت هي الإعراب كالحركات لكان يجب أن لا يخل سقوطها بمعنى الكلمة كما لو سقطت الحركات لأن سقوط الإعراب لا يخل بمعنى الكلمة ألا ترى أنك لو أسقطت الضمة والفتحة والكسرة من الإسم نحو قام زيد ورأيت زيد ومررت بزيد لم يخل بمعنى الإسم ولو أسقطت الألف والواو والياء من التثنية والجمع لأخل بمعنى التثنية والجمع فلما أخل سقوط هذه الحروف بمعنى التثنية والجمع بخلاف الحركات دل على أنها ليست بإعراب كالحركات
والوجه الثاني أن هذه الحروف إنما تغيرت في التثنية والجمع لأن لهما خاصية لا تكون في غيرهما استحقا من أجلها التغيير وذلك أن كل اسم معتل لا تدخله الحركات نحو رحى وعصا وحبلى وبشرى له نظير من الصحيح يدل على مثل إعرابه فنظير رحى وعصا جمل وجبل ونظير حبلى وبشرى حمراء وصحراء وأما التثنية وهذا الجمع الذي على حدها فلا نظير لواحد منهما إلا بتثنية أو جمع فعوضا من فقد النظير الدال على مثل إعرابها تغير هذه الحروف فيهما
والوجه الثالث أن هذا ينتقض بالضمائر المتصلة والمنفصلة فإنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر وليس تغيرها إعرابا ألا ترى أنك تقول في المنفصلة أنا وأنت في حال الرفع وإياي وإياك في حال النصب وتقول في المتصلة مررت بك فتكون الكاف في موضع جر وهي اسم مخاطب ورأيتك فتكون في موضع نصب وتقول قمت وقعدت فتكون التاء في موضع رفع فتتغير هذه الضمائر في هذه الأحوال وإن لم يكن تغيرها إعرابا
وأما قولهم إن سيبويه سماها حروف الأعراب قلنا هذا حجة عليكم لأن حروف الإعراب هي أواخر الكلم وهذه الحروف هي أواخر الكلم (1/37)
فكانت حروف الإعراب قولهم إنما سماها حروف الإعراب لأنها التي أعرب الأسم بها كما تقول حركات الإعراب قلنا هذا خلاف الظاهر فإن الظاهر في اصطلاح النحويين أنه إذا أطلق حرف الإعراب إنما يطلق على آخر حرف من الكلمة نحو الدال من زيد والراء من عمرو لا على الحرف الذي يكون إعرابا للكلمة ألا ترى أن الخمسة الأمثلة أعربت بالحرف ولا حرف إعراب لها
وأما قولهم إنه جعل الألف والواو والياء في التثنية والجمع رفعا وجرا ونصبا الى آخر ما ذكروه قلنا معنى قوله يكون في الرفع ألفا ويكون في الجر ياء وفي النصب كذلك أي أنه يقع موقع المرفوع وإن لم يكن مرفوعا ويقع موقع المجرور وإن لم يكن مجرورا ويقع موقع المنصوب وإن لم يكن منصوبا كما يقال ضمير المرفوع وضمير المنصوب وضمير المجرور وإن لم يكن شيء منها مرفوعا ولا منصوبا ولا مجرورا وإنما المرفوع والمنصوب والمجرور ما يقع موقعها من الأسماء المعربة فكذلك هذه الحروف تقع موقع ما يحل فيه الإعراب وإن لم يكن فيها إعراب لوقوعها موقع ما يحل فيه الإعراب إذا وجد وصار هذا كقول علماء العربية حروف الزوائد عشرة يجمعها لا أنسيتموه وإن كانت هذه الحروف قد تقع زائدة وأصلية ألا ترى أن اللام أصلية في جبل وجمل كما هي زائدة في زيدل وعبدل وكذلك سائرها ثم سميت بذلك لأن الحروف الزوائد لا تخرج عنها فكذلك هاهنا فدل على أنها حروف الإعراب والذي يدل على أنها ليست هي الإعراب أنا لو قلنا إنها هي الإعراب لأدى إلى أن يكون معرب لا حرف إعراب له وهذا لا نظير له
قولهم هذا إنما لا يجوز فيما يكون إعرابه بالحركة لا بالحرف قلنا لا نسلم بل الأصل في كل معرب أن يكون له حرف إعراب سواء كان معربا بالحركة أو (1/38)
معربا بالحرف فأما الخمسة أمثلة فمنهم من ذهب إلى أن لها حرف إعراب وهي الألف في يفعلان والواو في يفعلون والياء في تفعلين فعلى هذا لا نسلم ولئن سلمنا على المذهب المشهور فإنما أعربت ولا حرف إعراب لها على خلاف الأصل وذلك لأنا لو قدرنا لها حرف إعراب لم يخل إما أن يكون اللام أو الضمير أو النون بطل أن يكون حرف الإعراب اللام لأن من الإعراب الجزم فلو جعلناه اللام لوجب أن يسكن في حالة الجزم فكان يؤدى إلى أن يحذف ضمير الفاعل وذلك لا يجوز وبطل أيضا أن يكون الضمير حرف الإعراب لأن الضمير في الحقيقة ليس جزءا من الفعل وإنما هو أسم قائم بنفسه في موضع رفع لأنه فاعل فلا يجوز أن يكون إعرابا لكلمة أخرى وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في تثنية الأسماء وجمعها فإنها حروف لا تقوم بنفسها ولا موضع لها من الإعراب فجاز أن تكون حروف الإعراب وبطل أن تكون النون حرف الإعراب لأنها ليست كحرف من الفعل وإنما هي بمنزلة الحركة التي هي الضمة ولهذا تحذف في الجزم والنصب ولا يخل حذفها بمعنى الفعل ولو كانت حرف الإعراب لما حذفت مع تحركها ولأخل حذفها بمعنى الفعل ولكان الإعراب جاريا عليها فلذلك لم يجز أن تكون حرف الإعراب وعلى هذا تخرج الألف والواو والياء في التثنية والجمع فإنها بمنزلة حروفها ويختل معناهما بحذفها فلذلك جاز أن تكون حروف الإعراب على ما بينا والله أعلم (1/39)
مسألة هل يجوز جمع العلم المؤنث بالتاء جمع المذكر السالم
ذهب الكوفيون إلى أن الإسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سميت به رجلا يجوز أن يجمع بالواو والنون وذلك نحو طلحة وطلحون وإليه ذهب أبو الحسن ابن كيسان إلا أنه يفتح اللام فيقول الطلحون بالفتح كما قالوا أرضون حملا على أرضات وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز جمعه بالواو والنون وذلك لأنه في التقدير جمع طلح لأن الجمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرف من الكلمة قال الشاعر
( وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم ... )
فكسره على ما لا هاء فيه وإذا كانت الهاء في تقدير الإسقاط جاز جمعه بالواو والنون كسائر الأسماء المجموعة بالواو والنون والذي يدل على صحة مذهبنا أنا أجمعنا على أنك لو سميت رجلا بحمراء أو حبلى لجمعته بالواو والنون فقلت حمراؤون وحبلون ولا خلاف أن ما في آخره ألف التأنيث أشد تمكنا في التأنيث مما في آخره تاء التأنيث لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها ولم تخرج الكلمة من تذكير إلى تأنيث وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث ولهذا المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام (1/40)
شيئين بخلاف التأنيث بالتاء وإذا جاز أن يجمع بالواو والنون ما في آخره ألف التأنيث وهي أوكد من التاء فلأن يجوز ذلك فيما آخره التاء كان ذلك من طريق الأولى
وأما ابن كيسان فاحتج على ذلك بأن قال إنما جوزنا جمعه بالواو والنون وذلك لأن التاء تسقط في الطلحات فإذا سقطت التاء وبقي الإسم بغير تاء جاز جمعه بالواو والنون كقولهم أرض وأرضون وكما حركت العين من أرضون بالفتح حملا على أرضات فكذلك حركت العين من الطلحون حملا على الطلحات لأنهم يجمعون ما كان على فعلة من الأسماء دون الصفات على فعلات
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أمتناع جواز هذا الجمع بالواو والنون وذلك لأن في الواحد علامة التأنيث والواو والنون علامة التذكير فلو قلنا إنه يجوز أن يجمع بالواو والنون لأدى ذلك إلى أن يجمع في إسم واحد علامتان متضادتان وذلك لا يجوز ولهذا إذا وصفوا المذكر بالمؤنث فقالوا رجل ربعة جمعوه بلا خلاف فقالوا ربعات ولم يقولوا ربعون والذي يدل على صحة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع هذا الإسم أو نحوه إلا بزيادة الألف والتاء كقولهم في جمع طلحة طلحات وفي جمع هبيرة هبيرات قال الشاعر
( رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات ) (1/41)
ولم يسمع عن أحد العرب أنهم قالوا الطلحون ولا الهبيرون ولا في شئ من هذا النحو بالواو والنون فإذا كان هذا الجمع مدفوعا من جهة القياس معدوما من جهة النقل فوجب أن لا يجوز
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه في التقدير جمع طلح قلنا هذا فاسد لأن الجمع إنما وقع على جميع حروف الإسم لأنا إياه نجمع وإليه نقصد وتاء التأنيث من جملة حروف هذا الإسم فلم ننزعها عنه قبل الجمع وإن كان اسما لمذكر لئلا يكون بمنزلة ما سمى به ولا علامة فيه فالتاء في جمعه مكان التاء في واحده
وأما ما أستشهدوا به من قوله
( وعقبة الأعقاب قي الشهر الأصم ... )
فهو مع شذوذه وقلته فلا تعلق له بما وقع الخلاف فيه لأن جمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير ليحمل عليه
وأما قولهم إنا أجمعنا على أنك لو سميت رجلا بحمراء وحبلى لقلت في جمعه حمراؤون وحبلون إلى آخر ما قدروا قلنا إنما جمع ما في آخره ألف التأنيث بالواو والنون لأنها يجب قلبها الى بدل لأنها صيغت عليها الكلمة فنزلت منزلة بعضها فلم تفتقر إلى أن تعوض بعلامة تأنيث الجمع بخلاف التاء فإنها يجب حذفها إلى غير بدل لأنها ما صيغت عليها الكلمة وإنما هي بمنزلة اسم ضم إلى إسم فجعلت علامة تأنيث الجمع عوضا منها
وأما قول ابن كيسان إن التاء تسقط في الطلحات فإذا سقطت التاء جاز أن تجمع بالواو والنون قلنا هذا فاسد لأن التاء وإن كانت محذوفة لفظا إلا أنها ثابتة تقديرا لأن الأصل فيها أن تكون ثابتة ألا ترى أن الأصل أن تقول في جمع مسلمة مسلمتات وصالحة صالحتات إلا أنهم لما أدخلوا تاء التأنيث في الجمع (1/42)
حذفوا هذه التاء التي كانت في الواحد لأنهم كرهوا أن يجمعوا بينهما لأن كل واحدة منهما علامة تأنيث ولا يجمع في اسم واحد علامتا تأنيث فحذفوا الأولى فقالوا مسلمات وصالحات وكان حذف الأولى أولى لأن في الثانية زيادة معنى ألا ترى أن الأولى تدل على التأنيث فقط والثانية تدل على التأنيث والجمع وهي حرف الإعراب فلما كان في الثانية زيادة معنى كان تبقيتها وحذف الأولى أولى فهي وإن كانت محذوفة لفظا إلا أنها ثابتة تقديرا فصار هذا بمنزلة ما حذف لالتقاء الساكنين فإنه وإن كان محذوفا لفظا إلا أنه ثابت تقديرا فكذلك هاهنا
وإذا كانت التاء المحذوفة هاهنا في حكم الثابت فينبغي أن لا يجوز أن تجمع بالواو والنون كما لو كانت ثابتة
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه فتح العين من قوله الطلحون لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يسلم فيه لفظ الواحد في حروفه وحركاته والفتح قد أدخل في جمع التصحيح تكسيرا
فأما قوله إن العين حركت من أرضون بالفتح حملا على أرضات قلنا لا نسلم وإنما غير فيه لفظ الواحد لأنه جمع على خلاف الأصل لأن الأصل في الجمع بالواو والنون أن يكون لمن يعقل ولكنهم لما جمعوه بالواو والنون غيروا فيه لفظ الواحد تعويضا عن حذف تاء التأنيث منه تخصيصا له بشىء لا يكون في سائر أخواته مع أن هذا التعويض تعويض جواز لا تعويض وجوب ألا ترى أنهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قدر قدرون فلما كان هذا الجمع في أرض على خلاف الأصل أدخل فيه ضرب من التغيير ففتحت العين منه إشعارا بأنه جمع بالواو والنون على خلاف الأصل فأما إذا جمع من يعقل بالواو والنون فلا يجوز أن يجعل بهذه المثابة لأن جمعه بالواو والنون بحكم الأصل لا بحكم التعويض فلا يجوز أن يدخله ضرب من التغيير كما كان ذلك في (1/43)
أرضون ويخرج على هذا حذف التاء وفتح العين من طلحات أما حذف التاء فلأن التاء الثانية صارت عوضا عنها لأنها للتأنيث كما أنها للتأنيث وأما أنتم فحذفتم من غير عوض فبان الفرق وأما فتح العين فلأجل الفصل بين الإسم والصفة فإن ما كان على فعلة من الأسماء فإنه يفتح منه العين نحو قصعات وجفنات وما كان صفة فإنه لا تحرك منه العين نحو خدلات وصعبات
وأما جمع التصحيح بالواو والنون فلا يدخله شىء من هذا التغيير ألا ترى أنه لا يفرق فيه بين الاسم والصفة فلا يقال في الاسم بالفتح نحو عمرون وبكرون وإنما يقال بالسكون نحو عمرون وبكرون كما يقال في الصفة نحو خدلون وصعبون فبان الفرق بينهما والله أعلم
مسألة القول في رافع المبتدأ ورافع الخبر
ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر والخبر يرفع المبتدأ فهما يترافعان وذلك نحو زيد أخوك وعمرو غلامك وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء وأما الخبر فاختلفوا فيه فذهب قوم إلى أنه يرتفع بالابتداء وحده وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالابتداء والمبتدأ معا وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع بالابتداء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ لأنا وجدنا المبتدأ لا بد له من خبر والخبر لا بد له من مبتدأ ولا (1/44)
ينفك أحدهما من صاحبه ولا يتم الكلام إلا بهما ألا ترى أنك إذا قلت زيد أخوك لا يكون أحدهما كلاما إلا بانضمام الآخر إليه فلما كان كل واحد منهما لا ينفك عن الآخر ويقتضي صاحبه اقتضاء واحدا عمل كل واحد منها في صاحبه مثل ما عمل صاحبه فيه فلهذا قلنا إنهما يترافعان كل واحد منهما يرفع صاحبه
ولا يمتنع أن يكون كل واحد منهما عاملا ومعمولا وقد جاء لذلك نظائر كثيرة قال الله تعالى ( أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) فنصب أياما بتدعوا وجزم تدعوا بأياما فكان كل واحد منهما عاملا ومعمولا وقال تعالى ( أينما تكونوا يدرككم الموت ) فأينما منصوب بتكونوا وتكونوا مجزوم بأينما وقال تعالى ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) إلى غير ذلك من المواضع فكذلك ها هنا
قالوا ولا يجوز أن يقال إن المبتدأ يرتفع بالابتداء لأنا نقول الابتداء لا يخلو إما أن يكون شيئا من كلام العرب عند إظهاره أو غير شىء فإن كان شيئا فلا يخلو من أن يكون اسما أو فعلا أو أداة من حروف المعاني فإن كان اسما فينبغي أن يكون قبله اسم يرفعه وكذلك ما قبله إلى مالا غاية له وذلك محال وإن كان فعلا فينبغي أن يقال زيد قائما كما يقال حضر زيد قائما وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد
وإن كان غير شىء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف
قالوا ولا يجوز أن يقال إنا نعنى بالابتداء التعرى من العوامل اللفظية (1/45)
لأنا نقول إذا كان معنى الابتداء هو التعرى من العوامل اللفظية فهو إذا عبارة عن عدم العوامل وعدم العوامل لا يكون عاملا
والذي يدل على أن الابتداء لا يوجب الرفع أنا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة فلما لم يجب ذلك دل على أن الابتداء لا يكون موجبا للرفع
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف وإنما هي أمارات ودلالات وإذا كانت العوامل في محل الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شىء كما تكون بوجود شىء ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما في الآخر فصبغت أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان ترك صبغ أحدهما في التمييز بمنزلة صبغ الآخر فكذلك هاهنا
وإذا ثبت أنه عامل في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره قياسا على غيره من العوامل نحو كان وأخواتها وإن وأخواتها وظننت وأخواتها فإنها لما عملت في المبتدإ عملت في خبره فكذلك هاهنا
وأما من ذهب إلى أن الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدإ فوجب أن يكونا هما العاملين فيه غير أن هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أنه لا يخلو من ضعف وذلك لأن المبتدأ اسم والأصل في الأسماء أن لا تعمل وإذا لم يكن له تأثير في العمل والابتداء له تأثير فإضافة مالا تأثير له إلى ماله تأثير لا تأثير له
والتحقيق فيه عندي أن يقال إن الابتداء هو العامل في الخبر بواسطة المبتدأ لأنه لا ينفك عنه ورتبته أن لا يقع إلا بعده فالابتداء يعمل في الخبر عند (1/46)
وجود المبتدأ لا به كما أن النار تسخن الماء بواسطة القدر والحطب فالتسخين إنما حصل عند وجودهما لا بهما لأن التسخين إنما حصل بالنار وحدها فكذلك هاهنا الابتداء وحده هو العامل في الخبر عند وجود المبتدإ إلا أنه عامل معه لأنه اسم والأصل في الأسماء أن لا تعمل
وأما من ذهب إلى أن الابتداء يعمل في المبتدإ والمبتدأ يعمل في الخبر فقالوا إنما قلنا إن الابتداء يعمل في المبتدإ والمبتدأ يعمل في الخبر دون الابتداء لأن الابتداء عامل معنوي والعامل المعنوي ضعيف فلا يعمل في شيئين كالعامل اللفظي
وهذا أيضا ضعيف لأنه متى وجب كونه عاملا في المبتدإ وجب أن يعمل في خبره لأن خبر المبتدأ يتنزل منزلة الوصف ألا ترى أن الخبر هو المبتدأ في المعنى كقوله زيد قائم وعمرو ذاهب أو منزل منزلته كقوله زيد الشمس حسنا وعمرو الأسد شدة أي يتنزل منزلته وكقولهم أبو يوسف أبو حنيفة أي يتنزل منزلته في الفقه قال الله تعالى ( وأزواجه أمهاتهم ) أي تتنزل منزلتهن في الحرمة والتحريم فلما كان الخبر هو المبتدأ في المعنى أو منزلا منزلته تنزل منزلة الوصف لأن الوصف في المعنى هو الموصوف ألا ترى أنك إذا قلت قام زيد العاقل وذهب عمرو الظريف أن العاقل في المعنى هو زيد والظريف في المعنى هو عمرو ولهذا لما تنزل الخبر منزلة الوصف كان تابعا للمبتدإ في الرفع كما تتبع الصفة الموصوف وكما أن العامل في الوصف هو العامل في الموصوف سواء كان العامل قويا أو ضعيفا فكذلك هاهنا
وأما قولهم إن المبتدأ يعمل في الخبر فسنذكر فساده في الجواب عن كلمات الكوفيين (1/47)
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنهما يترافعان لأن كل واحد منهما لا بد له من الآخر ولا ينفك عنه قلنا الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن ما ذكرتموه يؤدى إلى محال وذلك لأن العامل سبيله أن يقدر قبل المعمول وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما قبل الآخر وذلك محال وما يؤدى إلى المحال محال
والوجه الثاني أن العامل في الشىء ما دام موجودا لا يدخل عليه عامل غيره لأن عاملا لا يدخل على عامل فلما جاز أن يقال كان زيد أخاك وإن زيدا أخوك وظننت زيدا أخاك بطل أن يكون أحدهما عاملا في الآخر
وأما ما استشهدوا به من الآيات فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه
أحدها أنا لا نسلم أن الفعل بعد أياما وأينما مجزوم بأياما وأينما وإنما هو مجزوم بإن وأياما وأينما نابا عن إن لفظا وإن لم يعملا شيئا
والوجه الثاني أنا نسلم أنها نابت عن إن لفظا وعملا ولكن جاز أن يعمل كل واحد منهما في صاحبه لاختلاف عملهما ولم يعملا من وجه واحد فجاز أن يجتمعا ويعمل كل واحد منهما في صاحبه بخلاف ما هنا
والوجه الثالث إنما عمل كل واحد منهما في صاحبه لأنه عامل فاستحق أن يعمل وأما هاهنا فلا خلاف أن المبتدأ والخبر نحو زيد أخوك اسمان باقيان على أصلهما في الإسمية والأصل في الأسماء أن لا تعمل فبان الفرق بينهما
وأما قولهم إن الابتداء لا يخلو من أن يكون اسما أو فعلا أو أداة إلى آخر ما قرروا قلنا قد بينا أن الابتداء عبارة عن التعرى عن العوامل اللفظية
قولهم فإذا كان معنى الابتداء هو التعرى عن العوامل اللفظية فهو إذا (1/48)
عبارة عن عدم العوامل وعدم العوامل لا يكون عاملا قلنا قد بينا وجه كونه عاملا في دليلنا بما يغنى عن الإعادة هاهنا على أن هذا يلزمكم في الفعل المضارع فإنكم تقولون يرتفع بتعريه من العوامل الناصبة والجازمة وإذا جاز لكم أن تجعلوا التعرى عاملا في الفعل المضارع جاز لنا أيضا أن نجعل التعرى عاملا في الاسم المبتدإ
وحكى أنه اجتمع أبو عمر الجرمى وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء فقال الفراء للجرمى أخبرني عن قولهم زيد منطلق لم رفعوا زيدا فقال له الجرمى بالابتداء قال له الفراء ما معنى الابتداء قال تعريته من العوامل قال له الفراء فأظهره قال له الجرمى هذا معنى لا يظهر قال له الفراء فمثله إذا فقال الجرمى لا يتمثل فقال الفراء ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل فقال له الجرمى أخبرني عن قولهم زيد ضربته لم رفعتم زيدا فقال بالهاء العائدة على زيد فقال الجرمى الهاء اسم فكيف يرفع الاسم فقال الفراء نحن لا نبالي من هذا فإنا نجعل كل واحد من الاسمين إذا قلت زيد منطلق رافعا لصاحبه فقال الجرمي يجوز أن يكون كذلك في زيد منطلق لأن كل اسم منهما مرفوع في نفسه فجاز أن يرفع الآخر وأما الهاء في ضربته ففي محل النصب فكيف ترفع الاسم فقال الفراء لا نرفعه بالهاء وإنما رفعناه بالعائد على زيد قال الجرمى ما معنى العائد قال الفراء معنى لا يظهر قال الجرمى أظهره قال الفراء لا يمكن إظهاره قال الجرمى فمثله قال لا يتمثل قال الجرمى لقد وقعت فيما فررت منه
فحكى أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له كيف وجدت الجرمى فقال وجدته آية وسئل الجرمى فقيل له كيف وجدت الفراء فقال وجدته شيطانا (1/49)
وأما قولهم إنا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة قلنا أما المنصوبات فإنها لا يتصور أن تكون مبتدأة لأنها وإن كانت متقدمة في اللفظ إلا أنها متأخرة في التقدير لأن كل منصوب لا يخلو إما أن يكون مفعولا أو مشبها بالمفعول والمفعول لا بد أن يتقدمه عامل لفظا أو تقديرا فلا تصح له رتبة الابتداء وإذا كانت هذه المنصوبات متقدمة في اللفظ متأخرة التقدير لم يصح أن تكون مبتدأة لأنه لا أعتبار بالتقديم إذا كان في تقدير التأخير وأما المسكنات إذا ابتديء بها فلا يخلو إما أن تقع مقدمة في اللفظ دون التقدير أو تقع مقدمة في اللفظ والتقدير فإن وقعت متقدمة في اللفظ دون التقدير كان حكمها حكم المنصوبات لأنها في تقدير التأخير
وإن وقعت متقدمة في اللفظ والتقدير فلا تخلو إما أن تستحق الإعراب في أول وضعها أولا تستحق الإعراب في أول وضعها فإن كانت تستحق الإعراب في أول وضعها نحو من وكم وما أشبه ذلك من الأسماء المبنية على السكون فإنا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء وإنما لم يظهر في اللفظ لعلة عارضة منعت من ظهوره وهي شبه الحرف أو تضمن معنى الحرف
وإن كانت لا تستحق الإعراب في أول وضعها نحو الأفعال والحروف المبنية على السكون فإنا لا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء لأنها لا تستحق شيئا من الإعراب في أول الوضع فلم يكن الابتداء موجبا لها الرفع لأنه نوع منه
وهذا هو الجواب عن قولهم إنهم يبتدئون بالحروف فلو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة وعدم عمله في محل لا يقبل العمل لا يدل على عدم (1/50)
عمله في محل يقبل العمل ألا ترى أن السيف يقطع في محل ولا يقطع في محل آخر وعدم قطعه في محل لا يقبل القطع لا يدل على عدم قطعه في محل يقبل القطع لأن عدم القطع في محل لا يقبل إنما القطع كان لنبوه في المحل لا لأن السيف غير قاطع فكذلك هاهنا عدم عمل الابتداء في محل لا يقبل العمل إنما كان لعدم استحقاق المعمول ذلك العمل لا لأن الابتداء غير صالح أن يعمل ذلك العمل والله أعلم
6 - مسألة في رافع الاسم الواقع بعد الظرف والجار والمجرور
ذهب الكوفيون إلى أن الظرف يرفع الاسم إذا تقدم عليه ويسمون الظرف المحل ومنهم من يسميه الصفة وذلك نحو قولك أمامك زيد وفي الدار عمرو وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش في أحد قوليه وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد من البصريين وذهب البصريون إلى أن الظرف لا يرفع الاسم إذا تقدم عليه وإنما يرتفع بالابتداء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل في قولك أمامك زيد وفي الدار عمرو حل أمامك زيد وحل في الدار عمرو فحذف الفعل واكتفى بالظرف منه وهو غير مطلوب فارتفع الاسم به كما يرتفع (1/51)
بالفعل
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرا لمبتدإ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو صلة لموصول أو معتمدا على همزة الاستفهام أو حرف النفي أو كان الواقع بعده أن التي في تقدير المصدر فالخبر كقوله تعالى ( فأولئك لهم جزاء الضعف ) فجزاء مرفوع بالظرف والصفة كقولك مررت برجل صالح في الدار أبوه والحال كقولك مررت بزيد في الدار أبوه وعلى ذلك قوله تعالى ( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ) فهدى ونور مرفوعان بالظرف لأنه حال من الإنجيل ويدل عليه قوله تعالى ( ومصدقا لما بين يديه ) فعطف مصدقا على حال قبله وما ذاك إلا الظرف والصلة كقوله تعالى ( ومن عنده علم الكتاب ) والمعتمد على الهمزة كقوله تعالى ( أفي الله شك ) وحرف النفي كقولك ما في الدار أحد وأن كقوله تعالى ( ومن آياته أنك ترى الأرض ) فأن وما عملت فيه في موضع رفع بالظرف وإذا عمل الظرف في هذه المواضع كلها فكذلك فيما وقع الخلاف فيه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الاسم بعده يرتفع بالابتداء لأنه قد تعرى من العوامل اللفظية وهو معنى الابتداء فلو قدر هاهنا عامل لم يكن إلا الظرف وهو لا يصلح هاهنا أن يكون عاملا لوجهين أحدهما أن الأصل في الظرف أن لا يعمل وإنما يعمل لقيامه مقام الفعل ولو كان هاهنا عاملا لقيامه مقام الفعل لما جاز أن تدخل عليه العوامل فتقول إن أمامك زيدا وظننت خلفك عمرا وما أشبه ذلك لأن عاملا لا يدخل على عامل فلو كان الظرف رافعا لزيد لما جاز ذلك ولما كان العامل يتعداه إلى الاسم ويبطل عمله كما لا يجوز أن تقول إن يقوم (1/52)
عمرا وظننت ينطلق بكرا فلما تعداه العامل إلى الاسم كما قال تعالى ( إن لدينا أنكالا وجحيما ) ولم يرو عن أحد من القراء أنه كان يذهب إلى خلاف النصب دل على ما قلناه
والثاني أنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع به الاسم في قولك بك زيد مأخوذ وبالإجماع أنه لا يجوز ذلك
اعترضوا على هذين الوجهين من وجهين
أما الوجه الأول فاعترضوا عليه بأن قالوا قولكم إن العامل يتعداه إلى الإسم بعده ليس بصحيح لأن المحل عندنا اجتمع فيه نصبان نصب المحل في نفسه ونصب العامل ففاض أحدهما إلى زيد فنصبه
وأما الوجه الثاني فاعترضوا عليه بأن قالوا قولكم إنه لو كان عاملا لوجب أن يرفع الاسم في قولك بك زيد مأخوذ ليس بصحيح وذلك لأن بك مع الإضافة إلى الاسم لا يفيد بخلاف قولنا في الدار زيد إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد ويكون كلاما
وما اعترضوا به على الوجهين باطل أما اعتراضهم على الوجه الأول قولهم إنه اجتمع في المحل نصبان نصب المحل في نفسه ونصب العامل قلنا هذا باطل من وجهين أحدهما أن هذا يؤدى إلى أنه يجوز أن يكون الاسم منصوبا من وجهين وذلك لا يجوز ألا ترى أنك لو قلت أكرمت زيدا وأعطيت عمرا العاقلين لم يجز أن تنصبه على الوصف لأنك تجعله منصوبا من وجهين وذلك لا يجوز فكذلك هاهنا
والوجه الثاني أن النصب الذي فاض من المحل إلى الاسم لا يخلو إما أن يكون نصب المحل أو نصب العامل فإن قلتم نصب الظرف فقولوا إنه منصوب (1/53)
بالظرف وهذا مالا يقول به أحد لأنه لا دليل عليه وإن قلتم إنه نصب العامل فقد صح قولنا إن العامل يتعداه إلى ما بعده ويبطل عمله
وأما اعتراضهم على الوجه الثاني قولهم إن بك مع الإضافة إلى الاسم لا يفيد بخلاف قولك في الدار إذا أضيف إليه الاسم فإنه يفيد فباطل أيضا وذلك لأنه لو كان عاملا لما وقع الفرق بينهما في هذا المعنى ألا ترى أن قولك ضارب زيد لا يفيد وسار زيد يفيد ومع هذا فكل منهما عامل كالآخر فكذلك كان ينبغي أن يكون هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل في قولك أمامك زيد وفي الدار عمرو حل أمامك زيد وحل في الدار عمرو فحذف الفعل واكتفى بالظرف منه قلنا لا نسلم أن التقدير في الفعل التقديم بل الفعل وما عمل فيه في تقدير التأخير وتقديم الظرف لا يدل على تقديم الفعل لأن الظرف معمول الفعل والفعل هو الخبر وتقديم معمول الخبر لا يدل على أن الأصل في الخبر التقديم ولأن المبتدأ يخرج عن كونه مبتدأ بتقديمه ألا ترى أنك تقول عمرا زيد ضارب ولا يدل ذلك على أن الأصل في الخبر التقديم وإن كان يجوز تقديمه على المعمول فكذلك ها هنا والذي يدل على أن الفعل هاهنا في تقدير التأخير والاسم في تقدير التقديم مسألتان إحداهما أنك تقول في داره زيد ولو كان كما زعمتم لأدى ذلك إلى الإضمار قبل الذكر وذلك لا يجوز والثانية أنا أجمعنا على أنه إذا قال في داره زيد قائم فإن زيدا لا يرتفع بالظرف وإنما يرتفع عندكم بقائم وعندنا يرتفع بالابتداء ولو كان مقدما على زيد لوجب أن لا يلغى
وأما قولهم إن الفعل غير مطلوب قلنا لو كان الفعل غير مطلوب ولا مقدر لأدى ذلك إلى أن يبقى الظرف منصوبا بغير ناصب وذلك لا يجوز وسنبين فساد ذلك في موضعه (1/54)
وأما قولهم إن سيبويه يساعدنا على أن الظرف يرفع إذا وقع خبرا لمبتدإ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو صلة لموصول أو معتمدا على همزة الاستفهام إلى غير ذلك فإنما كان كذلك لأن هذه المواضع أولى بالفعل من غيره فرجح جانبه على الابتداء كما قلنا في إسم الفاعل إذا جرى خبرا لمبتدإ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو صلة لموصول أو معتمدا على همزة الاستفهام أو حرف النفي فالخبر كقولك زيد قائم أبوه والصفة كقولك مررت برجل كريم أخوه والحال كقولك جاءني زيد ضاحكا وجهه والصلة كقولك رأيت الذاهب غلامه والمعتمد على الهمزة نحو أذاهب أخواك وحرف النفي نحو ما قائم غلامك وإنما كان ذلك لأن هذه الأشياء أولى بالفعل من غيره فلهذا غلب جانب تقديره بخلاف ما وقع الخلاف فيه والله أعلم
القول في تحمل الخبر الجامد ضمير المبتدأ
ذهب الكوفيون إلى أن خبر المبتدأ إذا كان اسما محضا يتضمن ضميرا (1/55)
يرجع ألى المبتدأ نحو زيد أخوك وعمرو غلامك وإليه ذهب علي بن عيسى الرماني من البصريين
وذهب البصريون إلى أنه لا يتضمن ضميرا
وأجمعوا على أنه إذا كان صفة أنه يتضمن الضمير نحو زيد قائم وعمرو حسن وما أشبه ذلك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يتضمن ضميرا وإن كان اسما غيرصفة لأنه في معنى ما هو صفة ألا ترى أن قولك زيد أخوك في معنى زيد قريبك وعمرو غلامك في معنى عمرو خادمك وقريبك وخادمك يتضمن كل واحد منهما الضمير فلما كان خبر المبتدإ هاهنا في معنى ما يتحمل الضمير وجب أن يكون فيه ضمير يرجع الى المبتدإ
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يتضمن ضميرا وذلك لأنه اسم محض غير صفة وإذا كان عاريا عن الوصفية فينبغي أن يكون خاليا عن الضمير لأن الأصل في تضمن الضمير أن يكون للفعل وإنما يتضمن الضمير من الأسماء ما كان مشابها له ومتضمنا معناه كاسم الفاعل والصفة المشبهة به نحو ضارب وقاتل وحسن وكريم وما أشبه ذلك وما وقع الخلاف فيه ليس بينه وبين الفعل مشابهة بحال ألا ترى أنك إذا قلت زيد أخوك كان أخوك دليلا على الشخص الذي دل عليه زيد وليس فيه دلالة على الفعل فكذلك إذا قلت عمرو غلامك كان غلامك دليلا على الشخص الذي دل عليه عمرو وليس فيه دلالة على الفعل فوجب أن لا يجوز الإضمار فيه كما لايجوز في زيد وعمرو
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم إنما قلنا إنه يتضمن الضمير وإن كان اسما محضا لأنه في معنى ما يتضمن الضمير لأن أخوك في معنى قريبك وغلامك في معنى خادمك قلنا هذا فاسد لأنه إنما جاز أن يكون قريبك (1/56)
وخادمك متحملا للضمير لأنه يشابه الفعل لفظا ويتضمنه معنى وهو الأصل في تحمل الضمائر ولا شبهة في مشابهة اسم الفاعل والصفة المشبهة به للفعل ألا ترى أن خادم على وزن يخدم في حركته وسكونه وأن فيه حروف خدم الذي هو الفعل وكذلك قريب فيه حروف قرب الذي هو الفعل فجاز أن يتضمن الضمير فأما أخوك وغلامك فلا شبهة في أنه لا مشابهة بينه وبين الفعل بحال فينبغي أن لا يتحمل الضمير وكونه في معنى ما يشبه الفعل لا يوجب شبها بالفعل ألا ترى أن حروف أخوك وغلامك عارية من حروف الفعل الذي هو قرب وخدم فينبغي أن لا يتحمل الضمير ألا ترى أن المصدر إنما عمل عمل الفعل نحو ضربي زيدا حسن لتضمنه حروفه فلو أقمت ضمير المصدر مقامه فقلت ضربي زيدا حسن وهو عمرا قبيح لم يجز وإن كان ضمير المصدر في معناه لأن المصدر إنما عمل عمل الفعل لتضمنه حروفه وليس في ضمير المصدر لفظ الفعل فلا يجوز أن يعمل عمله فكذلك هاهنا إنما جاز أن يتحمل نحو قريبك وخادمك الضمير لمشابهته للفعل وتضمنه لفظه ولم يجز ذلك في نحو أخوك وغلامك لأنه لم يشابه الفعل ولم يتضمن لفظه والله أعلم
8م - سألة القول في إبراز الضمير إذا جرى الوصف على غير صاحبه
ذهب الكوفيون إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له نحو قولك هند زيد ضاربته هي لا يجب إبرازه وذهب البصريون إلى أنه (1/57)
يجب إبرازه وأجمعوا على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه لا يجب إبرازه في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له أنه قد جاء عن العرب أنهم قد استعملوه بترك إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له قال الشاعر
( وإن امرأ أسرى إليك ودونه ... من الأرض موماة وبيداء سملق )
( لمحقوقة أن تستجيبى دعاءه ... وأن تعلمي أن المعان موفق )
فترك إبراز الضمير ولو أبرزه لقال محقوقة أنت وقال الآخر (1/58)
( يرى أرباقهم متقلديها ... كما صدئ الحديد على الكماة )
فترك إبرازه ولو أبرزه لقال متقلديها هم فلما أضمره ولم يبرزه دل على جوازه ولأن الإضمار في اسم الفاعل إنما جاز إذا جرى على من هو له لشبه الفعل وهو مشابه له إذا جرى على غير من هو له كما إذا جرى على من هو له فكما جاز الإضمار فيه إذا جرى على من هو له فكذلك يجوز إذا جرى على غير من هو له
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجب إبرازه فيه إذا جرى على غير من هو له أنا أجمعنا على أن اسم الفاعل فرع على الفعل في تحمل الضمير إذ كانت الأسماء لا أصل لها في تحمل الضمير وإنما يضمر فيما شابه منها الفعل كاسم الفاعل نحو ضارب وقاتل والصفة المشبهة به نحو حسن وشديد وما أشبه ذلك فإذا ثبت أن اسم الفاعل فرع على الفعل فلا شك أن المشبه بالشيء يكون أضعف منه في ذلك الشيء فلو قلنا إنه يتحمل الضمير في كل حالة إذا جرى على من هو له وإذا جرى على غير من هو له لأدى ذلك إلى التسوية (1/59)
بين الأصل والفرع وذلك لا يجوز لأن الفروع أبدا تنحط عن درجة الأصول فقلنا إنه إذا جرى على غير من هو له يجب إبراز الضمير ليقع الفرق بين الأصل والفرع
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا يجب إبراز الضمير فيه إذا جرى على غير من هو له لأنا لو لم نبرزه لأدى ذلك إلى الالتباس ألا ترى أنك لو قلت زيد أخوه ضارب وجعلت الفعل لزيد ولم تبرز الضمير لأدى ذلك إلى أن يسبق إلى فهم السامع أن الفعل للأخ دون زيد ويلتبس عليه ذلك ولو أبرزت الضمير لزال هذا الالتباس فوجب إبرازه لأنه به يحصل إفهام السامع ورفع الالتباس ويخرج على هذا إذا جرى على من هو له فإنه إنما لم يلزمه إبراز الضمير لأنه لا التباس فيه ألا ترى أنك لو قلت زيد ضارب غلامه لم يسبق إلى فهم السامع إلا أن الفعل لزيد إذ كان واقعا بعده فلا شئ أولى به منه فبان بما ذكرنا صحة ما صرنا إليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما البيت الأول وهو قوله
( لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه ... )
فلا حجة لهم فيه لأنه محمول عندنا على الاتساع والحذف والتقدير فيه لمحقوقة بك أن تستجيبي دعاءه وإذا جاز أن يحمل البيت على وجه سائغ في العربية فقد سقط الاحتجاج به (1/60)
وأما البيت الثاني وهو قول الآخر
( ترى أرباقهم متقلديها ... )
فلا حجة لهم فيه أيضا لأن التقدير فيه ترى أصحاب أرباقهم إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال تعالى ( واسأل القرية ) أي أهل القرية وقال تعالى ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ومنه قولهم الليلة الهلال أي طلوع الهلال لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث
قال الشاعر
( وشر المنايا ميت وسط أهله ... كهلك الفتى قد أسلم الحى حاضره ) (1/61)
أي منية ميت وقال الآخر
( وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب )
أي كخلالة أبي مرحب وقال الآخر
( أكل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه ) (1/62)
أي إحراز نعم وقال الآخر
( كأن عذيرهم بجنوب سلى ... نعام قاق في بلد قفاز ) (1/63)
أي كأن عذيرهم عذير نعام
والعذير الحال والحال لا يشبه بالنعام وقال الآخر
( قليل عيبه والعيب جم ... ولكن الغنى رب غفور )
أي ولكن الغنى غنى رب غفور فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه
والشواهد على هذا النحو أكثر من أن تحصى فعلى هذا يكون قد أجرى قوله متقلديها وهو اسم الفاعل على ذلك المحذوف فلا يفتقر إلى إبراز الضمير (1/64)
وأما قولهم إن الإضمار في اسم الفاعل إنما كان لشبه الفعل وهويشابه الفعل إذا جرى على غير من هو له قلنا فلكونه فرعا على الفعل وجب فيه إبراز الضمير هاهنا لئلا يؤدى إلى التسوية بين الأصل والفرع ولما يؤدى إليه ترك الإبراز من اللبس على ما بينا والله أعلم
9 - مسألة القول في تقديم الخبر على المبتدأ
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه مفردا كان أو جملة فالمفرد نحو قائم زيد وذاهب عمرو والجملة نحو أبوه قائم زيد وأخوه ذاهب عمرو
وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه المفرد والجملة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر المبتدإ عليه مفردا كان أو جملة لأنه يؤدي إلى أن تقدم ضمير الاسم على ظاهره ألا ترى أنك إذا قلت قائم زيد كان في قائم ضمير زيد وكذلك إذا قلت أبوه قائم زيد كانت الهاء في أبوه ضمير زيد فقد تقدم ضمير الاسم على ظاهره ولا خلاف أن رتبة ضمير الاسم بعد ظاهره فوجب أن لا يجوز تقديمه عليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا ذلك لأنه قد جاء كثيرا في كلام العرب وأشعارهم فأما ما جاء من ذلك في كلامهم فقولهم في المثل (1/65)
في بيته يؤتى الحكم وقولهم في أكفانه لف الميت ومشنوء من يشنوك وحكى سيبويه تميمى أنا فقد تقدم الضمير في هذه المواضع كلها على الظاهر لأن التقدير فيها الحكم يؤتى في بيته والميت لف في أكفانه ومن يشنؤك مشنوء وأنا تميمى وأما ما جاء من ذلك في أشعارهم فنحو ما قال الشاعر
( بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد )
ويروى الأكارم وتقديره بنو أبنائنا بنونا
وقال الآخر
( فتى ما ابن الأغر إذا شتونا ... وحب الزاد في شهري قماح ) (1/66)
وتقديره ابن الأغر فتى ما إذا شتونا وقال الشماخ
( كلا يومي طوالة وصل أروى ... ظنون آن مطرح الظنون )
ووجه الدلالة من هذا البيت هو أن قوله وصل أروى مبتدأ وظنون خبره وكلا يومي طوالة ظرف يتعلق بظنون الذي هو خبر المبتدأ وقد تقدم معموله على المبتدإ فلو لم يجز تقديم خبر المبتدإ عليه وإلا لما جاز تقديم معمول خبره عليه لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل ألا ترى (1/67)
أنك لو قلت القتال زيدا حين تأتى فنصبت زيدا بتأتي لم يجز لأنه لا يجوز أن تقدم تأتي على حين فتقول القتال تأتي حين فلو كان تقديم خبر المبتدإ ممتنعا كما امتنع هاهنا تقديم الفعل لامتنع تقديم معموله على المبتدإ لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل لأن المعمول تبع للعامل فلا يفوقه في التصرف بل أجمل أحواله أن يقع موقعه إذ لو قلنا إنه يقع حيث لا يقع العامل لقدمنا التابع على المتبوع ومثال ذلك أن يجلس الغلام حيث لا يجلس السيد فتجعل مرتبته فوق مرتبة السيد وذلك عدول عن الحكمة وخروج عن قضية المعدلة وإذا ثبت بهذا جواز تقديم معمول خبر المبتدأ على المبتدأ فلأن يجوز تقديم خبر المبتدأ على المبتدإ عليه أولى لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول وهذا لا إشكال فيه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم لو جوزنا تقديمه لأدى ذلك إلى أن تقدم ضمير الاسم على ظاهره قلنا هذا فاسد وذلك لأن الخبر وإن كان مقدما في اللفظ إلا أنه متأخر في التقدير وإذا كان مقدما لفظا متأخرا تقديرا فلا اعتبار بهذا التقديم في منع الإضمار ولهذا جاز بالإجماع ضرب غلامه زيد إذا جعلت زيدا فاعلا وغلامه مفعولا لأن غلامه وإن كان متقدما عليه في اللفظ إلا أنه في تقدير التأخير فلم يمنع ذلك من تقديم الضمير قال الله تعالى ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) فالهاء عائدة إلى موسى وإن كان متأخرا لفظا لأن موسى في تقدير التقديم والضمير في تقدير التأخير قال زهير
( من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا ) (1/68)
وقال الأعشى
( أصاب الملوك فأفناهم ... وأخرج من بيته ذا جدن )
ويروى ذا يزن
وكذلك أجمعنا على جواز تقديم خبر كان على اسمها نحو كان قائما زيد وإن كان قد قدم فيه ضمير الاسم على ظاهره إلا أنه لما كان في تقدير التأخير لم يمنع ذلك من تقديم الضمير ولهذا لو فقد هذا التقدير (1/69)
من التقديم والتأخير لما جاز تقديم الضمير ألا ترى أنه لا يجوز ضرب غلامه زيدا إذا جعلت غلامه فاعلا وزيدا مفعولا لأن التقدير إنما يخالف اللفظ إذا عدل بالشيء عن الموضع الذي يستحقه فأما إذا وقع في الموضع الذي يستحقه فمحال أن يقال إن النية به غير ذلك
وهاهنا قد وقع الفاعل في رتبته والمفعول في رتبته فلم يمكن أن تجعل الضمير في تقدير التأخير بخلاف ما إذا قلت ضرب غلامه زيد فجعلت غلامه مفعولا وزيدا فاعلا فأما قوله تعالى ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) فإنه وإن كان بتقدير التأخير يصير إلى قولك وإذ ابتلى ربه إبراهيم فيكون إضمارا قبل الذكر كقولك ضرب غلامه زيدا إلا أن بينهما فرقا وذلك لأن قولك ضرب غلامه زيدا تقدم فيه ضمير الاسم على ظاهره لفظا وتقديرا وقوله تعالى ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) تقدم فيه ضمير الاسم على ظاهره تقديرا لا لفظا والضمير متى تقدم تقديرا لا لفظا أو تقدم لفظا لا تقديرا فإنه يجوز بخلاف ما إذا تقدم عليه لفظا وتقديرا والله أعلم
10م - سألة القول في العامل في الاسم المرفوع بعد لولا
ذهب الكوفيون إلى أن لولا ترفع الاسم بعدها نحو لولا زيد لأكرمتك وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بالابتداء (1/70)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها ترفع الاسم بعدها لأنها نائبة عن الفعل الذي لو ظهر لرفع الاسم لأن التقدير في قولك لولا زيد لأكرمتك لو لم يمنعني زيد من إكرامك لأكرمتك إلا أنهم حذفوا الفعل تخفيفا وزادوا لا على لو فصار بمنزلة حرف واحد وصار هذا بمنزلة قولهم أما أنت منطلقا انطلقت معك والتقدير فيه أن كنت منطلقا انطلقت معك قال الشاعر
( أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع )
والتقدير فيه أن كنت ذا نفر فحذف الفعل وزاد ما على أن عوضا عن الفعل كما كانت الألف في اليماني عوضا عن إحدى ياءي النسب والذي يدل على أنها عوض عن الفعل أنه لا يجوز ذكر الفعل معها لئلا يجمع بين العوض (1/71)
والمعوض ونحن وإن اختلفنا في أن أن هاهنا هل هي بمعنى إن الشرطية أو أنها في تقدير لأن فما اختلفنا في أن ما عوض عن الفعل وكذلك أيضا قولهم إما لا فافعل هذا تقديره إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا لأن الأصل في هذا أن الرجل تلزمه أشياء فيطالب بها فيمتنع منها فيقنع منه ببعضها فيقال له إما لا فافعل هذا أي إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا ثم حذف الفعل لكثرة الاستعمال وزيدت ما على إن عوضا عنه فصارا بمنزلة حرف واحد والذي يدل على أنها صارت عوضا عن الفعل أنه يجوز إمالتها فيقال إما لا بالإمالة كما أمالوا بلى ويا في النداء فلو لم تكن كافية من الفعل وإلا لما جازت إمالتها لأن الأصل في الحروف أن لا تدخلها الإمالة فلما جاز إمالتها هاهنا دل على أنها كافية من الفعل كما كانت بلى ويا كذلك وكذلك أيضا قالوا من سلم عليك فسلم عليه ومن لا فلا تعبأ به وتقديره ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به وقال الشاعر
( فطلقها فلست لها بند ... وإلا يعل مفرقك الحسام )
أراد وإلا تطلقها يعل وكذلك قالوا حينئذ الآن تقديره واسمع الآن (1/72)
ومعناه أن ذاكرا ذكر شيئا فيما مضى يستدعي في الحال مثله فقال له المخاطب حينئذ الآن أي كان الذي تذكره حينئذ واسمع الآن أو دع الآن ذكره أو نحو ذلك من التقدير وكذلك قالوا ما أغفله عنك شيئا وتقديره أنظر شيئا كأن قائلا قال ليس بغافل عني فقال المجيب ما أغفله عنك شيئا أي أنظر شيئا فحذف
والحذف في كلامهم لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يحصى فدل على أن الفعل محذوف هاهنا بعد لولا وأنه اكتفى بلولا على ما بينا فوجب أن يكون مرفوعا بها
والذي يدل على أن الاسم يرتفع بها دون الابتداء أن أن إذا وقعت بعدها كانت مفتوحة نحو قولك لولا أن زيدا ذاهب لأكرمتك ولو كانت في موضع الابتداء لوجب أن تكون مكسورة فلما وجب الفتح دل على صحة مما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يرتفع بالابتداء دون لولا وذلك لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصا ولولا لاتختص بالاسم دون الفعل بل قد تدخل على الفعل كما تدخل على الاسم قال الشاعر
( قالت أمامة لما جئت زائرها ... هلا رميت ببعض الأسهم السود ) (1/73)
( لا در درك إني قد رميتهم ... لولا حددت ولا عذري لمحدود )
فقال لولا حددت فأدخلها على الفعل فدل على أنها لا تختص فوجب أن لا تكون عاملة وإذا لم تكن عاملة وجب أن يكون الاسم مرفوعا بالابتداء
والذي يدل على أنه ليس مرفوعا بلولا بتقدير لو لم يمنعني زيد لأكرمتك أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يعطف عليها بولا لأن الجحد يعطف عليه بولا قال الله تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات )
ثم قال الشاعر (1/74)
( فما الدنيا بباقاة لحي ... ولا حي على الدنيا بباق )
قوله بباقاة أراد بباقية فأبدل من الكسرة فتحة فانقلبت الياء ألفا وهي لغة طيئ وقال الآخر
( وما الدنيا بباقية بحزن ... أجل لا لا ولا برخاء بال )
فلما لم يجز أن يقال لولا أخوك ولا أبوك دل على فساد ما ذهبوا إليه
والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قولهم إن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصا ولولا حرف غير مختص قلنا نسلم أن الحرف لا يعمل إلا إذا كان (1/75)
مختصا ولكن لا نسلم أن لولا غير مختص
قولهم إنه يدخل على الفعل كما يدخل على الاسم كما قال الشاعر
( لولا حددت ولا عذري لمحدود ... )
فأدخلها على الفعل قلنا لو التي في هذا البيت ليست مركبة مع لا كما هي مركبة مع لا في قولك لولا زيد لأكرمتك وإنما لو حرف باق على أصله من الدلالة على امتناع الشيء لامتناع غيره ولا معها بمعنى لم لأن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل فكأنه قال قد رميتهم لو لم أحد وهذا كقوله تعالى ( فلا اقتحم العقبة ) أي لم يقتحم العقبة وكقوله تعالى ( فلا صدق ولا صلى ) أي لم يصدق ولم يصل وكقول الشاعر
( إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما ) (1/76)
وكقول الآخر
( وأي أمر سيئ لا فعله ... ) (1/77)
أي لم يفعله فكذلك هاهنا قوله لولا حددت أي لو لم أحد فدل على أن لولا هذه ليست لولا التي وقع فيها الخلاف فدل على أنها مختصة بالأسماء دون الأفعال فوجب أن تكون عاملة على ما بينا
وأما قولهم لو كانت لولا هي العاملة لأن التقدير لو لم يمنعني زيد لكان فيها معنى الجحد فكان ينبغي أن يعطف عليها بولا لأن الجحد يعطف عليه بولا إلى آخر ما قرروه قلنا إنما لم يجز ذلك لأن لولا مركبة من لو و لا فلما ركبتا خرجت لو من حدها ولا من الجحد إذ ركبتا فصيرتا حرفا واحدا فإن الحروف إذا ركب بعضها مع بعض تغير حكمها الأول وحدث لها بالتركيب حكم آخر كما قلنا في لولا بمعنى التحضيض ولوما وألا وما أشبهه وكذلك هاهنا فلهذا لم يجز العطف عليها بولا والله أعلم
11 - مسألة القول في عامل النصب في المفعول
ذهب الكوفيون إلى أن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل جميعا نحو ضرب زيد عمرا
وذهب بعضهم إلى أن العامل هو الفاعل ونص هشام (1/78)
ابن معاوية صاحب الكسائي على أنك إذا قلت ظننت زيدا قائما تنصب زيدا بالتاء وقائما بالظن
وذهب خلف الأحمر من الكوفيين إلى أن العامل في المفعول معنى المفعولية والعامل في الفاعل معنى الفاعلية
وذهب البصريون إلى أن الفعل وحده عمل في الفاعل والمفعول جميعا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن العامل في المفعول النصب الفعل والفاعل وذلك لأنه لا يكون مفعول إلا بعد فعل وفاعل لفظا أو تقديرا إلا أن الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد والدليل على ذلك من سبعة أوجه الأول أن إعراب الفعل في الخمسة الأمثلة يقع بعده نحو يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين يا امرأة ولولا أن الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما جاز أن يقع إعرابه بعده
والوجه الثاني أنه يسكن لام الفعل إذا اتصل به ضمير الفاعل نحو ضربت وذهبت لئلا يجتمع في كلامهم أربع حركات متواليات في كلمة واحدة ولولا أن ضمير الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما سكنت لام الفعل لأجله
والوجه الثالث أنه يلحق الفعل علامة التأنيث إذا كان الفاعل مؤنثا فلولا أنه يتنزل منزلة بعضه وإلا لما ألحق علامة التأنيث لأن الفعل لا يؤنث وإنما يؤنث الاسم
والوجه الرابع أنهم قالوا حبذا فركبوا حب وهو فعل مع ذا وهو اسم فصارا بمنزلة شيء واحد وحكم على موضعه بالرفع على الابتداء
والوجه الخامس انهم قالوا في النسب إلى كنت كنتي فأثبتوا التاء (1/79)
ولو لم يتنزل ضمير الفاعل منزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما جاز إثباتها
والوجه السادس أنهم قالوا زيد ظننت منطلق فألغوا ظننت ولولا أن الجملة من الفعل والفاعل بمنزلة المفرد وإلا لما جاز إلغاؤها لأن العمل إنما يكون للمفردات لا للجمل
والوجه السابع أنهم قالوا للواحد قفا على التثنية لأن المعنى قف قف قال الله تعالى ( ألقيا في جهنم ) فثنى وإن كان الخطاب لملك واحد وهو مالك خازن النار لأن المعنى ألق ألق والتثنية إنما تكون للأسماء لا للأفعال فدل على أن الفاعل مع الفعل بمنزلة الشيء الواحد
وإذا كان الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد وكان المفعول لا يقع إلا بعدهما دل على أنه منصوب بهما وصار هذا كما قلتم في الابتداء والمبتدأ إنهما يعملان في الخبر لأنه لا يقع ألا بعدهما
والذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون الناصب للمفعول هو الفعل وحده أنه لو كان هو الناصب للمفعول لكان يجب أن يليه ولا يجوز أن يفصل بينه وبينه فلما جاز الفصل بينهما دل على أنه ليس هو العامل فيه وحده وإنما العامل فيه الفعل والفاعل
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الناصب للمفعول هو الفعل دون الفاعل وذلك لأنا أجمعنا على أن الفعل له تأثير في العمل أما الفاعل فلا تأثير له في العمل لأنه اسم والأصل في الأسماء أن لا تعمل وهو باق على أصله في الاسمية فوجب أن لا يكون له تأثير في العمل وإضافة مالا تأثير له في العمل إلى ماله تأثير ينبغي أن يكون لا تأثير له
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الناصب للمفعول الفعل والفاعل لأنه لا يكون إلا بعدهما إلى آخر ما قرروا قلنا هذا لا يدل على أنهما العاملان فيه لما بينا أن الفاعل اسم والأصل في الأسماء أن لا تعمل (1/80)
وبهذا يبطل قول من ذهب منهم إلى أن الفاعل وحده هو العامل والكلام عليه كالكلام على من ذهب من البصريين إلى أن الابتداء والمبتدأ يعملان في الخبر لهذا المعنى وقد بينا فساد ذلك مستقصى في مسألة المبتدأ والخبر فلا نعيده هاهنا
وأما قولهم لو كان الفعل هو العامل في المفعول لكان يجب أن يليه ولا يفصل بينه وبينه قلنا هذا يبطل بإن فإنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقال إن في الدار لزيدا وإن عندك لعمرا قال الله سبحانه ( إن في ذلك لآية ) وقال تعالى ( إن لدينا أنكالا ) فنصب الاسم بإن وإن لم تله فكذلك هاهنا وإذا لم يلزم ذلك في الحرف وهو أضعف من الفعل لأنه فرع عليه في العمل فلأن لا يلزم ذلك في الفعل وهو أقوى كان ذلك من طريق الأولى على أنا نقول إن الفعل قد ولى المفعول لأن الفعل لما كان أقوى من حرف المعاني صار يعمل عملين فهذا بذاته رافع للفاعل وناصب للمفعول لزيادته على حروف المعاني فتقديره تقدير ما عمل وليس بينه وبين معموله فاصل وإذا لم يكن بينه وبين معموله فاصل بان أنه قد وليه العامل فدل على أن العامل هو الفعل وحده
وأما ما ذهب إليه الأحمر من إعمال معنى المفعولية والفاعلية فظاهر الفساد لأنه لو كان الأمر كما زعم لوجب أن لا يرتفع ما لم يسم فاعله نحو ضرب زيد لعدم معنى الفاعلية وأن ينصب الاسم في نحو مات زيد لوجود معنى المفعولية فلما ارتفع ما لم يسم فاعله مع وجود معنى المفعولية وارتفع الاسم في نحو مات زيد مع عدم معنى الفاعلية دل على فساد ما ذهب إليه
والله أعلم (1/81)
12 - مسألة القول في ناصب الاسم المشغول عنه
ذهب الكوفيون إلى أن قولهم زيدا ضربته منصوب بالفعل الواقع على الهاء وذهب البصريون إلى أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير فيه ضربت زيدا ضربته
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء وذلك لأن المكني الذي هو الهاء العائد هو الأول في المعنى فينبغي أن يكون منصوبا به كما قالوا أكرمت أباك زيدا وضربت أخاك عمرا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه منصوب بفعل مقدر وذلك لأن في الذي ظهر دلالة عليه فجاز إضماره استغناء بالفعل الظاهر عنه كما لو كان متأخرا وقبله ما يدل عليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع على الهاء لأن المكني هو الأول في المعنى فينبغي أن يكون منصوبا به كقولهم أكرمت أباك زيدا قلنا هذا فاسد وذلك لأن انتصاب زيد في قولهم أكرمت أباك زيدا على البدل وجاز أن يكون بدلا لأنه تأخر عن المبدل منه إذ لا يجوز أن يكون البدل إلا متأخرا عن المبدل منه وأما هاهنا فقد تقدم (1/82)
زيد على الهاء فلا يجوز أن يكون بدلا منها لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه على أنا نقول إن العامل في البدل عندنا غير العامل في المبدل منه وإن العامل في المبدل منه على تقدير التكرير في البدل والذي يدل على ذلك إظهاره في البدل كما أظهر في المبدل منه قال الله تعالى ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ) فقوله ( لمن آمن منهم ) بدل من قوله ( للذين استضعفوا ) فأظهر العامل في البدل كما أظهره في المبدل منه وقال تعالى ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) فقوله ( لبيوتهم ) بدل من قوله ( لمن يكفر بالرحمن ) فأظهر العامل في البدل كما أظهره في المبدل منه فدل على أنه في تقدير التكرير وأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه والله اعلم
مسألة القول في أولى العاملين بالعمل في التنازع
ذهب الكوفيون في إعمال الفعلين نحو اكرمني وأكرمت زيدا وأكرمت وأكرمني زيد إلى أن إعمال الفعل الأول أولى وذهب البصريون إلى أن إعمال الفعل الثاني أولى
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن إعمال الفعل الأول أولى النقل والقياس
أما النقل فقد جاء ذلك عنهم كثيرا قال امرؤ القيس (1/83)
( فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ) (1/84)
فأعمل الفعل الأول ولو أعمل الثاني لنصب قليلا وذلك لم يروه أحد وقال رجل من بني أسد
( فرد على الفؤاد هوى عميدا ... وسوئل لو يبين لنا السؤالا ) (1/85)
( وقد نغنى بها ونرى عصورا ... بها يقتدننا الخرد الخدالا )
فأعمل الأول ولذلك نصب الخرد الخدالا ولو أعمل الفعل الثاني لقال تقتادنا الخرد الخدال بالرفع وقال الآخر
( ولما أن تحمل آل ليلى ... سمعت ببينهم نعب الغرابا )
فأعمل الأول ولذلك نصب الغراب ولو أعمل الثاني لوجب أن يرفع
وأما القياس فهو أن الفعل الأول سابق الفعل الثاني وهو صالح للعمل كالفعل الثاني إلا أنه لما كان مبدوءا به كان إعماله أولى لقوة الابتداء (1/86)
والعناية به ولهذا لا يجوز إلغاء ظننت إذا وقعت مبتدأة نحو ظننت زيدا قائما بخلاف ما إذا وقعت متوسطة أو متأخرة نحو زيد ظننت قائم وزيد قائم ظننت وكذلك لا يجوز إلغاء كان إذا وقعت مبتدأة نحو كان زيد قائما بخلاف ما إذا كانت متوسطة نحو زيد كان قائم فدل على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل
والذي يؤيد أن إعمال الفعل الأول أولى من الثاني انك إذا أعملت الثاني أدى إلى الإضمار قبل الذكر والإضمار قبل الذكر لا يجوز في كلامهم
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الاختيار إعمال الفعل الثاني النقل والقياس
أما النقل فقد جاء كثيرا قال الله تعالى ( آتوني أفرغ عليه قطرا ) فأعمل الفعل الثاني وهو أفرغ ولو أعمل الفعل الأول لقال أفرغه عليه وقال تعالى ( هاؤم اقرؤا كتابيه ) فأعمل الثاني وهو اقرؤا ولو أعمل الأول لقال اقرؤه وجاء في الحديث ونخلع ونترك من يفجرك فأعمل الثاني ولو أعمل الأول لأظهر الضمير بدا وقال الشاعر وهو الفرزدق
( ولكن نصفا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم ) (1/87)
فأعمل الثاني ولو أعمل الأول لقال سببت وسبوني بني عبد شمس بنصب بني وإظهار الضمير في سبني وقال طفيل الغنوي
( وكمتا مدماة كأن متونها ... جرى فوقها واستشعرت لون مذهب ) (1/88)
وقال الآخر وهو رجل من باهلة
( ولقد أرى تغني به سيفانة ... تصبي الحليم ومثلها أصباه ) (1/89)
وقال الآخر
( قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ) (1/90)
حذف 0000 (1/91)
فأعمل الثاني في هذا البيت في مكانين أحدهما وفى ولو أعمل الأول لقال وفاه والثاني معنى ولو أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنى فيقول وعزة ممطول معنى هو غريمها وتقديره وعزة ممطول غريمها معنى هو لأنه قد جرى على عزة وهو فعل الغريم فقد جرى على غير من هو له واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له وجب إظهار الضمير فيه فلما لم يظهر الضمير دل على أنه قد أعمل الثاني إلا أنهم يقولون على هذا يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم يظهر الضمير وذلك جائز عندنا وقد بينا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له مستقصى في موضعه
وأما القياس فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول وليس في إعماله دون الأول نقض معنى فكان إعماله أولى ألا ترى أنهم قالوا خشنت بصدره وصدر زيد فيختارون إعمال الباء في المعطوف ولا يختارون إعمال الفعل فيه لأنها أقرب إليه منه وليس في إعمالها نقض معنى فكان إعمالها أولى
والذي يدل على أن للقرب أثرا أنه قد حملهم القرب والجوار حتى قالوا جحر ضب خرب فأجروا خرب على ضب وهو في الحقيقة صفة للجحر لأن الضب لا يوصف بالخراب فهاهنا أولى
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قول امرىء القيس
( فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ) (1/92)
فنقول إنما أعمل الأول منهما مراعاة للمعنى لأنه لو أعمل الثاني لكان الكلام متناقضا وذلك من وجهين أحدهما أنه لو أعمل الثاني لكان التقدير فيه كفاني قليل ولم أطلب من المال وهذا متناقض لأنه يخبر تارة بأن سعيه ليس لأدنى معيشة وتارة يخبر بأنه يطلب القليل وذلك متناقض والثاني أنه قال في البيت الذي بعده
( ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي )
فلهذا أعمل الأول ولم يعمل الثاني
وأما قول الآخر
( وقد نغنى بها ونرى عصورا ... بها يقتدننا الخرد الخدالا )
فنقول إنما أعمل الأول مراعاة لحركة الروى فإن القصيدة منصوبة وإعمال الأول جائز فاستعمل الجائز ليخلص من عيب القافية ولا خلاف في الجواز وإنما الخلاف في الأولى وكذلك أيضا قول الآخر
( ولما أن تحمل آل ليلى ... سمعت ببينهم نعب الغرابا )
يدل على الجواز وهو معارض بأمثاله
وأما قولهم إن الفعل الأول سابق فوجب إعماله للعناية به قلنا هم وإن كانوا يعنون بالابتداء إلا أنهم يعنون بالمقاربة والجوار أكثر على ما بينا في دليلنا
وأما قولهم لو أعملنا الثاني لأدى إلى الإضمار قبل الذكر قلنا إنما جوزنا هاهنا الإضمار قبل الذكر لأن ما بعده يفسره لأنهم قد يستغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف لعلم المخاطب قال الله تعالى ( والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناء عنه بما ذكره قبل ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول وقال الله تعالى ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) (1/93)
فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني لعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في ذلك قال ضابىء البرجمي
( فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب ) (1/94)
فاستغنى بذكر خبر الآخر عن خبر الأول وقال درهم بن زيد الأنصاري
( نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف )
واستغنى بذكر خبر الآخر عن ذكر خبر الأول وقال الفرزدق ( إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى فكنت وكان غير غدور ) (1/95)
فاستغنى بخبر الثاني عن الأول والشواهد على هذا النحو كثيرة فدل على جواز الإضمار هاهنا قبل الذكر لأن ما بعده يفسره وإذا جاز الإضمار مع عدم تقدم ذكر المظهر لدلالة الحال عليه كما قال تعالى ( حتى توارت بالحجاب ) يعنى الشمس وإن لم يجر لها ذكر وكما قال تعالى ( كل من عليها فان ) يعنى الأرض وكما قال الشاعر
( على مثلها أمضى إذا قال صاحبي ... ألا ليتني أفديك منها وأفتدى )
يعنى الفلاة وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الحال فلأن يجوز هاهنا الإضمار قبل الذكر لشريطة التفسير ودلالة اللفظ كان ذلك من طريق الأولى ثم إن كان هذا ممتنعا فينبغي أن لا يجوز عندكم ولا خلاف بين جميع النحويين أنه جائز إلا فيما لا يعد خلافا فدل على فساد ما ذكرتموه والله أعلم (1/96)
14 - مسألة القول في نعم وبئس أفعلان هما أم اسمان )
ذهب الكوفيون إلى أن نعم وبئس اسمان مبتدآن
وذهب البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا يتصرفان وإليه ذهب علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الخفض عليهما فإنه قد جاء عن العرب أنها تقول ما زيد بنعم الرجل قال حسان بن ثابت
( ألست بنعم الجار يؤلف بيته ... أخاقلة أو معدم المال مصرما ) (1/97)
وحكى عن بعض فصحاء العرب أنه قال نعم السير على بئس العير وحكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن سلمة عن الفراء (1/98)
أن أعرابيا بشر بمولودة فقيل له نعم المولودة مولودتك فقال والله ما هي بنعم المولودة نصرتها بكاء وبرها سرقة فأدخلوا عليهما حرف الخفض ودخول حرف الخفض يدل على أنهما اسمان لأنه من خصائص الأسماء
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنهما اسمان أن العرب تقول يا نعم المولى ويا نعم النصير فنداؤهم نعم يدل على الاسمية لأن النداء من خصائص الأسماء ولو كان فعلا لما توجه نحوه النداء
قالوا ولا يجوز أن يقال إن المقصود بالنداء محذوف للعلم به والتقدير فيه يا الله نعم المولى ونعم النصير أنت فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه كما حذف حرف النداء لدلالة المنادى عليه لأنا نقول الجواب عن هذا أن المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولى حرف النداء فعل أمر وما جرى مجراه كقراءة الكسائي وأبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وحميد الأعرج ( ألا يا اسجدوا لله ) أراد يا هؤلاء اسجدوا وكما قال الأخطل
( ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيانا عدى آخر الدهر ) (1/99)
وقال الآخر وهو ذو الرمة
( ألا يا اسلمى يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلا بجر عائك القطر ) وقال الآخر وهو المرقش
( ألا يا اسلمى لا صرم لي اليوم فاطما ... ولا أبدا ما دام وصلك دائما ) (1/100)
وقال الآخر
( ألا يا اسلمي قبل الفراق ظعينا ... تحية من أمسى إليك حزينا )
وقال الآخر وهو الكميت
( ألا يا اسلمي يا ترب أسماء من ترب ... ألا يا اسلمي حييت عني وعن صحبي ) (1/101)
وقال الآخر وهو العجاج
56
- ( يا دار سلمى يا اسلمى ثم اسلمى ... بسمسم وعن يمين سمسم )
وقال الآخر
( أمسلم يا اسمع يا بن كل خليفة ... وياسائس الدنيا ويا جبل الأرض )
أراد يا هذا اسمع
وقال الآخر
( وقالت ألا يا اسمع نعظك بخطة ... فقلت سميعا فانطقي وأصيبي )
أراد وقالت يا هذا اسمع فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه (1/102)
وإنما اختص هذا التقدير بفعل الأمر دون الخبر لأن المنادى مخاطب والمأمور مخاطب فحدفوا الأول من المخاطبين اكتفاء بالثاني عنه وإذا كان هذا المنادى إنما يقدر محذوفا فيما إذا ولى حرف النداء فعل أمر فلا خلاف أن نعم المولى خبر فيجب أن لا يقدر المنادى فيه محذوفا يدل عليه أن النداء لا يكاد ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه من الطلب والنهى ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهى ولهذا لما جاء بعده الخبر في قوله تعالى ( يا أيها الناس ضرب مثل ) شفعه الأمر في قوله ( فاستمعوا له ) فلما كان النداء لا يكاد ينفك عن الأمر وهما جملتا خطاب جاز أن يحذف المنادى من الجملة الأولى وليس كذلك يا نعم المولى ونعم النصير لأن نعم خبر فلا يجوز أن يقدر المنادى فيه محذوفا
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه لا يحسن اقتران الزمان بهما كسائر الأفعال ألا ترى أنك لا تقول نعم الرجل أمس (1/103)
ولا نعم الرجل غدا وكذلك أيضا لا تقول بئس الرجل أمس ولا بئس الرجل غدا فلما لم يحسن اقتران الزمان بهما علم أنهما ليسا بفعلين
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنهما غير متصرفين لأن التصرف من خصائص الأفعال فلما لم يتصرفا دل على أنهما ليسا بفعلين
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه قد جاء عن العرب نعيم الرجل زيد وليس في أمثلة الأفعال فعيل ألبتة فدل على أنهما اسمان وليسا بفعلين
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنهما فعلان اتصال الضمير المرفوع بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف فإنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا نعما رجلين ونعموا رجالا وحكى ذلك الكسائي وقد رفعا مع ذلك المظهر في نحو نعم الرجل وبئس الغلام والمضمر في نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو فدل على أنهما فعلان
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنهما فعلان اتصالهما بتاء التأنيث الساكنة التي لا يقلبها أحد من العرب في الوقف هاء كما قلبوها في نحو رحمة وسنة وشجرة وذلك قولهم نعمت المرأة وبئست الجارية لأن هذه التاء يختص بها الفعل الماضي لا تتعداه فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به
اعترضوا على هذا بأن قالوا قولكم إن هذه التاء يختص بها الفعل ليس بصحيح لأنها قد اتصلت بالحرف في قولهم ربت وثمت ولات في قوله تعالى ( فنادوا ولات حين مناص ) قال الشاعر (1/104)
( ماوى بل ربتما غارة ... شعواء كاللذعة بالميسم ) (1/105)
وقال الآخر
( ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل ) (1/106)
فلحاقها بالحرف يبطل ما ادعيتموه من اختصاص الفعل بها وإذا بطل الاختصاص جاز أن تكون نعم وبئس اسمين لحقتهما هذه التاء كما لحقت ربت وثمت
هذا على أن نعم وبئس لا تلزمهما التاء بوقوع المؤنث بعدهما كما تلزم الأفعال ألا ترى أن قولك قام المرأة وقعد الجارية لا يجوز في سعة الكلام بخلاف قولك نعم المرأة وبئس الجارية فإنه حسن في سعة الكلام فبان الفرق بينهما
وهذا الاعتراض الذي ذكروه ساقط وأما التاء التي اتصلت بربت وثمت وإن كانت للتأنيث إلا أنها ليست التاء التي في نعمت وبئست والدليل على ذلك من وجهين أحدهما أن التاء في نعمت المرأة وبئست الجارية لحقت الفعل لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل كما لحقت في قولهم قامت المرأة لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل والتاء في ربت وثمت لحقت لتأنيث الحرف لا لتأنيث شيء آخر ألا ترى أنك تقول ربت رجل أهنت كما تقول ربت امرأة أكرمت ولو كانت كالتاء في نعمت وبئست لما جاز أن تثبت مع المذكر كما لا يجوز أن تثبت مع المذكر في قولك نعمت الرجل وبئست الغلام فلما جاز أن تثبت التاء في ربت مع المذكر دل على الفرق بينهما والوجه الآخر أن التاء اللاحقة للفعل تكون ساكنة وهذه التاء التي تلحق هذين الحرفين تكون متحركة فبان الفرق بينهما وأما لات فلا نسلم أن التاء مزيدة فيها بل هي كلمة على حيالها وإن سلمنا أن التاء مزيدة فيها فالجواب (1/107)
من أربعة أوجه وجهان ذكرناهما في ربت وثمت ووجهان نذكرهما الآن أحدهما أن الكسائي كان يقف عليها بالهاء فاحتج بأنه سأل أبا فقعس الأسدي عنها فقال ولاه فإذا لا تكون بمنزلة التاء في ربت وثمت ولا بمنزلة التاء في نعمت وبئست والوجه الثاني أن تكون التاء في لات حين متصلة بحين لا بلا كذلك ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام وحكى أنهم يزيدون التاء على حين وأوان والآن فيقولون فعلت هذا تحين كذا وتأوان كذا وتألآن أي حين كذا وأوان كذا والآن
وقال الشاعر وهو أبو وجزة السعدي
( العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان أين المطعم ) (1/108)
وقال أبو زبيد الطائي
( طلبوا صلحنا ولا تأوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء ) (1/109)
وقال الأخر
( نولي قبل يوم نأيي جمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا )
واحتج بحديث ابن عمر حين ذكر لرجل مناقب عثمان فقال له اذهب بها تالآن إلى أصحابك واحتج بأنه وجدها مكتوبة في المصحف الذي يقال له الإمام تحين فدل على ما قلناه (1/110)
وقولهم إن التاء لا تلزم نعم وبئس إذا وقع المؤنث بعدهما فليس بصحيح لأن التاء تلزمهما في لغة شطر العرب كما تلزم في قام ولا فرق عندهم بين نعمت المرأة وقامت المرأة وإنما جاز عند الذين قالوا نعم المرأة ولم يجز عندهم قام المرأة لأن المرأة في قولهم نعم المرأة هند واقعة على الجنس كقولهم الرجل أفضل من المرأة أي جنس الرجال أفضل من جنس النساء وكقولهم أهلك الناس الدينار والدرهم أي الدراهم والدنانير وكوقوع الإنسان على الناس قال الله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) أراد الناس وإذا كان المراد بالمرأة استغراق الجنس فلا خلاف أن أسماء الأجناس والجموع يجوز تذكير أفعالها وتأنيثها فلهذا المعنى حذف تاء التأنيث من حذفها من نعم المرأة وإذا كانوا قد حذفوها في حال السعة من فعل المؤنث الحقيقي من قولهم حضر القاضي اليوم امرأة فلا يبعد أن يحذفوها من فعل المؤنث الواقع على الجنس
وقد قالوا ما قعد إلا المرأة وما قام إلا الجارية فحذفوا تاء التأنيث ألبتة ولم تأت مثبتة إلا في ضرورة
فإن قالوا إنما حذفت تاء التأنيث هاهنا تنبيها على المعنى لأن التقدير ما قعد أحد إلا المرأة وما قام أحد إلا الجارية
قلنا هذا مسلم ولكن اللفظ يدل على أن المرأة والجارية غير بدل من أحد وإن كان المعنى يدل على أنهما بدل كما أن اللفظ يدل على أن شحما في قولك تفقأ الكبش شحما غير فاعل وإن كان المعنى يدل على أنه فاعل فكما أنهم حذفوا تاء التأنيث من قولهم ما قعد إلا المرأة تنبيها على المعنى فكذلك حذفوها من قولهم نعم المرأة تنبيها على أن الاسم يراد به الجنس
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنهما فعلان ماضيان أنهما مبنيان على الفتح ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه إذ لا علة هاهنا (1/111)
توجب بناءهما
وهذا تمسك باستصحاب الحال وهو من أضعف الأدلة والمعتمد عليه ما قدمناه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الجر عليهما في قوله
( ألست بنعم الجار يؤلف بيته ... )
وقول بعض العرب نعم السير على بئس العير وقول الآخر والله ما هي بنعم المولودة فنقول دخول حرف الجر عليهما ليس لهم فيه حجة لأن الحكاية فيه مقدرة وحرف الجر يدخل مع تقدير الحكاية على ما لا شبهة في فعليته قال الراجز
( والله ما ليلي بنام صاحبه ... ولا مخالط الليان جانبه ) (1/112)
ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يحكم لنام بالاسمية لدخول الباء عليه وإذا لم يجز أن يحكم له بالاسمية لتقدير الحكاية فكذلك هاهنا لا يجوز أن يحكم لنعم وبئس بالاسمية لدخول حرف الجر عليهما لتقدير الحكاية والتقدير في قولك
( ألست بنعم الجار يؤلف بيته ... )
ألست بجار مقول فيه نعم الجار وكذلك التقدير في قول بعض العرب نعم السير على بئس العير نعم السير على عير مقول فيه بئس العير وكذلك التقدير في قول الآخر والله ما هي بنعم المولودة والله ما هي بمولودة مقول فيها نعم المولودة وكذلك أيضا التقدير في البيت الذي ذكرناه والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه إلا أنهم حذفوا منها الموصوف وأقاموا الصفة مقامه كقوله تعالى ( أن اعمل سابغات ) أي دروعا سابغات وكقوله تعالى ( وذلك دين القيمة ) أي الملة القيمة فصار التقدير فيها ألست بمقول فيه نعم الجار ونعم السير على مقول فيه بئس العير وما هي بمقول فيها نعم المولودة وما ليلي بمقول فيه نام صاحبه ثم حذفوا الصفة التي هي مقول وأقاموا المحكى بها مقامها لأن القول يحذف كثيرا كما يذكر كثيرا قال الله تعالى ( والذين اتخذوا من دونه أولياء (1/113)
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) أي يقولون ما نعبدهم وقال تعالى ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) أي يقولون ربنا وقال تعالى ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) أي يقولون سلام عليكم وقال تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) أي يقولون ربنا وقال تعالى ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) أي يقال لهم أكفرتم وقال تعالى ( فظلتم تفكهون إنا لمغرمون ) أي تقولون إنا لمغرمون
وهذا في كلام الله تعالى وكلام العرب كثير جدا فلما كثر حذفه كثرة ذكره حذفوا الصفة التي هي مقول فدخل حرف الجر على الفعل لفظا وإن كان داخلا على غيره تقديرا كما دخلت الإضافة على الفعل لفظا وإن كانت داخلة على غيره تقديرا في قوله
( مالك عندي غير سهم وحجر ... وغير كبداء شديدة الوتر ) (1/114)
( جادت بكفي كان من أرمى البشر ... )
أي بكفي رجل كان من أرمى البشر فحذف الموصوف الذي هو رجل وأقام الجملة مقامه فوقعت الإضافة إلى الفعل لفظا وإن كانت داخلة على غيره تقديرا فكذلك هاهنا دخل حرف الجر على الفعل لفظا وإن كان داخلا على غيره تقديرا
ونحو هذا من الاتساع مجىء الجملة الاستفهامية وصفا في نحو قوله
( جاءوا بضيح هل رأيت الذئب قط ) (1/115)
فقوله هل رأيت الذئب قط جملة استفهامية في موضع وصف لضيح وإن كانت لا تحتمل صدقا ولا كذبا ولكنه كأنه قال جاءوا بضيح يقول من رآه هل رأيت الذئب قط فإنه يشبهه
ونحو ذلك أيضا من الاتساع مجيء الجملة الأمرية حالا في قوله
( بئس مقام الشيخ أمرس أمرس ... إما على قعو وإما اقعنسس ) (1/116)
أراد بئس مقام الشيخ مقولا فيه أمرس أمرس ذم مقاما يقال له ذلك فيه وأمرس أعد الحبل إلى موضعه من البكرة
وإنما جاءت هذه الأشياء في غير أماكنها لسعة اللغة وحسن ذلك ما ذكرناه من إضمار القول فدل على أن ما تمسكوا به من دخول حرف الجر عليهما ليس بحجة يستند إليها ولا يعتمد عليها
وأما قولهم إن العرب تقول يا نعم المولى ويا نعم النصير فنقول المقصود بالنداء محذوف للعلم به والتقدير فيه يا ألله نعم المولى ونعم النصير أنت
وأما قولهم إن المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولى حرف النداء فعل أمر فليس بصحيح لأنه لا فرق بين الفعل الأمري والخبري في امتناع مجىء كل واحد منهما بعد حرف النداء إلا أن يقدر بينهما اسم يتوجه النداء إليه والذي (1/117)
يدل على أنه لا فرق بينهما مجىء الجملة الخبرية بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى كما تجىء الجملة الأمرية بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى قال الشاعر
( يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار ) اراد يا هؤلاء لعنة الله على سمعان وقال الآخر
( يا لعنة الله على أهل الرقم ... أهل الحمير والوقير والخزم ) (1/118)
وقال الآخر
( يا لعن الله بنى السعلات ... عمرو بن ميمون شرار النات )
أراد بالنات الناس فحول السين تاء وقال الآخر
( يا قاتل الله صبيانا تجىء بهم ... أم الهنيبر من زند لها وارى ) (1/119)
وهي جملة خبرية فدل على أنه لا فرق في ذلك بين الجملة الأمرية والخبرية فوجب أن يكون المنادى محذوفا في قولهم يا نعم المولى ويا نعم النصير
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنا أجمعنا على أن الجمل لا تنادى وأجمعنا على أن نعم الرجل جملة وإن وقع الخلاف في نعم هل هي اسم أو فعل وإذا امتنع للاجماع قولنا يا زيد منطلق فكذلك يجب أن يمتنع يا نعم الرجل إلا على تقدير حذف المنادى على ما بينا
وأما قولهم إن النداء لا يكاد ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهى قلنا لا نسلم بل يكثر مجىء الخبر والاستفهام مع النداء كثرة الأمر والنهى أما الخبر فقد قال الله تعالى ( يا عبادى لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ) إلى غير ذلك من المواضع وأما الاستفهام فقد قال الله تعالى ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أيها الذين (1/120)
آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) وقال تعالى في موضع آخر ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) وقال تعالى في موضع آخر ( ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) إلى غير ذلك من المواضع فإذا كثر مجىء الخبر والاستفهام كثرة الأمر والنهى فقد تكافآ في الكثرة فلا مزية لأحدهما عن الآخر
وأما قولهم إنه لا يحسن اقتران الزمان بهما فلا يقال نعم الرجل أمس ولا بئس الغلام غدا ولا يجوز تصرفهما فنقول إنما امتنعا من اقترانهما بالزمان الماضي وما جاء التصرف لأن نعم موضوع لغاية المدح وبئس موضوع لغاية الذم فجعل دلالتهما مقصورة على الآن لأنك إنما تمدح وتذم بما هو موجود في الممدوح أو المذموم لا بما كان فزال ولا بما سيكون ولم يقع
وأما قولهم إنه قد جاء عن العرب نعيم الرجل فهذا مما ينفرد بروايته أبو علي قطرب وهي رواية شاذة ولئن صحت فليس فيها حجة لأن نعم أصله نعم على وزن فعل بكسر العين فأشبع الكسرة فنشأت الياء كما قال الشاعر
( تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفى الدراهيم تنقاد الصياريف )
أراد الدراهم والصيارف والذي يدل على أن أصل نعم نعم أنه يجوز فيها أربع لغات نعم بفتح النون وكسر العين على الأصل ونعم بفتح النون وسكون العين ونعم بكسر النون والعين ونعم بكسر النون وسكون العين
فمن قال نعم بفتح النون وكسر العين أتى بها على الأصل كقراءة ابن عامر وحمزة والكسائي والأعمش وخلف فنعما بفتح النون وكسر العين وكما قال طرفة (1/121)
( ما أقلت قدم ناعلها ... نعم الساعون في الأمر المبر ) (1/122)
ومن قال نعم بفتح النون وسكون العين حذف كسرة العين كقراءة يحيى بن وثاب فنعم عقبى الدار بفتح النون وسكون العين وكما قال الشاعر
( فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الأدم دبرت صفحتاه وغاربه ) (1/123)
أراد ضجر ودبرت فحذف وقال الآخر
( إذا هدرت شقاشقه ونشبت ... له الأظفار ترك له المدار )
أراد نشبت وترك وقال الآخر وهو أبو النجم
( هيجها نضح من الطل سحر ... )
( وهزت الريح الندى حين قطر ... لو عصر منها البان والمسك انعصر ) (1/124)
أراد عصر وقال الآخر
( رجم به الشيطان من هوائه ... )
أراد رجم وقال الآخر
( ونفخوا في مدائنهم فطاروا ... )
أراد ونفخوا
ومن قال نعم بكسر النون والعين كسر النون اتباعا لكسرة العين كقراءة زيد بن علي والحسن البصري ورؤبة الحمد لله بكسر الدال إتباعا لكسرة اللام وكقراءة إبراهيم بن أبي عبلة الحمد لله بضم اللام إتباعا لضمة الدال وكقولهم منتن بكسر الميم إتباعا لكسرة التاء وكقولهم أيضا منتن بضم التاء إتباعا لضمة الميم (1/125)
ومن قال نعم بكسر النون وسكون العين نقل كسرة العين من نعم بفتح النون وكسر العين إلى النون وعليها أكثر القراء فلما جاز فيها هذه الأربع اللغات دل على أن أصلها نعم على وزن فعل لأن كل ما كان على وزن فعل من الاسم والفعل وعينه حرف من حروف الحلق فإنه يجوز فيه أربع لغات فالاسم نحو فخذ وفخذ وفخذ وفخذ والفعل نحو قد شهد وشهد وشهد وشهد على ما بينا في نعم وإذا ثبت أن الأصل في نعم نعم كانت الياء في نعيم الرجل إشباعا فلا يكون فيه دليل على الاسمية فدل على أنهما فعلان لا اسمان والله أعلم
15 - مسألة القول في أفعل في التعجب اسم هو أو فعل
ذهب الكوفيون إلى أن أفعل في التعجب نحو ما أحسن زيدا اسم
وذهب البصريون إلى أنه فعل ماض وإليه ذهب أبو الحسن على بن حمزة الكسائي من الكوفيين
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه اسم أنه جامد لا يتصرف ولو كان فعلا لوجب أن يتصرف لأن التصرف من خصائص الأفعال فلما لم يتصرف وكان جامدا وجب أن يلحق بالأسماء (1/126)
