. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13– كلما ظرف مركب من كلمتين هما: "كل" و"ما"، وهو بهذا التركيب اللفظي يفيد تكرار المعنى؛ نحو: كلما رأى الناس المصلح أكبروه، ويقول النحاة: إن كلمة "كل" فيه منصوبة باتفاق، وأنها مضافة إلى كلمة "ما" المصدرية؛ أو التي تعتبر نكرة بمعنى: "شيء"، وهذا الشيء "وقت" فكلمة: "ما" هنا محتملة لوجهين.
أحدهما: أن تكون حرفًا مصدريًا والجملة بعد هذا الحرف المصدري صلة له؛ لا محل لها من الإعراب، والأصل: كل رؤية الناس ... ، ثم عبرنا عن معنى المصدر بكلمتي: "ما والفعل" ثم أنيبا عن الزمان، أي: كل وقت رؤية ... كما أنيب عنه المصدر الصريح في مثل: جئتك خفوق النجم.
والآخر: أن تكون "ما" اسمًا نكرة بمعنى: "وقت"، فلا تحتاج على هذا إلى تقدير: "وقت" والجملة بعده في محل جر صفة؛ فتحتاج إلى تقدير ضمير عائد منها، أي: كل وقت رأى الناس فيه ...
وقد سبق أن هذا الظرف مركب من كلمتين، وأن كلمة: "كل" منصوبة حتمًا، وبقي أنه يحتاج إلى جملتين ماضيتين بعده، والثانية منهما بمنزلة الجواب له مع أنه ليس أداة شرط، والماضي فيها هو عامل نصبه ويجب تأخيرها.
"راجع المغني والهمع".
14– لدن، يكون ظرفًا دالًا على مبدأ الغايات، "أي: أنه لابتداء غاية زمان أو مكان بالمعنى الذي سبق1 شرحه في "عند"، ويلازم البناء، وبناؤه
__________
= تشمل الأجزاء الثلاثة، أما مبدأ الغاية فهو الجزء الأول منها، دون الجزأين الآخرين، وكذلك يتضح المراد من قولهم: "إن معنى: "لدن"، و"عند" هو الدلالة على مبدأ الغايات الزمانية أو المكانية"، وأنه يصح وضع أحدهما مكان الآخر، فيقال: جئت من عند الصديق، أو: من لدن الصديق، وفي القرآن الكريم: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} ، فلو وضع أحد الظرفين مكان الآخر لجاز، ولم يمنع منه مانع إلا كره التكرار اللفظي بغير داع بلاغي.
جـ- إذا دخل "لدن"، أو: "عند" على بداية الغاية فليس من اللازم أن يذكر معها اللفظ الدال على النهاية، إذ يكفي أن يشتمل الكلام على البداية وحدها ما دام المقام يكتفي به.
د– ليس الأمر في كل ما سبق مقصورًا على الأفعال التي تعمل في الظرف، وتحتاج في تحقيق معناها إلى غاية زمانية أو مكانية، وإنما الأمر يشمل كل عامل آخر لا يتحقق معناه كاملًا إلا بذكر الغاية؛ يتساوى في هذا أن يكون العامل فعلًا، أو شبه فعل، أو اسم فاعل، أو اسم مفعول، أو غير ذلك مما يعمل ...
1 في رقم 2 من هامش ص 292.(2/294)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على السكون هو الأغلب، مثل: تذكر فضل والديك لدن أنت صغير.
والكثير في استعماله أن يكون مسبوقًا "بمن الجارة"1 مثل: هذا فضل من لدن الله الكريم، ومثل: بقي هنا من لدن الظهر إلى الغروب، وأن يكون مضافًا لمفرد كهذين المثالين2، أو مضافًا للجملة؛ نحو: فلان مولع بالعلم لدن شب إلى أن شاب أو؛ مولع بالعلم لدن هو يافع، وقد يستغني عن الإضافة في حالة ستجيء
ويكون بمعنى: "عند" كثيرًا، ولكن يخالفها في أمور؛ منها:
أن "لدن" ظرف ملازم للإضافة للمفرد، أو للجملة، ويجوز استغناؤه عن الإضافة إذا وقعت بعده كلمة: "غدوة"؛ منصوبة3 مثل قضيت الوقت لدن غدوة حتى غروب الشمس، أما "عند" فيصح أن تترك الإضافة، وتصير اسمًا مجردًا؛ كأن يقول شخص: عندي مال؛ فيجاب: وهل لك عند؟ "فعند" هنا مبتدأ، أو يقال: الكتاب عندي، فيجاب: أين عندك؟:
ومنها: أنه لا يكون إلا فضلة ولو ترك الظرفية؛ ففي مثل السفر من عند البيت لا يصح: السفر من لدن البيت، فكلمة: "عند" مجرورة، والجار والمجرور خبر، والخبر عمدة، وقد اشتركت "عند" في تكوينه؛ فهي عمدة بسبب اشتراكها، ولذا لا يصح: "السفر من لدن البيت" لكيلا تشترك: "لدن" في تكوين العمدة، وهي لا تكون إلا فضلة خالصة دائمًا.
15– لدى، ظرف معرب ملازم للنصب على الظرفية، ومعناه: "عند" ويخالفها في أمور:
منها: أن "لدى" لا تجر أصلًا، أما "عند" فتجر بالحرف "من".
__________
1 وفي حالة جره لا يكون ظرفًا، وكذلك كل حالة أخرى لا يكون فيها منصوبا على الظرفية.
2 ومثل قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
3 على اعتبار: "غدوة" تمييزًا، أو: اعتبارها خبرًا لكان المحذوفة، والتقدير: لدن كانت الساعة غدوة، ويجوز في "غدوة" الرفع عند الكوفيين، على اعتبارها فاعلًا لكان التامة المحذوفة، والتقدير: لدن كانت غدوة، أي: ظهرت ووجدت غدوة، ويجوز في "غدوة" الجر بالإضافة؛ وهو القياس.(2/295)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها: أن "عند" تكون ظرفًا للأعيان "أي: للأشياء المجسمة" وللمعاني، أما "لدى" فلا تكون إلا للأعيان في الصحيح؛ تقول: هذا الرأي عندي صائب، ولا تقول: لدي.
ومنها: أنك تقول: عندي مال، وإن كان غائبًا، ولا تقول: لدي مال، إلا إذا كان حاضرًا.
هذا، وبإضافة "لدى" للضمير تنقلب ألفها ياء، نحو: لديك، لديه ... 1 أما حين إضافتها للاسم الظاهر فلا تنقلب.
16– لما2 تكون ظرف زمان3، بمعنى: حين، فتفيد وجود شيء لوجود آخر. والثاني منهما مترتب على الأول؛ فهو بمنزلة الجواب المعلق وقوعه على وقوع شيء آخر، نحو: لما جرى الماء شرب الزرع، ولهذا لا بد لها من جملتين، بعدها، تضاف وجوبًا إلى الأولى منهما؛ لأنها من الأسماء الواجبة الإضافة لجملة وتكون ثانيتهما متوقفة التحقق على الأولى، وعامل النصب في: "لما" هو الفعل أو ما يشبهه في الجملة الثانية.
والأغلب الأكثر شيوعًا في الجملتين ولا سيما 4 الثانية أن تكون معًا
__________
1 ويراعي في الإعراب ما سبق تفصيله في ج 1 م 16 ص 178، "آخر الكلام على الاسم المعتل الآخر".
2 "لما" أنواع متعددة، منها: "لما، الظرفية"، والكلام عليها هنا، "ولها إشارة في ج 3 ص 92 م 94، من باب: "الإضافة".
ومنها: التي بمعنى "إلا" الاستثنائية وستجيء في "د" من ص 361 ومنها: "لما" الجازمة، "وستجيء في ج 4 م 153 ص 388".
3 على المشهور؛ "لأن بعض النحاة يعتبرها حرفًا بمعنى: حين".
وتسمى: "لما الحينية" ويسميها بعض النحاة: "لما الوجودية"؛ لأنها الرابطة لوجود شيء بوجود غيره؛ أو: "لما التوقيتية"؛ لأنها بمعنى وقت.
4 قال الأشموني في الجزء الثالث، أو باب: "إعراب الفعل" عند الكلام على أنواع: "أن" ومنها الزائدة، ما نصه: "الزائدة هي التالية لما"، نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} . ا. هـ، كلام الأشموني، وهنا قال الصبان: "قوله: نحو: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} ... وتقول: "أكرمك لما =(2/296)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ماضيتين لفظًا ومعنى؛ نحو: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} ، أو معنى فقط1 كقول المعري يصف خيلًا سريعة:
ولما لم يسابقهن شيء ... من الحيوان سابقن الظلالا
وقول المتنبي:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
وقد ورد في القرآن الكريم وقوع الجملة الثانية مضارعية في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} كما ورد فيه وقوعها جملة اسمية مقترنة بالفاء، أو إذا، حيث يقول: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
__________
= أن يقوم زيد، برفع المضارع، فارضى". ا. هـ، كلام الصبان نقلًا عن الفارضي، وهذا النص صريح في أنها قد تدخل على المضارع قياسًا إذا كان مسبوقًا بأن الزائدة، والعجيب أن الصبان يأتي به هنا جلبًا واضحًا، ليكمل ما فات الأشموني ثم ينسى هذا في الجزء الرابع أو باب الجوازم عند الكلام على: "لما" الجازمة حيث يصرح "الأشموني" بأنه استغنى كبعض من سبقوه بقوله: "لما" أخت "لم" عن أن يقول: "لما" الجازمة، وأنه احترز بكلمة: "أختها" من "لما" الحينية، ومن "لما" الاستثنائية؛ لأن هاتين لا يليهما المضارع، فيقول "الصبان" تعليقًا على هذا، وتأييدًا لما ما نصه: "أي: كلامه فيما يليه المضارع، فلا حاجة إلى الاحتراز منهما". ا. هـ، فهو يكتفي بهذا ساكتا عما قيل من أن المضارع لا يجيء بعد "لما" الحينية، و "لما" الاستثنائية، وكما نسي هذا في "باب الجوازم" نسيه أيضًا في باب "جمع التكسير" جـ 4 عند الكلام على صيغة: "فعول" واطرادها، حيث قال الأشموني عنها في ذلك الباب: "ظاهر كلام المصنف هنا موافقة التسهيل فإنه لا يذكر في هذا النظم غالبًا إلا المطرد، ولما يذكر غيره يشير إلى عدم اطراده غالبًا بقد، أو نحو: قل، أو ندر ... ". ا. هـ، وهنا قال الصبان ما نصه:
قوله: ولما يذكر غيره ... إلخ تركيب فاسد؛ لأن "لما" الحينية لا تدخل إلا على ماض ... ا. هـ، كلام الصبان.
فما المراد في كل ما سبق في أن المضارع لا يجيء بعد "لما"؟ أيكون المراد أنه لا يجيء بعدها مباشرة بغير فاصل بينهما؟ لا دليل يوضح المراد.
فبأي الرأيين نأخذ؟
بالأول؛ لأنه نص صريح، فيه تيسير، ولكن حظه من القوة والسمو البلاغي أقل كثيرًا من الآخر الذي منعه أكثر النحاة حتى الصبان في بعض تصريحاته.
وستأتي إشارة أخرى للظرف "لما" في ج 4 ص 314 م 53، ونص الكلام السالف في جـ 4، وفي النواصب م 148 ص 122"، ومن الخير ترك الأول الضعيف.
1 بأن يكون الفعل مضارعًا مجزومًا بالحرف "لم" الذي يخلصه للماضي.(2/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ، ويقول: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1، وقد تأول النحاة هذه الآيات؛ بتقدير حذف الجواب أو بغير هذا، ولا داعي للتأول في القرآن بغير حاجة شديدة، وإذا كنا نقبل التأول في القرآن فلم لا نقبله في كلام من يحاكي القرآن؟ نعم نقبل محاكاته، وندع التأول لمن يتخذه شرطًا للقبول؛ فالنتيجة الأخيرة واحدة، هي صحة الاستعمال، وصحة تأليف الأسلوب على نسق القرآن، وقد جاء في كتاب: "مجمع البيان لعلوم القرآن" للطبرسي ج 3 ص 155 في إعرابه قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّه} ما نصه: إذا، بمنزلة "الفاء" في تعليقه الجملة بالشرط. ا. هـ، يريد: ربط جملة جواب "لما" بشرطها، وهذا يؤيد ما قلناه.
وقد رأيت الجواب ماضيًا مقترنًا بالفاء أو أنه محذوف إن أخذنا بالرأي السالف في خطبة عائشة تدافع على أبيها، وتذكر مناقبه بعد موته وهي الخطبة الرائعة التي نقلها، وشرحها العلامة اللغوي محمد بن القاسم الأنباري " المتوفى سنة 327 هـ"، وقد جاء فيها قولها: " ... أبى، والله لا تعطوه2 الأيدي، وذاك طود منيف3، وظل مديد ... فتى قريش ناشئًا، وكهفها كهلًا ... فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم اضطرب حبل الدين، ومرج4 عهده، وماج أهله ... وأنى والصديق بين أظهرهم؛ فقام حاسرًا مشمرًا ... فلما انتاش5 الدين، فنعشه، وأراح الحق على أهله، وقرر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، فلما حضرته منيته ففسد ثلمته بنظيره في المعدلة، وشقيقه في السيرة والمرحمة؛ ذاك ابن الخطاب ... " ففي المنقول هنا من الخطبة ووقع جواب "لما" ماضيًا مقرونًا بالفاء في موضعين هما: "فنعشه" و"فسد" ... إلا على الرأي القائل إنه محذوف.
والخطبة كاملة مشروحة في الجزء الثالث من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق عدد تموز "يوليو" سنة 1962 م المحرم سنة 1382 هـ ص 414.
هذا "ولا مانع أن يتقدم جواب لما" عليها ما ورد في بعض المراجع اللغوية6.
__________
1 وكذلك قوله تعالى في قوم موسى: {َلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} .
2 لا تعطوه: لا تصل إليه.
3 مرتفع.
4 اضطرب.
5 انتشل وانتزع.
6 فقد جاء في: "تاج العروس، شرح القاموس" عند الكلام عليها ما نصه: =(2/298)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
17– مذ ومنذ 1 قد يكونان ظرفين للزمان2 متصرفين، مبنيين، وقد
__________
= "قد يتقدم الجواب عليها فيقال: استعد القوم للقاء العدو لما أحسوا بهم، أي: حين أحسوا بهم". ا. هـ، ومن هذا قول حافظ إبراهيم في قصيدته العمرية:
أمنت لما أقمت العدل بينهمو ... فنمت نوم قرير العين هانيها
والتقدير: لما أقمت العدل بينهم أمنت ... وكذلك قول ذي الرمة:
تعرفته لما وقفت بربعه ... كأن بقاياه تماثيل أعجما
أي: لما وقفت بربعه تعرفته ...
لكن إذا تقدم جوابها عليها أيظل محتفظًا باسمه وبعمله، فيسمى جوابها، ويعمل فيها النصب، مع مخالفة هذا للحكم العام الذي يمنع تقدم الجواب على كل أداة من أدوات التعليق ... ، أم هي مستثناة من هذا الحكم العام؟.
المفهوم من كلام "تاج العروس" هو احتفاظ جوابها باسمه، وبعمله بالرغم من تقدمه عليها مع أنها أداة تعليق، غير أن المفهوم من كلام الصبان في مسألة أخرى كهذه يخالف ما هنا؛ فقال في "لما" التي تقدم عليها عاملها إنها ظرف بمعنى "حين" متعلقة بالعامل الملفوظ المتقدم عليها، ثم قال ما نصه:
"والظاهر أنها على هذا القول خالية من معنى الشرط". ا. هـ، راجع الصبان ج 2 باب الإضافة عند بيت ابن مالك:
والزموا "إذا" إضافة إلى ... جمل الأفعال.........
إلخ
وهو يريد بخلوها من منى الشرط أنها ظرف محض لا يفيد تعليقًا: فلا يصح تسمية عامله جوابًا إذا تقدم عليه، وعلى هذا لا يكون في الكلام أداة شرط.
سواء أبقيت "لما" مفيدة للتعليق مع تقدم الجواب أم غير مفيدة، وسواء أكان هذا الرأي هو الأوضح أم ذاك، فالخلاف لفظي شكلي؛ لا يعنينا منه إلا أن الاستعمال صحيح على الرأيين، وأن الأسلوب خال من العيب اللفظي والمعنوي.
1 سبق الكلام عليهما في ج 1 ص 266 م 37 وص 370 م 38، وسيجيء في حروف الجر ص 518 م 90 مناسبة أخرى لهما، والكلام عليهما متشعب النواحي، متعدد الأحكام، ولقد خصهما ببحث واف مستقل أحد أعضاء مجمع اللغة العربية القاهري، ودون بحثه المستفيض بمجلة المجمع "ج 3 ص 254"، واستطاع أن يعرض فيه كل ما يختص بهما عرضًا مقيدًا كاملًا، وقد أثبتناه آخر الكتاب ص 544.
2 معناهما: زمن، أو: أمد.
ومن الظروف الزمانية: "متى" وهو اسم استفهام عن الزمان، وقد سبق الكلام على حكمه في رقم 2 من هامش ص 263.(2/299)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكونان اسمين مجردين من الظرفية، وقد يكونان حرفي جر.
فيصلحان للظرفية إذا وقع بعدهما جملة اسمية، أو فعلية ماضوية؛ فيعربان ظرفين مبنيين في محل نصب، مع إضافة كل منهما إلى الجملة التي بعده، وعامل النصب فيهما لا بد أن يكون فعلًا ماضيًا؛ وكذلك الفعل في الجملة الفعلية التي يضافان إليهما لا بد أن يكون ماضيًا، نحو: جئت مذ أو منذ الوالد حاضر مذ أو منذ حضر الوالد.
ويتجردان للاسمية الخالصة1 إذا لم تقع بعدهما جملة، ووقع بعدهما اسم مرفوع2 نحو: غادرت البلد مذ، أو: منذ يومان، "فمنذ" أو"منذ" مبتدأ و"يومان" خبره. أو العكس3، ولا بد من تقدمها في الحالتين "أي: عند إعرابها مبتدأ وخبرًا". والمعنى: غادرت البلد، أمد المغادرة يومان.
ويكونان حرفي جر إذا وقع الاسم بعدهما مجرورًا.
18– مع، ظرف لا يتصرف، وهو معرب منصوب على الظرفية في الرأي الشائع ويدل على زمان اجتماع اثنين غالبًا أو مكانهما4، وإضافته هي الكثيرة، فإن انقطع عن الإضافة نون، وصار حالًا، وقد يصير خبرًا طبقًا لما سيجيء5 من كلام وتفصيل هام عليه، وعلى ظروف تقدمت في المكان المناسب من باب: "الإضافة".
بناء أسماء الزمان المبهمة، وشبيهتها الأسماء الأخرى المبهمة التي ليست بزمان. تبنى على الفتح أسماء الزمان المبهمة كلها6، ظروفًا وغير ظروف، جوازًا لا وجوبًا في حالتين:
__________
1 أي: بغير ظرفية.
2 فإن كان مجرورًا فهما حرفًا جر، كما سيجيء هنا، أما التفصيل ففي ص 299، 90، مبحث حرف الجر، وفي البحث المستقبل الخاص بهما ص 544.
3 فيكون "مذ ومنذ" ظرفين متعلقين بمحذوف هو الخبر، "انظر رقم 3 من هامش ص 520".
4 كالذي في قول الشاعر:
من جاور الشر لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط
5 ج 3 ص126 م 95.
6 سبقت الإشارة إليها في ص 252 وما بعدها، ويجيء تفصيل الكلام على أحكامها في ج 3 باب الإضافة ص 21 و 54 و 70 و 73.(2/300)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأولى: إذا أضيفت إلى الجمل جوازًا ولا وجوبًا1، والمراد بالمبهمة هنا:
النكرة التي تدل على الزمان دلالة غير محدودة بمبدأ ولا نهاية، مثل: حين، زمان وقت، أو تدل على وجه من الزمان دون وجه؛ مثل: نهار، صباح، عشية، غداة، بخلاف أسماء الزمان المختصة بتعريف أو غيره، مما سبق بيانه في رقم 2 من هامش ص252، فإن المختصة لا تضاف إلى الجمل، ومثلها: الزمان المحدود، كأمس، وغد، والمعدودة كيومين، ليلتين، أسبوع، شهر، سنة؛ فكل هذه الأزمنة2 لا يضاف منها شيء للجمل.
فإذا أضيفت تلك الأسماء الزمانية المبهمة إلى الجمل فإنها تبنى جوازًا كما أسلفنا ويكون بناؤها على الفتح3، ويجوز فيها الإعراب؛ ولكن البناء على الفتح أفضل إذا أضيفت لجملة فعلية، فلها مبني ولو كان مضارعًا مبنيا مثل: عاد المسرف فقيرًا كيوم جاء إلى الدنيا، ومثل: أشرف أيام الأمهات حين يحرص، على تربية أولادهن4 ... والإعراب أفضل إذا أضيفت لجملة مضارعية مضارعها معرب، أو لجملة اسمية 5؛ مثل قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} 6 ... ومثل: أن تسمع من يقول: "الشجاعة مطلوبة"، فنقول: هذا يوم الشجاعة مطلوبة.
__________
1 لأن الإضافة الواجبة إلى الجمل تحتم البناء كما سيجيء في جـ 3 ص 63، 65، 67 م 94 وإذا أضيفت أسماء الزمان إلى جملة وجب أن تكون جملة خبرية، ولا تصلح الجملة الشرطية المقترنة "بإن" أو بغيرها من أدوات التعليق، ولا الجملة الإنشائية على اختلاف أنواعها ... إلى غير هذا من بقية الشروط التي ستذكر في الموضع السالف.
2 سبق الكلام عليها أيضًا في ص 252 م 78.
3 راجع الخضري وغيره في باب: "الإضافة" حيث عقد "تنبيهًا" مستقلًا للنص على البناء على الفتح فقط.
4 ومن أمثلة المضاف لجملة ماضوية قول الشاعر:
إن شر الناس من يبسم لي ... حين ألقاه، وإن غبت شتم
فالأحسن في الإعراب أن تكون "حين" هنا مبنية على الفتح.
5 سواء أكانت الجملة الاسمية مصدرة بما الحجازية، أو: "لا" أختها، أو: "لا" العاملة عمل: "إن" أم غير مصدرة.
6 ومثل قول الشاعر:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
فالأحسن في الإعراب أن تكون "حين" هنا معربة "منصوبة مباشرة"، وليست مبنية على الفتح.(2/301)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثانية: إذا أضيفت لمبني مفرد "أي: غير جملة"، نحو: يومئذ، حينئذ ...
وألحق النحاة بأسماء الزمان المبهمة، ما ليس زمانًا من كل اسم معرب ناقص الدلالة بسبب توغله1 في الإبهام؛ مثل: غير – دون – بين – مثل ... ونحوها ما يسمونه: "التوغل في الإبهام2، ومن الأمثلة: "ما قام أحد غيرك" والآيات الكريمة: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} ، في قراءة من قرأ: مثل بفتح اللام {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ، {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بالبناء على الفتح
__________
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
فالأحسن في الإعراب أن تكون "حين" هنا معربة "منصوبة مباشرة"، وليست مبنية على الفتح.
1 أي: تعمقه وتغلغله في داخله.
2 المراد به: اللفظ الذي لا يتضح معناه إلا بما يضاف إليه، وستجيء إشارة له " في الجزء الثالث باب: الإضافة ص 21 ص 45 م 93 ومنها نعلم: أن اللفظ المتوغل في الإبهام قد يكتسب البناء من المضاف إليه مع إيضاح هذا مفصلًا وأنه في أكثر أحواله لا يقع نعتًا، ولا منعوتًا، إلا "غير، وسوى"، فيصلحان للنعت، ومن ألفاظه: قبل وبعد ... و ... كما سيجيء في باب لنعت ص 346 م 144 من الجزء الثالث.
وأنه في أكثر أحواله لا يستفيد التعريف من المضاف إليه المعرفة إلا بأمر خارج عن الإضافة؛ كوقوع كلمة: "غير" بين ضدين معرفتين كما نص على هذا " العكبري" في صدر كتابه المسمى: "إملاء ما من به الرحمن ... " أول سورة البقرة في مثل: رأيت: العلم غير الجهل، وعرفت العالم غير الجاهل، وكقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فوقوع كلمة: "غير" بين ضدين معرفتين أزال إبهامها؛ لأن جهة المغايرة تتعين، بخلاف خلوها من ذلك في مثل: أبصرت رجلًا غيرك، وكذلك الشأن في كلمة: "مثل" إذا أضيفت إلى معرفة بغير وجود قرينة تشعر بمماثلة خاصة، فإن الإضافة لا تعرفها، ولا تزيل إبهامها، إما إن أضيفت لمعرفة وقارنها ما يشعر بمماثلة خاصة فإنها تتعرف؛ نحو: راقني هذا الخط وسأكتب مثله؛ وهذا معنى قولهم: إذا أريد بكلمة: "غير" و"مثل" مغايرة خاصة ومماثلة خاصة حكم بتعريفهما، وأكثر ما يكون ذلك في "غير" إذا وقعت بين متضادين؛ أما قوله تعالى: {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} حيث وقعت كلمة: "غير" المضافة للمعرفة صفة للنكرة، فالحقيقة أنها لا تعرب هنا صفة ولكن تعرب بدلًا؛ لعدم مطابقتها.
"ثم انظر رقم 3 من هامش ص 346، ففيه تكملة للموضوع مفيدة" أما تفصيله على وجه مناسب ففي ج 3 باب الإضافة م 93 ص 25 عند الكلام على الحكم السادس من أحكام الإضافة.(2/302)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جوازًا في هذه الأمثلة، وأشباهها، فالإضافة تجوز البناء على الفتح وحده في الأنواع الثلاثة السالفة.
وذهب ابن مالك إلى أنه لا يبني مضاف بسبب إضافته إلى مبني أصلًا، لا ظرفًا ولا غيره؛ وأن الفتحة في الأمثلة السابقة حركة إعراب لا بناء؛ إما على الحالية، أو على المصدرية، أو ... أو1....
وهذا الرأي قد يكون أنسب للأخذ به اليوم والاقتصار عليه، بالرغم من صحة الأول وقوته، شيوعه قديمًا، منعًا للاضطراب، وتحديدًا للغرض.
__________
1 راجع في كل ما سبق الهمع "جـ 1 ص 218"، والأشموني والصبان أول باب: "الإضافة"، عند الكلام على الإضافة غير المحضة؛ وبيت ابن مالك:
وذي الإضافة اسمها لفظية......
بقي أن نذكر ما قرره النحاة بشأن تلك الألفاظ إذا لم تستفد التعريف من المضاف إليه، فسيبويه والمبرد يقولان: إن الإضافة غير المحضة: فائدتها التخفيف، وما يتبعه من مزايا تلك الإضافة.
وغيرهما يقول: إنها محضة ومعنوية تفيد "التخصيص"، وإن كانت لا تفيد "التعيين" كما سيجيء في باب الإضافة، جـ 3.(2/303)
المسألة 80: المفعول معه 1
أ- إذا سأل مسترشد: أين دار الآثار القديمة؟ فقد يكون الجواب: تسير مع طريقك هذا؛ فينتهى بك إليها.
ليس المراد أنه يسير، والطريق يسير معه حقيقة، وإلا كان المعنى فاسدًا؛ لأن الطريق لا يمشي، وإنما المراد أن يباشر السير في هذا الطريق، ويقرن المشي به حتى يصل.
ولو كان الجواب: تسير وطريقك هذا ... لكان التعبير سليمًا، والمراد واحدًا في الجوابين.
فإن كان السؤال: أين محطة2 القطر؟ فالجواب قد يكون: تمشي مع الأبنية التي أمامك؛ فتنتهى بك إلى ميدان فسيح، فيه المحطة2، ليس المراد أن يمشي، وتمشي معه الأبنية فعلًا: وإلا فسد المعنى؛ إذ الأبنية لا تمشي، وإنما المراد أن يلتزم المشي الذي يقارنها، ويلابسها حتى يصل إلى غايته.
ولو كان الجواب تمشي والأبينة التي أمامك ... لصح الأسلوب، وما تغير المراد.
ب– وإذا قلنا: أكل الوالد مع الأبناء ... فإن الجملة تفيد أن الأبناء شاركوا والدهم فعلًا في الأكل حين يأكل؛ بسبب وجود كلمة تفيد المشاركة الحقيقية في معنى الفعل، وهي كلمة: "مع" ولا يفسد المعنى بهذا الاشتراك الحقيقي.
وكذلك لو قلنا: أكل الوالد والأبناء؛ فإن المعنى يبقى على حاله، ولا فساد في التركيب.
ومثل هذا: جلس الأب مع الأسرة؛ فإن هذه الجملة تفيد اشتراك الأسرة في الجلوس اشتراكًا واقعًا في زمن واحد؛ بسبب وجود كلمة تفيد هذا؛ وهي: "مع"، ولا شيء يحول دون هذا المعنى، أو يؤدي إلى فساد الصياغة لو قلنا: جلس الأب والأسرة.
__________
1 أي: المفعول الذي وقع معه فعل الفاعل.
2 و 2 كلمة: "محطة" عربية صحيحة.(2/304)
نعود إلى الجمل التي فيها: "الواو" بدلًا من كلمة: "مع" وهي:
تسير وطريقك، تمشي والأبنية، أكل الوالد والأبناء، جلس الأب والأسرة ... فنلحظ أن كل كلمة وقعت بعد الواو مباشرة هي: اسم، مسبوق بواو بمعنى: "مع"، وهذه الواو تدل على أن ما بعدها قد لازم اسمًا قبلها، وصاحبه زمن وقوع الحدث1، وقد يشاركه، في الحدث كالمثالين الأخيرين في "ب" أولًا يشاركه؛ كالمثالين الأولين، وهذا الاسم الذي بعدها هو ما يسمى: "المفعول معه"، ويقولون في تعريفه:
إنه: اسم مفرد2، فضلة، قبله واو بمعنى: "مع"، مسبوقة بجملة فيها فعل أو ما يشبهه في العمل وتلك الواو تدل نصًا3 على اقتران الاسم الذي بعدها باسم آخر قبلها 4 في زمن حصول الحدث، مع مشاركة الثاني للأول في الحدث، أو عدم مشاركته5.
__________
1 معنى الفعل، أو ما يشبهه.
2 المراد بالمفرد هنا: ما ليس جملة، ولا شبهها.
3 إن لم يمكن التنصيص بها على المصاحبة بسبب أن الاسم السابق منصوب، وأن العامل يصح أن يتسلط على الاسم الذي بعدها مباشرة، فهي للعطف وحده قطعًا؛ نحو: قرأت المجلة والصحيفة، "كما سيجيء في رقم 2 من هامش ص 310".
أما إذا كان الاسم السابق مرفوعًا، أو مجرورًا والاسم بعد الواو منصوبًا منطبقًا عليه تعريف المفعول معه، فإن نصبه يقطع بان المراد هو المعية نصًا، إذ لو كان المراد العطف لوجب جر المعطوف أو رفعه تبعًا للمعطوف عليه.
4 قد يكون الاسم السابق ظاهرًا أو ضميران.
5 أي: أن المشاركة في الزمن محتومة، أما المشاركة في المعنى فقد تتحقق أو لا تتحقق، وإنما هي متوقفة على القرائن التي تدل على هذا، أو ذاك انظر "أ" من ص 314.(2/305)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
من التعريف السابق نعلم أن كل جملة مما يأتي لا تشتمل على المفعول معه:
أقبل القطار والناس منتظرون؛ لأن الذي وقع بعد الواو1 جملة، وليس اسمًا مفردًا.
اشترك محمود وحامد؛ لأن الذي بعد الواو عمدة، لا فضلة، إذ الفعل: "اشترك" يقتضي أن يكون فاعله متعددًا، أي: مثنى أو جمعًا؛ لأنه فعل لا يقع إلا من اثنين أو أكثر؛ فلا بد من التعدد، ولو بطريق العطف كالمثال المذكور؛ "فحامد" معطوف على الفاعل: "محمود" فهو في حكم الفاعل، وعمدة مثله.
خلطت القمح والشعير؛ لأن الواو لم تفد: "معية" وإنما فهمت المعية من الفعل: "خلط".
نظرت عليًا وحليمًا قبله، أو بعده شاهدت الليل والنهار؛ لأن الواو فيهما ليست للمعية وإلا فسد المعنى.
شاهدت الرجل مع زميله اشتريت الحقيقة بكتبها؛ فالمعية هنا مفهومة واضحة، ولكن لا توجد الواو.
كل زارع وحقله، بشرط أن يكون خبر المبتدأ: "كل" محذوفًا في آخر الجملة؛ والتقدير: كل زارع وحقله مقترنان؛ فلا تكون الواو للمعية؛ لعدم وقوعها بعد جملة، أما إذا كان الخبر مقدرًا قبل الواو "أي: كل زارع موجود وحقله" فالواو للمعية.
لا تتناول الطعام وتقرأ؛ لأن الذي وقع بعد الواو فعل2.
__________
1 هذه الواو تسمى: "واوا الحال"، وهي في الوقت نفسه للاستئناف؛ لوجوب دخولها على جملة، وهي من جهة المعنى تفيد المعية؛ لأنها تفيد في الغالب المقارنة الاقتران والمقارنة نوع من المعية، لكن لا تسمى اصطلاحًا "واو المعية" "انظر رقم 5 من هامش 395".
2 يصح في هذا الفعل أن يكون مجزومًا بالعطف، أو مرفوعًا على الاستئناف فلا تكون الواو للمعية، ويجوز أن يكون منصوبًا بأن مضمرة وجوبًا بعد واو المعية؛ فيكون المصدر المؤول مفعولًا معه "في رأي راجح" كما صرح بهذا الخضري وغيره في هذا الباب، ولهذا الرأي ما يعارضه.
وتفصيلهما في مكانهما من الجزء الرابع في باب: "النواصب"، عند الكلام على نصب المضارع بعد واو المعية.(2/306)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المال لك وأباك ما الرجل فرح والشريك، لعدم وجود ناصب يعمل النصب فيهما1؛ فلا يصح النصب؛ إذ لا مفعول معه.
__________
1 مع ملاحظة أن "الصفة المشبهة" مثل: فرح، السالفة لا تصلح عاملًا. وسيجيء النص على هذا، وسببه في رقم 1 من هامش الصفحة التالية.
وفيها عند الكلام على الحكم الأول من أحكام "المفعول معه"، بعض أمثلة مشموعة، خالية من عامل ظاهر؛ فيقدر لها عامل مناسب.(2/307)
أحكامه:
له عدة أحكام، منها:
1 النصب، والناصب له: إما الفعل الذي قبله كالأمثلة السالفة أول الباب، وإما ما يشبه الفعل في العمل1؛ كاسم الفاعل، في نحو: الرجل سائر والحدائق وكاسم المفعول؛ في نحو: السيارة متروكة والسائق، وكالمصدر، في نحو: يعجبني سيرك والطوار2، واسم الفعل في مثل: رويدك والغاضب3 بمعنى: أمهل نفسك مع الغاضب.
وقد وردت أمثلة مسموعة لا يصح القياس عليها لقلتها وقع فيها المفعول معه منصوبًا بعد: "ما"، أو"كيف" الاستفهاميتين، ولم يسبقه فعل أو ما يشبهه في العمل، مثل: ما أنت والبحر؟ كيف أنت والبرد؟ فالبحر والبرد وأشباههما مفعولان معه، منصوبان بأداة الاستفهام.
وقد تأول النحاة هذه الأمثلة، وقدروا لها أفعالًا مشتقة من الكون وغيره4، مثل: ما تكون والبحر؟ كيف تكون والبرد؟ فالكلمتان مفعولان معه؛ منصوبان بالفعل المقدر5 عندهم.
__________
1 إن كان الشبيه من المشتقات وجب أن يكون مما ينصب المفعول به، ولهذا لا تصلح الصفة المشبهة، ولا أفعل التفضيل؛ ولا ما لا ينصب المفعول به من سائر المشتقات.
2 الرصيف، "والرصيف": كلمة صحيحة.
3 بشرط أن تكون الواو للمعية، وبعدها المفعول معه، وليست للعطف وبعدها معطوف؛ لأن هناك حالات تصلح فيها للمعية والعطف كما سيجيء في ص 310.
4 مثل: تصنع، تفعل ... وكل ما يصلح له الكلام كالمثالين لبيان مضمون المعنى ...
5 والحق: أنه لا داعي لهذا التقدير؛ فقد كان بعض العرب ينصب المفعول معه بعد الأداتين السالفتين، ولن نقيس عليهما أدوات استفهام أخرى؛ إذ التقدير في مثل هذه الحالات معناه إخضاع لغة ولهجة، للغة ولهجة أخرى، من غير علم أصحابهما، وليس هذا من حقنا "كما يرى بعض المحققين، ومنهم "ابن جني" في بحثه الذي عنوانه: "باب، اختلاف اللهجات" بكتابه: "الخصائص" وكذلك غيره ممن نقل صاحب الزهر، ج ص 153، وبعض النحاة يجيز أن يقيس عليهما الأدوات الاستفهامية الأخرى.
أ- وإذا كان أصل الكلام: ما تكون والبحر؟ وكيف تكون والبرد؟ فإن "تكون" المحذوفة في المثالين ناقصة، وأداة الاستفهام خبرها متقدمًا، أما اسمها، أنت، فضمير المخاطب، كأن مستترًا فيها، فلما حذفت برز، وصار منفصلًا.
ب– ويجوز اعتبار "تكون" تامة، وفاعلها الضمير المستتر، ويصير بعد حذفها بارزًا منفصلًا، =(2/308)
2– لا يجوز أن يتقدم على عامله مطلقًا، ولا أن يتوسط بينه وبين الاسم
__________
= و"كيف" الاستفهامية حال مقدم و"ما" الاستفهامية مفعول مطلق متقدم، بمعنى: أي وجود توجد مع البحر ... و ... وهذا أسهل كسهولة: تصنع، أو تعمل، بدلًا من "كان" الناقصة.
ج– للمبرد رأي آخر لا بأس به في إعراب تلك الأمثلة، وما شابهها، فقد جاء في كتابه: "الكامل" جـ 6 ص 235 عند ذكره لكتاب علي بن أبي طالب إلى معاوية المطالب بدم عثمان رضي الله عنه، يقول علي: "وبعد، فما أنت وعثمان؟ " قال المبرد ما نصه:
"ما أنت وعثمان؟ فالرفع فيه الوجهين؛ لأنه عطف اسمًا ظاهرًا على اسم مضمر منفصل، وأجراه مجراه، "وليس هنا فعل، فيحمل على المفعول "أي: فلا يحمل ... "؛ فكأنه قال: فما أنت؟ وما عثمان؟ هذا تقديره في العربية.
"ومعناه: لست منه في شيء، وقد ذكر سيبويه -رحمه الله- النصب، وجوزه جوازًا حسنًا، وجعله مفعولًا معه، وأضمر: "كان" من أجل الاستفهام؛ فتقديره عنده "ما كنت وفلانًا؟ ". ا. هـ.
ثم سرد المبرد أمثلة أخرى قال بعدها ما نصه:
"فإن كان الأول مضمرًا متصلًا كان النصب ... و ... تقول مالك وزيدًا؛ فكأنه في التقدير: وملابستك زيدًا، وفي النحو تقديره: مع زيد". ا. هـ، كلام المبرد.
وإلى ما سبق يشير ابن مالك بقوله:
ينصب تالي الواو مفعولًا معه ... في نحو: سيري والطريق مسرعه
"أي: سيرى مع الطريق" يقول: ما يجيء بعد الواو في مثل: سيري والطريق مسرعة ينصب على اعتباره مفعولًا معه، ولم يوضح هذا المفعول بيان أوصافه، وشروطه؛ مكتفيًا بالمثال، والتعريف بالمثال نوع من أنواع التعريف المنطقي، ولكنه لا يناسب ما نحن فيه مما يحتاج إلى شروط وقيود ... ثم قال:
بما من الفعل وشبهه سبق ... ذا النصب لا بالواو في القول الأحق
يريد: هذا النصب للمفعول معه يكون بشيء سبق؛ كالفعل وشبهه، ولا يكون بالواو في الرأي الأحق بالمتابعة فكلمة: "ما" بمعنى: شيء، والجار والمجرور بما خبر متقدم للمبتدأ المتأخر: "ذا" والجملة من الفعل: "سبق"، وفاعله في محل نصب حال من كلمة؛ الفعل ... والتقدير: هذا النصب بشيء من الفعل وشبهه حالة كون الشيء سبق، وتقدم على المفعول معه وعلى الواو، ويصح أن تكون "ما" موصولة، والجملة الفعلية صلة ...
ثم أشار بعد ذلك إلى المفعول معه المنصوب بعد "ما" و"كيف الاستفهاميتين" فقال:
وبعد "ما" استفهام أو"كيف" نصب ... بفعل كون مضمر بعض العرب
وقد نسب النصب بعد الأدلتين السالفتين لبعض العرب للدلالة على أنه سماعي فقط وهذا صحيح، ولكن العرب لا دخل لها بفعل الكون المقدر وغيره من المصلطحات النحوية المحضة.(2/309)
المشارك له والمقارن ... ففي مثل: مشي الرجل والحديقة؛ لا يصح أن يقال: والحديقة مشي الرجل، ولا: مشي والحديقة الرجل.
3– لا يجوز أن يفصل بينه وبين واو المعية فاصل، ولو كان الفاصل شبه جملة1.
4- لا يجوز حذف هذه الواو مطلقًا1.
5– إذا جاء بعده تابع أو ضمير أو ما يحتاج إلى المطابقة وجب أن يراعى عند المطابقة الاسم الذي قبل الواو وحده؛ نحو: كنت أنا وزميلًا كالأخ، أحبه وأعطف عليه، ولا يصح كالأخوين ...
حالات الاسم الذي بعد الواو:
له حالات أربع:
أولها: جواز عطفة على الاسم السابق، أو نصبه مفعولًا معه2، والعطف أحسن، مثل: بالغ الرجل والابن في الحفاوة بالضيف، فكلمة: "الابن"، يجوز رفعها بالعطف على الرجل، أو نصبها مفعولًا معه، ولكن العطف أحسن من النصب على المعية؛ لأنه أقوى في الدلالة المعنوية على المشاركة والاقتران3، ولا شيء يعيبه هنا، ومثله: أشفق الأب والجد على الوليد أضاء القمر والنجوم.
ثانيها: جواز الأمرين، والنصب على المعية أحسن؛ للفرار من عيب لفظي أو معنوي، فمثال اللفظي: أسرعت والصديق؛ فكلمة: "الصديق" يجوز فيها الرفع عطفًا على الضمير المرفوع المتصل4، ويجوز فيها النصب على المعية، وهذا أحسن؛ لأن العطف على الضمير المرفوع المتصل يشوبه بعض الضعف إذا كان
__________
1 و 1 راجع حاشية الصبان في هذا الموضع.
2 إلا في الحالة المشار إليها في رقم 3 من هامش ص 305، وهي للعطف فقط.
3 لأن العطف يقتضي إعادة العامل تقديرًا قبل المعطوف، فكأن العامل مكرر. فيقع به التأكيد اللفظي الذي يقوي المعنى. "انظر ما يتصل بها في "أ" من ص 314".
4 وهو: التاء.(2/310)
بغير فاصل بين المعطوف والمعطوف عليه؛ كهذا المثال1 والفرار من الضعف أفضل من الإقبال عليه بغير داع2.
ومثال العيب المعنوي قولهم: "لو تركت الناقة وفصيلهما3 لرضعها"، فلو عطفنا كلمة: "فصيل" على كلمة: "الناقة" لكان المعنى: لو تركت الناقة وتركت4 فصيلها لرضعها، وهذا معنى غير دقيق، يحتاج تصحيحه إلى تأويل وتقدير لا داعي لهما.
وعيبه آت من أن تركهما لا يستلزم تلاقيهما المؤدي إلى حصول الرضاعة، وقد نتركهما؛ لا نحول بينهما، ولكن الأم تنفر منه، ولا تمكنه من الرضاعة، أو ينفر منها ...
ثالثها: وجوب العطف، وامتناع المعية5: وذلك حين يكون الفعل أو ما يشبهه مستلزمًا تعدد الأفراد التي تشترك في معناه اشتراكًا حقيقيًا، وكذلك حين يوجد ما يفسد المعنى مع المعية، فمثال الأول: تقاتل النمر والفيل، اختصم العادل والظالم، اتفق التاجر والصانع ...
فكل فعل من هذه الأفعال: "تقاتل، اختصم، اتفق 6 وأشباهها7 ... لا يتحقق معناه إلا بالفاعل المتعدد فيشترك الأفراد في معنى العامل؛ فلا بد من وجود اثنين أو أكثر يشتركان حقيقة
__________
1 كما هو موضح في مكانه من باب العطف ج 3 عند الكلام على العطف على الضمير المرفوع المتصل.
2 وفي الحالتين السابقتين يقول ابن مالك:
والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق ... والنصب مختار لدى ضعف النسق
النسق هو العطف بالحرف؛ كالعطف بالواو، أو الفاء، أو ثم ...
3 الفصيل: ابن الناقة الذي يفصل عنها.
4 لأن العطف على نية تكرار العامل، انظر رقم 3 من هامش الصفحة السالفة ...
5 من هذا القسم المسألة المشار إليها في رقم 3 من هامش ص 305.
6 إذا كان الفعل وشبهه يقتضي التعدد مثل: اتفق الوالد والابن، و.... فهل يصح مجيء كلمة: "مع" بدلًا من واو المعية؛ فيقال: اتفق الوالد مع الابن؟ الجواب نعم، طبقًا للبيان السابق في الملاحظة ص 168.
7 كالفعل: "استوى" في قول الشاعر:
ولا يستوي عند كشف الأمور ... باذل معروفه والبخيل(2/311)
في التقاتل، والاختصام، والاتفاق ... وهذا يتحقق بالعطف دائمًا؛ لأنه يقتضي الاشتراك المعنوي الحقيقي1، بخلاف المعية؛ فإنها تقتضي الاشتراك الزمني؛ أما المعنوي فقد تقتضيه حينًا، ولا تقتضيه أحيانًا؛ كما عرفنا2.
ومثال الثاني: أشرق القمر وسهيل قبله أو بعده.... فتفسد المعية بسبب وجود: "قبل"، أو"بعد".
رابعها: امتناع العطف ووجوب النصب في الأصح إما على المعية، إن استقام المعنى عليها، وإما على غيرها إن لم يستقم؛ "كنصب الكلمة مفعولًا به لفعل محذوف"؛ وذلك منعًا لفساد لفظي أو معنوي، فمثال وجوب النصب على المعية لمانع لفظي يمنع العطف: نظرت لك وطائرًا؛ لأن الأصل الغالب في العطف على الضمير المجرور أن يعاد حرف الجر مع المعطوف؛ كما في قول الشاعر:
فما لي وللأيام لا در درها ... تشرق بي طورًا، وطورًا تغرب
فقد أعاد اللام مع المعطوف3
ومثال النصب لمانع معنوي يمنع العطف: مشى المسافر، والصحراء، بنصب كلمة: "الصحراء" على المعية؛ إذ لو رفعت بالعطف على كلمة: "المسافر" لكان المعنى: مشت الصحراء، وهذا فاسد4.
ومثال النصب على غير المعية بتقدير فعل محذوف ينصب الكلمة مفعولًا به: دعينا لحفل ساهر فأكلنا لحمًا، وفاكهة، وخضرًا، وماء عذبًا، وغناء ساحرًا فيجب نصب كلمة: "ماء" وكلمة: "غناء" بفعل محذوف يناسب كلا منهما. والتقدير: وشربنا ماء عذبًا، وسمعنا غناء ساحرًا ... ولا يصح النصب على المعية، ولا على العطف5 وإلا فسد المعنى، ومثله قول الشاعر:
__________
1 أما الاشتراك في الزمن فقد يقتضيه أو لا يقتضيه؛ فمثل: أكلت خالدة وأختها، قد يقع أكلهما في زمن واحد، أو مختلف كما يتضح في "أ" من ص 314".
2 في ص 304، 305، وكما يجيء البيان الموضح في "أ" من ص 314.
3 سيذكر هذا البيت لمناسبة أخرى في باب العطف ج 3 م 116.
4 كما سيجيء في ص 314.
5 لأن الماء لا يؤكل، وكذا الغناء؛ ولأن سماع الغناء في الحقل الساهر يكون بعد الأكل عادة لا معه في زمنه.
وعند تقدير فعل محذوف مناسب، تنشأ جملة فعلية تكون معطوفة بالواو على الجملة الفعلية الأولى، فالعطف على الأصح عطف جمل، والممنوع عطف المفردات؛ إذ لا يجوز عطف "ماء"، ولا غناء علي: لحمًا، لكن يصح عطف جملة: "شربنا" وجملة: "سمعنا" على الجملة الأولى وهي: "أكلنا"، "وستجيء مناسبة أخرى لهذا في ج 3 باب العطف عند الكلام على العطف بالواو".(2/312)
تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه كان له وفر1
يريد: ويفقأ عينيه؛ لأن الجدع في اللغة خاص بالأنف، فلا يكون للعينين2 ...
__________
1 الوفر الزيادة، والبيت يذم حقودًا بأنه يحزن لنعمة تبدو على جاره أو صاحبه، ويتألم كمن جدع أنفه، أو فقئت عيناه.
2 وإلى شطر من هذه الحالة يشير ابن مالك قائلًا:
والنصب إن لم يجز العطف يجب ... أو اعتقد إضمار عامل تصب(2/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- في كل حالة يجوز فيها الأمران؛ "العطف والمعية"، لا بد أن يختلف المعنى فيكل أمر منهما؛ ذلك أن العطف يقتضي المشاركة الحتمية بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل، من غير أن يقتضي المشاركة الزمنية الحتمية؛ فقد يقتضيها أو لا يقتضيها، في مثل: "آنسني محمود وصالح في السفر" لا بد أن يشترك الاثنان في معنى الفعل، وهو مؤانسة المتكلم، وأن تتناولهما المؤانسة؛ لأن العطف على نية تكرار العامل؛ فكأنك قلت: آنسني محمود، وآنسني صالح. لكن ليس من اللازم أن تكون هذه المؤانسة قد شملتهما، وشملت معهما المتكلم في زمن واحد؛ فقد تكون في وقت واحد أو لا تكون1، والأمر في هذه المشاركة الزمنية وعدمها، متروك للقرائن والدلائل.
أما المفعول معه فلا بد فيه من المشاركة الزمنية الحتمية، أما المشاركة في معنى الفعل فقد يقتضيها أو لا يقتضيها2؛ ففي مثل: سافر الرحالة والصحراء، تتعين المشاركة الزمنية وحدها دون المعنوية؛ فإنها تفسد المعنى؛ لأن الصحراء لا تسافر ... كما سبق 3 وفي مثل: سار القائد والجنود، تصح المشاركة المعنوية مع المشاركة الزمنية المحتومة، فجواز الأمرين في كل حالة يجوز فيها أمران ليس معناه أن المراد منهما واحد، وإنما معناه أن هذا الضبط صحيح إن أردت المعنى المعين المختص به، وأن ذاك الضبط صحيح أيضا إن أردت المعنى المختص به كذلك: وإن شئت فقل: إن كل ضبط صحيح منهما لا بد أن يؤدي إلى معنى يخالف ما يؤديه الضبط الآخر.
ب– قد يقتضي المقام ذكر أنواع مختلفة من المفاعيل، وفي هذه الحالة يحسن ترتيبها بتقديم المفعول المطلق، فالمفعول به الذي تعدى إليه العامل مباشرة. فالمفعول به الذي تعدى إليه العامل بمعونة حرف جر، فالظرف الزماني، فالمكاني، فالمفعول له، فالمفعول معه، وهذا الترتيب هو ما ارتضاء كثير من النحاة، والحق أن الذي يجب مراعاته عند الترتيب هو تقديم ما له الأهمية.
__________
1 كما سبق في رقم 1 من هامش ص 312.
2 كما سبق في ص 305.
3 في ص 312.(2/314)
المسألة 81: الاستثناء
مدخل
...
المسألة 81: الاستثناء 1
تمهيد: يتردد في هذا الباب كثير من المصطلحات الخاصة به، والتي لا بد من معرفة مدلولاتها قبل الدخول في مسائله وأحكامه؛ ليمكن فهم المراد، ومن تلك المصطلحات:
المستثنى منه، المستثنى، أداة الاستثناء، التام، الموجب، المفرغ، المتصل، المنقطع، ... وفيما يلي بيانها.
أ- "المستثنى منه - المستثنى - أداة الاستثناء".
هذه الثلاثة تنكشف مدلولاتها على أكمل وجه إذا عرفنا أن أسلوب الاستثناء في أكثر حالاته، هو أسلوب أهل الحساب في عملية: "الطرح"، فالذي يقول: أنفقت من المال مائة إلا عشرة، إنما يعبر عما يقول أهل الحساب: "أنفقت" 100-10"، والذي يقول: اشتريت تسعة كتب إلا اثنين؛ إنما يعبر عن قولهم: اشتريت "9-2" ... وهكذا ...
والتعبير الحسابي السالف وأمثاله يشتمل على ثلاثة أركان مهمة؛ هي: "المطروح منه"؛ "مثل 100 ومثل 9 ... وأشباههما ... " "المطروح"؛ "مثل 10 ومثل 2 ... " و "علامة الطرح"، ويرمزون لها بشرطة أفقية قصيرة: "_".
ولهذه المصطلحات الحسابية الثلاثة ما يقابلها تمامًا في الأسلوب الاستثنائي؛ ولكن بأسماء أخرى اصطلاحية، فالمطروح منه يقابله: "المستثنى منه"، والمطروح يقابله: "المستثنى"، وعلامة الطرح يقابلها أداة الاستثناء وهي: "إلا"، أو إحدى أخواتها، أي ثلاثة إزاء ثلاثة.
ولما كانت عملية الطرح بمصلطحاتها شائعة واضحة، بل أولية كان ربط
__________
1 المراد به هنا الاستثناء في اصطلاح النحاة؛ فله تعريف خاص عندهم، وأدوات وأحكام نحوية يتميز بها، ومن الممكن تأدية المعنى الاستثنائي بوسائل متنوعة، تخالف الاستثناء النحوي الاصطلاحي، ولكنها لا تسمى: "استثناء" في اصطلاحهم، لعدم انطباق تعريفه وأحكامه عليها.(2/315)
أسلوب الاستثناء بها عند شرحه وتبيينه كفيلًا بإيضاح مصطلحاته الثلاثة السالفة، ومعرفة مدلولاتها في سهولة، واستقرار1، معرفة توصلنا إلى المعنى المقصود من الجملة كلها.
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قول النحاة في تعريف الاستثناء الاصطلاحي: "إنه الإخراج "بإلا" أو إحدى أخواتها لما كان داخلًا في الحكم السابق عليها"2، فليس هذا الإخراج إلا "الطرح"؛ بإسقاط ما بعدها من المعنى الذي قبلها، ومخالفته للمتقدم عليها فيما تقرر من أمر مثبت أو منفي ...
ب– الاستثناء التام:
ما كان فيه المستثنى منه مذكورًا؛ كالأمثلة السالفة، ومثل: ركب الطائرة عشرين ساعة إلا خمسة، وكان معي زملائي إلا ثلاثة، فكلمة "عشرين" هي المستثنى منه، وكذا كلمة: "زملاء" وبسبب وجود كل منهما في الكلام سمي الاستثناء: "تامًا".
ج- الاستثناء الموجب، وغير الموجب:
فالأول: ما كانت جملته خالية من النفي3؛ وشبهه "وشبه النفي هنا: النهي؛ والاستفهام الذي يتضمن معنى النفي4" كالأمثلة السابقة، وكقول الشاعر:
__________
1 أي: بقائه مفهومًا.
2 وهذا يشمل "الدخول الحقيقي"؛ كالأمثلة السالفة، "والدخول التقديري" الملاحظ في النفس كالمفرغ؛ وكالمستثنى المنقطع، وسيجيء إيضاحهما في ص 317 و 318 و 322 و 334؛ فإنهما لا يدخلان في الحكم السابق حقيقة، وإنما يندمجان فيه تقديرًا.
3 النفي الصريح: ما كان بإحدى الكلمات الخاصة الموضوعة له "مثل: ما، لا، ليس ... و ... "، وإلا فهو غير صريح، كالأنواع التالية.
4 وهذا يشمل أنواعًا؛ منها الاستفهام الإنكاري: "ويسمى أيضًا: الإبطالي" ويعرفونه بأنه الذي يسأل به عن شيء غير واقع، ولا يمكن أن يحصل، فمدعيه كاذب، وهذا النوع يتضمن معنى النفي؛ لأن أداة الاستفهام فيه بمنزلة أداة النفي في أن الكلام الذي تدخل عليه منفي المعنى؛ نحو قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} ؟.
راجع المغني ج 1 عند الكلام على الهمزة، وكذلك حاشية الأمير عليه عند الكلام على: "أم".
ومنها: الاستفهام التوبيخي؛ وهو: ما يسأل به عن أمر حاصل واقع، ومن يدعي وجوده يكون صادقًا في إخباره عن أمر موجود ذميم، وفاعله ملوم يستحق التوبيخ بسببه؛ مل قولنا للأوصياء: أتأكلون أموال اليتامى بالباطل؟
وفي الجزء الثاني من "المغني" عند الكلام على: "هل" أن أنواع الإنكار ثلاثة؛ منها النوعان السالفان، أما الثالث فمعناه النفي المجرد، والسلب المحض، بحيث يمكن وضع أداة النفي مكان أداة الاستفهام فلا يتغير المعنى، والأكثر أن تكون أداة الاستفهام هي: "هل" نحو: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، أي: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان.(2/316)
قد يهون العمر إلا ساعة ... وتهون الأرض إلا موضعًا
والثاني: ما كانت جملته مشتملة على نفي أو شبهة؛ نحو: ما تأخر المدعوون للحقل إلا واحدًا هل تأخر المدعون إلا واحدًا1؟.
ومن النفي ما هو معنوي "يفهم من المعنى اللغوي للكلمة، دون وجود لفظ من ألفاظ النفي"، مثل: "يأبى الله إلا أن يتم نوره"، فمعنى "يأبى": لا يريد، ومثل: "قل رجل يقول ذلك"، معنى: "قل" في هذا الأسلوب المسموع، هو: النفي: أي: لا رجل يقول ذلك.
أما "لو" في مثل: لو حضر الضيوف إلا واحدًا، لأكرمتهم فإنه نفي ضمني غير مقصود، فلا ينظر إليه من هذه الناحية، فكأنه غير موجود.
د – الاستثناء المفرغ2، هو: ما حذف من جملته المستثنى منه، والكلام غير موجب، فلا بد من الأمرين معًا3 نحو: ما تكلم ... إلا واحد ما شاهدت ... إلا واحدًا، ما ذهبت ... إلا لواحد، والأصل مثلًا قبل الحذف: ما تكلم الناس إلا واحدًا ما شاهدت الناس إلا واحدًا، ما ذهبت للناس إلا واحدًا4، ثم حذف المستثنى منه؛ فوقع لتغيير بسبب حذفه كالذي في قول الشاعر:
لا يكتم السر إلا كل ذي شرف ... والسر عند كرام الناس مكتوم
والأصل: لا يكتم الناس السر إلا كل ذي شرف ... و ...
__________
1 من النحاة من يرى أن هذا النوع لا تستخدم فيه أدوات الاستثناء الفعلية، إذا كان تامًا، متفصلًا، ورأيه ضعيف يجب إهماله؛ أخذًا بصريح ما جاء في المفصل ج 2 ص 77 و78، وفي الخضري والصبان، وسيجيء هذا في رقم 1 من هامش ص 353.
2 انظر رقم 2 من هامش ص 316 أما سبب التسمية ففي ص 322.
3 و3 ومن القليل الذي لا يلتفت إليه وقوع التفريغ في الإيجاب، إذا كان المحذوف فضلة حصلت مع حذفه فائدة، لكن هذه القلة لا اعتبار لها، ويجب إهمالها كما نصوا على ذلك راجع الصبان.
4 يوضح هذا المثال ما يجيء في رقم 4 من هامش ص 322.(2/317)
فالاستثناء المفرغ يقتضي أمرين مجتمعين حتمًا: أن يكون الكلام غير تام وغير موجب، وهذا أمر يجب التنبه له، وإلى أن أداة الاستثناء الفعلية لا يصح استخدامها فيه؛ لأنها لا تستخدم إلا في الاستثناء التام المتصل1.
هـ الاستثناء المتصل والمنقطع:
فالأول: ما كان فيه المستثنى بعضًا 2 من المستثنى منه؛ نحو: سقيت الأشجار إلا شجرة فحص الطبيب الجسم إلا اليد.
والثاني: ما لم يكن فيه المستثنى بعضًا من المستثنى منه؛ نحو: حضر الضيوف إلا سياراتهم، اكتمل الطلاب إلا الكتب، ومثل قوله تعالى عن أهل الجنة: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلامًا} فاللغو هو: رديء الكلام وقبيحه، والسلام ليس بعضًا منه، وكذلك قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} .
وليس معنى انقطاعه أنه لا صلة له بالمستثنى منه، ولا علاقة تربطهما ارتباطًا معنويًا؛ فهذا خطأ بالغ لا يكون في أسالب الاستثناء مطلقًا؛ وإنما معناه انقطاع صلة "البعضية" بينهما؛ الصلة على الوجه السالف لا بد أن يكون هناك نوع اتصال معنوي يربط بينهما، ولهذا تؤدي أداة الاستثناء فيه معنى الحرف: "لكن"، "ساكن النون أو مشددها" الذي يفيد الابتداء والاستدراك معًا3؛ وبالرغم من إفادته الابتداء والاستدراك معًا لا يقطع الصلة
__________
1 انظر ص 353 ورقم 1 من هامشها وقد ورد النص الخاص بمنع استخدام أداة الاستثناء الفعلية في غير التام المتصل في حاشية الخضري، والجزء الثاني من الصبان عند الكلام على الأدوات الفعلية، وكذا المفصل ج 2 ص 77.
2 لهذا صورتان؛ الأولى: أن يكون المستثنى منه متعدد الأفراد، والمستثنى أحد تلك الأفراد المتماثلة؛ نحو: تناولت الكتب إلا كتابًا، فالمستثنى منه وهو الكتب متعدد الأفراد، والمستثنى واحد منها.
الثانية: أن يكون المستثنى منه فردًا واحدًا ولكنه ذو أجزاء، والمستثنى جزء من تلك الأجزاء؛ مثل: غطيت الجسم إلا الوجه، وفي الحالتين يكون ما بعد "إلا" مخالفًا فيا لمعنى لما قبلها.
ولا مانع في الرأي الأحسن أن يكون المستثنى المتصل جملة، وسيجيء البيان في رقم 2 من هامش ص 330، ورقم 3 من هامش ص 332.
3 راجع "و" من ص 332 الزيادة والتفصيل.(2/318)
المعنوية بين ما بعده وما قبله، ومن ثم كان من المحتوم في كل "استثناء منقطع" صحة وقوع الحرف: "لكن" الساكن النون، أو مشددها موقع أداة الاستثناء فيه مع استقامة المعنى1.
ولا يجوز في الاستثناء المنقطع أن تكون أداته فعلًا؛ لأن هذه الأداة الفعلية لا تستخدم إلا في التام المتصل، كما تقدم في "الصفحة السالفة".
والآن نبدأ الكلام في أحوال الاستثناء، وأحكامه، وهي متعددة2 بتعدد أنواعه، وأدواته الثمانية التي منها الحرف المحض، والاسم المحض، والفعل المحض، وما يصلح فعلًا وحرفًا.
الكلام على أحكام المستثنى الذي أداته حرف خالص، وهي: "إلا"3:
أ- إذا كانت أداة الاستثناء هي "إلا"، ولم تكرر4 فللمستثنى بها ثلاثة أحكام:
الأول: وجوب النصب في الأغلب5، بشرط أن يكون الكلام تامًا موجبًا6؛ سواء أكان "المستثنى" متأخرًا بعد "المستثنى منه"، أم متقدمًا7 عليه، وسواء أكان "متصلًا"، أم "منقطعًا"، فمتى تحقق الشرط كان النصب واجبًا في الأغلب5 وعامًا يشمل كل الأحوال، وعند الإعراب يقال: "إلا" حرف
__________
1 طبقًا للبيان الآتي في: "و" من ص 332.
2 هذا الباب من أكثر الأبواب تعدادًا في الأحكام، واختلافًا فيها، ومنها المردود والضعيف، وقد حاولنا جاهدين تصفيته مما يشوه الحقائق الناصعة.
3 ومثلها: "لما" التي تشبهها في الحرفية، وفي الدلالة على الاستثناء، وإفادته؛ "طبقًا للبيان الخالص بها في "أ" من "الزيادة" ص 327 وفي "د" من ص 361"، وهي غير "لما" الظرفية التي سبق الكلام عليها في ص 296، وتجيء لها إشارة في باب الإضافة، جـ 3 م 94 ص 81، وهما كذلك غير لما الجازمة التي سيجيء الكلام عليها في جـ 4 م 154 ص 314.
و"إلا" التي للاستثناء كلمة واحدة، وليست مركبة، وهي حرف، وقد نترك الحرفية والاستثناء وتصير اسما محضا "كما سيجيء البيان في "ج" من ص 350" بخلاف: "إلا" التي في مثل: إلا تجامل زملاءك يكرهوك، فإنها مركبة من "إن" الشرطية المدغمة في: "لا" النافية.
4 أما المكررة فيجيء حكمها في ص 338.
5و 5 وهذا هو الشائع، وهناك رأي آخر لا يوجب النصب، سيجيء بيانه في "د" من ص 329.
6 سيجيء في شرط آخر في "هـ" من ص 331 هو ألا يكون المستثنى نكرة محضة ... و ...
7 في ص 327 و 328 أحكام خاصة بتقديم المستثنى، وبيان العامل الذي يعمل فيه النصب ...(2/319)
استثناء، والمستثنى: منصوب على الاستثناء كالأمثلة الآتية، ولا بد أن تتقدم "إلا" على المستثنى في كل الحالات1، سواء أكان متقدمًا على المستثنى منه أم متأخرًا عنه:
... "امتلأت الجداول إلا جدولا كبيرا" ... ، "امتلأت - إلا جدولا كبيرًا - الجداول"
... "كتبت الرسائل إلا رسالة واحدة" ... ، "كتبت - إلا رسالة واحدة - الرسائل"
... "تمتعت بالصحف إلا صحيفة تافهة" ... ، "تمتعت - إلا صحيفة تافهة - بالصحف"
... "أعدت ملابس الرحلة إلا الحقائب" ... ، "أعدت - إلا الحقائق - ملابس الرحلة"
... "تناولت الطعام إلا الماء" ... ، " تناولت - إلا الماء - الطعام"
... "أضأت المصابيح إلا غرفة" ... ، "أضأت - إلا غرفة - المصابيح"
الثاني: إما نصب "المستثنى" "والإعراب كالحالة السابقة"، وإما ضبطه على حسب حركة "المستثنى منه"، "فيكون مثله؛ مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا"، ويعرف: "بدلًا"2، ولا بد من الحالتين أن يكون الكلام تامًا غير موجب3. ولا فرق بين المتصل والمنقطع 4، ومن الأمثلة:
ما تخلف السابقون إلا واحدًا ... - أو: واحد.
ما جهلت السباقين إلا واحدًا ... - أو: واحدًا5.
هل تأخرت عن السياقين إلا واحدًا ... - أو: واحد.
__________
1 انظر ما يختص بهذا في "ب" من ص 327.
2 بدل بعض من كل، والمبدل منه هو المستثنى منه، والبدل هنا لا يحتاج لرابط؛ لأن وجود "إلا" يغني عنه؛ لدلالتها على أن ما بعدها بعض مما قبلها.
كما صرح الصبان وغيره؛ وستجيء إشارة لهذا في البدل ج 3 ص 644.
3 إذا انتقض النفي بسبب وجود "إلا" المكررة لم يجز البدل، واقتصر الأمر على النصب وحده؛ نحو: ما شرب أحد شيئًا إلا الماء إلا محمودًا؛ لأن الكلام هنا بمنزلة المثبت؛ إذ معناه شربوا الماء إلا محمودًا.
وفي "د" من ص 329 أمثلة مسموعة للبدل في كلام تام موجب، وفي "ز" من ص 334 الرأي في تعريفات البدل التي يعرضها النحاة.
4 في "و" من ص 332 أحوال وأحكام هامة تختص بالمقطع.
5 في هذا المثال نصبت كلمة: "واحدًا" في الصورتين، ولكن النصب في إحداهما على البدلية، وفي الأخرى على الاستثناء.(2/320)
ويجوز أن يتقدم "المستثنى"1 وهو منصوب، على المستثنى منه مباشرة، ويبقى كل شيء كما كان، فلا يتغير الإعراب كالأمثلة الآتية:
ما تخلف – إلا واحدًا – السابقون.
ما جهلت إلا واحدًا – السابقين2.
هل تأخرت إلا واحدًا – عن السباقين.
أما لو تقدم وهو بدل في الأصل؛ فإن الأمر يتغير تغيرًا كليًا3، فيعرب "المستثنى" المتقدم على حسب حاجة الكلام قبله، ويزول عنه اسم المستثنى، كما يزول عن "المستثنى منه" المتأخر، اسمه ويعرف بدلًا من الاسم الذي تقدم، وتابعًا له في حركة إعرابه، تصير "إلا" ملغاة4، ومن الأمثلة:
ما تخلف إلا واحد – السباقون.
ما جهلت إلا واحدًا – السابقين5.
هل تأخرت إلا عن واحد6 – السباقين.
ففي مثل: ما تخلف – إلا واحد – السباقون ... تعرب كلمة "إلا" ملغاة. وتعرب كلمة: "واحد" فاعلًا للفعل: "تخلف" وتعرب كلمة: "السباقون" بدلًا منها7، بدل كل من كل، وهذا إعرابها في باقي الأمثلة المعروضة8.
__________
1 بشرط أن تتقدم معه "إلا" وتسبقه؛ لأن تقدمها عليه شرط عام في كل الحالات التي يتقدم فيها على المستثنى منه أو يتأخر عنه، كما أسلفنا، وكما يجيء في "ب" من الزيادة والتفصيل" ص 327.
2 سيذكر هذا المثال في الحالة التالية التي يتقدم فيها البدل؛ لأنه وأشباهه صالح للحالتين.
3 في هذه الحالة سيعتبر من القسم الثالث الآتي، وهو قسم: "المفرغ".
4 لأن ما بعدها يكون خاضعًا في إعرابه لحاجة ما قبلها؛ فكأنها غير موجودة لكنها من ناحية المعنى تفيد استثناء ما بعدها من حكم ما قبلها.
5 هذا المثال لا يتعين فيه التفريغ عند تقديم البدل المنصوب؛ إذ يصح كما قلنا في رقم 2 من هذا الهامش اعتبار الكلام تامًا غير موجب تقدم فيه المستثنى المنصوب الذي ليس بدلًا؛ ويكون حكمه حكم الأمثلة التي قبل هذا مباشرة.
6 ما يأتي في رقم 4 من هامش ص 322 يوضح أصل هذا المثال، وما جرى فيه.
7 البدل هنا: بدل كل من كل؛ لأن المتأخر عام أريد به خاص؛ فصح لذلك أبداله من المستثنى الذي تقدم، وكان قبل تقدمه بدل بعض كما سبق في رقم 2 من هامش ص 320، فانقلب المتبوع تابعًا، كما في قولهم: ما مررت بمثلك أحد.
8 إلا المثال الثاني فلا يتعين فيه التفريغ لما سبق في رقم 5.(2/321)
الثالث: أن يعرف ما بعد "إلا" على حسب العوامل قبلها؛ بشرط أن يكون الكلام "مفرغًا"1، وهذه الصورة لا تعد من صور الاستثناء؛ لعدم وجود المستثنى منه2، لهذا تعرب "إلا" ملغاة، ويعرب ما بعدها فاعلًا، أو مبتدأ، أو مفعولًا، أو خبرًا، أو غير ذلك على حسب السياق ... فكأن كلمة: "إلا" غير موجودة من هذه الناحية الإعرابية3 فقط، دون المعنوية ويسمون الكلام: "مفرغًا"؛ لأن ما قبل "إلا" تفرغ للعمل الإعرابي فيما بعدها، ولم يشتغل بالعمل في غيره، ومن الأمثلة:
ما أخطأ إلا واحد متسرع ... - ما العدل إلا دعامة الحكم الصالح.
ما سمعت إلا بلبلًا صداحًا ... - ليس العمل إلا سلاح الشريف.
ما ذهبت إلا للنابغ4 ... - ما سعيت إلا في الخير.
ونحو:
يأبى الحر إلا العزة ... - يأبى الله إلا أن يتم نوره5.
__________
1 من التفريغ النوع الآتي من ص 326، وهو نوع دقيق يشبع في الأساليب العالية.
2 انظر البيان في رقم 2 من هامش ص 316.
3 لأن ما بعدها يكون خاضعًا في إعرابه لحاجة ما قبلها؛ فكأنها غير موجودة. لكنها من ناحية المعنى تفيد استثناء ما بعدها من حكم ما قبلها.
4 أصل الكلام: ما ذهبت لأحد إلا النابغ فلما حذف المستثنى منه وهو: أحد، بقيت لام الجر منفردة تحتاج لشيء بعدها تتصل به، وتجره؛ إذ لا يمكن أن تستقل بنفسها؛ فتأخرت إلى ما بعد "إلا" ولتجره؛ لأنه خاضع في إعرابه لما قبلها، ولا يمكن تقديمه وحده دون "إلا".
وهذا التفسير هو الذي أحلنا عليه في رقم 6 من هامش الصفحة السابقة رقم 2 من هامش ص 217".
ومثل هذا في التفريغ قول الشاعر:
لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء، أو من قلة الأدب
يريد: لا يكذب المرء من شيء إلا من مهانته ...
5 الكلام هنا مفرغ؛ لأن المستثنى منه محذوف، ولوجود نفي معنوي في كلمة "يأبى"؛ لأن معناها دائمًا هو: لا يريد كما سبق، في ص 317 "هذا تأويلهم، وفيه مجال للتوقف والرفض".
وجاء في المغنى ج 2 الباب الثامن ما نصه في القاعدة السادسة:
وقع الاستثناء المفرغ في الإيجاب في نحو قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} ... لما كان المعنى: وأنها لا تسهل إلا على الخاشعين ... ولا يريد الله إلا أن يتم نوره". ا. هـ.(2/322)
وأصل الكلام مثلًا قبل حذف المستثنى منه:
... ما أخطأ المتكلمون إلا واحدًا متسرعًا ... - أو: واحد متسرع.
... ما العدل دعامة الحكم الصالح ... - أو: دعامة الحكم الصالح.
... ما سمعت طيورًا مغردة إلا بلبلًا صداحًا ... - أو: بلبلًا صداحًا.
... ليس العمل سلاحًا إلا سلاح الشريف ... - أو: سلاح الشريف.
... ما ذهبت لحد إلا النابغ ... - أو: النابغ.
... ما سعيت في أمر إلا الخير ... - أو: الخير.
... يأبى الحر كل شيء، إلا العزة ... - أو: العزة.
... يأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره ... - أو: إتمام ...
فالكلام في أصله كلام تام غير موجب، يجوز فيه الأمران السالفان؛ إما النصب على الاستثناء، وإما الاتباع على البدلية، فلما حذف المستثنى منه صار الكلام نوعًا جديدًا؛ هو: المفرغ1، وصار له حكم جديد خاص، تبعًا لذلك ...
__________
1 يجوز التفريغ لجميع المعمولات، إلا المفعول معه، والمصدر المؤكد لعامله. وكذا الحال المؤكد لعامله؛ فلا يقال: ما سرت إلا والأشجار، ما زرعت إلا زرعًا، لا تعمل إلا عاملا.
وسبب المنع وقوع التناقض بذكر المعنى مثبتًا أو منفيًا قبل: "إلا" ثم مخالفته بعد: "إلا" وأما قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً} ، فالقرائن تدل على أن المراد: إن نظن إلا ظننًا عظيمًا، فهو بسبب القرينة مصدر مبين للنوع، وليس مؤكدّا.
ويجوز أن يقع "التفريغ" في غير ما سبق منعه؛ فمن التفريغ للمبتدأ قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} ، ومن التفريغ للفاعل قول الشاعر:
ما المجد زخرف أقوال تطالعه ... لا يدرك المجد إلا كل فعال
وللظرف قول الشاعر:
لم يضحك الورد إلا حين أعجبه ... حين الرياض، وصوت الطائر الغرد
وللجار مع مجروره قول الشاعر: يمدح الخليفة باحتمال التعب لراحة الرعية:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب
وقول الآخر:
ما القرب إلا لمن صحت مودته ... ولم يخنك، وليس القرب للنسب
وللنعت بالجملة قول الشاعر:
وافيت منزله: فلم أر صاحبًا ... إلا تلقاني بوجه ضاحك
ثم انظر "أ" الآتية في "الزيادة والتفصيل" ص 326 حيث النوع من التفريغ المشتمل على جملة فعلية قسمية ... ويشبع في الأساليب الأدبية المسموعة، وهو نوع يخالف ما سبق.(2/323)
ويمكن تلخيص كل ما تقدم من أحكام المستثنى بـ"إلا" الواحدة1 فيما يأتي:
أ- النصب صحيح في جميع أحوال المستثنى "بإلا" التي لم تتكرر، ما عدا حالة: "التفريغ"؛ فإن المستثنى يعرب فيها على حسب حاجة الجملة، وتعرف "إلا" ملغاة.
ب– يزاد على النصب "البدلية" حين يكون الكلام "تامًا" غير موجب، بشرط ألا يتقدم المستثنى على المستثنى منه مباشرة؛ فإن تقدم وهو منصوب بقي على حاله منصوبًا على الاستثناء، وإن تقدم وهو "بدل" تغير الأمر؛ فزال اسم المستثنى عنه، وصار معربًا على حسب حاجة الجملة؛ لأن الكلام يصير: "مفرغًا" أما المستثنى منه الذي تأخر فيزول عنه اسمه أيضًا، ويعرب "بدل كل من كل" من المستثنى الذي تقدم وتغير حاله2.
__________
ثم انظر "أ" الآتية في "الزيادة والتفصيل" ص 326 حيث النوع من التفريغ المشتمل على جملة فعلية قسمية ... ويشبع في الأساليب الأدبية المسموعة، وهو نوع يخالف ما سبق.
1 أي: التي لم تتكرر.
2 وفيما سبق من الأحوال الثلاثة وأحكامها يقول ابن مالك:
ما استثنت "ألا" مع تمام ينتصب ... وبعد نفي أو كنفي انتخب:
اتباع ما اتصل، وانصب ما انقطع ... وعن تميم فيه إبدال وقع
يريد: ما استثنته "إلا" أي: كانت أداة استثنائية وكان تمامًا، فإنه ينصب، ولم يذكر الإيجاب مع شرط التمام؛ لأنه مفهوم من المقابلة الواردة في الشطر الثاني من البيت، حيث نص على أنه بعد النفي وشبه النفي يكون المختار هو الاتباع مع المستثنى المتصل، والنصب وحده مع المنقطع، إلا عند تميم فإنهم يجوزون في المنقطع الإبدال أيضًا، ففهم من هذا أن الأول لا بد أن يكون موجبًا، وهذه تفريعات لا داعي لها؛ والحكم المستصفى يتلخص فيما قلناه من أن المستثنى التام في الكلام الموجب ينصب في جميع صوره، وأن المستثنى في الكلام التام غير الموجب يجوز فيه أمران: النصب، والإبدال، ولا أهمية لكثرة أحد الأمرين على الآخر كثرة نسبية "أي: بالنسبة لذلك الآخر، بحيث لا تنزل القلة إلى حد القلة الذاتية" أو لاستعمال قبيلة دون الأخرى، ما دام الضبط صحيحًا وكثيرًا في نفسه، دون أن تكون قلته ذاتية. =(2/324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم عرض بعد ذلك لحالة المستثنى المتقدم حين يكون الكلام تامًا غير موجب، فبين أن غير النصب هو: "البدل" قد يجوز، ولكن النصب هو المختار، فالأمران جائزان قياسيان، ولكن أحدهما أكثر في الاستعمال في الآخر كثرة نسبية؛ يقول:
وغير نصب سابق في النفي قد ... يأتي، ولكن نصبه اختر إن ورد
ثم انتقل الكلام على الاستثناء المفرغ، فقال:
وإن يفرغ سابق "إلا" لما ... بعد يكن كما لو ألا عدما
أي: إذا كان الكلام قبل إلا مفرغًا "متجهًا للعمل فيما بعدها"، فإن تأثيره فيما بعدها يقوم على افتراض أنها غير موجودة، وعلى هذا الفرض نضبط ما بعدها؛ فقد يكون فاعلًا، أو مفعولًا، أو مبتدأ، أو خبر أو غيره ... على حسب حاجة ما قبلها.
لكن ما إعراب عراب: " كما لو ألا...." في البيت الأخير؟ وكذا في البيت الآتي في ص 342 حيث يقول هناك: كما لو كان دون زائد"؟
قال الصبان في الموضعين، وكذا الخضري فيهما: "إن: "ما" مصدرية، و"لو" زائدة، أو العكس". ا. هـ.
وهذا يؤيد المذهب الكوفي الذي لا يرى في الأسماء حرجًا، وجاء في الصبان ج 3، باب: "الترخيم" عند بيت ابن مالك:
واجعله إن لم تنو محذوفًا كما ... لو كان بالآخر وضعًا تممًا....
ما نصه: "الظاهر: أن: "ما" في قوله: "كما" زائدة، و"لو" مصدرية، والتقدير: ككونه متممًا بالآخر في الوضع، إنما كان هذا هو الظاهر مع أن الحقيقي يجعله مزيدًا هو الثاني دون الأول، لوقوعه في مركزه، لكثرة زيادة "ما" بخلاف: "لو". ا. هـ.(2/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يتردد في فصيح الأساليب الواردة أسلوب مطرد1، يحوي نوعًا آخر من التفريغ، يخالف ما سبق ... وضابط هذا النوع: أن يكون الكلام مشتملًا على جملة قسمية، ظاهرها مثبت، لكن معناها منفي، وجواب القسم جملة فعلية ماضوية لفظًا، مستقبلة معنى، مصدرة "بإلا" نحو: سألتك بالله إلا نصرت المظلوم، ناشدتك الله إلا تركت الإساءة، حلفت بربي إلا عاونت الضعيف، وقول الشاعر:
بالله ربك إلا قلت صادقة ... هل في لقائك للمشغوف من طمع
فالاستثناء في الأمثلة السابقة ونظائرها مفرغ يقتضي أن يكون الكلام في معناه غير تام، وغير موجب، فالمراد: "ما سأتلك بالله ... إلا نصرك المظلوم" "ما ناشدتك الله ... إلا تركك الإساءة ... " "ما حلفت بربي ... إلا على معاونتك الضعيف"، "ما حلفت بالله ربك ... إلا على قولك صادقة ... " فقد اجتمع في الكلام الأمران معًا تقديرًا؛ "وهما عدم التمام، وعدم الإيجاب" واجتمع معهما أمر ثالث؛ هو: أن الفعل مع فاعله بعد "إلا" مؤول بمصدر منسبك بغير سابك، ليمكن إعراب هذا المصدر على حسب ما تحتاج إليه الجملة قبل "إلا" أي: على حسب ما يقتضيه "التفريغ"؛ تطبيقًا لحكم "الاستثناء المفرغ"، فيكون مفعولًا به في المثال الأول، "وهو: سأتلك بالله إلا نصرت المظلوم"، أي: ما سألتك بالله إلا نصرك المظلوم، ويكون شيئًا آخر غير مفعول به إذا اقتضى الكلام غيره؛ لعدم صلاحية المفعول به، ويجري هذا التأويل والسبك في بقية الأمثلة، وأشباهها مما يطرد صوغه على النمط الوارد الموافق للمأثور2.
__________
1 وهو الذي أشرنا إليه في رقم 1 من هامش ص 322، وانظر ما هو وثيق الصلة بهذا في: "د" من ص 361.
2 جاء في الدرر اللوامع، شرح همع الهوامع ج 2 ص 46 بمناسبة البيت السالف، وهو: "بالله ربك إلا قلت صادقة ... إلخ" ما ملخصه:
أن البيت المذكور يذكر شاهدًا على تصدير جواب القسم بالحرف "إلا"، وأن التقدير فيه: أسألك بالله إلا قلت، والاستثناء مفرغ، والمعنى: ما أسألك إلا قولك، فالمثبت لفظًا، منفي معنى، =(2/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذه المناسبة تذكر "لما" التي سبقت الإشارة إليها1، وهي التي تماثل "إلا" في الحرفية، وفي الدلالة على الاستثناء، ولكنها لا تدخل إلا على جملة اسمية؛ كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} ، في قراءة من شدد الميم، واعتبر "إن" التي في صدر الجملة، نافية أو على جملة فعلية ماضوية لفظًا لا معنى؛ "بأن يكون الفعل ماضيًا في لفظه، مستقبلًا في معناه"، نحو: أنشدك الله لما فعلت، أي: أنشدك بالله، وأستحلفك به إلا فعلت، والمعنى: ما أسألك إلا فعلك؛ على تقدير: إلا أن تفعل كذا ... ؛ ليكون الفعل الماضي مستقبل الزمن؛ تطبيقًا لما تقرر من أن الماضي الذي يليها يكون ماضيًا في لفظه، مستقبلًا في معناه2 وسيجيء3 تفصيل الكلام على جواب القسم، وأنواعه، وأحكامه.
ب نعود لذكر ما قرره النحاة خاصًا بتقديم المستثنى بالإ، قالوا: لا يصح مطلقًا تقديمه وحده عليها4، ولا يجوز أن يتقدم على المستثنى منه، وعلى عامله
__________
= ليتأتى التفريغ، والفعل مع فاعله مؤول بالمصدر ليأتي فيه المفعولية ... فإن قام الاعتراض بأن تأويل الفعل مع فاعله بالمصدر من غير سابك هو تأويل شاذ غير قياسي، وأنه مقصور على ما ورد السماع به من مثل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، كان دفع الاعتراض بأن تأويل الفعل بالمصدر من غير سابك أمر قياسي في بعض الحالات، كالتي نحن فيها، دون بعض؛ فيحكم عليه بالشذوذ في كل باب لم يطرد فيه السبك عن العرب، إما إذا اطرد السبك في باب واستمر فيه؛ فإنه لا يكون شاذًا؛ كالأساليب التي نحن بصددها حيث التزمت فيها العرب ذلك النسق، وكإضافة بعض أسماء الزمان إلى الجملة في مثل: جئت حين ركب الأمير، أي: في حين ركوب الأمير، وفي مثل قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ، أي: يوم نفع الصادقين ... فهذا وأمثاله مطرد، ومثل: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإنك إذا نصبت "تشرب"، فإنما تنصبه بأن مضمرة؛ فيصير اسمًا معطوفًا في الظاهر على فعل، وهذا العطف ممتنع إلا عند التأويل؛ فيحتاج إلى أن تتصيد من الفعل "يأكل" مصدرًا من غير سابك كأن تقول مثلًا: لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، ولا يعد هذا شاذًا، لاطراده في بابه، وكذلك مثل: سواء علي أقمت أم قعدت، أي: قيامك وقعودك، فهذا مؤول بالمصدر بدون أداة سبك؛ لاطراده في باب التسوية ... ا. هـ، الملخص.
1 في رقم 3 من هامش ص 319، وتجيء لها إشارة أيضًا في: "د" من ص 361.
2 راجع الأشموني والصبان ج 4 أول باب: "الجوازم" عند الكلام على: "لما" الجازمة.
3 في ص 498.
4 كما سبق في رقم 1 من هامش ص 321.(2/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معًا؛ فلا يصح: إلا التفاح أكلت الفواكه، أما تقدمه على أحدهما وحده فجائز؛ وقد تقدمت1 الأمثلة لتقدمه على المستثنى منه دون العامل، وأما تقدمه على العامل وحده فنحو: الفواكه إلا التفاح أكلت، حيث تقدم المستثنى على عامله بعد أن سبقهما معًا المستثنى منه.
وإذا كان المستثنى منه اسم موصول لم يجز تقديم المستثنى على الصلة؛ لأنه لا يصح الفصل بين الموصول وصلته بالمستثنى.
وإذا كان للاسم الواقع بعد إلا مباشرة أو لغيره مما بعدها في جملتها معمول؛ فإنه لا يجوز تقديمه عليها؛ ففي مثل: ما أنا طالب علمًا لا يصح: ما أنا علمًا إلا طالب.
وإذا كان قبلها عامل له معمول؛ فإنه لا يجوز تأخير هذا المعمول عنها؛ ففي مثل ما يجيد الناشئون الخطابة إلا الأديب أول مثل: ما يحرص على الأدب إلا الأديب ... لا يصح أن يقال: ما يجيد الناشئون إلا الأديب الخطابة ولا ما يحرص إلا الأديب على الأدب، وبعض النحاة يجيز تأخير هذا المعمول إذا كان شبه جملة، أو حالًا، ويؤيد رأيه بأمثلة كثيرة فصيحة تجعله مقبولًا؛ فيصح أن يقال: "يتكلم الخطباء، إلا المريض، واقفين ... " "يعترف الأجانب، إلا بعضهم، بعظمة العرب ... " "تتضافى النفوس، إلا الخبيثة، أمام الخطر".
ويصح تقديم المستثنى على صفة المستثنى منه؛ ففي مثل: ما كرمت الأمة المتحضرة إلا النابغين ... يصح أن يقال: ما كرمت الأمة إلا النابغين المتحضرة.
جـ– تعددت الآراء في الناصب للمستثنى؛ "إلا" وقيل: العامل الذي قبلها بمساعدتها، وقيل: فعل محذوف تقديره: استثنى ... و ... ولا أثر لهذا الخلاف النظري في أحكام المستثنى، وضبطه: فالخير في إغفاله؛ اكتفاء بأن تقول في الإعراب: المستثنى منصوب على الاستثناء، ولعل أقوى الآراء أنه منصوب بالفعل قبلها، أو بغيره مما يعمل عمل الفعل2، إلا المستثنى المنقطع
__________
1 في ص 320 و 321.
2 فإن لم يوجد قبلها فعل أو غيره مما يعمل نحو: الزملاء أخوة إلا الغادر أمكن تأويله بما يعمل، أي: الزملاء منتسبون للأخوة إلا الغادر.(2/328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فعامله هو: "إلا" ونحن في غنى عن التعرض لأقواها وغيره إلا حين يعرض أمر يختص بالعامل وهذا قليل وعندئذ يرجع الفعل، أو ما يعمل عمله كالحالات السالفة التي يجوز فيها تقدم المستثنى على عامله أو عدم تقدمه.
د– وردت أمثلة مسموعة وقع فيها المستثنى غير منصوب، مع أن الكلام تام موجب؛ ومنها قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُم} في قراءة كلمة: "قليل" بالرفع، ومنها: تغير المنزل إلا باب1 ومنها قوله عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة، إلا امرأة، أو مسافر، أو مريض"، وقوله أيضًا: "فتفرقوا كلهم إلا قتادة ... " ... و ... و ...
وقد كلف النحاة أنفسهم عناء التأويل والتقدير؛ ليجلعوا الكلام تامًا غير موجب، فيصلوا من هذا إلى جواز البدل، وإلى أن الأمثلة مسايرة للقاعدة عندهم، فمما قالوه في الآية: إن نصها على لسان طالوت هو: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ... {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} فمعنى: "شربوا منه": لم يكونوا مني ولا من أنصاري، فهي في تأويل كلام منفي في تقديرهم.
وقالوا: في المثال الثاني وأشبابه: إن: "تغير" معناها لم يبق على حاله، فالكلام يتضمن نفيًا في المعنى ... كما عرضوا تأويلات أخرى لبقية الأمثلة الواردة.
ولا شك أن كلامهم مردود، وتأويلهم بعيد، لسببين:
أولهما: أن كل كلام مثبت لا بد له من نقيض غير مثبت، ويستحيل الحكم على شيء بالإثبات دون أن يتصور العقل له ضدًا منفيًا؛ فمعنى "سكت الفتى: لم يتكلم، ومعنى لم يتكلم: سكت، ومعنى: "نام الرجل" لم يتيقظ، ومعنى "تيقظ": ليس بنائم، ومعنى "تحرك الطفل": لم يسكن، ومعنى "سكن": لم يتحرك ... ومعنى "شرب": لم يفقد الماء ويظمأ، ومعنى "فقد الماء": ما شرب ...
__________
1 نص المثال المسموع، الوارد في "التصريح" هو:
وبالصريمة منهم منزل خلق ... عاف تغير إلا النؤي والوتد
وفي حاشية ياسين أمثلة متنوعة أخرى.(2/329)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
و ... و ... ، وهكذا، فلو أخذنا برأيهم، وفتحنا باب التأويل على هذا النمط لم يبق في الكلام العربي أسلوب مقصور على "التمام مع الإيجاب" دون أن يصلح للنوع الثاني "وهو: التام غير الموجب"، وهذا غير مقبول.
وثانيهما: وهو الأهم أن الآية والمثال وغيرها مما وقع فيه المستثنى غير منصوب في الكلام التام الموجب إنما ورد صحيحًا مطابقًا للغة بعض القبائل العربية، التي تجهل السلقية الكلام "التام الموجب، والتام غير الموجب" متماثلين في الحكم1؛ ويجوز فيهما: إما النصب على الاستثناء، وإما البدل من المستثنى منه، وإما الرفع على الابتداء 2 ... و ... فلا معنى للتأويل بقصد إخضاع لغة قبيلة للغة نظيرتها3.
__________
1 وقد ورد النص على هذا في كثير من المراجع النحوية، ومنها: حاشية ياسين على "التصريح، شرح التوضيح"، ففيها البيان والأمثلة من القرآن والحديث وغيرهما مما سرده في أول "الاستثناء"، وكذا الصبان.
2 من يرفع الاسم بعد: "إلا" في الكلام التام الموجب فعلى اعتبار ذلك الاسم عنده مبتدأ، خبره مذكور أو محذوف، ويجعل المستثنى حينئذ هو الجملة في محل نصب على الاستثناء، ويجري هذا في المتصل والمنقطع.
راجع الصبان، أول باب الاستثناء، وكذلك حاشية "الأمير" على المغني ج2، بعد الجملة السابعة من باب الجمل التي لها محل من الإعراب؛ حيث الأمثلة المتعددة الواردة برفع المستثنى في الكلام التام الموجب والتي لا تحتمل تأويلًا، وحيث النص الصريح من كلام ابن مالك وغيره بأن النصب جائز لا واجب، مؤيدًا رأيه بالشواهد الفصيحة المتنوعة التي سردها، "وانظر رقم 3 من هامش ص 332".
والخير في ترك هذه اللغات القليلة؛ بالرغم من أنها صحيحة قياسية.
3 ومما يتصل بهذا ويفيد عرضه هنا ما جاء في تفسير البحر المحيط" ج 2 ص 266 لأبي حيان: "للآية الكريمة: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُم} .... ونص كلامه:
" ... وقرأ عبد الله، وأبي، والأعمش، "إلا قليلٌ" بالرفع، قال: الزمخشري: " وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض من اللفظ جانبًا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى: فشربوا منه" في معنى: فلم يطيعوه، حمل عليه؛ كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا "قليل"، ونحوه قول الفرزدق:
"وعض زمان يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتًا أو مجلف
- المسحت: القليل، والمجلف: من ذهبت الشدائد والسنون بماله، أو من تركت له بقية ضئيلة. =(2/330)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا كان التأويل على هذا النمط معيبا، وواجبنا الفرار منه جهد استطاعتنا، فإن الأنسب لنا اليوم أن نتخير عند الضبط اللغة الضاربة في الفصاحة، الشائعة بين اللغات المتعددة؛ لنقتصر عليها في استعمالنا تاركين غيرها من اللغات واللهجات القليلة، توحيدًا للتفاهم، وفرارًا من البلبلة الناشئة من تعدد اللهجات واللغات بغير حاجة ماسة؛ فعلينا أن نعرف تلك اللغات في مناسباتها، ويستعين بها المتخصصون على فهم النصوص الواردة بها، دون محاكاتها في الضبط، أو القياس عليها كما أشرنا لهذا كثيرًا على الرغم من أنها صحيحة يجوز محاكاتها1.
هـ- إذا كان الكلام تامًًا موجبًا 2، فلا يكون المستثنى منه في الفصيح
__________
= "كأنه قال: لم يسبق من المال إلا مسحت أو مجلف". ا. هـ، كلام الزمخشري.
"والمعنى: أن هذا الموجب الذي هو "فشربوا منه" هو في معنى النفي؛ كأنه "قيل: فلم يطيعوه؛ إلا قليل فارتفع "قليل" على هذا المعنى؛ ولو لم يحفظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد إلا، فيظهر أن ارتفاعه هو على أنه بدل من جهة" المعنى، فالموجب فيه كالنفي.
وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد "إلا" على التأويل هنا دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب؛ فلذلك تأوله.
"ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد إلا وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهو الأفصح والثاني: أن يكون ما بعد إلا تابعًا لإعراب المستثنى منه؛ إن رفعا فرفع، أو نصبًا فنصب، أو جرا فجر؛ فنقول: قام القوم إلا زيد، ورأيت القوم إلا زيدًا، ومررت بالقوم إلا زيد، وسواء أكان ما قبل إلا مظهر أو مضمرًا، واختلفوا في إعرابه؛ "فقيل: هو كذا ... أو كذا ... وسرد آراء مختلفة ... "، ثم قال بعدها:
"ومن الاتباع بعد الموجب قوله:
"وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
ا. هـ، النص المنقول حرفيًا من تفسير أبي حيان.
1 لأن كل قراءة صحيحة قرئ بها القرآن يصح محاكاتها في غيره، والقياس عليها، وكذلك كل لغة سليمة لإحدى القبائل؛ كما نص على هذا الأئمة، وعرضنا له بأدلته وتفاصيله في بحث مستفيض؛ عنوانه "القياس"، بكتابنا المسمى: "اللغة والنحو بين القديم والحديث".
2 راجع في الحكم الآتي كتاب: همع الهوامع ج 1 ص 323 أول باب الاستثناء، "وفي رقم 6 من هامش ص 321، إشارة لما يأتي. ".(2/331)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نكرة، إلا إن أفادت 1 فلا يقال: جاء قوم إلا رجلًا، ولا قام رجال إلا محمدًا، لعدم الفائدة، بسبب أن النكرة محضة، فإن أفادت جاز؛ نحو قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} ، وقام رجال كانوا في بيتك إلا واحدًا منهم، أما الكلام التام غير الموجب فالفائدة تحقق فيه بالنفي وشبهه؛ لدلالة النكرة معه غالبًا على العموم نحو: ما جاءنا أحد إلا رجلًا، أو إلا عليًا ...
كذلك لا يكون المستثنى منه معرفة، والمستثنى نكرة لم تخصص؛ فلا يقال: قام القوم إلا رجلًا: فإن تخصصت جاز؛ نحو: خرج القوم إلا رجلًا منهم، أو: إلا رجلًا حارسًا....
و– عرفنا 2 أن المستثنى المنقطع ليس بعضا من المستثنى منه، فليس فردًا من أفراد نوعه، وليس جزءًا من أجزاء الفرد؛ كما سبق 2 فكيف يكون مستثنى وبينه وبين المستثنى منه هذا التخالف والتباين؟ كيف يكون المطروح مباينًا جنس المطروح منه؟.
قال النحاة:
1– إن كان المستثنى المنقطع جملة 3؛ مثل قوله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} ، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} ، {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ
__________
1 إفادتها تكون بزيادة تطرأ عليها؛ كوصف، أو إضافة، أو غيرها مما يفيدها تخصيصًا، ولا يتركها على حالها محضة التنكير.
2و 2 في "هـ" من ص 318، ورقم 2 من هامشها.
3 يجوز وقوع المستثنى المنقطع جملة بنوعيها، ويكون لها محل من الإعراب كما سبق في رقم 2 من هامش ص 330، ولا داعي لاشتراط: "أن يكون الاستثناء مفرغًا، وأن يكون الفعل إما مضارعًا، وأما ماضيًا مسبوقًا بقد، أو بماض قبل "إلا"، فهذا الذي نص عليه "ياسين" في حاشيته على "التصريح" عند الكلام على: "غير" التي للاستثناء خالفه فيه الأكثرون، ولعله غالب، لا شرط لازم؛ كما سيجيء في "ب" من ص 349"، فإن كان المستثنى متصلًا جاز في القول الصحيح وقوعه جملة، برغم ما في حاشية ياسين جـ 1، الباب الخامس من أبواب النيابة، عند الكلام على جر الممنوع من الصرف بالكسرة لإضافته.(2/332)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ... } أعربت هذه الجملة 1، في موضع نصب على الاستثناء، و"إلا" أداة استثناء حرف؛ بمعنى: "لكن" الساكنة النون، التي تفيد الاستدراك والابتداء 2 معًا، وتقتضي أن تسبقها جملة، وتدخل على جملة جديدة اسمية أو فعلية3، فهي متوسطة بين جملتين؛ فكأن التقدير؛ لست عليهم بمسيطر، لكن من تولى وكفر فيعذبه الله ...
2– إن كان المستثنى المنقطع مفردًا منصوبًا فأداة الاستثناء: "إلا" تكون عند أكثر النحاة بمعنى: لكن "المشددة النون" التي تفيد الابتداء2، والاستدراك، وتعمل عمل: "إن"، نحو: نام أصحاب البيت إلا عصفورًا مغردًا، فكلمة؛ "إلا" بمعنى: "لكن" المذكورة، التي تقتضي بعدها جملة اسمية الأصل تنصب فيها المبتدأ وترفع الخبر؛ سواء أكان خبرها مذكورًا أم محذوفًا، ولا بد على هذا الرأي من جملة اسمية بعدها، ولا بد من ذكر جملة أخرى قبلها، فكأن التقدير: نام أصحاب البيت لكن عصفورًا مغردًا يقظ، أو: لم ينم ...
ويرى سيبويه أن المستثنى المنقطع المنصوب بعد "إلا" إنما هو منصوب بعامل قبلها، شأنه في هذا شأن المستثنى المتصل، فما بعد "إلا" عند سيبويه مفرد سواء أكان متصلًا أم منقطعًا، وهي بمعنى: "لكن" العاطفة التي لا يقع المعطوف بها إلا مفردًا، غير أن "إلا" ليست حرف عطف.
والأخذ برأي سيبويه هنا في اعتبار عامل المستثنى المنقطع، أسهل وأيسر.
3– وإن كان المستثنى المنقطع مفردًا مرفوعًا؛ كما في حالة البدلية ...
__________
1 هي جملة اسمية، المبتدأ "من" اسم موصول بمعنى الذي، مبنى على السكون في محل رفع "تولى"، فعل ماض، الفاعل، ضمير مستتر تقدير: هو، والجملة لا محل لها من الإعراب صلة الموصول ... "فيعذبه"؛ الفاء، زائدة، داخلة على جملة الخبر، "يعذبه الله" جملة من مضارع وفاعله ومفعوله في محل رفع؛ خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب على الاستثناء.
وقد سبق بيان المواضع التي تزاد فيها الفاء في الخبر، جـ 1 م 41 ص 487 آخر باب المبتدأ والخبر.
2و2 أي: الصدارة في الجملة التي تدخل عليها.
3 فهي تقتضي بعد الجملة السابقة عليها الدخول على جملة جديدة، زيادة على ما تفيده من الاستدراك، "وقد مر شرح الاستدراك وتفصيل أحكامه في جـ 1 ص 472 م 51".(2/333)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عند من يجيزها، والابتداء عند من لا يجيزها1 في نحو؛ ما سهر أصحاب البيت إلا عصفور مغرد كانت أداة الاستثناء "إلا" بمعنى: لكن "ساكنة النون"، فأصل التقدير، ما سهر أصحاب البيت لكن عصفور مغرد سهر.
والسبب في تعدد هذه التقديرات كما يبدو هو إدخال كل ضبط من تلك الضبوط تحت قاعدة نحوية عامة، أما المعنى فلن يتغير في المستثنى، ولا المستثنى منه، ولا غيرهما، وسيظل المستثنى منصوبًا على الاستثناء إن كان جملة أو مفردًا منصوبًا، فإن كان مفردًا غير منصوب فهو بدل، ويجوز في الاسم المرفوع اعتباره مبتدأ خبره مذكور أو محذوف، كما تقدم والجملة منصوبة على الاستثناء.
بالرغم من أن المنقطع ليس بعضًا من المستثنى منه، فإنه لا يجوز أن يكون منقطع المناسبة والعلاقة بينه، وبين المستثنى منه انقطاعًا كليًا في المعتاد كما سبق 2، فلا يصح: أقبل الضيوف إلا ثعبانا، كذلك لا يصح أن يسبقه ما هو نص صريح في خروجه وفقد تلك العلاقة، فلا يجوز: صهلت الخيل إلا الإبل؛ لأن الصهيل نص قاطع في صوت الخيل وحدها؛ فلا صلة بين المستثنى والمستثنى منه مطلقًا؛ فيصير الكلام خلطًا وبترًا، بخلاف صوتت الخيل إلا الإبل.
ز– تقدم، في الحكم الثاني3 أن المستثنى في الاكلام التام غير الموجب يجوز فيه النصب والبدل، ويقول النحاة في تفريع هذا البدل كلامًا مرهقًا غير مقبول، والخبر في إهماله؛ ومنه:
إذا تعذر البدل على اللفظ أبدل على الموضع، فمثل: ما جاءني من أحد إلا البائع ... لا يجوز إعراب "البائع" بدلًا مجرورًا من لفظ: "أحد"، لزعمهم أن كلمة: "أحد" مجرورة اللفظ بالحرف الزائد: "من" وهو حرف لا يزاد غالبًا إلا في كلام منفي؛ كالمثال السالف، وأن كلمة: "البائع" معناها مثبت؛ لأن الكلام الذي بعد "إلا" مناقض لما قبلها في النفي والإثبات، كما هو معروف فإذا كان معناها مثبتًا، فكيف تكون بدلًا من كلمة: "أحد" المنفية،
__________
1 راجع رقم2 من هامش ص 330.
2 في ص 318 "هـ".
3 ص320.(2/334)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المجرورة لفظًا بالحرف الزائد، والبدل على نية تكرار العامل الذي يعمل في المبدل منه؟ فكأنهم يقولون:
إن كلمة: "البائع" المجرورة ملحوظ قبلها في التقدير الحرف "من" الزائد الذي عمل الجر في المبدل منه "أحد"، ويترتب على هذا عندهم دخول "من" الزائدة الجارة في كلام مثبت بعد "إلا" وهي في الغالب لا تكون إلا في كلام منفي، كما سبق، وقرارًا من هذا الذي يرونه محظورًا منعوا البدل الجر من لفظة: "أحد"، وأجازوا البدل بالرفع من محلها: لأنها مجرورة بمن "لفظًا" وفي محل رفع فاعل للفعل: جاء، فالتقدير: جاء البائع.
ومثل: ليس اللص بشيء إلا رجلًا تافهًا، فقالوا لا يجوز ضبط كلمة: "رجلًا" بالجر على اعتبارها بدلًا من كلمة: "شيء" المجرور لفظها؛ وإنما يجوز النصب على اعتبارها بدلًا من محل كلمة: "شيء"، وذلك للوهم السالف أيضًا؛ وهو أن المبدل منه، "وهو كلمة: شيء" مجرور بالباء الزائدة، وهذه الباء لا تزاد إلا في جملة منفية، والمستثنى "بإلا" مثبت بعد الكلام المنفي، فلو أبدلنا كلمة: "رجلًا" في كلمة: "شيء" المجرورة لكان هذا البدل مستلزمًا في التقدير وقوع الباء وهي العامل في المبدل منه قبل البدل أيضًا؛ لأن البدل على نية تكرار العامل؛ فيترتب على هذا دخول "باء" الجر الزائدة على مثبت؛ وهو عندهم ممنوع، فللفرار من هذا أبدلوا كلمة: "رجلًا" من كلمة: "شيء" مع مراعاة محلها، لا لفظها؛ لأن محلها النصب؛ فهي مجرورة لفظًا، منصوبة محلًا، باعتبارها خبر: "ليس"!!.
ومثل: لا ساهر هنا إلا حارس، لا يجوز عندهم أن تكون كلمة: "حارس" بدلًا منصوبًا من محل كلمة: "ساهر" المبنية على الفتح لفظًا في محل نصب، وحجتهم أن كلمة: "ساهر" ...
اسم "لا" واسم "لا" منفي، أما المستثنى هنا فموجب، لوقوعه بعد "إلا"، "وما بعدها مخالف لما قبلها نفيًا وإثباتًا، كما تقدم"، ولما كان العامل في المستثنى منه: هو "لا" النافية للجنس وجب عندهم أن تكون عاملة أيضًا في المستثنى؛ لأن العامل في الاثنين لا بد في الرأي المشهور أن يكون واحدًا، ثم يقولون: كيف تعمل "لا" في المستثنى الموجب، وهي لا تعمل إلا في منفي؟ وللفرار من هذا قالوا: إن البدل هو من محل اسم "لا"(2/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبل دخولها، وليس من محل اسمها بعد دخولها، فاسمها قبل دخولها كان مبتدأ1، فالبدل مرفوع مثله، ولا عمل للناسخ فيه إذ ذاك.
ومثل: ما الخائن شيئًا إلا رجل حقير؛ فقد منعوا أن تكون كلمة: "رجل" بدلًا منصوبًا من كلمة: "شيئًا" المنصوبة، وحتموا أن تكون بدلًا مرفوعًا من كلمة: "شيئًا" باعتبار أصلها؛ فقد كانت خبرًا مرفوعًا للمبتدأ قبل مجيء "ما" الحجازية التي تعمل عمل: "ليس"، وسبب المنع أن المستثنى منه منفي، والمستثنى موجب، والعامل في الاثنين واحد؛ هو: "ما" الحجازية، فتكون "ما" الحجازية قد عملت في الموجب، وهي لا تعمل إلا في المنفي.
ذلك رأيهم ودليلهم 2 في كل ما سبق من الأمثلة الممنوعة، وهو رأي غريب "إذا ما الحكمة كما قال بعض آخر من النحاة في ارتكاب هذا التكلف 3؟ مع أن القاعدة: "أنه يغتفر فيا لتابع ما لا يغتفر في المتبوع 4".
__________
1 يجوز في هذا المثال من الأوجه الإعرابية ما يجوز في أشباهه التي عرضوها في باب "لا" النافية للجنس آخر الجزء الأول ومنها: "لا إله إلا الله"، فقد جوزوا في كلمة: "الله" ما يأتي.
أ– الرف على البدلية؛ مراعاة لمحل "لا مع اسمها؛ لأن محلهما رفع على الابتداء عند سيبويه.
ب– أو: الرفع على البدلية مراعاة لمحل اسم "لا" باعتباره في الأصل مبتدأ مرفوعًا قبل دخول الناسخ.
جـ– أو: الرفع على البدلية من الضمير المستتر في خبر "لا" المحذوف؛ فأصل الكلام لا إله موجود؛ أي: هو.
د– أو: النصب على الاستثناء من هذا الضمير المستتر؛ لأن الجملة تامة غير موجبة؛ فيجوز في المستنثى أمران كما عرفنا: البدلية، أو: النصب على الاستثناء.
2 و2 راجع الأشموني، وحاشية الصبان ج 2 أول باب: "الاستثناء"، عند الكلام على البدل، في الكلام التام غير الموجب.
3 عرضنا صورًا من تطبيقه في آخر الجزء الثالث عند الموازنة بين عطف البيان وبدل الكل.
4 وقد يعبرون عن هذه القاعدة بتعبيرات مختلفة الألفاظ متحدة المعاني؛ منها: "يغتفر كثيرًا من الثواني ما لا يغتفر في الأوائل" كما في جاء في الصبان ج 2 في باب الإضافة، عند الكلام على: "أي"، ومنها: "يغتفر في الثواني ما لا يجوز في الأوائل" كما اء في الهمع ج 1 ص 215 عند الكلام على الظرف: "لدن" ومنها: "أنهم يتسامحون في الثواني، ويغتفرون في التوابع" كما جاء في حاشية الأمير على المغني، ج 1 عند الكلام على الحرف، "رب" وتنكير مجروره.
انظر ما يتصل بهذا في رقم 1 من هامش ص 69 وص 531.(2/336)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومثلوا له بقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، حيث لا يمكن تسليط العامل على المعطوف 1 فهلا جاز هنا في البدل الجر، أو النصب تبعًا للفظ المبدل منه على هذه القاعدة 2.
وشيء آخر له الأهمية الأولى، ولا أعرف أنهم ذكروه؛ هو كلام العرب في مثل ما سبق، والمأثور من أساليبهم، أجاء خاليًا من اتباع المستثنى للفظ المستثنى منه، أم لم يجئ؟ وفي الحالتين لا يقوم دليل على المنع؛ لأن عدم المجيء ليس معناه التحريم، فالأمر السلبي لا يكفي في انتزاع حكم قاطع مخالف للمألوف في نظرائه التي يتبع فيها البدل حركة المبدل منه اللفظية، كما أن المجيء قاطع في الصحة.
الحق أن هذا كله وأشباهه هو الجانب المعيب في: "نظرية العامل"؛ إذ يمنحه سلطانًا قويًا يتحكم به في صياغة الأسلوب، أو ضبطه، بغير سند يؤيده من فصيح الكلام، وقد سبق أن امتدحنا هذه النظرية البارعة التي لا تصدر إلا عن عبقرية، وذكاء لماح، وقلنا3: إنها لا عيب فيها إلا ما قد يشوبها في قليل من الأحيان من مثل هذه الهنوات.
ح– في مثل: ما أحد يقول الباطل إلا الدنيء، يجوز في كلمة: "الدنيء" أن يكون بدلًا مرفوعًا من كلمة: "أحد" أو: من ضميره المستتر الواقع فاعلًا للمضارع، ويجوز نصبه على الاستثناء، فللرفع ناحيتان، وللنصب واحدة.
أما في مثل: ما رأيت أحد يقول الباطل إلا الدنيء، فيجوز في كلمة: "الدنيء" النصب على الاستثناء، أو: على البدلية من كلمة: "أحدًا" المنصوبة ويجوز فيها الرفع على البدلية من الفاعل المستتر في الفعل المضارع؛ فللنصب ناحيتان وللرفع ناحية.
__________
1 لأن فعل الأمر لا يرفع اسمًا ظاهرًا، ومثل هذا ما يقال في الحرف: "رب" من صحة عطف المعرفة على الاسم المجرور به، مع أن "رب" حرف لا يجر إلا النكرة كما سيجيء في حروف الجر ص 523.
2 وقد ردوا هذا الكلام بأن الأخذ بتلك القاعدة إنما يكون في بعض المواضع دون بعض وليست مطردة: وهذا غريب أيضًا.
3 جـ 1 ص 45 م6.(2/337)
ب– الحكم إذا كانت أداة الاستثناء هي "إلا" المكررة 1:
أ- قد يكون تكرارها بقصد التوكيد اللفظي المحض، وتقوية "إلا" الأولى الاستثنائية، بغير إفادة استثناء جديد، ولهذه حالة صورتان:
الأولى: أن تقع "إلا" التي تكررت للتوكيد اللفظي المحض، بعد "الواو" العاطفة لا يصح أن تقع بعد غيرها من حروف العطف نحو: أحب ركوب السفن إلا الشراعية، وإلا الصغيرة، فالواو حرف عطف، "إلا" الثانية: للتوكيد اللفظي، ولا تفيد استثناء، و"الصغيرة" معطوفة على "الشراعية"؛ فهي مستثنى، بسبب العطف، لا بسبب "إلا" المكررة 2؛ ولهذا يكون المستثنى المعطوف تابعًا للمعطوف عليه في ضبطه، ولا تأثير لوجود "إلا" المكررة في ضبطه، أو ضبط غيره، وإنما تأثيرها مقصور على ما تتضمنه من فائدة معنوية يحققها التوكيد اللفظي بها.
الثانية: ألا تقع "إلا" التي جاءت للتكرار المحض بعد حرف عطف، ولكن يكون اللفظ الواقع بعدها مباشرة متفقًا مع المستثنى الذي قبلها في المعنى والمدلول، برغم اختلاف اللفظين في الحروف الهجائية، ويكون ضبط اللفظ بعد المكررة جاريًا على افتراض أنها غير موجودة؛ فوجودها وعدمها سواء من ناحية الحكم الإعرابي الذي يخصه، مثال ذلك رجل يقال له: هارون الرشيد، أو: محمد الأمين ... أو ... ، نحو: جاء القوم إلا هارون إلا الرشيد، اشتهر الخلفاء إلا محمدًا إلا الأمين، فكلمة: "إلا" الثانية في المثالين لا تفيد استثناء جديدًا؛ لأن "الرشيد" المقصود هو: "هارون"، و"الأمين" المقصود هو: "محمد"، وإنما أفادت الثانية توكيدًا لفظيًا
__________
1 سبق الكلام على: "إلا" غير المكررة في ص 319.
2 وهذا الحكم ينطبق على جميع أنواع المستثنى الثلاثة إذا تكررت "إلا"، وقد سبق مثال "التام الموجب"، أما مثال "التام غير الموجب"، فنحو: لا أحب ركوب السفن إلا البواخر، وإلا الكبيرة، وإما مثال "المفرغ"، فقول الشاعر:
لا يمنح النفس ما ترجوه من أرب ... إلا الطموح، وإلا الجد، والعمل
وقول الآخر:
وما الفضل إلا أن تجود بنائل ... وإلا لقاء الخل ذي الخلق العالي
فالمصدر المؤول بعد "إلا" الأولى خبر، أما الثانية فلمجرد التوكيد اللفظي، والمصدر الصيح بعدها معطوف بالواو على المصدر المؤول.(2/338)
لكلمة: "إلا" الأولى، ولا تأثير للثانية في ضبط كلمتي: "الرشيد، والأمين"، فكل واحدة منهما تعرب هنا بدل كل من كل 1، أو: عطف بيان من المستثنى الأول، ولو حذفنا كلمة: "إلا" التي جاءت للتكرار ما تغير الضبط ولا الإعراب، فوجودها لا أثر له من هذه الناحية الإعرابية، على الرغم من أثرها المعنوي الذي يكون للتوكيد اللفظي المحض.
ولو قلنا: ما جاء القوم إلا هارون إلا الرشيد لصح في كلمة: "الرشيد" الرفع أو النصب، تبعًا لكلمة: "هارون" التي يجوز فيها الأمران، بسبب أن الاستثناء تام غير موجب، وكذلك ما جاء القوم إلا محمدًا، أو محمد، إلا الأمين، فيجوز في كلمة: "الأمين" المران للسبب السابق، فكأن "إلا" المكررة غير موجودة: إذ لا أثر لها في الحكم الإعرابي.
ولو قلنا: ما أشتهر إلا هارون إلا الرشيد، لوجب رفع كلمة "الرشيد" اتباعًا لكلمة: "هارون" التي يجب رفعها؛ بسبب أن الاستثناء مفرغ، وكذلك الحال في: ما جاء إلا محمد إلا الأمين2.
ب– وقد يكون تكرار "إلا" لغير التوكيد اللفظي المحض، وإنما الغرض استثناء جديد: بحيث لو حذفت لم يفهم الاستثناء الجديد، ولم يتحقق المراد منه، فهي في هذا الغرض كالأولى تمامًا؛ كلتاهما تفيد استثناء مستقلًا؛ وفي هذه الحالة تتعدد الأحكام على الوجه الآتي:
__________
1 البدل في هذا المثال بدل كل من كل، وفي غيره قد يكون بدل بعض، أو: اشتمال، أو: إضراب؛ مثل: ما أعجبني أحد، لا الطبيب الرحيم، إلا وجهه، أو: إلا عطفه، أو: ما أعجبني أحد، إلا الطبيب الرحيم، إلا المهندس المبتكر.
2 وفي "إلا" المكررة للتوكيد المحض يقول ابن مالك:
وألغ إلا ذات توكيد: كلا ... تمرر بهم، إلا الفتى إلا العلا
يريد: اعتبر "إلا" ملغاة، أي: غير موجودة، إذا كانت للتوكيد، وأردت أن تضبط ما بعدها، ومثل لها بمثال هو: لا تمرر بهم إلا الفتى إلا العلا، والعلا أو العلاء، هو اسم الفتى، فالفتى هو: العلاء، والعلاء هو الفتى، وهو بدل كل، أو عطف بيان من كلمة: "الفتى" ولو حذفت "إلا" المكررة ما تغير الإعراب فوجودها، وعدمها سيان من هذه الوجهة الإعرابية وحدها كما شرحنا.(2/339)
1- إن كان تكرارها لغير التوكيد في كلام تام موجب، فالمستثنيات كلها منصوبة في كل الأحوال؛ نحو: "ظهرت النجوم إلا الشمس، إلا القمر، إلا المريخ".
2– إن كان الكلام تامًا غير موجب والمستثنيات متقدمة على المستثنى منه نصبت جميعًا؛ نحو: "ما غاب إلا الشمس، إلا القمر، إلا المريخ، النجوم".
فإن تأخرت نصبت أيضًا، ما عدا واحدًا منها أي واحد فيجوز فيه أمران؛ إما النصب على الاستثناء كغيره، وإما البدل من المستثنى منه؛ مثل: ما غابت النجوم، إلا الشمس بالرفع أو النصب إلا القمر إلا المريخ.
3– إن كان الكلام مفرعًا وجب إخضاع أحد المستثنيات 1 لحاجة العامل الذي قبل "إلا"، "الأولى" ونصب باقي المستثنيات، نحو: "ما نبت إلا قمح جيد إلا شعيرًا غزيرًا إلا قصبًا قويًا ... ".
وإذا كانت "إلا" التي جاءت للتكرار تفيد استثناء جديدًا كما سبق، فلا بد أن يجيء بعدها مستثنى، ولا بد أن يكون له مستثنى منه، فأين هذا المستثنى منه؟ أهو المستثنى منه الأول السابق، أم هو المستثنى الذي قبل "إلا" المكررة مباشرة، فيكون المستثنى الذي بعدها خارجًا، ومطروحًا من المستثنى الذي قبلها مباشرة؟
وبعبارة أخرى: أين "المستثنى منه" بعد "إلا" المكررة لغير توكيد في مثل: بكر العاملون إلا صالحًا، إلا محمودًا، إلا حسينًا؟ فكلمة: "محمودًا" مستثنى ثان، فأين المستثنى منه؟ أهو: "العاملون" منه الأول، أم هو "صالحًا" المستثنى الذي قبله مباشرة؟.
وكذلك: "حسينًا" مستثنى ثالث ... فأين المستثنى منه؟ أهو العاملون "محمودًا"، أم ماذا؟.
إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كهذا المثال كان المستثنى منه هو الأول حتمًا، وهو هنا: العاملون: أما إذا أمكن استثناء كل واحد مما
__________
1 ليس من اللازم أن يكون الأول، وإن كان هو المستحسن.(2/340)
قبله مباشرة كالأعداد فيجوز الأمران، أي استثناء كل واحد مما قبله مباشرة، أو استثناء المجموع من المستثنى منه الأول؛ ففي مثل: أنفقت عشرة، إلا أربعة، إلا اثنين، إلا واحدًا، يجوز إسقاط المستثنيات كلها من العشرة، فنجمع أربعة، واثنين، وواحدًا، ونطرح المجموع من العشرة؛ فيكون الباقي الذي أنفق هو ثلاثة، "أي: 10 – "4 + 2 + 1" = 3" كما يجوز إسقاط المستثنى الأخير مما قبله مباشرة، ثم نسقط الباقي من المستثنى الذي قبله مباشرة ... وهكذا، فما بقي آخر الأمر يكون هو المطلوب، ففي المثال السابق: نطرح 1 من 2 فيكون الباقي: 1 ثم نطرح 1 من 4 فيكون الباقي: 3 ثم نطرح 3 من 10 فيكون الباقي: 7 وهو المبلغ الذي أنفق.
والأحسن في الطريقة الثانية جمع الأعداد التي في المراتب الفردية، ومنها المستثنى منه الأول، ثم جمع الأعداد التي في المراتب الزوجية، وطرح مجموعها من مجموع الفردية، فباقي الطرح هو المطلوب.
ويلاحظ أن الطريقتين جائزتان ولكن نتيجتهما مختلفة، ولهذا كان اختيار إحداهما خاضعًا للقرائن؛ فهي التي تعين إحداهما فقط مراعاة للمعنى.
على الرغم من صحة استعمال الطريقتين، فالأنسب العدول عنها في كل مقام يقتضي وضوحًا في الأداء، وسموًا في التعبير.
ولو أردنا تلخيص كل ما تقدم من الأحكام الخاصة بكلمة: "إلا" المكررة 1
__________
1 وفي أحكام "إلا" المكررة لغير التوكيد يقول ابن مالك:
وإن تكرر لا لتوكيد فمع ... تفريغ التأثير بالعامل دع
في واحد مما بإلا استثني ... وليس عن نصب سواه مغني
"التقدير: إن تكررت "إلا" لا لتوكيد فدع التأثير بالعامل في واحد مما استثني بإلا مع التفريغ، أي: في حالة التفريغ ... "
يريد: إذا تكررت "إلا" لغير التوكيد، فإن كان الكلام "مفرغًا"، فاترك واحدًا من المستثنيات ليخضع لتأثير العامل الذي في الجملة السابقة، وانصب باقي المستثنيات، فليس عن نصبها غنى، أي: مفر، ثم انتقل إلى إحالات الأخرى التي ليس فيها تفريغ؛ فقال:
ودون تفريغ مع التقدم ... نصب الجميع احكم به والتزم
يريد: في الحالات التي يس فيها تفريغ وهي حالة التام الموجب، وحالة التام غير الموجب إن =(2/341)
المفيدة لاستثناء جديد أي: التي ليست للتوكيد المحض لكان التلخيص الموجز هو:
1– إذا تكررت "إلا" لغير التوكيد المحض نصبت بعدها المستثنيات في جمع الأحوال، وفي مختلف الأساليب، إلا في حالة: "التفريغ" فيجب حتمًا تخصيص مستثنى واحد يخضع في إعرابه لحاجة العامل، ونصب ما عداه.
2– ويجوز في حالة الكلام التام غير الموجب إذا تأخرت المستثنيات اختيار واحد منها ليكون بدلًا من المستثنى منه الأول، ويجوز نصبه مع باقيها.
__________
= تقدمت المستثنيات وجب نصبها جميعًا في مختلف أحوالها، أما إن تأخرت فقال فيها:
وانصب لتأخير، وجئ بواحد ... منها؛ كما لو كان دون زائد
كلم يفوا إلا امرؤ إلا علي ... وحكمها في القصد حكم الأول
أي: تنصب المستثنيات كلها في حالة التأخير؛ فإن كان الكلام تامًا غير موجب، صح اختيار واحد منها، وضبطه بما كان يستحقه من الضبط لو لم تتكرر إلا، وهذا الضبط هو البدلية أو النصب كما وضحه مثاله؛ وهو: "لم يفوا إلا امرؤ إلا علي"، فيجوز في "علي" الرفع على البدلية من "امرؤ"، أو النصب، ثم بين أن المستثنيات كلها مقصودة كالمستثنى الأول، فما تكرر من المستثنيات حكمه في المعنى حكم الأول؛ فيثبت له ما يثبت للأول من الخروج مما قبله إثباتًا أو نفيًا.
بقي أن نعرف إعراب: "كما لو كان ... "، وقد سبق البيان في آخر هامش ص 325.(2/342)
المسألة 82:
أحكام المستثنى الذي أدواته أسماء 1:
"غير، وسوى، بلغاتها المختلفة"
من أدوات الاستثناء ما هو اسم صريح؛ أشهره: غير، وسوى "وفيها لغات مختلفة: سوى، سوى، سواء، سواء"، وهذه الأسماء الصريحة عند استعمالها أداة استثناء تشترك في المعنى وفي الحكم.
فأما "غير" ومثلها نظيراتها، فمعناها إفادة المغايرة ... أي: الدلالة على أن ما بعدها مغاير ومخالف لما قبلها في المعنى الذي ثبت له، إيجابًا أو نفيًا؛ فمعنى: "أسرع المتسابقون غير سعيد"، أنهم أسرعوا مغايرين ومخالفين في هذا الأمر سعيدًا؛ فهو لم يسرع، فكان مخالفًا ومغايرًا لهم أيضًا، وكذلك: "ما ضحك الحاضرون غير صالح"، فالمعنى: أنهم لم يضحكوا، مغايرين ومخالفين صالحًا في هذا، أي: في عدم الضحك؛ لأنه ضحك دونهم، فكان مخالفًا ومغايرًا أيضًا. ومثل هذا يقال في بقية أسماء الاستثناء.
وأما حكم تلك الأسماء فينحصر في أمرين2؛ أولهما: ضبط المستثنى الواقع بعد كل اسم منها، وطريقة إعرابه.
وثانيهما: ضبط أداة الاستثناء الاسمية، وطريقة إعرابها؛ "لأنها اسم لا بد له من موقع إعرابي؛ فيكون مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا، على حسب موقعه من الجملة؛ كشأن جميع الأسماء".
__________
1 من هذه الأسماء: بيد، وسيجيء الكلام عليها وعلى الفرق بينها وبين "غير" وأخواتها في: "أ" "من" الزيادة، ص 349.
2 لا بد قبل النظر في تحقيق هذين الأمرين معًا، من أن يكون الكلام جاريًا على ما يقتضيه، ويتطلبه أسلوب الاستثناء؛ بحيث لا يستقيم المعنى إلا على أساس الاستثناء، والسبب في هذا الشرط أن كل اسم من أدوات الاستثناء الاسمية يصلح في ذاته لأشياء كثيرة، منها الاستثناء، وغيره؛ فلا يتعين للاستثناء إلا إذا اقتضى السياق ذلك؛ وتحققت أركان الاستثناء بوجود المستثنى منه، أو بعدم وجوده إن كان الكلام "مفرغًا"، فلا بد من النظر لحاجة السياق أولًا.(2/343)
أ– فأما ضبط المستثنى وإعرابه فليس له إلا ضبط واحد، وإعراب واحد، هو: ضبطه بالجر، ويعرب "مضافًا إليه"، إليه دائمًا، ولا بد أن يكون مفردًا 3 والأداة الاسمية هي المضاف، كما في الأمثلة الآتية:
"أ" ... أسرع ... المتسابقون ... غير ... سعيد.
فرح ... الفائزون ... غير ... واحد.
ظهرت ... النجوم ... غير ... نجم.
"ب" ... ما أسرع المتسابقون غير سعيد، أو: غير سعيد.
ما رأيت الفائزين غير سعيد، أو: غير سعيد.
ما نظرت للنجوم غير نجم، أو: غير نجم.
"جـ" ... ما أسرع ... غير سعيد.
ما رأيت ... غير سعيد.
ما نظرت ... لغير سعيد.
ففي كل هذه الأمثلة وأشباهها لا يكون المستثنى إلا مضافًا إليه مجرورًا، مفردًا1، وأداة الاستثناء الاسمية هي: المضاف.
ب– وأما ضبط أداة الاستثناء وإعرابها، فيختلف باختلاف حالة الكلام، فحين يكون الكلام تامًا موجبًا، تنصب على الاستثناء2 كما في "أ" من الأمثلة السالفة، وكقول الشاعر:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون، غير شماتة الحساد
وحين يكون الكلام تامًا غير موجب يجوز نصبها على "الاستثناء"، ويجوز اتباعها للمستثنى منه؛ كما في "ب" من الأمثلة السالفة، وكما في قولهم: "أين الأقوال من الأفعال، فلن تتحقق بالكلام الغايات الجليلة غير بعض منها، وما أقلة؟ ".
وحين يكون الكلام مفرغًا تضبط وتعرب على حسب حاجة الجملة، فقد
__________
1 و 1 أي: ليس جملة ولا شبهها.
2 في الأخذ بهذا الرأي راحة وسهولة؛ لأنه يساير في إعرابه إعراب المنصوب من المستثنيات الأخرى؛ ولأن الاعتراض عليه أخف من الاعتراض على الرأي القائل بإعرابها حالًا مؤولة، بمعنى: "مغاير"، وعلى الرأي القائل إنها منصوبة على التشبيه بظرف المكان في الإبهام "انظر الحالة الثانية التي تشتمل على ما ألحق بأسماء الزمان المبهمة ص 303"، ولسنا بحاجة إلى الإثقال بعض الأدلة؛ لأنها جدلية محضة؛ ولا أثر لها في الأمر الهام، وهو: ضبط الكلمة.(2/344)
تكون فاعلًا، أو مفعولًا، أو غيرهما، كما في "ج" من الأمثلة السالفة، وكقولهم: لا ينفع المرء غير عمله.
يفهم من كل ما تقدم: "أنه يطبق على كلمة: "غير" عند ضبط صيغتها الخاصة كل الأحكام التي تجري على المستثنى بإلا عند إرادة ضبطه1 بالتفصيلات المختلفة التي سبقت هناك، ولا فرق في هذا التطبيق بين: "غير" وباقي أخواتها الأسماء 2.
لكن بينها وبين أخواتها 3 بضع فروق من نواح أخرى؛ منها: أن المضاف إليه بعد الأداة "غير" 4 قد يحذف إذا دلت عليه قرينة: مثل: "عرفت خمسين ليس غير"5، أي: ليس غير الخميس، ولا يصح: عرفت خمسين ليس سوى؛ لأن "سوى بلغاتها المختلفة واجبة الإضافة لفظًا ومعنى، ولا يصح قطعها عن هذه الإضافة اللفظية6.
__________
1 ويجوز بناؤه على الفتح في كل الحالات بشرط أن تكون مضافة إلى مبني. شأنها في ذلك شأن الأسماء المتوغلة في الإبهام، "وقد سبقت الإشارة إلى المراد منها في باب الظرف ص 302 ومنها: غير، ومثل، وبعض الظروف التي عرضناها ... ".
2 وفيما سبق يقول ابن مالك:
واستثن مجرورًا بغير، معربا ... بما لمستثنى بإلا نسبا
ولسوى، سوى، سواء اجعلا ... على الأصح ما لغير جعلا
"التقدير: استثن بكلمة: غير، مجرورًا، أي: مستثنى مجرورًا، حالة كون لفظ: "غير" معربًا بمثل ما نسب للمستثنى بإلا، أي: معربًا مثل إعرابه في الحالات المختلفة، يريد: أن المستثنى "بغير" مجرور دائمًا، وأن كلمة "غير" نفسها تضبط بالضبط الذي يكون للمستثنى "بإلا" فيما لو حذفت "غير"، وحلت محلها: "إلا" وجاء بعد "إلا"مستثناها كما شرحنا.
ثم بين أن مثل "غير" في ذلك كلمات أخرى؛ منها: سوى سواء، وأن الأصح أنها تشبهها في الاستثناء.
وليست ظرفًا إلا عند فريق.
3 أما الفرق بين "غير" و"إلا" و"بيد" فيجيء في "ب" من ص 349.
4 وبعض أدوات سيجيء ذكرها في مكانها الخاص من باب الإضافة ج 3.
5 يصح ضبط "غير" هنا بأوجه متعددة؛ منها: البناء على الضم؛ باعتبارها اسم "ليس" والخبر محذوف، ويكون المضاف إليه محذوفًا مع نية معناه، والتقدير مثلًا: ليس غير الخمسين معروفًا، ويجوز في: "غير" أن تكون مبنية على الفتح لإضافتها إلى مبني "وهو: الضمير" في محل رفع اسم "ليس" أيضًا والتقدير: ليس غيرها، والخبر محذوف كالسابق، ويجوز أن تكون مرفوعة منونة باعتبارها اسم "ليس"، والمضاف إليه محذوف، ولم ينو لفظه ولا معناه، والخبر محذوف أيضًا، أي: ليس غير ... ، والتقدير: ليس غير الخمسين معروفًا، ويجوز نصبها مع تنوينها باعتبارها خبر "ليس" واسمها محذوف: والتقدير: عرفت خمسين ليس المعروف غيرًا، أي: غيرها وسيجيء الكلام على: "غير" في باب الإضافة ج 3 م 95.
6 بيان هذا في مكانه المناسب من باب الإضافة "ج 3" عند الكلام على: "غير".(2/345)
ومنها: أن "غير" لا تكون ظرفًا، أما "سوى" فتقع ظرف مكان في مثل: "جاء الذي سواك"، عند من يرى ذلك، ويجعلها صلة الموصول؛ "لأن الصلة لا تكون إلا جملة أو شبه جملة"، والتقدير عنده: جاء الذي استقر في مكانك عوضًا عنك، ثم توسعوا في استعمال "سواك" ومكانك، فجعلوهما مجازًا بمعنى: "عوضك" من غير ملاحظة حلول بالمكان.
ومنها: أن استعمال "غير" في الاستثناء ليس هو الأكثر، وإنما الأكثر أن تكون:
1– نعتًا لنكرة؛ فتفيد مغايرة مجرورها للمنعوت، أما في ذاته المادية؛ نحو: "أقبلت على رجل غير1 علي"، وإما في وصف طارئ على ذاته المادية، نحو: "خرج البريء من المحكمة بوجه غير الذي دخل به"، ذلك أن وصف الوجه مختلف في الحالتين ... ، أما ذات الوجه، ومادته التي يتكون منها، فلم تتغير. وكقول الشاعر:
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبًا غير مذهبي
"فالشيمة، أو المذهب، وصف طارئ على الذات، وأمر عرضي لاحق بها، وليس جزءًا أساسيًا في تكوينها المادي الأصيل.
2– أو نعتًا لشبه النكرة: وهو المعرفة المراد منها الجنس2، نحو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، فكلمة "غير" مجرورة، وهي لذلك نعت لكلمة: "الذين" المراد بها جنس لأقوام معينين 3، وليست للاستثناء؛ إذ لو كانت للاستثناء لوجب نصبها.
__________
1 ليست هنا أداة استثناء لما هو مقرر من وجوب أن يكون المستثنى منه في الأغلب أعم من المستثنى، بحيث يشمله.
2 كاسم الموصول؛ فإنه مبهم باعتبار عينه، من غير اعتبار صلته معه؛ فإنها تزيل إبهامه، وتجعله مغنيًا، كما سيجيء في "ج" من ص 350.
3 كيف تقع "غير" نعتًا لاسم الموصول وأشباهه مع أنها نكرة وهو معرفة؟
والجواب: أن منعوتها وحده من غير الصلة بمنزلة النكرة؛ فهي مطابقة له في التنكير، أو: أن إبهامها وتنكيرها ضعيفان بسبب وقوعها بين ضدين، فهي قريبة من المعرفة؛ فتقع نعتًا للمعرفة بالإيضاح الوارد عنها في ج 3 باب الإضافة. والرأي الحق هو أن العرب استعملت في كلامها "غير" نعتًا للنكرة أحيانًا، وللمعرفة التي تشبهها حينًا؛ كما في الآية المعروضة، وتفصيل هذا كله على وجه =(2/346)
وإذا وقعت نعتًا كما في الحالتين السالفتين، فإنها تكون مؤولة بالمشتق؛ بمعنى: مغاير1.
3– يلي هاتين في الكثرة أن تقع موقعًا إعرابيًا آخر مما تصلح له الأسماء الجامدة؛ كالمبتدأ في قول الشاعر:
وغير تقي بأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض
وكالخير ومنه خبر النواسخ في قول الشاعر:
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأعمال غير حسان
وكالفاعل ونائبه، والمفعول به ... و ... ، وكل هذا قياسي فصيح.
أما "سوى" فالأكثر فيها أن تكون للاستثناء؛ كالأمثلة السالفة؛ ولغير الاستثناء في نحو: سواك متسرع رأيت سواك متسرعًا القوة بسوى الحق مهزومة ... لا ينفع سوى الصبر عند معالجة المشكلات، وكقول الشاعر:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها، وأنت المشتري
وقول الآخر:
أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة؟ إني إذا لصبور
وقد تكون نعتًا لنكرة، أو لشبه نكرة كما تكون "غير" ... وهكذا 2.
حكم تابع المستثنى "بغير" وأخواتها.
مما يلاحظ أن المستثنى "بغير وأخواتها الأسماء" مجرور دائمًا؛ لأنه "مضاف إليه". لكن إذا جاء بعده تابع 3 له جاز في التابع أمران:
__________
1 لأن النعت لا يكون في الأغلب إلا مشتقًا، أو مؤولًا به.
2 سيجيء في: هـ من ص 361 أن "سوى" قد تكون أحيانًا بمعنى: "ولا سيما"؛ طبقًا للبيان الشامل الذي سبق تفصيله في ج 1 م 28 ص 366 باب: "الموصول".
3 سبق أن التوابع أربعة: النعت – العطف – التوكيد – البدل، "وفي الجزء الثالث باب خاص بكل واحد".(2/347)
أحدهما: الجر مراعاة للفظ المستثنى المجرور؛ نحو: قدمت المنح للفائزين غير محمود وحسن.
