. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والقادرين هم الفاعلون لحب العلم، وبغض النقص. وما قبل إلى: "العلم النقص" هو المفعول المعنوي -لا النحويّ؛ لأنه الذي وقع عليه الحب -والبغض.
ولهذا ضابط سبق بيانه1؛ هو: أن يحذف فعل التعجب ومعه "ما التعجبية" إن وجدت، وبوضع مكانهما فعل آخر من مادته ومعناه، يكون فاعله النحوي هو الاسم المجرور بـ"إلى"، ومفعوله هو الاسم الواقع بينها وبين فعل التعجب. فإن استقام المعنى على هذا صح مجيء "إلى"، وإلا وجب تغييرها. ففي المثال السابق نقول: أحَب، أو: يحب النابغون العلم، ويكره القادرون النقص. وقد استقام المعنى فدلت استقامته على صحة مجيء "إلى".
فإن كان ما بعدها ليس فاعلًا في المعنى. وإنما هو مفعول معنوي وما قبلها هو الفاعل المعنوي وجب الإتيان "بلام الجر". بدلًا من: "إلى"؛ نحو: ما أحبّ الوالدة لمولودها!، فالوالدة هي الفاعل المعنوي -لا النحويّ- الذي فَعَل الحب أو قام به الحب. والمولود هو المفعول المعنوي -لا النحوي- الذي وقع عليه الحبّ؛ لصحة قولنا: أحبت، أو تحب الوالدة مولودها ... فمعنى: "إلى"، و"اللام"، في مثل هذا الموضع هو: "التبيين، أي: بيان الفاعل المعنوي والمفعول المعنوي، وتمييز كل منهما من الآخر.
ب- إن كان أصل فعل التعجب فعلًا متعديًا بنفسه لواحد فإنه يصير لازمًا يتعدى بحرف جر خاصٌّ هو: "اللام" كذلك، مثل: ما أضرب الناس للجاسوس!!
وإن كان أصل فعل التعجب فعلًا لازمًا يتعدى إلى معموله بحرف جر معين وجب أن يجاري أصله في التعدي بهذا الحرف إلى معموله؛ نحو: ما أغضب الناس على الخائن. وقول شوقي:
ما أجمل الهجرة بالأحرارِ ... إنْ ضنّت الأوطان بالقرارِ
لأنه يقال: غضب الله على الكافر ... جَمُلَ المرء بخُلقه ...
__________
1 ج2 ص345 م9.(3/364)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ج- قد يصاغ فعل التعجب من فعل ينصب بنفسه مفعولين1 مثل "كَسَا"، و"ظن" في نحو: كَسَا الغنيُّ فقيرًا ثيابًا. ظن البخيلُ الجودَ تبذيرًا.
ولفعل التعجب الذي يصاغ من المتعدي لمفعولين أربع حالات2.
الأولى: أن يكتفي بفاعل المتعدي فينصبه مفعولًا به؛ نحو: ما أكسى الغَنِيَّ!!، ما أظَنَّ البخيلَ!! فكلمتا: "الغني والبخيل" كانتا في الأصل قبل التعجب فاعلًا؛ فصارتا بعده مفعولًا به لفعل التعجب الذي اكتفى بهذا المفعول به، واقتصر عليه.
الثانية: أن يزيد على الفاعل السابق الذي صار مفعولًا به، أحد المفعولين الأصليين مجرورًا باللام؛ فنقول: ما أكسى الغنيَّ للفقير!!. ما أظَنَّ البخيلَ للجود!! فكلمتا: "البخيل"، و"الجود" كانتا قبل التعجب مفعولين للفعل المتعدي لاثنين، ثم صارتا بعد التعجب مجرورين باللام، ومتعلقين مع مجرورهما بفعل التعجب.
الثالثة: أن يزيد على الحالة السابقة المفعول الأصلي الثاني؛ فنقول: ما أكسى الغنيَّ للفقير ثيابًا!. ما أظنَّ البخيلَ للجودِ تبذيرًا!.
الرابعة: حذف لام الجر السابقة ونصب الثلاثة مباشرة بشرط أمن اللبس، نحو: ما أكسى الغني الفقيرَ الثيابَ!! وما أَظَنَّ البخيلَ الجودَ تبذيرًا. فإن خيف اللبس أدخلت لام الجر على المفعولين الأصليين؛ نحو: ما أظَن الرجلَ لأخيك، لأبيك، والأصل: ظَنَّ الرجل أخاك أباك.
لكن "أفْعَلَ" في التعجب لا ينصب إلا مفعولًا به واحدًا، وفي الأمثلة السابقة استوفى حقه بنصبه المفعول به الذي كان في الأصل فاعلًا. فما الذي
__________
1 سواء أكان أصلهما المبتدأ والخبر كالفعل: "ظن" أم لم يكن أصلهما ذلك، كالفعل: "كَسَا".
2 كثر الخلاف والاضطراب بين المراجع المطولة بشأن هذه الحالات. وأصفاها -مع إيجازه- ما جاء في شرح "التصريح". وقد نقلنا هنا صفوة ما تضمنته المطولات.(3/365)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نصب المفعول الثاني، إن وجد، وكذلك الثالث؟
إن البصريين يقدرون فعلًا -أو ما يشبهه- ينصب المفعول الثاني إن وجد، وكذلك الثالث؛ ويسترشدون في تقديره بفعل التعجب المذكور قبله؛ فيقولون في تأويلهم: "ما أكسَى الغنيَّ يكسو الفقير!!. أو: ما أكسى الغنيَّ يكسو الفقير ثيابًا!! ". "ما أظَنَّ الغنيَّ؛ يظن الجود ... -أو ما أظَنَّ الغنيّ يظن الجود تبذيرًا!! "
والكوفيون لا يقدرون محذوفًا ولا يتأولون، ويقولون: حقًا أنّ "أَفْعَلَ" في التعجب لا ينصب إلا مفعولًا به واحدًا، لكنه في هذه الصور وأمثالها ينصب أكثر من مفعول به واحد.
ولا أثر للخلاف في المعنى، ولكن في رأي الكوفيين يسْر وقبول؛ لبعده من التكلف، والحذف، والتقدير.(3/366)
المسألة 110:
ألفاظ المدح والذم:
"ومنها: "نِعْم"، و"بِئْس"1، وما جرىَ مجراهما"
في اللغة ألفاظ وأساليب كثيرة؛ تدل على المدح، أو الذم. بعضها يؤدي هذه الدلالة صريحة؛ لأنه وُضع لها من أول الأمر نَصًّا، وبعضها لا يؤديها إلا بقرينة2. فمن الأول الذي يؤديها صريحة قولك: "أمدحُ، أُثْني، أَستحسِن ... أذم، أهجو، أستقْبحُ" ... وأشباهها، وما يشاركها في الاشتقاق، نحو: أمدح في الرجل تجلُّدَه، وحسنَ بلائه، وأذم فيه يأسه، وفتور عزيمته -أُثني عليك بما أحسنت، وأهجو من قبض يده عن الإحسان.
ومنها: الجميل، العظيم، الفاضل، الماجد، البخيل، الحقود، الخائن ... وغيرها من ألفاظ المدح والذم الصريحين.
ومن الثاني الذي يحتاج لقرينة: وَفْرة لا تكاد تعَدّ؛ في مقدمتها: أساليب النفي، والاستفهام، والتعجب3، والتفْضيل، ونحوهما؛ فإنها أساليب قد تضم أحيانًا إلى معناها الخاص دلالتها على المدح أو الذم، بقرينة؛ كقولك في إنسان يتحدث الناس بفضائله ومزاياه، أو: بنقائصه وعيوبه: "ما هذا بشرًا". تريد في حالة المدح: أنه مَلَك، مثلًا، وفي حالة الذم: أنه شيطان. ومثل قول شوقي:
هل المُلْك إلا الجيشُ شأنًا ومظهرًا؟ ... ولا الجيشُ إلا رَبُّه حين يُنسَبُ؟
__________
1 فيها لغات؛ أشهرها: "كسر الأول مع سكون الثاني"، "وفتح الأول مع كسر الثاني"، وفتح الأول مع سكون الثاني"، وكسر الأول والثاني معًا".
والأفصح والأشهر عند استعمالها في المدح والذم الاقتصار على اللغة الأولى.
2 حالية، أو كلامية.
3 انظر رقم 6 من هامش ص339.(3/367)
وقوله:
إِلامَ1 الخُلْفُ بينَكُمُ؟ إِلامَا؟ ... وهَذِي الضّجةُ الكُبرَى عَلامَا2؟
وفيمَ يَكيدُ بعضكمو لبعض؟ ... وتُبْدُون العداوةَ والخِصاما؟
وقول المتنبي: ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ من شَرَ فِي!!
وقوله في ذم قائد الجيش الرومي:
فأَخْبِثْ به طالبًا قَهْرَهُمْ!! ... وأَخْيبْ به تاركًا ما طلبْ!
وقول أعرابي سئل عن حًاكمين: أما هذا فاحرص الناس على الموت في سبيل الله، وأما ذلك فأحرص الناس على الحياة في سبيل الشيطان..
ومن النوع الأول الصريح: "نعم"، و"بئس" وما جرى مجراها من الألفاظ التي تدل نصبًا على المدح العام3 أو: الذم العام3، وتمتاز "نعم وبئس" من باقي نوعهما الصريح بأحوال وأحكام خاصة بهما، دون نظائرهما من النوع الصريح، وأشهر هذه الأحوال والأحكام ما يأتي:
1- دلالة "نعم" على المدح العام، و"بئس" على الذم العام ... 3
__________
1 إلى أي شيء؟ فكلمة "م" أصلها: "ما" الاستفهامية التي تحدف ألفها عند الجر وعدم الوقف عليها. أما عند الوقف فتحدث الألف، وتحل "هاء" السكت. ولكنها لم تحذف في آخر الشطرين؛ مراعاة لقواعد القافية، كي تماثل آخر الأبيات التالية لها. والخطاب موجة للمصريين.
2 على أي شيء؟ ويقصد بالضجة الخلاف الحزبي الطاغي في عصه، والخصومات العنيفة بين الأحزاب المصرية بسبب بعض المشروعات السياسية، ومنها: المشروع الذي كان سببًا في احتدام النزاع؛ وهو: الذي اشتهر باسم: "تصريح 28 فبراير1922". اعترفت فيه إنجلترا -وكانت مصر إذ ذاك- باستقلال البلاد المصرية ولكن بقيود وشروط.
"3، 3، 3" المراد بالعموم هنا في المدح وفي الذم أنه ليس مصورًا على شيء معين، ولا على صفة خاصة، ولا يتجه إلى أمر، دون آخر، ولا يتضمن معنى التعجب -كما نص على هذا "الخضري" في آخر الباب- بل يتجه بغير تعجب إلى كل أمور الممدوح أو المذموم؛ فالمدح العام يشمل الفضائل كلها؛ مبالغة، ولا يقتصر على بعض منها؛ كالعلم، أو الكرم، أو الشجاعة ... والذم العام يشمل العيوب كلها مبالغة، ولا يقتصر على بعض منها؛ كالكذب، أو الجهل، أو السفه.. ومن الأمثلة قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُُ} وقوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُُ} فالمدح والذم هنا مختلفان بسبب "للعموم" عنهما في الأفعال الأخرى التي تجري مجري "نعم وبئس" حيث يكون المدح والذم في تلك الأفعال الأخرى خاصين ومتضمنين التعجب، "طبقًا لما سيجيء في ص384".
وإنما يستفاد العموم مع "نعم، وبئس" عند الإطلاق وعدم التقييد؛ فإن وجد تقييد زال التعميم؛ نحو: نعم الغني محسنًا.(3/368)
واعتبار كل لفظ منهما في هذه الحالة وحدها فعلًا ماضيًا، لازمًا1 جامدًا، لا بد له من فاعل. ومع أن كلا منهما يعرب فعلًا ماضيًا فإنه متجرد من دلالته الزمنية، ومنسلخ عنها بعد أن تكوّنت منه وفاعله جملة "إنشائية غير طلبية"؛ يقصد منها إنشاء المدح العام، أو الذم العام، من غير إرادة زمن ماضٍ أو غير ماضٍ ... فكلاهما انتقل إلى نوع خاص من "الإنشاء المحض غير الطلبي" لا دلالة فيه على زمن2 مطلقًا، نحو: نعم أجر المخلصين -بئس مصير المتجبرين.
ولجمودهما في هذه الحالة وحدها لا يكون لهما مضارع، ولا أمر، ولا شيء من المشتقات.... وتلحقها تاء التأنيث -جوازًا -إذا كان فاعلهما اسمًا ظاهرًا مؤنثًا3، ويصح حذفها بكثرة، ولو كان الفاعل مؤنثًا حقيقيًا؛ نحو: نِعْم.... أو: نِعمتْ فتاة العمل والنشاط، وبئس ... ، أو: بئست فتاة البطالة والخمول. أما في غير هذه الحالة بالمدح والذم فهما فعلان ماضيان، متصرفان، دالان على زمن مضى: نحو نعم العيش ينعم، فهو ناعم؛ أي: لانّ واتسع. وبَئِسَ المريض يَبْأَس؛ فهو: بائس....
2- قَصْر فاعلهما على أنواع معينة، أشهرها ما يأتي:
1- المعرّف "بأل" الجنسية4، أو: "العهدية"5، نحو: نعم الوالد
__________
1 انظر ما يختص بهذا في رقم 3 من ص373.
2 انظر الصبان في هذا الموضع، أما البيان الكامل وذكر المراجع الأخرى ففي صدر الجزء الأول -م4- عند الكلام على أقسام الفعل.
3 وكذلك إذا كان "المخصوص" مؤنثًا فإنه يجوز تذكير الفعل وتأنيثه وإن كان الفاعل مذكرًا؛ طبقًا لما سيجيء بيانه في ص378. وقد سبق في باب الفاعل "ج2 م66 ص67 و70" بيان الحالتين السالفتين، وحكم تاء التأنيث من جهة ذكرها وحذفها.
4 هي الداخلة على نكرة لإفادة العموم والشمول مع التعريف، ويغلب أن يصلح في مكانها كلمة: "كل" فلا تدخل على ما يقبل التعريف في أغلب استعمالاته؛ مثل: "غير" -مع ملاحظة ما سبق في رقم 4 من هامش ص24- ولا على المعرفة مثل: "الله".
5 "وانظر المراد من الجنس والعهد في هذا الباب في "أ" من ص374، ثم ما يتصل بالمسألة في ص375 و376".
وقد سبق تفصيل الكلام على أنواع "أل" وأحكامها في باب المعارف بالجزء الأول، م31.(3/369)
الشفيق، وبئس الولد العاق. وقول الشاعر:
حياةٌ على الضيْم بئس الحياةُ ... ونعم المماتُ إذا لم نَعِزْ1
ب- المضاف إلى المعرف "بأل" السابقة، نحو: نعم رجل الحرب خالدٌ، وبئس رجل الجبن والكذب مُسَيْلمةُ ...
ج- المضاف إلى المضاف إلى المعرف بها؛ نحو: نعم قارئ كتب الأدب، وبئس مهمل أمر اللغة.
د- الضمير المستتر وجوبًا بشرط أن يكون ملتزمًا الإفراد والتذكير2، وعائدًا على تمييز بعده3، يفسر ما في هذا الضمير من الغموض والإبهام؛ نحو: نعم قومًا العرب، وبئس قومًا أعداؤهم. ففي كل من: "نعم" و"بئس" ضمير مستتر وجوبًا4 تقديره: "هو" مرادًا منه الممدوح، أو المذموم، ويعود على التمييز "قومًا" أي: نعم القوم قومًا ... وبئس القوم قومًا ...
ولا بد من مطابقة هذا التمييز لمعناهما، "أي: لا بد من مطابقته لما يسمى: "المخصوص" بالمدح أو الذم، بحيث يتطابقان تذكيرًا، وتأنيثًا، وإفرادًا، وغير إفراد"، نحو: نعم رجلين: القائد والجندي، نعم رجالا: الحليم، والصبور، والمتواضع. نعم، أو: نعمت، فتاةً المجاهدة. نعم، أو: نعمت، فتاتين: المجاهدتان. نعم، أو: نعمت فتيات المجاهدات.
__________
1 إذا لم نَعِزْ "مع تخفيف الزاي، للقافية والأصل: التشديد" إذا لم تكن أصحاب عزة، أي: قوة، وكرامة، وهيبة.
2 اشتراط التذكير ليس متفقًا عليه؛ وإنما هو رأي الأكثرية القائلة بأن الفاعل الاسم الظاهر يراد به الجنس في ضمن جميع الأفراد؛ بأن يجعل راجعًا إلى التميز المراد به الجنس؛ لكونه على نية "أل الجنسية" إذ الأصل مثلًا: نعم الرجل.
3 فلا يصح تقديم التمييز هنا على الفعل. وهذا أحد المواضع التي يجوز أن يعود الضمير فيها على متأخر لفظًا ورتبه. "وقد تقدم تفصيل الكلام عليها في الجزء الأول ص184 م20" ثم انظر رقم 4 من هامش هذه الصفحة.
4 ومن النادر الذي لا يقاس عليه إبرازه مجرورا بالباء الزائدة في مثل قولهم: نعم بهم قومًا. وقد ذكرنا هذا الرأي للاستعانة به على فهم الوارد المسموع دون محاكاته.(3/370)
ولا بد أن يكن التمييز صالحًا لقبول "ألْ" المعرفة1، فلا يصلح أن يكون من الكلمات المتوغلة -غالبًا -في الإبهام؛ ككلمة: غير، ومثل: وشبه2....
ويجوز -في الرأي الراجح -أن يجتمع في أسلوب المدح أو الذم الفاعل الظاهر والتمييز3؛ نحو: نعم الشجاع رجلًا يقول الحق غيرَ هَيَّاب، وقول الشاعر:
__________
1 والأحسن اعتبار هذا التمييز من نوع تمييز "الذات" "أي: تمييز "المفرد"، ولا تمييز "النسبة" "طبقًا للبيان التفصيل الذي سبق في باب: "التمييز" ج2 م88 عند الكلام على أقسام التمييز ص389 و391 وما بعدهما".
ومن أحكام هذا التمييز أنه -على الصحيح- لا يجوز حذفه مع استتار الضمير الفاعل العائد عليه؛ لكيلا يبقي الفاعل الضمير مبهمًا، ليس له ما يفسره؛ فالتمييز يفسر الفاعل المستتر. فإن وجدت قرينة تدل على التمييز بعد حذفه، وتكون عوضًا عند صح الحذف؛ كالتاء في قولهم: إن زرت الصديق فبها ونعمت؛ أي: نعمت زيارةً زيارتك، ومنه قوله عليه السلام: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" أي: فبالرخصة أخذ، ونعمت رخصة الوضوء.
ولا يصح تقديمه على "نعم وبئس" كما أسلفنا، ولا تأخيره عن "المخصوص" بالمدح والذم؛ ولهذا حكموا بالشذوذ على مثل: نعم محمد رجلًا، باعتبار "محمد" هو "المخصوص". أما باعتباره فاعلًا فلا يصح؛ لأنه ليس من الأنواع السالفة التي تصلح فاعلًا في هذا الباب.
ويصح أن يكون لهذا التمييز نعت أو غيره من التوابع، ومن أمثلة النعت قولهم:
إن الكذوب لبئس خلاَّ يُصْحَب
كما يصح أن يفصل بينه وبين الفاعل فاصل، كقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} ، ويجوز تثنيته وجمعه -كما أشرنا- وبسبب هذا الجواز امتنع إبراز الفاعل المستتر، وتثنيته وجمعه، اكتفاء بتثنية التمييز وجمعه؛ فلا يصح: نِعْما -ونْعُموا ... في الرأي الراجح.
2 فيما سبق يقول ابن مالك بإيجاز:
فِعْلاَنِ غَيْرُ مُتَصرِّفَيْنِ ... "نَعْم" و"بِئْس" رافِعانِ اسْميْنِ
مُقَارنَيْ "أَلْ" أَو مُضَافَيْنَ لِمَا ... قَارَنَهَا كَنِعْمَ عُقْبَى الكُرَما
وَيَرْفَعَان مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ ... مُمَيِّزٌ، كَنِعْمَ قَوْمًا مُعْشَرَهْ
تضمنت الأبيات الثلاثة أن "نعم وبئس" فعلان جامدان، وأنهما يرفعان فاعلين مقترنين بـ"أل" أو مضافين للمقترن بـ"أل" أو ضميرًا يفسره مميز "تمييز، كنعم قومًا معشره". وترك الناظم بقية أنواع الفاعل التي في الصفحات التالية.
3 وفي هذا يقول ابن مالك:
وَجَمْع تَمْيِيزٍ وفًاعِلٍ ظَهَرْ ... فِيهِ خِلاَفٌ عَنْهُمُو قَدِ اشْتَهَرْ(3/371)
نعْمَ الفتاةُ فتاةً هندُ لو بَذلتْ ... رَدَّ التحية نطقًا أَو بإِيماءِ1 ...
هـ- كلمة: "ما"2 أو: "من"3، نحو: "نعم ما يقول الحكيم المجرب، وبئس ما يقول الغر الأحمق"، ونحو: "نعم من تصحبه عزيزًا. وبئس من ترافقه منافقًا".... وقيلَ: إن "ما" تتميز، والفاعل ضمير مستتر تفسّره "ما" وكذلك: "مَنْ".
__________
1 عند الجمع بينهما قد يكون سبب التمييز غير دال على معنى زائد على الفاعل؛ نحو: نعم الرجل رجلًا عُمر؛ فيكون من نوع التمييز الذي يفيد مجرد التوكيد؛ كالذي في قول أبي طالب عم الرسول عليه السلام:
ولقد علمت بأَن دِين محمدٍ ... من خير أَديان البرية دينًا
"كما سبق في باب التمييز ج2 م87 ص327". ويجوز أن يكون دالًا بنفسه على معنى زائد على معنى الفاعل؛ نحو: "نعم الفتى فتى صلاح"، إذا كان المراد أنه فتى حقًا، أي من ناحية الفِتوة، يظهر عليه أماراتها. ويجوز أن تكون زيادة المعنى ليست ناشئة منه مباشرة، وإنما هي من أحد توابعه أو معمولاته، نحو نعم الرجل رجلًا مجاهدًا صلاح ... و ...
2 وفيها يقول ابن مالك:
وَ "مَا" مُمَيِّزٌ، وَقِيل: فَاعِلُ ... في نَحْو: نَعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ
في "ب" من ص374 أشهر إعرابات "ما" بعد نعم وبئس".
ويقول علماء رسم الحروف إن "ما" إذا كانت معرفة تمة فقد تكون: "تامة عامة" ومعناها: "الشيء"، ولفظ: "الشيء" يلاحظ عند التقدير. وعلامتها ألا يكون قبلها اسم تكون هي وعاملها صفة له في المعنى، كقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} التقدير: نعم الشيء هي ... وقد تكون معرفة "تامة خاصة"، وعلامتها: أن يسبقها اسم تكون هي وعاملها صفة له في المعني، وتقدر من لفظ ذلك الاسم؛ نحو: أصلحت الخط إصلاحًا نِعِمًا، التقدير: نعم الإصلاح. هذا كلامهم. ويقول أكثرهم إن: "ما" في الصورتين توصل خطًّا بآخر الفعل: "نعم وبئس" وتدغم هي "وميم" نعم، وتكسر عندئذ "العين" للتخلص من السكون الناشيء من الإدغام.
غير أن الحكمة في هذا الاتصال الكتابي غير سائغة عند فريق آخر؛ إذ هي: مجرد المحاكاة السابقين ممن كتبوها في الطور الأول وقت استحداث الخط. فالخير في فصلها، "بالرغم من أننا فصلناها مرة في أعلى هذه الصفحة، ووصلناها في هامشها" إلى أن يستقر الاصطلاح على وضع جديد موحد.
ومثلها عندهم في الاتصال "بنعم" كلمة "ما" النكرة الناقصة وهي النكرة الموصوفة التي معناها الذي تقدر به: "شيء"؛ مثل: إن قراءة الكتب الأدبية نعما يقوم الألسنة. والحكمة والرأي هنا مشابهًا فيما سبق.
3 وتكون: "من" موصولة، أو نكرة تامة، أو نكرة موصوفة، ولا تكون معرفة تامة.(3/372)
و "الذي" "اسم موصول"؛ نحو: نعم الذي يصون لسانه عما لا يَحْسن، وبئس الذي يغتاب الناس.
ز- النكرة المضافة لنكرة، أو غير المضافة؛ كقول الشاعر:
فنَعم صاحبُ قومٍ لا سلاح لهم ... وصاحبُ الكربِ عثمانُ بنُ عفَّانا
ومثل: نعم قائد أنت ...
والنوعان الأخيران "وهما: الذي، والنكرة"، أقل الأنواع استعمالًا، وسُمُوًّا بلاغيًّا، مع جوازهما.
3- عدم نصبهما المفعول به؛ لأن كلا منهما في هذا الاستعمال فعل ماض جامد لازم -كما تقدم1.... ولكن يصح زيادة "كاف الخطاب" الحرفية في آخرهما، نحو: نِعْمك الرجل عثمان، وبئْسك الرجل زياد. وهذه الكاف حرف محض لمجرد الخطاب؛ فلا يعرب شيئًا، ولكنه يتصرف على حسب نوع المخاطب2. وزيادته -مع جوازها -قليلة في الأساليب البليغة3.
__________
1 في رقم 1 من ص386.
2 تذكيرًا، وتأنيثًا، وتثنية، وجمعًا ...
3 سبق بيان هذا مفصلًا في ج1 ص238 م19 باب: الضمير، بمناسبة الكلام على: "كاف الخطاب" الحرفية.(3/373)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- إذا كانت: "أل" جنسية في مثل: "نعم الوالد عليّ" ونظائره طبقًا لما أوضحناه1، فقد يراد منها الدلالة على الجنس حقيقة؛ فكأنك تمدح كل والد. ويدخل في هذا التعميم عليّ، ثم تذكره بعد ذلك خاصة؛ فكأنك مدحته مرتين؛ إحداهما مع غيره، والأخرى وحده.
وقد يكون المراد الجنس مجازًا؛ فكأنك جعلت الممدوح بمنزلة الجنس كله للمبالغة في المدح.
أمّا إذا كانت "أل" للعهد1، فقد تكون لشيء معهود في الذهن لم يذكر خلال الكلام؛ فتكون للعهد الذهني. فإن ورد في الكلام فهي للعهد الذكري. كالذي في قولهم:
خيرُ أيامِ الفتَى يومٌ نَفَعْ ... فاتْبَع الحقَّ، فنِعْم المُتَّبَعْ
و"أل" الجنسية أقوى وأبلغ في تأدية الغرض، والعهدية أوضح وأظهر.
ب- إذا وقعت كلمة: "ما"2 بعد: "نعم وبئس" جاز فيها إعرابات كثيرة؛ وأشهرها ما يأتي:
1- إعرابها حين يليها اسم منفرد "مثل: الزراعة نِعْم ما الحرْفُة" -إما نكرة تامة فاعلًا، وإما نكرة تامة: تمييزًا، وفاعل "نعم"، و"بئس" في هذه الصورة ضمير مستتر يعود على هذا التمييز، وتعرب الكلمة المنفردة التي بعدها "وهي: الاسم المنفرد" خبرًا لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ والجملة قبلها خبر عنها -كما سنعرف في إعراب المخصوص-.
2- إعرابها حين يليها جملة فعلية، "مثل: نِعْم ما يقول العقلاء. وبئس ما يقول السفهاء ... "، إما نكرة ناقصة، تمييزًا، والفاعل ضمير مستتر يعود عليها. والجملة بعدها صفة لها. وإما معرفة3 ناقصة، فاعلًا، والجملة بعدها صلتها.
__________
1 راجع: "أ" ص369.
2 انظر بعض أنواع "ما في رقم 1 من هامش ص372 ثم ما يجيء في الصفحة التالية.
3 اسم موصول.(3/374)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3- إعرابها حين تنفرد فلا يليها شيء؛ "نحو: الرياضة نعما، والإسراف فيها بئسما" إمَّا أن تكون نكرة تامة فاعلًا، وإمَّا تمييزًا، والفاعل ضمير مستتر يعود عليها.
ففي كل الأحوال السابقة يجوز أن يكون الفاعل ضميرًا مستترًا يعود على "ما" لا فرق بين أن تكون نكرة تامة، وناقصة، ومعرفة تامة. كما يجوز أن تكون "ما" باعتباراتها المختلفة فاعلًا.
فإذا اعتبرناها نكرة ناقصة فالجملة بعدها صفتها، وإذا اعتبرناها معرفة ناقصة فالجملة بعدها صلتها، وإذا وقع بعدها كلمة منفردة، أو لم يقع بعدها شيء، فهي تامة، تعرب فاعلًا، أو تعرب تمييزًا والفاعل ضمير.
ولما كان كل نوع من أنواع "ما" مختلفًا في دلالته اللغوية عن النوع الآخر، كان تعدد هذه الأوجه الإعرابية جائزًا حين لا توجد قرينة توجه المعنى إلى أحدها دون الآخر؛ فإذا وجدت القرينة وجب الاقتصار على ما تقتضيه، فليس الأمر على إطلاقه -كما قد يتوهم بعض المتسرعين؛ ففي مثل: "لا أجد ما أتصدق به إلا اليسير؛ فيجيب السامع: نِعْم ما تجود به". تكون "ما" هنا نكرة موصوفة؛ فكأنه يقول: نِعم شيئًا أي شيء تجود به، وفي مثل؛ أعطيتك الكتاب الذي طلبته؛ فتقول: نعم ما أعطيتني؛ فكلمة "ما" موصولة، وهكذا ... وإلا كانت الألفاظ ودلالتها فوضى. والقرائن والأسرار اللغوية لا قيمة لها، ومثل هذا يقال في "ألْ" السابقة، من ناحية أنها للعهد أو للجنس ... وفي غيرها من كل ما يجوز فيه أمران، أو أكثر وتقوم بجانبه قرينه توجه إلى واحد دون غيره.(3/375)
4- امتناع توكيد فاعلهما المفرد الظاهر توكيدًا معنويًا، فلا يصح نعم الرجل كلهم1 محمد، ولا بئس الرجل أنفسهم عليّ. كما لا يصح: نعم الرجل كله محمد، ولا بئس الرجل نفسه عليّ2.... فإن كان فاعلهما مثني أو جمعها جاز، نحو: نعم الصديقان كلاهما، محمد وعلي- نعم الأصدقاء كلهم محمد وعلي وحامد.... ومثلهما المثنى والجمع للمؤنث ...
أما التوكيد اللفظي فلا يمتنع، وكذلك: "البدل، والعطف3". وأما النعت فيجوز إذا أريد به الإيضاح والكشف، لا التخصيص4، كقول الشاعر:
لعَمْري -وما عَمْرِي عليَّ بِهَيِّنٍ ... لبِئْس الفتَى المدعُوُّ بالليَّلِ حاتِمُ
__________
1 "كلهم" بالجمع مراعاة لمعنى الفاعل لا لفظه؛ لأنه بمعنى الجنس المشتمل على أفراد كثيرة، كما سبق في "أ" من ص369. "انظر رقم 2 التالي".
2 لا يصح التوكيد المعنوي إذا كان لفظه للجمع كالمثالين الأولين؛ لأن فيه تناقضا بين ظاهره اللفظي الدال على الجمع، وظاهر الفاعل الدال لفظه على الإفراد. كما لا يصح أيضًا إذا كان لفظه للمفرد؛ منعًا لمتناقض بين ظاهره اللفظي ومعنى الفاعل الملحوظ فيه الجنس كله، أو أنه بمنزلة الجنس كله.
هذا على اعتبار "أل" جنسية؛ أما على اعتبارها للعهد فلم يقطعوا فيه برأي، وإنما قالوا لا يستبعد جوازه "راجع الصبان وغيره في هذا الموضع"، وهذه فتوى مضطربة. والأحسن الأخذ بالرأي الذي لا يبيح التوكيد المعنوي مطلقًا؛ لأن الغرض منه لا يتحقق هنا مع "أل" العهدية؛ إذ مقام المدح والذم لا يتطلب الإحاطة والشمول فتأتي له بلفظ: "كل، أو جميع، أو عامة"، أو نحوها من ألفاظ التوكيد الدالة على الشمول، وليس المقام بمقام رفع احتمال الشك عن ذات الفاعل فتأتي له بلفظ التوكيد الذي يزيل الشك عنها؛ مثل كلمة: "نفس"، أو ما يشبهها ...
3 اشترط بعض النحاة في "البدل والعطف" ن يكون كل منهما صالحًا لمباشرة "نعم" "بأن يكون معرفًا "بأل" أو مضافًا إلى المعرف بها، ولو بواسطة ... و."، وبعض آخر لم يشترط هذا؛ محتجًا بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع. ولم يوضح لنا أحد الفريقين موقفه من السماع الكثير الوارد عن العرب؛ لتكون الحجة قاطعة، ولهذا كان من التيسير المقبول الأخذ برأي من لا يشترط ما سبق.
4 لأن تخصيصه منافٍ للشمول والتعميم عند من يجعل "أل" جنسية، فإذا أريد به الكشف والإيضاح على تأويل أنه الجامع لكل الصفات، صح النعت به. وأما القائلون بأنها للعهد فلا يشترطون هذا، ويبيحون النعت. فهنا صورتان؛ يجوز النعت مع التأول في إحداهما، وعدم التأول في الأخرى، ومن الخير ترك هذا العناء كله، والاقتصار على النتيجة النافعة التي ينتهي إليها الرأيان وهي: النعت، وإهمال ما يحف به من جدل.(3/376)
وقال الآخر:
نعمَ الفتَى المُرِّيّ1 أنْتَ، إذا همو ... حضَروا لدى الحَجَرَات2 نارَ الْمُوقِد
فإن كان الفاعل ضميرًا مستترًا فلا يجوز أن يكون له تابع من نعت، أو عطف، أو توكيد، أو بدل.
5- حاجتهما -في الغالب- إلى اسم مرفوع بعدهما هو المقصود بالمدح أو الذم، ويسمى: "المخصوص بالمدح أو بالذم". وعلامته: أن يصلح وقوعه مبتدأ، وخبره الجملة الفعلية التي قبله مع استقامة المعنى، نحو: "نِعْم المغرد البلبلُ، بئس الناعب الغرابُ"؛ فالبلبل هو: المخصوص بالمدح، والغراب: هو المخصوص بالذم، كلاهما يصلح أن يكون مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره؛ فنقول: البلبل نعم المغرد. الغرابُ بئس النَّاعب.
ويشترط في هذا المخصوص أن يكون معرفة، أو نكرة مختصة بوصف، أو إضافة، أو غيرهما من وسائل التخصيص3 ... وأن يكون أخص من الفاعل4، لا مساويًا له، ولا أعم منه5؛ وأن يكون مطابقًا له في المعنى، "فيكون مثله في مدلوله تذكيرًا، وتأنيثًا، وإفرادًا، وتثنية، وجمعًا".... وأن يكون متأخرًا عن الفاعل؛ فلا يتوسط بينه وبين فعله6، -ويجوز تقدمه على الفعل والفاعل معًا- كما يجب تأخره عن التمييز إذا كان الفاعل ضميرًا مستترًا له تمييز؛
__________
1 المنسوب لقبيلة مُرَّة -والمقصود به: سِنَان بن أبي حارثة المري.
2 الحجرات، جمع: حَجَرة "بفتح الحاء والجيم" وهي شدة برد الشتاء. وقد تقرأ: حُجُرات جمع: حُجْرة: بضم فسكون.
3 أو يصلح أن يكون خبرًا إذا جعلنا الفاعل مبتدأ موصوفًا بكلمة: "الممدوح" أو كلمة: "المذموم" على حسب المعنى؛ "لأن مفسر الفاعل كالفاعل"، نحو: نعم الصانع خليل، وبئس المصنوع النسيج، أي: "الصانع، الممدوح خليل" "المصنوع، المذموم النسيج" وسيجيء الكلام، على إعراب المخصوص في ص378.
4 لأن المراد من الفاعل هو الجنس كله طبقًا للرأي الأغلب.
5 حجتهم في أن يكون أخص: أن يحصل التفصيل بعد الإجمال؛ ليكون أوقع في النفس ... والحجة الحقيقية وحدها هي استعمال العرب، كالشأن في باقي الحجج التالية.
6 بزعم أن هذا أدعى للتشويق، لكن يجوز أن يتقدم على الفعل والفاعل وفي هذه الصورة لا يسمى: مخصوصًا. والسبب في المنع هو استعمال العرب ليس غير، ويجب إهمال هذه التعليلات.(3/377)
نحو: نعم رجلًا المخترعُ.
أما إذا كان الفاعل اسمًا ظاهرًا، فيجوز تقديم "المخصوص" على التمييز وتأخيره، فنقول: نِعم العالِمُ رجلًا إبراهيم، أو: نِعم العالِمُ إبراهيم رجلًا.
وإذا كان المخصوص مؤنثًا جاز تذكير الفِعل وتأنيثه، وإن كان الفاعل مذكرًا؛ نحو: نعم الجزاء الهدية، ونعم الشريك الزوجة، أو نعمتْ، فيهما. والتذكير في هذه الحالة أحسن ليطابق الفاعل1.
حذف المخصوص:
يجوز حذف "المخصوص"، إن تقدم على جملته لفظ يدل عليه بعد حذفه، ويغني عن ذكره متأخرًا، ويمنع اللبس والخفاء في المعنى؛ ويُسمَّى هذا اللفظ؛ بـ"المُشْعِر بالمخصوص"؛ سواء أكان صالحًا لأنْ يكون هو "المخصوص" أم غير صالح2؛ ويعرب على حسب الحالة؛ مثل: سمعت شعرًا عذبًا لم أتعرَّف صاحبه، ثم تبينتُ أنه البُحْتريّ؛ فنعم الشاعر. أي: فنعم الشاعر البُحْتريّ. وقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} ، أي: نعم العبد الصابر، ويصح: نعم العبد أيوب. وعلى التقدير الأول يكون "المشعر" -وهو كلمة: "صابرا"- من النوع الذي لا يصلح أن يكون "مخصوصًا"؛ لأنه نكرة غير مختصة، بخلافه على "التقدير الثاني".
إعراب المخصوص:
المشهور إعرابان؛ أحدهما: أن يكون مبتدأ مؤخرًا، والجملة الفعلية التي قبله خبر عنه، كما في المثالين السالفين3 ...
وثانيهما: اعتباره خبرًا لمبتدأ محذوف وجوبًا، تقديره: "هو"، أو: هي أو غيرهما مما يناسب المعنى، ويقتضيه السياق، فيكون في المثالين السابقين3
__________
1 لهذا إشارة في رقم 3 من هامش ص369.
2 وهذه الصورة قليلة.
"3، 3" في رقم 5 من ص377.(3/378)
مثلًا: نِعم المغرد هو البلبل، وبئس الناعب هو الغراب. أي: الممدوح البلبل، والمذموم الغراب. فالمراد من الضمير هنا: "الممدوح" أو: "المذموم".
وهناك إعراب ثالث؛ هو: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف؛ تقديره: "الممدوح" أو "المذموم".
تلك هي الأوجه الثلاثة المشهورة، ويلاحظ أن كُلاَّ منها قائم على الحذف والتقدير، أو التقديم والتأخير، مع الركاكة والضعف، مع أن هناك رأيًا قديمًا آخر أولى بالاعتبار؛ لخلوه من تلك العيوب وغيرها؛ هو: إعراب المخصوص "بدلًا"1 من الفاعل؛ فيكون: "البلبل" بدلا من "المغرد"، ويكون: "الغراب" بدلًا من: "الناعب" ... هكذا ...
وحبذا الأخذ بهذا الرأي السهل الواضح في تقديرنا.
يجوز في هذا المخصوص أن تعمل فيه النواسخ؛ نحو: نعم مداويًا كان الطبيب؛ فهو اسم "كان" والجملة قبلها خبرها2 ...
__________
1 الأحسن أن يكون بدل كل من كل على جميع الاعتبارات؛ لأن المراد من البدل هو المراد من المبدل منه. ومن العجيب أن يكون هذا رأي قلة من النحاة مع وضوحه، وقوة انطباق قواعد البدل عليه، وعدم تناقضه مع قاعدة أخرى. وأما ما وجِّه إليه من عيب فقد دفعه العائبون أنفسهم، وانتهوا إلى خلوه من العيوب "كما يدل على هذا ما ورد في المطولات، ومنها حاشية الصبان في هذا الموضع، وقد نقل عن بعض المحققين جواز البدلية، وسجله في آخر باب عطف البيان" فلماذا لم يجعلوه في قوة غيره؟ بل لماذا لم يقدموه على غيره؟ ولا نريد أن نسجل هنا تلك العيوب وطرق دفعها؛ كي لا نسجل ما لا طائل وراءه. ومن شاء أن يطلع عليها فليرجع إليها في مظانها التي ذكرناها والتي لم نذكرها.
2 وفي المخصوص وإعرابه يقول ابن مالك:
وَيُذْكَرُ "الْمَخْصُوصُ" بَعْد مبتدا ... أَوْ خَبَرَ اسْمِ لَيْس يَبْدُو أَبَدا
أي: يذكر المخصوص بعد الفاعل، ويعرب المبتأ، أو خبرا لمبتدأ محذوف وجوبًا، لا يجوز أن يظهر. ويقول في حذفه:
وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كَفَى ... كَالْعِلْمُ نِعْمَ المقُتَنَى وَالمقْتَفَى
يريد: إن تقدم على المخصوص ما يشعر بمعناه ويدل عليه من غير لبس، أو فساد -كفى وأغنى عنه وجاز حذفه، كالأمثلة التي سبقت في الشرح. أما مثال: العلم نعم المقتنى والمقتفي فالمخصوص قد تقدم فصار في الظاهر هو المشعر، والأصل: "نعم المقتنى والمقتفي العلم"، فأغنى عن المخصوص؛ منعًا للتكرار الذي لا فائدة منه هنا، و"المقتنى": الشيء الذي يُتَّخَذ قِنْية، أي: الشيء الغالي، الذي يحرص الناس على ادخاره والاحتفاظ به. و"المقتفى" الذي يُقْتَفى؛ أي: يتبع وتراعى أحكامه ...(3/379)
ومن النوع الأول الصريح1: الفعل: حب" يكون للمدح العام مع الإشعار بالحُبّ، ويكثر أن يكون فاعله كلمة: "ذا" التي هي اسم إشارة2 نحو: حبذا الموسيقيّ إسحاق، وقول الشاعر:
يا حبذا النيل على ضوء القمرْ ... وحبذا المساء فيه والسحرْ
فإن جاء بعده الفاعل "ذا" وقبله: "لا" النافية كان للذم العام، نحو: لا حبذا البخيل مادر3.
وإنما كان معنى الفعل: "حب" هو: المدح مع الإشعار بالحب والقرب من القلب؛ لأنه فعل مشتق من مادة: "الحب"، وفاعله اسم إشارة للقريب. وهو ينفرد بهذه المزية دون "نعم".
ومما يدل على الذم العام الصريح أيضًا الفعل: "ساء"، تقول: ساء البخيل مادر، كما تقول: بئس للبخيل مادر، وقول الشاعر:
أألوم من بخلت يداه وأغتدي ... للبخل تربًا4؟ ساء ذاك صنيعا!
فمعناهما واحد، هو: الذم العام5، وكذلك أحكامهما.
ومما تقدك نعلم "حبذا" جملة فعلية -على الرأي الأرجح -الفعل: فيها: "حب"، وهو هنا ماضٍ جامد6، وفاعله هو كلمة: "ذا" اسم الإشارة، مبنية
__________
1 أي: الذي يدل على المدح أو الذم دلالة صريحة بغير قرينة.... "انظر ص367".
2 وعندئذ تتصل بآخره في الكتابة وجوبًا؛ طبقًا لقواعد رسم الحروف. ومن الأمثلة أيضًا قول الشاعر:
حبذا ليلة تَغَفَّلْت عنها ... زمني فانتزعْتها من يديه
تغفلته: خدعته وهو غافل. أما الحرف "يا" فيجيء تفصيل الكلام عليه في مكانه الأنسب، وهو باب: "النداء" -ج3 م127 ص5 -ومنه يتعين أن الحرف: "يا" هنا: حرف تنبيه، أو حرف نداء ...
3 اسم رجل يضرب به المثل قديمًا في البخل.
4 صديقًا وصاحبًا.
5 إلا إن لوحظ في الفعل "ساء" أنه محول من أصله إلى صيغة "فعل" بقصد الذم الخاص مع التعجب، كما سيجيء الكلام على تحويل الأفعال الثلاثة إلى هذه الصيغة ص384 و385.
6 هو في الأصل مشتق. ولكنه صار جامدًا، كامل الجمود بعد انتقاله إلى حالته الجديدة التي قصد بها إنشاء المدح فصار مع فاعله جملة إنشائية خالية من الدلالة الزمنية على الوجه الذي شرحناه في رقم 1 من ص368.(3/380)
على السكون في محل رفع. "الموسيقي" هو المخصوص بالمدح، ويعرب مبتدأ خبره الجملة التي قبله، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو غير هذا مما فصلناه1 في إعراب "مخصوص: نعم وبئس إلا بدليل فلا يصح هنا.
ومن أحكام هذا المخصوص أيضًا أنه لا يصح تقدمه على الفاعل وحده، دون الفعل، ولا على الفعل والفاعل معًا، فلا يصح: حب على ذا، ولا على حبذا؛ لأن تقدمه غير مسموع في الكثير الفصيح من كلام العرب؛ فصارت: "حبذا" معه ثابتة الموضع والصورة كالمثل؛ والأمثال لا تتغير مطلقًا. هذا إلى أن تقدمه قد يوهم "في مثل الصورة الثانية التي يكون فيها المخصوص مفردًا مذكرا" أن الفاعل ضمير مستتر، وأن "ذا" مفعول لا فاعل، وفي هذا إفساد للمعنى، لكن يصح أن يتقدم على التمييز أو يتأخر عنه؛ نحو: حبذا رجلًا العصامي، أو: حبذا العصامي رجلًا، ويصح الفصل بالنداء بينه وبين "حبذا" كما يصح حذفه إن دلت عليه قرينة لفظية أو حالية2. كقول الشاعر:
ألا حبذا لولا الحياة، وربما ... منحت الهوى ما ليس بالمتقاربِ
__________
1 في آخر ص378.
2 كثير من النحاة يمنع أن يكون الفاعل "ذا" تابع من التوابع الأربعة شأنه في هذا شأن فاعل "نعم" وبئس، إذا كان ضميرًا مستترًا، فإذا وقع بعد "ذا" اسم فهو "المخصوص" وهذا الرأي سديد هنا؛ لأن حاجة اسم الإشارة المخصوص الذي يوضحه ويزيده جلاء أشد من حاجته إلى البدل، أو غيره من التوابع. ويجب الأخذ بهذا الرأي في صورتي "حب" المنفية وغير المنفية، ما دام الأسلوب لإنشاء المدح أو الذم. لهذا يقولون في كلمة: "المجاهد" في مثل: حبذا المجاهد -إنها المخصوص، ويعربونها إعرابه، ولا يعربونها بدلًا. لكن يجوز توكيد جملة: حبذا توكيدًا لفظيًّا، ومنه قول الشاعر:
ألا حبذا، حبذا، حبذا ... حبيب تحملت منه الأذى
ومما يقوي منع إعرابه عطف بيان أن عطف البيان لا بد أن يكون كمتبوعه -في الرأي الأصح- تعريفًا وتنكيرًا كما سيجيء في ص550، وقد وردت أمثلة كثيرة فصيحة وقع فيها مخصوص حبذا نكرة، منها قول جرير:
وحبذا نفحات من يمانية ... تأتيك من قِبَل الريان أحيانا
فلو أعربنا كلمة: "نفحات" عطف بيان لخالفت متبوعها -وهو اسم الإشارة- في تعريفه.(3/381)
والأصل مثلًا: ألا حبذا أخبار الحب، أو النساء ... لولا الحياء، ولا يصح أن تعمل فيه النواسخ، بخلاف مخصوص "نعم" كما سبق1.
ومثل الإعراب السابق يقال في: لا حبذا البخيل مادر، مع إعراب "لا" حرف نفي، فليس ثمة خلاف بين الصيغتين في شيء إلا في وجود "لا" النافية قبل: "حبذا" مباشرة "أي بغير فاصل مطلقًا"2 ... وبسببها تصير الجملة لإنشاء الذم لا المدح. ولا يصح أن يحل حرف نفي آخر محل: "لا" في هذا الموضع ومن الأمثلة الجامعة للصورتين قول الشاعر:
ألا حبذا عاذري في الهوى ... ولا حبذا الجاهل العاذل
وقول الآخر:
ألا حبذا أهل الملا، غير أنه ... إذا ذكرت ميٌّ فلا حبذا هيا
وإذا كان فاعل؛ "حب" -في حالتي النفي وعدمه- هو كلمة: "ذا" وجب أمران؛ فتح الحاء في "حب3" ... وأن يبقى الفاعل: "ذا" على صورة واحدة لا تتغير في الحالتين؛ هي صورة الإفراد والتذكير مهما كان أمر المخصوص من الإفراد، أو التثنية، أو الجمع، أو التذكير، أو التأنيث ... نحو: حبذا الطبيبة فاطمة. حبذا الطبيبتان الفاطمتان. حبذا الطبيبات الفاطمات. حبذا الطبيب محمد. حبذا الطبيبان المحمدان. حبذا الطبيبون -أو الأطباء- المحمدون، فلا يصح إخراج "ذا" عن الإفراد
__________
1 في ص379.
2 ويصح وقوع الحرف "يا" قبل "حبذا المثبتة، وفيما سبق خاصًّا بالفعلين: "ساء وحب" يقول ابن مالك:
واجعل كبئس ساء واجعل: "فعلا" ... من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
وسيجيء شرح هذا البيت في هامش ص391، ثم يقول بعده:
ومثل "نعم" حبذا الفاعل "ذا" ... وإن ترد ذمًّا فقل: "لا حبذا"
أي: مثل: "نعم" مع فاعلها في إنشاء المدح، جملة، "حبذا": وهي جملة فعلية، الفاعل فيها هو كلمة: "ذا". أما عند إرادة الذم فقل: "لا حبذا" بزيادة "لا" النافية.
3 يشترط وصلها: بـ"لما" كتابة -كما سبق في رقم 2 من هامش ص380.(3/382)
والتذكير؛ لأنها دخلت في أسلوب يشبه المثل، والأمثال لا تتغير مطلقًا، ولا تخالف الصورة الأولى التي وردت بها عن العرب1 ...
فإن كان فاعل: "حب" اسمًا آخر غير كلمة: "ذا" فإنه لا يلتزم صورة واحدة، وإنما يساير المعنى، فيكون مفردًا أو غير مفرد، مذكرًا، أو غير مذكر، كل هذا على حسب ما يقتضيه المعنى. وعندئذ يجوز رفعه أو جره بباء زائدة في محل رفع، كما يجوز في "حاء" الفعل: "حب" أن تضبط بالفتحة أو الضمة، مثل: حب المضيء القمر، حب المضيئان القمران. حبت المضيئات الأقمار ... وهكذا2؛ "لأنه يجري على "حب" من ناحية ضبط فائها وعينها ما يجري على مثلهما من الفعل الذي يحول إلى "فعل" وسيجيء الكلام عليه3".
__________
1 يقول ابن مالك:
وأوْلِ: "ذا" المخصوص، أيا كان، لا ... تعدل بـ"ذا" فهو يضاهي المثلا
"أوْلِ ذا: أتْبِعْ كلمة "ذا" ... وجيء بعدها بالمخصوص أيًا كان، في أي مكان وصورة وجد من الأسلوب الخاص بالمدح والذم، أي: سواء أوجد للمفرد وفروعه أم المذكر وفروعه، لا تعدل بذا: لا تمل بلفظ "ذا" إلى غيره، ولا تنصرف عنه إلى سواء، والمراد لا تدخل عليه تغييرًا مطلقًا، يضاهي: يشابه".
2 يقول ابن مالك في الفاعل إذا كان غير كلمة "ذا"؛ وفي رفعه أو جره بالباء الزائدة، وفي ضبط "حاء" الفعل معه ومع "ذا":
وما سوى "ذا" ارفع بِحَبَّ، أو: فجُرْ ... بالبا، ودون "ذا" انضمام الحا كَثُرْ
"الفاء في: "فجُر" زائدة، أو في جواب شرط مقدر؛ أي: إن شئت فجر؛ لأن حرف العطف لا يدخل على مثله": يقول: ارفع الفاعل إذا كان اسمًا غير كلمة "ذا"، أو: جره بالباء الزائدة. ودون "ذا" أي: في غير الفاعل: "ذا"، كثر انضمام الحاء في فعله "حب"، ويفهم من هذا أن ضم الحاء لا يصح إذا كان الفاعل هو كلمة: "ذا" كما شرحنا.
3 في ص390.(3/383)
المسألة 111:
الأفعال 1 التي تجري مجرى "نعم" و "بئس":
الأصل العام: أن يقتصر كل فعل تحتويه الجملة المفيدة على تأدية معنى واحد مناسب؛ يكتفى به، ولا ينضم إليه معنى آخر. وينطبق هذا الأصل العام على أكثر الأفعال الثلاثية، حيث يقتصر كل فعل منها على تأدية معناه الخاص الواحد من غير دلالة معه على مدح، أو: ذم أو: تعجب ... كالأفعال: فرح، قعد، فهم.... و.... ومئات غيرها فإن كان كل فعل منها يؤدي معناه المعين؛ "وهو: الفرح، القعود، الفهم ... " تأدية مجردة من الإشعار بمدح، أو ذم، أو تعجب؛ فلا صلة لها بشيء من هذه المعاني الثلاثة.
لكن من الممكن أن يدخل شيء من التغيير على صيغة كل فعل من الأفعال السابقة –ونظائرها– ليصير على وزن معين، فيؤدي معناه الأصلي الخاص مع زيادة في الدلالة؛ تتضمن المدح بهذا المعني اللغوي الخاص، أو الذم به، كما تتضمن –في الوقت نفسه –الإشعار بالتعجب في الحالتين. فالزيادة الطارئة على المعنى اللغوي الأصلي للفعل بعد تغيير صيغته –تتضمن الأمرين معًا. وإن شئت فقل: إن الفعل الثلاثي في صيغته الجديدة، الناشئة من التغيير يؤدي ثلاثة أمور مجتمعة؛ هي: معناه اللغوي الخاص، مزيدًا عليه المدح بهذا المعنى الخاص أو الذم به على حسب دلالته الأصلية، وأيضًا إفادة التعجب في حالتي المدح والذم2.
والمدح والذم هنا خاصان؛ لأنهما يقتصران على المعنى اللغوي للفعل، وهذا المعنى معين محدود، ولهذا يكون المدح به أو الذم خاصًا، مع إفادة التعجب
__________
1 قد نضيق بهذه الأفعال وأحكامها، وننفر –أحيانًا– من جرسها بعد تحويلها المدح أو الذم وما يصحبهما، بالرغم من أن هذا التحويل قياسي. فحبذا الاقتصار على فهم الوارد منها، والاستغناء عن محاكاته؛ -مع صحة محاكاته– نزولًا على الدواعي البلاغية العالية. -كما سنشير في رقم 1 من هامش ص387 وكذلك في ص393.
2 سبقت الإشارة لهذا.
"ملاحظة": انظر حكمًا آخر يتصل بهذا التحويل -سيجيء في "ج" ص389-.(3/384)
في كل حالة، فلا إهمال للمعنى الخاص الأساسي للفعل، ولا تعميم فيه ولا شمول، ولا خلو من التعجب، فالأسلوب هنا باشتماله على الأمور الثلاثة السالفة مختلف عنه مع "نعم وبئس"؛ لأن معناهما: المدح والذم العاملين الشاملين، الخاليين من إفادة التعجب1.
وإنما يقوم الفعل الثلاثي2 بتأدية معناه الخاص مع تلك الزيادة في الدلالة إذا تحقق في صوغه أمران:
أولهما: أن يكون مستوفيًا كل الشروط التي يجب اجتماعها في الفعل الذي يصلح أن تصاغ منه –مباشرة– صيغتا التعجب3، وفي مقدمتها: أن يكون ثلاثيًا.
ثانيهما: أن يكون على وزن: "فعل" –بضم العين-؛ سواء أكان مصوغًا على هذا الوزن من أول الأمر نقلًا عن العرب؛ مثل: شرف، وكرم، وحسن ... و....، أم لم يكن؛ كفهم4، وجهل، وبرع ... ؛ فيصير: فهم، جهل4، برع ...
"ومعلوم أن الفعل الثلاثي لا يخرج –في الأغلب5– عن ثلاثة أوزان؛ تنشأ من تحريك عينه بالفتح؛ "نحو: ذهب"، أو بالكسر؛ "نحو: علم" أو بالضم؛ "نحو: ظرف". أما أوله فمفتوح في أغلب الحالات6 والأوزان التي
__________
1 انظر رقم 3 من هامش ص368 ففيها إشارة وافية، موضحة لهذا. أما بيان الفروق المختلفة كلها فتأتي في: "أوب" من ص388.
2 إلا الفعل: "ساء" فحكمه في ص392.
3 سبق بيانها وشرحها في ص349 و385 من باب: التعجب؛ -وليس من اللازم لتحقيق الشرط الأول "وهو أن يكون الفعل ماضيًا" أن يكون هذا الماضي المراد تحويله حلقي الفاء؛ -كما يرى بعض النحاة– فقد يكون، أو: لا يكون "وحروف الحلق ستة؛ هي: الهمزة، العين، الغين، الحاء، الخاء، الهاء".
"4، 4" يرى بعض النحاة: أنه لا يجوز تحويل "علم، وجهل، وسمع" إلى: "فعل" وحجته: أن هذا التحويل غير مسموع. وفي رأيه تعسير لا داعي له، لمعارضته حكمه القياس، والغرض منه، ولأنه سمع تحويلها –كغيرها- عن بعض القبائل العربية.
5 هناك أفعال صحيحة العين، ساكنتها أصالة وهي قليلة العدد، ومنها: "نعم وبئس" وليس منها الأفعال المعتلة العين؛ مثل: غاب، قام، نام -....؛ فإن سكونها طارئ لأن عينها في الأصل متحركة.
6 قلنا: "في أغلب الحالات" لأن قليلًا من الأفعال الماضية. مكسور الأول؛ مثل: نعم، بئس ...(3/385)
يكون فيها مبنيًا للمعلوم. والثلاثي مضموم العين لا يكون إلا لازمًا؛ ولهذا يصير الفعل المتعدي لازمًا إذا تحول من صيغته الأصلية إلى صيغة: فعل".
وصوغه على وزن: "فعل"، "بقصد تأديته لمعناه اللغوي المعين؛ مع المدح الخاص به، أو الذم الخاص، ومع الإشعار بالتعجب1 فيهما"، يقتضي الأحكام والتفصيلات الآتية:
أ- اعتبار الفعل بعد تلك الصياغة لازمًا؛ مجردًا من الدلالة الزمنية، وجامدًا كامل الجمود "فلا مضارع له؛ ولا أمر، ولا غيرهما من بقية المشتقات".
ب- صحة تحويل الفعل الثلاثي الصحيح2، غير المضعف3، تحويلًا مباشرًا إلى صيغة: "فَعُلُ" بضم العين؛ فيفيد بعد التحويل معناه اللغوي مقرونًا بالمدح أو الذم الخاضين بمعناه، مع التعجب في كل حالة؛ تبعًا لمعناه اللغوي الأصلي قبل التحويل؛ ففي مثل: "فَهِمَ المتعلم، عدل الحاكم، نقول: فَهُمَ المتعلم، عَدُلَ الحاكم؛ فيفيد التركيب الجديد معنى الفعل في اللغة، مزيدًا عليه مدح المتعلم بالفهم فقط، ومدح الحاكم بالفهم فقط، ومدح الحاكم بالعدْل فقط، مع التعجب في الحالتين". وفي مثل: "جَهِل4 المهملُ، حَسَد الأحمقُ.... نقول جَهُلَ المهملُ؛ حَسُدَ الأحمقُ؛ فيفيد الأسلوب معنى الفعل، مزيدًا عليه ذم المهمل بسبب جهله، وذم الأحمق بسبب حسده فقط. مع التعجب في الصورتين" ... ولا فرق في هذا التحويل وآثاره بين الثلاثي مفتوح العين، أو مكسورها، أو: مضمومها.
ويجوز في الفعل بعد تحويله إمَّا إبقاؤه على صورته الجديدة، وإمَّا تسكين
__________
1 وهو بدلالته على معناه مزيدًا عليه التعجب مع المدح أو الذم الخاصين، يختلف عن: "نعم وبئس" –كما شرحنا-.
2 ما ليس في أصوله حرف علة. أما المعتل فتجيء أحكامه في ص392.
3 مضعف الثلاثي ما كانت عينه ولامه من جنس واحد. "وسيجيء الكلام على تحويل المضعف في ص390".
4 انظر ما يختص بتحويل الأفعال: "علم, جهل، سمع" إلى: "فعل" في رقم 4 من هامش الصفحة السالفة.(3/386)
عينه المضمومة، كما يجوز تسكين عينه بعد نقل حركتها "وهي الضمة"، إلى أوّله؛ فنقول في الصورتين الأخيرتين: "فهم المتعلم، عدل الحاكم، جهل المهمل، حسد الأحمق" ... أو: "فهم، عدل، جهل، حسد1....".
وإذا تم تحويل الفعل على الوجه السالف صار بمنزلة: "نعم، وبئس" في الجمود، وفي أصل دلالتهما وهي مجرد المدح والذم –مع مراعاة الفوارق بينهما2-، ويجري عليه من الأحكام النحوية المختلفة ما يجري عليهما؛ فيحتاج إلى فاعل من نوع فاعلهما الذي سبق بيانه، وقد يحتاج إلى تمييز، وإلى "مخصوص" كما يحتاجان. ويسري على فاعله وتمييزه ومخصوصه. كل الأحكام التي تسري حين يكون الفعل: "نعم أو بئس". فإذا قلت في المدح: فهم المتعلم حامد، وفي الذم: خبث الماكر سعيد، فكأنك قلت: نعم الفاهم حامد، وبئس الماكر سعيد مع ملاحظة الفرق المعنوي الذي أوضحناه.
وهكذا يُطبق على الفعل الصحيح الثلاثي غير المضعف3، بعد تحويله إلى: "فعل" جميع ما يطبق على: "نعم وبئس"، ويخضع النوعان لأحكام واحدة ما عدا بعض الفروق المعنوية السالفة وبعض فوارق في فاعله4 وستأتي.
__________
1 بالرغم من جواز الأمرين تسكين العين على الوجه السالف، أو نقل حركتها إلى أول الفعلين يحسن تركهما اليوم في استعمالاتنا، وعدم الالتجاء إلى استخدامها قدر الاستطاعة، وحسبنا الاستعانة بهما على فهم الوارد المسموع، دون محاكاته؛ فرارًا من الغموض الشديد، واللبس القوي.... كما سبقت الإشارة في رقم 1 من المسموع، دون محاكاته؛ فرارًا من الغموض الشديد، واللبس القوي.... كما سبقت الإشارة في رقم 1 من هامش ص384-.
2 من الفوارق ما يأتي في الزيادة ص388 وهي مختصة بالفاعل، وأن المدح والذم بصيغة الفعل الذي تم تحويله خاصان، وليسا عامين، وأنهما يتضمنان التعجب، بخلافهما مع: "نعم وبئس". حيث يقتصر معناهما على المدح العام، والذم العام، فلا يتضمنان تعجبًا.
3 سيجيء الكلام على المضعف في ص390.
4 في الزيادة ص388.(3/387)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- تبين مما تقدم1 أن الفعل الذي يتم تحويله إلى "فعل" على الوجه المشروح إنما يدل –فوق معناه اللغوي الأصيل– على مدح خاص أو ذم خاص، وأنه لا بد من إشرابه معنى "التعجب" في الحالتين. وبالتخصيص فيهما والتعجب يخالف "نعم وبئس"؛ لأن معناهما المدح العام والذم العام ولا يتضمنان تعجبًا.
ب- وينفرد "فاعل" الفعل الذي تم تحويله بأمور لا تكون في فاعل: "نعم وبئس".
منها: صحة وقوعه اسمًا ظاهرًا خاليًا من "أل" ومما يشترط في فاعل نعم،....2 نحو: قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} ، ومثل عدل عمر.
ومنها: كثرة جره بالباء الزائدة إن كان اسمًا ظاهرًا، فيجر لفظًا ويرفع محلًا، نحو: حمد بالجار معاشرة، وسعد بالرفيق مزاملة. أي: حمد الجار معاشرة، وسعد الرفيق مزاملة.
ومنها: صحة رجوعة –إن كان ضميرًا– إلى شيء سابق عليه؛ فيطابقه حتمًا. أو إلى التمييز المتأخر عنه فلا يطابقة. وتقول: الأمين وثق رجلًا؛ ففي الفعل: "وثق" ضمير يجوز عودته على: "الأمين" المتقدم، أو: على التمييز: "رجلًا" المتأخر عنه، ولهذا الرجوع إلى أحدهما أثره في المطابقة بين الفاعل الضمير ومرجعه؛ إذ عند رجوعه للسابق تجب مطابقته فنقول: الأمينان وثقا رجلين –الأمناء وثقوا رجالًا –الأمينة وثقت فتاة –الأمينتان وثقتا فتاتين –الأمينات وثقن فتيات. أما عند عودته إلى التمييز المتأخر فلا تصح المطابقة، بل يلتزم الإفراد والتذكير؛ شأنه في هذا شأن فاعل "نعم وبئس" إذا كان ضميرًا مستترًا، فنقول في كل الصور السالفة: "وثق" بغير إدخال تغيير عليه يدل على تأنيث، أو تثنية، أو جمع.
وفيما سبق يقول: "ابن عقيل والأشموني" وحاشيتاهما، عند شرحهما لكلمة: "مسجلًا" في آخر بيت ابن مالك الذي نصه: -كما سبق في ص382".
__________
1 في ص384 وما بعدها.
2 راجع رقم 2 ص369.(3/388)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"واجعل كبئس ساء. واجعل "فعلًا" من ذي ثلاثةٍ كنعم مسجلًا".
إن معناها هو: مطلقًا عن التقييد بحكم دون آخر.... ثم قال الخضري ما نصه1:
"لكن "فعل" يخالف "نعم وبئس" في ستة أمور:
اثنان في معناه: إشرابه التعجب، وكونه للمدح الخاص –أو للذم الخاص2 – "واثنان في فاعله الظاهر؛ جواز خلوه من "أل" نحو: وحسن أولئك رفيقًا، وكثره جره بالياء الزائدة، تشبيهًا بأسمع بهم؛ كقولهم:
حبّ بالزور3 الذي لا يرى ... منه إلا صفحة أو لمام3
"واثنان في فاعله المضمر؛ جواز عوده ومطابقته لما قبله؛ ففي: "محمد كرم رجلًا" يحتمل عود الضمير إلى: "رجلًا" كما في نعم،.... وإلى "محمد" كما في فعل التعجب، لتضمنه معناه. وتقول: المحمدون كرم رجالًا - ... على الأول4 وكرموا رجالًا على الثاني5 فقول المصنف: "كنعم مسجلًا" ليس على سبيل الوجوب في كل الأحكام. والكلام في غير "ساء". أما "ساء" فيلازم أحكام "بئس ... " ا. هـ كلام الخضري.
ج- بمناسبة ما تقدم يقول الصرفيون إن أبواب الفعل الثلاثي المستعملة أصلة -بحسب حركة العين في الماضي والمضارع- ستة، الخامس منها هو باب: "فعل يفعل" بضم العين فيهما معًا؛ كحسن يحسن، وشرف يشرف أو كرم يكرم ... و ... ويردفون كلامهم بتقرير أمرين6:
أولهما: أن هذا الباب "الخامس" مقصور في أصله على الأوصاف الفطرية والسجايا الخلقية الدائمة أو التي تلازم صاحبها زمنًا طويلًا.
ثانيهما: صحة تحويل كل فعل ثلاثي من الأبواب الأخرى إلى هذا الباب ليدل الفعل بعد هذا التحويل على أن معناه صار كالغريزة والسجية في صاحبه.
__________
1 وهو المفهوم أيضًا من كلام الأشموني والصبان.
2 انظر الصبان في هذا أيضًا.
"3، 3" سيعاد البيت مشروحًا في ص391 لمناسبة هناك.
4 أي: على التقدير الأول الذي يعود فيه الضمير المستتر على التمييز بعده بغير أن يطابقه، فيظل الضمير مفردًا، مذكرًا.
5 أي: على التقدير الثاني الذي يرجع فيه الضمير المستتر إلى مرجع قبله فيطابقه.
6 سجلهما صاحب شذا العرف في أول كتابه ص18 عند كلامه على: الباب الخامس من "التقسيم الثالث للفعل بحسب التجرد والزيادة....".(3/389)
ج- فك الإدغام إن كان الفعل: "مضعفًا"، مثل: فر، لح ... ويرد إلى أصله قبل الإدغام، فيصير: فرر1، لجج2، ثم يحول إلى: "فعل": فيصير: فرر، لجج.... ثم يعود إلى الإدغام، فيصير كما كان3: "فر"، لج، تقول في الذم –مثلًا– فر الرجل جبانًا، لج القط مواء، أو: فر بالرجل جبانا، لج بالقط مواء.
ويجوز حذف الفتحة في أول الفعل لتحل مكانها الضمة التي في عين الفعل عند تحويله إلى: "فعل"، وتسكن عين الفعل4؛ فتصير الجملة: فر الرجل جبانًا، لج القط مواء، أو: فر بالرجل جبانًا، لج بالقط مواء.
ومن المضعف الذي تجري عليه هذه القواعد الفعل؛ "حب"5 عند تحويله إلى: "فعل" بقصد المدح، بشرط ألا يكون فاعله كلمة: "ذا" في مثل: "ذا" في مثل: "حبذا" لأن "حب" في هذه الصورة المركبة مع "ذا" يجب فتح الحاء فيها، وبقاء "ذا" على حالها من الإفراد والتذكير في كل الأساليب، مهما كان حال الممدوح من ناحية إفراده، وعدم إفراده. وتذكيره أو تأنيثه، كما يجب في هذه الصورة أيضًا وصل الفعل: "حب" بفاعله: "ذا" كتابة، وتركيبهما معًا تركيبًا خطيًا كما سبق6.
أما إن كان الفاعل اسمًا ظاهرًا غير كلمة "ذا" فإن الفعل "حب" يخضع لما أشرنا إليه؛ من فتح الحاء أو ضمها، كما يجري على فاعله الأحكام الخاصة بالمحول، والتي أوضحناها. تقول حب الجندي رجلًا، أو: حب بالجندي رجلًا. ومنه قول الشاعر:
__________
1 من باب: ضرب.
2 من باب: تعب.
3 ويكون التمييز بين دلالتي الفعل بالقرائن الأخرى؛ فهي التي تدل على أنه باقٍ يؤدي معناه الأصلي، أو أنه انتقل إلى "فعل" ليؤدي معنى المدح أو الذم.
4 كما سبق في ص387.
5 تفصيل الكلام عليها في ص380.
6 في رقم 2 من هامش ص380 وفي رقم 3 من هامش ص382.(3/390)
حب1 بالزور2 الذي لا يرى ... منه إلا صفحة3 أو لمام4
وهكذا5 ...
__________
1 بضم الحاء أو فتحها؛ طبقًا لما شرحناه –وقد سبق البيت لمناسبة أخرى في ص389-
2 الزور: "يستوي فيه المفرد وغيره"، ومعناه الزائر.
3 صفحة الشيء: جانبه.
4 جمع لِمّة "بكسر اللام وتشديد الميم"، وهي شعر الرأس الذي يصل إلى شحمة الأذن.
5 وإلى ما سبق من الكلام على تحويل الفعل إلى "فعل" على الوجه الذي شرحناه يقول ابن مالك بيتًا مختصرًا –سبقت الإشارة إليه "في هامش ص382"؛ هو:
واجعل كبئس "ماء" واجعل "فعلًا" ... من ذي ثلاثة كنعم، مسجلًا
"مسجلًا: حرًا لا يعوقه ولا يقيده قيد".
يطلب أن تكون: "ساء" مثل: "بئس" في معناها وأحكامها. وأن يكون "فعل" "وقد زاد في آخره ألفًا لوزن الشعر"، من كل فعل ثلاثي، مثل: "نعم" في معناها، وفي أحكامها، من غير تقييد يجعل بينهما فرقًا فيما سبق. هذا رأيه وليس غرضه "نعم" وحدها، وإنما مثلها: "بئس" أيضًا. والحق أن هناك فروقًا، بين "نعم" وهذا الفعل المحول وقد سردناها في ص389.
أما "ساء" فالخلاف شديد فيه؛ أهو مثل: "بئس" تمامًا في المعنى والأحكام، أم هو مثلها في المعنى، ولكنه في الأحكام كالأفعال المحولة؟
وقد أوضحنا كل ذلك في الشرح.(3/391)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
إن كان الفعل المراد تحويله معتل "الفاء" مثل: وثق، وفد ... فحكمه حكم الصحيح. وإن كان معتل العين بالألف. مثل: صام، هام، نام، بقي على حاله، وقدر فيه التحويل تقديرًا عقليًا محضًا عند وجود قرينة تدل على قصد المدح أو الذم؛ ليكون لهذا التقدير أثره الواقعي في الفاعل، وفي المخصوص ... ، وإن شئت فقل: إن حكمه هو حكم الصحيح أيضًا مع نية التحويل الذي ترشد إليه القرينة. ويدخل في هذا النوع الفعل: "ساء" فيصح أن يلاحظ فيه التحويل عند قيام قرينة؛ فيستعمل استعمال الأفعال التي تحولت، ويصح ألا يلاحظ فيه ذلك؛ لأنه موضوع في أصله للذم العام الصريح1 مثل: "بئس"؛ فتجري عليه أحكام "بئس" من نواحيها المختلفة.
وإن كان الفعل معتل اللام –فقط– بالواو، أو بالألف التي أصلها الواو: مثل: سرو2، غزا ... ظهرت الواو في الكلام مفتوحة وقبلها الضمة، ولو لم تكن الواو موجودة من الأصل ويجوز تسكين ما قبل الواو مباشرة3؛ فنقول: سَرُوَ، غَزُوَ، أو: سَرْوَ، غَزْو.
وإن كان الفعل معتل اللام بالياء؛ نحو: خشي، ورمي4، قلبت الياء واوًا قبلها ضمة، ويجوز تسكين ما قبلها3؛ فتصير: خَشُوَ، أو خَشْوَ، رمُوَ، أو رَمْيَ.
وإن كان الفعل معتل العين واللام معًا، وحرف العلة فيهما هو "الواو"؛ مثل: قَويَ "من القوة، أصله: قوو"، فإن الواو الأولى تتحرك بالكسرة؛ فقلبت بعدها الواو الثانية ياء؛ فتصير؛ "قوي" فكأن الفعل بقي على حاله.
وإن كان معتل العين واللام معًا بالواو فالياء، نحو: شوى: قلبت الياء
__________
1 كما سبق في ص380.
2 سرو الرجل: صار سريًا، أي: غنيًا شريفًا.
"3، 3" راجع التصريح "عند الكلام على: "حبذا" آخر هذا الباب" وكذا الخضري.
4 لأن الألف التي في آخر الفعل أصلها ياء.(3/392)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند التحويل واوًا، لوقوعها متطرفة بعد ضمة، ثم أدغمت الواو في الواو، فتصير: "شو". ويجوز عدم القلب واوًا فتبقي الياء مع تسكين ما قبلها فتقول: شوي. وكذلك نقول في قوي: قوى، ولا يجوز القلب والإدغام في هذه الحالة لأن السكون ليس أصليًا.
وإن كان معتل العين واللام معًا بالياء؛ نحو: حيَّ، وعيَّ ... لم يصح تحويله1 ...
هذا ملخص ما جاء في المطولات المتداولة خاصًا بتحويل الفعل المتعل مع تعدد الآراء، وشدة الخلاف فيه. ولا أعرف أن النحاة نقلوا لأكثر هذه الصور أمثلة مسموعة تؤيد كلامهم. فهل هي صور خيالية تدريبية؟
لا يحسن اليوم استعمال شيء منها؛ سواء أكانت خيالية محضة أم لها مسموع يؤيدها؛ لأنها ثقيلة، مجافية للأسلوب الأدبي الرفيع، والذوق البلاغي السائغ. وفي الميادين اللغوية الأخرى ما يغني عنها تمامًا –كما أشرنا من قبل2.
__________
1 راجع الهمع، وشرح التصريح في باب: "نعم وبئس" عند الكلام على تحويل الثلاثي إلى: "فعل". وكذلك الصبان في هذا الموضع، ثم حاشية ياسين على شرح التصريح في أول باب التعجب.
2 في رقم 1 من هامش ص384 وفي رقم 1 من هامش ص387.(3/393)
المسألة 112: أفْعَلُ التفضيل 1
يتضح معناه من الأمثلة الآتية:
إن كلمة: "أكبر" –في المثال الأول– تدل على أمرين معًا؛ هما: اشتراك الشمس والأرض في معنى معين؛ هو: "الكبر"، وأن الشمس تزيد على الأرض في هذا المعنى.
وكلمة: "أقدم" –في المثال الثاني– تدل على أمرين معًا؛ هما: اشتراك الأهرام والقاهرة في معنى معين؛ هو: "القدم" وأن الأهرام تزيد عليها في هذا المعنى.
وكلمة: "أوسع" –في المثال الثالث– تدل على اشتراك المحيطات واليابسة في معنى معين؛ هو: السعة، والمحيطات تزيد عليها فيه....
ومثل هذا يقال في الباقي ... وفي نظائره.
فكل كلمة من هذه الكلمات المشتقة -ونظائرها- تسمى: "أفعل
__________
1 ربما كان الأنسب أن يذكر مع المشتقات. ولكنا وضعناه هنا اتباعًا لترتيب ابن مالك في: "ألفيته".
2 جمع: هرم؛ بناء فرعوني قديم، له شكل هندسي؛ خاص.
3 الماضي: سرع، مثل: صغر.(3/394)
التفضيل1" وتعريفه: "أنه اسم، مشتق، على وزن: "أفعل" يدل –في الأغلب2– على أن شيئين اشتركا في معنى، وزاد أحدهما على الآخر فيه". فالدعائم أو الأركان التي يقوم عليها التفضيل الاصطلاحي –في أغلب حالاته– ثلاثة:
1- صيغة: "أفعل"، وهي اسم، مشتق.
2- شيئان يشتركان في معنى خاص.
3- زيادة أحدهما على الآخر في هذا المعنى الخاص.
والذي زاد يسمى: "المفضل"، والآخر يسمى: "المفضل عليه"، أو: "المفضول". ولا فرق في المعنى والزيادة فيه بين أن يكون أمرًا حميدًا، أو ذميمًا2.
وبدل أفعل التفضيل -في أغلب صوره– على الاستمرار والدوام3، ما لم توجد قرينه تعارض هذا، فشأنه في الدوام والاستمرار شأن الصفة المشبهة على الوجه المشروح في بابها4.
طريقة صياغته:
يصاغ "أفعل التفضيل" من مصدر الفعل الذي يراد التفضيل في معناه، بشرط أن يكون هذا الفعل مستوفيًا كل شروط "التعجب" التي عرفناها5 في
__________
1 هذه التسمية اصطلاحية، أي: الصيغة التي على وزان: "أفعل"؛ لتدل على التفضيل أو المفاضلة؛ "وهي: الزيادة في أمر حسن أو قبيح؛ كما سيجيء عند تعريفه". أما "التفضيل" غير الاصطلاحي فليس له ضوابط معينة، وإنما هو متروك لبراعة المتكلم، ومقدرته البلاغية التي تمكنه من اختيار الألفاظ والأساليب الدالة على المفاضلة بين شيئين في أمر، وزيادة أحدهما على الآخر في هذا الأمر، من غير استخدام الطريقة الاصطلاحية.
"2، 2" في الزيادة والتفصيل ص406 بيان مفيد عن المقصود بالاشتراك، وعن الزيادة، وأن "أفعل" التفضيل قد يفيد البعد لا الاشتراك، ثم أمور أخرى هامة.
3 نص على هذا صاحب التسهيل "راجع هامش ص238".
4 في ص281 م104.
5 ص349.(3/395)
بابه.... "بأن يكون فعلًا ثلاثيًا1، متصرفًا، تامًا، مبنيًا للمعلوم2.... و...... و.... و....." فالشروط التي يجب توافرها لصياغة "أفعل التفضيل" هي –نفسها– الشروط التي لا بد من توافرها لصوغ "فعلي التعجب"؛ مثل الأفعال: سمع، عدل، فهم، بعد، بقي، خبث.... و.... ومن الأخيرين جاء: "أبقى –وأخبث" في قول الشاعر:
الخيرُ أبقى3، وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
فإن كان الفعل غير مستكمل الشروط، وكان السبب هو جموده أو عدم قبول معناه للمفاضلة "كالفعل: مات، فنى، عدم ... " لم يجز التفضيل منه مطلقًا؛ "بطريق مباشر، أو غير مباشر"؛ لأنه بجموده لا مصدر له4 ولأنه بعدم قبوله المفاضلة يفقد الأساس الذي يقوم عليه التفضيل في أغلب حالاته.
أما إن كان السبب فقد شرط آخر غير الشرطين السابقين فإن4 صياغة "أفعل" تمتنع من مصدره مباشرة5، وتصاغ –كالتعجب– من مصدر
__________
1 إن كان الفعل رباعيًا على وزن: "أفعل" ففيه الخلاف السابق في التعجب ص349. ومن المسموع الذي فعله رباعي قولهم: "هو أعطاهم للدراهم، وأولاهم بالمعروف". وهذان شاذان عند من يمنع ذلك مطلقًا، وعند من يمنعه إذا كانت الهمزة للنقل. أما قولهم: هذا المكان أقفر من غيره فشاذ عند من يمنعه مطلقًا، لأن همزته ليست للنقل.
2 مع ملاحظة الخلاف في أمر المبني للمجهول، ونتيجته، وأثر ذلك في الحكم؛ على الوجه الذي سبق تمحيصه في ص350 مع الرجوع إلى البحث الهام الذي يعارض أن يكون في اللغة العربية أفعال ملازمة البناء للمجهول دائمًا "وقد تقدم في ج2 م67 ص102".
3 أصل الكلام: أبقى من غيره، فالمفضل عليه محذوف؛ طبقًا لما سيجيء في ص430.
"4، 4" يرى بعض النحاة أن الفعل المنفي كالجامد لا يجيء منه التفضيل مطلقًا –بطريقة مباشرة أو غير مباشرة– لأن المصدر المؤول يكون في حالة النفي معرفة؛ فلا يصح أن يكون تمييزًا لكن التحقيق صحة مجيء التفضيل فيه بالطريقة غير المباشرة؛ إما لصحة مجيء كلمة: "عدم" قبله وإما لصحة تنكير، فليس من اللازم أن يكون معرفة في كل الأحوال.
5 ومن الشاذ استعمال كلمتي: "خير" و "شر" في التفضيل؛ لأن صيغتهما الحالية الظاهرة تخالف صيغته، نحو: الكسب القليل خير من البطالة، والبطالة شر من المرض. وقولهم: "خير الناس أنفعهم للناس، وشرهم أقربهم إلى الإساءة والعدوان" وقول الشاعر:
إذا كان وجه العذر ليس ببيّن ... فإن اطراح العذر خير من العذر
ويقول الآخر: =(3/396)
فعل آخر مناسب للمعنى، مستوفٍ للشروط، ويوضع بعد صيغة "أفعل" مصدر الفعل الأول –الذي لم يكن مستوفيًا للشروط- منصوبًا على التمييز. فمثلًا الفعل: تعاون، لا.... يصاغ من مصدره "أفعل" التفضيل مباشرة؛ لأنه فعل خماسي؛ فنصوغه بطريقة غير مباشرة" بأن نأخذه من مصدر فعل آخر مناسب "مثل: كَبِر، كَشُر، نفع...." ونجعل بعده مصدر الفعل
__________
=
وشر العالمين ذوو خمول ... إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وخير الناس ذو حسب قديم ... أقام لنفسه حسبًا جديدًا
أي: أخيرًا وأشر؛ حذفت همزتها لكثرة الاستعمال حذفًا شاذًا. ومن الجائز إرجاعها عند استعمالهما، فقد ورد الكلام الفصيح مشتملًا عليها. وفعلهما المسموع "خار يخير، وشر يشر" ويرى بعض اللغويين أنهما اسمان جامدان لا فعل لواحد منهما فمجيء التفضيل منهما شاذ عنده. ففيهما على هذا الرأي شذوذان صوغهما من الجامد، وسقوط همزتهما. أما على الرأي الأول –وهو الصحيح– ففيهما شذوذ واحد؛ هو سقوط همزتهما، لأن لكل منهما فعلًا وقد اجتمع في آية قرآنية استعمال كلمة "خير" لغير التفضيل، ثم للتفضيل، في قوله تعالى: {.... إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} .
ومثلهما في حذف الهمزة شذوذًا: "حب" في قول القائل: "وحب شيء إلى الإنسان ما منعا"، أي: أحب شيء. وجاء في ص60 من مجلة المجمع اللغوي القاهري: "عدد البحوث والمحاضرات التي ألقيت في مؤتمر الدورة الثلاثين، لسنة 1963-1964" ما نصه على لسان أحد الأعضاء: "قالوا إن الهمزة حذفت في التفضيل من كلمتي: "خير وشر" لكثرة الاستعمال، وذلك ادعاء لا دليل عليه، ولا يتناسب مع معاني لفظي: "خير وشر" لأنهما يفيدان التفضيل أو الزيادة بماتهما، كما تفيد ذلك ألفاظ كثيرة بوضعها اللغوي: مثل زائد، وناقص، وعالٍ، وسافل.... وإن استعمال هاتين الكلمتين في معنى "أفعل" إنما كان على معنى الاستغناء بهما عن بناء وزن "أفعل" من مادتهما؛ لأن قصد المفاضلة الذي يصاغ له "أفعل" قد حصل من أصل المادة حيث لو بنى منها وزن "أفعل" لكان تحصيلًا للحاصل، أو تفضيلًا على تفضيل، وهذا هو ظاهر كلام ابن مالك في الكافية" ا. هـ.
ولا أثر لهذا الرأي يترتب عليه حكمًا خاصًا. سوى الحكم بمنع استعمال: "أخير، وأشر" بغير حجة قوية؛ إذ كيف يمتنع استعمالهما ولكل منهما فعل ثلاثي يصح صوغ التفضيل من مصدره قياسًا كسائر الأفعال الثلاثية الصالحة لذلك؟ وأيضًا فاللفظان مسموعان بصيغة التفضيل ولا اعتراض على استعمال الكلمة المسموعة بنصها الوارد. وفوق هذا فالكلمات التي سبقت هنا لتأييد المنع "ومنها: زائد ناقص، عالٍ، سافل.." كلمات يصح صوغ التفضيل من مصادرها قطعًا. فلا دليل فيها على المنع ...
وشذ كذلك صوغ "أفعل" من اسم العين، "أي: من الاسم الدال على ذات، وشيء مجسم" فقد ورد: هو أحنك البعيرين" أي: أكثرهما أكلا؛ فبنوا "أفعل" من شيء مجسم: هو، الحنك. كما شذ قولهم: هذا الكلام أخصر من ذاك فبنوه من الفعل: "اختصر" المبني للمجهول، الزائد على ثلاثة؛ فاجتمع فيه شذوذان.. وهكذا،.. وكل ما جاء مخالفًا للشروط فإنه يحكم عليه بالشذوذ؛ فيستعمل كما ورد من غير أن يقاس عليه غيره.(3/397)
الأول "وهو التعاون" تمييزًا منصوبًا؛ فنقول: فلان أكبر تعاونًا من أخيه، أو: أكثر تعاونًا، أو: أنفع تعاونًا، أو: أقل. أو: أضعف، ... أو ما شاكل هذا مما يساير المعنى.
والفعل: "خضر" لا يصاغ من مصدره مباشرة "أفعل" للتفضيل؛ لأنه يدل على لون ظاهر؛ فنصوغه –بالطريقة السالفة، "غير المباشرة"– من مصدر فعل آخر مناسب، ونجعل بعد "أفعل" مصدر الفعل الأول، وهو: "الخضرة" منصوبًا على التمييز. فنقول: ورق الليمون أشد خضرة من ورق القصب....1.
__________
1 ومن المسموع من الألوان: "أسود من حلك الغراب" –"أبيض من اللبن"، وكل هذا الشاذ عندهم؛ يحفظ ولا يقاس عليه. وحكم الشذوذ هنا غير مفهوم ما دامت الكلمة نفسها قد استعملت صيغتها نصًا في المفاضلة اللونية؛ فهل يراد عدم التوسع في استعمالها في سواد شيء أو بياض شيء غير الشيء الذي وردت فيه نصًا؟ نعم، وهذا تضييق لا داعي له. بل إن منع التفضيل من كل ما يدل على لون تضييق لا داعي له أيضًا، ولا سيما بعد ورود السماع به واشتداد الحاجة إلى القياس على ذلك الوارد، بسبب ما كشف عنه العلم في عصرنا، ودلت عليه التجربة الصادقة من تعدد الدرجات في اللون الواحد، وفي العاهة الواحدة، وتفاوتها تفاوتًا واسع المدى كالمعروف اليوم في البياض، والحمرة، والخضرة، والسواد.... وسائر الألوان. وكذلك المعروف عند الأطباء في العاهات، كعاهة العمى -مثلا– فمنه عمى الألوان، وعمى الضوء.... و ... وكذا أكثر العاهات. وكل ما سبق يقتضي التفضيل بين درجات اللون الواحد –أحيانًا– والعاهة الواحدة أو العيب الواحد أيضًا. ومثل هذا يقال في التعجب –كما سبق في بابه-.
والحجة التي يحتجون بها لمنعه –"وهي: أن صيغة الصفة المشبهة القياسية للألوان؛ فيلتبس الأمر بين المعنيين" –حجة واهية يكن دفعها بالقرائن، ومنها: "من" الداخلة على المفضل عليه في مثل: فلان أبيض من فلان، وهذا الزرع أخضر من ذاك؛ فيكاد يمتنع اللبس في هذا النوع من التفضيل الذي يشتمل أسلوبه على كلمة: "من" هذه. نعم قد تشتبه أحيانًا بكلمة: "من البيانية" ولكن هذا الاشتباه يمكن دفعه أيضًا، والتغلب عليه بالقرينة التي تزيله.
وكذلك الشأن في النوعين الآخرين من أنواع "أفعل التفضيل" وهما: المقرون بأل"، و"المضاف" فإن احتمال اللبس فيهما قليل، وهو على قلته مما يمكن دفعه بالقرينة التي تحدد الغرض، وتوجه –في كل ما سبق– إلى أحد المعنيين دون الآخر؛ كما يحصل في غير هذا الباب، وبخاصة بعد موافقتهم على قياسية المعنوي "الذي سيجيء الكلام عليه بعد هذا مباشرة"، ومن ثم كان المذهب الكوفي الذي يبيح الصياغة من الألوان والعيوب والعاهات أقرب للسداد واليسر. وعليه قول المتنبي: -وهو كوفي –في الشيب:
اِبْعَدْ، بَعِدْت بياضًا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم
=(3/398)
والفعل: عرج، لا يصاغ –مباشرة– من مصدره "أفعل"؛ لأنه فعل يدل على عيب ظاهر، وإنما نصوغ "أفعل" بالطريقة السالفة "غير المباشرة"؛ فنقول: هذا الفتى أوضح عرجًا من غيره.
وبهذه المناسبة نذكر أن الأفعال الدالة على الألوان والعيوب لا يصاغ من مصدرها "أفعل التفضيل" مباشرة إذا كانت الألوان والعيوب حسية ظاهرة. أما إن كانت معنوية داخلية فيصح أن يصاغ منها مباشرة؛ مثل: فلان أبله من فلان، أو: أحمق من فلان، أو: أرعن منه، أو: أهوج منه، أو: أخرق منه، أو أعجم منه، أو: أبيض سريرة منه، أو: أسود ضميرًا منه و.... و....1،.
يتبين من كل ما تقدم أننا نتوصل بالطريقة "غير المباشرة" إلى التفضيل إذا فقد الفعل المتصرف القابل للمفاضلة، بعض الشروط الأخرى –ولا مانع من استخدام هذه الطريقة أيضًا مع الفعل المستوفي– وهي نفسها التي أوصلتنا إلى التعجب مما لم يستوف فعله بعض الشروط. وقد سبق شرحها في بابه فنستعين بها هنا على الوجه السالف لتوصلنا إلى التفضيل كذلك.
__________
= جاء في شرح العكبري لديوان المتنبي "ج4 ص35" عند شرح البيت السالف ما نصه: "وما قول أصابنا الكوفيين في جواز "ما أفعله"، في التعجب من البياض والسواد خاصة من دون سائر الألوان فالحجة لهم في مجيئة؛ نقلًا وقياسًا. فأما النقل فقول طرفة، وهو إمام يستشهد بقوله:
إذا الرجال شتوا واشتد أكلهمو ... فأنت أبيضهم سربال طباخ
فإذا كان يرتضى قوله فالأولى أن يرتضى قوله في كل ما يصدر منه، ولا ينسب هذا إلى شذوذ وقول الآخر:
جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني إباض
وأما القياس فإنما جوزناه في السواد والبياض لكونهما أصل الألوان ومنهما يتركب سائر الألوان. إذا كانا هما الأصلين للألوان كلها جاز أن يثبت لهما ما لم يثبت لسائر الألوان" ا. هـ.
والحق أن الاقتصار على هذين اللونين لا معنى له بعد ما قدمنا. "انظر رقم 2 من هامش ص351".
1 راجع حاشية "ياسين" على شرح التصريح، أول باب: "أفعل التفضيل".(3/399)
ومما تجب ملاحظته: أن صيغة "أفعل التفضيل"، ومعناها، وأحكامها، تختلف اختلافًا كثيرًا عن صيغتي "التعجب" ومعناهما، وأحكامهما في أمور عرضنا لها هنا وهناك. ومنها: أن المصدر هنا ينصب على اعتباره، تمييزًا، وينصب هناك على اعتباره مفعولًا به1....
ومتى تمت صيغة؛ "أفعل" على الوجه السالف صارت اسمًا جامدًا؛ ويترتب على جموده أمران:
أولهما: ألا توجد له صيغة أخرى تدل على التفضيل الاصطلاحيّ؛ فليس له بعد هذه الصياغة ماض، ولا مضارع، ولا مصدر، ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول.... ولا شيء آخر من المشتقات أو غير المشتقات؛ لأن التفضيل الاصطلاحي مقصور على صيغة: "أفعل" وحدها وهي جامدة؛ كما أوضحنا، ولا يتقدم عليها شيء من معمولاتها –طبقًا لما يلي2-.
__________
1 وفي صياغة "أفعل" يقول ابن مالك في باب خاص عقده باسمه:
صغ من مصوغ منه للتعجب: ... "أفعل" للتفضيل، وأب اللذ أبي
أي: صغ "أفعل" الدلالة على التفضيل من مصدر الفعل الذي يصاغ منه التعجب. وامنع هنا الصياغة من مصدر الفعل الذي منع الصوغ منه هناك "فمعنى: ائب اللذأبي: امنع الذي منع" ثم قال:
وما به إلى تعجب وصل ... لمانع به إلى التفضيل صل
يريد: ما يتوصل به –من طريق غير مباشر بسبب مانع يمنع التعجب المباشر– صل به إلى التفضيل عند وجود مانع.
2 وهذا حكم في كل العوامل الجامدة –كما سبق في ص357، وفي رقم 2 من هامشها– إلا بعض حالات معدودة نصوا عليها في مواضعها الخاصة بمناسباتها، ومنها الحالة الآتية في ص401 وأخرى في هامش ص404 توجب التقدم.
ومنها: جواز التقديم على "أفعل التفضيل" للضرورات الشعرية –ونحوها مما يدخل في حكم الضرورة– إذا كان معموله شبه جملة، كالذي في قول القائل:
وللحلم أوقات وللجهل مثلها ... ولكن أوقاتي إلى الحلم أقرب
والأصل: أقرب إلى الحلم.. "والجهل هنا: الغضب والانتقام".(3/400)
ثانيهما: ألا يتقدم عليه –في حالة الاختيار- شيء من معمولاته، إلا حالة واحدة1 سيجيء الكلام عليها في القسم الأول الآتي.
أقسامه، وحكم كل قسم:
هو ثلاثة أقسام:
1- مجرد من "أل" والإضافة.
2- مقترن "بأل".
3- مضاف.
فأما القسم الأول المجرد من "أل" والإضافة فمثل: "أفضل"، و"أنفع" في قول بعضهم لظريف: لا أدري! أجدك أفضل من مزحك، أم مزحك أنفع من جدك. ومثل: "أحسن" في قول الشاعر:
وإني رأيت الضر أحسن منظرًا ... من مرأى صغير به كبر.....2
وحكم هذا القسم أمران:
1- وجوب إفراده وتذكيره في جميع حالاته.
2- ووجوب دخول "من" جارة للمفضل عليه "أي: للمفضول".
أ- فأما الأمر الأول "وهو: وجوب إفراده وتذكيره". فيقتضي أن تكون صيغته واحدة في كل استعمالاته ولو كان مسندًا لمؤنث، أو لمثنى، أو لجمع، فلا بد أن تلازم هذه الحالة دائمًا؛ نحو: الجمل أصبر من غيره على العطش –الجملان أصبر من غيرهما -.... الجمال أصبر من غيرها ...
__________
1 في ص403 رقم 2 وهناك حالة أخرى سبق عرضها موضحة مفصلة "في باب "الحال" ج2 م84 ص303 "د". وكذلك في رقم 3 من هامش ص300 من ذلك الجزء والباب" وملخصها: وهذا الملخص لا يغني عن الأصل السابق –أن أفعل التفضيل قد يقضي حالين؛ أحداهما تدل على أن صاحبها في طور من أطواره أفضل من نفسه أو غيره في الحال الأخرى. فالأحسن أن تتقدم إحداهما على عاملها "وهو أفعل التفضيل" وتتأخر الثانية عنه؛ نحو: الحقل قطنا أنفع منه قمحًا –الفدان عنبًا أحسن منه قطنًا– المتعلم تاجرًا أقدر منه زراعًا. وأجاز بعض النحاة تأخير الحالين معًا عن أفعل التفضيل بشرط أن تقع بعده الأولى مفصولة من الثانية بالمفضل عليه ... راجع ج2.
2 ومثل قول الشاعر:
الموت أحسن بالنفس التي ألفت ... عز القناعة، من أن تسأل القوتا(3/401)
- الناقة أصبر من غيرها، الناقتان أصبر من غيرهما، النوق أصبر من غيرهن.
ب- وأما الأمر الثاني وهو: دخول: "من"1 جارة للمفضل عليه "أي: للمفضول" فأمر واجب أيضًا، بشرط أن يكون قصد التفضيل باقيًا. ولهذا كان وجودها دليلًا على إرادة التفضيل، وعدم انسلاخ "أفعل" عنه. وهي مختصة بهذا القسم وحده، وبدخولها على المفضول دون غيره، ولا وجود لها في القسمين الآخرين –كما سيجيء عند الكلام عليهما– ولا يجر المفضول غيرها من حروف الجر. ومن الأمثلة –غير ما سبق– قول المتنبي:
وما ليل بأطول من نهار ... بظل بلحظ حسادي مشوبًا
وما موت بأبغض من حياة ... أرى لهمو معي فيها نصيبًا
ودخول حذفهما معًا، بشرط وجود دليل عليهما؛ كقوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، أي: والآخرة خير من الدنيا، وأبقى منها. وقد اجتمع الحذف والإثبات في قوله تعالى: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} ، أي: أعز نفرًا منك. وقول الشاعر:
ومن يصبر يجد غب صبره ... ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
أي: ألذ من جني النحل.
وإذا حذفا من اللفظ كانا ملحوظين في النية والتقدير؛ وصارا بمنزلة المذكورين2.
__________
1 ومعناها هنا: الابتداء أو المجاوزة، فإذا كانت للابتداء فهي لابتداء الارتفاع إذا كان السباق للمدح؛ نحو: النشيط أفضل من الخامل، ولابتداء الانحطاط إذا كان السياق الذم؛ نحو: المنافق أضر من العدو. وإذا كانت للمجاوزة فمعناها أن المفضل جاوز المفضول في الأمر المحمود أو المذموم ... و"من" هذه غير "من" التي تجيء للتعدية المجردة "أي: التعدية التي لا دلالة معها على التفضيل مطلقًا؛ لأنه غير مراد" ومن صورها ما يجيء في "الملاحظة" الخاصة: ص405.
2 يقول ابن مالك في "أفعل التفضيل المجرد، ووصله بالحرف: "من" لفظًا أو: تقديرا":
وأفعل التفضيل صله أبدا ... تقديرًا، أو لفظًا بـ"من" إن جردا
ثم يقول في بيت سيعاد ذكره لمناسبة أخرى في ص416:
وإن لمنكور بضف أو جردا ... ألزم تذكيرًا وأن يوحدا(3/402)
وأكثر مواضع حذفها حين يكون "أفعل" خبر مبتدأ، أو خبر ناسخ، أو مفعولًا ثانيًا لفعل ناسخ "مثل ظن وأخواتها ... " أو مفعولًا ثالثاً لفعل ينصب ثلاثة "كالفعل: وأرى.." نحو: قرع الحجة بالحجة أنفع ... وهو بالعالم أليق....- ربما كان ازدراء السفيه أنجع في إصلاحه ... -.
فلو طالعت أحداث الليالي ... وجدت الفقر أقربها انتيابا1
وأن البر خير في حياة ... وأبقى بعد صاحبه ثوابًا
أعلمت الجازع احتمال المشقة أجدر بأصحاب العزائم والهمم ...
ويقل حذفهما إذا كان "أفعل" حالًا. نحو: توالت النغمات أنعش للقلب وأندى للفؤاد، وأذهب للأسى ... ومثل قول الشاعر:
دنوب –وقد خلناك كالبدر –أجملا ... فظل فؤادي في هواك مضللًا
يريد: دنوت أجمل من البدر، وقد خلناك كالبدر، فكلمة "أجمل" حال من الفاعل: "التاء". وهذا النوع من الحذف –على قلته– قياسي تجوز محاكاته. وكذلك يقل حذفهما إن كان "أفعل" نعتًا لمنعوت محذوف مع عامله لقرينة، نحو: اتجه ... أوسع مساحة، وأكثر خصبًا، وأرحب للغريب صدرًا. والأصل: اتجه، واقصد بلدًا أوسع مساحة ... و ... والأحسن عدم جواز القياس على هذا النوع؛ لكثرة الحذف فيه، وتوقع اللبس في فهمه ...
2- ومن الأحكام: وجوب تقديمها أحيانًا على عاملهما وحده، وهو: "أفعل" دون تقديمها على الجملة كلها. وإنما يجب التقديم على عاملهما إذا كان المجرور اسم استفهام؛ كهذا السؤال: فلان ممن أفضل؟ والأصل: فلان أفضل ممن؟ أو كان المجرور مضافًا إلى اسم استفهام، نحو: فلان من ابن من أفضل؟
__________
1 ترددًا على الناس، ذهابًا ومجيئًا إليهم.(3/403)
والأصل فلان أفضل من ابن من؟ ولا يجوز التقديم في غير حالتي الاستفهام السالفتين1 إلا للضرورة الشعرية كقول القائل:
وإن عناء أن تناظر جاهلا ... فيحسب –جهلا– أنه منك أعلم
وقول الآخر:
إذا سايرت أسماء يومًا ظعينة2 ... فأسماء –من تلك الظعينة أملح
والأصل: "أعلم منك" وأيضًا "فأسماء أملح من تلك الظعينة". فقد تقدم الحرف "من" مع مجروره، مع أن الكلام خبري، وليس إنشائيًا استفهاميًا3 ...
3- ومنها: امتناع الفصل بينهما وبين "أفعل" إلا بمعمولة، أو: "لو" وما يتبعها، أو: النداء –فمثال الفصل بالمعمول قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وقول الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
قول الآخر:
لولا العقول لكان أدنى4 ضيغم ... أدنى5 إلى شرف من الإنسان6
__________
1 هناك حالة أخرى يتقدم فيها معمول "أفعل التفضيل" على عامله أفعل التفضيل. وقد سردنا ملخصها في رقم 1 من هامش ص401، وقلنا إن هذا الملخص لا يغني عن البيان والتفصيل المذكورين في باب الحال، "ج2 م84 ص303 "د" ورقم 3 من هامش ص300 هناك".
2 المرأة في هودجها، "تكريمًا وصيانة لها".
3 وفي تقديم "من" مع مجرورها في حالتي الاستفهام يقول ابن مالك في بيتيه السابع والثامن –وسيذكران لمناسبة أخرى في ص419:
وإن تكن بتلو "من" مستفهما ... فلهما كن أبدا مقدما -7
كمثل: ممن أنت خير؟ ولدى ... إخبار التقديم نزرا وردا -8
أي: أن تكن مستفهمًا بالاسم التالي: "من"، وهو مجرورها، فتقدمهما وجوبًا في كل الحالات. ثم قال: ورد التقديم نزرًا "أي نادرًا" في حالة الإخبار. أي في حالة الكلام الخبري، لا الإنشائي الذي شرحناه.
ومما يلاحظ أن المثال الذي في البيت الثاني معيب؛ للسبب الموضح في الصفحة الآتية:
4 أقل.
5 أقرب.
6 سيذكر هذا البيت لمناسبة أخرى في ص433.(3/404)
ومثال الفصل بكلمة: "لو" وما يتبعها قول الشاعر:
ولفوك أطيب –لو بذلت لنا- ... من ماء موهبة1 على خمر
ومثال النداء: أنت على أداء المهام الجسام أقدر –يا صديقي– من صفوة الأخلاء.
قول الشاعر:
لم ألف أخبث –يا فرزدق– منكمو ... ليلًا، وأخبث بالنهار نهارًا
فلا يجوز الفصل بينهما بأجنبي "وهو الذي ليس معمولًا لأفعل" ولا بشيء غير ما سبق؛ ولهذا حكموا بالخطأ أو الشذوذ على مثل: ممن أنت أفضل؛ لأن الجار والمجرور: "ممن" متعلقان "بأفضل"2، و"أنت" مبتدأ خبره: "أفضل" وقد فصل المبتدأ بين "أفضل" والجار مع مجرورة، مع أن المبتدأ أجنبي من أفضل، "أي: ليس معمولًا له".
"ملاحظة": قد يصاغ "أفعل التفضيل" من مصدر فعل يتعدى بحرف الجر "من"؛ كالفعل: قرب، بعد ... فعند التفضيل يجيء هذا الحرف مع مجروره، إما متقدمين على "من" الجارة للمفضول ومتوسطين بينها وبين "أفعل"؛ نحو: المجرب أقرب من الصواب من الناشئ، وإما متأخرين عنهما؛ نحو: المجرب أقرب من الناشئ من الصواب3 ...
__________
1 نقرة في جوف الصخر يخزن فيها الماء ليبرد.
2 ويجب تقديمها عليه وحده في هذه الصورة.
3 وهذا النوع الخاص بالتعدي يخالف النوع الذي سبق في ص402 وهو الخاص بدخول "من" على المفضل عليه –كما ستجيء الإشارة لهذا في ص412.(3/405)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- عرفنا1 أن: "أفعل التفضيل" يدل –في الأغلب– على اشتراك شيئين في معنى خاص، وزيادة أحدهما على الآخر فيه..، و.... فما ضابط الاشتراك؟!
ليس للاشتراك ضابط معين يحدد أنواعه، وإنما يكفي أن يتم على وجه من الوجوه يكون به واضحًا ومفهومًا للمتخاطبين، ولو كان اشتراكًا ضديًا، أو تقديريًا، كقول إنسان في عدوين له: هذا أحب إلى من ذلك. وفي نوعين من الشر: هذا أحسن من هذا. يريد في المثال الأول: هذا أقل بغضًا عندي، ويريد في المثال الثاني: هذا أقل شرًا من الآخر؛ فليس في نفس المتكلم قدر مشترك من الحب والحسن لهذا، أو لذاك. وإنما القدر المشترك هو الكره والقبح اللذان يضادان الحب والحسن. فالاشتراك إنما هو في أمر مضاد في معناه لمعنى: "أفعل" المذكور في الجملة، مع تفاوت النصيب بينهما، ووجود الزيادة في أحدهما وحده؛ فأحدهما عدو خفيف العداوة أو القبح، والآخر: شديدهما، فالزيادة موجودة ولكنها في أحد الأمرين المشتركين في معنى: مضاد لمعنى أفعل.
ومن غير الغالب ألا يكون بينهما اشتراك مطلقًا إلا على نوع جائز من التأول توضحه القرائن؛ كقولهم: الثلج أشد بياضًا من المسك، الصيف أحر من الشتاء، السكر أحلى من الملح، العسل أحلى من الخلّ. يريدون: أن بياض الثلج أشد في ذاته من سواد المسك في ذاته، والصيف حرارته أشد من الشتاء في برده، والسكر في حلاوته أقوى من الملح في ملوحته، والعسل حلاوته أشد من الخل في حموضته، وهكذا ... ؛ فليس بين كل اثنين مما سبق اشتراك في المعنى إلا في مطلق الزيادة المجردة، ودرجتها الذاتية المقصورة على صاحبها ... ؛ فالصلة بين كل اثنين مقصورة على هذه الزيادة المجردة، وبينهما بعد ذلك تباين تام يختلف عن التضاد السابق الذي يقوم بجانبه
__________
1 في ص395 وأشرنا في رقم 2 من هامشها إلى أهمية ما يأتي هنا في الزيادة والتفصيل.(3/406)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نوع من الاشتراك في أمر يتصف به الاثنان، وإن كان هذا الأمر مخالفًا معنى "أفعل".
ب- من الأساليب الصحيحة: فلان أعقل من أن يكذب –وأمثال هذا- فهل معناه تفضيل فلان في العقل على الكذب؟ وهذا معنى فاسد؛.
خير ما يقال في هذا وأمثاله: أن "أفعل التفضيل" يفيد هنا أمرين معًا؛ هما إفادة البعد عما بعده، وأن سبب هذه الإفادة هو المعنى اللغوي الأساسي المفهوم من مادة "أفعل" المعروض في الجملة الأصلية، فالمراد: فلان أبعد الناس من الكذب؛ بسبب عقله. وفي مثل: فلان أجل من الرياء، وأعظم من الخيانة ... يكون المقصود: فلان أبعد الناس من الرياء؛ بسبب جلاله، وأبعد من الخيانة بسبب عظمته ... ومثل هذا يقال في بيت الشاعر:
الحق أكبر من أن تستبد به ... يد، وإن طال في ظلم تماديها
فالغرض إعلان البعد عن تلك الأشياء مع بيان سبب البعد. وأفعل التفضيل في تلك الأساليب ونظائرها يفيد ابتعاد الفاضل من المفضول، ولا تكون "من" تفضيلية جارة للمفضول، وإنما هي مع مجرورها متعلقان "بأفعل" الذي هو بمعنى: متباعد؛ لأنها حرف الجر الذي يتعدى به الفعل "بعد" وباقي المشتقات التي من مادته؛ ومنها هنا: "أفعل" لتضمنه معنى "أبعد: بمعنى: "بعد" فهي متعلقة به من غير أن يدل على تفضيل؛ كنظيرتها في قولنا: أنا بعيد من الظالمين، بمعنى: متباعد.
وقيل إنه مستعمل في بعض مدلوله دون بعض؛ فهو يدل على زيادة البعد، دون أن يكون هناك مفضول حقيقي، ولا "من" الداخلة عليه ...
ومضمون الرأيين واحد1....
ج- يجب تصحيح عين أفعل التفضيل إذا كانت قبل التفضيل مستحقة للإعلال، ونحو: الأديب أقوم لسانًا، وأبين قولًا من غيره، فيجب أن تسلم الواو والياء.
__________
1 وهناك بعض آراء أخرى عرض لها "المغني" في "الباب الخامس من الجزء الثاني، عند كلامه على الجهة الرابعة من جهات الاعتراض.(3/407)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
د- إذا كان أفعل التفضيل المجرد1 واجب الأفراد والتذكير فما بال العرب تقول: مر بنا سرب من الظباء، بعده أسراب أخر؛ فيأتون بكلمة: "أخر" مجموعة ومؤنثة؛ "إذ هي جمع، مفرده: "أخرى"، "وأخرى" مؤنث لكلمة "آخر" الذي أصله "أأخر" على وزن: "أفعل" المذكر الدال على التفضيل؛ فهو من القسم المجرد". فلم كانت "أخر" مجموعة ومؤنثة في المثال السالف –وأشباهه– مع أن القاعدة تقتضي الإفراد والتذكير، وأن يقال: أسراب "آخر" "التي أصلها: "أأخر" كما أسلفنا"2.
أجاب النحاة: إن كلمة: "أخر" ليست مما نحن فيه؛ لأسباب ثلاثة مجتمعة:
أولها: أنها في استعمالاتها الصحيحة المختلفة –ومنها المثال السالف وأشباهه– لا تدل على التفضيل؛ "أي: لا تدل على المشاركة والزيادة" وإنما تدل على المغايرة المحضة، والمخالفة المجردة من كل معنى زائد عليها. فالكلام الذي تكون فيه يقتضي معنى المغايرة وحدها، لا معنى المفاضلة، أو نحوها. وهذا شأنها في الاستعمالات الواردة، فمعنى سرب آخر وأسراب أخر هو: سرب مغاير، وأسراب مغايرات، بدون تفضيل فيهما.
وثانيهما: أنها –في كلام العرب– لا يقع بعدها: "من" الجارة للمفضول، لا لفظًا ولا تقديرًا.
وثالثها: أنها –في كلامهم الفصيح تطابق وهي نكرة3.
__________
1 سبق الكلام عليه، في ص401.
2 أي: أن الأصل أن يقال مثلًا: هذا ظبي آخر "وأصلها: أأخر" وهذه ظبية آخر "أأخر" لكنهم تركوا الأصل، وقالوا: ظبية أخرى؛ فأتوا بكلمة: "أخرى" التي هي المفردة المؤنثة لكلمة: آخر.
والأصل أيضًا أن يقال: هذان ظبيان آخر "وأصلها: أأخر، وهاتان ظبيتان آخر" ولكنهم تركوا الأصل وقالوا: آخران، في تثنية المذكر، وأخريان في تثنية المؤنث.
وكذلك الأصل أن يقال: هؤلاء ظباء آخر "أأخر" وهؤلاء ظبيات آخر "أأخر".
لكنهم تركوا الأصل أيضًا، وقالوا: أخر، التي هي جمع مؤنث، مفرده: أخرى.
3 أي: أنها لو كانت التفضيل وهي نكرة، لوجب عدم مطابقتها؛ كي تساير المسموع الكثير.(3/408)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلهذه الأمور الثلاثة لا تكون من القسم الأول الذي يدور فيه الكلام؛ بل إنها ليست للتفضيل مطلقًا2 –كما تقدم؛ وإنما هي كلمة معدولة، "أي: محولة" عن كلمة: "آخر" التي أصلها "أأخر" جاءت لتؤدي معنى ليس فيه تفضيل، ذلك أن العرب حين أرادوا استخدام كلمة: "آخر" في معناها الأصلي –وهو المغايرة المحضة الخالية من معنى التفضيل– عدولوا بها عن وزنها الأول؛ بأن أدخلوا عليها شيئًا من التغيير، وحولوها إلى هذا الوزن الجديد؛ وهو: "أخر" لتؤدي معنى خاليًا من التفضيل لا يمكن أن تؤديه إذا بقيت على الصيغة الأولى. ويقول السيوطي1، قولًا أشبه بهذا؛ نصه:
"كان مقتضى جعل "أخر" من باب "أفعل التفضيل" أن يلازمه في التنكير لفظ الإفراد والتذكير. وألا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، إلا معرفًا، كما كان أفعل التفضيل؛ فمنع هذا المقتضى، وكان بذلك معدولًا عما هو به أولى؛ فلذلك منع من الصرف"2....
فالذي دعا النحاة لهذا التحليل والتعليل هو ما رأوه من جمعها وتأنيثها مع انطباق أوصاف القسم الأول عليها -في الظاهر- فلجئوا إلى مسألة العدول والتحويل ليتغلبوا على هذه العقبة ويجعلوا قاعدة: "أفعل التفضيل المجرد" مطردة.
قد يكون كلامهم سائغًا من الوجهة الجدلية المحضة، لكنه من الوجهة الحقيقية مردود، ذلك أن العرب لا تعرف شيئًا مما قالوه، ولم يدر بخلدها قليل أو كثير منه حين نطقوا بالتعبير السابق وأشباهه. فإبعادًا لهذا التكلف ومسايرة للأمر الواقع، يحسن الأخذ ببعض مما قاله النحاة -بحق- وهو: أنها ليست للتفضيل فلا تنطبق عليها أحكامه، أو أنها خالفت القاعدة؛ فهي من الشاذ
__________
"1، 1" الهمع ج2 ص104.
2 يقول العكبري –في كتابه: "إملاء ما من به الرحمن" ج1 ص456، سورة البقرة ما نصه في كلمة: "أخر" "لا تنصرف للوصف والعدل عن الألف واللام؛ لأن الأصل في "فعل" صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام؛ كالكبرى والكبر، والصغرى والصغر". ا. هـ. وهذه التعليل مردود كغيره بما ذكرناه هنا.(3/409)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يحفظ، ولا يقاس عليه. ولا عبرة بما عرضوه من أسباب أخرى؛ فهني أسباب ضعيفة لا تثبت على التمحيص، ومن السهل دفعها، وقد دفعها بعض النحاة فعلًا بما يرهق سرده من غير نفع عملي، فخير لنا أن فقر الواقع، من غير تكلف ولا جدال زائف.
هـ -ونزولًا على قاعدة الإفراد والتذكير السالفة عاب بعض النحاة على أبي نواس ذكر كلمتي: "صغرى" و "كبرى" مؤنثتين للتفضيل، مع أنهما مجردتان في قوله1:
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
والقياس: أصغر وأكبر. لأنهما صيغتان للتفضيل، مجردتان. والقاعدة تقضي بالتزام التذكير والإرادة في هذه الحالة..
ومما قيل في دفع هذا العيب: إن الشاعر لم يقصد التفضيل مطلقًا، ولا الحديث عن شيء أصغر من شيء آخر، أو أكبر منه؛ وإنما قصد صغرى أو كبرى من حيث هي: لا باعتبار موازنتها بغيرها؛ كمن يشاهد طفلة تحاول الركوب فيساعدها ويقول: ساعدتها لأنها: "صغرى"، أي صغيرة، وكمن يشاهد سيدة عجوزًا؛ فيعاونها عن النزول من السيارة ويقول: عاونتها لأنها كبرى؛ أي: كبيرة السن؛ فليس في كلامه هذا، ولا في المقام ما يدل على تفضيل أو موازنة بين اثنين يزويد أحدهما على الآخر في هذا المعنى.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فليس التأنيث لحنًا، لأن "أفعل" إذا كان مجردًا غير مقصود منه التفضيل "فالأكثر فيه عدم المطابقة؛ حملًا على أغلب أحواله، وقد يطابق، لعدم مجيء "من" لفظًا ومعنى. واعتمادًا على هذا السبب في المطابقة يخرج بيت أبي نواس السالف، ومثله قول العلماء العروضيين: "فاصلة صغرى وكبرى"، خلافًا لمن جعله لحنًا2".
__________
1 يصف كأسا مملوءة بشراب ذهبي اللون، تعلوه الفقاقيع.
2 حاشية الخضري مع توضيح بعض كلماتها –"في هذا الباب عند الكلام على أفعل التفضيل المضاف والمقرون بأل". ومثل هذا في شرح التوضيح. وقال الأشموني في هذا الموضع ما نصه: "..... وإذا صح جمع "أفعل التفضيل"؛ لتجرده من معنى التفضيل جاز أن يؤنث؛ فيكون قول ابن هانيء: "كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ... " صحيحًا ا. هـ.(3/410)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا دفع حق، وهو خير من القول بأن في الكلام حذفًا وزيادة يؤديان إلى إخراج الكلمتين من هذا القسم، وإدخالهما في قسم آخر من أقسام "أفعل" التفضيل؛ كقسم المضاف1 إلى المعرفة؛ بحيث يؤدي إلى الحكم بصحتهما، وأن الأصل: "كأن" صغرى فقاقعها وكبرى من فقاقعها" ... فكلمة: "من" زائدة "مع أنها –في الغالب– لا تزاد إلا بعد نفي بشرط أن يكون مجرورها نكرة"، و"فقاقعها" الأولى محذوفة للدلالة الثانية عليها، ففي الكلام حذف من جهة، وزيادة من جهة أخرى ... وما أشد حاجاتنا إلى إهمال مثل هذا مما لا داعي له.
وأعجب منه قولهم في الدفاع عن الشاعر: "إن أفعل التفضيل المجرد يصح تأويله بما لا تفضيل فيه؛ فيطابق حينئذ كما في المضاف إلى المعرفة"، وقد جاء هذا الكلام في التسهيل"2. ولا أدري: أيغيب عن أحد وجه ضرره وأثره السيئ في اللغة؟ إذ كيف تؤدي اللغة مهامها –وما أجلها– إذا كان من الجائز دون قيد ولا شرط. تأويل اللفظ الذي يشوبه خطأ لغوي تأويلًا يصلح عيبه من غير داعٍ معنوي لذلك؟
__________
1 سيجيء الكلام على المضاف بنوعيه في ص416 و418.
2 ونقله: الهمع، وياسين في حاشيته على التصريح، وكذا الصبان.(3/411)
القسم الثاني:
أن يكون أفعل التفضيل مقرونًا "بأل". وهذا يوجب أمرين:
أحدهما: أن يكون مطابقًا لصاحبه في التذكير، والتأنيث، والإفراد، وفروعه؛ نحو: قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} –اليد العليا خير من اليد السفلى1. الشقيقان هما الأفضلان –الشقيقان هما الفضليان2 –الأشقاء هم الأفضلون، أو الأفاضل3 –الشقيقات هن الفضليات ...
والآخر: عدم مجيء "من" الجارة "للمفضل عليه"؛ لأن "المفضل عليه" لا يذكر في هذا القسم4. أما الجارة لغيره فتجيء؛ كالتي في قول الشاعر:
فهم الأقربون من كل خير ... وهم الأبعدون من كل ذم
فالجار والمجرور –في الشطرين –لا شأن له بالتفضيل: لأن: "من" المذكورة هي التي تدخل على المجرور للتعدية5، إذ: "الأقرب" و "الأبعد" يحتاجان إلى معمول مجرور "بمن" كفعلها: "قرب وبعد" فليست: "من" بعدهما هي التي تدخل على المفضول، وتجره؛ إنما هي مجرورها نوع آخر.
__________
1 العليا: مؤنث الأعلى، والسفلى: مؤنث الأسفل. والألفاظ الأربعة صيغ تفضيل.
2 تثنية: فضلى، مؤنث: أفضل.
3 انظر رقم 2 من هامش ص414؛ ففيه البيان.
5 إذ تغني عنه "أل"؛ لأنها للعهد "وليست موصولة كالداخلة على اسم الفاعل، واسم المفعول" والتي للعهد تشير إلى شيء معين تقدم ذكره لفظًا أو حكمًا. وتعيينه يشعر بالمفضول؛ ولهذا قالوا: "لا تكون "أل" في "أفعل التفضيل" إلا للعهد؛ لئلا يعرى عن المفضول" –راجع الصبان، ج2 أول باب أفعل التفضيل –وإذا لا يصلح أن يقال: على الأفضل من أمين. وأما قول الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... إنما العزة للكاثر
فمؤول عندهم بتأويلات مختلفة؛ منها: زيادة "أل" في لفظ:"الأكثر"، ومنها: أن الجار والمجرور متعلق بكلمة محذوفة تماثل المذكورة، والأصل: "بالأكثر أكثر منهم"....ومنهم أن "من" بمعنى "في" وكل هذه التأويلات مرفوضة لا يعرف عنها الشاعر "الأعشى" شيئًا؛ فهي إما لغة، وإما شاذة.
5 وهي التي سبقت الإشارة إليها في ص407، وتخالف الداخلة على المفضل عليه، والتي سبق بيانها في ص402.(3/412)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
قال صاحب التصريح1: إن "أفعل التفضيل" المقترن بأل يطابق موصوفه لزوما.... ومع ذلك لا بد من ملاحظة السماع، وأردف هذا بالنص الآتي:
"قال أبو سعيد على بن سعيد في: كفاية المستوفى، ما ملخصه: ولا يستغنى في الجمع2 والتأنيث عن السماع؛ فإن الأشراف والأظرف لم يقل فيهما: الأشارف والشرفى. والأظارف، والظرفي، كما قيل ذلك في الأفضل والأطول، وكذلك الأكرم والأمجد، قيل فيهما: الأكارم والأماجد، ولم يسمع فيهما: الكرمى والمجدى" ا. هـ.
هذا ما قاله وما نقله صاحب "التصريح" وقد يكون من السداد إهماله. وترك الأخذ به، لما فيه من تضييق وتعسير بغير حق؛ إذ يفرض على المتكلم أن يبحث جهد طاقته عن الصيغة المسموعة؛ فإن اهتدى إليها بعد العناء استعملها، وإن لم يجدها لم يستعمل القياس مع شدة حاجته إلى استخدامه للوصول إليها.
على أن بذل الطاقة واحتمال العناء لا يوصلان أحيانًا إلى الصيغة المسموعة، لا لعدم وجودها، ولكن لتعذر الاهتداء إلى مكانها، برغم العناء المرهق المبذول في سبيلها. وهل أدل على هذا من أن صاحب الرأي السالف يقرر عدم ورود السماع بكلمات معينة منها: "الكرمى" مؤنث: "أكرم"، وأن غيره يقرر عدم ورود بكلمات أخرى منها: "الرذلى، والجملى"، "مؤنث: الأرذل والأجمل" على حين يسجل أبو علي القالي في الجزء الأول من كتابه: "الأمالي"3 ما نصه: "قال بعض بني عقيل وبني كلاب: هو الأكرم، والأفضل، والأحسن، والأرذل، والأنذل، والأسفل، والألأم. وهي: الكرمى والفضلى، والحسنى،
__________
1 ج2 باب: "أفعل التفضيل" عند الكلام على النوع المقرون بأل.
2 المفهوم من سياق الكلام في: "التصريح" أن مراده بالجمع السماعي مقصور على "جمع التكسير" دون غيره؛ إذ لا خلاف في قياسية جمعي التصحيح بالشروط الخاصة بكل منهما. –وقد سبقت عند الكلام عليهما في الجزء الأول– هذا، ولم يتعرض النص السالف لمثنى. فهل يريد بالجمع ما يشمل المثنى أيضًا كالشأن في عبارات بعض اللغويين؟
3 في ص152.(3/413)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والرذلى، واللؤمى، وهن الرذل، والنذل واللؤم ... " ا. هـ؟. فقد سجل أنها مسموعة هي ونظائر لها. ومن تلك النظائر الأخرى المسموعة: العظمى، الصغرى، الكبرى، الوثقى، الفضلى، القصوى، الأولى، الجلى، الدنيا، الوسطى، الأخرى، العليا، السفلى، الكوسى "كثيرة الكياسة" الطولى "أنثى الأطول" –الضيقى "شديدة الضيق" ... و ... ولكل صيغة مما سبق مقابل على وزن "أفعل" لمذكرها. ولو حصرنا ما نقله صاحب الأمالي، وما نقله غيره في مواطن مختلفة، وما رأيناه بأنفسنا في المراجع اللغوية ... لكان من هذه الكلمات المبعثرة مجموعة كثيرة العدد، تبيح القياس عليها؛ لكثرتها التي تتجاوز المائة. ولا حاجة بنا إلى تأويلها، أو التمحل لإبعادها عن "التفضيل" وعن نوعه الذي نحن فيه؛ فإن تأويل النحاة –كما بسطوه هنا– يقوم على الجدل المحض الذي لا يعضده الحق.
وشيء آخر: أنه لو صح الأخذ برأي المانعين وحدهم ما كان للقياس حكمة ولا فائدة؛ لأن القياس مستمد من الكثير المسموع، وقد تحقق هذا الكثير هنا. فكيف نمنع القياس في بعض الصور التي ينطبق عليها؟ وكيف نحرم تطبيقه والانتفاع به، زاعين واهمين أن صيغة الكلمة ذاتها –بحروفها وتكوينها المادي– غير مسموعة؟ فلم الاستنباط، ووضع القواعد والضوابط العامة؟ وكيف يتحقق القياس؟..1.
لهذا كان مجمع اللغة العربية سديد الرأي حين قرر قياسية جمع "الأفعل" الذي للتفضيل المقرون بأل على "الأفاعل"، كما قرر صياغة مؤنثه على "الفعلى" قياسًا كذلك2....
__________
1 يؤيد هذا ما سبق أن قلناه في قياسية مصدر الفعل الثلاثي ص184 وما بسطه ابن جني –وغيره– في الجزء الأول من كتابه: "الخصائص" في الفصل الرشيد المحكم الذي نشير إليه كثيرًا، وعنوانه: "اللغة تؤخذ قياسًا" وقد نشرناه كاملًا في آخر الجزء الثاني.
2 طبقًا لما في ص151 من الكتاب الذي أصدره في المجمع سنة 1969؛ ففي تلك الصفحة تحت عنوان: "في أفعل التفضيل – جمع: "الأفعل" على الأفاعيل، وصوغ مؤنثه على: "الفعل" ما نصه منسوبًا إلى لجنة الأصول بالمجمع، ومصحوبًا بالأسانيد والبحوث المؤيدة له:
"يختلف النحاة في جمع التفضيل المقترن بالألف واللام على: "الأفاعل"، وفي تأنيثه على "الفعلى". فمنهم من ذهب إلى أن جمعه على "الأفاعل" وتأنيثه على "الفعلى" مقصوران على =(3/414)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طالمًا رددنا –في هذا الكتاب– أن الحرص على سلامة اللغة أمر محمود، بل مفروض، ولكن بشرط ألا يكون بوسائل تعوق الانتفاع بها، وتزهد فيها، من غير فائدة ترجى، ولا ضرر يدفع.
نعم قد يقع جرس هذه الصيغ الجديدة القياسية غريبًا أول الأمر على الأسماع؛ كتلك الصيغ التي نقلها صاحب الأمالي عن بني عقيل، وبني كلاب ولكن لا يصح أن تحول غرابة الجرس بين الكلمة والانتفاع الضروري بها، فما أكثر الكلمات اللغوية الغريبة في جرسها على الأسماع، وقد تكون غريبة عند قوم مقبولة عند آخرين. على أن تداول الكلمة الغريبة كفيل بصقلها وإزالة غرابتها، ولكن يطول الزمن على تداولها، فما أسرع دورانها وشهرتها، بسبب الحاجة إلى استخدامها، وترديد الألسنة لها ...
__________
= السماع. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك قياسي؛ مستندين إلى أن اقترانه "بأل" يبعده عن الفعلية من حيث أن الأفعال لا تدخلها الألف واللام، وذلك يدينه من الاسمية. ولما كان هذا الرأي أقرب إلى التيسير قررت اللجنة أنه يجوز "أفعل التفضيل" المقرن بالألف واللام على "الأفاعل"، ويلحق به في ذلك المضاف إلى المعرفة، وأنه يجوز تأنيثها على الفعلى" ا. هـ.
وقد وافق المجمع ومؤتمره على قرار اللجنة في الجلسة السادسة من المؤتمر الثالث والثلاثين بدورة سنة 1967.(3/415)
القسم الثالث:
أن يكون مضافًا1، ويشترط في هذا القسم شرطان عامان لا بد منهما في "أفعل التفضيل" المضاف مطلقًا "أي: سواء أكانت إضافته للمعرفة أم للنكرة".
أحدهما: ألا يقع بعد أفعل التفضيل "من" الجارة للمفضول، فلا بد أن يخلو الكلام منها ومن مجرورها؛ فلا يصح: محمود أفضل الطيارين من حامد، أما الجارة لغيره فتوجد: نحو: أبي أقرب الناس مني.
ثانيهما: أن يكون المضاف بعضًا2 من المضاف إليه، بشرط إرادة التفضيل وبقاء معناه3 ووجوده؛ فلا يصح: الطيار أفضل امرأة.
فتى تحقق الشرطان العامان، وكانت إضافته لنكرة، وجب حكمان:
أولهما: إفراده وتذكيره –كالمجرد4-.
والآخر: مطابقة المضاف إليه لصاحب5 أفعل التفضيل، "أي: للموصوف6 الذي يتجه إليه معنى: "أفعل" ويتصف به". وفي التذكير. والتأنيث، وفي الإفراد وفروعه، وفي جنسه أيضًا..
__________
1 إذا أضيف كانت إضافته غير محضة، وقيل: محضة على الوجه المبين في ص5. وقد سبق بيانهما وتفصيل أحكامهما أول هذا الجزء.
2 وسيجيء في الزيادة "ص421" اشتراط أن يكون "أفعل" بعض المضاف إليه، مع بيان المراد من هذه البعيضة.
"وقد سبق لهذه المسألة المهمة توضيح آخر يتممها في ج2 باب: التمييز ص332 "ب" م88".
3 وهو المفاضلة الدالة على زيادة شيء على آخر؛ وبهذا تكون المفاضلة قائمة وموجودة.
4 وفي حكم أفعل التفضيل المجرد من "أل" والإضافة، أو المضاف إلى نكرة – وأن هذا الحكم هو الإفراد والتذكير –يقول ابن مالك في بيت سبق ذكره في هامش ص403:
وإن لمنكور يضف أو جردا ... ألزم تذكيرًا، وأن يوحدا
5 المضاف هو: "أفعل" والذي يتجه إليه معناه هو صاحبه الذي يتصف به؛ فكلاهما واحد من جهة المدلول والمعنى.
6 أي الشيء الذي يقوم به معنى "أفعل"، فليس المراد بالموصوف والصفة هنا المنعوت وللنعت الاصطلاحيين.(3/416)
ومن أمثلته قول المتنبي:
وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهمو كف منعم
وتقول: هذان الوجهان أحسن وجهين ... وهاتان الكفان أيمن كفين وجوه الشرفاء أحسن وجوه، وأكفهم أيمن أكف1.
فالأمور التي يجب اجتماعها كاملة عند إضافته للنكرة2 –أربعة؛ هي:
1- امتناع "من" للمفضول.
2- كون المضاف بعض المضاف إليه عند إرادة التفضيل.
3- إفراد "أفعل" وتذكيره.
4- مطابقة المضاف إليه لصاحب "أفعل" في الجنس، وفي الإفراد والتذكير وفروعهما.
__________
1 جاءت المطابقة السابقة –في أغلب صورها التي منها التذكير والتأنيث- نتيجة لاشتراط أن يكون المضاف بعض المضاف إليه، "فلا يقال: سعيد أفضل امرأة"؛ لما تقرر: أن أفعل التفضيل المضاف لنكرة لا بد أن يكون بعضًا من المضاف إليه –في الأصح- بشرط أن يكون معنى المفاضلة قائمًا. وقد اشترط بعضهم لوجوب هذه المطابقة أن يكون المضاف إليه جامدًا؛ ليخرج مثل قوله تعالى: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ، لعدم وجود صاحب "أفعل" والأحسن إهمال هذا الشرط أما كلمة "أسفل" في الآية فصفه لجمع محذوف.
هذا، ومن المهم فهم الأساليب التي يكون فيها "أفعل التفضيل" مضافًا لنكرة مطابقة للموصوف الذي يتصف بمعنى أفعل التفضيل، "أي: مطابقة لصاحب أفعل التفضيل"؛ فإن المراد يكون إثبات المزية للمفضل على جنس المضاف إليه واحدًا واحدًا إن كان المضاف إليه مفردًا، واثنين اثنين إن كان المضاف إليه مثنى، وجماعة جماعة إن كان جمعًا. ومما يزيد الأمر وضوحًا الأمثلة الآتية:
المصلح أفضل رجل، المصلحان أفضل رجلين، المصلحون أفضل رجال، المُصلحة أفضل امرأة المطلحتان أفضل امرأتين، المصلحات أفضل نساء ... فالمراد: المصلح أفضل من جميع الرجال إذا فُضِّلوا رجلاً رجلاً، والمصلحان أفضل من جميع الرجال إذا فضلوا رجلين رجلين، والمصلحون أفضل من جميع الرجال إذا فضلوا رجالاً رجالاً، والمصلحة أفضل من جميع النساء إذا فضلن امرأة امرأة، والمصلحتان أفضل من جميع النساء إذا فضلن امرأتين امرأتين، والمصلحات أفضل من جميع النساء إذا فضلن نساء، نساء، مجتمعات.. وهكذا الأمثلة الأخرى ونظائرها "انظر ص421 الآتية لإدارك الفرق بين ما هنا، وما هناك".
2 انظر حكم العطف على هذه النكرة في ص422.(3/417)
وإن كانت إضافته لمعرفة وجب تحقيق الشرطين العامين المشار إليهما آنفاً. وتجوز فيه بعد ذلك من ناحية التذكير والإفراد وفروعهما –المطابقة وعدمها، بشرط أن يكون الغرض من "أفعل التفضيل" باقيًا –وقد شرحنا هذا الغرض– ولكن ترك المطابقة في التثنية والجمع هو الأكثر، إذ الأفصح أن يكون مفردًا مذكرًا في جميع استعمالاته. فمثال المطابقة: عمر أعْدَلُ الأمراء، العمران1 أعدلا الأمراء، الخلفاء الراشدون أعدَلُوا الأمراء، فاطمة فُضْلَى الزميلات، الفاطمتان فُضْلَيَا الزميلات، الفاطمات فضليات الزميلات..
ومثال عدم المطابقة: عمر أعدل الأمراء، العمران أعدل الأمراء، الخلفاء الراشدون أعدل الأمراء ... فاطمة فضْلّى الزميلات، الفاطمتان فُضْلَى الزميلات، الفاطمات فضلَى الزميلات ...
أما إن كان الغرض الأصلي هو عدم المفاضلة مطلقاً2 أو: كان الغرض هو بيان المفاضلة المجردة3 فتجيب المطابقة للموصوف في الصورتين4 في الإفراد والتذكير وفروعهما، مع جواز أن يكون أفعل التفضيل المضاف بعضًا من المضاف إليه، أو غير بعض. فمثال ما لا يراد منه المفاضلة مطلقًا قول أحد الرحالين يصف الأقزام في المناطق الشمالية:
".... رأيت أهلها صغار الأجسام، قصارًا، لا يكاد أحدهما يزيد على خمسة أشبار، وليس لهم حكومة، ولكن عندهم قاض واحد يرجعون إليه، ويحترمون رأيه. وقد قابلته مرة فقال لي المترجم: هذا أفضل القضاة عندنا، وأوسع الرجال خبرة قضائية في بلدنا، وأرجحهم عقلًا ... ". فالمراد: فاضل، واسع، راجح ...
__________
1 عمر بن الخطاب، وعمرو بن عبد العزيز.
2 أي: عدم إرادة الزيادة، وأن "أفعل" بمعنى الفاعل، أو الصفة المشبهة. وهذا يقضي ألا يوجد المفضول، ولا "من" الجارة له. فقد سبق في "ب" من ص402. وهذا يقتضي ألا يوجد المفضول، ولا "من" الجارة له. فقد سبق في "ب" من ص402 أن "أفعل" لا يمكن تجريده من معنى المفاضلة مع وجود "من" الجارة للمفضول.
3 أي: إثبات الزيادة المحضة التي لا يقصد منها زيادة شيء على المضاف إليه وحده، وإنما يقصد منها مجرد الزيادة عليه وعلى غيره.
4 والأحسن الأخذ بالرأي القائل بقياسيتهما "بشرط وجود القرينة الموضحة للمراد منها؛ لكثرة مجيئهما، في أفصح الكلام، وأخذًا بالأيسر الذي لا ضرر فيه".(3/418)
ولا يراد التفضيل: إذ لا وجود لقاض آخر يكون هو المفضول ...
وفي غير المفرد نقول: هذان أفضلا القضاة، هؤلاء أفضلو القضاة. أو: أفاضلهم ... هذه فُضْلَى القاضيات، هاتان فُضْلَيا القاضيات، هؤلاء فضلَيَات القاضيات.... بالمطابقة في كل ذلك. ومثلها عند إرادة المفاضلة المطلقة؛ نحو: الحق أحقّ الأقوال بالاتباع. والدين أوْلَى الأصولِ بالتمسك به. فليس المراد في هذا المثال وأشباهه المفاضلة بين الأقوال بعضها وبعض، أو بينها وبين الأفعال، ولا بين الحق والباطل، وأن كلاً منهما جدير بالاتباع، ولكن الحق أجدر، ولا بين أصول الدين والكفر وفروعهما، وأن كلاً منها يستحق التمسّك به ولكن الدين أولى ... ليس هذا هو المراد، وإلا فسد الغَرض، وإنما المراد أن الحق في ذاته، والدين في ذاته، من غير نظر لشيء آخر غيرهما هما الأحَقَّان والأوْلَيَان.
ومثل هذا يقال: الوالد أحسن الناس منزلة، الوالدان أحْسَنا الناس منزلة، الوالدون أحاسن الناس منزلة، أو: أحسنو الناس منزلة، الوالدة حُسْنَى النساء منزلة، الوالدتان حُسنَيا النساء منزلة، الوالدات حُسنيات النساء منزلة1....
__________
1 يقول ابن مالك في بيان أن المقرون "بأل" يطابق وجوبًا وأن ما أضيف إلى معرفة يجوز فيه وجهان؛ هما المطابقة وعدمها بشرط أن تنوي من، أي: بشرط إرادة التفضيل، "أما عند عدم إرادة التفضيل فالواجب المطابقة –كما شرحنا-".
وتلْوُ "أَلْ" طِبْقٌ، وَمَا لمَعْرِفهْ ... أضيفَ –ذُو وجْهَيْن عَنْ ذِي مَعْرِفَهْ
أي: أن "أفعل" لذي يتلو "أل" ويقع بعدها تجب مطابقته لصاحبه، وأن ما أضيف لمعرفة فيه وجهان منقولان عن صاحب رأي ومعرفة بلغة العرب وأحكامها. ثم قال:
هذَا إِذَا نَوَيْتَ مَعْنى: "منْ"، وإِن ... لَمْ تَنْوِ فَهْوَ طِبْقُ مَا بِهِ قُرِنْ
"فهو طبق: مطابق الذي قرن التفضيل به، أي: للوصوف الذي يقصد به التفضيل، وبعد ذلك ذكر بيتين سبق شرحهما والإشارة لهما "في ص404"؛ وهما:
وإِنْ تَكنْ بتلو "مِنْ" مُسْتَفْهِمَا ... فلَهُمَا كنْ أَبَداً مُقَدِّمَا
كَمِثْلِ: ممَّنْ أَنْتَ خَيْرٌ؟ وَلَدَي ... إِخْبارِ التَّقْدِيمُ نَزْراً وَرَدَا(3/419)
وفي الصورتين المذكورتين لا يلزم –كما سبق– أن يكون المضاف بعض المضاف إليه1.
__________
1 لهذه المسألة إيضاح وافٍ سيجيء في الزيادة والتفصيل "آخر ص423"، فمثال دخوله في جنس المضاف إليه وأنه بعضه: محمد عليه السلام أفضل قريش: تريد أفضل رجالهم واحدًا واحدًا، وأفضل الناس من بينهم. ومثال عدم دخلوه في المضاف إليه، وأنه ليس بعضًا منه: يوسف أفضل إخوته "بوجود الضمير في إخوته، يعود عليه"، أي: أنه أفضلهم واحدًا واحدًا، لأننا إذا قلنا: من أخوة يوسف؟ لا يدخل فيهم يوسف، ولا يعد من بينهم؛ فلا يكون أفضلهم؛ لأن إضافة الإخوة للضمير تمنع أن يراد بهم ما يشمل يوسف. بخلاف ما لو قلنا: يوسف أفضل الأخوة، أو أفضل أبناء يعقوب "راجع ص423 من الزيادة والتفصيل".(3/420)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
لا يضافُ "أفعل" الدال على التفضيل إلا إذا كان بعضًا من المضاف إليه المفضول "كما سبق"1. وهذه "البعضية" تتحقق بإحدى صورتين.
1- أن يكون "أفعل" جزءاً2 والمضاف إليه كُلاّ، نحْو: الرأس أنفعُ الجسم، والمخ أعظم الرأس ...
2- أن يكون "أَفعَل" فردًا من بين أفراد كثيرة يشملها المضاف إليه. ولا بد في هذه الصورة أن يكون المضاف إليه جنسًا يندرج تحته أفراد متعددة، منها المضاف؛ نحو: الهرم المدَرّج أقدم الأهرامِ3 -أبو الهول أجمل التماثيل. يكاد النيل يكون أكبر الأنهار العالمية– أضَرّ التَّرِكات ما كان مالاً لا علْم معه، ولا خُلُق.
وأَحَب أوطان البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
فكل من: "الأهرام، التماثيل، الأنهار، التَّرِكات، أوطان البلاد..". جنس يشمل أفرادًا كثيرة.
وليس من اللازم لتحقيق "البعضية" أن يكون المضاف إليه معرفة؛ فقد يكون نكرة، نحو: الهرم المدرّج أقدم هرم، أبو الهول أجمل تمثال، القلب أعظم عضو. وإذا كان المضاف إليه مفردًا نكرة، كهذه الأمثلة كَان معناه معنى الجمع، ومنزلته منزلة الجنس متعدد الأفراد، فيتحقق الشرط الأساسي السالف الذي يقتضي أن يكون "أفعل" بعضًا من المضاف إليه، أي: أنه بمنزلة قولك: الهرم المدرَج أقدم الأهرام هرمًا هرمًا، أبو الهول أجمل التماثيل واحدًا واحدًا، القلب أعظم الأعضاء عضوًا عضوًا. فالمراد بالمضاف إليه المفرد النكرة إنما هو جنسها؛ ولهذا قطعوا بأن المراد من: فلان أفضل رجل هو أنه أفضل الناس إذا عُدّوا رجلًا رجلًا. أي: أفضل من كل رجل4 ...
__________
1 في ص416 وما بعدها.
2 الجزء ما يتركب منه ومن أمثاله "كُلّ" ولا وجود للكل الحقيقي إلا بجميع أجزائه.
3 جمع: هَرَم.
4 راجع ص417 وهامشهما رقم 1 لإدراك الفرق بين الحالتين.(3/421)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويقول الصبان عند الكلام على إضافة "أفْعَل" للنكرة ما نصه:
" زيدٌ أفضلُ رجل، أصله: زيد أفضل من كل رجل؛ فحذف: "من كل" اختصارًا، وأضيف: "أفعل" إلى: "رجل". وجاز كونه مفردًا مع كون "أفعل" بعض ما يضاف إليه –فالأصل أن يكون جمعًا –لفهم المعنى، وعدم التباس المراد. ووجب تنكيره؛ لأن القاعدة أن كل مفرد وقع موقع الجمع لا يكون إلا نكرة؛ فإن جئت بأل رجعت إلى الجمع، وأن جمعت أُدخلت "أل" ... اهـ.
ثم انتقل إلى مسألة هامة؛ هي العطف على "أفعل" فقال ما نصه":
"إن عطفت على المضاف إلى النكرة مضافًا آخر إلى ضميرها قلت: هذا أفضل رجل وأعقله، وهذه أكرم امرأة وأعقله. بتذكير الضمير وإفراده في المفرد وضده، والمذكر وضده؛ على التوهم؛ كأنك قلته من أول الكلام1. فإن أضفت "أفعل" إلى معرفة تأنيث، وجمعت، وأنثت؛ وهو القياس. وأجاز سيبويه الإفراد تمسكًا بقوله:
وميَّسة أحسن الثَّقَلين جِيدًا ... وسالفةً وأَحسنَه قَذَالًا2
أي: أحسن مَنْ ذُكر3.... وظاهره وجوب تذكير الضمير وإفراده في نحو: هذه أكرم امرأة وأعقله، وهذان أكرم رجلين وأعقله.... وهكذا ... " اهـ. ثم قال بعد هذا مباشرة: "والوجه عندي جواز المطابقة إن لم تكن واجبة، أو أولى" اهـ. قال ياسين في حاشيته على التصريح تعليقًا على رأي سيبويه: "وحاصله: أن إفراد الضمير مع عوده على غير مفرد إنما هو على تأويله باسم الموصول. وعليه يتخرج ما يقع في عبارات المصنفين" اهـ.
ورأي الصبان أقرب إلى السَّداد؛ لموافقته القواعد العامة الخاصة بالمطابقة،
__________
1 يريد: كأن المعطوف ليس معطوفا: " وكأنك نطقت به ابتداء كما تنطق بأفعال المضاف للنكرة.
2 مؤخر الرأس.
3 وما قاله "الصبان" نقل مثله "ياسين". وعلى هذا يكون الضمير المفرد العائد على غير المفرد هو بمعنى اسم الموصول –كما سيجيء -.(3/422)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبُعده عن اللبس، ولأن الآراء الأخرى لم تدْعَمها النصوص المتعددة التي تكفي لتأييدها فيما اطلعنا عليه من مراجع.
ويتصل بتلك المسألة الهامة أمرا آخر هو حكم أفعل التفضيل المعطوف في الصورة السالفة، من ناحية ضبطة، والأوجه الإعرابية الجائزة فيه، وقد سبق بيان بعض الصور1.
ومما يجب التنبه له أن هذه البعْضية لا تكون حتمية إلا إذا كان "أفعل" باقياً على دلالة التفضيل الخاص –كما قدمنا2– وعندئذ يكون المضاف إليه هو: "المفضول" ويتعين أن يكون "أفعَل". بعضاً منه. أما إذا لم تكن الدلالة على التفضيل باقية، أو كانت عامة يقصد منها الزيادة على المضاف إليه وعلى غيره فإن المضاف إليه لا يكون مفضولا، ولا يشترط في المضاف حينئذ أن يكون بعضاً منه؛ فقد يكون بعضاً أو لا يكون؛ ومثال ما ليس بعضاً: "يوسف أفضل إخوته". تريد: أنه فاضل فيهم، ولا تريد التفضيل، ولا أنه يزيد عليهم في الفضل3. قال شارح المفصل ما نصه4:
" ... وقد علم أن "أفعل" إنما يضاف إلى ما هو بعضه، فليعلم أنه لا يجوز أن تقول: "يوسف أحسن إخوته". وذلك أنك إذا أضفت الإخوة إلى ضميره خرج من جملتهم، وإذا كان خارجا منهم صار غيرهم، وإذا صار غيرهم لم يجز أن نقول: "يوسف أحسن إخوته" كما لا يجوز أن تقول: "الياقوت أفضل الزجاج"؛ لأنه ليس من الزجاج. فحينئذ يلزم من المسألة أحد أمرين كل واحد منهما ممتنع؛ أحدهما: ما ذكرناه من إضافة "أفعل" إلى غيره، إذ إخوة زيد غير زيد. والثاني: إضافة الشيء إلى نفسه؛ وذلك أنا إذا قلنا إن زيداً من جملة الإخوة –نظراً إلى مقتضي إضافة "أفعل"– ثم أضفت الأخوة إلى ضمير زيد، وهو من جملتهم، كنت قد أضفته إلى نفسه؛ بإضافتك إياه؛ إلى ضميره
__________
1 في: "ب" ص14، باب الإضافة.
2 في ص416، الشرط الثاني.
3 سبقت إشارة لهذا في ص419.
4 ج3 ص8 لابن يعيش.(3/423)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك فاسد1، فأما على النوع الثاني2 وهو أن يكون "أفعل" فيه للذات بمعنى: "فاعل" فإنه يجوز أن تقول: "يوسف أحسن إخوته" ولا يمتنع فيه كامتناعه من القسم الأول؛ إذ المراد أنه فاضل فيهم؛ لأنه لا يلزم في هذا النوع أن يكون "أفعل" بعض ما أضيف إليه. وعليه جاء قولهم لنُصَيْبٍ الشاعر: "أنت أشعر أهل جِلْدتكَ" لأن أهل جِلْدته غيره، وإذا كانوا غيره لم تَسُغْ إضافة "أفْعَلَ"، إليهم؛ لما ذكرته، ويجوز على الوجه الثاني؛ لأنه بمعنى الشاعر فيهم، أو: شاعرهم ... " ا. هـ.
__________
1 لإضافة الشيء إلى نفسه حكم آخر سبق بيانه توضيحه في"د" ص40 وما بعدها.
2 "أفعل" على قسمين:
أولهما: ما يدل على التفضيل. والثاني ما لا دلالة فيه على تفضيل، وإنما يدل على وصف قائم بالذات، خال من المفاضلة خلوّاً تامّاً. كالذي سبقت الإشارة إليه في: "هـ" من ص140 وفي ص418.(3/424)
وفيما يلي بيان الأقسام السالفة، وملخص أحكامها:
__________
1 انظر المراد من الموصوف هنا في رقم 6 من هامش ص416.
2 سبق شرحها في رقم 3 من هامش ص418.(3/425)
من هذا الملخص وما سبقه يتبين ما يأتي فيما يختص "بأفعل".
1- وجوب إفراده وتذكيره إن كان مجردًا، أو مضافًا لنكرة.
2- جواز مُطابقته وعدمها في الإفراد وفروعه والتذكير والتأنيث إن كان مضافا لمعرفة، والمفاضلة باقية. لكن التزام الإفراد والتذكير أفصح. وتجب البعضية في هذه الصورة.
3- وجوب مطابقته في باقي الأحْوال. أي: حين يقترن "بأل"، أو يضاف لمعرفة والمفاضلة الحقيقية الخاصة غير قائمة. وفي هذه الإضافة الخالية من المضافة يجوز أن يكون بعضًا من المضاف إليه، وغير بعض.(3/426)
المسألة 113: عَمَل "أفعل" التفضيل
"أفعَل" التفضيل أحد المشتقات التي يصح أن يتعلق بها شبه الجملة، والتي يصح أن تعمل؛ فيكون معمولها مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا.
فمثال تعلق شبه الجملة به ما قاله أحد الوصافين في الإمام عليّ: "سمعته قُبَيْل المعركة يخطب في جنوده، فكان أفصح في القول لسانًا، وأعلى في الكلام بيانًا، ورأيته يخوض الوغَى؛ فكان أجرأ عند الإقدام قلبًا، وأقوَى لدى شِدّاتها عزمًا" ... ؛ فالجار والمجرور: "في القول"، متعلقان بأفصح. والجار والمجرور: "في الكلام"، متعلقان بأعلى. والظرف: "عند" متعلق: "بأجرأ". والظرف: "لدى" متعلق: "بأقوى".
أما عمله الرفعَ أو النصبَ أو الجرّ، ففيه البيان التالي:
أولا: علمه الرفع
1- يرفع الضمير المستتر باتفاق، نحو: العظيم أنبل نفسًا، وأشرف قصدًا، وأكثر تعلقًا بجلائل الأمور، ففي كل من "أنبل" و "أشرف"، و "أكثر" ضمير مستتر وجوبًا تقديره: "هو"، ويعود على: العظيم.
2- ويرفع الضمير البارز أحيانًا –وهذا قياسي- نحو: مررت بزميل أفضلَ منه أنت، بجر كلمة: "أفضل"1، على اعتبارها نعتًا لزميل، و "منة": جار ومجرور متعلق بأفضل. و "أنت": فاعل1 أفعل التفضيل.
3- وقد يرفع الاسم الظاهر –قياسا– إذا صح أن يحل محل "أفعل" التفضيل فعْلٌ بمعناه من غير فساد في المعنى أو في تركيب الأسلوب. فإن لم يصح كان رفعه الظاهر نادرًا لا يحسن القياس عليه.
__________
"1، 1" ويجوز رفع "أفضل" على اعتباره خبرًا مقدمًا، و"أنت" مبتدؤه. والجملة من المبتدأ والخبر في محل جر صفة لزميل. على الإعراب لا يكون "أفعل" قد رفع ضميرًا بارزًا.(3/427)
وقد وضعوا للحالة الأولى ضابطًا مُطَّردا، وهو: أن يكون "أفْعل التفضيل" –في الأغلب– نعتًا والمنعوت اسم جنس، قبله نفي أو شبهه1. وأن يكون الاسم الظاهر المرفوع بأفعل التفضيل أجنبيًا2 منه، ومفضَّلًا على نفسه ومفضولًا أيضًا –باعتبارين مختلفين- نحو: ما رأيت رجلًا أكمل في وجه الإشراق منه3 أفعل تفضيل، نعت. والمنعوت قبلها اسم جنس منفيّ في جملته، وهو: "رجل"، و"الإشراقُ" فاعل لأفعل التفضيل، وهذا الفاعل مفَضَّل ومفضول معًا؛ فهو مفضَّل باعتباره في وجه العابد، ومفضول باعتباره في وجه غير وحه العابد. وهذا معنى قولهم: مفضل على نفسه ومفضول باعتبارين. وقد تحقق الضابط في المثال السالف؛ ومن ثَمَّ رفع أفعل التفضيل الاسم الظاهر. ومن الأمثلة: ما شاهدت عيونًا أجملَ فيها الحَوَرُ منه في عيون الظباء ... فأفعل التفضيل هو: "أجمل"، ومنعوته: "عيونًا" اسم جنس منفي في جملته، وفاعله الظاهر هو: "الحَوَر"، ولهذا الفاعل اعتباران، فهو مفضَّل إن كان في عيون الظباء، ومفضول إن كان في عيون غيرها. فقد تحقق في هذه الصورة الضابط الخاص كما تحقق في سالفتها.
وفي الصورتين يمكن أن يحل محل "أفعل" فعلٌ بمعناه من غير أن يترتب على هذا فساد، نحو: ما رأيت رجلًا يكمل في وجهه الإشراق.... وما شهدت عيونًا بجمل فيها الحَور....
فإن لم يصلح أن يحل هذا الفعل محله لم يرفع اسمًا ظاهرًا، إلا نادرًا لا يقاس عليه –كما سبق –وإنما يرفع ضميرًا مستترًا وجوبًا؛ نحو: المشي أنفع من السباحة، ففي "أنفع" ضمير مستتر وجوبًا يعود على المشي، ولا يجوز في الرأي الراجح أن يرفع اسمًا ظاهرًا؛ لأنه لا يصح أن يحل محله فعل بمعناه؛ كما لا يصح أن يقال –في الرأي الراجح أيضًا –استمعت إلى فتى أعلمُ منه أبوه برفع كلمة "أبوه" على أنها فاعل لأفعل التفضيل4: "أعْلم" إلا على لغة ضعيفة مرجوحة.
__________
1 كالنهي، والاستفهام الذي بمعنى النفي، وسيجيء التمثيل لهما في "أ" ص430.
2 بأن يكون خاليًا من الضمير الذي يعود على الموصوف ويدل على صلة بين "أفعل"، ومنعوته.
3 أي: من الإشراق "انظر "ب" في الزيادة، ص430".
4 لا يصح هذا: لأن أفعل التفضيل –في المثال أشباهه –ليس مفضلا على نفسه، وإنما هو مفضل على غيره.(3/428)
ومن الأمثلة التي يرفع فيها الظاهر وينطبق عليها الضابط: "ما سمعت ببلاد أكثرَ فيها الثَّراءُ المدفون منه في البلاد العربية". ومنها مثالهم المرَدّد منذ عهود بعيدة حتى سَمَّوا مسألة الرفع باسمه، وهو: "ما رأيت رجلًا في عينه الكُحلُ منه في عين فلان".... ويرمزون لكل ما سبق بقولهم: "إن أفعل التفضيل لا يرفع الظاهر إلا في مسألة: "الكُحل". يريدون المثال السالف المشتمل على كلمة: "الكُحل" وغيره مما يشابهه من الأمثلة التي ينطبق عليها الضابط العام كما ينطبق على مثال الكحل1....
__________
1 يقول ابن مالك فيما سبق من رفع أفعل التفضيل الظاهر كثيرًا إذا صح أن يحل محله فعل بمعناه، وقليلًا لا يقاس عليه إذ لم يصح:
وَرَفْعُهُ الظَّاهِرَ نَزْرٌ. وَمَتَى ... عَاقَبَ فِعْلًا فكَثِيرًا ثَبَتَا
يريد: أن رفع "أفعل" التفضيل للاسم الظاهر نزر "قليل" فلا يصح القياس عليه. لكن متى عاقب أفعلُ التفضيل فعلًا، "أي: وليه "أفعلُ" وأتى بعده فحل مكان الفعل"، فإن رفعه الظاهر في هذه الصورة قد ثبت نقله كثيرًا من العرب. وضرب لهذا الكثير مثلًا:
كَلَنْ ترى فِي النَّاسِ مَنِ رَفِيقِ ... أوْلَى بِهِ الفَضْلُ مِنَ الصِّدِّيقِ
والأصل: لن ترى في الناس من رفيق أولى به الفضل من الفضل بالصديق، ثم دخله الحذف الذي شرحناه والذي سيجيء في الزيادة. ومن الممكن أن يحل محله فعلى معناه هو: يحق.(3/429)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- من أمثلة النهي: لا تخالفْ شريفًا أحبَّ إليه الخير منه إليك. ومن الاستفهام الذي بمعنى النفي: هل امرأة أحق الحمدُ منه بالأمّ؟.
ب- من كل الأمثلة السالفة يتبين أيضًا أن الاسم الظاهر الذي هو فاعل لأفعل التفضيل يقع بين ضميرين؛ أولهما: يعود للمنعوت. وثانيهما: يعود للفاعل الظاهر.
ويجوز حذف أولهما فقط، أو ثانيهما فقط، أو: هما معًا. فيجوز حذف الأول العائد على الموصوف –إن دل دليل على حذفه1؛ مثل ما رأيت رجلًا أكملَ،..... الإشراقُ منه في وجه العابد، ما شاهدت عيونًا أجملَ.... الحَوَرُ منه في عيون الظباء. والتقدير: أكملَ في وجهه الإشراق، ... وعيونًا أجملَ فيها الحورُ.... والمحذوف هنا ملحوظ كأنه مذكور1.
ومن الأمثلة الدقيقة الواردة عن القدماء: ما رأيت قومًا أشبهَ بعضٌ ببعض منه في قومك.
التقدير: ما رأيت قومًا أبْيَنَ فيهم شبه بعض ببعض منه في قومك.
ويجوز حذف الضمير الثاني العائد على فاعل اسم التفضيل بشرط أن تدخل "مِنْ" الجارة على الواحدة مما يأتي:
1- إما على اسم ظاهر مماثل للفاعل في لفظه ومعناه، فنقول: ما رأيت رجلًا أكمل في وجهه الإشراق من إشراق وجه العابد ما شاهدت عيونًا أجمل فيها الحور من حور عيون الظباء. والأصل؛ ما رأيت رجلًا أكمل في وجهه الإشراق منه في وجه العابد وما شاهدت عيونًا أجمل فيها الحور منه في عيون الظباء.
2- وإما على المحل -أي: المكان- الذي يقوم به الفاعل؛ ويحل فيه، كالوجه في المثال السابق؛ فإنه المحل الذي يقوم به الإشراق، ويحل فيه. وكالعيون؛ فإنها محل الحور ومكانه ... و ... تقول ما رأيت رجلًا أكمل في وجهه الإشراق
__________
"1، 1" لأن المحذوف لدليل يدل عليه يُعَد بمنزلة المقدر، "الملحوظ"، والمقدر كالملفوظ.(3/430)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من وجه العابد، ما شاهدت عيونًا أجمل فيها الحور من عيون الظباء ... و ... ففي هذه الصورة حذف مضاف واحد؛ إذ الأصل: من إشراق وجه العابد، ومن حور عيون الظباء.
3- وإما: على صاحب ذلك الذي يقوم به الفاعل؛ ويحل فيه، كالوجه في المثال "أي: على شيء كلي له أجزاء متعددة، منها المحل الذي يحل فيه الفاعل" كالوجه في المثال الأول، والظباء في المثال الثاني ... و.... تقول ما رأيت رجلًا أكمل في وجهه الإشراق من العابد، ما شاهدت عيونًا أجمل فيها الحور من الظباء. وفي هذه الصورة حذف مضافان؛ إذ الأصل؛ من إشراق وجه العابد ومن حور عيون الظباء.
ويجوز حذف الضميرين معًا إذا حذف من الجملة كل ما يجيء بعد الفاعل الظاهر؛ فلا يذكر بعده شيء منها. وهذا بشرط أن يتقدم المفضّل نفسْهُ على "أفْعل" التفضيل؛ فيستغني "أفْعَلُ" بفاعله عما يكون بعده؛ نحو: ما شيء كالغزال أحسن به الحَوَرُ1. أو يتقدم محل المفضل على "أفعل"؛ نحو: ما شيء كعين الغزال أحسن بها الحورُ.
وربما خلت "من" في اللفظ على المفَضَّل "لا المفضول"، نحو: ما أحد أحسن بع الصبر من المتعلم.
وحبذا التخفف من استعمال هذه الأساليب الأخيرة، بل تركها قدر الاستطاعة.
__________
1 ويقولون إن الأصل: ما شيء أحسن به الحور من حسن حور الغزال، حذف المضاف وهو: "حسن"، وحل المضاف إليه: "حَوَر" محله، فصار الكلام: من حور الغزال. ولما كان الحور منسوبًا للغزال، ومتصلًا به ملابسًا له صح حذفه استغناء عنه بالمضاف إليه الذي سيحل محله أيضًا؛ فصار الكلام: ما شيء أحسن به الحور من الغزال.(3/431)
ثانيًا: عمله النصب:
ينصب أفعل التفضيل المفعول لأجله، والظرف، والحال1 ... وبقية المنصوبات؛ فتكون معمولة له، إلا المفعول به، والمفعول المطلق، والمفعول معه. أما التمييز الذي هو فاعل في المعْنى فيصح أن يكون منصوبًا بأفعل التفضيل نحو: المتعلم أكثر إفادةً وأعظم نفعًا. فإن لم يكن فاعلًا في المعنى وكان "أفعل" التفضيل مضافًا صح أن ينصبه، نحو: المتنبي أوفر الشعراء حكمةً "وقد سبق ضابط كلّ2".
ثالثًا: عمله الجر:
يعمل الجر في المفضول إذا كان مضافًا إليه، نكرة كان أم معرفة نحو: الجندي أسرعُ رجل للدفاع عن وطنه –القائد أقدرُ الجنود على إدارة رحَى الحرب ...
تعدية أفعل التفضيل بحروف الجر:
أ- إذا كان أفعل التفضيل3 من مصدر فعل متعد بنفسه، دال على الحبّ أو البغض أو ما بمعناهما. كانت تعديته باللام بشرط أن يكون مجرورها مفعولًا به في المعنى4، وما قبل: "أفعل" هو الفاعل المعنوي؛ نحو: الشرق أحب للدين من الغربي، وأبغض للخروج على أحكامه. إذا التقدير: يحب الشرقي الدين، ويبغض الخروج على أحكامه.
وتجئ "إلى" بدل اللام كان المجرور هو الفاعل المعنوي وما قيل "أفعل"
__________
1 وقد ينصب حالين معًا؛ "طبقًا للبيان السابق في رقم 1 من هامش ص401" ولا مانع من وقوع الحال –هنا –جامدة غير مؤولة بالمشتق، كما هو مدون بباب الحال، ج2.
2 ج2 م88 باب التمييز.
3 التعجب والتفضيل سيان في أكثر ما يأتي. "راجع ص406".
4 وذلك بإحلال فعل مناسب مكان أفعل التفضيل، يكون بمعناه.
وقد سبق شرح هذا، وما يجيء بعده في ج2 باب حروف الجر، عند الكلام على معنى: اللام وإلى ص344 وما بعدها، و347 م90".(3/432)
هو المفعول المعنوي؛ نحو: المال أحب إلى الشحيح من مُتَع الحياة. والتقدير: يحب الشحيحُ المال أكثر من متع الحياة1 ...
ب- وإن كان فعله متعديًا بنفسه، دالًا على: "علْم" كانت تعديته بالباء؛ نحو: صديقي أعلم بي، وأنا أعرف به وأدرى بأحواله. فإن كان دالًا على معنى آخر كانت تعديته باللام، نحو: الحُر أطلبُ للثأر وأدفَعُ للإهانة، إلا أن كان الفعل يتعدى بحرف جر معيَّن فإن "أفعل" يتعدى به كذلك، نحو: كان أبو بكر أزهد الناس في الدنيا، وأبعدهم من التعلق بها: وأشفقهم على الرعيّة، وأنحاهم عن الظلم، وأذلهم لنفسه في طاعة ربه. وقول الشاعر:
أَجدَرُ الناس بحُبِّ صادق ... باذلُ المعروف من غير ثمنْ
ومثل البيت الذي سبق لمناسبة أخرى2 وهو:
لولا العقول لكان أَدنى3 ضيغمٍ ... أَدنى4 إلى شرف من الإنسان
وإن كان فعله متعديًا لاثنين عُدّيَ لأحدهما باللام ونصب الآخر مفعولًا به؛ لعامل محذوف يفسره المذكور؛ "لأن "أفعل" التفضيل لا ينصب المفعول به كما سبق". نحو: فلان أكْسَى للفقراء الثيابَ. والتقدير: أكسَى للفقراء بكسوهم الثياب5.
__________
1 ومن هذا قول الشاعر:
وأَحبُّ أَقطار البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
2 في آخر ص404.
3 أقل.
4 أقرب.
5 لم لا يكون منصوبًا هنا "بأفعل" استثناء من عدم نصبه المفعول بع مباشرة، وقياسًا على الرأي الكوفي الذي سبق في ص366 في صيغة: "أفعل" التي للتعجب، وهي صيغة لازمة أيضًا. ونستريح من التقدير؟
الحق أن كلا الإعرابيين معيب؛ إما لتعدية "أفعل" وهو لازم، وإما لتقدير شيء محذوف. ولكن الأول أخف نوعًا؛ لسرعة اتجاه الخاطر إلى العامل الظاهر؛ وأنه صاحب العمل لا المقدر.(3/433)
المسألة 114: التوابع الأربعة الأصيلة
مدخل
...
المسألة 114: التوابع الأربعة الأصلية 1
أ- النعت. "ويسمى أيضًا: الصفة، أو: الوصف".
__________
1 "التابع" الأصيل هنا: لفظ متأخر دائمًا، يتقيد في نوع الإعراب في لفظ معين متقدم عليه، يسمى: "المتبوع" –كما سيأتي – بحيث لا يختلف اللاحق عن السابق في ذلك النوع. فإذا كان النوع الإعرابي في اللفظ المعين السابق، هو: الرفع، أو النصب، أو الجر، أو الجزم، وجب أن يكون الثاني مسايرًا له في هذا؛ سواء أكان النوع الإعرابي في الأول لفظيًا، نحو: أقبل الأخُ الوفيُّ. أم: تقديريًّا؛ نحو: أقبل الفتى الوفيُّ، أم محليًا؛ نحو: أقبل سيبويه الوفيُّ. فلفظ: "الوفي" متقيد بالرفع "في الأمثلة الثلاثة" بحالة لفظ خاص قبله. ونقول: أكبرت الأخَ الوفيَّ –أكبرت الفتى الوفيَّ –أكبرت سيبويه الوفيَّ بنصب: "الوفي" في الأمثلة الثلاثة؛ مسايرة لذلك اللفظ الخاص. كما نقول قدرت في الأخ الوفيَّ مروءته، قدرت في الفتى الوفيِّ مروءته، قدرت في سيبويه الوفيِّ مروءته ... ، يجز: "الوفي" في الأمثلة الثلاثة أيضًا؛ مجاراة لذلك اللفظ السابق.
وتقول: أفرخُ وأطربُ برؤية الأوفياء، ولن أفرحَ أطربَ برؤية الأعداء، ولم أفرحْ وأطربْ بسماع السوء؛ فالفعل: "أطرب"، وقد رفع مرة، ونصب مرة أخرى، وجزم ثالثة؛ تبعًا لفعل سابق، وتقييدًا به ...
وهكذا يتقييد اللاحق بالسابق في نوع الإعراب، فيكونان معًا مرفوعين، أو: منصوبين، أو: مجرورين، أو مجزومين. ثم هما بعد ذلك يشتركان في الاسمية، أو الفعلية، أو الحرفية "كالتوكيد اللفظي للحرف" وقد يختلفان أحيانًا، "كما في بعض حالات العطف وستجيء في ص642". ومما يجب الالتفات إليه أن التابع لا يتقيد بالمتبوع في: "البناء"، ولا في ضده: "الإعراب" ولا يسايره فيهما؛ ذلك لأن "البناء، أو: الإعراب" لا ينتقل مطلقًا من المتبوع إلى التابع؛ فلكل واحد من هذه الناحية استقلاله التام عن الآخر، بحيث لا يحكم على أحدهما بانه "مبني أو: معرب" إلا لوجود سبب خاص به؛ قائم بذاته يقضي بهذا أو بذاك، دون نظر للآخر. وقد أسلفنا أن المتقدم يسمى: "المتبوع"، والمتأخر يسمى: "التابع". ولا بد من تأخره عن متبوعه دائمًا.
والتوابع الأصلية أربعة؛ "النعت"، "ويسمى أيضا: "الوصف، أو: الصفة"، فمعنى الكلمتين هنا غير معناهما السابق في "ب"، من هامش ص182، مرادًا منه هناك: المشتق"، "والتوكيد"، و"العطف بقسيمه"، و"البدل". "وسيجيء هنا تفصيل الكلام على كل واحد منها في باب خاص".
ويلاحظ أن كل تابع من هذه التوابع الأربعة الأصلية يختلف اختلافًا كليًّا عن التابع العارض الذي سيجيء في ص469. كما يختلف عن التابع العارض الذي سبق "في الجزء الأول م16 ص181 رقم 6 موضوع: الاسم المعرب، المعتل الآخر" بإهمال حركة الحرف الأخير من الكلمة وجعلها مماثلة لحركة الحرف الذي يجيء بعد كقراءة من قرأ: الحمدِ للَّهِ رب العالمين، بكسر الدال تبعًا لحركة اللام. =(3/434)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= بعض أحكام التوابع:
إذا كان الواجب اتفاق التابع والمتبوع في نوع الإعراب فمن الواجب اختلافهما –حتمًا-. في سببه؛ فسببه في المتبوع قد يكون الفاعلية؛ أو: الابتدائية؛ أو: الخبرية؛ أو: المفعولية أو: الجر بالإضافة، أو: بالحرف، أو: بالجزم بالحرف ... أو غير ذلك من الأسباب المؤدية إلى الرفع، أو النصب، أو الجر، أو الجزم، أما في التابع فسببه واحد، هو: "التبعية" "لأنه النعت، أو عطف، أو توكيد، أو بدل"، ويتبين مما سبق أن التابع لا يجوز تقديمه على المتبوع مطلقًا. لكن قد يجوز تقدم معمول التابع في بعض الحالات التي ستجيء في أبوابها، بالرغم من أن البصريين يمنعون تقدم هذا المعمول، ون الكوفيين –كما سيجيء في ص436-. ومن أحكام التوابع: صحة القطع في ثلاثة منها، هي: "النعت"، "إلا كلمة: كُلّ انظر ص467 و513"، و"عطف البيان"، وكذا: "البدل" "على الوجه الموضح في "هـ" من ص667". والصحيح أن القطع يدخل كذلك "عطف النسق"؛ طبقًا للرأي الآتي في رقم 10 من ص661، وهذا، وفي ص486 وهامشها إيضاح القطع، وبيان المراد منه.
ومن أحكامها أيضًا: أنها إذا اجتمعت، أو اجتمع عدد منها، وجب مراعاة الوجه الأفضل في تربيتها؛ وذلك بتقديم النعت، يليه عطف البيان، فالتوكيد، فالبدل، فعطف النسق؛ كما في البيت التالي:
قدّم النعت، فالبيان، فأَكدْ ... ثم أَبجلْ، واختمْ بعطف الحروف
ومن أحكامها أيضًا: ما نصوا عليه من أن التابع لا يفصل بين الموصول وصلته –طبقًا لما تقدم في ج1 م27 ص351 وأنه يصح الفصل بين التابع والمتبوع بفاصل غير أجنبي محض؛ كمعمول الوصف في قوله تعالى {ذَلِكَ حَشْرٌ - عَلَيْنَا - يَسِيرٌ} ومعمول الموصوف في نحو: تعجبني معاونتك ضعيفًا الكبيرةُ. وعامله؛ نحو: المريضَ أكرمت الجريحَ. ومفسر عامله؛ كقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ.....} والتقدير: إنْ هلك امرؤ هلك، ومعمول عامل الموصوف؛ كقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمُ الْغَيْبِ} ، والمبتدأ الذي يشتمل خبره على الموصوف؛ كقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، والخبر؛ نحو: الصانع الناجحٌ المخلصُ. والقسم؛ نحو: الولد –والله البارُّ محبوب، وجواب القسم؛ كقوله تعالى: {بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، والاعتراض كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} والاستثناء؛ نحو: ماَ عرفت أحدًا إلا الوالدين كاملَ الشفقة. والمضاف إليه؛ نحو: أبو بكرِ الصديقُ أول الخلفاء "ويلاحظ أن النعوت المضاف –ومنه "الكنية" –له حكم خاص لفظي ومعنوي، يجيء في ص444".
ولا يجوز فصل المنعوت المبهم –كاسم الإشارة ونحوه– من نعته الذي لا يستغني عنه؛ فلا يقال: أكرمت هذا عليًا النابغَ. والأصل: أكرمت هذا النابغ عليًا، ومثله: الشِّمْرَي العبُور ... ؛ فلا يصح الفصل بين "العبور" ومنعوتها. واسم الموصول –وهو من الأسماء المبهمة –لا يصح الفصل بالنعت بينه وبين صلته، "كما سبق هنا وفي باب: "الموصول"، ج1 م27" فيصح: أبصرت الذي في الحديقة المسرور، ولا يصح: أبصرت الذي المسرور في الحديقة. =(3/435)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك لا يجوز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إذا كان المعطوف متممًا للمعطوف عليه النعت، ولا يستغني المنعوت عنهما معًا، "أي: عن النعت ومعه ما يكله"؛ ففي مثل: إنّ امرأ يتعلم ولا يعمل بعمله خاسر ... لا يصح أن يقال: إن امرأ يتعلم خاسر ولا يعمل بعمله، لأن المعطوف والمعطوف عليه هما جزءان لنعت واحد في المعنى.
وكذلك لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بتابع مطلقًا؛ نعتًا أو غير نعت -"طبقًا لما سبق في رقم 5 من ص216" –وكذلك لا يجوز الفصل بين النعت ومنعوته إذا كان النعت له معنى، ويلازم التبعية في الأغلب، فلا يستقل بنفسه في الاستعمال بغير منعوته: مثل كلمة: "يَقَقٌ" في مثل: "هذا الورق أبيض يَقَقٌ" أي: خالص البياض، وكذا غيره مما يلازم التبعية ... , وليس من اللازم في التابع ولا في المتبوع أن يكون لفظًًا مفردًا فقد يكون مفردًا؛ وقد يكون جملة، أو شبه جملة، على حسب التقييد والتفصيل الموضح في أبواب التوابع الأربعة.
ويصح الفصل بين النعت ومنعوته بكلمة: "كان" الزائدة بلفظ الماضي؛ مثل: سميت لزيارة صديق كان مريضٍ –كما سبق في باب كان، ج1-. ومن أمثلة الفصل بين التوكيد والمؤكَّد "بفتح الكاف المشددة" قوله تعالى: { ... وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} ، فكلمة: "كل" مرفوعة؛ لأنها توكيد لنون النسوة "الفاعل" وليست توكيدًا للضمير المنصوب المتصل بالفعل: "آتيت" والصحيح عدم جواز الفصل بين التوكيد والمؤكد إذا كان لفظ التوكيد هو كلمة: "كُلّ" التي تليها كلمة: "أجمع" لتقويتها في التوكيد، وما يقع بعد "أجمع" من ألفاظ التوكيد الملحقة التي تساق لتقوية التأكيد –وستجيء في ص517-.