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه اسم انه يدخله التصغير والتصغير من خصائص الأسماء قال الشاعر
( يا ما أميلح غزلانا شدن لنا ... من هاؤليائكن الضال والسمر )
فأميلح تصغير أملح وقد جاء ذلك كثيرا في الشعر وسعة الكلام (1/127)
قالوا ولا يجوز أن يقال إن فعل التعجب لزم طريقة واحدة وضارع الاسم فلحقه التصغير لأنا نقول هذا ينتقض بليس وعسى فإنهما لزما طريقة واحدة ومع هذا لا يجوز تصغيرهما وأبلغ من هذا النقض وأوكد مثال أفعل به في التعجب فإنه فعل لزم طريقة واحدة ومع هذا فإنه لا يجوز تصغيره
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه اسم أنه تصح عينه نحو ما أقومه أبيعه كما تصح العين في الاسم في نحو هذا أقوم منك وأبيع منك ولو أنه فعل كما زعمتم لوجب أن تعل عينه بقلبها ألفا كما قلبت من الفعل في نحو قام وباع وأقام وأباع في قولهم أبعت الشيء إذا عرضته للبيع وإذا كان قد أجرى مجرى الأسماء في التصحيح مع ما دخله من الجمود والتصغير وجب أن يكون اسما
والذي يدل على أنه ليس بفعل وأنه ليس التقدير فيه شيء أحسن زيدا قولهم ما أعظم الله ولو كان التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير شيء أعظم الله والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل وقال الشاعر
( ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول ) (1/128)
ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يكون التقدير فيه شيء أقدر الله والله تعالى قادر لا بجعل جاعل
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه فعل أنه إذا وصل بياء الضمير دخلت عليه نون الوقاية نحو ما أحسنني عندك وما أظرفني في عينك وما أعلمني في ظنك ونون الوقاية إنما تدخل على الفعل لا على الاسم ألا ترى أنك تقول في الفعل أرشدني وأسعدني وأبعدني ولا تقول في الاسم مرشدني ولا مسعدني فأما قوله
( وليس حاملني إلا ابن حمال ... ) (1/129)
فمن الشاذ الذي لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه وإنما دخلت هذه النون على الفعل لتقي آخره من الكسر لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورا وإذا كانوا قد منعوه من كسرة الإعراب لثقلها وهي غير لازمة فلأن يمنعوه من كسرة البناء وهي لازمة كان ذلك من طريق الأولى فلما منعوه من الكسر أدخلوا هذه النون لتكون الكسرة عليها فلو لم يكن أفعل في التعجب فعلا وإلا لما دخلت عليه نون الوقاية كدخولها على سائر الأفعال
اعترضوا على هذا بأن قالوا نون الوقاية قد دخلت على الاسم في نحو قدني وقطني أي حسبي قال الشاعر
( امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني )
ولا يدل ذلك على الفعلية فكذلك هاهنا (1/130)
وما اعترضوا فيه ليس بصحيح لأن قدني وقطني من الشاذ الذي لا يعرج عليه فهو في الشذوذ بمنزلة مني وعني وإنما حسن دخول هذه النون على قد وقط لأنك تقول قدك من كذا وقطك من كذا أي اكتف به فتأمر بهما كما تأمر بالفعل فلذلك حسن دخول هذه النون عليهما على أنهم قالوا قطى وقدى من غير نون كما قالوا قطني وقدني بالنون قال الشاعر
( قدني من نصر الخبيبين قدى ... ليس الإمام بالشحيح الملحد ) (1/131)
ولا خلاف أنه لا يجوز أن يقال ما أكرمي بحذف النون كما يقال ما أكرمني كما يقال قدني وقدي فلما لم يجز ذلك بان الفرق بينهما
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن أفعل في التعجب فعل أنه ينصب المعارف والنكرات وأفعل إذا كان اسما لا ينصب إلا النكرات خاصة على التمييز نحو قولك زيد أكبر منك سنا وأكثر منك علما ولو قلت زيد أكبر منك السن أو أكثر منك العلم لم يجز ولما جاز أن يقال ما أكبر السن له وما أكثر العلم له دل على أنه فعل
اعترضوا على هذا بأن قالوا قد ادعيتم أن أفعل إذا كان اسما لا ينصب إلا النكرة وقد وجدنا العرب قد أعملته في المعرفة قال الحارث بن ظالم (1/132)
( فما قومي بثعلبة بن بكر ... ولا بفزارة الشعر الرقابا )
فنصب الرقاب بالشعر وهو جمع أشعر ولا خلاف أن الجمع في باب العمل أضعف من واحدة لأن الجمع يباعده عن مشابهة الفعل لأن الفعل لا يجمع وإذا بعد عن مشابهة الفعل بعد عن العمل وإذا عمل جمع أفعل مع بعده عن العمل فالواحد أولى أن يعمل وقال الآخر (1/133)
( ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام )
فنصب الظهر بأجب وقال الآخر
( ولقد أغتدى وما صقع الديك على أدهم أجش الصهيلا ... )
فنصب الصهيل بأجش فبطل ما ادعيتموه (1/134)
وما اعترضوا به ليس بصحيح أما بيت الحارث بن ظالم
( ولا بفزارة الشعر الرقابا ... )
فقد روى الشعرى رقابا حكى ذلك سيبويه عن أبي الخطاب عن بعض العرب أنهم ينشدون البيت كذلك على أنا وإن لم ننكر صحة ما رويتموه فلا حجة لكم فيه لأنه من باب الحسن الوجه والحسان الوجوه وقد قالوا الحسن الوجه بنصب الوجه تشبيها بالضارب الرجل كما قالوا الضارب الرجل بالجر تشبيها بالحسن الوجه وقد ذهب بعض البصريين إلى زيادة الألف واللام فيه فلما كان في تقدير التنكير جاز نصبه على التمييز فبان أن ما عارضتم به ليس بشيء (1/135)
وأما قول النابغة
( أجب الظهر ليس له سنام ... )
بفتحهما فقد روى أجب الظهر بجرهما وروى أجب الظهر برفع الظهر لأنه فاعل والتقدير فيه عندنا أجب الظهر منه وعندكم الألف واللام قامتا مقام الضمير العائد فلا حجة لكم في هذا البيت والجر فيهما هو القياس وإن صحت رواية النصب فيكون على التشبيه بالمفعول على ما بينا في البيت الأول لا على تقدير زيادة الألف واللام ونصبه على التمييز على ما ذهبتم إليه ولئن سلمنا على قول بعض البصريين وهو الجواب عن جميع ما احتججتم به لأنكم إذا قدرتم أن الألف واللام فيه زائدة فهو عندكم نكرة فإذن ما عمل في معرفة وإنما عمل في نكرة والخلاف ما وقع في أن أفعل تعمل في النكرة وإنما وقع الخلاف في أنها تعمل في المعرفة
وأما قول الآخر
( على أدهم أجش الصهيلا ... )
فالوجه جر الصهيلا إلا أنه نصبه على التشبيه بالمفعول أو على زيادة الألف واللام على ما قدمنا
ثم لو سلمنا لكم صحة ما ادعيتموه في هذه الأبيات وأجريناها في ذلك مجرى ما أحسن الرجل فهل يمكنكم أن توجدونا أفعل وصفا نصب اسما مضمرا أو علما أو اسما من أسماء الإشارة وإذا لم يمكن ذلك ووجدنا أفعل في التعجب تعمل في جميع أنواع المعارف النصب دل على بطلان ما ذهبتم أليه من دعوى الأسمية
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه فعل ماض أنا وجدناه مفتوح الآخر ولولا أنه فعل ماض لم يكن لبنائه على الفتح وجه لأنه لو كان (1/136)
اسما لارتفع لكونه خبرا لما على كلا المذهبين فلما لزم الفتح آخره دل على أنه فعل ماض
اعترضوا على هذا من وجهين أحدهما أنهم قالوا ما احتججتم به من فتح آخره ليس فيه حجة لأن التعجب أصله الاستفهام ففتحوا آخر أفعل في التعجب ونصبوا زيدا فرقا بين الاستفهام والتعجب
والثاني أنهم قالوا إنما فتح آخر أفعل في التعجب لأنه مبنى لتضمنه معنى حرف التعجب لأن التعجب كان يجب أن يكون له حرف كغيره من الاستفهام والشرط والنفي والنهي والتمني والترجي والتعريف والنداء والعطف والتشبيه والاستثناء إلى غير ذلك إلا أنهم لما لم ينطقوا بحرف التعجب وضمنوا معناه هذا الكلام استحق البناء ونظير هذا أسماء الإشارة فإنها بنيت لتضمنها معنى حرف الإشارة وإن لم ينطق به فكذلك هاهنا
وما اعترضوا به ليس بصحيح أما قولهم إن التعجب أصله الاستفهام ففتحوا آخر أفعل في التعجب للفرق بين الاستفهام والتعجب فمجرد دعوى لا يقوم عليها دليل إلا بوحى وتنزيل وليس ذلك سبيل مع أنه ظاهر الفساد والتعليل لأن التفريق بين المعاني لا توجب إزالة الإعراب عن وجهه في موضع ما فكذلك هاهنا ولأن التعجب إخبار يحتمل الصدق والكذب والاستفهام استخبار لا يحتمل الصدق والكذب فلا يصح أن يكون أصلا له
وأما قولهم إنه بنى لتضمنه معنى حرف التعجب وإن لم ينطق به فكذلك نقول كان يجب أن يوضع له حرف كما وضع لغيره من المعاني ولكن لما لم يفعلوا ذلك ضمنوا ما معنى حرفه فبنوها كما ضمنوا ما الاستفهامية معنى الهمزة وضمنوا ما الشرطية معنى إن التي وضعت للشرط وبنوهما وإن لم يكن للكلمة (1/137)
التي بعدها تعلق بالبناء فكذلك ما بعد ما التعجبية لا يكون له تعلق بالبناء فبان بذلك فساد اعتراضهم وأنه إنما فتح لأنه فعل ماض على ما بينا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم الدليل على أنه اسم أنه لا يتصرف قلنا عدم تصرفه لا يدل على أنه اسم فإنا أجمعنا على أن ليس وعسى فعلان ومع هذا فإنهما لا يتصرفان وإنما لم يتصرف فعل التعجب لوجهين أحدهما أنهم لما لم يضعوا للتعجب حرفا يدل عليه جعلوا له صيغة لا تختلف لتكون أمارة للمعنى الذي أرادوه وأنه مضمن معنى ليس في أصله والثاني وهو الصحيح إنما لم يتصرف لأن المضارع يحتمل زمانين الحال والاستقبال والتعجب إنما يكون مما هو موجود مشاهد وقد يتعجب من الماضي ولا يكون التعجب مما لم يكن فكرهوا أن يستعملوا لفظا يحتمل الاستقبال لئلا يصير اليقين شكا وأما قولهم ما أملح ما يخرج هذا الغلام وما أطول ما يكون هذا فلا يقال ذلك حتى يرى فيه مخيلة ذلك فدلك ما رأيت في وقتك على ما يكون بعد ذلك فكأنك قد شاهدته موجودا ولما كرهوا استعمال المضارع كانوا لاستعمال اسم الفاعل أكره لأنه لا يختص زمانا بعينه فلهذا منعوه من التصرف وعدم التصرف لا يدل على أنه اسم كما قلنا في ليس وعسىء
وأما قولهم إنه يصغر والتصغير من خصائص الأسماء فنقول الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه
أحدها أن التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء فإن التصغير على اختلاف ضروبه من التحقير كقولك رجيل والتقليل كقولك دريهمات والتقريب كقولك قبيل المغرب والتعطف كقوله أصيحابي أصيحابي والتعظيم كقول الشاعر (1/138)
( وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل )
يريد الموت ولا داهية أعظم من الموت والتمدح كقول الحباب بن المنذر يوم السقيفة أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب فإنه يتناول الاسم لفظا ومعنى والتصغير اللاحق فعل التعجب إنما يتناوله لفظا لا معنى من حيث كان متوجها إلى المصدر وإنما رفضوا ذكر المصدر هاهنا لأن الفعل إذا أزيل عن التصرف لا يؤكد بذكر المصدر لأنه خرج عن مذهب الأفعال فلما رفضوا المصدر وآثروا تصغيره صغروا الفعل لفظا ووجهوا التصغير إلى المصدر وجاز تصغير المصدر بتصغير فعله لأن الفعل يقوم في الذكر مقام مصدره لأنه يدل عليه بلفظه ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر فعله وإن لم يجر له ذكر قال الله تعالى ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله (1/139)
من فضله هو خيرا لهم ) قوله هو ضمير للبخل وإن لم يكن مذكورا لدلالة يبخلون عليه ومنه قولهم من كذب كان شرا له أي كان الكذب شرا له ومنه قول الشاعر
( إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف ) (1/140)
يريد جرى إلى السفه وهذا كثير في كلامهم فكما أنه يجوز أن يعود الضمير إلى المصدر وإن لم يجر له ذكر استغناء بذكر فعله فكذلك يجوز أن يتوجه التصغير اللاحق لفظ الفعل إلى مصدره وإن لم يجر له ذكر ونظير هذا إضافتهم أسماء الزمان إلى الفعل نحو قوله تعالى ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) وإن كانت الإضافة إلى الأفعال غير جائزة وإنما جاز ذلك لأن المقصود بالإضافة إلى الفعل مصدره من حيث كان ذكر الفعل يقوم مقام ذكر مصدره فالتقدير فيه هذا يوم نفع الصادقين صدقهم وإنما خصوا أسماء الزمان بهذه الإضافة لما بين الزمان والفعل من المناسبة من حيث اتفقا في كونهما عرضين وأن الزمان حركات الفلك كما أن الفعل حركة الفاعل وكما أن هذه الإضافة لفظية فكذلك التصغير اللاحق فعل التعجب لفظي وكما أن هذه الإضافة لا اعتداد بها فكذلك هذا التصغير لا اعتداد به
والوجه الثاني إنما دخله التصغير حملا على باب أفعل الذي للمفاضلة لاشتراك اللفظين في التفضيل والمبالغة ألا ترى أنك تقول ما أحسن زيدا لمن بلغ الغاية في الحسن كما تقول زيد أحسن القوم فتجمع بينه وبينهم في أصل الحسن وتفضله عليهم فلوجود هذه المشابهة بينهما جاز ما أحيسن زيدا وما أميلح غزلانا كما تقول غلمانك أحيسن الغلمان وغزلانك أميلح الغزلان ولهذه المشابهة حملوا أفعل منك وهو أفعل القوم على قولهم ما أفعله فجاز فيهما ما جاز فيه وامتنع منهما ما امتنع منه ألا ترى أنك لا تقول هو أعرج منك ولا أعرج القوم لأنك لا تقول ما أعرجه وتقول هو أقبح عرجا منك وهو أقبح القوم عرجا كما تقول ما أقبح (1/141)
عرجه وكذلك لا تقول هو أحسن منك حسنا فتؤكده بذكر المصدر لأنك لا تقول ما أحسن زيدا حسنا فأما قولهم ألج لجاجة من الخنفساء وما أشبهه فمنصوب على التمييز
والوجه الثالث إنما دخله التصغير لأنه ألزم طريقة واحدة فأشبه بذلك الأسماء فدخله بعض أحكامها وحمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه لا يخرجه عن أصله ألا ترى أن اسم الفاعل محمول على الفعل في العمل ولم يخرج بذلك عن كونه اسما وكذلك الفعل المضارع محمول على الاسم في الإعراب ولم يخرج بذلك عن كونه فعلا فكذلك تصغيرهم فعل التعجب تشبيها بالاسم لا يخرجه عن كونه فعلا
وأما ما ذكروه من ليس وعسى فالكلام عليه من أربعة أوجه أحدها أن ليس وعسى وإن كانا قد أشبها فعل التعجب في سلب التصرف فإنهما قد فارقاه من وجهين أحدهما أنهما يرفعان الظاهر والمضمر كما ترفعهما الأفعال المتصرفة فبعدا عن شبه الاسم وأفعل في التعجب إنما يرفع المضمر دون الظاهر فقرب من الاسم الجامد فلهذا دخله التصغير دونهما
والثاني أن ليس وعسى وصلا بضمائر المتكلمين والمخاطبين والغائبين نحو لست ولستم وليسوا وعسيت وعسيتم وعسوا كما تتصل بالأفعال المتصرفة وأفعل في التعجب ألزم ضمير الغيبة لا غير فلما تصرف ليس وعسى في الاتصال بضمائر الأفعال الماضية هذا التصرف وألزم هذا الفعل في الإضمار وجها واحدا جاز أن يدخله التصغير دونهما
والثالث أن ليس وعسى لا مصدر لهما من لفظهما فتنزل اللفظ بهما منزلة اللفظ به والتصغير هاهنا في الحقيقة للمصدر فإذا لم يكن لهما مصدر من لفظهما بطل تصغيرهما بخلاف فعل التعجب فإن له مصدرا من لفظه نحو الحسن والملاحة وإن (1/142)
لم يكن جاريا عليه على ما يقتضيه القياس فقام تصغيره مقام تصغير مصدره فبان الفرق بينهما
والرابع أن ليس وعسى لا نظير لهما من الأسماء يحملان عليه كما حمل ما أفعله على أفعل الذي للمفاضلة فيحمل ما أحسنهم على قولهم هو أحسنهم فبان الفرق بينهما
فإن قالوا هذا يبطل بنعم وبئس فإنهما للمبالغة في المدح والذم كمان أن التعجب موضوع للمبالغة وإنهما لا يتصرفان ومع هذا فلا يجوز تصغيرهما
قلنا هذا الإلزام على مذهبكم ألزم لأنهما عندكم اسمان كأفعل في التعجب فهلا جاز فيهما التصغير كما جاز فيه فإن قلتم إن ذلك لم يسمع من العرب قلنا كما قلتم ثم فرقنا بينهما وذلك أنهما وإن كانا لا يتصرفان فهما أشبه منه بالأفعال المتصرفة وذلك من ثلاثة أوجه أحدها اتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف نحو قولهم نعما رجلين ونعموا رجالا والثاني اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما نحو نعمت المرأة وبئست الجارية والثالث أنهما يرفعان الظاهر والمضمر كالفعل المتصرف فلما قربا من الفعل المتصرف هذا القرب بعدا من الاسم فلهذا لم يجز تصغيرهما بخلاف فعل التعجب على ما بينا وأما مثال أفعل به فإنما لم يجز تصغيره لأنه لا نظير له في الأسماء إلا أصبع وهي لغة رديثة في إصبع وفيها سبع لغات فصحاهن إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء ثم أصبع بضم الهمزة وفتح الباء ثم أصبع بفتح الهمزة والباء ثم أصبع بضم الهمزة والباء ثم إصبع بكسر الهمزة والباء ثم اصبع بفتح الهمزة وكسر الباء ثم أصبوع وإذا لم يكن له في كلامهم نظير سوى هذا الحرف في لغة رديئة باعده ذلك من الاسم فلم يجز فيه التصغير
ألا ترى أن وزن الفعل الذي يغلب عليه أو تخصه أحد الأسباب المانعة من الصرف فإذا كان الاسم يقرب من الفعل (1/143)
لمجيئه على بعض أبنيته حتى يكون ذلك علة مانعة له من الصرف فكذلك الفعل يبعد من الاسم لمخالفته له في البناء هذا مع أن لفظه لفظ الأمر والأمر يختص به الفعل فأما ما جاء من الأسماء مضمنا معنى الأمر نحو صه ومه وما أشبه ذلك فإنه أقيم مقام الأفعال وهي الأصل في الأمر وإنما فعلوا ذلك توخيا للاختصار لئلا يفتقر إلى إظهار ضمير التثنية والجمع والتأنيث الذي يظهر في الفعل نحو اسكتا واسكتوا واسكتن وما أشبه ذلك
وأما قولهم الدليل على أنه اسم تصحيح عينه في ما أقومه وما أبيعه قلنا التصحيح حصل له من حيث حصل له التصغير وذلك بحمله على باب أفعل الذي للمفاضلة فصحح كما صحح من حيث إنه غلب عليه شبه الأسماء بأن ألزم طريقة واحدة والشبه الغالب على الشيء لا يخرجه عن أصله ألا ترى أن الأسماء التي لا تنصرف لما غلب عليها شبه الفعل منعت الجر والتنوين كما منعهما الفعل ولم تخرج شبهها للفعل عن أن تكون أسماء فكذلك هاهنا تصحيح العين في نحو ما أقومه وما أبيعه لا يخرجه عن أن يكون فعلا على أن تصحيحه غير مستنكر كلامهم فإنه قد جاءت أفعال متصرفة مصححة في نحو قولهم أغيلت المرأة أغيمت السماء واستنوق الجمل واستتيست الشاة واستحوذ يستحوذ
قال الله تعالى ( استحوذ عليهم الشيطان ) وقال تعالى ( ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) وقد قرأ الحسن البصري ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت ) على وزن أفعلت ونحو قولهم استصوبت وأجودت وأطيبت وأطولت قال الشاعر
( صددت وأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم ) (1/144)
حذف (1/145)
وإذا جاء التصحيح في هذه الأفعال المتصرفة تنبيها على الأصل مع بعدها عن الاسم فما ظنك بالفعل الجامد الذي لا يتصرف فإن قالوا التصحيح في هذه الأفعال إنما جاء عن طريق الشذوذ وتصحيح أفعل في التعجب قياس مطرد
قلنا قد جاء التصحيح في الفعل المتصرف على غير طريق الشذوذ وذلك نحو تصحيح حول وعور وصيد حملا على احول واعور واصيد وكذلك جاء التصحيح أيضا في قولهم اجتوروا واعتونوا حملا على تجاوروا وتعاونوا فكذلك أيضا هاهنا حمل ما أقومه وما أبيعه على هذا أقوم منك وأبيع منك ومع هذا فلا ينبغى أن تحكموا له بالاسمية لتصحيحه لأن أفعل به قد جاء مصححا وهو فعل كما أن التصحيح في قولهم أقوم به وأبيع به لا يخرجه عن كونه فعلا فكذلك التصحيح في ما أفعله لا يخرجه عن كونه فعلا
وأما قولهم لو كان التقدير فيه شيء أحسن زيدا لوجب أن يكون التقدير في قولنا ما أعظم الله شيء أعظم الله والله تعالى عظيم لا يجعل جاعل قلنا معنى قولهم شيء أعظم الله أي وصفه بالعظمة كما يقول الرجل إذا سمع الأذان كبرت كبيرا وعظمت عظيما أي وصفته بالكبرياء والعظمة لا صيرته (1/146)
كبيرا عظيما فكذلك هاهنا ولذلك الشيء ثلاثة معان أحدها أن يعنى بالشيء من يعظمه من عباده والثاني أن يعنى بالشيء ما يدل على عظمة الله تعالى وقدرته من مصنوعاته والثالث أن يعنى به نفسه أي أنه عظيم لنفسه لا لشيء جعله عظيما فرقا بينه وبين خلقه
وحكى أن بعض أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد المبرد قدم من البصرة إلى بغداد قبل قدوم المبرد إليها فحضر في حلقة أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب فسئل عن هذه المسألة فأجاب بجواب أهل البصرة وقال التقدير في قولهم ما أحسن زيدا شيء أحسن زيدا فقيل له ما تقول في قولنا ما أعظم الله فقال شيء أعظم الله فأنكروا عليه وقالوا هذا لا يجوز لأن الله تعالى عظيم لا بجعل جاعل ثم سحبوه من الحلقة وأخرجوه فلما قدم المبرد إلى بغداد أوردوا عليه هذا الإشكال فأجاب بما قدمنا من الجواب فبان بذلك قبح إنكارهم عليه وفساد ما ذهبوا إليه
وقيل يحتمل أن يكون قولنا شيء أعظم الله بمنزلة الإخبار أنه عظيم لا على معنى شيء أعظمه فإن الألفاظ الجارية عليه سبحانه يجب حملها على ما يليق بصفاته ألا ترى أن عسى ولعل فيها طرف من الشك ولا يحمل في حقه سبحانه على الشك وكذلك الامتحان يحمل منا على معان تستحيل في حقه سبحانه إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة فكذلك هاهنا يكون المراد بقولهم ما أعظم الله الإخبار أنه عظيم لا شيء جعله عظيما لاستحالته وإن كان ذلك يقدر في غيره لجوازه وعدم استحالته
وأما قول الشاعر
( ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الجزن ممن داره صول ) (1/147)
فإنه وإن كان لفظه لفظ تعجب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة كقوله تعالى ( فليمدد له الرحمن مدا ) فجاء بصيغة الأمر وإن لم يكن في الحقيقة أمرا لامتناع ذلك في حق الله تعالى وإن شئت قدرته تقدير ما أعظم الله على ما بينا والله أعلم
16 - مسألة القول في جواز التعجب من البياض والسواد دون غيرهما من الألوان
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان نحو أن تقول هذا الثوب ما أبيضه وهذا الشعر ما أسوده
وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا ذلك للنقل والقياس أما النقل فقد قال الشاعر (1/148)
( إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم ... فأنت أبيضهم سربال طباخ )
وجه الاحتجاج أنه قال أبيضهم وإذا جاز ذلك في أفعلهم جاز في ما أفعله وأفعل به لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب وقد قال الشا عر
( جارية في درعها الفضفاض ... تقطع الحديث بالإيماض ) (1/149)
( أبيض من أخت بنى أباض ... )
فقال أبيض وهو أفعل من البياض وإذا جاز ذلك في أفعل من كذا جاز في ما أفعله وأفعل به لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب ألا ترى أن ما لا يجوز فيه ما أفعله لا يجوز فيه أفعل من كذا وكذلك بالعكس منه ما جاز فيه ما أفعله جاز فيه أفعل من كذا فإذا ثبت أنه يمتنع في كل واحد منهما ما يمتنع في الآخر ويجوز فيه ما يجوز في الاخر دل على أنهما بمنزلة واحدة وكذلك القول في أفعل به في الجواز والامتناع فإذا ثبت هذا فوجب أن يجوز استعمال ما أفعله من البياض
واما القياس فقالوا إنما جوزنا ذلك من السواد والبياض دون سائر الألوان لأنهما أصلا الألوان ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة والخضرة والصهبة (1/150)
والشهبة والكهبة إلى غير ذلك فإذا كانا هما الأصلين للالوان كلها جاز أن يثبت لهما مالا يثبت لسائر الألوان إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه لا يجوز استعمال ما أفعله من البياض والسواد أنا أجمعنا على أنه لا يجوز أن يستعمل مما كان لونا غيرهما من سائر الألوان فكذلك لا يجوز منهما وإنما قلنا ذلك لأنه لا يخلو امتناع ذلك إما أن يكون لأن باب الفعل منهما أن يأتي على أفعل نحو أحمر وأصفر واخضر وما أشبه ذلك أو لأن هذه الأشياء مستقرة في الشخص لا تكاد تزول فجرت مجرى أعضائه وأي العلتين قدرنا وجدنا المساواة بين البياض والسواد وبين سائر الألوان في علة الامتناع فينبغى أن لا يجوز فيهما كسائر الألوان
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقول الشاعر
( فأنت أبيضهم سربال طباخ ... )
فلا حجة فيه من وجهين أحدهما أنه شاذ فلا يؤخذ به كما أنشد أبو زيد
( يقول الخناوأ بغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع ) (1/151)
( ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره بالشيخة اليتقصع )
فأدخل الألف واللام على الفعل وأجمعنا على أن استعمال مثل هذا خطأ لشذوذه قياسا واستعمالا فكذلك هاهنا وإنما جاء هذا لضرورة الشعر والضرورة لا يقاس عليها كما لو اضطر إلى قصر الممدود على أصلنا وأصلكم أو إلى مد المقصور على أصلكم وعلى ذلك سائر الضرورات ولا يدل جوازه في الضرورة على جوازه في غير الضرورة فكذلك هاهنا فسقط الاحتجاج به
وهذا هو الجواب عن قول الآخر
( أبيض من أخت بني أباض ... )
والوجه الثاني أن يكون قوله فأنت أبيضهم أفعل الذي مؤنثه فعلاء كقولك أبيض وبيضاء ولم يقع الكلام فيه وإنما وقع الكلام في أفعل الذي يراد به المفاضلة نحو هذا أحسن منه وجها وهو أحسن القوم وجها فكأنه قال مبيضهم فلما أضافه انتصب ما بعده عن تمام الاسم وهذا هو (1/152)
الجواب عن قول الآخر أبيض من أخت بنى أباض ومعناه في درعها جسد مبيض من أخت بنى أباض ويكون من أخت هاهنا في موضع رفع لأنها صفة لأبيض كأنه قال أبيض كائن من أخت كقولهم أنت كريم من بنى فلان ونحوه قول الشاعر
( وأبيض من ماء الحديد كأنه ... شهاب بدا والليل داج عساكره ) (1/153)
فقوله من ماء الحديد في موضع رفع لأنه صفة أبيض وتقديره وأبيض كائن من ماء الحديد ونحوه أيضا قول الآخر
( لما دعاني السمهري أجبته ... بأبيض من ماء الحديد صقيل ) (1/154)
وأما قولهم إنما جوزنا ذلك لأنهما أصلان للألوان ويجوز أن يثبت للأصل ما لا يثبت للفرع قلنا هذا لا يستقيم وذلك لأن سائر الألوان إنما لم يجز أن يستعمل منها ما أفعله وأفعل منه لأنها لازمت محالها فصارت كعضو من الأعضاء فإذا كان هذا هو العلة فنقول هذا على أصلكم ألزم وذلك لأنكم تقولون إن هذه الألوان ليست بأصل في الوجود على ما تزعمون بل هي مركبة من البياض والسواد فإذا لم يجز مما كان متركبا منها لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلا في الوجود وهو ملازم للمحل كان ذلك من طريق الأولى والله أعلم
مسألة القول في تقديم خبر ما زال وأخواتها عليهن
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم خبر ما زال عليها وما كان في معناها من أخواتها وإليه ذهب أبو الحسن بن كيسان وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك وإليه ذهب أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء من الكوفيين وأجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر ما دام عليها
أما الكوفيين فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن ما زال ليس بنفي للفعل وإنما هو نفى لمفارقة الفعل وبيان أن الفاعل حاله في الفعل (1/155)
متطاولة والذي يدل على أنه ليس بنفى أن زال فيه معنى النفى وما للنفي فلما دخل النفي على النفي صار إيجابا والذي يدل على أن النفى إذا دخل على النفى صار إيجابا أنك إذا قلت انتفى الشيء كان ضدا للاثبات فإذا أدخلت عليه النفى نحو ما انتفى صار موجبا فدل على أن نفى النفى إيجاب وإذا كان كذلك صار ما زال بمنزلة كان في أنه إيجاب وكما أن كان يجوزتقديم خبرها عليها نفسها فكذلك ما زال ينبغي أن يجوز تقديم خبرها عليها ولذلك لم يقولوا ما زال زيد إلا قائما كما لم يقولوا كان زيد إلا قائما لأن إلا إنما يؤتى بها لنقض النفى كقولك ما مررت إلا بزيد وما ضربت إلا زيدا نفيت المرور والضرب أولا وأدخلت إلا فأثبتهما لزيد وأبطلت النفى ونقضته ولهذا إذا قلتم إنها إذا دخلت على ما التي ترفع الاسم وتنصب الخبر أبطلت عملها لأنها إنما عملت لشبهها بليس في أنها تنفى الحال كما أن ليس تنفى الحال فإذا دخلت إلا عليها أبطلت معنى النفى فزال شبهها بليس فبطل عملها فإذا كان الكلام ثابتا فلا يفتقر إلى إثباته ألا ترى أنك لو قلت مررت إلا بأحد لم يجز لأن إثبات الثابت ونقض النفى مع تعرى الكلام منه محال فدل على أن ما زال في الإثبات بمنزلة كان فكما لا يقال كان زيد إلا قائما فكذلك لا يقال ما زال زيد إلا قائما فأما قول الشاعر
( حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمى بها بلدا قفرا ) (1/156)
حذف (1/157)
فالكلام عليه من أربعة أوجه فالوجه الأول أنه يروى ما تنفك آلا مناخه والآل الشخص يقال هذا آل قد بدا أي شخص وبه سمى الآل لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره قال الشاعر
( كأننا رعن قف يرفع الآلا ... ) (1/158)
أي يرفعه الآل وهو من المقلوب
والوجه الثاني أنه يروى ما تنفك إلا مناخة بالرفع فلا يكون فيه حجة
والوجه الثالث أنه قد روى بالنصب ولكن ليس هو منصوبا لأنه خبر ما تنفك وإنما خبرها على الحسف فكأنه قال ما تنفك على الخسف أي تظلم إلا أن تناخ
والوجه الرابع أنه جعل ما تنفك كلمة تامة لأنك تقول انفكت يده فتوهم فيها التمام ثم استثنى وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر ما زال عليها لأن ما للنفى والنفى له صدر الكلام فجرى مجرى حرف الاستفهام في أن له صدر الكلام والسر فيه هو أن الحرف إنما جاء لإفادة المعنى في الاسم والفعل فينبغى أن يأتي قبلهما لا بعدهما وكما أن حرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله فكذلك ها هنا ألا ترى أنك لو قلت في الاستفهام زيدا أضربت لم يجز لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف الاستفهام عليه فكذلك هاهنا إذا قلت قائما ما زال زيد ينبغي أن لا يجوز لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف النفي عليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن ما زال ليس بنفي للفعل وإنما هو نفي لمفارقة الفعل والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا قلنا هذا حجة عليكم فإنا كما أجمعنا على أن ما زال ليس بنفي للفعل أجمعنا على أن ما للنفي ثم لو لم تكن ما للنفي لما صار الكلام بدخولها إيجابا فالكلام إيجاب ء و ما نفي بدليل أنا لو قدرنا زوال النفي عنها لما كان (1/159)
الكلام إيجابا وإذا كانت للنفي فينبغي أن لا يتقدم ما هو متعلق بما بعدها عليها لأنها تستحق صدره الكلام كالاستفهام
وأما ما دام فلم يجز تقديم خبرها عليها نفسها لأن ما فيها مصدرية لا نافية وذلك المصدر بمعنى ظرف الزمان ألا ترى أنك إذا قلت لا أفعل هذا ما دام زيد قائما كان التقدير فيه زمن دوام زيد قائما كقولك جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم أي زمن مقدم الحاج وزمن خفوق النجم إلا أنه حذف المضاف الذي هو الزمن وأقيم المصدر الذي هو المضاف إليه مقامه وإذا كانت ما في ما دام بمنزلة المصدر فما كان من صلة المصدر لا يتقدم عليه والله أعلم
18 - مسألة القول في تقديم خبر ليس عليها
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه وليس بصحيح والصحيح أنه ليس له في ذلك نص
وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم خبر ليس عليها كما يجوز تقديم خبر كان عليها (1/160)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر ليس عليها وذلك لأن ليس فعل غير متصرف فلا يجرى مجرى الفعل المتصرف كما أجريت كان مجراه لأنها متصرفة ألا ترى أنك تقول كان يكون فهو كائن وكن كما تقول ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب واضرب ولا يكون ذلك في ليس وإذا كان كذلك فوجب أن لا يجرى مجرى ما كان فعلا متصرفا فوجب أن لا يجوز تقديم خبره عليه كما كان ذلك في الفعل المتصرف لأن الفعل إنما يتصرف عمله إذا كان متصرفا في نفسه
فأما إذا كان غير متصرف في نفسه فينبغي أن لا يتصرف عمله فلهذا قلنا لا يجوز تقديم خبره عليه والذي يدل على هذا أن ليس في معنى ما لأن ليس تنفى الحال كما أن ما تنفى الحال وكما أن ما لا تتصرف ولا يتقدم معمولها عليها فكذلك ليس على أن من النحويين من يغلب عليها الحرفية ويحتج بما حكى عن بعض العرب أنه قال ليس الطيب إلا المسك فرفع الطيب والمسك جميعا وبما حكى أن بعض العرب قيل له فلان يتهددك فقال عليه رجلا ليسى فأتى بالياء وحدها من غير نون الوقاية ولو كان فعلا لوجب أن يأتى بها كسائر الأفعال ولأنها لو كانت فعلا لكان ينبغي أن يرد إلى الأصل إذا اتصلت بالتاء فيقال في لست ليست ألا ترى أنك تقول في صيد البعير صيد البعير فلو أدخلت عليه التاء لقلت صيدت فرددته إلى الأصل وهو الكسر فلما لم يرد هاهنا إلى الأصل وهو الكسر دل على أن المغلب عليه الحرفية لا الفعلية وقد حكى سيبويه في كتابه أن بعضهم يجعل ليس بمنزلة ما في (1/161)
اللغة التي لا يعملون فيها ما فلا يعملون ليس في شيء وتكون كحرف من حروف النفى فيقولون ليس زيد منطلق وعلى كل حال فهذه الأشياء وإن لم تكن كافية في الدلالة على أنها حرف فهي كافية في الدلالة على إيغالها في شبه الحرف وهذا ما لا إشكال فيه وإذا ثبت أنها لا تتصرف وأنها موغلة في شبه الحرف فينبغي أن لا يجوز تقديم خبرها عليها ولأن الخبر مجحود فلا يتقدم على الفعل الذي جحده على ما بينا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على جواز تقديم خبرها عليها قوله تعالى ( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ) وجه الدليل من هذه الآية أنه قدم معمول خبر ليس على ليس فإن قوله يوم يأتيهم يتعلق بمصروف وقد قدمه على ليس ولو لم يجز تقديم خبر ليس على ليس وإلا لما جاز تقديم معمول خبرها عليها لأن المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل ألا ترى أنه لم يجز أن تقول زيدا أكرمت إلا بعد أن جاز أكرمت زيدا فلو لم يجز تقديم مصروف الذي هو خبر ليس على ليس وإلا لما جاز تقديم معموله عليها والذي يدل على ذلك أن الأصل في العمل للأفعال وهي فعل بدليل إلحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة بها وهي تعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والظاهرة والمضمرة كالأفعال المتصرفة فوجب أن يجوز تقديم معمولها عليها وعلى هذا تخرج نعم وبئس وفعل التعجب وعسى حيث لا يجوز تقديم معمولها عليها أما نعم وبئس فإنهما لا يعملان في المعارف الأعلام بخلاف ليس فنقصتا عن رتبتها وأما فعل التعجب فأجروه مجرى الأسماء لجواز تصغيره فبعد عن الأفعال ومع هذا فلا يتصل به ضمير الفاعل وإنما يضمر فيه ولا تلحقه أيضا تاء التأنيث بخلاف ليس فنقص عن رتبتها وأما عسى وإن كانت تلحقها الضمائر وتاء التأنيث كليس إلا انها لا تعمل في جميع الأسماء ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون معمولها إلا أن مع الفعل نحو عسى زيد أن يقوم ولو قلت عسى زيد القيام لم يجز فأما قولهم في المثل عسى الغوير (1/162)
أبؤسا فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه فلما كان مفعولا مختصا بخلاف ليس نقصت عن رتبة ليس فجاز أن يمنع من تقديم معمولها عليها ولا يجوز أن تقاس ليس على ما في امتناع تقديم خبرها عليها لأن ليس تخالف ما بدليل أنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها نحو ليس قائما زيد ولا يجوز تقديم خبر ما على اسمها فلا يقال ما قائما زيد وإذا جاز أن تخالف ليس ما في جواز تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفه في جواز تقديم خبرها عليها وتلحق بأخواتها
والصحيح عندي ما ذهب إليه الكوفيون
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قوله تعال ( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ) فلا حجة لهم فيه لأنا لا نسلم أن يوم متعلق بمصروف ولا أنه منصوب وإنما هو مرفوع بالابتداء وإنما بنى على الفتح لإضافته إلى الفعل كما قرأ نافع والأعرج قوله تعالى ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) فإن يوم في موضع رفع وبنى على الفتح لإضافته إلى الفعل فكذلك هاهنا
وإن سلمنا أنه منصوب إلا أنه منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله تعالى ( ليس مصروفا عنهم ) وتقديره يلازمهم يوم يأتيهم العذاب لقوله تعالى ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه )
وأما قولهم إن الأصل في العمل للأفعال وهي فعل يعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والمظهرة والمضمرة قلنا هذا يدل على جواز إعمالها لأنها فعل والأصل في الأفعال أن تعمل ولا يدل على جواز تقديم معمولها لأن تقديم المعمول على الفعل يقتضي تصرف الفعل في نفسه وليس فعل غير متصرف فلا يجوز تقديم معموله عليه فنحن عملنا بمقتضى الدليلين فأثبتنا لها أصل العمل لوجود أصل الفعلية وسلبناها وصف العمل لعدم وصف الفعلية وهو التصرف (1/163)
فاعتبرنا الأصل بالأصل والوصف بالوصف
والذي يشهد لصحة ذلك الأفعال المتصرفة نحو ضرب وقتل وشتم فإنها لما كانت أفعالا متصرفة أثبت لها أصل العمل ووصفه فجاز إعمالها وجاز تقديم معمولها عليها نحو عمرا ضرب زيد وكذلك سائرها والأفعال غير المتصرفة نحو عسى ونعم وبئس وفعل التعجب خصوصا على مذهب البصريين فإنها لما كانت أفعالا غير متصرفة أثبت لها أصل العمل فجاز إعمالها وسلبت وصف العمل فلم يجز تقديم معمولها عليها فكذلك ها هنا
وأما قولهم إنه لا يجوز أن تقاس ليس على ما قلنا قد بينا وجه المناسبة بينهما واتفاقهما في المعنى لأن كل واحد منهما لنفى الحال كالآخر
وقولهم إن ليس تخالف ما لأنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها بخلاف ما قلنا ليس من شرط القياس أن يكون المقيس مساويا للمقيس عليه في جميع أحكامه بل لا بد أن يكون بينهما مغايرة في بعض أحكامه
قولهم فإذا جاز أن تخالفها في تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفها في تقديم خبرها عليها قلنا هذا لا يلزم لأن ليس أخذت شبها من كان لأنها فعل كما أنها فعل وشبها من ما لأنها تنفي الحال كما أنها تنفي الحال وكان يجوز تقديم خبرها عليها وما لا يجوز تقديم خبرها على اسمها فلما أخذت شبها من كان وشبها من ما صار لها منزلة بين المنزلتين فجاز تقديم خبرها على اسمها لأنها أقوى من ما لأنها فعل وما حرف والفعل أقوى من الحرف ولم يجز تقديم خبرها عليها لأنها أضعف من كان لأنها لا تتصرف وكان تتصرف وهذا في غاية الوضوح والتحقيق والله أعلم (1/164)
19 - مسألة القول في العامل في الخبر بعد ما النافية النصب
ذهب الكوفيون إلى أن ما في لغة أهل الحجاز لا تعمل في الخبر وهو منصوب بحذف حرف الخفض
وذهب البصريون إلى أنها تعمل في الخبر وهو منصوب بها
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها لا تعمل في الخبر وذلك لأن القياس في ما أن لا تكون عاملة البتة لأن الحرف إنما يكون عاملا إذا كان مختصا كحرف الخفض لما اختص بالأسماء عمل فيها وحرف الجزم لما اختص بالأفعال عمل فيها وإذا كان غير مختص فوجب أن لا يعمل كحرف الاستفهام والعطف لأنه تارة يدخل على الاسم نحو ما زيد قائم وتارة يدخل على الفعل نحو ما يقوم زيد فلما كانت مشتركة بين الاسم والفعل وجب أن لا تعمل ولهذا كانت مهملة غير معملة في لغة بني تميم وهو القياس وإنما أعملها أهل الحجاز لأنهم شبهوها بليس من جهة المعنى وهو شبه ضعيف فلم يقو على العمل في الخبر كما عملت ليس لأن ليس فعل وما حرف والحرف أضعف من الفعل فبطل أن يكون منصوبا بما ووجب أن يكون منصوبا بحذف حرف الخفض لأن الأصل ما زيد بقائم فلما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبا لأن الصفات منتصبات الأنفس فلما ذهبت أبقت خلفا منها ولهذا لم يجز النصب إذا قدم الخبر نحو ما قائم زيد أو دخل حرف الاستثناء (1/165)
نحو ما زيد إلا قائم لأنه لا يحسن دخول الباء معهما فلا يقال ما بقائم زيد وما زيد إلا بقائم فدل ذلك على ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن ما تنصب الخبر وذلك أن ما أشبهت ليس فوجب أن تعمل عمل ليس وعمل ليس الرفع والنصب ووجه الشبه بينها وبين ليس من وجهين أحدهما أنها تدخل على المبتدأ والخبر كما أن ليس تدخل على المبتدأ والخبر والثاني أنها تنفي ما في الحال كما أن ليس تنفي ما في الحال
ويقوى الشبه بينهما من هذين الوجهين دخول الباء في خبرها كما تدخل في خبر ليس فإذا ثبت أنها قد أشبهت ليس من هذين الوجهين فوجب أن تجري مجراه لأنهم يجرون الشيء مجرى الشيء إذا شابهه من وجهين ألا ترى أن ما لا ينصرف لما أشبه الفعل من وجهين أجرى مجراه في منع الجر والتنوين فكذلك هاهنا لما أشبهت ما ليس من وجهين وجب أن تعمل عملها فوجب أن ترفع الاسم وتنصب الخبر كليس على ما بينا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن القياس يقتضي أن لا تعمل قلنا كان هذا هو القياس إلا أنه وجد بينها وبين ليس مشابهة اقتضت أن تعمل عملها وهي لغة القرآن قال الله تعالى ( ما هذا بشرا ) وقال تعالى ( ما هن أمهاتهم )
قولهم إن أهل الحجاز أعملوها لشبه ضعيف فلم يقو أن تعمل في الخبر قلنا هذا الشبه قد أوجب لها أن تعمل عملها وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر على أنا قد عملنا بمقتضى هذا الضعف فإنه يبطل عملها إذا تقدم خبرها على اسمها أو إذا دخل حرف الاستثناء أو إذا فصل بينها وبين معمولها بإن الخفيفة ولولا ذلك الضعف لوجب أن تعمل في جميع هذه المواضع (1/166)
وأما دعواهم أن الأصل ما زيد بقائم فلا نسلم وإنما الأصل عدمها وإنما أدخلت لوجهين أحدهما أنها أدخلت توكيدا للنفى والثاني ليكون في خبر ما بإزاء اللام في خبر إن لأن ما تنفى ما تثبته إن فجعلت الباء في خبرها نحو ما زيد بقائم لتكون بإزاء اللام في نحو إن زيدا لقائم كما جعلت السين جواب لن ألا ترى أنك تقول لن يفعل فيكون الجواب سيفعل وكذلك جعلت قد جواب لما ألا ترى أنك تقول لما يفعل فيكون الجواب قد فعل ولو حذفت لما فقلت يفعل لكان الجواب فعل من غير قد فدل على أن قد جواب لما فكذلك هاهنا
وقولهم إنه لما حذف حرف الخفض وجب أن يكون منصوبا لأن الصفات منتصبات الأنفس فلما ذهبت أبقت خلفا منها قلنا هذا فاسد لأن الباء كانت في نفسها مكسورة غير مفتوحة وليس فيها إعراب لأن الإعراب لا يقع على حروف المعاني ثم لو كان حذف حرف الخفض يوجب النصب كما زعموا لكان ذلك يجب في كل موضع يحذف فيه ولا خلاف أن كثيرا من الأسماء تدخلها حروف الخفض ولا تنتصب بحذفها كقولك كفى بالله شهيدا وكفى بالله نصيرا ولو حذفت حرف الخفض لقلت كفى الله شهيدا وكفى الله نصيرا بالرفع كما قال رجل من الأزد
( لما تعيا بالقلوص ورحلها ... كفى الله كعبا ما تعيا به كعب ) (1/167)
وقال عبد بني الحسحاس
( عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ) (1/168)
وقال الآخر
( أعان على الدهر إذ حل بركه ... كفى الدهر لو وكلته بي كافيا ) وكذلك قالوا بحسبك زيد وما جاءني من أحد وقال الشاعر
( بحسبك أن قد سدت أخزم كلها ... لكل اناس سادة ودعائم ) (1/169)
وقال الآخر
( بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غني مضر )
وقال الآخر
( وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... أعيت جوابا وما بالربع من أحد ) (1/170)
وقال الآخر
( ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا ) (1/171)
وإذا حذفوا حرف الخفض قالوا حسبك زيد وما جاءني أحد بالرفع لا غير وكذلك جميع ما جاء من هذا النحو ولو كان كما زعموا لوجب أن يكون منصوبا فلما وقع الإجماع على وجوب الرفع دل على فساد ما ادعوه والله أعلم
20 - مسألة القول في تقديم معمول خبر ما النافية عليها
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز طعامك ما زيد آكلا
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين إلى أنه جائز من وجه فاسد من وجه فإن كانت ما ردا لخبر كانت بمنزلة لم ولا يجوز التقديم كما تقول لمن قال في الخبر زيد آكل طعامك فترد عليه نافيا ما زيد آكلا طعامك فمن هذا الوجه يجوز التقديم فتقول طعامك ما زيد آكلا فإن كان جوابا للقسم إذا قال والله ما زيد بآكل طعامك كانت بمنزلة اللام في جواب القسم فلا يجوز التقديم
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا ذلك لأن ما بمنزلة لم ولن ولا لأنها نافية كما أنها نافية وهذه الأحرف يجوز تقديم معمول ما بعدها عليها نحو زيدا لم أضرب وعمرا لن أكرم وبشرا لا أخرج فإذا جاز التقديم مع هذه الأحرف فكذلك مع ما
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن (1/172)
ما معناها النفي ويليها الاسم والفعل فأشبهت حرف الاستفهام وحرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله فكذلك هاهنا ما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن ما بمنزلة لم ولن ولا قلنا لا نسلم لأن مما يليها الاسم والفعل وأما لم ولن فلا يليهما إلا الفعل فصارا بمنزلة بعض الفعل بخلاف ما فإنها يليها الاسم والفعل وأما لا فإنما جاز التقديم معها وإن كانت يليها الاسم والفعل لأنها حرف متصرف فعمل ما قبله فيما بعده ألا ترى أنك تقول جئت بلاشيء فيعمل ما قبله فيما بعده فإذا جاز أن يعمل ما قبله فيما بعده جاز أن يعمل ما بعده فيما قبله فبان الفرق بينهما
وأما ما ذكره أبو العباس ثعلب من التفصيل من أنه إذا كانت ردا لخبر جاز التقديم وإن كانت جوابا للقسم لم يجز ففاسد لأن ما في كلا القسمين نافية فينبغى أن لا يجوز التقديم فيهما جميعا لما بينا والله أعلم
21م - سألة القول في تقديم معمول الفعل المقصور عليه
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز ما طعامك أكل إلا زيد وذهب البصريون إلى أنه يجوز وإليه ذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين (1/173)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل في زيد أن لا يكون هو الفاعل وإنما الفاعل في الأصل محذوف قبل إلا لأن التقدير فيه ما أكل أحد طعامك إلا زيد والذي يدل على ذلك قولهم ما خرج إلا هند وما ذهب إلا دعد ولو كان الفعل لدعد وهند في الحقيقة لأثبتوا فيه علامة التأنيث لأن الفاعل مؤنث حقيقي فلما لم يئبتوا في الفعل علامة دل على أن الفاعل هو أحد المحذوف ويدل عليه أيضا أن إلا بابها الاستثناء والاستثناء يجب أن يكون من الجملة ولا بد أن يقدر قبلها ما يصح أن يكون الذي بعدها مستثنى منه فوجب أن يكون التقدير ما أكل أحد طعامك إلا زيد إلا أنه اكتفى بالفعل من أحد فصار بمنزلته والاسم لا يتقدم صلته عليه ولا يفرق بينها وبينه فكذلك الفعل الذي قام مقامه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا ذلك لأن زيد مرفوع بالفعل والفعل متصرف فجاز تقديم معموله عليه كقولهم عمرا ضرب زيد وكذلك سائر الأفعال المتصرفة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل ألا يكون زيد هو الفاعل لأن التقدير ما أكل أحد طعامك إلا زيد قلنا لا نسلم أن أحدا مقدر من جهة اللفظ وإنما هو مقدر من جهة المعنى كما أن المعنى يدل على أن عرقا في قولهم تصبب زيد عرقا فاعل معنى وإن لم يكن فاعلا لفظا ولهذا لم تثبت علامة التأنيث في قولهم ما خرج إلا هند وما ذهب إلا دعد وما أشبه ذلك على أنه قد حذف علامة التأنيث الحقيقي مع الفصل في قولهم حضر القاضي اليوم أمرأة وقال الشاعر
( إن امرأ غره منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور ) (1/174)
وقال الآخر
( لقد ولد الأخيطل أم سوء ... على قمع استها صلب وشام )
فقال ولد ولم يقل ولدت
وأما قولهم إنه اكتفى بالفعل من أحد قلنا لا نسلم أن الفعل اكتفى به من الاسم لأن الفعل لا بد له من فاعل وإنما الاسم بعد إلا قام مقامه واكتفى به منه لأنه لما حذف المستثنى منه قبل إلا قام ما بعد إلا حين حذفته مقامه كما يقوم المفعول مقام الفاعل إذا حذف نحو ضرب زيد (1/175)
وأعطى عمرو درهما وكسى عمرو قميصا وما أشبه ذلك وهذا لا يوجب أن يجرى الفعل مجرى الاسم في امتناع تقديم معموله عليه ألا ترى أنك تقول درهما أعطى زيد وقميصا كسى عمرو
ثم لو سلمنا أن الأمر على ما زعمتم فالفعل إنما جاز تقديم معموله عليه لتصرفه في نفسه وهذا المعنى الذي ادعيتموه لم يوجب تغير الفعل عن تصرفه في نفسه فينبغي أن يجوز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة والله أعلم
22 - مسألة القول في رافع الخبر بعد إن المؤكدة
ذهب الكوفيون إلى أن إن وأخواتها لا ترفع الخبر نحو إن زيدا قائم وما أشبه ذلك
وذهب البصريون إلى أنها ترفع الخبر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أن الأصل في هذه الأحرف أن لا تنصب الاسم وإنما نصبته لأنها أشبهت الفعل فإذا كانت إنما عملت لأنها أشبهت الفعل فهي فرع عليه وإذا كانت فرعا عليه فهي أضعف منه لأن الفرع أبدا يكون أضعف من الأصل فينبغي أن لا يعمل في الخبر جريا على القياس في حط الفروع عن الأصول لأنا لو أعملناه عمله لأدى ذلك إلى التسوية بينهما وذلك لا يجوز فوجب أن يكون باقيا على رفعه قبل دخولها
والذي يدل على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل لو ابتدىء به قال الشاعر (1/176)
( لا تتركني فيهم شطيرا ... إني إذن أهلك أو أطيرا )
فنصب ب ( ( إذن ) )
والذي يدل على ذلك أيضا أنه إذا اعترض عليها بأدنى شيء بطل عملها واكتفى به كقولهم إن بك يكفل زيد كأنها رضيت بالصفة لضعفها وقد روى أن ناسا قالوا إن بك زيد مأخوذ فلم تعمل إن لضعفها فدل على ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن هذه الأحرف تعمل في الخبر وذلك لأنها قويت مشابهتها للفعل لأنها أشبهته لفظا ومعنى ووجه المشابهة بينهما (1/177)
من خمسة أوجه الأول أنها على وزن الفعل والثاني أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبني على الفتح والثالث أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضي الاسم والرابع أنها تدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني كما تدخل على الفعل نحو أعطاني وأكرمني وما أشبه ذلك والخامس أن فيها معنى الفعل فمعنى إن وأن حققت ومعنى كأن شبهت ومعنى لكن استدركت ومعنى ليت تمنيت ومعنى لعل ترجيت فلما أشبهت الفعل من هذه الأوجه وجب أن تعمل عمل الفعل والفعل يكون له مرفوع ومنصوب فكذلك هذه الأحرف ينبغي أن يكون لها مرفوع ومنصوب ليكون المرفوع مشبها بالفاعل والمنصوب مشبها بالمفعول إلا أن المنصوب هاهنا قدم على المرفوع لأن عمل إن فرع وتقديم المنصوب على المرفوع فرع فألزموا الفرع الفرع أو لأن هذه الحروف لما أشبهت الفعل لفظا ومعنى ألزموا فيها تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها حروف أشبهت الأفعال وليست أفعالا وعدم التصرف فيها لا يدل على الحرفية لنا أفعالا لا تتصرف نحو نعم وبئس وعسى وليس وفعل التعجب وحبذا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن هذه الأحرف إنما نصبت لشبه الفعل فينبغي أن لا تعمل في الخبر لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع قلنا هذا يبطل باسم الفاعل فإنه إنما عمل لشبه الفعل ومع هذا فإنه يعمل عمله ويكون له مرفوع ومنصوب كالفعل تقول زيد ضارب أبوه عمرا كما تقول يضرب أبوه عمرا
والذي يدل على فساد ما ادعيتموه من ضعف عملها أنها تعمل في الاسم إذا فصلت بينها وبينه بظرف أو حرف جر نحو قوله تعالى ( إن لدينا أنكالا ) و ( إن في ذلك لآية ) وما أشبه ذلك على أنا قد عملنا بمقتضى (1/178)
كونها فرعا فإنا الزمناها طريقة واحدة وأوجبنا فيها تقديم المنصوب على المرفوع ولم نجوز فيها الوجهين كما جوزنا مع الفعل لئلا يجري مجرى الفعل فيسوى بين الأصل والفرع وكان تقديم المنصوب أولى ليفرق بينها وبين الفعل لأن الأصل أن يذكر الفاعل عقيب الفعل قبل ذكر المفعول فلما قدم هاهنا المنصوب وأخر المرفوع حصلت مخالفة هذه الأحرف للفعل وانحطاطها عن رتبته
وقولهم إن الخبر يكون باقيا على رفعه قبل دخولها فاسد وذلك لأن الخبر على قولهم مرفوع بالمبتدأ كما أن المبتدأ مرفوع به فهما يترافعان ولا خلاف أن الترافع قد زال بدخول هذه الأحرف على المبتدأ ونصبها إياه فلو قلنا إنه مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخولها مع زواله لكان ذلك يؤدي إلى أن يرتفع الخبر بغير عامل وذلك محال
وأما قولهم الدليل على ضعف عملها أنه يدخل على الخبر ما يدخل على الفعل لو ابتدىء به كقول الشاعر
( إني إذن أهلك أو أطيرا ... )
قلنا الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه أحدها أن هذا شاذ فلا يكون فيه حجة والثاني أن الخبر هاهنا محذوف كأنه قال لا تتركني فيهم غريبا بعيدا إني أذل إذن أهلك أو أطيرا وحذف الفعل الذي هو الخبر لأن في الثاني دلالة على الأول المحذوف فإذن ما دخلت على الخبر والثالث أن يكون جعل إذن أهلك أو أطيرا في موضع الخبر كقولك إني لن أذهب فشبه إذن بلن وإن كانت لن لا يلغى في حال بخلاف إذن
وأما قولهم إن بك يكفل زيد وإن بك زيد مأخوذ فالتقدير فيه إنه بك يكفل زيد وإنه بك زيد مأخوذ كما قال الراعي (1/179)
( فلو أن حق اليوم منكم إقامة ... وإن كان سرح قد مضى فتسرعا )
أراد فلو أنه حق ولو لم يرد الهاء لكان الكلام محالا وقال الأعشى
( إن من لام في بني بنت حسان ... ألمه وأعصه في الخطوب ) (1/180)
وقال أمية بن أبي الصلت
( ولكن من لا يلق أمرا ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل ) (1/181)
وقال الآخر
( فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي عظيم المشافر ) (1/182)
وقال الآخر
( فليت دفعت الهم عني ساعة ... فبتنا على ما خيلت ناعمي بال ) (1/183)
وقال الآخر
( فليت كفافا كان خيرك كله ... وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوى ) (1/184)
أراد ليته إن جعلت كفافا خبر كان مقدما عليها والتقدير في ليته كان خيرك وشرك كفافا عني أو مكفوفين عني لأن الكفاف مصدر فيقع على الواحد والاثنين والجميع كقولهم رجل عدل ورضا ورجلان عدل ورضا وقوم عدل ورضا وما أشبه ذلك وإن جعلت كفافا منصوبا بليت لم يكن من هذا الباب والأول أجود
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النصب إلا ويعمل الرفع فما ذهبوا إليه يؤدى إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة وذلك لا يجوز فوجب أن تعمل في الخبر الرفع كما عملت في الاسم النصب على ما بينا والله أعلم
23 - مسألة القول في العطف على اسم إن بالرفع قبل مجيء الخبر
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على موضع إن قبل تمام الخبر (1/185)
واختلفوا بعد ذلك فذهب أبو الحسن على بن حمزة الكسائي إلى أنه يجوز ذلك على كل حال سواء كان يظهر فيه عمل إن أو لم يظهر وذلك نحو قولك إن زيدا وعمرو قائمان وإنك وبكر منطلقان
وذهب أبو زكرياء يحيى ابن زياد الفراء إلى أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل إن
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر على كل حال
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على جواز ذلك النقل والقياس أما النقل فقد قال الله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ) وجه الدليل أنه عطف الصابئون على موضع إن قبل تمام الخبر وهو قوله ( من آمن بالله واليوم الآخر ) وقد جاء عن بعض العرب فيما رواه الثقات إنك وزيد ذاهبان وقد ذكره سيبويه في كتابه فهذان دليلان من كتاب الله تعالى ولغة العرب
وأما من جهة القياس فقالوا اجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا نحو لا رجل وامرأة أفضل منك فكذلك مع إن لأنها بمنزلتها وإن كانت للاثبات ولا للنفي لأنهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره يدل عليه أنا أجمعنا على أنه يجوز العطف على الاسم بعد تمام الخبر فكذلك قبل تمام الخبر لأنه لا فرق بينهما عندنا وأنه قد عرف من مذهبنا أن إن لا تعمل في الخبر لضعفها وإنما يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها فإذا كان الخبر يرتفع بما كان يرتفع به قبل دخولها فلا إحالة إذن لأنه إنما كانت المسألة تفسد أن لو قلنا إن هي العاملة في الخبر فيجتمع عاملان فيكون محالا ونحن لا نذهب إلى ذلك فصح ما ذهبنا إليه (1/186)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن ذلك لا يجوز أنك إذا قلت إنك وزيد قائمان وجب أن يكون زيد مرفوعا بالابتداء ووجب أن يكون عاملا في خبر زيد وتكون إن عاملة في خبر الكاف وقد اجتمعا في لفظ واحد فلو قلنا إنه يجوز فيه العطف قبل تمام الخبر لأدى ذلك إلى أن يعمل في اسم واحد عاملان وذلك محال
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه أحدها أنا نقول في هذه الآية تقديم وتأخير والتقدير فيها إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك كما قال الشاعر
( غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف والخمر ) (1/187)
فرفع الخمر على الاستئناف فكأنه قال والخمر كذلك
وقال الآخر
( وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو محلف ) (1/188)
فرفع مجلف على الاستئناف فكأنه قال أو مجلف كذلك وهذا كثير في كلامهم
والوجه الثاني أن تجعل قوله تعالى ( من آمن بالله واليوم الآخر ) خبرا للصابئين والنصارى وتضمر للذين آمنوا والذين هادوا خبرا مثل الذي أظهرت للصابئين والنصارى ألا ترى أنك تقول زيد وعمرو قائم فتجعل قائما
خبرا لعمرو وتضمر لزيد خبرا آخر مثل الذي أظهرت لعمرو وإن شئت أيضا جعلته خبرا لزيد وأضمرت لعمرو خبرا آخر (1/189)
وقال الشاعر وهو بشر بن أبن خازم
( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق )
فإن شئت جعلت قوله بغاة خبرا للثاني وأضمرت للأول خبرا ويكون التقدير وإلا فاعلموا أنا بغاة وأنتم بغاة وإن شئت جعلته خبرا للأول وأضمرت للثاني خبرا على ما بينا
والوجه الثالث أن يكون عطفا على المضمر المرفوع في هادوا وهادوا بمعنى تابوا
وهذا الوجه عندي ضعيف لأن العطف على المضمر المرفوع قبيح وإن كان لازما للكوفيين لأن العطف على المضمر المرفوع عندهم ليس بقبيح وسنذكر فساد ما ذهبوا إليه في موضعه إن شاء الله تعالى (1/190)
وأما ما حكوه عن بعض العرب إنك وزيد ذاهبان فقد ذكر سيبويه أنه غلط من بعض العرب وهذا لأن العربي يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضرب من الغلط فيعدل عن قياس كلامه كما قالوا ما أغفله عنك شيئا وكما قال زهير ويقال صرمة الأنصاري
( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا )
فقال سابق على الجر وكان الوجه سابقا بالنصب
وقال الآخر
( أجدك لست الدهر رائي رامة ... ولا عاقل إلا وأنت جنيب ) (1/191)
( ولا مصعد في المصعدين لمنعج ... ولا هابط ما عشت هضب شطيب ) (1/192)
وقال الأحوص الرياحي
( مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها ) (1/193)
فقال ناعب بالجر وكان الوجه أن يقول ناعبا بالنصب وقد تؤول ذلك بما لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه فإذا كان كذلك فلا يجوز الاحتجاج بما رووه مع قلته في الاستعمال وبعده عن القياس على ما وقع فيه الخلاف
وأما قولهم أجمعنا على أنه يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر مع لا فكذلك مع إن قلنا الجواب على هذا من وجهين أحدهما إنما جاز ذلك مع لا لأن لا لا تعمل في الخبر بخلاف إن فلم يجتمع فيه عاملان فجاز معها العطف على الموضع قبل تمام الخبر دون إن على ما بينا (1/194)
والوجه الثاني أنا نسلم أن لا تعمل في الخبر كإن ولكن إنما جاز ذلك مع لا دون إن وذلك لأن لا ركبت مع الاسم النكرة بعدها فصارا شيئا واحدا فكأنه لم يجتمع في الخبر عاملان وأما إن فإنها لا تركب مع الاسم بعدها فيجتمع في الخبر عاملان وذلك لا يجوز فبان الفرق بينهما
وأما قولهم إن إن لا تعمل في الخبر فقد بينا فساد ذلك مستوفى في المسألة التي قبل هذه المسألة فلا يفتقر إلى الإعادة والله أعلم
24 - مسألة القول في عمل إن المخففة النصب في الاسم
ذهب الكوفيون إلى أن إن المخففة من الثقيلة لا تعمل النصب في الاسم
وذهب البصريون إلى أنها تعمل
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها لا تعمل لأن المشددة إنما عملت لأنها أشبهت الفعل الماضي في اللفظ لأنها على ثلاثة أحرف كما أنه على ثلاثة أحرف وإنها مبنية على الفتح كما أنه مبني على الفتح فإذا خففت فقد زال شبهها به فوجب أن يبطل عملها
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا ذلك لأن إن المشددة من عوامل الأسماء وإن المخففة من عوامل الأفعال فينبغي ألا تعمل المخففة في الأسماء (1/195)
كما لا تعمل المشددة في الأفعال لأن عوامل الأفعال لا تعمل في الأسماء وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على صحة الإعمال قوله تعالى ( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ) في قراءة من قرأ بالتخفيف وهي قراءة نافع وابن كثير وروى أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما
قالوا ولا يجوز أن يقال بأن كلا منصوب بليوفينهم لأنا نقول لا يجوز ذلك لأن لام القسم تمنع ما بعدها أن يعمل فيما قبلها ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول زيدا لأكرمن وعمرا لأضربن فتنصب زيدا بلأكرمن وعمرا بلأضربن فكذلك هاهنا لا يجوز أن يكون كلا منصوبا بليوفينهم
قالوا ولا يجوز أيضا أن يقال إن إن بمعنى ما ولما بمعنى إلا لأنا نقول إن إن التي بمعنى ما لا يجىء معها اللام بمعنى إلا كما قال تعالى ( إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا ) وأما لما فلا يجوز أن يجعل هاهنا بمعنى إلا لأنه لو جاز أن تجعل لما بمعنى إلا لجاز أن يقال ما قام القوم لما زيدا وقام القوم لما زيدا بمعنى إلا زيدا وفي امتناع ذلك دليل على فساده وإنما جاءت لما بمعنى إلا في الأيمان خاصة نحو قولهم عمرك الله لما فعلت كذا أي إلا ثم لو جعلت لما في قوله تعالى ( وإن كلا لما ليوفينهم ) بمعنى إلا لما كان لكل ما ينصبه لأن إلا لا يعمل ما بعدها فيما قبلها فدل على صحة ما ذكرناه
والذي يدل على صحة ذلك أيضا انه قد صح عن العرب أنهم يقولون إلا أن أخاك ذاهب بمعنى أن المشددة وقد قال الشاعر (1/196)
( وصدر مشرق النحر ... كأن ثدييه حقان )
فنصب ثدييه بكأن المخففة من الثقيلة وأصلها أن أضيف إليها الكاف للتشبيه والأصل في الكاف أن تكون مؤخرة كما أن الأصل في اللام أن تكون مقدمة فإذا قلت كأن زيدا الأسد كان الأصل فيه إن زيدا كالأسد كما إذا قلت إن زيدا لقائم كان الأصل فيه لإن زيدا قائم إلا أنه قدمت الكاف على أن عناية بالتشبيه وأخرت اللام عن إن (1/197)
لئلا يجمعوا بين حرفي تأكيد فلما نصب بها مع التخفيف دل على أنها بمنزلة فعل قد حذف بعض حروفه
وقال الآخر
( كأن وريديه رشاءا خلب ... ) (1/198)
فنصب وريديه بكأن المخففة من الثقيلة فدل على ما قلناه
ولا يجوز أن يقال إن الإنشاد في البيتين كأن ثدياه وكأن وريداه بالرفع لأنا نقول بل الرواية المشهورة كأن ثدييه وكأن وريديه بالنصب وإن صح ما رويتموه فيكون الرفع على حذف الضمير مع التخفيف كما قال الأعشى
( في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل ) (1/199)
كأنه قال أنه هالك
وقال الآخر
( أما والله أن لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق ) (1/200)
وقال الآخر
( أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص ) (1/201)
وقال زيد بن أرقم
( ويوما تلاقينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم ) (1/202)
وقال الآخر
( عبأت له رمحا طويلا وألة ... كأن قبس يعلى بها حين تشرع ) (1/203)
وقال الآخر
( وخيفاء ألقى الليث فيها ذراعه ... فسرت وساءت كل ماش ومصرم )
( تمشي بها الدرماء تسحب قصبها ... كأن بطن حبلى ذات أو نين متئم )
فيمن روى بالرفع ومن روى بالجر جعل أن زائدة ومن روى بالنصب أعملها مع التخفيف
ومن كلامهم أول ما أقول أن بسم الله كأنهم قالوا أنه بسم الله وقال تعالى ( أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ) كأنه قال أنه لا يرجع إليهم قولا إلا أنها لا تخفف مع الفعل إلا مع أحد أربعة أحرف وهي لا وقد وسوف والسين كقوله تعالى ( علم أن سيكون منكم مرضى ) وكذلك علمت أن سوف يخرج زيد وعلمت أن قد خرج عمرو قال أبو صخر الهذلي (1/204)
( فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم )
ولا تخفف من غير واحد من هذه الأحرف لأنهم جعلوها عوضا مما لحق أن من التغيير وكان التعويض مع الفعل أولى من الاسم وذلك لأن أن لحقها مع الاسم ضرب واحد من التغيير وهو الحذف ولحقها مع الفعل ضربان الحذف ووقوع الفعل بعدها فلهذا كان التعويض مع الفعل أولى من الاسم
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه من إعمالها مع التخفيف ما حكى بعض أهل اللغة من أعمالها في المضمر مع التخفيف نحو قولهم أظن أنك قائم وأحسب أنه ذاهب يريدون أنك وأنه بالتشديد قال الشاعر
( فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق ) (1/205)
وقال الآخر
( وقد علم الصبية المرملون ... إذا اغبر أفق وهبت شمالا ) (1/206)
( وخلت عن أولادها المرضعات ... ولم تر عين لمزن بلالا )
( بأنك الربيع وغيث مريع ... وقدما هناك تكون الثمالا ) (1/207)
أراد بأنك بالتشديد إلا أن الاستدلال على إعمالها في المضمر مع التخفيف عندي ضعيف لأن ذلك إنما يجوز في ضرورة الشعر لا في اختيار الكلام إلا في رواية شاذة ضعيفة غير معروفة فلا يكون فيه حجة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما عملت لشبه الفعل لفظا فإذا خففت زال شبهها به فبطل عملها قلنا هذا باطل لأن إن إنما عملت لأنها أشبهت الفعل لفظا ومعنى وذلك من خمسة أوجه وقد قدمنا ذكرها في موضعها فإذا خففت صارت بمنزلة فعل حذف منه بعض حروفه وذلك لا يبطل عمله ألا ترى أنك تقول ع الكلام وش الثوب ول الأمر وما أشبه ذلك ولا تبطل عمله فكذلك ها هنا
وأما قولهم إن إن المشددة من عوامل الأسماء وإن المخففة من عوامل الأفعال قلنا هذا الاستدلال ظاهر الاختلال فإنا إذا قدرنا أنها مخففة من الثقيلة فهي من عوامل الأسماء وإذا لم نقدر أنها مخففة من الثقيلة فليست من عوامل الأسماء وإن الخفيفة في الأصل غير إن المخففة من الثقيلة لأن تلك الخفيفة من عوامل الأفعال وهذه المخففة من الثقيلة من عوامل الأسماء ولم يقع الكلام في إن الخفيفة في الأصل وإنما وقع في أن المخففة من الثقيلة وقد بينا الفرق بينهما والله أعلم
25 - مسألة القول في زيادة لام الابتداء في خبر لكن
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز دخول اللام في خبر لكن كما يجوز في خبر (1/208)
إن نحو ما قام زيد لكن عمرا لقائم وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز دخول اللام في خبر لكن
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز دخول اللام في خبر لكن النقل والقياس أما النقل فقد جاء عن العرب إدخال اللام على خبرها قال الشاعر
( ولكنني من حبها لكميد ... )
وأما القياس فلأن الأصل في لكن إن زيدت عليها لا والكاف فصارتا جميعا حرفا واحدا كما زيدت عليها اللام والهاء في قول الشاعر
( لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها ) (1/209)
حذف (1/210)
فزاد اللام والهاء على إن فكذلك هاهنا زاد عليها لا والكاف فإن الحرف قد يوصل في أوله وآخره فما وصل في أوله نحو هذا وهذاك وما وصل في آخره نحو قوله تعالى ( فإما ترين من البشر أحدا ) وكذلك نقول إن قول العرب كم مالك إنها ما زيدت عليها الكاف ثم إن الكلام كثر بها فحذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها كما زيدت اللام على ما ثم لما كثر الكلام بها سكنت ميمها فقالوا لم فعلت كذا قال الشاعر
( يا أبا الأسود لم اسلمتني ... لهموم طارقات وذكر ) (1/211)
حذف (1/212)
وقال بعض العرب في كلامه وقد قيل له منذ كم قعد فلان فقال كمنذ أخذت في حديثك فزاد الكاف في منذ فدل على أن الكاف في كم زائدة وقيل لبعضهم كيف تصنعون الأقط فقال كهين أي يسير سهل فيزيدون الكاف فكذلك هاهنا زيدت لا والكاف على إن وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت حرفا واحدا كما قالوا لن وأصلها لا أن فحذفوا الألف والهمزة لكثرة الاستعمال فصارتا حرفا واحدا فكذلك هاهنا وبل أولى فإنه إذا جاز حذف الألف والهمزة لكثرة الاستعمال فلأن يجوز حذف الهمزة كان ذلك من طريق الأولى
وقالوا ولا يجوز أن يقال إنه لو كان أصلها لا أن لما جاز أن يقال أما زيدا فلن أضرب لأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها لأنا نقول إنما جاز ذلك لأن الحروف إذا ركبت تغير حكمها بعد التركيب عما كان عليه قبل التركيب ألا ترى أن هل لا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها وإذا ركبت مع لا ودخلها معنى التحضيض تغير ذلك الحكم عما كان عليه قبل التركيب فجاز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها فيقال زيدا هلا ضربت فكذلك هاهنا
والذي يدل على أن أصلها إن على ما بينا أنه يجوز العطف على موضعها كما يجوز (1/213)
العطف على موضع إن فدل على أن الأصل فيها إن زيدت عليها لا والكاف فكما يجوز دخول اللام في خبر إن فكذلك يجوز دخولها في خبر لكن
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن تكون هذه اللام لام التأكيد أو لام القسم على اختلاف المذهبين وعلى كلا المذهبين فلا يستقيم دخول اللام في خبر لكن وذلك لأنها إن كانت لام التأكيد فلام التأكيد إنما حسنت مع إن لاتفاقهما في المعنى لأن كل واحدة منهما للتأكيد وأما لكن فمخالفة لها في المعنى وإن كانت لام القسم فإنما حسنت مع إن لأن إن تقع في جواب القسم كما أن اللام تقع في جواب القسم وأما لكن فمخالفة لها في ذلك لأنها لا تقع في جواب القسم فينبغي أن لا تدخل اللام في خبرها
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قوله
( ولكنني من حبها لكميد ... )
فهو شاذ لا يؤخذ به لقلته وشذوذه ولهذا لا يكاد يعرف له نظير في كلام العرب وأشعارهم ولو كان قياسا مطردا لكان ينبغي أن يكثر في كلامهم وأشعارهم كما جاء في خبر إن وفي عدم ذلك دليل على أنه شاذ لا يقاس عليه
وأما قولهم إن الأصل في لكن إن زيدت عليها لا والكاف فصارتا حرفا واحدا قلنا لا نسلم فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى
قولهم كما زيدت اللام والهاء في قوله
( لهنك من عبسية لوسيمة ... )
قلنا ولا نسلم أن الهاء في قوله لهنك زائدة وإنما هي مبدلة من ألف (1/214)
إن فإن الهاء تبدل من الهمزة في مواضع كثيرة من كلامهم يقال هرقت الماء والأصل فيه أرقت وهرحت الدابة والأصل فيه أرحت وهنرت الثوب والأصل فيه أنرت وهبرية والأصل فيه إبرية وهو الحزاز في الرأس وهردت والأصل أردت وهياك والأصل إياك وقد قرأ بعض القراء هياك نعبد وقال الشاعر
( فهياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر )
وقال الآخر :
( يا خال هلا قلت إذ أعطيتني ... هياك هياك وحنواء العنق ) (1/215)
أراد إياك وقد قال الله تعالى ( ومهيمنا عليه ) قيل أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء ولهذا قيل في تفسير ( ومهيمنا عليه ) حافظا عليه وقيل شاهدا وقيل رقيبا عليه وقيل قفانا عليه وكل هذه الألفاظ متقاربة في المعنى فدل على أن الهاء في لهنك مبدلة من همزة ولهذا المعنى جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها وقد حكى عن أصحابكم فيه وجهان أحدهما قول الفراء وهو أن أصله والله إنك لوسيمة فحذفت الهمزة من إن والواو من والله وإحدى اللامين فبقى لهنك والوجه الثاني وهو قول المفضل بن سلمة إن أصله لله إنك لوسيمة فحذفت لامان من لله والهمزة من إن فبقى لهنك فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين
وأما قولهم إن الحرف قد يوصل في أوله نحو هذا قلنا هذا إنما جاء قليلا على خلاف الأصل لدليل دل عليه فبقينا فيما عداه على الأصل ولا يدخل هذا في القياس فيقاس عليه
وأما قولهم إن كم مالك أصلها ما زيدت عليها الكاف قلنا لا نسلم بل هذا شيء تدعونه على أصلكم وسنبين فساده في موضعه إن شاء الله تعالى وأما قولهم إن لن أصلها لا أن قلنا لا نسلم بل هو حرف غير مركب وقد نص سيبويه على ذلك والذي يدل على أنه غير مركب من لا وأن أنه يجوز أن يقال أما زيدا فلن أضرب ولو كان كما زعموا لما جاء ذلك لأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها
قولهم إن الحروف إذا ركبت تغير حكمها عما كانت عليه قبل التركيب كهلا قلنا إنما تغير حكم هلا لأن هلا ذهب منها معنى الاستفهام فجاز أن يتغير حكمها وأما لن فمعنى النفي باق فيها فينبغي أن لا يتغير حكمها فبان الفرق بينهما (1/216)
وأما قولهم إنه يجوز العطف على موضع لكن كما يجوز العطف على موضع إن فدل على أن الأصل فيها إن قلنا لا نسلم أنه إنما جاز العطف على موضع لكن لأن أصلها إن وإنما جاز ذلك لأن لكن لا تغير معنى الابتداء لأن معناها الاستدراك والاستدراك لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف فجاز أن يعطف على موضعها كإن لأن إن إنما جاز أن يعطف على موضعها دون سائر أخواتها لأنها لم تغير معنى الابتداء بخلاف كأن وليت ولعل لأن كأن أدخلت في الكلام معنى التشبيه وليت أدخلت في الكلام معنى التمني ولعل أدخلت في الكلام معنى الترجى فتغير معنى الابتداء فلم يجز العطف على موضع الابتداء لزواله فأما لكن لما كان معناها الاستدراك وهو لا يزيل معنى الابتداء والاستئناف جاز العطف على موضعها كإن على أنه من النحويين من يذهب إلى زوال معنى الابتداء مع لكن فلا يجوز العطف على موضعها
والذي يدل على أن لكن مخالفة لإن في دخول اللام معها أنه لم يأت في كلامهم دخول اللام على اسمها إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر نحو لكن عندك لزيدا أو لكن في الدار لعمرا كما جاء ذلك في إن فلما لم يأت ذلك في شيء من كلامهم ولا نقل في شيء من أشعارهم دل أنه لا يجوز دخول اللام في خبرها لأن مجيئه في اسمها مقدم في الرتبة على مجيئه في خبرها وإذا لم تدخل اللام في اسمها فأن لا تدخل في خبرها كان ذلك من طريق الأولى
وبيان هذا وهو أن الأصل في هذه اللام أن تكون متقدمة في صدر الكلام فكان ينبغي أن تكون مقدمة على إن إلا أنه لما كانت اللام للتأكيد وإن للتأكيد لم يجمعوا بين حرفي تأكيد فكان الأصل يقتضي أن تنقل عن صدر الكلام وتدخل الاسم لأنه أقرب إليه من الخبر إلا أنه لما كان الاسم يلي (1/217)
إن كرهوا أن يدخلوها على الاسم كراهية للجمع بين حرفي تأكيد فنقلوها من الاسم وأدخلوها على الخبر
والذي يدل على أن الأصل فيها أن تكون مقدمة على إن انها لام الابتداء ولام الابتداء لها صدر الكلام
والذي يدل على أن الأصل فيها أن تدخل على الاسم قبل الخبر أنه إذا فصل بين إن واسمها بظرف أو حرف جر جاز دخولها عليه نحو إن عندك لزيدا وإن في الدار لعمرا قال الله تعالى ( إن في ذلك لآية )
فإذا ثبت أن هذا هو الأصل وأنه لا يجوز دخول اللام على اسم لكن إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر دل على أنه لا يجوز أن تدخل على خبرها لأنه لو كان دخول اللام مع لكن كدخولها مع إن لجاز أن تدخل على اسمها إذا كان خبرها ظرفا أو حرف جر كما تدخل على خبرها فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه والله أعلم
26 - مسألة القول في لام لعل الأولى زائدة هي أو أصلية
ذهب الكوفيون إلى أن اللام الأولى في لعل أصلية وذهب البصريون إلى أنها زائدة (1/218)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن اللام أصلية لأن لعل حرف وحروف الحروف كلها أصلية لأن حروف الزيادة التي هي الهمزة والألف والياء والواو والميم والتاء والنون والسين والهاء واللام والتي يجمعها قولك اليوم تنساه ولا أنسيتموه وسألتمونيها إنما تختص بالأسماء والأفعال فأما الحروف فلا يدخلها شيء من هذه الحروف على سبيل الزيادة بل يحكم على حروفها كلها بأنها أصلية في كل مكان على كل حال ألا ترى أن الألف لا تكون في الأسماء والأفعال إلا زائدة أو منقلبة ولا يجوز أن يحكم عليها في ما ولا ويا بأنها زائدة أو منقلبة بل نحكم عليها بأنها أصلية لأن الحروف لا يدخلها ذلك فدل على أن اللام أصلية
والذي يدل على ذلك أيضا أن اللام خاصة لا تكاد تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا شاذا نحو زيدل وعبدل وفحجل في كلمات معدودة فإذا كانت اللام لا تزاد فيما يجوز فيه الزيادة إلا على طريق الشذوذ فكيف يحكم بزيادتها فيما لا يجوز فيه الزيادة بحال وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها زائدة لأنا وجدناهم يستعملونها كثيرا في كلامهم عارية عن اللام قال نافع بن سعد الطائي
( ولست بلوام على الأمر بعد ما ... يفوت ولكن عل أن أتقدما ) (1/219)
أراد لعل وقال العجير السلولي
( لك الخير عللنا بها عل ساعة ... تمر وسهواء من الليل يذهب )
وقال الآخر
( عل صروف الدهر أو دولاتها ... تدلننا اللمة من لماتها ) (1/220)
حذف (1/135)
وقال الآخر
( ولا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه ) (1/221)
وقال الآخر
( يا أبتا علك أو عساكا ... ) (1/222)
وقالت أم النحيف وهو سعد بن قرط
( تربص بها الأيام عل صروفها ... سترمي بها في جاحم متسعر )
أراد لعل
فلما وجدناهم يستعملونها عارية عن اللام في معنى إثباتها دلنا ذلك على أنها زائدة ألا ترى أنا حكمنا بأن اللام في زيدل وعبدل وأولالك وما أشبه ذلك زائدة لأنا نقول في معناه زيد وعبد وأولاك وحكمنا بأن الهمزة في النئدلان وهو الكابوس زائدة لأنا نقول في معناه (1/223)
النيدلان من غير همز وكذلك بأن النون في عرنتن زائدة لأنا نقول في معناه عرتن بغير النون الأولى إلى غير ذلك من الشواهد فكذلك هاهنا
والذي يدل على أنها زائدة أن هذه الأحرف نعنى إن وأخواتها إنما عملت النصب والرفع لشبه الفعل لأن أن مثل مد وليت مثل ليس ولكن أصلها كن ركبت معها لا كما ركبت لو مع لا فقيل لكن وكأن أصلها أن أدخلت عليها كاف التشبيه فكذلك لعل أصلها عل وزيدت عليها اللام إذ لو قلنا إن اللام أصلية في لعل لأدى ذلك إلى أن لا تكون لعل على وزن من أوزان الأفعال الثلاثية أو الرباعية لأن الثلاثية على ثلاثة أضرب فعل كضرب وفعل كمكث وفعل كعلم وأما الرباعية فليس لها إلا وزن واحد وهو فعلل نحو دحرج وسرهف فكان يؤدي إلى أن يبطل عملها فوجب أن يحكم بزيادتها لتكون على وزن الفعل كسائر أخواتها فصارت بمنزلة زيادة لا والكاف في لكن عندكم فإنه إذا جاز أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكن وهما حرفان وأحدهما ليس من حروف الزيادة فلأن يجوز أن يحكم هاهنا بزيادة اللام وهي حرف من حروف الزيادة كان ذلك طريق الأولى
والصحيح في هذه المسألة ما ذهب إليه الكوفيون
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قولهم إنا وجدناهم يستعملونها كثيرا في كلامهم بغير لام بدليل ما أنشدوه من الأبيات قلنا إنما حذفت اللام من لعل كثيرا في أشعارهم لكثرتها في استعمالهم ولهذا تلعبت العرب بهذه الكلمة فقالوا لعل ولعلن ولعن بالعين غير معجمة قال الشاعر (1/224)
( حتى يقول الجاهل المنطق ... لعن هذا معه معلق )
ولغن بالغين معجمة وأنشدوا
( ألا يا صاحبي قفا لغنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام )
ورعن وعن وغن ولغل وغل فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام لكثرة الاستعمال
وكان حذف اللام أولى من العين وإن كان أبعد من الطرف لأنه لو حذف العين لأدى ذلك إلى اجتماع ثلاث لا مات فيؤدي ذلك إلى الاستثقال لأجل اجتماع الأمثال أو لأن اللام تكون في موضع ما من (1/225)
حروف الزيادة وليس العين كذلك والذي يدل على اعتبار ذلك انهم جوزوا في تكسير فرزدق وتصغيره فرازق وفريزق بحذف الدال ولم يجوزوا في تكسير جحمرش وتصغيره جحامش وجحيمش بحذف الراء لأن الدال تشبه حروف الزيادة لمجاورتها التاء ومجيئها بدلا منها في مزدان ومزدجر بخلاف الراء فإنها ليست كذلك وإذا اعتبروا ذلك فيما يقرب من حروف الزيادة وليس منها فلأن يعتبروه فيما هو من حروف الزيادة في الجملة كان ذلك من طريق الأولى فلهذا كان حذف اللام الأولى أولى
وأما قولهم إنا لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دل على أنها زائدة كاللام في زيدل وعبدل وأولالك قلنا إنما يعتبر هذا فيما يجوز أن تدخل فيه حروف الزيادة فأما الحروف فلا يجوز أن تدخل عليها حروف الزيادة على ما بينا
وأما قولهم إن هذه الأحرف إنما عملت لشبه الفعل في لفظه قلنا لا نسلم أنها عملت لشبه الفعل في لفظه فقط وإنما عملت لأنها أشبهته في اللفظ والمعنى وذلك من عدة وجوه أحدها أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضي الاسم والثاني أن فيها معنى الفعل لأن أن وإن بمعنى أكدت وكأن بمعنى شبهت ولكن بمعنى استدركت وليت بمعنى تمنيت ولعل بمعنى ترجيت والثالث أنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي مبني على الفتح إلى غير ذلك من الوجوه التي تقدم ذكرها قبل وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تبطل بأن لا تكون على وزن من أوزانه وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة على أنه قد ظهر نقصها عن سائر أخواتها لعدم كونها على وزن من أوزان الفعل وأنه لا يجوز أن تدخل عليها نون الوقاية كما يجوز في سائر أخواتها فلا يكاد يقال لعلني كما يقال إنني وكأنني ولكنني وليتني إلا أن يجيء ذلك قليلا كما قال عروة بن الورد (1/226)
( دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل )
وذلك قليل
وأما قولهم إذا جاز لكم أن تحكموا بزيادة لا والكاف في لكن وهما حرفان فلأن يجوز أن يحكم بزيادة اللام وهي حرف واحد كان ذلك من طريق الأولى قلنا هذا فاسد لأنكم لا تقولون بصحة مذهبهم فكيف يجوز لكم أن تقيسوا عليه فإن القياس على الفاسد فاسد وقد بينا فساد ما ذهبوا إليه في زيادة لا والكاف هناك كما بينا فساد زيادة اللام هاهنا وكلاهما قول باطل ليس له حاصل والله أعلم (1/227)
27 - مسألة القول في تقديم معمول اسم الفعل عليه