ثانيهما: ضبطه بمثل ضبط المستثنى "بإلا"، لو حذفت "غير" وحل محلها: "إلا". وذلك بأن نتخيل حذف كلمة: "غير" ووقوع "إلا" موقعها، وضبط المستثنى بغير على حسب ما تقتضيه الحالة الجديدة بسبب مجيء "إلا"، في مكان "غير"، ثم نضبط تابعه بمثل حركته الجديدة، في المثال السابق: "قدمت المنح للفائزين غير محمود" يصير: قدمت المنح للفائزين إلا محمودًا، فصار المستثنى منصوبًا مع "إلا" بعد أن كان مجرورًا مع الأداة: "غير"، فيصح في تابعه أن يكون منصوبًا مع كلمة "غير" أيضًا، على تخيل "إلا" المقدرة والملحوظة، وأن المستثنى بها على فرض وجودها في الكلام منصوب؛ فنقول: قدمت المنح للفائزين غير محمود، وحسن أو: غير محمود وحسنًا؛ بافتراض أن كلمة: "محمود" مجرورة في ظاهرها؛ لأنها مستثنى للأداة "غير"، ومنصوبة في التقدير والتوهم؛ لأنها مستثنى للأداة: "إلا" المقدرة، ولهذا يصح النصب والجر في كلمة: "ضرب" من قول الشاعر:
ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى، وضرب الرقاب
ومثل: ما جاء الفائزون غير محمود وحسن، أو: حسنًا، أو: حسن؛ لأننا لو وضعنا الأداة: "إلا" مكان الأداة "غير" لجاز في المستثنى، الذي كان مجرورا بعد "غير" أمران بعد مجيء "إلا" هما النصب على الاستثناء، والرفع على البدلية، هكذا: ما جاء الفائزون إلا محمودًا أو محمود، فيجوز في تابعه الأمران: النصب والرفع؛ وهذا يجري أيضًا في تابع المستثنى بكلمة: "غير" التي تجيء في مكان: "إلا" فيجوز فيه الأمران زيادة على جره، ومعنى هذا أن كلمة "حسن"، وهي المعطوفة في المثال السالف، يجوز فيها الجر، والنصب، والرفع.
والنحاة يسمون الضبط الناشئ من التخيل السالف: "الإعراب على التوهم"1 أو: "على المحل"، وهو مقصور في باب الاستثناء على المستثنى "بغير"، وأخواتها الأسماء، ولا يجوز في غيرها، ومع جوازه المشار إليه يحسن البعد عنه، وعن التوهم عامة؛ حرصًا على أهم خصائص اللغة، وتمسكًا بسلامة البيان.
__________
1 انظر البيان في رقم 3 من هامش ص 431، وله إشارة في رقم من ص 534.(2/348)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- من أخوات "غير" الاستثنائية كلمة بمعناها، هي: "بيد"1 "وقد يقال فيها: "ميد"، ولكنها تختلف عن "غير" في أمور:
منها: ملازمة "بيد" للنصب دائمًا، على اعتبارها حالًا مؤولة، بمعنى: "مغاير"، أو على اعتبارها منصوبة على الاستثناء؛ فلا يكون صفة، ولا تكون مرفوعة، ولا مجرورة، ولا تكون منصوبة إلا على الاعتبار السابق.
ومنها: أنها لا تكون أداة استثناء إلا في الاستثناء المنقطع.
ومنها: أنها مضافة دائمًا إلى مصدر مؤول من: "أن ومعموليها"، ولا يجوز قطعها عن الإضافة.
ومن الأمثلة: فلان غني، بيد أنه جشع، وأخوه فقير بيد أنه عزيز النفس.
ب– تختلف الأداتان "غير" و"إلا" في أمور2؛ أهمها:
1– أن كلمة "غير" لا يقع بعدها الجمل؛ لأنها اسم لا يضاف إلا للمفرد.
أما "إلا" فيقع بعدها المفرد والجمل بنوعيها الاسمية والفعلية، وقد سبق3 القول بأنه لا داعي للأخذ بما اشترطه بعض النحاة لوقوع الجمل بعدها، وهو: ألا يكون الاستثناء متصلًا، وأن يكون الكلام مفرغًا وأن يكون الفعل في الجمل الفعلية إما مضارعًا، نحو: ما النبيل إلا يعمل الخير، وإما ماضيًا مقترنًا لحرف "قد" نحو: ما النبيل إلا قد قام بالواجب، وإما ماضيًا مسبوقًا بماض آخر قبل "إلا"، نحو: ما أرسلت رسالة إلا تمنيت أن ترضي صاحبها، وقول الشاعر:
__________
1 هي التي سبقت لها الإشارة في رقم 1 من هامش ص 343.
2 سبق في ص 345 بيان الفوارق بين "غير" وأخواتها الأخرى.
3 في رقم 3 من هامش ص 332 البيان والإيضاح.(2/349)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بطور سيناء، كرم، ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فالظاهر أن ما سبق ليس بالشروط المحتومة، وإنما هو البادي في الصور الكثيرة 1.
2– يجوز أن يقال: عندي درهم غير جيد، على النعت، ولا يجوز: عندي درهم إلا جيد؛ لأن الكثير في وقوع "إلا" نعتًا أن يكون ذلك في أسلوب يصح فيه الاستثناء، وهنا لا يصح الاستثناء؛ لمخالفته الكثيرة 2 ...
3– يجوز أن يقال: قام غير واحد، ولا يجوز: قام إلا واحد؛ لأن حذف المستثنى منه لا يكون في الكلام الموجب.
4– يجوز أن يقال: أقبل الإخوان غير واحد وزميلة، أو زميلة، يجر "زميلة" مراعاة للفظ المعطوف عليه، أو نصبها حملًا على المعنى المتخيل كما شرحناه، وأبدينا فيه رأينا من قبل 3 ولا يجوز مع "إلا" تخيل سقوطها، وإحلال "غير" محلها ...
5– يجوز أن يقال: ما جئتك إلا ابتغاء علمك، ولا يجوز مع الأداة: "غير" إلا الجر، أي: ما جئتك لغير ابتغاء معروفك؛ لأن المفعول لأجله يجب أن يكون مصدرًا، و"غير" ليست مصدرًا.
جـ– قد يقتضى المعنى أن تخرج "إلا" عن الحرفية، وعن أن تكون أداة استثناء، لتكون اسمًا بمعنى: "غير" وتعرب صفة بشرطين 4.
أولهما: أن يكون الموصوف نكرة أو ما يشبهها من معرفة يراد بها الجنس كما سبق 5 مثل المعرف بأل الجنسية ...
__________
1 في رقم 3 من هامش ص 332 البيان والإيضاح.
2 يوضح هذا ما سبق في رقم 2 من هامش ص 343، وما سيجيء في "ج".
3 ص 347 و 348 عند الكلام على تابع المستثنى بـ"غير".
4 زاد بعض النحاة شرطًا ثالثًا؛ هو: أن تكون في الأسلوب الذي تقع فيه نعتًا صالحة، لأن تكون للاستثناء، والتحقيق أن هذا الشرط مردود بدليل أن سيبويه يمثل لها بقوله: "لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا" بل إن المبرد يصرح في أحد رأييه بأنه سيبويه يشترط ألا تكون صالحة للاستثناء، ويذكر مثاله السالف. فالصحيح أن هذا الشرط مرفوض كما تقدم.
5 انظر رقم 1 و 2 من ص 346.(2/350)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيهما: أن يكون جمعًا أو شبه جمع، والمراد يشبه الجمع: ما كان مفردًا في اللفظ، دالًا على متعدد في المعنى؛ مثل: كلمة: "غير" ... في نحو: جاء غير الغريب، فغير الغريب وأشباهه متعدد حتمًا 1.
فمثال إلا الواقعة صفة لجمع حقيقي هو نكرة حقيقية: "سينهزم الأعداء، فقد خرج لملاقاتهم جيش كبير، إلا القواد والرماة"، فلا يصح أن تكون "إلا" هنا حرف استثناء؛ خشية أن يفسد المعنى؛ إذ الاستثناء كما شرحنا أول الباب يقتضي أن يكون المعنى هنا: خرج لملاقاتهم جيش كبير طرحنا، ونقصنا منه القواعد والرماة، ولا يعقل أن يخرج جيش كبير دون قواده ورماته.
ومثل: "تتسع قاعة المحاضرة لمجموع كثيرة إلا المحاضر"، فهي هنا كما في المثال السابق بمعنى: غير، ولا يصح أن تكون بمعنى "إلا" الاستثنائية؛ لئلا يترتب على ذلك أن يكون المعنى: تتسع قاعة المحاضرة لمجموع كثيرة طرحنا ونقصنا منهم المحاضر، إذا لا يعقل أن تتسع قاعة المحاضرة للسامعين، ولا تتسع للمحاضرة، فلا يمكن أن يجتمعوا لسماع محاضرة من ليس له مكان عندهم، ومثل هذا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا 2 آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، فلو كانت "إلا" حرف استثناء لكان المعنى: لو كان فيهما آلهة، ليس من ضمنها الله لفسدتا، أي: لو كان فيهما آلهة أخرجنا وطرحنا منها الله، لفسدتا"، وهذا معنى باطل؛ إذ يوحي بأنهما لا تفسدان إذا كان الله من ضمن الآلهة ولم يخرج ولم يطرح، وهذا واضح البطلان، بخلاف ما لو كانت "إلا" اسمًا بمعنى: "غير"، نعتًا للنكرة قبلها، فإن المعنى يصح ويستقيم.
ومثال: "إلا" الاسمية الواقعة نعتًا لشبه الجمع الذي هو نكرة حقيقية أن تقول للخائن: غيرك إلا الخائن يستحق الصفح، فكلمة "إلا" اسم بمعنى: "غير" ولا تصلح أن تكون استثناء؛ لئلا يكون المعنى: غيرك من الخائنين يستحق
__________
1 ومن الشرطين السالفين تنشأ صور أربع: "أن يكون الموصوف جمعًا حقيقيًا ونكرة حقيقية"، "وأن يكون شبيهًا بالجمع ونكرة حقيقية"، "وأن يكون جمعًا حقيقيًا وشبيهًا بالنكرة الحقيقية"، والصور الثلاثة السالفة أمثلة معروضة، "أما الرباعة: فأن يكون شبيهًا بالجمع، شبيهًا بالنكرة، كالمفرد المعروف بأل الجنسية".
2 في السماء والأرض.(2/351)
الصفح إلا الخائن، وفي هذا تناقض ظاهر، أو غيرك من الأمناء مطروحًا وخارجًا منهم الخائن يستحقون الصفح، والخائن ليس من الأمناء، ولا علاقة له بهم حتى يستثنى منهم1، فإذا جعلنا: "إلا" بمعنى: "غير" صح المعنى واستقام وتعرب صفة لكلمة "غير" الأولى، ولا يصح أن تكون حرف استثناء لفساد المعنى وتناقضه ...
ومثالها نعتًا للجمع الحقيقي الشبيه بالنكرة: يخشى عقاب الله العصاة إلا الصالحون، فالعصاة شبه نكرة لوجود "أل" 2 الجنسية، و"إلا" بمعنى "غير" صفة، ولو كان حرفًا لفسد المعنى؛ إذ يكون: يخشى عقاب الله العصاة، والصالحون لا يخشونه.
أما شبه الجمع الشبيه بالنكرة، فكالمفرد المعروف "بأل الجنسية" نحو: الرجل إلا المريض يحتمل الأثقال.
وإذا كانت "إلا" الاسمية نعتًا، فكيف نعربها؟ أتكون هي وحدها النعت: مباشرة؛ مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا، بحركات مقدرة على آخره، على حسب المنعوت، وبعدها ما أضيفت إليه مجرورًا؟ أم تكون هي النعت أيضًا مرفوعة، أو منصوبة، أو مجرورة، على حسب المنعوت، ولكن صورتها كصورة الحرف، فالحركات لا تقدر عليها، وإنما تنتقل إلى المضاف إليه الذي بعدها مباشرة؛ فتكون "إلا" نعتًا مضافًا، واللفظ بعدها هو المضاف إليه، وهو مجرور بكسرة مقدرة منع من ظهورها الحركة المنقولة إليه من "إلا"؟.
رأيان، كلاهما معيب، معترض عليه، ولكن أولهما: أقرب إلى القبول، ومن الخير ألا نلجأ في أساليبنا إلى استعمال "إلا" الاسمية ما استطعنا لذلك سبيلًا.
__________
1 ولا يصح هنا جعل الاستثناء منقطعًا؛ لعدم وجود نوع من العلاقة أو الارتباط بين المستثنى والمستثنى منه، "طبقًا لما يقتضيه الاستثناء المنقطع، كما سبق في ص 318، 334".
2 سبقت أحكامها مفصلة ولا سيما من ناحية أثرها في التعريف والتنكير في جـ 1 ص 308 م 3.(2/352)
المسألة 83:
أحكام المستثنى الذي أدواته أفعال خالصة 1، والذي أدواته تصلح أن تكون أفعالًا وحروفًا1 ...
أ– فأما الأدوات التي هي أفعال خالصة، فتنحصر في فعلين ناسخين 2 جامدين؛ هما: "ليس" و"لا يكون"، بشرط وجود "لا" النافية قبل هذا الفعل المضارع، الذي للغائب، دون غيرها من أدوات النفي، ولا يصلح من أفعال "الكون" أداة للاستثناء إلا هذا المضارع الجامد، الدال على الغائب المنفي بالأداة: "لا"؛ مثل: زرعت الحقول ليس حقلًا، أو: زرعت الحقول لا يكون 3 حقلًا، ومثل: ما تركت الكتب ليس كتابًا، أو لا يكون كتابًا ...
وحكم المستثنى بهما وجوب النصب باعتباره خبرًا لهما؛ لأنهما فعلان ناسخان جامدان، من أخوات: "كان" 4 كما سبق أما الاسم فضمير مستتر وجوبًا
__________
1 و 1 المراد بالأفعال الخالصة هنا: الكلمات التي لا تستعمل إلا فعلًا، وإذا كانت أداة الاستثناء فعلًا خالصًا، أو غير خالص وجب أن يكون جامدًا، وأن يكون الكلام تامًا متصلًا؛ موجبًا أو غير موجب؛ فلا تصلح الفعلية للاستثناء المنقطع، ولا المفرغ كما سيجيء هنا وقد نص "الصبان، والخضري" على هذا عند الكلام على الاستثناء بالأدوات الفعلية، وكذلك صاحب "المفصل" ص 77 ج 2، وسبقت الإشارة له في رقم 1 من هامش ص 317.
2 أحكامها الخاصة بالنسخ مدونة في باب "النواسخ" ج 1 م 42.
3 الفعل هنا مضارع زمنه للحال، أو للاستقبال؛ فيبدو غريبًا متناقضًا مع الفعل الماضي قبله في هذا المثال أو ما يشبهه، وقد قالوا: إن المراد: لا تعد ولا تحسب حقلًا؛ فلا منافاة بين زمن المضارع والماضي على هذا التفسير، ومثل هذا يقال في الفعل: "ليس" إذا سبقته الماضي الصريح، مع أن "ليس" لنفي المعنى في الزمن الحالي، أو يقال: إنه لنفي المعنى في الزمن الحالي عند عدم قرينة تعينه للماضي الخالص كالتي هنا أو تعينه للمستقبل؛ على الوجه المبين في مكانه المناسب ج 1 ص 441 م 42 باب "كان" وأخواتها.
4 إذا كان المستثنى ضميرًا منصوبًا وجب فصله؛ نحو: الرجل قام القوم ليس إياه، أو لا يكون إياه، لما تقدم في ج 1 م 20 ص 247 باب: الضمير من أن "ليس ولا يكون" فعلين للاستثناء، ناسخين أيضًا؛ فلا يجوز: "ليسه ولا يكونه" كما لا يجوز: "إلاه"، فكما لا يقع الضمير المتصل بعد "إلا" لا يقع بعد ما هو بمعناها، لكن انظر رقم 5 من هامش ص 358.(2/353)
تقديره: هو؛ يعود على "بعض" مفهوم من "كل" يرشد إليه السياق، ويدل عليه المقام ضمنًا1؛ فمعنى "زرعت الحقول ليس حقلًا": ليس هو من المزروع؛ أي: ليس بعض الحقول المزروعة حقلًا، فالمزروع "كل" استثنى 2بعضه.
وإذا كانت أداة الاستثناء فعلًا خالصًا وجب أن يكون الاستثناء تامًا متصلًا، موجبًا أو غير موجب؛ فلا بد في هذا النوع من الاستثناء أن يجمع أمرين؛ وهما: "التمام والاتصال" كما في الأمثلة المذكورة ... وتعرب الجملة المشتملة على الناسخ واسمه وخبره في محل نصب حالًا 3، أو تعتبر جملة استئنافية لا محل لها من الإعراب، ولا علاقة لها بما قبلها من الناحية الإعرابية فقط؛ أما من الناحية المعنوية فبينهما ارتباط4.
ب– وأما الأدوات التي تكون أفعالًا تارة، وحروفًا تارة أخرى فهي ثلاثة: عدا – خلا – حاشًا وفي الأخيرة لغات5 أشهرها: حاشا – حشا – حاش ... " ومعنى كل أداة من هذه الأدوات الفعلية: "جاوز"، ويتعين عند استعمالها أفعالًا أن يكون الاستثناء بها تامًا متصلًا، موجبًا أو غير موجب؛ كالشأن في جميع أدوات الاستثناء إذا كانت أفعالًا؛ فإنها لا تصلح للمفرغ، ولا المنقطع.
1– فإن تقدمت على كل منها "ما" المصدرية وجب اعتبارها أفعالًا ماضية خالصة، ولا تكون هنا إلا ماضية جامدة؛ "فهي جامدة في حالة استعمالها أدوات استثناء"، مثل: أحب الأدباء ما عدا الخداع وأقرأ الصحف ما خلا
__________
1 الكلام على مرجع الضمير في ج 1 ص 181 م 19.
2 إذا لم يكن في الكلام فعل ملفوظ أو مشتق يشبهه في الإرشاد إلى ما يرجع إليه الضمير، أمكن تصيده من فحوى العبارة؛ ففي مثل: القوم إخوتك ليس عليًا يكون التقدير: ليس هو عليًا؛ أي: ليس المنتسب إليك بالإخوة عليًا.
3 ولا تجيء "قد" المشروطة عند كثير من النحاة في الجملة الماضوية المثبتة الواقعة حالًا؛ لأن هذا الشرط في غير الجمل الماضوية التي أفعالها جامدة، ومنها الأفعال الواقعة في الاستثناء، مثل: ليس خلا – عدا – حاشا – كما سيجيء في آخر رقم 2 من هامش ص 399 لهذا لا يصح مجيء "قد" هنا.
4 يصح إعراب آخر على اعتبار مخالف لما سبق، والبيان يجيء في الزيادة والتفصيل ص 358.
5 ولهذا أنواع تجيء في ص 360.(2/354)
التافهة، وأشاهد تمثيل المسرحيات ما حاشا السوقية، غير أن تقدم "ما" المصدرية على "حاشا" قليل؛ حتى قيل: إنه ممنوع، ويحسن الأخذ بهذا الرأي.
وحكم المستثنى في الصور السالفة التي تتقدم فيها "ما" المصدرية وجوب النصب، باعتباره مفعولًا به لفعل الاستثناء المذكور في الجملة، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره: "هو" يعود على "بعض"، مفهوم من "كل" يدل عليه المقام كما سبق أما المصدر المؤول من "ما" المصدرية، والجملة الفعلية التي بعدها1؛ فهو في محل نصب حال2 مؤولة بالمشتق، أو ظرف زمان، والتقدير على الأول: أحب الأدباء مجاوزين الخداع ... مجاوزة التافهة ... مجاوزة السوقية.
والتقدير على الثاني: وقت مجاوزتهم الخداع ... وقت مجاوزتها التافهة ... وقت مجاوزتها السوقية3 ... وكلا التقديرين حسن، ولا يكاد يختلف في الدلالة على الآخر.
2– أما إذا لم تتقدم "ما" المصدرية على الكلمات الثلاث السابقة، فيجوز اعتبارها أفعالًا ماضية جامدة تنصب المستثنى، مفعولًا لها، وفاعلها ضمير مستتر وجوبًا تقدير: "هو" كما سلف والجملة في محل نصب حال، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
ويجوز اعتبار الكلمات الثلاث حروف جر أصلية، والمستثنى مجرور بها، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما أو بما يشبه، أو أنهما ليسا في حاجة إلى تعلق. على اعتبار الثلاثة حروف جر شبيهة بالزائد4،
__________
1 فعل الاستثناء جامد لا يدخل بنفسه في صياغة المصدر المنبسك؛ وإنما يدخل الفعل الذي بمعناه؛ وهو جاوز، هذا، والحرف المصدري لا يدخل على فعل جامد إلا على هذه الأفعال؛ لأنها مستثناة من القاعدة السالفة، أو؛ لأنها متصرفة في أصلها وقد أشرنا لهذا في جـ 1 م 29.
2 الحال هنا جائزة، بالرغم من أن الحال لا تكون مصدرًا مؤولًا، لاشتماله على ضمير يجعلها معرفة، ولكنها هنا معرفة مؤولة بالنكرة، أي: مجاوزين مثلًا "كما سيجيء في: "هـ" من ص 371 ورقم 5 من هامشها".
3 طريقة صوغ للمصدر المؤول من "ما" وصلتها وكل ما يتصل بها مدونة في جـ 1 ص 296 م 29 آخر باب الموصول.
4 كما سيجيء في ص 452 ولا داعي للأخذ بهذا الرأي؛ لأنه معقد، وحجة صحابة واهية.(2/355)
"وحروف الجر الشبيه بالزائد لا يحتاج إلى تعليق"، ففي الأمثلة السابقة يجوز: أحب الأدباء عدا الخداع، أو: الخداع، وأقرأ الصحف خلا التافهة، أو التافهة، وأشاهد تمثيل المسرحيات حاشًا السوقية أو السوقية، فكلمات: "الخداع، التافهة، السوقية" يجوز في كل منها النصب، فيكون مستثنى مفعولًا به، والعامل فعلًا ماضيًا جامدًا، ويجوز فيها الجر والعامل حرف جر1 ...
وقد وردت أمثلة مسموعة وقعت فيها "ما" قبل الكلمات الثلاث: "خلا – عدا – حاشا"، ووقع فيها المستثنى مجرورًا؛ وهي أمثلة شاذة لا يصح
__________
1 "ملاحظة": قالوا: إنما يجوز الأمران النصب والجر بعد تلك الأفعال الثلاثة في غير الحالة التي يكون المستثنى بها ياء المتكلم، فإن كان المستثنى بها ضميرًا للمتكلم "الياء"، ولم توجد "ما" المصدرية تعين اعتبار الأداة حرف جر إن لم يوجد قبل ياء المتكلم نون الوقاية؛ نحو: أطال الخطباء، حاشاي، أو: عداي، أو خلاي، والمستثنى مبني على الفتح في محل جر، ولا يصح هذا اعتبار الأداة، فعلًا ينصب المستثنى "الياء" إذ لو كانت الأداة فعلًا لوجب على المشهور الإتيان بنون الوقاية قبل ضمير المتكلم "الياء" تطبيقًا لما سبق في باب الضمير، ج 1 ص 192 م 21، بخلاف ما لو قلنا: حاشاني، أو عداني، أو خلاني؛ حيث يجب اعتبار الأداة فعلًا محضًا، والياء مفعول به، بسبب وجود نون الرقابة التي تلزم آخر الفعل عند اتصاله بياء المتكلم؛ طبقًا للرأي الغالب.
هذا كلامهم، وهو مدفوع بان نون الوقاية إنما تجيء في آخر الفعل عند اتصاله بباء المتكلم لتقيه، وتحفظه من الكسر الذي يجيء في آخره لمناسبة الياء التي تلحق بآخره، ولما كانت هذه الأدوات لا يلحقها الكسر عند اتصالها بالياء امتنع الداعي لمجيء نون الوقاية مجيئًا حتميًا، وصار الاستغناء عنها جائزًا؛ فيصح أن يقال: حاشاي، أو عداي، أو خلاي ... وفي هذه الصور يصح اعتبار الأداة فعلًا أو حرفًا، لعدم وجود ما يعينها لأحدهما دون الآخر.
نعم، لو قلنا: حاشاني، أو عداني، أو: خلاني ... لكان وجود نون الوقاية وجودها هنا جائز لا واجب، كما أسلفنا مرجحًا قويًا لاعتبار الأداة فعلًا، لكثرة هذه النون في الأفعال ... وقلتها في الحروف؛ مثل: مني وعني ...
وفيما سبق من أدوات الاستثناء التي تكون أفعالًا فقط، أو: التي تصلح لأن تكون أفعالًا، وحروفًا يقول ابن مالك، وقد خلطها:
واستثن ناصبًا "بليس وخلا" ... "وبعدا"، "وسيكون" بعد: "لا"
أي: استثن بالأدوات التي ذكرها، "وهي: ليس – خلا – عدا – يكون؛ بشرط وقوع "يكون" بعد "لا" النافية، ناصبًا المستثنى بها، وفي هذه الحالة التي تنصب فيها المستثنى يتعين أن تكون أفعالًا خالصة، ثم أردف قائلًا:
واجرر بسابقي "يكون" إن ترد ... وبعد: "ما" انصب، وانجرار قد يرد
=(2/356)
القياس عليها، وقد أولها النحاة ليصححوها؛ فقالوا: إن "ما" التي وقعت قبلها ليست مصدرية، ولكنها زائدة.
ولا خير في هذا التأويل؛ لأن العربي الذي نطبق بتلك الأمثلة لا يعرف "ما" المصدرية، ولا الزائدة، ولا شيئًا من هذه المصطلحات النحوية التي ظهرت أيام تدوين العلوم، وجمعها، وتأليفها ولا شأن له بها، هذا إلى أن التأويل السابق كشأن كثير من نظائره قد يخضع لغة قبيلة، ولهجتها لأخرى تخالفها من غير علم أصحابها، وهذا غير سائغ؛ كما أشرنا مرارًا.
__________
= يقول: جر المستثنى بالأداتين السابقتين على "يكون"، إن شئت؛ وهما: "خلا وعدا"، وإن شئت فانصبه بعدها ويكون النصب واجبًا حين تسبقهما "ما"، ولم يذكر نوع "ما" قبلهما على اعتبارها زائدة، وأوضح بعد ذلك أنهما في حالة جرهما المستثنى يعتبران حرفي جر، وأنهما في حالة نصبه يعتبران فعلين:
وحيث جرًا فهما حرفان ... كما هما إن نصبا فعلان
ويلاحظ أنه أدخل "الفاء" على جملة: "هما حرفان" تنزيلًا للظرف: "حيث" منزلة الشرط على الوجه الذي شرحناه في موضعه المناسب ص 274 "و" و287 وهاشمها، أو على اعتبار: "حيث" شرطية بغير اتصالها "بما" الزائدة، تبعًا لرأي الكوفيين.
أما الظرف: "حيث" فمتعلق بعامل معنوي، هو: الإسناد أي: بالنسبة الواقعة بين ركني جملة تطبيقًا لما دونوه من أن شبه الجملة يتعلق بما في الجملة من فعل أو غيره مما يصح التعلق به، فإن لم يوجد ما يصلح فقد يتعلق بالنسبة "الإسناد"، وذلك كالنسبة المأخوذة من قول ابن مالك: "فهما حرفان" فالظرف "حيث" متعلق بالنسبة، أي تثبت حرفيتهما حيث جرا ... وسيجيء إشارة لهذا في باب حروف الجر عند الكلام على التعلق في رقم 2 من هامش ص 441 كما سيجيء في ج 4 م 157 ص 351 إشارة لإجراء الظرف مجرى الشرط ثم بين أن الأداة: "حاشا" شبيهة بالأداة: "خلا" في كل أحكامها، لكن لا تجيء: "ما" قيل: "حاشًا"، وأن فيها لغات أشهرها "حاش"، "حشا" حيث يقول:
وكخلا: حاشا، ولا تصحب "ما" ... وقيل: "حاش"، و"حشا"؛ فاحفظهما(2/357)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– هل تقع الجملة المكونة من فعل الاستثناء وفاعله نعتًا؟
ننقل هنا رأيين مفيدين، وإن كان بينهما نوع تعارض ...
أولهما: ما جاء في الهمع 1 ونصه2:
"من أدوات الاستثناء: "ليس"، "ولا يكون" وهذه هو الناقصة، وليست أخرى ارتجلت للاستثناء وينصبان المستثنى على أنه خبر لهما، والاسم ضمير مستتر. لازم الاستار كما تقدم هنا3، وكذلك في مبحث الضمير4 نحو: قام القوم ليس محمدًا؛ وخرج الناس لا يكون عليًا، ولفظ: "لا" قيد في كلمة: "يكون" فلو نفيت بما، أو: لم، أو: لما، أو: لن ... لم تقع في الاستثناء، ومن شواهد "ليس" قول الشاعر:
عددت قومي كعديد الطيس ... إذا ذهب القوم الكرام ليسي5
وقوله عليه السلام: "يطبع المؤمن على كل خلق، وليس الخيانة والكذب".
"وقد يوصف بـ"ليس، ولا يكون"، حيث يصح الاستثناء، بأن يكون أي: المستثنى منه نكرة منفية6، قال ابن مالك: أو معرفًا بلام الجنس، نحو: ما جاءني أحد ليس محمدًا، وما جاءني رجل لا يكون بشرًا، وجاءني القوم ليسوا إخوتك، قال أبو حيان: ولا أعلم في ذلك خلافًا، إلا أن المنقول هو اختصاصه بالنكرة، دون المعرف بلام الجنس.
"ولا يجوز في النكرة المؤنثة: نحو: أتتني امرأة لا تكون فلانة، إذ لا يصح الاستثناء منها، ولا في المعرفة؛ نحو جاء القوم ليسوا إخوتك، بل يكونان في موضع نصب على الحال".
__________
1 ج 1 ص 233.
2 مع بعض تيسير في بضع كلمات.
3 في ص 353.
4 ج 1 م 18 ص 207.
5 قد وقع المستثنى هنا ضميرًا متصلًا يخالف الأكثر الذي سبق حكمه في رقم 4 من هامش 353.
6 ولا بد أن تكون أعم من المستثنى؛ ليمكن استثناؤه منها كما هو معلوم.(2/358)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"وإذا وصف بهما رفعا ضمير الموصوف المطابق له؛ فيبرز1؛ نحو: ما جاءتني امرأة ليست أو لا تكون فلانة، وما جاءني رجال ليسوا زيدًا، أو نساء لسن الهندات.
"قال السيرافي: أجازوا الوصف "بليس، ولا يكون"؛ لأنهما نص في نفي المعنى عن الثاني، وهذا معنى الاستثناء، وليس ذلك في "عدا وخلا"، إلا بالتضمن، فلم يوصف بهما؛ لأنهما ليسا موضعي جحد؛ فلا يقال: ما أتتني امرأة عدت هندًا، أو: خلت دعدًا. ا. هـ، همع بتيسير بعض الألفاظ.
ثانيهما: ما جاء في المفصل 2 ونصه:
"قد يكون: ليس، ولا يكون" وصفين لما قبلهما من النكرات، تقول: أتتني امرأة لا تكون هندًا، فموضع "لا تكون" رفع؛ بأنه وصف لامرأة، وكذلك تقول في النصب والجر: رأيت امرأة ليست هندًا، ولا تكون هندًا، ومررت بامرأة ليست هندًا، ولا تكون هندًا.
"ولا يوصف" "بخلا وعدا" كما وصف بـ"ليس، ولا يكون"، فلا تقول: أتتني امرأة خلت هندًا، وعدت جملًا، وذلك أن "ليس ولا يكون" لفظهما جحد، فخالف ما بعدهما ما قبلهما؛ فجريا في ذلك مجرى "غير"، فوصف بهما كما يوصف "بغير"، وأما "خلا وعدا" فليس كذلك، وإنما يستثنى بهما على التأويل، لا؛ لأنهما جحد، ولما كان معناهما المجاوزة والخروج عن الشيء فهم منهما مفارقة الأول، فاستثنى بهما لهذا المعنى، ولم يوصف بهما؛ لأن لفظهما ليس جحدًا؛ فليس جاريًا مجرى "غير". ا. هـ.
ويلاحظ: أن صاحب "المفصل" لم يقيد وقوعهما نعتًا بالموضع الذي يصلحان فيه للاستثناء، كما قيده صاحب الهمع، وأن الأمثلة التي ذكرها صاحب المفصل صالحة للنعت هي التي نصب صاحب الهمع على عدم صلاحها نعتًا. فكيف ذلك؟.
لا مفر من إعراب الجملة الفعلية في هذه الأمثلة نعتًا خالصًا لا يصلح للاستثناء؛ لأن النكرة التي قبل الفعلين ليست عامة؛ فلا تصلح "مستثنى منه" يتسع لإخراج المستثنى، فالجملة نعت محض –كالشأن في كل الجمل الواقعة بعد
__________
1 إلا عند ابن مالك كما سبق.
2 جـ 2 ص 78.(2/359)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النكرات المحضة، وبهذا يتلاقى الرأيان ويتفقان.
ب– ليست: "حاشًا" مقصورة على الاستثناء؛ وإنما هي ثلاثة أنواع:
أولها: الاستثنائية؛ وهي فعل ماض جامد، وقد سبق ما يختص بها1.
وثانيها: أن تكون فعلًا ماضيًا متعديًا متصرفًا؛ بمعنى "استثنى"، مثل: "حاشيت مال غيري أن تمتد له يدي حين نتخير موضوعات الكلام نحاشي الموضوعات الضارة إذا دعوت لحفل فحاش من لا يحسن أدب الاجتماع"2.
ثالثها: أن تكون للتنزيه وحده3 أي: للدلالة على تنزيه ما بعدها من العيب 4 وهي اسم مرادف لكلمة: "تنزيه" التي هي مصدر: نزه، وتنصب "حاشا" هنا على اعتبارها مصدرًا قائمًا مقام فعل من معناه، محذوف وجوبًا، ويغني هذا المصدر عن النطق بفعله المحذوف 5؛ نحو: حاشًا لله، أي: تنزيهًا لله أن يقترب منه السوء، فكلمة: "حاشًا" – بالتنوين – مفعول مطلق، منصوب بالفعل المحذوف وجوبًا، الذي من معناه، وبتقديره: "أنزه"، والجار والمجرور متعلقان بها، ويصح أن يقال فيها: حاش لله، بغير تنوين؛ فتكون "حاش" مفعولًا مطلقًا، ولكنه مضاف، واللام بعده زائدة 6، وكلمة "الله" مضاف
__________
1 في ص 354.
2 إذا كانت فعلًا ماضيًا متصرفًا كهذا النوع، فإن ألفها الأخيرة تكتب ياء، هكذا: "حاشى"، بخلافها في النوعين الآخرين؛ فتكتب ألفًا.
3 أي: التنزيه الخالص الذي لا يشوبه معنى آخر؛ كالاستثناء أو غيره، ذلك أن "حاشا" الاستثنائية والمتصرفة لا تخلوان من تنزيه؛ ولكنه مختلط بمعنى آخر.
4 وهذا يشمل ما يكثر الآن حين يريدون تنزيه شخص من العيب، فيبتدئون بتنزيه الله تعالى: ثم ينزهون من أرادوا، يريدون أن الله منزه عن ألا يطهر ذلك الشخص من العيب.
5 سبق في باب المفعول المطلق تفصيل لكلام على المصدر القائم بدلًا من التلفظ بفعله ص 219، وفي ص 234 إشارة إليها.
6 كزيادتها في قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ، ولهذا قال بعض النحاة: إن "حاش" اسم فعل بمعنى: برئ، أو تنزه، فتكون اسم فعل ماض مبني على الفتح واللام بعدها زائدة و"الله" مجرور باللام الزائدة في محل رفع، فاعل اسم الفعل.(2/360)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليه مجرور، كما يصح أن يقال فيها: حاش الله، بغير اللام الزائدة بين المضاف والمضاف إليه.
ج– هل يحذف المستثنى؟ وهل تحذف أداة الاستثناء؟.
أما حذف الأداة فالأصح أنها لا تحذف، وأما حذف المستثنى فيجوز بشروط ثلاثة: فهم المعنى، وأن تكون الأداة هي: "إلا" أو: "غير" وأن تسبقهما كلمة: "ليس"1، نحو: قبضت عشرة ليس إلا، أو: ليس غير، أي ليس المقبوض إلا العشرة، وليس المقبوض غير العشرة ... ومن القليل أن يحذف المستثنى بعد: "لا يكون"، بشرط فهم المعنى أيضًا، نحو: قبضت عشرة، لا يكون ... أي لا يكون غيرها ... لا يكون المقبوض غيرها.
د– من أدوات الاستثناء "لما" بمعنى "إلا"، وقد وردت في أمثلة مسموعة إما في كلام منفي؛ مثل قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} 2، وإما في كلام مثبت ولكنه مقصور على بضعة أساليب سماعية؛ أشهرها: نشدتك الله لما فعلت كذا، وعمرك الله لما فعلت كذا.
وإذا كانت للاستثناء وجب إدخالها على الجملة الاسمية، أو على الماضي لفظًا لا معنى كالمثالين السالفين3 إذا المعنى فيهما "إلا أن تفعل كذا"، ويستحسن كثير من النحاة الاقتصار على المسموع ...
هـ- يذكر بعض النحاة في آخر باب الاستثناء تفصيل الكلام على
__________
1 أجاز بعضهم أن يكون النافي هو: "لا" إذا كانت أداة الاستثناء هي: "غير"؛ كما سيجيء في الجزء الثالث باب الإضافة عند الكلام على: "غير".
2 "إن" حرف نفي، مثلها في قوله تعالى: { ... وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ، أو غير هذا من أنواع الإعراب المختلفة في الآية ونظائرها مما سبق تفصيله في ج 1 م 55 ص 676 في موضع تخفيف "النون" من "إن"، وأخواتها المختومة بالنون المشددة.
3 نص على هذا "الأشموني" في الجزء الرابع باب الجوازم؛ عند الكلام على "لما" الجازمة، انظر ما يتصل بالمسألة ويوضحها في: "أ" من الزيادة، ص 327".(2/361)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"لا سيما" من ناحة تركيبها، ومعناها، وعلاقاتها بالاستثناء، وضبط الاسم الذي بعدها، وإعرابهما ... ويذكرها فريق آخر من باب الموصول، بحجة أن "ما" المتصلة بها تكون موصولة ... وقد آثرنا ذكرها في باب الموصول 1؛ لأنه أسبق، وصلتها به أقوى.
ونزيد هنا أن بعض الرواة نقل لها أخوات مسموعة، منها: لا مثل ما ... لا سوى ما 2 ... فهذان يشاركان: "لا سيما" في معناها وفي أحكامها الإعرابية التي فصلناها فيما سبق3.
ومنها: "لا تر ما ... "، و"لو تر ما"2 ... ، وهما بمعناها كما قلنا في الوضع المشار إليه، ولكنهما يخالفانها في الإعراب؛ فهذان فعلان لا بد من رفع الاسم بعدهما؛ ولا يمكن اعتبار "ما" زائدة مع جر الاسم بعدها بالإضافة؛ لأن الأفعال لا تضاف، والأحسن أن تكون "ما" موصولة وهي مفعول للفعل: "تر" وفاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره: أنت، والاسم بعدها مرفوع على اعتباره خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة.
وإنما كان الفعل مجزومًا بعد "لا"؛ لأنها للنهي، والتقدير في "قام القوم لا تر ما علي": لا تبصر "أيها المخاطب الشخص" الذي هو علي، فإنه في القيام أولى منهم، أو تكون "لا" للنفي، وحذفت الألف من آخر الفعل سماعًا، وشذوذًا.
وكذلك بعد "لو" سماعًا، والتقدير: لو تبصر الذي هو علي لرأيته أولى بالقيام.
والجدير بنا أن نقتصر في استعمالنا، على: "ولا سيما" لشيوعها، ووضوحها قديمًا حديثًا.
__________
1 جـ 1 ص 366 م 29.
2 و 2 أشرنا لهذه في ص 62، وفي رقم 2 من هامش ص 347، أما البيان الكامل، ففي جـ 1 م 28 ص 366.
3 جـ 1 ص 366 م 28.(2/362)
المسألة 84: الحال
مدخل
...
المسألة 84: الحال 1
ظهر البدر كاملًا ...
ـــ
... نجا الغريق شاحبًا
أبصرت النجوم متوهجة ...
ـــ
... أرسل التاجر البضاعة ملفوفة
فحص الطبيب مريضه جالسين ...
ـــ
... صافح المضيف ضيفه واقفين
البرد قارسًا ضار ...
ـــ
... الشمس شديدة مؤذية
النزول من القطار متحركًا خطر ...
ـــ
... ركوب السيارة ماشية وخيم العاقبة
تعريفه:
وصف2، منصوب3، فضلة4، يبين هيئة ما قبله؛ من فاعل، أو مفعول به،
__________
1 أبيات ابن مالك كما وردت في هذا الباب من "ألفيته" لا تساير تسلسل المسائل، ولا ترتيبها المنهجي على الوجه الذي ارتضيناه، لهذه وضعنا كل بيت عقب القاعدة التي يناسبها، ويتصل بها اتصالًا منطقيًا، وفي الوقت نفسه وضعنا بجانب كل بيت رقمًا يميزه، ويدل على ترتيبه بين أبيات الباب كما رتبها ابن مالك.
وكلمة: الحال بغير تاء التأنيث في آخرها صالحة، لأن تكون مذكرة أو مؤنثة، نحو: الحال طيب، أو: طيبة، إن هذا الحال حسن، وهذه الحال حسنة، أما إذ ختمت بتاء التأنيث فهي مؤنثة فقط، نحو: الحالة طيبة، إن هذه الحال حسنة. والكثير في اللفظ التذكير؛ بخلو آخره من التاء، والكثير في المعنى التأنيث.
2 اسم مشتق، وقد تكرر تعريف المشتق وأنواعه، ولكل منها باب خاص في الجزء الثالث.
3 في بعض المراجع المطولة كهامش التصريح معركة جدلية بسبب أن "النصب " ليس جزءًا من التعريف؛ وإنما هو حكم، والدفاع عن هذا، أو مقاومته، ولا يعنينا مثل هذا الجدل الذي لا خير فيه.
والنصب قد يكون ظاهرًا، كما في الأمثلة المعروضة، أو: مقدرًا مثل: تغدو الطيور شتى، أو: محليًا، كقولهم: جاءت الخيل بداد، فكلمة: "بداد" علم جنس، وهي حال، مبنية عل الكسر في محل نصب.
4 الفضلة: ما يمكن أن يستغنى عنه في الأغلب المعنى الأساسي للجملة، وهي خلاف العمدة.(2/363)
أو منهما معًا1، أو من غيرهما 2 وقت وقوع الفعل3 كالكلمات التي تحتها خط في الأمثلة المعروضة.
وتعرف دلالته على الهيئة بوضع سؤال كهذا: كيف كان شكل البدر حين ظهر؟ أو: كيف كانت صورته؟ فيكون الجواب: هو لفظ الحال السابقة؛ أي: كاملًا، أو: مستديرًا ... و ... و ... وكذا الباقي.
وليس من اللازم أن تكون الحال في كل الاستعمالات وصفًا، وإنما هذا هو الغالب4، ولا أن تكون فضلة؛ فهذا غالب أيضًا؛ فقد تكون بمنزلة العمدة
__________
1 مثل الكلمتين: "جالسين" "واقفين" في الأمثلة السابقة.
2 أي: يبين هيئة صاحبه، كالفاعل، وكالمبتدأ، أو الخبر، أو اسم النواسخ، وسيجيء الكلام على صاحب الحال في ص 402 ولا قيمة للاعتراض على مجيء الحال من المبتدأ، أو من اسم الناسخ، أو مما ليس فاعلًا، أو مفعولًا به، أو نحوهما؛ ذلك؛ لأن من يرفضونه لا يرفضونه للسبب القويم الصحيح، وهو: عدم الاستعمال العربي الأصيل، وإنما يرفضونه؛ لأنه لا يتفق مع مظهر من مظاهر السلطان الذي وهبوه للعامل، كأن يقولوا في منع مجيء الحال من المبتدأ: إن العامل في المبتدأ معنوي؛ هو: "الابتداء"، فلو جاءت الحال من المبتدأ لكان المبتدأ هو عاملها؛ فينشأ من هذا عاملان مختلفان، أحدهما عامل في الحال، والآخر عامل في صاحبها، مع أن العامل عندهم في الحال لا بد أن يكون هو نفسه العامل في صاحبها أيضًا طبقًا للبيان الآتي في رقم 3 من هامش ص 380، والغريب أن المأثور الكثير من كلام العرب الخلص لا يوافقهم، ولا يؤيدهم، مع كثرته بدليل صحة قولهم: أعجبني عطاء المحسن مبتسمًا، وسرني صوت القارئ خاشعًا، ولهذا يخالفهم بحق "سيبويه" وفريق معه، للسبب المدون في رقم 3 ص 405.
وإن ما يرفضونه ظاهرًا صريحًا، يقبلونه على نية التأويل؛ فكأن مجرد النية يبيح الأمر المحظور المخالف لها، بالرغم من أن اللفظ الذي يؤولونه لن يتغير في ظاهره، وصريح الأسلوب لن يطرأ عليه تبديل، وهذا موضع من مواضع الشكوى، ولعله السبب الذي حمل بعض النحاة المحققين؛ كارضي على رفض اعتراضهم، ونبذ رأيهم المخالف رأي سيبويه كما جاء في الخضري جـ 1 والصبان وغيرهما في باب الحال عند بيت ابن مالك: "وعامل ضمن معنى الفعل، لا ... "، وعلى أن يقول: "إن رأي سيبويه هو الحق، ولا ضرورة تدعو للرأي المخالف".
وإذا كان المحظور يباح بمثل هذه النية وجب ترك الناس أحرارًا في محاكاة الكثير المأثور من الكلام العربي الصحيح، وفي القياس عليه، ومن شاء بعد ذلك أن يتأول فليفعل، فالمهم هو ترك اللفظ على حاله الظاهر المواقف للوارد، ومن حمل نفسه بعد ذلك مشقة التأويل، فهو حر وإن كانت المشقة بغير فائدة.
3 هذا هو الغالب، وقد يكون زمن الحال مقدرًا "أي: مستقبلًا، وسيجيء البيان في ص 390".
4 كما سيجيء في ص 368، عند تفصيل الكلام على اشتقاقها وجمودها.(2/364)
أحيانًا في إتمام المعنى الأساسي للجملة، أو في منع فساده؛ فالأولى كالحال التي تسد مسد الخير1، في مثل: امتداحي الغلام مؤدبًا؛ فإن المعنى الأساسي هنا لم يتم إلا بذكر الحال، وكالحال في قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} وقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} ، وقول الشاعر:
ولست ممن إذا يسعى لمكرمة ... يسعى وأنفاسه بالخوف تضطرب
فالمعنى الأساسي لا يتم لو حذفت الحال: "كسالى" أو: "جبارين" أو: "أنفاسه تضطرب؟
والثانية: "وهي الحال التي يفسد معنى الجملة بحذفها"؛ مثل: ليس الميت من فارق الحياة، إنما الميت من يحيا خاملًا لا نفع له؛ فلو حذفنا الحال: "خاملًا" وقلنا: الميت من يحيا لوقع التناقض الذي يفسد المعنى، ومثل كلمة: "لاعبين" في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ، فلو حذفت الحال "لاعبين" لفسد المعنى أشد الفساد2 ...
هذا، وما يبين الحال هيئته من فاعل، أو مفعول به، أو منهما معًا؛ أو من غيرهما، يسمى: "صاحب الحال3".
والتعريف السابق مقصور على الحال "المؤسسة" دون "المؤكدة"؛ لأن المؤسسة هي التي تبين هيئة صاحبها، أما المؤكدة فلا تبين هيئة، ومثال الأولى: ارتمى السارق صارخًا، ومثال الثانية: ولى الحزين منصرفًا، وسيجيء بيانهما وتفصيل الكلام عليهما قريبًا 4.
أقسام 5 الحال، والكلام على كل قسم:
تتعدد أقسام الحال بتعدد الاعتبارات المختلفة التي ينبني عليها التقسيم، وفيما يلي
__________
1 سبق شرحه في ج 1 ص 385 م 39 باب: المبتدأ والخبر.
2 انظر رقم 3 من ص 408.
3 يجيء الكلام عليه مفصلًا في ص 402 م 85.
4 في ص 391.
5 يسميها بعض النحاة أقسامًا، ويسميها آخرون أوصافًا، ويسميها فريق ثالث: نواحي الحال ... و ... ولا أهمية لاختلاف التسمية ما دام المراد واحدًا؛ وهو الكلام على الحال بحسب الاعتبارات المتصلة بها.(2/365)
أشهر هذه الاعتبارات، وما تؤدي إليه.
الأول: انقسام الحال باعتبار ثبات معناها وملازمته1 شيئًا 2 آخر، أو عدم ذلك إلى "منتقلة"، وهي الأكثر، "وثابتة"، وهي الأقل.
فالمنتقلة: هي التي تبين هيئة شيء2مدة مؤقتة، ثم تفارقه بعدها، فليست دائمة الملازمة له: مثل: أقبل الرابح ضاحكًا، أسرع البرق مشتعلًا، شاهدت كتائب النمل مهاجرة ... و ... ، فكل حال من الثلاثة: "ضاحكًا، مشتعلًا، مهاجرة" يدل على معنى ينقطع، "فالضحك" لا يلازم صاحبه إلا مدة محددة يزول بعدها، وكذلك: "الاشتعال"، أو "المهاجرة".
والثابتة: هي التي تبين هيئة شيء تلازمه غالبًا ولا تكاد تفارقه، وتتحقق الملازمة في إحدى صور ثلاث.
أ- أن يكون معناها التأكيد، وهذا يشمل:
1– أن يكون معناها مؤكدًا مضمون جملة قبلها، بشرط أن يكون هذا المضمون أمرًا ثابتًا ملازمًا في الغالب، فيتفق معنى الحال ومضمون الجملة؛ ويترتب على هذا أن تكون الحال ثابتة ملازمة صاحبها تبعًا لذلك؛ نحو: خليل أبوك رحيمًا، "فرحيما" حال من "أب" الذي هو صاحبها الملازمة له، ومعنى هذا الحال وهو: "الرحمة" يوافق المعنى الضمني للجملة التي قبلها، وهو: "أبوة خليل"؛ لأن هذه الأبوة لا تتجرد من الرحمة، كما أن المعنى الضمني للجملة هو معنى الحال، إذ مضمون: "خليل أبوك" أنه رحيم، بداعي الأبوة التي تقتضي الرحمة والشفقة كما سلف، فلهذا كان معنى الحال مؤكدًا مضمون الجملة التي قبلها، والحال فيها ملازمة صاحبها.
ويشترط في هذه الجملة التي قبلها أن تكون اسمية، وأن يكون طرفاها "وهما: المبتدأ والخبر" معرفتين، جامدتين3، ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معًا وعن
__________
1 وسبب هذه الملازمة وجود علاقة مبعثها العقل، أو الطبع، أو العادة، ولو لم تكن الملازمة دائمة في بعض الأحيان، كما جاء في حاشية ياسين في هذا الموضع.
2و2 وهو: صاحبها.
3 اشترط بعض النحاة أن يكون هذا الجمود محضًا، بحيث لا يتأول الجامد بالمشتق؛ احترازًا من =(2/366)
عاملها، وأن يحذف عاملها وصاحبها1 وجوبًا؛ طبقًا للتفصيل الذي سيأتي ...
2– وكذلك يشمل أن تكون مؤكدة لعاملها؛ إما في اللفظ والمعنى معًا، نحو، قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} ، وإما في المعنى فقط، نحو، قوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} ، فكلمة: "حيا" حال من نائب فاعل المضارع: أبعث، أي: من الضمير المستتر "أنا"، ومعناها: الحياة، وهو معنى الفعل: أبعث؛ لأن البعث هو الحياة بعد الموت، فمعناها مؤكد لمعنى عاملها، والرسالة صفة ملازمة للرسول، وكذا حياة المبعوث؛ فكلاهما وصف حل بصاحبه لا يفارقه.
3– ويشمل أيضًا أن تكون مؤكدة بمعناها معنى صاحبها مع ملازمتها صاحبها؛ نحو: اختلف كل الشعوب جميعًا، فكلمة "جميعًا" حال مؤكدة معنى صاحبها، وهو: "كل"؛ لأن معنى الجمعية هو معنى الكلية، لا يفترقان.
وسنعود للكلام على أنواع من المؤكدة بمناسبة أخرى2.
ب– أن يكون عاملها دالًا على تجدد صاحبها؛ بأن يكون صاحبها فردًا من نوع يستمر فيه خلق الأفراد وإيجادها على مر الأيام، أي: أن لذلك الفرد أشباهًا ونظراء توجد وتخلق بعد أن لم تكن، ويتكرر هذا الخلق والإيجاد طول الحياة؛ نحو: "خلق الله جلد النمر منقطًا، وجلد الحمار الوحشي مخططًا"، فكلمة "منقطًا" حال، وكذا كلمة "مخططًا"، وعاملهما: "خلق" وهو يدل على تجدد هذا المخلوق، أي: إيجاد أمثاله، واستمرار الإيجاد ي الأزمنة المقبلة.
__________
= مثل: "علي الأسد مقدامًا"؛ لأن "الأسد" مؤول بالشجاع؛ فيكون الجامد المؤول بالمشتق هو العامل في الحال، وتصير الحال مؤكدة لعاملها، لا لمضمون الجملة، أما الجامد الذي لا يتأول عندهم فمثل: "علي أخوك رحيمًا"، بزعم أن الأخوة لا تستلزم الرحمة، بخلاف الأبوة، هذا رأيهم وتحقيقه عسير؛ إذ لا يكاد يوجد جامد لا يمكن تأويله، كما يقول كثير من النحاة، انظر رقم 2 من هامش ص 373 حتى المثال الذي عرضوه؛ ونظائره ولعل هذا كان السبب في أن شرطهم، ورأيهم لم يذكره بل لم يوافق عليه فريق آخر من النحاة، كصاحب التوضيح، كما يدل عليه مثاله وهو: "زيد أبوك عطوفًا" وكما يصرح شارحه بأنه مخالف للرأي السالف، "راجع التوضيح وشرحه عند تقسيمه الحال إلى مؤسسة ومؤكدة" وقد ذكر الأشموني وغيره مثال التوضيح أيضًا في أول باب الحال، ثم في الحال المؤكدة.
1 وهذا على اعتبار أنها حال من الضمير المحذوف مع العامل كما سيجيء في ص 383 و 391.
2 في ص 383 و 391.(2/367)
جـ– أحوال مرجعها السماع، وتدل على الدوام بقرائن خارجية؛ مثل: "قائمًا" في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} ، فكلمة "قائمًا" حال، وعاملها الفعل: "شهد"، وصاحبها: "الله". ودوام القيام بالقسط معروف من أمر خارجي عن الجملة؛ هو: صفات الخالق. ومثل: "مفصلًا" في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} 1.
الثاني: انقسامها بحسب الاشتقاق والجمود إلى: "مشتقة" وهي الغالبة؛ كالأمثلة السالفة وإلى "جامدة" وهي القليلة، ولكنها مع قلتها قياسية في عدة مواضع 2؛ سواء أكانت جامدة مؤولة بالمشتق، أم غير مؤولة 3.
وأشهر مواضع المؤولة بالمشتق أربعة:
أ- أن تقع الحال "مشبهًا به" في جملة تفيد التشبيه إفادة تبعية غير
__________
1 مبينًا فيه الحق والباطل بحيث لا يلتبس أحدهما بالآخر، ولا يختلط به.
وفيما سبق من تعريف الحال، وبيان المنتقل منها والثابت، والجامد والمشتق، وأن المنتقل غالب ولكنه ليس مستحقًا، أي: ليس واجبًا يقول ابن مالك:
الحال: وصف، فضلة، منتصب ... مفهم في حال: "كفردًا أذهب"
أراد: مفهم في حال كذا ... فكلمة: "حال" هنا لا تنون؛ لأنها مضاف، والمضاف إليه محذوف على نية الثبوت، أي: في حال كذا كما سبق ذلك أن قولك: جاء محمودًا راكبًا، يفيد المعنى الذي في: جاء محمود في حال الركوب، وهو بيان هيئة صاحبه، وهذا معنى قولهم: الحال على معنى: "في"، ثم قال بعد ذلك:
وكونه منتقلًا، مشتقًا ... يغلب، لكن ليس مستحقًا
أي: هذا الكون الذي سرده ووصفه بالانتقال والاشتقاق ليس مستحقًا. فهو كثير لا واجب.
2 لأنها ليست قلة ذاتية مرادها قلة استعمال العرب لها، وإنما مرادها أنها قلة بانسبة للمشتقة، فهي كثيرة في ذاتها بغير نظر لقسيمتها.
انظر معنى "القلة" في الأشموني ج 2 "باب الإضافة" عند بيت ابن مالك، "وربما أكسب ثان أولًا ... "، وستجيء إشارة لها في ص 456، ويجيء الإيضاح في ج 3 رقم 1 من هامش ص 74 م 94، وهذا، وفي الجزء الرابع باب جمع التكسير، م 172 ص 185 معنى المطرد وغير المطرد، والكثير، والغالب، والقياسي، وغير القياسي، وتحديد القلة والكثرة.
3 الأهمية الأولى إنما هي لصحة وقوع الحال جامدة في هذه المواضع، أما التأويل وعدمه فلا أهمية له.(2/368)
مقصودة لذاتها، نحو: ترنم المغني بلبلا سارت الطيارة برقا هجم القط أسدا. فالكلمات الثلاث: "بلبلا، برقا، أسدا" أحوال منصوبة مُئَوَّلَة بالمشتق، "أي: سارا، سريعة، جريئا"، وكل حال من الثاث يعد بمنزلة المشبه به، "أي: كالبلبل، كالبرق، كالأسد"، ولا يعتبر مشبها به مقصودا حقيقة؛ لأن التشبيه المقصود الأول هنا، إنما المقصود الأول هو المعنى الحادث عند التأويل بالمشتق.
ب- أن تكون الحال دالة على مفاعلة: "بأن يكون لفظها أو معناها جاريا على صيغة "المفاعلة"، وهي صيغة تقتضي في الأغلب المشاركة من جانبين أو فريقين في أمر"، نحو، سلمت البائع نقوده مقابضة، أو: سلمت البائع النقود يدا بيد، فكلمة: "مقابضة"، حال جامدة، ولفظها على صيغة: "المفاعلة" مباشرة ومعناها: "مقابضين"، وهذا يستلزم اشتراك البائع والمتكلم في عملية القبض. ولهذا كانت الحال هنا مبنية هيئة الفاعل والمفعول به معا، أي: أن صاحب الحال هو الأمران.
ومثلها: يدا بيد1، إذ معنى الكلمتين لا لفظهما جاريا على صيغة: "المفاعلة" غير المباشرة؛ لأن معناهما: "مقابضة" وتأويلها: "مقابضين" أيضا، والأسهل عند الإعراب أن نقول: "يدا" حال من الفاعل والمفعول به معا، و: "بيد" جار ومجرور متعلقان بمحذوف، صفة للحال، والتقدير: ملتصقة بيد مثلا فمن مجموع هذه الصفة والموصوف ينشأ معنى الحال، وهو: "المفاعلة" المقتضية للمشاركة، فهذه المشاركة لا تتحقق إلا باجتماع الصفة والموصوف في المعنى. أما في الإعراب فكلمة: "يدا" وحدها هي الحال، وهي أيضا الموصوف، و"بيد" ... صفة ...
ومثل هذا يقال في: "كلمت المنكر عينه إلى عيني1 أي: مواجهة أو مقابلة، بمعنى مواجهين ... فكلمة "عين" حال2 من الفاعل والمفعول به
__________
1و1 من الحال الجامدة المسموعة بنصها بعض أمثلة، منها قولهم ... يدًا بيد وقولهم: كلمته فاه إلى في، فهل يجوز القياس على تلك الأمثلة فنقول مثلًا: كلمت المنكر عينه إلى عيني؟
قالوا: لا يجوز القياس إلا عند بعض الكوفيين، وحجة المانعين جدلية لا تثبت على الفحص، والأنسب الرأي الكوفي.
2 يصح فيها وفي أمثالها الرفع؛ فتكون مبتدأ، والجار مع مجروره خبرها، والجملة في محل نصب، حال، ولا يحسن في كلمة: "عين" أن تكون بدلًا؛ لأن البدل في القول الشائع يكون على نية تكرار العامل، لا يستقيم المعنى هنا على تكراره، إذ لا يقال: كلمت عينه.(2/369)
معًا، وهي مضاف، "والهاء" مضاف إليه، و"إلى عيني" جار ومجرور، ومضاف إليه، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة؛ والتقدير؛ عينه المتجهة إلى عيني ... ومجموع الصفة والموصوف هو الذي يوجد صيغة: "المفاعلة" برغم أن الإعراب يقتضي التوزيع على الطريقة السالفة؛ فتكون: "عين" الأولى وحدها هي الحال والموصوف معًا، وما بعدها صفة ...
ومثل هذا أيضًا: كلمت الصديق فاه إلى في "أي: فمه إلى فمي"، بمعنى مشافهة؛ المؤولة بكلمة: مشافهين.
ومثل: ساكنته غرفته إلى غرفتي؛ بمعنى: ملاصقة، التي تؤول بكلمة: ملاصقين، وجالسته جنبه إلى جنبي، كذلك ... ، وكل هذا قياس في الرأي الأحسن.
ج– أن تكون دالة على سعر؛ نحو: بع القمح كيله بثلاثين، أي: مسعرًا فكلمة "كيلة" حال منصوبة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف، هو صفتها، والتقدير: كائنة مثلًا ومن مجموع الصفة والموصوف يكون المشتق المؤول.
د– أن تكون الحال دالة على ترتيب: نحو: ادخلوا الغرفة واحدًا واحدًا 1أو: اثنين اثنين، أو: ثلاثًا ثلاثًا ... والمعنى: ادخلوها: مترتبين.
وضابط هذا النوع: أن يذكر المجموع أولًا مجملًا، مشتملًا ضمنًا على جزأيه المكررين، ثم يأتي بعده تفصيله مشتملًا صراحة على بيان الجزأين المكررين. ومن أمثلته: يمشي الجنود ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة ... ، ينقضي
__________
1 يكثر اليوم أمثال هذه الأساليب المشتملة على التكرار العددي المفيد للترتيب، وقد منعها بعض النحاة، تبعًا للحريري في كتابه: "درة الغواص" حيث صرح بأنه لا يجوز: جاءوا واحدًا واحدًا، ولا اثنين اثنين؛ لأن العرب في رأيه عدلوا عن ذلك إلى: "أحاد، ومثنى وأخواتهما"، وهجروا المعدول عنه.
وقد تعقبه الشهاب الخفاجي، وعلق على ذلك الرأي، مثبتًا بالأدلة والشواهد ابتعاده عن الصواب، وأن رأي الحريري هو الخطأ الذي لا سند يؤيده، وأن ذلك التكرير كثير في كلام العرب، فهو قياسي، وكذلك صرح بعض شراح "الكافية" بأن أسماء العدد المستعملة للتكرير المعنوي بلفظها مطردة.
مما سبق يتبين أنه لا داعي لمنع تلك الأساليب، ولا للجدل حول قياستها. "كما ستجيء الإشارة في ج 4 ص 172 م 146".(2/370)
الأسبوع يومًا يومًا، وينقضي الشهر أسبوعًا أسبوعًا، وتنقضي السنة السنة شهرًا شهرًا، وهكذا 3، ومن مجموع الكلمتين المكررتين تنشأ الحال المؤولة؛ الدالة على الترتيب ولا يحدث الترتيب من واحد فقط، لكن الأمر عند الإعراب يختلف؛ إذ يجب إعراب الكلمة الأولى وحدها هي الحال من الفاعل كما في الأمثلة السالفة أو من المفعول به، أو من غيره على حسب الجمل الأخرى التي تكون فيها.
أما الكلمة الثانية المكررة فيجوز إعرابها توكيدًا لفظيًا للأولى، كما يجوز وهذا أحسن أن تكون معطوفة على الأولى بحرف العطف المحذوف "الفاء" أو: "ثم" دون غيرهما من حروف العطف1، فالأصل: ادخلوا الغرفة واحدًا فواحدًا، أو: ثم واحدًا يمشي الجنود ثلاثة فثلاثة، أو: ثم ثلاثة ... 2، ويصح أن يقال: ادخلوا الأول فالأول 3 ... و ... و ... فيكون حرف العطف ظاهرًا، وما بعده معطوف على الحال التي قبله، ولكن الحال هنا مع صحتها فقدت الاشتقاق والتنكير معًا.
هـ- أن تكون مصدرًا صريحًا 4 متضمنًا معنى الوصف "أي: معنى المشتق"؛
__________
1 فالمجموع المجمل هو: "واو الجماعة، الجنود، الأسبوع، الشهر، السنة ... " ولهذه الأساليب صلة بما يشبهها من نحو: ثناء ومثنى، وثلاث ومثلث و ... و ... ، مما سيجيء بيانه في ج 4 ص 171 م 146 عند الكلام على منع الصرف للوصفية والعدل.
2 لأن هذين الحرفين هما اللذان يدلان على الترتيب، دون باقي حروف العطف.
3 وقد يكون الغرض من التكرار الاستيعاب لا الترتيب؛ فقد جاء في كتاب الإقليد: "إن العرب تكرر الشيء مرتين فتستوعب جميع جنسه"؛ مثل: ستمر بك أبواب الكتاب مفصلة بابًا بابًا، راجع ص 80 من حاشية الألوسي على شرح القطر.
4 "الأول" السابقة "حال" منصوبة، والثانية معطوفة عليها بالفاء التي تفيد الترتيب، وزيدت، سماعًا، فيهما "أل" شذوذًا، كما تزاد في النظم للضرورة. والأصل: ادخلوا أول فأول؛ أي: ادخلوا مترتبين.
وقد سبق هذا عند الكلام على "أل" الزائدة ج 1 م 31 ص 98 "ب" انظر ما يتصل بها في ص 376.
5 أما المصدر المؤول فلا يكون حالًا؛ لأنه يشتمل على ضمير يجعل الحال معرفة، فتخالف الأغلب فيها: وهو؛ التنكير، وبالرغم من هذا يصح وقوع الحال مصدرًا مؤولًا بشرط أن تكون أداة السبك هي: "ما" المصدرية، وبعدها فعل من أفعال الاستثناء الثلاثة "خلا" أو: "عدا" أو: "حاشا"؛ لأن المصدر المؤول هنا يؤول بنكرة، "انظر رقم 2 من هامش ص 355، وفي ج 1 ص 21 م 29 إشارة لبعض ما تقدم".(2/371)
بحيث تقوم قرينة تدل على هذا؛ نحو: اذهب جريًا لإحضار البريد، أي: جاريًا تكلم الخطيب ارتجالًا، أي: مرتجلًا1 حضرالوالد بغتة، أي مفاجئًا
لا تثق بالكذوب، واعلم يقينا ... أن شر الرجال فينا الكذوب
أي: متيقنًا.
وقد ورد بكثرة في الكلام الفصيح وقوع المصدر الصريح المنكر حالًا؛ ولكثرته كان القياس عليه مباحًا في رأي بعض المحققين 2، وهو رأي فوق صحته فيه تيسير، وتوسعة، وشمول لأنواع من المصادر أجازها فريق، ومنعها فريق، ولا معنى لتأويل المصادر الكثيرة المسموعة تأويلًا يبعدها عن المصدر، كما فعل بعض النحاة من ابتكار عدة أنواع من التأويل بغير داع 3؛
__________
1 أي: من غير إعداد سابق للخطبة.
2 انظر البيان وقرار مؤتمر المجمع اللغوي، في هذا الشأن، رقم 2 التالي:.
3 غريب كما يقول بعض النحاة أن يكثر ورود الحال مصدرًا منكرًا، في فصيح الكلام المأثور، بل في أفصحه؛ وهو: القرآن، ثم نسمع ونقرأ من يقول: إنه بالرغم من تلك الكثيرة مقصور على السماع، راجع آخر صفحة من الحاشية على شرح "التصريح" باب "الإدغام".
فما جاء في القرآن قوله تعالى: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} ، وقوله: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} ، وقوله: {إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} ، وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ، فالكلمات: سعيًا، سرًا، جهارًا، خوفًا، ظلمًا، هي مصادر لا شك فيها، وهي أيضًا بعض ما جاء في الكتاب العزيز من الأحوال، وما أكثر ما جاء في غيره مما يستشهد به، وتأويلها بالمفعول المطلق الذي حذف عامله ضعيف؛ لأن حذف عامل المؤكد في مثل هذا معيب كما سبق في ص 211 وكذا كل تأويل آخر يشبه، فما الذي يقاس عليه إن لم تكن هذه الشواهد كلها داعية للقياس عليها؟ ولماذا يوافق بعضهم على القياس في المصدر المنكر الصريح إذا كان نوعًا لعامله؛ نحو جاء السائق سرعة، أي: سريعًا؟ ولماذا يقصره كثير منهم على أنواع ثلاثة من المصدر الصريح النكرة؟ هي:
أ– المصدر الدال على بلوغ نهاية الشيء؛ نحو: أنت الرجل شجاعة، وأخوك الرجل علمًا، وأمثال هذا المصدر الذي قبله خبر مقرون "بأل" الدالة على الوصول إلى نهاية الشيء؛ حسنًا أو قبحًا.
ب– والمصدر الذي قبله مبتدأ وخبر، والمبتدأ شبه بالخبر، أنت عمر عدلًا، وهي الخنساء شعرًا.
جـ– والمصدر الواقع بعد: "أما" في نحو: أما بلاغة فيبلغ، من كل صدر وقع بعد "أما" في مقام قصد في الرد على من وصف شخصًا بوصفين، أو سلبه أحدهما، وأنت تعتقد اتصافه بواحد منهما.
والحق أنه لا داعي لشيء من التقييد والحصر في هذا كله، فالقياس مباح على كل ما سلف، وبالقياس أخذ مؤتمر المجمع اللغوي الذي انعقد بالقاهرة خلال شهر فبراير سنة 1971، وسجله بين قراراته النهاية التي أصدرها بعد تمحيص وطول بحث.(2/372)
إذ لم يراعوا للكثرة حقها الذي يبيح القياس 1.
وأشهر مواضع الحال الجامدة التي لا تتأول بالمشتق سبعة:
أ– أن تكون الحال الجامدة موصوفة بمشتق2 أو بشبه 3 المشتق؛ نحو: "ارتفع السعر قدرًا كبيرًا، وقفت القلعة سدًا حائلًا، تخيل العدو القلعة جبلًا في طريقه، عرفت جبل المقطم حصنًا حول القاهرة.
والنحاة يسمون هذا الحال الموصوفة: "بالحال الموطئة"، "أي: الممهدة" لما بعدها؛ لأنها تمهد الذهن، وتهيئه لما يجيء بعدها من الصفة التي لها الأهمية الأولى دون الحال، فإن الحال غير مقصودة؛ وإنما هي مجرد وسيلة وطريق إلى النعت الذي بعدها، ولهذا يقسم النحاة الحال قسمين:
أحدهما: "الموطئة"، وتسمى أيضًا: "غير المقصودة"، وهي التي شرحناها.
وثانيهما: "المقصودة مباشرة"؛ وهي المخالفة للسالفة.
__________
1 يقول ابن مالك:
ومصدر منكر حالًا يقع ... بكثرة؛ كبغتة زيد طلع-6
وسيعاد هذا البيت لمناسبة اخرى في ص 376.
2 يرى كثير من النحاة أن هذه مؤولة بالمشتق أيضًا، وأنه لا وجود لحال جامدة لا تؤول بالمشتق كما سبق في رقم 3 من هامش ص 366، والخلاف شكلي لا أثر له.
3 شبه المشتق "أو: شبه الوصف" هو الظرف والجار مع مجروره، وإنما كان شبه الجملة شبيها بالمشتق لإمكان تعلق كل منهما بمحذوف مشتق، تقديره: كائن، أو: موجود، أو: حاصل ... ولأن الضمير قد انتقل من المشتق بعد حذفه إلى شبه الجملة "كما سيجيء البيان في رقم 1 من هامش ص 282، وفي هامش ص 448 م 89".
ويلحق بشبه المشتق هنا ما يسمونه "المؤول بالمشتق" يريدون به: الاسم المختوم بياء النسب كعربي، ومصري و ... إذ يؤولونه بالمنصوب إلى العرب، وإلى مصر ... ، ومن أمثلته هنا قوله تعالى عن القرآن الكريم: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ... ، فكلمه: "قرآنًا" حال، و"عربيًا" صفة لها.(2/373)
ب– أن تكون دالة على شيء له سعر؛ نحو: اشتريت الأرض قيراطًا بألف قرش، وبعتها قصبة بدينار رضيت بالعسل رطلًا بعشرة قروش، وبعته أقة بثلاثين
... فالكلمات؛ "قيراطًا، قصبة، رطلًا، أقة" حال جامدة، وهي من الأشياء التي تسعر؛ كالمكيلات، والموزونات، والمساحات ...
جـ– أن تكون دالة على عدد؛ نحو: اكتمل العمل عشرين يومًا، وتم عدد العاملين فيه ثلاثين عاملًا، فكلمة: "عشرين" و"ثلاثين"، ... حال.
د– أن تكون إحدى حالين ينصبهما "أفعل التفصيل"، متحدتين في مدلولهما، وتدل على أن صاحبها في طور من أطواره مفضل1 على نفسه أو على غيره، في الحال الأخرى، نحو: هذا الخادم شبابًا أنشط منه كهولة، فللخادم أطوار مختلفة؛ منها طور الشباب، وطور الكهولة، وهو في طور الشباب مفضل على نفسه في طور الكهولة، وناحية التفضيل هي: النشاط.
ومثل: الشتاء بردًا أشد منه دفئًا، فللشتاء أطوار، منها طور البرودة، وطور الدفء، وهو في ناحية البرد أشد منه في ناحية الدفء، ومثل: الحقل قصبًا أنفع منه قمحًا.
ومن الأمثلة للمفضل على غيره: الولد غلامًا أقوى من الفتاة غلامة2 المنزل سكنًا أحسن من الفندق إقامة ...
وكلتا الحالين في جميع ما تقدم منصوبة بأفعل التفضيل، والأكثر أن تتقدم إحداهما عليه، وهي المفضلة، وتتأخر الثانية 3.
هـ- أن تكون نوعًا من أنواع صاحبها المتعددة؛ نحو: هذه أموالك4 بيوتًا؛ فكلمة: "بيوتًا" حال، وصاحبها وهو: أموال له أنواع متعددة
__________
1 ليس المراد بالتفضيل: الحسن، أو عدم العيب، أو قلته ... وإنما المراد: الزيادة في الشيء مطلقًا؛ حسنًا: وقبحًا، كما سيجيء في باب التفضيل، جـ3.
2 مؤنث غلام.
3 كما يجيء في رقم 2 من هامش 381، وفي "د" من ص 384، ثم انظر الملاحظة التي في ص 385؛ حيث يجوز تأخرهما.
4 المال: كل شيء يمكن امتلاكه، من عقار، ونقود، وغيرهما.(2/374)
"منها: البيوت، والزروع والمتاجر، والثياب ... "، ونحو: هذه ثروتك كتبًا، وهذه كتبك هندسية ...
و– أن يكون صاحبها نوعًا معينًا وهي فرع منه؛ نحو، رغبت في الذهب خاتمًا، انتفعت بالفضة سوارًا، تمتعت بالحرير قميصًا ... و ... فكل من الذهب؛ والفضة، والحرير، نوع، والحال فرع منه1.
ز– أن كون هي النوع وصاحبها هو الفرع المعين؛ نحو: رغبت في الخاتم ذهبًا انتفعت بالسوار فضة، تمتعت بالقميص حريرًا 2 ...
الثالث: انقسامها من ناحية التنكير والتعريف:
لا تكون الحال إلا نكرة 3، كالأمثلة السالفة، وقد وردت معرفة في ألفاظ مسموعة لا يقاس عليها، ولا يجوز الزيادة فيها، ومنها كلمة "وحد" في قولهم: جاء الضيف وحده سايرت الزميل وحده، فكلمة: "وحد" حال، معرفة؛ بسبب إضافتها للضمير؛ وهي جامدة مؤولة بمشتق من معناها، أي: منفردًا، أو متوحدًا 4.
__________
1 ضابط هذا القسم: أن يكون الفرع جزءًا من أصله، وحين يتفرع منه يكتسب اسمًا جديدًا، وهذا الاسم الجديد لا يمنع من إطلاق اسم الأصل عليه.
2 وفي الحال الجامدة يقول ابن مالك:
ويكثر الجمود في سعر، وفي ... مبدي تأول بلا تكلف-3
أي: في الأشياء التي تسعر، وفي كل ما يظهر قبول التأويل السهل:
كبعه مدًا بكذا، يدًا بيد ... وكر زيدًا أسدًا، أي: كأسد-4
المد: مكيال يختلف باختلاف الجهات: فهو في بضعها مقدار وطل وثلث، وفي بعض آخر مقدار رطلين ... و ... وقد يكون ملء الكفين المعتدلتين مع امتدادهما.
3 أو ما هو بمنزلة النكرة، كالجملة الواقعة حالًا؛ لما رددناه من أن الجملة نكرة أو بمنزلة النكرة، راجع رقم 4 من هامش ص 394.
4 كلمة: "وحد" ملازمة للإضافة دائمًا، ويدر الجدل حول إعرابها وإضافتها؛ أهي ملازمة للنصب دائمًا، أم تتركه إلى غيره؟ أهي مضافة للضمير وجوبًا، أم يجوز إضافتها إلى غيره؟ بيان هذا كله مسجل في "باب الإضافة" ج 3 م 94 ص 66.(2/375)
ومنها: "رجع المسافر عوده على بدئه"، فكلمة: "عود" حال، وهي معرفة، لإضافتها للضمير، ومؤولة بالمشتق، على إرادة: رجع عائدًا، أو راجعًا على بدئه، والمعنى: رجع عائدًا فورًا، أي: في الحال: أو: رجع على الطريق نفسه.
ومنها: "ادخلوا الأول فالأولى1"، أي: مترتبين، ومنها: جاء الوافدون الجماء الغفير 2، أي: جميعًا.
ومنها: قولهم في رجل أرسل إبله أو حمره الوحشية إلى الماء، مزاحمة غيرها ومعاركة: أرسلها العراك، أي: معاركة، مقاتلة3.
__________
1 انظر ما يوضح هذا في رقم 4 من هامش ص 371.
2 "الجماء": مؤنث الأجم، بمعنى: الكثير، و"الغفير": الكثير الذي يغفر وجه الأرض، أي: يغطيه بكثرته.
والغفير، في المثال صفة للجماء، مع أن كلمة: "الغفير" هنا مذكرة، والجماء مؤنثة فلم تطابق الصفة موصوفها الحقيقي، وقد تلمس النحاة لهذا تأويلات؛ منها: أن "فعيلًا" هذا وإن كان بمعنى فاعل، قد حمل على "فعيل" بمعنى "مفعول" حيث تحذف التاء منه غالبًا عند ذكر الموصوف، وهذا وأشباهه مردود. والسبب الذي لا يرد هو: أن العرب نطقوا بها هكذا من غير تعليل..
3 يقول بعض النحاة: إن الأحوال المذكورة ليست معارف؛ لأن "وحد" و"عود" ألفاظ مبهمة لا تكتسب التعريف؛ ولأن "أل" زائدة في الأحوال الباقية المبدوءة بها وهذا رأي فيه تكلف وضعف.
يقول ابن مالك:
والحال إن عرف لفظًا فاعتقد ... تنكيره معنى، كوحدك اجتهد-5
ومصدر منكر حالًا يقع ... بكثرة؛ كبغتة زيد طلع-6
وقد سبق هذا البيت في رقم 1 من هامش ص 373 لمناسبة أخرى.(2/376)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
من الألفاظ التي وقعت حالًا مع أنها معرفة بالإضافة، قولهم: تفرق المهزومون أيادي سبأ، على تأويل: متبددين، لا بقاء لهم، أو على تأويل "مثل أيادي سبأ"1، وحذف المضاف, وأقيم المضاف إليه مقامه؛ فأعرب حالًا مثله2.
ومنها: طلبت الأمر جهدي، أو طاقتي، على تأويل، جاهدًا، ومطيقًا 3.
ومنها: العدد من ثلاثة إلى عشرة، مضافًا إلى ضمير المعدود؛ نحو: مررت بالإخوان ثلاثتهم ... أو خمستهم ... أو سبعتهم ... على تأويل مثلثًا إياهم، أو مخمسًا، أو مسبعًا ...
ويجوز اتباعه لما قبله؛ فلا يعرب حالًا، وإنما يعرب توكيدًا معنويًا: بمعنى جميعهم، ويضبط لفظ العدد بما يضبط به التوكيد.
والصحيح أن هذا ليس مقصورًا على العدد المفرد؛ بل يسري على المركب؛ نحو: جاء القوم خمسة عشرهم؛ بالبناء على الفتح 4 في محل نصب، أو محل غيره على حسب حاجة الجملة.
__________
1 يلاحظ أن كلمة: "مثل" هي من الألفاظ المبهمة في أغلب استعمالاتها كما سبق في ص 302، ولهذا لا تكتسب التعريف إذا أضيفت لمعرفة.
2 سيجيء هذا في جـ 3 م 96 ص 136.
3 ستجيء الإشارة لهذه الألفاظ في باب الإضافة جـ 3 ص 24 م 93.
4 بالرغم من أن العدد المركب مبني هنا فهو مضاف للضمير، وستجيء إشارة لهذا في باب "التوكيد" جـ 3 م 116 ص 413، وكذلك في جـ 4 باب: "العدد" عند الكلام على تمييز العدد م 164 ص 379.(2/377)
الرابع: انقسامها من ناحية انها هي نفس صاحبها في المعنى أو ليست كذلك.
الغالب أنها هي نفسه؛ كالحال المشتقة في نحو: صاح المتألم صارخًا، شاهدت الطيور مبكرة ... فالصارخ في الجملة، هو المتألم، والمتألم هو الصارخ؛ والمبكرة هي الطيور، والطيور هي المبكرة.
وغير الغالب أن تكون مخالفة له، كالحال الواقعة مصدرًا صريحًا في نحو: خرج الولد جريًا، وجاء القادم بغتة، وأشباههما؛ فإن الجري ليس هو الولد، والولد ليس هو الجري، والبغتة ليست هي القادم، والقادم ليس هو البغتة، وقد سبق 1 الكلام على صحة وقوع المصدر حالًا، وهذه المخالفة لصاحبها لا تؤثر في المعنى مع القرينة.
الخامس: انقسامها بحسب تأخيرها عن صاحبها، أو تقديمها عليه، وبحسب تأخيرها عن عاملها أو تقديمها عليه إلى ثلاثة أقسام في كل2 هي: وجوب تأخيرها، ووجوب تقديمها، وجواز الأمرين.
ترتيبها مع صاحبها:
أ– يجب تأخيرها عن صاحبها إذا كانت محصورة 3، نحو قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، فلا يصح تقديم الحال وحدها؛ لأن تقديمها يفسد سلامة التركيب، ويزيل الحصر والغرض البلاغي منه،. ولو تقدمت معها "إلا" فالأحسن المنع أيضًا، مع مجاراة لنهج الصحيح الشائع.
وكذلك يجب تأخيرها إن كان صاحبها مجرورًا بالإضافة "أي: أنه مضاف إليه" 4، نحو: أعجبني شكل النجوم واضحة؛ فلا يجوز تقديم الحال: "واضحة" على صاحبها المضاف: "النجوم" لئلا تكون فاصلة بين المضاف والمضاف
__________
1 في: "هـ" من ص 371.
2 أحكام التقديم والتأخير الآتية مقصورة على الحال المؤسسة، أما المؤكدة فالرأي الأنسب عدم تقديمها.
3 سبقت الإشارة إلى الحصر ومعناه، وطريقته في الجزء الأول ص 364 م 37.
4 بشرط أن يصلح لمجيء الحال منه، وسيجيء بيان ذلك في ص 404.(2/378)
إليه، والفضل بها لا يصح، كما لا يصح في الرأي الأنسب تقديمها على المضاف، "ولا فرق في الحالين بين الإضافة المحضة وغيرها".
أما إذا كان صاحبها مجرورًا بحرف جر أصلي؛ نحو: جلست في الحديقة، ناضرة، فالأحسن الأخذ بالرأي القائل بجواز تقديمها؛ لورود أمثلة كثيرة منها في القرآن وغيره تؤيده 1، ولا داعي لتكلف التأويل والتقدير2 والتقديم، فإن كانت مجرورة بحرف جر زائد جاز التقديم؛ نحو: ما جاء متأخرًا من
__________
1 ومنها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} أي: ما أرسلناك إلا للناس كافة وقول الشاعر:
تسليت طر عنكمو بعد بينكم ... بذكراكمو حتى كأنكموا عندي
البين: الفراق: طرا: جميعًا، أي: تسليت عنكم طرا.
وبمناسبة الكلام على: "كافة" يذكر أكثر اللغويين والنحاة ألفاظًا لا تستعمل إلا منصوبة على "الحال"، ومنها: "كافة" و"قاطبة" غير أن "الصبان" سجل في باب: "الحال" جـ 3 عند الكلام على الآية السابقة استعمال "كافة" مجرورة ومضافة في كلام عمر بن الخطاب ونصه:
"قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة المسلمين لكل عام مثنى مثقال ذهبًا إبريزًا".
وعرض الصبان بعد ذلك لتفصيلات أخرى تختص بهذه الكلمة، وباستعمالها.
وعلى هامش القاموس المحيط جـ 3 مادة: "كف" نص منقول عن شرح القاموس يجيز استعمال هذه الكلمة مرونة بأل، أو مضافة، وأن رفض هذين الاستعمالين لا مسوغ له، ونص كلامه: "ما رفضوه رده الشهاب في شرح الدرة، وصحح أنه يقال، وإن كان قليلًا". ا. هـ.
أما: "قاطبة" فقد استعملها "الجاحظ" غير حال في أول رسالته التي موضوعها: "تفضيل النطق على الصمت" حيث يقول: "وإن حجته قد لزمت جميع الأنام، ودحضت حجة قاطبة أهل الأديان".
وتردد الأدباء في محاكاته، ولكن هذا التردد يزول بما جاء في كتاب: "الأمالي، للقالي" جـ 1 ص 170 طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة، فقد قال مؤلفه عند الكلام على مادة: "قطب" ومعناها ما نصه: "قال يعقوب بن السكيت: يقال: قطب، يقطب، قطوبًا، وهو قاطب ... إذا جمع ما بين عينيه، واسم ذلك الموضع: "المقطب"، ومنه قيل: الناس قاطبة، أي: الناس جمع". ا. هـ، فقد استعملها خبرًا، ومن كل ما سبق يتبين أن الكلمتين ليستا ملازمتين للحال.
2 ولا شك أن محاكاة القرآن في هذه الصيغة، وفي جميع الصيغ الواردة به جائزة بليغة، ما دامت المحاكاة تامة فليس لأحد أن يرفضها، ومن شاء تأويلها كما أول الآية فليفعل ... وفي هذه الصورة يقول ابن مالك:
وسبق حال ما بحرف جر قد ... أبوا، ولا أمنعه فقد ورد-9
أي: أن النحاة أبوا أن يوافقوا على تقديم حال صاحبها فقد جر بحرف جر "أي: أصل"، ثم أوضح رأيه الخاص قائلًا: إنه لا يوافقهم، ولا يمنع تقديم الحال وسبقها على صاحبها المجرور بالحرف؛ الأصلي؛ لأن هذا ورد في الكلام الفصيح، وإذا كان واردًا فيه بقدر كاف فكيف يمنع؟ لكنه لا يذكر التفصيل.(2/379)
أحد، وهذا بشرط أن يكون حرف الجر الزائد مما لا يمتنع حذفه، أو مما لا يقل حذفه؛ فالذي يمتنع كالباء الداخلة على صيغة: "أفعل" الخاصة بأسلوب التعجب؛ نحو: أحمل بالنجوم1 طالعة، والذي يقل كالباء في فاعل: "كفى" بمعنى: "يكفي"، مثل: كفى بالزمان مرشدًا، فإن كان حرف الجر الزائد مما يمتنع حذفه، أو يقل لم يجز تقديم الحال عليه.
وزاد بعض النحاة مواضع أخرى يمتنع فيها تقديم الحال على صاحبها، منها: أن يكون صاحبها منصوبًا بالحرف الناسخ: "كأن" أو: "ليت"، أو: "لعل" أو بفعل تعجب، أو بصلة الحرف المصدري في نحو: أعجبني أن ساعدت الفقيرة عاجزة أو أن يكون ضميرًا متصلًا بصلة "أل" نحو: الود أنت المستحقة صافيًا2.
ب– ويجب تقديمها على صاحبها إذا كان محصورًا؛ نحو: ما فاز خطيبًا إلا البليغ، ولا انتصر مدافعًا إلا الصادق.
أو كان صاحبها مضافًا إلى ضمير يعود على شيء له صلة وعلامة بالحال، نحو: جاء زائرًا هندًا أخوها، جاء منقادًا للوالد ولده.
ج– ويجوز التقديم والتأخير في غير حالتي الوجوب السالفتين، نحو دخل الصديق مبتسمًا، أو: دخل، مبتسمًا، الصديق.
ترتيبها مع عاملها3:
أ– يجب أن تتأخر عنه إن كان فعلًا جامدًا كفعل التعجب؛ نحو:
__________
1 تفصيل الكلام على هذه "الباء" في باب التعجب، ج 3 م 108، ص 279.
2 على اعتبار أن صاحب الحال: "هاء" الضمير، لا المبتدأ.
3 "ملاحظة هامة" تختص بالعامل في الحال، وفي صاحبها:
الحال منصوبة، وعامل النصب إما لفظي؛ كالمصدر، وكالفعل المشتق، وكالوصف الذي يعمل عمله، وكاسم الفعل. .. وإما معنوي كأسماء الإشارة، وألفاظ الاستفهام، وبعض الحروف والأدوات التي سيجيء ذكرها هنا، ومنها شبه الجملة، والعامل في الحال هو في أكثر الصور العامل في صاحبها فعاملها واحد، ولو اختلف نوع عمله في كل منهما، وهناك صور أخرى يختلف فيه العاملان عامل الحال، وعامل صاحبها كالحال التي صاحبها المبتدأ، حيث يكون المبتدأ هو العامل في الحال، ويكون الابتداء هو العامل في المبتدأ وكالحال التي صاحبها اسم لناسخ ... وكثرة النحاة تشترط أن يكون العامل في الحال، وفي صاحبها واحدًا في كل الصور، إلا سيبويه وفريق معه، فإنه يرفض هذا الشرط كما سبق البيان المفيد في رقم 2 من هامش ص 364 ورأيه هو الحق؛ لما سلف هناك مفصلًا، ولما يجيء في رقم 3 من هامش ص 405 حيث بيان السبب عند سيبويه.(2/380)
ما أحسن الصديق وفيًا، أو كان مشتقًا يشبه الجامد، كأفعل التفضيل1؛ نحو: أنت أفصح الناس متكلمًا 2.
أو كان عاملها مصدرًا صريحًا يمكن تقديره بأن والفعل والفاعل، نحو: من الخير إنجازك العمل سريعًا، فكلمة: "سريعًا" حال من الكاف، والعامل هو المصدر الصريح3: "إنجاز" ومن الممكن أن يحل محله مصدر مؤول من أن والفعل والفاعل فتكون الجملة: من الخير أن تنجز العمل سريعًا، ومثله أن تقول: يعجبني إنجاز الصانع عمله سريعًا؛ فكلمة: "سريعًا" حال من "الصانع"، والعامل هو: "نجاز" أيضًا.
فإن كان المصدر الصريح غير مقدر بهما جاز تقديم الحال وتأخيره؛ نحو: معتذرًا لك صفحًا عن المسيء ... أو: صفحًا عن المسيء معتذرًا لك.
أو كان العالم اسم فعل؛ نحو: نزال مسرعًا؛ أي: انزل مسرعًا؛ لأن معمول اسم الفعل لا يتقدم عليه.
__________
1 كان شبيهًا بالجامد؛ لأنه في كثير من أحواله لا يقبل علامة التأنيث، ولا علامة التثنية، أو الجمع؛ فخالف بهذا المشتقات الأصيلة؛ كاسم الفاعل، واسم المفعول، واقترب من الجامد الذي لا تتغير صورته.
2 يستثنى من أفعل التفضيل صورتان؛ إحداهما: أن يكون عاملًا في حالين لاسمين، متحدين في مسماهما، وإحداهما مفضلة على الأخرى، فالأحسن تقديم المفضلة عليه، وتأخير الأخرى عنه، نحو: هذا الأديب نائرًا أبرع منه شاعرًا. فكلمة: "أبرع" أفعل تفضيل، نصبت حالين؛ هما: "ناثرًا" و"شاعرًا" والاسمان لمسمى والصورة وإحداهما مفضلة، وهي: "ناثر" فتقدمت على العامل؛ وتأخرت الثانية.
والصورة الثانية كالسابقة؛ إلا أن الحالين لشيئين مختلفين في مسماهما، نحو؛ المتعلم منفردًا أنفع من الجاهل مستعينا بغيره.
"راجع د من ص 374 ود من ص 384، وانظر الملاحظة التي بعدها حيث يجوز تأخير الحالين معًا.
3 إذا كان العامل مصدرًا نائبًا عن فعله المحذوف وجوبًا جاز تقديم الحال، نحو: إكرامًا هندًا متعلمة، فيصح: متعلمة إكرامًا هندًا "كما في ج من ص 384"، وقد سبقت مواضع المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبا في ص 220 م 76.(2/381)
أو كان العامل معنويًا؛ "وهو الذي يتضمن معنى الفعل دون حروف الفعل كألفاظ الإشارة، والاستفهام، وأحرف التمني والتشبيه، وكشبه الجملة الظرف، أو الجار مع مجروره الواقع خبرًا، أو نعتًا كذلك"1، نحو: هذا كتابك جميلًا، فكلمة: "جميلًا" حال من الخبر: "كتاب" والعامل هو اسم الإشارة، ومعناه: أشير؛ فهو يتضمن معنى الفعل، دون أن يشتمل على حروفه.
ومثل: ليت الصانع، متعلمًا، حريص على الإتقان، فكلمة: "متعلما" حال من الصانع، والعامل "هو: ليت"، وحرف معناه: "أتمنى"، فيتضمن معي الفعل دون حروفه ...
ومثل: كأن الباخرة، واسعة، فندق كبير، ومثل: الزروع أمامك ناضرة، أو: الزروع في حديقتك، ناضرة ...
والاستفهام المقصود به التعظيم؛ نحو: يا جارتا، ما أنت، جارة؟
وهكذا كل ما يتضمن معنى الفعل دون حروفه غير ما سبق، كأدوات التنبيه، والترجي، والنداء ...
لكن بعض النحاة يستثني من العامل الذي يتضمن معنى الفعل دون حروفه، شبه الجملة بنوعيه "الظرف والجار مع مجروره"، فيجيز أن يتقدم عليها الحال أو يتأخر، نحو: "الحارس عند الباب واقفًا، و: الحارس، واقفًا، عند الباب"، نحو: القط في الحديقة قابعًا، أو: القط، قابعًا، في الحديقة، وإنما يجيز تقدم هذه الحال بشرط أن تتوسط بين مبتدأ متقدم وخبره شبه الجملة المتأخر عنه، وعن الحال معًا، ولا يصح تقدم الحال عليهما معًا، فلا يقال: "واقفًا، الحارس عند الباب، ولا قابعًا القط في الحديقة"، فإن تقدمت الحال والخبر معًا، وكانت الحال هي الأسبق جاز؛ نحو: واقفًا عند الباب الحارس، وهذا رأي مقبول2.
__________
1 لأن شبه الجملة قد يكون متعلقًا بفعل محذوف، أو بوصف محذوف، وينتقل إلى شبه الجملة الضمير الذي يكون في المتعلق بعد حذفه، وبهذا يصير شبه الجملة متضمنًا معنى الفعل، لاشتماله على المتعلق المحذوف، فوق اشتماله على ضميره "على الوجه المفصل في جـ 1 ص 346 م 35، ورقم 3 من هامش ص 373 في هذا الباب وهامش من وص 448 م 89".
2 برغم قلته بالنسبة إلى الأول "فالقلة نسبية لا تمنع القياس"، وحجة أصحابه ورود أمثلة فصيحة تكفي للحكم بقياسيته؛ منها قراءة من قرأ قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، بنصب، "مطويات" وقول الشاعر:
رهط ابن كوز محقبي أدراعهم ... فيهم، ورهط ربيعة من حذار
فكلمة: "محقبي" حال، تقدمت على عاملها شبه الجملة: "فيهم" ... والمخالفون لهذا الرأي يؤلونه بغير داع مقبول.(2/382)
ويصح عند أكثر النحاة تقديم الحال على عاملها "شبه الجملة" إن كانت هي شبه جملة أيضًا؛ نحو: الخير عندك أمامك، أو الخير في الدار أمامك ... على اعتبار الظرف "عند"، والجار مع مجروره "في الدار" حالين من الضمير المستكن في شبه الجملة بعدهما1.
أو كانت الحال مؤكدة معنى الجملة2؛ نحو: على جدك شفيقًا، وتقدير العامل: علي جدك أعرفه، "أو: أعلمه، أو: أحقه ... " شفيقًا، فعامل الحال وصاحبها "باعتباره الضمير" محذوفان وجوبًا قبل الحال.
أو كان العامل قد عرض له ما يمنع من تقدم معموله عليه، كالماضي المبدوء بلام الابتداء 3، أو بلام جواب القسم 4؛ فإن المعمول لا يتقدم على هذه اللام نحو: إني لقد تحملت، صابرًا، هفوة القريب، أو: والله لقد تحملت، صابرًا، هفوة القريب.
وكالعامل الواقع في صلة حرف مصدري مطلقًا؛ نحو: لك أن تنتقل راكبًا: أو الواقع صلة "أل"5، نحو: أنت السائق بارعًا؛ لأن معمولهما لا يتقدم عليهما في الرأي الراجح.
أو كانت الحال جملة مقترنة بالواو؛ نحو: اقر الكتاب والنفس صافية6.
__________
1 ومما يصلح مثالًا لهذا شبه الجملة "من الله" في قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} ، "راجع الصبان، وكذا حاشية الأمير على "المغني" أو المقدمة".
2 سبق الكلام عليها في ص 366، وسيجيء بمناسبة أخرى في ص 391 و396.
3 سبق الكلام عليها في ج 1 ص 497 م 53.
4 الكلام عليها سيأتي 419 في حروف القسم، باب: حروف الجر.
5 بخلاف صلة غيرها، فيجوز: من الذي راكبًا جاء، لجواز تقديم معمول الصلة عليها لا على الموصول.
6 يحسن الاقتصار على هذا الرأي، دون الرأي الذي يجيز التقديم والتأخير بتأول.(2/383)
ب– يجب أن تتقدم عليه إذا كان لها الصدارة، نحو: كيف أنقذت الغريق؟ فكلمة: "كيف" اسم على الأرجح مبني على التفح في محل نصب، حال1.
ج– يجوز الأمران في غير الحالتين السالفتين، مثل: واقفًا أنشد الشاعر القصيدة. وأشباه هذا مما يكون فيه عامل الحال فعلًا متصرفًا، أو مشتقًا يشبه الفعل المتصرف، أو مصدرًا نائبًا عن فعله المحذوف وجوبًا "كما سبقت الإشارة إليه"2، والمراد بالذي يشبه الفعل ما يتضمن معنى الفعل وحروفه، ويقبل عاملات التأنيث، والتثنية، والجمع3، فمثال الحال المتقدمة على عاملها الفعل المتصرف غير ما سبق راغبًا أقبلك على زيارتك، ومثال المتقدمة على اسم فاعل: مسرعة الطائرة مسافرة، ومثال المتقدمة على صفة مشبهة: الإنسان، قانعًا، غني، ومثال اسم المفعول: الحاكم، ظالمًا، محطم ... ومثال المتقدمة على المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبًا: متعلمة إكرامًا هندًا4.
د– إذا كان العامل هو أفعل التفضيل الذي يقتضي حالين5 إحداهما تدل على أن صاحبها في طور من أطواره أفضل من نفسه، أو غيره في الحال الأخرى، فالأحسن أن تتقدم إحداهما على أفعل التفضيل، وتتأخر الثانية كما سبق 6 نحو: الحقل قطنًا أنفع منه قمحًا الفدان عنبا أحسن منه قطنًا المتعلم تاجرًا أقدر منه زارعًا، المصباح الكهربي منفردًا أقوى من عشرات الشموع
__________
1 تقدم في ج 1 ص 462 م 39 إعراب "كيف" في صورتها المختلفة.
وأشرنا لهذا في رقم 1 من هامش ص 61، وفي 1 من هامش ص 67 و 3 من هامش ص 133.
2 في رقم 3 من هامش ص 381.
3 خرج اسم الفعل؛ فإنه قد يتضمن معنى الفعل وحروفه ولكنه غير مشتق، ولا يقبل تلك العلامات؛ كاسم الفعل: "نزال" بمعنى: انزل، وخرج أفعل التفضيل كذلك؛ لأنه مشتق، ولكن لا يقبل تلك العلامات في حالات كثيرة كما سبق في رقم 1 من هامش ص 381.
4 كما سبقت الإشارة في رقم 3 من هامش ص 381.
5 ولا مانع أن تكون الحالان أو إحداهما جامدة، غير مؤولة بالمشتق؛ طبقًا لما سبق في: "د" من ص 374 عند سرد مواضع الحال الحامدة غير المؤولة بالمشتق.
6 في "د" من ص 374، وكما في رقم 2 من هامش 381.(2/384)
مجتمعة1، ومثل قول علي -رضي الله عنه- لأنصاره، وهم يعرضون عليه الخلافة أول الأمر: "أنا لكم وزيرًا، خير لكم من أميرًا ... ".
ملاحظة:
أجاز فريق من النحاة ما يشيع اليوم في بعض الأساليب، من تأخر الحالين معًا عن أفعل التفضيل، بشرط أن تقع بعده الحال الأولى مفصولة من الثانية بالمفضل عليه؛ نحو: المتعلم أقدر تاجرًا منه زراعًا المصباح الكهربي أقوى منفردًا من عشرات الشموع مجتمعة هذه الفاكهة أطيب ناضجة منها فجة.
السادس: انقسامها بحسب التعدد الجائز والواجب وعدمه، إلى واحدة وإلى أكثر:
قد يكون الحال واحدة لواحد؛ نحو: يقف الشرطين متيقظًا، وهذه تطابق:
__________
1 وإلى مواضع تقديم الحال على عاملها، وعلى صاحبها يشير ابن مالك بإيجاز ومزج بين مواضعهما، فيقول:
والحال إن ينصب بفعل صرفا ... أو صفة أشبهت المصرفا-12
فجائز تقديمه كمسرعا ... ذ راحل، ومخلصًا زيد دعا-13
يريد: أن الحال المنصوبة بفعل متصرف أو وصف يشبه يجوز تقديمها وتأخيرها عن عاملها؛ وذكر مثالين: أحدهما لحال تقدمت على عاملها الفعل المصرف، "وهو مخلصًا زيد دعا"، والآخر لحال تقدمت على عاملها الوصف الذي يشبه الفعل المتصرف، وهو: مسرعًا ذا راحل، ثم انتقل إلى الكلام على الحال التي لا يجوز تقديمها على عاملها المعنوي فقال:
وعامل ضمن معنى الفعل لا ... حروفه مؤخرًا لن يعملا-14
كتلك، ليت، وكأن، وندر ... نحو: سعيد مستقر في هجر-15
أي: أن العامل المعنوي "وهو الذي يتضمن معنى الفعل دون حروفه"، ولا يعمل النصب إذا كان متأخرًا عن الحال، وبين أمثلة من العامل المعنوي، هي: تلك؛ ليت، كأن ... وأوضح أن تقديم الحال على عاملها المعنوي شبه الجملة نادر عنده، وضرب له مثلًا هو: سعيد مستقرًا في هجر، "بلد باليمن"، ثم تكلم على جواز تقديم أحد الحالين المنصوبين بأفعل التفضيل:
ونحو: زيد مفردًا أنفع من ... عمرو معانًا، مستجاز، لن يهن-16
مستجاز: أجازه النحاة، لن يهن: لن يضعف مثل هذا الأسلوب في نظر العارفين. النحو الوافي -ثان.(2/385)
صاحبها الحقيقي في الإفراد وفروعه، وفي التأنيث والتذكير1 نحو: هبط الطيار هادئًا، هبط الطياران هادئين، هبط الطيارون هادئين، هبطت الطيارة هادئة ... و ...
وقد تكون الحال واحدة ولكن يتعدد ما تصلح له، من غير أن توجد قرينة تعين واحدًا مما يصلح؛ نحو: قابلت الأخ راكبًا، والأنسب من هذا النوع أن تكون للأقرب، ومنع بعض النحاة هذا الأسلوب، لإبهامه، وخفاء الصاحب الحقيقي، ورأيه سديد.
والمتعددة 2 قد تكون متعددة لواحد، فتطابقه في الأمور السالفة، نحو: هبط الطيار هادئًا، مبتسمًا، لابسًا ثياب الطيران، ونزل مساعده نشيطًا مبتهجًا حاملًا بعض معداته، وخرجت المضيفة مسرعة قاصدة حجرتها ... ، ولا يجوز وجود حرف عطف بين الأحوال المتعددة ما دامت أحوالًا، فإن وجد حرف العطف صح، وكأن ما بعده معطوفًا، ولا يصح أن يعرف حالًا 3.
وقد تكون متعددة لأكثر من واحد؛ فإن كان معنى الأحوال ولفظها واحدًا وجب تثنيتها، أو جمعها على حسب أصحابها من غير نظر للعوامل، أهي متحدة في عملها وألفاظها، ومعانيها، أم غير متحدة في شيء من ذلك؟ نحو: عرفت النحل والنمل دائبين على العمل، والأصل: عرفت النحل دائبًا ... والنمل دائبًا ... والحالان متفقان لفظًا ومعنى4، وهما يبينان هيئة شيئين؛ فوجب تثبيتهما تبعًا لذلك، فرارًا من التكرار، ونحو: أبصرت في الباخرة الربان،
__________
1 كل هذا يشترط أن تكون الحال حقيقية، "وهي: الدالة لى هيئة صاحبها مباشرة؛ لا هيئة شيء آخر يتصل به.
فالدالة على هيئة صاحبها الحقيقي نحو: يقف الشرطي متيقظًا، والدالة على هيئة شيء آخر يتصل به بسبب.
وتسمى: "الحال السببية"، ولا تشترط فيها المطابقة التامة لصاحبها، وسيجيء حكمها في ص 400 نحو: يقف الشرطي مفتحة عيناه طول الليل.
2 وتسمى: المترادفة، وقد تسمى: المتداخلة، طبقًا للبيان الموضح في "أ" من ص 389.
3 كما في رقم 4 من ص 429.
4 ولا يضر الاختلاف تذكيرًا، وتأنيثًا؛ نحو قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} : سخر لكم الشمس دائبة والقمر دائبًا.(2/386)
والبحار والمهندس منهمكين في إدارتها، والأصل: أبصرت الربان منهمكًا، والبحار منهمكًا، والمهندس منهمكًا، فالحال هنا متعددة، وهي متفقة الألفاظ والمعاني، وأصحابها ثلاثة؛ فجمعت وجوبًا تبعًا لذلك، استغناء عن التكرار. ونحو: بنيت البيت وأصلحت السور جميلين، ووقفت سعاد وشاهدت أمها متكلمتين1.
هذا، والتكرار الممنوع في التثنية والجمع هو تعدد الأحوال متوالية، كل واحدة وراء الأخرى مباشرة 2، أما وقوع كل واحدة بعد صاحبها مباشرة، فليس بممنوع، وإن تعددت لمتعدد وكانت مختلفة الألفاظ والمعاني وجب التفريق بغير عطف؛ بحيث تكون كل حال بعد صاحبها مباشرة، وهو الأحسن؛ منعًا للغموض، ويجوز تأخير الأحوال المتعددة كلها وتكون الأولى منا للاسم الأخير 4 والحال الثانية للاسم الذي قبله 2، والحال الثالثة للاسم الذي قبل هذا3 ... وهكذا ترتب الأحوال مع أصحابها ترتيبًا عكسيًا، فأول الأحوال لآخر الأصحاب، وثاني الأحوال للصاحب الذي قبل الأخير ... ومراعاة هذا واجبة. إلا إن قامت قرينة تدل على غيره، فمثال مراعاة الترتيب السابق: كنت أسوق السيارة فأبصرت زميلي في سيارته قاصدًا الريف، مقبلًا من الريف، فكلمة: "قاصدًا" حال من "زميل" بإعطاء أول الحالين لآخر الاسمين، وكلمة: "مقبلًا" حال من التاء في: "أبصرت"، بإعطاء ثاني الحالين للاسم الذي قبل السابق ... و ... ومثال مخالفة هذا الترتيب لقرينة تدعو للمخالفة: لقي الترجمان جماعة السياح باحثًا عنهم، سائله عنه، فكلمة: "باحثًا" حال من: "الترجمان"، وكلمة: "سائلة" حال من "جماعة" ولو روعي الترتيب هنا لاختلت المطابقة الواجبة بين الحال وصاحبها في التذكير والتأنيث، فالذي ربط بين الحال وصاحبها، وعين لكل حال صاحبها هو قرينة التذكير فيهما معًا، أو التأنيث فيهما معًا، ومثل: حدث المحاضر طلابه وافقًا جالسين؛ فكلمة: "واقفا" حال من: "المحاضر"
__________
1 من الكلام النظري المحض ما يقوله النحاة: "إن العامل في الحال عند تعدد العامل هو مجموع العوامل، لا كل واحد مستقلًا، لئلا يجتمع عاملان على معمول واحد! ! وانظر "أ" "من" 389، ولا فائدة من تناسي الأمر الواقع من غير داع؛ فالواقع أن كل عامل قد اشترك في العمل برغم ما سبق.
2و 2 فلا يصح: أبصرت المسافرة في الباخرة الريان، والبحار، والمندس منهمكًا، منهمكًا، منهمكًا.
3و3 وهو صاحبها.(2/387)
و"جالسين" حال من: "الطلاب"، ولم يراع الترتيب؛ لأن اللبس مأمون؛ سبب وجود المطابقة التي تقضي بأن يكون صاحب المال المفردة مفردًا، وصاحب الحال المجموعة جمعًا1.
والجدير في هذه المسألة وفي غيرها الاعتماد على القرينة؛ فلها الاعتبار الأول دائمًا.
وإذا وقعت الحال بعد: "إما" التي للتفصيل، أو بعد: "لا" النافية وجب تعدد الحال، نحو قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ، ونحو: يقفز الطيار؛ لا خائفًا، ولا مترددًا، أما في غير هذين الموضعين، فالتعدد جائز على حسب الدواعي المعنوية.
__________
1 اقتصر ابن مالك الكلام في الحال المتعددة على البيت الآتي:
والحال قد يجيء ذا تعدد ... لمفرد فاعلم وغير مفرد-17(2/388)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– إذا تعددت الحال لواحد سميت: "مترادفة"؛ أي: متوالية، "تتلو الواحدة الأخرى"، ويجوز أن تكون الحال الثانية حالًا من الضمير المستتر في الأولى؛ وعندئذ تسمى الثانية: "متداخلة"، وهذا يجري فيكل حال متعددة، فيجوز أن تكون حالًا من ضمير التي قبلها مباشرة.
ويمنع جماعة من النحاة ترادف الحالين؛ بزعم أن العامل الواحد لا ينصب إلا حالًا واحدة، وله حجة جدلية مردودة؛ لأنها من نوع الجدليات التي تسيء إلى النحو من غير أن تفيده1.
ب– عرفنا أن يجوز أن تتعدد الحال من غير أن يتعدد صاحبها؛ نحو: مشيت بين الرياحين هانئًا، مستنشقًا أريجها، متمليًا جمالها ... ،
ولكن لا يجوز أن تتعارض الأحوال، فلا يقال: حضر القطار سريعًا بطيئًا، ولا وقف الحارس متيقظًا غافلًا، نعم يجوز هذا عند إرادة الوصول إلى معنى واحد يؤخذ من الحالين معًا، ولا يؤديه أحدهما دون الآخر؛ نحو: أكلت الطعام ساخنًا باردًا، أي: معتدلًا في حرارته، ونحو: ركبت السيارة مسرعة بطيئة؛ أي: متوسطة في سرعتها، ومثل: لا تأكل الفاكهة ناضجة فجة، أي: متوسطة النضج، ونحو: اترك الطعام ممتلئًا جائعًا، أي: متوسطًا في الشبع، ونحو: تخير ثيابك واسعة ضيقة، أي: معتدلة السعة، وهكذا.
بالرغم من أن المعنى المقصود لا يتحقق إلا من اللفظين معًا، فإن الإعراب يقتضي أن يكون كل لفظ منهما حالًا.
__________
1 انظر رقم 1 من هامش ص 387.(2/389)
السابع: انقسامها بحسب الزمان إلى: مقارنة، ومقدرة 1 "مستقبلة" ...
فالمقارنة هي التي يتحقق معناها في زمن تحقق معنى عاملها، وحصول مضمونه؛ بحيث لا يتخلف وقوع معنى أحدهما عن الآخر، نحو: "أقبل البريء فرحًا، هذا يسوق السيارة الآن محترسًا" فزمن الفرح، والاحتراس، وهو زمن وقوع معنى الفعلين: أقبل، يسوق ... 2.
والمقدرة، أو المستقبلة3: هي التي يتحقق معناها بعد وقوع معنى عاملها، أي: بعد تحقق معناه بزمن يطول أو يقصر؛ فحصول معنى الحال هنا متأخر عن حصول مضمون عاملها؛ نحو: سيسافر بعض الطلاب غدًا إلى البلاد الغربية؛ موزعين فيها، متدربين في مصانعها، ثم يعودون عاملين في مصانعنا؛ فزمن التوزع والتدرب متأخر عن السفر، الذي هو زمن حصول العامل، ومستقبل بالنسبة له، وكذلك العمل متأخر عن العودة.
وكقوله تعالى في الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ، فكلمة "شاكرًا" حال، وزمن وقوعه متأخر حتمًا عن زمن عامله "وهو الفعل: هدى"، وكلمة: "كفورًا" معطوف عليه، وهو حال مثله، وكذلك قوله تعالى للصالحين أهل الجنة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فكل من الأمن والخلود متأخر في زمنه عن زمن الدخول لا محالة ... 4
__________
1 سيجيء في رقم 4 من هذا الهامش نوع ثالث يذكره، بعض النحاة، ويعارض فيه آخرون.
2 ومن أمثلة الحال "المقارنة"، والتي هي جملة، قول الشاعر يصف من نال الولاية ثم تركته:
تولاها وليس له عدو ... وغادرها وليس له صديق
فالزمن الذي خلا من الأعداء هو نفسه زمن التولي، والزمن الذي خلا من الأصدقاء هو نفسه زمن المغادرة.
3 وهي التي أشرنا إليها في رقم 3 من ص 364.
4 أما النوع الثالث الذي يسميه بعض النحاة: "الحال المحكية"، فحال وقع معناها وتحقق قبل النطق بها؛ نحو: نزل المطر أمس فياضًا، واندفع في طريقه جارفًا، وقد عارض بحق كثرة النحاة في هذا القسم وفي أمثلته بحجة قوية؛ هي أن العبرة إنما تكون بمقارنة الحال وقت تحقق معناها وحين وقوعها ووجودها لزمن العامل وتحقق معناه؛ كالتي هنا، وليست لزمن المتكلم، هذا إلى أن الأمثلة المعروضة "وأشباهها"، وقد جاءت فيها "الأحوال" مشتقات نوعها اسم فاعل، واسم الفاعل حقيقة في الزمن الحالي، عند عدم القرينة التي توجهه
لزمن غير الحال، فالتعبير به عن الماضي، يعتبر مجازًا ويسمى: "حكاية حال ماضية".
وهذه الحجة صحيحة، وبرغم صحتها لا أهمية للخلاف؛ لأن الغرض المطلوب هو الحكم على مثل تلك "الأحوال" بالصحة والبعد عن الخطأ، وقد ثبت أن ذلك الاستعمال صحيح والأسلوب سليم، فلا أهمية بعد ذلك لأن يمكن الاستعمال الصحيح حقيقًا أو مجازيًا، وإن كانت قلة الأقسام من غير ضرر أمرًا محمودًا.(2/390)
والحال المقارنة أكثر استعمالًا وورودًا في الكلام، ولا تحتاج إلى قرينة كالتي يحتاج إليها غيرها.
الثامن: انقسامها بحسب التأسيس والتأكيد على مؤسسة ومؤكده، فالمؤسسة، وتسمى المبينة1: هي التي تفيد معنى جديدًا لا يستفاد من الكلام إلا بذكرها، نحو: وقف الأسد في قفصه غاضبًا، ثم هدأ حين رأى حارسه مقبلًا"، فكلمة، "غاضبًا" حال مؤسسة: لأنها أفادت الجملة معنى جديدًا لا يفهم عند حذفها. وكذلك كلمة: "مقبلًا" وأشباههما من الأحوال التي لا يستفاد معناها من سياق الكلام بدون ذكرها.
والمؤكدة: هي التي لا تفيد معنى جديدًا, وإنما تقوي معنى تحتويه الجملة قبل مجيء الحال 2، ولو حذفت الحال لفهم معناها مما بقي من الجملة، نحو: لا تظلم الناس باغيًا، ولا تتكبر عليهم مستعليًا، "فالبغي"هو الظلم، و"الاستعلاء" هو الكبر، ولو حذف كل من الحالين في المثال "وهما يؤكدان عاملهما" ما نقص المعنى، ولا تغير، ولفهم معناها من بقية الكلام، ومثلهما باقي الأحوال التي يستفاد معناها بغير وجودها.
وقد سبق في مناسبة أخرى 3 الإشارة إلى المؤكدة، وأنها قد تكون مؤكدة لمضمون الجملة؛ نحو: خليل أبوك عطوفًا، أو مؤكدة لعاملها لفظًا ومعنى؛ نحو: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} ، أو معنى فقط: نحو: {.... وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً....} ؛ لأن البعث يقتضي الحياة، أو مؤكدة لصاحبها؛ نحو قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ، فكلمة: "جميعًا" حال من الفاعل "من"، وهذا الفاعل اسم موصول يفيد العموم، والحال هنا تفيد العموم، وهي مؤكدة له.
__________
1 لأنها تبين هيئة صاحبها أما المؤكدة، فلا تبين هيئة كما في ص 366 و 367.
2 سواء أكان المعنى الذي تؤكده هو معنى عاملها أم معنى صاحبها، أم معنى الجملة التي قبلها كما سبق في ص 367 وما بعدها، وله إشارة في ص 396.
3 ص 367 وما بعدها.(2/391)
وأشرنا هناك إلى أن الجملة التي تؤكد الحال مضمونها لا بد أن تكون جملة اسمية، طرفاها معرفتان، جامدتان1؛ ولا بد أن تتأخر الحال عنهما معًا، وعن عاملها أيضًا، وأن العامل في هذه الحال محذوف وجوبًا، وكذلك صاحبها. ففي المثال السابق: "خليل أبوك عطوفًا"، يكون التقدير: أحقه، أو: أعرفه، أعلمه، أو نحو ذلك، وهذا التقدير حين يكون المبتدأ كلمة غير ضمير المتكلم، فإن كان ضميرًا للمتكلم وجب اختيار الفعل أو العامل المقدر مناسبًا له، أي: أحقني أعرفني أعلم أني ... ولا بد أن تكون هذه الحال متأخرة عنه أيضًا.
أما الغرض2 من التوكيد بالحال فقد يكون بيان اليقين، نحو: أنت الرجل معلومًا، أو الفخر، نحو: أنا فلان بطلًا، أو التعظيم؛ نحو: أنت العالم مهيبًا، أو: التحقير: نحو: هو الجاني مقهورًا؛ أو: التصاغر، نحو: رب أنا عبدك فقيرًا إليك؛ أو التهديد والوعيد، نحو: فلان قاهر للأبطال قادرًا على الفتك بك 3 ...
التاسع: انقسامها بحسب الإفراد وعدمه إلى: مفردة، وجملة، وشبه جملة، ثم الكلام على ما تحتاج إليه الجملة الحالية من رابط.
__________
1 إذا كان في الجملة فعل أو ما يعمل عمله كان عاملًا في الحال: فلا يعتبر العامل مضمرًا، ولا تكون الحال مؤكدة لمضمون الجملة، وقد قلنا في رقم 3 من هامش 366: إن بعض النحاة اشترط الجمود المحض؛ ليخرج: هو الأسد مقدامًا؛ فإنها مؤكدة لعاملها؛ وهو: "الأسد"، لتأوله بالشجاع وليست مؤكدة لمضمون الجملة؛ لأن هذه الحال ليست جامدة محضة، كما يشترط، وقد آثرنا هناك إهمال رأيه، والأخذ بالرأي الذي يكتفي بمجرد الجمود للأسباب التي أوضحناها.
2 يتبين هذا الغرض بالقرائن المتضمة للكلام.
3 فيما سبق يقول ابن مالك:
وعامل الحال بها قد أكدا ... في نحو: لا تعث في الأرض مفسدا-18
"بها": أي: الحال، ثم قال في الحال المؤكدة لمضمون الجملة:
وإن تؤكد جملة فمضمر ... عاملها ولفظها يؤخر-19
أي: أن العامل مضمر "أي: محذوف" إذا كانت الحال مؤكدة للجملة، وأن لفظ الحال يؤخر وجوبًا عن الجملة، وعن عاملها المحذوف، وهو صاحبها.(2/392)
أ– فالمفردة: ما ليست جملة ولا شبهها، نحو: أشرب الماء صافيًا 1 سر في الطريق حذرًا 2، ... ومثل كلمة: "جاهدًا" في قول الشاعر:
ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة ... يجدها، ولا يسلم له الدهر صاحب
ب– وشبه الجملة هو: "الظرف، والجار مع مجروره"، نحو: كنت في الطائرة فأبصرت البيوت الكبيرة فوق الأرض صغيرة، والسفن الضخمة بين الأمواج محتجبة إن دار الآثار في القاهرة مليئة بالنفائس تشكلت الثلوج على الغصون أشكالًا بديعة ...
ولا بد في شبه الجملة أن يكون تامًا؛ أي: مفيدًا، وإفادته قد تكون بالإضافة، أو بالنعت، أو بالعدد، أو بغير ذلك مما يكون مناسبًا له، ويجعله مقيدًا على الوجه الذي تكرر شرحه من قبل3 فلا يصح: هذا إبراهيم عنك، ولا هذا إبراهيم اليوم ...
__________
1 ومن الحال المفردة بعض ألفاظ مركبة تركيب مزج سماعًا، "فلا يجوز القياس عليها"، وهي ألفاظ وردت عن العرب مركبة مزجًا، ومبنية: على الأصح على فتح الجزأين في محل نصب، باعتبارها حالًا، ومها: هرب الأعداء شغر بغر، أي: متفرقين، وكذلك شذر مذر، بمعنى: متفرقين أيضًا، ومثل: تركت الصحراء حيث بيث، أي: مبحوثًا عن أهلها، مطلوبًا إخراجهم منها ومثل: فلان جاري بيث بيث، أي: مقاربًا، أو ملاصقًا ومثل: لاقيتهم كفية كفية، أي: مواجهًا.... وهكذا ...
ويلاحظ أن الجزء الثاني، في كثير من تلك المركبات ونظائرها مثل: بغر، مذر، بيث، إلخ، هو في الرأي الأقوى مجرد لفظ عرضي، أي: صوت ليس له معنى مستقل، ولا كيان ذاتي يستقل به عن الكلمة التي يتبعها، ولا يجلب زيادة معنى. ولا يوصف وحده بإعراب ولا بناء ... كما سيجيء بالتفصيل في باب النعت ج 3 م 114 ص 452، وإنما يجيء عرضًا بعد الأول، ولهذا يذكر في إعرابه في الصور التي ليست حالًا مركبة أنه "تبع للأول"؛ فهو مفرد وجمعه: "الأتباع" "بفتح الهمزة"، وليس من التوابع الأربعة المشهورة "النعت، التوكيد، العطف، البدل"، ولا يعرب أعرابها ما لم يؤد معنى جديدًا، وإنما يكتفى في إعرابه بأن يقال في غير تلك الصور الحالية المركبة إنه: "تبع للأول"، أو إنه من: "الأتباع"؛ فمثله مثل الثاني من قولهم: "محمد حسن بسن" و"اللص شيطان نيطان" أو عفريت نعفريت ... ولا شيء في هذه الثواني، وأشباهها داخل "في التوابع الأربعة المذكورة؛ لأنه لا يأتي بمعنى من معانيها، هذا، وتفصيل الكلام على المركب المزجي في جـ 1 م 23 باب أقسام العلم.
2 قد يجب اقتران الحال المفردة "بالفاء" أو: "ثم" العاطفتين في صورة واحدة هي الصورة الثالثة التي تجيء في ص 410، والكوفيون يجيزون: "واو العطف" أيضًا كما سيجيء.
3 في باب الموصول "جـ 1 ص 347 م 27"، والمبتدأ والخبر "جـ 1 ص 431 م 35، وجـ 2 م 68 ص 155 و 177"، وفي المواضع السالفة بيان عن شبه الجملة من ناحية تعلقه.(2/393)
وإذا كانت الحال جملة وستأتي أو شبه جملة، فلا بد أن يكون صاحبها معرفة1 محضة؛ "أي: معرفة لفظًا ومعنى"؛ مثل: وقف جاري يكلمني، فإن لم يكن معرفة خالصة؛ بأن كان معرفة في اللفظ دون المعنى؛ كالمبدوء "بأل الجنسية"، أو كان نكرة مختصة، بسبب نعت أو غيره2، جاز في الجملة وشبهها أن تكون حالًا، وأن تكون نعتًا؛ نحو: أعرف الطائرات تفوق غيرها في السرعة. وقد عرفنا طائرات سريعة تطوف بالكرة الأرضية في دقائق3 ... ونحو: في الجو تهدر الطائرات كقصف الرعود ... وهذه طائرة كبيرة أمامنا تهدر كالرعد.
ج– والجملة4 قد تكون اسمية أو فعلية؛ نحو: لازمت البيت والمطر هاطل5 لازمت البيت، وقد هطل المطر6 ... وقد اجتمعت الجملتان في قول الشاعر:
__________
1 يصح أن يكون صاحب الحال نكرة في بضعة مواضع تجيء في ص 402. عند الكلام عليه.
2 كما سيجيء البيان في رقم 1 من هامش ص 403، وقد سبق بيان النكرة المحضة وغير المحضة بإسهاب، وكذا المعرفة بنوعيها في الجزء الأول، باب النكرة والمعرفة، ص 194 م 17 ويجيء في الجزء الثالث باب النعت م 114 ص 460 إشارة له أيضًا.
3 ومثل قول الشاعر:
لنا في الدهر آمال طوال ... نرجيها، وأعمال قصار
4 إذا وقعت الجملة حالًا، فإنها تسمى جملة باعتبار أصلها السابق قبل الحالية حين كانت تؤدي فيه معنى مفيدًا مستقلًا، أما بعد وقوعها حالًا، فإنها تؤدي معنى غير مستقل، وهي لذلك لا تسمى جملة ولا كلامًا، شأنها في هذا كشأن الجملة الواقعة خبرًا ونعتًا وغيرها؛ طبقًا للبيان الشامل الذي سبق في ج 1 هامش ص 15 م 1، وفي رقم 3 من هامش ص 377 م 27.
وإذا وقعت الجملة حالًا أو نعتًا أو موقعًا إعرابيًا آخر، فهي نكرة، وقيل: في حكم النكرة، كما سبق في رقم 3 من هامش ص 375 وقد تردد هذا في كثير من المراجع النحوية، ومنها حاشية ياسين على شرح التوضيح أول باب النكرة والمعرفة حيث قال: "وأما الجمل والأفعال فليست نكرات، وإن حكم لها بحكم النكرات، وما يوجد في عبارة بعضهم أنها نكرات فهو تجوز.
وهذا الخلاف لا أهمية له؛ إذ الأهمية في أنها تقع في كل موقع لا يصلح فيه إلا النكرة، كوقوعها خبر "لا" النافية للجنس، ونعتًا للنكرة المحضة.
5 ومن أمثلة الاسمية أيضًا قول الشاعر:
عش عزيزًا، أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا، وخفق البنود
وقولهم: من صحب الأشرار وهو يعلم حالهم كان شقاؤه من نفسه.
6 ومن أمثلة الفعلية أيضًا ما تضمنه الشطر الثاني من قول شاعرهم:
العلم يدرك أقوامًا فيقذهم ... كالغيث يدرك عيدانًا فيحييها(2/394)
كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى، أسود يتبسم
ويشترط في الجملة الواقعة حالًا أن تكون خبرية، غير تعجبية "وعلى القول بأن الجملة التعجبية خبرية، فلا تصح الإنشائية بنوعيها1 الطلبي، وغير الطلبي، وأن تكون مجردة من علامة تدل على الاستقبال2كالسين وسوف، ولن، وأداة الشرط.... و.... وأن تكون مشتملة على رابط يربطها بصاحبها ليكون المعنى متصلًا بين الجملتين؛ فيحقق الغرض من مجيء الحال جملة، ولولا الرابط3 2لكانت الجملتان منفصلتين لا صلة بينهما، والكلام مفككًا4.
والرابط قد يكون واوًا مجردة تسمى: واو5 الحال، نحو: احترست من الشمس والحرارة شديدة، وقد يكون الضمير6 وحده؛ نحو: تركت البحر أمواجه
__________
1 سبق توضيح المراد من الجملة الإنشائية ملخصًا في رقم 4 من هامش ص 220، وفي ج 1 ص 268 م 72.
2 في هذا الشرط وفي تعليله خلاف، وجدل كلامي ... أما مثل: لأمدحن المخلص؛ إن حضر وإن غاب حيث وقعت الجملة الشرطية حالًا مع أنها إنشائية، ومشتملة على علامة استقبال؛ وهي حرف الشرط: "إن" فالمسوغ عندهم أنها شرطية لفظًا لا معنى: إذ التقدير: لأمدحته على كل حال.
ونشير إلى ما جاء في "المغني"، و"الهمع" خاصًا بأن: "لا" النافية تخلص المضارع للاستقبال إذا سبقته، خلافًا لابن مالك ومن معه محتجًا بإجماع النحاة على صحة "جاء محمد لا يتكلم" مع الإجماع أيضًا على أن الجملة الحالية لا تصدر بعلامة استقبال.
وتقول: الرأي الأنسب هو أن "لا" تخلصه للاستقبال عند عدم قرينة تمنع، وقد سجلنا كلام المغني والهمع في ج 1 م 4 ص 56.
3 وقد يكون الرابط محذوفًا، كما سيجيء في ص 441.
4 يقول ابن مالك في الحال التي تقع جملة من غير تفصيل لأنواعها، ولا بيان لشروطها الكاملة:
وموضع الحال تجيء جمله ... كجاء زيد، وهو نار رحله-20
أي: تجيء الجملة موضع الحال المفردة؛ بمعنى أنها تكون حالًا مثلها مع اختلافهما نوعًا وعرض لها مثالًا جملة اسمية في قوله: "وهو ناو رحلة".
5 وهي في الوقت نفسه للاستئناف؛ لوجوب دخولها على جملة، كما أنها تفيد الاقتران والمعية، ولكنها لا تسمى اصطلاحًا واو معية انظر رقم 1 من هامش ص 306، ومن الأمثلة لذلك أيضًا البيت التالي الذى وصفوه بأنه أبلغ بيت في الوفاء وكتمان السر، وهو:
لأخرجن من الدنيا وسركمو ... بين الجوانح لم يعلم به أحد
6 إذا كان المبتدأ ضميرًا للمتكلم، والحال جملة فعلية ربطها الضمير جاز في الضمير الرابط أن يكون للمتكلم أو للغائب؛ نحو: أنا الصادق أحب الحق، أو بحب الحق، وكذلك إن كان المبتدأ ضميرًا للمخاطب جاز في الضمير الرابط أن يكون للمخاطب أو للغائب؛ نحو: أنت الصادق تحب الحق، أو يحب الحق، ومراعاة التكلم والخطاب أحسن في الصورتين؟
"كما سبق في ج 1 م 35 ص 245 هامشها.(2/395)
عنيفة، وقد يكون الواو والضمير معًا، نحو: لا أكل الطعام وأنا شبعان، ولا أشرب الماء وهو غير نقي، وكقول الشاعر:
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيًا وهو مجهود
.............................1 ... ...............................
وقد يستغنى عن الرابط أحيانًا كما سيجيء2.
لكن هناك موضعان تجب فيهما الواو، ومواضع أخرى تمتنع؛ فتجب الواو في الجملة الحالية الخالية من الضمير لفظًا وتقديرًا3؛ نحو: تيقظت وما طلعت الشمس، وفي الجملة
المضارعية المثبتة، المسبوقة بالحرف: "قد؛ نحو قوله تعالى: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} .
والمواضع التي تمتنع فيها الواو هي:
1- أن تكون جملة الحال اسمية واقعة بعد عاطف يعطفها على حال قبلها، نحو: سيجيء المتسابقون مشاة، أو هم راكبون 4السيارات؛ فلا يصح أن يكون الرابط هنا واو الحال؛ لوجود حرف العطف: "أو" وواو الحال لا تلاقي حرف عطف.
2- أن تكون جملة الحال مؤكدة لمضمون جملة قبلها5؛ كالقول عن القرآن هو الحق لا شك فيه، وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} ، وليس من اللازم أن تكون جملة الحال المؤكدة اسمية، فقد تكون فعلية أيضًا؛ نحو: هو الحق لا يشك فيه أحد ...
__________
1 وقول الآخر:
يخفي العداوة وهي خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح
2 في ص 411.
3 ذلك أن الضمير قد يجوز حذفه لفظًا لا تقديرًا إذا عرف من السياق كما سيجيء في "د" ص 411 نحو: ارتفع سعر القمح؛ كعيلة بخمسين قرشًا. أي: كيلة منه.
4 الأحسن في إعراب مثل هذا المثال: أن تكون: "أو" حرف عطف، والجملة بعدها في محل نصب حال، وهذه الحال المنصوبة معطوفة على "مشاة".
5 سبق تفصيل الكلام عليها في ص 366 و 383 و 391 و 396.(2/396)
أما المؤكدة لعاملها فقد تقترن بالواو؛ نحو: قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} .
3– الجملة الفعلية الماضوية بعد "إلا" التي تفيد الإيجاب "أي: المسبوقة بكلام غير موجب فيكون المعنى بعدها موجبًا؛ نحو: ما تكلم العظيم إلا قال حقًا. ويرى بعض النحاة: أنه يجوز في هذا الموضع الربط بالواو، محتجًا بأمثلة فصيحة متعددة1، وحجته مقبولة، ولكن من يريد الاقتصار على الأعم الأفصح لا يساير هذا الرأي، ويجيز بعض آخر صحة الربط بالواو بشرط أن تقع بعدها "قد" مباشرة2، وهذا رأي حسن وفيه تيسير.
4– الجملة الماضوية المعطوفة على حال، بالحرف العاطف: "أو"؛ نحو: أخلص للصديق؛ حضر3 أو غاب.
__________
1 منها قول الشاعر:
نعم امرأ هرم؛ لم تعر نائبة ... إلا وكان لمرتاع بها وزرًا
وهنا قال الخضري ما نصه: "وشذ قول الشاعر: نعم امرأ هرم ... إلخ ... وقيل: غير شاذ". ا. هـ، كلام الخضري.
وجاء في الأشموني ما نصه: "وذهب بعضهم إلى جواز اقترانه بالواو تمسكًا بقوله:
نعم امرأ هرم ... إلخ. وحكم الأول "أي: الفريق صاحب الرأي الأول بشذوذه. ا. هـ.
وجاء في التصريح ما نصه عند الكلام على الصور التي تمتنع فيها "واو الحال": الثالثة؛ الماضي التالي "إلا" الإيجابية؛ نحو: "ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون"، فجملة: "كانوا به يستهزئون" حال من الهاء والميم في: "يأتيهم" ولا تقترن بالواو عند ابن مالك.
وصرح شارح "اللب" بجواز الواو وتركها فيما إذا كان الماضي تاليًا "إلا كقول الشاعر: نعم امرأ هرم ... ". ا. هـ.
وجاء في الحاشية ما نصه، "قوله: بجواز الواو وتركها ... جوازها هو القياس على جوازها مع الأمية الواقعة بعد "إلا"؛ نحو: "وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم". ا. هـ.
ملاحظة: الجملة الواقعة بعد "إلا" في هذه الآية الكريمة "نعت"، والواو التي في صدرها هي واو زائدة تلتصق بأول الجملة النعتية لتقوى دلالتها على النعت، وتزيد التصاقها بالمنعوت، ويسمونها لذلك "واو اللصوق" طبقًا للبيان الخاص بها المعروض في مكانه الأنسب "باب النعت ج 3 م 114 ص 462.
2 قال "الصبان" قرب آخر الباب ما نصه: "في الرضي أنهما قد يجتمعان بعد "إلا" نحو: ما لقيته إلا وقد أكرمني". ا. هـ.
3 الجملة من الفعل: "حضر"، وفاعله في محل نصب حال من الصديق، وبعدها: "أو" فلا يجوز أن يكون الرابط في الجملة السابقة الواو؛ لأن الكلام العربي خال من الواو في مثل هذا الأسلوب، أما التعليلات الأخرى للمنع فمردودة.(2/397)
5– الجملة المضارعية المسبوقة بحرف النفي: "لا"؛ نحو: ما أنتم؟ لا تعملون1. وقول الشاعر:
فلا مرحبًا بالدار لا تسكنونها ... ولو أنها الفردوس أو جنة الخلد
ومن القليل الذي لا يقاس عليه أن تقع الواو رابطة في الجملة الفعلية مضارعية، أو ماضوية إذا كانت مسبوقة بالحرف النافي "لا".
6– الجملة المضارعية المسبوقة بحرف النفي: "ما"2؛ نحو: عرفتك ما تحب العبث، وعهدتك ما تسعى للإيذاء.
7– الجملة المضارعية المثبتة المجردة من "قد"؛ نحو: شهدت الطالب الحريص يسرع إلى المحاضرة, يتفرغ لها، وقد وردت أمثلة مسموعة من هذا النوع، وكان الرابط فيها الواو، منها قولهم: قمت وأصك عين العدو، ومنها:
فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت، وأرهنهم مالكا
ومنها:
"علقتها"3 عرضًا وأقتل قومها" ... وأمثلة أخرى.
وقد تأول النحاة هذه الأمثلة ليدخلوها في نطاق القاعدة، ويخرجوها في مجال الشذوذ، ولا داعي لهذا التأول4 الذي لم يعرفه، ولم يقصد إليه الناطقون بتلك
__________
1 مثل هذا التركيب يتضح معناه، ويزول ما قد يكون فيه من غموض إذا عرفنا أن "لا" النافية تقدر فيه بكلمة: "غير" المنصوبة على الحال، المضافة، وأن المضارع بعدها يقدر اسم فاعل، هو: "المضاف إليه"، أي: ما أنتم غير عاملين؟ أي: ما أنتم وما أمركم في الحالة التي لا تعملون فيها؟
وهو مثل الآية الكريمة: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} التقدير: ما لنا غير مؤمنين؟ ما أمرنا، وما شأننا في الحالة التي تكون فيها غير مؤمنين؟
2 "إن": النافية، مثل: "ما" فيقال في حرف النفي: "ما" وفي المضارع بعده ما قيل في سابقه مما هو مدون قبل هذا مباشرة في رقم1.
3 أحببتها.
4 قالوا من التأويل: إن الواو واو الحال حقيقة، ولكنها لم تدخل على الجملة المضارعية مباشرة،=(2/398)
الأمثلة، والخير أن نحكم عليها بما تستحقه من القلة والندرة التي لا تحاكى، ولا يقاس عليها.
في غير هذه المواضع التي تمتنع فيها الواو يكون الربط بالواو وحدها، أو بالضمير وحده، أو بهما معًا، وقد سبقت الأمثلة لكل هذا1.
وإذا كانت جملة الحال ماضوية مثبتة وفعلها متصرف، ورابطها الواو وحدها وجب مجيء "قد" بعد الواو مباشرة2؛ نحو: انصرفت وقد انتهى ميعاد العمل،
__________
= وإنما دخلت على مبتدأ محذوف؛ خبره الجملة المضارعية المذكورة بعده، والجملة من المبتدأ وخبره في محل نصب حال، فالحال هو الجملة الاسمية لا الفعلية، والواو داخلة على جملة اسمية عندهم.
فما الداعي لهذا؟ إن كان دخول الواو على الجملة المضارعية المثبتة المجردة من "قد" غير مقبول، وغير صحيح وجب التصريح بهذا، والحكم على ما يخالفه بأنه سماعي؛ يحفظ ولا يقاس عليه، وإن كان دخول الواو صحيحًا وجب التصريح بهذا أيضًا من غير تأويل، وإن كان التأويل يبيح الممنوع وجب السماع بالواو لكل من شاء، ومن أراد بعد ذلك أن يحمل نفسه مشقة التأويل، فهو حر فيما يرتضيه لها.
ولا شك أن التأول على هذه الصورة لا خير فيه، وأن الخير في منع الواو في مثل هذا المواضع.