كذلك يصح الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بكلمة: "كان" الزائدة بلفظ الماضي، مثل: الصديق الحق مخلص في الشدة كان والرخاء. ويصح الفصل بينهما بالنداء؛ كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ. رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا؛ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبَّنَا - وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا - وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} والأصل من غير الفصل بالنداء: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ... } – {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} فجاء النداء –وهو "ربنا" –وفصل بين المتعاطفين مرتين في آخر الآيات. ومن أمثلة الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ... } بنصب كلمة: "أرجل"؛ عطفًا على: "وجوه".
وهناك حالتان يجب فيهما –طبقًا للأرجح –الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ستذكران في ص631 وما بعدها "من باب العطف" ومعهما حالتان أخريان يستحسن فيهما الفصل. وأن ماعدا الحالات السالفة يجوز فيه الفصل بشرط ألا يكون الفاصل طويلًا –وفي ص631 البيان-.
ومن أمثلة الفصل بين البدل والمبدل منه قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ ... } .
وقد أشرنا –في ص435 –إلى أن البصريين لا يجيزون أن يتقدم معمول التابع على المتبوع وخالفهم الكوفيون، فيجيزون أن يقال: حضر طعامك رجل يأكل؛ بنصب كلمة: "طعام" المعمولة =(3/436)
تعريفه:
تابع يُكمل متبوعَه1، أو سببيّ2 المتبوع، بمعنى جديد يناسب السياق، ويحقق الغرض. وأشعر الأغراض الأساسية التي يفيدها النعت ما يأتي3.
1- الإيضاح4 إن كان المتبوع معرفة، كقول شوقي في الرسول عليه السلام:
__________
= الفعل: "يأكل" وقد وافقهم الزمخشري في قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} فجعل الجار ومجرورة متعلقين بكلمة "بلغيًا". وهذا رأي حين، لما فيه من تيسير.
من كل ما تقدم جواز الفصل بين التابع ومتبوعه بغير الأجنبي المحض. أما الأجنبي المحض فلا يصح الفصل به؛ ففي مثل: مررت برجل عاقلٍ فرس أبلقَ.. لا يصح أن يقال: مررت برجل على فرس عاقل أبلق.. وهكذا:
والصحيح أن العامل في التابع هو العامل في المتبوع، ولا تختلف التوابع في هذا ...
ويتحتم أن يكون المتبوع اسمًا إذا كان التابع نعتًا، أو توكيدًا معنويًا، أو عطف بيان. أما إن كان التابع توكيدًا لفظيًّا، أو عطف نسق، أو بدلًا، فقد يكون المتبوع اسمًا أو غير اسم.
وكل ما تقدم إنما خاص بالتابع والمتبوع نم ناحيتهما اللفظية. أما حكمهما من ناحيتهما المعنوية فقد يتفقان تمامًا في معناهما، كبدل الكل من الكل، وقد يختلفان تمامًا، كما في حالة العطف بالحرف: "لا" وقد يتفقان مع تفاوت كبير؛ كالنعت الذي للتوضيح ... وفيما سبق يقول ابن مالك:
يَتْبَعُ في الْإِعرابِ الأْسماءَ الأُوَلْ ... نعتٌ، وتوكيدٌ، وعكفٌ، وبَدَلْ
يريد: أن هذه الأربعة تتبع في إعرابها الأسماء الأول، أي: الأسماء التي سبقتها وتقدمت عليها، وهي الأسماء المتبوعة. واقتصر على الأسماء دون غيرها لأن هذه هي الأكثر.
والتوابع الأربعة فضلات يصح الاستغناء عنها؛ إذ ليس واحد منها يؤدي في جملته معنى أساسيًا تتوقف عليه فائدتها الأصلية، إلا النعت؛ فإنه قد يتمم –أحيانًا– الفائدة الأساسية على الوجه الذي سيجيء في ص440.
ونكرر ما سبقت الإشارة إليه "في آخر هامش ص343 وتفصيله في ص469" وهو أن تابع من هذه التوابع الأربعة مغاير كل المغايرة لنوع التابع الآتي في ص469.
1 لابد في المتبوع هنا –وهو المنعوت– أن يكون اسمًا، كما أشرنا. وقد يكون هذا الاسم مضافًا؛ كالكنية ولها حكمها الخاص الذي يجيء بيانه في ص444.
2 السببي هو: الاسم الظاهر المتأخر عن النعت، المشتمل على ضمير يعود على المتبوع المتقدم، ويدل على ارتباطه به بنوع من الارتباط؛ كالنبوة، أو الأخوة، أو الصداقة ... "انظر ص452".
3 ما عداها من الأغراض الأخرى، كالتفصيل، والإبهام ... قليل لا أهمية له؛ بل إنه داخل فيما سيأتي.
4 الإيضاح: إزالة الاشتراك اللفظي ألفي يكون في المعرفة، ورفع الاحتمال الذي يتجه إلى مدلولها ومعناها؛ فكلمة مثل: "أحمد أو: محمود" أو: غيرهما من المعارف ... قد يشترك في =(3/437)
أَشرَق النورُ في العوالِمِ لَمّا ... بشَّرتْها بأَحمدَ الأَنباءُ
اليتيم، الأُمِّيِّ، والبشر الموحَى ... إليه العلومُ والأَسماءُ
أَشرفِ المرسلين، آيتُه النطقُ ... مبينًا، وقومُه الفصحاءُ
ونحو: فتح مصرَ عَمْرُو بنُ العاص، الصائبُ رَيُه، المحْكمُ تدبيرُه....
فالكلمات التي تحتها خط "فيما سبق" نعوت توضح منعوتها المعرفة.
2- التخصيص1 إن كان المتبوع نكرة؛ كقول الشاعر:
بُنيّ، إن البِرَّ شيءٌ هيِّنُ ... وجهٌ طليقٌ، وكلامٌ لَيِّنُ
ونحو: كَم من كلمة خفيفة وزنُها، أودت بجماعة وفيرِ عددُها!!.
__________
= التسمية بها أكثر من شخص، فهي –مع أنها معرفة تدل على مُعين– قد تحمل أحيانًا نوعًا من الإبهام، أو الإجمال، يحتاج إلى مزيد بيان وإيضاح؛ فيجيء النعت لتحقيق هذا الغرض؛ فنقول: أحمد العالم محترم، ومحمود المحسن محبوب.
ملاحظة هامة: النعت إنما يوضح متبوعة –ويخصصه كذلك– بأمور عرضية يدل عليها معنى النعت، وتكون مما يطرأ على الذات، كالعلم، والفهم، والذكاء.. أما توضيح الذات نفسها بلفظ يدل عليها وتكون هي المراد منه مباشرة، لا أن المراد أمر عرضي يطرأ عليها فمن اختصاص عطف البيان، والتوكيد اللفظي، وكذا التوكيد المعنوي بالنفس والعين، فإن كل واحد من هذه التوابع الثلاثة هو عين الأول "المتبوع" –كما سيجيء في أبوابها ص525 و538 و542 و501 و503– أما التوكيد المعنوي بلفظ، "كل" أو: "جميع" أو: "عامة" فإن المراد منه هو: "إفادة المسئول"، وليس الدلالة على الذات نفسها –والبيان في ص509-.
-راجع الصبان أول باب النعت-.
1 مدلول النكرة "كرجل، وشجرة، وكوكب...." يشمل أفرادًا كثيرة قد يصعب حصرها؛ فإذا وصفت أمكن تقليل أفرادها، وتضييق عدد ما تشمل عليه تضيقًا نسبيًا، "أي: بالنسبة لحالتها قبل النعت"؛ فكلمة: رجل، تشمل ما لا يعد من الرجال، عالمهم، وجاهلهم، غنيهم، وفقيرهم، صحيحهم ومريضهم.... و.... و....، لكن إذا قلنا هذا رجل عالم، تخصصت الكلمة بنوع معين من الرجال دون غيره، بعد أن كانت تشمله، وتشمل أنواعًا كثيرة معه. "راجع ص23" والنعت يخصص متبوعه –كما يوضحه– بأمور عرضية مما يطرأ على الذات، طبقًا للملاحظة السابقة في آخر رقم 4 من هامش الصفحة السالفة.(3/438)
3- مجرد المدح1؛ كقولهم: من أراد من الملوك والولاة، أن يُسعِد أمته، ويُقوي دولته، فيسلكْ مسالك الخليفة العادلِ عمَر بنِ الخطاب.
ونحو: رضي الله عن هذا الخليفةِ الشاملِ عدلُه، الرحيم قلبُه..
4- مجرد الذم1؛ كقولهم: من أراد من الولاة أن يمَأ النفوس حَنَفًا، والقلوب بُغضًا فليَنْهج نهج والي الأمويين الحجّاج بنِ يوسفَ، الطاغِيَةِ.
ونحو: كان الحجاج الواليَ القاسِيَ قلبُه، الطائشَ سيفُه، الجامحَ هواه....
5- الترحُّم2 نحو: ما ذنب البائسِ الجرِيحِ قلبُه يقسو عليه الزّنيمُ3، والطائر الْمَهيض4 جَناحُهه يعذبه الشِرّير؟ ...
6- التوكيد؛ نحو: كان خالدُ بنُ الوليدِ بضرب خصمه الضَّربة5 الواحدة5 فتقضي عليه.
ونحو: أُعْجبتُ بخالد الواحدةِ5 ضَربتُه، القريدةِ6........................ طعنتُه7 ...
__________
"1، 1" يتجرد النعت المدح الخالص أو الذم الخالص، حين يكون معناه اللغوي أو المراد الأصل منه غير مقصود، وتقوم القرينة الدالة على أن المقصود أمر آخر؛ هو: المدح أو الذم؛ فشهرة عمر بالعدل، والججَّاج بالطغيان؛ شهرة لا تكاد تخفى على أحد، جعلت القصد من كلمتي: "العادل" و"الطاغية" في المثاليين، إنما هو أمر آخر غير معناهما اللغوي الأصيل؛ ذلك الأمر هو: المدح في الأولى، والذم في الثاني، ولولا هذا لكان مشتملًا على لفظ لا يفيد معنى جديدًا، وهذا معيب بلاغة.
2 إظهار الرحمة والحنان لغيرك.
3 اللئيم المعروف بلؤمه وشره.
4 المكسور.
"5 و5 و5" إنما كان النعت في هذا المثال –وأشباهه- للتوكيد، لأن صيغة "فَعْلة" التي فيه تدل لى المرة الواحدة من غير حاجة إلى كلمة أخرى. فإذا جاء بعدها كلمة: "الواحدة" لم تفد معنى جديدًا، وإنما تؤكد المعنى القائم. ومثلها كلمة: الفريدة؛ لأنها بمعنى: المنفردة، أي: الواحدة. وكذلك ما أشبهها من الكلمات الأخرى.
ومن أمثلة النعت الدال على التوكيد قولهم: أمسِ الدابرُ لا يعود، وغدٌ القادمُ لن يتوقف. "فالدابر" و"القادم" نعتان للتوكيد؛ لأن "أمس" لا بد أن يكون دابرًا، "أي: منقضيًا"، والغد لا بد أن يكون قادمًا..
6 الوحيدة.
7 وفي تعريف النعت بنوعيه يقول ابن مالك:
فالنَّعتُ تابعٌ مُتِمٌّ مَا سَبَقْ ... بوَسْمِهِ، أَوْ وَسْمِ مَا بِهِ اعْتَلَقْ
"بوسمه: أي: بزيادة سمة عليه، وهي الزيادة المعنوية الناشئة من النعت، والمنصبة على المنعوت.
"اعتلق": بمعنى اتصل به بعلاقة، والذي يتصل: بالنعت بعلاقة هو: سببيه. فالمراد: أن النعت تابع يتمم المنعوت الذي سبقه، أو: يتمم ما اتصل بالمنعوت.(3/439)
7- وقد يتمم النعتُ الفائدةَ الأساسية بالاشتراك مع الخبر. مع أن الأصل في الخبر1 أن يتمم هذه الفائدة وحده. لكنه في بعض الأحيان لا يتممها إلا بمساعدة لفظ آخر كالنعت؛ كقوله تعالى يخاطب المعارضين: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} ، أي: ظالمون. وقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2.
وقول الشاعر:
ونحن أناسٌ لا توسّطَ عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقول الآخر:
ونحن أناسٌ نحبّ الحديث ... ونَكرهُ ما يوجب المأثَما
إذ لا تتحقق الفائدة بأن يقال: أنتم قوم –نحن أناس....؛ لأن هذا معلوم
__________
1 سواء أكان خبر مبتدأ أم خبر ناسخ.
2 إيضاح هذا في باب المبتدأ والخبر "ج1 ص319 م32". وقلنا هناك لا فرق في الحكم بين خبر المبتدأ؛ كالأمثلة المذكورة، وخبر الناسخ كقول الشاعر:
ولا خير في رأي بغير رَوِيَة ... ولا خير في رأي تعاب به غدًا
إذ لا فائدة من قولنا: لا خير في رأي ... بل لا يصح أن يقال هذا إلا مع التكملة، وهي هنا النعت؛ "وهو: شبه الحملة في الشطر الأول، والجملة الفعلية في الشطر الثاني".
ومن شبه الجملة الواقع خبرًا نفتقرًا إلى بعده ليتمم به المعنى الأساسي قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ؛ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ... } فلا يمكن أن يصح المعنى الأساسي هنا بغير النعت وما يتصل به.(3/440)
بداهة من القرائن العامَّة المحيطة بالمتكلم1 ...
تقسيم النعت، وحكم كل قسم:
1- ينقسم النعت باعتبار معناه إلى: نعت حقيقي، وإلى نعت سببيّ2.
أ- فالحقيقي هو: ما يدل على معنى في نفس منعوتة الأصلي3، أو فيما هو بمنزلته وحكمه المعنوي.
وعلامته: أن يشتمل على ضمير مستتر أصالة، أو تحويلًا يعود على ذلك المنعوت.
ولبيان هذا نسوق الأمثلة التالية:
يقول بعض الشعراء في وصف نوع من حكم الملوك إنه:
نكَدٌ خالدٌ، وبؤْسٌ مقيمٌ ... وشقاء يَجِدُّ منه شقاءُ
فكلمة: "خالد" نعت حقيقي، منعوتة الأصلي هو: "نكد". وهذا النعت يؤدي معناه في نفس منعوتة الأصلي مباشرة، ويشتمل على ضمير مستتر يعود إليه. وكلمة: "مقيمٌ" نعت حقيقي، ومنعوتة الأصلي هو: بُؤْس" وهذا النعت يؤدي معناه في نفس الأصلي مباشرة، ويشتمل على ضمير مستتر يعود إليه..
__________
1 ومثل كلمة: "خُلَبًا" في قول الشاعر:
لا يكنْ وعدُك برْقًا خُلَّبًا ... إِن خير القول ما الفعلُ مَعَهْ
والبرق الخلب: الذي لا مطر معه. ومثل جملتي: "يفاد، ويصان" في قول الشاعر:
ليس الغنى مالًا يفاد ويُقتنَى ... إن الغنى خُلقٌ يصان عن الدَنْس
2 تفصيل الكلام على السببي في ص452، وسيجيء في الزيادة ص456 تقسيم معنوي آخر.
3 المراد بنفس المنعوت ما ليس سببيًا له. ويلاحظ ما سبق "في رقم 1 من هامش ص438" من أن النعت لا يتعرض للذات في صميمها، وكيانها الأساسي، وإنما يختص بالأمور العرضية التي تطرأ عليها.(3/441)
وتقول: استمعت إلى خطيب فصيح اللسان، عذبِ البيان، قويِّ الحجة. أو: استمعت إلى خطيب فصيحٍ لسانًا، عذبٍ بيانًا، قويِّ حجةً.
فكلمة: "فصيح" نعت حقيقي، والمنعوت هو: خطيب، وليس منعوتًا أصليًّا؛ ولكنه بمنزلة الأصلي وفي حكمه؛ لأن الجملة كانت في أساسها الأول: استمعت إلى خطيب فصيح لسانُه1 ... فالفصيح هو اللسانُ لا الخطيب. لكن جرى على الجملة تَغيير اقتضى أن يتركً الضمير البارز مكانه، وينتقل إلى النعت، ويستتر فيه، ويصير مسندًا إليه2، فاعلًا، ويعرب الاسم الظاهر بعد النعت مضافًا إليه مجرورًا، ويصحّ أن يعرب تمييزًا منصوبًا، إن كان نكرة. أو منصوبًا على التشبيه بالمفعول به إن كان نكرة أو معرفة. وصارت كلمة: "فصيح" –وهي النعت –مشتملة على ضمير مستتر محوَّل3، إليها من مكان آخر، وبسبب انتقال هذا الضمير إلى مكانه الجديد صار النعت يدل على معنى يدل على معنى في المنعوت بعد أن كان يدل على معنى في شيء آخر له صلة بالمنعوت. فالمنعوت في الحالة الجديدة صار منعوتًا بعد تحويل وإسناد جديدين. حين تَمَّا اتجه المعنى إليه، مع أنه ليس المقصود في الحقيقة بالنعت. لكن الصلة بين هذا النعت والاسم الظاهر بعده قوية، ومن أجلها كان النعت بمنزلة الاسم الظاهر، وفي حكمه المعنوي. ومثل هذا يقال: في عذب البيان، وقوي الحجة..
__________
1 لأن الأصل أن ترفع الصفة المشبهة فاعلها ... فهي محتاجة إليه كالفعل أشد من احتياجها إلى غيره.
2 مجازًا؛ وذلك للسبب الذي تكرر إيضاحه في إضافة اسم الفاعل لفاعله "ص242 و267 و292 وفي إضافة اسم المفعول ص275 و280 والصفة المشبهة ص312" ومن ثم كانت تسمية النعت في هذه الحالة نعتًا حقيقيًا هي تسمية "مجازية" لسبب الذي شرحناه في الأبواب المذكورة، وهو جريانه على غير من هو له؛ إذ حول فيه الإسناد عن الظاهر إلى ضمير الموصوف، وصار الظاهر مجرورًا بالإضافة. ويجوز نصبه تمييزًا إن كان نكرة. كما يجوز نصبه على التشبيه بالمفعول به إن كان نكرة أو معرفة. أما النعت الحقيقي الأصلي فيجري فيه الضمير على الموصوف الذي هو له مباشرة، فليس فيه رائحة مجاز، أي: أن النعت يرفعه أصالة. أما في الأخرى فيرفعه بعد التحويل.
3 أي: منقول.(3/442)
حكم النعت الحقيقي:
الأغلب مطابقته للمنعوت1 وجوباً في: التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي الإفراد وفروعه، وفي حركات الإعراب الثلاث. نحو: هذا خطيبٌ فصيحٌ –هذان خطيبان فصيحان –هؤلاء خطباء فصحاء –هذه الخطيبة فصيحة –هاتان خطيبتان فصيحتان.... هؤلاء خطيبات فصيحات ... وكذا الباقي.
وبناء على هذا الأغلب لا بد أن يطابق النعت الحقيقي منعوته في أربعة2 أمور تجتمع فيه من العشرة السالفة3، وأن يكون رافعاً ضمير الموصوف، أصالة أو تحويلاً. بالطريقة التي شرحناها.
__________
1 إلا في المسائل الآتية في الزيادة والتفصيل "ب –ص444 وج –ص445".
2 واحد من حركات الإعراب الثلاثة، وواحد من التعريف والتنكير، وواحد من التذكير والتأنيث، وواحد من الإفراد وفروعه.
3 ما عدا المسائل الآتية في "ب" و "ج" من الزيادة والتفصيل.(3/443)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- قد يكون المنعوت كُنية. وقد أوضحنا –فيما تقدم1 –أن تركيبها إضافي ولكنها معدودة من قسم العَلَم الذي معناه إفراديّ؛ فكل واحد من جزأيها لا يدل بمفردة على معنى يتصل بالعَلمية. فإذا وقع بعدها تابع –كالنعت في قولنا: جاء أبو عليّ الشجاعُ –فإن النعت وهو هنا كلمة: "الشجاع" يعتبر في المعنى نعتاً لأحدهما دون الثاني، وإلا فسد المعنى. ولكنه يتبع في الإعراب المضاف وحده؛ فلفظه تابع في حركة إعرابه للمضاف، وأما معناه فواقع على المضاف والمضاف إليه1 معا. وهذا الحكم يسري على النعت بنوعيه؛ الحقيقي والسببي –وستجيء له إشارة في السببي، في رقم2 من هامش ص452.
وكذلك يسري على العطف؛ "طبقا لما سيجيء في بابه. رقم9 من ص661".
وعلى التوكيد "كما في ب ص507".
وعلى البدل "كما في رقم3 من هامش ص666".
ب- هناك منعوتان معارف تقتضي أن يكون نعتها معرفة أيضا، ولكن من نوع معين من المعارف لا يصلح لها غيره، مثل كلمة: أيّ، وأيَّة" عند ندائهما؛ فإنهما يتعرفان بالنداء، ولا يصوفان إلا باسم معرف "بأل" أو باسم موصول، أو باسم إشارة مجرد من كاف الخطاب؛ نحو: يا أيها الوفيّ ما أنبلك –يا أيتها التي أحسنت ... - يأيهذا الوفيْ ...
ومثل اسم الإشارة، فإنه لا يوصف مطلقاً –منادى وغير منادى –إلا بمعرفة، مبدوءة "بأل"؛ نحو: يا هذا الناقد تَلَطفْ.
- وسيجيء تفصيل الحكم في باب النداء ج4 ص36 و37 م131 2..-.
__________
"1و1" انظر الكلام على الكنية ونعتها –ج1 م23 ص277 باب: "العلم". وقد سلف هنا في "ج" من ص167 حكم النعت بعد المركب الإضافي، ومنه العلم الكنية.
2 بهذه المناسبة تنقل بعض ما جاء في الموضع المذكور خاصاً بكلمة: "أيّ وأيّة" عند ندائهما من وجوب إفرادهما؛ سواء أكانت صفتهما مفردة أم غير مفردة؛ نحو: يأيها الناصح أعمل بنصحك أولاً –يأيها المتنافسان ترفَّعا عن الحقد –يأيها الطلاب أنتم ذخيرة البلاد ... و.... و ...(3/444)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ج- يستثنى من المطابقة الحتمية أمور:
منها: بعض ألفاظ مسموعة1 لا مطابقة فيها في الجمع؛ فالنعتْ جمع، والمنعوت مفرد؛ منها قولهم: هذا ثوبٌ أخلاقٌ –وبُرْمةٌ أعشارٌ –ونطفةٌ أمْشاجٌ2.... و....
ومنها: ألفاظ التي تلزم –في الأغلب –صيغة واحدة في التذكير والتأنيث،
__________
= "أما من جهة التأنيث والتذكير فالأفضل الذي يحسن الاقتصار عليه عند النداء –وإن كان ليس بواجب –هو أن تماثل كل منهما صفتها. فمثال التذكير ما سبق. ومثال التأنيث: يأيتها الفتاة أنت عنوان الأسْرة –يأيتها الفتاتان أنتما عنوان الأسْرة –يأيتها الفتيات أنتن عنوان الأسرة. ويجوز في "أي" عدم المماثلة لنعتها المؤنث؛ فيصح أن تستعمل معه ومع نعتها المذكر بصورة واحدة خالية من تاء التأنيث، ولا يصح هذا في "أية" المختومة بالتاء؛ فلا بد من تأنيث صفتها المؤنثة.
"ولا بد من وصفأيّ وأية" عند ندائهما، أما باسم تابع في ضبطه لحركتها اللفظية الظاهرة وحدها، وتصير بعد النداء العهد الحضوري. وإما باسم موصول مبدوء ب "بأل". وإما باسم إشارة مجرد من كاف الخطاب. ويتحتم في الرأي الأشهر والأوْلى أنْ يكون اسم الموصول واسم الإشارة تابعين في حرمتهما لحركة المنادى الشكلية الظاهرة، "أو المحلية؛ طبقاً للرأي السالف المردود"، فيكون كل منهما في محل رفع فقط؛ تبعاً لصورة المنعوت المنادى؛ نحو: يأيها العَلُم الخفاقْ تحيةً، ويأيتها الراية العزيزة سلمتِ على الأيام، أو: يأيها الذي يخفق فوق الرؤوس تحية، ويأيها التي ترفرفين سملت ... ونحو:
أَيها ذا الشاكي وما بك داءٌ ... كن جَميلاً تر الوجود جميلا
"فإن كانت: "أل" غير جنسية؛ بأن كانت زائدة في أصلها ولكنها صارت بعد النداء للعهد، أو للمح الأصل، أو للغلبة، أو ... ، لم يصح النعت بما دخلت عليه، فلا يقال: يأيها السيف، ولا يأيها الحرب ... لرجلين اسمهما سيف، وحرب. ولا: يأيها المحمدان.... أو المحمدون.... وكذلك لا يقال: يأيها ذاك العالم؛ لا شتمال الإشارة على كاف الخطاب؛ إذ لا يصح اشتمال الجملة الواحدة –في غير الندبة –على خطابين لشخصين مختلفين "طبقاً لما في ج4 رقم6 من هامش ص31 عند الكلام على القسم الرابع: "المضاف".
"وإذا وصفت "أي وأية" باسم الإشارة السالف فالأغلب وصفه أيضاً باسم مقرون "بأل" كالبيت المتقدم ... " اهـ، المنقول الموجز.
1 أي: مقصورة على السماح؛ فلا يزاد عليها.
2 الأخلاق: جمع خَلَق، وهو: البالي. والأعشار جمع: عُشْر –بضم فسكون -والأمشاج، جمع: مشيج، أو: مَشَج –بفتح الأول والثاني - ... ، وهو المختلط.(3/445)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كصيغة: "فَعُول" بمعنى: "فاعل"؛ مثل صَبور؛ بمعنى: صابر: فهذه الصيغة –في الأغلب –لا تلحقها علامة تأنيث، وإنما تلازم التذكير؛ إفراداً، وتثنية، وجمعاً –بالشروط والتفصيلات الآتية في باب "التأنيث1" –تقول: هذه فتاة صبور –هذان رجلان صبوران –هاتان فتاتان صبوران، هؤلاء رجال صُبُرٌ –وفتيات صُبُرٌ.
ومن تلك الألفاظ: المصادرُ التي تقع نعتاً، ويغلب عليها الإفراد والتذكير؛ طبقاً للبيان الخاص بها، وسيجيء 2....
ومنْها: أن يكون المنعوت جمع مذكر غير عاقل3؛ فيجوز في نعته
__________
1 ج4 ص441 م169. وفي ذلك الموضع نص قرار أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة يبيح زيادة تاء التأنيث في آخر صيغة "فَعُول" بمعنى "فاعل". وقد سجلناه هناك.
2 في رقم7 من ص460 و "أ" من ص464.
3 المراد هنا بجمع المذكر لغير العاقل ما يشمل: "جمع التكسير للمذكر غير العاقل"، "أي: جمع التكسير الذي يكون مفرده مذكراً غير عاقل؛ مثل: كُتب –أقلام –مياه ... " وما يشمل أيضاً: "الملحق بجمع المذكر السالم" مما يكون مفرده مذكراً غير عاقل أيضاً.... مثل: أَرَضُون جمع أرض، ووابلون، جمع وابل؛ بمعنى: مطر غزير، وعِلّيُّون، جمع: عَلِّيّ للمكان العالي.... فلا يدخل فيما سبق جمع المذكر السالم الأصيل؛ لأن مفرده عاقل –في الأغلب-.
وقد اشترطنا أن يكون المنعوت جمع مذكر غير عاقل، لأن هذا هو المفهوم من النص الصريح الوارد في حاشية ياسين أول باب: "النعت" –ج2 –وهو أيضاً المفهوم من أمثلته، حيث قال ما نصه:
"بقي أشياء مستثناة من المطابقة –أي: من مطابقة النعت وجوباً للمنعوت في الجمع –كما بيناه في حواشي الألفية. ومن ذلك صفة مذكر ما لا يعقل؛ قال ابن الحاجب في أمالي القرآن: "أنت فيها بالخيار؛ إن شئت عاملتها معاملة الجمع المؤنث؛ وإن شئت عاملتها معاملة المفرد المؤنث؛ فتقول: هذه الكتب الأفاضل، والفُضْلَيات، والفُضَل، والفُضْلى. فالأفاضل على لفظه في التذكير. والفُضليات والفُضَل": إجراء له مجرى جمع المؤنث؛ لكونه لا يعقل. و "الفُضْلَى" إجراء له مجرى الجماعة. وهذا جار في الصفات والأبار، والأحوال؛ ولذلك جاء: "أُخر" نعتاً للأيام –يعنى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} جمع: أخرى –ولولا ذلك لم يستقم. ولذلك لو قلت: "جائني رجال ورجال أُخَر" لم يجز حتّى تقول: أواخر، أو آخَرون؛ لأنه ممن يعقل -يريد: أن مفرده هو "آخَر" العاقل -...." اهـ كلام ابن حاجب. =(3/446)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحقيقي أن يكون مفرداً مؤنثاً، وجمع مؤنث سالماً، وجمع تكسير للمؤنث، كما يجوز أن يكون جمع تكسير للمذكر، إن لاحظنا في المنعوت مفرده المذكر
__________
= ومن معاملة جمع ما لا يعقل من المذكر معاملة المفرد المؤنث قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ ... } في قراءة الجمهور، وقراءة: "اللواتي" شذوذاً هي من معاملته معاملة جمع المؤنث ... " اهـ كلام ياسين.
ذلك هو نص كلامه، ومفهومه واضح. لكن المفهوم الواضح –من بعض المراجع الأخرى أن الحكم السالف يسري كذلك على الجموع الدالة على المؤنث إذا كان مفردها مؤنثاً لا يعقل؛ سواء أكانت تلك الجموع التكسير أم كانت مختومة بالألف والتاء المزيدتين؛ نحوَ: السفن جارية، أو: جاريات، أو: جوارِ. والسفينات جارية، أو جاريات، أو جوار ... وهكذا ورد الحكم السالف في تلك المراجع خالياً من التقييد بالمذكر، مقتصراً على أنه جمع لما لا يعقل؛ فيشمل الجموع المختلفة لغير العاقل؛ تكسيراً كانت أم غير تكسير.
ومما تقدم يتبين خطأ الرأي الذي يوجب الجمع في "فَعْلاء" مؤنث "أفعل" إذا كانت نعتاً لجمع ما لا يعقل في مثل: عندي ثلاثة أثواب بيض، وأربعة حُمْر، فمن الخطأ –طبقاً لذلك الرأي –أن يقال: بيضاء، حمراء. وقد تصدى لهذه المسألة بعض المحققين القدامى وانتهى في تحقيقه إلى أن الإفراد ليس خطأ، وأريد رأيه بالأمثلة الواردة المسموعة، وبكلام فريق آخ من النحاة السابقين. وإن كان الأفصح عند هؤلاء المحققين هو الجمع كقوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} ولكن الأفصح لا يمنع استعمال الفصيح وغيره مما هو جائز. وقد بحث المجمع اللغوي القاهري هذه المسألة، وأبدى فيها رأياً حاسماً؛ هو الأخذ بما قاله المحققون من الجواز، وتصحيح النعت بصيغة "فعلاء" "مؤنث" "أفعل" إذا كان منعوتها جمعاً لما لا يعقل. "وقراره هذا مسجل في ص537 من مجموعة محاضر جلساته في الدورة الرابعة عشرة –ومثل هذا يقال في وقوع تلك الصيغة خبراً وحالاً، ونحوهما ...
أما الجموع التي يكون مفردها مذكراً عاقلاً فحكمها ما يأتي:
أ- إن كانت جموع تكسير لمذكر عاقل جاز في نعتها أمران؛ أحدهما: أن يكون النعت جمع تكسير مناسباً، أو جمع مذكر سالماً، نحو: ما أنفعَ العلماء الأعلام، أو: ما أنفعَ العلماء العالمين. والآخر: أن يكون مفرداً مؤنثاً مناسباً؛ ما أعظمَ الرجال المكافحة في الميادين الإصلاح.
ب- إن كانت جمع مذكر سالماً أصلياً فنعته جمع مذكر سالم، أو جمع تكسير للمذكر؛ محو إن المصلحين الجديرين بالإكبار هم الذين يرفعون شأن بلادهم، ويبتغون بالإصلاح رضا الله. أو إن المصلحين العظماء هم الذين ...
ج- إن كانت جمع مؤنث سالماً –وسيجيء المراد من هذا المجموع المؤنث –للعقلاء فالتحقيق أنه =(3/447)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير العاقل، نحو: اقتنيت الكتب الغالية، أو: اقتنيت الكتب الغاليات، أو الغوالي. ومثل: اقتنيت الكتب الأحاسن، جمع الأحسن1 ...
ومنها: أن يكون المنعوت "اسم جنس جميعاً" يفرق بينه وبين واحدة بالتاء المربوطة الدالة على الوحدة؛ مثل: تفَّاح وتفاحة؛ فيجوز في صفته –كما سبق عند تفصيل الكلام عليه2 –إما الإفراد مع التذكير على اعتبار
__________
= يجوز في نعته –وكذا في خبره وحاله ... و.... و ... –أن يكون مفرداً مؤنثاً، أو جمعاً للتكسير مؤنثاً، أو جمعاً مختوماً بالألف والتاء المزيدتين للتأنيث؛ فقد جاء في تفسير البيضاوي لقوله تعالى: {َلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ما نصه:
"مطهرة"، وقرئ: "مطهرات" وهما لغتان، فصيحتان، ويقال: النساء فعلت، وفعلن، وهن فاعلة، وفواعل، قال الشاعر:
وإذا العذارى بالدخان تلفعت ... واستعجلت نصب القدور فملَّت ... "
أهـ البيضاوي.
وتعليقاً على هذا جاء في حاشية الشهاب على البيضاوي ما نصه: "قوله: هما لغتان فصيحتان"، يعني أن صفة جمع المؤنث السالم والضمير العائد إليه مع الفعل يجوز أن يكون مفرداً مؤنثاً، ومجموعاً مؤنثاً؛ فتقول النساء وفعلت والنساء فعلن، ونساء قانتات، ونساء قاتنة". اهـ الشهاب على البيضاوي. وجاء في تفسير النسفي بعد تلك الآية ما نصه: "لم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان" اهـ النسفي. والمجموع المؤنث يشمل جمع التكسير للمؤنث، كما يشمل المجموع بالألف التاء المزيدتين. والبيت السابق منسوب في ديوان الحماسة "ج1 ص213" للشاعر: سلمة بن ربيعة. وجاء في تفسير "أبو السعود" للآية مثل ما في البيضاوي، وزاد عليه بعد قوله: "وهما لغتان فصيحتان" ما نصه: "الجمع على اللفظ والإفراد على تأويل الجماعة ... "اهـ.
هذا حكم نعت الجمع المؤنث للعقلاء، وينطبق على غيرهم انطباقاً أتم وأقوى. أي: أن هذا الحكم ينطبق على الجمع الذي مفرده مؤنث مطلقاً، -عاقلاً وغير عاقل –بالرغم من أن الشائع بين كثير من النحاة أ، المطابقة واجبة بين النعت ومنعوته، إذا كان جمعاً مفرداً مؤنث، عاقل، ولا قوة لرأيهم أمام النص الصريح السالف. وأمام نصر قوي آخر؛ فقد قرأ بعض القراء آية سورة "النساء" وهي قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ... مكان: "اللاتي". "راجع التفصيل في ج1 م26 ص343 باب: الموصول".
1 وهذا الحكم –بصوره المختلفة السالفة –ليس مقصوراً على النعت وإنما يشاركه فيه الخبر والحال –كما سلف-؛ بشرط أن يكون المبتدأ وصاحب الحال جمعين لذكر غير عاقل كما في المنعوت. "راجع حاشية ياسين في هذا الموضع".
2 ج1 م1 ص21.(3/448)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللفظ؛ لأنه جنس، أو الإفراد مع التأنيث على تأويل معنى الجماعة؛ نحو قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ، وقوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} وإما جمع الصفة جمع تكسير، أو جمع مؤنث سالماً؛ نحو قوله تعالى: {السَّحَابَ الثِّقَالَ} وقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} ... ومثل النعت فيما تقدم: الخبر، والإشارة إليه، والضمير العائد عليه ...
هذا، ولا يصح أن يفرق بين مذكره ومؤنثه بالتاء المربوطة للتأنيث؛ فلا يقال –في الغالب –للمفردة المؤنثة: حمامة –بطة –شاة.... ولا يقال للمفر المذكر: حمام –بط –شاء ... منعاً للالتباس في كل ذلك، وإنما يلزم مفرده صورة واحدة في التأنيث والتذكير يجيء بعدها النعت الدال على النوع؛ فيقال: حمامة أنثى وحمامة ذَكَر ... و....
ومنها: أن يكون المنعوت معرفاً بأل "الجنسية"1؛ فيجوز نعته بالنكرة المختصة2؛ "لتقارب درجتهما" أو بما يقوم مقامها؛ وهو الجملة3.... ومن الأمثلة قولهم: ما ينبغي للرجل مثلك أن يفعل كذا؛ ... لأن كلمة: "مثل" لا تتعرف إلا بالطريقة الموضحة فيما سلف4. وكقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ، فالجملة: نسلخ المكونة من المضارع وفاعله –تصلُح صفة5 والموصوف هو: "الليل" المعرف "بأل" الجنسية. ومثل جملة "سيبّ"5 في قول الشاعر:
ولقد أَمُرُّ على اللَّئِيم يسبني ... فأعِفّ. ثم أقول لا يعنيني
ومنها: النعت إذا كان اسم عدد، وكان منعوته في الأصل6 معدوداً محذوفا
__________
1 في ص308 ج1 م30 تفصيل الكلام عليها.
2 هي التي قل شيوعها وإبهامها؛ بسبب إضافتها، أو: إعمالها: أو: نعتاً، أو: شيء آخر يقلل إبهامها وعموماً.
3 السبب في ص28 و479.
4 في رقم4 من هامش ص24.
"5 و 5" وكذلك تصلح حالاً –طبقاً لما مر في باب: "أل" ج1 وفي باب الحال وصاحبه.
6 انظر الكلام على حذف المنعوت في ص493.(3/449)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو مذكورًا؛ فالمحذوف نحو: اشتريت عدة كتب، قرأت منها هذا الأسبوع ثلاثًا أو ثلاثة؛ فيجوز في النعت أن تلحقه تاء تأنيث وأن يتجرد منها؛ أي: كتبًا ثلاثًا، أو ثلاثة1، ومثال المذكور: قرأت كتبًا ثلاثًا أو ثلاثة.
ومنها: النعت إذا كان منعوته تمييزًا مفردًا لأحد الأعداد المركبة، أو: العقود، أو: المعطوفة؛ فيجوز في النعت الإفراد، مراعاة للفظ المنعوت "التمييز" كما يجوز فيه الجمع؛ مراعاة لمعنى المنعوت فإنه يتضمن اسم العدد؛ تقول: هنا خمسة عَشَرَ رجلًا عالمًا، أو علماء، وعشرون طالبًا ذكيًّا، أو أذكياء، وثلاثة وعشرون كاتبًا، أو كتبة2.
ومنها: أفعل التفضيل إذا كان مجردًا من "أل" والإضافة، أو كان مضافًا لنكرة؛ فإنه في هاتين الصورتين يلتزم الإفراد والتذكير –بالإيضاح الذي سبق في بابه3: استمعت لخطيب أفصحَ من غيره –لِخطيبين أفصحَ من غيرهما– لِخطباء أفصحَ من غيرهن؛ كما تقول: استعمت لخطيب أفصح خطيبِ، لخطيبة أفصح خطيبة.... وكذلك باقي الصور من غير تغيير في كلمة "أفصح" التي هي النعت واجب الإفراد والتذكير مهما كان المنعوت، بشرط مراعاة الإيضاح المشار إليه4....
ومنها: أن يكون المنعوت منادى نكرة مقصودة؛ فيجوز في نعته أن يكون معرفة أو نكرة؛ بالتفصيل الذي سبق في مكانه5.
د- قد يكون النعت مجرورًا لمجاورته لفظًا مجرورًا، لا لمتابعة المنعوت ويذكرون لها مثالًا كثر ترديده حتى ابْتُذِلَ، وهو: "هذا حجْرُ ضبِّ
__________
1 انظر رقم 9 من ص462.
2 راجع باب العدد ج4 ص397 م164 وص405 م165. حيث البيان والتفصيل.
3 ص401.
4 ومما يستثنى من وجب المطابقة أيضًا بعض صور الصفة المشبهة سبقت الإشارة إليها في ص303.
5 سبق بيان هذا وإيضاحه في رقم 3 من هامش ص31. ويجيء في ج4 باب حكم تابع المنادى رقم 2 من هامش ص33 م130.(3/450)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَرِبٍ". يعربون كلمة: "خَرِب" صفة "لَجُحْر"، لا لضب؛ كي لا يفسد المعنى، ويجرّون النعت تبعًا للفظ: "ضبّ" الذي يجاوره. وقد أوَّلوه تأويلات أشهرها: أن الأصل: هذا حجرُ ضبٍّ خَرِب" ثم طرا حذف وغير حذف ... ، ويطيلون الكلام والجدل.
والحق أن هذا النوع الغريب من الضبط بسبب "المجاورة" والنوع الآخر الذي سببه: "التوهم" جديران لالإهمال، وعدم القياس عليهما، بل عدم الالتفات إليهما مطلقًا –كما قال بعض المحققين ممن سجلَّنا رأيهم-. وقد أشرنا إلى هذا مواضع مختلفة من أجزاء الكتاب1.
هـ- تقدم أن المطابقة الواجبة بين "النعت الحقيقي" ومنعوته تشمل الإفراد وفروعه التي هي: "التثنية والجمع". والمراد هنا: التثنية والجمع الاصطلاحيَّان عند النحاة؛ بأن يكون المثنى مختومًا "بالألف والنون"؛ أو بالياء والنون، ويسمى "جمع المذكر غير المفرق" أيضًا أما المثنى المفرَّق" أيضًا أما المثنى المفرَّق، مثل: محمد –ومحمد– العاقل والعاقل، وجمع المذكر المفرق، مثل: محمد ومحمد ومحمد، العاقل والعاقل والعاقل، فلهما حكم آخر؛ يجيء الكلام عليه عند تعدد النعت2 ...
ويدخل في حكم المفرد كل اسم دالّ على مفرد حقيقة، ولفظه على صورة المثنى، أو الجمع، مثل الأعلام، حمدان، محمدَيْن، خلْدون، سعادات، مكارم ... فيجب في النعت أن يطابقه في الإفراد. أي: أنه إذا سمي بالمثنى أو بالجمع فالمسمى مفرد في معناه، ويجب أن يكون نعته الحقيقي مفردًا مثله.
__________
1 منها: "ج1 ص454 م49" "ج2 ص320 م89" "وج3 باب الإضافة ص8".
2 ص418.(3/451)
ب- والنعت السببيّ:
هو الذي يدل على معنى في شيء بعده، له صلة وارتباط بالمنعوت؛ نحو: هذا بيت متسعٌ أرجاؤُه، نظيفةٌ غرفُه، بديعةٌ فُرُشُهُ.
وعلامته: أن يذكَر بعده اسم ظاهر –غالبًا1 –مرفوع به، مشتمل على ضمير يعود على المنعوت مباشرة، ويَربِط بينه وبين هذا الاسم الظاهر الذي ينصَبّ عليه معنى النعت. كما في الأمثلة السالفة ... "متَّسع ... -نظيفة ... -بديعة ... ".
وحكمهُ: أنه يطابق المنعوت في أمرين معًا:
1- حركة الإعراب، -ومت ينوب عنها -.
ويطابق سبَبِيَّه في أمر واحد؛ هو: التذكير؛ والتأنيث. وحكم النعت في هذا التذكير والتأنيث حُكم الذي يصح أن يحل محله ويكون بمعناه؛ فإذا أمكن أن يوضع مكان النعت
فعل بمعناه مسْند للسببي، وصحّ في هذا الفعل التأنيث والتذكير، أو وجب أحدهما- كان حكم النعت كذلك2.
أما من جهة إفراد النعت السببيّ، وتثنيته، وجمعه:
أ- فيجب إفراده إن كان السببي غير جمع، بأن كان مفردًا، أو مثنى؛ إذ لا تتصل بالنعت السببي علامة تثنية؛ فحكمه في هذا أيضًا كحكم الفعل الذي يصلح لأن يحل محله.
ففي مثل: "يعجبني الحقل الناضر زرعُه"؛ ... يجب في كلمة "الناضر"
__________
1 والاسم الظاهر هو: "السببيّ". ومن غير الغالب أن يرفع ضميرًا بارزًا؛ نحو: جاءني امرأة مكرمته هي –جاءتني خادمة رجل مكرمها هو –مكرمة –في المثال الأول –بالرفع صفة للمضاف "خادم" وقد جرى الضمير المنفصل المرفوع على غير من هو له؛ لأن الخادم ليس هو المكرم في الحقيقة، وإنما المكرم هو: المرأة. لذلك وجب إبراز الضمير المرفوع؛ لعودته على غير من هو له: إذ لو لم يبرز لحصل اللبس في صور كثيرة بسبب أن الوصف في ظاهره للمضاف إليه، والغرض كونه للمضاف. "وقد سبق إيضاح الكلام على الضمير الجاري على غير صاحبه في ج1 ص335 م35 عند الكلام على أقسام الخبر". ومثل هذا يقال في المثال الثاني.
2 يجب عند تطبيق هذه القاعدة ملاحظة أمرين؛ أولهما: الحكم الخاص بالنعت الذي منعوته كنية. وقد أوضحنا هذا الحكم في: "أ" من ص444. وثانيهما: الحكم الخاص بالنعت. إذا كان صفة مشبهة. وقد سبق إيضاحه في ص303.(3/452)
الرفع؛ تبعًا للمنعوت1 وهو: "الحقل"؛ كما يجب فيها التعريف تبعًا له أيضًا. ولو كان المثال: "يعجبني حقلٌ.."؛ لوجب أن يقال في النعت؛ ناضرٌ زرعُهُ؛ بارلفع، وبالتنكير؛ تبعًا للمنعوت.
وفي مثل: "هذا رجل عاقلة أخته، وهذه فتاة محسنة أختها" يجب1 الإفراد والتأنيث فيهما؛ مراعاة للسببي2؛ بالرغم من أن كلمة: "عاقلة" هي نعت لرجل؛ المذكر. إذ لو حل مكان النعت فعل لوجب تأنيثه3؛ فنقول: هذا رجل عقَلَتْ أخته، هذه فتاة أحسنت أختها.
ويجب التذكير والإفراد في مثل: هذا رجلٌ محسن أخوه، وهذه فتاة محسنٌ أخوها، وبالرّغم من أن كلمة: "محسن" الثانية. هي نعت، للفتاة، لأنه لو حل الفعل محل النعْت لوجب تذكيره، فنقول: هذا رجل أحسن أخوه، هذه فتاة أحسَن أخوَها.
أمَّا في مثل: هذا حقل ناضر زروعه ... فيصح ناضر، أو ناضرة؛ لأنه لو حل مكان النعت فعْلٌ لقلنا: هذا حقل نَضَرتْ زروعُه، أو نضَر زروعُه؛ بوجود علامة التأنيث أو بعدمها.
ونقول عند إفراد السببي وتثنيته: هذا زميل مجاهد أبوه، هذان زميلان مجاهدٌ أبواهما، هذه زميلة مجاهدٌ أبوها، هاتان زميلتان مجاهدٌ أبواهما.... فلا يتصل بالنعت علامة تثنية؛ إذ الفعل الصالح لأن يحل محله لا يصح أ، يتصل به –لي الأغلب– علامة تثنية.
وهكذا يكون إحلال الفعل محل النعت السببي، وإسناده للسببي –مرشدًا إلى الطريقة التي
تراعى في النعت من جهة تذكيره، وتأنيثه، وإفراده؛ تبعًا للسببي المذكر أو المؤنث، المفرد أو المثنى.
ب- فإن كان السببي مجموعًا جمع تكسير جاز في النعت أمران؛ إما إفراده، وإمَّا مطابقته للسببي، نحو: هؤلاءِ زملاءُ كرامٌ آباؤهم، أو: هؤلاءِ
__________
"1و 1" في الرأي الحسن.
2 مع وجوب مطابقة النعت للمنعوت في الأمرين الآخرين اللذين فيهما المطابقة الحتمية.
3 المراد: لوجب أن تتصل بالفعل علامة التأنيث؛ لأن فاعله سيكون هو "السببي"، المؤنث تأنيثًا حقيقيًا يوجب تأنيث فعله.(3/453)
زملاءُ كريمٌ آباؤهم. فإن كان مجموعًا جمع مذكر سالمًا، أو: جمع مؤنث سالمًا فالأفصح إفراد النعت وعدم جمعه1، نحو: هؤلاء زملاءُ كريم والدوهم، هؤلاء زميلات كريمة والداتهن ...
أما تعريف النعت أو تنكيره، وحركة إعرابه وما يتوب عنها –فيتْبع في هذا كله المنعوت من غير تردد ,-كما أسلفنا-.
وملخص ما سبق:
أ- انقسام النعت باعتبار معناه إلى قسمين: حقيقي وسببي.
ب- النعت الحقيقي هو: كل ما يدل على معنى في نفس متبوعه الأصلي، أو فيما هو في حكمه. وإن شئت قفل: هو ما أسند إلى ضمير مستتر أصالة أو تحويلًا، يعود إلى المنعوت.
وحكمه: أن يَتْبع المنعوت في أربعة أشياء:
1- حركات الإعراب، -وما ينوب عنها-.
2- الإفراد وفروعه.
3- التعريف والتنكير.
4- الذكير والتأنيث ...
ج- النعت السببي: ما رفع اسمًا ظاهرًا –في الغالب– يقع عليه معنى النعت، وبه ضمير يعود على المنعوت مباشرة.
وحكمه: أن يُتْبع المنعوت في أمرين محتومين؛ هما:
حركات الإعراب –وما ينوب عنها، والتعريف والتنكير ...
أما التذكير والتأنيث فيتْبع فيهما السببي؛ وجوبًا في بعض حالات، وجوازًا في غيرها2.
وأما التثنية فلا يثنى.
وأما الجمع فيجوز جمعه وإفراده في كل الحالات تبعًا للسببي، ومطابقةً له.
__________
"1، 1" إلا إذا راعينا اللغة التي تجيز أن يتصل بالفعل علامة تثنية أو جمع، تبعًا للفاعل. المسند إليه أو لنائب الفاعل. فبمقتضى هذه اللغة يجوز أن يكون النعت مثنى، أو مجموعًا؛ مطابقًا سببيه فيهما. ومن الخير العدول عن هذه اللغة؛ لما أبديناه عند الكلام عليها "في باب الفاعل ج2 م66 ص70".(3/454)
إلا أن الإفراد أفصح وأقوى1 حين يكون السببي جمع مؤنث سالمًا أو جمع مذكر سالمًا.
د- فحكم النعت بنوعيه من جهة المطابقة وعدمها هو: المطابقة الحتمية في أمرين:
أحدهما: حركات الإعراب –وما ينوب عنها-,والآخر: التعريف والتنكير. أما التذكير والتأنيث فحكمه فيهما حكم الفعل الذي يصلح أن يحل محله. وأما الإفراد وفروعه، فالحقيقي يطابق فيها جميعًا. والسببي يطابق –حتمًا– في الإفراد، ولا يصح أن يطابق في التثنية. ويجوز في جمع التكسير المطابقة وعدمها وأما في غيره فالأحسن الإفراد2 ...
__________
1 والاقتصار عليه أفضل.
2 وهذا ما يريده ابن مالك بقوله:
ولْيُعْطَ فِي التَّعْرِيفِ والتَّنْكِيرِ مَا ... لِمَا تلا: كَامْرُرْ بقَوْمٍ كُرَمَا
وهْوَ لَدَى التَّوْحِيدِ وَالتَّذْكِيرِ أَو ... سِوَاهُمَا مالفِعْلِ: فاقْفُ مَا قَفَوْا
"ما لما تلا؛ أي: ما ثبت للذي تلاه النعت. والذي تلاه النعت هو المنعوت. "اقف": أتبع. "ما قفوا": ما اتبعوه. أي: اتبع ما اتبعه العرب في ذلك".
يريد: أن النعت يعطي في التعريف والتنكير حكم ما تلاه: فهو فيهما كالمنعوت، وضرب لهذا مثلًا: هو أمرر بقوم كرماء، فكرماء نعتًا؛ لأن المنعوت وهو "قوم" نكرة أيضًا.
أما حكم النعت لدى التوحيد، "أي: عند الإفراد". وعند التذكير وسواهما من فروعهما فهو حكم الفعل؛ فاتبع في ذلك ما ابتعه العرب في أمر النعت المذكور أو في أمر الفعل مع تطبيق على النعت. وكلامه هذا يحتاج لتفصيل ضروري ... وقد عرضناه في الشرح.(3/455)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ينقسم النعت باعتبار معناه أيضًا إلى ما يأتي:
1- نعت تأسيسي، "أو: مؤسِّس" وهو الذي يدل على معنى جديد لا يفهم من الجملة بغير وجوده، نحو؛ راقني الخطيب الشاعر. فكلمة: "الشاعر" نعت أفاد معنى جديدًا لا يستفاد إلا من ذكرها.
2- نعت تأكيد "أو: مؤكِّد"؛ وهو الذي يدل على معنى يفهم من الجملة بدون وجوده، نحو: تخيرت من الأطباء النِّطاشيَّ البارعَ. فالبارع نعت مفهوم المعنى من كلمة: "النطاسِيّ" التي بمعناه، ومن الجملة قبله أيضًا؛ لأن التخير، لا يكون –في الأغلب– إلا للبارع.
3- نعت التوطئة، أو التمهيد؛ بأن يكون النعت جامدًا, وغير مقصود لذاته، والمقصود هو ما بعده، وإنما ذكر السابق ليكون توطئة وتمهيدًا لنعت مشتق بعده يتجه القصد له، نحو: استعنت بأخ أخٍ مخلصٍ. فكلمة: "أخ" الثانية نعت غير مقصود لذات، وإنما المقصود هو المشتق الذي يليه، ولذا يسمى النعت الجامد هذا بالنعت المُوَطِّئ1 كما سلف هنا. وسبقت له الإشارة
__________
1 في مثل هذا التركيب يختلف النحاة في إعراب الكلمة الثانية "وهي: "أخ" ونظائرها الواقعة موقعها من مثل هذا الأسلوب". فكثرتهم لا تجيز إعرابها توكيدًا لفظيًا، ولا بدلًا مطابقًا، بحجة أن إعرابها توكيدًا لفظيًا سيجعلها مقيدة بالنعت، مع أن الكلمة الأولى المتبوعة مطلقة خالية من التقييد، وإذًا لا تصلح الثانية توكيدًا لفظيًا سيجعلها مقيدة بالنعت، مع أن الكلمة الأولى المتبوعة مطلقة خالية من التقييد، وإذًا لا تصلح الثانية توكيدًا لفظيًا للأولى، لأنها ليست مرادفة لها، وكذلك لا تصلح بدلًا مطابقًا، لأنها ليست مساوية للأولى، ولأن النعت –لأهميته– مقدم في الترتيب على البدل –كما سبق في ص435-.
وصحح فريق آخر أن تكون بدلًا مطابقًا، مستدلًا بقوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} فالثانية بدل كل "انظر ص676 و677".
وصحح آخرون أن تكون توكيدًا لفظيًا "طبقًا للبيان الذي في رقم 2 من هامش ص525" أو: عطف بيان، أو بدل بعض.... و...... و.... ولكل أدلته الدلية العنيفة، وردوده القوية التي =(3/456)
........................................................................................................................................
في ج1 باب: "لا" وستجيء في رقم6 من ص445.
__________
= يحتج بها على غيره.... نشهد هذه الجدليات ملخصه في آخر باب: "لا" النافية للجنس "ج1 من كتابي: التصريح، والصبان، ومختصرة في حاشية: الخضري".
وصفوة ما نستخلصه من تلك المناقشات الدقيقة: جواز تلك الإعرابات كلها، وأن الأحسن إعراب الثانية نعتاً موطئاً؛ لخلوه من شوائب الضعف التي تشوب سواه ... "انظر ما يتصل اتصالاً قوياً بهذا في رقم2 و4 و.... من هامش ص543 –حيث الكلام على عطف البيان ... ".(3/457)
2- تقسيم النعت باعتبار لفظه:
أ- الأشياء القياسية التي تصلح أن تكون نعتاً مفرداً1 هي:
الأسماء المشتقة1 العاملة، أو ما في معناها2. "والمقصود بالعاملة: اسم فاعل –صيغ المبالغة –الصفة المشبهة –اسم المفعول3 –أفعل التفضيل. أما غير العاملة –كاسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلة –فلا تقع نعتاً".
والمقصود بما في معناها: كل الأسماء الجامدة التي تشبه المشتق في دلالتها على معناه، والتي تسمى: الأسماء المشتقة تأويلاً. فإنَّها تقع نعتاً أيضا. وأشهرها:
1- أسماء الإشارة غير المكانية؛ مثل: "هذا" وفروعه، وهي معارف فلا تقع نعتاً إلا للمعرفة؛ نحو: استعمت إلى الناصح هذا. أي: إلى الناصح المشار إليه؛ فهي تؤدي المعنى الذي يؤديه المشتق4.
أما أسماء الإشارة المكانية "مثل: هُنا -ثَمَّ".... فظروف مكان، لا تقع بنفسها نعتاً؛ لأن مهمتها تختلف عن مهمة النعت: ولكنها تتعلق بمحذوف يكون هو النعت: مثل: أسرع العطاش إلى ماء هنا، أي: موجود هنا، أي: موجود هنا –أو نحو هذا التقدير –ومن التيسير المقبول أن يقال للاختصار: "الظرف النعت" ...
كما سبق إيضاح هذا في مواضع مختلفة5 ...
2- ذو، المضافة6، بمعنى: صاحب كذا –فهي تؤدي ما يؤديه المشتق
__________
"1، 1" أما النعت بغير المفرد فيأتي في: "ب" و "ج" ص472 و476 –هذا والمشتقات هي: ما أخذت من المصدر للدلالة على معنى وصاحبه. وقد سبق تفصيل الكلام عليها وعلى أنواعها وأحكامها ... في هذا الجزء ص37 و182 وما بعدهما.
2 قال الدماميني: "المتبادر من هذا أنه يشترط في النعت كونه مشتقاً، أو مؤولاً به، وهو رأي الأكثرين. وذهب جمع محققون –كابن الحاجب –إلى عدم الاشتراط، وأن الضابط هو دلالته على معنى في متبوعه؛ كالرجل الدال على الرجولية ... " اهـ. راجع حاشيتي الصبان والخضري، لكن المثال المعروض بالدلالة التي ذكروها هو نوع من المؤول بالمشتق؛ فلا جديد في رأيهم.
3 وما بمعناه؛ كفعيل في مثل: أمين؛ بمعنى: مأمون، وجريح "مجروح".
4 انظر "ج" من ص465 –وانظر ص449 ج1.
5 في ج1 ص346 م35 وفي ج2 ص201 وص328 م89.
6 والأغلب أن تكون إضافتها لاسم جنس ظاهر غير مشتق. أما إضافتها لغيره فشاذة "مقصورة على السماع" كأن تضاف للعلم أو للضمير العائد على اسم الجنسن أو للجملة. "راجع الصبان عند الكلام عليها في الأسماء الستة -ج1".(3/458)
من المعنى. "وتكون نعتاً للنكرة"1؛ نحو: أنِست بصحبة عالم ذي خلق كريم، ومثل "ذو" فروعها: "ذوَا ... -ذوُو ... -ذوِي ... -ذات –ذاتا –ذوات ... ".
3- الموصولات الاسمية المبدوءة بهمزة وصْل؛ مثل: الذي –التي – اللائي ... و ... ، بخلاف: "أيّ" الموصولة2.
أما "مَنْ"، و "ما" ففي النعت بهما خلاف، والصحيح جوازه –كما سيجيء3 –ولما كانت الموصولات مَعْرفة وجب أن يكون منعوتها معرفة. ومن الأمثلة: الضعيف الذي يحترس من عدوه، أقرب إلى السلامة من القويّ الذي ينخدع، أو يستهين. والتأويل: الضعيف المحترس من عدوه، أقرب إلى السلامة من القوي المنخدع ... فمعناها معنى المشتق ...
4- الاسم الجامد الدالّ على النسب قَصْداً4. وأشهر صُوَره أن يكون في آخرة ياء النسب، أو: أن يكون على صيغة: "فَعَّال"، أو غيرها من الصيغ5 الدالة على الانتساب قصداً كما تدل ياء النسب، فهو يؤدي المعنى الذي يؤديه لفظ: "المنسوب لكذا"، نحو: ألُمحُ في وجه الرجل العربيّ كثيراً من أمارات الصراحة، والشجاعة، والكفاح. أي: المنسوب إلى العرب. ومثل: اشتهر الرجل اليوناني بالنشاط والهجرة إلى حيث يتسع الرزق أمامه، وفي بلادنا
__________
1 هذه عبارة التصريح على التوضيح، ولم أرها لغيره. لكن في بعض المراجع الأخرى ما يفيد وقوعها نعتًا للمعرفة أيضًا.
2 "أي": الموصولة معرفة، وهي لا تقع نعتًا، أما "أي" التي تقع نعتًا فهي نكرة، ومنعوتها نكرة بالتفصيل الذي سبق عند الكلام عليها في باب الإضافة ص111 و113 وما بعدهما، والذي يجيء أيضًا في ص468.
3 في ص466.
4 إذا لم يكن النسب مقصودًا لم يكن الاسم بمعنى المشتق، ويظل على جموده الكامل، فلا يصلح نعتًا، كن اسمه؛ بدوي، أو مكي.
5 ومنها صيغة: "فاعل" المنسوب إلى شيء معين. مثل: "سائس" الذي ينسب اليوم لمن يسوس الحيل، ويتول شئونها. ومثل: لابن، وتامر، لمن يشتغل باللبن والتمر. ويتول شئونهما.... -كما سيجئ في باب النسب- ج4.(3/459)
جماعة منهم تمارس الحِرَف والصناعات المختلفة. فتجد بينهم التاجر، والبقَّال، واللَّبان، والنجار، والحداد، ... و.... أي: المنسوب للتجارة، والبقل، واللبن، والنَّجْر "النِّجارة"، والحديد.... وإنما ينسب إليها لأنه يلازم العمل فيها والتفرغ لها1 ...
وهذا النوع من الأسماء الجامدة يصلح نعتًا للنكرة وللمعرفة؛ ولا بد أن يطابقهما تنكيرًا، وتعريفًا. تقول: ألمحُ في وجه الرجلِ العربيِّ النبلَ ... أو: ألمح في وجه رجل عربي النبلَ-.
5- المصغر: لأنه يتضمن وصفًا في المعنى؛ فهو في هذا كالنسب، ومن ثَمّ يلحقان بالمشتق، نحو: هذا طفلٌ رَجَيْلٌ، في المدح، وهذا رَجلٌ طُفيْلٌ، في الذم.
6- الاسم الجامد المنعوت بالمشتق: نحو: اقتديت برجلٍ رجلٍ شريفٍ وهذا النوع من النعت هو المسمى "بالنعت هو المسمى "بالنعت الموطِّئ -,وقد سبق إيضاحه2– ومنه قولهم الوارد عنهم: ألا ماءَ ماءً باردًا ...
7- المصدر: بشرط أن يكون منكرًا3، صريحا4، غير ميميّ، وغير دال على الطَلب5، وان يكون ثلاثيًا، وأن يلتزم صيغته الأصلية من ناحية
__________
1 وفي النعت بالمشتق وشبهه يقول ابن مالك:
وانعت بمشتق؛ كصعب: وذرب ... وشبهه: كذا، وذي، والمنتسب
"رجل ذرب: حاد اللسان في الخير والشر. أو الحاد مطلقًا فيما يتناوله من الأمور. "المنتسب" هنا: المنسوب الذي يفيد النسبة إلى غيره".
2 وفي رقم 3 من ص 456 وفي ج1 باب "لا" النافية للجنس.
3 انظر "1" من الزيادة الآتية في ص 464 لأهميتها، ولم يذكر كثرة النحاة هذا النص الذي صرح به بعضهم "كالخضري". والأمثلة الكثيرة المسموعة عن العرب تؤيد أصحاب النص.
4 أي: غير مؤول. وقد يمكن الاستغناء عن هذا الشرط وعن الذي يليه "وهو: كونه: غير ميمي"، يذكر كلمة: "المصدر" مطلقة من كل قيد. والإكتفاء بها؛ اعتمادًا على ما سبق "في هامش ص 181" وهو أن المصدر إذا أطلق لفظه "أي خلا من التقييدا" كان المراد منه "المصدر الأصلي الصريح" وحده، دون المبين للنوع، أو للعدد، ودون المؤول، والميمى. لكن التقييد هنا أدق وأنفع.
5 إذا كان دالًا على الطلب "نحو: قيامًا للضيف؛ بمعنى: قم للضيف" لم يصح النعت به كما سيجئ في رقم 2 من ص 466-.(3/460)
الإفراد والتذكير وفروعهما؛ "والأغلب أن تكون صيغته ملازمة الإفراد والتذكير، فإن كانت كذلك في أصلها لم يجز تثنيتها، ولا جمعها، ولا تأنيثها، ولا إخراجها عن وزنها الأول1" ... تقول: رأيت في المحكمة قاضيًا عدْلًا، وشهودًا صدْقًا، ونظامًا رِضًا، وجموعًا زَوْرًا2 بين المتقاضين ... تريد: قاضيًا عادلًا، وشهودًا صادقين، ونظامًا مرضيًّا، وجموعًا زائرة بين المتقاضين....
فالمعنى على تأويل المصدر باسم مشتق كالسابق، ويصح أن يكون على تقدير مضاف محذوف هو النعت، ثم حُذف وحلّ المصدر محله، وأعرب نعْتًا مكانه. والأصل: قاضيًا صاحبَ عدل –شهودًا أصحابٌ صدق– نظامًا داعيَ رضا– جموعًا أصحاب زَوْر، "أي: أصحاب زيارة"، والداعي للنعت بالمصدر مباشرة وترك المشتق، أو المضاف المحذوف على الوجه السالف أن النعت بالمصدر أبلغ وأقوى؛ لما فيه من جعل المنعوت هو النعت. أي: هو نفس المعنى؛ مبالغة.
وقد اختلف رأي النحاة في وقوع المصدر نعتًا؛ أقياسيّ هو أم مقصُور على السماع؟ وأكثرهم يميل إلى قصره على السماع، مع اعترافهم بكثرته في الكلام العربي الفصيح3، وأنه أبلغ في أداء الغرض من المشتق4. وهذا الاعتراف
__________
1 إلا في حالات أشهرها أن يكون المصدر مسموعًا بالتأنيث أصلًا؛ نحو: رحمة، شفقة، فإن تاء التأنيث ملازمة لهما. أو أن يشيع الوصف بالمصدر، ويشتهر استعماله نعتًا، فيجوز تثنيته وجمعه قياسًا؛ لغلبة الوصف عليه كقول الشاعر:
وبايعتُ ليلَى في الخلاءِ ولم يكن ... شهودٌ على ليلي، عدولُ مَقَانعُ
المفرد، َدْل، بمعنى: عادل.
2 الزور هنا: الزيارة.
3 وفي مقدمته القرآن الكريم –ولا سيما سورة الجن– ومما ورد في غيرها كلمة: "بُور"، بمعنى "هلاك" في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} أي: هلاكًا، بمعنى: هالكين وهو في أصله مصدر يوصف به المفرد، والمثنى والجمع، والمؤنث، والمذكر مع تأويله في كل ذلك بالمشتق "اسم فاعل ... " وقيل إنه جمع: "بائر" مثل: "حائل وحول" فيكون على هذا مشتقًا لا مصدرًا مؤولًا بالمشتق. أما في سورة الجن فقد جاء النعت بالمصدر في قوله تعالى: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا....} أي عجيبًا -وكلمة؛ "عجب" مصدر –في قوله تعالى: {مَاءً غَدَقًا ... } أي كثيرًا وفي كلمة: "صُعُدًا" بمعنى صعود في قوله تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} . والصُّعُدُ: هو الصعود بمعنى: المشقة، وجاء كذلك في قوله تعالى: في إخوة يوسف: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ... } .
4 فقد قرر علماء البلاغة أن النعت بالمصدر يكون من باب: المبالغة، أو: من مجاز =(3/461)
بالكثرة1 يناقض أنه مقصور على السماع. فالأحسن الأخذ بالرأي الصائب الذي يجعله قاسيًا2 –بشروطه– ولا خوف من اللبس المعنوي أو خفاء المراد؛ لأن القرائن والسياق يزيلان هذا كله، ويبقى للنعت بالمصدر مزيته السالفة التي انفرد بها دون المشتق.
8- اسم المصدر إذا كان على وزن من أوزان مصدر الثلاثي؛ ككلمة "فِطْر" اسم مصدر للفعل: "أفطر"، وهي بمعنى: مُفْطرٍ، أو صاحب إفطار: تقول: هذا رجلٌ فِطْرٌ، ورجلان فِطْرٌ، ورجالٌ فِطْرٌ ...
9- العدد، نحو: قرأت كتبًا سبعةً، وكتبت صحفًا خمسة3.
10- بعض ألفاظ أخرى جامدة مؤولة بالمشتق, معناها بلوغ الغاية في
__________
= الحذف، أو المجاز المرسل، وأن الثلاثة قياسية. فهل يتناقض علماء لغة واحدة؟ وهل يقول البلاغيون إن النعت بالمصدر أبلغ من النعت بالمشتق في الوقت الذي يقول فيه بعض النحاة إن النعت بالمصدر –مع كثرته لا يصح قياسًا؟ وكيف يقولون ذلك والقرآن الكريم أفصح الكلام مشتمل عليه عدة مرات؟ ... إنه تناقض لا يدفعه إلا القول بقياسية النعت بالمصدر بشروطه السالفة. ويقول ابن جني –في كتابه المحتسب، ج2 ص46 –إن النعت بالمصدر مباشرة من غير تقدير شيء محذوف أبلغ وألطف من النعت بغير المصدر، ويؤيد كلامه بالأدلة، ويعرض الشواهد الكثيرة عليه؛ ولأنك تجعل المنعوت هو المصدر نفسه مبالغة –وأطال الكلام في هذا.
وفي النعت بالمصدر يقول ابن مالك بيتًا سنعيده في ص475 "بعد أن تكلم على النعت بالجملة، وسيأتي النعت بها في ص472".
ونَتُوا بمَصْدَرٍ كَثِيرًَا ... فالْتَزَمُوا الإِفْرَاد والتَّذْكِيرَا
أي: نعت العرب بالمصدر كثيرًا في أساليبهم، ولم يخرجوا المصدر عن صيغته الملازمة للإفراد والتذكير، فهو يلازمها دائمًا، ولو كان المنعوت غير مفرد وغير مذكر، تقول: هذا أمر رِضًا، هذان أمران رضًا، هذه أمور رضا، هذه حالة رضا، هاتان حالتان رضا، أولئك حالات رضا ...
1 ولا سيما التي تؤيدها البلغة..
2 وبهذا الرأي أخذ مؤتمر المجمع اللغوي الذي انعقد بالقاهرة في فبراير سنة 1971، وسجل قراره بينه ما اتخذه من قرارات حاسمة محررة.
3 يكون العدد عنا صفة إذا أريد تحقيق غرض من أغراض النعت. ويصح أن يكون بدلًا إذا أريد به تحقيق غرض من أغراض البدل المذكورة في بابه الآتي ص666 وص667 وإذا ذكر المنعوت المعدود جاز في النعت مطابقته في التأنيث والتذكير وعدم مطابقته. وكذلك لو حذف المعدود المنعوت كما أشرنا في ص449، وكما يجيء في ج4 باب العدد –م165 ص501-.
ملاحظة: -بمناسبة إعراب العدد –أحيانًا– نعتًا كالوارد هنا نذكر بعض مواقعه الإعرابية الأخرى =(3/462)
الكمال أو النقص، كلفظة: ,كُلّ"1 مثل: عرفت العالِمَ كُلَّ العالمِ. و....
11- الجامد الذي يدل دلالة الصفة المشبهة مع قبوله التأويل بالمشتق2 ومن أمثلته: فلانٌ رجلٌ فَراشةُ الحلِم، فِرْعَونُ العذابِ، غِربالُ الإِهاب. فكلمة: فراشة، وفرْعون، وغربال.... تعرب نعتًا بالمشتق؛ لأنها بمعنى: أحمق، وقاسٍ، وحقير.
__________
= فقد ذكرنا في الجزء القاني –باب: الحال ,آخر المسألة 84– الحكم الثالث، ونصه: من الألفاظ التي وقعت حالًا: "العدد من ثلاثة إلى عشرة، مضافًا إلى ضمير المعدود؛ نحو: مررت بالإخوان ثلاثتهم أو: خمسَتهم، أو: سعَتهم ... ، على تأويل: مُثَلثًا إياهم، أو: مُخَسًا، أو: مسبعًا ... ، ويجوز إتباعه لما قبله فلا يعرب حالًا، وإنما يعرب توكيدًا معنويًا بمعنى: جميعهم، ويضبط لفظ العدد بما يضبط به لفظ التوكيد. والصحيح أن هذا ليس مقصورًا على العدد المفرد، بل يسري على المركب نحو: جاء القوم خمسةَ عشرَهُم، بالبناء على الفتح في محل نصب، أو محل غيره على حسب حالة الجملة وبالرغم من أن العدد المركب مبني هنا فهو مضاف إلى الضمير" ا. هـ. وجاء في حاشية "ياسين" على التصريح، أول باب: التوكيد خاصًّا بهذه المسألة ما نصه: "إذا قيل: جاءني القوم ثلاثَتَهم بنصب "ثلاثَتِم فهو حال، وإن رفع فهو توكيد، قال الرضى. ولا يؤكد بثلاثة وأخواتها إلا بعد ان يعرف المخاطب كمية العدد قبل ذكر لفظ التوكيد وإلا كان مبتدأ" ا. هـ وانظر البيان الذي في ص511.
1 سبق الكلام في ص72 على حكمها إذا أضيفت: ويجيء تفصيل الكلام على حكمها في النعت ص467 و513 وفي التوكيد ص509 ولا يجوز فيها القطع إذا كانت نعتًا أو توكيدًا.
2 سبق بيان هذا في مكانه ص284.(3/463)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- سبق1 أن المصدر يقع نعتًا بشرط أن يكون منكرًا.... و.... و....
لكن ورد في الأساليب المسموعة وقوع المصدر نعتًا مع أنه مبدوء بأل المعرّفة، أو مضاف لمعرفة. ومن الأول كلمة: "الحق"2 في مثل قول الشاعر:
إن أخاك الحقَّ من يسعى معكْ ... ومن يضرّ نفسه لينفعكْ
ومن الثاني قولهم: مررت برجل حسبِك3 من رجل، أو شَرْعِك من رجل، "وهما مصدران بمعنى: كافيك ... " أو: همِّك من رجل، "بمعنى: مُهمك"، أو: نحْوِك من رجل "بمعنى: ماثلك ومَشابهك" فهذه المصادر كان حقها أن تتعرف بأل، وأن تكتسب التعريف من المضاف إليه، ولكنها لم تتعرف4؛ بسبب أنها بمعنى المشتق الذي لا يستفيد التعريف، وقد سبق التفصيل في أول باب الإضافة5-0
ومن الأمثلة لهذا المشتق الذي لا يكتسب التعريف قوله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ} ، فقد وصِف "عارض" بكلمة: "ممطر" المضافة إلى الضمير؛ فلم تكتسب منه التعريف، إذ لو اكتسبت منه التعريف لم يصح وقوعها نعتًا للنكرة: "عارض" وكقول الشاعر:
يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يطلبكمْ ... لاقَى مباعدةً منكم وحرمانًا
فقد دَخَلت "رب" على اسم الفاعل المضاف إلى الضمير، ودخلوها عليه دليل على أنه لم يكتسب التعريف من المضاف إليه؛ لأن "رب" لا تدخل –في الأغلب–
__________
1 في ص460.
2 انظر ما يتصل بوقوع هذه الكلمة نعتًا –في رقم 1 من هامش ص468.
3 سبق الكلام مفصلًا على "حسب" في ص149.
4 بدليل أن منعوتها نكرة، فلو كانت معرفة ما صح وقوعها نعتًا للنكرة.
5 ص24.(3/464)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا على النكرات، ومثل قول امرئ القيس في وصف حصانه:
وقد اغتدى والطيرُ وكُناتها ... بِمُنْجَرِدِ قَيْدِ الأَوابدِ، هَيْكل
"ففَيْد" مضاف لمعرفة. ولم يكتسب منها التعريف؛ بدليل وصف النكرة "منجرد" به1....
ب- كذلك ورد في الأساليب المسموعة بعض أمثلة وقع النعت فيها من أنواع غير التي سلفت، كأنْ يكون مصدرًا لغير الثلاثي؛ نحو: الحازم لا يعالج الأمر عِلاجًا ارتجالًا، أو دالًا على المقدار، نحو: اشتريت من الفاكهة الخمس الأققَ، أو دالًا على جنس الشيء المصنوع، نحو: لبست الثوبَ الحريرَ، أو دالًا على بعض الأعيان التي يمكن تأويلها، نحو: حصدتَ الحقل القمح. أي: المزروع قمحًا، والأحسن الأخذ بالرأي السديد الذي يمنع القياس على هذه الأشياء؛ ضبطًا للأمور؛ ومنعًا للخلط بينها وبين غيرها مما ليس نعتًا.
ج- 1- من الأسماء ما يصلح أن يكون: "نعتًا" في بعض الأساليب؛ لاستيفائه شروط النعت، و"منعوتًا" في أخرى؛ لاستيفائه شروط المنعوت كذلك، فحكمه مختلف على حسب الدواعي الإعرابية: كأسماء الإشارة؛ نحو: احتفيت بالمصلح هذا، أو: بهذا المصلح. غير أنّ اسم الإشارة ... -المنادى أو غير المنادى لا يصح وصفه باسم إشارة2.
واسم الإشارة معرفة؛ فلا يكون نعتًا إلا للمعرفة؛ وإذا وقع منعوتًا وجب أن يكون نعته مقرونًا بأل، "والأحسن أن يكون هذا المقْرون مشتقًا؛ فإن كان جامدًا فالأفضل اعتباره بدلًا4 أو عطف بيان". ووجب أيضًا أن يطابق منعوته في الإفراد والتذكير وفروعهما مع عدم تفريق النعوت1، وألاّ يُفصَل منه
__________
1 راجع شرح المفصل ج3 ص50.
2 انظر ما يتصل بهذا ويوضحه في ص483.
3 لهذا صلة بما في ص665.
4 لهذا تفصيل مناسب مكلفة ج4 م130 ص36 حيث الكلام على أحكام: "تابع المنادى"، والشروط الخاصة بكل حاجة وحكم.(3/465)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مطلقًا1، وألا يُقطع2 منه في إعرابه3.
ومن هذه الأسماء الصالحة للأمرين أسماء الموصولات ... حتى "مَنْ" و"ما" في الرأي الصحيح4، نحو: وقف مَنْ خَطَب الفصيحُ، واستمع الحاضرون إلى الرائع ما قيل".
2- ومن الأسماء ما لا يصلح أن يكون نعتًا، ولا منعوتًا؛ كالضمير، والمصدر الدال على الطلب5؛ "نحو: سعيًا في الخير، بمعنى: اسْع في الخير"، وكثير من الأسماء المتوغلة في الإبهام6، كأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، "كم" الخبرية، "ما" التعجبية، وكلمة: الآن الظرفية، وكثير من الظروف المبهمة، مثل: قبل، وبعد....، ويستثنى من الأسماء المتوغلة في الإبهام بعض ألفاظ تقع نعتًا؛ منها: غير، وسوى ... و"من" النكرتان التَّامتان.
3- ومنها: ما يصلح أن يكون منعوتًا، ولا يصلح أن يكون نعتًا، كالعَلَم، مثل: إبراهيم، عليّ، فاطمة ... وكالأجناس الباقية على دلالتها الأصلية، كرجل7، ونمر، وقيل.
__________
1 كما سبق في ص435 وكما سيجيء في رقم 1 من هامش ص487.
2 سيجيء القطع وبيان أحكامه في ص486 و488.
3 أما كونه جنسًا ولا وصفًا فأمر غالب لا لازم.
4 كما سبق في رقم 3 ص459 "راجع الهمع ج2 ص118. باب النعت". وفي هذا الرأي بعض تيسير.
5 لهذا إشارة في رقم 5 من هامش ص460.
6 سبق شرحها في هذا الجزء ص24 و66، وفي ج2 ص224 م79.
7 يجوز أن يكون العلم نعتًا وكذلك اسم الجنس إذا خرجا على دلالتهما الأصلية، وأريد بهما معنى اشتهرا به؛ كدلالة حاتم على: الكرم، والرجل على: الكامل، والنمر على: الغادر.... و.... فعلى هذا القصد مع ما يؤيده من قرينة يصح تأويلهما بالمشتق. ووقوعهما نعتين.
وقد تضاف كلمة: "رجل" إلى كلمة: "صدق". أو: "سوء"؛ فتكون بمعنى؛ المشتق؛ مثل: إني أحرص أن أعرف رجلًا رجلَ صدق، "أي: صالحًا"، وأتحاشى رجلًا رجلَ سوء، "أي: فاسدًا"، وليس المراد بالصدق هنا: صدق اللسان، ولا بالسوء الشر، إنما المراد بالأول: الكمال والصلاح وبالثاني: الفساد، ويكون النعت هنا من نوع النعت: "التوطئة" "انظر رقم 3 من ص456".(3/466)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4- ومنها ما يصلح أن يكون نعتًا، ولا يصلح أن يكون منعوتًا؛ وهي ألفاظ مضافة، معناها الدلالة على بلوغ الغاية في معنى المضاف إليه. ومن أشهرها: "كُلّ"1؛ نحو: أنت الأمين كلُّ الأمين، وذاك هو الخائن كلُّ الخائن، بمعنى: المتناهي في الأمانة، أو الخيانة، ومثل قول الشاعر:
ليس الفتى كلُّ الفتى ... إلا الفتى في أَدبهْ
قول الآخر:
إن ابتداء العُرْف2 مجد سابق ... والمجد كلُّ المجد في استمامهِ
والفصيح الذي يحسن الاقتصار عليه أن يكون المضاف إليه اسمًا ظاهرًا، نكرة أو معرفة، على حسب المنعوت، وأن يكون هذا الاسم الظاهر مماثلًا للمنعوت في لفظه ومعناه معًا –وهذا هو الأغلب– أو مماثلًا لشيء له صلة معنوية قوية به، فمثال الأول قول الشاعر:
كم قد ذكرتك لو أُجْزَى بذكركمو ... يا أَشبه الناس كلِّ الناس بالقمر
فكلمة: "كل" نعت للناس. ومثال الثاني قول الآخر:
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه ... محا الذنب كلَّ المحو من جاءَ تائبًا
فكلمة "كلّ" الثانية نعت لذنب.
وإذا وقعت كلمة: "كل" نعتًا صارت من الجامد المؤول بالمشتق، وصار معناها: "الكامل" في كذا، وهو معنى يختلف عن معناها الآتي في التوكيد3-.
__________
1 سبقت الإشارة إلى إضافتها في ص72 و116 ولوقوعها نعتًا في ص463، وأيضًا: سيجيء بيان عن وقوعها نعتًا ومنعوتة في ص513، ومنه يعلم أنه لا يجوز فيها القطع؛ سواء أكانت نعتًا أم توكيدًا.
هذا، ولفظ "كل" مفرد مذكر دائمًا –كما قلنا في رقم 2 من هامش ص72– ولكن ما بعده من خبر، أو ضمير، أو غيرهما مما يحتاج إلى مطابقة أحيانًا، قد يطابق لفظه، أو لا يطابقة، تبعًا للبيان الآتي في ص513 والذي يتممه ما في ص63 وما في "ج" من ص167.
2 المعروف والجميل.
3 ص509 و512.(3/467)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها: جِدّ، وحَقّ؛ نحو: سمعنا من الخطباء كلامًا بليغًا جدًَ بليغ، وأصغينا لهم إصغاءً حقَّ إصغاءٍ1.
ومنها: "أيّ"2 بشرط أن يكون المنعوت بها نكرة، وكذلك المضاف إليه، نحو: الذي
بنى الهرمَ الأكبر عظيمٌ أيُّ عظيم. وقد سبق3 بيان رأي آخر حاسم لا يشترط هذا، وأوضحنا هناك بإسهاب ما يشترط لوقوعها نعتًا، وما تؤديه حينئذ من المعنى الدقيق، ورأي النحاة في عدم حذف منعوته، أو في صحة حذفه.
ومما يصلح نعتًا ولا يصح منعوتًا الاسم المعرَب "بأل العهدية"4 لأنه يشبه الضمير، ويقع موقعه؛ نحو: أكرمت عالمًا تَقيًّا فَنفَعني العَالِم. والتقدير: فنفعني ... ، والفاعل ضمير مستتر، فكلمة "العَالم" الثانية حلَّت محل الضمير الفاعل المستتر5 ...
__________
1 سبق أن قلنا -في: "أ" من ص464 –أن كلمة: "الحق" من المصادر المسموعة التي وقعت نعتًا وهي معرفة؛ فلم يتحقق التنكير الذي هو شرط النعت بالمصدر "طبقًا لما تقدم في رقم 3 نم هامش ص460" وعلى هذا يجوز النعت بها وهي معرفة أو نكرة.
2 انظر ص111 و112 وما بعدها، خاصًّا بكلمة: "أيّ النعتية"؛ لأهميته من ناحية الاستيفاء، وقوة الاستدلال الحاسم. وقد سبق الكلام عليها أيضًا في ج1 م26 ص263 باب: "الموصول" عند الكلام على: "أي الموصولة"؛ كما سبق في ج2 م75 ص173 عند الكلام على: "حذف المصدر الصريح".
3 في ص111 وما يليها.
4 في ج1 م30 ص304 تفصيل الكلام على: "أل" وأنواعها التي منها: "أل العهدية". والمعرف بالعهدية لا ينعت. "طبقًا كما جاء في التصريح وحاشيته عند الكلام عليها - ج1 باب: المعرف بالأداة بحجة أنه يشبه الضمير ويقع موقعه ... " كما يعللون.
5 ومما يصلح نعتًا ولا يصلح منعوتًا: "المشتق العامل"؛ فيمتنع "على الصحيح" أنه يتقدم نعته على المعمول؛ أي: لا يصح أن يفصل النعت بإعتباره نعتًا بين العامل المشتق ومعموله. أما باعتباره شيئًا -كالحال، مثلًا– فلا مانع. وكذلك لا مانع من اعتباره نعتًا للمشتق إذا تقدم هذا المعمول فاصلًا بين المشتق ونعته –راجع التصريح، باب: الحال– ومجيء الكلام من النكرة-0(3/468)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"ملاحظة": الأتباع –بفتح الهمزة-1:
نرى في بعض الأساليب الواردة عن العرب كلمة زائدة، لا تنفرد بنفسها في جملة، دون أن تسبقها –مباشرة في هذه الجملة كلمة أخرى مسموعة2 تماثلها في وزنها، وفي أكثر حروفها الهجائية "أي: أنه ليس لهذه الكلمة المتأخرة الزائدة، المسموعة في الأسلوب الوارد استقلالٌ بنفسها في جملة ما، ولا استغناءٌ عن كلمة سابقة توافقها في وزنها وفي أكثر حروفها". وأيضًا ليس لهذه الكلمة الزائدة المسموعة2 معنى تَجلبه، ولا حُكم إعرابيّ خاصّ بها3 تُوصف معه بأنها مبتدأ، أو فاعل، أو نعت، أو مفعول، أو غير ذلك..، أو أنها معربة أو مبنية؛ فهي –لكل ما تقدم –خارجة عن نطاق الاستقلال بنفسها، وصوغها، خالية في معنى لغويّ تؤديه، وبعيدة من الاتّصاف بالإعراب أو البناء، أو التأثر بالعوامل. وإنما تزاد لمجرد التلميح، أو السخرية، أو المدح، أو محض التَّصويت والتنغيم. وتسمَّى هذه الكلمة الزائدة الواردة في الأسلوب السّماعيّ هي ونظائرها: "الأَتباع" –بفتح الهمزة –جمع: "تَبَع" –بمعنى التابع4– ويراد به: كل لفظ مسموع، لا يستقل بنفسه في جملة، وإنما يجيء بعد كلمة تسبقه مباشرة "بغير فاصل" فيسايرها في وزنها، وفي ضبط آخرها، ويماثلها في أكثر حروفها، دون أنْ يكون له معنى خاص ينفرد به في هذه الجملة، ولا نصيبٌ في الإعراب أو البناء؛ مثل "بَسَن" في قولهم: "محمد
__________
1 ولا مانع من كسرها، فتكون الكلمة مصدرًا، لا جمعًا "وانظزر رقم 2 من هامش الصفحة الآتية".
"2، 2" يشترط -في الرأي الصحيح- أن تكون هذه الكلمة الزائدة مسموعة في أسلوب وارد عن العرب؛ فليست زيادتها مباحة في غيره. كما أن زيادة غيرها من الكلمات الأخرى غير الواردة عن العرب ممنوعة. فالأمر مقصور على زيادة كلمة معينة مسموعة في تركيب معين مسموع كذلك. ولا يباح القياس هنا؛ منعًا لخلق كلمات لم يعرفها العرب، وإبعادًا للآثار اللغوية السيئة المترتبة على وضع ألفاظ جديدة من غير الطريق السديد المعد لذلك الوضع الجديد كطريق التعزيب، ونحوه ...
3 إلا في بعض المركبات التي تعرب حالًا مبنية؛ كقولهم: تفرق الأعداء "شَفَرَ بَفَرَ" ... و ... "طبقًا للبيان المفصل الذي سبق في ج2 باب: الحال، م84 ص336".
4 التَّبَع –محركة -: "التابع" –والتَّبع –يكون واحد أو جمعًا. ويجمع على أتباع ا. هـ. قاموس. ثم قال: "والإتباع في الكلام مثل: حَسَن بَسَن". ا. هـ؛ فلا مانع من كسر الهمزة؛ فتكون الكلمة مصدرًا في حالة الكسر، لا جمعًا.(3/469)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حسَنٌ بَسَنٌ". ومثل: "نَيْطان، ونِفْريت" في قولهم، اللصّ شيطانٌ نَيْطانٌ، أو: اللصّ عِفريتٌ نِفريتٌ ... وعند إعراب هذا اللفظ الزائد نقول: إنه تابع للكلمة التي قبله مباشرة، أي: من أتباعها في الوزن، وضبط الآخر، والمشاركة في معظم الحروف الهجائية، دون أن يكون لهذه التبعية العارضة بوصفها السالف علاقة بالتوابع الأصلية الأربعة المعروفة "وهي: النعت، التوكيد، العطف بنوعيه، البدل" كما سبقت الإشارة1؛ إذ لا يجري شيء من أوصاف هذه التوابع الأربعة الأصلية وأحكامها على التابع العارض المذكور فيما سبق؛ حيث يقتصر حكمه على أمر واحد, هو: أنه مثل الكلمة التي قبله مباشرة في وزنها، وأكثر حروفها، وضبط آخرها، دون بقية أحكامها النحوية، أو غير النحوية2....
__________
1 في آخر هامش ص434.
2 ما تقدم في تعريف هذا "التابع" وحكمه هو ما تخيرناه من عدة آراء مضطربة في تعريفه وأحكامه. فلقد كثر الكلام في كل ذلك قديمًا، ووضعت كتب خاصة في "الاتباع" تتقارب أحيانًا وتتباعد أخرى. ومن أشهر الكتب المؤلفة فيه وأحسنها: كتاب: "الاتباع" للإمام أبي الطيب عبد الواحد مجمع بن علي اللغوي الحلبي المتوفى سنة 351 هـ وعليه اعتمدنا ما نقلناه.
وقد ظهر هذا الكتاب سنة 1961 مطبوعًا، وحققه وشرحه الأستاذ عز الدين التنوخي عصْر مجمع اللغة العربية بدمشق. وكتب في صدره مقدمة نافعة تتضمن أظهر آراء المؤلف، يعنينا منها، ويتصل بموضوعنا قوله حرفيًا –في ص7-.
"الظاهر من بحث المصنف فيما بقي من خطبه كتابه، وفيما جرى عليه في الأبواب، وأن المعول عنده في التفريق بين "الاتباع والتوكيد" إنما هو على معنى التابع مع إمكان إفراده في الكلام؛ ذلك أن التابع-أو اللفظة الثانية إن لم يكن له معنى في نفسه، أو كان له سني المتبوع، ولم يجيء إلا لِيَتِد "أي: يقو"ما قبله ويقويه، ثم لا يتكلم به منفردًا –كان "إتباعًا". وإن كان يشارك اللفظة الأولى– أو المتبوع في المعنى فأفاد في تقويتها، وأمكن إفراد التابع في الكلام كان: "توكدًا". وبذلك يتبين لنا أن المعول عليه عند المصنف إنما هو التابع من حيث المعنى أو عدمه مع إمكان إفراده، وليس المعول على الواو، كما ذهب إليه الكسائي. وأبو عُبَيْد في غريب الحديث. فإن قولهم مثلًا "قسيم وسيم" ليس من "الاتباع" عند أبي الطيب، بل هو في باب "التوكيد"؛ فإن التابع: "وسيم" يمكن إفراده ومجيئه على حدة؛ لقولهم رجل وسيم. وقولهم: "شَرَّ بَرَّ" من التوكيد عند أبي الطيب مع أنه بلا واو. و"حظيت المرأة(3/470)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبَظِيتْ من "الإتباع" عند المصنف مع وجود الواو؛ لأن "بَظِيتْ" لا معنى لها وحدها، ولا تجيء في الكلام وحدها وإنما تجيء أبدًا تابعة لفعل: "حَظِيَتْ"؛ ولإتباعها كانت من "الإتباع" ومنه: "أقبل الحاجّ والداجّ" فهو من الإتباع عند شيخنا الحلبي –المصنف– مع وجود الواو: لأن "الداج" مع وجود الواو من الإتباع؛ إذ لا ثلة بين الحج والدّجّ، ولا يفرد عند التكلم فلا يقال: "أقبل الداجّ" وإنما يقال: "أقبل الحاجّ والداجّ" فهي تابعة أبدًا.
"ومن أقوال المصنف تعليقًا على أمثلة "الإتباع والتوكيد" ونذكره للاستدلال، وعلى سبيل المثال، قولهم: "لا بارَكَ الله فيه ولا تارَكَ في باب الإتباع الذي أوله التاء، وعلق عليه بقوله: فهو وإن كان "تارك" مأخوذًا من التَّركَ، لا معنى له في هذا الموضع إلا الإتباع ... أي: لا صلة في المعنى بين باركَ وتاركَ، ولا يجيء "لا تاركَ الله فيه" ولو أمكن إفراد هذا التابع لكان من باب التوكيد ... " ا. هـ. من المقدمة.
وكل ما سبق حسن، لكن كيف يكون للكلمة التابعة معنى المتبوعة –كما جاء في أول الكلام– وتسمى تابعة على الوجه المراد من التابع هنا لا التابع الأصيل الذي يدخل في التوابع الأربعة الأصلية التي سبقت في ص434؟ هذا غير مفهوم ولا مقبول بناء على الضوابط العامة.(3/471)
ب1- النعت بالجملة:
الجملة التي تصلح نعتاً1 لا بد أن تجمع الشروط الأربعة الآتية:
1- أن يكون منعوتها نكرة محضة، مثل كلمتي "فارس وشجاع" في قولهم: "أقبلَ فارس يبتسم، وانتصر شجاع لا يخاف، ويتحقق هذا بخلُوها من "أل الجنسية"، ومن كل شيء آخر يُخَصَّص ويُقَلَّل الشيوع؛ كالإضافة، والنعت، وسائر القيود التي تفيد التخصيص2.
والنكرة غير المحضة: هي التي لم تتخلص مما سبق؛ بأن يكون المنعوت إمَّا: مشتملاً على "أل الجنسية" التي تجعل لفظه معرفة، ومعناه نكرة، كقول الشاعرُ:
ولقد أَمُرّ على اللئيم يَسبني ... فَأَعِفُّ، ثُمّ أقول: لا يَعنيني
فجملة: "يسُب"، يصح إعرابها نعتاً في محل جر، مراعاة للناحية المعنوية، والمنعوت هو كلمة: "اللئيم"، ويصح أن يكون حالاً في محل نصب، مراعاة؛ لوجود "أل الجنسية"3. وإما مقيداً بقيد يفيد التخصيص؛ نحو: استمعت لمحاضرةٍ نفسيةٍ ألقاها عالم كبير زار بلادنا. فالنكرة هنا: "محاضرة -عالم" غير محضة؛ لأنها مقيدة بالنعت بعدها "وهو: نفيسة -كبير" ولذلك يصح إعراب الجملة الفعلية: "ألقي ×" "زار ×" نعتاً بعد كل واحد منهما4 ...
ومما يلاحظ أن المنعوت إذا كان غير محضة، فإن الجملة بعده –وكذا
__________
"1, 1" سبقت "أ" في ص458 حيث الكلام على النعت المفرد، ويجيء النعت بشبه الجملة في "ج" ص476 –وفي ص480 "و" الرأي في الجملة من ناحية أنها نكرة، أو معرفة. وقد سبق "في ج1 م1 هامش ص15 وهامش ص338 م27" أن الجملة الواقعة نعتاً، أو صلة أو خبراً, أو غير ذلك ... تسمى جملة باعتبار أصلها الأول حين تؤدي معنى مفيداً مستقلاً. أما بعد أن صار لها محل فلا تؤدي معنى مستقلاً، ولا تسمى جملة....
"2و2" في هامش الصفحة الأولى بيان واف للمراد من المفيد.
3 للحكم السابق بيان في ج1 ص195 م14 وفي ج2 باب الحال م84 ص311.
4 وينطبق هذا قوله تعالى لنبيه في شأن الكافرين: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ... } فكلمة: "أحد" نكرة غير محضة؛ لأنها موصوفة مع مجروره بعدها. ويليها جملة فعلية تصلح أن تكون نعتاً أيضاً.(3/472)
شبهها1 لا تعيين نعتًا. وإنما يجوز أن تكون نعتًا، وأن تكون حالًا والمنعوت يصير صاحب الحال، "وقد سبق3 بيان هذا بإسهاب ... ".
2- أن يكون المنعوت مذكورًا؛ نحو: إن رجلًا يصاحب الأشرار لا بد أن يحترق بأذاهم، وقول الشاعر:
إن في أضرعنا أَفئدةً ... تَعشق المجد، وتأبى أن تضاما
ويجوز حذف المنعوت بشرط أن يكون مرفوعًا، وبعض اسم متقدم عليه مجرور بالحرف: "من"، أو: "في"، والنعت جملة أو شبهها؛ مثل: "نحن –الشرقيين – أصحابُ مجدٍ تَلِيدِ؛ منَّا3 سَبَقَ إلى كشف نظريات العلوم الكونية، ومنا استخدمها في الاختراع والابتكار، ومنا اهتدى قبل غيره إلى مَجاهل كوكبه، ومنا هَدَى البشرية إلى أقوم السبل لإسعادها؛ فليس فينا إلا كَشَف، أو: اخترع، أو: اهتدى ,أو: هدى ... " تريد: منَّا فريق سبق ,منا فريق استخدم ,منا فريق اهتدى منا فريق هدى، ليس فينا إلا فريق كشف ... "وسيجيء الكلام مفصلًا على مواضع حذفه، قريبًا"4.
3- أن تكون الجملة النعتية خبرية، كبعض ما سبق، وكالتي في قول الشاعر:
ولا خيرَ في قوم تُذَلُّ كرامُهم ... ويعطُم فيهم نَذْلُهم، ويسود
فلا تصلح الإنشائية "بنوعيها الطلبي وغير الطلبي"، ولا يصح: رأيتَ مسكينًا عاونْه، وشاهدت محتاجًا هل تساعدُه؟ أو: لا تهنْه....، ولا يصح هذا كتاب بِعتكَهُ؛ تريد: إنشاء البيع الآن "وقت النطق"، والموافقة عليه، لا أنك تخبر بأن البيع حصل قبل النطق5.
__________
1 كما سيجيء في ص476 وانظر "أ" في ص447. حيث البيان الخاص بهذا.
2 في مواطن متفرقة، والأصيل منها في باب المعارف "ج1 ص145 م17".
3 مع إعراب الجار والمجرور في هذه الأمثلة وأشباهها هو الخبر؛ لتكون الجملة الفعلية نعتًا –وكذا شبهها-0
4 ص493.
5 هذا الشرط هام، لأن النعت يفيد منعوته إيضاحًا، أو تخصيصًا، أو.... أو.... –كما سبق أول الباب– فلا بد أن يكون حاصلًا كم قبل. والمعنى الإنشائي غير حاصل، ولا معلوم من قبل، إذ لا وجود له في الخارج الواقعي قبل النطق. فكيف يفيد الإيضاح، أو التخصيص. أو غيرهما؟ وما ورد مخالفًا لهذا الشرط فهوسماعي لا يقاس عليه. وبعضهم يؤوله بحذف مشتق من القول: مثل كلمة:،مقول، تكون الجملة الإنشائة مفعولًا له. وسيجيء بيان هذا في هامش ص475.(3/473)
4- اشتمال الجملة الخبرية على ضمير يربطها بالمنعوت1، ويطابقه في الإفراد والتذكير وفروعهما2، ويجعل الكلام والمعنى متماسَكْين متصلين، ولذا يسمَّى:،الرابط،، والأغلب أن يكون مذكورًا -سواء أكان بارزًا، أو مسْتترًا 3 -فالمذكور البارز كالأمثلة السالفة؛ وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} ، ومثل: نصيحة يتبعها عاقل قد تجلب خبرًا غامرًا، وتدفع بلاء قائلًا. وقول الشاعر:
كلُّ بيتٍ أَنت ساكنه ... غير محتاج إلى السُّرُج4
والمستتر كقول الشاعر:
وكلّ امرئٍ يُولِ الجميل مُحَبَّب ... وكل مكان ينبت العز طيّب
وقول الآخر:
وإذا أراد الله نثر فضيلة ... طُوِيت5 أتاح لها لسان حسود
وقد يكون محذوفًا6 إذا كانت معروفًا بقرينة من السياق، أو غيره، ولا لبس في حذفه، كقول القائل:
وما أَدري أَغَيَّرهمْ تَناءٍ ... وطولُ الدّهر، أم مالٌ أَصابوا
__________
1 سواء أكان اشتمالها عليه مباشرًا أم كان في شيء من مكملاتها وتوابعها؛ كالذي في قول الشاعر:
لا أذود الكير عن شجرٍ ... قد جنيت المر من مُرة
وفي الأمثلة الآتية صور للنوعين.
2 إذا كان المبتدأ ضميرًا للمتكلم والخبر منعوتًا بجملة فعلية، جاز في الضمير الرابط أن يكون للمتكلم أو
الغائب؛ نحو: أنا صادق أحب الإنصاف، أو يحب الإنصاف. وكذلك إن كان المبتدأ ضميرًا للمخاطب؛ نحو: أنت صادق تحب الإنصاف، أو يحب الإنصاف. ومراعاة التكلم أو الخطاب أحسن -كما سبقت الإشارة في ج1 م35 ص425 باب المبتدأ والخبر-.
3 لأن الستتر مذكور، ولكنه غير ظاهر في الكلام. بخلاف المحذوف؛ فانه غير موجود مطلقًا. وبين المستتر والمحذوف جملة فوارق وآثار أوضحناها في باب: الضمير ج1 م18 ص146.
4 جمح: سراج، وهو المصباح المضيء.
5 الرابط ضمير مستتر تقديره: هي؛ نائب الفاعل.
6 سيجيء تفصيل لحذفه في،ج، من ص478.(3/474)
التقدير: أصابوه. ومثل:،ما شيءٌ حميتَ بمستباح1،. أي: حتميته.
وقول الآخر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليلُ ... سهرٌ دائم،،وليلٌ طويلٌ
أي: أنا علي؛ سهره دائم، وليله طويل2 ...
__________
1
صدر هذا البيت المنسوب لجرير: ... حَمَيْتَ حِمى تِهامة بعد نجدٍ
2 وفي النعت بالجملة يقول ابن مالك:
ونَعتُوا بِجُمْلَةٍ مُنَكَّرًا ... فَأُعْطِيَتُ ما أُعْطِيَتْهُ خَبَرًا
يريد: أن العرب نطقلوا بالجملة نعتًا للمنكر، "آي: أن المنعوت بها منكر، لا بد من تنكيره "، وإذا وقعت نعتًا فإنها تعطى من الحكم ما أعطيته وهي خبر. يشير إلى ضرورة الرابط الذي يربطها بالمنعوت. وليس المقصود أنها تأخذ، وهي نعت -ميع الأحكام التي تستحقها إذا وقعت خبرًا. ذلك أن الجملة التي تعرب خبرًا تصلح أن تكون إنشاء طلبيًا وغير طلبي، "على الصحيح فيهما"، مع أن جملة النعت لا تصلح أن تكون إنشاء طلبيًا أو غير طلبي، ولذا تدارك الأمر فقال:
وامْنَعُ هُنا إِيقاعَ ذاتِ الطَلبِ ... وَأِنْ أَتَتْ فالْْقَوُل أَضُمِرْ تُصِبِ
أي: امنع هنا "في باب النعت، لا في باب الخبر"، وقوع الجملة الطلبية، وهذا تقييد قد يؤدي إلى غير المراد؛ إذ قد يفهم منه أن الجملة الإنشائية غير الطلبية تقع نعتًا، مع أنها كالطلبية لا تصلح نعتًا؛ إذ الجملة الإنشائية بنوعيها الطلبي وغير الطلبي لا تصلح هنا -كما أشرنا -أما الذي يصلح فهو ما عداهما. ولم يبق من الجمل بعدهما إلا الجمل الخبرية. ثم هو يقول: إن ورد في الكلام القديم جمل إنشائية وقعت نعتًا. وهذه لا يصح محاكاتها، ولا القياس عليها؛ لندورها، ومخالفتها الغرض من النعت. فأولها. والتأويلات مختلفة، أشهرها إضمار "قول" المحذوف هو النعت، تكون الجملة الإنشائية مَمَقُولا له. ففي مثل: أكلت فاكهة؛ هل ذقت السكر؟ "وليس هذا من الكلام القديم المسموع" يقدرون أن الأصل: أكلت فاكهة مَقُولًا فيها: هل ذقت السكر؟ فكلمة: "مَقُولًا" المحذوفة هي النعت. والجملة الإنشائية بعدها في محل نصب مفعول به للقول. ومثل: لمست ماء هل لمست الثلج؟ أي: لمست ماء مقولًا فيه: هل لمست الثلج؟.... أما الأمثلة المسموعة فمنها البيت الذي يرددونه؛ وهو:
حتى إذا جَنَّ الظلام واختلطْ ... جاؤوا بِمَذْقِ. هَلْ رأَيتَ الذِّنبَ قطْ؟
"قاله رجل استضافه قوم، وطال انتظاره الطعام حتى دخل الليل؛ فقدموا له المذق "وهو اللبن المختلط بالمياه التي تغير لونه". وهو يصف هذا التغيير في اللون بأنه صار في لون الذئب".
ثم قال ابن مالك بعد ذلك بيتًا سبق شرحه في مكانه المناسب "ص461" هو:
ونَعتُوا بِمَصْدَر كَثِيرَا ... فالْتَزَمُوا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا(3/475)
وقد يغني عنه وجوده في جملة معطوفة1 بالفاء، أو: بالواو، أو: ثم على الجملة النعتية الخالية منه؛ نحو: مررت برجل تقصف الرعود، فيرتجف؛ أو: فيرتجب. أو: ثم يرتجف. التقدير: "هو" لا في كل ذلك.
ج- النعت بشبه الجملة2:
وشبه الجملة "الظهر، والجار مع مجروره"، يصلح أن يكون نعتًا بشرطين:
أولهما: أن يكون تامًا، أي: مفيدًا. وإفادته3 تكون بالإضافة، أو بتقييده بعدد، أو غيره من القيود التي تجعله يحقق غرضًا معنويًا جديدًا؛ فلا يصح أقبل رجل عنك ولا أقبل رجل عوْضُ ...
ثانيها: أن يكون المنعوت نكرة محضة4، مثل: أقبل رجل في سيارة، أقبل رجلٌ فوق الجبل. وقول الشاعر:
وإذا امرؤ أهدَى5 إليك صَنِيعَةً ... من جاهه6 فكأنها من ماله
فإن كانت النكرة غير محضة: "بسبب اختصامها بإضافة، أو غيرها مما يخصصها"؛ فشبه الجملة يصلح نعتًا وحالًا7. نحو: هذا رجل وقور في سيَّارة أو: هذا رجل وقور أمامك ... ، فهو كالجملة في هذا الحكم8.
__________
1 راجع الصبان ج1 باب المبتدأ عند الكلام على الخبر الجملة، ورابطه".
2 سبقت: "أ" في ص458 حيث الكلام على النعت المفرد. وكذلك سبقت: "ب" في ص472 حيث الكلام على النعت بالجملة.
3 تكرر معنى الإفادة في عدة مواضع من الكتاب "في ج1 باب الموصول ص272 م27، باب المبتدأ والخبر ص346 م35 ج2، باب الحال ص394".
4 انظر "أ" من الزيادة والتفصيل، حيث البيان الخاص بعدم اشتراط المحضة.
5 الجملة الفعلية نعت، ومنعوتها نكرة.
6 الجار ومجروره نعت، والمنعوت: صنيعة.
7 كما سبق في ص473.
8 تكرر بيان هذا، أما تفصيله ففي مكانه المناسب ج1 ص145 و17.(3/476)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- يجوز -عند عدم المانع -اعتبار شبه الجملة بنوعية "الظرف، والجار مع مجروره " صفة بعد المعرفة المحضة؛ على تقدير متعلَّقه معرفة. وقد نص "الصبان" على هذا في ج1 أول باب: "النكرة والمعرفة" حيث قال: "أسلفنا عن الدماميني جواز كون الظرف -ويراد به هنا شبه الجملة بنوعيه. بعد المعرفة المحضة صفة، بتقدير متعلَّقه معرفة" اهـ.
أي: أن المتعلَّق المعرفة سيكون هو الصفة لمطابقته الموصوف في التعريف. هذا ولا مانع أن يكون شبه الجملة نفسه -بنوعيه -هو الصفة إذا استغنينا عن ذكر المتعلَّق اختصارًا وتيسيرًا أو تسهيلًا، "طبقًا لما سبق1" بالإيضاح والشرط المسجلين هناك.
وإذا كان شبه الجملة -بنوعيه- بعد المعرفة المحضة صالحًا لأن يُعرَب صفة على الوجه
السالف، وهو صالح أيضًا لأن يكون حالًا بعدها؛ كصلاحه للحالية والوصفية بعد النكرة غير المحضة، -أمكن وضع قاعدة عامة أساسية هي: "شبه الجملة –بنوعيه- يصلح دائمًا أن يكون حالًا أو صفة بعد المعرفة المحضة وغير المحضة2، وكذلك بعد النكرة، بشرط أن تكون غير محضة3"؛ أو يقال:
"إذا وقع شبه الجملة بعد معرفة أو نكرة، فإنه يصلح أن يكون حالًا أو صفة إلا في صورة واحدة، هي: أن تكون النكرة محضة فتعين أن يكون صفة، ليس غير".
وجدير بالملاحظة أن جواز الأمرين فيما سبق مشروط بعدم وجود قرينة توجب أحدهما دون الآخر أو توجب غيرهما، حرصًا على سلامة المعنى، فإن وجدت القرينة وجب الخضوع لما تقتضيه، كالشأن معها في سائر المسائل الأخرى.
__________
1 في ج1 "ص194 م17، وفي رقم 1 من هامش ص347 م 27، وهامش ص431 م35" وفي ج2 رقم 5 من هامش ص356".
2 كالمعرف بأل الجنسية.
3 فإن كانت محضة تعين أن يكون نعتًا -كما سيجيء هنا-.(3/477)
..................................................................................................................................ز
__________
ب- من أدوات الاستثناء ما يكون فعلًا قط؛ وهو: "ليس، ولا يكون" ومنها ما يصلح1 أن يكون فعلًا تارة، وحرف جر تارة أخرى: وهو "خلال، وعدا، وحاشا". والنوع الأول -وهو الذي يكون فعلًا فقط- يصح وقوع جملته الفعلية نعتًا؛ بالتفصيل الذي سبق بيانه "في ج م83 ص333 باب: الاستثناء"، أما النوع الثاني الذي يصلح للفعلية والحرفية في يكون نعتًا.
ج- يحذف الرابط في الجمله النعتية بشرط أمن اللَّبس -كما سبق2- والمحذوف قد يكون مرفوعًا مثل: بسم الله الرحمنُ الرحيمُ، أي: هو الرحمن هو الرحيم ... 3 أو منصوبًا كالأمثلة السالفة1. وقد يكون مجرورًا "بفي" إذا كان المنعوت بالجملة اسم زمان: كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، أي لا تجزي فيه ... فلا يصح الحذف في مثل: زرت حديقة رغبتُ فيها: إذ المنعوت ليس اسم زمان: فلا يتضح المحذوف؛ أهو: رغبت في هوائها -أم في رياحينها- أم في فواكهها، أم في جداولها؟ ولا يتضح أهو: رغبت فيها أم رغبت عنها؟
وقد يكون مجرورًا "بِمِنْ" بشرط أن يكون في أسلوب تتعين فيه؛ سواء أكان الضمير عائدًا على ظرف زمان أم على غيره؛ نحو: مرّ صيف قضيت شهرًا على السواحل، وشهرًا في الريف. أي: قضيت شهرًا منه على السواحل، وشهرًا منه في الريف ... ومثل: أشتريت فاكهة، نوع بعشرين، ونوع بتلاثين، أي: نوع بعشرين منها، ونوع بتلاثين منها ...
فإن لم يكن الحرف "مِنْ" متعينًا في الأسلوب لم يجز حذفه؛ لئلا يحدث لبس؛ نحو: نفعني شهر صمت منه، فلو حذف الجار والمجرور لورد على الذهن احتمالات متعددة؛ منها صمته، وهو معنى غير المقصود.
د- يرى بعض النحاة أن: "أل" قد تغني عن الضمير الرابط إذا دخلت
__________
"1، 1" بشرط ألا تسبقه "ما" المصدرية. وفي ص474 بعض أمثلة للمحذوف المنصوب
2 في ص474.
3 على اعتبار النعت مقطوعًا. وسيجيء بيان القطع في ص486.(3/478)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الجملة الاسمية الواقعة نعتًا: نحو: رأيت كتابًا؛ الورقُ ناعمٌ مصقول، والطباعة جيدة نظيفة1، والغلاف متين جذاب، فكأنك قلت: رأيت كتابًا ورقه ناعم مصقول، وطباعته ... وغلافه.... وهذا رأي حسن، مستمد من "أمثلة كثيرة مسموعة تبيح القياس عليها بشرط أمن اللبس.
"هـ" لا تُربَط الجملة الواقعة نعتًا إلا بالضمير أو بما يقوم مقامه في الربط، ويغني عنه، وهو "آل"، كما مرّ في: "د" ولا تصلح الواو التي تبق -أحيانًا- الجملة الواقعة نعتًا أن تكون للربط، فإنها ولو زائدة تلتصق بهذه الجملة؛ لتُقَّوى دلالتها على النعت، وتزيد التصاقها بالمنعوت دون أن تصلح وحدها للربط، ويسمونها لذلك: "واو اللصوق"، ومن أمثلتها، في القران الكريم قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} ، والأصل: "إلا لها كتاب معلوم" زيدت الواو للغرض السالف، ولا تفيد شيئًا أكتر منه2. وكذلك قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . فقد زيدت الواو قبل الجملة الاسمية الواقعة نعتًا. ومن الأمثلة قول عُروة بن الوَرْد:
فيا للناس كيف غلبت نفسي ... على شيء ويكرهه ضميري
فالواو زائدة قبل الجملة المضارعية النَّعتية. وهي في كل صورها التي تتعين فيها للإلصاق لا تصلح وحدها أن تكون رابطًا -كما أسلفنا-.
وقد اختلف النحاة: أزيادتها قياسية3 أم سمعية؟ والأرجح عندهم -برغم مجيئها في القرآن- أنها سماعية، وهذا عجيب منهم؛ لأن معناه بأن بعض التراكيب القرآنية لا يصح محاكاته، ولا صوغ أساليبنا على نهجه، مع اعترافهم جميعًا أن القرآن أسمى لغة بيانية، وأعلى كلام بليغ. نعم قد يكون الأنسب اليوم الوقوف بزيادة هذه الواو عند حدّ السماع؛ تجنبًا لإساءة فهمها، والخلط بينها وبين الأنواع الأخرى، ولا ضرر ولا تضييق في الأخذ بهذا الرأي3. ولكن الأنسب لا يحرّم غيره مما هو صحيح مباح.
__________
1 هذه الجمله الاسمية -والتي تليها– معطوفة على الأولى، فهي في حكم النعت كالمعطوف عليه. إلا أن قامت قرينة مقضي بأنها لبست معطوفة، وأنها شيء آخر: كأن تكون حالية، أو مستأنفة.
2 راجع التصريح وحاشية ياسين ج1 باب الحال عند الكلام على صاحب الحال النكرة.
3 ومن القائلين بقياسيتها: "الزمخشري".(3/479)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يكون الأنسب في عصر ليس بالأنسب في آخر؛ وكلاهما صحيح مباح.
و الجملة لا تقع نعتًا إلا للنكرة. فما حكم الجملة نفسها من حيث التعريف والتنكير؟.
أجابوا: "يجري على الألسنة كثيرًا أنها نكرة. ولكنها تؤول بالنكرة، قال الرضيّ؛ لأن التعريف والتنكير من خواص الأسماء. والجملة من حيث هي جملة ليست اسمًا، وإن كانت تؤول به، فنحو: جاء رجل قام أبوه، أو أبوه قائم ... في تأويل: جاء رجل قائم أبوه: ونحو: جاء رجل أبوه محمد، في تأويل: كائن ذات أبيه ذات محمد1.
ويقول شارح المفصل2 ما ملخصه: "إن وقوع الجملة نعتًا للنكرة دليل على أن الجملة نفسها نكرة، إذ لا يصح أن توصف النكرة بالمعرفة3 ... "اهـ.
سواء أكانت نكرة أم مؤولة بالنكرة وفي حكمها، فالخلاف شكلي لا آثر له. والمهم المتفق عليه أنها لا تكون نعتًا إلا للنكرة.
ز- يقول الكوفيون: إذا وقع بعد الجملة الواقعة نعتًا لنكرة، جملة أخرى مضارعية، مترتبة على الجملة النعتية كترتب جواب الشرط على الجملة الشرطية إذا وقع هذا صح في المضارع الجزم جوابًا للنعت مع جملته: حملًا له على المضارع المجزوم في الجملة الواقعة جوابًا للشرط. ففي مثل: كل رجل يعملُ الخير يرتفع شأنه.... يجيزون جزم المضارع: "يرتفع"4.
لكن رأيهم في هذا الجزم ضعيف؛ إذ لا تؤيده الشواهد القوية الكثيرة، التي تسوّغ القياس عليه. فالأحسن إهماله والاقتصار فيه على المسموع.....5.
__________
1 راجع الصبان.
2 ج3 ص141.
3 سبقت إشارة لبعض ما ذكر "في رقم 2 من هامش ص28 رقم 1 من هامش472" وأيضًا "في ج2 ص294؟ باب النكرة والمعرفة" وكذا "في ج1 ص142 م17".
4 وفاعله ضمير مستتر تقديره: هو والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ: "كل".
5 سبقت الإشارة لهذا في باب: "الموصول" "ج1 م27 ص383 عند الكلام على صلة الموصول والرابط" وله هناك قصة طريقة تؤيده. وسيجيء البيان في ج4 ص437 م157 عند الكلام على جواب الشرط".(3/480)
المسألة 115:
تعدد النعت، وقطعه
"أ" تَعَدُّدُ النعت في الحالات التي يكون فيها عامله واحدًا:
1- إذا تعدد النعت، والمنعوت فغير متعدد -لأنه واحد- وجب تفريق النُعوت1، مسبوقة بواو العطف2 أو غير مسبوقة، إلا الأول، فلا يُسبَق بها. نحو: لا شيء يقبُح في العين كرؤية عالم مختال، مغرُورٍ، أو: عالمٍ زَرِيِّ وضيعٍ، ويصح: كرؤية عالم مختال ومغُرور، أو: عالم زريّ ووضيع3 ...
وتمتنع واو العطف إذا كان المعنى المراد لا يتحقق بنعت واحد، ولا يستفاد إلا من انضمام نعت إلى آخر فينشأ من مجموعهما المعني المقصود: نحو: الفصول أربعة: أطيبها الربيع البارد الحارّ، أي: المعتدل في درجة حرارته وبرودته، ولا يجوز البارد والحارّ؛ لأن المعنى المراد -وهو: الاعتدال- لا يؤخذ لا من اشتراك الاثنين في تأديته، وانضمام كل منهما إلى الآخر: فكلاهما جزء يتمم نظيره،
__________
1 أي: ذكرها واحدًا واحدًا؛ على غبر صورة المثنى والجمع؛ إذ يمتنع أن يكون النعت مثنى، أو جمعًا والمنعوت واحدًا. وسيتكرر هنا لفظ "المفرِّق". و"التفربق" مرادًا به هذا التعدد على صورة فردية، ليس فيها علامة التثنية أو الجمع الاصطلاحين. فإن كانت الكلمة دالة على التثنية أو على الجمع بدون تفريق الأفراد أو بتفريق فهي المتعددة. فعندنا كلمتان اصطلاحيتان؛ هـ: "تفريق، وتعدد". فالتفريق خاص بذكر الأفراد واحدًا فواحدًا، والتعدد يكون مثله أو بذكرها على هيئة التثنية أو الجمع. "وانظر ما يختص بالنعت المتعدد لواحد لأهميته، ص488".
2 ويجوز اختيار حرف عطف غير "الواو"، يناسب السياق، إلا: "حتى"، و"أم".كما سيجيء في ص497 وفيها بيان مفيد يختص بعطف النعوت.
وإذا وقع النعت بعد الواو أو غيرها من حروف العطف المناسبة، فإنه يترك اسم النعت وأحكامه ويصير معطوفًا يجري عليه اسم المفعول وكل أحكامه -كما سيجيء في ص498-.
3 ومن التعدد بغير عطف، النعت بكلمتي: "فطنّ" وفَعَّال في فول المتنبي:
لا يدرك المجدّ إلا سيدٌ فَطِنٌ ... لما يَشُق على السادات، فعَال(3/481)
ويلازمه في تكوين المعنى الكامل المقصود منهما معًا. والكلمتان هنا بمنزلة كلمة واحدة ذات قطرين: لا يصح أن يَفْصِل بين شطريها حرف عطف أو غيره. ومثل: شرب المريض الدواء الحلو المرّ، أي: المتوسط في حلاوته ومرارته. ومثل: اشتريت صوفًا ناعمًا خشنًا، ومثل: هذا زجاج صُلب هّشّ ...
2- وإذا تعدد النعت والمنعوت متعددٌ بغير تفريق، وبغير أن يكون اسم إشارة فإن كانت النعُوت متحدة في لفظها ومعناها معًا وجب عدم تفريقها، وأن تكون مثناة أو جمعًا على حسب منعوتها. نحو: ما أعجب الهرمينِ القديمينِ!. ولا يصح: ما أعجب الهرمين القديم والقديم. ونحو: ما أجمل الزهرات اليانعات، ولا يصح: اليانعة، واليانعة، واليانعة.
فإن كانت النعوت مختلفة في لفظها ومعناها معًا أو في أحدهما وجب التفريق بالواو العاطفة؛ فمثال الاختلاف في اللفظ والمعنى قول الشاعر:
بكيْتُ، وما بُكَا رجلٍ حزينٍ ... على رُبْعينِ؛ مسلوبٍ1، وبالٍ
وقول أحد المؤرخين ... ولما انتهت الموقعة بهزيمة الأعداء بحثنا عن قادة جيشهم، فعرفنا القادة: القتيلّ، والجريح، والأسيرَ، والمذهولَ من هول ما رأى وسمع ...
ومثال الاختلاف في اللفظ دون المعنى: أبصرت سيارتين: ذاهبة ومنطلقةً قاومت طوائف؛ باغيةً، ومعتديةً، وظالمةً.
ومثال المختلفة في المعنى دون اللفظ. تنصحت رجلين هاويًا وهاويًا2؛
__________
1 مسلوب: مأخوذ من صاحبه. والكلمة نعت. وتصلح أن تكون عطف بيان، لكن الأفضل في المشتق أن يكون نعتًا، وفي الجامد أن يكون عطف بيان.
كما في صفحة465، وفي رقم 1 من هامش ص483، وكما سيأتي في بابه ص551 و552.
2 وفي هذا النعت المتعدد المختلف وفي منعوته المتعدد بقول ابن مالك:
ولَعْتُ غَيْر إذل وَاحِدٍ إذا اخْتَلَفُ ... فعاطِفًا فَرِّقُهُ لاَ إِذا ائتَلَفُ
أي: أن النعت المتعدد المختلف في لفظه ومعناه معًا. أو: في أحدهما، يجب أن تفرقه بالعطف إذا كان المنعوت متعددًا. أما إذا ائتلف النعت اتفق معناه ولفظه" فلا تفرقه. "فرقة عاطفًا: أي: حالة كونك عاطفًا، مستعملًا في التفريق حرف العطف، وهو هنا: الواو، ليس غير -كما شرحنا، وكما يأتي في ص497".(3/482)
فإحدى الكلمتين فعلها: "هَوِىَ" بمعنى: "أَحَبَّ" والأخرى فعلها: "هَوَى" بمعنى سقط على الأرض. ولا بد من قرينة تدل على هذا الاختلاف المعنوي. ومثل: عرفت رجالًا؛ كاسية، وكاسية، وكاسية، بمعنى: كاسية غيرها: وبمعنى: مكسوة، وبمعنى: غنية.
واذا كان المنعوت المتعدد اسم إشارة لم يجز في نعته المتعدد التفريق لأن نعت أسماء الإشارة لا يكون مختلفًا عنها في المطابقة اللفظية؛ فلا يصح مررت بهذين الطويل والقصير على اعتبارهما نعتين1.
3- إذا تعدد النعت والمنعوت متعدد متفرق فإن كانت النعوت متحدة في ألفاظها ومعانيها وجب عدم تفريقها؛ مثل: سافر محمود، وعلي، وحامد المهندسون. وان كانت مختلفة وجب أحد أمرين.
إمَّا تقديم المنعوتات المتفرقة كلها متوالية، يليها النعوت كلها متوالية متفرقة أيضًا ومرتبة؛ بحيث يكون النعت الأول للمنعوت الأخير؛ والنعت الثاني للمنعوت الذي قبل الأخير، وهكذا، حتى ينتهي الترتيب بأن يكون النعت الأخير للمنعوت الأول "فملخص هذه الطريقة: أن يكون كل نعت مقصورًا على أقرب منعوت إليه".
وإما: وضع كل نعت عقب منعوته مباشرة.
فعلى الطريقة الأولى نقول: ما أعظمَ الثمار التي نجنيها من الكتب، والصحف، والمجلات، والإذاعة، والمؤلفين ... البارعين، المختارةِ، الرفيعة، الصادقة، النافعة،.... فكلمة "البارعين" نعت للمؤلفين، وكلمة "المختارة": نعت للإذاعة و"الرفيعة": نعت للمجلات، و"الصادقة": نعت للصحف، و"النافعة": نعت للكتب.
__________
1 أما على اعتبارهما بدلًا، أو عطف بيان فقد يصح. لما أشرنا إليه -في رقم 1 من هامش ص482– من أن الأفضل في النعت الاشتقاق، بخلاف البدل والبيان. مع ملاحظة أن المعني يختلف في كل اعتبار، إذ فائدة: النعت غير فائدة البدل، أو العطف ...(3/483)
وعلى الطريقة الثانية نقول: ما أعظم الثمار التي نجنيها من الكتب النافعة. والصحف الصادقة، والمجلات الرفيعة، والإذاعة المختارة، والمؤلفين البارعين. وللمتكلم أن يختار من الطريقتين ما يراه أنسب للمقام بشرط أمن اللبس، بحيث يتعين كل نعت لمنعوته، دون اشتباه.(3/484)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
مما يتصل بهذه الحالة: نعت معمولين عاملهما واحد..... والحكم -كما سطروه- هو: أنه إذا اتحد عمله ونسبته المعنوية إليهما في المعنى جاز الإتباع والقطع بشرطه1؛ كقام محمود وعليّ العاقلان، أو العاقلَين. وإن اختلف العمل والنسبة؛ -كأكرم محمود عليًَا العاقلين- وجب القطع. وكذا إن اختلفت النسبة المعنوية دون العمل؛ كأعطيت الولدَ أباه العاقلان2.
وإن اختلف العمل دون النسبة؛ -نحو: مخاصمةُ الأخ أخاه النبيلان مؤلمة- وجب القطع على الرأى الأغلب.
فملخص الرأي أنه يجب القطع في جميع الصور إلا واحدة يجوز فيها القطع وعدمه؛ هي: التي يتحد فيها عمل العامل، ونسبته المعنوية إليها.
ومن أمثلة القطع الجائز ما ورد في كلام فصحاء العرب3، ومنه قول حاتم الطائي:
إنْ كنت كارهة معيشتنا ... هاتا4 فحُلّي في بني بدرِ
الضاربون لَدَى أعنتهم ... والطاعنون وخيلهم تجري
وقول الخِرْنِق القيسية:
لا يَبْعَدَنْ5 قومي الذين همُو ... سمّ العُداة، وآفة الجُزُرِ
النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزُر
__________
1 شرط القطع "وتفصيل الكلام على: "القطع" معروض في الصفحة التالية، وما بعدها".
2 إن المعمولين مفعولان، ولكن أحدهما بمنزلة الفاعل في المعنى لأنه الأخذ، والأخر بمنزلة المفعول؛ لأنه المأخوذ.
3 راجع الكامل للمبرد "ج2 ص8".
4 هذه.
5 لا يبعدن: لا يهلكن. وهذا دعاء لهم بالسلامة وطول العمر.(3/485)
ب- تعدد النعت، والمنعوت، والعامل، وما يترتب على هذا من الاتباع1 والقطع:
__________
1 المراد بالإتباع هنا: أن يكون النعت مماثلًا للمنعوت في رفعه، ونصبه، وجره. أما القطع فتمهد لتوضيحه بالأمثلة الآتية -وأما أحكامه الخاصة بالنعت فستجيء في ص488:
أ- في مثل: جاء محمد العالمُ، -بالرفع -يصح إعراب كلمة: "العالم" نعتًا مرفوعًا: كالمنعوت، وعلامة رفعه الضمة. ويصح لسبب بلاغي "سنعرفه في آخر هذا الهامش، وفي ص492". أن يقال: جاء محمد العالم. بالنصب. ولا يجوز الجر -وفي هذه الحالة تعرب كلمة: "العالم": مفعولًا به لفعل محذوف تقديره: أمدح، أو: أخص، أو ما شاكل ذلك مما يناسب الغرض. وبهذا الإعراب الجديد ننتقل الكلمة من حالة النعت التي كانت عليها إلى حالة أخرى مخالفة لها، ولا تسمى فيها نعتًا، فقد انقطعت صلتها بالنعت؛ ولهذا يسونها "نعتًا مقطوعًا" أو "منقطعًا". يريدون أنها كانت في أصلها الأول نعتًا، ثم انقطعت منه، وانصرفت عنه الى شيء آخر؛ فتسميتها الآن: "نعتًا" فقط تسمية غير حقيقية. وكذلك المنعوت. وإنما يصح تسميتها: "نعتًا منقطعًا". باعتبار الماضي؛ إذ كانت نعتًا في أول أمرها، ثم انقطعت عنه الآن. وضبطها الجديد وتغيير إعرابها السابق هما دليلان على القطع الذي قطع منه تحقيق الغرض البلاغي المشار إليه. فلا بد في القطع من ضبط جديد، وإعراب جديد كذلك، بحيث يختلفان عن الضبط والإعراب السابقين قبل إحداثه.
ب وفي مثل: رأيت محمدًا العالمَ -بالنصب -نعرب كلمة: "العالم" نعتًا منصوبًا؛ تبعًا لنصب المنعوت، ويجوز: رأيت محمدًا العالمُ -بالرفع، وفي هذه اصورة الجديدة التي يدعو لها داع بلاغي، العرب كلمة: "العالم" خبرًا، لمبتدأ محذوف، والتقدير –مثلًا-: هو العالم. ولا يصح إعراب "العالمُ" المرفوعة نعتًا مطلقًا. لكن يصح تسميتها: "نعتًا مقطوعًا"، أو: "منقطعًا"، لما بيناه، ولا يصح القطع إلى الجر.
ج وفي مثل: انتفعت من محمد العالِم –بالجر– نعرب "العالم" نعتًا مجرورًا. ولكن يجوز –لسبب بلاغي- إبعاده عن النعت؛ بأن نرفعه، أو ننصبه؛فنقول: انتفعت من محمد العالم، أو: العالمَ، على اعتباره في حالة رفعه خبرًا لمبتدأ محذوف. وفي حالة نصبه مفعولًا به لفعل محذوف؛ فيكون الضبط والإعراب الجديدان دليلين على القطع -كما تقدم- ولا يجوز القطع إلى الجر مطلقًا.
فموجز القول:
1- أن النعت يتبع منعوته في نوع إعرابه.
2- ولا يجوز -لسبب بلاغي- أن يتخلى النعت عن مهمته ليعرب شيئًا آخر تشتد الحاجة إليه، ويخالف نوع إعراب المنعوت.
3- في هذه الحالة التي يتخلى فيها ينصب باعتباره مفعولًا به لفعل محذوف، بشرط أن يكون المنعوت السابق مرفوعًا أو مجرورًا. وقد يرفع باعتباره خبرًا لمبتدأ محذوف، بمشرط أن يكون السابق منصوبًا أو مجرورًا، أي: أن المنعوت السابق إن كان مرفرعًا فالواجب نصب النعت المقطوع، وأن كان منصوبًا فالواجب رفع النعت المقطوع، وان كان مجرورًا جاز في النعت المقطوع الرفع أو النصب. فلا بد عند القطع من اختلاف نوع حركة النعت المنقطع عن نوع حركة المنعوت السابق؛ =(3/486)
1- إذا تعدد النعت بغير تفريق، وتعدد المنعوت، والعامل، وكانت المنعوتات المتعددة، متفرقة، متحدة في تعريفها وتنكيرها1 والعوامل المتعددة متحدة في معناها، وعملها، جاز في النعوت الإتباع والقطع: نحو حضر الصديق، وحضر الضيف الطبيبان. أو: الطبيبين. ونحو: نظرتُ القمرَ وأبصرت المِرّيخ المستديران. أو المستديران. ولا فرق في هذه العوامل بين المتحدة في ألفاظها والمختلفة -كما في المثالين- لأن المهم أن يتفقا معنى وعملًا.
ويجب القطع إن اختلفت العوامل معنى، أو عملًا، أو هما معًا. فمثال الاختلاف المعنوي فقط: أقبل الضيفُ، وانصرف الزائرُ السائحينِ، ونحو: جَمَدت عينُ الحزين وجمدت
عين القاسي المشاهدتين المأساة. "إذا كانت "جمدت" الأولى بمعنى: جفت دموعها بسبب البكاء الكثير. والثانية بمعنى: لم تبك؛ من القسوة".
ومثال اختلافهما في العمل فقط: مررت بالضيف ولاقيت الزائر الغريبان.
__________
= منعًا للبس بين الغرض القديم والجديد، واسترشادًا بالضبط والإعراب الجديدين على القطع.
أما السبب البلاغي للقلع فيكاد ينحصر في توجيه الذهن إلى النعت المنقطع. وتركيزه فيه؛ وإبراز معناه لأهمية خاصة تستدعي هذا التوجيه. ولا سيما إذا تعددت النعوت وطالت الجملة. "راجح مجمع البيان لعلوم القرآن، ج1 ص6". بل إن القطع بحكمه وحكمته يظل باقيًا إذا تعددت النعوت وفصل بينهما بحرف عطف فصارت بعد هذا الفصل بالعاطف معطوفات لا نعوتًا. كما سيجيء في رقم 10 من ص661
واذا كان النعت المنقطع في أصله مسوقًا لغرض المدح، أو الذم، أو الترحم، فإن عامله المحذوف بعد القطع لا يمح ذكره؛ لأنه من العوامل الواجبة الحذف، سواء أكان مبتدأ، أم فعلًا -كما سيجيء في ص490- أما إن كان النعت المنقطع مسبوقًا لغرض آخر غير ما سبق فإن عامله يجوز حذفه وذكره. ومن الأغراض الأخرى: أن يكون القصد من القطع تقوية التخصيص إذا كان وقوعه بعد نكرة؛ نحو: مررت بعصفور في عشه مغردٌ، أو مغردًا. أو تقوية الإيضاح إذا كان وقوعه بعد معرفة؛ نحو: طربت للبحتري الشاعرُ أو الشاعرَ ...
وقد تقدم في ص437 بيان الغرض الأساسي الأصيل من النعت. وكذلك سبق بيان لكل هذه بمناسبة أخرى في باب المبتدأ والخبر ج1 ص375 وسيجيء له مناسبة أخرى في هذا الباب".
1 لامتناع أن تكون النكرة نعتًا للنكرة ويشترط كذلك ألا يكون أو المنعوتات اسم إشارة، نحو: جاء هذا وجاء على فلا يصح العاقلان: لأن، نعت اسم الإشارة لا يفصل منه. كما سبق في هاش ص435 وفي "ج" من ص465.(3/487)
ومثال اختلافهما في المعنى والعمل: قابلت الرسول وسلمت على الزميل الظريفان1.
أحكام خاصة بالقطع في هذا الباب:
لا يصح القطع مطلقًا، إلا بعد تحقق شرط أساسي: هو: أن يكون المنعوت متعينًا بدون النعت؛ سواء أكان النعت واحدًا أم أكثر. وعلى هذا الأساس تقوم الأحكام الآتية:
1- لا يجوز القطع2 إذا كان النعت وحيدا3. والمنعوت نكرة محضة: لشدة حاجتها إليه، لتتخصص به. نحو: كرمت جنودًا أبطالًا.
2- إذا تعدد النعت لواحد، وكان المنعوت نكرة محضة وجب إتباع النعت الأول لها: لتستفيد به تخميصًا هي في شدة الحاجة إليه، ولا يجوز قطعه. أما ما عداه فيجوز فيه الإتباع والقطع؛ نحو: أقبل رجلٌ شجاعٌ، أمين تَقيّ؛ فيجب رفع كلمة: "شجاع" إتباعًا للمنعوت: "رجل" لأنه نكرة محضة. ويجوز في كلمتي: "أمين" و"تَقَيّ" الرفع إتباعًا للمنعوت، أو: النصب على القطع باعتبار كل منصوب منهما مفعولًا به لفعل محذوف.
والاتباع هنا واجب في النعت الأول وحده؛ ليقع به التخصيص -كما قلنا- ويجوز في الباقي الأمران، سواء أكان المنعوت قد تعين مسماه أم لم يتعين؛ لأن المقصود من نعت النكرة هو تخصيصها -لا تعيينها- وقد تحقق التخصيص بإتباع النعت الأول لها.
__________
1 وفي نعت معمولين لعاملين متحدين في المعنى والعمل يقول ابن مالك مشيرًا بالإتباع، تاركًا الحكم الثاني وهو القطع:
وَلَعْت مَعْمُولَيْ وَحِيدَي معُنَى ... وَعَمَلٍ – أَتْبِعِ بِغَيْرِ اسُتِثْنا
يريد: أتبع بغير استثناء نعت معمول عاملين وحيدين في معنى وفي عمل معًا، أي: متحدين فيهما.
2 إلا في ضرورة الشعر.
3 أي: منفردًا غير متعدد.(3/488)
3- إذا تعدّدت النعوت لواحد معرَف فإن تعين مسماه بدونها كلها جاز إتباعها جميعًا، وقطعها جميعًا، واتباع بعضها وقطع بعض آخر1، بشرط تقديم النعت التابع على النعت المقطوع؛ نحو: عرفت الإمام أبا حنيفة، المجتهدَ؛ الذكيَّ، العبقريَّ.... فيصح في النعوت الثلاثة النصب على الاتباع، والرفع على القطع، ويجوز النصب على الاتباع في بعض منها، والرفع على القطع في غيره، وفي هذه الحالة الأخيرة يجب تقديم النعت التابع على المقطوع.
وإن لم يتعين مسماه إلا بالنعوت كلها مجتمعة وجب اتباعها، وامتنع القطع؛ نحو: غاب المصري حافظ، الضابط، الشاعرُ، النَّاثِرُ، بالرفع؛ تبعًا للمنعوت: "حافظ" إذا كان هناك ثلاثة2 غيره كل منهم اسمه: "حافظ"، وأحدهم ضابط فقط، والآخر شاعر فقط، والثالث شاعر فقط، فلا يتعين الأول تعيينًا يميزه من هؤلاء الثلاثة إلا بالنعوت المتعددة مجتمعة، وإتباعها له.
وأن تعيَّن ببعضها دون بعض وجب إتْباع الذي يتعين به، وجاز في غيره الإتباع والقطع، مع وجوب تقديم التابع على المقطوع3....
__________
1 يجوز في بعضها المقطوع أن يكون منه ما ينقطع إلى الرفع، ومنه ما ينقطع إلى النصب، طبقًا للبيان الآتي في رقم.5 ص490.ـ
2 أو أكثر.
3 وفي النعوت المتعددة التي تتلو منعوتًا يفتقر إلى ذكرهن في تعيين مسماه فيجب إتباعها له، يقول ابن مالك:
وَإِنْ نُعوتٌ كَتُرَتُ وقَدْ تَلَتْ ... مفْتَقِرًا لِذِكْرِهِنَّ أُتْبِعتْ
أي: إن كثرت وتعددت النعوت التي تجيء بعد سنوات -غير معين، لأنه غير معرفة- محتاج إليهن في تعيين مسماه، أتبعت له، أي: وجب إتباعها في نوع حركته الإعرابية.
ثم قال:
واقْطَعُ أَو اتْبعْ إِنْ يَكُنْ مَعَيَّنًا ... بدونها – أَوْ بعْضِهَا، لقْطَعْ مُعْلِنًا
أي: إن كان المنعوت معينًا بدونها كلها فاقطع أو اتبع النعوت كلها. وكذلك إن كان معينًا ببعضها فقط أو اقطع هذا الجزء فقط، وأتبع ما عداه.
ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان حركة النعت المقطوع وعامله فقال:
وارْفَعْ أَوِ انْصِبْ إِنْ قَطعْت، مضْمِرًا ... مُبتَدأ أَوْ ناصِبًا لَنْ يظْهرا
يعني أن المقطوع برفع أو ينصب؛ فالرفع، على إضمار مبتدأ، خبره المقطوع. والأكثر أن يكون هذا المبتدأ المحذوف ضميرًا، والنصب عل تقدير عامل محذوف ينصبه "كالفعل مثلًا" والنعت المقطوع يُعرب مفعولًا به لهذا العامل. والعامل في الحالتين "مبتدأ كان أو فِعلًا" لن يظهر، لأنه محذوف وجوبًا، واقتصر على هذا من غير أن يذكر التفصيل الذي سردناه.(3/489)
4- إذا لم يتعدد النعت وكان المنعوت معَرفًا بأننه جاز في النعت الإتباع والقطع. نحو: أنت الشريك الوديع، برفع كلمة: "الوديع"، إتباعًا أو نصبها على القطع.-والمنعوت هنا متعين؛ بسبب الخطاب-.
ولا يجوز القطع إن كان النعت للتوكيد2, أو: كان من الألفاظ التي أكثرت العرب من استعمالها نعتًا بعد كلمات معينة2، ... أو كان نعتًا لاسم إشارة؛ نحو: أهلكَ الله بعض الأمم بالرجفة الواحدة -جاء القوم الجَمَّاءَ الغفيرَ3- امتدحت هذا الوفيَّ.
ومن الأمثلة لهذه الثلاثة أيضًا: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} 4 -يسرني رؤية الشَعْرَى العَبُورِ5- ما أكبر تقديرنا لهذا النابغِ.
5- قلنا6 إن النعت المقطوع لا بد أن يخالف في حركته المنعوت السابق؛ فإن كان المنعوت مرفوعًا وأردنا قطع النعت لداع بلاغي قطعناه إلى النصب
__________
1 وقد شرحنا في رقم 6 من ص439 -؛لأنت القطع ينافي التوكيد.
2 المراد: أن هناك كلمات يشيع استمعالها نعتًا لمنعوتات خاصة معينة في الغالب؛ ككلمتي "العَبُور" و"الغَفير" في الأساليب الفصيحة الشائعة؛ حيث يقول العرب: "جاء" القوم الجَمَّاءَ الغَفِيرَ، وسرتني الشَعْرَى العَبُورْ" فقد وقعت الكلمتان -وما أكتر وقوعهما نعتين لمنعوتين معينين، قل أن يستعملا نعتًا لغيرهما. فليس المراد أن تلك المنعوتات لا تستعمل إلا منعوتة، ولا أن نعتها لا يكون إلا من بين تلك الكلمات، وإنما المراد أن تلك الألفاظ إذا وقع بعدها وصف أو ما يشبهه فهو نعت لها، لا أنها يلزم لها النعت دائمًا.
3 الجماء، مؤنث الأجيم، بمعنى الكثير. الغفير: الذي يستر الأرض ويغطي وجهما بكثرته. وهذا تعبير قديم سبق أن شرحناه. وتناولنا نواحي التأنيث والتذكير والإعراب وغيره في ج2 ص278 م84 "باب الحال".
4 النعت هنا للتوكيد؛ لأنه يدل على التثنية، وهي مفهومة من المنعوت، فهو يؤكدها.
5 لأن العرب تكاد تقتصر في استعمال "العبور" نعتًا الحالة التي يكون المنعوت فيها هو كلمة: الشعرى.
6 ص486 و488 وفيهما الشروط والتفاصيل لذلك.(3/490)
مفعولًا به لفعل محذوف، تقديه: أمدح أو أذم، أو ... على حسب السياق، وان كان المنعوت منصوبًا وأردنا قطع النعت قطعناه إلى الرفع على اعتباره خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره -مثلًا-: هو. ولا يجوز القطع إلى الجر مطلقًا فيهما. وإذا. كان المنعوت مجرورًا واقتضى المقام القطع قطعناه إلى الرفع أو النصب على الإعرابيين السابقين. ولا بد في جميع حالات القطع آن يكون المنعوت متَعيِّنًا.-كما قلنا-.
وإذا تعددت النعوت، وكان المنعوت المتعيِّن مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا جاز فينما عند قطعها أن يكون بعضها منقطعًا إلى الرفع، وبعض آخر إلى النصب، إذ ليس من اللازم أن تنقطع النعوت كلها إلى الرفع فقط، أو إلى النصب فقط: وإنما اللازم ألا تنقطع إلى الجر، وألا يتفق نوع حركتها مع نوع حركة المنعوت1 السابق، نحو: ما أسفت لشيء، قدر أسفي للزميل المتعلمِ، المتكاسلِ، الخاملِ، المستهين ... فيجوز في هذه النعوت قطعها إما إلى الرفع فقط، وإما إلى النصب فقط وإما توزيعها بين هذا وذاك.
وإذا كان النعت المقطوع مرفوعًا لأنه خبر مبتدأ، أو منصوبًا لأنه مفعول به لفعل محذوف فإن هذا المحذوف واجب الحذف لا يصح ذكره بشرط أن يكون النعت في أصله لإفادة المدح، أو: الذم، أو: الترحم، فان كان في أصلا لغرض آخر جاز حذف العامل وذكره2. وقد سردنا أول الباب3 الأغراض المختلفة التي يؤديها النعت.
6- مما تجب ملاحظته أن جملة النعت المقطوع "وهي: الجملة المكونة من المبتدأ المحذوف وخبره الذي كان في أصله نعتًا، أو من الفعل المحذوف وفاعله" جملة مستقلة مستأنفة. وقد تسبقها "الواو" أحيانًا، وهذه "الواو" زائدة للاعتراض قبل النعت المقطوع، سواء أكان مقطوعًا إلى الرفع، أم إلى النصب.
__________
1 لأن تغير الضبط وما يؤدي إليه من تغيير الإعراب هو الدال على القطع -كما عرفنا- فيمتنع اللبس بين الغرض السابق، والغرض البلاغي الجديد والبيان في هامش ص486 وما بعدها.
2 كما أشرنا لكل ما ذكر في رقم 3 من هامش ص486 وعرضنا هناك الأمثلة الموضحة.
3 ص438.(3/491)
ويرى بعض النحاة أن هذه الجملة المشتملة على النعت المقطوع ليست مستقلة ولا مستأنفة، وإنما هي "حال" إذا وقعت بعد معرفة محضة، و"نَعْت" إذا وقعت بعد نكرة محضة، وتصلح للأمرين إذا وقعت بعد نكرة مختصة، فشأنها كغيرها من الجمل التي تعرب "حالًا" بعد المعارف المحضة، و"نعتًا" بعد النكرات المحضة، وتصلح للأمرين بعد النكرة المختصة. والرأي الأول1 أقْوَم وأحْسنُ.
7- سبب القطع بلاغي محض -كما قلنا2- هو التشويق، وتوجيه الأذهان بدفع قويّ إلى النعت المقطوع؛ لأهمية فيه تستدعي مزيدًا من الانتباه إليه، وتقلق الفكر به، وانه حقيقي بالتنويه وإبراز مكانته. وجعلوا الأمارة على هذا كله إضمار العامل، وتكوين جملة جديدة، الغرض منها: إنشاء المدح أو الذم أو الترحم، ... أو ... فهي جملة إنشائية من نوع الجمل الإنشائية غير الطلبية3.
وإذا كان سبب القطع بلاغيًا -ولا بدّ من قيام هذا السبب- فمن البلاغة أيضًا ألا نلجأ إلى استخدام القطع مع من يجهله! فيحكم بالخطأ على الضبط الحادث بسببه.
حذف النعت أو المنعوت، أو هما معًا:
أ- قد يحذف النعت أحيانًا حذفًا قياسيًا إذ كان معلومًا بقرينة تدل عليه بعد حذفه؛ كقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، والأصل: "كل سفينة صالحة"؛ بقرينة قوله: "أن أعيبها؛ فهي تدل على أنها قبل هذا خالية من العيب، أي: صالحة للانتفاع بها، وبقرينة أخرى؛ هي: أن الملك الغاصب لا يغتصب ما لا نفع فيه.
__________
1 لأن هذه الجملة الجديدة إنشائية للمدح أو الذم أو غيرهما. -كما سيجيء بعد هذا مباشرة- والجملة الإنشائية لا تكون نعتًا –إلا مع التأويل الذي سبق في هامش ص474– ولا تكون حالًا.
2 تقدم البيان في رقم 3 من هاش ص487.
3 وقد سبقت الإشارة لهذا في ج1 ص464 م39.(3/492)
ومثل قول الشاعر أخذَ نصيبه من غنائم الحرب فلم يرض به:
وقد كنتُ في الحروبِ ذا تُدْرَإِ1 ... فلمْ أعْطَ شيئًا ولم أُمْنَعِ
والتقدير: فلم أعطَ شيئًا نافعًا؛ بدليل قوله: ولم أمْنع، وبدليل الأمر التاريخيّ المعروف، وهو أنه أخذ –فِعْلًا- نصيبًا، وبكنه لم يقنع به.
ومثل قول الشاعر يصف فتاة بالجمال:
وربُّ أَسيلةِ2 الخدَّيْنِ بِكْرٍ ... مهَفْهفة3، لها فرعٌ، وجيدُ
المراد: لها فرع فاحم4، وجيد طويل، والقرينة: أن مدح الفتاة بالجمال لا يكون بأمر عامّ يشاركها في مثله آلاف من نظيراتها، فليس من المدح وصفها بمجرد فرع لها، وجيد، فهذان أمران ملازمان كل فتاة، وإنما يكون المدح بأوصاف وبمزايا خاصة تتحقق في كل منهما؛ كشدة سواد الشعر، أو نعومته، أو طوله....، أو.... وكطول الجيد باعتدال، أو استدارته، وعدم غلظه كذلك5....
ب- حذف المنعوت6:
يجب حذف المنعوت في كل موضع اشتهر فيه النعت اشتهارًا يغنى عن المنعوت غَناءً تامًّا؛ بحيث لا يتجه الذهن إليه؛ نحو: جاء الفارس. والأصل: جاء الرجل الفارس؛ أي: راكب الفرس. ومثل: جاء الصاحب، أي: الرجل الصاحب؟ فلا يدور فيهما وفي أشباههما أن يقال: جاء الرجل الفارس، ولا جاء الرجل الصاحب، والنعت في الحالة السابقة لا يسمَّى نعتًا، وإنما يحل محل المحذوف في إعرابه فاعلًا، أو غيرهما ... مما كان علية المحذوف قبل حذفه.
__________
1 قوة، وعدة حربية.
2 مصقولة ناعمة ...
3 رشيقة، ضامرة البطن، دقيقة الخصر.
4 أي: شديد السواد، كلون الفحم.
5 ومن أمثلة حذف النعت قوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". أي: لا صلاة كلمة وقول بعض العرب عن عمر: "كان والله رجلًا ... " يريد: رجلًا عظيمًا.... وعن علي: "سمعته يخطب فكان الخطيب...." يريد: الخطيب البارع ... أو ما شاكل هذا.
6 أشرنا في ص473 إلى حذف المنعوت، وقلنا إن بسط الكلام عليه هنا.(3/493)
ويجوز حذفة أيضًا –كما أوضحنا1– إن كان مصدرًا مبَيِّنًا نابت عنه صفته؛ نحو: جلست أحسنَ الجلوس، وأصغيت أيّ2 إصغاء؛ بمعنى: جلست جلوسًا أحسن الجلوس، وأصغيت إصغاء أيّ إصغاء، والأكثر أن تضاف هذه الصفة لمصدر كالمصدر المنعوت بالمحذوف.
ويجوز بكثرة حذف المنعوت -"سواء أكان النعت مفردًا،أم جملة،أم شبه جملة"– بشرط أن يصلح النعت لأن يحل محل المنعوت المحذوف؛ فيعرب إعرابه. فلا يصح حذف المنعوت إن كان فاعلًا، أو مفعولًا، أو مجرورًا، أو مبتدأ وكان النعت جملة أو شبهها؛ لأن الجملة وشبهها لا تقع شيئًا مما سبق، فلو حذف المنعوت وهو أحد الأشياء السالفة لم يوجد في الكلام ما يصلح أن يحل محله في إعرابه، ولهذا لا يصح حذفه إذا كان الأمر على ما وصفناه3.
أمَّا إن كان المنعوت واحدًا مما سبق والنعت مفردًا، فيجوز حذف المنعوت، لوجود ما يصلح أن يحل محله في إعرابه، وهو: المفرد. ويشترط لحذفه أيضا أن يكون معلومًا. ومن وسائل العلم به اختصاص معنى النعت به وقصره عليه، مثل: أعجِبتُ براكب صاهلًا، أي: براكب فرسًا صاهلًا؛ لأن الصهيل مختص –في اللغة- بالخيل. وبسبب هذا الاختصاص الصريح يكون الخذف واجبًا عند بعض النحاة لا جائزًا، ورأيهم سديد.
ومن وسائل العلم به أيضًا أن يتقدم على النعت ما يدل على المنعوت المحذوف
__________
1 في ص "110 و111 حيث البيان والتفصيل المفيد" و468.
2 هذا التعبير صحيح حيث وقعت فيه أيّ" نعتًا مضافًا لمصدر. فيجوز حذف المنعوت. وقد سبق الكلام عليه وعلى ما يصح للنيابة عند حذف المصدر المؤكد والمبين "وهو مسجل في موضعه من الجزء الثاني ص173 م75 عند الكلام على حذف المصدر المصريح. وفي ج1 ص262 م26 باب الموصول، عند الكلام على: "أي" أما إن كان المضاف إليه غير مصدر فقد سبق حكمه في ص111 وما بعدها.
3 يعبرون عن هذا: بأن النعت يكون صالحًا لمباشرة العمل، فيكون مفردًا إن كان المنعوت فاعلًا، أو مفعولًا به، مثلًا....، وجملة مشتملة على الرابط إن كان المنعوت خبرًا.(3/494)
الذي يحقق المعنى المراد؛ نحو: ألاَ ماءَ، ألا باردًا1؟
أو: وجود عامل نحوي يحتاج إلى المنعوت ليكون معموله الذي يَتمّ به المعنى الأنسب، حيث لا يستطيع العمل المباشر في النعت، ولا يجد النعت عاملًا آخر؛ كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، والتقدير: فليضْحكوا ضحكًا قليلًا، وليبكوا بكاءً كثيرًا.... فالفعلان في جملتي: "يضحكوا - يبكوا" محتاجان لمعمولين يتممان هذا المعنى الأنسب، ولا يستطيع منهما أن يؤثر في النعت الذي بعده مباشرة إلا من طريق منعوت محذوف يستقيم به المعنى. ولا يجد كل من النعتين "قليلًا - وكثيرًا" عاملًا له إلا الفعل اللازم قبله، ولكن اتصاله به مباشرة غير سائغ لغويًا؛ فلم يكن بد من تقدير المنعوت المحذوف على الوجه السالف ...
وأيضًا: يحذف جوازًا إن كان النعت جملة أو شبهها وكان المنعوت مرفوعًا وبعضًا من اسم متقدم عليه، وهذا الاسم المتقدم مجرور "بمن" أو "في" نحو: الأحرار الوطنيون لا ينكر فضلهم أحدٌ؛ فمنهم أنفق ماله في سبيل وطنه، ومنهم أفَنى عمره مناضلًا في الحِفَاظ على حريته، ومنهم قضى نَحْبه دفاعًا عنه. والأصل؛ فمنهم فريق أنفَق ... ومنهم فريق أفْنَى عمره ... ومنهم فريق قضى نحبه ... ومثل قولهم: لما مات عُمَرُ بنُ عبدِ العزيز لم يكن في الناس إلا بَكى أو صرخَ، أو صُرعَ، أو إنسانٌ انعقد لسانه، أو إنسان زاغ بصره ...
فالمنعوت في الأمثلة السابقة كلها مخذوف، وهو مرفوع، وبعض من كل مجرور بالحرف "مِنْ" أ: "في"؛ ذلك لأن الضمير: "هم" المجرور بِمِنْ
__________
1 من هذا النوع قوله تعالى في نبيه داود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعًا واسعات طويلات تصل إلى الأرض. فالسابغات في أصلها ليست نعتًا مختصًا بشيء معين دون غيره، وإنما تصلح لوصف كل واسع طويل. غير أن تقدم كلمة: "الحديد" قبلها جعل المراد منها في هذا السياق مختصًا بموصوف معين هو: الدروع.(3/495)
في الأمثلة الأولى "كُلّ" والمنعوت "فريق" بعض منه، والناس المجرور "بفي" في الأمثلة الأخيرة "كل" والمنعوت المحذوف "إنسان" بعض منه1 ...
ج- حذف النعت والمنعوت معًا:
قد يحذفان معًا –وهذا قليل2– إذا قامت القرينة الدالة عليهما؛ كقوله تعالى: في الأشْقَى الذي يدخل النار: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} ، أي: لا يحيا حياة نافعة3. وكقولك للمتعلم الذي لا يَنتفع بعلمه: هذا غير متعلم، أي: غير متعلم تعلمًا مثمرًا.
الترتيب بين النعوت المتعددة:
إن كانت النعوت المتعددة مفردة جاز تقديم بعضها على بعض من غير ترتيب محتوم، فالأمر فيها للمتكلم؛ يقدم ما يشاء ويؤخر، على حسب ما يرى من أهميته. وكذلك إن كان جُمَلًا، أو أشباه جُمَل؛ نحو: "راقني الورد النَّضرُ، العطِرُ، الهبيُّ" –أقبل رجل "وجهُهُ متهللٌ" "ثغرهُ باسمٌ"– أبصرت رجلًا في سيارةٍ، على أريكة.
أما إذا اختلفت أنواعها تقديم المفرد على شبه الجملة، وشبه الجملة على الجملة؛ نحو: هذا عصفور حزين، على شجرة، يشكو ما أصابه ... وقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في 473 وفي حذف النعت والمنعوت يقول ابن مالك مصرحًا بقلة حذف النعت:
وما:مِن المنعُوتِ والنَّعْتِ – عُقِلْ ... يَجُوزُ حذْْفُهُ، وفي النَّعت يقِلْ
يريد: ما عقل "أي: عَلم بدليل"، من النعت أو المنعوت يجوز حذفه. وليست درجة حذفهما متساوية في الكثرة، فإن حذف المنعوت أكثر من حذف النعت.
2 وهذه القلة نسبية، لا تمنع من القياس عليها.
3 لأنه لا واسطة بين الحياة والموت. ويصح أن يكون المراد: لا يموت فيها موتًا دائمًا، ولا يحيا حياة نافعة.(3/496)
وقد تتقدّم الجملة أيضًا على غيرها كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 1 وهذا النوع من التقدم فصيح يجوز القياس عليه؛ لوروده في أبلغ الكلام –وهو القرآن– ولكن الأول أكثر.
عطف النعوت المختلفة المعاني بعضها على بعض:
يجوز عطف النعوت بعضها على بعض مع ملاحظة ما يأتي:
1- أن تكون النعوت المتعددة مختلفة المعاني وليست جُملًا2؛ فلا يصح العطف في مثل: هذا رجل غنيّ ثريّ؛ لأن الثريّ بمعنى الغنيّ، ولو عطف عليه لَعُطِفَ الشيء على آخَر بمعناه، والعطف يقتضي المغايرة المعنوية، غالبًا3. ولا فرق في منع العطف في النعوت المتفقة المعاني بين أن تكون كلها تابعة في إعرابها للمنعوت، وأن تكون مقطوعة، وأن يكون بعضها تابعًا وبعضها مقطوعًا.
أما إذا كانت النعوت المتعددة جُملًا2 فالأفضل عطفها؛ ولاي يشترط اتفاقها في المعنى أو اختلافها؛ نحو: احترمُ رجلًا يترفع عن الصغائر، ويتوقى مواطن السوء، ويُجَنِّب نفسه الهوان.
2- ألاّ يكون حرف العطف هو: "أم"، أو: "حتى"، إذ لا تُعْطف النعوت بواحد منها4.
3- وإذا كانت النعوت مختلفة المعاني والمنعوت مُثنى أو جمعًا، وجب –في الأكثر– العطف بحرف الواو دون غيره –كما سبق2- نحو: تحدث الفائزان؛
__________
1 وقول الشاعر في ظالم:
بغَى وللبغى سهامٌ تُنْتظرْ ... أَنْفَذُ في الأكباد من وخْز الإبَرْ
"2، 2" أما شبه الجملة ففي حكم المفرد إذا كان متعلقة مفردًا.
3 إلا إذا كان العطف للتفسير الذي يراد به إيضاح الغامض، أو المجهول، كما قد يحصل –أحيانًا– ولا غامض ولا مجهول هنا.
ويحسن العطف عند تباعد المعاني المختلفة كقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ} بخلافها إذا تقاربت؛ كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ} .
4 سبقت الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص481.
5 في ص482.(3/497)
العالم والمخترع احترمت المتعلمات، النائرة، والشاعرة، والخطيبة، والماهرة في عملها، والمتفننة في نظامها. فإن كان المنعوت واحدًا لم تجب "الواو" وصح أن يجيء الحرف المناسب أو لا يجيء.
وحرف العطف الذي يستخدم هنا يؤدّي –مع العطف– معنى من المعاني التي اختص بتأديتها على الوجه المشروح في باب: "العطف" من أن الواو تفيد كذا، والفاء كذا، وثم ... و ...
وعندما يتم عطف النعوت تصير "معطوفات"، يَجري عليها اسم "المعطوف" وأحكامه الآتية في بابه، وتتخلى عن اسم: "النعت" وأحكامه الخاصة به1.
تقدم النعت على المنعوت:
لا يجوز تقدم النعت على المنعوت مع بقاء إعاربه نعتًا كما كان قبل التقدم4. فإذا تقدم زال عن كل منهما اسمه؛ فإن كانا معرفتين، وكان النعت صالحًا لمباشرة العامل وجب عنْد تقدمه إعرابه على حسب حاجة الجملة، ويصير –في الغالب: "مُبدَلًا منه"، ويعرب المنعوت بدلًا. ففي مثل: "استعنت بمحمد الماهر في تذليل العقبات؛ فأعانني، وشاركه في هذا عليّ الصديق" نجد كلمتي: "الماهر" و"الصديق" نعتين، وهما متأخرتان، فإذا تقدمنا وقلنا: بالماهر محمد، والصديق عليّ صارتا بدّلين، وصار المنعوتان السابقان مُبدَلًا منهما.
فإذا كانا نكرتين فالغالب –إن لم يوجد مانع آخر– نصب النعت على الحال عند تقدمه، ويزول عنه اسم النعت؛ كما يزول عن المنعوت اسمه، ويصير
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص481.
2 بل لا يجوز –في الصحيح– تقدم النعت معمول المنعوت إذا كان المنعوت وصفًا عاملًا؛ نحو: ظهر بيننا مبتكرٌ نظريةً علميةً عبقريٍّ. "راجع حاشية ياسين في باب الحال عند الكلام على صاحبها".(3/498)
اسمه الجديد: "صاحب الحال"؛ ففي مثل: "أينع زهرٌ رائعٌ. وفاح عطرٌ جميل ... " نقول: أينع رائعًا زهر، وفاح جميلًا عِطرٌ1 ...
__________
1 سبقت الإشارة "في ج2 م85 –هامش ص374- باب: "الحال" إلى أن نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالًا –في الغالب- أي: ما لم يمنع مانع؛ ذلك أن المنعوت النكرة قد يكون –أحيانًا– كالمنعوت المعرفة في إعراب نعته المتقدم بحسب العوامل مع إعراب المنعوت بدلًا أو عطف بيان؛ نحو: مررت بصارخٍ طفلٍ، واستمعت إلى خطيبٍ غلام ... والأصل قبل تقديم النعت: مررت بطفل صارخ، واستمعت إلى غلام خطيب فنعت النكرة المتقدم عليها إنما يعرب حالًا في الغالب وليس بالواجب المطرد في جميع الاستعمالات –على الأصح– وبهذا تخرج بعض الصور الممنوعة؛ كالتي ذكرناها. وكالتي في قولنا: جاء رجلٌ أحمرُ، ونحوه مما ليس مستقلًا؛ لأنه من الصفات الثابتة.... –راجع الصبان آخر باب النعت-.(3/499)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
متفرقات:
أ- قد يقتضي المعنى أن يقع قبل النعت المفرد: "لا" النافية، أو: "إمَّا". وعندئذ يجب تكرار هذين الحرفين، مع اقترانهما بالواو العاطفة التي تعطف ما بعدهما على النعت الذي قبلهما؛ نحو: زاملت أخًا لا غادرًا، ولا خائنًا ... - تخيَّرْ مضيفًا؛ إما ساحليًّا، وإما جبليًّا1 ...
ب- يجوز نعت النعت عند سيبويه، ويمنعه آخرون. الحق أن النعت قد يحتاج إلى نعت أحيانًا، مثل: هذا ورقٌ أبيضُ ناصعٌ. "أي: شديد البياض"، فالورق يشتمل مدلوله على جسم ولون مطلق، والنصاعة إنما هي تحديد للونه ... ونحو: هذا وجه مُشرقٌ أيّ إشراق!! ناضرة وجنتاهُ كاملة النَّضرة.
بل إن من النعت ما لا يسمى نعتًا إلا إذا كان موصوفًا؛ وهذا هو: النعت "المُوَطِّىْ" –وقد سبق الكلام عليه2– ومن أمثلته الواردة: ألا ماءً ماءً باردًا.
ج- إذا وقع النعت بعد المركب الإضافي "نحو: أقبل رسول الصديق العالم هذا نجم الدين المضيء ... "، فأين المنعوت؟ أو المضاف إليه، أم المضاف؟
سبقت الإجابة مفصلة في مكانها الأنسب. "وهو "ج" ص167 من باب: "الإضافة".
د- سبق الكلام3 على احكام جليلة خاصة بالتوابع، ومنها: حكم الفصل بين التوابع ومتبوعاتها، كالفصل بين النعت والمنعوت.
__________
1 سبق تفصيل الكلام على مواضع تكرار: "لا" في بابها الخاص، آخر الجزء الأول.
2 ص456 رقم 3.
3 في هامش ص435.(3/500)
المسألة 116:
ب- التوكيد 1:
التوكيد قسمان: معنوي ولفظي2:
القسم الأول؛ المعني3:
إذا سمعنا من يقول: "وصل أحد العلماء إلى القمر"، خطر بالبال عدة احتمالات؛ منها: أنه وصل إلى قرب القمر، دون الوصول إلى جِرْمه وذاته الحقيقية، أو: أنه وصل إلى مَداره، أو إلى أسراره العلمية والفلكية ... ونتوهم أن المتكلم أراد أن يقول: -مثلًا– وصل أحد العلماء إلى قرب القمر، أو إلى مدار القمر. أو إلى مدار القمر. أو إلى أسرار القمر ... فحذف المضاف سهْوًا، أو خطًا، أو لأن حذفه هنا يؤدي إلى المبالغة أو المجاز4، وكلاهما أبلغ وأقوى في تأدية المعنى من الحقيقة. هذا بعض ما يخطر بالبال عند سماع تلك العبارة ...
فلو أنه قال: وصل أحد العلماء إلى القمر نفسه، لزالت –في الأغلب5– تلك الاحتمالات وغيرها، ولم يبق مجال لتوهم المبالغة، أو المجاز بالحذف، أو السهّو
__________
1 ويسمى أيضًا: التأكيد. والأول أشهر في استعمال النحاة. "كما سيجيء في ص504". وسنعرض هنا للتوكيد "الإصطلاحي" الذي يقتصر عليه النحاة، دون الأنواع الأخرى التي قد تفيد التوكيد؛ "مثل إنّ، والحرف الزائد، وكالقسم وغيره". ولكنها لا تسمى توكيدًا نحويًا اصطلاحيًا.
2 مدلول التوكيد اللفظي، وكذا مدلول التوكيد المعنوي بالنفس والعين، هو ذات المؤكِّد. أي: أن التابع هو عين المتبوع وذاته، وليس أمرًا عرضيًا مما يطرأ على المتبوع. أما التوكيد المعنوي بلفظ: "كل وجميع" فإن المراد منهما هو إفادة الشمول ... و ... "راجع الإشارة الخاصة بها في هامش ص438، بعنوان: "ملاحظة هامة".
3 سيجيء القسم الثاني اللفظي في ص525.
4 مجاز بالحذف، أو مجاز مرسل.
5 قلنا: في "الأغلب" ... لأن الأمر قد يحتاج في إزالة كل الاحتمال إلى تعدد التوكيد المعنوي.(3/501)
أو غيره؛ ولتَركَّزَ الفهم في معنى حقيقي واحد: هو الوصول إلى جِرْم القمر ذاته، بسبب كلمة: "نفس" التي منعت أن يكون هناك لفظ محذوف كالمضاف –مثلًا– تنشأ عن ملاحظته وتخيله احتمالات مختلفة.
كذلك إذا سمعنا من يقول: حفِظتُ ديوان "المتَنبيّ" فقد يخطر على البال سريعًا أنه حَفِظ أكثرَةُ، أو أحسنه، أو حِكَمه ... وأنه لم يقصد الشمول الحقيقي حين قال: "حفِظت ديوان المتَنبيّ"؛ وإنما قصد: حفظت أكثر ديوان المتنَبيّ، أو أحسن ديوان المتنبيّ، أو أحكم ديوان المتنبيّ ... فحذف المضاف سهوًا، أو: خطأ، أولما في حذفه هنا من مبالغة، أو مجاز، وكل منهما في تأدية المعنى أبلَغُ وأقدرُ. فلو أنه قال: "حفظت ديوان المتنبيّ كلَّه" ما ترك –في الأغلب– حول الشمول الكامل مجالًا لشيء من تلك الاحتمالات، ولا لِتَخَيّلِ شيء محذوف؛ حفظ الديوان كاملًا غير منقوص. وقد نشأ هذا التركيز والاقتصار على الفهم على المعنى الواحد من كل: "كلّ".
فكلمة: "نفس" في المثال وما شابهه، وكلمة: "كلّ" في الثاني وما شابهه، -تسمى: "توكيدًا معنويًّا"؛ فهو:
"تابع1 يزيل عن متبوعه ما لا يراد من احتمالات معنوية تتجه إلى ذاته2
__________
1 سبق –في ص434– بيان معنى التابع. وأحكامه العامة، وترتيبه مع نظرائه، وكل ما يتصل به. ومن أهم أحكامه: أنه مثل متبوعه في حركات لإعراب، وجواز الفصل بينه وبين المتبوع على لو المشروح هناك، بشرط ألا يكون المتبوع موصولًا؛ فإنه لا يصح الفصل بتابع بين الموصول وصلته مطلقًا.... "طبقًا لبيان التفصيل في ج1 م27 ص342: الموصول" وأن النعت يجوز قطعه "كما تقدم في بابه ص486" كذا عطف البيان؛ كما سيجيء عند الكلام عليه في بابه ص542 وكذلك عطف الشق في الرأي الصحيح –وسيجيء في ص555– أما التوكيد بنوعيه فلا يجوز القطع فيه مطلقًا؛ حتى كلمة: "كل" حيث تصير نعتًا في بعض حالاتها التي تجيء في ص514 وقد أشار الصبان في "باب البدل" إلى رأي يجيز في التوكيد القطع وهو رأي جدير بالإهمال. وأما البدل فيصبح فيه القطع على الوجه الذي يأتي في بابه "ص677 "هـ".
2 المراد بالذات هنا: حقيقة الشيء الأصلية، وجملته كاملة؛ فتشمل الذات الحسية؛ كالجسم، وباقي المحسوسات، كما تشمل الحقائق المعنوية المحضة؛ كذات العلم، وذات الفهم، وذات الأدب ... –انظر ما يتصل بهذا في رقم 4 من هذا الهامش–.(3/502)
مباشرة، أو إلى إفادته العموم والشمول المناسبين لمدلولة"1 ...
وإن شئت فقل: تابع يدلّ على أن معنى متبوعه حقيقي، لا دخْل للمبالغة فيه، ولا للمجاز، ولا للسَّهو، أو النسيان، ونحوهما ...
فالغرض من التوكيدّ المعنويّ هو إبعاد ذلك الاحتمال وإزالته؛ إما عن ذات المتبوع، وإما عن إفادته التعميم الشامل المناسب1 لمدلوله، فإن لم يوجد الاحتمال لم يكن من البلاغة التوكيد.
ألفاظ التوكيد المعنوي:
ألفاظ الأصلية سبعة، وقد تلحق بها –أحيانًا– ألفاظ فرعية أخرى سنعرفها1. والسبعة الأصلية ثلاث أنواع:
الأول:
نوع يراد منه إزالة الاحتمال عن الذات في صميمها3، وإبعاد الشك المعنوي عنها. وأشهر ألفاظه الأصلية: نفْس4، وعْين4. ومن الأمثلة قول أحد الرَّحالين: " ... رأيت الساحرَ الهنديّ نفسَه –وهو المعروف بألاعيبه وحِيَله– يقبض على الجمرة عينِها بأصابعه العاريَة، ويظل كذلك دقائق كثيرة ... "، فكلمة: "نفس" أزالت –في الأغلب– الشك والمجاز عن ذات الساحر، فلم
__________
"1، 1" المراد من العموم المناسب للمدلول هنا: يشمل إزالة الاحتمال عن التثنية المقصودة حقيقة، لا مجازًا، كما يشمل إزالة الاحتمال عن الجمع المقصود حقيقة، لا مجازًا. "انظر "ب" من ص507".
2 في ص517.
3 أي: في حقيقتها المادية "وهي المحسوسة –غالبًا-" لا في أمر عرضي مما يطرأ عليها.
"4، 4" ليس المقصود هنا من "نفس" الشيء أو: "عين" الشيء مقصورًا على حقيقته المادية المحسوسة "أي: التي تدركها بإحدى الحواس" مثل: العلم –الفهم- الصدق.
ويزيد بعض النحاة توضيح هذا –كما جاء في الخضري عند الكلام على التوكيد بالنفس أو العين- بقوله: "مراد بها جملة الشيء وحقيقته، وإن لم يكن له نفس ولا عين حقيقة. فإن أريد بالنفس: "الدم"، وبالعين: "الجارحة، كسفكت زيدًا نفسه، وفقأت زيدًا عينه، لم يكون توكيدًا؛ فهما في المثال بدل بعض ... " ا. هـ.
انظر ما يتصل بهذا في رقم 2 من هامش الصفحة السابقة.(3/503)
تترك مجالًا لتوهم أن المقصود شيء سواها. وكذلك كلمة: "عين" فإنها أفادت النص على الذات، وأبعدت عنها -في الأغلب– كل احتمال يقوم على تلك المبالغة، أو المجاز، أو إرادة معنى لا يتصل بصميمها مباشرة. وهذا معنى لا يتصل بصميمها مباشرة. وهذا معنى قولهم: إن التوكيد بالنفس أو بالعين يَقْصِر المعنى الحقيقي على الذات وحدها، ويُرَكزه فيها، ويزيل –في الأغلب– كل احتمال عنها آخَر.
وإذا وقعت كلمة: "عين، أو نفس" تابعة على هذا الوجه، سميت اصطلاح النحاة "توكيدًا". أو: "مؤكَّدة" –بكسر الكاف– والأول هو الأشهر، سمي متبوعها: مؤكَّدًا –بفتح الكاف– وهذا هو الشأن في جميع ألفاظ التوكيد.
حكمهما:
إذا كانتا للتوكيد وجب أن يسبقهما المؤكَّد، وأن تكونا مثله في الضبط الإعرابي، وأن تضاف كل واحدة منهما إلى ضمير مذكور –حتمًا– يطابق هذا المؤكًّد في التذكير والإفراد وفروعهما؛ ليربط بين التابع والمتبوع. تقول: صافحت الواليّ نفسه –صافحت الواليينِ أنفسَهما– صافحت الولاة أنفسهم –صافحت الوالية َ عينَها– صافحت الواليتين أعينَهما –صافحت الواليات أعينَهن. وهذا الضمير لا يجوز حذفه ولا تقديره1 ...
فإن لم يتقدم المتبوع، أو لم يوجد الضمير المضاف إليه، المطابق لم يصح إعرابهما توكيدًا، بل يجب إعرابهما شيئًا آخر على حسب الجملة، "مبتدأ، أو خبر، أو بدلًا، أو عطف بيان، أو مفعولًا به، أو غيره2....." ومن أمثله المفعول به:
من عاتبَ الجهال أَتعبَ نفسه ... ومن لام من لا يعرفُ اللومَ أفْسَدا
__________
1 في توكيد الاسم بالنفس أو بالعين مع اشتمالها على ضمير مطابق للمؤكَّد يقول ابن مالك:
مع ضَمِيرٍ طَابقَ المؤكَّدا ... بالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعَيْن الاِسْمُ أُكِّدا
وهذا الضمير لابد من ذكره هنا وفي كل نوع من أنواع التوكيد المعنوي الآتية. ولا يصح حذفه مطلقًا في حالة هذا التوكيد.
2 انظر ما يتصل بحكم "النفس والعين" عند فقد المؤكَّد في ص515.(3/504)
ومما يلاحظ أن المطابقة، حين يكونُ المؤكَّد بهما جمعًا تقتضي أن يُجمعا جمع تكسير للقلة على وزن: "أفْعُل"، فقط، ومنع أكثر النجاة الجموع الأخرى التي للقلة والكثرة، فلا يصح: جاء الولاة نفوسهم، ولا عيونهم ... وبناء على هذا الرأي لابد أن تكون صيغتهما على وزن "أَفْعُل" مع إضافتهما لضمير الجمع1.