ذهب الكوفيون إلى أن عليك ودونك وعندك في الإغراء يجوز تقديم معمولاتها عليها نحو زيدا عليك وعمرا عندك وبكرا دونك
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها وإليه ذهب الفراء من الكوفيين
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز تقديم معمولاتها عليها النقل والقياس
أما النقل فقد قال الله تعالى ( كتاب الله عليكم ) والتقدير فيه عليكم كتاب الله أي الزموا كتاب الله فنصب كتاب الله بعليكم فدل على جواز تقديمه
واحتجوا أيضا بالأبيات المشهورة
( يا أيها المائح دلوى دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا )
( يثنون خيرا ويمجدونكا ... ) (1/228)
والتقدير فيه دونك دلوى فدلوى في موضع نصب بدونك فدل على جواز تقديمه
وأما القياس فقالوا أجمعنا على أن هذه الألفاظ قامت مقام الفعل ألا ترى أنك إذا قلت عليك زيدا أي الزم زيدا وإذا قلت عندك عمرا أي تناول عمرا وإذا قلت دونك بكرا أي خذ بكرا ولو قلت زيدا الزم وعمرا تناول وبكرا خذ فقدمت المفعول لكان جائزا فكذلك مع ما قام مقامه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها أن هذه الألفاظ فرع على الفعل في العمل لأنها إنما عملت عمله لقيامها مقامه فينبغي أن لا تتصرف تصرفه فوجب أن لا يجوز تقديم معمولاتها عليها وصار هذا كما نقول في الحال إذا كان العامل فيها غير فعل فإنه لا يجوز تقديمها عليه لعدم تصرفه فكذلك هاهنا إذ لو قلنا إنه يتصرف عملها ويجوز تقديم معمولاتها عليها لأدى ذلك إلى التسوية بين الفرع والأصل وذلك لا يجوز لأن الفروع أبدا تنحط عن درجات الأصول (1/229)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( كتاب الله عليكم ) فليس لهم فيه حجة لأن ( كتاب الله ) ليس منصوبا بعليكم وإنما هو منصوب لأنه مصدر والعامل فيه فعل مقدر والتقدير فيه كتب كتابا الله عليكم وإنما قدر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه كما قال الشاعر
( ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طي المحمل ) (1/230)
فقوله طى المحمل منصوب لأنه مصدر والعامل فيه فعل مقدر والتقدير فيه طوى طي المحمل وإنما قدر ولم يظهر لدليل ما تقدم عليه من قوله ما إن يمس الأرض إلا منكب منه فكذلك هاهنا قدر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من قوله ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم ) فإن فيه دلالة على أن ذلك مكتوب عليهم فلما قدر هذا الفعل ولم يظهر بقي التقدير فيه كتابا الله عليكم ثم أضيف المصدر إلى الفاعل كقوله ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله ) فنصب صنع على المصدر بفعل مقدر وإنما قدر هذا الفعل ولم يظهر لدلالة ما تقدم عليه من الكلام والتقدير فيه صنع صنعا الله وحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل لأنه يضاف إلى الفاعل كما يضاف إلى المفعول وقال الراعي
( دأبت إلى أن ينبت الظل بعدما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح )
( وجيف المطايا ثم قلت لصحبتي ... ولم ينزلوا أبردتم فتروحوا ) (1/331)
فنصب وجيف على المصدر بفعل مقدر على ما تقدم وأضاف المصدر إلى الفاعل وقال لبيد
( حتى تهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم )
كأنه قال طلبا المعقب حقه ثم أضاف المصدر إلى المعقب وهو فاعل بدليل أنه قال المظلوم بالرفع حملا للوصف على الموضع وإضافة المصدر إلى الفاعل أكثر من أن تحصى قال الله تعالى ( ولولا دفع الله الناس ) فأضاف المصدر (1/232)
إلى اسم الله تعالى وهو الفاعل ونحوه قولهم ضربي زيدا قائما وأكثر شربي السويق ملتوتا وقال الشاعر
( فلا تكثرا لومي فإن أخاكما ... بذكراه ليلى العامرية مولع )
فأضاف المصدر إلى الضمير في ذكراه وهو فاعل وقال الآخر
( أفنى تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القواقيز أفواه الأباريق ) (1/233)
فأضاف المصدر إلى القواقيز وهو فاعل فيمن روى أفواه منصوبا ومن روى أفواه بالرفع جعله مضافا إلى المفعول والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا
وأما البيت الذي أنشدوه
( يا أيها المائح دلوي دونكا ... )
فلا حجة لهم فيه من وجهين أحدهما أن قوله دلوى ليس هو في موضع نصب وإنما هو في موضع رفع لأنه خبر مبتدإ مقدر والتقدير فيه هذا دلوى دونكا
والثاني أنا نسلم أنه في موضع نصب ولكنه لا يكون (1/234)
منصوبا بدونك وإنما هو منصوب بتقدير فعل كأنه قال خذ دلوي دونك ودونك مفسر لذلك الفعل المقدر
وأما قولهم إنها قامت مقام الفعل فيجوز تقديم معمولها عليها كالفعل قلنا هذا فاسد وذلك لأن الفعل الذي قامت هذه الألفاظ مقامه يستحق في الأصل أن يعمل النصب وهو متصرف في نفسه فتصرف عمله وأما هذه الألفاظ فلا تستحق في الأصل أن تعمل النصب وإنما أعملت لقيامها مقام الفعل وهي غير متصرفة في نفسها فينبغي أن لا يتصرف عملها فوجب أن لا يجوز تقديم معمولها عليها والله أعلم
28 - مسألة القول في أصل الاشتقاق الفعل هو أو المصدر
ذهب الكوفيون إلى أن المصدر مشتق من الفعل وفرع عليه نحو ضرب ضربا وقام قياما وذهب البصريون إلى أن الفعل مشتق من المصدر وفرع عليه
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن المصدر مشتق من الفعل لأن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتل لاعتلاله ألا ترى أنك تقول قاوم قواما (1/235)
فيصح المصدر لصحة الفعل وتقول قام قياما فيعتل لاعتلاله فلما صح لصحته واعتل لاعتلاله دل على أنه فرع عليه
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن الفعل يعمل في المصدر ألا ترى أنك تقول ضربت ضربا فتنصب ضربا بضربت فوجب أن يكون فرعا له لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول فوجب أن يكون المصدر فرعا على الفعل
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر يذكر تأكيدا للفعل ولا شك أن رتبة المؤكد قبل رتبة المؤكد فدل على أن الفعل أصل والمصدر فرع
والذي يؤيد ذلك أنا نجد أفعالا ولا مصادر لها خصوصا على أصلكم وهي نعم وبئس وعسى وليس وفعل التعجب وحبذا فلو لم يكن المصدر فرعا لا أصلا لما خلا عن هذه الأفعال لاستحالة وجود الفرع من غير أصل
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر فرع على الفعل أن المصدر لا يتصور معناه ما لم يكن فعل فاعل والفاعل وضع له فعل ويفعل فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلا للمصدر
قالوا ولا يجوز أن يقال إن المصدر إنما سمي مصدرا لصدور الفعل عنه كما قالوا للموضع الذي تصدر عنه الإبل مصدرا لصدورها عنه لأنا نقول لا نسلم بل سمى مصدرا لأنه مصدور عن الفعل كما قالوا مركب فاره ومشرب عذب أي مركوب فاره ومشروب عذب والمراد به المفعول لا الموضع فلا تمسك لكم بتسميته مصدرا (1/236)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن المصدر أصل للفعل أن المصدر يدل على زمان مطلق والفعل يدل على زمان معين فكما أن المطلق أصل للمقيد فكذلك المصدر أصل للفعل
وبيان ذلك أنهم لما أرادوا استعمال المصدر وجدوه يشترك في الأزمنة كلها لااختصاص له بزمان دون زمان فلما لم يتعين لهم زمان حدوثه لعدم اختصاصه اشتقوا له من لفظه أمثلة تدل على تعين الأزمنة ولهذا كانت الأفعال ثلاثة ماض وحاضر ومستقبل لأن الأزمنة ثلاثة ليختص كل فعل منها بزمان من الأزمنة الثلاثة فدل على أن المصدر أصل للفعل
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر اسم والاسم يقوم بنفسه ويستغنى عن الفعل وأما الفعل فإنه لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى الاسم وما يستغنى بنفسه ولا يفتقر إلى غيره أولى بأن يكون أصلا مما لا يقوم بنفسه ويفتقر إلى غيره
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على شيئين الحدث والزمان المحصل والمصدر يدل بصيغته على شيء واحد وهو الحدث وكما أن الواحد أصل الاثنين فكذلك المصدر أصل الفعل
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر هو الأصل أن المصدر له مثال واحد نحو الضرب والقتل والفعل له أمثلة مختلفة كما أن الذهب نوع واحد وما ويوجد منه أنواع وصور مختلفة
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر هو الأصل أن الفعل بصيغته يدل على ما يدل عليه المصدر والمصدر لا يدل على ما يدل عليه الفعل ألا ترى أن ضرب يدل على ما يدل عليه الضرب والضرب لا يدل على ما يدل عليه ضرب وإذا كان كذلك دل على أن المصدر أصل والفعل (1/237)
فرع لأن الفرع لا بد أن يكون فيه الأصل وصار هذا كما تقول في الآنية المصوغة من الفضة فإنها تدل على الفضة والفضة لا تدل على الآنية وكما أن الآنية المصوغة من الفضة فرع عليها ومأخوذة منها فكذلك هاهنا الفعل فرع على المصدر ومأخوذ منه
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر ليس مشتقا من الفعل أنه لو كان مشتقا منه لكان يجب أن يجرى على سنن في القياس ولم يختلف كما لم يختلف أسماء الفاعلين والمفعولين فلما اختلف المصدر اختلاف الأجناس كالرجل والثوب والتراب والماء والزيت وسائر الأجناس دل على أنه غير مشتق من الفعل
ومنهم من تمسك بأن قال لو كان المصدر مشتقا من الفعل لوجب أن يدل على ما في الفعل من الحدث والزمان وعلى معنى ثالث كما دلت أسماء الفاعلين والمفعولين على الحدث وذات الفاعل والمفعول به فلما لم يكن المصدر كذلك دل على أنه ليس مشتقا من الفعل
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر ليس مشتقا من الفعل قولهم أكرم إكراما بإثبات الهمزة ولو كان مشتقا من الفعل لوجب أن تحذف منه الهمزة كما حذفت من اسم الفاعل والمفعول نحو مكرم ومكرم لما كانا مشتقين منه فلما لم تحذف هاهنا كما حذفت مما هو مشتق منه دل على أنه ليس بمشتق منه
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أن المصدر هو الأصل تسميته مصدرا فإن المصدر هو الموضع الذي يصدر عنه ولهذا قيل للموضع الذي تصدر عنه الإبل مصدر فلما سمى مصدرا دل على أن الفعل قد صدر عنه وهذا دليل لا بأس (1/238)
به في المسألة وما اعترض به الكوفيون عليه في دليلهم فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتل لاعتلاله قلنا الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه الوجه الأول أن المصدر الذي لا علة فيه ولا زيادة لا يأتي إلا صحيحا نحو ضربته ضربا وما أشبه ذلك وإنما يأتي معتلا ما كانت فيه الزيادة والكلام إنما وقع في أصول المصادر لا في فروعها
الثاني أنا نقول إنما صح لصحته واعتل لاعتلاله طلبا للتشاكل وذلك لا يدل على الأصلية والفرعية وصار هذا كما قالوا يعد والأصل فيه يوعد فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة وقالوا أعد ونعد وتعد والأصل فيها أوعد ونوعد وتوعد فحذفوا الواو وإن لم تقع بين ياء وكسرة حملا على يعد ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من يعد وكذلك قالوا أكرم والأصل فيه أأكرم فحذفوا إحدى الهمزتين استثقالا لاجتماعهما وقالوا نكرم وتكرم ويكرم والأصل فيها نؤكرم وتؤكرم ويؤكرم كما قال الشاعر
( فإنه أهل لأن يؤكرما ... )
فحذفوا الهمزة وإن لم يجتمع فيها همزتان حملا على أكرم ليجرى الباب على سنن واحد ولا يدل ذلك على أنها مشتقة من أكرم فكذلك هاهنا (1/239)
والثالث أنا نقول يجوز أن يكون المصدر أصلا ويحمل على الفعل الذي هو فرع كما بنينا الفعل المضارع في فعل جماعة النسوة نحو يضربن حملا على ضربن وهو فرع لأن الفعل المستقبل قبل الماضي وكما قال الفراء إنما بنى الفعل الماضي على الفتح في فعل الواحد لأنه يفتح في الأثنين ولا شك أن الواحد أصل للاثنين فإذا جاز لكم أن تحملوا الأصل على الفرع هناك جاز لنا أن نحمل الأصل على الفرع هاهنا
وأما قولهم إن الفعل يعمل في المصدر فيجب أن يكون أصلا قلنا كونه عاملا فيه لا يدل على أنه أصل له وذلك من وجهين
أحدهما أنا أجمعنا على أن الحروف والأفعال تعمل في الأسماء ولا خلاف أن الحروف والأفعال ليست أصلا للأسماء فكذلك هاهنا
والثاني أن معنى قولنا ضرب ضربا أي أوقع ضربا كقولك ضرب زيدا في كونهما مفعولين وإذا كان المعنى أوقع ضربا فلا شك أن الضرب معقول قبل إيقاعه مقصود إليه ولهذا يصح ان يؤمر به فيقال أضرب وما أشبه ذلك فإذا ثبت أنه معقول قبل إيقاعك معلوم قبل فعلك دل على أنه قبل الفعل
وأما قولهم إن المصدر يذكر تأكيدا للفعل ورتبة المؤكد قبل رتبة المؤكد قلنا وهذا أيضا لا يدل على الأصالة والفرعية ألا ترى أنك إذا قلت جاءني زيد زيد ورأيت زيدا زيدا ومررت بزيد زيد فإن زيدا الثاني يكون توكيدا للأول في هذه المواضع كلها وليس مشتقا من الأول ولا فرعا عليه فكذلك هاهنا
وأما قولهم إنا نجد أفعالا ولا مصادر لها قلنا خلو تلك الأفعال التي ذكرتموها عن استعمال المصدر لا يخرج بذلك عن كونه أصلا وأن الفعل (1/240)
فرع عليه لأنه قد يستعمل الفرع وإن لم يستعمل الأصل ولا يخرج الأصل بذلك عن كونه أصلا ولا االفرع عن كونه فرعا ألا ترى أنهم قالوا طير عباديد أي متفرقة فاستعملوا لفظ الجمع الذي هو فرع وإن لم يستعملوا لفظ الواحد الذي هو الأصل ولم يخرج بذلك الواحد أن يكون أصلا للجمع وكذلك أيضا قالوا طيرا أبابيل قال الله تعالى ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) أي جماعات في تفرقة وهو جمع لا واحد له في قول الأكثرين وزعم بعضهم أن واحده إبول وزعم بعضهم أن واحده إبيل وكلاهما مخالف لقول الأكثرين والظاهر أنهم جلعوا واحده إبولا وإبيلا قياسا وحملا لااستعمالا ونقلا والخلاف إنما وقع في استعمالهم لا في قياس كلامهم
ثم نقول ماذكرتموه معارض بالمصادر التي لم تستعمل أفعالها نحو ويله وويحه وويهه وويبه وويسه وأهلا وسهلا ومرحبا وسقيا ورعيا وأفة وتفة وتعسا ونكسا وبؤسا وبعدا وسحقا وجوعا ونوعا وجدعا وعقرا وخيبة ودفرا وتبا وبهرا
قال ابن ميادة
( تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجارية بهرا لهم بعدها بهرا ) (1/241)
فإن هذه كلها مصادر لم تستعمل أفعالها فإن زعمتم أن ما ذكرتموه من خلو الفعل عن المصدر يصلح أن يكون دليلا لكون الفعل أصلا فليس بأولى مما ذكرناه من خلو المصدر عن الفعل في كون المصدر أصلا فتتحقق المعارضة فيسقط الاستدلال
وأما قولهم إن المصدر لا يتصور ما لم يكن فعل فاعل والفعل وضع له فعل ويفعل قلنا هذا باطل لأن الفعل في الحقيقة ما يدل عليه المصدر نحو الضرب والقتل ومانسميه فعلا من فعل ويفعل إنما هو إخبار بوقوع ذلك الفعل في زمان (1/242)
معين ومن المحال الإخبار بوقوع شيء قبل تسميته لأنه لو جاز أن يقال ضرب زيد قبل أن يوضع الاسم للضرب لكان بمنزلة قولك أخبرك بما لا تعرف وذلك محال والذي يدل على صحة ما ذكرناه تسميته مصدرا قولهم إن المراد به المفعول لا الموضع كقولهم مركب فاره ومشرب عذب أي مركوب فاره ومشروب عذب قلنا هذا باطل من وجهين أحدهما أن الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز العدول بها عنه والظاهر يوجب أن يكون المصدر للموضع لا للمفعول فوجب حمله عليه
والثاني أن قولهم مركب فاره ومشرب عذب يجوز أن يكون المراد به موضع الركوب وموضع الشرب ونسب إليه الفراهة والعذوبة للمجاورة كما يقال جرى النهر والنهر لا يجرى وإنما يجري الماء فيه قال الله تعالى ( تجرى من تحتها الأنها ر ) فأضاف الفعل إليها وإن كان الماء هو الذي يجري فيها لما بينا من المجاورة ومنه قولهم بلد آمن ومكان آمن فأضافوا الأمن إليه مجازا لأنه يكون فيه قال الله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ) وقال تعالى ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) فأضاف الآمن إليه لأنه يكون فيه ومنه قوله تعالى ( بل مكر الليل والنهار ) فأضاف المكر إلى الليل والنهار لأنه يقع فيهما ومنه قولهم ليل نائم فأضافوا النوم الى الليل لكونه فيه قال الشاعر
( لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطى بنائم ) (1/243)
أي بمنوم فيه ومنه قولهم يوم فاجر فأضافوا الفجور إليه لأنه يقع فيه قال الشاعر
( ولما رأيت الخيل تترى أثائجا ... علمت بأن اليوم أحمس فاجر )
أي مفجور فيه والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن تحصى فدل على أن المراد بقولهم مركب فاره ومشرب عذب (1/244)
موضع الركوب وموضع الشرب وأضيف إليه الفراهة والعذوبة للمجاورة على ما بينا
وقد أفردنا في هذه المسألة جزءا استوفينا فيه القول واستقصينا فيه الكلام والله أعلم
29م - سألة القول في عامل النصب في الظرف الواقع خبرا
ذهب الكوفيون إلى أن الظرف ينتصب على الخلاف إذا وقع خبرا للمبتدأ نحو زيد أمامك وعمرو وراءك وما أشبه ذلك
وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الكوفيين إلى أنه ينتصب لأن الأصل في قولك أمامك زيد حل أمامك فحذف الفعل وهو غير مطلوب واكتفى بالظرف منه فبقي منصوبا على ما كان عليه مع الفعل
وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بفعل مقدر والتقدير فيه زيد استقر أمامك وعمرو استقر وراءك
وذهب بعضهم إلى أنه ينتصب بتقدير اسم فاعل والتقدير زيد مستقر أمامك وعمرو مستقر وراءك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه ينتصب بالخلاف وذلك لأن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ ألا ترى أنك إذا قلت زيد قائم وعمرو منطلق كان قائم في المعنى هو زيد ومنطلق في المعنى هو عمرو فإذا قلت زيد أمامك وعمرو وراءك لم يكن أمامك في المعنى هو زيد ولا وراءك في المعنى هو عمرو كما كان قائم في (1/245)
المعنى هو زيد ومنطلق في المعنى هو عمرو فلما كان مخالفا له نصب على الخلاف ليفرقوا بينهما
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يتتصب بعامل مقدر وذلك لأن الأصل في قولك زيد أمامك وعمرو وراءك في أمامك وفي ورائك لأن الظرف كل اسم من أسماء الأمكنة أو الأزمنة يراد فيه معنى في وفي حرف جر وحروف الجر لا بد لها من شيء تتعلق به لأنها دخلت رابطة تربط الأسماء بالأفعال كقولك عجبت من زيد ونظرت إلى عمرو ولو قلت من زيد أو إلى عمرو لم يجز حتى تقدر لحرف الجر شيئا يتعلق به فدل على أن التقدير في قولك زيد أمامك وعمرو وراءك زيد استقر في أمامك وعمرو استقر في ورائك ثم حذف الحرف فاتصل الفعل بالظرف فنصبه فالفعل الذي هو استقر مقدر مع الظرف كما هو مقدر مع الحرف
وأما من ذهب من البصريين إلى أن الظرف ينتصب بتقدير اسم الفاعل وهو مستقر قال لأن تقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل لأن اسم الفاعل اسم يجوز أن يتعلق به حرف الجر والاسم هو الأصل والفعل فرع فلما وجب تقدير أحدهما كان تقدير الأصل أولى من تقدير الفرع
والصحيح عندي هو الأول وذلك لأن اسم الفاعل فرع على الفعل في العمل وإن كان هو الأصل في غير العمل فلما وجب هاهنا تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل وهو الفعل أولى من تقدير ما هو الفرع فيه وهو اسم الفاعل (1/246)
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنا وجدنا الظرف يكون صلة للذي نحو رأيت الذي أمامك والذي وراءك وما أشبه ذلك والصلة لا تكون إلا جملة فلو كان المقدر اسم الفاعل الذي هو مستقر لكان مفردا لأن اسم الفاعل مع الضمير لا يكون جملة وإنما يكون مفردا والمفرد لا يكون صلة البتة فوجب أن يكون المقدر الفعل الذي هو استقر لأن الفعل مع الضمير يكون جملة فدل على ما بيناه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن خبر المبتدأ في المعنى هو المبتدأ وإذا قلت زيد أمامك وعمرو وراءك فأمامك ليس هو زيد ووراءك ليس هو عمرو فلما كان مخالفا له وجب أن يكون منصوبا على الخلاف قلنا هذا فاسد وذلك لأنه لو كان الموجب لنصب الظرف كونه مخالفا للمبتدأ لكان المبتدأ أيضا يجب أن يكون منصوبا لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدا لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من واحد وإنما يكون من اثنين فصاعدا فكان ينبغي أن يقال زيدا أمامك وعمرا وراءك وما أشبه ذلك فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه
وأما قول أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب إنه ينتصب بفعل محذوف غير مقدر إلى آخر ما قرر ففاسد أيضا وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون منصوبا بفعل معدوم من كل وجه لفظا وتقديرا والفعل لا يخلو أما أن يكون مظهرا موجودا أو مقدرا في حكم الموجود فأما إذا لم يكن مظهرا موجودا ولا مقدرا في حكم الموجود كان معدوما من كل وجه والمعدوم لا يكون عاملا وكما يستحيل في الحسيات الفعل باستطاعة معدومة والمشي برجل معدوم والقطع بسيف معدوم والإحراق بنار معدومة فكذلك يستحيل في هذه الصناعة النصب بعامل معدوم لأن العلل النحوية مشبهة بالعلل الحسية
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه أنه لا نظير له في العربية ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية فكان فاسدا
والله أعلم (1/247)
30 - مسألة القول في عامل النصب في المفعول معه
ذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف وذلك نحو قولهم استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة
وذهب البصريون إلى أنه منصوب بالفعل الذي قبله بتوسط الواو
وذهب أبو إسحاق الزجاج من البصريين إلى أنه منصوب بتقدير عامل والتقدير ولا بس الخشبة وما أشبه ذلك لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو
وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن ما بعد الواو ينتصب بانتصاب مع في نحو جئت معه
أماالكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه منصوب على الخلاف وذلك لأنه إذا قال استوى الماء والخشبة لا يحسن تكرير الفعل فيقال استوى الماء واستوت الخشبة لأن الخشبة لم تكن معوجة فتستوى فلمالم يحسن تكرير الفعل كما يحسن في جاء زيد وعمرو فقد خالف الثاني الأول فانتصب على الخلاف كما بينا في الظرف نحو زيد خلفك وما أشبه ذلك
والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يعمل فيه أن نحو استوى وجاء فعل لازم والفعل اللازم لا يجوز أن ينصب هذا النوع من الأسماء فدل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان في الأصل غير متعد إلا أنه قوي بالواو فتعدى إلى الاسم فنصبه (1/248)
كما عدى بالهمزة في نحو أخرجت زيدا وكما عدى بالتضعيف نحو خرجت المتاع وكما عدى بحرف الجر نحو خرجت به إلا أن الواو لا تعمل لأن الواو في الأصل حرف عطف وحرف العطف لا يعمل وفيه معنيان العطف ومعنى الجمع فلما وضعت موضع مع خلعت عنها دلالة العطف وأخلصت للجمع كما أن فاء العطف فيها معنيان العطف والإتباع فإذا وقعت في جواب الشرط خلعت عنها دلالة العطف وأخلصت للاتباع وكذلك همزة الخطاب في هاء يا رجل فإنها إذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب لأنه يصير بعدها في الكاف ونظير ما نحن فيه من كل وجه نصبهم الاسم في باب الاستثناء بالفعل المتقدم بتقوية إلا فكذلك هاهنا المفعول معه منصوب بالفعل المتقدم بتقوية الواو على ما بينا وهذا هو المعتمد عند البصريين
وأما ما ذهب إليه الزجاج من أنه منصوب بتقدير عامل والتقدير ولابس الخشبة لأن الفعل لا يعمل في المفعول وبينهما الواو
قلنا هذا باطل لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتعلق به فإن كان يفتقر إلى توسط حرف عمل مع وجوده وإن كان لا يفتقر إلى ذلك عمل مع عدمه وقد بينا أن الفعل قد تعلق بالمفعول معه بتوسط الواو وأنه يفتقر في عمله إليها فينبغي أن يعمل مع وجودها فكيف يجعل ما هو سبب في وجود العمل سببا في عدمه وهل ذلك إلا تعليق على العلة ضد المقتضى ولو كان لما ذهب إليه وجه لكان ما ذهب إليه الأكثرون أولى لأن ما ذهب إلى يفتقر إلى تقدير وما ذهب إليه الأكثرون لا يفتقر إلى تقدير ومالا يفتقر إلى تقدير أولى مما يفتقر إلى تقدير
وأما ما ذهب إليه الأخفش من أنه ينتصب انتصاب مع فضعيف أيضا لأن مع ظرف والمفعول معه في نحو استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة ليس بظرف ولا يجوز أن يجعل منصوبا على الظرف (1/249)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه منصوب على الخلاف لأنه لأنه لا يحسن تكرير الفعل فخالف الثاني الأول فانتصب على الخلاف قلنا هذا باطل بالعطف الذي يخالف بين المعنيين نحو قولك ما قام زيد لكن عمرو وما مررت بزيد لكن بكر وما بعد لكن يخالف ما قبلها وليس بمنصوب فإن لكن يلزم أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها على كل حال سواء لزمت العطف في النفي عندنا أو جاز بها العطف في الإيجاب عندكم فلو كان كما زعمتم لوجب أن لا يكون ما بعدها إلا منصوبا لمخالفته الأول وإذا كان الخلاف ليس موجبا للنصب مع لكن وهو حرف لا يكون ما بعده إلا مخالفا لما قبله فلأن لا يكون موجبا للنصب مع الواو التي لا يجب أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها كان ذلك من طريق الأولى وكذلك أيضا يبطل بلا في قولك قام زيد لا عمرو ومررت بزيد لا عمرو وما بعد لا ما قبلها كلكن وليس بمنصوب فدل على أن الخلاف لا يكون موجبا للنصب
وقولهم إن الفعل المتقدم لازم فلا يجوز أن يعمل في المفعول معه قلنا إلا أنه تعدى بتقوية الواو فخرج عن كونه لازما على مابينا فلا نعيده هاهنا والله أعلم
31 - مسألة القول في تقديم الحال على الفعل العامل فيها
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر نحو راكبا جاء زيد ويجوز مع المضمر نحو راكبا (1/250)
جئت وذهب البصريون إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها مع الاسم الظاهر والمضمر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا لا يجوز تقديم الحال على العامل فيها وذلك لأنه يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر ألا ترى أنك إذا قلت راكبا جاء زيد كان في راكبا ضمير زيد وقد تقدم عليه وتقديم المضمر على المظهر لا يجوز
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان العامل فعلا نحو راكبا جاء زيد للنقل والقياس أما النقل فقولهم في المثل شتى تؤوب الحلبة فشتى حال مقدمة على الفعل العامل فيها مع الاسم الظاهر فدل على جوازه
وأما القياس فلأن العامل فيها متصرف وإذا كان العامل متصرفا وجب أن يكون عمله متصرفا وإذا كان عمله متصرفا وجب أن يجوز تقديم معموله عليه كقولهم عمرا ضرب زيد فالذي يدل عليه أن الحال تشبه بالمفعول وكما يجوز تقديم المفعول على الفعل فكذلك يجوز تقديم الحال عليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم إنما لم يجز تقديم الحال لأنه يؤدي إلى تقديم المضمر على المظهر قلنا هذا فاسد وذلك لأنه وإن كان مقدما في اللفظ إلا أنه مؤخر في التقدير وإذا كان مؤخرا في التقدير جاز فيه التقديم قال الله تعالى ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) فالضمير في ( نفسه ) عائد إلى ( موسى ) وإن كان مؤخرا في اللفظ إلا أنه لما كان في التقدير التأخير جاز التقديم قال زهير
( من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا )
فالهاء في علاته تعود إلى هرم لأنه في تقدير التقديم لأن التقدير (1/251)
من يلق يوما هرما على علاته فلما كان هرما في تقدير التقديم والضمير في تقدير التأخير وجب أن يكون جائزا ومن كلامهم في أكفانه لف الميت ومن أمثالهم في بيته يؤتى الحكم وتزعم العرب أن أرنبا وجدت تمرة فاختلسها ثعلب منها فاختصما إلى ضب فقالت الأرنب يا أبا الحسيل قال الضب سميعا دعوتما قالت أتيناك لتحكم بيننا قال عادلا حكمتما قالت فاخرج إلينا قال في بيته يؤتى الحكم فالضمير في بيته يعود إلى الحكم وقد تقدم عليه
وهذا كثير في كلامهم وقد بينا ذلك مستقصى في جواز تقديم خبر المبتدأ عليه بما يغنى عن الإعادة هاهنا والله أعلم
32 - مسألة هل يقع الفعل الماضي حالا
ذهب الكوفيون إلى أن الفعل الماضي يجوز أن يقع حالا وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقع حالا وأجمعوا على أنه إذا كانت معه قد أو كان وصفا لمحذوف فإنه يجوز أن يقع حالا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز أن يقع الفعل الماضي حالا النقل والقياس
أما النقل فقد قال الله ( أو جاؤكم حصرت صدورهم ) فحصرت فعل ماض وهو في موضع الحال وتقديره حصرة صدورهم والدليل (1/252)
على صحة هذا التقدير قراءة من قرأ
( أو جاؤكم حصرة صدورهم ) وهي قراءة الحسن البصري ويعقوب الحضرمي والمفضل عن عاصم و قال أبو صخر الهذلي
( وإني لتعروني لذكراك نفضة ... كما انتفض العصفور بلله القطر )
فبلله فعل ماض وهو في موضع الحال فدل على جوازه
وأما القياس فلأن كل ما جاز أن يكون صفة للنكرة نحو مررت برجل قاعد وغلام قائم جاز أن يكون حالا للمعرفة نحو مررت بالرجل قاعدا وبالغلام قائما والفعل الماضي يجوز أن يكون صفة للنكرة نحو مررت بالرجل قعد وبالغلام قام وما أشبه ذلك (1/253)
والذي يدل على ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن يقام الفعل الماضي مقام الفعل المستقبل كما قال تعالى ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ) أي يقول وإذا جاز أن يقام الماضي مقام المستقبل جاز أن يقام مقام الحال
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقع حالا وذلك لوجهين أحدهما أن الفعل الماضي لا يدل على الحال فينبغي أن لا يقوم مقامه والوجه الثاني أنه إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال فيه الآن أو الساعة نحو مررت بزيد يضرب ونظرت إلى عمرو يكتب لأنه يحسن أن يقترن به الآن أو الساعة وهذا لا يصلح في الماضي فينبغي أن لا يكون حالا ولهذا لم يجز أن يقال ما زال زيد قام وليس زيد قام لأن ما زال وليس يطلبان الحال وقام فعل ماض فلو جاز أن يقع حالا لوجب أن يكون هذا جائزا فلما لم يجز دل على أن الفعل الماضي لا يجوز أن يقع حالا وكذلك لو قلت زيد خلفك قام لم يجز أن يجعل قام في موضع الحال لما بينا ولا يلزم على كلامنا إذا كان مع الماضي قد حيث يجوز أن يكون حالا نحو مررت بزيد قد قام وذلك لأن قد تقرب الماضي من الحال فجاز أن يقع معها حالا ولهذا يجوز أن يقترن به الآن أو الساعة فيقال قد قام الآن أو الساعة فدل على ما قلناه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( أو جاءوكم حصرت صدورهم ) فلا حجة لهم فيه وذلك من أربعة أوجه الوجه الأول أن تكون صفة لقوم المجرور في أول الآية وهو قوله تعالى ( إلا الذين يصلون إلى قوم ) والوجه الثاني أن تكون صفة لقوم مقدر ويكون التقدير فيه أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع
والوجه الثالث أن يكون خبرا بعد خبر كأنه قال (1/254)
أو جاءوكم ثم أخبر فقال حصرت صدورهم
والوجه الرابع أن يكون محمولا على الدعاء لا على الحال كأنه قال ضيق الله صدورهم كما يقال جاءني فلان وسع الله رزقه وأحسن إلي غفر الله له وسرق قطع الله يده وما أشبه ذلك فاللفظ في ذلك كله لفظ الماضي ومعناه الدعاء وهذا كثير في كلامهم قال الشاعر
( ألا يا سيالات الدحائل بالضحى ... عليكن من بين السيال سلام )
( ولا زال منهل الربيع إذا جرى ... عليكن منه وابل ورهام )
فأتى بالفعل الماضي ومعناه الدعاء وقال قيس بن ذريح
( ألا يا غراب البين قد هجت لوعة ... فويحك خبرني بما أنت تصرخ ) (1/255)
( أبالبين لبنى فإن كنت صادقا ... فلا زال عظم من جناحك يفضخ )
( ولا زلت من عذب المياه منفرا ... ووكرك مهدوم وبيضك مشدخ )
( ولا زال رام قد أصابك سهمه ... فلا أنت في أمن ولا أنت تفرخ )
( وأبصرت قبل الموت لحمك منضجا ... على حر جمر النار يشوى ويطبخ )
وقال معدان بن جواس الكندي
( إن كان ما بلغت عنى فلامني ... صديقي وشلت من يدي الأنامل )
( وكفنت وحدي منذرا في ردائه ... وصادف حوطا من أعادي قاتل ) (1/256)
فأتى بالفعل الماضي في هذه المواضع ومعناه الدعاء فكذلك قوله تعالى ( حصرت صدورهم ) لفظه لفظ الماضي ومعناه الدعاء ومعناه من الله تعالى إيجاب ذلك عليهم وأما قول الشاعر
( كما انتفض العصفور بلله القطر ... )
فإنما جاز ذلك لأن التقدير فيه قد بلله القطر إلا أنه حذف لضرورة الشعر فلما كانت قد مقدرة تنزلت منزلة الملفوظ بها ولا خلاف أنه إذا كان مع الفعل الماضي قد فإنه يجوز أن يقع حالا
وأما قولهم إنه يصلح أن يكون صفة للنكرة فصلح أن يقع حالا نحو قاعد وقائم قلنا هذا فاسد لأنه إنما جاز أن يقع نحو قاعد وقائم حالا لأنه اسم فاعل واسم الفاعل يراد به الحال بخلاف الفعل الماضي فإنه لا يراد به الحال فلم يجز أن يقع حالا
وأما قولهم إنه يجوز أن يقوم الماضي مقام المستقبل وإذا جاز أن يقوم مقام المستقبل جاز أن يقوم مقام الحال قلنا هذا لا يستقيم وذلك لأن الماضي إنما يقوم مقام المستقبل في بعض المواضع على خلاف الأصل بدليل يدل عليه كقوله تعالى
( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ) فلا يجوز فيما عداه لأنا بقينا فيه على الأصل كما أنه يجوز أن يقع الماضي في بعض (1/257)
المواضع حالا لدليل يدل عليه وذلك إذا دخلت عليه قد أو كان وصفا لمحذوف ولم يجز فيما عداه لأنا بقينا فيه على الأصل
على أنا نقول ليس من ضرورة أن يجوز أن يقام الماضي مقام المستقبل ينبغي أن يقام مقام الحال لأن المستقبل فعل كما أن الماضي فعل فجنس الفعلية مشتمل عليهما وأما الحال فهي اسم وليس من ضرورة أن يقام الفعل مقام الفعل يجب أن يقوم مقام الاسم
والله أعلم
33 - مسألة ما يجوز من وجوه الإعراب في الصفة الصالحة للخبرية إذا وجد معها ظف مكرر
ذهب الكوفيون إلى أن النصب واجب في الصفة إذا كرر الظرف التام وهو خبر المبتدإ وذلك نحو قولك في الدار زيد قائما فيها
وذهب البصريون إلى أن النصب لا يجب إذا كرر الظرف وهو خبر المبتدأ بل يجوز فيه الرفع كما يجوز فيه النصب وأجمعوا على أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن النصب واجب النقل والقياس
أما النقل فقد قال الله تعالى ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ) فقوله تعالى ( خالدين ) منصوب بالحال ولا يجوز غيره
وقال تعالى ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ) ووجه الدليل من هاتين الآيتين أن القراء أجمعوا فيهما على النصب ولم يرو عن أحد منهم أنه قرأ في واحدة منهما بالرفع
وأما القياس فقالوا إنما قلنا إنه لا يجوز إلا النصب وذلك لأن الفائدة في الظرف الثاني في قولك في الدار زيد قائما فيها إنما تحصل إذا حملناه (1/258)
على النصب لا إذا حملناه على الرفع ألا ترى أنه إذا حملناه على النصب يكون الظرف الأول خبرا للمبتدأ ويكون الثاني ظرفا للحال ويكون الصلة لقائم منقطعا عما قبله فيكون على هذا كلاما مستقيما لم يلغ منه شيء بخلاف ما إذا حملناه على الرفع فقلنا في الدار زيد قائم فيها فإنه تبطل فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة وحمل الكلام على ما فيه فائدة أشبه بالحكمة من حمله على ما ليس فيه فائدة
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الرفع جائز أنا أجمعنا على أنه إذا لم يكرر الظرف أنه يجوز فيه الرفع والنصب فكذلك إذا كرر لأن قصارى ما نقدر أن يكون مانعا تكرر الظرف لأن في الأولى تفيد ما تفيده الثانية وهذا لا يصلح أن يكون مانعا لأن الأولى وإن كانت تفيد ما تفيده الثانية إلا أن الثانية تذكر على سبيل التوكيد والتوكيد شائع في كلام العرب مستعمل في لغتهم وهذا لا خلاف فيه وصار هذا كقولهم فيك زيد راغب فيك ولا شك أن فيك الأولى تفيد ما تفيده الثانية ومع هذا لم يمتنع صحة المسألة فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ) وقوله تعالى ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ) فلا حجة لهم في هاتين الآيتين إذ ليس فيهما ما يدل على أنه لا يجوز الرفع وانما فيهما دلالة على جواز النصب ونحن نقول به
وقولهم إنه لم يرو عن أحد من القراء بالرفع فوجب أنه لا يجوز قلنا لا نسلم فإنه قد روى عن الأعمش أنه قرأ خالدين فيها بالرفع على أن هذا الاستدلال فاسد وذلك لأنه ليس من ضرورة أنه لم يقرأ به أحد من القراء أن لا يكون كلاما جائزا فصيحا
ألا ترى أنه لم يأت في كتاب الله عز و جل ترك عمل ما في المبتدأ والخبر نحو ما زيد قائم وما عمرو (1/259)
ذاهب إلا فيما ليس بمشهور وإن كانت لغة مشهورة معروفة صحيحة فصيحة وهي لغة بني تميم ثم لم يدل ذلك على أنها ليست فصيحة مشهورة مستعملة فكذلك هاهنا
وأما قولهم إنا لو حملناه على الرفع لأدى ذلك إلى أن تبطل فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها في الفائدة قلنا هذا فاسد وذلك لأنه وإن كانت الأولى تفيد ما تفيده الثانية إلا أن ذلك لا يدل على بطلان فائدة الثانية لأن من مذاهب العرب أن يؤكد اللفظ بتكريره فيقولون لقيت زيدا زيدا وضربت عمرا عمرا فيكون المكرر توكيدا للأول وإن كان الأول قد وقعت به الفائدة وقد قال الله تعالى ( وهم بالآخرة هم كافرون ) فهم الثانية تكرير للتوكيد والتقدير وهم بالآخرة كافرون في أحد الوجهين ومع هذا فلا يقال إنه لا يجوز فكذلك هاهنا ومن تدبر سورة الرحمن و ( قل يا أيها الكافرون ) علم قطعا أن التكرير للتوكيد لا ينكر في كلامهم لما فيه من الفائدة وكثرة ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب وشهرته في استعمالهم تغنى عن الإسهاب والتطويل بالشواهد إذ كان ذلك أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يظهر والله أعلم
34 - مسألة القول في العامل في المستثنى النصب
اختلف مذهب الكوفيين في العامل في المستثنى النصب نحو قام القوم (1/260)
إلا زيدا فذهب بعضهم إلى أن العامل فيه إلا وإليه ذهب أبو العباس محمد ابن يزيد المبرد وأبو إسحاق الزجاج من البصريين وذهب الفراء ومن تابعه من الكوفيين وهو المشهور من مذهبهم إلى أن إلا مركبة من إن ولا ثم خففت إن وأدغمت في لا فنصبوا بها في الإيجاب اعتبارا بأن وعطفوا بها في النفي اعتبارا بلا وحكى عن الكسائي أنه قال إنما نصب المستثنى لأن تأويله قام القوم إلا أن زيدا لم يقم وحكى عنه أيضا أنه قال ينتصب المستثنى لأنه مشبه بالمفعول
وذهب البصريون إلى أن العامل في المستثنى هو الفعل أو معنى الفعل بتوسط إلا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن إلا هي العامل وذلك لأن إلا قامت مقام أستثنى ألا ترى أنك إذا قلت قام القوم إلا زيدا كان المعنى فيه أستثنى زيدا ولو قلت أستثنى زيدا لوجب أن تنصب فكذلك مع ما قام مقامه
والذي يدل على أن الفعل المتقدم لا يجوز أن يكون عاملا في المستثنى النصب أنه فعل لازم
والفعل اللازم لا يجوز أن يعمل في هذا النوع من الأسماء فدل على أن العامل هو إلا على ما بينا
والذي يدل أيضا على أن الفعل ليس عاملا قولهم القوم إخوانك إلا زيدا فينصبون زيدا وليس هاهنا فعل البتة فدل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما الفراء فتمسك بأن قال إنما قلنا إنه منصوب بإلا لأن الأصل فيها إن ولا فزيد اسم إن ولا كفت من الخبر لأن التأويل إن زيدا لم يقم ثم خففت إن وأدغمت في لا وركبت معها فصارتا حرفا واحدا كما ركبت لو مع لا وجعلا حرفا واحدا فلما ركبوا إن مع لا أعملوها عملين عمل إن فنصبوا (1/261)
بها في الإيجاب وعمل لا فجلعوها عطفا في النفي وصارت بمنزلة حتى فإنها لما شابهت حرفين إلى والواو أجروها في العمل جراها فخفضوا بها بتأويل إلى وجلعوها كالواو في العطف لأن الفعل يحسن بعدها كما يحسن بعد الواو ألا ترى أنك تقول ضربت القوم حتى زيد أي حتى انتهيت إلى زيد وضربت القوم حتى زيدا أي حتى ضريت زيدا فكذلك هاهنا إلا لما ركبت من حرفين أجريت في العمل مجراهما على ما بينا 3وأما البصريون فاحجتوا بأن قالوا إنما قلنا إن العامل هو الفعل وذلك لأن هذا الفعل وإن كان فعلا لازما في الأصل إلا أنه قوي بإلا فتعدى إلى المستثنى كما تعدى الفعل بحرف الجر إلا أن إلا لا تعمل وإن كانت معدية كما يعمل حرف الجر لأن إلا حرف يدخل على الاسم والفعل المضارع نحو ما زيد إلا يقوم وما عمرو إلا يذهب وإن لم يجز دخوله على الفعل الماضي نحو ما زيد إلا قام وما عمرو إلا ذهب والحرف متى دخل على الاسم والفعل لم يعمل في واحد منهما وعدم العمل لا يدل على عدم التعدية ألا ترى أن الهمزة والتضعيف يعديان وليسا عاملين ونظير ما نحن فيه نصبهم الاسم في باب المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة فإن الاسم نصب بالفعل المتقدم بتقوية الواو فإنها قوت الفعل فأوصلته إلى الاسم فنصبه فكذلك هاهنا
وأما لجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن إلا قامت قمام أشتثنى فينبغي أن تعمل عمله قلنا الجواب عن هذا من خمسة أوجه
الوجه الأول أن هذا يؤدي إلى إعمال معاني الحروف وإعمال معاني الحروف لا يجوز ألا ترى أنك تقول ما زيد قائما فيكون صحيحا فلو قلت ما زيد قائما على معنى نفيت زيدا قائما لكان فاسدا فكذلك هاهنا (1/262)
وإنما لم يجز إعمال معاني الحروف لأن الحروف إنما وضعت نائبة عن الأفعال طلبا للايجاز والاختصار فإذا أعملت معاني الحروف فقد رجعت إلى الأفعال فأبطلت ذلك المعنى من الإيجاز والاختصار
والوجه الثاني أنه لو كان العامل إلا بمعنى أستثنى لوجب أن لا يجوز في المستثنى إلا النصب ولا خلاف في جواز الرفع والجر في النفي نحو ما جاءني أحد إلا زيد وما مررت بأحد إلا زيد فدل على أنها ليست هي العاملة بمعنى أستثنى
والوجه الثالث أنه يبطل بقولك قام القوم غير زيد فإن غير منصوب ولا يخلو إما أن يكون منصوبا بتقدير إلا وإما أن يكون منصوبا بنفسه وإما أن يكون منصوبا بالفعل الذي قبله بطل أن يقال إنه منصوب بتقدير إلا لأنا لو قدرنا إلا لفسد المعنى لأنه يصير التقدير فيه قام القوم إلا غير زيد وهذا فاسد وبطل أيضا أن يقال إنه يعمل في نفسه فوجب أن يكون العامل هو الفعل المتقدم وإنما جاز أن يعمل فيه وإن كان لازما لأن غير موضوعة على الإبهام ألا ترى أنك إذا قلت مررت برجل غيرك كان كل من جاوز المخاطب داخلا تحت غير فلما كان فيه هذا الإبهام المفرط أشبه الظروف المبهمة نحو خلف وأمام ووراء وقدام وما أشبه ذلك وكما أن الفعل اللازم يتعدى إلى هذه الظروف من غير واسطة فكذلك هاهنا
والوجه الرابع أنا نقول لماذا قدرتم أستثنى زيدا فنصبتم وهلا قدرتم امتنع فرفعتم كما روى عن أبي على الفارسي أنه كان مع عضد الدولة في الميدان فسأله عضد الدولة عن المستثنى بماذا انتصب فقال له أبو علي انتصب لأن التقدير استثنى زيدا فقال له عضد الدولة وهلا قدرت امتنع فرفعت زيدا فقال له أبو (1/263)
علي هذا الجواب الذي ذكرت لك ميداني وإذا رجعنا ذكرت لك الجواب الصحيح إن شاء الله تعالى
والوجه الخامس أنا إذا أعملنا إلا بمعنى أستثنى كان الكلام جملتين وإذا أعملنا الفعل كان الكلام جملة واحدة ومتى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة كان أولى من جعله جملتين من غير فائدة
وأما قولهم إن الفعل المتقدم لازم فلا يجوز أن يكون عاملا قلنا هذا الفعل وإن كان لازما إلا أنه تعدى بتقوية إلا على مابينا
وأما قولهم والذي يدل على أن الفعل ليس عاملا قولهم القوم إخوانك إلا زيدا فينصبون زيدا وليس هاهنا فعل ناصب قلنا الناصب له ما في إخوانك من معنى الفعل لأن التقدير فيه القوم يصادقونك إلا زيدا فإلا قوت الفعل المقدر فأوصلته إلى زيد فنصبه
وأما قول الفراء إن الأصل فيها إن ولا ثم خففت إن وركبت مع لا فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل ولا يمكن الوقوف عليه ألا بوحي وتنزيل وليس إلى ذلك سبيل ثم لو كان كما زعم لوجب أن لا تعمل لأن إن الثقيلة إذا خففت بطل عملها خصوصا على مذهبكم وأما تشبيهه لها بلولا فحجة عليه لأن لو لما ركبت مع لا بطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد وحدث لهما بالتركيب حكم آخر وكذلك كل حرفين ركب أحدهما مع الآخر فإنه يبطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد ويحدث لهما بالتركيب حكم آخر وصار هذا بمنزلة الأدوية المركبة من أشياء مختلفة فإنه يبطل حكم كل واحد منهما عما كان عليه في حالة الإفراد ويحدث لها بالتركيب حكم آخر وهو لا يقول في إلا كذلك بل يزعم أن كل واحد من الحرفين (1/264)
باق على أصله وعمله بعد التركيب كما كان قبل التركيب
وأما تشبيهه لها بحتى فبعيد لأن حتى حرف واحد وليس بمركب من حرفين فيعمل عمل الحرفين وإنما هو حرف واحد يتأول تأويل حرفين في حالين مختلفين فإن ذهب به مذهب حرف الجر لم يتوهم فيه غيره وإن ذهب به مذهب حرف العطف لم يتوهم فيه غيره بخلاف إلا فإن إلا عنده مركبة من إن ولا وهما منطوق بهما فإذا اعتمد على أحدهما بطل عمل الآخر وهو منطوق به فبان الفرق بينهما
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه قولهم ما قال إلا له فإن له لا شيء قبله يعطف عليه وليس في الكلام منصوب فتكون إلا عاملة فيه فدل على فساد ما ذهب إليه
وأما قول الكسائي إنا نصبنا المستثنى لأن تأويله إلا أن زيدا لم يقم قلنا لا يخلو إما أن يكون الموجب للنصب هو أنه لم يفعل أو أن فإن أراد أن الموجب للنصب أنه لم يفعل فيبطل بقولهم قام زيد لا عمرو وإن أراد أن أن هي الموجبة للنصب كان اسمها وخبرها في تقدير اسم فلا بد أن يقدر له عامل يعمل فيه وفيه وقع الخلاف
وقد زعم بعض النحويين أن قول الكسائي تقدير لمعنى الكلام لا لعامله وإلا فقوله يرجع إلى قول البصريين
وأما ما حكى عنه من أن المستثنى ينتصب لأنه مشبه بالمفعول فهو أيضا قريب من قول البصريين لأنه لا عامل هاهنا يوجب النصب إلا الفعل المتقدم على ما بينا والله أعلم (1/265)
35 - مسألة هل تكون إلا بمعنى الواو
ذهب الكوفيون إلى أن إلا تكون بمعنى الواو
وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لمجيئه كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ) أي ولا الذين ظلموا يعنى والذين ظلموا لا يكون لهم أيضا حجة ويؤيد ذلك ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعض القراء أنه قرأ ( إلى الذين ظلموا ) مخففا يعني مع الذين ظلموا منهم كما قال تعالى ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) أي مع المرافق ومع الكعبين وكما قال تعالى ( من أنصارى إلى الله ) أي مع الله وكما قال تعالى ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) أي مع أموالكم وكقولهم في المثل الذود إلى الذود إبل أي مع الذود وكقول ابن مفرغ
( شدخت غرة السوابق فيهم ... في وجوه إلى اللمام الجعاد ) (1/266)
أي مع اللمام وقال ذو الرمة
( بها كل خوار إلى كل صعلة ... )
أي مع كل صعلة وقال تعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) أي ومن ظلم لا يحب أيضا الجهر بالسوء منه إلى غير ذلك من المواضع
ثم قال الشاعر (1/267)
( وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان )
أي والفرقدان والشواهد على هذا في أشعارهم كثيرة جدا (1/268)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن إلا لا تكون بمعنى الواو لأن إلا للاستثناء والاستثناء يقتضي إخراج الثاني من حكم الأول والواو للجمع والجمع يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ) فلا حجة لهم فيه لأن إلا هاهنا استثناء منقطع والمعنى لكن الذين ظلموا يحتجون عليكم بغير حجة والاستثناء المنقطع كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) معناه لكن يتبعون الظن وقال تعالى ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) معناه لكن يبتغي وجه ربه الأعلى وقال تعالى ( ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) معناه لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر ثم قال النابغة
( وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... أعيت جوبا وما بالربع من أحد )
( إلا الأوارى لأيا ما أبينها ... والنؤى كالحرض بالمظلومة الجلد ) (1/269)
حذف (1/270)
وقال آخر
( وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس )
وعلى ذلك أيضا يحمل ما احتجوا به من قوله تعالى ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) فإن معناه لكن المظلوم يجهر بالسوء لما يلحقه من الظلم فيكون في ذلك أعذر ممن يبدأ بالظلم وعلى ذلك أيضا يحمل قول الشاعر
( وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان ) (1/271)
أراد لكن الفرقدان فإنهما لا يفترقان على زعمهم في بقاء هذه الأشياء المتأخرة إلى وقت الفناء ويحتمل أن تكون إلا في معنى غير ولذلك ارتفع ما بعدها والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه كما قال تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) أي لو كان فيهما آلهة غير الله ولهذا كان ما بعدها مرفوعا ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل لأن البدل في الإثبات غير جائز لأن البدل يوجب إسقاط الأول ولا يجوز أن تكون آلهة في حكم الساقط لأنك لو أسقطته لكان بمنزلة قولك لو كان فيهما إلا الله وذلك لا يجوز ألا ترى أنك لا تقول جاءني إلا زيد لأن الغرض في إلا إذا جاءت قبل تمام الكلام أن تثبت بها ما نفيته نحو ما جاءني إلا زيد وليس في قوله لو كان نفي فيفتقر إلى إثبات ولو جاز أن يقال جاءني إلا زيد على إسقاط إلا مثلا حتى كأنه قيل جاءني زيد وإلا مزيد لاستحال ذلك في الآية لأنه كان يصير قولك لو كان فيهما إلا الله بمنزلة لو كان فيهما الله لفسدتا وذلك مستحيل
وأما قراءة من قرأ ( إلى الذين ظلموا منهم ) بالتخفيف فإن صحت وسلم لكم ما ادعيتموه على أصلكم من أن إلى تكون بمعنى مع فليس لكم فيه أيضا حجة تدل على أن إلا تكون بمعنى الواو لأنه ليس من الشرط أن تكون إحدى القراءتين بمعنى الأخرى وإذا اعتبرتم هذا في القراءات وجدتم الاختلاف في معانيها كثيرا جدا وهذا مما لا خلاف فيه وإذا ثبت هذا فيجوز أن تكون قراءة من قرأ ( إلى الذين ) بالتخفيف بمعنى مع وقراءة من قرأ ( إلا ) بالتشديد بمعنى لكن على مابينا والله أعلم (1/272)
36 - مسألة هل يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام نحو قولك إلا طعامك ما أكل زيد نص عليه الكسائي وإليه ذهب أبو إسحاق الزجاج في بعض المواضع
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على جواز تقديمه أن العرب قد استعملته مقدما قال الشاعر
( خلا أن العتاق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوس ) (1/273)
وقال الآخر
( وبلدة ليس بها طورى ... ولا خلا الجن بها إنسي ) (1/274)
قالوا ولا يجوز أن يقال إن الاستثناء يضارع البدل بدليل قولهم ما قام أحد إلا زيدا وإلا زيد والمعنى واحد فلما جاز البدل لم يجز تقديمه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه لأنا نقول لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز تقديمه على المستثنى منه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم قال الكميت
( فما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب ) (1/275)
فقدم المستثنى على المستثنى منه وقال الآخر
( الناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر )
فقدم المستثنى على المستثنى منه وهذا كثير في كلامهم
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه يؤدي إلى أن يعمل ما بعدها فيما قبلها وذلك لا يجوز لأنها حرف نفي يليها الاسم والفعل كحرف الاستفهام وكما أنه لا يجوز أن يعمل ما بعد حرف الاستفهام فيما قبله فكذلك لا يجوز أن يعمل مابعدها فيما قبلها
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا ذلك لأن الاستثناء يضارع البدل ألا ترى أنك تقول ما جاءني أحد إلا زيد وإلا زيدا والمعنى واحد فلما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمه كما يمتنع تقديم البدل على المبدل منه وما ذكروه على هذا فنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم إن شاء الله تعالى (1/276)
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقول الشاعر
( خلا أن العتاق من المطايا ... )
فنقول لا نسلم هاهنا أن الاستثناء وقع في أول الكلام فإن هذا الشعر لأبي زبيد وقبل هذا
( إلى أن عرسوا وأغب منهم ... قريبا ما يحس له حسيس )
( خلا أن العتاق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوس )
وأما قول الآخر
( وبلدة ليس بها طورى ... ولا خلا الجن بها إنسي )
فتقديره وبلدة ليس بها طورى ولا إنسى خلا الجن فحذف إنسيا فأضمر المستثنى منه وما أظهره تفسير لما أضمره وقيل تقديره ولا بها خلا إنسي الجن ف بها مقدرة بعد لا وتقديم الاستثناء فيه للضرورة فلا يكون فيه حجة
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنه قد ضارع البدل
قولهم لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أنه لا يجوز تقديمه على المستثنى منه كما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه قلنا هذا فاسد لأن المستثنى لما تجاذبه شبهان أحدهما كونه مفعولا والآخر كونه بدلا جعلت له منزلة متوسطة فجاز تقديمه على المستثنى منه ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه عملا بكلا الشبهين على أن من العرب من يجوز البدل مع التقديم فيقول ما جاءني إلا زيد أحد فيرفع على البدل مع تقديمه على المبدل منه لأن هذا التقديم التقدير به التأخير وإن كانت اللغة الفصيحة العالية النصب والله أعلم (1/277)
37 - سألة حاشي في الاستثناء فعل أو حرف أو ذات وجهين
ذهب الكوفيون إلى أن حاشى في الاستثناء فعل ماض وذهب بعضهم إلى أنه فعل استعمل استعمال الأدوات وذهب البصريون إلى أنه حرف جر وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يكون فعلا ويكون حرفا
أما الكوفيون فحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه فعل أنه يتصرف والدليل على أنه يتصرف قول النابغة
( ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... وما أحاشي من الأقوام من أحد ) (1/278)
وإذا كان متصرفا فيجب أن يكون فعلا لأن التصرف من خصائص الأفعال ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه فعل أن لام الخفض تتعلق به قال الله تعالى ( حاش لله ما هذا بشرا ) وحرف الجر إنما يتعلق بالفعل لا بالحرف لأن الحرف لا يتعلق بالحرف وإنما حذفت اللام لكثرة استعماله في الكلام
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه فعل أنه يدخله الحذف والحذف إنما يكون في الفعل لا الحرف ألا ترى أنهم قالوا في حاشى لله حاش لله ولهذا قرأ أكثر القراء ( حاش لله ) بإسقاط الألف وكذلك هو مكتوب في المصاحف فدل على أنه فعل
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه ليس بفعل وأنه حرف أنه لا يجوز دخول ما عليه فلا يقال ما حاشى زيدا كما يقال ما خلا زيدا وما عدا عمرا ولو كان فعلا كما زعموا لجاز أن يقال ما حاشى زيدا فلما لم يقولوا ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه يدل عليه أن الاسم يأتي بعد حاشى مجرورا قال الشاعر
( حاشى أبي ثوبان إن به ... ضنا على الملحاة والشتم ) (1/280)
فلا يخلو إما أن يكون هو العامل للجر أو عامل مقدر بطل أن يقال عامل مقدر لأن عامل الجر لا يعمل مع الحذف فوجب أن يكون هو العامل على ما بينا (1/281)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه يتصرف قلنا لا نسلم وأما قول النابغة
( وما أحاشى من الأقوام من أحد ... )
فنقول قوله أحاشى مأخوذ من لفظ حاشى وليس متصرفا منه كما يقال بسمل وهلل وحمدل وسبحل وحولق إذا قال بسم الله ولا إله إلا الله والحمد لله وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وكذلك يقال لبى إذا قال لبيك وأفف إذا قال أفة وهو اسم للضجرة ودعدع إذا قال لغنمه داع داع وهو تصويت بها وبأبأ الرجل بفلان إذا قال له بأبي أنت كما قال
( وإن تبأبأن وإن تفدين ... ) (1/282)
فكما بنيت هذه الأفعال من هذه الألفاظ وإن كانت لا تتصرف فكذلك هاهنا
وأما قولهم إن لام الجر تتعلق به قلنا لا نسلم فإن اللام في قولهم حاشى لله زائدة لا تتعلق بشيء كقوله تعالى
( للذين هم لربهم يرهبون ) لأن التقدير فيه يرهبون ربهم واللام زائدة لا تتعلق بشيء وكقوله تعالى ( ألم يعلم بأن الله يرى ) أي ألم يعلم أن الله والباء زائدة لا تتعلق بشيء وكقوله تعالى ( اقرأ باسم ربك ) أي اقرأ اسم ربك وكقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) أي ولا تلقوا أيديكم وقوله تعالى ( تنبت بالدهن ) أي تنبت الدهن ويجوز أن تكون هنا معدية لأنه يقال نبت وأنبت لغتان بمعنى واحد وكقولهم بحسبك زيد أي حسبك وكقول الشاعر (1/283)
( نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ... )
أي نرجو الفرج والباء زائدة لا تتعلق بشيء فكذلك هاهنا
وأما قوله تعالى ( وقلن حاش لله ) فليس لهم فيه حجة فإن حاشى هاهنا ليس باستثناء إذ ليس هو موضع استثناء وإنما هو كقولك إذا قيل لك فلان يقتل أو يموت أو نحو ذلك حاشاه وهذا ليس باستثناء وإنما هو بمنزلة قولك بعيدا منه فكذلك هاهنا
وأما قولهم يدخله الحذف والحذف لا يكون في الحرف قلنا الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما أنا لا نسلم أنه قد دخله الحذف فإن الأصل عند بعضهم في حاشى حاش بغير ألف وإنما زيدت فيه الألف
وهذا هو الجواب عن احتجاجهم (1/284)
بقراءة من قرأ ( حاش لله ) ثم نقول إن هذه القراءه قد أنكرها أبو عمرو بن العلاء سيد القراء وقال العرب لا تقول حاش لك ولا حاشك وإنما تقول حاشى لك وحاشاك وكان يقرؤها ( حاشى لله ) بالألف في الوصل ويقف بغير ألف في الوقف متابعة للمصحف لأن الكتابة على الوقف لا على الوصل وكذلك قال عيسى بن عمر الثقفي وكان من الموثوق بعلمهم في العربية العرب كلها تقول حاشى لله بالألف وهذه حجة لأبي عمرو
والوجه الثاني أنا نسلم أن الأصل فيه حاشى بالألف وإنما حذفت لكثرة الاستعمال وقولهم إن الحرف لا يدخله الحذف قلنا لا نسلم بل الحرف يدخله الحذف ألا ترى أنهم قالوا في رب رب بالتخفيف وقد قرىء به قال الله تعالى ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) ثم قال الشاعر
( أزهير إن يشب القذال فإنه ... رب هيضل لجب لففت بهيضل ) (1/285)
وقال الآخر
( ألم تعلمن يا رب أن رب دعوة ... دعوتك فيها مخلصا لو أجابها )
وفي رب أربع لغات ضم الراء وفتحها مع تشديد الباء وتخفيفها نحو رب ورب ورب ورب وكذلك حكيتم عن العرب أنهم قالوا في سوف أفعل سو أفعل بحذف الفاء وحكاه أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه وحكى ابن خالويه فيها أيضا سف أفعل بحذف الواو وزعمتم (1/286)
أيضا أن الأصل في سأفعل سوف أفعل فحذفت الواو والفاء معا وسوف حرف وإذا جوزتم حذف حرفين فكيف تمنعون جواز حذف حرف واحد فدل على فساد ما ذكرتموه والله أعلم
38 - مسألة هل يجوز بناء غير مطلقا
ذهب الكوفيون إلى أن غير يجوز بناؤها على الفتح في كل موضع يحسن فيه إلا سواء أضيفت إلى متمكن أو غير متمكن وذلك نحو قولهم ما نفعني غير قيام زيد وما نفعني غير أن قام زيد
وذهب البصريون إلى أنها يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن بخلاف ما إذا أضيفت إلى متمكن
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا بناءها على الفتح إذا أضيفت إلى اسم متمكن أو غير متمكن وذلك لأن غير هاهنا قامت مقام إلا وإلا حرف استثناء والأسماء إذا قامت مقام الحروف وجب أن تبنى وهذا لا يختلف باختلاف ما يضاف إليه من اسم متمكن كقولك ما نفعني غير قيامك أو غير متمكن كما قال
( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أوقال ) (1/287)
حذف (1/288)
وأماالبصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى غير متمكن ولا يجوز بناؤها إذا أضيفت إلى متمكن وذلك لأن الإضافة إلى غير المتمكن تجوز في المضاف البناء قال تعالى ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) فبنى يوم في قراءة من قرأ بالإضافة والفتح وهي قراءة نافع وأبي جعفر لأنه أضيف إلى إذ وهو اسم غير متمكن وقال الشاعر
( رددنا لشعثاء الرسول ولا أرى ... كيومئذ شيئا ترد رسائله ) (1/289)
فكذلك هاهنا وسبب هذا يستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى وأما الإضافة إلى المتمكن فلا تجوز في المضاف البناء فقلنا إنه باق على أصله في الإعراب فكذلك هاهنا وسنبين هذا مستقصى في الجواب إن شاء الله تعالى
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنها في معنى إلا فينبغي أن تبنى قلنا هذا فاسد وذلك لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال زيد مثل عمرو فيبنى مثل على الفتح لقيامه مقام الكاف لأن قولك زيد مثل عمرو في معنى زيد كعمرو ولما وقع الإجماع على خلاف ذلك دل على فساد ما ادعيتموه
وأما قول الشاعر
( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أوقال )
فنقول لانسلم أنه بنى لأنه قام مقام إلا وإنما بنى غير لأنه أضافه إلى غير متمكن والاسم إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه ولهذا نظائر كثيرة من كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) في قراءة من قرأ ( مثل ) بالفتح وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر (1/290)
وأبي جعفر ويعقوب وإن كان في موضع رفع لأنه اسم مبهم مثل غير أضيف إلى غير متمكن وقال تعالى ( ومن خزى يومئذ ) فيمن قرأ بالفتح وقال تعالى ( من عذاب يومئذ ) فيمن قرأ بالفتح وهي قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر ثم قال الشاعر
( أزمان من يرد الصنيعة يصطنع ... فينا ومن يرد الزهادة يزهد )
فبنى أزمان لإضافته إلى من وهو غير متمكن وقال الآخر
( على حين من تلبث عليه ذنوبه ... يجد فقدها وفي المقام تدابر ) (1/291)
فبنى حين لإضافته إلى من وقال الآخر
( على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما تصح والشيب وازع )
وقال الآخر
( على حين انحنيت وشاب رأسي ... فأى فتى دعوت وأى حين ) (1/292)
وقال الآخر
( يمرون بالدهنا خفافا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب )
( على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب )
وإذا بنى المضاف في هذه الأماكن من كتاب الله تعالى وكلام العرب لإضافته إلى غير متمكن دل على أن قوله غير أن نطقت مبنى لإضافته إلى غير متمكن على ما بينا والله أعلم (1/293)
39 - سألة هل تكون سوى اسما أو تلزم الظرفية
ذهب الكوفيون إلى أن سوى تكون اسما وتكون ظرفا
وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها تكون اسما بمنزلة غير ولا تلزم الظرفية أنهم يدخلون عليها حرف الخفض قال الشاعر
( ولا ينطق المكروه من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا ) (1/294)
فأدخل عليها حرف الخفض وقال الشاعر
( تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا )
فأدخل عليها لام الخفض فدل على أنها لا تلزم الظرفية وقال أبو دؤاد
( وكل من ظن أن الموت مخطئه ... معلل بسواء الحق مكذوب ) (1/295)
وقال الآخر
( أكر على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها )
فسواها في موضع خفض بالعطف على الضمير المخفوض في فيها والتقدير أم في سواها
والذي يدل على ذلك أنه روى عن بعض العرب أنه قال أتاني سواؤك فرفع فدل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنهم ما استعملوه في اختيار الكلام إلا ظرفا نحو قولهم مررت بالذي سواك فوقوعها هنا يدل على ظرفيتها بخلاف غير ونحو قولهم مررت برجل سواك أي مررت برجل مكانك أي يغني غناءك ويسد مسدك وقال لبيد
( وأبذل سوام المال إن ... سواءها دهما وجونا ) (1/296)
فنصب سواءها على الظرف ونصب دهما بإن كقولك إن عندك رجلا قال الله تعالى ( إن لدينا أنكالا ) والجون هاهنا البيض وهو جمع جون وهو من الأضداد يقع على الأبيض والأسود ولو كانت مما يستعمل اسما لكثر ذلك في استعمالهم وفي عدم ذلك دليل على أنها لا تستعمل إلا ظرفا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما أنشدوه من قول الشاعر
( إذا جلسوا منا ولا من سوائنا ... )
وقول الآخر
( وما قصدت من أهلها لسوائكا ... )
فإنما جاز ذلك لضرورة الشعر وعندنا أنه يجوز أن تخرج عن الظرفية في ضرورة الشعر ولم يقع الخلاف في حال الضرورة وإنما فعلوا ذلك واستعملوها اسما بمنزلة غير في حال الضرورة لأنها في معنى غير وليس شيء يضطرون إليه إلا ويحاولون له وجها
وأما قول الآخر
( أفيها كان حتفي أم سواها ... ) (1/297)
فليس سواها في موضع جر بالعطف على الضمير المخفوض في فيها وإنما هو منصوب على الظرف لأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز وإنما هذا شيء تبنونه على أصولكم في جواز العطف على الضمير المخفوض وسنبين فساده مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى
وأما ما رووه عن بعض العرب أنه قال أتاني سواؤك فرواية تفرد بها الفراء عن أبي ثروان وهي رواية شاذة غريبة فلا يكون فيها حجة
والله أعلم
40 - مسألة كم مركبة أو مفردة
ذهب الكوفيون إلى أن كم مركبة وذهب البصريون إلى أنها مفردة موضوعة للعدد
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كم ما زيدت عليها الكاف لأن العرب قد تصل الحرف في أوله وآخره فما وصلته في أوله نحو هذا وهذاك وما وصلته في آخره نحو قوله تعالى ( إما تريني ما يوعدون ) فكذلك هاهنا زادوا الكاف على ما فصارتا جميعا كلمة واحدة وكان الأصل أن يقال في كم مالك كما مالك إلا أنه لما كثرت في كلامهم وجرت على ألسنتهم حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها كما فعلوا في لم فصار كم مالك والمعنى كأى شيء مالك من الأعداد والدليل على ذلك قولهم كأين من رجل رأيت أي كم من رجل رأيت ونظيركم لم فإن الأصل في لم (1/298)
ما زيدت عليها اللام فصارتا جميعا كلمة واحدة وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت ميمها فقالوا لم فعلت كذا قال الشاعر
( يا أبا الأسود لم أسلمتني ... لهموم طارقات وذكر )
وقال الآخر
( يا أسدي لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرمه )
( فما قربت لحمه ولا دمه )
يعني جرو كلب ويقال إن بني أسد كانت تأكله فتعير ذلك
وزيادة الكاف كثيرة قال الله تعالى ( ليس كمثله شيء ) وحكى عن بعض العرب أنه قيل له كيف تصنعون الأقط قال كهين وقال الراجز
( لواحق الأقراب فيها كالمقق ... )
أي المقق وهو الطول (1/299)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها مفردة لأن الأصل هو الإفراد وإنما التركيب فرع ومن تمسك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بالدليل ومن عدل عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل لعدوله عن الأصل واستصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل في كم ما زيدت عليها الكاف قلنا لا نسلم فإن هذا مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى
قولهم إن العرب قد تصل الحرف في أوله نحو هذا فقد قدمنا الجواب عنه فيما سبق (1/300)
وأما قولهم كان الأصل أن يقال في كم مالك كما مالك إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حذفت الألف لكثرة الاستعمال وسكنت الميم كما فعلوا ذلك في لم قلنا لا نسلم أنه يجوز إسكان الميم في لم في اختيار الكلام وإنما يجوز ذلك في الضرورة فلا يكون فيه حجة قال الشاعر
( يا أبا الأسود لم أسلمتني ... )
وكما قال الآخر
( يا أسدي لم أكلته لمه ... )
فسكن لم للضرورة تشبيها لها بما يجىء من الحروف على حرفين الثاني منهما ساكن فلا يكون فيه حجة
ثم لو كان الأمر كما زعمتم وأن كم كلم لوجب أن يجوز فيها الأصل كما يجوز الأصل في لم فيقال كما مالك كما يقال لما فعلت وأن يجوز فيها الفتح مع حذف الألف كما يجوز في لم فيقال كم مالك كما يجوز لم فعلت وأن يجوز فيها هاء الوقف فيقال كمه كما يجوز في لم هاء الوقف فيقال لمه فلما لم يجز ذلك دل على الفرق بينهما
وأما قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) فلا نسلم أن الكاف فيه زائدة لأن مثله هاهنا بمعنى هو فكأنه قال ليس ك هو شيء والمثل يطلق في كلام العرب ويراد به ذات الشيء يقول الرجل منهم مثلي لا يفعل هذا أي أنا لا أفعل هذا ومثلي لا يقبل من مثلك أي أنا لا أقبل منك قال الشاعر
( يا عاذلي دعني من عذلكا ... مثلي لا يقبل من مثلكا ) (1/301)
أي أنا لا أقبل منك
ثم لو قلنا إن الكاف هاهنا زائدة لما امتنع لأن دخول الكاف هاهنا كخروجها ألا ترى أن معنى ليس كمثله شيء ومعنى ليس مثله شيء واحد
وكذلك الكاف في قوله كهين وقول الراجز
( لواحق الأقراب فيها كالمقق ... ) (1/302)
بخلاف الكاف في كم فإن الكاف في كم ليس دخولها كخروجها بل لو قدرنا حذفها من الكلام لاختل معناها ولم تحصل الفائدة بها ألا ترى أن قولك ما مالك لا يفيد ما يفيد قولك كم مالك فدل على الفرق بينهما والله أعلم
مسألة إذا فصل بين كم الخبرية وتمييزها فهل يبقى التمييز مجرورا
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا فصل بين كم في الخبر وبين الاسم بالظرف وحرف الجر كان مخفوضا نحو كم عندك رجل وكم في الدار غلام
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر ويجب أن يكون منصوبا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يكون مخفوضا بدليل النقل والقياس
أما النقل فقد قال الشاعر
( كم بجود مقرف نال العلى ... وشريف بخله قد وضعه ) (1/303)
فخفض مقرف مع الفصل وقال الآخر
( كم في بني بكر بن سعد سيد ... ضخم الدسيعة ماجد نفاع )
وأما القياس فلأن خفض الاسم بعد كم في الخبر بتقدير من لأنك إذا قلت كم رجل أكرمت وكم امرأة أهنت كان التقدير فيه كم من رجل أكرمت وكم من امرأة أهنت بدليل أن المعنى يقتضي هذا التقدير وهذا (1/304)
التقدير مع وجود الفصل بالظرف وحرف الجر كما هو مع عدمه فكما ينبغي أن يكون الاسم مخفوضا مع عدم الفصل فكذلك مع وجوده
قالوا ولا يجوز أن يقال إنها في هذه الحالة بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه لأنا نقول لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها وبين معمولها ألا ترى أنك لو قلت ثلاثون عندك رجلا لم يجز فكذلك كان ينبغي أن يقولوا هاهنا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجر لأن كم هي العاملة فيما بعدها الجر لأنها بمنزلة عدد مضاف إلى ما بعده وإذا فصل بينهما بظرف أو حرف جر بطلت الإضافة لأن الفصل بين الجار والمجرور بالظرف وحرف الجر لا يجوز في اختيار الكلام فعدل إلى النصب لامتناع الفصل بينهما قال الشاعر
( كم نالني منهم فضلا على عدم ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل ) (1/305)
والتقدير كم فضل إلا أنه لما فصل بينهما بنالني منهم نصب فضلا فرارا من الفصل بين الجار والمجرور وقال الآخر
( تؤم سنانا وكم دونه ... من الأرض محدودبا غارها )
والتقدير كم محدودب غارها دونه من الأرض إلا أنه لما فصل بينهما نصب محدودبا وإن لم يقصد الاستفهام لئلا يفصل بين الجار والمجرور وإنما عدل إلى النصب لأن كم تكون بمنزلة عدد ينصب ما بعده ولم يمتنع النصب بالفصل كما امتنع الجر لأن الفصل بين الناصب والمنصوب له نظير في كلام العرب بخلاف الفصل بين الجار والمجرور فإنه ليس له نظير في كلام العرب فكان ما صرنا إليه أولى مما صرتم إليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما احتجوا به من قوله
( كم بجود مقرف نال العلى ... ) (1/306)
فالكلام عليه من وجهين أحدهما أن الرواية الصحيحة مقرف بالرفع بالابتداء وما بعدها الخبر وهو قوله نال العلى
والثاني أن هذا جاء في الشعر شاذا فلا يكون فيه حجة وهذا هو الجواب عن البيت الآخر
وأما قولهم إن خفض الاسم بعد كم بتقدير من والتقدير مع وجود الفصل كما هو مع عدمه قلنا لا نسلم أن جر الاسم بعد كم بتقدير من بل العامل فيه كم لأنها عندنا بمنزلة عدد يضاف إلى ما بعده وعند المحققين من أصحابكم أنها بمنزلة رب فيخفضون بها الاسم الذي بعدها كرب
والذي يدل على فساد ما ذهبتم إليه أن حرف الجر لا يجوز أن يعمل مع الحذف وإنما يجوز أن يعمل حرف الجر مع الحذف في مواضع يسيرة على خلاف الأصل إذا خذف إلى عوض وبدل كرب بعد الواو والفاء وبل على أنكم تزعمون أن حرف الجر غير مقدر بعد هذه الحروف وإنما هي العاملة بطريق النيابة عن حرف الجر لا حرف الجر وقد بينا ذلك مستوفى في موضعه
وقولهم إنها لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين ونحوه لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينها وبين معمولها لأن ثلاثين لا يجوز أن يفصل بينها وبين معمولها قلنا إنما جاز الفصل بين كم ومميزها جوازا حسنا دون ثلاثين ونحوه لأن كم منعت بعض ما لثلاثين من التصرف فجعل هذا عوضا مما منعته ألا ترى أن ثلاثين تكون فاعلة لفظا ومعنى كقولك ذهب ثلاثون وتقع مفعولة في رتبتها كقولك أعطيت ثلاثين ولا يكون ذلك في كم فلما منعت كم بعض ما لثلاثين من التصرف جعل لها ضرب من التصرف لا يكون لثلاثين ليقع التعادل بينهما على أنه قد جاء الفصل بين ثلاثين ومميزها في الشعر قال الشاعر (1/307)
( على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولا كميلا )
( يذكرنيك حنين العجول ... ونوح الحمامة تدعو هديلا ) (1/308)
ففصل بين ثلاثين وبين مميزها بالجار والمجرور وإن كان قليلا لا يقاس عليه والله أعلم
42م - سألة هل تجوز إضافة النيف إلى العشرة
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة النيف إلى العشرة نحو خمسة عشر
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك عنهم في استعمالهم قال الشاعر
( كلف من عنائه وشقوته ... بنت ثماني عشرة من حجته ) (1/309)
ولأن النيف اسم مظهر كغيره من الأسماء المظهرة فجاز إضافته إلى ما بعده كسائر الأسماء المظهرة التي تجوز إضافتها
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأنه قد جعل الاسمان أسما واحدا فكما لا يجوز أن يضاف الاسم الواحد بعضه إلى بعض فكذلك هاهنا
وبيان هذا أن الاسمين لما ركبا دلا على معنى واحد والإضافة تبطل ذلك المعنى ألا ترى أنك إذا قلت قبضت خمسة عشر من غير إضافة دل على أنك قد قبضت خمسة وعشرة وإذا أضفت فقلت قبضت خمسة عشر دل على أنك قد قبضت الخمسة دون العشرة كما لو قلت قبضت مال زيد فإن المال يدخل في القبض دون زيد وكذلك ضربت غلام عمرو فإن الضرب يكون للغلام دون عمرو فلما كانت الإضافة تبطل المعنى المقصود من التركيب وجب أن لا تجوز
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما أنشدوه من قوله
( بنت ثماني عشرة من حجته ... )
فلا يعرف قائله ولا يؤخذ به على أنا نقول إنما صرفه لضرورة الشعر ورده إلى الجر لأن ثماني عشرة لما كانا بمنزلة اسم واحد وقد أضيف إليهما (1/310)
بنت في قوله بنت ثماني عشرة رد الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما لا بإضافة ثماني إلى عشرة وهم إذا صرفوا المبنى للضرورة ردوه إلى الأصل قال الشاعر
( سلام الله يا مطرا عليها ... وليس عليك يا مطر السلام )
وجميع ما يروى من هذا فشاذ لا يقاس عليه (1/311)
وأما قولهم إن النيف اسم مظهر كغيره من الأسماء التي يجوز إضافتها فجاز إضافته كسائر الأسماء المظهرة التي يجوز إضافتها قلنا إلا أنه مركب والتركيب ينافي الإضافة لأن التركيب أن يجعل الاسمان اسما واحدا لا على جهة الإضافة فيدلان على مسمى واحد بخلاف الإضافة فإن المضاف يدل على مسمى والمضاف إليه يدل على مسمى آخر وإذا كان التركيب ينافي الإضافة كما أن الإضافة تنافي التركيب على ما بينا وجب أن لا تجوز إضافة النيف إلى العشرة لاستحالة المعنى والله أعلم
43م - سألة القول في تعريف العدد المركب وتمييزه
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال في خمسة عشر درهما الخمسة العشر درهما والخمسة العشر الدرهم وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إدخال (1/312)
الألف واللام في العشر ولا في الدرهم وأجمعوا على أنه يجوز أن يقال الخمسة عشر درهما بإدخال الألف واللام على الخمسة وحدها
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد صح عن العرب ما يوافق مذهبنا ولا خلاف في صحة ذلك عنهم وقد حكى ذلك أبو عمرو عن أبي الحسن الأخفش عن العرب وإذا صح ذلك النقل وجب المصير إليه واعتمادهم في هذه المسألة على النقل لأن قياسهم فيها ضعيف جدا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز دخول الألف واللام إلا على الاسم الأول لأن الاسمين لما ركب أحدهما مع الآخر تنزلا منزلة اسم واحد وإذا تنزلا منزلة أسم واحد فينبغي أن لا يجمع فيه بين علامتي تعريف وأن يلحق الاسم الأول منهما لأن الثاني يتنزل منزلة بعض حروفه وكذلك عرفت العرب الاسم المركب قال ابن أحمر
( تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا ) (1/313)
فقال الخازباز فأدخل الألف واللام على الاسم الأول ولم يكرره فيقول الخازالباز ولم يحك ذلك عنهم في شعر ولا في كلام والخازباز هاهنا أراد به صوت الذباب ويقال جن الذباب إذا طار وهاج وقيل المراد بالخازباز نبت كما قال الشاعر
( رعيتها أكرم عود عودا ... الصل والصفصل واليعضيدا )
( والخازباز السنم المجودا ... بحيث يدعو عامر مسعودا )
ويقال جن النبات إذا خرج زهره
والخازباز أيضا داء في اللهازم قال الشاعر (1/314)
( يا خازباز أرسل اللهاز ما ... إني أخاف أن تكون لازما )
والخازباز فيما يقال أيضا السنور وفي الخازباز سبع لغات خازباز وخازباز وخازباز وخازباز وخازباء وخازباء مثل نافقاء وخازباز مثل سرداح قال الشاعر
( مثل الكلاب تهر عند درابها ... ورمت لهازمها من الخزباز )
وإنما لم يجز دخول الألف واللام على درهم لأنه منصوب على التمييز والتمييز لا يكون إلا نكرة وإنما وجب أن يكون نكرة لأن الغرض أن يميز المعدود به من غيره وذلك يحصل بالنكرة التي هي الأخف فكانت أولى من المعرفة التي هي الأثقل
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما حكوه عن العرب فلا (1/315)
حجة لهم فيه لقلته في الاستعمال وبعده عن القياس أما قلته في الاستعمال فظاهر لأنه إنما جاء شاذا عن بعض العرب فلا يعتد به لقلته وشذوذه فصار بمنزلة دخول الألف واللام في قول الشاعر
( يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع )
( ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره يالشيحة اليتقصع )
أراد الذي يتقصع فكما لا يجوز أن يقال إن الألف واللام يجوز دخولهما على الفعل لمجيئه هاهنا لقلته وشذوذه فكذلك أيضا لا يجوز أن يحتج بذلك لقلته وشذوذه وكما قال الآخر
( ياليت أم العمرو كانت صاحبي ... مكان من أشتى على الركائب ) (1/316)
أراد أم عمرو
وكما قال الآخر
( باعد أم العمرو من أسيرها ... حراس أبواب على قصورها )
وكما قال آخر
( وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله ) (1/317)
وكما قال الآخر
( أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنسر عندما )
( وما سبح الرهبان في كل بيعة ... أبيل الأبيلين المسيح ابن مريما )
( لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ماهز بالكف صمما ) (1/318)
أراد وبنسر بدليل قوله تعالى ( ويعوق ونسرا ) وكما قال الآخر
( ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر ) (1/319)
أراد بنات أوبر وكما قال الآخر
( وإني حبست اليوم والأمس قبله ... ببابك حتى كادت الشمس تغرب ) (1/320)
أراد وأمس ولهذا تركه على جهته الأولى مكسورا وكما قال الآخر
( فإن اللأولاء يعلمونك منهم ... )
أراد أولاء فكما أن زيادة الألف واللام في هذه المواضع لا تدل (1/321)
على جواز زيادتها في اختيار الكلام فلا يجوز أن يقال في زيد الزيد وفي عمرو العمرو لمجيئه شاذا فكذلك هاهنا وأما بعده عن القياس فقد بيناه في دليلنا والله أعلم
44م - سألة القول في إضافة العدد المركب إلى مثله
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز أن يقال ثالث عشر ثلاثة عشر
وذهب البصريون إلى أنه يجوز أن يقال ثالث عشر ثلاثة عشر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أنه لا يمكن أن يبنى من لفظ ثلاثة عشر فاعل وإنما يمكن أن يبنى من لفظ أحدهما وهو العدد الأول الذي هو الثلاثة ولا يمكن أن يبنى من لفظ العدد الثاني وهو العشر فذكر العشر مع ثالث لا وجه له
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل أن يقال ثالث عشر ثلاثة عشر وقد جاء ذلك عن العرب فإذا ساعده النقل والقياس وهو الأصل وجب أن يكون جائزا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه لا يمكن أن يبنى منهما فاعل وإنما يمكن أن يبنى من أحدهما قلنا هذا هو الحجة عليكم فإنه لما لم يمكن أن يبنى منهما وبنى من أحدهما احتيج إلى ذكر الآخر ليتميز ما هو واحد ثلاثة مما هو واحد ثلاثة عشر فأتى باللفظ كله والله أعلم (1/322)
45 - مسألة المنادى المفرد العلم معرب أو مبنى
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المنادى المعرف المفرد معرب مرفوع بغير تنوين
وذهب الفراء من الكوفيين إلى أنه مبنى على الضم وليس بفاعل ولا مفعول