1 اقتصر ابن مالك على حالة واحدة من الحالات التي تمتنع فيها الواو، سجلها بقوله:
وذات بدء بمضارع ثبت ... حوت ضميرًا، ومن الواو خلت-21
يريد: أن الجملة المضارعية المثبتة الواقعة حالًا تحوي الضمير الرابط، وتخلو من الواو المستعملة في الربط؛ لأن هذه الواو لا تصلح للربط هنا، ثم بين أن الجملة المضارعية الحالية المسبوقة بالواو ينوى ويقدر لها بعد هذه الواو مبتدأ محذوف، خبره الجملة المضارعية؛ فتكون مسندة له، يقول:
وذات واو بعدها انوا مبتدا ... له المضارع اجعلن مسندا-22
وما عدا هذه الحالة التي اقتصر عليها يجوز فيها الربط بالواو فقط، أو بالضمير فقط، أو بهما معًا؛ فيقول:
وجملة الحال سوى ما قدما ... بواو، أو بمضمر، أو بهما-23
2 لتقرب زمنها من الحال، وهذا هو الرأي المختار، ويرى فريق آخر من النحاة لزوم: "قد" مع الماضي لكن يقول "أبو حيان" ما نصه:
"الصحيح جواز وقوع الماضي حالًا بدون "قد"، ولا يحتاج لتقديرها؛ للكثرة. ورد ذلك، وتأويل الكثير، ضعيف جدًا؛ لأنا إنما تبني المقاييس العربية على وجود الكثرة. ا. هـ، راجع "الهمع" ج 1 ص 247 آخر باب الحال.
وهذا الرأي حسن، وفي الأخذ به تيسير تؤيده النصوص الكثيرة المسموعة كما يقول أبو حيان، ومن وافقه ومن تلك النصوص قوله تعالى: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ، وقوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ، وآخر الشطر الثاني من قول الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
هذا، ولا تدخل "قد" على الجملة الماضوية التي فعلها جامد؛ كأفعال الاستثناء "ليس، خلا، عدا، حاشًا" كما سبق في رقم 3 من هامش ص 354.(2/399)
كان الرابط هو الضمير وحده، أو الواو أو الضمير معًا فالأحسن مجيء "قد".
وتمتنع "قد" مع الماضي الممتنع ربطه بالواو، وقد سبق بيانه كالماضي التالي "إلا" الاستثنائية التي تفيد الإيجاب عند من يمنع ربطه بالواو1، أو الذي بعده: "أو".
العاشر: انقسامها باعتبار جريانها على صاحبها أو عدم جريانها إلى قسمين؛ حقيقية وسببية2.
فالحقيقية: هي التي تبين هيئة صاحبها مباشرة؛ كالأمثلة التي مرت في أكثر الموضوعات السالفة، ومثل: فزع العصفور من المطر مبتلًا، فكلمة "مبتلًا" حال. تبين هيئة صاحبها نفسه؛ وهو: "العصفور" وقت فزعه، ولا تبين هيئة شيء آخر غير العصفور نفسه، كعشه، أو شجرته، أو صاحبه، أو طيور أخرى ومثل: وقف المصلي خاشعًا، فكلمة: "خاشعًا" حال تبين هيئة صاحبها مباشرة؛ وهو: المصلي، ولا شأن لها بغيره ...
ولا بد أن تطابق الحال الحقيقية3 صاحبها في التذكير، والتأنيث والإفراد، والتثنية والجمع.
والسببية: هي التي تبين هيئة شيء له اتصال وعلاقة بصاحبها الحقيقي، أي علاقة، دون أن تبين هيئة صاحبها الحقيقي مباشرة؛ مثل: فزع العصفور من
__________
1 انظر ما يختص بهذا في رقم 23 من هامش ص 397.
2 وهذا الموضوع هو الذي سبقت له الإشارة العابرة في رقم1 من هامش ص 386، وتفصيل الكلام على صاحب الحال يجيء في ص 402.
3 ما لم يمنع من وجوب المطابقة مانع لغوي، مما سيجيء في موضعه ص 406؛ "ولمطابقة الحال لصاحبها موضوع مستقل؛ في ص 406".(2/400)
المطر مبتلًا عشه، ومثل: وقف المصلي خاشعًا قلبه، فكلمة: "مبتلًا" حال، كما كانت، وصاحبها هو: "العصفور" كما كان، أيضًا، ولكن الحال هنا لا تبين هيئة صاحبها الحقيقي: "العصفور"، وإنما تبين هيئة: "العش"، وللعش صلة وعلاقة بصاحبها؛ فهو مسكن العصفور ومأواه.
كذلك المثال الثاني، فكلمة: "خاشعًا" حال، وصاحبها الحقيقي هو: المصلي. ولكنها لا تبين هيئته، وإنما تبين شيئًا له صلة وعلاقة به؛ هو قلبه؛ فإن قلبه جزء منه.
ومن أمثلة السببية: كتبت الصفحة مستقيمة خطوطها، سمعت المغنية عذبًا صوتها، وسمعت القارئ واضحة نبراته.
ولا بد في الحال السببية أن ترفع اسمًا ظاهرًا مضافًا لضمير يعود على صاحب الحال كالأمثلة السالفة، وأن تكون مطابقة لهذا الاسم المرفوع بها، في التذكير والتأنيث، والإفراد، دون التثنية والجمع، إذا الأحسن أن تلتزم معها الإفراد؛ نحو: سكنت البيت جيدًا هواؤه، واسعة غرفه، جميلًا مدخلاه، نظيفة مسالكه ... 1
__________
1 وكما في "ب" من ص 407.(2/401)
المسألة 85:
صاحب الحال:
عرفنا1 أن الحال قد تبين هيئة الفاعل في مثل: ينفع الصانع متقنًا، أو هيئة المفعول به في مثل: يحترم الناس العامل مخلصًا2 ... أو هيئة الفاعل والمفعول به معًا في نحو: استقبل الأخ أخاه مسرورين، أو هيئة المبتدأ3 في نحو: "الصحف، ماجنة، ضارة" ... أو غير ذلك مما تبين الحال هيئته؛ كالمضاف والمضاف إليه4 ... وهذا الذي تبين الحال هيئته يسمى: صاحب الحال؛ كالذي في الأمثلة السالفة: "الصانع، العامل، الأخ، أخاه، الصحف ...
والأكثر في صاحب الحال أن يكون معرفة، وقد يكون نكرة بمسوغ من المسوغات الآتية:
1– أن تكون النكرة متأخرة والحال متقدمة عليها؛ نحو:
"يمشي، حزينًا، مدين"، "يدعو، متألمًا، مظلوم"5.
__________
1 في ص 363 م 84.
2 وفي مثل قول الشاعر حيث المفعول به ضميرًا لجماعة الذكور، والحال جملة اسمية:
وتفقدهم عيني، وهم في سوادها ... ويشتقاهم قلبي وهم بين أضلعي
3 مجيء الحال من المبتدأ صحيح، "طبقًا للبيان المدون في رقم 2 من هامش ص 364 ورقم 3 من هامش ص 380".
4 لمجيء الحال من المضاف إليه شروط ذكرناها في ص 404.
5 من الجائز أن يكون أصل الجملتين السالفتين هو: يمشي مدين حزين، يدعو مظلوم متألم ... ومن المقرر أن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالًا؛ كالمثالين المذكورين، ما لم يمنع مانع من إعرابه حالًا؛ ذلك أن المنعوت النكرة قد يكون أحيانًا كالمنعوت المعرفة، من جهة أن النعت المتقدم عليه يعرب على حسب العوامل، والمنعوت المتأخر يعرب بدلًا منه أو عطف بيان، نحو: مررت بقائم رجل، واستمعت إلى خطيب غلام وأصلهما قبل التقديم: مررت برجل قائم، استمعت إلى غلام خطيب، ومما تقدم نعلم أن نصب نعت النكرة المتقدم عليه باعتباره حالًا هو أمر غالب، لا واجب على الأصح؛ لتخرج الصور السالفة، ويخرج النعت في مثل: جاءني رجل أحمر، ونحوه مما ليس منتقلًا؛ لأنه من الصفات الثابتة "راجع جـ 3 من حاشية الصبان آخر باب النعت". ولهذا إشارة في جـ 3 م 115 باب النعت عند الكلام على تقدم النعت على المنعوت، ص 481.(2/402)
2- أن تكون النكرة متخصصة1؛ إما بنعت بعدها؛ نحو: أشفقت على طفلة صغيرة تائهة، وإما بإضافة؛ نحو: حافظ على أثاث الغرفة منسقًا، وإما بعمل؛ نحو: أفرح بناظم شعرًا مبتدئًا، وإما بعطف معرفة عليها، نحو: ذهب فريق ومحمود مسرعين.
3– أن تكون النكرة مسبوقة بنفي، أو شبهة "وهو هنا: النهي والاستفهام"؛ نحو: ما خاب عامل مخلصًا، لا تشرب في كوب مكسورًا، هل ترضى عن أم قاسيًا قلبها؟.
4– أن تكون الحال جملة مقرونة بالواو؛ نحو: استقبلت صديقًا وهو راجع من سفر ... 2
5– أن تكون الحال جامدة، نحو: هذا خاتم ذهبًا3.
وقد وردت أمثلة مسموعة من فصحاء العرب وقع فيها صاحب الحال نكرة بغير مسوغ؛ منها: صلى رجال قيامًا، ومنها: فلان يستعين بمائة أبطالًا ...
وللنحاة في هذا المسموع كلام وجدل، والذي يعنينا أن فريقًا منهم يبيح مجيء صاحب الحال نكرة بغير مسوغ4 وفريقًا آخر5 يمنعه، ويقصره على السماع، ويؤول الأمثلة القديمة، أو يحكم عليها بالشذوذ الذي لا يصح القياس عليه، وفي الأخذ بالرأي الأول توسعه ومحاكاة نافعة، ولكن يحسن ألا نسارع إليه قدر الاستطاعة، ذلك
__________
1 ولهذا يصح أن تكون الجملة وشبهها بعد النكرة المتخصصة حالًا إذا لاحظنا تخصصها، كما سبق في ص 394 عند الكلام على الحكم التاسع، ويصح أن تكون نعتًا إذا لم نلاحظه، وقد أوضحنا هذا في مواضع متعددة؛ منها: باب النكرة والمعرفة في الجزء الأول، م 17 ص 194.
2 وقول الشاعر:
ولا خير في عيش امرئ وهو خامل ... وذكر الفتى بالخير عمر مجدد
3 في هذا المثال حين يكون صاحب الحال نكرة، وفرعًا من الحال يرتضي النحاة إعراب الأصل تمييزًا.
4 من هؤلاء سيبويه، وحجته: أن الحال جاءت لتقييد العامل؛ فلا معنى لاشتراط المسوغ، وهذه الحجة يؤديها ويقويها السماع الذي يكفي للقياس عليه.
5 كالخليل ويونس.(2/403)
أن صاحب الحال النكرة بغير مسوغ قليل في فصيح الكلام المأثور، نعم هذه القلة ليست مطلقة؛ وإنما هي نسبية "أي: بالنسبة لصاحب الحال المعرفة أو النكرة المختصة"1 لكن هذا لا يمنعنا أن نختار الأكثر استعمالًا في المأثور الفصيح، وإن كان غيره مقبولًا2.
صاحب الحال الحال إذا كان مضافًا إليه:
يصح أن يكون صاحب الحال مضافًا إليه، نحو: تمتعت بجمال الحديقة واسعة، ونعمت برائحة الزهر متفتحًا ناضرًا، وأكلت نادر الفاكهة ناضجة، ويشرط أكثر النحاة3 في صاحب الحال إذا كان مضافًا إليه أن يكون المضاف:
أ– إما جزءًا حقيقيًا من المضاف إليه؛ نحو: أعجبتني أسنان الرجل نظيفًا، وراقتني أظفاره باسطًا أنامله، "فالأسنان" مضاف وهي جزء حقيقي من المضاف إليه؛ أي: من صاحب الحال؛ "وهو: الرجل" و"الأظفار" مضاف، وهي جزء حقيقي من المضاف إليه صاحب الحال؛ "وهو: الضمير العائد: على الرجل، ويعتبر في حكم الرجل"، ومن هذا قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} ؛ فكلمة: "إخوانًا" حال من الضمير: "هم" المضاف إليه، والمضاف بعض حقيقي منه.
ومن الأمثلة قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} ، فكلمة: "ميتًا" حال من المضاف إليه "وهو: أخ"، والمضاف "وهو: لحم" بعض منه.
__________
1 فهي قلة نسبية "كالتي شرحناها في رقم 2 من هامش ص 368 و 456 والبيان في ج3 رقم1 من هامش ص 74 م 94.
2 وفي صاحب الحال النكرة يقول ابن مالك:
ولم ينكر –غالبًا– ذو الحال إن ... لم يتأخر، أو يخصص، أو يبن:-7
من بعد نفي، أو مضاهية: كلا ... يبغ امرؤ على امرئ مستسهلا-8
يريد: أن الغالب على صاحب الحال ألا يكون نكرة، إلا إذا تأخر عنها صاحب الحال، أو: خصص أو: بأن "أي: ظهر" بعد نفي، أو ما يضاهي النفي "يشابهه، وهو هنا: النهي والاستفهام"، وساق مثالًا هو: لا يبغ امرؤ على امرئ مستسهلًا، والمسوغ فيه النهي.
3 ويخالفهم سيبويه بحق، وإن كان رأيه –مع صحته– ليس الأفصح فيما اشترطوه كما، سيجيء البيان في رقم3 من هامش الصفحة التالية: "405".(2/404)
ب– وإما بمنزلة الجزء الحقيقي "حيث يصح حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ فلا يتغير المعنى العام" كما في الأمثلة الأولى: "تمتعت بجمال الحديقة واسعة، ونعمت برائحة الزهر، متفتحًا ناضرًا ... و ... "، فيصح أن يقال: تمتعت بالحديقة واسعة، ونعمت بالزهر متفتحًا ... و ... ومن هذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ؛ حيث يصح: أن اتبع إبراهيم حنيفًا ...
جـ– وإما عاملًا في المضاف إليه، كأن يكون المضاف مصدرًا عاملًا فيه؛ نحو: عند الله تقدير العاملين مسرورين، ونحو: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} 1، أو أن يكون وصفًا عاملًا فيه2، نحو: هذا رافع الراية عالية في الغد3 ... 4
__________
1 "مرجع"، مصدر ميمي، أي: رجوعكم.
2 كاسمي الفاعل والمفعول بالشروط الواجبة لإعمالهما، ومنها: أن يكونا بمعنى الحال أو الاستقبال ... و ...
3 جاء في "الخضري" في هذا الموضع خاصًا بالأمور الثلاثة ما نصه:
"وإنما اشترط أحد الأمور الثلاثة أ، ب، ج لوجوب اتحاد عامل الحال وصاحبها عند الجمهور: كالنعت والمنعوت، وصاحبها إذا كان مضافًا إليه هو معمول للمضاف، وهو أي: المضاف لا يعمل في الحال إلا إذا أشبه الفعل: بأن كان مصدرًا، أو صفة "أي: وصفًا مشتقًا"، وحينئذ فالقاعدة موفاة، فإن كان المضاف جزءًا أو كالجزء من المضاف إليه، صار هو كأنه صاحب الحال؛ لشدة اتصال الجزء بكله؛ فيصح توجه عامله للحال، بخلاف غير ذلك. وذهب سيبويه إلى جواز اختلاف الحال وصاحبها في العامل؛ لأنه أشبه بالخبر من النعت، وعامل الخبر غير عامل صاحبه، وهو: المبتدأ على الصحيح. ومقتضى ذلك صحة مجيئه من المضاف إليه مطلقًا، ليحرر، ثم رأيت في الصبان التصريح به". ا. هـ.
انظر البيان المفيد المتصل بهذا في رقم2 من هامش ص364.
4 وفي مجيء الحال من المضاف إليه بقول ابن مالك:
ولا تجز حالًا من المضاف له ... إلا إذا اقتضى المضاف عمله-10
أي: إلا إذا استوفى المضاف عمله في الحال، وهذا يدل على اشتراط أن يكون المضاف مما يعمل.
أو كان جزء ما له أضيفا ... أو مثل جزئه؛ فلا تحيفا-11
يريد: أن الحال يجيء من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءًا مما أضيف إليه، "أي: إذا كان المضاف جزءًا من المضاف إليه"، أو مثل الجزء كما شرحناه، أما قوله: "فلا تحيفا"، فأصله: تحيفن، بنون التوكيد الخفيفة التي تنقلب ألفًا عند الوقف، والجملة معناها: لا تظلم نفسك، أو اللغة بمخالفة هذا، وهو حشو لم يذكر إلا لتكملة البيت.(2/405)
مطابقة الحال بنوعيها 1 لصاحبها:
أ– الأصل أن تطابق الحال "الحقيقية" صاحبها وجوبًا في التذكير والتأنيث، وفي الإفراد وفروعه، كالأمثلة السالفة2، لكن يستثنى من هذا الأصل بعض حالات لها أحكام أخرى تتلخص فيما يلي:
1– إذا كان صاحب الحال الحقيقية جمعًا مفردة مذكر لغير العاقل3، جاز في الحال أن تكون مفردة مؤنثة، وجمع مؤنث سالمًا، وجمع تكسير4؛ نحو: سرتني الكتب نافعة، أو: نافعات، أو: نوافع.
2– إذا كان لفظ الحال الحقيقية من الألفاظ التي يغلب استعمالها بصورة واحدة للمذكر والمؤنث ككلمة: صبور، بقي على صورته؛ نحو: عرفت المؤمن صبورًا عند الشدائد، وعرفت المؤمنة صبورًا كذلك5.
3– إذا كان لفظ الحال الحقيقية أفعل التفضيل المجرد من "أل" والإضافة، أو المضاف إلى نكرة، لزم الإفراد والتذكير على الأرجح، كما سيجيء في بابه6 نحو: عرفت العصامي أنشط وأنفع، أو: أنشط عامل، وأنفع رجل.
__________
1 انظر ص400 حيث الكلام: على الحال "الحقيقية"، وعلى قسيمتها: "السببية".
2 ومن أمثلة المطابقة في الجمع مع التذكير كلمة: "سالمين" في قول الشاعر يدعو لمن يخاطبهم:
بقيتم، وعشتم سالمين من الأذى ... ومنية قلبي أن تعيشوا وتسلموا
3 يدخل في هذا الجمع نوعان، أحدهما: جمع التكسير الذي مفرده مذكر غير عاقل، والآخر: ما ألحق بجمع المذكر السالم، وكان مفرده مذكرًا غير عاقل أيضًا: مثل: "وابلون"، جمع: وابل؛ للمطر الغزير، و"عليون"، جمع: علي؛ للمكان المرتفع, ولا يدخل جمع المذكر السالم الأصيل؛ لأن مفرده -في الأغلب– مذكر عاقل.
4 يصح في جمع التكسير هذا أن يكون للمؤنث، وأن يكون للمذكر، بملاحظة مفرد، المذكر غير العاقل مثل قرأت الكتب نوافع، سرتني الكتب أحاسن "جمع: أحسن"، "راجع رقم 1 من هامش ص 362 م 114 جـ 3 ثم حاشية ياسين جـ 2 أول باب النعت حيث النص الشامل.
5 لهذه الصورة فروع تتضح من نظائرها في النعت جـ 3 ص 337.
6 جـ 3 م 112 ص 327 و 338.(2/406)
4– إذا كانت الحال الحقيقية مصدرًا فإنه يلازم صورة واحدة؛ نحو: حضر القطار سرعة، وإذا اشتهر المصدر صح تثنيته وجمعه كالنعت؛ نحو: عرفت الوالي عدلًا، والواليين عدلين، والولاة عدولًا.
5– إذا كانت الحال كلمة: "أي"1 فإنها –في الغالب– تقع حالًا من معرفة مع إضافتها إلى نكرة؛ نحو: استعمت إلى علي أي خطيب.
ب– أما الحال "السببية"، فتطابق الاسم المرفوع بها –وجوبًا– في التذكير والتأنيث والإفراد، دون التثنية والجمع، إذ الأحسن أن تلتزم معهما الإفراد كما سبق2 نحو: سكنت البيت جيدًا هواؤه، واسعة غرفه، جميلًا مداخله، نظيفة مسالكه.
__________
1 الكلام على: "أي" وأنواعها، وأحكامها المختلفة، مفرق في أجزاء الكتاب المختلفة على حسب الأبواب التي تستعمل فيها؛ كصفحة216 السابقة، والصفحة 262 م 26 جـ1 باب الموصول، وكبابي الإضافة والنعت في جـ3.
2 انظر ص401.(2/407)
المسألة 86:
حكم الحال، وعاملها، وصاحبها، ورابطها، من ناحية الذكر والحذف.
أ– الأصل في الحال أن تكون مذكورة؛ لتؤدي مهمتهما المعنوية؛ وهي بيان هيئة الفاعل، أو المفعول به، أو غيرهما، مما سبق تفصيله1 لهذا يجب ذكرها في كثير من المواضع، ويجوز حذفها في أخرى.
فمن المواضع التي يجب أن تذكر فيها ما يأتي:
1– أن تكون محصورة؛ نحو: ما أحب العالم إلا نافعًا بعلمه.
2– أن تكون نائبة عن عاملها المحذوف سماعًا؛ نحو: هنيئًا لك2، بمعنى: ثبت لك الخير هنيئًَا، أو: هناك الأمر هنيئًا3، أو نحو هذا التقدير الدال على الدعاء بالهناءة.
3– أن يتوقف على ذكرها المعنى المراد، أو يفسد يحذفها ... كما أشرنا أول الباب4؛ فالأول نحو قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} ، والثاني نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} .
ومن هذا الموضع أن تكون سادة مسد الخبر5 في مثل: سهري على المزرعة نافعة.
4– أن تكون جوابًا، مثل: كيف حضرت؟ فيجاب: راكبًا.
ويجوز حذف الحال إذا دل عليها دليل، وأكثر حذفها حين يكون لفظها مشتقًا من مادة "القول"، ويكون الدليل عليها بعد الحذف هو: "المقول"6؛
__________
1 في ص 363.
2 ونحو قولهم: "هنيئًا لأرباب البيان بينهم ... ".
3 ستجيء إشارة لهذا في ص411، والحال في هذا المثال مؤكدة لعاملها كنظائرها التي سبقت: في ص 367 و ... و ... ومنها: ولا تعث في الأرض مفسدًا: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا} ، {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} .
4 ص 364.
5 في جـ 1 ص 385 م 39 تفصيل الكلام على الحال التي تسد مسد الخبر.
6 الشيء الذي قيل.(2/408)
نحو جلست في حجرتي، فإذا صديقي الغائب يدخل: "السلام عليكم"، أي: يدخل قائلًا: السلام عليكم، فكلمة: "قائلًا" هي الحال المحذوفة، وهي مشتقة من مادة: "القول"، وقد دل عليها الكلام الذي قيل؛ وهو: "السلام عليكم".
ومثل: هل دار بينك وبين المسافر كلام؟ نعم، لما قابلني في الصباح حياني: "صباح الخير"، وحدثني عن رحلته المنتظرة: ثم أسرع إلى القطار بعد أن صافحني ومد يده: "الوداع"، أي: قائلًا صباح الخير؛ قائلًا: الوداع.
ومن هذا قوله تعالى في أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} ، أي: قائلين: سلام عليكم، وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} ، أي: قائلين ربنا تقبل منا.
ب– والأصل في عامل الحال –وغيرها– أن يكون مذكورًا؛ ليحقق غرضًا معينًا، وهو: إيجاد معنى جديد، أو تقوية معنى وجود، وقد يحذف جوازًا أو وجوبًا؛ لدواع تقتضى الحذف، أي: أن عامل الحال قد يذكر وجوبًا، وقد يحذف وجوبًا، وقد يجوز ذكره وحذفه.
فيجب ذكره إن كان عاملًا معنويًا "وقد سبق شرحه"1 كأسماء الإشارة؛ وحروف التنبيه، والتمني؛ وكشبه الجملة ... و ... و ...
ويجوز حذفه إذا كان عاملًا غير معنوي، ودال عليه دليل مقالي2، أو حالي فمثال المقالي أن يقال: أتستطيع الصعود إلى قمة الجبل؟ فيجيب المسؤول: مسرعًا، أي: أصعد مسرعًا –أتعتني بخط رسائلك؟ فيجاب: واضحًا جميلًا أي: أعتني به واضحًا جميلًا.
ومثال الحالي: أن ترى مسافرًا فتقول له: "سالمًا"، أي: سافر سالمًا،
__________
1 ص 382.
2 سبق في رقم1 من هامش ص 56 م 63، وفي ج 1 ص 362 م 47 أن الدليل المقالي هو: ما يكون قائمًا على كلام مذكور صريح، وأن الدليل الحالي، هو: ما يكون أساسه القرائن والمناسبات المحيطة بالمتكلم من غير استعانة بكلام أو ألفاظ ...(2/409)
وأن ترى من يشرب الدواء، فتقول: "شافيًا"، أي: تشرب الدواء شافيًا، وأن تقول لمن يبني بيتًا: "معمورًا"، أي: تبني البيت معمورًا، أو تسكن البيت معمورًا.
ويجب حذفه في مواضع، أهمها:
1– أن تكون الحال سادة مسد الخبر1، نحو: إنشادي القصيدة محفوظة، فكلمة: "محفوظة" حال سدت مسد خبر المبتدأ المحذوف وجوبًا؛ والأصل: إنشادي القصيدة إذ كانت، أو: إذا كانت محفوظة.
2– أن تكون الحال مفردة مؤكدة مضمون جملة2 قبلها نحو: الجد أب راحمًا.
3– أن تكون الحال مفردة دالة بلفظها على زيادة تدريجية، أو نقص تدريجي نحو: تصدق على المحتاج بدرهم؛ فصاعدًا لا تتعرض للشمس عند شروقها إلا عشرين دقيقة؛ فنازلًا ... فكلمة: "صاعدًا" حال، وعاملها وصاحبها محذوفان. والتقدير: فاذهب بالعدد صاعدًا.
والجملة المحذوفة هنا إنشائية، معطوفة بالفاء على نظيرتها الفعلية الإنشائية3، وكلمة: "نازلًا" حال، وعاملها وصاحبها محذوفان: والجملة منهما إنشائية معطوفة بالفاء على نظيرتها، ولا بد من من اقتران هذه الحال المفردة "بالفاء" العاطفة، أو"ثم" العاطفة4.
ومن الأمثلة التي تحوي الحالين: "صاعدًا ونازلًا": تدرب على الحفظ خمسة أسطر، فستة، فسبعة، فصاعدًا، لا تتناول في اليوم أكثر من ثلاث وجبات؛ فنازلًا ...
4– أن تكون الحال مسبوقة باستفهام يراد به التوبيخ؛ نحو: أنائمًا وقد أشرقت الشمس؟ أعاطلًا والعمل يطلبك؟ أسفيهًا وهو كريم النشأة؟ أي:
__________
1 سبق إيضاحها وتفصيل الكلام عليها في ج 1 ص 385 م 39 آخر باب المبتدأ والخبر.
2 ورد ذكرها في مواضع، منها: "ص 366 و 391 و 396".
3 ليس من اللازم أن تكون الجملتان إنشائيتين، إنما الأحسن في رأي جمهرة النحاة اتحادهما خبرًا أو إنشاء.
4 كما أشرنا في رقم 2 من هامش ص 393، والكوفيون يجيزون واو العطف أيضًا، "كما جاء في مجالس ثعلب، ج 4 ص 215 من القسم الأول".(2/410)
أتوجد نائمًا؟ أتوجد عاطلًا؟ أيوجد سفيهًا؟ ...
5– عوامل حذفت سماعًا، من ذلك قولهم لمن ظفر بشيء؛ هنيئًا لك ما أدركت، أي: ثبت هنيئًا1.
والحذف في المواضع الأربعة الأولى قياسي2.
جـ والأصل في صاحب الحال أن يكون مذكورًا في الكلام: لتتحقق الفائدة من ذكره، وقد يحذف جوازًا في مثل قوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} ، أي: بعثه الله.
ويجب حذفه في الصورة التي يحذف فيها عامله وجوبًا حين تؤكد الحال مضمون جملة قبلها، على الوجه الذي سبق3 شرحه، وكذلك يجب حذفه مع عامله حين تدل الحال على زيادة تدريجية، أو نقص تدريجي وهي الصورة الثالثة من الصور التي في الصفحة المتقدمة.
د– والأصل في الرابط أن يكون مذكورًا؛ ليعقد الصلة المعنوية بين جملة الحال والجملة التي قبلها المشتملة على صاحب الحال، فيمنع التفكك، لكن يجوز حذف الرابط لفظًا، لا تقديرًا4، إذا كان ضميرًا مفهومًا من السياق، نحو: ارتفع سعر القمح، كيلة بخمسين قرشًا، أي؛ كيلة منه ...
وكذلك يصح حذفه إن كان الحال جملة خالية من الرابط لكن عطف عليها
__________
1 سائغًا مقبولًا، والفعل هنئ، "وقد سبقت الإشارة لهذا في رقم 2 ص 408".
2 وفي حذف العامل يقول ابن مالك:
والحال قد يحذف ما فيها عمل ... وبعض ما يحذف، ذكره حظل-24
يريد: أن الحال قد يحذف ما يعمل فيها النصب "أي: يحذف عاملها"، وأن بعض ما يحذف من هذه العوامل محظول ذكره، أي: ممنوع "حظل: منع"؛ لأنه واجب الحذف.
3 ص 366 و 383 و 391 و 396.
4 كما سبق في 366 و 388 و 391 و 396.(2/411)
"بالفاء"، أو: "الواو"، أو: "ثم" جملة تصلح أن تكون حالًا مع اشتمالها على الرابط؛ نحو: عرفت الوالي العادل تشكو الرعية، فيزيل أسباب الشكوى1 أقبل الفائز، يصفق الناس، ويشرق وجهه تداوى المريض يشير الأطباء، ثم يستجيب للمشورة.
"ملاحظة":
يتفق الحال والتمييز2 في أمور: ويختلفان في أخرى.
وسيجيء البيان في: "هـ" ص 429.
__________
1 راجع الصبان، ج1 باب المبتدأ، عند الكلام على الخبر الجملة، ورابطه. وكذا التصريح ج1 باب العطف عند الكلام على الفاء العاطفة، وقد اقتصر في الرابط عليها؛ لأنها الأصل، وخالفه الصبان وغيره ...
2 سيجيء باب: "التمييز" بعد هذا مباشرة.(2/412)
المسألة 87: التمييز(2/413)
هـ- نسبة، أو: جملة1 ... ازداد المتعلم ... ... - ازداد المتعلم أدبًا.
أعجبني الخطيب ... ... - أعجبني الخطيب كلامًا.
فاضت البئر.... ... - فاضت البئر نفطًا2.
__________
أ- في جملة مثل: "عندي إردب" من أمثلة "أ" نجد كلمة غامضة مبهمة هي: "إردب"؛ لأن مدلولها يحتمل عدة أنواع مختلفة، لا نستطيع تخصيص واحد منها بالقصد دون غيره، فقد يكون هذا الإردب: قمحًا، أو: شعيرًا، أو: فولًا، أو: غيرها، ولا ندري النوع المراد من تلك الأشياء الكثيرة، إذ لا دليل عليه وحده لهذا كانت كلمة: "إردب" مبهمة، أي: غامضة المدلول؛ لعدم تحديد المراد منها وتعيينه.
لكن إذا قلنا: عندي إردب شعيرًا زال الغموض والإبهام، وتعين المراد بسبب اللفظ الذي جاء؛ وهو: "شعيرًا".
كذلك الشأن في كلمة: "كيلة"، فإنها غامضة المدلول، مبهمة، لا تعيين فيها؛ لاحتمال أن تكون الكيلة: قمحًا، أو: ذرة، أو: فولًا، أو: عدسًا ... ، فإذا قلنا: كيلة قمحًا، تعين المراد، وزال الاحتمال، ومثل هذا يقال في كلمة: "قدح" في المثال الأخير من قسم "أ"، وفي غيرها من كل كلمة عربية تدل على العرف الشائع على شيء يقع به الكيل؛ مثل: ويبة، ربع، ملوة3 ...
ب– وفي جملة مثل: اشتريت أوقية "من أمثلة القسم: "ب""، نصادف هذا الإبهام والغموض في كلمة: "أوقية"؛ لاحتمالها عدة أنواع، لا نستطيع تخصيص واحد منها بالمراد دون غيره، فقد تكون الأوقية ذهبًا، أو: فضة، أو عنصرًا آخر من العناصر التي توزن ...
لكن إذا قلنا: أوقية ذهبًا اختفى الإبهام، وحل محله التعيين الموضح
__________
1 لهذا النوع أمثلة أخرى في "ب" من ص 422.
2 هو المسمى: "زيت البترول".
3 من المكاييل الشائعة في مصر: الإردب؛ وهو يساوي اثني عشرة كيلة، ومقدار الكيلة، ربعان، والربع: أربعة أقداح، والويبة كيلتان، والكيلة أيضًا أربع ملوات.(2/414)
للمطلوب، ومثل هذا يقال في كلمة: رطل، وأقة، في المثال الثاني والثالث من أمثلة: قسم ب وفي نظائرها من الكلمات العربية التي يجري في العرف اعتبارها من الموازين، ومنها: قنطار، ودرهم، وحبة ...
جـ– وفي جملة مثل: جنيت محصول فدان "من أمثلة: "ج"" نجد الكلمة الغامضة المبهمة هي كلمة: "فدان" فإنها تحتمل أن يكون مدلولها فدان قصب، أو فدان عنب، أو قمح، أو غيره، فإذا قلنا: ... "فدان قطن"، انقطع الاحتمال، وزال الغموض والإبهام، وتحدد القصد.
ومثل هذا يقال في كلمة: "قيراط"، وقصبة "من أمثلة القسم: "ج""، وغيرها من الألفاظ العربية التي تستعمل في المساحات1، ومنها: السهم2، والذراع، والباع والشبر، والفتر ... "
د– ومثل هذا يقال في كل عدد من جمل القسم: "د" أو ما شابهها مما يشتمل على أحد الأعداد؛ نحو: عندي خمسة، فإن كلمة: "خمسة" وهي عدد حسابي غامضة، مبهمة؛ لا يزول غموضها وإبهامها إلا بلفظ آخر يحدد المراد منها؛ مثل: أقلام، أو غيرها مما ورد في هذا القسم وفي نظائره.
هـ- ننتقل بعد ذلك إلى نوع آخر من الغموض والإبهام يختلف عما سبق؛ ففي مثل: "ازداد المتعلم"، لا يقع الغموض على كلمة واحدة كالتي سلفت، وإنما ينصب على الجملة كلها؛ أي: على المعنى جزأيها الأساسيين معًا، فقد نسبنا الازدياد للمتعلم، فأي ازدياد هذا الذي نسبناه له، أهو في علمه؟ أم في أدبه، أم في ماله؟ أم في جسمه، أم في حسن معاملته ... ؟
فالأمر المنسوب للمتعلم غامض مبهم، وهذا الأمر الغامض ليس منصبًا على كلمة واحدة كما قلنا؛ وإنما يشمل معنى جملة كاملة؛ لأن الجملة هي التي تحوي في طرفيها نسبة شيء3 لشيء آخر، فإذا قلنا: ازداد المتعلم أدبًا ارتفع
__________
1 هي الأشياء التي يجري تقديرها بالقياس، ويدخلها العرف الشائع في المقاييس.
2 في مصر يقسم الفدان إلى أربعة وعشرين قيراطًا، والقيراط أربعة وعشرون سهمًا.
3 في هامش الصفحة الأولى من صفحات الجزء الثالث، بيان مستفيض عن معنى: "النسبة" وأنواعها، وما يتصل بها.(2/415)
الغموض عن النسبة؛ بسبب الكلمة التي جاءت لإزالته، واتضح المراد من الجملة بعد مجيء هذه الكلمة.
ومثل هذا يقال ي المثالين الأخيرين من أمثلة القسم: "هـ" وفي غيرهما من كل جملة يقع فيها الغموض على النسبة الناشئة من طرفيها.
ومن كل ما تقدم يتضح ما يأتي:
أ– أن في اللغة ألفاظًا مبهمة، غامضة، تحتاج إلى تبيين وتوضيح.
ب– وأن هذه الألفاظ قد تكون كلمات منفردة، كالكلمات المستعملة في العدد، أو في المقادير الثلاثة الشائعة، وهي: الكيل، والوزن1، والمساحة وقد يكون جملًا كاملة تقع النسبة في كل واحدة منها موقع الغموض، والإبهام المحتاج إلى تفسير وإيضاح2.
جـ– وإذا تأملنا الكلمات التي أزالت الغموض والإبهام في الأمثلة السالفة وأشباهها وجدنا كل كلمة منها: نكرة3، منصوبة في الأكثر4، فضلة، تبين جنس ما قبلها أو نوعه، أو: توضح النسبة فيه، فهي كما يقولون بمعنى: "من"5 البيانية غالبًا، والكلمة التي تجتمع فيها هذه الأوصاف
__________
1 وكذلك بعض الضمائر "كما سيجيء في "جـ" من الزيادة ص 427"، ثم انظر المراد من "المقادير" في رقم4 من هامش الصفحة الآتية.
2 وقد يكون تمييز النسبة لمجرد التوكيد؛ كقول أبي طالب عم النبي عليه
السلام:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
"راجع الصبان والخضري في باب: "نعم، وبئس" عند الكلام على اجتماع فاعلهما، وتمييزهما"، وهذا يختلف عما في رقم4 من هامش ص 430.
3 النكرة هنا: لا بد أن تكون اسمًا صريحًا؛ لأن التمييز لا يكون جملة ولا لفظًا مؤولًا.
4 إذا كانت الكلمة التي تزيل الإبهام مجرورة بالإضافة أو بالحرف كما في بعض الأمثلة المعروضة هنا، فإنها لا تسمى في "الاصطلاح": تمييزًا إلا مع التقييد بأنه مجرور؛ لأن كلمة: "تمييز" عند إطلاقها بغير تقييد لا تتصرف إلا للنوع المنصوب، أما غيره مما يفيد فائدته في هذا الباب فلا يسمى تمييزًا "اصطلاحًا"، وقد يسمى تمييزًا ولكن مع تقييده بأنه مجرور: لكيلا يتصرف الذهن إلى النوع المنصوب، والأحسن مراعاة الاصطلاح. "كما في رقم2 من هامش ص 420".
5 أي: "من" التي تبين جنس ما قبلها، أو نوعه، والمجرور بها هو عين الشيء الذي تبينه وستجيء معانيها في ص458 وليس المراد في الكلمة التي تعرب تمييزا أنه يمكن دائما تقدير "من" قبلها، فإن هذا لا يمكن في بعض الأساليب، "وانظر رقم2 من ص459".(2/416)
تسمى: "التمييز"1، كما يسمى ما تفسره وتزيل الإبهام عنه: "المميز"، أي: أن التمييز: "نكرة، منصوبة في الأغلب فضلة، بمعنى "من" التي للبيان"2.
أقسام التمييز:
ينقسم التمييز بحسب المميز إلى قسمين:
أولهما: تمييز المفرد، أو: الذات3 وهو الذي يكون مميزه لفظًا دالًا على العدد، أو على شيء من المقادير4 الثلاثة: "الكيل، الوزن، المساحة"، أي:
__________
1 ويسمى أحيانًا: التبيين، أو: التفسير، أو: المفسر، أو: المميز، أو: المبين.
2 غالبًا كما سبق، ويقول ابن مالك في تعريف التمييز، وبيان عامله، والتمثيل لبعض أقسامه ما يأتي:
اسم بمعنى: "من" مبين، نكره ... ينصب تمييزًا بما قد فسره
كشبر أرضًا، وقفيز برًا، ... ومنوين عسلًا وتمرَا
يريد بالمبين: أن التمييز يبين إبهام ما قبله، أي: يوضحه ويزيل غموضه، ثم يقول: إن التمييز منصوب، وناصبه هو الشيء المبهم الذي جاء التمييز لتفسيره وإيضاحه، ومعنى هذا عنده أن تمييز النسبة منصوب في رأيه بالجملة التي يوضح النسبة فيها، وسيجيء الرأي في كل ذلك. "رقم 2 من ص422 و3 من ص 424".
"البر": القمح، "القفيز" إذا كان مكيلًا فإنه يختلف باختلاف الأقطار؛ فهو في بعضها نحو: 2 / 3 18 قدحًا، وفي بعض آخر نحو: ثمان وأربعين قدحًا "منوين" تثنية: "منًا" وهو بعض الأقطار من مقادير الوزن المقدرة برطلين.
3 سمي تمييز مفرد: لأنه يزيل الإبهام عن كلمة واحدة، أو ما هو بمنزلتها، ويسمى أيضًا: تمييز "ذات"؛ لأن الغالب في تلك الكلمة التي يزيل إبهامها أن تكون شيئًا محسوسًا مجسمًا، فمعنى ذات: أنها جسم، وليس في هذا النوع من التمييز تحويل كما سيجيء في الصفحة التالية عند الكلام على تمييز الجملة.
هذا، والكثير في تمييز المفرد أن يكون جامدًا، وقد يكون مشتقًا على الصورة الموضحة في: "ج" من ص 427، ولها إشارة في رقم6 من ص 430.
4 المقادير هنا: جمع مقدار، وهو: ما يقدر به غيره، ويشمل كل شيء يستعمل في تقدير الكيل، أو الوزن، أو المساحة، من غير تقيد بلفظ خاص، أو بزمن معين. وبهذا يدخل كل لفظ عربي عرف العمل به في تقدي واحد من الثلاثة المذكورة، ولا يدخل العدد في التقدير -على المشهور- لأن العدد في المعنى هو المعدود؛ كما في مثل: هنا خمسة رجال؛ فالخمسة التي هنا هي الرجال، والرجال هي الخمسة، بخلاف المقادير.(2/417)
"أنه الذي يزيل إبهام لفظ من ألفاظ الكيل، أو: الوزن، أو: المساحة، أو: العدد" 1، فتمييز المفرد أو الذات أربعة أنواع غالبًا2.
ثانيهما: تمييز الجملة، وهو الذي يزيل الغموض والإبهام عن المعنى العام بين طرفيها، وهو المعنى المنسوب فيها لشيء من الأشياء، ولذلك يسمى أيضًا: "تمييز النسبة"، وقد سبقت الأمثلة للنوعين.
تقسيم تمييز الجملة "أي: النسبة" بحسب أصله:
ينقسم تمييز الجملة "دون تمييز المفرد" إلى ما أصله فاعل في الصناعة3 وإلى
__________
1 العدد المقصود في هذا الباب هو العدد الصريح؛ أي: العدد الحسابي: مثل3، 4، 5، 6 ... و ... أما العدد المبهم "أي: الكنائي" مثل: "كم"، ... فله، في الجزء الرابع باب خاص بأحكامه المختلفة، هو: باب: كنايات العدد.
2 قلنا: غالبًا؛ لأن هناك نوعًا خامسًا كما أشرنا في رقم1 من هامش ص 416 هو تمييز الضمير "المبهم"، وسيجيء تفصيل الكلام عليه في "جـ" من الزيادة، ص 427.
3 أي: فاعل لفعل، أو ما يشبه الفعل مما يحتاج لفاعل يقتضي الأصول النحوية وصناعتها، والتقييد بأن الفاعل المعنوي أصله فاعل في الصناعة تقييد ضروري؛ لإبعاد ما هو فاعل في المعنى دون الصناعة؛ نحو: لله درك فارسًا، وأبرحت جارًا "أي: أعجبت؛ يقال: أبرح الرجل، إذا جاء بالبرح بسكون الراء أي: بالعجب"، فإن معناهما: عظمت فارسًا، وعظمت جارًا، ولكنهما غير محولين أصلًا عن الفاعل الصناعي، ولهذا يجوز جرهما بالحرف: "من" نحو: لله درك من فارس. ونحو: أبرحت من جار، في حين التمييز المحول عن الفاعل الصناعي يجب نصبه، ولا يجوز جره بمن.
انظر "ج" من ص 427 وكذلك: ما أحسن المهذب رجلًا، فإنه مفعول في المعنى، لكنه غير محول؛ لأنه عين ما قبله، ولهذا يصح جزء أيضًا بمن.
انظر ما يتصل بفعل التعجب في رقم 4 من هامش ص423، وكذلك البيان المفيد الخاص بمثل: "لله دره فارسًا" ... في "جـ" من ص 427.
أما نحو: نعم رجالًا الزراع، فقد رأى بعض النحاة في التمييز أنه محول عن الفاعل الصناعي؛ فيجب نصبه، ورأى آخرون أنه غير محول فيجوز فيه النصب أو الجر بمن، والرأي الأول أقوى.
وكما يكون الفاعل محولًا عن الفاعل الصناعي في الأصل، يكون محولًا أحيانًا عما أصله نائب فاعل؛ ككلمة: "شكلًا" في قول الشاعر:
يصنع الصانعون وردًا، ولكن ... وردة الروض لا تضارع شكلًا
ولأصل: لا يضارع شكلها.(2/418)
ما أصله مفعول به كذلك، ويرى أكثر النحاة أن تمييز الجملة لا يخرج في الغالب عن واحد من هذين، "ولو تأويلًا"1؛ مثل: زادت البلاد سكانًا، اختلف الناس طباعًا، قوي الرجل احتمالًا، ومثل: أعددت الطعام ألوانًا، وفيت العمال أجورًا، نسقت الحديقة أزهارًا ...
فالأصل: "زاد سكان البلاد، اختلفت طباع الناس، قوي احتمال الرجل". فتغير الأسلوب؛ بتحويل الفاعل تمييزًا، وقد كان الفاعل مضافًا؛ فأتينا بالمضاف إليه، وجعلناه فاعلًا، بعد أن صار الفاعل فاعلًا، بعد أن صار الفاعل تمييزًا بالصورة السالفة2 ...
والأصل في الأمثلة الباقية: "أعددت ألوان الطعام، وفيت أجور العمال، نسقت أزهار الحديقة"؛ فتغير الأسلوب؛ بتحويل المفعول به تمييزًا، وقد كان هذا المفعول مضافًا، فأتينا بالمضاف إليه، وجعلناه مفعولًا به، بعد أن صار المفعول به السابق تمييزًا.
أما تمييز المفرد فلا تحويل فيه مطلقًا.
__________
1 راجع "أ" و: "ب" من الزيادة والتفصيل "ص426" حيث الكلام على التأويل ونوع من التفضيل.
2 ومن هذا النوع كلمة "مقتًا" وهي تمييز في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ، كبر، عظم، المقت: أشد الكراهة: والبغض، والأصل: كبر مقت قولكم ما لا تفعلون ... أي: المقت المترتب على قولكم ...(2/419)
المسألة 88: أحكام التمييز
أ– يختص تمييز المفرد "أو: الذات" بالأحكام التالية:
أ– إن كان تمييزًا للكيل، أو: الوزن، أو: المساحة، جاز فيه ثلاثة أشياء، إما نصبه على أنه التمييز مباشرة وهذا هو الأحسن1، وإما جره2 على أنه مضاف إليه، والمميز هو المضاف، وإما جره بالحرف "من"، ومن الأمثلة غير ما سبق: "اشتريت كيلة أرزًا، اشتريت كيلة أرز، اشتريت كيلة من أرز"، "اشتريت درهمًا ذهبًا، اشتريت درهم ذهب، اشتريت درهمًا من ذهب"، "بعت محصول فدان قصبًا، بعت محصول فدان قصبٍ، بعت محصول فدانٍ من قصبٍ".
وإما يجب جر التمييز على اعتباره مضافًا إليه بشرط ألا يكون المقدار، وهو المميز قد أضيف لغيره؛ فإن أضيف المقدار لغير التمييز وجب نصب التمييز، أو: جره "بمن"، نحو: ما في الإناء قدر راحة دقيقًا3، أو: من دقيق.
__________
1 لأنه يدل على المقصود نصًا من غير احتمال شيء آخر معه؛ ففي مثل: "اشتريت رطلًا عسلًا"؛ ... يدل النصب على أن المتكلم يريد أن الإناء المسمى بالرطل مملوء بالعسل، أو أن عنده ما يملأ الإناء المذكور من هذا الصنف
المذكور، ولا يريد في هذا المثال الوعاء نفسه، أما الجر فيؤدي إلى احتمال أن يكون المراد ذلك، وأن يكون المراد بيان أن عنده الوعاء الصالح في هذا المثال أو الصنجة الموزون بها، أو المكيال الذي يكال به، أو المقياس الذي يمسح به "أي: يقاس به".
راجع الأشموني والصبان.
2 ومع جره يسمى: "تمييزًا" "مجرورًا" أيضًا: فالجر لا يمنع من هذه التسمية المقيدة "انظر رقم 4 من هامش ص 416"، والإضافة هنا على معنى "من" البيانية التي سبق الكلام عليها "في رقم5 من هامش ص416"، وهذا هو الشأن في إضافة المقادير إلى الأشياء المقدرة، نحو: بعت فدان قصب، وفي إضافة الأعداد إلى معدوداتها؛ نحو: خمسة أقلام، وفي إضافة العدد إلى عدد آخر، نحو عندي من الكتب أربعمائة، "وسيجيء البيان في جـ 3 م 93 ص 18 حيث الأوجه الإعرابية المختلفة فيما سبق".
3 في هذا يقول ابن مالك:
وبعد ذي وشبهها اجرره إذا ... أضفتها؛ كمد حنطة، غذا
=(2/420)
وإن كان تمييز المفرد خاصًا بالعدد الصريح، والعدد ثلاثة، أو عشرة، أو ما بينهما ... ، وجب جر التمييز، بإعرابه مضافًا إليه، والمضاف هو العدد "أي: المميز"، والغالب في هذا التمييز المجرور أن يكون جمع تكسير للقلة.
فإن كان العدد لفظًا دالًا على المائة أو المئات، أو الألف أو الألوف وجب أن يكون التمييز مفردًا مجرورًا؛ لأنه يعرب مضافًا إليه، والمضاف هو العدد1.
وإن كان العدد غير ما سبق وجب نصب التمييز مباشرة، وأن يكون مفردًا، وفيما يلي أمثلة لكل ما سبق:
"قرأت في العطلة ثلاثة كتب، كل كتاب مائة صفحة، وعدد السطور ألف سطر".
__________
= يريد: "بذي" ... الأشياء التي سبق أن عرض لها أمثلة في البيت السابق؛ "وهي
ثلاثة: المساحة، الكيل، الوزن"، فإن التمييز بعدها مجرور بالإضافة، أما "شبهها" فهو: كل لفظ عربي جرى العرف على استعماله في واحد من الثلاثة. و"المد": يقدر في بعض الأقاليم بنحو 7/ 12 من القدح، وفي بعض آخر بنحو: رطل وثلث رطل، "حنطة": قمح، غذا: غذاء.
ثم قال: إن الجر بالإضافة إنما يكون حين إضافة المميز مباشرة، أما إذا أضيف المميز لغير التمييز، فيجب نصب التمييز:
والنصب بعد ما أضيف وجبا ... إن كان مثل: "ملء الأرض ذهبًا"
وسيذكر بعد بيتين أنه يجوز جر التمييز بالحرف "من" بشرط ألا يكون التمييز لعدد ولا للنسبة، فيقول البيت التالي:
واجرر "بمن" إن شئت غير ذي العدد ... والفاعل المغني؛ كطب نفسًا تفد
"ذي العدد" أي: صاحب العدد، يريد التمييز الذي للعد الصريح، فإنه لا يجوز جره بالحرف "من" أما العدد غير الصريح؛ مثل: "كم"، فيجوز جر تمييزه بالتفصيل الوارد في بابه، ج 4 نحو: كم من كتاب عندك، كما أن التمييز الذي كان أصله فاعلًا؛ لأن أساس الكلام: لتطب نفسك؛ ثم حول الكلام فصار الفاعل تمييزًا، ومثله: طاب الورع نفسًا؛ أصله: طابت نفس الورع؛ ثم حول الكلام على الوجه السالف، "وقد وفينا الكلام على أصل التمييز، وستجيء الإشارة لبيت السالف لمناسبة أخرى في ص 424".
1 والإضافة على معنى: "من" طبقًا للبيان الذي سلف في رقم2 من هامش ص 420، ورقم5 من هامش ص416.(2/421)
"قضينا في الرحلة خمسة أيام، قطعنا فيها مائة ميل مشيًا، وأنفق كل منا ألف قرش"، "الأسبوع سبعة أيام بلياليها، كل منها أربع وعشرون ساعة، والساعة ستون دقيقة"، "السنة اثنا عشر شهرًا، والشهر ثلاثون يومًا –غالبًا– السنة ثلاثمائة يوم وأربعة وستون يومًا، في الغالب"1.
2- وعامل النصب أو الجر بالإضافة في "التمييز المفرد"، وهو اللفظ المبهم، أي: المميز، أما عند الجر بالحرف: "من"، فإن هذا الحرف يكون هو العامل.
3- ولا بد من تقدم العامل على التمييز في جميع الأنواع الخاصة بتمييز الذات "المفرد"1.
4- وإذا تعدد تمييز المفرد، فالأحسن العطف بين المتعدد2، وإذا كان التمييز مخلوطًا من شيئين جاز تعدده بعطف وغير عطف، نحو: عندي رطل سمنًا عسلًا، أو: سمنًا وعسلًا.
ب- يختص تمييز "الجملة" أي: تمييز "النسبة" بالأحكام الآتية:
1– يجب نصبه إن كان محولًا عن الفاعل أو المفعول الصناعيين3؛ نحو: "ارتفع المخلص درجة، وعلا الأمين منزلة"، ومثل: "رتبت الحجرة أثاثًا، نظمت الكتب صفوفًا"، والأصل: ارتفعت درجة المخلص، علت منزلة الأمين، رتبت أثاث الحجرة، نظمت صفوف الكتب.
ومن تمييز الجملة الواجب النصب ما يكون واقعًا بعد أفعل التفضيل، نحو: المتعلم أكثر إجادة، وإنما يجب نصبه بشرط أن يكون سببًا4؛ أي: فاعلًا
__________
1و1 لتمييز العدد أحكام كثيرة، متشعبة، وتفصيلات متعددة، ولا سيما تقدمه، مكانها: "باب العدد" في الجزء الرابع، "م 94 ص 394"، وقد اقتصرنا هنا على ما يناسب موضوعنا.
2 والذي بعد العاطف لا يسمى تمييزًا، وإنما يعرب معطوفًا، برغم أنه يؤدي معنى التمييز، كما سيجيء في رقم5 من هامش ص424.
3 انظر رقم3 من هامش ص418، و"ب" من ص426.
4 معناه الأصيل في رقم2 من هامش ص426.(2/422)
في المعنى، كالمثال المذكور، وإلا وجب جره بالإضافة، وعلامة التمييز الذي هو فاعل في المعنى ألا يكون من جنس المفضل الذي قبله، وأن يستقيم المعنى بعد جعله فاعلًا مع جعل أفعل التفضيل فعلًا1؛ ففي المثال السابق نقول: المتعلم كثرت إجادته، وفي مثل: أنت أحسن خلقًا، نقول: أنت حسن خلقك ... وهكذا، ومثال التمييز الذي ليس بفاعل في المعنى: "على أفضل جندي، ومية أفضل شاعرة"، وضابط هذا النوع أن يكون أفعل التفضيل بعضًا من جنس التمييز؛ فيصح أن يوضع مكان أفعل التفضيل كلمة: "بعض" مضافة، والمضاف إليه جمع يقوم مقام التمييز ويحل في مكانه؛ فلا يفسد المعنى، ففي المثال السابق نقول: علي بعض الجنود، ومية بعض الشاعرات، وإذا لم يصح أن يكون فاعلًا في المعنى وجب جره بالإضافة كما قلنا، لوجوب إضافة أفعل التفضيل إلى ما هو بعضه2 "متابعة للرأي الأشهر".
وإنما يجب الجر بالإضافة هنا بشرط أن يكون أفعل التفضيل غير مضاف لشيء آخر غير التمييز، فإن كان مضافًا وجب نصب التمييز؛ نحو: علي أفضل الناس إخوة، ومية أفضل النساء أشعارًا.
ومما تقدم نعلم أن تمييز أفعل التفضيل يجب نصبه في حالتين وجره في واحدة.
ومن تمييز الجملة الذي يجب نصبه، ولا تصح إضافته3: ما يقع بعد التعجب القياسي، أو السماعي4؛ فالأول، نحو: ما أحسن الغني مشاركة في الخير
__________
1 لهذا إيضاح يجيء في "ب" من الزيادة والتفصيل ص426، وبيان مفيد آخر في باب: "أفعل التفضيل" ج3 م 112 ص 338.
2 كما سيجيء في بابه بالجزء الثالث م 112 ص 338، وفي هذه الصورة يقول ابن مالك:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ... مفصلًا: كأنت أعلى منزلا
3 فيمتنع جزء بالإضافة حتمًا، دون جره بمن في بعض الصور كما سيجيء في رقم1 من هامش ص424.
4 القياسي يكون بإحدى الصيغتين المخصصتين له، وهما: ما أفعله، وأفعل به. "وسيجيء الكلام المفصل عليهما في مكانه من الجزء الثالث، باب: "التعجب". أما التعجب بغيرهما فمقصور على السماع، ويقال له: التعجب العرضي، وفي هذه الصورة يقول ابن مالك:
وبعد كل ما اقتضى تعجبا ... ميز، كأكرم بأبي بكر أبا
وذكر بعد هذا البيت بيتا سبق أن نقلناه، وشرحناه بمناسبة أخرى في هامش ص421، هو:
واجرر "بمن" إن شئت غير ذي العدد ... والفاعل المغني: كطب نفسًا تفد(2/423)
أحسن بالغني مشاركة في الخير، والثاني نحو: لله در العالم مخترعًا1 حسبك به رجلًا كفى به نافعًا، يا جارتا ما أنت جارة2 حسبك بالصادق رجلًا، وقول الشاعر:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة3 ... وحولك أكباد تحن إلى القد4
2– لا يجوز تعدده بغير عطف؛ نحو: نما الغلام جسمًا وعقلًا5 ...
3– عامل النصب في هذا التمييز هو ما في الجملة من فعل، أو: شبهه6.
4– لا يجوز تقديم هذا التمييز على عامله إذا كان العامل جامدًا، كأفعل في التعجب؛ وكنعم وبئس7، وأخواتهما من أفعال المدح والذم، نحو: "ما أنفع
__________
1 يجوز فيه وفيما بعده جره بمن بملاحظة ما سبق في رقم3 من هامش ص418، وما سيجيء في "ج" من الزيادة ص427 والدر: اللبن، أي: أن اللبن الذي ارتضعه هذا الرجل ونشأ عليه، لبن غير معتاد ولا مألوف، إنما هو لبن موضع العجب، إذ أنشأ هذا الرجل الذي لا مثيل له؛ فهو لبن خاص من عند منشئ العجائب، ومبدعها الأول؛ وهو: الله، "راجع رقم2 من هامش ش 22 وجـ من ص 427 من هذا الجزء، ثم الجزر الأول ص 504 م 38. من الطبعة الرابعة".
2 "يا جارتا": أصلها: يا جارتي، منادى منصوب؛ لأنه مضاف لياء المتكلم، المنقلبة ألفًا، وهذا الأسلوب تتعدد فيه الصور الإعرابية بتعدد المعاني، فقد تكون "ما" حرف نفي خرج من معناه للتعجب، والجملة بعدا اسمية؛ "مبتدأ وخبر" خالية من التمييز، ويكون المعنى: لست جارة، وإنما أنت شيء أكثر منها: فأنت أم، أو أخت، أو إحدى القريبات الحميمات، أي: بمنزلة واحدة من هؤلاء؛ إعلانًا للتعجب من عملها الذي لا يصدر من جارة، وإنما يصدر من واحدة ممن سبقن.
وقد تكون "ما" استفهامية، خبر مقدمًا، و"الضمير" مبتدأ مؤخر، و"جارة": تمييز، والجملة تفيد التعجب بسبب أداة الاستفهام الدالة على الاستعظام؛ فقد خرج عن معناه الحقيقي إلى التعجب، ويصح في هذه الصورة أيضًا أن تكون: "جارة" حال مؤولة، بمعنى: ملاصقة ...
ويصح أن تكون "ما" نافية، والجملة بعدها منفية، أي: أنت لست أهلًا أن تكوني جارة ... و ...
3 شدة امتلاء المعدة بالطعام.
4 القطعة من الجلد الجاف غير المدبوغ.
5 وما بعد العاطف يعرب معطوفًا، ولا يسمى في الاصطلاح تمييزًا؛ ع أنه يؤدي معنى التمييز، كما سبق في رقم 2 من هامش ص422.
6 وهذا عند غير ابن مالك، وقد سجلنا رأيه في رقم2 من هامش ص417.
7 انظر رقم1 من هامش ص 301 م 110 جـ3 باب "نعم وبئس"، ففيه أحكام خاصة بتمييزها، ومنها: أنه لا يصح تأخيره عن المخصوص بالمدح أو الذم.(2/424)
الطبيب إنسانًا، ونعم الأمين رفيقًا، وبئس القاسي رجلًا"، أو كان فعلًا متصرفًا يؤدي معنى الجامد؛ نحو: كفى بالطبيب إنسانًا، فإن الفعل: "كفى" متصرف ولكنه بمعنى فعل غير متصرف، وهو فعل التعجب، فمعنى قولنا: كفى بالطبيب إنسانًا: ما أكفاه إنسانًا:
أما في غير هاتين الصورتين الممنوعتين، فالأحسن عد تقديم التمييز1على عامله.
وأما توسط هذا التمييز بين عامله ومعموله، فجائز بشرط أن يكون العامل فعلًا أو وصفًا يشبهه؛ نحو: صفا نفسًا الورع، وقول المتنبي:
فهن أسلن دما مقلتي ... وعذبن قلبي بطول الصدود
__________
1 في حكم تقديم التمييز على عامله، وعدم تقديمه يقول ابن مالك:
وعامل التمييز قدم مطلقًا ... والفعل ذو التصريف نزرًا سبقًا
يريد: أن عامل التمييز يجب تقديمه؛ سواء أكان التمييز مفرد أم تمييز نسبة، ثم بين أن التمييز إن كان عامله فعلًا متصرفًا، وهذا لا يكون إلا في تمييز الجملة، فقد يتأخر هذا العامل ويتقدم التمييز عليه في حالات نادرة، والأحسن عدم القياس هنا.(2/425)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– تمييز النسبة قد يكون غير محول إلا بتأويل لا داعي له، نحو: امتلأ الإناء ماء؛ إذ لا يقال: امتلأ الماء.
ب– عرفنا1 أن التمييز الواجب النصب بعد "أفعل التفضيل" هو السببي2، وأنه نوع من تمييز الجملة؛ إذ أصله: "فاعل" وأصل "أفعل" هو: الفعل، ومن الممكن إرجاعهما إلى أصلهما؛ فتعود الجملة الفعلية للظهور، وتجرع لأصلها الذي تركته، وتحولت عنه إلى أسلوب آخر ...
لكن كيف يتحقق هذا؟ ففي مثل: أنت أكثر مالًا، وأعلى منزلًا، ونظائرهما لا يمكن تحويل أفعل إلى فعل يؤدي المعنى الأصلي الأساسي لصيغة التفضيل، "وهو الكثرة، والعلو مثلًا"، مزيدًا عليه الدلالة على التفضيل.
يرى بعض النحاة في هذا النوع التفضيلي أنه محول عن مبتدأ مضاف، والأصل، مالك أكثر؛ ومنزلك أعلى ... فصار المبتدأ تمييزًا، وصار الضمير المتصل المضاف إليه مبتدأ مرفوعًا منفصلًا، وفي هذه الحالة وأمثالها يجيء التمييز محولًا عن المبتدأ.
ويرى آخرون؛ أن المراد معروف من السياق، وهو: أنه كثر كثرة زائدة، وملأ علوًا زائدًا، فلا يفوت التفضيل بتحويله عن الفاعل، أو: أن فوات معنى التفضيل غير ضار؛ إذ لا يجب بقاؤه في الفعل الموضوع مكان أفعل التفضيل في هذا الباب، قياسًا على عدم بقائه في بعض أبواب أخرى.
وكلا الرأيين حسن، ولعل الرأي الثاني –بوجهتيه– أحسن؛ لأن فيه تخفيفًا من غير ضرر، وتقليلًا للأقسام بحصرها في الفاعل والمفعول به.
__________
1 في آخر ص422.
2 هو المتصف في المعنى بالشيء الجاري في اللفظ على غير هذا المتصف به؛ فإن المنزل في مثل: أنت أعلى منزلًا هو المتصف في المعنى بالعلو، مع أن العلو
جار في اللفظ على المخاطب.(2/426)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جـ– من الأساليب المسموعة في التمييز: لله در خالد فارسًا1، فكلمة: "فارسًا"، وأشباهها مما يحل محلها في هذا التركيب، ويكون مشتقًا2 يصح إعرابها حالًا؛ لاشتقاقها؛ ولأن المعنى يتحمل الحالية، ويصح إعرابها تمييزًا للنسبة؛ والمعنى على هذا التمييز أوضح، وبه أكمل.
وإنما يكون التمييز في مثل: "لله در خالد فارسًا" من تمييز النسبة إذا كان المتعجب منه "وهو المميز" اسمًا ظاهرًا مذكورًا في الكلام كهذا المثال، أو كان ضميرًا مرجعة معلوم؛ نحو: سجل التاريخ أبدع صور البطولة لخالد بن الوليد؛ لله دره بطلًا أو: يا له رجلًا، أو: حسبك به فارسًا ... فالضمير هنا وهو الهاء معروف المرجع: فإن جهل المرجع وجب اعتبار التمييز من تمييز المفرد3؛ لأن الضمير مبهم، فافتقاره إلى التمييز ليكون مرجعًا يبين ذات صاحبه؛ ويوضح حقيقته أشد من افتقاره إلى بيان نسبة التعجب إليه "أي: إلى
صاحب الضمير"، أما الضمير المعلوم فبالعكس كما ذكرنا4، ومثل هذا يقال في الضمير المتصل بالصيغتين القياستين في التعجب"، وهما "ما أفعله، وأفعل به".
أما تمييز الضمير المستتر في: "نعم" و"بئس" في مثل: الفارس نعم رجلًا، الجبال بئس جنديًا، فالأحسن اعتباره من تمييز المفرد؛ برغم أن مرجعه مذكور دائمًا: وهو: التمييز، ومثله: ربه رجلًا.
أما تمييز "كم" في مثل: كم رجلًا شاركتهم؛ فإنه مفرد من نوع تمييز العدد؛ لأن "كم" كناية عنه.
__________
1 سبق شرحها مع غيرها وبيان حكمها في رقم3 من هامش ص418، ولها شرح مع غيرها في رقم4 من هامش ص426، وكذا في رقم2 من هامش ص22 وكذا في ص504 جـ1 م 38 من الطبعة الرابعة.
2 ومثلها كلمة: "منظر" في قول الشاعر:
حسن الأزاهر سحر، جل مبدعه ... فاسعد بها منظرًا، وانعم بها طيبًا
3 كأن ينظر شخص قائدين، أحدهما راكب، والآخر راجل، ثم يقول عن غير إعلان، ولا تصريح باسم أحدهما: لله دره فارسًا، أو: يقرأ نصين؛ أحدها نثر، والآخر شعر، وهما لأديب واحد ثم يقتصر على أن يقول: الله دره شاعرًا.
4 هذا النوع هو الذي أشرنا إليه في رقم2 من هامش ص 418.(2/427)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
د– تجب مطابقة تمييز الجملة للاسم السابق1 في مواضع، ويجب ترك المطابقة في أخرى، وقد تترجح المطابقة أو عدمها في ثالثة، وفيما يلي البيان:
فتجب المطابقة في الحالات التالية:
1– إن كان كل من التمييز والاسم السابق عليه في الجملة لشيء واحد، أي أن مدلول كل منهما هو مدلول الآخر؛ نحو: كلام علي رجلًا، "فالرجل هو: علي، وعلي هو: الرجل"، وكرم العليان رجلين، وكرم العليون رجالًا، وكرمت عبلة فتاة، وكرمت العبلتان فتاتين، وكرمت العبلات فتيات ... و ...
2– إن كان مدلول التمييز غير مدلول الاسم السابق1، ولكن هذا الاسم السابق جمع، والتمييز مصدر فإنه يجمع إذا اختلفت أنواعه باختلاف الأفراد التي يدل عليها الاسم السابق، وتنطبق عليها تلك الأنواع، وتنصب عليها، نحو: خسر الأشقياء أعمالًا، فقد جمع التمييز "أعمالًا" بقصد معين: هو بيان أن هذه الأعمال مختلفة الأنواع، وأن كل نوع منها يصيب شقيا، وهو فرد من أفراد الاسم السابق المجموع: "الأشقياء".
3– إن كان التمييز غير الاسم السابق، ولكن الاسم السابق جمع، والتميز جمع متعدد، غير مصدر، فيجمع لإزالة ليس محتمل؛ نحو: كرم الأولاد آباء، فقد جمع التمييز: "آباء" ليدل جمعه على أن لكل ولد أبًا، وليسوا إخوة، ولو لم نجمعه، وقلنا: كرم الأولاد أبًا، لقوى احتمال أنهم إخوة من أب واحد.
ويجب ترك المطابقة فيما يأتي:
1– إن كان معنى التمييز واحدًا ليس له أفراد متعددة، ومعنى الاسم السابق متعددًا؛ نحو: كرم الأولاد أبًا "إذا كانوا إخوة لأب".
2– أو كان التمييز غير الاسم السابق، ولكن الاسم السابق مفرد، والتمييز جمع متعدد غير مصدر، وقصد بجمعه إزالة لبس محتمل؛ نحو: نظف المتعلم أثوابًا، وكرم الشريف آباء، فلو طابق التمييز الاسم السابق لوقع في الوهم
__________
1و1 أي: الممييز.(2/428)
أن المقصود ثوب واحد، وأب واحد، ولإزالة هذا الاحتمال، والوهم جمع التمييز.
3– أو كان التمييز مصدرًا لا يقصد أن تختلف أنواعه، نحو: أحسن الجنود عملًا.
وتترجح المطابقة في مثل؛ حسنت الفتاة عينًا؛ لأن احتمال اللبس يكاد يكون معدومًا؛ إذ لا يكاد يخطر على البال أن السن مقصور على عين واحدة. ويترجح تركها في: حسن الفتيان، أو الفتية وجهًا، للسبب السالف.
هـ- يتفق الحال والتمييز في أمور، ويفترقان في أخرى، وأهم ما يتفقان فيه خمسة أمور:
كلاهما: اسم، نكرة، منصوب، فضلة، رافع للإبهام.
وأهم ما يختلفان فيه سبعة:
1– التمييز لا يكون إلا مفردًا1، أما الحال فقد تكون جملة، أو شبه جملة.
2- التمييز لا يكون إلا فضله، أما الحال فقد يتوقف عليها المعنى الأساسي كما سبق في بابها2.
3- التمييز مبين للذوات أو للنسبة، والحال لا تكون إلا مبينة للهيئات.
4– تمييز الجملة لا يتعدد إلا بالعطف؛ نحو: ارتفع النبيل خلقًا، وعلمًا، وجاهًا. والأحسن في التمييز المتعدد للمفرد أن يكون تعدده بالعطف، إلا إن كان المراد من التمييز المتعدد المفرد معنى واحدا كالاختلاط في مثل عندي رطل عسلًا سمنًا؛ فيجوز التعدد مع العطف، وبدونه3 أما الحال فتعدد بعطف وبغير
__________
1 ليس جملة، ولا شبهها.
2 في ص364، وفي رقم3 من ص 408.
3 انظر رقم4 من ص422.(2/429)
عطف؛ نحو أقبل المنتصر، فرحًا، مسرعًا، مصافحًا رفاقه، أو فرحًا ومسرعًا، ومصافحًا.... وعند وجود العاطف لا تسمى في الاصطلاح "حالًا"، وإنما تعرف معطوفًا، برغم أنها تؤدي معنى الحال
1، وكذلك التمييز بعد العاطف لا يسمى في الاصطلاح تمييزًا، وإنما يعرب معطوفًا.
5– لا يصح تقديم تمييز المفرد على عامله، والأحسن عند تقديم تمييز الجملة على عامله، إذا كان فعلًا مشتقًا، أو وصفًا يشبه، أما الحال فيجوز.
6– التمييز في الغالب يكون جامدًا2، أما الحال فتكون مشتقة وجامدة3.
7– التمييز لا يكون مؤكدًا لعامله في الصحيح4، والحال قد تكون مؤكدة.
__________
1 راجع ما يختص بهذا في ص386 من باب الحال، حيث التفصيل.
2 من أمثلة مجيئه مشتقًا قولهم: لله دره فارسًا انظر البيان الذي في: "ج" ص 427.
3 تقدم في ص368 مواضع اشتقاقها وجمودها.
4 يلاحظ الفرق الكبير بين هذا الحكم، والذي سبق في رقم2 من هامش ص 416.(2/430)
المسألة 89: حروف الجر
مدخل
...
المسألة 89: حروف الجر 1
يتناول الكلام عليها الأمور الآتية: "وأكثرها دقيق هام".
"عددها، وبيانها"، "عملها"، "تقسيمها من ناحية هذا العمل، والأصالة فيه، أو عدمها؛ وما يترتب على ذلك من التعلق بالعامل، وآثار التعلق ... ".
- "معاني كل حرف، ووجوه استعماله"، "حذف حرف الجر وحده مع إبقاء عمله، وحذفه مع مجروره"، "نيابة حرف جر عن آخر".
أ– فأما عددها وبيانها فالمشهور منها عشرون2؛ هي:
من – إلى - حتى – خلا – عدا – حاشا – في – عن – على – مذ – منذ – رب – اللام – كي – الواو – التاء – الكاف – الباء – لعل – متى.
ب– وأما عملها فهو جر آخر الاسم3 الذي يليها في الاختيار
__________
1 يسميها بعض القدماء "حروف" الإضافة، لما يأتي في رقم2 من هامش ص 437"، وقد يطلقون عليها أحيانًا: "الظروف"؛ لأن "الظروف" يشمل "شبه الجملة" بنوعيه المعروفين؛ وهما: الظرف والجار مع مجروره، "انظر رقم1 من هامش ص243 حيث بيان المراجع"، وقد يطلق على كل واحد منهما: "شبه الوصف، أو شبه المشتق"؛ لسبب المبين في رقم3 من هامش ص373، ولما في هامش ص449.
2 لم ندخل في عدادها الحرف: "لولا" الداخل على ضمير غير مرفوع "عند من يقول بأنه حرف جر شبيه بالزائد، كما سيجيء في ص452، فما بعده مجرور لفظًا مرفوع محلًا، على أنه مبتدأ"؛ لأن من هذا تعقيدًا.
3 ليست حروف الجر وحدها هي السبب، أو العامل في جر الاسم؛ فأسباب جزء أو عوامله الأصلية ثلاثة.
"أولها": حروف الجر؛ فكل حرف منها لا بد له من اسم بعد يجره على الوجه المبين في هذا الباب.
"ثانيها": أن يكون الاسم مضافًا إليه، "ثالثها": أن يكون الاسم تابعًا لمتبوع مجرور: فالنعت، والعطف، والتوكيد، والبدل، مجرورة حتما إذا كان المتبوع مجرورًا.
بقي سببان آخران للجر؛ "أحدهما": الجر على "التوهم"، ومن صواب الرأي إهماله، وعدم الاعتداد به "كما قلنا في ص347 و535، وفي جـ1 ص 522 م 49 بعد أن أوضحناه، وتناولنا بالبيان في الموضعين، وفي جـ 3 م 93 ص8.
والآخر الجر على: "المجاورة" والواجب التشدد في إغفاله، وعدم الأخذ به مطلقًا، أما الداعي لاتخاذه =(2/431)
مباشرة1، جرًا محتومًا2؛ ظاهرًا، أو مقدرًا، أو محليًا3، فالظاهر كالذي
__________
= سببًا للجر عند القائلين به فوروده في أمثلة قليلة وبعضها خطأ، أو مشكوك في صحة نقله عن العرب قد اشتملت على جر الاسم من غير سبب ظاهر لجره، إلا مجاورته لاسم مجرور قبله مباشرة؛ منها: هذا "جحر ضب خرب"؛ بجر كلمة: "خرب" مع أنها صفة لكلمة: "جحر" ولا تصلح صفة لكلمة: "ضب"؛ لأن الضب لا يوصف بأنه خرب.
ومنها قول الشاعر القديم: "يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... "؛ بجر كلمة: "كل" مع أنها توكيد لكلمة: "ذوي" المنصوبة؛ إذ لو كانت توكيدًا لكلمة: "الزوجات" لقال: كلهن، وقد تأول النحاة المثال الأول بأن أصله: هذا جحر ضب خرب الجحر منه، أو خرب جحره، ثم حذف ما حذف؛ وبقي ما بقي، واشتد الجدل في نوع المحذوف وصحته وعدم صحته، على الوجه المبين في المطولات، "ومنها الهمع ج2 ص55".
وقالوا في المثال الثاني: إنه خطأ أو ضرورة.
واتفق كثير من الأئمة على أن الجر بالمجاورة ضعيف، أو ضعيف جدًا، وعلى هذا لا يصح القياس عليه، وإنما يقتصر على الوارد فيه، المسموع عن العرب، كما جاء في خزانة الأدب للبغدادي ج2 ص324 بل جاء في كتاب: "مجمع البيان، لعلوم القرآن" "ج3 ص335" ما نصه: "إن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزًا في كلام العرب". ا. هـ، وكما في "المحتسب" لابن جني ج2 ص297 ونصه: "إن الخفض بالجوار أي المجاورة في غاية الشذوذ". ا. هـ.
"وقد أعدنا ما سبق لأهميته في أول الجزء الثالث ص8".
1 مباشرة: أي: بغير أن يفصل بينهما فاصل في الاختيار، لكن يجوز الفصل أحيانًا بكلمة "كان" الزائدة التي سبق الكلام عليها في باب: "كان" ج1 م44، كما يجوز الفصل بين الجار ومجروره بلا النافية، مثل: حضرت بلا تأخر، وسررت من لا إهمال، والكوفيون يعتبرون "لا" في هذه الحالة اسمًا بمعنى: "غير" مجرورًا بحرف الجر الذي قبله وأن "لا"، مضاف، والكلمة التي تليه هي المضاف إليه، أما غير الكوفيين، فيعتبره حرفًا باقيًا على حرفيته لا يتأثر بالعوامل، وإنما هو زائد معترض بين الجار والمجرور، وأنه مع زيادته يؤدي معنى النفي، وتظهر آثار الجار على ما بعده؛ فيكون الاسم بعده مجرورًا بحرف الجر الزائد. "راجع، ج1 مبحث "لا".
أما في حالة الضرورة الشعرية فقد يجوز مع القبح الفصل بينهما بالظرف، أو بالجار مع مجروره، أو بالمفعول، كقول الشاعر:
إن عمرًا لا خير في اليوم عمرو ... إن عمرًا مكثر الأحزان
وقول الآخر:
وإني لأطوي الكشح من دون ما انطوى ... وأقطع بالخرق الهبوع المراجم
والأصل: وأقطع بالهبوع المراجم الخرق، "الهبوع: الجمل الذي يمشي مشية حمار الوحش، والمراجم: الذي يرجم الأرض بأخفافه ويروى: المزاحم بالزاي. والخرق: المكان الواسع الذي تصفر فيه الريح".
2 لا يجوز إلغاء عمله الجر.
3 الجر المحلى فرع من الإعراب المحلى المختص بالكلمات المبنية؛ كالضمائر، وكأثر أسماء =(2/432)
في الأسماء المجرورة في قول الشاعر:
إني نظرت إلى الشعوب فلم أجد ... كالجهل داء للشعوب، مبيدا
والمقدر كالذي في كلمة: "فتى" في قولهم: ما من فتى يستجيب لدواعي الغضب إلا كانت استجابته بلاء وخسرانًا.
والمحلى كالذي في قولهم: لا أتألم ممن يسعى بالوقيعة بين الناس قدر تألمي من الذين يعرفونه، وهم إلى ذلك يستجيبون لما يقول ...
هذا، ومن آثار حرف الجر أنه إذا دخل على "ما" الاستفهامية أوجب حذف ألفها في غير الوقف1؟ نحو قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ؟ ونحو: لم التواني؟ وفيم الرضا بالهوان؟ ...
أما في الوقف فيجب حذف الألف، والإتيان بهاء السكت، وهي من الحروف الساكنة التي تزاد في آخر الكلمة، نحو: عمه؟ لمه؟ فيمه؟ ...
ج– وتنقسم هذه الحروف من ناحية الاسم الذي تجره إلى قسمين، قسم لا يجر إلا الأسماء الظاهرة، وهو: عشرة.
مذ – منذ – حتى – الكاف – الواو – رب2 – التاء – كي – لعل – متى.
__________
= الإشارة والموصول ... فيكون لفظ الكلمة مبينًا؛ لكنه في محل رفع، أو نصب، أو جر، على حسب ما يقتضيه العامل، ويختص كذلك بالجمل المحكية، وغيرها من الجمل الأخرى التي لها موقع إعرابي؛ كجملة النعت أو الحال ... ، كما يكون في المصادر المنسبكة، وهي في آخر الكلمة المجرورة بحرف جر زائد، أو شبيه بالزائد، كما سيأتي في هذا الباب.
وما سبق مبني على الرأي القائل: إنه الإعراب المحلي نوع يختلف عن الإعراب التقديري، "وقد عرض لهما الصبان في الجزء الثاني من حاشيته، أول باب الفاعل، عند الكلام على حكمه: "الرفع"، وأوضحنا هذا مفصلًا في المكان المناسب من الجزء الأول؛ باب: "المعرب والمبني" ... ص 80 م 6 و282 م 23.
1 ويقول ابن جني في كتابه: "المحتسب" ج2 ص347 في قراءة من قرأ
قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} بإثبات الألف في غير الوقف أو الضرورة ما نصه: "هذا أضعف اللغتين؛ أعني إثبات الألف في "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر"، وروينا عن قطرب لحسان:
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
ا. هـ.
2 ومن القليل الذي لا يقاس عليه جزء الضمير، وسيجيء البيان في ص 523.(2/433)
وقسم يجر الأسماء الظاهرة والمضمرة؛ وهو: العشرة الأخرى1، وسيأتي الكلام على معنى كل حرف من القسمين، وعمله.
وتنقسم من ناحية الأصالة وعدمها إلى ثلاثة أقسام، حروف أصلية وما قد يشبهها2، ويلحق بها أحيانًا وحروف زائدة3، وحروف شبيهة بالزائدة.
القسم الأول: الحرف الأصلي وشبهه2، وهو الذي يؤدي معنى فرعيًا جديدًا في الجملة، ويوصل بين العامل والاسم المجرور4؛ فله مهمتان يؤديهما معًا، وفيما يلي إيضاحهما:
أ– فأما من ناحية إفادته معنى فرعيًا جديدًا لا يوجد إلا بوجوده فيتجلى في مثل: "حضر المسافر"؛ فإن هذه الجملة مفيدة، ولكنها بالرغم من إفادتها
__________
1 في بيان حروف الجر، والمختص منها بالظاهر دون غيره، يقل ابن مالك:
هاك حروف الجر، وهي: من، إلى ... حتى، خلا، حاشًا، عدا، في، عن، على
مذ منذ، رب، اللام، كي، واو، وتا ... والكاف، واليا، ولعل، ومتى
بالظاهر اخصص منذ، مذ، وحتى ... والكاف، والواو، ورب، والتا
وقد اقتصر على سبعة أحرف تجر الظاهر، وترك ثلاثة؛ هي: كي، لعل، متى. ويقول أيضًا:
واخصص بمذ، ومنذ وقتًا، وبرب ... منكرًا والتاء لله، ورب
وما رووا من نحو: ربه فتى ... نزر، كذا كها، ونحوه أتى
أي: أن الكاف قد تجر المضمر شذوذًا.
2و2 بيان "الشبيه" موضح في رقم2 من هامش الصفحة التالية.
3 في الجزء الأول "م 5 ص66 و70" بيان مفيد عن المراد من اللفظ الزائد، سواء أكان حرفًا أم غير حرف، وأنه لا يصح اعتبار اللفظ "سواء أكان حرفًا أم غير حرف" زائدًا إن أمكن اعتباره أصليًا؛ لأن اعتبار الأصالة، مقدم على اعتبار الزيادة.
4 وهذا التوصيل هو ما يسمى: "التعلق" إلا الحرف: "على" إذا كان معناه الإضراب؛ فإنه يصح ألا يتعلق بعامل؛ كما سيجيء في ص512.(2/434)
تبعث في النفس عدة أسئلة، يكون منها: أحضر المسافر من القرية أم من المدينة؟ أحضر من بلد أجنبي، أم غير أجنبي؟ أحضر في سيارة، أم في طيارة، أم في باخرة، أم في قطار؟ أحضر إلى بيته، أم إلى مقر
عمله؟ ... و ... و ... ففي هذه الجملة المفيدة نقص معنوي فرعي فإذا قلنا: "حضر المسافر من القرية"، وأتينا بحرف الجر الأصلي "من"، وبعده مجرورة فإن بعض النقص يزول، ويحل محله معنى فرعي جديد، بسبب وجود "من"، فإنها بينت أن ابتداء المجيء هو: "القرية "، ولم يوجد هذا المعنى إلا بوجود "من"؛ فهي لبيان: "الابتداء" وقد ظهر هذا المعنى الفرعي الجديد على المجرور بها1.
وإذا قلنا: "حضر المسافر من القرية إلى مقر عمله"، فإن نقصًا آخر معنويًا يزول، ويحل محله معنى فرعي جديد، هو: "الانتهاء"؛ بسبب وجود "إلى"، فقد دلت على أن نهاية السفر هي مقر العمل، ولولا وجود: "إلى" ما فهم هذا المعنى الفرعي الجديد، فهي لبيان الانتهاء، وقد ظهر على المجرور بها.
ولو قلنا: "حضر المسافر من القرية إلى مقر عمله في سيارة" لزال نقص معنوي آخر، وحل محله معنى فرعي جديد؛ هو: "الظرفية" بسبب وجود حرف الجر الأصلي "في" الذي يدل على أن المسافر كان خلال حضوره في سيارة تحويه كما يحوي الظرف المظروف، أي: كما يحوي الوعاء الشيء الذي يوضع فيه، وهكذا بقية حروف الجر الأصلية كلها وكذا الشبيهة بالأصلية2، فإن كل حروف من النوعين لا بد أن يحمل معه للجملة المفيدة معنى فرعيًا جديدًا من المعاني3
__________
1 طبقًا للبيان الخاص بمعنى الحرف، والغرض منه، "وقد تقدم في جـ1 م5 ص62".
2 حرف الجر الشبيه بالأصلي هو: "لا الجر الزائدة" غير محضة: لأنها تجيء لتقوية عاملها الضعيف، ومن الممكن الاستغناء عنها: فإذا لوحظ أنها تفيد عاملها " التقوية" كان هذا معنى جديدًا جلبته معها، وأفادته عاملها؛ فيجب تعلقها مع مجرورها به، وإن لوحظ أنه يجوز حذفها فلا تتأثر الجملة بحذفها كانت زائدة زيادة غير محضة؛ لأن الحرف الزائد زيادة محضة لا يفيد شيئًا إلا توكيد معنى الجملة كلها، لا بعضها وسيجيء البيان عند الكلام على لام الجر الزائدة المحضة التي للتقوية ص475 وفيها المناقشة المفيدة التي قد تنتهي بالقارئ إلى رفض هذه التسمية المقصورة على نوع معين من أنواع اللام.
3 لكل حرف من حروف الجر الأصلية أو الشبيهة بالأصلية، عدة معان، ولكل معنى مقام يناسبه، وسياق يقتضيه، "وسيجيء في ص455 تفصيل هذا" لكن أيكون للحرف الواحد معنى واحدًا أم يكون له معان متعددة؟ وهل ينوب بعض حروف الجر عن بعض؟ الإجابة عن هذا في ص455.(2/435)
التي يختص بتأديتها، ولا يتكشف هذا المعنى الجديد إلا بعد وضع الحرف مع مجروره في الجملة المفيدة، وعندئذ يتكشف ويتحقق مدلوله على الاسم المجرور به كما سبق1.
أما وجود الحرف وحده أو مع مجروره بغير وضعها في جملة، فلا يفيد شيئًا.
هذا من ناحية إفادته معنى فرعيًا جديدًا لم يكن له وجود قبل مجيئه.
ب– وأما من ناحية وصله بين عامله والاسم المجرور وهو ما يسمى: "التعلق بالعامل"2، فالنحاة يقولون: إن الداعي القوي لاستخدام حرف الجر الأصلي مع مجروره، هو الاستفادة بما يجلبه للجملة من معنى فرعي جديد، وهذا المعنى الفرعي الجديد ليس مستقلًا بنفسه، وإنما هو تكملة فرعية لمعنى فعل أو شبهه في تلك الجملة، ويوضحون هذا بما يشبه الكلام السابق، ففي مثل: حضر المسافر من القرية نجد الجار مع مجروره قد أكملا بعض النقص البادئ في معنى الفعل: "حضر"؛ فلولاهما لتواردت علينا الأسئلة السالفة، لكن بمجيئهما انحسم الأمر. فلهذا يقال: الجار والمجرور متعلق بالفعل: "حضر"، أي: مستمسك ومرتبط به ارتباطًا معنويًا كما يرتبط الجزء بكله، أو الفرع بأصله؛ لأن المجرور يكمل معنى هذا الفعل، بشرط أن يوصله به حرف الجر الأصلي3، أو ما ألحق به.
__________
1 وقد أسهبنا القول في إيضاح معنى الحرف مطلقًا، وأن معناه لا يعرف من لفظه فقط؛ وإنما يعرف بعد وضعه في جملة، وأن هذا المعنى يظهر على ما بعده ... و ... كل هذا في ج1 ص62 م5.
2 وهذا التعلق مقصور على حرف الجر الأصلي وشبهه، دون الزائد وشبهه كما أسلفنا، وكما يجيء في ص453.
3 إلا الحرف "على" الذي للإضراب في مثل قول الشاعر:
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
كما سيجيء في ص512 و1 من هامش ص451 أما التفصيل والأمثلة ففي رقم8 ص510.
وهناك "اللام" الجارة الأصلية والزائدة ففي النوعين من ناحية تعلق كل منهما، وعدم تعلقه تفصيلات تترتب عليها أحكام اكتفينا بالإشارة إليها في رقم1 من هامش ص472، ورقم4 من هامش ص439 اعتمادًا على بسطها في بابها الأنسب، وهو باب: "الاستغاثة"، "ج4 م133 ص78".(2/436)
والنحاة يسمون هذا الفعل1"عاملًا".
ويقولون أيضًا: إن حرف الجر الأصلي وما ألحق به بمثابة قنطرة توصل المعنى من العامل إلى الاسم المجرور، أو بمثابة رابطة تربط بينهما؛ ولا يستطيع العامل أن يوصل أثره إلى ذلك الاسم إلا بمعونة حرف الجر الأصلي أو ما ألحق به؛ فهو وسيط، أو وسيلة للاتصال بينهما2، ومن أجل هذا كان حرف الجر الأصلي وملحقه مؤديًا معنى فرعيًا، وهو في الوقت نفسه أداة من أدوات تعدية الفعل اللازم لمفعول به معنى "أي: حكمًا"، وهذه الأداة تتغير وتتنوع طبقًا للمعنى الذي يراد منها أن تؤديه.
مثال آخر: "قعد الرجل" ... فهذه جملة مفيدة؛ لكن أقعد في البيت، أم في السفينة، أم في الحقل ... ؟ فمعنى الفعل: "قعد" في الجملة السالفة محتاج إلى تكملة فرعية تدعو للإتيان بالجار الأصلي مع مجروره؛ فإذا قلنا: قعد الرجل في السفينة ... انكشف المعنى الكامل للفعل: "قعد" بسبب اتصاله بالسفينة، وكان هذا الاتصال بمساعدة حرف الجر الأصلي، إذ ليس من الممكن أن نقول: قعد الرجل السفينة؛ بإيقاع المعنى على السفينة مباشرة بغير حرف الجر؛ لأن الاستعمال العربي الصحيح يأبى ذلك؛ برغم شدة احتياج العامل وهو هنا الفعل: "قعد" إلى كلمة: "السفينة" ليقع عليها أثره المعنوي، لكنه عاجز عن أن يوصله إليها بنفسه؛ فجاء حرف الجر الأصلي وسيطًا للجمع بينهما، ومعينًا على تذليل تلك الصعوبة، ووصل بين معنى الفعل
__________
1 وكذا ما يشبهه من العوامل الأخرى الآتية في ص439.
2 ولهذا يسميها بعض النحاة: "حروف الإضافة"، كما أشرنا في رقم1 من هامش ص431؛ لأنها إذا كانت أصلية "كما جاء في بعض المطولات، ومنها "المفصل" جـ2 ص117 تضيف أي تحمل وتنقل إلى الأسماء المجرورة بها معاني الأفعال وشبهها، من كل ما يقع عليه التعلق يشبه الجملة. ولو لم يوجد الحرف الأصلي ما تحققت الفائدة الفرعية التكميلية، ولا صح الأسلوب بعد حذف الجار وحده، وإبقاء مجروره السابق وهذا في غير المواضع القليلة التي يصح فيها حذفه، ويظل ملحوظًا بالرغم من حذفه، ومعتبرًا كالمذكور بخلاف غير الأصلي، فإنه حذفه وحده لا يفسد الأسلوب، وفائدته إما جديدة مستقلة، لا يقصد منها أن تتمم نقصًا في غيرها؛ وهذا هو: "الشبيه بالزائد"، وإما مؤكدة لمعناه؛ وهذا هو "الزائد"، كما سيجيء في ص450 و452.
لهذا كان ما يسمونه "التعلق بالعامل" مقصورًا على حرف الجر الأصلي مع مجروره، وكذلك ما ألحق به(2/437)
والاسم المجرور بعده، فهو بحق أداة اتصال بينهما؛ ولذا يعد وسيلة من وسائل تعدية الفعل اللازم إلى مفعول به تقديرًا، زيادة على ما يجلبه معه من معنى فرعي.
وكما سبق لا بد أن يتنوع هذا الحرف، ويتغير على حسب الغرض المعنوي المقصود1.
مثال ثالث: نام الوليد، فمعنى الفعل: "نام" معروف، ولكنه معنى يشوبه بعض النقص الفرعي؛ إذ لا يدل مثلًا على المكان الذي وقع فيه النوم، فالعامل؛ " وهو هنا الفعل: نام" بحاجة إلى إتمام المعنى بذكر المكان الذي وقع فيه أثره، فهل نقول: نام الوليد السرير؟ لا نستطيع ذلك؛ لأن الأساليب العربية السليمة تأباه، فالفعل عاجز عن إيصال معناه المباشر إلى تلك الكلمة، فنلجأ إلى الوسيط المساعد؛ وهو حرف الجر الأصلي، وشبهه ليوصل بين الاثنين، ويعدي الفعل اللازم إلى مفعول به معنى، "حكمًا"؛ فنقول: نام الوليد في السرير، ومثل هذا يقال في الفعلين: "دها"، و"ذم" من قول الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمه2 ... ذموه بالحق وبالباطل ...
وهكذا ...
من كل ما سبق نفهم أن حرف الجر الأصلي3 مع مجروره إنما يقومان بمهمة مشتركة ومزدوجة، كانت السبب القوي في مجيئهما؛ وهي: إتمام معنى عاملها، واستكمال بعض نقصه4 بما يجلبانه معهما من معنى فرعي جديد؛ وأحدهما وهو حرف الجر الأصلي3 يقوم بمنزلة الوسيط الذي يصل بين العامل والاسم المجرور،
__________
1 فيجب اختيار حرف الجر الذي يؤدي المعنى المراد، ولا يصح اختيار حرف لا يؤديه "راجع البيان الهام في ص161، وفي رقم4 من هامشها، ثم ما يتصل بهذا في ص537"، ومن ثم تنوعت حروف الجر بتنوع المعاني في قول الشاعر:
انتخب للقريض لفظًا رقيقًا ... كنسيم الرياض في الأسحار
فإذا اللفظ رق شف عن المعنى ... فأبداه مثل ضوء النهار
مثل ما شفت الزجاجة جسمًا ... فاختفى لونها بلون العقار
2 بأن يفعل ما يستدعي أن يذموه بسببه.
3 و 3 وكذا ما ألحق به.
4 لتجلية هذه المسألة أيضًا والسبب في وجوب التعلق، ولو بالمحذوف تراجع ص245، وما بعدها ففيها ما يتصل بوضوعنا ويفيد.(2/438)
فيحمل معنى الأول إلى الثاني، ويجعل عامله اللازم متعديًا حكمًا وتقديرًا، ويعبر النحاة عن كل هذا تعبيرًا اصطلاحيًا؛ هو: "أن الجار الأصلي وشبهه مع مجروره متعلقان بالعامل، حتمًا1"، فالمراد من تعلقهما حتمًا به هو: وجوب اتصالهما وارتباطهما به؛ لتكملة معناه الفرعي على الوجه الذي سلف.
كما نفهم أيضًا ما يقولونه من: أن الاسم المجرور بالحرف الأصلي وشبه وهو بمنزلة "المفعول به" لذلك العامل؛ لوقوع معنى العامل عليه؛ كما يقع على "المفعول به" الحقيقي؛ فكلا الاسمين يقع عليه معنى عامله، وكلاهما يتمم معنى العامل، "المتعلق به"، إلا أن المفعول به الحقيقي منصوب، ويصل إليه معنى ذلك العامل مباشرة أي: بغير وسيط أما الاسم الآخر، فمجرور بحرف الجر الأصلي، ولا يصل إليه معنى عامله "وهو المتعلق به" إلا بوسيط، ولا يصح تسميته مفعولًا به حقيقيًا، بالرغم من أنه بمنزلته2، كما لا يصح إعرابه فاعلًا، ولا مفعولًا به، ولا مبتدأ، ولا بدلًا3 ولا غير ذلك ... ، وإنما يقتصر في إعرابه على أنه "اسم مجرور بالحرف"، وكفى4 ...
أنواع العامل "أي: المتعلق به"، ومواضع ذكره وحذفه:
ليس من اللازم أن يكون العامل "أي: المتعلق به" فعلًا؛ فقد يكون فعلًا مطلقًا5، وقد يكون شيئًا آخر يشبهه؛ كاسم الفعل في مثل: نزال في
__________
1 إلا الحرف الأصلي: "على" إذا كان معناه الإضراب، فإنه يصح ألا يتعلق، وكذلك اللام الجارة الأصلية في بعض الآراء كما أشرنا في رقم3 من هامش ص 436 و2 من هامش ص444، ويجيء البيان والتفصيل والأمثلة في رقم 8 من ص510.
2 إذا كان بمنزلة المفعول به حكمًا ومعنى، فهل يجوز في توابعه النصب؟
الإجابة الصحيحة: لا، "راجع "ب" من ص125 ثم رقم3 من هامش ص151 ثم ص161".
3 يستثنى من هذا الحكم صورة خاصة يصح فيها عند فريق من النحاة إعراب الاسم المجرور بالحرف "بدلًا"؛ طبقًا للبيان التفصيلي في باب "البدل" ج3 ص 538 م123.
4 "ملاحظة": ما المراد الدقيق مما نقرؤه في بعض المراجع اللغوية، وغيرها، أن فعلًا معينًا لازمًا، يردفونه تصريحًا أو تمثيلًا؛ بأنه يتعدى بحرف جر معين؟ الجواب في رقم4 من هامش ص161.
5 أي: بغير تقيد بنوع الفعل، فيشمل الفعل الجامد، والمتصرف، والتام، والناقص، وغير ذلك ... إلا الفعل: "ليس"، ففي التعلق به خلاف.(2/439)
الباخرة، بمعنى: انزل في الباخرة، وحيهل على داعي المروءة، بمعنى: أقبل على داعي المروءة، وكالمصدر الصريح1 في قولهم: السكوت عن السفيه جواب، والإعراض عنه عقاب ... ومثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة من أقوى الدعائم لإصلاح المجتمع، وكالمشتق الذي يعمل عمل الفعل؛ نحو: أنا محب لعملي، فرح به، مرتاح لرفاقي فيه، وقول الشاعر:
يموت المداوي للنفوس ولا يرى ... لما فيه من داء النفوس مداويًا
وكذلك2 المشتق الذي لا يعمل3؛ كاسم الزمان، واسم المكان ... و ... نحو: انقضى مسعاك لتأييد الحق، وعرفنا مدخلك إلى أعوانه.
وقد يكون العامل لفظًا غير مشتق، ولكنه في حكم المؤول به "أي: يؤدي معنى المشتق"؛ مثل: "أنت عمر من قضائك"، فالجار مع مجروره متعلقان بكلمة: "عمر" الجامدة؛ لأنها مؤولة بالمشتق؛ فهي هنا بمعنى: عادل، ومثل قولهم: "قراءة كلام السفهاء علقم على ألسنتنا"، فالجار والمجرور متعلقان "بعلقم" الجامدة؛ لأنها هنا بمعنى: صعب، أو شاق، أو مؤلم، أو: مر ...
والمشهور: أن حرف الجر الأصلي مع مجروره لا يتعلقان بأحرف المعاني، ولكن
__________
1 وهو يشمل المصدر الدال على المرة، أو الهيئة، كما يشمل المصدر الميمي، والصناعي.
2 ومن أمثلة الفعل والمشتق الذي يشبهه قول الشاعر:
انظر إلى ورق الغصون فإنها ... مشحونة بأدلة التوحيد
وقول الآخر:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
3 هذا هو الراجح؛ لأن المشتق غير العامل لا يخلو من رائحة الفعل.
راجع حاشيتي: الخضري والصبان، أول باب: "إعمال اسم الفاعل" عند قول ابن مالك:
.............................. ... إن كان عن مضيه بمعزل
حيث علق الجار والمجرور: "عن مضيه" بكلمة: "معزل" التي اسم مكان، "وستجيء الإشارة هذا في ج3 ص243 م2-1 باب: اسم الفاعل، وفي ص 321 م 107".(2/440)
هذا المشهور مخالف لما نقلناه عن بعض المحققين1.
وقد يخلو الكلام من ذكر العامل2؛ لأنه:
أ– إما محذوف جوازًا لوضوحه؛ بسبب اشتهاره في الاستعمال قبل الحذف وأمن اللبس بعد الحذف، أو بسبب وجود دليل يدل عليه؛ فمثال الأول: "بأبي" في قول المتنبي:
بأبي من وددته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
وقول الآخر:
بنفسي تلك الأرض؛ ما أطيب الربا!! ... وما أحسن المصطاف3 والمتربعا4!!
يريد: أفدي بأبي، أفدي بنفسي، ومثال الثاني: أزورك في مساء الخميس أما أخوك ففي مساء الجمعة، أي: فأزوره في مساء الجمعة.
ب– وإما محذوف وجوبًا إذا كان هذا العامل2 دالًا على مجرد الكون العام، أي: الوجود المطلق؛ وذلك في مسائل؛ أشهرها سبعة:
1– أن يقع صفة، نحو؛ هذه رسالة في يد صديق عزيز.
2– أو: حالًا؛ نحو: نظرات الرسالة في يد صديق عزيز.
3– أو: صلة، نحو: استمتعت بالأزهار التي في الحديقة.
4– أو: خبرًا لمبتدأ أو لناسخ، كقول الشاعر:
جسمي معي، غير أن الروح عندكمو ... فالجسم في غربة، والروح في وطن
فليعجب الناس مني؛ أن لي بدنًا ... لا روح فيه، ولى روح بلا بدن
__________
1 راجع إيضاح هذا وتفصيله الكامل في باب: "الظرف" رقم4 من هامش ص245 م78.
"2و2" وهو: المتعلق به، وقد يكون تعلق شبه الجملة بالإسناد "أي: بالنسبة الواقعة بين ركني الجملة، وهذا إذا لم نتوصل إلى فعل أو شبهه مما يصح التعلق به، كقول ابن مالك في باب الاستثناء خاصا بالأداتين "خلا وعدا": "وحيث جرا فهما حرفان ... "، فالظرف "حيث" متعلق بالنسبة المأخوذة من قوله: "فهما حرفان" أي: تثبت حرفيتهما حيث جرا، "وقد سبق تفصيل وإيضاح لهذا في هامش ص357، وتسمية بالعامل المعنوي ص245".
3 المكان المختار لقضاء فصل الصيف فيه.
4 المكان المختار لقضاء فصل الربيع فيه.(2/441)
5– أو: أن يلتزم العرب حذفه في أسلوب معين؛ كقولهم لمن تزوج: "بالرفاء 1والبنين"، أي: تزوجت ... فلا يجوز في مثل هذا الأسلوب ذكر العامل؛ لأنه أسلوب جرى مجرى الأمثال، والأمثال لا تغير.
6– أو يكون حرف الجر هو "الواو" أو"التاء" المستعملتين في القسم، نحو: والله لا أبتدئ بالأذى، وقول الشاعر:
فوالله لا يبدي لساني حاجة ... إلى أحد حتى أغيب في القبر
تالله لأصنعن المعروف، التقدير: أقسم والله، أقسم بالله.
7– أو: أن يرفع الجار مع مجروره الاسم الظاهر عند من يقول بذلك2؛ بشرط اعتمادها على استفهام، أو نفي؛ نحو: أفي الله شك؟: ما في الله شك.
وإذا كان العامل محذوفًا جاز تقديره فعلًا، "مثل: استقر – حصل – وجد – كان بمعنى: وجد ... و ... " وجاز تقديره وصفًا يشبهه؛ "مثل: مستقر – حاصل – كائن ... "، إلا في القسم والصلة لغير "أل" الموصولة؛ فيجب تقديره فيهما فعلًا؛ لأن جملتي القسم والصلة لغير "أل"، لا تكونان هنا إلا جملتين فعليتين3، ولن يتحقق هذا إلا بتعلق شبه الجملة بفعل محذوف، لا بغيره.
وقد سبق أن أوضحنا جواز القول تيسيرًا بأن الجار والمجرور إذا وقعا صفة، أو صلة، أو خبرًا، أو حالًا، هما الصفة، أو الصلة، أو الخبر، أو الحال، من غير نظر للعامل، ولا اعتباره واحدًا من تلك الأشياء4.
ولما كانت العلاقة بين العامل "المتعلق به"، والجار مع مجروره على ما ذكرنا من الارتباط المعنوي الوثيق وجب أن ننتبه عند التعليق؛ فنميز العامل الذي يحتاج إلى الجار مع المجرور لتكملة معناه، من غيره الذي لا يحتاج؛ فنخص الأول بتعلقهما به، ونعطيه ما يناسبه، دون سواه من العوامل التي لا يصح التعلق بها؛ إما
__________
1 الرفاء "بكسر الراء المشددة" هو: التوافق، والالتئام، وعدم الشقاق.
2 وهو رأي يحسن اليوم إغفاله قدر الاستطاعة، لما يوقع فيه من بلبلة.
3 كما في هامش ص447 وما بعدها.
4 سبق هذا في ص248، وفي جـ 1 ص272، 346، وسيجيء في رقم 3 من هامش ص445 و447 كلام هام في هذا.(2/442)
بسبب الاكتفاء بمعنى العامل دون احتياج إلى الجار مع مجروره، وإما بسبب فساد المعنى المراد من العامل إذا تعلقا به.
بيان ذلك: أن الكلام قد يشتمل على عدة أفعال أو غيرها مما يشبهها، فيتوهم من لا فطنة له أن التعلق بكل واحد منها جائز؛ فيسارع إلى التعليق غير متثبت من حاجة العامل لهذا التعليق، في استكمال المعنى أو عدم حاجته، وغير ملتفت إلى ما يترتب عليه من فساد المعنى أو عدم فساده؛ كما يتضح من الأمثلة التالية:
"جلست أقرأ في كتاب تاريخي" ... فلو تعلق الجار والمجرور: "في كتاب" بالفعل: "جلس" لكان المعنى: جلست في كتاب ... ، وهذا واضح الفساد، لكن يستقيم لمعنى لو تعلقا بالفعل: "أقرأ"، فيكون: أقرأ في كتاب تاريخي ...
"قاس الطبيب حرارة المريض، وكتبها، بمقياس الحرارة"، فلو تعلق الجار والمجرور بالفعل: "كتب" لكان المعنى: كتب الطبيب حرارة المريض بمقياس الحرارة. وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يحصل، وإنما يصح المعنى بتعلقهما بالفعل: "قاس"؛ إذ كان الأصل: قاس الطبيب بمقياس الحرارة حرارة المريض، وهذا معنى سليم.
ويقول الرصافي:
جهلت كجهل الناس حكمة خالق ... كل الخلق طرًا بالتعاسة حاكم
وغاية جهدي أنني قد علمته ... حكيمًا، تعالى عن ركوب المظالم
فلو تعلق الجار والمجرور: "على الخلق" بالفعل: "جهل" لأدى هذا التعلق إلى فساد شنيع في المعنى؛ إذ يكون التركيب: جهلت على الخلق جميعًا أي: تكبرت عليهم، وأسأت إليهم، وهذا غير المراد، وكذلك لو تعلقا بالمصدر: "جهل" أو: "حكمة" ... ، أما لو تلعقا بالوصف المشتق: "حاكم" فإن المعنى يستقيم، ويتحقق به المراد، إذ يكون التركيب ... حاكم على الخلق طرا بالنعاسة ... ، ومثل هذا يقال في الجار والمجرور: "بالتعاسة".
ويقول الشاعر:
عداتك منك في وجل وخوف ... يريدون المعاقل والحصونا ...
فلو تعلق الجار ومجروره "منك" بكلمة: "عداة"1 لفسد المعنى، بخلاف
__________
1 جمع: عاد، بمعنى ظالم، "فهو عامل مشتق".(2/443)
تعلقهما بكلمة: "وجل" فإن المعنى معه يكون: غداتك في وجل منك ... وهو معنى مستقيم.
ومن الأمثلة السالفة يتبين أن متعلقهما قد يكون متأخرًا عنهما، أو متقدمًا عليهما؛ فليس من اللازم أن يتقدم عليها العامل الذي يتعلقان به، وقد اجتمع الأمران في قول الشاعر:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهمو ... لم يبن ملك على جهل وإقلال
وفي قول الآخر:
لئن لم أقم فيكم خطيبًا فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب ...
فالمراد: يبني الناس ملكهم بالعلم والمال ... لم يبن الناس ملكهم على جهل وإقلال لئن لم أقم فيكم خطيبًا، فإنني لخطيب بسيفي1 ...
فالواجب يقتضي في كل الأحوال أن نبحث لحرف الجر الأصلي2 مع مجروره عن "العامل" المناسب لهما، ولا سيما إذا تعددت حروف الجر ومجروراتها، وتعددت معها الأفعال وأشباهها3، وأن نميزه ونستخلصه من غير المناسب؛ ولا نتأثر في اختياره بقربه من الجار والمجرور، أو بعده عنهما، أو تقدمه عليهما أو تأخره، أو ذكره، أو حذفه4، وإنما نتأثر بشيء واحد؛ هو
__________
1 وكذلك في قول الشاعر:
الغني في يد اللئيم قبيح ... مثل قبح الكريم في الإملاق
وقول الآخر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
2 وشبهه، إلا الحرف الأصلي اللام، وكذا: "على" الذي للإضراب، فكلاهما يصح ألا يتعلق، "كما سبق في رقم3 من هامش436 ورقم1 من هامش 339 طبقًا للبيان الآتي في رقم8 من ص510".
3 الكثير ألا يتعلق حرفان للجر بعامل واحد إذا كانا بمعنى واحد كالذي في مثل: مررت بالوالد بالأخ؛ حتى لقد منع بعض النحاة هذا التعليق: منعًا باتًا.
أما عند اختلاف معنى الحرفين فيجوز تعلقهما بعامل واحد؛ نحو: كتبت بالقلم بالصحيفة، والحق أن المنع القاطع المطلق مخالف لظاهر كلام الزمخشري في قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ، فإنه يفيد الجواز مع كون معنى الحرفين: "من" الأولى والثانية واحدًا؛ ذلك؛ لأن الحرف الثاني إنما يتعلق بالفعل بعد تقييده بالأول، والأول إنما تعلق به في حال الإطلاق.
"راجع شرح التصريح وحاشية ياسين ج2 باب الحال عند الكلام على الحال مع صاحبها".
4 وقد اجتمع الذكر والحذف في قولهم: "من أشار على أخيه بشيء يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه" أي: موجودة في غيره.(2/444)
ما يكون بين العامل وبينهما من ارتباط معنوي يحتم اتصالهما به بطريقة تعلقهما به مع ملاحظة الرأي المشهور؛ وهو: أن شبه الجملة بنوعيه لا يتقدم على عامله المؤكد بالنون1.
وفي هذه الحالة التي يتمم فيها الجار والمجرور المعنى مع عاملهما يسميان "شبه الجملة2 التام"، فإن لم يكمل بهما المعنى "وقد يكون ذلك لعدم اختيار "المتعلق به" المناسب سميًا: "شبه الجملة الناقص"، نحو: محمد عنك، الشمس حتى اليوم، النهر بك ... و ... فهذه تراكيب فاسدة، بخلاف: محمد في البيت، الشمس على خط الاستواء، النهر لنا3.
__________
1 انظر البيان في 3 من هامش ص101.
2 شبه الجملة قسمان: الظرف، والجار مع مجروره، وفي باب الصلة خاصة يعتبر الوصف الواقع صلة "أل" بمنزلة شبه الجملة، "وقد تقدم إيضاح هذا في الجزء الأول عند الكلام على أنواع الصلة، وسيجيء في الهامش بعد هذا مباشرة بيان العلامة التي تميز شبه الجملة التام المفيد مما ليس تامًا ولا مفيدًا".
3 من المستحسن أن نلخص ما سبق متناثرًا "هنا في ص245 وما بعدها، وج 1 في بابي "الموصول"، و"المبتدأ والخبر" خاصًا يشبه الجملة؛ من ناحية التعلق، ووجوب حذف العامل أو جوازه، وشبه الجملة اللغو والمستقر ... و ... وما يصحب كل هذا من أحكام هامة، وإنما نعيده بمناسبة للكلام على حروف الجر؛ لأن الجار مع مجروره أحد الشرطين اللذين يسميان: "بشبه الجملة"، والشطر الآخر هو: "الظرف"، ويطلقه بعض القدماء على الشطرين ويزاد عليهما صلة "أل" خاصة "كما سبق في رقم 2"، فأنسب مكان لتسجيل كل ما يختص بشبه الجملة هو: " باب الظرف"، و"باب حروف الجر"، وإلى هذين البابين قبل غيرهما يتجه نظر الباحث في "شبه الجملة": حيث يجب أن يتجمع ويتركز في كل باب ما يناسبه من أحوال شبه الجملة، وأحكامه، دون الاعتماد على المتفرق في الأبواب الأخرى، لمناسبات طارئة.
الأصل المتفق عليه بين النحاة أن العامل في الظرف، وفي الجار مع مجروره يقع بنفسه في مواقع إعرابية مختلفة؛ منها: الصلة، والصفة، والخبر، والحال ... و ... ، فهل يقع شبه الجملة نفسه في تلك المواقع الإعرابية بدلًا من عامله، ويحل محله؟
لا مانع من هذا في رأي حسن لفريق من قدامى النحاة، بشرط أن يكون العامل في شبه الجملة بنوعيه محذوفًا، وبشرط أن يكون كل منهما مفيدًا بعد حذف العامل الذي يتعلقان به مع ملاحظة أن الذي يتعلق من أنواع الجار مع مجروره هو حرف الجر الأصلي مع مجروره وشبه الأصلي، دون حرف الجر الزائد وشبهه مع مجرورهما، وأوضح علامة تدل على وجود الفائدة المطلوبة من الظرف ومن الجار مع مجروره هو أن يفهم متعلقهما المحذوف بمجرد ذكرهما، ويتحقق هذا في صورتين:
الأولى: أن يكون هذا المتعلق المحذوف شيئًا يدل على مجرد الوجود العام، أي: الوجود المطلق دون زيادة معنى آخر، وهذا يسمى: "الاستقرار العام" أو: "الكون العام" ومعناهما: مجرد الوجود؛(2/445)
ملاحظة:
المشهور أن شبه الجملة التام بنوعيه "الظرف، والجار مع مجروره" إذا وقع
__________
= ففي نحو: "تكلم الذي عندك" أي: الموجود عندك لا يفيد الظرف: "عند" شيئًا أكثر من الدلالة على وجود الشخص وجودًا مطلقًا من غير زيادة شيء آخر على هذا الوجود؛ كالأكل، او الشرب، أو القراءة، أو سواها ... وهذا هو "الوجود العام"، أو: "الاستقرار العام" أو: "الكون العام" كما قلنا، ولا يحتاج في فهمه إلى قرينة، أو غيرها، وكذلك نحو: "سكت الذي في الحجرة" أي: الموجود في الحجرة وجودًا مطلقًا غير مقيد بزيادة شيء آخر؛ كالنوم، أو الضحك، أو المشي، وكذلك غيرهما من الأمثلة.
ولأن هذا الكون العام واضح "ومفهوم" بداهة طبقًا للبيان الهام الذي سبق في ص 246 وجب حذفه في مسائل؛ منها ما ذكرناه، وهو: أن يقع صلة، أو صلة، أو خبرًا، أو حالًا ... ؛ إذ لا داعي للإضافة بذكره من غير حاجة إليه.
الثانية: أن يكون متعلقهما أمرًا خاصًا محذوفًا جوازًا لوجود ما يدل عليه. ويظهر المتعلق الخاص في المثالين السابقين بأن نقول: تكلم الذي وقف عندك، وسكت الذي نام في الحجرة، فكلمة: "وقف" أو: "نام" تؤدي معنى خاصًا هو: الوقوف، أو: النوم، ولا يمكن فهمه إلا بذكر كلمته في الجملة، والتصريح بها، فليس هو مجرد حضور الشخص، ووجود المطلقين؛ وإنما هو الوجود والحضور المقيدين بالوقوف أو بالنوم، ولهذا لا يصح حذف المتعلق الخاص إلا بدليل يدل عليه وعندئذ يجوز حذفه؛ مثل: قعد صالح في البيت ومحمود في الحديقة؛ فقول: بل صالح الذي في الحديقة، تريد: بل صالح الذي قعد في الحديقة: فإن حذف المتعلق الخاص بغير دليل كان الظرف والحال مع مجروره غير تأمين؛ فلا يصلحان للصلة، ولا لغيرها مما سبق؛ مثل: هذا الذي أمامك، أو: منك، تريد هذا الذي غضب أمامك، أو: غضب منك، ومثل: غاب الذي اليوم ... أو: الذي بك، تريد: غاب الذي حضر اليوم، والذي استعان بك. فالمتعلق العام المطلق قد زيد عليه هنا ما جعله خاصًا مقيدًا، فلا يصح حذفه إلا بقرينة.
وظرف المكان هو الذي يكون متعلقه في الصلة كونًا عامًا واجب الحذف، أو كونًا خاصًا واجب الذكر إلا عند وجود قرينة؛ فيجوز معها حذفه أو ذكره. أما ظرف الزمان فلا يكون متعلقه إلا خاصًا؛ فلا يجوز حذفه إلا بقرينة، وبشرط أن يكون الزمن قريبًا من زمن الكلام، نحو: نزلنا المنزل الذي البارحة، أو: أمس، أو آنفًا، فإن كان زمن الظرف بعيدًا من زمن الإخبار بمقدار أسبوع مثلًا، لم يحذف العامل؛ فلا تقول يوم الأربعاء: نزلنا المنزل الذي يوم الخميس أو يوم الجمعة.
ولم أطله على تحديد النحاة للزمن القريب أو البعيد؛ ولكن قد يفهم من أمثلتهم أن القريب هو ما يتجاوز يومين، وأن البعيد ما زاد عليهما، وربما كان عدم التحديد مقصودًا منه ترك الأمر للمتكلم والسامع.
وشبه الجملة بنوعيه يسمى: "مستقرًا" "بفتح القاف، والمراد: مستقر فيه" حين يقع متعلقه "كونًا عامًا" يفهم بدون ذكره، ويسمى: "لغوًا" حين يقع متعلقه "كونًا" مذكورًا أو محذوفًا لقرينة تدل عليه، وإنما سمي "مستقرًا" لأمرين سبقت الإشارة إليهما في ص246 و250؛ لاستقرار معنى عامله فيه؛ أي: فهمه منه؛ ولأن حين يصير خبرًا مثلًا ينتقل إليه الضمير من عامله المحذوف، ويستقر فيه، وبسبب هذين الأمرين استحق عامله الحذف وجوبًا, وسمي "اللغو" لغوًا؛ لأن وجوده ضئيل =(2/446)
بعد نكرة محضة وجب إعراب متعلقه "عامله" نعتا، وإذا وقع بعد معرفة محضة.
__________
= الأثر مع وجود عامله: إذ لا يستقر فيه معنى عامله، ولا يتحمل ضميره. وفي هذه الحالة يكون العامل الملفوظ به في الجملة هو الخبر، أو الصفة، أو الصلة، أو الحال ... أو ... ، ويجب ذكره، ولا يجوز حذفه إلا لقرينة، ولو حذف لوجودها لكان مع حذفه أيضًا هو الخبر أو الصفة، أو الصفة، أو الحال ... فلا يصح في رأي الكثرة في حالتي ذكر الكون الخاص، أو حذفه أن يكون الظرف أو الجار مع مجروره خبرًا، أو نعتًا، أو واحدًا مما سبق، وهذا نوع من التشدد لا داعي له، إذ لا مانع هنا أن نعرب شبه الجملة بنوعيه هو الخبر، أو الصفة، أو الصلة، أو الحال، أو غيرها، وذلك عندما يحذف جوازًا عامله المعروف؛ لأن هذا الإعراب جائز في شبه الجملة الذي حذف عامله العام وجوبًا كما سيجيء، فلم لا يجوز هنا؟
ويتضح مما سبق أن شبه الجملة بنوعيه لا بد أن يدل في أصله على: "الوجود المطلق"، ثم يمتاز اللغو بدلالته فوق هذا على معنى خاص؛ كالمشي، أو الحركة ... وغيرهما مما يزاد عليه فيجعله خاصًا مقيدًا، بعد أن كان عامًا مطلقًا. ويتضح أيضًا أن الكون العام واجب الحذف مع شبه الجملة؛ إذ لا فائدة من ذكره؛ ولا خفاء، ولا لبس بحذفه، ولانتقال الضمير منه إلى شبه الجملة، وأن الكون الخاص يجب ذكره حتمًا؛ لعدم وجود ما يدل عليه عند حذفه، فإن وجدت قرينة تدل عليه وتعينه صح حذفه مثل: الفارس فوق الحصان، أي: راكب فوق الحصان، ومن لي بفلان؟ أي: من يتكفل لي بفلان؟ والبحتري من الشعراء؛ أي: معدود منهم، ومثل قوله تعالى في القصاص: {الْحُرُّ بِالْحُر} ، على تقدير: الحر مقتول بالحر؛ لأن تقدير الكون العام في الأمثلة السابقة لا يؤدي المعنى المراد، والمتعلق الخاص المحذوف لوجود قرينة تدل عليه هو الذي يعرب عندهم كما سبق خبرًا، أو صفة، أو صلة، أو حالًا ... لا شبه الجملة. وبالرغم من حذفه فإنه لا يخرج شبه الجملة في رأيهم عن اعتباره: "لغوًا" ولا يتنافى مع ما هو ثابت له من أنه: "كون خاص"، فالمعول عليهم عندهم في الحكم باللغو راجع إلى خصوص الكون، وأنه ليس بعام؛ سواء أذكر الكون الخاص أم حذفه لقرينة، وفي الحكم بالاستقرار إلى عموم
الكون، وأنه ليس بخاص.
وينتقلون بعد هذا إلى تقسيمات وتفريعات شاقة، وأدلة جدلية مرهقة في إثبات ذلك الأقسام والفروع، وفي المفاضلة بين أن يكون المتعلق المحذوف فعلًا أو اسمًا؛ وغير هذا مما لا حاجة إليه اليوم، ولا ضرر من إهماله، بل الخير في إهماله، ولا الاقتصار عند حذف العامل على إعراب الظرف، والجار مع مجروره هو: الخبر، أو الصفة، أو الصلة، أو الحال ... وهو رأي لبعض السابقين، ولا داعي التشدد في البحث عن نوع العامل المحذوف مع عدم الحاجة إليه، ولا للتمسك بأنه هو الخبر، أو الصفة ... أو ... ، ولا خير في ركوب الشطط لإظهار آثاره. لأن المعنى جل كامل بدونه، إن ذلك التشدد هو صورة من الجانب المعيب في نظرية العامل النافعة الجميلة، ولم الإعنات وفي استطاعتنا التخفيف والتيسير بغير إفساد؟
وقد دعا لهذا بعض القدامى كما أشرنا، وكما ورد في كثر من المراجع الكبيرة، كالمفصل وغيره، يقول صاحب المفصل "ج1 ص 90" عند الكلام على أقسام الخبر ما نصه:
"اعلم أنك لما حذفت الخبر الذي هو: "استقر" أو: "مستقر"، وأقمت الظرف مقامه. =(2/447)
وجب إعرابه حالا، أما إذا وقع بعد نكرة غير محضة، أو معرفة محضة فيجوز
__________
= على ما ذكرنا صار الظرف هو الخبر، والمعاملة معه "يريد أن الآثار اللفظية والمعنوية في الجملة قد انتقلت إليه"، وهو مغاير المبتدأ في المعنى، ونقلت الضمير الذي كان في الاستقرار إلى الظرف، وصار مرتفعًا به؛ كما كان مرتفعًا بالاستقرار؛ ثم حذفت الاستقرار، وصار أصلًا مرفوضًا لا يجوز إظهاره؛ للاستغناه عنه بالظرف، وقد صرح ابن جني بجواز إظهاره، والقول عندي أنه بعد حذف الخبر الذي هو الاستقرار، ونقل الضمير إلى الظرف لا يجوز إظهار ذلك المحذوف؛ لأنه قد صار أصلًا مرفوضًا، فإن ذكرته أولًا وقلت: زيد استقر عندك لم يمنع منه مانع.
واعلم أنك إذا قلت: "زيد عندك" فعندك ظرف منصوب بالاستقرار المحذوف؛ سواء أكان فعلًا: أم اسمًا، وفيه ضمير مرفوع، والظرف وذلك الضمير في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، وإذا قلت: زيد في الدار، أو: من الكرام، فالجار والمجرور في موضع نصب بالاستقرار على حد انتصاب، "عندك" إذا قلت: زيد عندك، ثم الجار والمجرور والضمير المنتقل في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ ... ا. هـ.
وهو يشير بقوله: "الجار والمجرور في موضع نصب بالاستقرار ... " إلى ما هو معروف في الاصطلاح النحوي من أن المجرور بحرف جر أصلي، وشبهه هو "مفعول به" في المعنى، وحرف الجر أداة لتوصيل أثر الفعل إليه "كما شرحنا أول الباب، ص 439، وفيما سبقه من ص 151 و 159 و ... ".
وعلى هذا يكون ما يدور على الألسنة اليوم عند الإعراب من أن الظرف، أو الجار مع مجروره هو الصلة، أو الصفة، أو الخبر، أو الحال ... أمرًا سائغًا مقبولًا، ورأيًا لبعض القدامى يحمل طابع التيسير والاختصار.
فإن وقع أحدهما في تلك المواضع فقد يتعلق بشيء مذكور يصلح للتعلق، كالفعل ونحوه ... وقد يتعلق بفعل محذوف أو بمشتق، أو غيره مما يصح التعلق به، ولا يتحتم أن يكون المحذوف فعلًا إلا حين يقع صلة، لغير "أل"؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة "والوصف المشتق مع مرفوعه ليس جملة، ولا يكون صلة لغير "أل"، كما عرفنا في باب الموصول، وكذلك يتحتم أن يكون فعلًا في حالة القسم الذي حذفه عامله؛ لأن جملة القسم أيضًا لا بد أن تكون فعلية كما سبق في ص442.
ومما تجدر ملاحظته أن شبه الجملة بنوعيه "الظرف، والجار الأصلي مع مجروره" إذا تعلق بفعل مؤكد بالنون لم يجز أن يتقدم على هذا الفعل في الرأي المشهور دون الرأي الآخر طبقًا للبيان الذي سبق في رقم3 هامش ص101، وأشرنا إليه في أول ص445.
وإذا أخذنا بهذا الرأي السهل اليسير كانت تسمية الظرف والجار مع مجروره "شبه جملة" إنما هي من قبيل الإبقاء على التسمية القديمة، ومراعاة أصلها السابق، أو: لأن كلا من الظرف والجار مع مجروره ليس مفردًا في الحقيقة، بل هو مركب؛ إذ يحمل معه الضمير المستتر الذي انتقل إليه من العامل المحذوف على الوجه الذي بسطناه.
أما التسمية القديمة وأصلها السابق فقد أوضحناهما من قبل بما ملخصه:
أن الظرف أو الجار مع المجرور ليس هو الخبر، ولا الصفة، ولا الصلة، ولا الحال، و ... =(2/448)
إعرابه في كل صورة من الصورتين، حالًا، أو نعتًا، لكن يقول بعض المحققين: إن متعلق شبه الجملة يصلح أن يكون حالًا أو نعتًا في جميع الصور؛ سواء أكانت النكرة والمعرفة محضتين أم غير محضتين، ما عدا صورة واحدة يتعين أن يكون شبه الجملة فيها نعتًا، هي: أن تكون النكرة محضة، ورأيه حسن، وقد سبق إيضاحه التام وتفصيله1.
وحروف الجر السابقة كلها أصلية خالصة، إلا أربعة؛ هي: "من"، و"الباء" و"اللام" و"الكاف"، فهذه الأربعة تستعمل أصلية حينًا، وزائدة حينًا آخر، وإلا "لعل" و"رب"؛ فإنهما حرف جر شبيهان بالزائد، وكذا: "لولا" في رأي أشرنا إليه من قبل2، ومن النحاة من يجعل: خلا، وعدا،
__________
= و ... في رأي جمهرتهم، وإنما الخبر وغيره في الحقيقة لفظ آخر محذوف يتعلق به الظرف والجار الأصلي مع مجروره؛ إذ لا مهمة لشبه الجملة إلا إتمام المعنى في غيره، لهذا لا بد لنوعيه أن يتعلقا بفعل أو بما يشبهه؛ ليتم بهما المعنى للأسباب الموضحة في أول هذا الباب وفي باب الظرف، والمحذوف قد يكون فعلًا فقط أما فاله الضمير فقد تكره واستقر في شبه الجملة، وقد يكون في غير الصلة والقسم شيئًا آخر، فإن لم يوجد في الكلام ما يصلح أن يقع عاملًا يتعلق به الظرف أو الجار الأصلي مع مجروره كما في مثل: الغزال في الحديقة، فأين العامل؟ فلما كان التعلق واجبًا وكان شبه الجملة غير صالح لأن يكون هو المبتدأ في المعنى كالشأن في الخبر، وكان العامل غير موجود؛ وجب تقديره محذوفًا؛ إما فعلًا مع فاعله "أي: جملة فعلية، مثل: استقر، أو: ثبت، أو: حصل، أو كان، بمعنى: وجد، "وهي التامة" ... وإما اسما مشتقا، مثل: "مستقر"، أو: "كائن" المشتقة من "كان" التامة، وإما اسما آخر يصلح عاملا، وإما بالنسبة "أي: الإسناد طبقا لما هو مشروح في رقم2 من هامش ص441"، فليس الخبر أو غيره ... عندهم هو الظرف نفسه، أو الجار مع مجروره مباشرة؛ إنما الخبر هو المحذوف، ويتعلق به كل واحد من هذين، ولما كان كل منهما صالحًا لأن يتعلق بالفعل
المحذوف، ويدل عليه وعلى فاعله بغير خفاء ولا لبس كان شبه الجملة بمنزلة النائب عنهما، والقائم مقامهما، والفعل مع فاعله جملة، فما ناب عنها قام مقامها شبه بها، لذلك أسموه: "شبه الجملة".
وأصحاب هذا الرأي يقولون: إن الضمير الذي كان فاعلًا للعامل المحذوف قد انتقل بعد ذلك كله إلى شبه الجملة، أي: بعد أن تمت المشابهة، وبسبب انتقال الضمير إلى شبه الجملة، وصحة تعلقه بالمشتق سموه: "شبه الوصف" أيضًا كما سبق في رقم3 من هامش ص373، وفي رقم1 من هامش ص382.
وقد أوضحنا سبب تعلق الظرف، وطريقته وما يتصل بهذا في بابه من هذا الجزء ص245 وما بعدها وكذا في جـ1 م35 ص431 كما أوضحنا هنا في هذا الباب أمرهما مع الجار والمجرور.
1 في جـ1 ص192 و194 حيث البيان الكامل.
2 رقم2 من هامش ص431 م89 وتفصيل هذا في الجزء الأول عند الكلام على: "الحرف" ص43 وما بعدها م5.(2/449)
وحاشا، من حروف الجر الشبيهة بالزائدة، لكن لا داعي للعدول عن اعتبارها حروفًا أصلية؛ كما سبق1 في باب الاستثناء وسيجيء تفصيل الكلام عن معاني حروف الجر، وعملها يالموضع الخاص بهذا من الباب2.
القسم الثاني: حرف الجر الزائد3 زيادة محضة4، وهو الذي لا يجلب معنى جديدًا، وإنما يؤكد ويقوي المعنى العام في الجملة كلها، فشأنه شأن كل الحروف الزائدة؛ يفيد الواحد منها توكيد المعنى العام للجملة كالذي يفيده تكرار تلك الجملة كلها، سواء أكان المعنى العام إيجابًا أم سلبًا، ولهذا لا يحتاج إلى شيء يتعلق به، ولا يتأثر المعنى الأصلي بحذفه، نحو: كفى بالله شهيدًا، بمعنى: يكفي الله شهيدًا؛ فقد جاءت "الباء" الزائدة لتفيد تقوية المعنى الموجب وتأكيده؛ فكأنما تكررت الجملة كلها لتوكيد إثباته وإيجابه، ومثل: ليس من خالق إلا الله أي: ليس خالق إلا الله، فأتينا بالحرف الزائد: "من": لتأكيد ما تدل عليه الجملة كلها من المعنى المنفي، وتقوية ما تتضمنه من السلب، ولو حذفا الحرف الزائد في المثالين ما تأثر المعنى بحذفه5.
ولا فرق في إفادة التأكيد بين أن يكون الحرف الزائد في أول الجملة، أو في وسطها، أو في آخرها؛ نحو: بحسبك الأدب، كفى بالله شهيدًا، الأدب بحسبك ...
وقد تكون زيادة الحرف واجبة لا غنى عنها كزيادة "باء الجر" بعد صيغة "أفعل" للتعجب القياسي؛ نحو: أكرم بالعرب6.
__________
1 في رقم 4 من هامش ص355.
2 ص455 وما بعدها.
3 أشرنا في رقم3 من هامش ص434 إلى الموضع الذي يشتمل على بيان المراد من "اللفظ الزائد" سواء أكان اللفظ حرفًا أم غير حرف، وأن ذلك الموضع هو: ج1 م5 ص66 و70.
4 هناك "اللام الجارة" قد تكون زيادتها لتقوية عاملها، فتكون زيادتها شبيهة بالمحضة "كما سبق في رقم2 من هامش ص435، ويجيء البيان في ص475".
5 ومن أمثلة زيادتها لتقوية المعنى المنفي قول الشاعر:
ولست براض عن حياة ذليلة ... ولا بد للأحرار من موطن حر
6 بشرط دخولها على اسم صريح، لا مؤول من أن وأن وصلتهما كما سيجيء عند الكلام على "الباء" في حروف الجر رقم14 من ص494، وانظر رقم1 هامش ص163، ثم رقم4 من هامش ص532 للأهمية.(2/450)
وإنما لم يتعلق الجار الزائد مع مجروره بعامل؛ لأن التعلق والزيادة متعارضان؛ إذ الداعي للتعلق هو الارتباط المعنوي بين عامل عاجز، ناقص المعنى، واسم يكمل هذا النقص، ولا يصل إليه أثر ذلك العامل إلا بمساعدة حرف جر أصلي وشبهه أما الزائد، فلا يدخل الكلام ليعين على الإكمال، والإيصال الأثر من العامل العاجز إلى الاسم المجرور، وإنما يدخل الكلام لتأكيد معناه القائم، وتقويته كله، لا للربط.
طريقة إعراب المجرور بالحرف الزائد:
لا بد من أمرين معًا في الاسم المجرور بالحرف الزائد؛ أن يكون مجرورًا في اللفظ، وأن يكون مع ذلك في محل رفع، أو نصب، أو جر؛ على حسب مقتضيات العوامل، فله إعراب لفظي، معه آخر محلي، ففي مثل، "كفى بالله شهيدًا" تعرب "الباء" حرف جر زائدًا "الله" مجرور بها، في محل رفع؛ لأنه فاعل، إذ الأصل: كفى الله ...
وفي مثل: "بحسبك الأدب"، "الباء": حرف جر زائد، "حسب" مجرور بها، في محل رفع؛ لأنها تصلح مبتدأ؛ إذ الأصل: حسبك الأدب ... وهكذا، فحرف الجر الأصلي والزائد يشتركان في أمر واحد، هو: أن كل منهما لا بد أن يجر الاسم بعده، ويختلفان في ثلاثة أمور:
1– في أن الحرف الأصلي لا بد أن يأتي بمعنى فرعي جديد لم يكن في الجملة قبل مجيئه، أما الحرف الزائد فلا يأتي بمعنى جديد، وإنما يؤكد ويقوي المعنى العام الذي تتضمنه الجملة كلها قبل مجيئه.
2– والحرف الأصلي مع مجروره لا بد أن يتعلقا1 بعامل محتاج إليهما في تكلمة معناه وإيصال أثره إلى الاسم المجرور، أما الحرف الزائد ومجروره فلا يتعلقان.
3- والحرف الأصلي يجر الاسم بعده لفظًا دون أن يكون لهذا الاسم محل آخر من الإعراب2، وتوابعه مجرورة اللفظ مثله، ولا محل لها، أما الزائد فلا بد
__________
1 إلا الحرف: "علي" الذي للإضراب، وكذا اللام الأصلية في بعض الآراء "انظر البيان في ص436 ورقم3 من هامشها".
2 أي: أنه ليس له إعراب محلي.(2/451)
أن يجر الاسم لفظًا، وأن يكون له مع ذلك محل من الإعراب، وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز فيه أمران؛ إما الجر مراعاة للفظ المتبوع، وإما حركة أخرى يراعى فيها محل المتبوع لا لفظه؛ ففي مثل: "كفى بالله القادر شهيدًا" يصح في كلمة: "القادر" الجر تبعًا للفظ "الله" المجرور لفظًا، ويجو الرفع تبعًا لمحله باعتباره فاعلًا، ومثل هذا يجري في سائر التوابع؛ حيث يجمع في التابع الإعراب اللفظي مع الإعراب المحلي.
وأشهر حروف الجر الزائدة هو الأربعة السالفة "من – الباء – اللام – الكاف ... "، وسيأتي معنى كل وعمله في المكان الخاص بذلك1.
القسم الثالث: حرف الجر الشبيه بالزائد، وهو الذي يجر الاسم بعده لفظًا فقط، ويكون له مع ذلك محل من الإعراب2 فهو كالزائد في هذا، ويفيد الجملة معنى جديدًا مستقلًا، لا معنى فرعيًا مكملًا لمعنى موجود، ولهذا لا يصح حذفه؛ إذ لو حذفناه لفقدت الجملة المعنى الجديد المستقبل الذي جلبه معه، ولكنه لا يحتاج مع مجروره لشيء يتعلق به؛ لأن هذا الحرف الشبيه بالزائد لا يستخدم وسيلة للربط بين عامل عاجز ناقص المعنى، واسم آخر يتمم معناه.
ومن أمثلته: رب، لعل"، وكذا "لولا"، عند فريق من النحاة"، نحو: رب غريب شهم كان أنفع من قريب، رب صديق أمين كان أوفى من شقيق، فقد جر الحرف: رب، الاسم بعده في اللفظ، وأفاد الجملة معنى جديدًا مستقلًا هو: التقليل، ولم يكن هذا المعنى موجودًا.
وسيجيء فصيل الكلام على هذا الحرف من ناحية معناه وعمله، وكل ما يتصل به في موضعه الخاص3.
__________
1 ص455 وما بعدها.
2 سبقت الإشارة "في هامش ص355 و452" إلى أن الأفضل إهمال الرأي الذي يدخل: "خلا وعدا وحاشا" في حروف الجر الشبيهة بالزائدة، لما فيه من تضييق وتعقيد لا داعي لهما، فاعتبارها حروف جر أصلية أيسر وأوضح.
3 انظر الكلام على: "رب" ص522 وما بعدها، وفي ص524 رأي آخر يجعل الحرف "رب" من حروف الجر التي تتعلق بعامل.(2/452)
طريقة إعراب الاسم المجرور بحرف الجر الشبيه بالزائد:
حرف الجر الشبيه بالزائد يجر الاسم بعده لفظًا فقط، ويكون لهذا الاسم محل من الإعراب؛ فهو في هذا شبيه بالحرف الزائد كما أسلفنا ففي المثالين السابقين: تعرب "رب" حرف جر شبيه بالزائد، وكلمة: "غريب" أو: "صديق" مجرورة بها في محل رفع؛ لأنها مبتدأ، وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز الجر مراعاة للفظ المتبوع، وجاز ضبطه بحركة تناسب محله، ففي المثالين السابقين نقول: رب غريب شهم كان أنفع من قريب، رب صديق مهذب كان أوفى من شيق؛ بجر كلمتي: "شهم" و"مهذب" مراعاة للفظ المنعوت، أو رفعهما مراعاة لمحله.
مما سبق نعلم أن الشبيه بالزائد يشبه الأصلي في أمرين؛ هما: جر الاسم بعده، وإفادة الجملة معنى جديدًا مستقلًا؛ فلم يجئ ليتمم معنى عامله.
ويخالفه في أمرين؛ هما: عدم تعلقه هو ومجروره بعامل، وأن لمجروره محلًا من الإعراب فوق إعرابه اللفظي بالجر.