أما إذا كان المؤكَّد مثنى فالأفصح جمعهما على وزن القلة السابق وهو: "أفْعُل" فيقال أنفسُهما، أعيُنهما. لكن يصح إفرادهما وتثنيهما؛ فيقال: نفسُهما، عينُهما، أو: نفساهما، عيناهما2. ومهما كان وزن الصيغة في التثنية فلابد من إضافتهما إلى ضمير المثنى؛ ليطابق المؤكَّد3 ...
__________
1 وفريق من النجاة يجيز في كلمة: "عين" المستعملة في التوكيد جمعها للقلة على "أعيان" لكن الكثير الفصيح هو وزن: "أُفعُل" ويحسن الاقتصار عليه؛ متابعة المطرد في كلام العرب.
2 يفهم مما سبق صحة الإفراد، والتثنية، والجمع، في كلمتي: "النفس والعين" إذا وقعت إحداهما توكيدًا للشيء ولابد من إضافتهما لضمير....
وبهذه المناسبة نذكر ضابطًا لغويًا مفيدًا " سبق تسجيله في جـ1 م9 بهامش ص110 " مضمونه: أن كل شيء في المعنى، مضاف إلى مُتَضَمِّنه "بكسر الميم الثانية المشددة، وصيغة اسم الفاعل، أي: إلى ما اشتمل على المضاف " يجوز فيه الإفراد، والتثنية، والجمع؛ نحو: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: من الآية4] . ونقول: تصدقت برأس الكثبين –أو: رأس الكبثين– أو رءوسهما. وإنما فضل الجمع على التثنية لأن المتضايفين كالشيء الواحد؛ فكرهوا الجمع بين تثنيتهما، ولأن المثنى جمع في المعنى. وفضل الجمع على الإفراد لأن المثنى جمع في المعنى، والإفراد ليس كذلك، فهو أقل منه دلالة على المثنى.
هذا ما نقله بعض النحاة -كالصبان، ج3 والخضري ج3، في أول باب التوكيد منهما وينطبق ما تقدم على: "النفس والعين" المستعملتين في التوكيد؛ خضوعًا للسماع الوارد فيهما، لا تطبيقًا للضابط السالف؛ فقد قال الصبان في الموضع المشار إليه: إن إضافتهما ليست لمضمنَّها، بل إلى ما هو بمعناهما؛ لأن المراد منهما "الذات". وفي ص145 م11 من الجزء الأول أيضًا ضابط آخر لشارح المفصل فيه بعض المخالفة لما هنا.
3 وفي هذا يقول ابن مالك:
واجْمعْهُما "بِأَفْعُل" إِنْ تَبِعا ... ما لَيْس واحِدًا تَكُنْ مُتَّبِعًا
أي: إن كانا تابعين "مؤكَّدين" لغير والواحد؛ وهو المثنى والجمع فجيء بهما مجموعين على صيغة: "أفعل" لتكون متبعًا للنهج الصحيح.(3/505)
هذا، ويصح التوكيد بالنفس والعين معًا، ولكن بغير حرف عطف1، ويجري عليهما مجتمعَينِ من حكم الإضافة للضمير المطابق، وتقدم المتبوع، ومسايرته في الضبط الإعرابي، وباقي أحكام التابع ما يجري على إحدهما منفردة؛ نحو: قابلت الواليَ نفسَه، قبض الساحر على الجمرة نفسِها عينِها. ويجب –في الرأي الأقوى– عند اجتماعهما تقديم النفس على العين2 ...
__________
1 لا يصح وجود حرف عطف قبل التوكيد المعنوي. لأن وجوده يستلزم معنى غير المقصود من التوكيد، ويزيل عما بعده اسم التوكيد. "كما سيجيء في رقم 3 من ص520".
2 وقيل إن تقديم النفس على العين ليس بلازم ولكنه حسن.(3/506)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- تنفرد كلمتا: "نفس" و"عين" دون بقية ألفاظ التوكيد المعنوي1، بجواز جرهما بالباء الزائدة؛ تقول "ذهب الوالي نفسُه، أو بنفسه، لمحاربة الخوارج" -"أبصرت الواليَ نفسَه، أو بنفسه، وهو في الميدان" ... فكلمة؛ "نفس" توكيد وجرور بالباء الزائدة في محل رفع، أو نصب، أو جر، على حسب حالة المتبوع. ويصح في الأمثلة السالفة وضع كلمة: "عين" مكان: "نفس" فلا يتغير الحكم، وتعرف مع حرف الجر مثلها؛ توكيدًا مجرورًا في المحل تابع المؤكًّد "أي: للمتبوع"2.
ب– إذا كان المتبوع " المؤكَّد " كنية لوحظ في معنى التوكيد وإعرابه ما سبقت الإشارة إليه "في: "أ" من ص444" سواء أكان بلفظ: "نفس، أو عين أو غيرهما، مما يصلح من ألفاظ التوكيد المعنوي".
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في ج2 م90 ص456، باب: "حروف الجر" وسيجيء "في ص521" عند الكلام على ألفاظ الشمول دخول هذه الباء على "أجمع" ولكنها هناك الباء الزائدة وجوبًا، اللازمة؛ كالداخلة على "أَفْعِل" في التعجب من جهة وجوب زيادتها، وعدم مفارقتها. أما "الباء" الزائدة هنا فدخولها جائز، وبقاؤها غير لازم.
وفي ص512 بعض أحكام عامة تنطبق على النفس والعين.
2 سبقت الإشارة لهذا عند الكلام على زيادة "الباء" الجارة "جـ2 ص458 م90 باب حروف الجر". كما سبق بيان بعض المراجع لهذا، ومنها: "المعنى" "- جـ1 عند الكلام على "أبناء" المفردة" و"الصبان" عند الكلام عليها في باب "حروف الجر".(3/507)
الثاني:
نوع يراد به إزالة الاحتمال والمجاز عن التثنية، وإثبات أنها هي –وحدها– المقصودة حقيقة. وله لفظان: "كِلاَ" للمثنى المؤنث، نحو: أفاد الخبيران كلاهما، ونفعتْ الخبيرتان كلتاهما. فلو لم تُذْكَر "كلا" و"كلتا" لكان من المحتمل اعتبار التثنية غير حقيقية، وأن المقصود بالخبيرين أحدهما، وبالخبيرتين إحداهما ... فمجيء "كِلاَ" بعد المثنى المذكر، و"كلتا" بعد المثنى المؤنث يكاد يقطع في أصالة التثنية بفهم لا شك فيه ولا احتمال، ويدل –في الأغلب– على أن المراد هو الدلالة على التثنية الحقيقية التي تنصَبّ على اثنين معًا، أو اثنين معًا1.
حكمهما:
لابد عند استعمالها في التوكيد أن يسبقهما "المؤكَّد"، وأن يكون ضبطهما كضبطه، وان تُضاف كل واحدة منهما على ضمير مذكور يطابقه في التثنية ليربط بينهما –كما في الأمثلة السالفة- وهذا الضمير لا يصح حذفه ولا تقديره. فإذا تحققت الشروط، وصارتا للتوكيد وجب إعرابها إعراب المثنى2، فيرفعان بالألف، ويُنصبان ويجران بالياء المفتوح ما قبلها المكسور ما بعدها؛ نحو: أفادني الوالدان كلاهما، أحببت الوالدَينِ كليهما، دعوت الله للوالدَينِ كليهما. نفعتني الجَدَّتان كلتاهما، أطعت الجَدَّتينِ كلتيهما، استمعت إلى نصح الجَدتينِ كلتيهما.
ولما كان الغرض من التوكيد بكلا وكلتا هو ما سلف، كان من المستقبح بلاغة3 أن يقال: تخاصم الرجلان كلاهما، والمرأتان كلتاهما، حيث لا مجال
__________
1 ولا فرق بين أن تكون التثنية على سبيل التفريق –وهذه لا تسمى تثنية اصطلاحًا– أو غير سبيله؛ نحو: فاز الأول والثاني كلاهما، وفازت الأولى والثانية كلتاهما وفاز السابقان كلاهما وفازت السابقتان كلتاهما.
2 هما من الألفاظ الملازمة للإضافة، الملحقة في إعرابها بالمثنى. وقد سبق تفصيل شامل في إعرابهما. ومن المفيد الرجوع عليه"في ص98 وما بعدها، وفي الجزء الأول ص97 م9 عند الكلام على المثنى وملحقاته".
من ذلك التفصيل تتبين أمور هامة؛ في مقدمتها: انه لا يصح إعرابهما توكيدًا إلا بعد تحقق الشروط الخاصة بها. لكن لا يلزم من تحقق الشروط إعرابهما توكيدًا؛ فقد يعربان توكيدًا أو لا يعربان على حسب ما تقضي به الدواعي الخزي.
3 يقال بعض النحاة فلا يجيزه مطلقًا.(3/508)
لاحتمال التخاصم من أحدهما دون الآخر؛ لأن التخاصم لا يتحقق معناه إلا بوقوعه من اثنين حتمًا؛ فلا فائدة من صيغة التوكيد هنا، ومثله: تَقَاتل اللصان، وتحارَب العدوانِ، وأشباه هذا من كل يخْلو من الاحتمال، ويدل على "المفاعلة" الحقيقية، أي: المشاركة الحتميَّة بين شيئين ...
الثالث:
نوع يراد منه إفادة التعميم الحقيقي المناسب لمداولة المقصود، وإزالة الاحتمال عن الشمول الكامل. وأشهر ألفاظه ثلاثة: "كُلِّ، جميع، عامَّة ". وأقواها في التوكيد، وأكثرها أصالة، هو: كُلَّ، ثم جميع، ثم عامة نحو: قرأت ديوان المتنبي كلَّه، واستوعَب قصائدَه كلَّها. فلو لم نأت بكلمة: "كُلِّ" لكان من المحتمل أن المراد من المقروء ومن المستوعَب، هو: الأكثر، أو الأقل، أو النصف، أو غير ذلك؛ إذ ليس في الكلام ما يدل على الإحاطة الكاملة، والشمول الوافي. فمجيء لفظ: "كلّ"1 منع –في الأغلب– الاحتمالات، وأفاد الإحاطة والشمول بغير مبالغة ولا مجاز2 ...
ومثل هذا: غردت العصافير جميعُها لاستقبال الصبح. فلو لم تُذكَر كلمة: "جميع" لكان من المحتمل أن المراد هو تغريد أكثرها، أو بعض منها ... إذ ليس قي الكلام ما يقطع بالدلالة على الإحاطة والشمول، فلما جاءت كلمة: "جميع" أزالت –في الأغلب– الاحتمال، وأفادت العموم القاطع.
ومثلها كلمة: "عامة" "والتاء في أخرها زائدة لازمة لا تفارقها في إفراد، ولا في تذكير. ولا في فروعهما. وهي للمبالغة، وليست للتأنيث"، تقول: حضر الجيش عامَّتُه، حضر الجيشان عامَّتُهما، حضر الجيوش عامَّتُهم، حضرت الفرقة عامَّتُها، حضرت الفرْقتان عامَّتُهما، حضرت الفرَق عامَّتهُن ...
حكمها: لابد في استعمال كل لفظ من هذه الثلاثة في التوكيد أن يسبقه المؤكَّد، وأن
__________
1 "كل" المستعملة في التوكيد قد تفيد الدلالة على "الكل المجموعي" أو: "الكل الجميعي" طبقًا للبيان الآتي في رقم 6 من هامش ص512 وهي في الحالتين تختلف في معناها وحكمها في كلمة: "كل" المستعملة نعتًا. والتي سبق الكلام عليها في رقم 4 ص466.
2 انظر "الملاحظة" التي في ص515 بشأن المراد من "الشمول" وأحواله في الألفاظ الدالة عليه؛ مثل: كل، جميع، عامة ...(3/509)
يكون المؤكِّد مماثلًا له في ضبطه، ومضافًا إلى ضمير مذكور حتمًا، يطابقه في الإفراد والتذكير وفروعهما؛ ليربط بينهما، وان يكون المؤكد، إما جَمْعًا له أفراد1، وإما مفردًا يتجزأ بنفسه، أو يعامله2. فمثال الجمع المؤكَّد: حضر الزملاء كلهم، أو: جميعُهم، أو عامتُهم، كرّمت الزميلات كلَّهن، أو جميعهنّ، أو عامتهنّ، ومنه قول الشاعر:
الجود يُفقر، والإقدامًُ قَتَّالُ ... لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ
ومثال المفرد الذي يتجزأ بنفسه: قرأت الكتاب كلَّه، أو: جميعَه، أو: عامَّتَه. ومثال المفرد الذي يتجزأ بعامله اشتريت الحصان كله، أو: جميعه، أو: عامته.
لما سبق كان من المستقبح أن يقال: جاء الأخ كله –مثلًا– لعدم لفائدة من التوكيد؛ إذ يستحيل نسبة المجيء إلى جزء منه دون آخر3.... ومال أكثر النجاة إلى منع هذا وأمثاله، ولم يكتفوا باستقباحه.
__________
1 ما الحكم في فاعل "نعم وبئس" ونظائرهما إذا كان مقترنًا بالأداة التي تفيده "العموم"، وهي: "أل الجنسية، أو العهدية"؟ أيجوز توكيده بأحد تلك الألفاظ الدالة على الشمول الكامل والعموم الحقيقي؟ الإجابة عن هذا السؤال الهام في "أ" ص369 ثم ص374 وهامشيهما.
2 المراد بما يتجرأ بنفسه: ما يتكون من جملة أجزاى يمكن أن يستقل كل جزء منها وحده بتحقيق الفائدة منه من غير توقف على انضمامه إلى المجموع؛ كالفضة –مثلًا– فإنها تتكون من أجزاء كل جزء منها ينفع -بنفسه– في شيء مطلوب, وكذلك أمال، فإنه يتكون من دراهم ودنانير، كل درهم أو دينار يؤدى منفعته من غير حاجة إلى انضمامه لنظير له. أما الذي يتجرأ بعامله فهو الذي له أجزاء لا ينفع الواحد في أداء الأساسية إلا بتصاله بجزء آخر؛ لأن أجزاءه متماسكة متصلة، لا يصلح واحد منها لتحقيق الفائدة الأصلية إلا حين يكون متصلًا بباقي نظرائه. لكنه يتجرأ باعتبار آخر خارج عن ذاته الأصلية، وذلك الاعتبار حين يقع عليه أثر عامل نحوي ومعناه، ويكون هذا المعنى مما يتجزأ –مثلًا– الحصان؛ فإنه لا يمكن أن يتجزأ أجزاء يؤدى كل منها عمله الأصلي بعد التجزيء، فإذا قلت: اشتريت الحصان، أو بعت الحصان ... فإن الحصان معمول للفعل: اشترى، أو: باع، وكل من الشراء والبيع يتجزأ؛ إذ يمكن شراء نصف الحصان، أو ربعه، أو ثلثه.... و..... وكذلك بيعه، فالعامل –كما نرى– يتجزأ؛ لهذا يصح أن يقال: اشتريت الحصان كله، واستأجرت الخادم كله. والساقية كلها، والسيارة كلها ...
3 وفي ألفاظ الشمول الخمسة الأصلية يقول ابن مالك:
"كِلْتَا"، "جمِيعًا" بالضَّمير مُوصَلا ... و"كُلاَّ" اذْكُرْ في الشُّمُولِ و"كِلاَ"
مِنْ: دعمَّ في التوكيد. مثلُ: النَّافِلَهْ ... واسْتَعْملُوا أَيضًا: "فاعِلَهْ"
يريد: اذكر عند إرادة الشمول لفظة التوكيد الدالة على الشمول، وهي "كل" و"كلا" و"كلتا" وهذان لإفادة الشمول في المثنى" و"جميعًا" ولابد من وصل لفظ التوكيد بالضمير المطابق. ثم قال بعد ذلك إن العرب استعملت في الدلالة على الشمول لفظًا آخر يفيد ما يفيده لفظ "كل"؛ وهذا اللفظ الآخر على وزن: "فاعلة" من الفعل: عَمْ، وهو: عامة" لأنها من غير ملاحظة الإدغام على وزن: فاعلة"، وأراد بقوله: "مثل الفاعلة"؛ أنها على مثال: "نافلة" في الوزن، وفي ثبات التاء في جميع الأحوال، تذكيرًا، وتأنيثًا، وإفرادًا، وغير التاء لازمة لا تتغير مجاله.(3/510)
وكل واحد من الألفاظ الثلاثة لا يفيد اتحاد الوقت عند وقوع المعنى على أفراده1؛ ففي مثل: حضرت الوفود كلها يصح أن يكون حضورها في وقت واحد، أو في أوقات متباينة، ومثل: غاب الجنود كلهم ... ، يصح أن يكون الغياب في وقت واحد، أو في أوقات متعددة. وهكذا، فهي في معناها تفيد العموم المطلق من غير زيادة محتومة عليه، أما ما زاد عليه فلا يفهم إلا بقرينة أخرى.
ويلحق بهذا النوع: ألفاظ العدد التي تفيد العموم2 تأويلًا، لا صراحة؛ وهي الأعداد المفردة "وتتركز في 3و 10 وما بينهما" فهذه الأعداد قد تضاف أحيانًا إلى ضمير المعدود، نحو: مررت بالإخوان ثلاثَتَهم، أو خمستَهم أو سبعتَهم أو....، بالنصب في كل ذلك على الحال3؛ بتأويل: مثلَّثًا إياهم، أو: مخَمَّسًا، أو مسبعًا ...
ويصح إتْباع اسم العدد لما قبله فلا يعرب حالًا، وإنما يعرب توكيدًا معنويًّا؛ بمعنى: جميعهم، ويضبط لفظ العدد بما يضبط به التوكيد المعنوي، والصحيح أن هذا ليس مقصورًا على العدد المفرد "كما يقول كثير من النحاة",بل يسري على العدد المركب أيضًا؛ نحو: جاء القوم خمسةَ عشْرَهم3 بالبناء على فتح الجزأين في محل نصب. على الحال، أو في محل آخر يطابق فيه المتبوع4.
__________
1 وله في هذا نظائر ستجيء في ص517.
2 ما سنذكره سبق تدوينه في باب الحال ج2 ص297 م84 –عند الكلام على الحال المعرفة– ويجيء كذلك في ج4 ص297.
"3، 3" وهي من المواضع التي تقع فيها الحال معرفة.
4 انظر ما يتصل بهذا ويوضحه ويبين مواقعه في رقم 6 من هامش ص512 بعنوان "ملاحظة".(3/511)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- في مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، تعرب كلمة: "جميعًا" حالًا، ولا يصح إعرابها توكيدًا لعدم وجود الضمير الرابط.
وفي قارة من قرأ قوله تعالى: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} ، ولا يصح إعراب: "كُلاّ" توكيدًا، لعدم وجود الضمير، وإنما تعرب بَدَلًا من الضمير "نا" اسم: "إنّ" بدل كل من كل. وهذا هو الإعراب الأحسن؛ إذ لا ضعف فيه، ولا مانع يمنع من إبدال الاسم الظاهر من الضمير الحاضر1 بدل كل من كل.... "كما سيجيء في باب البدل2 منه: قمتُم ثلاثَتُكُمْ". وبدل الكل من الكل لا يحتاج لرابط من ضمير أو غيره.
ب- إذا اجتمع أكثر من مؤكد معنويّ –بشرط وجود داع بلاغيّ3، يقتضي هذا الاجتماع– تقدمت4 النفس على العين، ويستحسن تأخير كلمة: "كل" عنهما، ويليها كلمة: "جميع" ثم كلمة: "عامة" وإذا تعددت ألفاظ التوكيد فهي للمتبوع وحده5، ولا يصح –في الرأي الأنسب– اعتبار واحد منها توكيدًا للتوكيد. وهذا حكم عامّ في جميع ألفاظ التوكيد الأصلية والملحقة بها.
ج- قد تقع ألفاظ التوكيد المعنوي السبعة "وهي: نفس، عين، كِلاَ، كلتا، كلّ5، جميع، عامة" معمولة لبعض العوامل، ولا تعرب توكيدًا لعدم وجود المؤكَّد؛ فتعرب على حسب حاجة ذلك العامل، فاعلًا، أو مفعولًا، أو مبتدأ، أو خبرًا ... و ... وبالرغم من امتناع إعرابها توكيدًا
__________
1 أي: ضمير المتكلم أو المخاطب.
2 ص682.
3 هذا الداعي هو إزالة الاحتمالات إزالة لا تتم إلا بهذه الكثرة. فإن كانت تتم بغيرها فلا داعي لتعدد التوكيد.
4 وجوبًا أو استحسانًا: تبعًا للخلاف الذي سبق في رقم 2 من هامش ص506.
5 كما سيجيء في رقم 4 من ص503 وما قبلها مباشرة. ومنها نعلم أيضًا عدم صحة مجيء حرف عطف قبل التوكيد ما دام توكيدًا، وإلا صار معطوفًا.
6 "ملاحظة": قد تكون كلمة "كل" التوكيد من غير أن تفيد الشمول والعموم الحقيقي كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} ، فإن الله لم يطلعه على جميع آياته. وهذا لأن كلمة "كل" –كما يذكرون– قد يراد منها الكل المجموعي كالآية، وقد يراد منها الكل الجميعي الذي يشمل الأفراد، فردًا فردًا. "كما سيجيء في رقم 2 من هامش 517".(3/512)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تظل في حالتها الجديدة تؤدي معنى التوكيد كما كانت تؤديه من قبل، مع أنها في حالتها الجديدة لا تسمى في اصطلاح النحاة توكيدًا، ولا تعرب توكيدًا. وهذا كثير في: "جميع"، و"عامة"؛ نحو: الزائرون انصرف جميعهم، أو: عامتهم الزائرون رأيت جميعَهم، أو: عامَّتَهم الزائرون مررت بجميعهم، أو بعامَّتهم..
أما: "كُلّ" فيكثر وقوعها –عند فقْد المؤكَّدبعد عامل الابتداء، فتكون مبتدأ، ويقل وقوعها بعد غيره؛ فمثال الأول: الحاضرون كلُّهم نابه. ومثال الثاني قول الشاعر:
يَميدُ1 إذا والت عليه دِلاؤُهم ... فيصدُرُ عنه كلُّها، وهْوَ ناهلُ
وهذا من القليل الذي لا يجسن محاكاته، لوقوعها فاعلًا مع إضافتها للضمير2. ومن
الأمثلة للثاني: الحاضرون تكلمَ كلُّهم الحاضرون سمعتُ ملَّهم، وأعجبتُ بكلهم ...
وكلمة: "كُلّ" في لفظها مفردة مذكرة دائمًا3، وإذا وقعت مبتدأ، وأضيفت إلى نكرة وجب في الأغلب عند المطابقة مراعاة معنى النكرة في خبر: المبتدأ: "كَلّ"؛ كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وقول جرير:
وكل قوم لهم رأْيٌ ومختبرٌ ... وليس في تغْلبِ رأيٌ ولا خبرٌ
__________
1 يميد، أي يضطرب: والضمير عائد على ماء البئر.
2 وهنا سبب آخر؛ هو أنه قد يحدث لبسًا في بعض الصور التي يحذف فيها المؤكَّد الضمير "وسياتي في ص522" مثل: الأسرة أكرمت كلها: أي: أكرمتها.
3 ولهذا إشارة في رقم 2 من هامش ص71 حيث تفصيل الكلام على إضافة "كل وما يترتب على هذا من تعريفها أو عدم تعريفها، وحالة النعت بعد المضاف إليه، أيكون للمضاف أم للمضاف إليه؟(3/513)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن أضيفت لمعرفة لم يلزم اعتبار المعنى، وإنما يصح اعتباره أو اعتبار لفظ "كلّ" المفرد المذكر؛ كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} . وقوله عليه السلام: "كلكُم راع، وكلكُم مسؤول عن رعيته" ونحو: كلكُم هداةٌ للخير، وكلكم داعون إليه. وقول الشاعر:
كلّ العداوات قد تُرجَى إزالتُها ... إلا عداوة مَن عاداك من حَسَدِ
وقول الآخر:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد
وقد تقع لدلًا كالتي في الآية السابقة، في ص512 على قراءة من قرأها {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} . وقد سبق أن قلنا1 ما نصّه:
"إنها تقع نعتًا بشرط إضافتها إلى اسم الظاهر، مماثل للمنعوت في لفظه، وفي معناه معًا –وهو الأغلب– أو مماثل لشيء له صلة معنوية قوية به، فمثال الأول قول الشاعر:
كم قد ذكَرتكِ لو أَجزَى بذكرِ كُمُو ... يا أَشبهَ الناسِ كلِّ الناس بالقمرِ
فكلمة: "كل" نعت للناس. ومثال الثاني قول الآخر:
وإن كان ذنْبي كلَّ ذنب فإِنه ... محا الذنبَ كلَّ المحوِ من جاءَ تائبا
فكلمة: "كلّ" –في الشطر الثاني– نعت للذنب، وهي مضافة إلى ما له صلة معنوية بالمعنوت.
"وإذا وقعت كلمة: "كل" نعتًا صارت من الجامد المؤول بالمشتق، وصار معناها: "الكامل" في كذا2.. وهو معنى يختلف عن معناها في التوكيد" ا. هـ.
ولا يجوز فيها القطع في حالتي استعمالها نعتًا أو توكيدًا كما سبقت الإشارة
__________
1 في ص467.
2 راجع ماله صلة بهذا في ص464 و467.(3/514)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لهذا1 ولا داعي للأخذ بالرأي الذي يبيح استعمالها توكيدًا في الصورة السالفة التي تضاف فيها لاسم ظاهر مماثل لما قبلها على الوجه الذي شرحناه2؛ لأن في الأخذ به خروجًا على الكثير الفصيح من كلام العرب الذي يضيفها عند التوكيد على ضمير مطابق للمؤكَّد "المتبوع" أما المضافة للظاهر فلها معنى آخر، وتأويل مغاير، كما رأينا.
"ملاحظة": يقول الصبان في هذا الموضع من باب: "التوكيد" ما نصّه: "اعلم أنّ "كُلاَّ" وشبهها في إفادة شمول كل فرد، إن كانت داخلة في حَيِّز النفي بأن أُخِّرت عن أداته لفظًا؛ "نحو: "ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... "، وما جاء كل القوم، وما جاء القوم كلّهم، ولم آخُذْ كلّ الدراهم، ولم آخذ الدراهم كلَّها ... " أو رتبة؛ "نحو: كلَّ الدراهم لم آخذ، والدراهم كلها لم آخُذ ... " توجَّهَ النفي إلى الشمول خاصة، وأفاد سلب العموم. وإلا بأن قُدّمت على أداته لفظًا ورتبه توجَّه النفي إلى كل فرد، وأفاد عموم السَّلب؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: ".. مل ذلك لم يكن ... ". وكالنفي النهي. قال التفتازاني: "والحقّ أن الشق الأول أكثريّ لا كليّ؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} . ا. هـ. كلام الصبان.
وأما "كلا" و"كلتا" فيكثر –عند فقد المؤكَّد– وقوعهما بعد عامل الابتداء، ويقل بعد غيره "فهما من هذه الناحية مثل: "كُل"؛ فمثال الأول: حاضران كلاهما3 نابه الحضرتَان كلتاهما نابهة ... ومثال الثاني ما قاله بعض الأعراب وقد خُير بين شيئين: "كليْهما وتَمْرًا". يريد: أعطني كليهما وتمرًا4. وفي هذه الصور وأشباهها يفيدان معنى التوكيد، لكن لا يصح إعرابهما توكيدًا.
وأما "نفس" و"عين" فالصحيح عند فقد المؤكَّد وقوعهما معمولين
__________
1 في رقم 1 من هامش ص463 وقد تقدم في باب النعت "ص486 و487" شرح القطع بيان أحكامه.
2 في هامش ص502.
3 كلا: مبتدأ، مضاف ...
4 كما جاء في معجم: "لسان العرب".(3/515)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
–أحيانًا– لبعض العوامل1، وإفادتهما التوكيد المعنوي مع امتناع إعرابهما توكيدًا2، ومن الأمثلة قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 3، ونحو: جاءني عين الكتاب.... والعرب تقول: نزلت بنفس الجبل، ونفسُ الجبل مقابلي4.
د- في جميع أنواع التوكيد المعنوي لا يصح اتحاد توكيد المتعاطفين إلا إذا اتحد عاملاهما معنى، فلا يقال غاب المسافر، وحضر الغائب كلاهما فإن اتحد معنى العاملين صح اتحاد توكيد المتعاطفين، ولو كان لفظ العاملين مختلفًا؛ نحو: ذهب المسافر، وانطلق الصانع كلاهما.
هـ- يجوز الفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد بغير أجنبي محض من العامل؛ طبقًا للبيان الشامل الذي سلف5 ومنه قوله تعالى: {وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} ، وقد أختلفت النحاة في الفصل بالحرف: "إمَّا"، والأحسن الأخ بالرأي الذي يبيحه فيقول: سأسعَد بالقوم إمَّا كلَّهم، وإما بعضهم ...
و سبقت الإشارة6 إلى أنه لا يجوز –في أصح الآراء– قطع التوكيد مطلقًا7 حتى كلمة: "كل" إذا صارت نعتًا وجب إتْباعها، وعدم قطعها.
__________
1 كما جاء في معجم: "لسان العرب".
2 انظر ما سبق –في ص 504 متصلًا بهذا الحكم الخاص بفقد المؤكَّد.
3 وكذلك باقي السبعة، كما أسلفنا في ص512.
4 انظر الزيادة في "أ" في ص507 لنوع من المناسبة..
5 في ص435.
6 في رقم 1 من هامش ص502.
7 المعنوي وغير المعنوي.(3/516)
ألفاظ التوكيد الملحقة1 بالثلاثة:
هناك ألفاظ ملحقة بالثلاثة السالفة الدالة على الإحاطة والشمول، وهذه الملحقة هي: أجمع، جمعاء، أجمعون، جُمع.
وإنما سميت ملحقة لأن الكثير الفصيح في استعمالها أن تقع مسبوقة بلفظة: "كلّ" التي للتوكيد أيضًا، ومطابقة لها، ومقوّية لمعناها2؛ وذلك بأن تقع: "أجمع" بعد: "كُلَ"، و"جمعاء" بعد: "كلها"، و"أجمعون" بعد: "كلهم"، و"جُمع" بعد: "كلهن"، مثل: حصدت الحقل كلَّه أجمعْ، سافرت الأسرةُ كلها جمعاءُ، أقبل الضيوف كلهم أجمعون، أقبلت الفتياتُ كلُّهن جُمَعُ3 ...
ومن الجائز –مع قلته4 وفصاحته– أن تستقل كل واحدة من هذه الألفاظ الملحقة، فنقع توكيدًا غير مسبوقة بكلمة: "كل" التي أوضحناها. نحو: استوعبت النصحَ أجمعَ، استظهرت القصيدةَ جمعاءَ، صافحت الزائرين أجمعين5، أكرمت الزائرات جُمَعَ.
ولا تدل كلمة: "أجمعين" وأخواتها على اتحاد الوقت عند وقوع
__________
1 وهي التي أشير لها في ص503 والثلاثة السالفة موضحة في ص509.
2 وقد تزيل عنها احتمال عدم الشمول الكامل، لأن لفظة: "كل" قد يراد منها: "الكل المجموعي" وليس "الكل الجميعي" على الوجه السابق لهما، في رقم 6 من هامش ص512.
3 وفيما سبق يقول ابن مالك:
وبَعْدَ كُلِّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعا ... جَمُعَاءَ. أَجْمَعِينَ، ثُمَّ جُمَعَا
أي: بعد لفظة: "كل" التي للتوكيد استعمل العرب الألفاظ التي تجيء بعدها لتقوية التوكيد بها، وسرد تلك الألفاظ. علمًا بأن كل واحد منها يستعمل مع مؤكَّد "متبوع" يخالف ما يستعمل مع الآخر ...
4 قلة نسبية، وليست قلة ذاتية تمنع القياس، فهي قلة بالنسبة للصورة الأخرى التي لا لاستقلال فيها. "راجع رقم 2 من هامس ص79 حيث إيضاح القلة بنوعيها".
5 من الجائز إعراب: "أجمعين" جالًا، ولكن المعنى يختلف عن إعرابها توكيدًا، فعلى إعرابها حالًا يكون المعنى "مجتمعين" أي: في حالة اجتماعهم، وعدم تفرقهم. وعلى إعرابها توكيدا يكون المعنى على الشمول والإحاطة، وأن الإكرام شملهم فردًا فردًا. فبين المعنيين فرق واضح، ومن الواجب عند الإعراب ملاحظة المعنى المراد دائمًا، لأن الإعراب لا بد أن يجازي المعنى المقصود.(3/517)
المعنى على الأفراد؛ فهي مثل: "كل" وأخواتها. في إفادة العموم المطلق دون زيادة عليه1. فإذا قلنا: قابلت الزائرين أجمعين فقد تكون المقابلة في وقت واحد أو في أوقات مختلفة.
والفصيح الذي يحسن الاقتصار عليه عدم تثنية: "أجمع" و"جمعاء"، فلا يقال: "أفادني الكتابان أجمعان، ولا أنشدت القصيدين جمعاوين؛ لأن أكثر العرب استغنوا "بكلا" و"كلتا" عن تثنية أجمع وجمعاء2....
وهناك ألفاظ أخرى للتوكيد، تجيء –مجتمعة أو غير مجتمعة– مرتبة وجوبًا بعد "أجمع" وفروعها، وهي بمعناها، وتُعد من الملحقات أيضًا مثلها، وتفيد فائدتها في تقوية معنى: "كلّ" وإن وُجد في الكلام لفظ: "كل"3 وإزالة الاحتمال عن شمولها؛ فيجيء بعد "أجمع" لفظ بمعناه وفائدته؛ هو: "أكْتع"، وإن شئنا الزيادة جئنا بعد "أكْتع"، بلفظ: "أبْصع"، ثم إن شئنا الزيادة جئنا لفظ: "أبْتع" أخيرًا. ونأتي بعد: "جمعاء"، بلفظ: "كتْعاء، ثم بصْعاء، ثم بتْعاء، ونأتي بعد: أجمعين، بلفظ: "أكتعين، ثم أبصعين، ثم أبتعين" –مجموعة جمع مذكر سالمًا– وبعد: "جُمعَ" بلفظ: "كُتَع، بُتَع، بُصَع.." مجموعة على وزن: "فُعَل"4 فالمثال الذي يجمع لفظ التوكيد الأصلي هو: "كُلّ" ويليه ملحقاته المختلفة –كاملة أو غير كاملة– مرتبة على الترتيب السالف وجوبًا، وهو: سافر الوفد كله، أجمعُ أكتعُ، أبصعُ أبتع، سافرت
__________
1 على الوجه المشروح في ص510.
2 وفي هذا يقول ابن مالك مبينًا أن ألفاظ التوكيد الفرعية قد تستقل بنفسها، فلا تجيء بعد لفظة: "كل":
وَدُونَ كُلٍّ قدْ يَجيءُ أَجْمَعُ ... جَمْعَاءُ، أَجْمَعُونَ، ثمَّ جُمَعُ
ثم يذكر –بعد بيت آخر– الحكم بمنع تثنية "أجمع"، وجمعاء، استغناء عن تثنيتهما بكلا وكلتا:
وأغْنَ بكِلْتَا فِي مُثَنَّى، وكِلاَ ... عَنْ وزْن "فَعْلاَءَ" وَوَزنِ "أَفَلا"
"اغن بمعنى: استغن". وسيجيء هذا البيت لمناسبة أخرى في ص522.
3 لصحة التوكيد بهذه الألفاظ، وإن لم توجد كلمة: "كل"، طبقًا لما تقدم.
4 وهذا هو الحكم الغالب –كما سيجيء في باب الممنوع من الصرف ج4 ص194 م147-.(3/518)
الكتيبة كلها جمْعاء، كتْعاء، بضْعاء، بتْعاء، حضر المدعوون كلهم، أجمعون، أكتعون، أبضعون، وحضرت المدعوات كلهن جُمَعُ، كُتَعُ، بُضَعُ، بُتَعُ. ويقاس على هذا غيرها من الصور التي تستعمل في الإفراد والتذكير وفروعهما.
ويجب ملاحظة ما يأتي:
1- أن جميع ألفاظ التوكيد الملحقة بالثلاثة الأصلية لا تضاف مطلقًا "لضمير ولا لغير ضمير1" بخلاف ألفاظ التوكيد المعنوي الأصلية مثل: "كُلّ" وسواها؛ فلا بد من إضافتها لضمير مطابق للمؤكَّد، كما عرفنا.
2- أنّ جميع ألفاظ التوكيد المعنوي الأصلية والملحقة معارف، فأما الأصلية فإنها معارف بسبب إضافتها إلى الضمير الرابط؛ فهي تكتسب منه التعريف. وأما الملحقة فإنها معارف بالعلمية؛ لأن كل لفظ منها هو "عَلم جنس، يدل على الإحاطة والشمول؛ ولهذا لا يجوز نصبه على الحال –في الرأي الصحيح2– ويجب منع الصرف في: "أجمع" و"جمعاء" و"جُمع"، وكل ما كان من تلك الملحقات على وزن: فُعَل3.
3- أن ألفاظ التوكيد الملحقة إذا اجتمعت وجب ترتيبها على الوجه السابق، وقبلها –في الغالب– لفظة:"كلّ"، ويجب إعراب لفظة: "كلّ" توكيدًا للمؤكد الذي قبلها وكذلك بَقية ما بعدها من الملحقات التي تجيء لتقويتها، وإزالة الاحتمال عن شمولها؛ فتُعرب كل واحدة منها توكيد معنويًّا للمؤكَّد "المتبوع" وليس التالي توكيدًا للتوكيد الذي سبقه –في الرأي الأنسب4–
__________
1 إلا كلمة: "أجمع المسبوقة بالباء الجارة الزائدة لزومًا "في مثل: حضر الضيوف بأجمعهم" كما سيجيء في ص521.
2 إلا على رأي يجيز تأويله بالمشتق، وليس بين الأعلام الجنسية ما يصح جمعه جمع مذكر طالما إلا ما كان منها دالًا على الشمول التوكيدي، نحو: "أجمع" وملحقاته، فيقال؛ "أجمعون وأجمعين" ... لأنه في أصل مشتق "صفة" فهو في أصله أفعل تفضيل أصالة "كما جاء في الصبان، ج1 باب المعرب والمبني عند الكلام على جمع المذكر".
3 كما سيجيء في باب الممنوع من الصرف ج4 ص194 م147.
4 راجع الأشموني، وانظر ما يتصل بهذا في "ب" من ص512.
وهناك رأي يجعل لفظ التوكيد بعد كلمة: "كل" تأكيدًا لها، وتقوية لإفادتها الإحاطة والشمول. وقد أشار إليه بعض الباحثين "منهم صاحب مجمع البيان في علوم القرآن ج1 ص399" لكن الرأي الأول أحسن وأنسب.(3/519)
ولا يصح عطف هذه الملحقات بعضها على بعض. أو على شيء قبلها ما دامت مستعملة في التوكيد؛ لأن جميع ألفاظ التوكيد المعنوي –الأصيلة والملحقة– لا يَصح أن يسبقها عاطف؛ -كما سلف1-.
وكذلك لا يصح –في الرأي الأصح– الفصل بين كلمة: "كل" وما يليها من هذه الألفاظ الملحقة المستعملة في التوكيد –كما تقدم2-.
4- عرفنا3 أن جميع ألفاظ التوكيد الأصلية والملحقة إذا تعددت كانت توكيدًا للمتبوع وحده ولا يصح أن يكون أحدها توكيدًا للتوكيد.
__________
1 في ص506.
2 في هامش ص436.
3 في "ب" من ص512 وفي رقم 3 من الصفحة السابقة.(3/520)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- من الأساليب الصحيحة –كما سبقت الإشارة1– جاء القوم بأجمَعُهم "بفتح الميم، أو ضمها". فكلمة: "أجمع" هذه من الألفاظ التوكيد القليلة، ولا بد أن تضاف إلى ضمير المؤكَّد، وأن تسبقها الباء الزائدة الجارة. وهي زائدة لازمة لا تفارقها. وتعرب كلمة: "أجمع" توكيدًا مجرور اللفظ بالباء الزائدة اللازمة، في محل رفع، أو نصب، أو جر، على حسب حالة المؤكَّد "المتبوع". وهذا الإعراب أوضح وأيْسر من إعرابها بدلًا من المتبوع، مجرورة اللفظ بالباء في محل رفع، أو: نصب، أو: جر؛ لأن صاحب هذا الإعراب لا يجعل "أجمع" هنا من ألفاظ التوكيد، برغم أنها –عنده– تؤدي معناه وتضاف إلى ضمير مطابق للمؤكَّد.
ب- تتلخص أهم الأحكام السابقة الخاصة بألفاظ التوكيد المعنوي فيما يأتي:
1- وجوب تقدم المؤكَّد "المتبوع". ومماثَلة التوكيد له في الضبط.
2- وجوب إضافة لفظ التوكيد إلى ضمير مطابق للمؤكَّد إذا كان لفظ التوكيد أساسيًا، لا ملحقًا. وهذا الضمير لا يصح خذفه ولا تقديره.
3- وجوب تطبيق أحكام التابع التي سبق بيانها، "في ص435". على ألفاظ التوكيد.
4- امتناع وجود عاطف يدخل على لفظ التوكيد إذا أريد بقاؤه للتوكيد.
5- عدم قطعه.
6- إذا تعددت ألفاظ التوكيد كانت لتوكيد المتبوع وحده وروعي في تقديم بعضها عن بعض ترتيب خاصّ.
7- جميع ألفاظ التوكيد الأصلية والملحقة معارف.
__________
1 في هامش، ص507 ورقم 1 من هامش ص519 وفي الجزء الثاني –باب "حروف الجر" م90 ص456-.(3/521)
توكيد النكرة:
ألفاظ التوكيد المعنوي معارف1 بذاتها، أو بإضافتها إلى الضمير المطابق للمؤكَّد. "المتبوع". والنكرة تدل على الإبهام والشيوع؛ فهما متعارضان تعريفًا وتنكيرًا.
لكن يجوز –في الرأي الأصح– توكيد النكرة إذا أفادها التوكيد شيئًا من التحديد والتخصيص؛ يقربها من التعريف نوعًا. وإلا لا يجوز لأنه لا فائدة منه.
وتحقق استفادتها من التوكيد إذا اجتمع فيها أمران:
أولهما: دلالتها على زمن محدود بابتداء وانتهاء معينين معروفين, كيوم وأسبوع، وشهر ... ,أو على شيء معلوم المقدار؛ كدرهم، ودينار ...
وثانيهما: أن يكون لفظ التوكيد من ألفاظ الإحاطة والشمول التي عرفناها؛ تقول عملت يومًا كلَّه، وسافرت أسبوعًا جميعَه، وتنقلت شهرًا عامَّتَهُ ... وتبرعت بدينار كلّه ... وكقول الشاعر2:
لكنهُ شاقهُ أنْ قيل ذا رجَبُ ... يا ليت عِدَّةَ حَوْل كُلِّهِ رجَبُ
وعلى أساس ما تقدم لا يصخ: عملت زمنًا كله، ولا أنتقت مالاّ كله؛ لأن النكرة غير محدودة الوقت، ولا معلومة المقدار. كما لا يصح؛ عملت يومًا نفسِه، أو عينه؛ لأن لفظ التوكيد ليس من ألفاظ الإحاطة والشمول3..
حذف المؤكَّد "المتبوع" توكيدًا معنويًا:
منعت جمهرة النحاة حذف المؤكَّد "المتبوع" بحجة أن الحذف مناف
__________
1 سبق البيان في رقم 2 من ص519.
2 في بعض الروايات.
3 وفي جواز توكيد النكرة التي يفيدها التوكيد يقول ابن مالك مبينًا أنه جائز إن أفاد، وأن البصريين لا يبيحون مطلقا.
وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدْ مَنْكور قُبِلْ ... وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ المَنْعُ شَمِلْ
ثم سرد بعد هذا بيتًا سبق تسجيله وشرحه في مكانه الأنسب "ص518" هو:
واغْنَ بِكِلْتَا في مُثَنَّى، وكِلا ... عَنْ وزْنِ: "فَعْلاَءِ" ووَزْنِ: "أَفْعَلاَ"(3/522)
للغرض من توكيده توكيدًا معنويًا. وأجاز آخرون الحذف، بشرط أن يكون المؤكَّد "المتبوع" ضميرًا رابطًا في جملة الصلة، أو: الصفة، أو: الخبر؛ نحو: جاء الذي أكرمتُ نفسَه، أي: أكرمتُه نفسَه، جاء قوم أكرمتُ كلَّهم، أجمعين، أي: أكرمتهم كلهم أجمعين، الأسْرَةُ أكرمت1 كلَّها أجمعين، أي: أكرمتها كلها أجمعين، وحذفه –عند هؤلاء– في الصلة أكثر من الصفة، وفي الصفة أكثر من الخبر.
والأحسن الاقتصار على الرأي الذي يمنع الحذف جهد الاستطاعة؛ لأن حجتهم أقرب إلى العقل والسّماع، ورأيهم أبعد من اللبس والشك، ولم يستند الموافقون على الحذف إلى الأدلة والأمثلة المأثورة التي تكفي لتأييدهم رأيهم.
توكيد الضمير المرفوع المتصل والمنفصل توكيدًا معنويًا ...
أ- إذا أريد توكيد الضمير المتصل، المرفوع، "المستتر أو البارز" توكيدًا معنويًا يزيل الاحتمال عن الذات، جيء بلفظ التوكيد الذي يحقق هذا الغرض؛ وهو: "نفس" أو "عين"، بشرط أن يَفْصِل بينه وبين المؤكَّد إما ضمير منفصل مرفوع يُعربُ توكيدًا2 لفظيًا مناسبًا للضمير السَّالف، "أي: للمؤكَّد"، وإما فاصل آخر ليس ضميرًا، نحو: أسرعْ أنت نفسُك للصارخ. ونحو: رغبتَ أنت نفسُك في الخبر رغبتما أنتما أنفسُكما لي الخير، رغبتم أنتم أنفسُكم في الخير، رغبتن أنتن أنفسُكن في الخير. ويجوز: "رغبتَ، حقًّا، نفُسك في الخبر"، "رغبتَ يوم الجمعة نفسُك أن تسافر"،"رغبتما، حقًا، أنفسكما في الخير" ... وهكذا. فالفصل واجب، ولكن الفصل بالضمير المنفصل أحسن وأفصح3 ...
__________
1 راجع ما سبق خاصًّا بهذا المثال في رقم 2 من هامش ص513 ومن المراجعة يتبين أن هذا الأسلوب صحيح، وجود كلمة "أجمعين" بعده الدالة على الكل "الجميعي" لا المجموعي، وقد أوضحنا نوعي "الكل" في رقم 6 من هامش ص512.
2 انظر إعرابه في ص530.
3 وقد يكون من فائدة الفصل على الوجه السالف منع احتمالات معنوية غير مقصودة في بعض الصور، ففي مثل: خرجت البقرة، عينها، أو نفسها قد يخطر بالبال أن المراد هو خروج عينها التي تبصر بها، وخروج نفسها التي بها حياتها، وهي: الروح، فإذا جاء الفصل منع هذا الاحتمال، أو أضعف شأنه –وهذا صحيح- ويقولون: حملت الصور الأخرى التي لا احتمال فيها على هذه!! والحق أن السبب هو استعمال العرب ليس غير.(3/523)
وعلى أساس ما سبق لا يصح: "تكلم المحمدون أنفسهم" على اعتبار الضمير: "هم" توكيدًا؛ لأن المؤكَّد "المحمدون" ليس ضميرًا متصلًا مرفوعًا، وإنما هو اسم ظاهر لا يؤكده الضمير توكيدًا معنويًّا1 والاسم الظاهر أقوى في الدلالة من الضمير؛ إذ لا يحتاج إلى مرجع يفسره، بخلاف الضمير.
أما في نحو: "المحمدون أكرمتهم هي أنفسَهم" فالفصل جائز لا واجب؛ لأن المؤكَّد ضمير متصل، ولكنه ليس مرفوعًا؛ فيؤكَّد الضمير بالضمير، ويجوز: المحمدون أكرمتهم أنفسَهم بغير توكيد بالضمير. وأما في نحو: المحمدون قاموا كلَّهم، فالفصل جائز أيضًا لا واجب؛ لأن لفظ التوكيد وهو: "كل" ليس: "النفس" أو "العين"2 ...
ب- وإذا أريد توكيد الضمير المرفوع المنفصل، أو بالنفس" أو: "بالعّيْن"، فحكمه حكم توكيد الاسم الظاهر بهما؛ كلاهما لا يحتاج إلى
__________
1 في ص528 صورة تدل على صحة التوكيد اللفظي –لا المعنوي- بالضمير.
2 فيما سبق يقول ابن مالك.
وإِنْ تُؤكِّدِ الضَّمِيرَ المتَّصِلْ ... بِالنَّفْسِ والعَين فبَعْدَ الممنْفَصِلْ
عَنَيْتُ ذا الرَّفْعِ، وَأَكَّدُوا بمَا ... سِوَاهُمَا، والقَيْدُ لَنْ يُلْتَزَما
يقول: إذا أردت أن تؤكد الضمير المتصل بواحد من لفظي التوكيد: "النفس" أو العين" صح التوكيد بأخدهما بعد أن يسبقه التوكيد اللفظي بضمير منفصل يفصل بين التابع والمتبوع. ولما كان البيت السابق لا يبين نوع الضمير المتصل الذي يراد توكيده، أهو مرفوع، أم غير مرفوع تدارك الأمر في البيت الذي يليه فقال: "عنيت ذا الرفع"، أي: قصدت بالضمير المتصل صاحب الرفع، أي الضمير المتصل المرفوع.
وأضح بعد ذلك جواز التوكيد المعنوي بلفظ آخر مناسب، غير لفظي "نفس" و"عين"، وبفاصل غير ذلك الضمير المنفصل ... و ... أو بلا فاصل، فالتقييد بالنفس والعين لازم عند توكيد الضمير، وكذا التقييد بالفاصل غير لازم ما دام المتبوع ليس ضمير رفع متصل.(3/524)
فاصل؛ تقول: أنت نفسك سَافرت، أنتما أنفسكما سافرتما، أنتم أنفسكم سافرتم ... وهكذا ...
القسم الثاني التوكيد اللفظي1:
هو تكرار اللفظ السابق بنَصّه2، أو بلفظ آخر مرادف3 له.
والمؤكَّد "المتبوع"، قد يكون اسمًا، نحو: الشمسُ الشمسُ أُمُّ الأرض. وقد يكون فعلًا؛ نحو: تتحرك تتحرك الأجرام السماوية، وقد يكون حرفًا؛ نحو: نَعَمْ نَعَمْ أيها الداعي إلى الهدى. وقد يكون جملة فعلية، أو: اسمية؛ نحو: "الخير محمودُ المَغَبَّة تواتيك عواقَبه".
"الخير محمو، المَغَبَّة تواتيك عواقبه". وقد يكون اسم فعل؛ نحو:
__________
1 تقدم القسم الأول "المعنوي" في ص501 وفي رقم 2 من هامش تلك الصفحة بيان المدلول الحقيقي للتوكيد اللفظي.
2 ولا يضر أن يدخل على نصه بعض تغيير يسير، كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} . فكلمة: "أمهلْ" توكيد لفظي للفعل السابق. والضمير: "هم" عائد على الكافرين لا محل له من الإعراب "انظر أمن الأحكام التي في ص527" ومن هذه الآية يفهم أيضًا أنه يجوز في التوكيد اللفظي الفصل بين المؤكِّد والمؤكَّد.
وشيء آخر قاله النحاة في ج4: "باب تابع المنادى" عند بيت ابن مالك
في نحو: سعْدُ سعد الأَوْسِ ينتَصِبْ ... ثانٍ وضُمَّ وافتح أَوَّلًا تُصبْ
إن ضُمّيت. كلمة: "سعد" الأولى كانت الثانية منصوبة، على اعتبارها توكيدًا لفظيًا، أو مفعولًا به لفعل محذوف، أو بلًا، أو عطف بيان، أو منادى ...
ثم قالوا: كيف تعرب توكيدًا لفظيًا مع اتصالها بما بم يتصل به المتبوع "وتقدم مثل هذا الاعتراض في رقم 1 من هامش ص456" ومع اختلاف جهتي التعرف بينهما؟ إذ تعريف المتبوع هنا بالعلمية، أو بالنداء –على الخلاف في ذلك– وتعريف التابع بالإضافة، لأنه ايضاف حتى يجرد من العلمية ... ؟
أأجبوا: قد يكتفي في التوكيد اللفظي بظاهر التعريف، وإن اختلفت جهته، وتباين المعرف، أو اتصل به شيء "راجع حاشية الخضري عند البيت السالف. وستجيء الإشارة لهذا أيضًا في ج4 رقم 2 من هامش ص40" والبحث صلة بما سيجيء في القسم الأول من أحكام البدل –ص676 وبالقاعدة الهامة التي في ص679 وتختص بعدم اتصال البدل بعامله.
3 المرادف هو: لفظ يؤدي معنى لفظ آخر تمامًا، ويخالفه في حروفه، فمن الأسماء الفضة واللجين –الذهب والتبر- ... ومن الأفعال قعد وجلس..، ومن الحروف: نعم وجير ... ، ومن المرادف قولهم: أنت حقيق قَمِنٌ ... ومعنى كل من الكلمتي: جدير.
ومن هذا النوع –عند الفراء- الحرفان: ما، وأنَّ المصدريتان: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ... } .(3/525)
هي الدتيا تقول بِمْلءْ فيها ... حَذَارِ حَذارِ منْ بطشي وغَدْري
ومثال التوكد اللفظي بالمرادف: الذهبُ التبرُ مختبئ في صحارينا ... هذا، وفي جميع صوَر التوكيد اللفظي وحالاته لا يصح تكرار اللفظ السابق "وهو: المؤكَّد"، أكثر من ثلاث مرات؛ كقول الشاعر:
أَلاَ حَبّذّا حَبّذا، حَبّذا ... صديق تحملْتُ منه الأَذى
وقول الآخر:
أَلا، يا اسْلَمِي، ثُمْ1 ثُمَّتَ1 اسْلَمِي ... ثلاثَ تَحيَّات، وإِنْ لَمْ تَكَلَّمي2
الغرض منه:
الغرض من التوكيد اللفظي3؛ أمور؛ أهمها: تمكين السامع من تدارك لفظ لم يسمعْه، أو سمعه ولكن لم يتنبه. وقد يكون الغرض التهديد؛ كقوله تعالى في خطاب المعاندين بالباطل: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
وقد يكون التهويل: كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ 4 مَا يَوْمُ الدِّينِ 5 ? ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ?} .
وقد يكون التلذّذ بترديد لفظ مدلولُه محبوب مرغوب فيه، نحو: "الصحة، الصحة!! هي السعادة الحقَّة الحقَّة" الجنة الجنة!! ما أسعدَ من يفوز بها" "الأمّ، الأمّ!! أعذب لفظ ينطق به الفم6" ...
__________
"1، 1" إذا كان التوكيد اللفظي جملة مكررة جاز أن تكون مسبوقة بحرف العطف "ثم" أو "الفاء" وعندئذ لا يكونان حرفي عطف، وإنما يخضعان للحكم الخاص بهذه الصورة، وهو مدون في "هـ" من ص536 وبهامشها هذا البيت لمناسبة هناك.
2 أي: وإن لم تتكلمي.
3 الفرق بينه وبين النعت موضح في الملاحظة الهامة "رقم 2 من هامش ص438".
4 ما أعلمك؟ وما أخبرك؟ أدري: فعل ماض، في هذا البيت وهي في الآيتين بعد توكيد لفظي لبعض الحروف والأسماء والأفعال والجمل، فراجع الحكم في ص527 وص537 وما بعدهما.
5 يوم الجزاء والحساب، وهو يوم القيامة.
6 وقد اقتصر ابن مالك فيما سبق على تعريف التوكيد بقوله:
ومَا مِنَ التَّوكِيدِ لَفْظِيّ يَجِي ... مُكَرَّرًا: كَقَوْلِكَ: أدْرُجِي ادْرُجِي
أي: والذي هو لفظي من التوكيد يجيء مكررًا ... فالتوكيد اللفظي عنده هو ما يجيء مكررًا سواء أكان تكراره باللفظ والمعنى معًا أم بالمعنى مع اختلاف اللفظ.(3/526)
هذا، والأغراض السالفة هي أهم ما يميز التوكيد اللفظي بالمرادف من عطف البيان كما سيجيء في بابه1....
أحكامه:
للتوكيد اللفظي أحكام تختلف باختلاف نوع الموكَّد "المتبوع" من ناحية أنه اسم، أو فعل، أو حرف، أو جملة، أو اسم فعل، وتتلخص هذه الأحكام فيما يأتي، "والأول منها عام ينطبق على جميع أنواع التوكيد اللفظي، ولا تختلف فيه نوع عن نوع".
أ- اللفظ الذي يقع توكيدًا لفظيًا، ممنوع من التأثر والتأثير، "أي: لا تؤثر فيه العوامل؛ فلا يكون مبتدأ، ولا خبرًا، ولا فاعلًا، ولا مفعولًا به، ولا غيره ... ؛ فليس له موضع، ولا محل من الإعراب، مطلقًا وكذلك ليس له تأثير في غيره مطلقًا؛ فلا يحتاج لفاعل، أو مفعول، أو مجرور، أو غيره2 ... " وإنما يقال في إعرابه: "إنه توكيد لفظي لكذا"؛ فهو تابع له في ضبطه الإعرابيّ، من غير أن يكون كالمتبوع فاعلًا، أو مفعولًا، أو مبتدأ، أو غير ذلك ... ومن غير أن يكون له محلّ من الإعراب، أو معمول ... ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون لفظ التوكيد اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا، أو جملة، أو اسم فعل؛ ففي مثل: إن الشمس إن الشمس قاتلة للجراثيم، تُعرب: "إنّ" الثانية "توكيدًا لفظيًا"، وليس لها عمل ولا محلّ. كما تعرب "الشمس" الثانية "توكيدًا لفظيًا" وليس لها عمل ولا محلّ، وليست معمولة. و"قاتلة" خبر "إن" الأولى، التي لها العمل وحدها، وهي التي تحتاج إلى الاسم والخبر، دون الثانية.
__________
1 إيضاح الفرق بينهما في ص542. وسيجيء في رقم 1 و2 من هامش ص667 ما يفيد التشابه الظاهري –أحيانًا– بين ألفاظ بدل الكل، وعطف البيان، والتوكيد اللفظي، وطريقة التفريق بين كل منهما.
2 سبق هذا الحكم لمناسبة أخرى في باب: "التنازع" "ج2 ص179 "د" م73" ويعارضه رأي آخر مدون هناك، ثم بيان الفيصل في الأمر –وله إشارة أيضًا في ج2 م66 ص70-.(3/527)
ويصح أن يقال –كما سيجيء1: إن الشمس إنها قاتلة للجراثيم. فكلمة "إن" الثانية توكيد لفظي لا عمل لها، ولا محلّ، و"ها" ضمير عائد على الشمس، مبني على السّكون، لا محل له من الإعراب؛ فليس اسمًا ل "إنّ"، ولا غيرعا، ولا عاملًا، ولا معمولًا لشيء مطلقًا؛ وإنما هو مجرد رمز يحاكى2 اسم "إنّ" الأولى، ويعرب توكيدًا لفظيًا له3 ... وهكذا كل رمز آخر يشبهه. ومن الواجب مراعاة ما سبقت4 الإشارة إليه، وهو: أن المؤكَّد "المتبوع" لا يصح تكراره أكثر من ثلاث مرات.
1- فإن كان اسمًا ظاهرًا "ومثله: اسم الفعل". فتوكيده اللفظيّ يكون بمجرد التكرار، نحو: النجومُ النجومُ معلقة في الفضاء، والشمسُ واحدة منها، والأرض الأرضُ كالحصاة الصغيرة بين آلاف من الكواكب الأخرى. فكلمة: "النجوم" الثانية، وكذلك كلمة: "الأرض" الثانية توكيد لفظيّ، وكلتاهما تضبط كالأولى؛ لأنها تابعة لها في الضبط فقط، من غير أن يقال عن الثانية إنها مبتدأ، أو خبر؛ أو فاعل، أو غيره مما له موقع إعرابي ...
ويستثنى من هذا الحكم الأسماء الموصولة، فإنها لا تؤكَّد توكيدًا لفظيًا إلا بإعادة لفظها وصلته معه، فلا يجوز تكرار الاسم الموصول وحده دون تكرار صلته. نحو: الذي سمَك السماء، الذي سمك السماء قادر على دَكّ عروش الظالمين ...
هذا، والأغلب أن الاسم الظاهر لا يكون توكيده اللفظي ضميرًا –لما سبق بيانه5-.
__________
1 في رقم 3 من ص532.
2 يقولون في إعراب هذا إنه جاء بقصد محاكاة الاسم السابق، فما المراد بالمحاكاة من الناحية الإعرابية؟ أهي الباب –وغيره– ص524" من أن الضمير لا يؤكد الاسم الظاهر، إذ الاسم الظاهر أوضح منه، لعدم حاجته إلى مرجع يفسره؟ أهذه الحالة مستثناة، والقاعدة السالفة اغلبية؟ نعم هذا الذي يفهم من كلام في حاشية ياسين على شرح التصريح في أول بحث: "التوكيد اللفظي".
3 ومثله الضمير: "هم" في قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} انظر رقم 2 من هامش ص525.
4 في ص526.
5 في ص524 وانظر رقم 2 من هذا الهامش.(3/528)
2- وإن كان المؤكَّد "وهو المتبوع" ضميرًا متصلًا -مرفوعًا، أو غير مرفوع– فمن الممكن توكيده توكيدًا لفظيًّا بضمير يماثله في معناه لا في لفظه؛ فيكون توكيده بالضمير المنفصل المرفوع المناسب له في الإفراد والتذكير وفروعهما؛ نحو: أرأيت أنت1 الخير وافى خاملًا –يُفْرِحك أنت وصول الحق إلى صاحبه، هل أنت في عمل الخير فتؤجرَ؟. ونحو: أرأيتما أنتما ... أرأيتم أنتم ... أرأيتن أنتن..2 ففي الأمثلة السالفة وقع الضمير المنفصل المرفوع "أنت وفروعه"، توكيدًا لفظيًّا لضمير قبله متصل، مرفوع، أو: منصوب، أو مجرور؛ وفي كل من الثلاث يعرب الضمير "أنت" وفروعه توكيدًا لفظيًا مبنيًا على الفتح أو غيره، ولا يقال فيه أنه مبني في محلّ رفع، أو: نصب، أو: جر، إذ ليس للتوكيد اللفظيّ محل إعرابيّ؛ لأن المحل الإعرابي لا يكون إلا للمبتدأ، أو الخبر، أو الفاعل، أو غيرها مما له موضع إعرابي لا يقوم على التوكيد اللفظيّ.
ومن الضمير المرفوع المتصل ما هو بارز كالأمثلة السابقة، وما هو مستتر كالفاعل لك من الأفعال الآتية في قوله عليه السلام: "كُلْ واشربْ، والْبَسْ في غير مَخِيلة3 ولا كِبْر" ... فكل فعل من هذه الأفعال له فاعل ضمير مستتر مرفوع، تقديره: أنت. فإذا أريد توكيد هذا الفاعل المستتر توكيدًا لفظيًّا فتوكيده بالضمير المرفوع البارز "أنت"، وهو غير الفاعل المستتر. فنقول: كُلْ أنت، واشربْ أنت والبسْ أنت، "فأنت" الضمير الظاهر هو توكيد لفظي للمستتر، ومثله قول الشاعر:
إذا ما بدتْ من صاحب لك زَلَّهٌ ... فكنْ أَنتَ محتالًا لزَلَّته عُذْرًا
فالضمير: "أنت" البارز توكيد لاسم: "كان" المستتر، وتقديره: أنت، أيضًا، والضمير: "أنت" المؤكَّد، هو في أصلة أحد ضمائر الرفع البارزة فحقه أن يؤكَّد الضمير المرفوع فقط، لكنه –على الرغم من هذا– يكون أحيانًا
__________
1 وهذا كقوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} حيث وقع الضمير المنفصل المرفوع: "هو" توكيدًا لفظيًا للضمير المتصل المنصوب، وهو الهاء في آخر الفعل "تجدوه".
2 ومثل "هم" المؤكدة لواو الجماعة في قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} .
3 اختيال، كبر.(3/529)
كثيرة توكيدًا لفظيًا لضمير غير مرفوع كما علمنا، فيخالف بهذا ما يناسب أصله الأول، ولكن هذه المخالفة مقبولة، وقياسية قوية.
3- وإن كان المؤكد "وهو: المتبوع" ضميرًا متَّصلًا مرفوعًا، أو غير مرفوع وأريد توكيده بضمير يماثله في اللفظ والمعنى معًا، وفي الاتصال، وفي النوع الإعرابيّ1 فلا بد أن يعاد مع التوكيد اللفظُ الذي يتصل –مباشرة– بالمؤكَّد "المتبوع"، أي: أنه لا بد من تماثل الضميرين "التابع والمتبوع" في اللفظ، وفي المعنى، وفي الاتصال، وفي أن يسبق كل ضمير منهما –مباشرة– لفظ يماثل الذي يسبق الآخر في نصَه ومعناه، ونحو: "انساب حولي صوت غنائي ساحر؛ فجعلت أسمعه أسمعه، وأصغي إليه إليه؛ فامتلأت النفس سرورًا". ولا يصح إعادة المؤكَّد "المتبوع" وحده لأن هذا يخرجه عن الاتصال.
ففي الأمثلة المذكورة أريد توكيد الضمير المتصل المرفوع، وهو: "التاء" التي في آخر الفعل الأول: "جَعَلْ" فأكدنا هذا الضمير بمثله في كل ما أوضحناه، وهو "التاء" الثانية التي هي كالأولى في لفظها، وفي أنها ضمير، متصل، للرفع، مسبوق بفعل كالفعل الذي سبق المؤكَّد "المتبوع". وكذلك أريد توكيد الضمير المتصل المنصوب؛ وهو: "الهاء" في آخر الفعل الأول: "أسمع" فأكدناه "بالهاء" الثانية التي تماثله في لفظه، ومعناه، واتصاله، ووقوعه بعد فعل كالفعل الذي سبق المؤكَّد "المتبوع". وكذلك أريدَ توكيد الضمير المجرور، وهو: "الهاء" التي بعد "إلى" الأولى، فأكّدناه بالهاء الثانية التي تماثله في لفظه ومعناه، واتصاله، ووقوعه بعد حرف جو يماثل الحرف كالذي قبلي المؤكَّد "المتبوع" تمام المماثلة ... "هذا، وكل لفظ تكرر –بعد الأول– لا يكون له محل إعرابي كما سبق"2....
__________
1 المراد: أن يكونا معًا من نوع واحد، كأن يكون من ضمائر الرفع التي للمتكلم، أو التي للمخاطب، أو الغائب، مع ملاحظة أن الضمير الذي للتوكيد اللفظي لا يعرب شيئًا، ولا محل له، -كما شرحناه-.
2 في "أ" ص527 وما بعدها، وفي توكيد الضمير المتصل توكيدًا لفظيًا. ووجوب أن يعاد معه عند توكيده الاسم الظاهر المتصل به يقول ابن مالك:
ولاَ تُعِدْ لَفْظَ ضَمِيرٍ مُتَّصِلْ ... إِلاَّ مَعَ اللَّفْظِ الَّذِي بهِ وُصِلْ
ثم يقول في آخر الباب:
وَمُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ ... أَكِّدْ بِهِ كُلَّ ضَمِير اتَّصَلْ
ولم يذكر ابن مالك بقية التفاصيل:(3/530)
4- وإن كان المؤكَّد "المتبوع" ضميرًا منفصلًا مرفوعًا أو منصوبًا1 فتوكيده اللفظي يكون بتكرار بغير مشروط. "أي: أن توكيده بضمير يماثله لفظًا ومعنى" فمثال المرفوع: أنت أنت مفطور على حب الخير. ومثال المنصوب قول الشاعر:
وإِيَّاكَ إِيَّاكَ المِرَاءَ2، فإِنه ... إِلى الشَّر دعَّاء، وللشَّرِّ جالبُ
ويتضح من هذا أن المنفصل المنصوب لا يصح توكيده بالمنفصل المرفوع، فلا يقال إياك أنت أكرمت، ولا ما أكرمت إلا إياك أنت، على اعتبار كلمة: "أنت" للتوكيد في الصورتين.
ج- إن كان المؤكد فعلًا -ماضيًا أو مضارعًا3- فإن توكيده اللفظي يكون بتكراره وحده دون تكرار فاعله4 ولا يكون للفاعل المؤكِّد "التابع" فاعل؛ إنما الفاعل للأول "المتبوع" كقول أعرابي، وقد سئل: أتقول الحق؟ فأجاب: "وهل يقول غيري الحق؟ وأنا من معشر وُلد وُلد الحق معهم، ولم يفارقهم". فلفظة "يقول" الثانية، ومثلها: "وُلد" الثانية لا محل لها من الإعراب.
د- وإن كان المؤكد حرفًا:
1- فإن كان حرف جواب5 يفيد الإثبات أو النفي فتوكيده اللفظي يكون بتكراره فقط؛ كقول أعرابي لأخيه الحزين: "فيم الأسف ما فات
__________
1 ولا وجود لضمير منفصل مختص بالجر.
2 المجادلة الباطلة.
3 أما فعل الأمر فلا يمكن توكيده وحده بغير فاعله –في الأصلح-
4 إذ لو تكرر الفاعل مع فعله لخرج الأمر من توكيد الفعل وحده توكيدًا لفظيًا إلى توكيده مع فاعله، فتدخل المسألة في توكيد الجملة الفعلية كلها بجملة فعلية كاملة. ومن آثار هذا الفرق أن المضارع المنصوب أو المجزوم إذا أريد توكيدًا لفظيًا وجب أن يكون المضارع الذي يؤكده منصوبًا أو مجزومًا مثله، ففي مثل: لم يتهاون الحازم، ولن يهملَ ... نقول: لم يتهاون يتهاون الحازم، ولن يهمل يهمل، بجزم المضارع: "يتهاون" الثاني، تبعًا للأول، وينصب المضارع الثاني: "يهمل" تبعًا للأول أيضًا. أما عند اعتبار الثاني مع فاعله هما جملة مؤكَّدة فلا يصح متابعته للأول في الجزم والنصب، ومما يوضح هذا ما سيجيء "في ص645" من بيان الفرق بين عطف الفعل على الفعل وعطف الجملة الفعلية على الفعلية.
5 سيجيء في الزيادة والتفصيل "ص535" بيان يفيد أن هذا الحكم ليس مقصورًا على حروف الجواب وحدها، وإنما يشمل بعض حروف أخرى.
وحروف الجواب نوعان: ما يجاب به للموافقة على الشيء المسؤول عنه وأنه ثابت واقع ومحقق، مثل نعم، أجل، جَيْرِ، إي ... ، وما يجاب به لبيان عدم الموافقة عليه، وأنه غير واقع، مثل: لا، بلى.(3/531)
وليس على الأرض باق؟ نَعَم نعم. ليس في طول الحزن إلا إطالة الشقاء، واستدامة العذاب" ... وقول الآخر، وقد سئل: لِمَ تُحاذر فلانًا وهو يصادقك؟ فأجاب: "لا. لا؛ فليس المنافق بالصديق. ورب صداقة ظاهرة، باطنُها عداوة كامنة، وهي أشد ضررًا، وأعمق خطرًا من العداوة السافرة".
2- وإن كان المؤكَّد حرفًا غير جوابيّ وقد اتصل به ضمير فتوكيد هذا الحرف لا يكون بتكراره وحده، وإنما يكون بتكراره ومعه الضمير المتصل به. ويجب الفصل بين المؤكد بفاصل نماَّ؛ لك1 لك منزلة الشقيق البارّ؛ وبك بعْد الله أستعين ... وكقول الشاعر:
أَيَا مَنْ لَسْتُ أَقْلاهُ2 ... ولا في البُعْد أنساهُ
لك اللَّهُ عَلَى ذاكا ... لك اللَّهُ لكَ اللَّهُ
3- وإن كان المؤكَّد حرفًا غير جوابيّ –أيضًا– وقد اتصل باسم ظاهر فتوكيده اللفظي يكون بتكراره ومعه الاسم الظاهر، أو ضمير هذا الاسم الظاهر، -وإعادة الضمير أفصح، وفي الحالتين يجب الفصل بين الحرفين؛ المؤكَّد والمؤكِّد. ويصح في الفصل الاكتفاء بذلك الاسم الظاهر، نحو: "إن العاقل الكريم، إن العاقل الكريم، أحرص على إماتة الحقد من تنمية أسبابه" أو: "إن العاقل، إن العاقل أحرى على إماته الحقد ... "، أو: "إن العاقل إنه أحرص على إماته الحقد ... " ومثل: "آفة النصح أن يكون جهارًا، فليت الناصح الحكيم ليت الناصح الحكيم لا يعلنه"، أو: "ليت الناصح لا يعلنه"، أو: "ليت الناصح ليته لا يعلنه" ومن أمثلة الفصل بالاسم الظاهر وحده قول الشاعر:
فتلك ولاةُ السوءِ قَدْ طالَ ملكُهُم ... فحتَّام3 حتام العناء المطول الْمُطَولَّ؟
__________
1 قد فصلت الكاف الأولى بين اللامين. والأحسن أن يكون الفاصل لفاظًا غير داخل فيما تكرر.
2 أكرهه وأبغضه "قَلَى، يَقلي كرمى يرمي وقَلِي يَقْلَى كتَعِبَ يَتعَبُ، لغة، بمعنى: كره يكره".
3 أي: إلى متى ... ؟ والفاصل هو: "ما" الاستفهامية المجرورة، التي حذفت "ألفها" وصلًا.(3/532)
ولو كان الحرف المؤكَّد داخلًا على مضاف فالحكم السابق أيضًا فيتكرر المؤكَّد "المتبوع" ومعه الاسم المضاف والمضاف إليه أو ضمير المضاف إليه: والأحسن إعادة الضمير مع الفصل بينهما في الحالتين. نحو: الكريم يود الكريم، واللئيم يودّ الناس على رجاء الفائدة. على رجاء الفائدة، أو: على رجاء الفائدة على رجائها1.
4- وإن كان المؤكَّد حرفًا غير جوابي –أيضًا– وقد دخل على حرف آخر فالتوكيد اللفظي يكون بتكرار الأول مع ما دخل2 عليه. ومن أمثلة هذا دخول "يا" على "ليت" وفي قول الشاعر3:
ويا ليتني ثم4 يا ليتني ... شهدتُّ وإن كنت لم أَشهدِ
هذا، وتوكيد الحروف توكيدًا لفظيًا على غير الوجه السالف ضعيف، بل شاذ، لا يصح القياس عليه، كقول القائل
إنّ إنّ الكريم يحلُمُ ما لم ... يَريَنْ من أَجَاره قَد أُضيمَا
فقد تكرر الحرف: "إنّ" بغير فصل ولا إعادة شيء. ومثل قول الآخر:
حتى تراها5 وكأَنَّ وكأَنْ6 ... أَعناقَها مشدداتٌ بقَرنْ7
__________
1 في توكيد الحروف يقول ابن مالك:
كَذَا الحُرُوفُ غيْرَ ما تَحَصَّلا ... بِهِ جَوَابٌ، كَنَعَمْ، وَكَبَلى
يشير بقوله: "كذا" إلى ما سبق في بيت قبل هذا من أن توكيد الضمير المتصل لا يكون إلا بإعادته وإعادة الاسم الذي اتصل به. وكذا الحروف لا يعاد لفظها –إن كانت لغير الجواب– إلا بإعادة الاسم الظاهر المتصل ما بها –أو الضمير-، أما حروف الجواب فتعاد وحدها. ثم ختم الباب ببيت سبق تسجيله وشرحه في مكانه الأنسب "ص530" وهو قوله:
ومُضْمَرُ الرَّفْعِ الَّذِي قَدِ انْفَصَلْ ... أَكَّدْ بهِ كُلَّ ضَمِيرٍ اتَصَلْ
2 إلا في مسألة يجيء بيانها في باب "البدل" –ص679 –حيث يصح إعادة حرف الجر، وعدم إعادته؛ طبقًا للتفصيل المدون هنا.
3 هو مالك بن أعين الحجازي، المتوفى سنة 248هـ -كما في معجم الشعراء للمرزباني حرف العين، ص268 -.
4 انظر ما يختص بالعطف في "هـ" ص536.
5 الضمير: المطايا.
6 أصلها: "أن" المشددة النون، ثم خففت نونها.
7 بحبل.(3/533)
فقد تكرر الحرف "كأَنَّ" من غير إعادة شيء معه، ولكن وجد فاصل بين الحرفين. وهو: "واو" العطف، فكان الضعف هنا أخف منه في البيت السابق1. ومثل قول الآخر يشكو حاله وحال أتباعه:
فلا واللهِ لا يُلْفَى2 لما بي ... ولا لِلِما بهم أبدًا دواءُ
فقد تكرر الحرف اللام "لِلِمَا" بغير فصل ولا إعادة شيء. والتوكيد هنا واضح الثقل؛ لأن الحرف فَرْدِيّ؛ فتكراره مباشرة يزيد ثقله ويوضحه3.
وأخف منه في الثقل لاختلاف الحرفين مع منعهم إياه إلا في المسموع، قول الشاعر:
فأَصبحْنَ لا يسأَلْنَهُ عن بِمَا بِهِ ... أصَعَّدَ في عُلْو الهوى أم تَصَوَّبا
فقد أتى "بالباء" بعد، "عَن" وهما يستعملان في معنى واحد، إذ يقال سألت به، وسألت عنه4.
والحق أن الأمثلة ثقيلة، فوق أن الدافع إلى أكثرها قد يكون الضرورة الشعرية. فاستبعادها أفضل.
__________
1 سيجيء في الزيادة –ص535– أن حرف العطف يعتبر من الفواصل المبيحة للتكرار مباشرة. لكن حرف العطف الفردي –كالواو والفاء– يعتبر مسوغًا مشوبًا بالضعف. وإذا وقع حرف العطف فاصلًا في التوكيد صار مهملًا لا يعطف، ولا أثر لوجوده غير الفصل –طبقًا للبيان الآتي في "هـ" من ص536.
2 لا يلقَى: لا يوجَد.
3 وفي كتاب معاني القرآن للفراء أمثلة متعددة لتكرار الحرف الفردي وغير الفردي ج1 ص67.
4 ومن المسموع اجتماع: "كي" و"أنْ" المصدرية وقبلهما "اللام" في مثل: عاونت الضعيف لكي أن تشيع المودة بين الناس، فقد أجازوا أن تكون اللام جارة و"كي" جارة، توكيدًا لها. كما أجازوا أن تكون "كي" مصدرية، و"أن" مصدرية توكيدًا لها. وما سبق بالرغم من إباحته غير مستحسن. وسيجيء التفصيل في ج4 باب إعراب الفعل.(3/534)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
عرفنا أن توكيد الحروف الجوابية توكيدًا لفظيًا لا يتطلب أكثر من تكرار الحرف، وأشرنا1 إلى أن الحكم ينطبق على بعض حروف أخرى؛ فقد قالوا2: لا يشترط شيء عند توكيد الحرف توكيدًا لفظيًا إن كان الحرف للجواب كقول الشاعر:
لا –لا –أبوحُ بحُبّ بَثْنَةَ إنها ... أّخذت عليَّ مواثقًا وعهودًا
وكذلك إنْ كان مفصولًا من المؤكَّد بسكته3؛ كقول الشاعر:
لاَ يُنْسِكَ الأسى تأَسِّيًا؛ فَمَا ... ما مِنْ حِمَامٍ أَحدٌ مُعْتَصِما4
أو: كان مفصولًا بجملة اعتراضية؛ نحو: إنّ –وأنت تعرف ما أقول– إن شر الإخوان من يحذف أخاه عند الشدائد. أو: كان مفصولًا بعاطف5 كقول الشاعر:
ليتّ شعري!!! هل، ثُم هَلْ آتِيَنْهُمْ ... أَم يَحولَنَّ دُون ذَاكَ حِمَامُ؟
__________
1 في رقم 5 من هامش ص531.
2 راجع حاشية ياسين على شرح التصريح في هذا الموضع.
3 ترك الكلام.
4 تحققت السكتة في هذا البيت بالسكوت المؤقت الذي حصل بعد قراءة الشطر الأول، وقبل البدء في قراءة الشطر الثاني.
5 انظر رقم 1 من هامش ص534.(3/535)
هـ- وإن كان المؤكَّدُ جملة اسمية أو فعلية جاز تكرارها بعطف صُورِيّ أو بغير عطف. والأكثر أن يكون بالعطف الصَّورِيّ، وأن يكون العاطف المهمل هو الحرف "ثمَّ"1 –غالبًا- ومن الأمثلة قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} 2 ... وقولهم للتَّقيّ: "الثواب عظيم، الثواب عظيم". وللشقيّ: "الحساب عسير، الحساب عسير".
ومما تجب ملاحظته أن العاطف هنا مهم لا يعطف مطلقًا، فهو صوريّ، أيْ: في صورة العاطف وشكله الظاهر، دون حقيقته3 ...
ويجب ترك العطف بين الجملتين إذا أوقع في لبس، نحو: عاقب الحاكم اللصوص، عاقب الحاكم اللصوص، فلو قلنا؛ عاقب الحاكم اللصوص ثم عاقب الحاكمُ اللصوص لوقع في الوهم أن العقاب تكرر، وأنه مرتان؛ إحداهما بعد الأخرى. مع أن المراد: مرة واحدة.
و نعيد هنا ما قلناه في مناسبة سابقة4، وهو أن توكيد المصدر لعامله نوع من التوكيد اللفظيّ، فيؤكد نفس عامله إن كان مصدرًا مثله، ويؤكد مصدر عامله الذي ليس بمصدر، ليتحد المؤكَّد والمؤكِّد معًا في نوع الصيغة؛ تطبيقًا لشرط التوكيد اللفظي –ومنه التوكيد بالمصدر الذي نحن فيه– فمعنى
__________
1 الأكثر أن العاطف هو "ثم" وليس بالواجب المتعين في رأي "الرضي" الذي يبيح مجيء "الفاء" مكان "ثم"؛ مستدلًا بقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ... } إذ التقدير عنده: "أولى لك فأولى لك"؛ فكلمة: "أولى" الثانية مبتدأ حذف خبره، والجملة الاسمية من هذا المبتدأ وخبره المحذوف توكيد لفظي للجملة الاسمية التي قبل الفاء المهملة. أما غير الرضي فيوجب الاقتصار على الحرف: "ثم" ويقول في إن الآية السابقة كاملة هي: "أوْلَى لك فأولىَ، ثم أولى لك فأولى" ما بعد الفاء جملة اسمية معطوفة عطفًا حقيقيًا على الجملة الاسمية قبلها، والجملة بعد الحرف "ثم" المهمل توكيد لفظي للجملة قبلها. رأى الرضي أحسن.
2 ومثل قول الشاعر –وقد سبق في ص526-.
ألا يا أسلمي، ثم أسلمي، ثمت أسلمي ...
3 كما سيجيء في بابه، عند الكلام على: "الفاء"، وكذا في ص578 و.... عند الكلام على: "ثم".
4 في باب "المفعول المطلق ج2 ص169 م74" عند الكلام على تقسيم المصدر بسحب فائدته المعنوية.(3/536)
قولك: عبرت النهر عبرا ... هو: عبرت النهر، أوجدت عبرا عبرا. وهذا رأي كثرة النحاة1.
حذف المؤكد "المتبوع" في التوكيد اللفظي3.
لا يكاد يوجد خلاف في منع حذف المؤكَّد توكيدًا لفظيًّا؛ لأن حذفه منافٍ –حقًا- لتكراره.
__________
1 لكن سيترتب على الأخذ بقولهم هذا صحة حذف المؤكَّد في التوكيد اللفظي، وهذا الحذف ينافي الغرض من التوكيد اللفظي. وفوق هذا فعامله محذوف أيضًا؛ ففي الكلام حذف كثير. فهل يجاب بأنه مع حذفه ملاحظ يدل عليه العامل المذكور الذي يشاركه في الاشتقاق، وهو: "عبرت" فهو محذوف كالمذكور –كما قالوا-؟
2 هناك مسائل يحذف فيها عامل المصدر الذي يجيء المصدر لتوكيده. وقد انعقد للحذف مستفيض، عنوانه: حذف عامل المصدر ... في المكان المناسب له، وهو باب: "المفعول المطلق" ج2 ص178 م176.(3/537)
المسألة 117:
ج- العطف بنوعيه
العطف نوعان: عطف بيان، وعطف نسق1، وفيما يلي بيانهما:
1- عطف البيان:
نسوق بعض الأمثلة لإيضاح هـ:
1- قال أحد المؤرخين "طَرَقَ الحسينُ بنُ عليّ –رضي الله عنهما– باب سيد كريم في قومه؛ هو: "امرؤ القيس الكلبيّ" وخطب بنته: "الرَّبَاب" فرحب به أبوها، وملأت الفرحة جوانب نقسه؛ لعلمه أن هذه المصاهرة ستربطه ببيت الرسول: "محمد" عليه السلام، وتسجل له شرفًا خالدًا على الأيام.. وتمَّ الزواج، وأنجبت الرَّبَاب فكان من ذريتها: الأديبةُ المتفقهة "سُكَينةُ" إحدى شهيرات النساء في الصدر الأول والتي قيل فيها2:
كانت "سكَيْنةُ" تملأُ الدُّنيا ... وتهزأ بالرواةِ
رَوَتِ الحديث وفسّرتْ ... آيَ الكتابِ البينات ... "
فلو أن المؤرخ قال: طرق "الحسين" باب سيد كريم لتَساءلنا: من هو "الحسين"؟ ولشعرنا أن هنا الاسم –برغم أنه معرفة بالعَلِمية– يحتاج إلى مزيد من الإيضاح والتبيين يزيل عن حقيقة صاحبه، وعن ذاته3 شائبة الإبهام،
__________
1 سيجيء في ص555.
2 القائل هو الشاعر: أحمد شوقي.
3 المقصود بصاحبه، أو بذاته المستقلة، أو بحقيقته، شيء واحد؛ هو: ذاته الأصلية بكيانها الحسي، أو المعنوي، لا الأوصاف العارضة التي تطرأ على تلك الذات، ولا يمكن أن تعقل بنفسها منفصلة عن تلك الذات. "راجع إيضاح هذا في ص542 و543 وهامشهما، وكذلك رقم 2 من هامش ص438".(3/538)
إذ لا ندري أهو الحسين بن علي، أم غيره؛ لاشتراك هذا الاسم بين أفراد متعددة، كل منها يسمىك "الحسين". لكن حين قيل: "الحسين بن عليّ" زالت تلك الشائبة بسبب كلمة: "ابن" الجامدة1 التي وضحت المقصود، وعينت المراد، والتي معناها هنا معنى: "الحسين" لأن "الحسين" المقصود هو "ابن علي"، و"أين عليّ" المقصود هو: "الحسين" فالمراد من الكلمتين ذات واحدة، ولكن الثانية أوضحت الأولى –كما قلنا– مع أنها تخالفها لفظًا، لا معنى وذاتًا.
وكذلك خطب: "بنته" فإن كلمة: "بنت" هنا معرفة؛ بإضافتها إلى الضمير، لكنها –بالرغم من تعريفها– مُغَشَّاة بشيء من الشيوع والإبهام يجعلنا لا ندري حين نسمعها: أيُّ بنات الرجل هي؟ أتكون ذات "الرَّبَاب" أم ذات غيرها؟.... فلما قال: "الرباب" تحدد الغرض، وتعينت ذات واحدة دون غيرها؛ بسبب كلمة: "الرباب" الجامدة التي أزالت الابهام، وأوضحت المراد، وبين معناها الذي هو معنى: "البنت" لأن حقيقة البنت المقصودة هنا في الكلام هي حقيقة "الرباب" وذات "الرباب" المقصودة هي ذات البنت التي يدور بشأنها الكلام. فهما مختلفتان لفظًا، مع اتفاقهما معنّى وذاتًا.
ومثل هذا يقال في كلمة "الرسول" السالفة. فما حقيقة الرسول المراد؟ وما ذاته؟ إنّ كلمة: "الرسول" برغم تعريفها هنا "بأَلْ" تحتاج إلى تعيين أكمل وإيضاح وأشمل؛ لانطباقها على عدد من الأفراد. فلما جاء اسم: "محمد"2 تم به التعيين الذاتي، وزال ما قد يحوم حول مدلول "الرسول" من شيوع وإبهام؛ بفضل كلمة: "محمد" التي عينت ذاته؛ لأنها بمعناها تمامًا، والمراد منها ذات واحدة.
ومثل هذا كلمة: "الأديبة". فهذه الكلمة –برغم تعريفها هنا "بأل"– لا تدل دلالة دقيقة على ذات واحدة معيَّنة دون غيرها، وإنما تصدق على أدبيات متعددات، فلما جاء بعدها كلمة بمعناها، هي: "سُكَيْنة" الجامدة تركز المراد: في ذات أديبة واحدة معينة، لا ينصرف الذهن إلى سواها، وهي الذات
__________
1 غير المشتقة.
2 رددنا في مناسبات مختلفة أن المشتق إذا صار علمًا دخل في عداد الأسماء الجامدة، وخضع لأحكامها وحدها.(3/539)
المقصودة التي تدل عليها كل واحدة من الكلمتين.
فنلحظ مما سبق أن كل كلمة من الكلمات التي عرضناها "وهي: "ابن"، الرباب، محمد، سُكَيْنة.." جامدة، قد أزالت عن المعرفة التي قبلها ما يشوبها من غموض، وشيوع، وأوْضحت المقصود منها إيضاحًا لا يكاد يترك أثرًا لإبهام أو اشتراك، وهي في الوقت نفسه بمعنى تلك المعرفة دون لفظها فمدلولها ذات واحدة، بالرغم من اختلاف لفظها.
2- كتب أحد الأدباء إلى خطيب:
"عرفتك قبل اليوم عذبَ الكلام. حُلوَ الحديث، وسمعتك الليلة خطيبًا بارعًا عبقريًا ...
ولقد أصغيتُ إلى قلتَ؛ فإذا كلمةٌ، "خطبةٌ" اسْتهوت الأفئدةَ، وأداءٌ، "تمثيل" خلَب الألبابَ، وجرْسٌ، "نغَمٌ" جسَّم المعانيَ، وكشف للعيون دلالات الألفاظ؛ حتى كدنا نراها بيننا تروح وتغدو ... ".
فلو أن الكتب كتب: "أصغيت إلى ما قلت فإذا "كلمة" ... " لذهبت لنا الظنون، مذاهب عدة في الذات المرادة من هذه الكلمة المصوغة بصيغة النكرة. أهي ذات كلمة واحدة؟ أهي شعر أم نثر؟ أخطبة أم مقالة.... ولكن الكاتب ازال كثير من الظنون حين قال بعد ذلك: "خطبة" ومعناها هنا. والمراد من ذاتها هو معنى: "كلمة" وذاتها فتحدّد المراد من: "كلمة" بعض التحديد، وحُصِرَتْ النكرة في دائرة أضيق من الدائرة الأولى الواسعة الإبهام والشيوع. وصارت النكرة مختَصة بعد أن كانت مطلقة كاملة الإبهام والشيوع. وكذلك كلمة: "أداء"؛ فإنها نكرة مطلقة، قد يراد منها ذات الأداء البلاغيّ في تكوين الأسلوب، أو: ذات الأداء في الثبات، وعدم الاضطراب، أو: ذات الأداء البلاغيّ في تكوين الأسلوب، أو: ذات الأداء في الثبات، وعدم الاضطراب، أو: ذات الأداء البلاغيّ في تكوين الأسلوب، أو: ذات الأداء في الثبات، وعدم الاضطراب، أو: ذات الأداء في استيفاء المعاني ... أو ... ؛ فجاءت بعدها كلمة: "تمثيل" التي هي بمعناها هنا، فحددت بعض التحديد المراد من حقيقة الأداء وذاته، وقللت الاحتمالات في فهم المراد من تلك النكرة، أو: بعبارة أخرى: خصّصتْها، وقيدت شمولها بعض التقييد. ومثلها كلمة: "نَغَم" بعد النكرة: "جَرْس".
فكل كلمة من الثلاث: "خطْبة، تمثيل، نَغَمْ، وأمثالها، هي كلمة(3/540)
جامدة، وقد خَصُّصَت النكرة التي قبلها بعض التخصيص، وحددت شيوعها وإبهامها بعض التحديد. وهي في الوقت نفسه بمعناها، دون لفظها؛ فالمراد منها ذات واحدة.
وكل واحدة من هذه الثلاث، ومن الأربعة التي سبقتها في المثال الأول –ونظائرها- تسمى: عطف بيان، ويقولون في تعريفه:
إنه تابع1 جَامد –غالبًا– يخالف متبوعه2 في لفظه3، ويوافقه في معناه المراد منه
الذات4، مع توضيح الذات إن كان المتبوع معرفة، وتخصيصها5 إن كان نكرة6 ...
__________
1 ولا بد في هذا التابع "عطف البيان" أن يكون اسما ظاهرًا؛ كما يأتي في رقم 2 وطبقًا للبيان الآتي في ص550. وقد سبق شرح معنى "التابع" وبيان أحكامه العامة وترتيبه مع نظرائه.... أو باب النعت، "ص434". ومن أحكامه المدونة هناك جواز الفصل بين التابع والمتبوع بشيء مما أوردناه مفصلًا، بشرط ألا يكون المتبوع أحد الموصولات؛ إذ لا يجوز الفصل بين الموصول وصلته بتابع مطلقًا –كما أشرنا هناك، وكما هو مبين تفصيلًا في موضعه الخاص ج1 م27. ص341-.
2 والصحيح أن متبوعة لا يكون ضميرًا؛ فإن جاء ضميرًا وجب إعراب التابع بدلًا. وليس عطف بيان –كما سبق في رقم 1، وكما سيجيء في رقم 5 من هامش ص543، وفي ص550-.
3 لابد من المخالفة اللفظية؛ فلو اتحد لفظًا ومعنى لم يصلح أن يكون عطف بيان؛ لأن الشيء لا يوضح نفسه، ولا بينهما. راجع حاشية الصبان ج3 عند آخر بيت في باب: "تابع المنادى". وستجيء إشارة لهذا في ج4 ص41 م130".
4 لأن معناه ومدلوله هو الذات نفسها لا أمر عرضي طارئ عليها –كما أوضحنا في ص521 و423-
5 سبق في أول باب النعت –ص438– وفي غيره معنى إيضاح المعرفة، وتخصيص النكرة، بما ملخصه أن المعرفة تدل على معين. ولكنها –بالرغم من ذلك– قد يصيبها شيء من الشيوع بسبب تعدد مدلولها. فأحمد، ومحمد، وعلي، والنابغة ... معارف، لكن مدلول كل منها متعدد يحتاج أحيانًا إلى ما يزيل عنه الإبهام والشيوع، ويوضح المراد دون غيره. وهذا هو: "الإيضاح الموضح". أما النكرة فمدلولها شائع كامل الشيوع. نحو رجل، طائر، حيوان ... فما يجيء لتحديد شيوعها وتقليله يسمى: "المخصص" إلا أن الإيضاح والتخصيص يكونان في النعت بأمور معنوية عرضية طارئة على الذات، دون الذات نفسها، بخلافهما في عطف البيان؛ فينصبان على الذات نفسها –كما شرحنا، وكما سيجيء هنا، ثم في رقم 2 من هامش ص554-.
3 وقد يكون للمدح مثل: "البيت" في قوله تعاى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} .(3/541)
أوجه التشابه والتخالف بين عطف البيان 1 والتوابع الأخرى:
من التعريف السابق يتبين أن عطف البيان يشبه بعض أنواع النعت الحقيقي في إيضاح المتبوع أو تخصيصه، على الوجه المشروح في باب النعت "وقد يشبهه في القطْع" –كما أسلفنا– والفارق بينهما أن النعت الحقيقي لا بد من اشتماله على ضمير مستتر يعود على المنعوت، وأن الغالب على النعت الحقيقي: "الاشتقاق" وأنه لا يوضح ولا يخصص الذات الأصلية لمنعوته بلفظ يدل عليها مباشرة، وتكون هي المرادة منه، وإنما يوضح منعوته بصفة عرضية وأمر طارئ على الذات، كالفهم، والحسن، والطول، والقصر.
أما عطف البيان فإنه يوضح أو يخصص الذات نفسها، لا بأمر عرضي طارئ عليها2: وإنما بلفظ يدل عليها مباشرة وهو عين معناها، فهو بمنزلة التفسير للأول باسم آخر مرادف له يكون أشهر منه في العرف والاستعمال من غير أن يتضمن حالة من الحالات العرضية التي تطرأ على الذات وتوصف بها. ولهذا يغلب أن يكون عطف البيان جامدًا أي: غير مشتق فيكون العلم المجرد، والكنية. فلا ضمير فيه؛ لأن الغالب عليه الجمود –كما سبق– ومن الجائز ألا يتحقق فيهما هذا الفارق الأغلبي إذ يصح –بقلة– وقوع النعت جامدًا مؤولًا بالمشتق. ووقوع عطف البيان مشتقًا، ولكن الأولى مراعاة الأغلب الأفصح.
كما يتبين أن عطف البيان قد يشابه التوكيد اللفظيّ بالمرادف في بعض الصور مثل: "تبْرٌ ذَهَبٌ" في أن كلًا منهما كمتبوعه في معناه، دون لفظه. إلاّ أن الغرض من عطف البيان هو: الإيضاح أو التخصيص3. أما الغرض من التوكيد اللفظي -بتكرار اللفظ أو مرادفه- فأمر آخر، وأوضحناه في بابه4، وعلى
__________
1 إذا كان المتبوع كنية لوحظ في عطف البيان ما سبقت الإشارة إليه "أ" من ص429.
2 سبقت الإشارة الموضحة لهذا في النعت في رقم 2 من هامش ص438.
3 بمعناهما السالف في رقم 5 من هامش الصفحة الماضية، والذي سيجيء أيضًا في رقم 2 من هامش ص544. "وراجع ص71 ج3 من شرح المفصل".
4 ص525. وبينهما فروق أخرى ستجيء في ص550 منها أن عطف البيان لا يكون فعلًا ولا جملة.. وغير هذين مما سنذكره ...(3/542)
ملاحظة هذا الغرض الذي تدل عليه القرائن يتعين أحدهما في موضع لا يصلح له الآخر.
أما المشابهة بين عطف البيان وبدل الكل من الكل1 "من ناحية معناهما، وإعرابهما، وقطعهما2 وجمودهما، دون لفظهما". فغالبة3، ولا يصح في أكثر حالاتهما أن يحب محل الآخر من غير أن يتأثر الكلام بهذا التغيير –كما سيجيء في باب البدل- نحو: ما أعجبَ ملكة النحل؛ "اليعسوبَ". تدير مملكتها بحزم ومهارة، وتراقب رعيتها بيقظة واهتمام، ولا تستقر في قصرها "خَلِيَّتِها"، إلا فترات قصيرة للراحة والهدوء.
فكلمة: "اليَعسوب"، عطف بيان، أو بدل كل من كل، من النحلة، وكلمة: "خلي" عطف بيان، أو بدل كل من كل، من: قصْر4 ...
حكم عطف البيان:
عطف البيان تابع يطابق متبوعهُ5: في أربعة أمور محتومة6، ولا بدّ أن يكون اسمًا ظاهرًا7 في جميع أحواله:
أولها: في ضبطه الإعرابيّ "من ناحية الرفع، والنصب, والجر". ويجوز فيه القطع8؛ كالنعت.
وثانيهما: في تعريفه وتنكيره9.
__________
1 وهو الذي يكون فيه التابع مطابقًا في المعنى لمتبوعه تمام المطابقة ... مع اختلافهما لفظًا –في الغالب– كما سيجيء في بابه. وتفصيل الكلام عليه في ص546.
2 مع مراعاة ما يختص بقطع البدل، وسيجيء في "هـ" من ص677.
3 راجع التحقيق في ص549، 550.
4 نعيد هنا ما سبقت الإشارة إليه "في رقم 1 من هامش ص527" وهو أن التشابه الظاهري قد يقع –أحيانًا– بين ألفاظ بدل الكل، وعطف البيان، والتوكيد اللفظي طبقًا للبيان في رقمي 1، 2 من هامش ص643 وفيهما طريقة التفريق.
5 ويلاحظ ما سبق في رقم 2 من هامش ص541 وما سيجيء في ص550 وهو أن متبوعه لا يكون ضميرًا –في الرأي الأصح– فإن جاء ضميرًا وجب إعراب التابع بدلًا –وسيجيء هنا أيضًا-.
6 وتجري عليه فوق ذلك جميع الأحكام العامة المشتركة التي تجري على التوابع الأربعة التي سبقت ارشادة لها في هامش ص434 م114.
7 راجع الملحوظة الخاصة ببيان هذا في ص550.
8 سبقت الإشارة لهذا في هامش ص502 أما بيان القطع وأحكامه ففي ص486 و488.
9 الصحيح أن هذا هو الأغلب؛ إذ عطف البيان قد يكون كالمتبوع، ومن أمثلته قوله =(3/543)
وثالثها: في تذكيره وتأنيثه.
ورابعهما: أنه لا بد أن يطابقه في أربعة أمور من عشرة1 ... كما في الأمثلة التي سلفت2 ... وقد يقع عطف البيان بعد أيْ "بفتح الهمزة
__________
= تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} ؛ وقوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} ويصح تخالفهما تعريفًا وتنكيرًا بشرط أن يكون التابع هو المعرفة، ليتحقق الغرض من "عطف البيان" وقد نص على صحة التخالف بعض النحاة –ومنهم الرضي، كما جاء في "الصبان" آخر هذا الباب– ولكنهم لم يقيدوا المخالفة بتعريف التابع أو تخصيصه، وهذا الإطلاق غير مفهوم، إلا عند من يقول: "إن النكرة تخصص متبوعها" والتخصيص نوع من البيان والإيضاح طبقًا للبيان الذي يجيء في رقم 2 من هامش الصفحة التالية. غير أن تمثيل الرضى؛ هناك "فيما نقله عند الصبان لجواز وقوع عطف البيان نكرة" قد يدل على أنه يقصد النكرة المختصة. وهذا هو الأحسن. ويؤيده ما ورد في حاشية "ياسين" في باب "البدل" عند الكلام على منع بدل الاسم الظاهر من الضمير بدل كل من كل؛ بحجة نقصان الاسم الظاهر في تعريفه عن الأول "المتبوع" حيث قال ما نصه: "أما نقصان تعريف الثاني عن تعريف الأول فلا يضر؛ كما في إبدال النكرة الموصوفة من المعرفة؛ نحو: مررت بمحمد رجل عاقل، إذ رب نكرة تفيد ما لا تفيده المعرفة، وإن اشتملت المعرفة على فائدة التعريف التي خلت عنها النكرة" ا. هـ. ويلاحظ أن التمثيل جاء بنكرة مختصة، وأن الكلام خلا من النص على اشتراط اختصاصها، كما يلاحظ أن الرأي السالف أحد آراء متعددة أشرنا إليها في هامش ص456 حيث يصح في المثال الذي عرضه "ياسين" أن يكون عطف بيان، وأن يكون غير ذلك؛ طبقًا لما هو مدون هناك.
1 العشرة هي: علامات الإعراب الثلاث، التعريف والتنكير، التذكير والتأنيث، الإفراد والتثنية والجمع.
2 فيما سبق من تقسيم العطف إلى نوعين يقول ابن مالك في أول باب خاص عقده بعنوان: العطف.
العَطْفُ، إمَّا ذو بيان، أَو نَسَقْ ... والغَرَضُ الآنَ بَيَانُ مَا سَبقْ
انظر الكلام على معنى "أو" المراد منهما "إما" في ص615.
والذي سبق في التقسيم هو "ذو البيان" أي: صاحب البيان ويقول في تعريفه:
فذُو البَيَان تابعٌ شِبْهُ الصَفةْ ... حقِيقَةُ القَصْدِ به مُنْكَشِفَهْ
يريد: أن عطف البيان تابع، يشبه الصفة "النعت" فليس هو الصفة؛ لأن بينهما فوارق متعددة، منها: أن عطف البيان يبين حقيقة متبوعه، ويكشف ذاته المقصودة. أما النعت فيبين معنى عارضًا في متبوعه، أو في سببيه، ففي مثل "كلمت الرجل العالم" تبين كلمة: "العالم"، "وهي: النعت" معنى من المعاني العارضة التي تتصف لها ذات العالم، فقد تتصف بالعلم، أو: بالأدب، أو بالاختراع ... أو ... أما عطف البيان فلا يبين صفة من الصفات التي تطرأ على الذات، وإنما يبين الذات نفسها. سواء أكانت ذاتًا حسية. أم معنوية؛ أي: يبين ما يسمى: =(3/544)
وسكون الياء"، التي هي حرف تفسير1، فلا يتغير من حكمه شيء؛ نحو: هذا الخاتم لجين، أي: فضة. وفي هذه الصورة يتعين عطف البيان أو بدل الكل؛ إذ لا يقع سواهما بعد: "أي" التفسيرية.
__________
= حقيقة الشيء، ومادته الأصلية –كما شرحناها من قبل– في ص542 فنقول كلمت الرجل، إبراهيم فكلمة: "إبراهيم" بينت ذات الرجل، وحقيقته الأصلية، لا وصفًا طارئًا من أوصافه، ولذا تسمى "عطف بيان"، لأنها بينت الحقيقة المقصودة، أو ذات الحقيقة، ثم قال في حكمه:
فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاق الأَوَّلِ ... مَا مِنْ وِفَاقِ الأَوِلِ النَّعْتُ وَلِي
أي: أعطه من موافق الأولى "المتبوع" مثل ما تولاه النعت من موافقة منعوته، وهو الأمور السابقة. "فمعنى: أولينه: أعطه، ومعنى: ولى: تولى وأخذ"، ثم نص على أن عطف البيان ومتبوعه يتماثلان تعريفًا وتنكيرًا، وأنهما يكونان من هذا النوع، أو ذاك، ولا يقتصران على أحدهما.
فَقَدْ يكُونَانِ مُنكَّرِيْنِ ... كَمَا يَكُونَانِ مُعَرَّفَيْنِ
وهو بهذا النص الصريح يرد على من يقول: إن عطف البيان لا يكون إلا معرفة؛ بحجة أن الغرض منه البيان والإيضاح، وهو من شأن المعرفة لا النكرة؛ إذ النكرة المجهولة، والمجهول لا يبين المجهول وأن ما تنوهمه من النكرات عطف بيان فليس به؛ ولكنه بدل كل من كل ... و.... والرأي الراجح المقبول أنه يكون نكرة أيضًا، لأن النكرة تخصص متبوعها، والتخصص نوع من البيان والإيضاح. كما سبق في رقم 4 من الهامش السابق؛ فعندهم أن الأخص قد يبينه ويوضحه ما ليس بأخص. هكذا يقولون. وهو مقبول أحيانًا لاطباقه على بعض الصور الواردة والأساليب الصحيحة؛ مثل: "يا إحسانُ رجلٌ" إذا كان "إحسان" أو ما ماثله علم من الأعلام المشتركة بين الذكور والإناث، فلم لم يذكر بعده كلمة: "رجل" التي توضح ذاته لوقع لبس في حقيقته؛ أو هو رجل أم امرأة ... أو....
1 انظر رقم 1 من هامش ص556 ورقم 4 من هامش 547 ويصح إعراب ما يقع بعد "أي" التفسيرية "بدل كل" إلا في المسائل التي يفترقان فيها "وسيجيء في باب البدل".
وقد يتعين أن يكون ما بعد "أي" بدلًا وليس عطف بيان، ذلك أن عطف البيان لا يكون متبوعه ضميرًا وقع المتبوع ضميرًا وجب إعراب التابع بدلًا، لا عطف بيان. "راجع حاشية ياسين في باب النسب عند الكلام على النسب إلى ما حذفت فاؤه، أو عينه.....".
"ويقول صاحب المغني" عند الكلام عليها ما نصه الذي نقلناه –في رقم 1 من هامش ص556- وهو: "وتقع تفسيرًا للجمل أيضًا؛ كقول الشاعر:
وترمينى بالطرف، أي: أنت مذنب ... ا. هـ. والجملة التفسيرية بعدها لا محل لها من الإعراب.(3/545)
الارتباط بين عطف البيان وبدل الكل من الكل 1:
أشرنا2 إلى أن المشابهة غالبة بين عطف البيان وبدل الكل من الكل، في ناحية معناهما، وإعرابهما، وقطعهما3، وجمودهما، دون حروفهما، والأحسن القول بأن المشابه بينهما كاملة فيما سبق، لا غالبة، إذ التفرقة بينهما قائمة على غير أساس سليمن فمن الخير توحيدهمان لما في هذا من التيسير، ومجاراة الأصول اللغوية العامة. أما الرأي الذي يفرق بينهما في بعض حالات فرأى قام على التخيل، والحذف، والتقدير، من غير داع، ومن غير فائدة ترتجى. ومن السداد إهماله وإغفاله4.
على أنا نشير هنا إلى بعض الصور التي يتحتم فيها العطف البياني بناء على ذلك الرأي؛ ويمتنع بدل الكل، مُرَددين بعد ذلك عدم الالتفات إلى الرأي السالف. منها5:
1- أن يكون التابع مفردًا، معرفة: منصوبًا، والمتبوع منادى، مبنيًا على الضم مثل: يا صَديقُ عليًّا6. فيجب عندهم إعراب: "عليًا" عطف بيان، ولا يصح إعرابه بدل كل؛ لأن البدل لا بد أن يلاحَظ معه في التقدير تكرار العامل الذي عمل في المتبوع، بحيث يصح أن يوجد هذا العامل قبل التابع وقبل المتبوع معًا، من غير أن يترتب على التكرار فساد لم يصح إعراب الكلمة "بدل
__________
1 قد يكون من المستحسن تأخير مبحث الارتباط بين عطف البيان وبدل الكل إلى ماب عد الانتهاء من البدل، ولكنا في تقديم سايرنا ابن مالك حيث تعرض لهذا الارتباط وللموازنة في باب عطف البيان.
2 في ص543. وأنظر في ص549 و550.
3 انظر ما يختص بقطع البدل في "هـ" ص667.
4 انظر رقم 1 من هامش ص533 حيث الرأي السديد لبعض الثقات.
5 انظر الزيادة والتفصيل –ص549– حيث بيان الضابط العام الذي يشمل كل الصور الممنوعة عندهم.
6 وهذا الإعراب بالنصب جائز في النداء بشروط تذكر في بابه، ج4 –على اعتبار "عليًا"– المنصوبة عند استيفاء الشروط تصلح "بدلًا" من كلمة "صديق" المبينة لفظًا، المنصوبة محلًا؛ لأنها منادى مبني على الضم في محل نصب.(3/546)
كل"ووجب الاقتصار على إعرابها "عطف بيان" فقط. وهذا معنى قولهم: "إن البدل على نية تكرار العامل". فتقدير الكلام في المثال السالف: يا صديق عليًا؛ بتكرار العامل، وهو "يا" ووجوده قبل المتبوع حقيقة، وقبل التابع تخيلًا. وهذا التكرار يؤدي إلى خطأ النصب في كلمة "عليًّا" المذكورة؛ لأنها في التخيل: منادى مفرد علم؛ فيجب بناؤها على الضم؛ طبقًا لأحكام المنادى، ولا يجوز نصبها. إلا على اعتبارها عطف بيان1؛ لأن عطف البيان لا يلاحظ فيه تكرار العامل، ولا أنه مقدّر قبل التابع، وإنما يكتفي بوجوده قبل المتبوع فقط. فإعراب الكلمة المذكورة: "عليًّا" بدلًا، يؤدي عندهم إلى فساد نحويّ يجب توقيه، بالعدول عن البدل إلى عطف البيان، أو غيره إن أمكن.
2- أن يكون التابع خاليًا من "أل" والمتبوع مقترنًا بها مع إعرابه مضافًا إليه، والمضاف اسم مشتقٌ، إضافتُه غير محضة2؛ نحو: نحن المكرمُو النابغةِ هند؛ فيجب –عندهم– إعراب "هند" عطف بيان، لا بدلًا؛ لأن البدل على نية تكرار العامل، وملاحظة وجوده قبل التابع كوجوده قبل المتبوع، كما أسلفنا وعلى هذا يكون الأصل المتخيَّل للمثال هو: نحن المكرمو النابغة, المكرمو هند، فلو أعربنا كلمة: "هند" التي في المثال الأصلي بدلًا لأدى الإعراب إلى فساد؛ هو: أن يكون المضاف مشتقًا مقترنًا "بأل"، والمضاف إليه غير مقرون بها؛ لأن الإضافة غير محضة؛ يمتنع فيها مثل هذا، إلا بوجود بعض المسوغات3 التي تصححها. والجملة هنا خالية من كل مسوغ –في رأيهم-.
ولا سبيل عندهم للفرار من الفساد إلا بإعراب "هند" عطف بيان، لا بدلًا؛ إذ عطف البيان لا يشترط فيه صحه تكرار العامل4 ...
__________
1 وهو منصوب مراعاة لمحل المنادى المتبوع، لأن كلمة: "على" مبنية على الضم في محل نصب –كما قلنا.
2 سبق شرحها وتفصيل الكلام عليها في هذا الجزء "ص1 و3 وما بعدهما".
3 سبق بيان هذه المسوغات في ص12.
4 وفي صلاحية عطف البيان لأن يكون "بدل كل من كل" إلا في الصورتين السالفتين –وأشباههما– يقول ابن مالك: =(3/547)
هذا رأي المانعين. وفيه ما فيه من إرهاق وتعسير بغير طائل؛ لأن المعنى واضح على البدلية؛ كوضوحه على عطف البيان، وليس أحدهما أبلغ من الآخر، ولا أكثر تداولًا واستعمالًا، ولا مخالفًا لأصل لغوي واقعيّ. ففيم الحذف، والتقدير، والنية، والملاحظة..؟ وبخاصة مع ما سجله النحاة في هذا الباب –وغيره– من أنه قد يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل؛ أي: قد يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع1. وذكروا لتأييد هذا أمثلة كثيرة فصيحة. فليس من ضرر مطلقًا ألا يصلح العامل في بعض المواضع لوقوعه قبل التابع، كهذا الموضع: إنما الضرر في عدم صحة وقوعه قبل المتبوع وحده. فلم العناء؟ وفيم التعسير؟
__________
=
وَصَالِحًا لِبَدَلِيَّة يُرَى ... في غَيْر نَحْو: يلا غُلاَمُ يعْمُرا
ونَحْو: بشْر تابع البَكْريِّ ... وليْس أَن يُبْدَلَ بالمرضِيّ
يريد: أن عطف البيان يصلح للبدلية في غير الصورة التي تشبه في تركيبها: يلا غلامُ يعمر –علم شخص– والألف الأخيرة زائدة للشعر -" حيث وقعت "يعمر" منصوبة مراعاة لمحل المنادى المبني على الضم في محل نصب. فلو أعربت: "يعمر" بدلًا لكان التقدير: يا غلام يا يعمر؛ على نية تكرار العامل؛ فتنصب الكلمة مع أن نصبها مع ندائها غير جائز؛ فيتعين إعرابها عطف بيان، فرارًا من هذا الخطأ.
ويشير إلى المسألة الثانية بكلمة "بشر" التابعة لكلمة: "البكري" في قول الشاعر "المراد الفقمي":
أَنا ابنُ التارك البَكْريِّ بشْرِ ... عليه الطيرُ ترقُبه وُقُوعا
فالتابع: هو: "بشر" والمتبوع هو: "البكري" المضاف إليه، المقترن "بأل" والمضاف الذي إضافته غير محضة "بدلًا" لكان التقدير على نية تكرار العامل هو: "أنا ابن التارك البكري، التارك بشر"، فيضاف الوصف المقرون بأل إلى غير لمقرون بها وغير الصالح هنا، وأن يكون مضافًا إليه. وهذا غير جائز في الإضافة غير المحضة. وللفرار من هذا تعرب عندهم: "بيانًا".
1 راجع حاشية الأمير ج1 في الكلام على الحرف: "ب" ووجوب تنكير مجروره. وكذلك "الهمع" ج1 ص215 عند الكلام على: "لدن"، والصبان: ج4 –باب عوامل الجزم– عند الكلام على نوع فعل الشرط والجواب، بل إن الصبان "ج2 باب الإضافة، عند الكلام على "أيْ" ينتقل النص التالي: "إنا نقول: يغتفر كثيرًا في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل" فيصرح بأن هذا الاغتفار كثير.(3/548)
نعم قد يكون التفرقة بينهما سائغة في بعض صور، ولكن من ناحية أهرى دقيقة غير تلك التي تصدى لها المانعون؛ هي أن لعطف البيان غرضًا معنويًا هامًا؛ هو: إيضاح الذات نفسها، أو تخصيصها على الوجه الذي شرحناه1 أما بدل الكل فله غرض آخر يختلف عن هذا تمامًا؛ هو الدلالة على ذات المتبوع بلفظ آخر يساويه في المعنى؛ بحيث يقع اللفظان على ذات واحدة، وفرد معين واحد في حقيقته –كما سيجيء في بابه– ولا يضر أن يختلفا في المفهوم بعض الاختلاف اليسير ما دامت حقيقة الذات المقصودة واحدة؛ كالاختلاف الذي في نحو عرفت سعيدًا أخاك2، ولا شأن لبدل الكل بالإيضاح والتخصيص، فحيث اقتضى المقام إيضاح حقيقة الذات أو تخصيصها –والإيضاح والتخصيص هنا ذاتيان، "أي: يقعان وينصبان على الذات"– فاللفظ عطف بيان ليس غير، بشرط أن تجتمع فيه بقية الشروط الواجبة في عطف البيان، ومنها: مطابقته للمتبوع في الأمور الأربعة السالفة؛ ولهذا كانت كلمة: "سيد" الثانية عطف بيان في قول الشاعر:
إذا سيد منَّا مَضى لسبِيلِه ... أقام عمودَ الدين آخَرُ سيدُ
وحيث اقتضى المقام الدلالة على ذات المتبوع نفسها بلفظ آخر يساويه تمامًا في المدلول فاللفظ "بدل كل من كل"، وبخاصة إذا فقد اللفظ شرطًا من شروط عطف البيان.
هذه هي ناحية التفرقة الحقة التي يجب الاقتصار عليها؛ نزولًا على أحكام اللغة، وتقديرًا لخصائصها، وكشفًا لأسرارها، بل إن هذه التفرقة نفسها قد يمكن رفضها3.
__________
1 في ص542 وفي رقم 2 من هامش ص544. وانظر البيان كاملًا في ص679.
2 فلذات "الأخ" هي ذات "سعيد"، ولكن هذا المعنى الزائد غير مقصود مطلقًا في عطف البيان، إذ لو قصد لصارت الكلمة نعتًا مؤولًا بالمشتق. والفرق كبير في المعنى والحكم بين النعت وعطف البيان.
3 وهي تفرقة دقيقة لا تكاد تدرك، وغير مقصودة كما أوضحنا في هامش الصفحة السالفة ومن الممكن الاكتفاء بجعل عطف البيان وبدل الكل قسمًا واحدًا. ويكتفي أن علمًا محققًا كالرضي يقول ما نصه: "أنا إلى الآن لم يظهر لي فرق جلي بين الكل من الكل وعطف البيان، بل ما أرى عطف البيان إلا البدل؛ كما هو ظاهر كلام سيبويه.... و..".
"راجع الصبان آخر باب عطف البيان".(3/549)
ملحوظة: مما يمتاز به عطف البيان من بدل الكل أن عطف البيان لا يكون ضميرًا1، ولا تابعًا لضمير، ولا مخالفًا لمتبوعه في تعريف وتنكير2 –على الرأي الصحيح– ولا يقع جملة، ولا تابعًا لجملة3، ولا فعلًا، ولا تابعًا لفعل، ولا يكون ملحوظًا في النية إحلاله محل الأول –كما شرحنا، ولا يُعّد متبوعه في حكم الطَّرح. ولا يُعَدّ في جملة أخرى مستقلة عن جملة متبوعه4. بخلاف بدل الكل في جميع هذا.
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في رقم 5 من هامش ص541 وفي رقم 5 من هامش ص542.
2 ولما كان الأغلب في عطف البيان –كما في ص543– موافقته لمتبوعه في التعريف والتنكير امتنع إعراب مخصوص "حبذا" عطف بيان؛ لورود أمثلة كثيرة منه نكرة وقد ذكرنا بعضها في رقم 2 من هامش ص381.
3 أي: لا يصح أن يكون متبوعه جملة مع أن البدل يصح أن يكون بدل جملة من جملة كما سيجيء في ص667.
4 انظر أمثلة الحالة الأولى الآتية في الزيادة.(3/550)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
الذين يمنعون البدل في المسألتين السالفتين، وفي بعض مسائل أخرى، ويجتمعون أن تكون عطف بيان يضعون لهذه المسائل كلها ضابطًا عامًا ينطبق عليها جميعًا. وسنعرضه فيما يلي؛ ليتبين ما فيه من إرهاق وإعانات لا داعي لهما.
يقولون: يصح في عطف البيان –إذا قصد به ما يقصد ببدل الكل– أن يعرب "بدل كل"، إلا في حالتين:
أولاهما: ألاّ يمكن الاستغناء عن عطف البيان لمانع يَحُول دون صحة بدل الكل.
وثاينهما: ألاّ يمكن إحلال عطف البيان –لو صار بدلًا– محل متبوعه لمانع يحول دون البدلية، ودون وضع البدل مكان المبدل منه ...
1- ومن أمثلة الحالة الأولى أن يكون الاسم "التابع"؛ واقعًا بعد جملة تعرب خبرًا، أو: صلة، أو: نعتًا، وليس فيها رابط يربطها بالمبتدأ، إنما الرابط ضمير –أو نحوه– في ذلك الاسم التابع؛ فمثاله بعد الجملة الواقعة خبرًا: هند حضر صالح ولدها. فلو أعَربْنُا كلمة: "ولد". بدلًا –والبدل عندهم على نية تكرار العامل– لكان التقدير: هند حضر صالح، حضر ولدها؛ فتخلو جملة الخبر من الرابط؛ لأن الضمير المتصل بالاسم صار في جملة أخرى مستقلة عن الجملة الخبرية؛ إذ الكلام جملتان: الأولى هي الخبر، ولا رابط فيه، والثانية مستقلة عن الأولى، استئنافية، والضمير الذي بها لا يربط الأولى بمبتدئها.
ومثلًا الجملة الواقعة صلة: أجَاد الذي تكلم عَليُّ خاله. فلو أعربنا كلة: خال "بدلًا" لكان التقدير: أجاد الذي تكلم علي تكلم خاله؛ فتكون الجملة الثانية مستقلة عن الجملة الأولى، وتصير الصلة خالية من الرابط: فلا تصلح أن تكون صلة.
ومثال الجملة الواقعة نعتًا: أجاد رجل تكلم عَلىُّ خاله؛ فإعراب كلمة "خال" بدلًا يقتضي تكرار العامل، وأن الأصل: أجاد رجل تكلم علي(3/551)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تكلم خاله؛ فتكون الجملة الأولى الواقعة نعتًا "وهي تكلم عليّ" خالية من الرابط الذي يربطها بالمنعوت؛ وهنا غير جائز. أما الضمير المتأخر فإنه في جملة مستقلة بنفسها لا يصلح رابطًا في الأولى ... لاستقلال كلمة جملة بكيانها.
وفي الحق أن المعنى وسلامة الأسلوب لن يتغيرا بإعراب الاسم بدل كل أو عطف في صورة من الصور السابقة الممنوعة عندهم.
2- ومن أمثلة الحالة الثانية التي لا يصح فيها إحلال البدل محل المبدل منه ما تقدم من أن يكون التابع مفردًا معرفة منصوبًا والمتبوع منادى، مبني على الضم. أو: أن يكون التابع خاليًا من "أل" والمتبوع مقترنًا بها ... بالصورة التي شرحناها -وهذان هما الأمران المعروضان أولًا في ص546 وما بعدها-.
ومن أمثلة الأمر الثاني أيضًا: أن يكون المتبوع منادى والتابع اسم إشارة، أو مقرونًا "بأل": نحو: يا إبراهيم هذا، أو يا إبراهيم الحسين، إذ يترتب على إحلال البدل محل المبدل منه في المثال الأول صحة: "يا إبراهيم يا هذا"، مع أن الفصيح أن يكون لاسم الإشارة تابع مقرون "بأل". ويترتب على إحلاله في المثال الثاني صحة: "يا إبراهيم يا الحسين "، مع أن دخول "أل" على المنادى ممنوع.
وكل هذا، وكل ما يأتي مما هو ممنوع عندهم، إنما يقوم على أساس توهمهم أن البدل لا بد أن يكون على نية تكرار العامل. أي على أساس أن يصح وقوع البدل مكان المبدل منه.
ومنها: أن يكون التابع مثنى أو جمعًا، مع التفريق فيهما بالعاطف، والمتبوع غير مفرق؛ كقول الشاعر:
أَيا أَخويْنا عَبْدَ شمس ونَوْفلًا ... أُعيذُكما بالله أَن تُحدِثَا حرْبًا
فيتعين كونهما عطف بيان؛ لأن التقدير على البدلية: يا عبد شمس ونوفلًا، بنصب كلمة "نوفلًا" مع أن المعطوف المفرد في النداء لا يجوز نصبه، وإنما يجري عليه حكم المنادى المستقل1.
__________
1 لقد صرحوا أن كل عطف بيان يصلح "بدل كل من كل"، واستثنوا من هذا الحكم مسائل، منها المسألة التي جاء هنا البيت شاهدًا لها. لكني ألاحظ أن كلمة: "عبد" من: "عبد شمس" =(3/552)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها: أن يكون المنادى "أي" الموصوفة بما فيه "أل" بعدها، وتابعه خال من "أل"، نحو: يأيها القائد سعيد. فلو أعربت كلمة: "سعيد" بدلًا لكان التقدير: يأيها القائد سعيد، وهذا خطأ؛ لأن تابع "أي" في النداء لا بد أن يكون مقرونًا "بأل" أو اسم إشارة له تابع مقرون بها ...
ومنها: أن يكون اسم الإشارة المنادى -أو غير المنادى- متبوعًا بما فيه "أل" والتابع خال منها، ولا يوجد ما يعني عنها؛ نحو: يا ذا الرجل غلام حامد، أو جاء هنا الرجل حامد. فلو أعرب: "غلام" أو "حامد" بدلًا لكان التقدير: يا ذا الغلام حامد وجاء هذا الرجل جاء هذا حامد، وتابع اسم الإشارة لا يكون مجردًا من "أل".
ومنها: أن يكون المتبوع مضافًا إليه والمضاف هو: "كِلاَ" أو "كِلتا" والتابع مثنى مفرَق؛ نحو: أسرع كلا المتنافسين محمود وحامد أسرعت كلتا المتنافستين فاطمة وزينب فلو أعرب التابع: "وهو: محمود وفاطمة" بالا لكان تقدير الكلام: "أسرع كلا المتنافسين، أسرع كلا محمود وحامد" "أسرعت كلتا المتنافستين، أسرعت كلتا فاطمة وزينب"، فيترتب على نية تكرار العامل إضافة كلا وكلتا للمثنى المفرق؛ وهما لا يضافان إليه إلا شذوذًا.
ومنها: أن يكون التابع مثنى مفرقًا، أو جمعًا مفرقًا كذلك، والمتبوع مثنى أو جمعًا غير مفرق في الصورتين. وهو مضاف إليه والمضاف هو: "أيّ". نحو: "بأي الزميلين جعفر وحسن
__________
= هي بدل بعض من: "أخوين" فلا يقع فيها اللبس بين عطفه البيان وبدل الكل؛ لأنها لا تصلح بدل كل. فما المراد من بدل الكل؛ أيكون اللفظ وحده هو البدل الكلي أم هو مع ما عطف عليه، ويؤيد هنا خلوه من الضمير؛ كالشأن في بدل الكل؟ لو صح هذا الاعتبار فلم يعربونه بدل بعض، ويدخلونه في حكمه؟
لم أهتد إلى من تعرض لهذا. ويبدو أنهم يعتبرونه "كُلّ" إذا نظروا له من جهة المعطوفات عليه التي تشمل كل أنواع المبدل منه كاملة. و"بعض" إذا نظروا إليه من غير اعتبار المعطوفات التي تحصر تلك الأنواع. ومثل هذا يقال في بعض الحالات الآتية المسثناة "انظر ص667 و677" ...(3/553)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مررت"، فلو أعرب "جعفر" وما عطف عليه بدلًا من الزميلين لكان التقدير: بأي الزميلين، بأي جعفر وحسن مررت؛ وهنا ممنوع؛ لما فيه من إضافة: "أيّ" للمفرد المعرفة، وهي لا تضاف إليه إلا بالمشرط التي عرفناها عند الكلام عليها في باب "الإضافة"1، وهي غيره محقّقة هنا. ولا يتغير الحكم بإحلال الجمع لمحل المثنى في مواقعه السّالفة ...
ومنها: أن يضاف "اسمُ التفضيل" إلى عامّ، وبعده تابعه ذو قسمين؛ أحدهما لا يكون المفضل بعضًا منه؛ نحو: الرسل أفضل الناس الرجال والنساء، فلو أعرب التابع بدل لكان التقدير: الرسل أفضل النساء؛ لأن اسم التفضيل إذا بقي على دلالته من التفضيل والزيادة على المضاف إليه وجب أن يكون بعضًا من هذا المضاف إليه –كما سبق في بابه– ولهذا أخطأ من قال: أنا أشعر الإنس والجن، إذا أراد التفضيل على الوجه السالف.
إلى هنا انتهت صُوَر من أشهر الأمثلة للنوع الثاني، وهي –كنظيرتها من صور النوع الأول خيالية، مصنوعة، أساسها توهم أن البدل لا بد أن يكون على نية تكرار العامل، وهذه دعوى لا تستند إلى أساس قوي. والعرب –أصحاب اللغة– لا تدري من أمرها شيئًا؛ ولن يترتب على إهمالها، وعدم التمسك بها فساد في المعنى ولا في التركيب2؛ فالجهد فيها ضائع لا محالة.
__________
1 ص105.
1 بل إن كثيرًا من النحاة يقول: "قد يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع" كما سلف هنا –ص548– وفي نواحٍ متعددة من أجزاء الكتاب.
وراجع ما سبق في ص546، ثم الرأي الحاسم الذي في رقم 3 من هامش ص549.(3/554)
المسألة 118:
2- عطف النسق 1:
هو: تابع2 يتوسط بينه وبين متبوعه حرف من حروف
__________
1 النسق -بفتح السين وسكونها- مصدر نسقت الكلام أنسقُهُ "بفتح السين في الماضي، وضمها في المضارع" بمعنى: واليت أجزاءه، وربطت بعضها ببعض، ربطا يجعل المتأخر متصلا بالمتقدم. وكان الأفضل الاقتصار على كلمة: "النسق" بمعنى: "المنسوق" من إطلاق المصدر على المفعول. أي: الكلام المنسوق بعضه على بعض.
والنسق: اصطلاح كوفي، وقد اشتهر حتى لا يكاد غيره يذكر. وسيبويه وكثير من البصريين يعبرون عنه في كلامهم: "بالشركة"، وعلينا اليوم أن نساير المشهور؛ توحيدًا للاصطلاح، وانتفاعا بمزايا هذا التوحيد.
2 سبق -في أول باب: النعت، م114 ص434 معنى التابع، وترتيبه مع تابع آخر، وسرد أحكامه العامة الجلية ومنها جواز الفصل أو امتناعه بينه وبين المتبوع، وأن البناء لا ينتقل من المتبوع إلى التابع مطلقًا.
"ملاحظة": التابع هنا وهو المعطوف، مفردًا أو غيره مفرد قد يتعدد، ويتمدد معه حرف عطف لا يفيد الترتيب، نحو: قرات الكتاب، والرسالة، والمجلة، والخطاب ... فيكون "في غير الحالة التي يفيد فيها حرف العطف الترتيب، وستأتي" المعطوف عليه واحدًا فقط، وهو الأول دائما؛ مهما تعددت المعطوفات وقبل كل منها حرف عطف غير مُرَتَّب، كالمثال السالف؛ فإن المعطوفات المتعددة هي: الرسالة، المجلة، الخطاب ... وقبل كل واحد حرف عطف لا يفيد الترتيب، والمعطوف عليه واحد، هو: الكتاب.
ومثل قول المتنبي يفتخر:
الخيل والليْلُ والبَيداءُ تعْرِفني ... والسَّيف والرُّمْحُ والقِرطَاسُ وَالْقلَمْ
فالمعطوف عليه هو الأول "أي: الخيل" وما جاء بعده هو المعطوفات، الليل، البيداء، السيف، الرمح، القرطاص، القلم" وقبل كل معطوف هنا حرف العطف: الواو ومن الجائز أن يكون حرف العطف غير الواو أيضًا بالشروط الخاصة بكل حرف. ولا يجوز أن يتعدد حرف العطف لمعطوف واحد، لأن حرف العطف لا يدخل مباشرة على حرف عطف أخر. ومن أمثلة المعطوفات المتعددة -وكل منها جملة- والمعطوف عليه هو الأول قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} . =(3/555)
عشرة1، كل منها يسمى: "حرف العطف"، ويؤدي معنى خاصًّا.
__________
= وهناك حالة لا يكون فيها عطف المعطوفات المتعددة على الأول، وهي الحالة التي يقع فيها أحد هذه المعطوفات بعد حرف عطف يفيد الترتيب"مثل: الفاء وثم" فيكون المعطوف عليه هو الذي قبل العاطف مباشرة؛ مثل؛ "أقبل صالح، وحامد، وخليل، فمحمد، ثم ابراهيم" فحامد وخليل معطوفان على الأول: "صالح"، أما محمد فمعطوف على: "خليل"، وأما إبراهيم فمعطوف على: "محمد". ومن الأمثلة قول علي رضي الله عنه: "من نظر في عيوب الناس فأنكرها، ثم رضيها لنفسه فذاك الأحمق بعينه". فالجملة من الفعل: "أنكر" وفاعله، معطوفة على الجملة الفعلية قبلها. أما الجملة الفعلية الثانية -المكونة من الفعل: "رضي"، وفاعله- فمعطوفة على الجملة الفعلية المكونة من الفعل: "أنكر" وفاعله. ومثل هذا يقال في الجمل الفعلية المعطوفة بالفاء في قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} . وفي الشطر الأول من قول الشاعر:
نرى الشيءِ مما نَتَّقِي فنَهابُه ... وما لا نرى –مما يَقِي اللَّهُ- أكبرُ
وجدير بالملاحظة: أنه إذا جاء بعد العاطفه المرتب ومعطوفه عاطف آخر لا يفيد الترتيب -كالواو- فإن معطوفه يكون معطوفًا على المعطوف بحرف العطف المرتب الذي قبله مباشرة. "وبعبارة أخرى: يجب أن يكون المعطوف بالعاطف المفيد للترتيب هو المعطوف عليه للمعطوف بعاطف يليه مباشرة. ولا يصح العطف مطلقًا على معطوف عليه قبل العاطف المفيد للترتيب"؛ ففي مثل: أقبل سالم، وصالح، ومحمود، وحامد ثم حسين، وآمين ... ، يتعين أن يكون "آمين" معطوفًا على "حسين" ولا يصح عطف على غيره. أما "حسين" فمعطوف على "حامد" حتمًا. وأما كل ما قبله فمعطوف بالواو على "سالم". وما سبق هو المراد من قول الصبان في آخر باب: العطف: "إن المعطوفات إذا تكررت تكون على الأول على الأصح، وذلك مقيد بما إذا لم يكن العاطفه مرتَّبًا؛ فإن كان مرتبًا فالعطف على ما يليه؛ كما نقل عن الكمال ابن الهمام: أنه إذا عطف بمرتب أشياء ثم عطف بغير مرتب شيء فهو على ما يليه، كما يؤخذ من كلام المغني في أول الجملة الرابعة من الجمل في التصريح، وغيره.
ومن الأمثلة لهذا قول الشاعر القديم "عُروة بن أُذَينة":
بيضاء باكرَها النعيم فصاغها ... بلباقة؛ فأدَقَّها، وأَجَّلها
منعتْ تحيتها,؛ فقلت لصاحبي ... ما كان أَكثرها لنا، وأَقلَّها
1 وبعضها قد يكون حرف عطف في الصورة لا في الحقيقة وهو الحرف: "الفاء" والحرف: "ثم" طبقًا للبيان الآتي في صفحتي "576 و578".
وليس من حروف عطفه النسق -عند أكثر النحاة- الحرف: أيْ" -بفتح الهمزة، وسكون الياء- الذي هو حرف تفسير، يعرب ما بعده بدل كل، أو عطف بيان -كما سبق الإيضاح في بابه- وليس هناك حرف يدخل على عطفه البيان أو البدل، ويتركه على اسمه وحكمه الإعرابي إلا أيْ"؛ فكلاهما يظل على اسمه وحكمه الإعرابي، كما كان قبل دخول "أي" عليه =(3/556)
وفيما يلي هذه الحروف، ومعانيها، وأحكامها1:
1- الواو:
معناها: إفادة "مطلق الاشتراك والجمع" في المعنى بين المتعاطفين2 إن كان مفردين3.
__________
= والكوفيون يعدون هذا الحرف من حروف عطف النسق، ومعناه: "التفسير"؛ كمعنى واو العطف أحيانًا؛ فيزاد عددها واحدًا. ورأيهم حسن وواضح، لا ضرر في الأخذ به، بل إنه يبعدنا أحيانًا عن مشكلات نحوية لا سبيل للتغلب عليها إلا بالتأويل والتكلف؛ منها: أن عطف البيان -كما سبق في رقم 1 من هامش ص541 وفي ص550- لا يكون متبوعه ضميرًا؛ فإذا جاءت أمثلة فيها المتبوع ضميرًا وجب اعتبار التابع بعد "أي" بدلًا وليس عطف بيان.
"راجع حاشية ياسين على التصريح في باب: "النسب" عند الكلام على النسب إلى ما حذفت فاءه أو عينه".
وجاء في "المغني" عند الكلام عليما ما نصه: "وتقع تفسيرًا للجمل أيضًا؛ كقول الشاعر "وترمينني بالطرف، أي: أنت مذنب ... " ا. هـ والجملة التفسيرية بعدها لا محل لها من الإعراب.
1 في ص656 بعض أحكام أخرى عامة ومهمة -غير التي سنبدأ بها هنا- ومنها الحكم الثالث، حكم الضمير العائد على المتعاطفين معًا، من ناحية مطابقته لهما، أو لأحدهما. وكذلك حكم القطع في "عطف النسق".
2 هما المعطوف، وهو الذي بعد حرف العطف مباشرة، والمعطوف عليه، وهو المتبوع، ولا بد أن يسبق حرف العطف؛ وقد يكون المعطوف عليه محذوفًا. ولا ميما إذا كان العاطفه هو: الواو طبقًا لما يأتي في ص639.
3 المفرد في باب العطف هو: ما ليس جملة ولا شبه جملة؛ فهو كالمفرد في باب الخبر والنعت، والحال ... ، ويدخل في عطف المفرد هنا عطف الفعل وحده بغير مرفوعه على فعل آخر وحده ... بخلاف عطف الفعل مع مرفوعه على فعل آخر مع مرفوعه فهو عطف جمل. وسيجيء البيان الخاص بهذا في ص642 م121.
والعطف بالواو إذا كان المعطوف غير مفرد، قد يفيد مطلق التشريك، نحو: نبت الورد ونبت القصب ... ، أو لا يفيد؛ نحو: حضرت الطيارة، ولم تحضر السيارة. أما نحو: ما قام علي ولكن محمود ... فليس من عطف المفردات؛ وإنما هو من عطف الجمل، وقد حذف الفعل، -كما سيجيء في ص 616-.
وقد تكون الواو للعطف والمعية معًا فتفيد الأمرين مجتمعين؛ وهي "الواو" التي ينصب المضارع بعدها بأن المصدرية المضمرة وجوبًا؛ فإنها تجمع الأمرين: العطف والدلالة على المصاحبة والاجتماع، أي: الدلالة على أن المعنى بعدها مصاحب في تحققه وحصوله للمعنى قبلها؛ فزمن تحققهما واحد، وسيجيء بيان هذا في مكانه الأنسب ج4 باب النوصب -".(3/557)
والمراد من "الاشتراك المُطلق والجمع المطلق" أنها لا تدل على أكثر من التشريك في المعنى العام: فلا تفيد الدلالة على ترتيب زمني بين المتعاطفين1 وقت وقوع المعنى، ولا على صاحبة، ولا على تعقيب1، أو مهلة، ولا على خسَّة0أو شرف2 ...
وهي إنما تتجرد للاشتراك المطلق حيث لا توجد قرينة تدل على غيره، وحيث لا تقع بعدها "إما" الثانية. فإن وجدت قرينة وجب الأخذ بما تقتضيه، وان وقعت بعدها "إمّا" الثانية كانت الواو لمعنى آخر غير التشريك والجمع -وسيجيء التفصيل3-.
ففي مثل: وصل القطار والسيارة تفيد الواو مجرد اشتراك المعطوف "وهو: السيارة"
المعطوف عليه؛ "وهو: القطار" في المعنى المراد، وهو: "الوصول" من غير إن تزيد على هنا شيئًا آخر: فلا تدل على: "تريب" زمني بينهما يفيد أن أحدهما سابق في وقته، وأن الآخر لاحق به، ولا على: "مصاحبة" تفيد اشتراكهما في الزمن الذي وقع فيه اشتراكهما في المعنى4، ولا على "تعقيب" يدل على أن المعنى تحقق في المعطوف بعد تحققه في المعطوف عليه مباشرة، من غير انقضاء وقت طويل بينهما، ولا على: "مهلة" تدل على أن تحققه كان بعد سَعَة من الوقت، وفسْحة فيه2 ...
__________
"1، 1" الترتيب الزمني: تقدُّم أحدهما على الآخر وقت وقوع المعنى والمصاحبة: تقتضي اشتراكهما في المعنى في وقت واحد. "أي: انطباق المعنى عليهما معًا في زمن واحد". والتعقيب: وقوع المعنى على المعطوف بعد وقوعه على المعطوف عليه مباشرة، "أي بغير مهلة، ولا انقضاء وقت طويل عرفًا" ...
2 فالمتأخر -وهو المعطوف- قد يكون أشرف أحيانًا من المتقدم "وهو المعطوف عليه" كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
3 في ص612.
4 أي: أنها لا تفيد اشتراكهما في الزمن والمعنى معًا، وإنما تقتصر على الاشتراك في المعنى وحده.
5 ومن الأمثلة أيضًا قول الشاعر:
زادَ الوشاة، ولا والله ما تركوا ... قولًا، وفعلًا، وبأْساءً، وتهجينًا
فلم نزِد نحن في سرّ وفي علن ... علة مقالتنا: "الله يكفينا"
ومن أوضح الأمثلة لدلالة على مجرد الاشتراك المطلق في معنى الواو قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .(3/558)
ففي المثال السابق قد يكون وصول القطار أوَّلًا وبعده السيارة، وقد يكون العكس، وقد يكون الزمن بين وصول السابق واللاحق طويلا أو قصيرًا، وقد يكون وصولهما اصطحابًا معًا "أي: في وقت واحد"، فلا سبق لاحدهما ولا زمن بين وصولهما. فكل هذه الاحتمالات صحيحة، لا يزيلها إلا وجود قرينة تدل على واحد منها دون غيره. كان يقال: وصل القطار والسيارة قبله، أو بعده، أو معه ...
فمن أمثلة الترتيب والمهلة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} ، فقد أفادت الواو الاشتراك، والترتيب الزمني، والمهلة؛ فعطفت المتأخر كثيرا في زمنه "وهو: إبراهيم" على المتقدم في زمنه، "وهو: نوح، وكانت إفادتها الترتيب والإمهال مستفادة من قرينة خارجية يجب احترامها، هي التاريخ الثابت الذي يقطع بأن زمن إبراهيم متأخر كثيرًا عن زمن نوح، ولولا هذه القرينة ما أفادت الواو الترتيب الزمني، وفسحة الوقت. وهذه الفسحة -أو المهلة- يُقدّرها العرف بين الناس، فهو -وحده- الذي يحكم على مدة زمنية بالطول، وعلى أخرى بالقِصَر، تبعًا لما يجري في العرف الشائع.
ومن الأمثلة أيضًا قوله تعالى مخاطبًا النبي محمدًا عليه السلام: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فالواو قد أفادت الاشتراك والجمع في المعنى المراد: وهو: الإيحاء. وأفادت -أيضا- الترتيب الزمني والمهلة بعطف المتقدم في زمنه على المتأخر كثيرا في زمنه بقرينة خارجة عنهما، هي: "من قبلك" فهنا النص مريح في أن "المعطوف" سابق في زمنه على "المعطوف عليه" ولولا هذه القرية لاقتصرت الواو على افادة الجمع المطلق في المعنى والاشتراك المجرد فيه، دون إفادة تريب زمنيّ، وأما المهلة فقد دلّ عليها التاريخ.
وكقوله تعالى في نوح عليه السلام حين ركب السفينة هو وأصحابه المؤمنون، فرارًا من الغرق بالطوفان: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} فالواو تفيد الجمع(3/559)
والاشتراك في المعنى؛ وتفيد معه الاتحاد في الزمن بين المعطوف؛ "أصحاب ... " والمعطوف عليه: "الهاء" فقد نجا نوح وأصحابه في وقت واحد -معًا- بدليل النصوص القرآنية الأخرى1 وروايات التاريخ القاطع؛ فلا ترتيب ولا مهلة. ومن أمثلة الترتيب والعقيب؛ جرى الماء وأرْوَى الزروع.
وأنا فُقِدت القرينة الدالة على الترتيب الزمني أو على المصاحبة فالأكثر اعتبارها للمصاحبة، ويلي هذا اعتبارها؛ فيكون المعطوف متأخرًا في زمنه عن المعطوف عليه. ومن النادر العكس، ويراعى في هاتين الحالتين عدم التعقيب إلا بقرينة.
وإن وقعت "واو" العطف قبل: "إمّا"االثانية لم تفد معنى الجمع والتشريك، وإنما تفيد معنى آخر يقتضيه المقام الذي لا يسايره معنى الجمع؛ كالتخيير2؛ مثل: استَرِضْ إما مشيًا وإما ركوبًا....، وقد تكون للتخيير مباشرة بغير "إما"؛ نحو: سافر الآن بالقطار والطائرة. وقد يكون معناها التقسيم؛ نحو: الكلمة اسم، وفعل، وحرف.
أحكامها:
1- من أحكام "واو" العطف، التي تشارك فيها بعض أخواتها3، أنها تعطف المفردات –كبعض الأمثلة السابقة– والجمل4،
__________
1 القصة كاملة في سورة هود، وفيها النص على نجاة نوح ومعه ركاب السفينة، حيث قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} .
أي: استقرت السفينة بمن فيها بعد كل ما سبق على جبل معروف: يسمى: "الجودي".
2 معناه في ص604 -وسيجيء الكلام على "إما" ومعانيها في ص612-.
3 أنها قد تتجرد للاستئناف المحض، ولا تصلح لغيره وكذلك "الفاء" و"ثم".
4 بنوعيها. فمثال الجملة الاسمية قولهم: "لا فقر أشدُّ من الجهل، ولا ماَلَ انفعُ من العقل، ولا حَسَبَ كحُسن الخُلق ... " وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ، قول الشاعر المسهد:
فلا الصبح يأْتينا، ولا الليل ينضي ... ولا الريح مأذون لها بسكون
ومثال الفعلية قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ... } . وقول الشاعر:
إذا صار الهلال إلى كمالٍ ... وتمّ بهاؤه فَارقُبْ مَحَاقَهُ(3/560)
أشباهها1. وأنها يجوز مع معطوفها بشرط أمن اللبس2، مثل قول الشاعر:
إني مُقَسَّمُ ما ملكتُ، فجاعلٌ ... قسْمًا آخرِة ودنيَا تَنفعُ
أي: واقسْمَ دنيا. يريد: وقسمًا لدنيا ... ومن هذا قولهم: راكبٌ الناقة طَلِيحان3. والأصل: راكب الناقة والناقة طليحان. "أي:
__________
1 فمثال عطفه الجار مع مجرورة على مثلهما قول الشاعر:
لأَنتَ أَحلَى من لذيذ الكَرَى ... ومن أمانٍ ناله خائفُ
ومثل الآية التي في ص559؛ وهي {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ....} . ومثال عطف الظرف على ظرف آخر قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} .
2 كما سيجيء في ص636. وكذلك يصح حذفها وحدها دون معطوفها طبقا لما في ص641. كما يصح حذف المعطوف عليه قبلها بالطريقة الموضحة في ص639 -والتي اشرنا إليها في رقم 2 من هامش الصفحة الآتية-.
3 ومثل هذا كل مبتدأ مضاف أخبر عنه بخبر مطابق في التثنية، أو الجمع، للمضاف مع المضاف إليه من غير عطف. "وقد سبق إيضاح هذا لمناسبة أخرى في الجزء الأول ص497 م37 باب المبتدأ والخبر".
وحذف حرف العطف مع معطوفه ليس مقصورا على الواو مع معطوفها، وإنما يشاركها فيه "إم" "كما سيجيء في "ب" ص596، وفي ص636" وكذا "الفاء" مع معطوفها كقوله تعالى في أحكام الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
الأصل: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطَرَ فعدة من أيام أُخر -كما سيجيء في رقم 5 من هامش ص575-.
والى هنا يشير ابن مالك في آخر الباب بقوله:
والْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفتْ ... والْوَاو إذْ لاَ لَبْسَ، وهْيَ انْفَردَتْ:
بعَطْفِ عامِلٍ مُزَالٍ قَدْ بَقِي ... مَعْمُولُهُ؛ دَفْعًَا لِوَهْم اتُّقِي
مزال: قد حذف من موضعه وأزيل منه "راجع ص636".
يقول: إن الفاء قد تحذف مع معطوفها، وكذلك الواو مع معطوفها، بشرط ألا يترتب على الحذف في الحالتين لبس. وتنفرد الواو بأنها تعطف عاملًا محذوفًا قد بقي معموله على الوجه الذي سنشرحه في ص563 التالية. ويريد بقوله: "دفعًا لوهم ... " بيان العلة في الحذف والتقدير: وأنها دفع لوهم يقودنا للوقوع في خطأ.(3/561)
متعبان"1
ب- وتنفرد الواو بأحكام نحوية تكاد تستأُثر بها2:
منها: أنها الحرف المختص بعطف اسم على أخر حين لا يكتفي العامل في أداء معناه بالمعطوف عليه؛ نحو: تقاتل النمِرُ والفيلُ؛ فان العامل: "تقاتلَ" لا يتحقق معناه المراد بالمعطوف وحده: فلو قلنا: "تقاتل النمر"، ما تمّ المعنى: لأن المقاتلة لا تكون من طرف واحد؛ وإنما تقتضي معه وجود طرف آخر -حتما- كي يتحقق معناها. وكذلك: تنازع الظالمُ والمظلوم، فان المنازعة لا تقع إلا من طرفين ... وكذلك تصالح الغالب والمغلوب.
__________
1 ومن تلك الأحكام: أن الضمير -ونحوه مما يحتاج للمطابقة- بعدها تجب مطابقته. في الأصح للمعطوف والمعطوف عليه معًا؛ ولا يراعى فيه حالة المعطوف وحده؛ يقال: جاء السائل والغريب فعاونتهما. وفازت فاطمة وسعاد وعائشة فهنأتهن ... وهكذا ... "انظر رقم 4 من هامش ص605 حيث الإيضاح. وبيان المرجع، ثم رقم 3 من ص657.
وليس مما نحن فيه مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ، وقول حسان بن ثابت:
إنَّ شَرْخ الشباب والشعَر الأَسْود ... ما لم يعاصَ كان جنونًا
لأن الكلام قائم هنا على حذف الخبر، أن المراد: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك إن شرخ الشباب ما لم يعاص كان جنونا والشعر الأسود كذلك. فهو نظير قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأَنت بما ... عندك راضٍ. ولرأْيُ مختلفُ
أي: نحن راضون بما عندنا. وأنت راض بما عندك ... "راجع كتاب مجمع البيان لعلوم القران ج1 ص175 و197".
2 ومنها: أنها يجوز حذفها وحدها، كما يجوز حذف المعطوف عليه وحده دون حذفها فتصلح في هذه الصورة لان تكون عاطفة أو غير عاطفة "بمعنى: رُبَّ" كما سبقت الإشارة في رقم 2 من هامش الصفحة السابقة وسيأتي الإيضاح في مكانه المناسب ص639 و641. وله بيان في ج2 باب حروف الجر عند الكلام على: "رب".(3/562)
ومثل: "سكنت بين النهر والحدائق1 ومثل: تضيع الكرامة بين الطمع والبخل"؛ لأن معنى "بيّن" لا يتحقق بفرد واحد تضاف إليه2، وهكذا غيرها من الكلمات التي تؤدي معنى نسبيًا3؛ مثل: تشارك، تعاون، اختصم، اصطفّ4 ...
ومنها: اختصاصها بعطف عامل قد حُذف وبقي معموله. نحو: "قضينا في الحديقة يوما سعيدًا أكلنا فيه وأشهَى الطعامِ، وأطيب الفاكهةِ، وأعذبَ الماء" فكلمة: "أطيب" معطوفة على: "أشهى"، أي: أكلنا أشهَى
__________
1 يصح أن يقال: سكنت بين النهر وبين الحدائق، بتكرار "بين" إذا كان المتعاطفان اسمين ظاهرين كما في المثال، والغرض من التكرار هو تأكيد المعنى وتقويته. وهنا التكرار جائز مع العطف، بشرط أن تكون الأولى مضافة لاسم ظاهر مفرد "أي: لا يدل على تعدد" فان أضيفت لضمير دال على الإفراد وجب التكرار مع عطفه المكررة بالواو؛ طبقًا لما فصلناه في ب2 ص268 م79 حيث جاء فيه ما نصه:
"يجوز أن يقال المال بين محمود وبين علي: بزيادة "بي الثانية للتأكيد، كما قاله ابن بريّ وغيره، وبذلك
يرد على منع الحريري تكرارها راجع حاشية "ياسين" على التصريح، ج2 أول باب العطف وكذلك حاشية الصبان ج2 في ذلك الباب عند الكلام على واو العطف ".
ومن المسموع في هذا قول علي بن أبي طالب -كما جاء في كتاب "سجع الحمام، في حكم الإمام " ونصه:
"للمؤمن ثلاث ساعات ... وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها" ا. هـ. ويؤيد ما سبق أيضا، ما ورد من نصوص فصيحة، نثرية وشعرية، وأدلة أخرى سجلناها هناك.
2 لهذا قالوا في بيت امرئ القيس:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومنْزِلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أن التقدير: بين أماكن الدخول وحومل "الدخول وحومل: موضعان" وقيل أن الرواية هي: بين الدخول وحومل. فلا تقدير.
3 هو المعنى الذي لا يتحقق إلا بنسبته إلى اثنين "أو أكثر" يشتركان فيه؛ ويقع عليهما.
4 ومثل "استوى" في قول الشاعر يصف حاله مع احد أقاربه:
صَبرت على ما كان بيني وبينه ... وما تستوي حربُ الأَقارب والسِّلْمُ
ومثلها: "تَسَاوَى" بشرط أن يكون -كسابقتها- إفادة التساوي بين شيء وآخر.
هذا، وقد تقع الواو بعد كلمة: «سواء» التي تفيد التسوية ولكن بشرط أن تقع بين اسمين، وإلا توجد همزة التسوية، نحو: سواء علي الأخ والصديق الوفي. وهنا رأي سيبويه، أما الكلام على التسوية والمراد مننها ففي ص 585.(3/563)
الطعام، وأكلنا أطيبَ الفاكهة. أما كلمة: "أعذب" فلا يصح -في الرأي الأغلب- عطفها على أشهَى، إذ لا يصح أن يقال: أكلنا أعذب الماء؛ لأن أعذب الماء لا يؤكل، وإنما يُشرب، ولهذا كانت كلمة: "أعذب" معمولة لعامل محذوف، تقديره: شَرِب، أي: وشربنا أعذب الماء، والجملة بعد الواو معطوفة على الجملة التي قبلها وهي: أكلْنا؛ فالعطف عطف جملة على جملة.
ومثل: "اشتد البرد القاسي في ليلة شاتية، فأغلقتُ الأبوابَ والنوافذَ، وأوقدتُ نارًا للدفء، والملابسَ الصوفية"؛ فلا يصح عطف كلمة: "الملابس" على "الأبواب" ولا على "نار" لفساد المعنى على هذا العطف؛ إذ لا يقال: أغلقتُ الملابس الصوفية، ولا أوقدتُ الملابس، وإنما هي معمول لعامل محذوف تقديره: ولبِستُ الملابس الملابس الصوفيةَ، أو أكثرتُ الملابسَ الصوفية، أو نحو هذا مما يناسب الملابس، والجملة بعد الواو معطوفة على جملة: أغلقتُ. فالعطف عطف جملة على جملة، لا عطف مفرد على مفرد –كما سبقت الإشارة1-.
ولا فرق في المعمول الباقي بين المرفوع؛ نحو قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، والمنصوب؛ نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا 2 الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، والمجرور نحو قولهم:"ما كل سوداءَ فَحْمةً، ولا بيضاء شحمةً، والأصل في المثال المرفوع": {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ؛ إذ لا يصح عطف "زوج" على الضمير المستتر الفاعل؛ وإلا كان فاعلًا مثله حُكمًا؛ فيترتب على هذا أن يقال: اسكن زوجُك، بوقوع الاسم الظاهر فاعلًا الأمر؛ وهذا لا يصح3. كما أن الأصل في المنصوب: "تَبوّؤا الدار، وألِفُوا الإيمان"؛ لأن الإيمان لا يُسْكن والأصل في المجرور: "ما كلُّ سوداء فحمةً ولا كلُّ
__________
1 في الجزء الثاني، باب المفعول معه ص232 م80.
2 سكنوا.
3 يبيحه فريق من النحاة بحجة: "أنه قد يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع". وفيه تيسير. ولا يجوز إعرابه بدلًا من الفاعل المستتر؛ لأن الضمير لا يبدل من الضمير كما في "ب" ص683.(3/564)
بيضاءَ شحمةً" لئلا يترتب على العطف المباشر من غير تقدير المحذوف، عطف شيئين على معمولي عاملين مختلفين بحرف عطف واحد، وهذا ممنوع. والعاملان هما "ما1، وكلّ" والمعمولان هما: "بيضاء، وشحمةً"2.
هذا ما يقوله كثير من النحاة. ولكن الصحيح أن الواو العاطفة لا تختص بهذا الحكم وحدها، وإنما تشاركها فيه "فاء" العطف –كما سيجيء عند الكلام عليها3 مثل: أحْسِن بدينار فصاعدًا ... أي فاذهب صاعدًا بالعدد4 ...
ومنها جواز حذفها عند أمن اللبس5؛ نحو: زرت أقاربي في الصعيد، وقابلت منهم: العم، والعمة، الخال، الخالة، أبناءَهم ... أي: العم والعمة، والخال والخالة وأبناءهم. ومثل: قرأت اليومَ: الصحف اليومية، المجلات، الرسائل، المحاضرات ... أي: الصحفَ اليومية، والمجلات. والرسائل، والمحاضرات ...
ومثل هذا يقال في سرد الأعداد، نحو: من الأعداد عشر، عشرون، ثلاثون، أربعون ...
ومنها: عطف الشيء على مرادفه لتقوية معناه وتأكيده6 كقولهم: الصمت والسكوت عن غير السداد سداد. وقولهم يعود البغي والطغيان وبالًا على صاحبه، فالمعطوف وهو: "السكوت" بمعنى المعطوف عليه: "الصمت" وكذلك الطغيان والبغي ... ومن هذا قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} ، فكلمة؛ "بثّ" معطوف عليه؛ وكلمة: "حُزن" معطوف مرادف له في المعنى.
__________
1 على اعتبار "ما" حجازية تعمل عمل: "ليس".
2 سبق هذا المثال في آخر باب الإضافة ص161 لمناسبة هناك: ويعاد موضحًا في آخر هذا الباب ص638.
3 في ص575.
4 سبق إيضاح هذا في مكانه الأنسب ج2 ص304 م86 باب الحال وحذف عامله.
5 الصحيح أن "الفاء" تشاركها في هذا الحكم. وكذا: "أو"، "كما سيجيء في ص575 و611 و641. غير أن حذف الواو هو الأكثر.
6 قد تشاركها: "أو" في هذا أحيانًا؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ... } فالخطيئة هي الإثم –ولهذا إشارة تجيء في "د" من ص611-.(3/565)
ومثل النَّأي والبُعد1 في قول الحطيئة:
أَلا حبذا هندٌ وأَرض بها هندُ ... وهندٌ أَتى من دونها النَّأْي والبعدُ2
__________
1 ومثل الجملتين الفعليتين: "أقْوى ×"، وأقْفر ×" في قول عنترة:
حُييتّ من طَلَلٍ تقادمَ عهدُه ... أَقْوَى وأَقفرَ بعد أُم الهَيْثَمِ..
2 فيما سبق من تعريف العطف النسق يقول ابن مالك:
تَالٍ بحرْفٍ مُتْبِع عطْفُ النَّسقْ ... كَاخُصُصْ بِوُدِّ وثَنَاءٍ منْ صَدَقْ
يقول: إنه هو التالي الحرف مُتْبعٍ ما بعده لما قبله، أي: مشترك للثاني مع الأول في الحكم الأعرابي. وساق مثلًا للتشريك في الحكم هو: أخصص من صدق بود وثناء، فحرف العطف هو: الواو، وبالتالي المشارك في الحكم هو: "الثناء". ومعنى:"تال بحرف مُتْبع": أنه تال "تابع" بسبب حرف يُتبع ما بعده لما قبله: فليس منه "أيْ" المفسرة، لأنها لا تتبع ما بعدها لما قبلها إلا على الرأي الذي يعتبرها حرف عطف كالواو، وهو الرأي الكوفي الحسن الذي أشرنا إليه "مفصلًا في رقم 1 من هامش ص556". ثم ساق بيتين ضمنهما أكثر حروف العطف التي سنشرحها في المكان الأنسب؛ هما:
فالْعطْفُ مطْلُقًا بِواوٍ –ثمَّ –فا – ... حتَّى –أَم -أَو؛ كَفيكَ صِدقْ ووفَا
وَأْتبعَتْ لَفْظًا فَحسْبُ: بلْ –ولا.. ... لكِنْ؛..................................
ثم عاد الكلام على أحكام الواو فقال:
فاعْطِفْه بِواو سابقًا، أو لاَحِقًا ... في الحُكْم، أَوْ مُصاحِبًا مُوافِقًَا
واخْصُصْ بِها عطف الَّذِي لا يُغْنِي ... متْبُوعُه، كاصْطَفَّ هذَا وابْنِي
واقتصر على ما سبق، ولم يذكر بقية أحكام الواو.(3/566)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- ومما انفردت به الواو غير ما سبق:
1- عطف العام على الخاص1؛ نحو: زرت القاهرة. والحواضر الكبرى. وقوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} .
2- وقوعها بعد كلام منفي. عاطفة مفردًا. وبعدها "لا" النافية؛ نحو: شجاع النفس لا يحب الجبن، ولا الكذب، ولا الرياء "أي: لا يجب كل واحدة من الصفات المذكورة". فتكرار "لا" يفيد أن النفي واقع على كل واحدة وحدها من غير توقف على غيرْها. ولو لم تتكرر2 "لا" لتوهمنا أنه مقصور على حالة اجتماعها مع غيرها2. فإن لم يوجد نفي قبلها. أو قصدت المعية لم يصح مجيء "لا"3.
3- وقوعها بعد نهي عاطفة لمفرد، وبعدها: "لا" النافية؛ التي تؤكد الغرض السالف؛ نحو: لا تصدق الحلاّف، ولا النمَّمام، ولا الحاسد.
4- جواز الفصل بينهما وبين معطوفها بظرف. أو جار مع مجروره5، نحو: أينعتْ حديقتان؛ حديقةٌ أمام البيت، وخلفَه حديقةٌ5، ومثل قوله
__________
1 وأما عكسه وهو: "عطف الخاص على العام" فتشاركها فيه "حتى" –كما سيجيء في "ب" ص584– نحو قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} . ونحو: لا يأمن الناس الأيام حتى الملوك. "والصلاة الوسطى: هي صلاة وسط النهار. والمراد بها: الظهر والعصر". وكل ما سبق مشروط بألا يتطلب المعنى حرفًا آخر يفيد الترتيب أو غيره ... انظر ما يتصل بهذا في آخر رقم 8 من ص660.
2 راجع "التصريح عند الكلام على: "العاطفة"، ثم "المغني" عند الكلام على "الواو".
3 لهذا بيان هام "في ج1 م5 هامش ص62 أو الكلام على موضوع: "الحرف". ويتضمن –فيما يتضمن– النص على زيادة "لا" النافية، والغرض من زيادتها، ومعناها، وإعرابها ... ".
4 صرح بهذا "الصبان" ولم يذكر خلافًا. لكن سيجيء في رقم 5 ما يعارضه.
5 والأخذ بهذا الرأي في "الواو" أنسب من الأخذ برأي آخر يمنع الفصل مطلقًا في غير الضرورة الشعرية بين المعطوف وحرف العطف: "الواو" أو: "الفاء"؛ أما غير هذين الحرفين من أدوات العطف فالرأيان متفقان على جواز الفصل بالظرف أو بالجار مع مجرورة. "راجع الهمع ج2 آخر باب العطف، ص141".(3/567)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} .
5- عطف العِقد1 على النَّيِّف، نحو: واحد وعشرون ... سبعة وثلاثون ... خمسة وأربعون ... و....
6- اقترانها بالحرف: "لكنْ"؛ كقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ 2 وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
7- وقوعها قبل الحرف "إما" المسبوق بمثله في كلام قبله؛ نحو: المنّ بالمعروف إما جهالةٌ، وإما سوءُ أدب.
8- العطف بها في أسلوب الإغراء والتحذير؛ نحو: الرفقَ والملاينةَ جهدَ طاقتك، وإياك والعنفَ ما وجدت سبيلًا للفرار منه.
9- عطف النعوت المتعددة المتفرَّقة التي منعوتها متعدد غير مفرَّق: نحو: تنقلت في بلاد زراعية وصناعية وتجارية ... والواقع بعد هذه "الواو" يسمى معطوفًا، ولا يصح تسميته –الآن- نعتًا.
10- عطف المفردات التي حقها التثنية أو الجمع، نحو قول الحجاج وقد مات
__________
1 العقد هو: العدد الذي يجيء ترتيبه عاشرًا بين الأرقام المتسلسلة المرتبة قبله. وتحصر العقود في لفظ: عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، ستين، سبعين، ثمانين، تسعين، والصحيح تسمية: "مائة" و"ألف" ومركباتهما "عقدًا" أيضًا أما "النيف" فكل عدد يكون ترتيبة المتسلسل بين عقدين؛ ومنه: أحد عشر، اثنان وعشرون، ثلاثة وثلاثون، خمسة وأربعون. وثلاثون، خمسة وأربعون ... و....
2 الواو هي العاطفة، أما: "لكنْ" فحرف استدراك محض, -ومعناه وأحاكمه في صفحة 161-وكلمة: "رسول" بالنصب، خبر "كان" المحذوفة، والجملة من "كان" ومعموليها معطوفة بالواو على الجملة الفعلية قبلها. وهذا على الرأي الأشهر القائل إن كلمة: "لكنْ" الاستدراكية المسبوقة بالواو لا يقع بعدها إلا الجملة دائمًا، ولا تكون عاطفة؛ وإنما العاطف الواو. أما على رأي من يجيز وقوع المفرد بعدها فالواو حرف عطف وكلمة: "رسول" معطوفة على كلمة: "أبا" "انظر ص616".(3/568)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
محمد ابنه، ومحمد أخوه: "محمد ومحمد في يوم واحد". وقول الشاعر الفرزدق:
إن الرزية لا رزيةَ بعدها ... فِقْدانُ مثل محمد ومحمدِ
وقول الآخر:
أَقمنا بها يومًا، ويومًا، وثالثًا ... ويومًا له يوم التَّرحُّلِ خامسُ
يريد: أيامًا ثمانية ...
11- عطف السببي على الأجنبي في: "الاشتغال"؛ نحو: محمدًا أكرمت عمرًا وأخاه1. ومثل: محمد مررت بأخيك وأخيه1.
12- عطف كلمة: "أيّ" على مثلها2، كقول الشاعر:
فلئِنْ لقيتُك خالَيْن لَتَعْلَمَنْ ... أَيِّي وأَيُّكَ فارِسُ الأَحْزابِ
13- عطف الظرف: "بين" على نظيره، مثل: المال بيني وبين أهلي3.
14- عطف السابق في زمنه على اللاحق، نحو: قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
15- المتعاطفان بالواو لا يختلفان بالسلب والإيجاب إذا كانا مفردين فلا يصح: لا الشمس طالعة والقمر.
16- وجول الفصل بها مع إهمالها بين كلمتين مُعَينتين ينشأ منهما مسموع من التركيب المزجّى "من أمثلته: كَيْت وكيْت. ذَيْت وذيت ... " بالتفصيل والبيان الآتيين في الموضع الأنسب –ج4 باب: "كم" م168 ص540.
17- جواز عطفها عاملًا قد حذف وبقي معموله على الوجه المشروح في ص615.
ب- يرى الكوفيون من خصائص الواو وقوعها زائدة؛ كالتي في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
__________
"1، 1" الضمير راجع إلى "محمد" في المثالين.
2 بالتفصيل الذي سبق في "ج" من ص107.
3 راجع ما يختص بتكرار الظرف: "بين" في رقم 1 من هامش ص563.(3/569)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فالواو التي قبل: "فُتحت" زائدة عندهم1. ومثل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: تَلَّهُ للجبين2.
والبصريون يؤولون الآيتين وشبههما بتأويلات منها: أن الواو عاطفة أصلية وجواب "إذا" و"لما" محذوف.... لكن التأويل عسير في قول الشاعر:
ولقد رمقْتك في المجالِسِ كلها ... فإذا وأَنت تعينُ من يبغيني
والمراد: فإذا أنت. وقول الآخر:
فما بالُ من أَسعى لِأَجْبُرَ عظمهُ ... حِفَاظًا، وينْوي من سفاهته كسْرى
أي: ينوي من سفاهته.
وإنما كان التأويل هنا عسيرًا لأن ما بعد إذا "الفجائية" لايقترن بالواو. ولأن جملة "ينوي" على تأويلها بأنها حالية هي جملة مضارعية مثبتة، وصاحب الحال هو "مَنْ" والجملة المضارعية المثبتة لا تقع حالًا مقترنة بالواو إلا على تقديرها خبرًا لمبتدأ محذوف والجملة في المبتدأ المحذوف وخبره هي الحال ... فهي محتاجة للتأويل والحذف. ولا داعي لهذا أو لغيره من التأويلات. فمذهب الكوفيين أوضح وأقل تعسفًا، والأخذ به هنا أيسر3، لكن الأفضل التخفّف من الزائدة قدر الاستطاعة، والبعد عن استعمالها؛ فرارًا من اللبس، ومن التأويل بغير داع.
ح- هل "الواو" الواقعة بعد "بل" نوع من الزائدة؟ مثل: الصالح أمين،
__________
1 مستدلين بالآية الأخرى الخالية من الواو –وكلتاهما في سورة: "الزمر"، ونصها: { ... وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... } .
2 بمعنى صرعه وألقاه على الأرض حتى لمسها جبينه. والقصة عن إبراهيم حين أراد أن يحقق رؤيا منامية؛ مضمونها أنه يذبح ابنه. ففهم منها أن هذا إيحاء من الله يجب تنفيذه؛ فهمَّ به، ورضي الولد بقضاء الله. ولكن الله أوحى إلى نبيه تركه، والتضحية بدله بشيء آخر.
3 علمًا بأن اللفظ الزائد "حرفًا أو غير حرف" إنما يزاد لغرض مقصود –طبقًا لما شرحناه في ج1 م5– الزيادة والتفصيل –عند الكلام على الحرف.(3/570)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بل ومحسن ... الجواب في "ج" من ص628.
د- تختص همزة الاستفهام دون باقي أخواتها بالدخول على أحد ثلاثة من حروف العطف ولا تدخل على غير هذه الثلاثة، هي: "الواو، الفاء، ثم" فمثالها قبل الواو قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ َوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} ، وقبل "الفاء"1 في قوله تعالى عن المشركين: {َفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} ، وقبل "ثُمّ"2 قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} ... ولا بد أن يكون المعطوف بعد الثلاثة جملة. وقد اشتهر النحاة في هذا رأيان3.
أولهما: وهو رأي جمهورهم أن الهمزة تركت مكانها بعد حرف العطف، وتقدمت عليه؛ تنبيهًا على أصالتها في التصدير –كما يقولون– فالجملة بعد العاطف معطوفة على الجملة التي قبله وقبل الهمزة. ما لم يمنع من هذا العطف مانع" كأن تكون إحدى الجملتين إنشائية والأخرى خبرية؛ عند من يمنع العطف بين الجملتين المختلفتين خبرًا وإنشاء، مثل هذه الصورة. فتكون الجملة عنده بعد حرف العطف معطوفة على أخرى محذوفة مماثلة لها في الخبرية أو الإنشائية ... ".
ثانيهما: وهو رأي الزمخشري أن الجملة بعد العاطف معطوفة على جملة محذوفة موقعها بين الهمزة والعاطف. والأصل مثلًا، أنَسُوا ولم يتفكَّروا؟ -أأغمضوا عيونهم ولم ينظروا؟ - أقعدوا ولم يسيروا ... ؟ -أكفرتم ثم إذا وقع
__________
1 انظر رقم 3 من هامش ص575.
2 انظر "ب" من ص579.
3 كما ستجيء الإشارة في ص639.(3/571)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آمنتم به....؟ والرأي الأول أشهر. وبالرغم من ذلك فإن كلا الرأيين معيب؛ لقيامه على الحذف والتقدير، أو التقديم والتأخير، ولعدم انطباق كل منهما على بعض الصور الأخرى التي يدور حولها وحول ما سبق جدل طويل واعتراضات مختلفة1.
فما السبب في هذا التكلف؛ والالتجاء إلى الحذف، والتقدير، والتقديم، والتأخير وعندنا ما هو أوضح وأيسر، وأبعد من التأويل؛، وذلك باعتبار الهمزة للاستفهام، وبعدها "الواو" و"الفاء"، و"ثم" حروف استئناف داخلة على جملة مستأنفة. وقد نص النحاة على أن كل واحد من هذه الثلاثة يصلح أن يكون حرف استئناف.
ولا مانع أيضًا أن تدخل الهمزة –هنا– على حرف العطف مباشرة؛ مسايرة للنصوص الكثيرة الواردة في القرآن وغيره، ولن يترتب على أحد هذين الرأيين إخلال بمعنى، أو تعارض مع ضابط لغوي.
"ملاحظة" في غير الهمزة من أدوات الاستفهام يجب تقيم حرف العطف وتأخير أداة الاستفهام عنه؛ لأن هذا هو قياس جميع الأجزاء في الجملة المعطوفة، نحو: قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} ، وقوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ...
__________
1 نراها في بعض المراجع، كالمغني وحواشيه، باب الهمزة.(3/572)
2- الفاء:
معناها الغالب هو الترتيب بنوعيه "المعنويّ والذّكْرِيّ" مع التعقيب فيهما وإفادة التشريك. والمراد بالترتيب المعنوي: أن يكون زمن تحقق المعنى في المعطوف متأخرًا على زمن تحققه في المعطوف عليه؛ نحو: "نفعَنا بذرُ القمح للزراعة، فإنباتُه، فنضجُه، فحصادُه"،.... و.... فزمن البذر سابق على زمن الإنبات، والنضج، وما بعده.
والمراد: بالترتيب الذّكْرِي: أن يكون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما في كلام سابق، وترتيبهما فيه، لا بحسب زمان وقوع المعنى على أحدهما، كأن يقال لمؤرخ: حدثنا عن بعض الأنبياء؛ كآدم، ومحمد وعيسى، ونوح، وموسى –عليهم السَّلام– فيقول: اكتفى اليوم بالحديث عن محمد، فعيسى. فوقوع عيسى" بعد الفاء لم يقصد به هنا الترتيب الزمني التاريخي؛ لأن زمن عيسى أسبق في التاريخ الحقيقي من زمن محمد، وإنما قصد مراعاة الترتيب الذّكْري "أي: اللفظيّ" الذي ورد أولًا في كلام السائل، وتضمن ذكر "محمد" قبل "عيسى"1.
والمراد بالتعقيب: عدم المهلة يتحقق بقِصَر المدة الزمنية التي تنقضي بين وقوع المعنى على المعطوف عليه ووقوعه على المعطوف؛ نحو: وصلت الطيارة فخرج المسافرون. وأول من خرج النساءُ فالرجال ... فخروج المسافرين
__________
1 ويدخل في الترتيب الذكري "عطف المفصّل على المجمّل"؛ كقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} . وقوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} . وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} .
ومن الترتيب الذكري: "الترتيب الإخباري"؛ وهو الذي يقصد به مجرد الإخبار وسرد المعطوفات بغير ملاحظة ترتيب كلامي سابق، ولا ترتيب زمني حقيقي، وإنما يقصد به –بشرط وجود قرينة– ذكر المعلومات واحدة بعد واحدة، فالفاء –في هذا– كالواو التي لمطلق الجمع؛ نحو: تغير الجو، واشتدت الرعود، فالبروق، فتراكُم المياه في المنحنيات، فالأمطار.... ونحو: هذا عالم فأبوه، فجده ...(3/573)
–في المثال– يجيء سريعًا بعد وصول الطيارة، وخروجُ الرجال يكون بعد خروجُ الرجال يكون بعد خروج النساء مباشرة من غير انقضاء وقت طويل في الصورتين....
وقِصَر الوقت متروك تقديره للعُرف الشائع؛ إذ لا يمكن تحديد الوقت القصير أو الطويل تحديدًا عامًّا يشمل كل الحالات. فقد يكون الوقت قصيرًا في حالة معينة، ولكنه يُعَدّ طويلًا في أخرى.
وبمناسبة إفادتها الترتيب نشير إلى قاعدة سبقت1؛ هي: أن "المعطوفات" المتعددة تقتضي أن يكون لها جميعًا "معطوف عليه" واحد، وهو: الأول الذي يسبقها كلها، وقبل كل معطوف حرف عطف خاص به. ولكن إذا كان حرف العطف يفيد الترتيب؛ "مثل: "الفاء" و"ثم" وجب أن يكون المعطوف عليه هو السابق عليهما مباشرة، ولو لم يكن هو الأول: نحو: تكلم في النادي الرئيس والوكيل والمُحاضر، فالناثر ثم الشاعر. فالوكيل والمحاضر معطوفان على الرئيس، أمّا كلمة: "الناثر" فمعطوفة على: "المحاضر" وأمَّا كلمة: "الشاعر" فمعطوفة على "الناثر"2 ...
وتفيد كثيرًا مع الترتيب والتعقيب، "التسيب"؛ أي الدلالة على السببيَّة3؛ "بأن يكون المعطوف متسببًا عن المعطوف عليه" ويغيب هذا في شيئين؛ عطف الجمل، نحو: رمى الصياد الطائر فقتله4، وفي المعطوف المشتق، نحو: أنتم –أيها الجنود– واثقون بأنفسكم، فهاجمون على عدوكم، ففاتكون به. فمنتصرون عليه ...
ومن أحكام الفاء5:
__________
1 في أول الباب في رقم 2 من هامش ص555 حيث البيان المفيد.
2 فإن جاء بعد ذلك عاطف لا يفيد الترتيب كان ما بعده معطوفًا على الذي قبل العاطف مباشرة، طبقًا للبيان الهام والذي في هامش ص555.
3 ولكنها لا تسمى اصطلاحًا في هذه الحالة "فاء السببية" إلا إذا دخلت على مضارع منصوب "بأن المصدرية" المضمرة التي تنصبه بشروط معينة مدونة في موضعها الأنسب "وهو: باب: "إعراب الفعل"، أول الجزء الرابع، ص65، م149".