وذهب البصريون إلى أنه مبنى على الضم وموضعه النصب لأنه مفعول
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنا وجدناه لا معرب له يصحبه من رافع ولا ناصب ولا خافض ووجدناه مفعول المعنى فلم نخفضه لئلا يشبه المضاف ولم ننصبه لئلا يشبه مالا ينصرف فرفعناه بغير تنوين ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيح فرق فأما المضاف فنصبناه لأنا وجدنا أكثر الكلام منصوبا فحملناه على وجه من النصب لأنه أكثر استعمالا من غيره
وأما الفراء فتمسك بأن قال الأصل في النداء أن يقال يا زيداه كالندبة فيكون الاسم بين صوتين مديدين وهما يا في أول الاسم والألف في آخره والاسم فيه ليس بفاعل ولا مفعول ولا مضاف إليه فلما كثر في كلامهم استغنوا بالصوت الأول وهو يا في أوله عن الثاني وهو الألف في آخره فحذفوها وبنوا آخر الاسم على الضم تشبيها بقبل وبعد لأن الألف لما حذفت وهي مرادة معه والاسم كالمضاف إليها إذ كان متعلقا بها أشبه آخره آخر ما حذف منه المضاف إليه وهو مراد معه نحو جئت من قبل ومن بعد أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك (1/323)
قال الله تعالى ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) أي من قبل ذلك ومن بعد ذلك فكذلك هاهنا
قالوا ولا يجوز أن يقال لو كانت الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف إليه لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو واقنسروناه لأنا نقول نحن لا نجوز ندبة الجمع الذي على هجاءين فلا يجوز عندنا ندبة قنسرون بحذف النون ولا إثباتها كما لا يجوز تثنيته ولا جمعه
قالوا ولا يجوز أيضا أن يقال إن هذا يبطل بالمنادى المضاف نحو يا عبد عمرو فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد فكان ينبغي أن يقال يا عبد عمرو بالضم لأن أصله يا عبد عمراه لأنا نقول إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لأجل طوله بخلاف المفرد فبان الفرق بينهما
وأما المضاف فإنما وجب أن يكون مفتوحا لأن الاسم الثاني حل محل ألف الندبة في قولك يا زيداه والدال في يا زيداه مفتوحة فبقيت الفتحة على ما كانت في يا عبد عمرو كما كانت في يا زيداه والمضموم هاهنا بمنزلة المنصوب والمنصوب بمنزلة المندوب ولا يقال إنه نصب بفعل ولا أداة
قال والذي يدل على أن المفرد بمنزلة المضاف امتناع دخول الألف واللام عليه والذي يدل على أنه ليس منصوبا بفعل امتناع الحال أن تقع معه فلا يجوز أن يقال يا زيد راكبا والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملك نعته على النصب نحو يا زيد الظريف كما يحمل نعته على الرفع نحو يا زيد الظريف
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مبنى وإن كان يجب في الأصل أن يكون معربا لأنه أشبه كاف الخطاب وكاف الخطاب مبنية فكذلك ما أشبهها
ووجه الشبه بينهما من ثلاثة أوجه الخطاب والتعريف والإفراد (1/324)
فلما أشبه كاف الخطاب من هذه الأوجه وجب أن يكون مبنيا كما أن كاف الخطاب مبنية
ومنهم من تمسك بأن قال إنما وجب أن يكون مبنيا لأنه وقع موقع اسم الخطاب لأن الأصل في يا زيد أن تقول يا إياك أو يا أنت لأن المنادى لما كان مخاطبا كان ينبغي أن يستغنى عن ذكر اسمه ويؤتى باسم الخطاب فيقال يا إياك أو يا أنت كما قال الشاعر
( يا مر يا ابن واقع يا أنتا ... أنت الذي طلقت عام جعتا )
( حتى إذا اصطبحت واغتبقتا ... أقبلت معتادا لما تركتا )
( قد أحسن الله وقد أسأتا ... ) (1/325)
فلما وقع الاسم المنادى موقع اسم الخطاب وجب أن يكون مبنيا كما أن اسم الخطاب مبنى وإنما وجب أن يكون مبنيا على الضم لوجهين
أحدهما أنه لا يخلو إما أن يبنى على الفتح أو الكسر أو الضم بطل أن يبنى على الفتح لأنه كان يلتبس بما لا ينصرف وبطل أن يبنى على الكسر لأنه كان يلتبس بالمضاف إلى النفس وإذا بطل أن يبنى على الفتح وأن يبنى على الكسر تعين أن يبنى على الضم
والوجه الثاني أنه بنى على الضم فرقا بينه وبين المضاف لأنه إن كان مضافا إلى النفس كان مكسورا وإن كان مضافا إلى غيرك كان منصوبا فبنى على الضم لئلا يلتبس بالمضاف لأنه لا يدخل المضاف
وإنما قلنا إنه في موضع نصب لأنه مفعول لأن التقدير في قولك يا زيد أدعو زيدا أو أنادي زيدا فلما قامت يا مقام أدعو عملت عمله والذي يدل على أنها قامت مقامه من وجهين أحدهما أنها تدخلها الإمالة نحو يا زيد ويا عمرو والإمالة إنما تكون في الاسم والفعل دون الحرف فلما جازت فيها الإمالة دل على أنها قد قامت مقام الفعل والوجه الثاني أن لام الجر تتعلق بها نحو (1/326)
يالزيد ويالعمرو فإن هذه اللام لام الاستغاثة وهي حرف جر فلو لم تكن يا قد مامت مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر لأن الحرف لا يتعلق بالحرف فدل على أنها قد قامت مقام الفعل ولهذا زعم بعض النحويين أن فيها ضميرا كالفعل
وذهب بعض البصريين إلى أن يا لم تقم مقام أدعو وأن العامل في الاسم المنادى أدعو المقدر دون يا والذي عليه الأكثرون هو الأول
فإذا ثبت بهذا أنه منصوب إلا أنهم بنوه على الضم لما ذكرنا
والذي يدل على أنه في موضع نصب أنك تقول في وصفه يا زيد الظريف بالنصب حملا على الموضع كما تقول يا زيد الظريف بالرفع حملا على اللفظ كما تقول مررت بزيد الظريف والظريف فالجر على اللفظ والنصب على الموضع فكذلك هاهنا نصب لأن المنادى المفرد في موضع نصب لأنه مفعول وهذا هو الأصل في كل منادى ولهذا لما لم يعرض للمضاف والمشبه بالمضاف ما يوجب بناءهما كالمفرد بقيا على أصلهما في النصب
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن المنادى لا معرب له يصحبه قلنا لا نسلم وقد بينا ذلك في دليلنا
وقولهم إنا رفعناه قلنا وكيف رفعتموه ولا رافع له وهل لذلك قط نظير في العربية وأين يوجد فيها مرفوع بلا رافع أو منصوب بلا ناصب أو مخفوض بلا خافض وهل ذلك إلا تحكم محض لا يستند إلى دليل ثم نقول ولم رفعتموه بلا تنوين قولهم ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع فرق قلنا هذا باطل فإن فيما يرفع بغير تنوين ما هو صحيح الإعراب وذلك الاسم الذي لا ينصرف (1/327)
وقولهم إنا حملنا المضاف على لفظ المنصوب لكثرته في الكلام قلنا هذا يبطل بالمفرد فإنه كان ينبغي أن يحمل على النصب لكثرته في الكلام فلما لم يحمل المفرد على النصب دل على أنه ليس لهذا التعليل أصل
وأما قول الفراء إن الأصل في النداء أن يقال يا زيداه كالندبة فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل
وقوله إن الألف المزيدة في آخره بمنزلة المضاف إليه فلما حذفوها بنوه على الضم كما إذا حذف المضاف إليه من قبل ومن بعد قلنا هذا يبطل بالمنادى المضاف نحو يا عبد عمرو فإنه يفتقر في باب الصوت إلى ما يفتقر إليه المفرد فكان يجب أن يقال يا عبد عمرو بالضم لأن أصله يا عبد عمراه
قوله إنما لم يقدر ذلك في المنادى المضاف لطوله قلنا هذا باطل لأن الطول لا يمنع تقرير الكلمة على حقها من تقدير الصوت في أوله وآخره لأنه لا فرق في باب النداء بين طويل الأسماء وقصيرها ألا ترى أنك لو ناديت رجلا اسمه قرعبلانة أو هز نبران أو أشنا ندانة وما أشبه ذلك لوجب فيه الضم وإن كان أكثر حروفا من يا عبد عمرو فدل على بطلان ما ذهب إليه
وأما جعله نصب المضاف مبنيا على فتح ما قبل الألف المزيدة في آخر المنادى فباطل أيضا بما إذا قال يا خيرا من زيد إذا كان مفردا مقصودا له فإنه لا يخلو إما أن يحمل نصب خير على الألف التي تدخل للصوت الرفيع أو على غيره فإن قال على الألف فكان ينبغي أن نقول يا خيرا من زيد وهذا لا يقوله أحد وإذا لم تدخله الألف وقد نصب دل على أنه لم يحمل على الألف وأنه محمول على غيره
والذي يدل على بطلان ما ذهب إليه من جعله الألف في آخر المنادى بمنزلة المضاف إليه أنه لو كان كذلك لوجب أن تسقط نون الجمع معها في نحو واقنسروناه (1/328)
قولهم نحن لا بحوز ندبة الجمع الذي على هجاءين فلا يجوز عندنا ندبة قنسرون بحذف النون ولا إثباتها قلنا هذا يلزمكم إذا جعلتم مكان الواو ياء فإنه يجوز عندكم أن تقولوا واقنسريناه وإن امتنع عندكم واقنسروناه وكلاهما لفظ الجمع
وأما قوله إن المفرد بمنزلة المضاف بدليل امتناع دخول الألف واللام عليه قلنا لا نسلم أن امتناع دخول الألف واللام عليه لما ذكرت وإنما امتنع دخول الألف واللام عليه لأن الإشارة إليه والإقبال عليه أغنت عن دخول الألف واللام عليه
وأما قوله الذي يدل على أنه ليس منصوبا بفعل امتناع الحال أن تقع معه قلنا لا نسلم أن امتناع الحال أن تقع معه إنما كان لأجل العامل ولكن لتناقض معنى الكلام فيه وذلك لأنا لو قلنا يا زيد راكبا على معنى الحال لكان التقدير أن النداء في حال الركوب وإن لم يكن راكبا فلا نداء وهذا مستحيل لأن النداء قد وقع بقوله يا زيد فإن لم يكن راكبا لم يخرجه ذلك عن أن يكون قد نادى زيدا بقوله يا زيد وليس ذلك في سائر الكلام ألا ترى أنك لو قلت اضرب زيدا راكبا فلم تجده راكبا لم يجز أن تضربه على أنه قد حكى أبو بكر بن السراج عن أبي العباس المبرد أنه قال قلت لأبي عثمان المازني ما أنكرت من الحال للمدعو قال لم أنكر منه شيئا إلا أن العرب لم تدع على شريطة فإنهم لا يقولون يا زيد راكبا أي ندعوك في هذه الحالة ونمسك عن دعائك ماشيا لأنه إذا قال يا زيد فقد وقع الدعاء على كل حال قلت فإن احتاج إليه راكبا ولم يحتج إليه في غير هذه الحالة فقال ألست تقول يا زيد دعاء حقا فقلت بلى فقال على م تحمل المصدر قلت لأن قولي يا زيد كقولي أدعو زيدا فكأني قلت أدعو دعاء حقا فقال لا أرى بأسا بأن تقول على هذا يا زيد راكبا فالزم القياس
قال أبو العباس وجدت أنا تصديقا لهذا قول النابغة (1/329)
( قالت بنو عامر خالوا بني أسد ... يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام ) (1/330)
وقوله والذي يدل على أنه بمنزلة المضاف وإن أفرد حملك نعته على النصب نحو يا زيد الظريف كما يحمل نعته على الرفع نحو يا زيد الظريف قلنا لا نسلم أن نصب الوصف لأن المفرد بمنزلة المضاف وإنما نصبه لأن الموصوف وإن كان مبنيا على الضم فهو في موضع نصب لأنه مفعول فنصب وصفه حملا على الموضع كما رفع حملا على اللفظ وحمل الوصف والعطف على الموضع جائز في كلامهم كما يحمل على اللفظ ولهذا يجوز بالإجماع ما جاءني من أحد غيرك بالرفع كما يجوز بالجر قال الله تعالى ( ما لكم من إلاه غيره ) بالرفع والجر فالرفع على الموضع والجر على اللفظ
قال الشاعر
( حتى تهجر في الرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم )
فرفع المظلوم وهو صفة للمجرور الذي هو المعقب حملا على الموضع لأنه في موضع رفع بأنه فاعل إلا أنه لما أضيف المصدر إليه دخله الجر للإضافة وكذلك يجوز أيضا الحمل على الموضع في العطف نحو مررت بزيد وعمرا كما يجوز وعمرو قال الشاعر
( فلست بذي نيرب في الصديق ... ومناع خير وسبابها )
( ولامن إذا كان في جانب ... أضاع العشيرة فاغتابها ) (1/331)
وقال الآخر وهو عقيبة الأسدي
( معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا ) (1/332)
فنصب الحديد حملا على موضع بالجبال لأن موضعها النصب بأنها خبر ليس ومن زعم أن الرواية ولا الحديد بالخفض فقد أخطأ لأن البيت الذي بعده
( أدبروها بنى حرب عليكم ... ولا ترموا بها الغرض البعيدا )
والروى المخفوض لا يكون مع الروى المنصوب في قصيدة واحدة
وقال العجاج
( كشحا طوى من بلد مختارا ... من يأسة اليائس أو حذارا ) (1/333)
وقال الآخر
( فإن لم تجد من دون عدنان والدا ... ودون معد فلتزعك العواذل ) (1/334)
وقال الآخر أيضا
( ألا حى ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا )
فنصب غدا حملا على موضع من اليوم وموضعها نصب
والشواهد على الحمل على الموضع في الوصف والعطف أكثر من أن تحصى وأوفر من أن تستقصي والله أعلم
46 - مسألة القول في نداء الاسم المحلى بأل
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز نداء ما فيه الألف واللام نحو يا الرجل ويا الغلام وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز (1/335)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه جائز أنه قد جاء ذلك في كلامهم قال الشاعر
( فيا الغلامان اللذان فرا ... أياكما أن تكسباني شرا )
فقال يا الغلامان فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام
وقال الآخر
( فديتك يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلة بالودعني ) (1/336)
فقال يا التي فأدخل حرف النداء على ما فيه الألف واللام فدل على جوازه والذي يدل على صحة ذلك أنا أجمعنا على أنه يجوز أن نقول في الدعاء يا الله اغفر لنا والألف واللام فيه زائدان فدل على صحة ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الألف وللام تفيد التعريف ويا تفيد التعريف وتعريفان في كلمة لا يجتمعان (1/337)
ولهذا لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية في الاسم المنادى العلم نحو يا زيد بل يعرى عن تعريف العلمية ويعرف بالنداء لئلا يجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية فلأن لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام أولى وذلك لأن تعريف النداء بعلامة لفظية وتعريف العلمية ليس بعلامة لفظية وتعريف الألف واللام بعلامة لفظية كما أن تعريف النداء بعلامة لفظية وإذا لم يجز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية وأحدهما بعلامة لفظية والآخر ليس بعلامة لفظية فلأن لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف الألف واللام وكلاهما بعلامة لفظية كان ذلك من طريق الأولى
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قوله
( فيا الغلامان اللذان فرا ... )
فلا حجة لهم فيه لأن التقدير فيه فيا أيها الغلامان فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه وكذلك قول الآخر
( فديتك يا التي تيمت قلبي ... ) (1/338)
حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه على أن هذا قليل إنما يجئ في الشعر فلا يكون فيه حجة على أنه سهل ذلك أن الألف واللام من التي لا تنفصل منها فنزلت منزلة بعض حروفها الأصلية فيتسهل دخول حرف النداء عليها
وأما قولهم إنا نقول في الدعاء يا الله فالجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن الألف واللام عوض عن همزة إله فتنزلت منزلة حرف من نفس الكلمة وإذا تنزلت منزلة حرف من نفس الكلمة جاز أن يدخل حرف النداء عليه والذي يدل على أنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة أنه يجوز أن يقال في النداء يا الله بقطع الهمزة قال الشاعر
( مبارك هو ومن سماه ... على اسمك اللهم يا الله )
ولو كانت كالهمزة التي تدخل مع لام التعريف لوجب أن تكون موصولة فلما جاز فيها هاهنا القطع دل على أنها نزلت منزلة حرف من نفس الكلمة كما أن الفعل إذا سمي به فإنه تقطع همزة الوصل منه نحو اضرب واقتل تقول جاءني (1/339)
إضرب ورأيت إضرب ومررت بإضرب وجاءني أقتل ورأيت أقتل ومررت بأقتل بقطع الهمزة ليدل على أنها ليست كالهمزة التي كانت في الفعل قبل التسمية وأنها بمنزلة حرف من نفس الكلمة فكذلك هاهنا
والذي يدل على ذلك أنهم لو أجروا هذا الاسم مجرى غيره مما فيه ألف ولام لكانوا يقولون يا أيها الله كما يقولون يا أيها الرجل إما على طريق الوجوب عندنا أو على طريق الجواز عندكم فلما لم يجز أن يقال ذلك على كل حال دل على صحة ما ذهبنا إليه
والوجه الثاني أن هذه الكلمة كثر استعمالها في كلامهم فلا يقاس عليها غيرها
والوجه الثالث أن هذا الاسم علم غير مشتق أتى به على هذا المثال من البناء من غير أصل يرد إليه فينزل منزلة سائر الأسماء الأعلام وكما يجوز دخول حرف النداء على سائر الأسماء الأعلام فكذلك هاهنا
والمعتمد من هذه الأوجه هو الوجه الأول والله أعلم (1/340)
47 - سألة القول في الميم في اللهم أعوض من حرف النداء أم لا
ذهب الكوفيون إلى أن الميم المشددة في اللهم ليست عوضا من يا التي للتنبيه في النداء
وذهب البصريون إلى أنها عوض من يا التي للتنبيه في النداء والهاء مبنية على الضم لأنه نداء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل فيه يا الله أمنا بخير إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على ألسنتهم حذفوا بعض الكلام طلبا للخفة والحذف في كلام العرب لطلب الخفة كثير ألا ترى أنهم قالوا هلم وويلمه والأصل فيه هل أم وويل أمه وقالوا أيش والأصل أي شيء وقالوا عم صباحا والأصل انعم صباحا
وهذا كثير في كلامهم
قالوا والذي يدل على أن الميم المشددة ليست عوضا من يا أنهم يجمعون بينهما قال الشاعر
( إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما ) (1/341)
وقال الآخر
( وما عليك أن تقولي كلما ... صليت أوسبحت يا اللهم ما )
( أردد علينا شيخنا مسلما ... ) (1/342)
وقال الآخر
( غفرت أو عذبت يا اللهما ... )
فجمع بين الميم ويا ولو كانت الميم عوضا من يا لما جاز أن يجمع بينهما لأن العوض والمعوض لا يجتمعان
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنا أجمعنا أن الأصل يا الله إلا أنا لما وجدناهم إذا أدخلوا الميم حذفوا يا ووجدنا الميم حرفين ويا حرفين ويستفاد من قولك اللهم ما يستفاد من قولك يا الله دلنا ذلك على أن الميم عوض من يا لأن العوض ما قام مقام المعوض وهاهنا الميم قد أفادت ما أفادت يا فدل على أنها عوض منها ولهذا لا يجمعون بينهما إلا في ضرورة الشعر على ما سنبين في الجواب إن شاء الله تعالى
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل يا الله أمنا بخير فحذفوا بعض الكلام لكثرة الاستعمال قلنا الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه (1/343)
الوجه الأول أنه لو كان الأمر كما زعمتم وأن الأصل فيه يا الله أمنا بخير لكان ينبغي أن يجوز أن يقال اللهمنا بخير وفي وقوع الإجماع على امتناعه دليل على فساده
والوجه الثاني أنه يجوز أن يقال اللهم أمنا بخير ولو كان الأول يراد به أم لما حسن تكرير الثاني لأنه لا فائدة فيه
والوجه الثالث أنه لو كان الأمر كما زعمتم لما جاز أن يستعمل هذا اللفظ إلا فيما يؤدي عن هذا المعنى ولا خلاف أنه يجوز أن يقال اللهم العنة اللهم أخزه اللهم أهلكه وما أشبه ذلك وقد قال الله تعالى ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ولو كان الأمر كما زعموا لكان التقدير أمنا بخير إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ولا شك أن هذا التقدير ظاهر الفساد والتناقض لأنه لا يكون أمهم بالخير أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يؤتوا بعذاب أليم
وهذا الوجه عندي ضعيف والصحيح من وجه الاحتجاج بهذه الآية أنه لو كانت الميم من الفعل لما افتقرت إن الشرطية إلى جواب في قوله ( إن كان هذا هو الحق من عندك ) وكانت تسد مسد الجواب فلما افتقرت إلى الجواب في قوله ( فأمطر علينا ) دل أنها ليست من الفعل
ويحتمل عندي وجها رابعا أنه لو كان الأصل يا الله أمنا بخير لكان ينبغي أن يقال اللهم وارحمنا فلما لم يجز أن يقال إلا اللهم ارحمنا ولم يجز وارحمنا دل على فساد ما ادعوه
وأما قولهم إن هلم أصلها هل أم قلنا لا نسلم وإنما أصلها ها المم فاجتمع ساكنان الألف من ها واللام من المم فحذفت الألف لالتقاء (1/344)
الساكنين ونقلت ضمة الميم الأولى إلى اللام وأدغمت إحدى الميمين في الأخرى فصار هلم
وقولهم الدليل على أن الميم ليست عوضا من يا أنهم يجمعون بينهما كقوله
( إني إذا ما حدث ألما ... أقول يا اللهم يا اللهما )
وقول الآخر
( وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو صليت يا اللهم ما )
فنقول هذا الشعر لا يعرف قائله فلا يكون فيه حجة وعلى أنه إن صح عن العرب فنقول إنما جمع بينهما لضرورة الشعر وسهل الجمع بينهما للضرورة أن العوض في آخر الاسم والمعوض في أوله والجمع بين العوض والمعوض منه جائز في ضرورة الشعر قال الشاعر
( هما نفثا في في من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام ) (1/345)
حذف (1/346)
فجمع بين الميم والواو وهي عوض منها لضرورة الشعر فجمع بين العوض والمعوض فكذلك هاهنا والله أعلم
48م - سألة هل يجوز ترخيم المضاف بحذف آخر المضاف إليه
ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم المضاف جائز ويوقعون الترخيم في آخر الاسم المضاف إليه وذلك نحو قولك يا آل عام في يا آل عامر ويا آل مال في يا آل مالك وما أشبه ذلك
وذهب البصريون إلى أن ترخيم المضاف غير جائز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن ترخيم المضاف جائز أنه قد جاء في استعمالهم كثيرا قال زهير بن أبي سلمى
( خذوا حظكم يا آل عكرم واحفظوا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر ) (1/347)
أراد يا آل عكرمة إلا أنه حذف التاء للترخيم وهو عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان بن مضر وهو أبو قبائل كثيرة من قيس
وقال الآخر
( أبا عرو لا تبعد فكل ابن حرة ... سيدعوه داعي ميتة فيجيب ) (1/348)
أراد أبا عروة
وقال الآخر
( إما تريني اليوم أم حمز ... قاربت بين عنقي وجمزي )
أراد أم حمزة
والشواهد على هذا كثيرة جدا فدل على جوازه
ولأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد فجاز ترخيمه كالمفرد
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن ترخيم المضاف غير جائز أنه لم توجد فيه شروط الترخيم وهي أن يكون الاسم منادى مفردا معرفة زائدا على ثلاثة أحرف
والدليل على اعتبار هذه الشروط أما شرط كونه منادى فظاهر لأنهم لا يرخمون في غير النداء إلا في ضرورة الشعر ألا ترى أنهم لا يقولون في حالة الاختيار في غير النداء قام عام في عامر ولا ذهب مال (1/349)
في مالك فدل على أنه شرط معتبر
وأما شرط كونه مفردا فظاهر أيضا لأن النداء يؤثر فيه البناء ويغيره عما كان عليه قبل النداء ألا ترى أنه كان معربا فصار مبنيا فلما غيره النداء عما كان عليه من الإعراب قبل النداء جاز فيه الترخيم لأنه تغيير والتغيير يؤنس بالتغيير فأما ما كان مضافا فإن النداء لم يؤثر فيه البناء ولم يغيره عما كان عليه قبل النداء ألا ترى أنه معرب بعد النداء كما هو معرب قبل النداء وإذا كان الترخيم إنما سوغه تغيير النداء والنداء لم يغير المضاف فوجب أن لا يدخله الترخيم فصار هذا بمنزلة حذف الياء في النسب من باب فعيلة وفعيلة كقولهم في النسب إلى جهينة جهني وإلى ربيعة ربعى وإثباتها في باب فعيل وفعيل كقولهم في النسب إلى قشير قشيرى وإلى جرير جريرى فإن الياء إنما حذفت من باب فعيلة وفعيلة دون باب فعيل وفعيل لأن النسب أثر فيه وغيره بحذف تاء التأنيث منه والتغيير يؤنس بالتغيير بخلاف باب فعيل وفعيل فإن النسب لم يؤثر فيه تغييرا فلم يحذف منه الياء فأما قولهم في النسب إلى قريش قرشى وإلى هذيل هذلي وإلى ثقيف ثقفي بحذف الياء في إحدى اللغتين فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه واللغة الفصيحة إثبات الياء وهي أن تقول قريشى وهذيلى وثقيفي وهو القياس
قال الشاعر
( بكل قريشى عليه مهابة ... سريع إلى داعى الندى والتكرم ) (1/350)
وقال الآخر
( هذيلية تدعو إذا هي فاخرت ... أبا هذليا من غطارفة نجد )
وكما أن الحذف هاهنا إنما اختص بما غيره النسب دون غيره فكذلك الحذف هاهنا للترخيم إنما يختص بما غيره النداء وهو المفرد المعرفة دون المضاف والنكرة
وأما شرط كونه زائدا على ثلاثة أحرف فسنذكر ذلك في المسألة التي بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى (1/351)
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما استشهدوا به من الأبيات فلا حجة فيه لأنه محمول عندنا على أنه حذف التاء لضرورة الشعر والترخيم عندنا يجوز لضرورة الشعر في غير النداء قال الشاعر
( أودى ابن جلهم عباد بصرمته ... إن ابن جلهم أمسى حية الوادي ) (1/352)
أراد جلهمة فحذف التاء لضرورة الشعر وقال الآخر
( ألا أضحت حبالكم رماما ... وأضحت منك شاسعة أماما ) (1/353)
أراد أمامه
وقال الآخر
( إن ابن حارث إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا )
أراد ابن حارثة وقال الآخر
( أبو حنش يؤرقني وطلق ... وعمار وآونة أثالا ) (1/354)
أراد أثالة وزعم المبرد أنه ليس في العرب أثالة وإنما هو أثال ونصبه على تقدير يذكرني آونة أثالا وقيل نصبه لأنه عطفه على الياء والنون في يؤرقني كأنه قال يؤرقني وأثالا وقال بعض بني عبس
( أرق لأرحام أراها قريبة ... لحار بن كعب لا لجرم وراسب ) (1/355)
أراد لحارث بن كعب وعبس والحارث بن كعب بن ضبة إخوة فيما يزعمون
وعلى كل حال فالترخيم في غير النداء للضرورة مما لا خلاف في جوازه والشواهد عليه أشهر من أن تذكر وأظهر من أن تنكر وكما أن الترخيم في ذلك كله لا يدل على جوازه في حالة الاختيار فكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات وإذا كان الترخيم يجوز لضرورة الشعر في غير النداء فلأن يجوز ترخيم المضاف لضرورة الشعر في النداء كان ذلك من طريق الأولى
وأما قولهم إن المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد فجاز ترخيمه كالمفرد قلنا هذا فاسد لأنه لو كان هذا معتبرا لوجب أن يؤثر النداء في المضاف البناء ما يؤثر في المفرد فلما لم يؤثر النداء فيه البناء دل على فساد ما ذهبتم إليه والله أعلم
49م - سألة هل يجوز ترخيم الاسم الثلاثي
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيم الاسم الثلاثي إذا كان أوسطه متحركا (1/356)
وذلك نحو قولك في عنق ياعن وفي حجر ياحج وفي كتف ياكت وذهب بعضهم إلى أن الترخيم يجوز في الاسماء على الإطلاق
وذهب البصريون إلى أن ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف لا يجوز بحال وإليه ذهب أبو الحسن على بن حمزة الكسائي من الكوفيين
وأما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف إذا كان أوسطه متحركا لأن في الأسماء ما يماثله ويضاهيه نحو يد ودم والأصل في يد يدي وفي دم دمو في أحد القولين بدليل قولهم دموان وقد قال بعضهم إن دما من ذوات الياء واحتج بقول الشاعر
( فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين ) (1/357)
حذف (1/358)
والأكثرون على أنه من ذوات الواو إلا أنهم استثقلوا الحركة على حرف العلة فيهما لأن الحركات تستثقل على حرف العلة فحذفوه طلبا للتخفيف وفرارا من الاستثقال فبقيت يد ودم فكذلك في محل الخلاف الترخيم إنما وضع للتخفيف بالحذف والحذف قد جاز في مثله للتخفيف فوجب أن يكون جائزا
قالوا ولا يلزم على كلامنا إذا كان الأوسط منه ساكنا فإنه لا يجوز ترخيمه وإن كان له نظير نحو يد وغد لأنا نقول إنما لم يجز عندنا ترخيم ما كان الأوسط منه ساكنا نحو زيد وعمرو لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الحرف الساكن الذي قبله فيبقى الاسم على حرف واحد وذلك لا نظير له في كلامهم بخلاف ما إذا كان أوسطه متحركا على ما بينا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه لا يجوز ترخيمه وذلك أنا أجمعنا على أن الترخيم في عرف النحويين إنما هو حذف دخل في الاسم المنادى إذا كثرت حروفه طلبا للتخفيف فإذا كان الترخيم إنما وضع في الأصل لهذا المعنى فهذا في محل الخلاف لا حاجة بنا إليه لأن الاسم الثلاثي في غاية الخفة فلا يحتمل الحذف إذ لو قلنا إنه يخفف بحذف آخره لكان ذلك يؤدي إلى الإجحاف به فدل على ما قلناه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما جوزنا ترخيمه لأن في الأسماء ما يماثله نحو يد ودم فنقول الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أنا نقول إن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال بعيدة عن القياس فأما قلتها في الاستعمال فظاهر لأنها كلمات يسيرة معدودة وأما بعدها عن القياس فظاهر أيضا وذلك لأن القياس يقتضي أن لا يحذف لأن حرف العلة إذا كان متحركا فلا يخلو إما أن يكون ما قبله ساكنا أو متحركا فإن كان ساكنا فينبغي أن لا يحذف كما لا يحذف من ظبي ونحي وغزو ولهو لأن الحركات إنما تستثقل على حرف العلة إذا كان ما قبله متحركا لا ساكنا وإن كان ما قبله (1/359)
متحركا فينبغي أن يقلب ألفا ولا يحذف كقولهم رحى وعمى وعصا وقفا ألا ترى أن الأصل فيها رحى وعمى وعصو وقفو بدليل قولهم رحيان وعميان وعصوان وقفوان إلا أنه لما تحركت الياء والواو وانفتح ما قبلهما قلبوا كل واحدة منهما ألف استثقالا للحركات على حرف العلة مع تحرك ما قبله إلى غير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه وعلى هذا سائر الثلاثي المقصور وإذا ثبت أن هذه الأسماء قليلة في الاستعمال بعيدة عن القياس فوجب أن لا يقاس عليها
والوجه الثاني وهو أنا نقول قياس محل الخلاف على يد ودم ليس بصحيح وذلك لأنهم إنما حذفوا الياء والواو لاستثقال الحركات عليهما لأنها تستثقل على حرف العلة أما في الترخيم فإنما وضع الحذف فيه على خلاف القياس لتخفيف الاسم الذي كثرت حروفه ولم يوجد هاهنا لأنه أقل الأصول وهي في غاية الخفة فلو جوزنا ترخيمه لأدى إلى أن ينقص عن أقل الأصول وإلى الإجحاف به وذلك لا يجوز
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه إذا كان الأوسط منه ساكنا فإنه لا يجوز ترخيمه
قولهم إنما لم يجز ترخيمه إذا كان الأوسط منه ساكنا لأنه إذا حذف الحرف الأخير وجب حذف الساكن الذي قبله فيبقي الاسم على حرف واحد قلنا لا نسلم أنه إذا كان قبل الآخر حرف ساكن أنه يجب حذفه في الترخيم وإنما هذا شيء ادعيتموه وجعلتموه أصلا لكم لا يشهد به نقل ولا قياس وسنبين فساده في المسألة التي بعد هذه إن شاء الله تعالى (1/360)
50 - سألة ترخيم الرباعي الذي ثالثه ساكن
ذهب الكوفيون إلى أن ترخيم الاسم الذي قبل آخره حرف ساكن يكون بحذفه وحذف الحرف الذي بعده وذلك نحو قولك في قمطر ياقم وفي سبطر ياسب وما أشبه ذلك
وذهب البصريون إلى أن ترخيمه يكون بحذف الحرف الأخير منه فقط
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يرخم بحذف حرفين وذلك لأن الحرف الأخير إذا سقط من هذه الأسماء بقي آخرها ساكنا فلو قلنا إنه لا يحذف لأدى ذلك إلى أن يشابه الأدوات وما أشبهها من الأسماء وذلك لا يجوز
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الترخيم يكون في هذه الأسماء بحذف حرف واحد أنا نقول أجمعنا على أن حركة الاسم المرخم باقية بعد دخول الترخيم كما كانت قبل دخول الترخيم من ضم وفتح وكسر ألا ترى أنك تقول في برثن يا برث وفي جعفر يا جعف وفي مالك يا مال وقد قرأ بعض السلف ونادوا يا مال ليقض علينا ربك وذكر أنها قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فيبقي كل واحدة من هذه الحركات بعد دخول الترخيم كما كانت قبل وجود الترخيم في أقيس الوجهين فكذلك هاهنا وهذا لأن الحركات (1/361)
إنما بقيت على ما كانت عليه لينوى بها تمام الاسم ولو لم يكن كذلك لكان يجب أن يحرك المرخم بحركة واحدة فإذا ثبت أن الحركات إنما بقيت لينوى بها تمام الاسم فهذا المعنى موجود في الساكن حسب وجوده في المتحرك فينبغي أن يبقى على ما كان عليه إذا كان ساكنا كما يبقى على ما كان عليه إذا كان متحركا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم لو أسقطنا الحرف الأخير لبقي ما قبله ساكنا فيشبه الأدوات وهي الحروف
قلنا هذا فاسد لأنه لو كان هذا معتبرا لوجب أن يحذف الحرف المكسور لئلا يشبه المضاف إلى المتكلم ولا خلاف أن هذا لا قائل به فدل على فساد ما ذهبوا إليه والله أعلم
51 - مسألة القول في ندبة النكرة والأسماء الموصوله
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ندبة النكرة والأسماء الموصولة وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز ندبة النكرة والأسماء الموصولة وذلك لأن الاسم النكرة يقرب من المعرفة بالإشارة نحو واراكباه فجازت ندبته كالمعرفة والأسماء الموصولة معارف بصلاتها كما أن الأسماء الأعلام معارف وكما يجوز ندبة الأسماء الأعلام نحو زيد وعمرو فكذلك يجوز ندبة ما يشبهها (1/362)
ويقرب منها والدليل على صحة هذا التعليل ما حكى عنهم من قولهم وامن حفر بئر زمزماه وما أشبه ذلك
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الاسم النكرة مبهم لا يخص واحدا بعينه والمقصود بالندبة أن يظهر النادب عذره في تفجعه على المندوب ليساعد في تفجعه فيحصل التأسي بذلك فيخف ما به من المصيبة وذلك إنما يحصل بندبة المعرفة لا بندبة النكرة وإذا كان ندبة النكرة ليس فيها فائدة وجب أن تكون غير جائزة وأما الأسماء الموصولة فإنها أيضا مبهمة فأشبهت النكرة فوجب أن لا تجوز ندبتها كالنكرة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الإشارة قد قربت الاسم النكرة من المعرفة فجازت ندبته كالمعرفة قلنا إلا أنه باق على إبهامه والمندوب يجب أن يندب بأعرف أسمائه وأما الأسماء الموصولة وإن كانت قد تخصصت بالصلة فإنها لا تخلو عن إبهام لأن تخصيصها إنما يحصل بالجمل والجمل في الأصل نكرات
وأما ما حكوه من قولهم وامن حفر بئر زمزماه فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه على أنا نقول إنما جاء مع شذوذه هاهنا لأنه كان معروفا وهو عبد المطلب جد النبي وكان قد عرف بحفر بئر زمزم وله يقول خويلد ابن أسد
( أقول وما قولي عليكم بسبة ... إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم )
( حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر ... وركضة جبريل على عهد آدم ) (1/363)
فقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد فلما كان عبد المطلب معروفا بحفرها تنزل الاسم الموصول الدال عليه منزلة اسمه العلم والله أعلم
52 - مسألة هل يجوز إلقاء علامة الندبة على الصفة
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن تلقى علامة الندبة على الصفة نحو قولك وازيد الظريفاه وإليه ذهب يونس بن حبيب البصري وأبو الحسن ابن كيسان
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أنه يجوز أن نلقي علامة الندبة على المضاف إليه نحو قولك واعبد زيداه واغلام عمراه فكذلك هاهنا (1/364)
لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه فإذا جاز أن تلقي علامة الندبة على المضاف إليه فكذلك يجوز أن تلقى على الصفة
والذي يدل على ذلك ما روى عن بعض العرب أنه ضاع منه جمجمتان أي قدحان فقال واجمجمتى الشاميتيناه وألقى علامة الندبة على الصفة فدل على ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لايجوز أن تلقى علامة الندبة على الصفة لأن علامة الندبة إنما تلقى على ما يلحقه تنبيه النداء لمد الصوت وليس ذلك موجودا في الصفة لأنها لا يلزم ذكرها مع الموصوف فوجب أن لا يجوز وسنبين هذا في الجواب إن شاء الله تعالى
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنا أجمعنا على أنه يجوز أن تلقى علامة الندبة على المضاف إليه فكذلك على الصفة لأن الصفة مع الموصوف بمنزلة المضاف مع المضاف إليه قلنا لا نسلم فإن المضاف لا يتم بدون ذكر المضاف إليه بخلاف الموصوف مع الصفة فإن الموصوف يتم بدون ذكر الصفة
ألا ترى أنك لو قلت عبد في قولك عبد زيد أو غلام في قولك غلام عمرو لم يتم إلا بذكر المضاف إليه ولو قلت زيد في قولك هذا زيد الظريف يتم الموصوف بدون ذكر الصفة وكنت في ذكرها مخيرا إن شئت ذكرتها وإن شئت لم تذكرها فبان الفرق بينهما
وأما ما روى عن بعض العرب من قوله وأجمجمتي الشاميتيناه فيحتمل أن يكون إلحاق علامة الندبة من قياس يونس وعلى كل حال فهو من الشاذ الذي لا يعبأ به ولا يقاس عليه كقولهم وامن حفر بئر زمزماه وما أشبه ذلك والله أعلم (1/365)
53 - سألة اسم لا المفرد النكرة معرب أو مبني
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المفرد النكرة المنفي بلا معرب منصوب بها نحو لا رجل في الدار
وذهب البصريون إلى أنه مبني على الفتح
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه منصوب بها لأنه اكتفى بها من الفعل لأن التقدير في قولك لا رجل في الدار لا أجد رجلا في الدار فاكتفوا بلا من العامل كما تقول إن قمت قمت وإن لا فلا أي وإن لا تقم فلا أقوم فلما اكتفوا بلا من العامل نصبوا النكرة به وحذفوا التنوين بناء على الإضافة
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا إنه منصوب بها لأن لا تكون بمعنى غير كقولك زيد لا عاقل ولا جاهل أي غير عاقل وغير جاهل فلما جاءت هاهنا بمعنى ليس نصبوا بها ليخرجوها من معنى غير إلى معنى ليس ويقع الفرق بينهما
ومنهم من تمسك بأن قال إنما أعملوها النصب لأنهم لما أولوها النكرة ومن شأن النكرة أن يكون خبرها قبلها نصبوا النكرة بغير تنوين (1/366)
ومن النحويين من قال إنه منصوب لأن لا إنما عملت النصب لأنها نقيضة إن لأن لا للنفي وإن للإثبات وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره إلا أن لا لما كانت فرعا على إن في العمل وإن تنصب مع التنوين نصبت لا من غير تنوين لينحط الفرع عن درجة الأصل لأن الفروع أبدا تنحط عن درجات الأصول
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مبني على الفتح لأن الأصل في قولك لا رجل في الدار لا من رجل في الدار لأنه جواب من قال هل من رجل في الدار فلما حذفت من من اللفظ وركبت مع لا تضمنت معنى الحرف فوجب أن تبنى وإنما بنيت على حركة لأن لها حالة تمكن قبل البناء وبنيت على الفتح لأنه أخف الحركات
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما قلنا إنه منصوب بلا لأنها اكتفى بها عن الفعل قلنا هذا مجرد دعوى يفتقر إلى دليل ثم لو كان كما زعمتم لوجب أن يكون منونا
قولهم حذف التنوين بناء على الإضافة قلنا لو كان هذا صحيحا لوجب أن يطرد في كل ما يجوز إضافته من الأسماء المفردة المنونة فلما قلتم إنه يختص بهذا الموضع دون سائر المواضع دل على فساد ما ذهبتم إليه
وأما قولهم إن لا تكون بمعنى غير فلما جاءت بمعنى ليس نصبوا بها ليخرجوها من معنى غير قلنا ولم إذا كانت بمعنى ليس ينبغي أن ينصب بها وهلا رفعوا بها على القياس فإنهم يرفعون بها إذا كانت بمعنى ليس قال الشاعر
( من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح ) (1/367)
أي ليس براح وقال الآخر
( والله لولا أن تحش الطبخ ... بي الجحيم حين لا مستصرخ )
أي ليس مستصرخ هناك لنا (1/368)
وأما قولهم إنما أعملوها النصب لأنهم لما أولوها النكرة ومن شأن النكرة أن يكون خبرها مقدما عليها نصبوا بها النكرة قلنا ولم قلتم ذلك وما وجه المناسبة بينه وبين النصب ثم لو كان كما زعمتم وأنه معرب منصوب لوجب أن يدخله التنوين ولا يحذف منه لأنه اسم معرب ليس فيه ما يمنعه من الصرف فلما منع من التنوين دل على أنه ليس بمعرب منصوب
وهذا هو الجواب عن قول من ذهب إلى أنه منصوب بلا لأنها نقيضة إن فإنه كان ينبغي أن يكون منونا
قولهم إن لا لما كانت فرعا على إن في العمل وإن تنصب مع التنوين نصبت لا من غير تنوين لينحط الفرع عن درجة الأصل قلنا هذا فاسد وذلك لأن التنوين ليس من عمل إن وإنما هو شيء يستحقه الاسم في الأصل وإنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان التنوين من عمل إن ولا خلاف بين النحويين أن التنوين ليس من عملها وإذا لم يكن من عمل إن التي هي الأصل فلا معنى لحذفه مع لا التي هي الفرع لينحط الفرع عن درجة الأصل لأن الفرع إنما ينحط عن درجة الأصل فيما كان من عمل الأصل وإذا لم يكن (1/369)
من عمل الأصل فيجب أن يكون ثابتا مع الفرع كما كان ثابتا مع الأصل ثم انحطاطها عن درجة إن قد ظهر في أربعة أشياء أحدها أن إن تعمل في المعرفة والنكرة ولا لا تعمل إلا في النكرة دون المعرفة
والثاني أن إن لا تركب مع الاسم لقوتها ولا تركب مع الاسم لضعفها
والثالث أن إن تعمل في الاسم مع الفصل بينها وبينه بالظرف وحرف الجر ولا لا تعمل مع الفصل بينها وبينه بالظرف ولا حرف الجر
والرابع أن إن تعمل في الاسم والخبر عندنا ولا إنما تعمل في الاسم دون الخبر عند أهل التحقيق والنظر
فقد ظهر انحطاط لا عن درجة إن على مابينا والله أعلم
54 - مسألة هل تقع من لابتداء الغاية في الزمان
ذهب الكوفيون إلى أن من يجوز استعمالها في الزمان والمكان
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز استعمالها في الزمان
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز استعمال من في الزمان أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) و ( أول يوم ) من الزمان و قال الشاعر وهو زهير بن أبي سلمى (1/370)
( لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر )
فدل على أنه جائز
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أن من في المكان نظير مذ في الزمان لأن من وضعت لتدل على ابتداء الغاية في المكان كما أن مذ وضعت لتدل على ابتداء الغاية في الزمان ألا ترى أنك تقول ما رأيته مذ يوم الجمعة فيكون المعنى أن ابتداء الوقت الذي انقطعت فيه الرؤية يوم الجمعة كما تقول ما سرت من بغداد فيكون المعنى ما ابتدأت بالسير من هذا (1/371)
المكان فكما لا يجوز أن تقول ما سرت مذ بغداد فكذلك لا يجوز أن تقول ما رأيته من يوم الجمعة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( من أول يوم أحق أن تقوم فيه ) فلا حجة لهم فيه لأن التقدير فيه من تأسيس أول يوم فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال تعالى ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) والتقدير فيه أهل القرية وأهل العير فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقال تعالى ( ولكن البر من آمن بالله ) وكقولهم الجود حاتم والشجاعة عنترة والشعر زهير أي جود حاتم وشجاعة عنترة وشعر زهير وكقولهم بنو فلان يطؤهم الطريق أي أهل الطريق وقال الشاعر
( حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق )
والتقدير فيه بغام راحلتي بغام عناق وقال الآخر
( لقد خفت حتى لا تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل ) (1/372)
والتقدير فيه حتى لا تزيد مخافتي على مخافة وعل وهو من المقلوب وتقديره حتى لا تزيد مخافة وعل على مخافتي كما قال الآخر
( كانت فريضة ما تقول كما ... أن الزناء فريضة الرجم )
تقديره كما أن الرجم فريضة الزناء (1/373)
حذف (1/374)
وأما قول زهير
( أقوين من حجج ومن دهر ... )
فالرواية الصحيحة مذ حجج ومذ دهر ولئن سلمنا ما رويتموه من حجج ومن دهر فالتقدير فيه أيضا من مر حجج ومن مر دهر كما تقول مرت عليه السنون ومرت عليه الدهور فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه (1/375)
كما بينا في الآية وقيل إن من هاهنا زائدة وهو قول أبي الحسن الأخفش فإنه يجوز أن تزاد في الإيجاب كما يجوز أن تزاد في النفي ويحتج بقوله تعالى ( يغفر لكم من ذنوبكم ) أي يغفر لكم ذنوبكم وبقوله تعالى ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) أي يغضوا أبصارهم ويحتج أيضا بقول الشاعر
( ألا حى ندماني عمير بن عامر ... إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا )
أراد اليوم أو غدا فكذلك هاهنا التقدير في قوله من حجج ومن دهر أي حججا ودهرا فدل على فساد ما ذهبوا إليه والله أعلم
55م - سألة واورب هل هي التي تعمل الجر
ذهب الكوفيون إلى أن واورب تعمل في النكرة الخفض بنفسها وإليه ذهب أبو العباس المبرد من البصريين
وذهب البصريون إلى أن واو رب لا تعمل وإنما العمل لرب مقدرة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الواو هي العاملة لأنها نابت عن رب فلما نابت عن رب وهي تعمل الخفض فكذلك الواو لنيابتها عنها وصارت كواو القسم فإنها لما نابت عن الباء عملت الخفض كالباء فكذلك الواو هاهنا لما نابت عن رب عملت الخفض كما تعمل رب والذي يدل على (1/376)
أنها ليست عاطفة أن حرف العطف لا يجوز الابتداء به ونحن نرى الشاعر يبتدىء بالواو في أول القصيدة كقوله
( وبلد عامية أعماؤه ... )
وكقول الآخر
( وبلدة ليس بها أنيس ... )
وما أشبه ذلك فدل على أنها ليست عاطفة فبان بهذا صحة ما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الواو ليست عاملة وإن العمل لرب مقدرة وذلك لأن الواو حرف عطف وحرف العطف لا يعمل شيئا لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصا وحرف العطف غير مختص فوجب أن لا يكون عاملا وإذا لم يكن عاملا وجب أن يكون العامل رب مقدرة (1/377)
والذي يدل على أنها واو العطف وأن رب مضمرة بعدها أنه يجوز ظهورها معها نحو ورب بلد وسنبين ذلك مستوفى في الجواب
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنها لما نابت عن رب عملت عملها كواو القسم قلنا هذا فاسد لأنه قد جاء عنهم الجر بإضمار رب من غير عوض منها وذلك نحو قوله
( رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضى الحياة من جلله )
وقال الآخر
238
- ( مثلك أو خير تركت رذية ... تقلب عينيها إذا طار طائر ) (1/378)
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أيضا أنها تضمر بعد بل قال الشاعر
( بل جوز تيهاء كظهر الحجفت ... ) (1/379)
أراد بل رب جوز ولا يقول أحد إن بل تجر
وكذلك تضمر بعد الفاء قال الشاعر
( فحور قد لهوت بهن عين ... )
وليست نائبة عنها ولا عوضا منها (1/380)
والذي أعتمد عليه في الدليل على أن هذه الأحرف التي هي الواو والفاء وبل ليست نائبة عن رب ولا عوضا عنها أنه يحسن ظهورها معها فيقال ورب بلد بل رب بلد وفرب حور ولو كانت عوضا عنها لما جاز ظهورها معها لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض
ألا ترى أن واو القسم لما كانت عوضا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما فلا يقال وبالله لأفعلن وتجعلهما حرفي قسم وكذلك أيضا التاء لما كانت عوضا من الواو كما كانت الواو عوضا من الباء لم يجمع بينهما فلا يقال وتالله وتجعلهما حرفي قسم لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض فأما قوله تعالى ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) فالواو فيه واو عطف وليست واو قسم فلم يمتنع أن يجمع بينها وبين تاء القسم فلما جاز الجمع بين الواو ورب دل على أنها ليست عوضا عنها بخلاف واو القسم وأنها واو عطف
وقولهم إن حرف العطف لا يجوز الابتداء به ونحن نرى الشاعر يبتدىء بالواو في أول القصيدة كقوله
( وبلد عامية أعماؤه ... )
فنقول هذه الواو واو عطف وإن وقعت في أول القصيدة لأنها في التقدير عاطفة على كلام مقدر كأنه قال رب قفر طامس أعلامه سلكته وبلد عامية أعماؤه قطعته
يصف نفسه بركوب الأخطار وقطع المفاوز والقفار إشعارا بشهامته وشجاعته
وإذ ثبت بما ذكرناه أنها حرف عطف فينبغي أن لا تكون عاملة فدل على أن النكرة بعدها مجرورة بتقدير رب على ما بينا والله أعلم (1/381)
56 - مسألة القول في إعراب الاسم الواقع بعد مذ ومنذ
ذهب الكوفيون إلى أن مذ ومنذ إذا ارتفع الاسم بعدهما ارتفع بتقدير فعل محذوف
وذهب أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء إلى أنه يرتفع بتقدير مبتدأ محذوف
وذهب البصريون إلى أنهما يكونان اسمين مبتدأين ويرتفع ما بعدهما لأنه خبر عنهما ويكونان حرفين جارين فيكون ما بعدهما مجرورا بهما
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الاسم بعدهما يرتفع بتقدير فعل محذوف أنهما مركبان من من وإذ فتغيرا عن حالهما في إفراد كل واحد منهما فحذفت الهمزة ووصلت من بالذال وضمت الميم للفرق بين حالة الإفراد والتركيب
والذي يدل على أن الأصل فيهما من وإذ أن من العرب من يقول في منذ منذ بكسر الميم فكسر الميم يدل على أنها مركبة من من وإذ وإذا ثبت أنها مركبة من من وإذ كان الرفع بعدهما بتقدير فعل لأن الفعل يحسن بعد إذ والتقدير ما رأيته مذ مضى يومان ومنذ مضى ليلتان فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضا كان الخفض بهما اعتبارا بمن ولهذا المعنى كان الخفض بمنذ أجود من مذ لظهور نون من فيها تغليبا لمن والرفع بمذ أجود لحذف نون من منها تغليبا لإذ والذي يدل على أن (1/382)
أصل مذ ومنذ واحد أنك لو سميت بمذ لقلت في تصغيره منيذ وفي تكسيره أمناذ فتعود النون المحذوفة لأن التصغير والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها كما تقول في تصغير منذ وتكسيره إذا سميت به
وأما الفراء فاحتج بأن قال إنما قلت إن الاسم يرتفع بعدهما بتقدير مبتدإ محذوف وذلك لأن مذ ومنذ مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي وهي لغة مشهورة قال قوال الطائي
( قولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا ... هلم فإن المشرفي الفرائض )
أراد الذي جاء وقال فيها أيضا
( أطنك دون المال ذو جئت تبتغي ... ستلقاك بيض للنفوس قوابض ) (1/383)
أراد الذي جئت تبتغي
وقال ملحة الجرمى
( يغادر محض الماء ذو هو محضه ... على إثره إن كان للماء من محض )
( يروى العروق الباليات من البلى ... من العرفج النجدي ذو باد والحمض )
أراد الذي هو محضه والذي باد
وقال سنان بن الفحل
( فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئرى ذو حفرت وذو طويت ) (1/384)
أراد الذي حفرت والذي طويت فلما ركبتا حذفت الواو من ذو اجتزاء بالضمة عنها لأنهم يجتزئون بالضمة عن الواو وبالكسرة عن الياء وبالفتحة عن الألف قال الشاعر
( فلو أن الأطبا كان حولي ... وكان مع الأطباء الشفاة )
( إذا ما أذهبوا ألما بقلبي ... وإن قيل الشفاة هم الأساة ) (1/385)
أراد كانوا فحذف الواو اجتزاء بالضمة
وقال الشاعر
( إذا ما شاء ضروا من أرادوا ... ولا يألوهم أحد ضرارا ) (1/386)
أراد شاءوا وقال الآخر
( وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه ... ويكن أعداء بعيد وداد )
أراد الغواني وقال الآخر
( كفاك كف لا تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما ) (1/387)
أراد تعطي وقال الآخر
( ليس تخفي يسارتي قدر يوم ... ولقد يخف شيمتي إعساري )
أراد يخفي وقال الآخر
( لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ماحملت عاتقي )
( سيفي وما كنا بنجد وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق ) (1/388)
أراد الوادي وقال الآخر وهو كعب بن مالك الأنصاري
( ما بال هم عميد بات يطرقني ... بالواد من هند إذ تعدو عواديها )
أراد بالوادي وقال أيضا
( ولكن ببدر سائلوا عن بلائنا ... على الناد والأنباء بالغيب تبلغ ) (1/389)
أراد على النادي وقال الآخر
( ولا أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل عن ماجد محض )
أراد أدري وقال الآخر
( فلست بمدرك ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لواني ) (1/390)
أراد بلهفا فحذف الألف اجتزاء بالفتحة عنها فكذلك هاهنا حذف الواو من ذو اجتزاء بالضمة عنها وصيرا كلمة واحدة وإذا كانا مركبتين من من وذو التي بمعنى الذي فالذي اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد والصلة لا تخلو إما أن تكون من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل فإذا قلت ما رأيته مذ يومان أو منذ ليلتان فالتقدير فيه ما رأيته من الذي هو يومان فحذف هو الذي هو المبتدأ وبقي الخبر الذي هو يومان وحذف المبتدأ من الاسم الموصول جائز كقولك الذي أخوك زيد أي الذي هو أخوك زيد والذي يدل على جوازه قولهم ما أنا بالذي قائل لك شيئا أي ما أنا بالذي أنا قائل لك شيئا وهذا كثير في كلامهم فأما إذا كان الاسم بعدهما مخفوضا فهو مخفوض بمن ولهذا إذا ظهرت النون في منذ كان الاختيار الخفض وإذا لم تظهر كان الاختيار الرفع
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مرفوع ما بعدهما لأنه خبر عنهما وذلك لأن مذ ومنذ معناهما الأمد ألا ترى أن التقدير في قولك ما رأيته مذ يومان ومنذ ليلتان أي أمد انقطاع الرؤية يومان وأمد انقطاع الرؤية ليلتان والأمد في موضع رفع بالابتداء فكذلك ما قام مقامه وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب أن يكون ما بعدهما خبرا عنهما وإنما بنيا لتضمنهما معنى من وإلى ألا ترى أنك إذا قلت ما رأيته مذ يومان ومنذ ليلتان كان معناه ما رأيته من أول هذا الوقت إلى آخره وبنيت مذ على السكون لأنه الأصل في البناء وبنيت منذ على الضم لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم لأن من كلامهم أن يتبعوا الضم الضم كما قالوا رد يا فتى (1/391)
والشواهد على ذلك كثيرة جدا وقد ذكرنا ذلك في مواضعه فلا يفتقر إلى ذكره هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنهما مركبتان من من وإذ قلنا لا نسلم وأي دليل يدل على ذلك وهل يمكن الوقوف عليه إلا بوحى أو تنزيل وليس إلى ذلك سبيل
وقولهم إن من العرب من يقول في منذ منذ بكسر الميم قلنا أولا هذه لغية شاذة نادرة لا يعرج عليها وليس فيها حجة على أنها مركبة من من وإذ وإنما هي لغية نادرة بكسر كما جاءت اللغة الفصيحة المشهورة بالضم فهو من جملة ما جاء على لغتين الضم والكسر والضم أفصح فأما أن تدل على أنها مركبة من من وإذ فكلا
وقولهم إن الرفع بعدهما يكون بتقدير فعل والتقدير فيه مذ مضى يومان ومنذ مضى ليلتان اعتبارا بإذ والخفض يكون بعدهما اعتبارا بمن قلنا هذا باطل لأن الحرفين إذا ركبا بطل عمل كل واحد منهما مفردا وحدث حكم آخر كما قلنا في لولا ولوما وإلا وما أشبه ذلك وقد ذكرنا ذلك مستقصى في مسألة الاستثناء
وهذا هو الجواب عن قول الفراء إنهما مركبتان من من وذو التي بمعنى الذي والذي يبطل ما ذهب إليه الفراء أن ذو التي بمعنى الذي إنما تستعملها طيىء خاصة ومنذ يومان بالرفع مستعمل في لغة جميع العرب فكيف استعملت العرب قاطبة ذو بمعنى الذي مع من على زعمكم دون سائر المواضع وهل ذلك إلا تحكم محض لا دليل عليه
وقولهم إن التقدير فيه من الذي هو يومان فحذف المبتدأ الذي هو هو كقولهم الذي أخوك زيد أي الذي هو أخوك قلنا وهذا أيضا لا يستقيم (1/392)
لأن حذف المبتدأ من صلة الاسم الموصول لا يجوز في نحو الذي أخوك زيد أي الذي هو أخوك وإنما يجوز ذلك جوازا ضعيفا إذا طال الكلام كقولهم الذي راغب فيك زيد وما أنا بالذي قائل لك شيئا وما أشبه ذلك على أن من النحويين من يجعل الحذف في هذا النحو أيضا شاذا لا يقاس عليه وإذا كان شاذا لايقاس عليه مع طول الكلام فمع عدمه أولى فدل على فساد ما ذهب إليه والله أعلم
57 - مسألة هل يعمل حرف القسم محذوفا بغير عوض
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك إلا بعوض نحو ألف الاستفهام نحو قولك للرجل آلله ما فعلت كذا أو هاء التنبيه نحو ها الله
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء عن العرب أنهم يلقون الواو من القسم ويخفضون بها قال الفراء سمعناهم يقولون آلله لتفعلن فيقول المجيب ألله لأفعلن بألف واحدة مقصورة في الثانية فيخفض بتقدير حرف الخفض وإن كان محذوفا وقد جاء في كلامهم إعمال حرف الخفض مع الحذف حكى يونس بن حبيب البصري أن من العرب من يقول مررت برجل صالح إلا صالح فطالح أي إلا أكن مررت برجل صالح فقد (1/393)
مررت بطالح وروى عن رؤية بن العجاج أنه كان إذا قيل له كيف أصبحت يقول خير عافاك الله أي بخير
قال الشاعر
( رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضى الحياة من جلله )
فخفض رسم بإضمار حرف الخفض وقال الآخر
( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخروني )
فخفض لاه بتقدير اللام كأنه قال لله ابن عمك وقال الآخر (1/394)
( أجدك لست الدهر رأيى رامة ... ولا عاقل إلا وأنت جنيب )
( ولا مصعد في المصعدين لمنعج ... ولا هابط ما عشت هضب شطيب )
فخفض على تقدير الباء كأنه قال بمصعد وقال الآخر
( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا )
وقال الآخر وهو الفرزدق
( مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها )
فخفض ناعب بإضمار حرف الخفض وقال الفرزدق أيضا
( وما زرت سلمى أن تكون حبيبة ... إلى ولا دين بها أنا طالبه )
فخفض دين بإضمار حرف الخفض (1/395)
والذي يدل على ذلك أنكم تعملون رب مع الحذف بعد الواو والفاء وبل فدل على جوازه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف وإنما تعمل مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوض ولم يوجد هاهنا فبقينا فيما عداه على الأصل والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال وهو من الأدلة المعتبرة ويخرج على هذا الجر إذا دخلت ألف الاستفهام وها التنبيه نحو آلله ما فعل وها الله ما فعلت لأن ألف الاستفهام وها صارتا عوضا عن حرف القسم والذي يدل على ذلك أنه لا يجوز أن يظهر معهما حرف القسم فلا يقال أ والله ولا ها والله لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض ألا ترى أن الواو لما كانت عوضا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما فلا يجوز أن يقال بو الله لأفعلن فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقولهم الله لأفعلن فإنما جاز ذلك مع هذا الاسم خاصة على خلاف القياس لكثرة استعماله كما جاز دخول (1/396)
حرف النداء عليه مع الألف واللام دون غيره من الأسماء لكثرة الاستعمال فكذلك هاهنا جاز حذف حرف الخفض لكثرة الاستعمال مع هذا الاسم دون غيره فبقينا فيما عداه على الأصل
يدل عليه أن هذا الاسم يختص بما لا يكون في غيره ألا ترى أنه يختص بالتاء كقوله تعالى ( وتالله لأكيدن أصنامكم ) وإن كان لا يجوز دخول التاء في غيره كما لا يجوز إدخال التاء في أسنتوا إلا في خلاف الخصب ولا يقال تالرحمن ولا تالرحيم وكما أن ما حكاه أبو الحسن الأخفش من قوله تربي لا يدل على جوازه لشذوذه وقلته فكذلك قولهم ألله لأفعلن لا يدل على جوازه في غيره واختصاص هذا الاسم بهذا الحكم كاختصاص لات بحين ولدن بغدوة وجاءت بحاجتك في قولهم ما جاءت حاجتك فإن لات لا تعمل إلا في الحين ولدن لا تنصب إلا غدوة وجاءت لا تنصب إلا حاجتك كأنهم قالوا ما صارت حاجتك أو كانت حاجتك وأدخلوا التاء على ما إذ كان ما هو الحاجة كما قال بعضهم من كانت أمك فنصب الأم وأنث من حيث أوقعها على مؤنث ولأن هذا الاسم علم فجاز أن يختص بما لا يكون في غيره لأن الأسماء الأعلام كثيرا ما يعدل ببعضها عن قياس الكلام ألا ترى أنهم قالوا موهب ومورق ففتحوا العين وقياسها أن تكسر وكذلك قالوا حيوة بالواو وإن كان قياسها أن تكون بالياء وكذلك قالوا مزيد ومكوزة (1/397)
ومدين فصححوا وإن كان القياس أن يعلوا لأن ما كان من الأسماء على مفعل أو مفعل فإنه يعتل لمجيئه على وزن الفعل وفصل الميم له من أمثلته وكذلك قالوا محبب بغير إدغام وإن كان القياس الإدغام وكذلك قالوا العجاج والحجاج بإمالة الألف وإن كان قياسها أن لا تمال لعدم شرط الإمالة من الياء والكسرة وهذا لأن من كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام إما لكثرة الاستعمال أو تنبيه على أصل أو غير ذلك
وأما احتجاجهم بما حكى يونس أن من العرب من يقول مررت برجل صالح إلا صالح فطالح أي إلا أكن مررت برجل صالح فقد مررت بطالح قلنا هذا لغة قليلة الاستعمال بعيدة عن القياس فلا يجوز أن يقاس عليها أما قلتها في الاستعمال فظاهر لأن أكثر العرب لا تتكلم بها وإنما جاءت قليلة في لغة لبعض العرب وأما بعدها عن القياس فإنك تفتقر إلى إضمار أشياء وحكم الإضمار أن يكون شيئا واحدا ألا ترى أنك إذا قلت مررت برجل صالح إلا صالح فطالح تقديره إلا أكن مررت بصالح فقد مررت بطالح فتفتقر إلى أشياء وذلك بعيد عن القياس وهذا شبيه بقول النحويين ما مررت بزيد فكيف أخيه ويقول الرجل جئتك بدرهم فيقول المجيب فهلا دينار وهذا كله ردىء لا تتكلم به العرب
وأما ما روى عن رؤبة من قوله خير عافاك الله أي بخير فهو من الشاذ الذي لا يعتد به لقلته وشذوذه وكذلك جميع ما استشهدوا به من الأبيات وقد أجبنا عنها في مواضعها بما يغني عن الإعادة
وأما إضمار رب بعد الواو والفاء وبل وهي حروف جر فإنما جاز ذلك لأن هذه الأحرف صارت عوضا عنها دالة عليها فجاز حذفها وما حذف وفي اللفظ على حذفه دلالة أو حذف إلى عوض وبدل فهو في حكم الثابت (1/398)
وقد بينا ذلك مستقصى في موضعه بخلاف هاهنا فإنكم جوزتم حذف حرف القسم ولا دلالة في اللفظ على حذفه ولا إلى عوض وبدل فبان الفرق بينهما والله أعلم
58م - سألة اللام الداخلة على المبتدأ لام الابتداء أو لام جواب القسم
ذهب الكوفيون إلى أن اللام في قولهم لزيد أفضل من عمرو جواب قسم مقدر والتقدير والله لزيد أفضل من عمرو فأضمر اليمين اكتفاء باللام منها وذهب البصريون إلى أن اللام لام الابتداء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن هذه اللام جواب القسم وليست لام الابتداء أن هذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب
وذلك نحو قولهم لطعامك زيد آكل فلو كانت هذه اللام لام الابتداء لكان يجب أن يكون ما بعدها مرفوعا ولما كان يجوز أن يليها المفعول الذي يجب أن يكون منصوبا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها لام الابتداء أنها إذا دخلت على المنصوب بظننت أو حببت له الرفع وأزالت عنه عمل ظننت تقول ظننت زيدا قائما فإذا أدخلت على زيد اللام قلت ظننت لزيد قائم فأوجبت له الرفع بالابتداء بعد أن كان منصوبا فدل على أنها لام الابتداء
قالوا ولا يجوز أن يقال إن الظن محمول على القسم فاللام جواب القسم كقولهم والله لزيد قائم لا لام الابتداء فإذا كانت جواب القسم فحكمها أن تبطل عمل ظننت فلهذا وجب أن يرفع زيد بما بعده لا بالابتداء وهذا لأن حكم لام القسم في كل موضع أن لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ولا ما بعدها فيما قبلها لأن (1/399)
ما بعدها من الكلام محلوف عليه فلو جعل شيء منه قبلها لزال منه معنى الحلف عليه لأنا نقول لا يجوز أن يكون الظن قسما لأنه إنما نقسم بالشيء في العادة إذا كان عظيما عند الحالف كقوله والله والقرآن والنبي وأبي وما أشبه ذلك مما يحلف به أهل الجاهلية والإسلام ومعنى الظن خارج عن هذا المعنى
فأما قولهم جير لأذهبن وعوض لأقومن وكلا لأنطلقن فإنما أقسموا بها لأنهم أجروها مجرى حق والحق معظم في النفوس بخلاف الظن الذي فيه معنى الشك وجير بمعنى نعم قال الشاعر
( إن الذي أغناك يغنيني جير ... والله نفاح اليدين بالخير ) (1/400)
وعوض بمعنى الدهر قال الشاعر
( رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق ) (1/401)
وفي عوض ثلاث لغات عوض بالضم وعوض بالفتح وعوض بالكسر وكلا بمعنى حقا قال الشاعر
( أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل ) (1/302)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن هذه اللام ليست لام الابتداء لأن الابتداء يوجب الرفع وهذه اللام يجوز أن يليها المفعول الذي يجب له النصب نحو قولهم لطعامك زيد آكل قلنا الأصل في اللام هاهنا أن تدخل على زيد الذي هو المبتدأ وإنما دخلت على المفعول الذي هو معمول الخبر لأنه لما قدم في صدر الكلام وقع موقع المبتدأ فجاز دخول اللام عليه لأن الأصل في هذه اللام أن تدخل على المبتدأ فإذا وقع المفعول موقعه جاز أن تدخل هذه اللام عليه كما تدخل على المبتدأ وإذا جاز دخول هذه اللام على معمول الخبر إذا وقع موقعه كقولك إن زيدا لطعامك آكل وكقول الشاعر (1/403)
( إن امرأ خصني عمدا مودته ... على التنائي لعندي غير مكفور )
وإن كان الأصل فيها أن تدخل بعد نقلها عن الاسم على الخبر لا على معموله لوقوعه موقعه فكذلك يجوز دخول هذه اللام على المفعول إذا وقع موقع المبتدأ وإن كان الأصل فيها أن تدخل على المبتدأ لوقوعه موقعه والله أعلم
59م - سألة القول في أيمن في القسم مفرد هو أو جمع
ذهب الكوفيون إلى أن قولهم في القسم أيمن الله جمع يمين
وذهب البصريون إلى أنه ليس جمع يمين وأنه اسم مفرد مشتق من اليمن
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن أيمن جمع يمين أنه (1/404)
على وزن أفعل وهو وزن يختص به الجمع ولا يكون في المفرد يدل عليه أن التقدير في قولهم أيمن الله أي على أيمن الله أي أيمام الله على فيما أقسم به وهم يقولون في جمع يمين أيمن قال زهير
( فتجمع أيمن منا ومنكم ... بمقسمة تمور بها الدماء )
وقال الأزرق العنبري
( طرن انقطاعه أوتار محظربة ... في أقوس نازعتها أيمن شملا ) (1/405)
وقال الآخر
( يأتي لها من أيمن وأشمل ... ) (1/406)
والأصل في همزة أيمن أن تكون همزة قطع لأنه جمع إلا أنها وصلت لكثرة الاستعمال وبقيت فتحتها على ما كانت عليه في الأصل ولو كانت على ما زعمتم في الأصل همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة على حركتها عندكم في الأصل
والذي يدل على أنها ليست همزة وصل أنها ثبتت في قولهم أم الله لأفعلن فتدخل الهمزة على الميم وهي متحركة ولو كانت همزة وصل لوجب أن تحذف لتحرك ما بعدها
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مفرد وليس بجمع يمين لأنه لو كان جمع يمين لوجب أن تكون همزته همزة قطع فلما وجب أن تكون همزته همزة وصل دل على أنه ليس بجمع يمين قال الشاعر
( وقد ذكرت لي بالكثيب مؤالفا ... قلاص سليم أو قلاص بني بكر )
( فقال فريق القوم لما نشدتهم ... نعم وفريق ليمن الله ما ندري ) (1/407)
ويدل عليه أنهم قالوا في أيمن الله م الله ولو كان جمعا لما جاز حذف جميع حروفه إلا حرفا واحدا إذ لا نظير له في كلامهم فدل على أنه ليس بجمع فوجب أن يكون مفردا
وأما ما ذكروه من كونها همزة وصل لكثرة الاستعمال فسنبين أنه حجة عليهم في الجواب عن كلماتهم إن شاء الله تعالى
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه جمع يمين بدليل أنه على وزن أفعل وأفعل وزن يختص به الجمع ولا يكون في المفرد قلنا لا نسلم بل قد جاء ذلك في المفرد فإنهم قالوا رصاص آنك وهو الخالص وقالوا أسنمة اسم موضع وأكمة وأشد على الصحيح وهو منتهى (1/408)
الشباب والقوة وقيل هو الحلم وقيل عشرون سنة وقيل ثلاث وثلاثون سنة وقيل أربعون سنة
وقولهم الأصل في الهمزة أن تكون همزة قطع لأنه جمع يمين قلنا لو كانت الهمزة فيه همزة قطع لما جاز فيه كسر الهمزة فقيل إيمن الله لأن ما جاء من الجمع على وزن أفعل لا يجوز فيه كسر الهمزة فلما جاز هاهنا بالإجماع كسر الهمزة دل على أنها ليست همزة قطع
وأما قولهم إنها لو كانت همزة وصل لكان ينبغي أن تكون مكسورة قلنا إنما جاءت مفتوحة وإن كان القياس يقتضي أن تكون مكسورة لأنهم لما كثر استعماله في كلامهم فتحوا فيه الهمزة لأنها أخف من الكسرة كما فتحوا الهمزة التي تدخل على لام التعريف وإن كان الأصل فيها الكسر لكثرة الاستعمال فكذلك هاهنا
وأما قولهم إن الهمزة ثبتت في قولهم أم الله لأفعلن مع تحرك ما بعدها قلنا إنما ثبتت الهمزة فيه من وجهين أحدهما أن الأصل في الكلمة أيمن فالهمزة داخلة على الياء وهي ساكنة فلما حذفت وحذفها غير لازم بقي حكمها
والثاني أن حركة الميم حركة إعراب وليست لازمة وتسقط في الوقف فلذلك ثبتت همزة الوصل
والدليل على ذلك أن العرب تقول في الأحمر ألحمر فلا يحذفون همزة الوصل لأن حركة اللام ليست بلازمة وبعض العرب يحذفون الهمزة لتحرك ما بعدها على أن من العرب من يقول م الله فيحذف الهمزة وفيها لغات كثيرة تنيف على عشر لغات أيمن الله وإيمن الله وأيم الله وإيم الله وأم الله وم الله وم الله وم الله وليمن الله ومن الله ومن ربي ومن ربي
ومن لا تدخل إلا على رب وحده ولا تدخل على غيره كما لا تدخل التاء إلا على الله في تالله
والله أعلم (1/409)
تدقيق : رنا المصري 2 (2/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
60 - مسألة القول في الفصل بين المضاف والمضاف إليه
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض لضرورة الشعر وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ذلك بغير الظرف وحرف الجر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن العرب قد استعملته كثيرا في أشعارها قال الشاعر
265
- ( فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزاده ) (2/427)
والتقدير زج أبي مزاده القلوص ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقلوص وهو مفعول وليس بظرف ولا حرف خفض وقال الآخر
266
- ( تمر على ما تستمر وقد شفت ... غلائل عبد القيس منها صدورها ) (2/428)
والتقدير شفت غلائل صدورها عبد القيس منها ففصل بين المضاف والمضاف إليه وقال الآخر
267
- ( يطفن بحوزي المراتع لم ترع ... بواديه من قرع القسى الكنائن ) (2/429)
والتقدير من قرع الكنائن القسي وقال الآخر
268
- ( فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرا رسومها قلما )
والتقدير بعد بهجتها ففصل بين المضاف الذي هو بعد والمضاف إليه الذي هو بهجتها بالفعل الذي هو خط وتقدير البيت فأصبحت قفرا بعد بهجتها كأن قلما خط رسومها وقد حكى الكسائي عن العرب هذا غلام والله زيد وحكى أبو عبيدة قال سمعت بعض العرب يقول إن الشاة لجتر فتسمع صوت والله ربها ففصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله والله وإذا جاء هذا في الكلام ففي الشعر أولى وقد قرأ ابن عامر أحد القراء السبعة وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم بنصب أولادهم وجر شركائهم ففصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله أولادهم والتقدير فيه قتل شركائهم أولادهم والتقدير فيه قتل شركائهم أولادهم ولهذا كان منصوبا في هذه القراءة وإذا جاء هذا في القران ففي الشعر أولى
وأما البصريون فاحتجوا بان قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد فلا يجوز أن يفصل بينهما وإنما جاز الفصل بينهما بالظرف وحرف الجر كما قال عمرو بن قميئة (2/431)
269 - ( لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها )
180 - ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف لأن التقدير لله در من لأمها اليوم وقال أبو حية النميري
270
- ( كما خط الكتاب بكف يوما ... يهودى يقارب أو يزيل ) (2/432)
ففصل بين المضاف والمضاف إليه لأن تقديره بكف يهودي يوما وقال ذو الرمة
271
- ( كأن أصوات من أيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج ) (2/433)
وقالت امرأة من العرب درنا بنت عبعبة الجحدرية وقيل عمرة الجشمية
272 - ( هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة فدعاهما ) (2/434)
ففصل بين المضاف والمضاف إليه لأن تقديره هما أخوا من لا أخا له في الحرب لأن الظرف وحرف الجر يتسع فيهما مالا يتسع في غيرهما فبقينا فيما سواهما على مقتضى الأصل
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما أنشدوه فهو مع قلته لا يعرف قائلة فلا يجوز الاحتجاج به
وأما ما حكى الكسائي من قولهم هذا غلام والله زيد وما حكاه أبو عبيدة عن بعض العرب من قولهم فتسمع صوت والله ربها فنقول إنما جاء ذلك في اليمين لأنها تدخل على أخبارهم للتوكيد فكأنهم لما جازوا بها موضعها استدركوا ذلك بوضع اليمين حيث أدركوا من الكلام ولهذا يسمونها في مثل هذا النحو لغوا لزيادتها في الكلام في وقوعها غير موقعها
والذي يدل على صحة هذا أنا أجمعنا وأياكم على أنه لم يجئ عنهم الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير اليمين في اختيار الكلام
وأما قراءة من قرأ من القراء ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم ) فلا يسوغ لكم الاحتجاج بها لأنكم لا تقولون بموجبها لأن الإجماع واقع على امتناع الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول في غير ضرورة الشعر والقرآن ليس فيه ضرورة وإذا وقع الإجماع على امتناع الفصل (2/435)
به بينهما في حال الاختيار سقط الاحتجاج بها على حالة الاضطرار فبأن أنها إذا لم يجز أن تجعل حجة في النظير لم يجز أن تجعل حجة في النقيض
والبصريون يذهبون إلى وهي هذه القراءة ووهم القارئ إذ لو كانت صحيحة لكان ذلك من أفصح الكلام وفي وقوع الإجماع على خلافه دليل على وهي القراءة وإنما دعا ابن عامر إلى هذه القراءة أنه رأى في مصاحف أهل الشأم شركائهم مكتوبا بالياء ومصاحف أهل الحجاز والعراق ( شركاؤهم ) بالواو فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم
61م - سألة هل تجوز إضافة الاسم إلى اسم يوافقه في المعنى
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان وذهب البصريون إلا أنه لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في كتاب الله وكلام العرب كثيرا قال الله تعالى ( إن هذا لهو حق اليقين ) واليقين في المعنى نعت للحق لأن الأصل فيه الحق اليقين والنعت في المعنى هو المنعوت فأضاف المنعوت إلى النعت وهما بمعنى واحد وقال تعالى ( ولدار الآخرة خير ) والآخرة في المعنى نعت الدار والأصل فيه وللدار الآخرة خير كما قال تعالى في موضع آخر ( وللدار الآخرة خير ) فأضاف دار إلى الآخرة وهما بمعنى (2/436)
واحد وقال تعالى ( جنات وحب الحصيد ) والحب في المعنى هو الحصيد وقد أضافه إليه وقال تعالى ( وما كنت بجانب الغربي ) والجانب في المعنى هو الغربي ثم قال الراعي
273 - ( وقرب جانب الغربي يأدو ... مدب السيل واجتنب الشعارا )
ومن ذلك قولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء والأولى في المعنى هي الصلاة والجامع هو المسجد والبقلة هي الحمقاء وقد أضافوها إليها فدل على ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز لأن الإضافة إنما يراد بها التعريف والتخصيص والشيء لا يتعرف بنفسه لأنه لو كان فيه تعريف كان متسغنيا عن الإضافة وإن لم يكن فيه تعريف كان بإضافتة إلى اسمه أبعد (2/437)
من التعريف إذ يستحيل أن يصير شيئا آخر بإضافة اسمه إلى اسمه فوجب أن لا يجوز كما لو كان لفظهما متفقا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما احتجوا به فلا حجة لهم فيه لأنه كله محمول على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه أما قوله تعالى ( إن هذا لهو حق اليقين ) فالتقدير فيه حق الأمر اليقين كما قال تعالى ( وذلك دين القيمة ) أي دين الملة القيمة وأما قوله تعالى ( ولدار الآخرة خير ) فالتقدير فيه ولدار الساعة الآخرة وأما قوله تعالى ( وحب الحصيد ) أي حب الزرع الحصيد ووصف الزرع بالحصيد وهو التحقيق لأن الحب اسم لما ينبت في الزرع والحصد إنما يكون للزرع الذي ينبت فيه الحب لا للحب ألا ترى أنك تقول حصدت الزرع ولا تقول حصدت الحب وأما قوله تعالى ( وما كنت بجانب الغربي ) فالتقدير فيه بجانب المكان الغربي وأما قولهم صلاة الأولى فالتقدير فيه صلاة الساعة الأولى وأما قولهم مسجد الجامع فالتقدير فيه مسجد الموضع الجامع وأما قولهم بقلة الحمقاء فالتقدير فيه بقلة الحبة الحمقاء لأن البقلة اسم لما نبت من تلك الحبة ووصف الحبة بالحمق وهو التحقيق لأنها الأصل وما نبت منها فرع عليها فكان وصف الأصل بالحمق أولى من وصف الفرع وإنما وصفت بذلك لأنها تنبت في مجاري السيول فتقلعها ولذلك يقولون في المثل هو أحمق من رجله فإذا كان جميع ما احتجوا به محمولا على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه على ما بينا لم يكن لهم فيه حجة والله أعلم (2/438)
62 - سألة كلا وكلتا مثنيان لفظا ومعنى أو معنى فقط
ذهب الكوفيون إلى أن كلا وكلتا فيهما تثنية لفظية ومعنوية وأصل كلا كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية وزيدت التاء في كلتا للتأنيث والألف فيهما كالألف في الزيدان والعمران ولزم حذف نون التثنية منهما للزومهما الإضافة
وذهب البصريون إلى أن فيهما إفرادا لفظيا وتثنية معنوية والألف فيهما كالألف في عصا ورحا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنهما مثنيان لفظا ومعنى وأن الألف فيهما للتثنية النقل والقياس
أمان النقل فقد قال الشاعر
274 - ( في كلت رجليها سلامي واحدة ... كلتاهما مقرونة بزائدة )
فأفرد قوله كلت فدل على أن كلتا تثنية (2/439)
وأما القياس فقالوا الدليل على أنها ألف التثنية أنها تنقلب إلى الياء في النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر وذلك نحو قولك رأيت الرجلين كليهما ومررت بالرجلين كليهما ورأيت المرأتين كلتيهما ومررت بالمرأتين كلتيهما ولو كانت الألف في آخرهما كالألف في آخر عصا ورحا لم تنقلب كما لم تنقلب ألفهما نحو رأيت عصاهما ورحاهما ومرزن بعصاهما ورحاهما فلما انقلبت الألف فيهما انقلاب ألف الزيدان والعمران دل على أن تثنيتهما لفظية ومعنوية
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن فيهما إفرادا لفظيا وتثنية معنوية أن الضمير تارة يرد إليهما مفردا حملا على اللفظ وتارة يرد إليهما مثنى حملا على المعنى (2/441)
فأما رد الضمير مفردا حملا على اللفظ فقد جاء ذلك كثيرا قال الله تعالى ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) فقال ( آتت ) بالإفراد حملا على اللفظ ولو كان مثنى لفظا ومعنى لكان يقول آتتا كما تقول الزيدان ذهبا والعمران ضربا وقال الشاعر
275 - ( كلا أخوينا ذو رجال كأنهم ... أسود الشرى من كل أغلب ضيغم )
فقال ذو بالإفراد حملا على اللفظ ولو كان مثنى لفظا ومعنى لقال ذوا وقال الآخر
276 - ( كلا أخويكم كان فرعا دعامة ... ولكنهم زادواو أصبحت ناقصا ) (2/442)
فقال كان بالإفراد حملا على اللفظ ولم يقل كانا وقال الآخر
( أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص )
فقال حريص بالإفراد ولم يقل حريصان وقال الآخر
277
- ( كلانا يا يزيد يحب ليلى ... بفي وفيك من ليلى التراب )
فقال يحب بالإفراد على ما بينا وقال الآخر
278
- ( كلا ثقلينا واثق بغنيمة ... وقد قدر الرحمن ما هو قادر ) (2/443)
فقال واثق بالأفراد وقال الآخر
279
- ( كلا يومي أمامه يوم صد ... وإن لم نأتها إلا لماما ) (2/444)
فقال يوم بالإفراد وقال أبو الأخزر الحماني
280
- ( فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانه لم تحنف ) (2/445)
فقال خرت بالإفراد وقال الآخر
281
- ( فكلتاهما قد خط لي في صحيفة ... فلا العيش أهواه ولا الموت أروح )
فقال خط بالإفراد والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا
وأما رد الضمير مثنى حملا على المعنى فعلى ما حكى عن بعض العرب أنه قال كلاهما قائمان وكلتاهما لقيتهما وقال الشاعر (2/446)
282 - ( كلاهما حين جد الجرى بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي )
فقال أقلعا حملا على المعنى وقال رابي حملا على اللفظ (2/447)
والحمل في كلا وكلتا على اللفظ أكثر من الحمل على المعنى ونظيرهما في الحمل على اللفظ تارة وفي الحمل على المعنى أخرى كل فإنه لما كان مفردا في اللفظ مجموعا في المعنى رد الضمير إليه تارة على اللفظ وتارة على المعنى كقولهم كل القوم ضربته وكل القوم ضربتهم وقد جاء بهما التنزيل قال الله تعالى ( إن كل من في السماوات والأرض إلا أتى الرحمن عبدا ) فقال ( آتي ) بالإفراد حملا على اللفظ وقال تعالى ( وكل أتوه داخرين ) فقال ( أتوه ) بالجمع حملا على المعنى إلا أن الحمل على المعنى في كل أكثر من الحمل على المعنى في كلا وكلتا
والذي يدل على أن فيهما إفرادا لفظيا أنك تضيفهما إلى التثنية فتقول جاءني كلا اخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني أخواك كلاهما ورأيتهما كليهما ومررت بهما كليهما وكذلك حكم إضافة كلتا إلى المظهر والمضمر فلو كانت التثنية فيهما لفظية لما جاز إضافتهما إلى التثنية لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه
والذي يدل على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها تجوز إمالتها قال الله تعالى ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) وقال تعالى ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) قرأهما حمزة والكسائي وخلف بإمالة الألف فيهما ولو كانت الألف فيهما للتثنية لما جازت إمالتها لأن ألف التثنية لا تجوز إمالتها
والذي يدل أيضا على أن الألف فيهما ليست للتثنية أنها لو كانت للتثنية لانقلبت في حالة النصب والجر إذا أضيفتا إلى المظهر لأن الأصل هو المظهر (2/448)
وإنما المضمر فرعه تقول رأيت كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين وكذلك تقول في المؤنث رأيت كلتا المرأتين ومررت بكلتا المرأتين ولو كانت للتثنية لوجب أن تنقلب مع المظهر كما تنقلب مع المضمر فلما لم تنقلب دل على أنها ألف مقصورة وليست للتثنية
والذي يدل على أن كلا ليست مأخوذة من كل أن كلا للإحاطة وكلا لمعنى مخصوص فلا يكون أحدهما مأخوذا من الآخر
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقول الشاعر
( في كلت رجليها سلامي واحدة ... )
فلا حجة فيه لأن الأصل أن يقول كلتا بالألف إلا أنه حذفها اجتزاء بالفتحة عن الألف لضرورة الشعر كما قال الآخر
( فلست بمدرك ما فات منى ... بلهف ولا بليت ولا لو أني )
أراد بلهفا فاجتزأ بالفتحة عن الألف وكقول الآخر
283
- ( وصاني العجاج فيما وصني ... )
أراد فيما وصاني وهذا كثير في أشعارهم
وأما قولهم إن الألف فيهما تنقلب في حالة النصب والجر إذا أضيفتا إلى المضمر قلنا إنما قلبت في حالة الإضافة إلى المضمر لوجهين (2/449)