وأن الشبيه بالزائد يشارك الزائد في أمور ثلاثة: هي، جر الاسم لفظًا واستحقاق هذا الاسم للإعراب المحلي فوق إعرابه اللفظي بالجر، وعدم حاجة الجار مع مجروره إلى متعلق.
ويخالفه في أمر واحد؛ هو: إتيانه بمعنى جديد مستقل كما أسلفنا أما الزائد، فلا جديد في المعنى معه، وإنما يستخدم لتأكيد معنى الجملة كلها.(2/453)
تلك هي الأنواع الثلاثة من حروف الجر، وتتلخص أوجه المشابهة والمخالفة بين هذه الأنواع الثلاثة فيما يأتي:
__________
1 أما الذي زيادته غير محضة، فإيضاحه في رقم2 من هامش ص435، وكذلك في رقم10 من ص475 حيث الكلام على "لام الجر" الزائدة للتوكيد، أي: للتقوية.(2/454)
المسألة 90:
د– معاني1 حروف الجر، ووجوه استعمالها.
المشهور من حروف الجر عشرون، سردنا ألفاظها2، وأنواعها الثلاثة.
ونشير إلى أمرين:
أولهما: أن كل حرف من هذه العشرين، قد يتعدد معناه، وقد يشاركه غيره في بعض هذه المعاني، أي: أن المعنى الواحد قد يؤديه حرفان أو أكثر، وللمتكلم أن يختار من الحروف المشتركة في تأدية المعنى الواحد أو غير المشتركة، ما يشاء مما يناسب السياق، غير أن الحروف المشتركة في تأدية المعنى الواحد قد تتفاوت في هذه المهمة، فبعضها أقوى على إظهاره من غيرها، لكثرة استعمالها فيه، وشهرتها به، وهذه الكثرة والشهرة، تختلف باختلاف العصور والطبقات، ومن ثم كان من المستحسن بلاغة اختيار الحرف الأوضح، والأشهر وقت الاستعمال، دون الحرف الغريب، أو غير المألوف، برغم صحة استعمال كل منهما استعمالًا قياسيًا في المعنى الواحد، أما إذا اختلف الحروف في أداء المعاني فجيب الاقتصار على ما يؤدي المعنى المراد، واختياره وحده؛ ولهذا يجب تنويع حروف وتغييرها على حسب المعاني المقصودة.
ثانيهما: أن بضع حروف الجر يكثر استعماله في الجر حتى يكاد يقتصر عليه؛ مثل: من، إلى، عن، على، رب، في، وبعضًا آخر يقل استعماله فيه، وهذا ستة أحرف3 هي: خلا – عدا – حاشا – كي – لعل – متى.
غير أن الذي يكثر استعماله في الجر والذي لا يكثر سيان، من ناحية أن
__________
1 سبقت إشارة إلى معنى الحرف، "في رقم3 من هامش ص435 ورقم1 من هامش436"، وسألنا هناك؛ أيكون لحرف الجر معنى واحد يقتصر عليه، أم له أكثر؟
وهل ينوب بعض حروف الجر عن بعض؟ وقلنا: إن الإجابة عن هذا في ص455.
2 في ص431 م89.
3 ولا يصح قصر عامل على حرف منها، ولا حبس حرف منها على عامل انظر البيان الخاص في رقم4 من هامش ص161.(2/455)
استخدامها قياسي في الموطن المناسب للمعنى، لا يمنع منه مانع؛ حتى القلة المشار إليها، فإنها ليست من النوع الذي يمنع القياس والمحاكاة، إذ هي قلة نسبية لا ذاتية1 "أي: أنها تعتبر قليلة إذا قيست بالنوع الآخر الكثير، وليست قليلة في ذاتها، بل كثيرة بغير تلك الموازنة".
فأما الثلاثة الأولى من القسم القليل القياسي، فقد سبق إيفاؤها حقها من الإبانة والتفصيل في باب الاستثناء2.
وأما "كي" فحرف جر أصلي للتعليل لا يجر إلا أحد ثلاثة أشياء:
الأول: "ما" الاستفهامية التي يسأل بها عن سبب الشيء وعلته؛ كأن يقول شخص: قد لازمت البيت أسبوعًا، فيسأله آخر: كيمه3؟ بمعنى: لمه؟ أي: لماذا؟، ومثل: أقصد الريف كل أسبوع، فيقال: كيمه؟ أي: لمه؟.
و"كي" هذه تسمى: "كي التعليلية"؛ لأنها تدخل على استفهام يسأل به عن العلة والسبب كما سبق، فهي بمنزلة اللام الجارة التي تسمى: "لام التعليل" في معناها وعملها.
الثاني: "ما" المصدرية مع صلتها4؛ فتجر المصدر المنسبك منهما معًا؛ مثل: أحسن معاملة الناس كي ما تسلم من أذاهم، أي: لسلامتك من أذاهم. وتسمى: "كي المصدرية": لجرها المصدر المنسبك من الحرف المصدري مع صلته؛ فهي مثل "لام التعليل" معنى وعملًا.
الثالث: "أن المصدرية" مع صلتها4؛ فتجر المصدر المنسبك منهما
__________
1 انظر الأشموني جـ3 أول باب الإضافة عند بيت ابن مالك: "وأما أكسب ثان أولًا ... "، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في مواضع مختلفة من أجزاء الكتاب، "ومنها رقم2 من هامش ص386، ومنها مع الإيضاح جـ3 رقم1 من هامش ص 64 م 93 ورقم 4 من هامش ص 87 م 94".
2 ص 357 م 83 وأن الأفضل اعتبارها حرف جر أصلية، لا شبيهة بالزائدة "كما أشرنا قريبًا في رقم 2 من هامش ص 452".
3 أصل الكلام: كيما؟ أي: لما؟ ... ومن المعروف أن "ما" الاستفهامية إذا جرت تحذف ألفها، ويحل محل الألف "هاء السكت" الساكنة، بشطر أن تكون هذه الزيادة ي حالة الوقف على "ما" دون حالة اتصالها بما بعدها من الكلام.
4 و 4 سبق تفصيل الكلام على "ما" المصدرية بنوعيها، ومعناها، وطريقة استعمالها، وصوغ المصدر منها، وكذا أن، في جـ1 باب الموصول ص 269 م 27.(2/456)
معًا؛ والغالب في هذه الصورة إضمار "إن" بعد "كي" مثل: أحسن السكوت كي تحسن الفهم، والأصل: كي أن تحسن الفهم، فالمصدر المنسبك من "أن" المضمرة، وصلتها في محل جر بالحرف: "كي"1، وهي أيضًا مثل "لام التعليل"، معنى وعملًا.
أي: أنها في المواضع الثلاثة السابقة تؤدي معنى واحدًا وعملًا واحدًا2 ...
ومما تقدم نعلم أن: "كي" الجارة لا تجر اسمًا معربًا، ولا اسمًا صريحًا.
وأما لعل3، فحرف جر شبيه بالزائد، ومعناه الكثير هو: الترجي والتوقع4؛
__________
1 هناك مذهب؛ يجعل "كي" هي الناصبة المصدرية، وقبلها لام التعليل مقدرة في هذا المثال وغيره مما لا يظهر فيه "أن" الناصبة، "كما سيجيء في رقم2 هنا" ولا مانع من الأخذ به، وهو ملخص لما في جـ 4 باب إعراب الفعل: "قسم النواصب".
2 يكثر في الأساليب الفصيحة إما وقوع لام الجر قبل: "كي" مباشرة؛ مثل: تنقلت في البلاد؛ لكي أستفيد خبرة، وإما وقوع "أن" المصدرية بعدها، دون أن تسبقها لام الجر، مثل: أتجنب السهر الطويل؛ كي أن أحتفظ بقوتي ونشاطي، وإما أن تقع قبلها لام الجر وبعدها "أن" المصدرية "وهذه الصورة قليلة بالنسبة للسابقتين" مثل: أواظب على نوع من الرياضة البدنية؛ لكي أن أفيد جسمي، فإن وجدت "لام" الجر وحدها قبل: "كي" وجب اعتبار "كي" حرفًا مصدريًا ناصبًا بنفسه: فيكون مثل "أن" المصدرية؛ معنى وعملًا؛ لأن حرف الجر لا يدخل في الغالب على مثله إلا لتوكيد لفظي، وإن وقعت بعدها: "أن" المصدرية ولم تسبقها "لام" الجر وجب اعتبارها حرف جر كـ"لام" التعليل معنى وعملًا، وهذا قليل قياسي كما سبق، فالأحسن اعتبارها جارة
للمصدر المنسبك بعدها مع تأكيدها للام الجر قبلها، ويجوز أن تكون مصدرية مؤكدة "بأن" بعدها، والمصدر المنسبك مجرور باللام التي قبلها.
فإن لم توجد "لام" الجر قبلها، ولا "أن" بعدها جاز اعتبارها مصدرية بتقدير "اللام" قبلها، أو حرف جر بتقدير: "أن" بعدها، راجع أحكامها في جـ4 باب النواصب.
3 تكثر فيها لغات أربع: إثبات اللام الأولى مفتوحة، مع تشديد الثانية مفتوحة أو مكسورة، وحذف الأولى مع تشديد الثانية مفتوحة أو مكسورة؛ فهذه اللغات الأربع، هي التي تستعمل بكثرة في الجر دون غيرها من باقي اللهجات، واستعمالها حرف جر مقصور على قليل من العرب، وهو مع جوازه وقياسيته غير خفيف على الأسماع، ولا سائغ اليوم، لغرابته.
4 سبق في الجزء الأول، باب: "إن" أن الترجي أو التوقيع، هو: انتظار حصول شيء مرغوب فيه، ميسور التحقق، ولا يكون إلا في الأمر الممكن. "ولعل" قد تكون أحيانًا للتعليل، أو: الظن ...(2/457)
نحو: لعل الغائب قادم غدًا، فكلمة: "لعل" حرف جر شبيه بالزائد "الغائب" مجرور بها لفظًا في محل رفع مبتدأ، "قادم" خبره، غدًا ظرف زمان منصوب على الظرفية.
وأما "متى" فحرف جر أصلي1 ومعناه: الابتداء غالبًا نحو: قرأت الكتاب متى الصفحة الأولى حتى نهاية العشرين، أي: من ابتداء الصفحة الأولى ... فهي في تأدية هذا المعنى مثل "من الابتدائية".
إلى هذا انتهى الكلام على الحروف التي تستعمل قليلًا في الجر، مع قياس استعمالها.
وننتقل إلى الكلام على الحروف الكثيرة الاستعمال فيه، فنوضح المعاني القياسية لكل واحد، وما قد يتصل بعمله.
ويلاحظ ما سبق2، وهو أن حرف الجر الأصلي حين يؤدي معنى فرعيًا من المعاني التي ستذكر لا بد أن يقوم في الوقت نفسه بتعدية عامله اللازم إلى مفعول به معنى3، وهذا المفعول المعنوي هو الاسم المجرور بالحرف الأصلي.
من: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويقع أصليًا وزائدًا ... ويتردد بين أحد عشر معنى:
1– التبعيض، أي: الدلالة على البعضية، وعلامتها: أن يكون ما قبلها
__________
1 يستعمله قليل من العرب دون كثرتهم، ومن هذا القليل قبيلة: "هذيل"، ومن كلامهم: "أخرجها متى كمه: أي: من كمه، وقول شاعرهم أبي ذؤيب الهذلي في وصف السحب المتراكمة فوق لجج البحر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
يريد: من لجج ... النئيج: الصوت العالي وجاء في الهمع جـ2 ص34 ما نصه: "إنها تأتي بمعنى: "وسط" حكى: "وضعها متى كمه" أي: وسطه، وإذا كانت بمعنى "وسط" هي اسم أو "من" فحرف، جزم به ابن هشام وغيره". ا. هـ.
ويرى بعض النحاة كالفراء أنها عند "هذيل" مقصورة على الاسمية الخالصة، بمعنى: "وسط"، فإذا اقتصرنا على هذا الرأي فهي معربة، وإن جرينا على الرأي الذي يجعلها صالحة للاسمية والحرفية فهي مبنية، ومع جواز استعماله أسمًا أو حرفًا وقياسيته فيهما، لا ترتاح له الأذن اليوم، لغرابته.
2 في ص 438.
3 انظر رقم3 من هامش ص473.(2/458)
في الغالب جزءًا من المجرور بها، مع صحة حذفها ووضع كلمة: "بعض" مكانها؛ نحو: خذ من الدراهم، وكقولهم: ادخر من غناك لفقرك، ومن قوتك لضعفك؛ فالمأخوذ بعض الدراهم، والمدخر بعض الغني والقوة، ويصح وضع كلمة: "بعض" مكان كلمة: "من"، ومثل هذا قول الشاعر:
وإنك ممن زين الله وجهه ... وليس لوجه زانه الله شائن
فالمخاطب جزء من الاسم المجرور بها؛ وهو: "من" الموصولة التي بمعنى "الذين"، وقد يكون ذلك الجزء متأخرًا عنها وعن الاسم المجرور بها، وفي اللفظ دون الرتبة؛ كقولهم: "إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الخلاق الملق"، فالكذب والملق متأخران في الترتيب اللفظي وحده، ولكنهما متقدمان في درجتهما؛ لأن كلًا منهما هو: "اسم إن"، والأصل في "اسم إن" تقدمه في الرتبة على خبرها1 ...
2– بيان الجنس2، وعلامتها: أن يصح الإخبار بما بعدها عما3 قبلها؛ كقولهم: اجتنب المستهترين من الزملاء، فالزملاء فئة من جنس عام هو: المستهترون؛ فهي نوع يدخل تحت جنس "المستهترين" الشامل للزملاء وغير الزملاء. وكقولهم: تخير الأصدقاء من الأوفياء ... أي: الأصدقاء الذين هم جنس ينطبق على فئة منهم لفظ: "الأوفياء"، وهذا الجنس عام، يشمل بعمومه الأوفياء وغيرهم.
3- ابتداء الغاية4 في الأمكنة كثيرًا، وفي الأزمنة أحيانًا وهي في الحالتين
__________
1 ومثل هذا المتأخر في اللفظ ما ورد في الأثر: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، والأصل: إنما يرحم الله الرحماء من عباده.
2 أي: بيان أن ما قبلها في الغالب جنس عام يشمل ما بعدها، فما قبلها أكثر وأكبر؛ كالمثال الأول الآتي، وقد يكون العكس، نحو: هذا السوار من ذهب، وهذا الباب من خشب، "وانظر رقم5 من هامش ص416".
3 له علامة أخرى: أن يصح حذف، "من" ووضع اسم مفعول مكانها مع ضمير يعود على ما قبلها، هذا إن كان ما قبلها معرفة، فإن كان نكرة فعلامتها أن يخلفها الضمير وحده؛ نحو: أساور من ذهب، أي: هي ذهب.
4 معنى الغاية هنا رقم ما سيجيء في2 من هامش ص468: المسافة المكانية حينًا، والمقدار الزمني حينًا آخر، على حسب الياق، بيان هذا: أن الفعل وشبيهه المتعدي بمن الجارة له معنى يستمر قليلا أو طويلا، وابتداء هذا المعنى هو الاسم المجرور بمن، وهذا الاسم هو الدال على زمان أو مكان كما في الأمثلة التالية. وليس المراد معناها الحقيقي الذي هو آخر الشيء، فالتسمية هنا من تسمية الكل باسم الجزء.
ومعناها هنا قد يختلف عنه في الظروف على حسب ما هو مبين في رقم2 من هامش ص292م 79.(2/459)
قياسية، وهذا المعنى أكثر معانيها استعمالًا1؛ فمثال الأولى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ؛ فابتداء مكان الإسراء هو المسجد الحرام، ونحو: جاءتني رسالة من فلان، فابتداء مكان المجيء هو فلان ...
ومثال الثانية قولهم: فلان ميمون الطالع من يوم ولادته، راجح العقل من أول نشأته ... فابتداء زمان اليمن هو يوم ولادته، وابتداء زمان رجاحة العقل هو أول نشأته.
4– التوكيد، "ولا تكون معه إلا زائدة"، وزيادتها إما للنص على عموم المعنى وشموله كل فرد من أفراد الجنس، وإما لتأكيد ذلك العموم والشمول إذا كانا مفهومين من الكلام قبل دخولها، فالأول مثل: "ما غاب من رجل"، وأصل الجملة: ما غاب رجل، وهي جملة قد يفهم منها أن نفي المعنى منصب على رجل واحد دون ما زاد عليه، أي: أن رجلًا واحدًا هو الذي لم يغب، وأن من الجائز غياب رجلين أو رجال.
والسبب في اختلاف الفهم أن كلمة: "رجل" النكرة، ليست من النكرات الملازمة للوقوع بعد النفي، "وهي النكرات القاطعة في الدلالة على العموم والشمول بعد ذلك النفي، ويتحتم أن ينصب النفي الذي قبلها على كل فرد من أفراد مدلولها؛ وأن يمتنع معه الخلاف في الفهم؛ مثل: كلمة: أحد، وديار، وغريب، وإنما كلمة "رجل" من النكرات التي قد تقع بعد النفي، أو لا تقع، وإذا وقعت بعده لم تفد العموم والشمول الإفادة القاطعة التي تشمل كل فرد من الرجال إلا بقرينة، وإنما تفيدهما مع احتمال خروج بعض الأفراد من دائرة المعنى المنفي كما
__________
1 ما معنى الحرف: "من" الداخل على المفضل عليه بعد أفعل التفضل؟ أمعناه: الابتداء أم المجاوزة؟ الجواب في رقم1 من هامش ص464.(2/460)
أوضحنا، فإذا أردنا إزالة هذا الاحتمال، وجعل المعنى نصًا في العموم والشمول على سبيل اليقين أتينا بالحرف الزائد: "من" ووضعناه قبل هذه النكرة مباشرة، وقلنا: "ما غاب من رجل"؛ وعندئذ لا يصح أن يختلف الفهم، ولا أن يتنوع؛ إذ يتعين أن يكون المراد النص على عدم غياب فرد واحد، وما زاد عليه من أفراد الرجال، ومن ثم لا يصح أن يقال: "ما غاب من رجل، وإنما غاب رجلان أو أكثر"، منعًا للتناقض والتخالف، في حين يصح هذا قبل مجيء "من" الزائدة؛ لأن الأسلوب قبل مجيئها قد يحتمل أمرين؛ نفي الواحد دون ما زاد عليه؛ ونفيه مع ما زاد عليه معًا كما أسلفنا، وهذا معنى قولهم: "من الزائدة" تفيد النص على عموم الحكم، وشموله كل فرد من أفراد الجنس إذا دخلت على نكرة منفية لا تقتضي وجود النفي الدائم الشامل قبلها اقتضاء
محتومًا.
وعلى ضوء ما سبق تتبين فائدة "من" في قول الشاعر:
ما من غريب وإن أبدى تجلده ... إلا تذكر عند الغربة الوطنا
وأما الثاني وهو: "تأكيد معنى العموم" ... فمثل: "ما غاب من ديار"؛ من كل كلام مشتمل على نكرة لا تستعمل غالبًا إلا بعد النفي، أو شبهه "مثل: أحد – عريب - ديار ... و ... "، فإنها بعده تدل دلالة قاطعة على العموم والشمول، أي: أن كل نكرة من هذه النكرات، ونظائرها لا يراد منها فرد واحد من أفراد الجنس ينتفي عنه المعنى، وإنما يراد أن ينتفي المعنى عن الواحد وما زاد عليه، ففي المثال السابق قطع ويقين بأمر واحد؛ هو: عدم غياب فرد أو أكثر من الأفراد؛ فكل الأفراد حاضر لم يغب أحد، ولا مجال لاحتمال معنى آخر، فإذا أتينا بحرف الجر الزائد "من"، وقلنا: ما غاب من ديار لم يفد الحرف الزائد عنى جديدًا، ولم يحدث دلالة طارئة لم تكن قبل مجيئه، وإنما أفاد تقوية المعنى القائم وتأكيده، وهو النص على شمول المعنى المنفي وتعميمه؛ بحيث ينطبق على الأفراد كلها فردًا فردًا.
والفصيح الذي لا يحسن مخالفته عند استعمال "من" الزائدة أن يتحقق شرطان1:
__________
1 هذا رأي البصريين ومن سايرهم من كثرة النحاة التي اقتصرت في الحكم على أغلب الوارد، وخالفهم الكوفيون ومن سايرهم فلم يشترطوا الشرطين.(2/461)
وقوعها بعد نفي1 أو شبهة "وهو هنا: النهي2 وبضع أدوات الاستفهام"، وأن يكون الاسم المجرور بها نكرة، وهذا الاسم يكون مجرورًا في اللفظ لكنه مرفوع المحل إما؛ لأنه مبتدأ، أو أصله مبتدأ؛ في مثل قولهم: هل من صديق للواشي؟ وما من صاحب للنمام3، وإما؛ لأنه فاعل؛ في مثل قولهم: ما سعى من أحد من الشر إلا ارتد إليه سعيه وقد يكون مجرورًا في اللفظ منصوب المحل "إما؛ لأنه مفعول به، كقولهم: تأمل هذا الكون العجيب هل ترى من نقص أو قصور؟ وهل تظن من أحد يقدر على هذا الإبداع إلا الله؟ وإما؛ لأنه مفعول مطلق، نحو قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، أي: من تفريط.
ومن النادر الذي لا يقاس عليه، زيادتها في غير هذه المواضع الأربعة التي يكون الاسم فيها مجرورًا لفظًا كما سبق، لكنه في محل رفع مبتدأ، "الآن أو بحسب أصله" أو: فاعل، أول في محل نصب؛ لأنه مفعول به، أو مفعول مطلق ... و ...
وإذا جاء تابع لهذا الاسم المجرور جاز في التابع أمران4؛ الجر مراعاة للفظ
__________
1 فلا تزاد في الإثبات إلا في تمييز "كم" الخبرية إذا كان مفصولًا منها بفعل متعد لم يستوف مفعوله، فتجيء "من" وجوبًا؛ لكيلا يلتبس التمييز بمفعول الفعل المتعدي، وهي في هذه الصورة الواجبة زائدة، "كما يقول الصبان في هذا الموضع، أخذًا برأي فريق من النحاة، وكما سيجيء في ج 4 م 164 ص 528، باب: كنايات العدد ... كم وأخواتها"، ونحو قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} ... ونحو قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، وقد وردت زيادتها في قول زهير:
ومنهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فقد أجاز النحاة أن تكون: "من" زائدة بعد: "مهما"، "وسيجيء هذا في ج4 ص 326 م 155 باب الجوازم وص 381 ل م 161 باب "أما".
ومما تصلح فيه للزيادة مع وقوعها في الإثبات قوله: $"رحم الله امرأ أصلح من لسانه".
2 مثال النه: لا تظلم من أحد، ومثال الاستفهام "ولا يكون هنا إلا "بالهمزة" أو: هل" هل جاءك ... ، أو: أجاءك ... من بشير؟
3 ومثل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} .
4 في هذا الحكم تفصيل هام سبق بيانه في رقم1 من هامش 69، واستيفاء الحكم يقتضي الرجوع إليه.(2/462)
المتبوع، والرفع أو النصب مراعاة لمحله، نحو: ما للواشي من صديق مخلص، بجر كلمة: "مخلص"، أو برفعها، باعتبارها نعتا لكلمة: "صديق"، وكذا بقية التوابع، وباقي الأمثلة المختلفة، وأشباهها.
5- أن تكون بمعنى كلمة: "بدل" بحيث يصح أن تحل هذه الكلمة محلها. كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} ، أي: بدل الآخرة.
6- أن تكون دالة على الظرفية1، "أي: على أن شيئا يحويه آخر، كما يحوي الإناء ما في داخله، أو: كما يحوي الظرف وهو الغلاف المظروف، وهو الشيء الذي يوضع فيه"، نحو: ماذا أصلحت من حقلك، وغرست من جوانبه؟
أي: في حقلك ... في جوانبه.
7– إفادة التعليل، فتدخل على اسم سببًا وعلة في إيجاد شيء آخر، نحو: لا تقوى العين على مواجهة قرص الشمس، من شدة ضوئها، ونحو: من كدك ودأبك أدركت غايتك، أي: بسبب شدة ضوئها ... وبسبب كدك2 ...
8– إفادة المجاوزة3، فتدخل على الاسم للدلالة على البعد الحسي أو المعنوي
__________
1 فتكون: "من" بمعنى: "في" التي للظرفية، ويدخل في هذا النوع "من" الداخلة على: "قبل وبعد ... والغالب في الداخلة على الظروف غير المتصرفة أن تكون للسببية، أي: بمعنى: "في" الدالة على السببية، أما مجيئها لابتداء الغاية فقليل؛ نحو: جئت من عندك، هب لي من لدنك وليًا "راجع حاشية الألوسي على القطر ص34"، وقد شرحنا معنى الغاية في رقم 292، وفي رقم 4 من هامش 459.
2 ومثل قول الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس بموت المرء من عثرة الرجل
أعني: بسبب عثرة ...
3 المجاوزة كما قالوا ابتعاد شيء مذكور، أو غير مذكور، عما بعد حرف الجر؛ بسبب شيء قبله؛ فالأول، نحو: رميت السهم عن القوس، أي: جاوز السهم القوس بسبب الرمي، والثاني نحو: رضي الله عنك: جاوزتك المؤاخذة؛ بسبب الرضا، ثم المجاوزة قد تكون حقيقية كهذين المثالين، وقد تكون مجازية؛ نحو أخذت العلم عن العالم، كأنه لما علمت ما يعلمه قد جاوزه العلم بسبب الأخذ. "الصبان في باب حروف الجر، عند الكلام على الحرف: "عن" وهو الحرف الذي يكثر استعماله في المجاوزة، وأما غيره فلا يبلغ درجته"، وقد يراد بالمجاورة الابتعاد عن الشيء بسبب العجز عن الوصول إليه كقول أحد الشعراء.
هديتي تقصر عن همتي ... وهمتي تقصر عن حالي
وخالص الود ومحض الثنا ... أحسن ما يهديه أمثالي
"راجع معجم الشعراء، للمرزباني حرف الميم ص372".(2/463)
بينه وبين ما قبله ... نحو قوله تعالى: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} ، أي: عن هذا، بمعنى بعيدين عنه، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: عن ذكر الله.
ومثل: كلام الحمقى بمعزل من الصواب، أي: عن الصواب1 ...
9– إفادة الاستعانة2 فتدخل على الاسم للدلالة على أنه الأداة التي استخدمت في تنفيذ أمر من الأمور؛ نحو: ينظر العدو إلى عدوه من عين ترمي بالشرر، أي: بعين ...
10– إفادة الاستعلاء، فتدخل على الاسم للدلالة على أن شيئًا حسيًا أو معنويًا وقع فوقه؛ نحو: قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} . أي: على القوم3 ...
__________
1 سبق سؤال "في رقم1 من هامش ص460" عن معنى الحرف: "من" الداخل على المفصل عليه بعد أفعل التفضيل، أهو للابتداء أم للمجاوزة؟ والجواب: أنه صالح لكل منهما كما سيجيء في ج3 باب: أفعل التفضيل م 112 ص 388 عند الكلام على أقسامه، فإذا كان للابتداء فهو لابتداء الارتفاع إذا كان السياق للمدح نحو: النشيط أفضل من الخامل، ولابتداء الانحطاط إذا كان السياق للذم، نحو: المنافق أضر من العدو، وإذا كان للمجاوزة فمعناه أن المفضل جاوز المفضول في الأمر المحمود أو المذموم.
2 فتشبه "الباء" في هذا.
3 وقد اقتصر ابن مالك على خمسة من المعاني السابقة: حيث يقول:
بعض، وبين، وابتدئ في الأمكنة ... بمن، وقد تأتي لبدء الأزمنه ...
وزيد في نفي وشبهه؛ فجر ... نكرة كما لباغ من مفر
فقد ضمن البيتين: البعضية، وبيان الجنس، وابتداء الغاية الزمانية أو المكانية، والزيادة بعد نفي أو شبهه مع جر النكرة، وهذه المعاني أربعة، أما الخامس وهو البدلية، فإنه سيذكره "في هامش ص487" بقوله:
"ومن" و"باء" يفهمان بدلًا(2/464)
11– إفادة معنى القسم، ذلك أن بعض العرب يستعملها "مضمومة الميم أو مكسورتها" حرف قسم، ولا يكاد يجر إلا كلمة: "الله" نحو؛ من الله لأقاومن الباطل1، ويجب معه حذف الجملة القسمية، "فعلها وفاعلها".
"وسيجيء2 الكلام على بقية أدوات القسم بنوعيه وأحكامه".
هذا، وقد تتصل "ما" الزائدة بالحرف: "من"، فلا تخرجه عن معناه ولا عن عمله، بل يبقى له كل اختصاصه كما كان قبل مجيء هذا الحرف الزائد3؛ نحو: مما أعمال المسيء يلاقي جزاءه، أي: من أعمال المسيء؛ وبسببها4 ...
__________
1 ويجوز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله من الجر، كالشأن في جميع حروف القسم حين تجر لفظ الجلالة انظر رقم4 من ص532.
2 في رقم1 من هامش ص477 و497 وما بعدها:
3 انظر "أ" من الزيادة الآتية وقواعد رسم الحروف تقتضي وصلهما كتابة.
4 وسيشير ابن مالك إلى زيادة "ما" بعد "من" و"عن" و"الباء" ببيت سيجيء آخر الباب نصه: في هامش ص 494 و 515 و 529.
وبعد "من"، و"عن" و"باء" زيد "ما" ... فلم يعق عن عمل قد علما
أي: لم يمنع.(2/465)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– من الأساليب الواردة المأثورة: "مما" كالتي في حديث لابن عباس نصه:
"كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة إذا نزل عليه الوحي، وكان مما يحرك لسانه وشفتيه".
وكقول الشاعر:
وإنا لمما يضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
و ... و ...
وقد قيل: إن معنى "مما" هنا هو: "ربما" طبقًا لما بينه سيبويه في كتابه "جـ1 ص476"، وملخصه: أن "من" الجارة المكفوفة بالحرف "ما"1 قد تكون بمعنى "ربما"، واستشهد بالبيت السالف.
وقال ابن هشام في "المغني" عند الكلام على: "من" وعلى معناها العاشر: إنها تكون بمعنى "ربما"، وذلك إذا اتصلت بما؛ كالبيت السالف، ثم أردف هذا بقوله: "والظاهر: أن "من" في البيت ابتدائية و"ما" مصدرية، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب2 ... ".
ب- إذا كان الاسم المجرور بالحرف: "من" مبدوءا بالأداة: "أل" التي ليست معدودة في حروفه الأصلية، فالأشهر فتح النون، مثل: قد نعرف
__________
1 الفرق كبير في المعنى والعمل، أو عدمه بين "ما" هذه والتي في الصفحة السابقة.
2 تفصيل هذا البحث مدون في المجلد التاسع من مجلة المجمع اللغوي القاهري ص 116، وهو بحث مفيد قد اكتفينا بتقديم ملخص في الجزء الأول م42 ص 551 عند الكلام على: "كان" ومن تمام الاستفادة الرجوع إلى ذلك البحث المفيد، أو إلى ملخصه، وما فيهما من أمثلة وأساليب تتصل بما نحن فيه، وكذلك ما نقلناه عن "القاموس" من آخر جزئه الرابع باب: الألف اللينة، عند الكلام على أنواع "ما"، واستعمالاتها حيث يقول ما نصه: "إذا أرادوا والمبالغة في الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل كالكتابة، قالوا: إن زيدًا مما أن يكتب. أي: أنه مخلوق من أمر؛ ذلك الأمر هو الكتابة". ا. هـ.
ولهذا البحث إشارة موجزة في ص1 بمناسبة الكلام على الحرف: "رب".(2/466)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الإذاعة ما لا نعرفه من الصحف، وغيره1.
والأحسن ألا تحذف النون إن وقع حرف مشدد بعد "أل" السالفة؛ نحو: لا تعجب من الشعوب إذا انتقمت من الظالم.
وإن وقع بعد: "من" حرف ساكن آخر تحركت النون بالكسر غالبًا نحو: عجبت من استهانة الإنسان بحقوق أخيه ومن استبداده به.
__________
1 بعض القبائل يحذف النون في هذه الصورة، وبها جاء قول النابغة الجعدي:
ولقد شهدت عكاظ قبل محلها ... فيها وكنت أعد ملفتيان
أي: من الفتيان، وقول عبد الرحمن بن حسان في مدح آل سعيد بن العاص:
أعفاء تحسبهم ملحيا ... ء ومرض تطاول أسقامها
أي: من الحياء، وكذلك المنتبي حيث يقول:
نحن ركب ملجن في زي ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال
أي: من الجن، وقول أبي القاسم بن هانئ:
إذا لم تنل بالعلم مالًا ولا علًا ... ولا جانيًا ملأجر فالعلم كالجهل
يريد: من الأجر.(2/467)
إلى: حرف جر أصلي1 يجر الظاهر والمضمر، وينتقل بين معان أشهرها ستة:
1– انتهاء الغاية2 مطلقًا؛ "أي: سواء أكانت الغاية في زمان أم مكان؛ وسواء أكانت" هي الآخر الحقيقي لما قبل "إلى" أم ليست الآخر الحقيقي، ولكنها متصلة به اتصالًا قريبًا أو بعيدًا"، وهذا المعنى أكثر استعمالات الحرف إلى؛ فمثال انتهاء الغاية الحقيقية الزمانية: نمت الليلة إلى طلوع النهار، ومثال انتهاء الغاية الزمانية المتصلة بالآخر اتصالًا قريبًا: نمت الليلة إلى سحرها3، ومثال انتهاء الغاية الزمانية البعيدة من الآخر نمت الليلة إلى نصفها أو ثلثها و ... و ...
ومثال انتهاء الغاية المكانية الحقيقية: عربت الطريق إلى الجانب الآخر محترسًا، ومثال انتهاء الغاية المكانية المتصلة بالآخر: قرأت الكتاب إلى خاتمته، ومثال انتهاء الغاية المكانية البعيدة من الآخر، قرأت الكتاب إلى ثلثه.
والغالب أن نهاية الغاية نفسها لا تدخل في الحكم الذي قبل "إلى" ما لم توجد قرينة تدل على دخوله، فإذا قلت: قرأت الكتاب إلى الصفحة العاشرة، فالمقصود غالبًا في مثل هذا الاستعمال أن الصفحة العاشرة لم تقرأ، فهي خارجة من الحكم الذي ثبت لما قبل "إلى"، وكذلك لو قلت: صمت الأسبوع الماضي إلى يوم الخميس؛ فإن يوم الخميس لا يدخل غالبًا في أيام الصيام، فإذا وجدت قرينة تدل على دخولها كانت داخلة؛ مثل: صمت الشهر المفروض من أوله إلى اليوم الأخير، ومثل: أكملت قراءة الكتاب كله من أوله إلى الصفحة الأخيرة ... لأن صيام الشهر المفروض يقتضي صوم اليوم الأخير منه، وإكمال الكتاب كله
__________
1 سيجيء في الزيادة ص471 أن بعض النحاة يجيز زيادته، وأن رأيه مردود.
2 سبق في رقم4 من هامش ص459 أن الغاية في هذا الباب، هي: المسافة المكانية حينًا، والمقدار الزمني حينًا آخر على حسب السياق، وأنها تختلف عن الغاية في الظروف، "وقد سبق بيانها في رقم2 من هامش ص292"، والمراد بانتهاء الغاية هنا أن المعنى قبل: "إلى" ينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور بعدها، واتصاله به.
ويبين حروف الجر ثلاثة تشترك في انتهاء الغاية؛ "هي: إلى اللام في ص472 حتى، في من ص482"، وسيجيء البيان الخاص بكل حرف.
3 السحر: الثلث الأخير من الليل.(2/468)
يقتضي قراءة الصفحة الأخيرة منه1 ...
2- المصاحبة2، كقولهم: من قعد عن طلب الزرق أساء أهله إلى نفسه، وعذبهم إلى عذابه، أي: مع نفسه ... ومع عذابه ... وكقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، أي: مع الله.
3– التبيين، "فتبين أن الاسم المجرور بها فاعل في المعنى لا في الصناعة النحوية، وما قبلها مفعول به في المعنى لا في الصناعة كذلك، وذلك بشرط أن تقع بعد اسم التفضيل، أو: فعل التعجب، المشتقين من لفظ يدل على الحب أو: البغض، وما بمعناهما، كالود والكره ... "، كقولهم: "احتمال المشقة أحب إلى النفس الكريمة من الاستعانة بلئيم الطبع، فما أبغض الاستعانة به إلى نفوس الأحرار!! "، فكلمة: "نفس"، هي الفاعل المعنوي لا النحوي لاسم التفضيل "أحب"؛ لأنها في الواقع هي فاعلة الحب، أو: هي التي قام بها الحب، وكذلك كلمة "نفوس"، فإنها الفاعل المعنوي "لا النحوي" لفعل التعجب: "أبغض"؛ إذ هي فاعلة البغض حقيقة، أو: هي التي قام بها البغض، والذي قطع في الحكم بفاعليتها المعنوية، ومنع كل احتمال آخر هو وقوعهما بعد حرف الجر: "إلى" الذي من وظيفته القطع في مثل هذا الأسلوب الذي يحتاج إلى تيقظ، لدقته3؛ ولأنه قد يلتبس بما يقع فيه حرف "اللام"
__________
1 انظر الفرق بين "إلى" و"حتى" في هذا وفي غيره "رقم4 من هامش ص482".
2 انضمام شيء لآخر انضمامًا يقتضي تلازمها في أمر يقع عليهما معًا، أو يقع منهما معًا على غيرهما، او يتصل بهما بنوع من أنواع الاتصال، وعلامة المصاحبة: أن يصح حذف حرف الجر ووضع كلمة: "مع" مكانه؛ فلا يتغير المعنى، وقد يعبر عن "المصاحبة" بكلمة: "المعية" كما ورد في الخضري ج1
باب: المفعول معه"، حيث قال: "المعية"، ومثل لما بقوله: "بعت العبد بثيابه". ا. هـ أي، مع ثيابه.
3 ضابط ذلك: أن نجعل مكان اسم التفضيل أو فعل التعجب فعلًا من مادتهما ومعناهما، يكون فاعله النحوي هو الاسم المجرور بالحرف "إلى"، ومفعوله هو الكلام السابق على التفضيل، أو اللاحق لفعل التعجب، فإن صح المعنى واستقام كان مجيء "إلى" ملائمًا، وإلا وجب العدول عنها، ففي المثال المذكور
نقول: تحب النفي الكريمة احتمال المشقة ... تبغض نفوس الأحرار الاستعانة ... وما سبق من معنى "التبيين" في "إلى" يختلف عن معناها في "اللام الجارة"، وسيجيء في رقم15 من ص478 وكلاهما يوضح المراد من الآخر.(2/469)
مكان "إلى"، "وسيأتي الكلام عليه في اللام"1.
4– الاختصاص "أي: قصر شيء على آخر، وتخصيصه به"، كقولهم: الأب راعي الأسرة؛ وأمرها إليه، والحاكم راعي المحكومين، وأمرهم إليه ... فليتق الله كل راع في رعيته.
5– الظرفية2: كقولهم: سيجمع الله الولاة إلى يوم تشيب من هوله الولدان ... أي: في يوم.
6- البعضية، "وهذا قليل في المسموع"3، نحو: شرب العاطش فلم يرتو إلى الماء، أي: من الماء.
__________
1 ص 478.
2 سبق شرحها في رقم6 من ص465، وهي من المعاني الدقيقة التي يؤديها الحرف "إلى"، ومما يحتمل هذا المعنى قول النابغة الذبياني.
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار، أجرب
وقول طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الكريم المصمد
يريد: في الناس ... في ذروة ...
3 فلا يحسن القياس عليه.(2/470)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– جعل بعض النحاة من معاني: "إلى" أن تكون بمعنى: "عند1" مستدلًا بمثل قول القائل:
أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل
وأن تكون زائدة؛ مستدلًا بقراءة من قرأ قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، بفتح الواو، أي: تهواهم ...
وقد دفع ذلك الرأي بأن الشاهد الأول وقعد فيه "إلى" للتبيين؛ لأن ما بعدها وهو باء المتكلم فاعل معنوي على الوجه المشروح الحالة الثالثة السالفة، وأن الشاهد الثاني: "الآية" وقع فيه الفعل، "تهوى" مضمنًا، معنى: "تميل" فلا تكون "إلى" زائدة، وهذا رأي حسن يقتضينا أن نأخذ به؛ فرارًا من الحكم بالزيادة من غير ضرورة.
ب– يجب قلب ألفها2 ياء إذا كان المجرور بها ضميرًا، نحو: نقصد الوفود إلينا من بلاد بعيدة، فتقدم إليهم ضروب المجاملة الكريمة.
فإن كان الضمير ياء المتكلم أدغمت الياءان؛ نحو: إلي يتجه الخائف.
__________
1 سبق الكلام على "عند" في باب الظرف مع نظائرها من الظرف ص291 من هذا الجزء.
2 وهي المكتوبة ياء؛ تبعًا لقواعد رسم الحروف.(2/471)
اللام: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويقع أصليًا وزائدًا1 ... ، ويؤدي عدة معان قد تجاوز العشرين.
1- انتهاء الغاية2 "أي: الدلالة على أن المعنى قبل اللام ينتهى، وينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور بها، الداخل في ذلك المعنى"، نحو: صمت شهر رمضان لآخره، وقرأت الكتاب لخاتمته ...
واستعمالها في هذا المعنى قليل بالنسبة لباقي معانيها، ولكنه مثل كل معانيها المختلفة قياسي "كما سبق"3.
2- الملك؛ وتقع بين ذاتين، الثانية منهما هي التي تملك حقيقة، نحو: المنزل لمحمود، وهذا المعنى أكثر استعمالاتها.
3– شبه الملك؛ وتقع: إما بين ذاتين، والثانية منهما لا تملك ملكًا حقيقيًا؛ وإنما تختص بالأولى، وتقتصر الأولى عليها، دون تملك حقيقي من إحداهما للأخرى؛ نحو: "السرج للحصان – المفتاح للباب – الباب للبيت"، وإما قبلهما نحو: للصديق ولد نبيه، حيث تقدمت "اللام" على الذاتين ... ، وإما بين معنى وذات؛ نحو الحمد للأمهات، والشكر للوالدين ...
وتسمى هذه اللام بصورها الثلاثة: لام الاستحقاق، أو: لام الاختصاص.
4– الدلالة على شبه التمليك؛ نحو: جعلت للمحتاج عطاء ثابتًا، فالعطاء الذي يأخذه المحتاج يصير ملكًا له، يتصرف فيه تصرف المالك الحر كما يشاء.
5- الدلالة على شبه التمليك؛ نحو: جعلت لك أعوانًا من أبنائك البررة، فالأعوان هنا بمنزلة الشيء المملوك، ولكنه ليس ملكًا حقيقيًا تقع عليه التصرفات
__________
1 من أي النوعين لام الاستغاثة الداخلة على المستغاث؟ وهل تحتاج مع مجرورها إلى تعليق؟
الإجابة تحتاج إلى تفصيل، وسرد بعض أحكام مختلفة، وقد عرضنا لكل هذا في الباب المناسب، وهو: باب: "الاستغاثة" "ج 4 م 133 ص 87".
2 فهذا الحرف مثل: "إلى" في هذا المعنى الذي سبق إيضاحه في رقم4 من هامش459، وفي رقم2 من هامش ص468، ومثل "حتى فيه، وسيجيء الكلام عليها، في ص 482 والثلاثة مشتركة في هذا المعنى دون بقية حروف الجر، كما قلنا.
3 في ص 455.(2/472)
المختلفة، وإنما يشبهه من بعض الوجوه دون بعض1.
6– الدلالة على النسب؛ نحو: لفلان أب يقول الحق، ويفعل الخير، أي: ينتسب فلان لأب1 ...
7– التعدية2 المجردة؛ نحو: ما أحب العقلاء للصمت المحمود، وما أبغضهم للثرثرة.
8– التعليل؛ بأن يكون ما بعدها علة وسببًا فيما قبلها، نحو: الاكتساب ضروري، لدفع الفاقة وذل الحاجة3.
9- التوكيد المحض، وتكون في هذه الحالة زائدة زيادة محضة لتأكيد معنى الجملة كلها، لا معنى العامل وحده كما شرحنا4، ويجري عليها ما يجري على حرف الجر الزائد4، وأكثر ما تكون زيادتها بين الفعل ومفعوله؛ نحو قول الشاعر:
وملكت ما بين العراق ويثرب5 ... ملكًا أجار6 لمسلم ومعاهد
أي: أجار مسلمًا ومعاهدًا7، وقول الشاعر في الغزل:
__________
1،1 الحق أن المعاني الثلاثة "التمليك – شبه – النسب" متقاربة، ويمكن الاستغناء عنها بعد إلحاقها بحروف أخرى، ولكنها مع اللام أوضح؛ فنسبت إليها، ولقد قيل: إن كل معنى من المعاني الثلاثة يستفاد من الجملة كلها، لا من اللام وحدها وهذا صحيح، وقد أجابوا بأن فهم هذا المعنى من التركيب متوقف على "اللام" فنسب إليها.
2 إذا كانت لمجرد التعدية فما بعدها في حكم المفعول به معنى، وإن كان مجرورًا كما سبق في أول هذا الباب، ص437 و439، وفي باب: "التعدي واللزوم"، ص151.
وكونها هنا للتعدية المجردة لا ينافي أنها في بقية مواضعها للتعدية أيضًا مع إفادتها شيئًا آخر في الوقت نفسه، كما جاء في حاشية الصبان.
3 ما بعدها هو السبب هنا؛ لأن السبب لا بد أن يظهر في الوجود قبل المسبب، والرغبة في دفع الفاقة سابقة على وجود الاكتساب.
4و4 في ص 450، ومنه يعلم: أن حرف الجر لزائد زيدة محضة لا يفيد إلا توكيد المعنى العام في الجملة كلها، وأنه لا يتعلق بعامل، وأنه يمكن الاستغناء عنه، دون أن يتأثر الكلام بحذفه ... و...و ...
5 اسم للمدينة المنورة.
6 أجاره: نصره وحماه.
7 يستدل النحاة بالبيت السالف على زيادة "اللام" كما قلنا لكن البيت للشاعر "ابن ميادة" من أبيات يمدح بها أمير المدينة، وبعده:
ماليهما ودميهما من بعدما ... غشي الضعيف شعاع سيف المارد
وهذا يجعل الحكم بزيادة اللام غير مقطوع به، إذ يصح أن يكون "المفعول به"
هو"ماليهما" ... إلا أن أعربنا هذه الكلمة "بدلًا" من "مسلم" ... فالاستشهاد
بالبيت السالف استشهاد بما يقبل الاحتمال من غير داع، ولا يصلح للقطع.(2/473)
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل ... 1
فالفعل: "أريد" متعد يحتاج للمفعول به، ومفعوله الذي يكمل المعنى هو المصدر المؤول بعد "لام التعليل" الجارة، والأصل: أريد أن أنسى، واللام زائدة بينهما. أو بين المتضايفين؛ كقولهم: لا أبا لفلان، على الرأي الذي يعتبرها زائدة2.
وقد أجازوا زيادتها3 للضرورة الشعرية بين المنادى المضاف والمضاف إليه، كقول الشاعر4 في فتاة:
لو تموت لراعتني، وقلت: ألا ... يا بؤس للموت، ليت الموت أبقاها
وقول الآخر5:
يا بؤس للجهل ضررًا لأقوام ...
ومن المستحسن اليوم الاقتصار في الزائدة على المسموع6؛ مبالغة في الاحتياط.
__________
1 سيذكر البيت لمناسبة أخرى في هامش ص476.
2 وهو أحد الأوجه التي أوضحناها، وشرحنا معها الأسلوب، والمراد منه، في ج 1 باب: "السماء الستة" م8 ص99.
3 كما سيجيء في جـ3 باب: "الإضافة" وفي جـ4 باب: "النداء".
4 هو أبو جنادة العذري من الشعراء الذين أدركوا الدولة الأموية.
5 هو النابغة الذبياني، وصدر البيت:
قالت بنو عامر خالوا بني أسد ...
إلخ: خالي فلان قبيلته: تركها، والمراد: اتركوا بني أسد ...
6 ومن المسموع زيادتها بعد الفعل: "أعطى"، وهو من الأفعال التي تنصب مفعولين في الأصل، قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
أحجاج لا تعط العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها
وقال آخر من أصحاب المبرد:
ولكنني أعطي صفاء مودتي ... لمن لا يرى يومًا علي له فضلا
وانظر ما يتصل بهذا في آخر رقم4 من هامش ص20 حيث المنقول عن: "المغني" و"الصبان" ...(2/474)
10- التقوية، وهي التي تجيء لتقوية عامل ضعيف؛ إما بسبب تأخره عن معموله، نحو، قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 1، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} ، وإما بسبب أنه فرع مأخوذ من غيره، كالفروع المشتقة؛ مثل قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، وقوله: {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} ، وقول علي رضي الله عنهم: "لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به"، فأصل الكلام في الآيتين الأوليين: إن كنتم تعبرون الرؤيا يرهبون ربهم ... فلما تقدم كل من المفعولين على فعله ضعف الفعل بسبب تأخيره عن معموله "مفعوله"؛ فجاءت اللام لتقويته2، وأصل الكلام في الآيتين الأخيرتين وفي كلام علي: فعال
__________
1 الرؤيا هنا: الحلم المنامي، وتعبيره: تفسيره.
2 تخصيص اللام بمعنى "التقوية" على الوجه الذي يقوله كثير من النحاة، تخصيص لا مسوغ له، فليست "لام التقوية" نوعًا مستقلًا يخالف "اللام الزائدة" في قليل أو كثير كما سيبين مما يلي هنا، وفي هامش الصفحة الآتية مباشرة. وقد سبق أن أشرنا باختصار في رقم2 من هامش ص435 إلى أن اللام التي تفيد التقوية زائدة زيادة غير محضة، "أي: أنها زائدة شبيهة بالأصلية"؛ لأنها تفيد عاملها لا الجملة معنى جديدًا: هو: "التقوية" ومن أجل هذا المعنى تتعلق بعاملها فأشبهت حرف الجر الأصلي في جلب معنى جديد يكمل العامل، وفي التعلق بهذا العامل، ولكنها من ناحية أخرى يمكن حذفها لا يتأثر المعنى بحذفها، لكل ما سبق لم تكن زيادتها محضة "راجع الصبان والتصريح عند كلامهما على "لام الجر" ثم "المغني"".
ومما تجب ملاحظته أن لام التقوية لا تدخل على مفعولي عامل ينصب مفعولين مذكورين بشرط أن يتقدما عليه معًا، أو يتأخرا عنه معًا، فمتى وجد المفعولان كذلك، فلن يصح دخولها عليهما معًا، ولا على أحدهما، وإذا حذف أحدهما أو تقدم، صح دخولها على الذي لم يحذف، وكذا على المتقدم منهما، كما في الصبان، ومقدمة الجزء الأول من "المغني" التي جاء فيها على لسان ابن هشام ما نصه:
"وها أنا بائح بما أسررته، مفيد لما قررته وحررته"، فقال العلامة الأمير تعقيبًا عليه ما نصه:
"اللام في قوله: "لا" مقوية؛ إذ مادة الإفادة تتعدى بنفسها، لا يقال: إنها تتعدي لمفعولين؛ تقول: أفدت محتاجًا مالًا؛ وما يتعدى لمفعولين لا يقوى باللام؛ لأنا نقول محل ذلك إذا كان المفعولان مذكورين، مقدمين، أو مؤخرين عن العامل، كما يفيده كلام ابن مالك في تعليل منع ذلك؛ لأن اللام إما أن تزاد فيهما؛ فيلزم تعدي عامل واحد بحرفي جر متحدين، وهذا ممنوع في الأغلب وإما أن تزاد في أحدهما؛ فيلزم الترجيح بلا مرجح، فإن كان أحدهما محذوفًا كما هنا ... "فإنه حذف من يفاد وهو الشخص المستفيد، لعدم تعلق غرض به وذكر ما يفاد، وهو الشيء المفيد ... "، فإن "اللام" تدخل على المذكور؛ لأن المحذوف حينئذ قطع النظر عنه، سواء نزلت العامل بالنظر للمحذوف منزلة اللازم أو لا. وكذلك إذا تقدم أحدهما دخلت عليه اللام؛ لأن العامل عن المقدم أضعف، أو نائب أحدهما عن الفاعل، نحو: محمود مفاد مالًا، دخلت على المنصوب؛ لأن طلبه المرفوع أقوى". ا. هـ.
هذا، ومما يصلح عندهم أن تكون اللام فيه للتقوية قولهم في الدعاء:
"سقيًا للمحسن ورعيًا له"، وفي هذا الأسلوب وأمثاله، تفصيلات معنوية، وأحكام إعرابية مختلفة، أوضحناها كاملة في ج 1 م 39 ص 468.(2/475)
ما يريد مصدقًا ما معهم، التاركينه ... فكلمة: "فعال" صيغة مبالغة متعدية، تعمل عمل فعلها، ولكنها أضعف منه، فجاءت اللام لتقويتها.
وكذلك كلمة: "مصدقًا"، وكلمة "التاركين" وكلاهما اسم فاعل1 ...
__________
1 هذا كلام كثير من النحاة، ويزيدون أن حرف الجر أصلي هنا؛ فهو مع مجروره متعلقان بالعامل الضعيف ...
وكلامهم مردود بما سردناه في رقم 2 من هامش ص 184، وبما نسرده هنا: فما معنى التقوية إذا كان من الممكن الصحيح حذف هذه اللام، وتعدية الفعل أو المشتق إلى المفعول به مباشرة من غير حاجة إليها، ما دام العامل معدودًا في اللغة من العوامل المتعدية بنفسها؛ فتقول؛ {إن كنتم الرؤيا تعبرون – ربهم يرهبون – مصدقا لما معهم – فعال ما يريد} ... فيصل بنفسه الفعل أو المشتق إلى المفعول به بغير حاجة إلى هذه الواسطة؛ سواء أكان هذا العامل متقدمًا أم متأخرًا؟ وكيف تكون اللام للتقوية مع أن الاسم قبل مجيئها كان مفعولًا به منصوبًا، فلما جاءت جرته؛ فصار مفعولًا به في المعنى دون اللفظ، ولا شك أن العامل الذي يؤثر في مفعوله لفظًا ومعنى أقوى من العامل الذي يؤثر فيه معنى فقط ... ، وكان الأولى بالنحاة أن يقولوا: إن هذه اللام تزاد جوازًا في المفعول به إذا تقدم على عامله الفعل، كما تزاد في المفعول به إذا كان عامله وصفًا ينصب المفعول به متقدمًا أو متأخرًا، وأن الار والمجرور لا يتعلقان؛ لأن حرف الجر زائد، وأن المجرور لفظًا منصوب محلًا.
على أن الرأي الأقرب للسداد هو ما سجله "المبرد" في كتابه: "الكامل" "جـ 3 ص 36 الطبعة القديمة بمطبعة الفتوح"، ونصه عند شرح لقول أبي النجم الشاعر: "سبي الحماة وابهتى عليها" أن الأصل هو: "وابهتيها"، فوضع "ابهتي" في موضع: "اكذبي" فمن ثم وصلها بعلي، والذي يستعمل في صلة الفعل "اللام"؛ لأنها لام الإضافة؛ تقول: لزيد ضربت، ولعمرو أكرمت، والمعنى: عمرا أكرمت، وزيدًا ضربت، فإنما تقديره: إكرامي لعمرو، وضربي لزيد: فأجرى للفعل مجرى المصدر، وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدم المفعول؛ لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام: كما قال الله عز وجل: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} ، وإن أخر المفعول فعربي حسن، والقرآن محيط بكل اللغات الفصيحة، قال الله عز وجل: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، والنحويون يقولون في قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ} إنما هو: ردفكم، وقال كثير عزة:
أريد لأنسى ذكرها، فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
ا. هـ، كلام المبرد في الكامل، وسيذكر البيت: "سبي الحماة ... " لمناسبة أخرى في هامش ص540.
وشيء آخر: جاء في مجلة المجمع اللغوي بدمشق "جـ4 ص182" بقلم الأب أنستاس الكرملي، العضو السابق بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، والعراق، وغيرهما، ما نصه: "زعموا أنه لا يقال: يمكن لأحدكم ... "، وعندي أنه يجوز. والنحاة تسمي هذه اللام: "اللام المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله، وهي كثيرة الورود في كلامهم، وإن أنكرها المرحوم "إبراهيم البازجي". ا. هـ.(2/476)
11- الدلالة على القسم1 والتعجب معًا، بشرط أن تكون جملة القسم محذوفة، وأن يكون المقسم به هو لفظ الجلالة؛ كقولهم: "لله! ! لا ينجو من الزمان حذر"، يقال هذا في عرض الحديث عن رجل حريص يتوقى أسباب الضرر جهد استطاعته، ولكنه بالرغم من ذلك يصاب.
وقولهم: "لله! ! انتصرت الفئة القليلة المؤمنة بحقها على الفئة الكبيرة المختلفة". وهذا يقال في معرض الكلام عن قلة متوحدة؛ مؤتلفة، لم يكن أحد ينتظر لها الفوز والغلبة، على كثرة تفوقها عدة وعديدًا، فلا بد من قرينة تدل على معنى القسم والتعجب المجتمعين في "اللام".
وبغير القرينة لا يتضح هذا المدلول.
ومن الجائز أن تحذف هذه اللام، ويبقى المقسم به على حاله من الجر بشرط أن يكون لفظ الجلالة.
12- الدلالة على التعجب بغير قسم، بشرط القرينة أيضًا؛ ويكون بعد النداء كثيرًا؛ نحو: يا للأصل2 وما به من روعة يا للكشف العلمي وما انتهى إليه. ويكون بعد غيره، نحو: لله در فلان شجاعًا في الحق، لله أنت معوانًا في الخير 3 ...
__________
1 حروف القسم المشهورة هي: "الباء – التاء – الواو – اللام" إلا أن اللام تنفرد بأنها تدل على التعجب مع القسم، أما غيرها فمعناه مقصور على القسم وحده، وسيأتي تفصيل الكلام على كل واحد من الأربعة، وأوجه الشبه والمخالفة بينه وبين إخوته، وهناك حرف خامس سبقت الإشارة إليه في ص 465 هو: "من"، فقليل من العرب يستخدم هذا الحرف "بكسر ميمه أو ضمها" أداة قسم، قد حذف فعل القسم وفاعله وجوبًا، فيقول: من الله لأنصرن النزيه، أي: والله، ولا يكاد يكون القسم معه بغير الله.
وأندر من هذا الحرف استعمال القدماء الحرف "ها" للقسم بعد "إي" التي بمعنى: "نعم" وبدونها ... جاء في الأمالي "جـ 1 ص 172" أن أعرابيًا قال لآخر: أنشدنا رحمك الله، وتصدق على هذا الغريب بأبيات ... فقال: إي: ها الله إذًا ...
"انظر البيان الخاص بها في ص 506 رقم 3 من هامشها".
2 الوقت بعد العصر إلى المغرب، ويجوز في اللام هنا الفتح أو الكسر إذا كان المنادى مقصودًا به التعجب. "انظر جـ4 ص66 م134".
3 ويصح أن يكون من هذا ما يرد في بعض النصوص القديمة، من مثل قول الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني، ولا أنت دياني فتخزوني
والأصل: الله ابن عمك، بحذف لام الجر قبل لفظ الجلالة.(2/477)
13– الدلالة على العافية المنتظرة، "أي: على النتيجة المرتقبة، أو: الصيرورة". نحو: "سأتعلم للحياة السعيدة، وأتنقل في جنبات المعمورة لتحصل أنفع التجارب"، ونحو: "ربيت النمر لهجوم علي"، يقول هذا من صادف نمرًا صغيرًا فأشفق عليه وتعهده، وخدع فيه، ثم غدر به النمر، فكأنه يقول ساخطًا متهمكًا: ربيته، فكانت عاقبة التربية ونتيجتها الهجوم علي، ونحو: "أربي هذا الولد الضال ليسرقني، ويفر كأخيه"، يقول هذا من يؤدي إليه شريدًا، ويحسن إليه، وهو يتوقع أن يغافله، ويسرقه، ويهرب، كما فعل أخوه من قبل: وتسمى اللام في الأمثلة السابقة وأشباهها: لام "الصيرورة" أو: "العاقبة"؛ لأنها تبين ما صار إليه الأمر، وتوضح عاقبته1 ...
14– الدلالة على التبليغ؛ وهي الدالة على إيصال المعنى إلى الاسم المجرور بها؛ نحو: قابلت صديقك، ونقلت له ما تريد أن أنقله2 ... "وقد يسميها لذلك بعض النحاة "لام التعدية" يريد: إيصال المعنى وتبليغه".
15– الدلالة على التبيين؛ أي: إظهار أن الاسم المجرور بها هو في حكم المفعول به معنى، وما قبلها هو الفاعل في المعنى كذلك، بشرط أن تقع بعد اسم تفضيل أو فعل تعجب، مشتقين من لفظ يدل على الحب، أو البغض، وما بمعناهما؛ كالود، والكره، ونظائرهما ... ، نحو: "السكون في المستشفى أحب للمرضى، وإطالة زمن الزيارة أبغض لنفوسهم"، فالمجرور باللام في المثالين وأشباههما في حكم المفعول به من جهة المعنى "لوقوع أثر الكلام السابق عليه" لا من جهة الإعراب، فكلمة "السكون" هي الفاعل المعنوي لا النحوي الذي أوجد الحب، وكان سببًا فيه، وكلمة: "المرضى" هي المفعول به المعنوي لا النحوي الذي وقع عليه الحب، وأنصب عليه أثره، ومثل هذا يقال في
__________
1 ومنها قوله تعالى في موسى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} .
2 ومثلها التي في صدر البيت الآتي لشوقي:
"قل للمشير إلى أبيه وجده ... أعلمت للقمرين من أسلاف"؟
والتي في صدر البيت الآخر:
"وليس عتاب المرء للمرء نافعًا ... إذا لم يكن للمرء لب يعاتبه"(2/478)
كلمتي: "إطالة، ونفوس"، فالأولى هي الفاعل المعنوي لا النحوي، والأخرى هي المفعول به المعنوي كذلك.
ومثل: البدوي الصميم أحب للصحراء، وأبغض للخضر، وما أكرهه للاستقرار، ودوام الإقامة في مكان واحد1.
ومن هنا يتبين الفرق الدقيق بين: "إلى" التي تفيد التبيين، و"اللام" التي تفيده أيضًا2، ويتركز في أن ما بعد "إلى" التبيينية "فاعل" في المعنى لا في اللفظ؛ وما قبلها مفعول به في المعنى كذلك، أما "اللام التبيينية" فبعكسها؛ فما بعدها مفعول به معنوي لا لفظي؛ وما قبلها فاعل معنوي كذلك، فإذا قلت: الوالد أحب إلى ابنه، كان الابن هو المحب، والوالد هو المحبوب، أي: أن الابن هو فاعل الحب معنى، والوالد هو الذي وقع عليه الحب؛ فهو بمنزلة المفعول به معنى، أما إذا قلت: الوالد أحب لابنه، فإن المعنى ينعكس؛ فيصير الابن هو المحبوب؛ فهو بمنزلة المفعول به معنى، والأب هو المحب، فهو بمنزلة الفاعل معنى، وقد سبق2 القول بأن مثل هذا الأسلوب دقيق يتطلب يقظة في استعماله، وفهمه 3.
16– أن تكون بمعنى: بعد4، كقولهم: "كان الخليفة يقصد المسجد لأذان الفجر مباشرة، ويصلي الصبح بالناس إمامًا، ثم ينظر قضاياهم، ولا يغادر المسجد إلا للعصر، وقد فرغ من صلاته، ونظر شؤون رعيته"، أي: بعد أذان الفجر مباشرة، وبعد العصر، ومن هذا النوع ما كان يؤرخ به الأدباء وسائلهم؛ فيقولون: "كتبت هذه الرسالة لخمس خلون من "شوال"" يريدون: بعد خمس ليال مررن
__________
1 فالمراد: يحب البدوي الصحراء، يبغض البدوي الحضر يكره البدوي الاستقرار.
2 و 2 راجع ما سبق في ص 469، حيث الإيضاح والضابط الذي يبين الفاعل والمفعول به المعنويين.
3 من أمثلة اللام التبيينية: سقيًا لك رعيًا لك تبًا للخائن ... وفي هذه الأمثلة وأشباهها تفصيلات لغوية دقيقة، لها آثار معنوية هامة تتصل باعتبارها جملة واحدة حينًا، وجملتين حينًا آخر، وقد وفيناها حقها من الإبانة، والإيضاح، وعرض أبقوم الطرائق لاستعمالها الصحيح في الجزء الأول ص 380، م 39 في قسم الزيادة والتفصيل الخاص بمواضع حذف المبتدأ، ولا مناص للباحث المستقصي من الرجوع إليها.
4 بعد، من الظروف التي سبق الكلام عليها في باب: الظرف بهذا الجزء ص 283.(2/479)
من شوال، ومثل قول الشاعر1:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام، وذا العام سابع
أي: بعد ستة أعوام ... ، وقول الآخر:
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول2 اجتماع لم نبت ليلة معًا
17– أن تكون بمعنى: "قبل"، كقولهم في التاريخ: كتبت رسالتي لليلة بقيت من رمضان، أي: قبل ليلة.
18– أن تفيد الظرفية3 نحو: قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقوله: تعالى في أمر الساعة: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} 4، وقولهم في التاريخ: كتبت هذه الرسالة لغرة شهر رجب، وقولهم: مضى فلان لسبيله ... ، "أي: في يوم القيامة في وقتها في غرة شهر رجب في سبيله".
19– أن تكون بمعنى: "من البيانية"5 كقول الشاعر يخاطب عدوه:
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل
أي: نحن أفضل منكم يوم القيامة.
20– أن تكون للمجاوزة6. "مثل: عن" كقول الشاعر:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدًا وبعضًا إنه لذميم
أي: عن وجهها ... ويرى بعض النحاة أنها هنا بمعنى الظرفية "أي مثل: "في". وأنها لا تكون بمعنى: "عن" ولا بمعنى: "على"، المفيدة للاستعلاء"7.
__________
1 النابغة الذبياني.
2 جعلها بعضهم هنا بمعنى: مع كما أشرنا في ج3 باب الإضافة م95 ص109 والأول أنسب.
3 الظرفية احتواء الشيء في داخله شيء آخر، كما يحتوي الظرف المظروف، ... و...و ... فتكون بمعنى: "في"، "انظر ما يتصل في رقم6 ص463 وهامشه".
4 وقيل: إن اللام في الآية الكريمة بمعنى: "عند"، أي عند وقتها "كما جاء في "المحتسب" لابن جني، ج2 ص323.
5 سبق الكلام عليها "في ص458".
6 سبق في رقم3 من هامش 463 تعريفها وبيان أقسامها.
7 جعلها بعضهم للاستعلاء الحسي في مثل قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ ... } وقول الشاعر: "فخر صريعا لليدين وللفم" ... وللاستعلاء المعنوي "وهو المجازي" في مثل قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي: إن أسأتم فعليها، والأمر متوقف على موضوع معناها في السياق.(2/480)
والرأي السديد أنها إن دلت في السياق على المجاورة، أو: الاستعلاء دلالة واضحة كالتي في الأمثلة الواردة جاز أن تكون من حروفهما، وإلا طلبنا لها معنى آخر يظهر فيه الوضوح والإبانة.
21– أن تكون لتوكيد النفي، وهي الداخلة في ظاهر الأمر دون حقيقته على المضارع المسبوق بكون منفي؛ وتسمى: "لام الجحود"1؛ لسبقها بالنفي دائمًا. نحو: ما كان الحق لينهزم، ولم يكن الباطل لينتصر.
22– أن تكون بمعنى: "مع" كقوله تعالى في اليتامى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، أي: مع أموالكم.
23– أن تكون بمعنى "عند" المفيدة للتوقيت؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر} ، أي: عند أول الحشر 2 ...
حركة لام الجر:
تتحرك لام الجر بالكسرة إن دخلت على اسم ظاهر غير المستغاث3 في نحو: يا للقادر للضعيف؛ وتتحرك بالفتحة إن دخلت على ضمير، إلا على ياء المتكلم؛ فتكسر في نحو: رب اغفر لي، و ...
__________
1 تفصيل الكلام عليها في باب: "النواصب" من الجزء الرابع.
2 جاء في تفسير: "صفوة البيان، لمعاني القرآن" ما نصه: "المعنى: عند أول الحشر واللام للتوقيت: كالتي في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . ا. هـ.
أي: لتحولها وميلها عن وسط السماء إلى ما يليه.
ويقول المفسرون في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ... إن لام الجر هنا للتوقيت، أي: لوقت وقوعها، كالتوقيت الذي في قولهم: كتبت الرسالة لسبع خلون من رمضان مثلًا ...
3 وغير المنادى المقصود به التعجب؛ كالذي سبق في رقم12 من ص477 فإن اللام فيه صالحة للفتح والكسر.(2/481)
حتى1: حرف جر أصلي، وهو نوعان:
أ– نوع لا يجر إلا الاسم الظاهر الصريح2، ومعنى: "حتى" في هذا النوع الدلالة على انتهاء الغاية3؛ ولهذا تسمى فيه: "حتى الغائية"، نحو: تمتعت بأيام الراحة حتى آخرها، والأكثر أن يكون الوصول إلى نهاية الغاية تدرجًا وتمهلًا، أي: دفعات لا دفعة واحدة، والغالب كذلك أن يجر الآخر من الأشياء، أما ما يتصل بالآخر مما يكون قبله مباشرة، نحو: "شربت الكوب كله حتى الصبابة، وأتممت الصفحة حتى السطر الأخير".
ونحو: "سهرت الليلة حتى السحر، وتنقلت في الحديقة حتى الباب الخارجي". والغالب أيضًا أن تدخل نهاية الغاية في الحكم4 الذي قبل "حتى"، إلا إذا قامت قرينة تدل على عدم الدخول؛ نحو: قرأت الكتاب كله حتى الفصل الأخير؛ فنهاية الغاية داخلة بقرينة تدل على الشمول والعموم؛ هي كلمة: "كل"، بخلاف: كدت أفرغ من الكتاب؛ فقد قرأته حتى الفصل الأخير؛ لأن كلمة: "كدت" التي معناها: "قاربت" تدل على أن بعضه الأخير لم يقرأ ... وعلى هذا لا يستحسن الإتيان "بحتى" في مثل: قرأت الكتاب حتى ثلثه أو نصفه، وإنما يجيء مكانها "إلى".
ب- نوع لا يجر إلا المصدر المنسبك من "أن" المضمرة وجوبًا، وما دخلت عليه من الجملة المضارعية، وأشهر معاني هذا النوع ثلاثة: الدلالة على انتهاء
__________
1 سيجيء في جـ 4م 149 ص314 تلخيص مفيد لجميع أنواع "حتى"، وتفصيل هام عن نوعها الجار.
2 المراد بالظاهر ما ليس ضميرًا، وبالصريح ما ليس مصدرًا مؤولًا من "أن المصدرية"، والجملة المضارعية بعدها.
3 أي: على أن المعنى قبله ينتهي، وينقطع بوصوله إلى الاسم المجرور به كما سبق وعلامته، صحة وقوع: "إلى" الدالة على انتهاء الغاية مكانه.
"وحتى" أحد حروف ثلاثة تدل على انتهاء الغاية، وقد سبق الحرفان الآخران: "إلى" في ص 468 و"اللام" في ص 472، وإذا كانت "حتى" لانتهاء الغاية اقتضت أن ينقضي ما قبلها شيئًا فشيئًا، لا دفع واحدة، ولا سريعًا: فلا بد في انقضائه في التدرج والتمهل كما سيجيء.
4 وهذا أحد الأوجه التي تخالف فيها: "إلى"، ومنها أيضًا؛ أنه يجوز أن نقول: كتبت إلى الأخ رسالة، ولا يصح: كتبت حتى الأخ رسالة؛ لأن "حتى" الغائية تتطلب كما سبق أن =(2/482)
الغاية، كالنوع السابق، أو الدلالة على التعليل1، أو الدلالة على الاستثناء2 إن لم يصلح أحد المعنيين السابقين.
وهذا النوع كما قلنا: لا يجر إلا المصدر المنسبك من "أن" الناصبة للمضارع، المقدرة وجوبًا، ومن صلتها الفعلية المضارعية3؛ نحو: أتقن عملك حتى تشتهر اجتب الكسب الخبيث حتى تسلم ثروتك التاجر الحصيف يحرص على الأمانة حتى يزداد ربحه ... ، ولا يصح أن تكون في هذه الأمثلة لانتهاء الغاية؛ لأن انتهاء الغاية يقتضي انقطاع ما قبل: "حتى" وانتهاءه بمجرد وقوع ما بعدها وحصوله، ولا يتحقق هذا في الأمثلة السالفة إلا بفساد المعنى؛ إذ ليس المراد أن يتقن المرء عمله حتى يشتهر؛ فإذا اشتهر ترك الإتقان ... ولا أن
__________
= ينقضي المعنى قبلها شيئًا فشيئًا، وعلى عدة دفعات حتى يصل إلى نهاية الغاية؛ بخلاف "إلى"، والكتابة لا تحتاج إلى هذا، فناسبها "إلى" كما يجوز أن تقول: انتقلت من البادية إلى الحاضرة، ولا يحسن أن تقول: "حتى" الحاضرة؛ لأن الأساليب الصحيحة المأثورة التزمت أو كادت مجيء: "إلى" الدالة على النهاية بعد: "من" الدالة على البدلية.
ومنها: أن "حتى" قد تجر المصدر المنسبك من: "أن المضمرة وجوبًا، والفعل المضارع وفاعله،" نحو: أسرعت حتى أدرك القطار، أي: أن أدرك، ولا يصح أسرعت إلى أدرك القطار؛ إذ لا تدخل "إلى" على الفعل مطلقًا إلا مع "أن" الظاهرة.
فملخص الفروق خمسة:
أن: "إلى" تجر الظاهر والمضمر، أما: "حتى" فلا تجر إلا الظاهر في أصح الآراء، ويجب الاقتصار عليه.
وأن: "نهاية الغاية" لا تدخل مع "إلى" إلا بقرينة، والأمر بالعكس مع "حتى"، فالغاية النهائية معها داخلة، ولا تخرج إلا بقرينة.
وأن "إلى" تقتضي انقضاء ما قبلها غالبًا بغير تمهل أو انقطاع، بخلاف "حتى". ولهذا آثار في التعبير.
وأن "إلى" لا تدخل على المضارع بدون "أن" الظاهرة التي تنصبه، بخلاف "حتى"، فإنها تدخل عليه إذا كان منصوبًا بأن المقدرة بعدها فتجر المصدر المنسبك.
وأن: "إلى" تجيء للدلالة على النهاية حين توجد: "من" الدالة على البداية ولا يصح مجيء: "حتى".
1 الدلالة على أن ما قبلها علة وسبب فيما بعدها، فهي مخالفة للام التعليل وأمثالها مما يكون ما بعده هو لعلة. "انظر رقم 8 من ص 475".
2 يجيء بيان هذه الدلالة على الاستثناء ص485.
3 للأداة: "حتى" الجارة للمصدر المنسبك من "أن" الناصبة للمضارع وصلتها، عدم أحكام أخرى مكانها المناسب الذي ستذكر فيه تفصيلًا هو الجزء الرابع، باب: "إعراب الفعل" حيث الكلام على: "النواصب" ...(2/483)
يجتنب الكسب الخبيث حتى تسلم ثروته، فإذا سلمت لا يجتنبه ... ، ولا أن يحرص على الأمانة حتى يزداد ربحه، فإذا ازداد تركها، ليس المقصود شيئًا من هذا لفساده؛ فهي في تلك الأمثلة للتعليل.
ومثال الدلالة على انتهاء الغاية: أقرأ الكتاب النافع حتى تنتهي صفحاته يمتد الليل حتى يطلع الفجر ...
أما دلالتها على الاستثناء فقليلة1.
__________
1 تفصيل الكلام عليها في الصفحة التالية مباشرة كما أشرنا في رقم2 من هامش الصفحة السابقة.(2/484)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– قلنا فيما سبق1: إن "حتى" الجارة نوعان؛ نوع: يجر الاسم الصريح، ومعنى هذا النوع الدلالة على الغائية، أي: على نهاية الغاية، فيجر الآخر أو ما يتصل بالآخر، ونوع يجر المصدر المنسبك من "أن" المضمرة وجوبًا، وما دخلت عليه من الجملة المضارعية، ومعنى هذا النوع، إما نهاية الغاية2 وإما التعليل، وإما الاستثناء.
فمن معاني "حتى": الدلالة على الاستثناء وهذا أقل استعمالاتها، ولا يلجأ إليه إلا بعد القطع بعدم صحة واحد من المعنيين السابقين، ولا تجر فيه إلا المصدر المنسبك من "أن" الناصبة المستترة وجوبًا ومن صلتها الفعلية المضارعية، وتكون "حتى"3 في هذه الحالة بمعنى "إلا" الاستثنائية، والغالب أنه يكون الاستثناء منقطعًا، فتكون "إلا" فيه بمعنى "لكن" أي: يصح أن يحل محلها: "لكن"
__________
1 في ص 482.
2 يفهم من هذا أن "حتى" لا بد أن تكون لنهاية الغاية إذا كان المجرور بها اسمًا صريحًا، ولا عكس؛ فلا يلزم من كونها للغاية أن يكون المجرور بها اسمًا صريحًا. لا يلزم هذا؛ لجواز أن يكون مصدرًا مؤولًا من أن المصدرية، وصلتها الجملة المضارعية.
3 قد تكون: "حتى" مع "أن" المستترة بمعنى: "إلا أن"؛ فيكون الاستثناء منقطعًا، مع ملاحظة أن أداة الاستثناء، هنا مقصورة على: "إلا" وحدها، أما الحرف: "أن" الذي يليها فلا شأن له بالاستثناء، وإنما جيء به لمجرد التفسير والإيضاح.
وقد يكون الاستثناء أحيانًا متصلًا كما في بعض الأمثلة التي عرضت، وكما في نحو: لا أجيب الصديق حتى يدعوني لمزاملته؛ أي: لا أجيبه وقتًا إلا وقت دعوتي، ببقاء النفي الذي قبل "حتى" على حاله بعد تأويلها كما هو الأغلب، فالاستثناء متصل مفرع للظرف، ولا تصلح "حتى" غائية؛ لأن عدم الإجابة لا يقع تدريجًا على دفعات؛ إذ الإجابة لا تمتد ولا تتطاول إلى زمن الدعوة، بل إنها لا تكون قبل الدعوة، ولا تصلح أن تكون "تعليلية"؛ لأن عدم الإجابة ليس سبب الدعوة، فلم يبق إلا أن تكون بمعنى الاستثناء، وهو صالح هنا أن يكون متصلًا؛ فلا يعدل إلى الانقطاع، ومثله قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} ... ، أي: ما يعلمان من أحد وقتًا "أي: في وقت" إلا وقت أن يقولا ... ولهذه المسألة بيان أشمل، يستوعب جوانبها الهامة المختلفة، وهو في ج4 م149 باب: "النواصب" ص314 وما بعدها: حيث الكلام المفصل عن "حتى" وأنواعها، وكثير من الأمثلة الأخرى.(2/485)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التي تفيد الابتداء والاستدراك معًا؛ "فيكون الاستثناء منقطعًا"؛ نحو: لا يذهب دم القتيل هدرًا حتى تثار1 له الحكومة، أي: إلا أن تثأر له الحكومة بمعنى: لكن تثأر له الحكومة، فلا يذهب هدرا، والغالب في هذا المثال –وأشباهه– أن يبقى النفي الذي قبل "حتى" على حاله بعد تأويلها بالحرف "إلا".
ولا يصح في المثال السالف أن تكون: "حتى" للغاية؛ لأن "حتى" الغائية –كما عرفنا– إذا وقع ما بعدها وتحقق معناه توقف المعنى الذي قبلها، وانقطع.
يترتب على هذا أن الحكومة حين تثأر للقتيل، ينقطع عدم ذهاب دمه هدرًا؛ وانقطاعه وتوقفه يؤدي -حتمًا- إلى وقوع ضده وحصوله؛ أي: إلى أن دمه يذهب هدرًا، وهذا فاسد.
وشيء آخر يمنع أن تكون "حتى" غائية في المثال؛ هو: أن ما قبلها لا ينقضي شيئًا فشيئًا.
وكذلك لا تصح أن تكون: "حتى" "تعليلية"؛ لأن ما قبلها –هنا– ليس علة وسببًا فيما بعدها؛ إذ عدم ذهاب دمه هدرًا بالفعل ليس هو السبب في انتقام الحكومة له؛ لأن هذا يناقض المراد، وإنما الانتقام له فعلًا وواقعًا هو السبب في عدم ذهاب دمه هدرًا، إذ السبب لا بد أن يسبق المسبب، ويوجد قبله؛ ليجيء بعده ما ينشأ عنه، ويترتب عليه، وهو: المسبب، فأخذ الثأر لا بد أن يتحقق بطريقة عملية توجد أولًا، ليوجد بعدها عدم ذهاب الدم هدرًا، لا العكس.
وإذا كانت "حتى" في المثال السابق وأشباهه لا تصلح أن تكون غائبة، ولا تعليلية فلا مفر بعدهما من أن تكون بمعنى: "إلا" الاستثنائية، في استثناء منقطع؛ أي: أنها بمعنى: "لكن" التي تفيد الابتداء والاستدراك معًا -كما أسلفنا- ومن الأمثلة:
1- كل مولود يولد جاهلًا بالشر حتى يتعلمه من أسرته وبيئته، بمعنى
__________
1 تثأر؛ أي: تأخذ بثأره، وتقتص له من الجاني.(2/486)
إلا أن يتعلمه، أي: لكن يتعلمه، فلا تصلح أن تكون "غائية"؛ لأن ما قبلها هنا لا يقع متدرجًا متطاولًا بحيث يمتد إلى ما بعدها، بل يقع دفعة واحدة، ولا تصلح أن تكون "تعليلية"؛ لأن ولادة الجاهل بالشر ليست هي العلة المؤثرة في أمر التعليم، ولا السبب المباشر فيه؛ إذ العلة لا يتخلف أثرها؛ فلا بد أن يتحقق بتحققها المعلول، ويوجد بوجودها: لأن العلة لا يتأخر عنها المعلول، فلم يبق إلا أن تكون "حتى"، بمعنى: "إلا" في استثناء منقطع، أي: بمعنى: "لكن" المشار إليها.
2- ناديتك حتى تحصد القمح بعد ساعات؛ فالنداء ليس فيه تمهل وتدرج يمتدان إلى وقت الحصد، وليس سببًا مباشرًا في الحصد.
3- افتح نوافذ الحجرة حتى يشتد البرد ليلًا ... ويقال فيه ما سبق1 ...
ب- من الأمثال: "ما سلم القادم العزيز حتى2 ودع"، "وهو مثل
__________
1 وفي معاني الحروف الثلاثة: "حتى - اللام - إلى" يقول ابن مالك:
للانتها: "حتى"، و"لام"، و"إلى" ... و"من"، و"باء" يفهمان بدلا
واللام للملك وشبهه، وفي ... تعدية أيضًا، وتعليل، قفي
"وزيد..... "
"قفي، أي: نسب وعرف".
سرد ابن مالك في هذين البيتين وكلمة من أول الثالث عدة معان لعدد من الحروف؛ فبين أن: "حتى" و"اللام" و"إلى" تشترك في تأدية معنى واحد؛ هو: الانتهاء، وأن "من" و"الباء" يشتركان في معنى واحد، هو: البدلية، وأن اللام بعد ذلك تفيد معنى الملك وشبهه، والتعدية، والتعليل، وقد تقع زائدة، واكتفى بهذه المعاني القليلة التي يردها لعدد من حروف الجر سردًا مختلطًا مبتورًا، ومن أسبابه ضيق الأوزان الشعرية وقيودها التي لا تتسع لما يتسع له النثر، وقد تداركنا الأمر بالشرح والترتيب المناسبين.
2 ويلاحظ أن "حتى" في هذا المثال حرف ابتداء: لوقوع الماضي بعدها؛ فليست حرف جر؛ إذ الجارة لا بد من دخولها كما عرفنا على اسم صريح، أو على مصدر منسبك من "أن" وصلتها الجملة المضارعية.(2/487)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقال فيمن قصرت مدة زيارته"، أي: ما سلم في زمن؛ لكن ودع فيه، أو: ما سلم في زمن إلا زمنًا ودع فيه1.
ومن المستحسن التخفف من استعمال "حتى" التي بمعنى "إلا" قدر الاستطاعة؛ لأن فهم المراد منها، والتمييز بينهما وبين نوعيها الآخرين لا يخلو من صعوبة؛ ولأن كثيرًا من النحاة لا يوافق على أنها تكون بمعنى "إلا"، ويتأول الوارد منها.
ج- وضح مما تقدم أن "حتى" الجارة بنوعيها لا تدخل على جملة؛ لأن التي تدخل على الجملة "الاسمية أو الفعلية" نوع آخر، يسمى: "حتى الابتدائية"2 وسيجيء تفصيل الكلام عليها في موضعها المناسب3 ...
__________
1 ففيه نوع شبه بما مر في رقم3 من هامش ص 485 برغم الاختلاف في نوع: "حتى".
2 وهي الداخلة على جملة مضمونها غاية "أي: نهاية" لشيء قبلها "كما جاء في الخضري جـ2 باب "العطف" عند الكلام على "حتى".
3 باب النواصب، جـ 4 ص 252 م 149.(2/488)
الواو، والتاء: حرفان أصليان للجر، ومعناهما القسم1 غير الاستعطافي2 ولا يصح أن يذكر معهما جملة القسم، وهما لا يجران إلا الاسم الظاهر، والتاء تفيد مع القسم التعجب3، ولا تجر من الأسماء الظاهرة إلا ثلاثة: "الله - رب - الرحمن"، ومن الشذوذ أن تجر غير هذه الثلاثة.
فمن أمثلة واو القسم قول الشاعر:
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
ومن أمثلة تاء القسم قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} 3.
ويجري على الحرفين السابقين ما يجري على كل حروف القسم من جواز الحذف4 مع بقاء المقسم به مجرورًا بشرط أن يكون هو لفظ الجلالة "أي: الله".
__________
1 أشرنا في رقم1 من هامش ص 477 إلى أن أحرف القسم المشهورة أربعة: "اللام"، وقد سبق الكلام عليها هناك، وكذلك "الواو والتاء والباء"، وسيجيء الكلام على الثلاثة هنا، والصحيح أن "الواو" و"التاء" أصيلان في القسم، وليسا نائبين فيه عن "الباء"، وليست الباء بعدهما مقدرة تجر الاسم؛ لأن هذا تعقيد لا داعي له، وقد أشرنا أيضًا في تلك الصفحة إلى أن بعض العرب يستعمل الحرف "من" "بكسر الميم أو ضمها" حرف قسم، ولا يكاد يجر به إلا كلمة: "الله"، نحو: من الله لأصاحبنك، وأندر من هذا استعمال كلمة: "ها" حرف قسم بعد كلمة: "إي":، بمعنى: نعم أو بدونها، ولا داعي اليوم لاستعمال هذه اللغات النادرة، بالرغم من جواز استعمالها.
2 إيضاحه في ص 497 و 498.
3و3 جاء في "المغني" ج 1 حرف التاء المفردة ما نصه: "التاء حرف جر، معناه: "القسم" ويختص بالتعجب، وباسم الله تعالى، وربما قالوا: تربى وترب الكعبة، وتالرحمن، قال الزمخشري في قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} ... الباء أصل حروف القسم، والواو بدل منها يريد أنها تحل محلها والتاء بدل من الواو، وفيها زيادة معنى التعجب؛ كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه، مع عتو نمروذ وقهره". ا. هـ.
وجاء في حاشية الأمير التي على هامشه ما نصه: "قوله: ويختص بالتعجب" أي: أن المقسم عليه بها لا بد أن يكون غريبًا". ا. هـ، كلام المغني.
وجء في القاموس المحيط "آخر الجزء الرابع، باب الألف اللينة" ما نصه تحت عنوان "التاء": " ... حرف جر للقسم، ويختص بالتعجب، وباسم الله تعالى، وربما قالوا: تربى، وترب الكعبة، وتا الرحمن". ا. هـ.
4 لحذف حروف الجر، ومنها حروف القسم، موضوع مستدل يجيء في ص 532.(2/489)
ملاحظة:
حرف "الواو" أنواع متعددة، لكل نوع استعمال خاص يؤدي إلى معنى معين. ومن أنواعه "واو: رب" حيث ينوب عن "رب" جوازًا بعد حذفها في مواضع محددة يأتي بيانها1، ولا يتحتم أن تكون هذه الواو نائبة عن "رب المحذوفة كما سنعرف.
الباء: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويقع أصليًا وزائدًا2، ويؤدي عدة معان، أشهرها خمسة عشر:
1- الإلصاق حقيقة أو مجازًا؛ نحو: أمسكت باللص، ومررت بالشرطي، فمعنى أمسكت به، قبضت على شيء من جسمه، أو مما يتصل به اتصالًا مباشرًا؛ كالثوب ونحوه، وهو عند كثير من النحاة أبلغ من: أمسكت اللص؛ لأن معناه مع "الباء"، المنع من الانصراف منعًا تامًا.
ومن الإلصاق الحقيقي قول الشاعر:
سقى الله أرضًا لو ظفرت بتربها ... كحلت بها من شدة الشوق أجفاني
ومعنى مررت بالشرطي: ألصقت مروري بمكان يتصل به ...
2- السببية أو التعليل "بأن يكون ما بعدها سببًا وعلة فيما قبلها"، نحو: كل امرئ يكافأ بعمله، ويعاقب بتقصيره، أي: بسبب عمله، وبسبب تقصيره3 ... وقول الشاعر:
إنما ينكر الديانات قوم ... هم بما4 ينكرونه أشقياء
وقول الآخر:
جزى الله الشدائد كل خير ... عرفت بها عدوي من صديقي
والمراد: هم أشقياء بسبب ما ينكرونه وعرفت بسببها5.
3- الاستعانة، "بأن يكون ما بعد الباء هو الآلة لحصول المعنى الذي قبلها"5
__________
1 في ص 528.
2 وأحسن لغاته أن يتحرك بالكسر في جميع أحواله.
3 وقوله تعالى في بعض الأمم البائدة: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ... أي: أهلكم
بسبب ذنوبهم.
4 الجار والمجرور متقدم لفظًا فقط، ولكنه متأخر في إعرابه.
5، 5 الفرق بين باء الاستعانة وباء السبب، أن "باب السببية" داخلة على السبب الذي أدى إلى حصول المعنى الذي قبلها، وتحققه سلبًا، وإيجابًا؛ نحو: مات الرجل بالمرض، أي: بسبب المرض، وأن "باء الاستعانة" داخلة على أداة الفعل، وآلته التي هي الواسطة بين الفاعل ومفعوله؛ نحو: فتحت الباب بالمفتاح، قطعت اللحم بالسكين، كتبت ارسالة بالقلم.(2/490)
نحو: سافرت بالطيارة رصدت الكوكب بالمنظار، وهذا المعنى هو والإلصاق أكثر معانيها استعمالًا.
4- الظرفية؛ نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} ، أي: في بدر.
5- التعدية، أو: النقل: "وهي التي يستعان بها غالبًا في تعدية الفعل اللازم إلى مفعول به، كما تعديه همزة النقل"، نحو: ذهبت بالمريض إلى الطبيب، بمعنى: أذهبته، وقعدت بفلان همته عن الطموح، بمعنى: أقعدته ...
6- أن تكون بمعنى كلمة: "بدل"1، "بحيث يصح إحلال هذه الكلمة محل "الباء" من غير أن يتغير المعنى"، مثل: ما يرضيني بعملي عمل آخر أرتضي بالملاكمة رياضة أخرى، أي: ما يرضيني بدل عملي عمل آخر، أرتضي بدل الملاكمة2 رياضة أخرى.
__________
1 هل هناك فرق بين: "البدل، والعوض"؟ الجواب في هامش الصفحة الآتية.
2 إذا كانت الباء بمعنى: "بدل"، فالأكثر دخولها على المتروك؛ "أي: على الشيء الذي لم يؤخذ للاستغناء عنه بأخذ غيره، بدلًا منه" كالأمثلة المعروضة، وكقوله تعالى في الكفار: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، ويصح دخول "الباء" على المأخوذ لا المتروك، فقد
جاء في المصباح مادة: "بدل" ما نصه: "أبدلته بكذا إبدالًا، نحيت الأول، وجعلت الثاني مكانه". ا. هـ.
وفي مختار الصحاح، مادة: "بدل" ما نصه: "الأبدال قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر". ا. هـ.
وجاء في تاج العروس مادة: "بدل" ما نصه:
"قال ثعلب، يقال: أبدلت الخاتم بالحلقة، إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته، وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتمًا، قال: وحقيقته أن التبديل تغيير الصورة إلى صورة أخرى الجوهرة بعينها، والإبدال: تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى، وقال أبو عمرو: فعرضت هذا على المبرد فاستحسنه، وزاد فيه فقال: وقد جعلت العرب أبدلت مكان بدلت ... ". ا. هـ.
وجاء في تفسير الألوسي لقوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} مثل ما سبق من كلام ثعلب، =(2/491)
ومنه قول الشاعر:
إن الذين اشتروا دنيا بآخرة ... وشقوة بنعيم، ساء ما فعلوا
7- العوض1 "أو: المقابلة"؛ نحو: اشتريت الكتاب بعشرة دراهم، واشتراه أخي بأحد عشر ...
8- المصاحبة2؛ نحو قوله تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ} ، ونحو: سافر برعاية الله، وارجع بعنايته، أي: ع سلام مع رعاية الله مع عنايته.
9- التبعيض، أو: البعضية، "بأن يكون الاسم المجرور بالباء بعضًا من شيء قبلها"، نحو قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، أي: منها، وقولهم: حفلت المائدة؛ فتناولت بها شهي الطعام، ولذيذ الفواكه، أي: تناولت منها3 ...
__________
= وزاد شاهدًا آخر لدخول الباء على المأخوذ، هو قول الطفيل لما أسلم:
"وبدل طالعي نحسي بسعد"
ا. هـ.
ولا فرق في هذا بين أن يكون ما تعلق به الجار والمجرور هو الفعل: "بدل" وفروعه، وما تصرف منه، أم غيره بقرينة كبعض الأمثلة التي عرضناها، ومن الأمثلة الأخرى قول عروة بن الورد:
فلو أني شهدت أبا سعاد ... غداة غدا بمهجته يفوق
فديت بنفسه نفسي ومالي ... ولا آلوك إلا ما أطيق
"يفوق: يجود بها وبلفظها ساعة الاحتضار" يريد: فديت بنفسي ومالي نفسه. أي: قدمتهما فداء له، وبدلًا منه.
1 المراد بالعوض: دفع شيء من جانب، في نظير أخذ شيء يقابله من جانب آخر، والفرق بين العوض والبدل، أن العوض هو دفع شيء في مقابله آخر، أما البدل فهو اختيار أحد الشيئين وتفضيله على الآخر من غير مقابلة من الجانبين كأن يكون أمامك شيئان لتختار أحدهما؛ فتقول: آخذ هذا بدل الآخر من غير أن يكون هناك تعويض، وهذا هو الشائع، وقيل: البدل أعم مطلقًا؛ فهو الدال على اختيار شيء وتفضيله على آخر؛ سواء أكان هناك مقابلة وعوض أم لا، والحكم في هذا للقرينة؛ فهي التي تعين المراد وتوجه الذهن إليه.
2 سبق توضيحها في رقم2 من هامش 469؟ عند الكلام على: "إلى" وقد يعبر عنها أحيانًا، "بالمعية".
3 ومثل قول المتنبي يمدح:
فإن نلت ما أملت منك فربما ... شربت بماء يعجز الطير ورده(2/492)
11- المجاوزة1؛ نحو قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، أي: عنه، وقوله تعالى في وصف المؤمنين يوم القيامة: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ، أي: عن إيمانهم، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، أي: عن الغمام ...
12- الاستعلاء فترادف: على؛ كقولهم: من الناس من تأمنه بدينار فيخون الأمانة، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب، فيصونه ويؤديه كاملًا، أي: على دينار، وعلى قنطار.
13- أن تكون بمعنى: "إلى"، نحو قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ، بمعنى أحسن إلي.
14- التوكيد2؛ "وهي الزائدة" جوازًا في مواضع معينة.
منها: الفاعل؛ نحو قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، والمفعول به نحو قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، والمبتدأ نحو: بحسبك البراعة الفنية، وخبر الناسخ؛ مثل: ليس المال بمغن عن التعلم3 ... والتقدير: كفى الله، ولا تلقوا أيديكم، حسبك البراعة، ليس المال مغنيًا ...
كما يجوز زيادتها في المبتدأ الواقع بعد "إذا الفجائية"؛ نحو: نزلت البحر فإذا بالماء بارد4، وكذلك يجوز زيادتها في لفظين من ألفاظ التوكيد المعنوي، هما: "نفس، وعين"؛ مثل: خرج الوالي نفسه، أو بنفسه يتفقد أحوال الناس كلمت الوالي نفسه، أو بنفسه وهو يراقب عماله، سلمت على الوالي
__________
1 سبق إيضاح معناها وأقسامها في رقم3 من هامش ص463.
2 سبق معنى التوكيد المستفاد من الحرف الزائد، في أول هذا الباب ص450، وكذلك في الجزء الأول " م5 ص 65"، أما مواضع زيادة الباء، فتوضحها الأمثلة الآتية هنا، وفي ص 495 حيث بيان الحكم على زيادتها من ناحية القياس والسماع.
3 ومثل قوله تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، وفي قول الشاعر:
ليس التدين بالكلام، وإنما ... صدق الفعال أمارة المتدين
ومثل آخر البيت الآتي:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أعطى بمنان
4 سبقت الإشارة لهذا في ص281.(2/493)
11- المجاوزة1؛ نحو قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، أي: عنه، وقوله تعالى في وصف المؤمنين يوم القيامة: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ، أي: عن إيمانهم، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} ، أي: عن الغمام ...
12- الاستعلاء فترادف: على؛ كقولهم: من الناس من تأمنه بدينار فيخون الأمانة، ومنهم من تأمنه بقنطار من الذهب، فيصونه ويؤديه كاملًا، أي: على دينار، وعلى قنطار.
13- أن تكون بمعنى: "إلى"، نحو قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ، بمعنى أحسن إلي.
14- التوكيد2؛ "وهي الزائدة" جوازًا في مواضع معينة.
منها: الفاعل؛ نحو قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} ، والمفعول به نحو قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، والمبتدأ نحو: بحسبك البراعة الفنية، وخبر الناسخ؛ مثل: ليس المال بمغن عن التعلم3 ... والتقدير: كفى الله، ولا تلقوا أيديكم، حسبك البراعة، ليس المال مغنيًا ...
كما يجوز زيادتها في المبتدأ الواقع بعد "إذا الفجائية"؛ نحو: نزلت البحر فإذا بالماء بارد4، وكذلك يجوز زيادتها في لفظين من ألفاظ التوكيد المعنوي، هما: "نفس، وعين"؛ مثل: خرج الوالي نفسه، أو بنفسه يتفقد أحوال الناس كلمت الوالي نفسه، أو بنفسه وهو يراقب عماله، سلمت على الوالي
__________
1 سبق إيضاح معناها وأقسامها في رقم3 من هامش ص463.
2 سبق معنى التوكيد المستفاد من الحرف الزائد، في أول هذا الباب ص450، وكذلك في الجزء الأول " م5 ص 65"، أما مواضع زيادة الباء، فتوضحها الأمثلة الآتية هنا، وفي ص 495 حيث بيان الحكم على زيادتها من ناحية القياس والسماع.
3 ومثل قوله تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، وفي قول الشاعر:
ليس التدين بالكلام، وإنما ... صدق الفعال أمارة المتدين
ومثل آخر البيت الآتي:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أعطى بمنان
4 سبقت الإشارة لهذا في ص281.(2/494)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
تعددت هنا الأمثلة للباء الزائدة كي تدل على أنها تزاد في الفاعل، والمفعول به، والمبتدأ، وخبره، وخبر الناسخ، وقد تزاد في غير ذلك قليلًا.
بقي أن نسأل: أزيادتها قياسية أم سماعية1؟ الأحسن الأخذ بالرأي القائل: إن الزائدة في الفاعل تكون واجبة في فاعل فعل التعجب الذي صيغته القياسية: "أفعل"، مثل: أصلح بنفسك، وأحسن بعملك؛ بمعنى: ما أصلح نفسك! ! وما أحسن عملك! !
وتكون جائزة، في فاعل: "كفى"، مثل: كفى بالله شهيدًا.
أما الزائدة في المفعول به فغير مقيسة، ولو كان مفعولًا به للفعل: "كفى" نحو: كفى بالمرء عيبًا أن يكون نمامًا.
وقول الشاعر:
كفى بالمرء عيبًا أن تراه ... له وجه وليس له لسان
ويستثنى من هذا زيادتها في مفعول الأفعال الآتية: "عرف علم بمعنى: عرف - جهد - سمع - أحسن"، فإن هذه الزيادة جائزة.
والزائدة في المبتدأ والخبر غير قياسية؛ إلا في مثل الأنواع المسموعة2 كثيرًا منها
__________
1 راجع يما يأتي: المغني، حرف الباء، وحاشية الصبان جـ2 باب: "حروف الجر" عند الكلام على: "الباء الجارة".
2 ما المراد هنا من المسموع؟ أهو عام بعد كلمة: "كيف" يشمل إدخال الباء على المبتدأ الاسم الظاهر، وعلى الضمير مطلقًا؛ "المتكلم أو لمخاطب، أو لغائب، من غير تقيد بنوع الضمير المسموع ولا بلفظه"، وكذلك إدخالها على المبتدأ الذي يلي "إذا" الفجائية بغير تقيد؟ أم أن المراد هو التقاصر على نص الضمير المسموع لفظًا ونوعًا بعد "كيف"، وعلى الاسم الظاهر، وكذلك على نص المبتدأ المسموع لفظًا ونوعًا بعد "إذا" الفجائية؟
الأحسن الأخذ بالرأي الأول الذي يفيد العموم في هذين الموضعين؛ فيبيح زيادة الباء في صدر المبتدأ التالي: "كيف" و"إذا" الفجائية مطلقًا من غير تقيد باسم ظاهر، ولا ضمير، ولا نوع من أحدهما، وهذا الرأي هو الأقوى الذي تؤيده الشواهد الكثيرة الفصيحة، أما زيادتها قبل "حسب"، فمقصور على لفظها ذاته.(2/495)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- كالتي بعد: "كيف" و"إذا" وقبل كلمة: "حسب" كقول الشاعر:
وقفنا، فقلنا إيه عن أم سالم ... وكيف بتكليم الديار البلاقع؟
ونحو: كيف1 بك إذا اشتد الأمر أصغيت فإذا بالطيور2 مغردة بحسبك علم نافع.
أما زيادتها في خبر: "ليس"، وخبر: "ما" النافية، وخبر: "كان" المنفية"، فقياسية في الثلاثة بالشروط الهامة، والتفصيلات المعروضة في مكانها الأنسب3.
وزيادتها جائزة4 في كلمتي: النفس، والعين، عند استعمال لفظهما في5 التوكيد؛ مثل: اخترقت الطائرة السحاب نفسه أو بنفسه، واجتازت الغلاف الهوائي عينه أو بعينه، قطعت السيارات نفسها أو بنفسها، الصحراء، وقول علي رضي الله عنه: "من نظر في عيوب الناس فأنكرها، ثم رضيها لنفسه؛ فذاك الأحمق بعينه".
__________
1 وكذلك قول النابغة كما نقله الأساس، جـ1 ص137 مادة: "جنح" ونصه:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... فكيف بحصن والجبال جنوح
وأصل الجملة في: "يف بك"، كما سبقت الإشارة لهذا جـ1 هامش رقم 2 من ص 305 م 33 هو: كيف أنت؟ فلما زيدت الباء الجارة وجب تغيير الضمير: "أنت"؛ لأنه ضمير للمخاطب مقصور على الرفع؛ فأتينا بضمير يؤدي معناه، ويصلح لدخول حرف الجر وهو "كاف الخطاب"، فالكاف مجرورة لفظًا في محل رفع مبتدأ، ومثلها: "الباء" في نحو: خرجت فإذا بالشمس طالعة، وكذلك في بيت النابغة زائدة في المبتدأ المجرور لفظًا المرفوع محلًا، كمنا سيأتي في رقم2.
2 مثال للمبتدأ الواقع بعد "إذا" الفجائية وقد دخلته الباء الزائدة، ومثله ما سبق في رقم 1.
3 جـ 1 م 47 ص 589 موضوع: "نفي الأخبار في باب": "كان" مع زيادة باء الجر ... ".
4 كما سبق في ص 493.
5 إيضاح هذا في باب التوكيد جـ 3 ص 49 م 116.(2/496)
15- الدلالة على القسم؛ وهذا من أكثر استعمالاتها، وهي الأصيلة فيه دون حروفه السابقة "اللام، الواو، التاء، من ... "، وتشاركها في جواز حذفها مع بقاء الاسم المجرور بها على حاله؛ بشرط أن يكون هذا الاسم هو لفظ الجلالة " الله"، ولكنها تخالف تلك الحروف في ثلاثة أمور تنفرد بها، ولا يوجد واحد منها في حرف آخر من حروف القسم، غير الباء؛ هي:
أ- جواز إثبات فعل القسم وفاعله مع الباء أو حذفهما؛ نحو: أقسم بالله لأعاونن الضعيف، أو بالله لأعاونن الضعيف، أما مع غير الباء فيجب حذفه فعل
القسم وفاعله.
ب- وجواز أن يكون المقسم بالباء اسمًا ظاهرًا، أو ضميرًا بارزًا؛ نحو: برب الكون لأعملن على نشر السلام، بك لأنزلن عند رغبتك الكريمة، أما غير الباء فلا يجر إلا الظاهر.
ج- وجواز أن يكون القسم بالباء "استعطافيًا"1 "وهو الذي يكون جوابه إنشائيًا"؛ نحو: بالله، هل ترحم الطائر الضعيف، والحيوان الأعجم؟ بربك، أموافق أنت على تأييد الضعفاء؟ وقول الشاعر2:
بعيشك هل أبصرت أحسن منظرًا ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر؟
أما القسم بغير الباء فمقصور في الرأي الغالب على القسم غير الاستعطافي.
__________
1 سيجيء في: "الزيادة والتفصيل" أن القسم نوعان: "استعطافي"، و"غير استعطافي، أو خبري"، وإيضاح كل, وما يطلبه ... مع بسط الكلام على جواب القسم، ولهذا البحث مناسبة أخرى هامة في ج 4 م 158 ص 472، ومن المقيد الإطلاع عليه، توفية للموضوع.
2 سيعاد هذا البيت في ص 510 لمناسبة أخرى.(2/497)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- كل حرف من أحرف القسم الأربعة1 هو ومجروره يتعلقان معًا بالعامل: "أحلف"، أو: "أقسم"، أو: نحوهما من كل فعل يستعمل في القسم، ومن فعل القسم وفاعله تتكون الجملة الفعلية الإنشائية: التي هي: "جملة القسم" ولا بد أن تكون فعلية؛ سواء أذكر الفعل أم حذف، لكن ليس من اللازم أن يكون الفعل "صريحًا" في دلالته على القسم كالأفعال السابقة؛ فهناك ألفاظ أخرى يسمونها: "ألفاظ القسم غير الصريح"، وهو الذي لا يعرف منه بمجرد سماعه أن الناطق به حالف؛ بل لا بد معه من قرينة؛ ومن أمثلته الأفعال: شهد - علم 2- آلى ... ؛ نحو: أشهد لقد رأيت الغلبة للحق آخر الأمر، علمت لقد فاز بالسبق من أحسن الوسيلة إليه، والقرينة هنا: "اللام، وقد" الداخلان على الجواب، غير أن الجملة القسمية التي من هذا النوع خبرية لفظًا.
ولا بد لجملة القسم من جملة بعدها، تسمى: "جواب القسم"3، بيان ذلك: أن الغرض من "جملة القسم" إما تأكيد المراد من جملة تجيء بعدها، وإزالة الشك في معناها؛ بشرط أن تكون هذه الجملة الثانية خبرية4، وغير تعجبية5، نحو: أقسم بالله "لا أنقاد لرأي يجافي العدالة"، فهذه الجملة الثانية هي "جواب القسم"، ولا محل لها من الإعراب في الأغلب6، ويسمى القسم في هذه الحالة:
__________
1 سبق في ص 477 وفي رقم 1 من هامش ص 489 الإشارة إلى حرف خامس هو: "من"، ومن المستحسن اليوم عدم استعماله لغرابته، وأغرب منه وأندر استعمال: "ها" حرف قسم، بعد كلمة: "إي" في الغالب التي معناها: نعم. "طبقًا لما سبق في ص 477 ... ".
2 انظر ما يتصل بهذا الفعل في رقم 7 و 8 من هامش ص 5.
3 هل يكون جواب القسم غير جملة؟ الإجابة في "ح" من ص 505.
4 فلا تصلح الجملة الشرطية، ولا أنواع الإنشائية، ومنها القسمية كما سيجيء في: "و" من ص 503.
5 يرى كثير من النحاة أن جملة التعجب خبرية، ولكنهم يوافقون غيرهم في أنها لا تصلح جوابًا للقسم.
6 الأغلب أن الجملة الواقعة جوابًا للقسم لا محل لها، وقد يكون لها محل، كما سبق بيانه في رقم1 من هامش ص31، وكما يأتي في رقم2 من ص 504.(2/498)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"قسمًا خبريًا" أو: "غير استعطافي" وإما تحريك النفس، وإثارة شعورهم بجملة إنشائية تجيء بعد جملة القسم، والفصيح أن تكون الأداة هي الباء؛ نحو: بربك، هي رحمت الثكلى؟ بحياتك، أعطفت على البائس؟ وقول الشاعر:
بعينيك يا سلمى ارحمي ذا صبابة ... أبى غير ما يرضيك في السر والجهر
فالجملة الثانية هي جواب القسم، ولا محل لها من الإعراب هنا، ويسمى القسم في هذه الحالة: "استعطافيًا"، أو"غير إنشائي"، ولا بد أن يكون جوابه جملة إنشائية، "كما أوضحنا"1، وهي لا تحتاج لزيادة شيء عليها، بخلاف: القسم "غير الاستعطافي"، فإن جوابه يتطلب إدخال بعض الزيادة على جملته، بالتفصيل الآتي2:
1- إن كان الجواب جملة فعلية ... فعلها ماض، متصرف، مثبت، فالكثير الفصيح اقترانها "باللام" و"قد"، معًا، نحو: "والله لقد أفاد الاعتدال في ممارسة الأمور"، ويجوز - بقلة - الاقتصار على أحدهما، أو التجرد منهما، مع ما في الأمرين من ترك الكثير الفصيح، وتسمى هذه اللام المفتوحة: "لا جواب القسم، أو: الداخلة على جوابه".
وإن كان الماضي غير متصرف فالكثير الفصيح اقترانه باللام فقط؛ نحو: "والله لنعم المرء يبتعد عن الشبهات" إلا الفعل "ليس" فلا يقترن بشيء؛ مثل: "والله ليست قيمة المرء بالأقوال، ولكن بالأفعال".
وإن كان الماضي غير مثبت لم يزد عليه شيء إلا حرف من حروف النفي الثلاثة التي يكثر دخولها على الجواب المنفي؛ وهي: ما - لا - إن -؛ نحو: "والله ما مدحت أثيمًا"، "بالله لا رفضت عتاب الصديق، ولا غضبت منه". "تالله إن امتنعت عن مزاملتك فيما رفع الشأن، أي: بالله ما امتنعت"، وغير هذا شاذ.
2- إن كان الجواب جملة مضارعية مثبتة، فالأغلب الأقوى اقتران مضارعها
__________
1 مما سبق نفهم قول النحاة: القسم جملة إنشائية جاءت لتأكيد جملة خبرية بعدها، وهذا هو القسم غير الاستعطافي، فإن كانت الثانية إنشائية أيضًا فالقسم استعطافي.
2 سيذكر هذا البيان في جـ 4 م 158 ص 362 عند اجتماع الشرط والقسم، ومن المفيد الرجوع إليه أيضًا.(2/499)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باللام ونون التوكيد معًا1؛ نحو؛ والله لأحبسن يدي ولساني عن الأذى، ومن القليل الجائز الاقتصار على أحدهما.
فإن كانت الجملة مضارعية منفية ... لم يزد عليها شيء إلا أحد حروف النفي الثلاثة2 التي يكثر دخولها على الجواب المنفي3، "وقد سبقت لها الإشارة" مثل: والله ما أحبس يدي ولساني من محاربه المنكر، والله إن أحبس يدي ولساني ... والله لا أحبس يدي ولساني، ومن هذا قول الشاعر:
رقي4، بعمركم لا تهجرينا ... ومنينا المنى، ثم امطلينا
3- إن كان الجواب جملة اسمية مثبتة، فالأحسن اقترانه بحرفين معًا، هما: "إن" ولام الابتداء في خبرها5، نحو: والله إن الغدر لأقبح الطباع.
__________
1 راجع ماله صلة بهذا في ص 31، 32 وهامشهما.
2 ويزاد عليهما هنا: "لن" في رأي مقبول من آراء تعارضه، وله إشارة في رقم 2 من هامش ص501، ومن أمثلته قول أبي طالب يعلن حمايته للرسول من أعدائه المشركين القرشيين:
والله لن يصلوا إليك بجمهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
3 قد يكون وجود حرف النفي قبل هذه الجملة المضارعية مقدرًا غير ظاهر اللفظ: "بأن يكون ملحوظ غير ملفوظ"، ومن أمثلته قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ... وقول ليلى الأخيلية في رثاء توبة:
فأقسمت أبكي بعد توبة هالكًا ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
أي: لا أبكي ولا أحفل، ومثل قول الآخر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي: لا أبرح، جاء في أمالي أبي القاسم الزجاجي ص 50، ما معناه: أن العرب تحذف النفي من جواب القسم في مثل الصور السالفة لأمن اللبس فيها، حيث لا يلتبس الجواب المنفي بالمثبت لوضوح المعنى؛ ولأن الجواب لو كان مثبتًا لوجب تأكيده باللام والنون معًا، أو بأحدهما، طبقًا للقاعدة السالفة، فعدم اقترانه دليل على أنه منفي بأداة مقدرة.
4 منادى، والأصل: يا رقي، يريد: يا رقية.
5 اللام الداخلة على جواب القسم لا تدخل على "إن" المشددة ولا على شيء من أخواتها، إلا: "كأن"، نحو: والله لكأن صدقة البخيل اقتطاع من جسده، أما اللام الداخلة على خبر "إن"، فهي لام ابتداء سواء أكانت "إن" مسبوقة بقسم هي في صدر جوابه، أم غير مسبوقة به.
"وقد تقدم في الجزء الأول في ش 597 م 53 تفصيل الكلام على لام الابتداء، وفائدتها، وموضعها ... ".(2/500)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويجوز الاقتصار على أحدهما؛ نحو: والله إن عنوان المرء عمله، أو: والله لعنوان المرء عمله، ولا يستحين التجرد من أحدهما؛ إلا إذا طال القسم بأن ذكر معه تابع له، أو: شيء آخر يتصل به؛ نحو: بالله الذي لا إله سواه، الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وقول الشاعر:
ورب السموات العلا وبروجها ... والأرض وما فيها المقدر كائن
ولا يصح اقتران الجملة الاسمية الجوابية بالحرف: "إن" إذا كانت هذه الجملة مصدرة بحرف ناسخ من أخوات "إن": كقولهم في وجه جميل: والله لكأن جماله يقتاد العيون قسرًا إليه؛ فما تستطيع عنه تحولًا.
فإن كان الجواب جملة اسمية منفية لم يزد عليه إلا أداة النفي في أوله، وهي إحدى الحروف الثلاثة السالفة "ما - لا - إن"، نحو: والله ما هذه الدنيا بدار قرار1 بالله لا المال ولا الجاه بنافع إلا بسياج من الفضيلة ... والله إن هذه الدنيا بدار قرار ...
مما سبق يتبين أن الجواب المنفي، في جميع أحواله لا يتطلب زيادة شيء إلا أداة النفي قبله، مع اشتراط أن تكون إحدى الأدوات الثلاث2، سواء أكان الجواب جملة فعلية ماضوية، أم مضارعية، أم جملة اسمية.
"ملاحظة":
قد يكون الكلام مشتملًا على جملة قسمية، ظاهرها مثبت، ولكن معناها منفي، وجواب القسم جملة فعلية ماضوية لفظًا، مستقبلة معنى، مصدرة "بإلا" أو: "لما" التي بمعناها، نحو: سألتك بالله إلا نصرت المظلوم، بالله ربك لما قلت الحق ... وأمثال هذا مما يعد نوعًا خاصًا من "الاستثناء المفرغ ... "، "وقد سبق بيان هذا النوع، وتفصيل الكلام - بإسهاب - على معناه، وحكمه، وطريقة إعرابه"3.
__________
1 وقول الشاعر:
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
2 ويزاد عليها: "لن" في الجملة المضارعية في رأي أشرنا إليه في رقم2 من هامش ص500.
3 له إشارة في أول هامش ص 324 وبيان في: "أ" من الزيادة والتفصيل، ص 326.(2/501)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ب- قد يقع القسم بين أداتي نفي، بقصد تأكيد النفي في المحلوف عليه؛ كقول الشاعر:
أخلاي، لا تنسوا مواثيق بيننا ... فإني لا -والله- ما زلت ذاكرا
ج- قد تتكرر أداة القسم -ومعها مجرورها- مبالغة في التأكيد، غير أن المستحسن ألا يتكرر حرف من حروف القسم إلا بعد استيفاء الأول جملة جوابه، نحو: بالله لأطيعن الوالدين، بالله لأطيعنهما، والله لأطيعنهما1.
د- تحذف جملة القسم وجوبًا إن كان حرف القسم "الواو"، أو: "التاء"، أو: "اللام"2، وجوازًا إن كان حرف القسم الباء كما سبق عند الكلام على الحروف الأربعة3، ومن أوضح الدلائل المرشدة إلى جملة قسمية محذوفة، "ومعها أداة القسم" وجود واحد من الألفاظ الآتية بعدها؛ وهي: "لقد - لئن4- المضارع
المبدوء باللام المفتوحة المختوم بنون التوكيد"، فإن وجد أحد هذه الألفاظ الثلاثة بغير أن يسبقه جملة قسم فهي، مع القسم وأداته، مقدرة قبله، ومن الأمثلة قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، أي: أقسم بالله لقد صدقكم الله وعده5، ومثله قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} ، وقوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} ، وهذه اللام المفتوحة في المواضع السالفة هي الداخلة على الجواب بعد حذف جملة القسم، وأداته ولا يصح فيها، وفي أمثالها أن تكون لام ابتداء أو غيره؛ لأن أنواع اللام الأخرى لها مواضع محدودة معينة، ليس منها هذه.
هـ- يجوز أن تحذف أداة القسم وحدها مع بقاء الاسم المجرور بهاء على حاله، بشرط أن يكون الاسم لفظ الجلالة: "الله" طبقًا للرأي الأرجح6؛ مثل الله
__________
1 يصح ذكر الجملة الواقعة بعد القسم المقصود به التوكيد اللفظي، على اعتبارها توكيدًا أيضًا للجملة الجوابية الأولى، ويصح حذفها لعدم الحاجة إلى استخدامها توكيدًا لفظيًا؛ فهي مختلفة عن الجمل الجوابية الأخرى التي يجب حذفها ... وستأتي.
2 وكذا: "من" عند من يعتبرونها أداة قسم، كما في ص 465.
3 في ص 465 و 477 و 489.
4 انظر "و" الآتية.
5 ومن هذا قول الشاعر:
إذا اغرورقت عيناي قال صحابتي ... لقد أولعت عيناه بالهملان
6 وهو رأي سيبويه ومن وافقه، "سيأتي في رقم 3 من ص 533 وهامشه".(2/502)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأساعدن الضعيف، أي: والله، ويجوز حذف أداة القسم والمقسم به معا لوضوحهما بكثرة الاستعمال؛ نحو أقسم إن الحرية لغالية، أشهد إن الوطن لعزيز، أي: أقسم بالله، أشهد بالله، ومنه قول الشاعر:
فأقسم ما تركي عتابك عن قلى ... ولكن لعلمي أنه غير نافع
و ما نوع "اللام" في مثل: والله لئن أخلصلت لي لأخلصن لك؟ وهي "اللام" التي قبلها قسم، وبعدها أداة شرط؛ كالمثال السابق وأشباهه، والتي سبقت في: "د"؟.
يسميها بعض النحاة "لام الشرط"، ويسميها آخرون: "اللام الموطئة" للقسم؛ أي: الممهدة له؛ لأنها التي تهيئ الذهن لمعرفته، وتدل على أن الجملة المتأخرة المصدرة بلام أخرى، هي جواب للقسم وليست جوابًا للشرط، فاللام الأولى "الموطئة" هي التي أعلمت بذلك، وبينت أن اللام الثانية هي "اللام" الداخلة على جواب القسم، وأن الجملة بعد هذه اللام الثانية هي جملة جواب القسم. ولا يصح أن تكون "اللام" الأولى، وما دخلت عليه جوابًا للقسم؛ لأن القسم كما أسلفنا1 لا يكون جوابه جملة شرطية، ولا جملة قسمية، ويجب التنبه إلى الفرق بين "لام القسم"، "ولام الابتداء"، وقد أوضحناه في مكانه المناسب من الجزء الأول عند الكلام على: "لام الابتداء"2.
وحين يجتمع أداتا قسم وشرط فالجواب يكون في الأغلب للمتقدم منهما3، أما المتأخر فيحذف جوابه؛ لوجود الجواب السابق الذي يدل عليه، وبسبب أن الجواب في الأغلب للمتقدم لم تحذف النونان في المضارع من قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} ، وهو السبب أيضًا في عدم مجيء الفاء قبل "إن" في قول الشاعر:
لئن كنت محتاجًا إلى الحلم إنني ... إلى الجهل4 في بعض الأحايين أحوج
__________
1 في رقم 4 من هامش ص 498.
2 ص 598 وهامشها م53.
3 هذا هو الأغلب، والتفصيل المناسب لهذه المسألة مدون في البحث الخاص بها؛ وهو: بحث اجتماع الشرط والقسم جـ 4 باب الجوازم ص 362 م 158.
4 الغضب والانتقام، وسيعاد البيت في الجزء الرابع في الموضع السالف من الجوازم.(2/503)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ز- تحذف جملة القسم وجوبًا في إحدى حالات ثلاث:
1- أن يتأخر القسم ويتقدم عليه جملة تغني عن جوابه لدلالتها عليه نحو: "تسعد الأمة وتشقي بأبنائها، والله"، ويلاحظ أن جملة الجواب نفسها لا يصح تقديمها على القسم.
2- أو أن يحيط بالقسم جملة تعني عن الجواب كذلك؛ نحو: "سعادة الأمة والله رهن بعمل أبنائها"، فجواب القسم في هذه الحالة كالتي قبلها جملة محذوفة لا يصح ذكرها؛ لوجود ما يغني عنها؛ فلا داعي للتكرار فيهما بقولنا: "تسعد الأمة وتشقى بأبنائها، والله تسعد الأمة وتشقي بأبنائها"، وقولنا: "سعادة الأمة رهن يعمل أبنائها، والله سعادة الأمة رهن بعمل أبنائها".
أما في مثل: "الغضب والله إنه وخيم"، أو: "الغضب والله إنه لوخيم"، حيث يكون المتأخر عن القسم جملة فيصح في هذه الجملة المتأخرة أن تكون جوابًا للقسم، وجملة القسم جوابه في محل رفع خبر السابق1، "وهذا من المواضع التي يكون فيها لجملة القسم مع جملة جوابه محل من الإعراب"2، كما يصح أن تكون الجملة المتأخرة خبرًا للمتقدم في محل رفع وجواب القسم محذوف لوجود ما يغني عنه ويدل عليه.
3- أو أن يجتمع أداتا شرط وقسم ويتأخر القسم عن الشرط والحكم في هذه الحالة هو الأغلب كما سبق في: "و".
وتحذف جملة الجواب جوازًا في غير الحالات السالفة، لدليل أيضًا؛ نحو قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، فجواب القسم محذوف تقديره: "إنك لمنذر"، أو: نحو: هذا، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ، ومثله قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} .
__________
1 يراجع الجزء الثاني من "المغني" في موضوع حذف جواب القسم، وفي موضوع الجمل التي لا محل لها من الإعراب، والملخص: أن جملة القسم مع جملة جوابه
قد يكون لهما أحيانًا معًا موضع عن الإعراب؛ لأنهما متماسكتان بمنزلة جملة واحدة، ولا محل لإحداهما بدون الأخرى في الرأي المشهور، وقد سبق لمناسبة أخرى بيان هام يختص بهذا الحكم "في رقم 1 من هامش ص 31".
2 سبقت الإشارة لهذا في رقم 1 هامش ص 31 كما قلنا وفي رقم 6 من هامش ص 498.(2/504)
فجملة الجواب محذوفة، تقديرها كالسابقة: "إنك لمنذر"؛ بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} ، أو: نحو هذا مما يكون فيه دلالة على المحذوف.
ومن الأمثلة أن يقال: أتقسم على أنك أديت الشهادة الصادقة؟ فتقول: أقسم والله.
ومن مواضع الحذف الجائز لدليل أن يكون القسم مسبوقًا بحرف جواب عن سؤال سابق؛ كقوله تعالى: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} ، فالأصل: بلى وربنا؛ إن هذا هو الحق، ومثله أن يسألك سائل: أتعاهد على تأييد الملهوف؟ فنقول: إي، والله، أو: نعم، والله، أو: أجل، والله ... أو غير هذا من أحرف الجواب التي تسبق القسم مباشرة.
ج- جواب القسم لا يكون إلا جملة؛ فلا يكون مفردًا، ولا شبه جملة، غير أن النحاة عرضوا حالة وقع فيها لجار والمجرور سادًا مسد جواب القسم، ومغنيًا عنه وليس جوابًا أصيلًا وهي التي سبقت1 عند الكلام على جواز فتح همزة "إن" وكسرها؛ حيث قالوا: يجوز فتح همزة "إن" وكسرها إذا وقعت في صدر جواب القسم، وفعل القسم مذكور قبلها، وليس في خبرها اللام؛ نحو: أقسم بالله أن الإحسان نافع، فقد جوزوا عند فتح الهمزة أن يكون التقدير؛ أقسم بالله نفع الإحسان، أي: أقسم بالله على نفع الإحسان؛ فيصح في المصدر المؤول الجر بحرف الجر المحذوف مع بقاء جره2، والجار مع مجروره يسد مسد الجواب مباشرة.
أو: أن المصدر المؤول منصوب على نزع الخافض3؛ فهو مفعول به تأويلًا. وهذا المفعول به ساد مسد الجواب4.
وهناك إعرابات أخرى لا تتصل بموضوعنا الحالي.
ط- من الألفاظ التي قد تستعمل أحيانًا في القسم: "جير"، كقول الشاعر:
__________
1 في جـ 1 م 52 ص 592 من الطبعة الثالثة.
2 فمن المواضع التي يحذف فيها الجار، ويبقى الجر أن يكون الجار داخلًا على أن
ومعموليها "انظر ص 532 م 91 هـ".
3 سبق إيضاح معنى "النصب" على نزع الخافض في جـ 1 م 52 ص 592.
4 راجع الأشموني والصبان في الموضع السالف من باب "إن وأخواتها" عند بيت ابن مالك: "بعد إذا فجاءة أو قسم ... ".(2/505)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قالوا: قهرت، فقلت: جير؛ ليعلمن ... عما قليل أينا المقهور
والأحسن في إعرابها: أن تكون حرف قسم مبنيًا على الكسر لا محل له من الإعراب1.
ومنها: "لا جرم" في مثل: لا جرم إن الله يمهل الظالم، حتى إذا أخذه لم يتركه بعد ذلك، وقد سبق أن قلنا2: إذا كسرت همزة "إن" فالسبب إجراء: "لا جرم" مجرى اليمين عند بعض العرب؛ بدليل وجود اللام بعدها في مثل: لا جرم لأنا مكرمك، فالحرف "لا"، ناف للجنس "جرم" اسمه مع تضمنه القسم، والجملة بعده من "إن ومعموليها" جواب القسم، أغنت عن خير "لا".
أما مع فتح همزة "أن" فكلمة: "جرم" فعل ماض، بمعنى: "وجب" و"لا" زائدة، والمصدر المؤول فاعل.
ومنها: "ها" التي للتنبيه في مثل: ها الله ما فعلت كذا ... أي: والله ما فعلت كذا ... وقد سبقت الإشارة إليها3 ...
__________
1 وتصلح في بعض الأساليب الأخرى أن تكون حرف جواب فقط.
2 جـ 1 ص 595، م 51 مواضع فتح همزة "إن" وكسرها.
3 في رقم 1 من هامش ص 477، وقد ورد في الأحاديث النبوية، وفي نصوص فصيحة أخرى استعمال هذا الحرف في القسم؛ قال الجوهري: "ها" للتنبيه، وقد يقسم بها؛ يقال: لا ها الله ما فعلت كذا، قال ابن مالك: في هذا شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، ولا يكون ذلك إلا مع كلمة: "الله"، أي لم يسمع لا ها الرحمن، كما سمع والرحمن، ثم قال: وفي النطق بها أربعة أوجه "كما جاء في ص 263 من كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، في الحديث ج 7 باب السلب، تأليف الشوكاني".
أولها: ها الله، باللام بعد الهاء في النطق مع غير إظهار شيء من الألفين.
ثانيها: ظهور الألفين نطقًا وكتابة مع قطع الهمزة، فيقال: ها لله.
ثالثها: إظهار ألف واحدة من غير همزة، فيقال: ها لله.
رابعها: حذف ألف "ها" وإظهار همزة القطع في أول كلمة: "الله" فيقال. هألله، والمشهور من هذه الآراء هو الأول والثاني. ا. هـ، وقد تسبقها كلمة: "إي" التي بمعنى: نعم.(2/506)
في: حرف يجر الظاهر والمضمر، والغالب فيه أن يكون أصليًا، وأشهر معانيه تسعة:
1- الظرفية1 حقيقة أو مجازًا؛ نحو: "المعادن متراكمة في جوف الأرض، والنفط حبيس في طبقاتها"، ونحو: "السعادة في راحة النفس، والغنى في التعفف عما لا يملكه المرء2"، وهذا المعنى أكثر استعمالاته.
2- السببية؛ نحو: كان المحامي الشاب مغمورًا؛ فاشتهر في قضية خطيرة تجرد لها، وذاع اسمه فيها، أي: اشتهر بسبب قضيته ... وذاع اسمه بسببها3 ...
3- المصاحبة؛ كقول أحد المؤرخين: "كان الخليفة العباسي يتخير يومًا للراحة، ولقاء بطانته، ويدعو فيه الشاعر الذي يؤنسهم، فيستجيب فرحًا، ويسرع في الداخلين، فيستقبله الخليفة، قائلًا إلي في بطانتي؛ فلن يتم سرورنا إلا بك" ... أي: يدعو معهم، يسرع مع الداخلين، مع بطانتي ...
ومن هذا قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} ، أي: مع أمم.
4- الاستعلاء؛ نحو: "غرد الطائر في الغصن، أي: على الغصن"، "يصيح الغراب في المئذنة، أي: عليها"، وقولهم: "بطل كأن ثيابه في سرحة4 أي: على سرحة؛ لأنه ضخم طويل".
5- المقايسة، أو: الموازنة5؛ نحو: قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي
__________
1 سبق إيضاح معنى "الظرفية" في رقمي 1 و 3 من هامشي ص 463 و 480.
2 وكقول الشاعر:
ولا خير في فرع إذا طاب أصله ... ولم يك ذا طيب يدل على الأصل
3 ومما تصلح فيه للسببية، ولأن تكون بمعنى "إلى" الغائية قوله عليه السلام: "من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار، قضاها أو لم يقضها، كان خيرًا له من اعتكاف شهرين"، أي: بسبب حاجة أخيه ... ، أو إلى حاجة أخيه.
4 شجرة عظيمة.
5 معناهما: ملاحظة شيء بالقياس إلى شيء آخر، والحكم عليه بعد هذا القياس بأمر من، كالحسن، أو القبح، والزيادة، أو النقص ... و ...
ويغلب هنا أن تكون الموازنة بين شيء سابق على الحرف: "في" وشيء لاحق بعده، وهذا اللاحق أفضل أو أكثر من السابق، ولا مانع من العكس أحيانًا.(2/507)
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} أي: بالنسبة للآخرة، وموازنته بمتاعها.
6- أن تكون بمعنى: "إلى" الغائية؛ نحو: دعوت الأحمق للسداد؛ فرد يده، في أذنيه، أي: إلى أذنيه، كي لا يسمع النصح، ومنه قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} ، كناية عن عدم الرد، وعن ترك الكلام، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ِ.
7- أن تكون بمعنى "من" التبعيضية غالبًا؛ نحو: أخذت في الأكل قدر ما أشار الطبيب، أي: من الأكل، "بعض الأكل".
8- أن تكون بمعنى "الباء" التي للإلصاق1؛ نحو: وقف الحارس في الباب، أي: ملاصقًا له.
ومثل قولهم: من لم يكن بصيرًا في ضرب المقاتل لم يكن آمنًا على حياته، أي: بضرب المقاتل.
9- التوكيد "بسبب زيادتها"، والرأي الراجح أن زيادتها غير قياسية، فيقتصر فيها على المسموع؛ مثل قول الشاعر:
أنا أبو سعد إذا الليل دجا ... يخال في سواده يرندجا2
أي: يظن سواده يرندجا3.
__________
1 حقيقة أو مجازًا، "ويوضح معنى الإلصاق ما سبق في "الباء"، رقم 1 ص 490".
2 اليرندج: الجلد الأسود، أو الطلاء الأسود.
3 فيما سبق من معاني "الباء" و"في" يقول ابن مالك متقصرًا على بعض المعاني:
... والظرفية استبن "ببا" ... و"في"، وقد ببينان السببا
أول البيت كلمة لم نذكرها، هي: "وزيد"؛ لأنها مختصة بمعنى حرف سبق؛ هو اللام التي في معانيها التوكيد؛ فتكون معه زائدة، ومعنى استبن: "ببا" الظرفية، أي: صير الظرفية واضحة بها؛ لأنها معنى من معانيها، ومعاني "في"، فكلا الحرفين يدل على الظرفية، أي: صير الظرفية واضحة بها؛ لأنها معنى من معانيها، ومعاني "في" فكلا الحرفين يدل على الظرفية، كما يدل على السببية. ثم بين معاني الباء، فقال:
"بالبا" استعن، عد، عوض، ألصق ... ومثل مع، ومن، وعن، بها انطق
أي: أنها تكون للاستعانة؛ وللتعدية، وللعوض، ولللصاق، وبمعنى "مع" "أي: للمصاحبة"، وبمعنى: "من" "أي: التبعيض" وبمعنى: "عن" "أي: للمجاوزة"، وقد شرحنا هذا كله فيما سبق.(2/508)
على: حرف جر أصلي يجر الظاهر والمضمر، وأشهر معانيه ثمانية1:
1- الاستعلاء؛ وهو أكثر معانيه استعمالًا، ويدل على أن الاسم المجرور به قد وقع فوقه المعنى الذي قبل "على" وقوعًا حقيقيًا مباشرًا2 أو مجازيًا، فالحقيقي نحو: يعود السائحون إما على القطر، وإما على السيارات، أو على الطائرات، أو على البواخر، والمجازي، نحو قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقولهم: إن الدموع على الأحزان أعوان.
وليس من الاستعلاء المجازي قولهم: توكلت على الله، واعتمدت عليه؛ لأن الله لا يعلو عليه شيء حقيقة أو مجازًا، وإنما هي بمعنى الاستناد له، والإضافة إليه "أي: النسبة إليه"؛ تريد: أسندت توكلي واعتمادي إلى الله، وأضفتهما "أي: نسبتهما" إليه.
2- الظرفية؛ نحو قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} 3، أي: في حين غفلة، وقول الشاعر:
يا حبذا النيل على ضوء القمر ... وحبذا المساء فيه والسحر
أي: في ضوء القمر ...
__________
1 زاد بعضهم معنى تاسعًا، هو: أن تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة، وساق مثلًا لها قول الشاعر:
إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يومًا على من يتكل
"يعتمل: يعمل بالأجرة" جاء في "القاموس المحيط" مادة: "على" ما نصه" "أي: من يتكل عليه، فحذف "عليه" وزاد "على" قبل الموصول؛ عوضًا". ا. هـ.
وفي هذا زيادة لا داعي لها وتكلف بغيض؛ إذ يستقيم المعنى بدونهما، على الوجه التالي الذي سجله الصبان هنا، ونسبه المغني لابن جني ونصه "قيل: إن مفعول يجد" محذوف، أي: إن لم يجد شيئًا، ثم استأنف مستفهمًا استفهامًا إنكاريًا، فقال: على من يتكل؟ ". ا. هـ كلام الصبان، فالكلام على زيادتها عوضًا، مردود وكذلك القول بزيادتها وهي غير عوض.
2 وقد يكون الوقوع غير مباشر بأن يقع فوق شيء قريب منه كقوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} ، أي فوق مكان قريب من النار.
3 إذا جرت "على" الظرف كانت بمعنى: "في" وقد نص "الخضري" على هذا في باب الإضافة عند بيت ابن مالك:
وابن أو اعرب ما كإذ قد أجريا(2/509)
"حبذا: جملة فعلية للمدح العام وقبلها الحرف: "يا"1 ...
3- المجاوزة2؛ نحو: إذا رضي علي الأبرار غضب الأشرار، أي: رضي عني.
4- التعليل؛ نحو: اشكر المحسن على إحسانه، وكافئه على صنيعه، أي: لإحسانه، ولصنيعه3 ...
5- المصاحبة؛ نحو: البر الحق أن تبذل المال على حبك له، وحاجتك إليه، أي: مع حبك له4 ... ومثل قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} ، أي: مع ظلمهم5 ... ، وقول الشاعر6:
بعيشك، هل أبصرت أحسن منظرا ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر
أي: مع ما رأت ...
6- أن تكون بمعنى من، نحو قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} ، أي: من الناس، ونحو قوله عليه السلام:
"بني الإسلام على خمس"
... أي: من خمس مواد.
7- أن تكون بمعنى "الباء"؛ نحو: سمعت من الوالد نصحًا، وحقيق عليه أن يقول ما ينفع، أي: حقيق به، بمعنى جديد به.
8- الإضراب، والمراد به هنا: إبعاد المعاني الفرعية التي تخطر على البال من
__________
1 تفصيل الكلام على حبذا في الباب الأنسب، وهو باب: "ألفاظ المدح والذم" ج 3 م 91 366، أما الكلام على الحرف: "يا" ففي باب "النداء" ج 4 م 127 ص5.
2 سبق في رقم 3 من هامش ص 463 تعريفها، وبيان أقسامها.
3 ومما يصلح للتعليل "أي: بيان العلة والسبب" قول شوقي في الشرق العربي:
إنما الشرق منزل لم يفرق ... أهله إن تفرقت أصقاعه
وطن واحد على الشمس والف ... صحى، وفي الدمع والجراح اجتماعه
4 ومن أمثال العرب: "لا قرار على زأر من الأسد" أي: مع زأر يريدون: لا أمان ولا استقرار في مكان يسمع فيه زئير الأسد.
5 ومما تصلح فيه المصاحبة قول الشاعر:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
6 سبق البيت التالي لمناسبة أخرى في ص 497.(2/510)
كلام سابق، وإبطال ما يرد على النفس منها؛ "فهو كالاستدراك المستفاد من كلمة: "لكن""، ومن أمثلته قولهم: "هفا الصديق فاحتملت هفوته؛ على أن احتمالها مر أليم، وجفا، فقبلت جفوته، على أن الرضا بها كالرضا بالطعنة المسددة؛ كل نفس لها كارهة ... ، فقد بين المتكلم أنه احتمل الهفوة، وقد يوحي هذا في النفس أن احتمالها سهل، وأنه راض به الاحتمال، فأزال هذا الاحتمال بما ذكره من أن احتمالها مر وأليم، كذلك بين أنه قبل جفوة صديقه. وهذا قد يشعر بأن قبولها كان عن رضا وارتياح؛ فأزال هذا الوهم، نافيًا له؛ مبينًا أن الرضا به بغيض إلى النفس بغض الطعنة القاتلة ... وكانت وسيلته للإبانة هي كلمة: "علي" التي بمنزلة: "لكن".
ومن ذلك قولهم: "الإسراف كالشح؛ كلاهما داء وبيل، يخشى عواقبه اللبيب، على أن داء الشح أخف ضررًا، وأهون خطرًا من داء الإسراف ... "، فقد بين أن كلاهما داء سيئ العاقبة، وهذا يوحي إلى النفس أنهما في الشر سواء، ومنزلتهما من الضرر واحدة، فأزال هذا المعنى الفرعي المتوهم بكلمة: "على"، وما بعدها؛ فهي بمنزلة: "لكن"، التي تجيء أول الجملة لإبطال المعاني الفرعية الناشئة مما قبلها.