4 ومثل قول الشاعر:
رُبَّمَا استحال السّعد نحسًا ... فذاق المعتدي مما أذاقه
5 إنها قد تتجرد أحيانًا للاستئناف المحض ولا تصلح لغيره -وكذلك: "الواو"، وثم-.(3/574)
أنها لا تنفصل من معطوفها بفاصل1 اختيارًا، فلا بد من اتصالهما في غير الضرورة الشعرية. وأنها تعطف المفردات2 والجمل كما في الأمثلة السالفة3، وأنه يجوز حذفها بقرينة كما أن "الواو" و"أو"4 كذلك نحو: قطعت سنوات التعلم؛ الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة ... ونحو: أنفقت المال درهمًا، درهمين، ثلاثة وأنها قد تحذف مع معطوفها؛ كالآية التي سلفت5.
وتختص الفاء6: بأنها تعطف جملة لا تصلح صلة، ولا خبرًا، ولا نعتًا؛ ولا حالًا على جملة تصلح لذلك، والعكس، بأن تعطف جملة تصلح لتلك الأشياء على جملة لا تصلح. "وسبب عدم الصلاحية في الصور السالفة كلها: خلو الجملة من الرابط، ووجوده في الجملة الصالحة"7 ... فمثال عطفها جملة لا تصلح صلة على جملة أخرى تصلح: "الذي عاونته ففرح الوالد مريض" ومثال العكس: "التي وقف القطار فساعدتها على النزول عجوز ضعيفة".
__________
1 كما سيجيء في رقم 4 من ص658. وقد سبق –في رقم 5 من هامش ص567– رأي يجيز الفصل بالظرف أو الجار مع مجروره بين ألفاء ومعطوفها. ولكن الرأي الذي يمنع الفصل في غير الضرورة الشعرية هو الصحيح إذا كانت أداة العطف هي "الفاء"، والاقتصار عليه واجب.
2 المراد من المفرد في باب العطف مدون في رقم 3 من هامش ص557 وله تكملة مفيدة في ص642.
3 في ص573 وهامشها ... ، ويجوز عند عطفها الجمل أن تسبقها همزة الاستفهام –إن اقتضى المعنى ذلك– على الوجه المشروح في "د" من ص570 فهي "الواو"، و"ثم، في هذا، ولا يقع من حروف العطف بعد همزة الاستفهام مباشرة غير أحد هذه الثلاثة.
4 انظر "ج" من ص611 ثم ص641.
5 في رقم 3 من هامش ص561 وهي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } أي: فأفطَر، فعدة من أيام أُخر، وفي ص636 أمثلة أخرى. وكذلك يصح حذف المعطوف عليه قَبلها، طبقًا للبيان الذي في ص639.
6 ومما تختص به الفاء: أنها حرف العطف الوحيد الذي يصلح للدخول على الفعل المطاوع لأصله؛ نحو: فتحت الباب –فانفتح– علمت الراغب فتعلم، ولا يصح مجيء غيره من حروف العطف –طبقًا للبيان الهام الخاص بأحكام المطاوعة ج2 م66 ص980
7 وقد سبق هذا في مكانه من الأبواب الخاصة بتلك الجمل.(3/575)
ومثال عطفها جملة لا تصلح خبرًا على أخرى تصلح: "الحديقة يرعاها البستاني فيكثُرُ الثَّمرُ". ومثال "العكس: الحديقة أهمل البستانيّ فقلَّ ثمرها".
ومثال عطفها جملة لا تصلح نعتًا على أخرى تصلح: "هذا حاكم سَهِر على خدمة رعيته؛ فسعدت الرعية". ومثال العكس: "هذا حاكم شكا الناس فأزال أسباب الشكوى".
ومثال عطفها جملة لا تصلح حالًا على أخرى تصلح: "أقبل المنتصر يتهلل وجهه فتشرح القلوب" ومثال العكس "أقبل المنتصر تنشرح القلوب فيتهلل وجهه".
هذا، والفاء كالواو في أنها تعطف عاملًا قد حذف، وبقي معموله؛ نحو اشتريت الكتاب بدينار فصاعدًا1؛ والأصل –مثلًا: فذهبَ الثمنُ صاعدًا.
"ملاحظة": من الفاء العاطفة للمفرد: "فاء السببية، التي ينصب بعدها المضارع بأنْ المستترة وجوبًا، فالمصدر المؤول بعدها مفرد معطوف بها على مفرد قبلها –كما سيجيء في مكانه2 ...
وهناك نوع من الفاء يسمى: "فاء الفصيحة"، سيجيء الكلام عليه5. ونوع آخر تكون الفاء فيه –في بعض الآراء– حرف عطف صورةً لا حقيقية؛ فشكلها وظاهرها أنها عطف، مع أنها في الحقيقة والواقع مهملة وليست عاطفة، وقد سبق الكلام على هذا النوع4.
بقي حكم الضمير العائد على المتعاطفين بعد الفاء العاطفة من ناحية المطابقة وعدمها وسيجيء البيان5 ...
3- ثم:
ومعناها الترتيب مع عدم التعقيب، "أي: الترتيب مع التراخي"؛ وهو: انقضاء مدة زمنية طويلة بين وقوع المعنى على المعطوف عليه ووقوعه على
__________
1 انظر ص563 ورقم 1 من هامش ص363.
2 وهو عمل "فاء السببية" باب: نواصب المضارع –ج4 م149 ص333.
3 في ص637 وهامشها.
4 في ص536.
5 في رقم 3 من ص657.(3/576)
المعطوف. وتقدير المدة الزمنية الطويلة متروك للعُرف الشائع –كما رددنا1؛ فهو وحده الذي يحكم عليها بالطول أو القِصر، ولا يمكن وضع ضابط آخر يحددها؛ لأن ما يعتبر طويلًا في حادثة معينة قد يكون قصيرًا في غيرها؛ فمَردّ الأمر للعُرف. ومن الأمثلة: زرعت القطن، ثم جنيته ... دخل الطالب الجامعة ثم تخرّج ناجحًا–كان الشاب طفلًا ثم صبيًا، ثم غلامًا؛ ثم شابًا فتيًّا.
ومن أحكامها:
أنها تعطفت المفردات والجمل، كما في الأمثلة السالفة2 ... وقد تدخل عليها تاء التأنيث3 لتفيذها التأنيث اللفظيّ؛ فتختص بعطف الجمل، نحو: مَنْ ظَفِر بحاجته ثُمَّتَ قَصَّر في رعايتها كان حزنه طويلًا، وغُصَّتُهُ شديدة.
ومنها: -وهذا قليل جائز– أنها قد تكون بمعنى واو العطف، فتفيد مطلق الجمع والاشتراك من غير دلالة على ترتيب، بشرط وجود قرينة؛ نحو: لما انقضى الليل، واستنار الكون، ثم طلعت الشمس، واقترب ظهور الفجر سارع الناس إلى أعمالهم4..
__________
1 في ص574.
2 اقتصر ابن مالك في الكلام على "الفاء"، وثم على ما يأتي:
و"الفَاءُ" للترْتِيبِ بِاتِّصَالِ ... وَ "ثُمَّ" لِلتَّرتيبِ بانْفِصَالِ
"اتصال": أي: بغير مهلة زمنية. "بانفصال": بمهلة زمنية، "والمهلة هي ما يعبرون عنها بالتراخي. وعدم المهلة هو التعقيب" –وقد أوضحناهما في ص573 و574– ثم قال في الفاء:
واخْصُصْ بفَاءٍ عَطفَ ما لَيْسَ صِلَهْ ... عَلَى الَّذِي اسْتَقَرّ أَنَّهُ الصِّلَهْ
يريد: تختص الفاء بأنها تعطف جملة لا تصلح أن تكون صلة؛ لخلوها من الرابط على جملة أخرى تصلح صلة لاشتمالها على الرابط، ولهذا الحكم أشباه وتفصيلات شرحناها "في ص575" وسيذكر في آخر الباب ص636 اختصاص آخَر لها أشرنا إليه من قبل "في رقم 3 من هامش ص561" هو أنها –كالواو– يجوز حذفها مع معطوفها.
3 وهذه التاء الداخلة على الحروف يجوز تسكينها أو تحريكها بالفتحة. أما كتابتهما فمفتوحة "غير مربوطة".
4 ومن هذا قول ابن مالك في أول باب من ألفيته:
كلامُنا لفظٌ مفيدٌ؛ كاستقمْ ... واسمٌ، وفعلٌ، ثم حرفٌ، الكَلِمْ
قال الأشموني ما نصه:
"ثم" في قوله: "ثم حرف....، بمعنى الواو؛ إذ لا معنى للتراخي بين الأقسام. ويكفي في الإشعار بانحطاط درجة الحرف عن قسميه ترتيب الناظم لها في الذكر على حسب ترتيبها فيا لشرف، ووقوعه طرفًا. ا. هـ.(3/577)
ويدخل في هذا القليل الجائز أنْ يكون للترتيب الذّكري الإخباريّ، "وهو: الذي سبق إيضاحه1 في "الفاء" نحو: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعتَ أمسِ أعْجبُ. أي: ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب.
ومنه قول الشاعر:
إن مَنْ سادَ ثم سادَ أَبوه ... ثم قد سادَ قبل ذلك جدُّه ...
ومنها: أنها تكون بمعنى "الفاء" أحيانًا فتفيد الترتيب مع التعقيب بقرينة؛ نحو شرب العاطش ثم ارتوى.
ومنها: أن إفادتها الترتيب توجب –عند تعدد المعطوف عليه قبلها بتفريق– أن يكون معطوفًا تابعًا لما قبلها مباشرة من المعطوفات؛ طبقًا للبيان الذي تقدم2؛ ففي مثل: قرات الآية، والقصيدة، والخطبة. والرسالة ثم النشيد ... يتعين أن يكون النشيد معطوفًا بها على الرسالة، كما يتعين أن يكون كل واحد من المعطوفات الأخرى التي قبلها معطوفًا على الآية.
ومنها: أنها قد تكون أحيانًا حرف عطف في الصورة الظاهرة دون الحقيقة الواقعة؛ فشكلها الظاهر هو شكل العاطفة، ولكنها لا تعطف مطلقًا وقد سبق3 الكلام على هذا النوع.
__________
1 في هامش ص573.
2 في ص574 وللبيان المفيد الذي في رقم 2 من هامش ص555.
3 في: هـ ص536.(3/578)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- أشار النحاة إلى وهم يقع فيه من يعرب: "ثم" حرف عطف في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} لأن "ثم" لا تصلح عاطفة هنا؛ إذ إعادةُ الخلق لم تقع، وإذا لم تقع فيكف يُقِرون برؤيتها؟ لهذا كانت "ثمّ" لاستئناف في الآية. ويؤيد كونها للاستئناف في الآية قوله تعالى بعد ذلك: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ؛ فمن المستحيل أن يسيروا فينظروا بدء الخلق ثم إنشاء النشاة الآخرة. والاستئناف أحد المعاني التي تؤديها ثلاثة من الأحرف؛ هي: "الواو، والفاء، وثمّ". وحين يكون الحرف للاستئناف لا يكون للعطف. قال الفيروزبادي صاحب "القاموس المحيط" في كتابه الآخر المسمى: "بصائر ذوي التمييز" عند الكلام على معاني "ثمّ"1 –ما نصه: "تكون للابتداء كقوله تعالى في سورة فاطر: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ا. هـ.
وسيجيء في الجزء الرابع –عند الكلام على "واو المعية". باب إعراب الفعل2– ما يؤيد وقوع "ثم" للاستئناف، ويزيد الحكم بيانًا ووضوحًا.
ب- "ثم" تصلح للوقوع بعد همزة الاستفهام مباشرة إذا كان المعطوف بها جملة، واقتضى الاستفهام على الوجه المشروع في "د" من ص570 فهي كالواو والفاء3 في هذا. ولا يقع بعد الاستفهام مباشرة من حروف العطف غير هذه الثلاثة.
ج- ما حكْم الضمير بعد "ثم" إذا كان عائدًا على "المتعاطفين" أيطابقهما أم لا يطابق؟ الجواب في رقم 3 من ص657.
__________
1 ج2 ص344.
2 م149.
3 انظر رقم 3 من هامش ص575.(3/579)
4- حتى:
معناها الدلالة على المعطوف بلغ الغاية في الزيادة أوالنقص بالنسبة للمعطوف عليه1؛ سواء أكانت الغاية حسية أم معنوية، محمودة أم مذمومة، نحو: لم يبخل الغنيُّ الورعُ بالمال حتى الآلاف، ولم يُقَصَّرْ في العبادة حتى التهَجُّدِ2. ومثل: حبسَ البخيل أمواله حتى الدِّرهمَ، وارتضى لنفسه المعايب حتى الاستجداءَ.
ولا تكون عاطفة إلا باجتماع شروط أربعة 3:
أ- أن يكون المعطوف بها اسمًا "فلا يصح أن يكون فعلًا، ولا حرفًا4، ولا جملة5"، نحو: استخدمت وسائل الانتقال حتى الطيارةً، فلا يجوز
__________
1 بمعنى أن المعطوف عليه لو استمر متجهًا في صعوده أو في انخفاضه لكان غاية ما يصل وينتهي إليه من شرف أو خسة، أو قوة أو ضعف،.... أو نحو هذا من كل ما يفيد زيادة ونقصًا هي الدرجة التي وصل إليها المعطوف. "وكل هذا بحسب التخيل العقلي المحض، لا الواقع؛ لأن الواقع الخارجي قد يعارضه انظر رقم 2 من هامش ص582.
2 الصلاة بالليل.
3 زاد بعضهم شرطًا آخر؛ هو: أن يكون المعطوف بها مشتركًا مع المعطوف عليه في معنى عاملها؛ فلا يصح:
صمت الأيام حتى يوم عيد الفطر: لأن يوم عيد الفطر لا يباح صومه شرعًا.
4 لأن الحرف –في الغالب– لا يدخل على نظيره في اللفظ والعمل إلا في التوكيد اللفظي، أو في الضرورة الشعرية.
5 إذا دخلت "حتى" على جملة فعلية فعلها ماض أو على جملة اسمية، فهي حرف ابتداء، وهي: كما قال الخضري ج2 باب العطف عند الكلام على: "حتى" الداخلة على جملة مضمونها غاية "أي: نهاية" لشيء قبلها؛ مثل قول الشاعر:
ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وبحرُ الأَرض نماؤه سفينا
في بعض الروايات وسئل: "المعروف يأسر القلوب، حتى قلوبُ الأعداء مأسورةٌ به". فإن دخلت على مضارع مرفوع بابتدائية، أو منصوب فجارة. ولا بد في الابتدائية ألا تنقطع الصلة المعنوية بين ما قبلها وما بعدها، برغم أن ما بعدها لا بد أن يكون جملة مستقلة في إعرابها. أما قول الفرزدق يذم "كُلَيْبَا" قبيلة الشاعر جرير:
فواعجبًا!! حتى كليب تَِسُبُّني ... كأن أَباها نهشَل أو مُجَاشِع
ونهْشَل ومجاشع من آباء الفرزدق فيقول المغني، ج1 عند الكلام على "حتى" ما نصه: "لا بد من تقدير محذوف قبل "حتى" في هذا البيت يكون ما بعد حتى غاية له، أي: فواعجبًا "يسبني الناس حتى كليب تسبني ... " ا. هـ. "كما سيجيء في باب إعراب المضارع بأن مضمرة وجوبًا. أما "الجارة ففي ج2 م90 ص545".(3/580)
العطف في نحو: صفحت عن المسيء حتى خَجِل، وتركته لنفسه حتى نَدِم، ولا في قول المعَري:
وهوّنتُ الخطوب عليّ، حتى ... طأنّي صرت أَمْنَحُها الودادا
ب- أن يكون الاسم المعطوف بها اسمًا ظاهرًا لا ضميرًا، وصريحًا لا مؤولًا؛ فلا يجوز اعتبارها حرف عطف في مثل: انصرف المدعوون حتى أنا. وقد ارتضى بعض المحققين الاستغناء عن هذا الشرط، وأجاز المثال السالف، وأشباهه. وفي الأخذ برأيه توسعة وتيسير. كما لا يجوز اعتبارها عاطفة في مثل: "أحب المقالات الأدبية حتى أقرأ الصحف"؛ لما يترتب على هذا من وقوع معطوفها مصدرًا مؤولًا. وهذا لا يصح.
ج- أن يكون المعطوف بعضًا حقيقيًا1 من المعطوف عليه، أو شبيهًا بالبعض2، أو بعضًا بالتأويل3. فمثال البعض الحقيقي: بالرياضة تقوى
__________
1 البعض الحقيقي –هنا– إما أن يكون جزءًا من الكل بحيث لا يوجد الكل الكامل بغيره؛ نحو: أفاد الدواء الجسم حتى الإصبع، وإما أن يكون فردًا في مجموع؛ نحو: سهر الجيش حتى القائد، وأما أن يكون نوعًا من جنس يشمل أنواعًا كثيرة؛ نحو: النبات نافع حتى المتسلق.
2 هو العَرَض الملازم للكل من غير أن يدخل في تكوين ذاته الأصلية؛ كالجمال والعلم، واللون، والخلق، والصوت، نحو: راقني الخطيب حتى ابتسامته ...
3 أي: بتقدير أنه كالبعض، واقتراض ذلك. والمراد به: ما يصاحب "الكل" ويرافقه في أحيان كثيرة دون أن يكون جزءًا حقيقيًا منه، ولا ملازمًا له ملازمة دائمة ... نحو: حضر القطار فنزل المسافرون، حتى الحقائب. وهذا يقتضي أن يكون البعض التأويل ملاحظًا في نفس المتكلم عند النطق بالكل، وداخلًا في نيته وتقديره أنه بمنزلة البعض؛ لأهميته وشدة اتصالهز ومن أمثلته التي عرضها النحاة قول شاعر يصف هاربًا من مسلكه الذي أمر بقتله:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
برواية من نصب كلمة: "نعل" على اعتبار أن ما قبلها وهو "ألق الصحيفة.. والزاد" في تأويل: ألقى عنه الحمل الثقيل. ونعله بعض ما يثقله؛ فيكون معطوفًا على "الصحيفة"، وهناك روايات في ضبط تلك الكلمة لا تعنينا هنا.(3/581)
الأعضاء حتى الرجل، ومثال الشبيه بالبعض: أعجبني العصفور حتى لونه1 ومثال البعض بالتأويل: تمتعت الأسرة بالعيد حتى طيورها.
د- أن تكون الغاية الحسية أو المعنوية محققة لفائدة جديدة، فلا يصح: قرأت الكتب حتى كتابًا، ولا سافرت أيامًا حتى يومًا ...
أحكامها:
منها: أنها لمطلق الجمع كواو العطف عند عدم القرينة؛ فلا تفيد الترتيب الزمني بين العاطف والمعطوف في الحكم نحو: أديت الفرائض الخمس حتى المغرب، ووفيت أركان كل صلاة حتى الركوع2، وكقول الشاعر:
رجالي -حتى الأقدمون- تمالئوا ... على كل أمر يورث المجد والحمدا
ومنها: إعادة حرف الجر وجوبًا بعد "حتى" إذا عطف بها آخر شيء، والمعطوف عليه مجرور بمثل ذلك الحرف، ويلتبس المعنى بعدم إعادته؛ نحو: سافرت في الأسبوع الماضي حتى في آخره، إذا كان المراد السفر في أوقات متقطعة من الأسبوع، وبعضها في آخره. فلو لم تذكر كلمة: "في" مرة ثانية بعد: "حتى" لكان من المحتمل فهم المراد بأنه السفر المتصل من أول الأسبوع إلى آخر لحظة فيه. وهذا غير المقصود، فمن الواجب أن يعاد بعدها حرف الجرّ إذا كان "المعطوف عليه" مجرورًا بمثيله؛ لكيلا تلتبس بالجارة. فإن تعيَّن3 العطف بحيث يمتنع اللبس المعنوي كانت الإعادة جائزة لا واجبة، نحو: فرحت بالقادمين حتى أولادهم، وقول الشاعر:
__________
1ولا يصح: حتى: نظيره، أو فرخه، كما لا يصح أعجبني ألأخت حتى جارها.
2 قالوا: لا يعتبر إلا الترتيب الذهني من الأضعف إلى الأقوى، أو بالعكس ولا يعتبر الترتيب الخارجي؛ لجواز أن تكون ملابسة الفعل لما بعدها سابقة على ملابسته للأجزاء الأخرى، أو في أثنائها، أو معها في زمان واحد؛ نحو مات كل أب للناس حتى آدم -ومات الناس حتى الأنبياء- وجاءني القوم حتى على، إذا جاءوا كلهم مجتمعين وعلى أقواهم أو أضعفهم. ويؤيد ما سبق قوله عليه السلام: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس". لأن تعلق القضاء والقدر بهذين لا يتأخر عن غيرهما، فالمراد من كل ما سبق أنها تفيد ترتيب أجزاء ما قبلها في الذهن حتمًا، أي: تدريجها من الأضعف إلى الأقوى وعكسه، ولو كان هذا مخالفًا لما في خارج الذهن والواقع "راجع الخضري والصبان، ورقم 1 من هامش ص 580".
3 ضابط تعين العطف وعدم تعينه هو: أنه متى ص إحلال الحرف "إلى" محلها كانت محتملة للأمرين، وإلا تعينت للعطف.(3/582)
جودُ يُمْنَاك فاضَ في الخلْقِ حتَّى ... بائسٍ دانَ بالإِساءةِ دينا
ومنها: أن استعمالها عاطفة أقل من استعمالها جارة، فيراعيَ هذا في كل موضع يصلح فيه الأمران؛ نحو: قرأت الكتابَ حتى الخاتمة، فيجوز نصب "الخاتمة" باعتبارها معطوفة "بحتى" على: "الكتاب". ويجوز جرها باعتبار "حتى" حرف جر، والأحسن الجرّ؛ لأن العطف بالحرف: "حتَّى" أقل في كلام العرب1 من استعمالها جارة2.
__________
1 وفيما سبق خاصًا بالحرف: "حتى" يقول ابن مالك:
بعضًا بحَتَّى اعْطِفْ عَلَى كلِّ، وَلاَ ... يَكُونُ إِلاَّ غَايَةَ الَّذِي تَلاَ
أي: اطعف حتى بعصًا على كل "فالمعطوف جزء من المعطوف عليه" ولا يكون المعطوف غاية للذي تلاه. "والذي تلاه المعطوف أي: جاء بعده المعطوف هو: المعطوف عليه". يريد؛ أن المعطوف لا بد أن يكون غاية للمعطوف عليه في الزيادة أو النقص بحيث نتخيل المعطوف عليه يستمر في زيادته أو نقصه حتى يصل في درجته للمعطوف. "كما أوضحنا في رقم 1 من هامش ص580".
2 وبسبب هذه القلة لا يوافق الكوفيون على استعمالها حرف عطف مطلقًا ... ويستثنى من الحالة السابقة التي يكون فيها الجر أحسن، صورة: "الاشتغال" في مثل: صافحت القوم حتى طفلًا صافحته، من كل اسم وقع بالحرف "حتى؛ والمعطوف عليه هو: القوم. والفعل: "صافح" الثاني، توكيد للأول. فإن اشتغل برفع الضمير نحو: حضر القوم حتى طفل حضر، امتنع النصب، وصح الرفع في هذا المثال. وإنما كان النصب أحسن في الحالة الأولى لتكون بين الضمير ومرجعه مشابهة في الإعراب.(3/583)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- ومن أحكامها أنها لا تعطف نعتًا كما تقدم1. وأنها لا تقع في صدر جملة تعرب خبرًا2.
ب- أشرنا3 إلى أن "حتى" العاطفة –كالواو– لمطلق الجمع عند عدم القرينة، لا الترتيب الزمني في الحكم، نحو: مات كل الأنبياء حتى نوح. واستدلوا على هذا بأمثلة مختلفة؛ منها قوله عليه السلام: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز، والكيْس" إذ لا يتأخر تعلق القضاء والقدر بهما عن غيرهما. لكنها –في مثل هذه الحالة– تفيد ترتيب أجزاء ما قبلها ذهنًا؛ أي: تفيد تدريجها من الأضعف إلى الأقوى وعكسه طبقًا للبيان والتفصيل السالفيْن4.
وتكون كالواو أيضًا في عطفها الخاص على العام. وفي وجوب مطابقة الضمير العائد على المتعاطفين بعدها لهما5 ...
__________
1 في رقم 2 من هامش ص481.
2 طبقًا لما سبق إيضاحه وتكراره بالجزء الأول م35 هامش ص428.
3 في ص582 وهامشها.
4 كما في رقم 1 من هامش ص585.
5 طبقًا للبيان الذي في رقم 3 ص657.(3/584)
5- أمْ: نوعان1؛ متصلة، ومنقطعة، "أو: منفصلة".
النوع الأول: "المتصلة"، وهي المسبوقة بكلام مشتمل على همزة التسوية2، أو على همزة استفهام يراد منها ومن "أمْ" التعيين "ويكون معناهما في هذه الحالة هو: "أيّ" الاستفهامية"3. فالمتصلة قسمان4، ولكل منهما علامة تميزه من الآخر:
أ- علامة: "أمْ" المتصلة بهمزة التسوية أن تكون متوسطة بين جملتين خبريتين، قبلهما معًا همزة تسوية5، وكلتا الجملتين صالحة لأن يحل محلها هي والأداة التي تسبقها6 مصدر مؤول من هذه الجملة؛ فهما جملتان في تأويل مفردين ويبين هذه المفردين "واو" عاطفة تُغْنى عن "أم"؛ كقولهم: على
__________
1 وكلاهما لا يعطف نعتًا على نعت. "طبقًا لما تقدم في رقم 2 من هامش ص481".
2 سميت همزة التسوية لوقوعها بعد لفظ: "سواء"، أو "لا أبالي" ... ، أو ما يشبههما في دلالته على أن الجملتين المذكورتين بعده متساويتان في حكم المتكلم أي: في تقديره لأثرهما لا فرق عنده بين أن يتحقق معنى هذه أو معنى تلك؛ إذ لا تفصيل لأحدهما على الآخر؛ فالأمران سيان عنده؛ نحو: لن أتخلف عن عملي: سواء عليّ أكان الجو معتدلًا أم منحرفًا، ونحو: لن يتخلى الشريف عن حريته؛ سواء عليه أيلقى الإعتات والشقاء أم يلقي الإكبار والتقدير: مثل قول الشاعر:
أَكُرُّ على الكَتِيبة لا أُبَالِي ... أَحَتْفِي كان فيها أَم سواها
"وانظر رقم 3 من هامش ص588 ورقم 3 من هامش ص593" فكلمة: "أم" توسطت بين جملتين معناهما مختلف، وقبلهما "همزة التسوية" التي تدل على أن المعنيين المختلفين منزلتهما واحدة عند المتكلم، وفي تقديره؛ فيتساوى عنده اعتدال الجو وانحرافه، ويتساوى عنده الإعنات والشقاء، والإكبار والتقدير، وكذلك الموت في كتيبة يهجم عليها، أو في غيرها.
ومما تجب ملاحظته أنها لا تحتاج إلى جواب محتم، ومن الجائز –لا الواجب– أن يكون لها جواب أحيانًا –كما سيجيء في ص594– وأن التسوية مستفادة من كلمة "سواه" أو مما يدل دلالتها؛ مثل: "لا أبالي". وليست مستفادة من الهمزة، وإنما فائدة الهمزة هي تقوية التسوية، وتأكيدها. ويصح الاستغناء عن هذه الهمزة بقرينة تدل عليها –كما سيجيء في ص596.
3 طبقًا للإيضاح الآتي في "ب" من ص589.
4 يجوز حذف "أم المتصلة" مع معطوفها؛ طبقًا للبيان الآتي في ص636، كما يجوز حذف المعطوف عليه قبلها، بالإيضاح الذي في ص639.
5 إذا كانت إحدى الجملتين منفية وجب تأخيرها عن "أم" كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص591 وفي ص594.
6 الأداة هنا هي: "الهمزة" في الجملة الأولى، "وأم" في الجملة الثانية.(3/585)
العقلاء أن يعملوا برأي الخبير الأمين، فإن العمل برأيه غُنْم؛ سواءٌ أيوافق الرأيُ هواهم أم يخالفه". والتقدير: موافقةُ الرأي هواهم ومخالفتُه سواء. ومثل: "سؤال الناس مَذَلة وهوان؛ سواء أكان المسؤول قريبًا أم كان غريبًا". أي: سواءٌ كونُ المسؤول قريبًا وكونه غريبًا. فقد حل محل الجملة الفعلية الأولى في المثالين ومعها همزة التسوية، مصدر مؤول من الهمزة والجملة معًا؛ هو مصدر الفعل1 المذكور فيها مع إضافته إلى مرفوعه "فاعلًا كان، أو اسمًا لناسخ ... " وحل محل الجملة الفعلية الثانية في المثالين ومعها "أمْ" مصدر مؤول هو مصدر الفعل المذكور فيها مع إضافته إلى مرفوعه كذلك، وجاءت "الواو" بدلًا من "أمْ" في المثالين؛ لتعاطف المصدر الثاني المؤول على نظيره المصدر الأول. ويعرب المصدر الأول على حسب حاجة الجملة ... فيعرب في المثالين السالفين خبرًا، مبتدؤه كلمة: "سواء" أو العكس. وقد يعرب في غيرهما مفعولًا به، أو ... أو.. على حسب الموقع ... ويعرب المصدر المؤول الثاني معطوفًا على الأول بالواو.
والجملتان إما فعليتان كما رأينا –وهو الأكثر، ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} ، والتقدير: إنذارك2 وعدنُه سواءٌ. وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} ، والتقدير: جزعنا وصبرنا سواء3 وإما اسميتان كقول الشاعر:
__________
1 فإن لم يكن في الكلام فعل أغنى عنه مشتق آخر من المشتقات؛ كاسم الفاعل، واسم المفعول ... ؛ فيصاغ المصدر المؤول عندئذ من المشتق مع مرفوعه. ويوضح هذا النوع من الإضافة والسبك ما سبق في ص28 و84 وكذلك ما سبق في ج1 ص395 م29 آخر باب الموصول حيث الكلام في كل ذلك على المصدر المؤول من غير سابك. "انظر رقم 2 و3 التاليين".
2 من الممكن بعد همزة التسوية سبك المصدر المؤول بدون حرف سالك؛ طبقًا للبيان الذي تقدم في موضعه المناسب. "وهو حروف السبك ج1 م29 ص473 وج2 م91 ص256".
3 في تأويل هذا المصدر وباقي الأمثلة المشابهة، وإعراب الآية معه، جدل طويل احتوته المطولات. وقد لخصه "الخضري" في حاشيته تلخيصًا نافعًا، وإنا نسوقه هنا لفائدته النحوية واللغوية. قال:
"أعرب الجمهور لفظ "سواء" –في الآية– خبرًا مقدمًا، عن الجملة التي بعده لتأويلها بمصدر. أي: جزعُنا وصبرُنا سواء علينا، أو عكسه وهو إعراب "سواء" مبتدأ والمصدر المؤول خبره؛ =(3/586)
وَلَسْتُ أُبالي بعد فقْديَ مالكًا ... أَمَوْتِيَ ناءٍ أَم هُوَ الآَنَ واقعُ
__________
= لأن الجار والمجرور والمتعلق بلفظ "سواء" يُسَوغ الابتداء به وجعلوه "أي: لفظ سواء" من مواضع سبك الجملة بلا سابك؛ كهذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، مما أضيف فيه الظرف إلى الجملة –وقد سبقت الإشارة إليه في باب الإضافة ص38 و83– تسمع بِالمُعَيْدِيِّ خير من أن تراه، مما أخبر فيه عن الفعل بدون تقدير: "أنْ". ولا يرد أن: للعطف والتشريك كما انسلخت الهمزة –في الآية ونظائرها– عن الاستفهام، واستعيرت للإخبار باستواء الأمرين في الحكم، بجامع استواء المستفهم عنهما في عدم التعيين، فالكلام معها خبر لا يطلب جوابًا؛ ولذا لم يلزم تصدير ما بعدها. فجاز كونه مبتدأ مؤخرًا. وعلى هذا يمتنع بعدها العطف "بأو" لعدم انسحلاخها عن: الأحد، "أي: عن أحد الشيئين" ك "أم". التي انسلخت عنه ولذا لحن في المغني قول الفقهاء: "سواء كان كذا وكذا". وصوابه: "أم". لكن نقل الدماميني عن السِّيرافي، أن "أو" لا تمتنع في ذلك إلا مع ذكر الهمزة لا مع حذفها. قال وهذا نص صريح يصح كلام الفقهاء اجع أيضًا رأي سيبويه في "ب" من ص611، في نهاية الكلام على: "أو" العاطفة أما التنافي المذكور فيتلخص منه بما اختاره الرضى من أن "سواء" خبر مبتدأ محذوف: أي: الأمران سواء، والهمزة. بمعنى: "إنْ" الشرطية. لدخولها على أمر غير متيقن، وجذف جوابها لوجود ما يدل عليه، وجي لها لبيان الأمرين؛ أي: إن قامت أو قعدت فالأمران سواء؛ "فأقام" للأحد، مثل: "أو" في أن الأصل فيها أن تكون لأحد الشيئين، أو الأشياء، كما سيذكر في "أ" ص611 وفيها بعض حالات مستثناة هناك والجملة غير مسبوكة ونقل عن السيرافي مثله" ا. هـ.
وواصل الخضري كلامه قائلًا؛ "وإذا تأملت ذلك علمت أنه على إعراب الجمهور لا تصح "أو" مطلقًا، لما فإنها من التسوية إلا أن يدعي انسلاخها عن "الأحد" مثل "أم". أما على إعراب "الرضيّ" فتصح مطلقًا؛ فلا وجه لقصر جوازها على عدم الهمزة؛ إذ المقدر كالثابت. على أن التسوية كما قاله المصنف مستفادة من "سواء" لا من الهمزة. وإنا سميت همزة التسوية لوقوعها بعد ما يدل عليها، وحينئذ فالإشكال في اجتماع: "أو" مع "سواء" لا الهمزة" ا. هـ. بتصرف يسير في بعض كلمات أزيل غموضها.
ومثل هذا في حاشية الصبان مع اختلاف يسير في القاعدة. والأفضل الأخذ بما جاء في الخضري لأنه يساير أكثر الكلام المأثور. ويدل دلالة واضحة على إباحة استعمال: "أو في كل" الحالات.
وقد صحح اجتماع "أو" وهمزة التسوية بعض المحققين، مخالفًا في هذا رأي سيبويه المشار إليه الآتي في "ب" من ص611 ومنهم صاحب حاشية الأمير على "المغنى" ج1 عند الكلام على "أم" المتصلة، والعطف بالحرف: "أو" عد الهمزة. هذا إلى قراءة بعضهم قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} . بدلًا من "أم لم تنذرهم" ... ولا يقال إن هذه القراءة –عند بعضهم- شاذة؛ لأن ما يجوز في القرآن الكريم يجوز في غير من باب أول، كما نص عليه الثقات، أما إعراب "الرضي" فمع وضوحه ويسره حين تكون الجملتان فعلتين يحتاج إلى تأويل وتقديره محذوفات حين تكون الجملتان اسميتين أو مختلفتين.=(3/587)
والتقدير: لست أبالي نَأىَ1 موتى وقوعه الآن. وإما مختلفتان بأن تكون الأولى "وهي المعطوف عليها" فعلية: والثانية "وهي المعطوفة" اسمية كقوله تعالى عن الأصنام: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} , والتقدير: سواء عليكم دعاؤُكُم إياهم وصمْتُكُم. أو العكس، نحو: لا يبالي الحرّ في إنجاز العمل أرئيسهُ حاضر أم يغيب. والتقدير: لا يبالي الحرُّ حضورَ رئيسه وغيابه2. والمصدر المؤول هنا مفعول به ... والجملة بمعنى: سواءٌ على الحرّ أرئيسه حاضر أم غائب.
وليس من اللازم أن تكون همزة التسوية مسبوقة بكلمة "سواء" فقد يغنى عنها ما يدل دلالتها في التسوية؛ نحو: "ما أبالي" ... أو ما يشبهها من هذه الناحية3 إنما اللازم أن تكون مسبوقة بكلمة: "سواء" أو بما يؤدي
__________
= وهناك إعرابات أخرى؛ منها: اعتبار كلمة: "سواء" متضمنة معنى المشتق، فهي بمعنى: متساو –مثلًا– وأنها على حسب هذا التضمن مبتدأ والمصدر المؤول بعدها فاعله، أو أنها خير مقدم ... كما جاء في كتاب: العكبري، المسمى "إملاء ما مَنَّ به الرحمن". لكن في كلام الخضري السابق الكفاية.
وجاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة فأصدر قرارًا حاسمًا في الاستعمالات السالفة، وسجل قراره في ص227 من كتابه الذي أخرجه سنة 1969 باسم: "كتاب في أصول اللغة" ونص قراره تحت عنوان "استعمال: "سواء" مع "أم" ومع "أو" بالهمزة وبغيرها,
يجوز استعمال "أم" مع الهمزة وبغيرها وفاقًا لما قرره جمهرة النحاة، واستعمال "أو" مع الهمزة وبغيرها كذلك على نحو التعبيرات الآتية: سواء عليّ أحضرت أم غبت –سواء على عليّ حضرت أم غبت سواء على أحضرت أو غبت– سواء على حضرت أو غبت. والأكثر في الفصيح استعمال "الهمزة" و"أم" في أسلوب "سواء" ا. هـ.
1 أي: بُعْد مجيئه، وتأخر زمنه.
2 العطف في الآية يؤيد الرأي الأرجح الذي يبيح عطف الجملة الاسمية على الفعلية والعكس. بالطريقة الموضحة هناك "انظر ص655".
3 يرى بعض النحاة أن الهمزة بعد: "ليت شعري –لا أعلم– ما أدري ... " لطلب التعيين فقط، لأن تلك الألفاظ ليست في حكم: "لا أباي" التي تكون بعدها الهمزة للتسوية؛ فكأن القائل يريد: لا أدري جواب هذا الاستفهام ... ويخالفهم آخرون؛ فيرون الألفاظ السالفة كلها خاضعة لحكم واحد هو اعتبار الهمزة بعدها للتسوية. والحق أن المراد من هذه الألفاظ يتوقف على القرينة –وأهمها السياق– فهي التي تحدد الغرض؛ فيتعين نوع الهمزة، أهِي للتسوية أم للتعيين. فإن لم توجد القرينة فالرأي الأول هو الأصح. هذا، وسيبويه يجيز العطف "بأم" و"بأو" بعد "ليت شعري، وما أدري" إذا سبقتهما الهمزة. ولرأيه تكمله تجيء في "ج" من ص605 وفي "ب" من ص611.(3/588)
معناها؛ كما في بعض الأمثلة السابقة.
هذا، ولا شأن لهمزة التسوية بالاستفهام فقد تركته نهائيًا وتمضحت للتسوية.
حكم هذا القسم:
مما سبق يتبين أن "أم" المتصلة المسبوقة بهمزة التسوية لا تَعطف إلا جملة على جملة وكلتا الجملتين خبرية بمنزلة الفرد؛ لأنها صالحة مع الأداة لأن يحل محلها مصدر مؤول. ولا شأن لها بعطف المفردات إلا نادرًا؛ لا يقاس عليه، ومن صور هذا النادر القليل الذي لا يقاس عليه أن تتوسط بين مفرد وجملة1؛ كقول القائل:
سواءٌ عليك النَّفْر2 أم بتَّ ليلةً ... بأَهلِ القِباب من عُمَيْر3 بن عامر
وعلامة: "أم" المسبوقة بهمزة التَّعيين أن تكون متوسطة بين شيئين، ينسب لواحد غير معين منهما أمر يعلمه المتكلم. ولكنه لا يعلم –على وجه التعيين– صاحبه منهما، وقبلهما معًا همزة استفهام، يراد منها ومن "أم" تعيين أحد هذين الشيئين4، وتحديد المختص منهما بالأمر الذي يعرفه المتكلم، ويَسأل
__________
1 راجع حكم عطف الجملة على المفرد في مكانه "ص659" ويضعف أن يكون العطف في البيت عطف ماض على مصدر "انظر ص650 وما بعدها". وأحسن من هذين أن تكون الجملة بعد "أم" في تأويل مصدر معطوف على المصدر السابق عطف مفردات، وأن تكون "أم" العاطفة بمعنى الواو؛ طبقا لما سبق في ص585 وما بعدها.
2 الرحيل.
3 في رواية أخرى: "نمير" –بالنون– طبقًا للوارد في كتاب: "معاني القرآن" للفراء، ج1 ص401.
4 يكون المراد من التعيين إما طلب تعيين أحد شيئين مجسمين، وتخصيص الأمر المعلوم للمتكلم بأحد هذين الشيئين المجسمين؛ كما في مثال: أعمك مسافر أم أخوك؟ فالحكم المعلوم هو: السفر، والمجهول المراد تعيينه هو الشخص "أي: الذات" الذي ينسب له الحكم السالف. وإما طلب تعيين احد أمرين معنويين وتخصيصه بذات معلومة، نحو: أسَفَرُ أخيك أنفع أم إقامته، فالحكم -أي: السفر- المجهول. والشخص "أي الذات" هو المعروف. هذا، ويصح الاستغناء عن هذه الهمزة على الوجه المبين في ص596.(3/589)
عن صاحبه الحقيقيّ؛ ليعرفه على وجه اليقين، لا التردد والشك؛ نحو: أعَمّك مسَافر أم أخوك؟ فقد وقعت "أمْ" بين شيئين، هما: "عم" و"أخ" وقبلهما همزة استفهام1 يريد المتكلم بها و"بأمْ" أن يعين له المخاطب أحد الشخصين تعيينًا قاطعًا يدل على المسافر منهما دون الآخر. فالمتكلم يعلم يقينًا أن أحدهما مسَافر؛ لكم مَِن منهما؟ هذا هو ما يجهله المتكلم، ويريد أن يعرفه بغير تشكك فيه؛ إذ لا يدري؛ أهو: العم أم الأخ؟، ومن أجله يطْلب من المخاطب أن يُعَيِّن له المسافر تعيينًا مضبوطًا، ويحدده تحديدًا يؤدي إلى كشف حقيقته وذات، فيمكن بعد هذا إسناد السَّفر إليه وحده، ونسبيته إليه، دون غيره. فالسفر المجرد ليس موضع السؤال؛ لأنه غير مجهول للمتكلم، إنما المجهول الذي يسأل عنه ويريد أن يعرفه هو تعيين أحدهما، وتخصيص فرد منهما بالأمر دون الآخر.
ومن الأمثلة أيضًا: أعادلٌ واليكم أم جائز؟ فقد وقعت "أم" بين شيئين؛ هما: عادل وجائر، وقبلهما معًا همزة الاستفهام التي يريد المتكلم بها وبأمْ استبانة أحد الشيئين، وتحديدهُ، وتعيينه، ليقتصر المعنى عليه، وينسب إليه وحده. ذلك أن المتكلم يقطع بأن هناك واليًا، ولا يشك في وجوده، ولكن الذي يجهله ويريد أن يعرفه من المخاطب هو: تعيين هذا الوالي، وتحديد أمره؛ بحيث يكون واحدًا محددًا من هذين الاثنين لا يتجه الفهم إلى غيره مطلقًا. وتسمى هذه الهمزة: "بالمغْنية عن كلمة: "أيّ" لأنها مع "أم" يغنيان عن كلمة: "أي" في طلب التعيين، وليست الهمزة وحدها -فمعنى؛ أعمك مسافر أمْ أخوك؟ هو: أيّهما المسافر؟ ومعنى أعادل وإليكم أم جائز: أيّ الأمرين واقع ومحقق؟
حكم هذا القسم:
يشترط في: "أمْ" هذه –كما سبق– أن تتوسط بين الشيئين اللذّين يراد
__________
1 قال الصبان في باب العطف عند آخر الكلام على همزة التسوية وما يتصل بها ما نصه: "قد تكون "هل" بمعنى "الهمزة" فيعطف "بأمْ" بعدها؛ كحديث: "هل تزوجن بكرًا أم ثيبًا"؟ " ا. هـ كلام الصبان. هذا وفي شعر الحسن بن مثير "وهو أموي من شعراء الحماسة، يحتج بكلامه" قوله:
هل الله عافٍ عن ذنوب كثيرة ... أم الله –إن لم يعفُ– يعيدها؟(3/590)
تعيين أحدهما؛ فيقع قبلها واحد منهما، ويقع بعدها الآخر1؛ كما في الأمثلة2.
ولما كان التعيين والتحديد هما الغرض من الاتيان "بأمْ" هذه ومعها همزة الاستفهام التي قبلها وجب أن يجيء الجواب مشتملًا على ما يحقق الغرض؛ فيتضمن النص الصريح بذكر أحد الشيئين وحده. فيقال في المثال الأول: "العم ... " مع الاقتصار على هذا. أو: "الأخ ... " مع الاقتصار عليه. ويقال في المثال الثاني: "عادل" كذلك، أو "جائز".
ولا يصح أن يقال في الإجابة عن السؤالين وأشباههما: نعَم، أوْ: لا؛ لأن الإجابة بأحد هذين الحرفين –أو بأخواتهما من أحرف الجواب– لا تفيد تعيينًا، ولا تحديدًا، وإنما تفيد الموافقة على الشيء المسؤول عنه أو المخالفة. وهذه الموافقة أو المخالفة لا تحقق الغرض المقصود من استعمال "أمْ" المتصلة المسبوقة بهمزة الاستفهام على الوجه الذي شرحناه3.
ولهذا القسم من قسمى "أم" المتصلة صور مختلفة؛ منها:
1- أن تقع بين مفردين متعاطفين بها، وبينهما فاصل لا يسأل عنه المتكلم -وهذه الصورة هي الغالبة- كأن يقول قائل لآخر: شاهدت اليوم سباق السباحين؛ أمحمد هو الذي فاز أم محمود؟ فالمراد من السؤال تعيين واحد من الاثنين، وقد توسط بينهما أمر ليس موضوع الاستفهام، لأنه أمر معروف
__________
1 وإذا كان أحد الشيئين منفيًّا تعين تأخيره عن "أم" دون الآخر –كما سبق في رقم 5 من هامش 585 وسيجيء هذا في أول ص594-.
2 وفي "أم" المتصلة بنوعيها يقول ابن مالك:
وَ "أَمْ" بِهَا اعْطِفْ إِثْرَ هَمْزٍ التَّسويَهْ ... أَوْ هَمْزَةٍ عَنْ لَفْظِ "أَيٍّ" مُغْنِيَهْ
"إثر: بعد" والهمزة المغنية عن لفظ: "أيّ" هي الهمزة التي يقصد بها وبأم التعيين على الوجه الذي شرحناه. وهذه الهمزة لا تغني وحدها عن "أي"، وإنما تغني بشرط انضمام "أم" إليها؛ فهما معًا يغنيان عن "أي" التي تسد مسدهما.
3 قد يجاب بالحرف: "لا" أو غيره مما يفيد جوابًا منفيًا إذا كان المقصود من "لا" نفي وقوع أحد الشيئين، أو الأشياء. وإظهار خطأ السائل في اعتقاده ثبوت أحد الشيئين، أو الأشياء. وقياسًا على حالة النفي السابقة، يرى بعض النحاة أن يجاب بالحرف: "نعم" –أو غيره مما يفيد جوابًا مثبتًا– إذا كان المقصود إثبات وقوع كل من الشيئين أو الأشياء، وإظهار خطأ السائل في اعتقاده ثبوت شيء واحد فقط.(3/591)
للمتكلم، وهو الفوز، أما المجهول الذي يريد أن يعرفه فهو الفائز.
وقد تقع بين مفردين تعطفاهما، مع تأخر شيء عنها لا يسأل عنه المتكلم؛ تقول في المثال السالف: أمحمد أم محمود هو الذي فاز؟ وكأن يقول قائل: كتاب "العقد الفريد" كتاب أدبي نفيس، فتقول: نعم سمعت اسمه يتردد كثيرًا. ولكن أغال أم رخيص كتاب "العقد الفريد"؟ فأنت تسأل عن غلوه ورخصه، وتطلب بسؤال تعيين أحدهما، وليست تسأل عن الكتاب ذاته، فإنك تعرفه ...
ومن الأمثلة السسالفة يتبين أ، الذي يلي الهمزة مباشرة هو واحد مما يتجه إليه الاستفهام، يراد معرفته وتعيينه، أما الذي لا يتجه إليه الاستفهام فيتوسط أو يتأخر1. وهذا الحكم هو الأكبر والأول، ولكنه ليس بالواجب؛ فليس من المحتم أن يلي الهمزة أحد المرين اللذين يتجه إليهما الاستفهام لطلب التعيين. بل يصح -عن أمن اللبس- أن يقال: أكتاب "العقد الفريد" غالٍ أم رخيص؟ وهذا -بالرغم من صحته- قليل، ودرجته البلاغية ضئيلة ومراعاة الأكثر هي الأحسن.
2- ومنها: أن تقع بين جملتين ليستا في تأويل مصدر2، وتعطف ثانيتهما على الأولى، وهما، إما فعليتان، نحو: أزراعة مارست، أم زاولت التجارة؟ وإما اسميتان، نحو: أضيفك مقيم غدًا أم ضيفك مسافر؟ وإما مختلفان، نحو: أأنت كتبت رسالة لأخيك الغائب أم أبوك كاتبها؟
3- ومنها: أن تقع بين مفرد وجملة؛ كقوله تعالى: {إِنْ 3 أَدْرِي
__________
1 لزيادة الإيضاح قالوا: إن الشرط الذي يغلب تحققه في الهمزة المعادلة "أم" –كما سبق– نهو أن يليها أحد الأمرين المطلوب تعيين واحد منهما، وأن يلي الآخر "أم" ليفهم السامع من أول الأمر نوع الشيء الذي يطلب المتكلم تعيين. تقول إذا استفهمت بالهمزة عن تعيين المبتدأ دون الخبر: أعليٍّ قائم أم سعيد، وإن شئت قلت: أعليّ أم سعيد قائم. فقد توسط الخبر دون المبتدأ: أقائم سعيد أم قاعد، وإن شئت قلت: أقائم أم قاعد سعيد؟ وعلى الآخر بأنه الخبر الخاضع للقرينة؛ كالتعريف أو التنكير هنا ... فما كان منهما معرفة فالأحسن اعتباره هو المبتدأ ولو كان متأخرًا واعتبار النكرة هي الخبر، فإن كانا معرفتين فأقواهما في درجة التعريف هو المبتدأ ... وما سبق هو الأغلب الأفصح. أما غيره –هو جائز عند أمن اللبس. مع ضعف درجته البلاغية– فإن يقع بعد الهمزة مباشرة ما ليس من الأمرين المراد تعيين أحدهما.
2 لعدم وجود ما يقضي سبك الجملة، وتأويلها بالمصدر.
3 إن حرف نفي، بمعنى: "ما".(3/592)
أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ 1 لَهُ رَبِّي أَمَدًا} .
فملخص ما يقال في "أم المتصلة" أنها تنحصر في قسمين؛ قسم مسبوق بهمزة التسوية، ولا تعطف فيه إلا الجمل التي هي في حكم المفرد، "لأن كل جملة منها مؤولة بالمصدر المنسبك"، وقسم مسبوق بهمزة استفهام يُطالب بها وبأمْ التعيين، وتعطف فيه المفردات حينًا والجمل حينًا آخر، أو المفرد والفعل2.
وإنما سميت "أم" في القسمين: "متصلة" لوقوعها بين شيئين مرتبطين ارتباطًا كلاميًا وثيقًا، لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا يستقيم المعنى إلا بهما معًا. لأن التسوية في النوع الأول وطلب التعيين في النوع الثاني لا يتحققان إلا بين متعدد، وهذا التعدد لا يتحقق إلا بما قبلها وما بعدها مجتمعين.
وتسمى كذلك في هذين القسمين: "أمْ المعادِلة" للهمزة؛ لأنها في القسم الأول تدخل على الجملة الثانية المعادلة للجملة الأولى في إفادة التسوية، وهذه الجملة الثانية هي التي تفيد المعادلة في التَّسوية3، وليست "أم". فغير أن "أم" تعتبر معادلة للهمزة ولا "أم" في إفادة التسوية المباشرة.
ولأنها في النوع الثاني تعادل الهمزة في إفادة الاستفهام.
__________
1 الفعل: "يجعل" معطوف على الاسم المشتق الذي يشبهه، وهو: "قريب، وكلمة: "أم" متوسطة بينهما، فليس في الكلام عطف جملة على مفرد –وسيجيء الكلام على مثل هذا العطف في ص649– ولا يصح أن تكون الجملة "من المضارع "يجعل" وفاعله" هي المعطوفة على زعم أنه يمكن تأويلها بمفرد يعطف على مفرد –كالذي يسجيء في رقم 6 من ص659– لا يصح هذا، لأن "أم" إلى التعيين لا يصح تأويل إحدى جملتيها بمفرد؛ إذ لا يوجد سابك، أو نحوه، كما تقدم في رقم 2 من هامش الصفحة السابقة، وكما سيجيء في ص595.
2 نقول: "الفعل" مراعاة لما سبق في رقم 1 من هذا الهامش.
3 أي: أن الكلام مشتمل على جملتين متعادلتين "متساويتين" من ناحية المراد من كل واحدة. فكأنهما كفتان متساويتان في ميزان واحد، لا ترجح إحدهما الأخرى. أو أنهما نصفان لشيء واحد؛ فلا بد أن يكونا متساووين انظر رقم 2 من هامش ص585.(3/593)
ويجب في النوعين أن يتأخر عنها المنفيّ؛ -كما أشرنا1- مثل: سواء عليَّ أغضب الظالم لأم لم يغضب. ولا يصح: سواء عليَّ أم يغضب الظالم أم غضِب1. وفي مثل: أمطرٌ نزل أم لم ينزل؟ لا يصح: ألم ينزل مطر أم نزل؟
الفرق بين قسمي "أمْ" التي بعد همزة التسوية عن "أمْ" التي يراد بها وبهمزة الاستفهام التعيين في أربعة أمور:
أولها: أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحق جوابًا حتميًا2؛ لأن المعنى معها على الإخبار؛ وليس على الاستفهام؛ فقد تركت الاستفهام إلى الإخبار بالتسوية؛ بخلاف الأخرى. فإنها باقية على الاستفهام. فتحتاج للجواب.
ثانيها: أن الكلام مع الواقعة بعد همزة التسوية قابل للتصديق والتكذيب3 إذ هو خبر –كما أسلفنا– بخلاف الأخرى؛ فإن الكلام معها إنشائي؛ لا دخل للتصديق والتكذيب فيه؛ لبقاء الاستفهام على حقيقته في الغالب.
ثالثها: أن الواقعة بعد همزة التسوية لا بد أن تقع بين جملتين –ومن النادر الذي لا يقاس عليه ألا تكون كذلك، كما سبق4– أما الأخرى فقد تكون بين
__________
"1، 1" في رقم 5 من هامش ص585 وفي رقم 1 من هامش ص591.
2 المراد: أنها لا تستحق الجواب استحقاقًا لازمًا، ولا مانع أن يكون لها جواب، لأن الخبر وهو يحتمل الصدق والكذب لذاته، بخلاف الإنشاء يجوز أن يجاب، "بنعم" تصديقًا له، أو: "بلا" تكذيبًا له، لكن هذا جائز لا واجب كما سبقت الإشارة في رقم 2 من هامش ص585.
3 ذلك أن جملة مثل، سواء عَلَيَّ أرضي أم سخط، أو: لست أبالي أرضي الحقود أم سخط –وأشباهها– تقبل التصديق والتكذيب؛ لأنها خبر بخلاف جملة مثل: أسعدٌ مقبل أم علي؟ أو: ما أدري أشار خطيبنا أم ناثر؟.
ومما يلاحظ: أن مجموع: "ما أدري أشاعر خطيبنا أم ناثر"؟ هو كلام خبري محتمل التصديق والتكذيب، ولكنه من غير الجملة التي في صدره وهي: "ما أدري" –يكون إنشائيًا. لأنه اتستفهام.
4 في ص589.(3/594)
الجمل أو المفردات، أو بين مفرد وجملة.
رباعهما: أن الجملتين اللتين تتوسطهما "أم" الواقعة بعد همزة التسوية لا بد أن تكونا في تأويل مفردين؛ لأن كلاّ منهما في تأويل مصدر منسبك. بخلاف اللتين تتوسطهما "أم" الأخرى، فلا يصح تأويل واحدة منها بمفرد؛ لعدم وجود سبكْ ولا غيره مما يجعلها في حكم المفرد1 ...
__________
1 انظر رقم 6 من ص659.(3/595)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يصح في الأسلوب المشتمل على "أم" المتصلة الاستغناء عن الهمزة بنوعيها إن عُلم أمرها، ولم يوقع حذفها في لبس. فمثال حذف همزة التسوية: "سواء على الشريف راقَبه الناس أم لم ياقبوه؛ فلن يرتكب إثمًا، ولن يقع في محظور". والأصل: أراقبه الناس ... ، ومثال حذف الأخرى قول الشاعر:
لعَمْرُك ما أَدري –وإِنْ كنت داريًا- ... بسبع رَمَيْنَ الجمرَ أَمْ بثَمانِ؟
يريد: أبسبع أم بثمان؟ وتظل حالات: "أم" وأحكامها بعد حذف الهمزة كما كانت قبل حذفها1.
ب- من النادر الذي لا يقاس عليه أن تحذف "أم" المتصلة مع معطوفها كقول الشاعر:
دعاني إليها القلب، إني لأَمره ... سميع؛ فما أَدري أَرُشْدٌ طِلابُها ... ؟
يريد: أم غيَ. وقول الآخر:
أراك فلا أَدري أَهَمٌّ هممته؟ ... وذو الهمّ قِدْمًا خاشع متضائل ...
يريد: أهمًٌ أم غيره2 ... ؟
قيل: إن الهمزة للتصديق فلا تحتاج لمعادل –وستجيء إشارة للحذف في ص637-.
ويجوز حذف المعطوف عليه قبلها –كما سيجيء في موضعه المناسب ص639-.
ح- سبقت الإشارة "في ص588 ورقم 3 من هامشها" على أن الهمزة الواقعة بعد: "لا أبالي" هي للتسوية بخلاف الواقعة بعد: "لا أدري، أو لا أعلم، أو ليت شعري" فإنها للتعيْين على الأرجح، وأن سيبويه يجيز العطف بأوْ وأمْ بعد هذه الألفاظ إذا سبقتها الهمزة3.
__________
1 وفي حذفها يقول ابن مالك:
ورُبَّمَا أسقطت الهمزة إن ... إن كان خفا المعنى بحذفها أمن
"أسقطت: حذفت" يريد: قد تحذف الهمزة ألا يؤدي حذفها لخفاء المعنى، والوقوع في اللبس.
2 لأن حالته في التغير تنبئ أن الهم أو غيره هو سبب تغيره "كما جاء في كتاب: مجمع البيان لعلوم القرآن، للطبرسي –ج2 ص444-".
3 ولرأيه تكملة تجيء، في "ب" ص592.(3/596)
النوع الثاني – "أم" المنقطعة، "أو: المنفصلة".
تعريفها: "هي التي تقع –في الغالب– بين جملتين مستقلتين في معناهما، كل منهما معنى خاص يخالف معنى الآخر، ولا يتوقف أداء أحدهما وتمامه على الآخر؛ فليس بين المعنيين ما يجعل أحدهما جزءًا من الثاني. وهذا هو السبب في تسمية: "أم" بالمنقطعة، أو: بالمنفصلة، وفي أن يكون معناها –غير النادر– الإضراب دائمًا1 فتكون في هذا بمعنى: "بَلْ"2. وقد تفيد معه معنى آخر أحيانًا3.
علامتها:
ألا تقع –مطلقًا4– بعد همزة التسوية، ولا بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها، و"بأمْ" التعيين –وقد شرحناهما5– وإنما تقع بعد نوع مما يأتي:
1- الخبر المحض؛ مقوله تعالى في الكفار: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: بل يقولون أفتراه، فقد وقعت "أمْ" بين جملتين هما: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، و {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} وكل منهما مستقلة بمعناها عن الأخرى، ومن الممكن عند الاكتفاء بها أن تؤدي معنى كاملًا. و"أمْ" هنا بمعنى: "بل" الدالة على الإضراب المحض الذي لا يشاركه معنى آخر.
__________
1 قد يكون المقصود به هنا: إبطال الحكم السابق، ونفي مضمونه، والقطع بأنه غير واقع، والحكم على مدعيه بالكذب، والانصراف عن ذلك الحكم إلى حكم آخر يجيء بعدها. وهذا هو الإضراب الإبطالي"، نحو: سمعت ترجيع بلبل صداح، أم أصغيت لإيقاع موسيقي بارع تبينتُ الناس حوله مجتمعين.
وقد يكون المراد به: الانتقال من غرض باق على حالة إلى آخر يخالفه. ويسمى "الإضراب الانتقالي"؛ نحو: فاز من حاسب نفسه، وتدارك عيبه، أم حسب المرء أن المجد سهل إدراكه، قريب المنال ... والأول هو الأكثر –وسيجيء تفصيل الكلام على الإضراب بنوعيه في ص623-.
2 "أم" مثل "بل" في الإضراب المجرد. لكنهما يختلفان بعد ذلك في أمور؛ منها: أن الذي بعد "بل" يقين غالبًا، أما الذي بعد "أم" فظن وشك –على الوجه المشروح في رقم 3 من هامش ص629- "وسيجيء الكلام على "بل" "في ص623" –وفي رقم 2 من هامش ص624.
3 كما سيجيء في: "ب" ص600.
4 أي: لا لفظًا ولا تقديرًا.
5 في ص585 وما بعدها.(3/597)
2- وقد تقع بعد أداة استفهام غير الهمزة، كقوله تعالى: {هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} 1 والشأن في هذه الآية كسالفتها. في الدلالة على الإضراب المحض.
3- وقد تقع بعد همزة ليست للتسوية ولا لطلب التعيين، وإنما هي لنوع من الاستفهام غير الحقيقي، معناه: الإنكار والنفي؛ كقوله تعالى في الأصنام: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فالاستفهام هنا غير حقيقي2 والمراد منه ما سبق.
4- وقد تقع بعد همزة استفهام غير حقيقي أيضًا، ولكن يراد منه التقدير، أي: الحكم على الشيء بأنه ثابت مقرر، وأمر واقع؛ كقوله تعالى في المنافقين: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} 3.
فكلمة "أم" في جميع الأنواع السالفة منقطعة بمعنى: "بل".
ومن الأمثلة للإضراب المحض4: "هذا صوت مغنية بارعة، أم هذا صوت مغَنّ مقتدر، فقد تبينت لحيته وشاربه". هنا وقعت "أمْ" بين جملتين تفيد الأولى منهما أن الصوت لمعنيَة، وتدل الثانية على أن المتكلم أضْرَبَ، -أي: عَدَل– عما قرره أوّلًا، وتركه إلى معنى آخر، هو أن الغناء لرجل، لا لمغنية. والذي يدل على إضرابه وعدوله عن المعنى الأول إلى الثاني، هو ذكر
__________
1 قلنا: إن المنقطعة لا يفارقها الإضراب إلا في النادر، ولكنها قد تفيد معه استفهامًا حقيقيًا أو غير حقيقي؛ "طبقًا لما سيجيء في: "ب" من ص600" و"أم" هنا في الآية لا تفيد استفهامًا حقيقيًا أو غير حقيقي. لأن أداة الاستفهام لا تدخل على أداة استفهام –كما سيجيء في ص601-.
2 الاستفهام الحقيقي: هو الذي يقصد به السؤال عن شيء مجهول للمتكلم حقيقة، ويريد أن يعرفه.
3 وكقوله تعالى في المعارضين: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .
4 وفي ص600 أمثلة غير الآتية.(3/598)
اللحية والشارب، فهما قرينة على الإضراب. وأداة الإضراب هي: "أم".
ومن الأمثلة: "استيقظت في الصباح الباكر فرأيت ورق الشجر مَبْتَلًا فقد سقط المطر ليلًا، أم تكاثَرَ الندى عليه؛ فإني أجد الطرق والمسالك جافة؛ لا أثر فيها للمطر". فهنا وقعت "أم" بين جملتين؛ الأولى منهما تفيد أن بلل الورق من سقوط المطر، وتدل الثانية منهما على أن سبب البلل شيء آخر؛ هو: النَّدى، فعدَل المتكلم على المعنى الأول، وانصرف عنه إلى الثاني؛ بدليل يؤيده؛ هو: جفاف الطرق والمسالك. والأداة المستعملة في الإضراب هي: "أم"1 ...
حكمها:
الرأي الراجح أن "أمْ" المنقطعة ليست عاطفة، وإنما هي حرف ابتداء يفيد الاضراب، فلا تدخل إلا على الجمل، أما الرأي المرجوح فإنها حرف عطف لا يعطف إلا الجمل، والأخذ بالرأي الأول أَنْسب وأَيْسَر.
__________
1 وفي "أم" المنقطعة يقول ابن مالك:
وَبِانْقِطَاع، وبِمَعْنى: "بَلْ" وَفَتْ ... إِنْ تَكُ مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ خَلَتْ
يريد: أن "أم" تكون منقطعة إذا خلت مما قيدت به في النوع السابق، إذ قيدت فيه بأن يسبقها همزة التسوية: أو همزة مغنية عن لفظ "أيّ" فإذا خلت من هذا التقيد وقَتْ بالانقطاع. بمعنى وفَّت به، وكانت فيه، مقيدة له. وإذا أفادت الانقطاع كانت بمعنى "بل"؛ أي: لزم، وترتب على ذلك أن تكون بمعنى: "بل" "وهذا معنى قولهم: العطف في قول ابن مالك: "وبمعنى بل" هو عطف شيء لازم على ملزومه".(3/599)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- من نوع المنقطعة "أم" الواقعة بعد همزة الاستفهام الحقيقي، بشرط أن يكون ما بعدها نقيض ما قبلها: نحو: أفاكهة عندك أم لا؟ لأن المتكلم لو اقتصرت على الجملة الأولى لكان المعنى المستقل كافيًا مستغنيًا عن معنى الجملة الثانية –كالشأن في: "أم" المنقطعة، ولكان الجواب: نعَم، أو: لا، ونحوهما، على حسب المراد من غير حاجة إلى المعنى الثاني. وإنما ذُكر ما بعدها لبيان أن المتكلم عرض له ظنُّ الانتفاء فاستفهم عنه، ضاربًا عن الثبوت، ولولا ذلك لضاع قوله: "أم لا" بغير فائدة1 فإن لم يكن الثاني نقيض الأول؛ نحو: أفاكهة أكلت أم خبزًا، كانت "أم" محتملة للاتصال والانقطاع، فإن كان السؤال عن تعيين المأكول مع تيقن وقوع الأمل على أحدهما فمتصلة –طبقًا لما شرحناه2 عند الكلام عليهما-. وإن كان السائل قد عرض له الظن بأن المأكول هو الخبز بعد ظنه أن المأكول هو الفاكهة، فاستفهم عن الثاني مُضربًا عن الأول فهي منقطعة. فالاحتمال إنما يقع عند عدم القرينة الدالة على أحدهما، وهي القرينة التي تعين الاتصال وحده، أو الإضراب وحده، فإذا وجدت وجب الأخذ لها، وامتنع الاحتمال3.
ب- قلنا4 إن: "أم" المنقطعة لا يفارقها معنى الإضراب، إلا نادرًا ... لكنها قد تفيد معه استفهامًا حقيقيًا، وفي هذه الصورة تفيد الإضراب والاستفهام الحقيقي معًا من غير وجود همزة استفهام معها. كأن ترى كوكبًا يضطرب ويهتز فتقول: هذا كوكب المِرِّيخ. ثم تعدل عن هذا الرأي لسبب يداخلك، فتقول: "هذا كوكب المرِّيخ. أم هو كوكب سُهيْل؛ فإن هذه أمارات سهيل التي تعرفها أنت؟ فقد قررت أولًا أن هذا هو المِرِّيخ، ثم عدلت عنه إلى كوكب آخر أردت أن تستوثق من اسمه؛ فكأنك قلت: بل أهو كوكب سهيل؟ ومثل هذا قول العربي حين رأى أشباحًا بعيدة حسبها إبلًا، ثم عدل عن رأيه إلى رأي آخر؛
__________
1 نص على هذا سيبويه.
2 في ص585.
3 راجع الخضري. ومثل هذه الأساليب لا يخلو من ليس أحيانًا، فالأحسن العدول عنه قدر الاستطاعة.
4 في ص597.(3/600)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو: أنها شاءٌ1، وأراد أن يستوثق من رأيه الجديد، فقال: "إنها لإبل أم شاء"؟ يريد: أنها لإبل، بل أهي شاء؟ والهمزة داخلة على مبتدأ محذوف؛ لأن "أم" المنقطعة لا تدخل –في الغالب– إلا على جملة –كما أسلفنا2-.
وقد تفيد مع الإضراب استفهامًا إنكاريًا3 بغير أن تسبقها أداة استفهام؛ كقوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} ، أي: بل أنه البنات ولكم البنون؟ لأنها لو كانت للإضراب المحض الذي لا يتضمن الاستفهام الإنكاري لكان المعنى محالًا، إذ يترتب عليه الإخبار بنسبة البنات إلى المولى جل شأنه.
وقد تتجرد للإضراب المحض الذي لا يتضمن استفهامًا مطلقًا؛ لا حقيقيًا ولا إنكاريًا؛ كالأمثلة الأولى4 التي منها قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} ، أي: بل هل تستوي الظلمات؛ ولا يصح أن يكون التقدير: بل أهل تستوي الظلمات؛ لأن أداة الاستفهام لا تدخل على أداة استفهام –كما أسلفنا5-.
ومثل الآية في الإضراب المحض قول الشاعر:
فليتَ سُليمَى في المَمَات ضجيعتي ... هنالك أم جنة6 أم جهنمِ
__________
1 جمع شاه، وهي الواحدة من الغنم، تقال المذكر والمؤنث. ويرى بعض النحاة: أن كلمة: "شاء" جمع لا واحد له من لفظه. ولا داعي للعدول عن الرأي الأول.
2 في ص597.
3 الاستفهام الإنكاري ويسمى: "الإبطالي" هو: ما كان مضمونه غير واقع، ولا يمكن أن يحصل، ومدعيه كاذب، وهو بمعنى النفي، فأداته بمنزلة أداة للنفي، والكلام الذي دخلت عليه نفي، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} –وقد سبقت الإشارة إليه في ج2 ص234 م81.
4 وبعضها في صفحتي 598و 599.
5 في رقم 1 من هامش ص598.... ومثل هذا يقال في بيت قُتَيْلة بنت النضر ترثي أباها المقتول:
فَلْيَسْمَعنّ النضرُ إنْ ناديته ... أَمْ كيف يسمع مَيّت لا يَنطقُ
6 لما كانت "أم" المنقطعة غير عاطفة في الرأي الأرجح، وأنها حرف ابتداء للإضراب لا يدخل إلا على جملة، وجب إعراب "في جنة" متعلقة بمحذوف، والتقدير: ليتها ضجيعتي في جنة، ووجب لهذا أيضًا تقدير الحرف: "في" قبل "جهنم". هذا، وفي بعض الروايات: "وفي المنام" بدلًا "من الممات" التي هي أكثر مسايرة لمعنى لبيت وما في آخرة من جنة وجهنم.(3/601)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: بل جهنم، ولا يصح التقدير: بل أفي جهم، إذ لا معنى للاستفهام هنا؛ لأن الغرض من الكلام التمني.
وقد تتجرد –نادرًا– للاستفهام الخالي من الإضراب كقول الشاعر:
كَذبتْك عينُك، أَمْ رأيت بواسِط1 ... غَلَس الظَّلام من الرَّبَاب خيالا؟
إذ المراد: هل رأيت؟ وهذا أقل استعمالاتها. ومن المستحسن عدم القياس عليه؛ لغموض المراد معه.
ج- يجوز أن تجاب "أمْ" المنقطعة. وجوابها يكون بحرف من أحرف الجواب، كثل: نعَم، أوْ: لا: أخواتهما ... في نحو قوله تعالى في الأصنام: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ} . وفي مثل: قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} يكون الجواب عند المخالفة: "لا" أو ما يدل دلالتها.
وإذا تكررت "أم" المنقطعة متضمنة في كل مرة إستفهامًا، بحيث تتوالى بها الاستفهامات كان الجواب للأخير؛ مراعاة للإنصراف إليه؛ لأن المتكلم أضرب عما سبقه، وانصرف إليه تاركًا ما قبله.
د- تقسيم "أم" إلى المتصلة والمنقطعة هو المشهور2. وزاد بعضهم نوعًا ثالثًا؛ هو الزائدة؛ كقول الشاعر:
يا ليت شعري ولا مَنْجَى من الهرِم ... أم هل على العيش بعد الشَّيْب من نَدمِ
وهذا نوع لا يقال عليه.
هـ- حكم الضمير الواقع بعد "أم" العائد على المتعاطفين –من ناحية المطابق وعدمها– موضح في رقم 3 من ص656.
__________
1 بلد في العراق.
2 وكلاهما لا يصح أن يعطف نعتًا على نعت –كما أسلفنا في رقم 2 من ص497 وأ ص584.(3/602)
6- أو:
حرف يكون في أغلب استعمالاته عاطفًا؛ فيعطف المفردات والجمل. فمن عطفيه المفردات قول أحد الأدباء: طلع علينا فلان طلوع الصبح المنير، أو الشمسِ المشرقة، وأقبلَ كالدنيا المواتية، أو السعادةِ المرتجاة.
فقد عطف الجرفُ "أو" كلمةَ: الشمس، على كلمة: الصبح، كما عطف كلمة: السعادة، على كلمة: الدنيا، وكل هذه المعطوفات وما عُطِفَتْ عليه مفردات1، وأداة العطف هي: "أو".
ومثال عطفه الجملَ قول الشاعر:
أعوذُ باللهِ من أَمرِ يُزَيِّنُ لي ... شَتْمَ العشيرةِ، أو يُدني مِنَ الْعَار
فالجملة المضارعية المكونة من الفعل: "يُدْنِي" وفاعله، معطوفة على نظيرتها السابقة: "المكونة من المضارع: يُزَيَّنُ وفاعل والعاطف هو: "أو"2 ...
معناه:
لهذا الحرْف معان واردة قياسية، يحددها السياق وحده، فيعين المعنى المناسب لكل موضع، ومن ثَمَّ اختلفت المعاني القياسية للحرف: "أو" باختلاف التراكيب والقرائن، وبما يكون قبله من جملة طلبية أمْرِيَّة3، أو غير أمْرية، أو جملة خبريَّة على الوَجه الَّذِي يجيء4:
أ- فمن معانيه: "الإباحة"، و"التخيير". بشرط أن يكون الأسلوب قبلهما مشتملًا على صيغة دالة على الأمر3. فمثال الإباحة: تمتعُ بمشاهدة
__________
1 ومن عطف المفردات عطف الفعل وحده –دون فاعله– على الفعل وحده كذلك؛ نحو: إن تنصرْ ضعيفًا فعمل مشكور، أو تتركه فإساءة منكرة فالمضارع "تتركْ" معطوف وحده على المضارع "تنصره" ولهذا جزم مثله. ولو كان العطف جمل ما صح جزم المعطوف –وسيجيء في ص645-.
ومن عطف المفردات دخول "و" على المضارع المنصوب بأن مضمرة، أو ظاهرة فيكون المصدر المؤول من "أن" وما دخلت عليه معطوفًا على شيء قبلها." وسيجيء تفصيل الكلام على "أو" التي ينصب بعدها المضارع بأن في باب: "النواصب" ج4 م149 ص307".
2 ومن الأمثلة أيضًا قول الشاعر:
لعل انحدر الدمع يُعقب راحةَ ... من الوَجد، أَو يَشفى نجيّ البلابل
"النجيّ: الحديث الخفيّ سرًا البلابل: الهموم".
"3، 3" سبب الاقتصار على "الأمر" أن الإباحة والتخيير لا يتأتيان في الاستفهام ولا في باقي الأنواع الطبية –على الرأي الراجح– وفي كثير من المراجع: "الطلب". بدلًا من "الأمر"، لكن في حاشية ياسين ما يمنع هذا. ولا فرق بين معنى الأمر الذي تدل عليه صيغة فعل الأمر والذي تدل عليه أداة أخرى؛ مثل: لام الأمر الداخلة على الموضوع. ولا فرق كذلك بين الأمر الملفوظ والملحوظ –كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص605-.
4 ومنه ما في الزيادة ص611.(3/603)
آثار الفراعيين في "الصعيد الأعلى"1، أو: "الجيزة"2، وانعَمْ بشتاء "أسوان"3، أو: "حُلوان"2.
ومعنى الإباحة: ترك المخاطب حرًّا في اختيار أحد المتعاطفين4 فقط، أو اختيارهما معًا، والجمع بينهما إذا أراد ...
ففي المثال السالف يصح أن يختار زيارة آثار "الصعيد الأعلى" فقط، أو آثار "الجيزة" فقط، أو يجمع بين زيارتهما من غير أن يقتصر على واحدة. وكذلك أن يَنُعَمَ بشتاء "أسوان" الحرية في أن يختار أحد المتعاطفين، ويقتصر عليه، وفي أن يجمع بينهما.
ومثال التخيير: من أتم دراسته الثانوية العلمية فليدخل كلية الطب أو الهندسة، لإتمام تعلمه بالجامعة.
ومعنى التخيير: ترك المخاطب حرجًا يختار أحد المتعاطفين4 فقط، ويقتصر عليه، دون أن يجمع بينهما؛ لوجود سبب يمنع الجمع5، ففي المثال السالف يدخل الطالب ليتعلم في إحدى الكليتين المذكورتين دون الأخرى. وليس له أن يدخلهما معًا للتعلم؛ لوجود ما يمنع الجمع؛ وهو أمثلة التخيير أن يقول الوالد لابنه: هاتان أختان نبيلتان؛ فتزوج هذه أو تلك. فمعنى "أو" هنا: الترخيص له بزواج إحداهما فقط، ولا يجوز التزوج بالاثنتين، لوجود سبب يمنع الجمع بينهما؛ هو أن الدين يُحَرَّم بين الأختين في الحياة الزوجية القائمة6.
وقد سبق أن الواو العاطفة تكون أحيانًا مثل "أو" في إفادة التخيير؛ كالذي في قول الشاعر:
__________
1 الأقاليم الجنوبية من البلاد المصرية.
"2، 2" بلد من ضواحي القاهرة إلى الجنوب منها.
3 بلد مصر على الحدود المصرية الجنوبية.
"4، 4" هما: المعطوف والمعطوف عليه.
5 لا فرق في هذا بين المانع امتلى، أو العرفي المأخوذ به، أو الشرعي ...
6 بل إنه يحرم –عند أبي حنيفة– مجرد العقد على الأخت الثانية إذا سبقتها الأول إلى عقد الزواج مع هذا الرجل ولم يطلقها.(3/604)
وقالوا: نَأْتْ؛ فاختر لها الصبر والبكا ... فقلت: البكا أَشفَى –إِذًِا لغليلي
والدليل على اختيار المجرد، وعدم الجمع ... هو إجابة السامع، وأن البكاء والصبر لا يجتمعان في وقت واحد، ولا يتلاقيان معًا.
ومما تقدم يتبين أن الإباحة والتخيير لا يكونان إلا بعد صيغة دالة على الأمر1 دون غيره, كما يتبين وجه الشبه والتخالف بين الإباحة والتخيير؛ فهما يتشابهان في أن كلا منهما يجيز للمخاطب أن يختار احد المعاطفين. ويختلفان في أن التخيير يمنع الجمع بين المتعاطفيْنِ، أما الإباحة فلا تمنع.
ب- ومن معانيه: الشك من المتكلم في الحُكم، بشرط أن يكون قبل "أو" جملة خبرية2؛ نحو: قضيت في السباحة ثلاثين دقيقة، أو أربعين.
ج- ومن معانيه: الإبهام3 من المتكلم على المخاطب، بشرط أن يكون قبله جملة خبرية أيضا: كمن يسأل: متى تسافر لأشاركك؟ فإذا كنت لا ترغب في مصاحبته أجبتَ: قد أسافر يوم الخميس أو الجمعة، أو السبت ... ، وإذا سألك: أين كنت يوم الأحد –مثلا-؟ أجبتَ: كنت في البيت، أو المتجَر. أو الضَّيْعة، تقول هذا عند الرغبة في إخفاء المكان عنه فالشك والإبهام إنما يقعان لغرض مقصود، حيث تكون "أو" بعد جملة خبرية4.
د- وهناك معان أخرى غير التي سبقت في: "أ، ب، ج" ولا يشترط
__________
1 قلنا في رقم 3 من هامش ص603: إنه لا فرق بين الأمر بصيغته الخاصة الصريحة، وهي صيغة "فعل الأمر" وأداة أخرى تؤدي معناه؛ كلام الأمر الداخلة على المضارع. ولا فرق كذلك في الأمر بين أن يكون ملفوظًا، ومقدارًا ملحوظًا. ومثال المقدر قوله تعالى للحجاج {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} أي: فَلْتُقَدَّمْ فديه من صيام، أو صدقة، أو نسك ...
2 الخبر: هو الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته –كما سبق في رقم 2 من هامش ص594-.
3 المراد به: أن يخفي المتكلم الحقيقة المعروفة له، ويكتمها عن المخاطب بطريقة خاصة. قد يكون القصد منها عدم إثارته، أو إقلاقه، أو الكذب عليه ... فالحكم عند الإبهام معلوم للمتكلم دون المخاطب؛ بخلاف الشك؛ فإن المتكلم ولمخاطب مستويان في شأن الأمر المشكوك فيه. "والشك: هو ما ينشأ في النفس من تعارض دليلين في أمر واحد، بغير ترجيح لأحدهما. وقد سبق إيضاحه في ج2 ص5 م60".
4 "ملاحظة": الغالب الفصيح -قيل: الواجب– في الضمير ونحوه مما يحتاج للمطابقة =(3/605)
لتحقق هذه المعاني الأخرى أن تكون: "أو" مسبوقة بنوع معيَّن من الجمل، فقد يتحقق المعنى والجملة السابقة طلبية مطلقًا، أو خبرية.
ومن هذه المعاني: التفصيل1 بعد الإجمال "أي: التقسيم، وبيان الأنواع"؛ نحو: الكلمة: اسم، أو فعل، أو حرف. والاسم: مشتق، أو جامد. والفعل: ماض، أو مضارع، أو أمر ... ؛ ومن هذا النوع قول القائل: اجتمع في النادي ثلاث طوائف ممن يمارسون أعمالًا حرة مختلفة يحبونها. فسألتهم
__________
= بعد "أو" التي للشك أو الإبهاء، أن يكون مفردًا؛ مثل أبصرت ثعلبًا أو ذئبًا يجري، ونحو: محمد أو علي أو محمود لم أقابله. فإن كانت"أو" للتنويع "أي: لبيان الأنواع والأقسام كالتي ستجيء في: "د" فالغالب –وقيل: الواجب– في الضمير بعدها المطابقة؛ كالضمير بعد واو العطف؛ -وقد سبق في رقم 1 من هامش ص562 كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} .
"راجع: شرح التصريح، وحاشية ياسين في الجزء الأول، "باب: ظن" عند الكلام على: "زعم" حيث نص على وجوب المطابقة وأن هذا الوجوب والحق وكذا في حاشية ياسين في "باب النسب" إلى ما حذفت فاؤه أو عينه، والمغني ج2 في مبحث الجملة الثانية وهي المعترضة إحدى الجمل التي لا محل لها من الإعراب في الموضع الرابع من مواضعها.
لكن جاء في الجزء الأول من كتاب: "معاني القرآن" للفراء طبعة دار الكتب سنة 1955م في أول سورة النساء، عند قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ... } ما نصه:
"لم يقل: "ولهما" وهذا جائز إذا جاء الحرفان في معنَى "أي: حُكم" واحد "بأوْ" أسندت التفسير إلى أيهما شئت. وإن شئت ذكرتهما فيه جميعًا، تقول في الكلام: من كان له أخ أو أخت فليصله، تذهب إلى: "الأخ"، و"فليصلها" تذهب إلى: "الأخت" وإن قلت: فليصلهما" فذلك جائز. وفي قرائتنا: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وفي إحدى القراءتين "فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَ" ذهب إلى الجمع؛ لأنهما اثنان غير مؤقتين. وفي قراءة عبد الله "وَالَّذَانِ يفعلون مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا" فذهب إلى الجمع لأنهما اثنان غير موقتين، وكذلك في قراءته "وَالسَّارِقُون وَالسَّارِقَات فَاقْطَعُوا أَيمانهما"ا. هـ. ولعل الأخذ بهذا الرأي أنسب لقوته وتيسيره. هذا، وللمسألة السالفة اتصال بما سيجيء في رقم 3 ص658.
1 وهي في هذا المعنى مثل "إما" التي يأتي الكلام عليها في ص612 وقد طال الجدل بين بعض النحاة في معنى: "التقسيم والتفصيل"؛ أهما مترادفان، معناهما واحد، أم لكل منهما معنى خاص؟ وكذلك بين: "التقسيم والتفريق".... ولا داعي اليوم للرجوع إلى هذا الجدل، ولا إلى ما يذكرونه من أن التفصيل تبين للأمور المجملة بلفظ واحد؛ كواو الجماعة في المثال الثاني، وفي قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} أي: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى كونوا نصارى، ولا ماي ذكرونه من أن التقسيم تبيين لما دخل تحت حقيقة واحدة؛ ففي الآية جمعت اليهود والنصارى في لفظ واحد؛ وهو الضمير "واو الجماعة" الذي هو فاعل الفعل: "قال" وهو الفعل الذي جمع في لفظه ما نطق به اليهود والنصارى ... إلى غير هذا مما أثاروه من جدل عنيف يغنينا عنه الرأي الذي لا يفرق بينهملا، ويرى أن المسألة هنا اصطلاحية محضة؛ فلا ضرر في توحيد معناهما وجعلهما مترادفين.(3/606)
ما أفضل الأعمال الحرة للشباب؟ قالوا: أفضلها الزراعة، أو التجارة ,أو الصيدلة، فالجملة الفعلية: "قالوا" جملة خبرية، مكونة من الفعل:. "قال" الدال على القول، من غير تفصيل للكلام الذي قيل، ومن الضمير: "واو الجماعة" العائد على الطوائف المعدودة بالثلاث1، وهو ضمير مجْمل يدل على مرجعه دلالة خالية من التفضيل. وبسبب الإجمال في دلالة الفعل وفي الضمير جاء بعدهما التفصيل الذي يعدد طوائفهم، وأنهم زراعيون. وتجاريون، وصيادلة، كما يُبين كلام كل طائفة؛ أي: قال الزراعيون: أفضلها الزراعة، وقال التجاريون: أفضلها التجارة، وقال الصيادلة: أفضلها الصيدلة.
ومن هذه المعاني أيضًا: الإضراب2، ومن أمثلته: أن يتهيأ المرء للخروج، وتبدو عليه أماراته، ثم يعدل عنه، قائلًا: "أنا أخرج، أو أقيم". فينطلق بالجملة الأولى، ولا يلبث أن يغير رأيه، وينصرف عما قرره، فيسارع إلى إردافها بقوله: أو: "أقيم" ويجلس جلسة المقيم، فيكون جلوسه قرينة على أن معنى "أو" هو: الإضراب. فكأنه قال: "أخرج، لا، بل أقيم". ومثله قول القائل: "أقيم في البيت، أو أخرج، فإن ورائي عملًا لا مَناص من إنجازه الآن في الخارج". فقد أخبر بالإقامة في البيت، ثم بدا له أن ينصرف عن هذا الرأي ويخرج، فكأنه قال: "لا. بل أخرج الآن" ومثل قول الشاعر يتغزل:
بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في وَرْنَق الضحا ... وصورِتها. أَو أَنتِ في العين أملح
يريد: بل أنت أملح.
ويحسن في الأسلوب المشتمل على: "أو" التي تفيد الإضراب أن يحتوي أمرين معًا؛ أولهما: أن يسبقها نفي أو نهي3. وثانيهما: تكرار العامل، نحو: "
__________
1 يعود على الطوائف باعتبار المعنى، إذ المراد من الطوائف هنا: أفرادها من الرجال.
2 سبق شرحه في رقم 1 من هامش ص597.
3 ويترتب على هذا ما يأتي في: "أ" من الزيادة والتفصيل ص611. ويرى بعض النحاة أن وجود النفي أو النفي قبلها شرط أساسي في إفادتها الإضراب. ويرى آخرون أنه ليس بشرط. ومن هؤلاء: الفراء: مؤيدًا رأيه بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} . أي: بل يزيدون، لأن "أو" هنا للإضراب، فلا تصلح لمعنى آخر كالشك. لأن الشك ونحوه محال على الله، والحق: أن تقدم النفي والنهي مستحسن فقط.(3/607)
ما زارني عمي، أو: ما زارني أخي". "ولا يخرجْ حامد، أو: لا يخرجْ إبراهيم". والمراد: بل ما زارني أخي بل لا يخرج إبراهيم. ونحو: "لا ترجئ عملك الناجز، أو: لا تهملْ عملك". ونحو: "ليس المنافق صاحبًا، أو: ليس مأمونًا على شيء" ... والمراد لا تهمل بل ليس مأمونًا ...
وإذا كانت "أو" للإضراب فالأحسن إتباع الرأي الذي يعتبرها حرفًا لمجرد الإضراب لا للعطف، فما بعدها جملة مستقلة عما قبلها. شأنها في هذا شأن "أم" المتجردة للإضراب وحده؛ فليست عاطفة –في الرأي الراجح، كما أسلفنا2-.
ويرى فريق آخر نهما مع الإضراب يعربان حرفي عطف، فما بعدهما معطوف علة ما قبلهما.... والخلاف شكلي، ولكنّ الأول وضح وأنسب.
وقد يكون معنى الحرف: "أو" الدلالة على الاشتراك ومطلق الجمع3 بين المتعاطفيْنِ؛ فكأنه الواو العاطفة في هذا، ويصح ن يحل محله الواو4، كقول الشاعر:
وقالوا لنا: ثنتانِ لا بدَّ منهما ... صدورُ رِمَاحٍ أُشْرِعت5، أو سلاسلُ6
ونحو: جلس الضيف بين صاحب الدار أو ابنه. أي: جلس بين صاحب الدار وابنه: لأن كلمة: "بيْن" إذا أضيفت لاسم ظاهر اقتضت –في الغالب–
__________
2 في ص599.
3 سبق شرحه في ص558. وانظر رقم 3 من هامش الصفحة الآتية.
وإذا رحمْتَ فأَنت أمُّ أَو أَبٌ ... هذان في الدنيا هما الرَحماءُ
راجع: "الملاحظة" التي في رقم 4 من هامش ص605؛ لصلتها القوية بما نحن فيه..
5 وجِّهت وصوِّبت نحو العدو، يقصد الطعن في صدور الأعداء.
6 يريد السلاسل التي تقيد الأسرى. وهذا كناية عن هزيمة الأعداء، ووقوعهم في الأسر، وتقييدهم بهذه السلاسل.
ويرى المروزوقي "شارح ديوان الحماسة ج1 ص46 من طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، بالقاهرة" أن: "أو" هنا للتخيير، وأن المراد من قول اشاعر في صدر البيت:
"لا بد منهما" أنه لا بد منهما على طريق التعاقب، لا على طريق الجمع بينهما. وهذا المعنى مقبول، ولكن الأول أقوى منه، وأنسب، إذ لا معنى للتخيير بين القتال والأسر، لأن الأسر نتيجة من نتائج القتال، وسبب عنه. هذا إلى أن صدر البيت يؤيد هذا في صراحة حيث يقول "لا بد منهما".(3/608)
أن يكون ما بعدها الأفراد، وهذا التعدد لا يتحقق "بأو" إلا إذا كانت بمعنى الواو الدالة على الجمع والمشاركة ...
ومثل قول الشاعر:
وقد زَعَمت ليلى بأَنَي فاجرٌ ... لنفسي تُقاها، أو عليها فجورُها
وقول الآخر يمدح أحد الخلفاء:
نال الخلافة أَو كانت له قَدرًَا ... كما أَتى ربَّه موسى على قَدَرِ
فلا بد من محاسبة النفس على التقى والفجور معا، دون الاقتصار على أحدهما ولا تتحقق الخلافة إلا مع قضاء الله وقدره1.
وملخص ما سبق2 من معاني "أو"، أن هذه المعاني المتعددة القياسية خاضعة في إرداكها للسياق والقرائن خضوعًا تامًا؛ كي يتميز ويتحدد كل نوع منها، وأن التخيير والإباحة3 لا يكونان إلا بعد جملة خبريَّة. أما المعاني الأخرى التي تخالف ما سبق "كالتفصيل، والإضراب، ومعنى الواو.." فتكون بعد الجملة الخَبرية، والطلبية، و.... والأفضل في الإضراب أن يسبقه نفي أو نهي. وأن يتكرر العامل معه4.
__________
1 ورد "قليلًا في المسموع وقوع" أو بعد "هل" –ولقلته لا يقاس عليه– ومنه ماجاء في صحيح مسلم "ج12 ص106 كتاب: الجهاد" وهو حديث يتضمن ما دار من كلام بين هرقل وأبي سفيان، جاء فيه ما نصه عن المسلمين: "هل يزيدون أم ينقصون ... ".
2 انظر ما يزيد عليه في ص611 وفيها إشارة إلى أن الصلة والارتباط بين حرفي العطف. "أو، وأم" معروض في ص588.
3 إذا كانت "أو" للإباحة جاز للمخاطب أن يختار أحد المتعاطفين ويقتصر عليه. وجاء له أن يجمع بينهما، ويختارهما معًا –كما شرحنا في ص604– وإذا جاز الجمع في حالة "أو" التي للإباحة فما الفرق بينه وبين الجمع في حالة "أو" التي بمعنى "واو" العطف؟
الفرق أن "واو" التي بمعنى واو العطف لا بد فيها من الجمع كالواو، ولا يصح الاقتصار على واحد، بخلاف الجمع في حالة الإباحة فإنه جائز.
4 وفي معاني: "أو" يقول ابن مالك:
خَيِّرْ، أَبِحْ، قَسِّمْ بِأَوْ، وَأَبْهِمِ ... واشْكُك، وَإِضْرابٌ بِهَا أَيْضًا نُمِى
=(3/609)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= "نمي، أي: نسب إليها، بمعنى أنها تؤديعه" وقد تضمن البيت ستة معان؛ هي: "التخيير، الإباحة، التقسيم، الإبهام، الشك، الإضراب". وسيجيء في البيت التالي معنى سابع؛ هو: أنها تكون بمعنى الواو.
وَرُبَّمَا عَاقَبَتِ الوَاوَ إذا ... لَمْ يُلْفِ ذُو النُّطْقِ لِلَبْس مَنْفَذًَا
"يلف: يجد. ذو النطق المتكلم" يقول: "أو" تعاقب الواو "أي: يصح أن تحل محلها وتؤدي معناها وهو مطلق الجمع والاشتراك" بشرط ألا يجد المتكلم منفذًا للالتباس، أي: بشرط ألا يكون استعمالها موقعًا في اللبس؛ بسبب خفاء معناها المراد، وعدم إدراك السامع أنها بمعنى الواو.(3/610)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- الأصل في "أو" أن تكون لأحد الشيئين أو الأشياء1 لكنها إذا وقعت بعد نفي أو نهي كانت للنفي العام الذي يشمل كل فرد مما حَيِّز النفي قبلها وبعدها، وللنهي العام الذي ينصَبّ على كل فرد كذلك: فمثالها بعد النفي: "لا أحب منافقًا أو كاذبًا". ومثالها بعد النهي قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 2.
ب- يقول سيبويه: إذا ذكرت همزة التسوية بعد كلمة: "سواء" فلا بد من مجيء "أم" العاطفة، لا فرق في هذا الحُكم بين أن يكون بعد الهمزة اسمان أو فعلان؛ نحو: "سواء عَلَيّ أمقيم ضيفي أم هو مرتحل سواء علىّ أَبَقِيَ الضيف أم ارتحل"، فإن كان بعد: "سواء" فعلان بغير همزة التسوية عُطف الثاني منهما على الأول بالحرف: "أو". نحو: "سواء علينا رَضِيَ العدو أو سَخِط". ورأيه هذا مخالف لما نقلناه –في رقم 3 من هامش ص588 وما يتصل بها– عن بعض المحققين الذين يجيزون مجيء "أم" والصواب معهم. وفي تلك الصفحة أيضًا بيان الصفة والارتباط بين الحرفين: "أو" و"أمْ".
وإن كان بعدهما اسمان بغير همزة التسوية عطف الثاني على الأول بالواو، ولو كان الاسمان مصدرين؛ نحو سواء على حمزةُ وعامرٌ، سواءٌ علينا اعتدالُ الجو وانحرافُه3....
ج- يصح حذف "أو" عند أمْن اللَّبس4؛ نحو: وسائل السفر متنوعة؛ يتخير منها كل امرىء ما يناسبه: فسافر ما يناسبه: فسافرْ بالطيارة، القطار، الباخرة، السيارة....
د- وقد تعطف الشيء على مرادفه5 كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ} فالإثم هو: الخطيئة ...
__________
1 سبقت الإشارة لهذا الرأي مع تفصيلات أخرى في رقم 3 من هامش ص586 لمناسبة هناك.
2 ومن أمثلة وقوعها في حيز للنهي قول الشاعر –في البيت الأول-:
لا تُظهرنّ لعاذل أو عاذر ... حاليْك في السّرّاءِ والضّرّاءِ
فلرحمة المتوجعين حَزازة ... في القلب مثل شماة الأَعداءِ
3 راجع الجزء الثاني من الهمع باب العطف؛ عند الكلام على "أو". وقد سبقت الإشارة لرأيه في ج من ص596.
4 كما سبقت الإشارة في ص575 وكما سيجيء في ص641.
5 وقد سبقت الإشارة لهذا في رقم 6 من هامش ص565.(3/611)
7- إمَّا:
يرى بعض النحاة أن كلمة: "إمَّا" الثانية في مثل "امنح السائل إمَّا دِرْهمًا وإمَّا دِرْهمين" حرف عطف بمعنى: "أو" وأنها تشارك "أو" في خمسة من معانيها1. هي:
التخيير والإباحة"، بشرط أن تكون "إمَّا" الثانية مسبوقة بكلام يشتمل على أمر.
"ولاشكُّ والإبهامُ"، بشرط أن تكون مسبوقة بجملة خبرية.
"والتفصيل"2 بعد الخبرِ أو الطلبِ".
ولا تكون "إمَّا الثانية" عند هؤلاء للإضراب، ولا بمعنى "واو" العطف؛ فبهذين المعنيين تختصص: "أو" دونها.
والمعاني الخمسة السابقة هي لكلمة: "إمَّا" الثانية، وتشاركها الأولى فيها وتسايرها؛ لأنهما حرفان3 متلازمان –في الأغلب– معنى واستعمالا4، غير أن الأولى لا تكون للعطف مطلقًا –كما سنعرف-.
فمن أمثلة الشك: احتجت الشمس وراء الغمام إمَّا ساعتين، وإمَّا ثلاثًا. ومن الإبهام قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} 5. والتخيير كقوله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} ؛ والإباحة، نحو: إمَّا أن تزرع فاكهةً وإمَّا قَصَبًا. والتفصيل، كقوله تعالى في الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} .
وإذا كانت "إمَّا" الثانية عندهم حرف عطف "فالواو التي قبلها زائدة لازمة لها. والأولى لا عمل لها في عطف أو غيره.
ويرى آخرون: أن "إما" الثانية والولى متشابهتان في الحرفية، وفي تأدية
__________
1 سبق شرح المراد من كل معنى من الخمسة عند الكلام على: "أو" ص603 –وما بعدها-.
2 انظر معنى "التفصيل" في رقم 1 من هامش ص606.
3 راجع حاشية الأمير على المغني ج1 عند الكلام على الحرف: "إما".
4 راجع البيان والتفصيل في "أ" من ص614.
5 يتعين الإبهام في الآية؛ مراعاة لما سبق في تحديد معناه –رقم 3 من هامش ص605-.(3/612)
معنى من تلك المعاني الخمسة، وأن كلًا منهما ليس حرف عطف؛ لأن الأولى لا يسبقها معطوف مطلقًا، ولأن الثانية تقع دائمًا بعد الواو العاطفة بغير فاصل بينهما. ومن المقرر أن حرف العطف لا يدخل على حرف العطف مباشرة1، إذ لا يصح أن يتوالى حرفان للعطف من غير فاصل. والفريقان متفقان على أن الأولى ليست عاطفة2 وأنها حرف –لا خلاف في حرفيته– يفصِل بين عامل قبله ومعمول يليه3. ولكن الخلاف في الثانية.
والرأي الأرجح الذي يجدرُ الأخذ به هو: أن الثانية كالأولى في المعنى والحرفية، وفي أنها ليست حرف عطف لأن العاطف هو الواو4.
__________
1 كما ستجيء الإشارة في ص620.
2 للسبب السالف؛ وهو أنها لا يسبقها عاطف مطلقًا.
3 لهذا يعرب ما بعد "إما"، الأولى على حسب حاجة العوامل التي قبلها؛ فقد يكون فاعلًا في مثل: غاب إما حامد وإما محمود. وقد يكون مفعولًا به في مثل: يركب المسافر إما قطارًا وإما سيارة، وقد يكون حالًا في مثل قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} . وقد يكون بدلا كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} وهكذا.
4 انظر ما يتصل بهذه "الواو" التي قبل "إما" الثانية في ص560.(3/613)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- ليس من اللازم أن تتكرر "إمَّا"، ولكن الأغلب تكرارها، فقد تحذف الثانية؛ لوجود ما يغني عنها. ويغلب أن يكون أحد شيئين: "وإلاّ" "أوْ". فمثال الأول: إما أن يتكلم المرء ليُحْمَد وإلا فليسكت. ومنه قول الشاعر:
فإِمَّا أَن تكون أَخِي بصدق ... فأَعْرفَ منكَ غَثِّي من سَمِيني
وإلاّ فاطَّرِحْنِي واتَّخِذْنِي ... عَدْوًّا أَتَّقيكَ وتَتَّقِينِي
ومثال الثاني قول الشاعر:
وقد شَفَّنِي ألا يزال يروعني ... خيالك إما طارقا أو1 معاديا
وقد يستغني عن الأول اكتفاء بالثانية كقول الشاعر:
تُلِمُّ بدَارٍ قَدْ تَقَادَمَ عهدُها ... وإِمَّا بأَموات أَلَمَّ خَيَالُهَا
أي: إمَّا بدار ... والفراء يقيس هذا الاستغناء، فيجيز: فيضان النهر معتدل وإمَّا خطير.
و"إمَّا" السالفة تختلف عن "إمَّا" المركبة من: "إن" الشرطية التي تجزم فعلين، ومن: "ما" الزائدة، في مثل: إمَّا يَعْدِلْ الوالي تجتمعْ حوله القلوب. أي: إنْ يعدل.... كما تختلف اختلافًا واسعًا عن "إمَّا" الشرطية التي سيجيء الكلام عليها2 في باب خاص بها.
ب- من اللهجات النَّادرة أن يقَال "أَيْمَا" بدلًا من "أَمَّا"، كذلك حذف وَاو العطف قبل "إِمَّا"، وكذلك
__________
1 ومن هذا جاء بيت ابن مالك في أول باب العطف في الألفية رقم 2 من هامش ص544 ونصه: "
العطف إما ذو بيان أو نسق.."
وكذلك وردت في كلام من يحتج بكلامهم؛ ومنهم خالدين صفوان "أموي، توفي حول سنة 133 هـ" فقد جاء على لسانه في قصة أحد الملوك ما نصه: "إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة ربك ... أو تضع تاجك وتلبس أمساحك وتعبد ربك في هذا الجبل ... " والقصة كاملة في كتاب "الجمان في تشبيهات القرآن" لابن ناقيا البغدادي ص306.
2 في ج4 ص470 م161.(3/614)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حذف وَاو العطف قبل "إِمَّا" الثانية1، وقد اجتمع النَّادران في قول الشاعر:
يا ليتما أمَّنا شالتْ2 نعامتها ... أَيْما إِلى جَنَّة، أَيْمَا إلى نار
ومن المستحسن اليوم عدم محاكاة هذه اللغات القليلة.
ج- الفرق بين "إِمَّا" و"أو" في المعاني الخمسة السالفة أن "إِمَّا" مكررة؛ فيدل الكلام معها من أول النطق بها على الغرض الذي جاءت من أجله؛ أهو شك، أم تخيير، أم غيرهما.
بخلاف "أو" فإن الكلام معها يدل أوّلًا على الجزْم واليقين، ثم تجيء "أو" فتدل على المعنى الذي جاءت من أجله.
د- حكم الضمير بعدها إذا كان عائدًا على المتعاطفين من ناحية المطابقة وعدمها مدون في رقم 3 من ص657.
__________
1 وفيما سبق يقول ابن مالك:
ومثل "أو" في القصد "إما" الثانية ... في نحو: إما ذي، وإما النائيه
2 شالت: بمعنى ارتفعت النعامة: باطن القدم. وارتفاع النعامة كناية عندهم عن الموت؛ لأن من يموت ترتفع –في الغالب- قدماه، وينخفض رأسه، فتظهر نعامته.(3/615)
8- لكنْ:
حرف عطف معناه الاستدراك1؛ نحو: ما صاحبت الخائنَ لكنْ الأمينَ؛ "فالأمين" معطوف على "الخائن".
ولا يكون عاطفًا إلا باجتماع شروط ثلاثة:
أولها: أن يكون المعطوف به مفردًا2، لا جملة، مثل: ما قطفت الزهرَ لكنْ الثمرَ. فإن لم يكن مفردًا وجب اعتبار "لكن" حرف ابتداء واستدراك معًا، وليس عاطفًا، ووجب أن تكون الجملة بعده مستقلة في إعرابها عن الجملة التي قبله، نحو: ما قطفت الزهر لكنْ قطفت الجملة بعده مستقلة في إعرابها عن الجملة التي قبله، ونحو: ما قطفت الزهر لكنْ قطفت الثمر.. فكلمة: "لكن" حرف ابتداء واستدراك معًا، ولا يفيد عطفًا، والجملة بعدها مستقلة في إعرابها؛ لأن "لكنْ" الابتدائية لا تدخل إلا على جملة جديدة مستقلة من الناحية الإعرابية3.
ثانيها: ألا يكون مسبوقًا بالواو مباشرة؛ نحو: ما صافحت المسيء لكن المحسنَ. فإن سبقته الواو مباشرة لم يكن حرف عطف واقتصر على أن يكون حرف استدراك وابتداء الكلام، ووجب أن تقع بعده جملة "فعلية أو اسمية" تُعْطَف بالواو على الجملة التي قبلها؛ فمثال الفعلية: ما صافحت المسيء ولكنْ صافحت المحسن، وقول الشاعر:
إذا ما قضيت الدَّيْن بالدَّيْن لم يكن ... قضاءٌ؛ ولكنْ كان غُرْمًا على غُرم....
__________
1 الاستدراك: "تعقيب الكلام بإزالة بعض الخواطر والأوهام التي ترد على الذهن بسببه". وهو يقتضي أن يكون ما بعد أداة الاستدراك مخالفًا لما قبلها في الحكم المعنوي؛ نحو: ما قطفت الزهر. فمعنى هذه الجملة نفي القطف عن الزهر. فقد يتسرب إلى الذهن من هذا المعنى أن الثمر لم يقطف أيضًا، فلإزالة هذا الوهم واستبعاده نأتي بأداة تبعده، مثل: "لكن"؛ فنقول: ما قطفت الزهر، لكن الثمر. فكلمة: "لكن" أداة من أدوات الاستدراك. أزالت ذلك الوهم. وأثبتت أن الثمر قُطف "وقد سبق إيضاحه وتفصيل الكلام عليه في ج1 ص472 م51. وفي رقم 2 من هامش ص428 م35-" كما سبق هناك أن الحرف الدال على "الاستدراك" "وهو: "لكن" بنوعيها، مشددة النون وساكنتها" لا تقع في صدر جملة تعرب خبرًا ...
1 طبقًا للرأي الأقوى والأشهر.
3 ومن أمثلة الجملة الفعلية بعدها قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تُؤخَذ الدنيا غِلابا
وقول الآخر يصف حياته:
حياة مشقات. ولكنْ –لبُعْدها ... عن الذلّ –تصفو للأبيّ وتَعْذُب(3/616)
ومثال الاسمية:
وليس أَخي من ودّني رأيَ عينه ... ولكنْ أخي من ودني وهو غائب
"فالواو" حرف عطف. "لكن"، حرف استدراك وابتداء كلام. والجملة بعدها معطوفة بالواو على الجملة التي قبلها1.
ثالثها: أن تكون مسبوقة2 بنفي، أو نهي، كما في الأمثلة السابقة. ونحو: لا تأكل الفاكهَةَ الفِجَّةَ لكن الناضجةَ. فإن لم تُسبق بذلك كانت حرف ابتداء واستراك لا عاطفة، ووجب أن يقع بعدها جملة مستقلة في إعرابها، نحو: تكثر الفواكة شتاء، لكنْ يكثر العنب صيفًا.
ويؤخذ مما سبق أن الحرف "لكنْ" حرف استدراك دائمًا؛ سواء أكان عاطفًا أم غير عاطف. وأنه لا يعطف إلا بشروط ثلاثة مجتمعة، فإن فُقِدَ منها شرط أو أكثر لم يكن عاطفًا، ووجب دخوله على الجُمل، واعتباره حرف استدراك وابتداء معًا.
والاستدراك يقتضي أ، يكون ما بعد أداته مخالفًا لما قبلها في حكمه المعنوي؛ كما في الأمثلة السالفة، كما في نحو: "لا أصاحب المنافق لكن الشهم = لا تجالس الأشرار لكن الأخيار". فمعنى الجملة التي قبل "لكن" منفي، أو منهيّ عنه، وهذا المعنى في الجملة التي بعدها مثبت وغير منهيّ عنه؛ فهما مختلفان فيه نفيًا وإيجابًا، ونهيًا وغير نهي.
ولما كان الكلام قبل "لكن" العاطفة منفيًا دائمًا، أو منهيًا عنه، وجب أن يكون ما بعدها مثبتًا دائمًا، وغير منهيّ عنه3، فالمعنى بعدها مناقض للمغنى قبلها1 ...
__________
1 لهذا إشارة في رقم 2 من هامش ص568.
2 وهذا الشرط هو الأرجح والأقوى.
3 أما غير العاطفة، أو "لكنْ" المشددة فقد يكون الأول فيهما هو المثبت، والمتأخر هو المنفي، أو العكس –كما سبق في ج1 من ص571– فالذي تجب مراعاته مع أداة الاستدراك "لكنْ = ولكنْ" هو مخالفة ما قبلها لما بعدها في الحكم نفيًا وإيجابًا، وغيرهما.
وفيما سبق يقول ابن مالك بيتًا يشتمل بإيجاز على حكم: "لكنْ" و"لا" العاطفتين "وسيجيء الكلام على "لا".
وأوْلِ "لكِنْ" نَفيًا، أو نهيًا. و"لاَ" ... نِدَاءً، أو أَمْرًا، أوِ اثبَاتًا تَلاَ
"وأول لكن نفيًا": اجعلها والية نفيًا وواقعة بعده، وذلك بأن يتقدم النفي وتليه لكنْ، أي تجيء بعده. هذا كل ما تعرض له البيت. وهو تعرض مبتور، أما باقية فليس خاصًا بلكن.
حكم الضمير بعدها إذا كان عائدًا على المتعاطفين من ناحية المطابقة وعدمها، موضح في رقم 3 ص657.(3/617)
9- لا:
حرف عطف يفيد نفي الحكم عن المعطوف بعد ثبوته للمعطوف عليه؛ نحو: يفوز الشجاعُ لا الجبانٌ. فكلمة: "لا" حرف عطف ونفي. و"الجبان" معطوف على الشجاع، والحكم الثابت للمعطوف عليه هو: فوز الشجاع، وقد نُفِي الفوز عن المعطوف "الجبان" بسبب أداة النفي: "لا". ومثل هذا يقال في "لا" التي في الشطر الثاني من قول الشاعر:
القلب يدركُ ما لا عينَ تدركه ... والحْسنُ ما استحسنتْه النفسُ لا البصرُ
فهي حرف عطف ونفي، و"البصر" معطوف على النفس، والحكم الثابت للمعطوف عليه هو نسبه الاستحسان إلى النفس "أي: إسناده إليها" مع نفي هذا الاستحسان عن البصر.
ولا يكون هذا الحرف عاطفًا إلا باجتماع خمسة شروط:
أولها: أن يكون المعطوف مفردًا –لا جملة1– كالأمثلة السالفة، وكقول الشاعر:
قلْ لِبانٍ بقولِ رُكنَ مملكةٍ ... على الكتائبِ يُبنَى المُلكُ، ولا الكُتُبِ
"فالكتب" معطوفة على: "الكتائب" وهذا المعطوف ليس جملة. فإن لم
__________
1 الجملة الممنوعة هنا هي التي ليس لها محل من الإعراب. قال الصبان "يشترط في "لا" العاطفة إفراد معطوفها، ولو تأويلًا؛ فيجوز: قلت عليّ قائم، لا عليّ "قاعد"؛ أخذًا من قول الهمع: ولا يعطف بها جملة لا محل لها على الأصح ... " ا. هـ. يريد أن المعنى: على قائم لا قاعد، فالجملة المعطوفة بمنزلة خبر مفرد. ومما يلحق بالمفرد: شبه الجملة إذا اعتبرنا متعلقه مفردًا، نحو: حساب العمر بالأعمال لا بالأعوام، وعند الله حسن الجزاء، لا عند الناس. وقولهم: "سُمُوُّ المرء بالعمل لا بمجرد الأمل".(3/618)
يكن المعطوف مفردًا لم يصح اعتبار "لا" عاطفة؛ وعندئذ يجب اعتبارها حرف نفي فقط، والجملة بعدها مستقلة في إعرابها، ليست معطوفة؛ نحو: تصبان الممالك بالجيوش والأعمال، لا تصان بالخطب والآمال.
ثانيها: أن يكون الكلام قبله موجبًا لا منفيًّا ويدخل في الموجبَ –هنا– الأمرُ والنداء؛ كقول بعضهم: "الملَقُ وَضاعة لا وداعة، وخِسِّةٌ لا كِيَاسة. فكُن أبيًّا لا ذليلًا، مَصُونًا لا مُتَبَذلًا. يا بن الغُرِّ البِهَاليلِ1 لا السَّفْلةِ2 الأوغادِ3: إن الكرامة في الإباء، والعزة في التَّصَونِ، ولا سعادةً بغير عِزة وكرامة ... ".
ثالثها: ألا يكون أحد المتعطفين داخلًا في مدلول الآخر، ومعدودًا من أفراده التي يصدق عليها لفظه "اسمه"؛ فلا يصح: مدحت رجلًا لا قائدًا؛ لأن الرجل "وهو المعطوف عليه" ينطبق على أفرد كثيرة تشمل المعطوف "وهو القائد" وتشمل غيره. ولا يصح أكلت تفاحًا لا فاكهة؛ لأن الفاكهة "وهي المعطوف" تشمل المعطوف عليه "وهو: التفاح" ويصدق اسمها عليه ... وهكذا. لكن يصح: مدحت رجلًا لا فتاة وأكلت الفاكهة لا خُبزًا؛ إذ لا يصدق أحد المتعاطفين على الآخر4 ...
__________
1 جمع: بهلول، وهو: السيد الجامع لكل خير.
2 أراذل الناس وأسافلهم.
3 جمع: وغد، وهو الرجل الدنيء الحقير.
4 وقد أشار ابن مالك إلى حكم "لا" في جزء من بيت سبق في هامش ص617 يتضمن حكمها وحكم "لكن" هو:
وأَوْلِ "لَكنْ" نَفْيًا، أوْ نَهْيًا وَ"لاَ" ... نِدَاءً أَوْ أَمْرًا أَو اثْبَاتًا تَلاَ
وقد سبق شرح الجزء الخاص بالحرف: "لكن" أما الخاص بالحرف "لا" فتقديره كلامه. "لا" تلا نداء، أو أمرًا، أو إثباتًا: فكلمة: "لا" مبتدأ –ولا يصح أن يكون معطوفًا على: لكن، منعًا لفساد المعنى– خبره الجملة الفعلية المكونة من الفعل "تلا" وفاعله. يريد: أن حرف "لا" العاطف يتلو النداء، أو الأمر، أو الإثبات. ويجيء بعد واحد من هذه الأشياء، ولا يكون عاطفًا إلا إذا وقع بعد أحدها. وفي البيت قصور ونقص.(3/619)
رابعها: ألا تقترن كلمة "لا" بعاطف لأن حرف العطف لا يدخل على حرف العطف1 مباشرة فإن اقترنت به كان العطف به وحده وتمحضت هي للنفي الخالص2، نحو: أسابيع الشهر ثلاثة، لا بل أربعة، فالعاطف هوَ "بَلْ"3، وقد عطف أربعة على ثلاثة. أما "لا" فليست هنا عاطفة، وإنما هي مجرد حرف نفي لإبطال المعنى السابق وردّه. ومثل هذا: "سبقتْ السيارة لا بل القطار" فليست "لا" هنا بعاطفة وإنما هي حرف نفي يسلب الحكم السابق ويزيله ويرده، و"بل" هي العاطفة4 ...
خامسها: ألا يكون ما يدخل عليه مفردًا صالحًا لأن يكون صفة لموصوف
__________
1 طبقًا لما تردد من قبل، ومنه البيان الذي في ص613.
2 ونفيها الخالص قد يكون تأسيسًا؛ كالذي في نحو: جاءني على، لا بل محمود. وقد يكون تأكيدًا كالذي في نحو: ما جاء عليّ ولا محمود. فالعاطف هو "بل" و"الواو" في الصورتين، والمعطوف فيهما هو محمود. والمعطوف عليه هو عليّ. أما كلمة "لا" فيهما فلمجرد النفي المحض، تأسيسًا في المثال الأول، وتأكيدًا في الثاني.
"ملاحظة": النفي التأسيسي هو الذي تجلبه الأداة الخاصة بالنفي، ولا يكون في الكلام ما يدل على هذا النفي ويشعر به سواها؛ كالمثال الأول: جاء عليٌّ لا محمود". فلولا الحرف النافي: "لا" ما وجد في الجملة ما يدل على معنى النفي. أما النفي التأكيدي فلا تجلبه معها أداة النفي؛ وإنما يكون موجودًا قبل مجيئها؛ فتجيء هي لتوكيده وتقويته؛ كالمثال الثاني: "ما جاء علي ولا محمود" فنفي المجيء عن محمود مفهوم بغير مجيء حرف النفي "لا" وبدون ذكره فلما جاء الحرف أكده وقواه.
3 في مثل: سافر الأخ بل الوالد نحوه من كل كلام موجب، والمعطوف مفرد ... تفيد كلمة: "بل" الإضراب عن الحكم السابق، كأنه لم يكن، والسكوت من غير حكم على صاحبه مع إثبات هذا الحكم السابق لما بعدها؛ فالذي سافر في المثال السالف هو الوالد، أما الأخ فسكوت عنه لا يتحدث عنه بشيء من سفر أو غيره كما سيجيء تفصيل هذا عند الكلام على "بل" "ص623 و ... " وقياسًا على هذا يكون المراد في المثال: أسابيع الشهر أربعة ... ؛ إلا أن وجود: "لا" يجعل الحكم منفيًا صراحة لا مسكوتًا عنه. وفي هذا يقول الصبان ما نصه:
"اعلم أن "لا" بعد الإيجاب هي في الإيجاب، وصيرورته بحرف الإضراب –لولاها– كالمسكوت عنه يحتمل النفي وغيره...."ا. هـ.
4 ومن صور اقترانها بالعاطف: ما جاءني محمد ولا علي. وهي في هذه الصورة زائدة، توافق نوعا من الزيادة الموضحة في البيان الهام الذي سبق في ج1 م5 ص62 أول الكلام على الحرف، وسبقت الإشارة إليه في رقم 3 من هامش ص567؛ متضمنة أنه يحوي الكلام على زيادة "لا" النافية، والغرض من زيادته، ومعناها، وإعرابها ...(3/620)
مذكور، أو لأن يكون خبرًا1، أو حالًا. فإن صلح لشيء من هذا كانت للنفي المحض، وليست عاطفة، ووجب تكرارها؛ فمثال المفرد الصفة: هذا بيتٌ لا قديمٌ ولا جديدٌ. فكلمة "لا" النافية "وقديم" نعت لبيت. ومثال الخبر: الغلامُ لا صبيٌّ ولا شابٌ، والشابُّ لا غلامٌ ولا كهل....1. ومثال الحال. عرفت العاطف لا نافعًا ولا منتفعًا ...
__________
"1، 1" لا فرق في الحكم بين خبر المبتدأ –كالأمثلة المعروضة هنا– وخبره غيره من النواسخ كالذي في قول الشاعر:
فإن أنتمو لم تحتفظوا لمودتي ... ذِمَامًا فكونوا لا عليها ولا لها(3/621)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- اختلف النحاة في وقوع "لا" العاطفة بعد الدعاء والتحضيض، نحو: "أطال الله عمرَك لا عُمْر الأعداء، وحرسَتْك عنايته لا عناية الناس"....
ونحو: "ألاَ تُكرَم النَّابِةَ لا الخامل، وهَلا تُقَدّر الذكّي لا الغَبيّ" ... والأحسن الأخذ بالرأي الذي يبيح هذا؛ تيسيرًا وموافقة للمأثور.
ويزيد بعضهم فيبدي اطمئنانه لصحة وقوع "لا" العاطفة بعد الاستفهام أيضًا، نحو: أفرغْتَ من كتابة الرسالة لا الخطبة؟ ولا بأس بهذا الاطمئنان.
ب- إذا كانت "لا" عاطفة فقد يجوز حذف المعطوف عليه، نحو: عودت نفسي أن أتكلم ... لا شرًّا، وأن أنفع ... لا قليلًا1 ... والأصْل: أن أتكلم خيرًا لا شرًا وأن أنفع كثيرًا لا قليلًا.
ج- لا يجوز تكرار "لا" العاطفة؛ فلا يقال: حضر هاشم، لا محمود، لا أمين، لا حامد، بل يجب الاتيان بالواو العاطفة قبل المكرر، ليكون العطف بهذه الواو وحدها، وتقتصر "لا" على توكيد النفي، دون أن تكون عاطفة.
د- حكم الضمير بعدها إذا كان عائدًا على المتعاطفين، من ناحية المطابقة وعدمها مدون في رقم 3 من ص657.
__________
1 لهذا إشارة في ص639.(3/622)
10- بل:
حرف يختلف معناه وحكمه باختلاف ما يجيء بعده من جملة أو مفرد.
أ- فإن دخل على جُملة فهو حرف ابتداء فقط، ومعناه إما: "الإضراب الإبطالي"، وإما:
"الإضراب الانتقالي". فالابطالي1: هو الذي يقتضي نفي الحكم السابق، في الكلام قبل "بل"، والقطع بأنه غير واقع، ومدعيه كاذب، والانصراف عنه واجب إلى حكم آخر يجيء بعدها. نحو: الأجرام السماوية ثابتة، بل الأجرام السماوية متحركة. فالحرف "بل" "بمعنى "لا" النافية" أفاد الإضراب الإبطالي الذي يقتضي نفي الثبات ونفي عدم الحركة عن الأجرام السماوية: لأن هذا الثبات أمر غير حاصل، ومن يدعيه كاذب، فكأن المتكلم قال: "الأجرام السماوية ثابتة. لا، فالأجرام السماوية متحركة وليست ثابتة"؛ فأبطل الحكم الأول ونفاه، وعرض بعده حكمًا جديدًا. ومن الأمثلة قوله تعالى في المشركين: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ، أي: بل هم2 عبادٌ مكرمون. فقد أبطل الحكم السابق، ونفاه، وأثبت حكما آخر بعده: فكأن الأصل: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا. لا؛ فان الذين اتخذهم هم عباد مكرمون". ومثل قوله أيضا ترديدا لما يقوله الكفار عن الرسول عليه السلام: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ3 بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} . والانتقاليّ هو: الذي يقتضي الانتقال من غرض قبل الحرف: "بلْ" إلى غرض جديد بعده، مع إبقاء الحكم السابق على حاله، وعدم إلغاء ماي قتضيه. كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى 4 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ 5 الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
فالغرض الذي يدور حوله الكلام قبل: "بل" هو: الطاعة، "بالطهارة من الذنوب، وبعبادة الله، وبالصلاة ... "، والغرض الجديد بعدها هو حب
__________
اسبقت الإشارة إلى معناه في رقم 1 من هامش ص597.
2 الدليل على أن العرف: "بل" داخل على جملة اسمية، المبتدأ فيها محذوف هو: رفع كلمة: "عباد" إذ لا وجه لإعرابها وهي مرفوعة غير ما سلف، وهو الذي يقتضيه المعني أيضًا. ومثل هذا يقال في كلمة: "أحياءٌ" المرفوعة في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، أي بل هم أحياء.
3 جنون.
4 تَطَهَّر.
5 تفضلون وتختارون.(3/623)
الدنيا، وتفضيل الآخرة عليها ... وكلا الغرضين مقصود باقٍ على حالة، كقوله تعالى: {كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} 1.
وكقولهم: "ليس من المروءة أن يتخلى الشريف عن أصدقائه ساعة الشدّة: بل يقيهم بماله، ويدفع عنهم بنفسه".
وحكم الحرف: "بل" الداخل على الجملة أنه حرف ابتداء محض يفيد الإضراب2 -كما أسلفنا- ولا يصح اعتباره حرف عطف ولا شيئا آخر غير الابتداء، فالجملة بعده مستقلة في إعرابها عما قبلها، ولا يصح إعرابها خبرًا ولا غير خبر عن شيء سابق عليه3 ...
__________
1 غفلة، أو انهماك في الباطل، ووُصِفت القلوب بهذا مسايرة لاعتقاد العرب أن القلب هو مقر العقل والغرائز، ومصدر الخير والشر.
2 سبقت إشارة -في رقم 2 من هامش ص597 إفي فروق بين "أم" المنقطعة حين تكون للإضراب، و"بل" منها: أن الذي بعد "بل" يقين غالبا، أما الذي بعد "أم" فطن ... ، جاء الكتاب: "المحتسب" لابن جني ج2 ص 291 في الآية الكريمة من سورة الطور: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} وقراءة من قرأها: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ما نصه: "قال أبو الفتوح: هذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا فيه: إن "أم" المنقطعة بمعنى: إلا أن ما بعد "بل" متقين، وما بعد "أم" مشكوك فيه، مسؤول عنه، كقول علقمة بن عبدة:
هل ما علمت وما تستودعت مكتوم؟ ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم؟
سطر ممحى مشكوم: مجازى ...
ألا ترى إلى ظهور حرف الاستفهام وهو: "هل" في قوله: أم هل كبير بكى ... حتى كأنه قال: بل هو كبير ... ترك الكلام الأول وأخذ في استئناف مستأنف.
وقد توالت "أم" هذه في ها الموضع من هذه السورة؛ قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أي: بل أيقولون ذلك. وقوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ؟} أي: بل أهم قوم طاعون؟ ... أخرجه مخرج الاستفهام، وان كانوا عنده تعالى قومًا طاغين؛ تلعبًا بهم وتهكمًا عليهم. وهذا كقول الرجل لصاحبه الذي لا يشك في جهله: أجاهل أنت؟ توبيخًا له، وتقبيحًا عليه. ومعناه: إني قد نبهتك على حالك فانتبه لها، واحتط لنفسك منها، قال صخر:
أرائح أنت يوم البين أم غادي ... ولم تسلم على ريحانة الوادي
ليس يستفهم نفسه عما هو أعلم به؛ ولكنه يقبح هذا الرأي لها، وينعاه عليها" ا. هـ.
3 يقول السيوطي في الهمع - ج1 ص96- ما نصه خاصًا بالخبر: "لا يسوغ الإخبار بجملة ندائية؛ نحو: زيد يا أخاه، ولا مصدرة بلكن، أو: بل، أو: حتى -بالإجماع في كل ذلك".(3/624)
ب- وان دخل على مفرد فحكمه أنه: حرف عطف: يختص بعطف المفردات وحدها. أما معناه هنا فيختلف باختلاف ما قبله من كلام مثبت، أو مشتمل على صيغة أمر، أو كلام منفي، أو مشتمل على صيغة نهي.
1- فإن تقدم على: "بل" كلام موجب أو صيغة أمر نحو1: "أعددت الرسالة بل القصيدة لبست المعطف بل الثياب" "عاون المحتاج بل الضعيف" ساعف الصديق بل الصارخ" كان معنى "بل" أمرين معا، أساسيين:
أولهما: الإضراب عن الحكم السابق؛ بنفي المراد منه نفيًا تامًّا، وإبطال أثره كان لم يكن، وسلْبه عن صاحبه، وترك صاحبه مسكوتًا عنه مهملا؛ أي غير محكوم عليه بشيء مطلقًا بمقتضى هذا الكلام الذي أزال عنه الحكم السالف، وتركه بغير حكم جديد يقع عليه. وان شئت فقل: إنّ الكلام السابق على "بل" صار كأنه لم يذكر2.
ثانيهما: نقل الحكم الذي قبل "بل" نقلا تاملًا إلى ما بعدها منغير تغيير بشيء في هذا الحكم الذي أزيل عما قبلها، واسْتقر لما بعدها، ففي الأمثلة السابقة يقع الإضراب على إعداد الرسائل، فينفي الإعداد لها، ولكنه يثبت للقصيدة بعدها. ويقع الإضراب على لبس المعطف، فلا يحصل؛ وإنما ينتقل اللبس إلى الثياب. وكذلك ينصت الإضراب على معاونة المحتاج؛ فلا يحصل؛ وإنما تنتقل المعاونة إلى الضعيف وتثبت له. وأيضا تلغى المساعفة للصديق ولكنها تثبت للصارخ. وهكذا.
2- وان تقدم على "بل" كلام منفي، أو مشتمل على صيغة نهي، نحو: "
__________
1 يراد بها ما يدل على الأمر صراحة، كفعل الأمر، ولام الأمر الداخلة على المضارع. لكن أيلحق بالأمر هنا التمني، والترجي، والعرض، والتحضيض، أم لا يلحق؟
رأيان بينهما خلاف واسع. والأحسن التيسير بقبول الرأي الذي يلحقها -كما سيجيء في هامش ص 627-.
2 ففي الأمثلة السابقة ماذا جرى للرسالة، والعطف، والمحتاج، والصديق، بعد أن سلبنا الحكم الواقع على كل منها؟
ليس في الكلام ما يدل على حكم جديد بعد الحكم المسلوب الذي نفيناه. فكل واحد منها بمنزلة كلمة مفردة نطقنا بها وحدها من غير أن نسند إليها شيئًا.(3/625)
ما زرعت القمح بل القطن ما أسأت مظلوما بل ظالما" "لا يتصدر مجلسنا جاهل بل عالم لا تصاحب الأحمق بل العاقل" لم يكن معنى "بل " الإضراب، وإنما المعنى أمران معًا.
أولهما: إقرار الحكم السابق، وتركه على حاله من غير تغيير فيه.
ثانيهما: إثبات ضدّه لما بعد "بل".
ففي المثال الأول: حكم منفيّ، قبل كلمة "بل" هو نفي زراعتي القمح، وأقررنا هذا الحكم المنفيّ، وتركناه على حاله، وفي الوقت نفسه أثبتنا بعدها حكما آخر، هو، زرع القطن ... ، وأيضا نفينا قبلها حكما؛ هو وقوع الإساءة على المظلوم، وأثبتنا بعدها وقوعها على الظالم. وكذلك نهينا قبلها عن تصدر الجاهل لمجلسنا، وأمرنا بعدها بهذا التصدر للعالم. ونهينا عن مصاحبة الأحمق، وامرنا بها للعاقل، وهكذا ...
فالحكم الأول في كل الأمثلة السالفة –ونظائرها- باق على حاله، لم يقع عليه إضراب، أو تغيير، والحكم بعد "بل" مضاد لما قبلها، فالحكمان متضادان؛ ما ينفى أو ينقى عنه قبل "بل" يثبت أو يؤمر به بعدها"1" ...
__________
1 في حكم "بل" يقول ابن مالك:
و"بل" ك "لكن بعد مصحوبيها ... كلم أكن في مربع، بل تيها
"المراد بالمصحوبين: النفي والنهي، هو المربع: المكان الذي ينزل فيه القوم زمن الربيع. والتيها: هي التيهاء؛ "أي: الصحراء" يقول: ‘ن "بل" بعد النفي مثل "لكن" في أنها تقرر ما قبلها، وتتركه على حاله، وتثبت ضده لما بعده، فلا تفيد معهما إضرابا. لكنها بعد الكلام الموجب وبعد صيغة الأمر تفيد الإضراب عن الأول، وتنقل حكمه إلى الثاني، حتى يصير الأول مسكوتا عنه مهملا. وفي حالتي الإيجاب والأمر يقول ابن مالك متمما كلامه السالف عن "بل":
وانقل بها للثان حكم الأول ... في الخبر المثبت والأمر الجلي
أي: الصريح في دلالته على الأمر؛ كفعل الأمر، والمضارع المسبوق بلام الأمر. وهذا عند ابن مالك ومن وافقه. وهناك من يلحق التمني، والترجي، والعرض، والتحضيض ... بالصريح كما قلنا في رقم 2 من هامش ص625 وقد سبق الكلام على "لكن" في ص616.(3/626)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ا- لا يجوز العطف بالحرف "بل، بعد كلام فيه استفهام؛ فلا يصح أحفظت قصيدة بل خطبة؟
ب- تقع "لا" النافية قبل "بل "1 بنوعيها؛ العاطفة "وهي المستوفية للشروط2؛ وفي مقدمتها الدخول على المفرد" وغير العاطفة "وهي غير المستوفية للشروط؛ كالداخلة على الجملة " فإذا دخلت على العاطفة المسبوقة بكلام مثبت، أو بصيغة أمر كان معنى "لا" النافية: تقوية الإضراب المستفاد من "بل "، وتوكيده، وإن دخلت على العاطفة المسبوقة بنفي أو نهي كان معنى "لا" تقوية النفي والنهي المستفادين من "بل ". فمثالها بعد كلام مثبت قول الشاعر:
وجهُك البدر لا، بل الشمس لو لم يقض للشمس كسفة وأفول
ومثال وقوعها بعد النفي: ما عاقني البرد، لا بل المطر.
ومثالها بعد النهي: لا تغفل الرياضة، لا بل طول القعود.
وإن دخلت على غير العاطفة كان معناها تقوية الإضراب المستفاد من: "بل"وتوكيده؛
كقول الشاعر:
وما هجرتك، لا، بل زادني شغفا ... هجر، وبعد تراخ لا إلى أجل
ج- ورد قليلا في المسموع الفصيح3 زيادة "الواو" بعد "بل" كالتي في قول علي رضي الله عنه: "إنما يحزن الحسدة ابدا؛ لأنهم لا يحزنون لما ينزل بهم من السر فقط، بل ولما ينال الناس من الخير"ا. هـ4.
والأحسن عدم القياس على هذا؛ لندرته البالغة.
د- حكم الضمير بعدها إذا كان عائدا على المتعاطفين من ناحية المطابقة وعدمها مدون في رقم 3 ص657.
__________
1 كما اشرنا في ص629.
2 بيان هذه الشروط في ص625.
3 أما في غيره من كلام المولدين الذين يستأنس بكلامهم ولا يستشهد به، فكثيرة الورود في كثرة لا تغير الحكم السالف.
4 ورد هذا النص في ص 128 من كتاب: "سجع الحمام، في حكم الإمام" إخراج وتحقيق علي الجندي وزميليه..(3/627)
ملخص حروف العطف، وبيان ما يقتضي التشريك، وما لا تقتصيه:
من كل ما تقدم من الكلام على أدوات العطف يتبين:
1- أنها حروف.
2- وأنها في اغلب الحالات -تشرك المعطوف مع المعطوف عليه في الضبط الإعرابي1 "رفعا، ونصبا، وجرا، وجزما" وهذا هو الشريك اللفظي.
أما من جهة التشريك المعوي فبعضها يشركه أيضا في معنى المعطوف عليه: وينحصر هذا في أربعة حروف: "الواو، الفاء، ثم، حتى"؛ فهذه الأربعة ترك المعطوف مع المعطوف عليه في المعنى، كما تركه في اللفظ إشراكا إعرابيا -في الغالب- كما أسلفا.
وبعضها يشركه في اللفظ دون المعنى، فيثبت للمعطوف ما انتفى عن المعطوف عليه، وهو: "بل، لكن" أو العكس، فيثبت للمعطوف عليه ما انتفى عن المعطوف، وهو: "لا".
وبعض ثالث هو "أو2، أم" يشركان في اللفظ كما يشركان في المعنى ولكن بشرك ألا يقتضيا إضرابًا3.
__________
1 وهناك حالات لا تشريك فيها في الضبط الإعرابي، كعطف الماضي على المضارع وعكسه. وعطف أحدهما على المشتق والعكس -كما سيجيء في ص642 و649 و ...
2 وتبشهها "إما" من وجوه أوضحناها عند الكلام عليها. في ص612 لكن الصحيح اعتبارها غير عاطفة.
3 قالوا في بيان هذا التشريك المعنوي "إن القاتل: أمحمد في الدار أم محمود يعرف أن الذي في الدار هو أحد المذكورين، ولكنه لا يعلم -على وجه التعيين- من هو. فالذي بعد "أم" مساو للذي قبلها في صلاحه لثبوت الاستقرار في الدار وانتفائه. وحصول المساواة إنما هو بواسطة "أم" فقد أشركتهما في المعنى كما أشركتهما في اللفظ. وكذلك: "أو" تشرك ما بعدها لما قبلها فيما جاءت لأجله من شك، أو تخيير، أو غيرهما. فان اقتضيا إضرابا كانا مفيدين للشريك في اللفظ لا في المعنى ... ". "راجع: "شرح التصريح"، أول باب: "العطف".(3/628)
3- وان المتعاطفين إذا تكررا كان "المعطوف عليه" واحدا هو الأول. إلا إذا كان حرف العطف يفيد الترتيب "مثل: الفاء، وبم"، فان "المعطوف عليه" واحد، هو ما قبل حرف العطف مباشرة1.
__________
1 ويترتب على هذا أنه لو جاء بعد العاطف المفيد للترتيب وبعد معطوفه عاطف آخر لا يفيد الترتيب –كالواو- لوجب أن يكون المعطوف عليه لهذا العاطف الذي لا يفيد الترتيب هو المعطوف الذي قبله مباشرة والذي أداة عطفه مفيدة للترتيب. "طبقا للبيان الذي في رقم 2 من هامش ص555 ورقم 3 من هامش ص649.(3/629)
المسالة 119:
الفصل بين المتعاطفين:
يجوز عطف الاسم الظاهر على مثله أو على الضمير، ويجوز عطف الضمير على مثله أو على اسم ظاهر. لكن بعض هذه الصور يكون فيه الفصل بين المتعاطفين واجبا، وبعض آخر يكون الفصل فيه مستحسنا راجحا، وفي غير ما سبق يكون جائزا1.
فأما الفصل الواجب ففي حالتين، سبقت أحداهما2. وملخصه: أنه إذا عطف على المبتدأ الذي خبره نوع من الأنواع المقرونة بالفاء -وقد ذكرت هناك- أو على ما يتصل به من صلة، أو صفة، أو نحوهما ... وجب تأخير المعطوف عن الخبر، إذ لا يجوز الفصل بين هذا الخبر ومبتدئه بالمعطوف؛ ففي مثل: الذي عندك فمؤدب لا يصح أن يقال: الذي عندك والخادم فمؤدب، أو فمؤدبان، وهكذا ...
والحالة الثانية التي يجب فيها الفصل -تبعا لأرجح الآراء- هي التي يكون فيها المعطوف عليه مصدرا له معمولات؛ فلا يجوز العطف عليه إلا بعد استيفائه كل معمولاته؛ نحو: ما أحسن تقدير الأمة العاملين المخلصين لها، وإكبارهم.
__________
1 ملاحظة: من الحالات الجائزة بعض صور بليغة تقدمت في ص435 ويشترط في الفصل الجائز إلا يكون بفاصل طويل، ولم يحدد النحاة هذا الطول الذي يسترشد فيه بما جاء في كتاب: "المحتسب"، لابن جني -ج2 ص297- حيث الكلام على معطوف مفصول من المعطوف عليه بثلاث جمل، ونص كلامه في هذا العطف: "قال أبو حيان: هذا بعيد؛ لطول الفصل بجمل ثلاث: وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب، نحو: أكلت خبزا، وضربت فلانا، وان يجيء فلان أكرمه، ورحل إلى بني فلان و"لحما"؛ فيكون "ولحما" معطوفا على "خبزا"، بل لا يوجد مثله في كلام العرب" ا. هـ.
2 تفصيلها الذي لا غنى عن الرجوع إليه، وبيان فروعها المختلفة في ج1 م41 ص391 "باب المبتدأ والخبر".(3/630)
واما الحالتان اللتان يستحسن فيهما الفصل ويرجح1.
فالأولى: أن يكون المعطوف عليه ضميرا مرفوعا متصلا، سواء أكان متستترًا أم بارزا؛ فيستحسن عند العطف عليه فصله بالتوكيد2 اللفظي أو المعنوي أو بغيرهما أحيانا. فالفصل بالتوكيد اللفظي يتحقق بضمير مرفوع منفصل مناسب3 نحو: "لقد كنت أنت ورفاقك طلائع الإصلاح، وكنتم أنت والسباقون إليه موضع الإعجاب والتقدير". فكلمة: "رفاق" معطوفة على: "التاء" وهي الضمير المتصل المرفوع البارز بعد توكيد لفظه بالضمير المرفوع المنفصل: "أنت". وكذلك كلمة: "السباقون" معطوفة على الضمير البارز "التاء والميم"، في "كنتم" بعد توكيده توكيدا لفظيا بالضمير المرفوع المنفصل: "أنتم".
ومثال العطف على الضمير المتصل المرفوع المستتر مع الفصل: انتفع أنت وإخوانك4 بتجارب السابقين.
والفصل بالتوكيد المعنوي يتحقق بوجود لفظ من ألفاظه بين المتعاطفين؛ ومن الأمثلة قول الشاعر:
ذعرتم أجمعون ومن يليكم ... برؤيتنا، وكنا الظافرينا
ويغنى عن التوكيد بنوعيه -كما أسلفنا- وجود فاصل آخر أي فاصل بين المتعاطفين؛ كالضمير "ها" في قوله تعالى في المؤمنين الصالحين: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} ... ومثل "لا" النافية
__________
1 عند البصريين. أما الكوفيون. فلا يتمسكون بالفصل ولا يرون في خلو الكلام منه عينا ولا ضعفا.
2 راجع حاشية التصريح ج3 باب: العطف، عند الكلام على عود الخافض ...
3 لا فرق في هذا بين أن يكون المعطوف اسما ظاهرا أو ضميرا.
4 كلمة: "إخوان"، معطوفة على الفاعل المستتر وتقديره: "أنت". أما كلمة "أنت" ضمير المخاطب المذكور فتوكيد لفظي الفاعل المستتر؛ ولا يصح إعرابها فاعلا: لأن فعل الأمر الواحد لا يرفع ضميرا بارزا. ولا يصح إعرابها بدلا من الفاعل المستتر: لأن الضمير لا يبدل من الضمير -كما في ب من ص683-.
وهناك إعراب آخر يفضله النحاة على هذا، وقد سبق في ص564 حيث البيان والإيضاح، ويجيء أيضا في ص638.(3/631)
في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} ، وقد اجتمع الفصل بالتوكيد اللفظي وبحرف النفي "لا" في قوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} .
ومن غير المستحسن في النثر -مع جوازه- العطف على الضمير المستتر المرفوع بغير فاصل على الوجه السالف، نحو "قاوم ونظراؤك أعوان السوء"، فقد عطفت كلمة: "نظراء "على الفاعل الضمير المستتر: "أنت" بغير فاصل؛ ومنه العبارة المأثورة1: "مررت برجل سواء والعدم" أي: متساو هو والعدم، فكلمة، "سواء" اسم بمعنى المشتق، وهي متحتملة للضمير المرفوع. والعدم "بالرفع" معطوفة على الضمير المستتر بغير فاصل بينهما2. أما الشعر فقد يجوز فيه عدم الفصل، اضطرارا؛ مراعاة لقيوده الكثيرة التي قد تقهر الشاعر على ترك الفصل ... ومن الأمثلة قول جرير يهجو الأخطل:
ورجا الأخطيل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأب له لينالا
فقد عطف كلمة "أب" على اسم "يكن" المرفوع المستتر بغير فاصل بينهما3.ومثله قول الآخر:
مضى وبنوه، وانفردت بمدحهم ... وألف إذا ما جمعت واحد فرد
فقد عطف كلمة: "بنوه" على الضمير المرفوع المستتر في: "مضى" بغير فاصل.
__________
1 وقد رواها سيبويه.
2 وهي مما استشهد به سيبويه على صحة ترك الفصل في النثر.
3 وفيما سبق من العطف على الضمير المرفوع المتصل مع الفصل بين المتعاطفين يقول ابن مالك:
وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل
أو فاصل ما. وبلا فصل يرد ... في النظم فاشيا. وضعفه اعتقد
وملخص البيتين: افصل بالضمير المنفصل بين المتعاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميرا مرفوعا متصلا.
ولا يتعين أن يكون الفصل بالضمير وإنما يكفي الضمير أو غيره. ثم بين أن عدم الفصل فاش "أي: كثيرا في الشعر، وأنه مع كثرته ضعيف لا يقاس عليه.
لكن كيف يكون كثيرا وفاشيا والقياس عليه ضعيف؟ أن الكثرة تعارض الضعف؛ ولذا كان القياس هنا سائغا في الشعر بغير ضعف، خلافا لابن مالك.(3/632)
والثانية: أن يكون المعطوف عليه ضميرا مجرورا بحرف أو بإضافة؛ فيستحسن عند أمن اللبس إعادة عامل الجر مع المعطوف، ليفصل بين المتعاطفين، فمثال المعطوف المجرور بحرف جر1 معاد: ما عليك وعلى أضرابك من سبيل أن أديتم الواجب. فكلمه: "أضراب" معطوفة على الضمير الكاف المجرور بالحرف: "على". وقد أعيد هذا الحرف مع المعطوف. والأصل ما عليك وأضرابك، ومثل هذا قوله تعالى عن نفسه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ 1 ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} . فكلمة: "الأرض" معطوفة على الضمير: "ها" المجرور باللام، وقد أعيدت اللام مع المعطوف: والأصل: فقال لها والأرض. ومثله إعادة اللام في قول الشاعر:
فما لي وللأيام –لا دلا دلاها– ... تشرق بي طورا، وطورا2 تغرب
ومثال إعادة عامل الجر وهو اسم مضاف3 قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} . فكلمة: "آباء" معطوفة في الأصل على الضمير المضاف إليه، وهو: "الكاف الأولى"، فأعيد المضاف وهو: "إله" وذكر قبل المعطوف. واصل الكلام: نعبد إلهك وآبائك ...
هذا هو الكثير. وترك الفصل جائز أيضا، ولكنه لا يبلغ في قوته وحسنه البلاغي درجة الكثير. ومن هذا قراءة قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} . والتقدير: الذي تساءلون به وبالأرحام. أي: تستعطفون به وباسمه، وبالأرحام؛ بعطف كلمة: "الأرحام" على الضمير المجرور بالباء. وكقول الشاعر:
__________
"1، 1" الرأي المختار انه إذا أعيد عامل الجر فالمعطوف هو الجار والمجرور معا، وليس المجرور على المجرور، لئلا يلزم إلغاء عامل، أي: تركه زائدا مهملا، لا أثر له إلا مجرد الفصل. ومن الأمثلة -أيضا- لإعادة الجار في المعطوف، اللام في قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} .
2 سبق هذا البيت للمناسبة السالفة في ج2 م80 ص246.
3 إنما يعاد الحامل الاسمي "وهو المضاف" بشرط ألا توقع إعادته في لبس، فإن أوقعت في لبس لم يجز إعادته، نحو: جاءتني سيارتك وسيارة محمود، وأنت تريد سيارة واحدة مشتركة بينهما. وهذا المنع إذا لم توجد قرينة تزيل اللبس.(3/633)
اليوم قد بت1 تهجونا وتشتمنا ... فاذهب، فما بك والأيام من عجب
أي: وبالأيام. وقول بعض العرب: ما في الدار غيره وفرسه، يجر كلمة: "فرس" المعطوفة على الهاء من غير إعادة الجار وهو الاسم المضاف2.
__________
1 في رواية أخرى: اليوم قربت ...
2 يقول ابن مالك في تكرار الخافض مع المعطوف إذا كان المعطوف عليه ضميرا مجرورا:
وعود خافض لدى عطف على ... ضمير خفض لازما قد جعلا
وليس عندي لازما: إذ قلا أتي ... في النثر والنظم الصحيح مثبتا
يقول: جمل عود الخافض على المعطوف الذي وصفناه أمرا لازما عند النحاة، ولكنه ليس بلازم في رأي وحكمي؛ لأن عدم إعادته أمر ثابت تحقق في النظم والنثر الواردين عن العرب. أي: أمر تؤيده الأمثلة الصحيحة نظما ونثرا، وتثبت أن إعادته ليست باللازمة.(3/634)
المسالة 120:
صور من الحذف في أسلوب العطف:
حذف بعض حروف العطف مع معطوفها:
من حروف العطف ثلاثة يختص كل منها بجواز حذفه مع معطوفه بشرط أمن اللبس –كما سبق عند الكلام عليها1- وهذه الثلاثة هي: الواو، والفاء، وأم المتصلة. فمثال حذف الواو مع معطوفها لدليل: أنقذت الغريق ولم يكن بين الموت إلا لحظات. أي: لم يكن بين الموت وبينه....
وقول الشاعر:
إني مقسم ما ملكت؛ فجاعل ... قسما لآخرة، ودنيا تنفع.......
يريد: وقسم دنيا، أي: وقسما لدنيا ... ومثل قول الآخر:
فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر2 إلا ليال قلائل
أي: بين الخير وبيني. ومما يصلح لهذا أيضا قول بعض العرب: "راكب الناقة طليحان3"، والتقدير: راكب الناقة والناقة طليحان.
ومثال حذف الفاء مع معطوفها لدليل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ 4 أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ 5 مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} ، الأصل: فضرب فانبجست6. وقوله تعالى:
__________
1 ص557 و574 و586 مع ملاحظة أن المحذوف قد يترك معمولا مذكورا في الكلام أحيانا "كبعض الأمثلة التي في ص563 "أ" و576 وغيرهما من الأمثلة المعروضة عند الكلام على أحكام تلك الأحرف" أو لا يترك معمولا له؛ كالأمثلة المعروفة هنا.
2 كنية رجل اسمه: النعمان بن الحارث.
3 أصابهما التعب والإعياء. "وقد سبقت الإشارة هذا في ص562".
4 طلبوا منه الماء للسقي.
5 تفجرت.
6 هذه الجملة الفعلية المكونة من الفعل: "انبجس" وفاعله، معطوفة على الجملة الفعلية المكونة من الفعل: ضرب المحذوف. وإنما لم يكن العطف على الأول "أوحينا" لما سبق تقريره رقم 2 من هامش ص555 =، وفي رقم 3 من هامش ص649" من أن المعطوفات المتعددة يكون معطوفها واحدا هو الأول. إلا إذا كان حرف العطف يقتضي الترتيب، فيكون المعطوف عليه هو ما قبله مباشرة.(3/635)
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} ، أي: فضرب فانفجرت، وتسمى هذه الفاء المذكورة في الكلام، والتي تعطف ما بعدها على الفاء المحذوفة مع معطوفها "فاء الفصيحة"1.
ومثال حذف "أم" المتصلة ومعها معطوفها بدليل -وحذفهما، قليل- قول الشاعر:
وقال، صحابي: قد غبنت، وخلتني
غبنت. فما أدري أشكلكم شكلي؟ ...
والأصل: أشكلكم2 شكلي أم غيره؟ وكقول الآخر:
دعاني إليها القلب، إني لأمره ... سميع؛ فما أدري: أرشد طلابها؟
والتقدير: أرشد طلابها أم غي3؟
حذف المعطوف:
تنفرد الواو بجواز عطفها عاملا قد حذف وبقي معموله المرفوع أو المنصوب أو المجرور، فمثال المعمول المرفوع قوله تعالى لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فكلمة: "زوج" فاعل بفعل محذوف، والجملة من الفعل المحذوف وفاعله المذكور معطوفة على الجملة الأمرية المكونة من فعل الأمر: "اسكن"
__________
1 وهذا النوع هو الذي سبقت "في ص576" الإشارة والإحالة على ما جاء خاصا به هنا. وسميت "فاء الفصيحة" لأنها أفصحت، "أي: بينت" وكشفت عن المحذوف، ودلت عليه وعلى ما نشأ عنه. ولأنها -أحيانا- تفصح عن جواب شرط مقدر؛ ففي الآية الأولى دلت الفاء على المحذوف وعلى أن الضرب كان سببا في الانبجاس. أو يقال: إن كان موسى قد أطاع الأمر وضرب الحجر فماذا تم بعد ذلك؟ فالجواب: انبجست منه اثنتا عشرة عينا.
2 طريقكم.
3 وقيل إن الهمزة للتصديق، فلا تحتاج إلى معادل.(3/636)
وفاعله. والتقدير: اسكن أنت، وليسكن زوجك1. والسبب في هذا أننا لو أعربنا كلمة: "زوج" معطوفة بالواو على الفاعل المستتر لفعل الأمر لكان العامل في المعطوف "زوج" هو العامل في المعطوف عليه، أي: في الفاعل الستر. فيكون الفعل: "اسكن" عاملا في فاعله، وفي كلمة: "زوج"، فهو الذي رفع كلمة "زوج" وهي بمنزلة الفاعل بسبب عطفها على الفاعل ويترتب على هذا أن يكون فاعل الأمر اسما ظاهرا مع أن نعل الأمر لا يرفع الظاهر.
هذا تعليلهم. وهو تعليل مرفوض، يعارضه ما يرددونه كثيرا من أنه: "قد يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع"، أو: "قد يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل". فإذا امتنع أن يقع الاسم الظاهر فاعلا لفعل الأمر مباشرة فلن يمتنع أن يكون المعطوف على هذا الفاعل اسما ظاهرا؛ لأنه تابع أو ثان ينطبق عليه ما سبق من التوسع والتيسير؛ فلا داعي للتكلف والتقدير ...
ومثال المعمول المنصوب قوله تعالى في أنصار الدين {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، ومعنى تبوءوا الدار أعدّوها للسكنى. وهذا المعنى مناسب للدار؛ لكنه غير مناسب للإيمان، إذ لا يقال على سبيل الحقيقة: هيئوا الإيمان للسكنى؛ ومن ثم أعربت كلمة: "الإيمان" مفعول لفعل محذوف تقديره: "ألفوا" وهذه الجملة الفعلية المحذوفة معطوفة بالواو على الجملة الفعلية التي قبلها. ومنه قول الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
أي: وكحلن العيون؛ لأن التزجيج "وهو ترقيق الحاجب بأخذ بعض الشعر منه كي يصير منحنيا كالقوس" لا يصلح للعيون.
ومثال المعمول المجرور قولهم: ما كل سوداء فحمة، ولا بيضاء شحمة. فكلمة: "بيضاء مجرورة بمضاف محذوف معطوف على "كل" والأصل "ولا كل بيضاء شحمة". والداعي للتقدير هنا هو الفرار من العطف على معمولي عاملين مختلفين.
__________
1 قد سبق "في رقم 3 من هامش ص564" إعرابه آخر لبعض النحاة، بمقتضاه تكون ... "زوجك" معطوفة على الضمير المستتر الفاعل. وانه لا يصح إعرابه بدلا من الفاعل المستتر، وتجيء له مناسبة في ص657.(3/637)
وإيضاح1 هذا أن كلمة: "سوداء" مضاف إليه فهي معمول، عامله هو المضاف؛ "لفظة: "كل" المذكورة" وأن "فحمة" خبر "ما" الحجازية فهي معمول، عامله: "ما"، فالعاملان مختلفان، وكذلك المعمولان. فلو عطفنا "بيضاء" على "سوداء"، و"شحمة" على "فحمة" لزم العطف بعاطف واحد "هو: الواو" على معمولين مختلفين لعاملين مختلفين -كما يقولون- وهذا لا يبيحه كثرة النحاة ... إذ يجب أن يكون العامل في المتعاطفين واحدًا، لا أكثر. وهذا الرأي أحق بالإتباع2 ...
ملاحظة: من موضوعات الحذف الهامّة: "حذف الموصول" وقد سبق تفصيل الكلام عليه3.
حذف المعطوف عليه، "أي: المتبوع":
يصح عند أمن اللبس. حذف المعطوف عليه وحده إذا كانت أداة العطف هي: "الواو، أو: الفاء، أو: أم المتصلة، أو: "لا" العاطفة4....."
فمثال حذفه مع بقاء الواو5 أن يقول قاتل: مرحبا بك. فتجيب: وبك وأهلا وسهلا؛ أي: ومرحبا بك وأهلا وسهلا. فالجار والمجرور: "بك" متعلقان بكلمة: مرحبا، المحذوفة. و"أهلا": الواو حرف عطف 0"أهلا"، معطوفة على: "مرحبا" المحذوفة، فالمعطوف عليه محذوف. و"سهلا" "الواو" حرف عطف. "سهلا" معطوفة على "مرحبا" المحذوفة فالمعطوف عليه هو المحذوف6.
__________
1 سبق -في ص159. بيان شاف لهذا في باب الإضافة، عند الكلام على حذف المضاف، وله مناسبة أخرى في ص564.
2 وفي مواضع الحذف السالفة يقول ابن مالك مقتصرا على بعضها:
"والفاء" قد تحذف مع ما عطفت
"والواو"، إذ لا لبس وهي انفردت:
بعطف عامل مزال قد بقي ... معموله؛ دفعا لوهم أتقي
"عامل مزال، أي: أزيل عن مكانه، والمراد حذف" وقد بين في البيت الثاني أن الداعي لتقدير المحذوف دفع وهم لا يستقيم الأمر إلا بدفعه وإزالته.
3 في الجزء الأول م؟ بعنوان: حذف الموصول الاسمي.
4 انظر: "ب" من ص622.
5 انظر "الملحوظ" التي في الصفحة الآتية متعلقة بصورة من صور حذف المعطوف "بالواو" مع بقاء الواو.
6 ومن الأمثلة أيضا لحذف المعطوفه عليه مع بقاء حرف العطف "الواو" قوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ... } أي أنسى ولا يذكر ... ؟ فالمعطوف عليه المحذوف هو الفعل: نسي.(3/638)
ومثال الحذف مع بقاء الفاء قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . والتقدير: أمكثوا فلم يسيروا1 ... ومثال الحذف مع بقاء "أم" المتصلة قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} والتقدير: أعلمتم أن دخول الجنة يسير أم حسبتم أن تدخلوا الجنة.
ومثال الحذف قبل "لا" العاطفة: "عاهدت نفسي أن أعمل الخير ... لا قليلا، وان أقول الحق ... لا بعض الأوقات" والأصل: أن أعمل الخير كثيرا لا قليلا، وأن أقول الحق كل الأوقات لا بعض الأوقات.
"ملحوظة" من أمثلة حذف المعطوف عليه هو بقاء حرف العطف: "الواو"، ما سجله ابن جني في كتابه المسمى: "تفسير أرجوزة أبي نواس في تقريظ الفضل بن الربيع2". قال عند شرحه بيت أبي نواس:
"وبلدة فيها زور ... صعراء تحظى في صعر"
ما نصه الحرفي: "قوله: وبلدة" ... قيل في هذه الواو قولان، أحدهما: أنها للعطف، والآخرك أنها عوض من "رب"؛ فكأنهم إنما هربوا من أن يجعلوها عاطفة لأنها في أول القصيدة، وأول الكلام لا يعطف. ولا يمتنع العطف على ما تقدم من الحديث والقصص؛ فكأنه كان في حديث، ثم قال: وبلدة. فكأنه وكل الكلام إلى الدلالة في الحال. ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فالضمير "الهاء" يراد به القرآن، وإن لم يجر للقرآن ذكر.
__________
1 قد سبق إيضاح الكلام على الحذف في هذه الآية وأشباهها "من هامش ص571" وأن فيها رأيين، أحدهما: يرى الفاء قد عطفت جمله فعلية مذكورة على أخرى محذوفة بعد الهمزة في مكانها الأصلي. والثاني: يرى أن الهمزة تقدمت من تأخير، للتنبيه على أصالتها في التصدير، ومحلها الأصلي بعد الفاء. والتقدير: فألم يسيروا ... والجملة بعد العاطف معطوفة على أخرى مماثلة لها خبرا وإنشاء، محذوفه، ومكانها قبل الهمزة والعاطف. وفي الحذف المذكور يقول ابن مالك بيتا نصفه الأول هو الذي يتصل بالحذف، ونصفه اثاني يتعلق بقاعدة اخرى سيذكر معها في ص644.
وحذف متبوع بدا هنا استبح ... وعطفك الفعل على الفعل يصح
2 ص9 من الطبعة التي أخرجها وحققها الأستاذ بهجة الأثري.(3/639)
وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب} يعني الشمس؛ فأضمرها وإن لم يحر لها ذكر. وهذا في كلام العرب واسع فاش" ا. هـ كلام ابن جني1 ...
حذف حرف العطف وحده:
أشرنا من قبل2 إلى أنه يجوز حذف العاطف وحده ولا يكون هذا إلا في الواو، والفاء، وأو. فمثال الواو قوله عليه السلام: "تصدق رجل، من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره"، وما نقل من قول بعض العرب: أكلت خبزًا، لحمًا، تمرًا، وقول الشاعر:
كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ مما ... يغرس الود في فؤاد الكريم
ومثال الفاء: قرأت الكتاب بابًا بابًا، وادخلوا الغرقة واحدًا واحدًا.
والتقدير بابًا فبابًا، وواحدًا فواحدًا.
ومثال: "أو" قولهم: أعط الرجل درهمًا، درهمين، ثلاثة..
تقديم المعطوف على المعطوف عليه:
ورد في المسموع تقديم "المعطوف" بالواو -دون غيرها- على المعطوف عليه، وهو تقديم شاذ -لا يجوز القياس عليه3- ومنه قول الشاعر:
وأنت غريم لا أظن قضاءه ... "ولا العنزي القارظ -الدهر-" جائيًا
أي: جاثيا هو، ولا العنزي. وقول الآخر4:
أيا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
__________
1 ويوضحه بل يؤيده ويقويه ما جاء في "المغني" ج2 عند كلامه في الباب الأول على: "حرف الوأو المفردة"، ومنها: الوأو الجارة.
بقي أن نسأل: هل هناك ما يمنع من صحة اعتبار "الوأو" للاستئناف في بيت أبي نواس؟ لا أرى مانعا.
2 في ص575.
3 لهذا إشارة في رقم 2 من هامش ص557 وفي رقم 5 من ص658.
4 هو الأحوص.(3/640)
المسألة121:
عطف الفعل على الفعل أو على ما يشبهه، والعكس، وعطف الجملة على الجملة 1:
أ- عطف الفعل وحده على كذلك:
عرفنا فيما سبق أن عطف الاسم وحده على الاسم يعد من عطف المفردات2 بعضها على بعض، كقول الشاعر:
وكل زاد عرضة للنفاد ... غير التقى، والبر، والرشاد
وكما يجوز عطف الاسم وحده على نظيره في الاسمية عطف مفردات يجوز عطف الفعل -وحده من غير مرفوعه3- على الفعل وحده عطف مفردات أيضا؛ نحو: "إذا تعرض وتصدى المرء لكشف معايب الناس مزقوه بسهام أقوالهم وأعمالهم. وهي سهام لن يستطيع أو يقدر احد على احتمالها4". فالفعل: "تصدى" معطوف وحده على الفعل: "تعرض" وكذا الفعل: "يقدر" معطوف وحده على الفعل "يستطيع5" وكل هذا من عطف المفردات؛ إذ لم يشترك الفاعل -هنا- مع فعله في العطف. فلو اشترك معه لكان العطف عطف جملة فعلية على جملة فعلية6 ...
ويشترط لعطف الفعل على الفعل أمران:
__________
1 أما عطف الاسم المفرد على الجملة والعكس، فيجيء في رقم 6 من ص659.
2 سبقت "الإشارة في رقم 3 من هامش ص557" إلى أن المفرد هنا: ما ليس جملة، ولا شبه جملة.
3 لأن الفعل مع مرفوعه جملة، سواء أكان مرفوعه فاعلا أم نائب فاعل ...
4 راجع ما يتصل بهذا في الزيادة ص645. وبيان نوع العطف فيه.
5 بدليل نصب المضارع المعطوف "وهو: يقدر" إذ لو كان العطف جملة على أخرى لوجب رفع هذا المضارع -وسيجيء الإيضاح في ص645-.
6 والفرق كبير -لفظيا ومعنويا- بين عطف الفعل وحده على الفعل وحده وعطف الجملة الفعلية على الفعلية -كما سيجيء هنا..(3/641)
أولهما: اتحادهما في الزمن1؛ بأن يكون زمنهما معا ماضيا، أو حالا، أو مستقبلا؛
سواء أكانا متحدين في النوع "أي: ماضيين، أو: مضارعين2" أم مختلفين: فلا يمنع من عطف أحدهما على الآخر تخالفهما في النوع3. وإذا اتحدا زمانا. فمثالا تحادها زمانا ونوعا، قوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} 4. وقول الشاعر في مدح عالم:
سعى وجرى5 للعلم شوطا يروقه ... فأدرك حظا لم ينله أوائله
ومثال اتحادهما زمانا مع اختلافهما نوعا: عطف الماضي على المضارع في قوله تعالى بشأن فرعون: {يَقْدُمُ 6 قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} ، فالفعل: "أورد" ماض، معطوف بالفاء على الفعل المضارع: "يقدم" وهما مختلفان نوعا، لكنهما متحدان زمانا؛ لأن مدلولهما لا يتحقق إلا في المستقبل "يوم القيامة"7 ...
ومثال عطف المضارع على الماضي قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ
__________
1 كما سبق في الجزء الأول عند الكلام على زمن المضارع أما اختلافهما في الزمن نقد يجعل العطف عطف جملة على جملة، بشرط الاتحاد خبرا وإنشاء، كما سيجيء في عطف الجملة الفعلية ص630.
2 أما فعل الأمر بدون فاعله فلا مكون معطوفا، ولا معطوفا عليه؛ لأنه لا يفارق فاعله، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، لا لفظا ولا تقديرا؛ كأفعال الأمر التي فاعلها ضمير ظاهر أو مستتر في الآية الكريمة الآتية، وهي: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} -كما سيجيء الإشارة في رقم 1 من هامش ص649- ويفهم من كلام "الصبان" جواز عطف فعل الأمر وحده، وهذا بعيده. والرأي الأول هو السديد.
3 راجع ما يتصل بهذه المسألة الهامة في ج1 ص39 م4.
4 انظر الزيادة ص645 كي يتضح منها أن العطف عنا عطف فعل وحده على فعل وحده، لا جملة فعلية على جملة فعلة.
5 يصلح العطف هنا أن يكون عطف فعل ماض وحده على نظره، وأن يكون عطف جملة ماضويه على نظيرتها "انظر البيان في ص645".
6 تقدم.
7 ومثل هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ...(3/642)
شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} فالفعل: "يجعل" مضارع مجزوم؛ لأنه معطوف على الفعل الماضي: "جعل" المبني في محل جزم1؛ لأنه جواب الشرط. وصح العطف لاتحاد زمانيهما الذي يتحقق فيه المعنى2، وهو الزمن المستقبل ...
ثانيهما: اتحادهما إن كان مضارعين في العلامة الدالة على الإعراب -"من حركة أو سكون، أو غيرهما"- ويتبع هذا اتحاد معنيهما في النفي والإثبات؛ فإذا كان "المعطوف عليه" مضارعا مرفوعا، أو منصوبا، أو مجزوما، وجب أن يكون المضارع "المعطوف". كذلك وأن يكون معنى المعطوف كالمعطوف عليه في النفي والإثبات؛ فكما يتبعه في علامات الإعراب يتبعه فيهما معنى. فمثال المرفوعين: يفيض فيغدق نهرنا الخير على الوادي.
ومثال المنصوبين: لن يفيض النهر فيغرق الساحل. ومثال المجزومين: لم يفض نهرنا فيغرق ساحله3 ...
__________
1 طبقا للقاعدة لخاصة بهذا "في باب الحوازم -ج4 م157 ص347" وتقضي بأن الماضي الواقع في جواب الشرط مكون مبنيا في محل جزم، وأنه وحده الجواب، لا الجملة الفعلية المركبة منه ومن فاعله معا.
2 كان الزمن مستقبلا مع أن المعطوف عليه فعل ماض -وهو فعل الشرط. لأن أداة الشرط الجازمة تقتضي حتما أن يكون زمن فعل الشرط والجواب مسقبلا.
3 وقد اكتفي ابن مالك في الكلام على عطف الفعل على الفعل بالشطر الثاني من البيت الذي سبق عرفه في ص640 لمناسبة أخرى تضمنها صدره: يقول:
وحذف متبوع بدا هنا استبح ... وعطفك الفعل على الفعل يصح
"بدا = ظهر والمراد انه مذكور في الكلام" "استبح = اجعله مباحا" "يصح: أصلها: يصح، -بالتشديد مع التسكين- وخففت الحاء الساكنة لوزن الشعر".(3/643)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
نصب المضارعين معا، أو جزمهما معا بغير تكرار الناصب والجازم قبل الفعل المضارع المعطوف، دليل قاطع على أن العطف عطف فعل وحده بغير مرفوعه على فعل وحده كذلك، وليس عطف جملة على جملة؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الفعلية بغير تكرار أداة النصب أو الجزم يستلزم -حتما- أن يكون المضارع المعطوف غير منصوب ولا مجزوم؛ إذ نصبه أو جزمه يوجب أن يكون عطف فعل وحده على فعل كذلك.
أما رفع المضارعين معا في مثل: يشتد البرد البرد فتهاجر طيور كثيرة إلى بلاد دافئة فلا دليل معه على أن العطف عطف مضارع مفرد على نظيره المفرد، أو عطف جملة مضارعية على جملة مضارعية "أي: مضارع مع فاعله، على مضارع مع فاعله"، فمثل هذا الكلام صالح للأمرين عند عدم القرينة التي تعينه لأحدهما2 ... وكذلك العطف في قول الشاعر:
قد ينعم الله بالبلوى –وإن عظمت– ... ويبتلى الله بعض القوم بالنعم
فيصح أن يكون المعطوف هنا جملة مضارعية هي: "يبتلى الله"، والمعطوف عليه جملة مضارعية كذلك، هي: ينعم"؛ ويصح أن يكون المتعاطفان مفردين هما المضارعان، ومثل هذا يقال في الماضي في أن يكون المتعاطفان مفردين هما المضارعين، ومثل هذا يقال في الماضي في نحو: "إذا تعرض وتصدى المرء لكشف معايب الناس مزقوه بسهام أقوالهم وأفعالهم ... "1. حيث يجوز الأمران، لعدم وجود قرينة تعين نوع العطف: أهو عطف فعل ماض وحده على ماض وحده أم عطف جملة
__________
2 ومنه قول الشاعر:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
1 وكذلك قول الشاعر:
قد هون الصبر عندي كل نازلة ... ولين العزم حد المركب الخشن(3/644)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ماضوية على جملة مثلها؟ بخلاف العطف في قوله تعالى عن الكافرين: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} حيث يتعين أن يكون عطف جملة ماضوية على جملة ماضوية، لوجود فاعل غير مستقل هو الضمير المتصل لكل فعل ماض منهما1....
ومما سبق يتبين الفرق اللفظي بين عطف الفعل على الفعل وعطف الجملة الفعلية على الفعلية2، وهو فرق دقيق خفي على بعض العلماء المشتغلين بالنحو قديما، فقد نقل عن أحدهم قوله: إني لا أتصور لعطف الفعل على الفعل مثالا؛ لأن نحو: قام علي وقعد حامد3 يكون فيه المعطوف جملة لا فعلا، وكذا: قام وقعد علي؛ لأن في احد الفعلين ضميرا؛ فيكون فاعلا له، ويكون الاسم الظاهر فاعلا؛ ففي الكلام جملتان معطوفتان. فقيل له: ماذا ترى في مثل: يعجبني أن تقوم وتخرج؛ بنصب المضارعين، وفي مثل: لم تقم وتخرج؛ بجزمهما. وفي مثل: يعجبني أن يقوم محمود ويخرج حليم، وفي مثل: لم يقم محمود ويخرج حليم ... ؟ فالفعل في الأمثلة
__________
1 ولهذا السبب نفسه يتعين أن يكون العطف عطف جملة مضارعية على جملة مضارعية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ... } لوجود فاعل غير مستقل هو ضمير متصل لكل من المضارعين: ينفقون ويتبعون. وفي الآية أنواع أخرى من العطف.
2 ستجيء لهذا إشارة في "البدل" أيضا، ص661.
3 وقد اجتمع عطف الفعل وحده على الفعل وحده، وعطف الجملة المضارعية على المضارعية في قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ... } فقد جزمت الأفعال: "يز، ينصر، يشف، يذهب" لأنها معطوفة على المضارع "يعذب" المجذوم في جواب الأمر. أما المضارع "يذهب" فمرفوع؛ لأنه مع فاعله ولا يصح أن يكون عطف مضارع وحدة على مضارع وحده؛ وإلا وجب أيكون المعطوف مجزوم الللفظ كالمعطوف عليه. هذا، ويصح أن تكون الواو للاستئناف، لا للعطف.(3/645)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السالفة منصوب أو مجزوم؛ فما الذي نصبه أو جزمه؟ فلولا أن العطف للفعل وحده لم يمكن نصبه أو جزمه ...
ومما هو جدير بالملاحظة أن الفرق اللفظي في عطف الفعل على الفعل، يترتب عليه فرق معنوي كبير من ناحية النفي والإثبات. فالفعل إذا كان هو "المعطوف" وحده فانه يتبع الفعل "المعطوف عليه" فيهما؛ كما يتبعه في الإعراب؛ طبقا لما سبق1 وهذه التبعية في النفي قد تفد المعنى المراد -أحيانا- لو جعلنا الكلام عطف جمل؛ فعطفنا كل فعل مع فاعله على الآخر مع فاعله، أي: أن المعنى قد يختلف كثيرا باختلاف نوعي العطف، أهو عطف فعل وحد، على آخر، أم جملة فعلية على مثيلتها الجملة الفعلية؟ يتضح هذا من المثال التالي: لم يحضر قطار ويسافر يوسف. بعطف "يسافر" على "يحضر" عطف فعل مفرد على نظيره المفرد، فيكون "يسافر" مجزوما. والمعنى نفي حضور القطار، ونفي سفر يوسف أيضا، فالحضور لم يتحقق، وكذلك السفر، فالأمران لم يتحققا قطعا.
أما إن كان الفعل: "يسافر" مرفوعا فيتعين أن يكون العطف عطف جملة فعلية على جملة فعلية؛ تحقيقا لنوع من الربط والاتصال بينهما. ويتعين أن يكون المعنى عدم حضور القطار. أما يوسف فسفره يحتمل أمرين باعتبارين مختلفين، فعند اعتبار الجملة الثانية مثبتة لم يتسرب إليها النفي من الأولى يكون يوسف قد سافر. وعند اعتبارها منفية لتسرب النفي إليها من الأولى يكون مقيما لم يسافر. والقرينة هي التي تعين سريان النفي من الأولى إلى الثانية، أو عدم سريانه2.
ومن أمثلة فساد المعنى الذي يترتب على عطف الفعل وحده على الفعل وحده
__________
1 في ص642.
2 ويصح أن تكون الواو للاستئناف؛ فالجملة بعدها مستقلة، لا علاقة لها بما قبلها في الإعراب ... ولا في النفي والإثبات. ويصح أن تكون الواو للحال والمضارع بعدها مرفوع عند من يجيز الربط بها وحدها -كما تقدم في باب الحال، ج2- فالجملة في محل نصب، ولا يسري إليها النفي من الأولى. ولا يصح الالتجاء إلى أحد هذه الأوجه -أو غيرها- إلا إذا وافق المعنى، وساير السياق.(3/646)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
-لا عطف جملة فعلية على جملة فعلية- قولك: "الطالب النابغة لا يتأخر مكانه عن المقام الأول، أو يكون في المقام الثاني ... " إذا كان المراد أنه في المقام الأول أو الثاني. فلو عطفنا المضارع "يكون" على المضارع "يتأخر" لصار منفيا حتما مثل المعطوف عليه قطعا، لصار المعنى: لا يتأخر عن المقام الأول، أو لا يكون في المقام الثاني، وهذا غير المراد، أما عطف الجملة الثانية كاملة على الأولى كاملة لا فيستلزم نفي الثانية فيجوز أن تبقى مثبتة المعنى أن اقتضى الأمر الثبوت برغم أن الأولى منفية -كما في هذا المثال.
ومما سبق يتبين ان عطف الفعل على الفعل يوجب سريان النفي من المتبوع إلى التابع، فهما يشتركان في النفي كما يتركان في الإثبات؛ وفي علامات الإعراب. بخلاف عطف الجملة على الجملة؛ فإن النفي فيه لا يري من المتبوع إلى التابع إلا بقرينة.(3/647)
ب- عطف الفعل وحده1 على ما شبهه، والعكس:
يجوز عطف الفعل الماضي بغير مرفوعه، وكذا المضارع بغير مرفوعه1 على اسم يشبههما في المعنى، كما يجوز العكس. والاسم الذي يشبههما هو اسم الفعل -في بعض حالاته2- والمشتقات العامة، "ومنها: اسم الفاعل، واسم المفعول ... " وكذلك يجوز عطفهما على المصدر الصريح أيضا، فمثال عطف الماضي على اسم الفعل الماضي: هيهات وابتعدت الغاية أمام العاجز. والعكس نحو: افترق وشتان ما بين الكمال والنقص.
ومثال عطف الماضي على اسم الفاعل: هذا مصاحبنا بالأمس وأعاننا على تحقيق بغيتنا3. والعكس نحو: هذا أعاننا بالأمس ومصاحبنا في احتمال المشتقات. ومثال عطف المضارع على اسم الفاعل أنت مشاركنا في الخير، وتستجيب لندائنا، والعكس: أنت تستجيب لندائنا ومشاركنا في الخير؛
__________
1، 1 ولا يجوز عطف فعل الأمر وحده عطف مفردات -كما أوضحناه في رقم 2 من هامش ص643-؛ إذ لا يترك أحدهما الآخر، ولا ينفصل منه مطلقا.
2 لأنه لا يشبههما في بعض آخر من حالاته؛ كجموده الدائم الذي يعم جميع أنواعه، وكقبوله بعض علامات الأسماء "مثل: التنوين" وكمخالفته أحيانا- الفعل الذي بمعناه في التعدي واللزوم ... إلى غير هذا مما هو مدون في الباب الخاص به بالجزء الرابع "باب أسماء الأفعال 141 ص108".
3 ومنه قوله تعالى في الخيل وعدوها: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} .
فالفعل: "أثار" معطوف على: "المغيرات"، وليس معطوفا على كلمه: "العاديات" إلى في أول الكلام لما تقرر من أن المعطوفات المتعددة تكون على "المعطوف عليه" الأول، ما لم تكن المعطوفات المتعددة واقعة بعد حرف عطف يقتضي الترتيب؛ فعندئذ مكون العطف على "المعطوف" الذي قبل هذا الحرف مباشرة "كما سبق البيان في رقم 2 من هامش ص555 والكلام الذي قبل الآية، هو: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} .
وكقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} .
4 ومنه قوله تعالى:(3/648)
ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} 1.