أحدهما أنهما لما كان فيهما إفراد لفظي وتثنية معنوية وكانا تارة يضافان إلى المظهر وتارة يضافان إلى المضمر جعلوا لهما حظا من حالة الإفراد وحظا من حالة التثنية فجعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد على صورة واحدة في حالة الرفع والنصب والجر وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية في قلب الألف من كل واحد منهما ياء في حالة النصب والجر اعتبارا بكلا الشبهين وإنما جعلوهما مع الإضافة إلى المظهر بمنزلة المفرد لأن المظهر هو الأصل والمفرد هو الأصل فكان الأصل أولى بالأصل وجعلوهما مع الإضافة إلى المضمر بمنزلة التثنية لأن المضمر فرع والتثنية فرع فكان الفرع أولى بالفرع وهذا الوجه ذكره بعض المتأخرين
والوجه الثاني وهو أوجه الوجهين وبه علل أكثر المتقدمين وهو أنه إنما لم تقلب الألف فيهما مع المظهر وقلبت مع المضمر لأنهما لزمتا الإضافة وجر الاسم بعدهما فأشبهتا لدى وإلى وعلى وكما أن لدي وإلى وعلى لا تقلب ألفها ياء مع المظهر نحو لدي زيد وإلى عمرو وعلى بكر وتقلب مع المضمر نحو لديك وإليك وعليك فكذلك كلا وكلتالا تقلب ألفهما ياء مع المظهر وتقلب مع المضمر
والذي يدل على صحة ذلك أن القلب في كلا وكلتا إنما يختص بحالة النصب والجر دون حالة الرفع لأن لديك إنما تستعمل في حالة النصب والجر ولا تستعمل في حالة الرفع فلهذا المعنى كان القلب مختصا بحالة النصب والجر دون حالة الرفع وقد أفردنا في الكلام على كلا وكلتا جزءا استقصينا فيه القول عليهما والله أعلم (2/450)
63 - سالة هل يجوز توكيد النكرة توكيدا معنويا
ذهب الكوفيون إلى أن توكيد النكرة بغير لفظها جائز إذا كانت مؤقتة نحو قولك قعدت يوما كله وقمت ليلة كلها وذهب البصريون إلى أن تأكيد النكرة بغير لفظها غير جائز على الإطلاق وأجمعوا على جواز تأكيدها بلفظها نحو جاءني رجل رجل ورأيت رجلا رجلا ومررت برجل رجل وما أشبه ذلك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن تأكيدها جائز النقل والقياس
أما النقل فقد جاء ذلك عن العرب قال الشاعر
284
- ( لكنه شاقة أن قيل ذا رجب ... ياليت عدة حول كله رجب )
فأكد حول وهو نكرة بقوله كله فدل على جوازه (2/451)
وقال الآخر
285
- ( إذا القعود كر فيها حفدا ... يوما جديدا كله مطردا )
فأكد يوما وهو نكرة بقوله كله (2/452)
وقال الآخر
286
- ( زحرت به ليلة كلها ... فجئت به مؤيدا خنفقيقا ) (2/543)
فأكد ليلة وهي نكرة بقوله كلها ومؤيدا خنفقيقا اسمان من أسماء الداهية وقال الآخر
287
- ( قد صبرت البكرة يوما أجمعا )
فأكد يوما بأجمع فدل على جوازه
وأما القياس فلأن اليوم مؤقت يجوز أن يقعد في بعضه والليلة مؤقتة يجوز أن يقوم في بعضها فإذا قلت قعدت يوما كله وقمت ليلة كلها صح معنى التوكيد فدل على صحة ما ذهبنا إليه (2/454)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن تأكيد النكرة غير جائز من وجهين
احدهما أن النكرة شائعة ليس لها عين ثابتة كالمعرفة فينبغي أن لا تفتقر إلى تأكيد لأن تأكيد مالا يعرف لا فائدة فيه وأما قولهم رأيت درهما كل درهم وما أشبه ذلك فهو محمول على الوصف لا على التأكيد
والوجه الثاني أن النكرة تدل على الشياع والعموم والتوكيد يدل على التخصيص والتعيين وكل واحد منهما ضد صاحبه فلا يصلح أن يكون مؤكدا له ولو جوزنا ذلك لكنا قد صيرنا الشائع مخصصا وهذا ليس بتأكيد بل هو ضد ما وضع له لأن التأكيد تقرير وهذا تغيير ولهذا المعنى امتنع أن يجوز وصف النكرة بالمعرفة أو المعرفة بالنكرة لأن كل واحد منهما ضد صاحبه لأن النكرة شائعة والمعرفة مخصوصة والصفة في المعنى هي الموصوف ويستحيل أن يكون الشيء الواحد شائعا مخصوصا في حال واحدة فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما استشهدوا به من الأبيات فلا حجة فيه أما قول الشاعر
( ياليت عدة حول كله رجب ... )
فنقول الرواية الصحيحة
( يا ليت عدة حولي كله رجب ... )
بالإضافة وهو معرفة لا نكرة وأما قول الآخر
( يوما جديدا كله مطردا ... )
فلا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون توكيدا للمضمر في جديد والمضمرات لا تكون إلا معارف وكان هذا أولى به لأنه أقرب إليه من يوم فعلى هذا يكون الإنشاد بالرفع وأما قول الآخر
( قد صرت البكرة يوما أجمعا ... ) (2/455)
فنقول هذا البيت مجهول لا يعرف قائله فلا يجوز الأحتجاج به
ثم لو قدرنا أن هذه الأبيات التي ذكروها كلها صحيحة عن العرب وأن الرواية ما ادعوه لما كان فيها حجة وذلك لشذوذها وقلتها في بابها إذ لو طردنا القياس في كل ما جاء شاذا مخالفا للأصول والقياس وجعلناه أصلا لكان ذلك يؤدي إلى أن تختلط الأصول بغيرها وأن يجعل ما ليس بأصل أصلا وذلك يفسد الصناعة بأسرها وذلك لا يجوز على أن هذه المواضع كلها محمولة على البدل لا على التأكيد
وأما قولهم إن اليوم مؤقت فيجوز أن يقعد بعضه والليلة مؤقتة فيجوز أن يقوم بعضها فإذا أكدت صح معنى التوكيد قلنا هذا لا يستقم فإن اليوم وإن كان مؤقتا إلا أنه لم يخرج عن كونه نكرة شائعة وتأكيد الشائع المنكور بالمعرفة لا يجوز كالصفة ولأن تأكيد مالا يعرف لا فائدة فيه على ما بينا والله أعلم
64م - سالة هل يجوز أن تجيء واو العطف زائدة
ذهب الكوفيون إلى الواو العاطفة يجوز أن تقع زائدة وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو العباس المبرد وأبو القاسم بن برهان من البصريين
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الواو يجوز أن تقع زائدة أنه قد جاء ذلك كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( حتى إذا جاءوك وفتحت أبويها ) (2/456)
فالواو زائدة لأن التقدير فيه فتحت أبوابها لأنه جواب لقوله ( حتى إذا جاءوها ) كما قال تعالى في صفة سوق أهل النار إليها ( حتى إذا جاءوها فتحت أبواها ) ولا فرق بين الآيتين وقال تعالى ( حتى إذا فتحت ياجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق ) فالواو زائده لأن التقدير فيه اقترب لأنه جواب لقوله تعالى ( حتى إذا فتحت ) وقال تعالى ( إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وإذنت لربها وحقت ) والتقدير فيه أذنت لأنه جواب إذا والشواهد على هذا النحو من التنزيل كثيرة وقال الشاعر
288 - فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي قفاق عقنقل ) (2/457)
والتقدير فيه انتحى الواو زائدة لأنه جواب لما وقال الآخر
289
- ( حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا )
( وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب ) (2/458)
والتقدير فيه قلبتم والواو زائدة والشواهد على هذا النحو من أشعارهم أكثر من أن تحصى
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الواو في الأصل حرف وضع لمعنى فلا يجوز أن يحكم بزيادته مهما أمكن أن يجرى على أصله وقد أمكن هاهنا وجميع ما استشهدوا به على الزيادة يمكن أن يحمل فيه على أصله وسنبين ذلك في الجواب عن كلماتهم
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ) فنقول هذه الآية لا حجة لكم فيها لأن الواو في قوله ( وفتحت أبوابها ) عاطفة وليست زائدة وأما جواب ( إذا ) فمحذوف والتقدير فيه حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها فازوا ونعموا وكذلك قوله تعالى ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب ) الواو فيه عاطفة وليست زائدة والجواب محذوف والتقدير فيه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون قالوا يا ويلنا فحذف القول وقيل جوابها ( فإذا هي شاخصة ) وكذلك قول الله تعالى ( إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت ) الواو فيه عاطفة (2/459)
وليست زائدة والجواب محذوف والتقدير فيه إذا السماء أنشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يرى الإنسان الثواب والعقاب ويدل على هذا التقدير قوله تعالى ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) أي ساع إليه في عملك والكدح عمل الإنسان من الخير والشر الذي يجازي عليه بالثواب والعقاب
وأما قول الشاعر
( فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل )
فالواو فيه أيضا عاطفة وليست زائدة والجواب مقدر والتقدير فيه فلما أجزنا ساحة الحي اننحى بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل خلونا ونعمنا وكذلك أيضا قول الآخر
( حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا )
( وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب )
الواو فيه عاطفة وليست زائدة والتقدير فيه حتى إذا قملت بطونكم ورأيتم أبناءكم شبوا وقلبتم ظهر المجن لنا بأن غدركم ولؤمكم
وأنى حذف الجواب في هذه المواضع للعلم به توخيا للإيجاز والاختصار
وقد حذف الجواب في كتاب الله تعالى وكلام العرب كثيرا قال الله تعالى ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ) فحذف جواب لو ولا بد لها من الجواب والتقدير فيه ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض لكان هذه القرآن فحذفه للعلم به توخيا للإيجار والاختصار وقال تعالى ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ) فحذف جواب لولا والتقدير فيه ولولا فضل الله عليكم (2/460)
ورحمته لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة ولعاجلكم بالعقوبة وقال عبد مناف ابن ربع الهذلي
290
- ( حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا )
ولم يأت بالجواب لأن هذا البيت آخر القصيدة والتقدير فيه حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلوا شلا فحذف للعلم به توخيا للإيجاز والاختصار على ما بينا ثم حذف الجواب أبلغ في المعنى من إظهاره ألا ترى أنك لو قلت لعبدك والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب ذهب فكره إلى أنواع من العقوبة والمكروه من القتل والقطع والضرب والكسر فإذا تمئلت في فكرة أنواع العقوبات وتكاثرت عظمت الحال في نفسه ولم يعلم أيها يتقي فكان أبلغ في ردعه وزجره عما يكره منه ولو قلت والله لئن قمت إليك لأضربنك (2/461)
وأظهرت الجواب لم يذهب فكره إلى نوع من المكروه سوى الضرب فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه لأنه قد وطن له نفسه فيسهل ذلك عليه قال كثير
291
- ( وقلت لها يا عز كل ملمة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت )
وكذلك الحال في الإحسان نحو والله لئن زرتني إذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه من إكرامه والإنعام عليه فكان ذلك أبلغ في استدعائه إلى الزيارة وإسراعه إليها ولو قلت والله لئن زرتني لأعطينك درهما لم يذهب فكرة إلى غير الدرهم قط فكان ذلك دون حذف الجواب في نفسه لأنه ربما يكون مستغنيا عنه غير راغب فيه فلا يدعوه ذلك إلى الزيارة وإذا حذفت الجواب تصورت له أنواع الإحسان إليه فكان ذلك أدعى له إلى الزيارة كما كان الأول أدعى إلى الترك على ما بينا والله أعلم (2/461)
65 - سألة هل يجوز العطف على الضمير المخفوض
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على الضمير المخفوض وذلك نحو قولك مررت بك وزيد
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز أنه قد جاء ذلك في التنزيل وكلام العرب قال الله تعالى ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) بالخفض وهي قراءة أحد القراء السبعة وهو حمزة الزيات وقراءة إبراهيم النخعي وقتادة ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش ورواية الأصفهاني والحلبي عن عبد الوارث وقال تعالى ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم ) فما في موضع خفض لأنه عطف على الضمير المخفوض في ( فيهن ) وقال تعالى ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ) فالمقيمن في موضع خفض بالعطف على الكاف في ( إليك ) والتقدير فيه يؤمنون بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة يعني من الأنبياء عليهم السلام ويجوز أيضا أن يكون عطفا على الكاف في ( قبلك ) والتقدير فيه ومن قبل المقيمين الصلاة يعني من أمتك وقال تعالى ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ) فعطف ( المسجد الحرام ) (2/463)
على الهاء من ( به ) وقال تعالى ( وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ) فمن في موضع خفض بالعطف على الضمير المفخوض في ( لكم ) فدل على جوازه وقال الشاعر
292
- ( فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب )
فالأيام خفض بالعطف على الكاف في بك والتقدير بك وبالأيام وقال الآخر
( أكر على الكتيبة لا أبالي ... أفيها كان حتفي أم سواها )
فعطف سواها بأم على الضمير في فيها والتقدير أم في سواها (2/464)
وقال الآخر
293
- ( تعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف )
فالكعب مخفوض بالعطف على الضمير المخفوض في بينها والتقدير ما بينها وبين الكعب غوط نفانف يعني أن قومه طوال وأن السيف على الرجل (2/465)
منهم كأنه على سارية من طوله وبين السيف وكعب الرجل منهم غائط وهو المكان المطمئن من الأرض ونفانف واسعة أي بين السيف والكعب مسافة فعطف الكعب على الضمير المخفوض في بينها وقال الآخر
294
- ( هلا سألت بذي الجماجم عنهم ... وأبي نعيم ذي اللواء المحرق )
فأبي نعيم خفض بالعطف على الضمير المخفوض في عنهم فهذه كلها شواهد ظاهرة تدل على جوازه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز وذلك لأن الجار مع المجرور بمنزلة شيء واحد فإذا عطفت على الضمير المجرور والضمير إذا كان مجرورا اتصل بالجار ولم ينفصل منه ولهذا لا يكون إلا متصلا بخلاف ضمير المرفوع والمنصوب فكأنك قد عطفت الاسم على الحرف الجار وعطف الاسم على الحرف لا يجوز (2/466)
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا ذلك لأن الضمير قد صار عوضا عن التنوين فينبغي أن لا يجوز العطف عليه كما لا يجوز العطف على التنوين والدليل على استوائهما أنهم يقولون يا غلام فيحذفون الياء كما يحذفون التنوين وإنما اشتبها لأنهما على حرف واحد وانهما يكملان الاسم وأنهما لا يفصل بينهما وبينه بالظرف وليس كذلك الاسم المظهر
ومنهم من تمسك بأن قال أجمعنا على أنه لا يجوز عطف المضمر المجرور على المظهر المجرور فلا يجوز أن يقال مررت بزيد وك فكذلك ينبغي أن لا يجوز عطف المظهر المجرور على المضمر المجرور فلا يقال مررت بك وزيد لأن الأسماء مشتركة في العطف فكما لا يجوز أن يكون معطوفا فلا يجوز أن يكون معطوفا عليه
والاعتماد من هذه الأدلة على الأول
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) فلا حجة لهم فيه من وجهين أحدهما أن قوله ( والأرحام ) ليس مجرورا بالعطف على الضمير المجرور وإنما هو مجرور بالقسم وجواب القسم قوله ( إن الله كان عليكم رقيبا ) والوجه الثاني أن قوله ( والأرحام ) مجرور بباء مقدرة غير الملفوظ بها وتقديره وبالأرحام فحذفت لدلالة الأولى عليها وله شواهد كثيرة في كلامهم سنذكر طرفا منها مستوفي في آخر المسألة إن شاء الله تعالى
وأما قوله تعالى ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم ) فلا حجة لهم فيه أيضا من وجهين
أحدهما أنا لا نسلم أنه في موضع جر وإنما هو في موضع رفع بالعطف على الله والتقدير فيه الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيهن ما يتلى عليكم وهو القرآن وهو أوجه الوجهين (2/467)
والثاني أنا نسلم أنه في موضع جر ولكن بالعطف على ( 6النساء ) من قوله ( يستفتونك في النساء ) لا على الضمير المجرور في ( فيهن )
وأما قوله تعالى ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين ) فلا حجة لهم فيه أيضا من وجهين
أحدهما أنا لا نسلم أنه في موضع جر وإنما هو في موضع نصب على المدح بتقدير فعل وتقديره أعنى المقيمين وذلك لأن العرب تنصب على المدح عند تكرر العطف والوصف وقد يستأنف فيرفع قال الله تعالى ( وآتى المال على حبة ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء ) فرفع ( الموفن ) على الاستئناف فكأنه قال وهم الموفون ونصب ( الصابرين ) على المدح فكأنه قال أذكر الصبارين ثم قالت الخرنق امرأة من العرب
295
- ( لا يبعدون قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر )
( النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر ) (2/468)
فنصبت الطيبين على المدح فكأنها قالت أعنى الطيبين ويروي أيضا والطيبون بالرفع أي وهم الطيبون وقال الشاعر
296
- ( إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم )
( وذا الرأي حين تغم الأمور ... بذات الصليل وذات اللجم ) (2/469)
فنصب ذا الرأي على المدح فكذلك هاهنا وقال الآخر
297
- ( وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم ... إلا نميرا أطاعت أمر غاويها )
( الظاعنين ولما يظعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخليها ) (2/470)
فرفع القائلون على الاستئناف ولك أن ترفعهما جميعا ولك أن تنصبهما جميعا ولك أن تنصب الأول وترفع الثاني ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني لا خلاف في ذلك بين النحويين
والوجه الثاني أنا نسلم أنه في موضع جر ولكن بالعطف على ما من قوله ( بما أنزل إليك ) فكأنه قال يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين على أنه قد روى عن عائشة عليها السلام أنها سئلت عن هذا الموضع فقالت هذا خطأ من الكاتب وروى عن بعض ولد عثمان أنه سئل عنه فقال إن الكاتب لما كتب ( وما أنزل من قبلك ) قال ما أكتب فقيل له أكتب والمقيمين الصلاة يعني أن الممل أعمل قوله اكتب في ( المقيمين ) على أن الكاتب يكتبها بالواو كما كتب ما قبلها فكتبها على لفظ الممل
وأما قوله تعالى ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ) فلا حجة لهم فيه لأن ( المسجد الحرام ) مجرور بالعطف على ( سبيل الله ) لا بالعطف على ( به ) والتقدير فيه وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام لأن إضافة الصد عنه (2/471)
أكثر في الاستعمال من إضافة الكفر به ألا ترى أنهم يقولون صددته عن المسجد ولا يكادون يقولون كفرت بالمسجد
وأما قوله تعالى ( وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ) فلا حجة لكم فيه لأن ( من ) في موضع نصب بالعطف على معايش ) أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء
وأما قول الشاعر
( فأذهب فما بك والأيام من عجب ... )
فلا حجة فيه أيضا لأنه مجرور على القسم لا بالعطف على الكاف في بك
وأما قول الآخر
( أفيها كان حتفي أم سواها ... )
فلا حجة فيه أيضا لأن سواها في موضع نصب على الظرف وليس مجرورا على العطف لأنها لا تقع إلا منصوبة على الظرف وقد ذكرنا ذلك في موضع
وأما قول الآخر
( وما بينها والكعب غوط نفانف ... )
فلا حجة فيه أيضا لأنه ليس مجرورا على ما ذكروا وإنما هو مجرور على تقدير تكرير بين مرة أخرى فكأنه قال وما بينها وبين الكعب فحذف الثانية لدلالة الأولى عليها كما تقول العرب ما كل بيضاء شحمة ولا سوداء تمرة يريدون ولا كل سوداء فيحذفون كل الثانية لدلالة الأولى عليها وقال الشاعر (2/472)
298 - ( اكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا ) (2/473)
أراد وكل نار فاستغنى عن تكرير كل وهذا كثير في كلامهم وبهذا يبطل قول من توهم منكم أن ياء النسب في قولهم رأيت التيمى تيم عدى اسم في موضع خفض لأنه أبدل منها تيم عدى فخفضه على البدل لأن التقدير فيه صاحب تيم عدي فحذف صاحب وجر ما بعده بالإضافة لأنه في تقدير الثبات وهذا هو الجواب عن قول الآخر
( وأبي نعيم ذي اللواء المحرق ... )
ثم لو حمل ما أنشدوه من الأبيات على ما أدعوه لكان من الشاذ الذي لا يقاس عليه والله أعلم
66م - سألة العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل في اختيار الكلام نحو قمت وزيد (2/474)
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا على قبح في ضرورة الشعر
وأجمعوا على أنه إذا كان هناك توكيد أو فصل فإنه يجوز معه العطف من غير قبح
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ) فعطف ( هو ) على الضمير المرفوع المستكن في ( استوى ) والمعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق وهو مطلع الشمس فدل على جوازه وقال الشاعر
299
- ( قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا ) (2/475)
فعطف زهر على الضمير المرفوع في أقبلت وقال الآخر
300
- ) ورجا الأخيطل من سفاهة رأية ... ما لم يكن وأب له لينالا ) (2/476)
فعطف وأب على الضمير المرفوع في يكن فدل على جوازه كالعطف على الضمير المنصوب المتصل
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون مقدرا في الفعل أو ملفوظا به فإن كان مقدرا فيه نحو قام وزيد فكأنه قد عطف اسما على فعل وإن كان ملفوظا به نحو قمت وزيد فالتاء تنزل بمنزلة الجزء من الفعل فلو جوزنا العطف عليه لكان أيضا بمنزلة عطف الاسم على الفعل وذلك لا يجوز
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( فاستوى وهو بالأفق الأعلى ) فالواو فيه واو الحال لا واو العطف والمراد به جبريل وحده والمعنى أن جبريل وحده استوى بالقوة في حالة كونه بالأفق وقيل فاستوى على صورته التي خلق عليها في حالة كونه بالأفق وإنما كان قبل ذلك يأتي النبي صلى الله عليه و سلم في صورة رجل
وأما ما أنشدوه من قوله
( قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... )
وقول الآخر
( ما لم يكن وأب له لينالا ... )
فمن الشاذ الذي لا يؤخذ به ولا يقاس عليه على أنا نقول إنما جاءها هاهنا لضرورة الشعر والعطف على الضمير المرفوع المتصل في ضرورة الشعر عندنا جائز فلا يكون لكم فيه حجة
وتشبيههم له بالضمير المنصوب المتصل فلا وجه له بحال لأن الضمير المنصوب المتصل وإن كان في اللفظ في صورة الاتصال فهو في النية في تقدير الانفصال (2/477)
بخلاف الضمير المرفوع المتصل لأنه في اللفظ والتقدير بصفة الاتصال فبان الفرق بينهما وقد ذكرنا ذلك مستوفى في كتابنا المرسوم بأسرار العربية والله أعلم
67 - مسألة هل تأتي أو بمعنى الواو وبمعنى بل
ذهب الكوفيون إلى أن أو تكون بمعنى الواو بمعنى بل
ذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى الواو ولا بمعنى بل
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فقيل في التفسير إنها بمعنى بل أي بل يزيدون وقيل إنها بمعنى الواو أي ويزيدون ثم قال الشاعر
301
- ( بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح ) (2/478)
أراد بل وقال تعالى ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) أي وكفورا ثم قال النابغة
302
- ( قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد ) (2/479)
إي ونصفه والشواهد على هذا النحو من كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن تحصى
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الأصل في أو أن تكون لأحد الشيئين على الإبهام بخلاف الواو وبل لأن الواو معناها الجمع بين الشيئين (2/480)
وبل معناها الإضراب وكلاهما مخالف لمعنى أو والأصل في كل حرف أن لا يدل إلا على ما وضع له ولا يدل على معنى حرف آخر فنحن تمسكنا بالأصل ومن تمسك بالأصل استغنى عن إقامة الدليل ومن عدل عن الأصل بقي مرتهنا بإقامة الدليل ولا دليل لهم يدل على صحة ما ادعوه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) فلا حجة لهم فيه وذلك من وجهين أحدهما أن يكون للتخيير والمعنى أنهم إذا رآهم الرائي تخير في أن يقدرهم مائة ألف أو يزيدون على ذلك والوجة الثاني أن يكون بمعنى الشك والمعنى أن الرائي إذا رآهم شك في عدتهم لكثرتهم أي أن حالهم حال من يشك في عدتهم لكثرتهم فالشك يرجع إلى الرائي لا إلى الحق تعالى كما قال تعالى ( فما أصبرهم على النار ) بصيغة التعجب والتعجب يرجع إلى المخاطبين لا إلى الله تعالى أي حالهم حال من يتعجب منه لأن حقيقة التعجب في حق الحق لا تتحقق لأن التعجب إنما يكون بحدوث علم بعد أن لم يكن ولهذا قيل في معناه التعجب ما ظهر حكمه وخفي سببه والحق تعالى عالم بما كان وبما يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وكما أن التعجب يرجع إلى الخلق لا إلى الحق فكذلك هاهنا
وأما احتجاجهم بقول الشاعر
( أو أنت في العين أملح ... )
فالرواية فيه أم أنت في العين أملح ولئن سلمنا أن الرواية أو فلا حجة لهم فيه أيضا لأن أو فيه للشك وليست بمعنى بل لأن مذهب الشعراء أن يخرجوا الكلام مخرج الشك وإن لم يكن هناك شك ليدلوا بذلك على قوة الشبه ويسمى في صنعه الشعر تجاهل العارف كقول الشاعر (2/481)
303 - ( فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم )
وكقول الآخر
304
- ( بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكن أم ليلى من البشر )
وإن لم يكن هناك شك ولا شبهة وإذا كانوا يخرجون الكلام مخرج الشك وإن لم يكن هناك شك لم تخرج أو عن أصلها (2/482)
وأما قول الله تعالى ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) فلا حجة لهم فيه لأن أو فيها للإباحة أي قد أبحتك كل واحد منهما كيف شئت كما تقول في الأمر جالس الحسن أو ابن سيرين أي قد أبحتك مجالسة كل واحد منهما كيف شئت والمنع بمنزلة الإباحة فكما أنه لا يمتنع من شيء أبحته له فكذلك لا يقدم على شيء نهيته عنه وأما قول الآخر
( أو نصفه فقد ... )
فنقول الرواية ونصفه فقد بالواو فلا يكون لكم فيه شاهد ولو سلمنا أن الرواية على ما رويتموه فنقول أو فيه باقية على أصلها وهو أن يكون التقدير فيه ليتما هذا الحمام أو هو ونصفه فحذف المعطوف عليه وحرف العطف كقوله تعالى ( فقلنا أضرب بعصاك الحجر فانفجرت ) أي فضرب فانفجرت وعلى هذا التقدير قول الشاعر
( ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... ) (2/483)
أي شهرين أو شهرين ونصف ثالث ألا ترى أنك لا تقول مبتدئا لبثت نصف ثالث وإذا وجب أن يكون المعطوف عليه محذوفا كانت باقية على أصلها فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم
68م - سالة هل يجوز أن يعطف بلكن بعد الإيجاب
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف بلكن في الإيجاب نحو أتاني زيد لكن عمرو وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف بها في الإيجاب فإذا جئ بها في الإيجاب وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة للجملة التي قبلها نحو أتاني زيد لكن عمرو لم يأت وما أشبه ذلك وأجمعوا على أنه يجوز العطف بها في النفي
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أن بل يجوز العطف بها بعد النفي والإيجاب فكذلك لكن وذاك لاشتراكهما في المعنى ألا ترى أنك تقول ما جاءني زيد لكن عمرو فتثبت المجئ للثاني دون الأول كما لو قلت ما جاءني زيد بل عمرو فتثبت المجئ للثاني دون الأول فإذا كانا في معنى واحد وقد اشتركا في العطف بهما في النفي فكذلك في الإيجاب
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز العطف بها بعد الإيجاب (2/484)
وذلك لأن العطف بها في الإيجاب إنما يكون في الغلط والنسيان ألا ترى أنك لو عطفت بها بعد الإيجاب لكنت تقول جاءني زيد لكن عمرو فكنت تثبت للثاني بلكن المجئ الذي أثبته للأول فيعلم أن الأول مرجوع عنه كالعطف ببل في الإيجاب نحو جاءني زيد بل عمرو وإذا كان العطف بلكن في الإيجاب إنما يكون في الغلط والنسيان فلا حاجة إليها لأنه قد استغنى عنها ببل في الإيجاب لأنه لا حاجة إلى تكثير الحروف الموجبة للغلط وقد يستغنى بالحرف عن الحرف في بعض الأحوال إذا كان في معناه ألا ترى أنهم استغنوا بإليك عن حتاك وبمثلك عن كك وكذلك استغنوا عن ودع بترك لأنه في معناه وكذلك استغنوا به عن وذر وكذلك استغنوا بمصدر ترك واسم الفاعل منه عن مصدر ودع ووذر وعن اسم الفاعل منهما فيقال ترك تركا فهو تارك ولا يقال ودع ودعا وهو وادع ولا وذر وذرا فهو واذر فأما قول أبي الأسود الدؤلي
306
- ( ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غالة في الحب حتى ودعة ) (2/485)
وقول سويد بن أبي كأهل
307
- ( فسعى مسعاته في قومه ... ثم لم يبلغ ولا عجزا ودع ) (2/486)
فهو محمول على أنه بمعنى ودع بالتشديد فخفف وهو على كل حال من الشاذ الذي لا يعتد به في الاستعمال وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة التي بعدها مخالفة لما قبلها ليكونا خبرين مختلفين
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنا أجمعنا على أن بل يجوز العطف بها بعد النفي والإيجاب فكذلك لكن لاشتراكهما في المعنى قلنا إنما شاركت لكن بل في النفي دون الإيجاب لأن مشاركتها لها في النفي صواب وليس على سبيل النسيان والغلط أ لا ترى أنك إذا قلت في النفي ما جاءني زيد لكن عمرو لم توجب نسيانا ولا غلطا كما لو قلت ما جاءني زيد بل عمرو وإذا كان استعماله في النفي لا يوجب نسيانا ولا غلطا فتكثير ما هو صواب لا ينكر بخلاف استعماله في الإيجاب فإنه يوجب النسيان والغلط والنسيان والغلط إنما يقع نادرا قليلا فاقتصر فيه على حرف واحد وهو بل (2/487)
ثم ليس من ضرورة تشارك لكن وبل في بعض الأحوال مشاركتهما في كل الأحوال ألا ترى أن بل لا يحسن دخول الواو عليها ولا يقال وبل ولكن يحسن دخول الواو عليها ولا يقال وبل ولكن يحسن دخول الواو عليها فيقال ولكن قال الله تعالى ( ولكن الشياطين كفروا ) في قراءة من قرأ بالتخفيف وكذلك قوله ( ولكن البر ) والشواهد على ذلك من كتاب الله وكلام العرب مما لا يحصى كثرة وذلك لا يوجد البتة في بل فدل على ما قلناه والله أعلم
69م - سألة هل يجوز صرف أفعل التفضيل في ضرورة الشعر
ذهب الكوفيون إلى أن أفعل منك لا يجوز صرفه في ضرورة الشعر وذهب البصريون إلى أنه يجوز صرفه في ضرورة الشعر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن من لما اتصلت به منعت من صرفه لقوة اتصالها به ولهذا كان في المذكر والمؤنث والتثنية والجمع على لفظ واحد نحو زيد أفضل من عمرو وهند أفضل من دعد والزيدان أفضل من العمرين والزيدون أفضل من العمرين وما أشبه ذلك فدل على قوة اتصالها به فلهذا قلنا لا يجوز صرفه
ومنهم من تمسك بأن قال إنما قلنا ذلك لأن من تقوم مقام الإضافة ولا يجوز الجمع بين التنوين والإضافة فكذلك لا يجوز الجمع بينه وبين ما يقوم (2/488)
مقام الإضافة وإنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء فاستغنى بأحدهما عن الآخر
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز صرفه لأن الأصل في الأسماء كلها الصرف وإنما يمنع بعضها من الصرف لأسباب عارضة تدخلها على خلاف الأصل فإذا اضطر الشاعر ردها إلى الأصل ولم يعتبر تلك الأسباب العارضة التي دخلت عليها قال أبو كبير الهذلي
308
- ( ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل ) (2/489)
فصرف عواقد وهي لا تنصرف لأنه ردها إلى الأصل وقال النابغة
309
- ( فلتأتينك قصائد ... )
فصرف قصائد وهي لا تنصرف لأنه ردها إلى الأصل إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة في أشعارهم
والذي يدل على هذا أن ما لا أصل له في الصرف ودخول التنوين لا يجوز للشاعر أن ينونه للضرورة لأنه لا أصل له في ذلك فيرده إلى حالة قد كانت له فإذا ثبت هذا فنقول أفعل منك اسم والأصل فيه الصرف وإنما امتنع من الصرف لوزن الفعل والوصف فصار بمنزلة أحمر وكما وقع الإجماع على أن (2/490)
أحمر يجوز صرفه في ضرورة الشعر ردا إلى الأصل فكذلك أفعل منك ثم إذا جاز عندكم في ضرورة الشعر ترك صرف ما أصله الصرف وهو عدول عن الأصل إلى غير أصل فكيف لا يجوز صرف ما أصله الصرف وهو رجوع عن غير أصل إلى أصل وهل منع ذلك إلا رفض القياس وبناء على غير أساس
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن من لما اتصلت به منعت من صرفه قلنا هذا باطل لأن اتصال من ليس له تأثير في منع الصرف وإنما المؤثر في منع الصرف وزن الفعل والوصف والذي يدل على ذلك انهم قد قالوا زيد خير منك وشر منك فيصرفون مع اتصال من به ولم يمنعوهما الصرف مع دخول من عليهما واتصالها بهما ولو كان كما زعموا لوجب أن لا ينصرفا لاتصال من بهما فلما انصرفا مع اتصال من بهما دل على أن اتصالها بهما لا أثر له في منع الصرف وإنما المؤثر في منع الصرف وزن الفعل والوصف
والذي يدل على صحة هذا أنه لما زال وزن الفعل من خير منك وشر منك انصرف لأن الأصل أخير منك وأشرر منك إلا أنهم حذفوا الهمزة منهما لكثرة الاستعمال وأدغموا إحدى الراءين في الأخرى من قولهم شر منك لئلا يجتمع حرفان متحركان من جنس واحد في كلمة واحدة لأن ذلك ما يستثقل في كلامهم فلما نقصا عن وزن الفعل بقي فيهما علة واحدة وهي الوصف فردا إلى الأصل وهو الصرف لأن العلة الواحدة لا تقوى على منع الصرف الذي هو الأصل
وأما قولهم إنه لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث لاتصال من به قلنا إنما لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لثلاثة أوجه (2/491)
الوجه الأول انه لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لأنه تضمن معنى المصدر لأنك إذا قلت زيد أفضل منك كان معناه فضل زيد يزيد على فضلك فجعل موضع يزيد فضله أفضل فتضمن معنى المصدر والفعل معا والفعل والمصدر مذكران و لا تدخلهما تثنية ولا جمع فكذلك ما تضمنهما
والوجه الثاني أنه لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لأنه مضارع للبعض الذي يقع به التذكير والتأنيث والتثنية والجمع بلفظ واحد
والوجه الثالث إنما لم يثن ولم يجمع لأن التثنية والجمع إنما تلحق الأسماء التي تنفرد بالمعاني وأفعل اسم مركب يدل على فعل وغيره فلم يجز تثنيته ولا جمعه كما لم يجز تثنيته الفعل ولا جمعه لما كان مركبا يدل على معنى وزمان وإنما فعلت العرب ذلك اختصارا للكلام واستغناء بقليل الكلام عن كثيرة ولم يجز تأنيثه لما ذكرنا من تضمنه معنى المصدر والمصدر مذكر ثم على أصلكم إنما وحد أفعل لأنه جرى مجرى الفعل ولهذا كانت إضافته غير حقيقة
وأما قولهم إن من تقوم مقام الإضافة ولا يجوز الجمع بين التنوين والإضافة قلنا لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يدخله الجر في موضع الجر كما إذا دخلته الإضافة فلما أجمعنا على أنه لا ينصرف ويكون في موضع الجر مفتوحا كسائر مالا ينصرف دل على فساد ما ذهبتم إليه
وأما قولهم إنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء قلنا لا نسلم أنه إنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لأنهما دليلان من دلائل الأسماء وإنما لم يجز الجمع بين التنوين والإضافة لوجهين
أحدهما أن الإضافة تدل على التعريف والتنوين يدل على التنكير فلو جوزنا الجمع بينهما لأدى ذلك إلى أن يجمع بين علامة تعريف وعلامة تنكير في كلمة واحدة وهما ضدان والضدان لا يجتمعان (2/492)
والوجه الثاني أن الإضافة علامة الوصل والتنوين علامة الفصل فلو جوزنا الجمع بينهما لأدى ذلك إلى أن يجمع بين علامة وصل وعلامة فصل في كلمة واحدة وهما ضدان والضدان لا يجتمعان
وما ذهبوا إليه من التعليل يبطل بحرف الجر مع لام التعريف فإنهما يجوز اجتماعهما نحو مررت بالرجل وإن كانا دليلين من دلائل الأسماء إلى غير هذين الدليلين من دلائل الأسماء والله أعلم
70م - سالة منع صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش وأبو علي الفارسي وأبو القاسم بن برهان من البصريين وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز وأجمعوا على أنه يجوز صرف ما لا ينصرف في ضرورة الشعر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر أنه قد جاء ذلك كثيرا في أشعارهم قال الأخطل
310
- ( طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت ... بشبيب غائلة الثغور غدور ) (2/493)
فترك صرف شبيب وهو منصرف وقال حسان
311
- ( نصروا نبيهم وشدوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال ) (2/494)
فترك صرف حنين وهو منصرف قال الله تعالى ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) ولم يرو عن أحد من القراء أنه لم يصرفه وقال الفرزدق
312
- ( إذا قال غاو من تنوخ قصيدة ... بها جرب عدت على بزوبرا ) (2/495)
فترك صرف زوبر وهو منصرف ومعناه نسبت إلى بكمالها من قولهم أخذ الشيء بزوبره إذا أخذه كله وقيل بزوبرا أي كذبا وزورا وقال الآخر
313
- ( إلى ابن أم اناس أرحل ناقتي ... عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف )
فترك صرف أناس وهو منصرف وأم أناس بنت ذهل من بني شيبان وعمرو يريد به عمرو بن حجر الكندي وقال الآخر (2/496)
314 - ( أومل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار )
( أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار )
فترك صرف دبار وهو منصرف ودبار يوم الأربعاء وما ذكره في هذين البيتين أسماء الأيام في الجاهلية فاول يوم الأحد وأهون يوم الاثنين وجبار يوم الثلاثاء ودبار يوم الأربعاء ومؤنس يوم الخميس وعروبة يوم الجمعة وشيار يوم السبت وقال الآخر
315
- ( فأوفضن عنها وهي ترغو حشاشة ... بذي نفسها والسيف عريان أحمر )
فترك صرف عريان وهو منصرف لأن مؤنثة عريانه لا عريا (2/497)
وقال الآخر
316
- ( قالت أميمة ما لثابت شاخصا ... عاري الأشاجع ناحلا كالمنصل )
فترك صرف ثابت وهو منصرف وقال العباس بن مرداس السلمي
317
- ( فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
فترك صرف مرداس وهو منصرف (2/499)
قالوا ولا يجوز أن يقال إن الرواية
( يفوقان شيخي في مجمع ... )
وشيخه أبوه مرداس لأنا نقول بل الرواية الصحيحة المشهورة ما رويناه على أنا لو قدرنا أنه قد روى رواية أخرى كما رويتموه فما العذر عن هذه الرواية الصحيحة مع شهرتها وقال دوسر بن دهبل القريعي
318
- ( وقائله ما بال دوسر بعدنا ... صحا قلبه عن آل ليلي وعن هند )
فلم يصرف دوسر وهو منصرف (2/500)
قالوا ولا يجوز أن يقال إن الرواية
( ما للقريعي بعدنا ... )
لأنا نقول بل الرواية الصحيحة المشهورة ما رويناه ولو قدرنا أن ما رويتموه صحيح فما عذركم عما رويناه مع صحته وشهرته وقال الآخر
319
- ( ومصعب حين جد الأمر ... أكثرها وأطيبها )
قالوا ولا يجوز أن يقال إن الرواية
( وأنتم حين جد الأمر ... )
لأنا نقول بل الرواية الصحيحة ما رويناه ولو قدرنا ما رويتموه صحيحا فما عذركم عما رويناه على ما بينا وقال الآخر
320
- ( وممن ولدوا عامر ... ذو الطول وذو العرض ) (2/501)
فترك صرف عامر وهو ينصرف ولم يجعله قبيلة لأنه وصفه فقال ذو الطول وذو العرض ولو كانت قبيلة لوجب أن يقول ذات الطول وذات العرض ولا يجوز أن يقال إنما لم يصرفه لأنه ذهب به إلى القبيلة كما قرأ سيد القراء أبو عمرو بن العلاء ( وجئتك من سبأ بنبإ يقين ) فترك صرف سبأ لأنه جعله اسما للقبيلة حملا على المعنى وقال الشاعر
321
- ( من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما ) (2/502)
فلم يصرف سبأ لأنه جعله اسما للقبيلة حملا على المعنى وقال الله تعالى ( ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ) فلم يصرف ( ثمود ) الثاني لأنه جعله اسما للقبيلة حملا على المعنى ثم قال الشاعر (2/503)
322 - ( تمد عليهم من يمين وأشمل ... بحور له من عهد عاد وتبعا )
وقال الآخر
323
- ( لو شهد عاد من زمان عاد ... لابتزها مبارك الجلاد ) (2/504)
وقال الآخر
324
- ( علم القبائل من معد وغيرها ... أن الجواد محمد بن عطارد )
وقال الأخر
325
- ( ولسنا إذا عد الحصى بأقله ... وإن معد اليوم مود ذليلها ) (2/505)
وقال الآخر
326
- ( غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفي قريش المعضلات وسادها )
فلم يصرف قريش لأنه جعله أسما للقبيلة حملا على المعنى والحمل على المعنى كثير في كلامهم قال الشاعر (2/506)
327 - ( قامت تبكيه على قبره ... من لي ولى من بعدك يا عامر )
( تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر (2/507)
وكان الأصل أن يقول ذات غربة فحمله على المعنى فكأنها قالت تركتني إنسانا ذا غربة والإنسان يطلق على الذكر والأنثى وقال الأعشى
328
- ( لقوم فكانوا هم المنفدين ... شرابهم قبل إنفادها )
وكان الأصل أن يقول قبل إنفاده لأن الشراب مذكر إلا أنه أنثه حملا على المعنى لأن الشراب هو الخمر في المعنى وقال الآخر (2/508)
329 - ( يا بئر يا بئر بني عدي ... لأنزحن قعرك بالدلى )
( حتى تعودي أقطع الولى ... )
وكان الأصل أن يقول قطعي الولى لأن البئر مؤنثة إلا أنه ذكره حملا على المعنى فكأنه قال حتى تعودي قليبا أقطع الولى والقليب الأغلب عليه التذكير ولذلك قالوا في جمعه أقلبة وأفعله بناء يختص به المذكر في القلة كاختصاص المؤنث بأفعل في القلة وقوله ذو الطول وذو العرض يرجع إلى الحي فانتقل من معنى إلى معنى والتنقل من معنى إلى معنى كثير في كلامهم كما قال الشاعر (2/509)
330 - ( إن تميما خلقت ملموما ... قوما ترى واحدهم صهميما )
فقال خلقت أراد به القبيلة ثم قال ملموما أراد به الحي ثم ترك لفظ الواحد وحقق مذهب الجمع فقال قوما ترى واحدهم صهميما والصهميم هو الذي لا ينثني عن مراده لأنا نقول نحن لا ننكر الحمل على المعنى في كلامهم ولا التنقل من معنى إلى معنى ولكن الظاهر ما صرنا إليه لأن الحمل (2/510)
على اللفظ والمعنى أولى من الحمل على المعنى دون اللفظ وجرى الكلام على معنى واحد أولى من التنقل من معنى إلى معنى فلما كان ما صرنا إليه أكثر في الاستعمال وأحسن في الكلام كان ما صرنا إليه أولى وقال أبو دهبل الجمحي
331
- ( أنا أبو دهبل وهب لوهب ... من جمح والعز فيهم والحسب )
فترك صرف دهبل وهو منصرف وقال الآخر (2/511)
332 - ( أخشى على ديسم من بعد الثرى ... أبى قضاء الله إلا ما ترى )
فترك صرف ديسم وهو منصرف
فإذا صحت هذه الأبيات بأسرها دل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما من جهة القياس فإنه إذا جاز حذف الواو المتحركة للضرورة من نحو قوله
333
- ( فبيناه يشرى رحله قال قائل ... لمن جمل رخو الملاط نجيب ) (2/0)
فلأن يجوز حذف التنوين للضرورة كان ذلك من طريق الأولى وهذا لأن الواو من هو متحركة والتنوين ساكن ولا خلاف أن حذف الحرف الساكن أسهل من حذف الحرف المتحرك فإذا جاز حذف الحرف المتحرك الذي هو الواو للضرورة فلأن يجوز حذف الحرف الساكن كان ذلك من طريق الأولى ولهذا كان أبو بكر بن السراج من البصريين وكان من هذا الشأن بمكان يقول لو صحت الرواية في ترك صرف ما ينصرف لم يكن بأبعد من قولهم
( فبيناه يشرى رحله قال قائل ... )
ولما صحت الرواية عند أبي الحسن الأخفش وأبي علي الفارسي وأبي القاسم ابن برهان من البصريين صاروا إلى جواز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر واختاروا مذهب الكوفيين على مذهب البصريين وهم من أكابر أئمة البصريين والمشار إليهم من المحققين (2/513)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ترك صرف ما ينصرف لأن الأصل في الأسماء الصرف فلو أنا جوزنا ترك صرف ما ينصرف لأدى ذلك إلى رده عن الأصل إلى غير أصل ولكان أيضا يؤدي إلى أن يلتبس ما ينصرف بما لا ينصرف وعلى هذا يخرج حذف الواو من هو في نحو قوله
( فبيناه يشرى رحله قال قائل ... )
فإنه لا يؤدي إلى الالتباس بخلاف حذف التنوين فبان الفرق بينهما والذي أذهب إليه في هذه المسألة مذهب الكوفيين لكثرة النقل الذي خرج عن حكم الشذوذ لا لقوته في القياس
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قولهم إنما لم يجز ترك صرف ما ينصرف لأنه يؤدي إلى رده عن الأصل إلى غير أصل قلنا هذا يبطل بحذف الواو من هو في قوله
( فبيناه يشرى رحله قال قائل ... )
خصوصا على أصلكم أن الواو عندكم أصلية لا زائدة كما هي على أصل الخصم زائدة
قولهم إنما جاز لأنه لا يؤدي إلى الالتباس بخلاف ماهنا قلنا الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما أنا لا نسلم أنه لا يؤدي هاهنا إلى الالتباس لأنك تقول غزا هو فيكون توكيدا للضمير المرفوع بأنه فاعل فإذا حذفت الواو منه التبست الهاء الباقية بالهاء التي هي ضمير المنصوب بأنه مفعول نحو غزاه فإنه يجوز أن لا تمطل حركتها قال الشاعر (2/514)
334 - ( تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر ) (2/515)
وكذلك الهاء أيضا في سائر المنصوبات فإنه يجوز أن لا تمطل حركتها في الشعر كضمير المجرور فإنهم يسوون بينهما في ذلك قال الشاعر
335
- ( له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير )
وقال الآخر
336
- ( أو معبر الظهر ينأى عن وليته ... ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا )
وقال الآخر
337
- ( فماله من مجد تليد وماله ... من الريح فضل لا الجنوب ولا الصبا ) (2/516)
وقال الآخر
338
- ( فإن يك غثا أو سمينا فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعا )
وقال الآخر
339
- ( وأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يكن لفسيل النخل بعده آبر ) (2/517)
وقال الآخر
340
- ( أنا ابن كلاب وابن أوس فمن يكن ... قناعة مغطيا فإني مجتلى )
وقال الآخر
341
- ( لأعلطنه وسما لا يفارقه ... كما يحز بحمي الميسم البحر ) (2/518)
وقال الآخر
342
- ( لي والد شيخ تهضه غيبتي ... وأظن أن نفاد عمر عاجل )
والوجه الثاني أنه يبطل بصرف مالا ينصرف فإنه يوقع لبسا بين ما ينصرف ومالا ينصرف في نحو قوله
343
- ( قواطنا مكة من ورق الحمى ... ) (2/519)
وكذلك سائر مالا ينصرف ومع هذا فقد وقع الإجماع على جوازه فكذلك هاهنا
فإن قالوا الكلام به يتحصل القانون دون الشعر وصرف مالا ينصرف لا يوقع لبسا بين ما ينصرف ومالا ينصرف لأنه لا يلتبس ذلك في اختيار الكلام
قلنا وهذا هو جوابنا عما ذكرتموه فإنه إذا كان الكلام هو الذي يتحصل به القانون دون الشعر فترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر لا يوجب لبسا بين ما ينصرف ومالا ينصرف إذ لا يلتبس ما ينصرف وما لا ينصرف في اختيار الكلام والله أعلم
71م - سالة القول في علة بناء الآن
ذهب الكوفيون إلى أن الآن مبنى لأن الألف واللام دخلتا على فعل ماض من قولهم آن يئين أي حان وبقي الفعل على فتحته (2/520)
وذهب البصريون إلى أنه مبنى لأنه شابه اسم الإشارة ولهم فيه أيضا أقوال أخر نذكرها في دليلهم
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الألف واللام فيه بمعنى الذي ألا ترى أنك إذا قلت الآن كان كذا كان المعنى الوقت الذي آن كان كذا وقد تقام الألف واللام مقام الذي لكثرة الاستعمال طلبا للتخفيف قال الفرزدق
344
- ( ما أنت بالحكم الترصي حكومته ... ولا البليغ ولا ذي الرأى والجدل )
أراد الذي ترضى وقال الآخر
345
- ( بل القوم الرسول الله فيهم ... هم أهل الحكومة من قصى ) (2/521)
وقال الآخر
( يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربنا صوت الحمار اليجدع )
( ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن حجره بالشيحى اليتقصع )
أراد الذي يجدع والذي يتقصع فكذلك هاهنا في الآن وبقي الفعل على فتحته كما روى عن النبي أنه نهى عن قيل وقال وهما فعلان ماضيان فأدخل عليهما حرف الخفض وبقاهما على فتحهما وكذلك قولهم من شب إلى دب بالفتح يريدون من أن كان صغيرا إلى أن دب كبيرا فبقوا الفتح فيهما فكذلك هاهنا
وأما البصريون فاحتجوا بان قالوا إنما قلنا ذلك لأن سبيل الألف واللام أن يدخلا لتعريف الجنس كقوله تعالى ( إن الإنسان لفي خسر ) وكقولهم الرجل خير من المرأة وكقولهم أهلك الناس الدينار والدرهم أو لتعريف العهد كقوله تعالى ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) أو يدخلا على شيء قد غلب عليه نعته فعرف به كقولك الحارث والعباس والسماك والدبران فلما دخلا هاهنا على غير ما ذكر ودخلت على معنى الإشارة إلى الوقت الحاضر صار معنى قولك الآن كقولك هذا الوقت فشابه اسم الإشارة واسم الإشارة مبني فكذلك ما أشبهه وكان الأصل فيه أن يبنى على السكون إلا أنه بنى على حركة لالتقاء الساكنين وكانت الفتحة أولى لوجهين
أحدهما أنها أخف الحركات وأشكلها بالألف والفتحة التي قبلها فأتبعوها الألف والفتحة التي قبلها كما أتبعوا ضمة الذال التي في منذ ضمة الميم وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء الساكنين
والوجه الثاني أن نظائرها من الرظوف المستحقة لبناء أواخرها على حركة كأين وأيان بنيت على الفتح فكذلك الآن لمشاركتها لهما في الظرفية
ومنهم من قال وهو أبو العباس المبرد إنما بنى الآن لأنه وقع في أول أحواله بالألف واللام وسبيل ما يدخل عليه الألف واللام أن يكون منكورا أولا ثم يعرف بهما فلما خالف سائر أخواته من الأسماء وخرج إلى غير بابه بنى
ومنهم من قال وهو أبو علي الفارسي إنما بنى لأنه حذف منه الألف واللام وضمن الاسم معناها وزيدت فيه ألف ولام أخريان
وبنى على الفتح في جميع الوجه لما ذكرناه في الوجه الأول وهو الذي عليه سيبويه وأكثر البصريين
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الألف واللام فيه بمعنى الذي قلنا هذا فاسد لأن الألف واللام إنما يدخلان على الفعل وهما بمعنى الذي في شرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات لا في اختيار الكلام فلا يكون فيه حجة
وأما ما شبهوه به من نهيه عن قيل وقال فليس بمشبه له لأنه حكاية والحكايات تدخل عليها العوامل فتحكى ولا تدخل عليها الألف واللام لأن العوامل لا تغير معاني ما تدخل عليه كتغير الألف واللام ألا ترى أنك تقول ذهب تأبط شرل وذري حبا وبرق نحره ورأيت تأبط شرا وذري حبا وبرق نرحه ومررت بتأبط شرا وذري حبا وبرق نحره ولا تقول هذا التأبط شرا ولا الذري حبا ولا البرق نحره وما أشبه (2/522)
أحدهما أنها أخف الحركات وأشكلها بالألف والفتحة التي قبلها فأتبعوها الألف والفتحة التي قبلها كما أتبعوا ضمة الذال التي في منذ ضمة الميم وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء الساكنين
والوجه الثاني أن نظائرها من الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة كأين وأيان بنيت على الفتح فكذلك الآن لمشاركتها لهما في الظرفية
ومنهم من قال وهو أبو العباس المبرد إنما بنى الآن لأنه وقع في أول أحواله بالألف واللام وسبيل ما يدخل عليه الألف واللام أن يكون منكورا أولا ثم يعرف بهما فلما خالف سائر أخواته من الأسماء وخرج إلى غير بابه بنى
ومنهم من قال وهو أبو سعيد السيرافي إنما بنى لأنه لما لزم موضعا واحدا أشبه الحرف لأن الحروف تلزم مواضعها التي وضعت فيها في أوليتها والحروف مبنية فكذلك ما أشبهها و
منهم من قال وهو أبو علي الفارسي إنما بنى لأنه حذف منه الألف واللام وضمن الاسم معناهما وزيدت فيه ألف ولام أخريان
وبنى على الفتح في جميع الوجوه لما ذكرناه في الوجه الأول وهو الذي عليه سيبويه وأكثر البصريين
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الألف واللام فيه بمعنى الذي قلنا هذا فاسد لأن الألف واللام إنما يدخلان على الفعل وهما بمعنى الذي في ضرورة الشعر كما أنشدوه من الأبيات لا في اختيار الكلام فلا يكون فيه حجة
وأما ما شبهوه به من نهيه عن قيل وقال فليس بمشبه له لأنه حكاية والحكايات تدخل عليها العوامل فتحكى ولا تدخل عليها الألف واللام لأن العوامل لا تغير معاني ما تدخل عليه كتغيير الألف واللام ألا ترى أنك تقول ذهب تأبط شرا وذري حبا وبرق نحره ورأيت تأبط شرا وذري حبا وبرق نحره ومررت بتأبط شرا وذري حبا وبرق نحره ولا تقول هذا التأبط شرا ولا الذري حبا ولا البرق نحره وما أشبه (2/523)
ذلك وكذلك تقول رفعنا اسم كان بكان ونصبنا اسم إن بإن ولا تقول رفعناه بالكان ونصبناه بالإن فبان الفرق بينهما وهذا هو الجواب عن قولهم من شب إلى دب على أنه لو أخرجت هذه الأشياء إلى الأسماء فقيل عن قيل وقال ومن شب إلى دب فأدخلت الجر والتنوين لكان ذلك جائزا بالإجماع على أنه قد صح عن العرب أنهم قالوا من شب إلى دب بالجر والتنوين وقد حكى ذلك أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء من أصحابكم وذلك ألزم لكم وأوفى حجة عليكم والله أعلم
72م - سالة فعل الأمر معرب أو مبنى
ذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر للمواجه المعرى عن حرف المضارعة نحو افعل معرب مجزوم
وذهب البصريون إلى أنه مبنى على السكون
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه معرب مجزوم لأن الأصل في الأمر للمواجه في نحو أفعل لتفعل كقولهم في الأمر للغائب ليفعل وعلى ذلك قوله تعالى
( فبذلك فلتفرحوا هو خير مما يجمعون ) في قراءة من قرأ بالتاء من أئمة القراء وذكرت القراءة أنها قراءة النبي من طريق أبي بن كعب ورويت هذه القراءة عن عثمان بن عفان وأنس بن مالك (2/524)
والحسن البصري ومحمد بن سيرين وأبي عبد الرحمن السلمى وأبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني وأبي رجاء العطاردي وعاصم الجحدري وأبي التياح وقتادة والأعراج وهلال بن يساف والأعمش وعمرو بن فائد وعلقمة بن قيس ويعقوب الحضرمي وغيرهم من القراء وقد جاء في الحديث ولتزره ولو بشوكة أي زره وجاء عنه صلوات الله عليه أنه قال في بعض مغازيه لتأخذوا مصافكم أي خذوا وقال صلوات الله عليه مرة أخرى لتقوموا إلى مصافكم أي قوموا وقال الشاعر
346
- ( لتقم أنت يابن خير قريش ... فتقضى حوائج المسلمينا ) (2/525)
وقال الآخر
347 - فلتكن أبعد العداة من الصلح من النجم جارة العيوق
وقال الآخر
348
- ( لتبعد إذ نأى جدواك عني ... فلا أشقي عليك ولا أبالي ) (2/527)
فثبت أن الأصل في الأمر للمواجه في نحو أفعل أن يكون باللام نحو لتفعل كالأمر للغائب إلا أنه لما كثر استعمال الأمر للمواجه في كلامهم وجرى على ألسنتهم أكثر من الغائب استثقلوا مجئ اللام فيه مع كثرة الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة طلبا للتخفيف كما قالوا أيش والأصل أي شيء وكقولهم عم صباحا والأصل فيه أنعم صباحا من نعم ينعم بكسر العين في أحد اللغتين وكقولهم ويلمه والأصل فيه وبل أمه إلا أنهم حذفوا في هذه المواضع لكثرة الاستعمال فكذلك هاهنا حذفوا اللام لكثرة الاستعمال وذلك لا يكون مزيلا لها عن أصلها ولا مبطلا لعملها
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه معرب مجزوم أنا أجمعنا على أن فعل النهي معرب مجزوم نحو لا تفعل فكذلك فعل الأمر نحو أفعل لأن الأمر ضد النهي وهم يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره فكما أن فعل النهي معرب محزوم فكذلك فعل الأمر
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه معرب مجوم بلام مقدرة أنك تقول في المعتل اغز وارم واخش فتحذف الواو والياء والألف كما تقول لم يغز ولم يرم ولم يخش بحذف حرف العلة فدل على أنه مجزوم بلام مقدرة (2/528)
قالوا ولا يجوز أن يقال إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف فحرف الجزم أولى لأن حرف الجر أقوى من حرف الجزم لأن حرف الجر من عوامل الأسماء وحرف الجزم من عوامل الأفعال وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال فإذا كان الأقوى لا يعمل مع الحذف فالأضعف أولى لأنا نقول قولكم إن حرف الجر لا يعمل مع الحذف لا يستقيم على أصلكم فلا يصلح إلزاما لكم فإنكم تذهبون إلى أن رب تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء وبل وإعمالها بعد الواو نحو قول الراجز
( وبلد عامية أعماؤه ... كأن لون أرضه سماؤه )
أي ورب بلد وإعمالها بعد الفاء نحو قول الشاعر
( فحور قد لهوت بهن عين ... )
أي فرب حور وإعمالها بعد بل نحو قول الراجز
349
- ( بل بلد ملء الفجاج قتمه ... لا يشترى كتانه وجهرمه ) (2/529)
أي بل رب بلد فأعملتم رب في هذه المواضع مع الحذف وهي حرف خفض وهذه مناقضة ظاهرة فدل على أن حرف الخفض قد يعمل مع الحذف على أنه قد حكى نقله اللغة عن رؤيه أنه كان إذا قيل له كيف أصبحت يقول خير عافاك الله أي بخير فيعمل حرف الخفض مع الحذف
وكذلك أيضا منعكم إعمال حرف الجزم مع الحذف لا يستقيم أيضا على أصلكم فإنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع وهي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمنى والعرض والأمر نحو ايتني آتك والنهي لا تفعل يكن خيرا لك والدعاء اللهم ارزقني بعيرا أحج عليه والاستفهام أين بيتك أزرك والتمنى ألا ماء أشربه والعرض ألا تنزل أكرمك فأعملتم حرف الشرط مع الحذف في هذه المواضع كلها لتقديره فيها
وقد جاء عن العرب إعمال حرف الجزم مع الحذف قال الشاعر
350
- ( محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا ) (2/530)
والتقدير فيه لتفد نفسك فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم وقال الشاعر
351
- ( فقلت أدعى وأدع فإن اندي ... لصوت أن ينادي داعيان ) (2/531)
أراد ولأدع وقال الآخر
352
- ( على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى ) (2/532)
أراد ليبك وقال الآخر
353
- ( من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن منى تنهه المزاجر )
أراد فليدن فحذف اللام وأعملها في الفعل الجزم وهذا كثير في أشعارهم وإذا جاز أن يعمل حرف الجزم مع الحذف في هذه المواضع جاز أن يعمل هاهنا مع الحذف لكثرة الاستعمال (2/533)
وكذلك أيضا منعكم إعمال سائر عوامل الأفعال مع الحذف لا يستقيم أيضا على أصلكم فإنكم تذهبون إلى أن أن الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد الفاء إذا كانت جوابا للستة الأشياء التي جوزتم فيها إعمال إن الخفيفة الشرطية مع الحذف نحو ايتني فآتيك ولا تفعل فيكون خيرا لك واللهم أرزقني بعيرا فأحج عليه وأين بيتك فأزورك وألا ماء فأشربه وألا تنزل فأكرمك وكذلك تعملونها مع الحذف بعد الفاء في جواب النفي نحو ما أنت صاحبي فأعطيك وكذلك أيضا تعملونها مع الحذف بعد الواو نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن وبعد أو نحو لأشكونك أو تعتبني وبعد لام كي نحو جئتك لتكرمني وبعد لام الجحود نحو ما كنت لأفعل ذلك وبعد حتى نحو سرت حتى أدخلها قال الله تعالى ( حتى يسمع كلام الله ) وإذا جاز لكم أن تعملوا أن الناصبة للفعل بعد هذه الأحرف مع الحذف وهي من عوامل الأفعال وإن الجازمة للفعل في المواضع التي بيناها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال جاز أن تعمل اللام الجازمة للفعل مع الحذف لكثرة الاستعمال وإن كانت من عوامل الأفعال
قالوا ولا يجوز أن يقال إن نزال مبنى لأنه قام مقام فعل الأمر فلو لم يكن فعل الأمر مبنيا وإلا لما بنى ما قام مقامه لأنا نقول إنما بنى نزال لتضمنه معنى لام الأمر ألا ترى أن نزال اسم أنزل وأصله لتنزل فلما تضمن معنى اللام كتضمن أين معنى حرف الاستفهام وكما أن أين بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام فكذلك بنيت نزال لتضمنها معنى اللام
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مبنى على السكون لأن الأصل في الأفعال أن تكون مبنية والأصل في البناء أن يكون على السكون وإنما أعرب ما أعرب من الأفعال أو بنى منها على فتحة لمشابهة ما بالأسماء ولا مشابهة بوجه ما بين فعل الأمر والأسماء فكان باقيا على اصله في البناء (2/534)
ومنهم من تمسك بأن قال الدليل على أنه مبنى أنا أجمعنا على أن ما كان على وزن فعال من أسماء الأفعال كنزال وتراك ومناع ونعاء وحذار ونظار مبنى لأنه ناب عن فعل الأمر فنزال ناب عن انزل وتراك ناب عن اترك ومناع ناب عن امنع ونعاء ناب عن انع وحذار ناب عن احذر ونظار ناب عن انظر قال زهير
354
- ( ولأنت أشجع من أسامه إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر )
أراد أنزل وأنثها لأنها بمنزلة النزلة وقال الآخر
355
- ( عرضنا نزال فلم ينزلوا ... وكانت نزال عليهم أطم ) (2/535)
وقال الآخر
356
- ( فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل ) (2/536)
وقال الآخر
357
- ( تراكها من إبل تراكها ... أما ترى الموت لدى أوراكها )
أراد أتركها وقال الآخر
358
- ( مناعها من إبل مناعها ... أما ترى الموت لدى أرباعها ) (2/537)
أراد أمنعها وقال جرير
359
- ( نعاء أبا ليلى لكل طمرة ... وجرداء مثل القوس سمح حجولها )
أراد انسع وقال الآخر
360
- ( نعاء ابن ليلى للسماحة والندى ... وأيدي شمال باردات الأنامل ) (2/538)
أراد أنع وقال الكميت
361
- ( نعاء جذاما غير موت ولا قتل ... ولكن فراقا للدعائم والأصل )
أراد انع جذاما وقال الآخر وهو أبو النجم
362
- ( حذار من أرماحنا حذار ... ) (2/539)
أراد احذر وقال رؤبة
363
- ( نظار كي أركبها نظار ... )
أراد انظر فلو لم يكن فعل الأمر مبنيا وإلا لما بنى ما ناب منابه وما ذكره الكوفيون على هذا فسنذكر فساده في الجواب عن كلماتهم في موضعه إن شاء الله تعالى
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل في أفعل لتفعل قلنا لا نسلم قولهم كما قالوا للغائب ليفعل قلنا فكان يجب أن لا يجوز حذف اللام منه كما لا يجوز في الغائب قولهم إنما حذفت في الأمر للمواجه لكثرة الاستعمال قلنا هذا فاسد لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يختص الحذف بما يكثر استعماله دون ما يقل استعماله نحو أحر نجم واعر نزم وأعلوط وأخروط وأسبطر وأسبكر وما أشبه ذلك من الأفعال لأن الحذف لكثرة الاستعمال إنما يختص بما يكثر في الاستعمال ألا ترى (2/540)
أنهم قالوا في لم يكن لم يك فحذفوا النون لكثرة الاستعمال ولم يقولوا في لم يصن لم يص ولا في لم يهن لم يه لأنه لم يكثر استعماله وقالوا في لم أبال لم أبل فحذفوا الكسرة لكثرة الاستعمال ولم يقولوا في لم أوال لم أول ولا في لم أعال لم أعل لأنه لم يكثر استعماله وكذلك قالوا في أي شيء أيش بالشين معجمة لكثرة استعماله ولم يقولوا في أي سئ أيس بالسين غير معجمة لقلة استعماله وقالوا عم صباحا في أنعم اصباحا لكثرته ولم يقولوا عم بالا في أنعم بالا لقلته وقالوا ويلمه في ويل أمه ولم يقولوا في ويل أخته في ويلأخته لقلته فلما حذفت اللام وحرف المضارعة في محل الخلاف من جميع الأفعال التي تكثر في الاستعمال والتي تقل في الاستعمال دل على أن ما ادعوه من التعليل ليس عليه تعويل ثم لو قدرنا أن الأصل فيه ما صرتم إليه إلا أنه قد تضمن معنى لام الأمر فإذا تضمن معنى لام الأمر فقد تضمن معنى الحرف وإذا تضمن معنى الحرف وجب أن يكون مبنيا ثم نقول إن علة وجود الإعراب في الفعل المضارع وجود حرف المضارعة فما دام حرف المضارعة ثابتا كانت العلة ثابتة وما دامت العلة ثابتة سليمة عن المضارعة كان حكمها ثابتا ولهذا كان قوله تعالى ( فبذلك فلتفرحوا ) معربا وقوله صلوات الله عليه ولتزره ولتأخذوا ولتقوموا وما أشبهه معربا لوجود حرف المضارعة ولا خلاف في حذف حرف المضارعة في محل الخلاف وإذا حذف حرف المضارعة وهو علة وجود الإعراب فيه فقد زالت العلة فإذا زالت العلة زال حكمها فوجب أن لا يكون فعل الأمر معربا
وأما قولهم إن فعل النهي معرب مجزوم فكذلك فعل الأمر لأنهم يحملون (2/541)
الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره قلنا حمل فعل الأمر على فعل النهي في الإعراب غير مناسب فإن فعل النهي في أوله حرف المضارعة الذي أوجب للفعل المشابهة بالاسم فاستحق الإعراب فكان معربا وأما فعل الأمر فليس في أوله حرف المضارعة الذي يوجب للفعل المشابهة بالاسم فيستحق أن لا يعرب فكان باقيا على أصله في البناء
والذي يدل على ذلك أن لام التأكيد التي تدخل على الفعل المضارع في نحو إن زيدا ليقوم كما تقول إن زيدا لقائم لا يجوز دخولها على فعل الأمر كما لا يصح دخولها على الفعل الماضي وإن كان الماضي أقوى من فعل الأمر بدلالة الوصف به والشرط به وبنائه على حركة تشبه حركة الإعراب وبدليل أنه لا يلحق آخره هاء السكت كما لا يلحق آخر الاسم المعرب وإذا كان الماضي لا تدخله هذه اللام مع وجود شبه ما بالأسماء فلأن لا تدخل هذه اللام فعل الأمر مع عدم شبه ما بالأسماء كان ذلك من طريق الأولى وإذا ثبت أنها لا تدخله دل على أنه لا مشابهه بينه وبين الاسم وإذا لم يكن بينه وبين الاسم مشابهة كان مبنيا على اصله
وأما قولهم إنك تحذف الواو والياء والألف من نحو أغز وارم وأخش كما تحذفها من نحو لم يغز ولم يرم ولم يخش قلنا إنما حذفت هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف للبناء لا للإعراب والجزم حملا للفعل المعتل على الصحيح وذلك أنه لما استوى الفعل المجزوم الصحيح وفعل الأمر الصحيح كقولك لم يفعل وافعل يا فتى وإن كان أحدهما مجزوما والآخر ساكنا سوى بينهما في الفعل والمعتل وإنما وجب حذفها في الجزم لأن هذه الأحرف التي هي الواو والياء والألف جرت مجرى الحركات لأنها تشبهها وهي مركبة منها في قول بعض النحويين والحركات مأخوذة منها في قول آخرين وعلى كلا القولين فقد وجدت المشابهة بينهما وكما أن الحركات تحذف للجزم فكذلك (2/542)
هذه الأحرف فلما وجب حذف هذه الأحرف في المعتل للجزم فكذلك يجب حذفها من المعتل للبناء حملا للمعتل على الصحيح لأن الصحيح هو الأصل والمعتل فرع عليه فحذفت حملا للفرع على الأصل
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وأنه ليس مجزوما بلام مقدرة أن حرف الجر لا يعمل مع الحذف فحرف الجزم أولى
قولهم إنكم تذهبون إلى أن رب تعمل الخفض مع الحذف بعد الواو والفاء وبل قلنا إنما جاز ذلك لأن فيما بقي من هذه الأحرف دليلا على ما ألقي وبيانا عنه فلما كانت هذه الأحرف دليلا عليه وبيانا عنه جاز حذفه لأن المحذوف بهذه المثابة في حكم الثابت بخلاف حرف الجزم فإنه حذف وليس في اللفظ حرف يدل عليه ولا يبين عنه فبان الفرق بينهما
وأما قولهم إنكم تذهبون إلى أن حرف الشرط يعمل مع الحذف في ستة مواضع وهي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض قلنا الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما أنا لا نسلم حذف حرف الشرط في هذه المواضع ولا أن الفعل مجزوم بتقدير حرف الشرط وإنما هو مجزوم لأنه جواب لهذه الأشياء التي هي الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والتمني والعرض وهذا الوجه ذكره بعض النحويين وليس بصحيح لأنك لو حملت الكلام على ظاهرة من غير تقدير حرف الشرط لكان ذلك يؤدي إلى محال ألا ترى أنك إذا قلت ايتني آتك كان الأمر بالإتيان موجبا بالإتيان وإذا قلت لا تفعل يكن خيرا كان النهي عن الفعل موجبا للخير وإذا قلت اللهم ارزقني بعيرا أحج عليه كان الدعاء بالرزق موجبا للحج وإذا قلت أين بيتك أزرك كان (2/543)
الاستفهام عن بيته موجبا للزيارة وإذا قلت ألا ماء أشربه كان التمني للماء موجبا للشرب وإذا قلت ألا تنزل عندنا أكرمك كان العرض موجبا للكرامة وذلك محال لأن الأمر بالإتيان لا يكون موجبا للإتيان وإنما يوجبه الإتيان والنهي عن الفعل لا يكون موجبا للخير وإنما يوجبه الانتهاء والدعاء بالرزق لا يكون موجبا للحج وإنما يوجبه الرزق والاستفهام عن بيته لا يكون موجبا للزيارة وإنما يوجبه التعريف والتمني للماء لا يكون موجبا للشرب وإنما يوجبه وجوده والعرض بالنزول لا يكون موجبا للكرامة وإنما يوجبه النزول فدل على أن حرف الشرط فيها كلها مقدر وأن التقدير ايتني فإنك إن تأتنى آتك ولا تفعل فإنك إن لا تفعل يكن خيرا لك واللهم أرزقني بعيرا فإنك إن ترزقني بعيرا أحج عليه وأين بيتك فإنك إن تعرفني بيتك أزرك وألا ماء فإن يك ماء أشربه وألا تنزل فإنك إن تنزل أكرمك فدل على أن هذه الوجه الذي ذكره بعضهم عن نعرى الكلام عن تقدير حرف الشرط ليس بصحيح
والوجه الثاني وهو الصحيح أنا نسلم تقدير حرف الشرط وأنه حذف وإنما حذف لدلالة هذه الأشياء عليه فصار في حكم الثابت على ما بينا في حذف رب
وأما قولهم إن أعمال حرف الجزم مع حذف الحرف قد جاء كثيرا وأنشدوا الأبيات التي رووها فنقول أما قوله
( محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا )
فقد أنكره أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ولئن سلمنا صحته وهو الصحيح فنقول قوله تفد نفسك ليس مجزوما بلام مقدرة وليس الأصل فيه لتفد نفسك وإنما الأصل تفدي نفسك من غير تقدير لام وهو خبر يراد به الدعاء (2/544)
كقولهم غفر الله لك ويرحمك الله وإنما حذف الياء لضرورة الشعر اجتزاء بالكسرة عن الياء كما قال الأعشى
( وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه ... ويصرن أعداء بعيد وداد )
أراد الغواني فأجتزأ بالكسرة عن الياء وقال الآخر
364
- ( فما وجد النهدي وجدا وجدته ... ولا وجد العذرى قبل جميل )
أراد قبلي وقال الآخر
365
- ( وطرت بمنصلي في يعملات ... دوامي الأيد يخبطن السريحا ) (2/545)
أراد الأيدي وقال خفاف بن ندبة السلمي
366
- ( كنواح ريش حمامة نجديه ... ومسحت باللثبتين عصف الإثمد )
أراد كنواحي فاجتزأ بالكسرة عن الياء كما يجتزئون بالضمة عن الواو وبالفتحة عن الألف فاجتزاؤهم بالضمة عن الواو كقولهم في قاموا قام وفي كانوا كان قال الشاعر
( فلو أن الأطبا كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة )
( إذا ما أذهبوا ألما بقلبي ... وإن قيل الأطباء الشفاة )
أراد كانوا فاجتزأ بالضمة عن الواو
وأجتزاؤهم بالفتحة عن الألف نحو ما أنشدوا
223
- ( فلست بمدرك ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لواني )
أراد بلهفا فاجتزأ بالفتحة عن الألف كما قال رؤبة
( وصاني العجاج فيما وصني ... )
أراد فيما وصاني فاجتزأ بالفتحة عن الألف (2/546)
واجتزاؤهم بهذه الحركات عن هذه الأحرف كثير في كلامهم والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى
ثم لو صح أن التقدير فيه لتفد كما زعمتم فنقول إنما حذفت اللام لضرورة الشعر وما حذف للضرورة لا يجعل أصلا يقاس عليه
وأما قوله
( فقلت أدعى وأدع فإن أندي ... )
فإنه قد روى
( أدعى وأدعو إن أندي ... )
بإثبات الواو في أدعو وحذف الفاء من إن فلا يكون فيه حجة ولئن صح ما رووه فهو محمول على ضرورة الشعر كما بينا في البيت الأول وهو الجواب عن قول الآخر
( أو يبك من بكى ... )
وعن قول الآخر
( فيدن مني تنهه المزاجر ... )
والذي يدل على أن ذلك مما يختص بالشعر أن أبا عثمان المازني قال جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر وأنشد
( من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تنهه المزاجر ... )
فقلت له لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام فقال لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف فدل على أن هذا الحذف إنما يكون في الشعر لا في اختيار الكلام بالإجماع (2/547)
وأما ما رووه عن رؤبة من قوله خير فلا خلاف أنه من الشاذ النادر الذي لا يعرج عليه ولهذا أجمع النحويون قاطبة على أنه لا يجوز في جواب من قال أين تذهب أن يقال زيد على تقدير إلى زيد وفي امتناع ذلك بالإجماع دليل على انه من النادر الذي لا يلتفت إليه ولا يقاس عليه
وأما قولهم إنكم تذهبون إلى أن أن الخفيفة المصدرية تعمل مع الحذف بعد الفاء والواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى وإذا جاز لكم أن تعملوها مع الحذف وهي من عوامل الأفعال كذلك يجوز لنا أن نعمل اللام مع الحذف وهي من عوامل الأفعال قلنا الجواب عن هذا من وجهين
أحدهما إنما جاز حذفها لأن هذه الأحرف دالة عليها فصارت في حكم ما لم يحذف على ما بينا في حذف رب وحرف الشرط بخلاف لام الأمر فبان الفرق بينهما
والوجه الثانيه أنه لو كانت اللام الجازمة للفعل محذوفة كما تحذف أن لكان يجب أن يلقى حرف المضارعة فيقال تفعل في معنى لتفعل كما بقي حرف المضارعة مع حذف أن بعد الفاء والواو واو ولام الجحود ولام كي وحتى فلما حذف هاهنا حرف المضارعة فقيل أفعل دل على أن ما ذهبوا إليه قياس باطل لا أصل له ولا حاصل
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن ما كان على وزن فعال من أسماء الأفعال نحو نزال مبنى لقيامه مقام فعل الأمر فلو لم يكن فعل الأمر مبنيا وإلا لما بنى ما قام مقامه
قولهم إنما بنى ما كان على فعال من أسماء الأفعال لتضمنه معنى لام الأمر لأن نزال اسم أنزل وأصله لتنزل قلنا هذا بناء منكم على أن فعل الأمر مقتطع من الفعل المضارع وقد بينا فساده بما يغني عن الإعادة ودللنا على أن فعل (2/548)
الأمر صيغة مرتجلة قائمة بنفسها باقية في البناء على أصلها فوجب أن يكون هذا الاسم مبنيا لقيامه مقامه على ما بينا والله أعلم
73م - سالة القول في علة إعراب الفعل المضارع
أجمع الكوفيون والبصريون على أن الأفعال المضارعة معربة واختلفوا في علة إعرابها فذهب الكوفيون إلى أنها إنما أعربت لأنه دخلها المعاني المختلفة والأوقات الطويلة وذهب البصريون إلى أنها إنما أعربت لثلاثة أوجه أحدها أن يكون شائعا فيتخصص كما أن الاسم يكون شائعا فيتخصص الا ترى أنك تقول يذهب فيصلح للحال والاستقبال فإذا قلت سوف يذهب اختص بالاستقبال فاختص بعد شياعه كما أن الاسم يختص بعد شياعه كما تقول رجل فيصلح لجميع الرجال فإذا قلت الرجل اختص بعد شياعه فلما اختص هذا الفعل بعد شياعه كما أن الاسم يختص بعد شياعه فقد شابهه من هذا الوجه والوجه الثاني أنه تدخل عليه لام الابتداء تقول إن زيدا ليقوم كما تقول إن زيدا لقائم فلما دخلت عليه لام الابتداء كما تدخل على الاسم دل على مشابهه بينهما ألا ترى أنه لا يجوز أن تدخل هذه اللام على الفعل الماضي ولا على فعل الأمر ألا ترى (2/549)
أنك لا تقول أن زيدا لقام ولا إن زيدا لاضرب عمرا وما أشبه ذلك لعدم المشابهة بينهما وبين الاسم
والوجه الثالث أنه يجرى على اسم الفاعل في حركته وسكونه ألا ترى أن قولك يضرب على وزن ضارب في حركته وسكونه فلما أشبه هذا الفعل الاسم من هذه الأوجه وجب أن يكون معربا كما أن الاسم معرب
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم إنما أعربت لأنها دخلها المعاني المختلفة والأوقات الطويلة قلنا قولكم يدخلها المعاني المختلفة يبطل بالحروف فإنها تدخلها المعاني المختلفة ألا ترى أن ألا تصلح للاستفهام والعرض والتمني ومن تجئ لمعان مختلفة من ابتداء الغاية والتبعيض والتبيين والزيادة للتوكيد إلى غير ذلك من الحروف ولا خلاف بين النحويين أنه لا يعرب منها شيء وقولكم والأوقات الطويلة يبطل بالفعل الماضي فإن كان ينبغي أن يكون معربا لأنه أطول من المستقبل لأن المستقبل يصير ماضيا والماضي لا يصير مستقبلا فإذا كان الماضي الذي هو الأطول مبنيا فكيف يجوز أن يكون المستقبل الذي هو دونه معربا فلو كان طول الزمان يوجب الإعراب لوجب أن يكون الماضي معربا فلما لم يعرب دل على أن هذا تعليل ليس عليه تعويل والله أعلم
74م - سالة القول في رفع الفعل المضارع
اختلف مذهب الكوفيين في رفع الفعل المضارع نحو يقوم زيد ويذهب (2/550)
عمرو فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة وذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في أوله وذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه مقام الاسم
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن هذا الفعل تدخل عليه النواصب والجوازم فالنواصب نحو أن ولن وإذن وكي وما أشبه ذلك والجوازم نحو لم ولما ولام الأمر ولا في النهي وإن في الشرط وما أشبه ذلك فإذا دخلت عليه هذه النواصب دخله النصب نحو أريد أن تقوم ولن يقوم وإذن أكرمك وكي تفعل ذلك وما أشبه ذلك وإذا دخلت عليه هذه الجوازم دخله الجزم نحو لم يقم زيد ولما يذهب عمرو ولينطلق بكر ولا يفعل بشر وإن تفعل أفعل وما أشبه ذلك وإذا لم تدخله هذه النواصب أو الجوازم يكون رفعا فعلمنا أن بدخولها دخل النصب أو الجزم وبسقوطها عنه دخله الرفع
قالوا ولا يجوز أن يقال إنه مرفوع لقيامه مقام الاسم لأنه لو كان مرفوعا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن ينصب إذا كان الاسم منصوبا كقولك كان زيد يقوم لأنه قد حل محل الاسم إذا كان منصوبا وهو قائما ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم والاسم يكون مرفوعا ومنصوبا ومخفوضا ولو كان كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم في الرفع والنصب والخفض يدل عليه أنا وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم فعلمنا أنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم مثل الحالين في النصب والجزم فدل على ما قلنا (2/551)
والذي يدل على أنه لا يرتفع لقيامه مقام الاسم أنه لو كان مرفوعا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في قولهم كاد زيد يقوم لأنه لا يجوز أن يقال كاد زيد قائما فلما وجب رفعه بالإجماع دل على صحة ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بان قالوا إنما قلنا إنه مرفوع لقيامه مقام الاسم وذلك من وجهين
أحدهما أن قيامه مقام الاسم عامل معنوي فأشبه الابتداء والابتداء يوجب الرفع فكذلك ما أشبه
والوجه الثاني أنه بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله فلما وقع في أقوى أحواله وجب أن يعطي أقوى الإعراب وأقوى الإعراب الرفع فلهذا كان مرفوعا لقيامه مقام الاسم
ولا يلزم على كلامنا الفعل الماضي فإنه يقوم مقام الاسم ومع هذا فلا يجوز أن يكون مرفوعا لأنه إنما لم يكن قيام الفعل الماضي مقام الاسم موجبا لرفعه وذلك لأن الفعل الماضي ما استحق أن يكون معربا بنوع ما من الإعراب فصار قيامه مقام الاسم بمنزلة عدمه في وجوب الرفع لأن الرفع نوع من الأعراب وإذا لم يكن يستحق أن يعرب بشيء من الإعراب استحال أن يكون مرفوعا لأنه نوع منه بخلاف الفعل المضارع فإنه استحق جملة الإعراب بالمشابهة التي بيناها فكان قيامه مقام الاسم موجبا له الرفع وصار هذا بمنزلة السيف فإنه يقطع في محل يقبل القطع ولا يقطع في محل لا يقبل القطع فعدم القطع في محل لا يقبل القطع لا يدل على أنه ليس بقاطع فكذلك هاهنا عدم الرفع في الفعل الماضي مع قيامه مقام الاسم لا يدل على أن قيام الفعل المضارع مقام الاسم ليس بموجب للرفع وهذا واضح لا إشكال فيه (2/552)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه يرتفع بتعرية من العوامل الناصبة والجازمة قلنا هذا فاسد وذلك لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم ولا خلاف بين النحويين أن الرفع قبل النصب والجزم وذلك لأن الرفع صفة الفاعل والنصب صفة المفعول وكما أن الفاعل قبل المفعول فكذلك ينبغي أن يكون الرفع قبل النصب وإذا كان الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم كان ذلك من طريق الأولى فلما أدي قولهم إلى خلاف الإجماع وجب أن يكون فاسدا
قولهم لو كان مرفوعا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن يكون منصوبا إذا كان الاسم منصوبا إلى آخر ما ذكروه قلنا إنما لم يكن منصوبا أو مجرورا إذا قام مقام اسم منصوب أو مجرور لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال وهذا فعل فلهذا لم يكن عامل الاسم عاملا فيه
وأما قولهم وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم فعلمنا أنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم قلنا وكذلك نقول فإنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم لأن أرتفاعه لقيامه مقام الاسم والقيام مقام الاسم ليس بعامل للرفع في الاسم
وأما قول الكسائي إنه يرتفع بالزائد في أوله فهو قول فاسد من وجوه
أحدها أنه كان ينبغي أن لا تدخل عليه عوامل النصب والجزم لأن عوامل النصب والجزم لا تدخل على العوامل
والوجه الثاني أنه لو كان الأمر على ما زعم لكان ينبغي أن لا ينتصب بدخول النواصب ولا ينجزم بدخول الجوازم لوجود الزائد أبدا في أوله فلما انتصب بدخول النواصب وانجزم بدخول الجوازم دل على فساد ما ذهب إليه (2/553)
والوجه الثالث أن هذه الزوائد بعض الفعل لا تنفصل منه في لفظ بل هي من تمام معناه فلو قلنا إنها هي العاملة لأدى ذلك إلى أن يعمل الشيء في نفسه وذلك محال ويخرج على هذا أن المصدرية فإنها تعمل في الفعل المستقبل وهي معه في تقدير المصدر لأنها قائمة بنفسها ومنفصلة عن الفعل وكل واحد منهما ينفصل عن صاحبه فبان الفرق بينهما
وأما قولهم إنه لو كان مرفوعا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في قولهم كاد زيد يقوم لأنه لا يجوز أن يقال كاد زيد قائما قلنا هذا فاسد لأن الأصل أن يقال كاد زيد قائما ولذلك رده الشاعر إلى الأصل لضرورة الشعر في قوله
367
- ( فأبت إلى فهم وما كدت آئبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ) (2/544)
ألا أنه لما كانت كاد موضوعة للتقريب من الحال واسم الفاعل ليس دلالته على الحال بأولى من دلالته على الماضي عدلوا عنه إلى يفعل لأنه أدل على مقتضى كاد ورفعوه مراعاة للأصل فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم
75م - سالة عامل النصب في الفعل المضارع بعد واو المعية