ومن الأمثلة أيضًا ما قاله الشاعر في أمر قربه أو بعده عن ديار أخلائه، وأنه يفيد أو لا يفيد:
بكل تداوينا؛ فلم يشق ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود
فقد بين أولًا أن تداوي بالقرب وبالبعد فلم يفده واحد منهما، وعدم الإفادة بعد التجربة يوقع في الوهم أنهما سيان من كل الوجوه، لكنه أبطل هذا التوهم بتصريحه بعد ذلك حيث يقول: "على أن قرب الدار خير من البعد"، فهذه الجملة تبطل ما سبق، وتوحي بمعنى جديد؛ هو: أن القرب مطلقًا خير من البعد، ثم عاد فأبطل هذا المعنى الذي أوحي به الوهم بجملة جديدة؛ هي: قرب الدار ليس بنافع" ... وكانت أداة الإضراب والإبطال هي كلمة: "على".(2/511)
والأحسن في كلمة: "على" الجارة الأصلية إذا كانت للإضراب1 والإبطال عدم تعلقها هي ومجرورها بشيء؛ "لأنها في هذا الاستعمال بمنزلة: "لكن" التي تفيد الاستدراك" مع اعتبارها كحرف ابتداء لوقوعها في أول الجملة، وعلى هذا تكون "على" التي للإضراب والإبطال حرف جر واستدراك معًا2 ...
وقد تستعمل: "على" اسمًا بمعنى: "فوق" ويكثر هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف "من"، فإنه لا يدخل إلا على الأسماء، نحو: تمر من على بلدنا الطائرات، أي: من فوق بلدنا3، فقد خرجت من حرفيتها، وصارت اسمًا بمعنى "فوق"، كما نرى، وهذا قياسي كباقي استعمالاتها.
وإذا كان المجرور بها ضميرًا وجب قلب ألفها ياء4؛ نحو: تقبل علينا وفود السائحين شتاء، وقول الشاعر:
إذا طلعت شمس النهار فإنها ... أمارة تسليمي عليك، فسلمى
فإن كان الضمير ياء المتكلم، وجب إدغام الياءين؛ نحو: علي أن أسعى للخير جاهدًا5 ...
__________
1 انظر ما يتصل بمعنى التعلق وبالإضراب في ص437 و439 وهامشها.
2 ولا داعي للأخذ بالرأي الذي يقول: إنهما متعلقان بمحذوف هو خير لمبتدأ محذوف والتقدير: "التحقيق كائن على أن كذا وكذا ... "؛ لأن هذا الرأي مع صحته يحوي التعقيد، والتكلف، وكثرة المحذوف من غير داع، وقد كررنا وأوضحنا الأسباب أنه لا يصح الالتجاء إلى الحذف والتقدير، والتعسير بغير ضرورة قاسية، لا سبيل للتغلب عليها إلا من هذه الناحية، والرأيان في حاشية الأمير على الشذور ص15 عند الكلام على "ذي" إحدى الأسماء الستة، وكذلك في "المغني" ج1 عند الكلام على الحرف: "على، ونص كلام المغني: "وتعلق "على" هذه بما قبلها عند من قال به كتعلق "حاشا" بما قبلها عند من قال به؛ لأنها أوصلت معناها إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإراج، أو: هي خبر لمبتدأ محذوف: أي: "والتحقيق على كذا"، وهذا الوجه اختاره ابن الحاجب، قال: ودل على ذلك أن الجملة الأولى وقعت على غير التحقيق، ثم جيء بما هو التحقيق فيها". ا. هـ، كلام المغني.
3 وقد أشار إلى هذا ابن مالك في بيت سيجيء في هامش ص517 عند كلامه على "الكاف" التي قد تقع اسمًا.
4 وهي المكتوبة ياء، تبعًا لقواعد رسم الحروف.
5 "ملاحظة": جاء في "الكامل" للمبرد جـ1 ص270 أنه بعض العرب يحذف من آخرها اللام والياء إذا كان المجرور بها مبدوءًا "بأل"، ويحذف معها همزة "أل" كقول قطري بن الفجاءة:
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
يريد طفت على الماء القتلى من بكر ... وجاء على هامش الموضع السالف أن أولئك العرب تفعل ذلك كثيرًا في النثر والشعر. ا. هـ، لكن الأنسب اليوم عدم مجاراتهم، لما فيه من لبس.(2/512)
عن1: حرف جر أصلي؛ يجر الظاهر والمضمر، وأشهر معانيه تسعة:
1- المجاوزة2، وهي أظهر معانيه، وأكثرها استعمالًا؛ نحو: جلوت عن بلد المظالم، ورغبت عن الإقامة فيه، أي: ابتعدت وتركت.
2- أن تكون بمعنى: "بعد"3، كقولهم: دع المتكبر؛ فعن قليل يؤدبه زمانه، والمغرور؛ فعن قريب تكشفه أيامه، أي: بعد قليل، وبعد قريب ...
3- الاستعلاء "فتكون بمعنى: "على"، نحو: من يبخل بخدمة وطنه فإنما يسيء لنفسه بما يبخل عنها، ويمنع من إفادتها ... أي: بما يبخل عليها4 وكقولهم: العظيم من زادت خيراته عن المحتاج لها، وفصلت عنه ... أي: على المحتاج لها وفصلت عنه ... أي: على المحتاج لها، وفضلت عليه، وقول الشاعر:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فما زال غضبانًا علي لئامها
4- التعليل، "أن يكون ما بعدها علة وسببًا فيما قبلها"، نحو: لم أحضر إليك إلا عن طلب منك، ولم أفارقك إلا عن ميعاد ينتظرني، أي: بسبب طلب، وبسبب ميعاد.
5- الظرفية؛ كقولهم: الزعيم لا يكون عن حمل الأعباء الثقال وانيًا، ولا عن
__________
1 الغالب أن تتحرك النون بالكسر إذا وقع بعدها ساكن مطلقًا: "أل، أو غيرها"، نحو: انصرف عن الأذى انصرافك عن استقبال البلايا.
2 سبق معناها في رقم 3 من هامش ص 463 عند الكلام على: "من" تعريفها، وبيان أقسامها، مع التمثيل والإيضاح.
3 "بعد" ظرف سبق الكلام عليه تفصيلًا في باب الطرف، ص 283.
4 ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} .(2/513)
بذل التضحيات مترددًا، أي: في حمل ... وفي بذل.
6- الاستعانة1؛ نحو: رميت عن القوس؛ أي: بالقوس، إذا كانت القوس أداة الرمي2 ...
7- أن تكون بمعنى: بدل، نحو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} .
ومثل: أديت العمل عن صديقي المريض، أي: بدل نفس، وبدل صديقي، وقول الشاعر يمدح محسنًا:
وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام
8- أن تكون بمعنى: "من" نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ، أي: من عباده3، "وهذا أوضح من اعتبارها للمجاورة؛ على معنى: الصادرة عن عباده، ولا تقدير فيه" ...
9- أن تكون بمعنى الباء، نحو قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، أي: بالهوى.
وقد ذكر لها بعض معان أخرى، تركناها متابعة للمتعرضين بحق عليها4.
__________
1 سبق في ص 490 شرح معناها وما يتصل بها.
2 ومثل: ضربت الخائن عن السيف، أي: بالسيف إذا كان السيف أداة الضرب.
3 وكقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} .
4 منها أن تكون زائدة سماعًا، ويجب الاقتصار في زيادتها على المسموع وحده؛ نحو: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} ... وهذه تصلح أصلية إذا كان السؤال لمعرفة شأن الأنفال، وطلب الاستخبار عنها، لا لطلب الاستعطاء وأخذ شيء منها. ومن زيادتها المسموعة ما نص عليه ابن هشام في المعنى جـ1 عند الكلام عليها قائلًا: "إنها تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة؛ كقول الشاعر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها ... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
قال ابن جني: أراد؛ فهلا تدفع عن التي بين جنبيك، فحذفت "عن" من: أول الموصول، وزيدت بعده" ... ا. هـ، والبيت مذكور أيضًا في ذيل الأمالي ص 107.
وفيما سبق من معاني "على"، و"عن" يقول ابن مالك باختصار:
"على" للاستعلا، ومغني: "في" و"عن" ... بعن تجاوزا، عنى من قد فطن
وقد تجيء موضع "بعد" و"على" ... كما "على" موضع "عن" قد جعلا
يريد: أن "على" تكون للاستعلاء وتكون للظرفية؛ مثل: "في" وللمجاوزة مثل: "عن" التي تؤدي هذا المعنى إذا قصده من فطن؛ لأنها تؤديه، ثم بين أن: عن" قد تكون بمعنى: "بعد"، وبمعنى: "على" المفيدة للاستعلاء، كما أن: "على" تكون بمعنى: "عن" المفيدة للمجاوزة.(2/514)
وتستعمل "عن" اسمًا بمعنى: "جانب"، ويغلب أن يكون هذا بعد وقوعها مجرورة بالحرف: "من"، نحو: يجلس القاضي: ومن عن يمينه مساعده، ومن عن يساره كاتبه، أي: من جانب يمينه، ومن جانب يساره1 ... ، وهذا الاستعمال قياسي كباقي استعمالاتها السابقة.
اتصال "ما" الزائدة بالحرف: عن.
إذا كانت "عن" جارة جاز وقوع "ما" الزائدة بعدها، فلا تغير شيئًا من عملها أو معناها؛ وإنما يبقى لها كل اختصاصها السابق قبل مجيء الحرف الزائد، نحو: عما قريب يتحقق المأمول2.
الكاف: حرف يجر الظاهر، ويقع أصليًا وزائدًا، وأظهر معانيه أربعة:
1- التشبيه: وهو بنوعيه الحسي والمعنوي أكثر معانيه تداولًًا، والأغلب دخول "الكاف" على المشبه به؛ نحو: الأرض كرة كالكواكب الأخرى، تستمد ضوءها من الشمس كبقية المجموعة الشمسية، ونحو: الذكاء كالكهرباء، كلاهما لا يدرك إلا بآثاره، ويقولون في المدح: فلان كهربي الذكاء، يريدون: أنه في سرعة فهمه واستنباطه كالكهربا؛ في سرعة تأثرها وتأثيرها3 ...
__________
1 وسيشير إلى هذا ابن مالك في بيت يجيء رقم 4 من هامش ص 517 عند الكلام على: "الكاف".
2 ومثل قول الشاعر في الحث على الإجادة، والإتقان عند ممارسة الأمور والأعمال؛ حرصًا على الذكرى الطيبة بعد الممات:
إذا كنت في أمر فكن فيه محسنًا ... فعما قليل أنت ماض وتاركه
وتقضي قواعد الكتابة باتصال الحرفين خطًا، وسيشير ابن مالك آخر الباب ص 529 إلى مسألة زيادة الحرف: "ما"؛ بعد: "من" و"عن" و"الباء"، وأن هذه الزيادة لا تعوق تلك الحروف عن عملها؛ فيقول:
وبعد "من" و"عن"، و"باء"، زيد "ما" ... فلم يعق عن عمل قد علما
3 ومن الأمثلة قول الشاعر:
ابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو ... لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان
أي: كبناية الأجيال.(2/515)
2- التعليل والسببية؛ كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ، أي: بسبب هدايته لكم، وقوله تعالى عن الوالدين: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ، أي: بسبب تربيتهما إياي في صغري.
3- التوكيد1 ويختص بالزائدة؛ نحو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أي: ليس شيء مثله ... "وهذا في رأي من يرون زيادة الكاف هنا"2.
4- الاستعلاء؛ كقولهم: كمن كما أنت، أي: على الحال التي أنت عليها. واستعمالها في هذا المعنى، والذي قبله قليل، ولكنه قياسي.
ومن الاستعمالات القياسية أن تخرج "الكاف" عن الحرفية، لداع يوجب ذلك، فتصير اسمًا مبنيًا بمعنى: "مثل"، يجري عليه ما يجري عليه ما يجرى على نظائره من الأسماء المبنية3؛ كقولهم: لن ينفع في منع الإجرام كالعقوبات الرادعة، وقولهم:
__________
ابنوا كما بنت الأجيال قبلكمو ... لا تتركوا بعدكم فخرًا لإنسان
أي: كبناية الأجيال.
1 سبق في أول هذا الباب ص450 إيضاح للتوكيد الذي ينشأ من الحرف الزائد، كما سبق في الجزء الأول ص70 م5.
2 وحجتهم أنها لو لم تكن زائدة لترتب على أصالتها الاعتراف بوجود مثل المولى تعالى؛ وهذا محال، والأسهل الموافقة على زيادتها في هذا الموضع ونظائره، ومنها قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ... ، لتجنب التأويلات الأخرى، والآراء التي يشوبها التعقيد.
أما من يمنعون زيادتها فحجتهم: أن "مثل" بمعنى: ذات، وأن القرآن ليس فيه زائد، لكن فاتهم أن الزائد هنا وفي فصيح الكلام العربي يؤدي توكيد معنى الجملة "طبقًا لما فصلناه عند الكلام على الحرف في ج 1 م 5 ص 70"، فلا عيب في زيادته مع أدائه هذا الغرض، إنما المعيب المنزه عنه القرآن، هو الزائد الذي له فائدة معه، يكون وجود كعدمه، ومن أمثلة زيادتها ما نقلوه عن أعرابي سئل: كيف تصنعون الأقط؟ فأجاب: كهين، يريد؛ هو هين، فالكاف زائدة كما قالوا على أني لا أرى مانعًا أن تكون اسمًا مبنيا بمعنى: "مثل"؛ فكأنه يقول: "مثل هين" أي: مثل شيء هين ...
3 فيكون اسمًا مبنيًا في محل رفع، أو: نصب، أو: جر، على حسب موقعه من الجملة التي لا تستغني في تركيبها عنه اسمًا، لا حرفًا.(2/516)
ما عاتب الحر الكريم كنفسه1 ... وقولهم:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهمو ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
أي: مثل العقوبات مثل نفسه مثل العفو؛ فالكاف في الأمثلة السالفة اسم، لحاجة الجملة إلى فاعل، فالكاف فاعل1، مبني على الفتح في محل رفع.
وقد تكون أحيانًا خبرًا لمبتدأ2؛ كقولهم: من حذرك كمن بشرك ...
وقد تكون مفعولًا به في نحو قول الشاعر:
ولم أر كالمعروف؛ أما مذاقه ... فحلو، وأما وجهه فجميل3
... 4
وقد تكون في محل جر في نحو: يبتسم فلان عن كاللؤلؤ المكنون، وهكذا ...
فهي بمعنى: "مثل" في كل ذلك، وفي كل موضع آخر يستوجب المعنى والإعراب أن تكون فيه اسمًا مبنيا5.
__________
1 في قول الشاعر:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح
2 أو لما أصله المبتدأ، كوقوعها خبرًا للناسخ "ليس" في قول الشاعر:
ليس من قال بالصواب كمن قال ... بجهل؛ والجهل داء عياء
3 وبعد هذا البيت:
ولا خير في حسن الجسوم وطلوهاإذا لم يزن حسن الجسوم عقول ...
4 وفي الكلام على معاني "الكاف"، وعلى أنها تستعمل اسمًا بمعنى: "مثل"، وكذلك: "عن" و"على" بدليل دخول "من" عليهما، وهي لا تدخل إلا على الأسماء يقول ابن مالك أولًا:
"شبه" بكاف، وبها "التعليل" قد ... يعنى، وزائدًا لتوكيد ورد
يريد: أن كلمة: "الكاف" تستعم في التشبيه، وأن "التعليل" بها قد يعني "أي: يقصد" وورد هذا الحرف زائدًا للتوكيد، ثم قال:
واستعمل اسمًا، وكذا: "عن" و"على" ... من أجل ذا عليهما "من" دخلا
يريد: أن حرف "الكاف" استعمل اسمًا، وكذلك "عن" و"على"، من أجل استعمالها اسمين دخل عليهما الحرف الجار: "من" وهو لا يدخل إلا على الأسماء كما سبق، في ص 515.
5 انظر هامش رقم3 في الصفحة السابقة.(2/517)
وإذا كانت "الكاف" أداة جر، فقد تتصل بها "ما" الزائدة، فتكفها عن العمل غالبًا وتزيل اختصاصها "وهو: الدخول على الاسم لجره"، فتدخل على الجمل الاسمية والفعلية، نحو: "الصحة خير النعم؛ كما المرض شر المصائب"، ونحو: "الفقر يخفي مزايا المرء، كما يزيل ثقة الناس بصاحبه1 ... "، وهذه هي "ما" الزائدة الكافة عن العمل، ومن القليل؛ الذي لا يقاس عليه أن يبقى لها اختصاصها الأول، فتدخل على الاسم، فتجره بالرغم من اقترانها بكلمة "ما" الزائدة؛ نحو: قول القائل:
وننصر مولانا ونعلم أنه ... كما الناس مظلوم عليه وظالم
أي: كالناس، وهذه هي "ما" الزائدة فقط، وليست بكافة.
مذ ومنذ2: يكثر استعمالها اسمين ظرفين، أو اسمين غير ظرفين، كما يكثر استعمالهما حرفين أصليين للجر.
أ- فيصلحان للاسمية المجردة من الظرفية إذا لم تقع بعدهما جملة، وإنما وقع بعدهما اسم مرفوع؛ نحو: ما سافرت مذ الشهر الماضي، أو منذ ... فمذ ومنذ مبتدأ خبره الاسم المرفوع بعده3.
__________
1 وسيشير إلى هذا ابن مالك آخر الباب ص 529 حيث يعيد البيت التالي في زيادتها بعد "الكاف" و"رب"، وأنها تكفهما عن العمل أو لا تكفهما:
وزيد بعد "رب" والكاف فكف ... وقد يليهما وجر لم يكف
أي: لم يمنع، يريد بقوله: "وزيد" الحرف: "ما" وأن هذا الحرف كفهما عن العمل، وقد يليهما فلا يكفهما.
2 سبق كلام عليهما في باب الظرف، ص 299 ولأهميتهما وتشعب أحكامها سيجيء لهما بحث شامل مستقبل، آخر هذا الجزء ص 544 "وكذلك سبق الكلام عليهما في جـ1 لمناسبات مختلفة في ص 357 م 36 و 366 م 37 و 370 م 38".
3 هذا هو الأحسن، ويجوز إعراب كل منهما ظرفًا مقدمًا "أي: لتعلقه بالخبر المحذوف، كما في رقم 3 من هامش ص 300" بمعنى: "بين، وبين" مضافين المعنى فمعنى ما سافرت مذ أو منذ الشهر الماضي: الشهر الماضي بيني وبين عدم السفر، راجع الصبان، و"الشهر" هو المبتدأ المؤخر.
ولا بد من تقدم "مذ ومنذ" عند إعرابهما مبتدأ أو خبرًا، وشروط أخرى هي المشار لها في رقم3 من هامش الصفحة الآتية.(2/518)
ويصلحان للظرفية إذا وقع بعدهما جملة اسمية، أو فعلية ماضوية، ولا يصح أن تقع بعدهما المضارعية المستقبلة1؛ فمثال الجملة الاسمية: ما سافرت مد الجو مضطرب، أو منذ ... فكلاهما ظرف زمان للفعل "سافر"، مبني على السكون والضم، في محل نصب، وهو مضاف، والجملة الاسمية بعدهما في محل جر مضاف إليه، ومثال الجملة الفعلية الماضوية: أسرعت إليك مذ أو منذ دعوتني، وكلاهما ظرف زمان للفعل: "أسرع" مبني على السكون والضم في محل نصب. والظرف مضاف والجملة الماضوية بعده مضاف إليه في محل جر، ومن هذا قول الشاعر:
بدا الصبح فيها2 منذ فارقت مظلما ... فإن أبت صار الليل أبيض ناصعًا
"فمنذ" ظرف زمان للفعل: "بدا".
ب- ويكونان حرفين أصليين للجر، وهذا يوجب شروطًا؛ أهمها3: أن يكون المجرور اسمًا ظاهرًا، لا ضميرًا، وأن يكون وقتًا4، وأن يكون هذا الوقت متصرفًا، معينًا لا مبهمًا، ماضيًا أو حاضرًا لا مستقبلًا، نحو: ما رأيته مذ يوم السبت الأخير، أو مذ ساعتنا، فلا يصح: مذه، ولا مذ البيت، ولا: مذ سحر، "تريد: سحر يوم معين" ولا مذ زمن، ولا مذ غد، وكذلك "منذ" في كل ما سبق.
__________
1 فلا يصح: "مذ، أو منذ" يفهم؛ لأن عاملهما لا يكون إلا ماضيًا، فلا يجتمع مع المستقبل كما سيجيء في البحث الآتي "ص 545" منقولًا عن الصبان.
2 في الدار، أو البلدة.
3 والراجح أن هذه الشروط تجري على الاسم المنفرد المرفوع بعدهما أيضًا إذا لم يكونا حرفي جر.
4 ومثل الوقت ما يسأل به عن الوقت، بشرط أن يكون ظرف زمان؛ نحو: منذ كم يومًا سافرت؟ أو منذ متى سافرت؟ أو منذ أي وقت سافرت؟ ومثلها: مذ.
ويقول النحاة كما جاء في الهمع: "ويجوز وقوع المصدر بعدهما، نحو: ما رأيته مذ قدوم علي، بالرفع والجر، وهو على تقدير حذف زمان؛ أي: مذ زمن قدوم علي، ويجوز وقوع "أن وصلتها"، بعدهما؛ نحو: ما رأيته مذ أن الله خلقني، فيحكم على موضعهما بما حكم به للفظ المصدر من رفع أو جر وهو على تقدير زمان أيضًا". ا. هـ.(2/519)
ويشترط في عاملهما أن يكون ماضيًا، إما منفيًا يصح أن يتكرر معناه؛ نحو: ما رأيته مذ أو منذ يوم الجمعة، وإما مثبتًا، معناه ممتد متطاول1؛ نحو: سرت مذ، أو منذ يوم الخميس.
فإن كان الاسم المجرور بهما معرفة ومدلول زمنه ماضيًا، كان معناهما الابتداء مثل: "من" الابتدائية، نحو: ما رأيته مذ، أو: منذ يوم الجمعة الماضي، أي: من يوم الجمعة؛ فابتداء عدم الرؤية هو يوم الجمعة، وإن كان معرفة ومدلول زمنه حاضرًا كان معناهما لا إعرابهما الظرفية، مثل "في" نحو: ما رأيته مذ ساعتنا، أو منذ يومنا، أي: في ساعتنا وفي يومنا.
أما إن كان المجرور بهما نكرة معدودة2 فمعناهما الابتداء والانتهاء معًا؛ فهما مثل "من" و"إلى" مجتمعين؛ نحو: ما رأيته مذ أو منذ يومين، أي: ما رأيته من ابتداء هذه المدة إلى نهايتها.
ومما يجب التنويه به أن الاسم بعد "مذ"، و"منذ" مع جواز جره على اعتبارهما حرفي جر، وجواز رفعه على اعتبارهما اسمين محضين قد يترجع فيه أحد الضبطين على الآخر، وقد يقوي حتى يقترب من الوجوب كما يتبين مما يأتي.
إذا كان الزمن بعدهما للحاضر فالراجح أن يكونا حرفي جر، والاسم بعدهما مجرورًا بهما، نحو: ما تركت الكتابة مذ أو منذ ساعتنا، وعلى هذا تجري أكثر القبائل العربية، وتكاد تلتزمه وتوجبه.
وإذا كان الزمن بعدهما للماضي، فالأرجح اعتبار "منذ" حرف جر، والاسم بعدها مجرور، نحو: ما زرت الصديق منذ يومين، والعكس في "مذ"، نحو ما زرت الصديق مذ يومان3.
__________
1 في ص549 بيان "المتطاول" وما يتصل بهذا.
2 لتكون معينة؛ لأن المبهمة أي: غير المعدودة، مثل: برهة، وحين ... لا تصلح بعدهما، كما سبق، ولا فرق في المعدود بين أن يكون معدودًا لفظًا ومعنى؛ نحو: يومين، أو معنى فقط: نحو: شهر.
3 وفي الكلام على مذ ومنذ واسميتهما، وحرفيتهما وأحكامهما يقول ابن مالك:
و"مذ" و"منذ" اسمان حيث رفعا ... أو أوليا الفعل، كجنت مذ دعا
يريد: أنهما يكونان اسمين حين يرفعان اسمًا بعدهما؛ باعتبارهما مبتدأين، وهو الخبر المرفوع بالمبتدأ، =(2/520)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
في مثل: "ما رأيته مذ أو منذ أن الله خلقه" بفتح همزة أن، "أي: من زمن أن الله خلقه" يجوز اعتبارهما اسمين، مبتدأين، والمصدر المؤول خبرهما، كما يجوز اعتبراهما حرفي جر والمصدر المؤول هو المجرور بهما، أما عند كسر همزة "إن" فيتعين اعتبارهما اسمين مبتدأين لوقوع جملة اسمية بعدهما هي الخبر1.
__________
= أو حين يليها ويجيء بعدهما الفعل وفاعله؛ مثل: جئت مذ دعا، واكتفى بأن ذكر الجملة الفعلية وترك الاسمية لفهم القارئ، أو؛ لأنها ستعرب خبرًا والخبر مرفوع عندهم بالمبتدأ، فتدخل في ضمن الحالة الأولى، ثم قال في معناهما:
وإن يجرا في مضي "فكمن" ... هما، وفي الحضور معنى: "في"، استبن
أي: اطلب، بيان معنى "في" وهو: الظرفية.
1 لهذا إشارة في رقم 4 من هامش ص 519، وبيان في رقم 3 من هامش ص 546.(2/521)
"رب": ليس بين حروف الجر ما يشبه هذا الحرف في تعدد الآراء فيه. واضطراب المذاهب النحوية، واللغوية في أحكامه ونواحيه المختلفة: "التي منها ناحية معناه، وناحية حرفيته، وناحية زيادته أو شبهها، وتعلقه بعامل أو عدم تعلقه، ونوع الفعل الذي يقع بعده، والجملة التي يوصف بها مجروره ... و ... "، وكان من أثر هذا الاضطراب قديما وحديثا الحكم على بعض الأساليب بالخطأ عند فريق، وبالصحة عند آخر، وبالقبول بعد التأول والتقدير عند ثالث، وكل هذا يقتضينا أن نستخلص أفضل الآراء، بأناة، وحسن تقدير.
وخير ما نستصفيه من معناه، ومن أحكامه النحوية هو ما يأتي:
أ- أن معناه قد يكون التكثير وقد يكون التقليل، وكلاهما لا بد فيه من القرينة التي توجه الذهن إليه، ولهذا كان الاستعمال الصحيح للحرف "رب"، وما دخل عليه أن يجيء بعد حالة خالية من اليقين1 تقتضي النص على الكثرة أو القلة، "كأن يقول قائل2: أظنك لم تمارس الصناعة، فتجيب: رب صناعة نافعة مارستها، فقد جاءت الأداة "رب"، وجملتها لإزالة أمر مظنون قبل مجيئها". فمثال دلالتها على الكثرة: رب محسود على جاهه احتمل البلاء بسببه، ورب مغمور في قومه سعد بغفلة العيون عنه ... وقولهم: رب أمل في صفاء الزمان قد خاب، ورب أمنية في مسالمة الليالي قد بددتها المفاجئات.
ومثال القلة قولهم: رب منية في أمنية تحققت ... ورب غصة في انتهاز فرصة تهيأت، وقولهم: رب غاية مأمولة دنت بغير سعي، ورب حظ سعيد أقبل بغير انتظار ... والقرينة على القلة والكثرة في الأمثلة السالفة هي: التجارب الشائعة التي يعرفها السامع، ويسلم بها.
ب- وأن أحكامه النحوية أهمها:
1- أنه حرف جر شبيه3 بالزائد، وله الصدارة في جملته؛ فلا يجوز
__________
1كحالة الظن، أو الشك ...
2 أو من هو في حكم القائل؛ بأن تدل هيئته على أنه في حالة ظن أو شك، فليس من اللازم أن ينطق فعلًا، وإنما يكفي أن يقدر فيه ذلك، "شرح المفصل جـ 8 ص 27".
3 سبق الكلام في ص452 على حرف الجر التشبيه بالزائد، وأوجه الاتفاق والمخالفة بينه وبين الأصلي والزائد.(2/522)
أن يتقدم عليه شيء منها1، لكن يجوز أن يسبقه الواو، أو أحد الحرفين. "ألا" الذي للاستفتاح2 و"يا"، نحو: ألا رب مظهر جميل حجب وراءه مخبرًا مرذولًا. يا رب عظيم متواضع زاده تواضعه عظمة وإكبارًا، وقول الشاعر:
فيا رب وجه كصافي النمير ... تشابه حامله والنمر
2- وأنه لا يجر غالبًا إلا الاسم الظاهر النكرة3، وقد وردت أمثلة قليلة لا يحسن القياس عليها كان مجروره فيها ضميرًا للغائب، يفسره اسم منصوب، متأخر عنه وجوبًا، يعرب تمييزًا، نحو: ربه شابًا نبيلًا صادفته، وفي تلك الأمثلة القليلة كان الضمير مفردًا غائبًا في جمع أحواله، يعود على التمييز الواجب التأخير، ويجب مطابقة هذا التمييز لمدلول هذا المضير المسمى: "الضمير المجهول4"، لعدم عودته على متقدم، نحو: ربه شابين نبيلين صادفتهما، ربه شبابًا نبلاء صادفتهم، ربه فتاة نبيلة صادفتها ... و ... وهكذا.
3- وأن النكرة التي يجرها تحتاج في أشهر الآراء لنعت مفرد، أو جملة، أو شبه جملة، غير أن الأكثر الأفصح حين يكون النعت جملة أن تكون فعلية، ماضوية لفظًا ومعنى، أو: معنى فقط كالمضارع المسبوق بالحرف "لم"
__________
1 ومن المسموع الذي لا يقاس عليه ندرته قول الشاعر:
وقبلك رب خصم قد تمالوا ... علي فما هلعت ولا ذعرت
تمالوا: أي: تمالئوا، بمعنى: اجتمعوا واتفقوا، الخصم: المخاصم، وقد يكون للاثنين، وللجمع، وللمؤنث. . .
2 ويجوز مثله مع قلته، الحرف: "لكن"، بسكون النون لذي يفيد الاستفتاح والاستدراك معًا، كقول أحد الشعراء من أهل القرن الثالث الهجري كما سجله صاحب كتاب: "الهفوات النادرة" لغرس النعمة الصابي ص 272:
نعمة الله لا تعاب، ولكن ... ربما استقبحت على أقوام
وسيذكر البيت لمناسبة أخرى في ص 526.
3 سيجيء إعراب هذا الاسم تفصيلًا في ص 532.
4 وله أسماء متعددة، منها: ضمير الشأن، وضمير القصة ... "، وقد سبق شرحه وتفصيل الكلام عليه في باب "الضمير" ج 1 م 19 ص 226".(2/523)
"نحو: رب صديق وفي عرفته، رب صديق لازمك عرفته، رب صديق عندك عرفته، رب صديق في الشدة عرفته، رب صديق لم يتغير عرفته"، ومثال النعت بجملة اسمية، رب ملوم لا ذنب له، وقول الشاعر:
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام1
4- وأن "رب" مع مجرورها لا بد أن يكون لها في الأغلب الأحوال اتصال معنوي يفعل ماض يقع بعدها، أو: بما يعمل عمله ويدل دلالته الزمنية، "وهذا الفعل مع فاعله غير الجملة الماضية التي قد تقع أحيانًا صفة لمجرورها"، ويكون الفعل أو ما يعمل عمله بمنزلة العامل الذي تتعلق به "رب" ومجرورها2 بالرغم ما هو مقرر من أن حرف الجر الزائد، وشبه الزائد لا يعلق مع مجروره بعامل كما سبق نحو: رب كلمة طيبة جلبت خيرًا، ودفعت شرًا، وقول الشاعر:
فيا رب وجه كصافي النمير ... تشابه حامله والنمر ...
والأغلب في هذا الفعل وما في معناه أن يكون محذوفًا مع فاعله؛ لأنهما معلومان تدل عليهما قرينة لفظية أو معنوية، "لما قدمنا من أن الاستعمال الصحيح للحرف "رب"، وما دخل عليه أن يكون بعد حالة ظن، أو شك تستدعي النص على القلة أو الكثرة، فيكون جوابًا عن قول لقائل، أو: من هو في حكمه"؛ فاللفظية نحو: ما أطيب العمل، وما أبغض البطالة: فرب عمل نافع، ورب بطالة
__________
1 الموت.
2 راجع شرح المفصل "جـ 8 ص 27 و 29 ثم الصبان في أول باب الإضافة عند الكلام على الإضافة اللفظية، ومناقشته مثال ابن مالك: "رب راجينا عظيم الأمل ... ".
ونص ما نقله الصبان: "إن الأكثرين يقولون بوجوب مضي ما تتعلق به "رب"، بناء على أنها تتعلق، لا أنهم يقولون بوجوب مضي مجرورها؛ وأن ابن السراج يجوز كونه حالًا أي: في الزمن الحالي وابن مالك يجوز كونه حالًا أو مستقبلًا. وقد قال في التسهيل: "ولا يلزم وصف مجرورها خلافًا للمبرد ومن وافقه، ولا مضي ما تتعلق به". ا. هـ.
هذا، ولا يحسن الأخذ بالآراء الضعيفة إلا في فهم ما ورد بها، أما المحاكاة والقياس، فيجريان على الأعم الأشهر الذي لخصناه.
3 ومثل هذا قول الآخر:
رب ليل كأنه الدهر طلًا ... قد تناهى فليس فيه مزيد(2/524)
ضارة، فالتقدير: فرب عمل نافع أحببته، ورب بطالة ضارة كرهتها، والمعنوية كأن تمر على قوم منهمكين في العمل، مشغولين به، فتبتسم ابتسامة الرضا والانشراح، ثم تنصرف عنهم قائلا: رب علم نافع، ورب بطالة ضارة، فالتقدير رب عمل نافع أحببته، أو احترمت صاحبه، أو أكبرته ... أو ... ، ورب بطالة ضارة كرهتها، أو أنكرت أمرها ... أو ... ومن الجائز ذكر هذا الفعل وفاعله.
ويقول النحاة: إن "رب" توصل معنى هذا الفعل وما في حكمه إلى الاسم المجرور بها، ففي مثل: "رب رجل عالم أدركت" أوصلت معنى الإدراك إلى الرجل1، وكذلك في الأمثلة السابقة، ومن ثم كان الأحسن عندهم في مثل: "رب عالم لقيته"، وقول الشاعر:
رب حلم2 أضاعه عدم المال ... وجهل غطى عليه النعيم
أن تكون الجملة الفعلية الماضوية المذكورة هي الصفة للنكرة المجرورة بالحرف: "رب"، وأن تكون هناك جملة أخرى ماضوية محذوفة، تتصل بها "رب" ومجرورها اتصالًا معنويًا، ولا يرتاحون أن تكون الجملة الماضوية المذكورة هي المرتبطة ارتباطًا معنويًا بهما؛ لأنها صفة للنكرة المجرروة "برب"، وهذه النكرة قد تستغني عن كل شيء أساسي أو غير أساسي بعدها إلا عن الصفة، ومثل هذا الفعل الداخل في جملة الصفة لا يصلح أن يكون هو الذي بمنزلة العامل في: "رب" ومجرورها؛ لأن الصفة لا تعمل في الموصوف؛ منعًا للفساد المعنوي.
5- وأنه يجوز أن يتصل بآخرها "ما" الزائدة، والشائع في هذه الحالة
__________
1 هذا المثال بنصه وبالكلام الخاص به، منقول من الجزء الثامن ص27 من كتاب: "المفصل" عند البحث الخاص بالحرف: "رب" وهو كلام يجعل حرف الجر الزائد والشبيه بالزائد معديًا للعامل، مع أن كثرة النحاة تجعل التعدية مقصورة على حرف الجر الأصلي، دون الزائد وشبهه كما سبق في ص 451 و 452، ويجيء في رقم 1 من هامش ص530 إلا أن كان المقصود الاتصال المعنوي المجرد كما قلنا وليس في كلامه دليل عليه.
2 عقل، وفي بعض الروايات: رب علم.(2/525)
أن تمنعها من الدخول على الأسماء المفردة، ومن الجر، فتجعلها مختصة بالدخول على الجمة الفعلية والاسمية1، ولذا تسمى: "ما" الزائدة الكافة؛ "لأنها كفتها - أي: منعتها من عملها؛ وهو: الجر؛ ومن اختصاصها؛ وهو: الدخول على الاسم وحده؛ لجره"؛ نحو: ربما رأيت في الطريق مستجديًا، وهو في الأغنياء. ونحو: ربما كان السائل أغنى من المسؤول، أو ربما السائل أغنى من المسؤول. ولكن دخولها على الماضي2 هو الكثير، أما دخولها على المضارع الصريح3 وعلى الجملة الاسمية فنادر لا يقاس عليه، إلا إن كان معنى المضارع محقق الوقوع قطعًا كما سيجيء، ومن العرب من يبقيها على حالها من الدخول من الأسماء المفردة، وجرها مع وجود "ما" الزائدة؛ فيقول: رب ما سائل في الطريق أزعجني، ولا تسمى "ما" في هذه الحالة "كافة"؛ وإنما تسمى: "زائدة" فقط. والأفضل الاقتصار على الرأي الأول الشائع4.
6- والشائع أيضًا أن "رب" بحالتيها العاملة والمكفوفة عن العمل، لا تدخل إلا على كلام يدل على الزمن الماضي، سواء أكان مشتملًا على فعل ماض أم على غيره مما يدل على الزمن الماضي، كالمضارع المقرون بالحرف: " لم"، أو: الوصف الدال على الماضي ... أو ... نحو: رب معروف قدمته سعدت بفعله رب علم لم ينفع صاحبه أحزنه رب بئر متفجرة أمس نفعت بما في داخلها.
وقد أشرنا إلى أنها تدخل على المضارع الصريح إذا كان معناه محقق الوقوع لا شك في حصوله؛ فكأنه من حيث التحقق بمنزلة الماضي الذي رفع معناه5،
__________
1 أما معناه فيبقى على الوجه الذي سيجيء مشروحًا في الزيادة والتفصيل "ب، ص 531".
2 ولو كان مبنيًا للمجهول؛ كقول الشاعر: وقد سبق لمناسبة أخرى في هامش ص 523:
نعمة الله لا تعاب، ولكن ... ربما استقبحت على أقوام
3 وهو الذي يكون لفظه مضارعًا، وزمنه مستقبلًا خالصًا.
4 وإذا كانت "ما" كافة، و"رب" غير عاملة، فالواجب وصلهما كتابة، أما إذا كانت "رب" عاملة فالواجب فصلهما.
5 وقد تدخل على مضارع في لفظه، ولكنه ماض في زمنه، بقرينة تدل على المضي الزمني، كقول الشاعر لهارب من حاكم توعده بالقتل، فجاءه الخبر بموت ذلك الحاكم:
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
=(2/526)
صار أمرًا مقطوعًا به، كقوله تعالى، في وصف الكفار يوم القيامة، ووصفه صدق لا شك فيه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 1، أما في غير ذلك فشاذ لا يقاس عليه2.
وإنما كان الأكثر دخولها على الزمن الماضي؛ لأن معناه التكثير والتقليل، لا يمكن الحكم بأحدهما إلا على شيء قد عرف3 ...
7- أنه يجوز في ضبطها لغات تقارب العشرين، أشهرها ضم الراء أو فتحها مع تشديد الباء في الحالتين، أو مع تخفيفها بالفتح بغير تشديد، كما يجوز أن تلحقها تاء التأنيث المتسعة في المشهور لتدل على تأنيث مجرورها؛ نحو: ربت
__________
= فهو يريد: ربما جزعت. . . ولا يصلح زمن المضارع هنا إلا المضي؛ لأن الجزع لن يقع في المستقبل بعد موت الحاكم الظالم، زوال سبب الخوف، ومثل هذا قول الشاعر:
وحديث ألذه هو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب؛ وتلحن أحيانًا ... وخير الكلام ما كان لحنًا
أي: رب حديث ألذه، فقد دخلت "رب" المحذوفة، والتي تدل عليها الواو، على أمر حصل محقق عند المتكلم، ولا شك في وقوعه زمنه وانتهائه قبل الكلام؛ فالمضارع ماضي الزمن.
"تلحن: تشير إلى ما تريد بغير كلام".
1 "ربما" "بتخفيف الباء"، مثل: "ربا" بتشديدها، كما سيجيء.
2 ومن أمثلة الشاذ ما جاء في تفسير القرطبي لقوله تعالى في سورة البقرة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وهو قول بعض السلف: لا تكرهوا الملمات الواقعة: فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، قال الشاعر:
رب أمر تتقيه ... جر أمرًا ترتضيه
خفي المحبوب منه ... وبدا المكروه فيه
والدليل على أن المضارع بعد "رب" في المثال المنثور مستقبل الزمن وجود "لا" الناهية ي المضارع الذي قبله؛ وهي تجعل زمنه مستقبلًا خالصًا.
وهناك قرينة أخرى عقلية في المثال المنثور، وفي البيتين تدل على استقبال المضارع؛ هي الحث والحض والترغيب، وهذه الأمور لا تكون إلا في شيء لم يقع.
3 من كل ما تقدم يتبين نوع المضارع الذي يقصده النحاة بقولهم: إن المضارع يكون ماضي الزمن إذا وقع بعد "رب"، كما جاء في الهمع جـ1 ص8".(2/527)
عبارة موجزة أغنت عن كلام كثير، وتكون التاء إما ساكنة ويوقف عليها بالسكون، وإما مفتوحة ويوقف عليها بالهاء.
حذف رب:
يجوز حذف "رب" لفظًا، مع إبقاء عملها ومعناها كما كانت، وهذا الحذف قياسي بعد "الواو"، و"الفاء"، و"بل"، ولكنه بعد الأول أكثر، وبعد الثاني كثير، وبعد الثالث قليل بالنسبة للحرفين الآخرين، نحو:
وجانب1 من الثرى يدعي الوطن ... ملء العيون، والقلوب، والفطن2
ونحو: أن تسمع من يقول: "ما أعجب ما قرأته على صفحات الوجوه اليوم"، فتقول: "فحزين قضى الليل هما طلع النهار عليه بما بدد أحزانه، ومبتهج نام ليلة قريرًا، ثم أفاق على هم وبلاء"، ونحو: "بل حزين قد تأسى3 بحزين"
__________
1 "ملاحظة": هذا البيت أو قصيدة لشوقي، موضوعها: الوطن، والشائع في مثل هذه الصورة إعراب "الواو نائبة" عن "رب"، أو: يقال: "واو رب"، ويفر المعربون من اعتبارها: "عاطفة". . . أو شيئًا آخر، لكن جاء في كتاب: "تفسير أرجوزة أبي نواس" في تفريط الفضل بن الربيع، تأليف: أبي الفتح عثمان بن جني اللغوي المشهور، وإخراج الأستاذ بهجة الأثري، ص 9 عند بيت أبي نواس:
وبلدة فيها زور ... صعراء تخطى في صعر
ما نصه الحرفي، قوله: "وبلدة" قيل في هذا الواو قولان، أحدهما: أنها للعطف، والآخر: أنها عوض من "رب"، فكأنهم إنما هربوا أن يجعلوها عاطفة؛ لأنها في أول القصيدة وأول الكلام لا يعطف، ولا يمتنع العطف على ما تقدم من الحديث والقصص؛ فكأنه كان في حديث ثم قال: وبلدة؛ "فكأنه وكل الكلام إلى الدلالة في الحال، ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وإن لم يجر للقرآن ذكر، وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يعني: الشمس، فأضمرها وإن لم يجر لها ذكر، وهذا في كلام العرب واسع فاش". ا. هـ، كلام ابن جني.
ويوضحه بل يؤيده ويقويه ما جاء في "المغني ج2" عند كلامه على "الواو المفردة" الجارة، وقد أشرنا لكل ما سبق في ج3 باب: العطف "م120" عند الكلام على حذف المعطوف عليه بقي السؤال: هل هناك مانع أن تكون الواو في مثل ما سبق للاستئناف؟ لا أرى مانعًا.
2 ومن هذا قول الشاعر:
ومستعبد إخوانه بثرائه ... لبست له كبرًا أبر على الكبر
"أبر = زاد وتغلب".
3 تسلي.(2/528)
أي: رب جانب. . . رب حزين قضى الليل. . . رب مبتهج. . . رب حزين قد تأسي. . .
وكل حرف من هذه الثلاثة يسمى: "العوض" عن: "رب"1؛ أو: "النائب عنها"؛ لأنه يدل عليها، وهو مبني لا محل له من الإعراب؛ والاسم المجرور بعده، مجرور برب المحذوفة2، وليس مجرورًا في الصحيح العوض عنها أو النائب3.
__________
1 فعند الإعراب يقال: "الواو: واو رب"، "الفاء: فاء رب"، "بل: بل رب"، أو يقال في كل واحد إنه: نائب عن: رب.
2 ويقول ابن مالك في زيادة كلمة: "ما" بعد: "من"، و"عن"، و"الباء"، وأن هذه الزيادة لا تعوق الأحرف السالفة عن العمل، كما شرحنا عند الكلام على كل:
وبعد "من"، و"عن"، و"باء" زيد: "ما" ... فلم يعق عن عمل قد علما
وقد تقدم هذا البيت في ص 515 عند الكلام على "من" و"عن" و"الباء" للمناسبة الخاصة بكل، ويقو في زيادتها بعد "رب" و"الكاف"، وأنها قد تكفهما أو لا تكفهما:
وزيد بعد "رب" و"الكاف" فكف ... وقد يليهما، وجر لم يكف
وقد سبق البيت في هامش ص518، ثم يقول في حذف: "رب" بعد الحروف الثلاثة:
وحذفت "رب"، فجرت بعد: "بل" ... و"الفا" وبعد: "الواو شاع ذا العمل
3 يرى سيبويه أن الجر هو بكلمة: "رب" المحذوفة، أما الواو، والفاء، وبل، فحروف عطف مهملة هنا لا تعمل شيئًا، مع أن نائبة عن: "رب" ودالة عليها، وكثير من النحاة يقول: إن العمل هو للحرف النائب وليس للمحذوف "راجع المفصل جـ2 ص117 باب الإضافة"، وهذا الخلاف شكلي محض لا أثر له.(2/529)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- إذا كان الحرف: "رب" شبيهًا بالزائد1 فمن الواجب أن يكون للاسم النكرة المجرور به ناحيتان، ناحية الجر لفظًا، وناحية الإعراب محلًا، فيكون مجرورًا في محل رفع، أو محل نصب على حسب حاجة الجملة، ويعامل بما يعامل به عند عدم وجودها، ففي مثل: رب زائر كريم أقبل، تعرب كلمة: "زائر" مجرورة برب لفظًا، في محل رفع: لأنها مبتدأ، وفي مثل: رب زميل وديع صاحبت، تعرب كلمة: "زميل" مجرورة لفظًا في محل نصب؛ لأنها مفعول به للفعل: "صاجبت"، وفي مثل: رب مساعدة خفية ساعدت، تعرب كلمة: "مساعدة" مجرورة لفظا في محل نصب؛ لأنها مفعول مطلق، وفي مثل: رب ليلة مقمرة سهرت مع رفاقي، تعرب كلمة: "ليلة" مجرورة لفظًا في محل نصب؛ لأنها ظرف زمان. . . و. . . وهكذا. . .
وخير مرشد لمعرفة المحل الإعرابي للاسم المجرور بها هو ما قلناه من تخيل عدم وجود "رب"، وإعراب المجرور بها بما يستحقه عند فقدها. . .
ويترتب على ما سبق من جر النكرة لفظًا بها واعتبارها في محل رفع أو نصب أن التابع لهذه النكرة "من نعت، أو: عطف، أو: توكيد، أو: بدل" يجوز فيه الأمران، مراعاة لفظ النكرة، أو مراعاة المحل، ففي مثل: رب زائر كريم أقبل، يجوز في كلمة: "كريم الجر والرفع، وفي مثل: رب زميل وديع صاحبت،
__________
1 هذا رأي أكثرية النحاة من أهل التحقيق، وخالف فيه غيرهم، كما أشرنا في رقم1 من هامش ص525، ومن هذه الأكثرية المحققة "الخضري" أحد نحاة القرن الثاني عشر الهجري، وصاحب الحاشية المشهورة على ابن عقيل، وآخر أصحاب الحوالشي على شرح: "ألفية ابن مالك" وغيرها حتى عصرنا هذا، وقد اطلع بلا شك على الآراء المخالفة، ولم يعتد بها حين رأى شرح ابن عقيل في أول باب حروف الجر ينص على أن الحرف: "لعل"، حرف جر زائد: فاستدرك الخضري مصححًا ومصرحًا بما نصه:
"صوابه: شبيه بالزائد، ومثلها "لولا" و"رب"؛ لأن الزائد لا يفيد شيئًا غير التوكيد؛ وهذه الحروف تفيد الترجي، والامتناع، والتقليل، وإنما أشبهت الزائد في أنها لا تتعلق بشيء. . . ا. هـ"، وهذا نص واضح المرمى، وله صلة أيضًا بما سيجيء في هذه الزيادة والتفصيل. . .(2/530)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجوز في كلمة: "وديع" الجر والنصب. . . وهكذا.
ولا يتغير الحكم لو جاء تابع آخر كالعطف، فقلنا: رب زائر كريم وسائح هنا، فيجوز في كلمة: "سائح" المعطوفة، الأمران الجائزان في المعطوف عليه. . . ويجوز أن يكون المعطوف هنا معرفة، نحو؛ رب زائر كريم وأخيه أقبلا، مع أن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فهو بمنزلة الاسم الذي دخلت عليه "رب"، فحقه أن يكون نكرة كمجرورها، إلا أن الأساليب العربية الفصحى تدل على أنه قد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، وهذا معنى قول النحاة: قد يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل1.
ب- إذا دخل الحرف: "رب" على الجمل بنوعيها2، وهو مكفوف بسبب اتصاله، "بما" الكافة، فإن معناه يبقى على حاله من إفادة التكثير أو التقليل على حسب القرائن، "كما أشرنا من قبل"3، ولكن التكثير أو التقليل في هذه الحالة يكون منصبًا على النسبة التي في الجملة، وهي النسبة الدائرة بين طرفيها؛ ففي مثل: ربما أتى الغائب، أو ربما الغائب آت. . .، يكون التقليل والتكثير واقعًا على نسبة الإتيان للغائب، وقيل: إن معنى "رب" المكفوفة، هو: التحقيق.
ج- قد تحل: "مما". . .، محل: "ربما" فتؤدي معناها؛ طبقًا للبيان الموجز الذي سبق في ص 466، وللتفصيل الشامل الذي تقدم في جـ1 م 42، ص549 عند الكلام على النواسخ، و"كان" الناسخة.
__________
1 تكررت الإشارة لهذا المعنى في أبواب مختلفة، ولا سيما باب الاستثناء، عند الكلام على حكم المستثنى الذي أدانه: " "إلا" إذا كان تامًا غير موجب ص 336، وله إشارة في رقم1 من هامش69.
2 انظر حكم دخولها على الجملة الاسمية والمضارعية في رقم 5 من ص 525.
3 في رقم1 من هامش ص 526.(2/531)
المسألة91:
هـ- حذف حرف الجر وحده، مع إبقاء عمله1، وحذفه مع مجروره.
يجوز أن يحذف حرف الجر، ويبقى عمله كما كان قبل الحذف، ويطرد هذا في مواضع قياسية، أشهرها أربعة عشر نذكرها كاملة هنا، وقد مر بعضها في مواضع متفرقة2.
1- أن يكون حرف الجر هو: "رب" بشرط أن تكون مسبوقة "بالواو"، أو: "بالفاء"، أو "بل"، كما سبق قريبًا عند الكلام عليها3 نحو:
وعامل بالحرام، يأمر بالبر، ... كهاد يخوض في الظلم
2- أن يكون الاسم المجرور بالحرف مصدرًا مؤولًا من "أن" من معموليها، أو من "أن" والفعل والفاعل؛ نحو: فرحت أن الصانع بارع، أو: أفرح أن يبرع الصانع، والأصل: فرحت بأن الصانع بارع، أو: أفرح بأن يبرع الصانع. والتقدير فيهما: فرحت ببراعة الصانع، أو: أفرح. . .
ولا بد من أمن اللبس قبل حذف حرف الجر على الوجه الذي شرحناه في مكانه من باب: "تعدية الفعل ولزومه"4.
__________
1 أما حذفه ونصب ما بعده على ما يسمى: "النصب على نزع الخافض"، وهو نوع مما يسمى "الحذف الإيصال"، فمقصور على السامع في غير الضرورة الشعرية؛ طبقًا للبيان الذي سلف في رقم5 من ص 159، ورقم 8 من ص وهامشها.
2 بعضها في ص161 وفي هامش تلك الصفحة تفصيلات هامة، أما الداعي إلى ملاحظة حرف الجر المحذوف، واعتباره كالموجود فهو المحافظة على سلام المعنى، أو على صحة التركيب.
3 ص 528.
4 ص 163، وقلنا هناك: إن الباء الجارة التي بعد صيغة "أفعل" في التعجب يجوز حذفها إن كان المجرور بها مصدرَا مؤولًا من "أن والجملة الفعلية بعدها".
لكن النحاة لا يجيزون حذفها بعد تلك الصيغة إن كان المصدر مؤولًا من "أن" ومعموليها، ولا داعي لهذه التفرقة في مسألة التعجب؛ لأن حذف الجار مطرد قبل أن وأن.
وإذا حذفت الباء في التعجب أتقدر أم لا تقدر؟ رأيان كما أشرنا في ج 3 باب التعجب م 109 ص 272.(2/532)
3- أن يكون حرف الجر حرفا من حروف القسم، والاسم المجرور به هو لفظ الجلالة "الله"، نحو: الله لأكثرن من العمل النافع، أي: بالله1 ...
4- أن يكون حرف الجر داخلا على تمييز "كم" الاستفهامية، بشرط أن تكون مجرورة بحرف جر مذكرو قبلها؛ نحو: بكم درهم اشتريت كتابك؟ أي: بكم من درهم2؟ . . .
5- أن يكون حرف الجر مع مجروره واقعين في جواب سؤال، وهذا السؤال مشتمل على نظير لحرف الجر المحذوف؛ كأن يقال: في أي بلد قضيت الأمس؟ فيجاب: القاهرة، أي: في القاهرة.
6- أن يكون حرف الجر واقعًا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف، بغير فاصل بين الحرفين، والمعطوف عليه مشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف؛ كقولهم: "ألا تفكر في تركيب جسمك لترى قدرة الله العجيبة، والسماوات؛ لترى ما يحير العقول، وخواص المادة؛ لترى الإبداع والإعجاز. . ." أي: في السماوات وفي خواص المادة؛. . . وقد حذف الحرف: "في"؛ لأنه مع مجروره معطوف بالواو بغير فاصل بينهما، والمعطوف عليه وهو: "تركيب" مشتمل على حرف جر قبله؛ مماثل للمحذوف3.
__________
1 طبقًا للرأي الأرجح، وهو رأي سيبويه، ومن معه، "كما سبقت الإشارة لهذا في رقم 15 من ص 197"، وفي: "هـ" من ص 502.
2 هذا هو الراجح، وهناك رأي آخر يقول: إن "كم" الاستفهامية مضافة إلى تمييزها، أما تمييز "كم" الخبرية، فالمشهور أن المضاف إليه وهي المضاف، وقيل: إنه
مجرور بـ"من" محذوفة كما سيأتي في ج4 باب: "كم".
3 وليس من هذا النوع بيت ابن مالك في باب: "المعرب والمبني" وهو:
فارفع بضم، وانصبن فتحًا، وجر ... كسرًا: كذكر الله عبده يسر
فأصل الكلام: ارفع بضم، وانصبن بفتح، وجر بكسر؛ فحذف حرف الجر وهو الباء ونصب الاسم المجرور به على ما يسمى: "نزع الخافض، وقد أوضحناه، لوجود فاصل ممنوع، "وقد سبق الكلام عليه في هذا الجزء، في باب: تعدية الفعل ولزومه، ص 159 وهامش ص 171، كما سبق الكلام على البيت السابق، وفي ج 1 ص 68 م 7"، وليس من الجائز في البيت أن يبقى الاسمان فتح، وكسر مجرورين بعد حذف حرف الجر كما كانا قبل حذفه.(2/533)
7- أن يكون حرف الجر واقعًا هو والاسم المجرور به بعد حرف عطف، والمعطوف عليه مشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف مع وجود "لا" فاصلة بين حرف العطف وحرف الجر المحذوف؛ نحو: ما للفتى سلاح إلا علمه النافع، ولا لفتاة إلا فنها العملي الملائم، أي: ولا للفتاة.
8- أن يكون حرف الجر السابق ولكن الحرف الفاصل هو: "لو"؛ كقولهم: من تعود الاعتماد على غيره، ولو أهله، فقد استحق الخيبة والإخفاق، أي: ولو على أهله1. . .
9- أن يكون حرف الجر واقعًا هو ومجروره في سؤال بالهمزة، وهذا السؤال ناشئ من كلام مشتمل على نظير للحرف المحذوف؛ كأن يقال: أعجبت بمحمود، فيسأل القائل: أمحمود النجار؟ أي: أبمحمود النجار؟.
10- أن يكون حرف الجر ومجروره واقعين بعد "هلا" التي للتحضيض بشرط أن يكون التحضيض واردًا بعد كلام مشتمل على مثيل لحرف الجر المحذوف؛ كأن يقال: سأتصدق بدرهم، فيقال: هلا دينارٍ، أي: بدينارٍ، والمراد: هلا تتصدق بدينار.
11- أن يكون حرف الجر هو: "لام التعليل" الداخلة على: "كي" المصدرية؛ نحو: يجيد الصانع صناعته كي يقبل الناس عليه، أي: لكي يقبل الناس عليه، بمعنى: لإقبالهم عليه.
12- أن يكون حرف الجر داخلًا على المعطوف على خبر "ليس"، أو خبر "ما" الحجازية، بشرط أن يكون كل منهما صالحًا لدخول حرف الجر عليه2؛ نحو: لست مرجعًا فرصة ضاعت، ولا قادر على ردها، فكلمة "قادر" مجرورة؛ لأنها معطوفة على خبر ليس: "مرجعًا"، وهذا الخبر يجوز جره بالباء، فيقال: لست بمرجع، فكأنها موجودة توهمًا وتخيلًا، وعلى أساس هذا الجواز الموهوم عطفنا عليه بالجر؛ وهذا هو العطف الذي يسميه النحاة؛ "العطف على
__________
1 والذي يوجب تقدير حرف الجر هنا اختصاص "لو" بالدخول على الجمل، لا على المفردات، والأصل: ولو كان الاعتماد على أهله.
2 بأن يكون خبرهما اسمًا، وأن يكون النفي المنصب عليه باقيًا، لم ينتقض بإلا ... على الوجه الذي سبق في بابهما، ج 1 ص 452 المسألة: 49 وما بعدها.(2/534)
التوهم"، وقد سبق1 إبداء الرأي فيه تفصيلًا، وأنه لا يصح الالتجاء إليه، ولا القياس على ما ورد منه.
13- أن يكون حرف الجر مسبوقًا "بإن" الشرطية، وقبلهما كلام يشتمل على مثيل للحرف المحذوف، نحو: سلم على من تختاره، إن محمد، وإن علي؛ وإن حامد، التقدير: إن شئت فسلم على محمد، وإن شئت فسلم على علي، وإن شئت فسلم على حامد، وبالرغم من جواز هذا فالمحذوف فيه كثير، والمراد قد يخفى، فمن المستحسن عند محاكاته قدر الاستطاعة.
14- أن يكون حرف الجر مسبوقًا بفاء الجزاء الواقعة في جواب شرط، قبله نظير لحرف الجر المحذوف؛ نحو: اعتزمت على رحلة طويلة؛ إن لم تكن طويلة فقصيرة، أي: فعلى رحلة قصيرة، ويقال في هذا الموضع ما قيل في سابقه من ترك القياس عليه قدر الاستطاعة، بالرغم من صحة القياس.
هذا، وجميع التأويلات والتقديرات السابقة جائزة وليست محتومة؛ بل إن الكثير منها يجوز فيه أوجه إعرابية أخرى؛ قد تكون أيسر، والمعنى عليها أوضح. واختيار هذه أو تلك متروك لمقدرة المتكلم والسامع، وخبرتهما بدرجات الكلام قوة، وضعفًا، وحسنًا، وقبحًا، مع التزام الصحة التزامًا دقيقًا، والبعد عن الخطأ في كل حالة، ومن الخير أن نترك ما فيه غموض وإلباس إلى ما لا خفاء فيه ولا إبهام؛ لأن اللغة ليست تعمية وإلغازًا، وإلا فقدت خاصتها، وعجزت عن أداء مهمتها، وهذا أساس يتحتم مراعاته عند استخدامها، وفي كل شأن من شؤونها.
تلك مواضع حذف حرف الجر حذفًا قياسيًا مطردًا مع إبقاء عمله، وهناك أمثلة مسموعة وقع الحذف فيها مخالفًا ما سبق، ولا شأن لنا بها؛ فهي مقصورة على السماع؛ لا يجوز محاكاتها، لعدم اطرادها2.
__________
1 في ص 348 عند الكلام على "غير" الاستثنائية، وفي رقم3 من هامش ص 336 ج 1 ص 454 م 49.
2 وفيما سبق من حذف الجار، وإبقاء عمله ومشابهته "رب" في هذا، وفي أن حذفه قد يكون مطردًا أو غير مطرد، يقول ابن مالك:
وقد يجر بسوى: "رب" لدى ... حذف، وبعضه يرى مطردًا
أي: أن حروفًا غير "رب" قد تجر الاسم بعدها مع حذفها، وأن بعض حالات الحذف والجر قد يكون مطردًا.(2/535)
أما حذف الجار والمجرور معًا1 فجائز إذا لم يتعلق الغرض بذكرهما، بشرط وجود قرينة تعينهما، وتعين مكانهما، وتمنع اللبس، ومن الأمثلة قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} ، أي: لا تجزي فيه2. . .
__________
1 أما حذف الجار وحده وإبقاء مجروره وما يترتب على ذلك من أحكام، فقد سبق تفصيل الكلام عليه في ص 159.
2 وفي المصباح المنير، مادة: "حجر" ما نصه:
"حجر عليه حجرًا من باب: قتل منعه التصرف؛ فهو محجور عليه: والفقهاء "يحذفون الصلة "أي: الجار مع مجروره" تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، ويقولون: "محجور"، وهو سائغ. ا. هـ.
ويقول في مادة: "ندب" ما نصه:
"ندبته إلى الأمر ندبًا من باب: قتل دعوته، والفاعل: نادب، والمفعول: مندوب، و"الأمر" مندوب إليه، والاسم: الندبة، مثل غرفة، ومنه: "المندوب" في الشرع، والأصل: المندوب إليه، لكن حذفت الصلة منه "يريد الجار مع مجروره" لفهم المعنى. ا. هـ، ومثل ما سبق قول النحاة: "الجملة المعترضة"، حين يفتحون الراء يريدون كما نصوا على هذا: "المعترض بها".(2/536)
المسألة92:
و نيابة حرف جر عن آخر. . .1
يتردد بين النحاة: "أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض 1. . ."، فيتوهم من لا دراية له أن المراد هو: "جواز وضع حرف جر مكان آخر بغير ضابط، ولا توقف على اشتراك بينهما في تأدية معنى معين، ولا تشابه مقيد في الدلالة". وهذا ضرب من الفهم المتغلغل في الخطأ2؛ إذ يؤدي إلى إفساد المعاني، والقضاء على الغرض من اللغة.
أما حقيقة الأمر في نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، فتتلخص في مذهبين:
الأول:3 أنه ليس لحرف الجر إلا معنى واحد أصلي يؤديه على سبيل الحقيقية لا المجاز؛ فالحرف: "في" يؤدي معنى واحدًا حقيقيًا هو "الظرفية"، والحرف: "على" يؤدي معنى واحدًا حقيقيًا هو: "الاستعلاء"، والحرف: "من" يؤدي: "الابتداء"، والحرف: "إلى" يؤدي: "الانتهاء". . . و. . . وهكذا3. . . فإن أدى الحرف معنى آخر غير المعنى الواحد الأصلي الخاص به
__________
1 و 1 وقد يعبرون عنها أحيانًا بقولهم: "بدل حرف جر من آخر"، كما في عبارة "المبرد" التي في رقم1 من هامش ص 540، والمراد من العبارتين وأشباههما هو: وضع حرف جر مكان آخر: أي: استبدال واحد بغيره من تلك الحروف.
2 جاء في "المغني" جـ2 الباب: السادس، في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين، والصواب خلافها، ما نصه في الأمر الثالث عشر:
"قولهم: ينوب بعض حروف الجر عن بعض، وهذا أيضًا مما يتداولونه ويستدلون به. . .، وتصحيحه يكون بإدخال: "قد" على قولهم: "ينوب"؛ وحينئذ يتعذر استدلالهم به؛ إذ كان موضع ادعوا فيه ذلك يقال لهم فيه: "لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة"، ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم، على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه، وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف: لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف". ا. هـ، وسيجيء الرأي البصري كاملًا مع غيره هنا.
3 و 3 وهو مذهب البصريين، وفيه يقول الهمع جـ2 الكتاب الثالث؛ باب حروف الجر، عند الكلام على الحرف "من" ما نصه: "تنبيه، علم مما حكى عن البصريين في هذه الأحرف من الاقتصار على معنى واحد لكل حرف أن مذهبهم أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عن بعض بقياس؛ كما أن أحرف الجزم كذلك. . . و. . .". ا. هـ، وأما الثاني فمذهب الكوفيين، والكلام عليه في ص 540 و 542.(2/537)
وجب القول: بأنه يؤدي المعنى الآخر الجديد إما تأدية "مجازية" "أي: من طريق المجاز1، لا الحقيقية"، وإما تأدية، "تضمينية"2 "أي: بتضمن الفعل، أو: العامل الذي يتعلق به حرف الجر الأصلي3 ومجروره، معنى فعل أو عامل آخر يتعدى بهذا الحرف"، فحرف الجر مقصور على تأدية معنى حقيقي واحد يختص به، ولا يؤدي غيره إلا من طريق "المجاز" في هذا الحرف، أو من طريق "التضمين" في العامل الذي يتعلق به الجار الأصلي3 مع مجروره.
فمن الأمثلة للمجاز: الحرف الأصلي "في"؛ فمعناه الحقيقي: "الظرفية" "أي: الدلالة على أن شيئًا يحوي بين جوانبه شيئًا آخر. . . و. . . كما سبق4، فإذا قلنا: "الماء في الكوب"، فهمنا أن الكوب يحوي بين جوانبه الماء؛ فيكون الحرف "في" مستعلًا في تأدية معناه الحقيقي الأصيل، ولكن إذا قلنا: "غرد الطائر في الغصن. . ."، لم نفهم أن الغصن يحوي في داخله وبين جوانبه الطائر المغرد؛ لاستحالة هذا، وإنما نفهم أنه كان على الغصن وفوقه، لا بين ثناياه. فالحرف: "في" قد أدى معنى ليس بمعناه الحقيقي الأصيل، فالمعنى الجديد؛ وهو: "الفوقية"، أو"الاستعلاء" إنما يؤديه حرف آخر مختص بتأديته، هو: "على" فلو راعينا الاختصاص وحده لقلنا: غرد الطائر على الغصن، فالحرف: "في" قد أدى معنى ليس من اختصاصه، بل هو من اختصاص غيره، وهذه التأدية ليست على سبيل الحقيقية، وإنما هي على سبيل المجاز، واجتمع للحرف: "في" الشرطان اللذان لا بد من تحققهما لصحة استعمال المجاز5، فالظرفية بما تقتضيه من تمكن وثبات شبيهة بالاستعلاء الذي يقتضي التمكن والثبات أيضًا؛ فاستعملنا "الظرفية" مكان الحرف لدال على "الاستعلاء"؛
__________
1 وفي هذه الحالة يجب أن يتحقق للمجاز ركناه الأساسيان؛ وهما؛ العلاقة، والقرينة، انظر معناهما في رقم5 من هذا الهامش. . .
2 سبق شرح "التضمين" في هذا الجزء ص168 من باب: تعدية الفعل ولزومه"، ولأهميته سجلنا له بحثًا خاصًا مستقلًا آخر هذا الجزء ص 564، وبعدها رأيي الخاص في: "التضمين".
3 و 3 وملحقه.
4 الكلام عليه في ص 507.
5 هما: "العلاقة أي: الصلة بين المعنى المنقول منه والمعنى المنقول إليه"، "والقرينة التي تصرف الذهن عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي الجديد".(2/538)
تبعًا لذلك، وكل هذا على سبيل "الاستعارة"؛ وهي نوع من المجاز، والقرينة الدالة على أنه مجاز "أي: على أن الحرف: "في" مستعمل في غير معناه الأصلي" وجود الفعل: "غرد"؛ إذ لا يقع التغريد في داخل الغصن؛ وإنما يكون فوقه، فهذه القرينة هي المانعة من إرادة المعنى الأصلي.
ومن الأمثلة: للمجاز أيضًا: "على": فهو حرف جر يقتصر عند أصحاب هذا الرأي على معنى حقيقي واحد؛ هو: "الاستعلاء"، فإذا قلنا: "الكتاب على المكتب"، فهمنا هذا المعنى الحقيقي الدال على أن شيئًا معينًا فوق آخر، فالحرف مستعمل في معناه الأصيل، لكن إذا قلنا: "اشكر المحسن على إحسانه"، لم تفهم الاستعلاء الحقيقي، ولم يرد على خاطرنا أن الشكر قد حل واستقر فوق الإحسان؛ لاستحالة هذا، وإنما الذي يخطر ببالنا هو أن المراد: "اشكر المحسن لإحسانه"؛ فالحرف: "على" قد جاء في مكان: "اللام" التي معناها: "السببية"، أو"التعليل"، فأفاد ما تفيد اللام، ولكن إفادته على سبيل "الاستعارة" وهي نوع من المجاز؛ ذلك أن لام التعليل تفيد التمكن والاتصال القوي بين السبب والمسبب، أو بين العلة والمعلول؛ والاستعلاء يشبهها في أنه يفيد التمكن والاتصال بين الشيئين؛ فهذا التشابه صح استعمال الاستعلاء مجازًا، مكان السببية والتعليل، وتبع ذلك استعمال الحرف الدال على الاستعلاء مكان الحرف الدال على السببية، والقرينة الدالة على أن الحرف: "على" مستعمل في غير حقيقته وجود الفعل: "شكر" إذ لا يستقر الشكر فوق الإحسان، ولا يوضع فوقه وضعًا حقيقيًا، لاستحالة هذا، كما سبق.
ومثل ما سبق يقال في بقية حروف الجر يؤدي الواحد منها معنيين أو أكثر.
أما أمثلة التضمين1 في العامل فمنها قول بعض الأدباء: "نأيت من صحبة فلان بعد أن سقاني بمر فعاله"، والأصل: "نأيت عن صحبة فلان، بعد أن
__________
1 بعض الأمثلة السابقة صالح "للتضمين في الفعل مع بقاء حرف الجر على معناه الحقيقي"، وكذا نظائرها.(2/539)
سقاني من مر فعاله"، ولكنه ضمن الفعل: "نأي" الذي لا يتعدى هنا بالحرف "من" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "بعد، أو: "ضجر"؛ فالمراد: بعدت، أو: ضجرت من صحبة فلان، كما ضمن الفعل: "سقى" الذي لا يتعدى هنا "بالباء" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "آذى"، أو"تناول" فالمراد: "آذاني" أو: "تناولني" بمر فعاله، وكذلك: "شربت بماء عذب"؛ فإن الفعل "شرب" قد ضمن معنى الفعل: "روي" فالأصل: رويت، وهكذا بقية حروف الجر.
والمذهب الثاني1: أن قصر حرف الجر على معنى حقيقي واحد، تعسف وتحكم لا مسوغ له، فما الحرف إلا كلمة، كسائر الكلمات الاسمية والفعلية، وهذه الكلمات الاسمية والفعلية تؤدي الواحدة منها عدة معان حقيقية2، لا مجازية، ولا يتوقف العقل في فهم دلالتها الحقيقية فهمًا سريعًا، فما الداعي لإخراج الحرف من أمر يدخل فيه غيره من الكلمات الأخرى، ولإبعاده عما يجري على نظائره من باقي الأقسام؟
إنه نظيرها؛ فإذا اشتهر معناه اللغوي الحقيقي، وشاعت دلالته، بحيث يفهمها السامع بغير غموض، كان المعنى حقيقيًا لا مجازيًا، وكانت هذه الدلالة أصيلة لا علاقة لها بالمجاز، ولا بالتضمين ولا بغيرهما، فالأساس الذي يعتمد عليه هذا المذهب في الحكم على معنى الحرف بالحقيقية هو شهرة المعنى اللغوي الأصلي المراد وشيوعه،
__________
1 وهو مذهب الكوفيين، كما يصرح كثير من النحاة والحق أنه ليس مقصورًا عليهم؛ بل يشاركهم فيه بعض أئمة النحاة من غيرهم؛ كالمبرد وهو بصري، فقد جاء في كتابه الكامل "جـ 3 ص 46 طبعة مطبعة الفتوح، عند شرحه لبيت أبي النجم الذي صدره: "سبي الحماة، وابهتى عليها". . . "وقد سبق البيت لمناسبة أخرى في هامش ص 476"، ما نصه:
"حروف الخفض، يريد: حروف الجر، يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى، في بعض المواضع؛ قال الله عز وجل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: على، وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: بأمر الله:. . .، وقال العامري: "إذا رضيت علي بنو قشير. .." أي: عني، وهذا كثير جدًا". ا. هـ.
ففي تلك الأمثلة ونظائرها أبدل حرف جر من آخر بمعناه، أي حل في مكانه.
2 والمراد هنا ما يشمل: "الحقيقة، اللغوية الأصلية، والحقيقة العرفية".(2/540)
بحيث يتبادر ويتضح سريعًا عند السامع؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقيقة، وإن من يسمع قول القائل: "كانت في الصحراء، ونفد ما معي من الماء، وكدت أموت من الظمأ، حتى صادفت بئرًا شربت من مائها العذب ما حفظ حياتي التي تعرضت للخطر من يومين. . ."، سيدرك سريعًا معنى الحرف: "من" وقد تكرر في هذا الكلام بمعان لغوية مختلفة: أولها: بيان الجنس، وثانيها: السببية، وثالثها: البعضية، ورابعها: الابتداء. . . و. . .
كذلك من يسمع قول القائل: "إني بصير في الغناء: يستهويني، ويملك مشاعري إذا كان لحنه شجيًا، وعبارته رصينة؛ كالأبيات التي مطلعها:
رب ورقاء هتوف في الضحا ... ذات شجو صدحت في فنن
.................................... ...
فإن المعاني اللغوية المقصودة من الحرف: "في" ستبتدر إلى ذهنه، فالأول: للإلصاق، والثاني: للظرفية، والثالث: للاستعلاء، وكل واحد من المعاني السالفة يقفز إلى الذهن سريعًا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته، وهذا علامة الحقيقة1، كما سبق.
فإذا كان المعنى المراد هو من الشيوع، والوضوح وسرعة الورود على الخاطر بالصورة التي ذكرناها، ففيم المجاز أو التضمين أو غيرهما؟ إن المجاز أو التضمين أو نحوهما يقبلان، بل يتحتمان حين لا يبتدر المغني المراد إلى الذهن، ولا يسارع الذهن إلى التقاطه؛ بسبب عدم شيوعه شيوعًا يجعله واضحًا جليًا، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تكفي لكشف دلالته في يسر وجلاء، أما إذا شاع واشتهر وتكشف للذهن سريعًا، فإن هذا يكون علامة الحقيقية1 كما قلنا فلا داعي للعدول عنها، ولا عن قبولها براحة واطمئنان2.
وهذا رأي نفيس أشار بالأخذ به والاقتصار عليه كثير من المحققين3.
__________
1و 1 سواء أكانت حقيقة لغوية أصلية أم عرفية، كما سبق، في رقم2 من هامش الصفحة المتقدمة.
2 انظر الزيادة والتفصيل في الصفحة التالية.
3 كصاحبي: المغني، والتصريح، وكالصبان، والخضري في باب: "حروف الجر" عند الكلام على الحرف: "من" وشرح بيت ابن مالك الي أوله:
"بعض، وبين، وابتدئ في الأمكنة. . ."
فقد وصفوا المذهب الثاني وهو المذهب "الكوفي" بأنه أقل تكلفًا وتعسفًا. ويشاركهم فيه صاحب "الهمع طبقًا للبيان الذي سبق في رقم3 من هامش ص 537، وكما في ص540".
وفي الأخذ به تيسير، ووضوح، وابتعاد عما يكون في المجاز، ومنه الاستعارة أحيانًا من تعقيد والتواء.(2/541)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
لا شك أن المذهب الثاني1 نفيس كما سبق؛ فمن الأنسب الاكتفاء به؛ لأنه عملي سهل، بغير إساءة لغوية، وبعيد من الالتجاء إلى المجاز، والتأويل، ونحوهما من غير داع؛ فلا غرابة في أن يؤدي الحرف الواحد عدة معان مختلفة، وكلها حقيقي2 كما قلنا، ولا غرابة أيضًا في اشتراك عدد من الحروف في تأدية معنى واحد؛ لأن هذا كثير في اللغة، ويسمى: المشترك اللفظي3.
__________
1 وهو الذي اشتهر بنسبته للكوفيين مع أن لهم فيه شركاء آخرين كما أسلفنا في رقم1 من هامش ص 540.
2 سواء أكانت الحقيقة لغوية أم عرفية كما سبق في رقم2 من هامش ص 540.
3 الحق أنه لا سبيل للحكم على معنى من معاني المشترك اللفظي بأنه "مجازي"، أو أن في عامله "تضمينًا"؛ لأن هذا يقتضينا أن نعرف المعنى الأصلي الذي وضع له اللفظ أولًا، واستعمل فيه، ثم انتقل منه بعد ذلك إلى غيره من طريق "المجاز أو التضمين"، أي: أنه لا بد من معرفة أقدم المعنيين في الاستعمال؛ ليكون هذا الأقدم هو الأصلي، ويكون المتأخر عنه وهو الحادث مجازًا أو تضمينًا، وهذا أمر لم يتحقق حتى اليوم في أكثر المعاني التي يؤديها كل حرف من حروف الجر، وهي معان مرددة في أفصح الكلام العربي قرآنًا وغير قرآن، ولا سبيل للحكم القاطع بأن معنى معينًا منها أسبق في الاستعمال في معنى آخر، وإذا لا سبيل للحكم الوثيق بأن واحدًا من تلك المعاني هو وحده الحقيقي، وأن ما عداه هو "المجازي أو التضميني"، بل إن هذا يلاحظ في كل معنى مجازي آخر يجري في غير الحرف، ولا يقال: إن المعنى الحسي أسبق في الغالب وجودًا من العقل المحض؛ لا يقال هذا؛ لأنه لا يصدق على حالات متعددة، وفوق هذا أيضًا يكاد يكون الحك بالأسبقية مستحيلًا إذا كان المدلولان عقليين معًا "أي: غير حسيين".
وقد رأى أحد المستشرقين ضرورة وضع معجم خاص يوضح أقدمية الكلمات في استعمالها، وتاريخ ميلادها؛ ليمكن القطع بعد هذا بالمعاني الحقيقية والمجازية وتجرد لهذه المهمة، ولكن منيته عاجلته في أول مراحل العمل.(2/542)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهناك سبب آخر يؤيد أصحاب هذا المذهب الثاني؛ هو أن الباحثين متفقون على أن المجاز إذا اشتهر معناه في زمن ما، وشاع بين الناطقين به، انتقل هذا المجاز إلى نوع جديد آخر يسمى: "الحقيقة العرفية"، "ولها بحث مستفيض في مكانها من أبواب علم البلاغة"، ومن أشهر أحكامها: أنها في أصلها مجاز قائم على ركنين أساسيين: علاقة بين "المشبه والمشبه به"، و"قرينة"، تمنع من إرادة المعنى الأصلي، فإذا اشتهر المجاز في عصر أي عصر1، وشاع استعماله مع وضوح المراد منه، تناسى الناس أصله، واختفى ركناه، واستغني عنهما وعن اسمه، ودخل في عداد نوع جديد يخالفه، يسمى: "الحقيقة العرفية" فلو سلمنا أن حرف الجر لا يؤدي إلا معنى واحدًا أصليًا، وأن ما زاد عليه ليس بأصلي، لكان بعد اشتهاره وشيوعه في المعنى الجديد داخلًا في الحقيقة العرفية، وهي ليست بمجاز في صورتها الحالية الواقعة، لا في الصورة السابقة، المتروكة نهائيًا، المنسية كأن لم تكن.
__________
1 ولو كان من غير عصور الاحتجاج.(2/543)
بحث مستقل في "مذ" و"منذ" من الوجهتين اللفظية، والمعنوية 1:
قال الباحث:
طالما أنعمت النظر في هاتين الكلمتين، ورجعت إلى ما دونه فيهما النحاة واللغويون، فكنت أجد أحيانًا عنتًا ومشقة في استخلاص حكم، أو تلخيص خلاف، أو دفع إشكال، ذلك بأن هذه المادة مبعثرة في الكتب قديمها وحديثها؛ فما في هذا ليس في ذاك، مع كثرة الآراء واشتداد الخلاف، وتباين التفسيرات والشروح.
فما زلت في مراجعة وبحث، حتى اجتمع لي من ذلك فصل صالح، حاولت أن أذلل فيه ما استصعب، وأن أشرح ما خفي، بالموازنة والترجيح.
ولا أدعي أني أحطت بالموضوع جميعه؛ فهذا ما لا سبيل إليه في وجيز كهذا. ولكنني أرجو أن أكون قد عبدت الطريق، ومهدت السبيل للباحثين والمستفيدين، فأقول:
أ- يقع مذ ومنذ2 اسمين:
__________
1 هذا بحث واف، سبق في ص 299 و 520 أن وعدنا بتسجيله آخر هذا الجزء؛ لعظيم أثره لدى المتخصصين، وليكون لكبار الطلاب تدريبًا على البحث، والتحقيق، والتمحيص، وقد جمع أكثر المفرق من مسائل "مذ ومنذ" وأحكامهما، وتميز بآراء صائبة استقل بها صاحبه، وإن كان بعضها مختلطًا، أو مفتقرًا لمزيد تحقيق، أو قوة استدلال تحمل على الإقناع، وقد نقلناه كاملًا بشروحه وهوامشه، وربما أبدينا تعليقًا على بعضها عن الجزء الثالث من مجلة المجمع اللغوي القاهري، "ص 354 وما بعدها" حيث سجلته لعضو جليل من أعضاء المجمع السابقين، هو: الأستاذ أحمد العوامري، رحمة الله عليه.
2 قال في الهمع: وكسر ميمها لغة. ا. هـ، وفي الخضري؛ والراجح أن أصل "مذ": "منذ"، حذفت النون تخفيفًا؛ بدليل ضمها لملاقاة ساكن، كمذ اليوم. ولولا هذا لكسرت في أصل التخلص، وبعضهم بضمها بلا ساكن أصيلًا. ا. هـ.(2/544)
1- إن كان ما بعدها اسمًا مرفوعًا، معرفة، أو نكرة معدودة لفظًا، أو معنى كما سيأتي.
2- أو كان ما بعدها فعلًا ماضيًا1.
3- أو كان ما بعدها جملة اسمية.
فالحالة الأولى "وفيها الأسماء المرفوعة نكرة معدودة"، نحو: ما رأيته مذ أو منذ يومان، أو عشرة أيام، أو خمسة عشر يومًا، أو عشرون يومًا، أو مائة يوم، أو ألف يوم، أو ألفا يوم، أو سنة، أو شهر أو يوم2.
ومثال المعرفة ما رأيته مذ أو منذ يوم الجمعة.
فمذ أو منذ اسم مبتدأ3، والخبر واجب التأخير معهما، وجوز بعضهم أن يكونا خبرين لما بعدهما.
__________
1 فلا يجوز: مذ يقوم؛ لأن عاملهما لا يكون إلا ماضيًا، فلا يجتمع مع المستقبل. ا. هـ، صبان.
2 على أن يكون اليوم هو الفلكي المقسم ساعات، لا الوقت من طلوع الشمس إلى غروبها، كما سنفصله.
3 قال الخضري عند قول ابن عقيل: "فمذ اسم مبتدأ إلخ" ما يأتي: وسوغه كونها معرفة في المعنى؛ لأنها إن كان الزمان ماضيًا، كما في المثال الأول "وهو قول ابن عقيل: ما رأيته مذ يوم الجمعة"، فمعناها: أول مدة عدم الرؤية كذا، وإن كان حاضرًا، كما في المثال الثاني "وهو قول ابن عقيل: ما رأيته مذ شهرنا، "وهو ما خالف فيه أكثر العرب، كما سيمر بك"، أو كان معدودًا كما رأيته: "مذ يومان"، فمعناه نفي المدة، أي: مدة عام الرؤية شهرنا، أو يومان. ا. هـ.
وفي تأويل خبريتهما كلام كثير وتكلف لا يعنينا وفي الصحاح: ويصلح أن يكونا اسمين، فترفع ما بعدهما على التاريخ، أو على التوقيت، فتقول في التاريخ: ما رأيته مذ يوم الجمعة، أي: أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة، وتقول في التوقيت: ما رأيته مذ سنة، أي: أمد ذلك سنة، ولا تقع ها هنا إلا نكرة؛ لأنك لا تقول: مذ سنة كذا. ا. هـ.
وقوله: "ولا تقع ههنا إلا نكرة"، يريد بقوله: "ههنا" حالة إرادة التوقيت؛ لأنك لو قلت مثلًا: "مذ أو منذ عشرين للهجرة"، فمعناه ما قرر الجوهري: أمد ذلك سنة عشرين للهجرة، وهو لغو.
أقول: ولا أرى ما يمنع أن ندخل نحو هذا المثال في باب "التاريخ"، فيكون معنى "ما حصل كذا مذ أو منذ عشرين للهجرة، مثلًا": أول انقطاع الحصول سنة عشرين للهجرة.
ولم يفرق "القاموس" بين التاريخ والتوقيت، فقال: أرخ الكتاب، وأرخه، وآرخه: وقته. ا. هـ، وفي شرحه للزبيدي: وقال الصولي: تاريخ كل شيء غايته ووقته الذي ينتهي إليه، ومنه قيل: فلان تاريخ قومه، أي: إليه ينتهي شرفهم، ورياستهم. ا. هـ.
وقال في المصباح: "الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما، وكل شيء قدرت له حينًا فقد وقته توقيتًا. ا. هـ.
فعلى تعريف الصولي للتاريخ، وتعريف المصباح للتوقيت يتضح المقام في التفرقة بينهما.(2/545)
والحالة الثانية، نحو: ركب أخي مذ أو منذ حضرت السيارة، فمذ أو منذ اسم منصوب المحل على الظرفية، والعامل فيه "ركب"، وهو مضاف إلى الجملة بعده، وهذا هو المشهور، وقيل: هما مبتدآن1.
والحالة الثالثة نحو:
فما زلت أبغي الخير مذ أنا يافع ... وليدًا وكهلًا حيث شبت، وأمردا
فمذ هنا ظرف لمضمون ما قبله، ومضاف إلى الجملة بعده، على المشهور.
ب- وتقعان حرفين2.
1- بمعنى: "من" الابتدائية، إن كان المجرور ماضيًا معرفة؛ نحو: ما قابلت صديقي مذ أو منذ يوم الأربعاء، أي: من يوم الأربعاء3.
2- بمعنى: "في"، إن كان المجرور حاضرًا معرفة، نحو ما قرأت مذ أو منذ اليوم، أو عامنا، أو شهرنا، أو أسبوعنا أو منذ هذا الأسبوع أو هذا الشهر، أو هذه السنة، مثلًا ولا يجوز في الحاضر بعدها إلا الجر عند أكثر العرب.
__________
1 وكذا قيل في الحالة الثالثة الآتية أيضًا: قال الخضري: والجملة بعدهما خبر، بتقدير زمن مضاف إليها "أي: إلى الجملة"، والتقدير في: "جئت مذ دعا" وقت المجيء هو زمن دعائه، وفي البيت المار، "فما زلت أبغي الخير إلخ": أول وقت طلبي الخير هو وقت كوني يافعًا: فجملة مذ إلخ مستأنفة كما مر. ا. هـ.
2 قال في الهمع: ومذ ومنذ لا يجران إلا الظاهر من اسم الزمان أو المصدر. . . وأجاز المبرد أن يجرا مضمر الزمان؛ نحو: يوم الخميس ما رأيته منذه، أو مذه. ورد بأن العرب لم تقله. ا. هـ.
وكونهما حرفين في هذه الأحوال الثلاثة هو مذهب الجمهور، وقيل: هما ظرفان في موضع نصيب بالفعل قبلهما ورد هذا المذهب بما لا محل له هنا.
3 قال في الهمع: ويجوز وقوع المصدر بعدهما، نحو: ما رأيته مذ قوم زيد، بالرفع والجر، وهو على تقدير حذف زمان، أي: مذ زمن قدوم زيد، ويجوز وقوع "أن" وصلتها بعدهما، نحو: ما رأيته مذ أن الله خلقني، فيحكم على موضعها بما حكم به للفظ المصدر، من رفع أو جر، وهو على تقدير زمان أيضًا. ا. هـ، قال الشاطبي: أما إن كسرت "أي: إن" فالاسمية متعينة. ا. هـ.
"وقد سبقت الإشارة لهذا في رقم4 من هامش ص519 وفي ص521".(2/546)
3- بمعنى: "من وإلى" معًا، فيدخلان على الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه، ويشترط حينئذ.
أولًا: أن يكون الزمان نكرة، معدودًا لفظًا؛ كمذ يومين.
ثانيًا: أو أن يكون معدودًا معنى: كمذ شهر.
لأنهما لا يجران المبهم، أي: ما عملت كذا من ابتداء هذه المدة إلى انتهائها، وعما عملت كذا من ابتداء شهر إلى انتهائه.
والمراد بالمبهم هنا: الوقت النكرة غير المعدودة لفظًا أو معنى، نحو: "برهة" ولا ينافيه قول زهير بن أبي سلمى:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين مذ جحج ومذ دهر1
لأن الدهر متعدد في المعنى2.
ويأتون بهذا البيت أيضًا شاهدًا على قلة الجر بعد "مذ" في الماضي، أما "منذ" فما بعده يترجح جره في الماضي3.
__________
1 المراد بالحجر: حجر ثمود، وقوله: أقوين، أي: خلون.
2 نقلنا هذا التعليل عن الصبان؛ وهو أيضًا في غيره من كتب المتقدمين.
3 ما قاله الباحث هنا في تعريف: "الظرف المبهم" لا يشمل أنواعًا كثيرة نص عليها النحاة في تعريفهم الدقيق، الذي عرضناه في رقم2 من هامش ص252، وبه تزول بعض الشبهات التي اعترضت الباحث.(2/547)
تنبيهات وإيضاحات:
أ- قد رأيت في الأحوال الثلاث التي يقع فيها مذ ومنذ حرفين.
1- أن المجرور وقت1.
2- وأن هذا الوقت متصرف2.
__________
1 ما يسأل به عن الوقت كالوقت، بشرط أن يكون مما يستعمل ظرفًا، فتقول: مذ كم؟ ومنذ متى؟ ومنذ أي وقت؟ ولا تقول: منذ ما؛ لأن "ما" لا تكون ظرفًا. ا. هـ، صبان.
أي: فتقول مثلًا: "ا" منذ كم يومًا ركبت البحر؟ كما يجوز أن تقول: منذ كم ركبت البحر، بحذف التمييز للعلم به، وفي حالة ذكر التمييز هنا يجوز نصبه وجره بمن مضمرة، وقال في الهمع عند الكلام على وقوع الاسم مجرورًا بعدهما ما يلي: "والجمهور على أنهما حينئذ حرف جر، لإيصالهما الفعل إلى "كم" كما يوصل حرف الجر، تقول: منذ كم سرت، كما تقول: بكم اشتريت". ا. هـ.
وتقول: "2" منذ متى نمت؟ "3" منذ أي وقت طار أخوك؟
وتقول في الإجابة عن "1": ركبت منذ أو منذ ليلتين وعن "2": نمت منذ أو مذ مساء اليوم الماضي وعن "3": طار أخي منذ أو مذ طلوع الفجر، مثلًا.
ومعنى الإجابة الأولى: ركبت من ابتداء الليلتين إلى انتهائهما ومعنى الإجابة الثانية: نمت من مساء اليوم الماضي، بوضع "من" الابتدائية في مكان مذ أو منذ ومعنى الإجابة الثالثة: طار أخي منذ زمن طلوع الفجر، على تقدير "زمن" مضاف إلى المصدر، فمنذ أو مذ، بمعنى "من" الابتدائية هنا أيضًا، ويجوز في هذا المثال رفع "طلوع"، ويكون المعنى حينئذ: أول طيرانه وقت طلوع الفجر.
وقد جازت هذه الإجابات الثلاث في الإثبات؛ لأن العامل متطاول فيها جميعًا، وسيمر بك معنى "التطول" والتمثيل له.
2 فلا تقول: ما رأيته منذ سحر، تريد سحر يوم بعينه، وقال ابن عقيل:. . . نحو: سحر إذا أردته من يوم بعينه، فإن لم ترده من يوم بعينه فهو متصرف، كقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} . ا. هـ، فقال الخضري: "قوله نحو سحر": مثال لما لزم الظرفية قط فلا يخرج عنها أصلًا، إذا كان معينًا. واعتراضه "يقصد العلامة الصبان" بأنه متصرف، بدليل: "نجيناهم بسحر" فيه نظر ظاهر؛ لأن هذا غير معين، كما هو صريح الشرح، والكلام في المعين. ا. هـ.
وفي اللسان:. . . ولقيته سحرًا، بلا تنوين ولقيته بالسحر الأعلى "أي: في أعلى السحرين، وهما سحر مع الصبح وسحر قبله. ا. هـ، من الأساس". . . ولقيته سحر يا هذا، إذا أردت به سحر ليلتك لم تصرفه؛ لأنه معدول عن الألف واللام، وهو معرفة، وقد غلب عليه التعريف بغير إضافة ولا ألف ولام. . .
وإذا نكر "سحر" صرفته كما قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أجراه، "أي: صرفه"؛ لأنه نكرة، كقولك: نجيناهم بليل، قال: فإذا ألقت العرب
منه الباء لم يجروه، فقالوا: فعلت هذا سحر يا فتى. . . وقال الزجاج، وهو قول سيبويه: سحر: إذا كان نكرة؛ يراد سحر من الأسحار، وانصرف، تقول. . . أتيت زيدًا سحرًا من الأسحار، فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته سحر يا هذا. . . وتقول: سر على فرسك سحر يا فتى. ا. هـ.
بقي "سحر" المنصرف"، فهل يجوز أن تقول: ما رأيته مذ أو منذ سحر؟ والجواب: لا؛ لأنهما لا يجران المبهم، كما مر بك.(2/548)
3- وأنه معين لا مبهم، وقد فسرنا معنى الإبهام آنفًا.
4- وأنه ماضي أو حاضر، لا مستقبل، لما تقدم.
ب- وقد رأيت في عاملها في هذه الأحوال الثلاث:
1- أنه فعل ماض.
2 وأنه منفي يصح تكرره.
وقد يأتي مثبتًا بشرط أن يكون متطاولًا، نحو: سرت منذ يوم الخميس، والمراد بالتطاول: أن يكون في طبيعة الحدث معنى الاستمرار كالسير، فإن من شأنه التطاول، وكالنوم، والمشي، والكلام؛ وهكذا. . . وتوفية للمقام، نذكر عبارة الخضري في هذا الموضوع، قال:
"شرط عاملهما كونه ماضيًا، إما منفيًا يصح تكرره، كما رأيته منذ يوم الجمعة، أو مثبتًا متطاولًا، كسرت منذ يوم الخميس، بخلاف: قتلته، أو ما قتلته منذ كذا، فإذا قلت: ما قتلت منذ كذا، بلا هاء، صح؛ لأن القتل المتعلق بمعين لا يكرر، بخلاف غيره، ما لم يتجوز بالقتل عن الضرب، فتدبر". ا. هـ.
فقوله: "بخلاف: قتلته. . . إلخ"، كأن تقول مثلًا: قتلته، أو ما قتلته مذ أو منذ يوم الجمعة، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى "من" الابتدائية وكأن تقول: مثلًا: قتلته، أو ما قتله مذ أو منذ سنتين، مثلًا، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى من وإلى معًا، فكل هذا غير جائز.
أقول: فهبنا قلنا مثلًا: قتلته مذ أو منذ يومنا، مما تكون فيه مذ أو منذ بمعنى "في"، فعلى مقتضى إطلاق كلامهم لا يجوز مثل هذا، لبقاء السبب، وهو: عدم تطاول العامل في حالات الإثبات، ولكني أرى أنه سائغ، إذ ما الذي يمنعنا أن نقول مثلًا: قتلته اليوم، أو في هذا اليوم الحاضر؟
وواضح أنه يجوز لك أن تقول أيضًا: ما قتلت مذ أو منذ يومنا، وما قتلته(2/549)
مذ أو منذ يومنا، فكلامهم في "التطاول" و"صحة التكرر" مجمل يفتقر إلى تفصيل وتوضيح1.
هذا، ولم أجد فيما لدي من المراجع مثالًا للحدث غير المتطاول إلا "القتل".
وإني مورد أمثلة له فيما يلي للإيضاح، لا للحصر فأقول:
أولًا: أو مضى، أو ومضى وفسر الزمخشري الإيماض بأنه لمع خفي، قال: وشمت ومضة برق كنبضة عرق. ا. هـ.
فالإيماض غير متطاول كالقتل؛ لأنه عبارة عن لمع خاطف كرجع البصر، أو نبضة العرق، فلا يصح أن نقول مثلًا: ومض البرق مذ أو منذ يوم الخميس، أي: من يوم الخميس، كما لا يجوز أن نقول مثلًا: أو مضى البرق مذ أو منذ ليلتين: من ابتدائهما إلى انتهائهما2.
ولكن يصح أن نقول مثلًا: أو مضى البرق مذ أو منذ ليلتنا، أي: في ليلتنا كما صح أن تقول مثلًا: قتلته مذ أو منذ يومنا، كما قررته آنفًا، كما يصح أن تقول مثلًا: ما أومض البرق مذ أو منذ يوم الجمعة، أي: من يوم الجمعة، وما أومض البرق منذ أو مذ ليلتنا، أي: ليلتنا، وما أومض البرق مذ أو منذ ليلتين؛ لأن الحدث هنا يصح تكرره.
ثانيًا: شرق، أي: بدا وظهر، فيقال: شرقت الشمس، إذا بدت من المشرق. وكذا القمر، أو النجم، فالشروق غير متطاول؛ لأنه مجرد الظهور، وهو ملامسة الأفق، وهو لا يستغرق من الوقت إلا ما لا يكاد يذكر، فلا يقال مثلًا في الإثبات: شرقت الشمس مذ أو منذ ساعتين، أي: من ابتدائهما إلى انتهائهما. كما أوضحنا مثل هذا من قبل، كما لا يصح أن يقال في النفي مثلًا:
__________
1 ردًا على الباحث أقول: إن التطاول متحقق في المثال الأخير المنفي؛ فكلامهم واضح، وهو الصحيح وتؤيده النصوص المسموعة الدالة على أنهما بمعنى: "في". بشرط التكرر، أو التطاول، لا مجرد "في".
2 قد فسر ابن الأعرابي الوميض بأن يومض إيماضة ضعيفة، ثم يختفي، ثم يومض. . . فهذا التكرر المتعاقب قد ينزل منزلة الفعل المتطاول فيما يظهر لي، فيصح أن تقول مثلًا: أومض البرق مذ أو منذ يوم الخميس، أي استمر هذا منه، على هذا التفسير.(2/550)
ما شرقت الشمس مذ أو منذ دقيقتين1؛ لأن شروق الشمس لا يمكن تكرره في أثناء دقيقتين بالنسبة لأفق واحد، وكذا يقال في سائر الكواكب؛ لأنهما كلها بحسبان، فهب نجمًا بعينه يتم دورته في ثلاث سنين مثلًا، فإنه لا يجوز أن يقال: ما شرق هذا النجم منذ أو منذ ثلاث سنين؛ لأنه لا يمكن أن يتكرر شروقه في هذه المدة، ويجوز أن يقال: ما شرق نجم مذ أو منذ ساعتنا، وذلك؛ لأنه شروق متعلق بغير معين، فيجوز تكرره.
ولا تقول: شرق هذا النجم، أو نجم مذ أو منذ السبت، ولكنك تقول في الإثبات، على ما استظهرت آنفًا: شرق هذا النجم، أو نجم، مذ أو منذ ساعتنا أو ليلتنا، مثلًا.
ثالثًا: سنح قال في الأساس: من المجاز: سنح له رأي، أي عرض له. ا. هـ، وفي المصباح: وسنح لي رأي في كذا: ظهر، وسنح الخاطر به: جاد. ا. هـ.
فأنت ترى أن عروض الرأي حدث غير متطاول؛ لأنه طروء فاجئ، فإذا حصلت الفكرة فقد انقطع السنوح، وذلك لا يستغرق إلا وقتًا يسيرًا؛ لا يمكن أن يوصف بالتطاول، فلا نقول مثلًا: سنحت لي فكرة كذا مذ أو منذ يوم الخميس، أي: من يوم الخميس، ولا: سنحت لي فكرة كذا منذ ساعتين. ولكنك تقول، على ما استظهرت آنفًا: سنحت لي فكرة كذا منذ يومنا، أو مذ هذه الساعة، أو الدقيقة، مثلًا.
وتقول أيضًا، مثلًا: ما سنحت لي فهذه الفكرة مذ أو منذ ساعتين؛ لأن سنوح فكرة بعينها يمكن تكرره في أثناء ساعتين، ولكن لا يمكن أن تقول: ما سنحت لي فكرة مذ أو منذ ساعتين، مثلًا: أم ومذ أو منذ يومنا، لاستحالة مثل هذا عادة، في حال الإنسان الطبيعية.
فقد رأيت في الأفعال الثلاثة المتقدمة، وما فرعنا عليها من الأمثلة أنها ليست كلها سواء2، فقد يجوز في استعمال أحدها مع مذ أو منذ لا يجوز في الآخر. فالمسألة إذًا راجعة لمعنى الفعل الخاص عند استعماله مع مذ أو منذ، في الإثبات
__________
1 هذا وما حمل عليه مما ينفرد به الباحث مفتقر لتأييد.
2 في كلام الباحث ما يحتاج إلى التمحيص.(2/551)
أو النفي، وما قد يلابسه من تطاول أو تكرر أو عدمهما.
ج- ما اشترط في مجرور مذ ومنذ وفي عاملهما، يشترط في حالة رفع ما بعدهما.
د- لا تدخل "من" على مذ أو منذ، ولا يصح العكس أيضًا.
وقد وقعت "إلى" بعدهما، حيث لا مانع من وقوعها1، فقد جاء في اللسان: "قال سيبويه: أما "مذ" فيكون ابتداء غاية الأيام والأحيان، كما كانت "من" فيما ذكرت لك، ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها، وذلك قولك: ما لقيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم، ومذ عدوة إلى الساعة، وما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه، فجعلت اليوم أول غايتك، وأجريت في بابها كما جرت "من" حيث قلت: من مكان كذا إلى مكان كذا، وتقول: ما رأيته مذ يومين، فجعلته 2غاية، كما قلت أخذته من ذلك المكان، فجعلته2 غاية: ولم ترد منتهى، هذا كله كلام سيبويه". ا. هـ، عبارة اللسان.
فقد وضع سيبويه "إلى" بعد "مذ"، ولم أر ذلك في أمثلة غيره من النحويين فيما بين يدي من المراجع، أما في كلام البلغاء فكثير، ففي كتاب "الأوراق" للصولي، في أخبار الراضي بالله: وكان "الراضي" يقول: أنا مذ3 حبسني القاهر عليل إلى وقتي هذا. ا. هـ، وفي البخلاء للجاحظ: أعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها. . . ا. هـ، إلى غير ذلك.
وقول سيبويه: "ما رأيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم" مذ فيه بمعنى "من"، وقوله: "ما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه"، مذ فيه بمعنى "من" الابتدائية أيضًا؛ لأن عدم اللقاء وقع في الماضي واتصل بالحال، كما يجوز أن تقول، فيما أرى:
__________
1 احترازًا من نحو: ما عملت كذا مذ أو منذ لحظتنا، فإنه لا يجوز أن تقع "إلى" هنا بعدها، كما هو ظاهر.
2 انظر المراد من الغاية في ص 553، وأنه ابتداء الغاية. . .
3 يلاحظ أن "مذ" في هذا المثال الذي أورده الباحث، ليست حرف جر، أي: ليست مما نحن فيه، ولم يوضح الباحث المراد الدقيق من "الغاية"، وقد سبق أن عرضنا لمعناها وأنه يختلف كما في رقم1 من هامش ص460، وفي رقم2 من هامش ص 468. . . و. . .(2/552)
ما حدث كذا من اليوم إلى هذه الساعة1.
وقوله: "وتقول: ما رأيته مذ يومين. . . إلخ"، يريد قوله: "فجعلته غاية"، أي جعلت معنى: "مذ يومين" ابتداء الغاية لانقطاع الرؤية، وقوله: "ولم ترد منتهى"، يريد أنك أردت ابتداء الغاية وحدها، ولم تتعرض للمنتهي، ولكنا رأينا فيما سقناه آنفًا لمعنى هذا المثال أنه يتضمن ابتداء الغاية ومنتهاها.
وقوله: "ومذ غدوة إلى الساعة"، "مذ" فيه بمعنى "من"، فيجب أن يكون ما بعدها معرفة، فيتعين أن تكون "غدوة" هنا من يوم بعينه، ولإيضاح المقام تورد ما جاء في اللسان قال:
الغدوة: بالضم البكرة، ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، وغدوة من يوم بعينه غير مجراه2، علم للوقت. . . وفي التهذيب: وغدوة معرفة لا تصرف. قال النحويون: إنها لا تنون، ولا يدخل فيها الألف واللام. . . ويقال: أتيته غدوة، غير مصروفة؛ لأنها معرفة؛ مثل: سحر، إلا أنها من الظروف المتمكنة. تقول: سير على فرسك غدوة وغدوة وغدوة وغدوة، فما نون من هذه فهو نكرة، وما لم ينون فهو معرفة، والجمع غدًا3. ا. هـ. ونحوه في الصحاح.
وإذا رجعنا إلى عبارة اللسان هذه نجده يقول: " ... لأنها "أي: غدوة" معرفة، مثل سحر، إلا أنها من الظروف المتمكنة"4 ...
__________
1 سبق أن "مذ ومنذ" يقعان حرفين بمعنى "في" إن كان المجرور "معرفة" حاضرًا، وقد مثل النحاة بنحو: ما رأيته مذ أو منذ يومنا، أو اليوم، فقد يتوهم من مثال سيبويه هذا أن "منذ" فيه بمعنى: "في"؛ لأن "أل" فيه تفيد الحضور. ولكن سيبويه لما أتى "بإلى" بعد "مذ" صار المعنى عليه: انقطع لقائي له من ابتداء هذا اليوم، واستمر هذا الانقطاع إلى وقت المتكلم، فالمضي في المثال واقع أما إذا قلتك ما لقيته مذ اليوم، أو يومنا، أو هذا اليوم، مثلًا، ولم تزد، فقد اعتبرت اليوم بأجمعه وقتًا حاضرًا، فتكون "مذ" بمعنى "في"، هذا ما ظهر لي. ا. هـ، تعليق الباحث.
2 يعني أنها ممنوعة من الصرف، وهو تعبير قديم للنحويين، ولهذا الكلام صلة وثيقة بما قيل عنها في ص260.
3 قال في اللسان، والغداة كالغدوة، وجمعها غدوات. . . ويقال: آتيك غداة غد، والجمع الغدوات، مثل قطاة وقطوات. ا. هـ.
4 راجع ما يتصل بالكلام على: "سحر" في ص262.(2/553)
فيلخص مما مر من الكلام على "غدوة وسحر" أنهما يجتمعان في الامتناع من الصرف، إذ أريدا من يوم بعينه، فأما "سحر"؛ فلأنه معدول عن الألف واللام. وأما غدوة فللعلمية والتأنيث، كما يجتمعان في أنهما كليهما من الظروف المتصرفة إذا لم يرادا من يوم بعينه.
ويفترقان في أن "سحر غير متصرف إذا أريد من يوم بعينه، فلا يرفع على الابتداء أو الخبر مثلًا، كأن تقول: سحر جميل، أو هذا سحر ولكنك تقول مثلًا: بين أسحار الأسبوع الماضي سحر جميل، بخلاف: غدوة، فإنها متصرفة، ولو أريدت من يوم بعينه، فتقول مثلًا: غدوة جميلة، كما تقول: كان بين غدا هذا الأسبوع غدوة جميلة.
وقال الأشموني: "الظرف المتصرف منه منصرف نحو. . . ومنه غير منصرف، وهو غدوة وبكرة، علمين لهذين الوقتين"، فقال الصبان: "قوله علمين لهذين الوقتين"، أي: علمين جنسيين، بمعنى أن الواضع وضعهما علمين جنسيين لهذين الوقتين، أعم من أن يكونا من يوم بعينه أولًا. ا. هـ.
وإنما أطلنا القول في "غدوة" و"سحر"، وأكثرنا من الأمثلة فيهما، لما يغشاهما من الإجمال والإبهام في كلام اللغويين والنحويين، حتى إن العلامة الصبان على جلال قدره أشكل عليه الأمر في "سحر"، وإليك البيان.
فقد قال الأشموني: والظرف غير المتصرف، منه منصرف وغير منصرف. فالمنصرف نحو: سحر، وليل، و. . . غير مقصود، بها كلها التعيين. ا. هـ.
فقال الصبان: فيه أن سحرًا. . . متصرفة، ومن خروج سحر عن الظرفية وشبهها قوله تعالى: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} ، فكيف جعلها من غير المتصرف. ا. هـ.
وقد مر بك رد العلامة الخضري عليه، "فراجعه في رقم2 من هامش ص548".
هـ- قد تقدم1 أنهم جوزوا أن يقال مثلًا: ما قابلته مذ أو منذ دهر، أو شهر، على أن يكون مذ أو منذ بمعنى من وإلى معًا؛ لأن الدهر والشهر في حكم المعدود.
__________
1 في ص 547.(2/554)
فيظهر على هذا أنه يجوز أن يقال أيضًا: ما قابلته مذ أو منذ زمن؛ لأن الدهر من معانيه الزمن، فقد جاء في المصباح: الدهر يطلق على الأبد، وقيل: هو الزمان قل أو كثر، وقال الأزهري: والدهر عند العرب يطلق على الزمان، وعلى الفصل من فصول السنة، وأقل من ذلك. ا. هـ.
ولكن بعض العلماء يعدون "الزمن" أو"الزمان" من المبهم، فقد جاء في حاشية العلامة الخضري على ابن عقيل ما يأتي؛ وشرط الزمان المجرور بهما كونه متعينًا لا مبهمًا، كمنذ زمن. ا. هـ، ولكن جاء في الأشموني أن "بعضهم يقول: مذ 1 زمن طويل"، فلعله يعتبر الوصف نوعًا من التعيين.
وكما يقال: مذ أو منذ دهر، يقال أيضًا: مذ أو منذ أدهر، أو دهور2، ومذ أو منذ أزمن، أو أزمان، أو أزمنة قال: "وربع عفت آياته منذ أزمان"3.
وكذا يقال: مذ أو منذ حقب، أو حقوب، أو حقب، أو حقب4 أو حقاب، أو أحقاب إلى غير ذلك من كل متعدد لفظًا، أو ما هو في حكم المتعدد.
وليت شعري هل قال العرب مثلا: مذ أو منذ دهرين، أو زمنين، أو حقبين كما جمعوا، فقالوا: أحقاب وأزمان، مثلًا؟ الظاهر أنهم لم يقولون ذلك، اكتفاء بالجمع عند المبالغة، على أن تثنيته لا مانع منها صناعة.
و يظهر أن ابن هشام لا يشترط التعريف في مجرور "مذ" و"منذ"، إذا كانا بمعنى "من"، فيقول في التوضيح: "ومعنى مذ ومنذ ابتداء الغاية، إن كان الزمان ماضيًا، كقوله: "أقوين مذ حجج ومذ ذهر"، وقوله:
"وربع عفت آياته منذ أزمان"، فأقره شارحه الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري، فقال بعد "أقوين إلخ": من حجج، وقال بعد: "وربع إلخ": أي: من أزمان".
__________
1 بضم "مذ" في بعض اللغات، وإن لم يقع ساكن بعدها.
2 قال في اللسان: وجمع الدهر أدهر، ودهور.
3 قال الصبان: وقوله: "منذ أزمان"، قال قاسم: لعل هذا من العدد فيكون بمعنى "من" و"إلى" معًا. ا. هـ.
4 قال في اللسان: والحقب الدهر، والأحقاب الدهور، وقوله تعالى: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} : معناه سنة، وقيل: معناه سنين. ا. هـ.(2/555)
وقد رأيت فيما ذكرناه آنفًا أن مذ ومنذ، إذا كان بمعنى "من"، كان مجرورهما معرفة، فقد قال ابن عقيل: "وإن وقع ما بعدهما مجرورًا فهما حرفًا جر بمعنى "من"، إن كان المجرور ماضيًا"، فقال العلامة الخضري: "قوله بمعنى من"، أي: البيانية1 هذا إذا كان المجرور معرفة كمثاله، فإن كان نكرة فهما بمعنى "من" و "إلى" معًا، ولا تكون النكرة إلا معدودة لفظًا، كمذ يومين، أو معنى، كمذ شهر، لما مر من أنهما لا يجران المبهم. ا. هـ، ونحو ذلك في الأشموني، قال:. . . ثم إن كان ذلك "في مضي فكمن هما" في المعنى، نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة. ا. هـ.
ويتضح من ذلك أن في الموضوع مذهبين: أحدهما يشترط تعريف مجرور مذ ومنذ إذا كان بمعنى "من"، مع مضي الزمن، والثاني لا يشترط غير مضي الزمن 2.
ز قال العلامة الشيخ ياسين بن زين الدين العليمي الحمصي في حاشيته على شرح التوضيح، عند قول المتن: "أحدهما أن يدخلا على اسم مرفوع، نحو: ما رأيته مذ يومان"، ما يأتي:
"قوله: مذ يومان"، قال الزرقاني: قال الرضي: قال الأخفش: لا تقول: ما رأيته مذ يومان وقد رأيته أمس ويجوز أن يقال: ما رأيته مذ يومان، وقد رأيته أول من أمس أما إذا كان وقت التكلم آخر اليوم فلا شك فيه؛ لأنه يكون قد تكمل لانتفاء الرؤية يومان. . . قال: ويجوز أن يقال في يوم الاثنين مثلًا: ما رأيته منذ يومان: وقد رأيته يوم الجمعة ولا تعتد بيوم الإخبار ولا يوم الانقطاع، قال: ويجوز أن تقول: ما رأيته منذ يومان، وأنت لم تره منذ عشرة أيام، قال: لأنك تكون قد أخبرت عن بعض ما مضى أقول وعلى ما بينا، وهو أن منذ لا بد فيه من معنى الابتداء في جميع مواقعه، لا يجوز ذلك3".
__________
1 قال العلامة الصبان عند قول ابن مالك: "وإن يجرا في مضي فكمن" ما يأتي: "قوله: فكمن"، أي: الابتدائية. ا. هـ، وهو أولى وأظهر من تسمية الخضري إياها بالبيانية.
2 اللهم إلا إذا كان ابن هشام يريد النص على ابتداء الغاية عند مضي الزمن، فسكت عن "إلى"، فلا منافاة على هذا بين قوله هذا وقول سائر النحاة.
3 يظهر أن اسم الإشارة راجع إلى ما مثل به، ابتداء من قوله: "ويجوز أن تقول في يوم الاثنين مثلًا. . ." إلى قوله: "ما مضي"، وذلك؛ لأن عدم الاعتداد بيوم الانقطاع، ينافي معنى الابتداء الذي يفيده مذ ومنذ، وكذا يقال في المثال الثاني.(2/556)
وقال: "إنهم يقولون: منذ اليوم ولا يقولون: منذ الشهر؛ ولا: منذ السنة. ويقولون: منذ العام، قال: وهو على غير القياس قال: ولا يقال: منذ يوم، استغناء بقولهم: منذ أمس، ولا يقولون: منذ الساعة، لقصرها فإن كان جميع ما قاله مستندًا إلى السماع فبها ونعمت، وإلا فالقياس جواز الجميع، والقصر ليس بمانع؛ لأنه جوز: "منذ أقل من ساعة". ا. هـ. المراد من كلام الشيخ ياسين.
أقول: قد أسلفنا القول في امتناع أن يقال مثلًا: ما رأيته مذ أو منذ يوم، لا لتلك العلة التي نقلها ياسين عن الأخفش، بل؛ لأن منذ ومذ لا يجران إلا النكرة المعدودة، أو التي في حكم المعدودة، إذا كانا بمعنى من وإلى معًا.
وقوله: "ولا يقولون: منذ الساعة، لقصرها"، هذا هو أحد معانيها، وهو الوقت القليل، فقد جاء في اللسان: والساعة الوقت الحاضر. . . والساعة في الأصل تطلق بمعنيين: أحدهما أن تكون عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءًا، هي مجموع اليوم والليلة، والثاني أن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل. يقال: جلست عندك ساعة من النهار، أي وقتًا قليلًا منه. ا. هـ.
فإذا قلت مثلًا، على القول بالجواز: طال العصفور مذ أو منذ الساعة، فمعنى مذ أو منذ هنا: "في"، أي: طار في هذا الوقت الحاضر، وهذا واضح، كما قال ياسين، والقصر ليس بمانع.
وأما ما قاله ياسين من أنه جوز أن يقال: منذ أقل ساعة، فمعناه: منذ وقت أقل من ساعة، فنذ فيه بمعنى "من" "على رأي ابن هشام ومن تابعه، كما قررنا في "و"، فتقول مثلًا: حضر فلان مذ أو منذ أقل من ساعة، أي: من زمن وجيز.
بقي المعنى الثاني للساعة، وهي أنها جزء من أربعة وعشرين جزءًا هي مجموع اليوم والليلة، فهذه الساعة محدودة؛ لأنها مقسمة أيضًا أقسامًا متساوية؛ هي الدقائق الفلكية، والقصر الذي هو علة المنع فيما قال الأخفش، منتف فيها(2/557)
فتقول مثلًا: ما كتبت مذ أو منذ الساعة، أي: في هذا الوقت المقدر بستين دقيقة، كما تقول مثلًا: كتبت مذ أو منذ الساعة، وفي الإثبات؛ لأن الفعل متطاول هذا ما نستظهره.
ح- وهناك موضوع له شبه واتصال بما قررنا في الفقرة السابقة، ذلك أن ما قلنا آنفًا: إن "يومًا" من المبهم؛ فلا يجوز: مذ أو منذ يوم، فهذا ما مثل به النحاة، ففي الصبان عند قول الأشموني: "فإن كان المجرور بها نكرة. . . إلخ ما يأتي: "قوله نكرة"، أي معدودة، إذ لا يجوز: منذ يوم". ا. هـ، والظاهر أن النحاة لم يدخلوا "اليوم" في باب ما هو في حكم المعدود، وألحقوه بالمبهم، لاختلاف اللغويين في معناه، فمنها أنه من طلوع الشمس إلى غروبها، ومنها أنه مطلق الزمان، إلى غير ذلك.
وأما المعنى الآخر الذي نقلناه عن اللسان فيما تقدم، فقد حدث في الحضارة الإسلامية، وهو في حكم المعدود، ذلك أن تقول مثلًا: ما كلمته مذ أو منذ يوم، كما لك أن تقول: مذ أو منذ ليلة، لهذا الاعتبار، كما قالوا: مذ أو منذ شهر، أو سنة.
وكذلك يقال في الساعة والدقيقة الفلكيتين، فنقول مثلًا: قرأ القارئ مذ أو منذ ساعة، ما قرأ منذ أو مذ ساعة، وكلمني صديقي مذ أو منذ دقيقة، قياسًا سائغًا لا غبار عليه.
وقد خطر لي وأنا أكتب هذان لفظ: هنيهة أو هنية، ففي المصباح: الهن خفيف النون كناية عن كل اسم جنس، والأنثى: هنة؛ ولامها محذوفة، ففي لغة هي هاء؛ فيصغر على: هنيهة، ومنه يقال: سكت هنيهة أي: ساعة لطيفة، وفي لغة هي: واو، فيصغر في المؤنث على: هنية، وجمعها "أي: هنة" هنوات، وربما جمعت على هنات، على لفظها، مثل: عدات وفي المذكر: هني. ا. هـ.
وإنما تعرضت لهذه الكلمة، لكثرة دورانها على الألسن والأقلام في مختلف شؤون الحياة، فهي ليست من المعدود لفظًا أو حكمًا، ولا يمكن ضبطها بقياس.(2/558)
ومثل هنيهة أو هنية: "لحظة"، للزمان اليسير، ففي الأساس: وفعل ذلك في لحظة. ا. هـ، وفي شرح القاموس: ومما يستدرك عليه: اللحظة المرة من اللحظ ويقولون: جلست عنده لحظة، أي: كلحظة العين1، ويصغرونه لحيظة، والجمع لحظات. ا. هـ.
وهذه الكلمة أيضًا شائعة جدًا، وحكمها حكم الهنيهة أو الهنية، لما قررنا من انبهامها، وأنها ليست من المعدود ولا ما هو في حكمه، وهل ثنوا هنيهة أو هنية "للوقت اليسير"، ولحظة، فقالوا مثلًا: جلس هنيهتين أو هنيتين؟ لعلهم لم يفعلوا؛ لأنه لا معنى لقولك مثلا: جلست وقتين لطيفين2.
ولو أنهم فعلوا لجاز؛ نحو قولك: جلست مذ أو منذ لحظتين أو هنيهتين، كما تقرر آنفًا.
وهل جمعوا هنيهة أو هنية "للوقت اليسير"، فقالوا مثلًا: جلس هنيهات، أو هنيات؟ الغالب أنهم لم يفعلوا، على ما وصل إليه اطلاعي، ولو أنهم فعلوا لجاز أن تقول مثلًا: جلست أو ما جلست عنده مذ أو منذ هنيهات.
أما اللحظة فلعلهم لم يثنوها، والغالب أنهم جمعوها.
على أن تثنية كل أولئك وجمعه جائز صناعة فلا كلام في هذا3.
ط- وقد كنت أرجع في أثناء كتابة هذه العجالة إلى شرح الإمام موفق الدين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي المتوفى سنة643 هـ، لمفصل الزمخشري، ورجعت أيضًا إلى شرح كتاب سيبويه للإمام أبي سعيد الحسن
__________
1 أي: فهو من باب نيابة المصدر عن الزمن، جلست عنده مقدار لحظة عين.
2 إلا إذا قلت مثلًا: جلست هنيهتين، عند محمد هنيهة، وعند علي هنيهة وكذا يقال في الجمع، وفي لحظة إذا استعملنا مثناها وجمعها هذا الاستعمال.
3 هناك أسماء أخرى كثيرة مبهمة تدل على الزمان بذاتها، أو بالنيابة عن المصدر: فحكمها ما قررنا.
ومن ذلك وهو شائع وقت، وبرهة، وعهد، فيغلط الناس ويقولون: مذ أو منذ برهة، أو عهد أو وقت، اللهم إلا إذا قالوا: مذ أو منذ عهد طويل، أو برهة طويلًا مثلًا، فقد يجوز أن يلحق ذلك بما هو في حكم المعدود، "راجع تعليقنا على كلام الأشموني في ص555 آخر "هـ"، وليس لي في ذلك جزم، فليحرر.(2/559)
ابن عبد الله بن المرزبان السيرافي المتوفى سنة 368هـ، فوجدت فيهما تعليقات طريقة تتصل بموضوع هذا البحث، آثرت أن أتحف القارئ بنتف منهما، ليرى كيف كان يكتب هذا الإمامان، ولتكمل بها الفائدة.
قال الإمام ابن يعيش:
1- وأما الفرق بينهما "أي: "مذ ومنذ" الحرفيتين والاسميتين" من جهة المعنى، فإن "مذ" إذا كانت حرفًا دلت على أن المعنى الكائن فيما دخلت عليه، لا فيها نفسها، نحو قولك: زيد عندنا مذ شهر؛ على اعتقاد أنها حرف، وخفض ما بعدها، فالشهر هو الذي حصل فيه الاستقرار في ذلك المكان، بدلالة مذ على ذلك.
وأما إذا كانت اسمًا ورفعت ما بعدها، دلت على المعنى الكائن في نفسها، نحو قولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فالرؤية متضمنة "مذ" وهو الوقت الذي حصلت فيه الرؤية، وهو يوم الجمعة، كأنك قلت: الوقت الذي حصلت1 فيه الرؤية يوم الجمعة. ا. هـ.
وقال:
2- والصواب ما ذهب إليه البصريون من أن ارتفاعه بأنه خبر والمبتدأ منذ ومذ، فإذا قلت: ما رأيته منذ يومان، كأنك قلت: ما رأيته مذ ذلك يومان. فهما جملتان، على ما تقدم، وإنما قلنا: إن "مذ" في موضع مرفوع بالابتداء؛ لأنه مقدر بالأمد، والأمد لو ظهر لم يكن إلا مرفوعًا بالابتداء، فكذلك ما كان في معناه". ا. هـ.
وقال:
3- وله "أي: مذ أو منذ" في الرفع معنيان: تعريف ابتداء المدة، من غير تعرض إلى الانتهاء، والآخر تعريف المدة كلها.
__________
1 هذا نقل الباحث، فهل حصلت الرؤية؟(2/560)
فإذا وقع الاسم بعدهما معرفة، نحو قولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة. . .، ونحوه، وكان المقصود به ابتداء غاية الزمان الذي انقطعت فيه الرؤية وتعريفه. والانتهاء مسكوت عنه، كأنك قلت: وإلى الآن، ويكون في تقدير جواب "متى".
وإذا وقع بعده نكرة، نحو: ما رأيته منذ يومان، ونحو ذلك، كان المراد منه انتظام المدة كلها، من أولها إلى آخرها، وانقطاع الرؤية فيها كلها.
فإن خفضت ما بعدهما، معرفة كان أو نكرة، كان المراد الزمان الحاضر، ولم تكن الرؤية قد وقعت في شيء منه. ا. هـ.
ويظهر أن أبا البقاء أراد بالمعرفة في قوله: "فإن خفضت ما بعدها. . . إلخ" نحو يومنا أو اليوم، في قولك مثلًا: ما رأيته مذ أو منذ يومنا، أو اليوم.
ولم يرد نحو قولك: ما رأيته مذ أو منذ يوم الأربعاء1، أي: من يوم الأربعاء، كما تقدم، وذلك؛ لأن أبا البقاء يرفع "يوم" فيه وجوبًا، بدليل قوله آنفًا في فقرة 3: "فإذا وقع الاسم بعدها معرفة، نحو قولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة. . . إلخ".
أما الدلالة على الزمن الحاضر في حال جر مذ ومنذ للنكرة، فقد سلف لك أنك إذا قلت مثلًا: ما كلمته مذ أو منذ شهرين "مما هو معدود"، أو شهر "مما هو في حكم المعدود"، كان المعنى أن الحدث انتفى من ابتداء هذه المدة إلى انتهائها، فأنت إذا تقول مثلًا: ما كلمته مذ أو منذ شهر، تتكلم في نهاية الشهر، أي: ما وقع الكلام في هذا الشهر الحاضر، من أوله إلى آخره.
هذا شرح الفقرة الأخيرة من كلام أبي البقاء، كما قدرت أن أوجهها.
وقال الإمام السيرافي:
1- اعلم أن منذ ومذ جميعًا في معنى واحد، وهما يكونان اسمين وحرفين، غير أن الغالب على منذ أن تكون حرفًا، وعلى مذ أن تكون اسمًا. ا. هـ.
__________
1 قد سبق أن نحو هذا المثال يجوز فيما بعد مذ أو منذ فيه الرفع أو الجر.(2/561)
2-. . . تقول: ما رأيته منذ يوم الجمعة، وما رأيته منذ اليوم، وإذا قلت: ما رأيته منذ يوم الجمعة: كان معناه: انقطعت رؤيتي له من يوم الجمعة، فكان يوم الجمعة لإبداء غاية انقطاع الرؤية، فمحل ذلك من الزمان كمحل "من" في المكان، إذا قلت: ما سرت من بغداد، أي: ما ابتدأت السير من هذا المكان. فكذلك: ما وقعت رؤيتي عليه من هذا الزمان. ا. هـ.
3-. . . وتقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة، وما رأيته مذ السبت. . . فإن قال قائل: فما حكم "مذ" في هذا الوجه، وتقديرها؟ قيل له: حكمها أن تكون اسمًا، وتقديرها أن تكون مبتدأة، ويكون ما بعدها خبرها، كأنك قلت: ما رأيته، مدة ذلك يوم السبت، فيكون على كلامين. . . وذلك أنك إذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فإنما معناه: انقطاع رؤيتي له ابتداؤه يوم الجمعة، وانتهاؤه الساعة، فتضمنت "من" معنى الابتداء والانتهاء.
وإذا قلت ما رأيته مذ اليوم، فليس فيه إلا معنى ابتداء الغاية وانقطاعها، وهو "في" معنى، وانخفض ما بعدها. ا. هـ.
4-. . . وذلك أنك إذا قلت: لم أره مذ يومان، أو مذ شهران، أو نحو ذلك: مما يكون جوابًا لكم، فتقديره: لم أره وقتًا ما، ثم فسرت ذلك فقلت: أمد ذلك شهران، أو مدة ذلك شهران، فقولك مذ شهران جملة ثانية هي تفسير للوقت المبهم في الجملة الأولى، فهذا أحد تقديري مذ إذا رفعت ما بعدها.
والتقدير الآخر أن تقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة فيكون تقديره: فقدت رؤيته وقتًا ما، أوله يوم الجمعة فمذ في هذين الوجهين بمنزلة اسم مضاف: إما على تقدير: أمد ذلك، أو أول ذلك. ا. هـ.(2/562)
5- تكميل:
وفي المخصص: قال سيبويه: سألت الخليل رحمه الله عن قولهم؛ مذ عام أول1، ومذ عام أول، فقال: أول: ههنا صفة، وهو أول من عامك، ولكن ألزموه ههنا الحذف استخفافًا، فجعلوا هذا الحرف بمنزلة "أفضل منك" قال: وسألته رحمه الله عن قول العرب، وهو قليل: مذ عام أول، فقال: جعلوه ظرفًا في هذا الموضع، وكأنه قال: مذ عام قبل عامك. ا. هـ.
قال الباحث:
إلى هنا وقف القلم، وفي النفس شوق إلى المزيد، وتطلع إلى الاستيفاء، ولعلي أكون قد وفقت إلى ما أردت من توضيح وتسهيل، والله تعالى المستعان.
__________
1 انظر ما يتصل بكلمة: "أول" في ص 286، وكذا في جـ 3 م 95 ص 130 حيث الإيضاح المفيد.(2/563)
بحث التضمين 1:
أقوال العلماء في التضمين:
قال أبو البقاء في كتابه "الكليات": التضمين: هو إشراب معنى فعل ففعل، ليعامل معاملته، وبعبارة أخرى: هو أن يحمل اللفظ معنى غير الذي يستحقه بغير آلة ظاهرة.
ثم قال: قال بعضهم: التضمين هو أن يستعمل اللفظ في معناه الأصلي، وهو المقصود أصالة، لكن قصد تبعية معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ، أو يقدر له لفظ آخر، فلا يكون التضمين من باب الكناية، ولا من باب الإضمار، بل من قبيل الحقيقة التي "فيها" قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة.
وقال بعضهم: التضمين إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه لمعناه، وهو نوع من المجاز، ولا اختصاص للتضمين بالفعل، بل يجري في الاسم أيضًا، قال التفتازاني في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} : لا يجوز تعلقه بلفظه: الله، لكونه اسمًا لا صفة، بل هو متعلق بالمعنى الوصفي الذي
__________
1 هذا هو البحث الثاني الذي سبق أن وعدنا في رقم1 من هامش ص170 بتسجيله هنا، لعظيم أثره عند المتخصصين، وليكون صورة مرشدة من مسالك البحث العقلي الدقيق أمام كبار الطلاب، بالرغم من تشعبه الخيالي بغير سداد، وكثرة الخلاف الجامح فيه والوهم، كثرة معيبة تكشف عن نوع عنيف مرهق من البحوث الجدلية القديمة المقيمة، وقد نقلناه كاملًا من محاضر جلسات المجمع اللغوي القاهري في دور انعقاده الأول "ص209، وما بعدها" حيث سجلته تلك المحاضر، بقلم عضو جليل من أعضاء المجمع، هو الأستاذ حسين والي، رحمة الله عليه، وقد ألقاه على الأعضاء قبل تسجيله، ونقلناه معه بعض مناقشات قصيرة دارت بشأنه بين الأعضاء عرضه على المجمع اللغوي؛ لأهمية ذلك كله، وأردفناه ببحث لعضو مجمعي آخر، ألقاه في الجلسة نفسها ثم ختمنا برأي لنا خاص موجز، في هامش الصفحة الأخيرة: ص594 يتضمن التعليق على البحثين.
ويلاحظ ما سبقت الإشارة إليه "في رقم1 من هامش ص 170 باختصار في باب: "تعدي الفعل، ولزومه"، وهو أن "الصبان" عرض للتضمين جـ2 كما عرض له "ياسين" في الجزء الثاني من حاشيته على التصريحِ، باب: "حروف الجر" عرضًا محمودًا، في نحو: أربع صفحات.(2/564)
ضمنه اسم الله، كما في قولك، هو حاتم من طيئ، على تضمين معنى: الجواد.
وجريانه في الحرف ظاهر في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، فإن "ما" تتضمن معنى "إن" الشرطية، ولذلك جزم الفعل.
وكل من المعنيين مقصود لذاته في التضمين، إلا أن القصد إلى أحدهما وهو المذكور بذكر متعلقه يكون تبعا للآخر وهو المذكور بلفظه، وهذه التبعية في الإرادة من الكلام، فلا ينافي كونه مقصودًا لذاته في المقام، وبه يفارق التضمين الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن كلا من المعنيين في صورة الجمع مراد من الكلام لذاته، مقصود في المقام أصالة، ولذلك اختلف في صحته مع الاتفاق في صحة التضمين.
والتضمين سماعي لا قياسي1 وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله فإنه يكون أولى، وكذا الحذف والإيصال، لكنهما لشيوعهما صار كالقياس، حتى كثير للعلماء التصرف والقول بهما فيما لا سماع فيه، ونظيره ما ذكره الفقهاء من أن ما ثبت على خلاف القياس إذا ما كان مشهورًا يكون كالثابت بالقياس في جواز القياس عليه.
وجاز تضمين اللازم المتعدي مثل: سفة نفسه"، فإنه متضمن لأهلك:
وفائدة التضمين هي أن تؤدي كلمة مؤدي كلمتين، فالكلمتان مقصودتان معًا قصدًا وتبعًا، فتارة يجعل المذكور أصلًا والمحذوف حالًا، كما قيل في قوله تعالى: {َلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، وتارة بالعكس، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ، أي: يعترفون به مؤمنين.
ومن تضمين لفظ معنى آخر قوله تعالى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، أي: لا تفتهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، أي:
__________
1 هذا رأي من عدة آراء متعارضة يجيء تفصيلها، واستخلاص حكم نهائي بعدها.(2/565)
لا تضموها آكلين، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، أي: من ينضاف في نصرتي إلى الله، {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ، أي: أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوه} ، أي: فلن تحرموه، فعدي إلى اثنين، {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، أي: لا تنووه، فعدي بنفسه لا بعلي، {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} ، أي: لا يصغون، فعدى بإلي، وأصله يتعدى بنفسه، ونحو: "سمع الله لمن حمده"، أي: استجاب، فعدي باللام، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} ، أي: يميز.
ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يكاد يحاط به.
ومن تضمين لفظ لفظًا آخر قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} إذ الأصل: أمن؟ حذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما في "هل"، فإن الأصل أهل1؟ فإذا أدخلت حرف الجر فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك؛ كأنك تقول: أعلى من تنزل الشياطين؟ كقولك: أعلى زيد مررت، وهذا تضمين لفظ لفظًا آخر1.
لقد ذكر أو البقاء عن بعض العلماء أن التضمين ليس من باب الكناية، ولا من باب الإضمار، بل من باب الحقيقة، إذا قصد بمعناه الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الإرادة.
ويؤخذ من هذا أنه لا بد من المناسبة، وإنما يعرف المناسبة أهل العربية الذين لهم دراية بالعربية وأسرارها.
وذكر عن بعضهم أن التضمين إيقاع لفظ موقع غيره، لتضمنه معناه، وهو نوع من المجاز.
وقال: التضمين سماعي لا قياسي، وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله، فإنه يكون أولى.
وذكر أمثلة لتضمين لفظ معنى لفظ آخر، ثم قال: "ومن هذا الفن في اللغة شيء كثير لا يكاد يحاط به".
__________
1و1 هنا غموض في العبارة التي سجلها البحث.(2/566)
ويؤخذ من هذا التضمين قياسي.
وقال ابن هشام في المغني: قد يشربون لفظَا لفظ فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك: "تضمينًا"، وفائدته: أن تؤدي كلمة مؤدي كلمتين، قال الزمخشري ألا ترى كيف رجع معنى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك، مجاوزتين إلى غيرهم، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، أي: ولا تضموها آكلين لها؟
قال الدسوقي: قوله يشربون لفظًا معنى لفظ، هذا ظاهر في تغاير المعنيين، فلا يشمل نحو: "وقد أحسن بي"، أي: لطف، فإن اللطف والإحسان واحد.
فالأولى أن التضمين إلحاق مادة بأخرى لتضمنها معناها ولو في الجملة، أعني باتحاد أو تناسب، قوله: "أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين": ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها، ألا ترى أن ألا ترى أن الفعل من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم} ضمن معنى: يمتنعون من نسائهم بالحلف، وليس حقيقة الإيلاء إلا الحلف، فاستعماله في الامتناع من وطء المرأة إنما هو بطريق المجاز، من باب إطلاق السبب على المسبب؛ فقد أطلق فعل الإيلاء مرادًا به ذالك المعنيان جميعًا، وذلك جمع بين الحقيقة، والمجاز بلا شك، وهو، أي: الجمع المذكور إنما يتأتي على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة، أما على طريقة البيانيين من اشتراط كونها مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، فقيل: إن التضمين حقيقة ملوحة لغيرها.
وقدر "السعد" العامل مع بقاء الفعل مستعملًا في معناه الحقيقي، فالفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي، مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، فقولنا: أحمد إليك فلانًا، معناه: أحمده منهيًا إليك حمده. ويقلب كفيه على كذا: أي نادمًا على كذا، فمعنى الفعل المتروك وهو المضمن معتبر على أنه قيد لمعنى الفعل المذكور.(2/567)
وزعم بعضهم أن التضمين بالمعنى الذي ذكره "السعد"، وهو جعل وصف الفعل المتروك حالًا من فاعل المذكور يسمى تضمينًا بيانيًا، وأنه مقابل للنحوي 1.
وقيل: إن التضمين من باب المجاز، ويعتبر المعنى الحقيقي قيدًا، وهذا هو الذي اعتبره الزمخشري، فعلى مذهب السعد يقال: ولا تأكلوا أموالهم ضاميها إلى أموالكم، وعلى مذهب الزمخشري نقول: ولا تضموها إليها آكلين.
وقيل: التضمين من الكناية، أي لفظ أريد به لازم معناه.
فالأقوال خمسة، وانظر ما بيان صفحة الأخير منها، تأمل. ا. هـ، تقرير الدردير.
وقال الأمير: قوله: "وفائدته إلخ" ظاهر في الجمع بين الحقيقية والمجاز، وقيل: مجاز فقط، وقيل: حقيقة ملوحة بغيرها.
وقدر "السعد" العامل، فزعم بعضهم أن تضمين بياني مقابل للنحوي.
قول ابن هشام "قد يشربون لفظًا معنى لفظ" لا يخفى أن "قد" في عرف المصنفين للتقليل كما سيأتي، وعلى ذلك يكون التضمين قليلًا، ولكنه سيذكر في آخر الموضوع عن ابن جني أنه كثير، حتى قال الدسوقي: هذا ربما يؤيد القول بأن التضمين قياسي.
وقد أشار الدسوقي إلى أن ابن هشام: "وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين" ظاهر في أن الكلمة تستعمل في حقيقتها ومجازها، والجمع بين الحقيقة والمجاز إنما يتأتى على قول الأصوليين: إن قرينة المجاز لا يشترط أن تكون مانعة، أما على قول البيانيين يشترط أن تكون القرينة مانعة، فقيل: التضمين حقيقة ملوحة لغيرها، وقدر السعد العامل مع بقاء الفعل مستعملًا في معناه الحقيقي إلخ ما تقدم.
وقيل: التضمين من باب المجاز، وقيل: من باب الكناية، وسيأتي شرح المذاهب في ذلك.
__________
1 في ص582 وما بعدها بيان النوعين.(2/568)
وذكر ياسين على التصريح أن التضمين سماعي كما هو المختار1.