ومثال عطف الماضي على المصدر الصريح: إني سعيد بإنقاذ الغريق، وقدمت له الإسعاف المناسب.
__________
= {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} فالفعل المضارع "يقبض" معطوف على اسم الفاعل: "صافات". "ومعنى صافات: ناشرات أجنحتهن في الجو ومعنى يقبضن: يجمعن الأجنحة إلى الأجسام، ولا ينشرنها". فكأنه قال: وقابضات ... ، وقول المعرى:
كتابك جاء بالنعمى بشيرا ... ويعرض فيه عن خبري سؤال..
فالفعل: "معرض، معطوفه على "بشيرا" "بمعنى؛ مبشر" فكأنه قال: جاء بشيرا وعارضا، ومثله: عطف المضارع على الصفة المشبهة في قوله تعالى لمريم:
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} .
حيث عطف المضارع: "يكلم" على: "وجيها"، فكأنه قال: وجهيا، ومكلما ...
1 ومنه قول الشاعر:
بات يعيشها بغضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
أي: باب يعشي إبله -لا زوجته، كما قال الصبان والخضري- يضر بها بالغضب "وهو: السيف البتار" يوجهه إلى سيقانها، لنحرها للآكلين، بدلا من أن يعشيها بالعلف.
"والأسوق، جمع: ساق ويقصد أي: يعدل بينها بالضرب، وهو من القصد، بمعنى: الاعتدال وجائر، أي: ظالم".
وقد عطف كلمة: "جائر"، على المضارع: "يقصد" وهو عطف الاسم المشتق على الفعل. ويقول "الصبان والعيني": أن الذي سهل العطف كون "جائر" بمعنى. ينور. ويقول الخضري: كلمة: "جائر" معطوفة على: "يقصد" الواقعة هنا في مجل جر، صفة ثانية لغضب، في تأويل "قاصد"؛ لأن الأصل في الصف الإفراد، وليست حالا بدليل جر المعطوف عليه ...
هذا كلامه. وفيه بعض تساهل؛ لان النعت هنا هو جملة فعلية مركبة من المضارع: "يقصد" وفاعله معا. فكيف تكون كلمة: "جائر" معطوفة على الجملة الفعلية مع أن المطلوب هو عطف الاسم المشتق وحده على الفعل وحده؟ فلعل غرضه أن المعطوف عليه هو الفعل "يقصد" وحده.(3/649)
ومثال عطف المضارع على المصدر الصريح. الكدح وأدرك غابتي خير من الراحة مع الإخفاق1 ...
__________
1 عطف المضارع على المصدر الصريح يقتضي نصب هذا المضارع بأن مضمرة أو مظهرة على التفصيل الذي سيجيء، في مكانه من آخر باب إعرابه الفعل ج4.
وفيما سبق يقول ابن مالك في عطف الفعل على الفعل، وعلى اسم يشبهه، أو العكس:
وأعطف على اسم شبه فعل فعلا ... وعكسا استعمل تجده سهلا(3/650)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ما إعراب الفعل إذا عطف على اسم يشبهه؟ كالفعل: "أثار" المعطوف على "المغيرات" في: الآية السابقة، وهي قوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} ، وكالفعل: اقرض في قوله تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} فإنه معطوف على المصدقين.
وكذلك ما إعراب الاسم الذي يشبه الفعل إذا كان معطونا على الفعل كالأمثلة التي عرفاها هناك1؟
لم أجد رأيا صريحا شافيا في هذا، ورأيت اعتراضات كثيرة، ودفاعا لم تنته إلى حكم حاسم. ومن هذه الاعتراضات: كيف يعطف الفعل "أثار على: "المغيرات" والمعطوف عليه مجرور مع أن المعطوف فعل، والفعل لا يدخله الجر؟ وقد سبق2 أن أول الآيات هو: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} .
قال الفخر الرازي في تفسيره: أن الفعل هنا معطوف على فعل محذوف حل محله في معناه الاسم المشتق من مصدره، والأصل: فأغرن صبحا فأثرن نقعا ...
وهذه الإجابة تخرج المسالة من وضعها الأصلي وتنقلها إلى وضع آخر لا علاقة لنا به، إذ تجعلها عطف فعل على فعل أو مشتق على مشتق. وهذا غير موضوع البحث ... ولو أخذنا به لكان حسنا، وناجحا في التغلب على اعتراض، وخاليا من العيب. ورأيت مثله في تفسير الزمخشري، وفي بعض الحواشي الأخرى.
أما إذا لم نأخذ به. وتمسكنا بذلك النوع من العطف الذي لم أجد لحكمه نصا واضحا مريحا يتناول المتعاطفين تفصيلا ... فإن الغموض يظل باقيا والاعتراضات قائمة، مالم نجعل المعطوف غير تابع للمعطوف عليه في الإعراب، وتكون فائدة العطف هي الربط المجرد بين معنى الجملتين؛ كالذي سبق في عطف الماضي على المضارع وعكسه بالإيضاح الذي سلف3.
__________
1 في ص649 و650 وهامشمهما.
2 في رقم 3 هامش ص649 وهناك بيان السبب في العطف على: "المغيرات".
3 في ص642 و643.(3/651)
ج- عطف الجملة على الجملة.
يجوز عطف الجملة الاسمية على نظيرتها الاسمية؛ نحو: الرياضة نافعة، والمداومة المحمودة عليها لازمة. وقولهم: "الرأي الصادق أمانة، وكتمانه عد الحاجة إليه خيانة": وقول الشاعر:
الصدق يألفة الكريم المرتجى ... والكذب يألفه الدني الأخيب1
كما يجوز عطف الفعلية على الفعلية2 -بشرط اتفاقهما خبرا أو إنشاء- ولو اختلف زمان الفعلين فيهما3؛ فمثال اتحاد الزمن فيهما: وصلت الطائرة وفرح المسافرون بالوصول سالمين4 يفرح المنتصر ويفرح أهله وأعوانه5 ...
__________
1 فالجملة الاسمية المكونة من المبتدأ: "الكذب" ومن خبره الجملة المضارعية بعده، معطوفة على الجملة الاسمية التي في صدر البيت وقد تكون الجملة الاسمية مصدرة بحرف ناسخ في المتعاطفين، أو في أحدهما؛ كقوله تعالى في المرسلين: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقول قيس بن زهير:
وإن سبيل الحرب وعر مضلة ... وإذ سبيل السلم آمنة سهل
فالشطر الثاني من البيت معطوف على الشطر الأول، والآية الثانية معطوفة على الأولى.
2 سبق في ص643 بيان الفرق الهام اللفظي والمعنوي بين عطف الفعل وحده على الفعل وحده وعطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية. وكما في آخر رقم 3 من هامش الصفحة التالية وقد اجتمع عطف الجملة الفعلية الماضوية على نظيرتها الفعلية الماضوية وكذلك الجملة الاسمية على نظيرتها الاسمية في قول الشاعر يصف روضته:
رقت حواشيها، "ورق" نسيمها ... وبدت محاسنها، وطاب زمانها
وكأن أيام الصبا أيامها ... وكأن أزمان الهوى أزمانها
كما اجتمع عطف الماضويه على الماضويه، والمضارعيه على المضارعيه فى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} .
3 ولا يمنع من عطفهما كذلك أن مكون إحداهما موجبه "مثبته" "والأخرى منفية؛ كالتي في رقم 3 من هامش الصفحة الآتية.
4 وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
5 وقوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .(3/652)
كل واشرب، والبس، في غير مخيلة1 ولا كبر2 ...
ومثال اختلاف الزمن: وصل اليوم الغائب ويسافر غدًا يحاسب المرء على عمله يوم الحساب، ورأى المسيء عاقبة ما كان منه.
أما الجملة الفعلية الاميرية3 -أو غيرها من الجمل الإنشائية الأخرى- فلا تعطف إلا على جملة فعلية متحدة معها في الزمن، نحو قوله تعالى للصائمين: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
وبهذه المناسبة نذكر أن النحاة اختلفوا في جواز عطف الجملتين المختلفتين إنشاء وخبرا، وعطف الجملة الاسمية على الفعلية والعكس.
فأما عطف المختلفتين إنشاء وخبرا فالأحسن إتباع الرأي الذي يمنعه4: فوضوح هذا الرأي. وبعده من التكلف، وخلوه من الحذف والتقدير:
__________
1 اختيال، وكبر.
2 وقول الشاعر:
إذا ما فعلت الخير فاجعله خالصا ... لربك. وازجر عن مديحك ألسنا
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ومثل قول الشاعر: -وهذا من عطف الجملة- الأمرية على المضارعية التي توافقها زمنا:
لا تنظرن لملبس. وانظر إلى ... ما تحته من فطنة وبيان
3 لا بد في فاعل فعل الأمر أن يكون ضميرًا متصلًا -مستترا" أو بارزا- فلا يمكن -في الرأي الأصح- أن يستقل بنفسه عن فعله. لهذا لا يصح عطف فعل الأمر وحده بغير فاعله "على فعل الأمر وحده بغير فاعله؛ بل يتعين أن يكون العطف بينهما عطف جملة فعلية أمرية على جملة فعلية أمرية؛ ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] .. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} طبقًا للبيان السابق في رقم 2 من هامش ص643 ورقم 1 من هامش ص649.
4 وهو رأي البلاغيين وكثير من النحاة.(3/653)
فلا يصح عطف الثانية على الأولى في مثل: داوم على الطاعات، ودوام أهلك. ولا في مثل: هذا البحر وأنزل للعوم فيه.
وأما عطف الاسمية على الفعلية والعكس فجائز1 -في أرجح الآراء- إن لم يختلفا خبرا وإنشاء؛ فيصح عطف الثانية على الأولى في مثل: أحب الزراعة، والصناعة تفيدني2. ومثل: الصناعة مفيدة لنا أحب الزراعة. ومن الأمثال المأثورة: "للباطل جولة، ثم يضمحل"؛ فالجملة المضارعية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها و ... و ...
أما عطف الجملة على المفرد، والعكس فسيجيء3 ...
__________
1 انظر رقم 2 من هامش ص586.
2 ومن هذا قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} حيث عطف الجملة الاسمية "لا هم يستعتبون" على الجملة الفعلية "لا يؤذن لهم" ولا يصح عطفها على الجملة الفعلية الأولى "وهي: نبعث من كل أمة ... " مراعاة للقاعدة التي سبقت" في ص555 و628 وفي رقم 3 من هامش ص649" والتي تقضي عند تعدد المعطوفات عليها ... أن يكون المعطوف عليه هو الذي قبل العاطف مباشرة إذا كان العاطف مما يفيد الترتيب مثل: "ثم".
وفي الآية شاهد آخر هو عطف الجملة الفعلية المنفية "لا يؤذن لهم ... " على الجملة الفعلية الموجبة "نبعث×" كما سبقت الإشارة.
ومما يصلح شاهدا لعطف الجملة الاسمية المنفية على الفعلية المنفية قوله تعالى في سورة السجدة: { ... قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ... } فالجملة الاسمية المنفية: "لا هم ينظرون" معطوفة على الفعلية المنفية: "لا ينفع"....
3 في ص659.(3/654)
المسالة 122:
بعض أحكام –في العطف– عامة نتفرقة 1:
"منها: -شرط صحة العطف- تقدير العامل على العاطف -الضمير العائد على المتعاطفين- الفصل بين الفاء والواو ومعطوفهما -تقدم المعطوف- عطف الجملة على المفرد والعكس، وقد سبق2 بيان المراد من المفرد -العطف على التوهم- المغيرة بين المتعاطفين -معنى المعطوف وحكمه إذا كان المعطوف عليه كنية- جواز القطع في عطف النسق عطف الزمان على المكان، وعكسه".
1 يشترط لصحة العطف أن يكون المعطوف صالحا بنفسه، أو بما هو بمعناه لمباشرة العامل المذكور أي: للوقوع بعده مباشرة" من غير أن يمنع من ذلك مانع نحوي3 فمثال الأول: دخل سعيد وسليم؛ إذ يصح دخل سليم. والثاني قام سعيد وأنا، فالضمير "أنا" لا يصلح فاعلا للفعل: "قام4 ولكن "تاء" المتكلم التي هي ضمير بمعناه تصلح؛ فتقول: قمت.
فإن لم يصلح المعطوف ولا شيء بمعناه لمباشرة العامل المذكور أضمر له عامل مقدر يناسبه، وصار مع عامله المقدر جملة معطوفة على الجملة السابقة، "أي: صار الكلام عطف جمل" وذلك كالمعطوف على الضمير المرفوع الذي يعرب فاعلا لمضارع مبدوء بالهمزة أو بالنون أو بتاء المخاطب، أو بتاء التأنيث، وكالمعطوف على الفاعل المستتر لفعل الأمر، ومن الأمثلة لكل ما سبق: أتعاون أنا والجار، نتعاون نحن والجيران، تتعاون أنت والجار، تتعاون فاطمة والجار، أمكن أنت وزوجك الجنة. فكل معطوف من هذه المعطوفات لا يصلح لمباشرة العامل "إذ لا يقال: أتعاون الجار، نتعاون الجيران، تتعاون
__________
1 راجع الأشموني وحاشيته ج3 آخر باب العطف، والصبان ج2 آخر باب الظرف.
2 في رقم 4 من هامش ص556 وفي رقم 2 من هامش ص642.
3 بهذا التقييد تختلف هذه الحالة عن الآتية بعدها في رقم 2.
4 إذ لا يقال: قام أنا.(3/655)
الجار، تتعاون الجار، اسكن زوجك ... " فلما كان المعطوف غير صالح لمباشرة العامل المذكور في الكلام وجب أن يقدر له عامل آخر يناسب؛ كان يقال: أتعاون أنا ويتعاون الجار ... اسكن أنت وليكن زوجك الجنة ...
هذا كلام كثير من النحاة، وفيه تعقيد وتكلف لا داعي له، ولا يتفق مع قولهم: "قد يغتغفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل" ... "ورددوا هذه القاعدة هنا وفي أبوابه أخرى"1 فمن الخير الأخذ بها والعطف المباشر على الفاعل المستتر، وعدم الالتفات هنا إلى التقدير، والحذف والتضييق بغير فائدة أو دفع ضرر إلا مجاراة الخيال2.
2- لا يشترط من الوجهة المعنية3 صحة تقدير العامل بعد العاطف، فمن الصحيح أن تقول: تخاصم المأمون والأمين، مع أنه لا يصح من لوجهة3 المعنوية أن يقال تخاصم المأمون وتخاصم الأمين، إذ الفعل: "تخاصم" لا يقع إلا من متعدد؛ فلا يكتفي بأن يقع بعده واحد. ولا تعدد هنا بعد كل فعل من الفعلين.
3- كل ضمير يعود على المعطوف والمعطوف عليه معا يجب مطابقته: لهما؛ بشرط أن تكون أداة العطف هي: "الواو"، أو "حتى"؛ نحو العم والأخ حضرا الجسم حتى الأظافر اعتنيت بنظافتهما4 ...
فان كان حرف العطف هو: "الفاء"، أو "ثم" وكان الضمير في الخبر عائدا على المعطوف والمعطوف عليه جاز حذف الخبر من أحدهما؛ نحو: محمود فحامد قام، ويجوز تقديم الخبر على الحذف من الثاني؛ نحو: محموا قام فحامد، ويجوز مطابقة الضمير بغير حذف، نحو: محمود فحامد قاما ... و"ثم" كالفاء فيما سبق.
__________
1 وكذلك لا يتفق مع قولهم الآتي -في رقم 2- إنه لا يشترط صحة تقدير العامل بعد العاطف.
2 سبقت إشارة لهذا في ص638.
"3، 3" بهذا التقييد تختلف هذه الحالة عن سابقتها التي في رقم 1 -كما اشرنا هناك-.
4 لما تقدم إشارة في "ب" ص584.(3/656)
فان لم يكن الضمير في الخبر وجبت المطابقة، نحو: جاءني الوالد والعم فقمت لهما" وأقبل علي وسليم وهما صديقان ...
وأما: "لا"، و"بل"، و"أو"1، و"أم"، و"لكن"، و"إما" "عند من يعتبرها عاطفة"، فمطابقة الضمير معها وعدم المطابقة راجعة إلى قصد المتكلم "فان قصد احد المتعاطفين -وذلك واجب في الإخبار- وجب إفراد الضمير؛ نحو: الأخ لا الصديق جاءني، الأخ بل الصديق خرج، أمسعود أم منصور زارك؟ إسماعيل أو فاطمة حياني، إذ المعنى: حياني أحدهما. ويراعى تغليب المذكر. أما في غير الأخبار فتقول: زارني إما العم وإما الخال فأكرمته، أصديقا قابلت أم عدوا فتركته، ما جاءني أحمد لكن سليم فاستقبلته خير استقبال.
وإن قصدتهما معا وجبت المطابقة؛ نحو: حسن لا حسين جاءني مع أني دعوتهما، وعاصم أو سليم دعاني حين ذهبت إليهما ... "وقد سبقت الإشارة لهذا".
4- لا يجوز الفصل بين الفاء ومعطوفها إلا في الضرورة الشعرية2، فلا يقال: فلان ورثة أبوه مالا ففي القوم جاها. وإنما يقال: فلان ورثة أبوه مالا فجاها في القوم. ويصح الفصل بين غيرها ومعطوفه بالظرف أو الجار والمجرور "ويدخل القسم في هذا"، نحو: تعبت ثم عندك جلست، نزل المطر ثم والله طلعت الشمس، ما أهنت أحدا لكن في البيت المسيء ...
أما الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه فقد سبق3 بيانه.
5- لا يتقدم المعطوف على المعطوف عليه إلا شذوذا فيقتصر فيه على المسموع، وقيل يجوز في الضرورة الشعرية. والأولى إهمال هذا الرأي؛ ومنه قول القائل:
أبا نخلة من ذات عرق ... عليك -ورحمة الله– السلام
__________
1 للحكم الخاص بها المعروض هنا ما يتممه في رقم 1 من هامش ص506 و ...
2 كما سبق في ص514.
3 في هامش ص435:(3/657)
يريد: عليك السلام ورحمة الله وقد سبقت الإشارة: لهذا1.
6- وقد تعطف الجملة على المفرد –أحيانا- أو العكس، إذا كانت الجملة في الحالتين بمنزلة لمفرد؛ لأنها مؤولة به، كان تكون: نعتا، أو حالا، أو: خبرا، أو: مفعولا لظن وما في حكمها ...
فمن عطف المفرد على الجملة ما ورد من مثل: ألفيت الشجاع يهزم خصمه وفاتكا به. فكلمة: "فاتكا" منصوبة؛ لأنها معطوفة على الجملة الفعلية المركبة من المضارع "يهزم" وفاعله" وهذه الجملة بمنزلة المفرد المنصوب؛ لأنها المفعول الثاني للفعل: "ألفي". ومن هذا كلمة: "مصدقا" الثانية في قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} فالجملة الاسمية: "فيه هدى" في محل نصب، حال من الإنجيل، وكلمة: "مصدقا" التي بعدها معطوفة عليها، منصوبة؛ مراعاة لمحل المعطوف عليه....2ومثل هذا قول الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء ... وجنات وعينا سلسبيلا
فالجملة الاسمية "لهم جزاء" في محل نصب؛ لأنها المفعول الثاني للفعل: "وجد" وقد روعي هذا المحل فجاء المعطوفان "جنات وعينا" منصوبين تبعا لذلك المحل2.
ومن عطف الجملة على المفرد قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا 3 أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} ، أي: قائلين4.
ومن عطف المفرد على شبه الجملة قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} ، فقاعدا عطف على "لجبنه": لتأويل شبه الجملة بمفرد، وهو: مجنوب.
__________
1 في رقم 3 من هامش ص556 و641.
أما عطف الفعل على الفعل أو على ما يشبهه، والعكس "وعطف الجملة على الجملة فقد تقدم في ص642.
"2، 2" راجح مجمع البيان، لعلوم القرآن "ج2 ص340 و402" وقد عرض "الهمع" لبعض هذه الأحكام في آخر باب: عطف النسق "ج2 ص140".
2 ليلا.
3 مستريحون وقت القيلولة: وهي وسط النهار عند اشتداد الحر.(3/658)
ومن عطف شبه الجملة على المفرد قولهم: لا يصح مخالفة القاعدة المطردة إلا شذوذا أو في ضرورة1.
7- هناك نوع من العطف، يرتضيه بعض النحاة، ويسميه: "العطف على التوهم". ومن أوضح أمثلته عندهم العطف "بفاء السببية" على معطوف مأخوذ من مضمون الجملة التي قبلها. ذلك أن "فاء السببية" تقتضي عطف المصدر المؤول بعدها على مصدر صريح قبلها "وهذا المصدر الصريح قد يكون مذكورا صراحة قبلها؛ نحو: ما الشجاعة تهورا فتهمل الحذر، وقد يكون غير مذكور فيتصيد؛ نحو: ما أنت مسيء إليك. أي: ما تكون منك إساءة يترتب عليها أن نسيء لك.
فإن لم يوجد قبل فاء السببية مصدر صريح ولا ما يصلح أن يتصيد منه المصدر "كالجملة الاسمية التي يكون فيها الخبر جامدًا؛ نحو: ما أنت عمر فنهابك" فبعض النحاة يمنع نصب المضارع، وبعض آخر يجيز تصيد مصدر من مضمون الجملة السابقة التي فيها الخبر جامدا، ويكون الكلام عطف جملة على جملة، ومن لازم معناها؛ كان يقال في المثال السالف: ما يثبت كونك عمر، فهيبتنا إياك2 ...
يقول النحاة: إن "المغايرة" هي الأصل الغالب في عطفه النسق بين المتعاطفين. يريدون: أن يكون المعطوف مغايرا المعطوف عليه في لفظه وفي معناه معا فلا يعطف الشيء على نفسه. هذا هو الأصل الغالب، لكن العرب قد
__________
1 جاء في التوضيح "لابن هشام، آخر باب: "الإدغام" نهاية الجزء الثاني" ما نصه: "قد يفك الإدغام في ذلك شذوذا ... أو في ضرورة ... " ا. هـ وهنا جاء في الحاشية على التصريح ما نصه: "يمكن أن يكون قوله: "في ضرورة" معطوفا على: "شذوذا" على تقدير الحالية أيضا، والتقدير: وقد يفك الإدغام في غير ذلك، حالة كون ذلك شاذا، أو كائنا في ضرورة. وقال الدنوشري: "قوله: "في ضرورة" معطوف على قوله: "شذوذا". وينظر أهذا العطف صحيح أولا؟ ا. هـ والظاهر الصحة وهو عطف على المعنى؛ لأن قوله: "شذوذًا" في معنى: "في شذوذ" ا. هـ المنقول عن الحاشية.
2 لهذا إشارة في ج1 ص552 م49 أما الإيضاح الكامل في مكانه الأنسب وهو الكلام على: "فاء السببية" من باب: "إعراب الفعل" ونواصب المضارع -ج4 ص337 م149-.(3/659)
تعطف -لغرض بلاغتي- الشيء على نفسه إذا اختلف اللفظان: كقولهم ... "وألفي قولها كذبًا ومينا" فقد عطفوا المين على الكذب "ومعناهما واحد، واللفظان مختلفان" لغرض بلاغي هو تقوية معنى المعطوف عليه وتأكيده. وهذا النوع من العطف -على قلته قياسي1 ...
وقد يعطفون الخاص على العام وعكسه لغرض بلاغي كذلك؛ فمن الأول قوله تعالى في صورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فقد عطف "الصلاة الوسطى" ومن معانيها: صلاة العصر ... -على "الصلوات"، والمعطوف خاص؛ لأنه نوع بعض المعطوف عليه العام الذي يشمله مع غيره من الأنواع الأخرى.
ومن الثاني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} فقد عطف الجملة الفعلية: "ظلموا" على الجملة الفعلية: "فعلوا" والمعطوف هنا عام، والمعطوف عليه خاص؛ لأنه داخل في مضمون المعطوف الذي يشمله وغيره2 ...
9- إذا كان المعطوف عليه كنية لوحظ فيه وفي المعطوف ما سبقت الإشارة إليه في "أ" منص444.
10- الصحيح جواز "القطع"3 في المعطوف عطف نسق؛ كما أشرنا من قبل4 وهو كثير في المعطوفات المتعددة التي كانت في أصلها نعوتا، ثم فصل بينها بحرف العطف؛ فصارت معطوفات بعد أن كانت نعوتا. وحجة القائلين بصحته وقوعه في أفصح الكلام. ومن الأمثلة كلمة: "الصابرين" من قوله تعالى في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
__________
1 راجع حاشية ياسين على التصريح -ج2 باب الإضافة عند الكلام على "الإضافة غير المحضة" وإضافة الاسم إلى ما يتحد معه في المعنى -وسبقت لهذا إشارة في ص49.
2 انظر ما يتصل بهذا في رقم 1 من ص567.
3 في هامش ص486 تفصيل الكلام على القطع، ومعناه، وحكمه، وكل ما يتصل به.
4 في هامش ص435.(3/660)
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} فقد نصبت كلمة: "الصابرين" بسبب "القطع" ولو كانت معطوفة لرفعت كسائر المعطوفات المرفوعة التي قبلها، ومثل كلمة: "المقيمين" من قوله: في سورة النساء.
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} ، ومثل كلمة: "القائلون" فيما أنشده الكسائي لبعض فصحاء العرب:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم ... إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين، ولما يظعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخليها؟
ومثل: ما أنشده الفراء لبعضهم كذلك:
إلى الملك القرم1 وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المردحم
وذا الرأي حين تغم الأمور ... بذات الصليل2، وذات اللجم3
فقد نضبت كلمتي: "ليث" و"ذا" على الاعتبار السابق4 ...
11- هل يصح عطف الزمان على المكان وعكسه؟ الأحسن الأخذ بالرأي الذي يجيزه عند أمن اللبس؛ نحو قابلتك أمام بيتك هذا ويوم الخميس أو: قابلتك يوم الخميس وأمام بيتك5.
__________
1 السيد العظيم.
2 ذات الصليل: السيوف.
3 ذات اللجم: الخيول.
4 راجع تفسير القرطبي في آيتي "البقرة والنساء"، وكتاب: "مجمع البيان لعلوم القرآن" الطبرسي ج1 ص6 حيث الأمثلة السابقة وغيرها، وإيضاح لحكم القطع في عطف النسق.
5 عرض لهذه المسألة "الصبان" في الجزء الثاني من حاشيته، آخر باب: "الظرف" قائلا ما نصه الحرفي: =(3/661)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= "هل يجوز عطف الزمان على المكان وعكسه؟ قال في المعني: أجاز الفارسي في قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أن يكون "يوم القيامة" معطوفا على محل هذه. ا. هـ. قال الدماميني: إن أريد بالدنيا الأزمنة السابقة ليوم القيامة فلا أشكال في عطفه عليها؛ لأن كلا منهما زمان. وإن أريد بها هذه الدار من حيث هي مكان، ففيه عطف زمان على مكان، وفي الكشاف ما يقتضي منعه؛ فإنه لما تكلم في تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} قال: فإن قلت: كيف عطف الزمان على المكان، وهو يوم حنين على المواطن؟ قلت معناه: وموطن يوم حنين، أو: في أيام كثيرة، ويجوز أن يراد بالمواطن: "الوقت"؛ كمقتل الحسين، ا. هـ.
ووجهه بعض الأفاضل بأن الفعل مقتض لظرف اقتضاءه لظرف المكان؛ فلا يجوز جعل حدهما تابعًا للآخر: فلا يعطف عليه كما لا يعطف المفعول فيه على المفعول به، ولا المفعول على الفاعل، ولا المصدر على شيء من ذلك، وبأن ظرف الزمان ينتصب على الظرفية مطلقًا، بخلاف ظرف المكان؛ فإنه يشترط فيه الإبهام. فلما اختلفا من هذه الجهة لم يجز عطفه أحدهما على الآخر. لعدم سماع عطف أحدهما على الآخر.
"لكن جوزه بعضهم؛ لاشتراكهما في الظرفية؛ تقول ضربت زيدا يوم الجمعة وفي المسجد، أو: في المسجد ويوم الجمعة؛.... وعليه جرى ابن المنير في الانتصاف مناقشا به صاحب الكشاف". انتهى كل ما قاله الصبان فيما سبق حرفيا، وأردفه بأنه نقله باختصار.
وهذا الرأي الأخير هو الأنسب. إلا أن المثال الذي ساقه خال من بيان الطريقة في إعرابه. ثم هو لا يخلو من لبس، إذ لا دلالة معه على أن الضرب الذي وقع يوم الجمعة، أهو الذي وقع في المسجد أم هو ضرب آخر. فلا بد من قرينة.
وقد سبق للمسألة السالفة إشارة موجزة في باب: "الظرف"، ج2 م78 في آخر الكلام على أحكام الظرف بنوعيه.(3/662)
المسألة 123:
د- البدل 1:
تعريف: يتضح تعريفه مما يأتي:
لو سمعا من يقول: "عدل الخليفة" لفهما المراد، وكادت الفائدة المعنوية تتم، لولا ما يشوبها من بعض النقص الواضح؛ إذ تتطلع النفس إلى معرفة هذا الخليفة، واسمه، وتتعدد الخواطر بشأنه؛ أأبو بكر هو، أم عمر، أم عثمان، أم علي ... و ... ؟
فلو أن المتكلم قال: عدل الخليفة "عمر" –مثلا- ما شعرنا بذلك النقص المعنوي: لأن "عمر" هو المقصود الأساسي بالحكم الذي في هذه الجملة، "أي: هو الذي ينسب العدل إليه"، فليس لفظ "الخليفة" هو المقصود الأصيل بهذا الحكم، وبهذه النسبة.
وكذلك لو قلنا: اتسع مجال الحضارة في زمن: "ابن الرشيد"، لكانت الجملة مفيدة. لكن السامع -بالرغم من هذه الإفادة- يشعر بنقص معنوي كبير تدور بسببه أسئلة متعددة: من ابن الرشيد هذا؟ ما اسمه؟ ما زمنه؟ ... أهو الأمين، أم المأمون، أم غيرهما ... ؟
فإذا قلنا: اتسع مجال الحضارة في زمن ابن الرشيد المأمون اكتملت الإفادة من هذه الناحية المعينة، وزال النقص بسبب ذكر::"المأمون"، الذي هو المقصود الأصيل من الحكم السابق، ومن نسبة اتساع المجال إليه.
فكلمة: "عمر" تسمى: "بدلا"، وكذلك كلمة: "المأمون"، واشباههما من كل كلمة تكون هي المقصودة في الجملة بالحكم بعد كلمة سبقتها؛ لتمهد الذهن للمتأخرة عنها، وتوجه الخاطر إليها، وليس بين الكلمتين
__________
1 هذا هو الاسم المشهور. ويرد -أحيانًا- في بعض المراجع القديمة، وعلى لسان بعض النحاة الأوائل باسم: "الترجمة، أو: التبيين، أو: التكرير" ... ولا قيمة لهذا الاختلاف. القائم على مجرد الاصطلاح المختلف –أحيانًا- باختلاف العصور.(3/663)
رابط لفظي يتوسط بالربط بينهما. ولهذا يقولون في تعريف البدل:
"إنه التابع1 المقصود وحده بالحكم المنصوب إلى تابعه، من غير أن تتوسط –في الأغلب2- واسطة لفظية بين التابع والمتبوع".
ومن هذا التعريف يتضح الفرق بين البدل والتوابع الأخرى: فالنعت والتوكيد وعطف3 البيان، ليست مقصودة بالحكم، وإنما هي مكملة له بوجه من الوجوه التي سبقت في أبوابها. وعطف النسق لا بد فيه من الواسطة، وهي أداة العطف. هذا إلى أن ما بعد هذه الأداة قد يكون مخالفا في الحكم لما قبلها فلا يكون مقصودا به، وقد يشاركه في الحكم ولكنه لا ينفرد به فلا يكون هو المقصود وحده4 ...
والأغلب في "البدل" أن يكون جامدا، ومن القليل الجائز أن يكون مشتقا5. فإذا أمكن إعراب المشتق شيئا آخر يصلح له، كان أولى6.
__________
1 سبق في أول باب النعت ص434 بيان معنى التابع والمتبوع "والأحكام المهمة الخاصة بالتابع، ومنها؛ الفصل بينه وبين المتبوع إلا أن كان المتبوع أحد الموصولات؛ إذ لا يفصل بين الموصول وصلته بتابع مطلقًا -طبقًا للبيان الذي سبق في ج1 م27 ص348 باب الموصول-.
ومنها: عدم انتقال البناء من المتبوع إلى التابع مطلقا.
2 يلاحظ أن عدم الواسطة اللفظية في البدل هو الأغلب، لأن البدل من المجرور يجوز أن يكون بواسطة إعادة العامل وهو حرف الجر الداخل على البدل منه، كالكلام الجارة في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} .
فقد أعيدت اللام مع كلمتي: "من وأولنا" وهذه الإعادة في البدل أمر جائز، لا واجب، وهي مختصة بحروف الجر وحدها. وسيجيء لها بيان مناسب في ص655.
3 الموازنة بين البدل وعطف البيان مدونة في ص546.
4 ويتضح من التعريف السابق أيضا: أن الحرف وحده لا يقع بدلا؛ لأنه لا يصلح للحكم. فالبدل والمبدل منه إما اسمان معا، وإما فعلان معا، وإما اسم وفعل، وإما جملتان معا، وإما أحدهما جملة والآخر غير جملة ... كل ذلك لى حب البيان الذي سيجيء.
ويقول ابن مالك في تعريف البدل:
التابع المقصود بالحكم بلا ... واسطة هو المسمى. "بدلا"
5 راجح الصبان ج2 أول باب: الإضافة، عند الكلام على: "الإضافة غير المحضة".
6 تصل بهذا ويوضحه ما سبق في: "ج" من ص464 وما سيجيء في ج4 م130 أحكام تابع المنادى، ووصف اسم الإشارة:(3/664)
الغرض من البدل:
الغرض الأصيل هو -في الغالب- الحكم السابق وتقويته بتعيين المراد، وإيضاحه، ورفع الاحتمال عنه. لأن هذا الحكم ينسب أولا للمتبوع فيكون ذكر المتبوع تمهيدا للتابع الذي سيجيء، وتوجيها للنفس لاستقباله بشوق ولهفة. فإذا استقبلته وعرفته استقبلت معه الحكم وعرفته أيضا؛ فكان الحكم قد ذكر مرتين؛ وفي هذا تقوية للحكم وتوكيد1. ولأجل تحقيق هذا الغرض لا يصح أن يتحد لفظ البدل والمبدل منه إلا إذا أفاد الثاني زيادة بيان وإيضاح؛ فلا يصح في مثل: يا سعد سعد أنت زعيم موفق إعراب: كلمة "سعد" الثانية بدلًا2.
أقسام البدل الأربعة المشهورة -وكل منها هو المقصود وحده بالحكم-:
أولها: بدل كل من كل3، ويسمى "بدل المطابقة"، أو: "بدل المطابق من مطابقه".وضابطه: أن يكون الثاني مطابقًا. أي: مساويا
__________
1 لهذا يقولون أن البدل في حكم تكرير العامل. أما قولهم: إن المبدل منه في حكم المطروح أي: المهمل الذي يمكن الاستغناء عنه" فالمراد منه أن هذا شأنه –الغالب- من جهة المعنى لا من جهة اللفظ. بدليل صحة: ضربت الرجل يده، إذ لو لم يعتد بالرجل أصلا ما كان للضمير مرجع "راجع شرح التصريح".
وقال الزمخشري في المفصل: "مرادهم بكون البدل في نية طرح الأول -أي: في نية طرح المبدل منه- هو أنه مستقل بنفسه، لا متمم لمتبوعه؛ "فليس كالتأكيد، والصفة، والبيان". إلا إهدار الأول. ألا ترى أنك لو أهدرت الأول في نحو: محمد رأيت غلامه رجلًا صالحًا لم يستقم كلامًا" ا. هـ. كلام صاحب المفصل نقلًا عن حاشية الصبان آخر عطف البيان ثم قال الصبان بعد المثال السالف: بخلافه في البيان. ا. هـ.
ويؤيد هذا ما سيجيء في رقم "و" من ص678.
2 "راجع حاشية الصبان في آخر باب تابع المنادى. وسيجيء إشارة لهذا في "ج" من ص677 وفي ج4 ص41 م130" وكذلك لا يصح أن يكون البدل أو المبدل منه حرفا -كما تقدم-
3 من بدل الكل نوع اسمه: "بدل التفصيل" سيجيء في ص684 وله بعض "أحكام في "هـ" ص677. وإذا كان، "المبدل منه" كنية لوحظ فيه وفي "البدل" ما سبق في "أ" من ص444.(3/665)
للأول في المعنى تمام المطابقة مع اختلاف لفظيهما في الأغلب1 فهما واقعان على ذات واحدة: وأمر واحد نحو: "أشرقت الغزالة، الشمس؛ فأنارت الدنيا"0، فالشمس بدل كل من كل، والمبدل منه: هو الغزالة، ومعنى الثاني –هنا- معنى الأول تماما. ومثله" الدنيار من تبر؛ ذهب، والدرهم من لجين فضة"، فكلمة: "ذهب" بدل مطابق من: "لجين". النوع من البدل لا يحتاج لرابط يربطه بالمتبوع2..
ومن الأمثلة أيضا: قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، فكلمة: "صراط" الثانية يدل كل من كل من الأولى لأن صراط الذين انعم الله عليهم هو عينه الصراط المستقيم؛ فالكلمتان بمعنى واحد تماما. وقول الشاعر:
__________
1 الأغلب اختلافهما في اللفظ. وقد يتفقان بشرط أن يفيد الثاني زيادة بيان وإيضاح -كما تقدم في الصفحة السالفة، وكما يجيء في: "ج" ص 677- ومن أمثلة اتفاقهما قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ... } .
وقوله تعالى في سورة الشورى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وبسبب توافق اللفظين يتشابه بدل الكل والتوكيد اللفظي في الصورة اللفظية الظاهر، وقد يصعب التفريق بينهما أحيانا في الصورة اللفظية الظاهرة. غير أن الصعوبة تزول ويتيسر تمييز أحدهما من الآخر بأمرين مجتمعين معا:
أولهما: الغرض المعنوي الذي ينفرد بتأيته كل منهما، وهذا الفرض ترشد إليه وتعينه القرائن وتحدده. وثايهما: الأحكام الأخرى التي يختص بها كل مهما دون صاحبه ...
وقد يكون "البدل" عاما في ظاهره لكنه خاص في المراد منه؛ كما في الاستثناء التام غير الموجب حيث يجوز في المستثنى النصب والبدل، نحو: ما تخلف السباقون إلا واحدا، أو واحد. فإذا تقدم المستثنى "البدل" فإن الحكم يتغير؛ فيزول عنه اسمه، ويعرب على حسب حاجة الجملة؛ ويفقد المستثنى منه الذي تأخر اسمه، ويعرب "بدلا" من الاسم السابق، ويصير الكلام: ما تخلف إلا واحد السباقون. فالسباقون: "بدل" من واحد، وهو بدل "كل من كل"؛ لأن المتأخر عام أريد به خاص -كما أسلفنا- وبيان هذه المسألة وتفصيل الكلام عليها مدون في مكانها المناسب؛ وهو بابه الاستثناء ج2 رقم 4 من هامش ص398 م81، عند الكلام على المستثنى بإلا.
1 الأمثلة الثلاثة السالفة صالحة لبدل الكل، ولعطف البيان، والتوكيد اللفظي بالمرادف. وإنما تكون التفرقة بينها بالغرض المراد تحقيقه من كل، طبقا لما سلف من الأغراض المدونة في أبوابها وبملاحظة الفوارق والأحكام التي تميز كل نوع، وتختص به -كما سبقت الإشارة هنا في رقم 1-.(3/666)
إن النجوم نجوم الأفق أصغرها ... في العين أذهبها في الجو إصعادا
فكلمة: "نجوم" الثانية بدل كل من كل،. من الأولى؛ لأن المراد من نجوم الأفق هو عين المراد من كلمة: "نجوم" الأولى. ومثل هذا قول الآخر:
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب1
وقد تقدم الارتباط بين بدل الكل وعطف البيان2 ...
ثانيها: بدل بعض من كل، "أو: بدل جزء من كل". وضابطه: أن يكون البدل جزءا حقيقيا3 من المبدل منه"سواء أكان هذا الجزء اكبر من باقي الأجزاء، أم أصغر منها، أم مساويا" وأن يصح الاستغناء عنه بالمبدل منه؛ فلا يفسد المعنى بحذفه ... 4 نحو: أكلت
البطيخة ثلثها، والبرتقالة ثلثيها. ونحو: اعتنيت بوجه الطفل، عينيه. ونظفت فمه، أسنانه.
والأعم الأكثر إن يشتمل هذا البدل على رابط يربطه بالمتبوع، وأهم الروابط هو "الضمير"5 فإن كان الرابط الضمير وجب أن يطابق المتبوع في الإفراد والتذكير وفروعهما6 ... ومن الجائز -مع قلته- الاستغناء عن هذا الضمير في إحدى حالات ثلاث.
__________
1 الغنيمة التي يأخذها الغالب من المغلوب.
2 في ص546.
3 جزء الشيء هو الذي يدخل في تكوين هذا الشيء دخولا أساسيا، لا عرضيا، بحيث لا يوجد الكل كاملا بغير جزئه، كالرأس، أو العنق، أو: القلب، ... بالنسبة للإنسان، وكالعين، أو: الفم أو: الجبهة.. بالنسبة للوجه، وكالشفتين، أو: الأسنان ... بالنسبة للفم ... و ... أما الأمور العرضية والأوصاف الطارئة ... فكالعلم، أو الفهم، أو: البياض، أو: الحمرة. وبسبب الجزئية الأصيلة اختلف بدل "البعض" عن "بدل الاشتمال -كما سيجيء في ص670.
4 يشترط لصحة بدل البعض -كما يقول الصبان- صحة الاستغناء عنه بالمبدل منه فيصح جدع السارق أنفه، ولا يصح: قطع السارق أنفه؛ لأنه لا يقال: قطع السارق. على معنى قطع أنفسه، وإرادة هذا المعنى. فلا بد في البدل الجزئي من دلالة ما قبله دلالة إجمالية. يوضح هذا صاحب "الهمع" بأنه لو حذف البال لامكن الاهتداء إليه مما قبله من غير أن يختل الكلام بحذفه -وقد أشرنا لهذا ف: "و" من ص678-.
5 لأنه أقوى في الإيضاح، وكشف المراد، وإبعاد اللبس، وهذه أسمى خصائص اللغة.
6 ولا فرق بين أن يتصل الضمير بالبدل مباشرة -كالأمثلة المتقدمة. وأن يتصل بلفظ آخر له صلة بالبدل؛ نحو: احتفيت بالفائزين؛ ثلاثة منهم.(3/667)
أ- وجود "أل" التي تغنى عنه في إفادة الربط، وتقوم مقامه عند أمن اللبس، نحو: إذا رأيت الوالد فقبله، اليد، أي: فقبله يده، أو اليد منه1 ...
ب- أن يكون البدل بعضا والمبدل منه هو المستثنى منه في كلام تام غير موجب، "حيث يصح في المستثنى: إما النصب على الاستثناء" وإما الإتباع على البدلية من المستثنى منه –كما تقدم في باب المستثنى2"؛ نحو: ما تعب السباحون إلا واحدا أو واحد؛ فوجود "لا" يغني عن الرابط؛ لدلالتها على أن المستثنى بعض من المستثنى منه3.
ج- أن يجيء بعد البدل سرد بقية أجزاء المبدل منه، بحيث يكون سردها وافيا يشملها جميعا، ويستوفي كل أجزاء المتبوع؛ مثل: الكلمة أقسام ثلاثة؛ اسم، وفعل، وحرف، فلفظة: "اسم" بدل بعض من ثلاثة، أو من أقام. وهذا البال خال من الرابط؛ لأن البدل وما بعده قد جمع كل أجزاء المبدل منه، وذكرت في الكلام مستوفاة4. ومن الأمثلة قول الشاعر:
أداوي جحود القلب بالبر والتقى ... ولا يستوي القلبان: قاس وراحم
فكلمة: "قاس" بدل خال من الرابط؛ لأنه مع ما بعده يشتمل على كل ما للمبدل منه. وليس للمبدل منه هنا سوى هذين النوعين.
ثالثها: بدل الاشتمال، ولتوضيحه نسوق المثال التالي:
إذا قلت: أعجبتني الوردة، جاز للسامع أن ينسب الإعجاب إلى لونها أو رائحتها، أو تنسيق أوراقها أو ... لأن الإعجاب يحتمل هذه المعاني العرضية مفردة، ومجتمعة، ويشتمل عليها ضمنا. فإذا قلت: أعجبتني الوردة رائحتها ... ، تعين معنى واحد من تلك المعاني العرضية التي يتضمنها العامل: "
__________
1 انظر ما يتصل بهذا في رقم 2 من هامش ص676.
2 في ج2 م81 ص297.
3 راجع حاشية الصبان، أول باب الاستثناء.
4 وقيل: إن الضمير مقدر، والتقدير: اسم منها، وفعل منها، وحرف منها. ولا أثر للخلاف بين الرأيين. لأن نتيجتهما واحدة: هي خلو التابع من رابط ظاهر في الكلام.
"ملاحظة" إذا كان المبدل منه متعددا والبدل غير واف بالعدد تعين قطع البدل بالتفصيل الذي سنذكره في "هـ" من ص677. "راجع الصبان في أول باب عطف البيان".(3/668)
أعجب"، واتجه القصد إلى هذا المعنى دون باقي المعاني التي يشتمل عليها العامل إجمالا، والتي تنطبق على الوردة وتتصل بها، من غير أن يدخل واحد منها في ذات الوردة، وفي تكوينها المادي "الجسمي"، أي: من غير أن يكون واحد منها جزءا حقيقيا أساسيا لا توجد الوردة إلا به، فليست رائحة الوردة جزءا أصيلا في تكوينها المادي يتوقف عليه وجود الوردة، وليس لونها، أو تنسيق ورقها جزءا أساسيا كذلك، وإنما هي أمور عرضية طارئة على ذاتها المادية، قد تلازم الذات أولا تلازمها. وبقاء الذات أو فناؤها ليس متوقفا عليها؛ فمن الممكن أن توجد الوردة وأن تبقى من غير أن يكون لها رائحتها، أو لونها، أو تنسيق ورقها، أو غير هذا من المعاني والأوصاف الطارئة التي تندمج تحت لفظ العامل: "أعجب".
فالرافعة في الأسلوب السابق هي التي تسمى: "بدل اشتمال" و"المبدل منه" هو: "الوردة"، والعامل هو: "أعجب". ويقولون في بدل الاشتمال:
"إنه تابع يعين أمرا عرضيا. ووصفا طارئا من الأمور والأوصاف المتعددة التي تتصل بالمتبوع، ويشتمل عليها معنى عامله إجمالا بغير تفصيل1".
ومن هذا التعريف يتبين أن بدل الاشتمال مقصود لتعيين أمر في متبوعه، وأن هذا الأمر غرضي طارئ، وليس جزءا أصيلا من المتبوع2. وأن أساس الاشتمال وموضعه الحق هو "العامل" بمعناه، لا التابع ولا المتبوع.
ومن الأمثلة لهذا البدل: بهرني عمر عدله، راقني معاوية حلمه، سرتني عائشة علمها ودينها. فالكلمات: عدل: حلم علم ... بدل اشتمال كل واحدة منها تعين أمرا خاصا في المتبوع. وهو أمر عرضي لا يدخل في تكوين الذات تكوينا ماديا أصيلا. وهذا الأمر العرفي الطارئ يندرج
__________
1 وهذا الاشتمال قد يكون في أمر مكتسب؛ كالعلم، أو غير مكتسب مع ملازمته لصاحبه زمنا، كالحسن، أو عدم ملازمته: كالكلام. وأيضا قد يكون الاشتمال الظرف على المظروف؛ كالثوب، وتارة لا يكون، كالفرس ...
2 وبسبب هذا يختلف بدل الاشتمال عن بدل البعض اختلافا واسعا.(3/669)
مع أمور عرضية أخرى تحت العامل، ويشتمل عليها معنى هذا العامل إجمالا.
ولا بد في بدل الاشتمال من ضمير يطابق المتبوع في الإفراد والتذكير وفروعهما، وهذا الضمير قد يكون مذكورا كما ني الأمثلة السالفة، وقد يكون مقدرا؛ كقوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ 1 النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} ، والتقدير: "النار فيه". فحذف الجار والمجرور، والمجرور هو الضمير الرابط، ويصح أن يكون القدير: ناره ذات الوقود. ثم حذف الضمير، ونابت عنه "أل" في الربط2".
وبدل الاشتمال -كبدل البعض- لا بد لصحته من صحة الاستغناء عنه بالمبدل منه وعدم فساد المعنى بحذفه3.
رابعها: البدل المباين للمبدل منه -ويسمى: "بدل المباينة"- وهو ثلاثة أنواع لا بد في كل منها أن يكون هو المقصود بالحكم4، وأن يقوم دليل "أي: قرية" يوضح المراد منه، ويمنع اللبس5. وهذا القسم بأنواعه الثلاثة لا يحتاج إلى ضمير -أو غيره- يربطه بالمتبوع.
أ- بدل الغلط: وهو الذي يذكر فيه المبدل منه غلظا لسانيا، ويجيء البال بعده لتصحيح الغلط. وذلك بأن يجري اللسان بالمتبوع من غير قصد،
__________
1 أصل الأخدود: الشق أو الحفرة في الأرض. ويراد به هنا: شق أحدثه قبل الإسلام بعض الملوك الطغاة في الفرس واليمن والشام ليحرقوا فيه من يخالفهم، ويخرج من دينهم إلى النصرانية، أو غيرها من الأديان السماوية.
2 ما الداعي لأن يقال: حذف الضمير، ونابت عنه "أل" في الربط؟ أليس الأفضل أن نتبع الرأي الذي يجعل الرابط هو الضمير؛ وأنه قد يصح الاستغناء "بأل" أو غيرها، كما سبق البيان في ص669؟ على أن هذا الاختلاف شكل يسير.
3 لهذا بيان في حاشية: "ياسين" على التصريح، مضمونه: أنه يشترط في بدل الاشتمال تحقق أمرين، أحدهما: إمكان فهم معناه عند حذفه؛ ومن ثم كان "أعجبني علي آخوه" بدل إضراب، لا بدل اشتمال، إذ لا يصح الاستغناء عنه بالأول.
وثانيهما: حسن الكلام واستقامته على تقدير حذفه، وافتراض أن البدل غير مذكور، ولهذا امتنع: "أسرجت عليا فرسه" لأنه -بالرغم من فهم معناه في الحذف- لا يستعمل مثله، ولا يحسن. فلو ورد مثل هذا الكلام لكان بدل غلط؛ فبدل الاشتمال كبدل الجزء في هذا، -كما أشرنا في678-.
4 وهذا هو الشأن في كل نوع من أنواع البدل.
5 انظر ما يختص بمنع اللبس في الصفحة الآتية.(3/670)
ثم ينكشف هذا الغلط والخطأ للمتكلم سريعا؛ فيذكر البدل، ليتدارك به الخطأ اللساني ويصححه. فالغلط إنما هو في ذكر المبدل منه، لا في البدل، نحو: "أعظم الخلفاء العباسيين: "المأمون" بن "المنصور"، "الرشيد". فالحقيقة: أن "المأمون" هو ابن "الرشيد"، ولكن المتكلم جرى لسانه بالخطأ، فذكر انه ابن المنصور؛ فأسرع وأصلح الخطأ بذكر الصواب، قائلا: "الرشيد". فالرشيد؛ بدل من المتبوع، الذي ذكر خطأ لسانيا. وليس "الرشيد" هو: الغلط؛ وإنما هو تصحيح للغلط الكلامي السالف الذي ذكر بغير قصد ولا تنبه. فكلمة: "الرشيد" بدل من "المنصور" بدل غلط، أي: بدلا مقصودا من شيء غير مقصود ذكر غلطا -كما أوضحنا- ولا يحتاج هذا البدل إلى ضمير يربطه بالمتبوع1 ولا ورود لهذا النوع في القران الكريم منسوبا إلى الله2 ...
ب- بدل النسيان: هو الذي يذكر فيه المبدل منه قصدا. ويتبين للمتكلم فساد قصده: فيعدل عنه، ويذكر البدل الذي هو الصواب؛ نحو: "صليت أمس العصر، الظهر، في الحقل، فقد قصد المتكلم النص على صلاة العصر، ثم تبين له أنه نسي حقيقة الوقت الذي صلاه، وأنه ليس العصر؛ فبادر إلى ذكر الحقيقة التي تذكرها؛ وهي: "الظهر" فكلمة: "الظهر" بدل مقصود من كلمة: "العصر" بدل نسيان. والفرق بين هذا البدل وسابقه أن الغلط يكون من اللسان. إما النسيان فمن العقل.
وهذا النوع كسابقه لا يحتاج إلى ضمير يعود على المتبوع، ولا إلى رابط آخر2.... ولا ورود لهذا النوع في القرآن الكريم منسوبا إلى الله 1 ...
ج- بدل الإضراب3: وهو الذي يذكر فيه المبدل منه قصدا. ولكن
__________
"1، 1" انظر الملاحظة التي في ص676.
"2، 2" إذ يستحيل وقوع "الغلط والنسيان" من المولى -جل شأنه- ويستحيل نسبة أحدهما إليه؛ لبطلان هذه النسبة بداهة.
3 يسمى أيضًا: بدل "البداء" -بفتح الباء والدال- أي: الظهور. لأن المتكلم بعد أن ذكره أولًا بدا له "أي: ظهر له" أن يذكر الثاني. والإضراب المقصود هنا هو: الإضراب الانتقالي -وقد سبق شرحه في ص623-.(3/671)
يضرب عنه المتكمل "أي: ينصرف عنه ويتركه مسكوتا عنه" من غير أن يتعرض له بنفي أو إثبات -كأنه لم يذكره- ويتجه إلى البدل. نحو: سافر في قطار، سيارة. فقد نص المتكلم على القطار أولا، ثم اضرب عنه تاركا أمره، ونص على السيارة بعد ذلك، فهي بدل مقصود من القطار. ولا يحتاج هذا البدل إلى ضمير يعود إلى المتبوع، ولا إلى غيره من الروابط.....1
__________
1 وفي الأقسام الأربعة السابقة يقول ابن مالك:
مطابقا، أون: بعضا، أو ما يشتمل ... عليه يلفى، أو: كمعطوف ببل
"تقدير البيت: يلغى البدل مطابقا، أو بعضا، أو ما يشتمل عليه، أو كمعطوف ببل" وقد تضمن هذا البيت بدل المطابقة بالنص الصريح وهو: "مطابقا". وبدل البعض بالنص الصريح، وهو: "بعا" كما تضمن بدل الاشتمال بقوله: "أو ما يشتمل عليه" "وكلمة: مطابقا مفعول ثان ليلغى".
يريد: أو: شيئا يشتمل على البدل اشتمالا معنويا "وهو يؤيد: العامل والمتبوع على الوجه الذي شرحناه". ويريد بالمعطوف بالحرف الذي يشبه "بل": بدل المباينة؛ لأنه بأنواعه الثلاثة لا يخلو من الإضراب الانتقالي لا الإبطالي. "وقد سبق شرح الاثنين عند الكلام على "بل" العاطفة -ص623- وأوضحنا أن الانتقالي هو الذي يفيد الانتقال من غرض إلى غرض آخر" ويبين ابن مالك المراد من شبيه "بل" فيقول:
وذا للاضراب اعز قصدا صحب ... ودون قصد غلط به سلب
"ذا، أي: هذا الذي يشبه: "بل" اعز: انسب".
يريد: انسب الذي يشبه "بل" إلى الإضراب إن صحبه القصد، وكان المتكلم مريدًا له، "والإضراب هنا هو: الإضراب الانتقا". وإن لم يقصده المتكلم فهو "بدل غلط". وقد بين بعد هذا أن البدل نفسه ليس بموضع الغلط، وإنما جاء ليسلب الغلط ويزيله. "والتقدير: وغلط دون قص سلب بالبدل". واقتصر ابن مالك على نوعين من البدل المباين: هما: "الغلط"» والإضراب"، وترك "النسيان" ولكن البيت التالي المشتمل على مثال لكل نوع -قد يتسع النسيان، قال:
كزره خالدا، وقبله اليدا ... واعرفا حقه، وخذ نبلا مدى
"خالد: اسم رجل النبل" جمع: نبلة، وهي: السهم الذي يصاد به الطيور وغيرها من الناس وطائر الحيوان. المدى، جمع مدية، وهي: السكين". "فخالد" بدل كل من الهاء التي في الفعل قبله مباشرة. و"اليد": بدل جزء من الهاء التي قبله في الفعل "أي: يده، أو اليد منه" و"حق" بدل اشتمال من الهاء التي قبله مباشرة، ومدى: بدل غلط، أو نسيان، أو إضراب، من "نبلا". فالبدل هنا يحتمل الثلاثة.(3/672)
والأحسن عدم الالتجاء إلى هذا النوع من البدل قدر الاستطاعة: لأن احتمال اللبس فيه كبير1....
"ملاحظة": سبق أن أنواع البدل المباين الثلاثة تحتاج إلى قرينة توضح وتمنع اللبس. وأحسن منها أن يتقدم على كل نوع -مباشرة- حرف العطف "بل" المفيد للإضراب. لأن وجود هذا الحرف يؤدي إلى إعراب ما بعده معطوفا لا بد لا. وبهذا يمتنع احتمال أنه نعت، ذلك الاحتمال الذي قد يتسرب إلى الوهم قبل مجيء الحرف: "بل" وبمجيئه تنتقل المسالة من البدل إلى العطف.
__________
1 سبق تفصيل الكلام عليه في ص623 من "باب العطف".(3/673)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- المشهور من أنواع البدل هو الأربعة التي شرحناها. وزاد بعض النحاة نوعا خامسا سماه: "بدل الكل من البعض"، واستدل له بأمثلة متعددة تؤيده، منها قوله تعالى في التائبين الصالحين: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} ، فجنات بدل كل من الجنة، والأولى جمع، والثانية مفرد، ولهذا كان البدل كلا والمبدل منه بعضا. ومنه قول الشاعر:
رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
فكلمة: طلحة "بدل كل" من "أعظم" التي هي جزء من "طلحة"، وكذلك قول الشاعر:
كأني غداة1 البين2 يوم تحملوا3 ... لدى سمرات4 الحي ناقف حنظل5
فكلمة "يوم" بدل كل من "غداة": مع أنه يشملها، وهي جزء منه6 ...
ب- حكم البدل:
البدل أحد التوابع؛ فلا بد إذ يوافق متبوعه في حركات الإعراب، وفي بعض الأشياء المشتركة التي سبق النص عليها7. أما موافقته إياه في غير ذلك فيجري فيها التفصيل الآتي:
1- فمن جهة التنكير والتعريف لا يلزم أن يوافق متبوعه فيهما؛ فقد يكونان
__________
1 أول النهار.
2 الفراق.
3 سافروا وارتحلوا.
4 جمع "سمرة" -بفتح فضم، ففتح- وهي شجرة الطلح "نوع من شجر الموز".
5 أي: جامع حنظل. وجامعه تدمع عيناه.
6 قال صاحب الهمع -ج2 ص127- ما نصه: "والمختار -خلافا للجمهور- إثبات بدل الكل من البعض؛ نوروده في الفصيح" ا. هـ. وسرد لتأييد رأيه الأمثلة السالفة.
7 في ص434.(3/674)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
–معا- معرفتين؛ كقراءة قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بجر كلمة "الله"؛ على اعتبارها بدلا من كلمة: "العزيز". وقد يكونان نكرتين؛ كقوله تعالى {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا 1 حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} . وقد تبدل المعرفة من النكرة كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} .
وقد تبدل النكرة من المعرفة، كقوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ 2 ... } والمفهوم من كلامهم أن تكون هذه النكرة مختصة -لا محضة- لأن النكرة المختصة الخالية من فائدة التعرف -نحو: مررت بمحمد رجل عاقل- قد تفيد ما لا تقيده المعرفة المشتملة على فائدة التعرف3. ومما يؤيد هذا أن الغرض من البدل -كما عرفا فيما سبق- لا يتحقق بالنكرة المحضة.
2- ومن جهة الإفراد والتذكير وفروعهما، فإن بدل الكل من الكل يطابق متبوعه فيها جميعا ... ما لم يمنع مانع من التثنية أو الجمع، كأن يكون أحدهما مصدرا لا يثنى ولا يجمع؛ كالمصدر الميمي4؛ مثل: قوله تعالى في الآية السالفة: "مفازا، حدائق ... "وكقصد التفصيل، في قول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت5
وأما غيره من أنواع البدل فلا يلزم موافقته فيها6.
والغالب أن البدل يرتبه به ما بعده ويعتمد عليه؛ فيطابقه في حالتي التذكير
__________
1 فوزا، أو: مكان فوز.
2 انظر رقم 1 من هامش ص456.
3 راجع حاشية ياسين في آخر باب البدل.
4 سبقت الإشارة لهذا في 231.
5 بطلت حركتها، ووقفت.
6 انظر ص546 وما بعدها، وص668، عند الكلام على: "ثانيها".(3/675)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والتأنيث وغيرهما: نحو: إن الغزال عينه جميلة، وإن الفتاة حفنها فاتر، بتأنيث خبر "إن" في المثال الأول، وتذكيره في الثاني، ولولا أن الملاحظ هو البدل لوجب التذكير في الأول والتأنيث في الثاني. ولا بد في مراعاة ذلك الغالب من عدم وجود قرينة تمنع منه، وتدل على غيره1. ومن غير الغالب قول الشاعر:
إن السيوف غدوها ورواحها ... تركت هوارن مثل قرن الأعضب2
فقد جاء الفعل: "ترك" مؤنثا مراعاة للمبدل منه، "وهو اسم "إن" لا للبدل.
ج- قلنا3 إنه قد يتحد4 لفظ البدل والمبدل منه إذا كان في لفظ البدل زيادة بيان وأيضاح؛ كقراءة من قرأ قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً 5 كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} بنصب كلمة: "كل" الثانية؛ فقد اتصل بها معنى زائد، ليس في المبدل منه؛ هو بيان سبب الجثو، وهو استدعاء كل أمة لتقرأ كتابها. ومن الأمثلة: شاهدنا الجنود، فرحة، الجنود التي انتصرت على أعدائها، ورأينا الأمة تخرج لاستقبالهم، الأمة التي أنجبتهم ...
د- قد يحذف المبدل منه ويتغنى عنه بالبدل بشرط أن يكون المبدل منه في جملة وقعت صلة موصول: نحو: أحسن إلى الذي عرفت المحتاج، أي: الذي عرفته المحتاج. فكلمة: "المحتاج" يصح أن تكون بدلا من الضمير المحذوف6 ...
هـ- يصح الإتباع والقطع في البدل إذا كان المبدل منه مذكورا مجملا، مضمونه أفراد وأقسام متعددة، تذكر بعده مفصلة -بأن يشتمل الكلام بعده على جميع أقسامه كاملة نحو: مررت برجال، طويل، وقصير،
__________
1 والأحسن التعبير عن هذا المعنى بأسلوب آخر لا يوهم ولا يوقع في لبس.
2 الحيوان المكسور قرنه.
3 في ص667 وهامشها.
4 راجع في الحكم الثالث: "ج" وما بعده "الأشموني". آخر باب: "البدل".
5 قاعدة معتمدة في القعود على ركبتيها.
6 يصح في كلمة: "المحتاج" النصب على البدلية من الضمير المحذوف، والجر على البدلية من اسم الموصول، والرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، تقديره: هو.(3/676)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وربعة1 ... بالرفع، أو النصب: أو الجر في هذا المثال.
فإن كان الكلام غير مستوف أقسام المبدل منه تعين في البدل القطع2 نحو: مررت برجال طويلا وقصيرا، أو: طويل وقصير، بالرفع أو النصب في الكلمتين. إلا عند نية معطوف محذوف، فلا يتعين القطع وإنما يصح الأمران -كما يصح في الأول- وهما: البدل والقطع. ومن الأمثلة لهذا قوله عليه السلام: "اجتنبوا الموبقات، الشرك والسحر" بنصبهما. والتقدير: وأخواتهما ... بدليل ذكر هذا المعطوف في حديث آخر.
فإن كان البدل خاليا من التفصيل جاز فيه الأمران أيضا: الإتباع والقطع. نحو: فرحت بعليّ أخوك أو أخاك على القطع فيهما. أو: أخيك على البدل ... وسيجيء -في ص684 وما بعدها- إيضاح آخر لبدل التفصيل، وأنه نوع من بدل الكل.
أما تفصيل كلام على القطع وطريقته فقد سبق في باب النعت. ومن المستحسن التخفف من استعماله قدر الاستطاعة.
و يشترط3 في بدل البعض وبدل الاشتمال أن يصح في كل منهما الاستغناء بالمبدل منه، وعدم فساد المعنى أو اختلال التركيب لو حذف البدل، أو اتصل به عامله اتصالا لفظيا ظاهرا ومباشرا، فلا يجوز: "قطعت اللص أنفه، ولا لقيت كل أصحابك أكثرهم، ولا أسرجت القوم دابتنهم"، لعدم صحة الاستغناء بالمبدل منه عن البدل. وكذلك لا يصح مررت بمحمد أبيه، إذ لا يصح أن يقال في هذا المثال -وأشباهه- عند إظهار عامل
__________
1 متوسط بين الطويل والقصير.
2 لكيلا يكون بدل بعض من كل مع خلوه من الرابط، ومما يفنى عن الرابط -كما سبق في ص644 وفي رقم 4 من هامشها.
3 الشرط الآتي هو ما سبقت الإشارة إليه في رقم 4 من هاش ص668 عند الكلام على "بدل البعض" نقلا عن الصبان، وكذا في ص669 عند الكلام على "بدل الاشتمال" نقلا عن ياسين وقلنا في الموضعين السالفين أن مجال الكلام عليه سيكون هنا. ويتصل بهذا ما في رقم 1 من هامش ص666.(3/677)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البدل -وهو مررت، أو الباء- وتسليطه على البدل مباشرة: مررت أبيه، بعدية الفعل اللازم، كما لا يقال مررت بأبيه، من غير مرجع للضمير.
ز- الأغلب أن البدل على نية تكرار العامل1، وليس على تكراره حقيقة. بيان هذا: أن
العامل في "البدل منه" هو العامل في "البدل" لكن هذا العامل المشترك بينهما واجب الإظهار والتلفظ به قبل المتبوع وحده. ولا يصح إعادته وتكراره ظاهرا صريحا قبل التابع. وإنما يكفي تخيل وجوده قبل البدل مباشرة. وملاحظة أنه موجود قبله في النية والتقدير؛ لا في الحقيقة والواقع. مع استقامة الأسلوب، وسلامة المعنى بغير حاجة إلى إعادته وتكراره صريحا ظاهرا في الكلام.
والسبب في منع التكرار الحقيقي -لا الخيالي- أنه يؤدي إلى تأثير العامل المتكرر في "البدل" تأثيرا جديدا يزحزه عن "البدلية" ويدخله في عداد معموات أخرى لا تصلح "بدل"؛ ففي مثل: نظف الرجل فمه أسنانه، يكون المبدل منه هو "الفم"، والبدل هو: "أسنان" وعاملهما هو: "نظف" المذكور صريحا قبل المتبوع. وتخيلا وتقديرًا -دون تكراره- قبل التابع، وعلى أساس هذا التخيل المجرد، والتقدير المحض يصح أن نفترض أن أصل الكلام هو: نظف الرجل فمه، نظف الرجل أسنانه. وهذا الافتراض لم يفسد المعنى ولا التركيب، إنما أدى إلى توضيح المراد: فلو اعتبرنا العامل الثاني، الملاحظ تخيلًا وتقديرًا -وهو هنا: "نظف"- عاملًا معادًا حقيقة، وتكرارا للأول لأدى هذا إلى أيجاد تركيب جديد، خال من البدل، ولوجب إعراب كلمة: "أسنان" شيئا آخر غير البدل؛ فتكون هنا على الاعتبار الجديد "مفعولا به"، ولا تصلح بدلا، ويترتب على هذا التغيير الإعرابي تغيير معنوي معروف ينشأ من الفرق المعنوي بين البدل، والمفعول به، إذ لكل منهما مهمة تختلف عن مهمة الآخر.
ويستثنى من الحكم السالف صورة يصح فيها الأمران؛ أما تكرار العامل تكرارا لفظيا، وإعادة التلفظ به مرة ثانية، وأما الاكتفاء بتخيل وجوده قبل البدل
__________
1 سبق إيضاح المراد من أن البدل في حكم تكرار العامل، وأن المبدل منه في حكم المطروح "في رقم 1 من هامش ص664. وله إشارة موجزة في ص547".(3/678)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والاقتصار على ملاحظته في النية والتقدير1. وهذه الصورة الجائزة -لا الواجبة، كما أسلفنا2- هي التي يكون فيها العامل حرفا من حروف الجر؛ كاللام الجارة في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} ومثل: "من" في قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} ؛ فقد تكررت اللام وأعيدت صريحة في الآية الأولى " ... لكم، لمن ... "، وكذلك في الآية الثانية ".. لنا، لأولنا" كما تكررت "من" في الآية الثالثة "من المشركين من الذين ... " وهكذا ...
لكن ما إعراب حرف الجر المكرر؟ وما إعراب الاسم المجرور بعده؟ قيل: إن حرف
الجر المكرر أصلي، باق على عمله، وأنه هو الذي جر الاسم "بدلا" بعده. دون الحرف الأول المتقدم، ودون الحرف آخر مقدار، أو ملحوظ متخيل. بحجة أنه لا داعي للتقدير في هذه الصورة مع وجود عامل مذكور، منطوق به صراحة؛ فإن التخيل أو التقدير إنما يكون في غير هذه الصورة التي ظهر فيها بالعامل المتكرر، ووقع تحت الحس فلا يمكن إغفاله، ولا إنكار وجوده. ولا المطالبة بأن يكون العامل في المبدل منه هو العامل في البدل، إذ لا داعي للتمسك بهذا الحكم حين يكون العامل المتكرر جر, بعده البال مباشرة.
بقي الاعتراض بشيء آخر، هو أن حرف الجر الأصلي لا يجر البدل؛ لأن عمله مقصور على شيء واحد؛ هو جر الاسم جرا مجردا، لا يصح معه اعتبار ذلك الاسم المجرور بدلا أو غير بدل.
قد يندفع هذا الاعتراض بواحد من ثلاثة:
أولها: وهو أقوّاها وأحسنها صحة اعتبار المجرور في هذه الصورة وحدها "بدلًا"؛ بالرغم مما هو مقرر أن التوكيد اللفظي لا يؤثر في غيره، ولا
__________
1 راجع حاشية ياسين على التصريح، بال البلد. عند الكلام على بدل الاشتمال.
2 في رقم 2 من هامش ص664.(3/679)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يتأثر به: فلا يصلح عاملا ولا معمولا1.
ثانيها: اعتبار العامل المتكرر توكيدًا لفظيًا محضًا "أي: لا يؤثر ولا يتأثر؛ طبقًا لما سبق تقريره". وأن الاسم المجرور بعده مجرور بالعامل الأول الذي له التأثير في المبدل منه؛ فهو أي: العامل الأول -وحده- مؤثر في التابع والمتبوع معًا، عملًا بالرأي الذي يقول: إن البدل ليس على نية تكرار العامل، وإنما العامل في المبدل منه وفي البدل واحد، لا تكرار له، ولا تخيل لإعادته.
ثالثها: اعتبار البال على نية تكرار العامل، وأن حرف الجر المتكرر هو توكيد لفظي محض، وليس تكرارًا للعامل المتقدم. وبالرغم من وجوده مكررا واعتباره توكيدًا لفظيًا خالصًا بكون الجر بعده بعامل آخر غير ظاهر ولكنه ملحوظ في النية والتقدير.
ولا شك أن الآراء الثلاثة يشوبها الضعف؛ لمخالفة كل منهما للضوابط العامة، ولاعتمادها على النية، والتقدير، والتأويل، ولكن الأول أخفها ضعفًا: ولذا كان أنسبها قبولا.
__________
1 بيان هذا في "أ" ص527 حيث الكلام على أحكام التوكيد اللفظي.(3/680)
المسألة 124:
إبدال الظاهر من الظاهر أو من المضمر، والعكس في كل حالة ... :
أ- يجوز إبدال الظاهر من الظاهر؛ كالأمثلة السابقة بأحكامها المختلفة. ويصح إبدال الظاهر من ضمير الغائب بدل كل، أو بعض، أو: اشتمال، أم مباينة1. نحو: وقفت أمام الدار أترقب القادمين. فلما أقبلوا الضيوف صافحتهم في بشر وابتهاج. فكلمة "الضيوف" بدل كل من كل: "هو الفاعل2، واو الجماعة". ونحو: وقفت أترقب الأضياف الخمسة فأقبلوا أربعة منهم ... فكلمة "أربعة" بدل بعض، أي: من الفاعل2 "واو الجماعة". أو: فأقبلوا حقائبهم ... "فحقائب" بدل اشتمال من الواو ... أو: فأقبلوا حقائبهم. على اعتبار أن "حقائب" بدل غلط، أو نسيان، أو إضراب فالبدل بأنواعه المختلفة يقع صحيحًا من ضمير الغائب، ولا مانع يمنع منه.
فإن لم يكن الضمير الغائب بأن كان لحاضر "أي: لمتكلم، أو لمخاطب" جاز مجيء البدل منه بشرط أن يكون الاسم الظاهر إما بدل كل من كل يفيد الإحاطة والشمول والبيان كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} 3، فكلمة "أول" بدل "كل" من الضمير "نا" المجرور باللام، ولذلك أعيد جوازا مع البدل عامل الجر، وهو هنا: "اللام"، مجاراة للمبدل منه. ومثله: تسابقتم ثلاثتكم. فكلمة: "ثلاثة" بدل كل من كل، من التاء4 ...
__________
1 في ص671 تفصيل الكلام على "البدل المباين".
"2، 2" وهذا على اعتبار واو الجماعة ضميرا فاعلا، طبقا للرأي الأغلب، وليست مجرد حرف يعتبر علامة للجمع.
3 لأن معنى: "لأولنا وآخرنا ... " هو: لجميعنا، على عادة العرب من ذكرهم طرفي الشيء، يريدون بهما: جميعه كاملا. ومن هذا قولهم: "سبحان الله بكرة وأصيلا" ... أي: كل وقت: وقد سبقت الآية لمناسبة أخرى في هامش ص664 وفي ص680.
4 سبقت الإشارة لهذا في ص511 و680.(3/681)
وأما بدل بعض من كل؛ كقول المريض بأذنه مثلا: عالجني الطبيب أذني. فكلمة "أذن" بدل بعض من كل، "وهو: ياء المتكلم" ونحو أعجبتني أسنانك. فكلمة: "أسنان" بدل بعض من ضمير المخاطب "التاء".
وأما بدل اشتمال كقول الشاعر:
بلغنا السماء مجدنا وثناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فكلمة: "مجدنا" بدل اشتمال من ضمير المتكلمين: "نا"؛ ونحو: أرضيتني كلامك، "فكلام" بدل اشتمال من ضمير المخاطب "التاء".
ب- ولا يجوز إبدال ضمير من ضمير، ولا ضمير من ظاهر1، فالضمير: أنت في مثل "قمت" أنت، ورأيتك أنت، ومررت بك أنت يعرب توكيدًا لفظيًا، وكذلك يعرب الضمير "أياك" في مثل: رأيتك أياك. ولا يصح في مثل: رأيت محمدًا إياه، إعراب الضمير "إياه" بدلًا من الاسم الظاهر؛ لأن هذا التركيب فاسد في رأي النحاة: إذ لم يسمع له عن العرب نظير2 ...
__________
1 في بعض فروع هذا خلاف طويل ولا حاجة لنا به؛ لأنه خلاف جدلي، لا يقوم على الاستشهاد بالكلام العربي الفصيح.
2 هذا ما يقولون. وقد اقتصر ابن مالك في الحالات السابقة "أ، ب" على حالة إبدال الاسم الظاهر من ضمير الحاضر. قال:
ومن ضمير الحاضر الظاهر لا ... تبدله إلا ما إحاطة جلا
أو اقتضى بعضا أو اشتمالا ... كإنك ابتهاجك استمالا
"إحاطة جلا: أي: جلا وأظهر إحاطة".
يقول: لا تبدل الظاهر من ضمير الحاضر إلا إذا أظهر البدل إحاطة "أي: دل عليها بأن كان بدل كل من كل" أو: اقتضى بعضًا. "أي: دل على البعضية" أو: دل على اشتمال، وساق مثالا لبدل الاشتمال هو: إنك ابتهاجك اشتمال القلوب إليك، وجذبها نحوك.(3/682)
المسألة 125:
البدل من المضمن الاستفهام، أو الشرط، وبيان: بدل التفصيل:
قد يكون "المبدل منه" اسم استفهام، "ويسمى: "المضمن معنى همزة الاستفهام1" وقد يكون اسم شرط "ويسمى: المضمن معنى حرف الشرط. "إن" فإذا اقتضى الأمر بدلًا يفصل ذلك المضمون المعنوي المجمل ظهر في الحالة الولى مع البدل حرف الاستفهام: "الهمزة"، وفي الحالية الثانية حرف الشرط: "إن" ليوافق البدل المبدل منه في تأدية المعنى. وهذا بشرط ألا يظهر حرف الاستفهام ولا حرف الشرط مع المبدل منه.
والاستفهام الذي يتضمنه المتبوع قد يكون عن الكمية2، أو عن الذات، أو عن معنى من المعاني. فمثال الاستفهام عن الكمية: كم كتبك؟ أمائة أم مائتان؟ "فمائة" بدل من "كم" بدل تفصيل للمعنى العددي.
ومثال الاستفهام عن الذات: من شاركت؟ أكاملًا أم منصورًا؟ "فكاملًا" بدل تفصيل من كلمة: "من".
__________
1 معنى تضمنه همزة الاستفهام: انه اسم استفهام يؤدي معنى همزة الاستفهام، وأنه -وهو لفظ واحد– يشمل كثيرًا من الأنواع والأفراد غير المذكورة في الكلام صراحة؛ فهو يحتويها إجمالا من غير أن تذكر بعده مفصلة صريحة. فإذا أريد بعد الإجمال الذي ينطوي عليه المبدل منه، النص الصريح على بعض أنواع أو أفراد مما يدخل في الإجمال، جيء بهذا المطلوب مذكورا صريحا في "البدل" بعد الهمزة مباشرة من غير فاصل بينهما" وهذا المذكور بعد الهمزة ليس إلا نوعا أو فردا يدخل ضمنا لا صراحة في اسم الاستفهام "المبدل منه".
ومثل هذا يقال في الغرض من "إن" الشرطية التفصيلية. وليس لهذه علاقة بهمزة الاستفهام فلا تسبقها هذه الهمزة. وسيجيء في آخر ص685 أن البدل المضمن "بدل التفصيل" نوع من بدل الكل.
2 أي: عن عدد. وكذا ما يتصل بالعدد من المقادير.(3/683)
ومثال الاستفهام عن المعنى: ما تقرأ؟ أجيدًا أم رديئًا؟ فجيدًا يدل تفصيل من: "ما".
وإنما تضمن البدل همزة الاستفهام ليوافق متبوعه الذي هو اسم يتضمن معنى همزة الاستفهام من غير تصريح بأداة الاستفهام الحرفية -كما أسلفنا-؛ فلا تجيء الهمزة في مثل: هل أحد جاءك؛ محمد أو علي، بسبب التصريح بحرف الاستفهام.
والشرط الذي يتضمنه المتبوع قد يكون للعاقل أو غيره، وللزمان أو المكان. فمثال الشرط للعاقل: من يجاملني -إن صديق وإن عدو- أجامله. فكلمة: "صديق" بدل تفصيل من كلمة "من" الشرطية. وإن الشرطية الظاهرة في الكلام ليس لها من الشرط إلا اسمه؛ فلا تجزم، ولا تعمل شيئا، وإنما تفيد مجرد التفصيل؛ ولذا تسمى: "إنْ التفصيلية".
ومثال الشرط لغير العاقل: ما تقرأ، إن جيدا وإن رديئًا، تتأثر به نفسك. فكلمة: "جيدًا" بدل من كلمة: "ما" و"إنْ" المذكورة في الجملة لا أثر لها إلا في إفادة التفصيل، كما سبق.
ومثال الشرط الدال على الزمان: متى تزرني، إن غدًا وإن بعد غد أسعد بلقائك. فكلمة "غدًا" بدل من "متى"، وكلمة: "إنْ" للتفصيل.
ومثال الشرط الدال على المكان: حيثما تجلس، إنْ فوق الكرسي وإن فوق الأريكة، تجدْ راحة ... فكلمة: "فوق" بدل من: حيثما. وكلمة: "إن" للتفصيل.
وإنما قرن البدل في كل ما سبق بالحرف: "إنْ" ليكون موافقا لاسم الشرط المتبوع الذي يتضمن معنى هذا الحرف من غير أن يذكر صريحا1 فلا يصح مجيء "إنْ" في مثل: إن تساعد أحدا محمدًا أو عليًا أساعده. هذا وبدل التفصيل2 نوع من بدل الكل من الكل لا يحتاج إلى رابط.
__________
1 ستجيء إشارة إلى "إن" التفصيلية "في باب الجوازم ج4 ص328 م55" تبين حكمها، وطريقة إعرابها. وقد اقتصر ابن مالك على الكلام على البدل مما ضمن همزة الاستفهام، قال:
وبدل المضمن الهمز يلي ... همزا كمن ذا. أسعيد أم علي
أي: أن البدل من المضمن همزة الاستفهام لا بد أن تسبقه الهمزة، كالمثال الذي ساقه.
2 في "هـ" من ص678 بعض الأحكام الخاصة ببدل التفصيل.(3/684)
المسألة 136:
بدل الفعل من الفعل، والجملة من الجملة:
أ- بدل الفعل من الفعل:
1- يبدل الفعل من الفعل بدل كل من كل بشرط اتحادهما في الزمان ولو لم يتحدا في النوع1، وأن يستفيد المتبوع من ذلك زيادة بيان؛ كقوله تعالى2: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} . فالفعل: "يضاعف" بدل كل من الفعل: "يلق" لأن مضاعفة العذاب هي البيان الذي يزيد معنى الفعل: "يلق" وضوحا، ويشكف المراد منه.
وجزم الفعل: "يضاعف" دليل على أنه البدل وحده دون فاعله، وأن البدل بدل مفردات، لا جمل3.
2- ويبدل الفعل من الفعل للدلالة على الجزئية: إن تصل تسجد لله يرحمك. فالفعل: "تسجد" بدل من تصل، والسجود جزء من الصلاة لا تتحقق إلا به.
3- ويبدل الفعل من الفعل بدل اشتمال؛ مثل: إني لن أسيئ إلى الحيوان
__________
1 فيصح: إن جئتني تزرني أكرمك. ويجري عليهما في البدل ما يجري عليهما في العطف مما سردناه في ص642 وما يليها.
2 في العاصي الذي أتى نوعا من المحرمات والكبائر المذكورة قبل هذه الآية مباشرة.
3 لأن المضارع في الجملة الفعلية إذا كانت هي التابعة بجزأيها معا، لا يصح نصبه ولا جزمه تبعا لمضارع
منصوب، أو مجزوم في الجملة المتبوعة؛ فإذا كانت الجملة المضارعية كلها هي التابعة "أي: هي البدل، أو المعطوفة بالحرف، أو ... " وجب استقلال مضارعها بنفسه في إعرابه، فلا يتبع إعراب المضارع في الجملة المتبوعة. ولا يصح نصبه أو جزمه تبعا للمضارع الذي في الجملة المتبوعة إلا حين يكون البدل بدل فعل مضارع وحده من مضارع وحده أيضا.
وكذلك حين يكون العطف عطف مضارع وحده على مضارع وحده حيث يكون المعطوف تابعا للمعطوف عليه في رفعه، ونصبه جزمه -كما سبق الإيضاح في ص642 وما يليها، ولا سيما ص643-.(3/685)
الأليف، أزعجه. فالفعل "أزعج" بدل اشتمال من "أسيء". ومثله:
إن عليّ الله أن تبايعا1 ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
فالفعل: "تؤخذ" بدل اشتمال من: "تبايع"؛ لأن الأخذ كرها هو صفة من صفات كثيرة تشملها المبايعة.
4- ويبدل الفعل من الفعل لإضراب، أو الغلط، أو النسيان، في مثل: إن تطعم المحتاج، تكسه ثوبا، يحرسك.
والذي يدل في كل ما سبق -وأشباهه- على أن البدل بدل مفردات لا بدل جمل، هو مشاركة الفعل التابع لمتبوعه في نصبه أو جزمه2.
ب- أما الجملة فبدل من الجملة بدل كل من كل -على الصحيح- بشرط أن تكون الثانية أو فى من الأولى في بأن المراد، وتأديته ... نحو: اقطع قمح الحقل، احصده.
وتبدل بدل "جزء من كل" لإفادة البعضية؛ كقوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، فجملة: "أمدكم" الثانية اخص من الأولى؛ لأن: ما تعلمون: يشمل الأنعام، والبنين، والجنات، والعيون، وغيرها.
وتبدل بدل اشتمال؛ كقول الشاعر:
أقول له ارحل. لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في الثر والجهر مسلما
فجملة: "لا تقيمن" بدل اشتمال من جملة "ارحل"؛ لما بينهما من المناسبة: إذ يلزم من الرحيل عدم الإقامة.
وتبدل بدل غلط؛ مثل: اجلس، قف ... و ...
__________
1 أصل الفعل: تبايع، والألف زائدة للشعر.
2 من الممكن الاستعانة على إيضاح هذا بما سبق في العطف ص643.
وفي بدل الفعل من الفعل يقول ابن مالك من غير تفصيل:
ويبدل الفعل من الفعل كمن ... يصل إلينا يستعن بنا يعن(3/686)
ولا يشترط في بدل الجملة بأنواه المختلفة ولا في بدل الفعل من الفعل إذ يشتمل على ضمير؛ إذ من المعذر أن يعود ضمير على جملة، كما يتعذر في بدل الفعل وحده من الفعل.
هذا وقد أشرنا إلى أن الفعل التابع يتبع المبدل منه في إعرابه لفظًا وتقديرًا. أما الجملة فتتبع المتبوعة في محلها إن كان لها محل. فإن لم يكن للمتبوعة محل فتسمية الجملة الثانية بالتابعة هي تسمية مجازية، أساسها التوسع فقط ...
وتد تدل الجملة من المفرد، والعكس، بدل كل من كل -وهذان النوعان نادران– كقول الشاعر:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان
فجملة: "كيف يلتقيان" بدل من: "حاجة"؛ لأنّ كيفية الالتقاء هي الحاجة التي يشكو منها. إنما صح البدل هنا لأن الجملة بمنزلة المفرد1 إذ التقدير: إلى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر اجتماعهما؛ فلا بد من تأويل الجملة بالمفرد ليمكن إعرابها بدلًا. ومثال العكس: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا} ؛ لأنها في معنى المفرد، أي: جعله مستقيمًا.
__________
1 من الممكن فهم هذا على ضوء ما مر في ص 635(3/687)
الفهارس
...
الفهرس:
أ- بيان الأبواب العامة التي يشتمل عليها هذا الجزء:
رقم الصفحة عنوان الباب
وصف مجمل للكتاب
1 الإضافة
169 المضاف لياء المتكلم، وحكمه.
181 أبنية المصدر، أقسام المصدر.
186 المصدر الصناعي.
207 أعمال المصدر، واسم المصدر "تعريفهما، وأحكامها..و.."
210 اسم المصدر أيضًا
220 إعماله.
225 المصدر الدال على المرة، والدال على الهيئة.
231 المصدر الميمي.
238 اسم الفاعل
271 اسم المفعول
281 الصفة المشبهة.
318 اسم الزمان والمكان
333 اسم الآلة.
339 التعجب.
367 ألفاظ المدح والذم: "نعم وبئس.. و.."
384 الأفعال التي تجرى مجراهما.
394 أفعل التفضيل
434 التوابع الأربعة:
أ- النعت.
501 ب- التوكيد.
538 ج- العطف بنوعيه:
1- عطف البيان.
555 2- "عطف النسق".
664 د- البدل.(3/689)
ب- تفصيل المسائل والموضوعات التي تشتمل عليها الأبواب العامة السابقة. مع ملاحظة أن العناوين المكتوبة في الفهرس بخط صغير هي بعض موضوعات: "الزيادة، والتفصيل، والهوامش":
باب الإضافة
رقم الصفحة الموضوع:
1 المسألة 93:
الإضافة
تقسيمها إلى محضة وغير محضة.
الأسماء الأخرى لك لواحدة، وسبب التسمية.
إيضاح معنى الإضافة. النسبة الأساسية والنسبة التقليدية، أو: الفرعية ...
3 الأغلب في المضاف أن يكون اسما معربا، وقد يكون اسمًا مبنيًا.
3 أنواع المحضة
إشارة إلى "الشبيه بالمضاف".
إضافة المصدر قد تكون محضة أو غير محضة ...
6 الأحكام الواجبة المترتبة على الإضافة:
الإضافة:
7 الأول: جر المضاف إليه.
الإضافة الظاهرة، والإضافة المقدرة.
عوامل الجر في الاسم.
8 الرأي في الجر بالتوهم، والمجاورة.
8 الثاني: حذف نون المثنى وجمع المذكر السالم -وملحقاتهما- من المضاف.
9 ما يحذف مع النون عند الإضافة لياء المتكلم.
10 حالة يجوز فيها حذف النون وعدم حذفها.
12 الثالث: حذف التنوين.
الرابع: حذف "أل" من المضاف، إلا في بعض صور معدودة..
13 متى توجد "أل" في الإضافة غير المحضة؟
14 رأي الكوفيين في إبقاء "أل" ...
الرأي في بعض أمثلة مسموعة وغير مسموعة فيها "أل" ...
16 الخامس: اشتمال الإضافة المحضة على حرف جر أصلي متخيل، وأنواعه، والغرض
منه، وجواز التصريح به
18 الإضافة التي على معنى: "من"
19 نوع إضافة الأعداد والمقادير.
أوجه إعرابية أخرى إذا كانت الإضافة على معنى: "من".(3/690)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
20 الإضافة التي على معنى: "في"، و"اللام".
21 إضافات لا يصح التصريح فيها بحرف الجر: "اللام".
الإضافة قوية الملابسة، والإضافة لأدنى ملابسة.
23 السادس: تعرف المضاف أو تخصصه من المضاف إليه، بشرط أن تكون الإضافة محضة.
منع إضافة المعرفة للمعرفة والنكرة.
جواز إضافة العلم في بعض الحالات ...
24 ألفاظ مسموعة ملازمة للتنكير، وهي الألفاظ المتوغلة في الإبهام، -ومنها: "غير" - وهل
تتعرف بالإضافة؟
هل تدخلها "أل"؟
28 المضاف إليه إذا كان جملة كان في حكم المفرد ...
29 عودة إلى الإضافة غير المحضة.
إشارة إلى أنواع من المحضة؛ "كالمصدر، وبعض المشتقات المهملة.."
30 أثر الإضافة غير المحضة.
33 معنى الإضافة المجازية، "أي: التي على نية الانفصال".
37 لمحة عابرة عن بعض المشتقات. "اسم الفاعل - اسم المفعول".
39 الاستمرار الدوامي، والاستمرار التجددي.
40 أنواع من الإضافة غير المحضة. "هي الملحقات بها".
40 إضافة المنعوت إلى نعته، إضافة النعت إلى منعوته، إضافة المسمى إلى الاسم،
42 الكلام، وعلى: الإضافة البيانية والتي للبيان، وعلى: "ذات مرة" و"ذات ليلة" ... وعلى
كلمة: "رجب" من ناحية الصرف وعدمه.
44 إضافة الموضوف إلى اسم قائم مقام الصفة.
إشارة إلى السبب في إضافة العلم، ...
45 إضافة المؤكد إلى المؤكد.
46 إضافة الملغي إلى المعتبر، والعكس - الإضافة في قولهم: "لا أبا لفلان".
إضافة صدر المركب المزجي لعجزه.
47 الجدل الدائر حول الأنواع السابقة، والفصل فيه.
51 الرأي في مثل: استرحنا من عناء التعب ... ، ونعمنا برغد الرخاء ...
53 السابع:
عدم الفصل بين المتضايفين.
أ- مواضع الفصل في السعة.
المراد بالسعة والضرورة. التيسير في الشعر دون النثر.
55 ب- مواضع الفصل في الضرورة مواضع أخرى للفصل في الضرورة.
60 الثامن: استفادة المضاف من المضاف إليه التصدير.
التاسع: وجوب تقديم المضاف(3/691)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة وهي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
61 العاشر: استفادة المضاف من المضاف إليه المصدرية
الحادي عشر: استفادة الظرفية
61 الأحكام الأربعة غير الحتمية، وهي:
63 الثاني عشر: استفادته التأنيث.
المراد من جزء الشيء، ومثل جزئه.
65 القلة الذاتية والنسبية "انظر ص79"
66 الثالث عشر: استفادة التذكير.
حكم "أحد، وإحدى" المضافتين من جواز التذكير والتأنيث.
الرابع عشر: استفادته البناء. "ويدخل في هذا: المضاف من أسماء الزمان المبهم".
68 الخامس عشر: جواز حذف تاء التأنيث منه.
70 ملخص الأحكام السالفة كلها
71 المسألة 94:
تقسيم الاسم من ناحية وقوعه مضافا، وعدم وقوعه.
ما تجوز إضافته. ما تجب إضافته أربعة أقسام.
تفصيل الكلام عليها:
أولها: ما يضاف وجوبا للظاهر والضمير، مع جواز قطعه عن الإضافة لفظا فقط.
72 نون التنوين في كلمتي: "كل وبعض" إذا لم يضافا ... حكمهما من ناحية التعريف
والتنكير، هل يصح اقترانها "بأل" المعرفة؟
حكم لفظه: "كل" ومطابقة ما بعدها لها.
73 ثانيها: ما يضاف وجوبا ولا يجوز قطعه لفظا، وهو أربعة أنواع ...
78 ثالثها: ما يضاف وجوبا إلى الجملة، وحكمه،
"حيث إذ" وتفصيل الكلام عليهما.
الجملة الواقعة "مضافا إليه" في حكم المفرد. وشروطها
أ- حيث
الاسم الواجب إضافته للجملة لا يكون إلا مبنيا.
79 عودة إلى بيان القلة الذاتية والنسبية. "انظر ص64".
80 ب- "إذ": إعرابها ومعانيها..، المراد من اسم الزمان.
84 الجملة الواقعة مضافا إليه في حكم المفرد. شروطها. تأويلها.
85 فائدة الإضافة للجملة.
87 حكم: "بين" المختومة "بالألف الزائدة، أو: "ما" الزائدة، وجوب صدارتها.(3/692)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
88 ما يشبه: "إذا.
89 إضافة بعض أسماء الزمان المبهمة للجملة، وتفصيل هذا.
93 رابعها: ما يضاف وجوبا للفعلية وحدها –"إذا – لما" ... ، جميع أدوات الشرط الجازمة "أي:
الشرط غير الامتناعي" تجعل زمن الفعل الماضي الذي في شرطها وجوابها مستقبلا.
94 ب- ألفاظ غير زمانية تشبه الزمانية في الحكم، "منها: آية. ذي تسلم ... ".
97 جدول لكل أقسام المضاف والمضاف إليه.
98 المسألة 95:
أسماء أخرى واجبة الإضافة:
"كلا – كلتا – أي – لدن ومع – غير، ونظائرها". كلا وكلتا ...
99 المثنى لفظا ومعنى، ومعنى فقط.
101 تفصيلات في إعراب: "كلا وكلتا"
104 أي، وأقسامها، واستعمال كل.
المراد من الإضافة لفظا ومعنى، ومعنى فقط.
تفصيل الكلام على: "أي" الاستفهامية.
105 أنواع التعدد
105 لفظ "أي"، ومعناها، وما يراعي عند المطابقة.
109 تفصيل الكلام على "أي" الشرطية
110 "أي" الموصولة.
111 "أي" التي تقع نعتا.
113 الرأي في مثل: "اشتر أي كتاب" و ...
117 "أي" التي تقع حالا.
118 جدول يشتمل على ملخص لكل أنواع "أي" وأحكامها.
119 لدن – عند.
معنى: الغاية الزمانية، والمكانية، ومبدأ الغاية، وبعض أحكام خاصة بالغاية.
الفرق بين كلمتي: "ابتداء" و"من" الجارة التي للابتداء.
120 مواضع الاختلاف بين كلمتي: "لدن" و"عند".
124 رفض الإعراب على "التوهم"، وعلى "المجاورة".
125 مع. معانيها.
129 الكلام على: "مع"، و"جميع".
131 غير: معناها، وحالاتها الإعرابية الأربع "انظر ص24 و ... " يقال: "ليس غير، ولا غير".
141 نظائر: "غير" وتقسيمها من ناحية ما يفيد الظرفية والتصرف، وما لا يفيدهما.(3/693)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة: الموضوع:
141 ظروف "الغاية": "قبل – بعد، دون – الجهات الست. وما بمعناها ... ".
معنى: "الغاية" هنا.
142 الظرف المتصرف وغير المتصرف، ومعنى: "من" الجارة الداخلة على الظرف المجرور بها.
معنى الأسماء التامة وغير التامة.
143 قبل.
145 بعد.
146 فوق.
147 دون.
147 عل.
148 حكم "لدى" المضافة
149 حسب.
150 الدليل على أن: "حسب" ليس اسم فعل.
151 أول.
154 استعمالات لغوية مختلفة في: "أول" ومنها: أول أمسى ...
156 ملخص يبين تقسيم الأسماء من ناحية إضافتها، عدم إضافتها
157 المسألة 96:
حذف المضاف. حذف المضاف إليه. نعت أحدهما.
أ- حذف المضاف ومواضعه القياسية
162 حكم الضمائر العائدة على المضاف المحذوف، وكذلك غير المحذوف.
163 حذف أكثر من مضاف، وبيان ما يترتب علي الحذف.
165 ب- حذف المضاف إليه.
عودة لبيان الأسماء التامة وغير التامة.
167 ج- حكم النعت بعد المركب الإضافي "ومنه: العلم الكنية".
169 المسألة 97:
المضاف لياء المتكلم، وحكمه
تعريف صحيح الآخر، ومعتل الآخر، والمعتل الشبيه بالصحيح، وحكم كل عند إضافته للياء.
متى تضبط ياء المتكلم بالفتح أو بالسكون، وإعرابها؟
170 كيفية إضافة الاسم المختوم بياء مشددة.
172 متى يجوز حذف ياء المتكلم أو قلبهما ألفا.
متى تحذف ياء المتكلم في الإضافة.
173 عودة إلى الإضافة الظاهرة، والمقدرة. حكم الأسماء الخمسة عند إضافتها لياء المتكلم.(3/694)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة: الموضوع:
174 إضافة الاسم المعتل الآخر بالواو إلى ياء المتكلم.
175 طريقة إضافة: "اينم".
الوقوف على ياء المتكلم
177 مواضع تسكين آخر المضاف، وبناء الياء على الفتح.
متى تضبط المتكلم بالفتح؟
عودة إلى: "لدى".
نوع من نيابة حرف عن حركة
181 المسألة 98:
أبنية المصادر – أقسام المصدر الثلاثة "أصلي – ميمي – صناعي" وتعريف كل قسم،
وإيضاحه. إشارة إلى المواضع الذي يضم أحكام المصدر المؤول، سبب تقديم هذا الباب
على باب عمل المصدر.
معنى الجمود والاشتقاق ومكان المصدر منهما: تقسيم الجامد والمشتق ...
182 أصل المشتقات وأنواعها، وملحقاتها – إذا صار المشتق علما صار في حكم الجامد، وفقد
أحكام المشتق.
183 أسماء المعاني وأسماء الذوات، والاشتقاق منها، وقواعده.
الفرق بين "الاشتقاق والأخذ".
184 قواعد الاشتقاق من الجامد.
185 اشتقاق "فعل" من العضو للدلالة على إصابته.
186 المصدر الميمي.
المصدر الصناعي.
تاء التأنيث، وتسمى تاء النقل.
188 كيف وضعت الضوابط لأبنية المصدر.
كيف وضعت الضوابط لأبنية المصدر.
كلمة عن القياس والسماع عامة، ومن قياسيه المصدر، وجموع التكسير.
189 قيمة الفراء اللغوية، ورأية في القياس هنا؛ وكذا ابن جني.
189 عدم السماع لا يقتضي عدم الاطراد مع وجود القياس.
191 هل يخض اللفظ للقياس مع ورود سماع خاص فيه؟
193 أوزان المصدر الأصلي.
أوزان مصدر الثلاثي المتعدي واللازم.
198 مصادر، على وزن: "مفعول"، مصادر الماضي غير الثلاثي، مصادر الرباعي.
199 قلب الهمزة ياء جوازا في مثل: تبريء قلبها واوا في مثل: مقروء. نوع: "التفعال". بفتح التاء
وكسرها.
201 نوع "فعلال" المضعف، وبيان ما يجوز فيه.(3/695)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
202 مصادر الخماسي.
مصادر السداسي.
203 ملحقات "التفعلل".
204 تلخيص لكل أبنية المصادر القياسية.
207 المسألة 99:
إعمال آخر للمصدر – أمثلة.
208 إيضاح لاسم المصدر.
209 تعريف موجز لاسم المصدر.
الفرق بينه وبين المصدر – لفظ ومعنى.
210 المصدر أصل المشتقات.
211 عمل المصدر.
ما يخالف فيه المصدر فعله.
212 نوع من الفرق بين "أن، وما" المصدريتين.
وبين: "أن" الناصبة للمضارع والمخففة.
213 أنواع من المصادر تعمل بغير تحقق الشروط.
215 شروط أخرى لإعماله.
218 أقسام المصدر العامل.
220 إعمال اسم المصدر.
223 أقسام اسم المصدر العامل مع إشارة عابرة المصدر الميمي.
225 المسألة 100:
المصدر الدال على المرة والدال على الهيئة.
فائدة المصدر الدال على إحداهما
226 لكل فعل ثلاثة أنواع من المصادر.
228 يجب فتح ما قبل تاء التأنيث.
المسألة 101:
231 المصدر الميمي.
معناه، مزيته، صوغه.
238 المسألة 102:
اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة. تعريف كل، وصوغه، وإعماله.
اسم الفاعل: تعريفه.
"أفعل التفضيل" يدل على الدوام.
240 صوغ اسم الفاعل.
242 دفع توهم أن بعض الأفعال الثلاثية المتصرفة لا يكون لها اسم فاعل. القرائن هي التي
تدل على أن صيغة: "فاعل" قد يراد بها الصفة المشبهة. من تلك القرائن إضافة اسم
الفاعل لفاعله ...
خروج اسم الفاعل عن بابه ودخوله في باب الصفة المشبهة، وما يصحب هذا من إضافة
اسم الفاعل لفاعله.
245 صوغه من مصدر الماضي غير الثلاثي، زيادة تاء التأنيث آخر اسم لافاعل.
246 كسر ما قبل الآخر قد يكون حقيقة أو حكما.(3/696)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
246 إعماله:
247 أ- إن كان مجردا من "أل". عودة إلى الاستمرار الدوامي والاستمرار التجددي.
248 ملخص ما تقدم
251 يصح تعلق شبه الجملة بالمشتق الذي لا يعمل.
252 الاعتماد هذا وفي باب المبتدأ والخبر، الفرق بينهما.
شروط أخرى في الوصف.
اسم الفاعل لا يعود فاعله الضمير المستتر إلا على غائب.
254 ب- اسم الفاعل المقترن "بأل"-
بعض أحكام اسم العامل الفاعل ومنها: إضافته إلى مفعوله.
255 عدم صحة إضافة المتعدي إلى فاعله.
256 الفرق بين المصدر واسم الفاعل العاملين
257 التزامه الإفراد والتنكير أحيانا.
257 صيغة المبالغة:
258 قد تكون صيغة: "فعال" للنسب.
258 أشهر أوزانها-
259 أوزان أخرى؛ منها: "فعيل".
263 حكم تقدير معمولات اسم الفاعل وصيغ المبالغة.
264 إعمال اسم الفاعل وهو محذوف.
ما الحكم إذا كانت صيغة اسم الفاعل دالة على الثبوت؟
معنى الربط السبي
266 تحويل اسم الفاعل من المتعدي إلى الصفة المشبهة ...
267 معنى الفعل اللازم هنا وما يشبه اللازم
269 صيغة: "فعال" للنسب.
271 المسألة 103:
اسم المفعول –تعريفه- صوغه
273 فتح ما قبل الآخر تقديرا.
زيادة تاء التأنيث في آخره.
صيغ سماعية تؤدي معناه، وتنوب عنه.
274 صيغة: "مفعول" قد يراد بها المصدر.
275 إعماله: إضافته إلى مرفوعه، إضافته إلى مفعوله.
277 متى يصير صفة مشبهة؟
280 طريقة إضافته لمرفوعه.
281 المسألة 104:
الصفة المشبهة – تعريفها ودلالتها،
284 أنواعها، وطريقة صوغ كل نوع.
285 تفصيل الكلام على النوع الأول.
286 تشديد الياء وعدم تشديدها في مثل كلمة: "شجي ... "
289 الصيغ السماعية، وحكمها.
289 باب عقده ابن مالك بعنوان: أبنية أسماء الفاعلين والمفعولين، والصفات المشبهة بها.
291 الرد على من يمنع قياس الصفة المشبهة.
292 قد تدل الصفة المشبهة نصا على الحدوث.(3/697)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الصفحة
293 عودة إلى تحول اسم الفاعل الصفة المشبهة.
294 إعمالها.
295 الصور الصحيحة، والصور الممنوعة.
298 طريقة أخرى لبيان الصور بنوعيها
300 المسألة 105:
أوجه التشابه والتخالف المتعدي لواحد.
أ- أوجه المشابهة: "أي: الأحكام المشتركة بينهما".
مطابقة الصفة المشبهة وعدم مطابقتها..
306 ب- أوجه لمخالفة: "أي الأحكام الخاصة بالصفة المشبهة".
309 متى تجب السببية؟
312 أمور وأحكام أخرى تنفرد بها الصفة المشبهة.
المسألة 106:
318 اسم الزمان واسم المكان – الغرض منهما – صيغتهما..
323 ألفاظ مسموعة يجوز فيها الأمران.
324 هل يجوز تطبيق القياس على اللفظ المسموع؟
325 ألفاظ مسموعة مؤنثة، وغير مؤنثة، حكمها.
326 صوغ "مفعلة" من الثلاثي الجامد الحسي "أي: من أسماء الأعيان، الثلاثية"
المراد من الكثرة الأغلبية.
329 مخالفة صيغة الزمان والمكان –أحيانا- لبعض ضوابط الإعلال والإبدال.
331 ملخص لبعض المشتقات السالفة.
المسألة 107
333 اسم الآلة:
تعريفه. صوغه.
334 حكمه
336 ألفاظ شادة –بعض مسائل أخرى تتعلق بصوغه وقياسيته.
339 المسألة 108:
التعجب: معناه والغرض منه.
أسلوبه: "نوعاه".
341 صيغتاه القياسيتان، وإعرابهما.
من المحتم أن يكون أصل مفعوله فاعلا في المعنى.
342 معنى النكرة التامة وغير التامة.
متى تدل الجملة التعجبية على زمن؟
347 الكلام على همزة الصيغتين. الكلام على عينهما.
معنى المتعجب منه صيغ أخرى للتعجب.(3/698)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
349 شروط الفعل الذي يبنى منه الصيغتان.
إشارة إلى دلالة الجملة التعجبية على زمن.
350 هل يبنيان من المبني للمجهول؟
هل هناك أفعال ملازمة للبناء للمجهول؟
المسألة 109:
353 كيفية التعجب مما لم يستوف الشروط.
357 الأحكام الخاصة بالتعجب.
الفعل الجامد لا يتقدم عليه معموله – في الأغلب، "انظر ص400".
361 عودة الكلام على الزمن في الجملة التعجبية.
زيادة: "كان" والغرض منها.
363 تعدية صيغة التعجب بحرف جر معين.
364 صيغة التعجب من المتعدي لواحد، أو لأكثر من واحد.
367 المسألة 110:
367 ألفاظ المدح والذم: "نعم وبئس ... "
الصريح وغير الصريح من أساليب المدح والذم.
368 أحكام: "نعم وبئس" معنى المدح العام، والذم العام.
جمودهما، تجردهما من الزمن.
369 نوع فاعلهما.
370 متى يحتاج فاعلهما إلى التمييز، وحكم هذا التمييز
372 "ما" التي هي معرفة تامة أو ناقصة، والنكرة النقصة. أنوع "من".
374 الكلام على "أل" وإعراب: "ما".
375 ما المراد مما فيه قولان أو أكثر؟
377 المخصوص.
378 حذف المخصوص.
إعراب المخصوص.
380 حبذا، ومخصوصها.
384 المسألة 111:
الأفعال التي تجري مجرى: "نعم" و"بئس"..
385 شروط تحويل الفعل. أحكامه.
388 ما ينفرد به فاعل هذا الفعل.
394 المسألة 112:
أفعل التفضيل.
تعريفه، دلالته على الدوام.
395 طريقة صياغته:
396 استعمال كلمتي: "خير، وشر" في التفصيل.
397 بعض صيغ شاذة، صوغه من اسم العين.
398 سداد المذهب الكوفي في صياغة الألوان.
400 الجامد لا يتقدم عليه شيء من معمولاته. –في الأغلب- "انظر ص400"(3/699)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة: الموضوع:
401 أقسامه وأحكامها.
القسم الأول: المجرد من أل والإضافة.
402 الأحكام الخاصة بمن ومجرورها "كحذفها، وتقديمهما، ووصلها ... ".
406 معنى المشاركة.
407 بعض أساليب شائعة يخفي فيها معنى التفصيل،
تصحيح عين "أفعل".
الكلام على: "أخر".
412 القسم الثاني: المقترن بأل.
413 السماع والقياس في "أفعل" التفضيل المقترن بأل.
جمعه على: أفاعل.
صوغ. مؤنث على: فعلى.
416 القسم الثالث: المضاف.
421 العطف على "أفعل التفضيل" المضاف النكرة.
425 ملخص الأقسام الثلاثة السالفة
427 المسألة 113:
عمل أفعل التفضيل.
تعاق شبه الجملة به.
أولا: عمله الرفع.
432 ثانيا: عمله النصب.
ثالثا: عمله الجر.
تعدية أفضل التفضيل بحرف الجر.
434 المسألة 114
التوابع الأربعة الأصيلة - النعت.
435 كلمة عن التوابع، "بيان التابع والمتبوع من ناحيتهما اللفظية.
بعض أحكام التوابع، الاتفاق في نوع الإعراب، صحة القطع.. الفصل بين التابع والمتبوع،
وبعض أحكام أخرى جليلة؛ كترتيب التوابع واتصالها، ... و ... ".
437 التابع والمتبوع من ناحيتهما المعنوية.
437 تعريف النعت.
438 الغرض منه.
440 النعت قد يتمم الفائدة الأساسية في الجملة.
441 تقسيم النعت باعتبار معناه إلى:
حقيقي وسببي.
الحقيقي. علامته.
443 حكمه.
444 حكم خاص -لفظي ومعنوي- بالمنعوت المضاف، كالكنية.
أنواع من المطابقة.
445 ما يستثنى من المطابقة الحتمية.
446 نعوت مسموعة وغير مسموعة لا مطابقة فيها ...
447 مسائل يشترك فيها الحال والخبر والنعت في عدم المطابقة.
صحة نعت جمع المؤنث السالم العاقل بالمفردة.
450 عودة إلى الجر بالمجاورة والتوهم.. "د".
451 المثنى المفرق والجمع المفرق.
452 النعت السببي، وحكمه.
454 ملخص ما سبق.
456 تقسيم النعت باعتبار معناه إلى مؤسس، ومؤكد، وموطيء.(3/700)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
458 تقسيم النعت باعتبار لفظه..
ا- النعت المفرد والأشياء التي تصلح له، وملحقاتها، النعت ببعض الألفاظ الجامدة، ومنها:
"العدد" و ...
460 تفصيل الكلام على النعت بالمصدر.
464 أنواع أخرى من النعت المسموع.
الأفضل في الاشتقاق، وفي عطف البيان والبدل الجمود.
465 ما يصلح نعتا ومنعوتا وما لا يصلح.
نعت اسم الإشارة وشروطه. ما يصلح نعتا في بعض الأساليب ومنعوتا في أخرى.
466 ما يصلح أن يكون منعوتا لا نعتا.
ما لا يصلح أن يكون نعتا ولا منعوتا.
ألفاظ مضافة للدلالة على الغاية "منها: كل – جد – حق – أي –"
469 ما يصلح أن يكون العتالا منعوتا، والعكس.
469 الاتباع "بفتح الهمزة، أو ... ".
472 ب- النعت بالجملة وشروطها، وحكمها.
متى يصح تسمية الجملة جملة؟
476 شبه الجملة، وشروطه، وحكمه.
478 تفصيل الكلام على حذف الرابط. ما يغني عنه.
479 واو اللصوق. حكمها،
480 حكم الجملة نفسها من حيث التعريف والتنكير. "و".
جزم المضارع في جواب النعت ...
481 المسألة 115:
تعدد النعت وقطعه
أ- تعدده والعامل واحد.
482 الأفضل في النعت أن يكون مشتقا وفي عطف البيان أن يكون جامدا "انظر ص465 ورقم1
من هامش ص483 و ... ".
486 ب- تعدد النعت والمنعوت، والعامل، وما يترتب على هذا من الإتباع والقطع.
معنى الإتباع والقطع ... و ...
طريقة الإعراب معهما
487 سبب القطع.
حالات يجب فيها حذف عامل المقطوع.
جواز القطع بين المعطوفات التي كانت في أصلها نعوتا. "انظر ص661".
متى يذكر عامل المقطوع؟
نعت الإشارة لا يفصل منه.
488 أحكام خاصة بالقطع. شروطه.
491 متى يجب حذف عامل المقطوع ومتى يجوز؟
492 حذف النعت، أو المنعوت، أو هما معا.
أ- حذف النعت؛
493 ب- حذف المنعوت
494 عودة إلى: "أي" التي تقع نعتا.
معنى الصلاح لمباشرة العمل.
496 ج- حذف النعت والمنعوت معا.(3/701)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش"
رقم الصفحة الموضوع
496 الترتيب بين النعوت المتعددة.
497 عطف النعوت المختلفة بعضها على بعض.
498 تقدم النعت على المنعوت.
500 متفرقات:
وقوع: "لا النافية" أو: "إما" قبل النعت.
نعت النعت – حكم النعت بعد المركب الإضافي.
حكم الفصل بين التاريخ والمتبوع.
501 المسألة 116:
التوكيد، نوعاه، تعريف المعنوي. بيان الغرض منه.
503 ألفاظه السبعة، وتقسيمها.
1 ما يزيل الشك عن الذات: "نفس، وعين".
506 لا يصح وجود عاطف قبل التوكيد المعنوي.
507 مما تنفرد به: "نفس وعين". جواز دخول باء الجر الزائدة.
حكم المتبوع إذا كان كنية
508 2- ما يزيل الاحتمال عن التثنية؛ "كلا وكلتا".
509 3- ما يفيد التعميم: "كل – جميع – عامة..".
511 ألفاظ العدد التي تفيد العموم تأويلا.
ألفاظ تعرب حالا، أو بدلا، ولا تعرب توكيدا
512 قد تعرب ألفاظ التوكيد المعنوي إعرابا آخر مع إفادتها التوكيد.
ترتيب ألفاظ التوكيد. وقوعها نعتا وبدلا.
ربما لا تفيد كلمة: "كل" الشمول.
513 مطابقة الضمير. وكذلك الخيبر.. و..
515 ألفاظ الشمول ومتى تشمل كل فرد.
أوجه إعرابية أخرى لكلا وكلتا.
516 في جميع أنواع التوكيد المعنوي لا يصح اتحاد توكيد المتعاطفين إلا بعد اتحاد العاملين.
يجوز الفصل بين المؤكد والمؤكد.
لا يجوز في التوكيد المعنوي القطع.
517 ألفاظ التوكيد الملحقة بالثلاثة.
الكل المجموعي والكل الجميعي.
519 ملاحظات.
521 الكلام على نحو: جاء القوم بأجمعهم ملخص أحكام التوكيد المعنوي.
522 توكيد النكرة.
حذف المؤكد "المتبوع"
توكيدا معنويا
523 توكيد الضمير المرفوع –بنوعيه- توكيدا معنويا.
525 ب- التوكيد اللفظي.
تعريفه، قد يخالف المؤكد أحيانا، وقد يفصل منه.
526 الغرض منه.
527 أحكامه:
أ- عدم التأثر والتأثير.(3/702)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعت: الزيادة والتفصيل والهامش"
رقم الصفحة الموضوع
528 ب- حكم المؤكد إذا كان اسما.
531 ج- حكم المؤكد إذا كان فعلا.
فعل الأمر لا يؤكد وحده بغير فاعله
حكم المؤكد إذا كان حرفا.
إشارة إلى أحرف الجواب، ودلالتها.
536 هـ- المؤكد جملة اسمية أو فعلية.
حرف العطف الصوري: "ثم – الفاء".
537 حذف المؤكد في التوكيد اللفظي.
538 المسألة 117:
ج- العطف بنوعيه
1- عطف البيان
539 المشتق إذا صار علما دخل في عداد الجوامد.
541 تعريفه.
542 أوجه التشابه والتخالف بينه وبين التوابع الأخرى.
542 الغالب عليه أن يكون جامدا، وعلى النعت أن يكون مشتقا.
543 حكمه
544 الفرق بينه وبين النعت.
"أي" التفسيرية ووقوع عطف البيان بعدها.
546 الارتباط بينه وبين بدل الكل.
صور يتعين فيها عطف البيان، ولا تصلح بدلا.
547 حقيقة الرأي القائل: إن البدل على نية تكرار العامل.
548 قد يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.
صورة أخرى ومناقشتها.
551 ضابط عام لمنع البدل في بعض المسائل.
555 المسألة 118:
2- عطف النسق: "الشركة"
تعريفه.
تعد المعطوفات، ومتى تكون على المعطوف عليه الأولى، ومتى تكون على غيره؟
عدم تعدد العاطف لمعطوف واحد.
556 بعض حروف العطف قد تكون للعطف الصوري "غير الحقيقي".
عودة الكلام على: "أي" التفسيرية.
557 المراد في باب العطف من المفرد، والجملة، وشبهها.(3/703)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش"
رقم الصفحة الموضوع
577 1- الواو؛ معناها ...
558 معنى الترتيب، المصاحبة، التعقيب.
معنى المفرد وغيره هنا.
أحكامها: مطابقة الضمير بعد الواو.
562 حذفها.
ما تنفرد به الواو.
563 تكرار الظرف: "بين".
المراد من المعاني النسبية.
567 حكم الضمير ونحوه بعد الواو.
568 معنى العقد والنيف. وحكمها.
570 هل تقع "الواو" بعد "بل"؟ "وانظر "جـ" ص607"؟.
وقوع همزة الاستفهام قبل ثلاثة من حروف العطف. حكمها.
573 2- الفاء: معناها.
المراد من الترتيب المعنوي، والذكرى، والإخباري، والتعقيب.
574 أحكام "الفاء" العاطفة،
576 فاء "الفصيحة".
ومنها: أن تكون للعطف الصوري، ولا الحقيقي،
576 3- ثم،
معنهاها؛
577 أحكامها.
اتصال تاء التأنيث بها.
579 قد تكون حرفا عاطفا صوريا، لا حقيقيا.
قد تكون للاستئناف.
579 وقوعها بعد همزة الاستفهام مباشرة.
580 4- حتى: معناها.
"حتى" حرف ابتداء.
معنى الغاية هنا، والكل، والجزء، الجزء، والبعض. وشبهها ...
582 أحكامها.
"حتى" العاطفة "كالواو" لمطلق الجمع.
متى تتعين للعطف؟
585 5- "أم" بنوعيها:
أ- المتصلة:
1- المسبوقة بهمزة التسوية.
معنى التسوية. سواء.
586 سبك المصدر المؤول بدون حرف سابك.
انسلاخ "أم" على التسوية.
الصلة بين "أو" و"أم".
587 رأي سيبويه.
التعيين بالهمزة وأم
587 الاستعمال الصحيح فيما سبق.
590 وقوع "أم" بعد "هل" الاستفهامية.
591 وجوب تأخيرأحد الأمرين إذا كان منفيا.
متى تتعين الإجابة بالحرف: "نعم" وأخواته؟.
592 صور من "أم" عند طلب التعيين.(3/704)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش"
رقم الصفحة الموضوع
593 سبب التسمية بالمتصلة.
594 الفرق بين قسمي أم المتصلة.
596 الاستغناء عن الهمزة بنوعيها.
حذف "أم".
597 ب- "أم" المنقطعة "المنفصلة"
معناها، علامتها.
معنى: "الإضراب" بنوعيه"
نوع من الفرق بين: "أم" و"بل".
صور أخرى من: "أم" المنقطعة.
600 إعراب المنقطعة.
601 صورة تصلح للاتصال والانقطاع – تجردها للإضراب.
إفادتها الإضراب ومعه معنى آخر.
602 تجردها للاستفهام المحض.
جواب "أم" المكررة. "أم" الزائدة.
حكم الضمير العائد على المتعاطفين بعد: "أم".
603 6- "أو": "عملها، ومعناها".
605 الفرق بين الإبهام والشك،
حكم الضمير – ونحوه- بعد "أو"،
606 معنى التقسيم، والتفصيل، والتفريق.
إحلال "الواو" محل: "أو".
609 وقوع: أو بعد "هل" سماعا.
الفرق بين "أو" التي للإباحة، وواو العطف التي للجمع.
611 صور تتعين فيها "أو" للشمول الكامل.
حذف "أو".
عطفها الشيء على مرادفه.
612 7- إما: معانيها،
613 العاطف لا يدخل على العاطف
614 تكرار "إما" حذفها.
الفرق بينها وبين "إما" الشرطية المركبة ... ، إشارة إلى أنواع أخرى.
حذف الواو قبلها- "أييما".
615 الفرق بين: "إما" و"أو".
حكم الضمير بعدها ...
616 8- لكن: معنها شروط عملها.
معنى: الاستدراك
618 9- لا:
معناها، شروط عملها.
620 النفي التأسيسي، والتأكيدي.
622 وقوع "لا" بعد الدعاء والتحضيض، والاستفهام.
حذف المعطوف عليه – تكرار "لا"
623 1-0 بل:
معناه وحكمه.
الاضراب الإبطالي والانتقالي.
627 حكم "بل" بعد الاستفهام ... – وقوع "لا" النافية قبل "بل" وقوع الواو بعد "بل". وقوع هذه
الواو ...
حكم الضمير العائد على المتعاطفين بعد "بل".
628 ملخص حروف العطف، وبيان ما يقتضي التشريك، وما لا يقتضيه.
المراد من التشريك المعنوي(3/705)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل والهامش".
رقم الصفحة الموضوع
630 المسألة 119:
الفصل بين المتعاطفين
حالتان يكون فيهما الفصل واجبا. حالتا يستحسن فيهما.
633 إعراب الجار مع مجروره بعد العاطف.
635 المسألة 120:
صورة من الحذف في أسلوب العطف.
حذف العاطف والمعطوف معا.
636 معنى: "فاء الفصيحة".
حذف المعطوف.
638 حذف المعطوف عليه.
640 حذف حرف العطف وحده.
تقديم المعطوف على المعطوف عليه.
641 المسألة 121:
عطف الفعل على الفعل، أو على ما يشبهه، والعكس.
عطف الجملة على الجملة.
أ- عطف الفعل وحده على الفعل كذلك.
642 فعل الأمر لا ينفصل عن فاعله.
643 أداة الشرط الجازمة تخلص فعلها وجوابها للمستقبل –كما سبق في ص93-
644 الفرق بين عطف الفعل على الفعل وعطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية.
645 ب- عطف الفعل وحده على ما يشبهه، والعكس.
652 ج- عطف الجملة على الجملة
655 المسألة 122:
بعض أحكام –في العطف- عامة، متفرقة.
1- صلاحية المعطوف لمباشرة العامل.
656 2- لا يشترط صحة تقدير العامل ...
3- مطابقة الضمير العائد على المتعاطفين.
657 4- الفصل بين العاطف ومعطوفه.
5- تقدم المعطوف.
658 6- عطف الجملة على المفرد والعكس. عطف المفرد على شبه الجملة، والعكس.
659 7- العطف على التوهم.
8- المغايرة بين المتعاطفين(3/706)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل بالهامش"
رقم الصفحة الموضوع
660 9- حكم المعطوف إذا كان المعطوف عليه كنية.
10- حكم القطع في المعطوف.
661 11- هل يجوز عطف الزمان على المكان، وعكسه؟
663 المسألة 123:
البدل
تعريفه.
الغالب في البدل أن يكون جامدا.
665 الغرض منه.
المراد من أن المبدل منه في حكم المطروح.
أقسامه:
أولها: بدل كل من كل..
666 "الإشارة إلى الارتباط بينه وبين عطف البيان"
667 ثانيها: بدل بعض من كل.
668 قد تنوب "أل" عن الرابط
668 ثالثها: بدل الاشتمال.
670 رابعها: البدل المباين.
670 أ- بدل الغلط.
ب- بدل النسيان.
ح- بدل الإضراب.
674 بدل الكل من البعض، وأحكام أخرى البدل من حيث المطابقة وعدمها ... ،
676 اتحاد البدل والمبدل منه في اللفظ، وارتباط ما بعده ...
حذف المبدل منه. الإتباع والقطع في البدل.
677 يشترط في بدل البعض وبدل الاشتمال صحة الاستغناء عن المبدل منه.
678 البدل على نية تكرار العامل – في الأغلب-
681 المسألة 124:
إبدال الظاهر من الظاهر ومن الضمير، والعكس في كل حالة.
683 المسألة 125:
البدل من المضمن الاستفهام أو الشرط
بدل التفصيل.
684 "إن" الشرطية التي لمجرد التفصيل.
685 المسألة 126:
بدل الفعل من الفعل والجملة من الجملة.
أ- بدل الفعل من الفعل.
686 بدل الجملة
687 إبدال الجملة من المفرد، والعكس.
688 إبدال الفعل من اسم يشبهه، والعكس.
الفصل بين التوابع ومتبوعاتها. "ومنها البدل والمبد منه".(3/707)
المجلد الرابع
المسألة 127: النداء وما يتصل بأحكامه
مدخل
...
المسألة 127: النداء 1 وكل ما يتصل بأحكامه
هو: توجيه الدعوة إلى المخاطب، وتنبيه للإصغاء، وسماع ما يريده المتكلم2.
وأشهر حروفه ثمانية: الهمزة المفتوحة، مقصورة أو ممدودة - يا - أيا - هيا - أي، مفتوحة الهمزة المقصورة أو الممدودة، مع سكون الياء في الحالتين - وا - ... 3.
ولكل حرف منها موضع يستعمل فيها:
أ- فالهمزة المفتوحة المقصورة لاستدعاء المخاطب القريب4 في المكان الحسي أو المعنوي؛ كالتي في قول الشاعر ينصح ابنه أسيدا:
أأسيد إنْ مالا ملكـ ... ـت فسر به سيرا جميلا
وكالتي في قول الآخر: أرب الكون: ما أعظم قدرتك، وأجل شأنك.
ب- ستة أخرى؛ "هي: آ - يا4 - أيا - هيا - أي، بسكون الياء مع
__________
1 في هذه الكلمة لغات؛ أشهرها: المد مع كسر النون. وهي مصدر قياسي للفعل: "نادى" ويجوز فيها القصر أيضا. وقد ورد السماع بضم النون مع المد أو القصر، والهمزة التي في آخر كلمة: "نداء" أصلها الواو؛ فهي منقلبة عن أصل.
2 ويقولون في تعريفه أيضا: "طلب الإقبال بالحرف: "يا" أو أحد إخوته، والإقبال قد يكون حقيقيا، وقد يكون مجازيا يراد به الاستجابة، كما في نحو: "يا ألله". وقد يكون الغرض من النداء تقوية المعنى وتوكيده، كقولك لمن هو مصغ إليك، مقبل على حديثك: إن الأمر هو ما فعلته لك يا علي -مثلا- "كما سيجيء في ص122".
والأصل في المنادى أن يكون اسما لعاقل، ولكن من الأسماء ما لا يكون إلا منادى، ومنها لا يصلح منادى -كما سيجيء في ص68.
3 فالهمزة مقصورة وممدودة؛ وكذا "أي" مقصورة الهمزة وممدودتها. وبقية الأحرف ممدودة؛ لأنها مختومة بالألف. والبعيد يحتاج إلى مد الصوت ليسمع، ولهذا يرى بعض النحاة أن "أي" المقصورة هي لنداء القريب.
4، 4 قد يقال: كيف تكون "ياء" في أصل وضعها اللغوي الحقيقي -لا المجازي- لنداء البعيد مع أنها قد استعملت لنداء "الله" في أفصح الكلام، والله أقرب شيء للمتكلم -وغيره- في كل حين؟ أجابوا: إن المتكلم الذي ينادي ربه يستصغر نفسه أمام المولى ويرى البعد الواسع بين المنزلتين؛ منزلة الخالق ومنزلة المخلوق، والتفاوت العظيم بين الدرجتين، فلهذا يستخدم الحرف "يا" وأجاب آخرون: إنها تستعمل في القريب والبعيد، ودعوى المجاز في أحدهما والتأويل خلاف الأصل.(4/1)
فتح الهمزة مقصورة وممدودة" لاستدعاء المخاطب البعيد1 حسا أو معنى، والذي في حكم البعيد؛ كالنائم، والغافل.
فمثال "يا"1 قول الشاعر في مدح الرسول:
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
ومثال "أيا" قول بعضهم: "أيا متوانيا وأنت سليل العرب الأبطال، لا تنس مجدهم على الأيام". ومن الممكن وضع حرف آخر من الأحرف الباقية موضع "أيا" في هذا المثال.
أما تحديد القرب والبعد فمتروك للعرف الشائع: سواء أكانا حسيين أو معنويين.
ج- "وا" ويستعمل لنداء المندوب2؛ كقول الشاعر في الرثاء:
وامحسنا ملك النفوس ببره ... وجرى إلى الخيرات سباق الخطا
وقول الآخر:
واحر قلباه ممن قلبه شبم3
د- وقد تسعمل: "يا" للندبة4 بشرط وضوح هذا المعنى في السياق. وعدم وقوع لبس فيه؛ كالآية الكريمة التي تحكي قول العاصي يوم القيامة: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . وقول الشاعر في رثاء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز:
حملت أمرا عظيما، فاصطبرت له ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
فإنشاء الشعر بعد موت "عمر" العادل دليل على أن "يا" للندبة.
فإن التبس الأمر بين أن تكون "يا" للندبة أو لا تكون، وجب ترك "يا"، والاقتصار على: "وا"؛ كأن تقول: في ندبة "عمر": وا عمر، ولا يصح مجيء "يا" إذا كان أحد الحاضرين يسمى: عمر5.
__________
1، 1 انظر "ب" من ص5.
2 هو: المتفجع عليه، أو المتوجع منه. فالأول هو الذي يصاب الناس بفجيعة موته. "حقيقة أو حكما" والثاني: هو بلاء أو داء يكون سببا في تألم المتكلم وتوجعه، انظر ص89 حيث الباب الخاص بالندبة.
3 بارد.
4 نداء المندوب -كما سيجيء في باب: "الندبة"، ص89.
5 فيما سبق من حصر أحرف النداء ومواضع استعمالها يقول ابن مالك في باب عنوان: النداء:=(4/2)
حذف حرف النداء:
أ- يصح حذف حرف النداء "يا" -دون غيره- حذفا لفظيا فقط، مع ملاحظة تقديره. كقول الشاعر في رثاء زعيم وطني شاب1:
زين الشباب وزين طلاب العلا ... هل أنت بالمهج الحزينة داري؟
وقول الآخر:
إنما الأرض والسماء كتاب ... فاقرءوه معاشر الأذكياء
التقدير: يا زين الشباب -يا معاشر الأذكياء.
ب- وهناك مواضع لا يصح فيها حذف الحرف "يا"، أشهرها:
1- المنادي المندوب2؛ كالأمثلة السالفة.
2- نداء لفظ الجلالة غير المختوم بالميم المشددة، نحو: يا الله.
3- المنادى البعيد؛ كقول الشاعر:
يا صادحا يشدو على فنن ... رحماك قد هيجت لي شجني
4- المنادى النكرة غير المقصودة3. نحو: يا محسنا لا تكدر إحسانك بالمن.
5- المنادي المستغاث4. كقول الشاعر:
يا لقومي لعزة وفخاء ... وسباق إلى المعاني وسبق
6- المنادى المتعجب منه؛ نحو: يا لفضل الوالدين؛ للتعجب من كثرة فضلها.
__________
وللمنادى الناء، أو كالناء: "يا" ... و: أي - و: آ - كذا: أيا - ثم: هيا
والهمز للداني، و: "وا" لمن ندب ... أو: "يا" وغير "وا" لدى اللبس اجتنب
"التاء= النائي، أي: البعيد. الداني= القريب" سرد أحرف النداء، وبين أن "يا" والأربعة التي بعدها تستعمل للبعيد وما يشبه، وأن الهمزة لنداء القريب، وأن "وا" للمندوب، وكذا: "يا" بشرط أسن اللبس. أما عند اللبس فيجتنب استعمال "يا" في الندبة. وهذا هو المراد من قوله:
وغير "وا" لدى اللبس اجتنب"
أي: اجتنب عند اللبس استعمال حرف في الندبة غير "وا".
1 البيت من قصيدة لحافظ إبراهيم في رثاء مصطفى كامل. الزعيم المصري الوطني المتوفى سنة 1908.
2 كما سيجيء في ص91.
3 سيجيء شرحها في ص31 ومنه يعلم أن المنادى بها لا بد أن يكون غير معين ولا مقصود.
4 من ينادي ليخلص من شدة، أو يساعد في دفعها "وسيجيء للاستغاثة باب خاص، في ص77".(4/3)
7- المنادى ضمير المخاطب، عند من يجيز نداءه؛ كقول الشاعر:
يا أنت يا خير الدعاة للهدى ... لبيك داعيا لنا وهاديا
أما ضمير غير المخاطب فلا ينادي مطلقا1.
ج- ويقل الحذف -مع جوازه- إن كان المنادى اسم إشارة غير متصل بكاف الخطاب2، أو كان اسم جنس لمعين3، فمثال الأول قول أعرابي لابنه: "هذا، استمع لقول الناصح ولو أغضبك قوله؛ فمن أحبك نهاك؛ ومن أبغضك أغواك". وقول آخر لأولاده: "هؤلاء، اعلموا أن أقوى الناس من قاوم هواه، وأشجعهم من حارب الباطل ... " أي: يا هذا - يا هؤلاء. . .
ومثال الثاني قول بعض الأدباء وقد برح به السهر: "ليل، أمالك آخر يدنو؟ وهل للحزن آخر؟ صبح، أما لك مقدم يرجى؟ وهل في الفجر مطمع؟ " يا ليل، يا صبح، لليل وصبح معينين.
ومن هذا قول العرب: أطرق كرا4؛ إن النعام في القرى. أي: يا كروان.
__________
1 من الأسماء ما لا يكون منادى، ومنها ما لا يكون إلا منادى. والبيان في ص68.
2 يصح نداء اسم الإشارة، بشرط ألا يتصل بآخره كاف الخطاب "طبقات لما نقله الصبان في هذا الموضع عن الشاطبي" إلا في الندبة فيصح. "على حسب البيان الآتي في رقم2 من هامش ص91" وهذا الشرط لازم أيضا عند حذف: "يا". لأن مدلول كاف الخطاب يخالف مدلول المنادى اسم الإشارة؛ إذ المنادى اسم الإشارة هو المقصود بتوجيه النداء؛ لما هو مقرر أن المخاطب بالكاف غير المشار إليه في الراي الراجح -راجع الصبان جزء 3 آخر باب النداء- وخير من هذا أن يقال في التعليل: هو استعمال العرب، فحسب.
3 المراد باسم الجنس المعين النكرة المقصودة المبنية على الضم عند ندائها؛ فيخرج اسم الجنس غير المعين، والمراد منه هنا: النكرة غير المقصودة. وسيجيء تفصيل الكلام على هاتين النكرتين، وحكمها في ص25 وص31.
4 هذا مثل يضرب للمتكبر، وقد تواضع من هو خير منه. وقد حذفت النون والألف من كلمة: "كروان" لترخيم النداء، وقلبت الواو ألفا، كما سيجيء بيانه في باب الترخيم - ص105 و114.
وفي حذف حرف النداء لفظا لا تقديرا ومواضع الحذف، يقول ابن مالك -مع اقتصاره على بعض مواضع الحذف:
وغير مندوب، ومضمر، وما ... جا مستغاثا قد يعرى فاعلما
"جا= جاء. يعرى= يجرد من حرف انداء، فاعلما= فاعلم. والألف إما زائدة للشعر، وإما=(4/4)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يمتاز الحرف: "يا" بأنه أكثر أحرف النداء استعمالا: وأعمها؛ لدخوله على أقسام المنادى الخمسة1؛ وهذا يتعين تقديره -دون غيره- عند الحرف كما يتعين في نداء لفظ الجلالة "الله"2 وفي المستغاث، وفي نداء "أيها، وأيتها": إذ لم يشتهر عن العرب أنهم استعملوا في نداء هذه الأشياء حرفا آخر.
ب- يجوز مناداة القريب بما للبعيد، والعكس، وذلك لعلة بلاغية، كتنزيل أحدهما منزلة الآخر، وكالتأكيد3. . .
ج- الأصل في النداء أن يكون حقيقيا، أي: يكون فيه المنادى اسمها لعاقل؛ كي يكون في استدعائه وإسماعه فائدة.
وقد ينادى اسم غير عاقل، لداع بلاغي؛ فيكون النداء مجازيا؛ كقوله تعالى4: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} 5.
__________
= أصلها نون التوكيد الخفيفة قلبت ألفا عند الوقف".
يقول: قد يتجرد المنادى من حرف النداء إذا كان المنادى غير مندوب، وغير مضمر، وغير مستغاث وهذا التجرد -أي: الحذف اللفظي- ليس قليلا في الكلام الفصيح. ثم بين أن هناك مواضع غيرها يكون الحذف فيها قليلا، وهو ما قلته جائز، ولا داعي لمنعه؛ وطالب بتأييد مجوزيه، ونصر من يلومهم على المنع، وعلى إباحة القياس عليه. قال: =
وذاك في اسم الجنس والمشار له ... قل ومن يمنعه فانصر عاذله
"المشار له: أي: اسم إشارة، وكان الأولى أن يقول: المشار به، عاذله= لائمه" يريد: أن حذف حرف النداء قليل في اسم الجنس، واسم الإشارة وقد ترك شرط خلوه من ضمير المخاب -لضيق الشعر- وطالب بتأييد من يلوم المانع؛ إذ لا حجة له في المنع؛ لورود أمثلة تكفي لإباحة القياس عليه.
1 ستأتي في ص9.
2 في نداء لفظ الجلالة "الله" جملة لغات، ستجيء في ص36 ورقم 2 من هامشها "وانظر ما يتصل بهذا في رقم 4 من هامش ص1".
3 انظر ما يوضحه في رقم 2 من هامش ص1 وفي ص122 -الوجه الثالث.
4 في قصة طوفان نوح -عليه السلام- الواردة بسورة: هود.
5 امتنعي وكفي عن إنزال المطر.(4/5)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقول الشاعر:
يا ليل طل يا نوم زل ... يا صبح قف لا تطلع
وقد يقتضي السبب البلاغي حرف النداء على غير الاسم، كأن يدخل على حرف. أو جملة فعلية، أو اسمية. فمثال دخوله على الحرف قوله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} . وقول الشاعر:
فيا ربما1 بات الفتى وهو آمن ... وأصبح قعد سدت عليه المطالع
ومثال دخوله على الجملة الفعلية:
قل لمن حصل مالا واقتنى ... أقرض الله. فيا نعم المدين
وقول الشاعر:
يا حبذا النيل على ضوء القمر ... وحبذا المساء فيه والسحر
وقول الآخر يخاطب ليلى:
فيا حبذا2 الأحياء ما دمت حية ... ويا حبذا الأموات ما ضمك القبر
ومثال دخوله على الجملة الاسمية قول شاعرهم3:
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار
وفي هذه الحالات يكون حرف النداء إما داخلا على منادى محذوف. مناسب للمعنى؛ فيقال في الآية: يا رب. أو يا أصحاب. . . أو نحوهما. وهذا عند من يجيز حذف المنادي، وإما اعتباره حرف تنبيه عند من لا يجيز حذف المنادي. والرأيان مقبولان؛ ولكن الثاني أولى؛ لصلاحه لكل الحالات. ولو لم تستوف الشرط الآتي الذي يتمسك به كثير من النحاة، وهو: عدم حذف المنادى قبل
__________
1 وكقولهم: يا رب متعة ساعة، أورثت حزن أيام.
2 حبذا: جملة فعلية للمدح العام. وتفصيل الكلام عليها في الباب المناسب؛ وهو باب: ألفاظ المدح والذم - ج3 م110.
3 كما جاء في "المغني" ج2 عند كلامه على الحرف: "يا" وهو داخل هنا على جملة اسمية دعائية، وكما جاء في الهمع أيضا.(4/6)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفعل الذي دخل عليه حرف النداء إلا إذا كان الفعل للأمر، أو للدعاء، أو صيغة "حبذا". فمثاله قبل الأمر قراءة من قرأ قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وقبل الدعاء قول الشاعر1:
ألا يا. . . اسلمي يا هند، هند بني بدحر ... إذا كان حي قاعدا آخر الدهر
فإن لم يتحقق الشرط عند المتمسكين به فلا منادى محذوف، ولا نداء، ويكون الحرف المذكور هو للتنبيه.
د- يعتبر النحاة حرف النداء مع المنادى جملة فعلية إنشائية للطلب؛ برغم أنها قبل النداء خبرية، فهي تتحول معه إلى إنشاء طلبي جملته فعلية. فالأصل في مثل: يا صالح، هو: أنادي أو أدعو صالحا. . . حذف الفعل مع فاعله الضمير المستتر، وناب عنهما حرف النداء2، وبقي المفعول به، وصار منادى واجب الذكر -غالبا- وقيل: إن المحذوف هو الفعل وحده، وناب عنه حرف النداء، واستتر الفاعل في حرف النداء. وقيل غير هذا. . .
ولا قيمة للخلاف في أصل الجملة الندائية؛ فالذي يعنينا هو أنها صارت فعلية تفيد الإنشاء الطلبي، وأنها تركت حالتها الأولى الخبرية3.
__________
1 ومثله البيت السالف: "يا - لعنة الله. . . ".
2 ولهذا يعتبر حرف النداء من حروف المعاني التي ينوب كل منها عن جملة محذوفة، يذكر بدلا منها. . .؛ فحرف النداء ينوب عن جملة: "أنادي × أو: أدعو ×" وحرف الاستفهام ينوب عن جملة: "أستفهم ×" وحرف العطف ينوب عن جملة: "أعطف ×. . . " وهكذا.
ثم انظر رقم 4 من هامش ص9 وقد سبق إيضاح لحروف المعاني. في صدر الجزء الأول "م5" وفي بابي: "الظرف وحروف الجر" من الجزء الثاني.
هذا، ولا يصح في الجملة الندائية أن تقع خبرا، فقد قال السيوطي في الهمع ج1 ص96 في أقسام الخبر ما نصه: "لا يسوغ الإخبار بجملة ندائية، نحو: زيد يا أخاه، ولا مصدر بلكن، أو: بل، أو: حتى. بالإجماع في كل ذلك". ا. هـ.
3 ولهذا قيل إن السبب في حذف الفعل مع فاعله على الوجه السالف هو قصد الإنشاء؛ إذ ظهور الفعل قد يوهم الإخبار، وأيضا كثرة الاستعمال، والتعويض عن الفعل بحرف النداء، وظهور المعنى المراد بعد حذفهما، راجع الهمع ج1 ص171 في المفعول به وناصبه.(4/7)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هـ- ولما كان حرف النداء نائبا عن الأصلي المحذوف صح أن يكون لهذا الحرف بعض المعمولات الخاصة التي يؤثر فيها؛ نيابة عن ذلك العامل المحذوف. وأشهرها شبه الجملة1، كقول الشاعر:
يا دار بين النقا والحزن، ما صنعت ... يد النوى بالألى كانوا أهاليك؟
وقول الآخر:
يا للرجال لقوم عز جانبهم ... واستلهموا المجلد من أصل وأعراق
فليس في المثالين -وأشباههما- ما يصلح لتعلق شبه الجملة إلا: "يا" وجعلوا من المعمولات المصدر2 في مثل قول القائل:
"يا هند. دعوة صب دائم دنف"3
فالمصدر "دعوة" متعلق بالحرف: "يا"، النائب: عن "أدعو"، والتقدير: أدعو هندا دعوة صب.
__________
1 لهذا إشارة في باب: الظرف، ج2 م78.
2 سبقت الإشارة لهذا في ج2 باب المفعول المطلق م74.
3 تكملة البيت:
"مني بوصل، وإلا مات أو كرب"
"الدنف: شديد المرض - كرب: اقترب من الموت".(4/8)
المسألة 128: أقسام المنادى الخمسة 1 وحكم كل
القسم الأول: المفرد العلم، ويراد بالمفرد هنا: ما ليس مضافا، ولا شبيها، بالمضاف؛ فيشمل المفرد الحقيقي2؛ بنوعيه المذكر والمؤنث، ويشمل مثناة، وجمعه، "نحو: فضل، علم رجل - الفضلان - الفضلون - الفضول - عائدة، علم امرأة - العائدتان - العائدات - العوائد. . ."، ويشمل كذلك الأعلام المركبة قبل النداء؛ سواء أكان تركيبها مزجيا؛ كسيبويه "علم إمام النحاة المشهور" - أم إسناديا، كنصر الله، أو: شاء الله. علمين، أم عدديا كخمسة عشر3. . .
فكل هذه الأعلام -وأشباهها- تسمى مفردة في هذا الباب، وتعريفها بالعلمية قبل النداء يلازمها بعده -على الأصح- فلا يزيله النداء ليفيدها تعريفا جديدا أو تعيينا. وإنما يقوي التعريف السابق، ويزيد العلمية وضوحا وبيانا. ويلاحظ حذف "أل" وجوبا من صدر المنادى؛ -علما وغيره- إن لم يكن المنادى من المواضع المستثناة التي يصح تصديرها "بأل"4.
حكمه:
أ- الأكثر بناؤه على الضمة -بغير تنوين- أو على ما ينوب عنها. ويكون في محل نصب دائما؛ لأن المنادى في أصله مفعول به5؛ نحو: يا فضل، كل شيء
__________
1 هي المفرد العلم - النكرة المقصودة - النكرة غير المقصودة - المضاف - الشبيه بالمضاف.
2 وهو الذي يدل على واحد. ويلحق به في حكمه هنا مثناه وجمعه، لكن أيعتبر هذان بعد النداء أعلاما أم نكرات مقصودة؟ الجواب في رقم 3 من ص16.
3 عند غير الكوفيين الذين يجعلون صدر المركب العددي بمنزلة المضاف، منصوبا، "كما سيجيء في رقم، من ص16 وفي هامش ص17 ورقم 1 من هامش ص32". ورأيهم ضعيف. وأثر الخلاف يظهر في توابع المنادى.
4 ستجيء في ص36.
5 المنادى بمنزلة المفعول به لفعل محذوف مع فاعله -في أحد الآراء- نائب عنهما "يا" أو إحدى أخواتها. يقول النحاة في مثل: يا علي. . . إن أصله كما تقدم، في "د" من ص7: أدعو، أو: أنادي عليا. . . حذف الفعل، مع فاعله ونابت عنهما "يا" وصار المفعول به منادى، مبنيا على الضم في محل نصب. ويستدلون على أنه في محل نصب بورود كثير من توابعه منصوبا في الكلام الصحيح المأثور. وليس في الجملة ما يصلح سببا لنصبه إلا مراعاة المحل.(4/9)
يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجربة - يا فضلان1. . . يا فضلان. . .1 يا فضول - يا أفاضل2. . . - يا عائدة. . . - يا عائدتان. . . - يا عائدات. . . - يا عوائذ. . .
فالمفراد العلم في هذه الأمثلة -وما شابهها- مبني على الضمة في المفرد الحقيقي، وفي جمع التكسير، وجمع المؤنث السالم، ومبني على الألف في المثنى، وعلى الواو في جمع المذكر السالم. وهو في أكثر أحواله مبني3 لفظا على الضمة وفروعها، منصوب محلا4.
ولا فرق بين أن تكون الضمة ظاهرة؛ كالتي في بعض الأعلام السالفة، أو مقدرة كالتي في آخر الأعلام المختومة بحرف علة؛ كموسى في وقوله تعالى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} . . . وكالتي في آخر الأعلام المركبة التي ذكرناها، ومنها: سيبويه. . .، منذ5 -كيف- قطام. . . وغيرها من كل لفظ سمي به، وصار علما، وكان مبنيا أصالة قبل أن يصير علما منادى فتبقى علامة البناء الأصلي السابق على حالها، وتقدر على الآخر علامة البناء الجديدة التي جلبها النداء، ويكون المنادى في كل ذلك، في محل نصب5. . .
ويلحق بالمفرد العلم المبني أصالة قبل النداء في حكم البناء على الضمة المقدرة، كل ما ينادى من المعارف الأخرى المبنية أصالة قبل النداء؛ وليست
__________
1، 1 راجع رقم 3 ص16 في الزيادة والتفصيل ما يختص بنداء العلم المثنى والجمع؛ لأهميته.
2 جمع: أفضل.
3 إلا صورة يجوز في بنائها أمران، تجيء في ص18 وإلا ثلاث صور معربة "في ص13 و20 و34".
4 راجع "د" من ص7، ورقم 4 من هامش الصفحة السابقة. ولا فرق في هذا الحكم بين العلم الموصوف وغير الموصوف، انظر "الملاحظة" التي في ص22.
5، 5 ويقال في كلمة مثل: "منذ" -علم- عند نادئها، إنها منادى، مبني على ضم مقدر على آخره منع من ظهوره علامة البناء الأصلي، في محل نصب، وعلامة البناء الأصلي في هذه الكلمة هي: الضمة. وهذه تختلف عن ضمة البناء التي يجلبها النداء.
"ثم انظر "ج" ص23، وص12".(4/10)
أعلاما؛ كأسماء الإشارة "نحو: هذا - هؤلاء. . ." وأسماء الموصولات غير المبدوءة بأل1 "نحو: من - ما. . ." وضمير المخاطب "نحو: أنت - إياك. . ." أما غير المخاطب فلا ينادى، كما عرفنا2.
__________
1 أما اسم الموصول المبدوء "بأل فله حكم خاص يجيء في "الحالة الرابعة" من ص38.
2 في ص7 هذا، وإلحاق الأشياء المذكورة بالمفرد العلم، هو رأي كثير من النحاة شاع أتباعه والاقتصار عليه؛ ويعارضه رأي آخر أنسب. "كما سيذكر في "الملاحظة التالية" ص12" وقد يكون من السائغ أن نذكر -بإيجاز- للمتخصصين ما في المطولات النحوية من خلاف جدلي شكلي حول حكم المعارف المبنية قبل النداء وليست أعلاما. يدور الخلاف حول نوع تعريفها بعد النداء؛ أهو الذي كان لها قبله، أم هو تعريف جديد بدل السابق، حل محله؟ فشارح المفصل "ج1 ص129" يعرض الرأيين، ويرجح -في وضوح وصراحة- الرأي القائل إن المعارف كلها -أعلاما وغير أعلام- تفقد تعريفها السابق، وتصير نكرات، ويجلب لها النداء بما فيه من القصد والإقبال على المخاطب تعريفا جديدا يزيل تنكيرها الجديد. ويؤيد هذا بكلام طويل. أما غيره -كأبي بكر بن السراج، ومن معه من القدامى، وكالصبان من المتأخرين- فيؤيد الرأي الآخر؛ بحجة أن أكثر المعارف لا يمكن أن يزول عنه تعريفه القديم مطلقا، ولا يمكن أن يتجرد منه، ويصير نكرة تقبل التعريف المجلوب بالقصد والمخاطبة مع النداء، "كلفظ الجلالة "الله" وكأسماء إشارة ... " وقد وردت إشارة موجزة لهذه المسألة على هامش كتاب سيبويه "ج1 ص303" اكتفى فيها المقرر بأن أحال إيضاحها وتفصيلها وتفريعها إلى ما جاء في شرح السيرافي لها. كذلك أشار صاحب شرح التصري "في أول الفصل الثاني من أقسام المنادى" إلى المنادى المعرف؛ ما كان منه مذكرا أو مؤنثا، علما وغير علم، معرفا قبل النداء أو بعده، إلى غير هذا مما اشتملت عليه المطولات من تفريعات، وتشعيبات لا خير في سردها الآن، ومن الممكن أن نستخلص منها نتيجتين.
الأولى: أن العلم إذا نودي؛ وجب بناؤه على الضمة؛ وأنه -بعد النداء- معرفة لا شك في تعرفه، علم لا خلاف في علميته. ولا يعنينا بعد هذا أن يكون تعرفه وعلميته هما السابقان على النداء، أو مجلوبان بعد النداء، مجلوبان بسببه؛ لأنه في الحالتين علم، بالرغم من وجود أعلام لا يفارقها التعريف مطلقا؛ كلفظ الجلالة "الله".
وما سبق خاص بالعلم المفرد الذي ليس مثنى ولا مجموعا، فإن كان مثنى أو مجموعا فله حكم آخر يجيء في رقم 3 من ص16.
الثانية: أن المعارف الأخرى التي ليست أعلاما، والتي يغلب أن تكون قبل النداء مبنية أصالة "كالضمير، والإشارة ... " لا شك في تعرفها ولا يعنينا أيضا أن يكون هذا التعريف هو السابق على النداء، وأنه استمر بعده؛ "إذ لا يمكن تنكيرها -على الأصح" أو هو تعريف جديد حل محل الأول الذي زال بالنداء وصارت المعرفة نكرة بعد زواله، ثم زال تنكيرها بتعريف القصد والخطاب مع النداء ... لا يعنينا ذلك؛ لأن هذه المعارف التي ليست أعلاما والتي هي مبنية أصالة قبل=(4/11)
ملاحظة:
ما تقدم من حكم الضمة المقدرة في آخر الأعلام المبنية أصالة قبل النداء، وفي آخر ما ألحق بها ... هو الرأي الشائع عند أكثر النحاة -كما أشرنا-1 وفيه مع صحته وشيوعه نوع من التضييق والتعقيد؛ لأن بعض المحققين يتوسع فيقول: "إذا نقلت الكلمة المبنية وجعلتها علما لغير ذلك اللفظ، فالواجب الإعراب"2. يريد: فالواجب اعتبارها معربة بعد النقل، وقبل مناداتها، وتناسى البناء السابق، ويراعى عند ندائها هذا الاعتبار الجديد، الذي يجعلها في حكم الأسماء المعربة، الأصلية الأعراب مجيء النداء.
وبناء على هذا الرأي الشامل للضمير والإشارة، وغيرهما صرح بعض النحاة بأنك "تقول في: كيف، وهؤلاء، وكم، ومنذ ... أعلاما" - "يا كيف يا هؤلاء - يا كم- يا منذ ... بضمة ظاهرة؛ فهي متجددة للنداء. ا. هـ".
__________
= النداء - ستبنى بعده على الضمة المقدرة أو فروعها. وتعتبر ملحقة بقسم المفرد العلم السالف؛ ولا تلحق بقسم النكرة المقصودة -كما يرى بعض النحاة- لأنها معارف قبل النداء، وليست نكرة تامة التنكير تصير بالنداء والخطاب نكرة مقصودة. ولو فرضنا أن تعريفها السابق يزوال بالنداء، ويحل محله تعريف جديد -وهذا رأي ضعيف مردود- لوجب أن يكون التعريف المتجدد مماثلا لتعريفها السابق نوعا ودرجة، كما عاد للعلم نوع تعريفه الساق ودرجته وهو العلمية، "على رأي من يقول: إنه يفقد علميته بالنداء، ثم تعود له بعده" فليس بمقبول أن يقال إنها معارف في أصلها، زال تعريفها السابق، فصارت نكرة، ثم نوديت فاكتسبت التعريف الجديد المخالف للسابق، وصارت به نكرة مقصودة، "مع أن أكثر تلك المعارف لا يفقد تعريفه مطلقا في الرأي الأقوى -كما سبق". وإنما ألحقت بالعلم لقرب درجة تعريفها منه، ولم تدخل في عداده لأنها ليست علما ... وهذا الخلاف شكلي؛ بالرغم مما يرقبون عليه من وضع المعارف في درجات متفاوته القوة في التعريف تفاوتا يؤدي إلى تقديم بعضها في ترتيب الكلام على بعض، لكن لا أثر له في ضبط الكلمة، ولا معناها، ولا إعرابها؛ فهي على الرأيين معرفة بعد النداء، ومبنية على الضمة، سواء أكانت من قسم المفرد المقصودة ... "وقد سبق تفصيل الكلام على العلم في ج1 ص200 م22".
1 في رقم 2 من هامش ص11.
2 هذا كلام "الرضي" في باب: "العلم" نقله "خالد" وعلق عليه في شرحه: على "التصريح" "ج2 أول الفصل الثاني، في أقسام المنادى". وقال الرضي أيضا ما نصه: "كل مفرد مبني تسمى به شخصا فالواجب فيه الإعراب مع الصرف -أي مع التنوين-....". ا. هـ. راجع حاشية "خالد" على التصريح، آخر باب: "ما لا ينصرف".(4/12)
وفي هذا الرأي توسعة، وتيسير محمودان؛ لأنه يجعل حكم المنادى1 المفرد العلم مطردا؛ يعم ويشمل صورا كثيرة بغير تفرقة ولا تشتيت. ومن ثم كان الأخذ به أفضل من الأخذ بالرأي الأول.
وإنما يبنى المفرد العلم -وملحقاته- إذا لم يكن معربا مجرورا باللام في "الاستغاثة والتعجب" مع ذكر "يا" فيهما؛ كما في نحو: "يا لعلي للضعيف"؛ للاستغاثة بعلي في نصر الضعيف. و: "يا لعلي المحسن"؛ للتعجب من كثرة إحسانه. فالمنادى فيهما. معرف وجوبا، كما كان قبل النداء، مجرور باللام في محل نصب. لأنه خرج بسبب الجار من قسم "المفرد العلم" ودخل في قسم المضاف2 تأويلا.
وكذلك يجب إعرابه "ولا يصح بناؤه" إذا كان هذا العلم المفرد منقولا من أحد الأعداء المتعاطفة، بالتفصيل الموضح في مكانه3.
وهناك صورة يجوز فيها الإعراب والبناء، وستجيء4.
__________
1 وهو البناء على الضمة أول ما ينوب عنها، من غير تفرقة بين ما أصله علم قبل النداء أو غير علم، مبني أو غير مبني. لأن إدراك هذه التفرقة، والوصول إلى معرفتها اليوم عسير كل العسر على جمهرة الناس، ففي الاستغناء عنها راحة بغير ضرر. وهناك نص آخر يؤيد ما سبق؛ ملخصه: وجوب الإعراب والتنوين معا قبل النداء في كل لفظ أصله مفرد حقيقي "أي: ليس مثنى ولا جمعا، ولا نوعا من أنواع المركبات الثلاثة التي منها المركب الإضافي، وشبه الملحق به" ومبني ثم ترك أصله، وصار علما منقولا من معناه وحكمه السابقين إلى معنى وحكم جديدين، مثل كلمة: "أسس، وغاقر" إذا صارتا علمين؛ فعند ندائهما يجري عليهما حكم الأسماء المعربة قبل النداء.
"راجع التصريح أول الفصل الثاني في أقسام المنادى، ج2 ص166 وحاشيته آخر باب "الممنوع من الصرف" ص226" وسبق لهذا الحكم بيان مفيد في ج1، بابي المعرب والمبني - والعلم، م6 و23 ص74 و278".
2 كما سيجيء هذا في ص79 من باب الاستغاثة.
3 ص33 وص34.
4 في ص20.(4/13)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- ما كيفية بناء المفرد العلم الذي كان في أصله اسما منقوصا، منونا، ثم نقل إلى العلمية؛ مثل: هاد، راض، مرتض، مستكف، وغيرها؟ ...
الأصل في المنقوص أن يكون مختوما بالياء1 الظاهرة إلا في بضع حالات قليلة؛ أهمها: أن يكون منونا مرفوعا أو مجرورا؛ فيجب حذفها نطفا وكتابة؛ لأن الضمة والكسرة ثقيلتان على الياء، فتحذفان؛ طلبا للخفة. فإذا حذفتا تلاقت الياء ساكنة مع التنوين فيجب حذفها؛ تخلصا من التقاء الساكنين؛ فتصير الكلمة إلى الصور السالفة. "فأصل: "هاد" -مثلا- في: "أنت هاد للخير" هو: هادين: بكتابة التنوين نونا ساكنة تبعا لأصله2. ثم حذفت الضمة؛ منعا للثقل؛ فصارت الكلمة: "هادين" بياء ونون ساكنتين. ثم حذفت الياء2؛ للتخلص من الساكنين؛ فصارت الكلمة: "هادن"؛ بإثبات التنوين على شكله الأول نونا ساكنة. ثم جرى الاصطلاح على كتابة التنوين كسرة مكررة لكسرة الحرف الأخير الذي قبل الياء المحذوفة، فصار للحرف الأخير كسرتان؛ إحداهما حركة أصلية هجائية، والأخرى بدل التنوين. وانتهت الكلمة إلى صورتها الأخيرة: "هاد" ومثلها استمعت لهاد. وأصلها: هاديين حذفت كسرة الياء، وجرى ما سبق ... ".
فإذا نوديت وجب حذف التنوين؛ لأن المنادى هنا علم مفرد؛ فيجب بناءه على الضم بغير تنوين. وهذا الضم مقدر على الياء. لكن أتبقى الياء محذوفة كما كانت، والضم مقدر عليها، برغم حذفها -لأنها ملحوظة كالمذكورة- أم تعود بعد النداء إلى مكانها؛ فتظهر نطقا وكتابة. ويكون الضم مقدرا عليها كذلك؟ رأيان؛ أحدهما: يوجب حذف التنوين واستمرار حذف الياء؛ لأن الكلمة المناداة كانت منونة ومحذوفة الياء قبل المناداة، فوجب حذف التنوين؛ لأنه معارض لبناء المنادى، كما يوجب ألا ترجع الياء؛ لعدم وجود ما يقتضي إثباتها وإرجاعها؛ فقد
__________
1 يجوز حذفها بالتفصيل الخاص بحذف الياء -وقد سبق بيانه مفصلا في ج1 ص16.
2 و2 أوضحنا هذا وسببه في صدر الجزء الأول عند تفصيل الكلام على التنوين م2.(4/14)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طرأ عليها النداء وهي محذوفة، فتبقى على حالها من الحذف.
والآخر: يوجب حذف التنوين للسبب السالف، ويوجب إرجاع الياء وإثباتها لأن سبب حذفها -وهو تلاقيها ساكنة مع التنوين- قد زال بزوال التنوين. وإذا زال السبب لا تبقى بعده آثاره التي توجد بوجوده. فالرأيان متفقان على حذف التنوين وسببه، مختلفان في إرجاع الياء وإثباتها، أو عدم إرجاعها.
ويتفقان على إرجاعها إذا لم يكن في العلم المنقوص إلا حرف أصلي واحد، مثل "مر". اسم فاعل من "أرى"، فتقول في نداء المسمى به: يا مري.
والحق أن هذه الأدلة جدلية محضة ليس فيها مقنع. والفيصل إنما هو السماع الوارد عن العرب، ولم ينقل إلينا منه ما يكفي للترجيح؛ فالرأيان متكافئان. وقد يكون الأنسب هو الرأي الداعي إلى إثبات الياء؛ لأنه أقرب إلى الوضوح، وأبعد من اللبس والاختلاط.
وكل ما قيل في كلمة: "هاد" -مما أسلفناه- يقال في سائر الأعلام المنقوصة المنونة عند ندائها ... -كما سيجيء البيان1.
2- إذا كان المفرد العلم في أصله منقولا من اسم مقصور منون. "نحن: مرتضى - مصطفى- رضا ... وأشباهها" وجب عند ندائه حذف تنوينه؛ لأنه مبني على الضم. وهذا البناء يقتضي حذف التنوين حتما. لكن أتعود بعد ذلك ألف المقصور التي حذفت من آخره نطقا؛ بسبب تلاقيها ساكنة مع التنوين الساكن. أم لا تعود؟.
"ذلك أن الأصل في كلمة مثل: مرتضى؛ هو مرتضى؛ أي: مرتضين رفعا -والنون الساكنة هي التنوين- تحركت الياء، وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفا، وصارت الكلمة: مرتضان، تلاقى ساكنان: الألف وهذه النون، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وصارت الكلمة: مرتضن، لكنها تكتب "مرتضى" طبقا لقواعد رسم الحروف؛ وهي تقضي بأن يوضع على الحرف الذي قبل النون حركة
__________
1 في باب: تثنية المقصور، والممدود، وجمعهما " ... هامش ص613".(4/15)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثانية مماثلة لحركته الهجائية، تغني عن النون بعد حذفها، وتكون هذه الحركة الهجائية الثانية هي الرمز الدال على التنوين، بدلا من التنوين".
ويجيب النحاة: أن الظاهر في هذه المسألة هو تطبيق حكم المسألة السابقة فيجرى على ألف المقصور ما جرى على ياء المنقوص من وجود رأيين متفقين على حذف التنوين، مختلفين في رجوع الألف نطقا أو عدم روجعها، بالحجة التي تساق لكل. وقد يكون الأنسب إرجاع الألف ...
3- في باب المثنى1 أن العلم المفرد إذا ثني أو جمع، زالت علميته، وصار نكرة ولا يحكم له بالتعريف إلا بوسائل جديدة تزاد؛ منها: إدخال "أل" المعرفة عليه، أو نداؤه ... أو ... فإذا نودي العلم بعد تثنية وجمعه حكم له بالتعريف الناشئ من النداء، لا من العلمية؛ لأن النداء هنا دخل على منادى خال من العلمية، فقد أزالها ما طرأ من التثنية أو الجمع، مثل: يا محمدان - يا محمدون ... وأشباههما؛ فيصير بعد ندائه في حكم النكرة المقصودة -عند كثير من النحاة- تجري عليه أحكامها التي منها: صحة نعتها -أحيانا- بالنكرة أو بالمعرفة؛ فيراعى إما أصله الأول الذي زالت علميته قبل النداء، وإما حالة تعريفه الطارئة بعد النداء2 ... بخلاف العلم الذي ليس مثنى، ولا جمعا، فإن علميته تبقى بعد النداء ويتعرف بها، أو لا تبقى؛ فيتعرف بالنداء الطارئ لا بتلك العلمية السابقة، على حسب الخلاف الذي سبق3.
4- إذا نودي: "اثنا عشر" و"اثنتا عشرة" علمين، جاز أن يقال: يا اثنا عشر، ويا اثنتا عشرة، فاثنا واثنتا مبنيان على الألف؛ لأن المثنى وملحقاته في هذا الباب في حكم المفرد؛ فيبنى على ما يرفع به. وكلمة: "عشر وعشرة" بعدهما مبنية على الفتح، لا أهمية لها؛ لأنها بمنزلة نون المثنى. وهمزتهما للقطع4 ما داما علمين.
__________
1 ج1 ص83 م9.
2 طبقا لما سيجيء في "د" من ص30.
3 في رقم 2 من هامش ص11.
4 انظر رقم 3 من هاشم ص38 و2 من هامش ص247.(4/16)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويجوز أن يقال: يا اثني عشرة، ويا اثنتي عشرة ... بالنصب بالياء على اعتبار المثنى مع كلمة: "عشر" أو "عشرة" بمنزلة المضاف مع المضاف إليه في الصورة، والمنادى المضاف واجب النصب1.
__________
1 هذا رأي الكوفيين الذي أشرنا إليه "في رقم 2 من هامش ص9 و1 من هامش ص32" وبمقتضاه تكون الأعداد المركبة كلها داخلة في قسم المنادى المضاف، فصدر كل واحد منها واجب النصب، عند الكوفيين في النداء، ويظل العجز مبنيا على الفتح، بمنزلة النون.
أما عند غيرهم فالأعداد المركبة كلها مبنية على فتح الجزأين "ما عدا العلمين: اثني عشر واثنتي عشرة؛ والمنادى هو العدد المركب بجزأيه معا إلا هذين. فإذا كان المنادى العلم هو: اثنا عشر، واثنتا عشرة؛ فصدرهما وحده، في حكم العلم، المثنى، المنادى، المبني.
ويترتب على الخلاف بين الكوفيين وغيرهما الخلاف في ضبط تابع المنادى.(4/17)
ب- من المفرد العلم صورة يجوز فيها أمران1: البناء على الضم في محل نصب، أو البناء على الفتح في محل نصب. وهذه الصورة الجائزة بحكميها لا بد أن يكون فيها المنادى علما مفردا "أي: غير مثنى، ولا مجموع"، وأن يكون آخره مما يقبل الحركة "فلا يكون معتل الآخر: كعيسى، ولا مبنيا على السكون لزوما، مثل: "من" إذا صارت علم شخص ... " وأن يوصف مباشرة -أي: بغير فاصل- بكلمة: "ابن" أو: "ابنة"2، دون "بنت"، وكلتاهما مفردة، مضافة إلى علم آخر، مفرد أو غير مفرد3 ... مثل: يا حسن بن علي، من أثنى عليك بما فعلت فقد كافأك. ويا فاطمة بنة محمد، أنت فخر النساء، ببناء كلمتي:
__________
1 انظر الزيادة والتفصيل ص20 ففيها أمر ثالث حكمه الإعراب، وتعليل الأوجه الثلاثة.
2 فلو كان لفظ: "ابن وابنة" غير نعت كأن يكون بدلا، أو خبرا لمبتدأ أو لناسخ، أو منصوبا بعامل محذوف -مثل: أعني- لم يصح حذف التنوين وما يتبعه -كما سيجيء هنا.
3 ولا يشترط في العلمين ولا في أحدهما التذكير -على الرأي الراجح- ولا مانع أن يكون العلم اسما، أو كنية، أو لقبا. أو جنسيا للأعلام المجهولة؛ نحو: يا فلان بن فلان، أو: يا حارث بن همام، "للشخص الذي تخيله: "الحريري" وجعله دعامة المحاورات في مقاماته، وأدار الحديث بلسانه في كثير منها". وكذلك: يا سيد بن سيد؛ لكثرة استعماله كالأعلام، وبضع كلمات ساغت كهذه.
ومتى اجتمعت الشروط في نداء أو غيره وجب -في ذلك الرأي الراجح- حذف همزة الوصل وألفها كتابة ونطقا من: "ابن"، و"ابنة" إلا لضرورة الشعر، أو لوقوع إحداهما في أول السطر، فثبت الألف كتابة. وكذلك يجب -في غير الضرورة الشعرية- حذف التنوين كتابة ونطقا من المستوفى للشروط؛ ولو كان غير منادى. "وقد سبقت إشارة لهذا في ج1 م4 ص44.
غير أن هنا مسألة وقع الخلاف فيها في حذف التنوين من آخر العلم الموصوف المنادى وغير المنادى، وفي حذف همزة الوصل مع ألفها من الصفة "ابن وابنة" هي: أن يكون العلم الأول "الموصوف" كنية أو مضافا آخر، أو يكون العلم الثاني "وهو المضاف إليه" كنية أو مضافا آخر كذلك؛ مثل: أو الخلفاء الراشدين أبو بكر بن قحافة. ومثل محمد بن أبي بكر من أشهر الزهاد.. فيرى كثير من النحاة وجوب إثبات التنوين وألف الوصل في الصورتين. ويرى آخرون جواز حذفهما، وإثباتهما. وقد يكون الحذف -على قلته- هو الأنسب اليوم، ليكون حكمه مطردا شاملا الصور المختلفة.
ومسألة أخرى، هي التي تكون فيها الصفة كلمة: "بنت" ويكون موصوفها علما لمؤنث يصح صرفه، ومنع من الصرف. فهل يجوز بقاء التنوين في موصوفها المنادى وغير المنادى؟ روى سيبويه الحذف والإثبات عن العرب الذين يصرفون كلمة: "هند" وأشباههما؛ مما يجيء في ص238 فيقولون: هذه هندٌ بنت عاصم؛ بتنوين "هند"، وتركه لكثرة الاستعمال.
وقد يكون الأحسن هنا أيضا حذف التنوين، ليكون الحذف مطردا في كل المسائل، وقاعدته عامة.(4/18)
"حسن"، و"فاطمة"، على الضم أو على الفتح، في محل نصب في الحالتين. ولا بد أن تكون البنوة حقيقية.
فإذا فقد شرط وجب الاقتصار على البناء على الضم، كأن يكون المنادى غير علم، مثل: يا غلام ابن سعيد، أو يكون علما مفصولا1 من المنادى، مثل: يا سليمان النبي ابن داود، أو تكون كلمة: "ابن" و"ابنة" ليست نعتا وإنما هي بدل، أو مفعول، أو خبر: أو منادى جديد، أو غير ذلك مما ليس نعتا2 ...
__________
1 مع الخلاف في العلم إذا كان كنية، على الوجه المبين في هامش الصفحة السالفة.
2 مع ملاحظة ما نردده كثيرا، وهو أن اختلاف الإعراب لا بد أن يتبعه اختلاف المعنى، فالمراد من النعت مغاير كل المغايرة للمراد من البدل ... كذلك الشأن في غيرهما.(4/19)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أولا: إذا اجتمعت الشروط السابقة جاز الوجهان المذكوران، ووجه ثالث، هو أن يكون المنعوت معربا منصوبا، بغير تنوين.
وللنجاة في تعليل الأوجه الثلاثة آراء قائمة على التكلف، والتأويل، والحذف أو الزيادة، بغير حاجة ماسة إلا رغبتهم في إلحاق كل وجه بحالة إعرابية ثابتة. وإدخاله تحت قاعدة أخرى مطردة، ولا يعرف العرب شيئا من هذه التعليلات. ولا شأن لهم بها، ولن يتأثر الأسلوب أو ضبط مفرداته بإغفالها، وإهمال الوجه الثالث القائم على الإعراب مع النصب المباشر بغير تنوين.
وفيما يلي بعض تلك الآراء بإيجاز يحتاج إليه الخاصة:
1- في مثل: يا حسن بن علي -بضم المنادى- يكون بناؤه على الضم في محل نصب؛ مراعاة للقاعدة العامة؛ لأنه مفرد علم. وتعرب كلمة: "ابن" صفة، منصوبة، تبعا لمحل الموصوف. لا لفظه المبني1. وهذا إعراب حسن لا مأخذ عليه.
2- وفي مثل: يا حسن بن علي ... 2 -بفتح المنادى- يكون مبنيا على الفتح في محل نصب؛ "فهو مبني لفظا. منصوب محلا". ويقولون: إن حقه البناء على الضم؛ لأنه مفرد علم، ولكن آخره تحرك بحركة تماثل الحركة التي على آخر الصفة، على توهم وتخيل أن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة؛ إذ الفاصل بين آخر المنادى، وآخر صفته حرف واحد ساكن، فالفصل به كلا فصل؛ لأنه جاجز غير حصين -كما يقولون.
وفي هذه الحالة يذكرون في إعراب المنادى: أنه مبني على ضم مقدر، منع من ظهوره فتحة الاتباع3، في محل نصب، وكلمة: "ابن" صفة له، منصوبة باعتبار محله.
__________
1 لأن البناء لا ينتقل من المتبوع إلى تابعه، ولا من كلمة إلى أخرى ليست مبنية.
2 تجيء مناسبة أخرى لهذا النوع من المنادى، في "ج"، من ص53.
3 أي: الفتحة التي جاءت في آخر المنادى متابعة ومماثلة للفتحة التي في آخر صفته.(4/20)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
فلم هذا التوهم، واللف والالتواء في إعراب المنادى، وإتباع حركته -وهو السابق- لحركة صفته اللاحقة، ما في هذا من مخالفة المألوف الذي يجري على أن يكون المتأخر هو التابع في حركته للمتقدم؟
لم لا نقول: إن المنادى إذا اجتمعت فيه الشروط السالفة جاز أن يكون مبنيا على الفتح مباشرة، أو على الضم. مراعاة للواقع المأثور من فصيح الكلام العربي؟ ولا ضرر في هذا ولا إساءة. بل إنه السائغ المقبول، وهو في الصورتين في محل نصب.
3- ويجيزون في إعراب المنادى في الصورة السالفة أنه مبني مع صفته على فتح الجزأين، على توهم وتخيل تركيبه مع صفته تركيبا لفظيا، كالتركيب اللفظي الذي في الأعداد: أحد عشر، وثلاثة عشر، وما بعد أربعة عشر إلى آخر تسعة عشر، فإن هذه الأعداد مبنية على فتح الجزأين دائما في جميع الحالات الإعرابية، بسبب تركيب الكلمتين تركيبا يلازمهما، ويقتضي أن يلازمهما فتح آخرهما.
فما الداعي لهذا التكلف أيضا، وحمل المنادى مع صفته في هذه الصورة على تلك الأعداد المركبة، مع وجود الفارق الواضح بينهما؟ ذلك أن العدد المركب لا يؤدي معناه الأساسي المطلوب إلا مع التركيب الحتمي، فكل جزء من الجزأين لا يستقل بنفسه، وإنما هو بمثابة حرف من كلمة هو معروف. ومن ثم كانت المشابهة بين الأسلوبين ضعيفة، وكان الاعتماد عليها هنا غير قوي، وإنما القوي أن نقول في هذه الحالة ما قلناه في الحالة الثانية وهو أن المنادى مبني على الفتح -مباشرة- في محل نصب، نزولا على حكم الواقع الذي لا ضرر في اتباعه، أما كلمة: "ابن" فإعرابها هنا كإعرابها هناك.
4- ويجيزون أيضا في المنادى السالف ألا يكون مبنيا على الفتح في محل نصب؛ وإنما يكون معربا منصوبا، مباشرة، بغير تنوين، غير أنهم لحظوا أن حالات المنادى المعرب المنصوب لا تنطبق عليه؛ فتلمسوا الوسيلة لإدخاله تحت واحدة(4/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منها فارتضوا أن تكون الصفة "ابن" في حكم الزائدة التي لا وجود لها، وأن المنادى مضاف، وأن المضاف إليه هو الكلمة التي بعد كلمة "ابن" وبذا يكون المنادى في تقديرهم داخلا في قسم المضاف الذي يجب إعرابه ونصبه!! ويترتب على هذا أن تكون كلمة: "ابن" مقحمة بين المضاف والمضاف إليه. وأنها لا توصف بإعراب ولا بناء، وإنما هي موقوفة -كما يقولون- ولا محل لها من الإعراب فليست صفة، ولا غيرها.
فما هذا؟ وما الدافع له؟ الخير في إهماله، وإنما ذكرناه لتعرض شيئا يستحق الإعراض عنه. ثم نواجه الواقع بحكم أصيل يناسبه، لا إقحام فيه، ولا وقف، ولا بناء، فتعتبر المنادى معربا بغير تنوين، وكلمة: "ابن" صفة له. منصوبة.
"ملاحظة":
كل ما تقدم خاصا بكلمة: "ابن" يسري على كلمة: "ابنة" الواقعة مثلها صفة لمنادى مؤنث. مستوف للشروط. ولا يسري على غيرهما، فإذا وصف المفرد العلم بغيرهما بقي مفردا علما1، له ولتوابعه أحكامهما الخاصة، ولا ينتقل بسبب الوصف إلى قسم الشبيه بالمضاف؛ إذ لو انتقل إليه لوجب نصبه في جميع الأحوال، كالشبيه بالمضاف، ويصير هذا النصب العام مخالفا للحكم الصحيح.