ذهب الكوفيون إلى أن الفعل المضارع في نحو قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن منصوب على الصرف وذهب البصريون إلى أنه منصوب بتقدير أن وذهب أبو عمر الجرمي من البصريين إلى أن الواو هي الناصبة بنفسها لأنها خرجت عن باب العطف (2/555)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه منصوب على الصرف وذلك لأن الثاني مخالف للأول ألا ترى أنه لا يحسن تكرير العامل فيه فلا يقال لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن وأن المراد بقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن بجزم الأول وبنصب الثاني النهي عن أكل السمك وشرب اللبن مجتمعين لا منفردين فلو طعم كل واحد منهما منفردا لما كان مرتكبا للنهى ولو كان في نية تكرير العامل لوجب الجزم في الفعلين جميعا فكان يقال لا تأكل السمك وتشرب اللبن فيكون المراد هو النهي عن أكل السمك وشرب اللبن منفردين ومجتمعين فلو طعم كل واحد منهما منفردا عن الآخر أو معه لكان مرتكبا للنهي لأن الثاني موافق للأول في النهي لا مخالف له بخلاف ما وقع الخلاف فيه فإن الثاني مخالف للأول فلما كان الثاني مخالفا للأول ومصروفا عنه صارت مخالفته للأول وصرفه عنه ناصبا له وصار هذا كما قلنا في الظروف نحو زيد عندك وفي المفعول معه نحو لو ترك زيد والأسد لأكله فكما كان الخلاف يوجب النصب هناك فكذلك هاهنا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه منصوب بتقدير أن وذلك لأن الأصل في الواو أن تكون حرف عطف والأصل في حروف العطف أن لا تعمل لأنها لا تختص لأنها تدخل تارة على الاسم وتارة على الفعل على ما بينا في غير موضع وإنما لما قصدوا أن يكون الثاني في غير حكم الأول وحول المعنى حول إلى الاسم فاستحال أن يضم الفعل إلى الاسم فوجب تقدير أن لأنها مع الفعل بمنزلة الاسم وهي الأصل في عوامل النصب في الفعل
وأما ما ذهب إليه أبو عمر الجرمي أنها عاملة لأنها خرجت عن باب العطف (2/556)
فباطل لأنه لو كانت هي العاملة كما زعم لجاز أن تدخل عليها الفاء والواو للعطف وفي امتناعه من ذلك دليل على بطلان ما ذهب إليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الثاني مخالف للأول فصارت مخالفته له وصرفه عنه موجبا له النصب قلنا قد بينا في غير مسألة أن الخلاف لا يصلح أن يكون موجبا للنصب بل ما ذكرتموه هو الموجب لتقدير أن لا أن العامل هو نفس الخلاف والصرف ولو جاز ذلك لجاز أن يقال إن زيدا في قولك أكرمت زيدا لم ينتصب بالفعل وإنما انتصب بكونه مفعولا وذلك محال لأن كونه مفعولا يوجب أن يكون أكرمت عاملا فيه النصب فكذلك هاهنا الذي أوجب نصب الفعل هاهنا بتقدير أن هو امتناعه من أن يدخل في حكم الأول كما أن الذي أوجب نصب زيد في قولك أكرمت زيدا وقوع الفعل عليه فدل على ما قلناه والله أعلم
76م - سألة عامل النصب في الفعل المضارع بعد فاء السببية
ذهب الكوفيون إلى أن الفعل المضارع الواقع بعد الفاء في جواب الستة الأشياء التي هي الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض ينتصب بالخلاف وذهب البصريون إلى أنه ينتصب بإضمار أن وذهب أبو عمر الجرمي إلى أنه ينتصب بالفاء نفسها لأنها خرجت عن باب العطف وإليه ذهب بعض (2/557)
الكوفيين والكلام في هذه المسألة على طريق الإجمال كالكلام في المسألة التي قبلها فأما الكلام على سبيل التفصيل فنقول
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الجواب مخالف لما قبله لأن ما قبله أمر أو نهى أو استفهام أو نفي أو تمن أو عرض ألا ترى أنك إذا قلت آيتنا فنكرمك لم يكن الجواب أمرا فإذا قلت لا تنقطع عنا فنجفوك لم يكن الجواب نهيا وإذا قلت ما تأتينا فتحدثنا لم يكن الجواب نفيا وإذا قلت أين بيتك فأزورك لم يكن الجواب استفهاما وإذا قلت ليت لي بعيرا فأحج عليه لم يكن الجواب تمنيا وإذا قلت ألا تنزل فتصيب خيرا لم يكن الجواب عرضا فلما لم يكن الجواب شيئا من هذه الأشياء كان مخالفا لما قبله وإذا كان مخالفا لما قبله وجب أن يكون منصوبا على الخلاف على ما بينا
وأما البصريون فقالوا إنما قلنا إنه منصوب بتقدير أن وذلك لأن الأصل في الفاء أن يكون حرف عطف والأصل في حروف العطف أن لا تعمل لأنها تدخل تارة على الأسماء وتارة على الأفعال على ما بينا فيما تقدم فوجب أن لا تعمل فلما قصدوا أن يكون الثاني في غير حكم الأول وحول المعنى حول إلى الاسم فاستحال أن يضم الفعل إلى الاسم فوجب تقدير أن لأنها مع الفعل بمنزلة الاسم وهي الأصل في عوامل النصب في الفعل على ما بينا قبل وجاز أن تعمل أن الخفيفة مع الحذف دون أن الشديدة وإن كانت الشديدة أقوى من الخفيفة لأن الشديدة من عوامل الأسماء والخفيفة من عوامل الأفعال وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال لأن الفاء هاهنا صارت دالة عليها فصارت في حكم ما لم يحذف وكذلك الواو وأو ولام كي ولام الجحود وحتى صارت دالة عليها فجاز إعمالها (2/558)
مع الحذف بخلاف أن الشديدة فإنه ليس في اللفظ ما يدل على حذفها فبان الفرق بينهما
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين قولهم إن الجواب لما كان مخالفا لما قبله وجب أن يكون منصوبا على الخلاف قلنا قد أجبنا عن هذا في غير موضع فيما مضى فلا نعيده هاهنا
وأما من ذهب إلى أنها هي العاملة لأنها خرجت عن بابها قلنا لا نسلم فإنها لو كانت هي الناصبة بنفسها وأنها قد خرجت عن بابها لكان ينبغي أن يجوز دخول حرف العطف عليها نحو ايتني وفأكرمك وفأعطيك وفي امتناع دخول حرف العطف عليها دليل على أن الناصب غيرها ألا ترى أن واو القسم لما خرجت عن بابها جاز دخول حرف العطف عليها نحو فوا الله لأفعلن ووالله لأذهبن لأن الحرف إنما يمتنع دخوله على حرف مثله إذا كانا بمعنى واحد فلما امتنع دخول حرف العطف هاهنا على الفاء دل أنها باقية على حكم الأصل فلا يجوز أن يدخل عليها حرف العطف والله أعلم
77م - سالة هل تعمل أن المصدرية محذوفة من غير بدل
ذهب الكوفيون إلى أن أن الخفيفة تعمل في الفعل المضارع النصب مع الحذف من غير بدل (2/559)
وذهب البصريون إلى أنها لا تعمل مع الحذف من غير بدل
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز إعمالها مع الحذف قراءة عبد الله بن مسعود ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله ) فنصب ( لا تعبدوا ) بأن مقدرة لأن التقدير فيه أن لا تعبدوا إلا الله فحذف أن وأعملها مع الحذف فدل على أنها تعمل النصب مع الحذف وقال طرفة
368
- ( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي )
فنصب أحضر لأن التقدير فيه أن أحضر فحذفها وأعملها مع الحذف والدليل على صحة هذا التقدير أنه عطف عليه قوله وأن أشهد اللذات فدل على أنها تنصب مع الحذف وقال عامر بن الطفيل (2/560)
369 - ( فلم أر مثلها خباسة واجد ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله ) (2/561)
فنصب أفعله لأن التقدير فيه أن أفعله فدل على أنها تعمل مع الحذف وهذا على أصلكم ألزم لأنكم تزعمون أنها تعمل مع الحذف بعد الفاء في جواب الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض وكذلك بعد الواو واللام وأو وحتى فكذلك هاهنا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها لا يجوز إعمالها مع الحذف أنها حرف نصب من عوامل الأفعال وعوامل الأفعال ضعيفة فينبغي أن لا تعمل مع الحذف من غير بدل
والذي يدل على ذلك أن أن المشددة التي تنصب الأسماء لا تعمل مع الحذف (2/562)
وإذا كانت أن المشددة لا تعمل مع الحذف فإن الخفيفة أولى أن لا تعمل وذلك لوجهين
أحدهما أن أن المشددة من عوامل الأسماء وان الخفيفة من عوامل الأفعال وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال وإذا كانت أن المشددة لا تعمل مع الحذف وهي الأقوى فإن لا تعمل أن الخفيفة مع الحذف وهي الأضعف كان ذلك من طريق الأولى
والثاني أن أن الخفيفة إنما عملت النصب لأنها أشبهت أن المشددة وإذا كان الأصل المشبه به لا ينصب مع الحذف فالفرع المشبه أولى أن لا ينصب مع الحذف لأنه يؤدي إلى أن يكون الفرع أقوى من الأصل وذلك لا يجوز
والذي يدل على ضعف عمل أن الخفيفة أنه من العرب من لا يعملها مظهرة ويرفع ما بعدها تشبيها لها بما لأنها تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر كما أن ما تكون مع الفعل بعدها بمنزلة المصدر ألا ترى أنك تقول يعجبني أن تفعل فيكون التقدير يعجبني فعلك كما تقول يعجبني ما تفعل فيكون التقدير يعجبني فعلك فلما أشبهتها من هذا الوجه شبهت بها في ترك العمل وقد روى ابن مجاهد أنه قرئ ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) بالرفع وقال الشاعر
370
- ( يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لاقيتما رشدا )
( أن تحملا حاجة لي خف محملها ... وتصنعا نعمة عندي بها ويدا )
( أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا )
فقال أن تقرآن فلم يعملها تشبيها لها بما على ما بينا (2/563)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قراءة من قرأ ( لا تعبدوا إلا الله ) فهي قراءة شاذة وليس لهم فيها حجة لأن ( تعبدوا ) مجزوم بلا لأن (2/564)
المراد بها النهي وعلامة الجزم والنصب في الخمسة الأمثلة التي هذا أحدها واحدة
وأما قول طرفة
( ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... )
فالرواية عندنا على الرفع وهي الرواية الصحيحة وأما من رواه بالنصب فلعله رواه على ما يقتضيه القياس عنده من إعمال أن مع الحذف فلا يكون فيه حجة ولئن صحت الرواية بالنصب فهو محمول على أنه توهم أنه أتى بأن فنصب على طريق الغلط كما قال الأحوص اليربوعي
( مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها )
فجر قوله ناعب توهما أنه قال ليسوا بمصلحين فعطف عليه بالجر وإن كان منصوبا كما قال صرمة الأنصاري
( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائبا )
فجر سابق توهما أنه قال لست بمدرك ما مضى فعطف عليه بالجر وإن كان منصوبا وهذا لأن العربي قد يتكلم بالكلمة إذا استهواه ضرب من الغلط فيعدل عن قياس كلامه وينحرف عن سنن أصوله وذلك مما لا يجوز القياس عليه
وأما قول الآخر
( بعد ما كدت أفعله ... )
فالجواب عنه من وجهين
أحدهما أنه نصب أفعله على طريق الغلط على ما بيناه فيما تقدم كأنه توهم أنه قال كدت أن أفعله لأنهم قد يستعملونها مع كاد في ضرورة الشعر كما قال الشاعر (2/565)
371 - ( قد كاد من طول البلى أن يمصحا ... ) (2/0)
فأما في اختيار الكلام فلا يستعمل مع كاد ولذلك لم يأت في قرآن ولا كلام فصيح قال الله تعالى ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) وقال تعالى ( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) وكذلك سائر ما في القرآن من هذا النحو فأما الحديث كاد الفقر أن يكون كفرا فإن صح فزيادة أن من كلام الراوي لا من كلامه عليه السلام لأنه صلوات الله عليه أفصح من نطق بالضاد
والوجه الثاني أن يكون أراد بقوله بعد ما كدت أفعله بعد ما كدت أفعلها يعني الخصلة فحذف الألف وألقى فتحة الهاء على ما قبلها وهذا التأويل في هذا البيت حكاه أبو عثمان عن أبي محمد التوزي عن الفراء من أصحابكم كما حكى أن بعض العرب قتل رجلا يقال له مرقمة وقد كلفه وآخر أن يبتلعا جردان الحمار فامتنعا فقتل مرقمة فقال الآخر طاح مرقمة فقال له القاتل (2/567)
وأنت إن لم تلقمه يريد تلقمها فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الميم وكما قال الشاعر
372
- ( فإني قد رأيت بدار قومي ... نوائب كنت في لخم أخافه )
يريد أخافها فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الفاء وهي لغة لخم وحكى أصحابكم نحن جئناك به أي جئناك بها فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الباء فكذلك هاهنا
والوجه الأول أوجه الوجهين لأنه يحتمل أن يكون التقدير في قوله وأنت إن لم تلقمه تلقمنه بنون التأكيد الخفيفة فحذفها وبقيت الميم مفتوحة كما قال الشاعر
373
- ( اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس ) (2/568)
حذف (2/0)
والتقدير أضربن عنك الهموم فحذف النون وبقيت الباء مفتوحة فكذلك هاهنا
وأما قولهم إنها تعمل عندكم مع الحذف بعد الفاء والواو وأو واللام وحتى قلنا إنما جاز ذلك لأن هذه الأحرف دالة عليها فتنزلت منزلة ما لم يحذف فعملت مع الحذف بخلاف هاهنا فإنه ليس هاهنا حرف يدل عليها فلم يعمل مع الحذف والله أعلم
78م - سألة هل يجوز أن تأتي كي حرف جر
ذهب الكوفيون إلى أن كي لا تكون إلا حرف نصب ولا يجوز أن تكون حرف خفض
وذهب البصريون إلى أنها يجوز أن تكون حرف جر
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن كي لا يجوز أن تكون حرف خفض لأن كي من عوامل الأفعال وما كان من عوامل الأفعال لا يجوز أن يكون حرف خفض لأنه من عوامل الأسماء وعوامل الأفعال لا يجوز أن تكون من عوامل الأسماء (2/0)
والذي يدل على أنها لا تكون حرف خفض دخول اللام عليها كقولك جئتك لكي تفعل هذا لأن اللام على أصلكم حرف خفض وحرف الخفض لا يدخل على حرف الخفض وأما قول الشاعر
374
- ( فلا والله ما يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء )
فمن الشاذ الذي لا يعرج عليه ولا يؤخذ به بالإجماع
قالوا ولا يجوز أن يقال الدليل على أنها حرف جر أنها تدخل على ما الاستفهامية كما يدخل عليها حرف الجر فيقال كيمه كما يقال لمه (2/571)
لأنا نقول مه من كيمه ليس لكي فيه عمل وليس في موضع خفض وإنما هو في موضع نصب لأنها تقال عند ذكر كلام لم يفهم يقول القائل أقوم كي تقوم فيسمعه المخاطب ولم يفهم تقوم فيقول كيمه يريد كي ماذا والتقدير كي ماذا تفعل ثم حذف فمه في موضع نصب وليس لكي فيه عمل
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها تكون حرف جر دخولها على الاسم الذي هو ما الاستفهامية كدخول اللام وغيرها من حروف الجر عليها وحذف الألف منها فإنهم يقولون كيمه كما يقولون لمه
والدليل على أنها في موضع جر أن الألف من ما الاستفهامية لا يحذف إلا إذا كانت في موضع جر واتصل بها الحرف الجار كقولهم لم وبم وفيم وعم وقال الله تعالى ( لم تقولون مالا تفعلون ) وقال تعالى ( فبم تبشرون ) وقال تعالى ( فيم أنت من ذكراها ) وقال تعالى ( عم يتساءلون ) فأما إذا اتصل بماذا فلا يجوز حذف الألف منها وإن اتصل بها حرف الجر فلا يجوز أن يقال في لماذا وبماذا وفيما ذا وعما ذا لم ذا وبم ذا وفيم ذا وعم ذا لأن ما صارت مع ذا كالشيء الواحد فلم يحذف منها الألف وكذلك إذا وقعت في صدر الكلام لا يجوز أن يحذف الألف منها كقولهم ما تريد وما تصنع ولا يجوز أن يقال م تريد وم تصنع فلما حذف الألف منها في قولهم كيمه كما يحذف مع حرف الجردل على أنها حرف جر وإنما حذفت مع حرف الجر لأنها صارت مع حرف الجر بمنزلة كلمة واحدة فحذفت الألف منها للتخفيف ودخلها هاء السكت صيانة للحركة عن الحذف فصار كيمه ولمه ويمه وفيمه وعمه وقد يجوز أن يكونوا أبدلوها الهاء من الألف في ما كما أبدلوها من (2/572)
الألف في أنا فقالوا أنه وفي حيهله فقالوا حيلهه وقول الكوفيين إن مه في موضع نصب فسنبين فساده في الجواب إن شاء الله تعالى
أما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن كي من عوامل الأفعال فلا يجوز أن تكون من عوامل الأسماء قلنا هذا الحرف من عوامل الأفعال في كل الأحوال أو في بعض الأحوال فإن قلتم في كل الأحوال فلا نسلم وإن قلتم في بعض الأحوال فنسلم وهذا لأن كي على ضربين أحدهما أن تكون حرف نصب من عوامل الأفعال كما ذكرتم وذلك إذا دخلت عليها اللام كقولك جئتك لكي تكرمني كما قال تعالى ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ) فكي هاهنا هي الناصبة بنفسها من غير تقدير أن ولا يجوز أن تكون هاهنا حرف جر لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر وهذا لا إشكال فيه والثاني أن تكون حرف جر كاللام نحو جئتك كي تكرمني فهذه كي حرف جر بمنزلة اللام والفعل بعدها منصوب بتقدير أن كما هو منصوب بعد اللام بتقدير أن وحذفت فيهما طلبا للتخفيف
والذي يدل على أنها بمنزلة اللام أنها في معنى اللام ألا ترى أنه لا فرق بين قولك جئتك كي تكرمني وبين قولك جئتك لتكرمني وإذا كانا بمعنى واحد فلا معنى لترك الظاهر لشيء لم يقم عليه دليل فدل على أنها تكون حرف جر كما تكون حرف نصب فإذا ذهبت بها مذهب حرف الجر لم تتوهم فيه غيره وإذا ذهبت بها مذهب حرف النصب لم تتوهم فيه غيره فهي وإن كانت حرفا واحدا فقد تنزلت منزلة حرفين وصار هذا كما قلتم في حتى فإنها تنصب الفعل في حال من غير تقدير ناصب وتخفض الاسم في حال من غير تقدير خافض على الصحيح المشهور من مذهبكم ولم يمنع كونها ناصبة للفعل أن تكون خافضة للاسم فكذلك هاهنا وكذلك أيضا حتى (2/573)
تكون خافضة وتكون عاطفة وكذلك قلتم إن إلا تكون ناصبة وتكون عاطفة وكذلك حاشى وخلا تكونان ناصبين وخافضين واللفظ فيها كلها واحد والعمل مختلف فكذلك هاهنا
وأما قولهم إن مه في موضع نصب قلنا هذا باطل لأنها لو كانت ما في موضع نصب لكان ينبغي أن لا يحذف الألف من ما لأنها لا يحذف الألف منها إلا إذ كانت في موضع جر بخلاف ما إذا كانت في موضع نصب أو رفع فإنه لا يجوز أن يحذف الألف منها ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول م تفعل في قولك ما تفعل وم عندك في قولك ما عندك فلما حذفت الألف هاهنا دل على أنها ليست في موضع نصب وإنما هي في موضع جر
ثم هذا الحذف في موضع الجر إنما يكون في ما الاستفهامية دون ما الموصلة إلا في قولهم ادع بم شئت أى بالذي شئت فإن العرب تحذف الألف من ما الموصولة هاهنا خاصة كما تحذفها منها إذا أردت بها الاستفهامية
وقولهم إنها تقال عند ذكر كلام لم يفهم إلى آخر ما قرروا قلنا فكان يجب أن يجوز أن يقال أن مه ولن مه وإذن مه كما يقال كيمه إذا لم يفهم السامع ما بعد هذه الأحرف من الفعل لأنه إنما يسأل عن مصدر والمصدر في الأفعال بعد هذه الأحرف التي هي أن ولن وإذن وبعد كي واحد فلما لم يقل ذلك واختصت به كي دونها دل على بطلان ما ذهبوا إليه والله أعلم (2/574)
79 - سالة القول في ناصب المضارع بعد لام التعليل
ذهب الكوفيون إلى أن لام كي هي الناصبة للفعل من غير تقدير أن نحو جئتك لتكرمني وذهب البصريون إلى أن الناصب للفعل أن مقدرة بعدها والتقدير جئتك لأن تكرمني
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها هي الناصبة لأنها قامت مقام كي ولهذا تشتمل على معنى كي وكما أن كي تنصب الفعل فكذلك ما قام مقامه
ومنهم من تمسك بان قال إنما نصبت الفعل لأنها تفيد معنى الشرط فأشبهت إن المخففة الشرطية إلا أن إن لما كانت أم الجزاء أرادوا أن يفرقوا بينهما فجزموا بإن ونصبوا باللام للفرق بينهما ولم يكن للرفع مدخل في واحد من هذين المعنيين لأنه يبطل مذهب الشرط لأن الفعل المضارع إنما ارتفع لخلوه من حرف الشرط وغيره من العوامل الجازمة والناصبة
ولا يجوز أيضا أن يقال هلا نصبوا بإن وجزموا باللام وكان الفرق واقعا لأنا نقول إن إن لما كانت أم الجزاء كانت أولى باستحقاق الجزم لأنها تفتقر إلى فعل الجزاء كما تفتقر إلى فعل الشرط فيطول الكلام والجزم حذف والحذف تخفيف ومع طول الكلام يناسب الحذف والتخفيف بخلاف اللام فبان الفرق بينهما (2/575)
قالوا ولا يجوز أن يقال إنها لام الخفض التي تعمل في الأسماء لأنا نقول لو جاز أن يقال إن هذه اللام الداخلة على الفعل هي اللام الخافضة والفعل بعدها ينتصب بتقدير أن لجاز أن يقال أمرت بتكرم على تقدير أمرت بأن تكرم فلما لم يجز ذلك بالإجماع دل على فساده على أنا وإن سلمنا أنها من عوامل الأسماء إلا أنها عامل من عوامل الأفعال في بعض أحوالها والدليل على هذا أنها تجزم الأفعال في غير هاتين الحالين في الأمر والدعاء نحو ليقم زيد وليغفر الله لعمرو فكما جاز أن تعمل في بعض أحوالها في المستقبل جزما جاز أيضا أن تعمل في بعض أحوالها فيه نصبا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الناصب للفعل أن المقدرة دون اللام وذلك لأن اللام من عوامل الأسماء وعوامل الأسماء لا يجوز أن تكون عوامل الأفعال فوجب أن يكون الفعل منصوبا بتقدير أن وإنما وجب تقدير أن دون غيرها لأن أن يكون مع الفعل بمنزلة المصدر الذي يحسن أن يدخل عليه حرف الجر وهي أم الباب فكان تقديرها أولى من غيرها ولهذا إن شئت أظهرتها بعد اللام وإن شئت أضمرتها كما يجوز إظهار الفعل وإضماره بعد إن في قولهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر وإنما حذفت هاهنا بعد اللام وكذلك بعد الواو والفاء تخفيفا والحذف للتخفيف كثير في كلامهم ولهذا يذهبون إلى أنه حذفت لام الأمر وتاء المخاطب في أمر المواجه طلبا للتخفيف وقد حكى هشام بن معاوية عن الكسائي أنه حكى عن العرب لا بد من يتبعها أى لا بد من أن يتبعها فحذف أن فكذلك هاهنا (2/576)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما قلنا إنها هي الناصبة لأنها قامت مقام كي وكي تنصب فكذلك ما قام مقامها قلنا لا نسلم أن كي تنصب بنفسها على الإطلاق وإنما تنصب تارة بتقدير أن لأنها حرف جر وتارة تنصب بنفسها وليس حملها على إحدى الحالين أولى من الأخرى بل حملها عليها في الحالة التي تنصب الفعل فيه بتقدير أن أولى من حملها عليها في الحالة التي تنصب الفعل بنفسها لأنها في تلك الحالة التي تنصب الفعل بتقدير أن حرف جر كما أن اللام حرف جر وفي الحالة التي تنصب الفعل بنفسها حرف نصب وحمل حرف الجر على حرف الجر أولى من حمل حرف الجر على حرف النصب فكما أن كي في هذه الحالة تنصب الفعل بتقدير أن فكذلك اللام ينبغي أن تنصبه بتقدير أن
وقولهم إنها تشتمل على معنى كي قلنا كما أنها تشتمل على معنى كي إذا كانت ناصبة فكذلك تشتمل على معنى كي إذا كانت جارة فإنه لا فرق بين كي الناصبة وكي الجارة في المعنى على أن كونها في معنى كي الناصبة لا يخرجها عن كونها حرف جر فإنه قد يتفق الحرفان في المعنى وإن اختلفا في العمل ألا ترى أن اللام في قولك جئت لإكرمك بمعنى كي في قولك جئت كي أكرمك ولكي أكرمك وإن كانت اللام حرف جر وكي حرف نصب ولم تخرج بذلك عن كونها حرف جر فكذلك هاهنا
فإن قلتم إن اللام هاهنا دخلت على الاسم الذي هو مصدر فلم تخرج عن كونها حرف جر
قلنا وكذلك اللام هاهنا دخلت على الاسم الذي هو مصدر لأن أن المقدرة مع الفعل في تقدير المصدر فقد دخلت على الاسم ولا فرق بينهما
وأما قولهم إنها تفيد معنى الشرط فأشبهت إن المخففة الشرطية قلنا لا نسلم (2/577)
أنها تفيد الشرط وإنما تفيد التعليل ثم لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن تحمل عليها في الجزم فيجزم باللام كما يجزم بإن لأجل المشابهة التي بينهما
قولهم إن إن لما كانت أم الجزاء أرادوا أن يفرقوا بينهما قلنا فهلا رفعوا
قولهم إن الرفع يبطل مذهب الشرط قلنا فكان ينبغي أن لا ينصب أيضا لأن النصب أيضا يبطل مذهب الشرط
وقولهم إن الفعل المضارع يرتفع لخلوة من حرف الشرط وغيره من العوامل الناصبة والجازمة قلنا قد بينا فساد ما ذهبوا إليه من ارتفاع الفعل المضارع بتعرية من العوامل الناصبة والجازمة في موضعه بما يغني عن الإعادة
وأما قولهم إنها لو كانت لام الجر لجاز أن يقال أمرت بتكرم على معنى أمرت بأن تكرم قلنا هذا فاسد وذلك لأن حروف الجر لا تتساوى فإن اللام لها مزية على غيرها لأنها تدخل على المصادر التي هي أغراض الفاعلين وهي شاملة يحسن أن يسأل بها عن كل فعل فيقال لم فعلت لأن لكل فاعل غرضا في فعله وبالام يخبر عنه ويسأل عنه وكي وحتى في ذلك المعنى ألا ترى أنك تقول مدحت الأمير ليعطيني وحتى يعطيني وكي يعطيني فجاز أن تقدر بعدها أن وليست الباء كذلك فلا يجوز أن تقدر
وقولهم أنا نسلم أنها من عوامل الأسماء إلا أنها من عوامل الأفعال في بعض أحوالها بدليل إنها تجزم الأفعال في قولهم ليقم زيد قلنا إذا سلمتم أنها من عوامل الأسماء بطل أن تكون من عوامل الأفعال لأن العامل إنما كان عاملا لاختصاصه فإذا بطل الاختصاص بطل العمل
وقولهم إنها تجزم الفعل قلنا لا نسلم أن هذه اللام هي اللام الجازمة (2/578)
فإن لام الجر غير لام الأمر والدليل على ذلك أن لام الجر لا تقع مبتدأة بل لا بد أن تتعلق بفعل أو معنى فعل نحو جئتك لتقوم وما أشبه ذلك وأما لام الأمر فيجوز الابتداء بها من غير أن تتعلق بشيء قبلها ألا ترى أنك تقول ليقم زيد وليذهب عمرو فلا تتعلق اللام بفعل ولا معنى فعل فبان الفرق بينهما والله أعلم
80م - سالة هل يجوز إظهار أن المصدرية بعد لكي وبعد حتى
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إظهار أن بعد كي نحو جئت لكي أن أكرمك فتنصب أكرمك بكي وأن توكيد لها ولا عمل لها وذهب بعضهم إلى أن العامل في قولك جئت لكي أن أكرمك اللام وكي وأن توكيدان لها وكذلك أيضا يجوز إظهار أن بعد حتى
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إظهار أن بعد شيء من ذلك بحال
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه يجوز إظهار أن بعدها النقل والقياس (2/579)
أما من جهة النقل فقد قال الشاعر
375
- ( أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شنا ببيداء بلقع ) (2/580)
وأما من جهة القياس فلأن أن جاءت للتوكيد والتوكيد من كلام العرب فدخلت أن توكيدا لها لاتفاقهما في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ كما قال الشاعر
376
- ( قد يكسب المال الهدان الجافي ... بغير لاعصف ولا اصطراف ) (2/581)
فأكد غير بلا لاتفاقهما في المعنى ولهذا قلنا إن العمل لكي وأن لا عمل لها لأنها دخلت توكيدا لها وكذلك أيضا قلنا إن العمل للام في قولك جئت لكي أن أكرمك لأن كي وأن تأكيدان للام ولا يبعد في كلامهم مثل ذلك فقد قالوا لا إن ما رأيت مثل زيد فجمعوا بين ثلاثة أحرف من حروف الجحد للمبالغة في التوكيد فكذلك هاهنا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إظهار أن بعد لكي لا يخلو إما أن تكون لأنها قد كانت مقدرة فجاز إظهارها بعد الإضمار وإما أن تكون مزيدة ابتداء من غير أن تكون قد كانت مقدرة بطل أن يقال إنها قد كانت مقدرة لأن لكي تعمل بنفسها ولا تعمل بتقدير أن ولو كانت تعمل بتقدير أن لكان ينبغي إذا ظهرت أن أن يكون العمل لأن دونها فلما أضيف العمل إليها دل على أنها العامل بنفسها لا بتقدير أن وبطل أين يقال إنها تكون مزيدة ابتداء لأن ذلك ليس بمقيس فيفتقر إلى توقيف عن العرب ولم يثبت عنهم في ذلك شيء فوجب أن لا يجوز ذلك
ومنهم من تمسك بان قال إنما لم يجز إظهار أن بعد كي وحتى لأن كي وحتى صارتا بدلا من اللفظ بأن كما صارت ما بدلا عن الفعل في قولهم أما أنت منطلقا انطلقت معك والتقدير فيه أن كنت منطلقا انطلقت معك فحذف الفعل وجعلت ما عوضا عنه وكما لا يجوز أن يظهر الفعل بعد ما لئلا يجمع بين البدل والمبدل فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما البيت الذي أنشدوه فلا حجة لهم فيه من ثلاثة أوجه (2/582)
أحدهما أن هذا البيت غير معروف ولا يعرف قائله فلا يكون فيه حجة
والوجه الثاني أن يكون قد أظهر أن بعد كي لضرورة الشعر وما يأتي للضرورة لا يأتي في اختيار الكلام
والوجه الثالث أن يكون الشاعر أبدل أن من كيما لأنهما بمعنى واحد كما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه قال الله تعالى ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ) ف يضاعف بدل من يلق وقال الشاعر
377
- ( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا ) (2/583)
فتلمم بدل من تأتنا وقال الشاعر
378
- ( إن يغدروا أو يجبنوا ... أو يبخلوا لا يحفلوا )
( يغدوا عليك مرجلين ... كأنهم لم يفعلوا )
فيغدوا بدل من قوله لا يحفلوا فكذلك هاهنا وعلى كل حال فهو قليل في الاستعمال
وأما قولهم إن التأكيد من كلام العرب فدخلت أن للتأكيد قلنا إنما جاز التوكيد فيما وقع عليه الإجماع لأنه قد جاء عن العرب كثيرا متواترا شائعا بخلاف ما وقع الخلاف فيه فإنه لم يأت عنهم فيه إلا شاذا نادرا لا يعرج عليه ولم يثبت ذلك الشاذ أيضا عنهم فوجب أن لا يكون جائزا والله أعلم (2/584)
81 - سألة هل يجوز مجئ كما بمعنى كيما وينصب بعدها المضارع
ذهب الكوفيون إلى أن كما تأتي بمعنى كيما وينصبون بها ما بعدها ولا يمنعون جواز الرفع واستحسنه أبو العباس المبرد من البصريين
وذهب البصريون إلى أن كما لا تأتي بمعنى كيما ولا يجوز نصب ما بعدها بها
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن كما تكون بمعنى كيما وأن الفعل ينصب بها أنه قد جاء ذلك كثيرا في كلامهم قال الشاعر وهو صخر الغي
379
- ( جاءت كبير كما أخفرها ... والقوم صيد كأنهم رمدوا ) (2/585)
أراد كيما أخفرها ولهذا المعنى انتصب أخفرها وقال الآخر
380
- ( وطرفك إما جئتنا فاصرفنه ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ) (2/586)
أراد كيما يحسبوا وقال الآخر
381
- ( لا تظلموا الناس كما لا تظلموا ... ) (2/587)
أراد كيما لا تظلموا وقال عدي بن زيد العبادي
382
- ( اسمع حديثا كما يوما تحدثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا ) (2/588)
وقال الآخر
383
- ( يقلب عينيه كما لأخافه ... تشاوس رويدا إنني من تأمل ) (2/589)
أراد كيما أخافه إلا أنه أدخل اللام توكيدا ولهذا المعنى كان الفعل منصوبا فهذه الأشياء كلها تدل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز النصب بها لأن الكاف في كما كاف التشبيه أدخلت عليها ما وجعلا بمنزلة حرف واحد كما أدخلت على رب وجعلا بمنزلة حرف واحد ويليها الفعل كربما وكما أنهم لا ينصبون الفعل بعد ربما فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما البيت الأول فلا حجة لهم فيه لأنه روى كما أخفرها بالرفع لأن المعنى جاءت كما أجيئها وكذلك رواه الفراء من أصحابكم واختار الرفع في هذا البيت وهو الرواية الصحيحة (2/590)
وأما البيت الثاني فلا حجة فيه أيضا لأن الرواية
( لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ... )
وأما البيت الثالث فلا حجة فيه أيضا لأن الرواية فيه بالتوحيد
( لا تظلم الناس كما لا تظلم ... )
كالرواية الأخرى
( لا تشتم الناس كما لا تشتم ... )
وأما البيت الرابع فليس فيه حجة أيضا لأن الرواة اتفقوا على أن الرواية كما يوما تحدثه بالرفع كقول أبي النجم
384
- ( قلت لشيبان ادن من لقائه ... كما تغدى القوم من شوائه ) (2/591)
وكقول الآخر
385
- ( أنخ فاصطبغ قرصا إذا أعتادك الهوى ... بزيت كما يكفيك فقد الحبائب )
ولم يروه أحد كما يوما تحدثه بالنصب إلا المفضل الضبي وحده فإنه كان يرويه منصوبا وإجماع الرواة من نحويى البصرة والكوفة على خلافة والمخالف له أقوم منه بعلم العربية
وأما البيت الخامس ففيه تكلف يقبح والأظهر فيه
( يقلب عينيه لكيما أخافه ... )
على أنه لو صح ما رووه من هذه الأبيات على مقتضى مذهبهم فلا يخرج ذلك عن حد الشذوذ والقلة فلا يكون فيه حجة والله أعلم (2/592)
82 - سألة هل تنصب لام الجحود بنفسها وهل يتقدم معمول منصوبها عليها
ذهب الكوفيون إلى أن لام الجحد هي الناصبة بنفسها ويجوز إظهار أن بعدها للتوكيد نحو ما كان زيد لأن يدخل دارك وما كان عمرو لأن يأكل طعامك ويجوز تقديم مفعول الفعل المنصوب بلام الجحد عليها نحو ما كان زيد دارك ليدخل وما كان عمرو طعامك ليأكل
وذهب البصريون إلى أن الناصب للفعل أن مقدرة بعدها ولا يجوز إظهارها ولا يجوز تقديم مفعول الفعل المنصوب بلام الجحد عليها
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها هي العاملة بنفسها وجواز إظهار أن بعدها ما قدمناه في مسألة لام كي
وأما الدليل على جواز تقديم المنصوب على الفعل المنصوب بلام الجحد فما قال الشاعر
386
- ( لقد عذلتني أم عمرو ولم أكن ... مقالتها ما كنت حيا لأسمعا ) (2/593)
أراد ولم أكن لأسمع مقالتها وقدم منصوب لأسمع عليه وفيه لام الجحود فدل على جوازه وفيه أيضا دليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن لام الجحود هي العاملة بنفسها من غير تقدير أن إذ لو كانت أن هاهنا مقدرة لكانت مع الفعل بمنزلة المصدر وما كان في صلة المصدر لا يتقدم عليه (2/594)
وأما البصريون فاحتجوا بان قالوا الدليل على أن الناصب أن المقدرة بعدها ما قدمناه في مسألة لام كي
وأما الدليل على أنه لا يجوز إظهار أن بعدها فمن وجهين أحدهما أن قولهم ما كان زيد ليدخل وما كان عمرو ليأكل جواب فعل ليس تقديره تقدير اسم ولا لفظه لفظ اسم لأنه جواب لقول قائل زيد سوف يدخل وعمرو سوف يأكل فلو قلنا ما كان زيد لأن يدخل وما كان عمرو لأن يأكل بإظهار أن لكنا جعلنا مقابل سوف يدخل وسوف يأكل اسما لأن أن مع الفعل بمنزلة المصدر وهو اسم فلذلك لم يجز إظهارها كما لا يجوز إظهار الفعل في قولك إياك وزيدا والوجه الثاني أن التقدير عندهم ما كان زيد مقدرا لأن يدخل أو نحو ذلك من التقدير الذي يوجب المستقبل من الفعل وأن توجب الاستقبال فاستغنى بما تضمن الكلام من تقدير الاستقبال عن ذكر أن
ومنهم من قال إنما لم يجز إظهار أن بعدها لأنها صارت بدلا من اللفظ بها لأنك إذا قلت ما كان زيد ليدخل كان نفيا لسيدخل كما لو أظهرت أن فقلت ما كان زيد لأن يدخل فلما صارت بدلا منها كما أن ألف الاستفهام بدل من واو القسم في قولهم ألله لأقومن لم يجز إظهارها إذ كانت اللام بدلا منها فكأنها مظهرة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قول الشاعر
( ولم أكن ... مقالتها ما كنت حيا لأسمعا )
فلا حجة لهم فيه لأ مقالتها منصوب بفعل مقدر كأنه قال ولم أكن لأسمع مقالتها لا بقوله لأسمعا كما قال الشاعر (2/595)
387 - ( وإني امرؤ من عصبة خندفية ... أبت للأعادي أن تديخ رقابها ) (2/596)
فاللام في قوله للأعادي لا تكون من صلة أن تديخ بل من صلة فعل مقدر قبله وتقديره أبت أن تديخ وجعل هذا المظهر تفسيرا لذلك المقدر وهذا النحو في كلامهم أكثر من أن يحصى والله أعلم
83م - سألة هل تنصب حتى الفعل المضارع بنفسها
ذهب الكوفيون إلى أن حتى تكون حرف نصب ينصب الفعل من غير تقدير أن نحو قولك أطع الله حتى يدخلك الجنة واذكر الله حتى تطلع الشمس وتكون حرف خفض من غير تقدير خافض نحو قولك مطلته حتى الشتاء وسوفته حتى الصيف وذهب أبو الحسن على بن حمزة السكسائي إلى أن الاسم يخفض (2/597)
بعدها بإلى مضمرة أو مظهرة وذهب البصريون إلى أنها في كلا الموضعين حرف جر والفعل بعدها منصوب بتقدير أن والاسم بعدها مجرور بها
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها تنصب الفعل بنفسها لأنها لا تخلو إما أن تكون بمعنى كي كقولك أطع الله حتى يدخلك الجنة أي كي يدخلك الجنة وإما أن تكون بمعنى إلى أن كقولك اذكر الله حتى تطلع الشمس أي إلى أن تطلع الشمس فإن كانت بمعنى كي فقد قامت مقام كي وكي تنصب فكذلك ما قام مقامها وإن كانت بمعنى إلى أن فقد قامت مقام أن وأن تنصب فكذلك ما قام مقامها وصار هذا بمنزلة واو القسم فإنها لما قامت مقام الباء علمت عمها وكذلك واو رب لما قامت مقامها عملت عملها فكذلك هاهنا وقلنا إنها تخفض الاسم بنفسها لأنها قامت مقام إلى وإلى تخفض ما بعدها فكذلك ما قام مقامها
وأما الكسائي فقال إنما قلت إنها تخفض بإلى مضمرة أو مظهرة لأن التقدير في قولك ضربت القوم حتى زيد حتى انتهى ضربي إلى زيد ثم حذف انتهى ضربي إلى تخفيفا فوجب أن تكون إلى هي العاملة
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الناصب للفعل أن المقدرة دون حتى أنا أجمعنا على أن حتى من عوامل الأسماء وإذا كانت من عوامل الأسماء فلا يجوز أن تجعل من عوامل الأفعال لأن عوامل الأسماء لا تكون عوامل الأفعال كما أن عوامل الفعال لا تكون عوامل الأسماء وإذا ثبت أنه لا يجوز أن تكون عوامل الأسماء عوامل الأفعال فوجب أن يكون الفعل منصوبا بتقدير أن وإنما وجب تقديرها دون غيرها لأنها مع الفعل بمنزلة المصدر الذي يدخل عليه حرف الجر وهي أم الحروف الناصبة للفعل فلهذا كان تقديرها أولى من غيرها (2/598)
والذي يدل على أن الفعل بعد حتى منصوب بتقدير أن لا بها نفسها قول الشاعر
388
- ( داويت عين أبي الدهيق بمطله ... حتى المصيف ويغلو القعدان )
فالمصيف مجرور بحتى ويغلو عطف عليه فلو كانت حتى هي الناصبة لوجب أن لا يجئ الفعل هاهنا منصوبا بعد مجئ الجر لأن حتى لا تكون في موضع واحد جارة وناصبة والمعطوف يجب أن يكون على إعراب المعطوف عليه (2/599)
فإذا لم يكن قبل يغلو فعل منصوب وكان قبله اسم مجرور علمت أن ما بعد الواو يجب أن يكون مجرورا وإذا وجب الجر بعد الواو وجب أن يكون يغلو منصوبا بتقدير أن لأن أن مع الفعل بمنزلة الاسم على ما بينا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنها إذا كانت بمعنى كي فقد قامت مقام كي وكي تنصب فكذلك ما قام مقامها فالكلام على فساده كالكلام في مسألة لام كي فلا نعيده هاهنا
وأما قولهم إنها إذا كانت بمعنى إلى أن فقد قامت مقام أن وأن تنصب فكذلك ما قام مقامها قلنا هذا فاسد لأنه يجوز عندكم ظهور أن بعد حتى ولو كانت بدلا عنها لما جاز ظهورها بعدها لأنه لا يجوز أن يجمع بين البدل والمبدل ألا ترى أن واو القسم لما كانت بدلا عن الباء لم يجز أن يجمع بينهما فلا يقال بوالله لأفعلن وكذلك التاء في القسم لما كانت بدلا عن الواو لا يقال توالله لأقومن لما كان يؤدي إليه من الجمع بين البدل والمبدل وأما واو رب فلا نسلم أنها قامت مقامها ولا أنها عاملة وإنما هذا شيء تدعونه على أصلكم وقد بينا فساده في موضعه بما يغني عن الإعادة
وأما ما ذهب إليه الكسائي من أن الخفض إلى مضمرة أو مظهره فظاهر الفساد لبعده في التقدير وإبطال معنى حتى وذلك لأن موضع حتى في الأسماء أن يكون الاسم الذي بعدها من جنس ما قبلها وإنما حتى اختصته من بين الجنس لأنه يستبعد منه الفعل أكثر من استبعاده من سائر الجنس كقولك قاتل زيد السباع حتى الأسد لأن قتاله الأسد أبعد من قتاله لغيره وكقولك استجرأ على الأمير جنده حتى الضعيف الذي لا سلاح معه لأن استجراء (2/600)
الضعيف الذي لا سلاح معه أبعد من استجراء غيره فلو قلنا إن التقدير فيه حتى انتهى استجراؤهم إلى الضعيف الذي لا سلاح معه لأدى ذلك إلى زيادة كثيرة وكانت إلى في صلة انتهى لا في صلة حتى وذلك خروج عن المتناولات القريبة من غير برهان ولا قرينة وذلك لا يجوز وإذا قلنا إنه مجرور بحتى لم يخرج من قياس العربية والمتناولات القريبة لأن حتى قد يليها المجرور في حال وغير المجرور في حال ولها نظائر ما يجر في حال ولا يجر في حال نحو مذ ومنذ وحاشا وخلا في الاستثناء وإذا ظهر الجر بعدها ولم يدل دليل على إضمار حرف جر على أن حروف الجر لا تعمل مع الحذف دل على أنها هي الجارة
والذي يدل على أنها هي الجارة قولهم حتام وحتامة كقولهم إلام وإلامة والأصل فيها حتى ما وما للاستفهام فلو لم يكن حتى حرف جر وإلا لما جاز حذف الألف من ما لأن مالا يحذف ألفها إلا أن يدخل عليها حرف جر على ما بينا في كيمه وفيمه وبمه ولمه وعمه وما أشبه ذلك فدل على أنها هي الجارة
والذي يدل على أنه لا يجوز ان تكون إلى مقدرة بعد حتى أن حتى تقوم مقام إلى ألا ترى أنك تقول أقم حتى يقدم زيد وسر حتى تطلع الشمس فيصلح أن تقيم مقامها إلى فتقول أقم إلى أن يقدم زيد وسر إلى أن تطلع الشمس فتقوم إلى مقام حتى فإذا كانت تقوم مقامها فينبغي أن لا يجمع بينهما لأن إحداهما تغنى عن الأخرى
والذي يدل على أن حتى في موضع إلى في هذا الموضع أنك تقول أقم إلى قدوم زيد وأقم حتى قدوم عمرو وإنما ظهرت أن بعد إلى ولم تظهر (2/601)
بعد حتى لأن إلى تلزم الاسم وحتى لا تلزم الاسم فألزموا إلى أن لتظهر اسمية ما دخلت عليه وقوة لزومها الجر وكذلك أيضا يحسن ظهور أن بعد لام كي ولم يحسن بعد حتى وكي لأن اللام تلزم الاسم بخلاف حتى وكي والله أعلم
84م - سألة عامل الجزم في جواب الشرط
ذهب الكوفيون إلى أن جواب الشرط مجزوم على الجوار واختلف البصريون فذهب الأكثرون إلى أن العامل فيهما حرف الشرط وذهب آخرون إلى أن حرف الشرط وفعل الشرط يعملان فيه وذهب آخرون إلى أن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط وذهب أبو عثمان المازني إلى أنه مبنى على الوقف
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه مجزوم على الجوار لأن جواب الشرط مجاور لفعل الشرط لازم له لا يكاد ينفك عنه فلما كان منه بهذه المنزلة في الجوار حمل عليه في الجزم فكان مجزوما على الجوار والحمل على الجوار كثير قال الله تعالى ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) وجه الدليل أنه قال ( والمشركين ) بالخفض على الجوار وإن كان معطوفا على ( الذين ) فهو مرفوع لأنه اسم ( يكن ) وقال تعالى (2/602)
( وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) بالخفض على الجوار وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة ويحيى عن عاصم وأبي جعفر وخلف وكان ينبغي أن يكون منصوبا لأنه معطوف على قوله ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ) كما في القراءة الأخرى وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب ولو كان معطوفا على قوله ( برؤوسكم ) لكان ينبغي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة وهو مخالف لإجماع أئمة الأمة من السلف والخلف إلا فيما لا يعد خلافا ثم قال زهير
389
- ( لعب الرياح بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر ) (2/603)
فخفض القطر على الجوار وإن كان ينبغي أن يكون مرفوعا لأنه معطوف على سوافي ولا يكون معطوفا على المور وهو الغبار لأنه ليس للقطر سواف كالمور حتى يعطفه عليه وقال الآخر
390
- ( كأنما ضربت قدام أعينها ... قطنا بمستحصد الأوتار محلوج )
فخفض محلوج على الجوار وكان ينبغي أن يقول محلوجا لكونه وصفا لقوله قطنا ولكنه خفضه على الجوار وقال الآخر
391
- ( كأن نسج العنكبوت المرمل ... ) (2/605)
فخفض المرمل على الجوار وكان ينبغي أن يقول المرملا لكونه وصفا للنسج لا للعنكبوت ومن ذلك قولهم جحر ضب خرب فخفضوا خربا على الجوار وكان ينبغي أن يكون مرفوعا لكونه في الحقيقة صفة للحجر لا للضب فكذلك هاهنا جواب الشرط كان ينبغي أن يكون مرفوعا إلا أنه جزم للجوار ولهذا إذا حلت بينه وبين فعل الشرط بالفاء أو بإذا رجع إلى الرفع وقال الله تعالى ( فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ) وقال تعالى ( وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون )
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن العامل هو حرف الشرط (2/607)
وذلك لأن حرف الشرط يقتضي جواب الشرط كما يقتضي فعل الشرط وكما وجب ان يعمل في فعل الشرط فكذلك يجب أن يعمل في جواب الشرط
وأما من ذهب إلى أن حرف الشرط وفعل الشرط يعملان في جواب الشرط فقال إنما قلنا ذلك لأن حرف الشرط وفعل الشرط يقتضيان جواب الشرط فلا ينفك أحدهما عن صاحبه فلما اقتضياه معا وجب أن يعملا فيه معا كما قلنا في الابتداء والمبتدأ إنها يعملان في الخبر فكذلك هاهنا غير أن هذا القول وإن اعتمد عليه كثير من البصريين فلا ينفك من ضعف وذلك لأن فعل الشرط فعل والأصل في الفعل أن لا يعمل في الفعل وإذ لم يكن للفعل تأثير في أن يعمل في الفعل وإن له تأثير في العمل في الفعل فإضافة مالا تأثير له إلى ماله تأثير لا تأثير له
والتحقيق فيه عندي أن يقال إن هو العامل في جواب الشرط بواسطة فعل الشرط لأن لا ينفك عنه فحرف الشرط يعمل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط لا به كما أن النار تسخن الماء بواسطة القدر والحطب فالتسخين إنما حصل عند وجودهما لا بهما لأن التسخين غنما حصل بالنار وحدها فكذلك هاهنا إن هو العامل في جواب الشرط عند وجود فعل الشرط لا أنه عامل معه
وأما من ذهب إلى أن حرف الشرط يعمل في فعل الشرط وفعل الشرط يعمل في جواب الشرط فقال لأن حرف الشرط حرف جزم والحروف الجازمة ضعيفة فلا تعمل في شيئين فوجب أن يكون فعل الشرط هو العامل
وهذا القول ضعيف أيضا لأنه يؤدي إلى إعمال الفعل في الفعل وقولهم الحروف الجازمة ضعيفة فلا تعمل في شيئين باطل لما بينا من وجه مناسبته (2/608)
للعمل في الشرط وجوابه لاقتضائه لهما بخلاف غيره من الحروف الجازمة فإنها لما اقتضت فعلا واحدا عملت في شيء واحد وحرف الشرط لما اقتضي شيئين وجب ان يعمل في شيئين قياسا على سائر العوامل
فأما من ذهب إلى أنه مبني على الوقف فقال لأن الفعل المضارع إنما أعرب بوقوعه موقع الاسم وجواب الشرط لا يقع موقع الاسم لأنه ليس من مواضعه فوجب أن يكون مبنيا على أصله فكذلك فعل الشرط
وهذا القول ليس بمعتد به عند البصريين لظهور فساده لأنه لو كان الأمر على ما زعمتم لكان ينبغي ان لا يكون الفعل معربا بعد أن وكي وإذن وكذلك أيضا بعد لم ولما ولام الأمر ولا في النهي لأن الاسم لا يقع بعد هذه الأحرف فكان ينبغي أن يكون الفعل بعدها مبنيا لأنه لم يقع موقع الاسم فلما انعقد الإجماع في هذه المواضع على أنه معرب وأنه منصوب بدخول النواصب ومجزوم بدخول الجوازم دل على فساد ما ذهب إليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) فلا حجة لهم فيه لأن قوله ( والمشركين ) ليس معطوفا على ( الذين كفروا ) وإنما هو معطوف على قوله ( من أهل الكتاب ) فدخله الجر لأنه معطوف على مجرور لا على الجوار
واما قوله تعالى ( فأمسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) فلا حجة لهم فيه أيضا لأنه على قراءة من قرأ بالجر ليس معطوفا على قوله ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ) وإنما هو معطوف على قوله ( برؤسكم ) على أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل وقال أبو زيد الأنصاري المسح خفيف الغسل وكان أبو زيد (2/609)
الأنصاري من الثقات الأثبات في نقل اللغة وهو من مشايخ سيبويه وكان سيبويه إذا قال سمعت الثقة يريد أيا زيد الأنصاري
والذي يدل على ذلك قولهم تمسحت للصلاة أي توضأت والوضوء يشتمل على ممسوح ومغسول والسر في ذلك أن المتوضئ لا يقنع بصب الماء على الأعضاء حتى يمسحها مع الغسل فلذلك سمى الغسل مسحا فالرأس والرجل ممسوحان إلا أن المسح في الرجل المراد به الغسل لبيان السنة ولولا ذلك لكان محتملا والذي يدل على أن المراد به الغسل ورود التحديد في قوله ( إلى الكعبين ) والتحديد إنما جاء في المغسول لا في الممسوح وقال قوم الأرجل معطوفة على الرأس في الظاهر لا في المعنى وقد يعطف الشيء على الشيء والمعنى فيهما مختلف قال الشاعر
392
- ( إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا ) (2/610)
فعطف العيون على الحواجب وإن كانت العيون لا تزجج وقال الآخر
( تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر )
فعطف عينيه على أنفه وإن كانت العينان لا توصفان بالجدع وقال لييد
393
- ( فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها ) (2/611)
فعطف نعامها على ظباؤها والنعام لا تطفل وإنما تبيض وقال الآخر
394
- ( يا ليت بعلك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا )
فعطف رمحا على سيفا وإن كان الرمح لا يتقلد وقال الآخر (2/612)
395 - ( علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها )
فعطف ماء على تبنا وإن كان الماء لا يعلف وقال الآخر
396
- ( شراب ألبان وتمر وأقط ... ) (2/313)
فعطف تمرا على ألبان وإن كان التمر لا يشرب فكذلك عطف الأرجل على الرؤوس وإن كانت لا تمسح
وأما قول زهير
( سوافي المور والقطر ... )
فلا حجة لهم فيه لأنه معطوف على المور وهو الغبار وقولهم لا يكون (2/614)
معطوفا على المور لأنه ليس للقطر سواف قلنا يجوز ان يكون قد سمى ما تسفيه الريح منه وقت نزولة سوافي كما يسمى ما تسفيه الريح من الغبار سوافي
وأما قول الآخر
( كأن نسج العنكبوت المرمل ... )
فنقول الرواية المرمل بكسر الميم فيكون من وصف العنكبوت لا النسج وإن كانت الرواية التي ذكرتم صحيحة وأنه مجرور على الجوار إلا أنه لا حجة فيه لأن الحمل على الجوار من الشاذ الذي لا يعرج عليه
وكذلك قوله
( قطنا بمستحصد الاوتار محلوج ... )
وقولهم جحر ضب خرب محمول على الشذوذ الذي يقتصر فيه على السماع لقلته ولا يقاس عليه لأنه ليس كل ما حكى عنهم يقاس عليه ألا ترى أن اللحياني حكى ان من العرب من يجزم بلن وينصب بلم إلى غير ذلك من الشواذ التي لا يلتفت إليها ولا يقاس عليها فكذلك هاهنا والله أعلم
85م - سألة عامل الرفع في الاسم المرفوع بعد أن الشرطية
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع بعد إن الشرطية (2/615)
نحو قولك إن زيد أتاني آته فإنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير تقدير فعل
وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بتقدير فعل والتقدير فيه إن أتاني زيد والفعل المظهر تفسير لذلك الفعل المقدر
وحكى عن أبي الحسن الأخفش أنه يرتفع بالابتداء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما جوزنا تقديم المرفوع مع إن خاصة وعملها في فعل الشرط مع الفصل لأنها الأصل في باب الجزاء فلقوتها جاز تقديم المرفوع معها وقلنا إنه يرتفع بالعائد لأن المكنى المرفوع في الفعل والاسم الأول فينبغي أن يكون مرفوعا به كما قالوا جاءني الظريف زيد وإذا كان مرفوعا به لم يفتقر إلى تقدير فعل
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يرتفع بتقدير فعل لأنه لا يجوز ان يفصل بين حرف الجزم وبين الفعل باسم لم يعمل فيه ذلك الفعل ولا يجوز ان يكون الفعل هاهنا عاملا فيه لأنه لا يجوز تقديم ما يرتفع بالفعل عليه فلو لم يقدر ما يرفعه لبقي الاسم مرفوعا بلا رافع وذلك لا يجوز فدل على أن الاسم يرتفع بتقدير فعل وأن الفعل المظهر الذي بعد الاسم يدل على ذلك المقدر
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما جوزنا تقديم المرفوع مع إن خاصة لقوتها لأنها الأصل في باب الجزاء دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازي بها قلنا نسلم أن إن هي الأصل في باب الجزاء ولكن هذا لا يدل على جواز تقديم الاسم المرفوع بالفعل عليه لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما يرتفع بالفعل عليه وذلك لا يجوز لأنه لا نظير له في كلامهم فوجب أن يكون مرفوعا بتقدير فعل ويكون الفعل الظاهر مفسرا له بلى لما كانت (2/616)
إن هي الأصل اختصت بجواز تقديم المرفوع بتقدير فعل مع الفعل الماضي خاصة دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازي بها لأنها هي الأصل وتلك الأسماء والظروف فرع عليها والأصل يتصرف مالا يتصرف الفرع ألا ترى أن همزة الاستفهام لما كانت هي الأصل في حروف الاستفهام جاز فيها ما لم يجز في غيرها من حروف الاستفهام فكذلك هاهنا
وأما قول عدي
397
- ( فمتى واغل ينبهم يحيوه ... وتعطف عليه كأس الساقي ) (2/617)
وقال الآخر
398
- ( صعدة نابتة في حائر ... أينما الريح تميلها تمل ) (2/618)
وقول الآخر
399
- ( فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ... ومن لا نجره يمس منا مفزعا )
فهو ضعيف لا يجوز في الكلام لأنه قدر الفعل بعد متى وأينما ومن وهي فرع على إن ولأنه فعل مضارع يظهر فيه عمل حرف الجزم وذلك ضعيف في إن في الكلام فإنما يجوز في الشعر وإذا كان ذلك ضعيفا في إن وهي الأصل ففيما هو فرع عليه أولى ولو كان فعلا ماضيا لكان في هذه المواضع أسهل إذ كان ذلك جائزا في إن في الكلام دون غيرها وهذا كله شيء يختص بالشعر ولا يجوز في الكلام
وأما قولهم إنه يرتفع بالعائد لأن المكني المرفوع في الفعل هو الاسم الأول فينبغي ان يكون مرفوعا به كما قالوا جاءني الظريف زيد قلنا هذا باطل لأن ارتفاع زيد في جاءني الظريف زيد إنما كان على البدل من الظريف وجاز أن يكون بدلا (2/619)
لتأخر البدل عن المبدل منه فأما هاهنا فلا يجوز أن يكون بدلا لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه وقد بينا بطلان الرفع بالعائد في موضعه بما يغني عن الإعادة هاهنا
وأما ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفش من أنه يرتفع بالابتداء ففاسد وذلك لأن حرف الشرط يقتضي الفعل ويختص به دون غيره ولهذا كان عاملا فيه وإذا كان مقتضيا للفعل ولا بد له منه بطل تقدير الابتداء لأن الابتداء إنما يرتفع به الاسم في موضع لا يجب فيه تقدير الفعل لأن حقيقة الابتداء هو التعرى من العوامل اللفظية المظهرة أو المقدرة وإذا وجب تقدير الفعل استحال وجود الابتداء الذي يرفع الاسم
وبهذا يبطل قول من ذهب من الكوفيين وغيرهم إلى أن الاسم بعد إذا مرفوع لأنه مبتدأ إما بالترافع أو بالابتداء في نحو قوله تعالى ( إذا السماء انشقت ) لأن إذا فيها معنى الشرط والشرط يقتضي الفعل فلا يجوز أن يحمل على غيره والله أعلم
86م - سألة هل يجوز تقديم اسم مرفوع أو منصوب في جملة جواب الشرط وما يترتب عليه
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع في جواب الشرط فإنه لا يجوز فيه الجزم ووجب الرفع نحو إن تأتني زيد يكرمك واختلفوا في تقديم (2/620)
المنصوب في جواب الشرط نحو إن تأتني زيدا اكرم فأباه أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء وأجازه أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي
وذهب البصريون إلى أن تقديم المرفوع والمنصوب في جواب الشرط كله جائز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجزم وذلك لأن جزم جواب الشرط إنما كان لمجاورته فعل الشرط فإذا فارقه بتقديم الاسم بطلت المجاورة الموجبة للجزم فبطل الجزم وإذا بطل الجزم وجب فيه الرفع
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز وذلك لأنه يجب أن يقدر فيه فعل كما وجب التقدير مع تقديم الاسم على فعل الشرط لأن حرف الشرط يعمل فيهما على ما بينا فكما وجب التقدير مع تقديمه على فعل الشرط فكذلك مع تقديمه على جواب الشرط ولا فرق بينهما
واماالجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما قلنا إنه لا يجوز فيه الجزم لأن الجزم في جواب الشرط إنما كان لمجاورته فعل الشرط فإذا فارقه بتقديم الاسم وجب ان يبطل الجزم قلنا قد ذكرنا بطلان كون المجاورة موجبة للجزم في موضعه وبينا فساده بمايغني عن الإعادة
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه الفراء من منع جواز تقديم المنصوب قول طفيل الغنوي
400
- ( وللخيل أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لهاأيامها الخير تعقب ) (2/621)
فنصب الخير بتعقب وتقديره تعقب الخير وتعقب مجزوم وإنما كسرت الباء لأن القصيدة مجرورة وإنما كان هذا في المجرور دون المرفوعة والمنصوبة لوجهين أحدهما أن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء فلما وجب تحريكه حركوه حركة النظير والثاني ان الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل (2/622)
ولا يدخله الجر فلو حركوه بالضم أو الفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء بخلاف الكسر فإنه ليس فيه لبس
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه الفراء من امتناع جواز تقديم المنصوب أنا أجمعنا على أن المنصوب فضله في الجملة بخلاف المرفوع فينبغي ان لا يعتد بتقديمه كتقديم المرفوع والله أعلم
87م - سألة القول في تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط نحو زيدا إن تضرب أضرب واختلفوا في جواز نصبه بالشرط فأجازه الكسائي ولم يجزه الفراء
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن ينصب بالشرط ولا بالجزاء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز تقديم المنصوب بالجزاء على حرف الشرط لأن الأصل في الجزاء أن يكون مقدما على إن كقولك أضرب إن تضرب وكان ينبغي أن يكون مرفوعا إلا أنه لما أخر انجزم بالجوار على ما بينا وإن كان من حقه أن يكون مرفوعا
والذي يدل على ذلك قول الشاعر
401
- ( يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع ) (2/623)
والتقدير فيه إنك تصرع إن يصرع أخوك ولولا أنه في تقدير التقديم وإلالما جاز أن يكون مرفوعا ولوجب أن يكون مجزوما وقال زهير
402
- ( وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم ) (2/625)
والتقدير فيه يقول إن أتاه خليل يوم مسألة ولولا أنه في تقدير التقديم وإلا لما جاز أن يكون مرفوعا وقال الآخر
403
- ( فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لا غس ولا )
والتقدير فيه إن ينج فلم أرقه فقدمه في الموضع الذي بستحقه في الأصل (2/626)
وإذا ثبت هذا وأنه في تقدير التقديم فوجب جواز تقديم معموله على حرف الشرط لأن المعمول قد وقع في موقع العامل
وأماالبصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم معمول الشرط والجزاء على حرف الشرط لأن الشرط بمنزلة الاستفهام والاستفهام له صدر الكلام فكما لا يجوز ان يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله فكذلك الشرط ألا ترى انه لا يجوز ان يقال زيدا أضربت فكذلك لا يجوز أن يقال زيدا إن تضرب أضرب
والذي يدل على ذلك أن بين الاستفهام وبين الشرط من المشابهة مالا خفاء به ألا ترى أنك إذا قلت أضربت زيدا كنت طالبا لما لم يستقر عندك كما أنك إذا قلت إن تضرب زيدا أضرب كان كلاما معقودا على الشك فإذا ثبتت المشابهة بينهما من هذا الوجه فينبغي أن يحمل أحدهما على الآخر فكما لا يجوز ان يتقدم مابعد الاستفهام عليه فكذلك الشرط
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل في الجزاء أن يكون مقدما على الشرط قلنا لا نسلم بل مرتبة الجزاء بعد مرتبة الشرط لأن الشرط سبب في الجزاء والجزاء مسببه ومحال ان يكون المسبب مقدما على السبب ألا ترى أنك لا تقول إن أشكرك تعطني وأنت تريد إن تعطني أشكرك لاستحالة أن يتقدم المسبب على السبب وإذا ثبت أن مرتبة الجزاء أن تكون بعد الشرط وجب أن تكون مرتبة معمولة كذلك لأن المعمول تابع للعامل
وأما قول الشاعر
( إنك إن يصرع أخوك تصرع ... ) (2/627)
فلا حجة لهم فيه لأنه إنما نوى به التقديم وجعله خبرا لإن لأجل ضرورة الشعر وما جاء لضرورة شعر أو إقامة وزن أو قافية فلا حجة فيه وإما قول زهير
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول )
فلا نسلم أنه رفعه لأن النية به التقديم وإنما رفعه لأن فعل الشرط ماض وفعل الشرط إذا كان ماضيا نحو إن قمت أقوم فإنه يجوز ان يبقى على رفعه لأنه لما لم يظهر الجزم في فعل الشرط ترك الجواب على أول أحواله وهو الرفع وهو وإن كان مرفوعا في اللفظ فهو مجزوم في المعنى كقولك يغفر الله لفلان لفظه مرفوع ومعناه دعاء مجزوم كقولهم ليغفر الله لفلان
وأما قول الآجر
( فلم أرقه إن ينج منها ... )
فلا حجة لهم فيه لأن قوله فلم أرقه دليل على جواب الشرط لأن لم أفعل نفي لفعلت وفعلت تنوب مناب جواب الشرط المحذوف كما قال الشاعر
404
- ( يا حكم الوارث عن عبد الملك ... أوديت إن لم تحب حبو المعتنك ) (2/628)
أي إن لم تحب أوديت فجعل أوديت المقدم دلالة على أوديت المؤخر فكما جاز أن يجعل فعلت دليلا على جواب الشرط المحذوف فكذلك يجوز ان يجعل نفيها الذي هو لم أفعل دليلا على جوابه لأنهم قد يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره ألا ترى أنهم قالوا امرأة عدوة كما قالوا صديقة وقالوا ملحفة جديدة كما قالوا عتيقة وقالوا جوعان كما قالوا شبعان وقالوا علم كما قالوا جهل ولهذا قال الكسائي في قول الشاعر
405
- ( إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها ) (2/630)
أنه لما كان رضيت ضد سخطت وسخطت تعدي بعلي فكذلك رضيت حملا له على ضده فكذلك هاهنا جعل لم أفعل دليلا على جواب الشرط المحذوف حملا على فعلت (2/631)
وحذف جواب الشرط كثير في كلامهم إذا كان في الكلام ما يدل على حذفه كقولهم أنت ظالم إن فعلت كذا أي إن فعلت كذا ظلمت فحذف ظلمت لدلالة قوله أنت ظالم عليه والشواهد على حذف جواب الشرط في كلامهم لدلالة عليه أكثر من أن تحصى والله أعلم
88م - سألة القول في إن الشرطية هل تقع بمعنى إذ
ذهب الكوفيون إلى أن الشرطية تقع بمعنى إذ وذهب البصريون إلى أنها لا تقع بمعنى إذ
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن إن قد جاءت كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب بمعنى إذ قال الله تعالى ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) أي وإذ كنتم في ريب لأن إن الشرطية تفيد الشك بخلاف إذ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول إن قامت القيامة كان كذا لما يقتضيه من معنى الشك ولو قلت إذ قامت القيامة أو إذا قامت القيامة كان جائزا لأن إذ وإذا ليس فيهما معنى الشك وإذا ثبت أن إن الشرطية فيها معنى الشك فلا يجوز أن تكون هاهنا الشرطية لأنه لا شك أنهم كانوا في شك فدل على أنها بمعنى إذ وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) أي إذ كنتم مؤمنين لأنه لا شك في كونهم مؤمنين ولهذ خاطبهم في صدر الآية بالإيمان فقال ( يا أيها (2/632)
الذين آمنوا ) فدل على أنها بمعنى إذ وقال تعالى ( واتقوا الله إن كنتم مؤمينن ) أي إذ كنتم مؤمنين وقال تعالى ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) أي إذ وقال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) أي إذ شاء الله وجاء في الحديث عن الرسول صلوات الله عليه حين دخل المقابر سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أي إذ لأنه لا يجوز الشك في اللحوق بهم وقال الشاعر
406
- ( وسمعت حلفتها التي حلفت ... إن كان سمعك غير ذي وقر )
أي إذ والشواهد على هذا النحو اكثر من ان تحصى (2/633)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أن الأصل في إن تكون شرطا والأصل في إذ ان تكون ظرفا والأصل في كل حرف أن يكون دالا على ما وضع له في الأصل فمن تمسك بالأصل فقد تمسك باستصحاب الحال ومن عدل عن الأصل بقي مرتهنا بإقامة الدليل ولا دليل لهم يدل على ما ذهبوا إليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) فلا حجة لهم فيه لأن إن فيه شرطية وقولهم إن إن الشرطية تفيد معنى الشك قلنا وقد تستعملها العرب وإن لم يكن هناك شك جريا على عاداتهم في إخراج كلامهم مخرج الشك وإن لم يكن هناك شك على ما بينا قبل ومنه قولهم إن كنت إنسانا فأنت تفعل كذا وإن كنت ابني فأطعني وإن كان لا يشك في أنه إنسان وأنه ابنه ومعناه أن من كان إنسانا أو ابنا فهذا حكمه فخاطبهم الله تعالى على عادة خطابهم فيما بينهم (2/634)
وهذا هو الجواب عن جميع ما استشهدوا به من الآيات إلا قوله تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) فإن الجواب عنه من وجهين
أحدهما أن يكون الاستثناء وقع على دخولهم آمنين والتقدير فيه لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله
والوجه الثاني أن يكون ذلك على طريق التأديب للعباد ليتأدبوا بذلك كما قال تعالى ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله )
وهذا هو الجواب عن قوله صلوات الله عليه وإنا إن شاء الله بكم لاحقون لأنه لماأدبه الحق تعالى بقوله تعالى ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء ) تمسك بالأدب وأحال على المشيئة فقال ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )
وعلى هذا أيضا يحمل قول السلف أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ويحتمل أيضا وجهين آخرين
أحدهما أن يكونوا قالوا ذلك تركا لتزكية النفس لا للشك كما قال تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم ) وكما قيل لبعض الحكماء ما الصدق القبيح فقال ثناء الرجل على نفسه
والثاني أن يكون قولهم إن شاء الله شكا في وصف الإيمان لا في أصل الإيمان والشك في وصف الإيمان لا يقدح في أصل الإيمان وأما قول الشاعر
( إن كان سمعك غير ذي وقر ... )
فلا حجة فيه لأن إن فيه حرف شرط لا بمعنى إذ واستغنى بما تقدم من قوله وسمعت عن جواب الشرط لدلالته عليه على ما بينا فيما تقدم والله أعلم (2/635)
89 - سألة القول في إن الواقعة بعد ما أنافية مؤكدة أم زائدة
ذهب الكوفيون إلى أن إن إذا وقعت بعد ما نحو ما إن زيد قائم فإنها بمعنى ما وذهب البصريون إلى أنها زائدة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن إن تكون بمعنى ما وقد جاء ذلك كثيرا في كتاب الله وكلام العرب قال الله تعالى ( إن الكافرون إلا في غرور ) أي ما الكافرون إلا في غرور وقال تعالى ( إن أنتم إلا تكذبون ) أي ما أنتم وقال تعالى ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) أي ما أنتم وقال تعالى ( إن نحن إلا بشر مثلكم ) أي ما نحن وقال تعالى ( بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) أي ما كنتم مؤمنين وقال تعالى ( قل إن كان للرحمن ولد ) أي ما كان للرحمن ولد إلى غير ذلك فإذا ثبت أنها تكون بمعنى ما جاز أن يجمع بينها وبين ما لتأكيد النفي كالجمع بين إن واللام لتوكيد الإثبات
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها هاهنا زائدة أن دخولها كخروجها فإنه لا فرق في المعنى بين قول القول القائل ما إن زيد قائم وبين ما زيد قائما فلما كان خروجها كدخولها تنزلت منزلة من بعد النفي كما قال تعالى ( ما لكم من إله غيره ) أي ما لكم إله غيره وكما قال الشاعر (2/636)
( وما بالربع من أحد ... )
أي أحد وأشبهت ما إذا وقعت زائدة قال الله تعالى ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) أي فبرحمة وقال تعالى ( عما قليل ) أي عن قليل وقال تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم ) أي فبنقضهم وما زائدة فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنها تكون بمعنى ما قلنا نسلم أنها تكون بمعنى ما في موضع ما فأما ما احتجوا به فأكثره نقول بموجبه إذ لا نمنع أن تقع في بعض المواضع بمعنى ما
وأما ما احتجوا به من قوله تعالى ( بئسما يامركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) فلا نسلم أن إن هاهنا بمعنى ما وإنما هي هاهنا شرطية وجوابه مقدر والتقدير فيه إن كنتم مؤمنين فأى إيمان يأمر بعباده عجل من دون الله تعالى وكذلك قوله تعالى ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) لا نسلم أيضا أنها هاهنا بمعنى ما وإنما هي شرطية وجوابه فانا أول العابدين أي الآنفين من قولهم عبد الرجل يعبد عبدا فهو عبد وعابد إذا أنف وجاء في كلام أميرالمؤمينن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبدت فصمت أي أي أنفت فسكت وقال الشاعر
407
- ( أولائك قومي إن هجوني هجوتهم ... وأعبد أن تهجى تميم بدارم ) (2/637)
أى آنف ومعنى الآية أنا أول الآنفين ان يقال لله ولد وقيل أول العابدين أى اول من عبد الله وحده وقيل المعنى كما أنى لست اول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد كما يقال إن كنت كاتبا فأنا حاسب يريد إنك لست بكاتب ولا أنا بحاسب على أنا نقول ولم قلتم إنها إذا كانت فى موضع ما بمعنى ما ينبغي ان تكون ها هنا
قولهم جمع بينها وبين ما لتوكيد النفى كما جمع بين إن واللام لتوكيد الإثبات قلنا لو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يصير الكلام إيجابا لأن النفى إذا دخل على النفى صار إيجابا لأن نفي النفي إيجاب وعلى هذا يخرج توكيد الإثبات (2/639)
فإنه لا يغير المعنى لأن إثبات الإثبات لا يصير نفيا بخلاف النفى فإنه يصير إيجابا فبان الفرق بينهما والله أعلم
90م - سألة القول في معنى إن ومعنى اللام بعدها
ذهب الكوفيون إلى أن إن إذا جاءت بعدها اللام تكون بمعنى ما واللام بمعنى إلا وذهب البصريون إلى أنها مخففة من الثقيلة واللام بعدها لام التأكيد
أما الكوفيون فاحتجوا بان قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك كثيرا في كتاب الله وكلام العرب قال الله تعالى ( وإن كادوا ليستفزونك من (2/640)
الأرض ليخرجوك منها ) أى وما كادوا إلا يستفزونك وقال تعالى ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) أى وما كادوا إلا يزلقونك وقال تعالى ( وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ) أي وما كانوا إلا يقولون وقال ( إن كان وعد ربنا لمفعولا ) أى ما كان وعد ربنا إلا مفعولا ثم قال الشاعر
408
- ( شلت يمينك إن قتلت لمسلما ... كتبت عليك عقوبة المتعمد )
أي ما قتلت إلا مسلما وهو فى كلامهم أكثر من أن يحصى (2/641)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنها مخففة من الثقيلة لأنا وجدنا لها في كلام العرب نظيرا وأنا أجمعنا على أنه يجوز تخفيف إن وإن اختلفنا في بطلان عملها مع التخفيف وقلنا إن اللام لام التأكيد لأن لها أيضا نظيرا في كلام العرب وكون اللام للتأكيد في كلامهم مما لا ينكر لكثرته فحكمنا على اللام بما له نظير في كلامهم فأما كون اللام بمعنى إلا فهو شيء ليس له نظير في كلامهم والمصير إلى ماله نظير في كلامهم أولى من المصير إلى ما ليس له نظير
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بالآيات وما أنشدوه علىأن إن بمعنى ما واللام بمعنى إلا فلا حجة لهم في شىء من ذلك لأنه كله محمول على ما ذهبنا إليه من أن إن مخففه من الثقيلة واللام لام التأكيد والذي يدل على ذلك أن إن التى بمعنى ما لا تجىء اللام معها كما قال الله تعالى ( إن الكافرون إلا في غرور ) وكما قال الله تعالى ( إن أنتم إلا تكذبون ) وكما قال الله تعالى ( إن هذا إلا إفك افتراه ) إلى غير ذلك من المواضع ولم تجىء مع شىء منها اللام
فأما قولهم إن اللام في ( ليستفزونك ) وليزلقونك وليقولون ولمفعولا إلى غير ذلك من المواضع بمنزلة إلا في هذه المواضع قلنا هذا فاسد لأنه لو جاز ان يقال إن اللام تستعمل بمعنى إلا لكان ينبغى أن يجوز جاءنى القوم لزيدا بمعنى إلا زيدا فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبتم إليه وإنما جاءت هذه اللام مع إن المخففة من الثقيلة لأن إن المخففة (2/642)
في اللفظ بمنزلة التي يراد بها النفي فلما كان ذلك يؤدى إلى اللبس جىء بها للفرق بينهما فما جاء للفرق وإزالة اللبس جعلتموه سببا للبس وإزالة الفرق وهذا غاية الجور عن الصواب والحق والله أعلم
91م - سألة هل يجازى بكيف
ذهب الكوفيون إلى أن كيف يجازى بها كما يجازى بمتى ما وأينما وما أشبههما من كلمات المجازاة وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز ان يجازى بها
أما الكوفيين فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز المجازاة بها لانها مشابهة لكلمات المجازاة في الاستفهام ألا ترى أن كيف سؤال عن الحال كما أن أين سؤال عن المكان ومتى سؤال عن الزمان إلى غير ذلك من كلمات المجازاة ولان معناها كمعنى كلمات المجازاة الا ترى ان معنى كيفما تكن اكن في حال تكن أكن وكما ان معنى أينما تكن أكن في أى مكان تكن أكن ومعنى متى ما تكن أكن في أى وقت تكن أكن ولهذا قال الخليل بن أحمد مخرجها مخرج الجزاء وإن لم يقل إنها من حروف الجزاء فلما شابهت كيف ما يجازى به في الاستفهام ومعنى المجازاة وجب أن يجازى بها كما يجازى بغيرها من كلمات المجازاة
قالوا ولا يجوز أن يقال إنما لم يجز المجازاة لأنها لا تتحقق بها لأنك إذا قلت كيف تكن اكن فقد ضمنت له ان تكون على أحواله كلها (2/643)
وذلك متعذر لأنا نقول هذا يلزمكم في تجويزكم كيف تكون أكون لأن ظاهر هذا يقتضي ما منعتموه فكان ينبغي أن لا يجوز فلما أجزتموه دل على فساد ما ذهبتم إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز المجازاة بها لثلاثة أوجه
أحدها أنها نقصت عن سائر أخواتها لأن جوابها لا يكون إلا نكرة لأنها سؤال عن الحال والحال لا يكون إلا نكرة وسائر أخواتها تارة تجاب بالمعرفة وتارة تجاب بالنكرة فلما قصرت عن أحد الأمرين ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة
والوجه الثاني إنما لم يجز المجازاة بها لأنها لا يجوز الإخبار عنها ولا يعود إليها ضمير كما يكون ذلك في من وما وأى ومهما فلما قصرت في ذلك عن نظائرها ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة
والوجه الثالث أن الأصل في الجزاء أن يكون بالحرف إلا أن يضطر إلى استعمال الأسماء ولا ضرورة هاهنا تلجئ إلى المجازاة بها فينبغي أن لا يجازي بها لأنا وجدنا أيا تغني عنها ألا ترى أن القائل إذا قال في أي حال تكن أكن فهو في المعنى بمنزلة كيف تكن أكن غير أن هذا الوجه عندي ضعيف لأن أيا كما تتضمن الأحوال تتضمن الزمان والمكان وغير ذلك فكان ينبغي أن يستغنى بها عن متى ما وأينما وغيرهما من كلمات المجازاة فلما لم يستغنوا بها عنها دل على ضعف هذا التعليل
والتعويل في الدلالة على أنه لا يجوز أن يجازي بها الوجهان الأولان
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنها أشبهت كلمات المجازاة في الاستفهام وإن معناها كمعنى كلمات المجازاة قلنا لا نسلم أن (2/644)
معناها كمعنى كلمات المجازاة وذلك لأنه لا تتحقق المجازاة بها ألا ترى أنك إذا قلت كيف تكن أكن كان معناها على أى حال تكون أكون فقد ضمنت له أن تكون على أحواله وصفاته كلها وأحوال الشخص كثيرة يتعذر أن يكون المجازى عليها كلها لأنه يتعذر أن يتفق شيئان في جميع أحوالهما بل ربما كان كثير من الأحوال لا يدخل تحت الإمكان كالصحة والسقم والقوة والضعف إلى غير ذلك فإن أحدهما لو كان سقيما والآخر صحيحا أو ضعيفا والآخر قويا لما كان يمكن السقيم أن يجعل نفسه صحيحا ولا الضعيف أن يجعل نفسه قويا فأما متى ما وأينما فإنه تتحقق المجازاة بهما ألا ترى أنك إذا قلت أينما تكن أكن فقد ضمنت له متى كان في بعض الأماكن أن تكون أيضا في ذلك المكان ولا يتعذر وكذلك إذا قلت متى تذهب أذهب ضمنت له في أي زمان ذهب أن تذهب معه وهذا أيضا غير متعذر بخلاف كيف فإنه يتعذر أن يكون المجازى على جميع أحوال المجازي وصفاتها كلها لكثرتهاوتنوعها فبان الفرق
وأما قولهم إن هذا يلزمكم في تجوزيكم كيف تكون أكون بالرفع لأن ظاهر هذا يقتضي ما منعتموه قلنا الفرق بينهما أنا إذا رفعنا الفعل بعد كيف فإنما نقدر أن هذا الكلام قد خرج على حال علمها المجازى فانصرف اللفظ إليها فلذلك صح الكلام ولم يمكن هذا التقدير في الجزم بها على المجازاة لأن الأصل في الجزاء أن لا يكون معلوما لأن الأصل في الجزاء أن يكون بإن وأنت إذا قلت إن قمت قمت فوقت القيام غير معلوم فلما كان الأصل في الجزاء ان يكون غير معلوم بطل أن تقدر كيف في الجزاء واقعة على حال معلومة لأنها تخرج من الإبهام وتباين أصل كلمات الجزاء فلذلك لم يجز الجزم بها على تقدير حال معلومة والله أعلم (2/645)
92 - سألة السين مقتطعة من سوف أو أصل برأسه
ذهب الكوفيون إلى أن السين التي تدخل على الفعل المستقبل نحو سأفعل أصلها سوف وذهب البصريون إلى أنها أصل بنفسها
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن سوف كثر استعمالها في كلامهم وجريها على ألسنتهم وهم أبدا يحذفون لكثرة الاستعمال كقولهم لا أدر ولم أبل ولم يك وخذ وكل وأشباه ذلك والأصل لا أدري ولم أبال ولم يكن واأخذ واأكل فحذفوا في هذه المواضع وما أشبهها لكثرة الاستعمال فكذلك هاهنا لما كثر استعمال سوف في كلامهم حذفوا منها الواو والفاء تخفيفا
والذي يدل على ذلك أنه قد صح عن العرب انهم قالوا في سوف أفعل سو أفعل فحذفوا الفاء ومنهم من قال سف أفعل فحذف الواو وإذا جاز أن يحذف الواو تارة والفاء أخرى لكثرة الاستعمال جاز ان يجمع بينهما في الحذف مع تطرق الحذف إليهما في اللغتين لكثرة الاستعمال
والذي يدل على ذلك ان السين تدل على ما تدل عليه سوف من الاستقبال فلما شابهتها في اللفظ والمعنى دل على أنها مأخوذة منها وفرع عليها
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل في كل حرف يدل على معنى أن لا يدخله الحذف وأن يكون أصلا في نفسه والسين حرف يدل على معنى فينبغي أن يكون أصلا في نفسه لا مأخوذا من غيره (2/646)
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن سوف لما كثر استعمالها في كلامهم حذفوا الواو والفاء لكثرة الاستعمال قلنا هذا فاسد فإن الحذف لكثرة الاستعمال ليس بقياس ليجعل أصلا لمحل الخلاف على أن الحذف لو وجد كثيرا في غير الحرف من الاسم والفعل فقلما يوجد في الحرف وإن وجد الحذف في الحرف في بعض المواضع فهو على خلاف القياس فلا يجعل أصلا يقاس عليه
وأما ما رووه عن العرب من قولهم في سوف أفعل سو أفعل وسف أفعل فالجواب عنه من ثلاثة أوجه
الوجه الأول ان هذه رواية تفرد بها بعض الكوفيين فلا يكون فيها حجة
والثاني إن صحت هذه الرواية عن العرب فهو من الشاذ الذي لا يعبأ به لقلته
والثالث أن حذف الفاء والواو على خلاف القياس فلا ينبغي ان يجمع بينهما في الحذف لأن ذلك يؤدي إلى مالا نظير له في كلامهم فإنه ليس في كلامهم حرف حذف جميع حروفه طلبا للخفة على خلاف القياس حتى لم يبق منه إلا حرف واحد والمصير إلى مالا نظير له في كلامهم مردود
وأما قولهم إن السين تدل على الاستقبال كما أن سوف تدل على الاستقبال قلنا هذا باطل لأنه لو كان الامر كما زعمتم لكان ينبغي ان يستويا في الدلالة على الاستقبال على حد واحد ولا شك ان سوف اشد تراخيا في الاستقبال من السين فلما اختلفا في الدلالة دل على ان كل واحد منهما حرف مستقل بنفسه غير مأخوذ من صاحبه والله أعلم (2/647)
93 - مسألة المحذوف من التاءين المبدوء بهما المضارع
ذهب الكوفيون إلى أنه إذا اجتمع في أول الفعل المضارع تاء ان تاء المضارعة وتاء أصلية نحو تتناول وتتلون فإن المحذوف منهما تاء المضارعة دون الأصلية نحو تناول وتلون
وذهب البصريون إلى أن المحذوف منهما التاء الأصلية دون تاء المضارعة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه لما اجتمع في أول هذا الفعل حرفان متحركان من جنس واحد وهما الباء المزيدة للمضارعة والتاء الأصلية استثقلوا اجتماعهما فوجب أن تحذف إحداهما فلا يخلو إما أن تحذف الزائدة أو الأصلية فكان حذف الزائدة أولى من الأصلية لأن الزائد أضعف من الأصلي والأصلي أقوى من الزائد فلما وجب حذف أحدهما كان حذف الأضعف أولى من حذف الأقوى
وأما البصريون فقالوا إنما قلنا إن حذف الأصلية أولى من الزائدة لأن الزائدة دخلت لمعنى وهو المضارعة والأصلية ما دخلت لمعنى فلما وجب حذف إحداهما كان حذف ما لم يدخل لمعنى أولى
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الزائد أضعف من الأصلي فكان حذفة أولى قلنا لا نسلم هذا مطلقا فإن الزائد على ضربين زائد جاء لمعنى وزائد لم يجئ لمعنى فأما الزائد الذي جاء لمعنى فلا نسلم فيه (2/648)
أن لأصلي أقوى منه وأما الزائد الذي ما جاء لمعنى فمسلم أنه أقوى ولكن لا نسلم أنه قد وجد هاهنا وهذا لأن التاء هاهنا جاءت لمعنى المضارعة فقد جاءت لمعنى وإذا كانت قد جاءت لمعنى فيجب أن تكون تبقيتها أولى لأن في حذفها إسقاطا لذلك المعنى الذي جاءت من أجله وذلك خلاف الحكمة
والذي يدل على صحة هذا ثبوت التنوين في المنقوص والمقصور وحذف حرف العلة منهما لالتقاء الساكنين وإن كان أصليا فيهما ألا ترى أنك تقول في المنقوص هذا قاض ومررت بقاض والأصل فيه هذا قاضي ومررت بقاضي إلا أنهم لما حذفوا الضمة والكسرة استثقالا لهما على الياء بقيت الياء ساكنة والتنوين ساكنا فحذفوا الياء لالتقاء الساكنين وبقوا التنوين لأن الياء ما جاءت لمعنى والتنوين جاء لمعنى فكان تبقيته أولى فكذلك أيضا تقول في المقصور هذه رحا وعصا والأصل فيه رحى وعصو فلما تحركت الياء والواو وانفتح ما قبلهما قلبوهما ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين وبقي التنوين بعدها لأن الألف ما جاءت لمعنى والتنوين جاء لمعنى فكان تبقيته أولى فكذلك هاهنا ولهذا كان الواجب في تصغير منطلق ومغتسل مطيلق ومغيسل وكذلك التكسير نحو مطالق ومغاسل بإثبات الميم وحذف النون من منطلق والتاء من مغتسل لأن الميم جاءت لمعنى وهو الدلالة على اسم الفاعل والنون والتاء ما جاءتا لمعنى فكان حذفهما أولى من حذف الميم لأنها جاءت لمعنى وكذلك القياس في كل حرفين اجتمعا فوجب حذف أحدهما فإن حذف ما لم يجئ لمعنى أولى من حذف ما جاء لمعنى والسر فيه هو أن الحرف (2/649)
الذي جاء لمعنى قد تنزل في الدلالة على معنى بمنزلة سائر الكلمة التي تدل بجميع حروفها على معنى بخلاف الحرف الذي لم يجئ لمعنى فإنه ليس فيه دلالة على معنى في نفسه البتة فكما يمتنع أن تحذف الكلمة بأسرها لشيء لا معنى له في نفسه فكذلك هاهنا يمتنع أن يحذف الحرف الذي جاء لمعنى لأجل حرف لم يجئ لمعنى فدل على أن حذف التاء الأصلية أولى من الزائدة على ما بينا والله أعلم
94م - سألة هل تدخل نون التوكيد الخفيفة على فعل الأثنين وفعل جماعة النسوة
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إدخال نون التوكيد الخفيفة على فعل الأثنين وجماعة النسوة نحو افعلان وأفعلنان بالنون الخفيفة وإليه ذهب يونس بن حبيب البصري
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إدخالها في هذين الموضعين
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز ذلك لوجهين
أحدهما أن هذه النون الخفيفة مخففة من الثقيلة وأجمعنا على أن النون الثقيلة تدخل في هذين الموضعين فكذلك النون الخفيفة
والوجه الثاني أن هذه النون إنما دخلت في القسم والأمر والنهي والاستفهام والشرط بإما لتوكيد الفعل المستقبل فكما يجوز إدخالها للتوكيد على كل فعل (2/650)