ثم قال: واعلم أن كلام المصنف في المغني في تقريره التضمين في مواضع يقتضي أن أحد اللفظين مستعمل في معنى الآخر؛ لأنه قال في {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} ، أي: فلن تحرموه، وفي: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي: لا تنووا. وحينئذ فمعنى قوله: "إنه إشراب لفظ معنى آخر". . .، أن اللفظ مستعمل في معنى الآخر فقط، فإن هذا هو الموافق لذلك التقرير، وإن احتمل أنه مستعمل في معناه ومعنى الآخر.
وقول ابن جني في الخصائص: "إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفين2 موقع الآخر، إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد، مع ما هو بمعناه" صريح في أنه مستعمل في معنى الآخر فقط.
وعلى هذا فالتضمين مجاز مرسل؛ لأنه استعمال اللفظ في غير معناه لعلاقة بينهما وقرينة، كما سيتضح ذلك، وهذا أحد أقوال فيه.
وقيل: إن فيه جمعًا بين الحقيقة والمجاز، لدلالة المذكور على معناه بنفسه، وعلى معنى المحذوف بالقرينة.
وهذا إنما يقول به من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ظاهر قول المغني "إن فائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين"، فظاهر تعريفه مخالف لما ذكره من فائدته، فليتنبه لذلك.
وعلى هذا القول جرى سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فقال في كتاب "مجاز القرآن":
"الفصل الثاني والأربعون في مجاز التضمين، وهو أن يضمن اسم معنى اسم لإفادة معنى اسمين، فتعديه تعديته في بضع المواضع، كقوله: "حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق"، فيضمن: "حقيق" معنى: "حريص"، ليفيد أنه محقوق
__________
1 ورد هذا النص في أول الجزء الثاني، باب "حروف الجر" في الفصل الذي عنوانه: ذكر معاني الحروف الجارة.
2 المراد: اللفظين مطلقًا، وليس المراد الحرف المقابل للاسم والفعل.(2/569)
بقول الحق، وحريص عليه، ويضمن فعل معنى فعل، فتعديه أيضًا تعديته في بعض المواضع كقول الشاعر: "قد قتل الله زيادًا عني"، ضمن: قتل، معنى: صرف، لإفادة أنه صرفه حكمًا بالقتل، دون ما عداه من الأسباب، فأفاد معنى القتل والصرف جميعًا". ا. هـ، المقصود منه.
وفيه تصريح بأن التضمين يجري في الأسماء بل صدر به.
وقول المغني " إشراب لفظ" يشملها.
فاقتصار "السعد" و"السيد" على بيانه في الأفعال، جار مجرى التمثيل لا التقييد، ودعوى أصالته في الأفعال مجردة عن الدليل.
وقيل: إن المذكور مستعمل في حقيقته، لم يشرب معنى غيره، وعليه جرى صاحب الكشاف، وعجيب للمصنف في المغني حيث نقل كلامه بعد تعريف التضمين بما مر، فأوهم أنه يرى بما يقتضيه ذلك التعريف فتفطن له، وقال السعد في تقرير كلام الكشاف، وبيان أنه لا يرى أن من التضمين مجازًا، ولا الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإنه مع استعماله في المذكور يدل على المحذوف ما نصه:
حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه، ثم قال: إن الفعل المذكور مستعمل في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، نحو: أحمد إليك فلانًا، معناه أحمده منهيًا إليك حمده.
وقد يعكس، كما يقال في: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، يعترفون به مؤمنين.
وفي قوله: "مع فعل آخر" حذف مضاف أي مع حذف فعل.
فإن قلت: المناسبة إنما هي بين الفعل المحذوف ومتعلقه المذكور لا بين الفعلين، قلت: لا بد من المناسبة بينهما، لا يقال: ضربت إليك زيدًا، أي: منهيًا إليك ضربه؛ ولا تكفي القرينة.
واعترض عليه بأن في كلامه تناقضًا؛ لأن قوله: "مع فعل آخر يناسبه" غير ملائم لقوله: "مع حذف حال"، فإن الثاني يدل على أن المحذوف اسم هو حال، لا فعل، بخلاف الأول.(2/570)
وأجيب بأن في كلامه تغليبًا وإطلاقًا للفعل عليه وعلى الاسم، أو أراد بالفعل معناه اللغوي، وكذا في قوله: "أن يقصد بالفعل"، ولا يخفي سقوطه على هذا الكلام وبعده عن المرام.
وذلك أن الداعي للسعد على ما قاله، الفرار من الجميع بين الحقيقية والمجاز. والأصل تضمين الفعل لمثله، فالملاحظة في تضمين المذكور مثله، وأشير بالحال عند بيان المعنى إلى ذلك التضمن ولو قدر نفس الفعل، كان من الحذف المجرد، ولم يكن المحذوف في تضمن المذكور، وأيضًا في تقديره تكثير للحذف.
وبهذا يظهر أنه من قال: لا تنحصر طرق التضمين فيما قال، وأن منها العطف، نحو: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، أي: الرفث والإفضاء إلى نساءكم، فقد غفل عن الباعث على هذا القول، على أنه لم يدع أحد الحضر، وقال السيد: ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف بدل عليه ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلًا في الكلام والمحذوف قيدًا فيه، على أنه حال، كما في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، كأنه قال: "لتكبروا الله حامدين على ما هداكم" وتارة يعكس، فيجعل المحذوف أصلًا والمذكور مفعولًا، كقوله: أحمد إليك فلانًا" كأنك قلت أنهي إليك حمده، أو حالًا كما يدل عليه قوله، "يعني الكشاف"، عند الكلام على قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} ، أي: يعترفون به، فإنه لا بد من تقدير الحال، أي: يعترفون به مؤمنين، إذ لو لم يقدر لكان مجازًا عن الاعتراف لا تضمينًا، وقوله: على "أنه حال"، وقوله: "والمذكور مفعولًا" بمعنى أن المذكور يدل على ذلك كما يفيده قول السعد مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر.
والظاهر أن السيد يوافقه على ذلك؛ لأنه لم يشر للرد عليه، كما هو دأبه عند مخالفته.
فاندفع قول بعضهم: إن في جعله المذكور مفعولًا للمحذوف نظرًا ظاهرًا؛ لأن الفعل والجملة لا يقع واحد منهما مفعولًا لغير القول والفعل المعلق.
فالصواب كون جملة: "أحمد" حالًا من فاعل: أنهى، والمعنى أنهى حمده إليك حال كوني حامدًا له، ويرد عليه أنه إن أراد أن جملة: "أحمد"(2/571)
حال في التركيب ففاسد أوفى المعنى، فالذي وقع فيه حالًا إنما هو اسم الفاعل المحذوف بدلالة الفعل المذكور عليه، كما يشهد به قوله حال كوني حامدًا، وقد ذكر السعد أن هذا التركيب مما حذف فيه الحال، والظاهر أن السيد لم يقصد الرد عليه، وإنما أراد بيان وجه آخر، ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد.
ومن العجيب أن بعضهم بعد ذكر كلام السعد والسيد قال: إنه لا ينحصر فيما قال السيد بل له طرق أخرى منها: أن يكون مفعولًا، كما في قولهم: أحمد إليك الله، أي: أنهى حمده إليك.
ومن العجب أيضًا قوله في الجواب عن كلام البعض المتقدم، إن هذا من السبك بلا سابك كباب التسوية؛ وأنت قد عرفت أن هذا حذف كما نص عليه السعد لا سبك.
هذا، وقد اتفق هذان المحققان السعد والسيد، على أن في "أحمد إليك زيدًا" تضمينًا.
ووقع للمولى أبي السعود في أول تفسيره الفرق بين الحمد والمدح، بأن الحمد يشعر بتوجيه النعت بالجميل إلى المنعوت بخلاف المدح، وأنه يرشد إلى ذلك اختلافهما في كيفية التعلق بالمفعول في حمدته ومدحته، فإن تعلق الثاني تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها، والأول مبني على معنى الإنهاء كما في قولك كلمته، فإنه معرب عما تفيده لام التبليغ في قولك: قلت له.
ولا يخفى أن هذا مخالف لكلام القوم، ولا يثبت بشهادة من معقول أو منقول.
فمن العجائب نقل شيخنا الدنوشري له في رسالة التضمين، وقوله: وهو كلام حسن ربما يؤخذ منه أن الإنهاء من مفهوم الحمد، فتعلق إلى به بالنظر لذلك، فلا حاجة إلى اإدعاء التضمين فيه، فليتأمل ذلك. ا. هـ.
فإن أراد بكونه حسنًا حسن تراكيبه، فلا شك في ذلك، وإن أراد حسنه من جهة المعنى فلم يظهر، فإنه وإن أطال الكلام كما يعلم بالوقوف عليه، لم يأت فيه ببيان المرام.(2/572)
بقي هنا أمران؛ الأول: ما أشار إليه السعد والسيد من أخذ الحال من المحذوف أو المذكور، لا شك أنهما وجهان متغايران عند من له في التحقيق يدان، وإنما الكلام في أنهما: هو يستويان دائمًا أو يترجح أحدهما في بعض الأحيان؟.
والذي يقتضيه النظر وإليه يشير كلامهم، رجحان أحدهما على الآخر بحسب المقام، بل تعيينه كما لا يخفى على من له بالقواعد إلمام، فيترجح أخذها من المحذوف في: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، وإن جرى السيد على خلافه كما مر، فقد قال صاحب الكشاف: المعنى لتكبروا الله حامدين، ولم يقل لتحمدوا الله مكبرين، قال بعضهم: لأن الحمد إنما يستحق ويطلب لما فيه من التعظيم، وكما في حديث: "أن تؤمن بالقضاء. . ."، فالمعنى: أن تؤمن معترضًا بالقضاء؛ لا أن تعترف بالقضاء مؤمنًا؛ لأن "أن" والفعل يسبك بمصدر معروف، وهو لا يقع حالًا كما قال الرضي في الكلام على أن "إن" تكسر وجوبًا إذا وقعت حالًا، وإن كان لا يخلو عن نظر؛ لعدم وجوب كون المصدر المسبوك معرفة كما يأتي، ولما يدلان عليه من اسم الفاعل حكمهما، وفي بعضها يترجح أخذها من المذكور كما إذا ضمن العلم معنى القسم، نحو: علم الله لأفعلن، فالمعنى: أقسم بالله عالمًا لأفعلن لا عكسه؛ لأن "أقسم" جملة إنشائية لا تقع حالًا إلا بتأويل، واسم الفاعل الواقع حالًا قائم مقامها فيعطى حكمها، ونحو: "فأماته الله مائة عام"؛ لأن التقدير: ألبثه الله مائة عام مماتًا، لا أماته الله مائة عام ملبثًا؛ لأنه يلزم منه ألا تكون الحال مقارنة بل مقدرة، والأصل كونها مقارنة.
وأما ما توهمه بعضهم من أنه صلة المتروك تدل على أن المقصود أصالة، فمردود بأنها إنما تدل على كونه مرادًا في الجملة؛ إذ لولاها لم يكن مرادًا أصلًا، بل إن الصلة لا يلزم أن تكون للمتروك كما دل عليه كلام البيضاوي في تفسير: {إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} ، فإنه فسر "انتبذت" باعتزلت، وذكر أنه متضمن معنى: أتت، و"مكانًا" ظرف أو مفعول، ولا شك أن قوله: "من أهلها"، حينئذ متعلق "بانتبذت" الذي بمعنى: اعتزلت، لا بأتت.
ومما يتفطن له أن المراد بالصلة ما له دلالة على التضمين؛ لارتباطه بالمحذوف(2/573)
الذي في ضمن المذكور، فيشمل ما إذا ضمن اللازم معنى المتعدي، فإن التعدية حينئذ قرينة التضمين لا ذكر الصلة.
وأما إذا ضمن فعل متعد لواحد معنى متعد لاثنين وبالعكس، كتضمن العلم معنى القسم كما مر، فإن القرينة إنما هو الجواب.
الثاني: هل الخلاف في كون التضمين سماعيًا أو قياسيًا، مبني على الخلاف في أنه حقيقة أو مجاز إلى غير ذلك مما فيه من المذاهب؟ وهل ذلك في المجاز مبني على كون المجاز سماعيًا أو لا؟
والذي يخطر بالبال أنه على القول بأنه حقيقة لا تتوقف على سماع، واشتراط المناسبة بين اللفظين لا يقتضي ذلك كما لا يخفي، وأنه يلزم من كون مطلق المجاز قياسيًا قياسية هذا المجاز الخاص، خلافًا لبعضهم.
قال في التلويح: المعتبر في المجاز وجود العلاقة المعلوم اعتبار نوعها في استعمال العرب، فلا يتشرط اعتبارها بشخصها، حتى يلزم في آحاد المجاز أن ينقل بأعيانها عن أهل اللغة، وذلك لإجماعهم على اختراع الاستعارات العربية البديعة التي لم تسمع بأعيانها من أهل اللغة، وهي من طرق البلاغة وشعبها التي بها ترتفع طبقة الكلام، فلو لم يصح لما كان كذلك، ولهذا لم يدونوا المجاز تدوينهم الحقائق، وتمسك المخالف بأنه لو جاز التجوز بمجرد وجود العلاقة لجاز: "نخلة" لطويل، غير إنسان، للمشابهة، و"شبكة" للصيد، للمجاورة، و"أب"، لابن، للسببية، واللازم باطل اتفاقًا.
وأجيب بمنع الملازمة، فإن العلاقة مقتضية للصحة، والتخلف عن المقتضي ليس بقادح، لجواز أن يكون لمانع مخصوص، فإن عدم المانع ليس جزءًا من المقتضى.
وذهب المصنف رحمه الله إلى أنه لم يجز نحو "نخلة" لطويل غير إنسان، لانتفاء شرط الاستعارة، وهو المشابهة في أخص الأوصاف، أي: فيما له مزيد اختصاص بالمشبه به، كالشجاعة للأسد.
فإن قيل: الطول للنخلة كذلك، قلنا: لعل الجامع ليس مجرد الطول، بل مع فروع وأغصان في أعاليها، وطراوة وتمايل فيها.(2/574)
ولا شك أن على القول بأن التضمين مجاز، فهو لغوي علاقته تدور على المناسبة، وهي مع أنها ليست مما نصوا عليه في العلاقات أمر مشترك بين أفراده، لكن الذكي يرجعها في كل موضع إلى ما يليق به، مما هو من العلاقات المعتبرة، وبذلك يمتاز بعض الأفراد عن بعض آخر، والتخلف في بعض الأفراد إن فرض لا يضر، كما علمت.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام، وقل من حققه مع إطالته الكلام.
فتمم الكلام على بقية الأقوال، تقدم ثلاثة.
والرابع: وهو الذي ارتضاه السيد، أن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعيته معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ ويقدر له لفظ آخر، فلا يكون من الكناية ولا الإضمار، بل من الحقيقة التي قصد منها معنى آخر يناسبها ويتبعها في الإرادة، وحينئذ يكون واضحًا بلا تكلف.
وهذه مبني على أن اللفظ يدل على المعنى، ولا يكون حقيقة، ولا مجازًا، ولا كناية، والسيد جوزه ومثله بمستتبعات التراكيب، وذلك أن الكلام قد يستفاد من عرضه معنى ليس دالًا عليه بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة، كما يفيد قولك: "آذيتني فستعرف" التهديد، "وإن زيدًا قائم" إنكار المخاطب.
و"السعد" وغيره جعلوا ذلك كناية.
والمراد من التبعية في قوله: "لكن قصد بتبعيته" التبعية في اللفظ، كما يصرح به قوله في حواشي المطول في بحث الاستعارة عند الكلام في قوله:
"أسد علي وفي الحروب نعامة" لا ينافي تعلق الجار به إذا لوحظ مع ذلك المعنى ما هو لازم له، ومفهوم منه؛ من الجراءة والصولة.
والفرق بين هذا الوجه والتضمين، أن في التضمين لا بد أن يكون المعنى المقصود من اللفظ تبعًا مقصودًا في المقام أصالة، وبه يفارق التضمين الكناية، وفي هذا الوجه لا يكون المعنى الملحوظ تبعًا مقصدًا في المقام أصلًا، كيف والمقام مقام التشبيه بالأسد على وجه المبالغة، وذلك يغني عن القصد إلى وصف الجراءة، والصولة مرة أخرى.(2/575)
وبذلك يندفع قول ابن كمال باشا في رسالة التضمين: إن قيد: "يتبعه في الإرادة" يخرج المعنى الآخر عن حد الأصالة في القصد، والأمر في التضمين ليس كذلك، بل قد تكون العناية إليه أوفر، ومن العجب أنه نقل كلام حاشية المطول في تلك الرسالة.
وأما الاعتراض على ما قاله "السيد" بأنه: كيف يعمل اللفظ باعتبار معنى لا يدل عليه، فلا يرد؛ لأن اللفظ دال عليه، لكنه لم يستعمل فيه.
والخامس: أن المعنيين مرادان على طريق الكناية، فيراد المعنى الأصلي توصلا إلى المقصود، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.
قال السيد: وفيه ضعف؛ لأن المعنى المكنى به قد لا يقصد، وفي التضمين يجب القصد إلى كل من المضمن والمضمن فيه. ا. هـ.
ولا يخفى أن "قد" علم القلة في عرف المصنفين، وجعلها المناطقة سور الجزئية. فمن الغريب قول بعضهم: إن أراد أنه لا يقصد أصلًا فممنوع؛ لتصريحهم بخلافه، وإن أراد التقليل أو التكثير لم يثبت المطلوب؛ لأن عدم إرادته في بعض المواضع لا ينافي إرادته في بعض الآخر.
وحاصل ما أشار إليه السيد: أن الكناية في بعض الأحيان لا يقصد منها المعنى الأصلي، ولو كان التضمين منها لاستعمل استعمالها في وقت ما.
ويجاب كما قال العصام: بأنه قد يجب في بعض الكناية شيء لا يجب في جنسها، ولذلك سمي باسم خاص. ا. هـ.
فإن قيل: إذا شرط في التضمين وجوب إرادة المعنيين، نافي الكناية؛ لأن المشروط فيها جواز إرادته.
أجيب: بأن المراد بالجواز الإمكان العام المقيد بجانب الموجود، لإخراج المجاز، لا الجواز بمعنى الإمكان الخاص؛ لظهور أن عدم إرادة الموضوع له لا مدخل له في خروج المجاز، حتى لو وجب إرادته خرج أيضًا، وأورد بعضهم على قول السيد: إن التضمين يجب فيه القصد إلى المعنيين، أنه ممنوع، وادعى أنه وارد على طريق الكناية، قال: ألا ترى أن معنى الإيمان جعلته في الأمان، وبعد(2/576)
تضمينه بمعنى التصديق لا يقصد معناه الأصلي، وأرأيتك بمعنى أخبرني. "ا. هـ"، وهو باطل، لما أنه مفوت فائدة التضمين من أداء كلمة مؤدى كلمتين، وجعل: "أرأيتك" بمعنى: أخبرني من التضمين: غير ظاهر.
والسادس: أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز كما بيناه في رسالتنا.
وذكر بعضهم في التضمين قولًا آخر لو صح كان "سابعًا"، وهو: أن دلالته غير حقيقية؛ ولا تجوز في اللفظ، وإنما التجوز في إفضائه إلى المفعول، وفي النسبة غير التامة، ونقل ذلك عن ابن جني، وقال: ألا ترى أنهم حملوا النقيض على نقيضه، فعدوه بما يتعدى به، كما عدوا: "أسر" بالباء، حملًا: على "جهر" و"فضل" بعن حملا على "نقص"، ولا مجاز فيه قطعًا بمجرد تغيير صلته، وإنما هو تصرف في النسبة الناقصة. ا. هـ.
وهذا القول مخالف لما نص عليه ابن جني في الخصائص، وقد تقدم كلامه فيها. ومن العجب أن هذا الناقل نقل كلامه في الخصائص، واستدل به المذهب في التضمين جعله مغايرًا لهذا، وحمل النقيض على النقيض ليس من التضمين، ولا قريب منه ليقرب به، ولهذا قابله بعضهم به، فإنه قال في المغني في بحث "على" وقد تكلم على قوله: "إذا رضيت على بنو قشير" يحتمل أن يكون "رضي" ضمن معنى: "عطف"، وقال الكسائي: حمل على نقيضه وهو سخط. ا. هـ. سأل الله تعالى الرضا بغير سخط، بفضله وكرمه.
وبقي قول آخر: إن ثبت كان "ثامنًا"، واختاره المولى ابن كمال باشا حيث قال: وبالجملة لا بد في التضمين من إرادة معنيين من لفظ على وجه يكون كل منهما بعض المراد، وبه يفارق الكناية، فإن أحد المعنيين تمام المراد، والآخر وسيلة إليه، لا يكون مقصودًا أصالة، وبما قررناه اندفع ما قيل، والفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي، فلا دلالة له على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر، فلا دلالة على المعنى الحقيقي، وإن كان فيهما لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يمكن أن يقال ههنا ما يقال في الجمع بين المعنيين في صورة التغليب؛ لأن كلا من المعنيين ههنا مراد بخصوصه. ا. هـ، المقصود منه.
ولا يخفى أنه لم يظهر الدفاع الجمع بين الحقيقة والمجاز في التضمين، لما(2/577)
اعترف به من أن كلا من المعنيين مراد بخصوصه، ثم قال: إن التضمين على المعنى الذي قررناه، لا اشتباه بينه وبين المجاز المرسل؛ لأنه مشروط يتعذر المعنى الحقيقي، وهو فيه متعذر، نعم يلزم اندراجه تحت مطلق المجاز، وبين أن الحق أنه ركن مستقل من أركان البيان، كالكناية أو المجاز المرسل، وأنه فيه مندوحة عن تكلف الجمع بين الحقيقية والمجاز، وفي قوله: "إن المعنى الحقيقي في التضمين غير متعذر"، نظر؛ لأنه متعذر بواسطة القرينة كما عرف مما مر، ولا بد من المصير إلى المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن القرينة في المجاز إنما تمنع من إرادة الحقيقية فقط، فاحفظه، فإنه مما يقع فيه الغلط.
ثم إنه علم من كلامه أن في المذهب الذي اختاره السلامة من الجمع بين الحقيقة والمجاز اللازم على بعض الأقوال، وهو القول الثاني المتقدم، كما عرفت تحقيقه مما مر، فدعوى أن شبهة الجمع في التضمين مطلقًا واهية، دعوى باطلة، ولم يرد بذلك على السيد، كما لا يخفى على من راجع كلامه، وإن كلام السيد لا يتوهم فيه ذلك الجمع، فمن قال: إنه اعترض عليه بذلك فقد افترى.
في كلام ياسين ثمانية أقوال في التضمين:
الأول: أنه مجاز مرسل؛ لأن اللفظ استعمل في غير معناه لعلاقة وقرينة.
الثاني: أن فيه جمعًا بين الحقيقة والمجاز لدلالة المذكور على معناه بنفسه، وعلى معنى المحذوف بالقرينة.
الثالث: أن الفعل المذكور مستعمل في حقيقته لم يشرب معنى غيره، "كما جرى عليه صاحب الكشاف"، ولكن مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر المناسب، بمعونة القرينة اللفظية، كما ذكر السعد.
وقال السيد: "ذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ما هو من متعلقاته"، وفيما مثل به جعل المحذوف أصلًا، والمذكور مفعلًا و"كأحمد إليك فلانًا"، أي: أنهى إليك حمده، بمعنى أن المذكور يدل على ذلك كما يدل على الحال، وقد أراد السيد بيان وجه آخر، ليفيد أن ذلك أمر اعتباري لا ينحصر فيما قاله السعد.(2/578)
الرابع: أن اللفظ مستعمل في معناه الأصلي، فيكون هو المقصود أصالة، ولكن قصد بتبعيته معنى آخر، فلا يكون من الكناية ولا الإضمار.
الخامس: أن المعنيين مرادان على طريق الكناية، فيراد المعنى الأصلي، توصلًا إلى المقصود، ولا حاجة إلى التقدير إلا لتصوير المعنى.
السادس: أن المعنيين مرادان على طريق عموم المجاز.
السابع: أن دلالته غير حقيقية، ولا تجوز في اللفظ، وإنما التجوز في إفضائه إلى المعمول، وفي النسبة غير التامة، ونقل ذلك عن ابن جني، وقال: ألا ترى أنهم حملوا النقيض، على نقيضه، فعدوه بما يتعدى به، كما عدوا: "أسر" بالباء حملًا على: "جهر"، "وفضل" بعن حملًا على: "نقص".
وقد علق هذا القول على الصحة.
الثامن: أنه لا بد في التضمين من إرادة معنيين في لفظ واحد على وجه يكون كل منهما بعض المراد، وبذلك يفارق الكناية، فإن أحد المعنيين تمام المراد، والآخر وسيلة إليه لا يكون مقصودًا أصالة"، "وهذا اختيار ابن كمال باشا"، وقد علق هذا القول على الثبوت.
وقال السيوطي في الأشياء، والنظائر: قال الزمخشري في شأنهم: يضمنون الفعل معنى فعل آخر؛ فيجرونه مجراه، ويستعملونه استعماله، مع إرادة معنى المتضمن. قال: والغرض في التضمين إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى. ألا ترى كيف رجع معنى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، أي: ولا تضموها إليها آكلين. ا. هـ.
قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في حاشية الكشاف: فإن قيل: الفعل المذكور إن كان مستعملًا في معناه الحقيقي فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي، وإن كان فيهما جميعًا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
قلنا: هو في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر بمعونة(2/579)
القرينة اللفظية؛ فمعنى يقلب كفيه على كذا: نادمًا على كذا، ولا بد من اعتبار الحال، وإلا كان مجازًا لا تضمينًا، وكذا قوله: "يؤمنون بالغيب" تقديره: معترفين بالغيب. ا. هـ.
وقال ابن يعيش: الظرف منتصب على تقدير "في"، وليس متضمنًا معناها حتى يجب بناؤه لذلك، كما وجب بناء نحو: "من وكم " في الاستفهام، وإنما "في" محذوفة من اللفظ لضرب من التخفيف، فهي في حكم المنطوق به، ألا ترى أنه يجوز ظهور "في" معه، نحو قمت اليوم وقمت في اليوم، ولا يجوز ظهور الهمزة من "من وكم" في الاستفهام، فلا يقال: أمن؟ ولا أكم؟ وذلك من قبل أن "من وكم" لما تضمنا معنى الهمزة صارًا كالمشتملين عليها، فظهور الهمزة حينئذ كالتكرار، وليس كذلك الظرف، فإن الظرفية فيه مفهومة من تقدير "في"، ولذلك يصح ظهورها.
ثم ذكر أن ابن جني قال في التضمين: "ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئًا كثيرًا لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابًا ضخمًا، وقد عرفت طريقه، فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأنس به، فإنه فصل من العربية لطيف حسن".
وقال ابن هشام في تذكرته: زعم قوم من المتأخرين منهم خطاب الماردي أنه قد يجوز تضمين الفعل المتعدي لواحد معنى: "صير" ويكون من باب: "ظن"، فأجاز: حفرت وسط الدار بئرًا؛ أي: صيرت، قال: وليس "بئرًا" تمييزًا، إذ لا يصلح لمن، وكذا أجاز: بنيت الدار مسجدًا، وقطعت الثوب قميصًا. وقطعت الجلد نعلًا، وصبغت الثوب أبيض إلخ. . .
قال: والحق أن التضمين لا ينقاس، وقال ابن هشام في المغني: قد يشربون لفظًا معنى لفظ فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك: تضمينًا، وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين، ثم ذكر لذلك عدة أمثلة منها قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ضمن معنى تحرموه، فعدي إلى اثنين لا إلى واحد، ومنها: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ضمن معنى: تنووه، فعدي بنفسه لا بعلى، وقوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} ضمن معنى "يصغون"، فعدي بإلى، وأصله أن(2/580)
يتعدى بنفسه، ومثل: سمع الله لمن حمده، ضمن معنى: استجاب، فعدي باللام، ومثل: "والله يعلم المفسد من المصلح"، ضمن معنى: يميز، فجيء بمن.
وذكر ابن هشام في موضع آخر: من المغني: أن التضمين لا ينقاس، وكذا ذكر أبو حيان، ثم قال السيوطي:
"قاعدة": المتضمن معنى شيء لا يلزم أن يجري مجراه في كل شيء، ومن ثم جاز دخول الفاء في خبر المبتدأ المتضمن معنى الشرط، نحو الذي يأتيني فله درهم. وكل رجل يأتيني فله درهم، وامتنع في الاختيار جزمه عند البصريين، ولم يجيزوا: الذي يأتيني أحسن إليه، أو: كل من يأتيني أحسن إليه، بالجزم، إلا في الضرورة، وأجار الكوفيون جزمه في الكلام تشبيهًا بجواب الشرط، ووافقهم ابن مالك، قال أبو حبان: ولم يسمع من كلام العرب الجزم في ذلك إلا في الشعر. ا. هـ.
قال ابن هشام في المغني: وهو كثير، قال أبو الفتح في كتاب التمام: أحسب لو جمع ما جاء منه، لجاء منه كتاب يكون مئين أوراقًا. ا. هـ.
قال الدسوقي: قوله: وهو أي التضمين كثير، وقوله: قال أبو الفتح: دليل لقوله وهو كثير، "قوله: قال أبو الفتح إلخ"، هذا ربما يؤيد القول بأن التضمين قياسي، وقيل: البياني فقط، وظاهر أنه ليس كل حذف مقيسًا، وكذا المجاز إذا ترتب عليه حكم زائد. ا. هـ.
وقال ابن هشام في أوائل الباب الخامس من المغني: وفائدة التضمين أن يدل بكلمة واحدة على معنى كلمتين، يدلك على ذلك أسماء الشروط والاستفهام.
قال الأمير: قوله: "على معنى كلمتين" ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز، وسبق الخلاف في ذلك، قال ابن جني: لو جمعت تضمينات العرب ملأت مجلدات، فظاهره القول بأنه قياسي، قوله: أسماء الشروط مثلًا "من" معناها العاقل، وتدل مع ذلك على معنى إن، والهمزة. ا. هـ.
وقال ابن هشام في معاني الباء من المغني: "الثالث عشر" الغاية، نحو: "وقد أحسن بي"، أي: إلي، وقيل: ضمن أحسن معنى: لطف. ا. هـ.
قال الأمير: ظاهره كقولهم: التضمين إشراب الكلمة معنى آخر، وأنه مجاز،(2/581)
أو حقيقة ملوحة، أو جمع بينهما؛ يقتضي مغايرة المعنيين، ولا يظهر في الإنسان واللطف، فالأولى أن التضمين إلحاق كلمة بأخرى لاتحاد المعنى أو تناسبه، ويأتي الكلام فيه، وهل هو قياسي أو البياني1؛ لأنه مجرد حذف لدليل إن قلنا بمغايرته للنحوي. ا. هـ.
وقال الملوي على السلم: "وذللت فيه صعاب المشكلات على طرف الثمام".
فقال: الصبان: "الثمام" بضم المثلثة: نبت ضعيف يشد به فرج السقوف، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف: أي: ووضعتها، فهو من باب حذف الواو مع ما عطفته لعدم اللبس، أو: "بذللت"، على تضمينه معنى "وضعت" تضمينًا نحويًا، وقد نقل أبو حيان في ارتشافه عن الأكثرين أن ينقاس، فهو في باب الجمع بين الحقيقة والمجاز.
أو بحار محذوفة من فاعل ذللت، أي: واضعًا لها، أو من مفعوله: أي: موضوعة، فعلى هذين التضمين بياني، وهو مقيس. ا. هـ.
وقال الصبان على الأشموني: إن التضمين النحوي إشراب كلمة معنى أخرى، بحيث تؤدي المعنيين، والتضمين البياني تقدير حال تناسب الحرف، وتمنع كون التضمين النحوي ظاهرًا عن البياني، للخلاف في كون النحوي قياسيًا: وإن كان الأكثرون على أنه قياسي، كما في ارتشاف أبي حيان دون البياني فاعرفه. ا. هـ، أي: فلا خلاف في كونه قياسيًا، كما أشار إليه قبل بقوله: "وهو مقيس".
وقال صاحب التصريح في آخر الكلام في المفعول معه: "واختلف في التضمين: أهو قياسي أم سماعي، والأكثرون على أنه قياسي، وضابطه أن يكون الأول والثاني يجتمعان في معنى عام، قاله المرادي في تلخيصه. ا. هـ"، وكلامه في النحوي، وقال ياسين على القطر في أن "التضمين إشراب لفظ معنى لفظ آخر" هو أحد أقوال خمسة في التضمين، والمختار منها عند المحققين أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي، مع حذف حال مأخوذ من اللفظ الآخر، بمعونة القرينة اللفظة، فمعنى "يقلب كفية على كذا": أي: نادمًا على كذا، وقد
__________
1 سبق المراد من البياني في ص568.(2/582)
يعكس كما في: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، أي: يعترفون به مؤمنين، وبهذا يتوقع أن اللفظ المذكور إن كان في معناه الحقيقي فلا دلالة على الآخر، وإن كان في معنى الآخر فلا دلالة على المعنى الحقيقي، وإن كان فيهما لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
لقد ذكرنا طائفة من أقوال العلماء في التضمين، وذكرنا القول بأنه سماعي، والقول بأنه قياسي، ورأيناه قوة في القول بأنه قياسي، ونقلنا فيما تقدم أن التضمين ركن من أركان البيان، فإن ذهبنا إلى القول بأنه قياسي، قلنا: إنما يستعمله العارف بدقائق العربية وأسرارها على نحو ما ورد، وإنك لتجد كثيرًا في عبارات المؤلفين فيها التضمين، فمن ذلك عبارة الملوي السابقة، ومن ذلك قول ابن مالك "وأستعين الله في ألفية"، فقد جوز الأشموني أنه ضمن أستعين معنى: أستخير، ونحوه مما يتعدى بفي.
ذكرنا القول بأن التضمين سماعي، ومعناه أن يحفظ ولا يقاس عليه، وذكرنا قول القائلين: إن التضمين النحوي قياسي عند الأكثرين، وأن التضمين البياني قياسي بإجماع النحويين، وقد ذكر ابن جني في الخصائص أنه لو نقل ما جمع من التضمين عن العرب لبلغ مئين أوراقًا.
والتضمين مبحث ذو شأن في اللغة العربية، وللعلماء في تخريجه طرق مختلفة فقال بعضهم: إنه حقيقة، قال بعضهم: إنه مجاز، وقال آخرون: إنه كناية، وقال بعضهم: إنه جمع بين الحقيقة والمجاز على طريقة الأصوليين؛ لأن العلاقة عندهم لا يشترط فيها أن تمنع من إرادة المعنى الأصلي ...
فإذا قررنا التضمين قياسي، فقد جرينا على قول له قوة، وإذا قلنا: إنه سماعي، فقد يعترض علينا من يقول: إن علماء اللغة من يرى أنه قياسي، فلماذا تضيقون على الناس، وما جئتم إلا لتسهلوا اللغة عليهم؟
فنحن نثبت القولين بالقياس وبالسماع، ولكنا نرجع قياسيته، والقول بجواز استعماله للعارفين بدقائق العربية وأسرارها، ولا يصح أن نحظره عليهم؛ لأنه داخل في الحقيقة، أو المجاز، أو: الكناية، والبلغاء يستعملونه في كلامهم بلا حرج،(2/583)
فكيف نسد باب التضمين في اللغة، وهو يرجع إلى أصول ثابتة فيها؟.
وأقول بعد هذا: لا بد من قيود نضبط بها استعمال التضمين، وقد رأى بعض الزملاء أن يقصر التضمين على الشعر، وفي هذا قصر للحقيقة، أو للمجاز، أو للكناية؛ وهي الأصول التي يخرج عليها التضمين على فن من الكلام دون آخر، وهذه الأمور الثلاثة تقع في الشعر والنثر بلا قيد ولا شرط.
على أن الشعر من أكثر فنون القول ذيوعًا، والناس يحفظون الشعر ويجرون على أساليبه في الكتابة والخطابة، فإن أجزنا التضمين في الشعر وحده، وقعنا في الأمر الذي نفر منه، ونحن هنا نقرر الحقائق العلمية، ونرجع منها ما يستحق الترجيح تحقيقًا لأغراضنا.
انتهى البحث.
حضرة رئيس الجلسة: يتفضل الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين بتلاوة بحثه في التضمين1.
حضر العضو المحترم الأستاذ الخضر حسين: للتضمين غرض هو الإيجاز. وللتضمين قرينة، هي تعدي الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه، أو تعديته بنفسه وهو يتعدي بالحرف، وللتضمين شرط هو وجود مناسبة بين الفعلين, وكثرة وروده في الكلام المنثور والمظلوم تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية، متى حافظ على شرطه؛ وهو؛ مراعاة المناسبة.
فإذا لم توجد بين الفعلين العلاقة المعتبرة في صحة المجاز كان التضمين باطلًا. فإذا وجدت العلاقة بين الفعلين ولم يلاحظها المتكلم، بل استعمل فعل: "أذاع" مثلًا متعديًا بحرف الباء على ظن أنه يتعدى بهذا الحرف لم يكن كلامه من قبيل التضمين، بل كان كلامه غير صحيح عربية.
فالكلام الذي يشتمل على فعل عدي بحرف وهو يتعدى بنفسه، أو عدي بحرف وهو يتعدى بغيره، يأتي على وجهين:
__________
1 وهو البحث الثاني في الموضوع نفسه قد استمع له الأعضاء في الجلسة ذاتها بعد الأول، كما أشرنا في هامش ص564.(2/584)
الوجه الأول: ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به، حتى تخرج الجملة على طريقة التضمين، ومثل هذا نصفه بالخطأ، والخروج عن العربية، ولو صدر من العارف بفنون البيان.
الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل يصح أن يقصد المتكلم لمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم، وهذا إن صدر ممن شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها حمل على وجه التضمين الصحيح، كما قال سعد الدين التفتازاني: "فشمرت عن ساق الجد إلى اقتناء ذخائر العلوم"، والتشمير لا يتعدى بإلى، فيحمل على أنه قد ضمن شمر معنى: "الميل" الذي هو سبب التشمير عن ساق الجد.
فإن صدر مثل هذا من عامي أو شبيه بعامي1، أي: ممن يدلك حالة على أنه لم يبين كلامه على مراعاة فعل آخر مناسب للفعل الملفوظ، كان لك أن تحكم عليه بالخطأ، فلا جناح عليك أن تحكم على قول العامة مثلًا أرجو الله قضاء حاجتي، باللحن والخروج عن قانون اللغة الفصحى؛ لأن فعل الرجاء لا يتعدى إلى مفعولين، وليس لك أن تخرجه على باب التضمين، كأن تجعل "أرجو" مشربًا معنى "أسأل" بناء على أن بين الرجاء، والسؤال علاقة السببية والمسببة، فإن هذا الوجه لم ينظر إليه أولئك الذين استعملوا فعل "أرجو" متعديًا إلى المفعولين.
ومن هنا نعلم أن من يخطئ العامة في أفعال متعدية بنفسها، وهم يعدونها بالحروف، مصيب في تخطئته، إذا لم يقصدوا لإشراف هذه الأفعال معاني أخرى تناسبها، حتى يخرج كلامهم على باب التضمين.
وليس معنى هذا أن التضمين سائغ للعارف بطرق البيان دون غيره، وإنما أريد أن العارف بوجوه استعمال الألفاظ، لا نبادر إلى تخطئته، متى وجدنا لكلامه مخرجًا من التضمين الصحيح، أما غيره كالتلاميذ، ومن يتعاطى الكتابة من غير
__________
1 تكرر هذا الكلام من الباحث وغيره، والنفس لا ترتاح إليه: لجواز أن يكون العامي بل غير اللغوي، مطلقًا مقلدًا اللغوي، بقصد، أو بغير قصد في هذا الاستعمال، كالشأن في كثير من أمور اللغة، وإنما الذي ترتاح له النفس ويجب أن يتجه إليه الحكم، ويقتصر عليه دائمًا هو أن هذا التعبير أو ذاك صحيح لغويًا أو غير صحيح.(2/585)
أن يستوفي وسائلها، فإن قام الشاهد على أنه نحا نحو التضمين، كما إذا اعترضت عليه في استعمال الفعل المتعدي بنفسه متعديًا بحرف، فأجاب بأنه قصد التضمين وبين الوجه، فوجدته قد أصاب الرمية؛ فقد اعتصم منك بهذا الجواب المقبول، ولم يبق لاعتراضك عليه من سبيل.
وإن قام شاهد على أن المتكلم لم يقصد التضمين، وإنما تكلم على جهالة بوجه استعمال الفعل، كان قضاؤك عليه بالخطأ قضاء لا مراد له، فمصحح ما يكتبه التلاميذ ونحوهم، يجب عليه أن يرد الأفعال إلى أصولها، ولا يتخذ من التضمين وجهًا لترك العبارة بحالها، والكاتب لا يعرف هذا الوجه، أو لم يلاحظه عند الاستعمال1.
فللتضمين صلة بقواعد الإعراب من جهة تعدي الفعل بنفسه أو تعديه بالحرف, وصلة بعلم البيان من جهة التصريف في معنى الفعل، وعدم الوقوف به عند حد ما وضع له، ومن هذه الناحية لم يكن كبقية قواعد علم النحو، قد يستوي في العمل بها خاصة الناس وعامتهم.
حضرة العضو المحترم الأستاذ الشيخ أحمد علي الإسكندري: رجعت إلى أقوال العلماء بعد المناقشة التي دارت أمس، فوجدت أن القائلين بسماعية التضمين إنما يخشون أن يحدث في اللغة فساد واضطراب في معاني الأفعال إذا أباحوه للناس، مع أنهم يسلمون أن ما ورد من التضمين كثير يجمع في مئين أوراقًا.
وقد شرط القائلون بقياسية التضمين شرطين وهما:
1- وجود المناسبة.
2- وجود القرينة.
ثم تأملت في وظيفة علوم البلاغة وخاصة علم المعاني، فوجدت أن موضوعه إن هو إلا بيان الذوق المعبر عنه عندهم "بمقتضى الحال"، وكذلك رأيت الشرطين اللذين اشترطهما العلماء قديمًا للتضمين غير كافيين، فرأيت أن نضيف إليهما قيدًا ثالثًا، هو "موافقة العبارة التي فيها التضمين للذوق العربي"، وذلك ما تنشده علوم البلاغة.
__________
1 هذا الرأي يحتاج إلى قوة تأييد وإقناع، فهو على حالة غير مقبول، انظر هامش الصفحة السالفة.(2/586)
ثم قلت: هل للذوق حد؟ ففطنت إلى وجوب تقييد الذوق بالبلاغي، وهو الذي وضعت علوم البلاغة العربية لتحديد ضوابطه.
وبعد ذلك رأيت أن ألخص مناقشات اللجنة والمجمع ومذكرتي1 التي قدمتها في القرار الآتي:
"التضمين: أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير، مؤدى فعل آخر أو ما في معناه، فيعطي حكمه في التعدية واللزوم، ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي بشروط ثلاثة.
الأول: تحقق المناسبة بين الفعلين.
الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
الثالث: ملاءمة التضمين للذوق البلاغي العربي".
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: التضمين سواء أخرج على الحقيقة أم على المجاز أم على الجمع بين الحقيقة والمجاز، لا يستعمله إلا البلغاء العارفون بأسرار اللغة، وإذا لا يستعمله العامة إلا إذا جارينا من يقول: إن العامة لا يزال عندهم بقية من الذوق العربي والبلاغة.
وأرى أن نأخذ الرأي أولًا على أن التضمين قياسي، ثم نأخذ الرأي على الشروط التي نشترطها لإباحته.
حضرة العضو المحترم الدكتور منصور فهمي: أريد أن أعرف ما فائدة "التضمين" الذي نبحث فيه هذا البحث الطويل، إن كل ما فهمته من كلام فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين أن فائدته الإيجاز، أي: أن تؤدي الكلمة معنى كلمتين، وفي اللائحة التي وضعناها نص يوجهنا إلى العمل لتيسير اللغة على الناس، والذي يريد أن ييسر اللغة على الناس لا يكلفهم العمل الشاق الطويل لمعرفة كلمات تؤدي الواحدة منها معنى كلمتين، ولعل هذه الكلمات لا تزيد على مائتي كلمة، فلا أجد الفائدة كبيرة بتقسيم الناس إلى خاصة وعامة، وطفل وبالغ، وبليغ له
__________
1 طبعت مذكرة حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد الإسكندري في التضمين ملحقة بمحضر هذه الجلسة.(2/587)
ذوق العرب البلاغي، وآخر ليس له هذا الذوق؛ لأنه لم يدرس العربية العلوم التي تفيد الذوق على رأي الأستاذ الإسكندري، قالوا: إن القانون الرياضي، والقانون الطبيعي أولى القوانين بالاحترام؛ لأنه لا يتخلف، والعلوم المختلفة الآن نتيجة اتجاه الرياضيات والطبيعيات، فيحاول أصحابها أن يجعلوا قوانينها كقوانين الرياضيات في الدقة، والضبط وعدم الاستثناء.
وأريد أن نرقى باللغة العربية إلى مضاف العلوم ذات القوانين الثابتة التي يقل فيها الشذوذ والاستثناء.
الغرض من علمنا المحافظة على اللغة وتيسيرها، فهل تتحكم في "تطور" اللغة وذوقها من أجل مئتي كلمة لطبقة خاصة، هذا عمل على ما أرى ليس من خدمة اللغة التي نسعى لخدمتها، نحن الآن نقرر الواقع الذي تقرر منذ أزمان طويلة، فنقول: إن التضمين قياسي أو سماعي، وكنت أظن أن المجمع يدرس الواقع، ويسموا فوقه، فيقرر ما من شأنه أن يحقق حاجات الرقي الحاضر.
قد يكون المثل الأعلى للبلاغة العربية ما يراه بعض الأعضاء في علوم البلاغة وبعض نماذج معروفة، والذي يخيل إلي أن التقدم لا ينبغي أن يقيد بمثل أعلى واحد، فإذا كان تقدم اللغة ينتهي عند معرفة ما قررته علوم البلاغة، فليس هذا عندي تقدمًا، واللغة تتطور مع العصور، وكل هذا يبيح لي ألا ألتزم أمرًا إلا بمقدار، وأرى أن هذا القرار لا يوصلني إلى غايتي.
كل اللغات "تتطور"، فلماذا نريد أن نقف بلغتنا؟ ولو أن كاتب فرنسيًا أو إيطاليًا اليوم أراد أن يرجع إلى أساليب القرن الخامس عشر مثلًا، تشبهًا بكاتب قديم، لقيل: إنه متحذلق، ونحن كأولئك، فلماذا نتعمل ونجهد أنفسنا ونقول بالتضمين؟
والذي أراه أن نقر الماضي على أنه تاريخ، وتتقدم نحو خطوة أخرى، فتقرر أشياء جديدة لا تنافي تاريخ اللغة، وهي مع ذلك تفي بحاجات العصر الحاضر.
وأنا لا أزال على رأيي، فلا أقبل التضمين إلا إذا اضطرني إليه الشعر أو السجع؛ وفي غير ذلك تجري الأفعال في معانيها الأصلية.(2/588)
حضرة العضو المحترم الدكتور فارس نمر: أرى أن كل واحد منها ينظر إلى المسألة من "زاوية" غير التي ينظر منها الآخر، على حد تعبير الرياضيين، وأرجو أن تسمحوا لي أن أورد بعض أمثلة خبرتها بنفسي.
فعندما كنت أدرس الحروف واستعمالها، عرفت أن "متى" تكون بمعنى "من" كما في قول الشاعر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
فأردت أن أبين لأستاذي أني حفظت هذا الشاهد، وأريد القياس عليه في كتابتي، فكتبت له هذه العبارة: "إن صديقي ينتظرني فخرجت متى منزلي إلى السوق"، فأنكر علي قولي، فقلت: إنه على حد قول القائل: أخرجها متى كمه، أي: من كمه، فحار أستاذي، ولم يدر أيمنعني من استعمال الحرف أم يوافقني عليه؟
والذي أريده من الأستاذ الشيخ الخضر حسين أن يجيبني: هل يوافق على أن نستعمل مثل هذه العبارات في العصر الحاضر؟
أنا أجل علماء اللغة، وأحترم ما قالوه، ولا أنازع في قياسية التضمين أو سماعيته، وإنما أريد أن نسهل اللغة على الناس عامة، فنتخير اللغة السهلة الصريحة، ونضع أساسًا، ونحكم حكمًا يلائم هذا العصر، ونسهل على علمائنا وكتابنا الكتابة والتأليف، ليكون المجمع ثقة ومرجعًا للناس.
حضرة العضو المحترم الأب أنستاس الكرملي: أوافق على ما قال الدكتور منصور فهمي، والدكتور نمر، وفي ذكر الشواهد وغيرها تطويل، وقد اختصرت قرار المجتمع ووضعته في الصيغة الآتية:
"يعمل بالتضمين بنوع عام لوروده في كثير من الآيات القرآنية، وفي الشعر القديم والمخضرم والإسلامي، بشرط ألا يقع في التضمين لبس في التعبير، ولا إخلال بالمعنى".
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد على الإسكندري: كلام الأب المحترم يفيد قياسية التضمين، وشرط عدم اللبس هو ما ذكرناه، ونحن ما اخترنا البحث في التضمين إلا لنسهل على الناس الكتابة والكلام؛ لأنه إذا اتسع مجال القول،(2/589)
كان في ذلك رخصة وتيسير، وما قصدنا إلى هذا البحث إلا؛ لأن بعض المتحذلقين من النقاد يأخذون على بعض الشعراء، والكتاب مآخذ ترجع إلى تعدية الأفعال بحروف لا تتعدى بها، ويردون استدلالهم إلى المعاجم دون القواعد اللغوية والنحوية، فإذا قلنا بترجيح قياسية التضمين، فإنما نقصد بهذا توجيه مثل هؤلاء النقاد إلى أشياء غابت عنهم، ونيسر في الوقت ذاته على الكتاب والشعراء مجال القول والكتابة، فنزيد الثروة اللغوية بتعدد أساليب التعبير وصوره، وإني أقرر أن عمل المجمع لا يقف عند ذكر الآراء المختلفة ونصوص العلماء، وإنما يذكرها ليوازن بينها ويرجع رأيًا على رأي، إذا رأى أن في هذا الترجيح فائدة، والمجمع بقرار الجديد، متى كان موافقًا للذوق البلاغي والقواعد الصحيحة، ولا ينبغي أن يكون ذوق العامة حجة على أهل اللغة، وقياس لغتنا على اللغات الأوروبية قياس مع الفارق، وفائدة التضمين لا تقتصر على مائة كلمة أو مائتين، وإنما هو باب واسع يتعلق بجميع الأفعال في اللغة العربية، ولكننا لا نبيح التضمين على إطلاقه؛ لأن هذا يجر إلى الفوضى والفساد في اللغة، ولهذا نشترط له شروطًا خاصة.
حضر العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: إذا قلنا: إن التضمين قياسي، فقد وافقنا القدماء، وإذا قلنا: إنه سماعي فقد وافقناهم في ذلك أيضًا، أما إذا قلنا: إنه قياسي بشرط أنه يسيغه الذوق؛ فهذا تلفيق بين المذهبين، ونحن كمجمع، ينبغي ألا نرجع المسألة إلى الذوق؛ لأن ذلك رد إلى مجهول، فلا بد إذًا أن نضع ضوابط وأمثلة نقدمها للجمهور ليحتذيها.
حضرة العضو المحترم الأستاذ نلينو: استفدت كثيرًا من المناقشة في هذا الباب. وعلى الرغم من أني أستحسن قرار الإسكندري بقيوده التي وضعها، فإني أرى أن فتح باب التضمين في عصرنا يجر إلى كثير من الخطأ؛ لأننا لا نستطيع أن نميز الخاصة من العامة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف: "قدم اقتراحًا مكتوبًا طلب فيه أن توضع أمثلة للتضمين ليحتذيها الناس".
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: قال بعض حضرات الأعضاء:(2/590)
ما أتت به اللجنة من الكلام في التضمين معروف، والمجمع ألف لجنته للبحث في التضمين، وكتابة تقرير فيه، فبحثت اللجنة، وكتبت التقرير، وذكرت آراء العلماء؛ ووجدت أن القول بقياسيته أقوى من القول بسماعيته، ثم رفعت عملها إلى المجمع وهو صاحب الرأي فيه: فلا لوم علينا في نقل كلام القدماء.
أما ما قاله حضرة الدكتور منصور فهمي من أن فائدة التضمين الإيجاز، وهو فائدة يسيرة، فلا نقره عليه؛ لأن الإيجاز مقصد من مقاصد البلغاء: وأصل من أصول الأساليب اللغوية.
وأما القول بأن التضمين بفتح باب الخطأ والفساد في اللغة، فهذا صحيح، ولكن علاج هذا أن يتعلم الناس قواعد لغتهم التي تعصمهم من الوقوع في الخطأ، فكما أن إغفال الاشتقاق والتصريف يجر إلى الخطأ فيهما، كذلك يجر إهمال قواعد التضمين، وضوابطه إلى الخطأ في الأسلوب، فإذا ثابرنا على تعليم قواعد اللغة في المدارس مثلًا، انتشرت الأساليب الصحيحة وذاعت، وفتح باب التضمين يسهل اللغة على الناس، أما القول بسماعيته فهو التضييق والحجر. وإذا قلنا بهذا فربما جاء زمان يقول فيه الناس كان باب التضمين مفتوحًا بالقياس، فسده مجمع اللغة العربية، وأنه لا بد من سبب اضطره إلى هذا، فإذا قرأ الناس ما جاء في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية من التضمين، توهموا أو ظنوا أن فيها شيئًا حمل المجمع على حظر التضمين على الناس.
وأما قول حضرة الدكتور منصور: إن فائدة التضمين محصورة في مائتي كلمة، فهذه مبالغة؛ لأننا على أي وجه خرجناه فقد خرجنا على ما هو قياسي: من حقيقة أو مجاز، أو كناية، وهذه أمور مقيسة لا تحصر.
والقول بقصره على الشعر والسجع مع أن شأنهما الشيوع يوقعنا فيما نريد الفرار منه.
واللجنة قد أدت عملها، وهو البحث في مسألة التضمين، وبقي الكلام في اتقاء الخطأ الذي يقع فيه العامة، فإذا رأى المجمع أن اتقاء ذلك يكون بقصر استعمال التضمين على العارفين باللغة ودقائقها، فإني أوافق عليه، وإذا رأى المجمع أن يرجئ بت الكلام في التضمين، فله ما يرى.(2/591)
حضرة رئيس الجلسة: لا بد أن نقر فيه اليوم قرارًا.
حضرة العضو المحترم الأستاذ فيشر: أنا مواقف على ما قال الدكتور منصور فهمي والأب الكرملي، وقولهما بالتقريب هو قول فقهاء اللغة الأوربيين العصريين في حياة اللسان وتقدمه وترقيه، حسن عندهم ما يرد في الأشعار المشهورة، وفي كتب الأدب الحسنة وما يسمع من ناس كثيرين، والسماع عندهم أولى من القياس.
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: أرى أن أضيف في آخر القرار الذي اقترحته العبارة الآتية: "ويوصي المجمع ألا تستعمل هذه الرخصة في كتابة المبتدئين، ولا في الكتابة العلمية".
حضرة العضو المحترم محمد كرد علي "بك": لا أرى، وقد ضبطت اللغة وقررت قواعدها وأصول بلاغتها، أن نقر شيئًا جديدًا في التضمين؛ لأني أخشى أن يفتح الباب لكل كاتب أو شاعر أن يخترع أمورًا وتعابير تزيدنا اضطرابًا، ولا يقرها القدماء الذين عرفوا ضوابط اللغة برمتها، وعللوا في هذه المسألة مسألة التضمين التي نحن بصددها، فقال قوم بقياسيتها وآخرون بسماعيتها إلخ، وإذا كان لا بد من التعرض لهذه المسألة التي قتلها زملائي بحثا كاد يخرجنا عن الغرض الذي نتوخاه إذا كان لا بد من التعرض لهذه المسألة، فأرى إجراء تعديل خفيف في صورة القرار الذي اقترحه الأستاذ الإسكندري، أو نسكت الآن عن هذه المسالة وهو الأولى، ونصرف جهدنا إلى العمليات لنخرج أولًا للأمة ألفاظًا، وتعابير تشتد الحاجة إليها من ألفاظ العلوم والفنون، وبذلك تكون قد قمنا بالجزء العلمي من واجب المجمع.
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: قال بعض حضرات الأعضاء: إن التضمين لا يقبل منه إلا ما يستسيغه الذوق البلاغي، فبماذا تحدون الذوق البلاغي؟
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: وضعت كلمة الذوق البلاغي العربي، اتقاء لحذلقة بعض الناس، مثل كتاب: "البرازيل" وغيرها ممن خرجوا على قواعد اللغة وأساليبها، حتى صار كلامهم يشبه الرطانة، فإذا جاءنا واحد من هؤلاء، وقال: إن هذا ذوقي الخاص، قلنا له: إنك تخالف الذوق العربي الذي لا يزال ثابتًا بحكم الفطرة والسليقة في البلاد العربية، والذي يجري عن قواعد اللغة والبلاغة ولا ينفر منها.(2/592)
حضرة العضو المحترم الشيخ حسين والي: أنكتفي بعبارة الذوق البلاغي، ويكون هذا مرجعنا عند الاختلاف، أم نأتي بأمثلة ضوابط؟
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: نريد ألا يزد الأمر إلى الذوق، بل نستخرج ضوابط بعد درس أمثلة.
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: المتقدمون لم يدونوا قواعدهم إلا بعد الاستقصاء، ولا نريد أن نبحث في أصول القواعد من جديد، فكل هذا قد فرغ منه العلماء قبلنا بأكثر من ألف سنة.
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: المجمع مكلف تقديم تراكيب صحيحة لتتبع، وتراكيب فاسدة لتجتنب، ورجع الناس إلى الذوق لا معنى له وكأننا لم نعمل شيئًا، وابن جني وغيره لم يكلفوا تقديم تراكيب للأمة.
حضرة العضو المحترم الأستاذ علي الجارم: هل ترى أن يقال: الذوق العربي.
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: الذوق العربي يختلف.
حضرة رئيس الجلسة: أتريد أن تحذف كلمة "الذوق"؟
حضرة العضو المحترم الشيخ إبراهيم حمروش: لا، ولكنني أريد أن نضع ضوابط لنحدد ما الذوق؟.
حضرة العضو المحترم الدكتور فارس نمر: التضمين صحيح، وموضوعه عربي، ولكن المجمع يجب أن يقدم الحقيقة على اتباع التضمين إلا حيث تكون ضرورة.
حضرت العضو المحترم الدكتور منصور فهمي: نقول: "ويوصي المجمع ألا يستعمل التضمين في الكتابة العامة".
حضرة العضو المحترم الشيخ أحمد علي الإسكندري: أوافق على هذا، والأصل ألا تخرج عن الحقيقة إلا لنكتة بلاغية.
حضرة العضو المحترم الأستاذ أحمد العوامري "بك" أقترح أن يقال: "ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي".
فوافق أكثر الأعضاء على هذا.
وأمر رئيس الجلسة أن يقرأ نص القرار النهائي، وهو:(2/593)
القرار:
"التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدى فعل آخر أو في معناه، فيعطى حكمه في التعدية واللزوم".
ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي، بشروط ثلاثة:
الأول: تحقق المناسبة بين الفعلين.
الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي.
ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي".
فوافق أكثر حضرات الأعضاء على هذا النص1.
__________
1 الذي ألاحظه في هذا القرار أن شروط "التضمين" المذكورة هي الشروط البلاغية المعروفة في المجاز، حتى الشرط الثالث، فقد نص عليه القدامى لإبعاد المجاز عن القبح، وإلى المجاز ترتاح النفس أكثر من غيره، وهو رأي كثير من أئمة القدماء، فلم العناء، والكد، والجدل العنيف بين المذاهب المتعددة التي تضمنها البحثان المجمعيان؟ وشيء آخر أهم من اعتباره مجازًا، هو أن تلك المذاهب على تشعبها وعنفها لم تستطع أن تثبت في جلاء ويقين، أن اللفظ الوارد قديمًا الذي جرى فيه "التضمين" ليس حقيقة لغوية أصيلة، وأنه تضمن حقًا معى لفظ آخر، فأدى "التضمين" إلى تعدية الأول أو لزومه من طريق العدوى الناشئة من الاتصال والمناسبة بينهما، نعم لم تستطع نفي الحقيقة الأصيلة عنه، وإثبات ما يسمونه: "التضمين"؛ لأن تلك التعدية أو ذاك اللزوم الحادثين من العدوى لا يصلحان دليلًا مقنعًا على وقوع "التضمين": لأنها عدوى وهمية، إذ قد يكون اللفظ الذي دخله التضمين في وهمهم هو في أصله لازم أو متعد من غير علاقة له بلفظ آخر تؤثر فيه.
لقد ورد إلينا اللفظ لازمًا أو متعديًا في كلام قديم كثير يحتج به، فما الدليل القوي على أن تعديته، أو لزومه ليست أصيلة من أول أمرها، وليست مجازًا، وإنما جاءت من الطريق الذي يسمونه: "التضمين"؟ ليس في كلامهم مقنع فيما أرى بل أن اللفظ اللازم أو المتعدي إذا ورد مسموعًا بإحدى هاتين الحالتين في كلام قليل، ولكنه صحيح فصيح كان وروده هذا أصيلًا في الحقيقة اللغوية، ولا يخرجه عن أنه معنى حقيقي كثرة وروده في كلام آخر مسموع يشيع فيه معنى مغاير؛ لأن الحكم على اللفظ بالخروج عن معناه الحقيقي ليس راجعًا إلى قلة استعماله في صورة، وكثرة استعماله في صورة أخرى، وإنما يرجع إلى وجود دليل على أن أحد الاستعاملين أسبق وجودًا عند العرب وأقدم ميلادًا، فالأسبق وحده هو الحقيقي، وأنهم يريدون منه معنى محدودًا دون غيره، ولا اعتبار لغير "الأسبقية" هنا. =(2/594)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم ما هذا الذوق العربي الذي يريده المجمع؟ وكيف يحدد؟ ولم يقتصر "التضمين" على الفعل دون ما يشبه، كما جاء في الشرط الأول الذي أقره المجمع وارتضاه؟ اللهم إلا إذا كان يريد الفعل وما يشبهه، كما يفهم من سياق البحث.
وبعد: فما زالت أدلة "التضمين" واهية، منهارة إن صح تسميتها أدلة"! ! ولم أجد في الآراء السالفة كلها، ولا في أمهات المراجع التي صادفتها ما يزيل الضعف، والرأي الأقوى في جانب الذين يمنعونه ممن عرضنا أسماءهم فيما سبق، أو لم نعرض: ومن هؤلاء الشهاب الخفاجي في "طراز المجالس" ص 219 حيث يصرح بأنه سماعي، وكالدماميني في كتابه: "نزول الغيث" ص 56 حيث يقرر أن تضمين فعل معنى آخر يأباه كثير من النحاة، وكأبي حيان فيما نقله السيوطي في "الهمع" ج 1 ص 149 مصرحًا بقوله: "التضمين لا ينقاس" وغير هؤلاء كثير، بل إن الذين يقصرونه على السماع لم يستطيعوا إثبات أنه ليس بحقيقة، وليس بمجاز، ولا بشيء مركب منهما، وإنما هو نوع جديد اسمه: "التضمين" لم يستطيعوا ذلك؛ لأن العرب الفصحاء نطقوا بالفعل أو بما يشبهه متعديًا بنفسه مباشرة، أو غير متعد إلا بمعونة حرف جر معين؛ فكيف يسوغ لقائل بعد هذا أن يقول: إن هذا الفعل لم يتعد إلى معموله إلا من طريق التضمين، بحجة أن هذا الفعل لا يعرف فيه التعدي إلا بهذه الوسيلة!؟ كيف يقول هذا محتجًا به مع أن الناطق بالفعل المتعدي وشبهه هو القرآن الكريم، أو العبي الفصيح الذي يحتج بكلامه من غير خلاف في الاحتجاج؟
ما الدليل على أن الفعل وشبهه متعد أو غير متعد من طريق "التضمين" وحده، ونحن نراه متعديًا بواسطة حرف الجر، أو بغير واسطة، ولا دليل معنا على أسبقية أحد الفعلين في الوجود والتعدي وعدمه؟
والحق إن إثبات التضمين أمر لا تطمئن له نفس المتحري المتحرر، ولا سيما إذا عرفنا أن كل فعل، أو شبهه لا يكاد يؤدي معناه مع "التعدية" دون أن يكون هناك فعل آخر، أو شبهة له معنى يؤديه مع "اللزوم"، وبين هذين المعنيين ما يسمونه؛ "المناسبة، أو الإشراب"، والعكس صحيح كذلك إذ لا يكاد فعل أو: شبهه يؤدي معناه مع "اللزوم" دون أن يكون هناك فعل آخر أو شبهه له معنى يؤديه مع "التعدية"، وبين المعنيين "المناسبة أو الإشراب"، والنتيجة الحتمية لكل ذلك أنه لا يوجد فعل أو شبهه مقصور على "التعدية"، ولا آخر مقصور على "اللزوم"، وهذه غاية الفوضى والإساءة اللغوية التي تحمل في ثناياها فساد المعاني.
وبالرغم من تلك المعارك الجدلية لا أرى الأمر في التضمين يخرج عن إحدى حالتين، وفي غيرهما الفساد اللغوي، والاضطراب الهدام:
الأولى: أن الألفاظ التي وصفت بالتضمين إن كانت قديمة في استعمالها منذ عصور الاستشهاد، والاحتجاج اللغوي فإن استعمالها دليل على أصالة معناها الحقيقي، ما دمنا لم نعرف يقينًا لها معنى سابقًا تركته إلى المعنى الجديد.
الثانية: أن العصور المتأخرة عن عصور الاستشهاد، والاحتجاج غير محتاجة إلى "التضمين" لاستغنائها عنه بالمجاز والكناية، وغيرهما من أنواع البيان المختلفة التي تتسع لكثير من الأغراض والمعاني الدقيقة البليغة.(2/595)
بحث نفيس لابن جني 1، عنوانه: "باب في اللغة المأخوذة قياسًا":
هذا موضع كأن في ظاهره تعجرفًا، وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلًا عن صدور الأشباح، وهو أكثر من أن أحصيه في هذا الموضع لك، لكني أنبهك على كثير من ذلك، لتكثر التعجب ممن تعجب منه، أو يستبعد الأخذ به.
وذلك أنك لا تجد مختصرًا من العربية إلا وهذا المعنى منه في عدة مواضع، ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع: إن ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على: أفعل؛ ككلب وأكلب، وكعب وأكعب، وفرخ وأفرخ. . .، وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره في القلة على أفعال: نحو جبل وأجبال، وعنق وأعناق، وإبل وآبال، وعجز وأعجاز، وربع وأرباع، وضلع وأضلاع، وكبد وأكباد، وقفل وأقفال، وحمل وأحمال و. . .؛ فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده، أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره؟ ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة، بل سمعته منفردًا أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره؟ لا بل كنت تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه، وذلك كأنه يحتاج إلى تكسير: "الرجز" الذي هو العذاب، فكنت قائلًا لا محالة "أرجاز"؛ قياسًا على: "أحمال"، وإن لم تسمع "أراجازًا" في هذا المعنى، وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر، من قولهم: "وظيف عجر"2 لقلت: "أعجار"؛ قياسًا على يقظ3 وأيقاظ، وإن لم تسمع "أعجازًا"، وكذلك لو احتجت إلى تكسير: "شيع"، بأن توقعه على
__________
1 من كناية: "الخصائص"، جـ 1 ص 439.
2 الوظيف: الجزء الدقيق من ساق الإبل والخيل، وغيرها، والعجر هنا: الصلب.
3 جاء في القاموس: اليقظة محركة نقيض النوم، وقد يقظ مثل: كرم، وفرح يقاظة، ويقظًا محركة، وقد استيقظ. . . ورجل يقظ على وزن: ندس، وكتف والندس: بفتح النون، مع سكون الدال، أو ضمها، أو كسرها الرجل السريع الاستماع للصوت الخفي.(2/596)
النوع، لقلت "أشياع"، وإن لم تسمع ذلك، لكنك سمعت: "نطع وأنطاع" و "ضلع وأضلاع"، وكذلك لو احتجت إلى تكسير: "دمثر"1 لقلت: "دمثر"؛ قياسًا على: "سبطر وسباطر".
وكذلك قولهم: إن كان الماضي على "فعل"، فالمضارع منه على يفعل: فلو أنك على هذا سمعت ماضيًا على فعل، لقلت في مضارعه يفعل، وإن لم تسمع ذلك، كأن يسمع سامع ضؤل، ولا يسمع مضارعه؛ فإنه يقول فيه يضؤل، وإن لم يسمع ذلك، ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه؛ لأنه لو كان محتاجًا إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون، وعمل بها المتأخرون معنى يفاد، ولا غرض ينتحيه الاعتماد، لكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات، وأسماء الفاعلين، والمفعولين، والمصادر، وأسماء الأزمنة، والأمكنة، والأحادي والثنائي، والجموع والتكابير، والتصاغير2، ولما أقنعهم أن يقولوا: إذا كان الماضي كذا وجب أن يكون المضارع كذا، واسم فاعله كذا، واسم مفعوله كذا، واسم مكانه كذا، واسم زمانه كذا؛ ولا قالوا: إذا كان المكبر كذا فتصغيره كذا، وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا دون أن يستوفوا كل شيء من ذلك، فيوردوه لفظًا منصوصًا معينًا، لا مقيسًا ولا مستنبطًا كغيره من اللغة؛ التي لا تؤخذ قياسًا ولا تنبيهًا؛ نحو: دار، وباب، وبستان، وحجر، وضبع، وثعلب، وخزز، لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فبوجدوه ضربين: أحدهما: ما لا بد من تقبله كهيئته لا بوصية فيه، ولا تنبيه عليه؛ نحو: حجر، ودار، وما تقدم.
ومنه: ما وجدوه يتدارك بالقياس، وتخف الكلفة في عمله على الناس، فقننوه وفصلوه، إذا قدروا على تدراكه من هذا الوجه القريب، المغني عن المذهب الحزن3 البعيد، وعلى ذلك قدم الناس في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات، ثم أتبعوه ما لا بد له من السماع والروايات، فقالوا: المقصور من حالة كذا، ومن صفته كذا؛ والممدود من أمره كذا، ومن سببه كذا، وقالوا:
__________
1 الجمل الكثير اللحم.
2 أي: كان واجبًا عليهم أن ينصوا على كل كلمة من هذه الجزئيات إذا كانت القواعد لا تغني، كما قد يتوهم بعض الغافلين.
3 الصلب الصعب من الأرض؛ كالحجارة والصخور.(2/597)
ومن المؤنث الذي فيه علامات التأنيث كذا، وأوصافه كذا، ثم لما أنجزوا ذلك قالوا: ومن المؤنث الذي روى رواية كذا وكذا، فهذا في الوضوح على ما لا خفاء به.
فلما رأى القوم كثيرًا من اللغة مقيسًا منقادًا وسموه بمواسمه، وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز، ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بد من إيراده، ونص ألفاظه ألتزموا وألزموا كلفته؛ إذ لم يجدوا منها بدًا، ولا عنها مصرفًا.
ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تتسدرك بالأدلة وقياسًا، لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به، ونبهنا عليه، كما قبلنا، ممن نحن له متبعون، وعلى مثله وأضاعه حاذون، فأما هجنة الطبع، وكدورة الفكر، وجمود النفس وخيس1 الخاطر، وضيق المضطرب، فنحمد الله على أن حماناه، ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه، ويستعملنا به فيما يدني منه، ويوجب الزلفة لديه، بمنه". ا. هـ.
هذا البحث النفيس لابن جني يذكرنا بماله من آراء جليلة أخرى، تتصل منها بموضوعنا قوله2:
"حكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي، أظنه قال: يقال: درهمت الخبازى، أي: صارت كالدرهم، فاشتق من الدرهم، وهو اسم أعجمي.
وحكى أبو زيد: رجل مدرهم، ولم يقولوا منه: "درهم" إلا أنه إذا جاء اسم المفعول، فالفعل نفسه حاصل في الكف3، ولهذا أشباه. . .". ا. هـ.
__________
1 الخيس: الخطأ، أو الضلال.
2 في كتابة: "الخصائص" ج1 ص362 باب: "أن ما قيس على كلام العرب، فهو من كلام العرب".
3 يريد: أنه ميسور، كأنه في يد من يريده، لا يتعب في البحث عنه، ولا في معرفة أنه مسموع، أو غير مسموع، بل يستعمله من غير تردد ولا رجوع إلى مراجع لغوية.(2/598)
ثم قال بعد ذلك1:
"ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع؛ فإذا حذا إنسان على مثلهم، وأم مذهبهم، لم يجب أن يورد في ذلك سماعًا، ولا أن يرويه رواية. . .".
وكذلك قوله2: "إذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع، قال لي أبو علي بالشام: إذا صحت الصفة فالفعل في الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة كان في المصدر أجدر؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة؛ ألا ترى أن في الصفة نحو: مررت بإبل مائة، وبرجل أبي عشرة أهله. . .". ا. هـ.
صحة الاشتقاق من الجامد.
جاء في ص69 من الكتاب المجمعي الصادر في سنة 1969 مشتملًا على القرارات المجمعية الصادرة من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين، ما نصه تحت عنوان: "الاشتقاق من أسماء الأعيان، دون تقييد بالضرورة" بناء على رأي لجنة الأصول بمجمع اللغة العربية، وهو:
"قرر المجمع من قبل إجازة الاشتقاق من أسماء الأعيان للضرورة في لغة العلوم كما أقر قواعد الاشتقاق من الجامد".
واللجنة تأسيسًا على أن ما اشتقه العرب من أسماء الأعيان كثير كثرة ظاهرة، وأن ما ورد من أمثلته في البحث الذي احتج به المجمع لإجازة الاشتقاق يربي على المائتين ترى التوسع في هذه الإجازة؛ يجعل الاشتقاق من أسماء الأعيان جائز من غير تقييد بالضرورة". ا. هـ.
وقد وافق المجمع ومؤتمره العام على رأي اللجنة، وصدر قرار موافقتهما في الجلسة الثامنة من مؤتمر الدورة الرابعة والثلاثين سنة 1968.
أما قواعد الاشتقاق المشار إليها، في القرار السالف، فقد ورد بيانها في الكتاب المجمعي الذي تقدم ذكره، ففي ص 64 النص الآتي تحت عنوان:
__________
1 في ص367 من الفصل نفسه.
2 جـ1 ص127 باب: "تعارض السماع والقياس" ...(2/599)
1- إذا أريد اشتقاق فعل لازم من الاسم العربي الجامد، الثلاثي مجردة ومزيدة، فالباب فيه: "نصر" ويعدى إذا أريد تعديته بإحدى وسائل التعدية؛ كالهمزة، والتضعيف، "مثل: قطنت الأرض تقطن، كثر قطنها، وقطنتها: زرعتها قطنًا".
2- أما إذا أريد اشتقاق فعل ثلاثي متعد فالباب فيه: "ضرب": "مثل قطنت الأرض، أقطنها، زرعتها قطنًا".
3- وفي كلتا الحالتين يستأنس بما ورد في المعجمات من مشتقات للأسماء العربية الجامدة؛ لتحديد صيغة الفعل.
4- ويشتق الفعل من الاسم العربي الجامد غير الثلاثي على وزن: "فعلل" متعديًا، وعلى وزن "تفعلل" لازمًا.
5- وإذا كان الاسم رباعي الأصول أو رباعيًا مزيدًا فيه؛ مثل: درهم وكبريت اشتق منه على وزن: "فعلل" بعد حذف الزائد من المزيد؛ فيقال: درهم الزهر وكبرت، أي صار كالدرهم والكبريت.
6- وإذا كان الاسم خماسيًا مثل: "سفرجل" اشتق منه على وزن "فعلل" بعد حذف خامسه، فيقال: "سفرج النبت" بمعنى: صار كالسفرجل.
7- تؤخذ المشتقات الأخرى من هذه الأفعال على حسب القياس الصرفي.
ثانيًا- في الاسم الجامد المعرب:
8- يشتق الفعل من الاسم الجامد المعرف الثلاثي على وزن: "فعل" بالتشديد متعديًا، ولازمه: "تفعل".
9- ويشتق الفعل من الاسم الجامد المعرب غير الثلاثي على وزن: "فعلل" ولازمه: "تفعلل. . .".(2/600)
الفهرس:
1- بيان الأبواب العامة التي يشتمل عليها هذا الجزء:
رقم الصفحة عنوان الباب
3 ظن وأخواتها
58 أعلم وأرى، ونظائرهما.
63 الفاعل
97 نائب الفاعل.
124 اشتغال العامل عن المعمول.
150 تعدية الفعل ولزومه.
المفعول به، وأحكامه.
186 التنازع في العمل.
204 المفعول المطلق.
238 المفعول له "لأجله".
242 ظرف الزمان والمكان.
304 المفعول معه.
313 الاستثناء.
363 الحال.
413 التمييز.
431 حروف الجر.
544 بحث في: "مذ ومنذ".
564 بحث في: "التضمين.
596 بحث في: "اللغة المأخوذة قياسا".
ب- تفصيل المسائل والموضوعات التي يشتمل عليها كل باب من الأبواب العامة
السابقة، مع ملاحظة أن العناوين المكتوبة في الفهرس بخط صغير هي بعض
الموضوعات الوارة في: "الزيادة والتفصيل"، والهوامش.
باب: ظن وأخواتها:
3 المسألة 60:
ظن وأخواتها
4 معنى الماضي المتصرف، وغير المتصرف "أي: الجامد" إشارة إلى المشتقات
بقسميها أفعال القلوب، وأفعال التحويل، ومعنى كل.
5 معنى اليقين والظن، والشك، والوهم، الكلام على: أرأيتك، بمعنى: أخبرني".
7 ضبط همزة "إخال" معاني: زعم.
9 موجز للأفعال السابقة.
11 المراد من أن المفعولين أصلهما المبتدأ والخبر.
ما تدخل عليه الأفعال القلبية.(2/601)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
رقم الصفحة: الموضوع:
12 تقسيم آخر، والسبب
13 الفرق بين علم وعرف.
الاكتفاء بمفعول واحد في هذا الباب.
16 إشارة إلى: "أرأيتك"، بمعنى: أخبرني تفصيل الكلام على المضارع: "أرى" المبني
للمجهول، والفعل: "أريت" المبني له، كذلك.
19 الفرق بين صيغتي فعل الأمر: "تعلم".
20 الفعل: "وهب" من ناحية "التعدي واللزوم".
21 شروط إعمال هذه النواسخ.
حكم تقديم خبر النواسخ عامة.
حكم خبرها الإنشائي.
22 معنى: لله دره بطلا.
23 التقديم والتأخير في هذا الباب.
24 ما تنفرد به الأفعال القلبية الناسخة.
-أ- تنوع المفعول الثاني.
26 المسألة61:
-ب- الأحكام الخاصة
بالأفعال القلبية المتصرفة.
إذا كان فاعل اسم الفاعل ضميرا مستترا وجب أن يكون للغائب.
27 الحكم الأول: التعليق.
تعريفه، سببه، وجوبه إلا في صورة واحدة جائزة.
"ستجئ في رقم4 من هامش ص30".
29 شروط العطف بالنصب على محل الجملة التي علق عنها الناسخ، عطف المفرد على
محل الجملة.
30 سبب التعليق.
مسألة يجوز فيها التعليق، ولا يجب.
31 قد يكون لجملة القسم مع جوابه محل من الإعراب.
وكذلك لجملة الجواب وحدها ... هل يسد جملتان معا مسد المفعولين؟
32 حكم "لا" النافية من ناحية الصدارة.
34 أمثلة تزيد التعليق وضوحا.
36 زيادات خاصة بأحكام التعليق.
38 الحكم الثاني: الإلغاء، سببه، وأحكامه.
39 الفرق بين الإلغاء والتعليق.
الإلغاء جائز إلا في بعض حالات.
40 هل يلغى العامل المتقدم؟
42 زيادات خاصة بالإلغاء.
43 الحكم الثالث: الاستغناء عن المفعولين بالمصدر المؤول.
44 الحكم الرابع: جواز وقوع فاعلها ومفعولها الأول ضميرين.
45 زيادة تختص بالحكم الرابع.
46 المسألة62:
القول: معناه، متى ينصب مفعولا واحدًا، ومتى ينصب مفعولين حكاية الكلمة والجملة.(2/602)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض الموضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
48 إشارة إلى وقوع الجملة المحكية
فاعلا، ونائب فاعل.
الجملة المحكية تسمى: "مقول القول".
50 شروط إعمال القول بمعنى الظن.
53 عودة إلى اللفظ المحكي، إشارة إلى فائدة الحكاية، وموضعها من الجزء الأول.
58 المسألة 64:
أثر التعدية بهمزة النقل.
61 إشارة إلى الموضع الذي يحوي إعراب: "كيف".
63 المسألة65:
التفريق بين الفاعل الذي فعل الفعل، والفاعل الذي قام به الفعل.
65 الفاعل المصدر المؤول، والأداة الصالحة للسبك في باب الفاعل، ومنها: همزة التسوية.
66 هل تقع الجملة فاعلا؟
67 إشارة أخرى إلى الموضع الذي يحوي إعراب: "كيف".
68 المسألة66:
أحكام الفاعل التسعة، أولها: الرفع.
53 هل تصح الحكاية بالمعنى؟
54 هل يلحق بالقول ما يؤدي معناه؟
55 إشارة إلى حذف القول جوازا.
56 المسألة 63:
حذف المفعولين معا، أو: أحدهما، وحذف الناسخ.
معنى القرينة، أو: الدليل.
أعلم وأرى، ونظائرهما مما ينصب ثلاثة مفاعيل.
61 أفعال أخرى تنصب بنفسها ثلاثة مفاعيل
62 إشارة إلى: "ترما" ونظائرها التي بمعنى: "لا سيما".
الفاعل وتعريفه، وأحكامه
حكم المعطوف على الفاعل المجرور بحرف زائد، ومناقشة رأي النحاة.
69 ثانيها: وجوده، وقد يحذف في مواضع.
70 حذف الفاعل.
72 أفعال لا تحتاج لفاعل، "ومنها أفعال مختومة "بما" الكافة"، رأي آخر.
"قلما" تكون حرف نفي، أحيانا.
73 ثالثها: تأخيره.
رابعها: نجرده من علامة تثنية، أو جمع.
74 القلة النسبية لا تمنع القياس
لا يصح إخضاع لغة قبيلة للغة أخرى ...(2/603)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
75 خامسها: إضمار عامله في مواضع.
76 سادسها: تأنيث عامله في مواضع.
78 أنواع المؤنث.
80 مواضع أخرى لتأنيث العامل وعدمه، منها اسم الجنس والتكسير
85 تأنيث الكلمة إذا قصد لفظها، وتذكيرها باعتبار آخر.
86 سابعها: أحوال تأخره وتقدمه على المفعول به، "وتنطبق على أحوال المفعول به أيضا".
88 معنى التقدم في اللفظ والرتبة، وإشارة إلى المحصور: "بإلا" أو"إنما".
النائب عن الفاعل:
المسألة67:
97 أ- الدواعي لحذف الفاعل العوامل التي تحتاج وجوبا لنائب فاعل.
98 التغيير الذي يطرأ وجوبا بسبب حذف الفاعل.
100 المطاوعة، معناها وبعض ضوابطها الهامة.
99 مطاوع "فعل" الثلاثي المتعدي.
101 هفوة نحوية في كلام ابن مالك.
102 الفرق بين المعتل، والمعل، وحرف العلة، واللين، والمد.
معنى الإشمام.
107 ما لا يصح بناؤه للمجهول.
108 الرأي في أفعال يقال إنها مبنية للمجهول لزوما، هل يصح بناؤها للمعلوم؟
110 هل يكو المصدر المؤول عاملا لنائب الفاعل؟
89 الترتيب بين الفاعل والمفعول به، وعاملهما.
90 الفاء بعد "إما" الشرطية الظاهرة والمقدرة.
93 مواضع أخرى لا يجوز فيها تقدم المفعول به على عامله.
94 ثامنها: عدم تعدد الفاعل.
تاسعها: إغناؤه عن الخبر أحيانا.
95 الاشتباه بين الفاعل والمفعول، وطريقة التمييز بينهما.
المسألة 68
ب- الأشياء التي تنوب عن الفاعل، وشروطها.
إنابة المفعول به.
113 إنابة المصدر واسمه
متى تقع الجملة نائب فاعل؟
115 إشارة أخرى إلى الموضع الذي يحوي إعراب: "كيف".
116 الكلام على: "معاذ الله".
117 إنابة الظرف.
118 قط - عوض - فقط.
119 إنابة الجار مع مجروره.
النائب هو المجرور وحده، إعرابه، وإعراب توابعه.
الأشياء التي لا يجوز أن تنوب عنه.(2/604)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش.
اشتغال العامل عن المعمول، معناه، وطريقته
122 المسألة 69:
معناه.
معنى السببي.
126 الضمير العائد على الظرف يجر بالحرف: "في".
نوع العامل، وشروطه.
129 حكم الاسم السابق في الاشتغال.
130 حكم كثير من الأسماء المتقدمة على عواملها.
138 شروط وتفصيلات أخرى.
المسألة 70:
150 أنواع الفعل من حيث التعدية واللزوم.
151 حكم توابع المفعول به الحكمي.
152 لهما ضابطان.
153 قيمة الضابطين
مناقشتهما، وإبداء الشك في قيمتهما.
"في ص86 حكم ترتيب المفعول به الواحد، أي: تقديمه وتأخره في جملته."
أنواع الفعل التام.
المراد من كلمة: "مفعول" عند إطلاقها.
153 هل يجوز العطف بالنصب على المفعول به المعنوي؟
154 أشهر علامات الفعل اللازم.
155 معنى الإلحاق، وحكمه، عصور الاستشهاد بالكلام القديم.
138 قد يصح الجمع بين المفسر والمفسر، لا العوض والمعوض عنه.
139 الجملة المفسرة، وحكمها، وحكم غير الجملة، قد يكون لها محل.
141 الاسم المرفوع بعد أداة الشرط فاعل، أو نائبه ... ولا يكون مبتدأ.
144 تأييد النحاة في إعراب: "وإن أحد من المشركين استجارك" وأمثالهما.
148 تقسيم بطريقة أخرى.
أبيات "الألفية" في هذا الباب مفككة.
157 أنواع اللازم.
المسألة71:
158 طريقة تعدية الفعل اللازم، وما في حكمه.
معنى: "ما في حكمه".
161 التعدية بحرف الجر الأصلي نزع الخافض والنصب به "وهو المسمى: الحذف والإيصال".
161 تنويع حروف الجر وتغييرها بتنوع المعاني ولو لم يتغير العامل.
المراد من أن فعلا لازما يتعدى بحرف جر معين.(2/605)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
162 حذف الجار، وأنواع الحذف وآثاره.
النصب على نزع الخافض أي: الحذف والإيصال".
165 بقية وسائل التعدية: "همزة النقل، التضعيف".
166 تحويل صيغة الفعل الثلاثي إلى: "فاعل واستفعل".
167 تحويل صيغة الفعل الثلاثي إلى "فعل للمبالغة" ...
168 التضمين ونوعاه ومزيته ...
بعض أحكام المطاوعة.
171 إسقاط الجار والنصب على نزع الخافض "أي: الحذف والإيصال".
173 تعريف المغالبة وتفصيل الكلام عليها.
176 المسألة 72:
تعدد المفعول به، وترتيبه، وحذفه.
مواضع جواز الترتيب.
التنازع في العمل:
المسألة 73:
186 أمثلة وتعريف.
192 أحكام التنازع.
177 التزام الترتيب.
موضع مخالفة الترتيب وجوبا.
179 حذف المفعول به.
الفضلة والعمدة.
حذف المفعول به جوازا.
181 عدم حذفه.
182 معنى المثل، ما يشبهه.
183 حذف عامل المفعول به جوازا ووجوبا.
الاشتباه بين الفاعل والمفعول به، جعل المعدي لازما، أو في حكم اللازم.
183 - 1- التضمين لمعنى الفعل اللازم حكما.
2- تحويل الفعل الثلاثي إلى "فعل" للمدح والذم، وشروط ذلك، الفرق بينه وبين: نعم 184
3- المطاوعة.
4- ضعف الفعل الثلاثي، الرأي فيه.
185 5- ضرورة الشعر.
التنازع في العمل.
إعمال الأول.
196 إعمال الأخير.
201 رأي في باب "التنازع"، إصلاح عيوبه.(2/606)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
المفعول المطلق، ومعناه
رقم الصفحة الموضوع:
204 المسألة 74:
سبب التسمية.
205 بعض الأفعال لا يدل على زمن.
206 ناصب المصدر.
207 تقسيم المصدر بحسب فائدته اللغوية المصدر المبهم، والمختص، ومنه النوعي، والعددي
تعريف كل.
تعريف المصدر المبهم.
208 متى تستعمل المصدر المبهم؟
توكيد المصدر لعامله نوع من التوكيد اللفظي.
210 العلاقة بين المصدر والمفعول المطلق.
211 حكم المصدر المؤكد لعامله، وغير المؤكد.
213 المسألة 75:
حذف المصدر الصريح، وبيان ما ينوب عنه.
214 معنى اسم المصدر.
المفعول له، أو: لأجله.
236 المسألة 77:
أمثلة له.
237 تعريفه وتقسيمه، أحكامه.
رقم الصفحة الموضوع:
219 المسألة 76:
حذف عامل المصدر، وإقامة المصدر المؤكد نائبا عنه.
الدليل المقالي والحالي.
220 حذف العامل وجوبا.
معنى الخبر والإنشاء، وجملة كل، الجملة الإنشائية: طلبية، وغير طلبية، بيان كل واحدة.
222 الكلام على: "سقيا" و"رعيا".
224 الأساليب الخبرية.
226 الكلام على: ألبتة "معناهما، وهمزتها".
229 متى يعمل المصدر الصريح؟ في موضعين.
230 اللفظ المهلم، صحة استعماله وتجديده، تكملة المادة اللغوية الناقصة.
الكلام على معنى إعراب كلمة: "ويح-ويل-ويب-ويس-بله ... "
231 أنواع مختلفة من المصادر السماعية.
2342 ما يجوز فيها وفي قولهم: ويل للشجي من الخلي.
234 معنى التثنية فيها.
متى يكون نكرة ومتى يكون معرفة؟
240 التذكير والتأنيث في اللفظ باعتبارين مخلفين.(2/607)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
ظرف الزمان والمكان
242 المسألة 78:
شبه الجملة، وهو شبه الوصف، المراد من تضمن الظرف معنى: "في".
ظهور "في" وعدم ظهورها.
بعض الظروف لا يتضمنها.
243 قد يطلق الظرف ويراد منه الجار مع مجروره.
244 أحكامه.
إشارة إلى حكم شبه الجملة بعد المعارف والنكرات.
245 حروف المعاني، هل يتعلق بها شبه الجملة؟
246 حذف عامل الظرف جوازا ووجوبا، الظرف اللغو والمستقر.
249 سبب تعلق الظروف بالعامل المحذوف وجوبا.
252 الظرف الزماني المبهم والمختص، "أو أسماء الزمان المبهمة والمختصة".
الضمير العائد على الظرف يجر "بفي" وقد يحذف.
حكم إضافة كلمة: "شهر" إلى أسماء بعض الشهور.
255 أنواع ظرف المكان.
255 متى يتعدد الظرف؟
257 ما يلحق بالجهات، الرأي في مثل: "داخل-خارج-ظاهر المدينة ... "
الظرف المؤسس والمؤكد.
259 المسألة 79:
الظرف المتصرف وغير المتصرف.
أقسام كل.
"ا" المتصرف.
260 ... حكمة.
261 ... "ب" الظرف غير المتصرف شبه الظرفية كلمة عن الظروف الآتية:
"أين-ثم-هنا-متى ... "
إعراب: قط-عوض-فقط-مكان-بدل-حول "وفي هذه لغات" سحر-عند لدن-قبل-بعد ...
262 ... حكم الظرف غير المتصرف، ظرف الزمان "متى" أيضا.
ومذ، ومنذ.
263 ما ينوب عن الظرف.
266 أقسام الظرف من حيث التصرف، وعدمه، ودرجته أقسام الظرف من حيث التصرف.
267 الفرق بين وسط بسكون السين، ووسط، بتحريكها.
وجوب تعلق شبه الجملة، ومعنى هذا، هل يصح تقدمهما على عاملهما؟ قد يتلعقان بعامل
معنوي هو: "الإسناد".
269 أقسام الزمان، واستغراقه المعنى.
270 حكم الظروف المركبة.
271 "بين" المركبة: "بين بين".
272 إشارة إلى الظرف: "ذات" في مثل:
ذات اليمين وذات الشمال.
أنواع أخرى من الظروف غير المتصرفة، حوال وفيها لغات.
275 "شطر-زنة الجبل-صقب".(2/608)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش.
273 ظروف منصوبة على نزع الخافض.
"حقا-غير شك-جهد رأيي-ظنا مني-و ... " حذف العامل وجوبا.
274 تنزيل بعض الظروف منزلة أدوات الشرط في غر الجزم، اقتران جوابه بالفاء، هل يعطف الزمان
على المكان، والعكس؟ موجز للظروف المختلفة مع جدارتها برسالة مستقلة بها.
275 إذا.
278 إذا.
279 الفرق المعنوي بين: "إذا ون"
281 الآن.
282 أمس أول-بين-بدل.
283 بعد: حكمها، وبعض استعمالاتها الأدبية، أول-قبل-أمام-قدام-وراء -خلف-أسفل-يمين-شمال-
فوق-تحت-عل-دون.
304 المسألة 80:
305 تعريفه.
306 بعض صور ممنوعة.
308 أحكامه.
287 الكلام على: "بينا وبينما"، إشارة إلى إلحاق الظرف بالشرط.
290 حيث.
291 حول-ريث-عند.
292 معنى ظروف الغايات، وإيضاح المراد من: "الغاية"
293 عوض-قط.
294 كلما-لدن.
295 لدى.
296 لما، وهل تدخل على مضارع؟
299 مذ-منذ-متى-مع.
بناء أسماء الزمان "المبهمة".
300 مع-ملحقاتها.
301 الإضافة الواجبة إلى الجمل تحتم البناء.
شروط إضافة اسم الزمان للجملة.
المفعول معه.
310 حالات الاسم الذي بعد الواو.
314 اختلاف معنى الجملة باختلاف ضبط الاسم بعد الواو.
ترتيب المفعولات المجتمعة، المختلفة الأنواع.(2/609)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
الاستثناء
315 المسألة 81:
إيضاح مصطلحاته ومعناه.
316 المستثنى منه، المستثنى، الأداة.
318 الاستثناء الموجب وغيره، التام.
النفي الصريح وغير الصريح.
الاستفهام الإنكاري، والتوبيخي.
317 المفرغ.
318 المتصل، المنقطع.
319 حكم المستثنى بإلا.
320 بدل لا يحتاج لرابط.
323 معمولات لا يصح فيها التفريغ.
325 إعراب قولهم: "كما لو كان الأمر كذا ... ".
326 نوع آخر من التفريغ.
327 "لما" الاستثنائية.
شروط تقديم المستثنى بإلا وما يتصل به.
330 أشياء يصح فيها التقديم وعدمه.
328 ناصب المستثنى.
329 أمثلة مخالفة للقاعدة.
331 هل يكون المستثنى أو المستثنى منه نكرة؟
332 وقوع المستثنى جملة، أنواع من المنقطع.
334 بعض صور إعرابية دقيقة.
334 يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل.
337 بعض عيوب نظرية العامل.
338 الاستثناء "بإلا" المكررة.
341 ملخص أحكام "إلا" المكررة.
343 المسألة 82:
أحكام المستثنى الذي أدواته أسماء: "غير-سوى".
345 فوارق بين "غير" وأخواتها.
346 هل تتعرف "غير"؟ وهل تدخل عليها "أل"؟
347 حكم تابع المستثنى بغير وأخواتها.
348 نوع من الإعراب على التوهم.
349 بيد الاستثنائية.
الفوارق بين "غير" و"إلا"
350 وقوع "إلا" اسما لا يفيد استثناء.
353 المسألة 83:
أحكام المستثنى الذي أدواته أفعال خالصة، والذي أدواته تصلح أن تكون أفعالا وحروفا.
355 الحرف المصدري لا يدخل على فعل جامد إلا أفعال الاستثناء.
357 تعلق شبه الجملة بالنسبة.
358 متى تصلح تلك الأفعال مع فاعلها لأن تكون جملة تعرب نعتا؟
362 أنواع: "حاشا" وكيف تكتب؟
363 حذف المستثنى وأداته.
"لما" الاستثنائية.
"لا سيما" ونظائرها "لا ترما ولو ترما...."(2/610)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
الحال:
363 المسألة 84:
تعريفه
تذكير لفظه وتأنيثه:
364 عامل الحال وصاحبها، هل يختلف العامل فيهما؟
365 صاحب الحال
مجيء الحال من المبتدأ أو من اسم الناسخ وصحة ذلك.
366 أقسام الحال والكلام على كل قسم، المنتقلة والثابتة.
368 المشتقة والجامدة بنوعيها.
الجامدة المؤولة بالمشتق.
معنى القلة الذاتية والنسبية، إشارة إلى الموضع المشتمل على بيان: الاطراد والقياس،
والغالب و ...
371 العرب تكرر اللفظ بقصد الترتيب، أو: الاستيعاب، قياسية التكرار المفيد للترتيب.
372 وقوع المصدر حالا.
373 الحال الجامدة غير المؤولة.
الحال الموطئة، والمقصودة، معنى شبه المشتق.
375 تقسيمها إلى نكرة ومعرفة.
الجملة نكرة أو في حكم النكرة.
376 إشارة عابرة إلى كلمة: "وحد"، إعرابها وإضافتها.
378 تقسيمها إلى حال هي نفس صاحبها، وإلى غيره.
378 تقديمها وتأخيرها.
ترتيبها مع صاحبها
379 الكلام على "كافة" و"قاطبة" وعدم التزامهما النصب.
380 ترتيبها مع عاملها، وجوب تأخيرها.
عودة إلى العامل في الحال وصاحبها وميجئها من المبتدأ، وهل يختلف العامل في الحال
وصاحبها؟
384 وجوب تقديمها.
جواز الأمرين.
"كيف" بيان الموضع الذي يشتمل على استعمالاتها وإعرابها.
385 تقسيمها إلى متعددة، وغير متعددة.
386 إشارة إلى الحال الحقيقية والسببية.
389 الحال المترادفة - المتوالية - والمتداخلة.
390 تقسيمها إلى مقارنة، ومقدرة "أي: مستقبلة، ومحكية" ...
391 تقسيمها إلى مؤسسة، "مبنية" ومؤكدة.
392 تقسيمها إلى مفردة وغيرها.
393 ومن المفردة ألفاظ مركبة مبنية، مثل: شغر بغر -الكلام على الرابط.
395 الحال شبه الجملة.(2/611)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
393 نوع من الحال المفردة يجب اقترانه بالفاء، أو: ثم، العاطفتين.
394 الحال الجملة،
395 الجملة نكرة أو في حكم النكرة، وأثر ذلك.
شروط الجملة.
نوع الرابط.
"لا" النافية، وهل تخلص المضارع للمستقبل؟
397 واو اللصوق التي تسبق الجملة النعتية.
400 تقسيمها إلى حقيقية وسببية.
402 المسألة: 85:
صاحب الحال أيضا، حكم نعت النكرة إذا تقدم عليها.
404 صاحب الحال المضاف إليه.
المسألة 87:
413 أمثلة.
416 المراد اصطلاحا من كلمة: "تمييز" معنى: "من" البيانية.
417 أقسام التمييز.
الغالب على تمييز المفرد الجمود.
418 تقسيم تمييز الجملة.
الفرق في التمييز بين الفاعل النحوي والمعنوي، وكذا المفعول.
406 مطابقة الحال لصاحبها ...
407 الإشارة إلى "أي".
عودة إلى صحة مجيء الحال من المبتدأ و ... و
408 المسألة 86:
حكم الحال، وعاملها، وصاحبها، ورابطها، من ناحية الذكر، والحذف.
409 حذف عامل الحال، الدليل المقالي والحالي.
410 إشارة أخرى لحال مفردة تقترن بالفاء، أو ثم، وجوبا.
411 حذف صاحب الحال.
حذف الرابط.
412 التوافق والتخالف بين الحال والتمييز.
التمييز.
420 المسألة 88:
420 أحكام تمييز المفرد.
422 أحكام تمييز النسبة.
424 تقديم التمييز.
إعراب: "يا جارتي ما أنت جارة".
427 ألفاظ تصلح حالا وتمييزا.
تمييز الضمير.
428 مطابقة التمييز، وتركها.
429 اتفاق الحال والتمييز واختلافهما.(2/612)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش
حروف الجر.
431 المسألة 89:
حروف الجر تسمى: "حروف الإضافة، أو: حروف الصفات، "وقد تسمى: ظروفا"، بيانها،
أسباب جر الاسم، رأى في الجر بالتوهم، والمجاورة.
432 الفصل بين الجار ومجروره، الفصل بـ"كان" الزائدة، أو: "لا" النافية.
433 انقسامها إلى ما يجر الظاهر وحده، أو الظاهر والضمير، حروف كل.
من آثار حرف الجر حذف ألف "ما" الاستفهامية المجرورة، الإعراب المحلي.
434 انقسامها بحسب الأصالة والزيادة، وشبهها، وتعريف كل.
434 إشارة إلى الموضع الذي يشتمل على الكلام على اللفظ الزائد حرفا، وغير حرف.
عمل حرف الجر، وفائدته، العامل، وأنواعه.
حذف العامل جوازا ووجوبا.
436 تعلق الجار الأصلي مع مجروره بالعامل، وسببه.
استغناء الحرف "على" أحيانا عن التعلق.
436 لا بد من تغيير حروف الجر، وتنويعها على حسب المعاني "السياق".
439 نوع العامل "أي: المتعلق به" هل يتعلقان بأحرف المعاني؟
441 تعلق شب الجملة بالإسناد، "أي: بالنسبة، وتسمى: العامل المعنوي".
444 عدم تعلق حرفين للجر مع مجرورهما بعامل واحد إذا كان معناهما واحدا.
445 ما المراد من شبه الجملة؟
446 تفصيل الكلم على شبه الجملة التام، وغير التام، وعلى التعلق بالعامل ...
تلخيص ما تفرق من أحكم شبه الجملة، وأنه هو الخبر، و........و........... الفرق بين
نوعي الظرف من جهة المتعلق الواجب حذفه.
حكم شبه الجملة بعد المعارف والنكرات.
شبه الجملة المستقر واللغو.
449 سبب التسمية بشبه الجملة.
شبه الوصف.
بيان الحروف الأصلية وغيرها
النحو الوافي - ثان(2/613)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة" والتفصيل والهامش.
450 حرف الجر الزائد.
فائدة حرف الجر الزائد.
إشارة أخرى إلى الموضع الذي يحوي الكلام على اللفظ الزائد مطلقا.
451 إعراب المجرور بحرف الجر الزائد.
452 حرف الجر الشبيه بالزائد.
453 طريقة إعراب حرف الجر الشبيه بالزائد.
454 أوجه المشابهة والمخالفة بين أنواع حروف الجر.
455 المسألة 90:
معاني حروف الجر، وعملها، تفاوتها في الشيوع.
456 معنى القلة الذاتية والنسبية أيضا.
كي: واستعمالاتها.
457 لعل.
458 متى.
حروف الجر الشائعة:
من: حكمها، معانيها.
461 زيادتها في الإثبات.
466 أسلوب مسموع "مما ... "
ضبط نون "من" بعض أساليب مسموعة.
468 إلى: حكمها ومعانيها.
472 اللام، أصالتها وزيادتها، من أيهما لام الاستغاثة معاني اللام.
475 لام التقوية، حكمها، بعض مواضعها.
476 مناقشة كلام النحاة في التقوية.
لام الإضافة، أو اللام المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله.
477 إشارة إلى كل حروف القسم.
478 لام التبيين، والمراد منه.
479 إشارة إلي: سقيا لك، ورعيا لك، وتبا للخائن.
481 حركة لام الجر.
482 حتى:
الفروق بين "حتى" و"إلى"
484 و485 قد تكون "حتى" للاستثناء، وأمثلة لذلك.
489 الواو، والتاء.
490 الإشارة إلى واو: "رب" ... أحرف القسم، حكمها، ومعانيها.
الباء.
الفرق بين باء السبب وباء الاستعانة.
494 اتصال "ما" الزائدة بالباء.
495 مواضع زيادتها، وهل تقاس؟
498 جملة القسم، وجملة جوابه، القسم الاستعطافي وغيره.
499 وشروط الجواب، ومحل جملة القسم.
502 وقوع القسم بين أداتي نفي.(2/614)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات: "الزيادة والتفصيل" والهامش،
502 تكرار أدة القسم.
حذف جملة القسم.
حذف أداة القسم وحدها، أو مع المقسم به.
503 اللام الداخلة على أداة الشرط.
إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم غالبا.
504 حذف جواب القسم.
قد يكون لجملة القسم محل من الإعراب.
505 نوع جواب القسم: "جملة أو شبهها".
ألفاظ أخرى للقسم، ومنها: لا جرم، وجير.
507 في: معناها، وحكمها.
509 على: معناها، وحكمها.
512 استغناؤها عن التعليق أحيانا.
513 عن: معناها وحكمها.
515 اتصال "ما" الزائدة بها.
الكاف: معناها، وحكمها.
518 اتصال "ما" الزائدة بها.
مذ ومنذ.
522 رب: معناها، وحكمها.
523 الضمير المجهول.
525 اتصالها "بما" الزائدة.
527 ضبطها، واصتالها بتاء التأنيث.
528 حذف: "رب"، بعد الواو والفاء، وبل.
لا يتحتم أن تعرب هذه الواو نائبة عنها.
530 كيفية إعراب الاسم المجرور بها، وتوابعه.
531 دخول "رب" على الجمل وأثر ذلك عليه، قد تحل "مما" محل "ربما".
532 المسألة 91:
حذف حرف الجر وإبقاء عمله.
إشارة إلى: "نزع الخافض"
536 حذف الجار والمجرور معا.
537 المسألة 92:
نيابة حروف الجر بعضها عن بعض.
544 بحث في: مذ ومنذ.
546 بحث في: التضمين.
594 رأي في البحث السالف.
596 باب في: اللغة المأخوذة قياسا لابن جني.
599 إشارة موجزة إلى تكملة مادة لغوية ناقصة وإلى اطراد القياس، وإلى الاشتقاق من
الجامد.(2/615)
المجلد الثالث
الإضافة
...
المسألة 93: الإضافة 1
تقسيمها:
تنقسم قسمين؛ محضة، "وتسمى: معنوية أو حقيقية"، وغير محضة،
__________
1 فيما يلي إيضاح لمدلولها النحوي الدقيق، ولبعض المصطلحات التي تتصل بها:
أ- في جملة مثل: "الوالد، منصف"، أو: "أنصف الوالد" يكون المراد هو: الحكم على الوالد بالإنصاف أي: إسناد الإنصاف إليه، وإن شئت فقل: نسبة الإنصاف إليه.
وفي جملة أخرى مثل: "الصفح حسن" أو: "يحسُن الصفح" يكون المراد أيضا هو: الحكم على الصفح بالحُسن، أي: إسناد الحسن إليه، أو: نسبته له. وكذلك لو قلنا: "الحقوق غير مستريح" أو: "الحقود لا يستريح"، فإن المراد هو الحكم بعدم الراحة على الحقود، أي: إسناد عدم الراحة إليه، أو: نسبة عدم الراحة له، ونفيها عنه، وهكذا الشأن في كل جملة اسمية أو فعلية، مثبتة أو منفية؛ فالمراد من الجملة لا بد أن يكون هو: "الحكم"، أي: "الإسناد"، أي: "النسبة". وهذه الألفاظ الثلاثة متحدة في مدلولها الذي هو: "المعنى المفهوم من الجملة؛ إثباتًا أو نفيًا". ويعبر عنه النحاة بأنه: "الربط المعنوي بين طرفي الجملة ربطًا يقتضي أن يقع على أحدهما معنى الآخر، أو ينفى عنه".
ويجري على ألسنتهم كثيرًا ذكر: "النسبة الأساسية" أو: "النسبة الكلية"؛ يريدون بها ذلك المعنى، أو: الربط المعنوي الذي لا يمكن أن تخلو منه جملة مستقلة بمعناها -كالجملة غير الشرطية- ولا أن تسمى جملة إلا به. وقد يختصرون فيقولون: "النسبة". دون وصفها بصفة "الأساسية" أو بـ "الكلية"؛ لاصطلاحهم على أنها المقصودة عند الإطلاق؛ أي: عند حذف الوصف والتحديد.
ب- على ضوء ما سبق نفهم أن المراد الأصيل من الجملة الحقيقية المستقلة هو: "النسبة الأساسية" أو: "الكلية".
لكن الملحوظ عند سماع جملة مثل: "أقبل ضيف" أن تتعدد الاحتمالات الذهنية في أمر هذا الضيف: ما اسمه؟ ما بلده؟ ما صلته بنا؟ ما غرضه؟ ما شأنه؟ ... و ... و ... كل هذا وأكثر منه لا يفهم من هذه الجملة وحدها، ولا تدل عليه النسبة الأصلية فيها، ومن ثم كانت الجملة في حاجة إلى زيادة لفظية تؤدي إلى زيادة معنوية؛ كأن نقول: أقبل ضيف عظيمٍ، فننسب العظمة للضيف. فهذه نسبة أيضًا، ولكنها نسبة جزئية أو فرعية، ليست أصيلة كالسابقة، إذ لا يتوقف -في الغالب- =(3/1)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= على هذه النسبة الجزئية أو: الفرعية، المعنى الأساسي للجملة، ولا يختل بحذفها؛ فمن الممكن -غالبًا- الاستغناء عنها عن الزيادة اللفظية التي جلبتها.
وكذلك لو قلنا: أقبل الضيف مبتسمًا، أو فرحت بالضيف يومًا ... أو غير هذا من الزيادات اللفظية الفرعية التي منها: الحال، والتمييز، والمفعولات، والتوابع، وغيرها من سائر "المكملات" التي تزداد على طرفي الجملة الأصلية؛ فتكسبها معنى جزئيًا جديدًا، قد يمكن الاستغناء عنه.
والنحاة يسمون هذه النسبة الجزئية، أو الفرعية: "القيد"، أو: "النسبة التقييدية" يريدون بها: "النسبة التي جاءت لإفادة التقييد"، أي: لإفادة نوع من الحصر، والتحديد، ذلك أن اللفظ قبل مجيئها كان عامًّا مطلقًا يحتمل أنواعًا وأفرادًا كثيرة؛ فجاءت التكملة "أي: القيد" فمنعت التعميم والإطلاق الشاملين، وجعلت المراد محددًا محصورًا في مجال أضيق من الأول، ولم تترك المجال يتسع لكثرة الاحتمالات الذهنية التي كانت تتوارد من قبل.
ج- من أمثلة التكملات كلمة: "الغرفة" في نحو: "أضاء مصباح الغرفة" فلو لم نذكر هذه الكلمة لكانت الجملة في حاجة إلى زيادة لفظية تتبعها زيادة معنوية جزئية، تزيل التعميم والإطلاق عن المراد من كلمة: "مصباح"؛ إذ لا ندري: أهو مصباح للغرفة، أم للطريق، أم للمصنع، أم للنادي ... ؟ فلما جاء القيد -وهو كلمة: "الغرفة"- أزال تلك الاحتمالات، وقصر الفهم على واحد منها، فأفاد التقييد، بأن جعل العام المطلق محدودًا محصورًا. ومثل هذا: قرأت أدب العرب- تمتعت بأدب العرب ... و ... فقد تبع الزيادة اللفظية الجزئية زيادة معنوية جزئية.
ومما يلاحظ أن التكملة "أي: القيد" مجرورة في أمثلة هذا القسم: "ج" لا تفارق الجر مطلقًا. أما في غيرها فقد تكون التكملة مرفوعة، أو منصوبة، أو مجرورة، أو مجزومة ... على حسب حاجة الجملة. وتسمى التكملة الجزئية التي تلازم الجر دائمًا: "المضاف إليه" ويسمى اللفظ الذي قبلها، والذي جاءت لتقييده، وتحديد مدلوله: "المضاف" ويطلق عليهما معًا: "المتضايفان" و"الإضافة" هي الصلة المعنوية الجزئية التي بين المتضايقين، "وهما: المضاف، والمضاف إليه": ويقول النحاة في تعريفها:
"إنها نسبة تقييدية بين اسمين، تقتضي أن يكون ثانيهما مجرورًا دائمًا". نعم، قد يكون المضاف إليه جملة -كما سيجيء البيان في ص 28، وله إشارة في ص 78 و83 و84، ولكن الجملة في هذه الحالة بمنزلة المفرد، أي: الاسم الواحد؛ فمحلها الجر، أما المضاف فلا بد أن يكون في جميع حالاته اسما يعرب على حسب الحاجة، ولا يصح أن يكون فعلًا، أو حرفًا، أو جملة "انظر ص7 ج".
مما تقدم نعلم؛ أن التكملة تسمى: "القيد"، أو: التنبية "التقييدية" وليست مقصورة على الإضافة، بل تشمل جميع المكملات. وأن التكملة في الإضافة تسمى: "المضاف إليه" ولا بد أن يسبقه: "المضاف"، وكلاهما لا بد أن يكون اسمًا واحدًا، وقد يكون المضاف إليه" جملة بمنزلة =(3/2)
"وتسمى: لفظية، أو مجازية1 -ولها ملحقات2-".
فالأولى: ما كان فيها الاتصال بين الطرفين قويًّا؛ وليست على نية الانفصال3؛ لأصالتها، ولأن المضاف -في الغالب- خال من ضمير مستتر يفصل بينهما.
والأكثر أن يكون المضاف في الإضافة المحضة واحدًا مما يأتي:
1- اسم من الأسماء الجامدة الباقية على جمودها4، كالمصادر5، وأسماء
__________
= الاسم الواحد أي: المفرد -كما سبق- وكذلك نعلم أن المضاف إليه مجرور دائمًا، أما المضاف فلا يلازم حالة إعرابية واحدة؛ بل يعرب على حسب حالة الجملة التي يكون فيها.
والأغلب في المضاف أن يكون معربًا. وقد يكون اسمًا مبنيًّا، مثل: "حيث"، و"إذا" الشرطية، و"كم" الخبرية، "كما سنعرف في هذا الباب"، ومثل بعض أنواع مبنية على فتح الجزأين من المركب المزجي العددي في نحو: هذه خمسةَ عشرَ محمد؛
طبقًا لما هو مذكور في باب العدد- ج4 م164 ص 400.
"ملاحظة": يتردد في النحو اسم: "الشبيه بالمضاف" وهو يختلف اختلافًا واسعًا عن "المضاف". وتفصيل الكلام على هذا الشبيه، وعلى أحكامه، مدون في ج1 م56 باب: "لا" النافية للجنس، عند الكلام على حكم اسمها، ص691.
1 يريدون "بالمحضة": التي بين طرفيها قوة اتصال وارتباط، وليست على نية الانفصال؛ لأصالتها، ولأنها لا يفصل بين طرفيها "وهما: المضاف والمضاف إليه" ضمير مستتر كالضمير الذي يفصل في الإضافة غير المحضة؛ فيجعلها كأنها غير موجودة؛ بسبب وجود هذا الفاصل الملحوظ، وإن كان مستترًا -كما سيجيء- في ص34 عند الكلام عليها.........
ويريدون "بالمعنوية": أنها تحقق الغرض المعنوي الذي يراد منها تحقيقه، وهو استفادة المضاف من المضاف إليه التعريف، أو التخصيص -كما سيأتي في ص23- ولأنها تتضمن معنى حرف من حروف الجر سنعرفه بعد في ص16.
ويريدون بالحقيقية: أنها تؤدي الغرض المعنوي السابق حقيقة، لا مجازًا -والمجاز الممنوع هنا هو الآتي في ص33 وليس هو المعروف في البلاغة- ولا حكمًا أو تقديرًا. "وهذا خير ما يفسر به وصفها بالحقيقية".....
وستجيء إشارة لكل هذا بمناسبة أخرى في "ص 23، 33".
2 ستجيء الملحقات في ص40-د.
3 يتضح المراد من "نية الانفصال"، ومن خلو الكلام من الضمير المستتر بما يجيء في ص34.
4 أي: غير المؤولة بالمشتق.
5 وسيجيء في باب النعت عند الكلام على وقوع المصدر نعتًا، أن هناك مصادر مسموعة أضيفت إلى معرفة، فلم تكتسب منها التعريف بسبب أنها مصادر مؤولة بالمشتق؛ فإضافتها غير محضة. "انظر ص464".(3/3)
المصادر1، وكثير من الظروف، والجوامد الأخرى، نحو: لا يَتِم حسن الكلام إلا بحسن العمل -لو استعان الناس كعون النمل ما وجد بينهم شقي، ولا محروم- عند الشدائد تعرف الإخوان. لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه-
ومن الأمثلة للجوامد المضافة، الباقية على جمودها، الكلمات: أرض، بعض، جسم، فؤاد، في قول الشاعر:
أيها الراكب الميمم2 أرضي ... اقر3 من بعضيَ السلام لبعضي
إن جسمي -كما علمت- بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض
ب- المشتقات الشبيهة بالجوامد؛ "وهي المشتقات التي لا تعمل مطلقًا4، ولا تدل على زمن معين" كصيغ أسماء الزمان، والمكان، والآلة، مثل الكلمات: مسكن، مزرعة، محراث، منجل، مذارة، مَغْرب ... في نحو: "الفلاح كالنحلة الدءوب النافعة؛ يغادر مسكنه قبل الشروق، قاصدًا مزرعته؛ يعمل فيها ويكد؛ فلا تراه إلا قابضًا على محراثه، أو منحنيًا على فأسه، أو حاصدًا بمنجله، أو مذريًا بمذراته، أو متعهدًا زروعه. و ... ويظل على هذا الحال حتى المغرب؛ فيرجع من حيث أتى، دون أن يعرج على ملعب، أو ملهى، أو مقهى يسهر فيه، ثم يقضي الليل هادئًا نائمًا حتى يوافيه الصباح الجديد".
ويدخل في هذا النوع: المشتقات التي صارت أعلامًا؛ وفقدت خواص الاشتقاق، وبسبب استعمالها الجديد في التسمية5؛ مثل الأعلام: محمود، حامد، حسن ...
__________
1 سبق الكلام على اسم المصدر وإيضاح خصائصه في ج2 ص174 م75. وسيجيء الكلام عليه وعلى المصدر في باب خاص بهما. "ص 181 و207".
2 القاصد.
3 المراد: اقرأ، سهلت الهمزة؛ -بأن صارت ألفًا، أي: اقرأ ثم بنى فعل الأمر على حذف هذه الألف كالشأن في كل فعل أمر معتل الآخر؛ فإنه يبنى على حذف حرف العلة.
4 سيجيء لها إشارة أخرى في ص30 من هذا الجزء عند الكلام على المشتقات "اسم الفاعل و ... و ... ".
5 كما سيجيء في هامش ص182.(3/4)
ج- المشتقات التي لا دليل معها على نوع الزمن الذي تحقق فيه معناها1؛ نحو: قائد الطيارة مأمون القيادة؛ فإن كلمة: "قائد" اسم فاعل مضاف، وليس في الجملة دليل على نوع زمن القيادة؛ أهو الماضي، أم الحال، أم الاستقبال؟ وكذلك كلمة "مأمون" التي هي اسم مفعول.. "وتسمى هذه المشتقات الخالية من الدلالة الزمنية: بـ"المشتقات المطلقة الزمن2".
د- المشتقات الدالة على زمن ماضٍ3 فقط؛ نحو: عابر الصحراء أمس كان مملوء النفس أمنًا واطمئنانًا.
هـ- أفعل التفضيل -على الرأي المشهور4- وهو من المشتقات التي لها بعض5 عمل- مثل: أعجبت بشوقي، أشهر الشعراء في عصره، وقولهم: أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا.
و إضافة الوصف إلى الظرف مع وجود القرينة الدالة على المضي أو على الدوام؛ مثل: أزال ساطعُ الصباح البهيج حالكَ الليل البهيم، وكقوله تعالى عن نفسه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
__________
1 كما سيجيء في "ب" من ص40.
2 سيجيء الكلام عليها في أبوابها الخاصة، من هذا الجزء، ولها إشارة في ص30.
3 لا يكفي دلالتها على الزمن الماضي وحده، بل لا بد مع ذلك أن تفقد العمل؛ لفقد بعض شروطه. "وستجيء في ص238".
4 راجع الصبان والتصريح -وغيرهما- في هذا الموضع، ثم حاشية ياسين على التصريح ج2 باب: "أفعل التفضيل"، وعند الكلام على إضافته للنكرة. ويرى شارح المفصل "ج3 ص4" ومن معه أن إضافته غير محضة، ويطيل الإيضاح لهذا، ويؤكده.
5 كعمله الجر في المضاف إليه، والنصب في تمييزه، ولأنه يرفع الفاعل، ولا ينصب المفعول به؛ ففي مثل: "مررت برجل أفضل القوم" ما سمع فيه أفعل التفضيل مضافًا إلى المعرفة مع أن المفضل نكرة يعرب أفعل التفضيل بدلًا من المفضل، لا صفة له، بناء على الرأي الأشهر السالف؛ لكيلا تقع المعرفة نعتًا للنكرة. نعم إن البدل المشتق قليل؛ كما يقول الصبان عند كلامه على الإضافة غير المحضة، ولكنه جائز مع قلته ومخالفته للأكثر، "كما في ص38" ويعرب نعتا بناء على الرأي الآخر؛ لأنه لم يكتسب التعريف من المضاف إليه ... وإذا أضيف: "أفعل" المراد به التفضيل، وجب أن يكون بعضًا من المضاف إليه، وفردًا من جنسه، نحو: محمد أفضل الناس، أو: أفضل القوم، فلا يصح: الحصان أفضل الطيور، ولا الطائر أفضل الخيول، كما سيجيء تفصيل هذا في ص402 من بابه.(3/5)
والثانية: ما يغلب أن يكون فيها المضاف وصفًا1، عاملًا، دالًا على الحال، أو الاستقبال، أو الدوام. "ويسمى هذا الوصف: بـ"المشبه للفعل المضارع في العمل والدلالة الزمنية"، وينحصر في اسم الفاعل، واسم المفعول، بشرط أن يكونا عاملين، دالين على الحال، أو الاستقبال. وفي الصفة المشبهة في الرأي الراجح بين آراء أخرى قوية2 ولا تكون إلا للدوام غالبًا؛ نحو: "استجب لطالب الحق اليوم"، قبل أن ينتزعه بعامل القوة غدًا"- "إذا شاهدت غلامًا مشرد النظرات، موزع الفكر، مسلوب الهدوء، فاعلم أنه بائس يستحق العطف، أو جان يستحق الزراية" –"عظيم القوم من يهوى عظيمات الأمور".
ويلحق بالإضافة غير المحضة بعض إضافات أخرى سيجيء الكلام عنها في موضعه المناسب3 عند تناول ما سبق من بالإيضاح.
ولا بد في جميع حالات الإضافة المحضة وغير المحضة من أن يكون المضاف اسمًا4 وكذا المضاف إليه. وقد يقع المضاف إليه -أحيانًا- جملة؛ فيكون في حكم المفرد -كما سنعرف-5.
الأحكام المترتبة على الإضافة 6:
يترتب على الإضافة بنوعيها أحكام؛ فبعضها واجب، وبعضها جائز. وأشهر الأحكام الواجبة أحد عشر7:
__________
1 ومن غير الغالب أن يكون المضاف غير وصف؛ كبعض الصور المتعددة الآتية في: "د" ص40 وما بعدها، ومنها الصورة التي تستعمل في مدح شخص، أو: ذمه، أو: الدعاء عليه، وهي "في ص46": "لا أبا لفلان" –على اعتبار زيادة اللام بين المتضايفين- وتفصيل الكلام عليها في ج1 م8 في الأسماء الستة.
2 انظر ص37، 29، 307.
3 في "د" من ص40. بما يسمى بالأنواع الشبيهة بالإضافة غير المحضة.
4 كما أشرنا في هامش ص2 ويجيء في ص7.
5 في ص28، 84.
1 للأحكام التفصيلية الآتية ملخص مناسب في ص70.
2 هذه الأحكام حتمية "أي: واجبة المراعاة والتطبيق" أما الأحكام الأخرى الجائزة فأشهر أربعة، ستذكر بعدها مباشرة في الزيادة والتفصيل ص62.(3/6)
الأول: أن يكون "المضاف إليه" مجرورًا دائمًا1، ولا فرق بين أن يكون مجروًا في اللفظ؛ "نحو قول الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتى العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
ونحو: من وثق بأعوان السوء لقي منهم شر المصائب ... " ومجرور المحل2؛ نحو: من التمس تقويم ما لا يستقيم كان عابثًا، وإخفاقه محققًا. ونحو: نعم العربي؛ يسرع للنجدة حين يدعوه الداعي.. و.. فكلمة: "ما" مضاف إليه مبنية على السكون في محل جر. والضمير "الهاء" -في إخفاقه- مضاف إليه مبني على الضم في محل جر. والجملة المضارعية: "يدعو" مضاف إليه في محل جر.
وإذا كان المضاف إليه هو: "ياء المتكلم"3 فإنه يستوجب أحكامًا أخرى غير الكسر، ستجيء في باب خاص به4.
أما المضاف فلا بد أن يكون اسمًا -كما سبق- ويعرب على حسب حالة الجملة؛ فيكون مبتدأ، أو خبرًا، أو فاعلًا، أو غير ذلك ... والكثير أن يكون معربًا، ومنه ما يكون مبنيًا، ولا يمنعه البناء من أن يكون مضافًا؛ مثل: حين، حيث، إذ، إذا، لدن ... و ... 5 وغيرها مما سيمر بعضه في هذا الباب ...
والمضاف هو عامل الجر في المضاف إليه6- تبعًا للرأي المشهور.
__________
1 ومعناه يخالف معنى المضاف؛ لأن الإضافة -ولا سيما المحضة- تقتضي مغايرة المتضايفين في مدلولهما؛ "كما سيجيء، في رقم 6 من هامش ص40" إلا بعض الحالات هناك، ولا بد أن يكون المضاف إليه اسمًا، ولو تأويلًا؛ كما في هامش ص2 وفي ص6.
2 يكون مجرورًا في اللفظ إذا كان معربًا، ويكون مجرور المحل إذا كان مبنيا؛ كالضمائر، والموصولات، و ... أو كان جملة، فالمبني والجملة كلاهما في محل جر.
3 الإضافة لياء المتكلم المحذوفة أو المنقلبة ألفًا تسمى "الإضافة المقدرة".
أما الإضافة للياء المذكورة فنوع من "الإضافة الظاهرة". -كما سيجيء في "ب" من ص173. وهذا تقسيم آخر للإضافة.
4 ص169.
5 لما تقدم في إشارة في آخر "ج" من هامش ص2.
6 قلنا في الجزء الثاني "باب حروف الجر، هامش ص 338 م89" إن جر الاسم بالإضافة هو سبب من أسباب ثلاثة أصيلة، كل واحد منها يوجب جره، أولها: جره بحرف الجر، =(3/7)
الثاني: وجوب حذف نون المثني، ونون جمع المذكر السالم، وملحقاتهما -إن وقع أحدهما مضافًا مختومًا بتلك النون. فمثال حذفها من آخر المثنى المضاف قول الشاعر:
العين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها
ومثال حذفها من آخر الملحق بالمثنى1 قول الشاعر:
بدت الحقيقة غير خافٍ أمرها ... واثنا2 عليٍّ يشهدان بما بدا
ومثال حذفها من جمع المذكر: الجنود حارسو الوطن، باذلو أرواحهم
__________
= وثانيها: جره بالإضافة، وثالثها: جزء بالتبعية لمتبوع مجرور، كأن يكون التابع نعتًا، أو: معطوفًا، أو: توكيدًا، أو بدلًا، والمتبوع في كل تلك الحالات مجرور، فيجب جر التابع محاكاة له.
وهناك سببان آخران للجر؛ أحدهما الجر على: "التوهم"؛ ومن صواب الرأي إهماله، وعدم الاعتداد به "كما قلنا في ج1 ص 609 م 49 حيث توضيحه، وتفصيل الكلام عليه".
والآخر الجر على: "المجاورة"؛ والواجب التشدد في إغفاله، وعدم الأخذ به مطلقًا. "كما أشرنا في الموضع السابق وفي ج2 م82 ص323 وص401 م89". أما الداعي لاتخاذه سببًا للجر فورود أمثلة قليلة جدًا، وبعضها مشكوك فيه-، قد اشتملت على جر الاسم من غير سبب ظاهر لجره، إلا مجاورته لاسم مجرور قبله مباشرة؛ منها: "هذا حجر ضب خرب"، بجر كلمة: "خرب"، مع أنها صفة "لحجر" ولا تصلح صفة "لضب"؛ لأن الضب لا يوصف بأنه خرب، ومنها:
"يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ... " بجر كلمة: "كل"، مع أنها توكيد لكلمة: "ذوي" المنصوبة؛ إذ لو كانت توكيدًا لكلمة: "الزوجات" لقال كلهن. وقد تأول النحاة المثال الأول بأن أصله: هذا حجر ضب خرب الحجر منه، أو خرب جحره، ثم حذف ما حذف، وبقي ما بقي، واشتد الجدل في نوع المحذوف وصحة الحذف وعدم صحته، على الوجه المبين في المطولات "ومنها همع الهوامع ج2 ص55" وقالوا ف المثال الثاني إنه خطأ أو ضرورة.
واتفق كثير من أئمة النحاة على أن الجر بالمجاورة ضعيف، أو ضعيف جدًا. وجاء في "المحتسب" لابن جني -ج2 ص297- ما نصه: "إن الخفض بالجوار –أي: بالمجاورة- في غاية الشذوذ" ا. هـ بل جاء في كتاب "مجمع البيان" لعلوم القرآن" -ج3 ص335 ما نصه: "إن المحققين من النحويين نفوا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزًا في كلامهم..". ا. هـ، أي: في كلام العرب؛ وعلى هذا لا يصح القياس عليه، ولا يستعمل إلا في المسموع "كما جاء في خزانة الأدب، للبغدادي، ج2 ص324".
1 من الملحق بالمثنى: "اثنان" و "اثنتان" وقد سبق تفصيل الكلام على المثنى وملحقاته في ج1 ص76 م9.
2 أي: عيناه، أو: صاحباه.(3/8)
في حمايته. ومثال حذفها من الملحق1 به قولهم: أحب الناس للمرء أهلوه؛ فلا يقض سني حياته في معاداتهم، أو مقاطعتهم. وقول بعضهم يصف شهرًا من شهور الصيف: لقد اشتدت وقدته، وتأجج سعيره، وأحرقتنا ثلاثوه، وكان الأصل2 قبل الإضافة: عينين، اثنان، حارسون، باذلون، أهلون، سنين، ثلاثون.
فإن كانت النون الأخيرة ليست للتثنية ولا لجمع المذكر السالم، ولا لملحقاتها لم يجز حذفها من المضاف؛ كالنون التي في آخر المفرد، مثل: سلطان، حنان، وكالتي في آخر جمع التكسير، مثل: بساتين، رياحين؛ تقول: سلطان الضمير أقوى من سلطان القانون، حنان الآباء والأمهات لا يسمو إليه حنان أحد، كان العرب القدامى مفتونين ببساتين الشام ورياحينها، يكثرون القول في وصفها، والتغني بمباهجها.
__________
1 ومن الملحق بجمع المذكر السالم: أرضون، سنون، عالمون، أهلون، ... و ... "وقد سبق الكلام على هذا الجمع وملحقاته في ج1 ص81 م11".
2 يجب أن يحذف مع نون المثنى وجمع المذكر حرف اللام الذي يقع فاصلًا بينها وبين ياء المتكلم الواقعة مضافًا إليه، في مثل: هذان أستاذاي، وهؤلاء أستاذِيَّ.
ومثل قول الشاعر:
خليليَّ إن المال ليس بنافع ... إذا لم ينل منه أخر وصديق
وقولهم: إن مكرسِيَّ أهل تفضل لا أنساه.
والأصل: استأذن لي، أستاذون لي، خليلين لي، مكرمين لي، ثم حذفت اللام مع النون. وقيل أنها حذفت للتخفيف. وسواء أكان هذا أم ذاك فلا بد من حذف اللام مع النون، فلا قيمة للخلاف.. و ... كما سيأتي في باب: "المضاف للياء". "رقم1 من هامش ص178".(3/9)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- هناك حالة يجوز فيها حذف النون وعدم حذفها من آخر المثني وجمع المذكر السالم، مع عدم إضافة كل منهما. وتحقق هذه الحالة في الإضافة غير المحضة حين يكون المضاف وصفًا عاملًا بعده معموله. والغالب1 في هذا الوصف أن يكون صلة "أل"؛ نحو: اشتهر المتقنان العمل، اشتهر المتقنون العمل ... فعند إثبات النون في الوصف -كما في المثال- يتحتم إعراب كلمة: "العمل" مفعولًا به للوصف. وعند حذفها، مثل اشتهر المتقنا العمل، اشتهر المتقنو العمل يجوز في كلمة: "العمل" أمران:
أحدهما: الجر على اعتبارها مضافًا إليه، والوصف قبلها هو المضاف، حذفت من آخره نون التثنية، أو الجمع؛ بسبب إضافته.
والثاني: النصب على اعتبارها مفعولًا به للوصف، حذفت النون من آخره للتخفيف، لا للإضافة؛ إذ الوصف في هذه الصورة ليس مضافًا، وإنما حذفت من آخره "النون" -بالرغم من عدم إضافته-؛ متابعة لبعض القبائل التي تجيز حذفها من آخر المثني، وجمع المذكر السالم، بشرط أن يكون كل منهما وصفًا عاملًا يغلب1 أن يكون صلة "أل" وبعده مفعوله غير مجرور؛ كما شرحنا.
__________
"1، 1" لأنها قد تحذف في حالات أخرى "سبق بيانها في ج1 م56 ص691 باب: لا النافية للجنس".
وإنما قلنا: الغالب في الوصف أن يكون صلة "أل" اعتمادًا على ما قاله الصبان هنا وفي الجزء الأول في باب: الإعراب؛ عند الكلام على حركة نون المثنى والجمع" حيث صرح فيهما بأن الوصف صلة. ومعلوم أن الوصف لا يكون صلة إلا لأل، أما غير الغالب فعدم وقوعه صلة لها، وهذا يفهم من كلامه في باب الإعراب السالف في الموضع المشار له. كما يفهم من ج2 آخر باب الإضافة عند كلامه على مواضع الفصل بين المتضايفين بشبه الجملة.(3/10)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكن من الخير إهمال هذه الصورة اليوم، وعدم محاكاتها –وإن كانت محاكاتها جائزة، لما قد تحدثه من لبس وإبهام ينافيان الغرض الصحيح من اللغة، وما يجب أن توصف به. وإنما عرضناها، كما نعرض نظائر لها في بعض الأحيان، للسبب الذي نردده كثيرًا، وهو: الاستعانة بها على فهم الوارد منها. في النصوص القديمة، دون الموافقة على محاكاتها.(3/11)
الثالث: وجوب حذف التنوين إن وجد في آخر المضاف قبل إضافته؛ كقولهم: بناء الظلم إلى خراب عاجل، وكل بنيان عدل فغير منهدم. فقد حذف التنوين من الكلمات المعربة: "بناء، كل، بنيان، غير ... "، وبسبب الإضافة. ولو زالت الإضافة لعاد التنوين.
الرابع: وجوب حذف "أل" من صدر المضاف، بشرط أن تكون زائدة1 في أوله للتعريف، أو لغيره، وأن تكون الإضافة محضة، نحو: بلادنا تاج الفخار للشرق، وهي درة عقده. والأصل: البلاد، التاج، الدرة، العقد. فحذفت "أل" من أول كل مضاف.
فإن كانت "أل" غير زائدة؛ "نحو: ألف، وألباب"2 لم تحذف.
أما إن كانت الإضافة غير محضة، فيجب حذف "أل" أيضًا إلا في الحالات الأربع التالية3:
أ- أن توجد في المتضايفين معًا "أي: في المضاف والمضاف إليه، معًا"؛ نحو: الوالدان هما الرحيما القلب، العلماء هم المؤسسو الحضارة.
ب- أن توجد في المضاف دون المضاف إليه، ويكون المضاف إليه مضافًا إلى اسم مبدوء بها؛ نحو: أعاون المؤسسي نهضة البلاد، وأعتقد أنهم الرائدو خير الوطن.
ج- أن توجد في المضاف دون المضاف إليه ويكون المضاف إليه مضافًا
__________
1 أي: بشرط أن تكون غير لازمة، واللازمة -هنا- هي المعدودة من بنية اللفظ، أي: من حروفه التي لا بد من وجودها ليؤدي المراد الأصيل منه، كالتي لا تفارق الأعلام مطلقًا؛ مثل: "ألكن، ألفيّ، وألطاف، وإلهام، وألوان، وألحان"- أعلاما ...
2 جمع: لب، بمعنى: عقل.
3 مما تجب ملاحظته: أن "الإضافة" تعتبر محضة لا يجوز فيها وجود "أل" في "المضاف" إذا كان المضاف "المشتق" دالًّا على الزمن الماضي فقط مع عدم استيفائه لبقية الشروط اللازمة للإعمال، "والتي يجيء بيانها في ص246؛ -كما سبق في ص5 و6"- فلا يصح: جاء العابر النهر أمس. فلا بد لصحة الجمع بين "أل" و"الإضافة" في المشتق العامل "كاسم الفاعل و ... " أن يكون عاملًا زمنه للحال أو الاستقبال أو الاستمرار الذي يشمل الأزمنة الثلاثة؛ نحو: انظر العابر النهر الآن، انظر العابر النهر غدًا، إن الله المدبر الأمور.(3/12)
إلى ضمير يعود على لفظ مشتمل عليها، نحو: المجد أنتم المدركو قيمته، والفضل أنتم الباذلو غايته.
د- أن توجد في المضاف دون المضاف إليه بشرط أن يكون المضاف مثني أو جمع مذكر سالمًا؛ نحو: أنتما الصانعا معروف، أنتم الصانعو معروف. ومنه قول الشاعر:
وما لكلام الناس فيما يريبني ... أصول، ولا للقائليه أصول
وفي غير هذه الحالات الأربع الخاصة بالإضافة غير المحضة يجب حذف "أل" كما قلنا. ففي كلمات مثل: العزيز، الشاهد، السارق، الأفضل ... و ... وأشباهها نقول فيها عند إضافتها: عزيز قومه مطاع فيهم، شاهد زور أكبر ضررًا من سارق مال. أفضل مواهب المرء عقله ... و ...(3/13)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- الكوفيون يجيزون في الإضافة المحضة دخول "أل" على المضاف، بشرط أن يكون اسم عدد، وأن يكون المضاف إليه هو المعدود، وفي أوله "أل" أيضًا؛ فلا بد من وجودها فيهما معًا، نحو: قرأت الثلاثة كتب في السبعة الأيام. وحجتهم في هذه الإجازة السماع عن العرب، وورود عدة أمثلة صحيحة تكفي عندهم للقياس عليها. والبصريون لا يجيزون هذا، مستندين في المنع إلى أن العدد مع المعدود هو ضرب من المقادير، والمقادير لا يجوز فيها ما سبق؛ فكما لا يصح أن يقال: اشتريت الرطل الفضة، -بالإضافة- لا يصح كذلك أن يقال: الثلاثة الكتب -بالإضافة- حملًا للنظير على نظيره، وقياسًا للشيء على ما هو من بابه. فَعِلَّة المنع عندهم: "التنظير".
والحق أن حجة الكوفيين هي الأقوى؛ لاعتمادها على السماع الثابت، وهو الأصل والأساس الذي له الأولوية والتفضيل؛ فلا مانع من الأخذ له لمن شاء غير أن المذهب البصري أكثر شهرة، وأوسع شيوعًا؛ فمن الخير الاكتفاء بمحاكاته؛ لتماثل أساليب البيان اللغوي، وتتوحد، حيث يحسن التماثل والتوحد1.
ب- في مثل: "جاء المكرمك". من كل وصف عامل مبدوء: بـ"أل" ومفعوله ضمير بعده2- يعرب هذا الضمير "وهو هنا: الكاف"
__________
1 وهذا ما دعانا إلى استحسان الرأي البصري، والاقتصار عليه عند الكلام على المعرف "بأل" إذا أريد إضافته. "البيان، والصور المتعددة، ج1 ص320 م32".
2 ومنه قول الشاعر:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات، هل أنت مخلدي؟
ومثل البيت الأخير من أبيات "شوقي" التالية، يخاطب أبا البنات، الذي لم يرزق بنين:
إن البنات ذخائر من رحمة ... وكنوز حب صادق، ووفاء
الساهرات لعلة، أو كبرة ... والصابرات لشدة وبلاء ...
والباكياتك حين ينقطع البكا ... والزائراتك في العراء النائي
"الكبرة: الشيخوخة، العراء النائي: الخلاء والفضاء البعيدان. والمراد بهما: المقابر".(3/14)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مفعولًا به في محل نصب، ولا تصح الإضافة؛ لوجود "أل" في صدر المضاف؛ إذ هذه الصورة ليست من الصور السالفة1 التي تباح فيها الإضافة مع وجود: "أل" في المضاف.