ثانيا2: المنادى النكرة المقصودة الموصوف بكلمة: "ابن"، أو "ابنة" أو غيرهما، له حكم خاص يختلف عن الحكم السابق، فيتوقف على حال هذه النكرة، أكانت موصوفة قبل النداء بإحدى الكلمتين السالفتين، أو بغيرهما، أم جاء الوصف بعد النداء، وطرأ بعد تحققه؟ وسيجيء الحكم مفصلا عند الكلام على النكرة المقصودة3.
__________
1 سيجيء هذا في أول ص30.
2 سبق الكلام على: "أولا" في ص20.
3 ص28.(4/22)
ح- وإذا كان المفرد العلم مبنيا قبل النداء بقي على بنائه القديم في اللفظ، ولكن يطرأ عليه بناء جديد، مقدر يجلبه النداء معه -طبقا للرأي الشائع من رأيين كما أسلفنا-1 فكلمة مثل: "سييويه" -وهي علم على إمام النحاة المشهور- مبنية قبل النداء على الكسر لزوما. فإذا نودي، وقيل: يا سيبويه، أحسن الله جزاءك..، كانت كلمة "سيبويه" منادى مبني على ضم مقدر على آخره منع من ظهوره البناء الأصلي على الكسر، في محل نصب1....
ولهذا البناء الجديد المقدر أثره في التوابع، كالنعت وغيره -وستجيء الأحكام المفصلة الخاصة بتوابع المنادى-2 فإذا جاء للمنادى تابع صح في هذا التابع أن يكون في مظهره الشكلي مرفوعا3؛ مراعاة صورية -غير حقيقية- للضم المقدر في المنادى، وجاز أن يكون منصوبا؛ مراعاة لمحل هذا المنادى؛ لأنه مبني في محل نصب -كما عرفنا- ولا يجوز مراعاة علامة البناء الأصلي التي ليست طارئة مع النداء. تقول يا سيبويه النحويُّ، ببناء كلمة "النحوي" على الضم -رفعا صوريا غير3 حقيقي- أو بنصبها مباشرة: باعتبارها معربة. ومثل هذا يقال في كل علم مفرد لازم البناء في أصله في مناداته؛ سواء أكان بناؤه الأصلي اللازم على الكسر "ومنه: حَذَامِ، رَقَاشِ ... علمين على امرأتين عند من يبنيهما" أم على غير كسر؛ "مثل حيثُ - كيفَ - أربعةَ عشرَ، وأخواتها من الأعداد المركبة المبنية على فتح الجزأين، - نَعَمْ ... أعلام أشخاص" فيقال في كل علم من هذه الأعلام: إنه مبني على الضم المقدر منع من ظهوره علامة البناء الأصلي "على الكسر، أو على الضم، أو على الفتح، أو على فتح الجزأين، أو على السكون" في محل نصب في كل ذلك.
ومثل هذا يقال في العلم المعرب المنقول من جملة محكية، مثل: "صنعت خيرا" علم على شخص. فيقال: يا صنعت خيرا الشجاع فالمنادى -وهو:
__________
1 و1 في رقم4 من هامش ص11، وانظر "الملاحظة" التي في ص12 حيث تعرض الرأي الآخر المفيد.
2 ص40.
3 و3 هل يقال لهذا اللفظ إنه مرفوع، مع أن رفعه صوري، وغير حقيقي؟ وما إعرابه؟ الإجابة والبيان في ص52.(4/23)
"صنعت خيرا" مبني على ضم مقدر على آخره منع من ظهوره حركة الحكاية، في محل نصب. ويجوز في النعت: "الشجاع" الرفع الصوري1 تبعا للفظ المنادى والنصب تبعا لمحله.
د- المنادى المفرد العلم مبني -في الأكثر كما عرفنا- فلا ينون إلا في الضرورة الشعرية، فيباح تنوينه مع رفعه2، أو نصبه3، فمثال الأول قوله الشاعر يهدد خصمه حميدا:
لا تهجني -يا حميدٌ- إن لي ... فتكة الليث، إذا الليث غضب
ومثال الثاني قول المادح:
حسبنا منك -يا عليًّا4- أياد ... يتغنى بها الزمان نشيدا
وإذا كان المنادى المفرد العلم مبنيا على الضم، لكنه منون للضرورة لزم التصريح بهذا عند إعرابه2، وجاز في تابعه الرفع مراعاة للفظه -إن لم يوجد مانع آخر- والنصب مراعاة لمحله. أما إذا كان منصوبا منونا فيقال في إعرابه إنه منصوب منون للضرورة، ولا يجوز في تابعه إلا النصب؛ لأن النصب هو الأصل المحلي في المبني، وقد ظهر النصب في اللفظ، فلا داعي لإهماله، ومراعاة غيره ...
__________
1 يقال هنا ما سبق في رقم3 من هامش الصفحة السالفة.
2 و2 ويقال عند إعرابه: إنه منادى مبني على الضم، ولحقه التنوين للضرورة، وقد اجتمع التنوين وعدمه في العلم: "مطر" في بيت يستشهد به قدماء النحاة؛ هو:
سلام الله يا "مطرٌ" عليها ... وليس عليك يا "مطر" السلام
3 والنصب في الضرورة -بالرغم من إباحته- أقل وأضعف من الرفع. ويقال في إعرابه: إنه منصوب مراعاة لبعض اللهجات، ومنون لضرورة الشعر.
4 الضرورة في هذا البيت مباحة للشاعر، ولكن تركها أفضل؛ إذ لا يختل الوزن بتركها، وبعض النحاة يستشهد ببيت مثله؛ هو قول الشاعر:
ضربت صدرها إليَّ وقالت ... يا "عديا" لقد وقتك الأواقي
وموضع الشاهد: هو: يا عديا.(4/24)
القسم الثاني: النكرة 1 المقصودة: ويراد بها:
"النكرة التي يزول إيهامها وشيوعها بسبب ندائها، مع قصد فرد من أفرادها، والاتجاه إليه وحده بالخطاب"؛ فتصير معرفة دالة على واحد معين2 بعد أن كانت تدل على واحد غير معين، ولولا هذا النداء لبقيت على حالتها الأولى من غير تعريف. فكلمة مثل: "رجل" هي نكرة، مبهمة، لا تدل على فرد واحد بذاته، وإنما تصدق على محمود، وحامد، وصالح، و ... ، وكل رجل آخر. فإذا قلنا: يا رجل سأساعدك على احتمال المشقة، تغير شأنها، ودلت على فرد معروف الذات والصفات -دون غيره- هو الذي اتجه إليه النداء، وخصه المتكلم بالاستدعاء، وطلب الاستماع؛ فصارت معرفة معينة بسبب الخطاب، لا شيوع فيها ولا إبهام.
والنكرة المقصودة هي -في الرأي الأنسب- القسم الوحيد الذي يستفيد التعريف من النداء، دون بقية أقسام المنادى.
حكمها:
الأكثر البناء3 على الضمة، أو ما ينوب عنها في محل نصب، فهي شبيهة بالمفرد العلم في هذا. ومن أمثلتها قول شوقي يخاطب بلبله الحبيس:
يا طير -والأمثال تضـ ... ـرب للبيب الأمثال
دنياك من عاداتها ... ألا تكون لأعزل
__________
1 وتسمى -كما في رقم 3 من هامش ص4- اسم الجنس المعين. وقد سبق الكلام على النكرة وتعريفها وما يتصل بها في ج1 ص131 م7.
2 الفرق بين التعيين والتعريف في النكرة المقصودة والمفرد العلم أن التعيين والتعريف في الأولى عرضيان طارئان بسبب النداء؛ فهما أثران من آثاره؛ يجيئان معه، ويزولان معه. ولكنهما أصيلان في العلم ملازمان له، ولو لم يوجد النداء، فلا أثر في إيجادهما، أو زوالهما، أو بقائهما -على الرأي الأرجح الذي يبق في رقم 2 من هامش ص11.
والمعارف متفاوتة في درجة التعريف، وقوته، طبقا لما سبق تفصيله في الموضع الأنسب "وهو ج1 م17 رقم 3 من هامش ص191" ومنه يعرف أن النكرة المقصودة في درجة اسم الإشارة؛ لأن التعريف بكل منهما يتم إما بالقصد الذي يعينه المشار إليه، وإما بالتخاطب كما في الموضوع السالف، وكما في "ب" من ج1 م32 ص339 وأن التعريف بالعلمية ذاتي؛ فهو أقوى.
3 إلا في الضرورة الشعرية -كما سنعرف، وفي صورة أخرى معربة ستجيء في الزيادة والتفصيل: ص28 - "1". وثالثة معربة تجيء في ص34.(4/25)
ولا يصح تنوينها إلا في الضرورة الشعرية، فتنون مرفوعة أو منصوبة، كقول الشاعر وهو ينظر للقمر:
يا قمرًا لا تفش أسرار الورى ... وارحم فؤاد الساهر الولهان
ويصح: يا قمرٌ. وفي الحالتين يكون إعرابها كالمفرد1 العلم المنون فيهما.
هذا حكم النكرة بشرط أن تكون مقصودة، ومفردة "أي: غير مضافة، ولا شبيهة بالمضاف" فإن كانت غير مقصودة فهي من القسم الثالث الآتي، وإن كانت غير مفردة فهي من أحد القسمين التاليين: الرابع، والخامس.
وإنما تبنى النكرة المقصودة المفردة على الوجه السالف بشرط ألا تكون موصوفة، وألا تكون من الأعداد المتعاطفة2، ولا معربة مجرورة باللام في حالة الاستغاثة أو التعجب؛ مع وجود حرف النداء: "يا"3؛ لأن للأولين حكما سيجيء2، وأن الجار يجعلها من قسم المنادى المضاف -تأويلا، دون غيره، وهو معرب واجب النصب؛ نحو: يا لقوي لضعيف يستنصره، ويا للمطر الهتون!! في نداء منكرين معينين. فالمنادى مجرور باللام في محل نصب. وقد بقي معربا كشأنه السابق على النداء، وسيجيء البيان في باب الاستغاثة4..
__________
1 سبق في "د" ص24. ويجب التصريح باسمها عند الإعراب.
2 و2 انظر "ا" ص28 وص34.
3 دون غيره، ولا يصح حذفه في الحالتين -كما سبق وفي رقم 5 و6 من ص3.
4 ص77 ويقول ابن مالك في أحكام المنادى المبني على الضم مطلقا، "أي: سواء أكان مفردا علما، أم فكرة مقصودة".
وابن المعرف المنادى المفردا ... على الذي في رفعه قد عهدا
فهو يطالب ببناء المنادى المفرد المعرف، وأن يكون بناؤه على العلامة المعهودة فيه في حالة رفعه قبل النداء؛ لأن الضم -لا الرفع- هو علامة البناء في الشائع، فالذي علامته الضمة يبنى عليها، والذي علامته الألف؛ كالمثنى، أو الواو كجمع المذكر، يبنى عليهما ... وهذا الحكم ينطبق على القسمين: المفرد العلم والنكرة المقصودة؛ فكلاهما مفرد ومعرف. غير أن تعريف المفرد العلم أصيل، سببه العلمية؛ فهو سابق على النداء، وباق معها ولو زال النداء؛ طبقا لأحد الرأيين المعروضين في ص11. أما تعريف النكرة المقصودة؛ فطارئ؛ بسبب النداء ملازم له مدة وجوده، زائل بزواله -كما سبق في هامش الصفحة الماضية- وبناء المفرد العلم على الضم إنما يكون واجبا في غير الضرورة وبعض الصور=(4/26)
__________
= التي أشرنا إليها في رقم 3 من هامش ص10. كما أن النكرة الموصوفة لا تبنى -في غير الضرورة- على الضم وجوبا إلا عند عدم وصفها وعدم طولها. فإن وصفت أو طالت جرت عليها الأحكام الآتية في ص28 و34. ثم بين ابن مالك وإجراؤه مجرى المعرب الذي زال إعرابه بسبب النداء، وحل محله بناء جديد، أو مجرى اسم مبنى في أصله، زال في التقدير بناءه القديم وحل محله بناء طارئ جديد بسبب النداء -مع ملاحظة أن الجديد هو الذي يراعى وحده في توابعه- يقول: -ورأيه مدفوع برأي آخر سبق في ص11.
وانو انضمام ما بنوا قبل النداء ... وليجر مجرى ذي بناء وجددا
وقبل أن يتمم الكلام على هذا القسم أقحم بيتا يتعلق بأقسام أخرى سيجيء شرحها وشرحه في ص33 هو:
والمفرد المنكور، والمضافا ... وشبهة انصب، عادما خلافا
وعاد بعده إلى بيان حكم المنادى العلم المفرد الموصوف بكلمة "ابن" -أو ابنة- وأنه يجوز فيه البناء على الفتح أو الضم، ولم يذكر الشروط؛ وإنما اكتفى في البيت الأول بأن ساق مثالا الشروط -وقد شرحناها مفصلة في ص18، 20- واكتفى في البيت الذي يليه بالنص على أن الصفة "وهي كلمة: ابن، وابنة" إن لم تقع مباشرة بين علمين لم يصح البناء على الفتح، ووجب الاقتصار على البناء على الضم يقول في اختصار معيب:
ونحو زيد ضم، وافتحن من ... نحو: أزيد بن سعيد لا تهن
"تهن: مضارع، مجزوم، معناه: تضعف. وماضيه: وهن، معنى: ضعف".
والضم إن لم يل الابن علما ... أو يل الابن علم قد حتما
"الألف التي في آخر كل شطرة زائدة لوزن الشعر".
بريد: أن البناء على الضم محتوم إن لم يقع الابن بعد علم "بشرط ألا يكون المنادى نكرة تقتضي حكما خاصا" أو لم يقع علم بعد الابن. أي: إذا لم يتوسط "الابن" بين علمين مباشرة -كما قلنا؛ فمقال الأول يا غلام ابن سعد - سليمان النبي ابن داود. ومثال الثاني: يا سليمان ابن النبي.
ثم عرض الحكم آخر من أحكام المنادى المستحق للبناء؛ فأوضح أنه يجوز فيه الرفع والنصب مع التنوين في الحالتين عند الاضطرار الشعري.
واضمم أو انصب ما اضطرارا نونا ... مما له استحقاق ضم بينا
أي: اضمم أو انصب ما نون اضطرارا من كل ما له استحقاق ضم بين فيما سبق. والذي يستحق الضم فيما سبق هو المفرد العلم والنكرة المقصودة ... والمنادى المبني على الضم إذا نون يبقى على بنائه، وتنوينه طارئ للضرورة. أما في حالة تنوينه منصوبا فنقول -في الأحسن- إنه معرب منصوب، تبعا لبعض الجهات، وأنه منون للضرورة، -كما سبق في هامش ص24.(4/27)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- تبنى النكرة المقصودة على الضم وجوبا إذا كانت غير موصوفة مطلقا1 "أي: لا قبل النداء، ولا بعده". فإن دلت قرينة واضحة -أي قرينة؛ لفظية، أو غير لفظية- على أنها كانت قبله موصوفة بنعت مفرد، أو غير مفرد؛ فالأغلب الحكم بوجوب نصبها مباشرة؛ إذ قد اتصل بها شيء تمم معناها، ولم تقتصر على لفظها وحده، فدخل عليها النداء وهي متصلة بما يتممها؛ وبسببه تخرج من قسم النكرة المقصودة إلى قسم الشبيه بالمضاف، وهو واجب النصب ... مثال هذا أن تخاطب: "شاهدتك من بعيد قادما علينا، ويبدو أنك رجل غريب. فيا رجلا غريبا ستكون بيننا عزيزا". فالنكرة الكلام السابق عليها. ومن الأمثلة للنعت بالجملة أن تسمع: "سيزورنا اليوم وفد نعزه ... " فتقول: يا وفدا فعزه نحن في شوق لرؤيتك. ويصح: يا وفدا من بلاد عزيزة ... أو يا وفدا أمامنا إذا كانت الصفة قبل النداء شبه جملة. ومن هذا أبيات الشاعر التي أنشأها حين قيل له: هذا شرع وراء دجلة تعبث به الرياح؛ فقال أبياته التي مطلعها:
يا شراعا وراء دجلة يجري ... في دموعي، تجنبتك العوادي
ومن الأمثلة المسموعة التي لها قرائن معنوية تدل على النكرة وصفت قبل النداء ما حكاه الفراء عن العرب في مشهور بالكرم: يا رجلا كريما أقبل. وقوله عليه السلام: يا عظيما2.
__________
1 في هذه الصورة يصح وصف المعرفة بالنكرة، "طبقات للبيان الآتي هنا وفي "د - ص30" كذلك في رقم 2 من هامش ص44". ولا تبنى النكرة المقصودة التي من الأعداد المتعاطفة "انظر ص33".
2 في هذا المثال -وأشباهه- مما يقع فيه المنادى نكرة مشتقة متحملة الضمير وبعدها جملة -يرى ابن هشام إعراب هذه الجملة حالا من الضمير المستقر في المنادى المشتق، وليست نعتا؛ لأن النعت لا يكون معمولا للمنعوت المشتق- ويكون المشتق هو العامل الذي نصب جملة الحال؛ فهي من معمولاته التي تتم معناه. ويترتب على هذا عنده أن يكون المنادى من نوع الشبيه بالمضاف، وليس من قسم النكرة المقصودة التي تنصب. بشرط ألا يثبت أن الوصوف متأخر عن النداء -كما سبق.
ويخالفه ابن مالك في تلك الصورة فيرى أن الجملة نعت -برغم تنكيرها حكما- لا حال، ولعل السبب عنده أن العامل في النعت هو "يا" أو ما نابت عنه، ولا شأن للمنادى بالعمل؛ فليست الجملة من معمولاته ولا مما يقتضي أن يكون من قسم الشبيه بالمضاف. ورأي ابن مالك أوضح وأيسر، ورأي ابن هشام أدق.
فإن كان المنادى نكرة جامدة فهي خالية من الضمير، ولا مكان -في الغالب- لمجيء الجملة أو شبهها حالا منه، ويتعين إعرابها صفة.(4/28)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرجى لكل عظيم، ويا حليما لا يعجل. وقول الشاعر:
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق
فالرجاء في الله وحلمه ثابتان قبل النداء، وكذلك قيام الدار ووجودها قبل أن يناديها الشاعر. فالنكرات المقصودة في الأمثلة السالفة وأشبابهها منصوبة. وقيل اكتسبت هي وصفتها التعريف بسبب النداء؛ لأن النداء حين جاء كانت الصفة والموصوف متلازمين مصطحبين، فأفادهما التعريف معا، وإن شئت فقل: إنه أكسب المنادى التعريف، وسرى هذا التعريف فورا من المنادى الموصوف إلى صفته، فالصفة هنا تتمة للمنادى؛ فهي بمنزلة المعمول من العامل. ومن أجلها انتقلت النكرة المقصودة1 إلى قسم الشبيه بالمضاف. وقيل إنها لا تنتقل للشبيه بالمضاف، ولكن يحسن فيها النصب.
أما إذا دلت القرينة الواضحة على أن وصف النكرة المقصودة كان بعد النداء فإن المنادى يجب -في الأغلب- بناؤه على الضم، ولا يصح نصبه، بالرغم من وجود صفة له. ذلك أن النداء حين دخل على النكرة المقصودة لم تكن موصوفة، فاستحقت البناء وجوبا. فإذا جاءت الصفة بعد ذلك فإنما تجيء بعد أن تم البناء على الضم وتحقق، فلا تكون مكملة للنكرة المقصودة التكميل الأصلي الذي يخرجها إلى قسم الشبيه بالمضاف، الواجب النصب. والمنادى في هذه الصورة إذ لا مانع في هذه الصورة من أن يوصف بالنكرة أو بما هو في حكمها -كالجملة- لأن تعريف الموصوف هنا طارئ غير أصيل2. والتعريف الطارئ على المنعوت لا يوجب في النعت المطابقة فيه. وإنما يجيزه، فمخالفة المطابقة في التعريف مغتفرة في هذه الصورة؛ "كما سيجيء"3.
__________
1 وفي ص34 صورة أخرى تنتقل فيها النكرة الموصوفة إلى قسم الشبيه بالمضاف.
2 راجع الخضري، ثم التصريح وحاشيته في هذا الباب عند الكلام على النكرة المقصودة غيرها. وسبق إيضاح هذا لمناسبة أخرى في باب "الإضافة" عند الكلام على أثر الإضافة غير المحضة "ج3 م93 ص29" ولها إشارة في باب النعت أيضا "ج3 م114 ص435".
3 في "د". وأما الصفة التي سبقت مجيء النداء فمطابقة في التعريف والتنكير للموصوف، حتما ولا تتغير المطابقة عد النداء.(4/29)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن لم توجد قرينة، تدل بوضوح على أن وصف النكرة المقصودة كان قبل النداء أو بعده جاز الأمران: النصب، والبناء على الضم.
ويرى بعض النحاة أن النصب جائز مطلقا في النكرة الموصوفة؛ سواء أكان وصفها قبل النداء أم بعده، ولا يرى حاجة للتقييد، بغير داع؛ إذ يصعب -في الأغلب- تحقيق القيد؛ بمعرفة أن الوصف كان قبل النداء أو بعده، ورأيه أيسر وأخف مؤنة، لخلوه من العناء، وإن كان أقل دقة في أداء المعنى من الأول؛ فالرأيان محمودان.
ولا يسري ما سبق على العلم الموصوف فإنه حين يوصف يظل على حاله في قسم المفرد العلم1، ولا يتركه إلى قسم الشبيه بالمضاف؛ لأن العلم ليس شديد الحاجة إلى الوصف شدة النكرة إليه.
ب- إذا كانت النكرة المقصودة اسما منقوصا، منونا، محذوف الباء للتنوين؛ "مثل" داع، مرتض، مستهد" -أو اسما مقصورا منونا محذوفا الألف "مثل: فتى، علا، غنى"- وبنيت على الضم. كأن الشأن في وجوب حذف تنوينها، وإعادة حرف العلة المحذوف أو عدم إعادته، هو ما تقدم2 في المفرد العلم في تلك الصيغتين، فكل ما قيل فيه من الأسباب والنتائج يقال هنا.
ح- هل يعد من النكرة المقصودة نداء المعارف المبنية أصالة قبل النداء وليست أعلاما "كالإشارة، وضمير المخاطب ... " فتبنى على الضم المقدر؟ ... راجع الشرح والتفصيل الذي بسطناه3.
د- تصير النكرة المقصودة التي لم توصف قبل النداء، معرفة بسبب النداء -كما شرحنا- فتعريفها به طارئ؛ فتوصف بالمعرفة، تبعا لهذا التعريف الطارئ، ويصح وصفها بالنكرة مراعاة لحالتها السابقة من التنكير؛ فتقول لرجل معين: يا رجلا المهذب، أو مهذبا. والأول أحسن4.
أما النكرة التي توصف قبل أن تنادى فإن صفتها واجبة المطابقة لها تعريفا وتنكيرا؛ فيجيء النداء وهي مطابقة قبل مجيئه فلا يغير المطابقة.
__________
1 راجع ما سبق في ص21 خاصا بهذا.
2 في رقم 2 ص15.
3 في رقم 3 من هامش ص91.
4 سبق بيان المراجع في هامش رقم2 من ص28.(4/30)
القسم الثالث: النكرة غير المقصودة1، وهي الباقية على إبهاهما وشيوعها كما كانت قبل النداء، ولا تدل معه على فرد معين مقصود بالمناداة؛ ولهذا لا تستفيد منها تعريف.
حكمها:
وجوب نصبها مباشرة، نحو: يا عاقلا تذكر الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وقول الشاعر:
أيا راكبا إما2 عرضت3 فبلعن ... نداماي4 من نجران5 أتلاقيا
القسم الرابع: المضاف. بشرط أن تكون إضافته لغير ضمير المخاطب6، سواء أكانت محضة؛ كقول الشاعر:
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه هجر
ويا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ومثل قول القائل:
يا أخا البدر سناء7 وسنا8 ... حفظ الله زمانا أطلعك
أم غير محضة كقول الآخر:
يا ناشر العلم بهذي البلاد ... وفقت؛ نشر العلم مثل الجهاد
حكمها:
وجوب النصب بالفتحة، أو بما ينوب عها.
__________
1 وتسمى اسم الجنس غير المعين -كما سبق في رقم 3 من هامش ص4.
2 "إما" هذه مركبة من "إن" الشرطية المدغم، فيها: "ما" الزائدة.
3 أتيت....
4 ندامى: جمع؛ من مفرداته: ندمان، وهو: المؤانس في مجلس الشراب.
5 بلد في اليمن.
6 مسايرة للأساليب العربية الصحيحة؛ فإنها لا تجمع في الجملة الواحدة الندائية التي ليست للندبة، خطابين لشخصين مختلفين. على حين يجب أن يكون المضاف غير المضاف إليه في المعنى، ومخالفا في المدلول؛ فبين مطلوب النداء ومطلوب أن الإضافة تعارض -وهذا في غير الندبة- فلا يصح أن يقال: يا خادمك؛ لأن النداء خطاب للمضاف؛ مع أن المضاف إليه هنا ضمير لمخاطب آخر غير المضاف -ولهذا إشارة في ص50 أما في الندبة فيجيء الكلام عليها في رقم 2 من هامش ص91.
7 شرفا ورفعة.
8 ضوءا.(4/31)
ويلحق بهذا القسم نداء: "اثني عشر، واثنتي عشرة" فينصب صدرها بالياء في أحد الرأيين اللذين سبق شرحهما1 -وهو الرأي المرجوع الذي يجعل الأعداد المركبة كلها من قسم المنادى المضاف.
وقد تفصل لام الجرد الزائدة بين المنادى والمضاف إليه، بشرط أن تكون زيادتها لضرورة شعرية، كما القائل2، في غادة:
لو تموت لراعتني، وقلت: ألا ... يا بؤس للموت، ليست الموت أبقاها
وقول الآخر3:
يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام
القسم الخامس: الشبيه بالمضاف: ويراد به كل منادى جاء بعده معمول يتم معناه، سواء أكان هذا المعمول مرفوعا بالمنادى، أو منصوبا به، أم مجرورا بالحرف -لا بالإضافة-4 والجار والمجرور متعلقان بالمنادى، أو معطوفا على المنادى قبل النداء، أم نعتا له قبل النداء أيضا ... 5.
حكمه:
كسابقه -وجوب نصبه بالفتحة، أو بما ينوب عنها، فمثال المعمول المرفوع قولهم: يا واسعا سلطانه، فإنه الظلم بلا على صاحبه، ويا عظيما جاهه لا تغتر؛ فإن الغرور رائد الهلاك. ومثال المنصوب قولهم: يا غاصبا ما ليس لك كيف تسعد؟ ويا آكلا مال غيرك، كيف تنعم؟ وقول حافظ في عمر بن الخطاب:
يا رافعا راية الشورى، وحارسها ... جزاك ربك خيرا عن محبيها
__________
1 في رقم 2 من هامش ص9 وهامش ص17 وهو الرأي الكوفي المرجوح، الذي يحتج بأن صورتها كالمتضايفين، وكذلك صور بقية الأعداد المركبة، ويوجب نصب صدورها.
2 هو جنادة العذري، ممن أدركوا الدولة الأموية.
3 هو جنادة الذبياني. وصدر البيت: قالت بنو عامر: خالوا بني أسد ... "يقال: خالي فلان قبيلته، أي: تركها". والمعنى: اتركوا بني أسد، ولا تجهلوا عليهم بالحرب -والبيت سبق في ج2 باب "حروف الجر" عند الكلام على اللام.
4 لأن المعمول إذا كان مجرورا بالإضافة كان المنادى هو المضاف؛ فيدخل في قسم المضاف، لا الشبيه به.
5 طبقا للبيان الخاص بالنعت في ص28.(4/32)
ومثال المجرور بالحرف وهما متعلقان بالمنادى قول شوقي:
يا طالبا لمعالي الملك مجتهدا ... خذها من العلم، أو خذها من المال
وكذلك المستغاث المجرور باللام الأصلية "كما سبق1، وكما يجيء".
ومثال المنادى المعطوف عليه قبل النداء ما سمي بمجموع المتعاطفين2 من أسماء الأعداد المتعاطفة قبل مناداتها، نحو: يا سبعة وعشرين - يا تسعة وأربعين ... و ... في نداء المسمى بهما معا. وتظل الواو عاطفة، ومنه قول الشاعر في نداء قصر يرثه، يسمى: خمسا وعشرين:
أخمسا وعشرين3 صرت خرابا ... فكيف؟ وأنت الحصين المنيع
وقد سبقت أمثلة النعت قبل النداء4.
"ملاحظة عامة" من كل ما سبق يتبين أن قسمين من أقسام المنادى الخمسة -هنا: المفرد العلم، والنكرة المقصودة- يبنيان في أكثر حالاتهما على الضمة أو فروعها، وأن الثلاثة الباقية -وهي النكرة غير المقصودة، والمضاف، وشبهه- منصوبة دائما.
__________
1 في ص13 و26 والبيان في ص79.
2 هما: المعطوف والمعطوف عليه.
3 علم على قصر فخم أشم، أقامه أحد ملوك الطوائف الأندلسية، واشتهر بهذا الرقم.
4 في ص28 وفي الأقسام الثلاثة الأخيرة يقول ابن مالك في بيت سبقت الإشارة إليه في ص27:
والمفرد المنكور، والمضافا، ... وشبهه، انصب. عادما خلافا
يقول: انصب المفرد المنكور "وهو النكرة الباقية على تنكيرها، وليست مضافة ولا شبيهة بالمضاف" وانصب كذلك المضاف، وشبه المضاف، بغير خلاف في نصب الثلاثة؛ إذ إنك لا تجد في نصبها خلافا ذا قيمة. ثم انتقل بعد ذلك مباشرة إلى أبيات ثلاثة شرحها وتفصيل الكلام عليها في مناسباتها الخاصة "ص27 وما بعدها" وهي:
ونحو: زيد ضم وافتحن من ... نحو: أزيد بن سعيد لا تهن
والضم إن لم يل الابن علما ... أو يل الابن علم، قد حتما
واضمم أو انصب ما اضطرارا نونا ... مما له استحقاق ضم بينا(4/33)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- في نداء الأعداد المتعاطفة1 المسمى بها قبل النداء -كالتي في الصفحة السالفة- يلاحظ أن المعطوف والمعطوف عليه يجب نصبهما معا عند النداء، بشرط أن يكونا -معا- علما على فرد واحد، سمي بهما قبل النداء؛ فنصب المعطوف عليه واجب؛ لأنه شبيه بالمضاف في الطول، ونصب المعطوف واجب؛ لأنه تابع للمعطوف عليه2 ... وفي هذه الصورة يمتنع إدخال حرف النداء على المعطوف؛ لأنه جزء من العلم يشبه الجزء الأخير من العلم: "عبد شمس" أو "عبد قيس"، أو غيرهما من الأعلام المضافة والمركبة؛ حيث لا يصح تكرار حرف النداء بين جزأي العلم عند مناداته.
وكذلك لو ناديت جماعة واحدة، معينة، مقصودة، عدتها هذه، وأردت المجموع فيجب نصب الجزأين؛ لأن المنادى نكرة مقصودة، لكنها طالت، بسبب العطف عليها، فصارت من قسم الشبيه بالمضاف، منصوبة، وما بعد الواو معطوف منصوب مثلها.
أما إذا كان المنادى أحد الأعداد المعطوفة، كخمسة وعشرين، ونظائرها، ولكن أردت بالأول وحده -وهو المعطوف عليه المنادى- جماعة معينة عددها خمسة، وأردت بالثاني -وهو المعطوف- جماعة معينة أخرى، عددها عشرون، وجب بناء الأول على الضم؛ لأنه نكرة مقصودة، ووجب نصب الثاني أو رفعه3؛ مراعاة لمحل المتبوع، أو لفظه، من غير مراعاة لبنائه، والأرجح في مثل هذه الصورة إدخال "أل" على الثاني؛ لأنه اسم جنس أريد به معين؛ فتدخل عليه "أل" لتفيده التعريف؛ إذ لم يدخل "عليه -مباشرة- حرف نداء يفيده ذلك،
__________
1 أي: المشتملة على معطوف عليه ومعطوف.
2 والإعراب السابق هو المختار عندهم. على الرغم من أن التسمية وقعت بكلمتين معا فإعراب كل واحد منهما على حدة مشكل -كما جاء في حاشية ياسين على التصريح في هذا الموضع- ثم قالت ما نصه: "إلا أن يقال: إن في إعراب كل بالإعراب الذي استحقه المجموع دفعا للتحكم. كقولهم: "الرمان حلو حامض".
3 هذا الرفع صوري ظاهري فقط؛ طبقا للبيان الآتي رقم3 من ص52.(4/34)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما الحرف الموجود فهو داخل على الأول، مقصور عليه، ولا مانع من الاستغناء عن "أل" هذه، ومجيء حرف نداء مكانها؛ ليفيد المعطوف تعريفا مباشرا، ويجب في هذه الصورة بناؤه على الواو؛ لأنه نكرة مقصودة، ولا تذكر معه "أل"؛ إذ لا تجتمع مع حرف النداء إلا على الوجه الذي سنشرحه في الصفحة التالية.
ب- وأيضا تعتبر النكرة المقصودة الموصوفة قبل النداء داخلة في قسم الشبيه بالمضاف. وقد سبق شرحها وتفصيل الكلام عليها1 ...
__________
1 في الزيادة والتفصيل ص28 - "ا".(4/35)
المسالة 129: الجمع بين حرف النداء، و"أل"
من أحكام النداء حكم عام تخضع له أقسامه الخمسة، هو: أنه لا يجوز نداء المبدوء "بأل" فلا يصح الجمع بينه وبين حرف1 النداء، إلا في إحدى الحالات الآتية:
الأولى: لفظ الجلالة: "الله"؛ نحو: "يا ألله2، سبحانك!! أنت القادرة على كل شيء، المنعم بفيض الخيرات"، والأكثر في الأساليب العالية عند نداء لفظ الجلالة أن يقال: "اللهم"، وهو من الألفاظ الملازمة للنداء3، نحو قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} . وكقول علي -رضي الله عنه- وقد مدحه قوم في وجهه: "اللهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم. اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون".
ويقال في إعرابه: "الله" منادى مبني على الضم في محل نصب، والميم المشددة المفتوحة عوض عن حرف النداء: "يا"، ومن الشاذ الجمع بينهما، كما في قول القائل.
إني إذا ما حدث ألما ... أقول: يا اللهم يا اللهما
__________
1 لا فرق في المنع بين "يا" أو أخواتها. وسبب امتناع الجمع -وهذا ما ذهب البصريين- مسايرة الكلام العربي الفصيح، فإنه يكاد يخلو من اجتماع أداتين ظاهرتين للتعريف، كيا، و"أل". أما دخول "يا" أو غيرها من أحرف النداء على العلم فلا مانع منه؛ لأن العلمية ليست بأداة ظاهرة. والكوفيون يجيزون الجمع بين "يا وأل" مطلقا -كما سيجيء في هامش ص39.
2 يجوز في همزة "أل" عند نداء لفظ الجلالة -الله، دون غيره- بالحرف "يا" أن تكون للقطع، فتظهر وجوبا في النطق وفي الكتابة، وتثبت معها ألف "يا" في النطق والكتابة. ويجوز اعتبارها همزة وصل؛ فتحذف مع ألفها نطقا وكتابة معا، وتحذف ألف "يا" نطقا فقط: لا كتابة، وقد تحذف الهمزة وألفها وتبقى ألف "يا" نطقا وكتابة.
3 كما سيجيء في ص68.(4/36)
ومن الجائز أن تحذف "أل" من أوله، ويكثر هذا في الشعر، كقول القائل:
لا هم إن العبد يمـ ... ـنع رحله؛ فامنع رحالك
وقول الآخر1:
لا هم هب لي بيانا أستعين به ... على قضاء حقوق نام قاضيها
فتكون كلمة: "لاه" هي المنادي المبني على الضم2 ...
ولا مانع أن يجيء بعد: "اللهم" صفة له؛ كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ويمنع هذا بعض النحاة؛ بحجة أن الأسماء الملازمة للنداء "ومنها: اللهم" ليست في حاجة إلى الفائدة التي يحققها النعت لغيرها، ويعرب الصفة إعرابيا آخر -كأن تكون نداء مستأنفا في الآية السالفة- والأنسب الأخذ بالإباحة3 ...
__________
1 هو: حافظ إبراهيم، في مطلع قصيدته المشهورة بالعمرية، في سيرة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
2 أما "ولاه" التي تتردد في النصوص القديمة كالتي في قول الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني، فتخزوني
فأصلها "لله" حذفت من أولها لام الجر.
3 هذا، وتستعمل صيغة: "اللهم" في النداء الحقيقي على الوجه السالف. وقد تستعمل قبل حرف من أحرف الجواب؛ لتفيد الجواب تقوية وتمكينا في نفس السامع، وتأكدا لمضمونه؛ كأنه يسأل سائل: أصحيح أن زكاة المال تقي صاحبها عوادي الأيام؟ فتجيب: اللهم، نعم، ومثل: أيخشى الحازم ركوب الأهوال لإدراك نبيل الأغراض؟ فتجيب؛ اللهم، لا. فكأنك تقول: والله، نعم، أو والله، لا، وقد تستعمل لإفادة الندرة، والدلالة على قلة الشيء أو بعد وقوعه وتحققه، كأن يقال: سأسافر لزيارة أخي. اللهم إذا أبى أن يجيء، وسأحدثه في شئونا الهامة، اللهم إذا لم يغضب، فمن النادر أو المستبعد أن يأبى الأخ زيارة خيه، أو الحديث معه.
وتعريف في الصورتين الأخيرتين -في الرأي الأنسب- كما تعرف في النداء الحقيقي. ولكن يزاد عند إعرابها: أن النداء غير حقيقي، وأنه خرج عن معناه الأصلي إلى معنى آخر؛ هو: تقوية الجواب وتمكينه وتأكيد مضمونة. أو إفادة الندرة والبعد ...(4/37)
الثانية: المنادى المشبه به؛ بشرط أن يذكر معه وجه الشبه؛ كقولك لمغن: يا البلبل ترنيما وتغريدا أطربنا - يا الشافعي فقها وصلاحا سر على نهجه - يا المأمون ذكاء وبراعة أحسن محاكاته، أي: يا مثل البلبل ... يا مثل الشافعي ... ، يا مثل المأمون ... فالمنادى في الحقيقة محذوف، قد حل محله المضاف إليه، فصار منادى بعد حذفه، ولا يصح1 يا "القرية" على إرادة: "يا أهل القرية" لأن الشرط هنا مفقود ...
الثالثة: المنادى المستغاث2 به، المجرور باللام المذكورة، نحو: يا للولد للولد. فإن لم يكن مجرورا باللام المذكورة لم يصح الجمع بين "يا" و"أل" فلا يقال: يا الوالدا للولد.
الرابعة: اسم الموصول المبدوء "بأل" بشرط أن كون مع صلته علما، نحو: يا ألذي3 كتب؛ في نداء مسمى بالموصول مع صلته. والأنسب هنا أن يقال فيه: "إنه مبني على ضم مقدر على آخره منع من ظهوره الحكاية في محل نصب". لأنه في هذه الصورة داخل في عداد الأشياء الملحقة بالمفرد العلم.
فإن لم توجد الصلة مع الموصول المبدوء بأل، وكانت التسمية بالموصول وحده لم يصح نداؤه؛ فلا بد لصحة ندائه أن تكون الصلة جزءا من العلم.
الخامسة: نداء العلم المنقول من جملة اسمية مبدوءة "بأل"؛ نحو: الرجل زارع؛ تقول: يا ألرجل3 زارع، سر على بركة الله.
السادسة: العلم المبدوءة "بأل" إذا كانت جزءا منه3، يؤدي حذفها
__________
1 على سبيل الحقيقة، لا المجاز.
2 سيجيء باب "الاستغاثة" وأحكامها في ص77. وأما الجمع فيها بين "يا، وأل" ففي رقم 3 من ص82.
3 الهمزة هنا للقطع بعد أن صارت في أول علم؛ فيجب إثباتها نطقا وكتابة في كل الأحوال؛ لأن المبدوء بهمزة وصل إذا سمي به يجب قطع همزته؛ لا فرق بين الفعل وغيره، ولا بين الجملة وسواها إلا لفظ الجلالة: "الله" فله عند النداء الأحكام الخاصة التي سبقت "في رقم 2 من هامش ص26" وقد نص "الخضري والصبان" على ما تقدم -في آخر باب النداء، ج3، وهو المفهوم أيضا من كلام "التصريح" ج2 في ذلك الموضع، وكذلك "المعنى" ج2 - الباب السابع.
وهذا إشارة في رقم 3 من هامش ص109 ويجيء له بيان أكمل في رقم 2 من هامش ص247.(4/38)
إلى لبس لا يمكن معه تعيين العلم المنادى؛ نحو: يا الصاحب - يا القاضي - يا الهادي، فيمن اسمه: الصاحب بن عباد، والقاضي الفاضل - والهادي الخليفة العباسي، وأمثالها، ولا التفات إلى الخلاف بين النحاة في هذا1.
السابعة: الضرورات الشعرية كقول الشاعر:
فيا الغلامان اللذان فرا ... إيا كما أن تعقبانا شرا
__________
1 وهذا رأي البصرييين. أما الكوفيون فيجيزون الجمع بين: "يا وأل" في غير الضرورة -كما تقدم في رقم 1 من هامش ص36.
وفيما سبق من حكم اجتماع "أل" وحرف النداء يقول ابن مالك مقتصرا على بعض المواضع:
وباضطرار خص جمع "يا" و"أل" ... إلا مع الله، ومحكي الجمل
والأكثر: "اللهم"، بالتعويض ... وشذ: يا "اللهم" في قريض
"في قريض: في شعر". وقد نص الناظم على امتناع الجمع بين "يا" و"أل" وهذا النص للتمثيل المجرد وليس مقصودا به التقييد بالحرف "يا" لما شرحنا من أن الجمع الممنوع يشمل "يا" مع "أل" كما يشمل أخوات "يا" مع "أل" أيضا.(4/39)
المسألة 130: أحكام تابع المنادى 1
من المنادى ما يجب نصب لفظه، ومنه ما: يجب بناؤه على الضم، ومنه ما يصلح للأمرين. وليس للمنادى حكم آخر في حالة الاختيار، إلا في الاستغاثة -وما في حكمها- عند جر المنادى باللام، كما سنعرف في بابها2.
أ- فإن كان المنادى منصوب اللفظ وجوبا وتابعه نعت، أو عطف بيان، أو توكيد وجب نصب التابع مطلقا3؛ مراعاة للفظ المتبوع؛ نحو، يا عربيا مخلصا لا تغفل مآثر قومك، وقول الشاعر:
أيا وطني العزيز رعاك ربي ... وجنبك المكاره والشرورا
وقول الآخر:
يا ساريا في دجى الأهواء معتسفا4 ... مآل أمرك للخسران والندم
ومثل: أجيبوا داعي الله يا عربا أهل اللغة الواحدة، والروابط الوثيقة، أو: يا عربا كلكم أو كلهم5 ... و ...
__________
1 أكثر النحاة من الخلاف المرهق، والتفريع الشاق في هذا الباب. وقد صفينا كل أحكامه وفروعه جهد الاستطاعة، مع البسط الذي لا غنى عنه أحيانا، ثم ختمناه بملخص -في ص57- لا يتجاوز أسطرا، فيه غنية للشادي، ومن لا يريد بسطا.
والتوابع أربعة معروفة، "هي: النعت، والعطف بنوعيه، والتوكيد، والبدل" وسبق إيضاحها وتفصيل الكلام عليها في آخر الجزء الثالث.
2 ص77.
3 أي: سواء أكان هذا التابع مقرونا بأل، أم غير مقرون -على الراجح فيهما- مضافا، أم غير مضاف.
4 يصح إعراب "معتسفا" نعتا، ويصح حالا؛ لوقوعها بعد نكرة موصوفة؛ هي: ساريا.
5 الضمير المصاحب لتابع المنادى يصح أن يكون للغائب أو للمخاطب. وهذه قاعدة عامة، تسري على توابع المنادى المنصوب، إلا إذا كان التابع اسم إشارة، فلا يصح أن يتصل بآخره علامة خطاب. وكذلك إن كان اسم موصول بالتفصيل الهام الآتي في رقم 2 من هامش ص49.
وتطبيقا لهذه القاعدة العامة نقول: يا عربا كلكم أو كلهم، أجيبوا داعي الله -يا هارون نفسك أو نفسه خذ بيد أخيك- يا هذا الذي قمت أو قام؛ أسرع للصارخ.(4/40)
وإن كان التابع بدلا أو عطف نسق مجردا من "أل"1 فالأحسن أن يكون منصوب اللفظ كالمتبوع؛ مثل: بوركت يا أبا عبيدة عامرا؛ فلقد كنت من أمهر قواد الفتح الأول، أو: بوركتما يا أبا عبيدة وخالدا ... ولا داعي للتمسك بالرأي الذي يجعلهما في حكم المنادى المستقل -وهو القسم الرابع الآتي2.
فالنصب هو الحكم العام لجميع توابع المنادى المنصوب اللفظ وجوبا، مع اشتراط التجرد من "أل" في: "عطف النسق3، غير أن نصب التوابع يكون واجبا في بعضها، وجائزا مستحسنا في بعض آخر؛ طبقا للبيان السالف4..
__________
1 وكذا المبدوء "بأل"؛ طبقات لما يأتي في نهاية البيان الذي في رقم 4 من هاشم هذه الصفحة.
2 في ص53.
3 إلا على الرأي الآتي في نهاية البيان الذي في رقم 4 من هامش هذه الصفحة.
4 يكاد النحاة يتفقون على الحالات الثلاث السالفة التي يجب فيها نصب توابع المنادى. أما التي يجوز فيها النصب -وهي حالة البدل. وعطف النسق المجرد من "أل"- فرأيهم مضطرب، وخلافهم بعيد المدى. فجمهرتهم -وهذا غريب- توجب اعتبار كل منهما بمنزلة منادى مستقل، يخضع لحكم المنادى المستقل -1- فنقول في البدل: بوركت يا أبا عبيدة عامر ... ببناء كلمة: "عامر" على الضم؛ لأنها مفرد علم. ويقولون: بورتك يا أمير الجيش يا أبا عليدة؛ بنصب كلمة: "أبا" لأنها في حكم المنادى المضاف. وقد بنوا حكمهم هذا على أساس "أن البدل على نية تكرار العامل" ولما كان العامل هنا -في رأيهم- هو حرف: "يا" أو أحد أخوته كان مقدرا وملحوظا قبل البدل أيضا، فكأنها تقول: "يا عامر، ويا أبا عبيدة". فالبدل بمنزلة منادى جديد يخضع لحكم النداء؛ كما قلنا.
وهذا الكلام مردود من ناحتين "وحبذا تركه، وترك الرد عليه، والاكتفاء بالحكم السالف الذي ارتضيناه".
أولاهما: أن القاعدة التي يتمسكون بها ليست قاعدة مطردة، ولا محل اتفاق، فالذي لا يؤمن بها -لأسباب عنده قوية- لا يجد مسوغا لإعراب التابع هنا منادى مبنيا على الضم؛ إذ لا وجه لهذا الإعراب عنده.
ثانيتهما: أن اعتبار التابع منادى بحرف ملحوظ مقدر، أو بالحرف المذكور في صدر الجملة "عند من يرى هذا" سيخرج التابع من نطاق التبعية ويدخله في نطاق آخر ليس موضوع البحث؛ هو نطاق: "المنادى". لهذا تساءل بعض المحققين: كيف نقول في أمثال تلك الكلمة إنها مبنية على الضم لتبعيتها المنادى، مع أن التبعية إما أن تكون لمراعاة اللفظ أو المحل، والمنادى هنا منصوب مباشرة، ليس له محل. فكيف نعتبرها تبعا له؟ ... "راجع حاشية ياسين على شرح التوضيح في هذا الموضوع" ... =(4/41)
وهناك حالة يجب فيها جر التابع -في رأي النحاة- هي التي يقع فيها المتبوع "المنادى" مجرورا باللام -وهذا لا يكون إلا في الاستغاثة، وما في حكمها- نحو: يا للوالد والوالدة فالأولاد1.
__________
= وشيء آخر أهم من الجدل السالف؛ هو ما نص عليه سيبويه -في الجزء الأول من كتابه ص304- قال للخليل: "أرأيت قول العرب: "يا أخانا زيدا أقبل". قال: عطفوه "أي: هو عطف بيان" على هذا المنصوب، فصار نصبا مثله. وهو الأصل؛ لأنه منصوب في موضوع نصب. وقال قوم: يا أخانا زيد -بالبناء على الضم- وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله، وهو قول أهل المدينة. قال هذا بمنزلة قولنا: يا زيد؛ كما كان قوله: يا زيد أخانا. بمنزلة: "يا أخانا" فيحمل وصف المضاف إذا كان منادى. ويا أخانا زيدا أكثر في كلام العرب لأنهم يردونه إلى الأصل ... ". ا. هـ.
ومن هذا النص الحرفي يتبين أن النصب هو الأصل، وأنه الأكثر في المسموع، وهذا هو الأهم. فلم نعدل عنه إلى غيره مما ليس له قوته، ولا كثرته، ولا وضوحه، وإن قال به قوم، أو اعتبروه عطف بيان، بلا رغم وضوح البدلية في المثال؟
ب- أما عطف النسق المجرد من "أل" فيقولون: إن حرف العطف معه بمنزلة عامل النداء فكأن حرف العطف داخل على منادى مستقل تجري عليه أحكام المستقل، فيبنى على الضم في مثل: بوركت يا أبا عبيدة وخالد؛ لأنه مفرد علم، وينصب في مثل: بوركتم يا جنود الفتح وأبا عبيدة، بنصب كلمة "أبا" معربة. فما معنى أن حرف العطف بمنزلة العامل؛ إن قلنا في كلمة: "خالد" إنها منادى، فليست إذا بمعطوفة؛ لأن العطف يقتضي نصبها. وإن قلنا نها معطوفة على ما قبلها فما قبلها منصوب. فمن أين جاء البناء على الضم؟ قد يقال: إنه على تقدير حرف النداء المحذوف: "يا" وحرف النداء مع المنادى جملة معطوفة على الجملة الندائية الأولى، فلم يعتبر التابع هنا منادى، مع أنه لو وصف بكلمة: "ابن" أو "ابنة" لم يعتبر ... ؟. وفي هذا كله من الحذف والتقدير والضعف من بعض النواحي ما يقتضي تفصيل الرأي الذي يبيح النصب، وهو رأي يؤيده السماع أيضا ...
هذا إباحة النصب واستحسانه تشمل المبدوء بأل، والمجرد منها. غير أن الأفضل في المبدوء بأل أن يكون نصبه راجعا لاعتباره معطوفا على المنادى، أو لاعتباره مفعولا به لفعل محذوف، أو منصوبا بعامل آخر يقتضي النصب. ولا يصح اعتباره منادى بحرف نداء محذوف؛ لما يترتب على هذا من الجمع بين "أل" وحرف النداء في غير المواضع التي يباح فيها الجمع. "انظر ما يتصل بالحكم السابق، في رقم 4 من ص53".
1 لا يجوز عند أصحاب هذا الرأي، إلا الجر في التابع؛ لأن المتبوع -المنادى- مجرور اللفظ بحرف جر أصلي. وإذا كان المنادى المستغاث مختوما بزيادة ألف الاستغاثة، نحو: يا عليا، ومحمودا" لم يجز في توابعه الرفع عند فريق، فلا يصح: "ومحمود" لأن المتبوع مبني على الفتح، ويجوز عند فريق آخر الرفع والنصب؛ لاعتبار المنادى مبنيا على ضم مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة -في محل نصب؛ فيجوز في توابعه الرفع الشكلي والنصب. وهذا الرأي أوضح وأنسب.
وسيجيء في ص45 وفي باب الاستغاثة ص81.(4/42)
ويخيز فيه فريق من النحاة أمرين: الجر مراعاة للفظ المنادى، والنصب مراعاة لمحله، وهذا الرأي أحسن -كما يجيء1 في بابها2.
ب- وإن كان المنادى مبنيا وجوبا على الضم -لفظا أو تقديرا- فتوابعه إما واجبة النصب فقط، وإما واجبة الرفع الشكلي فقط، وإما جائزة الرفع الشكلي والنصب، وإما بمنزلة المنادى المستقل، وفيما يلي بيان هذه الحالات الأربع:
1- يجب -على الأشهر- نصب التابع؛ مراعاة لمحل هذا المنادى، "ولا يصح مراعاة لفظه" في صورة واحدة، هي: أن يكون التابع نعتا3، أو عطف بيان، أو توكيدا، بشرط أن يضاف التابع في الثلاثة إضافة محضة -وهذه تقتضي أن يكون المضاف مجردا من "أل"؛ كقولهم: يا زياد أمير العراق بالأمس، نشرت لواء الأمن، وطويت بساط الدعة- يا أهرام أهرام الجيزة، أنتن من عجائب الآثار، شمر الإخوان من يساير الزمان؛ يقبل معه ويدبر معه؛ فاحذروا هذا يا أصدقاء كلكم4.
فإن لم يتحقق الشرط خرجت التوابع المذكورة من هذا القسم ودخلت في الحالة الثالثة الآتية5 "حيث يصح فيها الرفع الصوري؛ مراعاة شكلية للفظ المنادى، والنصب مراعاة لمحله"؛ كأن يقع التابع مفردا مقرونا بأل6؛ مثل:
__________
1 ص77.
2 وإذا علمنا بهذا الرأي صار النصب حكما عاما يشمل جمع أنواع التابع للمنادى المنصوب بالتفصيل السالف.
3 بشرط ألا يكون منعوته "المنادى" اسم إشارة، ولا كلمة: "أي" أو: آية ... وإلا وجب رفع النعت صورة. لدخوله في حكم الحالة الآتية الخاصة به، وهي الثانية.
4 انظر رقم 5 من هامش ص40.
5 انظر ص52. ويتضح الرفع الصوري بما في رقم 1 من هامش ص47.
6 انظر رقم 1 من هامش ص52.(4/43)
يا زياد الأمير، أو خاليا من "أل" ومن الإضافة المحضة1؛ مثل: يا رجل محمد -بالتنوين- أو محمدا، أو يكون مضافا إضافة غير محضة1؛ نحو: يا مسافر راكب2 السيارة، أو الراكب السيارة، حاذر عواقب الإسراع. أو يكون عطف نسق، أو بدلا، ولهذين حكمها الخاص ... إلى غير هذا مما سيجيء بيانه مفصلا3 ...
__________
1 و1 سبق الكلام عليها مفصلا أول الجزء الثالث.
2 لا يقال في هذا المثال وأشباهه إن النعت نكرة، بسبب إضافته غير المحضة، مع أن المنعوت نكرة مقصودة؛ وهي معرفة بالقصد والإقبال مع النداء -لا يقال هذا؛ لما سبق في رقم 1 من هامش ص128؛ وفي ص29 وفي "د" ص30" من أنه يتسامح في التعريف الطارئ كتعريفها. ولهذا لا يصح أن ينعت بالمضاف المذكور إلا النكرة المقصودة.
"راجع الصبان والخضري في هذا الموضع؛ ولها بيان سابق في ج3 "باب الإضافة" عند الكلام على أثر الإضافة م93 رقم 2 من هامش ص31 وكذلك في "باب النعت" هناك عند الكلام على المطابقة م114 ص435".
3 في ص52 وإلى وجوب النصب السالف أشار ابن مالك في باب مستقل عنوانه: "فصل" قائلا:
تابع ذي الضم المضاف دون "أل" ... ألزمه نصبا؛ كأزيد ذا الحيل
"المراد: "بذي الضم"، هو المنادى المبني على الضمة، وما ينوب عنها، من كل ما يكون في آخر المنادى العلم، والنكرة المقصودة، ويشمل المبني قبل النداء".
يقول: إن تابعه المضاف المجرد من "أل" يلتزم النصب، ومثل بمثال هو: "أزيد" ذا الحيل، أي: يا زيد؛ صاحب الحيل. فالمنادى: زيد، مبني على الضم، وتابعه هو "ذا" نعت منصوب بالألف وهو مضاف، و"الحيل" مضاف إليه. وقد يفهم من ظاهر البيت أن جميع توابع المنادى المبني على الضم لازمه النصب، بشرط الإضافة والخلو من "أل" وكذلك توابع المنادى الذي ليس مبنيا على الضم، وهو المنادى المنصوب اللفظ -لكن يمنع م هذا الفهم ويزيله قوله بعد ذلك مباشرة:
وما سواه ارفع أو انصب، واجعلا ... كمسنقل نسقا وبدلا
فقد صرح في هذا البيت بأن حكم عطف النسق والبدل كحكم المنادى المستقل "يعربان في حالات ويبنيان في حالات" وما عداهما مما لا يدخل في نطاق البيت الأول واختصاصه يجوز رفعه ونصبه. ولما كان بيته الثاني يدل على أن عطف النسق مطلقا "مجردا من أل أو مقرونا بها" يجري عليه حكم المنادى المستقل وهذا غير صحيح إلا في المجرد -أسرع وتدارك الأمر في البيت الثالث حيث يقول:
وإن يكن مصحوب "أل" ما نسقا ... ففيه وجهان: ورفع ينتقى
=(4/44)
"وتجب الإشارة إلى أن حركة التابع المرفوع على الوجه السالف ليست حركة إعراب ولا بناء؛ ولذلك ينون إذا خلا من أل والإضافة1 و ... فهي طارئة لتحقيق غرض معين، هو: المشاركة الصورية في المظهر اللفظي بين التابع والمتبوع؛ فلا تدل على شيء غير مجرد المماثلة الشكلية، ومن التساهل في التعبير أن يقال في ذلك التابع إنه مرفوع. أما الإعراب الدقيق فهو: أنه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها ضمة الاتباع الشكلية للفظ المنادى -كما سيجيء في القسم الثالث".
ومن النحاة من يوجب النصب في صورة ثانية2؛ هي التي يكون فيها المنادى المبني على الضم مختوما بألف الاستغاثة؛ نحو: يا جنديا وضابطا، أدركا المستغيث. فلا يجوز عنده في التابع -مهما كان نوعه، ومنه كلمة: "ضابطا" في المثال- إلا النصب مراعاة لمحل المنادى المبني على الفتح الطارئ بسبب الألف. لكن التحقيق والترجيح يقطعان بجواز النصب، وبجواز الرفع المباح في توابع المنادى المبني على الضم3.
2- ويجب رفع التابع مراعاة شكلية للفظ ذلك المنادى في صورتين:
إحداهما: أن يكون التابع نعتا، ومنعوته -المنادى- هو كلمة: "أي" في التذكير، "وأية" في التأنيث؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
__________
= "ينتقى= يختار" كذلك يفهم من البيت الثاني أن الرفع والنصب جائزان في تابع المنادى إذا كان المنادى "أي" أو "أية". وهذا غير صحيح كما شرحناه في القسم الثاني الواجب رفعه. ولمنع هذا الفهم صرح بأن النعت بعدهما يجب رفعه واقترانه "بأل" وأنهما لا يوصفان إلا بمرفوع مقترن بها. وكذلك اسم الإشارة المنادى لا يكون نعته إلا مرفوعا مقترنا بها "وله تفصيلات أوضحناها في الشرح الآتي" يقول:
و"أيها" مصحوب "أل" بعد صفة ... يلزم بالرفع لدى ذي المعرفة
و"أي هذا" "أيها الذي" ورد ... ووصف: "أي" بسوى هذا يرد
وذو إشارة كأي في الصفة ... إن كان تركها يفيت المعرفة
1 كما سيجيء في ص52 لأن المبني لا ينون في الغالب.
2 تقدمت الأولى في ص43.
3 راجع ما سبق في رقم 1 من هامش ص42 وما يأتي في ص81.(4/45)
فَاسْتَمِعُوا لَهُ} ، وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} . "فأي وأية" مبنيتان على الضم في محل نصب؛ لأن كلا منهما منادى، نكرة مقصودة. و"ها" حرف تنبيه زائد زيادة لازمه لا تفارقهما1 وكلمتا: "الناس والنفس". "وأشباههما"، نعتان متحركان بحركة مماثلة وجوبا لحركة المنادى، مراعاة لمظهره الشكلي2 فقط، مع أنه مبني، وهما صفتان معربتان، منصوبتان محلا، لا لفظا3 "أي: أنهما منصوبتان تبعا لمحل المنادى" بفتحة مقدرة على الآخر، منع من ظهورها ضمة المماثلة للفظ المنادى في صورته الشكلية4؛ فالضمة التي على آخرهما هي الحركة الطارئة للمشاركة، ولا توصف بإعراب، ولا بناء -كما تقدم5.
وكما يجب الإتباع بالرفع الشكلي الصوري في صفة "أي وأية" يجب -في
__________
1 ويجوز حذف ألفها وتحريكها إذا لم يقع بعدها اسم إشارة.
2 لهذا المظهر الشكلي بيان مفيد في ج1 م7 ص98 موضوع: أنواع الإعراب.
3 والمازني يجيز في لفظهما النصب أيضا -كما سيجيء في رقم 1 من الهامش التالي، وكذا في أشباههما مما يكون نعت: "أي أو أية" وله ما يؤيده من السماع، ومن بعض القراءات القرآنية -وإن كانت تلك القراءة شاذة- كما صرح بهذا الصبان. وشذوذها لا يمنع محاكاتها بعد أن قرئ بها القرآن.
4 وقد تكون ضمة المماثلة مقدرة؛ كقول المتنبي:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
يريد: يا أيها المولى. ويكون لهذه الضمة المقدرة من الآثار في التوابع وغيرها ما يكون للظاهرة. كما أشرنا.
5 انظر ص49 وإلى هذه الصورة يشير ابن مالك بقوله السالف:
و"أيها" مصحوب "أل" بعد صفة ... يلزم بالرفع لدى ذي المعرفة
"بعد، الأصل: بعد كلمة: "أيها" يريد: ما كان نعتا مبدوءا بأل بعد كلمة: أيها -يلزم بالرفع، وقتصر عليه. ثم بين بعد ذلك ما يصلح نعتا لأي وأية عند النداء، مقتصرا على اسم الإشارة والموصول:
و"أي هذا" "أيها الذي" ورد ... ووصف أي بسوى هذا يرد
يريد: ورد عن العرب: "أي هذا، وأيها الذي"؛ فالنعت الوارد مقصور على اسم إشارة واسم الموصول المبدوء بأل. ونعت "أي" بغيرهما يرد، أي: يرفض ويستبعد.(4/46)
الشائع- كذلك في صفة صفتهما، وفي كل تابع آخر للصفة ففي مثل: "بارك الله فيك يأيها الطبيب الرحيم"، يتعين الرفع وحده في كلمة: "الرحيم" التي هي صفة للصفة، لعدم ورود السماع بغيره، بالرغم من أن المنعوت.. الطبيب في محل نصب، فعدم ورود السماع بالنصب يقتضي امتناع نصب التابع، وعدم إباحته مطلقا، لا لفظا ولا محلا1..
__________
1 يحتاج هذا الحكم إلى نوع من التفصيل والإيضاح الذي يزيل أثر الخلاف النحوي، واضطراب الآراء فيه، ويبين ما سبقت الإشارة إليه "في رقم 3 من هامش ص46".
نقل الأشموني -وغيره- أن كلمة: "أي" إذا نوديت كانت نكرة مقصودة مبنية على الضم وتلزمها "ها" التنبيه، وتؤنث أي "لفظا" لتأنيث صفتها؛ نحو: يا أيها الإنسان - يا أيها النفس ... ويلزم تابعها الرفع. وليس المراد بالرفع رفع الإعراب، وإنما المراد به ضمة الإتباع التي يقصد بها مجرد المشاكلة والمماثلة لحركة المتبوع. وهذه الضمة لا توصف بإعراب، ولا بناء -كما قرره الصبان، وبسطناه من قبل- وأجاز المازني "كما في رقم 3 من هامش الصفحة السابقة" في هذا التابع نصبه، قياسا على غيره من تابع أنواع المنادى المبني على الضم ...
ثم قال الأشموني:
إنما لزم رفع التابع لأنه المقصود بالنداء، وقد جاءت "أي" وصلة ووسيلة لنداء ما فيه "أل". وهنا قال الصبان ما نصه الحرفي:
"قوله: "إن المقصود بالنداء هو التابع" -ومع ذلك ينيغي ألا يكون محله نصبا؛ لأنه بحسب الصناعة ليس مفعولا به، بل تابع له. ويؤيد هذا قول ابن المصنف، وسيذكره الشارح "الأشموني" أيضا: إنه لو وصفت صفة "أي" تعين الرفع". ا. هـ.
ومن الكلام السابق تبين صراحة أن التابع لا يكون هنا منصوبا مطلقا، لا لفظا، ولا محلا. لكن الصبان قال بعد ذلك كلاما قويا موافقا للضوابط والأصول العامة يعترض على ما سبق، ونصه:
"أنا أقول: يرد عليه أن تابع ذي محل، له محل متبوعه. وحينئذ ينبغي أن يكون محل تابع "أي" نصبا، وأن يصح نصب نعته. ويؤيده ما قدمناه -قريبا قبل ذلك بصفحتين- عن الدماميني في: "يا زيد الظريف صاحب عمرو" أنه إ، قدر: "صاحب عمرو" نعتا للظريف، لفظ به كما يلفظ النعت؛ إن رفعا فرفع، وإن نصبا فنصب، على ما بيناه سابقا. اللهم إلا أن يكون منع نصب نعت تابع "أي" لعدم سماعه أصلا.
"نعم يصح ما بحثه من أنه ليس لتابع "أي" محل نصب، ولا يجوز نصب نعته على اعتبار أن رفع التابع هو رفع إعراب، وأن عامله فعل مقدر مبني للمجهول، والتقدير: "يدعى العاقل" كما مر لكن ما بعد "أي" على هذا التقدير ليس تابعا لأي في الحقيقة، فلا يظهر حمل كلامه على هذا مع قوله: "إنه تابع له. فتأمل". ا. هـ.
فالصبان يرى أن تابع "أي" لا بد أن يكون منصوبا محلا مثل المتبوع "أي" لأن كلمة "أي" مبنية على الضم في محل نصب" والشأن في التابع -دائما- أن يكون له محل كمحل المتبوع. وهذا كلام صحيح قوي لا يعترض الأخذ به إلا عام ورود السماع به، وللسماع الأهمية الأولى في انتزاع حكم لا يعتوره عيب أو ضعف ... من أجل ذلك كان الاقتصار على رأي الأشموني -ومن وافقه- أنسب؛ مبالغة في الاحتياط؛ لأنه رأي متفق عليه؛ إذ لا يعترض عليه الصبان -أو غيره- وإنما يرى الصبان أن يزيد عليه إباحة النصب المحلي، وهذه الإباحة قد أضعفها عدم ورود السماع بها.(4/47)
ثانيتهما: أن يكون التابع نعتا، والمنعوت -المنادى- اسم إشارة للمذكر، أو للمؤنث؛ جيء به للتوصل إلى نداء المبدوء "بأل"1؛ لأن المبدوء بها لا يجوز مناداته بغير واسطة -إلا في بعض مواضع سبقت-2 نحو: يا هذا السائح، لا تتعجل في حكمك، ويا هذه السائحة لا تتعجلي ... فالمنادى مبني على ضم مقدر في محل نصب؛ فيجب رفع النعت في المثالين وأشبهاههما، رفعا صوريا؛ لا يوصف بإعراب، ولا بناء -كما سبق- وإنما هو رفع جيء به مراعاة شكلية للضم المقدر في اسم الإشارة المنعوت -المنادى- ولا يصح النصب؛ لأن النعت هنا بمنزلة المنادى المفرد المقصود، لا يصح نصب لفظه نصبا مباشرا.
ووجود النعت على هذه الصورة ضروري، ليدل على المشار إليه، ويكشفه. ويجب مطابقة اسم الإشارة للمشار إليه في الإفراد والتذكير وفروعهما.
أما إن كان المراد نداء اسم الإشارة فيجوز في التابع الأمران3 -كما سيأتي في القسم الرابع.
__________
1 وفي هذا يقول ابن مالك بيتا ألمحنا له في ص45:
وذو إشارة كأي في الصفة ... إن كان تركها يفيت المعرفة
"ذو إشارة: المنادى الذي هو إشارة" يريد: أن المنادى إذا كان اسم إشارة فإنه يحتاج -كأي- إلى نعت معرفة مرفوعة مقرونة "بأل" من اسم جنس، أو اسم موصول. ولا يصح هنا أن يكون نعته اسم إشارة مثله -كما سيجيء في رقم 2 من ص50 وبين أن حاجة اسم الإشارة للنعت واجبة إن أدى ترك النعت إلى عدم معرفة المشار إليه. أما إذا لم يؤد لذلك فالنعت ليس واجبا.
2 في ص36.
3 لأن التابع سيعرب في هذه الحالة صفة، أو عطف بيان، وكلاهما مفرد، فيدخل في القسم الرابع الذي يجوز فيه الأمران.(4/48)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- يجب إفراد "أي، وأية" عند وقوعهما منادى؛ فلا يصح أن تلحقهما علامة تثنية، أو جمع؛ سواء أكانت صفتهما مفردة أم غير مفردة؛ نحو: يا أيها الناصح اعمل بنصحك أولا -يا أيها المتنافسان ترفعا عن الحقد- يا أيها الطلاب أنتم ذخيرة البلاد. يا أيتها الناصحة اعلمي ... - يا أيتها المتنافستان - يا أيتها الطالبات اعملن ...
أما من جهة التأنيث والتذكير فالأفضل الذي يحسن الاقتصار عليه عند النداء -وإن كان ليس بواجب- هو أن تماثل كل منهما صفتها، فمثال التذكير ما سبق، ومثال التأنيث أيضا: يا أيتها الفتاة أنت عنوان الأسرة - يا أيتها الفتاتان أنتما عنوان الأسرة - يا أيتها الفتيات أنتن عنوان الأسرة. ويجوز في "أي" المجردة من التاء، عدم المماثلة "ولكنه ليس الأحسن" فتظل بصورة واحدة للمذكر والمؤنث، ولا يصح هذا في "أية" المختومة بالتاء، فلا بد من تأنيث صفتها المؤنثة.
ولا بد من وصف "أي وأية" عند ندائهما؛ إما باسم تابع في ضبطه لحركتهما اللفظية الظاهرة وحدها1 معرف بأل الجنسية في أصلها، وتصير بعد النداء للعهد الحضوري، وإما باسم موصول مبدوء بأل2، وإما باسم إشارة مجرد من
__________
1 يجيز فيه بعض النحاة النصب -طبقا لما سبق في رقم 3 من هامش ص46 مراعاة للمحل كنظاره- أما الذين يمنعون النصب فحجتهم أن نصبه لم يرد في المسموع.
2 اشترط "الهمع" ج1 ص175 أن يكون الموصول مصدرا بأل، وصلته خالية من الخطاب؛ فلا يقال: يا أيها الذي قمت. في حين نقل الصبان "ج3 أول فصل: تابع المنادى" صحة ذلك قائلا ما نصه: "ويجوز: يا أيها الذي قام، ويا أيها الذي قمت". ا. هـ. والظاهر أن الذي منعه "الهمع" ليس بالممنوع، ولكنه غير الأفصح في الكلام المأثور؛ بدليل ما قرره أكثر النحاة ونصه: "كما نقله الصبان ج3 أول تابعا لمنادى؛ تعليقا على المثال النحوي الذي عرضه الأشموني؛ وهو: يا تميم كلهم، أو كلكم":
"الضمير في تابع المنادى يجوز أن يكون بلفظ الغيبة؛ نظرا إلى كون لفظ المنادى اسما ظاهرا، والاسم الظاهر من قبيل الغيبة، وبلفظ الخطاب؛ نظرا إلى كون المنادى مخاطبا؛ فعلمت أنه يجوز أيضا يا زيد نفسه، أو نفسك. قاله الدماميني ... ". ا. هـ. ثم قال الصبان بعد ذلك: "ويجوز يا أيها الذي قام وا أيها الذي قمت". ا. هـ.
وقد أشرنا لما سبق في ج1 م19 ص184 وفي ص343 أيضا.(4/49)
كاف الخطاب1، ويتحتم -في الرأي الأشهر والأولى- أن يكون اسم الموصول واسم الإشارة تابعين في ضبطهما لحركة المنادى الشكلية الظاهرة وحدها؛ فيكون كل منهما مبنيا في محل رفع فقط2؛ تبعا لصورة المنعوت -المنادى- نحو: يا أيها العلم الحفاق، تحية، ويا أيتها الراية العزيزة سلمت على الأيام، أو: يا أيها الذي يخفق فوق الرءوس، ويا أيتها التي ترفرفين سلمت ... ومن الأمثلة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ، وقول الشاعر:
أيها ذا الشاكي وما بك داء ... كن جميلا تر الوجود جميلا
فإن كانت "أل" ليست جنسية بأن كانت زائدة في أصلها ولكنها صارت بعد النداء للعهد كالمحمدين، أو: زائدة لازمة لأنها قارنت الوضع؛ مثل: السموءل والتسع، أو غير لازمة، مثل اليزيد، أو للمح الأصل كالحارث، أو للغلبة كالنجم ... -لم يصح النعت بما دخلت عليه؛ فلا يقال: يا أيها السيف، ولا يا أيها الحرب، لرجلين اسمهما: سيف وحرب، ولا يا أيها المحمدان ... أو المحمدون. وكذلك لا يقال: يا أيها ذاك العالم؛ لاشتمال الإشارة على كاف الخطاب1. وإذا وصفت "أي وأية" باسم الإشارة السالف فالأغلب وصفه أيضا باسم مقرون بأل، كالبيت المتقدم3 ...
2- إذا اقتضى الأمر وصف اسم الإشارة المنادى أو غير المنادى فالأغلب أن يكون الوصف معرفة مبدوءة بأل الجنسية بحسب أصلها "وتصير بعد النداء
__________
1 و1 منعا لاشتمال الجملة الواحدة -في غير الندبة- على خطابين لشخصين مختلفين، بالإيضاح الذي سبق "في رقم 6 من هامش ص31" سواء أوجدت إضافة؛ كالمثال الذي هناك، أم لم توجد؛ كالمثال الذي هنا.
2 وبعضهم يجيز النصب، على المحل -طبقا لما سلف في رقم 1 من هامش ص94.
3 وفي الجزء الثالث م114 ص337 إشارة لهذا.(4/50)
للعهد الحضوري"، أو: باسم موصول مبدوء "بأل"1، نحو: يا هذا المتعلم، حصن نفسك بالخلق الكريم، والطبع النبيل؛ فإن في هذا التخصين كمال الغاية، وتمام المقصد - يا هؤلاء الذين آمنوا كونوا أنصار الله ... ، ولا يصح أن يكون النعت اسم إشارة2.
ومن الجائز إعراب هذا الاسم المبدوء "بأل" عطف بيان؛ سواء أكان مشتقا كالمثال السالف، أم غير مشتق؛ نحو: يا هذا الرجل ... لكن الأحسن إعراب المشتق نعتا، وإعراب الجامد عطف بيان.
ويقول النحاة: ليس من اللازم أن يوصف اسم الإشارة إلا إذا كان وصله لنداء ما بعده، ولم يكن هو المقصود بالنداء؛ لدليل يدل على ذلك. أما إن قصد نداء اسم الإشارة، وقدر الوقف عليه "بأن عرفه المخاطب بدون نعت، كوضع اليد عليه ... " فلا يلزم نعته. ولا رفع نعت نعته3.
3- يتردد في هذا الباب لفظ: "المنادى المبهم" يريدون به: "المنادى الذي لا يكفي في إزالة إبهامه النداء، ومجرد القصد والإقبال، وإنما يحتاج معه إلى شيء آخر يكمل تعريفه"، ويقصدون: "أي". و"أية" "واسم الإشارة" لشدة احتياج كل منها إلى الصفة بعده.
أما في غير النداء فيريدون بالاسم المبهم: الإشارة، واسم الموصول4 ... وبعض الظروف وأسماء الزمان التي سبق الكلام عليها في بابها من الجزء الثاني.
__________
1 انظر رقم 1 من هامش ص47 السابقة لأهميته.
2 سبق النص على هذا في رقم 1 من هامش ص48 وهناك شروط أخرى يجب تحقيقها إذا كان المنعوت اسم إشارة. وقد سبق بيانها في باب النعت "ج3 م114 ص377".
3 لأن حكم نعت النعت في هذه الحالة هو حكم النعت.
4 طبقا لما سبق في أول الموصول ج1 م26.(4/51)
3- ويجوز رفع التابع ونصبه في المفرد من نعت، أو عطف بيان، أو توكيد، وكذلك في النعت المضاف المقرون بأل1، وفي عطف النسق المقرون "بأل"؛ نحو: يا معاوية الحليم؛ بلغت بالحلم المدى. أو الواسع الحلم، بنصب كلمتي: الحليم، و"الواسع" مراعاة لمحل المنادى، وبضمهما مراعاة صورية شكلية للحركة اللفظية الظاهرة في المنادى من غير أن يتأثر النعت ببناء المنادى؛ فالمنادى مبني على الضم، أما النعت فمعرب شكلا، ولكن الحركة التي على آخره حركة عرضية، لا تدل على إعراب أو بناء؛ ولهذا يجب تنوين التابع إذا خلا مما يعارض التنوين كأل والإضافة، "كما سبق"2 فقد أريد منها أن تشابه حركة المنعوت في الصورة اللفظية المحضة. ويقال في إعراب النعت ما أشرنا به، وهو: أنه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الضمة التي جاءت للإتباع والمشاركة بين حركة النعت ومتبوعه المنادى3، ومن التسامح في التعبير أن يقال في هذا التابع مرفوع.
ومثل: يا أحمد المتنبي قتلك غرورك. برفع "المتنبي" أو نصبه على التوجيه السالف. ومثل: أنتم ذخيرة الوطن يا طلاب أجمعون، أو أجمعين، برفع كلمة: أجمعون، أو نصبها، ومثل: يا محزون والمكروب، إن حمل الهموم جنون ... وفي هذه الصورة الأخيرة، لا يصح اعتبار التابع كالمنادى المستقل عند من يرى ذلك، ولا ملاحظة حرف نداء قبله؛ إذ لا يجتمع هنا حرف النداء و"أل"4 ...
__________
1 اقترانه "بأل" يقتضي أن تكون الإضافة غير محضة؛ لأنها هي التي تجتمع و"أل". وتكاد تنحصر هذه الإضافة في تابع واحد هو النعت؛ لأن الغالب عليه الاشتقاق حيث تشيع تلك الإضافة. أما عطف البيان فالأغلب أن يكون جامدا؛ فلا تجتمع فيه الإضافة و"أل". وأما التوكيد المعنوي فألفاظه معارف -كما سبق في بابه- فلا تقترن "بأل" التي للتعريف. ومن المهم ملاحظة الفوارق بين هذا التابع الذي يجوز فيه الأمران، والتابع الذي يجب نصبه، وقد سبق في "1" ص73.
2 في ص45.
3 يتضح الرفع الصوري بما في رقم 1 من هامش ص47 ولا ينطبق الحكم السابق على النعت المنادى النكرة المقصودة إلا بشرط أن يكون طارئا بعد ندائها. أما النعت السابق على ندائها فيجعلها شبيها بالمضاف واجب النصب "كما سبق في ص28" فيتعين نصب النعت.
4 انظر ما سبق متصلا بعطف النسق ص34.(4/52)
4- ويعتبر التابع كالمنادى المستقل عند فريق من النحاة دون فريق1 إذا كان بدلا، أو كان عطف نسق خاليا من "أل"2؛ فيبنى كل منهما على الضم إن كان مفردا معرفة -بالعلمية أو بالقصد- وينصب إن كان مضافا أو شبيها بالمضاف؛ فمثال البناء على الضم: يا جيش قادة3 وجندا أنت حمى البلاد، ببناء كلمة: "قادة" على الضم، كبنائها لو كانت منادى. وكذلك لو قلنا: يا قادة وجنود أنتم حمى البلاد؛ فتبنى كلمة: "جنود" على الضم ما دام الخطاب لمعين في الصورتين.
ومثال النصب: يا جيشُ جيشَ الوطن تيقظ، أو: يا شباب وغير الشباب، لا تقصروا في إنهاض البلاد. بنصب كلمتي "جيش" و"غير"، لإضافتهما، فهما في حكم المسبوقتين بأداة النداء ...
والأحسن عند مجاراة هذا الفريق الأخذ بالرأي القائل: إن عامل البناء على الضم وعامل النصب هو حرف النداء المذكور في أول الجملة4 ...
وأفضل من كل ما سبق الاقتصار على النصب؛ مجاراة للفريق الآخر الذي لا يوافق على اعتبار البدل وعطف النسق المجرد من "أل" في حكم المنادى المستقل للأسباب التي أسلفناها5.
ج- وإن كان المنادى6 مما يصح نصبه وبناؤه على الضم فأمره محصور
__________
1 سبق عرض الرأيين في رقم 4 من هامش ص41.
2 لأن المبدوء بأل لا ينادى إلا في مواضع سبقت في ص36.
3 على اعتبار كلمة: "قادة" بدل جزء من كل، برغم خلوها من الضمير؛ لأن المبدل منه قد استوفى كل أقسامه، أو لأن الضمير الرابط محذوف؛ أي: قادة منه وجند.
"وقد سبق تفصيل هذا في ج3 ص487 م23 باب: البدل".
4 لن يترتب على الأخذ بهذا الرأي فساد، وهو خال من كل اعتراض ينشأ عن الرأي القائل إن العامل هو الحرف: "يا" المحذوف الملحوظ، أو عامل آخر محذوف؛ كفعل أو شبهه. وقد تقدم "في رقم 4 من هامش ص41" تفصيل الرأيين، وسبب الترجيح.
5 في رقم 4 من هامش ص41.
6 هذا هو القسم الأخير من الأقسام الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها في أول ص40.(4/53)
-غالبا- في نوعين، لكل منهما حكمه وحكم تابعه.
أولهما: المنادى الموصوف بكلمة "ابن" أو "ابنة"، وقد سبق تفصيل الكلام عليه1....
ثانيهما: المنادى المفرد الذي تكرر لفظه بشرط إضافة اللفظ الثاني المكرر: سواء أكان المنادى المفرد علما، أم اسم جنس، أم اسما مشتقا2 فمثال المكرر العلم: يا صلاح صلاح الدين الأيوبي: ما أطيب سيرتك!! وقول الشاعر:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى، وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
ومثال اسم الجنس المكرر: يا غلام القوم كن أمينا على أسرارهم، ومثال المشتق المكرر: يا راصد راصد النجوم. ماذا رأيت من عجائب الكون؟ ...
وحكم المنادى في مثل هذا الأسلوب جواز النصب، والبناء على الضم. وحكم التابع وجوب النصب في الحالتين؛ طبقا للبيان التالي:
1- ففي حالة نصب الأول -أي: المنادى- يكون السبب راجعا إما: لاعتبار هذا المنادى مضافا للمضاف إليه المذكور في الكلام، والاسم الثاني المكرر مقحما3 بين المتضايفين "ويعرب توكيدا لفظيا للأول، أو مهملا زائدا" ... وإما: لاعتبار المنادى، مضافا إلى محذوف يماثل المذكور؛ وأصل الكلام: يا صلاح الدين صلاح الدين بإضافتين في الأسلوب الواحد، ويكون الاسم الثاني منصوبا على هذا لرأي -توكيدا لفظيا4 أو: بدلا، أو: عطف
__________
1 في ص18 و20 و21 بيان إعرابهما عند وقوعهما نعتا للمنادى.
2 سبب النصب على هذه الأنواع الثلاثة: أن بعض النحاة لا يوافق إلا على العلم.
3 أي: متوسطا بين شيئين متلازمين؛ وتوسطه بينهما -كما سيذكر- إما لأنه توكيد لفظي للأول، أو: لأنه زائد في رأي قوي يبيح زيادة الأسماء زيادة مطلقة لا توصف فيها بإعراب ولا بناء تبعا للبيان الذي في رقم 3 من هامش الصفحة التالية والأول أحسن؛ إذ لا خلاف في صحته.
4 لا يقال: كيف يعرب توكيدا لفظيا مع اتصاله بما لم يتصل به الأول، ومعا اختلاف نوع التعريف بينهما؛ إذ تعريف الأول بالعلمية أو بالنداء -على خلاف في ذلك؛ سبق تفصيله في رقم 2 من هامش ص11- وتعريف الثاني بالإضافة؛ لأنه لا يضاف إلا بعد تجرده من العلمية؟
لا يقال ذلك؛ لأنه يكفي في التوكيد اللفظي ظاهر التعريف وإن اختلف جهته، أو اتصل به شيء "كما سبق في باب التوكيد ج3 ص388 م16".(4/54)
بيان، أو: مفعولا به لفعل محذوف، أو: منادى بحرف "يا" المحذوف1. ومع جواز هذه الخمسة يحسن اختيار الأنسب منها للسياق، والأوضح في أداء الغرض.
وجدير بالتنوين أننا إذا اعتبرنا الثاني مقحما بين المتضايقين، وأعربناه توكيدا لفظيا، "مسايرة للأحسن" وجب اعتبار فتحته إعراب2 كالمتبوع. أما إذا اعتبرناه زائدا3 فهو مهمل لا يعرب توكيدا. ولا بدل، ولا غيرهما، وفتحته هي فتحة مماثلة ومشابهة للأول؛ فلا توصف بأنها فتحة بناء أو إعراب، وإنما هي حركة صورية للمشاكلة المجردة ...
2- وفي حالة بناء الأول على الضم -لأنه مفرد معرفة- يكون مبنيا على الضم في محل نصب، فينصب الثاني إما على اعتباره توكيدا لفظيا، أو بدلا، أو عطف بيان، مراعى في الثلاثة محل المنادى. وإما على اعتباره منادي مضافا مستقلا، أو على اعتباره مفعولا به لفعل محذوف4 ...
__________
1 ويجوز اعتبار الاسمين المذكورين بعد حرف النداء جزأين مركبين معا كتركيب الأعداد: ثلاثة عشر - أربعة عشر، وأخواتها؛ فيكون المنادى مجموعهما مضافا إلى ما بعد الثاني، وهذا المضاف منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها حركة البناء الأصلي "وهي حركة فتح الجزأين" فالفتحة التي على آخر الثاني هي فتحة البناء الأصلي، وليست فتحة الإعراب الآتية للنداء. أما الفتحة التي على آخر الاسم الأول فلا شأن لها بإعراب أو بناء؛ لأنها حركة هجائية لضبط بنية الحرف الهجائي التي هي فوقه.
2 على هذا الإعراب يصح الفصل بين المتضايفين بالتوكيد اللفظي؛ لاتحاده بالأول لفظا ومعنى، وتكون فتحة التوكيد فتحة إعراب. وكان حقه أن ينون ولكن يغتفر عدم تنوينه بقصد المشاكلة بين الاسمين.
3 وإذا كان زائدا -عند من يجيز زيادة الأسماء- فالفصل به جائز بين المتضايفين، ولا يعتبر فصلا، لاتحاده بالأول لفظا ومعنى -كما سبق- وكان حقه التنوين، فترك للمشاكلة بين الاسمين، وعلى هذا فتحته فتحة إتباع للأول؛ لا توصف بإعراب ولا بناء.
4 وإلى هذا القسم "ج" يشير ابن مالك في بيت ختم به هذا الفصل:
في نحو: سعد سعد الأوس ينتصب ... ثان، وضم، وافتح أولا تصب
أي: في مثل: يا سعد سعد أوس -وامنادى وتابعه علمان في المثال- يجب نصب الثاني منهما. أما أولهما فقد طالب بضمه، أو فتحه، وحكم بالإصابة في الأخذ برأيه، والقاعدة -كما تضمنها البيت غاية في الإيجاز، وتفصيلها وإيضاحها على الوجه الأنسب معروض في الشرح.(4/55)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
إذا كان الاسم الثاني غير مضاف؛ نحو: يا صلاح، صلاح، أو: يا سعد سعد ... ، جاز بناؤه على الضم؛ إما باعتباره "وهذا هو الأحسن" منادى حذف قبله حرف النداء "يا"، وإما باعتباره توكيدا لفظيا يساير -هنا- لفظ المنادى في البناء، ويجوز نصبه باعتباره توكيدا لفظيا تابعا لمحل المنادى.
ولا يصح إعرابه بدلا؛ لأن البدل والمبدل منه لا يتحدان في اللفظ إلا بشرط أن يفيد البدل زيادة في البيان والإيضاح، وكذلك لا يصح أن يكون عطف بيان؛ لأن الشيء لا يبين نفسه1 ...
__________
1 وإنما صح البدل والبيان في الحالة السابقة التي يكون فيها الثاني مضافا لتحقق شرطهما فيه -كما سبق في ج3 ص401 عند تعريف عطف البيان.(4/56)
ملخص موجز يتضمن ما سبق من أحكام توابع المنادي:
جميع توابع المنادى يصح نصبها1، إلا فيما يأتي:
1- أن يكون المتبوع -المنادى- هو لفظ "أي" أو "أية" أو اسم إشارة. فيجب في حركة نعتها مشابهتها لحركة المتبوع مشابهة صورية فقط "أو نقول بالعبارة التي فيها التسمح: يجب رفع النعت في المظهر الشكلي، بقصد مماثلة حركته لحركة المنادى -بالتفصيل الذي سبق2، نحو: يا أيتها الفتاة، من كثر كلامه كثر خطؤه. ومثل: يا هذا الغلام لا تنس شكر من أحسن إليك.
2- أن يكون المتبوع -المنادى- مبنيا على الضم والتابع بدلا، أو عطف نسق مجردا من "أل"؛ فحكمهما حكم المنادى المستقل؛ عند فريق من النحاة. أما غيرهم فيجيز النصب -وهو الأنسب؛ ليكون حكم النصب عاما شاملا- نحو: جزيت خيرا يا عائشة زوج الرسول، فلقد كنت مرجعا وثيقا في شئون الدين -يا خديجة وعائشة كنتما خير عون للنبي صلى الله عليه وسلم.
3- أن يكون المنادى مجرورا باللام في الاستغاثة وما يلحق بهما؛ فيجب جر التابع، وهذا هو المشهور -أو نصبه3، نحو: يا للغني الممتلئ للجائع، ويا للقادر القوي للعاجز.
__________
1 قد يكون هذا النصب واجبا في مواضع، وجائزا في أخرى. فهو في الحالتين صحيح.
2 في رقم 2 ص45.
3 كما سيجيء في ص80.(4/57)
المسألة 131: المنادى المضاف إلى ياء المتكلم 1
هذا المنادى قسمان: قسم صحيح الآخر. وما يشبهه2، وقسم معتل الآخر، وما يلحق به3.
أ- فحكم صحيح الآخر وما يشبهه إذا كانت إضافتهما لياء المتكلم محضة4
__________
1 لهذا الموضوع صلة قوية بموضوع: "المضاف إلى ياء المتكلم" الذي ليس منادى، وقد سبق الكلام عليه في الجزء الثالث، م97 ص137، ولا يكاد أحدهما يستغني عن الآخر. وستجئ إشارة في آخر الباب ص67 إلى إضافة الأسماء الخمسة.
2 صحيح الآخر هو: ما ليس مختوما بأحد أحرف العلة الثلاثة "الألف، الواو، الياء". ومعتل الآخر؛ هو: ما في آخره حرف منها، فإن كان هذا الحرف ساكنا وقبله حركة تناسبه فهو حرف علة، ولين، وإن لم تكن قبله حركة تناسبه مع سكونه فهو حرف علة، ولين، وإن كان متحركا فهو حرف علة فقط. والمراد هنا: حرف المد -ولهذا إشارة في هامش ص105 رقم 2.
أما الذي يشبه صحيح الآخر، أو المعتل الآخر الذي يشبه الصحيح فهو ما في آخره حرف متحرك من حرفي العلة "الواو، الياء" مع سكون ما قبله، مثل صفو، شجو، نهي، غي ... وقد يكون الحرفان مشددين، أو مخففين؛ نحو: مرمي، مغزو، ظبي، دلو ... ، أما الألف فساكن مفتوح ما قبله دائما. ومن الشبيه أيضا: المختوم بياء مشددة للنسب ونحوه؛ "مما لم يكن نتيجة إدغام ياءين إحداهما ياء المتكلم" نحو: عبقري، بهي، شافعي، كرسي.. فخرج نحو: خليلي وصاحبي ووبني، وكاتبي.. فلهذا النوع -ويسمى: "الملحق بالمعتل الآخر" -كما سيجيء في الرقم التالي، وفي رقم 1 من ص722 -حكم خاص موضح في باب المضاف إلى ياء المتكلم من الجزء الثالث، وله موجز هنا آخر الباب ص65.
3 الملحق به هو: المثنى، وجمع المذكر، إذا أضيفا، وحذفت نونهما للإضافة، وختم آخرهما بالعلامة الخاصة بإعراب كل؛ وهي: الألف والياء للمثنى، والواو والياء لجمع المذكر السالم. فهذه العلامات ليست من بنية الكلمة، ولا تعد من حروفها، وإنما هي طارئة على آخرها لغرض الإعراب؛ بخلاف حرف العلة فإنه معدود من حروف الكلمة الثلاثية وجزء من بنيتها، وليس طارئا للغرض الإعرابي؛ لهذا لا يدخل في عداد المعتل كل من المثنى وجمع المذكر السالم إذا أضيفا وحذفت نونهما للإضافة وإنما يسميان ملحقان بالمعتل، لاشتراكهما معه من المظهر الشكلي، وفي بعض الأحكام التي سنعرفها في "ب" ص65.
4 أما حكم غير المحضة فيجيء في ص63.(4/58)
ومباشرة1 ما يأتي:
1- وجوب النصب بفتحة مقدرة إن كان المنادى مفردا2، أو جمع تكسير، أو جمع مؤنث سالما، ومن الأمثلة قول الشاعر يعاتب:
يا أخي، أين عهد ذاك الإخاء؟ ... أين ما كان بيننا من صفاء؟
وقول الآخر:
سألتني عن النهار جفوني ... رحم الله -يا جفوني- النهارا
ونحو: يا زميلاتي لكن تقديري وإكباري، ونحو: يا سعيي قد بلغت بي المدى. ويا صفوي إن أطلت الغياب فلن تهدأ نفسي ...
فكلمة: "أخ، جفون، زميلات"، "سعى، صفو" وأشباهها، منادى مضاف منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الكسرة التي جاءت لمناسبة الياء. "لأن هذه الياء يناسبها كسر ما قبلها" والياء مضاف إليه، مبنية على السكون في محل جر3 ...
2- يصح في هذه الياء ست لغات، بعضها أقوى وأكثر استعمالا من بعض. هي4:
حذف الياء مع بقاء الكسرة قبلها دليلا عليها؛ كالآية الكريمة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} 5 ونحو: استقبل العالم المخترع أعوانه وهو يقول: أهلا يا جنود، أهلا يا رجال، أنتم الفخر، ومجد البلاد.
__________
1 أي: بغير فاصل بين المتضايفين، وإلا تغير الحكم على الوجه الآتي في ص64 حيث يتعرض للفصل، وللإضافة غير المحضة..
2 أما المثنى وجمع المذكر السالم فملحقان بالمعتل -كما قلنا في رقم 3 من هامش الصفحة السالفة- ولهما حكمهما الخاص وسيأتي في ص66.
3 للإعراب المقدر "أو: التقديري" وكذا الإعراب المحلي أهمية وآثار لا يمكن إغفالها، وقد أوضحناها في بابهما الخاص، وهو باب: "المعرب والمبني" ج1 م6 ص84، وم16 ص198.
4 آثرنا الترتيب الآتي على غيره؛ مجاراة لكثير من النحاة اختاروه؛ بحجة أنه المطابق للوارد من كلام العرب، كثرة وقلة. وواجب المتكلم أن يتخير من هذه اللغات المتعددة ما هو أنسب للمقام، وأبعد من اللبس عند عدم القرينة؛ كالصورة الثانية والثالثة؛ حيث ثبتت في كل منهما الياء.
5 وقوله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} .(4/59)
والإعراب كالسالف، إلا أن الياء محذوفة هنا ...
بقاؤها مع بنائها على السكون في محل جر، للإضافة؛ نحو: يا جنودي ... يا رجالي ...
بقاؤها على الفتح بعد فتح ما قبلها، ثم قلبها ألفا1؛ نحو: يا فرحا بإنجاز ما فرض الله، ويا حسرتا على التقصير ... "والأصل2: يا فرحي، يا حسرتي ... ؛ فصار: يا فرحي ... ، يا حسرتي ... ، ثم صار: يا فرحا ... يا حسرتا ... " والمنادى هنا منصوب -والأيسر أن يكون منصوبا بالفتحة الظاهرة- وهو مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفا مضاف إليه، مبنية على السكون في محل جر3 ... ويجوز في هذه الصورة أن تلحقه هاء السكت عند الوقف؛ فتقول: يا فرحاه.... يا حسرتاه ...
قلب الياء ألفا على الوجه السالف، وحذف الألف، وترك الفتحة قبلها دليلا عليها؛ نحو: يا فرحَ ... ، يا حسرةَ ... وفي هذه الحالة يكون المنادى منصوبا مضافا، وياء المتكلم المنقلبة ألفا، المحذوفة، هي المضاف إليه4 ...
__________
1 لتحركها وفتح ما قبلها؛ تطبيقا لقواعد الإعلال والإبدال.
2 هذا الأصل -كغيره، أمثاله الكثيرة- خيالي محض. ومجرد فرض لا يعرف عنه العرب الأوائل شيئا. وإنما يراد منه ما يراد من أكثر الفروض المتخيلة؛ تيسير الوصول إلى النتائج والحقائق من طريق واضح مألوف. ومعلوم أن هذه الأصول الخيالية والفروض -كما رددنا في مناسبات متعددة- ليست مقصورة على الصناعة النحوية، فالنحاة في هذا كغيرهم من المشتغلين بسائر العلوم اللغوية وغير اللغوية. وقد أحسنوا وأفادوا، إلا حين يسرفون أو يتعسفون.
3 وإنما كان الأيسر والأوضح إعرابه منصوبا بالفتحة الظاهرة للفرار مما يتكلفه بعض المعربين حين يقولون: إنه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الكسرة المنقلبة فتحة لمناسبة الياء المنقلبة ألفا. وحجتهم: أنهم يريدون تسجيل الأطوار كلها، ولو أدى الأمر إلى الإطالة.
4 يقول ابن مالك في حكم الصحيح وشبهه، واللغات المتعددة التي في ياء المتكلم إذا كانت هي المضاف إليه:
واجعل منادى صح إن يضف ليا ... كعبد، عبدي - عبد، عبدا، عبديا
"صح= أي: صح آخره عبديا= أصلها: عبدي، وزيدت في آخرها ألف لأجل الشعر" يريد: إذا أضيف المنادى صحيح الآخر فاجعله كعبد، عبدي ... أي: على مثال واحد مما يأتي -ولم يذكرها مرتبة على حسب كثرة استعمالها. =(4/60)
بقيت اللغة السادسة؛ "وهي أضعف نظائرها، ولا تكاد تخلو من لبس في تبين نوعها، ومن اضطراب في إعرابها1؛ ولهذا يجب اليوم إهمالها، تبعا لرأي من أهملها من النحاة القدامى، فلم يذكرها بين اللغات الجائزة.
وتتلخص في حذف "الياء" -مع ملاحظتها في النية- وبناء المنادى على الضم "كالاسم المفرد المعرفة". ويقع هذا في الكلمات التي تشيع إضافتها، ليكون العلم بشيوع إضافتها قرينة ودليلا على حذف المضاف إليه، وأنه محذوف في اللفظ لكنه ملاحظ2 في النية ... كالكلمات: رب، وقوم، وأم، وأب ... وأشباهها مما يغلب استعماله مضافا؛ نحو: يا رب، وفقني إلى ما يرضيك - يا قوم، لا تتوانوا في العمل لما يرفع شأنكم - يا أم، أنت أكثر الناس عطفا علي، ويا أب، أنت أشدهم عناية بي ...
ومما سبق يتبين أن ثلاثا من اللغات الست تقتضي حذف الياء، وثلاثا أخرى تقتضي إثباتها.
__________
= يا عبد: مثال لما حذفت فيه ياء المتكلم مع بقاء الكسرة قبلها دليلا عليها - يا عبدي؛ لثبوت ياء المتكلم الساكنة المكسور قبلها - يا عبد: للمنادي الذي قلبت معه ياء المتكلم ألفا مفتوحا ما قبلها، وحذفت الألف - يا عبدا ... كالسابق، ولكن من غير ياء المتكلم المنقلبة ألفا - يا عبدي: للمنادى الذي أضيف لياء المتكلم المبنية على الفتح؛ فهذه خمس لغات اكتفي بها. ولم يتعرض للسادسة التي يحذف فيها المضاف إليه، ويبنى الاسم بعده على الضم، وقد شرحناها. وساق بعد هذا بيتا سيجيء شرحه في مكانه المناسب من هامش ص65 هو:
وفتح أو كسر، وحذف اليا استمر ... في: "يابن أم"، "يابن عم" لا مفر
1 سبب الاضطراب في إعرابها اختلافهم الشديد في الحكم على نوع المنادى: أيراعى أصله من ناحية أنه مضاف؛ فيكون منادى منصوبا بفتحة مقدرة، منع من ظهورها الضمة التي جاءت لمشابهته بالنكرة المقصودة في التعريف بالنداء وقصد الإقبال، "ولا بالعلمية، ولا بالإضافة، ولا بأل" - أم يراعى حالته الحاضرة من ناحية بنائه على الضم.
وهذا الخلاف ليس شكليا، وإنما له أثره في التوابع؛ أتكون واجبة النصب حتما، نتيجة للرأي الأول، أم يكون شأنها شأن توابعها لمنادى المبني على الضم، ولها أحكام مختلفة، سبق شرحها في ص40 وما بعدها؟
2 لأنها -وهي المشهورة بالإضافة- تدل إذا لم تكن مضافة إلى اسم ظاهر، أو إلى ضمير لغير المتكلم على أنها مضافة للمتكلم، والمتكلم أولى بذلك؛ لأن ضميره الياء يحذف أكثر من غيره.(4/61)
3- إن كان المنادى الصحيح الآخر هو كلمة "أب"، أو "أم" جاز فيه اللغات الست السابقة، ولغات أربع أخرى؛ وهي:
حذف ياء المتكلم، والإتيان بتاء1 التأنيث الحرفية عوضا عنها، مع بناء هذه التاء الحرفية على الكسر، أو على الفتح -وكلاهما كثير قوي- أو على الضم، وهو قليل، ولكنه جائز؛ نحو: يا أبت أنت كافلنا، ويا أمت، أنت راعيتنا ...
والمنادى في هذه الصور الثلاث منصوب بفتحة ظاهرة2 دائما. وهو مضاف. وياء المتكلم المحذوفة مضاف إليه. وجاءت تاء التأنيث عوضا عنها، مع بقائها حرفا للتأنيث كما كانت، وليست المضاف إليه ...
والصورة الرابعة -وهي أقلها من السماع الوارد، ولا يصح القياس عليها: الجمع بين تاء التأنيث السالفة التي هي العوض. وألف بعدها أصلها ياء المتكلم؛ نحو: يا أبتا ... يا أمنا.
وكقول الشاعر:
يا أمتا أبصرني راكب ... في بلد مسحنفر3 لاحب4
وقول الآخر:
يا أبتا علك أو عساكا ... ..........................
وفي هذه الصورة جمع بين العوض -وهو التاء- والمعوض عنه، وهو: الياء المنقلبة ألفا. ولذا قال بعض النحاة: إن هذه الألف ليست في أصلها ياء المتكلم؛ وإنما هي حرف هجائي، وزائد لمد الصوت. وهذا الرأي أوضح وأيسر في إعراب تلك الصيغ المسموعة.
__________
1 سبقت الإشارة لهذا "في باب الإضافة لياء المتكلم ج3 م97 ص146" والأكثر في هذه التاء أن تظل تاء عند النطق بها وقفا ووصلا، وأن تكتب تاء متسعة "أي" غير مربوطة" ويجوز كتابتها مربوطة, كما يجوز الوقف عليها بالهاء. لكن الأفضل الاقتصار على الرأي الأول الذي يقضي باعتبارها تاء متسعة في جميع أحوالها.
2 لأن تاء التأنيث توجب فتح ما قبلها دائما. ولا داعي للإطالة بأنه منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الفتحة التي جاءت لمناسبة التاء.
3 واسع.
4 معهود ممهد.(4/62)
هناك صورة أضعف من هذه، وأندر استعمالا في السماع الوارد، حتى خصها كثير من النحاة بالضرورة الشعرية، نذكرها لندركها إذا صادفتنا في بعض الكلام القديم، هي الجمع بين هذه التاء وياء المتكلم بعدها، أو الجمع بين ياء المنقلبة ألفا والتاء بعدها.
كقول الشاعر:
أيا أبتي1، لا زلت فينا، فإنما ... لنا أمل في العيش ما دمت عائشا
وقول الآخر:
كأنك فينا يا أبات2 غريب3 ... ................................
هذا، ولا تكون تاء التأنيث عوضا عن ياء المتكلم إلا في أسلوب النداء على الوجه السالف، دون غيره من الأساليب. ووجودها في آخر كلمتي: "أب، وأم" يحتم استعمال كل واحدة منهما منادى، ويمنع استعمالها في غيره4 ...
ونشير إلى أمرين هامين:
أولهما: أن الأحكام السابقة كلها مقصرة على المنادى صحيح الآخر، وشبهه إذا كانت إضافتهما محضة -كما أسلفنا-5 فإن كانت غير محضة فالمنادى واجب النصب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم منع من ظهورها الكسرة التي لمناسبة الياء. وهذه الياء ثابتة دائما ومبنية على السكون أو الفتح؛ كقولهم: "يا رائدي للهدى وقيت الردى، ويا مرشدي للخير صانك الله من الزلل". فالمنادى:
__________
1 والأيسر في الإعراب أن تكون كلمة: "أب" منادى منصوب مضاف والتاء عوض عن الياء المحذوفة. أما المذكورة فحرف هجائي ناشئ من بناء التاء على الكسرة مع إشباع هذه الكسرة. أو: أن التاء للتأنيث اللفظي، والياء بعدها مضاف إليه، وقد فصلت التاء بين المتضايفين.
2 ويقال في الإعراب: "أب" منادى، منصوب، مضاف إلى ياء المتكلم المنقلبة ألفا، والتاء حرف للتأنيث اللفظي، يضبط بالفتحة، أو الكسرة، أو الضمة -كما سلف.
3 وإلى بعض ما سبق -في نداء "أب" أو "أم"- يقول ابن مالك باختصار:
وفي الندا: "أبت"، "أمت"، عرض ... واكسر، أو افتح، ومن اليا التا عوض
يريد: عرض في النداء أسلوب خاص، هو: يا أبت، يا أمت بكسرة التاء، أو فتحها، وقد ترك الضم -ثم صرح أن التاء عوض من ياء المتكلم المضاف إليه، واقتصر على هذا تاركا التفصيلات التي عرضناها.
4 انظر رقم "1" من ص68.
5 في ص58.(4/63)
"رائد، ومرشد" منصوب وجوبا بفتحة مقدرة، والياء معهما مبنية على السكون أو على الفتح، ولا يصح حذفها. ولا بد معها أن يكون المنادى المضاف مفردا1.
ثانيهما: أن تلك الأحكام مقصورة على النوع السالف من المنادى المضاف إضافة محضة، بشرط أن يكون مضافا للياء مباشرة؛ كما تقدم2. فإن كان هو أو غيره من سائر أنواع المنادى مضافا إلى مضاف إلى ياء المتكلم وجب إثبات الياء وبناؤها على السكون، أو على الفتح3 ... كقولهم: يا طالب إنصافي، لا أعلم لك منصفا إلا عملك، إذا أحسنته جملك، وإذا أتقنته كملك، وقول الشاعر:
يا لهف نفسي إن كانت أموركمو ... شتى، وأحكم أمر الناس فاجتمعا
فيجوز: "إنصافي، أو: انصافي - نفسي، أو نفسي؛ بإسكان الياء أو فتحها".
ويستثنى من هذا الحكم أن يكون المنادى المضاف إلى مضاف لياء المتكلم هو لفظ: "ابن أم، أو: ابن عم، أو: ابنة أم، أو ابنة عم، أو بنت أم، أو بنت عم" فالأفصح4 في هذه الصور حذف ياء المتكلم مع ترك الكسرة قبلها دليلا عليها؛ "نحو: يابن أم كن على الخير معوانا لي، ويابن عم لا تقعد عن مناصرتي بالحق - يابنة أم ... يا بنت أم....
__________
1 يفهم من كل ما سبق أن المنادى المضاف الذي إضافته غير محضة، لا بد أن يكون -في الغالب- وصفا عاملا، ولا بد أن يكون مفردا أيضا؛ لأن المثنى وجمع المذكر السالم ملحقان بالمعتل في حكمه، وسيجيء في ص66 -فإذا أضيفا عند النداء لياء المتكلم وجب بناؤها على الفتح وحده- في الرأي الأصح.
2 في ص58 ...
3 ما لم تحتم الضرورة الشعرية الاقتصار على أحدهما.
4 قلنا: الأفصح؛ لأن هناك لغتين أخريين؛ أولاهما: إثبات الياء الساكنة، كقول الشاعر القديم في الرثاء:
يابن أمي، ويا شقيق نفسي ... أنت خلفتني لدهر شديد
وثانيتهما: قلبها ألفا؛ كقول الآخر:
يابنة عما لا تلومي واهجعي ... ......................................(4/64)
يا بنت عم ... " فالمنادى معرب منصوب، والمضاف إليه الأول مجرور بالكسرة الظاهرة قبل الياء المحذوفة.
ويجوز في الألفاظ السالفة حذف الياء بعد قلبها ألفا، وقلب الكسرة قبلها فتحة؛ فنقول: "يابن أم ... يابن عم ... يابنة أم ... يابنة عم ... يا بنت أم ... يا بنت عم...." قلبت ياء المتكلم ألفا بعد قلب الكسرة التي قبلها فتحة، ثم حذفت ياء المتكلم المنقلبة ألفا، وبقيت الفتحة قبلها دليلا عليها. فيقال عند الإعراب: إن المضاف إليه الأول مجرور بالكسرة المقدرة التي منع من ظهورها الفتحة التي جاءت للتوصل بها إلى قلب ياء المتكلم ألفا، وحذفت هذه الألف للتخفيف.
ويصح أن يقال في هذه الصورة: إن المنادى قد ركب مع ما أضيف إليه تركيبا مزجيا وصارا معا بمنزلة: "خمسة عشر" أو غيرها من الأعداد والألفاظ المركبة المبنية على فتح الجزأين. وعندئذ يقال في الإعراب: "يابن أم ... يابن عم - يابنة أم ... يابنة عم ... يا بنت أم ... يا بنت عم ... " "ياء" حرف نداء. وما بعدها منادى مضاف. منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها حركة البناء الأصلية التي هي فتح الجزأين، وياء المتكلم المحذوفة هي المضاف إليه. وتكون الفتحة التي على حرفي النون والتاء "في: ابن، وابنة، وبنت ... " حركة هجائية، لا توصف بإعراب ولا بناء1 ...
ب- إن كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم معتل الآخر، أو ملحقا2 به
__________
1 ويجوز -في الألفاظ السالفة- شيء آخر؛ هو إهمال الياء المحذوفة، واعتبارها كأن لم توجد، مع اعتبار المنادى وما أضيف إليه بمنزلة الاسم المركب تركيبا مزجيا، وإعرابه مبنيا على الضم المقدر؛ كأنهما كلمة واحدة مفردة معرفة. ولا يخلو هذا الوجه -على صحته- من ليس يدعو للفرار منه.
وقد أشار ابن مالك إلى بعض الآراء السالفة في بيت سبقت الإشارة إليه في هامش ص61، وهو:
وفتح أو كسر، وحذف اليا استمر ... في: "يابن أم" "يابن عم". لا مفر
يابن أم، يابن عم، أصلهما: يابن أمي - يابن عمي. ويريد بهما: المنادى المضاف إلى مضاف لياء المتكلم، وأن حذف هذه الياء مستمر معهما -على الأرجح - وأن الحرف الذي قبل الياء المحذوفة يصح تحريكه بالفتحة أو بالكسرة، ولم يذكر السبب، واستغنى بما سبق عن غيره مما سردناه.
2 بيان هذا الملحق في رقم 3 من هامش ص58.(4/65)
فحكمه هو ما كان يجري عليه قبل النداء، وقد سبق تفصيله1، ويتلخص في قاعدة واحدة2؛ هي: سكون آخر المضاف دائما، وبناء المضاف إليه على الفتح في الأفصح -وهذه القاعدة تنطبق على ما يأتي:
1- المقصور المضاف إلى ياء المتكلم؛ نحو: يا فتاي أنت عوني في السراء والضراء.
2- المنقوص المضاف إلى ياء المتكلم، وتدغم الياءان، وأولاهما ساكنة، والأخرى مبنية على الفتح؛ نحو: يا داعي للخير، لبيك من داع مطاع.
3- المثنى وشبهه؛ وتدغم ياؤه ساكنة في ياء المتكلم المبنية على الفتح3، كقول الشاعر في حديقة:
خذا الزاد يا عيني من حسن زهرها ... فما لكما دون الأزاهر من متع
4- جمع المذكر وشبهه؛ وتدغم ياؤه ساكنة في ياء المتكلم المبنية على الفتح؛ كقول الشاعر:
يا سابقي إلى الغفران. مكرمة ... إن الكرام إلى الغفران تستبق
5- المختوم بياء مشددة. وليس تشديدها للإدغام؛ ففي كلمة مثل: عبقري، يقال: أفرحتني يا عبقري. بحذف الياء الثانية من المشددة، وإدغام الأولى التي بقيت في ياء المتكلم المفتوحة.
ويصح حذف ياء المتكلم مع بقاء الياء المشددة قبلها مكسورة4؛ نحو: يا عبقري. لك إكباري وتقديري ...
ويصح قلب ياء المتكلم ألفا وحذفها. مع فتح الياء المشددة قبلها؛ نحو: يا عبقري ...
أما المعتل الآخر بالواو فشأنه من فصلناه هناك.
__________
1 ج3 م97 ص137.
2 هذا التلخيص لا يكاد يغني عن الرجوع إلى ما سبق من تفصيل وإيضاح، وعرض صور هامة كثيرة.
3 طبقا لما سلف في رقم 1 من هاتين ص64.
4 لتكون الكسرة دليلا على الياء المحذوفة.(4/66)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يجري على الأسماء الخمسة: "أب، أخ، حم، هن، فم" عند ندائها مع إضافتها لياء المتكلم ما يجري عليها بغير مناداتها. ذلك أن الرأي الفصيح الذي يحسن الاقتصار عليه هو إضافتها بحالتها الحاضرة، دون إرجاع لامها المحذوفة "أي: دون إرجاع حرفها الأخير؛ وهو: "الواو" المحذوفة" إذ الشائع أن أصل أبو، أخو، حمو، هنو، فوه. والميم زائدتان في: "فم" وفي "فوه" ...
فإذا أضيفت تلك الأسماء -وهي مناداة، أو غير مناداة- أعربت على حسب حاجة الجملة؛ وكسر حرفها الأخير الحالي لمناسبة الياء1؛ فتقول: يا أبي يا أخي، يا حمي، يا هني، يا في، ويصح في هذه: يا فمي.
وهناك رأي مستنبط من بضعة أمثلة مروية عن بعض القبائل، مؤداه: إرجاع الحرف المحذوف من آخر تلك الأسماء مع تسكينه قبل ياء المتكلم. وهذه الياء يجب بناؤها على الفتح، فتجتمع الواو والياء، وتسبق إحداهما بالسكون؛ فتقلب الواو ياء، وتدغم الياء في الياء2. ويكسر ما قبلها لمناسبتها؛ فتقول يا أبي، يا أخي ... وفي هذه الصورة تكون الكلمة معربة بحركة مقدرة منع من ظهورها السكون الواقع على الياء الأولى لأجل الإدغام3.
أما "ذو" التي تعرب إعراب الأسماء الخمسة فلا تضاف لضمير المتكلم.
ب- يجوز في كلمة: "ابنم" المبدوءة بهمزة الوصل، والمختومة بالميم الزائدة، ومعناها: ابن - إثبات الميم عند الإضافة وحذفها؛ نحو: يا بنمي، أو: يا بني؛ بإسكان الياء في الحالتين، وكسر ما قبلها.
__________
1 فهي بهذا تشبه صحيح الآخر من ناحية أن آخرها الحالي صحيح، وأنه يجب كسره لمناسبة ياء المتكلم "وقد سبقت إشارة لهذا في مناسبة أخرى: ج3 باب المضاف إلى ياء المتكلم ص138 م97".
2 إن كان أصل: "فم" هو "فيه" بالياء المحذوفة رجعت الياء ساكنة، وأدغمت في ياء المتكلم المبنية على الفتح.
3 وتكون الأسماء الخمسة كالمعتل؛ في إسكان آخرها وبناء الياء على الفتح.(4/67)
المسألة 132: الأسماء التي لا تكون إلا منادى
من الألفاظ ما لا يستعمل إلا منادى؛ فلا يكون مبتدأ، ولا خبرا، ولا اسما لناسخ أو خبرا له، ولا شيئا آخر غير المنادى1. وأشهر هذه الأسماء ما يأتي:
1- "أبت، وأمت" بشرط وجود تاء التأنيث في آخرهما على الوجه الذي فصلناه2 -ووجودها يحتم أن يكون كل منهما منادى، ولا يصح استعمالهما في شيء آخر معها- نحو: يا أبت، إني لك مطيع، ويا أمت إني بك بار. أي: يا أبي ... أي أمي.
2- "اللهم"، المختومة بالميم المشددة3، نحو: اللهم لا سعادة إلا فيما يرضيك، ولا شقاء إلا فيما يغضبك.
3- "فل" "بضم الفاء واللام معا"؛ وهي عند النداء كناية عن مفرد معين من جنس الإنسان. و"فلة"، و"بضم الأول وفتح الثاني" وهي عند النداء كناية عن مفردة معينة من جنس الإنسان كذلك؛ نحو: يا فل، عمل المرء عنوان نفسه، ودليل عقله - يا فلة، القصد يمن، وخير الكلام أصدقه. فالمنادى "فل، وفلة" مبني على الضم دائما في محل نصب.
ولا يعنينا أن يكون سبب التعيين هنا في الكناية ما يقوله بعض النحاة من أنها علم على إنسان، كسائر الأعلام الشخصية "مثل: محمد ... وفاطمة ... " أو: ما يقوله بعض آخر: إن سببه طارئ بالمناداة والقصد، وأنها نكرة مقصودة،
__________
1 ومن الأسماء ما لا يصلح أن يكون منادى؛ كاللام المضاف لضمير المخاطب؛ نحو: يا صديقك، وكضمائر غير المخاطب. "أما ضمير المخاطب ففريق يجيز نداءه؛ طبقا لما سلف في ص4" وكاسم الإشارة المتصل بكاف الخطاب -للسبب الذي في رقم 2 من هامش ص4- فلا يقال: يا ذاك. وكالاسم المبدوء "بأل" في غير المواضع المستثناة التي سبق ذكرها في ص35؛ فلا يقال: يا المكافح ستدرك مأربك ...
2 في ص62 وما بعدها.
3 في ص36 وهامشها الكلام على معانيها المختلفة، وطريقة إعرابها.(4/68)
مثل: يا رجل؛ لمعين، أو: يا فتاة؛ لمعينه، وقد عرفت النكرة بالنداء والإقبال ... -لا يعنينا شيء من هذا كله؛ لأن نتيجة الرأيين واحدة؛ هي بناء الكلمة بصورتها الحالية على الضم دائما، في محل نصب، وعدم استعمالها في غير النداء إلا لضرورة شعرية، وكذلك عدم استعمالها منادى منصوبا مباشرة؛ لأنها لا تكون مضافة، ولا شبه مضافة، ولا نكرة غير مقصودة؛ إذ السماع الوارد في لفظها يقتضي قصرها على المنادى المبني على الضم1 ...
__________
1 كما يقتضي ألا ينقاس عليها غيرها.(4/69)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
يدور الجدل حول أصل هاتين الكلمتين، ولولا ما له من أثر يساعد عند الرجوع على مادتهما اللغوية في المعاجم، وعند التصغير، والمشتقان ... لأهملناه. وملخصه:
أن فريقا من النحاة يرى أصل: "فل" و"فلة" هو "فلان" و"فلانة" وأنهما في النداء -كأصلهما- كنايتان عن علم شخص لرجل معين، كعلي ... وامرأة معينة؛ كزينب ... ، حذفت من آخرهما الألف والنون، للترخيم1 -برغم أن قواعده لا تسمح بهذا الحذف الكثير دفعة واحدة- وأن الألف والتاء زائدتان. وأما النون فأصلية؛ لأن مادة فعلهما الماضي هي: "فلن" وعند التصغير -إذا سمي بهما- يقال فيهما "فلين" و"فلينة"، وأنهما يختلفان في الاستعمال عن أصلهما الخالي من الحذف، فلا يستعملان إلا في النداء، أما أصلهما فيكون منادى وغير منادى.
ويوافق آخرون على هذا الرأي، إلا أنهم يعتبرون حذف تلك الحروف للتخفيف، لا للترخيم، وإلا وجب أن يقال في المذكر "فلا" وفي المؤنث "فلان" طبقا لقواعد2.
ويخالفهما كثير من البصريين؛ فيرى أنهما كلمتان مستقلتان، وليستا اختصار "فلان" و"فلانة" -كما يرى أنهما مختومتان بياء أصلية، حذفت تخفيفا؛ كحذفها من كلمة "يد"، فأصلهما: "فلي" و"فلية"3 وتصغيرهما
__________
1 سيأتي بابه في ص101.
2 وهذه القواعد تقضي بألا يحذف في الترخيم مع الآخر ما قبله من حرف مد زائد إلا إذا كان المرخم خماسيا فصاعدا. وكلمة: "فلان" أربعة أحرف فقط، فترخيمها هو: "يا فلا". كما تقضي تلك القواعد ألا يقال في التأنيث: "يا فلة"، وإنما يقال: يا فلان.
- راجع الصبان في هذا الموضع، وكذلك ص102 الآتية، وما بعدها.
3 وإذا حذفت الياء وجب تحريك اللام التي قبلها بالفتحة؛ لأن الفتحة هي التي تناسب تاء التأنيث.(4/70)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"فلي وفلية" ومادة ماضيهما "فلي" وأن منهما عند النداء فكرة مقصودة بالمناداة والإقبال؛ فتدل الأولى على رجل مقصود، وتعدل الثانية على امرأة مقصودة، ولا يرجعان في أصلهما إلى كلمتي: "فلان وفلانة" اللتين هما كنايتان عن علمين شخصيين أحدهما لرجل، والآخرة لامرأة -كما سبق- وهذا الرأي أوضح، وأبعد من التعقيد.
فالآراء متفقة على بناء "فل" و"فلة" على الضم1، مختلفة في أصلهما، في نوع المنادى؛ أهو مفرد علم، أم نكرة مقصودة؟ متفقة كذلك على أنهما لا يستعملان بصورتهما هذه إلا منادى. وأن كلمتي: "فلان" و"فلانة" تستعملان في النداء وغيره2، مع اعتبارهما، كنايتين عن علمي شخصيين لرجل معين، وامرأة معينة، ونونهما أصلية، ومادة فعلهما "فلن"2؛ تقول في استعمالهما في النداء: يا فلان، تضيع الغاية بين العجز والملل، ويا فلانة، من أعجب بنفسه ضاعت هيبته ... كما تقول في غيره: أسرع فلان إلى سماع محاضرة فلان ... وبادرت فلانة للإصغاء إلى فلانة أو فلان.
__________
1 ويجري على توابعهما حكم توابع المنادى المبني على الضم.
2 و2 راجع الخضري.(4/71)
4- لؤمان، وملأم "وكلاهما وصف بمعنى: كثير اللؤم والدناءة"، ونومان "وصف بمعنى: كثير النوم"؛ نحو: يا لؤمان أو: يا ملأم، من أساء إلى غيره حاقت به إساءته - يا نومان، الاعتدال في كل الأمور حميد. ويجوز في الثلاثة زيادة تاء التأنيث عند نداء المؤنث. ولا يقاس على هذه الثلاث المسموعة غيرها مما يشاركها في الوزن إذا كان غير مسموع. فكل واحد من هذه منادى مبني على الضم في محل نصب.
5- ملأمان، ومخبثان "وصفان بمعنى: لئيم، وخبيث" ... وغيرهما؛ من كل وصف على وزن: "مفعلان"، وأصل مادته -في الغالب- يدل على أمر مذموم. وقد يدل على أمر محمود، مثل: مكرمان، ومطيبان؛ "وهما وصفان بمعنى: عزيز مكرم، وطيب" ومن الأمثلة: يا ملأمان، من قبحت سيرته تقاسمته البلايا -يا مطيبان، من طابت سريرته سالمته الليالي.
ويجوز زيادة تاء التأنيث في: "مفعلان" عند نداء المؤنث.
والأنسب الأخذ بالرأي الذي يبيح القياس في هذه الصيغة؛ لكثرة الوارد بها، أما إعرابها فكالنوع السابق1 ...
6- ما كان وصفا على وزن: "فُعَل" بمعنى: فاعل؛ لذم المذكر وسبه، نحو: غُدَر، بمعنى: غادر، وسُفَه؛ بمعنى: سافه، وشتم، بمعنى: شاتم ... ، وغيرها مما هو على وزنها مع دلالة مادته في أصلها على السب والذم. ومن الأمثلة: يا غدر، لا صداقة معك، ولا أمانة لك ...
- يا سفه، مقتل الرجل بين فكيه ...
__________
1 اكتفى ابن مالك في الكلام على: "فل" و"فلة" ولؤمان وملائم، ونومان، بقوله في باب عنوانه: "أسماء لازمت النداء".
و"فل" بعض ما يخص بالنداء ... "لؤمان، نومان" كذا. واطردا ... 1
وختم البيت بقوله: "واطردا". وهذا الختام لا علاقة له بما سبقه، وإنما يتصل معناه بما يليه من حكم جديد يختص بوزن: "فعال" وهذا الاتصال معيب في الشعر عامة.(4/72)
والأنسب الأخذ بالرأي الذي يبيح القياس في هذه الصيغة بشرط دلالة أصلها على السب، كما يبيح استعمالها في غير النداء. أما إعرابها عند النداء فكالنوع السابق.
7- ما كان وصفا على وزن: "فعال" "فمعنى فاعل، أو: فعيلة" لسب الأنثى وذمها، وهو مبني على الكسر أصالة. وينقاس -في الرأي الأنسب- في كل ما له: فعل، ثلاثي، تام، مجرد، متصرف تصرفا كاملا، ومعناه السب والشتم؛ نحو: غدار وسراق، بمعنى: غادرة، وسارقة، ونحو: خباث، ولكاع؛ بمعنى: خبيثة، ولكيعة؛ أي: لئيمة وخسيسة. تقول: يا غدار؛ لا راحة لحسود، ولا عهد لغدار - يا خباث، لا هدوء مع خبث، ولا اطمئنان مع سوء نية1 ...
ومن الشروط السالفة يتضح أن وزن: "فعال" لا يصاغ من مصدر فعل غير مستوف لتلك الشروط؛ كالفعل: "دحرج" لأنه غير ثلاثي، والفعل؛ "كان" لأنه غير تام، والفعل "ليس"؛ لأنه جامد، والفعل يذر، أو: يدع لأن كلا منهما ناقص التصرف2 ...
أما إعرابها: فمنادى مبني على ضم مقدر منع من ظهوره كسرة البناء الأصلي -في محل نصب.
وبمناسبة الكلام على صيغة: "فعال" المبنية على الكسر أصالة، وأنها قياسية في الموضوع السالف بشروطها يستطرد النحاة فيقولون: إنها قياسية أيضا في موضع آخر، إذا تحققت تلك الشروط من غير اشتراط الدلالة على السب والشتم، وذلك الموضع هو: أنها تقع اسم فعل أمر مبني على الكسر دائما؛ مثل: تراك؛ بمعنى اترك ما آمرك بتركه - نزال، بمعنى: انزل إلى الحرب أو غيرها - شراب؛ بمعنى: اشرب، ومن هذا قولهم: شراب من ورد التجارب؛ فإنه خير الموارد. وقول الشاعر:
__________
1 ومثل قول الشاعر:
عليك بأمر نفسك يا لكاع ... فما من كان مرعيا كراع
2 في المشهور.(4/73)
تراك -يا صاحبي - ما ليس بحمده ... سراة1 قومك من أهل المروءات
وقول الآخر:
نزال إلى حيث المكارم تبتغي ... ألفا يناغيها، أمينا يصونها
وسيجيء2 تفصيل الكلام على هذه الصيغة في باب اسم الفعل ... 3.
وملخص ما سبق في هذا الباب:
أن في اللغة ألفاظا لا تستعمل إلا منادى؛ وهي أنواع ثلاثة:
__________
1 أشراف وعظماء، المفرد: سري.
2 في ص140 م141 وكذلك يجيء في رقم 1 من هامش ص260 بيان أنواعها المختلفة ومعانيها وحكم كل نوع من ناحية الإعراب والبناء.
3 ويقول ابن مالك -بإيجاز- في نداء ما هو على وزن: "فعال" الخاص بالأنثى، و"فعال" الخاص باسم فعل الأمر، و"فعل" الخاص بنداء المذكر:
.......................... ... .............. واطردا1
في سب الأنثى وزن: يا خباث ... والأمر هكذا من الثلاثي2
أي: اطرد في سب الأنثى: "يا خباث" وما كان على وزنها. والأصل: "فعال"، وما كان على وزنها. وهذا الوزن مطرد في الأمر أيضا، ومقصده اسم فعل الأمر، ثم قال:
وشاع في سب الذكور: "فعل" ... ولا تقس. وجر في الشعر "فل"3
فهو يقرر أن نداء ما كان على وزن: "فعل" خاصا بسبب المذكر، أم شائع، ومع شيوعه نهى عن القياس عليه. ومنع القياس عليه مناقض للحكم بأنه شائع؛ إذ الشيوع في الكلام الفصيح يبيح القياس، كما بيناه من قبل. لهذا يكون الأخذ بالرأي المجيز أنسب ما دام المعنى المراد واضحا.
وختم البيت بإباحة جر "فل" في الشعر للضرورة؛ لأن كلمة: "فل"، و"فلة" ملازمتان للنداء، كما عرفنا؛ فلا يصح جرهما إلا في تلك الضرورة؛ كالبيت الذي يرددونه:
تضل منه إبلي بالهوجل ... في لجة أمسك فلانا عن فل
"الهوجل هنا: الصحراء التي لا أعلام فيها. اللجة -بفتح اللام: الأصوات المختلفة". والبيت متصل بما قبله في وصف الإبل المتزاحمة في الصحراء مثيرة للغبار، يدفع بعضها بعضا. وقد شبهها بقوم في لجة -وهي اختلاط الأصوات في الحرب- يدفع بعضهم بعضا؛ فيقال: أمسك فلانا عن فل، أي: احجز بينهما.
يقول بعض النحاة إن "فل" الواردة في البيت ليست المختصة بالنداء، وإنما هي اختصار لكلمة "فلان" التي تكون منادى وغير منادى؛ فلا شاهد في البيت. ويرى غيرهم العكس ولا قيمة لهذا الجدل، لوضوح الرأي القائل بأنها ليست منادى.(4/74)
أ- نوع مقصور على السماع الوارد، لا يتجاوز الحكم لفظه ونصه الوارد إلى لفظ آخر، وأشهر ألفاظه: أبت، أمت، "الملازمين لتاء التأنيث"، اللهم، فل، فلة، لؤمان، ملأعم، نومان.
وكل هذا النوع منادى، مبني على الضم إلا "أبت وأمت"، فلهما حكمهما التفصيلي في الباب السابق1.
ب- نوع قياسي، وهو ما كان على وزن: "فعال" لسب الأنثى وذمها. وله شروط ... مثل: يا خباث - يا غدار ...
وهذا النوع منادى مبني على ضم مقدر من ظهوره كسرة البناء الأصلي في محل نصب. وهو غير النوع الذي على هذا الوزن، ويعرب اسم فعل أمر.
ج- نوع من قياسيته خلاف، والأحسن الأخذ برأي القائلين بقياسيته؛ لكثرة الوارد منه. ومن ألفاظه ما كان على وزن: "مفعلان"2 للذم "غالبا"، أو للمدح، ومنه: ملأمان، مخبثان، مكرمان، مطيبان.
ومن ألفاظه أيضا ما كان على وزن: "فعل" لذم المذكر وسبه، نحو: غدر، وسفه ...
وكل هذا النوع منادى مبني على الضم في محل نصب.
فالأنواع الثلاثة عند النداء تبنى على الضم الظاهر في محل نصب، إلا وزن: "فعال" فيبنى على ضم مقدر، وإلا أبت وأمت، ففي إعرابها التفصيل الذي سبق خاصا بهما.
__________
1 ص62.
2 وتزاد التاء في المؤنث.(4/75)
نداء المجهول - اسمه:
إذا أردنا نداء المجهول الاسم وجدنا في اللغة أساليب تختلف باختلاف ذاته ومكانته؛ فقد تقول له: يا رجل، يا شاب، يا فتى، يا غلام، يا هذا، أيها السيد، أيها الأخ، يا زميل ... كما نقول للأنثى: يا فتاة، يا شابة، يا سيدة أيتها الأخت، يا زميلة ... ، إلى غير هذا من الكلمات الصالحة للنداء، والتي يترك اختيارها لذوق المتكلم، وبراعته في حسن الاختيار الملائم للمقام، كما اختار العرب قديما، وكما يختار المتعلمون اليوم ...
ومما اختاره العرب أحيانا كلمة: "هن" لنداء المذكر المجهول، و"هنة" "بسكون1 النون أو فتحها" للمؤنثة المجهول؛ تقول: يا هن، لا تستشعر الوحشة في بلدنا؛ فالغريب بيننا قريب - يا هنة ماذا تبتغين؟ ... ويقولون في التثنية: يا هنان ... ، ويا هنتان ... وفي جمعي السلامة: يا هنون2 يا هنات.
وربما ختموا هذه الكلمات عند ندائها بالأحرف الزائدة التي قد تختم بها في الندية3؛ فيقولون في الإفراد: يا هاه، ويا هنتاه، وفي التثنية: يا هنانيه ويا هنتانيه، وفي الجمع: يا هنوناه، ويا هناتوه؛ بسكون الهاء الأخيرة في كل ذلك عند الوقف، وحذفها، وصلا. وقد تثبت وصلا في الشعر أو غيره؛ فتتحرك بالضم أو بالكسر.
ولما كانت "هن" و"هنة" متعددة المعاني اللغوية، ومن معانيها ما هو محمود وما هو مذموم، كان الأنسب اليوم أن نختار سواها عند نداء المجهول الاسم، وأن نهجرها بصورها وفروعها المختلفة.
__________
1 قال الصبان: إنه بسكون النون. وجاء في كثير من كتب اللغة بفتحها. ولعل الفتح أنسب لتاء التأنيث، وليساير المذكر في التحرك.
2 يجمعونه جمع مذكر، مع أن شروط جمع المذكر لا تنطبق عليه.
3 سيجيء بابها في ص89.(4/76)
المادة 133: الاستغاثة
...
المسألة 133: الاستغاثة
إذا وقع إنسان في شدة لا يستطيع -وحده- التغلب عليها، أو توقع أن يصيبه مكروه لا يقدر على دفعه ... ، فقد ينادي غيره لينقذه مما وقع فيه فعلا، أو ليدفع عنه المكروه الذي يتوقعه، ويخاف مجيئه ...
ومن الأمثلة: مناداة الغريق حين يُشرف على الموت؛ فيصرخ: "يا للناس للغريق". ومناداة الحارس زملاءه حين يرى جمعا من الأعداء مقبلا فيرفع صوته: "يا للحراس للأعداء". فهذه المناداة لطلب العون والمساعدة هي التي تسمى: "الاستغاثة"؛ ويقال في تعريفها إنها:
"نداء موجه إلى من يخلص من شدة واقعة بالفعل، أو يعين على دفعها قبل وقوعها".
أسلوبها وأركانه:
أسلوب الاستغاثة -على الوجه السالف- أحد أساليب النداء. ولا يتحقق الغرض منه إلا بتحقيق أركانه الثلاثة الأساسية؛ وهي: حرف النداء "يا"، وبعده -في الأغلب: "المستغاث به"؛ وهو المنادى الذي يطلب منه العون والمساعدة ... ويسمى أيضا: "المستغاث"1، وهذا الاسم الأكثر شيوعا هنا، ثم: "المستغاث له" وهو الذي يطلب بسببه العون؛ إما لنصره وتأييده، وإما للغلب عليه، كالمثالين السالفين؛ فهو الدافع للاستغاثة؛ لمعاونته، أو لمقاومته.
من هذه الأركان الثلاثة مجتمعة. يتألف الأسلوب الخاص بالاستغاثة الاصطلاحية2، مع مراعاة الأحكام الخاصة بكل ركن منها. وتتركز هذه الأحكام فيما يأتي:
__________
1 يقال: استغاث الصبي بوالده، أو استغاث الصبي والده؛ فالفعل يتعدى بنفسه تارة -وهذا هو الأكثر- وبالياء تارة أخرى، وهذا صحيح أيضا. فالوالد مستغاث، أو: مستغاث به.
2 هناك أساليب غير اصطلاحية؛ كأن يقول الخائف مثلا: إني أستغيث بك يا والدي -أدركني يا صديقي وخلصني- أيها النبيل ادفع عني السوء الذي ينتظرني ...(4/77)
أ- ما يختص بحرف النداء:
يتعين هنا أن يكون حرف النداء هو: "يا" دون غيره من إخوته، وأن يكون مذكورا1 دائما؛ نحو: يا للأحرار للمستضعفين ... فإن تخلف أحد هذين الشرطين لم يكن الأسلوب أسلوب استغاثة.
ب- ما يختص بالمستغاث "وهو: المنادى":
1- الغالب على المستغاث أن تسبقه لام الجر الأصلية. ومتى وجدت كانت مبنية على الفتح وجوبا؛ نحو: يا للطبيب للمريض، وقول الشاعر2:
يا للرجال لحرة موءودة3 ... قتلت بغير جريرة وجناح3
ووجود هذه اللام ليس واجبا، إنما الواجب فتحها يحين تذكر ... 4 ويستثنى من بنائها على الفتح حالتان، يجب فيهما بناؤها على الكسر.
الأولى: أن يكون المستغاث "ياء المتكلم"، نحو: يا لي للملهوف.
والثانية: أن يكون المستغاث غير أصيل؛ وذلك بأن يكون غير مسبوق "بيا"، ولكنه "معطوف" على مستغاث آخر مسبوق بها؛ فيكتسب من السابق معنى الاستغاثة، والمراد منها. نحو: يا للوالد وللأخ للقريب المحتاج. فكلمة "الأخ" ليست مستغاثا أصيلا، لعدم وجود حرف النداء "يا" معها، ولكنها استفادت معنى
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في رقم5 من ص3 وفي "أ" من ص5 ويجيء في ص82.
2 البيت لشوقي من قصيدة يرثي فيها منصب "الخلافة" الإسلامية التي آلت إلى سلاطين الترك، ثم ألغوها سنة 1929 وكان لإلغائها ألم عميق إذ ذاك. ومن الأمثلة قول الآخر يعاتب:
أتتركني، وأنت أخي وصنوي؟ ... فيا للناس للأمر العجيب
3 الموءودة: هي البنت التي كانت تدفن حية عقب ولادتها، كعادة بعض الأمم القديمة، ومنهم بعض القبائل العربية الجاهلية. والجريرة الإثم والذنب، وكذلك: الجناح.
4 فيما سبق يقول ابن مالك في باب عنوانه: الاستغاثة.
إذا استغيث اسم منادى خفضا ... باللام مفتوحا، كيا للمرتضى
"ستغيث اسم: أي: استغيث به. وخفض، أي: جر".
يريد: إذا نودي اسم مستغاث به وجب خفض المنادي؛ "أي: جره" بلام مبنية على الفتح، نحو: يا للمرتضى.(4/78)
الاستغاثة من "المعطوف عليه" المستغاث الأصيل الذي قبله "يا" وهو الوالد. ففي هذه الصورة -والتي قبلها- يجب كسر اللام الداخلة على المستغاث.
ويترتب على عدم ذكر "يا" مع المعطوف شيء آخر، هو صفحة ذكر لام الجر معه، وحذفها؛ نحو: يا للطبيب وللممرض للجريح، أو: والممرض للجريح.
فإن ذكرت "يا" مع المعطوف كان مستغاث أصيلا كالمعطوف عليه، ووجب فتح اللام معهما في المواضع التي جب فيها بنائها على الفتح؛ كقول الشاعر:
يا لقومي، ويا لأمثال قومي ... لأناس عتوهم في ازدياد1
2- جميع أنواع المنادى المستغاث، المجرور بهذه اللام الأصلية، المسبوق بالحرف: "يا"، معرب -إذا تحققت شروط ثلاثة-2 منصوب؛ فهو مجرور لفظا، منصوب محلا3. حتى المفرد العلم، والنكرة المقصودة، فإنهما يعتبران -حكما؛ بسبب هذه اللام- من قسم المنادى المضاف، الواجب النصب4، ويلحقان به، فكل؛ منهما مجرور اللفظ، منصوب المحل، "كغيره من بقية أنواع المنادى المستغاث، المسبوق بالحرف: "يا"، والمجرور باللام الأصلية". لهذا يقال في إعراب المستغاث في الأمثلة السابقة5 "وهي: للطبيب ... يا للرجال ... وأشباهها" اللام حرف جر أصلي، والطبيب ... أو الرجال ... منادى منصوب بفتحة مقدرة، منع من ظهورها الكسرة التي جلبها حرف الجر. والجر والمجرور متعلقان "بيا": لأنها نائبة عن الفعل "أدعو"
__________
1 يقول ابن مالك في هذا:
وافتح مع المعطوف إن كررت "يا" ... وفي سوى ذلك بالكسر ائتيا
إذا تكررت "يا" بأن ذكرت مع المعطوف وجب فتح لام. وفي غير هذه الصورة يجب كسر اللام معه. وهذا يشمل ألا تذكر "يا" مع المعطوف، كما يشمل اللام الداخلة على المستغاث له إن كان اسما ظاهرا، أو ضميرا هو ياء المتكلم. ولم يعترض لوجوب فتح اللام مع الضمائر الأخرى. كما سنعرف.
2 وهي الشروط الثلاثة المذكورة بعد.
3 كيف يكون له محل من الإعراب مع أصالة اللام الجارة؟ انظر الإجابة في رقم 3 من هامش الصفحة الآتية.
4 كما سبق في ص13 و26.
5 في ص78.(4/79)
أو ما بمعناه"1.
وإذا جاء لهذا المنادى تابع فإنه يجوز فيه الجر، مراعاة للفظ المنادى، والنصب مراعاة لمحله، -وهذا هو الرأي الأنسب الذي يحسن الأخذ به-2 تقول: يا للطبيب الرحيم ... يا للرجال الشجعان، بجر كلمتي: الرحيم والشجعان، أو نصبهما.
أما الشروط الثلاثة التي لا بد من اجتماعها ليكون المستغاث معربا منصوبا، فهي: "أن يكون معربا في أصله قبل النداء، وأن تكون لام الجر مذكورة، وقبلها: "يا" مذكورة أيضا.
أما إن كان المستغاث مبنيا في أصله؛ نحو: يا لهذا للصالح ... فالواجب إبقاؤه على حالة بنائه الأصلي، ويكون في محل نصب. فكلمة: "هذا" في المثال السالف منادى، مبني على ضم مقدر، منع من ظهوره سكون البناء الأصلي، في محل نصب3.
__________
1 كما عرفنا في د وهـ من ص7.
2 كما سبق في ص57 ... ليكون هذا الحكم عاما يخضع له التابع في الاستغاثة، كما يخضع في غيرها من بقية أساليب النداء.
3 الرأي الأقوى -بين آراء متعددة- أن المستغاث المجرور باللام الأصلية، المعرب قبل النداء، معرف مجرور باللام في محل نصب. وأن حرف الجر أصلي وهو مع مجروره متعلقان بحرف النداء "يا" لنيابته عن الفعل: أدعو، أو ما يشبهه -كما عرفنا أول الباب، في د وهـ من ص7، 8.
لكن كيف يكون معربا مع أن له محلا؛ والإعراب المحلي لا يكون للمعرب الأصلي -في الصحيح؟ وإذا صلح أن له محلا فما محله؟ أهو الجر باللام الجارة -وهي أصلية- أم النصب بالنداء؛ إذ لا يمكن أن يكون له محلان؟
ولا يفيد في إزالة الاعتراض اعتبار اللام حرف جر زائد لا يحتاج مع مجروره إلى تعليق؛ لأن هذا الاعتبار لا قيمة له في بعض الحالات؛ كأن يكون المستغاث المجرور باللام مبنيا في أصله قبل النداء؛ "مثل: يا لهذا للصائح -أو: يا لك للداعي ... " إذ المنادى هنا مبني أصالة قبل النداء؛ فيتعين أن يقال في إعرابه إنه مبني على ضم مقدر. منع من ظهوره علامة البناء الأصلي، وأنه في محل كذا؟ فما محله هنا؟ أو الجر، أم النصب؟ ولا يمكن أن يكون له محلان. وإذا تخيرنا أحدهما هنا وهناك فما وجه الترجيح؟ ... و ...
وبالرغم من هذا التعارض لا مفر من الأخذ بأحد الرأيين:
أ- إما الرأي السمح الذي يعرب المستغاث والمجرور باللام الأصلية الذي ليس مبنيا قبل النداء=(4/80)
وأما إن كانت اللام محذوفة فيجوز أن تجيء الألف في آخر المستغاث؛ عوضا عنها، ولا يصح الجمع بين اللام والألف. ومع وجود هذه الألف يبقى المنادى دالا على الاستغاثة كما كان1 ولكنه لا يعتبر في هذه الصورة ملحقا بالمنادى المضاف "بالرغم من وجود الألف التي هي عوض عن اللام"، وإنما هو مبني على الضم المقدر2، في محل نصب؛ لأن اعتباره ملحقا بالمضاف واجب النصب متوقف على وجود اللام نفسها، لا على وجود عوض عنها بعد حذفها3.
ومن الأمثلة: يا عالما للجاهل. وقول الشاعر:
يا يزيدا لآمل نيل عز ... وعني بعد فاقة وهوان
فعند إعراب المنادى في المثالين المذكورين: "عالما ... يزيدا ... " يقال: منادى، مبني على ضم مقدر على آخره "منع من ظهوره الفتحة التي
__________
= منادى مجرور باللام في محل نصب، برغم أنه معرب، والمعرب -في غير هذا- لا يكون له محل، وأن المبني أصالة مجرور بكسرة مقدرة منع من ظهورها سكون البناء الأصلي، أو علامة البناء الأصلي -إن كانت علامته غير السكون- في محل نصب أيضا. ولا يخلو هذا الرأي بشطريه من ضعف؛ بسبب مخالفته بعض قواعدهم العامة، ولكنه أهون مخالفة من غيره.
ب- وإما الرأي الذي يعتبر اللام حرف جر زائد، وما بعدها مجرور في اللفظ، وله محل إعرابي آخر، وهما لا يتعلقان. فالمستغاث المعرب أصالة مجرورة بها لفظا في محل نصب، وهي مبنية على الفتح إلا في الصورتين السالفتين "وهما: "المستغاث المعطوف" الذي لم تسبقه "يا" وكذا "المستغاث ياء المتكلم" فتبنى على الكسر" والمستغاث المبني أصالة -أي قبل النداء- كاسم إشارة؛ مثل: يا لهذا -يكون مجرورا بكسرة مقدرة منع من ظهورها علامة البناء الأصلي- في محل نصب. فزيادة "اللام" -لا أصالتها- هي التي توجب للمنادى إعرابا لفظيا، وآخر محليا معا. أما أصالتها فتقتضي اللفظي وحده، فإذا اقتضت معه محلا كان هذا الاقتضاء عيبا.
1 بشرط وجود قرينة تدل على الاستغاثة، وعلى أن هذه الألف للعوض وحده، وليست منقلبة عن ياء المتكلم التي سبق اللام عليها في ص58، ولا عن غيرها.
2 بسبب الفتحة الطارئة لمناسبة الألف.
3 يقول ابن مالك:
ولام ما استغيث عاقبت ألف ... ومثله اسم ذو تعجب ألف
"أي: عاقبها ألف، بمعنى: جاءت عقبها، وحلت في مكانها بعد حذفها" وبين لهذا التعاقب موضوعين؛ هما: ما استغيث به "أي: المستغاث" والاسم المتعجب منه في أسلوب التعجب الآتي، ص86.(4/81)
جاءت لمناسبة الألف"، في محل نصب1 ويجري على توابعه -في الرأي الأصح- ما يجري على توابع المنادى المبني على الضم2 من أحكام إعرابية مختلفة؛ ومنها: جواز الرفع والنصب في بعض الحالات؛ فالرفع مراعاة شكلية للفظ المنادى، والنصب مراعاة لمحله. ولا يصح مراعاة الفتحة الطارئة لمناسبة الألف3.
وإذا وقف على المستغاث المختوم بالألف فالأحسن مجيء هاء السكت الساكنة نحو: يا عالماه ... وتحذف عند الوصل.
فإن حذفت لام الجر بغير تعويض كان حكم المستغاث حكم غيره من أنواع المنادى التي ليست للاستغاثة، كقول الشاعر:
ألا يا قوم للعجب العجيب ... وللغفلات تعرض للأريب
فيصح في كلمة: "قوم" أن تكون منادى منصوبا؛ لإضافته إلى ياء المتكلم المحذوفة، وبقيت الكسرة المناسبة لها دليلا عليها. "ولا بد من قرينة قال على أن النداء للاستغاثة". ويصح أن تكون مبنية على الضم "باعتبارها فكرة مقصودة" في محل نصب.
وإما إذا حذفت "يا" أو كان حرف النداء حرفا آخر غيرها، إن الجملة لا تكون من باب: الاستغاثة -كما تقدم4.
3- كل ما يصلح أن يكون منادى يصلح أن يكون مستغاثا؛ غير أنه يجوز -هنا- الجمع بين "يا" و"أل" التي في صدر المستغاث، بشرط أن
__________
1 إن كان المستغاث مثنى أو جمع مذكر سالما وحذفت قبلهما لام الجر فإنهما يبنيان على ما يرفعان به من ألف أو واو. ويصح مجيء الألف بعد نونهما للتعويض، فيقال: يا محمودانا، ويا محمودونا. وإذا كان المستغاث المجرور باللام مضافا؛ مثل: يا لأعوان محمود لمحمود جاز حذف اللام من المضاف وزيادة الألف في آخر المضاف إليه؛ عوضا عنها؛ فيقال: يا أعوان محموداه، فالمضاف منادى منصوب مباشرة، والمضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة منع من ظهورها الفتحة التي جاءت لمناسبة الألف، "وهي فتحة طارئة لا تلاحظ في التوابع ولا غيرها" والهاء للكست -طبقا لما سيجيء مباشرة.
2 سبق بيان أحكامها في ص40.
3 راجع رقم 1 من هامش ص42، ثم ص45.
4 في "أ" من ص78.(4/82)
يكون مجرورا باللام المذكورة، لتفصل بينهما؛ كما في الأمثلة المتقدمة. فإن لم يتحقق الشرط لم يصح الجمع1.
4- قد يحذف المستغاث، ويقع المستغاث له بعد "يا" في موضعين".
أحدهما: أسلوب مسموع يلتزم فيه الحذف - على الرأي الصحيح - وهي "يالي"، بشرط أن يكون مقتصرا على هذا الجملة المشتملة على "يا" وعلى "المستغاث له" وحده، الخالية ما يصلح أن يكون "مستغاثا به"؛ نحو: "عرفت الأحمق فاكتويت بحمقه؛ فيا لي، ويا للأخوان لي.
ثانيهما: أسلوب قياسي -وهو قليل مع قياسيته وجوازه- ويشمل كل أسلوب يكن اللبس مأمونا فيه عند الحذف؛ كقول الشاعر:
يا ... لأناس أبوا إلا مثابرة ... على التوغل في بغي وعدوان
والأصل: -مثلا- يا الأنصاري لأناس أبوا ... "فالأناس" هم المستغاث لهم. ولا لبس في هذا؛ لأن ضبط اللام بالكسر -نطقا وكتابة- يمنعه، وإذا لم تضبط فالمعنى يمنعه أيضا؛ إذ لا يعقل أن يكون الأناس مستغاثا بهم. مع اتهامهم بالتوغل الدائب في البغي والعدوان؛ فمن شأنهم هذا التوغل لا يستغيث بهم أحد.
ج- ما يختص بالمستغاث له:
1- يجب تأخيره عن المستغاث.
2- يوجب جره بلام أصلية مكسورة دائما -كالأمثلة السابقة- إلا في حالة واحدة؛ هي: أن يكون المستغاث له ضميرا لغير ياء المتكلم فتفتح لام الجر2؛ نحو: يا للناصح لنا، ويا للمخلص لكم ... بخلاف:
__________
1 سبقت الإشارة لهذا، في ص38 الحالة الثالثة.
2 لوجوب فتحها دائما إذا دخلت على ضمير غير ياء المتكلم؛ سواء أكان ما بعدها مستغاثا أم غير مستغاث.(4/83)
يا للرائد لي؛ لأن الضمير ياء المتكلم.
وفي جميع الصور تتعلق اللام ومجرورها النداء "يا".
3- يجوز حذفه إن كان معلوما واللبس مأمونا؛ كقول الشاعر:
فهل من خالد إما1 هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
ولأصل: يا للناس للشامتين، أو نحو ذلك. وقول الآخر:
يا لقومي ... من للعلا والمساعي ... يا لقومي ... من للندى والسماح؟
4- يجوز -عند قيام قرينة- الاستغناء عن هذه اللام، والإتيان بكلمة: "من" التعليلية2 عوضا عنها؛ بشرط أن يكون المستغاث له مستنصرا عليه، "أي: أن يكون القصد من الاستغاثة التغلب عليه، وإضعاف أمره ... " نحو: يا للأحرار من الخادعين المنافقين، وقول الشاعر:
يا للرجال ذوي الألباب من نفر ... لا يبرح السفه المردي3 لهم دينا
فإن لم يكن مستنصرا عليه بأن كان مستنصرا له لم يصح مجيء "من" وتعينت اللام".
بقيت بعض أحكام عامة أهمها:
1- جواز وقوع المستغاث به والمستغاث له ضميرين؛ نحو: يا لك لي؛ يقولها من يستغيث المخاطب لنفسه.
2- جواز أن يكون المستغاث هو المستغاث له في المعنى؛ كقولك في النصح الرقيق لمن يهمل، واسمه علي -مثلا- يا لعلي، تريد: أدعوك لتنصف نفسك من نفسك.
__________
1 هي: "إن" الشرطية المدغمة في: "ما" الزائدة.
2 أي: السببية. "وهي الدالة على التعليل، وبيان السبب" وإنما يصح وقوع "من" التعليلية بعد "يا لي" بشرط أن يكون ما بعدها غير مستغاث به؛ كقول الشاعر:
فيا شوق ما أبقى! ويا لي من النوى! ... ويا دمع ما أجرى! ويا قلب ما أقسى!
3 المهلك.(4/84)
3- إذا وقع بعد "يا" اسم مجرور باللام، لا ينادى إلا مجازا؛ -لأنه لا يعقل- وليس بعده ما يصلح أن يكون مستغاثا، جاز فتح اللام وكسرها؛ نحو: يا للعجب - يا للمروءة - يا للكارثة ... فالفتح على اعتبار الاسم مستغاثا به، مجازا "لتشبيهه بمن يستغاث به حقيقة، أي: يا عجب، أو: يا مروءة ... أو: يا كارثة ... احضر، أو: احضري، فهذا وقتك". والكسر على اعتبار الاسم مستغاثا له. والمستغاث محذوف. فكأنك دعوت غيره تنبهه على هذا الشيء، والأصل -مثلا: يا لقومي للعجب، أو: للمروءة أو للكارثة1 ...
أما في مثل: "يا لك"2 -بكاف الخطاب: للعاقل وغيره- فاللام واجبة الفتح3 ولكن الكاف تصلح أن تكون مستغاثا به أو: مستغاثا له، على الاعتبارين السالفين.
__________
1 وعلى هذين الاعتبارين يجوز فتح اللام وكسرها في المنادى المقصود منه التعجب، وهو الموضوع الآتي بعد هذا مباشرة -كما هو مبين في الحكم الثاني، من ص87 - والمعنى لا يختلف على اعتبار الأسلوب للاستغاثة؛ تقديرا، أو اعتباره لنداء المقصود به التعجب؛ إذ المآل المعنوي فيهما واحد، برغم اختلاف التقدير.
2 يساعد على إعراب هذا الأسلوب ما سبق في رقم 3 من هامش ص80.
3 لما أوضحناه في رقم 2 من هامش ص83.(4/85)
المسألة 134: النداء المقصود به التعجب
أسلوبه:
راقب أحد الشعراء البدر في ليلة صافية، فبهره جماله، وتمام استدارته. ولطف حركته ... فأعلن إعجابه وإكباره بقصيدة مطلعها:
يا للبدور، ويا للحسن؛ قد سلبا ... مني الفؤاد؛ فأمسى أمره عجبا
وراقب آخر الشمس ساعة غروبها، وما ينتابها من صفرة، وتغير، واختفاء؛ فامتلأت نفسه بفيض من الخواطر، سجله في قصيدة منها:
يا للغروب، وما به من عبرة ... للمستهام، وعبرة للرائي
أو ليس نزعا للنهار، وصرعة ... للشمس بين جنازة الأضواء؟
وتكشف يوم من أيام الربيع الباسمة عن صباح عاصف، متجهم، قارس، فقال أحد الشعراء أرجوزة مطلعها:
يا لصباح أغبر الأديم ... قد طعن الربيع في الصميم
فهذه الأساليب: "يا للبدور، يا للحسن، يا للغروب، يا لصباح ... وأشباهها" قد توهم في مظهرها اللفظي وهيئتها الشكلية أنها أساليب استغاثة؛ -كالتي مرت في الباب السالف-1 لاشتمالها على حرف النداء: "يا"، وعلى منادى مجرور باللام المفتوحة. ولكنها حقيقة2، لا مجازا، ومما يصلح أن يكون مستغاثا حقيقيا، "لا مجازيا"، ولأن المتكلم بها على هذه الصورة لا يطلب التخلص من شدة واقعة، ولا دفع مكروه متوقع. وإنما هي أساليب نداء؛ أريد بها التعجب من ذات شيء، أو كثرته، أو شدته، أم أمر
__________
1 ص77.
2 الأصل في النداء الحقيقي أن يكون موجها لعاقل، وإلا فهو نداء مجازي لداع بلاغي. طبقا للبيان الذي في ج ص5.(4/86)
غريب فيه، أو غرض آخر مما سنبينه؛ فهي نداء خرج عن معناه الأصلي إلى هذا الغرض الجديد، وجاءت صورته الشكلية على صورة الاستغاثة، دون أن يكون منها في المعنى والمراد.
وقد ينادى العجب نفسه -مجازا- للمبالغة في التعجب؛ فيقال: يا عجب، يا للعجب، يا عجبا للعاق.
أحكامه:
1- يجوز أن يشتمل المنادى المقصود به التعجب، على لام الجر، كما يجوز أن يخلو منها؛ وقد مرت الأمثلة للحالتين. والشائع عند حذف هذه اللام أن تجيء الألف في آخره عوضا1 عنها؛ فيقال عند القرينة2؛ يا بدورا ... يا حسنا ... يا عجبا ... ، ولا يجوز اجتماعهما. ويجوز عند الوقف على المختوم بالألف مجيء هاء السكت الساكنة: نحو: يا بدوراه - يا حسناه.
2- يجوز في المنادى المقصود منه التعجب فتح اللام الداخلة عليه وكسرها، على الاعتبارين اللذين سبق إيضاحهما في الحكم الثالث من الأحكام العامة التي وردت في آخر باب "الاستغاثة"3.
3- جميع الأحكام النحوية الأخرى التي تثبت للمنادى المستغاث -ومنها: الإعراب والبناء، ووجود الحرف: "يا" دون غيره- تثبت للمنادى المتعجب منه، برغم اختلافهما غرضا ودلالة.
__________
1 وإلى هذا أشار ابن مالك في النصف الثاني من البيت الذي سبق في ص81، ونصه:
ولام ما استغيث عاقبت ألف ... ومثله اسم ذو تعجب ألف
2 لا بد أن تكون القرينة دالة على التعجب، وعلى أن الألف التي في آخر المنادى هي العوض وحده، وليست منقلبة عن ياء المتكلم -كالتي سبق الكلام عليها في ص58- أو عن غيرها.
3 رقم 3 من ص85 وقد أوضحنا في رقم 1 من هامش تلك الصفحة أن المعنى لا يتغير باعتباره للاستغاثة، أو للنداء المقصود به التعجب؛ لأن المآل المعنوي واحد فيهما، برغم اختلاف التقدير.(4/87)
الغرض منه:
الباعث التعجب بأسلوب النداء أحد أمرين:
1- أن يرى المرء شيئا عظيما يتميز بذاته، أو بكثرته، أو شدته، أو غرابة فيه ... ؛ فينادي جنسه؛ إعلانا بإعجابه، وإذاعة به، كالأمثلة السالفة.
2- أن ينادي من له صلة وثيقة بذلك الشيء، وتخصص فيه، وتمكن منه، حمدا له وتقديرا، أو: طلبا لكشف السر فيه، ومواطن العجب؛ كأن يسمع عن طيارات غزو الفضاء، واختراق الغلاف الجوي، أو الدوران حول الأرض كلها في بضع ساعات، أو إرسال رواد وأجهزة علمية إلى سطح القمر ... -فيقول:
يا للعلماء، أو: يا للعباقرة. وكقول شوقي: "في قيصر الرومان الذي فتنته كليوباترة، وقضت على ملكه، وعليه ... ":
ضيعت قيصر البرية أنثى ... يا لربي مما تجر النساء ...
هذا، والتعجب بكل أنواعه وصيغه -كما سبق في بابه-1 ليس مقصورا على الأمر الحميد أو المحبوب، وإنما يكون فيهما، وفي الذميم أو البغيض.
__________
1 ج3 م108.(4/88)
المسألة 135: الندبة
يتضح معناها مما يأتي:
1- قيل لأعرابي: "مات عثمان بن عفان اليوم ... " فصرخ: "واعثمان، واعثمان. أثابك الله وأرضاك؛ فلقد كنت عامر القلب بالإيمان، شديد الحرص على دينك، بارا بالفقراء، مقنعا بالحياء ... ".
2- وقيل لعمر -رضي الله عنه: أصابنا جدب شديد ... فصاح: واعمراه، واعمراه.
3- وقيل لفتى يتأوه: ما بك؟ فأمسك رأسه، وقال: وارأسي. وقيل الآخر: مالك تضع يدك على كبدك؟ فردد قول الشاعر:
فواكبدا من حب من لا يحبني ... ومن عبرات ما لهن فناء
4- وسئل غني افتقر: أين أعوانك وخدامك والمحيطون بك؟ فقال في أسف وحرارة: وافقراه.
ففي الأمثلة السابقة أساليب نوع من النداء يسمى: "الندبة"؛ ومنه: واعثمان، واعمراه، وارأسي، واكبدا، وافقراه ... ويقولون في تعريفها: "إنها نداء موجه للمتفجع عليه، أو للمتوجع منه"1. يريدون بالمتفجع عليه: من أصابته المنية، فحملت الناس على إظهار الحزن، وقلة الصبر؛ سواء أكانت الفجيعة حقيقة كالتي في المثال الأول: "واعثمان"، أم حكمية كالتي في المثال الثاني: "واعمراه" فإن عمر حين قال ذلك كان حيا، ولكنه بمنزلة من أصابه الموت؛ لشدة الألم، والهول الذي حل به2.
__________
1 سبقت إشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص2.
2 ومما يصلح للفجيعة الحكمية النداء المجازي في مثل قول المعري:
فواعجبا، كم يدعي الفضل ناقص ... وواأسفا، كم يظهر النقص فاضل
فهو يندب العجب والأسف، وكأن كلا منهما قد مات في وقت اشتداد الحاجة إليه. ويشترط في هذه الصورة أن تكون الندبة للعجب نفسه، وكذا للأسف من غير إضافتها لياء المتكلم المنقلبة ألفا، وإلا كانت هذه الألف ليست للندبة -كما سيجيء في رقم 1 من ص64 من رقم 1 من ص99.(4/89)
ويريدون بالمتوجع منه: الموضع الذي يستقر فيه الألم، وينزل به، "كالمثال الثالث: وارأي، واكبدا"، أو: السبب الذي أدى للأم وأحدثه؛ "كالمثال الرابع: وافقراه"؛ فالمتوجع منه هو مكان الألم، أو سببه.
والمنادى في هذه الأساليب -وأشباهها- يسمى: المندوب1، فهو: المتفجع عليه، أو المتوجع منه.
والغرض من الندبة: الإعلام بعظمة المندوب، وإظهار أهميته، أو شدته، أو العجز عن احتمال ما به ...
ومن المندوب وحرف النداء يتألف أسلوب "النداء الاصطلاحية"2 فهما ركناه. ولكل منهما أحكامه التي تتلخص فيما يأتي:
أ- حرف النداء:
1- لا يستخدم في الندبة إلا أحد حرفين من أحرف النداء:
أحدهما: أصيل، وهو: "وا"؛ لأنه مختص بالندبة، لا يدخل على غير المنادى المندوب؛ كالذي في الأمثلة السالفة.
والآخر غير أصيل؛ وهو: "يا" لأنه غير مختص بالندبة، وإنما يدخل على المنادى المندوب وعلى سواه. واستعمال "يا" قليل هنا، وهو -على قلته- جائز، بشرط أمن اللبس بوجود القرينة الدالة على أن الأسلوب للندبة، لا لنوع آخر من أساليب النداء. ومن الأمثلة ما جاء في خطبة أحد الأدباء يرثي زعيما3 وطنيا فوق قبره:
__________
1 هل المندوب منادى؟ الجواب في رقم 2 من هامش الصفحة الآتية.
2 تعريف الندبة وأسلوبها الاصطلاحي، هو ما ورد هنا، وهناك أساليب غير اصطلاحية لا شأن لها بالضوابط والأحكام الآتية؛ كأن يقال: ما أشد الفجيعة في فلان، أو فقدنا فلانا، أو كانت المصيبة فيه فوق الاحتمال.. أو..
3 هو محمد فريد رئيس الحزب الوطني المصري المتوفى سنة 1919 في منفاه ببرلين، ثم أحضره الوطنيون، ودفن بالقاهرة خلال تلك السنة.(4/90)
"لقد أفنيت عمرك في الجهاد، واستنزفت مالك -وما كان أكثره- في طلب الحرية للبلاد، واسترجاع الحق المغصوب، والاستقلال المسلوب، حتى ذاب جسمك، وانطفأ مصباح حياتك؛ فآه!! آه!! يا محمداه ... ".
فلا مجال للالتباس هنا؛ لأن المقام مقام رثاء، والمنادى الذي دخلت عليه "يا" ميت ...
2- ولا بد في أسلوب الندبة من أن يذكر أحد هذين الحرفين؛ فلا يصح حذفه1، ولا الاستغناء عنه بعوض أو بغير عوض ...
ب- المنادى، وهو المندوب2 هنا:
1- كل اسم يصلح أن يكون مندوبا، إلا نوعين من الأسماء:
أحدهما؛ النكرات العامة؛ "وهي الباقية على أصلها من الإبهام والشيوع، -وتشمل النكرة المقصودة- مثل: رجل، فتاة، عالم، طبيبة ... " وهذه النكرات العامة لا تصلح أن تكون مندوبا إذا كان متفجعا عليه، أما إن كان متوجعا منه فتصلح؛ نحو: وامصيبتاه ... ، في مصيبة غير معينة3 ...
والآخر: بعض المعارف4. وينحصر في الضمير، وفي اسم الإشارة الخالي
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في "ب" من ص2.
2 يقول بعض النحاة؛ إن المندوب ليس منادى حقيقة؛ وإنما هو على صورة المنادى، وحجته: أنك لا تريد منه أن يجيبك، ويقبل عليك، وأنهم منعوا في النداء. "يا غلامك"، ونحوه مما يكون فيه المنادى مضافا إلى المخاطب؛ لأن خطاب المضاف المنادي يناقض في مدلوله المراد من المضاف إليه، فلا يجمع بين خاطبين في جملة واحد "كما سبق في رقم 2 من هامش ص4" مع أن هذا واقع في أسلوب الندبة؛ مثل: واغلامك.
وقال آخرون: إنه منادى. وتصدى آخرون للتوفيق بين الرأيين بما صرح به الرضي من أنه منادى مجازا لا حقيقية، فإذا قلت في الندبة: "وامحمداه" فكأنك تقول له: أقبل؛ فإني مشتاق إليك -مثلا- وإذا قلت: "واحزناه" فكأنك تقول: احضر حتى يعرفك الناس فيعذروني فيك. ورأى الرضي هو الجدير بالأخذ به، والاقتصار عليه.
3 كما سيجيء في ص93.
4 وحجتهم أنه لا يخلو من إبهام، كما سبق في أبوابه، والمندوب لا بد أن يكون معينا لا إبهام فيه، ليتحقق الغرض من الندبة.(4/91)
من علامة خطاب في آخره. وفي الموصولات المبدوءة "بأل"، وفي "أي" الموصولة وفي "أي" التي تكون منادى. فلا يصلح شيء من هذه المعارف لأن يكون مندوبا؛ فلا يقال مثلا: وا أنت، ولا: وا أياك، ولا: وا هذا، وا الذي ابتكر دواء شافيا - وا أيهم مخترع - وا أيها الرجلاه.
أما الموصولات المجردة من "أل" فيرى فريق من النحاة صلاحها للندبة، بشرط أن تكون صلتها شائعة الارتباط بالموصول، معروفة بذلك بين المخاطبين؛ نحو: وا من1 بني هرم مصر -وا من2 أنشأ مدينة القاهرة، لأن هذا الموصول بمنزلة قولك: وا "خوفو" -وا "معز"؛ بل أقوى، لما فيه من الإشادة بذكر شيء هام ينسب له.
ويرى آخرون المنع: بحجة أن شيوع الصلة. وإدراك المراد منها. عسير في أغلب الأحيان. وربما شاعت عند قوم وخفيت على غيرهم. والأخذ بالرأي الأول أنسب عند الحاجة.
ويرى آخرون المنع: بحجة أن شيوع الصلة. وإدراك المراد منها، عسير في أغلب الأحيان. وبما شاعت عند قوم وخفيت على غيرهم. والأخذ بالرأي الأول أنسب عند الحاجة.
واسم الموصول: "من" في المثالين السالفين مبني على ضم مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون البناء الأصلي في محل نصب. وهذا على اعتبار اسم الموصول -في الرأي الأصح- من قسم المنادى المفرد. فإن جعل من قسم الشبيه بالمضاف -كما يرى بعض النحاة- فهو منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون البناء الأصلي. وأثر كل رأي يظهر في توابعه، فهي إما توابع منادى مبني على الضم، لها أحكامها التي سبقت3 وإما توابع منادى منصوب؛ فتنصب على الوجه المشروع هناك. ومثل هذا يقال في بقية الموصولات المبنية قبل النداء.
فليس بين المعارف كلها ما يصلح للندبة إلا العلم، وإلا المضاف لمعرفة يكتسب منها التعريف. وإلا الموصول -عند بعض النحاة- بشرط تجرد من
__________
1 باني الهرم الأكبر بجيزة القاهرة هو فرعون مصري قديم، اسمه: "خوفو" كان البناء قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف سنة تقريبا -ولا يزال قائما شامخا.
2 هو: المعز لدين الله الفاطمي، وأنشأها حول سنة 360 هـ.
3 في ص40.(4/92)
"أل"، وبشرط اشتهار الصلة بين المتخاطبين، وإلا بعض المقرون "بأل" مما يصلح للنداء1.
2- حكم المندوب من ناحيتي الإعراب والبناء حكم غيره من أنواع المنادى فيجب بناؤه على الضم إن كان علما مفردا، أو نكرة مقصودة، مع مراعاة التفصيل الخاص بكل ... 2 نحو: واعمر - واعثمان، وارأس - واكبد ... ، وأشباههما مما عرضناه في الأمثلة الأولى وما لم نعرضه.
ويجب نصبه إن كان مضافا أو شبيها بالمضاف2؛ فمثال المضاف قول الشاعر في قصيدة يرثى بها عالما دينيا كبيرا3:
واخادم الدين والفصحى وأهلهما ... وحارس "الفقه" من زيغ وبهتان
ومثال الشبيه به ما قيل في رثائه: واناشرا راية العرفان عالية.
ويلحق بالشبيه النكرة المقصودة الموصوفة؛ كقولهم في رثاء الإمام علي:
واإماما خاض أرجاء الوغى ... يصرع الشرك بسيف لا يفل
أما النكرة غير المقصودة فلا تصلح مندوبة؛ إذا كانت للمتفجع عليه لا للمتوجع منه -كما سبق-4 فلا يقال: "وارجلاه" لغير معين.
وإذا اضطر شاعر لتنوين المندوب المفرد جاز رفعه ونصبه كما جاز له هذا في المنادى المفرد الذي سبق الكلام عليه5 ...
__________
1 وقد سبق بيانه في ص26.
2 و2 سبق إيضاح شامل للمفرد العلم، والنكرة المقصودة، والنكرة غير المقصودة، والمضاف، وشبهه. في أول باب "المنادى" ص9، 25، 31، 31.
3 هو الأستاذ الشيخ محمد عبده المتوفى سنة 1905.
4 في ص91.
5 في "د" من ص24 -ويقول ابن مالك في باب مستقل: عنوانه: "الندبة" مبينا ما سبق من أن حكم المندوب هو حكم المنادى المحض، وبيان ما لا يندب، وأن الموصول يندب بما اشتهر به:
ما للمنادى اجعل لمندوب وما ... نكر لم يندب، ولا ما أبهما
ويندب الموصول بالذي اشتهر ... كبئر زمزم؛ يلي: وامن حفر
"يلي وامن حفر، أي يقع بعد قولك: وامن حفر. أي: وامن حفر بئر زمزم".
يريد: أن الموصول يصح أن يكون مندوبا بسبب اشتهاره بصلته. وضرب لهذا مثلا هو: وامن حفر بئر زمزم. والذي حفرها هو عبد المطلب، وشاع بين الناس هذا، فكأنك قلت: واعبد المطلب.(4/93)
3- الغالب في المندوب أن يختم -جوازا- بألف زائدة تتصل بآخره، إما حقيقية؛ نحو: واعمراه، وقول المتحسر:
فواأسفا1 من مكرمات أرومها ... فينهضني عزمي، ويقعدني فقري
وإما حكما؛ كالتي تزاد في آخر المضاف إليه لغير ياء المتكلم2 إن كان المندوب مضافا؛ نحو: واعبد الملكاه3.
والغرض من زيادة الألف مد الصوت ليكون أقوى بنبراته على إعلان ما في النفس. وزيادتها ليست واجبة، وإنما هي غالبة -كما قلنا- لكنها إن زيدت وجب لها أمران.
فأما أحدهما: فحذف التنوين إن وجد قبل مجيئها في آخر المندوب المبني، أو في آخر المضاف إليه نحو؛ فمثال حذفه من المبني ندبة العلم المحكي حكاية إسناده4؛ نحو: وازاد محمودا؛ فيمن اسمه: "زاد محمود" ومثال المضاف إليه:
__________
1 مع مراعاة الشرط الذي سبق في رقم 2 من هامش ص89 والذي يقتضي أن تكون الندبة هنا للأسف نفسه من غير إضافة لياء المتكلم المنقلبة ألفا ... و.. -أما المندوب المضاف لياء المتكلم فتفصيل الكلام عليه في ص99.
2 لأن المندوب المضاف للياء له حكم مستقل "سيجيء في ص99". ومن اتصالها حكما زيادتها في آخر بعض التوابع، وزيادتها في صلة الموصول المجرد من "أل" عند من يبيح ندبته، فيقول: وامن بني هرم مصرا - وامن أنشأ مدينة القاهرتا. ويصح: مصراه، والقاهرتاه؛ بزيادة هاء السكت الساكنة؛ كما سيجيء هنا. وإنما كانت الزيادة التي في آخر المضاف إليه وفي آخر الصلة -وأشباههما؛ كالتابع- حكمية؛ لأنها لم تصل بآخر المندوب مباشرة. وإنما اتصلت بآخر شيء وثيق الارتباط به؛ إذ المضاف والمضاف إليه متلازمان لا يستغني أحدهما عن الآخر؛ فالزيادة المتصلة بآخر المضاف إليه تعتبر حكما وتأويلا بمنزلة المتصلة بآخر المضاف، وكذلك الشأن في الزيادة المتصلة بآخر الصلة، والتابع، هذا تعليل النجاة. والعلة الحقة هي استعمال العرب.
3 الهاء للسكت. والكلام عليها في ص96.
4 اشتمل المثال على ندبة العلم المحكي إسنادا لأنه الذي يوجد فيه التنوين مع النداء؛ تحقيقا للحكاية. ولا يحذف هذا التنوين إلا مع زيادة ألف الندبة -كما سيجيء هنا، وفي "ب" من ص97 أما المنادى العلم المفرد فمبني على الضم؛ فلا تنوين فيه اختيارا -كما عرفنا في "د" من ص24- وإنما يوجد التنوين أحيانا فيما يتممه، كصلة الموصول عند من يعتبره مفردا، وأما المندوب المضاف فلا يدخله تنوين مطلقا، وقد يدخل في المضاف إليه، وفي الجزء الثاني المتمم لشبه المضاف. أما الجزء الأول من شبه المضاف فلا يحذف تزينه. لأن ألف الندبة لا تتصل به، وأما النكرة المقصودة فقد تنون إذا وصفت؛ طبقا لما سلف في 28.(4/94)
واحارس بيتاه. في ندبة: "حارس بيت".
وأما الآخر: فأن يتحرك ما قبلها بالفتحة -بشرط أمن اللبس- إن كان غير مفتوح؛ لأن الفتحة هي التي تناسبها؛ كالأمثلة السالفة. فإن أوقعت الفتحة في لبس وجب تركها، وإبقاء الحركة الموجودة على حالها مع زيادة حرف بعدها يناسبها: فتبقى الكسرة وتجيء بعده ياء، وتبقى الضمة وتجيء بعدها واو؛ ففي مثل: واكتابك -بكسر الكاف- تقول: واكتابكي، ولا يصح مجيء الألف؛ فلا يقال: واكتابكا؛ إذ لا يتبين مع الألف حال المضاف إليه؛ أهو خطاب لمذكر أم لمؤنث؟ وكذلك لا يتبين في "واكتابه" لو جئنا بالألف؛ فيجب الاستغناء عنها بالواو بعد الهاء.
وفي مثل: واكتابهم، واكتابهموه، ولا يصح واكتابهماه، بزيادة الألف؛ إذ لا يتضح معه نوع الضمير؛ أهو لمثنى أم لجمع؟
ويجب أن يحذف للألف الزائدة ما قد يكون في آخر المندوب من ألف أخرى نحو: مصطفى، فيقال: وامصطفاه1 ...
هذا والأحرف الثلاثة السابقة "الألف، الواو، الياء"، زائدة، لا تعرب شيئا، ولا يقال فيها إلا أنها زائدة للندبة، ولا تأثير لها فيما اتصلت بآخره إلا باحتياجها إلى حركة قبلها تناسبها؛ فالفتحة قبل الألف، والضمة قبل الواو، والكسرة قبل الياء2 ...