مستقبل وقع في هذه المواضع فكذلك فيما وقع الخلاف فيه قصارى ما يقدر أن يقال إنه يؤدي إلى اجتماع الساكنين الألف والنون وقد جاء ذلك في كلام العرب لأن الألف فيها فرط مد والمد يقوم مقام الحركة وقد قرأ نافع وهو أحد أئمة القراء ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ) بسكون الياء من ( محياي ) فجمع بين الساكنين وهما الألف والياء فكذلك هاهنا وقد حكى عن بعض العرب أنه قال التقت حلقتا البطان بإثبات الألف مع لام التعريف وقد حكى عن بعض العرب أيضا أنه قال له ثلثا المال بإثبات الألف فجمع بينها وبين لام التعريف وهما ساكنان لما في الألف من إفراط المد ولذلك أيضا يجوز تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ألف نحو هباءة والهمزة المخففة ساكنة
والذي يدل على صحة مذهبنا قراءة ابن عامر ولا تتبعان بنون التوكيد الخفيفة والمراد به موسى وهارون فدل على ما قلناه
قالوا و لا يجوز ان يقال إنما يجتمع حرفان ساكنان في الوصل إذا كان الثاني منهما مدغما في مثله نحو دابة وتمود وأصيم لأنا نقول إن هذا النحو قد يلحقه مايوجب له الإدغام نحو قولك اضربا نعمان واضرباني فالنون الأولى في قولك اضربا نعمان نون التوكيد المخففة والنون الثانية نون نعمان وكذلك النون الأولى في اضرباني نون التوكيد المخففة والنون الثانية التي تصحب ضمير المتكلم فينبغي أن تجيزوا هذا الإدغام لأن الألف تقع وبعدها نون مشددة كقوله تعالى ( ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ) في قراءة من قرأ بالتشديد فلما لم تجيزوا ذلك دل على فاسد ما ذهبتم إليه (2/651)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز دخول نون التوكيد الخفيفة في هذين الموضعين وذلك لأن نون الاثنين التي للإعراب تسقط لأن نون التوكيد إذا دخلت على الفعل المعرب أكدت فيه الفعلية فردته إلى أصله وهو البناء فإذا سقطت النون بقيت الألف فلو أدخل عليها نون التوكيد الخفيفة لم يخل إما أن تحذف الألف أو تكسر النون أو تقر ساكنة بطل أن تحذف الألف لأنه بحذفها يلتبس فعل الاثنين بالواحد وبطل أن تكسر النون لأنه لا يعلم هل هي نون الإعراب أو نون التوكيد وبطل أن تقر ساكنة لأنه يؤدي إلى أن يجمع بين ساكنين مظهرين في الإدراج وذلك لا يجوز لأنه إنما يكون ذلك في كلامهم إذا كان الثاني منهما مدغما نحو دابة وضالة وتمود الثوب ومديق وأصيم وما أشبه ذلك فبطل إدخال هذه النون في فعل الاثنين
وكذلك أيضا يبطل إدخالها في فعل جماعة النسوة وذلك لأنك إذا ألحقته أياها لم يخل إما أن تبين النونين مظهرتين أو تدغم إحداهما في الأخرى او تلحق الألف فتقول يفعلنان بطل أن تبين النونين مظهرتين لأنه يؤدي إلى اجتماع المثلين وذلك لا يجوز وبطل أن تدغم إحداهما في الأخرى لأن لام الفعل ساكنة والمدغم كذلك فيلتقي ساكنان وساكنان لا يجتمعان فيؤدي إلى تحريك اللام مع ضمير الفاعل من غير فائدة وذلك لا يجوز وكان أيضا يؤدي إلى اللبس لأنه لا يخلو إما أن تحرك اللام بالفتح أو الضم أو الكسر فإن حركتها بالفتح التبس بفعل الواحد إذا لحقته النون الشديدة نحو تضربن يا رجل وإن حركتها بالضم التبس بفعل الجمع نحو تضربن يا رجال وإن حركتها بالكسر التبس بفعل المرأة المخاطبة نحو تضربن يا امرأة فبطل تحريك اللام وبطل أن تلحق الألف لأنه لا يخلو إما أن تكسر النون لالتقاء الساكنين أو تترك ساكنة مع الألف بطل أن تكسر لالتقاء (2/652)
الساكنين لأنها تجرى مجرى نون الإعراب وذلك لا يجوز وبطل ان تترك ساكنة مع الألف لأنه يجتمع ساكنان على غير حده لأنه لم ينقل ذلك عن أحد من العرب ولا نظير له في كلامهم وذلك لا يجوز فإاذ ثبت هذا فلسنا بمضطرين إلى إدخالها على صورة لم تنقل عن أحد من العرب وتخرج بها عن منهاج كلامهم
واما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن النون الخفيفة مخففة من الثقيلة قلنا لا نسلم بل كل واحد منهما أصل في نفسه غير مأخوذ من صاحبه فالنون الشديدة والخفيفة وإن اشتركا في التأكيد فهما متغايران في الحقيقة وكلتاهما لتأكيد الفعل وإخراجه عن الحال وإخلاصه للاستقبال والثقيلة آكد في هذا المعنى من الخفيفة
والذي يدل على أن الخفيفة ليست مخففة من الثقيلة أن الخفيفة تتغير في الوقف ويوقف عليها بالألف قال الله تعالى ( لنسفعا بالناصية ) وقال تعالى ( ليسجنن وليكونا من الصاغرين ) أجمع القراء على أن الوقف في هذين الموضعين ( لنسفعا وليكونا ) بالألف لاغير
وقال الشاعر
409 - ( يحسبه الجاهل مالم يعلما ... شيخا على كرسيه معمما ) (2/653)
فقال يعلما بالألف ولا يجوز أن يكون ها هنا بالنون لمكان قوله معمما بالألف لأن النون لا تكون وصلا مع الألف في لغة من يجعلها وصلا ولا رويا مع الميم إلا في الإكفاء وهو عيب من عيوب الشعر ولو جاز أن تقع رويا معها لما جاز هاهنا لأن النون مقيدة والميم مطلقة فإن أتى بتنوين الإطلاق على لغة بعض العرب فقال معمما بالتنوين جاز أن يقول يعلمن بالنون لأنهم يجعلون في القافية مكان الألف والواو والياء تنوينا ولا فرق عندهم في ذلك بين أن تكون هذه الأحرف أصلية أو منقلبة أو زائدة في اسم أو فعل كما قال الشاعر (2/654)
410 - ( أقلي اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن )
وكما قال الشاعر
411
- ( وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا ... على صير أمر ما يمر وما يحلن ) (2/655)
وكما قال الشاعر
412
- ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) (2/656)
بتنوين الروى وإنما يفعلون ذلك إذا أرادوا ترك الترنم لأن التنوين ليس فيه من الامتداد ما في الألف والواو والياء فإثبات النون في يعلمن في القافية على هذه اللغة لا يدل على أنه لا يجب أن يوقف عليها بالألف في سائر الكلام وقال الشاعر
413
- ( وإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ) (2/657)
والشواهد على هذا النحو كثيرة جدا فلو كانت هذه النون مخففة من الثقيلة لما كانت تتغير في الوقف أ لاترى أن نون إن و لكن المخففتين من إن ولكن الثقيلتين لما كانتا مخففتين من الثقيلتين لم تتغيرا في الوقف عما كانتا عليه في الوصل فلما تغيرت النون الخفيفة في الوقف دل على أنها ليست مخففة من الثقيلة يدل عليه أن النون الخفيفة تحذف في الوقف إذا كان ما قبلها مضموما أو مكسورا تقول في الوصل هل تضربن زيدا وهل تضربن عمرا فإن وقفت (2/658)
قلت هل تضربون وهل تضربين فترد نون الرفع التي كنت حذفتها للبناء لزوال ما كنت حذفت النون من اجله ولو كانت مثل نون إن ولكن المخففتين من الثقيلتين لما جاز أن تحذف يدل عليه أن النون الخفيفة إذا لقيها ساكن حذفت تقول في اضربن يا هذا إذا وصلتها اضرب القوم فتحذف النون ولا تحركها لالتقاء الساكنين ولو كانت مخففة من الثقيلة مثل إن ولكن لما كان يجوز أن تحذف فدل على أنها ليست مخففة من الثقيلة وأنها بمنزلة التنوين وإنما وجب حذفها هاهنا بخلاف التنوين لأن نون التوكيد تدخل على الفعل والتنوين يدخل على الاسم والاسم أصل للفعل والفعل فرع عليه فجعل ما يدخل على الاسم الذي هو الأصل أقوى مما يدخل على الفعل الذي هو الفرع فلهذا المعنى حذفت النون لالتقاء الساكنين ولم يحذف التنوين على أنه قد قرأ بعض أئمة القراء ( قل هو الله أحد الله الصمد ) فحذف التنوين من ( أحد ) لالتقاء الساكنين وقرأ أيضا بعض القراء ( ولا الليل سابق النهار ) فحذف التنوين من ( سابق ) لالتقاء الساكنين لا للإضافة ولهذا نصب ( النهار ) لأنه مفعول ( سابق ) وقال الشاعر
414
- ( فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا ) (2/659)
أراد ذاكر الله فحذف التنوين لالتقاء الساكنين لا للإضافة ولهذا نصب الله بذاكر وقال الآخر
415
- ( تذهل الشيخ عن بنيه وتبدى ... عن خدام العقيلة العذراء ) (2/661)
أراد عن خدام فحذف التنوين لالتقاء الساكنين لاللإضافة ولهذا رفع العقيلة لأنها فاعل تبدى وقال الآخر
416
- ( تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح )
( تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح ) (2/662)
أراد قل بشاشة بالتنوين فحذف التنوين لالتقاء الساكنين لا للإضافة ولهذا رفع الوجه لأنه فاعل قل ويروى هذا الشعر لآدم عليه السلام وقال الآخر
417
- ( حيدة خالي ولقيط وعلي ... وحاتم الطائي وهاب المئى )
أراد حاتم بالتنوين فحذف التنوين لالتقاء الساكنين وقال الآخر
418
- ( عمر والذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف ) (2/663)
وقال الآخر
419
- ( حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع ) (2/664)
وقال الآخر
420
- ( لتجدني يالأمير برا ... وبالقناة مدعسا مكرا )
( إذا غطيف السلمى فرا ... )
أراد غطيف بالتنوين إلا أنه حذفه لالتقاء الساكنين كما حذفت نون التوكيد لالتقاء الساكنين (2/665)
والذي يدل على أن نون التوكيد في الفعل بمنزلة التنوين في الاسم أنه إذا انفتح ما قبلها أبدلت منها في الوقف ألفا وإذا انضم ما قبلها أو انكسر حذفتها كما تبدل من التنوين في النصب إذا وقفت ألفا نحو رأيت زيدا وتحذفه في الرفع والجر وتقف بالسكون نخو هذا زيد ومررت بزيد فدل على ما قلناه
وأما قولهم إن هذه النون دخلت لتأكيد الفعل المستقبل فكما جاز إدخالها في كل فعل فكذلك فيما وقع الخلاف قلنا إنما جاز هناك لمجيئه في النقل وصحته في القياس وأما ما وقع فيه الخلاف فلم يأت في النقل عن أحد من العرب ولا يصح في القياس لأنه لا نظير له في كلامهم
وأما قولهم إن الألف فيها زيادة مد قلنا إلا أنه على كل حال لا يخف كل الخفة ولا يعرى عن الثقل هذا مع عدم نظيره في النقل وضعفه في القياس لأن الألف لم تخرج من كونها ساكنة وإذا كانت ساكنة فلا يجوز ان يقع بعدها ساكن إ لامدغما نحو دابة وشابة لأن الحرف المدغم بحرفين الأول ساكن والثاني متحرك إلا أنه لما نبا اللسان عنهما نبوة واحدة وصارا بمنزلة حرف واحد وفيهما حركة قد وقع المد في الألف كأنه لم يجتمع ساكنان
وأما قولهم إنه قد جاء في غير المدغم كقوله تعالى ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ) فنقول وجه هذه القراءة أنه نوى الوقف فحذف الفتح وإلا فلا وجه لهذه القراءة في حال الوصل إ لاأن يجرى الوصل مجرى الوقف وذلك إنما يجوز في حال الضرورة
وأما ما حكى عن بعض العرب من قوله التقت حلقتا البطان وقول الآخر ثلثا المال فغير معروف والمعروف عن العرب حذف الألف من حلقتا البطان وثلثا المال وما اشبههما لالتقاء الساكنين وإن صح ما حكيتموه عن أحد من العرب فهو من الشاذ النادر الذي لا يقاس عليه ولا يعتد به لقلته (2/666)
وأما قولهم إنه يجوز تخفيف الهمزة في نحو هباءة والهمزة المخففة ساكنة قلنا لا نسلم أنها ساكنة بل هي متحركة وسنبين فساد ذلك مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى
وأما قراءة ابن عامر ولا تتبعان بالنون الخفيفة فهي قراءة تفرد بها وباقي القراء على خلافها والنون فيها للاعراب علامة الرفع لأن لا محمول على النفي لا على النهي والواو في ولا واو الحال والتقدير فاستقيما غير متبعين كما قال الشاعر
421
- ( بأيدى رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت ) (2/667)
أى لم يشيموا سيوفهم غير كاثرة بها القتلى والمعنى لم يشيموا سيوفهم إلا في تلك الحالة وإذا كان محمولا على النفي لا على النهي لم يكن لكم فيه حجة
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنه لا يجتمع ساكنان في الوصل إلا إذا كان الثاني منهما مدغما
قولهم إن هذا النحو قد يلحقه ما يوجب له الإدغام نحو اضربا نعمان واضرباني فينبغي أن تجيزوا هذا للإدغام قلنا هذا لا يستقيم لأنا نكون قد رددنا النون الخفيفة مع لزوم حذفها في حال الوصل والوقف إذا لم يتبعه كلام وذلك خطأ ثم كيف ترده وأنت لو جمعت هذه النون إلى نون ثانية لاعتلت وأدغمت وحذفت في قول بعض العرب فإذا كفوا مؤنتها لم تكن ليردوها إلى (2/668)
ما يستثقلون ولو جوزنا هذا في اضربا نعمان ونحوه لوجب إجازته في قولك اضربان أباكما في قول من لم يهمز لأن هذا الموضع لم يمتنع فيه الساكن من التحريك فتردها إذا وثقت بالتحريك كما رددتها حيث وثقت في الإدغام وكما لا يجوز أن ترد في هذا وما أشبهه لأنك جئت به إلى شيء قد لزمه الحذف فكذلك هاهنا ولو وجب إجازته في غير ذلك من الأسماء التي لا نون في أولها ليكون الحكم فيها واحدا وذلك لا يجوز لأن حمل المدغم على غير المدغم في الامتناع أولى من حمل غير المدغم على المدغم في الجواز وذلك لأن غير المدغم أعم استعمالا وأكثر وقوعا والمدغم أقل استعمالا وأندر وقوعا فلما وجب ان يحمل أحدهما على الآخر كان حمل الأقل الأندر على الأعم الأكثرأولى من حمل الأعم الأكثر على الأقل الأنذر والله أعلم
95م - سألةالحروف التي وضع الإسم عليها في ذا والذي
ذهب الكوفيون إلى أن الإسم في ذا والذي الذال وحدها وما ريد عليها تكثير لهما وذهب البصريون إلى أن الذال وحدها ليست هي الإسم فيهما واختلفوا في ذا فذهب الأخفش ومن تابعه من البصريين إلى أن (2/669)
أصله ذي بتشديد الياء إلاانهم حذفوا الياء الثانية فبقي ذي فأبدلوا من الياء ألفا لئلا يلتحق بكى فإذا الألف منه منقبلة عن ياء بدليل جواز الإمالة فإنه قد حكى عنهم أنهم قالوا في ذا ذا بالإمالة فإذا ثبت أنها منقلبة عن ياء لم يجز أن تكون اللام المحذوفة واوا لأن لهم مثل حييت وليس لهم مثل حيوت وذهب بعضهم إلى أن الأصل في ذا ذوي بفتح الواو لأن باب شويت أكثر من باب حييت فحذفت اللام تأكيدا للابهام وقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأما الذي فأجمعوا على أن الأصل فيه لذي نحو عمي وشجى
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الاسم هو الذال وحدها ان الألف والياء فيهما يحذفان في التثنية نحو قام ذان ورأيت ذين ومررت بذين وقام اللذان ورأيت اللذين ومررت باللذين ولو كان كما زعمتم أنهما أصلان لكانا لا يحذفان ولوجب أن يقال في التثنية الذيان كما يقال العميان والشجيان والذيون كما يقال العميين والشجيين وأن تقلب الألف في تثنية ذا دل على أنهما زائدان لا أصلان وأن ما زيد عليهما تكثير لهما كراهية أن يبقى كل واحد منهما على حرف واحد وحركوا الذال لالتقاء الساكنين وهما الذال والألف في ذا والذال والياء في الذي وفتحوا الذال في ذا لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا وكسروها من الذي لأن الكسرة من جنس الياء فكسروا ما قبل الياء توكيدا لها وزادوا اللام الثانية مفتوحة من الذي على اللام الأولى ليسلم سكون اللام الأولى لأن الألف واللام لا تدخل على ساكن إلا احتيج إلى تحريك اللام لالتقاء الساكنين كقولهم الانتظار والإنكسار فلو لم تدخل اللام الثانية لأدى إلى تحريك اللام (2/670)
الأولى لأنها ساكنة والذال بعدها ساكنة فزادوا اللام الثانية لتبقى اللام الأولى على أصلها في السكون ولا تكسر لالتقاء الساكنين
والذي يدل على أن الذال أصلها السكون قول الشاعر
422
- ( اللذ بأسفله صحراء واسعة ... واللذ بأعلاه سيل مدة الجرف )
وقول الآخر
423
- ( فلم أر بيتا كان أحسن بهجة ... من اللذ له من آل عزة عامر ) (2/671)
وقول الآخر
424
- ( لن تنفعى ذا حاجة وينفعك ... وتجعلين اللذ معي في اللذ معك )
وقول الآخر
425
- ( فظلت في شر من اللذ كيدا ... كاللذ تزبى زبية فاصطيدا )
وأماالبصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز أن تكون الذال وحدها فيهما هو الاسم وذلك لأن ذا والذي كل واحد منهما كلمة منفصلة عن غيرها فلا يجوز ان يبنى على حرف واحد لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقوف على حرف فلو كان الاسم هو الذال وحدها لكان يؤدي إلى أن يكون الحرف الواحد ساكنا متحركا وذلك محال فوجب أن يكون الاسم في ذا الذال والألف معا والاسم في الذي لذي لأن له نظيرا في كلامهم نحو (2/672)
شجى وعمى وهو أقل الأصول التي تبنى عليها الأسماء وما نقص عن ذلك من الأسماء التي أوغلت في شبه الحروف فعلى خلاف الأصل ولا يمكن إلحاق ذا والذي بها ألا ترى أن ذا كاسم مظهر يكون وصفا وموصوفا فكونه وصفا نحو قوله تعالى ( اذهبوا بقميصي هذا ) وكونه موصوفا نحو قوله تعالى ( ما لهذا الكتاب ) وكذلك لا يمكن إلحاق الذي بها بان يحكم بزيادة اللام الثانية كاللام التي تزادللتعريف لأن زيادة اللام ليس بقياس مطرد وإنما يحكم بزيادتها في كلمات يسيرة نحو زيدل وعبدل وأولالك لقيام الدليل على ذلك كقولك في معناها زيد وعبد وأولاك ولم يوجد هاهنا فبقينا فيه على الأصل
والذي يدل على أن الألف في ذا والياء في الذي أصليتان قولهم في تصغير ذا ذيا وأصله ذييا بثلاث ياءات ياءان من أصل الكلمة وياء للتصغير لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها واستثقلوا اجتماع ثلاث ياءات فحذفوا الأولى وكان حذفها أولى لأن الثانية دخلت لمعنى وهو التصغير والثالثة لو حذفت لوقعت ياء التصغير قبل الألف والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا فكانت تتحرك وياء التصغير لا تكون إلا ساكنة ووزنه فيلي لذهاب العين منه وفي تصغير الذي اللذيا ولولا أنهما أصليتان وإلا لما انقلبت الألف في ذا ياء وأدغمت في ياء التصغير ولما ثبتت الياء في الذي في التصغير لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها
قالوا ولا يجوز ان يقال إن هذا يبطل بما إذا سميتم رجلا بهل وبل ثم صغرتموه فإنكم تزيدون فيه في التصغير ما لم يكن فيه قبل ذلك لأنا نقول إذا سمينا بهل وبل وما أشبه ذلك فقد نقلناه من الحرفية إلى الاسمية فإذا صغرناه على أنه اسم فوجب ان نزيد عليه حرفا توجبه الاسمية (2/673)
بخلاف تصغير الذي وذا لأنا إنما نصغرهما على معناهما الذي وضعا له فبان الفرق بينهما
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الألف والياء يحذفان في التثنية في نحو ذان واللذان فدل على زيادتهما قلنا ذان واللذان ليس ذلك تثنية على حد قولهم زيد وزيدان وعمرو وعمران وإنما ذلك صيغة مرتجلة للتثنية كما أن هؤلاء صيغة مرتجلة للجمع
والذي يدل على ذلك انه لو كان ذلك تثنية على حد قولهم زيد وزيدان وعمرو وعمران لوجب ان يجوز عليه دخول الألف واللام كما يقال الزيدان والعمران فلما لم يجز عليهما دخول الألف واللام فيقال الذان واللذان دل على أنه صيغة مرتجلة للتثنية في أول أحواله بمنزلة كلا وكذلك حكم كل اسم لا يقبل التنكير وإنما لم يجز تثنيتهما على حد قولهم زيد وزيدان وعمرو وعمران لأن التثنية ترد الاسم المعرفة إلى التنكير والأسماء الموصولة وأسماء الإشارة والأسماء المضمرة لا تقبل التنكير إلا انهم لما قصدوا تثنيتها عاملوها ببعض مايكون في التثنية الحقيقية فأدخلوا عليها حرف التثنية فوجود حرف التثنية في اللفظ بمنزلة تاء التأنيث في غرفة وقربة فكما أن التأنيث في غرفة وقربة لفظي لا معنوي فكذلك هاهنا التثنية لفظية لا معنوية
وقولهم لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي ان لا تحذف الألف والياء من ذا والذي كما لا تحذف الياء من عمى وشجى قلنا هذا باطل وذلك من وجهين (2/674)
أحدهما أن تثنية عمى وشجى على حد تثنية زيدان وعمران بخلاف ذا والذي على ما بينا
والثاني ان ياء شجى وعمى يدخلها النصب نحو رأيت عميا وشجيا بخلاف الياء في الذي فإنها لا يدخلها النصب بل يلزمها السكون أبدا فبان الفرق بينهما
وأما قولهم إن الاسم هو الذال وحدها وما زيد عليها تكثير لهما قلنا لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن يقتصر في الذي على زيادة حرف واحد كما زدتم في ذا فأما زيادة أربعة أحرف فهذا مالا نظير له في كلامهم على أنا قد بينا فساد كونها زائدة
وأما قولهم الدليل على أن الأصل فيهما السكون نحو قول الشاعر
( فظلت في شر من اللذ كيدا ... كاللذ تزبى زبية فاصطيدا )
قلنا لو جاز ان يستدل بهذه اللغة على أن الأصل فيها السكون لجاز لآخر أن يستدل على أن الأصل فيها الحركة باللغات الأخر فإن فيها أربع لغات إحداها الذي بياء ساكنة وهي أفصح اللغات والثانية الذي بياء مشددة كما قال الشاعر
426
- ( وليس المال فاعلمه بمال ... من الأقوام إلا للذي )
( يريد به العلاء ويمتهنه ... لأقرب أقربيه وللقصى ) (2/675)
والثالثة اللذ بكسر الذال من غير ياء كما قال الشاعر
427
- ( اللذ لو شاء لكانت برا ... أو جبلا أصم مشمخرا ) (2/676)
والرابعة اللذ بسكون الذال وبل أولى فإن اللذ بسكون الذال أقل في الاستعمال من الذي وغيرها من اللغات فإذا لم يعتبر الأكثر في الاستعمال فأولى أن لا يعتبر الأقل والله أعلم
96م - سالة الحروف التي وضع عليها الاسم في هو وهي
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم من هو وهي الهاء وحدها
وذهب البصريون إلى أن الهاء والواو من هو والهاء والياء من هي هما الاسم بمجموعهما
اما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الاسم هو الهاء وحدها (2/677)
دون الواو والياء ان الواو والياء تحذفان في التثنية نحو هما ولو كانتا أصلا لما حذفتا
والذي يدل على ذلك انهما تحذفان في حالة الإفراد أيضا وتبقي الهاء وحدها قال الشاعر وهو العجير السلولى جاهلي
( فبيناه يشرى رحلة قال قائل ... لمن جمل رخو الملاط نجيب )
أراد بينا هو وقال الآخر
428
- ( بيناه في دار صدق قد أقام بها ... حينا يعللناوما نعلله )
أراد بيناهو وقال الآخر
429
- ( إذاه سيم الخسف آلى بقسم ... بالله لا يأخذ إلا ما أحتكم ) (2/678)
أراد إذا هو وقال الآخر
430
- ( دار لسعدي إذه من هواكا ... )
أراد إذهي فحذف الياء فدل على أن الاسم هو الهاء وحدها وإنما زادوا الواو والياء تكثيرا للاسم كراهية أن يبقى الاسم على حرف واحد كما زادوا الواو في قولهم ضربتهو وأكرمتهو وإن كانت الهاء وحدها هي الاسم فكذلك هاهنا (2/680)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن الواو والياء أصل أنه ضمير منفصل والضمير المنفصل لا يجوز ان يبنى على حرف واحد لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقف على حرف فلو كان الاسم هو الهاء وحدها لكان يؤدي إلى أن يكون الحرف الواحد ساكنا متحركا وذلك محال فوجب ان لا تكون الهاء وحدها هي الاسم
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الواو والياء تحذفان في التثنية نحوهما قلنا إن هما ليس بتثنية على حد قولك في زيد زيدان وعمرو عمران وإنما هما صيغة مرتجلة للتثنية كأنتما ألا ترى أنه لو كان تثنية على حد قولهم زيدان وعمران لقالوا في تثنية هو هوان وفي تثنية أنت أنتان ولكان يجوز ان يدخل عليهما الألف واللام فيقال الهوان والأنتان كما يقال الزيدان والعمران فلما لم يقولوا ذلك دل على أنها صيغة مرتجلة للتثنية وعلى أنه لو كان الأمر كما زعتم فليس لكم فيه حجة لأن الحرف الأصلي قد يحذف لعلة عارضة ألا ترى أن الياء تحذف في الجمع في نحو قولهم قاضون ورامون والأصل قاضيون وراميون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت الضمة عنها فبقيت الياء ساكنة وواو الجمع ساكنة فاجتمع ساكنان وساكنان لا يجتعمان فحذفت الياء لالتقاء الساكنين وإن كانت أصلية لعلة عارضة فكذلك هاهنا والعلة هاهنا في إسقاطهما أن الواو التي قبل الميم في التثنية والجمع يجب ان تكون مضمومة والضمة في الواو مستثقلة فلذلك سقطت وإنما وجب أن تكون مضمومة لأنها لو كسرت لكان ذلك مستثقلا من وجهين (2/681)
أحدهما لأنه خروج من ضم إلى كسر وذلك مستثقل ولهذا ليس في الأسماء ما هو على وزن فعل إلا دئل اسم دويبة ورئم اسم للسه وهما في الأصل فعلان نقلا إلى الاسمية وحكى بعضهم وعل في الوعل
والثاني ان الكسرة تستثقل على الواو أكثر من استثقال الضمة عليها ولهذا تضم لالتقاء الساكنين في نحو قوله ( اشتروا الضلالة بالهدى ) ولا تكسر إلا على وجه بعيد ولو بقيت الواو من هو كما كانت مفتوحة وقد زيد عليها الميم والألف لتوهم أنها حرفان منفصلان فوجب أن تغير الحركة التي كانت مستعملة في الواحد إلى الضم كما غيرت في أنتما ووجب أيضا ذلك في أنتما لأنها لو فتحت أو كسرت لجاز أن يتوهم انها كلمتان منفصلتان فاجتلبوا حركة لم تكن في الواحد لتدل على أنها كلمة واحدة وأجروا جميع المضمر في التثنية والجمع هذا المجرى
وقيل إنما ضمت التاء في التثنية حملا على الجمع لأنها في التقدير كأنها وليت الواو في أنتمو وإنما حملت التثنية على الجمع ليشتركا في ذلك كما اشتركا في الضمير في نحن وزيدت الميم في التثنية لوجهين
أحدهما أن التنثية أكثر من الواحد وفي المضمرات ما هو على حرف واحد فكثر اللفظ كما كثر العدد فلذلك زيد في التثنية حرف وحمل جميع المضمرات عليه
والثاني ان القافية فيه إذا كانت مطلقة وحرف الروى مفتوح وصل بالألف ولهذا يسمى ألف الوصل والصلة قال الشاعر
( يا مر يا بن واقع يا أنتا ... انت الذي طلقت عام جعتا ) (2/682)
وقال الآخر
431
- ( أخوك اخو مكاشرة وضحك ... وحياك الإله وكيف أنتا )
فلو لم يزيدوا الميم لالتبس الواحد بالتثنية فزادوا الميم كراهية الالتباس فكانت الميم اولى بالزيادة لأنها من زوائد الأسماء فلذلك كانت أولى بالزيادة
وأما ما أنشدوه من قول الشاعر
( فبيناه يشرى رحله ... )
( وبيناه في دار صدق ... )
( إذاه سيم الخسف ... )
( ودار لسعدي إذه من هواكا ... ) (2/683)
فإنما حذفت الواو والياء لضرورة الشعر كقول الشاعر
432
- ( فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولك أسقنى إن كان ماؤك ذا فضل )
أراد ولكن اسقنى فحذف النون لضرورة الشعر وكقول الآخر
433
- ( أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل ) (2/684)
أراد صاحبي فحذف الباء والياء فكذلك هاهنا وبل أولى وذلك من وجهين
أحدهما أن الواو والياء حرفاعلة والنون من لكن والباء من صاحب حرف صحيح والمعتل أضعف من الصحيح فإذا جاز حذف الأقوى لضرورة الشعر فحذف الأضعف أولى
والثاني أنه قد حذف حرفين للضرورة وهما الباء والياء من صاحبي وإذا جاز حذف حرفين للضرورة فحذف حرف واحد أولى
وأما قولهم إنهم زادوا الواو والياء تكثيرا للاسم كما زادوا الواو في ضربتهو قلنا هذا فاسد لأن هو ضمير المرفوع المنفصل والهاء في ضربتهو ضمير المنصوب المتصل وقد بينا أن ضمير المرفوع المنفصل لا يجوز أن يكون على حرف واحد بخلاف ضمير المنصوب المتصل لأن ضمير المرفوع المنفصل يقوم بنفسه فلا بد من حرف يبتدأ به وحرف يوقف عليه بخلاف ضمير المنصوب المتصل لأنه لا يقوم بنفسه ولا يجب فيه ما وجب في ضمير المرفوع المنفصل
والذي يدل على أنها ليست كالواو في أكرمتهو أنه لا يلزم تسكينها كما يلزم تسكينها في أكرمتهو ولا يجوز تحريك الواو في أكرمتهو كما يجوز في هو قائم ولو كانا بمنزلة واحدة لوجب أن يسوى بينهما في الحكم والله أعلم (2/686)
97 - سألة القول في هل يقال لولاي ولولاك وموضع الضمائر
ذهب الكوفيون إلى أن الياء والكاف في لولاي ولولاك في موضع رفع وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين وذهب البصريون إلى أن الياء والكاف في موضع جر بلولا وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه لا يجوز أن ياقل لولاي ولولاك ويجب أن يقال لولا أنا ولولا أنت فيؤتى بالضمير المنفصل كما جاء به التنزيل في قوله ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) ولهذا لم يأت في التنزيل إلا منفصلا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الياء والكاف في موضع رفع لأن الظاهر الذي قام الياء والكاف مقامه رفع بها على مذهبنا وبالابتداء على مذهبكم فكذلك ما قام مقامه
قالوا ولا يجوز أن يقال هذا يبطل بعسى فإن عسى تعمل في المظهر الرفع وفي المكنى النصب لأنا نقول الجواب على هذا من ثلاثة أوجه أحدها أنا لا نسلم أنها تنصب المكنى وإنما هو في موضع رفع بعسى فاستعير للرفع لفظ النصب في عسى كما استعير لفظ الجر في لولاى ولولاك وإليه ذهب (2/687)
الأخفش من أصحابكم والوجه الثاني أن الكاف في موضع نصب بعسى وأن اسمها مضمر فيها وإليه ذهب أبو العباس المبرد من أصحابكم والوجه الثالث أنا نسلم أنه في موضع نصب ولكن لأنها حملت على لعل فجعل لها اسم منصوب وخبر مرفوع وهو هاهنا مقدر وإنما حملت على لعل لأنها في معناها ألا ترى أن عسى فيها معنى الطمع كما أن لعل فيها معنى الطمع فأما لولا فليس في حروف الخفض ما هو بمعناه فيحمل عليه فبان الفرق بينهما ولأنه لو كان المكنى في موضع خفض لكنا نجد اسما ظاهرا مخفوضا بلولا لأنه ليس في كلام العرب حرف يعمل الخفض في المكنى دون الظاهر فلو كانت مما يخفض لما كان يخلو أن يجئ ذلك في بعض المواضع أو في الشعر الذي يأتي بالمستجاز وفي عدم ذلك دليل على أنه لا يجوز أن تخفض اسما ظاهرا ولا مضمرا فدل على أن الضمير بعد لولاك في موضع رفع
يدل عليه أن المكنى كما يستوى لفظه في النصب والخفض نحو أكرمتك ومررت بك فقد يستوى لفظه أيضا في الرفع والخفض نحو قمنا ومربنا فيكون لفظ المكنى في الرفع والخفض واحدا وإذا كان كذلك جاز أن تكون الكاف في 4موضع أنت رفعا
قالوا ولا يجوز أن يقال لو كان الرفع محمولا على الجر في لولاك لوجب أن يفصل بين المكنى المرفوع والمجرور في المتكلم كما فصل بين لفظ المكنى المنصوب والمجرور في المتكلم نحو أكرمني ومر بي لأنا نقول النون في المنصوب لم تدخل لتفصل بين المكنى المنصوب والمكنى المخفوض وإنما دخلت النون في المكنى المنصوب لا تصاله بالفعل فلو لم يأتوا بهذه النون لأدى ذلك إلى أن يكسر الفعل لمكان الياء لأن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا (2/688)
مكسورا والفعل لا يدخله الكسر لأنه إذا لم يدخله الجر وهو غير لازم استثقالا له فلأن لا يدخله الكسر الذي هو لازم استثقالا له كان ذلك من طريق الأولى وأما المكنى المخفوض فلم تدخله هذه النون لأنه يتصل بالحرف والحرف لا يلزم أن تدخل عليه هذه النون ولولا حرف فلهذا المعنى لم تدخل عليه هذه النون
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن المكنى في لولاي ولولاك في موضع جر لأن الياء والكاف لا تكونان علامة مرفوع والمصير إلى ما لا نظير له في كلامهم محال ولا يجوز أن يتوهم انهما في موضع نصب لأن لولا حرف وليس بفعل له فاعل مرفوع فيكون الضمير في موضع نصب وإذا لم يكن في موضع رفع ولا نصب وجب ان يكون في موضع جر
قالوا فلا يجوز أن يقال إذا زعمتم أن لولا تخفض الياء والكاف فحروف الخفض لا بد أن تتعلق بفعل فبأى فعل تتعلق لأنا نقول قد تكون الحروف في موضع مبتدأ لا تتعلق بشيء كقولك بحسبك زيد ومعناه حسبك قال الشاعر
( بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غنى مضر )
وكقولهم هل من أحد عندك أي هل أحد عندك قال الله تعالى ( ما لكم من إلاه غيره ) أي ما لكم إلاه غيره ولهذا كان ( غيره ) مرفوعا في قراءة من قرأ بالرفع فموضعها رفع بالابتداء وإن كانت قد عملت الجر وكذلك لولا إذا عملت الجر صارت بمنزلة الباء في بحسبك ومن في هل من أحد عندك ولا فرق بينهما
والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون (2/689)
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قولهم إن الياء والكاف لا يكونان علامة مرفوع قلنا لا نسلم فإنه قد يجوز أن تدخل علامة الرفع على الخفض ألا ترى أنه يجوز ان يقال ما أنا كأنت وأنت من علامات المرفوع وهو هاهنا في موضع مخفوض فكذلك هاهنا الياء والكاف من علامات المخفوض وهما في لولاى ولولاك من علامات المرفوع
والذي يدل على ان لولا ليس بحرف خفض أنه لو كان حرف خفض لكان يجب أن يتعلق بفعل أو معنى فعل وليس له هاهنا ما يتعلق به
قولهم قد يكون الحرف في موضع مبتدأ لا يتعلق بشيء قلنا الأصل في حروف الخفض أن لا يجوز الابتداء بها وأن لا تقع في موضع مبتدأ وإنما جاز ذلك نادرا في حرف زائد دخوله كخروجه كقولهم بحسبك زيد وما جاءني من أحد لأن الحرف في نية الاطراح إذ لا فائدة له ألا ترى أن قولك بحسبك زيد وحسبك زيد في معنى واحد وكذلك قولك ما جاءني من أحد وما جاءني أحد في المعنى واحد فأما الحرف إذا جاء لمعنى ولم يكن زائدا فلا بد أن يتعلق بفعل أو معنى فعل ولولا حرف جاء لمعنى وليس بزائد لأنه ليس دخوله كخروجه ألا ترى أنك لو حذفتها لبطل ذلك المعنى الذي دخلت من أجله بخلاف الباء في بحسبك زيد ومن في قولك ما جاءني من احد فبان الفرق بينهما
ثم لو سلمنا أن الحرف مطلقا إذا وقع في موضع ابتداء لا يتعلق بشيء فلا نسلم هاهنا أن الحرف في موضع ابتداء وقد بينا فساد ذلك فيما قبل
وأما إنكار أبي العباس المبرد جوازه فلا وجه له لأنه قد جاء ذلك كثيرا في كلامهم وأشعارهم قال الشاعر (2/690)
434 - ( وأنت امرؤ لولاى طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوى ) (2/691)
وقال الآخر
435
- ( أتطمع فينا من أراق دماءنا ... ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن )
وقال بعض العرب
436
- ( أومت بعينيها من الهودج ... لولاك هذا العام لم أحجج ) (2/693)
وأما مجئ الضمير المنفصل بعده نحو لولا أنا ولولا أنت كما قال تعالى ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) فلا خلاف أنه أكثر في كلامهم وأفصح وعدم مجئ الضمير المتصل في التنزيل لا يدل على عدم جوازه أ لاترى أنه لم يات في التنزيل ترك عمل ما في المبتدأ والخبر نحو ما زيد قائم وما عمرو منطلق وإن كانت لغة جائزة فصيحة وهي لغة بني تميم قال الشاعر
437
- ( ركاب حسيل أشهر الصيف بدن ... وناقة عمرو ما يحل لها رحل )
( ويزعم حسل أنه فرع قومه ... وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل ) (2/694)
ثم لم يدل عدم مجيئها في التنزيل على أنها غير جائزة ولا فصيحة فكذلك هاهنا والله أعلم
98م - سألة الضمير في أياك وأخواتها
ذهب الكوفيون إلى أن الكاف والهاء والياء من إياك وإياه وإياي هي الضمائر المنصوبة وأن إيا عماد وإليه ذهب ابو الحسن ابن كيسان وذهب بعضهم إلى أن إياك بكماله هو الضمير وذهب البصريون إلى أن إيا هي الضمير والكاف والهاء والياء حروف لا موضع لها من الإعراب وذهب الخليل بن أحمد إلى أن إيا اسم مبهم أضيف إلى الكاف والهاء والياء لأنه لا يفيد معنى بانفراده ولا يقع معرفة بخلاف غيره من المضمرات فخص بالإضافة عوضا عما منعه ولا يعلم اسم مضمر أضيف غيره وذهب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد إلى أنه اسم مضمر أضيف للتخصيص ولا يعلم اسم مبهم أضيف غيره وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أنه اسم مظهر خص بالإضافة إلى سائر المضمرات وأنها في موضع جر بالإضافة وحكى أيضا عن الخليل بن أحمد رحمه الله أنه مظهر ناب مناب المضمر وحكى عن العرب إضافته إلى المظهر في قولهم في المثل إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب والذي عليه الأكثرون من الفريقين ما حكيناه عنهما أولا
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن هذه الكاف والهاء (2/695)
والياء هي الكاف والهاء والياء التي تكون في حال الاتصال لأنه لا فرق بينهما بوجه ما إلا أنها لما كانت على حرف واحد وانفصلت عن العامل لم تقم بنفسها فأتى بإيا لتعتمد الكاف والهاء والياء عليها إذ لا تقوم بنفسها فصارت بمنزلة حرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول فيه
والذي يدل على ذلك لحاق التثنية والجمع لما بعد إيا ولزومها لفظا واحدا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن إيا هي الضمير دون الكاف والهاء والياء وذلك لأنا أجمعنا على أن أحدهما ضمير منفصل والضمائر المنفصلة لا يجوز أن تكون على حرف واحد لأنه لا نظير له في كلامهم فوجب أن تكون إيا هي الضمير لأن لها نظيرا في كلامهم والمصير إلى ماله نظير أولى من المصير إلى ما ليس له نظير ولهذا المعنى قلنا إن الكاف والهاء والياء حروف لا موضع لها من الإعراب لأنها لو كانت معربة لكان إعرابها الجر بالإضافة ولا سبيل إلى الإضافة ها هنا لأن الأسماء المضمرة لا تضاف إلى ما بعدها لأن الإضافة تراد للتعريف والمضمر في أعلى مراتب التعريف فلا يجوز إضافته إلى غيره فوجب أن لا يكون لها موضع من الإعراب
وأما قول من ذهب من البصريين إلى أنه مضمر أضيف لأنه لا يفيد معنى بانفراده ولم يقع معرفة فجاز أن يخص بالإضافة فباطل لأن هذا الضمير ما وقع إ لامعرفة ولم يقع قط نكرة
والذي يدل على ذلك أن علامات التنكير لا يحسن دخولها عليه بل فيها إبهام تبينه هذه الحروف كالتاء في أنت فإن الضمير هو أن وهو مبهم والتاء تبينه فإن كانت مفتوحة دلت على أنه ضمير المذكر وإن كانت (2/696)
مكسورة دلت على أنه ضمير المؤنث فكذلك هاهنا جعلت هذه الأحرف مبنية لذلك الإبهام مع كونه معرفة لا نكرة وكما لا يجوز أن يقال أن مضاف إلى التاء فكذلك لا يجوز ان يقال إن إيا مضاف إلى الكاف والهاء والياء وإذا حصلت الفائدة بهذه الأحرف لا على جهة الإضافة ولها نظير في كلامهم كان أولى من جعل الضمير مضافا إليها ولا نظير له في كلامهم
وهذا هو الجواب عن مذهب من ذهب إلى أنه اسم مبهم مضاف لأن المبهم معرفة والمعرفة لا تضاف لأنه استغنى بتعريفه في نفسه عن تعريف غيره لأن الكحل يغني عن الكحل
وأما من ذهب إلى أنه اسم مظهر فباطل لأنه لو كان الأمر على ما زعم لما كان يقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب فلما اقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب وهو النصب دل على أنه اسم مضمر كما أنه لما اقتصر بانا وأنت وهو وما أشبهها على ضرب واحد من الإعراب وهو الرفع دل على أنها أسماء مضمرة إذ لا يعلم اسم مظهر اقتصر فيه على ضرب واحد من الإعراب إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية نحو ذات مرة وبعيدات بين ونوعا من المصادر نحو سبحان ومعاذ وليس إيا ظرفا ولا مصدرا فيلحق بهذه الأسماء
وأما ما حكى عن الخليل من قولهم إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياه الشواب فالذي ذكره سيبويه في كتابه انه لم يسمع ذلك من الخليل وإنما قال وحدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب وهي رواية شاذة لا يعتد بها وكأنه لما رأى آخره يتغير كتغير المضاف والمضاف إليه أجراه مجراه
ثم هذه الرواية حجة على من يزعم أنه اسم مظهر خص بالإضافة إلى المضمرات لأنه أضاف إيا إلى الشواب وهو اسم مظهر (2/697)
والذي يدل على أنه ليس باسم مظهر أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يجوز ان يقال ضربت إياك كما يقال ضربت زيدا فلما لم يجز ذلك دل على أنه ليس باسم مظهر
فاما قول الشاعر
438
- ( بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير ) (2/696)
وقول الآخر
439
- ( إليك حتى بلغت إياكا ... )
وقول الآخر
440
- ( كأنا يوم قرى إنما نقتل إيانا ... ) (2/699)
فهو من ضرورة الشعر التي لا يجوز استعمالها في اختيار الكلام
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الكاف والهاء والياء هاهنا هي التي تكون في حالة الاتصال قلنا لانسلم فإنها وإن كانت مثلها في اللفظ إلا أنها تخالفها لأن الكاف والهاء والياء هاهنا حروف وهناك أسماء وصار هذا كالتاء في أنت فإنها في اللفظ مثل التاء في قمت وإن كانت التاء في أنت حرفا والتاء في قمت اسما وكما لا يجوز أن يقال إن التاء (2/700)
في أنت اسم لأنها مثل التاء في قمت فكذلك هاهنا وكما أن الاسم المضمر في أنت ان وحدها والتاء لمجرد الخطاب وليست عمادا للتاء فكذلك إيا هي الاسم المضمر وحدها وليست عمادا للكاف والهاء والياء
ثم لو كان الأمر كما زعموا لكان ذلك يؤدي إلى أن يعمد الشيء بما هو أكثر منه وأن يكون الأكثر عمادا للأقل وتبعا له وهذا لا نظير له في كلامهم
والذي يدل على أن هذه الكاف والهاء والياء ليست هي التي تكون في حالة الاتصال أن هذه الأحرف هاهنا ضمائر منفصلة وتلك ضمائر متصلة والضمائر المنفصلة ينبغي أن يكون لفظها مخالفا للفظ الضمائر المتصلة كما أن لفظ المضمرات المرفوعة المنفصلة مخالف للفظ الضمائر المرفوعة المتصلة وليس شيء منها معمودا فكذلك هاهنا
وأما استدلالهم على أن إيا عماد بلحاق التثنية والجميع لما بعدها فيبطل بأنت فإنا أجمعنا على أن الضمير منه أن والتثنية والجمع يلحقان ما بعده وهو التاء ولا خلاف أن أن ليست عمادا للتاء وأن التاء ليست هي الضمير فكذلك هاهنا وهذا لأن الحروف إذا زيدت للدلالة على الأشخاص جاز ان تلحقها علامة التثنية والجمع لأنها لما كانت دلالة على المخاطب والغائب والمتكلم لم يكن بد من لحاق علامة التثنية والجمع بها
على أنا نقول إن إياكما وإياكم ليس بتثنية لمفرد ولا جمع على حد التثنية والجمع وإنما إياكما صيغة مرتجلة للتثنية وإياكم صيغة مرتجلة للجمع وكذلك أنتما وأنتم ليس بتثنية و لا جمع على حد التثنية والجمع وإنما أنتما صيغة مرتجلة للتثنية وأنتم صيغة مرتجلة للجمع وكذلك (2/701)
حكم كل اسم مضمر واسم إشارة واسم صلة وسنبين هذا في اسم الصلة مستقصى إن شاء الله تعالى
وأما من ذهب إلى أنه بكماله المضمر فليس بصحيح وذلك لأن الكاف في أياك بمنزلة التاء في أنت
والذي يدل على ذلك أن الكاف في إياك تفيد الخطاب كما أن التاء في أنت تفيد الخطاب وأن فتحة الكاف تفيد خطاب المذكر كما أن فتحة التاء في أنت تفيد خطاب المذكر وأن كسرة الكاف تفيد خطاب المؤنث كما أن كسره التاء تفيد خطاب المؤنث فكما أن التاء ليست من المضمر الذي هو أن في أنت وإنما هي لمجرد الخطاب ولا موضع لها من الإعراب فكذلك الكاف ليست من المضمر الذي هو إيا في إياك وإنما هي لمجرد الخطاب ولا موضع لها من الإعراب وإذا لم تكن الكاف في إياك من المضمر كما لم تكن التاء في أنت من المضمر واستحال أن يقال إن أنت بكمالة هو المضمر فكذلك يستحيل أن يقال إن إياك بكماله هو المضمر والله أعلم
99م - سألة المسألة الزنبورية
ذهب الكوفيون إلى أن يجوز أن يقال كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال فإذا هو إياها ويجب أن يقال فإذا هو هي (2/702)
أما الكوفيون فاحتجوا بالحكاية المشهورة بين الكسائي وسيبويه وذلك أنه لما قدم سيبويه على البرامكة فطلب أن يجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة حضر سيبويه في مجلس يحيى بن خالد وعنده ولداه جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم من الأكابر فأقبل خلف الأحمر على سيبويه قبل حضور الكسائي فسألة عن مسألة فأجابه سيبويه فقال له الأحمر أخطأت ثم سأله عن ثانية فأجابه فيها فقال له أخطأت ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له أخطأت فقال له سيبويه هذا سوء أدب قال الفراء فأقبلت عليه وقلت إن في هذا الرجل عجلة وحدة ولكن ما تقول في من قال هؤلاء أبون ومررت بأبين كيف تقول على مثال ذلك من وأيت أويت فقدر فأخطأ فقلت أعد النظر فقدر فأخطأ فقلت أعد النظر فقدر فأخطأ ثلاث مرات يجيب ولا يصيب فلما كثر ذلك عليه قال لا أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره قال فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال تسألني أو أسألك فقال بل تسألني أنت فأقبل عليه الكسائي فقال كيف تقول كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو أياها فقال سيبويه فإذا هو هي ولا يجوز النصب فقال له الكسائي لحنت ثم سأله عن مسائل من هذا النحو نحو خرجت فإذا عبد الله القائم والقائم فقال سيبويه في ذلك بالرفع دون النصب فقال الكسائي ليس هذا من كلام العرب والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه فدفع ذلك سيبويه ولم يجز فيه النصب فقال له يحيى ابن خالد قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما فقال له الكسائي هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب ووفدت عليك من كل صقع وهم فصحاء الناس وقد قنع بهم أهل المصرين وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم فيحضرون ويسألون فقال له يحيى وجعفر قد أنصفت وأمر بإحضارهم فدخلوا وفيهم أبو فقعس وأبو زياد وأبو الجراح وأبو ثروان فسئلوا عن المسائل (2/703)
التي جرت بين الكسائي وسيبويه فوافقوا الكسائي وقالوا بقوله فأقبل يحيى بن سيبويه فقال قد تسمع وأقبل الكسائي على يحيى وقال أصلح الله الوزير إنه وفد عليك من بلده مؤملا فإن رأيت أن لا ترده خائبا فأمر له بعشرة آلف درهم فخرج وتوجه نحو فارس وأقام هناك ولم يعد إلى البصرة
فوجه الدليل من هذه الحكاية أن العرب وافقت الكسائي وتكملت بمذهبنا وقد حكى أبو زيد الأنصاري عن العرب قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها مثل مذهبنا فدل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما من جهة القياس فقالوا إنما قلنا ذلك لأن إذا إذا كانت للمفاجأة كانت ظرف مكان والظرف يرفع ما بعده وتعمل في الخبر عمل وجدت لأنها بمعنى وجدت
وقد قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب إن هو في قولهم فإذا هو إياها عماد ونصبت إذا لأنها بمعنى وجدت على ما قدمناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز إلا الرفع لأن هو مرفوع بالابتداء ولا بد للمبتدأ من خبر وليس هاهنا ما يصلح أن يكون خبرا عنه إلا ما وقع الخلاف فيه فوجب أن يكون مرفوعا و لا يجوز أن يكون منصوبا بوجه ما فوجب أن يقال فإذا هوهي فهو راجع إلى الزنبور لأنه مذكر وهي راجع إلى العقرب لأنه مؤنث
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما رووه عن العرب من قولهم فإذا هو إياها فمن الشاذ الذي لا يعبأ به كالجزم بلن والنصب بلم وما أشبه ذلك من الشواذ التي تخرج عن القياس على أنه قد روى أنهم أعطوا على متابعة الكسائي جعلا فلا يكون في قولهم حجة لتطرق التهمة في الموافقة (2/704)
وأما قولهم إن إذا إذا كانت للمفاجأة كانت بمنزلة وجدت فباطل لأنها إن كانت بمنزلة وجدت في العمل فوجب أن يرفع بها فاعل وينصب بها مفعولان كقولهم وجدت زيدا قائما فترفع الفاعل وتنصب المفعولين وإن قالوا إنها بمعنى وجدت ولا تعمل عملها كما أن قولهم حسبك زيد بمعنى الأمر وهو اسم وليس بفعل وكقولهم أحسن بزيد لفظه لفظ الأمر وهو بمعنى التعجب وكقولهم رحم الله فلانا لفظه لفظ الخبر وهو في المعنى دعاء وكقوله تعالى في قراءة من قرأ بالرفع ( لا تضار والدة بولدها ) لفظه لفظ الخبر والمراد به النهي وكقوله تعالى ( فعل أنتم منتهون ) أي أنتهو لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر وكقوله تعالى ( فليمدد له الرحمن مدا ) لفظه لفظ الأمر والمراد به الخبر وكقوله تعالى ( والولدات يرضعن أولادهن ) أي ليرضعن لفظه لفظ الخبر والمراد به الأمر إلى غير ذلك من الأماكن التي لا تحصى كثرة فكذلك نقول نحن هاهنا إذا بمعنى وجدت وهي في اللفظ ظرف مكان وظرف المكان يجب رفع المعرفتين بعده فوجب أن يقال فإذا هو هي
وإن قالوا إنها تعمل عمل الظرف وعمل وجدت فترفع الأول لأنها ظرف وتنصب الثاني على أنها فعل ينصب مفعولين فباطل لأنهم إن أعملوها عمل الظرف بقي المنصوب بلا ناصب وإن أعملوها عمل الفعل لزمهم وجود فاعل ومفعولين وليس لهم إلى إيجاد ذلك سيبل
وأما قول أبي العباس ثعلب إن هو في قولهم فإذا هو إياها عماد فباطل عند الكوفيين والبصريين لأن العماد عند الكوفيين الذي يسميه البصريون الفصل يجوز حذفه من الكلام ولا يختل معنى الكلام بحذفه ألا ترى أنك لو حذفت العماد الذي هو الفصل من قولك كان زيد هو القائم فقلت كان زيد القائم لم يختل معنى الكلام بحذفه وكان الكلام صحيحا (2/705)
وكذلك سائر الأماكن التي يقع فيها العماد الذي هو الفصل يجوز إثباته وحذفه ولو حذفته هاهنا من قولهم فإذا هو إياها لاختل معنى الكلام وبطلت فائدته لأنه يصير فإذا إياها وهذا لا معنى له ولا فائدة فيه فبطل ما ذهبوا إليه والله أعلم
100م - سألة ضمير الفصل
ذهب الكوفيون إلى أن ما يفصل به بين النعت والخبر يسمى عمادا وله موضع من الأعراب وذهب بعضهم إلى أن حكمه حكم ما قبله وذهب بعضهم إلى أن حكمه حكم ما بعده وذهب البصريون إلى أنه يسمى فصلا لأنه يفصل بين النعت والخبر إذا كان الخبر مضارعا لنعت الاسم ليخرج من معنى النعت كقولك زيد هو العاقل ولا موضع له من الإعراب
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن حكمه حكم ما قبله لأنه توكيد لما قبله فتنزل منزلة النفس إذا كانت توكيدا وكما أنك إذا قلت جاءني زيد نفسه كان نفسه تابعا لزيد في إعرابه فكذلك العماد إذا قلت زيد هو العاقل يجب أن يكون تابعا في إعرابه
وأما من ذهب إلى أن حكمه حكم ما بعده قال لأنه مع ما بعده كالشيء الواحد فوجب أن يكون حكمه بمثل حكمه (2/706)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنه لا موضع له من الإعراب لأنه إنما دخل لمعنى وهو الفصل بين النعت والخبر ولهذا سمى فصلا كما تدخل الكاف للخطاب في ذلك وتلك وتثنى وتجمع ولا حظ لها في الإعراب وما التي للتوكيد ولا حظ لها في الإعراب فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه توكيد لما قبله فتنزل منزلة النفس في قولهم جاءني زيد نفسه قلنا هذا باطل لأن المكنى لا يكون تأكيدا للمظهر في شيء من كلامهم والمصير إلى ما ليس له نظير في كلامهم لا يجوز أن يصار إليه
وأما قولهم إنه مع ما بعده كالشيء الواحدقلنا هذا باطل أيضا لأنه لا تعلق له بما بعده لأنه كناية عما قبله فكيف يكون مع ما بعده كالشيء الواحد والله أعلم
101م - سالة مراتب المعارف
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المبهم نحو هذا وذاك أعرف من الاسم العلم نحو زيد وعمرو وذهب البصريون إلى أن الاسم العلم أعرف من الاسم المبهم واختلفوا في مراتب المعارف فذهب سيبويه إلى أن أعرف المعارف الاسم المضمر أنه لا يضمر إلا وقد عرف ولهذا لا يفتقر إلى أن (2/707)
يوصف كغيره من المعارف ثم الاسم العلم لأن الأصل فيه أن يوضع على شيء لا يقع على غيره من أمته ثم الاسم المبهم لأنه يعرف بالعين وبالقلب ثم ما عرف بالألف واللام لأنه يعرف بالقلب فقط ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف لأن تعريفه من غيره وتعريفه على قدر ما يضاف إليه وذهب أبو بكر بن السراج إلى أن أعرف المعارف الاسم المبهم ثم المضمر ثم العلم ثم ما فيه الألف واللام ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف وذهب أبو سعيد السيرافي إلى أن أعرف المعارف الاسم العلم ثم المضمر ثم المبهم ثم ما عرف بالألف واللام ثم ما أضيف إلى أحد هذه المعارف
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالواإنما قلنا إن الاسم المبهم أعرف من الاسم العلم وذلك لأن الاسم المبهم يعرف بشيئين بالعين وبالقلب وأما الاسم العلم فلا يعرف إلا بالقلب وحده وما يعرف بشيئين ينبغي ان يكون أعرف مما يعرف بشيء واحد
قالوا والذي يدل على صحة ذلك أن الاسم العلم يقبل التنكير أ لاترى أنك تقول مررت بزيد الظريف وزيد آخر ومررت بعمرو العاقل وعمرو آخر وكذلك إذا ثنيت الاسم العلم أو جمعته نكرته نحو زيدان والزيدان وعمران والعمران وزيدون والزيدون وعمرون والعمرون فتدخل عليه الألف واللام في التثنية والجمع ولا تدخلان إلا على النكرة فدل على أنه يقبل التنكير بخلاف الاسم المبهم فإنه لا يقبل التنكير لأنك لا تصفه بنكرة في حال من الأحوال ولا تنكره في التثنية والجمع فتدخل عليه الألف واللام فتقول الهاذان فدل على أنه لا يقبل التنكير ومالا يقبل التنكير أعرف مما يقبل التنكير فتنزل منزلة المضمر وكما أن المضمر أعرف من الاسم العلم فكذلك المبهم (2/708)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الاسم العلم أعرف من المبهم لأن الأصل في الاسم العلم أن يوضع لشيء بعينه لا يقع على غيره من أمته وإذا كان الأصل فيه أن لا يكون له مشارك أشبه ضمير المتكلم وكما أن ضمير المتكلم أعرف من المبهم فكذلك ما اشبهه
والذي أذهب إليه ما ذهب إليه الكوفيون
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قولهم إن الأصل في الاسم العلم أن يوضع لشيء بعينه لا يقع على غيره قلنا وكذلك الأصل في جميع المعارف ولهذا يقال حد المعرفة ما خص الواحد من الجنس وهذا يشتمل على جميع المعارف لا على الاسم العلم دون غيره على أنا نسلم أن الأصل في الاسم العلم ما ذكرتموه إلا أنه قد حصل فيه الاشتراك وزال عن أصل وضعه ولهذا افتقر إلى الوصف ولو كان باقيا على الاصل لما افتقر إلى الوصف لأن الأصل في المعارف أن لا توصف لأن الأصل فيها أن يقع لشيء بعينه فلما جاز فيه الوصف دل على زوال الأصل فلا يجوز أن يحمل على المضمر الذي لا يزول عن الأصل ولا يفتقر إلى الوصف في أنه أعرف من المبهم والله أعلم
102م - سألة أي الموصولة معربة دائما أو مبنية أحيانا
ذهب الكوفيون إلى أن أيهم إذا كان بمعنى الذي وحذف العائد من (2/709)
الصلة معرب نحو قولهم لأضربن أيهم أفضل وذهب البصريون إلى أنه مبنى على الضم وأجمعوا على أنه إذا ذكر العائد انه معرب نحو قولهم لأضربن أيهم هو أفضل وذهب الخليل بن أحمد إلى أن أيهم مرفوع بالابتداء وأفضل خبره ويجعل أيهم استفهاما ويحمله على الحكاية بعد قول مقدر والتقدير عنده لأضربن الذي يقال له أيهم أفضل قال الشاعر
441
- ( ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم ) (2/710)
أي فأبيت لا يقال لي هذا حرج ولا محروم وحذف القول في كتاب الله تعالى وكلام العرب أكثر من أن يحصى وذهب يونس بن حبيب البصري إلى أن أيهم مرفوع بالابتداء وأفضل خبره ويجعل أيهم استفهاما ويعلق لأضربن عن العمل في أيهم فينزل الفعل المؤثر منزلة أفعال القلوب نحو علمت أيهم في الدار
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنه معرب منصوب بالفعل الذي قبله أنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ) بالنصب وهي قراءة هرون القارئ ومعاذ الهراء ورواية عن يعقوب
قالوا ولا يجوز أن يقال إن القراءة المشهورة بالضم هي حجة عليكم لأنا نقول هذه القراءة لا حجة لكم فيها لأن الضمة فيها ضمة إعراب لا ضمة بناء فإن أيهم مرفوع لأنه مبتدأ وذلك من وجهين
أحدهما أن قوله ( لننزعن ) عمل في ( من ) وما بعدها واكتفى الفعل بما (2/711)
ذكر معه كما تقول قتلت من كل قبيل وأكلت من كل طعام فيكتفي الفعل بما ذكر معه فكذلك هاهنا عمل الفعل في الجار والمجرور وأكتفى بذلك ثم ابتدأ فقال ( أيهم أشد ) فرفع ( أيهم ) بأشد كما رفع ( أشد ) بأيهم على ما عرف من مذهبنا
والوجه الثاني ان الشيعة معناها الأعوان وتقدير الآية لننزعن من كل قوم شايعوا فتنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا والنظر من دلائل الاستفهام وهو مقدر معه وأنت لو قلت لأنظرن أيهم أشد لكان النظر معلقا لأن النظر والمعرفة والعلم ونحوهن من أفعال القلوب وأفعال القلوب يسقط عملهن إذا كان بعدهن استفهام فدل على أنه مرفوع لأنه مبتدأ
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما حكاه أبو عمر الجرمي أنه قال خرجت من الخندق يعني خندق البصرة حتى صرت إلى مكة لم أسمع أحدا يقول اضرب أيهم أفضل أي كلهم ينصبون وكذلك لم يرو عن أحد من العرب اضرب أيهم أفضل بالضم فدل على صحة ما ذهبنا إليه
والذي يدل على فساد قول من ذهب إلى أنه مبنى على الضم أن المفرد من المبنيات إذا أضيف أعرب نحو قبل وبعد فصارت الإضافة توجب إعراب الاسم وأي إذا إفردت أعربت فلو قلنا إنها إذا أضيفت بنيت لكان هذا نقضا للأصول وذلك محال
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما لنا إنها مبنية هاهنا على الضم وذلك لأن القياس يقتضى أن تكون مبنية في كل حال لوقوعها موقع حرف الجزاء والاستفهام والاسم الموصول كما بنيت من وما لذلك في كل حال إلا أنهم أعربوها حملا على نظيرها وهو بعض وعلى نقيضها (2/712)
وهو كل وذلك على خلاف القياس فلما دخلها نقص بحذف العائد ضعفت فردت إلى أصلها من البناء على مقتضى القياس كما أن ما في لغة أهل الحجاز لما كان القياس يقتضى أن لا تعمل إذا تقدم خبرها على اسمها او دخل حرف الاستثناء بين الاسم والخبر رد إلى ما يقتضيه القياس من بطلان عملها فكذلك هاهنا لما كان القياس يقتضى ان تكون مبنية لما حذف منها العائد ردت إلى ما يقتضيه القياس من البناء يدل عليه أن أيهم استعملت استعمالا لم تستعمل عليه أخواتها من حذف المبتدأ معها تقول اضرب أيهم أفضل تريد أيهم هو أفضل ولو قلت اضرب من أفضل وكل ما أطيب تريد من هو أفضل وما هو أطيب لم يجز فلما خالفت أي أخواتها فيما ذكرناه زال تمكنها لأن كل شيء خرج عن بابه زال تمكنه فوجب ان تبنى إذا استعملت على خلاف ما استعمل عليه أخواتها كما أن يا الله لما خالفت سائر ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفه وكذلك ليس لما لم تتصرف تصرف الفعل تركت على هذه الحال أ لاترى أن أصل ليس ليس مثل صيد البعير وصيد البعير يجوز فيه التخفيف فيقال صيد البعير ويجب في ليس التخفيف ولا يجوز ان يؤتى به على الأصل كما جاز أن يؤتى بصيد على الأصل لأن ليس لم تتصرف تصرف الفعل بخلاف صيد ويدل عليه أيضا أنك لو قلت صيدت يا بعير لوجب أن ترد الفعل إلى أصله من الكسر ولو قلت ليست لم يجز رده إلى الأصل كل ذلك لمخالفته الفعل في التصرف وخروجه عن مشابهة نظائره فكذلك هاهنا لما خالفت أي سائر أخواتها وخرجت عن مشابهة نظائرها وجب بناؤها وإنما وجب بناؤها على الضم لأنهم لما حذفوا المبتدأ من صلتها بنوها على الضم لأنه أقوى الحركات (2/713)
والذي يدل على صحة هذا التعليل وأنهم إنما بنوها لخلاف المبتدأ أنا أجمعنا على أنهم إذا لم يحذفوا المبتدأ أعربوها ولم يبنوها فقالوا ضربت أيهم هو في الدار بالنصب وإنما حسن حذف المبتدأ من صلة أي ولم يحسن حذفه مع غيرها من أخواتها لأن أي لا تنفك عن الإضافة فيصير المضاف إليه عوضا عن حذف المبتدأ بخلاف غيرها من أخواتها فلهذا حسن الحذف مع أي دون سائر أخواتها
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين اما احتجاجهم بقراءة من قرأ ( ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد ) بالنصب فهي قراءة شاذة جاءت على لغة شاذة لبعض العرب ولم يقع الخلاف في هذه اللغة ولا في هذه القراءة وإنما وقع الخلاف في اللغة الفصيحة المشهورة والقراءة المشهورة التي عليها قرأة الأمصار أيهم بالضم وهي حجة عليهم
قولهم إن الضمة فيها ضمة إعراب لا ضمة بناء وإنه مرفوع لأنه مبتدأ لأن قوله ( لننزعن ) عمل في من وما بعدها واكتفى الفعل بما ذكر معه كقولهم قتلت من كل قبيل قلنا هذ خلاف الظاهر لأن قوله ( لننزعن ) فعل متعد فلا بد أن يكون له مفعول إما مظهر أو مقدر وأيهم يصلح أن يكون مفعولا وهو ملفوظ به مظهر فكان أولى من تقدير مفعول مقدر
وأما قولهم إن تقدير الآية فتنظروا أيهم أشد قلنا وهذا أيضا خلاف الظاهر لأنه ليس في اللفظ ما يدل على تقدير هذا الفعل وقوله ( لننزعن ) فعل يصلح أن يكون ( أيهم مفعولا له فكان أولى من تقدير فعل لا دليل يدل عليه ولا حاجة إليه (2/714)
وأما ما حكى عن أبي عمر الجرمي أنه قال خرجت من الخندق فلم أسمع أحدا يقول ضربت أيهم أفضل قلنا هذا يدل على أنه ما سمع أيهم بالضم وقد سمعه غيره
والذي يدل على صحة هذه اللغة ما حكاه أبو عمرو الشيباني عن غسان وهو أحد من تؤخذ عنه اللغة من العرب أنه أنشد
442
- ( إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل )
برفع أيهم فدل على أنها لغة منقولة صحيحة لا وجه لإنكارها (2/715)
وأما قولهم إن المفرد من المبنيات إذا أضيف أعرب وأي إذا أفردت أعربت فلو قلنا إنها إذا أضيفت بنيت لكان هذا نقضا للأصول قلنا هذا باطل لأن الإضافة إنما ترد الاسم إلى حال الإعراب إذا استحق البناء في حال الإفراد فأما إذا كان الموجب للبناء في حال الإضافة لم ترد الإضافة ذلك الاسم إلى الإعراب ألا ترى أن لدن في جميع لغاتها لما استحقت البناء في حال الإضافة لم تردها الإضافة إلى الإعراب فكذلك هاهنا وفي لدن ثماني لغات وهي لدن ولدن ولدا ولد ولدن ولدن ولد ولد وكلها مبنية على ما بينا
وأما ما ذهب إليه الخليل من الحكاية فبعيد في اختيار الكلام وإنما يجوز مثله في الشعر ألا ترى أنه لو جاز مثل هذا لجاز أن يقال أضرب الفاسق الخبيث بالرفع أي أضرب الذي يقال له الفاسق الخبيث ولا خلاف ان هذا لا يقال بالإجماع
وأما قول يونس فضعيف لأن تعليق أضرب ونحوه من الأفعال لا يجوز لأنه فعل مؤثر فلا يجوز إلغاؤه وإنما يجوز ان تعلق أفعال القلوب عن الاستفهام وهذا ليس بفعل من أفعال القلوب فكان هذا القول ضعيفا جدا والله أعلم (2/716)
103 - سألة هل تأتي ألفاظ الإشارة أسماء موصولة
ذهب الكوفيون إلى أن هذا وما أشبهه من أسماء الإشارة يكون بمعنى الذي والأسماء الموصولة نحو هذا قال ذاك زيد أي الذي قال ذاك زيد
وذهب البصريون إلى أنه لا يكون بمعنى الذي وكذلك سائر أسماء الإشارة لا تكون بمعنى الأسماء الموصولة
أما الكوفيون فاحتجوا بان قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) والتقدير فيه ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وتقتلون صلة هؤلاء وقال تعالى ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ) والتقدير فيه ها أنتم الذين جادلتم عنهم فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وجادلتم صلة هؤلاء وقال تعالى ( وما تلك بيمينك يا موسى ) والتقدير فيه ما التي بيمينك فما مبتدأ وتلك خبره وبيمنيك صلة تلك ثم قال ابن مفرغ
443
- ( عدس ما لعباد عليك إمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق ) (2/717)
يريد والذي تحملين طليق فدل على أن أسماء الإشارة تكون بمعنى الأسماء الموصولة
عدس زجر البغل وهو هاهنا اسم لبغلة ابن مفرغ وعباد اسم والى سجستان حينئذ وكان قد حبسه ثم أطلقه فركب البغلة وجلس ينشد هذا البيت وكات الخليل يزعم أن عدسا كان رجلا عنيفا بالبغال في أيام سليمان بن داود فإذا قيل لها عدس انزعجت وهذا مالا يعرف في اللغة
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنماقلنا ذلك لأن الأصل في هذا وما أشبهه من أسماء الإشارة أن يكون دالا على الإشارة والذي وسائر الأسماء الموصولة ليست في معناها فينبغي ان لا يحمل عليها وهذا تمسك بالأصل واستصحاب الحال وهو من جملة الأدلة المذكورة فمن أدعى أمرا وراء ذلك بقي مرتهنا بإقامة الدليل ولا دليل لهم يدل على ما ادعوه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قوله تعالى ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) فلا حجة لكم فيه من ثلاثة أوجه
أحدها أن يكون هؤلاء باقيا على أصله من كونه اسم إشارة وليس بمعنى الذي كما زعمتم ويكون في موضع نصب على الاختصاص والتقدير فيه أعني هؤلاء كما قال عليه السلام سلمان منا أهل البيت فنصب أهل على الاختصاص والتقدير فيه أعني أهل البيت وخبر أنتم هؤلاء تقتلون
والوجه الثاني أن يكون هؤلاء تأكيدا لأنتم والخبر تقتلون ثم هذا لا يستقيم على أصلكم فإن تقتلون عندكم في موضع نصب لأنه خبر (2/719)
التقريب وخبر التقريب عندكم منصوب كقولهم هذا زيد القائم بالنصب وهذا زيدا قائما ولو كان صلة لما كان له موضع من الإعراب وعندنا أنه يحتمل ان يكون في موضع نصب على الحال
والوجه الثالث أن يكون هؤلاء منادى مفردا والتقدير فيه ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون وتقتلون هو الخبر ثم حذف حرف النداء كما قال تعالى ( يوسف أعرض عن هذا ) وكما قال تعالى ( يوسف أيها الصديق ) وحذف حرف النداء كثير في كلامهم
وهذا الذي ذكرناه هو الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم )
وأما قوله تعالى ( وما تلك بيمينك يا موسى ) فلا حجة لهم فيه لأن ( تلك ) معناها الإشارة وليست بمعنى التي والتقدير فيه أي شيء هذه بيمينك وتلك بمعنى هذه كما يكون ذلك بمعنى هذا قال الله تعالى ( ألم ذلك الكتاب ) أي هذا الكتاب ثم قال الشاعر وهو خفاف بن ندبة
444
- ( أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أناذلكا (2/720)
أي هذا والجار والمجرور في قوله تعالى ( بيمينك ) في موضع نصب على الحال كأنه قال أي شيء هذه كائنة بيمينك
وأما قول الشاعر
( وهذا تحملين طليق ... )
فلا حجة لهم فيه لأن تحملين في موضع الحال كأنه قال وهذا محمولا طليق ويحتمل أيضا أن يكون قد حذف الاسم الموصول للضرورة ويكون التقدير وهذا الذي تحملين طليق وحذف الاسم الموصول يجوز في الضرورة قال الشاعر
445
- ( لكم مسجدا الله المزوران والحصى ... لكم قبصة من بين أثرى واقترا )
أراد من أثرى ومن أقتر فحذف للضرورة فكذلك هاهنا (2/721)
على أنه يجوز عندكم حذف الاسم الموصول في غير ضرورة الشعر ولهذا ذهبتم إلى أن التقدير في قوله تعالى ( من الذين هادوا يحرفون ) من يحرفون فحذف من وهو الاسم الموصول وكذلك ذهبتم إلى أن التقدير في قوله تعالى ( كمثل الحمار يحمل أسفارا ) أي الذي يحمل أسفارا وإذا جاز هذا عندكم في القرآن ففي ضرورة الشعر أولى فلا يكون لهم فيه حجة والله أعلم
104م - سألة هل يكون للاسم المحلى بأل صلة كصلة الموصول
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم الظاهر إذا كانت فيه الألف واللام وصل كما يوصل الذي وذهب البصريون إلى أنه لا يوصل (2/722)
أما الكوفيين فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه قد جاء ذلك في كلامهم واستعمالهم قال الشاعر
446
- ( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل ) (2/723)
فقوله لأنت مبتدأ والبيت خبره وأكرم صلة الخبر الذي هو البيت وهذا كثير في استعمالهم
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص في نفسه وليس كالذي لأنه لا يدل على معنى مخصوص إلا بصلة توضحه لأنه مبهم وإذا لم يكن في معناه فلا يجوز أن يقام مقامه وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله
( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... )
فلا حجة لهم فيه من وجهين
أحدهما أن يكون البيت خبر المبتدأ الذي هو أنت واكرم خبر آخر كما تقول هذا حلو حامض فحلو خبر المبتدأ الذي هو هذا وحامض خبر آخر والمعنى أنه قد جمع الطعمين ونحوه قول الشاعر (2/724)
447 - ( من يك ذابت فهذا بتي ... مصيف مقيظ مشتى )
( تخذته من نعجات ست ... سود جعاد من نعاج الدشت )
فبتى خبر المبتدأ الذي هو هذا ومصيف خبر ثان ومقيظ خبر ثالث ومشتى خبر رابع وإذا جاز أن يكون له أربعة أخبار جاز ان يكون له خبران
والوجه الثاني أن يكون البيت مبهما لا يدل على معهود وأكرم وصف له فكأنه قال لأنت بيت أكرم أهله كما يقال إني لآمر بالرجل (2/725)
غيرك ومثلك وخير منك فيكون غيرك ومثلك وخير منك وهي نكرات أوصافا للرجل لأنه لما كان مبهما لا يدل على معهود فكأنه قال إني لآمر برجل غيرك ومثلك وخير منك كما قال الشاعر
( ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقدنهيتك عن بنات الأوبر )
أراد بنات أوبر وهي ضرب من الكمأة وقد جاء هذا النحو في كلامهم وأشعارهم
ويحتمل أيضا أن يكون التقدير فيه لأنت البيت الذي أكرم أهله فحذف الاسم الموصول للضرورة على ما بينا قبل
وإذا كان يحتمل هذه الوجوه من الاحتمالات بطل الاحتجاج به فلا يكون فيه حجة والله أعلم
105م - سألة همزة بين بين متحركة أو ساكنة
ذهب الكوفيون إلى أن همزة بين بين ساكنة وذهب البصريون إلى أنها متحركة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها ساكنة ان همزة بين بين لا يجوز أن تقع مبتدأة ولو كانت متحركة لجاز أن تقع مبتدأة فلما امتنع الابتداء بها دل على أنها ساكنة لأن الساكن لا يبتدأ به (2/726)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها متحركة أنها تقع مخففة بين بين في الشعر وبعدها ساكن في الموضع الذي لو اجتمع فيه ساكنان لانكسر البيت كقول الأعشى
448
- ( أأن رأت رجلا أعشى أضر به ... ريب الزمان ودهر مفسد خبل ) (2/727)
فالنون ساكنة وقبلها همزة مخففة بين بين فعلم أنها متحركة لاستحالة التقاء الساكنين في هذا الموضع وهذا لأن الهمزة إنما جعلت بين بين كراهية لاجتماع الهمزتين لأنهم يستثقلون ذلك ولم يأت اجتماع الهمزتين في شيء من كلامهم إلا في بيت واحد أنشده قطرب (2/728)
449 - ( فإنك لا تدري متى الموت جأيئ ... ولكن أقصى مدة الموت عاجل ) (2/729)
ولهذا لم يأت في كلامهم ما عينه همزة ولامه همزة كما جاء ذلك في الياء والواو نحو حية وقوة وكذلك الحروف الصحيحة نحو طلل وشرر وما أشبه ذلك فلما كانوا يستثقلون اجتماع الهمزتين قربوا هذه الهمزة من حرف العلة وذلك لا يوجب خروجها عن أصلها من كل وجه ولا سلب حركتها عنها بالكلية
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه لا يجوز ان تقع مبتدأة قلنا إنما لم يجز أن تقع مبتدأة لأنها إذا جعلت بين بين اختلست حركتها وقربت من الساكن والابتداء إنما يكون بماتمكنت فيه حركته وإذا جعلت بين (2/730)
بين فقد ذال ذلك التمكن وقربت من الساكن وكما لا يجوز الابتداء بالساكن فكذلك لا يجوز الابتداء بما قرب منه
ألا ترى أنهم لم يخرموا متفاعلن من الكامل وهو حذف الحرف الأول كما خرموا فعولن لأجل ان متفاعلن يسكن ثانية إذا أضمر والإضمار إسكان الثاني فكان يبقى متفاعلن فينقل إلى مستفعلن فلو خرموه في أول البيت لأدى ذلك إلى الابتداء بالساكن في حال فجرى خرمه مجرى خرم مستفعلن فلما كان يفضى إلى الابتداء بالساكن رفضوه فكذلك هاهنا لما قربت من الساكن بجعلها بين بين رفضوا الابتداء بها
وحكى عن أبي علي الفارسي أنه سئل عن الخرم في متفاعلن في حال شبابه ولم يكن عنده حينئذ مذهب أهل العروض فاجاب بهذا الجواب وقال لا يجوز لأنه يؤدي إلى الابتداء بالساكن من الوجه الذي بيناه والله أعلم
106م - سألة هل يوقف بنقل الحركة على المنصوب المحلي بأل الساكن ما قبل آخره
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال في في الوقف رأيت البكر بفتح الكاف في حالة النصب
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
وأجمعوا على أنه يجوز أن يقال في حالة الرفع والجر بالضم والكسر فيقال في الرفع هذا البكر بالضم وفي الجر مررت بالبكر بالكسر (2/731)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا أجمعنا على أنه إنما جاز هذا في المرفوع والمخفوض نحو هذا البكر ومررت بالبكر ليزول اجتماع الساكنين في حالة الوقف وأنهم اختاروا الضمة في المرفوع والكسرة في المخفوض لأنها الحركة التي كانت للكلمة في حالة الوصل فكانت أولى من غيرها كما قال الشاعر
450
- ( أنا ابن ماوية إذ جد النقر ... ) (2/732)
وكما قال الآخر
451
- ( أنا جرير كنيتي أبو عمر ... أضرب بالسيف وسعد في القصر )
( أجبنا وغيره خلف الستر ... )
وقال الآخر
452
- ( أرتنى حجلا على ساقها ... فهش الفؤاد لذاك الحجل )
( فقلت ولم أخف عن صاحبي ... ألا بأبي أصل تلك الرجل ) (2/733)
وقال الآخر
453
- ( علمنا إخواننا بنو عجل ... شرب النبيذ وأصطفافا بالرجل ) (2/734)
وإذا ثبت هذا في المرفوع والمخفوض فكذلك أيضا في المنصوب لأن الكاف في قولك رأيت البكر في حالة النصب ساكنة كما هي ساكنة في قولك هذا البكر ومررت بالبكر في حالة الرفع والخفض فكما حركت الكاف في المرفوع والمخفوض ليزول اجتماع الساكنين فكذلك ينبغي أيضا في المنصوب ليزول اجتماع الساكنين وكما أنهم اختاروا الضمة في المرفوع والكسرة في المخفوض لأنها الحركة التي كانت للكلمة في حالة الوصل فكذلك يجب أيضا أن يختاروا الفتحة في المنصوب لأنها الحركة التي كانت للكلمة في حالة الوصل ولا فرق بينهما
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن أول أحوال الكلمة التنكير ويجب فيها في حال النصب أن يقال بكرا فلا يجوز ان تحرك العين إذ لا يلتقي فيه ساكنان كما يلتقي في حال الرفع والجر نحو هذا بكر ومررت ببكر فلما امتنع في حال النصب تحريك العين في حال التنكير دون حالة الجر والرفع تبعه حال التعريف لأن اللام لا تلزم الكلمة في جميع أحوالها فلذلك روعى الحكم الواجب في حال التنكير
والذي أذهب إليه في هذه المسألة ما ذهب إليه الكوفيون
وأما الجواب عن كلمات البصريين أما قولهم إن أول أحوال الكلمة التنكير فلما امتنع معه في حال النصب تحريك العين تبعه حال التعريف بلام (2/735)
التعريف لأنها لا تلزم الكلمة قلنا هذا فاسد لأن حمل الاسم في حالة التعريف بلام التعريف على حالة التنكير لا يستقيم لأنه في حال التنكير في النصب يجب تحريك الراء فيه فلا يجوز تحريك العين لعدم التقاء الساكنين بخلاف ما إذا كانت فيه لام التعريف فإنه لا يجب تحريك الراء فيه بل تكون ساكنة فيه كما هي ساكنة في حال الرفع والجر فكما تحرك الكاف في حالة الرفع بالضم وفي حالة الجر بالكسر فكذلك يجب أن تحرك في حالة النصب بالفتح
وإنما يستقيم ما ذكره البصريون أن لو كان الوقف يوجب فيما دخله لام التعريف أن يكون الوقف عليه بالألف فيقال رأيت البكرا كما يقال رأيت بكرا فلما لم يقل ذلك لدخول لام التعريف دل على أن الفرق بينهما ظاهر فلا يجوز أن يحمل أحدهما على الآخر على أن من العرب من يقف عليه مع التنكير في حال النصب بالسكون فيقول ضربت بكر وأكرمت عمرو وإن كانت اللغة العالية الفصيحة أن يوقف عليه بالألف غير أن العرب وإن اختلفوا في الجملة في حال التنكير هل يوقف فيه بالألف أو السكون فما اختلفوا البتة في حال التعريف باللام أنه لا يجوز الوقف عليه بالألف
والذي يدل على ذلك أن الألف لا تكاد تقع في هذا النحو في القوافي وصلا إلا قليلا فدل على ما بيناه والله أعلم (2/736)
107 - سألة القول في أصل حركة همزة الوصل
ذهب الكوفيون إلى أن الأصل في حركة همزة الوصل أن تتبع حركة عين الفعل فتكسر في أضرب إتباعا لكسرة العين وتضم في أدخل إتباعا لضمه العين وذهب بعضهم إلى أن الأصل في همزة الوصل أن تكون ساكنة وإنما تحرك لالتقاء الساكنين وذهب البصريون إلى أن الأصل في همزة الوصل أن تكون متحركة مكسورة وإنما تضم في أدخل ونحوه لئلا يخرج من كسر إلى ضم لأن ذلك مستثقل ولهذا ليس في كلامهم شيء على وزن فعل بكسر الفاء وضم العين
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنه لما وجب أن يزيدوا حرفا لئلا يبتدأ بالساكن ووجب أن يكون الحرف الزائد متحركا وجب أن تكون حركته تابعة لعين الفعل طلبا للمجانسة لأنهم يتوخون ذلك في كلامهم ألا ترى أنهم قالوا منتن فضموا التاء إتباعا لضمه الميم وإن كان الأصل في التاء أن تكون مكسورة لأنه من أنتن فهو منتن كما تقول أجمل فهو مجمل وأحسن فهو محسن إلا أنهم ضموها للاتباع وكذلك قالوا فيها أيضا منتن فكسروا الميم إتباعا لكسرة التاء وكذلك قالوا المغيرة فكسروا الميم إتباعا لكسرة الغين وإن كان الأصل أن تكون مضمومة لأنه من أغار على العدو إغارة وكذلك قالوا يسروع فضموا الياء إتباعا لضمة الراء واليسروع دابة حمراء تكون في الرمل (2/737)
وكذلك قالوا الأسود بن يعفر فضموا الياء إتباعا لضمه الفاء وإن كان الأصل هو الفتح لأنه ليس في الكلام على وزن يفعول بالضم وكذلك قالوا هو أخوك لإمك بكسر الهمزة إتباعا لكسرة اللام قال الله تعالى ( فلامه الثلث ) في قراءة من قرأ بكسر الهمزة وهما حمزة الزيات والكسائي وهما من سادات القرأة السبعة وعلى ذلك قراءة الحسن ( الحمد لله ) بكسر الدال وقراءة ابن أبي عبلة ( الحمد لله ) بضم اللام وإذا كانوا كسروا ما يجب بالقياس ضمه وضموا ما يجب بالقياس كسره للاتباع طلبا للمجانسة فلأن يضموا هذه الهمزة او يكسروها للاتباع ولم يجب لها حركة مخصوصة كان ذلك من طريق الأولى
وأما من ذهب إلى أن الأصل فيها أن تكون ساكنة فقال أجمعنا على أن همزة الوصل زيادة على بناء الكلمة وإذا كانت زيادة كان تقديرها ساكنة أولى من تقديرها متحركة وذلك لأنا إذا قدرناها ساكنة كان زيادة حرف واحد مجرد عن شيء آخر والزيادة كلما كانت أقل كانت أولى ثم يجب تحريك الهمزة لالتقاء الساكنين فلا يؤدي إلى الابتداء بالساكن
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الأصل فيها الحركة وهو الكسر وذلك لأن المقصود بزيادة الهمزة أن نلفظ بفاء الفعل ساكنة في حال الابتداء لأنه لو لم نزد الهمزة لتحركت فاء الفعل الساكنة في حال الابتداء لأن الابتداء بالساكن محال فإذا كانوا قد زادوا الهمزة لئلا يبتدأ بالساكن ولهذا لم يزيدوها فيما تحركت فاؤه فينبغي أن تزاد متحركة لا ساكنة لأنه من المحال أن تقصد إلى حرف ساكن وأنت تقصد التخلص من الساكن
وإنما وجب أن تكون حركتها الكسرة لأنها زيدت على حرف ساكن فكان الكسر أولى بها من غيره لأن مصاحبتها للساكن أكثر من (2/738)
غيره ألا ترى أنه الأكثر في التقاء الساكنين فحركت بالكسر تشبيها بحركة الساكن إذا لقيه ساكن لأن الهمزة إنما جئ بها توصلا إلى النطق بالساكن كما أن الساكن إنما حرك توصلا إلى النطق بالساكن الآخر
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه لما وجب أن يكون الحرف الزائد متحركا وجب أن تكون حركته تابعة لحركة العين طلبا للمجانسة قلنا التحريك للإتباع ليس قياسا مطردا وإنما جاء ذلك في بعض المواضع في ألفاظ معدودة قليلة جدا وذلك الإتباع على طريق الجواز لا على طريق الوجوب ألا ترى أنه يجوز أن يقال في منتن بضم التاء منتن بالكسر فيؤتى به على الأصل وأما قولهم منتن بكسر الميم فيحتمل أن يكون من نتن لأنه يقال نتن الشيء وأنتن لغتان فلا يكون الكسر للاتباع وكذلك قولهم المغيرة يجوز أن يؤتى به على الأصل فيقال فيه المغيرة بالضم ويحتمل أن يكون من غار أهله يغيرهم غيرا إذا مارهم وكذلك يجوز أن يقال في يسروع بالضم يسروع بالفتح على الأصل وقد قالوا إنه أسروع أيضا وكذلك يجوز أن يقال في يعفر بالضم يعفر بالفتح على الأصل وكذلك يجوز أن يقال في قولهم هو أخوك لإمك بالكسر هو أخوك لأمك بالضم على الأصل وأما قراءة من قرأ ( الحمد لله ) بكسر الدال وقراءة من قرأ ( الحمد لله ) بضم اللام فهما قراءتان شاذتان في الاستعمال ضعيفتان في القياس أما شذوذهما في الاستعمال فظاهر وأما ضعفهما في القياس فظاهر أيضا أما كسر الدال فإنما كان ضعيفا لأنه يؤدي إلى إبطال الإعراب وذلك لا يجوز وأما ضم اللام فإنما كان ممتنعا لأن الإتباع لما كان في الكلمة الواحدة (2/739)
قليلا ضعيفا كان مع الكلمتين ممتنعا البتة لأن المنفصل لا يلزم لزوم المتصل فإذا كان في المتصل ضعيفا امتنع في المنفصل البتة لأنه ليس بعد الضعف إلا امتناع الجواز لأن حركة الإعراب لا تلزم فلا يكون لأجلها إتباع وإذا كان الإتباع في كلامهم بهذه المثابة دل على أنه ليس الأصل في حركة همزة الوصل أن تتبع حركة العين
والذي يدل على أن حركتها ليست إتباعا لحركة العين في نحو اضرب وادخل أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي أن يقال في ذهب يذهب أذهب بفتح الهمزة لأن عين الفعل منه مفتوحة فلما لم يجز ذلك وقيلت بالكسرة علم أن أصلها أن تكون متحركة بالكسر وإنما ضمت في ادخل ونحوه لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم لأنه مستثقل ولم يفعلوا ذلك في اذهب لأن الخروج من كسر إلى فتح غير مستثقل فجئ بها على الأصل وهو الكسر
وأما قول من قال إن الأصل فيها أن تكون ساكنة لأن همزة الوصل زائدة وإذا كانت زائدة كان تقديرها ساكنة أولى من تقديرها متحركة لأن الزيادة كلما كانت أقل كانت أولى قلنا الكلام على هذا من وجهين
أحدهما القاصد للفظ بالساكن إذا قدر اجتلاب حرف ساكن مع علمه بأنه لا يلفظ به كان تقديره محالا ولو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال إن الاسم يوضع أولا على سكون الأول ثم يتحرك لأن الابتداء بالساكن محال ثم يلزمه على هذا أن لا يثبت حركة في لفظ إلا لضرورة وأن يسكن كل حرف في أول كل كلمة إذا لم يبتدأ به ولا خلاف أن مثل هذا لا يرتكبه أحد (2/740)
والوجه الثاني أن الهمزة إذا زيدت ساكنة ثم تحركت لالتقاء الساكنين لم تكن جاءت لأجل اللفظ بالساكن فكان حكمها حكم ما يبنى عليه إذ لو زيدت ساكنة لئلا يبتدأ بالساكن لكان تقدير السكون فيها محالا لما فيه من العود إلى عين ما يفر منه وكان يلزم على مقتضى هذا القول أن لا يجوز حذفها بحال وأن يقال يا زيد أضرب ويا عمرو أدخل بإثبات الهمزة وذلك لا يجوز والله أعلم
108م - سألة هل يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
وأجمعوا على أنه يجوز نقل حركة همزة القطع إلى الساكن قبلها كقولهم من أبوك وكم أبلك
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل علىذلك النقل والقياس
أما النقل فقد قال الله تعالى ( ألم الله لا إله إلا هو ) فنقل فتحة همزة ( الله ) إلى الميم قبلها وحكى الكسائي قال قرأ على بعض العرب سورة ق فقال ( مناع للخير معتد مريبن الذي ) بفتح التنوين لأنه نقل فتحة همزة ( الذي ) إلى التنوين قبلها وحكى أيضا عن بعض العرب ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ) بفتح الميم لأنه نقل فتحة همزة ( الحمد ) إلى الميم قبلها وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني وهو من سادات أئمة القراء وهو أحد القرأة (2/741)
العشرة ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ) فنقل ضمة همزة ( أسجدوا ) إلى التاء قبلها فدل على جوازه
وأما القياس فلأنها همزة متحركة فجاز ان تنقل حركتها إلى الساكن قبلها كهمزة القطع في قولهم من أبوك وكم أبلك وما أشبه ذلك