ويتعين في الضمير "الكاف" الجر المحلى بالإضافة إن كان الوصف مجردًا من: "أل" في مثل: "جاء" مكرمك"، لفقد التنوين؛ إذ لم نقل: جاء مكرم إياك. أما إن كان مفعول الوصف ظاهرًا بعده فإن آثار الإضافة ستظهر عليه جلية؛ وتتبين بجره، مع حذف التنوين من الوصف المضاف، وإلا فلا إضافة فينصب المفعول به بعد الوصف ...
ومثل الضمير "الكاف" في وجوب النصب: الضمير "الهاء" في: "أوضعه" من قولهم المأثور: "لا عهد لي بألأم قفًا منه، ولا أوضعه". بفتح العين -كما وردت سماعًا- فـ"الهاء" هنا مثل "الكاف" في المثال السابق. إلا أن "الكاف" مفعول به، و"الهاء" مشبه بالمفعول به هنا؛ لأن اسم التفضيل لا ينصب مفعولًا به. وليست كلمة "أوضع" مضافة، و"الهاء" مضافة إليها؛ لأنها لو كانت مضافة لوجب جرها بالكسرة لا بالفتحة التي سمعت بها. على أنه لا مانع من جرها في استعمالنا الآن على الإضافة2.
وفي مثل: "مررت برجل أبيض الوجه لا أحمره"، يجوز جر: "أحمر" بالفتحة؛ على اعتباره معطوفًا على كلمة "أبيض"، و"الهاء" بعده في محل نصب؛ على "التشبيه بالمفعول به" للصفة المشبهة: "وهي أحمر" ويجوز جر: "أحمر" بالكسرة: على اعتباره معطوفًا على أبيض أيضًا، مضافًا، و"الهاء" مضاف إليه، مبنية على الضم في محل جر3.
__________
1 في ص 12 وما بعدها.
2 لهذه المسألة اتصال وثيق بالحكم الهام الذي يجيء في ص422، باب: "أفعل التفضيل" خاصًا به إذا كان معطوفًا على "أفعل" آخر.
2 وقد نص على هذا صاحب المغني ونقله عنه الصبان في هذا الموضع من الباب.(3/15)
الخامس: وجوب اشتمال الإضافة المحضة على حرف جر أصلي1، مناسب، اشتمالًا أساسه التخيل والافتراض، لا الحقيقية والواقع؛ فيلاحظ وجوده، مع أنه غير موجود إلا في التخيل، أو: في النية2 -كما يقولون-.
والغرض من هذا التخيل: الاستعانة بحرف الجر على توصيل معنى ما قبله إلى ما بعده؛ كالشأن في حرف الجر الأصلي3، وأيضًا الاستعانة على كشف الصلة المعنوية بين المتضايفين، "وهما: المضاف والمضاف إليه"، وإبانة ما بينهما من ارتباط محكم، وملابسة "أي: مناسبة" قوية لا تتكشف ولا تبين إلا من معنى حرف الجر المشار إليه4. بشرط أن يكون هذا الحرف خفيًّا متخيّلا، مكانه بين المضاف والمضاف إليه، وأن يكون أحد ثلاثة أحرف أصلية؛ هي: "من"، "في"، "اللام"5.
__________
1 أما غير المحضة فالصحيح أنها لا تشتمل على حرف جر "خفي ملحوظ". وقيل: إنها تشتمل على "اللام"، والأول هو الأرجح الذي يجب الاقتصار عليه.
2 هذا تعبير النحاة.
3 أوضحنا هذا في باب حروف الجر، ج2 م89 ص340.
4 يرى بعض النحاة أن الإضافة المحضة ليست على تقدير حرف خفي، ولا على ملاحظة وجوده مع اختفائه وحجته: أنه لو كان هناك حرف خفي ملحوظ ما وقع فرق في المعنى بين: كتاب محمد، وكتاب لمحمد؛ فيتساوى المعنينان، مع أنهما غير متساويين في الواقع، لأن كلمة: "كتاب" الأولى معرفة، والثانية نكرة؛ وفرق كبير في المعنى بين المعرفة والنكرة.
وقد دفعوا حجته بمنع المساواة؛ قائلين: إن المراد من كون الإضافة على معنى حرف -كاللام مثلًا- مجرد ملاحظة معنى "اللام". وهذه الملاحظة المجردة لا تمنع من تعريف المضاف، ولا من تخصيصه، على الوجه الآتي في الحكم السادس ص23 ما دام حرف الجر مختفيًا لا يظهر في الجملة بين المتضايفين. أما إذا ظهر بينهما فإن الأمر يتغير؛ فتخلو الجملة عندئذ من اسم المضاف والمضاف إليه؛ لأن كلا منهما يفقد اسمه هذا بسبب ظهور حرف الجر، ويزول ما كان يكتسبه المضاف من المضاف إليه من تعريف أو تخصيص؛ حيث لا يوجد الآن إضافة مطلقًا.
فمجرد الملاحظة لا يستلزم المساواة التامة بين "كتاب محمد" و "كتاب لمحمد" من كل وجه، إذ المراد من "كتاب محمد"، بمعنى: "كتاب لمحمد" ملاحظة معنى "اللام" فقط دون التصريح بها، ودون منع تعريف أو غيره مما يستفيده المضاف من المضاف إليه. فالأمر مقصور على مجرد تفسير جهة الإضافة في المثال المذكور وأشباهه؛ من ناحية الملك، أو: الاختصاص، ونحوه، ليس غير.
5 وبسبب هذا الأثر المعنوي، مزيدًا عليه الأثر الموضح في الحكم السادس التالي ص23، سميت "إضافة معنوية"- كما سبق في رقم 1 من هامش صفحة 3، وكما سيجيء في صفحة رقم 24.(3/16)
وإنما انحصر الاختيار في هذه الثلاثة؛ لأنها -دون غيرها- أقدر على تحقيق الغاية المعنوية؛ فالحرف: "من" يدل على أن المضاف بعض المضاف إليه.." والحرف: "في" يدل على أن المضاف إليه يحوي المضاف كما يحوي الظرف المظروف ... والحرف: "اللام" يدل على ملكية المضاف إليه للمضاف، أو اختصاصه به بنوع من الاختصاص ... فمثال: "من" قول أعرابية لابنها الخارج إلى القتال، وقد رأته متزينًا:
حرام على من يروم انتصارا ... ثياب الحرير، وحلي الذهب
أي: ثياب من الحرير، وحلي من الذهب. ومثال "في" قول الشاعر:
ولقد ظفرت بما أردت من الغنى ... بكفاح صبح، واجتهاد مساء
أي: بكفاح في صبح، واجتهاد في مساء. ومثال "اللام" قول الشاعر في وصف الصحف:
لسان البلاد، ونبض العباد ... وكهف الحقوق، وحرب الجنف1
أي: للبلاد، للعباد، للحقوق، للجنف.
ومن الواجب التنبه لما قلناه من أن الحرف الجار -في الأمثلة السالفة وأشباهها- لا وجود له في الحقيقة الواقعة، ولا في التقدير الذي يقوم مقامها، وإنما وجوده مقصور على التخيل، ومجرد النية. ولهذا لم يعمل الجر في المضاف إليه -في الرأي المشهور- ولم يحتاجا معًا إلى عامل يتعلقان به؛ إذ التعلق لا يكون إلا للجار والمجرور الحقيقيين الأصليين. وبالرغم من أن هذا الحرف خيالي محض فإن التصريح به جائز في أكثر الإضافات المحضة2 ...
ولكن أيصلح كل حرف من تلك الأحرف الثلاثة لكل إضافة محضة؛ بحيث يصح أن يحل هذا الحرف محل ذاك، والعكس، بغير ضابط ولا اشتراط شيء، أم أن الأمر في الاختيار مقيد بشرط خاص، وخاضع لضابط معين؟.
وبعبارة أخرى: أيباح استعمال كل واحد من الأحرف الثلاثة في كل إضافة
__________
1 الميل عن الحق، الظلم.
2 سيجيء في قسم "أ" ص21 بعض الصور التي لا يصح فيها التصريح بحرف الجر.(3/17)
محضة، أم أن لكل إضافة محضة حرفًا واحدًا يناسبها، ولا يصلح لها سواه؟.
نعم لكل واحدة منها حرف يناسبها، ولا يجوز اختيار غيره، وإلا فسد المعنى المراد، ولهذا قالوا: إذا صلح لواحدة أكثر من حرف جر وجب أن يختلف المعنى باختلاف الأحرف الجارة الصالحة؛ لأن لكل حرف من الثلاثة معنى خاصًّا به، لا يؤديه غيره، فلا يمكن أن تتفق المعاني في إضافة واحدة مع اختلاف هذه الأحرف.
وفيما يلي بيان الضابط الذي يراعى عند اختيار أحد الأحرف الثلاثة: "وقد جرى الاصطلاح النحوي عند اختيار حرف منها أن يذكر اسم الحرف؛ فيقال: الإضافة على معنى "من"1، أو: الإضافة على معنى: "في"، أو الإضافة على معنى: "اللام".
1- تكون الإضافة على معنى: "من"، إن كان المضاف إليه جنسًا عامًا يشمل المضاف، ويصح إطلاق اسمه على المضاف، وإن شئت فقل: أن يكون المضاف بعض المضاف إليه، مع صلاحية المضاف لأن يكون مبتدأ خبره المضاف إليه2، من غير فساد للمعنى، مثل: ثياب حرير، حلي ذهب ... فالحرير: مضاف إليه، وهو جنس عام، يشمل أشياء كثيرة؛ منها الثياب، وغيرها. والذهب جنس عام يشمل أشياء متعددة، منها الحلي وغيره، فالمضاف في الحالتين -ونظائرهما- بعض مما يشمله المضاف إليه، ولو سمي باسم المضاف إليه لكانت التسمية صحيحة، ولو وقع المضاف مبتدأ خبره المضاف إليه ما فسد المعنى، فيصح؛ الثياب حرير، الحلي ذهب..
__________
1 هي "من البيانية" التي سبق بيانها وبين أحكامها الأخرى في باب حروف الجر ج2 ص338 م90.
2 إلا في المسألة التي في هامش الصفحة التالية.(3/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
من الإضافة التي على معنى: "من": إضافة الأعداد إلى المعدودات؛ نحو: اشتريت أربعة كتب. ويدخل في هذا النوع إضافة العدد إلى عدد آخر؛ نحو: عندي من الكتب ثلاثمائة1.
ومنها: إضافة المقادير إلى الأشياء المقدرة؛ نحو: بعت فدان قطن.
وإذا كانت الإضافة على معنى "مِن" جاز في المضاف إليه أوجه إعرابية أخرى، فيجوز أن يعرب بدلًا، أو عطف بيان، وتزول بوجودهما الإضافة وتكون حركة آخره تابعة لحركة المتبوع الذي كان مضافًا في الأصل. كما يجوز أيضًا -إن كان نكرة- نصبه على الحال أو التمييز بعد الاستغناء عن الإضافة؛ ففي مثل: هذه ساعة فضة، يصح إعراب: "فضة" مضافًا إليه مجرورًا، والمضاف هو كلمة: "ساعة" خبر مرفوع، مجرد من التنوين. ويصح في كلمة: "فضة" إعرابها بدلًا، أو عطف بيان، فتكون مرفوعة، تبعًا لكلمة "ساعة" المرفوعة، والتي يجب أن يرجع إليها التنوين في هذه الصورة بعد زوال الإضافة. ويصح أيضًا إعراب كلمة "فضة" حالًا أو تمييزًا؛ فيجب نصبها كما يجب تنوين كلمة: "ساعة" في هذه الصورة أيضًا، بعد زوال الإضافة.
ولكل صورة إعرابية من الصور الصحيحة السالفة معنى يختلف عن الآخر؛ لأن المعنى الذي يؤديه البدل أو عطف البيان يغاير ما يؤديه الحال أو التمييز، وكذا ما يؤديه هذان.
__________
1 عرفنا أنهم اشترطوا في الإضافة التي على معنى: "من" أن يكون المضاف إليه جنسًا المضاف ... ، وأن يصح وقوع المضاف إليه خبرًا عن المضاف. لكن هذا لا يتحقق في إضافة العدد للعدد؛ إذ لا يصلح أن يقال: "الثلاث مائة ... " غير أنهم قالوا إن إضافة العدد للعدد هي على معنى "من" ولا يضر عدم صحة الأخبار في الظاهر؛ لأن المراد بالمضاف إليه هنا الجمع فيشمل المضاف. فالمقصود من المائة "وهي المفرد المضاف إليه" المئات؛ فكأنك تقول: الثلاث مئات ... وبهذا التأويل يتحقق الشرط السالف.
وقد يقال: لا داعي للتأويل والتقدير ما دامت العرب قد نطقت بهذا ...(3/19)
ب- تكون الإضافة على معنى: "في" إن كان المضاف إليه ظرف زمان أو مكان واقعًا فيه المضاف1: نحو: يحرص كثير من الناس على رحلة الشتاء إلى المشاتي، ورحلة الصيف إلى السواحل البحرية. أى: رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف. ونحو: قول شوقي في وصف الظبي:
"عروس البيد، الفاتن كالغيد ... إذا شرع في السماء روقيه2، خلته دمية محراب، أو شجيرة عليها تراب". يريد: عروس في البيد، دمية في محراب ...
ج- تكون الإضافة على معنى "اللام" إن كان معناها هو الذي يحقق القصد، دون معنى: "من" أو "في"؛ كالإضافة التي يراد منها بيان الملك، أو الاختصاص، في مثل: يضع العربي يده في يد أخيه، ويعاهده على النصر والتأييد والفداء. أي: يد له في يد لأخيه. وقول شوقي يخاطب أبا الهول3:
أبا الهول، أنت نديم الزمان ... نجي الأوان4، سمير العصر5
أي: نديم للزمان -نجي للأوان- سمير للعصر، فالإضافة في هذه الصورة وأشباهها على معنى: "اللام" ولا تصلح أن تكون على معنى "من" أو: "في".
والغالب في اللام الملحوظة أن تكون لبيان الملك أو الاختصاص6. فإن صلح في مكانها ملاحظة حرف آخر وجب أن يقوم المعنى على ملاحظة الحرف الذي يحقق القصد؛ لأن لكل حرف -كما أشرنا7- معنى يؤديه؛ فالحرف الذي يؤدي المعنى الذي يريده المتكلم يكون هو الحرف المطلوب.
__________
1 ليس من اللازم أن يكون المضاف إليه ظرفًا حقيقيًا للزمان أو المكان تنطبق عليه شروطهما، وإنما الغرض أن يكون وعاء للمضاف، وغلافًا يحتويه. ويكفي أن تكون الظرفية مجازية.
2 قرنيه: -تثنية: قرن-.
3 تمثال فرعوني من أقدم آثار الفراعين، وأروعها صورة، وأكملها إتقانًا، رأسه رأس إنسان وجسمه جسم أسد.
4 الزمن الحديث.
5 بمعنى: الدهر. أو: جمع عصر.
6 انظر رقم "1" في الصفحة التالية، وقد سبق شرح هذا في الجزء الثاني، باب: "حرف الجر. ص364 م90.
7 في ص18.(3/20)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- قد تكون الإضافة على معنى: "اللام" ولكن لا يصح التصريح1 بهذا الحرف، مثل: يوم السبت، يوم الأحد، ... و ... ومثل: علم الحساب، علم الهندسة، ... و ... وفي هذه الحالة يكتفي من اللام بتحقيق الغرض من مجيئها؛ وهو: إفادة الاختصاص.
وهناك صور أخرى لا يصح التصريح فيها باللام إلا إذا تغير لفظ المضاف، وحل محله لفظ آخر يرادفه أو يقاربه؛ ومن هذه الصور: ذو مال، عند علي، -مع الوالد- كل رجل.. فتصير بعد التغيير الذي لا يفسد المعنى: صاحب مال، مكان علي، مصاحب الوالد، أفراد الرجل.
2- الأصل أن تكون النسبة الإضافية قوية، أي: أن تكون الصلة المعنوية بين المضاف والمضاف إليه وثيقة، والربط بينهما محكمًا بحيث يظهر ويتحقق جليًّا معنى الحرف: "من" أو: "في" أو: "اللام" على حسب القصد. وهذه الإضافة تسمى: "الإضافة قوية الملابسة" "أي: قوية المناسبة".
وقد تقوم دواعٍ بلاغية تقتضي أن تكون الصلة بين المضاف والمضاف إليه ضعيفة، لكنها واضحة مفهومة، ويعبرون عنها بأنها "الإضافة لأدنى ملابسة"2، ومن أمثلتها: "قمر القاهرة
ساحر، شمس حلوان3 رائعة". فقد أضيف القمر إلى القاهرة، ونسب إليها، إضافة على معنى "اللام" فأين ما تفيده الإضافة التي على معنى "اللام" من الملك أو الاختصاص؟ ... إن صلة القمر بمدينة القاهرة ضعيفة لا تستحق تلك الإضافة، ولا هذه النسبة؛ إذ يشاركها فيها آلاف من البلاد الأخرى؛ فلا داعي لاستئثارها بالقمر. غير أن
__________
1 أشرنا لما يأتي في رقم 2 من هامش ص17.
2 وهي جائزة في السعة والضرورة. "أي: في النثر والشعر، وملحقاته ... ".
3 إحدى ضواحي القاهرة، جنوبًا.(3/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هناك داعيًا بلاغيًّا اقتضى هذه النسبة وتخصيص القمر بالقاهرة؛ هو: إفادة أنه يمنحها ما لا يمنح سواها، ويضفي عليها جمالًا قلَّ أن تفوز به مدينة أخرى، فكأنه خاص بها، مقصور عليها. ومثل هذا يقال في المثال الثاني وأشباهه1.
__________
1 كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} . فقد أضيف الضحا إلى: "ها" التي هي ضمير العشية، فالتقدير: كأنهم لم يلبثوا إلا عشية، أو ضحا العشية. ولا صلة هنا تربط المضاف بالمضاف إليه ربطًا معنويًا قويًا يحقق معنى الحرف إلا صلة واهية؛ هي: أن الضحا أول النهار والعشية آخره؛ فبينهما أزمنة أخرى، لكل زمان منها اسمه الخاص. ولكن البلاغة اقتضت إغفال هذه الأزمنة، وإجراء إضافة لأدنى ملابسة بين المضاف والمضاف إليه، وكقولهم: "نجم الأحمق"؛ وهو نجم كان إذا أشرق ورآه بعض الحمقى، هدأ واستراح، وخفت حدة حمقه. وكذلك ما جاء في "الكامل" للمبرد "ج1 ص243"، ومن قول الشاعر:
أهابوا به؛ فازداد بعدًا، وصدَّه ... عن القرب منهم ضوء برق ووابله
فقد أضاف الشاعر كلمة: "وابل" إلى ضمير "البرق"؛ فكأنه أضافها إلى البرق نفسه؛ قائلًا "وابل البرق" مع أن "الوابل" ليس للبرق، قال المبرد: قد يضاف ما كان كذلك على السعة كقول الشاعر:
حتى أنخت قلوصى في دياركمو ... بخير من يحتذي نعلًا وحافيها
فأضاف "الحافي" إلى "النعل" وهو يريد: حاف منها.(3/22)
السادس: استفاد المضاف من المضاف إليه تعريفًا أو تخصيصًا؛ بشرط أن تكون الإضافة محضة؛ فيستفيد الأول من الثاني، ويبقى الثاني على حالة1 لم يفقد شيئًا بسبب الاستفادة منه.
وإيضاح هذا: أنه -في الإضافة المحضة- إذا كان المضاف نكرة: وأضيف إلى معرفة -فإنه يكتسب منها التعريف مع بقائها معرفة؛ كقولهم: كلام المرء عنوان لعقله، وعقله ثمرة لتجاربه. فالكلمات: "كلام، عقل، تجارب" هي في أصلها نكرات، لا تدل كلمة منها على معين، ثم صارت معرفة بعد إضافتها إلى المعرفة، واكتسبت منها التعيين الذي يزيل عن كل واحدة منها إبهامها وشيوعها. ومثل كلمة: "يد" المضافة للمعرفة في قول الشاعر:
الغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاقِ
فإن كان المضاف معرفة باقية على التعريف لم يصح -في الأغلب- إضافته إلى المعرفة2؛ لأنه لا يستفيد منها شيئًا، ولهذا السبب لا يصح أيضًا إضافة المعرفة الباقية على تعريفها إلى النكرة.
أما إذا كان المضاف نكرة وأضيف إلى نكرة فإنه يكتسب منها -مع بقائها على حالها- "تخصيصًا" يجعله من ناحية التعيين والتحديد في درجة بين المعرفة والنكرة؛ فلا يرقى في تعيين مدلوله إلى درجة المعرفة الخالصة الخالية من الإبهام والشيوع، ولا ينزل في الإبهام والشيوع إلى درجة النكرة المحضة الخالية من كل تعيين وتحديد. ومن أمثلته قولهم: "فلان رجل مروءة، وكعبة أمل، وغاية فضل" ... فالكلمات: "رجل، كعبة، غاية" ... نكرات محضة قبل إضافتها، فلما أضيفت إلى النكرة قلت أفراد كل مضاف بعد الإضافة؛
__________
1 إذا توالت الإضافات، نحو: هذا بيت والد محمود، وقرأت أكثر قصائد ديوان شعر المتنبي ... انتقل التعريف أو التخصيص من المضاف إليه الأخير إلى الذي قبله، فالذي قبله حتى يصل إلى المضاف الأول.
"راجع الصبان ج1 آخر باب أداة التعريف. وكذا المفصل ج6 ص34".
2 قد يصح إضافة العلم بعد تنكيره، وإزالة علميته، لداعٍ من الدواعي التي تقتضي إضافته. وفي ج1 ص204 م23 بيان هذا وتفصيله.(3/23)
فكلمة: "رجل" تدل على أفراد لا حصر لها؛ منها رجل مروءة، رجل علم، رجل حرب ... إلى غير هذا من رجال لا عدد لهم، فإذا قلنا: "رجل مروءة" انحصر الأمر في نوع معين من أفراد الرجل، ولم يبق مجال لدخول أفراد أخرى؛ كرجل علم، أو حرب، أو زراعة، أو ... وكذا كلمة: "كعبة" و "غاية" وأشباهها؛ فكل كلمة من هذه الكلمات قد اكتسبت نوعًا من "التخصيص" أفادها بعض التجديد الذي خفف من درجة إبهامها وشيوعها، وإن كانت لم تستفد التعريف الكامل، ولم تبلغ في التعيين درجة المعرفة الأصلية ...
واستفادة المضاف من المضاف إليه التعريف1 أو التخصيص على الوجه المشروح هي الأثر المعنوي الثاني الذي ينضم إلى الأثر المعنوي الناشئ من الحكم الخامس2، فيحدث من انضمامها معًا إدراك السبب الحقيقي في تسمية هذا النوع من الإضافة المحضة: "بالإضافة المعنوية" كما أشرنا من قبل3.
وهناك ألفاظ مسموعة ملازمة للتنكير في الأغلب؛ لا تفيدها الإضافة المحضة تعريفًا، ولا تخصيصًا في أكثر الاستعمالات؛ ولذا تسمى: "بالألفاظ المتوغلة4 في الإبهام"؛ ومنها: غير، حسب، مثل،
__________
1 سبق شرح النكرة والمعرفة في ج1 ص144 م17 ومن ذلك الشرح السابق نعلم أن المعارف مختلفة في درجة التعريف وقوتها، متفاوتة من هذه الناحية، وأن المضاف إلى معرفة هو درجة المضاف إليه، إلا المضاف للضمير؛ فإنه في درجة العلم على الصحيح.
2 انظر ص16.
3 في رقم 1 من هامش ص3 وفي رقم 5 من هامش 16.
4 سبقت الإشارة للألفاظ المتوغلة في الإبهام "أي: المتعمقة المتغلغلة في داخله" في رقم 3 من هامش ص190 من الجزء الأول "م17" ثم الجزء الثاني في بابي: "الظرف والاستثناء م79 و82 ص280 و321". وقلنا في باب الظرف، ص238 م79 ما ملخصه: "إن اللفظ المتوغل في الإبهام هو: الذي لا يتضح معناه إلا بما يضاف إليه، وأنه في أكثر أحواله لا يستفيد من المضاف إليه تعريفًا، إلا بأمر خارج عن الإضافة؛ كوقوع كلمة: "غير" بين ضدين معرفتين "كما نص على هذا "العكبري" في أول كتابه: "إملاء ما منَّ به الرحمن ... -أول سورة الفاتحة- ج1 ص5" في مثل: رأيت العلم غير الجهل، وعرفت العالم غير الجاهل، وقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فوقوع كلمة "غير" بين ضدين معرفتين أزال إبهامها؛ لأن جهة المغايرة تتعين بخلاف خلوها من ذلك في مثل: أبصرت رجلًا غيرك. فكل رجل سواك هو غيرك؛ فلا تعيين ولا تخصيص ...
وبهذه المناسبة نعرض لكلمة "غير" من ناحية دخول "أن" عليها أو عدم دخولها فننقل ما جاء في المصباح المنير، في مادة "غير" ونصه: "تكون وصفًا للنكرة، تقول: جاءني رجل غيرك. وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} إنما وصف بها المعرفة؛ لأنها أشبهت المعرفة بإضافتها إلى المعرفة(3/24)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= فعوملت معاملتها، ووصف بها المعرفة. ومن هنا اجترأ بعضهم فأدخل عليها الألف واللام، لأنها لما شابهت المعرفة بإضافتها إلى المعرفة جاز أن يدخل ما يعاقب الإضافة وهو الألف واللام. ولك أن تمنع الاستدلال وتقول: الإضافة هنا ليست للتعريف، بل للتخصيص. والألف واللام لا تفيد تخصيصًا فلا تعاقب إضافة للتخصيص ولا تدخله الألف واللام ... ". ا. هـ.
وجاء في الصبان -عند الكلام على ما يسيمه بعض النجاة: "الإضافة شبه المحضة" وما كان منها شديد الإبهام لا يقبل التعريف، كغير، ومثل، وشبه ... - ما نصه وقد نقله عن غيره: "ينبغي أن هذه الكلمات كما لا تتعرف بالإضافة إلا فيما استثني لا تتعرف "بأل" أيضًا؛ لأن المانع من تعريفها بالإضافة مانع من تعريفها "بأل". ونقل الشنواني عن السيد أنه صرح في حواشي الكشاف بأن "غير" لا تدخل عليها "أل" إلا في كلام المولدين" ا. هـ. وسيجيء الكلام عليها بمناسبة أخرى في ص131.
وكذلك الشأن في كلمة: "مثل" إذا أضيفت لمعرفة بغير وجود قرينة تشعر بمماثلة خاصة؛ فإن قولنا: "مثل محمد" يشمل أفرادًا لا عداد لها؛ منها واحد في طوله، وآخر في عمله، وثالث في علمه، ورابع في حسنه، و.... و.... وهكذا مما لا آخر له". فالإضافة للمعرفة لا تعرفها، ولا تزيل إبهامها؛ ولهذا وقعت نعتًا للنكرة في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا؛ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أما إن أضيفت إلى معرفة، وقارنها ما يشعر بمماثلة خاصة فإنها تتعرف، نحو: راقني هذا الخط، وسأكتب مثله. وهذا معنى قولهم: إذا أريد بكلمة "غير" و"مثل" مغايرة خاصة، ومماثلة خاصة حكم بتعريفهما، وأكثر ما يكون ذلك في كلمة: "غير" إذا وقعت بين متضادين. وأما قوله تعالى: {صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} حيث وقعت كلمة "غير المتوسطة بين المتضادين" المضافة للمعرفة صفة لنكرة –فتعرب هنا بدلًا، وإن كانت جامدة، ولا داعي لإعرابها صفة "راجع الكعبري، في أول الفاتحة، ثم الأشموني والصبان، أول باب الإضافة، عند الكلام على الإضافة غير المحضة".
"ملاحظة": تصدى لبحث هذه المسألة مؤتمر المجمع اللغوي المنعقد بالقاهرة في دورته الخامسة والثلاثين "شهر فبراير سنة 1969"، وارتضى الرأي القائل: إن كلمة "غير" الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف إليه المعرفة، ويصح في هذه الصورة التي تقع فيها بين متضادين وليست مضافة أن تقترن بأل فتستفيد التعريف. وفيما يلي النص الحرفي لقرار المجمع منقولًا من مجلته "الجزء الخامس والعشرين الصادر في نوفمبر سنة 1969 ص202" بناء على اقتراح لجنة الأصول بالمجلس التي تقول: "تختار اللجنة -وفاقًا لجماعة من العلماء- أن كلمة: "غير" إذا وقعت بين ضدين لا قسيم لهما، تتعرف بإضافتها إلى الثاني منهما إذا كان معرفة. وإذا كانت "أل" تقع في الكلام معاقبة للإضافة فإنه يجوز دخول "أل" على "غير" فتفيدها التعريف في مثل الحالة التي تعرفت فيها بالإضافة إذا قامت قرينة على التعيين ... ". ا. هـ.
واللفظ المتوغل في الإبهام لا يصلح -في أكثر حالاته- لأن يكون نعتًا أو منعوتًا، ومنه: "قبل" و "بعد"، ما عدا بعض ألفاظ منها "غير" و "سوى" فيصلحان للنعت -كما سيجيء في باب: النعت، ص466.
بقي أن نذكر ما قرره النحاة بشأن الألفاظ المبهمة التي لم تستفد التعريف من المضاف إليه المعرفة. فسيبويه والمبرد يقولان: إن الإضافة في هذه الحالة غير محضة، فائدتهما التخفيف، وما يتصل به مما عرفناه، وما يجيء مفصلًا في ص30. وغيرهما يقول: إنها محضة ومعنوية تفيد التخصيص، وإن كانت لا تفيد التعيين.(3/25)
ناهيك1" ... فإنها نكرات "في أغلب حالاتها" وإن أضيفت لمعرفة؛ نحو: غيرك، حسبك، مثلك ...
ومنها: المعطوف على مجرور "رب"، والمعطوف على التمييز المجرور بعد "كم"، نحو: رب ضيف وأخيه هنا -كم رجل وكتبه رأيت- وسبب ذلك أن المجرور بعد "رب" و "كم" لا يكون إلا نكرة؛ فما عطف عليها فهو نكرة كذلك؛ لأنه في حكم "المعطوف عليه" من ناحية أن عامل الجر فيه هو العامل في المعطوف عليه، فكلا "المعطوف والمعطوف عليه" لا بد أن يكون نكرة، أو في حكم النكرة؛ ليصلح معمولًا للعامل المشترك.
وقيل: إن المعطوف في الحالتين السالفتين يكتسب التعريف من المضاف إليه المعرفة، ولا داعي للتمسك بتنكيره بسبب العامل: "رب" أو "كم"؛ لما تقرر2 من أن التابع قد يغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع. وسبق3 أن الأخذ بهذا الرأي أولى.
ومنها: كلمة: "وحْد" و"جهْد"، و"طاقة" في مثل قولهم: "يحترق الحاسد وحده، ويتمنى جهده أن تزول نعمة المحسود، ويجتهد طاقته أن يلحق به النقائض والعيوب". وهي -في أكثر استعمالاتها- أحوال مؤولة. والحال في أصله لا يكون إلا نكرة، وتأويل تلك الكلمات: "منفردًا"، "جاهدًا"، "مطيقًا"4.
وإلى هنا انتهى الكلام على "الإضافة المحضة"، من ناحية ما يكسبه المضاف
__________
= هذا، ومن الألفاظ السماعية المتوغلة في الإبهام: شبهك "بكسر فسكون أو بفتح الأول والثاني"، ضربك، تربك، نحوك، ندك؛ وكلها بمعنى: نظيرك في علم أو سن، أو نحوهما، خدنك، بمعنى: صاحبك: "شرعك، قدك، قطك" والثلاثة، بمعنى حسبك. ولا يقاس على هذه الألفاظ غيرها مما لم يرد به السماع. وهناك أمور خاصة تتعلق بالظروف المبهمة وأحكامها سبقت في ج2 ص203 و78 ص238 م79، وسيجيء هنا بعض أحكام مناسبة تختص بالمبهم ص66 و80 و87.
1 معناها في مثل: ناهيك السفر ... ، السفر ناهيك عن التطلع لغيره؛ لكفايته. وقد سبق بيان معناها وإعرابها في ج1 ص326 م33.
2 انظر ج1 ص444 م48 وج2 ص262 م81.
3 هنا وفي ج1 م90 ص405.
4 سبقت لها الإشارة في ج2 ص297 م84.(3/26)
من التعريف أو التخصيص، وننتقل إلى "غير المحضة" للكلام عليها من هذه الناحية1:
__________
1 فيما سبق يقول ابن مالك مختصرًا:
نونًا تلي الإعراب، أو تنوينا ... مما تضيف، احذف، كطور سينا
أي: احذف مما تضيفه: "نونًا" تلي الإعراب "وهي نون المثنى، ونون جمع المذكر السالم، وملحقاتهما. وتقع بعد علامة الإعراب؛ لأنها تقع بعد ألف المثنى، ويائه، وبعد واو جمع المذكر السالم، ويائه. وهذه الحروف هي علامة إعرابهما".
وكذلك احذف: "التنوين" الذي في آخر الاسم الذي تريد إضافته. ومثَّل لحذف التنوين من المضاف بكلمة: "طور" عند إضافتها إلى كلمة: "سينا" و"الطور" اسم جبل في صحراء "سينا" أو: "سيناء"، وهي من الحدود المصرية في الشمال الشرقي، ثم قال:
والثانيَ اجررْ، وأنو: "من" أو: "في" إذا ... لم يصلحِ إلا ذاك. و: "اللام" خُذا
لِمَا سوى ذينك. واخصص أولا ... أوَ أعطمه التعريف بالذي تلا
يريد: اجرر الثاني دائمًا، وهو المضاف إليه. وعند جره وإتمام الإضافة انو وتخيل وجود الحرف "من" أو "في" إذا لم يتحقق المعنى المراد إلا على نية أحدهما. فإن لم يصلح أحدهما فخذ -بعد ذلك- اللام، وانوها في كل موضع سوى الموضع الصالح لأحد ذينك الحرفين. أي: أن اللام لا تنوي في الموضع الذي يصلح له الحرف "من" أو "في". وقد عرفنا أن هذه الحروف لا تجر المضاف إليه، ولا تحتاج معه إلى عامل يتعلقان به. وإنما الذي يجره هو المضاف.
ثم قال: اخصص الأول "وهو المضاف" أو: عرفه بالذي تلاه، "وهو المضاف إليه". يريد: أن المضاف يتخصص أو يتعرف بالمضاف إليه. وهذا كله في الإضافة المحضة؛ فيتخصص المضاف النكرة بالمضاف إليه النكرة، ويتعرف المضاف النكرة بالمضاف إليه المعرفة. أما المعرفة الباقية على تعريفها فلا تضاف لمعرفة ولا لنكرة. وقد سبق شرح هذا مفصلًا.(3/27)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يادة وتفصيل:
إذا كانت الإضافة "محضة" والمضاف إليه جملة، فإن هذه الجملة في حكم المفرد المضاف إليه، لأنها تؤول بمصدر لفعلها، مضاف إلى فاعله إن كانت الجملة الفعلية، وبمصدر خبرها مع إضافته إلى مبتدئه إن كانت اسمية. ولا يحتاج هذا المصدر المؤول إلى أداة سبك، فالأولى: أزورك حين يوافق الوالد. وتأويلها: أزورك حين موافقة الوالد. والثانية: أزورك حين الوالد موافق، وتأويلها: أزورك حين موافقة الوالد.
ويترتب على ما سبق أن المصدر الناشئ من التأويل يكون معرفة إن أضيف لمعرفة، ونكرة متخصصة إن أضيف لنكرة1. نعم إن الجمل نكرات في حكمها2 ولكن لا ينظر لهذا هنا, ووقوع الجملة صفة للنكرة المحضة في كل الأحوال لا يقدح في هذا؛ لأنها صفة باعتبار ظاهرها، وقطع النظر عن تأويلها بمصدر مضاف للمعرفة أو نكرة.
__________
2 وستجيء إشارة لهذا ولفائدة الإضافة للجملة –وشروط هذه الجملة- في ص84 وفي رقم 2 من هامش ص78 وقد سبقت أيضًا في آخر باب الموصل ج1 ص295 م29.
2 إيضاح هذا في باب النعت عند الكلام على وقوع الجملة نعتًا "في ص480" أما الحكم على الجملة نفسها بأنها نكرة أو معرفة ففي "و" من ص480، لهذا إشارة في ج2 هامش ص311م 84، وفي باب: "النكرة والمعرفة" ج1 ص142 م17.(3/28)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عودة إلى الإضافة غير المحضة:
عرفنا1 أن الإضافة غير المحضة: هي التي يغلب أن يكون المضاف فيها "وصفًا2 عاملًا"، "وزمنه للحال، أو الاستقبال، أو الدوام". ومتى اجتمع الأمران -الوصفية العاملة، والزمنية المعينة كان المضاف مشتقًا يشبه مضارعه في نوع الحروف الأصلية التي تتكون منها صيغتهما، وفي المعنى، والعمل، وكذلك في نوع الزمن غالبًا، وهذا كله يتحقق في المضاف إذا كان اسم فاعل يعمل عمل فعله، أو اسم مفعول كذلك، فكلاهما وصف عامل، زمنه للحال أو للاستقبال على حسب المناسبات، كما يتحقق في الصفة المشبهة3 الأصلية أيضًا؛ لأنها تعمل عمل فعلها اللازم، وتفيد في أكثر حالاتها الدوام والاستمرار، وهذان يقتضيان أن تشتمل دلالتها على الأزمنة الثلاثة: "الماضي، والحال، والمستقبل"، إذ لا يتحقق معنى الدوام والاستمرار بغير عناصره الأساسية الثلاثة. فلا يمكن أن تكون للماضي وحده -وإلا كانت إضافتها محضة- ولا للمستقبل وحده. وكذلك لا يمكن أن تخلو من الدلالة على زمن الحال؛ فلا بد أن تشتمل الدلالة على الثلاثة؛ المضي والحال والاستقبال، إلا أن دلالتها على الحال أقوى تحققًا ووجودًا من دلالتها على غيره، وبسبب هذا كانت إضافتها غير محضة في رأي كثير من النحاة4.
أما باقي المشتقات غير ما ذكرناه هنا بقيوده؛ من اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة؛ فإضافته محضة، لانطباق شروطها عليه، دون شروط الأخرى. فمثال اسم الفاعل: يشكو راكب الباخرة اليوم بطئها بالنسبة للطائرة. وغدًا يشكو راكب الطائرة بطئها بالنسبة "للصاروخ"؛ فكلمة: "راكب" في الجملتين مضافة. وهي في الأولى اسم فاعل للزمن الحالي، وفي الثانية اسم
__________
1 في ص6.
2 أي: اسمًا مشتقًا.
3 في هذا الجزء –ص281- باب خاص بها؛ يبين خصائصها وأحكامها التي منها: أنها لازمة كفعلها، وأنها تدل على الحال دائمًا وتدل معه على غيره –كما سيجيء- لأنها تفيد الدوام في أكثر أحوالها، والدوام يستلزم الحال، مزيدًا عليه زمن آخر.
4 بيان الرأي الحق في هذه المسألة في ص37.(3/29)
فاعل للزمن المستقبل. وكقولهم: من تراه جاحد النعمة الساعة تراه فاقدها غدًا. ويدخل في اسم الفاعل صيغ1 المبالغة العاملة أيضًا؛ كقولهم: في هذا الشهر يتفرغ فلان للعبادة؛ فتراه صوام الفم نهارًا عن الطعام، حذر اللسان من اللغو، حبيس النفس عن الهوى. ومثال اسم المفعول: مجهول القدر اليوم قد يصير معروف المكانة غدًا.. ومثال الصفة المشبهة قولهم:
عزيز النفس من يأبى الدنايا
فإن فقد المضاف أحد الشرطين كانت الإضافة محضة؛ كأن يفقد الوصفية لكونه اسمًا جامدًا، غير مؤول بالمشتق؛ كالمصدر في نحو: بذل الودَّ والنصيحة لمن لا يستحقها كبذر الحب في الصخر الأصم. أو يفقد العمل دون الوصفية بسبب أنه من المشتقات التي لا تعمل مطلقًا؛ "كأسماء الزمان، والمكان والآلة". أو يكون في أصله من المشتقات العاملة، ولكنه فقد شرطًا من شروط العمل؛ فلا يعمل؛ كاسم الفاعل واسم المفعول إذا كانا للماضي2 الخالص دون دلالة على الحال والاستقبال، نحو: باذل الخير أمس يسعد اليوم بما قدم، وماضي أعماله عنوان صفحته التي كان بها مسرورًا أو محزونًا.
أثر الإضافة غير المحضة:
لا تأثير لها في المعني في أغلب الأحيان؛ لأنها ليست على نية حرف من حروف الجر الثلاثة التي يفيد كل منها الفائدة التي أوضحناها فيما سلف3 ولأنها لا تكسب المضاف تعريفًا ولا تخصيصًا، والتعريف والتخصيص
__________
1 لها بحث خاص يجيء في ص257.
2 وكذلك إن لم يدلَّا على زمن مطلقًا، فعند عدم دلالتها على الزمن وخلو الأسلوب مما يدل عليه تكون إضافتهما محضة، كما تقدم في ص5.
3 في ص16، والذي يدل على أنها ليست على نية حرف الجر إمكان الاستغناء عنها في كل أسلوب من أساليبها من غير أن يتأثر معناه، -في الأغلب- ومن غير أن تزاد عليه كلمة، أو تنقص منه، أو يتغير ترتيب كلماته. ويتلخص هذا الاستغناء, بألا نطلق على الوصف اسم: "المضاف" ولا نطلق على معموله اسم المضاف إليه؛ وإنما نعرب الوصف على حسب حاجة الجملة، من غير تسميته مضافًا، ولا نجعل المضاف إليه المجرور معمولًا للوصف؛ إما فاعلًا له مرفوعًا، وإما مفعولًا به على حسب حاجة الوصف، ويزول الجر السابق. فهذه الإضافة غير لازمة، ولا دائمة، ولا يتأثر في الأغلب –المعنى المعين بوجودها أو بالعدول عنها؛ بل إن العدول عنها هو الأصل "كما في ص34" لأن الوصف شبيه بالفعل، يعمل عمله، من الرفع أو النصب، والفعل لا يعمل الجر، فكذا ما يشبهه؛ بخلاف المحضة فهي لازمة لأداء المعنى المراد، ولا سبيل للمحافظة عليه إلا بتغيير يتناول الأسلوب في كلماته، أو ترتيبها، أو فيهما معًا.(3/30)
أثران معنويان لا صلة للإضافة غير المحضة بجلبهما للمضاف، وعلى هذا لا نصيب لها من التأثير المعنوي الذي "للمحضة".
والدليل على أنها لا تفيد "المضاف" تعريفًا دخول "رب" عليه مع إضافته للمعرفة1. مثل: "رب مخرج الزكاة، مسرور بإخراجها -قد أبطل ثوابها بالمن والأذى". فلو أن المضاف؛ وهو: مخرج- اكتسب التعريف من المضاف إليه ما دخلت عليه "رب"؛ لأنها لا تدخل إلا على النكرات2.
وشيء آخر؛ هو أن هذا المضاف إلى المعرفة يصح أن يقع نعتًا للنكرة، فكيف يقع نعتًا للنكرة إذا صح أنه يكتسب من المضاف إليه التعريف ويصير معرفة، والمعرفة لا تكون نعتًا للنكرة3؟ ومن الأمثلة لوقوعه نعتًا للنكرة: أتخير للصداقة زميلًا مخلص المودة، مأمون العثرات. باذل الجهد في الإخاء4.
كما أن الدليل على أنها لا تفيد المضاف تخصيصًا هو أن الأصل قبل
__________
1 ومن الأدلة أيضا وقوع المضاف لمعرفةٍ حالًا في الإضافة غير المحضة -مع أن الحال المطردة لا تكون إلا نكرة- كقول المتنبي بلسان عجوز وَفِيّ:
خلقت ألوفًا؛ لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيًا
2 سبق تفصيل الكلام عليها في ج2 ص381 م90. وبعض الأمثلة المأثورة يجيء هنا في هامش ص35.
3 ومثلها الاسم النكرة الذي دخله التخصيص فإنه يقع نعتًا للمعرفة في الصحيح.
إلا مسألة يصح أن يقع فيها المشتق الذي إضافته غير محضة، وكذلك غيره من النكرات، نعتًا للمعرفة، هي أن يكون المنعوت منادى، نكرة مقصودة، ونعتها نكرة "كالوصف المضاف إضافة غير محضة ... " نحو: يا ساكت مستمع الخطيب الآن، أو المستمع الخطيب الآن. فالمشتق نعت ونكرة، مع أن المنعوت نكرة مقصودة معرفة بالقصد والنداء. فاختلف النعت والمنعوت تعريفًا وتنكيرًا، وقد قالوا: إن هذا الاختلاف في المسألة السالفة مقبول؛ لأن تعريف النكرة المقصودة تعريف غير أصيل، فهو طارئ، والتعريف الطارئ الذي كتعريفها يتسامح فيه، فتوصف بالمعرفة أو بالنكرة، ولا يصح هذا في غيرها من المعارف "راجع التصريح ج2 باب النداء عند الكلام على القسم الثاني، وكذا الخضري والصبان، باب: تابع المنادى. وستجيء لهذا إشارة في باب النعت هنا، ص550، وفي ج4 باب حكم تابع المنادى م130 رقم 8 من هامش ص42".
4 في باب النعت، أمثلة مأثورة، عند الكلام على النعت بالمشتق ب ص465.(3/31)
الإضافة في مثل: "أتخير زميلًا مخلص المودة، باذل الجهد، ... " هو: مخلصًا المودةَ ... باذلًا الجهدَ ... بنصب كلمتي "المودة" و"الجهد" مفعولين للوصف، والمفعول به يخصص الوصف؛ فتخصيص الوصف ثابت ومتحقق قبل أن يصير مضافًا ويصير مضافًا إليه مجرورًا.
أ- وإنما فائدتها: "التخفيف اللفظي"؛ بحذف نون المثنى، وجمع المذكر السالم وملحقاتها من آخر المضاف إذا كان وصفًا عاملًا. وكذلك حذف التنوين من آخره؛ فكل من النون والتنوين يحدث ثقلًا على اللسان عند النطق بالوصف مع معموله من غير إضافتهما. فإذا جاءت الإضافة زال الثقل، وخف النطق. يتضح هذا الثقل في مثل: "أنتما خطيبان الحفل غدًا، وساحران الألباب فيه ... ولا أشك أن سامعين الخطاب، وعارفين الفضل سيعجبون بكم أشد الإعجاب" وفي مثل: "تخيرت زميلًا، مخلصًا المودة، باذلًا الجهد ... ".
ويختفي الثقل حين نضيف الوصف إلى معمولة، ونحذف النون والتنوين من آخر الوصف المضاف؛ فنقول: "أنتما خطيبا الحفل غدًا، وساحر الألباب فيه، ولا أشك أن سامعي الخطاب، وعارفي الفضل -سيعجبون أشد الإعجاب". كما نقول: "تخيرت زميلًا مخلص المودة، باذل الحهد ... ".
ب- وقد تكون فائدتها الفرار من القبح الذي يلازم بعض الصور الإعرابية الجائزة مع قلتها وضعفها. فمن الجائز الضعيف في أساليب الصفة المشبهة أن نقول: الصديق سمح الطبع، عف اللسان، مخلص المودة، بإعراب كلمة: "الطبع" المرفوعة فاعلًا للصفة المشبهة قبلها. وكلمة: "اللسان" فاعلًا مرفوعًا للصفة المشبهة قبلها. وكذلك كلمة: "المودة" وأشباهها. ففي هذا الإعراب الجائز نوع من القبح جعله ضعيفًا؛ هو: خلو أسلوب الصفة المشبهة من ضمير يعود إلى الاسم الذي يقع عليه معناها ومدلولها1. ومن الجائز نصب تلك الكلمات الثلاث المرفوعة، وإعرابها: "شبيهة بالمفعول به" وليست مفعولًا به؛
__________
1 لأن أسلوب الصفة المشبهة في أكثر الاستعمالات الفصيحة لا يكاد يخلو من هذا الضمير الذي يعد بمنزلة الرابط بين الصفة والمشبهة وما تجري عليه. "أي بين الصفة المشبهة وما ينطبق عليه مدلولها ومعناها". كما سيجيء في بابها ص309 و310 – م105.(3/32)
لأن الصفة المشبهة تصاغ من الفعل اللازم؛ فهي كفعلها لا تنصب المفعول به فإذا وقع بعدها معمولها وكان نكرة منصوبًا أعرب "تمييزًا"، أو: "شبيهًا بالمفعول به"، وإن كان معرفة أعرب شبيهًا بالمفعول به؛ كالكلمات الثلاثة السالفة؛ فإنها لا تصلح تمييزًا؛ لعدم تنكيرها. فضبطها بالنصب -مع جوازه- يؤدي إلى ما يسمى: "الشبيه بالمفعول به". وهذا النوع قد يختلط أمره على كثير؛ فيقع في وهمهم أنه مفعول به، مع أنه ليس بالمفعول به الصريح.
وإذا كان الرفع والنصب قبيحين في تلك الكلمات -ونظائرها- فإن الجر بالإضافة خالٍ من ذلك القبح، وفيه ابتعاد عما يستكره1 كقول الشاعر:
وإذا جميل الوجه لم ... يأت الجميل فما جماله؟
ولما كانت فائدة هذه الإضافة مقصورة على التخفيف بحذف التنوين ونوني المثنى وجمع المذكر السالم، من آخر المضاف، وعلى التحسين المترتب على إزالة القبح، وهما أمران لفظيان -سميت: "إضافة لفظية"؛ لوقوع أثرها المباشر على الألفاظ دون المعاني؛ إذ أنها -في الأغلب- لا تؤثر في المعاني؛ كما سبق "فلا تفيد المضاف تعريفًا، ولا تخصيصًا، ولا تتضمن معنى حرف من حروف الجر الثلاثة المعروفة ... " وقد يسمونها –لهذا-: "الإضافة المجازية"2؛ لأنها لغير الغرض الحقيقي من الإضافة، وهو الغرض المعنوي الذي أوضحناه.
أما تسميتها: "بغير المحضة" فلأن المضاف فيها لا بد أن يكون في
__________
1 هذا تعليل نحوي. وهو –على حسنة المصنوع- ليس مقنعًا. والتعليل الحق هو الاستعمال العربي المأثور، الذي يتغلب فيه الجر على الرفع والنصب في تلك الأمثلة ونظائرها. أما العرب أهل اللغة الأصيلة فلا علم لهم بشيء مما نحن بصدده، "من مفعول، وشبهه، وعائد ورابط، وصفة مشبهة، ... و ... " ولو أنهم نطقوا بالمعمول مرفوعًا أو منصوبًا أكثر من نطقهم به مجرورًا لكان التعليل الحق -لاستحسان الرفع والنصب- هو محاكاة العرب ليس غير.
2 كما أشرنا في رقم 1 من هامش ص3 وفي ص23، ويقولون: ليس المراد "بالمجازية" أنها بمعنى "المجاز" المعروف في البلاغة، الذي يحتاج إلى علاقة وقرينة ... وإنما المراد أنها إضافة في الظاهر والصورة، لا في الحقيقة والمعنى.(3/33)
الأغلب1 وصفًا عاملًا -كما سبق- وأكثر الأوصاف العاملة يرفع ضميرًا مستترًا عند الإضافة. وهذا الضمير المستتر -برغم استتاره- يفصل بين الوصف المضاف، ومعموله المضاف إليه، ويجعل الإضافة غير خالصة الاتصال، وغير متمكنة من أداء مهمتها بسبب الفاصل؛ إذ الأصل الغالب في الإضافة الأصيلة ألا يقع بين طرفيها فاصل يضعف قوة الارتباط والاتصال بينهما.
وشيء آخر؛ هو أنه يمكن العدول عن الإضافة اللفظية، بالرجوع إلى الأصل الذي كان قبلها من غير أن يتأثر المعنى -في الأكثر- وذلك بجعل المضاف إليه معمولًا مرفوعًا، أو منصوبًا، على حسب حاجة الوصف بعد إزالة تلك الإضافة؛ ولهذا يصفونها بأنها على: "نية الانفصال، يريدون: أنها في النية والتقدير ليست موجودة، وليست ملحوظة؛ لأن الذي يلحظ ويعتبر موجودًا تتجه إليه النفس هو الأصل الأصيل؛ ففي مثل: "الصديق خالص النصح" -بالإضافة- يكون التقدير الملحوظ في النفس هو: "الصديق خالص النصح"، والمعنيان متحدان. ولكن الأسلوب الثاني الخالي من الإضافة هو الأصل الذي يُنوَى ويلاحظ؛ بسبب اعتبار الوصف شبيهًا بالفعل في بعض نواحيه التي منها العمل. والفعل يرفع دائمًا، وقد يرفع وينصب، وهو في كل حالاته لا يعمل الجر، فالأنسب فيما يشبهه أن يكون كذلك، والمخالفة -لداعٍ أقوى- هي مخالفة للأصل، والداعي لها أمر طارئ له اعتباره، ولكنه لا ينسينا الأصل الأول المكين، ومن ثم كان هو الملحوظ مع وجود الإضافة غير المحضة، وكانت معه على نية الانفصال2.
مما تقدم يتضح -مرة أخرى- السبب في تسمية النوع الأول: "بالإضافة المحضة"، أو: "المعنوية"، أو: "الحقيقية"3 وما يترتب على هذا من آثار مختلفة، منها: عدم زيادة "أل" في أول المضاف، في حين يجوز -أحيانًا-
__________
1 انظر رقم 1 من هامش ص6.
2 ينطبق على هذا التعليل ما سبق في رقم 1 من هامش الصفحة الماضية.
3 سبق إيضاح آخر لهذا في رقم 1 من هامش ص3 وفي ص24 وص30.(3/34)
زيادتها في المضاف إذا كانت الإضافة غير محضة؛ كما شرحنا1.
__________
1 في ص12. وفيما سبق من الأحكام يشير ابن مالك إلى بعضها تاركًا بعضًا آخر؛ فيقول:
وإن يشابه المضاف "يفعل" ... وصفًا- فعن تنكيره لا يعزل
كرُبَّ راجينا عظيم الأملِ ... مروع القلب، قليل الحيلِ
يريد: أن المضاف إذا كان وصفًا مشبهًا: "يفعل" "أي: مشبهًا الفعل المضارع في العمل والدلالة على الحال والاستقبال ... "، فإنه لا يعزل عن التنكير؛ أي: لا يفارق التنكير مطلقًا؛ سواء أكان مضافًا إلى معرفة أم نكرة؛ لأن هذه الإضافة لا تفيد تعريفًا ولا تخصيصًا، وضرب لهذا أمثلة تؤيد ما يقول: هي: "رب راجينا" فالمضاف -وهو كلمة "راج"- اسم فاعل لم يكتسب التعريف بإضافته إلى الضمير: "نا" بدليل، دخول "رب" على هذا المضاف؛ وهي لا تدخل إلا على النكرات. ومن الأمثلة الواردة قول شاعرهم:
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
وكذلك المضاف: "عظيم"؛ فإنه صفة مشبهة، أضيفت إلى المعرفة بعدها؛ فلم تكسب منها التعريف؛ بدليل أن كلمة: "عظيم" هذه تعرب نعتًا لكلمة: "راج" النكرة، ولا يمكن أن تكون المعرفة نعتًا للنكرة -إلا في مسألة سبقت في رقم 3 من هامش ص31، وكذلك: "مروع"؛ فإنها اسم مفعول مضاف للمعرفة بعده، ولم يكتسب منها التعريف؛ بدليل إعرابه صفة لكلمة: "راج" النكرة. كما سبق. ومثله كلمة: "قليل" فإنها صفة مشبهة مضافة للمعرفة بعدها، ولم تكتسب منها التعريف؛ بدليل إعرابها نعتًا لكلمة: "راج". ومثلها: "هديًا" في قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . ثم بين أن الإضافة التي من هذا النوع تسمى: "لفظية"، وأما التي من النوع الآخر فتسمى: "محضة" و"معنوية"؛ فاللفظية: لا تفيد تعريفًا ولا تخصيصًا، بخلاف الأول حيث يقول:
وذي الإضافة اسمها: "لفظية" ... وتلك "محضة" ومعنوية
وأوضح بعد هذا أن زيادة: "أل" جائزة في أول المضاف الذي إضافته لفظية-، بشرط أن تزاد أيضًا في الثاني "أي: في المضاف إليه" أو في الذي أضيف إليه الثاني ... يقول:
ووصل "أل" بذا المضاف مغتفرْ ... إن وصلت بالثان؛ كالجعد الشعَرْ
أو بالذي له أضيف الثاني ... كزيد الضاربُ رأس الجاني
ساق مثالين؛ أحدهما مثل: "راقني عناية الجعدِ الشعرَ بتصفيفه"، للمضاف المبدوء "بأل" "وهو: الجعد"؛ وللمضاف إليه: المبدوء بها أيضًا "وهو: الشعر"؛ فهي داخلة عليهما معًا.
والآخر؛ وهو: "زيد الضارب رأس الجاني" المضاف المبدوء "بأل" "وهو: الضارب"، وللمضاف إليه، الخالي منها مباشرة "وهو: رأس" ولكنه مضاف، وبعده المضاف إليه: "الجاني" المبدوء بها ...(3/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= ثم ذكر بعد هذا حالة أخرى يصح أن يكون فيها المضاف وحده مبدوءًا بـ "أل"؛ وهي الحالة التي يكون فيها المضاف وصفًا مثنى، أو جمعًا اتبع سبيل المثنى "أي: تحققت فيه الشروط الواجبة في المثنى"؛ وهو جمع المذكر السالم؛ يقول:
وكونها في الوصف كافٍ إن وقعْ ... مثنىً أو جمعا، سبيله اتبعْ
يريد: يكفي وقوع "أل" في صدر المضاف الذي إضافته غير محضة بدون اشتراط شيء آخر سوى اشتراط أن يكون ذلك المضاف وصفًا مثنى، أو جمعًا تحققت فيه شروط التثنية "وهو جمع المذكر السالم". وقد ترك بقية الحالات الأخرى التي تدخل فيها "أل" على المضاف إذا كانت الإضافة غير محضة؛ وما يتبع هذا من شروط وتفصيلات أوضحناها في الصفحة السابقة.(3/36)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- في هذا الجزء أبواب خاصة بالمشتقات، لكل منها باب مستقل شامل، وسنكتفي هنا بلمحة موجزة تناسب ما نحن فيه، ولا تغني عن الرجوع إلى تلك الأبواب.
اسم الفاعل: اسم مشتق، يدل على أمرين معًا: "معنى مجرد، وصاحب هذا المعنى". ولا بد في اسم الفاعل أن يشتمل على حروف مضارعه الأصلية، وأن يماثله في ترتيبها، وترتيب حركاتها، وسكناتها؛ مثل: قاعد ويقعد، ذاهب ويذهب، منصت وأنصت، متعلم ويتعلم ... وهو يفيد حدوث معناه، ولا يفيد الدوام أو الثبوت، إلا إذا تخلى عن دلالته الخاصة، وانتقل إلى اختصاص آخر؛ وهو: اختصاص "الصفة المشبهة". وهي: اسم مشتق؛ يدل على أمرين معًا: "معنى مجرد، ولكنه ثابت دائم. أو كالدائم، وصاحب هذا المعنى". فدلالتها على الزمن شاملة أنواعه الثلاثة، بسبب ذلك الدوام1، ولا بد أن تشتمل على الحروف الأصلية لمضارعها، ولكنها -في الغالب- لا تماثله في ترتيب الحركات والسكنات إلا إذا كانت في الأصل اسم فاعل أريد به الدوام2. فمثال الصفة المشبهة الأصيلة: فَرِحٌ ويفرح، حَسَنٌ ويحسن، بليغٌ ويبلغ ... ومثال الصفة المشبهة التي كانت في أصلها اسم فاعل يفيد الحدوث، ثم أريد بها الدوام والثبوت بعد ذلك كلمة: بَاسِم، مشرق، محارب؛ في مثل: فلان باسم الثغر، مشرق الوجه، محارب الطغيان.
وإذا كانت الصفة المشبهة دالة على ثبوت معناها ودوامه -غالبًا- فإن زمنها بمقتضى هذه الدلالة لا بد أن يشمل –كما سبق3- الماضي، والحال، والمستقبل. فكيف تكون إضافتها "غير محضة"، مع أننا اشترطنا في "غير المحضة": أن يكون الزمن فيها الحال، أو الاستقبال؟.
الحق: أن إضافتها قد تكون محضة في بعض الصور، وغير محضة في
__________
1 كما سبق في ص29.
2 كما سيجيء في هامش ص238 وفي ص342 و308.
3 في هذه الصفحة وكذا في ص29 حيث الإيضاح.(3/37)
أخرى1؛ فقد قالوا: إن الاستمرار "أو: الدوام" يحتوي على الأزمنة الثلاثة دائمًا. لكن قد توجد قرينة تقوي جانب الزمن الماضي على غيره -وللقرينة المقام والاعتبار الأول دائمًا- فتضاف الصفة وتعمل الجر مع تلك القرينة؛ إذ تتغلب الإضافة، وتكتسب الصفة التعريف من المضاف إليه؛ ككلمة: "مالك" في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ... فكلمة: "مالك" وصف مشتق؛ زمنه يشمل الماضي، والحال، والمستقبل؛ لأن الله مُتَّصف بصفة التملك في جميع الأزمان. وقد وجدت قرينة تدل على تغليب الزمن الماضي؛ فصارت الإضافة بسببها محضة2؛ وهذه القرينة هي: أن كلمة: "مالك" نعت للفظ الجلالة: "الله" وهو أعرف المعارف، فلا يمكن أن يكون نعته نكرة؛ فلا بد أن تكون كلمة: "مالك"، معرفة. فمن أين جاءها التعريف؟ لا سبيل لاكتسابها التعريف إلا من المضاف إليه، وقد اكتسبه أيضًا من الإضافة إلى ما بعده. وكل هذا يقتضي أن تكون إضافة الصفة هنا محضة.
ولو أعربنا كلمة: "مالك" بدلًا، أو: عطف بيان؛ لكان في هذا الإعراب -مع جوازه- عدول عن الظاهر الشائع؛ وهو: إعراب المشتق نعتًا، لا بدلًا، ولا عطف بيان؛ إذ يغلب على الأول الاشتقاق، وعلى الأخيرين الجمود -كما تقدم3- هذا إلى أن إضافة الوصف إلى الظرف الدال بالقرينة على المضي أو على الدوام محضة4، عند جمهور النحاة.
أما إذا تغلب جانب الحال أو الاستقبال، بأن قامت قرينة تؤيد أحدهما فالإضافة غير محضة؛ فلا يتعرف بها الوصف، ولا يتخصص، ويجوز إزالتها، وإعمال الوصف في معموله عملًا آخر غير الجر؛ كقراءة من قرأ قوله تعالى:
__________
1 انظر ص6 و307.
2 لما سبق في: "د" من ص5 من أن إضافة المشتق الماضي الزمن محضة.
3 في رقم 5 من هامش ص5 ويجيء في ص665.
4 وقد سبقت الإشارة لهذا في "و" ص5.(3/38)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} 1؛ فجعل الليل سكنًا أمر لا يقتصر على زمان دون آخر؛ فقد وقع في الماضي، وهو يقع الآن، وسيقع بعد ذلك، غير أن الكلام فيه ما يقوي جانب الحال والمستقبل على الماضي، ويجعل الإضافة غير محضة؛ هو أن المحضة تقتضي -غالبًا- أن يكون المضاف اسمًا جامدًا، أو في حكم الجامد، فلا يعمل؛ وهذا يؤدي إلى اعتبار كلمة: "جاعل" في حكم الجامد، فلا تنصب مفعولًا به، ولا مفعولين، وإلى إعراب كلمة: "سكنا" المنصوبة، مفعولًَا به لعامل محذوف، تقديره "يجعل"، أو ما يماثله، وكأن الأصل: جاعل الليل يجعله سكنًا. وفي كل هذا عدول عن النسق الظاهر، والإعراب الواضح الذي يدخل الوصف "جاعل" هو وفعله في سلك الألفاظ العاملة التي تنصب مفعولين. وقد أضيف الوصف إلى أحدهما، ونصب الثاني مباشرة، فلا حاجة إلى تأول وتقدير يبعدان عن هذا السنن الواضح.
وشيء آخر؛ هو: أن زمن الوصف في الآية دائم مستمر؛ يشمل الماضي والحال، والمستقبل. ولكن هذا الدوام الزمني ليس متصل الأجزاء بغير انقطاع، وإنما يتخلله انقطاع يزول، ثم يعود مرة فأخرى؛ فحين يجعل الله الليل سكنًا يكون الليل موجودًا، وحين لا يجعله سكنًا يختفي. ثم يجعله مرة أخرى؛ ثم يزيله، ثم يعيده؛ وهكذا دواليك؛ ... فالاستمرار موجود حقًّا؛ ولكنه على ما وصفنا من توالي الإيجاد والإزالة بغير توقف، ومن تجدد الظهور والاختفاء بغير انقطاع2، أما الدوام المتصل على حالة واحدة، هي: جعل الليل سكنًا في جميع لحظات الزمان وأوقاته - فلا وجود له.
ولما كان الانقطاع والتجدد هما من خصائص الفعل المضارع، وزمن المضارع هو الحال أو الاستقبال كان الوصف "المشتق" الذي يشاركه فيهما شبيهًا به من الناحية المعنوية، ومحمولًا عليه في ناحية أخرى، هي
__________
1 شيئًا يستريح إليه المتعب بالنهار، ويسكن للراحة والاطمئنان فيه. "انظر ج"ص"40".
2 وهذا يسمى: الاستمرار المتجدد، أو الاستمرار التجددي، وله إشارة أخرى في رقم 4 من هامش ص247، وفي رقم 2 من هامش ص282.(3/39)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدلالة الزمنية أيضًا. أي: أنه شبيه به في الدلالة على التجدد والحدوث، وفي الدلالة الزمنية المعينة. وإذا كانت دلالة الوصف الزمنية على هذه الشاكلة فإن إضافته غير محضة1.
ب- إذا كان الوصف المضاف مطلق الزمن؛ أي: لا دليل معه يبين نوعًا من أنواع الزمن الثلاثة كانت إضافته محضة؛ نحو: "صاحب السلطان كراكب السفينة"2 ... فلا قرينة في المثال تدل على ربط المعنى المقصود بزمن معين؛ ماضٍ، أو حال، أو مستقبل، أو ما يشمل الثلاثة ... "وقد سبقت الإشارة لهذا"3.
ج- أشرنا4 إلى أن إضافة الوصف إلى الظرف نوع من الإضافة المحضة، وأوضحنا شرط ذلك؛ كالمثال السابق: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: مالك الأمر والنهي في يوم الدين. بخلاف: "جاعل الليل سكنًا"؛ لأن الليل مفعول به، في الأصل قبل الإضافة، وليس ظرفًا، وإلا فسد المعنى5.
د- من الإضافة غير المحضة ما يأتي من الأنواع الملحقة بها6؛ وهي:
1- إضافة الاسم إلى اسم آخر كان قبل الإضافة نعتًا للمضاف؛
__________
1 كل ما سبق تعليل خيالي -مقبول هنا- للأمر الواقع المستمد من الكلام العربي. والعلة الأولى هي الكلام العربي نفسه، وأنه يسير على النظام الذي سبق تعليله، برغم أن العرب لا تعرف اصطلاح الإضافة المحضة، ولا غير المحضة.
2 يريدون بذلك: أن راكبها لو سلم من الغرق لم يسلم من الفرق. أي: من الخوف.
3 في "ج" من ص5.
4 في "و" ص5. وفي ص38.
5 إذ المراد -عند أصحاب هذا الرأي- جعل الليل نفسه بظلامه وانقطاع الحركة والعمل فيه، وبخصائصه الأخرى هو للسكن، لا أن السكن واقع فيه. "وسبقت إشارة للآية في آخر ص38".
6 وبعض صوره لا يختلف فيه معنى المتضايفين، مع أن الأصل في الإضافة بنوعيها، ولا سيما المحضة -كما سبق في رقم 1 من هامش ص7- أن يختلف فيها معنى المتضايفين، ومدلولهما. ويدور الجدل في الأنواع التي سنذكرها -وهي التي أشرنا إليها عابرة في تلك الصفحة وسنفصلها هنا، وبعد الفراغ من تفصيلها نعرض -في ص47 وما بعدها- للجدل وموضوعه، ونبدي الرأي فيه، وفي كل ما تناوله.(3/40)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"وهذا ما يعبرون عنه بأنه إضافة الاسم المنعوت إلى نعته". كقولهم: "صلاة الأولى" تذهب الخمول. كان الخلفاء السابقون يقصدون "مسجد الجامع"؛ ليذيعوا على الناس ما يريدون إذاعته. إني أحرص على "ديانة القيِّمة"؛ لأسعد.
والأصل: الصلاة الأولى، أو: صلاة الساعة الأولى. المسجد الجامع أو: مسجد الوقت الجامع، الديانة القيِّمة، أو ديانة الملة القيِّمة1.
2- إضافة الاسم إلى اسم آخر كان قبل الإضافة منعوتًا للمضاف. فصار بعدها هو المضاف إليه. "أي: إضافة النعت إلى منعوته" كقوله تعالي: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} . وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} والأصل في الآيتين: اليقين الحق، فتقدمت الصفة على الموصوف، وصارت مضافًا، وصار الموصوف مضافًا إليه مجرورًا. ومثله ما جاء في خطبة قائد بين جنوده: "إن العدو لن يعبأ بكم إلا إذا أحس منكم صادق الجهاد، وعظيم البلاء، وملأتم قلبه فزعا، وضربتموه كما تضرب عوادي الوحوش، وطردتموه كما تطرد غرائب الإبل، وتركتم جنوده بين صريع وأسير ... " أي: الجهاد الصادق. البلاء العظيم، الوحوش العوادي، الإبل الغرائب ...
3- إضافة المسمى إلى الاسم2؛ نحو: شهر3 رجب معظَّم في
__________
1 في الأمثلة السالفة حذف المضاف إليه المنعوت، وأقيم النعت مقامه، فصار مضافًا إليه. "انظر ما يتصل بهذا في ص50".
2 وعكسه "وهو إضافة الاسم إلى المسمى" مثل إضافة: "لدن وعند" طبقًا لما سيجيء في ص119.
3 جاء في التصريح –ج2 باب التوكيد عند الشاهد: "يا ليت عدة حول كله رجب"
ما نصه: "قال الدنوشري: هل "رجب" منصرف، وكذلك "صفر" أو لا؟ قال سعد الدين في حاشيته على الكشاف: إن أريد بهما معين فهما غير منصرفين وإلا فمنصرفان. قال ناصر الدين اللقاني: وكأن وجه ذلك أن المعين معدول عن الرجب وعن الصفر، كما قالوا في "سحر" إنه معدول عن السحر فيما أريد به "سحر" بعينه؛ ففيهما العلمية والعدل. وقد يقال: إن المانع هو العلمية والتأنيث باعتبار المدة". ا. هـ، وستجيء إشارة لهذا في باب الممنوع من الصرف ج4 ص196 م147.(3/41)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجاهلية والإسلام. شجر التفاح كثير في الشام. وهذه هي إضافة: "البيان أو: "الإضافة البيانية" التي يقصد منها إيضاح الأول وبيانه بالثاني1، وهي كثيرة في استعمالنا؛ كإضافة الأيام والعلوم إلى أسمائها؛ مثل: يوم الخميس. يوم الجمعة. علم الحساب. علم الهندسة ... ولها أمثلة أخرى وردت في المطولات، منها قولهم: لقيته ذات مرة، أو ذات ليلة. مررت به ذات يوم. داره ذات اليمين، أو؛ ذات الشمال. مشينا ذا صباح2 ...
ومن المفيد المهم أن ننقل هنا ما دونه ابن يعيش شارح المفصل3 خاصًا بهذا. قال ما نصه "مع حذف بعض الأمثلة، اكتفاء ببعض":
"اعلم أنهم قد أضافوا المسمى إلى الاسم مبالغة في البيان؛ لأن الجمع بينهما آكد "أقوى" من إفراد أحدهما بالذكر. وفي ذلك دليل من جهة النحو على أن الاسم عندهم غير المسمى؛ إذ لو كان إياه لما جاز إضافته إليه، وكان من إضافة الشيء إلى نفسه. فالاسم هو اللفظ المعلق على الحقيقة؛ عينا كانت تلك الحقيقة، أو معنى؛ تمييزا لها باللقب مما يشاركها في النوع،
__________
1 فرق بعض النحاة بين الإضافة التي "للبيان"، والإضافة البيانية؛ بأن التي للبيان يكون بين جزأيها عموم وخصوص مطلق، وأن "البيانية" يكون بين جزأيها عموم وخصوص من وجه. وهذا الخلاف شكلي؛ لا أثر له؛ لأنه محصور في المراد من اصطلاح معين عند كل فريق. هذا وقد سبق "في ج1 ص19 م2" معنى العموم والخصوص المطلق والوجهي.
2 "ذا" و "ذات" -ولهما بيان آخر خاص بإضافتهما، في ص74- من الظروف غير المتصرفة بشرط إضافتهما للزمان، دون غيره؛ فيلتزمان النصب على الظرفية الزمنية إلا على لغة ضعيفة رفضها جمهور النحاة. ومن الأمثلة التالية ما يساير هذه اللغة. كما أن "ذات" قد تضاف إلى كلمة: "اليمين" أو "الشمال" وهما من الظروف المكانية، فتصير ظرفا مكانيًا متصرفًا ومنصرفًا. وقد تكون اسمًا محضًا مستقلًا، معناه حقيقة الشيء وماهيته، والنسب إليها: "ذووي" باعتبارها أصلها، أو: "ذاتي" باعتبار لفظها الحالي. "طبقا لما سبق في ج1 م26 ص358، أما البيان التفصيلي ففي باب النسب ج4 م178 ص554".
3 في ج3 ص12.(3/42)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمسمى تلك الحقيقة؛ وهي ذات اللقب، أي: صاحبته1. فمن ذلك قولهم: "لقيته ذات مرة"، والمراد: الزمن المسمى بهذا الاسم الذي هو: مرة. ومثله: "ذات ليلة، ومررت به ذات يوم، وداره ذات الشمال، وسرنا ذا صباح" كل هذا معناه وتقديره: داره شمالًا، وسرنا صباحًا ... ، بالطريق التي ذكرناها. إلا أن في قولنا: ذا صباح، وذات مرة –تفخيما للأمر. "ومن ذلك قول الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود
المراد: على إقامة صاحب هذا الاسم، وصاحبه هو: صباح؛ فكأنه قال: على إقامة: صباح ...
ومثله قول الكميت:
إليكم ذوي آل النبي تطلعت ... نوازع من قلبي ظماء وألبب2
فالمراد: يا آل النبي، أي: يا أصحاب هذا الاسم الذي هو آل النبي، ولو قال: "يا آل النبي" لم يكن فيه ما في قوله: "يا ذوي آل النبي" من المدح والتعظيم. وفائدة هذا الأسلوب ظاهرة؛ لأنه لما قال: يا ذوي آل النبي جعلهم أصحاب هذا الاسم؛ وهو آل النبي. ومن كان صاحب هذا الاسم كان ممدوحًا معظمًا لا محالة ...
ومثله قول الأعشى:
فكذَّبوها بما قالت: فصحبهم ... ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا3
أي: صبحهم الجيش الذي يقال له: آل حسان.
ومثله قول الآخر:
__________
1 بمعنى أنها الذات المختصة به، المرادة منه.
2 الألبب جمع: لب، والقياس: ألب بالإدغام الذي منع منه ضرورة الشعر".
3 "يزجي = يسوق. الشرع: كعنب، جمع شرع؛ بكسر فسكون، وهو الثأر والوتر".(3/43)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا ما كنت مثل ذوي عدي ... ودينار، فقام على ناعي
أي: مثل كل واحد من الرجلين المسميين "عديًا"، و"دينارًا" ... "وحكي عن العرب: هذا ذو زيد، ومعناه: هذا صاحب هذا الاسم، وقد كثر ذلك عندهم. وربما لطف1 هذا المعنى على قوم، فحملوه على زيادة. "ذي"، و"ذات". والصواب ما ذكرناه" ا. هـ.
وهذا كلام جليل في إيضاح تلك الأساليب التي أضيف فيها المسمى إلى الاسم؛ لتحقيق غرض بلاغي هام، كالإيضاح مع التوكيد.
ومن أمثلتها الواردة أيضًا قولهم: "اذهب بذي تسلم. اذهبا بذي تسلمان. اذهبوا بذي تسلمون ... ". أي: اذهب بسلامتك التي تلازمك ولا تفارقك. اذهبا بسلامتكما. اذهبوا بسلامتكم"2.
4- إضافة الموصوف إلى اسم قائم مقام الصفة؛ كقول الشاعر:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض، ماضي الشفرتين يماني ... 3
أي: علا زيد صاحبنا رأس زيد صاحبكم؛ فحذف الصفتين، وجعل الموصوف خلفًا عنهما في الإضافة. ويرى بعض النحاة أن البيت ونحوه هو من إضافة الشيء إلى ملابسه4 بعد تنكير العلم، وإضافته إضافة محضة من غير حاجة لتأويل بما ذكر5. والرأيان صحيحان.
__________
1 خفي ودق.
2 وسيجيء الإيضاح الأوفى لهذا، والإعراب، في المكان المناسب، ص95.
وكذلك سبقت الإشارة لكلمة: "ذا" و "ذات" وما يتصل بهما لمناسبة في باب الظرف "ج2 ص210، 215، 229 م79"، ولمناسبة أخرى في ج1 "بابي الأسماء الستة، والموصول" وفي باب الموصول الكلام على جمع "ذو" وإفرادها وعلى "ذو" الطائية التي بمعنى "الذي" وفروعه، وحكمها.
3 سبق هذا البيت في الجزء الأول "م23 ص265" لمناسبة أخرى هناك؛ وهي بيان السبب في إضافة العلم أحيانا، أو في تعريفه بإحدى وسائل التعريف، مع أن الأصل في العلم أن يكون معرفة.
4 أي: ما له به نوع اتصال لأدنى ملابسة. وقد سبق بيان هذا النوع في رقم 2 من ص21.
5 إيضاح هذا في باب العلم ج1 ص207 م22.(3/44)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
5- إضافة المؤكَّد إلى المؤكِّد، وأكثر ما يكون ذلك في أسماء الزمان المبهمة "أي: التي لا تحدد ببدء وانتهاء معرفين؛ مثل كلمة: حين، وقت، زمن، أيام ... ونحوها مما سبق الكلام عليه في الجزء الثاني، باب: "الظروف"، نحو: إذا اشتدت وقدة الصيف أسرع الناس إلى سواحل البحار؛ ليقيموا بها ما وسعهم الأمر، وحينئذ ينعمون بجو معتدل، وهواء رطب منعش ... أي: حين إذ يقيمون ... ينعمون؛ فحذفت الجملة المضارعية الأولى، وهي المضاف إليه، وعوض عنها التنوين. فالمؤكد هو: "الحين" وهو زمن مبهم. والمؤكِّد هو: "إذ" الظرفية المضافة إلى الجملة المضارعية المحذوفة1. والمراد من لفظ: "الحين" المبهم هو المراد من لفظ: "إذ" المخصصة بالجملة التي أضيفت إليها، فالظرف الزمني الثاني مؤكد للأول؛ لاتفاق معناهما، والمراد منهما، مع مجيئه بعده2..
ويرى بعض النحاة -بحق- أن مثل هذا يعد من إضافة العام إلى الخاص، لا المؤكد إلى المؤكد، لتخصيص الظرف الثاني -كما قلنا- بالجملة التي أعربت مضافًا إليه، وهي الجملة المضارعية التي حذفت وقام مقامها التنوين عوضًا عنها ...
ومن النادر أن تكون إضافة المؤكد إلى المؤكد في غير أسماء الزمان المبهمة؛ كقول الشاعر:
فقلت أنجوا عنها نجا الجلد إنه ... سيرضيكما منها سنام وغاربه3
__________
1 مع ملاحظة أن الظرف لا يسمى ظرفًا -اصطلاحًا- إلا إذا كان منصوبًا "لفظًا أو محلًّا" على الظرفية. فإذا صار مضافًا إليه، أو مبتدأ، أو شيئًا آخر غير النصب على الظرفية، فإنه لا يسمى في الاصطلاح ولا يعرب ظرفًا.
2 ومن الأمثلة أيضًا البيت الآتي في صفحة 56 وهو:
أنجب أيام والداه به ... إذ نجلاه؛ فنعم ما نجلا
وشرح البيت وموضع الشاهد فيه موضحان هناك ...
3 قاله أعرابي نزل عنده ضيفان، فذبح لهما ناقة. فقالا: إنها مهزولة. فقال لهما البيت ...
ومعنى: انجوا: اسلخا ... يقال: نجوت الجلد، بمعنى: سلخته و "السنام": الجزء المنحني المرتفع في ظهر البعير والناقة، وهو مقر الدهن، و"الغارب" أعلى الظهر بين السنام والعنق.(3/45)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يريد: اسلخا عن الناقة نجا الجلد -والنجا، بالقصر- هو: الجلد.
6- إضافة الاسم الملغى1 إلى الاسم المعتبر2؛ كقوله تعالي: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ....} ، ومثل: مررت بكم فألقيت اسم السلام عليكم. والأصل: الجنة التي وعد المتقون ... - ألقيت السلام عليكم3.
7- إضافة الاسم المعتبر إلى الاسم الملغى كقول الشاعر:
أقام ببغداد العراق وشوقه ... لأهل دمشق الشام شوق مبرح4
8- ومن الإضافة غير المحضة قولهم: "لا أبا لفلان" لوجود الفاصل بين المتضايفين. وقد سبق5 -في مناسبة أخرى- الكلام على هذا الأسلوب من ناحية الإضافة، ومن ناحية إعرابه ومعناه.
9- ومن الإضافة غير المحضة إضافة صدر المركب المزجي إلى عجزه -مسايرة لبعض اللغات الجائزة فيه- نحو: قامت الطائرة من "أفغانستان" فوصلت إلى "بور سعيد" في بضع ساعات.
__________
1 الزائد الذي يمكن حذفه فلا يتأثر المعنى الأصلي بحذفه.
2 الأصلي الذي لا يمكن حذفه إلا بفساد المعنى.
3 ومن هذا قول لبيد بن ربيعة لبنتيه، حين حضرته الوفاة، ينصح لهما بعدم اللطم، إن هو مات، وبترك الجزع. وحسبهما البكاء المجرد حولًا كاملًا. ثم هو يسلم عليهما ... يقول:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر
وكذلك: "فنن الغصون" في شعر نقله القرطبي في مقدمة تفسيره "ج1 ص21" جاء فيه:
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حمامًا
4 وهذه الزيادة على اعتبار ألا توجد بلدة اسمها: "بغداد": ولا أخرى اسمها: "دمشق"، غير هاتين. أما عند علم المتكلم بوجود غيرهما فالإضافة محضة، من نوع إضافة العلم إلى ما يخصصه بعد أن فقد علميته؛ بسبب اشتراكه بين أفرا متعددة.
"كما سبق في باب العلم ج1 م23 رقم2 من هامش ص264".
5 في ج1 ص75 م8 عند الكلام على الأسماء الستة وفي ج1 ص528 م56 باب "لا".(3/46)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما كانت الإضافة هنا لفظية؛ لأن كلًّا من الجزأين يكمل الآخر كما يكمل الحرف الواحد في الكلمة الواحدة نظائره فيها، كالخاء، أو الشين، أو الباء ... في كلمة: "خشب" مثلًا.
وفائدة هذه الإضافة التخفيف الناشئ من التركيب، مع التنبيه إلى شدة الامتزاج1.
10- ومن الإضافة غير المحضة: "الكنية" على الوجه الذي سبق تفصيله وإيضاحه في الجزء الأول2 ...
إلى هنا انتهت تلك الإضافات الملحقة "بغير المحضة". ونعود إلى ما أشرنا إليه3 من الجدل الدائر حولها. ويتركز فيما يأتي:
أمحضة أم غير محضة؟ أهي نوع ثالث مستقل بنفسه، ولكن إضافته "شبيهة بالمحضة"؛ ويجب أن يسمى بهذا الاسم؟
ثم لهذا النوع -عندهم- اعتباران؛ أحدهما الاتصال؛ لأن المضاف غير مفصول من المضاف إليه بالضمير الذي يلاحظ وينوى في الإضافة غير المحضة، كما سلف بيانه. والآخر: الانفصال؛ لأن المعنى لا يصح إلا بتأول
__________
1 كما سيجيء في ج4 باب الممنوع من الصرف ... - م148 ص217.
2 في الجزء الأول "م23 ص277 عند الكلام على "العلم" ونقلنا بعضه في "أ" من ص429 فقلنا ما نصه في الجزء الأول: "أما الكنية فهي علم مركب تركيبًا إضافيًا بشرط أن يكون صدره "وهو المضاف" كلمة من الكلمات الآتية: "أب، أم"، "ابن، بنت"، "أخ، أخت"، "عم، عمة"، "خال، خالة" ... وليس منه أب لمحمد، وأم لهند، وغيرهما من كل ما لا إضافة فيه على الوجه السابق ... ".
ثم قلنا في رقم "أ" من ص429 ما نصه: "والكنية -مع تركيبها الإضافي- معدودة من قسم العلم الذي معناه إفرادي؛ فكل واحد من جزأيها لا يدل بمفرده على معنى يتصل بالعلمية؛ فإذا وقع بعدها تابع -كالنعت مثلًا في قولنا: جاء أبو علي الشجاع- فإن النعت "وهو هنا كلمة: "الشجاع" يعتبر في المعنى نعتًا للاثنين معًا، أي: للمضاف والمضاف إليه، ولا يصح أن يكون نعتًا لأحدهما فقط، وإلا فسد المعنى، لكنه يتبع في الإعراب المضاف وحده ... و ... " ا. هـ راجع النص كاملًا.
3 في رقم 6 من هامش ص40.(3/47)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتكلف يخرجان الإضافة عن ظاهرها1. فأيهما الصحيح؟. وبعد كل ما سبق أقياسية هي أم سماعية؟.
لكل رأي أدلته التي يقويها أصحابه بتأويل الأسلوب تأويلًا يبعده عن ظاهره، وبتخريجه إلى حيث يريدون من إثبات رأيهم ودعمه ...
والأمر لا يحتاج إلى هذا العناء الجدلي الذي له أسبابه التاريخية النحوية التي لا تعنينا اليوم؛ فحسبنا أن نترك فضول التأويل والتخريج، ونعول على ظاهر الأسلوب الإضافي تعويلًا لا يعارض المراد منه؛ فنجد تلك الإضافات المتعددة قد انحصرت في قسمين:
أولهما: يكون فيه المضاف والمضاف إليه بمعنى واحد، مع اختلاف لفظهما. أي: أن اللفظين مختلفان، ولكن مدلولهما متحد، كإضافة المسمى إلى الاسم "في مثل: شهر رمضان -شجر البرتقال- علم الهندسة ... "، ومثل هذه الإضافة لا تفيد المضاف تعريفًا ولا تخصيصًا؛ لأن المضاف من حيث المعنى هو نفس المضاف إليه، أو بمنزلته؛ والشيء لا يتعرف ولا يتخصص بنفسه، أو بما هو بمنزلة نفسه؛ فلا يمكن أن تكون الإضافة في هذا القسم "محضة"؛ إذ "المحضة" لا بد أن تفيد المضاف تعريفًا أو تخصيصًا إذا كان غير متوغل في الإبهام، وأن تتضمن معنى حرف من أحرف الجر الثلاثة المعروفة2، و"الإفادة والتضمين"، يقتضيان أن يكون معنى المضاف غير معنى المضاف إليه.
ثانيهما: يكون فيه أحد الاسمين المتضايفين أصليًا والآخر زائدًا "يمكن الاستغناء عنه من غير أن يتأثر المعنى المراد بحذفه" نحو: مررت بكم فألقيت اسم السلام عليكم ... فكلمة: "اسم" زائدة؛ فلا فائدة منها مستجدة، وإذا كانت كذلك فكيف تعتبر إضافتها محضة؟.
إن الإضافة المحضة تؤثر في الأسلوب تأثيرًا معنويًا؛ لا غنى عنه -كما قلنا- فحيث يمكن الاستغناء عن أحد طرفي الإضافة لا تكون الإضافة محضة.
__________
1 راجع الهمع والصبان.
2 بيانها في: "أ، ب، ج" ص18، 19، 20.(3/48)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما قياسية تلك الإضافات الملحقة بغير المحضة، أو عدم قياسيتها، فكثرة النحاة تقصرها على المسموع، ولا تبيح فيها القياس. إلا الكوفيين فيبيحون القياس على المسموع، بشرط اختلاف لفظي المضاف والمضاف إليه، بحجة أن الوارد من تلك الإضافات كثير كثرة تكفي للقياس عليه، وأن الحاجة قد تدعو لاستخدام القياس؛ للانتفاع بفائدة تلك الإضافات المتعددة الأنواع، فإنها لا تخلو من فائدة معنوية –كالإيضاح مع التوكيد-، برغم أن هذه الفائدة المعنوية تختلف -نوعًا ومقدارًا- عن الفائدة المعنوية التي للإضافة المحضة1 ...
ورأي الكوفيين سديد مفيد. وفي الأخذ به هنا تيسير محمود تتطلبه حياة الناس كما طلبته قديمًا. لكن من المستحسن -وبخاصة القسم الثاني- أن نأخذ به في أضيق الحدود؛ حين تشتد إليه الحاجة، وتقوم قرينة على بيان المراد منه، بحيث لا يشوبه لبس أو غموض.
وقد صرح بعض كبار النحاة باستحسان الرأي الكوفي، ففي شرح شواهد العيني للبيت المرقوم "448" وهو الذي سبق هنا في الإضافة الخامسة "ص45" وصدره:
"فقلت: انجُوَا عنها نجا الجلد إنه ... "
ما نصه:
"الشاهد في: "نجا الجلد" حيث أضاف المؤكَّد إلى المؤكِّد؛ لأن "النجا" -بالقصر- هو الجلد. والأحسن ما قاله الفراء: إن العرب تضيف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين كقوله تعالى: ... {حَقُّ اليَقِينِ} 2.."ا. هـ.
وقال الأشموني عند الكلام على بيت ابن مالك3:
ولا يضاف اسم لما به اتحدْ ... معنى، وأوِّلْ موهمًا إذا وردْ
ما نصه: "لا يضاف اسم لما اتحد به معني؛ كالمرادف مع مرادفه؛
__________
1 ومع أن السماع يؤيدهم يزيدون فيستخدمون "قياس التنظير" فيقولون: إن العرب أجازت عطف الشيء على نفسه إذا اختلف اللفظان: كقول قائلهم:
وألقي قولها كذبًا ومينًا
والمين هو الكذب. والأصل في عطف النسق المغايرة. والمضاف والمضاف إليه كالمعطوف والمعطوف عليه؛ لهذا قال: "ياسين" في هذا الموضع من حاشيته على "التصريح": "إنهم استدلوا بالسماع والقياس، ووافقهم في التسهيل" ا. هـ.
ولما تقدم إشارة في رقم 8 من ص660.
2 انظر رقم 4 من هامش ص51.
3 ستجيء له إشارة أخرى في هامش ص65.(3/49)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والموصوف مع صفته؛ لأن المضاف يتخصص أو يتعرف بالمضاف إليه؛ فلا بد أن يكون غيره في المعنى؛ فلا يقال، قمح بر، ولا رجل فاضل، ولا فاضل رجل. وإذا جاء من كلام العرب ما يوهم جواز ذلك وجب تأويله؛ فمما أوهم إضافة الشيء إلى مرادفه قولهم: "جاءني سعيد كرز". وتأويله: أن يراد بالأول المسمى، وبالثاني الاسم؛ أي: جاءني مسمى هذا الاسم1. ومما أوهم
__________
1 للاسم مع المسمى حالات مختلفة؛ فقد يكون الاسم هو المسمى نفسه وذاته، وقد يكون غير المسمى، و ... ، عرض لتفصيل الكلام على هذا الموضوع تفصيلًا وافيًا ابن السيد البطليموسي الأندلسي في رسالة خاصة نقلتها: "مجلة المجمع اللغوي بدمشق"، في الجزء الثاني من مجلدها السابع ولأربعين ص333، وعنها نقلنا النص التالي: "الباب الأول: في تبييين كيف يكون الاسم غير المسمى ... ، إن الاسم الذي يقال إنه غير المسمى هو الاسم الذي يراد به التسمية، والعبارة عن المعنى الذي يروم المتكلم تقريره في نفس من يخاطبه. وهذا الاسم هو المراد بقولهم للرجل: "ما اسمك؟ وعرفني باسمك"؛ لأنه ليس يسأله أن يعلمه بذاته ما هي؟ وإنما يسأله يعلمه بالعبارة المعبر بها عنه، المشار بها إلى ذاته. وكذلك قولهم: "محوت اسم علي من الكتاب، وأثبت اسمه في الديوان" فالاسم في هذا كله غير المسمى اضطرارًا؛ لأن اللفظة ليست الشخص الواقع تحتها. والاسم والتسمية في هذا الباب لفظان مترادفان على معنى واحد؛ كما يقال: سيف، وصمصام، وحسام. والاسم ههنا وإنما كان يفيد ما تفيده التسمية فبينهما فرق؛ وذلك أن التسمية مصدر، من قولك: سميت الشيء أسميته تسمية، فأنا: مسمٍّ، وهو: مسمًّى؛ كقولك: سويته، أسويه، تسوية؛ فأنا: مسوٍّ، وهو: مسوٍّي. والاسم ليس بمصدر؛ وإنما يراد به الألفاظ المعبر بها عن الأشياء، كمحمد، وعلي، وجوهر، وعرض. ويدلك على الفرق بينهما أن التسمية تعمل عمل الفعل، والاسم لا يعمل عمل الفعل؛ ألا ترى أنك تقول: عجبت من تسمية زيد ابنه كلبًا؛ كما تقول: عجبت من تسوية زيد الثوب. ولا تقول: عجبت من اسم زيد ابنه كلبًا. وهذا كما تقول: "عجبت من قوت زيد عياله" -بفتح القاف- فإن ضممت القاف لم يجز؛ لأن "القوت -بفتح القاف- مصدر قاته، يقوته، قوتًا. و"القوت" -بضم القاف- الطعام نفسه؛ فجرى مجرى الاسم في الامتناع من العمل؛ لأنه نوع من أنواع الاسم.
ومما جاء من هذا الباب قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} يريد: التسميات. ومن ذلك قوله عليه السلام: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة". ولو كان الاسم هنا هو المسمى بعينه لكان الله تسعة وتسعين شيئًا. وهذا كفر بإجماع ... و ... و ...
ومن ذلك قول الشاعر:
وسميته يحيي ليحيا، ولم يكن ... لردِّ قضاء الله فيه سبيلُ
ولو كان الاسم هنا هو المسمى لوجب أن يموت من سمي: "يموت". ويحيا من سمي "يحيي" ...
وهذا النوع كثير في القرآن والحديث وكلام العرب يغني ما ذكرناه منه عن الإكثار منه". ا. هـ. ثم عرض بعد ذلك لأنواع أخرى؛ منها ما يكون فيه الاسم هو المسمى، كلاهما ملازم الآخر لا يفارقه مطلقًا، مثل كلمة: "حي، أو "متحرك". فمن المستحيل أن توجد الحياة بغير الجسد الذي تحل فيه، ومن المستحيل أن توجد الحركة مستقلة بنفسها بغير جسم تظهر فيه. إلى غير ذلك مما عرضه.(3/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إضافة الموصوف إلى صفته قولهم: "حبة الحمقاء"، و"صلاة الأولى"، و"مسجد الجامع"، وتأويله أن يقدر موصوف، أي: حبة البقلة الحمقاء، وصلاة الساعة الأولى، ومسجد المكان الجامع1. ومما أوهم إضافة الصفة إلى الموصوف قولهم: جرد قطيفة2" وسحق عمامة3، وتأويله: أن يقدر موصوف أيضًا، وإضافة الصفة إلى جنسها؛ أي: شيء جرد من جنس القطيفة، وشيء سحق من جنس العمامة" ا. هـ. كلام الأشموني.
ثم قال ما نصه:
"أجاز الفراء إضافة الشيء إلى ما بمعناه لاختلاف اللفظين. ووافقه ابن الطراوة، وغيره ونقله في "النهاية" عن الكوفيين، وجعلوا من ذلك ما ورد في الآيات القرآنية من نحو: {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} ، {حَقُّ الْيَقِينِ} ، {حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، {جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ، وظاهر التسهيل وشرحه موافقته"4. ا. هـ. الأشموني.
ويقول الرضي في شرح الكافية5 -بعد أن شرح مذهب الكوفيين وغيرهم وعرض أمثلة مما سبق- ما نصه: "الإنصاف أن مثله كثير لا يمكن دفعه"6.
__________
1 انظر ما سبق متصلًا بهذا في رقم 1 من ص 40.
2 بمعنى: قطيفة مجردة.
3 بمعنى: عمامة مجردة.
4 ومن الأمثلة القرآنية أيضًا قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} قال "المصباح المنير" في مادة: "عرم" ما نصه: "العرم قيل: جمع "عرمة" مثل كلم وكلمة، وهو: السد، وقيل: السيل الذي لا يطاق دفعه. وعلى هذا فقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} بإضافة الشيء إلى نفسه؛ لاختلاف اللفظين". ا. هـ، وجاء في المصباح المنير أيضًا ما نصه في مادة: "ظهر":
"أفضل الصدقة ما كان على ظهر غنى" المراد: نفس الغنى. ولكن أضيف للإيضاح والبيان؛ كما قيل: "ظهر الغيب، وظهر القلب". والمراد: نفس الغيب، ونفس القلب. ومثله: "نسيم الصبا"، وهي نفس الصبا. قاله الأخفش، وحكاه الجوهري عن الفراء أيضًا. والعرب تضيف الشيء إلى نفسه، لاختلاف اللفظين؛ طلبًا للتأكيد. قال بعضهم: ومن هذا الباب: {حَُّ الْيَقِينِ} ، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} ... " ا. هـ.
5 ج1ص288.
6 وزاد على هذا قوله: "ولو قلنا: إن بين الاسمين في كل موضع فرقًا لاحتجنا إلى تعسفات كثيرة".(3/51)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد أطلنا الكلام في أمر الإضافات السالفة لنفصل في أمرها بحكم قاطع -وهو إباحتها- فيُحسَم النزاع، ويوقَف الجدل الذي امتد حتى وصل إلينا عنيفًا، واستخدمه اليوم -بغير حق- بعض الباحثين في إصدار أحكام بالفساد والخطأ على بعض الإضافات الشائعة، مثل: "استرحنا من عناء التعب"، و"نعمنا برغد الرخاء".(3/52)
السابع: عدم الفصل بين المضاف والمضاف إليه باسم ظاهر، أو بضمير بارز1، أو بغيرهما؛ لأن المتضايفين بمنزلة الكلمة الواحدة ذات الجزأين، لا يصح أن يتوسط بينهما فاصل. غير أن هناك مواضع يجوز فيها الفصل في السعة2؛ فإباحتها في الشعر، وملحقاته، أقوى. ومواضع أخرى يجوز فيها الفصل للضرورة3.
1- فأما مواضع الفصل في السعة فمنها:
1- أن يكونا المضاف مصدرًا والمضاف إليه هو فاعله في الأصل قبل الإضافة، والفاصل بينهما إما مفعول به للمصدر4؛ كقول الشاعر:
حملت إليه من ثنائي حديقة ... سقاها الحجا سقي الرياضَ السحائبِ
والأصل: سقي السحائب الرياض. وقول الآخر:
عَتَوْا إذ أجبناهم إلى السلم رأفةً ... فسقناهم سوق -البغاثَ- الأجادلِ5
يريد: سوق الأجادلِ البغاثَ، فوقع الفصل في المثالين بين المصدر وفاعله بمفعوله المنصوب.
وإما ظرف للمصدر؛ كقولهم: تَرْكُ يومًا نفسك وهواها، سعيٌ لها في
__________
1 أما المستتر فقد يفصل في الإضافة غير المحضة كما عرفنا في ص34.
2 أي: في النثر المرسل؛ حيث يجد الناثر من فسحة القول، وحرية التعبير، والتصرف ما لا يجده الشاعر، ونحوه المقيد بقيود الشعر، وضوابطه؛ من وزن، وقافية، وخصائص شعرية ترهقه، وتضيق بها حريته في التعبير، ولهذا منحوه أنواعًا من التيسير لم يمنحوها الناثر، وأباحوا أن يقع في الشعر -وملحقاته- بعض أمور معينة لا تباح في النثر المرسل؛ تخفيفًا على الشاعر، ونزولًا على حكم الضرورة. وسموا تلك الأمور المحددة: "الضرورات الشعرية، ونظائرها". ولا شك أن ما يباح في النثر مباح في النظم بالأولوية. هذا، وفريق من البصريين يمنع الفصل بين المتضايفين في السعة، وسيجيء في ص58.
3 أي: الضرورة الشعرية وما يلحق بها، مما أوضحناه في ج4 م148 ص206 باب: "ما لا ينصرف". حيث البيان الكامل للضرورة، وملحقاتها.
4 بشرط أن يكون المفعول غير جملة؛ فلا يجوز: سرني قول:- الدين حق الملحد، أي: قول الملحد: الدين حق.
5 معنى البيت: إن الأعداء عَتَوْا، "أي: أفسدوا" بعد أن رحمناهم، وأجبناهم إلى السلم رأفة بهم. فلم نجد بدًّا أن نطاردهم ونسوقهم أمامنا كما تسوق الأجادل البغاث. "الأجادل: جمع أجدل، ويسمى: الصقر؛ وهو من جوارح الطيور القوية التي تحسن اصطياد الطيور الضعيفة. والبغاث: طائر ضعيف، يصاد، ولا يصيد، ولا ينتفع صائده بشيء منه".(3/53)
رداها. فقد فصل الظرف: "يومًا" بين المصدر وفاعله، وهما: ترك نفسك ... 1.
2- أن يكون المضاف اسم فاعل للحال أو الاستقبال، والمضاف إليه هو مفعوله، والفاصل بينهما إما: مفعوله الثاني، وإما الظرف، وإما الجار والمجرور المتعلقان بهذا المضاف، فمثال الفصل بالمفعول الثاني قول الشاعر:
ما زال يوقِنُ من يؤمُّك بالغنى ... وسواك مانع -فَضْلَهُ- المُحْتَاجِ
أي: مانع المحتاج فضله. والأصل قبل الإضافة مانع المحتاج فضله؛ فاسم الفاعل هنا ناصب مفعولين، ثم أضيف إلى أولهما، وبقي الثاني منصوبًا، ولكنه تقدم وفصل بين المتضايفين. ومثال الظرف قول الشاعر:
وداعٍ إلى الهيجا وليس كِفَاءَهَا ... كجالبِ -يومًا- حتفِهِ بسلاحِه
والأصل: كجالب حتفه يومًا ... ، ومثال الجار والمجرور المتعلقين به قوله عليه السلام: "هل أنتم تاركو - لي - صاحبي". والأصل: تاركو صاحبي لي.
3- الفصل بالقسم، أو: بإما، أو: بالجملة الشرطية؛ سواء أكان المضاف شبه فعل2 أم غيره؛ فمثال القسم: شرُّ -والله- البلادِ بلاد لا عدل فيها ولا أمن. ومثال "إما" قول الشاعر:
هما خُطَّتَا3 إما إسار4 ومنة5 ... وإما دَمٌ، والقتل بالحرِّ أجدرُ
أي: هما خطتا إسار ... وقد حذفت نون المثنى المضاف وفصلت بينه وبين المضاف إليه كلمة: "إما". ومثال الشرط ما نقل من نحو: هذا غلام -إن شاء الله- أخيك". والأصل: هذا غلام أخيك إن شاء الله.
4- الفصل بـ"ما" الزائدة حيث يكون المضاف منادى، وحرف النداء هو: "يا"؛ كقول الشاعر:
__________
1 والأصل: ترك نفسك شأنها، وحذف المفعول أو: مضاف لمفعوله وفاعله محذوف، أي: ترك نفسك.
2 المراد به هنا: نوعان -فقط- من الأسماء التي تشبه الفعل في معناه وعمله، هما: المصدر، واسم الفاعل للحال والاستقبال.
3 أصل الكلام: خطتان؛ تثنية خطة، بمعنى: حالة وطريقة.
4 أي: أسر، وهو وقوع المحارب مغلوبًا في يد عدوه المنتصر.
5 امتنان بإطلاق السراح، ومنح الحرية.(3/54)
يا شاةَ -ما- قُنُصٍ لمن حلت له ... حرمت عليَّ وليتَهَا لم تحرم
5- الفصل بالتوكيد اللفظي بشرط أن يكون المضاف منادى قد تكرر لفظه للتوكيد اللفظي، من غير أن يضاف اللفظ الذي جاء للتوكيد، نحو: "يا صلاح، صلاح، الدين الأيوبي، ما أطيب سيرتك"؛ على اعتبار أن كلمة: "صلاح"، الأولى منادى، منصوب، مضاف، وكلمة: "الدين" مضاف إليه، وكلمة: "صلاح" الثانية هي التوكيد اللفظي للأولى، وقد فصلت بين المتضايفين1.
ب- وأما مواضع الفصل المباح في الضرورة فمنها:
1- وقوع المضاف اسما –مشبها الفعل في العمل، رافعًا بعده فاعله الذي يفصل بينه وبين المضاف إليه؛ كقول الشاعر:
نرى أسهما للموت تصمي2 ولا تنمي3 ... ولا نرعوي4 عن نقض -أهواؤنا- العزم
فقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بكلمة: "أهواؤنا" وهي فاعل المصدر المضاف، والأصل: عن نقض العزم أهواؤنا. أي: عن أن تنقض أهواؤنا العزم.
2- أن يكون الفاصل بين المضاف والمضاف إليه أجنبيا من المضاف، "أي: أن يكون الفاصل معمولًا لعامل آخر غير هذا المضاف"؛ كالفصل بالفاعل الأجنبي في قول الشاعر:
__________
1 وكان من الجائز أن تنون، ولكن حذف تنوينها بقصد المشاكلة بين الاسمين. ولهذا المثال وأشباهه طرق مختلفة في ضبطة وإعرابه. وبيانها المفصل في موضعها الأنسب من باب المنادى "ج4 ص40 و41 م130"، ومن تلك الطرق اعتبار الاسم المكرر زائدًا زيادة محضة بين المتضايفين لا يوصف فيها بإعراب ولا بناء. عند من يجيز زيادة الأسماء.
2 تصيب فتقتل الصيد، والصائد يراه.
3 أنْمَى الصيادُ الصيد، رماه فأصابه، فذهب الصيد بعيدًا عنه ومات. فمعنى: لا تنمي، لا تخطئ الإصابة القاتلة.
4 لا نرعوي: لا نرجع عن الغي، ولا نرتدع.(3/55)
أنجب1 أيامَ والداه به ... إذ نجلاه2؛ فنعم ما نجلا
والأصل: أنجب والده به أيام إذ3 نجلاه ... فقد فصل الفاعل4 وهو "والداه" بين المضاف: أيام، وبين المضاف إليه وهو: "إذ نجلاه"، والفاصل هنا ليس معمولًا للمضاف.
3- الفصل بالمفعول الأجنبي؛ كالذي في قول الشاعر يصف فتاة:
تسقي امتياحا5 ندى -المسواكَ- ريقتِهَا ... كما تضمن ماءَ المزنة الرصفُ6
يريد: أنها تسقي المسواك ندى ريقتها. فقد توسط المفعول به الأجنبي، "وهو: المسواك" بين المضاف والمضاف إليه، وفصل بينهما، مع أنه معمول للفعل: "تسقى" وليس معمولًا للمضاف.
4- الفصل بالظرف الأجنبي7: كالذي في قول الشاعر يصف رسوم الدار بأنها:
كما خطَّ8 الكتاب بكفِّ -يومًا- ... يهوديٍّ يقارب9 أو يزيلُ10
__________
1 أنجب الرجل: ولد له ولد نجيب.
2 ولداه، ورزقا به.
3 "أيام"، مضاف، و"إذ" مضاف إليه، من إضافة العام الخاص، أو المؤكِّد للمؤكَّد. "وقد سبق الكلام عليها مع الإشارة لهذا البيت في النوع الخامس ص45" و"إذ" مضاف، والجملة بعدها مضاف إليه.
4 الفاصل في البيت هو الفاعل ومعه الجار والمجرور، فيؤخذ من هذا البيت الذي استشهد به النحاة على الفصل بالفاعل، جواز الفصل بالفاعل فقط، أو به ومعه الجار والمجرور.
5 الامتياح: استخدام السواك لتنظيف الأسنان، ويعرب هنا: حالًا مؤولة، أي: ممتاحة. وهذا الإعراب أحسن من غيره.
6 الحجارة المتراصة المتلاصق بعضها إلى بعض. والماء المتراكم فوقها، أو النافذ منها، يكون أنقى وأصفى من غيره، المفرد: رصفة.
7 أي: الذي ليس معمولًا للمضاف.
8 كتب.
9 أي: يقرب الكلمات والحروف بعضها من بعض.
10 يزيل "بفتح الياء" يباعد ويفرق.(3/56)
والأصل: كما خط الكتاب يومًا بكف يهودي؛ فوقع الظرف الأجنبي فاصلًا بين المضاف وهو: "كف"، والمضاف إليه، وهو: "يهودي".
5- الفصل بالجار مع مجروره الأجنبيين، كما في قول الشاعر1:
هما أخوا -في الحرب- من لا أخا له ... إذا خاف يومًا نبوة، ودعاهما
تريد: هما أخوا من لا أخا له في الحرب. وقول الآخر2:
كأن أصوات -من إشغالهن3، بنا- ... أواخر الميس4 أصوات الفراريج5
يريد: كأن أصوات أواخر الميس ...
6- الفصل بنعت المضاف؛ مثل:
ولئن حلفت على يديك لأحلفن ... بيمين أصدق من يمينك مقسم
أي: بيمين مقسم، أصدق من يمينك.
7- الفصل بالنداء، كالذي في قول الشاعر:
وفاق6 –كعب7- يجير منقذ لك من ... تعجيل تهلكة8، والخلد في سقرا9
أي: وفاق بجير يا كعب ...
__________
1 هو لامرأة من بني قيس. كما جاء في الجزء الأول من كتاب: "الموشح" للمرزباني، عند الكلام على الشاعر: أبو حية النميري.
2 هو: ذو الرُّمَّة.
3 مبالغتهن في السير.
4 الميس: شجر تصنع منه الرحال. والمراد هنا: الرحال.
5- جمع فَرُّوج، وهو فرخ الدجاج. والشاعر يشبه أصوات الرحال وقت سير الإبل المسرعة بأصوات الفراريج. "راجع مجمع البيان، لعلوم القرآن، ج3 ص4".
6 موافقة.
7 يا كعب.
8 هلاك.
9 سقر: جهنم.
وأصل القصة: أن "كعبًا" و"بجيرًا" أخوان، أبوهما: "زهير بن أبي سلمى" الشاعر الجاهلي المشهور. وقد أسلم "بجير" قبل أخيه، فأراد أن يسلم أخوه، فقال شعرًا يحبب إليه الإسلام، ويحذره سوء العاقبة إن خالف، ومنه هذا البيت. ومعناه: موافقة بجير -يا كعب- تنقذك من الهلاك، ومن الخلود في سقر.(3/57)
تلك أشهر مواضع: "الفصل" -بنوعيه- بين المضاف والمضاف إليه كما رآها كثرة النحاة.
لكن فريقًا من نحاة البصرة لا يبيحون الفصل في السعة، ويقتصرونه على الضرورات. والأخذ برأيهم أفضل؛ حرصًا على وضوح المعاني، وجريًا على مراعاة النسق الأصيل في تركيب الأساليب. فمما لا شك فيه أن الفصل بين المتضايفين لا يخلو من إسدال ستارٍ ما على المعنى لا يرتفع ولا يزول إلا بعد عناء فكري يقصر أو يطول، وأن الأسلوب المشتمل على: "الفصل" غريب على اللسان والآذان، ولا سيما اليوم.
سواء أخذنا بهذا الرأي الأفضل أم بذاك -وكلاهما جائز- فلا مناص لمن يبيح الفصل أن يبيحه حيث تقوم القرينة عليه، ويتضح المعنى معه، في غير إبهام ولا غموض1.
__________
1 وفي الفصل ومواضعه يقول ابن مالك في آخر باب: "الإضافة" أبياته التالية. المختصرة الملتوية "وقدمناها من موضعها الذي في ص؟ لتساير الترتيب المعنوي الأنسب للمسائل المترابطة التي يتمم بعضها بعضًا، على أنا وضعنا هنا على يسار كل بيت رقمه الذي يدل على ترتيبه في الباب؛ كما رتبه الناظم".
فصل مضاف، شبه فعل ما نصب
... مفعولًا، أو: ظرفًا: أجز. ولم يعب: 34
فصل يمينٍ. واضطرارًا وجدا ... بأجنبيٍّ، أو: بنعت، أو: ندا -35
التقدير: أجز فصل ما نصبه المضاف الذي يشبه الفعل، حالة كون المنصوب مفعولًا به، أو ظرفًا. "يريد: إذا كان ذلك المنصوب مفعولًا به، أو ظرفًا" فكلمة: "فصل" مفعول للفعل: "أجز". و"فصل" مضاف، وكلمة: "مضاف"، التي بعدها هي المضاف إليه. "شبه" نعت لكلمة: مضاف. و"فعل" مضاف إليه مجرور. "ما" اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل للمصدر الذي هو كلمة: "فصل". و"نصب" جملة فعلية، لا محل لها، صلة الموصول. والمفعول ضمير محذوف، والتقدير: نصبه. و"مفعولا"، حال من الضمير المحذوف، و"أو" حرف عطف. "ظرفًا" معطوف على "مفعولًا".
ثم يقول: واضطرارًا وجد الفصل بأجنبي. والمعنى: يجوز الفصل بين المضاف المشبه للفعل، =(3/58)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
من مواضع الفصل للضرورة: الفصل بين المتضايفين بالفعل الزائد "أي: الذي يمكن حذفه مع فاعله1 بغير أن يفسد المعنى" ومنه قول العربي يسأل عن أهله:
بأي -تراهمُ- الأرضين حلوًا؟ ... أبالدبران، أم عسفوا الكفارا
يريد: بأي الأرضين؟ فجملة: "تراهم"2 زائدة، فاصلة بين المتضايفين. ثم يسأل: أحلوا المكان الذي يسمى: الدبران -بفتح الباء- أم قصدوا المكان الآخر المسمى: الكفار؟
وأيضًا الفصل بالمفعول لأجله؛ كقول الشاعر:
أشم كأنه رجل عبوس ... معاود -جرأةً- وقتِ الهوادي
والأصل: معاود وقت الهوادي؛ جرأة. أي: يعاود الحرب وقت ظهور أعناق الخيل؛ لجرأته في الحرب3.
وكذلك الفصل بلام الجر الزائدة بين المضاف المنادى والمضاف إليه4 كقول الشاعر:
يا بؤس للحرب ضرارًا لأقوامِ
__________
= والمضاف إليه بشيء نصبه ذلك المضاف، لكن بشرط أن يكون هذا الفاصل المنصوب مفعولًا به، أو ظرفا. وقد أوضحنا هذه القاعدة بالشرح والتمثيل، وبالتفصيل المناسب.
ثم بين بعد ذلك أن الفصل بين المتضايفين جائز باليمين. أما في حالة الضرورة فقد وجد الفصل بالأجنبي "وهو الذي ليس معمولًا للمضاف" أو بالنعت، أو بالندا. هذا والنعت والنداء يدخلان في الفصل بالأجنبي؛ ولكنه خصهما بالذكر مبالغة في إيضاحهما. ثم إن تخصيص هذه المسائل بحالة الضرورة يدل على أن ما سرده قبلها يكون في السعة.
1 إن كان له فاعل؛ لأن بعض الأفعال الزائدة لا فاعل له، وإذا حذف الفعل مع فاعله كان المحذوف جملة.
2 ليس من اللازم ما يقولونه من أنها زائدة هنا.
3 أشار الصبان إلى أن صدر البيت ورد مكان العجز في بعض المراجع.
4 سبقت إشارة لهذا عند الكلام على لام الجر ج2 م90 ص367، وهناك تكملة هذا الشطر، وتفصيل الكلام على البيت، وعلى لام الجر.(3/59)
الثامن: استفادة المضاف من المضاف إليه وجوب التصدير1، وانتقال هذا الوجوب من الثاني للأول. فإذا كان المضاف إليه لفظًا من الألفاظ التي يجب تصديرها في جملتها كألفاظ الاستفهام ... و ... فإنه يفقد التصدير حين يصير مضافًا إليه، وينتقل وجوب التصدير إلى المضاف الذي ليس من ألفاظ الصدارة الحتمية؛ ولهذا وجب تقديم المبتدأ في مثل: كتاب من معك؟ والخبر في مثل: صباح أي يومٍ السفر؟ والمفعول به في مثل: دعوة أيهم تجيب؟ والجار والمجرور في مثل: من بلاد الأنصار أقبلت؟ وهكذا ... وأصل الكلام: معك كتاب من؟ السفر صباح أي يوم؟ تجيب دعوة أيهم؟ أقبلت من بلاد أي الأنصار؟ ففي الأمثلة السابقة تقدم وجوبا كل من المبتدأ، والخبر، والمفعول به، والجار مع مجروره ... و ... مع أن كل واحد من هذه الألفاظ ليس من الألفاظ الواجبة التصدير لذاتها؛ ولكنه استفاد حق التصدير الواجب من المضاف إليه، وسلبه هذا الحق؛ إذ المضاف إليه هنا أداة استفهام، وأدوات الاستفهام واجبة التصدير بنفسها قبل أن تصير: "مضافًا إليه" فحين صارت مضافًا إليه فقدت هذا التصدير الواجب، وانتقل منها إلى المضاف.
التاسع: وجوب تقديم المضاف، على المضاف إليه، وكذلك على معمولات المضاف إليه، إن وجدت. فلا يجوز أن يتقدم المضاف إليه، ولا شيء من معمولاته "سواء أكانت هذه المعمولات مفردة، أم جملة، أم شبه جملة"، إلا حالة واحدة يجوز فيها تقديم المعمول؛ هي: أن يكون المضاف كلمة: "غير" التي يقصد بها النفي2؛ ففي نحو: "أنا مرشد الغرباء ... " لا يصح: "أنا الغرباء مرشد ... " وفي نحو: "أنا مثل كاتب سطورًا"، لا يصح أن يقال: "أنا - سطورا - مثل كاتب" أما في نحو: "أنا غير منكر فضلا-" فيجوز: "أنا - فضلًا - غير منكر"؛ لأنه يجوز: "أنا فضلًا لا أنكر".
ومنه قول الشاعر:
__________
1 بشرط أن يكون المضاف إليه واجب الصدارة.
2 علامتها: أن يصح إحلال حرف نفي وفعل مضارع محل كلمة: "غير" والمضاف إليها، مع استقامة المعنى.(3/60)
المسألة 98: أبنية المصادر
مدخل
...
المسألة98: أبنية المصادر 1
المصادر الصريحة ثلاثة أنواع قياسية:
أولها: "المصدر الأصلي"، وهو ما يدل على معنى مجرد، وليس مبدوءًا "بميم" زائدة، ولا مختومًا بياء مشددة زائدة، بعدها تاء تأنيث مربوطة؛ ومن
__________
1 إذا أطلق المصدر كان المراد النوع الأول من الثلاثة الآتية، وهو: "الصريح الأصلي" دون المؤول، ودون النوعين الآخرين -كما سيجيء في ص185، 188، 207.
وهنا موضع الكلام على المصادر الثلاثة الصريحة، وكل واحد منها يصح أن يتعلق به شبه الجملة. مع ملاحظة ما سبق في باب: "المفعول المطلق" "ج2 م74 ص166" من أمور هامة تختص بالمصدر من ناحية تقسيمه إلى: مؤكد لعامله، ومبين للنوع، ومبين للعدد ... ، ومن ناحية ذكر عامله أو حذفه ... إلخ..... أما المصدر المؤول فقد سبق تفصيل الكلام عليه "في ج1 م29 ص295 آخر باب: الموصول" حيث سردنا الحروف المصدرية، ومهمة كل منها؛ وصلته، وطريقة السبك، وما يمتاز به المصدر المؤول دون الصريح، وسائر أحكامه المختلفة.
وقد وضع ابن مالك في "ألفيته" هذا الباب بعد بابي "إعمال المصدر" و"إعمال اسم الفاعل، واسم المفعول" ولعل حجته ما ردده بعض النحاة من أن الإعمال أمر نحوي وثيق الصلة بالأبواب التي سبقت، وأن الأبنية والصيغ أمر صرفي يجيء في المنزلة التالية لمسائل النحو وأبوابه. وهذه حجة واهية -فيما نرى- إذ الترتيب المنطقي يقتضي تقديم الأبنية والصيغ ليكون إعمالها وأحكامها وكل ما يختص بها منصبًا على شيء معلوم مفهوم. ولا يعقل سرد الأحكام الخاصة بشيء دون أن يكون معلومًا من قبل. لهذا لم نأخذ بترتيب ابن مالك هنا، وقدمنا باب أبنية المصادر.
كلمة عن الجمود والاشتقاق، ومكان المصدر منها:
الاسم قسمان:
أ- جامد؛ وهو: ما لم يؤخذ من غيره. "أي: أنه وضع على صورته الحالية ابتداء. فليس له أصل يرجع إليه، وينتسب له". مثل: شجرة، قلم، أسد، حجر ... ومثل: فهم، نبوغ، ذكاء، سماحة ... والجامد قسمان: "اسم ذات"؛ وهو: ما يدل على شيء مجسم محسوس، كالأمثلة الأربعة الأولى، وما شابهها من أسماء الأجناس الحسية "وهي التي لها كيان مجسم محسوس يدخلها في دائرة الحس"، و"اسم معنى"؛ وهو: ما يدل على شيء عقلي محض "أي: شيء معنوي يدرك بالعقل، ولا يقع في دائرة المحسوس" كالأمثلة الأربعة الأخيرة وأشباهها مما ليس مجسمًا ولا مشخصا؛ كسائر الأجناس المعنوية.(3/181)
أمثلته: علم، فهم، تقدم، استضاءة، إبانة. ومثل: بلاء، نضال
__________
= ب- مشتق: هو ما أُخذ من غيره؛ بأن يكون له أصل ينسب له، ويتفرع منه، ويتردد ذكر المشتق أحيانًا باسم: "الوصف أو الصفة"، وهذان غير الوصف أو الصفة المراد منهما النعت الآتي في ص434، ولا بد في المشتق أن يقارب أصله في المعنى، وأن يشاركه في الحروف الأصلية. وأن يدل -مع المعنى- على ذات أو على شيء آخر يتصل به ذلك المعنى بوجه من الوجوه، كأن تكون الذات هي التي فعلته "كما في اسم الفاعل" أو هي التي وقع عليها؛ "كاسم المفعول" أو غير ذلك من زمان، أو مكان، أو آلة ... مما سيجيء تفصيله في أبواب المشتقات ...
والمشتقات الأصلية التي تدل على معنى وذات أو شيء آخر، سبعة؛ هي: اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، أفعال التفضيل، اسم الزمان، اسم المكان، اسم الآلة. أما المصدر الميمي فالصحيح أنه ليس من المشتقات -كما سيجيء في ص186، وفي الباب الخاص به ص231، وأما المصدر الصناعي فجامد مؤول بالمشتق -كما سيأتي في ص187- ويتوسع كثيرًا في المراد من المشتق حتى يشمل ثلاثة أشياء أخرى تدل على معنى وزمن مجردين من الذات وغيرها، وهي: الفعل الماضي، والمضارع، والأمر، والقرائن هي التي تحدد المراد من نوع المشتق، أهو مما يدل على المعنى والذات معًا؟ أم على المعنى والزمان معًا؟ أم المعنى وشيء آخر؟
وإذا استعمل علمًا فإنه يصير بمنزلة الجامد، فيفقد خواص المشتق وأحكامه: وتطبق عليه أحكام الجامد التي منها: أنه إذا أضيف كانت إضافته محضة، بالتفصيل والشروط السابقة في ص4 "راجع هامش ص89 ج1 م10".
وهناك بعض أسماء جامدة قد تلحق -أحيانًا- بالمشتق الدال على الذات والمعنى؛ وتسمى: "الأسماء الجامدة الملحقة بالمشتق"، أو: "الأسماء المشتقة تأويلًا"، ومنها: اسم الإشارة، ومنها: الاسم الجامد المنسوب، والاسم الجامد المصغر، وأكثر ألفاظ "الموصول"؛ كالموصولات المبدوءة بهمزة وصل. وسيجيء البيان في باب النعت -ص458- فكل هذه الأسماء جامدة، ملحقة بالمشتق. ويلاحظ أن هذه الأسماء "الملحقة بالمشتق"، أو "المشتقة تأويلًا" إنما تكون كذلك في بعض الحالات دون بعض؛ فليست ملحقة بالمشتق في جميع حالاتها: وإنما تلحق به حيث تكون في موضع لا يصلح فيه إلا المشتق، كالنعت مثلًا؛ إذ الأصل في النعت أن يكون مشتقًا، ولا مانع أن يكون لفظًا ملحقًا بالمشتق كالألفاظ السابقة.
"وفي مجلة المجتمع اللغوي ج1 ص381 بحث مستقل في الاشتقاق. وفي الجزء الثاني منها بحث آخر، في ص195، 245".
أصل المشتقات:
أ- المصدر الصريح -في الرأي الشائع المختار- هو أصل المشتقات العشرة، ومنه تتفرع. ولا يعنينا اليوم سرد كل الأدلة التي قام عليها اختياره وتفضيله، وحسبنا أقواها. وهو قولهم: إنه "بسيط"؛ لدلالته على المعنى المجرد، و"البسيط" أصل المركب. بخلاف "الفعل الماضي" الذي يعده آخر -كالكوفيين- الأصل؛ بحجة أنه يدل على المعنى المجرد وعلى الزمن؛ فهو يدل على ما يدل عليه المصدر =(3/182)
فضل، صلاح ... في قول شوقي يخاطب رجال الصحف الوطنية:
__________
= وزيادة، وبتغيير يسير يدخل على بنيته يجيء المضارع أو الأمر ... ؛ فالمصدر لهذا أحق عندهم بأن يكون الأصل ... ، ولا يعنينا هذا ولا غيره بعد اشتهار الرأي الأول وشيوعه من غير ضرر لغوي في الأخذ به. فالخلاف لا قيمة له؛ -كما سيجيء البيان في هامش ص210- ولا سيما أن المشتقات الواردة عن العرب -وهي كثيرة- لا دليل معها، على الأصل الذي تفرعت منه.
ب- وإذا كان المصدر الصريح هو أصل المشتقات العشرة، فهل الاشتقاق من غير ممنوع؟
بعبارة أخرى: هذا المصدر يدل على المعنى المجرد؛ فلا دلالة له على ذات، أو زمان، أو مكان، أو تذكير، أو تأنيث أو عدد ... " -وهذا هو الغالب: لأنه قد يدل على المرة أو الهيئة، كما سيجيء في ص225 أما المصدر المؤول فيدل على زمن، وغيره "كما سبق في ج1 ص302 م29 ... و ... " فهل يترتب على هذا أن يكون الاشتقاق مأخوذًا من أسماء المعاني المصدرية وحدها دون الاشتقاق من أسماء "الذوات" التي يسمونها أسماء: "الأعيان"، "يريدون: الأشياء المجسمة المحسوسة" ودون الاشتقاق من أسماء المعاني التي ليست بمصادر، كالاشتقاق من أسماء الأعداد وغيرها مما سيأتي؟ "مع ملاحظة أن بعض القدماء كان يطلق كلمة: "الأخذ" على الاشتقاق من غير المصادر الصريحة -كما في كتاب "أصول اللغة الذي أصدره المجمع في القاهرة سنة 1969 ص22".
الجواب عن هذا: أن الاشتقاق من أسماء الأجناس الخاصة بالمعاني المصدرية جائز لا يكاد يمنعه مانع. أما الاشتقاق من أسماء الأجناس الحسية، فنوعان:
أ- نوع جرى الترجيح قديمًا وحديثًا على قبوله، وهو اشتقاق صيغة "مفعلة" -بفتح الميم والعين- من الجامد الثلاثي الحسي للدلالة على مكان يكثر فيه ذلك الشيء الحسي المجسم؛ "كمعنبة"؛ لمكان يكثر فيه العنب، و"مخشبة" لمكان يكثر فيه الخشب ... "وهكذا مما سيجيء تفصيله وإيضاح حكمه في مكانه المناسب من بابي: "اسم الزمان والمكان" ص318 و"ح" ص326" ولا بد في هذا النوع من أن تكون الصيغة مقصورة على "مفعلة" دون غيرها. وأن تكون من ثلاثي حسي جامد؛ لتحقيق الدلالة على المكان والشيء الحسي الذي يكثر به، كما سنبينه في الموضع المشار إليه.
ب- ونوع يخالف ما سبق. واتجه رأي الأغلبية من القدماء إلى منعه، والتشدد في حظر القياس عليه. وقد عرض المجمع اللغوي القاهري لهذا النوع، وأطال البحث فيه، وعقد بشأنه فصلًا طويلًا تربى صفحاته على ست وثلاثين "في الجزء الأول من مجلته، في ص232 وما بعدها" بعنوان: "الاشتقاق من أسماء الأعيان"، وقد وفى البحث حقه، وأولاه من العناية ما هو به جدير، وعرض مئات من الكلمات المسموعة عن العرب الفصحاء، مشتقة من أسماء الأجناس الجامدة العينية، غير الثلاثية واستخلص منها قرارًا نصُّه الحرفي -كما جاء في المرجع السابق: "اشتق العرب كثيرًا من أسماء الأعيان، والمجمع يجيز هذا الاشتقاق للضرورة في لغة العلوم" ا. هـ.
ومن هذا النص يتبين أنه غير مقصور على صيغة معينة، ولا نوع خاص من المشتقات العينية بالرغم من مخالفته لنص آخر سنذكره بعد، وبالرغم من أنه مقصور على لغة العلوم. وقد سجل المجمع في بحثه عدم حاجة الفن والأدب إلى استخدامه؛ لكثرة الوسائل اللغوية الأخرى التي تغني عنه. وكان =(3/183)
حمدنا بلاءكمو في النضال ... وأمس حمدنا بلاء السلف
ومن نسي الفضل للسابقين ... فما عرف الفضل فيما عرف
أليس إليهم صلاح البناء ... إذا ما الأساس سما بالغرف؟
__________
= الأولى أن يجعله عامًّا بعد أن عرض مئات من الكلمات المنقولة عن العرب، والتي استند إليها في قراره. وكثر منها ليس مقصورًا على ما يستخدم في لغة العلوم وحدها؛ فالاستناد إلى تلك الكثرة الوافرة يجعل القياس عليها صحيحًا قويًّا، ويقتضي أن يكون ذلك القياس عامًّا شاملًا لغة العلم وغيره. هذا إلى أن قصره على لغة العلم وحده وفصلها من لغة الأدب عسير أشد العسر في معاهد التعليم، وفي الخطابة، وفي غيرها من كل ما يقوم على اللغة الصحيحة، وتتشابك فيه لغة العلم ولغة الأدب. وها نحن أولاء نرى الاشتقاق من أسماء الأعيان قد شاع بين طوائف المثقفين في الشئون المختلفة، غير مقصور على نوع معين، واشتهر حتى صار بمنزلة: "الاصطلاح" ومن الخير قبوله ما دام لا يؤدي إلى خفاء أو لبس.
وقد أصلح المجمع قراره السابق، وجعله مطلقًا غير مقيد بشيء مما سبق؛ فقد جاء في ص69 من كتابه المجمعي الصادر في سنة 1969 مشتملًا على القرارات المجمعية الصادرة من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين ما نصه تحت عنوان: "الاشتقاق من أسماء الأعيان دون قيد الضرورة" بناء على رأي لجنة الأصول، وهو:
"قرر المجمع من قبل إجازة الاشتقاق من أسماء الأعيان للضرورة في لغة العلوم، كما أقر قواعد الاشتقاق من الجامد. واللجنة تأسيسًا على أن ما اشتقه العرب من أسماء الأعيان كثير كثرة ظاهرة، وأن ما ورد من أمثلته في البحث الذي احتج به المجمع لإجازة الاشتقاق، يربى على المائتين -ترى التوسع في هذه الإجازة بجعل الاشتقاق من أسماء الأعيان جائزًا من غير تقييد بالضرورة" ا. هـ.
وقد وافق المجمع ومؤتمره على رأي اللجنة، وصدر قرارهما في الجلسة الثامنة من مؤتمر الدورة الرابعة والثلاثين سنة 1968. أما قواعد الاشتقاق المشار إليها في القرار السالف فقد ورد بيانها في الكتاب المجمعي الذي تقدم ذكره؛ ففي ص62 منه النص الآتي تحت عنوان: "قواعد الاشتقاق من الجامد العربي والمعرب" ومعها البحوث الخاصة بها.
أولا: في الاسم الجامد العربي:
1 إذا أريد اشتقاق فعل ثلاثي لازم من الاسم العربي الجامد الثلاثي مجرده ومزيده، فالباب فيه "نصر" ويعدى إذا أريدت تعديته بإحدى وسائل التعدية، كالهمزة والتضعيف ... ؛ مثل: قطنت الأرض تقطن، كثر قطنها. وقطنها زرعتها قطنًا".
2 أما إذا أريد اشتقاق فعل ثلاثي متعدٍّ فالباب فيه "ضرب" مثل: قطنت الأرض أقطنها زرعتها قطنًا.
3 وفي كلتا الحالتين يستأنس بما ورد في المعجمات من مشتقات للأسماء العربية الجامدة؛ لتحديد صيغة الفعل؛ تبعًا لما ورد من هذه المشتقات.
4 ويشتق الفعل من الاسم العربي الجامد غير الثلاثي على وزن "فعلل" متعديًا، وعلى وزن "تفعلل" لازمًا. وإذا كان الاسم رباعي الوصول، أو رباعيًّا مزيدًا فيه، مثل: درهم وكبريت، اشتق منه على وزن "فعلل" بعد حذف الزائد من المزيد؛ فيقال درهم الزهر وكبرت، أي: صار كالدرهم والكبريت =(3/184)
ومئات أخرى. وهذا النوع -وحده- هو المقصود من كلمة: "مصدر" حين تذكر مطلقة بغير قيد يبين نوعًا معينًا. أما غيره فلا بد أن يذكر معه ما يبين نوعه.
__________
= وإذا كان خماسيًّا؛ مثل سفرجل، اشتق منه على وزن "فعلل" بعد حذف خامسة، فيقال سفرج النبت، بمعنى: صار كالسفرجل.
5 وتؤخذ المشتقات الأخرى من هذه الأفعال على حسب القياس المصرفي.
ثانيًا: في الاسم الجامد المعرب:
6 ويشتق الفعل من الاسم الجامد المعرب الثلاثي على وزن "فعل" بالتشديد متعديًا، ولازمه "تفعل".
7 ويشتق الفعل من الاسم الجامد المعرب غير الثلاثي على وزن "فعلل" ولازمه "تفعلل" ... "ا. هـ المنقول من كتاب المجمع.
هذا، ولعل قرار المجمع يشمل -فيما يشمل- الاشتقاق من أسماء المعاني التي ليست مصادر؛ كالاشتقاق من أسماء العدد؛ فإن هذه أسماء معادن جامدة وليست بحسية، ولا بمصادر، وكالاشتقاق من أسماء الأزمنة وأسماء الصوت، وهما من أسماء المعاني الجامدة أيضًا. وفي مجلة المجمع "ج1 ص381" بحث مفيد في هذا، وفي الاشتقاق وأنواعه عامة. وقد سبقت الإشارة إليه وإلى أن بعض القدماء كان يسمى الاشتقاق من غير المصادر الصريحة: "الأخذ".
بناء على ما سبق من جواز الاشتقاق من أسماء الأعيان يقال "كما جاء في مجلة المجمع اللغوي القاهري، ص8 من العدد الخاص بالبحوث والمحاضرات التي ألقيت في مؤتمر الدورة الثلاثين لسنة 1963-1964" "مغنطَ من المغناطيس، وقصدر من القصدير، كما قيل قديمًا ذهب من الذهب، وكبرت من الكبريت ... " ا. هـ.
وجاء في العدد الخاص مؤتمر الدورة التاسعة والعشرين -ص هـ- ما نصه في الاشتقاق السالف من الاسم الجامد: "أن يكون الثلاثي اللازم من باب: "نصر" والمتعدي من باب: "ضرب" وغير الثلاثي من باب: "فعلل" في المتعدي: "وتفعلل" في اللازم" ا. هـ. وقد سبقت الأمثلة.
"ملاحظة": يتصل اتصالًا وثيقًا بما سبق ما قرره المجمع من صحة اشتقاق "فعل" من العضو للدلالة على إصابته. ونص القرار -"كما جاء في ص39 من كتابه الذي أخرجه سنة 1696 باسم: "كتاب في أصول اللغة" مشتملًا على مجموعة القرارات التي أصدرها المجمع من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين" بعنوان: "اشتقاق "فعل" من العضو للدلالة على إصابته" قال بعد العنوان: "كثيرًا ما اشتق العرب من اسم العضو "فعلًا" للدلالة على إصابته. وقد نص أبو عبيد على أن ذلك عام في كل ما يشكى منه في الجسد، وكذلك نص ابن مالك في التسهيل على أنه مطرد" ا. هـ. لهذا ترى لجنة الأصول بالمجمع قياسيته. ووافقها المجلس والمؤتمر على رأيها، وصدر قرارهما بالموافقة في جلسة المؤتمر الثامنة من دورة 29 سنة 1963 هذا وفي الكتاب المجمعي السالف البحوث المفيدة التي اعتمد عليها المجمع ومؤتمره في إصدار القرار السالف، مدعومة بعشرات من الكلمات المسموعة التي تؤيده، ومن مثل: جلده. رأسه. بطنه ...
، أي: أصاب جلده. ورأسه. وبطنه ... و....(3/185)
ويدخل في نوع المصدر الأصلي المصدر الدال على "المرة1 والهيئة" فوق دلالته على المعنى المجرد، ولكنه لا يذكر إلا مقيدًا بذكر المرة أو الهيئة2.
ثانيهما: المصدر الميمي3، وهو: "ما يدل على معنى مجرد، وفي أوله "ميم" زائدة، وليس في آخره ياء مشددة زائدة بعدها تاء تأنيث مربوطة4"، ومن أمثلته: مطلب، مضيعة، مجلبة، مَعدل ... "بمعنى: طلب، ضياع، جلب، عدول" في قول بعض الحكماء: "ينبغي للعاقل إذا عجز عن إدراك مطلبه ألا يسرف في الهم؛ فإن الإسراف فيه مضيعة للحزم؛ مجلبة لليأس، معدل عن السداد. وإذا ضاع الحزم، وأقبل اليأس، واختفى السداد -فرّت فرص النجاح، وساءت الحياة".
وهو قياسي، ويلازم الإفراد، والراجح أنه لا يعد من المشتقات5. وسيجيء تفصيل الكلام على طريقة صياغته، وفائدته، وبقية أحكامه الأخرى6:
ثالثها: المصدر الصناعي؛ -وهو قياسي- ويطلق على: كل لفظ "جامد أو مشتق، اسم أو غير اسم" زيد في آخره حرفان، هما: ياء مشددة، بعدها تاء تأنيث مربوطة؛ ليصير بعد زيادة الحرفين اسمًا دالًا على معنى مجرد لم يكن يدل عليه قبل الزيادة. وهذا المعنى المجرد الجديد هو مجموعة الصفات الخاصة بذلك اللفظ، مثل كلمة: إنسان؛ فإنها اسم، معناه الأصلي: "الحيوان الناطق"
__________
1 سيجيء الكلام عليه في ص225.
2 في ص207 تعريف مفيد آخر المصدر.
3 له بحث مستقل في ص231.
4 يسميها بعضهم: "تاء التأنيث"، ويسميها غيرهم: "تاء النقل" من حالة إلى أخرى؛ كالنقل من المذكر للمؤنث، أو من الوصفية "الاشتقاق" إلى الاسمية المحضة ... "كما في مجلة المجمع اللغوي،ج1 ص14، وانظر رقم 1 من هامش الصفحة الآتية" والأمران سيان. ولكن التسمية الأولى أشهر وأوضح. وهي بكل أسمائها علامة قاطعة على التأنيث اللفظي "وقد فصلنا هذا في ج4 م169 ص542 باب: التأنيث، وفي هامشي ص546، 547".
5 كما سبق في "ب" هامش ص182، وكما سيجيء في ص234، 235 لكن يصح أن يتعلق به شبه الجملة؛ كالشأن في المصادر الأصلية الصريحة.
6 في ص231.(3/186)
فإذا زيد في آخره الياء المشددة، وبعدها تاء التأنيث المربوطة1، صارت الكلمة: "إنسانية" وتغيرت دلالتها تغيرًا كبيرًا؛ إذ يراد منها في وضعها الجديد معنى مجرد، يشمل مجموعة الصفات المختلفة التي يختص بها الإنسان، كالشفقة، والحلم، والرحمة، والمعاونة، والعمل النافع ... و ... ولا يراد الاقتصار على معناها الأول وحده، ومثلها: الاشتراك والاشتراكية، الأسد والأسدية، الوطن والوطنية، التقدم والتقدمية، الحزب والحزبية، الوحش والوحشية، الرجع والرجعية و.... وهكذا.