__________
1 وعند إعرابه يقال: "مصطفى" منادى مبني على ضم مقدر للتعذر -كما كان قبل الندبة- على الألف المحذوفة لالتقاء الألفين الساكنين، والألف الموجودة زائدة للندبة، والهاء للسكت. وهذا هو الرأي الأقوى بالنسبة للرأي الآخر الذي يقول إن المندوب المختوم بالألف مبني على الفتح.
وإذا حذفت الألف من آخر المندوب بسبب مجيء ألف الندبة وجب -في الأرجح- مجيء هاء السكت معها لتدل على أن الألف المذكورة هي الزائدة للندبة، وليست من حروف المندوب -كما أشرنا.
2 يقول ابن مالك في زيادة ألف الندبة وحذف ما قد يكون في آخر المندوب من ألف أو تنوين لأجلها:=(4/95)
ويصح في حالة الوقف زيادة هاء السكت1 الساكنة بعد الثلاثة، أو عدم زيادتها، فيقال: وعمراه، واكبداه، واإماماه، واخادم وطناه، واكتابكيه، واكتابهوه ... كما يقال: وا عمرا، واكبدا، واإماما ... ، ولا تزاد الهاء جوازا، إلا بعد حرف من أحرف المد الثلاثة. والأفصح حذف الهاء في وصل الكلام إلا في الضرورة الشعرية فتبقى وتتحرك بالكسر أو بالضم. ومن القليل الذي يحسن إهماله أن تبقى في الاختيار، وأن تتحرك فيه بالكسر أو بالضم2!!.
__________
=
ومنتهى المندوب صله بالألف ... متلوها إن كان مثلها حذف
"متلوها أي: الذي تليه وتقع بعده" يقصد: أن آخر المندوب يجيء بعده ألف الندبة، فإن وقعت ألف الندبة بعد مثيل لها، "أي: بعد ألف" وجب حذف المثيل؛ لالتقاء الساكنين، دون ألف الندبة لأنها جاءت لغرض. ثم قال:
كذاك تنوين الذي به كمل ... من صلة أو غيرها. نلت الأمل
يريد: كذلك يحذف التنوين من الشيء الذي أكمل المندوب، وجاء بعد المندوب ليتمه؛ كالصلة بعد اسم الموصول، والمضاف إليه بعد المضاف، وبعض التوابع بعد متبوعاتها ... وبقية البيت دعاء للمخاطب، سبق للتكملة الشعرية ...
ثم قال بعد ذلك فيما يختص بشكل المندوب وضبطه بالفتحة عند مجيء الألف، وهل يحدث لبس بسببها؟ وكيف نتوفاه؟
والشكل حتما، أوله مجانسا ... إن يكن الفتح بوهم لابسا
"لابسا بوهم= خالطا المقصود بغيره، بسبب وهم. والوهم: ذهاب الطن لغير المراد".
يقول: إن كان الفتح قبل ألف الندبة يحدث لبسا، بسبب وهم فالواجب العدول عن الفتحة وعن الألف، والمجيء بحرف مجانس للشكل الموجود، بدل الألف، فالكسرة يجانسها الياء، فتجيء بعدها الياء، والضمة يجانسها الواو فتجيء بعدها الواو. وهذا معنى: أول الشكل مجانسا له، أي: اذكر يعد الشكل الحرف الذي يجانسه.
1 وتسمى: ها الاستراحة.
2 وفي هاء السكت "هاء الاستراحة" يقول ابن مالك:
وواقفا زد "هاء" سكت إن ترد ... وإن ترد فالمد "والها" لا تزد
أي: إن شئت عند الوقف أن تزيد على المندوب بعد ألفه هاء السكت فزدها، وإن شئت ألا تزيدها فأنت حر -إلا في الصورة التي عرضناها عند الشرح في رقم 1 من هامش الصفحة السابقة- وإن شئت الاستغناء عنهما فلا تزد حرف المد، ولا الهاء "وحرف المد هو الألف، والواو، والياء" ولا تزال الهاء إلا بعد واحد منها.(4/96)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- إذا كان المندوب مثنى أو جمع مذكر سالما فإن نونهما لا تحذف عند مجيء ألف الندبة، فيقال: واإبراهيمانا - واإبراهيمونا، فيبنيان على الألف والواو؛ كالمنادى المجرد.
ب- إذا ندب المفرد ولم تلحقه ألف الندبة، كان المنادى المحض مبنيا على الضم في محل نصب -كما سبق- واجعفر. أما في مثل: سيبويه، و"قام محمود" -علمين- فيقال: واسيبويه - واقام محمود "في ندبة من اسمه هذا"، فالمنادى مبني على ضم مقدر منع من ظهوره علامة البناء الأصلي في سيبويه، وحركة الحكاية في الثاني المنون. وهو في الحالتين في محل نصب. فإذا جاءت ألف الندبة؛ فقلنا: واجعفرا، فهو منادى مبني على ضم مقدر على آخره، منع من ظهوره الفتحة التي جاءت لمناسبة الألف في محل نصب. وإذا قلنا: واسيبويها، فهو منادى مبني على ضم مقدر، منع من ظهوره علامة البناء الأصلي التي حذفت لأجل فتحة المناسبة، في محل نصب، أو: أنه مبني على ضم مقدر منع من ظهوره فتحة المناسبة -مباشرة- في محل نصب، وهذا أوضح؛ لأن اعتبار الألف الظاهرة أولى من اعتبار المحذوف. وإذا قلنا: واقام محمودا1. بزيادة ألف الندبة. فالمنادى مبني على ضم مقدر منع من ظهوره حركة الحكاية التي حذفت لأجل فتحة المناسبة -في محل نصب. أو مبني على ضم مقدر منع من ظهوره فتحة المناسبة -مباشرة- في محل نصب. والأفضل أن يكون الضم مقدرا لفتحة المناسبة، مراعاة للناحية اللفظية المذكورة.
أما المضاف وشبهه2، نحو: وا كتاب جعفراه - واقارئا كتاباه - فالجزء الأول منصوب دائما كالنداء المحض، والجزء الثاني يقدر إعرابه، وسبب التقدير مجيء الفتحة، لمناسبة الألف.
ج- إذا كان للمندوب تابع فإن كان بدلا، أو عطف بيان، أو توكيدا
__________
1 بغير تنوين: طبقات لما سبق في ص94.
2 سبق تعريفه وحكمه في ص32.(4/97)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معنويا - فالأحسن ألا تدخل ألف الندية على التابع، ويكتفي بدخولها على المتبوع.
وإن كان عطف نسق دخلت على المعطوف. نحو: واعمر واعثماناه. ويجيز بعضهم دخولها على المعطوف والمعطوف عليه. وهذا حسن.
وإن كان توكيدا لفظيا دخلت عليهما. نحو: واعمراه واعمراه ...
أما إن كان نعتا لفظه كلمة: "ابن" المضافة لعلم فإن الألف تدخل على المضاف إليه؛ نحو: واحسين بن علياه. فإن كان النعت لفظا آخر فالأحسن إدخالها على المنعوت وحده.(4/98)
المسألة 136: المندوب المضاف لياء المتكلم
عرفنا1 أن المنادى صحيح الآخر المضاف إضافة محضة، قد تكون إضافته إلى ياء المتكلم، كقول الشاعر وقد عاد إلى وطنه من منفاه2:
فيا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيت بك الشبابا
وعرفنا ما يجوز فيه -اختيارا- من لغات أشهرها ست، منها ثلاث تثبت فيها الياء، وثلاث تحذف فيها. فالثلاث الأولى هي: إثباتها ساكنة؛ نحو: يا وطني -إثباتها متحركة بالفتحة، نحو: يا وطني قلبها ألفا بعد فتحة؛ نحو: يا وطنا.
والتي تحذف فيها هي: حذفها مع بقاء الكسرة قبلها دليلا عليها؛ نحو: يا وطن قبلها ألفا مفتوحا ما قبلها، وحذف الألف مع بقاء الفتحة قبلها؛ نحو: يا وطن حذفها وبناء المنادى قبلها على الضم، نحو: يا وطن.
1- فإذا ندب المضاف إضافة محضة لياء المتكلم الساكنة الثابتة جاز حذفها ومجيء ألف الندبة مفتوحا ما قبلها. وجاز تحريك الياء بالفتحة مع زيادة ألف الندبة بعدها، ففي نحو: يا مالي، يقال: وامالا، أو: واماليا3.
__________
1 في ص58.
2 لما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في أغسطس سنة 1914، وكان الإنجليز يحتلون البلاد المصرية إذ ذاك نفوا الشاعر إلى أسبانيا، وظل بها حتى انتهت الحرب في آخر سنة 1918 فعاد إلى وطنه أول سنة 1919.
3 ويقال في إعراب: "واماليا" "مال"، منادى مضاف، منصوب بفتحة مقدرة على اللام؛ منع من ظهورها الكسرة لمناسبة الياء، والياء مضاف إليه، مبني على سكون مقدر منع من ظهوره الفتحة التي جاء لمناسبة الألف، في محل جر. ويقال في إعراب: "وامالا"، "مال" منادي مضاف، منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها الكسرة التي جاءت لمناسبة الياء المحذوفة أو: منع من ظهورها الفتحة الحالية التي جاءت لمناسبة ألف الندبة. ومراعاة الفتحة الحالية أوضح.
وفي المندوب المضاف إلى ياء المتكلم الساكنة وجواز تحريكها بالفتح، أو حذفها مع زيادة ألف الندبة في الحالتين وفتح ما قبلها يقول ابن مالك:
وقائل واعبديا، واعبدا ... من في النداء، اليا، ذا سكون أبدي
"تقدير البيت: ومن أبدى في النداء حرف الياء ذا سكون - قائل واعبديا، واعبدا". يريد أن من لغته في المنادى المضاف لياء المتكلم هو إسكانها، مع بقائها، فإنه يقول عند الندبة: واعبديا أو واعبدا، بتحريك الياء بالفتح، ثم زيادة ألف الندبة، أو بحذف الياء مع زيادة ألف الندبة وفتح ما قبلها.(4/99)
ويصح عند الوقف زيادة هاء السكت الساكنة على الوجه الذي أوضحناه1.
2- وإذا ندب المضاف لياء المتكلم الثابتة المفتوحة لم يجز إلا زيادة ألف الندبة بعدها، ففي مثل: يا مالي، يقال: واماليا. ويصح زيادة هاء السكت الساكنة وقفا ...
3- وإذا المضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا، حذفت، وحل محلها ألف أخرى للندبة؛ فيقال في: يا مالا - وامالا. ويصح وقفا زيادة هاء السكت الساكنة ...
4 و5 و6- أما إذا ندب المضاف لياء المتكلم المحذوفة فيزاد ألف الندبة مع فتح ما قبلها إن لم يكن مفتوحا، ففي مثل: يا مالِ، يا مالَ، يا مالُ ... يقال فيها جميعا: وامالا. ويصح وقفا زيادة هاء السكت الساكنة.
وقد يؤدي بعض الصور السالفة إلى اللبس، فيجب العدول عنه إلى ما لا لبس فيه، أو إقامة قرينة تزيله.
وإذا أضيف المنادى المندوب إلى اسم ظاهر مضاف لياء المتكلم؛ نحو: وامال أهلي ... وجب إثبات الياء؛ لأن المندوب لم يضف إليها مباشرة؛ فلا تسري عليه أحكام المنادى المضاف لياء المتكلم. ومع إثباتها يجوز زيادة ألف الندبة بعدها وعدم زيادتها؛ تقول وامال أهلي - وامال أهليا2.
__________
1 في ص96.
2 نص على هذا سيبويه "في الجزء الثاني من كتابه، باب الندبة ص322". ويجيز غيره حذف الياء في هذا النوع عند مجيء ألف الندبة، وليس بشيء ...(4/100)
المسألة 137: الترخيم
الترخيم الاصطلاحي: "حذف آخر اللفظ بطريقة معينة؛ لداع بلاغي"1. وهو ثلاثة أقسام:
ترخيم اللفظ للنداء، وترخيمه للضرورة الشعرية، وترخيمه للتصغير. والباب الحالي معقود للكلام على القسمين الأولين، أما الثالث فموضع الكلام عليه: "باب التصغير"2.
القسم الأول: ترخيم المنادى.
نصح أعرابي لابنه: "عامر"؛ فكان مما قال: "يا عامِ، صداقة اللئيم ندامة"3، ومداراته سلامة...." فحذف الراء من آخر المفرد العلم المنادى.
وسمع آخر أعرابية تتغنى بمزاياها؛ فقال لها: "يا أعرابي، دعي ما أنت فيه؛ فمن حدث الناس عن نفسه بما يرضى. تحدثوا عنه بما يكره". فحذف التاء4 من آخر المنادى النكرة المقصودة ...
فالحذف على الوجه السالف نوع مما يسمى: "ترخيم نداء"، وهو: "حذف آخر المنادى المفرد العلم، أو النكرة المقصودة. وقد يقتصر الحذف على هذا أو لا يقتصر" طبقا لما سيجيء5.
__________
1 هو: التخفيف -غالبا- أو التلميح، أو الاستهزاء. وقد يكون السبب هو الضعف الناشئ من خوف، أو هول، ونحوهما مما يحدث العجز عن إتمام النطق بالكلمة؛ فقد جاء في "المحتسب" ج2 ص257 ما نصه على لسان أهل النار في الآية الكريمة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} وقراءة من قرأها: "ما مال": "قال أبو الفتح: هذا المذهب المألوف في "الترخيم"، إلا أن فيه في هذا الموضع سرا جديدا؛ وذلك لأنهم لعظم ما هم عليه ضعفت قواهم؛ وذلت أنفسهم، وصغر كلامهم، فكان هذا من مواضع الاختصار؛ ضرورة عليه، ووقوفا دون تجاوزه إلى ما يستعمله المالك لقوله، القادر على التصرف في منطقه ... ". ا. هـ.
2 ص683.
3 أي: مؤديه للندم؛ بسبب نتائجها الضارة.
4 نداء الترخيم كثير عندهم في المنادى المختوم بتاء التأنيث، وفي بعض كلمات أخرى؛ منها: مالك، عامر، حارث، صاحب.
5 في ص105.(4/101)
شروطه:
لا يصح إجراء هذا النوع من الترخيم الذي يقتضي حذف الآخر وحده أو مع شيء غيره، إلا بعد أن تجتمع في المنادى شروط عامة لا بد من تحققها فيه -سواء أكان مجردا من تاء التأنيث أم مختوما بها- وشروط خاصة بالمجرد منها. فالعامة هي:
1- أن يكون المنادى معرفة، إما بالعلمية، وإما بالقصد والإقبال1؛ "لأن المنادى الذي يراد ترخيمه قسمان، مجرد من تاء التأنيث، ومقترن بها، فإن كان مجردا من تاء التأنيث وجب ان يكون علما؛ فيتعرف بالعلمية، وإن اقترن بالتاء وجب أن يكون علما، أو نكرة مقصودة؛ فيتعرف بالعلمية، أو بالنداء مع الإقبال، ولا يصح ترخيم النكرة المحضة، وهي النكرة غير المقصودة".
2- ألا يكون مستغاثا مجرورا؛ فلا يصح الترخيم في مثل: يا لصالح لمحمود - يا لفاطمة لأخيها. فإن حذفت اللام الداخلة عليه جاز ترخيمه؛ نحو: يا صالا2 لمحمود، يا فاطما2 لأخيها.
3- ألا يكون مندوبا؛ فلا يصح الترخيم في مثل: وامعتصم، أين أنت؟ واعبلة ما صنعت بك الأيام؟
4- ألا يكون مضافا، ولا شبيها به3؛ كالمضاف في قولهم: يا أهل العلم، عالم ذو همة يحيى أمة - يا فتاتي أنت عنوان بلادي، وشبهه في مثل: "يا بخيلا بماله. أنت تشقى، وغيرك يسعد".
__________
1 فسبب تعريفه أنه مفرد علم، أو نكرة مقصودة. أما بقية أقسام المنادى فلا ترخم - كما سيجيء التصريح هنا وفي الشرط الرابع.
2 و2 الألف التي في آخر المستغاث هي التي تجيء -جوازا - عند حذف لام الجر، وتفصيل الكلام عليها في ص78.
3 هذا الشرط مفهوم من مضمون الشرط الأول، ولكن ذكرناه صريحا هنا ليكون أوضح وأجلى.(4/102)
5- ألا يكون مركبا تركيب إسناد -على الأرجح-1 فلا يصح الترخيم في علم كالذي في قولهم: يا "فتح الله"، الجاه يفنى، والمجد يبقى -يا "زينب فاضلة"؛ لا تقابلي الإحسان بالجحود.
6- ألا يكون من الألفاظ المقصورة على النداء2، فلا يصح الترخيم في مثل: يا فل، ويا فلة ...
7- ألا يكون من الألفاظ المبنية أصالة قبل النداء؛ مثل: حَذَامِ - رَقَاش ... علمين لمؤنثتين.
تلك هي الشروط العامة التي يجب تحققها في المنادى المراد ترخيمه بقسميه؛ "المختوم بتاء التأنيث، والمجرد منها".
أما الشروط الخاصة التي لا بد من تحققها مع العامة في القسم المجرد من تاء التأنيث، دون المختوم بها ... فأهمها:
1- أن يكون تعريفه بالعلمية دون غيرها، نحو: "سالم" علم رجل؛ تقول: يا سال، أذل الحرص أعناق الرجال. فلا يصح في المجرد من تاء التأنيث أن يكون نكرة مقصودة "لأن تعريفها بالقصد والإقبال، لا بالعلمية؛ نحو: يا صاحب، لمعين" أما المختوم بها فيصح أن يكون علما وأن يكون نكرة مقصودة؛ كأن تقول في نداء فتاة اسمها عائشة: يا عائش: آفة النصح أن يكون جهارا. وفي نداء مسافرة معينة: يا مسافر، تيقظي في رحلتك، فإن السلامة في اليقظة.
2- أن يكون العلم المجرد أربعة أحرف أو أكثر؛ فلا يصح ترخيم العلم الثلاثي الخالي من تاء التأنيث مطلقا3؛ مثل "سعد" و"رجب" في قولهم: يا سعد، من أحسن إلى لئيم أساء إلى نفسه - يا رجب، النفس الصغيرة مولعة بالصغائر.
__________
1 كما سيأتي في ص109، وفيها حكم ترخيم المركب المزجي.
2 وقد سبقت في ص68
3 أي: سواء أكان ساكن الوسط أم متحركه، ولا داعي للتفرقة بين الاثنين كما يرى بعض النحاة.(4/103)
أما المختوم بتاء التأنيث فيصح ترخيمه، سواء أكان علما أم نكرة مقصودة، ثلاثيا أم أكثر. وتقول في نداء فتاة اسمها "هبة" نداء ترخيم: يا هب، إن الأماني والأحلام كالأزهار؛ ما تراكم منها قتل. وفي أخرى اسمها: "ماجدة" يا ماجد، إن الله لا ينظر إلى الصور، وإنما ينظر إلى الأعمال1 ...
__________
1 فيما سبق يقول ابن مالك:
ترخيما احذف آخر المنادى ... كيا "سعا" فهي من دعا "سعادا"
أي: احذف آخر المنادى حذف ترخيم، كمن يقول: يا سعا، وهو ينادي فتاة اسمها: سعاد. ثم قال:
وجوزنه مطلقا في كل ما ... أنت بالها. والذي قد رخما:
بحذفها وفره بعد. واحظلا ... ترخيم ما من هذه "الها" قد خلا
إلا "الرباعي" فما فوق. "العلم" ... دون إضافة، وإسناد متم
يقول: جوز الترخيم في المنادى المؤنث بالهاء، "أي: بتاء التأنيث التي تصير "هاء" في الوقف" إجازة مطلقة؛ يتساوى فيها كل منادى مختوم بالتاء؛ علما أو نكرة مقصودة، ثلاثيا أو زائدا على الثلاثة. متحرك الوسط، أو ساكنه. ثم قال: إن المنادى المرخم بحذفها يوفر بعد ذلك، فلا يجوز حذف شيء من حروفه بعد حذف التاء. وعرض بعد هذا الترخيم الخالي منها؛ فقال: احظل "أي: امنع" ترخيم المنادى الخالي منها إلا إذا كان علما رباعيا فما فوقه، غير مضاف، وغير مركب تركيب إسناد متم، "أي: تركيب إسناد تام، كامل".
ويلاحظ في هذه العبارات القصور والخلط؛ لأن بعض الأشياء المحظورة السابقة -كالمنادى المضاف، والمركب تركيب إسناد- ليس محظورا في المنادى المختوم بالتاء وحده، وإنما حظره عام يشمل المجرد منها أيضا، كما شرحنا.(4/104)
ما يحذف جوازا من آخر المنادى عند ترخيمه:
يجوز أن يحذف من آخر المنادى بسبب ترخيمه حرف واحد -وهو الأغلب- أو حرفان، أو كلمة، أو كلمة وحرف. وفيما يلي البيان:
أولا: يحذف منه الحرف الأخير وحده بغير شروط إلا التي سلفت.
ثانيا: يحذف منه الحرفان الأخيران1 معا بعد تحقق الشروط التي سلفت، مزيدا عليها أن يكون المنادى علما مجردا من تاء التأنيث، وأن يكون الحرف الذي قبل الأخير حرف مد2، وأن يكون زائدا لا أصليا، وأن يكون رابعا فصاعدا.
وبعبارة أخرى:
يجوز أن يحذف من المنادى العلم المرخم المجرد من تاء التأنيث الحرفان الأخيران، بشرط أن يكون السابق منهما حرف مد. زائدا، رابعا فأكثر ... مثل: عمران، خلدون، إسماعيل ... تقول: يا عمر، من ساء قوله ساءت معامله الناس له - يا خلد، النصح أغلى ما يباع ويوهب - يا إسماع، من خاف الله حرسته عنايته.
أما الحرف الأخير فقد يكون أصليا؛ كهمزة "أسماء" في المنادى المرخم من قول الشاعر:
يا أسم، صبرا على ما كان من حدث ... إن الحوادث ملقي3 ومنتظر
__________
1 يدخل في هذا من الأعلام ما كان على صورة: المثنى، وجمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم "ويراعى في الثلاثة التفصيل الهام الآتي في: "ا" ص108.
2 لا يسمى حرف مد إلا إذا كان حرف علة ساكنا، والحركة التي قبله تناسبه، "وهي الفتحة قبل الألف، والضمة قبل الواو، والكسرة قبل الياء، نحو: قام، يقوم، مقيم". وهو في هذه الحالة حرف علة، ومد، ولين. فإن كان ساكنا وقبله حركة لا تناسبه سمي: حرف علة ولين، نحو: فرعون وخير. فإن كان متحركا فهو حرف علة فقط؛ نحو: حور وهيف ...
"راجع ما سبق في رقم 2 من هامش ص58".
3 يريد: اصبري على ما يحدث؛ لأن الحوادث محتومة؛ بعضها ملقي "أي: واقع حاصل"، وبعضها منتظر وقوعه.(4/105)
فكلمة: "أسم"، أصلها: أسماء، وهمزتها الأخيرة بمنزلة الأصلية؛ لأنها منقلبة عن واو أصلية1. وقد يكون زائدا كالنون في "مروان" من قول الشاعر:
يا مرو إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء2، وربها لم ييئس
ولا يصح في هذا القسم المستوفي للشروط الاقتصار على حذف الحرف الأخير وحده. وإنما يجب أن يحذف معه الحرف الذي قبله أيضا. إلا إن كان المنادى المرخم مختوما بتاء التأنيث؛ فتحذف وحده دون الحرف الذي قبلها. ففي مثل: "عقبناة"3 وسلحفاة، علمين، يقال: يا عفنبا، يا سلحفا بالألف فيهما.
فالترخيم يحذف آخر المنادى أمر اختياري، لا واجب، لكن إذا اخترنا الحذف في هذا القسم المستوفي للشروط وجب أن يحذف مع الآخر الحرف الذي قبله؛ لأنهما متلازمان وجودا وحذفا في غير المختوم بتاء التأنيث حيث يقتصر الحذف عليها وحدها4.
وبمراعاة الشروط السالفة يتبين أنه لا يصح في الأمثلة الآتية وأشبابهها، حذف الحرفين الأخيرين معا في نداء الترخيم:
يا مرتجاة، علما، لا يقال: يا مرتج، لوجود تاء التأنيث4.
يا جعفر. يا ثمود، يا سعيد، يا عماد ... أعلاما، لا يقال: يا جع، يا ثم، يا سع، يا عم ... لأن الحرف الذي قبل الأخير ليس حرف مد أو حرف مد. لكنه ليس رابعا فأكثر.
يا رحيم، يا هبيح5 -علمين- لا يقال: يا رحي، يا هبي ...
__________
1 "أسماء" جمع، مفردة: "اسم" -مع زيادة همزة الوصل- وأصله: "سمو"؛ فواوه أصلية، تنقلب همزة عند جمعه على "أفعال".
2 العطاء.
3 هي في الأصل صفة للعقاب "إحدى الطيور الجارحة" يقال: هذه عقاب عقنباة، أي: ذات مخالب قوية.
4 و4 بخلاف التاء في مثل: "هندات" -طبقا للبيان الهام في ص108 ب.
5 أصل معناه: الغلام السمين، الممتلئ.(4/106)
لأن حرف العلة "الياء" قبل الآخر ليس ساكنا؛ فلا يصح حذف الياء؛ لأنها ليست للمد.
يا قنور1 -علما- لا يقال: يا قنو؛ لأن حرف العلة "الواو" قبل الآخر ليس ساكنا؛ فلا يصح حذفه. لأنه ليس حرف مد.
يا فرعون -علما- لا يقال: يا فرع؛ لأن الحركة التي قبل حرف العلة "الواو" لا تناسبه؛ فلا بد من بقاء الواو. لأنها ليست للمد هنا.
يا غرنيق2 -علما- لا يقال: يا غرن؛ لأن الحركة التي قبل حرف العلة "الياء" لا تناسبه؛ فلا بد من بقاء الياء. لما سبق.
يا مختار -علما- لا يقال: يا مخت؛ لأن حرف العلة ليس زائدا، فأصله الياء؛ فلا بد من بقاء الألف.
يا منقاد -علما- لا يقال: يا منق؛ لأن حرف العلة ليس زائدا، فأصله الواو؛ فلا بد من بقاء الألف.
..........3.
__________
1 أصل معناه: الصعب اليابس من كل شيء.
2 أصله: اسم لطائر طويل العنق من طيور الماء.
3 وفي حذف الحرف الأخير ومعه الحرف الذي قبله "وهو الذي تلاه الأخير" يقول ابن مالك:
ومع الآخر احذف الذي تلا ... إن زيد. لينا ساكنا، مكملا ...
أربعة فصاعدا. والخلف في ... واو وياء بهما فتح قفى
تلا: أي: تلاه الآخر.
ولينا ساكنا= يقصد به حرف المد، وقد شرحناه.
الخلف= الخلاف بين النحاة.
قفى - تبع، أي: جاء بعده حرف، والجملة الفعلية: "قفى" خبر للمبتدأ: "فتح" والجملة من المبتدأ والخبر صفة لواو ... والجار مع مجروره "بهما".. متعلقان بالفعل: "قفى".
يريد: يحذف مع الحرف الأخير ما قبله من حرف مد رباعي. فإن كان قبل الواو فتحه -نحو: فرعون وغرنيق- فقد وقع خلاف في جواز حذفهما.(4/107)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يصح ترخيم ما سمي به من المثنى وجميع التصحيح بحذف زيادتيهما من آخر العلم، بشرط أن يكون ترخيمها على لغة من ينتظر1، لكيلا يقع فيهما اللبس بالمفرد؛ فتقول في نحو: محمدان ومحمدين "علمين": يا محمدَ - يا محمدِ؛ بالفتح في الأول والكسر في الثاني. وكذا في المنسوب. ويمتنع الضم في كل ما سبق؛ لكيلا يلتبس بالمفرد: وأما محمدون -ونظائره من كل علم أصله جمع مذكر سالم مرفوع بالواو- فيمتنع ترخيمه مطلقا؛ للسبب السالف2.
ب- عرفنا ما يحذف منه حرفان عند الترخيم. وهو يشمل المثنى وجميع التصحيح إذا كانت أعلاما؛ فترخم كلها بحذف الآخر ومعه ما قبله، بالشروط التي سلفت. لكن يمتنع بقاء الألف في مثل: "هندات" لأن التاء فيه ليست للتأنيث2.
ج- الحركة المجانسة لحرف العلة فيصير حرف مد بسببها، قد تكون ظاهرة؛ كالأعلام التي في الأمثلة السالفة؛ وقد تكون مقدرة في بعض الأعلام الأخرى؛ كما في جمع المقصور جمع مذكر سالما؛ نحو: يا مصطفون، ويا مصطفين، علمين ... فنقول عند الترخيم: يا مصطفي، بحذف الواو والنون من الأول، والياء والنون من الثاني. لأن أصلهما؛ مصطفيون ومصطفيين، بضم الياء في الأول، وكسرها في الثاني. تحركة هذه الياء فيهما، وانفتح ما قبلها؛ فقبلت ألفا. وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. فالحركة مجانسة؛ لأنها الضمة قبل الواو في اللفظ الأول، والكسرة قبل الياء في الثاني. فلا يضر أن تكون المجانسة تقديرا؛ لأن المجانسة التقديرية كالمجانسة اللفظية الظاهرة، ولهذا يجب حذف الواو والياء عند حذف الحرف الأخير من الكلمتين السالفتين وأشباههما؛ بشرط أن تكون كل كلمة علما.
__________
1 الكلام عليها في ص111.
2 و2 راجع الصبان والخضري في هذا الموضع.(4/108)
ثالثا: يحذف من آخر المنادى المستوفى شروط الترخيم، كلمة كانت في أصلها مستقلة، ثم ركبت مع أخرى تركيب مزج1، وصارتا بمنزلة الكلمة والواحدة؛ نحو: "حمدويه، خالويه"، "رامهرمز"، "تسعة عشر ... " إذا جعلت هذه المركبات أعلاما؛ فنقول في ندائها ترخيما، يا حمد، يا خال، يا رام، يا تسعة، ولا بد عند ترخيمها من وجود قرينة قوية تدل على أصلها؛ إذ ترخيمها لا يخلو من لبس، ولا سيما المركبات العددية المبنية على فتح الجزأين؛ نحو: تسعة عشر.
وقد منع كثير من النحاة ترخيم المركب المزجي "وكذا الإسنادي كما تقدم"2 بحجة أنه لم يسمع، وأنه موضع إلباس. والأخذ برأيه أحسن.
رابعا: يحذف من آخر المنادى المستوفى شروط الترخيم، كلمة، ومعها حرف قبلها. ويقع هذا في لفظين من المركبات العددية؛ "هما: اثنا عشر، واثنتا عشرة"، إذا جعلا علمين3؛ فيقال: يا اثن ... يا اثنت ... بحذف كلمة: "عشر" أو "عشرة" والألف التي قبلهما -كما يقال هذا في ترخيمهما من غير تركيب- لأن كلمة: عشر، وعشرة، بمنزلة النون في الاسم
__________
1 تفصيل الكلام على المركب المزجي في ج1 ص300 م23. وفي حذف عجزه؛ "أي آخره"، يقول ابن مالك:
والعجز احذف من مركب، وقل ... ترخيم جملة، وذا عمرو نقل
يريد: حذف العجز من المركب المزجي، جائز، أما من مركب الجملة "وهو المركب الإسنادي" فقليل، وقد نقله عن العرب عمرو، "المشهور باسم: سيبويه".
2 في رقم 5 من ص103.
3 هذا شرط حتمي؛ لكيلا يلتبسا بنداء المثنى الذي ليس علما، وإنما هو عدد محض، وهو: اثنان واثنتان، ومثلهما في نداء المرخم بقية الأعداد المركبة، ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر ... إلخ. فلا يحذف عجزها للتخريم إلا إذا كانت علما، منعا -في ظنهم- للالتباس بثلاثة، وأربعة، وبقية الأعداد المفردة.
هذا. وإذا صار الاسم المبدوء بهمزة وصل -اثني ... واثنتي- علما فإن همزته تصير همزة قطع: يجب كتابتها والنطق بها -كما سلف في رقم3 من هامش ص38 وسيجيء لها بيان أكمل في رقم2 من هامش ص247.(4/109)
المفرد؛ "أي: الخالي من التركيب وهو: اثنان واثنتان"1. فصارت هي والألف بمنزلة الحرفين الزائدين في آخر الأصل المثنى؛ إذا كان علما.
"ملاحظة": اشتد الخلاف بين النحاة الأقدمين في ترخيم الأعداد المركبة "أعلاما وغير أعلام" من ناحية جوازه وطريقته، أو عدم جوازه. والحق أن ترخيمها لا يخلو من لبس وخفاء يحملان اليوم على اجتنابه.
__________
1 "أو المراد بالاسم المفرد: ما كان آخره نون قبلها حرف مد في نحو: مسكين، علما؛ حيث تحذف النون في الترخيم ومعها حرف المد -وتثبت الهمزتان نطقا وكتابة إذا كانا علمين.(4/110)
كيفية ضبط المنادى بعد ترخيمه:
المنادى المرخم لا يكون إلا مفردا علما أو نكرة مقصودة -بتفصيلهما الذي عرضناه-1 فحكمه الأساسي هو البناء على الضم وفروعه. ولضبطه طريقتان بعد ترخيمه.
الأول: أن يلاحظ المحذوف، ويعتبر كأنه باق. ويظل ما قبله على حركته أو سكونه قبل الحذف2، ويستمر رمز البناء على الضم -وفروعه- مقصورا على الحرف الأخير المحذوف، كما كان قبل حذفه، من غير نظر لما طرأ عليه؛ ففي مثل: يا عامر ... يا سيدة ... يكون المنادى قبل الترخيم "عامر - سيدة" مبنيا على الضم في محل نصب، ويصير بعد الترخيم: يا عامِ، يا سيدَ، منادى مبنيا على الضم الذي على الحرف المحذوف، في محل نصب أيضا. بالرغم من كسر الميم، وفتح الدال؛ لأن كلا منهما لا يعد -بحسب هذه الطريقة- حرفا أخيرا في كلمته، يختص بعلامة البناء.
وكذلك في مثل: يا سالم - يا مسافرة، يا إفرند3؛ فالمنادى من غير ترخيم مبني على الضم في محل نصب. فإذا رخم قيل بهذه الطريقة: يا سالِ - يا مسافرَ، يا إفرنْ ... ، والمنادى مبني على الضم في محل نصب، كما كان من غير
__________
1 في ص101، وما بعدها.
2 يستثنى من هذا مسألتان يقع فيهما تغيير؛ الأولى: ما كان مدغما في المحذوف مع وقوعه بعد حرف مد هو -في الغالب- ألف، فإنه كان له حركة في الأصل حركته بها؛ نحو: "مضار، ومحاج، علمين؛ فيقال فيهما يا مضار ويا محاج، بالكسر على اعتبارهما اسمي فاعل أصله: مضار - محاجيج، أو بالفتح على اعتبارهما اسمي مفعول. أما إن كان أصلي السكون فالأحسن تحريكه بالفتحة لقربها من السكون في الخفة؛ نحو: إسحار "بتشديد الراء، اسم لبقلة"، فيقال عند التسمية به وترخيمه: "يا إسحار" فتحذف الراء الثانية للترخيم، وتفتح الأولى، والألف في الثاني؛ لزوال سبب الحذف. "حاشية الصبان -وغيرها- في هذا الوضع".
ويلاحظ أن استثناء المسألتين السالفتين مقصور على الأخذ بالطريقة الأولى المعروضة دون الثانية.
3 الإفرند في الأصل: السيف.(4/111)
حذف ... وهكذا يظل آخر اللفظ الحالي على ما كان عليه من حركة أو سكون قبل حذف الحرف الأخير.
وتسمى هذه الطريقة: "لغة من ينوي المحذوف". وتشتهر باسم: "لغة من ينتظر". ويجب الاقتصار عليها في ترخيم المنادى المختوم بتاء التأنيث عند خوف اللبس -كما سيجيء- مثل: يا علي، مرخم "علية"، علم أنثى؛ لوجوب فتح الحرف الذي قبل تاء التأنيث؛ فتكون هذه الفتحة -في الاسم المفرد الذي يجب بناء آخره على الضم- دليلا على أن هناك حرفا محذوفا ملحوظا هو التاء؛ إذ لو لم نلاحظة لقلنا: "يا علي" فيلتبس نداء المؤنث بالمذكر1.
الثانية: مراعاة الأمر الواقع؛ وذلك باعتبار أن ما حذف من اللفظ قد انفصل عنه نهائيا، وانقطعت الصلة بينهما، وكأنها لم تكن، وصار آخره الحالي -بعد حذف ما حذف- هو الذي يقع عليه العلامة. ففي المثالين السالفين يقال في نداء الترخيم: "يا سال، يا مساف". فالمنادى مبني على الضم في محل نصب. وتسمى هذه الطريقة: "لغة من لا ينوي المحذوف"2 أو: "من لا ينتظر".
__________
1 والأفصح عند ترخيم المؤنث بالتاء وحذفها على لغة "من ينتظر" أن يزاد على آخره عند الوقف هاء السكت. بل جعلها سيبويه لازمة عند طوائف العرب التي ترخم هذا النوع. "راجع كتاب سيبويه ج2 ص330".
بقي شيء هام؛ هو أن أكثر النحاة يوجب طريقة "من ينتظر" في المرخم المؤنث عن خوف اللبس. فلم يقصرونها على المؤنث وحده؛ إن الفرار من اللبس مطلب أساسي، يجب أن يعم كل الحالات؛ ترخيما وغير ترخيم -كما سيجيء في هامش ص113.
2 وفي الطريقتين المذكورتين لضبط المنادى المرخم يقول ابن مالك في الأولى التي ينوي فيها المحذوف:
وإن نويت بعد حذف ما حدف ... فالباقي استعمل بما فيه ألف
يريد: إن نويت ما حذف بعد حذفه، فاستعمل الباقي بعد الحذف بما ألف فيه، وعرف عنه قبل الحذف. أي: اترك الباقي على حاله المألوف فيه قبل الحذف. ويقول في الثانية التي لا ينوي فيها المحذوف:
واجعله إن لم تنو محذوفا كما ... لو كان بالآخر وضعا تمما
أي: اجعل الباقي من المنادى المرخم بعد حذف وعد ملاحظته في النية اجعله كما لو كان قد تمم بالآخر في الوضع، فكلمة: "وضعا" منصوبة على نزع الخافض. والمقصود من هذا كله: إن لم تنو المحذوف فاجعل الآخر الحالي بعد الحذف كأنه آخر وضعي، أصل، من وضع العرب =(4/112)
وتصلح الطريقتان في مثل: "عنتر" في قول الشاعر عنترة.
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم
وقوله:
يا عبل لا أخشى الحمام؛ وإنما ... أخشى على عينيك وقت بكاك
فأصل الكلمتين قبل النداء: عنترة وعبلة، ثم ناداهما نداء ترخيم؛ فحذف آخرهما. فالواجب -على لغة من ينتظر- أن نترك آخرهما الحالي على ما كان عليه قبل الحذف فيظل مفتوحا كما كان؛ فنقول: عنتر - عبل ... ويقع البناء على الضم على الحرف المحذوف. أما على لغة من لا ينتظر فيجب بناء الباقي على الضم مباشرة، وهكذا في كل النظائر الأخرى المختومة بتاء التأنيث.
ويلاحظ أن المرخم المختوم بتاء التأنيث لا تصلح له إلا طريقة: "من ينتظر" عند خوف اللبس، كما أسلفنا. فإذا أمن اللبس -بسبب اشتهار الكلمة في الاستعمال أو لسبب آخر- جاز اختيار هذه الطريقة أو تلك؛ كما في البيتين السابقين، وكما في نحو: يا فاطم -بضم الميم أو فتحها- وهي ترخيم: فاطمة، ومثلهما: همزة، "لمن يغتاب الناس" ومسلمة، علم رجل ...
__________
= وكأنه لم يحذف شيء يليه. وعلى الأول ينتظر يقال في: "ثمود" علما "ياثمو" بحذف الدال وترك ما عدها على حاله. أما الثاني: الذي ينتظر فتقلب الواو ياء ويقال: يا ثمي؛ للسبب المبين في الشرح وفي هذا يقول ابن مالك:
فقل على الأول في ثمود: يا ... ثمو، ويا ثمي، على الثاني بيا
ويجب الاقتصار على الرأي الأول في المرخم المختوم بالتاء إذا أوقع الأخذ بالرأي الثاني في لبس كما في ترخيم "مسلمة" "بضم الميم" علم امرأة؛ فيقال: يا مسلمَ؛ ليكون فتح الميم الأخيرة في هذا المنادى الواجب بناؤه على الضم -دليلا على الحذف. أما لو قلنا: "يا مسلمُ" بغير انتظار المحذوف فإن اللبس يقع بين نداء مسلم ومسلمة.
والحق أنه يجب الفرار من اللبس، سواء أكان موضعه المنادى بتاء التأنيث، أم المجرد منها؛ أم غيرهما. ولا معنى لقصره على المختوم بالتاء -كما أشرنا في آخر هامش الصفحة السابقة- فإن لم يكن هناك احتمال لبس جاز اختيار إحدى الطريقتين كما في مسلمة "بفتح الميم، علم قائد مشهور" وفي هذا يقول ابن مالك:
والتزم الأول في كمسلمه ... وجوز الوجهين في كمسلمه(4/113)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- الأخذ بطريقة "من لا ينتظر" على الوجه المشروح يقتضي -كما عرفنا- إهمال الحرف المحذوف، واعتباره كأنه لم يوجد؛ فيجري على الآخر الحالي كل الأحوال النحوية والصرفية المختصة بآخر الكلمة. ففي مثل: "ثمود - علاوة - كروان ... وأشباهها من الأعلام التي تنادي ترخيما فيختم آخرها بعد الحذف بحرف علة؛ فيقال: يا ثمو - يا علاو - يا كرو ... " في مثل هذه الكلمات يبقى الآخر الحالي على ما هو عليه عند من ينتظر؛ فيبنى على الضم على الدال، والتاء، والنون المحذوفات -في محل نصب ولا يقع تغيير على الأحرف الباقية بعد الحذف.
أما على لغة من لا ينتظر فيقع على الآخر الحالي تغييرات لا مناص منها؛ أهمها: أنه سيتغير ضبطه؛ فيصير مبنيا على الضم المقدر أو الظاهر؛ فيقال: يا ثمو - يا علاو - يا كرو. وأن توابعه ستخضع لحكم توابع المنادى المبني على ضم آخره المذكور في الكلام، وأنه سيتغير تغيرا صرفيا على حسب ما تقضي به الضوابط الصرفية من الإعلال، والصحة، والإبدال ... وغير هذا، كرجوع حرف محذوف؛ فيقال يا ثمي، بقلب ضمة الميم كسرة، لتنقلب الواو ياء، كي لا يكون آخر الاسم واوا لازمه ساكنة قبلها ضمة؛ لأن هذا نادر في العربية1، وكي لا وتنقلب الواو في آخر الكلمتين الأخيرتين همزة وألفا، لوقوعها متطرفة بعد ألف زائدة في: "يا علاوة". ولتحركها وانفتاح ما قبلها: في "يا كرو"، فيقال: يا علاء - يا كرا2.. ولا يقع شيء من هذا عند اتباع الطريقة الأخرى.
__________
1 كان هذا رأيا مقبولا في العصور الخالية، قبل انتشار الأسماء والأعلام بواو لازمة ساكنة، قبلها ضمة، أما الآن فقد عاشت كغيرها من الألفاظ المعتلة الآخر، المقصورة والمنقوصة: فوجب اتخاذ حكم لها؛ كنظائر. ولعله هنا يكون بإبقائها وعدم ترخيم المنادى الذي يحويها. أما في غير الترخيم فقد وضحناه في الجزء الأول، في المسألة الخامسة عشرة. كما وضحناه في هذا الجزء "في باب التثنية، والجمع، والنسب ... ".
2 أي: يا كروان، ومنه المثل العربي الذي يقال لمن يتكبر وحوله من هو أشرف منه يتواضع: "أطرق كرا، إن النعام في القرى" -وقد أشرنا له في ص4.(4/114)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ب- مع أن الطريقتين صحيحتان، والأمر في تقديم إحداهما على الأخرى متروك للمتكلم، ومراعاته المقام قد تكون "الأول وهي: "لغة من ينتظر" أنسب؛ لبعدها عن اللبس، غالبا؛ إذ حركة آخرها الحالي في أكثر الصور، لا تكون ضمة برغم استحقاق المنادى في موضعه هذا للبناء على الضم وجوبا فعدم وجود الضمة يوحي أن في اللفظ الحالي حذفا، ويرشد إلى أن الحرف الأخير الحالي ليس هو الأخير في الأصل، وإلا فأين علامة البناء؟
نعم يقع اللبس في هذه الطريقة حين يكون الحرف؛ الذي قبل المحذوف مباشرة مضموما هجائيا، نحو: قنفذ -علما- فعند ندائه نداء ترخيم على لغة من ينتظر يقول: يا "قنف" فالفاء مضمومة ضما يختلط الأمر فيه؛ أهو ضمة بناء، أم ضمة حرف هجائي ليس آخر الأحرف؟ وللمتكلم أن يتخير ما يزيل به هذا اللبس، أو يعدل عن هذه الطريقة إلى الأخرى، أو يعدل عنهما معا إذا أوقعت كل واحدة منهما في اللبس كالذي يحدث في مثل: يا فتاة.
ج- يرد في الفصيح كثيرا نداء لفظ "صاح" كقول الشاعر:
هلم "يا صاح" إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا1 همه
فأصل الكلمة: "صاحب" نوديت نداء ترخيم بحذف الباء. وهذا الرأي يساير قواعد الترخيم عامة؛ فهو أنسب من الرأي الذي يقول إن أصلها "صاحبي" ورخمت شذوذا بحذف ياء المتكلم والباء. إذ لا داعي للأخذ بالشاذ حين يكون المطرد ممكنا.
أما حذف الباء في غير حالة النداء فشاذ، إلا للضرورة الشعرية2 ...
__________
1 يريد: صدأ.
2 انظر المسألة التالية: ورقمها: "138".(4/115)
المسألة 138: القسم الثاني ترخيم الضرورة الشعرية 1
هذا النوع مقصور على غير المنادي؛ ولا يصح إجراؤه إلا بعد أن تتحقق شروط ثلاثة مجتمعة:
أولها: أن يكون في شعر.
ثانيها: أن يكون المرخم غير منادى، ولكنه صالح للنداء؛ فلا يصح ترخيم لفظ: "الغلام"؛ لأنه لا يصلح للنداء؛ بسبب وجود "أل"2..
ثالثها: أن يكون المرخم إما زائدا على ثلاثة، وإما مختوما بتاء التأنيث.
فمثال الأول:
لنعم الفتى -تعشو إلى ضوء ناره- ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر3
أراد: ابن مالك؛ فرخمه ترخيم الضرورة.
ومثال الثاني:
وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلبني حقي، أمال بن حنظل
أراد: يا مالك بن حنظلة4؛ فحذف التاء من "حنظلة" للضرورة في غير المنادي.
وإذا وقع ترخيم الضرورة في لفظ جاز ضبط آخره بإحدى الطريقتين السالفتين: طريقة من لا ينتظر -كالبيتين السالفين5 أو من ينتظر- كقول الشاعر:
__________
1 انظر معنى الضرورة وتفصيلها الدقيق في رقم 2 من هامش ص271.
2 وقد سبق البيان في ص36.
3 الخصر: شدة البرد.
4 والبيت -على هذا التقدير- يصلح شاهدا للحالتين معا.
5 بدليل وجود التنوين في الأول، وكسر اللام في الثاني. فلو جرى على الانتظار لوجب أن يراعى الأصل بحذف التنوين في الأول وبفتح اللام في الثاني.(4/116)
ألا أضحت حبالكمو رماما1 ... وأضحت منك شائعة2 أماما3
وبمقتضى الأولى يضبط آخر اللفظ المرخم على حسب ما تقتضيه الجملة من ضبطه، ويجري عليه ما تقتضيه الضوابط العامة، من إعلال، وصحة، وإبدال ... و ... وقد ينون أو لا ينون إن اقتضى الأمر شيئا مما سبق مع عدم اختلال الوزن؛ ككلمة "مال" المنونة في البيت الأول والمجرورة بالإضافة، وكلمة: "حنظل" المجرورة بالإضافة في البيت الثاني مع عدم التنوين.
وبمقتضى الثانية يبقى المرخم على حاله بعد حذف آخره، ككلمة: "أمام" في البيت الأخير.
هذا، ولا يشترط في المرخم للضرورة أن يكون معرفة "علما أو غير علم"؛ ولا شروطا أخرى غير التي سبقت. ومن ترخيم النكرة قول الشاعر -في بعض الروايات:
ليس حي على المنون بخال
أي: بخالد4 ...
__________
1 جمع رمة "بضم الراء غالبا. ويصح الكسر" قطعة حبل بالية.
2 بعيدة.
3 علم امرأة. والأصل قبل الترخيم: أمامة.
4 وقد اكتفى ابن مالك في الكلام على الترخيم الضرورة ببيت واحد هو:
ولاضطرار رخموا دون ندا ... ما للنداء يصلح؛ نحو: أحمدا
فلم يتعرض لشيء إلا اشتراط أن يكون المرخم للضرورة صالحا للنداء؛ نحو: أحمد. وقد أشرنا في رقم 1 من هامش الصفحة السالفة إلى أن المراد الدقيق من: "الضرورة" موضع تفصيلا في رقم 2 من هامش ص271.(4/117)
المسألة 139: الاختصاص
نسوق الأمثلة الآتية لإيضاحه:
1- قال أحد الشعراء:
قل للحوادث أقدمي، أو أحجمي ... إنا بنو الإقدام والإحجام
نحن النيام إذا الليالي سالمت ... فإذا وثبن فنحن غير نيام
من يسمع: "نا" أو: "نحن" يتردد في خاطره السؤال عن المقصود من هذا الضمير. الدال على المتكلم، وعن مدلوله، وحقيقة المتكلم به، وجنسه؛ أيكون مداوله والمقصود منه: العرب، أم: أهل العلم، أم: الأبطال، أم: أبناء الشرق ... أم ... أم؟ ... أم غير هؤلاء ممن لا يحصون جنسا، ولا نوعا، ولا عددا.
أيكون المراد -مثلا-: "إنا -العرب، بنو الإقدام ... " و "نحن -الأبطال- النيام" ... و ... فالضمائر المذكورة يشوبها عيب واضح؛ هو: عموم يخالطه إبهام تحتاج معهما إلى تخصيص وتوضع، فإذا جاء بعد كل ضمير منها اسم ظاهر، معرفة، يتفق مع الضمير في المدلول، ويختلف عنه بزيادة التحديد والوضوح -زال العيب. وتحقق الغرض. كالذي تحقق بزيادة كلمة: "العرب" وكلمة: "الأبطال". فيما سبق؛ إذ المراد منها هو المراد من الضمير قبلها؛ ولكن بغير عموم ولا غموض كالذي في تلك الضمائر، برغم أنها متجهة للمتكلم1.
2- يقول الشاعر:
وأنا ابن الرياض، والظل، والما ... ء ودادي ما زال خير وداد
فمن هذا المتكلم؟ وما مدلول هذا الضمير الدال على التكلم؟ أهو شاعر، أم ناثر، أم عالم، أم زاهد؟ ... ، ما جنسه؟ ... إن الضمير: "أنا"
__________
1 سبق في ج1 ص255 م19 "باب: الضمائر" معنى: إبهام الضمير، وطريقة إيضاحه.(4/118)
لا يسلم من غموض يحتاج معه إلى اسم ظاهر من نوع خاص؛ يزيل هذا العيب؛ كأن يقال: "أنا -الشاعر- ابن الرياض"، أو: "أنا -الشرقي- ابن الرياض" ... فمجيء هذا الاسم الظاهر، المعرفة، المعين، الواضح، الذي معناه معنى الضمير قبله -قد أزال عنه عيب العموم والإبهام.
3- وكذلك الضمير "أنت" في قول الشاعر:
أنت في القول كله ... أجمل الناس مذهبا
فما الذي يظنه سامع الضمير: "أنت" الدال على الخطاب؟ أيكون المراد: "أنت -الشاعر- أجمل الناس مذهبا"، أم: "أنت - الأديب ... " أم محمدا - أم عليا؟ ... لا بد من اسم ظاهر كالأسماء التي وصفناها لإزالة العموم والإبهام عن الضمير.
4- نشهد في عصرنا كثيرا من المتعاقدين يبدءون عقود البيع، والشراء، والمداينة، وغيرها بجملة شاعت بينهم حتى ابتذلت؛ هي: "نحن - الموقعين - على هذا، نقر ونعترف بكذا وكذا ... " وكلمة: "الموقعين" هي الاسم الظاهر المعرفة الذي جاء لإزالة ما في الضمير قبله من عموم وإيهام، مع اتفاق الاسم الظاهر والضمير في المدلول، وتميز الظاهر بما فيه من تجديد وإيضاح.
بالتأمل في الأمثلة السالفة -وأشباهها- نلحظ في كل أسلوب منها بعد إزالة ما في الضمير من عيب العموم والإبهام، أربعة أمور مجتمعة، تتصل بموضوعنا اتصالا أصيلا قويا.
أولها: ضمير لغير الغائب؛ يشوبه عموم وإبهام.
ثانيها: اسم ظاهر معرفة، مدلوله الضمير، ولكنه يحدد المراد من ذلك الضمير، ويخصصه، ويوضحه؛ فيزيل ما فيه من عموم وإبهام.
رابعها: امتداد ذلك الحكم إلى الاسم الظاهر المعرفة "لأنه شريك الضمير في الدالة؛ فيقع عليه ما يقع على الضمير من حكم معنوي" واختصاصه به، واقتصاره عليه؛ فيكون هذا اختصاصا واقتصارا على بعض معين مما يشمله الضمير(4/119)
"ذلك" أن الضمير بعمومه يشمل أفرادا كثيرة، منها أفراد الاسم الظاهر المعرفة الذي يعتبر أقل أفرادا منه"، وإن شئت فقل: إن هذا الاسم الظاهر أخص من الضمير الذي بمعناه. ففي مثل: "نحن -العرب- بنو الإقدام والإحجام"، نجد الضمير العام المبهم هو: "نحن" والاسم الظاهر المعرفة هو: "العرب"، والحكم المعنوي الذي وقع على المبتدأ هو: "البنوة" للإقدام والإحجام. وقد خصص هذا الحكم ببعض أفراد الضمير؛ وهم: "العرب"، أي: صار خاصا بهم، مقصورا عليهم. وهكذا يقال في سائر الأمثلة، ونظائرها ...
فالاسم الظاهر المعرفة هو الذي يسميه النحاة في اصطلاحهم: "المختص"، أو: "المخصوص"؛ لاختصاص المعنى به، ولأنه يعرب "مفعولا به" لفعل واجب الحذف مع فاعله، تقديره الشائع عندهم، هو: "أخص"1 ويعبرون عن هذه المسألة تعبيرا اصطلاحيا بالغرض منها: وهو: "الاختصاص". ويشترطون في أسلوب الاختصاص أن تتحقق فيه الأمور الأربعة السالفة.
ويقولون في تعريفه: "إنه إصدار حكم على ضمير لغير الغائب، بعده اسم ظاهر، معرفة، معناه معنى ذلك الضمير، مع تخصيص هذا الحكم بالمعرفة، وقصره عليها".
الغرض منه:
الغرض الأصلي من الاختصاص الاصطلاحي هو: التخصيص والقصر. على الوجه المشروح فيما سلف. وقد يكون الغرض الفخر؛ نحو: "إني -العربي- لا أستكين لطاغية". "إني -الرحالة- أتعلم من الرحلة ما لا أتعلمه من الكتاب" وقول الشاعر:
لنا -معشر الأنصار- مجد مؤثل ... بإرضائنا خير البرية أحمدا
أو: التواضع؛ كقول أحد الخلفاء: "أنا -الضعيف العاجز- أحطم البغي، وأهدم قلاع الظالمين. وأنا -البائس الفقير- لا أستريح وبجانبي متأوه، أو محتاج" ...
__________
1 لا مانع أن يكون تقديره: أعني، أو: أقصد، أو: أريد ... أو ما شاكل هذا إلا أن الفعل: "أخص" هو المشهور، ومن مادته جاء الاصطلاح الشائع نحويا: "الاختصاص" ولا بد من حذف هذا الفعل مع فاعله -كما أشرنا- ولهذا يعتبرون "المخصوص" هنا نوعا من "المفعول به" الذي ينصب بعامل واجب الحذف.(4/120)
أو: تفصيل ما يتضمنه الضمير من جنس، أو نوع، أو عدد ... ، نحو: "نحن -الناس- نخطئ ونصيب؛ والعاقل من ينتزع من خطئه تجربة تعصمه من الزلل مرة أخرى"، "نحن -المثقفين- قدوة لسوانا، فإن ساءت القدوة فالبلاء فادح". "أنتم -الأربعة الأئمة- نجوم الهداية، ومصابيح العرفان".
حكمه: الاسم1 الواقع عليه الاختصاص، "وهو: المختص، أو المخصوص": يجب نصبه دائما، على التفصيل الآتي:
1- إن كان الاسم هو لفظ "أي" في التذكير أو "أية" في التأنيث وجب بناؤهما على الضم في محل نصب2؛ على المفعولية، ووجب أن يتصل بآخرهما كلمة: "ها" التي للتنبيه، وأن يلتزما هذه الصيغة التي لا تتغير إفرادا، ولا تثنية، ولا جمعا، ولا بد أن يكون لكل منهما نعت لازم الرفع بغير بناء ولا إعراب، "لأن حركة الرفع هذه هي مجرد ظاهرية صورية3 ... لمجاراة "أي، وأية" ومماثلتهما فيها، تجيء تبعا للفظهما المبني"، وأن يكون هذا النعت مبدوءا بأل التي للعهد الحضوري؛ نحو: "أنا، الجندي، فهداء وطني". "نحن، أيها الجنديان، نقضي الليل ساهرين". "نحن، أيها الجنود، حماة الأوطان". "أنا، أيتها الصانعة، حريصة على الإتقان". "نحن، أيتها الصانعتان، حريصتان على الإتقان" ... "نحن، أيتها الصانعات، حريصات على الإتقان ... ".
فالضمير في كل ما سبق، مبتدأ. وكلمة "أي، أو: أية" مفعول به لفعل واجب الحذف مع فاعله، تقديره -مثلا: "أخص" وهي مبنية على الضم في محل نصب. و"ها" حرف تنبيه مبني على السكون، والاسم المعرفة المقرون بأل، نعت مرفوع حتما، رفع إتباع للناحية الشكلية اللفظية وحدها. وليس له محل3 إعرابي
__________
1 هذا الاسم أربعة أنواع، يجيء بيانها في الزيادة ص125.
2 يقول النحاة إنهما بنيا هنا حملا لهما على النداء؛ لأن أسباب البناء لا تنطبق عليهما. والحق أن علة بنائهما على الضم هنا وفي باب النداء هي الاستعمال العربي وحده.
"وفي صدر الجزء الأول بيان الأسباب التي ذكروه اللبناء، ثم تفنيدها".
3 و3 التحقيق أن ضمته إتباع صوري لفظي "كما سبق في باب النداء ص45 و49"؛ إذ لا مقتضى للرفع الإعرابي، ولا للبناء، فهي محض حركة صورية -فيما يقال- ولكن انظر تفصيل الكلام في هذا الحكم الهام في رقم 1 من هامش ص47.(4/121)
مطلقا، مع أنه تابع للفظ كلمتي: "أي وأية" المبنيتين على الضم لفظا، وإن كانتا منصوبتين محلا -كما سبق.
ويصح تأخيرهما في نهاية الجملة؛ مثل: "نحن أنصار الحق أيها الطلاب" "نحن أنصار الفضيلة أيتها الفتيات ... "1.
2- إن كان الاسم المختص لفظا آخر غير: "أي وأية" وجب نصبه، سواء أكان مضافا أم غير مضاف، نحو: "أنا - الطبيب - لا أتوانى في إجابة الداعي ... ": "أنا - طالب العلم - لا تفتر رغبتي فيه"2.
أوجه التشابه والتخالف بين الاختصاص والنداء:
بين الاختصاص والنداء تشابه في أمور، وتخالف في أخرى. فيتشابهان في ثلاثة أمور2:
أولها: إفادة كل منهما الاختصاص وهو في هذا الباب خاص بالمتكلم أو المخاطب. وفي باب النداء خاص بالمخاطب.
ثانيها: أن كلا منهما للحاضر "أي المتكلم أو المخاطب"3 ولا يكون ضمير غائب.
ثالثها: أن الاختصاص يؤدي -بسبب ما فيه من تحديد وإيضاح- إلى تقوية المعنى وتوكيده، وقد يتحقق هذا في النداء كذلك أحيانا؛ كقولك لمن هو مصغ إليك، مقبل على حديثك: إن الأمر -يا فلان-4 هو ما فصلته لك5 ...
__________
1 إعراب هذه الجملة الفعلية المحذوفة موضح في "ب" ص125.
2 و2 يردد النحاة هذه الأوجه لإثبات المشابهة. والحق أن هذه المشابهة واهية، ولا يكاد أمرها يقوى إلا في "أي وأية" بسبب بنائهما على الضمر في محل نصب، ووجود حرف التنبيه والنعت بعدهما، وكل هذا مع الأمور الثلاثة السالفة.
3 يلاحظ أن النداء كما سبق في بابه، ص1 وفي هامش ص68 -لا يكون المتكلم.
4 ويذكر اسمه الحقيقي في النداء.
5 سبقت الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص1.(4/122)
ويختلفان في أمور: بعضها لفظي، والآخر معنوي، فاللفظية أشهرها:
1- أن الاسم المختص لا يذكر معه حرف نداء مطلقا، لا لفظا، ولا تقديرا، "لا "يا"، ولا غيرها".
2- أنه لا يكون في صدر الجملة وإنما يكون بين طياتها -كالأمثلة السالفة- أو في آخرها: نحو: اللهم ساعدنا على النصر -أيها الجنود، أو أيتها الكتيبة.
3- أنه لا بد أن يسبقه ضمير بمعناه في التكلم1 أو الخطاب -والغالب أن يكون ضمير تكلم. ولا يصح أن يكون ولا يصح أن يكون السابق ضمير غيبة، ولا اسما ظاهرا. ومن أمثلة ضمير الخطاب قولهم في الدعاء: "سبحانك الله العظيم"، و"وبك -الله- نرجو الفضل"، بنصب كلمة: "الله" فيهما.
4- أن الاسم المختص منصوب دائما في لفظه. علما كان أو غير علم إلا "أي وأية" فإنهما مبنيتان على الضم لفظا، منصوبتان محلا ... أما المنادى فإن العلم والنكرة المقصودة مبنيان فيه -في الأغلب- على الضم في محل نصب، وكذا: أي، وأية، يبنيان في النداء على الضم في محل نصب.
5- أنه يقل أن يكون علما -ومع قلته جائز- نحو: أنا -خالدا- حطمت أصنام الجاهلية.
6- أنه يكثر تصديره "بأل" بخلاف المنادى فلا يجوز اقترانه بأل إلا في بعض حالات سبق سردها2.
7- أنه لا يكون نكرة. ولا اسم إشارة. ولا ضميرا. ولا اسم موصول.
8- أن "أيا وأية" هنا لا توصفان باسم إشارة. بخلافهما في النداء، وأن صفتهما واجبة الرفع الصوري اتفاقا. بخلافهما في النداء3.
9- أن "أيا" مختصة هنا بالمذكر مفردا، ومثنى، وجمعا، ولا تستعمل للمؤنث
__________
1 سواء أكان ضمير المتكلم خاصا به وحده، أم شاركه فيه غيره؛ فالخاص مثل: "أنا" والآخر مثل: "نحن".
2 في ص36.
3 في رقم 2 من ص45 ورقم 3 من هامش ص46 ما يوضح هذا الخلاف.(4/123)
بخلافها في النداء، كما أن "أية" مختصة هنا وفي النداء، بالمؤنث مفردا ومثنى، وجمعا، ولا تكون للمذكر.
10- أنه لا يرخم اختيار، ولا يستغاث به، ولا يندب ...
11- أن العامل هنا محذوف وجوبا مع فاعله بغير تعويض، أما في النداء فحرف النداء عوض عنهما. وأن الفعل المحذوف هنا تقديره -غالبا- "أخص" أو: ما بمعناه. أما في النداء فالفعل تقديره: أدعو: أو: أنادي، أو: ما بمعناها والمعنوية أشهرها:
1- أن الكلام مع الاختصاص خبر، ومع النداء إنشاء.
2- أن الغرض الأصلي من الاختصاص هو قصر المعنى على الاسم المعرفة، وتخصيصه من بين أمثاله بما نسب إليه. وقد يكون الغرض هو: الفخر، أو التواضع أو: "زيادة البيان: -كما شرحنا- وأما الغرض من النداء الأصيل1 فطلب الإقبال، بالتفصيل الذي سردناه2 في بابه3 ...
__________
1 دون النداء الذي خرج عن الغرض الأصلي إلى غيره.
2 ص1 وما بعدها وح من ص5.
3 وقد اقتصر ابن مالك في بيان ما سبق كله، على بيتين دونهما في باب مستقل عنوانه: الاختصاص، قال:
الاختصاص: كنداء دون "يا" ... كأيها الفتى؛ بإثر: ارجونيا
أي كقولك ارجوني أيها الفتى، بوقوع: "أيها الفتى" إثر: "ارجوني"، أي: على إثرها، وبعدها. ثم قال:
وقد يرى ذا دون "أي" تلو "أل" ... كمثل: نحن العرب أسخى من بذل
أي: قد يرى الاختصاص مستعملا من غير كلمة "أي" وأية" فيه. يريد: من غير أن يكون الاسم المختص هو لفظ: "أي، أو، أية" وإنما يكون اسما مشتملا على "أل" كالمثال الذي ساقه، وهو: "نحن -العرب- أسخى من بذل"، أكرم من أعطى ماله. فكل ما يفهم من البيتين هو أن الاختصاص كالنداء، لكن من غير حرف نداء مطلقا، وأن لفظه قد تكون: "أي وأية"، وأن الاختصاص قد يستغني عنهما باسم ظاهر "وأل" وهذا الكلام مبتور.(4/124)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يفهم مما سبق أن الاسم المختص "المخصوص" أربعة أنواع.
الأول منها مبني على الضم وجوبا، في محل نصب وهو: "أي" للمذكر و"أية" للمؤنث؛ مع التزام كل صيغة بصورتها في جميع استعمالاتها، ووقوع "ها" التي للتنبيه بعدهما، ومجيء نعت لهما مقرون بأل التي للعهد الحضوري.
أما الثلاثة الباقية فواجبه النصب، وهي: المقرون بأل، نحو: "نحن -الشرفاء- فترفع عن الدنايا". والمضاف، نحو: "أنا -صانع المعروف- لا أرجو عليه جزاء". والعلم -وهو أقل الأربعة استعمالا- نحو: "أنا -عليا- لا أهاب في سبيل الحق شيئا".
ب- الاسم المختص منصوب بفعل محذوف وجوبا مع فاعله، والجملة -في الغالب- تكون في محل نصب، حالا من الضمير الصالح قبلها لأن يكون صاحب حال1؛ كالتي في مثل: ارجوني2 أيها الفتى. وفي مثل: ربنا اغفر لنا أيتها الجماعة3.
وقد تكون أحيانا معترضة: مثل: نحن -الحكام- خدام الوطن. أي: أخص الحكام. فهذه معترضة بين المبتدأ وخبره. ومثلهاك إنا -معاشر الأنبياء- لا نورث4.
__________
1 فليس منه الضمير الذي يعرب مبتدأ في رأي كثير من النحاة -وإن كان في رأيهم تعسف كما سيجيء هنا في رقم4.
2 التقدير: ارجوني حال كوني مخصوصا من بين الفتيان -اغفر لنا حال كوننا مخصوصين بين الجماعات. وقد نص النحاة على إعراب واو الجماعة فاعلا لفعل الأمر، وعلى إعراب جملتي الاختصاص في المثالين حالين من الياء، ونا.
3 فلا يكون لها محل من الأعراب؛ كالشأن في كل الجمل المعترضة.
4 كانت الجملة هنا معترضة لتوسطها بين شيئين متلازمين؛ قبل أن يستوفى أولهما ما يلزم له. وقد نص النحاة على أنها معترضة، ولم يعربوها هنا حالا من الضمير الذي قبلها -كما أعربوها في المثالين السابقين- فرارا من مجيء الحال مما أصله المبتدأ؛ إذ الشائع بين كثرتهم ألا يكون صاحب الحال مبتدأ، ولا أصله مبتدأ، وقد عرضنا -في الجزء الثاني، باب: الحال م84 ص339 وم85 ص377- لهذا الشائع، وانتهينا إلى تخطئته بالحجة القوية. وإذًا لا مانع أن تكون جملة الاختصاص الفعلية في المثالين الأخيرين وأشباههما جملة حالية أو معترضة، بل إنها في الحالية أنسب للغرض، وأوضح.(4/125)
المسألة 140: التحذير والإغراء
أ- التحذير: "تنبيه المخاطب على أمر مكروه؛ ليجتنبه"1. والأصل في أسلوب التحذير أن يشتمل على ثلاثة أمور مجتمعة:
أولها: "المحذر"، وهو المتكلم الذي يوجه التنبيه لغيره.
ثانيها: "المحذر"، وهو الذي يتجه إليه التنبيه.
ثالثها: "المحذور"، أو "المحذر منه"، وهو: الأمر المكروه الذي يصدر بسببه التنبيه.
ولكن هذا الأصل قد يعدل عنه أحيانا كثيرة، فيقتصر الأسلوب على بعض تلك الأمور الثلاثة -كما سنعرف.
ولأسلوب التحذير -بمعناه اللغوي العام-2 صور مختلفة؛ منها: صورة الأمر؛ كالذي في قول الشاعر:
احذر مصاحبة اللئيم، فإنها ... تعدي كما يعدي السليم الأجرب
ومنها: صورة النهي؛ كقول الأعرابي في لغته، وقد فتنته:
لا تلمني في هواها ... ليس يرضيني سواها ...
ومنها: الصورة المبدوءة بالضمير "إياك"3 وفروعه الخاصة بالخطاب4
__________
1 هذا تعريف لغوي يردده -بنصه- كثير من النحاة. ولكن يفضل بعضهم أن يقال: "إنه اسم منصوب، معمول للفعل: "أُحذر" المحذوف، ونحوه". لأن هذا يناسب مهمة النحو التي هي البحث في أحوال الكلم إعرابا وبناء. وأيضا ليدخل في التعريف نحو قول الشاعر:
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
بنصب كلمة: "الله" بعامل محذوف تقديره: احذر، أو: اخش، أو: اتق، أو نحو ذلك ... فبناء على التعريف اللغوي يكون: "الله" هو الأمر المكروه؛ وهذا لا يليق.
2 الذي يشمل "الاصطلاحي" الآتي، وغير الاصطلاحي.
3 بكسر الهمزة، مجاراة لأفصح اللغات، وأشهرها، ويجوز فتحها في لغة، كما يجر قلبها "هاء مكسورة" في لغة أخرى ...
4 هي: إياك، وإياكما، وإياكم، وإياكن.(4/126)
كالذي في قول أعرابية لابنها: "إياك والنميمة1. فإنها تزرع الضغينة2، وتفرق بين المحبين. وإياك والتعرض للعيوب؛ فتتخذ غرضا3؛ وخليق4 ألا يثبت الغرض على كثرة السهام ... " وقولهم: "إياكم وثورة الغضب فإنها تجلب المرض وسوء العاقبة". إلى غير هذا من العبارات والصور المتعددة التي تحقق "التحذير" بمعناه اللغوي العام.
غير أن الكثير من الصور السالفة لا يخضع لأحكام هذا الباب. ولا تنطبق عليه ضوابطه النحوية وقواعده؛ لأن هذه الضوابط والقواعد والأحكام، لا تنطبق إلا على خمسة أنواع "اصطلاحية"؛ يسمونها: "صور التحذير الاصطلاحي"، هي -وحدها- المقصودة من هذا الباب بكل ما يحويه. ولا سيما اشتمال كل منها على اسم منصوب يعرب مفعولا به لفعل محذوف مع مرفوعه، وفيما يلي بيان هذه الأنواع الخمسة الاصطلاحية:
النوع الأول: صورة تقتصر على ذكر "المحذر منه" "وهو: الأمر المكروه" اسما ظاهرا5، دون تكرار، ولا عطف مثيل له عليه -والمراد بالمثيل هنا؛ محذر منه. آخر؛ كتحذير الطفل من النار؛ بأن يقال له: النار، وكتحذيره من سيارة؛ بأن يقال له: السيارة.
وحكم هذا النوع: جواز نصبه بفعل محذوف جوازا هو ومرفوعه. فكلمة: "النار" أو "السيارة" يجوز نصبها على اعتبارها مفعولا به لفعل لمحذوف جوازا تقديره مثلا: احذر النار - احذر السيارة. والفاعل ضمير محذوف معه أيضا؛ تقديره: أنت. ويجوز تقدير فعل آخر يناسب المعنى والسياق من غير تقيد بشيء في اختياره إلا موافقة المعنى. وصحة التركيب، مثل: اجتنب النار - اجتنب السيارة ... أو: حاذر، أو: جانب ...
وفي كل هذه الأمثلة يصح حذف الفعل وفاعله معا. أو ذكرهما معا6،
__________
1 السعي بين الناس بالإفساد.
2 الحقد والعداوة.
3 هدفًا تصوب إليه السهام.
4 جدير، أمر محقق ...
5 أي: ليس ضميرا.
6 مع ملاحظة أن الضمير المستتر نوع من الضمير المذكور -لا من المحذوف- طبقات لما سبق إيضاحه في باب الضمير ج1.(4/127)
فيقال: النار، أو اجتنب النار.. كما يصح ضبط "المحذر منه" ضبط آخر غير النصب، كالرفع؛ فيقال: النار، على اعتباره -مثلا- مبتدأ خبره محذوف. لكنه في حالة التصريح بفعله لا يدخل في عداد الأساليب الاصطلاحية الخمسة، وكذلك في حالة ضبطه بغير النصب، إذ الشرط الأساسي في التحذير الاصطلاحي. أن يكون الاسم منصوبا على أنه: "مفعول به"، وناصبه عامل محذوف هو مرفوعه1. معا.
النوع الثاني: صورة تشتمل على ذكر "المحذر منه" اسما ظاهرا2؛ إما مكررا، وإما معطوفا عليه مثله مثله بالواو -دون غيرها؛ نحو: البرد البرد - البرد والمطر.
وحكم هذا النوع: وجوب نصب الاسم في الصورتين بعامل محذوف مع مرفوعه وجوبا2. ويراعى في تقديره موافقته للمعنى وصحة التركيب؛ نحو: "احذر البرد البرد - احذر البرد والمطر". أو: تجنب ... أو اتق ... فحكم هذا النوع: وجوب النصب، ووجوب حذف العامل ومرفوعه معا. ويتعين في صورة "التكرار" أن يكون الاسم الثاني توكيدا لفظيا، وفي حالة "العطف" أن يكون حرف العطف هو: "الواو" -دون غيرها- وما بعدها معطوف على الاسم قبلها عطف مفردات، لا عطف جمل.
النوع الثالث: صورة تشتمل على ذكر اسم ظاهر3 مختوم بكاف خطاب للمحذر؛ بحيث يكون هذا الاسم هو الموضع أو الشيء الذي يخاف عليه، سواء أكان مكررا أم غير مكرر، معطوفا عليه بالواو مثيل له -أي: "محذر آخر" أم غير معطوف. ولا بد في صورة العطف أن يكون المعطوف "محذرا" أيضا "المعطوف عليه"؛ كأن يقال لمن يحاول لمس طلاء سائل: يدك -أو: يدك يدك- أو: كأن يقال لمن يحاول لمس طلاء سائل: يدك -أو: يدك يدك- أو: يدك وملابسك. والتقدير: أبعد يدك ... - أبعد يدك وملابسك ... ، أو: صن يدك ... ، صن يدك وملابسك ... ويصح اختيار عامل محوف آخر يناسب السياق والتركيب ...
__________
1 والداعي البلاغي للحذف هو ضيق الوقت؛ لأن أكثر حالات التحذير تتطلب الإسراع، لينتبه المخاطب قبل فوات الفرصة، كي لا يصيبه المكروه بفواتها.
2 أي: ليس ضميرا -كما سبق.
3 لهذا إيضاح آخر، يجيء في: "د" في "د" من الزيادة والتفصيل من 134 و135.(4/128)
وحكم هذا النوع: وجوب نصب الاسم السابق الذي تكرر، وكذلك المعطوف عليه. والناصب لهما عامل محذوف مع مرفوعه وجوبا1 وما بعد الواو معطوف على ما قبلها عطف مفردات، أما الذي جاء تكرار فتؤكيد لفظي.
فإن كان الاسم منفردا "أي: ليس مكررا ولا معطوفا عليه" فحكمه حكم النوع الأول الذي يجوز نصبه بعامل محذوف مع مرفوعه جوازا -لا وجوبا- فيصح إظهار عامله وحذفه، كما يصح ضبطه بغير النصب؛ فإذا ظهر عامله أو كان الضبط بغير النصب فلن يكون من أساليب "التحذير الاصطلاحي"؛ -كما أوضحنا في ذلك النوع.
النوع الرابع: صورة تشتمل على اسم ظاهر مختوم بكاف خطاب للمحذر، ويكون هذا الاسم كما في النوع السالف هو الموضع أو الشيء الذي خاف عليه، ولكن قد عطف عليه الواو -دون غيرها- "المحذر منه"؛ نحو: يدك والسكين -رأسك وحرارة الشمس- مواعيدك والخلف. فالمعطوف هنا "محذر منه"، بخلافه في النوع السالف الذي يكون فيه المعطوف "محذرا" ... 2.
وحكم هذا النوع: وجوب نصب الاسم الظاهر والمعطوف، وأن يكون عامل النصب محذوفا مع مرفوعه وجوبا3. والأيسر والأسهل اختير عاملين مناسبين4 أحدهما: للمعطوف عليه. والآخر: للمعطوف. ولا يراعى في اختيارهما إلا مناسبتهما للسياق والتركيب؛ كأن يقال: صن يدك وأبعد السكين -احفظ رأسك؛ واحذر حرارة الشمس- تذكر مواعيدك، وتجنب الخلف ... وأمثال هذا مما هو مناسب. وعلى هذا التقدير يكون أسلوب التحذير جملتين تشتمل السابقة منهما على الموضع أو الشيء الذي يخاف عليه، ويتجه إليه التحذير،
__________
1 لهذا الحكم إيضاح آخر يجيء في "د" و"هـ" من الزيادة والفصيل، ص134 و135.
2 الفرق بين هذا النوع وسابقه. أن هذا النوع لا بد فيه من معطوف يكون محذرا منه. أما السابق فقد يوجد معطوف أو لا يوجد، وإن وجد وجب أن يكون اسما ظاهرا موضوعا للخوف عليه، وليس محذرا منه.
3 لهذا الحكم إيضاح يجيء في: "د" و"هـ" من الزيادة ص134 و135.
4 وقد يمكن اختيار عامل واحد يستقيم معه المعنى، ويساير الضوابط العامة. وفي هذه الحالة يكون العطف عطف مفردات.(4/129)
وتشتمل المتأخرة على "محذر منه" وبين الجملتين واو العطف؛ تعطف الجملة الثانية على الأولى؛ فيكون العطف عطف جمل، لا مفردات1 ...
النوع الخامس: صورة تشتمل على ذكر المحذر ضميرا منصوبا للمخاطب، هو: "إياك"2 وفروعه. وبعده "المحذر منه"، اسما مسبوقا بالواو -دون غيرها- أو غير مسبوق بها، أو مجرورا بالحرف: "من". فلا بد في هذا النوع من ذكر "المحذر" ضميرا معينا، ثم "المحذر منه". فمثال المسبوق بالواو قول الأعرابية لابنها: "إياك والجود بدينك، والبخل بمالك ... ". وقولهم: إياكم والدين؛ فإنه هم بالليل، ومذلة بالنهار. ومثال غير المسبوق بها قولهم: "إياكم تحكيم الأهواء السيئة؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم. ومن أمات هواه أحيا كرامته". وقول الشاعر:
إياك إياك المراء3؛ فإنه ... إلى الشر دعاء، وللشر جالب
ومثال المجرور بمن قولهم: "إياك من مؤاخاة الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك". وقولهم: "إياك من عزة الغضب الطائش؛ فإنها تفضي إلى ذلة الاعتذار المهين".
وحكم هذا النوع: وجوب ذكر المحذر منه بد الضمير "إياك" وفروعه، ووجوب نصب هذا الضمير4؛ باعتباره مفعولا به لفعل واجب المحذف مع مرفوعه، وتقديره: "أحذر"، والأصل: "أحذرك". ثم أريد تقدير: "الكاف" لداع بلاغي؛ هو: "إفادة الحصر"؛ فمنع من تقديمها أنها ضمير متصل لا يستقل بنفسه، ولا يوجد إلا في ختام كلمة أخرى. فلم يكن بد -عند إرادة تقديمه- من الاستغناء عنه، والإتيان بضمير آخر منصوب، له معناه، ويمتاز بأنه يستقل
__________
1 هناك تقديرات وإعرابات أخرى لا تسلم من تعقيد أو صعوبة. ولا حاجة لنا بها بعد أن تلاقت الآراء المختلفة عند وجوب نصب المتعاطفين، ووجوب حذف عامل النصب مع مرفوعه. أما الخلاف العنيف في غير هاتين الناحيتين فيريحنا منه الالتجاء إلى الطريقة التي تخيرناها.
2 الأحسن اعتبار "إيا" ومعها علامة الخطاب التي بعدها، هما الضمير المنصوب، ولا داعي لاعتبار الضمير هو: "إيا"، واعتبار ما بعده حرف خطاب.
"وقد سبق إيضاح هذا وتفصيل الكلام عليه في موضعه من باب: "والضمير" ج1 ص163 م19".
3 الطعن في كلام غيرك بقصد تكذيبه، وتحقيره.
4 للحكم إيضاح يجيء في "د وهـ" من الزيادة والتفصيل ص134 و135.(4/130)
بنفسه، وهو الضمير: "إياك" فصار الكلام: "إياك أحذر" ثم حذف الفعل والفاعل معا؛ مجاراة للمأثور من الكلام الفصيح الذي يطرد فيه هذا الحذف الواجب.
أما الاسم الظاهر المذكور بعد "إياك" وفروعها فإن سبقته واو العطف وجب نصبه بفعل محذوف مع مرفوعه وجوبا. والأحسن الأيسر -اختيار فعل خاص به يناسبه ويساير المقام، ويكون غير الفعل الناصب للضمير "إياك" فيجتمع في الأسلوب فعلان محذوفان مع مرفوعيهما. ففي المثالين السابقين1: "إياك والنمية"، "إياك والتعرض للعيوب ... " يكون التقدير؛ إياك أحذر، وأبغض النميمة، إياك أحذر، وأقبح التعرض للعيوب. بمعنى: أحذرك وأبغض ... وأقبح ...
ويصح أن يكون التقدير: إياك احفظ2، واحذر النميمة، إياك احفظ2، واترك التعرض للعيوب ... وهكذا من غير تقيد بشيء إلا نصب الاسم بعد الواو، واختيار فعل -أي فعل- يناسب المقام، ويساير الأسلوب الصحيح. وعلى هذا تكون الواو حرف عطف، والجملة بعدها معطوفة على الجملة التي قبلها، وبالرغم من حذف الفعل ومرفوعه في كل جملة؛ يراعى المحذوف هنا في العطف كأنه مذكور؛ ففي الأسلوب جملتان، الثانية منهما معطوفة بالواو على الأولى.
فإن لم تكن الواو مذكورة فالأسهل إعراب المنصوب بعدها مفعولا به للفعل: "أحذر" المحذوف؛ لأنه قد ينصب مفعولين بنفسه مباشرة. فأول المفعولين هو: "إياك" وفروعه، وثاني المفعولين هو الاسم الظاهر الواقع بعد الضمير "إياك"، وفروعه، أما إذا قلنا: "إياك من النميمة ... ". "إياك من التعرض للعيوب ... ". فإن الجار مع مجروره متعلقان بالفعل المحذوف وجوبا؛ وهو: "أحذر"؛ المحذوف؛ لأنه قد ينصب مفعولين بنفسه مباشرة. فأول المفعولين هو: "إياك وفروعه، وثاني المفعولين هو الاسم الظاهر الواقع بعد الضمير "إياك"، وفروعه، أما إذا قلنا: "إياك من النميمة ... ". "إياك من التعرض للعيوب ... ". فإن الجار مع مجروره متعلقان بالفعل المحذوف وجوبا. وهو: "أحذر"؛ لأنه قد يتعدى -أيضا-
__________
1 في ص127.
2 و2 والأصل: احفظ نفسك واحذر النميمة، أو: باعد نفسك ... و ... حذف الفعل وفاعله فصار الكلام: نفسك واحذر النميمة، ثم حذف المضاف "نفس" وأقيم لمضاف إليه "وهو: الكاف" مقامه، فصار منصوبا مثله؛ وأتينا بدله بضمير منفصل؛ هو: "إياك"، للسبب الذي بيناه في الصفحة السالفة. ونعود فنكرر هنا ما رددناه -وما سيجيء "في" "ا" - ص133؛ وهو: أن تقدير الفعل المحذوف في جميع مسائل هذا الباب وغيره متروك للمتكلم يختاره بغير قيد، إلا قيد المناسبة للسياق، ومسايرته للتركيب الصحيح. ومن المسايرة للتركيب الصحيح ألا تعطف الجملة الثانية على الأول إذا كانت إحداهما خبرا والأخرى إنشاء، طبقا للرأي الأقوى.(4/131)
لمفعولين؛ ينصب أحدهما بنفسه مباشرة، ويتعدى للآخر بحرف الجر: "من".
وفي جميع الصور السالفة يجوز تكرار الضمير "إياك" وعدم تكراره؛ فلا يتغير شيء من الأحكام المتقدمة. وعند التكرار يعرب "إياك" الثاني توكيدا لفظيا للأول.
ولا يصح أن يكون الضمير "إيا" المحذر مختوما بغير علامة الخطاب1 فلا يقال: إياي ومعاونة الظالم، ولا إياه ومعاونة الظالم؛ لأن المتكلم لا يحذر نفسه، ولا يحذر الغائب. وقد وردت أمثلة نادرة من هذا النوع الممنوع، لا يصح القياس عليها.
لكن يصح أن يكون "المحذر منه" ضميرا غائبا معطوفا على "المحذر"؛ نحو: لا تصاحب الأحمق، وإياك وإياه. فالضمير "إياه" في حكم كلمة "النميمة" في مثال: "إياك والنميمة ... " ومن هذا قول الشاعر القديم:
فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
وعلى هذا لا يكون التحذير بضميري الغائب والمتكلم شاذا إلا إذا كان محذرا لا محذرا منه2 ...
يمكن تلخيص الأحكام السابقة كلها فيما يأتي:
1- إن كان أسلوب التحذير مصدرا بالضمير "إياك وفروعه -وجب في كل الأحوال نصب هذا الضمير بعامل محذوف مع مرفوعه وجوبا. سواء في هذا أن يكون الضمير مكررا أم غير مكرر، عطف عليه، أم لم يعطف عليه، جر بعده المحذر منه" أم نصب ...
2- إن كان أسلوب التحذير غير مصدر بالضمير "إياك" وفروعه وجب نصب الاسم الظاهر بعامل محذوف مع مرفوعه وجوبا؛ بشرط العطف أو التكرار3. فإن لم يوجد عطف ولا تكرار جاز النصب بعامل محذوف مع مرفوعه جوازا؛ فيصح إظهارها، كما يصح ضبط الاسم بغير النصب. وفي حالة إظهارهما، أو ضبط الاسم بغير النصب -حيث لا عطف ولا تكرار فيهما- لا يتعين الأسلوب للتحذير ...
__________
1 غيرها هو علامة التكلم، أو الغياب.
2 راجع الخضري.
3 انظر " د وهـ" -ص134 و135- في الزيادة والتفصيل التاليين، حيث ترى إيضاحا وتكميلا.(4/132)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- تضمنت المراجع المطولة جدلا يصدع الرأس في تقدير عامل النصب المحذوف في التحذير -ولا سيما ناصب الضمير "إياك وفروعه"- أهو الفعل: أحذر، أم باعد، أم اجتنب، أم احذر؟ ... أينصب مباشرة أم لا ينصب إلا على تأويل آخر ... و ...
والأمر لا يحتاج لكل هذا. وخير ما يقال في شأن المحذوف هو ما سجله بعض المحققين، ونصه1: "الحق أني قال: لا يقتصر على تقدير: "باعد"، ولا على تقدير: "احذر" ... ؛ بل الواجب تقدير ما يؤدي الغرض؛ إذ المقدر ليس أمرا متعبدا به لا يعدل عنه"1.
وهذا رأي نفيس، صادق، يجب اتخاذه دستورا عند تقدير المحذوف في التحذير، وفي الإغراء، وفي غيرهما من كل ما يحتاج إلى تقدير.
ب- يقول بعض النحاة إن الضمير: "إياك" وفروعه منصوب بفعل محذوف مع فاعله، وأن فاعله الضمير عاد فاستتر في الضمير "إياك" وصار "إياك" مغنيا عن التلفظ بالفعل المحذوف، ففي مثل قولهم: "إياك والحسد، فإنه يؤثر فيك أسوأ الأثر، ولا يؤثر في عدوك ... " نجد في لفظ إياك ضميرين:
أحدهما: هذا البارز المنفصل المنصوب، وهو: "إياك".
والآخر: ضمير رفع، مستكن فيه، منتقل إليه من الفعل الناصب له، ويترتب على هذا أنك إذا أكدت: "إياك: توكيدا معنويا بالنفس، أو بالعين، قلت: إياك نفسك، أو إياك أنت نفسك، بفصل أو بغير فصل؛ طبقا لقواعد التوكيد المعنوي بالنفس والعين. أما إذا أكدت ضمير الرفع المستكن فيه فإنك تقول مراعاة لتلك القواعد: إياك أنت نفسك، بالفصل بالضمير المنصوب "إياك": فتقول إياك والصديق، والسفهاء. أو إياك أنت والصديق، والسفهاء؛
__________
1 و1 راجع حاشية الصبان ج3 أول باب: "التحذير".(4/133)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفصل أو بغير فصل، ومن الأول الذي لا فصل فيه قولهم1: "إياكم والكبر، والسخف، والعظمة2، فإنها عداوة مجتلبة3 من غير إحنة"4. وتقول عند العطف على الضمير المرفوع وحده: إياك أنت والصديق، بالفصل.
وكل ما تقدم مبني على أن الضمير الفاعل ينتقل من الفعل المحذوف. ويستتر في "إياك" وإخوانه. وهو رأي لا يأخذ به فريق آخر يقرر أن الفعل وفاعله حذفا معا، ولم يرجع الفاعل المحذوف ليستكن في "إياك" وفروعه. فليس معنا إلا ضمير واحد هو الضمير المنصوب البارز "إياك وفروعه".
والأخذ بهذا الرأي أولى؛ لبعده من التكلف والعقيد؛ ولأن الفريق الأول لم يؤيد رأيه -فيما رجعت إليه- بأمثلة من الكلام الفصيح يكون لها وحدها القول الفصل.
ج- يقول الرضي: "إن "المحذر منه" المكرر يكون اسما ظاهرا؛ نحو: الأسد الأسد، وسيفك سيفك. ويكون مضمرا؛ كإياك إياك، وإياه إياه: وإياي إياي".
والأحسن العدول عن المضمر لندرة الأمثلة الواردة نه قدرة لا تبيح القياس عليه، ولا سيما ضمير غير المخاطب.
د- قد يرفع، المكرر والمعطوف في أسلوب التحذير -وفي أسلوب الإغراء، وسيأتي قريبا-5 وفي هه الحالة لا يكون الأسلوب تحذيرا اصطلاحيا. قال الفراء في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} ... ، نصبت كلمة: "ناقة" على التحذير6. ولو رفعت على إضمار مبتدأ مثل كلمة: "هذه" لجاز. وكان التقدير: هذه ناقة الله؛
__________
1 ما يأتي بعض وصية طويلة لعبد الحميد الكاتب ينصح فيها الكتاب "وهم: الأدباء" ويوضح آداب الكتابة بعد أن صار زعيم الكتاب في عصره، والكاتب الخاص لمروان بن محمد، آخر خلفاء الأمويين. وقد قتل عبد الحميد سنة 132 هـ وهي السنة التي قامت فيها الدولة العباسية بعد أن أبادت الدولة الأموية.
2 المراد بها: الكبر.
3 مجلوبة، يجرها صاحبها على نفسه بعمله، وليس البد منها أمرا خارجا عن اختياره.
4 الإحنة: العداوة، يريد: أن المرء يجلب لنفسه العداوة بسبب تلك الصفات. لا بسبب عداوة وإساءة سبقت إليه؛ فهو يدفع ضررها عنه.
5 في ص136.
6 ويجوز أن تكون منصوبة على الإغراء -كما سيجئ في رقم3 من هامش ص136.(4/134)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن العرب قد ترفع ما فيه معنى التحذير.
هـ- يصح في كثير من أمثلة التحذير المشتملة على الواو أن تكون هذه الواو للمعية إذا استقام المعنى عليها؛ نحو: يدك والسيف -أصابعك والحبر ... فلا مانع هنا أن تكون الواو للمعية، والمراد: راقب يدك مع السيف -باعد أصابعك مع الحبر ... أو نحو هذا التقدير؛ فالاعتبار الأول دائما هو للمعنى وصحة التركيب. فإن اقتضى العطف وحده، أو المعية وحدها، أو جوازها ... ، نزلنا على حكمه؛ كما سبق1.
و ألحق بالتحذير والإغراء ألفاظ سنعرضها في آخر الإغراء في: "ب" قسم الزيادة2.
ز- الأغلب في أساليب التحذير أن تكون من نوع الإنشاء الطلبي؛ تبعا لعاملها الدال على هذا النوع. فإن لم يكن دالا على الإنشاء الطلبي فهي خبرية.
__________
1 في "أ" ص133 ...
2 في ص138.(4/135)
ب- الإغراء:
هو: تنبيه الخاطب على أمر محبوب ليفعله1: نحو: "العمل العمل، فإنه مفتاح الغنى، والطريق إلى المجد". فالمتكلم به، هو: "المغري" المخاطب هو: "المغرى" ... والأمر المحبوب هو: "المغرى به". وعلى هذه الثلاثة مجتمعة يقوم أسلوب: "الإغراء".
وحكم الاسم المحبوب "وهو" المغرى به" وجوب نصبه باعتباره مفعولا به لعامل مناسب للسياق، محذوف مع مرفوعه وجوبا. بشرط أن يكون هذا الاسم مكررا -كالمثال السابق- أو: معطوفا عليه مثيله، "أي: أمر محبوب آخر" كقولهم: الفرار والهرب من اللئيم الأحمق؛ فإنه كالحية لا يكون منها غير اللدغ. أي: الزم الفرار والهرب2 ...
فإن لم يكن الاسم مكررا ولا معطوفا عليه مثله جاز نصبه مفعولا به لعامل مذكور أو محذوف، وجاز أيضا أن يضبط ضبطا آخر غير النصب -كالرفع- تقول: "الاعتدال، فإنه أمان من سوء العاقبة"، أي: الزم الاعتدال، فيصح حذف العامل ويصح ذكره، ويصح الرفع فيقال: "الاعتدال" ... على اعتباره -مثلا- مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: الاعتدال مطلوب، فإنه2 ...
وفي حالة ظهور العامل. وكذا في حالة ضبط الاسم ضبطا غير النصب على المفعول به، لا يسمى الأسلوب3 إغراء اصطلاحيا4....
__________
1 يقال في هذا التعريف إنه: لغوي، كما قيل في التحذير "في رقم 1 من هامش ص126".
2 و2 ومثل هذا يقال في ضبط كلمتي: "عمل، وكد" في الحكمة المأثورة: "عملك لا أملك، وكداك لا جدك ... ".
3 فإن لم نعتبره في حالتي التكرار والعطف مفعولا به جاز ضبطه بغير النصب، كالرفع -مثلا- على الابتداء. وقد سبقت الإشارة في د ص134 من الزيادة والتفصيل إلى أن المكرر والمعطوف، في الإغراء قد يرفع فلا يسمى إغراء اصطلاحيا. ومن أمثلة المرفوع.
إن قوما منهم: عمير، وأشبا ... هـ عمير، ومنهم: السفاح ...
لجديرون بالوفاء إذا قا ... ل أخو النجدة: السلاح السلاح
وأما كلمة: "ناقة" في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} فتصلح إغراء وتحذيرا كما سبق في "د" ص134.
4 فيما سبق يقول ابن مالك في باب عنوانه: "التحذير والإغراء":(4/136)
والأكثر في أساليب الإغراء أنها إنشائية طلبية؛ تبعا لنوع عاملها الدال على هذا النوع. فإن لم يكن دالا على الإنشاء الطلبي فهي خبرية.
__________
=
إياك والشر ونحوه نصب ... محذر بما استتاره وجب
يقول: المحذر -وهو المتكلم- نصب أسلوب: "إياك والشر" ونحو هذا الأسلوب ... نصبه بما وجب استتاره؛ "أي: بعامل محذوف وجوبا". هذا إن اشتمل الأسلوب على عاطف؛ كالمثال الذي عرضه. فإن لم يكن مشتملا على عاطف فقد قال فيه:
ودون عطف ذا لإيا انسب، وما ... سواه ستر فعله لن يلزما
إلا مع العطف أو التكرار ... كالضيغم الضيغم، يا ذا الساري
"الضيغم= الأسد. الساري: المسافر ليلا".
يريد: أنسب هذا الحكم لـ"إيا" أيضا عند عدم العطف عليها. بأن تقول: إياك الشر، أو: إياك من الشر. أما في جميع الحالات الأخرى -غير السالفتين. فحذف الفعل الناصب ليس واجبا إلا مع العطف أو التكرار. ثم بين بعد ذلك أن اشتمال أسلوب التحذير على محذر منه يكون هو الضمير: "إياي" المتكلم، و"إياك" للمخاطب، وفروعهما ... أمر شاذ وللغائب أكثر شذوذا ومن قاس عليه فقد أنتبذ، أي: ابتعد عن الصواب. يقول:
وشذ إياي، وإياه أشذ ... وعن سبيل القصد من قاس انتبذ
ثم انتقل إلى الإغراء واكتفى فيه ببيت واحد هو:
وكمحار بلا إيا: اجعلا ... مغرى به في كل ما قد فصلا
أي: أن حكم الاسم المغرى به كحكم المحذر الذي يغير "إياك" في كل الأحكام.(4/137)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- ليس من اللازم أن تكون الواو في الإغراء للعطف؛ فقد يقتضي المعنى أن تكون للمعية؛ نحو: المشي والاعتدال؛ فتقوى -الإجادة والمثابرة؛ كي تفوز بما تهوى. وقد يقتضي المعنى العطف وحده، أو يتسع للأمرين، فيراعى دائما ما يقتضيه المعنى.
ب- ألحق بالتحذير والإغراء في وجوب إضمار الناصب -لا في معناهما- بعض الأمثال المأثورة المسموعة بالنصب، وبعض العبارات الأخرى المسموعة بالنصب أيضا، والتي يسمونها: "شبه الأمثال"؛ لأنها لا تبلغ مبلغ المثل في الشهرة. وكثرة الاستعمال والتعميم، وقد تشتمل على قيد تخاطب، أو حالة معينة.
أ- فمن الأمثال:
1- كليهما1 وتمرا -وهو مثل يقال لمن خير بين شيئين، فطلبهما معا، وطلب الزيادة عليهما. التقدير: أعطني كليهما. وزدني تمرا.
2- الكلاب على البقر؛ مثل يضرب حين يريد المرء ترك الخير والشر يصطرعان، وأن يغنتم السلامة لنفسه. والتقدير: اترك الكلاب على البقر، يتصرف كل منهما مع الآخر كما يشاء، وانج بنفسك.
3- أحشفا2 وسوء كيلة، يضرب لمن يجمع بين إساءتين لغيره، ويظلم الناس من ناحتين. والتقدير: أتبيع حشفا، وتزيد سوء كيلة.
ب- ومما يشبه المثل:
1- قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي: انتهوا واصنعوا خيرا لكم.
2- من أنت؟ عليا. التقدير: من أنت؟ تذكر عليا. يقال لمن يذكر عظيما جليل القدر بسوء.
__________
1 وورد قليلا: كلاهما - بالألف.
2 الحشف: أردأ النمر، وسوء الكيلة -بكسر الكاف: قبح الطريقة والهيئة التي تستخدم في الكيل ...(4/138)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3- كل شيء ولا هذا. والتقدير: اصنع كل شيء، ولا تصنع هذا.
4- هذا ولا زعماتك. التقدير: أرتضي هذا، ولا أتوهم زعماتك.
5- إن تأت فأهل الليل وأهل النهار. والتقدير: إن تأت فسوف تجد أهل الليل وأهل النهار في خدمتك بدل أهلك.
6- مرحبا، وأهلا، وسهلا، والتقدير: وجدت مرحبا، وأتيت أهلا، ونزلت سهلا.
7- عذيرك. أي: أظهر عذرك، أو أظهر عاذرك "عذير: بمعنى: عذر، أو عاذر".
8- ديار الأحباب. أي: اذكر ديار الأحباب ...
وهكذا:
ويصح -كما عرفنا- تقدير أفعال مناسبة غير التي عرضناها، ويصح اعتبار الواو للمعية في بعض مما سلف. والمهم استقامة المعنى.(4/139)
المسألة 141: أسماء الأفعال
تعريفها: "نقدم أمثلة":
في اللغة ألفاظ يدل على الواحد منها على "فعل" معين، أي: محدد بزمنه، ومعناه، وعمله -لكنه لا يقبل العلامة التي يقبلها هذا الفعل المعين، والتي تبين نوعه؛ كاللفظ: "هيهات"1 في قول الشاعر يخاطب عزيزا رحل عنه:
بعدت ديار، واحتوتك ديار ... هيهات1 للنجم الرفيع قرار
فإنه يدل على الفعل الماضي: "بعد" ويقوم مقامه في أداء معناه2، وفي عمله، وزمنه، من غير أن يقبل العلامة الخاصة بالفعل الماضي، "مثل: إحدى التاءين؛ تاء التأنيث الساكنة، أو تاء الفاعل ... "؛ إذ لم يرد عن العرب وجود علامة من العلامات الخاصة بالفعل الماضي في "هيهات".
وكاللفط: "آه" في قول الشاعر:
آها لها من ليال!! هل تعود كما ... كانت؟ وأي ليال عاد ماضيها؟
فإنه يدل على الفعل المضارع: "أتوجع" ويقوم مقامه في معناه، وعمله، وزمنه. ولكنه لا يقبل علامة من العلامات الخاصة بالمضارع؛ لأن العرب لم تدخلها على "آه" قط.
وكاللفظ "حذار" في قول المادح:
سل عن شجاعته، وزره مسالما ... وحذار، ثم حذار منه، محاربا
فإنه يدل على فعل الأمر: "احذر" من غير أن يقبل علامة الأمر؛ لأن العرب لم تدخلها على "حذار" مطلقا ...
والمراد من أن كل لفظ من هذه الألفاظ يدل على فعل معين محدد؛ هو:
__________
1 و1 وفيه لغات كثيرة، أعلاها المذكورة هنا، مسايرة للوارد في القرآن الكريم. ومن لغاتها: "أيهات" وهي لغة الحجازيين.
2 انظر معنى "اسم الفعل" في الصفحة الآتية.(4/140)
أنك لو سألت المراجع اللغوية عن القصود من لفظ: "هيهات" لكان الجواب: "هيهات، معناه: بعد" -"آها، معناه: أتوجع"- "حذار، معناه: احذر"، وهكذا نظائرها.
فكل لفظ مما سبق -ونظائره- يسمى: "اسم فعل". وهو1: اسم يدل
__________
1 التعريف الآتي صفوة تعريفات متعددة جاوزت ستة، ولم تخل من قصور أو غموض. وهو أقرب إلى التعريف الدقيق الذي اختاره جمهورهم الاسم الفعل. ونزيده بيانا ووضوحا بما يأتي: "مما ذكرناه عند تعريف الاسم ج1 م2".
ولو وضعنا فاكهة معينة أمام إنسان لا يعرفها؛ فسأل: ما هذه؟ فأجبنا: "رمان" -مثلا- لكانت كلمة: "رمان" هي الرمز، أو العلامة، أو اللفظ الدال على تلك الفاكهة، وإن شئت فقل: إنها "اسم" يفهم منه السامع تلك الفاكهة المعينة دون غيرها. فعندنا شيئان؛ فاكهة لها أوصاف حسية خاصة بها، ولفظ معين إذا نطقنا به انصرف الذهن مباشرة إلى تلك الفاكهة الخاصة. فلهذا اللفظ معنى، أو مدلول، أو مراد؛ وما معناه، أو مدلوله، أو المراد منه إلا هذه الفاكهة، وإن شئت فقل: إنه اسم، هي معناه ومسماه. وأن هذا المعنى والمسمى له اسم؛ هو: رمان. فالاسم ليس إلا رمزا، أو علامة، أو شارة يراد بها أن تدل على شيء آخر، وأن تعينه: وتميزه من غيره. وهذا الشيء الآخر هو المراد من تلك الشارة، والغرض من اتخاذها. فهو مدلولها ومرماها. أي: هو المسمى بها. ومتى ثبت أن الاسم هو الرمز والعلامة، وأن المسمى هو: المرموز له، المطلوب إدراكه بالعقل كان الاسم متضمنا في ذاته كل أوصاف المسمى، كالصورة التي يكتب إزاءها اسمها؛ فإذا قرئ الاسم أولا دل على الصورة ومضمونها كاملة.
مثال آخر: هبك رأيت طائرا صغير الجسم، جميل الشكل، ساحر الغناء، يتميز بأوصاف خاصة، فسألت: ما هذا الطائر؟ فقيل: "بلبل". فإن كلمة: "بلبل" رمز، أو: شارة، أو: علامة على هذا الطائر المعين. فإذا سمعتها بعد ذلك أو قرأتها، فهمت ما ترمز إليه، وما تشير له، وإن شئت فقل: فهمت معناها وما تدل عليه، أي: فهمت مدلولها ومسماها؛ لأنها الاسم الدال عليه. فكلمة: "البلبل" مدلوها الطائر المعين، وهذا الطائر المعين له اسم، هو" البلبل"، فلكل اسم مسمى، ولكل مسمى اسم، ولا ينفصل أحدهما عن صاحبه، مهما كثرت ألفاظ كل، وتعددت الكلمات الدالة عليه.
قياسا على ما سبق؛ ما الذي نفهمه حين نسمع كلمة: هيهات؟ نفهم أن مدلولها ومرماها هو الفعل "بعد" بكل خصائصه؛ من الدلالة على معنى البعد، والمضي، والعمل، مع عدم التأثر بالعوامل. فاللفظ: "هيهات" رمز، أو شارة، أو علامة -تدل على الفعل: "بعيد". أي: أن اللفظ: "هيهات" اسم، مسماه الفعل: "بعد". والفعل: "بعد" مسمى، له اسم؛ هو: "هيهات".
وإذا سئلت: ما المراد من: "آه"؟ كان الجواب: "أتوجع". فكلمة: "آه" هي الرمز، أو: العلامة، أو الاسم. أما المرموز له، أو: المسمى -فهو الفعل المضارع: "أتوجع" بكل خصائص المضارع؛ من معنى، وزمن، وعمل، مع سلامة الرمز من التأثر بالعوامل التي يتأثر بها =(4/141)
على فعل معين، ويتضمن معناه، وزمنه، وعمله، من غير أن يقبل علامته، أو يتأثر بالعوامل1.
ما يمتاز به اسم الفعل2:
بالرغم من أن شأنه هو ما وصفنا فقد اكتسب بالاستعمال العربي القديم مزيتين ليستا للفعل الذي بمعناه.
الأولى: أن اسم الفعل أقوى من الفعل الذي بمعناه في أداء المعنى، وأقدر على إبرازه كاملا مع المبالغة فيه. فالفعل: "بعد" -مثلا- يفيد: مجرد "البعد"، ولكن اسم الفعل الذي بمعناه؛ وهو: "هيهات". يفيد البعد البعيد، أو: الشديد؛ لأن معناه الدقيق هو: بعد جدا؛ كما في قولهم: هيهات إدراك الغاية بغير العمل الناجع.
والفعل: "افتراق" يفيد: "الافتراق" المجرد؛ ولكن اسم الفعل:
__________
= المضارع؛ كالنواصب أو الجوازم..، وكذلك: "حذار" فإنه اسم، مسماه فعل الأمر: "احذر" بما هو مختص به.
مما تقدم يتبين المراد -عند جمهرتهم- من أسماء الأفعال، وأن المقصود أنها "أسماء للأفعال"، كما أن لفظ: "الزمان" اسم للفاكهة المعينة، و"البلبل" اسم للطائر الخاص، و"الفرس" اسم للحيوان المعروف ... فكذلك هذه الأسماء؛ كل واحد منها اسم "لفعل بعينه ... ولما كان الاسم -كما شرحناه- يدل دلالة كاملة على مسماه، ويتضمن كل خصائص المسمى تبعا لذلك -لا بالأصالة- كان اسم الفعل متضمنا بالتبعية -لا بالأصالة- معنى فعله وزمنه، وكذا عمله، في الغالب، مع عدم التأثر بالعوامل. وكذلك يتبين أن المراد هنا من كلمة: "اسم" هو المراد منها في كل موضع آخر، ولكنه اسم في لفظه فقط؛ بدليل الإسناد إليه دائما وبدليل قبوله التنوين في حالات كثيرة، وكلاهما من علامات الاسم، وأنه ليس فعلا في لفظه! بدليل أنه لا يقبل علامة من علامات الأفعال. فحقيقة: أنه اسم في لفظه، فعل في معناه.
وبالرغم من هذا البيان الذي عرضناه لإيضاح الرأي الغالب، لا يزال يشوبه -بحق- بعض الضعف كاعتبار هذه الألفاظ أسماء عاملة، مع أنها لا موضع لها من الإعراب؛ فلا تكون مبتدأ، ولا خبرا، ولا فاعلا، ولا مضافا، ولا مضافا إليه. ولا غير ذلك ...
ويخف الاعتراض، ويكاد الضعف يختفي -لو أخذنا بالرأي القائل: إنها قسم رابع مستقل من أقسام الكلمة. وأصحاب هذا الرأي يسمونه: "خالفه" بمعنى: خليفة الفعل، ونائبه، في معناه، وعمله وزمنه، وكل ما يتضمنه على الوجه المشروح هنا.
1 قلنا هذا: لأن المضارع يتأثر بعوامل النصب والجزم. وبهذا القيد يخرج المصدر النائب عن فعله؛ فلا يعد اسم فعل؛ لأنه يتأثر بالعوامل، وتخرج كذلك المشتقات.
2 متى يحسن الحكم على اللفظ بأنه اسم فعل؟ الإجابة في رقم 3 من هامش ص147.(4/142)
"شتان" وهو بمعناه -يفيد: الافتراق الشديد1؛ لأن معناه الحقيقي هو: "افتراق جدا" ... كقولهم: شتان الإحسان والإساءة، وشتان ما بين العناية والإهمال. وكقول الشاعر:
الفكر قبل القول يؤمن زيفه ... شتان بين روية وبديه2
الثانية: أنه يؤدي المعنى على الوجه السالف، مع إيجاز اللفظ واختصاره، لالتزامه -في الأغلب- صورة واحدة لا تتغير بتغير المفرد، أو المثنى، أو الجمع أو التذكير، أو التأنيث؛ إلا ما كان منه متصلا بعلامة تدل على نوع معين دون غيره3؛ تقول: صه يا غلام، أو: يا غلامان، أو: يا غلمان، أو: يا فتاة، أو: يا فتاتان، أو: يا فتيات. ولو أتيت مكانه بالفعل الذي بمعناه لتغيرت حالة الفعل؛ فقلت: اسكت يا غلام، اسكتا يا غلامان، سكتوا يا غلمان، اسكتي يا فتاة، اسكتا يا فتاتان، اسكتن يا فتيات ...
وبسبب هاتين المزيتين كان استعمال اسم الفعل هو الأنسب حين يقتضي المقام إيجاز اللفظ واختصاره، مع وفاء المعنى، والمبالغة فيه.
أقسام أسماء الأفعال:
أ- تنقسم بحسب نوع الأفعال التي تدل عليها4، إلى ثلاثة أقسام:
__________
1 ولا بد أن يكون الافتراق معنويا -كما سيجيء البيان في ص146- ثم انظر رقم 2 من هامش ص158، حيث بعض الحالات الخاصة باستعمال "شتان".
2 المراد: تسرع بغير أعمال فكر.
بقي السؤال عن فاعل "شتان" في هذا البيت وفي البيت الآخر الذي أوروده، وقال عنه الصبان إنه من كلام بعض المحدثين، ونصه:
جازيتموني بالوصال قطيعة ... شتان بين صنيعكم وصنيعي
جاء في الخضري: "قال في شرح الشذور: "لم تستعمله العرب. وقد يخرج على إضمار "ما" موصولة ببين". ا. هـ ... أي: فيكون "شتان" بمعنى: بعد، و"ما" بمعنى: المسافة". ا. هـ. كلام الخضري.
3 كأسماء الأفعال المنقولة من شبه الجملة وبعض المصادر، مثل: عليك، أمامك، رويدك، وستأتي في: "ب" ص147 وما بعدها.
4 مع ملاحظة المزيتين السالفتين لكل اسم من أسماء الأفعال، دون فعل.(4/143)
أولها: اسم فعل أمر، وهو أكثرها ورودا في الكلام المأثور، نحو: "آمين"، بمعنى: استجب، و"صه" -بالسكون- بمعنى؛ اسكت عن الموضوع المعين الذي تتكلم فيه، و"حي" "بفتح الياء المشددة، مثل: حي على الصلاة -حي على الفلاح" بمعنى: أقبل، أو: عجل ... وجميع هذه الألفاظ سماعية.
ومن هذا القسم نوع قياسي مطرد -على الأصح- هو: ما كان من اسم فعل الأمر على وزن "فعال"1 مبنيا على الكسر بشرط أن يكون له فعل ثلاثي، تام، متصرف، نحو: حذار، "في البيت السالف"2 بمعنى: احذر، ونحو: نزال إلى ميدان الجهاد، وزحام في مجال الإصلاح؛ بمعنى انزل، وازحم.
ولا يصح صوغ "فعال" إذا كان فعله غير ثلاثي، كدحرج، "وشذ: دراك، من أدرك" أو: كان فعله ناقصا؛ مثل: كان، وظل، وبات: الناسخات، أو كان غير متصرف، نحو: عسى، وليس.
واسم فعل الأمر مبني دائما، ولا بد له من فاعل مستتر وجوبا3. وقد يتعدى للمفعول به أو لا يتعدى على حسب فعله.
ومن أسماء فعل الأمر السماعية: "هيا، بمعنى: أسرع" -"ومه؛ بمعنى: انكفف4 عما أنت فيه"- "وتيد، وتيدخ، وهما بمعنى: أمهل"
__________
1 سبق "في ص73" عند الأسماء الملازمة للنداء أن منها ما يكون على وزن: "فعال" بشروط خاصة، وسيجيء في رقم 1 من هامش ص260 بيان مناسب عن صيغة: "فعال"، وأنواعها المختلفة، وحكم كل نوع من ناحية الإعراب والبناء.
2 في ص140. وهو: سل عن شجاعته ... ومثل قول الشاعر:
حذار، حذار من جشع؛ فإني ... رأيت الناس أجشعها اللئام
3 استتار الفاعل وجوبا يشمل -في الرأي الأسهل- فاعل اسم فعل الأمر، وفاعل اسم فعل المضارع، المختوم كل منهما بضمير للمفرد المذكر وقوعه، والمفردة وفروعها، فيدخل اسم الفعل المنقول من ظرف المكان، ومن الجار مع مجروره -طبقا لما سيجيء في 2 و3 من هامش ص157.
4 هذا هو الأولى، وليس بمعنى: "اكفف" -كما يقول بعض النحاة- لأن "اكفف" متعد، و"مه" لا يتعدى؛ فهو ثل: "انكفف" -راجع الهمع هنا.(4/144)
"وويهما، بمعنى: حرض، وأغر"1، "وحيهل2 بمعنى أقبل، أو عجل ... "، "وهلم3 بمعنى: أقبل، وتعال"4، "وقط، بمعنى: انته ... "5.
ثانيها: اسم فعل مضارع -وهو سماعي، وقليل- نحو: "أوه، بمعنى: أتألم"، وأف بمعنى: أتضجر، قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي: للوالدين، "ووي، بمعنى: أعجب، وهذا أحد معانيها؛ كقوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 6" وقد يكون اسم الفعل: "وي" مختوما
__________
1 فعل أمر، ماضيه: أغرى.
2 يجوز في اللام عدة لغات، منها السكون، ومنها الفتح بتنوين أو غير تنوين. والأشهر فتح هائه في كل أحوالها. "ويجوز إلحاق كاف الخطاب بآخره على الوجه المبين في رقم 9 من ص160" باعتبارها حرفا متصرفا.
3 الحجازيون وبعض العرب يلزمونه صورة لا تتغير في الإفراد والتذكير وفروعهما. وغيرهم يعدونه اسم فعل أمر أيضا، ولكن يغيرون الضمير الفاعل في آخره بحسب المعنى ومرجع الضمير.
وتجري على الألسنة عبارة: "هلم جرا" ويقول بعض النحاة في توجيهها: إن "هلم" بمعنى: "أقبل وائت" وليس المراد الإقبال والمجيء الحسيين؛ وإنما المراد الاستمرار على الشيء وملازمته. وأيضا: ليس المراد الطلب حقيقة، وإنما المراد الخبر؛ كالذي في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} . وأما كلمة: "جرا" فهي مصدر جره، يجرره، جرا، إذا صحبه. وليس المراد الجر الحسي، بل التعميم الذي يشمله وغيره؛ فإذا قيل: "كان ذلك عام كذا وهلم جرا"، فكأنه قيل: واستمر ذلك في بقية الأعوام استمرارا. أو استمر مستمرا "على الحال المؤكدة" وبهذا يزول إشكال عطف الخبر على الطلب وغيره من الاعتراضات. "الصبان في هذا الوضع".
4 الصحيح أن كلمتي: "تعال" - و"هات" هما فعلان للأمر؛ لقبول كل منهما العلامة الخاصة بفعل الأمر - وقد سبق البيان المناسب في ج1 م4، عند الكلام على هذا الفعل.
5 تفصيل الكلام على اسم الفعل: "قط" وما فيه من آراء واستعمالات مختلفة، مع اقترانه بالفاء أو عدم اقترانه ... كل ذلك معروض ببسط مناسب في الجزء الأول - م30 موضوع: المعرف بأل عند بيت ابن مالك ونصه:
"أل" حرف تعريف أو اللام فقط ... ".
6 في كلمة: "وي" -في الآية الكريمة، وما يماثلها- آراء أخرى. منها: رأي "ابن عباس" وبه أخذ سيبويه فيما يقال، وملخصه، أن "وى" كلمة زائدة، يستعملها النادم؛ لإظهار ندمه، وأنها مفصولة من "كأنه". وينسب لسيبويه رأي آخر، سجله ابن جني في كتابه "المحتسب" ج2 ص155 وهو يعرض لقوله: "ويكأنه" في الآية السالفة، ونصه: =(4/145)
بكاف الخطاب الحرفية1، ومنه قول عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم
واسم الفعل المضارع مبني حتما، ولا بد له من فاعل مستتر وجوبا، وهو مثل فعله في التعدي واللزوم.
ثالثها: اسم فعل ماض -وهو ساعي وقليل؛ كالسابق، ومنه: "هيهات"، وكذا: "شتان" وقد تقدما. والصحيح الفصيح في "شتان" أن يكون الافتراق خاصا بالأمور المعنوية2؛ كالعلم، والفهم والصلاح؛ تقول: شتان3 علي ومعاوية في الشجاعة، وشتان المأمون والأمين في الذكاء، وشتان الإيثاء، والأثرة4؛ فلا يقال شتان المتخاصمان عن مجلس الحكم، ولا شتان المتعاقدان عن مكان التعاقد5 ...
__________
= "الوجه فيه عندنا قول الخليل سيبويه، وهو: أن "وي" على قياس مذهبهما اسم سمي به الفعل "أي: اسم فعل" في الخبر؛ فكأنه اسم: "أعجب" ثم ابتدأ فقال: "كأنه لا يفلح الكافرون" وكذلك قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ؛ فـ"كأن" هنا إخبار عار من معنى التشبيه. ومعناه: أن الله يبسط الرزق لمن يشاء. و"وي" منفصلة من كأن، وعليه بيت الكتاب:
وي كأن من يكن له نشب يحـ ... ـبب، ومن يفتقر يعيش عيش ضر
ومما جاءت فيه "كأن" عارية من معنى التشبيه ما -أنشدناه أبو علي:
كأني حين أمسي لا تكلمني ... تيم يشتهي ما ليس موجودا
أي: أنا حين أمسى "متيم" من حالي كذا وكذا ... ". ا. هـ.
1 انظر رقم9 من ص160 حيث الكلام على "طاف الخطاب" التي تتصل بأنواع أسماء الأفعال.
2 لهذا إشارة في رقم1 من هامش ص143، ثم انظر رقم2 من هامش ص158؛ حيث بعض استعمالاتها.
3 ولا يكون فاعله إلا متعددا بواو العطف دون غيرها؛ وقد تفصل بينه وبين فاعله "ما" الزائدة "وستجيء إشارة لهذا في رقم2 من هامش ص158 عند الكلام على الأحكام".
4 الإيثار تقديم المرء غيره على نفسه في الانتفاع، والأثرة العكس.
5 في ص161 صورة أخرى من أسماء الأفعال المختلفة. وقد اقتصر ابن مالك في باب عنوانه: "أسماء الأفعال والأصوات" على الإشارة العابرة لما شرحناه، بقوله:
ما ناب عن فعل؛ كشتان وصه ... هو اسم فعل، وكذا: أوه، ومه
والمراد من عنوان الباب هو: أسماء الأفعال، وأسماء الأصوات، لا أن الأسماء لهما معا. وقد أوضحناه معنى أسماء الأفعال التي عرضها. ثم قال:
وما بمعنى: "افعل"؛ كآمين، كعثر ... وغيره -كوى وهيهات- نزر
"والمراد من: "افعل"، هو فعل الأمر. نزر= قل". أي: أن اسم الفعل الذي بمعنى فعل الأمر كثير. أما الذي بمعنى غيره -كالذي بمعنى الماضي أو المضارع- فقليل.(4/146)
واسم الفعل الماضي مبني في كل أحواله كغيره من سائر أسماء الأفعال، ولكنه يحتاج إلى فاعل إما ظاهر، وإما ضمير مستتر جوازا، يكون للغائب في الأعم الإغلب1 -كما سيجيء- وهو بهذين يخالف النوعين الآخرين فوق مخالفته لهما في المعنى والزمن. أما تعديته ولزومه فيجري فيهما كغيره على نظام فعله.
ب- وتنقسم بحسب أصالتها في الدلالة على الفعل2 وعدم أصالتها، إلى قسمين:
أولهما: المرتجل؛ وهو: ما وضع من أول أمره اسم فعل ولم يستعمل في غيره من قبل. مثل: شتان - وي - مه ...
ثانيهما: المنقول؛ وهو الذي وضع في أول الأمر لمعنى ثم انتقل منه إلى اسم الفعل. والمنقول أقسام؛ فهو:
1- إما منقول من جار مع مجروره3، مثل: "عليك"، بمعنى: تمسك أو: بمعنى: الزم، أو: بمعنى: "أعتصم" -فعل مضارع- فمن الأول قولهم: عليك بالعلم؛ فإنه جاه من لا جاه له، وعليك بالخلق
__________
1 انظر: "ا" من ص156 ثم رقم1 من هامش ص157.
2 مع تفردها -دونه- بالمزيتين السالفتين في ص142.
3 من أمثلة اسم الفعل المنقول من جار مع مجرور أو من ظرف مكان: عليك "بمعانيه التي ذكرناها"، وأمامك، بمعنى: تقدم؛ وكذا مكانك، بمعنى: اثبت.
قال بعض النحاة -وقوله سديد- لا أدري الحاجة إلى جعل مثل هذا الظرف -مكانك- اسم فعل؟ فهلا جعلوه ظرفا على بابه، باقيا على أصله من الظرفية من غير نقله إلى اسم الفعل؛ لأن اعتباره منقولا إلى اسم الفعل إنما يحسن حين لا يمكن الجمع بين الظرف وذلك الفعل الذي بمعناه؛ كما لا يصح أن يقال: اسكت صه -الزم عليك- خذ دونك.. أما إذا أمكن فلا يجوز إخراجه عن الظرف إلى اسم الفعل، فإنه يصح أن يقال: اثبت مكانك، وتقدم أمامك ... في حين لا يصح أن يقال: صه اسكت كما تقدم. هذا رأيه سجله "الصبان". ونرى أنه ينطبق على الجار مع مجروره أيضا. لانطباق العلة عليهما كذلك.
وقد يقال: إن الجمع ممكن على سبيل "التوكيد" اللفظي بالمرادف. وهذا صحيح بشرط وجود قرينة على إرادة التوكيد اللفظي؛ لتحقيق غرض فيه.(4/147)
الكريم؛ فإنه الغني الحق. أي: تمسك بالعلم - تمسك بالخلق1 ... وقولهم: من نزل به مكروه فعليه بالصبر؛ فهو أبعد للألم، وأجلب للأجر، أي: فليتمسك بالصبر ...
ومن الثاني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، أي: الزموا شأن أنفسكم.
ومن الثالث: علي بالكفاح لبلوغ الأماني. أي: أعتصم.
ومن المنقول من الجار والمجرور: "إليك"؛ بمعنى: ابتعد وتنح؛ مثل: "إليك عني -أيها المنافق؛ فذو الوجهين لا مكان له عندي، ولا منزلة له في نفسي" وهذا هو الغالب في معناها، وقد تكون بمعنى: "خذ"، نحو: إليك الوردة، أي: خذها2 ...
ومنه: "إلي"، بمعنى: أقبل، نحو: إلي -أيها الوفي- فإني أخوك الصادق العهد.
والأحسن في الأمثلة السالفة -وأشباهها- إعراب الجار ومجروره معا، اسم فعل مبني، لا محل له من الإعراب3.
2- وإما منقول من ظرف مكان4؛ مثل: "أمامك"؛ بمعنى تقدم.
__________
1 ومثل قول القطامي:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
2 فهو بهذا المعنى متعد. وهو بالمعنى الأول لازم، وكلاهما قياسي هنا. ولا قوة للرأي الذي ينكر المعنى الثاني. فقد أثبته "الجوهري"، وورد مسموعا في كلام من يحتج بكلامهم، ومنهم القطامي الشاعر الأموي.
3 وبهذا الإعراب الذي أشار به بعض النحاة والذي له إيضاح مفيد يأتي في "رقم 2 و3 من هامش ص157" نأمن كثيرا من الاعتراضات والمغامز التي في غيره. ولن يترتب على الأخذ به إساءة للمعنى، أو لصحة التركيب.
وإذا جاء تابع بعد اسم الفعل المنقول من جار مع مجروره فمتبوعه هو فاعل اسم الفعل؛ نحو: عليك أنت نفسك بالأعمال العظيمة. فالضمير: "أنت" توكيد للفاعل: "أنت" المستتر وجوبا. وكلمة: "نفس" توكيد له أيضا.
4 التقييد بالمكان منقول صراحة من شرح التوضيح، وهو المفهوم من كل الأمثلة -ثم انظر رقم 3 من هامش الصحفة السابقة.(4/148)
و"وراءك"؛ بمعنى: تأخر، تقول: أمامك إن واتتك الفرصة، وساعفتك القوة. ووراءك إن كان في إدراك الفرصة غصة، وفي نيلها حسرة وندامة.
ومثل: "مكانك"، بمعنى: اثبت1، تقول لمن يحاول الهرب من أمر يمارسه: مكانك تحمد وتدرك غايتك.
ومثل: "عندك" بمعنى خذ. تقول: عندك كتابا، بمعنى: خذه2.
والأيسر اعتبار الظرف كله "بما اتصل بآخره من علامة تكلم أو خطاب أو غيبة" هو اسم الفعل3.
3- وإما منقول من مصدر له فعل مستعمل من لفظه؛ مثل؛ "وريد" "بغير تنوين" بمعنى: تمهل، وبمعنى: أمهل؛ فالأول نحو: رويد -أيها العالم- لقوم يتعلمون؛ فإن التمهل داعية افهم، والفهم داعية الاستفادة. ومثل قول الشاعر:
رويدك4، لا تعقب جميلك بالأذى ... فتضحى وشمل الفضل والحمد منصدع
والثاني: نحو: رويد مدينا؛ فإن الإمهال مروءة ... فكلمة: "رويد" في الأمثلة السالفة اسم فعل أمر، مبني، غير منون.
وأصل المصدر: "رويد" هو: "إرواد"، مصدر الفعل الرباعي: "أرود"، ثم صغر المصدر5: "إرواد" تصغير ترخيم؛ بحذف حروفه الزائدة؛ فصار: "رويد"6، ثم نقل بغير تنوين إلى اسم الفعل ...
__________
1 فيكون لازما. وحكى الكوفيون تعديته، وأنه يقال: مكانك محمدا، أي: انتظره.
2 انظر لسان العرب -ج2 ص303- حيث الكلام على: "عند".
3 يوضح هذا ما يجيء في رقم 2 و3 من هامش ص157.
4 الكلام على هذه الكاف في رقم 9 من ص160.
5 وهذا المصدر المصغر ينصب المفعول به جوازا ولو لم ينقل إلى اسم الفعل، بالرغم من أن شرط إعمال المصدر ألا يكون مصغرا "كما في بابه ج3 ص167 م99" لأن هذا الشرط حتمي في غير المصدر: "رويد" الذي ورد به السماع عاملا وغير عامل -أما تفصيل الكلام على تصغير الترخيم ففي ص710.
6 لكلمة: "رويد" حالتان؛ أولاهما: أن تكون مصدرا معربا باقيا على مصدريته وإعرابه. والأخرى: أن تترك المصدرية والتنوين، وتنتقل إلى حالة جديدة هي: "اسم فعل الأمر" على الوجه الذي شرحناه =(4/149)
وقد يكون اسم الفعل منقولا من مصدر ليس له فعل من لفظه، لكن له فعل من معناه، مثل كلمة: "بله" -بغير تنوين- بمعنى: اترك؛ تقول: بله مسيئا قد اعتذر، واغفر له إساءته، أي: اترك ... والأصل: بله المسيء ... ، بمعنى: ترك المسيء، من إضافة المصدر لمفعوله. ومن الجائز أن يكون الأصل: بلها مسيئا ... باستعمال كلمة: "بلها"1 مصدرا ناصبا معموله؛ قياسا على: تركا مسيئا، بمعنى تركا المسيء، ومن هذا المصدر الناصب لمفعوله انتقل لفظ "بله" ولكن بغير تنوينه -إلى اسم فعل بمعناه2 ...
__________
= وفي الحالة الأولى التي تظل فيها مصدرا معربا قد تكون مصدرا معربا نائبا عن فعل الأمر المحذوف. إما منونا ناصبا مفعولا به، نحو: رويدا عليا، وإما مضافا إلى المفعول به، نحو: رويد علي، فلفظ: "رويد" فيهما مصدر منصوب بفعل الأمر المحذوف، بمعنى: "أرود"، وفاعله مستتر فيه وجوبا. وكلمة: "علي" مفعول به منصوب في الأول، ومضاف إليه مجرور في الثاني.
وإما منونا غير ناصب مفعوله، نحو: رويدا يا سائق؛ فيكون نائبا عن فعل الأمر المحذوف أيضا.
ويصح استعماله مصدرا غير نائب عن فعل الأمر فينصب منونا إما حالا؛ نحو قرأت الكتاب رويدا؛ بمعنى: مرودا، أي: متمهلا، وإما نعتا لمصدر مذكور -في الغالب- نحو: تحركت سيارة رويدا، أي: سيرا رويدا "وكان المصدر هنا نعتا لمحذوف لا حالا؛ فرارا من أن يكون صاحب الحال نكرة بغير مسوغ".
وقد تقع "ما" الزائدة بعد "رويد" على الوجه الآتي في: "ا" ص151
1 ورد في حاشية الخضري تنوين "بلها" ولا أدري أهذا التنوين مسموع، أم هو افتراضي حملا على المصدر: تركا، كما أظن؟
2 إذا كان الاسم بعد كلمة: "بله" منصوبا منونا جاز أن تكون مصدرا عاملا معربا كمصدر فعلها المعنوي: "تَرَك" الذي مصدره: "تَرْك" وجاز أن تكون اسم فعل أمر مبنيا بمعنى: اتركْ، والقرائن -إن وجدت- هي التي تحدد أحد الأمرين؛ فإن كان بعدها مجرورا وجب أن تكون مصدرا مضافا -لأن الاسم لا يكون مضافا- والاسم المجرور هو المضاف إليه. فكلمة: "بله" مثل كلمة "رويد" كلتاهما تتعين مصدرا إذا كان الاسم بعدها مجرورا بالإضافة إليها، وتصلح مصدرا أو اسم فعل إذا نصبته. وتكون فتحتهما فتحة بناء إذا كانا اسمي فعل، وفتحة إعراب في غيرها.
ولهذا استعمالات أخرى تجيء في "ب".
وفي الكلام على اسم الفعل المنقول من جار مع مجروره، "مثل: عليك، إليك" أو من ظرف مكان، "مثل: دونك.. مكانك.." أو من مصدر له فعل من لفظه؛ "نحو: رويد ... " أو ليس له فعل إلا من معناه؛ "مثل: بله"، يقول ابن مالك: =(4/150)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- قد تفصل "ما" الزائدة فبين اسم الفعل: "رويد" ومفعوله1، قال أعرابي لشاعر يمدحه: والله لو أردت الدراهم لأعطيتك، رويد ما الشعر. فالمراد: أرود الشعر؛ كأنه قال: دع الشعر، لا حاجة بك إليه.
ب- قد تكون "بله" اسم استفهام مبنية على الفتح، بمعنى: "كيف"، وتعرب خبرا مقدما عن مبتدأ مؤخر. نحو: بله المريض؟ بمعنى: كيف المريض؟
ومما يحتمل الاستفهام، والمصدر المضاف؛ واسم فعل الأمر -كلمة "بله" في قول الشاعر2:
تذر الجماجم ضاحيا3 هاماتها ... بله الأكف؛ كأنها لم تخلق
فيجوز في: "بله" أن تكون اسم فعل أمر مبني على الفتح، و"الأكف" بعده منصوب، مفعول به. ويجوز أن تكون: "بله" مصدرا منصوبا على
__________
=
والفعل من أسمائه: "عليكا" ... وهكذا "دونك" ... مع "إليكا"
كذا: "رويد، بله"، ناصبين ... ويعملان الخفض مصدرين
وقد تبين في البيت الثاني: أن "رويد" و"بله" قد يكونان اسمي فعل إذا نصبا ما بعدهما، وترك التفصيل الضروري لهذا النصب. وأنهما يعملان الخفض فيما بعدهما إذا بقيا على أصلهما مصدرين مضافين؛ فيجران بعدهما الاسم باعتباره "مضافا إليه". فهذا الجر دليل على بقائهما مصدرين حتما لأن اسم الفعل لا يضاف، ولا يعمل الجر مطلقا -كما سبق- أما نصبه فلا يكفي وحده للقطع بأنهما مصدران حتما، أو اسمان لفعلين حتما، إنما يصلحان للأمرين عند عدم القرينة التي تعين أحدهما دون غيره. وعدم التنوين في "رويد" هو القاطع في أنها "اسم فعل" عند نصب الاسم بها.
1 لهذا إشارة في آخر رقم 6 من هامش ص149.
2 هو كعب بن مالك، شاعر الرسول عليه السلام. والبيت من قصيدة له في وصف موقعة الأحزاب، وهولها.
3 بارزا منفصلا من مكانه.(4/151)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصدرية نائبا عن فعل الأمر، مضافا، و"الأكف" مضاف إليه مجرور. كما يجوز أن تكون "بله" اسم استفهام مبني على الفتح، خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخر.
وقد تقع "بله" اسما معربا بمعنى: "غير" كالذي في الحديث القدسي منسوبا للمولى جل شأنه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعتن ولا خطر على قلب بشر؛ ذخرا من بله ما اطلعتم1 عليه". "أي: من غير ما اطلعتم عليه". فهي مجرورة بمن.
ج- تكون "بله" بمعنى: "أين"، طبقات لما صرح به الصبان عند ضبطه كلمة "بله"، في الحديث القدسي السالف؛ حيث قال ما نصه: "فتح "بله" وكسرها. فوجه الكسر ما ذكر2، وأما وجه الفتح فقال الرضي: إذا كانت "بله" بمعنى: "كيف" جاز أن تدخله "من"؛ حكى أبو زيد: "إن فلانا لا يطيق حمل الفهر "الحجر الصغير يملأ الكف" فمن بله أن يأتي بالصخرة"؟ أي: كيف، ومن أين؟. وعليه تتخرج هذه الرواية؛ فتكون "بله" بمعنى: "كيف" التي للاستبعاد، و"ما" مصدرية في محل رفع بالابتداء، والخبر "من بله"، والضمير المجرور بعلى عائد على الذخر. ا. هـ. ثم قال الصبان: والمعنى على هذا: من كيف؟ أي: "من أين اطلاعكم على هذا الذخر -أي: المدخر. ولا يخفى ما في جعلها على هذه الرواية بمعنى "كيف" من الركاكة: ولو جعلت فيها من أول الأمر بمعنى: "أين". لكان أحسن". ا. هـ.
__________
1 بتشديد الطاء وفتح اللام. وفي بعض الروايات: أطلعتم -بضم الهمزة، وكسر اللام.
2 في الحديث القدسي السابق، وهو أنها اسم معرب بمعنى غير مجرور.(4/152)
أهم أحكامها:
1- أنها سماعية جامدة؛ فيجب الاقتصار على الوارد1 منها، دون تصرف فيها؛ بزيادة عددها، أو إدخال تغيير على لفظها، وضبط حروفها، فلفظها المسموع واجب البقاء على حاله؛ لا يجوز زيادة حروفه، أو نقصها، أو استبدال حرف بآخر، أو تغيير ضبطه أو ترتيبه ...
إلا إن هناك نوعا واحد قياسيا؛ هو: صوغ "فعال" بالشروط التي سبق الكلام عليها2 في اسم فعل الأمر. وما عدا هذا النوع يجب الوقوف فيه عند حد السماع الوارد من العرب؛ فيلزم الصورة لا يختلف فيها باختلاف الإفراد، وفروعه، أو التذكير والتأنيث، أو الخطاب وغير الخطاب، إلا إذا أباح السماع الاختلاف3. أما الذي يختلف بحسب الحالات فهو فاعلها؛ فيكون مطابقا للمراد منه. فاسم الفعل: "صه" مثلا يلزم واحدة، ولكن فاعله الضمير المستتر قد يكون: أنت، أنت، أنتما، أنتم، أنتن، على حسب الحالات.
2- أنها -في الرأي الشائع- أسماء مبنية4 ليس فيها معرب، حتى ما كان منها أسماء لأفعال مضارعة. ويجب التزام حركة البناء المسموعة -طبقا لما مر في الحكم الأول- فمنها المبنية على الفتح؛ كالشائع في: شتان، وهيهات، عند كثير من القبائل. وكالأحسن في المنقول من جار يكون مجروره "كاف الخطاب" للواحد؛ مثل: عليك، وإليك ...
ومنها: المبنية على الكسر، مثل: كتاب - حماد - قراء، بمعنى اكتب - احمد - اقرأ ...
ومنها المبنية على الضم كالغالب في: مثل: آه؛ بمعنى: أتوجع ...
__________
1 إلا عند السكاكي.
2 في ص144.
3 كاسم الفعل المختوم بكاف الخطاب المتصرفة، على الوجه الآتي في رقم9 من ص160.
4 يقول النحاة في تعليل بنائها: إنه الشبه لبعض الحروف التي تعمل، "مثل: ليت وأخواتها" في أنها عاملة ولا تكون معمولة. وهذا تعليل يحتاج إلى تعليل أيضا ... وكلاهما يرفض ما دام غير مطابق للواقع الحق؛ الذي هو: مجرد استعمال العرب؛ إذ لا علة غير هذا. وقد أفضنا الكلام في علل البناء المنقولة، وبيان السبب في رفضها في مكانها من الجزء الأول ص55 م6.(4/153)
ومنها المبنية على السكون؛ مثل: مه، بمعنى: انكفف1.
وقد يجوز في بعضها ضبطان أو أكثر؛ تبعا للوارد، نحو: "وي"؛ بمعنى: أعجب، فيصح "وا"؛ كما يصح: "واها" بالتنوين. ومثل: "آه"؛ فإنها يصح فيها أيضا: آه، وآها، بالتنوين فيهما.
وغاية القول: أنه يجب -في النوع السماعي- الاقتصار على نص اللفظ المسموع وصيغته، وعلى علامة بنائه الواردة معه؛ سواء أكانت واحدة أم أكثر، معها تنوين أو لا. فعند إعراب واحد منها يقال: اسم فعل لماض، أو لمضارع، أو لأمر -على حسب نوعه، مبني على الكسر، أو الفتح، أو غيرهما- لا محل له من الإعراب.
3- أن بعضها لا يدخله التنوين مطلقا، مثل: آمين، وشتان، وباب "فعال"2 القياسي، وبعضها لا يتجرد من تنوين التنكير؛ مثل: "واها" بمعنى "أتعجب"؛ وبعضها يدخله تنوين التنكير حينا؛ لغرض معين، وقد يخلو من هذا التنوين لغرض آخر؛ مثل: "صه" فإنه اسم فعل أمر بمعنى: اسكت. فحين يكون المراد طلب السكوت عن كلام خاص معين، نقول: صه، بسكون الهاء، ومنع التنوين. وحين يكون المراد طلب الصمت عن كل كلام، تتحرك الهاء بالكسر -وجوبا- مع التنوين. فنقول: "صه". فعدم التنوين في "صه" بمثابة قولنا: اترك الكلام في هذا الموضوع المعين الخاص المعروف لنا، وتكلم في غيره. ومجيء التنوين معناه: اترك الكلام مطلقا؛ في الموضوع الخاص المعين، وفي غيره3 ...
__________
1 انظر رقم 4 من هامش ص144.
2 سبق الكلام عليه في ص144.
3 وجود التنوين في أسماء الأفعال دليل على أنها اسم من جهة لفظها، أما من جهة معناها فهي فعل -"كما شرحنا في هامش ص141"- وكما صرح الناظم في شرح الكافية؛ حيث قال: "لما كانت هذه الكلمات من قبل المعنى أفعالا، ومن قبل اللفظ أسماء، جعل لها تعريف وتنكير؛ فعلامة تعريف المعرفة منها تجرده من التنوين، وعلامة تنكير النكرة منها استعماله منكرا".
"راجع حاشية الصبان في هذا الموضع. وقد سبق تفصيل الكلام على تنوين التنكير، وأنه خاص -في الغالب- بالأسماء المبنية ج1 ص21 م3".
وإذا كان معناها معنى الفعل فكيف يلحقها التعريف والتنكير وهما لا يلحقان الفعل مباشرة؟ أجابوا: إن تعريفها وتنكيرها راجع إلى المصدر الذي هو أصل ذلك الفعل؛ فلفظ: "صهٍ" -بالتنوين- معناه: اسكت سكوتا مطلقا؛ أي: افعل مطلق السكوت عن كل كلام؛ إذ لا تعيين في اللفظ يدل على نوع خاص محدد من السكوت. أما لفظ: "صهْ" المجرد من التنوين فمعناه: اسكت السكوت المعهود المعين عن الحديث الخاص المعروف لنا مع جواز تكلمك في غيره إن شئت، هذا تعليلهم. والتعليل الصحيح هو استعمال العرب.(4/154)
ومثل: "إيه" اسم فعل أمر، بمعنى: زدني، فإن كان مبنيا على الكسر بغير تنوين فمعناه: زدني من حديث خاص معروف لنا، أما مع التنوين، فالمراد: زدني من حديث أي حديث، بغير تقيد بنوع معين.
من ثم كان اسم الفعل المنون نكرة، والخالي من التنوين معرفة، وما ينون حينا ولا ينون حينا آخر يجري عليه في كل حالة حكمها المناسب لها. واللغة وحدها -كما وردت عن العرب- هي الفيصل الذي له الحكم على اسم الفعل بالتنوين، أو بعدمه.
4- أنها تعمل -غالبا- عمل الفعل الذي تدل عليه؛ فترفع مثله الفاعل حتما، وتسايره في التعدي. واللزوم، وباقي المكملات ... فإن كان فعلها متعديا فهي مثله، وإن كان لازما يتعدى بحرف جر، فهي مثله أيضا. وفي الحالتين لا بد أن ترفع فاعلا. وإن احتاجت لمكملات أخرى استوفت حاجتها. فمن المتعدية كأفعالها: ما سبق1 من: "رويد، وبله: ومن: "دراك" بمعنى: أدرك، ومن: "حذار" بمعنى: احذر كالتي في قول الشاعر:
حذار بني2 البغي، لا تقربنه ... حذار؛ فإن البغي وخم مراتعه
ومن اللازمة: هيهات -أف- صه ...
فإن كان اسم الفعل مشتركا بين أفعال مختلفة، بعضها لازم وبعضها متعد، فإنه يساير في التعدي واللزوم الفعل الذي يؤدي معناه، نحو: حيهل المائدة، بمعنى: ايت المائدة، وحيهل على فعل الخير، بمعنى: أقبل على فعل الخيرن ومنه قولهم: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، أي: فأسرعوا بذكر عمر بن الخطاب، ومثل: فإنها تكون متعدية كقوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}
__________
1 في ص148 وما بعدها، وص143.
2 أي: يا بني.(4/155)
بمعنى: قربوا وأحضروا. وتكون لازمة نحو نحو قوله تعالى: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} بمعنى اقترب وتعال.
ومن غير الغالب أني خالف اسم الفعل فعله في التعدية واللزوم مثل: آمين؛ فإنه لم يسمع من العرب متعديا بنفسه. مع أن فعله الذي بمعناه، وهو: "استجب"، قد ورد متعديا ولازما؛ اللهم استجب دعائي، أو استجب لدعائب ... ومثل: "إيه" من حديثك، بمعنى زدني من حديثك؛ فاسم الفعل "إيه" لازم في هذا المثال، مع أن فعله متعد.
أما فاعل أسماء الأفعال:
أ- فقد يكون اسما ظاهرا أو ضميرا للغائب مستترا جوازا، ويكاد1 هذان يختصان باسم الفعل الماضي وحده، نحو: هيهات تحقيق الآمال بغير الأعمال، وقوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} 2، ونحو: السفر هيهات، أي: هو ومثل: عمرو ومعاوية في الدهاء شتان، أي: هما ...
ب- وقد يكون ضميرا للمخاطب مستترا وجوبا، وهذا هو الأعم الأغلب3
__________
1 قلنا: "يكاد" لأن هناك حالة نادرة عرضها بعض النحاة في قوله تعالى سورة يوسف {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} فأعرب: هيت. اسم فعل ماض بمعنى "تهيأت" ويترتب على هذا أن يكون الفاعل ضميرا مستترا تقديره: "أنا" والجار والمجرور متعلقان باسم الفعل كما يتعلقان بفعله.
"راجع المعنى في الكلام على لام التبيين".
وقيل: إن "وهيت" اسم فعل أمر بمعنى: "أقبل" أو "تعال" والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت، والمراد، إرادتي لك، أو: أقول لك، فالجار والمجرور ليسا متعلقين باسم الفعل، وعلى هذا الرأي لا يكون في الآية اسم فعل ماض، فاعله ضمير للمتكلم؛ لأن هذا غير معهود في فاعله؛ إنما المعهود فيه أن يكون اسما ظاهرا أو ضميرا للغائب مع استتاره جوازا.
"راجع المعنى في الموضع السابق وحاشية ياسين على التصريح ج2 عند الكلام على تقسيم اسم الفعل إلى مرتجل ومنقول".
2 "لما" اللام حرف جر زائد. "وما" موصولة فاعل، مجرورة بكسرة مقدرة من من ظهورها سكون البناء الأصلي، في محل رفع؛ لأنها فعل: "هيهات".
3 قلنا: "الأعم الأغلب". لأن هناك حالة نادرة في مثل قولنا: من طلب إدراك غاية فعلية بالسعي الدائب لها، وهو أسلوب مسموع قديما، ومنه قولهم: "فعليه بالصوم". أي فليتمسك بالصوم. فالضمير هنا للغائب. وهو أيضا مستتر جوازا.
لكن قال بعض النحاة: إن "عليه" هنا ليست اسم فعل، بل الجار والمجرور على حالهما خير مقدم، والباء بعدهما زائدة، داخلة على المبتدأ المجرور لفظا بها، المرفوع محلا. ولو أخذنا بهذا الرأي لصارت القاعدة مطردة، وهي أن فاعل اسمي الفعل المضارع والأمر لا يكون إلا ضميرا مستترا وجوبا. فإن شئنا أخذنا بهذا وإن شئنا استثنينا من القاعدة المطردة الحالة النادرة.(4/156)
في اسم الفعل المضارع واسم فعل الأمر. ويشترط في هذا الضمير أن يكون مناسبا للمضارع أو للأمر الذي يقوم اسم الفعل مقامه، نحو: أف من عمل الحمقى؛ بمعنى: أتضجر؛ ففاعل اسم الفعل ضمير مستتر وجوبا تقديره: "أنا" وهذا الضمير وحده هو الذي يصلح فاعلا للمضارع: أتضجر. ونحو: صه، بمعنى اسكت. ففاعل اسم الفعل ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت، وهذا المضير وحده هو الذي يلائم فعل الأمر: "اسكت". ومثل قولهم: عليك بدينك؛ ففيه معادك، وعليك بمالك، ففيه معاشك، وعليك بالعلم؛ ففيه رفعه قدرك ... ، "فعليك" اسم فعل أمر؛ بمعنى: تمسك، وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره: أنت. وهذا الضمير هو الفاعل المناسب لفعل الأمر: "تمسك".
ومن الأمثلة السالفة يتبين أن فاعل اسم الفعل محتم1، وأنه يماثل فاعل فعله -وأنه في الأعم الأغلب- يكون في اسم الفعل الماضي اسما ظاهرا، أو ضميرا للغائب مستترا جوازا، ويكون في اسم الفعل المضارع والأمر ضميرا مستترا وجوبا للمتكلم -أو لغيره قليلا- وللمفرد أو غيره2 على حسب فعله، ولا يكاد يصح في هذا الباب كله أن يكون الفاعل ضميرا بارزا3.
__________
1 حاجة اسم الفعل إلى فاعل محترم دليل على اسميته؛ لأن الاسم الذي بعده "وهو الفاعل" يسمى: المسند إليه؛ فهو محتاج حتما إلى: "مسند" يكون فعلا أو اسما. ولا ثالث لهما. واسم الفعل لا يقبل علامة الفعل، فلا يصلح أن يكون فعلا مسندا. فلم يبق إلا أنه اسم مسند.
2 الأمثلة للفاعل المستتر المفرد كثيرة. أما غيره فالمفردة مثل: أيها الفتاة، عليك بالحزم في كل أمورك. ولغيرها: عليكما بالحزم ... - عليكما بالحزم - عليكن بالحزم.. وتقدير الفاعل: أنت، أنتما، أنتم، أنتن. "ويتصل بهذا ما سبق في رقم 1 من ص147".
3 قد يكون في آخر اسم الفعل ما يدل على الإفراد والتذكير أو فروعها. وعلى المخاطب أو غيره. ومن الأمثلة: رويدك، رويدك، وريكما، رويدكم، رويدكن. على اعتبار: "رويد" اسم فعل أمر، بمعنى الفعل: "أمهلْ" الذي ينصب مفعولا به، والضمير بعده مفعوله. والمعنى أمهل نفسك، نفساكما، أنفسكم، أنفسكن. "راجع ما يتصل بهذا في ص149".
ومثل: عليك الجد في كل أمرك، عليكما، عليكم، عليكن. ومثل: "ها" وهاء "بالمد والقصر" بمعنى: خذ، تقول في اللفظة الأولى: هاك، هاكما، هاكم، هاكن. والفاعل في كل ما سبق ضمير مستتر حتما. =(4/157)
والضابط الذي يجب الاعتماد عليه في هذا الشأن هو أن يوضع في مكان اسم الفعل، الفعل الذي بمعناه؛ فما يصح أن يكون فاعلا لهذا الفعل يصح أن يكون فاعلا لاسم الفعل الذي يدل عليه، ويقوم مقامه، وما لا يصلح للفعل لا يصلح لاسمه أيضا.
واعتمادا على هذا الضابط يتعين أني كون فاعل اسم الفعل، دالا على المفرد المذكر، أو المؤنث، أو المثنى، أو الجمع بنوعيهما -على حسب ما يناسب السياق، ففي مثل: "صه" -كما سبق- قد يكون الفاعل: أنت، أنت، أنتما، أنتم، أنتن، على حسب المخاطب. وقد يكون الفاعل متعددا إذا كان الفعل يحتاج إلى فاعل متعدد، نحو شتان السابق واللاحق في البراعة، كما تقول: افترق السابق واللاحق في البراعة، لأن الافتراق في البراعة أحد الأمور المعنوية1 التي لا تتحقق إلا من اشتراك اثنين معا. أو أكثر في تحقيقها، فيجيء له اسمان مرفوعان به، أحدهما فاعل بغير واسطة، وبعده الآخر مسبوقا بواو العطف -دون غيرها- واسعة بين الفاعل المعطوف، والفاعل المعطوف عليه2.
__________
= أما في الثانية: "هاء بالمد" فقد تلتزم صورة واحدة للجميع؛ فتقول: هاء يا على الكتاب، أو يا فاطمة، أو يا عليان، أو يا فاطمتان، أو يا عليون، أو يا فاطمات. ويصح أن يتصل بآخرها علامة الإفراد والتذكير وفروعهما، فتقول: هاء يا علي "بالبناء على الفتح" وهاء يا فاطمة "بالبناء على الكسر" وهاؤما في المثنى، وهاؤم في جمع المذكر، وهاؤن في خطاب جمع المؤنث، فالضمير "ما" و"الميم" و"النون" هو الفاعل، وهو ضمير بارز في هذه الصورة التي هي أفصح من سابقتها وعليها قوله تعالى {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} -راجع ج4 ص43 من شرح المفصل.
1 انظر ما يختص بهذا في ص142 و146.
2 وقد تقع "ما" الزائدة بعد "شتان" مباشرة وقبل الفاعل؛ كقول الأعشى:
"يصف شقاءه. وما يلقاه من العناء كل يوم. على حين يقضي "حيان" أخو جابر يومه في الرفاهة والمتعة بضروب النعم -"وحيان" هذا أحد سادات بني حنيفة، ومن أوسعهم ثروة، وأعظمهم حظوة عند ملوك الفرس.
شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر
فكلمة: "ما" زائدة، و"يوم" الأولى" فاعل، والثانية معطوفة عليها بالواو، فهي فاعل في المعنى كالأولى. وقد ورد في الفصيح وقوع: "ما بين" بعد شتان، ومنه قولهم: "لشتان ما بين اليزيدين في الندى".
والأسهل في هذه الصورة أن تكون "شتان" بمعنى: "بعد" وما اسم موصول. أي: بعدت المسافة بين اليزيدين، والشرط -وهو أن التفرق لا يحصل إلا من اثنين فأكثر- متحقق؛ لأنه إذا تباعد ما بينهما فقد تباعد كل واحد منهما عن الآخر، ومثل هذا قول علي رضي الله عنه:
"شتان ما بين عملين، عمل تذهب لذته، وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته، ويبقى أجره".(4/158)
5- جميع أسماء الأفعال ليس لها محل إعرابي مطلقا -مع أنها أسماء مبنية، عاملة، كما تقدم- فلا تكون مبتدأ، ولا خبرا، ولا فاعلا، ولا مفعولا به، ولا مضافا ولا مضافا إليه ... ولا شيئا آخر يقتضي أن تكون مبنية في محل رفع، أو في محل نصب، أو في محل جر، فهي مبنية لا محل لها من الإعراب.
6- أن مفعولاتها -في الأعم الأغلب- لا تتقدم عليها1؛ مثل: عليك بالحق، بمعنى: تمسك بالحق، وعليك نفسك، بمعنى: الزم شأنك ... ولا يصح -بناء على الأعم الأغلب- أن يقال: بالحق عليك، ونفسك عليك2 ...
7- أنها لا تلحقها نون التوكيد مطلقا3. ويتساوى في هذا المنع أن تكون أسماء الأفعال دالة على طلب، أو على خبر، فالأولى كأسماء فعل الأمر "صه، مه، آمين"، والثانية كأسماء الفعل الماضي أو المضارع "هيهات، شتان، أف، واها".
8- أن اسم الفعل مع فاعله بمنزلة الجملة الفعلية؛ فلهما كل الأحكام التي تختص بالجمل الفعلية، كوقوعها خبرا، أو صفة، أو صلة، أو حالا ...
__________
1 يرى الكسائي ومن شايعه جواز التقديم، مستدلا بقراءة من قرأ قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بنصب "كتاب" على أنها مفعول به لاسم الفعل: "عليكم" بمعنى: الزموا ...
2 وفيما يلي كلام ابن مالك في أنها تعمل عمل الفعل الذي تنوب عنه، وفي أن بعضها نكرة -وهو المنون تنوين التنكير- وبعضها معرفة، وهو غير المنون، وفي أن معمولاتها لا تتقدم عليها.
وما لما تنوب عنه من عمل ... لها. وأخر ما لذي فيه العمل
"تقدير البيت نحويا: وأخر ما العمل فيه لذي ... أي: لهذه الأسماء وما من عمل لما تنوب عنه، لها. أي: وشيء وهو عمل للذي تنوب عنه لها. فما يثبت من عمل للفعل النائبة عنه يثبت لها. فكلمة "ما" الأولى بمعنى شيء، مبتدأ، وخبره الجار مع المجرور: "لها".
والبيت مع تعقيده اللفظي يتضمن أمرين: أولهما: إعمالها كفعلها، وثانيهما: تأخير معمولاتها عنها. ثم قال:
واحكم بتنكير الذي ينون ... منها، وتعريف سواه بين
"بين واضح. وسبب وضوحه تجرده من التنوين الذي يدل وجوده على التنكير، ويدل عدمه على التعريف".
3 كما سيجيء في ص167.(4/159)
و.... وكاعتبارها جملة إنشائية إن دلت على طلب، "كاسم فعل الأمر، وما كان على وزن: "فعال" ... "وخبرية إن لم تدل على إنشاء "كاسم الفعل الماضي، أو المضارع ... " وغير هذا من كل ما تصلح له الجملة الفعلية الضوابط والشروط الخاصة بكل حالة1 ...
9- أن بعضا منها تلحقه الكاف سماعا، بشرط اعتبارها حرف خطاب محض. ومما ورد به السماع: "وي" بمعنى: أعجب. "حيهل" بمعنى: أقبل2 و"النجاء" بمعنى: أسرع، و"رويد" التي بمعنى: تمهل3، فقد العرب: ويك، وحيهلك، والنجاءك، ورويدك. والكاف في الأمثلة السالفة حرف خطاب متصرف4، لا يصلح أن يكون ضميرا مفعولا به لاسم الفعل، لأن أسماء الأفعال السالفة لا تنصب مفعولا به؛ لقيامها معنى وعملا مقام أفعال لا تنصب مفعولا به. وكذلك لا يصح أن تكون هذه الكاف ضميرا في محل جر مضافا إليه؛ لأن أسماء الأفعال مبنية، ولا تعمل الجر مطلقا؛ فلا يكون واحد منها مضافا.
__________
1 خالف في هذا شارح المفصل فقد قال "في ج4 فقد قال "في ج4 ص25 باب أسماء الأفعال" ما نصه: "اعلم أن هذه الأسماء وإن كان فيها ضمير تستقل به فليس ذلك على حده في الفعل. ألا ترى الفعل يصير بما فيه من الضمير جملة، وليست هذه الأسماء كذلك بل هي مع ما فيها من الضمير أسماء مفردة على حده في اسم الفاعل واسم المفعول، والظرف. والذي دل على أن هذه الألفاظ أسماء مفردة إسناد الفعل إليها، قال زهير:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت "نزال" ولج في الذعر
فلو كانت "نزال" بما فيها من الضمير جملة ما جاز إسناد "دعيت" إليها من حيث كانت الجمل لا يصح كون شيء منها فاعلا".
قال الأعلم في البيت السابق ما نصه: "إنما أخبر عن "نزال" على طريق الحكاية. وإلا فالفعل وما كان اسما له. لا ينبغي أن يخبر عنه ... ". ا. هـ.
2 كما سبق في ص145 وفي رقم2 من هامشها. وفيه صور ضبطها.
3 لأن الفعل: "تمهل" لازم لا ينصب مفعولا به، فكذلك اسم الفعل الذي بمعناه، فإن الكاف بعده حرف مجرد الخطاب في الصور المختلفة، ولا يصح اعتباره مفعولا. بخلاف "رويد" الذي بمعنى "أمهل" فإنه ينصب المفعول به كالفعل الذي بمعناه. وقد سبق بعض ما يتصل به في رقم 3 من ص149: ورقم 3 من هامش ص157.
4 يتصرف على حسب المخاطب تذكيرا وتأنيثا، وإفرادا، وتثنية، وجمعا الذي تقدم في ج، م19 ص215 باب الضمير.(4/160)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
نختم الباب بسرد بعض آخر من أسماء الأفعال المختلفة الأنواع، يكثر ترداده في الكلام العربي القديم، ونكتفي بضبط واحد مما له أكثر من ضبط.(4/161)
المسألة 142: أسماء الأصوات يراد منها نوعان:
أولهما: ألفاظ توجه إلى الحيوان الأعجم، وما في حكمه -كالأطفال- إما لزجره وتخويفه، لينصرف عن شيء، وإما لحثه على أداء أمر معين بمجرد سماعه أحد هذه الألفاظ، دون حاجة إلى مزيد. فالمراد من توجيه اللفظ هو طلب الامتناع، أو طلب الأداء.
وكلا الأمرين -الانصراف عن الشيء، وأداء الأمر المعين- لا يتحقق إلا بعد تمرين، وانقضاء مدة تتكرر فيها المخاطبة باللفظ، ويتدرب فيها الحيوان وما في حكمه على إنفاذ المطلوب منه عند سماعه؛ فيدرك -بعد التكرار الذي يصاحبه التدريب- المراد من توجيه اللفظ إليه، ومن مخاطبته به، وأن هذه المراد هو الرجز، أو الحث، "بمعناها السالفين" ويكتفي في إدراك الغرض بسماع اللفظ دون زيادة عليه.
فمن أمثلة الزجر ما كان يوجهه العرب لبعض الحيوانات -وأشباهها- بسبب بغيض يراد العدول عنه، كزجرهم الإبل على البطء والتأخر، فيوجهون لها أحد الألفاظ الآتية: "هيد، هاد، ده، جه، عاه، عيه ... " وقولهم لزجر الناقة: "عاج، هيج، حل ... " وكقولهم لزجر الغنم: "إس، هس، هس، هج" وللكلب: "هجا، هج ... " وللضأن: "سع، وح، عز، عيز ... " وللخيل: "هلا، هال". وللطفل: "كخ. كخ ... " وللسبع: "جاه"، وللبعل: "عدس ... "
إلى غير هذا من ألفاظ الرجز عندهم، وهي كثيرة في عددها، وضبط حروف كل منها.
ومن أمثلة ما يوجه للحيوانات وأشباهها، لا بقصد زجرها؛ وإنما بقصد تكليفها أمرا كي تؤديه وتقوم بإنفاذه قول العرب للإبل؛ "جوت"، أو" "جئ"،(4/162)
إذا أرادوا منها الذهاب للماء لتشرب، و"نخ"، إذا طلبوا منها الإناخة. و"هدع"، إذا أرادوا منها الهدوء والسكون من النفار. و"سأ، وتشؤ"، إذا أرادوا من الحمار الذهاب للماء، ليشرب. "ودج. وقوس" لدعوة الدجاج إلى الطعام والشراب ... و"حاحا" للضأن، و"عاعا" للمعز؛ ليحضر الطعام ...
ثانيهما: ألفاظ صادرة من الحيوان الأعجم1، أو مما يشبهه كالجماد ونحوه، فيرددها الإنسان ويعيدها كما سمعها: تقليدا، ومحاكاة لأصحابها، من غير أن يقصد من وراء هذه دلالة أخرى. فقد كان العربي يسمع صوت الغراب، فيقلده قائلا: "غاق"، أو: صوت الضرب؛ فيقول محاكيا: "طاق"، أو صوت وقوع الحجارة، فيحاكيه: "طق"، أو صوت ضربة السيف فيردده: "قب"، أو صوت طي القماش، فيقول: "قاش ماش"2 ... إلى غير هذا من الأصوات التي كان يسمعها فيحاكيها3 دون أن يريد من المحاكاة معنى آخر.
أشهر أحكامها:
1- أنها أسماء4 مبنية، لا محل لها من الإعراب، ما دامت أسماء تدل على
__________
1 أما الحيوان الناطق فألفاظه ذات معان، وإلا كان كغيره.
2 قاش ماش "بكسر الشين فيهما" مركب مزجي مبني على الكسر لا محل له من الإعراب، وهو من المركبات المزجية المتعددة التي تكون اسم صوت مع تركيبها المزجي.
3 وفي النوعين يقول ابن مالك في الباب الذي عنوانه: "أسماء الأفعال والأصوات":
وما به خوطب ما لا يعقل ... من مشبه اسم الفعل صوتا يجعل
"التقدير: ما به خوطب ما لا يعقل ... يجعل صوتا" يريد: أن ما يشبه اسم الفعل -في أنه لا يحتاج في أداء المراد منه إلى لفظ آخر- يسمى: اسم صوت. وهذا تعريف قاصر مبتور، فوق أن تشبيه اسم الصوت باسم الفعل فيما سبق غير صحيح؛ لأن اسم الفعل لا بد له من فاعل ظاهر أو ضمير، فلا يفرد بنفسه، وقد يحتاج لمعمولات أخرى ... كما سبق في بابه "ص155". ثم اقتصر في بيان أنواعه وأحكامه على بيت واحد ختم به الموضوع هو:
كذا الذي أجدى حكاية؛ كقب ... والزم بنا النوعين؛ فهو قد وجب
المراد: حكاية صوت الجماد وغيره، وقب: صوت السيف. واسم الصوت بنوعيه مبني وجوبا كما يقول في بيته. وقوله يحتاج إلى تفصيل وإبانة عرضناهما.
4 يعترض بعض لنحاة على اسميتها؛ بحجة أن الاسم لا بد أن يكون له معنى مفرد، مفهوم =(4/163)
مجرد الصوت، ولم تخرج من هذه الدلالة إلى تأدية معنى آخر. وما كان مسموعا عن العرب يجب إبقاؤه على صيغته، وحالته الواردة عنهم من غير إدخال تغيير عليه في عدد حروفه، أو في نوعها، أو ترتيبها، أو ضبطها، أو علامة بنائها.. كالأمثلة السالفة. أما المستحدث بعدهم فيلازم ما شاع فيه؛ لأن إنشاء الأصوات واستحداثها -جائز في كل عصر1، ويجري على الجديد المستحدث ما يجري من الأحكام على المسموع الوارد عن العرب؛ فيعتبر اسما واجب البناء بالعلامة التي يشيع بها النطق في عصره، وتسري عليه بقية الأحكام الأخرى الخاصة بأسماء الأصوات.
لكن هناك حالتان؛ إحداهما: يجب2 فيها إعراب أسماء الأصوات بنوعيها المسموعة عن العرب، والموضوعة المستحدثة بعدهم. والأخرى: يجوز فيها الإعراب والبناء.
أ- فيجب2 إعرابها إذا خرجت عن معانيها الأصلية التي هي الصوت المحض، وصارت اسما متمكنا يراد به: إما صاحب الصوت؛ الذي يصدر عنه الصوت والصياح مباشرة، وينسبان له أصالة دون غيره. وإما شيء آخر ليس هو الصاحب الأصيل للصوت، وإنما يوجه له الصوت والصياح توجيها يقصد منه الزجر، أو التهديد أو غيرهما ...
فمثال الأول: أزعجنا غاق الأسود، وفزعنا من غاق الأسود ... ، فكلمة: "غاق"، بالتنوين، لا يراد منها هنا أصلها، وهو: صوت الغراب، وإنما يراد
__________
= وهذه الألفاظ لا تدل على معنى مفهوم؛ لأنها توجه إلى من لا يفهم، ويخاطب بها غير العاقل. وقد دفع هذا الاعتراض بأن المقصود بدلالة الاسم على معنى مفرد مفهوم أنه إذا أطلق فهم منه العالم بالوضع اللغوي معناه. وهذا ينطبق على أسماء الأصوات. فليس الشرط في الاسم أن يخاطب به من يعقل ليفهم معناه. وقيل إنها ملحقة بالأسماء وليست أسماء ... ولا أهمية للخلاف؛ إذ الأهمية لأحكامها الآتية.
ويقولون إن سبب بنائها هو: شبهها الحروف المهملة "مثل: لا، وما، النافيتين" في أنها غير عاملة، ولا معمولة. والسبب الحق هو: مجرد استعمال العرب الأوائل -كما كررنا.
1 ومنها أصوات الحيوانات والطيور التي لم يعرفها العرب، والأصوات التي وجدت بعدهم؛ كأصوات السيارات، والطيارات، والبواخر، والآلات المختلفة، ما جد منها وما سيجد.
2 و2 تبعا للأغلب -كما سيجيء في الهامش التالي.(4/164)
أنها اسم يدل على صاحب هذا الصوت نفسه؛ أي: على الذي ينسب له الصوت ويشتهر به، وهو: "الغراب" ذاته، لا صوته الصادر منه. فالغراب هو المسمى، و"غاق" في الجملتين اسم معرب متمكن، فاعل في الجملة الأولى، ومجرور "بمن" في الجملة الثانية.
ومثل: ما أقسى قبا. فكلمة: "قبا" -بالتنوين- اسم معرب متمكن منصوب في هذه الجملة؛ لأن المراد بها هنا: "السيف" نفسه، مع أنها في الأصل اسم صوت للسيف، مبنية على السكون، ولا تنون. لكنها اسما لصوته، مبنية غير منونه. فالمراد في الأمثلة السابقة ونظائرها هو: أزعجنا الغراب -فزعنا من الغراب- ما أقسى السيف.
ومثال الثاني: أردت هالا السريع؛ فصادفت عدسا الضخم. وأصل كلمة: "هال" اسم صوت صادر من الإنسان، يوجه إلى الفرس لزجره. وأصل كلمة: "عدس" اسم صوت صادر من الإنسان يوجه إلى البغل لزجره، فكلتا الكلمتين تركت هنا أصلها، والبناء، وصارت اسما معربا مرادا منه الحيوان الأعجم -وشبهه- مما لا يصدر عنه ذلك الصوت، إنما يوجه إليه من غيره1.
ب- ويجوز إعرابها وبناؤها إذا قصد لفظها نصا؛ مثل: فلان لا يرعوي إلا بالزجر؛ كالبغل لا يرعوي إلا إذا سمع: "عدس" أو: "عدسا" بالبناء على السكون، أو بالإعراب، والمراد: إلا إذا سمع هذه الكلمة نفسها.
3- أنها -في أصلها- أسماء منفردة، مهملة. والمراد من انفرادها: أنها لا تحمل ضميرا، وهذا نوع من أنواع الاختلاف بينهما وبين أسماء الأفعال. والمراد من إهمالها أنها لا تتأثر بالعوامل المختلفة ولا تؤثر في غيرها، فلا تكون مبتدأ، ولا خبرا، ولا فعلا، ولا فاعلا، ولا مفعولا ... ولا شيئا آخر يكون عاملا أو معمولا -إلا في الحالتين السالفتين: "أ، ب، بصورهما الثلاث". ومن ثم
__________
1 بعض النحاة يجيز بناءها في الصور السالفة مراعاة لأصلها. ولكن الإعراب أوضح وأقدر على أداء المعنى؛ فيحسن الاقتصار عليه.(4/165)
تختلف أيضا عن أسماء الأفعال؛ فهذه لا بد أن تعمل.
وخلاصة ما تقدم: أن أسماء الأصوات إذا بقيت على وضعها الأصلي اسم صوت محض، بالطريقة التي شرحناها. أما إذا قصد لفظها، أو استعملت استعمال الأسماء المتمكنة -بأن انتقلت من معناها الأصلي إلى الدلالة على صاحبها الأصيل الذي يصيح ويصوت بها، أو على من يتجه إليه النطق بها- فإنها في هذه الصور الثلاث تكون معربة إما وجوبا؛ كما في: "أ" بفرعيها، وإما جوازا كما في: "ب" فالشرط في إهمالها، وفي بنائها لزوما أن تبقى على حالتها الأولى اسم صوت مجرد، لا محل لها من الإعراب؛ فلا تكون في محل رفع، ولا نصب ولا جر، وإنما يقال فيها: اسم صوت مبني على الضم، أو الفتح، أو الكسر، أو السكون، على حسب حالة آخره.(4/166)
المسألة 143: نونا التوكيد
يراد بهما: نونان، إحداهما مشددة مبنية على الفتح، والثانية مخففة مبنية على السكون؛ كالنونين في قولهم: لا تقعدن عن إغاثة الملهوف، وبادرن بمعاونته.
وهما من أحرف المعاني1، وتتصل كل واحد منهما بآخر المضارع والأمر فتخلصهما للزمن المستقبل2؛ ولا تتصل بهما إن كانا لغيره3، وكذلك لا تتصل بالفعل الماضي، ولا بأسماء الأفعال مطلقا؛ "سواء أكانت طلبية أم خبرية"4 ولا بغيرها من الأسماء والحروف؛ نحو: "لا تحملن حقدا على من ينافسك في الخير، وابذلن جهدك الحميد في سبقه، وإدراك الغاية قبله". فالنون في آخر الفعلين حرف للتوكيد، ويصح تشديدها مع الفتح، أو تخفيفها مع التسكين. وقد اجتمعا في قوله تعالى في قصة يوسف: {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} .
أثرهما المعنوي:
لو سمعت من يقول: "لا تنفع النصيحة الأحمق. ولا يفيده التأديب" ... فقد تتردد في تصديق الكلام، وبداخلك الشك في صحته. ولك العذر في هذا، لأن المتكلم لم يحسن التقدير؛ إذ كان عليه أن يدرك بخبرته وذكائه أن مثل هذا الكلام قد يقابل بالتردد والشك؛ فيعمل على أن يدفعهما، ويمنع تسربهما إلى ذهن السامع، بإحدى الوسائل الكلامية التي عرض لها البلاغون -ومنها: نون التوكيد ... فلو أنه قال: لا تنفعن ... ولا يفيدنه ... لكان مجيء نون التوكيد، بمثابة القسم على صحة الكلام وصدقه، أو بمنزلة تكراره وإعادته بقصد
__________
1 سبق تفصيل الكلام على أحرف المعاني، في ج1 م5 ص62، باب: "الحرف".
2 أو تقويه -كما سيجيء.
3 قد يكون -أحيانا- زمن المضائع والأمر، لغير المستقبل؛ "طبقا للبيان الخاص بهذا في ج1 م54 و61 باب الفعل"؛ فلا تدخلهما في هذه الحالة نون التوكيد -ثم انظر "ا" ص177.
4 كما تقدم في رقم7 من ص159.(4/167)
تأكيد مضمونه، وصحة ما حواه، فلا يكون هناك مجال للشك والتردد عند من هو مستعد للاقتناع.
ومثل هذا أن يقال لك: "أكثر من الحساد بفضلك"، "ولا تكثر من الأعداء بجهلك". أو: "تجنب شر القتلة؛ شاهد الزور"، "وهل يبرئ القاتل، وهل يقتل البريء سواه؟ " ... فقد تزعم أن المتكلم يعرض عليك كل مسألة من هذه المسائل عرضا مجردا، "أي: خاليا من رغبته القوية وتشدده في مطالبتك بالتنفيذ أو بالترك، خاليا من الحرص على تأديتك ما تحدث بشأنه أو عدم تأديتك، وتصديقك به أو عدم التصديق".
وقد يكون لك الحق في هذا الزعم؛ فليس في الكلام ما يبعده، فلو رغب المتكلم أن يبعد الزعم، ويشعر السامعين بتمسكه بمضمون كلامه، وتشدده في التنفيذ والتأدية، وحرصه على تصديق ما قال لزاد في الكلام ما يدل على هذه الرغبة؛ كأن يزيد "نون التوكيد"، على آخر الفعل المضارع أو الأمر؛ فإن زيادتها تفيد معنى الجملة قوة. وتكسبه تأكيدا؛ إذ تبعد عنه الاحتمال السابق، وتجعله مقصورا على الحقيقة الواضحة من الألفاظ؛ دون ما وراءها من احتمالات. فلو قيل في الأمثلة السالفة: "أكثرن ... ، لا تكثرن ... ، تجبن ... ، يبرئن، ... يقتلن ... " لكان مجيء نون التوكيد برغم اختصارها البالغ بمنزلة القسم، وبمنزلة قول المتكلم: إني أؤكد كلامي، وأتشدد في أن تنفذ مضمونه في المستقبل، وأحرص على أن تصدقه. أو: بمنزلة تكرار ذلك الكلام، وإعادته لتحقيق الغرض السالف، ومن أجله سميت: بـ"نون التوكيد". والمشددة أقوى في تأدية التوكيد من المخففة.
وفوق هذا فكلتاهما تخلص المضارع للزمن المستقبل، سواء أكان اتصالها به مباشرا أم غير مباشر1. ومن ثم دخولها على المضارع إذا كان للحال، أو للمضي أحيانا -كما سبق- منعا للتعارض بينهما.
أما الأمر فزمنه مستقبل في الأغلب؛ فتقوي فيه الاستقبال. فإن كان لغيره خلصته للمستقبل المحض.
__________
1 يكون غير مباشر؛ لوجود فاصل بينهما؛ كالضمير.(4/168)
فالأثر المعنوي لهذه النون هو: توكيد المعنى على الوجه السالف، وتخليص زمن المضارع للاستقبال، وتقوية الاستقبال في فعل الأمر أو إرجاعه إليه.
وقد تفيد النون -مع التوكيد- الدلالة على الإحاطة والشمول إذا كان الكلام لغير الواحد، ففي مثل: يا قومنا احذرن مكايد الأعداء ... يكون المراد: يا قومنا كلكم، أو جميعكم، فردا فردا ...
وخلاصة كل ما تقدم: أنهما حرفان من أحرف المعاني، يلحقان بآخر المضارع وآخر الأمر، لتلخيص هذين الفعلين للزمن المستقبل، ولا يلحقان بهما ولا بغيرها من الأفعال التي لا يراد منها المستقبل الخالص، ولا أسماء الأفعال مطلقا، ولا سائر الأسماء، والحروف. وأن فائدتهما المعنوية هي: تأكيد المعنى وتقويته بأقصر لفظ، وتخليص المضارع للزمن المستقبل، وتقوية الاستقبال في الأمر، أو إرجاعه إليه، وأنهما قد يفيدان -مع التوكيد- الشمول والعموم في بعض الصور.
آرثاهما اللفظية، والأحكام المترتبة على وجودها:
لنوني التوكيد آثار لفظية مشتركة بينهما، تحدث من اتصال إحداهما بآخر المضارع، المتجرد للمستقبل، أو بآخر الأمر كذلك. وتمتاز الخفيفة بأحكام خاصة تنفرد بها دون الثقيلة.