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنهم يقولون واحد اثنان فيكسرون الدال من واحد وأجمعنا وإياكم على أن كسرة الدال إنما كانت لالقاء حركة همزة اثنان عليها لالتقاء الساكنين ولا خلاف أن همزة اثنان همزة وصل فدل على صحة ما ذكرناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز ذلك لأن الهمزة إنما يجوز ان تنقل حركتها إذا ثبتت في الوصل نحو من أبوك في من أبوك وكم أبلك في كم إبلك فاما همزة الوصل فتسقط في الوصل فلا يصح ان يقال إن حركتها تنقل إلى ما قبلها لأن نقل حركة معدومة لا يتصور ولو جاز أن يقال إن حركتها تنقل لكان يجب أن يثبتها في الوصل فيقول قال الرجل وذهب الغلام حتى يجوز له أن يقدر نقل حركتها ولو جاز ذلك لجاز أن يقال أخذت عن الرجل بسكون النون وقطع الهمزة وبفتح النون على نقل الحركة كما يقال من أبوك ومن أبوك فلما لم يقل ذلك بالإجماع دل على فساد ما ذهبتم إليه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما احتجاجهم بقوله تعالى ( ألم الله ) فلا حجة لهم فيه لأن حركة الميم إنما كانت لالتقاء الساكنين وهما الميم واللام من ( الله ) وزعم بعضهم أن الساكنين هما الميم والياء قبلها وهذا عندي باطل لأنه لو كان التحريك في قوله ( ألم الله ) لسكونها وسكون الياء قبلها لكان يجب أن تكون متحركة في قوله ( ألم ذلك الكتاب ) فلما كانت ساكنة دل على (2/742)
أنها حركت هاهنا لسكونها وسكون اللام بعدها لالسكونها وسكون الياء قبلها وكانت الحركة فتحة على خلاف الأصل في التقاء الساكنين لأن قبلها ياء قبلها كسرة فلو كسر لأدى ذلك إلى اجتماع كسرة قبلها ياء كسرة والياء تعد بكسرتين فيؤدي في التقدير إلى اجتماع أربع كسرات متواليات وذلك ثقيل جدا فعدلوا عنه إلى الفتح لأنه أخف الحركات
وهذا هو الجواب عن احتجاجهم بقراءة بعض العرب ( مريبن الذي ) فإن الفتحة في التنوين ليس عن إلقاء حركة همزة ( الذي ) وإنما حركت لالتقاء الساكنين وهما التنوين واللام من ( الذي ) وكانت الحركة فتحة على خلاف الأصل في التقاء الساكنين لأن ما قبل التنوين كسرة وقبل الكسرة ياء قبلها كسرة فالياء تعد بكسرتين على ما بينا فعدل في هذه القراءة عن الكسر لئلا يجمع في التقدير بين خمس كسرات متواليات وعدل عنه إلى الفتح لأنه أخف الحركات وإذا كانوا قد فتحوا أين وكيف لئلا يجمعوابين ياء وكسرة مع كثرة الاستعمال ولا يوجد فيه من الاستثقال ما يوجد هاهنا فلأن يفتحوا هاهنا كان ذلك من طريق الأولى على أنه لا يجوز لأحد ان يقرأ بهذه القراءة لأنه لا إمام لها وكذلك ما حكاه عن بعض العرب من فتح الميم من ( الرحيم الحمدلله ) لأنها لا إمام لها على أنه لا وجه للاحتجاج بها لأن فتح الميم فتحة إعراب لأنه لما تكرر الوصف عدل به إلى النصب على المدح بتقدير أعنى كما قالت امرأة من العرب
( لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر )
( النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر )
وهذا كثير في كلامهم وقد بينا ذلك قبل (2/743)
وأما قراءة أبي جعفر ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ) فضعيفه في القياس جدا والقراء على خلافها على أنها لا حجة لهم فيها وذلك من ثلاثة أوجه
أحدها أن الخلاف إنما وقع في نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها وهاهنا ليس ما قبلها ساكنا وإنما هومتحرك لأن التاء من ( الملائكة ) متحركة فهذا احتجاج على غير محل الخلاف
والثاني أن هذا لا تقولون به فإنه لا يجوز عندكم نقل حركة همزة الوصل إلى المتحرك قبلها
والثالث أنا نقول إنما ضمت هذه التاء إتباعا لضمة الجيم في ( اسجدوا ) وذلك من وجهين أحدهما أن يكون قد نوى الوقف فسكنت التاء وضمها تشبيها بضمة التاء في قراءة من قرأ ( وقالت أخرج عليهن ) بإتباع ضمة التاء ضمة الراء لئلا يخرجوا من كسر إلى ضم كما ضموا الهمزة ونحو هذا الإتباع قراءة من قرأ أيضا ( جنات وعيونن أدخلوها ) بضم التنوين إتباعا لضمة الخاء من ( ادخلوها ) وهذا كثير في كتاب الله تعالى وكلام العرب
والثاني أنه أتبع الضم الضم كما أتبع الكسر الكسر في قراءة الحسن البصري ( الحمد لله ) فكسر الدال إتباعا لكسرة اللام وكقولهم منتن بكسر الميم والأصل فيه منتن بضم الميم فكسروها إتباعا لكسرة التاء ومنهم من يقول منتن بضم التاء والأصل فيها الكسر إتباعا لضمة الميم كقراءة ابن أبي عبلة ( الحمد لله ) بضم اللام والأصل فيها الكسر إتباعا لضمة الدال
وعلى كل حال فهذه القراءة ضعيفة في القياس قليلة في الاستعمال
وأما قولهم إنها همزة متحركة فجاز أن تنقل حركتها إلى الساكن قبلها كهمزة القطع قلنا قد بينا الفرق بين همزة الوصل وهمزة القطع بما يغني عن الإعادة فلا يجوز أن تحمل إحداهما على الأخرى (2/744)
وأما قولهم أجمعنا على أن كسرة الدال في قولهم واحد اثنان إنما كان لإلقاء حركة همزة اثنان وهمزة اثنان وصل قلنا إنما جاز ذلك هاهنا لأن واحد في حكم الوقف كنحوه من العدد واثنان في حكم المستأنف المبتدأ به وإذا كان في حكم المستأنف المبتدأ به كانت همزته بمنزلة همزة القطع وإن كانت همزة وصل لأن همزة القطع وهمزة الوصل تستويان في الابتداء ولهذا يقولون واحد إثنان فيثبتون فيه الهمزة وإن كانت همزة وصل لأن واحد في حكم الوقف وإثنان في حكم المستأنف ولذلك يقولون ثلاثة أربعة فيحذفون الهمزة من أربعة ولا يقلبون الهاء من ثلاثة تاء لأن الثلاثة عندهم في حكم الوقف والأربعة في حكم المستأنف وهم إنما يقلبون الهاء تاء في حالة الوصل وإذا كانت في تقدير الوقف بقيت هاء وإن ألقيت عليها حركة ما بعدها كما تكون هاء إذا لم يكن بعدها شيء والله أعلم
109م - سالة هل يجوز مد المقصور في ضرورة الشعر
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز مد المقصور في ضرورة الشعر وإليه ذهب ابو الحسن الأخفش من البصريين وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز
وأجمعوا على أنه يجوز قصر الممدود في ضرورة الشعر إلا أن الفراء من الكوفيين اشترط في مد المقصور وقصر الممدود شروطا لم يشترطها غيره فذهب إلى أنه لا يجوز أن يمد من المقصور ما لا يجئ في بابه ممدود نحو فعلى تأنيث فعلان نحو سكرى (2/745)
وعطشى فهذا لا يجوز أن يمد لأن مذكره سكران وعطشان وفعلى تأنيث فعلان لا تجئ إلا مقصورة وكذلك حكم كل ما يقتضى القياس أن يكون مقصورا وكذلك لا يجوز أن يقصر من الممدود مالا يجئ في بابه مقصور نحو تأنيث أفعل نحو بيضاء وسوداء فهذا لا يجوز أن يقصر لأن مذكره أبيض وأسود وفعلاء تأنيث أفعل لا يكون إلا ممدودا وكذلك حكم كل ما يقتضى القياس أن يكون ممدودا فاما ما عدا ما يوجب القياس ان يكون مقصورا أو ممدودا من المقصور والممدود فإنه يجوز أن يمد منه المقصور ويقصر منه الممدود إذا كان له نظير من المقصور أو الممدود فيجوز عنده مد رحى وهدى وحجى لأنها إذا مدت صارت إلى مثال سماء ودعاء ورداء ويجوز عنده قصر سماء ودعاء ورداء لأنها إذا قصرت صارت إلى مثال رحى وهدى وحجى فاما ما لا مثال له من المقصور والممدود إذا مد وقصر فلا يخرج عن بابه من المد والقصر فهذا تفصيل المذاهب
اما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على جواز مد المقصور أنه قد جاء ذلك عن العرب في أشعارهم قال الشاعر
454
- ( قد علمت أم أبي السعلاء ... وعلمت ذاك مع الجراء )
( أن نعم مأكولا على الخواء ... يالك من تمر ومن شيشاء )
( ينشب في المسعل واللهاء ... ) (2/746)
والسعلاء والخواء واللهاء كله مقصور في الأصل ومدة لضرورة الشعر فدل على جوازه وقال الآخر
455
- ( إنما الفقر والغناء من ... الله فهذا يعطي وهذا يحد )
فمد الغناء وهو مقصور فدل على جوازه وقال الآخر
456
- ( سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء ) (2/747)
وقول الآخر
457
- ( لم نرحب بأن شخصت ولكن ... مرحبا بالرضاء منك وأهلا )
فهذه الأبيات كلها تدل على جوازه (2/748)
وأما من جهة القياس فإنما قلنا إنه يجوز مد المقصور لأنا أجمعنا على أنه يجوز في ضرورة الشعر إشباع الحركات التي هي الضمة والكسرة والفتحة فينشأ عنها الواو والياء والألف فإشباع الضمة كقوله
( كأن في أنيابها القرنفول ... )
أراد القرنفل وإشباع الكسرة كقوله
( لا عهد لي بنيضال ... )
أراد بنضال وإشباع الفتحة كقوله
( أقول إذ خرت على الكلكال ... )
أراد الكلكل وقد ذكرنا ذلك مستقصى في غير هذه المسألة فإذا كان هذا جائزا في ضرورة الشعر بالإجماع جاز أن يشبع الفتحة قبل الألف المقصورة فتنشأ عنها الألف فيلتحق بالممدود
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز مد المقصور لأن المقصور هو الأصل والذي يدل على أن المقصور هو الأصل أن الألف تكون فيه أصلية وزائدة والألف لا تكون في الممدود إلا زائدة والذي يدل على ذلك أيضا أنه لو لم يعلم الاسم هل هو مقصور أو ممدود لوجب أن يلحق بالمقصود دون الممدود فدل على أنه الأصل وإذا ثبت أن المقصور هو الأصل فلو جوزنا مد المقصور لأدى ذلك إلى أن نرده إلى غير أصل وذلك لا يجوز وعلى هذا يخرج قصر الممدود فإنه إنما (2/749)
جاز لأنه رد إلى أصل بخلاف مد المقصور لأنه رد إلى غير أصل وليس من ضرورة أن يجوز الرد إلى أصل أنه يجوز الرد إلى غير أصل وهذا لا إشكال فيه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قول الشاعر
( قد علمت أم أبي السعلاء ... )
الأبيات إلى آخرها فلا حجة فيها لأنها لا تعرف ولا يعرف قائلها ولا يجوز الاحتجاج بها ولو كانت صحيحة لتأولناها على غير الوجه الذي صاروا إليه
وأما قول الآخر
( إنما الفقر والغناء من الله ... )
وقول الآخر
( فلا فقر يدوم ولا غناء ... )
فلا حجة لهم فيه أبضا وذلك من وجهين أحدهما أن الإنشاد بفتح الغين والمد والغناء ممدود بمعنى الكفاية قال طرفة
458
- ( ولا تجعليني كامرئ ليس همه ... كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي ) (2/750)
حذف (2/751)
والوجه الثاني أنا نسلم أن الرواية بكسر الغين ولكن تكون مصدرا لغانيته أي فاخرته بالغنى يقال غانيته أغانيه غناء كما يقول واليته أواليه ولاء وعاديته اعاديه عداء بمعنى واليته قال امرؤ القيس
459
- ( فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل ) (2/751)
فكذلك هاهنا وهذا هو الجواب عن قول الآخر
( . . . ولكن ... مرحبا بالرضاء منك وأهلا )
لأن الرضاء مصدر راضيته مراضاة ورضاء فلا يكون فيه حجة
وإما قولهم أنه يجوز إشباع الحركات فتنشأ عنها الحروف إلى آخر ما ذكروه فنقول الفرق بينهما ظاهر وذلك أن إشباع الحركات هناك يؤدي إلى تغيير واحد وهو زيادة هذه الحروف فقط وأما هاهنا فإنه يؤدي إلى تغييرين زيادة الألف الأولى وقلب الثانية همزة وليس من ضرورة أن يجوز ما يؤدي إلى تغيير واحد أن يجوز ما يؤدي إلى تغييرين أو أكثر من ذلك
وأما ما ذهب إليه الفراء من اشتراطه في قصر الممدود أن يجئ في بابه مقصور فباطل لأنه قد جاء القصر فيما لم يجئ في بابه مقصور قال الشاعر
460
- ( والقارح العدا وكل طمرة ... ما إن تنال يد الطويل قذالها ) (2/752)
فقصر العداء وهو فعال من العدو وفعال لتكثير الفعل نحو ضراب وقتال ولا يجئ في بابه مقصور وقال الآخر
461
- ( ولكنما أهدى لقيس هدية ... بفي من أهداها لك الدهر إثلب )
فقصر إهداها وهو مصدر أهدى يهدي إهداء ولا يجئ في بابه مقصور ألا ترى أن نظيره من الصحيح أكرم إكراما وأخرج إخراجا وما أشبه ذلك وقال الآخر
( فلو أن الأطبا كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة )
فقصر الأطباء وهو جمع طبيب ولا يجئ في بابه مقصور لأن القياس يوجب مدة لأن الأصل في طبيب أن يجمع على طبباء على مثال فعلاء (2/753)
كشريف وشرفاء وظريف وظرفاء إلا أنه اجتمع فيه حرفان متحركان من جنس واحد فاستثقلوا اجتماعهما فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء فصار أطبباء فاستقلوا أيضا اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد فنقلوا كسرة الباء الأولى إلى الطاء فرارا من الاستثقال وأدغموا الباء في الباء فصار أطباء وكذلك حكم ما جاء على هذا المثال في جمع فعيل من المضاعف كقولهم حبيب وأحباء وخليل وأخلاء وجليل وأجلاء وما أشبه ذلك ولا يجوز في القياس أن يقع شيء من هذا الجمع إلا ممدودا فلما قال الأطبا فقصر ما يوجب القياس مده دل على فساد ما ذهب إليه والله أعلم
110م - سألة هل يحذف آخر المقصور والممدود عند التثنية إذا كثرت حروفهما
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المقصور إذا كثرت حروفه سقطت ألفه في التثنية فقالوا في تثنية خوزلى وقهقرى خوزلان وقهقران وذهبوا أيضا فيما طال من الممدود إلى أنه يحذف الحرفان الآخران فأجازوا في قاصعاء وحاثياء قاصعان وحاثيان
وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز حذف شيء من ذلك في مقصور ولا ممدود
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه يجوز ذلك لأنه لما كثرت حروفهما وطال اللفظ بهما والتثنية توجب زيادة ألف ونون أو ياء ونون عليهما (2/754)
ازدادا كثرة وطولا فاجتمع فيهما ثقلان ثقل أصلي وثقل طارئ فجاز أن يحذف منهما لكثرة حروفهما كما يحذفون لكثرة الاستعمال
والذي يدل على أن طول الكلمة وكثرة حروفها له أثر في الحذف قولهم أشهاب أشهبابا واحمار احمرارا وأصله اشهيبابا واحميرارا فحذفوا الياء لطول الكلمة وكثرة حرفوها وكذلك زعمتم أن كينونة أصلها كينونة بالتشديد ثم أوجبتم الحذف لطول الكلمة طلبا للتخفيف فدل على أن طول الكلمة وكثرة حروفها له أثر في الحذف فكذلك هاهنا وعلى هذا يخرج ما لم يكثر حروفه منهما فإنه لا يجوز أن يحذف منه شيء لقلة حروفه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنه لا يحذف منهما شيء لأن التثنية إنما وردت على لفظ الواحد فينبغي أن لا يحذف منه شيء قلت حروفه أو كثرت
والذي يدل على ذلك أن العرب لم تحذف فيما كثرت حروفه كما حذف فيما قلت حروفه فقالوا في تثنية جمادى جماديين من غير حذف قال الشاعر
462
- ( شهري ربيع وجماديينه ... ) (2/755)
وقال الآخر
463
- ( جماديين حسوما ... ) (2/756)
وقال الآخر
464
- ( جماديين حرام ... )
فثنوا ذلك على تمام الاسم على الأصل من غير حذف والعدول عن الأصل والقياس والنقل من غير دليل لا وجه له
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما قلنا إنه يحذف لكثرة حروفهما وطول ألفاظهما قلنا كثرة الحروف لا تكون علة موجبة للحذف وإنما يوجد ذلك في ألفاظ يسيرة نقلت عنهم على خلاف الأصل والقياس (2/757)
فيجب الاقتصار على تلك المواضع ولا يقاس عليها غيرها إذ ليس الحذف للكثرة قياسا مطردا فإذا وجب الاقتصار على ما نقل من الحذف للكثرة بطل أن الحذف هاهنا للكثرة لو رود النقل بخلافه
وأما استشهادهم باشهباب وكينونة والأصل فيهما اشهيباب وكينونة بالتشديد فمخالف لما وقع الخلاف فيه لأن الثقل فيهما لازم في أصل الكلمة غير عارض بخلاف ما وقع الخلاف فيه فإنه غير لازم في أصل الكلمة بل هو عارض لأن التثنية عارضة وليست لازمة ثم أيضا استشهادهم بكينونة وأن أصلها كينونة بالتشديد لا يستقيم لأنه شيء لا يقولون به لأن الأصل عندهم في كينونة كونونه فأبدلوا من الواو ياء فكيف يستشهدون على صحة مذهبهم بشيء لا يعتقدون صحته فدل ذلك على صحة ما قلناه والله أعلم
111م - سألة القول في المؤنث بغير علامة تأنيث ما على زنة اسم الفاعل
ذهب الكوفيون إلى أن علامة التأنيث إنما حذفت من نحو طالق وطامث وحائض وحامل لاختصاص المؤنث به
وذهب البصريون إلى أنه إنما حذفت منه علامة التأنيث لأنهم قصدوا به النسب ولم يجروه على الفعل وذهب بعضهم إلى أنهم إنما حذفوا علامة التأنيث منه لأنهم حملوه على المعنى كأنهم قالوا شيء حائض (2/758)
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن علامة التأنيث إنما دخلت في الأصل للفصل بين المذكر والمؤنث ولا اشتراك بين المؤنث والمذكر في هذه الأوصاف من الطلاق والطمث والحيض والحمل وإذا لم يقع الاشتراك لم يفتقر إلى إدخال علامة التأنيث لأن الفصل بين شيئين لا اشتراك بينهما بحال محال
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما حذفت علامة التأنيث من هذا النحو لأن قولهم طالق وطامث وحائض وحامل في معنى ذات طلاق وطمث وحيض وحمل على معنى النسب أي قد عرفت بذلك كما يقال رجل رامح ونابل أي ذو رمح ونبل وليس محمولا على الفعل واسم الفاعل إنما يؤنث على سبيل المتابعة للفعل نحو ضربت المرأة تضرب فهي ضاربة فإذا وضع على النسب لم يكن جاريا على الفعل ولا متبعا له فلم تلحقه علامة التأنيث وصار بمنزلة قولهم امراة معطار ومذكار ومئناث ومئشير ومعطير وصبور وشكور وخود وضناك وصناع وحصان ورزان قال حسان
465
- ( حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ) (2/759)
فإن هذه الأوصاف وما أشبهها لما لم تكن جارية على الفعل لم تلحقها علامة التأنيث فكذلك هاهنا
والذي يدل على صحة ما ذكرناه أنهم لو حملوه على الفعل لدخلته علامة التأنيث فقيل طلقت فهي طالقة وطمثت فهي طامثة وحاضت فهي حائضة وحملت فهي حاملة قال الشاعر وهو الأعشى
466
- ( أيا جارتا بيني فإنك طالقة ... كذاك أمور الناس غادو طارقة )
وقال
467
- ( تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام ) (2/760)
ومنهم من تمسك بأن قال حذفوا علامة التأنيث من طالق ونحوه لأنهم حملوه على المعنى كأنهم قالوا شيء طالق أو إنسان طالق كما قالوا رجل ربعة فأنثوه والموصوف مذكر على معنى نفس ربعة وكما جاء في الحديث (2/762)
مذدجت الإسلام لأن الإسلام بمعنى الملة وكما حكى الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء قال سمعت أعرابيا يمانيا يقول فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها فقلت له أتقول جاءته كتابي فقال أليس بصحيفة والحمل على المعنى كثير في كلامهم قال الشاعر
( قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر )
( تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر )
فقال ذا غربة ولم يقل ذات غربة لأن المرأة في المعنى إنسان وقال الآخر
468
- ( إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح ) (2/763)
فقال ضمنا ولم يقل ضمتتا لأنه ذهب بالسماحة إلى السخاء وبالمروءة إلى الكرم وقال الآخر
469
- ( فإن تعهديني ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها ) (2/764)
فقال أودى ولم يقل أودت لأن الحوادث في معنى الحدثان وقال الآخر
470
- ( ألا هلك الشهاب المستنير ... ومدرهنا الكمى إذا نغير )
( وحمال المئين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنف النصور ) (2/766)
فقال المت لأنه ذهب بالحدثان إلى معنى الحوادث وقال الآخر
471
- ( إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا ) (2/767)
فقال دبرها لأنه ذهب إلى معنى الحدث لأن الحدث هاهنا يؤدي عن الجمع وقال الآخر
472 - ( هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي ... بناقة سعد والعشية بارد ) (2/768)
فقال بارد لأنه حمل العشية على معنى العشى وقال الآخر
473
- ( وإن كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت برئ من قبائلها العشر )
فقال عشر أبطن ولم يقل عشرة لأن البطن بمعنى القبيلة وقال الآخر
474
- ( وقائع في مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة ) (2/769)
فقال تسعة ولم يقل تسع لأنه حمل الوقائع على الأيام يقال فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعها وقال الآخر وهو عمر بن أبي ربيعة
475
- ( وكان مجنى دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر ) (2/770)
فقال ثلاث ولم يقل ثلاثة لأنه عنى بالشخوص نساء فحمله على المعنى وقال الآخر وهو الحطيئة
476
- ( ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي ) (2/771)
فقال ثلاثة أنفس ولم يقل ثلاث حملا على المعنى وقال القتال الكلابي
477
- ( قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع خير من ثلاث وأكثر )
فقال ثلاثة ولم يقل ثلاث حملا على المعنى وقال لبيد
478
- ( فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت إقدامها ) (2/772)
فقال كانت لأن الإقدام في معنى التقدمة وقال الآخر
479
- ( يا أيها الراكب المزجى مطيته ... سائل بنى أسد ما هذه الصوت ) (2/773)
فقال هذه لأن الصوت في معنى الصيحة وقال الآخر
480
- ( وكانت من سجيتنا الغفر ... ) (2/774)
أي المغفرة وقال الآخر وهو طفيل الغنوي
481
- ( إذ هي أحوى من الربعي حاجبه ... والعين بالإثمد الحاري مكحول ) (2/775)
ولم يقل مكحولة لأن العين في المعنى عضو وقال الآخر
482
- ( أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحية كفا مخضبا )
فقال مخضبا لأن الكف في المعنى عضو (2/776)
والحمل على المعنى أكثر في كلامهم من أن يحصى فكذلك هاهنا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن علامة التأنيث إنما دخلت للفصل بين المذكر والمؤنث ولا اشتراك بين المذكر والمؤنث في هذه الأوصاف قلنا الجواب عن هذا من ثلاثة أوجه
أحدها ان هذا يبطل بقوله تعالى ( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ) ولو كانت علامة التأنيث إنما تدخل للفصل بين المذكر والمؤنث لكان ينبغي ان لا تدخل هاهنا لأن هذا وصف لا يكون في المذكر فلما دخلت دل على فساد ما ذهبوا إليه
والوجه الثاني أنه لو كان سبب حذف علامة التأنيث من هذا النحو وجود الاختصاص وعدم الاشتراك لوجب ان لا يوجد الحذف مع وجود الاشتراك وعدم الاختصاص في نحو قولهم رجل عاشق وامراة عاشق ورجل عانس وامرأة عانس إذا طال مكثهما لا يتزوجان ورجل عاقر وامرأة عاقر إذا لم يولد لهما ورأس ناصل من الخضاب ولحية ناصل (2/777)
وجمل نازع إلى وطنه وناقة نازع وجمل ضامر وناقة ضامر وجمل بازل وناقة بازل في كلمات كثيرة قال زهير
483
- ( فوقعت بين قتود عنس ضامر ... لحاظة طفل العشى سناد )
وقال الأعشى
484
- ( عهدي بها في الحي قد سربلت ... بيضاء مثل المهرة الضامر ) (2/778)
وقال زهير
485
- ( تهون بعد الأرض عني فريدة ... كناز البضيع سهوة المشى بازل ) (2/779)
وقال لبيد
486
- ( تروي المحاجر بازل علكوم ) ... وقال آخر
487
- ( ببازل وجناء أو عيهل ) ... كيف والأصمعي قد صنف في هذا النحو كتابا (2/780)
والوجه الثالث وهو أنه لو كان الاختصاص سببا لحذف علامة التأنيث من اسم الفاعل لوجب أن يكون ذلك سببا لحذفها من الفعل فيقال المرأة طلق وطمث وحاض وحمل كما يقال طالق وطامث وحائض وحامل فلما لم يجز أن تحذف علامة التأنيث من الفعل دل على أنه تعليل فاسد ولا يلزم هذا على قول من حملة على المعنى كأنه قال إنسان حائض لأن الحمل على المعنى اتساع يقتصر فيه على السماع والتعليل بالاختصاص ليس باتساع فينبغي أن لا يقتصر فيه على السماع والتعليل بالاختصاص ليس باتساع فينبغي أن لا يقتصر فيه على السماع ولا يلزم أيضا على قول من حمله على النسب بوجه ما لأنه جعل حائضا بمعنى ذات (2/781)
حيض والفعل لا يدل على نفس الشيء فيقال إن هندا حاض بمعنى هند ذات حيض وإنما شأن الفعل الدلالة على المصدر والزمان فبان الفرق بينهما والله أعلم
112 - مسألة علة حذف الواو من يعد ونحوه
ذهب الكوفيون إلى أن الواو من نحو يعد ويزن إنما حذفت للفرق بين الفعل اللازم والمتعدي وذهب البصريون إلى أنها حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأفعال تنقسم إلى قسمين إلى فعل لازم وإلى فعل متعد وكلا القسمين يقعان فيما فاؤه واو فلما تغايرا في اللزوم والتعدي واتفقا في وقوع فائهما واوا وجب أن يفرق بينهما في الحكم فبقوا الواو في مضارع اللازم نحو وجل يوجل ووحل يوحل وحذفوا الواو من المتعدي نحو وعد يعد ووزن يزن وكان المتعدي أولى بالحذف لأن التعدي صار عوضا من حذف الواو
قالوا ولا يجوز أن يقال إنهم إنما حذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة لأنا نقول هذا يبطل بقولهم أعد ونعد وتعد والأصل فيه أوعد ونوعد وتوعد ولو كان حذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة لكان ينبغي أن لا تحذف ها هنا لأنها لم تقع بين ياء وكسرة ولكان ينبغي أن تحذف من قولهم أوعد (2/782)
يوعدبضم الياء فيقال يعد لوقوعها بين ياء وكسرة فلما لم تحذف دل على فساد ما ذكرتموه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن الواو حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة وذلك لأن اجتماع الياء والواو والكسرة مستثقل في كلامهم فلما اجتمعت هذه الثلاثة الأشياء المستنكرة التي توجب ثقلا وجب أن يحذفوا واحدا منها طلبا للتخفيف فحذفوا الواو ليخف أمر الاستثقال
والذي يدل على صحة ذلك أن الواو والياء إذا اجتمعتا وكانا على صفة يمكن أن تدغم إحداهما في الأخرى قلبت الواو إلى الياء نحو سيد وميت كراهية لاجتماع المثلين وإذا اجتمع ها هنا ثلاثة أمثال الياء والواو والكسرة ولم يمكن الإدغام لأن الأول متحرك ومن شرط المدغم أن يكون ساكنا فلما لم يمكن التخفيف بالإدغام وجب التخفيف بالحذف فقيل يعد ويزن وحملوا أعد ونعد وتعد على يعد لئلا تختلف طرق تصاريف الكلمة على ما سنبينه في الجواب إن شاء الله تعالى
واما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما حذفت الواو من هذا النحو للفرق بين الفعل اللازم والمتعدى فبقوا الواو في اللازم وحذفوها من المتعدي قلنا هذا باطل فإن كثيرا من الأفعال اللازمة قد حذفت منها الواو وذلك نحو وكف البيت يكف وونم الذباب ينم ووجد في الحزن يجد إلى غير ذلك والأصل فيها وكف يوكف وونم يونم ووجد يوجد وكلها لازمة ولو كان الأمر على ما زعمتم لكان يجب أن لا تحذف منه الواو فلما حذفت دل على أنه إنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ولا نظر في ذلك إلى اللازم والمتعدى (2/783)
وأما وجل يوجل ووحل يوحل فإنما لم تحذف منه الواو لأنه جاء على يفعل بفتح العين كعلم يعلم فلم تقع الواو فيه بين ياء وكسرة وإنما وقعت بين ياء وفتحة وذلك لا يوجب حذفها وأما حذفهم لها من قولهم ولغ يلغ وإن كانت قد وقعت بين ياء وفتحة فلأن الأصل فيه يفعل بكسر العين كضرب يضرب وإنما فتحت العين لوقوع حرف الحلق لاما فإن حرف الحلق متى وقع لاما من هذا النحو فإن القياس يقتضي أن يفتح العين منه نحو قرأ يقرأ وجبه يجبه وسدح يسدح وشدخ يشدخ وجمع يجمع ودمغ يدمغ إلا ما جاء على الأصل نحو نطح الكبش ينطح ونبح الكلب ينبح وكذلك أيضا إذا وقع حرف الحلق عينا فإنه يقتضى فتح العين أيضا نحو سأل يسأل وجهد يجهد ونحر ينحر وفخر يفخر ونعب ينعب وفغر يفغر إلا ما جاء على الأصل نحو نعق ينعق فدل على أن وجل يوجل لا حجة لهم فيه وفي وجل يوجل أربع لغات أحدها تصحيح الواو وهي اللغة المشهورة واللغة الثانية ياجل فتقلب الواو ألفا لمكان الفتحة قبلها وفرارا من اجتماع الياء والواو إلى الألف واللغة الثالثة قلب الواو ياء نحو ييجل وذلك على طريقة سيد وميت وإن لم يمكن الإدغام لتحرك الأول واللغة الرابعة ييجل بكسر الياء لأنهم أرادوا أن يقلبوا الواو ياء فكسروا ما قبلها ليجرى قلبها على سنن القياس في نحو ميعاد وميزان وميقات والأصل فيها موعاد وموزان وموقات لأنها من الوعد والوزن والوقت إلا أن الواو لما سكنت وانكسر ما قبلها قلبوها ياء فكذلك ها هنا لما لم يمكن الإدغام لما ذكرنا وكانت الواو تقلب في نحو سيد لإمكانه أحبوا ان يقلبوا الواو بسبب يستمر له القلب وهو كسر ما قبلها (2/784)
وأما قولهم إنها لو كانت قد حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة لكان ينبغي أن لا تحذف من أعد وتعد ونعد لأنها لم تقع بين ياء وكسرة قلنا إنما حذفت ها هنا وإن لم تقع بين ياء وكسرة حملا لحروف المضارعة التي هي الهمزة والنون والتاء على الياء لأنها أخوات فلما حذفت الواو مع أحدها للعلة التي ذكرناها حذفت مع الآخر لئلا تختلف طرق تصاريف الكلمة ليجري الباب على سنن واحد وصار هذا بمنزلة اكرم والأصل فيها أأكرم إلا أنهم كرهوا اجتماع همزتين فحذفوا الثانية فرارا من اجتماع همزتين طلبا للتخفيف وكان حذف الثانية أولى من الأولى لأن الأولى دخلت لمعنى والثانية ما دخلت لمعنى فلهذا كان حذف الثانية وتبقيه الأولى أولى ثم قالوا نكرم وتكرم ويكرم فحذفوا الهمزة حملا للنون والتاء والياء على الهمزة طلبا للتشاكل على ما بينا
وأما قولهم إنه لو كان الحذف لوقوعها بين ياء وكسرة كان يجب الحذف في قولهم يوعد ونحوه قلنا الجواب عن هذا من وجهين أحدهما ان هذا لا يصلح أن يكون نقضا على يعد لأن الواو ها هنا ما وقعت بين ياء وكسرة لأن الأصل في يوعد بضم الياء يوؤعد كما أن الأصل في يكرم يؤكرم قال الشاعر
( فإنه أهل لأن يؤكرما ... )
فلما كان الأصل يؤوعد بالهمزة فالهمزة المحذوفة حالت بين الواو والياء لأنها في حكم الثابتة كما كانت الياء المحذوفة في قول الشاعر
488
- ( وكحل العينين بالعواور ... ) (2/785)
في حكم الثابتة ولولا ذلك لما صحت الواو وكانت تقلب همزة لوقوعها قبل الطرف بحرف لأنهم يجرون ما قبل الطرف بحرف من هذا النحو مجرى الطرف وهم يقلبون الواو إذا وقعت طرفا وقبلها ألف زائدة همزة فها هنا لما صحت الواو دل على أن الأصل فيه العواوير بالياء كطواويس ونواويس وإنما حذفت للضرورة وإنما صحت الواو مع تقدير الياء لأنها قبل الطرف بحرفين فبعدت عما تقلب فيه الواو إذا وقعت طرفا فلم تقلب همزة
والوجه الثاني أنهم لما حذفوا الهمزة من يؤوعد لم يحذفوا الواو لأنه كان يؤدى إلى الموالاة بين إعلالين وهم لا يوالون بين إعلالين ألا ترى أنهم قالوا هوى وغوى فأبدلوا من الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ولم يبدلوا من الواو ألفا وإن كانت قد تحركت وانفتح ما قبلها لأنهم لو فعلوا ذلك فأعلوا الواو كما أعلوا الياء لأدى ذلك إلى أن يجمعوا بين إعلالين والجمع بين إعلالين لا يجوز والله أعلم (2/787)
مسألة وزن الخماسي المكرر ثانية وثالثة
ذهب الكوفيون إلى أن صمحمح ودمكمك على وزن فعلل
وذهب البصريون إلى أنه على وزن فعلعل
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه على وزن فعلل وذلك أن الأصل في صمحمح ودمكمك صمحح ودمكك إلا أنهم استثقلوا جمع ثلاث حاءات وثلاث كافات فجعلوا الوسطى منها ميما والإبدال لإجتماع الأمثال كثير في الاستعمال قال الله تعالى ( فكبكبوا فيها هم والغاوون ) والأصل كببوا لأنه من كببت الرجل على وجهه إلا أنهم استثقلوا اجتماع ثلاث باءات فأبدل من الوسطى كاف وقال الفرزدق
489
- ( موانع للأسرار إلا لأهلها ... ويخلفن ما ظن الغيور المشفشف ) (2/788)
والأصل في المشفشف المشفف لأنه من شفته الغيرة وشفه الحزن إلا انه استثقل اجتماع ثلاث فاءات فأبدل من الوسطى شيئا وقال الآخر وهو الاعشى
490
- ( وتبرد برد رداء العروس ... بالصيف رقرقت فيه العبيرا ) (2/789)
والأصل في رقرقت رققت لأنه من الرقة فأبدل من القاف الوسطى راء وقال الآخر
491
- ( باتت تكر كره الجنوب ... )
والأصل في تكر كره تكرره لأنه من التكرير فأبدل من الراء الوسطى كافا وكذلك أيضا قالوا تململ على فراشه والأصل تملل لأنه من (2/790)
الملة وهو الرماد الحار إلا أنهم أبدلوا من اللام الوسطى ميما وكذلك قالوا تغلغل في الشيء والأصل تغلل لأنه من الغلل وهو الماء الجاري بين الشجر فأبدلوا من اللام الوسطى غينا وكذلك قالوا تكمكم والأصل تكمم لأنه من الكمة وهي القلنسوة فأبدلوا من الميم الوسطى كافا وكذلك قالوا حثحث والأصل حثث لأنه من الحث إلا أنهم أبدلوا من الثاء الوسطى حاء كراهية لاجتماع الأمثال فكذلك ها هنا الأصل فيه صمحح إلا أنهم أبدلوا من الحاء الوسطى ميما كراهية لاجتماع الأمثال وكانت الميم أولى بالزيادة لأنها من حروف الزيادة التي تختص بالأسماء وقلنا إنه لا يجوز أن يكون وزنه فعلعل بتكرير العين لأنه لو جاز أن يقال ذلك لجاز أن يقال إن صرصر وسجسج وزنه فعفع لتكرير الفاء فيه فلما بطل أن يكون صرصر على فعفع بطل أيضا أن يكون صمحمح على فعلعل
قالوا ولا يلزم على كلامنا نحو احقوقف الظبي واغدودن الشعر وما أشبه ذلك فإنه على وزن افعوعل لأنا نقول إنما قلنا إنه على وزن افعوعل لأنه ليس في الأفعال ما هو على وزن افعلل فقلنا إن وزنه على افعوعل بخلاف ما هنا فإن في الأسماء ما هو على وزن فعلل نحو سفرجل وفرزدق وكذلك لا يلزم على كلامنا نحو خلعلع وهو الجعل وذرحرح وهو دوبيه فإنه على وزن فعلعل لأنا نقول إنما قلنا إنه على وزن فعلعل لأنه ليس في الأسماء ما هو على وزن فعلل بضم الأول وإذا خرج لفظ عن أبنية كلامهم دل ذلك على زيادة الحرف فيه
والذي يدل على ذلك أنهم قالوا في ذرحرح ذراح فأسقطوا أحد المثلين ولو كان خماسيا لم يأت منه ذراح على وزن فعال نحو كرام وحسان فبان الفرق بينهما (2/791)
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن وزنه فعلعل لأن الظاهر أن العين واللام قد تكررتا منه فوجب أن يكون وزنه فعلعل ألا ترى أنه إذا تكررت العين في نحو ضرب وقتل كان وزنه فعل أو تكررت اللام في نحو أحمر واصفر كان وزنه أفعل فكذلك ها هنا لما تكررت العين واللام في نحو صمحمح ودمكمك يجب أن يكون وزنه فعلعل لتكررهما فيه هذا حكم الظاهر فمن ادعى قلبا بقى مرتهنا بإقامة الدليل
واما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل صمحح ودمكك قلنا هذا مجرد دعوى لا يستند إلى معنى بل تكرير عين الفعل ولامه كتكرير فاء الفعل وعينه في مرمريس وهي الداهية ومرمريت وهي القفر لأنهما من المراسة والمرت وأما تلك المواضع التي استشهدوا بها على الإبدال لاجتماع الأمثال فهناك قام الدليل في رد الكلمة إلى أصلها وذلك غير موجود ها هنا
وقولهم لو جاز أن يقال إن وزنه فعلعل بتكرير العين لجاز أن يقال صرصر وسجسج وزنه فعفع لتكرير الفاء فيه قلنا هذا باطل وذلك أن الحرف إنما يجعل زائدا في الاسم والفعل إذا كان على ثلاثة أحرف سواه وهي فاء الفعل وعينه ولامه وصرصر وسجسج لم يوجد فيه ذلك فلو قلنا إن وزنه فعفع لأدى ذلك إلى إسقاط لامه وذلك لا يجوز بخلاف صمحمح ودمكمك فإنه قد وجد فيه ثلاثة أحرف فاء وعين ولام فلما لم يؤد ذلك إلى إسقاط لامه كان ذلك جائزا وصار هذا كما تجعل إحدى الدالين في أسود زائدة ولا تجعل إحدى الدالين في رد ومد زائدة لأنا لو جعلنا (2/792)
إحداهما زائدة لأدى ذلك إلى إسقاط لام الفعل أو عينه وذلك لا يجوز فكذلك ها هنا والله اعلم
مسألة هل في كل رباعي وخماسي من الأسماء زيادة
ذهب الكوفيون إلى أن كل اسم زادت حروفه على ثلاثة أحرف ففيه زيادة فإن كان على أربعة أحرف نحو جعفر ففيه زيادة حرف واحد واختلفوا فذهب أبو الحسن على بن حمزة الكسائي إلى أن الزائد فيما كان على أربعة أحرف الحرف الذي قبل آخره وذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء إلى أن الزائد فيما كان على أربعة أحرف هو الحرف الأخير وإن كان على خمسة احرف نحو سفرجل ففيه زيادة حرفين وذهب البصريون إلى أن بنات الأربعة والخمسة ضربان غير بنات الثلاثة وأنهما من نحو جعفر وسفرجل لا زائد فيهما البتة
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأنا أجمعنا على أن وزن جعفر فعلل ووزن سفرجل فعلل وقد علمنا ان أصل فعلل وفعلل فاء وعين ولام واحدة فقد علمنا أن إحدى اللامين في وزن جعفر زائدة واللامان في وزن سفرجل حرفين زائدتان فدل على أن في جعفر حرفا زائدا من حرفيه الأخيرين وأن في سفرجل زائدين على ما بينا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا لا يخلو الزائد في جعفر من أن يكون الراء أو الفاء أو العين او الجيم فإن كان الزائد هو الراء فيجب أن يكون وزنه فعلر (2/793)
لأن الزائد يوزن بلفظه وإن كان الزائد الفاء فوجب أن يكون وزنه فعفل وإن كان الزائد العين فوجب أن يكون وزنه فعل وإن كان الزائد الجيم فوجب أن يكون وزنه جعفل وكذلك يلتزمون في وزن سفرجل وإذا كان هذا لا يقول به أحد دل على أن حروفه كلها أصول
قالوا ولا يجوز أن يقال إن وإحدى الدالين من قردد ومهدد زائدة ووزنه عندكم فعلل فقد وزنتم الدال الزائدة باللام وكذلك صمحمح ووزنه عندكم فعلعل وإحدى الميمين وإحدى الحاءين زائدتان ولم تزنوهما بلفظهما فتقولوا وزنه فعلمح ووزنتموهما بالعين واللام فقلتم فعلعل وكذلك مرمريس ومرمريت ووزنه عندكم فعفعيل ولم تزنوا فيه الزائد بلفظه فتقولوا فعمريل ووزنتموه بالفاء والعين فقلتم فعفعيل لأنا نقول إنما وزنا الزائد بلفظ اللام دون لفظ الدال وذلك لأن إحدى الدالين لام الفعل والدال الأخرى وإن كانت زائدة فهي تكرير لام الفعل بلفظها فوزنا باللفظ الذي وزن به لام الفعل وكذلك صمحمح الميم عين الفعل والحاء لامة ثم اعيدتا تكثيرا لهما فصار المعاد زائدا غير أنه من جنس الأول فأعيد بلفظ الأول فجعلت عينا ولاما معادتين كما جعلت الميم والحاء الأولتان عينا ولاما وكذلك نقول وفي مرمريس ومرمريت
والدليل على أن فاء الفعل وعينه في مرمريس ومرمريت زائدة مكررة أنه مأخوذ من المراسة والمرت ألا ترى أن مرمريس اسم الداهية ومرمريت اسم القفر
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين اما قولهم إنه إذا كانت إحدى اللامين في وزن جعفر زائدة دل على أن فيه حرفا زائدا وكذلك إذا كانت اللامان في وزن سفرجل زائدتين دل على أن في سفرجل حرفين زائدين قلنا هذا غلط وجهل بموضع وزن الأسماء وتمثيلها بالفعل دون غيره وذلك أن التمثيل (2/794)
إنما وقع بالفعل دون غيره ليعلم الزائد من الأصلي وذلك أنا إذا جئنا إلى جعفر فمثلناه بفعلل علمنا بالمثاال انه لم يدخله شيء زائد وإذا جئنا إلى صيقل فمثلناه بفيعل فقد علم بالمثال أن الياء زائدة واختاروا الفعل لأنه يأتي وهو عبارة عن كل شيء من الألفاظ التي تتصرف ألا ترى انك تقول لصاحبك قد ضربت زيدا أو خاصمته أو أكرمته او ما أشبه ذلك فتقول قد فعلت وكان الثلاثي أولى بذلك من قبل أن أقل الأسماء والأفعال بنات الثلاثة وفيها بنات الأربعة والخمسة فلو وقع التمثيل بشيء على أربعة أحرف أو خمسة لبطل وزن الثلاثي به إلا بحذف شيء منه ونحن نجد بنات الثلاثة تبنى على أربعة أحرف بزيادة حرف نحو ضيغم وهو من الضغم وهو العض وعلى خمسة أحرف بزيادة حرفين نحو سرندي وهو من السرد ولم يعلم أنه بنى شيء من بنات الأربعة والخمسة على ثلاثة أحرف فلما كان الأمر على ما ذكرنا ووجب التمثيل بالفعل واحتجنا إلى تمثيل رباعي وخماسي زدنا ما يلحقه بلفظ الرباعي والخماسي فهذا الذي نزيده على الفعل زائد وإن كان الممثل به أصليا لأن الضرورة ألجأت إلى أن نزيد على الفعل ليلحق الممثل بالممثل به فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم
مسألة وزن سيد وميت ونحوهما
ذهب الكوفيون إلى أن وزن سيد وهين وميت في الأصل على فعيل نحو سويد وهوين ومويت (2/795)
وذهب البصريون إلى أن وزنه فيعل بكسر العين وذهب قوم إلى أن وزنه في الأصل على فيعل بفتح العين
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن أصله فعيل نحو سويد وهوين ومويت لأن له نظيرا في كلام العرب بخلاف فيعل فإنه ليس له نظير في كلامهم فلما كان هذا هو الأصل أرادوا أن يعلوا عين الفعل كما اعلت في ساد يسود وفي مات يموت فقدمت الياء الساكنة على الواو فانقلبت الواو ياء لأن الواو والياء إذا اجتمعتا والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشددة
ومنهم من قال أصله سويد وهوين ومويت إلا أنهم لما أرادوا أن يعلوا الواو كما اعلوها في ساد ومات قلبوها فكان يلزمهم أن يقلبوها ألفا ثم تسقط لسكونها وسكون الياء بعدها فكرهوا أن يلتبس فعيل بفعل فزادوا ياء على الياء ليكمل بناء الحرف ويقع الفرق بها بين فعيل وفعل ويخرج على هذا نحو سويق وعويل وأنه إنما صح لأنه غير جار على الفعل
وأما البصريون فقالوا إنما قلنا إن وزنه فيعل لأن الظاهر من بنائه هذا الوزن والتمسك بالظاهر واجب مهما أمكن
والذي يدل على ذلك أن المعتل يختص بأبنية ليست للصحيح فمنها فعلة في جمع فاعل نحو قاض وقضاة ومنها فيعلولة نحو كينونة وقيددوة والأصل كينونة وقيدودة
والذي يدل على ذلك أن الشاعر يرده إلى الأصل في حالة الاضطرار قال الشاعر (2/796)
492 - ( قد فارقت قرينها القرينة ... وشحطت عن دارها الظعينة )
( يا ليتنا قد ضمنا سفينه ... حتى يعود الوصل كينونه ) (2/797)
إلا أنهم خففوا كما ريحان وأصله ريحان بالتشديد على فيعلان وأصل ريحان ريوحان فلما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشدودة وكما خففوا سيد وهين وميت إلا أن التخفيف في نحو سيد وهين وميت جائز والتخفيف في نحو كينونة وقيدودة واجب وذلك لأن نهاية الاسم بالزيادة أن يكون على سبعة أحرف وهو مع الياء على سبعة أحرف فخففوه كما خففوا اشهيبات فقالوا اشهباب
وإذا جاز الحذف فيما قلت حروفه نحو سيد وهين وميت لزم الحذف فيما كثرت حروفه نحو كينونه وقيدودة وإذا جاز أن يختص المعتل بأبنية ليست للصحيح كان حمل سيد وهين وميت على الظاهر أولى من العدول عنه إلى غيره
قالوا ولا يجوز ان يقال إن الأصل أن يقال في جمع قاض قضى كما يقال غاز وغزى فاستثقلوا التشديد على غير الفعل فحذفوا وعوضوا من حذف المحذوف هاء كما قالوا عدة فعوضوا من الواو المحذوفة هاء وأما كينونة وقيدودة فالأصل كونونة وقودودة على فعلولة نحو بهلول وصندوق إلا أنهم فتحوا أوله لأن أكثر ما يجىء من هذه المصادر مصادر ذوات الياء كقولهم طار طيرورة وصار صيرورة وسار سيرورة وحاد حيدودة ففتحوه حتى (2/798)
تسلم الياء لأن الباب للياء ثم حملوا ذوات الواو على ذوات الياء لأنها جاءت على بنائها وليس للواو فيه حظ لقربهما في المخرج واشتراكهما في اللين فقلبوا الواو ياء في نحو كينونة وقيدودة كما قالوا الشكاية وهي من ذات الواو لقولهم شكوت أشكو شكوا لأنها جاءت على مصادر الياء نحو الدراية والرواية والسعاية والرماية فكذلك ها هنا لأنا نقول أما قولكم إن الأصل أن يقال في جمع قاض قضى كما يقال غاز وغزى قلنا هذا عدول عن الظاهر من غير دليل ثم لو كان أصله قضى كغاز وغزى لكان ينبغي أن لا يلزمه الحذف لقلة حروفه وأن يجوز أن يؤتى به على أصله فكان يقال فيه قضى وقضاة كما قالوا غزى وغزاة لأن فعلا ليس بمهجور في أبنيتهم وهو كثير في كلامهم فلما لزم الحذف ولم يلزم في نظيره مع قلة حروفه دل على أن ما ذكرتموه مجرد دعوى لا يستند إلى معنى
واما قولهم إن كينونة فعلولة قلنا هذا باطل لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان يحب أن يقال كونونة وقودودة لأنه لم يوجد ها هنا ما يوجب قلب الواو ياء وقولهم إنهم غلبوا الياء على الواو لأن الباب للياء فليس بصحيح لأن المصادر على هذا الوزن قليلة وما جاء منها من ذوات الواو ونحو ماجاء منها من ذوات الياء كقولك كينونة وقيدودة وحيلولة وديمومة وسيدودة وهيعوغة من الهواع وهو القيء فليس جعل الباب لذوات الياء أولى من جعله لذوات الواو فحمل أحدهما على الآخر لا وجه له
والذي يدل على صحة ما صرنا إليه أن فيعلولا بناء يكون في الأسماء والصفات نحو خيتعور وعيطموس وفعلول لا يكون في شيء من الكلام ولم يأت إلا في قولهم صعفوق قال الراجز (2/799)
493 - ( من آل صعفوق وأتباع أخر ... الطامعين لا يبالون الغمر ) (2/800)
وهم خول باليمامة ولا ينصرف للتعريف والعجمة فما صرنا إليه له نظير في الاسماء والصفات وما صاروا إليه لا نظير له في شيء من كلام ثم ألزموا مع حمله على شيء لا نظير له في كلامهم قلبا لا نظير له في أقيسة كلامهم
وأما من قال إن أصله فيعلا بفتح العين فاحتج بأنه وجد فيعلا بفتح العين له نظير في كلامهم ولم يجدوا فيعلا بكسر العين فجعله فيعلا بفتح العين ثم كسر الياء كما قالوا في بصرى بصرى وكما قالوا في أموى أموي وكما قالوا أخت والأصل فيها الفتح لأن أصلهاأخوة وكما قالوا دهري بالضم للرجل المسن الذي قد أتى عليه الدهر والقياس الفتح وقد جاء في بعض هذا المعتل فيعل قال الشاعر
494
- ( ما بال عيني كالشعيب العين ... ) (2/801)
فدل على أنه فيعل بفتح العين والشعيب المزادة الضخمة والعين المتعينة وهي التي يصب فيها الماء فيخرج من عيونها أي خرزها فينفتح السير فينسد موضع الخرز ومنه يقال عين قربتك أي صب فيها الماء حتى ينسد آثار الخرز
وأماالجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن وزنه فعيل إلا أنهم أعلوا عين الفعل وقدموا وأخروا وقلبوا قلنا هذا باطل لأن هذا التقديم والتأخير لا نظير له في الصحيح لأن ياء فعيل لا تتقدم على عينه في شيء من الصحيح وإذا جاز أن يختص المعتل من التقديم والتأخير بما لا يوجد مثله في الصحيح جاز أن يختص ببناء لا يوجد مثله في الصحيح
وأما قولهم إنا حذفنا الألف وعوضنا الياء مكانها لئلا يلتبس فعيل بفعل قلنا وهذا أيضا باطل لأنه لو كان الأمر على ما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز (2/802)
فيه التخفيف فيقال سيدوميت وهين لأنه يؤدي إلى الالتباس فلما جاز ذلك فيه الإجماع دل على فساد ما ذهبتم إليه
وأما قول من قال إن أصله فيعل بفتح العين إلا أنه كسر العين كما كسر الباء في بصرى قلنا هذا باطل وذلك لأنه لو كان فيعلا لكان ينبغي أن يقال سيدوهين وميت بالفتح ولم يغير إلى الكسر كما قالوا عين وتيحان وهيبان بفتح العين والتيحان هو الذي يعترض في كل شيء والهيبان الذي يهاب كل شيء فلما كسردل على فساد ما ذهبتم إليه
وأما قولهم في النسب إلى البصرة بصرى بكسر الباء وكذلك جميع ما استشهدوا به فعلى خلاف القياس فلا يقاس عليه على أنهم قد قالوا إنما كسرت الباء لأن البصرة في الأصل الحجارة الرخوة فإذا حذفت التاء كسرت الباء فقيل بصر فلما نسبت إلى البصرة حذفت تاء التأنيث لياء النسب فكسرت الباء لحذف التاء فلذلك قيل بصرى بكسر الباء
وقولهم أنه لم يوجد فيعل في كلامهم قلنا قد بينا أن المعتل يختص بأبنية ليست للصحيح فلا حاجة إلى أن تجعل فيعلا مثل عين مع شذوذه وندورة في بابه وقد وجدنا سبيلا إلى أن تجعل فيعلا على لفظه ولو جاز أن يعتد بقولهم عين بفتح العين مع شذوذه وندورة في لجاز أن يعتد بما حكى الأصمعي قال حدثني بعض أصحابنا قال سمعتهم يقولون جاءت الصيقل بكسر القاف وإذا امرأة كأن وجهها سيف فلما رأتنا أرخت البرقع فقلت يرحمك الله إنا سفر وفينا أجر فلو منحتنا من وجهك فانصاعت فتضاحكت وهي تقول (2/803)
495 - ( وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر )
( رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر )
فصيقل بكسر العين في الشذوذ في الصحيح بمنزلة عين في المعتل وكما لا يعتد به في الصيقل لشذوذ فكذلك في عين والله أعلم (2/804)
116 - سألة وزن خطايا ونحوه
ذهب الكوفيون إلى أن خطايا جمع خطيئة على وزن فعالى وإليه ذهب الخليل بن أحمد
وذهب البصريون إلى أن خطايا على وزن فعائل
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن وزنه فعالى وذلك لأن الأصل أن يقال في جمع خطيئة خطايئ مثل خطايع إلا أنه قدمت الهمزة على الياء لئلا يؤدي إلى إبدال الياء همزة كما تبدل في صحيفة وصحائف وكتيبه وكتائب لوقوعها قبل الطرف بحرف لأنهم يجرون ما قبل الطرف بحرف من هذا النوع مجرى الطرف في الإبدال وهم يبدلون من الياء إذا وقعت طرفا وقبلها ألف زائدة همزة فلو لم تقدم الهمزة على الياء في خطايىء لكان يؤدي إلى اجتماع همزتين وذلك مرفوض في كلامهم ولم يأت في كلامهم الجمع بين همزتين في كلمة إلا في قول الشاعر
( فإنك لا تدري متى الموت جائى ... ولكن أقصى مدة الموت عاجل )
ولهذا قال الخليل بن أحمد جائية مقلوبة ووزنه فالعة فصارت خطائى مثل خطاعي ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء ألفا فصارت خطاءا مثل خطاعا فحصلت همزة بين ألفين وألف قريبة من الهمزة فقلبوا (2/805)
من الهمزة يا فرارا من اجتماع الأمثال فصار خطايا على وزن فعالى على ما بينا
ومنهم من قال إنه على فعالى لأن خطيئة جمعت على ترك الهمز لأن ترك الهمز يكثر فيها فصارت بمنزلة فعيلة من ذوات الواو والياء وكل فعيلة من ذوات الواو والياء نحو وصية وحشية فإنه يجمع على فعالى دون فعائل لأنه لو جمع على فعائل لاختل الكلام وقل فجمعت على فعالى فقالوا وصايا وحشايا وجعلت الواو في حشايا على صورة واحدها لأن الواو صارت ياء في حشية فدل على أن خطايا على وزن فعالى على ما بينا
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنماقلنا إن وزنه فعائل وذلك لأن خطايا جمع خطيئة وخطيئة على وزن فعيلة وفعيلة يجمع على فعائل والأصل فيه أن يقال خطايئ مثل خطايع ثم أبدلوا من الياء همزة كما أبدلوا في صحيفة وصحائف فصار خطأيئ مثل خطاعع وقد حكى أبو الحسن على بن حمزة الكسائي عن بعض العرب أنه قال اللهم اغفر لي خطائئيه مثل خطاععية فاجتمع فيه همزتان فقلبت الهمزة الثانية ياء لكسرة قبلها فصار خطائي مثل خطاعي ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء ألفا فصار خطاءا مثل خطاعا فاستثقلوا الهمزة بين ألفين فأبدلوا منها ياء فصار خطايا
وكأن الذي رغبهم في إبدال الفتحة من الكسرة والعود من خطائي إلى خطاءا أن يقلبوا الهمزة ياء فيعودوا بالكلمة إلى أصلها لأن الهمزة الأولى من خطائي منقلبة عن الياء في خطيئة ولا يلزمنا على ذلك أن يقال في جائى جايا لأن الهمزة في جاء منقلبة عن عين الفعل والهمزة في خطايا منقلبة عن ياء زائدة في خطيئة ففضلوا الأصلي على الزائد فلم يلحقوه من التغيير ما ألحقوا الزائد (2/806)
وكذلك أيضا قالوا في جمع هراوة هراوي وإداوة أداوي وكان الأصل هرائو وأدائو مثل هراعو وأداعو على مثل فعائل كرسالة ورسائل لأنهم أبدلوا من ألف هراوة وأداوة همزة كما أبدلوا في رسائل من ألف رسالة همزة ثم أبدلوا من الواو في هرائوا وأدائو ياء لسكونها وأنكسار ما قبلها فصار هرائي وأدائي مثل هراعي وأداعي ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء ألفا فصار هراءا وأداءا مثل هراعا واداعا فاستثقلوا الهمزة بين ألفين فأبدلوا من الهمزة واوا ليظهر في الجمع مثل ما كان في الواحد طلبا للمشاكلة وذلك لأن الجمع فرع على الواحد فلا بأس بأن يطلب مشاكلته له
والذي يدل على أنهم فعلوا ذلك طلبا للمشاركة أن مالا يكون في واحده واو لا يجئ فيه ذلك فدل على ما قلناه
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل أن يقال في جمع خطيئة خطايئ مثل خطايع وإنما قدمت الهمزة على الياء قلنا ولم قلتم بالتقديم وهو على خلاف الأصل والقياس
قولهم لئلا يؤدي ذلك إلى اجتماع همزتين وهو مرفوض قلنا ولم قلتم إنه موجود هاهنا وهذا لأن الهمزة الثانية يجب قلبها ياء لانكسار ما قبلها فالكسرة توجب قلب الهمزة إلى الياء كما توجب الفتحة قلبها إلى الألف في نحو أأدم وأأخر فلم يجتمع فيه همزتان وإذا كان جملة علىالأصل يؤدي إلى أن يجتمع فيه همزتان يزول اجتماعهما على القياس كان حمله عليه أولى من حملة على القلب بالتقديم والتأخير على خلاف القياس الذي هو الفرع
وأما جائية فلا نسلم أنها مقلوبة وأن وزنه فالعة وإنما هو على أصله ووزنه فاعلة من جاءت فهي جائية وأصلها جائية مثل جايعة فأبدلوا (2/807)
من الياء همزة فصار جائئة مثل جاععة فأبدلوا من الهمزة الثانية ياء لانكسار ما قبلها
وأما الخليل فإنما قدر فيه القلب لئلا يجمع فيه بين إعلالين لأنه إذا قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين الذي هي الياء وأخر العين التي هي الياء إلى موضع اللام التي هي الهمزة لم يجب قلب الياء همزة فلا يكون فيه إلا إعلال واحد وإذا اتى بالكلمة على أصلها من غير قلب جمع فيه بين إعلالين وهما قلب العين التي هي ياء همزة وقلب اللام التي همزة ياء وهذا التقدير غير كاف في تقدير القلب لأن الهمزة حرف صحيح فإعلالها لا يعتد به
والذي يدل على ذلك أن الهمزة تصح حيث لا يصح حرف العلة ألا ترى أن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبله وجب إعلاله نحو عصو ورحى والهمزة إذا تحركت وانفتح ما قبلها لا يجب إعلالها نحو كلأورشأ وإذا كانت الهمزة كذلك كان قبلها بمنزلة إبدال الحروف الصحيحة بعضها من بعض كقولهم في أصيلان أصيلال فلا يعتد به وإنما يعتد بإعلال حرف العلة لأنه الأصل في الإعلال وإذا كان قلب الهمزة غير معتد به لم يكن هاهنا إجراؤه على الأصل يؤدي إلى الجمع بين إعلالين
وأما قولهم إنما جمعت على ترك الهمز قلنا هذا باطل لأن ترك الهمز خلاف الأصل والأصل أن يجمع على الأصل خصوصا مع أنه الأكثر في الاستعمال
وقولهم إنه يكثر الهمزة فيها فصارت بمنزلة فعيلة من ذوات الواو والياء وهي تجمع على فعالى قلنا لا نسلم بل الأصل أن يقال في جمع فعيلة فعائل (2/808)
إلا أنه يجب قلب الياء همزة لوقوعها قبل الطرف بحرف لأنهم يجرون ما قبل الطرف بحرف من هذا النوع مجرى الطرف في الإبدال وهم يبدلون من الياء إذا وقعت طرفا وقبلها ألف زائدة همزة فعلى هذا يكون الأصل في جمع نحو حشية حشائي على فعائل على لفظ المضيف إلى نفسه الحشا إذا مد ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء ألفا فصار حشاءا فاستثقلوا الهمزة بين ألفين فقلبوا الهمزة ياء على ما بينا في خطايا والله أعلم
117م - سألة وزن إنسان وأصل اشتقاقه
ذهب الكوفيون إلى أن إنسان وزنه إفعان وذهب البصريون إلى أن وزنه فعلان وإليه ذهب بعض الكوفيين
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا ذلك لأن الأصل في إنسان إنسيان على إفعلان من النسيان إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى علىألسنتهم حذفوا منه الياء التي هي اللام لكثرته في استعمالهم والحذف لكثرة الاستعمال كثير في كلامهم كقولهم أيش في أي شيء وعم صباحا في أنعم صباحا ويلمه في ويل أمه قال الهذلي
496
- ( ويلمه رجلا تأبى به غبنا ... إذاتجرد لا خال ولا بخل ) (2/809)
وقال الآخر
497
- ( ويلمه مسعر حرب إذا ... ألقى فيها وعليه الشليل ) (2/810)
والذي يدل على أن إنسان مأخوذ من النسيان أنهم قالوا في تصغيره أنيسيان فردوا الياء في حال التصغير لأن الاسم لا يكثر استعماله مصغرا كثرة استعماله مكبرا والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها فدل على ما قلناه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن وزنه فعلان لأن إنسان مأخوذ من الإنس وسمى الإنس إنسا لظهورهم كما سمى الجن جنا لاجتنانهم أى استتارهم ويقال أنست الشيء إذا أبصرته قال الله تعالى ( آنس من جانب الطور نارا ) أي أبصر وكما أن الهمزة في الإنس أصلية ولا ألف ونون فيه موجودتان فكذلك الهمزة أصلية في إنسان ويجوز أن يكون سمى الإنس (2/811)
إنسا لأن هذا الجنس يستأنس به ويوجد فيه من الأنس وعدم الاستيحاش مالا يوجد في غيره من سائر الحيوان وعلى كلا الوجهين فالألف والنون فيه زائدتان فلهذا قلنا إن وزنه فعلان
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الأصل في إنسان إنسيان إلا أنهم لما كثر في كلامهم حذفوا منه الياء لكثرة الاستعمال كقولهم أيش في أي شيء وعم صباحا في أنعم صباحا وويلمه في ويل أمه قلنا هذا باطل لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان يجوز ان يؤتى به على الأصل كما يجوز أن تقول أي شيء وانعم صباحا وويل أمه على الأصل فلما لم يأت ذلك في شيء من كلامهم في حالة اختيار ولا ضرورة دل على بطلان ما ذهبتم إليه
وأما قولهم إنهم قالوا في تصغيره أنيسيان قلنا إنما زيدت هذه الياء في أنيسيان على خلاف القياس كما زيدت في قولهم لييلية في تصغير ليلة وعشيشية في تصغير عشية وكقوهم على خلاف القياس مغيربان في تصغير مغرب ورويجل في تصغير رجل إلى غير ذلك مما جاء على خلاف القياس فلا يكون فيه حجة والله أعلم
118م - سألة وزن أشياء
ذهب الكوفيون إلى أن أشياء وزنه أفعاء والأصل أفعلاء وإليه (2/812)
ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه أفعال
وذهب البصريون إلى أن وزنه لفعاء والأصل فعلاء
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن وزنه أفعاء لأنه جمع شيء على الأصل وأصل شيء شيئ مثل شيع فقالوا في جمعه أشيئاء على أفعلاء كما قالوا في جمع لين ألينا إلا أنهم حذفوا الهمزة التي هي اللام طلبا للتخفيف وذلك لأمرين أحدهما تقارب الهمزتين لأن الألف بينهما حرف خفى زائد ساكن وهومن جنس الهمزة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأنه قد اجتمع فيه همزتان وذلك مستثقل في كلامهم وإذا كانوا قد قالوا في سوائية سواية فحذفوا الهمزة مع انفرادها فلأن يحذفوا الهمزة هاهنا مع تكرارها كان ذلك من طريق الأولى والآخر ان الكلمة جمع والجمع يستثقل فيه مالا يستثقل في المفرد فحذفت منه الهمزة طلبا للتخفيف
والذي يدل على أنه يستثقل في الجمع مالا يستثقل في المفرد أنهم ألزموا خطايا القلب وأبدلوا في ذوائب من الهمزة الأولى واوا كل ذلك لاستثقالهم في الجمع مالا يستثقل في المفرد
وأما أبو الحسن الأخفش فذهب إلى أنه جمع شيء بالتخفيف وجمع فعل على أفعلاء كما يجمعونه على فعلاء فيقولون سمح وسمحاء وفعلاء نظير أفعلاء فكما جاز أن يجئ جمع فعل على فعلاء جاز ان يجئ على أفعلاء لأنه نظيره
والذي يدل على ذلك أنهم قالوا طبيب وأطباء وحبيب وأحباء والأصل فيه طبباء وحبباء نحو ظريف وظرفاء وشريف وشرفاء إلا أنه لما اجتمع فيه حرفان متحركان من جنس واحد واستثقلوا اجتماعهما فنقلوه عن فعلاء إلى أفعلاء (2/813)
فصار أطبباء فاجتمع فيه أيضا حرفان متحركان من جنس واحد فنقلوا حركة الحرف الأول إلى الساكن قبله فسكن فأدغموه في الحرف الذي بعده فقالوا أطباء فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء فدل على ما قلناه
وأما من ذهب إلى أن وزنه أفعال فتمسك بان قال إنما قلنا إن وزنه أفعال لأنه جمع شيء وشيء على وزن فعل وفعل يجمع في المعتل العين على أفعال نحو بيت وأبيات وسيف وأسياف وإنما يمتنع ذلك في الصحيح على أنهم قد قالوا فيه زند وزناد وفرخ وأفراخ وأنف وآناف وهو قليل شاذ وأما في المعتل فلا خلاف في مجيئه على أفعال مجيئا مطردا فدل على أنه أفعال إلا أنه منع من الأجراء تشبيها له بما في آخره همزة التأنيث
والذي يدل على أن أشياء جمع وليس بمفرد كطرفاء قولهم ثلاثة أشياء والثلاثة وما بعدها من العددإلى العشرة يضاف إلى الجمع لا إلى المفرد ألا ترى أنه لو قيل ثلاثة ثوب وعشرة درهم لم يجز فلما جاز هاهنا أن يقال ثلاثة أشياء وعشرة أشياء دل أنها ليست اسما مفردا وأنه جمع
والذي يدل على ذلك أيضا تذكيرهم ثلاثة وعشرة في قولهم ثلاثة أشياء وعشرة أشياء ولو كانت كطرفاء مؤنثة لما جاز التذكير فيقال ثلاثة أشياء وكان يجب أن يقال ثلاث أشياء كما كنت تقول مثلا ثلاث غرفة لو جاز ان يقع فيه الواحد موقع الجمع وفي امتناع ذلك دليل على أنه جمع وليس باسم مفرد
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن أشياء على وزن لفعاء لأن الأصل فيه شيئاء بهمزتين على فعلاء كطرفاء وحلفاء فاستثقلوا اجتماع همزتين وليس بينهما حاجز قوي لأن الألف حرف زائد خفي ساكن والحرف الساكن حاجز غير حصين فقدموا الهمزة التي هي اللام على (2/814)
الفاء كما غيروا بالقلب في قولهم قسى في جمع قوس والأصل أن يقال في جمعها قووس إلا أنهم قلبوا كراهية لاجتماع الواوين والضمتين فصار قسوو فأبدلوا من الضمة كسرة لأنهم ليس في كلامهم اسم متمكن في آخره واو قبلها ضمة فانقلبت الواو الثانية التي هي لام ياء لانكسار ما قبلها لأن الواو الأولى مدة زائدة فلم يعتد بها كما لم يعتد بالألف في كساء ورداء لأنها لما كانت زائدة صار حرف العلة الذي هو اللام في كساء ورداء كأنه قد ولى الفتحة كما وليته في عصى ورحى فكما وجب قلبه في عصى ورحى ألفا لتحركه وانفتاح ما قبله فكذلك يجب قلب الواو الثانية هاهنا ياء لانكسار ما قبلها فصار قسوى وإذا انقلبت الواو الثانية وجب أن تقلب الواو التي قبلها ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء لأن الواو والياء متى اجتمعتا والسابق منهما ساكن وجب قلب الواو ياء وجعلت ياء مشددة فصار قسى وكسروا اوله لما بعده من الكسرة والياء فقالوا قسى كما قالوا عصى وحقى وما أشبه ذلك وكماغيروا أيضا بالقلب في ذوائب وبالحذف في سواية وبل أولى لأنهم إذا أزالوا التقارب في ذوائب وأصله ذأائب بأن قلبوا الهمزة واوا فقالوا ذوائب وحذفوها من سوائية فقالوا سواية فلأن يزيلوا التقارب بان يقدموا الهمزة إلى أول الكلمة مع بقائها كان ذلك من طريق الأولى وإذا كانوا قد قلبوا من غير أن يكون فيه خفة فقالوا أيس في يئس وبئر معيقة في عميقة وعقاب عبنقاة وبعنقاة في عقنباة وما أيطبه في ما أطيبه وما أشبه ذلك مما لا يؤدي إلى التخفيف فكيف فيما يؤدي إليه فلهذا قلنا وزنها لفعاء (2/815)
والذي يدل على أنه اسم مفرد أنهم جمعوا على فعالى فقالوا في جمعه أشاوى كما قالوا في جمع صحراء صحاري والأصل في صحاري صحاري بالتشديد كما قال الشاعر
498
- ( لقد أغدو على أشقر ... يغتال الصحاريا ) (2/816)
فالياء الأولى منقلبة عن الألف الأولى التي كانت في المفرد لأنها سكنت وانكسر ما قبلها والياء الثانية منقلبة عن ألف التأنيث التي قلبت همزة في المفرد لاجتماع ألفين فلما زال هذا الوصف زالت الهمزة لزوال سببها فكانت الثانية منقلبة عن ألف في نحو حبلى لا منقلبة عن همزة ثم حذفت الياء الأولى طلبا للتخفيف فصار صحارى مثل مدارى ثم أبدلوا من الكسرة فتحة فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كما فعلوا في مدارى فصارت صحارى وكذلك أشاوى أصلها أشايي بثلاث ياءات الأولى عين الفعل المتأخرة إلى موضع اللام والأخريان كالياءين في صحارى ثم فعل به ما فعل بصحارى فصار أشايا وأبدلوا من الياء التي هي عين واوا فصار أشاوى كما أبدلوا من الياء واوا في قولهم جبيت الخراج جباوة وأتيته أتوة والأصل فيه جباية وأتيه وليس في إبدال الواو خروج عن الحكمة فإنهم إذا كانوا يبدلون الحروف الصحيحة بعضها عن بعض نحو أصيلال في أصيلان وإن لم يكن هناك استثقال فلأن يبدلوا الياء واوا لأجل المقاربة وإن لم يكن ما يوجب قلبها مثل أن تكون ساكنة مضموما ما قبلها نحو موسر وموقن كان ذلك من طريق الأولى فلما جمع على فعالى فقيل أشاوي دل على ما قلناه (2/817)
والذي يدل على ذلك أيضا أنهم قالوا في جمعه أيضا أشياوات كما قالوا في جمع فعلاء فعلاوات نحو صحراء وصحراوات وما أشبه ذلك فدل على أنه اسم مفرد معناه الجمع وليس بجمع على ما بينا
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنه في الأصل على أفعلاء لأنه جمع شيء على الأصل كقولهم لين وأليناء قلنا قولكم إن أصل شيء شيء مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل ثم لو كان كما زعمتم لكان يجئ ذلك في شيء من كلامهم ألا ترى أن نحو سيد وهين وميت لما كان مخففا من سيد وهين وميت جاء فيه التشديد على الأصل مجيئا شائعا فلما لم يجئ هاهنا على الأصل في شيء من كلامهم لا في حالة الاختيار ولا في حالة الضرورة دل على أن ما صرتم إليه مجرد دعوى
وقولهم إن أشياء في الأصل على أفعلاء قلنا هذا باطل لأنه لو كان كما زعتم لكان ينبغي أن لا يجوز جمعه على فعالى لأنه ليس في كلام العرب أفعلاء جمع على فعالى فلما جاز هاهنا دل على بطلان ما ذهبتم إليه
وهذا هو الجواب عن قول الأخفش إنه جمع شيء بالتخفيف وإنهم جمعوه عل أفعلاء كما جمعوه عل فعلاء لأنه نظيره نحو سمح وسمحاء فإن فعلا لا يكسر على أفعلاء وإنما يكسر على فعول وفعال نحو فلوس وكعاب
والذي يدل على أنه ليس بأفعلاء أنه قال في تصغيرها أشياء وأفعلاء لا يجوز تصغيره على لفظه وإنما كان ينبغي أن يرد إلى الواحد ويجمع بالألف والتاء فيقال شييئات وإنما لم يجز تصغير أفعلاء على لفظه لأن أفعلاء من أبنية الكثرة والتصغير علم القلة فلو صغرت مثالا موضوعا للكثرة لكنت قد جمعت بين ضدين وذلك لا يجوز (2/818)
وأما قول من ذهب إلى أنه جمع شيء وأنه جمع على أفعال كبيت وأبيات فظاهر البطلان لأنه لو كان الأمر على ما زعم لوجب أن يكون منصرفا كأسماء وأبناء
وأما قوله إنما منع من الإجراء لشبه همزة التأنيث قلنا فكان يجب أن لا تجرى نظائره نحو أسماء وأبناء وما كان من هذا النحو على وزن أفعال لأنه لا فرق بين الهمزة في آخر أشياء وبين الهمزة في آخر أسماء وأبناء
وأما قولهم الدليل على أن أشياء جمع وليس بمفرد قولهم ثلاثة أشياء والثلاثة وما بعدها من العدد إلى العشرة يضاف إلى الجمع لا إلى المفرد فلا يقال ثلاثة ثوب ولا عشرة درهم قلنا إنما لا يضاف إلى ما كان مفردا لفظا ومعنى وأما إذا كان مفردا لفظا ومجموعا معنى فإنه يجوز إضافتها إليه ألا ترى أنه يجوز ان تقول ثلاثة رجله وإن كان مفردا لفظا لأنه مجموع معنى وكذلك قالوا ثلاثة نفر وثلاثة قوم وتسعة رهط قال الله تعالى ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ) وأضيف العدد إلى هذه الأسماء وإن كانت مفردة لفظا لأنها مجموعة معنى فكذلك هاهنا أشياء مفردة لفظا مجموعة معنى كطرفاء وحلفاء وقصباء فجاز ان يضاف اسم العدد إليها
وأما قولهم إنها لو كانت كطرفاء لما جاز تذكير ثلاثة فيقال ثلاثة أشياء وكان يجب أن يقال ثلاث أشياء قلنا إنما جاز تذكير ثلاثة أشياء وإن كانت أشياء مؤنثة لوجود علامة التأنيث فيها لأنها اسم لجمع شيء فتنزلت منزلة أفعال من حيث إنه جمع شيء في المعنى لا لأنه مفرد أقيم مقام جمع بمنزلة درهم في قولهم مائة درهم ولو كان كذلك لوجب أن يقال ثلاث أشياء (2/819)
كما ذكرتم وإذا كانت أشياء اسما لجمع شيء علمت ان أشياء في المعنى جمع شيء فصارت إضافة العدد إليها بمنزلة إضافته إلى جمع ثوب وبيت في قولهم ثلاثة أثواب وعشرة أبيات وما أشبه ذلك والله أعلم
قال أبو البركات كمال الدين الأنباري
فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف واقتصرنا فيه على هذا القدر من القول مع تشعب أنحائه لتوفر رغبة الطلبة في سرعة إنهائه وكثرة الشواغل عن استقصائه فالله تعالى يعصمنا فيه من الزلل ويحفظنا فيه من الخطأ والخطل ويوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل بمنه ولطفه (2/820)
وجد في بعض النسخ زيادة ثلاث مسائل ونحن نذكرها هاهنا
119م - سألة علام ينتصب خبر كان وثاني مفعولى ظننت
ذهب الكوفيون إلى أن خبر كان والمفعول الثاني ل ظننت نصب على الحال وذهب البصريون إلى أن نصبهما نصب المفعول لا على الحال
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أن خبر كان نصب على الحال أن كان فعل غير واقع أي غير متعد والدليل على أنه غير واقع أن فعل الاثنين إذا كان واقعا فإنه يقع على الواحد والجمع نحو ضربا رجلا وضربا رجالا ولا يجوز ذلك في كان ألا ترى انه لا يجوز أن تقول كانا قائما وكانا قياما ويدل على ذلك أيضا أنك تكنى عن الفعل الواقع نحو ضربت زيدا فتقول فعلت بزيد ولا تقول في كنت أخاك فعلت بأخيك وإذا لم يكن متعديا وجب أن يكون منصوبا نصب الحال لا نصب المفعول فإنا ما وجدنا فعلا ينصب مفعولا هو الفاعل في المعنى إلا الحال فكان حمله عليه أولى ولأنه يحسن أن يقال فيه كان زيد في حالة كذا وكذلك يحسن أيضا في ظننت زيدا قائما ظننت زيدا في حالة كذا فدل على أنه نصب على الحال (2/821)
قالوا ولا يجوز أن يقال إنه لو كان نصبا على الحال لما جاز أن يقع معرفة في نحو كان زيد أخاك وظننت عمرا غلامك والحال لا تكوين معرفة لأنا نقول إنما جاز ذلك لأن أخاك وغلامك وما أشبه ذلك قام مقام الحال كقولك ضربت زيدا سوطا فإن سوطا ينتصب على المصدر وإن كان آله لقيامه مقام المصدر الذي هو ضرب وكذلك هاهنا على أنه قد جاءت الحال معرفة في قولهم
499
- ( ف أرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغض الدخال ) (2/822)
وطلبته جهدك وطاقتك ورجع عوده على بدئه إلى غير ذلك فدل على صحة ما ذهبنا إليه
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إن نصبهما نصب المفعول لا على الحال لأنهما يقعان ضميرا في نحو قولهم كناهم وإذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم قال الشاعر
500
- ( دع الخمر يشربها الغواة فأنني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها )
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها ) (2/823)
أراد بقوله أخاها الزبيب وجعله أخا الخمر لأنهما من شجرة واحدة وقال الآخر
501
- ( تتفك تسمع ما حييت ... بهالك حتى تكونه ) (2/824)
وكذلك قالوا أيضا ظننته إياه والضمائر لا تقع أحوالا بحال فعدم شروط الحال فيهما فوجب أن ينتصبا نصب المفعول لا على الحال
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إن الفعل إذا كان واقعا فإن فعل الاثنين يقع منه على الواحد والجمع نحو ضربا رجلا وضربا رجالا ولا يجوز ذلك في كان فإنه لا يقال كانا قائما وكانا قياما فنقول إنما لم يجز في كان كما جاز في ضرب لأن المفعول في كان هو الفاعل في المعنى ولا يكون الاثنان واحدا ولا جماعة وإنما كان المفعول في كان هو الفاعل (2/825)
في المعنى لأنها تدخل على المبتدأ والخبر فيصير المبتدأ بمنزلة الفاعل والخبر بمنزلة المفعول وكما يجب أن يكون الخبر هو المبتدأ في المعنى نحو زيد قائم فكذلك يجب أن يكون المفعول في معنى الفاعل فلهذا امتنع في كان ما جاز في ضرب لا لما ادعيتم على أنا لا نقول إن كان بمنزلة ضرب فإن ضرب فعل حقيقي يدل على حدث وزمان والمرفوع به فاعل حقيقي والمنصوب به مفعول حقيقي وأما كان فليس فعلا حقيقا بل يدل على الزمان المجرد عن الحدث ولهذا يسمى فعل العبارة فالمرفوع به مشبه بالفاعل والمنصوب به مشبه بالمفعول فلهذا سمى المرفوع اسما والمنصوب خبرا ولهذا المعنى من الفرق لما كان ضرب فعلا حقيقا جاز إذا كنى عنه نحو ضربت زيدا أن يقال فعلت بزيد ولما كانت كان فعلا غير حقيقي بل في فعليتها خلاف لم يجز إذا كنى عنها نحو كنت اخاك أن يقال فعلت باخيك
وأما قولهم إنه يحسن أن يقال كان زيد في حالة كذا وكذلك يحسن أيضا في ظننت زيدا قائما ظننت زيدا في حالة كذا فدل على أن نصبهما نصب الحال قلنا هذا إنما يدل على الحال مع وجود شروط الحال بأسرها ولم يوجد ذلك لأنه من شروط الحال أن تأتي بعد تمام الكلام ولم يوجد ذلك في كان الناقصة التي وقع فيها الخلاف دون التامة التي بمعنى وقع ولم يوجد أيضا في المفعول الثاني لظننت التي بمعنى الظن أو العلم التي وقع فيها الخلاف لا التي بمعنى التهمة وكذلك من شروطها ألا تكون إلا نكرة وكثيرا ما يقع خبر كان والمفعول الثاني لظننت معرفة ولو كانا حالا لما جاز ان يقعا إلا نكرة فلما جاز أن يقعا معرفة دل على أنهما ليسا بحال (2/826)
قولهم إنما جاز ذلك لأن المعرفة أقيمت مقام الحال كما أقيمت الآلة مقام المصدر في قولهم ضربت زيدا سوطا قلنا الفرق بينهما ظاهر وذلك أنه إنما حسن أن ينصب سوطا على المصدر لأنه نكرة قام مقام نكرة فأفاد فائدته فحسن أن ينصب بما نصب به لقيامه مقامه وأما هاهنا فلا يحسن أن يقوم المعرفة مقام الحال لأن الحال لا تكون إلا نكرة وهو معرفة فلا يفيد أحدهما ما يفيده الآخر فلا يجوز أن يقام مقامه فلا يجوز أن ينصب بمانصب به
وأما قولهم إن الحال قد جاء معرفة في قولهم أرسلها العراك وطلبته جهدك ورجع عوده على بدئه قلنا هذه الألفاظ مع شذوذها وقلتها ليست أحوالا وإنما هي مصادر دلت على أفعال في موضع الحال فإذا قلت أرسلها العراك فالتقدير فيه أرسلها تعترك العراك على معنى تعترك الاعتراك فأقاموا العراك مقام الاعتراك كما قال تعالى ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) ثم حذفوا تعترك وهو جملة في موضع الحال وأقاموا المصدر دليلا عليه كما تقول إنما أنت سيرا أي تسير سيرا وكذلك قولهم طلبته جهدك وطاقتك كأنهم قالوا طلبته تجتهد اجتهادك ثم حذفوا تجتهد وهو جملة في موضع الحال وأقاموا المصدر دليلا عليه وهكذا التقدير في قولهم رجع عوده على بدئه وقد ذهب بعض النحويين إلى أن عودة منصوب برجع نصب المفعول لا نصب المصدر لأن رجع يكون متعديا كما يكون لازما قال الله تعالى ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) فعدى رجع إلى الكاف فدل على أنه يكون متعديا والأكثرون على الأول وإنما أقاموا هذه المصادر مقام الأفعال في هذه المواضع لأن في ألفاظ المصادر دلالة على الأفعال على أن هذه الألفاظ شاذة لا يقاس عليها فكذلك كل ما جاء (2/827)
من المصادر والأسماء بالألف واللام في موضع الحال فإنه شاذ نادر لا يقاس عليه والله أعلم
120م - سألة القول في تقديم التمييز إذا كان العامل فعلا متصرفا
أختلف الكوفيون في جواز تقديم التمييز إذا كان العامل فيه فعلا متصرفا نحو تصبب زيد عرقا وتفقأ الكبش شحما فذهب بعضهم إلى جوازه ووافقهم على ذلك أبو عثمان المازني وأبو العباس المبرد من البصريين وذهب أكثر البصريين إلى أنه لا يجوز
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على جواز التقديم النقل والقياس أما النقل فقد جاء ذلك في كلامهم قال الشاعر
502
- ( أتهجر سلمى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب ) (2/828)
وجه الدليل أنه نصب نفسا على التمييز وقدمه على العامل فيه وهو تطيب لأن التقدير فيه وما كان الشأن والحديث تطيب سلمى نفسا فدل على جوازه (2/829)
وأما القياس فلأن هذا العامل فعل متصرف فجاز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة ألا ترى أن الفعل لما كان متصرفا نحو قولك ضرب زيدا عمرا جاز تقدم معموله عليه نحو عمرا ضرب زيد ولهذا ذهبتم إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا نحو راكبا جاء زيد
قالوا ولا يجوز أن يقال تقديم الحال على العامل فيها لا يجوز عندكم ولا تقولون به فكيف يجوز لكم الاستدلال بما لا يجوز عندكم ولا تقولون به لأنا نقول كان القياس يقتضي ان يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا إلا أنه لم يجز لدليل دل عليه وذلك لما يؤدي إليه من تقديم المضمر على المظهر على ما بينا في مسألة الحال فبقينا فيما عداه على الأصل وجاز لنا أن نستدل به عليكم وإن كنا لا نقول به لأنكم تقولون به فصلح أن يكون إلزاما عليكم
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه لا يجوز تقديمه على العامل فيه وذلك لأنه هو الفاعل في المعنى ألا ترى أنك إذا قلت تصبب زيد عرقا وتفقأ الكبش شحما أن المتصبب هو العرق والمتفقئ هو الشحم وكذلك لو قلت حسن زيد غلاما ودابة لم يكن له حظ في الفعل من جهة المعنى بل الفاعل في المعنى هو الغلام والدابة فلما كان هو الفاعل في المعنى لم يجز تقديمه كما لو كان فاعلا لفظا
قالوا ولا يلزم على كلامنا الحال حيث يجوز تقديمها على العامل فيها نحو راكبا جاء زيد فإن راكبا فاعل في المعنى ومع هذا يجوز تقديمه لأنا نقول الفرق بينهما ظاهر وذلك لأنك إذا قلت جاء زيد راكبا فزيد هو الفاعل لفظا ومعنى وإذا استوفى الفعل فاعله من جهة اللفظ والمعنى صار (2/830)
ر1كبا بمنزلة المفعول المختص لاستيفاء الفعل فاعله من كل وجه فجاز تقديمه كالمفعول نحو عمرا ضرب زيد بخلاف التمييز فإنك إذا قلت تصبب زيد عرقا وتفقأ الكبش شحما وحسن زيد غلاما لم يكن زيد هو الفاعل في المعنى بل الفاعل في المعنى هو العرق والشحم والغلام فلم يكن عرقا وشحما وغلاما بمنزلة المفعول من هذا الوجه لأن الفعل استوفى فاعله لفظا لا معنى فلم يجز تقديمه كما جاز تقديم الفاعل وكذلك قولهم امتلأ الإناء ماء فإنه وإن لم يكن مثل تصبب زيد عرقا لأنه لا يمكن أن تقول امتلأ ماء الإناء كما يمكن أن تقول تصبب عرق زيد إلا أنه لما كان يملأ الإناء كان فاعل على الحقيقة
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما ما استدلوا به من قول الشاعر
( أتهجر سلمى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسا بالفراق تطيب ...
فإن الرواية الصحيحة
( وما كان نفسي بالفراق تطيب ... )
وذلك لا حجة فيه ولئن سلمنا صحة ما رويتموه فنقول نصب نفسا بفعل مقدر كأنه قال أعنى نفسا لا على التمييز ولو قدرنا ما ذكرتموه فإنما جاء في الشعر قليلا على طريق الشذوذ فلا يكون فيه حجة
وأما قولهم إنه فعل متصرف فجاز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة إلى آخر ما قرروه قلنا الفرق بينهما ظاهر وذلك لأن المنصوب في ضرب زيد عمرا منصوب لفظا ومعنى وأما المنصوب في نحو تصبب زيد عرقا فإنه وإن لم يكن فاعلا لفظا فإنه فاعل معنى فبان الفرق بينهما (2/831)
واما احتجاجهم بتقديم الحال على العامل فيها فلا حجة لهم فيه لأنهم لا يقولون به ولا يعتقدون صحته فكيف يجوز أن يستدلوا على الخصم بما لا يعتقدون صحته قولهم كان القياس يقتضي أن يجوز تقديم الحال على العامل فيها إلا أنه لم يجز عندنا لدليل دل عليه وهو ما يؤدي إليه من تقديم المضمر على المظهر قلنا وكذلك نقول هاهنا كان القياس يقتضي أنه يجوز تقديم التمييز على العامل فيه إلا أنه لم يجز عندنا لدليل دل عليه وهو أن التمييز في المعنى هو الفاعل والفاعل لا يجوز تقديمه على الفعل على ما بينا وإذا جاز لكم أن تتركوا جواز التقديم هناك لدليل جاز لنا أن نتركه هاهنا لدليل على أنا قد بينا فساد ما ذهبتم إليه وصحة ما ذهبنا إليه والله أعلم
121م - سألة القول في رب اسم هو أو حرف
ذهب الكوفيون إلى ان رب اسم وذهب البصريون إلى أنه حرف جر
اما الكوفيون فإنهم احتجوا بأن قالوا إنما قلنا إنه اسم حملا على كم لأن كم للعدد والتكثير ورب للعدد والتقليل فكما أن كم اسم فكذلك رب
والذي يدل على أن رب ليست بحرف جر أنها تخالف حروف الجر وذلك في أربعة أشياء أحدها أنها لا تقع إلا في صدر الكلام وحروف الجر لا تقع في صدر الكلام وإنما تقع متوسطة لأنها إنما دخلت رابطة بين الأسماء والأفعال والثاني أنها لا تعمل إلا في نكرة وحروف الجر تعمل في النكرة والمعرفة والثالث أنها لا تعمل إلا في نكرة موصوفة (2/832)
وحروف الجر تعمل في نكرة موصوفة وغير موصوفة والرابع انه لا يجوز عندكم إظهار الفعل الذي تتعلق به وكونه على خلاف الحروف في هذه الأشياء دليل على أنه ليس بحرف
والذي يدل دلالة ظاهرة على أنه ليس بحرف أنه يدخله الحذف فيقال في رب رب قال الله تعالى ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قرئ بالتخفيف كما قرئ بالتشديد وفيها أربع لغات رب ورب ورب ورب بضم الراء وتشديد الباء وتخفيفها وفتح الراء وتشديد الباء وتخفيفها فدل على أنها ليست بحرف
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا الدليل على أنها حرف أنها لا يحسن فيها علامات الأسماء ولا علامات الأفعال وأنها قد جاءت لمعنى في غيرها كالحرف وهو تقليل ما دخلت عليه نحو رب رجل يفهم أي ذلك قليل
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين أما قولهم إنما قلنا إنها اسم حملا على كم لأن كم للعدد والتكثير ورب للعدد والتقليل قلنا لا نسلم أنها للعدد وإنما هي للتقليل فقط على أن كم إنما حكم بأنها اسم لأنه يحسن فيها علامات الأسماء نحو حروف الجر نحو ب كم رجل مررت وما أشبه ذلك وجواز الإخبار عنه نحو كم رجلا لاحاك وهذا غير موجود في رب فدل على الفرق بينهما
وأما قولهم إنها تخالف حروف الجر في أربعة أشياء أحدها أنه لا تقع إلا في صدر الكلام قلنا إنما لا تقع إلا في صدر الكلام لأن معناها التقليل وتقليل الشيء يقارب نفيه فأشبهت حرف النفي وحرف النفي له صدر الكلام (2/833)
وقولهم في الثاني إنها لا تعمل إلا في نكرة قلنا لأنها لما كان معناها التقليل والنكرة تدل على الكثرة وجب ألا تدخل إلا على النكرة التي تدل على الكثرة ليصح فيها معنى التقليل
وقولهم في الثالث إنها لا تعمل إلا في نكرة موصوفة قلنا لأنهم جعلوا ذلك عوضا عن حذف الفعل الذي تتعلق به وقد يظهر ذلك الفعل في ضرورة الشعر
وقولهم في الرابع إنه لا يجوز إظهار الفعل الذي تتعلق به قلنا فعلوا ذلك إيجازا واختصارا ألا ترى أنك إذا قلت رب رجل يعلم كان التقدير فيه رب رجل يعلم أدركت أو لقيت فحذف لدلالة الحال عليه كما حذفت في قوله تعالى ( وأدخل يدك في جيبك ) إلى قوله تعالى ( إلى فرعون وقومه ) ولم يذكر مرسلا لدلالة الحال عليه والحذف على سبيل الوجوب والجواز لدلالة الحال كثير في كلامهم
وأما قولهم إنه يدخله الحذف والحذف لا يدخل الحرف قلنا لا نسلم فإنه قد جاء الحذف في الحرف فإن أن المشددة يجوز تخفيفها وهي حرف وكذلك حكى أبو العباس أحمد بن يحيى من اصحابكم في سوف سف أفعل وسو أفعل فحذفتم الواو والفاء وإذا جاز عندكم حذف حرفين فكيف يجوز لكم أن تمنعوا جواز حذف حرف واحد والله أعلم (2/834)
يقول المعتز بالله تعالى وحده أبو رجاء محمد محيى الدين بن عبد الحميد الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين أصطفى
وبعد فقد أتممت بحمد الله تعالى ومعونته مراجعة كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين الكوفيين والبصريين الذي صنفه الإمام كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي المولد في عام 513 والمتوفى في عام 577 من الهجرة وهو كتاب فريد في بابه لم ينشر للناطقين بالضاد كتاب آخر في موضوعه وإن يكن لأسلافنا رضي الله عنهم في هذا الموضوع عدة مصنفات كلها حرى بالإخراج والذيوع
وقد يسر الله تعالى لي بعد أكثر من خمسة عشر عاما من إخراجه لأول مرة وبعد أن نشر الكتاب ثلاث مرات أن أنجز بعض ما وعدت به قراء العربية أن أخرج لهم مع هذا الكتاب شرحا يبين غوامضه ويجلي فرائده ويترصد مسالكه ومساربه ويكون فيصلا على أحكامه يقر صحيحها وينقض ما جانب فيه الجادة وقد تضخم بذلك حجم الكتاب فصار ضعف الأصل أو يزيد وإن كان في الأجل بقية وفي القوس منزع عدت إليه فأضفت ونقحت وهذبت والله سبحانه المسئول أن يتولانا بفضله وينفحنا بتأييده وتوفيقه (2/835)