وأهم الآثار المشتركة بينهما هو:
1- بناء المضارع على الفتح، بشرط أن تتصل به نون التوكيد اتصالا مباشرا؛ بأن يكون خاليا من ضمير رفع بارز1 يفصل بينهما؛ ذلك أن المضارع معرب دائما، إلا إذا اتصلت به اتصالا مباشرا نون التوكيد؛ فيبنى على الفتح، أو نون
__________
1 ضمائر الرفع البارزة التي تتصل بآخر المضارع والأمر وتحدث فيهما تغييرات مختلفة -هي: ألف الاثنين وواو الجماعة، وياء المخاطبة، ونون النسوة. وستجيء التغييرات في ص177 وما بعدها- وقد سبق "في ج1 ص53 م6" تفصيل الكلام على بناء المضارع، ومنه: أن يكون اتصال نون التوكيد به مباشرا عند بنائه على الفتح. أما نون النسوة فاتصالها به لا يكون إلا مباشرا دائما، ويبني معها على السكون -كما في رقم3 من هامش ص185 و1 من هامش ص189.(4/169)
النسوة؛ فيبنى على الكسون. كقول شوقي في وصف الدنيا:
لا تحفلن ببؤسها ونعيمها ... نعمى الحياة وبؤسها تضليل
وكقوله في الأمهات المصريات المجاهدات:
ينفثن في الفتيان من ... روح الشجاعة والثبات
يهوين تقبيل المهنـ ... ـد، أو معانقة الفتاة1
ويدخل فيما سبق: المضارع المسبوق بلام الأمر أو بغيرها من الجوازم التي يصح الجمع بينهما وبين نون التوكيد؛ فإنه يبنى على الفتح في محل جزم2؛ كقولك للمهمل: لتحترمن عملك. ولتكرمن نفسك بإنجازه على خير الوجوه. ومثل: إما3 تنصرن ضعيفا فإن الله ناصرك ... ، فالأفعال: "تحترم، وتكرم، وتنصر ... " مبنية على الفتح؛ لاتصالها المباشر بنون التوكيد، في محل جزم بلام الأمر. فإن لم يكن الاتصال بين المضارع ونون التوكيد مباشرا نشأت أحكام سنعرضها بعد4 ...
2- بناء فعل الأمر على الفتح، بشرط اتصاله بنون التوكيد اتصالا مباشرا، فلا يكون متصلا بضمير رفع بارز5 يفصل بينهما؛ نحو: اشكرن من أحسن إليك، وكافئنه بالإحسان إحسانا، واعلمن أن كلمة حمد وثناء قد تكون خير جزاء6.
__________
1 الرمح.
2 ومن الأمثلة: "تكونن" في قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وكذلك المضارع "تحفل" في البيت السالف و"تضجر" في قول الآخر:
لا تضجرن ولا يدخلك معجزة ... فالفوز يهلك بين العجز والضجر
فالأفعال المضارعة السالفة مبنية على الفتح في محل جزم بلا الناهية.
3 أصلها: "إن" الشرطية المدغمة في "ما" الزائدة.
4 في ص185 و195.
5 انظر رقم 1 من هامش الصفحة السابقة.
6 ولا داعي لأن نقول: فعل أمر مبني على سكون مقدر منع من ظهوره الفتحة الآتية لمناسبة النون وإنما نقول -تيسيرا بغير تلك الإطالة: فعل أمر مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد.(4/170)
فإن كان فعل الأمر متصلا بضمير رفع بارز يفصل بينهما فإنه يجري عليه ما يجري على المضارع المسند لذلك الضمير من غير اختلاف في الأحكام ولا في التغيرات؛ فالمضارع والأمر سيان فيما يجري عليما عند الإسناد لضمائر الرفع البارزة، ح سواء أكان آخرهما صحيحا أم معتلا، مؤكدين أم غير مؤكدين، مع ملاحظة الاختلاف بينهما في ناحتين هامتين:
أولاهما: أن الأمر مبني دائما في كل الأساليب؛ سواء أكان مؤكدا أم غير مؤكد.
وثانيهما: أنه لا تلحقه نون الرفع مطلقا. وسيجيء تفصيل الكلام عليه مع المضارع آخر الباب1.
3- أن توكيد فعل الأمر بها جائز في كل أحواله2، بغير قيد ولا شرط، وكذلك المضارع المبدوء بلام الأمر.
أما المضارع المرجد من هذه اللام فلتوكيده أحوال أربعة3، هي: وجوب التوكيد، وامتناعه، واستحسانه، وقلته. وإليك البيان:
الأولى والثانية: يجب توكيده، حين يكون مثبتا، مستقبلا، جواب قسم، مبدوءا باللام4 التي تدخل على جواب القسم، ولا يفصل بينه وبين هذه اللام فاصل؛ نحو: والله لأعملن الخير جهدي -بالله لأجتنبن قول السوء قدر استطاعتي- تالله لنحاربن الشر ما وسعتنا المحاربة5 ... فالأفعال المضارعة: "أعمل، أجتنب، نحارب ... " واجبة التوكيد بالنون، لاستيفهائها الشروط
__________
1 في ص185 و199.
2 فتدخل الحالات التي يخرج فيها عن معنى الأمر الخالص إلى غرض آخر مع بقاء صيغته على حالها؛ كخروجه إلى الدعاء في شعر لأحد الأنصار كان يردده النبي عليه السلام يوم غزوة الخندق، ومنه:
فثبت الأقدام إن لاقينا ... وأنزلن سكينة علينا
3 انظر "ب" من الزيادة والتفصيل ص177.
4 عنه من يرى -كالبصريين- أن هذه اللام لا تعينه للحال -وسيجيء هذا في ص172.
5 أي: مدة اتساع المحاربة لنا، واقتدارنا عليها.(4/171)
كلها، فهي مثبتة، مستقبلة الزمن1، وقبلها قسم وقعت في جوابه، مصدرة بلام الجواب، بغير فاصل بينهما.
فإذا فقد بعض الشروط نشأت صورة جديدة قد يمتنع فيها توكيده، وقد يصح إذا انطبقت عليها أوصاف المنع أو أوصاف الجواز التالية:
فمن الصور التي يمتنع فيها توكيد المضارع بالنون أن يفقد شرط الثبوت في الحالة السالفة فيكون منفيا، إما لفظا: نحو: إن دعيت للشهادة فوالله لا أكتم الحق، وإما تقديرا، نحو: قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ، لأن حذف "لا" النافية كثير في جواب القسم عند أمن اللبس2.
ومن الصور التي يمتنع فيها توكيدا أيضا أن يفقد شرط الاستقبال في تلك الحالة أيضا؛ فيكون زمنه للحال بقرينة تدل على هذا، كقول الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع
__________
1 لأن نون التوكيد تخلص زمن المضارع للمستقبل، ولا علامة أو قرينة هنا تمنع تجرده للاستقبال "كما أوضحنا في ص 168، وفي ج1 ص59 م4".
2 تحذف العرب -أحيانا- "لا" النافية في جواب القسم، مع ملاحظتها وتقديرها في المعنى؛ لأن اللبس عندئذ بين المنفى والموجب مأمون؛ إذ لو كان الجواب غير منفي في المعنى والتقدير لوجب أن يكون المضارع مؤكدا باللام والنون معا، جريا على الأغلب في جواب القسم عند البصريين، وبأحدهما عند -أكثر الكوفيين- ومن أمثلة حذف "لا" النافية في الآية السالفة: "تالله تفتأ تذكر يوسف" أي: لا تفتأ ما جاء في أمالي أبي القاسم الزجاجي -ص50- في بيت ليلى الأخيلية ترثي توبة:
فأقسمت أبكي بعد توبة هالكا ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
أي: لا أبكي ولا أحفل؛ فقد جاء ما نصه: "تريد: لا أبكي ... والعرب تضمر "لا النافية" في جواب القسم مع ملاحظتها في المعنى؛ لأن الفرق بينه وبين الموجب قد وقع بلزوم الموجب اللام والنون: كقولك: والله لأخرجن. قال الله عز وجل: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تفتأ تذكر يوسف". ا. هـ.
وقال الشاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي: لا أبرح ...
وقد ذكرنا ما تقدم بمناسبة أخرى في الجزء الأول عند الكلام على: "فتئ" م42 ص510 وفي الجزء الثاني م90 ص383 بمناسبة الكلام على أحرف القسم وجوابها.(4/172)
وقول الآخر:
يمينا لأبغض كل امرئ ... يزخرف قولا، ولا يفعل
لأن المعنى هنا على الحالية، ولأن لام جواب القسم الداخلة على المضارع تخلص زمنه للحال -عند فريق من النحاة-1 ونون التوكيد تخلصه للمستقبل؛ فيتعارضان.
ومن الصور الممنوعة أيضا أن يكون في تلك الحالة السالفة مفصولا من لازم الجواب، إما بمعموله، وإما بغيره؛ كقد، أو سوف، أو السين ... ؛ نحو: والله لغرضكم تدركون بالسعي الدائب، والعمل الحميد. ومثل: والله لقد تنالون رضا الناس بحسن معاملتهم. ونحو قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} والأصل: والله لسوف ...
الثالثة: أن يكون توكيده هو الكثير المستحسن؛ لكنه -مع كثرته واستحسانه- لا يبلغ درجة الواجب. وأمارته: أن يكون المضارع فعل شرط للأداة: "إن" الشرطية المدغم فيها "ما" الزائدة للتوكيد "أي: إما"، أو: يكون مسبوقا بأداة طلب تفيد الأمر، أو النهي، أو الدعاء؛ أو العرض2، أو التحضيض، أو التمني، أو الاستفهام ...
فمثال المضارع المسبوق "بإما": إما تحذرن من العدو تأمن أذاه، وإما تهملن الحذر تتعرض للخطر. والأصل: إن تحذر ... وإن تهمل ... زيدت "ما" على "إن" الجازمة، وأدغمت فيها، ولا يحسن في النثر ترك هذا
__________
1 غير البصريين -كما أشرنا في رقم 4 من هامش ص171- ومعلوم أن الذي يعين المضارع للحال أمور؛ منها: كلمة: الآن، أو: الساعة ... ، ومنها: النفي بليس، ومنها: لام الابتداء ... ، إلى غير هذا مما سردناه في موضعه الأنسب "ج1 ص36 م4" فمن يريد الدلالة على الحال بغير لام القسم في مثل البيتين السالفين فله وسائل؛ منها: أن يقول في النثر: ليعلم الآن. ويمينا لأبغض الساعة.
2 العرض: طلب فيه لين ورفق "ويظهران في اختيار الكلمات الرقيقة، وفي نبرات الصوت" والتخصيص: طلب فيه عنف وشدة "ويظهران في اختيار الكلمات الجزلة، والضخمة، وفي النبرات القوية العنيفة". والأداة الغالبة في العرض هي: "ألا" المخففة. وقد تستعمل قليلا للتحضيض. وأدواته الغالبة هي: لولا، لوما، هلا، ألا، وسيجيء الكلام على هذه الأدوات في بابها الخاص -ص512.(4/173)
التوكيد بعد: "إما"، لكنه يصح في الشعر للضرورة، كقول القائل:
يا صاح، إما تجدني غير ذي جدة1 فما التخلي عن الإخوان من شيمي
ومثال المسبوق بأداة تفيد الأمر: لتحذرن مديح نفسك، ولتدعن الثناء عليها، وإلا كنت هدفا للسخرية والمهانة.
ومثال المسبوق بالنهي قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} ، وقول الشاعر:
لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يتوج ربه بخلاف2
وقول الآخر:
ولا تطمعن من حاسد في مودة ... وإن كنت تبديها له وتنيل
ومثال المسبوق بالدعاء قول القائل:
لا يبعدن3 قومي الذين همو ... سم العداة وآفة الجزر.........
وبالعرض قولهم: ألا تنسين إساءة من أعتبك4.
وبالتخصيص قول الشاعر:
هلا تمنن بوعد غير مخلفة ... كما عهدتك في أيام ذي سلم
وبالتمني قول الشاعر:
فليتك يوم الملتقى ترينني ... لكي تعلمي أني امرؤ بك هائم
وبالاستفهام قول الشاعر:
أتهجرن خليلا صان عهدكمو ... وأخلص الود في سر وإعلان؟
الرابعة: أن يكون توكيده قليلا5، وهو -قلته- جائز فصيح، لكنه
__________
1 مال وغنى.
2 بنصيب من الخير والصلاح. وكذلك قول الشاعر:
لا يخدعنك من عدو دمعه ... وارحم شبابك من عدو ترحم
3 لا يبعدن؛ أي: لا يهلكن "الفعل: بعد يبعد، بمعنى: هلك يهلك". دعاء لقومه ألا يصيبهم الهلاك. ويصفهم بأنهم سم لأعدائهم، آفة لجزرهم "جمع: جزور. والجزور مؤنثة في لفظها. ومعناها الغالب: الناقة، وقد يراد منها الجمل" وإنما كانوا آفة لها لكثرة ذبحهم إياها لأنفسهم، وللضيوف وهذا كناية عن الكرم.
4 أزال سبب عتابك.
5 قلة نسبة "أي: بالنسبة لنوعي التوكيد السالفين -وانظر "ا"، ص177.(4/174)
لا يرقى في قوته مرقى النوعين السالفين. وعلامته: أن يكون بعد "لا" النافية كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1، أو بعد: "ما" الزائدة التي لم تدغم في "إن" الشرطية؛ كقولهم في المثل: بعين ما رأينك2، وقول الشاعر في المال:
قليلا به3، ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما
ويدخل في هذا "ما" الزائدة بعد "رب"؛ نحو: ربما يقبلن الخير وراء المكروه4، أو بعد: "لم"5 كقول الشاعر:
من جحد الفضل ولم يذكرن ... بالحمد مسديه فقد أجرما
أو بعد أداة شرط غير "إن" المدغمة في: "ما" الزائدة، كقول الشاعر:
من تثققن6 منهم فليس بآيب ... أبدا، وقتل بني قتيبة شافي
4- عدم تقديم معمول فعلها على هذا الفعل7 إلا إن كان المعمول شبه
__________
1 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُْ لَا يَشْعُرُونَ} .
2 هذا مثل قديم تقوله لمن يخفي عنك أمرا أنت به بصير، تريد: إني أراك بعين بصيرة. "فا" زائدة. وجاء في الأساس ما معناه: أنك تقول هذا لمن أرسلته واستعجلته؛ فكأنك تقول له: لا تلو على شيء فإني أنظر إليك، أي: لا تقف، ولا تنتظر. وفي هذا المثل تأييد للحكم بصحة تقديم شبه الجملة على متعلقه الفعل المؤكد بالنون -كما سيجيء في الحكم الرابع.
3 الضمير عائد على المال في بيت قبله هو:
أهن للذي تهوى التلاد؛ فإنه ... إذا مت كان المال نهبا مقسما
و"قليلا" نعت لمصدر محذوف، والتقدير: حمدا قليلا يحمدنك وارث.. وفي البيت شاهد آخر يحكم عليه بالضعف هو تقديم كلمة "قليلا" النعت مع منعوته المحذوف، مع أنهما معمولان للمضارع المؤكد بالنون وليسا شبه جملة -إذ شبه الجملة هو الذي قد يباح تقديمه- كما في رقم2 من هذا الهامش، وكما سيجيء في الحكم الرابع.
4 منع بعض النحاة التوكيد بالنون بعد: "ربما" بحجة أنها لا تدخل على الزمن المستقبل أو ما هو في حكمه. ويرى سيبويه صحة هذا التوكيد، بحجة وروده في المأثور.
وقد يكون الأفضل الأخذ بالرأي الأول ليكون حكم "رب" مطردا.
5 انظر "ا" من الزيادة والتفصيل، ص177، حيث الرأي المعارض، ولعله أنسب.
6 تصادف وتقابل.
7 لأن فعلها لا يعمل فيما قبله؛ وهو لذلك لا يفسر عاملا محذوفا قبله. أما تعلق شبه الجملة، إذا كان متقدما على هذا الفعل فالشائع أنه لا يجوز، وهناك رأي آخر يجيزه -طبقا للبيان الذي سبق "في رقم 2 و3 من الهامش السابق وكما في هامش ص100 طبعة3 ج2 م67- باب النائب عن الفاعل" واعتمادا على بعض الشواهد التي تؤيده، ومنها ما تقدم.(4/175)
التقديم -في الرأي الأرجح؛ ففي مثل: اسمعن النصح ... لا يصح أن يقال: النصح اسمعن. بخلاف لا تثقن بمنافق، واحذرنه عند تقلب الأيام، فيصح أن يقال: بمنافق لا تثقن، وعند تقلب الأيام احذرنه1.
5- وقوع تغيرات أخرى تلحق المضارع صحيح الآخر ومعلته، وكذا الأمر، عند إسنادهما لضمائر الرفع البارزة؛ فقد يحذف حرف العلة عند الإسناد أو يقلب. وقد يحذف الضمير إذا كان واو جماعة، أو ياء مخاطبة، وقد يتحرك بحركة مناسبة له من غير أن يحذف. وقد تحذف نون الرفع، أو تدعم بغير حذف ... إلى غير هذا من التغيرات المختلفة المترتبة على التوكيد، والتي سنذكرها آخرها الباب2 تفصيلا -كما قلنا.
__________
1 لهذا صلة بما سبق في رقم 2 و3 من هامش الصفحة السالفة.
2 ص105 وفيما سبق يقول ابن مالك في باب عنوانه: "نونا التوكيد".
"وسنضع جهة اليسار رقما لكل بيت كما ورد في ترتيب بابه بالألفية؛ لأننا لم نلتزم في عرض مسائل هذا الباب ترتيبها في أبيات الناظم".
للفعل توكيد بنونين؛ هما ... كنوني: اذهبن، واقصدنهما-1
يريد بالمثال الأول: نون التوكيد المشددة، وبالثاني: المخففة. ثم قال:
يؤكدان "افعل، ويفعل" آتيا ... ذا طلب، أو شرطا إما تاليا-2
المراد من "افعل" هو: الأمر. ومن "يفعل" "آتيا، المضارع الآتي، أي: الذي زمنه مستقبل، حالة كونه ذا طلب، أو: كونه شرطا تاليا إما. "ففي الجملة تقديم وتأخير":
أو: مثبتا في قسم مستقبلا ... وقل بعده، "ما" و"لم" وبعد: "لا"-3
وغير "إما" من طوالب الجزا ... وآخر المؤكد افتح؛ كابرزا-4
يريد: أن توكيد المضارع قليل بعد: "ما" و"لم" و"لا" وبعد غير "إن" الشرطية المدغمة في "ما"، من باقي طوالب الجزاء، أي: باقي الأدوات الشرطية التي تطلب جزاء.
ويفهم من كلامه السالف أن توكيد المضارع كثير في غير هذه المواضع التي سردها. ومن الكثير ما ذكره أولا مجملا. ثم قال: إن آخر الفعل المؤكد يبنى على الفتح؛ "كابرزا" وأصله: "ابرزن" بنون التوكيد الخفيفة المنقلبة ألفا لأجل الوقف. وسرد بعد هذا أبياتا أربعة في أنواع من التغييرات التي تصيب الفعل عند إسناده لضمائر الرفع البارزة، وسنعود إليها عند الكلام على هذه التغييرات، ثم بين الأحكام التي تختص بها "الخفيفة"، وعرضها في خمسة أبيات ختم بها الباب وسنذكرها فيما يلي -ص 179 وما يليها.(4/176)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يرى بعض النحاة -ورأيه سديد- أن توكيد المضارع المنفي بالحرف: "لم" قليل، قلة ذاتية تدخله في حكم النادر الذي لا يصح القياس عليه، وليست قلة نسبية؛ "أي: ليست قلة بالنسبة لغيره، حيث يشترك القليل والكثير معا في الكثرة التي تبيح القياس عليهما، ويمتاز الكثير بزيادة الدرجة فيها". وحجته: أن "لم" حرف يقلب زمن المضارع للمضي، ونون التوكيد حرف يخلص زمنه للمستقبل، فيتعارضان. وهذا رأي يحسن الاقتصار عليه.
ب- جرى بعض النحاة على تقسيم حالات المضارع -من ناحية توكيده بالنون- خمسة أقسام، غير الحالة التي يمتنع فيها توكيده.
الأولى: وجوب توكيده ... وهي الحالة التي أوضحناها.
والثانية: أن يكون توكيده قريبا من الواجب، وذلك حين يكون مسبوقا "بإن" الشرطية المدغم فيها: "ما" الزائدة.
والثالثة: أن يكون توكيده كثيرا؛ وذلك إذا وقع بعد أداة طلب: "أمر، نهي، دعاء، عرض، حض، تمن، استفهام".
والرابعة: أن يكون توكيده قليلا، وذلك بعد: "لا" النافية، أو "ما" الزائدة غير المسبوقة بإن الشرطية.
والخامسة: أن يكون توكيده أقل، وذلك بعد: "لم" الجازمة، أو أداة شرط أخرى.
وذكروا لهذا التقسيم تعليلات مصنوعة لا يعرفها العرب، ولم تخطر ببالهم، والتعليل الحق في التقسيم يجب أن يقتصر على كثرة الاستعمال وقلته بين العرب.(4/177)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فما الحاجة إلى هذا التقسيم الخماسي والسداسي ... ، مع أن القسم الثاني والثالث لا يختلفان في الأثر؟ فحكمها واحد؛ هو: شدة الحاجة معهما إلى التوكيد، وإن كانت هذه الحاجة لا تبلغ مرتبة الوجوب؛ إذ لا أهمية لزيادة أحدهما على الآخر في درجة الكثرة والنوع؛ لأنهما -معا- مشتركان عند العرب في الكثرة التي تفيد شدة الحاجة للتوكيد، وتجعل استعماله قياسيا قويا، وما يزيد على هذا القدر المشترك يصير زيادة في الدرجة البلاغية؛ لا في صحة الاستعمال وقوته، وهذه الزيادة متروكة لتقدير المتكلمين في العصور المختلفة -بعد عصور الاحتجاج- ولرغبتهم في محاكاة هذا أو ذاك على حسب مقتضيات الأحوال. فهي متنقلة بينهما؛ فإن لم تتجه الرغبة إلى محاكاة الزائد -لغرض بلاغي، وشاع الاستعمال الأدبي على إهمالها، اكتسبها الآخر وصار هو الشائع، وانتقل إليه درجة الزيادة، ولا عيب في هذا؛ فكلاهما كثير، لكنه قد يحتفظ لنفسه دون الآخر بمرتبة الزيادة في الاستعمال زمنا مؤقتا، ينتقل بعده إلى نظيره.
ومثل هذا يقال في القليل والأقل. فما الحاجة إلى تفريقهما، وعدم إدماجهما في قسم واحد ما دامت قلتهما ليست مانعة من القياس عليهما؛ لأنها قلة نسبية عددية "أي: على حسب نسبة أحدهما للآخر". ليست قلة ذاتية تمنع القياس.(4/178)
الأحكام التي تختص بها نون التوكيد الخفيفة دون الثقيلة:
تنفرد المخففة بأمور أربعة:
الأول: عدم وقوعها -في الرأي الأرجح- بعد ألف اثنين، أو غيرها من أنواع1 الألف؛ نحو: "أيها الشابان، عاملان زملاءكما بكريم المعاملة، واجتنبان كثرة العتاب؛ فإنه يفضي إلى القطعية". فتتعين المشددة هنا مع بنائها على الكسر، ولا يصح مجيء الخفيفة؛ لأن المنع هو الأعم الأغلب في الكلام المأثور.
ويجيز بعض النحاة مجيء الخفيفة ساكنة، أو متحركة بالكسر؛ متابعة لبعض العرب، والأنسب الاقتصار على الأغلب؛ منعا للتشعيب، وابتعادا عما فيه من إلباس وخفاء2 ...
الثاني: عدم وقوعها -في الرأي الأحسن- بعد نون النسوة مباشرة. فإذا كان الفعل المضارع أو الأمر مسندا لنون النسوة وأريد توكيده بالنون، وجب -في هذا الرأي الأعلى- أن تكون نون التوكيد مشددة، مبنية على الكسر، ووجب أن يفصل بينهما وبين نون النسوة ألف زائدة، لا مهمة لها إلا الفصل بينهما؛ نحو: "أيتها السيدات: لا تقصرنان في واجبكن القومي، وفي مقدمته حسن تربية الأولاد، والإشراف على شئون البيت، واعلمنان ما في تقصيركن من ضرر شامل، وإساءة عامة". فلا يصح مجيء الخفيفة هنا -في الرأي الأحسن الذي يحتم الاقتصار على المشددة المكسورة، بعد الألف الفاصلة؛ كهذا المثال، وبعد ألف الاثنين؛ كالمثال السابق في القسم الأول، وبعد غيرهما من كل أنواع الألف3:
__________
1 كالألف الفاصلة التي في النوع التالي.
2 في هذا الأمر يقول ابن مالك:
ولم تقع خفيفة بعد الألف ... لكن شديدة، وكسرها ألف-10
3 وفيه ابتعاد أيضا عن اللبس، وعن صور خيالية تنشأ عند الوقف. ومن هذه الصور الخيالية المتعددة قلب نون التوكيد الخفيفة ألفا عند الوقف بعد ألف الاثنين، أو الألف الفاصلة بين النونين -في رأي من يجيز وقومها بعدهما- في مثل يا لاعبان دحرجان كرتكما، يا لاعبات دحرجنان كرتكن؛ فتصير: دحرجا1 - ودحرجنا1. ثم تقلب الألف الثانية همزة؛ فيقال فيهما: دحرجاه، ودحرجناه؛ لوقوع الألف الثانية متطرفة بعد الألف؛ فتقلب الأخيرة همزة -تطبيقا للقواعد الصرفية في كل ذلك.(4/179)
وفي الاكتفاء بهذا الرأي، ابتعاد عن اللبس والخفاء1.
الثالث: وجوب حذفها -في الرأي الشائع- لفظا لا خطا إذا وليها، مباشرة، ساكن، ولم يوقف عليها. وسبب حذفها الفرار من أن يتلاقى ساكنان في غير الموضع الذي يصح فيه تلاقيهما2؛ نحو: لا تتعودن الحلف، ولا تصدقن الحلاف، فتحذف النون الخفيفة عند النطق، وتبقى الفتحة التي قبلها دليلا عليها؛ فلا يلتبس الأمر على السامع؛ إذ لا مسوغ لوجود الفتحة في هذا الباب إلا وجود نون التوكيد، مذكورة أو محذوفة. ومنه قول الشاعر:
__________
1 وفي الأمر الثاني الذي تنفرد به الخفيفة يقول ابن مالك:
وألفا زد قبلها مؤكدا ... فعلا إلى نون الإناث أسندا-11
أي: زد قبلها مباشرة ألفا حين يكون الفعل المؤكد مسندا إلى نون النسوة.
2 يصح تلاقي الساكنين عند الوقف، وعند قصد النطق ببعض ألفاظ التهجي وذكر أسمائها؛ نحو: كاف - جيم - لام، وفي غير هذين لا يصح تلاقي الساكنين إلا إذا تحققت شروط ثلاثة، فمتى تحققت جاز الالتقاء، ووصف بأنه "على حده" أي: على النمط المشروع المحدد لصحة التلاقي.
"أولها: أن يكون الساكن الأول حرف لين "أي: حرف علة ساكنا" "ثانيها": أن يكون بعده حرف صحيح ساكن، مدغم في مثله. ثالثها": أن يكون التلاقي في كلمة واحدة.
ومن الأمثلة للألف: "شابة، عامة، ضالون، صادون" وللواو: تمود الثوب "الأصل: ماددت البائع الثوب -أي: مد كل منا الثوب؛ فتماد الثوب، وهذه التاء هي تاء المطاوعة. فإذا بني الفعل "تماد" للمجهول صار: تمود". وللياء: خويصة؛ تصغير: "خاصة"، و"أصيم" تصغير "أصم".
وبناء على الشرط الثالث لا يكون التقاء للساكنين مع نون التوكيد الخفيفة جاريا على حده، وبالرغم من هذا يحذف أول الساكنين كما سنعرف.
ويرى بعض النحاة -ورأيه أحسن: أن التلاقي المباح ليس مقصورا على كلمة واحدة، فقد يكون فيها وفيما يشبه الكلمة الواحدة أيضا، كالكلمات التي يتصل بآخرها فاعلها الذي هو واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، أو ألف الاثنين، وبعد كل ضمير من هذه الضمائر نون التوكيد "انظر ما يتصل بهذا ويوضحه في ج1 ص33 م4 وص97 م7 ولا سيما رأي الصبان الذي قال إن الصحيح عدم اشتراط التلاقي في كلمة واحدة ... " وكما يتضح في هذا الباب.
وللمجمع اللغوي القاهري قرار يتصل بهذا -سجله في ص59 من كتابه المسمى: "مجموعة القرارات العلمية، من الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين" تحت عنوان: إباحة المد عند التقاء الساكنين، أو زيادة موضع لاغتفار التقاء الساكنين -ونص القرار:
"لا حرج على من يدفع اللبس بمد عند التقاء الساكنين في مثل قولهم: اجتمع منوبو العراق بمندونبي الأردن ... ". ا. هـ.(4/180)
ولا تهين1 الفقير؛ علك أن ... تركع يوما، والدهر قد رفعه
فالمضارع مجزوم بلا الناهية، فلا مسوغ لوجود الفتحة على النون، وبقاء الياء قبلها إلا ملاحظة نون التوكيد الخفيفة المحذوفة.
ولا داعي في هذه الصورة لحذفها كتابة -في غير الضرورة- كما يرى بعض النحاة، وحجته الاكتفاء بوجود الفتحة الدالة عليها لأن هذا الحذف الخطي قد يوقع في لبس أو احتمال، يحسن الفرار منهما.
وأفضل من كل ما سبق تحريكها بالكسر إذا وليها ساكن. وهذا رأي فريق آخر من النجاة، وحجته: أن الأصل في التخلص من التقاء الساكنين هو الكسر2، وأن الكسر هنا أخف وأبعد من اللبس؛ فوق أنه مسموع في بعض
__________
1 البيت من بحر المنسرح -كما قال الصبان، والخضري، وليس من الخفيف- وهو للأضبط بن قريع الجاهلية، فهو ممن يحتج بكلامهم. وقد حذفت فيه نون التوكيد.
2 قال شارح المفصل "ج9 ص127" ما نصه: "اعلم أن الأصل في كل ساكنين التقيا أن يحرك الأول منهما بالكسر؛ نحو: بغت وقامت الجارية، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا لعلة ... ".
ولم يذكر هو ولا غيره من المتمسكين بحذفها تعليلا مقبولا لحذف نون التوكيد التي يليها ساكن، ولا لخروجها على الأصل العام. بل إن حذفها قد يؤدي إلى لبس محقق في حالات متعددة؛ منها: المضارع المؤكد بالنون، المعطوف على مضارع آخر كذلك، مسبوق بلا الناهية، مثل: لا تهملن وتلعب الساعة. فما نوع الفتحة التي على المضارع "تلعب"؟ أهي فتحة بناء بسبب نون التوكيد المحذوفة، والواو للعطف المجرد الذي لا أثر له في المعية، ولا في البناء أيضا -من باب أولى، لما هو معروف من أن العطف على المبني لا يجلب البناء للمعطوف مطلقا- أم هي فتحة إعراب، والواو للعطف والمعية معا؟ لا قرينة تمنع أحد الاحتمالين بالرغم من اختلاف المعنى اختلافا واسعا بينهما.
حالة أخرى: هي الفعل المضارع المعتل الآخر بالألف إذا أريد توكيده بالنون الخفيفة مع جزمه بلا الناهية، في مثل: "لا تخشين الأذى في سبيل الحق ... " فلو حذفنا النون لالتقاء الساكنين وتركنا الفتحة قبلها دليلا عليها، لصار الكلام: لا تخشى الأذى في سبيل الحق. وترك هذه الياء -المتطرفة، المتحركة، التي قبلها فتحة، -من غير قبلها ألفا، مخالف للضوابط اللغوية الأساسية. كما أن قلبها ألفا، عملا بتلك الضوابط يؤدي إلى أن نقول: لا تخشى الأذى "بألف مكتوبة ياء" فنقع في محذور؛ هو تلاقي الساكنين الذي يقتضينا أن نتخلص منه بحذف ألف العلة من آخر الفعل، وهذا الحذف يؤدي إلى لبس لا دليل معه على أن الفعل مؤكد في أصله. وعدم التخلص يؤدي أيضا إلى لبس؛ هو: اعتبار "لا" نافية، وليست ناهية.
لما سبق -وغيره- كان "ياسين" في حاشيته على التصريح محقا حين قال ما نصه على التقاء نون =(4/181)
أمثلة قليلة؛ لكنها على قلتها مسايرة للأصل العام السالف.
وهذا الراي -على قلة أنصاره- أفضل كما قلنا، لبعده عن شائبة اللبس والغموض، وخلوه من التفريق بين حالتي النطق والكتابة. فإن وجد من يعارض في أنه الأفضل فلا أقل أن يكون في منزلة الرأي الشائع الذي يوجب الحذف.
أما عند الوقف عليها فلها حكم خاص يذكر في الأمر الرابع التالي:
الرابع: وجوب قلبها ألفا عند الوقف عليها، بشرط أن تكون النون الخفيفة بعد فتحة؛ ففي مثل: احذرن قول السوء، وتعودن حبس اللسان عن منكر القول نقول عند الوقف على الفعلين المؤكدين: احذرا - تعودا ... والقرائن كفيلة بأن تدل على نوع هذه الألف. وأن أصلها نون التوكيد الخفيفة ...
فإن لم تكن النون الخفيفة بعد فتحة، بأن كانت بعد ضمة، أو كثرة وجب أمران: حذف النون، نطقا لا كتابة، وإرجاع ما حذف من آخر الفعل بسبب وجودها عند وصل الكلام وعدم الوقف. ففي مثل: "أيها الفتيان، لا تهابن مقابلة الشدائد، ولا تخافن ملاقاة الصعاب في سبيل إدراك الغايات النبيلة. وفي مثل: يا فتاتي: لا تحجمن عن احتمال العناء في شريف المقاصد، وسني1 الأغراض" ... نقول عند الوقوف على الأفعال المؤكدة مع أمن اللبس: لا تهابوا - لا تخافوا ... - لا تحجمي ... ، بحذف نون التوكيد الخفيفة. وإرجاع واو الجماعة وياء المخاطبة اللتين حذفتا نطقا فقط عند وجود النون الخفيفة للتخلص من التقاء الساكنين. أما عند حذفها فلا التقاء لساكنين فلا يحذف الضمير، ويعود إن كان محذوفا نطقا بسبب وجودها.
__________
= التوكيد الخفيفة بساكن في الصورة السالفة: "هلا حركت وأبقيت كغيرها من الحروف إذا كانت ساكنة، ولقيت ساكنا؟. قلت: أشار السعد في شرح التصريف إلى أن السبب أن تحريكها خلاف وضعها من السكون. وأقول: فحينئذ ما الفرق بينها وبين غيرها مما وضع ساكنا؛ كمن، وعن؟ فتأمل". ا. هـ. فموضوع سؤاله صحيح دقيق لمسايرته للأصل العام في التقاء الساكنين، والإجابة عنه جدلية محضة. وكان حقها أن تؤيد بالسماع الذي له القول الفصل؛ ولهذا جاءت واهية متداعية، وقد دفعها بسؤال آخر هدمها وأبادها.
1 شريف.(4/182)
ومن الأمرين الثالث والرابع يتبين أنها تحذف وجوبا في حالتين:
الأولى: حذفها في النطق دون الكتابة إن وقع بعدها ساكن، ولم يوقف عليها، وهذا الرأي هو الشائع، كان غير الأنسب اليوم.
والأخرى: حذفها في النطق دون الكتابة إن وقف عليها بعد ضم أو كسر. مع إرجاع ما حذف لأجل وجودها عند عدم الوقف.
وكل ما سبق جار على أشهر الآراء المستنبطة من أكثر اللغات شيوعا، وقد أهملنا الآراء الضعيفة المتعددة التي لا خير في نقلها، وليس من ورائها اليوم إلا البلبلة والاضطراب1 ...
__________
1 وفي الأمرين الثالث والرابع يقول ابن مالك:
واحذر خفيفة لساكن ردف ... وبعد غير فتحة إذا تقف-12
أي: احذف نون التوكيد الخفيفة إذا ردفها "وليها وجاء بعدها" ساكن. وكذلك إذا وقعت عند الوقوف عليها، بعد غير الفتحة. وغير الفتحة هو الكسرة والضمة. ثم قال:
واردد إذا حذفتها في الوقف ما ... من أجلها في الوصل كان عدما-13
يريد: إذا وقفت عليها وجب أن ترجع إلى الفعل ما عدم منه "أي: حذف منه" في وصل الكلام بسببها، وعند وجودها. وختم الباب بقوله:
وأبدلنها بعد فتح ألفا ... وقفًا؛ كما تقول في قفن: قفا-14
أي: أن نون التوكيد إذا وقف عليها بعد حرف مفتوح وجب قلبها ألفا. وساق لهذا مثلا؛ وهو: "قفن" حيث وقعت النون بعد الفاء المفتوحة. فعند الوقف يقال: قفا.(4/183)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ارتضى بعض النحاة تسمية الأمور الأربعة السالفة: "خصائص تمتاز بها نون التوكيد الخفيفة"، أو: "أمور تنفرد بها". ولا مانع من هذا على اعتبار تلك الخصائص أو الأمور أحكاما بعضها عدمي "أي: سلبي" كالأول والثاني، وبعضها حذف -طبقا للشائع- كالثالث، أو: قلب؛ كالرابع في بعض حالاته.
ولا مانع في الوقت نفسه من اعتبار تلك الأمور الأربعة خصائص تمتاز بها التوكيد الشديدة دون الخفيفة، ولكن على أساس آخر: هو أنها أمور إيجابية؛ لا عدم فيها ولا تغيير. فالأول: وقوعها بعد ألف الاثنين، والثاني: وقوعها بعد الألف الفاصلة، والثالث: بقاؤها إذا وليها ساكن. والرابع: بقاؤها على حالها من غير حذف أو قلب عند الوقف ...(4/184)
المسألة 144: إسناد المضارع والأمر إلى ضمائر الرفع البارزة بغير توكيدها، ومع التوكيد
...
المسألة 144: إسناد المضارع والأمر إلى ضمائر للرفع البارزة بغير توكيدهما، ومع التوكيد
الكلام على المضارع 1:
عرفنا2 أن المضارع معرف في كل أحواله، إلا إذا اتصل بآخره نون النسوة؛ فيبنى على السكون3، كالأمثلة السالفة، أو اتصل بآخره نون التوكيد اتصالا مباشرا؛ فيبنى على الفتح، سواء أكان صحيح الآخر؛ نحو: أتأمران بالمعروف، وأنت لا تأتمرن به؟ أم معتل الآخر مطلقا؛ "أي: بالألف، أو الواو، أو الياء" كقول ناصح لأخيه: لا تنهين عن الأذى، وأنت تمارسه، ولا ترجون من لئيم خيرا وإن تودد إليك، ولا تفترين حديثا، ولو توهمت أن الناس به مصدقون. ومن هذا قول القائل:
فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع
فالأفعال المضارعة: "تأمر، تأتمر، تنهى، ترجو، تفتري، تبكي ... " مبنية على الفتح لاتصالها، مباشرة، بنون التوكيد.
ومما تجب ملاحظته أن حرف العلة: "الألف" لا بد أن ينقلب ياء مفتوحة للبناء قبل: "نون التوكيد" كما في الفعل: "تنهى" في المثال السالف وأشباهه، أما "واو" العلة و"ياؤها" فيبقيان على صورتهما مع تحريكهما بفتحة البناء؛ لأجل نون التوكيد.
ولا يصح حذف حرف علة من تلك الثلاثة لأجل الجازم إن كان المضارع مسبوقا بجازم -كما في الأمثلة المتقدمة؛ لأن مراعاة نون التوكيد أهم وأولى في تلك الصور؛ فالمضارع فيها مبني على الفتح لفظا، ولكنه في محل جزم.
فإن لم يكن اتصال هذه النون بآخر المضارع اتصالا مباشرا لم يصح بناؤه
__________
1 الكلام على الأمر في ص199.
2 في ص169. "والتفصيل في ج1، باب المعرب والمبني".
3 وفي كل الصور والحالات لا يكون اتصالها به إلا مباشرا -كما في رقم 1 من هامش ص169 و1809.(4/185)
على الفتح، وذلك حين يفصل بينهما ضمير رفع بارز؛ "ألف اثنين، أو واو جماعة، أو ياء مخاطبة، أو نون نسوة" فإن أريد توكيده مع وجود فاصل من هذه الضمائر البارزة جاز، ولكن من غير بناء على الفتح. ويترتب على هذا التوكيد عند وجود الضمير الفاصل وقوع تغييرات حتمية تختلف باختلاف آخر المضارع؛ أهو صحيح الآخر أم معتله؟ وفيما يلي بيان هذه التغييرات الحتمية1:
أ- إسناد المضارع الصحيح الآخر إلى ضمائر الرفع البارزة بغير توكيد، وبتوكيد:
1- إذا كان المضارع صحيح الآخر؛ مثلك "تفهم"، وأردنا إسناده لألف الاثنين من غير توكيد -قلنا: أنتما تفهمان. والإعراب: "تفهمان"، مضارع مرفوع بثبوت النون، والألف فاعل. فهو معرب حتما.
أما عند التوكيد، وقبل إحداث التغيير فنقول: "أأنتما تفهمانن؟ بنون التوكيد الثقيلة المفتوحة، ولا يصح -في الأرجح- مجيء الخفيفة بعد المضارع المشتمل على ألف الاثنين2. والمضارع هنا معرب أيضا: لوجود الضمير: "ألف الاثنين" فاصلا بينه وبين نون التوكيد المشددة. غير أنه اجتمع في آخر اللفظ ثلاثة3 أحرف
__________
1 سنذكرها بتفصيل وإسهاب وجلاء؛ لدقتها وخفائها على كثير، مع شدة الحاجة إليها في غالب الأساليب الهامة. هذا إلى أن فهما واستيعاب صورها يساعد أيما مساعدة على فهم أحوال فعل الأمر عند إسناده لهذه الضمائر؛ مؤكدا وغير مؤكد.
وبهذه المناسبة نذكر ما يردده بعض المتسرعين بشأن الحذف. والتقدير، والتعليل في هذا الباب، من أنه خيالي محض؛ لا يعرف عنه العرب الأوائل شيئا. وهذا صحيح. ولكن أكثره خيال بارع نافع هنا. وحذف وتقدير يوصلان -غالبا- في هذا لباب إلى ضبط ما لا يمكن ضبطه بغيرهما، وتيسير ما يصعب، بل ما قد يستحيل إدراكه بدونهما. فمن الجحود إنكار فضل مبتكر به في هذه المسائل -وأشباهها- بغير روية ولا إنصاف. ومن غير السائغ إصدار حكم عام واحد على أمرين مختلفين كل الاختلاف؛ فأحدهما نافع بغير ضرر، والآخر لا نفع فيه، بل قد يكمن فيه الضرر بغير روية وإنصاف.
2 نون التوكيد الخفيفة لا تقع -في الأرجح- بعد ألف الاثنين مطلقا، وإنما تقع الشديدة -كما سبق في ص179.
3 أولاها: نون الرفع، والثانيتان: نون التوكيد المشددة؛ "والحرف المشدد يعتبر حرفين". فوجب حذف أحد الثلاثة؛ فحذفت نون الرفع للاستغناء عنها، ولوجود القرينة التي تدل عليها. والنونات الثلاثة زوائد. فإن كانت إحداهما أصلية وجب بقاء الأصلية، كقوله تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} . وقد سبق في ج1 م6 ص88 عند الكلام على إعراب المضارع أن توالي الأمثال الممنوع يتحقق حين تكون الأحرف الثلاثة المتماثلة زوائد فليس منه: "القائلات جنن، أو: يجنن" لأن الزائد هو المثل الأخير من الزوائد. وليس منه الفعل ومشتقاته في مثل: أنا أحييك: أو أنا محييك.. "راجع الصبان هنا وفي الموضع السالف، وشرح الرضي على الكافية ج2 ص186.(4/186)
زوائد، متماثلة، متوالية. وهذا لا يقع -غالبا- في لغتنا إلا سماعا. فوجب حذف "نون الرفع" لوجود قرينة تدل عليها؛ "هي: "أن: المضارع من الأفعال الخمسة، ولم يسبقه ناصب أو جازم؛ فوجب أن يكون مرفوعا بثبوت النون. فإن لم تكن مذكورة، فلا بد أن تكون محذوفة لعلة والمحذوف لعلة كالثابت". ولا يصح هنا حذف نون التوكيد الثقيلة، أو تخفيفها؛ لأن الحذف أو التخفيف ينافي الغرض البلاغي من الإتيان بها، ومن تشديدها1. فصار الكلام بعد الحذف: تفهمان، ثم كسرت نون التوكيد المشددة، مراعاة للمأثور عن العرب في هذا الموضع؛ حيث يلزمونها التشديد والبناء على الكسر.
وعند الإعراب يقال في "تفهما"، فعل مضارع مرفوع بالنون المحذوفة لتوالي النونات "وألف" ضمير فاعل، و"نون التوكيد" المشددة حرف مبني على الكسر، لا محل له من الإعراب. وإن شئت قلت: "تفهما": فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، وحذف لتوالي النونات، والألف ضمير: فاعل، والنون المذكورة حرف للتوكيد ...
فالصورة النهائية بعد إجراء التغيرات السالفة هي: "أتفهمان"، بتشديد نون التوكيد وجوبا بعد ألف الاثنين، وحذف نون الرفع. ولا مانع هنا من التقاء "ألف الاثنين" ساكنة مع النون الأولى الساكنة من نون التوكيد المشددة؛ لأن التقاء الساكنين هنا جائز كما أوضحنا من قبل2.
2- ونقول عند إسناده لواو الجماعة من غير توكيد: أأنتم تفهمون؟ "فالمضارع مرفوع بثبوت النون؛ واوا وضمير فاعل". ونقول عند توكيده بالنون المشددة وقبل التغيرات: أأنتم تفهمونن؟ بثلاث نونات، تحذف نون الرفع -لتوالي ثلاثة أحرف في الآخر، وهي زوائد، ومن نوع واحد- فيصير الكلام:
__________
1 وطبقا لما جرى عليه أكثر العرب. والخفيفة لا تقع هنا -كما سبق.
2 وفي رقم 2 من هامش ص180.(4/187)
"تفهمون" فيلتقي ساكنان هما: واو الجماعة، والنون الأولى الساكنة من النون المشددة المفتوحة الآخر، فتحذف واو الجامعة -في الأغلب-1 لوجود الضمة قبلها تدل عليها عند حذفها، ولعدم الاستغناء عن تشديد نون التوكيد؛ لأنها جاءت مشددة، لغرض بلاغي يقتضيه المعنى؛ فيصير الكلام: أأنتم تفهمن؟ وعند الأعراب نقول بعد الحذف: "تفهم" الحالية أصلها "تفهمون" فهي مضارع مرفوع بالنون المحذوفة؛ لتوالي الأمثال ... ، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين، ضمير، فاعل، ونون التوكيد المشددة حرف، مبني على الفتح، لا محل له من الإعراب. ولا تتغير الفتحة على آخره.
"ملاحظة": ليس من اللازم لحذف واو الجماعة في هذه الصورة وأمثالها مما يسند فيها المضارع الصحيح الآخر لواو الجماعة، أن تكون نون التوكيد مشددة، فمن الجائز أن تكون مخففة. ومع تخفيفها تحذف لأجلها نون الرفع وجوبا كما تحذف مع المشددة، ويترتب على هذا الحذف أن يتلاقى الساكنان السالفان؛ وهما: واو الجماعة ونون التوكيد المخففة؛ فتحذف واو الجماعة هنا، كما حذفت هناك.
أما سبب حلاف نون الرفع إذا كانت نون التوكيد مخففة فهو إتباع العرب في المأثور عنهم، ومحاكاتهم في حذفها؛ بالرغم من عدم اجتماع ثلاث نونات في هذه الصورة، يقول النحاة: إن نون الرفع تحذف من الفعل المسند لواو الجماعة، وياء المخاطبة، إذا أكد بالنون المشددة أو المخففة، فتحذف مع المشددة؛ منعا لتوالي ثلاثة أحرف زائدة، متماثلة في آخر اللفظ، وتحذف مع المخففة أيضا؛ طلبا للتخفيف، ومجاراة للحذف مع المشددة2.
3- ونقول عند إسناده لياء المخاطبة بغير توكيد: أأنت تفهمين يا زميلتي؟ فالمضارع "تفهمين" مرفوع بثبوت النون، وياء المخاطبة ضمير فاعل. ونقول عند التوكيد من غير تغيرات: أتفهمينن؟. ثم تحذف النون الأولى "علامة الرفع" لتوالي الأمثال، و ... ؛ فيصير الكلام: أتفهمين؟ فيلتقي ساكنان، هما: ياء
__________
1 انظر الرأي الآخر في رقم 2 من هامش ص180.
2 التعليل الصحيح هو محاكاة العرب.(4/188)
المخاطبة والنون الأولى من النون المشددة؛ فتحذف -في الأغلب- ياء المخاطبة للسبب السالف، وتبقى الكسرة قبلها لتدل عليها؛ فيصير الكلام: أتفهمن؟
ويقال في إعرابه: "تفهمين"، مضارع مرفوع بالنون المحذوفة لتوالي الأمثال، والفاعل هو: "ياء" المخاطبة المحذوفة لالتقاء الساكنين. ونون التوكيد حرف مبني، لا محل له من الإعراب، وتظل الفتحة باقية عليه مع تشديدة.
ولو أتينا بنون التوكيد الخفيفة مكان الثقيلة لوقعت التغيرات السالفة كلها تماما، طبقا لما تضمنته "الملاحظة" السالفة، من أن نون الرفع تحذف وجوبا هنا للخفة، وللحمل على الثقيلة؛ لا لتوالي الأمثال.
4- ونقول عند إسناده لنون النسوة بغير توكيده: أأنتن -يا زميلاتي- تفهمن؟. فالفعل "تفهم" مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وهي ضمير فاعل مبني على الفتح في محل رفع.
ونقول: مع التوكيد: أأنتن تفهمنان؟ بمجيء نون التوكيد المشددة المبنية على الكسر -والمخففة؛ لا تجيء هنا- ثم زيادة "ألف" فاصلة1 بين نون النسوة ونون التوكيد. والإعراب بعد التوكيد لا يتغير، ولكن نزيد على ما سلف أن النون الأخيرة المشددة حرف للتوكيد مبني على الكسر، لا محل له، والألف التي بين النونين حرف زائد لا محل له.
يستخلص مما سلف أن إسناد المضارع الصحيح الآخر إلى ضمائر الرفع البارزة، بغير توكيد، يستلزم ما يأتي:
1- إن كان الضمير ألف اثنين، أو واو جماعة، أو ياء مخاطبة، لزمته في حالة الرفع النون التي هي علامة الرفع، فيكون معربا مرفوعا بثبوت النون. والضمير
__________
1 إذا أكد الفعل المضارع المسند إلى نون النسوة وجب الإتيان بألف زائدة تفصل بينهما -كما سبق في ص179- ويكون المضارع مبنيا على السكون لاتصاله المباشر بنون النسوة. ولا يكون اتصاله بها إلا مباشرا؛ لأن إسناده إليها يقتضي اتصاله بها مباشرة -كما سبق في رقم 1 من هامش ص169 و3 من هامش ص185.(4/189)
فاعلا. وهذه النون خفيفة في كل حالاتها، ولكنها مبنية على الكسر لا محل لها بعد ألف الاثنين فقط، أما بعد واو الجماعة، وياء المخاطبة فمبنية على الفتح، لا محل لها.
2- وإن كان الضمير نون النسوة وجب بناء المضارع على السكون، ونون النسوة هي الفاعل1، وهي مبنية على الفتح في محل رفع.
ويستخلص كذلك أن إسناده لتلك الضمائر مع توكيده يستلزم ما يأتي:
1- عدم بناء المضارع مطلقا مع وجود الضمائر الفاصلة بينه وبين نون التوكيد؛ فيجب إعرابه مع تلك الضمائر إلا مع نون النسوة فيبنى على السكون؛ لأنها تتصل به اتصالا مباشرة في كل حالاتها.
2- وجوب حذف نون الرفع -إن كانت موجودة من قبل- إذا كان ضمير الرفع ألف اثنين، أو واو جماعة، أو ياء مخاطبة. ويتساوى في وجوب حذفها مع الواو والياء أن تكون نون التوكيد بعدهما مشددة ومخففة. أما بعد الألف فنون التوكيد باقية، ومشددة حتما، ومبنية على الكسر.
3- وجوب حذف واو الجماعة وياء المخاطبة، مع بقاء الضمة قبل واو الجماعة لتدل عليها. والكسرة قبل ياء المخاطبة؛ لتدل عليها -والحذف في الحالتين هو الأرجح.
4- زيادة ألف بين نون النسوة ونون التوكيد؛ لتفصل بينهما.
__________
1 وفي توكيد المضارع صحيح الآخر يقول ابن مالك بعد أبياته التي عرض فيها لحالات توكيده:
واشكله قبل مضمر لين بما ... جانس من تحرك قد علما-5
والمضمر احذفنه لا الألف ... ............................ -6
"المراد بالمضمر اللين هنا: الضمير الساكن الذي أسند إليه المضارع؛ ويقصد به: ألف الاثنين، وواو الجماعة، وياء المخاطبة - جانس: مائل وساير".
وفي آخر البيت السابق على هذا قال الناظم: "وآخر المؤكد افتح؛ كابرزا" واستثنى من هذه القاعدة ما ذكره الآن؛ خاصا بالمضارع صحيح الآخر المتصل بالضمير اللين، فإنه يحرك بحركة تجانس هذا الضمير، وهي الضمة قبل الواو، والكسرة قبل الياء، والفتحة قبل الألف. والذي يدل على أنه قصد صحيح الآخر دون كلامه الآتي -مباشرة- على المعتل الآخر.(4/190)
5- وجوب تشديد نون التوكيد وبنائها على الكسر1 بعد ألف الاثنين، وبعد الألف الزائدة للفصل بين نون النسوة ونون التوكيد.
أما بعد واو الجماعة وياء المخاطبة فقد تكون مشددة مفتوحة الآخر، أو خفيفة ساكنة.
ب- إسناد المضارع المعتل الآخر، لضمائر الرفع البارزة2، من غير توكيد، وبتوكيد:
المضارع المعتل الآخر إما أن يكون معتل الآخر بالألف، أو بالواو، أو بالياء؛ نحو: أنت ترضى الإنصاف، وترجو أن يشيع، وتجري وراء تحقيقه.
أولا: 1- إن كان معتلا بالألف "مثل: ترضى" وجب قلبها ياء مفتوحة عند إسناده لألف الاثنين، تقول بغير التوكيد بالنون: أأنتما ترضيان؟ ... والإعراب: "ترضيان" فعل مضارع معرب، مرفوع بثبوت النون، وألف الاثنين ضمير فاعل.
وتقول عند التوكيد قبل التغيير: أترضيانن؟ والمضارع معرب لوجود الضمير فاصلا بينه وبين نون التوكيد المشددة، ويجب هنا ما وجب هناك من حذف نون الرفع لتوالي الأمثال بوصفه السابق3، مع بقاء ألف الاثنين، -برغم التقائها ساكنة مع النون الأولى من النون المشددة. كما يجب بناء نون التوكيد على الكسر مع تشديدها في هذه الحالة أيضا4؛ فيصير الكلام: "أترضيان؟ " فالفعل المضارع "ترضيا" معرب مرفوع بالنون المحذوفة، وألف الاثنين ضمير، فاعل. والنون المذكورة المشددة حرف للتوكيد، مبني على الكسر لا محل له من الإعراب.
__________
1 يقولون في سبب كسرها مشابهتها نون المثنى في الصورة الموضعية، أي: المظهر الشكلي. لكن السبب الحق هو استعمال العرب.
2 سبقت الإشارة المفيدة لهذا في موضع آخر مناسب لها؛ وهو حكم المضارع "ج1 م6 ص 88".
3 في رقم 2 من هامش ص180 و3 من هامش ص186.
4 طبقا للبيان الذي في رقم 5 من هذه الصفحة.(4/191)
2- فإن كان معتلا بالألف وأريد إسناده لواو الجماعة من غير توكيد ولا تغيير، قيل فيه: "ترضيون" بقلب ألفه ياء مضمومة -لأن الضمة هي المناسبة للواو- وزيادة واو الجماعة ساكنة؛ فتتحرك الياء، ويفتح ما قبلها؛ فتنقلب ألفا. ويصير الكلام: "ترضاون" فيلتقي ساكنان؛ ألف العلة وواو الجماعة؛ فتحذف الألف؛ لأنها حرف هجائي، وقبله الفتحة تدل بعد الحذف، وتبقى واو الجماعة؛ لأنها فاعل؛ -فهي شطر جملة- وليس قبل علامة تدل عليها بعد حذفها، ويصير الكلام "ترضون". والإعراب: ترضون، مضارع مرفوع بثبوت النون، والواو ضمير فاعل.
وعند التوكيد يقال بغير التغيير "أترضونن"، تحذف نون الرفع لتوالي الأمثال بوصفه السابق1؛ فيصير الكلام: "ترضون" فليتقي ساكنان؛ واو الجماعة والنون الأولى من النون المشددة، ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما2؛ فتتحرك واو الجماعة بحركة تناسبها؛ وهي الضمة، ويصير الكلام: ترضون.
والإعراب: مضارع مرفوع بالنون المحذفة لتوالي الأمثال ... ، وواو الجماعة ضمير فاعل. ونون التوكيد المشددة حرف مبني على الفتح هنا، وقد فصلت واو الجماعة بينه وبين المضارع، ولهذا بقي معربا، بسبب الفصل.
هذا إن كانت نون التوكيد مشددة: فإن كانت مخففة حذفت نون الرفع مع عدم تعدد الأمثال: للتخفيف، والحمل على المشددة، كما سبق البيان3 فيتلاقى فتتحرك واو الجماعة، بالضم للتخلص منه.
3- وإن كان معتلا بالألف أيضا، وأريد إسناده لياء المخاطبة من غير توكيد، قيل بغير التغيير: "أترضاين4"؟ التقى ساكنان، ألف العلة وياء المخاطبة، حذفت الألف؛ لأنها حرف هجائي5 وقبله الفتحة التي تدل عليه
__________
1 في رقم 2 من هامش ص180 و3 من هامش ص186.
2 لأن الفاعل شطر جملة، ولا علامة تدل عليه عند حذفه. والنون المشددة مقصودة التشديد لغرض بلاغي؛ ولأنه يمكن التخلص من الساكنين بغير الحذف الذي يؤدي إلى عيب.
3 في ص 188 بعنوان: "ملاحظة".
4 والأصل: "ترضيين" بقلب الألف ياء مكسورة، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا.
5 فليس شطر جملة، بخلاف ضمير الرفع.(4/192)
بعد حذفه، وبقيت الياء؛ لأنها شطر جملة "فاعل" ولا دليل يدل عليها بعد حذفها؛ فصار الكلام: "ترضين" وهو فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، والياء ضمير فاعل.
وعند للتوكيد قبل التغيير يقال: "ترضينن"؛ فتحذف نون الرفع لتوالي الأمثال، فيصير الكلام: "ترضين" فيلتقي ساكنان؛ ياء المخاطبة والنون الأولى من النون المشددة، ولا يمكن الاستغناء عن أحدهما1؛ فتحرك ياء المخاطبة بالكسرة لأنها هي المناسبة لها ويصير الكلام: "ترضين".
وإعرابه: مضارع مرفوع بالنون المحذوفة، والياء فاعل، ونون التوكيد حرف مبني لا محل له. وقد فصل بينه وبين المضارع ياء المخاطبة، وبسبب هذا الفصل بقي المضارع معربا.
هذا إن كانت نون التوكيد مشددة فإن كانت مخففة حذفت نون الرفع أيضا بالرغم من عدم تعدد الأمثال ... -لما سبق2؛ فيتلاقى الساكنان؛ فتتحرك ياء المخاطبة بالكسرة للتخلص منه.
4- وإن أريد إسناده لنون النسوة بغير توكيد وجب قلب الألف ياء، فنقول أأنتن ترضين؟ فالمضارع: "ترضي" مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وهي فاعل، مبنية على الفتح في محل رفع.
أما عند التوكيد فنقول: ترضينان: بزيادة ألف فاصلة بين النووين. والإعراب كما سبق3 في صحيح الآخر. ولا تجيء المخففة بعد هذه الألف الفاصلة.
ثانيا: إن كان معتل الآخر بالواو "مثل: "ترجو" وأريد إسناده:
1- لألف الاثنين وجب تحريك الواو بالفتحة لمناسبة الألف؛ فنقول بغير توكيد: أنتم ترجوان -مثلا- والمضارع مرفوع بثبوت النون، والألف ضمير فاعل. ونقول مع التوكيد: "أأنتما ترجوانن؟ "، وتحذف نون الرفع لتوالي الأمثال، وتكسر نون التوكيد المشددة: مراعاة للنسق العربي الذي يقتضي كسرها
__________
1 لأن الفاعل شطر جملة، ولا علامة تدل عليه عند حذفه والنون المشددة مقصودة التشديد لغرض بلاغي، ولأنه يمكن التخلص من الساكنين بغير الحذف الذي يؤدي إلى عيب.
2 في ص118 بعنوان: "ملاحظة".
3 في رقم 4 من ص189.(4/193)
دائما بعد ألف الاثنين، وتشديدها، فنقول: ترجوان. ولا تجيء المخففة بعد الألف مطلقا -كما كررنا1.
2- وإن أريد إسناده لواو الجماعة بغير توكيد قيل: "أنتم ترجوون"2 -مثلا- فتلتقي واوان ساكنتان، فتحذف واو العلة. وتبقى واو الجماعة، للسبب الذي عرفناه؛ فيصير الكلام: "ترجون" مرفوع بثبوت النون. وواو الجماعة ضمير فاعل.
فإذا أريد التوكيد، قيل بغير التغيير: "أترجونن" وتحذف نون الرفع لتوالي الأمثال -بوصفه السابق؛ فيصير: "ترجون"؛ فيلتقي ساكنان، واو الجماعة، والنون الأولى من المشددة، فتحذف واوا الجماعة -برغم أنها شطر جملة- لوجود الضمة قبلها تدل عليها، ولعدم استغناء المعنى عن تشديد النون، فيصير الكلام: "ترجن" مضارع مرفوع بالنون المحذوفة، والفاعل: واو الجماعة المحذوفة، والنون المشددة المذكورة للتوكيد، وهي مفصوة من المضارع بالواو المحذوفة.
ويصح أن تجيء نون التوكيد الخفيفة بدلا من المشددة؛ فيتلاقى الساكنان3؛ فتذف الواو للتخلص منه، وتبقى الضمة قبلها لتدل عليها.
3- وإن أريد إسناده لياء المخاطبة بغير توكيد قيل: "أنت ترجوين" فيلتقي ساكنان؛ واو العلة وياء المخاطبة؛ فتحذف حرف العرلة، ويصير الكلام، "ترجين"، ثم تقلب الضمة التي قبل الياء كسرة؛ لأن الكسرة هي المناسبة للياء، فيصير: "ترجين".
__________
1 البيان في رقم 5 من ص191.
2 وأصلها: "ترجوون" استثقلت الضمة على الواو فحذفت الضمة ... ومثل هذا يقال في: "يدعون" الواردة في الآية الكريمة المشتملة على أنواع من المضارع المجزوم، المسند لواو الجماعة، صحيح الآخر ومعتله؛ وهي قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وستعاد الآية لمناسبة أخرى في رقم 3 من هامش ص408.
3 يتلاقى الساكنان هنا؛ إما بسبب ما قلناه من حذف نون الرفع -وهذا الأحسن، بل قيل إنه واجب للخفة والحمل؛ فتكون نون التوكيد بعد ذلك واضحة التخفيف في اللفظ، وإما لإدغام نون الرفع في نون التوكيد، فتسكن الأولى. وفي هذه لبس لا يتبين معه أن نون التوكيد خفيفة.(4/194)
وعند التوكيد قبل التغيير نقول: "أأنت ترجينن؟ " تحذف نون الرفع لتوالي الأمثال، فيصير: "ترجين". فيلتقي ساكنان ياء المخاطبة والنون الأولى، فتحذف الياء للتخلص من التقاء الساكنين، "برغم أن الياء شطر جملة "فاعل" لوجود الكسرة الدالة عليها، وعدم الاستغناء عن تشديد النون" فيصير ترجن مع تشديد النون وفتحها. والإعراب: فعل مضارع مرفوع بالنون المحذوفة، وياء المخاطبة المحذوفة فاعل، والنون المذكورة حرف للتوكيد.
فإن كانت نون التوكيد مخففة -لا مشددة- حذفت لها نون الرفع أيضا1؛ فيتلاقى الساكنان؛ فتحذف الياء، وتبقى الكسرة قبلها.
4- وإن أريد إسناده لنون النسوة بغير توكيد قيل: أأنتن ترجون الله؟ بزيادة نون النسوة. فالمضارع: "ترجو" مبني على السكون، بسببها. وهي الفاعل. وعند التوكيد تقول: أأنتن ترجونان بزيادة ألف فاصلة بين النونين. وعند الإعراب نقول: "ترجو" مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة. ونون النسوة فاعل، والألف بعدها زائدة، ونون التوكيد حرف مشدد، مبني على الكسر لا محل له من الإعراب. ولا يصح مجيء المخففة بعد هذه الألف.
ثالثا: إن كان المضارع معتل الآخر بالياء، وأريد إسناده:
1- إلى ألف الاثنين بغير توكيد، وجب تحريك الياء بالفتحة -لوجب فتح ما قبل الألف- فنقول: أنتما تجريان. فالمضارع مرفوع بثبوت النون؛ وألف التثنية ضمير فاعل. ونقول عند التوكيد قبل التغيير: "أتجريانن؟ " تحذف نون الرفع؛ لتوالي النونات -بوصفه السابق- وتتحرك نون التوكيد المشددة بالكسرة؛ -لما ذكرناه من وجوب تشديدها، وبنائها على الكسر بعد ألف الاثنين-2 فيصير الكلام: "تجريان" ويقال في الإعراب، "تجريا" مضارع مرفوع بالنون المحذوفة؛ لتوالي الأمثال ... والألف ضمير فاعل، والنون المشددة حرف للتوكيد مبني على الكسر؛ لا محل له.
__________
1 لما سبق في ص188 بعنوان "ملاحظة".
2 وكل "ألف" أخرى؛ طبقا للبيان الذي في رقم 5 من ص191.(4/195)
2- وإن أريد إسناده إلى واو الجماعة بغير التوكيد قلنا قبل التغيير: أنتم "تجريون" التقى ساكنان: ياء العلة، وواو الجماعة، حذف ياء العلة -لما عرفناه- فصار الكلام: تجرون، قلبت الكسرة قبل الواو ضمة؛ لتناسب الواو؛ فصار الكلام: "تجرون".
وعند التوكيد قبل التغيير نقول: "أتجرونن؟ " تحذف النون لتوالي النونات فيصير: "تجرون" فيلتقي ساكنان، واو الجماعة والنون الأولى من النون المشددة، فتحذف واو الجماعة؛ لوجود الضمة قبلها دليلا عليها؛ ولعدم الاستغناء -بلاغيا- عن تشديد النون؛ فيصير الكلام: "تجرن". مضارع معرب، مرفوع بالنون المحذوفة، وواو الجماعة المحذوفة فاعل، والنون المشددة المذكورة حرف للتوكيد واجب البناء على الفتح. وقد انفصل عن المضارع بواو الجماعة المحذوفة التي هي في حكم المذكورة كما سبق؛ وبسب هذا الفصل بقي المضارع معربا.
ويصح أن تجيء نون التوكيد الخفيفة بدلا من الثقيلة. فتحذف نون الرفع أيضا، فيلتقي الساكنان، فتحذف واو الجماعة.
3- وإن أريد إسناده لياء المخاطبة بغير توكيد قيل: أأنت تجريين؟ فيلتقي ساكنان؛ ياء العلة، وياء المخاطبة؛ فيحذف حرة العلة؛ لأنه حرف هجائي وقبله الكسرة تدل عند عليه حذفه؛ فيصير الكلام: "تجرين"، مضارع مرفوع بثبوت النون وياء المخاطبة فاعل.
وعند التوكيد نقول: "أتجرينن" تحذف نون الرفع لتوالي الأمثال ... فيصير الكلام: "تجرين" فيلتقي ساكنان ياء المخاطبة والنون الأولى من المشددة؛ فتحذف ياء المخاطبة -برغم أنها شطر جملة- لوجود الكسرة قبلها تدل عليها، ولعدم الاستغناء -بلاغيا عن تشديد النون فيصير: "تجرن". مضارع مرفوع بالنون المحذوفة، وفاعله ياء المخاطبة المحذوفة أيضا. والنون المشدد حرف للتوكيد ... وقد فصلت من المضارع بياء المخاطبة المحذوفة والتي تعد كالمذكورة؛ فبقي معربا.
ولو كانت نون التوكيد مخففة لحذفت لها نون الرفع أيضا. فيتلاقى الساكنان، فتحذف ياء المخاطبة.
4- وإن أريد إسناده لنون النسوة بغير توكيد، قبل: أأنتن تجرين؟(4/196)
فالمضارع: "تجري" مبني على السكون؛ لاتصاله بنون النسوة "الفاعل".
وعند التوكيد: "تجرينان" فالمضارع "تجري" مبني على السكون، ونون النسوة بعده ضمير فاعل، والألف زائدة للفصل، ونون التوكيد المشددة حرف، ويجب تشديده وتحريكه بالكسر1، ولا تجيء المخخفة هنا.
أ- يستخلص مما سلف أن المضارع المعتل الآخر تلحقه التغيرات الآتية عند إسناده لضمائر الرفع البارزة بغير توكيد، وأن كل ضمير منها يعرب فاعلا:
1- إن كن معتلا بالألف قلبت ياء مفتوحة، عند إسناده لألف الاثنين، وساكنة من نون النسوة. وحذفت هذه الألف للتي للعلة عند إسناده لواو الجماعة وياء المخاطبة، مع بقاء الفتحة التي قبلها في الحالتين، لتدل عليها بعد الحذف.
زيادة نون الرفع بعد ألف الاثنين، وواو الجماعة، وياء المخاطبة؛ لتكون علامة لرفع المضارع المعرب.
أما نون النسوة فالمضارع معها مبني على السكون دائما؛ فلا توجد معها نون للرفع.
2- وإن كان معتلا بالواو أو بالياء بقيا عند الإسناد لألف الاثنين، وتحركا بالفتحة لمناسبة الألف، وتجيء بعد الألف نون الرفع التي هي علامة لرفع المضارع؛ وبقيا كذلك عند الإسناد لنون النسوة، ولكنهما لا يتحركان؛ لأن المضارع يبنى على السكون عدن إسناده لنون النسوة.
ويجب حذفهما مع واو الجماعة وياء المخاطبة مع ضم ما قبل واو الجماعة وكسر ما قبل ياء المخاطبة، وزيادة نون الرفع بعدهما في حالة رفع المضارع.
ب- ويستخلص كذلك أن إسناده إلى تلك الضمائر مع توكيده يستلزم ما يأتي:
1- حذف ألف العلة عند الإسناد لواو الجماعة وياء المخاطبة مع تحريك الواو بالضم، والياء بالكسر.
وقلب ألف العلة ياء عند الإسناد لأف الاثنين، أو نون النسوة، مع مجيء
__________
1 طبقا للبيان الذي في ص191 رقم 5.(4/197)
نون التوكيد مشددة فيهما ومكسورة ومع إيجاد ألف فاصلة بين نون النسوة، ونون التوكيد المشددة.
2- ترك حرفي العلة "الواو والياء"، مع فتحهما، عند الإسناد لألف الاثنين، ويجب أن تكون نون التوكيد مكسورة مشددة بعد هذا الضمير. والمضارع معرب في هذه الصورة.
ويتركان على حالهما من السكون عند الإسناد لنون النسوة "لأن المضارع معها مبني على السكون" وبعدها ألف فاصلة، فنون التوكيد الثقيلة المكسورة.
أما عند الإسناد إلى واو الجماعة أو ياء المخاطبة فيجب حذف حرفي العلة كما يجب حذف الضميرين "الواو والياء مع ترك الضمة قبل الواو والكسرة قبل الياء".
3- حذف نون الرفع في جميع الحالات. وهي لا توجد مع وجود نون النسوة.
4- ذكر نون التوكيد مشددة مفتوحة أو مخففة ساكنة في جميع الحالات، إلا مع ألف الاثنين ونون النسوة فيجب تشديدها وكسرها في الحالتين، كما يجب زيادة ألف فاصلة بين نون النسوة ونون التوكيد1 ...
__________
1 يقول ابن مالك في حكم المضارع المعتل الآخر المسند لضمائر الرفع:
..................................... ... وإن يكن في آخر الفعل ألف-6
فاجعله منه رافعا غير اليا ... والواو ياء؛ كاسعين سعيا-7
"اجعله منه ياء. أي: اجعل الألف ياء حالة كون الألف من الفعل، ومن حروفه، وليست ضميرا فالضمير في: "اجعله" راجع للألف. وفي: "منه" راجع للفعل، والجار والمجرور خال من الهاء التي هي المفعول الأول للفعل: اجعل. أما مفعوله الثاني فهو كلمة: "ياء" المتأخرة".
والمعنى: اجعل حرف العلة الألف ينقلب ياء؛ إذا رفع الفعل ضميرا غير واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، بأن رفع الاسم الظاهر، أو الضمير المستتر، أو ألف الاثنين، أو نون النسوة: نحو: أيرضين الصديق أترضين يا أخي، أترضيان يا أخوي؟، أأنت ترضيان؟ واقتصر الناظم على مثال للأمر المسند للمخاطب الواحد؛ هو: اسعين سعيا.
أما إن رفع المضارع واو الجماعة، أو ياء المخاطبة فقد طالب ابن مالك بحذف حرف العلة الألف مع تحريك الضمير بحركة تناسبه؛ وهي الضمة للواو، والكسرة للياء، وترك الفتحة قبل الألف المحذوفة. يقول:=(4/198)
5- المضارع في جميع الحالات السالفة معرب؛ لوجود الضمير فاصلا بينه وبين نون التوكيد. إلا عند الإسناد لنون النسوة فيكون مبنيا على السكون، لأن نون النسوة تتصل به مباشرة في جميع حالات إسناده إليه.
الكلام على الأمر 1:
حكم الأم صحيح الآخر ومعتله، كمضارعه عند الإسناد لضمائر الرفع البارزة، بتوكيد، وبغير توكيد؛ بلا فرق بينهما إلا من ناحية أن الأمر مبني دائما ولا تتصل بآخره نون رفع مطلقا، -كما أشرنا سالفا2.
ما حكم نون التوكيد بنوعيها عند الوقف عليها؟
الجواب في رقم 4 من الملاحظات التي في آخر الجدول الآتي.
__________
=
واحذفه من رافع هاتين، وفي ... واو وياء شكل مجانس قفي-8
نحو اخشين يا هند بالكسر ويا ... قوم اخشون واضمم وقس مسويا-9
"مجانس: مناسب للضمير، ولائق به، قفي. تبع. أي: توبع فيه كلام العرب، وحوكي الوارد عنهم".
وإنما تحذف الألف، وتبقى الفتحة التي قبلها، وتضم الواو، وتكسر الياء إذا أكد الفعل بالنون. فإن لم يؤكد بها لم تضم الواو، ولم تكسر الياء، وإنما يجب تسكينهما، نحو: يا قوم هل ترضون بغير النجوم مقعدا؟ يا بنت بلادي: هل ترضين بغير الفخار مقصدا؟ وقد ترك التفصيل الخاص بالفعل المعتل الآخر، وإن كان المفهوم منه حذف حرف العلة لأجل واو الضمير، أو يائه، مع ضم ما بقي قبل واو الضمير، وكسر ما بقي قبل ياء الضمير. وعند توكيد المعتل بأحد هذين الحرفين يجري عليه ما يجري على الصحيح؛ فتحذف نون الرفع، وواو الضمير، وياؤه؛ طبقا لما قدمناه من الأحكام المفصلة الخاصة بالمعتل.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الأبيات الخمسة الخاصة بنون التوكيد الخفيفة وختم بها الباب، وقد شرحناها في مكانها المناسب من هامش ص179 و180 و182 و183، وقد وزعت فيها الأبيات الآتية:
"ولم تقع خفيفة ... "، و"وألفا زد ... "، "واحذف خفيفة ... "، "واردد إذا حذفها ... "، "وأبدلنها"، وأرقامها 10، 11، 12، 13، 14.
1 سبق الكلام على المضارع في ص185.
2 في ص171.(4/199)
المسألة 145: ما لا ينصرف
مدخل
...
المسألة 145: ما لا ينصرف
معنى الصرف 1:
الاسم المعرب قسمان:
1- قسم يدخله نوع أصيل2 من التنوين، لا يدخل غير هذا القسم، ولا يفارقه في حالات إعرابه المختلفة. -"إلا عند وجود طارئ معارض؛ كإضافة الاسم، أو اقترانه "بأل"3 أو قوعه منادى معرفا. أو اسما مفردا لـ "لا" النافية للجنس ... "- ويدل وجوده على أن الاسم المعرب الذي يحويه أشد تمكنا في الاسمية من سواه؛ ولهذا يسمى: "تنوين الأمكنية"4، أي: التنوين
__________
1 الحروف كلها مبنية، وكذلك الأفعال، إلا المضارع المجرد من نون التوكيد المباشرة، ومن نون الإناث، فإن اتصل بإحداهما اتصالا مباشرة، صار مبنيا. أما الأسماء فمنها: "المعرب"، ومنها: "المبني". ومن المعرف ما يسمى: المتمكن الأمكن، وهو: "المنصرف"، وما يسمى: "المتمكن غير الأمكن"، وهو: "غير المنصرف". ويقول النحاة: إن الاسم إذا أشبه الحرف يبنى، وإذا أشبه الفعل منع من الصرف.
وقد سبق في الجزء الأول "م6 ص72 وما بعدها" تفصيل الكلام على هذا كله، وبيان أحكامه، وحقيقة الرأي في كل -وستجيء لمحة منه في هامش ص304.
ملاحظة: يجري في تعبيرات بعض القدماء استعمال كلمة: "الإجراء" بمعنى "الصرف"، و"عدم الإجراء" بمعنى: "منع الصرف"، وكذلك المجرى وغير المجرى. ومن أمثلة ذلك ما جاء في ج1 ص85 من كتاب: "النوادر" لأبي مسحل الأعرابي ونصه: قال الأموي: سمعت بني أسد يذكرون "الموسى" -موسى الحجام- ويجرونه. فيقولون هذا موسى كما ترى. وهو "مذمل" من أوسيت. قال: ويجرون اسم الرجل إذا كان اسمه موسى؛ فيقولون هذا موسى قد جاء؛ فيلحقونه باوسيت؛ فيجرونه. ومن جعله أعجميا لم يجره. وجعله بمعنى: "فعل". وقال الكسائي: سمعتهم يؤنثون "موسى" الحجام، ولا يجرونها؛ فيقولون هذه موسى. كما ترى". ا. هـ.
2 من التنوين ما هو أصيل، وينحصر في أربعة أنواع سبق بيانها، وإيضاح أحكامها "في ج1 ص33 م3" وهي: تنوين الأمكنية -تنوين التنكير، تنوين المقابلة، تنوين العوض. وما هو غير أصيل؛ كتنوين الضرورة الشعرية، وتنوين الترنيم، والتنوين الغالي، وقد أوضحناها في المرجع السابق.
3 مهما كان نوعها.
4 لا بد من فهم هذا النوع من التنوين فهما دقيقا: كي يتيسر إدراك "الممنوع من الصرف" على وجهه الحق. ولن يتأتى الفهم الدقيق إلا بالإلمام التام بالأنواع الأربعة الأصيلة، وتفهمها عند تفهم "تنوين الأمكنية" ليتميز بعضها من بعض، ولا يختلط أمرها.(4/200)
الدال على أن هذا الاسم المعرب أمكن1 وأقوى درجة في الاسمية من غيره. ويسمى أيضا: "تنوين الصرف"2 وبهذا الاسم يشتهر عند أكثر النحاة3. ووجوده في الاسم المعرب يفيده خفة في النطق، فوق الدلالة على الأمكنية.
وإذا ذكرت كلمة "التنوين" خالية من التقييد الذي يبين نوعه كان المقصود: "تنوين الأمكنية"، أي: "الصرف". ومن أمثلة الأسماء المشتملة عليه، أو التي تستحقه لولا الطارئ المعارض ما جاء في قول شوقي:
إنما الشرق منزل لم يفرق ... أهله إن تفرقت أصقاعه
وطن واحد على4 الشمس، والفصـ ... حي، وفي الدمع والجراح اجتماعه
وإنما كان وجود هذا التنوين دليلا على "الأمكنية" لأن انضمامه إلى "الإعراب" في اسم واحد جعل هذا الاسم مشتملا على علامتين بدلا من واحدة، يبعدانه كل البعد عن الحروف وعن الأفعال؛ هما: "التنوين"، و"الإعراب"؛
__________
1 "أمكن"، أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي: "سكن مكانة"، إذا بلغ الغاية في التمكن، ومن هنا جاء تنوين الأمكنية. ولا يصح أن يكون من الفعل: "تمكن" لأن هذا غير ثلاثي لا يجيء فيه "أفعل" مباشرة.
2 من معاني "الصرف" في اللغة: "التصويت -اللبن الخالص- الانصراف عن شيء إلى آخر ... " ومن أحد هذه المعاني أخذ "الصرف النحوي". فالتنوين تصويت في آخر الاسم المنصرف -أو الاسم المنصرف خالص من مشابهة الحرف والفعل؛ أو منصرف عن طريقهما إلى غيره؛ إلى طريق الاسمية المحضة. ويعبر بعض القدماء -كما سبق في هامش الصفحة الماضية- عن "الصرف"، و"منع الصرف" ... بالإجراء، وعدم الإجراء.
3 وفي هذا يقول ابن مالك في أول الباب الذي عقده بعنوان: "ما لا ينصرف": -وسنذكر على يسار كل بيت رقم ترتيبه في بابه:
الصرف: تنوين أتى مبينا ... معنى به يكون الاسم أمكنا-1
وبعض النحاة يسمى التنوين كله: "صرفا".
4 يصلح الحرف "على" هنا أن يكون معناه: التعليل، أي: بيان العلة والسبب. "اعتمادا على ما سبق بيانه من معاني الحرف الجار "على" ج2 م90 ص740".(4/201)
إذ التنوين لا يدخل الحروف ولا الأفعال. وكذلك الإعراب، لا يدخل الحروف ولا أكثر الأفعال. فبهذا التنوين المقصور على الأسماء المعربة1 صار الاسم القوي المتمكن بالإعراب أقوى وأمكن باجتماع الإعراب والتنوين معا. كما صار أخف نطقا.
وليس من هذا القسم تنوين جمع المؤنث السالم الباقي في دلالته على جميعه، نحو: هؤلاء متعلمات فاضلات؛ لأن هذا تنوين للمقابلة، ولأنه قد يوجد في الاسم غير المنصرف؛ كالعلم المؤنث المنقول من جمع مؤنث سالم؛ مثل: سعادات - عطيات - زينات ... فإن هذا العلم المنقول من جمع المؤنث السالم -يجوز صرفه، مراعاة لأصله الذي نقل منه، فيكون تنوينه -كتنوين أصله- للمقابلة للأمكنية. ويجوز عدم صرفه، مراعاة للحالة التي هو عليها الآن؛ وهي أنه: علم على مؤنث؛ فيكون غير أمكن أيضا2.
وليس من تنوين "الأمكنية" كذلك تنوين "العوض" ولا تنوين "التنكير"؛ لأنهما يدخلان الأسماء المنصرفة وغير المنصرفة3 ...
وسيتكرر في هذا الباب وغيره كلمة: "الصرف" مرادا منها تنوين "الأمكنية" جريا على الشائع4.
2- قسم لا يدخله هذا النوع الأصيل من التنوين، ويمتنع وجوده فيه؛ فيكون امتناعه دليلا على أن الاسم المعرب متمكن في الاسمية، ولكنه غير أمكن، إذ لا يبلغ في درجة التمكن، وقوته، مبلغ القسم السالف؛ كالأسماء: عمر، عثمان، مريم، عبلة ... وغيرها من الأسماء الممنوعة من الصرف؛ أي: الممنوعة من
__________
1 وواضح أنه لا يدخل المبنيات مطلقا.
2 ستجيء الإشارة لهذا في رقم 1 من هامش الصفحة التالية وكذلك في "ج" من ص240.
3 يدخل تنوين العوض الأسماء غير المنصرفة؛ نحو: دوع، ليال، سواع، غواد، هواد، "كما سيجيء في ص209" وقد يدخل الأسماء المنصرفة أيضا، نحو: "كل"؛ و"بعض"؛ فيكون للعوض والصرف معا؛ لا لأحدهما. أما تنوين التنكير فالغالب دخوله على المبينات لإفادة تنكيرها. وقد يدخل على الاسم المعرب لهذا الغرض.
كما سبق تفصيل هذا في باب: التنوين "ج1 م3 ص33"، وكما سيجيء بعضه هنا وفي "ب" من ص251.
4 عند غير ابن مالك، ومن وافقه.(4/202)
أن يدخل عليها تنوين: "الصرف" الدال على "الأمكنية"، والمؤدي إلى خفة النطق، "لأن هذا التنوين يرمز إلى الأمرين المذكورين ويدل عليهما، كما أسلفنا".
وإنما كان هذا القسم "متمكنا غير أمكن"، لاشتماله على علامة واحدة، هي الإعراب، وبسببها كان محصورا في الأسماء المعربة وحدها. أما تنوين "الأمكنية" فلا يدخل هذا القسم. وبسبب حرمانه هذا التنوين، وامتناع دخوله، اقترب من الفعل والحرف؛ إذ صار شبيها بهما في حرمانهما التنوين، وامتناع دخوله عليهما.
وإذا امتنع دخول تنوين "الأمكنية" على الاسم الذي لا ينصرف امتنع، -تبعا لذلك- جره بالكسرة؛ فيجر بالفتحة نيابة عنها1، بشرط ألا يكون مضافا، ولا مقترنا "بأل"2 -مهما كان نوعها- فإن أضيفن أو اقترن "بأل"3 وجب جره بالكسرة. -وهذا هو حكم الممنوع من "الصرف"، وسيجيء الكلام عليه4.
لكن كيف يمكن التمييز بين القسمين، والحكم على الاسم المعرب بأنه من القسم الأول "الأمكن" أو من القسم الثاني "المتمكن"؟
لقد اقتصر النحاة على وضع علامات مضبوطة تميز الاسم المعرب المتكن، وهو "الممنوع من الصرف"، وتدل عليه بغير خفاء ولا غموض، واكتفوا بها؛ لعلمهم أنها متى وجدت في اسم معرب كانت دليلا على أنه "لا ينصرف"، ومتى خلا منها كان فقدها دليلا على أنه من القسم الأول: وهو: "المعرب الأمكن"، أي: "المعرب المنصرف". فعلامة الاسم المعرب الذي لا ينصرف "وجودية"، وعلامة المعرب المنصرف"، "عدمية؛ أي: سلبية". غير أن
__________
1 إلا العلم الذي أصله جمع مؤنث سالم ثم صار علما منقولا؛ فإنه يجوز إعرابه مصروفا كأصله، رفعا ونصبا، وجرا، ويجوز إعرابه كالممنوع.
-كما عرفنا في الصفحة السابقة، وكما سيجيء في: "ج" من ص240 وفي1 من ص264.
2 و3 أو ما يقوم مقامها "انظر "ب" ص207".
4 في الصفحات التالية، ثم في ص264 بعض لأحكام العامة المهمة.(4/203)
العلامة الدالة على منع الاسم من الصرف قد تكون واحدة، وقد تكون اثنتين معا، لهذا كانت الأسماء الممنوعة من الصرف نوعان:
نوع يمنع صرفه في كل استعمالاته حين توجد فيه هذه العلامة الواحدة، ونوع يمنع صرفه بشرط أن توجد فيه علامتان معا1 من بين علامات تسع. ومجموع النوعين أحد عشر شيئا:
__________
1 يعبر النحاة عن هذا بقولهم: إن الاسم يمنع من الصرف لوجود علتين فيه، أو علة واحدة تقوم مقام العلتين ...
والتعبير بعلتين ليس دقيقا؛ لأن كل علة واحدة لا بد لها من معلول واحد، فالعلتان لا بد لهما من معلولين حتما. فكيف يجتمع علتان على معلول واحد؟ فإن كانتا قد اشتركتا معا في إيجاد المعلول الواحد لم تكونا علتين، وإنما هما علة واحدة ذات جزأين اشتركتا معا في إيجاد هذا المعلول الواحد. اللهم إلا أن يكون مرادهم علتين، أي: عيبين.
ويقولون في تعليل منع الاسم من الصرف كلاما لا تطمئن إليه النفس، ولا يرتاح إليهما لعقل. نلخصه للمتخصصين، لإبانة ضعفه وتهافته، مع دعوتنا إلى نبذه وإهماله إهمالا تاما. يقولون:
إن التنوين الأصلي خاصة، خواص الأسماء، لا وجود له في الأفعال ولا الحروف. وإن الحرف كلها مبنية، وكذلك الأفعال، إلا المضارع في بعض حالاته. فالاسم إذا أشبه الحرف يبنى "كأن يشبهه في الوضع، أو في المعنى ... أو غيرهما من أنواع الشبه التي عرفناها في صدر الجزء الأول، باب: الإعراب والبناء". وإذا أشبه الاسم الفعل منع من الصرف؛ لأن الفعل أقل استعمالا من الاسم وأضعف شأنا منه؛ فلذلك حرم التنوين الذي هو علامة القوة، والوسيلة لخفة النطق. فإذا اقترب الاسم من الفعل وشابهه في الضعف فقد استحق مثله امتناع التنوين. أما سبب ضعف الفعل عندهم دون الاسم -فأمران:
أحدهما: لفظي، وهو: أن الفعل متق من المصدر؛ فالفعل فرع، والاسم أصله، والفرع أضعف من الأصل.
ثانيهما: معنوي؛ وهو: أن الفعل محتاج دائما إلى الاسم في الإسناد، وليس كذلك الاسم، فإنه قد يسند إلى اسم مثله؛ ولهذا كان الاسم أخف لكثرة استعماله، والفعل أثقل لقلة استعماله؛ والحاجة ضعف. فإذا وجد في الاسم ضعفان معا لفظي ومعنوي، أو ضعف واحد آخر يقوم مقامها فقد شابه الفعل، واستحق منع التنوين، كما في مثل: "فاطمة" فقد وجد في هذا الاسم الضعف اللفظي، وهو علامة التأنيث؛ إذ التأنيث فرع التذكير، ووجد فيه الضعف المعنوي؛ وهو: العلمية التي هي فرع التنكير: "أما النوع الواحد من الضعف الذي يقوم مقام الاثنين فمحصور في: "ألف التأنيث" بنوعيها؛ "المقصورة والممدودة": وفي "صيغة منتهى الجموع". فوجود ألف التأنيث في آخر الاسم هو علة لفظة، وملازمتها إياه في كل حالاته هي علة معنوية. وخروج صيغة منتهى الجموع عن أوزان الآحاد العربية علة لفظية؛ "إذ ليس في تلك الآحاد مفرد ثالثه ألف بعدها حرفان أو ثلاثة إلا وأوله مضموم، كعذافر -للجمل القوي- والأسد، أو تكون ألفه عوضا عن إحدى ياءي النسب كيمان وشآم، وأصلهما يمني، وشامي =(4/204)
أ- فالذي يُمنع صرفه لوجود علامة واحدة هو ما يكون مشتملا على: "ألف التأنيث المقصورة، أو الممدودة"، وكذلك ما يكون على وزن: "صيغة منتهى الجموع".
1- فالمقصورة ألف تجيء في نهاية الاسم المعرب، لتدل على تأنيه، ومثلها الممدودة، إلا أن الممدودة لا بد أن يسبقها -مباشرة- ألف زائدة للمد؛ فتنقلب ألف التأنيث همزة1 ... ومن أمثلة المقصورة: "ذكرى" مصدر، نكرة للفعل: ذكر: بمعنى تذكر" و"رضوى" علم على جبل بالحجاز، بالمدينة"، و"جرحى؛ جمع: جريح" و"حبلى، وصف للمرأة الحامل ... ".
وعند إعراب هذه الكلمات نقول في حالة الرفع: إنها مرفوعة بضمة مقدرة على الألف، وفي حالة النصب منصوبة بفتحة مقدرة على الألف، ونقول في حالة الجر: إنها مجرورة بفتحة مقدرة على الألف، نياية عن الكسرة، والتنوين ممتنع في كل الحالات -كما عرفنا.
وإنما تجر هذه الأسماء وأشباهها، بالفتحة نيابة عن الكسرة بشرط خلو الاسم من "أل"2 ومن الإضافة. وإلا وجب جره بالكسرة.
__________
= "بالياء المشددة" حذفت إحدى الياءين تخفيفا، وجاءت الألف عوضا عنها، وفتحت همزة شامي بعد سكونها ومدت؛ فصار يماني وشامي. ثم أعل إعلال المنقوص "كوال، وراع" فصار يمان وشآم -كما سيجيء في جمع التسكير- ومثلهما ثمان، فأصله: ثمني، نسبة إلى الثمن، فتح أوله تخفيفا ثم حذفت إحدى الياءين ... إلى آخر ما مر، وغير ذلك مما لا تجاريه ولا توافقه صيغة منتهى الجموع ... ، أما العلة المعنوية في صيغة منتهى الجموع فدلالتها على الجمع ... إلا غير هذا مما يقولون.
وقولهم بادي التكلف والصنعة، لا يقوى على الفحص، وقد آن الوقت لإهماله نهائيا؛ لأنه لا يثبت أمام الاعتراضات التي تتجه إليه من بعض النحاة القدامى والمحدثين. وقد عرضنا ملخص رأيهم في الجزء الأول "ص34 م3 عند الكلام على التنوين" ثم أوضحنا بعده أن التعليل الحق في "الصرف" وفي منعه هو: كلام العرب الأوائل، واستعمالهم الصحيح الوارد إلينا. والذي نحاكيه.
1 لألف التأنيث بنوعيها أوزان مشهورة، تضمنها الباب الخاص بالتأنيث. "وسيأتي في ص585" وألف التأنيث الممدودة ليست في الحقيقة هي الممدودة، كما يتبين من الشرح السالف، إنما الممدود ما قبلها فوصفت بالمد لملاصقتها له؛ كما سيجيء في الزيادة ص207.
2 أو ما ينوب عنها -كما يجيء في الصفحة الآتية- مهما كان نوع "أل" "كما سبق في ص200 و203".(4/205)
ومن أمثلة الممدودة: "صحراء، وهي اسم نكرة"، و"زكريا، على إنسان"، و"أصدقاء، جمع صديق"، و"حمراء، وصف للشيء الأحمر المؤنث" ... ، وعند إعراب هذه الكلمات نقول: إنها مرفوعة بالضمة الظاهرة، ومنصوبة بالفتحة الظاهرة، ومجرورة بالفتحة الظاهرة نيابة عن الكسرة، بشرط خلو الاسم من "أل" ومن الإضافة؛ وإلا وجب جره بالكسرة -كما تقدم.
ومن هذه الأمثلة -وأشباهها- يتبين أن ألف التأنيث بنوعيها قد تكون في اسم نكرة؛ كذكرى وصحراء. وقد تكون في معرفة؛ كرضوى وزكرياء، وتكون في الاسم مفرد كالأمثلة السالفة، وفي جمع؛ كجرحى وأصدقاء، وقد تكون في اسم خالص الاسمية؛ كرضوى وزكرياء؛ علمين، أو في وصف1؛ كحبلى وحمراء ... وهي بنوعيها تمنع الاسم في كل الحالات استعماله2 من تنوين الأمكنية، وتوجب جره بالفتحة، بدلا من الكسرة بشرط أن يكون مجردا من "أل" ومن الإضافة3 ...
__________
1 المراد به هنا: الاسم الذي يغلب في استعماله ألا يكون علما، ولا مصدرا.
2 لأنها لا تفارقه مطلقا، "انظر رقم 2 من ص264".
3 وفي هذه الألف بدلالاتها المختلفة يقول ابن مالك:
فألف التأنيث مطلقا منع ... صرف الذي حواه، كيفما وقع-2
"مطلقا: أي: بنوعيها، في جميع حالاتهما؛ من ناحية أن كل واحدة تكون خاتمة في معرفة، أو نكرة، في مفرد أو جمع، في اسم أو صفة -ومعنى صرف: تنوين ... ".
يريد أن ألف التأنيث تمنع صرف الاسم الذي يشتمل عليها كيفما وقع هذا الاسم، أي: على أي حال كان عليه من التعريف، أو التنكير، أو الاسمية، أو الوصفية، أو الإفراد، أو الجمع ...(4/206)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يقول النحاة: إن ألف التأنيث الممدودة، كحمراء، وخضراء -وغيرهما- كانت في أصلها مقصورة "أي: حمرى، خضرى ... " فلما أريد المد زيدت قبلها ألف أخرى. والجمع في النطق بين ألفين ساكنتين محال، وحذف إحداهما ينافي الغرض من ذكرها؛ إذ لو حذفت الأولى لضاع الغرض من المد، ولو حذفت الثانية لضاع الغرض من التأنيث، وقلب الأولى حرفا قريبا منها -وهو الهمزة- يفيد الغرض من المد؛ فلم يبق إلا قلب الثانية همزة تدل على التأنيث؛ كما كانت هذه الألف تدل عليه قبل انقلابها.
ب- يمنع الاسم من الصرف بشرط ألا يكون مضافا، ولا مقرونا "بأل" مهما كان نوعها -كما عرفنا-1 ومثل "أل" ما يحل محلها عند بعض القبائل العربية، ومنه: "أم" التي هي بمنزلة "أل".
__________
1 في ص203 الأمور الطارئة التي تعارض وجود التنوين، ومنها: "أل".(4/207)
2- وصيغة منتهى الجموع1 هي: كل جمع تكسير بعد ألف تكسيره حرفان2، أو ثلاثة أحرف، بشرط أن يكون أوسط هذه الثلاثة حرفا ساكنا3، نحو: "معابد، أقارب، طبائع، جواهر، تجارب، دواب ... "، وكذلك "مناديل، عصافير، أحاديث، كراسي، تهاويل، ... ".
ومن هذه الأمثلة -وأشباهها- يتضح أن صيغة منتهى الجموع قد تكون على وزن: "مفاعل"، و"مفاعيل"؛ كمعابد ومناديل. وقد تكون على أوزان أخرى ينطبق عليها وصف تلك الصيغة؛ كباقي الأمثلة السالفة.
"ملاحظة":
يجري على ألسنة فريق من النحاة أن صيغة منتهى الجموع هي؛ جمع التكسير المماثل لصيغة: "مفاعل"، و"مفاعيل". لكنهم يريدون بالمماثلة: أن الكلمة خماسية أو سداسية، والحرف الأول مفتوح في الحالتين -سواء أكان ميما أم غير ميم- وأن الثالث ألف زادة، يليها كسر الحرف الأول من حرفين بعدها، أو من ثلاثة أحرف أوسطها ساكن ... فليس المراد بالمماثلة أن تكون جارية على أسس الميزان الصرفي الأصيل الذي يراعى في صوغه عدد الحروف الأصلية والزائدة، وترتيبها، وحركاتها، وسكناتها، مع النطق بالحروف الزائدة كما وردت بنصها في الموزون، وإنما المراد عندهم هو: المماثلة في عد الحروف
__________
1 سبب هذه التسمية موضح في: "هـ" من ص213.
2 وقد يكون أحد الحرفين مدغما في الآخر؛ نحو: خواص، عوام، دواب ...
3 وقد يكون الثاني الساكن ياء مدغمة في مثلها، بشرط وجود هذه الياء المشددة في المفرد أيضا. نحو: كراسي، قساوى "لنوع من الطيور. المفرد: قمري" وبخاتي، "لنوع من الإبل. المفرد: بختي". فليس من هذا ما يكون آخره ياء مشددة زائدة، للنسب أو لغيره: نحو: رباحي "نسبة إلى بلد" حواري "ومن معانيه: الناصر". لأن هذه الياء المشددة ليست في المفرد.
وقد خلت المراجع المتداولة كالصبان، والهمع، والتوضيح، والتصريح من اشتراط أن يكون الساكن حرف علة، وهو هنا الياء؛ ليصير بها الجمع على وزن "مفاعيل" واكتفت جميعا باشتراط سكونه. إلا أن "الخضري" في آخر باب: "جمع التكسير" نص على هذا صراحة، بقوله: "لا يقع بعد ألف التكسير ثلاثة أحرف إلا وأوسطها ساكن معتل؛ كمصابيح". ا. هـ.
ويترتب على هذا أن تكون كلمة "أرادب" المجموعة الممنوعة من الصرف -وأمثالها- غير مشددة الياء، مع أن مفردها. "إردب" بتشديد الباء، ومع أنها مضبوطة بالشكل في: "لسان العرب" بالتشديد ضبطا كتابيا فقط، بوضع شدة فوق الباء، خلافا لبعض المعاجم الأخرى. ويظهر أن ما قاله "الخضري" هو الأعم اأغلب، وأن غيره هو النادر الذي يقتصر فيه على السماع.(4/208)
الأصلية والزائدة، وترتيبها، وحركاتها، وسكانتها، دون اعتبار لمقابلة الحرف الأصلي بمثله، ودون تمسك بالنطق بالحروف الزائدة نصا؛ فيقولون في "جواهر" إنها على وزن "مفاعل" -مثلا- وفي: "ألاعيب" إنها على وزن: "مفاعيل" -مثلا- مع أن الوزن الصرفي الأصيل يوجب أن تكون الأولى على وزان: "فواعل"، والثانية على وزان: "أفاعيل"، فالأمر عند هذا الفريق مجرد اصطلاح يراعى في العمل به ما وضع له. والأحسن: الاقتصار على التعريف الأول؛ لعدم معارضته الميزان الصرفي الأصيل1.
حكم صيغة منتهى الجموع:
وهو حكم غيرها من الأسماء الممنوعة من الصرف؛ فيجب تجريدها من تنوين "الأمكنية"2، كما يجب جرها بالفتحة نيابة عن الكسرة، بشرط ألا تكون مقترنة "بأل" وألا تكون مضافة. فترفع بالضمة، وتنصب بالفتحة، وتجر بالفتحة أيضا، نيابة عن الكسرة، إلا إذا كانت مضافة أو مقترنة بأل؛ فتجر بالكسرة مباشرة3.
ومن أحكامها: أنها إذا تجردت من "أل" و"الإضافة"، وكانت اسما منقوصا4 "مثل: دواع، جمع: داعية، وثوان، جمع: ثانية. وأصلهما:
__________
1 اعترض بعض النحاة على التعريفين السابقين لصيغة منتهى الجموع، وعلى أنها الصيغة المماثلة لصيغة: "مفاعل" ومفاعيل، ووضع تعريفا آخر يحوي شروطا سبعة. واعتراضه ضعيف، وتعريفه طويل معقد، ولا حاجة تدعو إلى تسجيله كما سجله بعض النحاة وشرح غامضه؛ ومنهم الخضري في حاشيته. والصبان.
2 وكذلك لا يدخلها تنوين التنكير -كما سيجيء في "ج" من ص212- وقد يدخلها تنوين العوض كما أوضحنا "في رقم 3 من هامش ص202" ولكنه نوع يخالف النوعين السابقين.
3 راجع "ج" من ص212 ورقم 2 من ص264. وقد اجتمع الصرف -بسبب وجود "أل" وعدمه في قولهم" للمواهب ضرائب، يدعها الموهوب من دمه، وعقله، ونبيل شعوره.
4 هو اسم المعرب الذي آخره ياء لازمة، غير مشددة، قبلها كسرة، مثل: هاد، راض مستقص، متعال ... وهذه الكلمات -وأشباهها- مختومة في أصلها بالياء الساكنة اللازمة التي حذفت بسبب مجيء التنوين -وقد سبق إيضاحه وتفصيل الكلام على أحكامه مختلفة في ج1 ص124 م15.(4/209)
دواعي، وثواني". كان الأغلب1 -هنا- أن تحذف ياؤها، ويجيء التنوين عوضا عنها2. وتبقى الكسرة قبلها في حالتي الرفع والجر. أما في حالة النصب فتبقى الياء، وتظهر الفتحة عليها بغير تنوين؛ نحو: "للرحلات دواع تحتمها. وما عرفت لإغفالها من دواع. فعلى أهل النشاط، والرغبة في المعرفة والتجربة أن يجيبوا دواعي الارتجال؛ والتنقل بين مشارق الأرض ومغاربها ... " فتكون مرفوعة بضمة مقدرة على الياء المحذوفة، ومنصوبة بالفتحة الظاهرة، ومجرورة بفتحة على الياء المحذوفة، ومنصوبة بالفتحة الظاهرة، ومجرورة بفتحة مقدرة على الياء المحذوفة، نيابة عن الكسرة والتنوين المذكور في حالتي الرفع والجر عوض عن حرف الياء3.
فإن كنت سما منقوصا مقترنا بأل، أو مضافا واجب أن تبقى ياؤها في كل الحالات، غير أنها تكون ساكنة في حالتي الرفع والجر وتقدير عليها الضمة والكسرة، وتكون متحركة بالفتحة الظاهرة في حالة النصب، نحو: من الثواني تكون الساعات والأيام؛ فليس العمر إلا الثواني التي نستهين بها. وليست الثواني إلا قطعا من الحياة نفقها، ونحن عنها غافلون.
ومثل: دواعي الخير والشر كثيرة، تكاد تخلط إلا على العاقل الأريب؛ فإنه يميز دواعي الخير، ويستجيب لها سريعا، ويدرك عاقبة الشر، ويفر من دوايعه4 ...
__________
1 ويحسن الاقتصار عليه -انظر "ا" من الزيادة، ص212.
2 لأن تنوين العوض غير ممنوع هنا، بخلاف تنوين الأمكنية -كما سبق في باب التنوين، ج1 م3 ص32.
3 انظر رقم 3 من ص266.
4 مما تقدم يتبين أن المنقوص الذي هو صيغة منتهى جموع، والمنقوص المفرد، يتشابهان عند تجردهما من "أل" والإضافة في وجوب حذف الياء رفعا وجرا، وبقائها مع ظهور الفتحة عليها في حالة النصب، ورفعهما بضمة مقدرة على الياء المحذوفة، كما يتشابهان في وجود التنوين رفعا وجرا.
ويختلفان بعد ذلك في أن المنقوص المفرد المجرد من "أل والإضافة" يلحقه التنوين في حالة النصب أيضا. وتنوينه عند حذف يائه رفعا وجرا فقط -كما سبق- وتنوينه "عوض" عن الياء المحذوفة، وليس تنوين "أمكنية" ولا يجوز تنوينه في حالة النصب.
ويختلفان كذلك في الجر؛ فالمفرد يجر بالكسرة المقدرة على الياء المحذوفة أما الآخر فيجر بفتحة =(4/210)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= على الياء المحذوفة؛ لأنه ممنوع من الصرف.
ويختلفان كذلك في أن حذف الياء في صيغة منتهى الجموع هو للخفة، أو للتخلص من التقاء الساكنين -على خلاف في ذلك- أما في المفرد فللتخلص من التقاء الساكنين، بيان هذا ما يقولون في كلمة منقوصة للمفرد، مثل: "داع"، وأن أصلها: "داعي" "داعين" استثقلت الضمة على الياء فحذفت الضمة؛ فصارت الكلمة: "داعين"، التقى ساكنان لا يصح هنا التقاؤهما: الياء والتنوين المرموز له بالنون الساكنة؛ حذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، فصارت: داع "داعن".
أما في كلمة هي منتهى الجموع؛ مثل: "دواع" فأصلها: دواعي "دواعين" فعل اعتبار أن حذف الياء سابق على منع الصرف، استثقلت الضمة على الياء فحذفت؛ فصارت: دواعين؛ التقى ساكنان الياء والتنوين المرموز له بالنون الساكنة؛ فحذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين؛ فصارت الكلمة: دواع "دواعن". ثم حذف التنوين؛ لأن الكلمة ممنوعة من الصرف، وحل محله تنوين آخر؛ ليكون عوضا عن الياء المحذوفة، وليمنع رجوعها عند النطق، فصارت: "دواع".
أما على اعتبار أن الحذف متأخر عن منع الصرف فالأصل: "دواعي" "دواعين" حذف التنوين لمنع الصرف؛ فصارت الكلمة: "دواعي" استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت الياء طلبا للخفة، وجاء تنوين آخر للعوض عنها، ولمنع رجوعها.
"هكذا يقولون، وقد أوضحنا ما فيه بإسهاب في ج1 ص24 م3 كما أوضحنا هناك ما يحسن الأخذ به"، وكل ما سبق هو في المنقوص الخالي من "أل والإضافة".
فإن كان المنقوص بنوعيه -المفرد والجمع المتناهي- مضافا أو مقرونا بأل، فالحكم واحد؛ هو منع تنوينه، وعدم حذف يائه. ويرفع بضمة مقدرة على الياء، وينصب بفتحة ظاهرة عليها، ويجر بكسرة مقدرة عليها.
"ملاحظة": يقول الصبان في آخر هذا الباب ما نصه:
"لو سميت بالفعل: "يغزو" و"يدعو" ورجعت بالواو للياء؛ أجريته مجرى "جوار" وتقول في النصب: رأيت يرمي ويغزي. قال بعضهم: وجه الرجوع بالواو للياء ما ثبت أن الأسماء المتمكنة ليس فيها ما آخره واو قبلها ضمة؛ فتقلب الواو ياء، ويكسر ما قبلها. وإذا سميت بكلمة: "يرم" من "لم يرم" رددت إليه ما حذف منه، ومنعته من الصرف: "تقول: هذا يرم، ومررت بيرم، والتنوين للعوض، ورأيت يرمى. وإذا سميت بكلمة: "يغز" من قولنا: "لم يغز" قلت: هذا يغز، ومررت بيغز، ورأيت يغزي. إلا أن هذا يراد إليه الواو، وتقلب ياء؛ لما تقدم، ثم يستعمل استعمال "جوار"....". ا. هـ.
وقد نقلنا كلام الصبان هذا في الجزء الأول م16 ص146 وقلنا: إن فيه فوق التخيل البعيد ما يستدعي التوقف بل الإهمال؛ إذ يؤدي الأخذ به اليوم إلى تغيير صورة العلم تغييرا يوقع في اللبس والإبهام، واضطراب المعاملات -ولهذه المسالة صلة بما سيجيء في ص247 وهو: "العلمية ووزن الفعل".(4/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- قلنا1 إن حكم المنقوص من صيغ منتهى الجموع إذا كان مجردا من "أل" والإضافة هو في الأغلب الذي يحسن الاقتصار عليه -حذف يائه رفعا وجرا، مع بقاء الكسرة قبلها، ومجيء التنوين عوضا عنها ...
وإنما كان هو الأغلب لأن بعض العرب2 يقلب الكسرة قبل الياء فتحة؛ قتنقلب الياء ألفا بشرط أن يكون وزن المنقوص كوزن إحدى الصيغ الأصيلة لمنتهى الجموع، والكثير أن يكون مفرده اسما محضا على وزن: "فعلاء" الدالة على مؤنث ليس له -في الغالب- مذكر: كصحراء وصحار؛ وعذراء وعذار؛ فيقول فيهما: صحارى، وعذارى ... ، رفعا، ونصبا، وجرا، بغير تنوين؛ نحو: "في بلادنا صحارى واسعة، إن صحارى واسعة تحيط ببلادنا، تحوي كنوزا نفيسة من المعادن المختلفة، وقد اتجهت العزائم إلى تعمير صحارى لا حدود لها على جانبي وادنيا الخصيب" ... ، فكلمة "صحارى" اسم مقصور، ممنوع من الصرف.
وفي بعض اللهجات العربية تثبت ياء المنقوص في كل أحواله، وتكون ساكنة رفعا وجرا، وتظهر عليها الفتحة نصبا.
ب- صيغة منتهى الجموع لا تكون في اللغة العربية إلا جمع تكسير بالوصف السالف3، أو منقولة عنه. ولا تكون لمفرد بالأصالة.
أما كلمة "سراويل" مرادا بها: الإزار المفرد، فهي أعجمية الأصل4 ... وهي اسم مؤنث في جميع استعمالاتها؛ تقول: هذه سراويل قصيرة لبسها السباح.
ج- وصيغة منتهى الجموع -في كل الاستعمالات- تمنع الاسم من
__________
1 في ص209.
2 كما سيجيء في ص268 -وانظر ما يتصل بهذا في رقم 20 من ص657 باب: جمع التكسير.
3 في ص208.
4 كما سنعرف في ص214، حيث البيان المفيد عن الملحقات بصيغة منتهى الجموع.(4/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تنوين "الأمكنية" وتنوين "التنكير"1 سواء أكان الاسم علما أم غير علم، فلو سمي إنسان باسم على وزن صيغة من صيغها فإنه يمنع من الصرف، لشبه منتهى الجموع؛ لأن مدلولها في هذه الصورة مفرد لا جمع تكسير. وذلك المنع بشرط ألا يكون مضافا، ولا مقرونا بأل -كما تقدم.
د- عرفنا2 أن مثل: كراسي، قماري، بخاتي ... ممنوعة من الصرف بالتفصيل السالف. فإذا نسب إليها حذفت هذه الياء المشددة "التي هي في الجمع وفي مفرده" وحل محلها ياء أخرى مشددة، من نوع آخر؛ هي ياء النسب، ولا يمنع الاسم من الصرف مع ياء النسب3 ...
هـ- تسمى صيغة منتهى الجموع: بالجمع المتناهي أيضا، لانتهاء الجمع إليها؛ فلا يجوز أن يجمع بعدها مرة أخرى. بخلاف كثير غيرها من جموع التكسير فإنه يجمع، نحو: أنعام، وأكلب، يجمعان على: أناعم، وأكالب4.
__________
1 سبقت الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص209.
2 في ص208 ورقم 3 من هامشها.
3 راجع ما يختص بهذا في باب النسب -في 1 من ص715.
4 كما في: المصباح المنير، أيضا.(4/213)
حكم ملحقاتها:
ليس الحكم السابق خاصا بصيغة منتهى الجموع الأصلية -وهي نوع من جمع التكسير، كما عرفنا- ولا مقصورا عليها وحدها، وإنما يشملها ما ألحق بها1. والملحق بها هو: "كل اسم جاء وزنه مماثلا لوزن صيغة من الصيغ الخاصة بها مع دلالته على مفرد. سواء أكان هذا الاسم عربيا أصيلا، أم غير أصيل، علما أم غير علم، مرتجلا2 أم منقولا". فمثال العلم العربي المرتجل الأصيل: "هوازن"؛ اسم قبيلة عربية، ومثال العلم المعرب: "شراحيل" وقد استعمله العرب علما، سمي به عدة رجال ...
ومن الأعجمي المعرب الذي ليس علما "سراويل" -بصورة الجمع- اسم، نكرة، مؤنث، للإزار المفرد3 ...
ومثال الأعلام المرتجلة في العصور الحديثة: "كشاجم4 علم رجل، و"بهادر" علم مهندس هندي، و"صنافير"، علم قرية مصرية، وكذا
__________
1 اكتفى ابن مالك في الكلام على صيغة الجموع بقوله:
وكن لجمع مشبه. "مفاعلا" ... أو: "المفاعيل" بمنع كافلا-10
التقدير: كن كافلا -أي: قائما منفذا- لجمع مشبه "مفاعل أو مفاعيل"، بمنع الصرف. وليس من اللازم أن يكون جمعا حقيقة؛ فقد يكون اسما على وزن الجمع. وإنما ذكر الجمع للتمثيل. وليته قال: "ولكن للفظ" والذي يشبه "مفاعل ومفاعيل" هو ما كان مثلهما في عدد الحروف وحركاتها وسكناتها، سواء أكان مبدوءا بالميم أم بغيرها، فليس المراد، "الميزان الصرفي الحقيقي" كما شرحنا -في ص208.
ثم تكلم على حكم صيغة منتهى الجموع إذا كانت اسما منقوصا، كالجواري؛ فقال:
وذا اعتلال منه كالجواري ... رفعا وجرا أجره كسارى-11
أي: أجر عليه ما تجريه على سار، "وأصله: ساري، اسم فاعل منقوص، فعله: سرى؛ إذا سافر ليلا"، من حذف يائه رفعا وجرا عند تنوينه، وبقائها في حالة النصب، وترك التفصيل الضروري لهذا، وقد عرضناه.
2 العلم المرتجل: ما وضع أول أمره علما، ولم يستعمل من قبل العلمية في معنى آخر، "وقد سبق تفصيل الكلام عليه في باب العلم ج1 ص312 م22".
3 لهذا إشارة في "ب" من ص212.
4 بفتح الكاف. ويجوز فيها الضم؛ فيخرجها عن أوزان صيغة منتهى الجموع، وبالضم يشتهر شاعر عباسي.(4/214)
"أعانيب". فكل اسم من هذه الأسماء -ونظائرها- يعتبر ملحقا بصيغة منتهى الجموع يجري عليه حكمها، بشرط أن يكون دالا على مفرد، وجاريا على وزن من أوزانها1 -كما سبق- لا فرق في هذا بين العلم، "وهو الأكثر"، وغير العلم. ويقال في إعرابه: إنه ممنوع من الصرف؛ لأنه مفرد على وزن صيغة منتهى الجموع، أو: لأنه مفرد ملحق بها2 ... أما هي فممنوعة أصالة، كما أسلفنا؛ لدلالتها على الجمع حقيقة.
وإنما كانت تلك الألفاظ -ومنها سراويل- ملحقات لأنها تدل على مفرد، مع أن صيغتها صيغة منتهى الجموع، وهذه لا يتكون في العربية إلا لجمع أو منقول من جمع. فما جاء على وزنها لمفرد فإنه من الصرف للمشابهة "أي: المماثلة" بين الوزنين. بالرغم من دلالته على مفرد.
__________
1 في هذا يقول ابن مالك:
و"لسراويل" بهذا الجمع ... شبه اقتضى عموم المنع-12
وإنه به سمي أو بما لحق ... به، فالانصراف منعه يحق-13
يريد: أن لكلمة "سراويل" وهي اسم على صورة الجمع شبها بصيغة منتهى الجموع؛ لأن "سراويل" -مع دلالتها على اسم مفرد مؤنث- جارية على وزان أحد الجموع، فاقتضى هذا الشبع منعها من الصرف منعا عام "أي: يشمل كل حالاتها التي تكون فيها دالة بصيغتها على المفرد وحده، كما يرى بغض اللغويين، أو عليه حينا وعلى الجمع الذي مفرده "سرواله" حينا آخر؛ كما يرى غيرهم".
ثم قال بعد ذلك: إن به سمي -أي: بصيغة الجمع المتناهي- وصار علما على شيء فإنه يحق منه هذا المسمى من الانصراف، أي: من الصرف ... يريد أن كل ما سمي بالجمع المتناهي أو بما ألحق بالجمع المتناهي يمنع من الصرف؛ سواء أكان علما مرتجلا أم منقولا، عربيا أو أعجميا ...
2 إذا كانت صيغة منتهى الجموع الأصيلة، "نحو: مكارم"، أو ما ألحق بها، "نحو: شراحبيل" -علما على مفرد، فما سبب منعها من الصرف؟ أهو مجيء العلم على زن مماثل الأوزان صيغة منتهى الجموع. أم هو العلمية وشبه العجمة؛ لأن هذا الاسم علم، وليس بين أوزان المفرد العربي الأصيل ما يكون على هذا الوزن ... ؟ رأيان..
ويقول سيبويه: إذا طرأ على العلم الموازن صيغة منتهى الجموع ما يقتضي تنكيره، وزوال علميته فإنه يظل ممنوعا من الصرف، لبقاء صورة الجمعية، وشكلها. ويقول غيره: لا يمنع من الصرف؛ لأنه كان ممنوعا منه للعلمية القائمة مقام الجمعية، أو للعلمية وشبه العجمة وقد زالت علميته.
والصواب والأيسر رأي سيبويه ومن معه. وبهذا تكون صيغة منتهى الجموع وما ألحق بها ممنوعة من الصرف دائما باطراد، في جميع حالاتها. حتى الحالة التي تكون فيها علما لمفرد ثم زالت علميته ...(4/215)
ب- الذي يمنع صرفه لوجود علتين معا:
لا بد أن تكون إحدى العلتين المجتمعتين معنوية، والأخرى لفظية. وتنحصر العلة المعنوية في "الوصفية" وفي "العلمية"1 وينضم لكل واحدة منهما علة أخرى لفظية لا بد أن تكون من بين العلل السبع الآنية -دون غيرها-2 وهي: "زيادة الألف والنون، وزن الفعل، العدل، التكريب، التأنيث، العجمة، ألف الإلحاق". فينضم للوصفية إما زيادة الألف والنون، وإما وزن الفعل، وإما العدل. وينضم إلى العلمية إما واحدة من هذه الثلاث، وإما التركيب، أو التأنيث، أو العجمة، أو ألف الإلحاق. فالعلل "كما يسميها النحاة" تسع معينة، ليس فيها علة معنوية إلا الوصفية والعلمية. أما السبعة الباقية فلفظية3، لا تصلح واحدة منها لمنع الصرف، إلا إذا انضمت إليها إحدى العلتين المعنويتين.
فالاسم يمنع من الصرف: للوصفية مع زيادة الألف والنون، أو الوصفية مع وزن الفعل -أو الوصفية مع العدل.
وكذلك يمنع من الصرف للعلمية مع الزيادة. أو العلمية مع وزن الفعل. أو العلمية مع العدل، أو العلمية مع التركيب، أو العلمية مع التأنيث، أو العلمية مع العجمة، أو العلمية مع ألف الإلحاق. وفيما يلي البيان:
__________
1 سواء أكان العلم للشخص أم للجنس -كما سبق في الجزء الأول، باب: العلم.
2 اشترطنا أن تكون العلامتان محصورتين فيما سيذكر هنا؛ لأنه قد يوجد في الاسم المعرب علامتان: إحداهما لفظية والأخرى معنوية ويجب صرفه مع وجودهما. وسبب صرفه أن إحداهما ليست معتبرة في منع الصرف، ولا معدودة من أسبابه، كما في كلمة: "أجيمال" تصغير: "أجمال" جمع تكسير لجمل. فإن "أجيمالا" مصروفة بالرغم من اشتمالها على علمتين، إحداهما: معنوية، هي: التصغير الذي يعد فرعا للتكبير، والأخرى لفظية، وهي الجمع الذي يعتبر فرعا للإفراد. مثل هذا يقال في "حائض وطامث" فإنها مصروفتان حتما مع اشتمالها على علتين غير معتبرتين؛ هما: لزوم التأنيث والوصف.
هذا، والسبب الحق في الصرف استعمال العرب ليس غير؛ فإنهم قصروا الممنوع من الصرف على ما سردناه. أما ما يذكره النحاة غير هذا من التعليلات فمرفوض.
3 حتى التأنيث المعنوي في مثل: سعاد - زينب - مي ... فإنه يعتبر في هذا الباب علة لفظية؛ لظهور أثره في اللفظ بتأنيث الفعل له، وعودة الضمير عليه مؤنثا -كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص236.(4/216)
المسأ لة 146:
الكلام على الاسم الممنوع من الصرف للوصفية 1 وما ينضم إليها وجوبا من إحدى العلل الثلاث:
1- يمنع الاسم من الصرف للوصفية مع زيادة الألف والنون إذا كان على وزن "فعلان" -بفتح الفاء وسكون العين- بشرطين: أن تكون وصفيته أصيلة "أي: غير طارئة"، وأن يكون تأنيثه بغير التاء؛ إما لأنه لا مؤنث له؛ لاختصاصه بالذكور، وإما لأن علامة تأنيثه الشائعة بين العرب ليست تاء التأنيث، كأن يكون، بألف التأنيث ... ، فمثال ما ليس له مؤنث: "لحيان"2، لكبير اللحية. ومثال الآخر عطشان، غضبان، سكران، ريان ... ؛ فإن أشهر مؤنثاتها3: عطشى، غضبى، سكرى، ربا ... 3 ومن الأمثلة قولهم: "كان أبو بكر لحيان2، تزيده لحيته وقارا، وهيبة.
__________
1 ليس المراد بالصفة أو الوصف هنا النعت، وإنما المراد بعض الأسماء المشتقة التي ليست أعلاما، "وقد سبق تعريف الاسم المشتق، وبيان مدلوله في ج3 ص144 م98".
2 و2 على وزن "فعلان" "مفتوح الأول" كما في المراجع النحوية المتداولة، وزاد الصبان فقال إنه على وزن: "رخمان".
3 و3 يشترط أكثر النحاة ألا يكون المؤنث على: "فعلانة" ويمثلون للمستوفي الشرط: بعطشان وغضبان، وسكران ... مع أن كتب اللغة -كالقاموس- تأتي للثلاثة بمؤنث مختوم بالتاء، وبمؤنث آخر ليس مختوما بها. فلا مناص من حمل الشرط النحوي على الأكثر الأغلب في: "فعلان"؛ بأن يتجرد مؤنثه من التاء في المشهور إن تعددت مؤنثاته. وبهذا يصرح ابن جني في كتابه: "المحتسب" -ج2 ص72- حيث يقول ما نصه: "يقال رجل سكران، وامرأة سكرى؛ كغضبان وغضبى. وقد قال بعضهم: "سكرانة"، كما قال بعضهم: "غضبانة". والأول أقوى وأفصح..". ا. هـ.
"ملاحظة هامة": أخذ المجمع اللغوي القاهري بالمذهب الكوفي، ولغة بني أسد في إلحاق تاء التأنيث جوازا بكلمة "سكرانة" ونظائرها. وقرار المجمع، وما يتصل به من مذكرات وتقريرات مدون في ص83 و91 من المجلد الشامل للبحوث والمحاضرات التي ألقيت في مؤتمر الدورة الثانية والثلاثين المنعقد ببغداد سنة 1965 وفيما يلي نص القرار كما قدمته اللجنة المختصة، وواف عليه أغلبية المؤتمرين، وأخذ به المجمع نهائيا:
"إن تأنيث "فعلان" بالتاء لغة في بني أسد "كما في الصحاح" -أو لغة بني أسد "كما في المخصص" وقياس هذه اللغة صرفها في انكرة؛ "كما جاء في شرح المفصل". والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء به خيرا، "كما في قول ابن جني"، لذا يجوز أن يقال: "عطشانة وغضبانة، وأشباهها؛ ومن ثم يصرف "فعلان" وصفا، ويجمع "فعلان" ومؤنثة "فعلانة" جمع تصحيح". ا. هـ.(4/217)
كثير الصمت، وافر الحلم. وما رآه الناس غضبان إلا حين يحمد الغضب". وقوله عليه السلام: "ليس بمؤمن من بات شبعان ريان، وجاره جائع طاو".
فإن كان الغالب المسموع على مؤنثه وجود تاء التأنيث في آخره لم يمنع من الصرف؛ نحو: "سيفان، للرحل الطويل الممشوق القامة" "ومصان، للرجل اللئيم"؛ فإن مؤنثهما الشائع: سيفانة ومصانة. وكذلك إن كانت وصفيته غير أصيلة؛ فإنه لا يمنع من الصرف؛ ككلمة: "صفوان" في قولهم: "بئس رجل صفوان قلبه". وأصل الصفوان: الحجر.
وإذا زالت الوصفية وحدها وسمى بهذا الاسم؛ بأن صار علما مزيدا بالألف والنون؛ كتسمية رجل بغضبان، أو بعطشان فإنه يظل على حاله ممنوعا من الصرف؛ لأن الوصفية التي زالت حل محلها العلمية الجديدة؛ وبانضمام العلمية الجديدة إلى الزيادة يجتمع في الاسم العلتان المؤديتان إلى منعه من الصرف1.
2- ويمنع الاسم من الصرف للوصفية مع وزن الفعل2 بالشرطين السالفين
__________
1 وفي الكلام على الوصفية مع زيادة الألف والنون يقول ابن مالك -بعد كلامه على ألف التأنيث أول الباب:
وزائدا "فعلان" في وصف سلم ... من أن يرى بتاء تأنيث ختم-3
"المراد بزائدي "فعلان": الألف والنون والزائدتان في آخره". يقول: إن الاسم يمنع من الصرف إذا اشتمل على الألف والنون الزائدتين بشرط أن يكون وصفا لا يختم آخره بتاء التأنيث عند تأنيثه؛ فلا بد أن يسلم آخره عند التأنيث من هذه التاء، إما لأنه وصف خاص بالرجال، فلا مؤنث له، وإما لأن الغالب على مؤنثه أن يكون بألف التأنيث -وقد سردنا الأمثلة لكل.
2 سواء أكان الوزن خاصا بالفعل، نحو: أجمل - أشرف - أم على وزن مشترك بين الأسماء والأفعال ولكن الفعل به أولى لغلبته في الفعل، أو لدلالته على معنى في الفعل دون الاسم؛ نحو: أحيمر، وأفيضل، "تصغير: أحمر، وأفضل" فهما على وزن: "أبيطر" وهو وزن في الأفعال أكثر. والهمزة في أولهما لا تدل على شيء، مع أنها في الفعل: "أبيطر" تدل على المتكلم. لما سبق وجب مع "أحيمر وأفيضل" من الصرف -"انظر الكلام على لفظ "أعلى" المصغر في ص266 أو كسره، للقوي السمع" فإنها أوصاف أصلية على وزن للفعل، ولكنه وزن مشترك بين الأسماء والأفعال لا يتغلب فيه جانب الفعل.(4/218)
"وهما: ألا يكون مؤنثه الشائع بالتاء، وألا تكون وصفيته طارئة غير أصيلة". ويتحقق الشرطان في الوصف الذي على وزن "أفعل"، ومؤنثه "فعلاء، أو فعلى"؛ نحو: أحمر وحمراء - أبيض وبيضاء - أجمل وجملاء1، ونحو: أفضل وفضلى، وأحسن وحسنى. وأدنى ودنيا ... فهذه الألفاظ - وأشباهها ممنوعة من الصرف. لتحقق الشرطين.
فإن كان الوصف مؤنثه بالتاء لم يمنع من الصرف، نحو: "أرمل" في قولنا: عطفت على رجل أرمل "بالكسرة مع التنوين"، أي: فقير؛ لأن مؤنثه أرملة.
وكذلك ينصرف الوصف إذا كان وصفيته طارئة "أي: ليست أصيلة"، نحو "أرنب" في قولنا: مررت برجل أرنب "بالكسرة مع التنوين، أي: جبان". فالوصف منصرف -بالرغم من أن مؤنثه لا يكون بالتاء في الأغلب- لأن وصفيته طارئة، سبقتها الاسمية الأصيلة، للحيوان المعروف.
ومما فقد الشرطين معا كلمة: "أربع" في مثل: قضيت في النزهة ساعات أربعا؛ لأن مؤنثها يكون بالتاء؛ فتقول: سافرت أياما أربعا؛ ولأن وصفيتها طارئة عارضة؛ إذ الأصل السابق فيها أن تستعمل اسما للعدد المخصوص في نحو: والخلفاء الراشدون أربعة". ولكن العرب استعملتها بعد ذلك وصفا2؛ فوصفيتها ليست أصيلة سابقة. وبسبب فقد الشرطين وجب صرف الكلمة في جميع استعمالاتها.
ومن أمثلة الوصفية الطارئة التي لا يعتد بها في منع الاسم من الصرف كلمات أخرى؛ مثل: "أجدل"، للصقر "وأخيل"، لطائر فيه نقط تخالف
__________
1 قال الكسائي مستدلا:
فهي جملاء كبدر طالع ... بذت الخلق جميعا بالجمال
2 لا يجوز في كلمة: "أربع" منع الصرف؛ سواء أكانت الوصفية ملحوظة أم غير ملحوظة: إذ إن مؤنثها بالتاء؛ فالشرط الثاني مفقود دائما؛ فلا يصح منعها من الصرف.
وإذا كانت كلمة "أربع" مستعملة في الوصفية العارضة، فمعناها يشمل أمرين، ذوات، وعدد. أي: ذوات معناها العدد المخصوص، والكمية المخصوصة؛ "كما هو الشأن في المشتقات؛ كضارب، فإنه يفيد أمرين: الذات والمعنى الذي هو الضرب". أما إذا كانت مستعملة في مجرد العدد فمعناها الكمية العددية المخصوصة، دون دلالة على ذات -وقد شرحنا- في رقم 1 من هامش ص217 المراد هنا من الصفة، كما شرحنا دلالة المشتق على الذات والصفة في الجزء الثالث.(4/219)
في لونها سائر البدن" "وأفعى"، للحية. فكل هذه، وما شابهها، أسماء بحسب وضعها الأصلي لتلك الأشياء؛ ولهذا تصرف.
وقد يصح في هذه الكلمات -ولا يدخل فيها كلمة: أربع- منعها من الصرف على اعتبار أن معنى الصفة يلاحظ فيها، ويمكن تخيله مع الاسمية، وقد وردت ممنوعة من الصرف في بعض الكلام الفصيح، فالأجدل: يلحظ فيه القوة؛ لأنه مشتق من الجدل "بسكون الدال" بهذا المعنى. والأخيل: يلحظ فيه التلون؛ لأنه من الخيلان، بهذا المعنى. والأفعى: يلحظ فيها الإيذاء الذي اشتهرت به، واقترن باسمها1، وعلى أساس التخيل والملاحظة المعنوية مع السماع يجوز منع الصرف. ولكن الأنسب الاقتصار على صرف هذه الأسماء: لغلبة الاسمية عليها.
وهناك ألفاظ وضعت أول نشأتها أوصافا أصلية، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الاسمية المجردة2 وبقيت فيها، فاستحقت منع الصرف بحسب أصلها الأول الذي وضعت عليه؛ لا بحسب حالتها الجديدة التي انتقلت إليها؛ مثل: "أدهم" للقيد3؛ فإنه في أصل وضعه وصف للشيء الذي فيه دهمه، "أي: سواد"، ثم انتقل منه؛ فصار اسما مجردا للقيد؛ ومثل: "أرقم"؛ فإنه في أصل وضعه وصف للشيء المرقوم، "أي: المنقط" ثم انتقل منه فصار اسما للثعبان الذي ينتشر على جلده النقط البيض والسود. ومثل: "أسود" فأصله وصف لكل شيء أسود، ثم انتقل منه؛ فصار اسما للثعبان المنقط بنقط بيض وسود، ومثل: "أبطح" وأصله وصف للشيء المرتمي على وجهه: ثم صار اسما للمكان الواسع الذي يجري فيه الماء بين الحصى الدقيق، ومثل: "أبرق"، وأصله وصف لكل شيء لامع براق، ثم صار اسما للأرض الخشنة التي تختلط فيها الحجارة والرمل والطين.
وقد يجوز صرف هذه الأسماء على اعتبار أن وصفيتها الأصيلة السابقة قد زالت بسبب الاسمية الطارئة. ولكن الاقتصار على الرأي الأول أنسب.
ويفهم مما سبق -في غير كلمة: أربع-4 أن الوصفية الأصيلة الباقية
__________
1 يرى بعض النحاة أن "أفعى" لا مادة لها في الاشتقاق. ويرى آخرون -بحق- أنها مشتقة من فعوة السم، أي: شدته.
2 الخالية من الوصفية والعلمية.
3 المصنوع من الحديد.
4 لما سبق في رقم 2 من هامش الصفحة الماضية.(4/220)
لا يصح إغفالها في منع الصرف. أما الوصفية الأصيلة التي زالت وحل محلها الاسمية الطارئة المجردة؛ فيصح أن يلاحظ كل منهما عند منع الصرف أو لا يلاحظ؛ بمعنى أنه يجوز -عند وجود إحداهما مع العلة الثانية- صرف الاسم ومنعه من الصرف، بشرط تحقق الشرط الثاني. "وهو ألا يكون تأنيث الوصف بالتاء ... "، وأن الأفضل الاقتصار على حالة واحدة؛ فالصرف أفضل إن كانت الاسمية هي الأصيلة، والوصفية هي الطارئة. والمنع أولى؛ إن كانت الوصفية هي الأصيلة والاسمية هي الطارئة. وفي مراعاة هذه الأفضلية مسايرة للسبب العام في منع الصفة من الصرف، وتيسير في الاستعمال1 ...
وإذا سمي بهذا الوصف زالت عنه الوصفية، وحل محلها العلمية؛ فيجتمع فيه العلمية ووزن الفعل؛ وهما علتان يؤدي اجتماعهما إلى منع صرفه؛ كتسمية رجل: أرقم -أو: أسود2:
__________
1 وفي الوصفية الأصيلة والطارئة وما يتبع هذا يقول ابن مالك:
ووصف أصلي ووزن أفعلا ... ممنوع تأنيث بتا؛ كأشهلا-4
يريد: أن الاسم يمنع من الصرف للوصف الأصلي مع وزن "أفعل" -وهو وزن الفعل- الممنوع تأنيثه بالتاء. ومثل للمستوفي الشروط بلفظ: "أشبل"؛ تقول طفل أشبل، وطفلة شبلاء. "والشبهل: تغير لون بياض العين فيختلط بالحمرة. أو الزرقة".
ثم انتقل بعد ذلك للكلام على الوصفية الطارئة والاسمية الطارئة، وحكمهما، والتمثيل لها، فقال:
وألغين عارض الوصفية ... كأربع، وعارض الاسمية-5
فالأدهم: "القيد" لكونه وضع ... في الأصل وصفا -انصرافه منع-6
وأجدل، وأخيل، وأفعى ... مصروفة، وقد ينلن المنعا-7
يقول: ألغ الوصفية العارضة كالتي في أربع، ولا تعتد بها في منع الصرف. وكذلك ألغ الاسمية العارضة. وساق أمثلة للحالتين؛ منها: الأدهم "وهو: اسم للقيد من الحديد" فإنه ممنوع من الصرف مراعاة لوضعه الأول وصفا للشيء الأسود لا مراعاة لاسميته الحالية. ثم ضرب أمثة لألفاظ وضعت في أول أمرها أسماء خالية من الوصفية فصرفت، ويجوز تخيل معنى الوصفية فيها، وملاحظة هذه الوصفية برغم أن تلك الألفاظ لا تزال باقية على اسميتها، ومنها أجدل، أخيل، أفعى.
2 راجع رقم 1 ص217 ورقم 2 من ص264.(4/221)
3- ويمنع الاسم من الصرف للوصفية مع العدل1 في إحدى حالتين:
الأول: أن يكون اسم أحد الأعداد العشرة2 الأول، وصيغته على وزن:
__________
1 سبق معنى الوصفية في رقم1 من هامش ص217 أما العدل فيقولون في تعريفه: إنه تحويل الاسم من حالة لفظية إلى أخرى مع بقاء المعنى الأصلي، بشرط ألا يكون التحويل لقلب، أو لتخفيف، أو لإلحاق، أو لزيادة معنى، فليس من المعدول "أيس" مقلوب "يئس" ولا "فخذ" بسكون الخاء؛ تخفيف "فخد" بكسرها؛ ولا "كوثر" بزيادة الواو؛ لإلحاق الكلمة: بجعفر، ولا "رجيل" بالتصغير؛ لإفادة معنى التحقير وغيره.
والعدل يكون في الصفات وله الحالتان التاليتان. ويكون في الأعلام وله صور متعددة أشهرها: "فعل" المعدول عن فاعل. وكذا "فعال" بالشروط والتفصيلات الآتية عند الكلام على منع الاسم من الصرف للعلمية والعدل. ص256.
والعدل قسمان: أ- تحقيقي: وهو الذي يدل عليه دليل غير منع الصرف؛ بحيث لو صرف هذا الاسم لم يكن صرفه عائقا عن فهم ما فيه من العدل، وملاحظة وجوده؛ كالعدل في: سحر -وسيجيء في ص258، وآخر ص224 ومثنى، فإن الدليل على العدل فيها ورود كل لفظ منها مسموعا عن العرب بصيغة تخالف الصيغة الممنوعة من الصرف بعض المخالفة، مع اتحاد المعنى في الصيغتين، فسحر بمعنى السحر المعروف، وأُخر بمعنى آخر، ومثنى بمعنى اثنين، وهكذا ... فالذي دل على أن كل واحد من هذه الألفاظ -وأشباهها- معدول، ليس الصرف أو عدمه، وإنما هو وروده عن العرب بصيغة أخرى تخالف صيغته الممنوعة بعض المخالفة مع اتحاد معناه في الحالتين برغم هذه المخالفة.
ب- تقديري: وهو الذي يمنع فيه العلم من الصرف، سماعا من العرب، من غير أن يكون مع العلمية علة أخرى تنضم إليها في منع الصرف. فيقدر فيه العدل لئلا يكون المنع بالعلمية وحدها؛ مثل: عمر - زفر ... ؛ فلو سمع مصروفا لم يحكم بعدله، مثل: "أدد" "وهو جد إحدى القبائل العربية كما سيجيء في ص257" وهذا النوع التقديري خاص بالأعلام، ومنها: عمر، زفر، جثم، جمح ... ولا دليل يدل عليه إلا منع العلم من الصرف، وعدم وجود علة أخرى تنضم إلى العلمية في منع صرفه جعلهم يعتبرون العلة الثانية مقدرة. "انظر البيان في رقم 6 من هامش ص256".
وفائدة العدل: إما تخفيف اللفظ باختصاره -غالبا- كما في: مثنى وأُخر، ... وإما تخفيفه مع تفرعه وتمحضه للعلمية، فيبتعد عن الوصفية، كما في: عمر وزفر، المعدولين عن عامر وزافر، لاحتمالهما قبل العدل للوصفية.
وعندي أن كل ما قيل في العدل وتعريفه وتقسيمه، وفائدته، مصنوع متكلف. ولا مرد لشيء فيه إلا السماع. وخير يقال عند الإعراب في سبب المنع إنه العلمية وصيغة فعال أو مفعل، أو فعل، أو غيرها من الصيغ المسموعة نصا عن العرب.
2 هناك رأي يقصره على بعض العشرة، ولا يبلغ به العشرة. لكن الأرجح هو الرأي الأول. ويؤيده الأمثلة التي عرضها سيبويه في كتابه نقلا عن العرب، مستشهدا بها، وكذلك الأمثلة التي أوردها الهمع -ج1 ص26.(4/222)
"فعال" أو: "مفعل"، نحو: أحاد وموحد، ثناء ومثنى، ثلاث ومثلث، رباع ومربع، خماس ومخمس، سداس ومسدس، سباع ومسبع، ثمان ومثمن، تساع ومتسع، عشار ومعشر.
ويقول النحاة: إن كل لفظ من هذه الألفاظ معدول عن لفظ العدد الأصلي المكرر مرتين للتوكيد؛ فكلمة: "أحاد" في مثل: "صافحت الأضياف أحاد، معدولة عن الكلمة العددية الأصيلة المكررة: "واحدا واحدا" والأصل: صافحت الأضياف واحدا واحدا؛ فعدل العرب عن الكلمتين، واستغنوا عنهما بكلمة واحدة -للتخفيف- تؤدي معناهما؛ هي: أحاد، ومثلها موحد"1 وكلتا الكلمتين ممنوعة من الصرف مع أن أصلهما المعدول عنه منصرف، ولا ينظر لهذا الأصل هنا؛ ولهذا كنت كل واحد منهما محتومة المنع من الصرف2.
وكلمة: "ثناء"، في مثل: سار الجند ثناء ... ، معدولة عن أصلها العددي المكرر للتوكيد، وهو: "اثنين اثنين" والأصل: سار الجند اثنين اثنين، فعدل العرب عن الكلمتين، وأتوا بدلهما بكلمة واحدة -للتخفيف- تؤدي معناهما، هي: ثناء، ومثلها: "مثنى" وهاتان ممنوعتان من الصرف مع أن أصلهما مصروف.
ومثل هذا يقال في بقية الأعداد العشرة الأولى المعدولة. والأغلب في هذه الأعداد العشرة المعدولة أن تكون حالا، كالأمثلة السالفة، أو تكون نعتا؛ نحو: شاهدت حول الماء طيورا مثنى؛ وطيورا ثلاث ... أو تكون خبرا؛ نحو: أصابع اليدين والرجلين خماس ... ومن القليل أن تكون مضافا، ومن
__________
1 التعليل النحوي السابق ضعيف؛ فما الدليل على أن العرب الأوائل عدلوا عن استعمال اسم العدد الأصلي المكرر، إلى استعمال الاسم المعدول؟ لا دليل ولا ما يشبهه. والحق أن العرب استعملوا النوعين، وأحدهما مصروف، والآخر ممنوع من الصرف، ولا داعي لذلك التعليل.
2 في هامش الجزء الثاني "م84 ص345" بيان مفيد، تصويب للأساليب المشتملة على التكرار في نحو: صافحت الأضياف واحدا واحدا، وأقبل الجنود اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة.. و.. فقد كان بعض القدماء -كالحريري- يرى أن استعمالها على هذا الوجه خطأ، وما هي بخطأ.(4/223)
الممنوع أن تكون مقرونة بأل1 ...
ويجوز أن يتكرر اللفظ المعدول فيكون التالي توكيدا2 لفظيا للأول، فنقول: سار الجند مثنى مثنى -أو: ثلاث ثلاث ... وهكذا.
ومن العرب من يجيز صرف تلك الألفاظ، فيقول: ادخلوا ثلاث ثلاث، أو ثلاثا ثلاثا ... وهكذا، وعند صرفها يعدها أسماء مجردة من الوصفية، والرأي الأول أكثر وأشهر.
الثانية: كلمة: "أخر"؛ في مثل: "سجل التاريخ لعائشة أم المؤمنين، ولنساء أخر أثرهن في السياسة، والثقافة، ونشر العلم"، فهي جمع، مفردة: "أخرى" و "أخرى" مؤنث للفظ مذكر؛ هو: "آخر" ... "بفتح الخاء"، على وزن: "أفعل"، ومعناه: أكثر مغايرة ومخالفة فلفظ: "آخر" هنا: "أفعل للتفضيل"، مجرد من "أل" والإضافة للمعرفة3؛ فحقه أن يكون مفردا مذكرا في جميع استعمالاته ولو كان المراد مه مثنى، أو جمعا، أو مؤنثا، وهذا ما تقتضيه الأحكام العامة لأفعل التفضيل المجرد منهما؛ "نحو: المتعلم والمتعلمة أقدر على نفع الوطن من غيرهما -الإخوان والأصدقاء أنفع في الشدة، وأبعد عن التقصير- ليس بين النساء أفضل، ولا أحسن من الساهرات على تربية أولادهن ... " وبناء على هذا الحكم العام يكون القياس في المثال السابق وأشباهه أنن قول: لعائشة أم المؤمنين ولنساء آخر -بمد الهمزة وفتح الخاء- أثرهن ... ، لكن العرب عدلو عنه. وقالوا: نساء "أخر" بصيغة الجمع، ومنعوه من الصرف؛ فكان العدل بانضمامه للوصفية سببا في منعه من الصرف. وإن شئت فقل: كان منعه
__________
1 وهنا قال الصبان ما نصه:
"ادعى الزمخشري أنها تعرف؛ فيقال: فلان تزوج المثنى والثلاث.. قال أبو حيان: ولم يذهب إليه أحد. وكما لا تسرف لا تؤنث؛ فلا يقال مثناه مثلا ... ". ا. هـ.
2 فيكون الغرض من التكرير، لا إفادة التكرار تأسيسا، أي: ابتداء؛ لأن إفادة التكرار التأسيسي -وهو المجرد من التأكيد ابتداء- مفهومة قبل التكرار حتما "نص على هذا الأشموني والصبان".
3 لأن المضاف للمعرفة قد يجوز فيه المطابقة وعدمها بالتفصيل الذي سبق بيانه في باب "أفعل التفصيل" -ج3 م12 ص404.(4/224)
من الصرف. وإن شئت فقل: كان منعه من الصرف دليلا على وجود العدل فيه مع الوصفية1.
وإذا زالت الوصفية وحدها وحل محلها العلمية بقي الاسم على منع الصرف؛ لاشتماله في حالته الجديدة على علتين مانعتين معا لصرفه؛ وهما: العلمية والعدل، كتسمية إنسان: "مثنى" أو "ثلاث" أو نحوهما مما كان في أصله وصفا معدولا، ثم صار علما باقيا على حاله من العدول ...
ويتبين مما سبق في الصور الثلاث الخاصة بالوصفية ومعها العلامة الأخرى، أن الوصفية إذا اختفت وحدها بسبب أن الاسم صار "علما مزيدا"، أو: "علما على وزن الفعل". أو: علما معدولا" -بقي هذا الاسم ممنوعا من الصرف كما كان، ولكن للعلمية ومعها العلامة الأخرى2 ...
__________
1 العدل هنا تحقيقي -سبقت الإشارة له في رقم 1 من هامش ص222 وفي هذا التعليل ما في سابقه من ضعف. والعلة الصحيحة هي مجرد الاستعمال العربي الصحيح، وقد بسطنا تعليل النحاة كاملا، وعرضنا رأيهم في "أخر" ومتعهد من الصرف، وفي أنها للتفضيل أو ليست له ... ثم الرد عليه في الجزء الثالث "باب أفعل التفضيل ص310 م112" فلا داعي للتكرار والإطالة؛ علما بأن المعروض في باب التفضيل هام، ومفيد.
2 وفي الصورة الثالثة وهي صورة الوصفية مع العدل يقول ابن مالك:
ومنع عدل مع وصف معتبر ... في لفظ مثنى، وثلاث، وأخر-8
يقول: إن الاسم يمنع من الصرف إذا كان لفظه هو: "مثنى" أو: "ثلاث"، أو "أخر" ولم يذكر إيضاحا ولا تفصيلا إلا ما ذكره في البيت التالي من أن مثنى وثلاث يشبههما ما جاء على وزنهما من ألفاظ الأعداد الأربعة الأولى. قال:
ووزن مثنى وثلاث كهما ... من واحد لأربع؛ فليعلما-9
وأهمل ما زاد على الأربعة:
ثم انتقل بعد هذا مباشرة إلى ذكر الأبيات الأربعة الخاصة بصيغة منتهى الجموع والتي أول كل منها.
وكن لجمع مشبه مفاعلا ... ...........................-10
وذا اعتلال منه كالجواري ... ........................-11
ولسراويل بهذا الجمع ... .......................-12(4/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- لم يحكم النحاة على "أخرى" الممنوعة من الصرف بأنها معدولة؛ لاشتمالها على ألف التأنيث المقصورة، وهذه أقوى في منع الصرف من العدل. وأما آخران وآخرون فمعربان بالحروف فلا دخل لهما في منع الصرف.
ب- قد تكون: "أخرى" بمعنى "آخره" -بكسر الخاء- وهي التي تقابل كلمة: "أولى" كالتي في مثل: "قالت أخراهم لأولاهم ... وقالت أولاهم لأخراهم ... " وفي هذه الصورة تجمع كلمة: "أخرى" على "أخر" المصروفة؛ لأنها غير معدولة؛ لأن مذكرها هو: "آخر" -بكسر الخاء- الذي يقابل "أول" بدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} . أي: الآخرة. يؤيد هذا قول تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} ، والقصة واحدة، فليست "أخرى" التي هي بمعنى: "آخرة" من باب أفعل التفضيل.
والفرق أن أنثى المفتوح الخاء1 لا تدل على انتهاء، كما لا يدل عليه مذكرها، فلذلك يعطف عليه مثلها من جنس واحد، كقولك: أقبل رجل، وآخر، وآخر ... أقبلت سيدة. وأخرى، وأخرى، أما أنثى المكسور الخاء2 فتدل على الانتهاء، ولا يعطف عليها مثلها من جنس واحد. كما أن مذكرها كذلك ...
__________
=
وإن به سمي أو بما لحق ... ...............................-13
وقد شرحنا الأبيات الأربعة في مكانها الأنسب "ص214 و215" كي يكون الوضوح متصلا بعضه ببعض، وبعدها -في الألفية- الأبيات الخاصة بمنع الاسم من الصرف للعلمية وسبب آخر معها، وسيجيء شرحها في موضعها.
1 مفتوح الخاء هو: "آخر" ومعناه: أكثر مغايرة ومخالفة -والصيغة للتفضيل كما أسلفنا- وأنثاء هي: "أخرى" التي تجمع على: "أخر" الممنوعة من الصرف.
2 مكسور الخاء هو: "آخِر" الذي معناه: "أخيرا" أي: مقابل للأول ويدل على النهاية. ومؤنثه "آخرة"، أو "أخرى" التي تجمع تجمع على "أخر" المصروفة.(4/226)
المسألة 147:
الكلام على الاسم الممنوع من الصرف للعلمية 1 مع إحدى العلل السبع:
1- يمنع الاسم من الصرف إذا كان علما، مركبا تركيب مزج. والمراد بالتركيب المزجي2: كل كلمتي امتزجتا "أي: اختلطتا" بأن اتصلت ثانيتهما بنهاية الأولى حتى صارتا كالكلمة الواحدة؛ من جهة أن الإعراب أو البناء يكون على آخر الثانية -في الرأي الأشهر- أما آخر الكلمة الأولى فقد يكون ساكنا؛
__________
1 ملاحظة هامة: العلم هنا يشمل علم الشخص وعلم الجنس، "طبقات لما سبق في الجزء الأول، باب العلم". والممنوع من الصرف للعلمية ومعها علة أخرى لا يدخله تنوين "الأمكنية"، فلو زالت العلمية لوجب تنوينه تنوين تنكير -كما سنعرف في ص231 و265- إن لم يوجد سبب آخر للمنع.
2 سبق الكلام على المركب المزجي في باب العلم "ج1 ص270 م22" ومن أهم ما قلناه هناك: إن المركب المزجي لا يكون إلا من كلمتين، فقط، "وقد تفصل بينهما الواو؛ في بعض الصور السماعية؛ كما في: "كيت وكيت، ذبت وذبت" طبقا للبيان الآتي في ص583" ولا يصح مزج أكثر منهما. ومعنى امتزجنا صارتا في العلم كلمة واحدة ذات شطرين، كل شطر منهما بمنزلة الحرف الهجائي الواحد من الكلمة الواحدة "العلم" "كما نص على هذا شارع "المفصل" ج4 ص116".
والأصل قبل التركيب أن يكون لكل واحدة منهما معنى يخالف معنى الأخرى. أما بعد التركيب المزجي فالأمر يختلف: فإن كان هذا التركيب علما من النوع الذي تتركز فيه علامات الإعراب أو البناء على آخر الثانية فقط؛ كسيبويه، وبعلبك وغيرهما ... من الأمثلة المعروضة هناك -في ص279، ونظائرها زال المعنى الأصلي لكل منهما نهائيا، ولا يصح ملاحظته؛ إذ ينشأ من المزج معنى جديد، مستحدث، لا صلة له بالمعنى السابق لهما أو لإحداهما.
أما إن كان هذا المركب المزجي من النوع الآخر الذي يبنى على فتح الجزأين "وهو المذكور في ج1 ص281"، كالمركبات العددية مثل: ثلاثة عشر، وأربعة عشر ... أو المركبات الظرفية، نحو: صباح مساء ... أو الحالية؛ نحو فلان جاري بيت بيت، أي: ملاصقا، أو باقي المركبات الأخرى التي تبنى بالمعنى الذي كان لكل كلمة قبل مزجها بأختها؛ إذ يتكون المعنى الجديد من معناهما السابق، مع بعض زيادة تنضم إيه، دون إلغاء لمعناهما السابق، أو إهمال لملاحظته في تكوين المعنى المستحدث. فأساس المعنى الجديد هو معناهما القديم مع ضم زيادة إليه. وهذا النوع ملاحظ فيه قبل المزج أنه على تقدير "واو العطف" بين الكلمتين وأنهما في حكم المتعاطفين؛ فمعناهما بملاحظتهما قبل التركيب هو معناهما الجديد بعد المزج ملاحظتها "راجع شرح المفصل ج1 ص65 وج4 ص124".(4/227)
نحو: برسعيد1، نيويرك2، جردنستي3، وقد يكون متحركا4 بالفتحة "وهذا هو الأكثر"؛ نحو: طبرستان5، "خالويه6، سيبويه7، في لغة من يعربهما ولا يبنيهما"8، حضرموت9 بعلبك10.
أحكامه:
أشهر أحكام العلم المركب تركيب مزج -غير العددي. وأشباهه11- هو:
أ- أن يترك آخر جزئه الأول على حاله قبل التركيب، من السكون أول الحركة، ونوعها؛ فلا يتغير ضبط آخر ذلك الجزء الأول مطلقا بعد التركيب، ولو كان واوا ساكنة أو ياء ساكنة12، ولا يجري عليه إعراب ولا بناء، ولا ينظر إليه إلا على اعتباره بمنزلة جزء من كلمة، وليس كلمة مستقلة -ولهذا يتصل بالثاني كتابة إن أمكن وصل حروفهما الهجائية.
__________
1 اسم أجنبي، معناه: ميناء سعيد، ويطلق على مدينة مصرية على الساحل الشمالي الشرقي. ويصح نطقها وكتابتها بواو بعد الباء، ولكن تتحرك الراء بعدها للتخلص من الساكنين.
2 معناه؛ "يرك الجديدة"، وهو اسم مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية.
3 اسم أجنبي، معناه: "حديقة ستي" ويطلق على حي مشهور في القاهرة، على الساحل الشرقي للنيل.
4 وقد تكون حركة الأول الكسرة -أحيانا- كما في بعض الأصوات المركبة تركيبا مزجيا؛ نحو: "قاش ماش" اسم لصوت طي القماش -طبقات للبيان السالف في رقم 2 من هامش ص163.
5 اسم مدينة فارسية، مركبة من طبر، وستان، ومعنى ستان: مكان.
6 عالم لغوي، نحوي، في القرن الرابع الهجري.
7 اسم إمام النحاة، عمرو بن عثمان المتوفى حول سنة 180هـ، ومعنى: "سيب" باللغة الفارسية: التفاح. ومعنى "ويه": رائحة. وتقدم المضاف على المضاف إليه كالمألوف في اللغة الفارسية. فمعناه: رائحة التفاح.
8 لأن منع الصرف مقصور على الأسماء المعربة؛ ولا يكون في المبنية -كما تقدم.
9 اسم بلد في اليمن.
10 اسم بلد في لبنان. وأصله مركب من كلمتين: "بعل" "اسم صنم" و"بك" اسم رجل اشتهر بعبادته.
11 أما حكم العددي وأشباهه فيجيء في: "ب" من ص231.
12 ولو كانت هذه الياء آخر اسم منقوص فإنها ساكنة كذلك -كما سيجيء في رقم 2 من هامش الصفحة التالية.(4/228)
ب- يجري الإعراب على آخر الجزء الثاني وحده، فيعرب إعراب الممنوع من الصرف؛ فيرفع بالضمة، وينصب بالفتحة، ويجر بالفتحة نيابة على الكسرة، مع امتناع التنوين في الحالات الثلاث؛ كالشأن في كل اسم ممنوع من الصرف، مجرد من أل والإضافة. ومن الأمثلة: "غادرنا "نيويرك" في طائرة سياحية، قاصدين إلى "بعلبك"؛ فوصلناها بعد عشرة ساعة. ولما نزلنا في مطارها قال المذيع: من كانت "برسعيد" غايته فليستعد؛ فهذه الطائرة متجهة إليها".
ج- من العرب من يجعل الجزء الأول مضافا تجري عليه جميع حركات الإعراب على حسب حاجة الجملة -ولا يمنع من الصرف ما دام مضافا- ويكون الثاني هو المضاف إليه المجرور دائما1. فإن كان الأول "المضاف" مختوما بحرف عليه قدر على هذا الحرف جميع حركات الإعراب -حتى الفتحية- رفعا ونصبا وجرا ومن غير منع صرف. ولا فرق في هذا بين الألف، والواو، والياء، ثم يجيء بعده القسم الثاني "المضاف إليه" فيكون ممنوعا من الصرف إن استحق المنع؛ وإلا فينصرف2. وعلى هذا لرأي يفصل الجزءأن في الكتابة: "هذه بعل بك -زرت بعل بك- تمتعت ببعل بك". ومثال ما يكون فيه الأول "المضاف" صحيح الآخر معربا ويكون المضاف إليه ممنوعا من الصرف: "من أشهر المدن الفارسية القديمة رام هرمز -عرفت أن رام هرمز
__________
1 وهذه الإضافة لفظية؛ لأن كل جزء من الجزأين بمنزلة حرف الهجاء في الكلمة الواحدة كالميم، والعين ... ومن مثل: معدن ... فهو يتمم الآخر. وإنما فائدتها تخفيف التركيب، والتنبيه إلى شدة الامتزاج. "وقد سبقت لهذا إشارة في ج3 م93 ص47".
2 للمركب المزجي أحكام إعرابية أخرى نمهملها؛ لقلة الوارد بها؛ وعدم أهميتها، ومنها بناء الجزأين على الفتح رفعا، ونصبا، وجراء؛ كبناء خمسة عشر وأشباهها؛ فيكون في آخر كل جزء فتحة لا تتغير مطلقا في جميع حالات الإعراب؛ بشرط أن يكون آخر الجزء الأول صحيحا. فإن كان معتلا "ألفا، أو واوا، أو ياء" وجب إبقاء الأول على سكونه، ويقتصر البناء على الفتح على الثاني في جميع أحواله. وعلى هذا فالمركب المزجي إذا كان جزؤه الأول معتلا -يظل ساكنا في كل اللغات السالفة.
وفي منع الاسم من الصرف للعلمية والتركيب المزجي يقول ابن مالك مقتصرا على بيت واحد:
والعلم امنع صرفه مركبا ... تركيب مزج، نحو: معديكربا-14(4/229)
مدينة أثرية- في رام هرمز صناعات يدوية دقيقة". فكلمة: "رام" في الأمثلة السالفة معربة على حسب الجملة؛ وهي مضاف، وكلمة: "هرمز" مضاف إليه، مجرورة بالفتحة بدل الكسرة في كل الاستعمالات؛ لأنها علم أعجمي1، يمنع من الصرف هذا ...
ومثال المضاف الذي آخره حرف علة تقدر عليه جميع الحركات، وبعده الجزء الثاني "المضاف إليه" غير ممنوع من الصرف: "صافي ورود" اسم قرية مصرية. تقول: "صافي ورود في الصحراء الغربية -أرغب أن أشاهد صافي ورود "بسكون الياء"-2 لم أذهب إلى صافي ورود". فكلمة: "صافي" مرفوعة بضمة مقدرة على الياء، ومنصوبة بفتحة مقدرة عليها، ومجرورة بكسرة مقدرة أيضا. وهي مضافة، وكلمة: "ورود" مضاف إليه مجرورة منونة؛ لأنها غير ممنوعة من الصرف؛ لعدم وجود ما يقتضي المنع. ومثلها: "معدي كرب" اسم رجل "وهو مركب من جزأين ... "3.
ومثال معتل الجزء الأول الذي يليه الجزء الثاني "المضاف إليه" ممنوعا من انصراف: "رضا عائشة"، اسم امرأة فارسية -حادي شمر. اسم مدينة وكذا: نيويرك.
__________
1 هي وحدها بغير صدرها علم أعجمي في الأصل.
2 وهذا النوع من المنقوص ينصب بفتحة مقدرة -كما سبق في رقم 2 من الهامش السابق، وفي "جـ" من ص229، وفي ج1 ص172 و177 م16.
3 ويقال إن أصلها: "سعدي" على وزن: "مفعل"؛ اسم مكان أو زمان من "عدا" بمعنى: جاوز، وكان القياس فتح الدال. و: "كرب" بمعنى: "فساد".
وقيل: أصله، معدى، بفتح الدال، ثم حذفت الألف "المكتوبة ياء"، وجاءت ياء النسب، وكسر ما قبلها وخففت هذه الياء؛ فصارت غير مشددة. فوزنه: "مفعى". وكل هذا لا أهمية له بعد التركيب.(4/230)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- إذا كان الاسم ممنوعا من الصرف للعلمية مع التركيب المزجي -نحو: خالويه- وفقدهما، أو أحدهما، وجب تنوينه إن لم يوجد داع آخر للمنع، فمثال فقدهما معا: زارنا خال "وهو: أخو الأم" -استقبلت خالا- فرحت بخال.
ومثال فقد التركيب: هذا خال "علم رجل" -إن خالا مقبل- سعيت إلى خال.... - ومثال فقد العلمية: من أشهر خالويه في اللغة وفروعها بين أصحاب هذا الاسم؟ بتنوين كلمة: "خالويه" تنوين تنكير1 بسبب فقدها العلمية.
ب- إذا كان المركب إضافيا وجب أن يكون الإعراب على جزئه الأول المضاف، ولا يصح منه من الصرف ما دام مضافا. أما جزؤه الثاني فمضاف إليه، ينون أو لا ينون على حسب ما ينطبق عليه من أحكام الصرف وعدمه.
وإذا كان المركب إسناديا وجب أن يحكى على ما هو عليه من غير تغييره. والصحيح أنه معرب لا مبني.
أما المركب العددي مثل: "ثلاثة عشر" وأخواته المركبة -فمبني على فتح الجزأين عند البصريين. إلا "اثني عشر"، فمعربات إعراب المثنى -كما سبق في باب المثنى- والكوفيون يجوزن في العدد المركب إضافة صدره إلى عجزه. "وسيأتي البيان في باب المعدد2.
فإن سمي بالعدد المركب جاز إبقاؤه على بناء طريفة، وجاز إعرابه ما لا ينصرف للعلمية والتركيب، وجاز إضافة صدره إلى عجزه.
__________
1 انظر رقم 1 من هامش ص227 وقد سبق الكلام على تنوين التنكير مفصلا "في ج1 ص23 م3" وأنه يلحق بعض الأسماء ليكون وجوده دليلا على أنها نكرة، وحذفه دليلا على أنها معرفة. والأغلب دخوله على الأسماء المبنية. ولكنه قد يلحق الأسماء المعرفة غير المنصرفة، لغرض أوضحناه هناك وهو الدلالة على تنكيرها؛ كقولك: مررت بأحمد -بالتنوين- إذا كنت تريد الإخبار عن واحد معين من أشخاص متعددين، اسم كل منهم: أحد. "انظر رقم 2 من هامش ص249 ورقم3 من هامش ص251".
2 ص520.(4/231)
أما المركب من الأحوال نحو: "أنت جاري بيت بيبت"، ومن الظروف نحو: أعمل صباح مساء ... ؛ فيجوز فيه عند التسمية به، وصيروه علما أحد أمرين1:
إما إضافة الصدر إلى العجز مع إعراب الصدر على حسب الجملة؛ نحو: بيت بيت نظيف -صباح مساء محبوب ...
وإما بقاء التركيب مبنيا على فتح الجزأين دائما؛ ويكون في محل رفع أو نصب، أو جر، على حسب حاجة الجملة فيقال: بيت بيت نظيف، صباح مساء محبوب ...
__________
1 راجع حاشية "خالد" على "التصريح" ج2 باب: "ما لا ينصرف" عند الكلام على العلم المركب تركيب مزج.(4/232)
2- ويمنع الاسم من الصرف إذا كان علما مختوما بألف ونون زائدتين: سواء أكان العلم للإنسان أم لغيره؛ نحو: بدران، حيان، مروان، قحطان، غطفان ... أسماء أشخاص، ونحو: شعبان، رمضان، من أسماء الشهور العربية، ونحو: "عمان" اسم بلد في الأردن، و"رغدان" اسم قصر بها.
وحكم هذا النوع المنع من الصرف بشرطية "وهما: العلمية الزيادة" تقول: عمان حاضرة البلاد الأردنية، وفي أحد أطرافها قصر فخم، يسمى: "رغدان" بينه وبين عمان بضعة أميال ...
فإن كان الحرفان: "الألف والنون" أصليين، معا، أو النون1 وحدها، لم يمنع الاسم من الصرف؛ فمثال الأصليين: بان2 - خان3. ومثال أصالة النون: أمان، لسان، ضمان.
وإن كانا معا صالحين للأصالة، وللزيادة، أو كان أحدهما هو الصالح وحده جاز في الاسم الصرف وعدمه4؛ نحو: حسان، علم على رجل5، فيجوز أن يكون مشتقا من الحس، بمعنى: الشعور، فيمنع من الصرف للعلمية وزيادة الحرفين. ويجوز أن يكون مشتقا من الحسن فلا يمنع؛ لأن الزائد حرف واحد. وكذلك: "غسان"؛ قد يكون من الغس؛ بمعنى: دخول البلاد؛ فيمنع من الصرف؛ للعلمية وزيادة الحرفين. وقد يكون: من الغسن؛ بمعنى: المضغ؛ فلا يمنع؛ لأن الزائد حرف واحد. وودان، قد يكون من الود؛ بمعنى: الحب؛ فيمنع، أو: من الودن، بمعنى: نقع الشيء في الماء ونحوه؛ فلا يمنع6 ...
__________
1 الأعم الأغلب أن تكون "النون" هي الأصلية؛ وقبلها "الألف" زائدة. أما العكس فلا يكاد يوجد.
2 اسم جبل بالحجاز، واسم الشجر المعروف بشجر: "البان".
3 دكان، أو فندق.
4 باعتبارين مختلفين.
5 واسم شاعر الرسول عليه السلام.
6 وفي منع الاسم من الصرف للعلمية مع الزيادة يقتصر ابن مالك على قوله:
كذاك حاوي زائدي فعلانا، ... كغطفان، وكأصبهانا
أي: كذلك يمنع الاسم من الصرف إذا كان علما حاويا الحرفين الزائدين في "فعلان" وهما: =(4/233)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يقول الصرفيون: إن علامة زيادة الألف والنون هي سقوطهما في بعض التصريفات؛ -كما في "حمدان" و"فرحان"، عامين؛ حيث يمكن ردهما إلى: حمد، وفرح ... -بشرط أن يكون قبلهما أكثر من حرفين أصليين بغير تضعيف الثاني؛ نحو: عثمان -مروان- رشدان ... فإن كان قبلهما أكثر من حرفان أصليان ثانيهما مضعف جاز أمران: إما اعتبار الحرف الذي حصل به التضعيف أصيلا؛ فيؤدي هذا إلى الحكم بزيادة الألف والنون؛ لوقوعهما بعد ثلاثة أحرف أصلية؛ وإما عدم اعتباره أصيلا فيؤدي إلى الحكم بأصالة النون. ومن الأمثلة: حسان -عفان- حيان ... فتمنع من الصرف على اعتبارها من الحس؛ بمعنى: الإحساس -مثلا- ومن العفة -ومن الحياة. ويكون وزنها "فعلان". وتنصرف على اعتبارها من الحسن، والعفن، والحين "بمعنى الهلاك"، وتكون على وزن "فعال" لأن نونها أصلية ... ومن الأمثلة: شيطان: فهو إما من شطن بمعنى: ابتعد، وإما من شاط بمعنى: احترق ...
وإذا كان العلم ذو الزيادتين مسموعا عن العرب الفصحاء بصورة واحدة هي المنع أو عدما فالأولى اتباع المسموع، كما في "حسان" شاعر الرسول، فالمسموع عنهم منعه في الحالات المختلفة، ولهذا يحتم أكثر النحاة منعه ... ولكن هذا التحتيم تحكم وتشدد بغير حق.
__________
= الألف والنون. وليس من اللازم أن يكون على وزن "فعلان" وإنما اللازم احتواؤه على الحرفين الزائدين، نحو: عمران وسفيان و"غطفان" "علم على فرع من فروع قبيلة "قيس" العربية. والغطف: اتساع النعمة" و"أصبهان" "وفي هذه الكلمة لغات كثيرة: منها كسر الهمزة، ومنها: إبدال بائها فاء ... " ولا تكون الألف والنون زائدتين إلا على اعتبار أن أصل الكلمة: عربي: أما على الرأي القائل إنها العجمية -وهو الصواب- فلا تمنع للعلمية مع الزيادة، وإنما تمنع للعلمية مع شيء آخر "سيجيء في ص242"؛ هو العجمة.(4/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ب- لو أبدلت النون الزائدة لاما -كما يجري في بعض اللهجات القديمة- منع الاسم من الصرف أيضا إذا كان مستوفيا شروط المنع. كقولهم: أصيلال، في "أصيلان"، التي هي تصغير شاذ لكلمة: "أصيل"1 فإذا سمي إنسان: "أصيلال" منع الصرف؛ للعلمية وزيادة الألف واللام، إعطاء للحرف المبدل، حكم الحرف المبدل منه.
ولو أبدل الحرف الأخير نونا -في بعض اللهجات القليلة، لمن يمنع من الصرف، كقول بعض العرب: حنان، وهي: الحناء، فأبدلوا الهمزة الشائعة نونا؛ فلو سمى رجل حنانا" لم يمنع من الصرف.
ويفهم مما تقدم أن الحكم بمنع الصرف للزيادة يعتمد على الحرف الزائد في المبدل منه نصا، قبل أن يصير الزائد حرفا آخر بسبب البدل؛ أي: أن العبرة هي بالأصل الشائع، لا بالبدل.
ج- إذا كان الاسم ممنوعا من الصرف للعلمية مع الزيادة وفقد العلتين أو: إحداهما -وجب تنوينه، إن لم يوجد داع آخر للمنع؛ فمثال ما فقد العلمية وحدها كلمة: "بدران" في مثل: "ادع بدرنا" واحدا من بين أصحاب هذا الاسم"، والتنوين هنا للتنكير الذي أشرنا إليه2، ومثال ما فقد الزيادة: "بدر" علم رجل، تقول: فرحت بلقاء بدر. ومثال ما فقدهما معا: "بدر" بمعنى: قمر، أحد البدور السماوية ...
__________
1 الوقت بين العصر والمغرب.
2 في رقم 1 من هامش ص227 و249 ورقم 3 ص251.(4/235)
3- ويمنع الاسم من الصرف للعلمية مع التأنيث1. ومنعه إما واجب، وإما جائز.
أ- فالواجب يتحقق في صور2؛ منها: أن يكون العلم مختوما بالتاء الزائدة؛ المتحركة، الدالة على التأنيث. لا فرق بين العلم المذكر؛ "نحو: عنترة، معاوية، طلحة، حمزة ... " والعلم لمؤنث؛ "نحو: فاطمة، عبلة، مية، بثينة ... " ولا بين الثلاثي؛ "كأمة، هبة، عظة ... أعلام نساء"، وغير الثلاثي؛ كبعض الأعلام السالفة، ولا بين ساكن الوسط، ومتحركة ... ، فجميع الأعلام المختومة بالتاء الزائدة، المتحركة، الدالة على التأنيث ممنوع من الصرف حتما3 ...
__________
1 سبق "في رقم 3 من هامش ص216" أن التأنيث ولو كان معنويا -يعتبر علة لفظية من علل منع الصرف. ومثال المعنوي الأعلام المؤنثة: زينب، سعاد، مي، سوسن ... فإن هذه الأعلام مؤنثة تأنيثا معنويا؛ لعدم وجود علامة تأنيث ظاهرة في لفظها، ولكنها تعتبر في هذا الباب ممنوعة من الصرف لعلتين؛ إحداهما العلمية، والأخرى التأنيث الذي يعتبر هنا علة لفظية، لظهور آثاره في اللفظ. بتأنيث الضمير العائد على المؤنث، وبتأنيث الفعل له ...
هذا والمراد بالعلمية هنا ما يشمل العلمية الكاملة وجزء العلمية -طبقا للتوضيح الآتي في "و" من ص241.
2 تخضع هذه الصور أيضا للحكم الآتي في: "أ" ص239.
3 وليس من هذه النوع التاء في مثل: "أخت وبنت" فإنها -في الراجح- ليست للتأنيث، وإنما هي أصل من أصول الكلمة، كتاء: "سحت" فلو سمي بما هي فيه مذكر لم يجز منعه من الصرف.
وبهذه المناسبة نذكر أن قولنا: "التاء الزائدة في آخر الاسم للدلالة على التأنيث" أنسب وأدق من غيره فبعض النحاة يقتصر على تسميتها: "تاء التأنيث المتحركة المتأخرة" وبعضها يسميها: "هاء التأنيث". وعلى كل منهما اعتراض؛ قال الصبان، ج1 باب: المعرب والمبني عند الكلام على الملحق بجمع المذكر ما نصه: "قال في "التصريح": الفرق بين تاء التأنيث وهائه أن تاء التأنيث لا تبدل في الوقف هاء. وتكتب مجرورة "أي: متسعة مفتوحة" وهاء التأنيث يوقف عليها بالهاء وتكتب مربوطة". ا. هـ. وليس في هذا الكلام ما يدل على وجوب زيادة هذه التاء زيادة محضة لتخرج التاء في مثل: "أخت وبنت" لأنها ليست زائدة، وإنما هي مبدلة من أصل؛ هو الواو ولا يمنع الاسم من الصرف إلا مع التاء الزائدة المحض -انظر رقم 3 من هامش ص586 حيث الكلام له صلة بما هنا.
وإلى المؤنث بالتاء أشار ابن مالك بالشطر الأول من بيت نصه:
كذا مؤنث بهاء مطلقا ... .......................-16
أي: يمنع الاسم من الصرف كالذي منع سابقا. ولكن السبب هنا هو العلمية والتأنيث اللفظي الذي تدل عليه تاء التأنيث. "وسماها": "الهاء" كغيره من بعض اللغويين والنحاة؛ نظرا لأنه يوقف عليها بالهاء -كما سبق- وكان الأول أن يقول ما قلناه: "بتاء" ... أما الشطر الثاني للبيت فيأتي في رقم 2 من هذا الهامش.(4/236)
ومنها: أن يكون غير مختوم بتاء التأنيث ولكنه علم لمؤنث، وأحرفه تزيد على ثلاثة؛ نحو؛ زينب، سعاد، مصباح، اعتماد، ... أعلام نساء.
ومنها: أن يكون غير مختوم بها، ولكنه علم لمؤنث، ثلاثي، محرك الوسط؛ نحو: قمر، تحف، أمل ... أعلام نساء.
ومنها: أن يكون غير مختوم بها. وغير محرك الوسط. ولكنه علم لمؤنث ثلاثين أعجمي؛ نحو: "دام، علم فتاة" - و"جور1. علم بلد" - و"موك1، علم قصر" - و"سبب، علم فاكهة".
ومنها أن يكون ثلاثيا مخالفا لكل ما سبق من الحالات، ولكنه علم منقول من أصله المذكور الذي اشتهر به إلى مؤنث: نحو: سعدن صخر، قيس ... أعلام النساء2....
__________
1 و1 قد يقال: كيف تمنع كلمة: "جور" وكلمة: "موك" من الصرف وجوبا مع أنهما من أسماء الأماكن. وأسماء الأماكن يجوز منعها وعدم منعها -كما سيجيء في: "ا" من الزيادة ص239- أجابوا: أن جواز الأمرين يكون حيث لا توجد العجمة -أو علة أخرى- في العلم المؤنث، فإن وجدت مع العلمية علة أخرى رجح جانب المنع وحده، تبعا للمسموع عن العرب في هذا.
2 وفي هذا يقول ابن مالك في العلم المؤنث الخالي من تاء التأنيث "مع ملاحظة أن صدر البيت الأول قد سبق في رقم 3 من الصفحة السابقة:
.......................................... ... وشرط منع العار كونه ارتقى-16
فوق الثلاث. أو: كجور، أو: سقر ... أو: زيد اسم امرأة، لا اسم ذكر-17
يريد: أن العلم المؤنث العاري من تاء التأنيث إنما يمنع من الصرف بشرط ارتقاء أحرفه على الثلاثة، "أي: زيادتها على الثلاثة" وإلا فبشرط أن يكون أعجميا؛ مثل: "جور"، أو أن يكون ثلاثيا محرك الوسط، نحو: "سقر"، أو أن يكون علما منقولا من مذكر لمؤنث، ومثل له: بـ"زيد" علم امرأة. ثم قال:
وجهان في العادم تذكيرا سبق ... وعجمة؛ كهند، والمنع أحق-18
وجهان في العادم ... أي: يصح وجهان في العلم الذي عدم وفقد التذكير السابق وصفه، كما عدم وفقد العجمة -ولا بد أن يكون ساكن الوسط. مثل: هند.. ومنعه أولى.(4/237)