وليس لهذا النوع من المصدر القياسي صيغ أخرى، ولا دلالة غير التي شرحناها. ولا أحكام نحوية تخالف الأحكام العامة التي لكل اسم من سائر الأسماء، إلا أنه اسم جامد، مؤول بالمشتق، يصح أن يتعلق به شبه الجملة -كما سبق22- ويصح أن يكون نعتًا وحالًا ... و ... 3 بخلاف النوعين السابقين، فهما اسمان جامدان، ولكل منهما أحكام خاصة به، وأوزان وطرق لصياغته4 على حسب البيان التالي:
__________
1 وتسمى "تاء النقل"؛ لأن الاسم قبل مجيئها كان مختومًا بياء النسب التي تجعله في حكم المشتق. فلما جاءت هذه التاء نقلته إلى الاسمية المحضة، وخلصته للدلالة على الحدث، أي: على المعنى المجرد.
2 في "ب" من هامش ص182.
3 عرضت المراجع القديمة لهذا المصدر الصناعي القياسي بما لا يخرج عما قدمناه. وكذلك عرض له مجمع اللغة القاهري عرضًا موجزًا في دور انعقاده الأول، وفيما يلي النص الحرفي -كما ورد في محضر الجلسة الثانية والثلاثين من محاضر جلسات دور الانعقاد الأول ص426- على لسان أحد الأعضاء قال:
"حاجتنا إلى المصدر الصناعي ماسة في علم الكيمياء وغيره من العلوم. وقد قال العلماء إنه من المولَّد المقيس على كلام العرب. وتخريجه سهل؛ لأن هذا المصدر مكون من اللفظ المزيد عليه ياء النسب، وتاء النقل، على رأي أبي البقاء في: "الكليات". ا. هـ. وتقدم المراد من تاء النقل في رقم 4 من هامش الصفحة السالفة.
ثم جاء في المحضر بعد ذلك ما نصه: "أن عضوًا قرأ نصوصًا من شرح القاموس في مادة: "كيف" ونصوصًا أخرى من "كليات أبي البقاء"، وأن مناقشة الأعضاء في هذه النصوص انتهت إلى القرار الآتي وهو: "إذا أريد صنع مصدر من كلمة يزاد ياء النسب والتاء" ا. هـ. وقد وافق عليه المجلس نهائيًّا طبقًا لهذا، ولما في ص21 من كتاب المجمع المشتمل على القرارات السليمة من الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين.
4 والأصل في المصدر الصريح بأنواعه الثلاثة السالفة الخالية من الدلالة على المرة أو الهيئة أن يدل على المعنى المجرد.... "وهو -كما في ص181 وب من ص183- المعنى العقلي المحض الذي لا وجود له في غير الذهن"، فلا يدل -بصيغته- على ذات، ولا على زمن، ولا إفراد ولا تثنية، ولا جمع =(3/187)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= ولا تأنيث، ولا تذكير، ولا علمية، ولا شيء أكثر من ذلك المعنى المجرد. والمعاني المجردة كثيرة، لا تكاد تحصر، والحاجة إلى استعمالها شديدة. ومن العسير على غير العرب الأوائل معرفة المصدر الصحيح للفعل، والاهتداء إليه بين غيره من المصادر الأخرى الكثيرة المتنوعة. بل أن العرب الأوائل -وهذا أمر يجب التنبة له- نطقوا المصادر بفطرتهم ارتجالًا، دون أن يعرفوا أسماءها الاصطلاحية، وأحكامها المختلفة، وغير هذا مما وضع عند تدوين العلوم العربية، ولا سيما النحو.
فلوضع ضوابط للكشف عن هذا المصدر، والاهتداء إليه في يسر وسهولة وتوفيق، عكف اللغويون والنحويون -منذ عصور بعيدة- على فصيح الكلام العربي المأثور، وعرضوا للمصادر الواردة بأكثره خلال ما عرضوا له من المسائل، ودرسوها دراسة وافية من نواحيها المختلفة، وبذلوا فيها الجهد -كعادتهم- مصممين أن يصلوا من وراء هذه الدراسة الصادقة المضنية إلى تجميع أكثر المصادر الواردة، واستخلاص ظواهرها وخواصها، ثم تصنيفها أصنافًا متماثلة، لكل صنف أوصافه وخصائصه التي ينفرد بها، وتشترك فيها أفراده واحدًا واحدًا، دون غيرها، بحيث يصح أن ينطبق على كل صنف عنوان خاصٍّ به، تندرج تحته أفراده، ولا يشاركها فيه أفراد صنف آخر، له عنوانه الخاص، وله أوصافه وخصائصه التي تغاير ذاك. كما هو الشأن في كل القواعد والضوابط العلمية.
وقد نجحوا فيما أرادوا. فجمعوا المصادر المأثورة جمعًا حميدًا -قدر استطاعتهم- ثم صنفوها، ونوعوها، وجعلوا لكل صنف ونوع قواعد وضوابط مركزة؛ تضم تحتها أفراده الكثيرة، المبعثرة، وتنطبق عليها وعلى نظائرها مما نطق به العرب، وما ستنطق به -قياسًا على ما نطقت به العرب- أجيال قادمة لإعداد لها من خلفائهم؛ فهذا صنف لمصدر الثلاثي المتعدي، وهذا صنف آخر لمصدر الثلاثي اللازم. وكلاهما قد يكون دالًا على حركة، أو صوت، أو غيرهما ... -وصنف ثالث لمصدر الرباعي أو الخماسي ... و.... والعارف بتلك الضوابط والقواعد يستطيع أن يهتدي إلى صيغة "المصدر الأصلي" الذي يريده في سرعة وتوفيق.
وتخلص من هذا أمرين هامين:
أولهما: أن تلك الضوابط والقواعد التي وضعوها، وحصروا بها أنواع المصادر، وأوزانها، ونسقوا صنوفها، ونظموا استعمالها -مستنبطة من أكثر الكلام العربي فصاحة، وصحة، وشيوعًا؛ فتطبيقها مباح لكل عارف بها، محسن لاستخدامها، من غير أن يلزمه أحد الرجوع إلى أصولها الأولى التي استنبطت منها، "وهي؛ المصادر الواردة في الكلام العربي الأصيل"؛ فإن هذا الرجوع عبث واضح، وجهد ضائع بعد أن استنفد الأئمة والعلماء جهدهم في استنباط قواعدهم وضوابطهم من ذلك الكلام الفصيح، وانتزعوا أحكامهم من أصيله للغالب، في دقة وحيطة، وبالغ أمانة. فالعمل بما استنبطوه إنما هو تطبيق صحيح على ذلك الكثير المسموع، أو مجاراة سليمة للشائع الوارد عن العرب، ومحاكاة سائغة لا مكان معها لإيجاب الرجوع إلى "الأصل" الأول، وتحتيم المعاودة إليه قبل استعمال الضوابط والقواعد؛ ففي هذا الرجوع إضاعة الجهد والوقت، فلن تأتي المعاودة بجديد. وقد يكون في هذا الإيجاب والتحتيم -فوق ما فيه من إضاعة الجهد، والوقت، والمال -تعجيز لغير المتفرغين المشتغلين "باللغويات" عامة، و"النحويات" =(3/188)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= خاصة، فليس بد من الأخذ الحر بما استنبطه ثقات العلماء الحاذقين، والاستناد إلى ما قالوه؛ فإذا قرروا، -مثلًا- أن مصدر الفعل الماضي الرباعي الذي على وزان: "فعَّل" هو: "التفعيل" وجب الإيمان بما قرروا؛ فنقول في مصادر: قوَّم، علَّّم، كسَّر، كرَّم ... وأمثالها: تقويم، تعليم، تكسير، تكريم ... و ... وهكذا من غير بحث عنه في كلام عربي قديم. أو في مرجع لغوي، أو غيره ... فلا داعي لهذا البحث مع وجود القاعدة وانطباقها. وإذا قالوا: إن مصدر الفعل الثلاثي المتعدي هو: "فعل" وجب الاطمئنان لقولهم، والأخذ به، وتطبيقه -في غير تردد- على كل فعل ثلاثي متعدٍّ، نريد الوصول إلى مصدره، نحو: سمع سمعًا، فهم فهمًا، كتب كتابًا، ونظائر هذا من مئات، بغير رجوع إلى مرجع لغوي أو غير لغوي، ولو كان الرجوع إليه لا يكلفنا جهدًا، أو وقتًا، أو مالًا. وبهذه الطريقة المثلى نجنب أنفسنا الشطط، ونوقيها مساءة العافية التي تترتب على إهمال رأي الثقات البارعين من العلماء المتخصصين المتفرغين إهمالا يستحيل معه أن تستقيم أمور اللغة، أو يستقر لها وضع صالح، وحياة قوية ناهضة. فالواجب أن نعتمد على القاعدة في الوصول إلى المصدر القياسي للفعل، ولا نبالي بعد ذلك أله مصدر سماعي آخر أم لا؟
وما سبق مستمدٌّ من أقوال أئمة كبار يقررون: "أن استعمال المصدر القياسي جائز وإن سمع غيره"، وفي مقدمتهم: "الفراء" الذي وصفه الإمام اللغوي النحوي "ثعلب" -كما جاء في مقدمة كتاب معاني القرآن، للفراء -أحد أئمة الكوفة- بقوله: "لولا الفراء لما كانت عربية: لأنه خلصها وضبطها. ولولا الفراء ما كانت عربية؛ لأنها كانت تتنازع، ويدعيها كل من أراد، ويتكلم الناس فيها على قدر عقولهم وقرائحهم فتذهب ... " والذي وصفه عالم آخر "كما جاء في معجم الأدباء -ج20 ص110" بقوله: "لو لم يكن لأهل بغداد من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان بهما الافتخار على جميع الناس". ا. هـ. وقيل عنه أيضًا -كما جاء في تهذيب ج11 ص212 -"والفراء أمير المؤمنين في النحو". ا. هـ، وفي تاريخ بغداد: "كان يقال: النحو الفراء، والفراء أمير المؤمنين في النحو". وقد وصفه يحق أحد أعضاء المجمع اللغوي القاهري. بأنه "إمام الكوفيين، ووارث علم الكسائي، ولا يترتب علينا إذا أخذنا بمذهبه" -راجع ص108 من محاضر جلسات الدور الرابع.
ومنهم العبقري: "ابن جني". في كتابه الخصائص "ج1 ص362، 367، 439" ومن أوضح النصوص في هذه الصفحات ما جاء في ص367 من الباب الذي عنوانه: "باب في اللغة تؤخذ قياسًا" "وقد سجلته مجلة المجمع اللغوي في أحد أعدادها، وسجلته محاضر جلسته في دور الانعقاد الرابع ص45. وسجلناه في آخر الجزء الثاني من كتابنا. ثم هو صاحب المذهب الذي أخذه من المازني، ونصه -كما ورد في ص44 من تلك المحاضر، وفي ج1 ص367 من كتابه: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب". وهو القائل: "ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع، فإذا حذا إنسان على مثالهم، وأمَّ مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعًا، ولا أن يرويه رواية". ومثل هذا ما جاء =(3/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= في "المصباح المنير"، مادة: "خلف"، -ونصه: "عدم السماع لا يقتضي عدم الأطراد مع وجود القياس ... " ا. هـ. وأقوى من هذا كله ما دونه أبو البركات ابن الأنباري -المتوفى سنة 577 هـ- في كتابه: "لمع الأدلة" في أصول النحو" "الفصل الحادي عشر ص95" وفي مطلعه يقول ما نصه: "اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق؛ لأن النحو كله قياس؛ ولهذا قيل في حده: "النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب؛ ومن أنكر القياس فقد أنكر النحو. ولا نعلم أحدًا من العلماء أنكره؛ لثبوته بالدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة ... " ا. هـ. وقد رأى المجمع اللغوي الاعتماد على ما قاله ابن جني، وعلى أدلته في كثير من المسائل الأخرى -كما في "جـ1 ص226" من مجلته. ومن القائلين بقياسية المصدر: الزمخشري، ومكانته في العلوم العربية والشرعية معروفة "راجع كلامه ص13 من كتاب "القياس والسماع" لأحمد تيمور".
لكل هذا لم يكن مقبولًا رأي "سيبويه"، ومن انضم إليه قديمًا وحديثًا، مخالفين رأي "الفراء" ومن وقف إلى جانبه؛ إذ يرى سيبويه أن الضوابط التي تحدد وتضبط مصادر الفعل الثلاثي لا يصح استخدامها قياسًا مطردًا قبل الرجوع إلى السماع، ويجب الاقتصار على المسموع وحده بعد البحث عنه والعثور عليه، وإنما تستخدم الضوابط والأقيس للوصول إلى المصدر حين لا يكون للفعل مصدر مسموع من العرب، فإذا ورد فعل لم يُعرف عن العرب كيف نطقوا بمصدره جاز استخدام القياس بتطبيق الضابط والقاعدة. أما مع ورود المصدر المسموع المعروف فلا يجوز؛ لأننا مقيدون "بالمصدر" الذي نطقت به العرب الخلص، وعرفناه عنهم، ولا داعي معه لخلق مصدر جديد لم ينطقوا به نصًّا.
وهذا رأي غريب يعوق الانتفاع باللغة، ويسلمها إلى الجمود والتخلف. وأعجب من هذا، وأوغل في الغرابة أن يكون هناك رأي آخر يحرم استخدام الصيغ القياسية مطلقًا "أي مع وجود أخرى سماعية أو عدم وجودها، وسيجيء في ص291". والفراء وأنصار رأيه يخالفون. ولعل أظهر حججهم أن في رأي سيبويه إعناتًا من غير داعٍ؛ لأن القاعدة -أي قاعدة- إنما هي حكم عام مستنبط، كما شرحنا من الكثير الوارد عن فصحاء العرب، وضابط متنزع من الغالب الذي استعملوه، فكيف يراد منا أن نمتنع عن القياس على ذلك الكثير حين يوجد ما يخالفه ولو كان شاذًّا، وأن نقتصر على هذا المخالف وحده، دون استخدام القياس الذي يجري على نهج الكثير الفصيح المخالف له؟ كيف يتحتَّم علينا استعماله ولو كان شاذًّا، ويحرم علينا صوغ ألفاظنا وعباراتنا على النهج الغالب في كلام العرب الخلص مع علمنا أن الشاذ هو القليل النادر في كلامهم؟ ومع علمنا -كما تقدم- أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؛ كما سجله ابن جني في المراجع السابقة، وكما يقرره جمهرة النحاة في مراجعهم، ومنه ما نقله الهمع -في باب الحال جـ1 ص247- عن أبي حيان ونصه: "إنما نبني المقاييس العربية على وجود الكثرة" -كما سيأتي هنا -وما نقله أيضًا -في باب التصريف جـ2 ص217- من مذاهب القياس، وفيها يقول ما نصه: "المذهب الثالث: التفصيل بين ما تكون العرب قد فعلت مثله في كلامها كثيرًا واطرد، فيجوز لنا إحداث نظيره، وإلا فلا ... " ا. هـ.(3/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= فليس استخدامنا المصدر القياسي مع وجود السماعي إلا كاستخدامنا الألفاظ والكلمات التي تجري عليها الرفع، أو النصب، أو الجزم في أساليبنا الخاصة التي تنشئها إنشاء يختاره كل منا على حسب هواه، ونؤلفها تأليفًا مبتكرًا لم تنطق به العرب نصًّا، ولم تعلم عنه شيئًا، وإن كان لا يخرج في هيئة تكوينه، ومادة كلماته، وترتيبها، وضبط حروفها -على النسق الوارد عنهم، ولا يتعدى حدودهم العامة، فهي أساليبنا، ومن صنعنا، وهي في الوقت نفسه أساليب عربية صميمة، وتسمى بهذا الاسم؛ لجريانها على النظام العربي الأصيل في مفرادتها، وطرائق تركيبها، وضبط حروفها؛ فلا مسوغ عند هؤلاء لمنع استخدام المصدر القياسي مع وجود السماعي المعروف.
وشيء آخر: هو أن قصر القياس في هذا الباب على الأفعال التي لم يرد لها مصادر مسموعة، يقتضينا أن نرجع لكل المظان المختلفة، ونطيل البحث؛ حتى نطمئن إلى عدم وجود مصدر سماعي للفعل؛ كي نستبيح استعمال المصدر القياسي. وفي هذا من الجهد المضني والوقت ما لا يقدر عليه خاصة الناس، بلْه عامتهم. ولو أخذنا به قبل استعمال كل مصدر لحملنا أنفسنا مالا تطيق، ودفعناها إلى اليأس، والانصراف عن لغتنا، وأنكرنا واقع الحياة الذي قضي باستقلال العلوم والفنون، وتفرغ طوائف العلماء للفروع المستقلة، والاعتماد على رأيهم الخاص فيما تفرغوا له، واستحالة أن يتخصصوا معه في "اللغويات".
ثم ما هو المراد الدقيق من عدم معرفة المصدر الوارد للفعل؟ ما حدود هذا؟ وما ضبطه؟ وكيف يتحقق مع تفاوت الناس علمًا، وعملًا، واقتدارًا على استحضار المراجع وغيرها؟..
إن رأي الفراء وأنصاره رأي سديد؛ فيه رفق، وحكمة، ومسايرة واضحة لطبائع الأشياء. وليس فيه ما يسيء إلى اللغة، أو يسد المسالك أمام الراغبين فيها، المقبلين على اصطناعها وإعلاء شأنها. ولهذا يجب الأخذ به وحده، والاقتصار عليه؛ حفاظًا على حياة اللغة، وإبقائها -على الأيام- فتية متجددة الشباب والنفع. وقد يكون المصدر الذي نصنعه ولم ينطق بلفظه العرب نصًّا -غريبًا على الأسماع، ولكن هذه الغرابة والوحشة يزولان بالاستعمال.
ثانيهما: أن الراجع إلى الكلام العربي الأصيل، أو المطولات اللغوية. قد يجد مصادر أخرى مسموعة لا تساير تلك الضوابط والقواعد برغم دقتها وإحكامها. وهذه المصادر الأخرى هي التي يسمونها: "مصادر سماعية"، أو "مصادر شاذة"، أو "مصادر قليلة الاستعمال"؛ أو ما شاكل هذا من الأسماء الدالة على قلتها وعدم صحة القياس عليها ...
والحكم الصحيح على مثل هذه المصادر السماعية أنه يجوز استعمال كل واحد منها -بذاته- مصدرًا سماعيًّا مقصورًا على فعله الخاص؛ فلا يجوز استخدام وزنه في إيجاد صيغة كصيغته لفعل آخر غير فعله المعين، ويجوز -أيضًا- استعمال المصدر القياسي لفعله، فاستعمال المصدر السماعي لفعل معير لا يمنع استعمال المصدر القياسي لهذا الفعل؛ فمن شاء أن يصطنع المسموع أو القياسي فله ما شاء، ويجري هذا على كل فعل له مصدران مقيس ومسموع، فإن استعمال أحدهما مباح. وإلا كلفنا جمهرة الناس ما لا تطيق -كما تقدم؛ إذ نطالبها بمعرفة المسموع لكل قياسي، والاقتصار على هذا المسموع وحده. وفي هذا من التعجيز وتعطيل القياس أفدح الضرر. =(3/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= ومما يؤيد استعمال القياس مع ورود السماع -وما أكثر ما يؤيده- ما جاء في "القاموس المحيط" -للفيروزآبادي- ج1 مادة: "سجد" من كلمات وردت في صيغة اسم الزمان أو المكان بالكسر، وكان قياسها الفتح، ومنها: مسجِد، مشرِق، مفرِق، مطلِع، مسقِط، مجزِر، مسكِن، منبِت، منسِك، مرفِق ... "ولهذا الحكم الخاص بالكلمات السالفة بيان وتحقيق مفيدان -في ص".
وبعد أن سردها قال ما نصه: "ألزموها كسر العين، والفتح جائز، وإن لم نسمعه" ا. هـ.. وكذلك ما جاء في "تاج العروس شرح القاموس، مادة: "حج" حيث نقل عن السابقين أن المصدر السماعي الدال على المرة للفعل: "حَجَّ" هو: "حِجَّة" -على وزن: "فِعلَة" بكسر، فسكون، ففتح -بالرغم من أن هذه الصيغة خاصة بالمصدر الدال على "الهيئة" فقط في غير هذا. ولكنها استعملت مصدرًا لهذا الفعل يدل على "المرة" فقط، ولا يدل على الهيئة مطلقًا. ثم قال بعد ذلك ما نصه الحرفي خاصًا بصيغة "المرة": قال الكسائي: كلام العرب كله على فعلت فَعْلَة -بفتح، فسكون، ففتح -في المرة؛ إلا حججت حِجة، ورأيت رِئية". ا. هـ. ثم أردف صاحب التاج هذا بقوله مباشرة ما نصه: "فتبين أن "الفعلة" للمرة تقال بالوجهين؛ الكسر على الشذوذ، ولا نظير له في كلامهم، والفتح على القياس" ا. هـ، فهو يبيح القياس وتطبيق القاعدة مع وجود السماع المخالف لها، الوارد عن العرب. ومعنى هذا أن ورود السماع لا يلغي القياس، ولا يمنع استخدام القاعدة المخالفة.
وكذلك جاء في القاموس مادة: "فسد" ما نصه: "لم يسمع انفسد" ا. هـ، فقال شارحه: "والقياس لا يأباه".
هذا، وكما ينطبق حكم السماع والقياس على المصادر المختلفة ينطبق على غيرها مما له سماع وقياس ... كجموع التكسير، وسيجيء في بابها بالجزء الرابع، وكالمشقات، وسواها ... ولا معنى لقصر هذا الحكم على نوع دون نوع يماثله، أو مسألة أخرى تشابهها. قال الصبان "ج4" في باب "جمع التكسير" تعليقًا على بيت ابن مالك الذي صدره:
"والزمه في نحو طويل ... "
وعلى كلام ابن حيان، ... ما نصه: "إذا سمع في جمع التكسير غير قياسه امتنع النطق بقياسه، وهذا أحد قولين في المصدر الوارد على خلاف قياسه، وهو نظير ما نحن فيه". ا. هـ. ويقول صاحب كتاب "القياس في اللغة العربية للخضر، ص41 ما نصه: "أما الألفاظ التي لم ترد إلا على الوجه المخالف للقياس؛ نحو: "عبيد" -تصغير عيد- فيقتصر فيها على ما ورد عن العرب، إلا أن يبدو لك أن تتعلق بمذهب من يجيز إجراء الألفاظ على مقتضى القياس زيادة على الوجه الثابت من طريق السماع"" أهم
وسيجيء -في ج4 أول باب: "جمع التكسير"- أن فريقًا من أئمة النحاة -في مقدمتهم الكسائي- زعيم المدرسة الكوفية -الذي أوضحنا منزلته في هامش ص189- يجيز استعمال السماع والقياس في الجموع، والمصادر، وغيرهما. فقد جاء في مقدمة: "القاموس المحيط"، في الأمر الخامس =(3/192)
أ- أوزان المصدر الأصلي؛ "وهو المصدر الحقيقي الذي يراد عند الإطلاق؛ أي: عند عدم التقييد ببيان نوع معين من أنواعه1:
المصدر الأصلي إما أن يكون لفعل ماضٍ ثلاثي، أو غير ثلاثي؛ علمًا بأن الفعل -ماضيًا وغير ماض- لا تتجاوز صيغته ستة أحرف. وأن الثلاثي لا بد أن يكون مفتوح الأول2. أما ثانية فقد يكون مفتوحًا، أو مضمومًا، أو مكسورًا، فأوزانه ثلاثة2 فقط؛ هي: فَعَلَ، فَعِلَ، فَعُلَ.
والأساس الأول في معرفة مصادر الثلاثي، وإدراك صيغها المختلفة إنما هو الاطلاع على النصوص اللغوية الفصيحة، وكثرة قراءتها، حتى يستطيع القارئ بالدربة والمرانة أن يهتدي إلى المصدر السماعي الصحيح الذي يريد الاهتداء إليه. أما الأوزان والصيغ القياسية الآتية فضوابط أغلبية صحيحة تفيد كثيرًا في الوصول إلى المصدر القياسي؛ فيكتفي به من شاء، ولكن الاطلاع والقراءة أقوى إفادة، وأهدى سبيلًا. وفيما يلي أوزان المصادر القياسية للفعل الثلاثي المتعدي واللازم:
1- إن كان الماضي ثلاثيًّا متعديًا غير دالٍّ على صناعة؛ فمصدره
__________
= من الأمور التي اختص بها "القاموس" ما نصه عند الكلام على ضبط المضارع: "السماع مقدم على القياس عند غير الكسائي. وأجاز الكسائي القياس مع السماع أيضًا -على ما قرر في الدواوين الصرفية" ا. هـ.
ويجب التنبيه إلى ما أوضحناه؛ وهو أن استعمال المصدر "المسموع" مقصور على فعله، دون باقي الأفعال؛ فلا يجوز صوغ مصدر قياسي لفعل آخر على وزان هذا المصدر المسموع، بخلاف المصدر القياسي فإن صياغته غير مقصورة على فعل واحد، بل هي عامة شاملة لكل فعل توافرت فيه الشروط، وأدخلته تحت العنوان العام الذي ينطبق عليه وعلى نظائره المصدر القياسي، وهذا الحكم عامٌّ في كل مسموع مخالف للقياس، وليس مقصورًا على المصادر المسموعة. فيجب قصر المسموع على نفسه وحده دون استنباط حكم عام منه يمتد إلى غيره.
"ملاحظة": من الألفاظ التي تتردد في النحو: المطرد، القياسي، القليل، النادر ... وبعض ألفاظ اصطلاحية أخرى؛ منها ما يفيد القياس، ومنها ما يمنعه. وتوضيح هذا كله مدون في الجزء الرابع، باب "جمع التكسير" ص585 م172.
1 إيضاح هذا في ص181 وما بعدها.
"2، 2" من النادر أن يكون غير ذلك؛ ومنه ساكن الوسط في مثل: نعم، بئس ...(3/193)
القياسي: "فَعْل"، نحو: أخذ أخْذًا، فتح فتْحًا، حمد حَمْدًا، سمع سمْعًا1.
فإن دل على صناعة فمصدره الغالب: "فعالة"، نحو: صاغ الخبير المعادن صياغة دقيقة -حاك العامل الثوب حياكة متقنة، ثم خاطه الصانع خياطة جميلة2.
ويلاحظ أن الثلاثي المعتدي لا يكون إلا مفتوح العين أو مكسورها. أما مضمومها فلا يكون إلا لازمًا، نحو: حسن، ظرف، شرف ...
2- وإن كان الماضي ثلاثيًّا، لازمًا، مكسور العين، غير دالٍّ على لون، أو على معالجة3، أو على معنى ثابت، فمصدره القياسي: "فَعَل" نحو: تعِب تَعَبًا، جزِع جَزَعًا، وجِع وَجَعًا، أسِف أَسَفًا.
فإن دل على لون، فالغالب في مصدره: "فُعْلَة"؛ نحو: سَمِر الفتى سُمرة، خضر الزرع خُضرة.
__________
1 سيجيء "في ج4 م184 ص607" أن الواو التي هي "فاء" الفعل الثلاثي، مفتوح العين في الماضي، مكسورها في المضارع؛ "مثل: وعد، يعد" يجب حذفها في المضارع والأمر، وكذا في المصدر، بشرط أن يصير هذا المصدر على وزن: "فِعْلَة" "بكسر، فسكون، ففتح" لغير الهيئة، ومختومًا بالتاء في آخره عوضًا عن هذه الواو المحذوفة؛ فيقال: وعد، يعد، عِدْ، عِدَة ... ولا تحذف الواو من المضارع إلا بشرط أن يكون حرف المضارعة "وهو الحرف الذي يبتدئ به المضارع" مفتوحًا، وأن تكون عين المضارع مكسورة.
ومن الأمثلة قول الشاعر:
متى وعدتك في ترك الهوى عِدَةً ... فاشهد على عِدَتي بالزور والكذبِ
وقول الناصح: لا تعِدْ عِدَة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنك المرتقى -وإن كان سهلًا- إذا كان المنحدر وعرًا. ولهذه المسألة تفصيلات وأحكام موضحة هناك.
2 وفيما سبق يقول ابن مالك:
"فَعْلٌ" قياس مصدر المعدَّى ... من ذي ثلاثة؛ كردَّ ردّا
3 وهي المحاولة الحسية، وبذل الجهد العملي الجسمي للوصول إلى غاية ما، واتخاذ الوسيلة للتغلب على صعوبتها.(3/194)
وإن دل على معالجة فمصدره: "فُعُول"؛ نحو: قدم قدومًا، صعد صعودًا، لصق لصوقًا.
وإن دل على معنى ثابت فقياسه: "فُعُولة"؛ نحو: يبس يبوسة1.
3- وإن كان الماضي الثلاثي لازمًا، مفتوح العين، صحيحها، غير دال على إباء وامتناع، ولا على اهتزاز وتنقل وحركة متقلبة، ولا على مرض، ولا سير، أو صوت، ولا على حرفة أو ولاية -فإنَّ مصدره القياسي: "فُعُول" نحو: قعد قعودًا، سجد سجودًا، ركع ركوعًا، خضع خضوعًا ...
فإن كان معتل العين فالغالب في مصدره أن يكون على: "فَعْل"، مثل: نام نومًا، صام صومًا. أو على "فِعَال"، نحو: صام صِيَامًا، قام قيامًا ... و ... فإن دل على إباء وامتناع فمصدره: "فِعَال" نحو: أبى إِبَاء، نفر نِفَارًا، شرد شِرَادًا، جمح جِمَاحًا.
وإن دل على تنقل وحركة متقلبة فيها اهتزاز فمصدره: "فَعَلان"؛ نحو: طاف طوفانًا، جال جولانًا2- غلى غليانًا.
وإن دل على مرض فمصدره: "فُعَال"، نحو: سعل سُعَالًا، رعف3 الأنف رُعَافًا.
وإن دل على نوع من السير فمصدره: "فَعِيل"، نحو: رحل رحيلًا، ذمل4 ذميلًا.
__________
1 وفي هذا النوع يقول بن مالك:
و"فَعِل اللازم بابه: "فَعَلْ" ... كفَرَح، وكجَوًى، وكشَلَلْ
تقول: فرِح المنتصر فرَحًا عظيمًا، وجوِي المحب جوًى، بمعنى اشتدت به حرقة لحب "وأصل جوًى: "جَوَيٌ"، على وزن: فَعَل ... تحركت الياء، وانفتح ما قبلها. فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان؛ الألف والتنوين؛ فحذفت الألف لالتقاء الساكنين؛ فصارت: جوًى ... " وشلل المريض شللًا، أصابه مرض الشلل. وهو المرض الذي يمنع الأعضاء عن الحركة.
2 أما المصدر "تَجوال" -بفتح التاء- فيجيء الكلام عليه في رقم 1 من هامش ص200 وبيان أن فعله هو: "جال" أو "تجول".
3 سال منه الدم.
4 مشى مشيًا فيه رفق ولين.(3/195)
وإن دل على نوع من الصوت فمصدره: "فَعِيل" و"فُعَال"؛ نحو: صرخ الطفل صريخًا وصراخًا، ونعب1 الغراب نعيبًا ونعابًا. وقد اشتهر "فعيل" مصدرًا لبعض الأفعال أكثر من "فعال"؛ مثل صهلت الخيل صهيلًا، أزت2 القدور أزيزًا.
"ويؤخذ مما سبق أن وزن: "فعال" يكون مصدرًا لما يدل على مرض أو صوت، وأن وزن "فعيل" يكون مصدرًا لما دل على سير أو صوت أيضًا".
وإن كان دالَّا على حرفة أو ولاية فمصدره: "فعالة": نحو: تجر تجارة، سفر سفارة، أمر إمارة، نقب نقابة3.
4- إن كان الماضي ثلاثيًّا، لازمًا، مضموم العين4 فمصدره: إما: "فَعَالة"، وإما "فُعُولة". فيكون "فعالة" إذا جاءت الصفة المشبهة منه على وزن "فعيل": نحو: ملُح فهو مليح، ظرُف فهو ظريف، شجُع فهو شجيع ... فالمصدر: ملاحة، ظرافة، شجاعة. ويكون: "فعولة" إذا جاءت الصفة المشبهة منه على: "فعْل"، نحو: سهُل فهو سهْل، عذُب فهو عذْب، صعُب فهو صعْب ... فالمصدر: سهولة، عذوبة5، صعوبة ... وهذا الضابط في الحالتين أغلبي منقوض بأمثلة أخرى، مثل: ضخُم فهو ضخْم، مع أن المصدر الشائع هو ضَخَامة. وملُح الطعام -أي: صار مِلحًا- ومصدره: المُلُوحة. مع أن الصفة المشبهة منه ليست على فعل ولا فعيل5.
تلك هي الأوزان القياسية للفعل الثلاثي بنوعيه؛ المعتدي واللازم؛ وهي أوزان أغلبية. وقد يرد في الكلام المأثور ما يخالفها، فيجب قبوله على اعتباره مسموعًا يصح استعماله -بنصه- مصدرًا لفعله الخاص به، دون استخدام
__________
1 صاح.
2 ارتفع لها صوت من شدة الغليان.
3 بمعنى: رأس رياسة، أي: صار رئيسًا.
4 أشرنا في ص194 إلى أن الثلاثي، مضموم العين، لا بد أن يكون لازمًا.
"5، 5" راجع الخضري في هذا الموضع.(3/196)
صيغته ووزنها في أفعال أخرى، أو القياس عليها في فعْل غير فعله. وهذا الوزن السماعي لا يمنع استعمال الصيغة القياسية؛ كما أوضحنا أول الباب1. ومن أمثلة السماعي: سخط سُخْطًا، ذهب ذَهَابًا، شكر شُكْرًا، عظم عَظَمَة ... وغير هذا كثير؛ جعل النحاة يقررون ما سبق من أن أوزان المصادر القياسية للماضي الثلاثي، أوزان جارية على الأغلب، ولا تفيد الحصر؛ لوجود كثير سماعي غيرها2؛ حتى قيل إنها لا تكاد تنضبط3، واقتصر بعض النحاة على سرد تسٍع وتسعين صيغة تخالف كل واحدة منها القياس
__________
1 في ص191 عند الكلام على: "ثانيهما".
2 انظر "الملاحظة" التي في هامش ص193.
3 وفي مصادر الثلاثي اللازم مفتوح العين يقول ابن مالك:
و"فَعَلَ" اللازم مثل: قعدا ... له "فُعُول" باطراد كَغَدَا
ما لم يكن مستوجبًا "فِعالًا" ... أو: "فَعَلان" فادْرِ، أو "فُعالا"
أي: أن مصدر "فعل" اللازم، مفتوح العين، هو: "فُعول" باطراد؛ كغدا غدوًّا؛ "بمعنى ذهب في وقت الغدوة، وهي أول النهار" وهذا يكون في الحالة التي لا ستوجب فيها الفعل مصدرًا آخر على وزن: "فعال" أو: "فعلان" أو "فعال" وقد بين في البيتين التاليين هذه الحالة بقوله:
فأولٌ لذي امتناعٍ كأبى ... والثانِ للذي اقتضى تقلبا
يريد: أن الوزن الأول وهو "فعال" يكون مصدرًا لكل فعل دل على امتناع، نحو: أبى إباء، وأن الوزن الثاني؛ "فعلان" يكون مصدرًا لكل فعل دل على حركة وتقلب واضطراب. مثل جال جولانًا، طاف طوفانًا. أما الوزن الثالث وهو: "فُعال" فقد بيَّن فعله بقوله:
للدَّا "فُعَال"، أو: لصوت وشملْ ... صوتًا وسيرًا: "الفعيل"، كصهلْ
"للدا: أي: للداء والمرض" ففعله يدل على داء ومرض؛ نحو: سعل سعالا، أو يدل على صوت، نحو: نعب، نعيبًا، وقد يستعمل "الفعيل" مصدرًا للفعل الدال على الصوت أو على السير، نحو صهل الحصان صهيلًا، رحل الغريب رحيلًا. ثم بين أن ما جاء مخالفًا لأنواع المصادر القياسي فأمره مقصور على النقل، أي على السماع. يقول:
وما أتى مخالفًا لما مضَى ... فبابه النقل؛ كسُخْط، ورِضَا
لأن فعلهما ثلاثي مكسور العين، فإن كان متعديًا فقياس مصدره: "فعل" كما عرفنا. فيقال فيهما سَخْط، ورَضْي، وإن كان لازمًا فقياس مصدره، فعل، كفرح، وغضب ... فجاء السماع فيهما مخالفًا للقياس في الحالتين. ثم أشار إلى مصدر الثلاثي مضموم العين "وهو لازم حتمًا، كما سبق، في ص194 وفي رقم 4 من هامش ص196".
"فعولة" "فعالة" لفعُلا ... كسهل الأمر وزيد جزلًا
يريد: أن لهذا الفعل اللازم، مضموم العين، مصدران، هما "فعولة"؛ مثل: سهل الأمر سهولة ... و"فعالة" نحو: جزل جزالة، بمعنى جاد وأعطى، أو بمعنى: عظم ...(3/197)
الخاص بمصدر فعلها" ... 1 أما المصادر القياسية لغير الثلاثي فمضبوطة محصورة -غالبًا- وقل أن تخرج على الضوابط والحدود الموضوعة لها. كما سنرى.
"ملاحظة": وردت ألفاظ سماعية، كل واحد منها يؤدي معنى المصدر ولكن بصيغة اسم المفعول من الثلاثي، فهي في حقيقة أمرها مصادر سماعية من جهة المعنى، جاءت ألفاظها على وزن: "مفعول"؛ منها: معقول، مجلود "في قولهم: فلان لا معقول له ولا مجلود له؛ أي: لا عقل له ولا جلد ... " مفتون2، ميسور3، معسور4. وكل ما سبق مقصور على السماع. ويرى سيبويه: أن تلك الألفاظ، ونظائرها ليست مصادر في المعنى، وأن كل واحد منها هو اسم مفعول في صيغته وفي معناه؛ فيجب عند تأويل الكلام الذي يحويه تأويلًا يساير اسم المفعول في المبنى والمعنى، دون التفات إلى المصدر5.
مصادر الماضي غير الثلاثي:
1- إن كان رباعيًّا على وزن: "فعَّل"6 مضاعف العين، صحيح اللام "أي: صحيح الآخر" غير مهموزها، فمصدره القياسي: "تفعيل" مثل: قوَّم تقويمًا، وقصَّر تقصيرًا؛ في قولهم: من قوَّم نفسه بنفسه أدرك بالتقويم ما يبتغي، ومن قصَّر في إصلاح عيبه قعد به تقصيره عن بلوغ الغاية.
وقد يكون على وزن: "فِعَّال" كقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} ،
__________
1 راجع شرح التصريح في هذا المكان.
2 فتنة، "خبرة".
3 يُسْر "سهْل".
4 عُمْر.
5 لما سبق إشارة في " " ص272 من باب: اسم المفعول.
6 الأكثر في هذه الصيغة أن تكون للتكثير والمبالغة -قياسًا- كما سيجيء في الصفحة التالية، وكما سجله المجمع اللغوي القاهري فيها -وفي "التفعال" القياسية أيضًا على الوجه المبين بعد.(3/198)
وقد يكون على "فِعَال" بتخفيف العين؛ كقراءة من قرأ: "وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَابًا".
فإن كان معتل اللام فمصدره "التفعيل" أيضًا، ويجب حذف ياء "التفعيل" والاستغناء عنها بزيادة تاء التأنيث في آخر المصدر، وزيادتها في هذه الصورة لازمة، فيصير: "تفعلة"؛ نحو: رضَّى ترضية، وزكَّى تزكية، وورَّى تورية، مثل: "رضَّى الأخ البار أخاه ترضية كريمة، وزكَّاه تزكية صادقة، وحين رأى منه بادرة إساءة ورَّى1 تورية تمنعه من التمادي".
وأصل الأفعال: من غير التضعيف: رَضِيَ، زَكَا، وَرِيَ، فهي معتلة اللام ومصادرها مع التضعيف من غير حذف وتعويض هي: ترضِّيًا، تزكِّيًا، تورِّيًا ... فحذفت الياء الأولى التي هي "ياء التفعيل" وعوض عنها -وجوبًا- تاء التأنيث في آخر المصدر؛ فصار: ترضية. تزكية. تورية ... كما عرفنا. ومن الشاذ عدم الحذف. أو عدم التعويض.
وإن كان مهموز اللام2 فمصدره "التفعيل"، أو "التفعلة" -وهذه هي الأكثر- نحو: برأ تبريئًا وتبرئة، وجزأ تجزيئًا وتجزئة، وهنأ تهنيئًا وتهنئة، وخطأ تخطيئًا وتخطئة3.
"ملاحظة": مذهب البصريين أن "التَفعال" -بفتح التاء وإسكان الفاء- مثل4: تذكار، بمعنى: التذكر، هو مصدر: "فَعَل" "المفتوح
__________
1 دفع، أو أشار.
2 أي: أن الحرف الأخير من أصول الكلمة همزة؛ نحو: برأ، خبأ، هَنِئَ.
3 يجوز في الكلمات: تبريئًا، تجزيئًا، تهنيئًا، تخطيئًا، وما شبابههما أن يقال فيها تبرِّيًا، تجزِّيًا، تهنِّيًا، تخطِّيًا ... فقد جاء على هامش القاموس في مادة: "خطأ" عند الكلام على "خطية" ما نصه الحرفي:
"عبارة الجوهري: "خطيئة" هي "فعيلة"، ولك أن تشدد الياء، -يريد أنك تقول: "خطية" بقلب الهمزة ياء ثم تدغم الياءين؛ لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة، أو واو ساكنة قبلها ضمة، وهما زائدتان للمد لا للإلحاق، ولا هما من نفس الكلمة فإنها تقلب الهمزة بعد الواو واوًا، وبعد الياء ياء، وتدغم. فتقول في مقروء: مقروّ، وفي خبئ: خبي" ا. هـ.
3 ومن الأمثلة أيضًا: "تطيار" مصدر بمعنى: "طيران" في قول عمرو السدوسي:
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارًا يقال له قع
و"تعقاد" مصدر بمعنى: "العقد" في قول المرقش السدوسي:
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائمْ
جاء في كتاب الامتناع والمؤانسة "لأبي حيان التوحيدي -ج2 ص2 الليلة السابعة عشرة" بيان لكلمة "تذكار" وأنها مصدر له نظائر على وزنه.(3/199)
الأول والثاني بغير تشديد الثاني" -وجيء بالمصدر على ذلك الوزن للتكثير. وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: إنه مصدر: "فعَّل" -مفتوح العين المشددة- ورجحه ابن مالك وغيره؛ لكون هذا المصدر للتكثير، و"فعل" المضعف العين للتكثير أيضًا، ولكونه نظير "التفعيل" في الحركات، والسكنات، والزوائد؛ ومواقعها1.
وأسماعي هو أم قياسي؟ قولان؛ أظهرهما أنه قياسي2. أما "التِفعال" بكسر التاء، كالتبيان والتلقاء فليس بمصدر، بل بمنزلة اسم المصدر3.
وإن كان الماضي رباعيًّا على وزن: "أفعل" صحيح العين فمصدره على "إفعال" نحو: أجمل الخطيب القول إجمالًا محمودًا، وأحسن الإلقاء إحسانًا بارعًا. فإن كان معتل العين نقلت في المصدر حركة عينه إلى فاء الكلمة، وحذفت العين، وعوض عنها -غالبًا- تاء التأنيث في آخره، نحو: أقام إقامة. أبان إبانة. أعان إعانة ... والأصل: إقوام. إبيان. إعوان. فعين المصدر حرف علة متحرك بالفتح وقبله حرف صحيح ساكن؛ فنقلت حركة حرف العلة "العين" إلى الساكن الصحيح قبله؛ "تطبيقًا للأساليب العربية وضوابطها". وحذف حرف العلة الأول للتخلص من التقاء الساكنين؛ فصار
__________
1 من الأمثلة أيضًا: تَجوال وتَطواف -بفتح التاء فيهما- وقد عرض لهما الصبان "ج3 باب: "مالا ينصرف" في آخر الكلام على صيغة منتهى الجموع" وسجل ما نصه: "إنهما مصدران لجال وطاف. وقيل: لتجوَّل وتطوَّف" ا. هـ.
2 أخذ مجمع اللغة العربية القاهري بهذا الأظهر بعد دراسة وافية، ورجوع لآراء المتقدمين ومنها: "ما قاله صاحب التسهيل، ونصه: "قد يغني في التكثير عن "التفعيل" "تفعال"، فقال شارحه ابن أم قاسم ما نصه: "ظاهر كلام النحويين أنه مقيس، وقد نص بعضهم على أنه مقيس" ا. هـ. راجع ص257 الجلسة السابعة من محاضر الدورة العاشرة.
3 ما سبق منقول عن الصبان في هذا الوضع. لكن ما المراد مما هو بمنزلة اسم المصدر؟
لعله يريد: أنه اسم مصدر "وسيجيء الكلام عليه في ص207" والمراجع اللغوية -كالقاموس وشرحه- مختلفة في الحكم على هاتين الكلمتين؛ فقيل: إنهما مصدران على الشذوذ -بسبب كسر التاء- وقيل: اسما مصدر؛ وقيل ... غير ذلك ...(3/200)
اللفظ: إقام، إبان، إعان، ثم زيدت تاء التأنيث في آخره؛ عوضا عن المحذوف؛ فصار المصدر: إقامة، إبانة، إعانة ... ومن الجائز ألا تزاد هذه التاء. ولكن الغالب زيادتها، كما سبق.
وإن كان رباعيًّا مجردًا على وزن "فعلل" فمصدره الغالب: "فعللة". وقد يكون على "فعلال"1 مع قلته، نحو: دحرجت الكرة دحرجة ودحراجًا، سرهفت2 الصبي، سرهفة وسرهافًا. بهرج3 المنافق حديثه بهرجة، وبهراجًا1.
ومثله الماضي الرباعي الذي على وزان: "فوعل" و"فيعل" فإن مصدرهما القياسي الغالب: "فعللة" -وهذه أكثر، و"فعلال"؛ نحو: حوقل4 حوقلة وحيقالا، وبيطر5 بيطرة وبيطارًا.
وإن كان رباعيًّا على وزن: "فاعل" غير معتل الفاء بالياء -فمصدره "فِعَال" و"مفاعلة"، نحو: خاصمت الباغي مخاصمة، أو: خصامًا. صارعت الطاغية مصارعة، أو: صراعًا ... فارقت أهل السوء مفارقة، أو: فراقًا ... و"المفاعلة" أكثر وأعم اطَّرادًا6.
فإن كان رباعيًّا معتل الفاء بالياء فمصدره "المفاعلة"، نحو: يامَنْتُ ميامنة، وياسَرْتُ مياسرة، "أي: ذهبت جهة اليمين، وجهة اليسار".
__________
"1، 1" إذا كان "فعلال" مصدرًا مضاعفًا؛ كالزلزال، والوسواس، ونحوهما -جاز فتح أوله وكسره. وقد يراد -كثيرًا- بالمفتوح اسم الفاعل في المعنى؛ نحو: أعوذ بالله من شر الوسواس. يكره الناس الصلصال المزعج برنينه، والوعواع الصاخب بنباحه ... والمراد: الموسوس - المصلصل؛ بمعنى: الرنان - الموعوع، بمعنى النابح. "وعوع الكلب، نبح". وكل هذا قياسي.
2 أحسنت غذاءه.
3 أتي فيه بالزائف والباطل.
4 قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
5 عالج الخيل والدواب، وما ليس بإنسان من أنواع الحيوان.
6 ومن أمثلتها المسموعة أيضًا: "متاركة" في قول شاعرهم:
متاركة اللئيم بلا جواب ... أشد على اللئيم من الجواب(3/201)
2- وإن كان خماسيًّا، على وزن: "تفعل" فمصدره "تفعل" نحو: تعلَّم الراغب تعلمًا، ثم تخرَّج تخرجًا، وتدرَّب تدربًا ...
وإن كان خماسيًّا مبدوءًا بهمزة وصل على وزن: "انفعل" فمصدره "انفعال"، "والوصول إليه يكون بكسر ثالث الفعل، وزيادة "ألف" قبل الحرف الأخير" نحو: انشرح صدري انشراحًا عظيمًا حين رأيت عدونا ينهزم انهزامًا ساحقًا.
وإن كان خماسيًّا مبدوءًا بهمزة وصل، على وزن: "افتعل" فمصدره: افتعال، "والوصول إليه يكون بكسر الثالث من الفعل، وزيادة "ألف" قبل الحرف الأخير" نحو: إذا اقتصد الفقير بلغ باقتصاده الغنى. من اعتمد على نفسه كان خليقًا أن يدرك باعتماده ما يريد.
وإن كان خماسيًّا على وزن "تفعلَلَ" فإن مصدره يكون على وزن: "تفعلُل"، بضم الحرف الرابع؛ نحو: تدحرَج الحجر تدحرُجا.
3- وإن كان سداسيًّا مبدوءًا بهمزة وصل، على وزن: "استفعل" وليس معتل العين فمصدره: "استفعال"، "والوصول إليه يكون بكسر الحرف الثالث من الفعل، وزيادة "ألف" قبل حرفه الأخير"؛ نحو: استحسان، واستقباح ... وأشباههما، مثل: إني أستحسن قراءة الأدب الرفيع استحسانًا لا يعادله إلا سماع الأغاني العالية الشجية، وأستقبح تافه الكتب استقباحًا لا يعادله إلا الأغاني الماجنة الخليعة.
فإن كان على وزن "استفعل" مع اعتلال عينه، نقلت في المصدر حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبلها، وحذفت العين، وجاءت تاء التأنيث في آخره؛ عوضًا عنها وهو عوض لازم، نحو: استعاد المريض قوته استعادة، والأصل: استعوادًا، جرى فيها ما أسلفنا.(3/202)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ضم الحرف الرابع في الفعل الخماسي المبدوء بتاء زائدة للوصول إلى مصدره، ليس مقصورًا على "تفعلَل" وإنما يجري عليه وعلى ما يماثله، من كل فعل مبدوء بتاء زائدة، وعدد حروفه، وحركاتها، وسكناتها -يماثل "تفعلَل" من غير تقيد بنوع الحركات والسكنات؛ فليس من اللازم أن يكونا على وزن صرفي واحد؛ إنما اللازم أن يقابل المتحرك متحركًا، والساكن ساكنًا، وهذا الضابط يشمل عشرة أوزان غالبة:
1- تفعَّل؛ مثل: تجمَّل تجمُّلًا.
2- تفاعَلَ؛ مثل: تغافَل تغافُلًا.
3- تفعلَل؛ مثل: تلملَم تلملُمًا.
4- تفعْيَل؛ مثل: تبيْطَر تبيْطُرًا.
5- تمفْعَلَ؛ مثل: تمسْكَن تمسْكُنًا.
6- تفوْعَل؛ مثل: تجوْرَب تجوْرُبًا.
7- تفعْنَل؛ مثل: تقلْنَس تقلْنُسًا.
8- تفعْوَل؛ مثل: ترهْوَك ترهْوُكًا1.
9- تفعْلَتَ؛ مثل: تعفْرَت تعفْرُتا.
10- تَفَعْلَى؛ مثل: تَسَلْقَى تسلْقِيًا2. لكن تقلب الضمة هنا قبل الياء كسرة.
__________
1 ماج واضطراب في مشيه.
2 أي: استلقى على ظهره.(3/203)
تلك هي أشهر المصادر القياسية للفعل الماضي الرباعي، والخماسي، والسداسي1.
وهي على ضبطها واطرادها لم تسلم من مصادر مسموعة تخالفها، نحو:
__________
1 لبعض المعاصرين تلخيص موجز للمصادر المختلفة، سلك فيه مسلكًا غير الذي جرت عليه المطولات. ومسلكه حميد، وتلخيصه -على إيجازه- نافع مفيد؛ قال ما نصه في مصادر الثلاثي الكثيرة: إن الغالب:
أ- فيما دل على حرفة أن يكون على وزن: "فعالة"؛ كزراعة، وتجارة، وحياكة.
ب- وفيما دل على امتناع أن يكون على وزن: "فعال"؛ كإباء، وشراد، وجماح.
ج- وفيما دل على اضطراب أن يكون على وزن: "فَعَلان"؛ كغليان، وجولان.
د- وفيما دل على داء أن يكون على وزن: "فُعَال"؛ كصداع، وزكام، ودوار.
هـ- وفيما دل على سير أن يكون على وزن: "فَعِيل"، كرحيل، وذميل، ورسيم. "والأخيران نوعان من السير".
و وفيما دل على صوت أن يكون على وزن: "فُعَال" أو: "فَعِيل"؛ كصراخ، وزئير.
ز- وفيما دل على لون أن يكون على وزن "فُعْلة"؛ كحمرة، وزرقة، وخضرة.
فإن لم يدل على شيء مما سبق فالغالب:
أ- في: "فَعُل" أن يكون مصدره على: "فُعُولة" أو "فَعَالة"؛ كسهولة، ونباهة.
ب- وفي: فَعِل اللازم أن يكون مصدره على: "فَعَل؛ كفرح، وعطش.
ج- وفي: فَعَل اللازم أن يكون مصدره على: "فُعُول" كقعود، وخروج، ونهوض.
د- وفي المعتدي من "فَعِل" و"فَعَل" أن يكون مصدره على: "فَعْل"؛ كفهم، ونصر.
وأما الفعل الرباعي:
أ- فإن كان على وزن: "أفْعَل" فمصدره على "إفعْال"، كأكرم إكرامًا.
ب- وإن كان على وزن: "فعَّل" فمصدره "تفعيل"؛ كقدَّم تقديمًا.
ج- وإن كان على وزن "فاعَل" فمصدره على "فِعَال" أو: "مُفاعلة" كقاتل قِتالًا ومقاتلة.
د- وإن كان على وزن "فَعْلَلَ" فمصدره على "فَعْللة" كدحرَج دحرَجَة، ويجيء على وزن "فِعْلال" أيضًا إن كان مضاعفًا؛ كوسوس وَسوسة، ووُسواسًا.
وأما الخماسي والسداسي فالمصدر منهما يكون على وزن ماضيه، مع كسر ثالثه، وزيادة ألف قبل آخره إن كان مبدوءًا بهمزة وصل، كانطلق انطلاقًا، واستخرج استخراجًا. ومع ضم ما قبل آخره فقط إن كان مبدوءًا بتاء زائدة؛ كتقدم تقديمًا- وتدحرج تدحرجًا. ثم قال:
"تنبيه": الفعل إذا كانت عينه ألفًا تحذف منه ألف الإفعال والاستفعال، ويعوض عنها تاء في الآخر؛ كأقام إقامة، واستقام استقامة. وإذا كانت لامه "ألفًا" ففي: "فعَّل" تحذف ياء التفعيل، ويُعَوض عنها تاء أيضًا؛ كزكَّى تزكية. وفي "تفعل"، و"تفاعل" تقلب الألف ياء، ويكسر ما قبلها، كتأنَّى تأنيًا، وتغاضى تغاضيًا، وفي غير ذلك تقلب همزةً إن سبقتها "ألف" كألقى إلقاء، ووالى ولاء، وانطوى انطواء، واقتدى اقتداء، وارعوى ارعواء، واستولى استيلاء، واحلولى احليلاء. ا. هـ.(3/204)
حوقل الطائع حيقالا1. تنزى2 سرير الطفل تنزيا. تملق المنافق تملاقًا ... و.... والقياس: حوقلة. تنزية. تملقا3 ...
__________
1 سبق في ص201 الحكم بقلة المصدر: "حيقال" دون المصدر: "حوقلة"، -وكلاهما قياسي.
2 تحرك.
3 وفي بيان المصادر القياسية لغير الثلاثي يقول ابن مالك في مصدر الرباعي الذي على وزن "فعَّل"، والرباعي الذي على وزن: "أفعَلَ"، والخماسي الذي على وزن: "تَفَعَّل":
وغير ذي ثلاثة مقيسُ ... مصدره كقُدِّس التقديسُ
وزكِّه تزكية، وأجمِلًا ... إجْمال من تَجمُّلا تَجمَّلًا
يريد: أن "فعَّل" صحيح اللام مصدره "التفعيل"، مثل: قُدِّس التقديس. ومعتل اللام مصدره: "تفْعِلة"، نحو: زكى تزكية، أما: "أفْعَل" فمصدره: "إفْعَال"؛ نحو: أَجْمل إجمالًا.
وأما "تفعَّل" فمصدره: "التفعُّل" نحو: التجمُّل. وإليها أشار بقوله: إجمال من "تجمُّلا تجمَّلًا" أي: أجْمِلا إجمال من تَجمَّل تجمُّلًا. ثم أشار إلى الرباعي المعتل العين والسداسي المعتل العين كذلك فبين أن عينهما تحذف، ويعوض عنها -غالبًا- التاء، قال:
واستعذ استعاذة، ثم أقمْ ... إقامة وغالبًا -ذا- التا لزمْ:
أي: وغالبًا أن هذا النوع يكن مختومًا بالتاء. والمراد من "استعاذ" السداسي معتل العين، ومن "أقام": الرباعي كذلك. وذكر مصدر الخماسي والسداسي المبدوء بهمزة وصل، وأنه يكون بفتح الحرف الذي قبل آخره ومده، فينشأ من مده ألف زائدة مع كسر الحرف الذي يلي الحرف الثاني. يريد: مع كسر الحرف الثالث:
وما يلي الآخر مد وافتحا ... مع كسر تلو الثان مما افتتحا:
بهمز وصل، كاصطفى. وضم ما ... يربع في أمثال قد تلملمًا
أي: ما يليه الآخر "ويقع بعده الحرف الأخير" مده، وافتحه، واكسر الحرف الذي يتلو الثاني من فعل خماسي أو سداسي، مبدوء بهمزة وصل، فينشأ من هذا كله المصدر القياسي؛ نحو اصطفى العاقل إخواته اصطفاء، واستهوى أفئدتهم بكريم خلقه استهواء.
وأشار إلى أن مصدر الخماسي الذي على وزن: "تَفَعْلَل" مثل: "تلملم" يكون بضم ما يربع فعله، أي: بضم ما يكون رابعًا، فينشأ المصدر المطلوب وهو: "تلملم". ثم بين أن "فعْلَلَة" هي المصدر القياسي للفعل: "فَعْلَلَ"، وقد يكون مصدره قليلًا "فعِلْال". يقول:
"فِعْلَالٌ" أو "فَعْلَلَةٌ" لـ"فَعْلَلَا" ... وَاجْعَلْ مَقِيسًا ثَانيًا، لَا أَولًا
ثم عرض لمصدر "فاعل" فقال إنه: "الفِعَال" و"المفاعلة"، وصرح بأن ما جاء مخالفًا للمقيس =(3/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= من المصادر السالفة كلها، مقصور على السماع، لا يقاس عليه، ونص تصريحه:
لِفَاعَل الفِعَالُ والمُفَاعَلَهْ ... وَغَيْرُ مَا مَرّ السّمَاعُ عَادَلَهْ
أي: ساواه.
ثم ختم ابن مالك الباب ببيتين في بيان الوزن الذي يصاغ عليه المصدر الدال على "المرة والهيئة" -وسيجيء شرحهما في مكانهما المناسب من ص230- هما:
و"فَعْلَةٌ" لِمَرَّةٍ كَجَلْسَةْ ... وَ"فِعْلَةٌ" لِهَيْئَةٍ كَجِلْسَةْ
في غَيْرِ ذِي الثَّلَاثِ بِـ"التَّا" المَرَّهْ ... وَشَذَّ فيه هَيْئَةٌ؛ كالْخِمْرَهْ(3/206)
المسألة 99:
إعمال المصدر، واسمه 1:
__________
1 عرفنا في ص181، 193 -أن المصدر إذا أطلق كان المراد الصريح الأصلي دون المؤول وغيره من المصادر الميمية والصناعية، وأوجزنا القول عن المصدر واسمه في "جـ2 ص174 م75" لمناسبة هناك تتصل بالمفعول المطلق؛ ووعدنا أن نوفيهما في هذا الجزء.
فأما صيغ المصدر القياسية والسماعية؛ وطريقة صياغة القياسي منها، وأوزانها وكل ما يتصل بذلك -فله باب خاص أعده النحاة لذلك، بعنوان: "باب أبنية المصادر"- وقد سبق في ص181 م98- وأما تعريفه وإعماله وأحكماه فنعود الآن لبسط الكلام عليها. "ويلاحظ أن "اسم المصدر" مقصور على السماع".
أ- فالمصدر الصريح الأصلي: "أي: غير المؤول، وغير الميمي، والصناعي، كما قدمنا في ص181، وأشرنا إليه هنا" هو: "الاسم الذي يدل -في الغالب- على الحدث المجرد، ويشتمل على كل الحروف الأصلية والزائدة التي يشتمل عليها الفعل الماضي المأخوذ منه. وقد يشتمل هذا المصدر على أكثر منها دون أن يشتمل على الميم الزائدة في أوله، وهي التي يبتدئ بها "المصدر الميمي"، ودون أن يختم بالياء المشددة تليها تاء التأنيث "وهما الذان يختم بهما المصدر الصناعي".
وهذا التعريف -وهو بمعنى التعريف الذي سبق في ص181- يتضمن أمرين معًا أحدهما: يتعلق بدلالته المعنوية، والآخر: يتعلق بصيغته اللفظية. فأما من ناحية دلالته المعنوية فإنه يدل في الغالب على مجرد الحدث؛ أي: يدل على أمر معنوي محض، لا صلة له بزمان، ولا بمكان، ولا بذات، ولا بعلمية، ولا بتذكير، أو تأنيث، ولا بإفراد، أو تثنية، أو جمع أو غيره -إلا إن كان دالًّا على "مرة، أو هيئة" -كما سيجيء في ص225.
وأما من ناحية تكوينه اللفظي فلا بد أن يكون جامدًا مشتملًا على جميع حروف فعله الماضي، أو على أكثر منها -كما سبق وكما تجيء أمثلتها- ولا يمكن أن ينقص عنه في الحروف؛ خذ مثلًا المصدر: "تحسُّن" فإنه يدل على أمر عقلي محض، ندركه بعقولنا، ولا نستطيع أن نحسه بحاسة من حواسنا؛ إذ لا وجود لشيء في خارج عقولنا يقال له تحسن يمكننا أن نراه، أو نلمسه، أو نسمعه، أو نذوقه، أو نشمه؛ فليس له وجود مادي تقع عليه إحدى الحواس؛ وإنما وجوده محصور في الذهن وحده، وهذا معنى كونه حدثًا مجردًا أو أمرًا معنويًا محضًا، أو نحو هذا من الأسماء. ثم إن هذا اللفظ الجامد "هو: تحسن" لا يدل على زمن مطلقًا "ماضٍ أو حال أو مستقبل"، ولا يدل كذلك على مكان، ولا ذات "وهي: الجسم، أو: المادة المجسدة"، وليس علمًا على شيء خاص معين، يدل عليه كما يدل العلم على صاحبه، فكل أمره مقصور على الدلالة المعنوية السابقة. وهو إلى ذلك مشتمل على جميع حروف فعله الماضي: تحسَّنَ، ومن أجل هذا كله يسمى: "مصدرًا" لانطباق التعريف عليه.
بخلاف المصدر المؤول؛ فإنه يدل على زمن، وغيره -كما سبق في جـ1 ص302 م29- ومما يزيد الأمر وضوحًا ما يأتي:(3/207)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 حين نقول: "تَحسَّنَ" أو "يتحسن" أو: "تحسنْ" نجد أن كل كلمة مستقلة من هذه الكلمات لا بد أن تدل على أمرين معًا؛ هما: المعنى المحض السالف "أي: الحدث المجرد" والزمان "ماضيًا، أو حالًا، أو مستقبلًا ... و......" ولا يمكن أن تؤدي أمرًا واحدًا دون الآخر؛ ولذلك لا تسمى: "مصدرًا" وإنما تسمى: "فعلًا"، فالمصدر الصريح -غير الدال على المرة أو الهيئة- يؤدي شيئًَا واحدًا من شيئين يؤديهما الفعل، وهذا الشيء الواحد هو ما سوى الزمان. وفيه يقول ابن مالك في بيت سبق شرحه "في باب المفعول المطلق جـ2 ص155 م74":
المصدر اسم ما سوى الزمان منْ ... مدولي الفعل؛ في كأمْنٍ من أمِنْ
2 وأننا حين نقول "متحسن" نفهم من هذه الكلمة -دون الاستعانة بغيرها- أمرين معًا؛ وهما: المعنى المحض "أي: الحدث المجرد" الذي أوضحناه، و"الذات" أي: المادة المجسدة المجمدة، أو: "الجسم" الذي يتصف بالتحسن، فلا بد من المعنى والذات معًا، ولهذا لا تصلح كلمة "متحسن" لأن تسمى: "مصدرًا" ولا فعلًا، وإنما تسمى: اسم فاعل "وسيجيء الكلام عليه في ص238.
3 وفي مثل: أعطيت المحتاج عطاء يكفيه، نجد كلمة: "عطاو" تدل على معنى مجرد محض، ولا تدل معه على شيء آخر. ولكنها لا تشتمل على جميع الحروف التي في فعلها المذكور في جملتها؛ إذ الهمزة الأولى غير موجودة لفظًا ولا تقديرًا، ومن هنا لا نستطيع أن نسمي كلمة: "عطاء" مصدرًا للفعل الماضي: "أعطى" وإنما نسميها: "اسم مصدر"؛ وسنعرفه هنا. ومثلها: كلمة "سلام" و"عون" في نحو: سلمت على اللاجئ سلام الأخ، وعاونته عون الشقيق؛ فإن كل واحدة منهما لا تصلح مصدرًا للفعل المذكور معها "برغم أنها تصلح لغيره" لأن حروفها خالية لفظًا وتقديرًا من بعض حروف فعلها، فكلمة: "سلام" تشتل على "لام" واحدة مع أن فعلها المذكور في جملته مشتمل على لام مشددة تعد لامين. وكلمة: "عون" خلية من الألف التي في فعلها المذكور معها، فكلاهما ليس مصدرًا، وإنما يسمى: "اسم مصدر" -وسيجيء في الصفحة الآتية إيضاحه، وأنه سماعي.
4 وفي مثل: دهن وكحل "بضم أولهما" من كل ما يشتمل على حروف فعله ولكنه ذات لا نسميه مصدرًا.
5- وفي مثل: برة؛ بمعنى: البر، وسبحان بمعنى: التسبيح، وحماد، بمعنى: الحمد -نجد هذه الكلمات وأشباهها، تدل على الحدث المجرد، ولا تدل معه على ذات، ولا زمان، ولا غيره، ولكننا لا نستطيع أن نسميها "مصادر؛ لأن كل واحدة منها صارت علم جنس"، يدل على المعنى الخاص به؛ فكلمة: "برة" جنس على "المبرة" بمعنى: البر، و"سبحان" علم جنس على: "التسبيح"، و"حماد" علم جنس على: الحمد؛ فهي ونظائرها أسماء مصادر "سبق الكلام عليها =(3/208)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= في الجزء الأول ص209 م22 في علم الجنس".
وقد قلنا إن المصدر لا بد أن يشتمل على كل حروف فعله الماضي، أو على أكثر منها. والمراد اشتماله عليها لفظًا أو تقديرًا. فاللفظي أن تكون جميع الحروف موجودة منطوقًا بها؛ نحو: أخذت أخذًا. تعلم الصبي تعلمًا، والتقديري: أن يكون الحرف محذوفًا قد عوض عنه حرف آخر، كمجيء تاء التأنيث في آخر المصدر عوضًا عن واو الفعل، في مثل وعد، عِدَةً، وكالتاء أيضًا حين تكون في أوله عوضًا، مثل سلم تسليمًا، وعلم تعليمًا؛ فإن إحدى اللامين حذفت من المصدر وجاءت في أوله التاء عوضًا. أو يكون الحرف محذوفًا للتخفيف وكثرة الاستعمال، مع ظهوره أحيانًا في بعض اللهجات واللغات؛ مثل: ضارب ضرابًا. قاتل قتالًا ... والأصل: ضيرابًا وقيتالًا؛ فقلبت الألف ياء لوقوعها بعد الكسرة، ثم حذفت تخفيفًا، ومن العرب من كان يظهرها.
ومثال اشتمال المصدر على حروف أكثر من حروف فعله الماضي: إكرام، وإجمال -وأشباهمها؛ فإنهما مصدران للفعلين: "أكرم، وأجمل" وقد زيد في وسط كل مصدر منها الألف. ومثل: "فرقان" مصدر "فَرَق" فقد زيد في وسطه الألف. ومثل الألف التاء في كلمة: "معاونة" مصدر: عاون.
ب- وأما اسم المصدر "وهو مقصور على السماع" فقالوا في تعريفه: "إنه ما ساوى المصدر في الدلالة على معناه، وخالفه بخلوه لفظًا وتقديرًا من بعض حروف عامله -الفعل، أو غيره- دون تعويض". وذلك كعطاء؛ فإنه مساوٍ لإعطاء في المعنى، ومخالف له بنقص الهمزة الأولى لفظًا وتقديرًا من غير أن يعوض عنها شيء. فإن خلا منه لفظًا ولم يخلُ تقديرًا فليس اسم المصدر؛ وإنما هو مصدر -كما تقدم- مثل كلمة قتال؛ فإن أصلها: قيتال، على الوجه الذي شرحناه في هذه الصفحة، وإن خلا منه لفظًا ولكن مع تعويض عنه فليس باسم المصدر، وإنما هو مصدر أصيل؛ نحو: عدة، مصدر الفعل "وعد" فقد حذفت الواو، وجاءت التاء في آخر الاسم عوضًا عنها؛ كما قلنا آنفًا. فلا بد في اسم المصدر من نقص بعض حروفه الأصلية أو الزائدة. وأن يكون النقص بغير تعويض عنه، وبغير وجود المحذوف مقدرًا.
إن الفرق اللفظي بين المصدر الأصلي واسم المصدر واضح مما سبق "ولا سيما قصر "اسم المصدر" على السماع، أما المصدر الأصلي فمنه القياسي ومنه السماعي ... " ولكن الفرق المعنوي بينهما في حاجة إلى تجلية وإبانة. فما معنى: "أن اسم المصدر يساوي المصدر في الدلالة على معناه؟ "
ذهب النحاة في الإيضاح مذاهب لا تخلو من غموض أو نقص. ولعل خيرها ما جاء في كتاب: "الأشباه والنظائر" للسيوطي، منسوبًا لابن النحاس: قال ما نصه: "الفرق بينهما أن المصدر في الحقيقة هو الفعل الصادر عن الإنسان وغيره؛ كقولنا: إن كلمة "ضَرْب" هي مصدر في قولنا: يعجبني ضرب زيد عمرًا. يكون مدلوله: "معنى" "يقصد: أن مدلول كلمة "المصدر" ومفهومها وسماها، هو أمر معنوي محض، وأنه هو المصدر حقيقة، لا مجازًا. أما اللفظ المذكور في الجملة، المركب من حروف هجائية معينة، فليس بالمصدر الحقيقي" وسموًا ما يعبر به عنه مصدرًا، "مجازًا"، "أي: تسمية مجازية، لا حقيقية" -نحو: "ضرْب" في قولنا: إن: "ضرْبًا" مصدر منصوب، إذا قلت: ضربت ضربًا؛ فيكون مسماه لفظًا". ا. هـ =(3/209)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= فهو يريد: أن كلمة "ضربًا" هي المسمى اللفظي المجازي لكلمة: "مصدر. ومقتضى هذا أن كلمة "مصدر" اسم له مدلولان أو مفهومان، وإن شئت فقل: له مسميان، أحدهما: معنوي محض؛ هو الحدث المجرد، وهذا الحدث هو المسمى الحقيقي -لا المجازي- لكلمة: مصدر. والمسمى الآخر لفظي؛ هو اللفظ الذي ننطق به، أو نكتبه، والذي نقول في إعرابه: إنه مصدر منصوب، وهو المصدر المجازي المراد منه المصدر الحقيقي المعنوي ثم قال بعد ذلك:
"واسم المصدر اسم للمعنى الصادر عن الإنسان وغيره؛ كسبحان؛ والمسمى به: "التسبيح" الصادر عن الشخص المسبِّح -مثلًا- لا لفظ التاء، والسين، والباء، والياء، والحاء، بل المعنى المعبر عنه بهذه الحروف، ومعناه البراءة والتنزية". ا. هـ. راجع ياسين على التصريح.
ويفهم مما سبق أن اسم المصدر كالمصدر المجازي السالف؛ كلاهما يدل مباشرة على الحدث المجرد من غير واسطة. ولكن كثيرًا من المحققين يقولون إن اسم المصدر يدل مباشرة على لفظ لا على الحدث المجرد، وأن دلالته على لفظ المصدر تؤدي -تبعًا- إلى الدلالة على معنى المصدر، وبذا تكون دلالته على الحدث المجرد دلالة غير مباشرة، وإنما هي بالواسطة؛ إذ هي من طريق المصدر.
"راجع الخضري والصبان في هذا الموضع من الباب".
ومن أوضح أسماء المصادر كل اس يدل على معنى مجرد، وليس له فعل من لفظه يجري عليه؛ كالقهقهري؛ فإنه لنوع من الرجوع، ولا فعل له -في المشهور- يجري عليه من لفظه. وكذلك كل اسم يدل على معنى مجرد، ويجري على وزن مصدر الثلاثي، مع أن الفعل المذكور معه في الجملة غير ثلاثي؛ مثل: توضأ وضوءًا، وأعان عونًا، وما شابههما من الوارد المسموع -كالشأن في جميع أسماء المصادر فإنها مقيدة بالسماع.
بقيت مسألة هامة، تتلخص في: أن بعض الباحثين المحققين ينكر وجود قسم مستقل يطلق عليه: "اسم المصدر". وحجته: ما سبق هنا، وأن تعريف المصدر الأصيل ينطبق عليه. وهذا رأي قوي ودفعه عسير. ومسألة أخيرة: "أشرنا إليها في ص183"، نوردها بمناسبة دلالة المصدر -في الغالب- على شيء واحد من شيئين يدل عليهما الفعل؛ فإن هذه الدلالة تثير سؤالا: أيهما أصل للآخر؟ فالبصريون يقولون: المصدر. ويحتجون بأدلة، أقواها: أنه يدل على شيء واحد؛ هو المعنى المجرد؛ فهو "بسيط". والفعل الماضي يدل على شيئين؛ المعنى والزمن؛ فهو مركب. و"البسيط" أصل المركب. والكوفيون يقولون: الفعل الماضي هو الأصل الذي يدخله بعض التغيير. فتتفرع منه المشتقات؛ لأنه يدل على ما يدل عليه المصدر وزيادة؛ والذي يتضمن غيره والزيادة عليه يعد أصلًا له.
وهذا -وغيره مما ذكره الفريقان- لا يعدو أن يكون أدلة جدلية دفاعية، لها طلاوة الجدل القوي، وليس لها قوة الحجة المنطقية، ولا صحة البرهان. إذ ليس لدينا في المشتقات الكثيرة المسموعة عن العرب ما يدل من قرب أو بعد على الأصل الذي تفرع منه هذا المشتق. أما المسألة في واقعها فليست إلا مجرد اصطلاح محض، غير أن كلمة: "المصدر" في أصلها اللغوي معناها: "الأصل" وقد شاعت بهذا المعنى بين أكثر النحاة. وأطلقوها اصطلاحًا على أنها للفعل وللمشتقات كلها، فلا ضرر من الأخذ بهذا. والاقتصار عليه.(3/210)
يعمل المصدر عمل الفعل1 في حالتين:
الأولى: أن يحذف الفعل، وينوب عنه مصدره في تأدية معناه، وفي التعدي واللزوم، وكثير من أنواع العمل، نحو قول الشاعر:
يا قابل التوب. غفرانا مآثم، قد ... أسلفتُها، أنا منها خائفٌ وَجِلُ
وقول الآخر:
شكرًا لربك يوم الحرب نعمته ... فقد حماك بعز النصر والظفر
ونحو: تعظيمًا والديك، وتكريمًا أهلك، وإشفاقًا على ضعيفهم المحتاج. والأصل: اغفر مآثم2 ... اشكر لربك، عَظِّم والديك، كرِّم أهلك، وأشفق على ضعيفهم. فحذف فعل الأمر وجوبًا، وناب عنه مصدره، فعمل عمله في رفع الفاعل المستتر هنا، وفي نصب المفعول به، إن كان الفعل المحذوف ينصب مفعولًا به؛ كالفعلين: عظم، وكرم، وفي أكثر الأعمال الأخرى التي يعملها الفعل، كالعمل في النعت، وكتعلق الجار والمجرور به في المثال الأخير، وكغيرهما من باقي المعمولات؛ فكل هذا يعمله المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبًا. "وقد سبق3 تفصيل الكلام على هذا الموضع، وبيان الحذف الجائز فيه والواجب، والقياسي وغير القياسي، وكيفية إعراب هذا المصدر وباقي معمولاته، وكل ما يتصل به من هذه النواحي المختلفة....".
__________
1 يخالف المصدر فعله في أمور؛ أهمها: أن المصدر لا يعمل إلا بالشروط التي سنذكرها، وأن فاعله يكثر حذفه جوازًا، وإذا حذف لا يتحمل المصدر ضمير المحذوف؛ إلا إذا كان المصدر نائبًا عن فعله "على الوجه المشروح في باب المفعول المطلق ج2 ص178 م76".
أما رفع المصدر لنائب الفاعل فالمختار جوازه عند أمن اللبس، نحو: عجبت من قياس بالطيارة الصحراء، ومن إقامة فيها معامل النفط. أي: من أن تقاس الصحراء بالطيارة، وأن تقام معامل النفط فيها. بخلاف الفعل، فإنه يعمل وجوبًا بغير شرط، ويتحمل وجوبًا ضمير مرفوعه المحذوف؛ فاعلًا كان أو نائب فاعل.
2 أي: ذنوبًا؛ "المفرد: مأثم؛ بمعنى: إثم؛ وهو: الذنب".
3 في ج2 ص178 م76 موضوع: "حذف عامل المصدر، وإقامة المصدر نائبًا عنه".(3/211)
الثانية:
أن يكون المصدر صالحًا -في الغالب1- للاستغناء عنه، بأن يحل محله فعل من معناه، مسبوق "بأن" المصدرية2، أو: "ما" المصدرية، فيسبق الفعل "بأن" المصدرية حين يكون الزمن ماضيًا، أو مستقبلًا. ويسبق "بما" المصدرية حين يكون ماضيًا، أو حالًا، أو مستقبلًا،
ولكنها أوضح وأقوى في الزمن الحالي، حيث لا تصلح له "أن"؛ "لأنها لا تصلح إلا للماضي والمستقبل3؛ بخلاف "ما" فإنها صالحة للثلاثة". فمن أمثلة الماضي: ساءنا بالأمس مدح المتكلم نفسه. التقدير: ساءنا بالأمس أن مدح المتكلم نفسه، أو: ما مدح ... ومن أمثلة المستقبل: سنسر غدًا باجتياز الاختراع مرحلة الاختبار. وقولهم:
تأن، ولا تعجل بلومك صاحبًا ... لعل له عذرًا وأنت تلوم4
والتقدير: " ... بأن يجتاز الاختراع مرحلة الاختبار، أو: بما يجتاز ... بأن تلوم صاحبًا أو: بما تلوم صاحبًا ... " ومثل: لا شيء أنقص للأحرار من إفشائهم الأسرار، أي: من أن يفشوا الأسرار، أو: مما يفشون، ومن أمثلة الزمن الحالي: ينعشنا الآن إشاعة الشمس الدفء. والتقدير: ينعشنا الآن ما تشيع الشمس الدفء.
ومن هنا يتبين أن المصدر يصلح للعمل في الأزمنة الثلاثة بالطريقة المفصلة السالفة؛ دون غيرها. والذي يعينه لنوع خاص منها هو: القرينة.
__________
1 انظر "أ" في الزيادة الآتية.
2 "أن" المصدرية تشمل الناصبة للمضارع، والمخففة من الثقيلة. مع ملاحظة أن الناصبة لا تقع في مواضع، منها: عدم وقوعها بعد مايدل على اليقين، أما الناسخة فتقع.
"وقد سبقت الإشارة في الجزء الأول ص484 م53 إلى علامة كل واحدة، وموضع استعمالها، وسيجيء في الجزء الرابع في باب: "إعراب الفعل...... ونواصبه".
3 وهي تدخل على الماضي فتبقي زمنه على حاله، وعلى المضارع فيصير خالصًا للاستقبال.
4 الذي يعين المصدر على المستقبل هنا ما في البيت من صيغة الأمر والنهي، وهما للمستقبل المحض فيجب مسايرة المصدر لهما في نوع الزمن.(3/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- قلنا: إن الحالة الثانية هي التي يصلح فيها المصدر للاستغناء عنه "بأن والفعل" الذي بمعناه، أو: "ما والفعل" ... هذا الاستغناء أمر غالبي -فقط- كما نصوا على ذلك. وذكروا أمثلة لغير الغالب؛ منها قول بعض العرب: "سَمْع أذني أخاك يقول ذلك" فكلمة: "سمْع" مصدر، مبتدأ مضاف إلى فاعله: "أذُن" -وكلمة "أخا" مفعول للمصدر ... والجملة المضارعية من الفعل: "يقول"، وفاعله في محل نصب "حال" سدت مسد الخبر1 وأغنت عنه. ومثل قولنا: "كان استقبالك الضيوف حسنًا. إن إكرامك الوفود حميد لا إعراضَ عن أحد" ... فهذه المصادر -وأشباهها- عاملة في بعض كلام العرب، مع أنه يمتنع تأويلها بالفعل الذي قبله الحرف المصدري "أن"، أو "ما"؛ لالتزام أغلب العرب عدم وقوع الفعل المسبوق بأحد الحرفين في هذه المواضع؛ فلم يعرف عنهم وقوعه مبتدأ خبره حال سدت مسد الخبر، مثل: أن تسمع أذني أخاك يقول ذلك، ولم يعرف عنهم أيضًا وقوع "أن" المصدرية -بنوعيها المخففة من الثقيلة، والناصبة للمضارع- مع صلتها بعد "كان" و"إن" إلا مفصولة بالخبر، كقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} ، ولا وقوع الحرف المصدري وصلته بعد "لا"، غير المكررة. أي: أنه لا يتحقق في هذه المواضع الاستغناء عن المصدر بالفعل المسبوق "بأن، أو ما" المصدريتين2.
وليس من اللازم كذلك أن يتحقق هذا لعمل المصدر في شبه الجملة بنوعيه، فقد يعمل فيهما من غير إحلال ما ذكر محله. أما عمله القياسي في غير شبه الجملة فيستلزم صحة الإحلال بالتفصيل السالف.
ب- من المصادر التي لا تعمل مطلقًا المصدر المؤكد لعامله المذكور
__________
1 سبق بيان الحال التي تسد مسد الخبر، بأنواعها، وإعرابها، وشرح أحكامها في ج1 ص522 م39، مواضع حذف الخبر وجوبًا.
2 سبق هذا الحكم في ج1 م29، باب الموصولات الحرفية رقم 4 من هامش ص410 بعنوان: "ملاحظة".(3/213)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الجملة؛ مثل: "خرج الإنسان من نطاق الكرة الأرضية خروجًا"؛ لأن إعماله يقتضي -مراعاة للغالب- أن يصلح في مكانه إحلال الفعل مع "أن" المصدرية، أو "ما" المصدرية؛ فيكون التقدير؛ خرج الإنسان أن خرج، أي: خروجه، فيصير المصدر المنسبك مضافًا إلى ضمير كان في الأصل فاعلًا له. وهذه الإضافة تخرجه من المصدر المؤكد: -وهو مصدر مبهم، وإلى مصدر مضاف لفاعله، والمصدر المضاف نوعي، لا توكيدي؛ كما عرفنا في باب: "المفعول المطلق".
ولكن هناك نوعًا من المصدر يؤكد عامله المحذوف وجوبًا، ويعمل عمله. وقد سبق إيضاح هذا النوع، وسرد فروعه وأحكامه1.
كذلك المصدر العددي؛ فإنه لا يعمل -في الغالب الأرجح؛ لأن مجيء "أن" أو "ما" وصلتهما يزيل العدد حتمًا2، ويضيعه؛ ليحلا محله، فلا يوجد في التركيب الجديد ما يدل على العدد.
أما المصدر النوعي فيعمل في بعض حالات قليلة -ولكنها قياسية- منها: أن يكون مضافًا لفاعله3 ولو كان هذا المصدر مفعولًا مطلقًا -نحو: زرعت حقلي زراعة الفلاح حقله ... أي: مثل زراعة الفلاح حقله، فقد عمل في فاعله المضاف إليه، وعمل النصب في مفعوله. وقد تكلمنا بمناسبة أخرى4- على أقسام المصدر ما يعمل منها، وما لا يعمل.
__________
1 في ج2 ص178 م76.
2 أكثر هذه التعليلات مصنوع، ومن السهل نقضه. والتعليل الحق هو: استعمال العرب.
3 وقد ينصب المفعول به أولا ينصبه، كما سبقت الإشارة لهذا "في ج2 -رقم 4 من هامش ص172 م74 باب: المفعول المطلق".
4 ج2 ص171 م4 باب: المفعول المطلق.(3/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ج- شروط أخرى:
الشرط السابق لإعمال المصدر هو شرط "وجودي"، أو "إيجابي" كما نقول اليوم، "أي: لا بد من تحققه ووجوده" وهناك شروط أخرى يسميها النحاة شروطًا عدمية "أو: سلبية، بمعنى: أنه لا بد من عدم وجودها"، وأهمها:
1- ألا يكون مصغرًا؛ فلا يجوز: فُتَيْحك الباب بعنف أمر لا يسوغ. تريد: فتحك الباب1.
2- ألا يكون ضميرًا، فلا يجوز: حبي الأوطان عظيم، وهو بلادًا أجنبية أقل. تريد: وحبي بلادًا أجنبية أقل؛ فناب الضمير عن المصدر المحذوف. وهذا غير جائز إلا عند الكوفيين، ورأيهم هنا ضعيف؛ لأن الضمير النائب عن المصدر المحذوف لا ينوب عنه في العمل؛ طبقا للرأي الأصح، الأغلب الذي يؤيده الوارد الكثير.
3- ألا يكون مختومًا بالتاء الدالة على الوحدة2؛ فلا يصح: ابتهجت بضربتك العدو الغادر؛ لأن ضربة، مصدر مختوم بالتاء الزائدة الدالة على المرة الواحدة3. فإن كانت التاء من صيغة الكلمة وليست للوحدة، نحو: "رحمة" و"رهبة" جاز أن يعمل؛ نحو: رحمتك الضعفاء دليل نبلك.
4- ألا يتأخر عن معموله الذي ليس شبه جملة؛ فلا يصح: أعجبتني
__________
1 ورد في السماع إعماله مصغرًا في مثل: رُوَيْد المستفهم، بمعنى: أمهل المستفهم. "فرويد" اسم فعل أمر. ويصح اعتباره مصدر نائبًا عن فعل الأمر، وأصله "إرواد" وفعله: "أرود" ثم صغر المصدر: "إرواد" تصغير ترخيم بحذف زوائده فانتهى إلى: "رويد". كما سيجيء في باب اسم الفعل، ج4 ص108 م141.
2 أي: على المرة الواحدة. وسيجيء الكلام عليه في ص225 م100.
3 لأن الدلالة على العدد تعارض الدلالة الأصلية للمصدر؛ وهي الحدث المجرد من كل شيء آخر؛ كعدد، ونحوه. كما سبق عند الكلام عليه في "ب" من هامش ص183.(3/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
-المريض- مساعدتك". والأصل: أعجبتني مساعدتك المريض.
أما المعمول شبه الجملة فالأحسن الأخذ بالرأي الذي يبيح تقديمه؛ لوروده في القرآن الكريم1 في قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} ، وقوله تعالى: {لا يَبْغُونَ، عَنْهَا، حِوَلًا} ، وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا، رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، وقولهم: "اللهم اجعل، لنا من أمرنا، فَرَجًا"، وقول الشاعر:
وبعض الحلم عند الجهـ ... ـل للذلة إذعانُ
والأصل: السعي معه. حِوَلًا عنها. رأفة بهما. فرجًا لنا من أمرنا. إذعان للذلة ... و ... ولا داعي للتكلف والتأويل للمنع، من غير داعٍ، وبخاصة في القرآن.
5- ألا يكون مفصولًا من معْموله -المفعول، وغير المفعول- بفاصل أجنبي2، ولا بتابع3، ولو كان هذا التابع نعتًا أو غيره من التوابع الأربعة4، فلا بد أن تقع بعده -مباشرة- كل معمولاته من غير فاصل أجنبي بينها؛ لأن الفصل بالأجنبي ممنوع مطلقًا ... فلا يجوز: إني أقوى على تأدية في الصباح أعمالًا مختلفة؛ أي: على تأدية أعمالًا مختلفة في الصباح. كما5 لا يجوز: إني أبادر إلى تلبية صارخًا المستغيث. أي: إلى تلبيةٍ المستغيثَ صارخًا ... و.... و....
__________
1 ولأن شبه الجملة يقع فيه التوسع والتساهل في كلام العرب؛ هذا إلى وروده متقدمًا في الآيات والأمثلة التالية. -ولهذا إشارة في رقم1 من هامش ص263.
2 أي: بفاصل ليس معمولا لهذا المصدر.
3 وإذا كان للمصدر معمولات لم يجز العطف عليه إلا بعد استيفائه جميع معمولاته.
وفي رقم1 من هامش ص436 حكم الفصل بين التابع ومتبوعه، ثم "انظر الحالة الثانية التي في ص610".
4 لهذا تأخر النعت عن المعمول شبه الجملة في قول الشاعر:
إن وجدي بك -الشديد- أراني ... عاذرًا من عهدت فيك عذولًا
5 وهذا يستلزم عدم الفصل بالأجنبي بين المعمولات.(3/216)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
6- ألا يكون مثنى أو جمعًا "فيجب أن يكون مفردًا" ومن الشاذ إعمال غير المفرد؛ كقول الشاعر:
قد جربوه فما زادت تجاربهم ... أبا قدامة إلا المجد والفَنَعَا1
فكلمة: "أبا" "من أبا قدامة" مفعول به للمصدر المجموع جمع تكسير، وهو: "تجارب"2. وأجاز بعض النحاة إعمال الجمع. ورأيه حسن؛ لورود السماع به في بضعة أمثلة، ولما فيه من تيسير يفيد ولا يضر.
7- ألا يكون محذوفًا والمعمول غير شبه جملة؛ فإن كان شبه جملة جاز إعمال المصدر المحذوف؛ ولهذا أجازوا أن يكون الجار والمجرور في: "بسم الله الرحمن الرحيم". متعلقًا بمصدر محذوف، والتقدير: ابتدائي باسم الله.
__________
1 الفَنَع: الكرم والخير.
2 راجع العيني.(3/217)
أقسام المصدر العامل المقدر بالحرف المصدري وصلته:
ثلاثة أقسام رئيسية:
1- مضاف، وهو أكثرها عملا، وأعلاها فصاحة؛ نحو قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ، المصدر الأول: "ذكر" مضاف لضمير "الكاف"، ومعها الميم1.
وإذا أضيف المصدر فقد يضاف لفاعله وينصب المفعول به2 إن وجد؛ فيكون الفاعل مجرورًا في اللفظ، مرفوعًا في المحل، كقولهم؛ "مصاحبة المرءِ العقلاءَ ألزم، ومجانبة المرءِ السفهاءَ أسلم". فقد أضيف كل من المصدرين: "مصاحبة"، و"مجانبة" لفاعله: "المرء"، وجره لفظًا فقط؛ لأنه مرفوع محلا، ونصب المفعول بعد ذلك؛ وهو: "العقلاء" و"السفهاء"، ومثل قول الشاعر:
وأقتل داء رؤية العين ظالما ... يسيء، ويتلى في المحافل حمدُهُ
فالمصدر؛ وهو؛ "رؤية" أضيف لفاعله -"العين" المجرور لفظًا، المرفوع محلًّا، ونصب المفعول به "ظالمًا".
ومثل:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ
فالمصدر: "وجدان" أضيف لفاعله: "نا" -على الوجه السالف- ونصب المفعول به: "كل".
فإذا جاء تابع للفاعل -كالنعت، أو: التوكيد، أو: العطف، أو: البدل -جاز في التابع الجر؛ مراعاة للفظ الفاعل المتبوع، وجاز الرفع مراعاة لمحل هذا الفاعل؛ ففي المثال الأول: نقول: مصاحبة المرء العاقل العقلاء ألزم، ومجانبة المرء المهذب السفهاء أسلم، بجر كلمتَي: "العاقل"
__________
1 ومن الأمثلة: "رعاية" توقّي ... منة"، وفي قول شاعرهم:
رعاية الله خير من توقينا ... ومنة الله بالإحسان تغنينا
2 وهذا إن كان فعله متعديًا لواحد، أو كان متعديًا لأكثر على الوجه المبين في رقم3 من هامش الصفحة الآتية، فإن كان الفعل لازمًا جاز إضافته لفاعله، أو للظرف.(3/218)
و"المهذب"؛ أو برفعهما، على الاعتبارين السالفين1.
وقد يضاف المصدر للظرف2؛ فيجره، ويرفع الفاعل وينصب المفعول به إن وجد؛ نحو: إهمال اليوم المريض الدواء معوق للشفاء.
وقد يضاف المصدر لمفعوله؛ فيصير المفعول به مجرورًا في اللفظ منصوبًا في المحل3؛ ويجيء الفاعل بعدهما مرفوعًا إن وجد؛ كقولهم: "صيانة4 الحواسِّ الشابُ وديعة تنفعه في شيخوخته"5. والأصل: صيانة الشاب الحواس، فأضيف المصدر: "صيانة" إلى مفعوله: "الحواس" فصار المفعول به مجرورًا لفظًا، منصوبًا محلا. وتلاهما الفاعل مرفوعًا6. فإذا جاء للمفعول به تابع -من التوابع الأربعة- جاز في التابع الجر مراعاة للفظ المفعول به، أو النصب مراعاة لمحله. فنقول في المثال السالف: صيانة الحواس ِّالخمسَِ الشابُّ، دين عليها ... بجر كلمة: "الخمس" أو نصبها ...
"ملاحظة": إنما يضاف المصدر لفاعله وينصب المفعول به، أو: العكس، حين يقتضي المقام ذكرهما، وإلا فقد يحذف أحدهما، أو
__________
1 ومن ذلك قول العرب -كما جاء في كتاب: "معاني القرآن" الفراء ج1 ص16: عجبت من تساقط البيوت بعضُها على بعض، "بالرفع"، أو بعضِها على بعض "بالكسر". فرفع كلمة: "بعض" على اعتبارها بدلا من البيوت المرفوعة المحل؛ لأنها مجرورة لفظًا في محل رفع فاعل المصدر ... و.......
2 إذا صار الظرف "مضافًا إليه، زال عنه اسم الظرف؛ إذ لا يصح تسميته ظرفًا -كما كررنا في مناسبات مختلفة- إلا في حالة واحدة؛ هي نصبه على الظرفية.
3 فإن كان المصدر متعديًا لمفعولين أو ثلاثة جاز إضافته لأحدها ونصب ما عداه، ثم يرفع الفاعل، ويجوز إضافته للفاعل، ونصب المفعول به الواحد أو الأكثر، كما يجوز إضافته الظرف، مع بقاء الفاعل مرفوعًا -إن وجد- وترك ما يوجد من مفعول به أو أكثر منصوبًا "إن وجد".
4 أي: محافظته على سلامتها.
5 المراد: أن من صان حواسه في شبابه تصونه في شيبته وكهولته؛ فلا يشكو الأمراض وضعف هذه الحواس؛ لأنه لم يهملها، ولم يسرف في الانتفاع بها زمن شبابه؛ فظلت سليمة حتى وصل إلى زمن المحرم والكبر.
6 ومن الأمثلة الواردة التي أضيف فيها المفعول به، ورفع الفاعل قول الشاعر:
نَجُذُّ رقاب الأوس من كل جانب ... كجذِّ عقاقيل الكروم خبيرها
فقد أضيف المصدر: "جذَّ" إلى مفعوله: "عقاقيل"، وجاء فاعله "وهو: خبير" مرفوعًا بعدهما. "عقاقيل الكروم: ما زرع من فروع العنب".(3/219)
يحذفان معًا. فمن إضافة المصدر لفاعله مع حذف المفعول به الذي لا يتعلق الغرض بذكره؛ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} ، والأصل: استغفار إبراهيم ربه لأبيه. كما يجوز العكس بحذف الفاعل مع ذكر المفعول به كقوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} ، أي: من دعائه الخير.
2- منون، ويلي السابق في كثرته وفصاحته، نحو قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا} 1، فكلمة: "يتيمًا"، مفعول به للمصدر: "إطعام"، ومنه قول الشاعر:
بضربٍ بالسيوف رءوسَ قومٍ ... أزلْنا هامهُنَّ2 عن المقيلِ3
فكلمة: رءوس، مفعول به للمصدر: "ضَرْب".
3- مبدوء "بأل" وهو -مع قياسيته كسابقيه- أقل منهما استعمالًا وبلاغة. ومن أمثلته قول الشاعر يَذُم:
ضعيف النكاية4 أعداءَه ... يخال الفرارَ يراخي الأجلْ5
فكلمة: "أعداء" مفعول به للمصدر: "النكاية".
إعمال اسم المصدر 6:
اسم المصدر نوعان: علَم، وغيرُ علَم، فالأول لا يعمل7؛ ومن أمثلته: "برة" علم جنس على: "البر"، و"فجار" علم جنس على: "الفجرة" بمعنى: "الفجور"، بشرط أن يكون فعلهما: "أفجر" و"أبر" في
__________
1 ذي مسبغة: صاحب مجاعة. "أي: أنه جائع".
2 الهام: الرءوس. المفرد: هامة.
3 المقيل: مكان الاستقرار والثبات. والمراد هنا: العنق؛ إذ يستقر الرأس فوقه.
4 التنكيل والتعذيب.
5 معنى البيت: هذا الشخص قليل التنكيل والتعذيب لأعدائه؛ خوفًا على حياته منهم؛ لظنه أن الفرار من ميدان القتال يطيل الأجل ويؤخر الموت.
6 سبق تعريفه مفصلًا، وبيان الفرق بينه وبين المصدر في هامش ص207، 208.
7 لأن العلم -في جميع صوره ومواقعه الإعرابية المختلفة- لا يعمل مطلقًا، ولو كان في أصله مشتقًا.(3/220)
مثل: أفجر فلان فلانًا، وأبره؛ بمعنى: صيره ذا فجور، وبر. فإن كان فعلهما "فجر" و"بر" فهما مصدران مباشرة1.
أما غير العلم فيعمل بالشرط الذي يعمل به المصدر الذي ليس نائبا عن فعله؛ "وهو: إحلال الحرف المصدري "أن" أو: "ما" وصلتها محله2".
وإعمال اسم المصدر -مع قياسيته- قليل. والأفضل العدول عنه إلى المصدر قدر الاستطاعة، ومن أمثلة إعماله قول الشاعر:
بعشرتك الكرام تعد منهم ... فلا ترين لغيرهمُ الوفا
وقول الآخر:
إذ صح عون الخالق المرء لم يجد ... عسيرًا من الآمال إلا ميسرا
فكلمة: "الكرام" مفعول به لاسم المصدر: "عشرة"، وفعله هنا: "عاشر". وكلمة: "المرء" مفعول به لاسم المصدر: "عَوْن" وفعله هنا عاون ... 3.
__________
1 انظر رقم 3، 5 من هامش ص208.
2 وبيان هذا في ص212.
3 اقتصر ابن مالك على أربعة أبيات في تدوين كل الأحكام السالفة؛ أولها:
بفعله المصدر الحق في العمل ... مضافًا، أو مجردًا، أو مع "أل"
إن كان فعل مع "أن" أو: "ما" يحل ... محله، ولاسم مصدر عمل
يريد: ألحق المصدر بفعله في العمل، فاجعله مثله في التعدي واللزوم وغيرهما مما أوضحناه. وهذا الإلحاق بفعله يشمل الأحوال الثلاثة للمصدر؛ إذ يكون مضافًا، أو مبدوءًا بأل، أو مجردًا من أل والإضافة؛ فيكون منونًا.
ثم بين أنه يعمل عمل فعله بشرط أن يمكن إحلال فعل مسبوق "بأن" أو "ما" المصدريتين محله. فإن لم يمكن إحلال أحد الحرفين المذكورين مع صلته محل المصدر لم يعمل شيئًا. وهذا كلام مبهم مجمل أوضحناه وفصلناه في الشرح. ثم قال:
وبعد جرِّه الذي أضيف لَهْ ... كمِّلْ بنصب أو برفع عَمَلَهْ
عرفنا أن المصدر العامل يجوز أن يضاف إلى فاعله وينصب المفعول، أو العكس، وهو هنا يقول: =(3/221)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= بعد إضافة المصدر إلى ما أضيف له، وبعد جره للمضاف إليه -كمل عمله بعد ذلك بالنصب أو بالرفع، وذلك بأن تأتي باللفظ منصوبًا مفعولًا به إن كان المصدر قبله مضافًا للفاعل المجرور في اللفظ، المرفوع في المحل. أو أن تأتي بكلمة مرفوعة فاعلًا، إن كان المصدر قبلها مضافًا للمفعول به وصير هذا المفعول مجرورًا في اللفظ منصوب المحل. وختم الباب بقوله:
وجرّ ما يتبع ما جُرَّ ومن ... راعى في الإتباع المحل فحَسَنْ
يريد: إن جاء تابع للمضاف إليه المجرور فجُرَّ "فاجرُرْ ... " هذا التابع؛ مراعيًا لفظ المجرور، سواء أكان مرفوعًا محلًا؛ لأنه فاعل، أو منصوبًا محلًا؛ لأنه مفعول به. وبين أن هذا الجر لمراعاة اللفظ ليس محتومًا؛ فمن يراعي المحل المرفوع أو المنصوب فعمله حسن، ورأيه سديد.(3/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- بعض النحاة يجعل لاسم المصدر قسمًا ثالثًا يسميه: "المبدوء بميم زائدة لغير المفاعلة". ومن أمثلته: المحمدة، أي: الحمد، والمضرب، أي: الضرب، ومصاب، "بمعنى: إصابة" في قول الشاعر:
أظلومُ1 إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام -تحية- ظلمُ
لكن يرى المحققون أن المبدوء بالميم كالأمثلة السابقة -ونظائرها- هو نوع من المصدر يسمى: "المصدر الميمي"، "وله أحكام خاصة ستجيء في بابه"2، وليس باسم مصدر. وهذا الرأي هو الشائع اليوم، والأخذ به واجب، وإعماله عمل فعله كثير بالطريقة التي سنشرحها هناك2.
أما المبدوء بميم زائدة للمفاعلة فمصدر أصيل نحو: قاومت الباطل مقاومة عنيفة، وناصرت أهل الحق مناصرة لا تواني فيها ولا قصور.
ب- اسم المصدر العامل ثلاثة أقسام، كالمصدر العامل:
1- مضاف، وهو الأكثر؛ نحو: ناصرت الوطن نصر الحر وطنه، وهدمت الباطل هدم الخيمة صاحبها.
وإضافته -كما رأينا- قد تكون لفاعله مع نصب المفعول به، وقد تكون للمفعول به مع رفع الفاعل. ويجوز في تابع المضاف إليه الجر مراعاة للفظه، كما
__________
1 المعنى: يا ظلوم، إنَّ إصابتكم رجلا أهدى إليكم السلام للتحية ظلمٌ منكم. فكلمة "رجل" مفعول به المصدر الميمي: "مصاب" على الرأي الأحسن. وكلمة: "ظلم" خبر "إن". وسيعاد ذكر البيت في هامش ص236 بمناسبة هناك.
و"ظلوم" اسم امرأة. قال الشنقيطي -صاحب الدرر اللوامع على همع الهوامع- ج2 ص196 ما نصه: "أكثر الرواة على أن الرواية: "أظلوم" كما جاء في الأصل، وبعضهم قال: إن الصحيح "أظليم" بالياء المثناة التحتية"، ثم نقل الخلاف في قائل البيت، وارتضى أن الصحيح نسبته إلى الحارث بن خالد بن العاص من قصيدة مطلعها:
أقوى منَ ال ظليمة الحرْمُ ... فالعيِّران، فأوحش الحطْمُ
"2-2" ص231 م101.(3/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجوز مراعاة محله في الرفع والنصب على الوجه الذي سبق في المصدر1.
2- منون؛ نحو: طربت لنصرٍ حرٌّ وطنه انتصارًا باهرًا.
3- ومحلى بأل؛ مثل: عاونت الصديق كالعون الأهلَ..
ج- من أحكام اسم المصدر العلَم أنه لا يضاف، ولا تدخل عليه "أل" التي للتعريف، ولا يقع موقع الفعل، ولا يوصف، ولا يقصد به الشيوع2.
__________
1 في ص218.
2 راجع ما نقله الصبان في هذا الموضع عن "الهمع".(3/224)
المسألة 100:
المصدر الدال على المرة، والدال على الهيئة:
عرفنا1 أن المصدر الأصلي لا يدل بذاته إلا على: "المعنى المجرد"، فلا علاقة له -في الغالب- بزمان، ولا مكان، ولا تأنيث، ولا تذكير، ولا عَلَمية، ولا عدد، ولا هيئة، ولا شيء آخر غير ذلك المعنى المجرد.
لكن من الممكن تناوله ببعض التغيير اليسير والزيادة اللفظية القليلة، فلا يُقتصر -بعدهما- على المعنى المجرد، وإنما يدل عليه وعلى شيء آخر معه هو: "المرة الواحدة"، أو: الهيئة"2، بمعنى: أن المصدر الأصلي يدل بعد هذا التغيير، والزيادة اللفظية -إما على المعنى المجرد مزيدًا عليه الدلالة العددية التي تبين الوحدة، "أي: أنه واحد، لا اثنان، ولا أكثر ... ". وإما على المعنى المجرد مزيدًا عليه وصفة بصفة من الصفات؛ كالحسن، أو: القبح؛ أو: الطول، أو: القصر ... أو غير ذلك مما يتصل بهيئته، وشكله، وأوصافه، لا بعدد مراته3.
فالمصدر الأصلي في دلالته الأساسية الأولى خالٍ من التقييد، بخلافه إذا دل على المرة أو الهيئة؛ فإنه يكون في "المرة" مقيدًا -مع الحدث- بالدلالة على أن هذا الحدث مرة واحدة، وفي "الهيئة" يكون مع الحدث مقيدًا بوصف خاص4.
__________
1 في رقم 4 من هامش ص187، أما الكلام المفصل عن أصل المشتقات ففي ص182.
2 أي: هيئة الحدث وكيفيته وشكله. وفسر بعضهم الهيئة بأنها: "النوع".
3 فائدة المصدر الدال على "المرة" أو على "الهيئة" أنه يدل على شيئين معًا بأوجز لفظ، وأقل كلمات. ومن الممكن الوصول إلى هذه الدلالة بتعبير آخر، ولكنه سيكون تعبيرًا أكثر ألفاظًا وكلمات. أما المصدر الأصلي فلا يدل إلا على شيء واحد -في الغالب- هو المعنى المجرد الخالي من كل تقييد وتحديد.
4 ومتى دل المصدر الأصلي على المرة بالطريقة التي شرحناها -فإنه يصير من قسم المصدر الأصلي الذي يدل معناه على المرة، مع توكيد معنى عامله أيضًا؛ أي: أنه يدل على الأمرين معًا.
ويكون بيان المرة هو الأهم -طبقًا لما سبق في باب: "المفعول المطلق"، ج2 م74 ص169- وكذلك حين يدل على الهيئة؛ فإنه يصير من قسم المصدر الذي يدل معناه على الهيئة مع توكيد معنى عامله، ويكون بيان الهيئة هو الأهم؛ طبقًا للبيان المشار إليه آنفًا.(3/225)
وإذا دل المصدر الأصلي -بعد التغيير- على المعنى المجرد مزيدًا عليه الدلالة على الوحدة -وهي "المرة"- أو على "الهيئة" فإنه يظل محتفظًا باسمه كما كان. ولكنه يشتهر باسم: المصدر الدال على "المرة"، أو على "الهيئة" فهو في الحالتين مصدر أصلي1 له اسمه، وكل أحكام المصدر الأصلي2. إلا أن الدال على "المرة" لا يعمل -كما سبق3.
أ- فإذا أردنا الدلالة على "المرة" الواحدة من المصدر الأصلي لفعل ثلاثي فوق دلالته على المعنى المجرد: "أتينا بمصدره المشهور، مهما كانت صيغته، ومهما كان وزنه"، "وجعلناه على وزن: "فَعْل"، ولو بحذف أحرفه الزائدة إن اقتضي الأمر هذا"، "وزدنا في آخره تاء التأنيث": فيصير الوزن: "فَعْلَة"، وهي صيغة المصدر المطلوب الدال على "المرة" فوق دلالته على المعنى المجرد؛ ولا تتحقق هذه الصيغة إلا بتحقق الأمور الثلاثة السالفة. فللوصول إلى الصيغة الدالة على "المرة" من المصادر: أخذ، قعود، فرح، جولان وأشباهها ... يجب: "تجريد كل مصدر أصلي من حروفه الزائدة، إن وجدت"، ثم "تحويل صيغته بعد ذلك إلى: "فَعْل"، ثم "زيادة تاء التأنيث في آخرها"؛ فتصير: أخذة، قعدة، فرحة، جولة؛ وهذه المصادر الأصيلة تدل هنا على
__________
1 كما سبقت الإشارة لهذا "في رقم 4 من الهامش السابق وفي رقم 4 من هامش ص187" قال الصبان في هذا الموضع ما نصه: "مقتضى ما سبق أن "فَعْلَة" التي للمرة كجلسة، هي من المصادر؛ فيكون للفعل: جلس -مثلًا- مصدران؛ أحدهما دال على "المرة"؛ وهو "جَلسة"؛ والثاني لا دلالة عليها وهو: "جلوس" ا. هـ.
وأين المصدر الميمي؟ الحق أن لكل فعل ثلاثة أنواع من المصادر "كما أوضحنا في ص181" أولها: المصدر الأصلي
الصريح الذي لا يدل إلا على المعنى المجرد. وثانيهما:
المصدر الأصلي الذي يدل على المعنى المجرد مزيدًا عليه "المرة" أو "الهيئة". وثالثها المصدر الميمي. أما المصدر الصناعي فليس مصدرًا للفعل، ودلالته تختلف عن دلالة غيره. ولا يكون هو، ولا الميمي دالين على المرة أو الهيئة.
2 ومنها: أن يتعلق به شبه الجملة.
3 وفي رقم 3 من ص215. حيث بيان السبب، "وسيجيء في رقم 2 من هامش ص230 أن المصدر المبين للنوع قد يعمل ... ".(3/226)
المعنى المجرد، وعلى المرة معًا؛ نحو: أخذت من المال أَخْذة. قعدت على الأريكة قَعْدة. تجددت لنا فَرْحة بالنصر. قمت بجَوْلة حول المدينة. والمعنى: أخذة واحدة، قعدة واحدة، فرحة واحدة، جولة واحدة1.
فإن كانت صيغة المصدر الأصلي موضوعة في أصلها على وزن: "فعلة": نحو: نظرة. هفوة. رأفة. صيحة ... لم تدل بنفسها في هذه الصورة على المرة، ووجب زيادة لفظ آخر معها ليدل على "المرة" أو قيام قرينة أخرى تدل عليها. والغالب في اللفظ الآخر أن يكون نعتًا. فنقول مثلًا: ربما تنفع النظرة الواحدة في ردع المسيء. قد تعقب الهفوة الواحدة عواقب خطيرة. إن رأفة واحدة بضعيف قد تضمه إلى أعوانك المخلصين. أهلك الله بعض الغابرين بصيحة لم تتكرر2 ...
ولا بد في صياغة "فَعْلة" الدالة على "المرة" من تحقق شرطين: أن تكون لشيء حسي صادر من الجوارح الظاهرة والأعضاء الجسمية، وأن يكون ذلك الشيء المحسوس غير ثابت؛ فلا تصح صياغة "فَعْلة" لدلالة على أمر معنوي عقلي محض، كالذكاء، أو العلم، أو الجهل، أو النبوغ ... ولا تصح صياغتها من الأوصاف الثابتة؛ كالظرف، والحسن. والملاحة، والقبح، والطول، والقصر ...
وإن كان الفعل الماضي غير ثلاثي فالوسيلة للدلالة على المرة من مصدره الأصلي هي: زيادة تاء التأنيث في آخر هذا المصدر مباشرة، دون زيادة، أو حذف، أو تغيير آخر. مثل: "إنعام" مصدر الفعل الرباعي: "أنعَم"
__________
1 ومن الشاذ المسموع قول العرب: حَج فلان حِجة "بكسر الحاء" ومنه شهر ذي الحجة فجاءوا بالمصدر الدال على المرة مصوغًا على وزن: "فِعْلة" "بكسر، فسكون" وهذه الصيغة هي الخاصة بالهيئة. وبالرغم من هذا السماع الوارد عنهم لا مانع أن نقول في المرة: "حَجّة" بفتح أول الكلمة تطبيقًا لصيغة: "فَعْلة" الخاصة بالمرة؛ عملًا بالبيان المفيد الذي عرضناه في ص191.
ومن المسموع أيضًا رأيته رؤية "بوزن فُعْلة" مرادًا بها المرة، ولا مانع من استعمال القياس فيهما أيضًا -راجع "تاج العروس"، مادة: "حج". هذا، وقد نقل ابن خالويه في كتابه المسمى: "ليس في كلام العرب" أن فتح الراء مسموع أيضًا.
2 انظر آخر الملاحظة الآتية في ص229.(3/227)
و"تبيُّن" مصدر الفعل الخماسي: "تبين"، و"استفهام" مصدر الفعل السداسي: "استفهم" فإن صيغها الدالة على "المرة" هي: "إنعامة". تبيُّنة1. استفهامة ... نحو: إن إنعامة الله تملأ النفس انشراحًا. تبيُّنة الحق جلبت الخير ودَفَعَت البلاء. استفهامةٌ وهدايةٌ2 خير من صمت وضلالة.
فإن كان مصدر الفعل غير الثلاثي مشتملًا في أصله على تاء التأنيث؛ فإنه لا يصح للدلالة المباشرة على المرة، ويجب زيادة لفظ آخر معه، أو قيام قرينة تدل عليها. نحو: "استعانة" تقول: استعانة واحدة بأريحي قد تمنع خطرًا داهِمًا. والغالب في اللفظ الآخر أن يكون نعتًا؛ كالمثال السالف.
ب- وإذ أردنا أن ندل على "الهيئة" بمصدر الثلاثي -فوق دلالته على المعنى المجرد- صغناه بالطريقة السالفة على وزن: "فِعْلة"، "بأن نجيء بمصدر الفعل الثلاثي، دون غيره من الأفعال التي ليست ثلاثية ونحذف ما فيه من الحروف الزائدة إن وجدت،" ثم "نزيد في آخره تاء التأنيث"، ثم "نجعله على صورة: "فِعلة" فهذه أمور ثلاثة لا بد من تحققها؛ فنقول في مصادر الثلاثي السالفة: إخذة، قِعْدة، فِرْحة، جِيلة3 ... نحو: إخذة القط فريسته مزعجة، قِعْدة الوقور جميلة، فِرْحة العاقل يزينها الاعتدال، جِيلة3 الرحالة شاهدة برغبته في كشف المجهول. والمعنى: هيئة أخذ القط، وطريقته في الأخذ ... -هيئة قعود الوقور، وطريقته، وشكل قعوده ... -هيئة فرح العاقل وصورته في أثناء فرحه ... -هيئة جولان الرحالة، وشكل جولانه، ومنظره ...
فإن كانت صيغة المصدر الأصلي موضوعة في أصلها على وزن: "فِعْلة" الخاص "بالهيئة"؛ نحو: عِزة، نِشدة4، رِخوة5 ... وجب
__________
1 يجب فتح ما قبل تاء التأنيث هنا وفي كل موضع آخر.
2 أي: مع هداية: بمعنى أنها تؤدي إليها.
"3، 3" أصلها: "جولة"، "قلبت الواو الساكنة ياء بعد الكسرة......".
4 نشد للرجل مأربه نشدًا ونِشدة: طلبه وسعى وراءه.
5 استرخاء.(3/228)
التصرف بإيجاد ما يضمن الدلالة على "الهيئة"؛ كزيادة بعض الألفاظ للدلالة عليها؛ أو إقامة قرينة -أي قرينة- ترشد إليها، وإلى ما يراد منها من حسن، أو قبح، أو زيادة، أو نقص ... أو غير هذا من الأوصاف التي يراد وصف المصدر بها، مثل: العِزة الجاهلية تحمل صاحبها على الطغيان. نشدة المآرب بالحكمة كفيلة بإدراكها.
ويلاحظ أن الدلالة على "الهيئة" بالصيغة المباشرة السالفة، إنما تقتصر على مصدر الفعل الثلاثي؛ مع زيادة التاء في آخر هذا المصدر إن لم تكن موجودة؛ فمنهما تتكون الصيغة الدالة بنفسها على المعنى المجرد وعلى "الهيئة" معًا. أما الأفعال التي ليست ثلاثية فلا تصاغ -قياسًا- من مصادرها الأصلية صيغة تدل على "الهيئة"، وإنما يزاد على المصدر الأصلي قرينة، أو لفظ يدل على الوصف المراد، من غير التزام قرينة معينة، أو لفظ معين. فعند إرادة الدلالة على الهيئة من المصادر: تكلُّم، استماع، اندفاع، وأشباهها ... نقول: التكلم الكثير مدعاة للملل. الاستماع الحسن أمارة العقل الراجح. الاندفاع الطائش مقدمة البلاء العاجل.
ومجمل القول: إذا كان المصدر الأصلي موضوعًا في أصله على وزن: "فِعلة" كعزة"، وأردنا أن يدل على "المرة" وجب تحويله إلى صيغة "فَعلة" فنقول: ثارت في رأسي الجاهلي عَزة أبعدته عما يحسن بالعاقل.
وكذلك إن كان موضوعًا في أصله على وزن: "فَعْلة"؛ كرحمة. وأردنا أن يدل على "الهيئة" فإننا نحوله إلى صيغة: "فِعْلة"؛ فنقول: رِحْمة، مثل: "رِحْمة تداوي، ورِحْمة تجرح"1.
وخلاصة ما سبق:
1- أن الفعل الثلاثي يصاغ بشرطين -مصدره الأصلي الشائع على وزن: "فعلة" للدلالة على أمرين معًا؛ هما: المعنى المجرد، و"المرة".
__________
1 هذه حكمة قديمة، معناها أن هيئة الرحمة، والطريقة التي تظهر بها، وتقدم لمستحقها -قد تكون طريقة كريمة تفيده، وتزيل أو تخفف آلامه ومتاعبه. وقد تكون طريقة جافة خشنة تؤلمه" وتجرح شعوره.(3/229)
ويتوصل إليهما من مصدر غير الثلاثي بزيادة تاء التأنيث على هذا المصدر.
2- ويصاغ مصدر الثلاثي على وزن "فعلة" للدلالة على أمرين معًا؛ هما: المعنى المجرد، والهيئة. ولا يصاغ المصدر للهيئة مباشرة من غير الثلاثي.
3- مصدر المرة والهيئة هو مصدر أصلي يحتفظ باسمه، وبخصائصه1 التي عرفناها، وبعمله. إلا أن المصدر الدال على المرة لا يعمل2.
4- إذا كانت صيغة المصدر الأصلي موضوعة في أصلها على صورة المصدر الذي نريد أن يدل على المرة أو الهيئة، وجب إدخال تغيير أو زيادة عليها أو المجيء بقرينة تدل على المراد، وتُرشد إلى المرة أو الهيئة، طبقًا للتفصيل الذي سبق ... 3.
__________
1 ومنها أن يتعلق به شبه الجملة، وأنه مع دلالته على المرة أو الهيئة هو مؤكد لعامله أيضًا -طبقًا لما سبق في رقم 4 من هامش ص225- والتفصيل في باب: "المفعول المطلق" ج2 م74 ص199.
2 راجع إيضاح هذا في رقم 3 من هامش ص215، وفي ص226 ... من هذا الجزء. وكذلك في ص200 م74 ج2 "باب المفعول المطلق"؛ حيث قلنا هناك ما نصه: "قد يعمل المبين النوع أحيانًا، كأن يكون مضافًا لفاعله، ناصبًا لمفعوله أو غير ناصب؛ نحوه: تألمت من إيذاء القوي الضعيف. حزنت حزن المريض. وهذا العمل على قلته قياسي".
3 وفي اسم المرة واسم الهيئة وصياغتهما مصدر الثلاثي يقول ابن مالك في ختام باب: "أبنية المصادر" بيتين سجلناهما هناك في ص200.
و"فعلة" لمرة كجَلْسهْ ... و"فعلة" لهيئة؛ كجلسة
ويقول في صياغتهما من مصدر غير الثلاثي:
في غير ذي الثلاث بـ"التا" المرة ... وشذ فيه هيئة؛ كالخمرة
أي: الدلالة على "المرة" من مصدر غير الثلاثي -تكون بزيادة التاء في آخر المصدر. أما "الهيئة" فلا تجيء منه مباشرة، وشذ مجيئها منه، كقولهم: فلان حسن الخِمْرة، وهي حسنة النقبة: والفعل منهما خماسي، هو: اختمر، بمعنى: لف الرأس بثوب ونحوه. وانتقب بمعنى لبس النقاب، وهو البرقع.(3/230)
المسألة 101:
ب 1 -المصدر الميمي:
يصاغ من المصدر الأصلي للفعل الثلاثي وغير الثلاثي صيغة قياسية، تلازم الإفراد2 والتذكير3، وتؤدي ما يؤديه هذا المصدر الأصلي من الدلالة على المعنى المجرد ومن العمل -كما سيأتي- لكنها تفوقه في قوة الدلالة وتأكيدها4.
__________
1 سبق الكلام على: "أ" في ص193، وهو وزن المصدر الأصلي، كما سبق الكلام على النوع الثالث؛ وهو: "المصدر الصناعي" في ص186.
2 يدل على هذا ما سجله النحاة في باب البدل -كما سيجيء في رقم 2 من ص676.
"3، 4" وقد وردت هذه الصيغة لبيان السبب، وقال الرضي في شرح الشافية، آخر باب المصدر ما نصه: "يجيء "المفعلة" لسبب الفعل؛ كقوله عليه السلام: "الولد مبخلة، مجبنة، محزنة" ا. هـ. وقول عنترة العبسي:
نبئت عمرًا غيرَ شاكر نعمتي ... والفكر مخبثة لنفس المنعمِ
وقولهم أيضًا: الشكر مبعثة لنفس المفضل.
والمفهوم أن هذا المعنى مقصور على السماع. وكذلك صيغته المختومة بالتاء؛ حيث يتشدد غالب النحاة "بغير داعٍ قوي" فيجعلها سماعية، على الرغم من الأمثلة الكثيرة الواردة بالتاء -والتي رآها مؤتمر المجمع اللغوي كافية للقياس عليه، كما سيجيء في3 ص235- مثل: مقالة، مرة، مهلكة، منصبة، مخافة ... كقول الشاعر:
مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدِر سائلِ
وقول الآخر:
لا تنم واغتنم مسرة يوم ... إن تحت التراب نومًا طويلًا
وقول دعبل:
ألم أقل لك: إن البغي مهلكة ... والبغي والعجب إفساد لأقوام؟
وقول علي رضي الله عنه فيما ورد منسوبًا له: ليس لواضع المعروف في غير حقه، وعند غير أهله، من الحظ إلا محمدة اللئام، وثناء الأشرار، ومقال الجهال.
وقوله أيضًا: الحمد لله المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبة. وقول الأحنف بن قيس: رب حلم قد تجرعته؛ مخافة ما هو أشد منه.(3/231)
وتسمى هذه الصيغة: المصدر الميمي1. وتعرب -في الأغلب2- على حسب حاجة الجملة.
1- وللوصول إليها من الفعل الثلاثي غير المضعف3 نأتي بمصدره القياسي المشهور -مهما كانت صيغته- وندخل عليه من التغيير اللفظي ما يجعله على وزن "مفعل" -بفتح الميم والعين- وهذه هي الصيغة القياسية للمصدر الميمي في جميع حالات4 الفعل الماضي الثلاثي غير المضعف. ما عدا حالة واحدة5؛ وهي التي يكون فيها الفعل الماضي الثلاثي صحيح الآخر، معتل الفاء6 بالواو التي تحذف7 في مضارعه؛ "لوقوعها بين الفتحة والكسرة؛ مثل: وصل، وصف، وعد، وثب, وجد ... فإنها أفعال واوية الفاء، ومضارعها مكسور العين، محذوف الواو، وهو: يصل، يصف، يعد، يثب، يجد ... " وفي هذه الحالة الواحدة تكون على وزن: "مَفْعِل" بكسر العين8.
__________
1 انظر ما يتصل بهذه التسمية في "أ" من ص223، وسبق في ص181 الكلام المفصل عن المصدر الأصيل، وعن أصل المشتقات.
2 البيان في رقم 6 من هامش ص235.
3 مضعف الثلاثي: ما كانت عينه ولامه من جنس واحد، مثل الفعل: مد، فر، سر ...
4 أي: سواء أكان الفعل الثلاثي غير المضعف متعديًا، أم لازمًا، صحيحًا، أم معتلًا، مضموم العين أم مفتوحها أم مكسورها. "إلا حالة واحدة ستُذكَر".
5 وهناك حالة أخرى يجوز فيها فتح العين وكسرها، وسيجيء الكلام عليها في ملاحظة خاصة ص236.
6 هو: معتل الأول، ويسمى: "مثالًا". وسيجيء في رقم 4 من هامش الصفحة الآتية أن بعض القبائل يجعل المثال هنا كغيره.
7 بأن يكون مضارعه مكسور العين؛ فتقع الواو فيه بين الفتحة والكسرة، وهذا يؤدي -في الغالب- إلى حذفها كالأمثلة المعروضة. فلا بد من صيغة: "مَفْعِل" -بكسر العين- من تحقق -ثلاثة شروط، أن يكون الثلاثي معتل "الفاء" بالواو -وأن يكون مضارعة مكسور العين- وأن يكون حرف العلة "الواو" محذوفًا فيه. فإن خلا شرط من الثلاثة فالقياس: "مَفْعَل"؛ كأن يكون صحيح "الفاء"، مثل: كتب، أو يكون معتل الفاء بالياء؛ مثل: "يبس، يقن، يقظ ... أو يكون معتل الفاء بالواو ولكن مضارعه غير مكسور العين؛ فلا تحذف فيه الواو، قياسًا؛ مثل: وجع يوجع، وحل يوحل، وله، يوله، بمعنى: فقد عقله لحزن أو فرح أو نحوهما.
وإن كان معتل الفاء واللام فصيغته: "مَفْعَل" بفتح العين.
8 مع ملاحظة حالة المضعف التي يجوز فيها فتح العين وكسرها وستأتي.(3/232)
فمن أمثلة "مَفْعَل" بفتح الميم والعين: ملعب، بمعنى لعب. مسقط؛ بمعنى: سقوط. مصعد، بمعنى: صعود. مأكل؛ بمعنى: أكل. مغنم؛ بمعنى: غنم. مأثم؛ بمعنى: إثم. مخبثة؛ بمعنى: خبث. منطق، بمعنى: نطق. مقدم: بمعنى: قدوم. معاب1؛ بمعنى: عيب. وأفعالها الماضية: لعب، سقط، صعد، أكل، غنم، أثم، خبث، قدم، عاب، يقال: فلان رياضي يحسن مَلْعَب الكرة. سقط البرد، وكان مسقطه عنيفًا. صعدت إلى قمة الجبل مسترشدًا في مصعدي بخيبر. أهلك فلانًا مأكله الحرام ... ومثل قولهم: ليس في الشر مغنم، ولا لوم على امرئ إلا في مأثم، والكفر مخبثة لنفس المنعم. وقول الشاعر:
لا يملأ الهول صدري قبل مقدمه ... ولا أضيق به ذرعًا2 إذا وقعا
وقول الآخر:
أنا الرجل الذي قد عبتموه ... وما فيه لعياب معاب3
ومن أمثلة: "مَفْعِل" بكسر العين": موصِل؛ بمعنى: وصول. موصِف، بمعنى؛ وصف. موعِد، بمعنى: وعد ... و..... و..... و...... فيقال: كان موصِلي للصديق تنفيذًا للموعِد الذي بيننا، وكان موصِفه لمكان التلاقي واضحًا؛ فلم أخطئه ... أي: كان وصولي للصديق تنفيذًا للوعد الذي بيننا، وكان وصفه4 ...
فإن كان الثلاثي مضعف العين جاز في مصدره الميمي أن يكون مفتوح العين
__________
1 أصلها: "مَعْيَب" -على وزن: مَفْعَل- ثم تناولها التغيير الصرفي الذي انتهى بها إلى: "معاب". "بأن نقلت فتحة الياء إلى الساكن الصحيح قبلها، فهي متحركة بحسب الأصل، وما قبلها متحرك أخيرًا، فتقلب الياء ألفًا".
2 الذرع: الطاقة والاحتمال. وضاق بالأمر ذرعًا: ضعفت طاقته عن احتماله، ولم يجد منه خلاصًا.
3 سيعاد البيت لمناسبة أخرى في ص236.
4 بعض القبائل العربية الفصيحة لا يفرق بين معتل الفاء وصحيحها، وإنما يجعل صيغة المصدر الميمي واحدة لجميع أنواع الثلاثي، هي: "مَفْعَل" بفتح الميم والعين. ورأيه -على صحة محاكاته- مخالف لأكثر القبائل التي يشيع العمل برأيها اليوم وقبل اليوم. ومن المستحسن الاكتفاء بمتابعة الأكثرية.(3/233)
أو مكسورها1 كالمفَِرّ -بفتح الفاء وكسرها- في قولهم: لا ينفع الجاني المفر من قصاص الدنيا، فقصاص الآخرة أشد.
أما ما ورد من الألفاظ المسموعة خارجًا في صياغته على الضابط الموضح في الحالتين السابقتين؛ مخالفًا له -فحكمه: جواز استعماله بالصيغة الواردة، أو إخضاعه للضابط، وتطبيق القاعدة عليه؛ فيصاغ صياغة جديدة على حسب مقتضاها.
2- وإن كان الماضي غير ثلاثي فمصدره الميمي يصاغ على صورة مضارعه، مع إبدال أول المضارع ميمًا مضمومة، وفتح الحرف الذي قبل آخره إن لم يكن مفتوحًا2 ... ففي مثل الأفعال: عرف، تعاون، استفهم ... يكون المضارع: يعرف، يتعاون، يستفهم. وتكون صيغة المصدر الميمي: معرف، متعاون، مستفهم ... يقال: "كان معرفك للنظرية العلمية واضحًا، والمتعاون بيننا في فهمها خير وسيلة لتحقيق الغرض، والإجابة على كل مستفهم أنارت غوامض البحث". تريد: "كان تعريفك. والتعاون بيننا ... والإجابة عن كل استفهام" ومثل قول الشاعر:
ألا إنما النعمى تجازى بمثلها ... إذا كان مسداها إلى ماجد حرّ
أي: إسداؤها.
وملخص ما سبق من حيث: الصياغة القياسية، والحكم، والدلالة:
1- أن المصدر الميمي للماضي الثلاثي غير المضعف يصاغ دائمًا على وزن "مَفْعَل" -بفتح الميم والعين- إلا إن كان الماضي صحيح الآخر معتل
__________
1 صرح بجواز الأمرين صاحب "المصباح المنير" في فصول آخر كتابه -ص962: عند الكلام على صوغ المصدر الميمي واسم الزمان والمكان- وساق مثالًا نصه: "فر مفَرًّا ومفِرًّا".
2 وقد يستتبع هذا تغييرًا صرفيًّا في بعض الحالات؛ كالذي في كلمة: مقام -بضم الميم- في قول الشاعر:
وإن مُقام الحر في دار ذلة ... ليدفع عنه الفقر شر من الفقر
ففعلها: "أقام"، والمصدر الميمي منه هو: "مُقْوَم" على وزن: مُفْعَل. ثم ينقلب حرف العلة -الواو- أيضًا ... "انظر رقم 1 من الهامش السابق".(3/234)
الأول بالواو التي تحذف عند كسر عين مضارعه، فيجيء مصدره الميمي على "مَفْعِل" بكسر العين1.
أما المصدر الميمي للثلاثي المضعف فيجوز فيه فتح العين وكسرها.
2- وأن المصدر الميمي لغير الثلاثي يصاغ على صورة مضارعة، مع إبدال الحرف الأول ميمًا مضمومة، مع فتح الحرف الذي قبل آخره2.
3- وأن المصدر الميمي يلازم الإفراد3 والتذكير، ولا تلحقه تاء التأنيث إلا سماعًا في رأي كثير من النحاة. ويخالفهم -بحق- آخرون4.
والراجح أنه لا يعد من المشتقات، ولكن يصح أن يتعلق به شبه الجملة -كما سبق5-.
4- أنه يعرب على حسب حاجة الجملة إليه ما كان منه مسموعًا بالنصب6.
__________
1 هذا هو القياس في الحالتين. أما السماع فقد يجيء بغيرهما؛ كصيغة: "مَفْعَلة" في الحديث الذي سبق في رقم 3 من هامش ص231 ونصه: "الولد مبخلة، مجبنة، محزنة" وفي غيره مما ذكرناه.
2 فهو من مصدر غير الثلاثي كاسم المفعول من غير الثلاثي، وكاسم الزمان والمكان كذلك. والتمييز بينهما يكون بالقرائن التي تعين أحدها.
3 كما سيجيء في رقم 2 من ص676، لمناسبة هناك.
4 في الاقتصار على السماع تشدد بغير حجة قوية؛ إذ الأمثلة الفصيحة الواردة بالتاء كثيرة تبيح القياس عليها. وقد عرض مؤتمر المجمع اللغوي "المنعقد بالقاهرة في فبراير سنة 1971" لهذه المسألة واطلع على عشرات من الكلمات المسموعة بالتاء سجلها في محاضر جلساته، وقد أصدر قرارًا حاسِمًا في جواز إلحاق تاء التأنيث بالمصدر الميمي عامة. انظر ما يتصل بهذا في "أ" من ص223. وفي رقم "3، 4" من هامش ص231 بعض الأمثلة المختومة بالتاء.
5 في رقم "ب" من هامش ص182. ومع أنه لا يعد من المشتقات يجوز أن يتعلق به شبه الجملة: لما في المصدر الميمي من رائحة الفعل التي تكفي مسوغًا للتعليق. "راجع رقم 1، 2 من هامش ص251، 321".
6 يقع المصدر الميمي في جميع المواقع الإعرابية المختلفة "فيكون مبتدأ، وخبرًا، وفاعلًا، وإلخ".
وهناك ألفاظ مسموعة بالنصب في أكثر أحوالها باعتبارها مفعولًا مطلقًا لفعل محذوف، أو مفعولًا به لفعل محذوف كذلك. ومن الأول قولهم لمن يريد أن يؤدي عملًا: أفعل، وكرامة، ومسرة، أي:
وأكرمك كرامة وأسرك مسرة ... ومن الثاني كلمة: "مرحبًا" تقال للترحيب بالشيء، أي: أنه صادف مكانًا رحبًا، ولقي موطنًا واسعًا. ومنه قول القائل:
مرحبا بالخطب يبلوني إذا ... كانت العلياء فيه السببا
وقد سبق تفصيل هذا النوع في ج2 باب المفعول المطلق م76 ص192.(3/235)
5- ومن حيث العمل فإنه يعمل عمل مصدره1.
6- أما من حيث الدلالة فيدل على المعنى المجرد -كالمصدر الأصلي- ويمتاز الميمي بقوة دلالته وتأكيدها. ولا يدل على بيان السبب إلا سماعًا.
"ملاحظة": جاء في بعض المراجع اللغوية ما نصه2:
"إن كان الماضي الثلاثي معتل العين بالياء فالمصدر الميمي مفتوح العين، واسم الزمان والمكان مكسور كالصحيح؛ نحو: مال مَمَالًا، وهذا مَمِيله ... هذا هو الأكثر. وقد يوضع كل واحد موضع الآخر؛ نحو المَعاش والمَعِيش، والمسار والمسير. قال ابن السكيت: لو فُتِحَا جميعًا في اسم الزمان والمكان، وفي المصدر الميمي، أو كسرا معًا فيهما -أي: في الاسم والمصدر- لجاز، لقول العرب: المعاش والمعيش؛ يريدون بكل واحد: المصدر واسم الزمان والمكان، وكذا المعاب والعيب، قال الشاعر:
أنا الرجل الذي قد عبتموه ... وما فيه لعياب معاب ... 3
__________
1 ومن أمثلة إعماله قول الشاعر يخاطب امرأة اسمها "ظلوم":
أظلوم، إن مصابكم رجلًا ... أهدى السلام تحية -ظلم
يريد: إن أصابتكم رجلًا أهدى السلام تحية -ظلم. وكلمة: "ظلم" خبر "إن" وقد سبق -في ص223- رواية أخرى في البيت، وبيان قائله، وشرحه.
وقول الآخر:
وأمر تشتهيه النفس حلو ... تركت مخافةً سوء السماع
أي: خوفًا سوء السماع.
2 المصباح المنير -ص 962- من الفصول الأخيرة.
3 سبق هذا البيت لمناسبة أخرى في ص233.(3/236)
وقول الآخر:
أزمان قومي والجماعة كالذي ... منع الرحالة أن تميل مميلًا
أي: أن تميل ميلًا. الرحالة: الرحل، والسرج أيضًا. وقال ابن القوطية أيضًا: من العلماء من يجيز الفتح والكسر فيهما؛ مصادر كن أو أسماء زمان ومكان؛ نحو: الممال والمميل، والمبات والمبيت" ا. هـ.(3/237)
المسألة 102: اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة
مدخل
...
المسألة 102: اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة:
تعريف كلٍّ، وصوغُه، وإعمالُه.
اسم الفاعل، تعريفه:
"اسم مشتق، يدل على معنى مجرد، حادث1 وعلى فاعله". فلا بد أن يشتمل على أمرين معًا؛ هما: المعنى المجرد الحادث، وفاعله، مثل كلمة: "زاهد"، وكلمة: "عادل" في قول القائل: "جئني بالنمر الزاهد، أجئك
__________
1 أي: عارض، يطرأ ويزول؛ فليس له صفة الثبوت والدوام، ولا ما يشابههما. ويعترض بعض النحاة في التعريف عن كلمتي: "اسم، مشتق" بحجة أنه لا يوجد: "لفظ يدل على معنى مجرد، غير دائم، وعلى فاعله" إلا وهو اسم مشتق. وهذا صحيح. ولكنه ذكرناهما مبالغة في الإيضاح.
أما المعنى المجرد أو الحدث المحض ... فقد بسطنا الكلام فيه في هامش ص181، 207، ودلالة اسم الفاعل على هذا المعنى المجرد هي دلالة مطلقة؛ أي: صالحة للقلة والكثرة، إلا إذا وجدت قرينة توجه المعنى لأحدهما وحده -كما سيجيء في الصفحة التالية.
وأما المقصود من المشتق فهو: المأخوذ من كلمة أخرى مع تقاربهما لفظًا ومعنى. كما سبق -وفي ص182 بيان مفصل عن أصل المشتقات وعددها ... و ... وأما المعنى الحادث، "أو: غير الدائم، وغير الشبيه بالدائم" فهو الأمر الطارئ الذي يحدث ويزول من غير أن يدوم، أو يطول ثباته وبقاؤه حتى يقارب الدائم، ومن غير أن يشمل الماضي.
وقد ارتضى صاحب "التسهيل" تعريفًا آخر لاسم الفاعل لا يخرج -مع طوله- عن التعريف السابق، ولكنه يزيده إيضاحًا. فمن زيادة الفائدة أن نذكره. نقلًا عن حاشية الخضري- قال:
"إنه الصفة الدالة على فاعل الحدث، الجارية في مطلق الحركات والسكنات على المضارع من أفعالها في حالتي التذكير والتأنيث -كما سيجيء في ص308- المفيدة لمعنى المضارع أو الماضي. فخرج بالدالة على الفاعل، اسم المفعول، وما بمعناه؛ كمحمود، وقتيل. وبالجارية على المضارع الجارية على الماضي؛ كفرح، وغير الجارية على فعل، ككريم، وبالتأنيث نحو: "أهيف"؛ فإنه لا يجري على المضارع إلا في التذكير؛ لأن مؤنثه هيفاء. ولمعناه أو معنى الماضي لإخراج نحو: ضامر الكشح، مما يدل على الاستمرار، ويخرج به أيضًا: أفعل التفضيل؛ لأنه للدوام، كما خرج قبله. "فهذه المخرجات، ما عدا الأول والأخير -وهما اسم المفعول، واسم التفضيل- صفات مشبهة، =(3/238)
بالمستبد العادل". فكلمة: "زاهد" تدل على أمرين معًا هما: الزهد مطلقًا، والذات التي فعلته أو ينسب إليها، وكذا كلمة: "عادل" تدل على أمرين معًا؛ هما العدل مطلقًا والذات، التي فعلته أو ينسب إليها، ومثلهما كلمتي: "واشٍ" و"سائل" في قول المعري:
أعندي وقد مارست كل خفية ... يُصدَّق واشٍ1، أو يُخيَّب سائلُ
ودلالة اسم الفاعل على المعنى المجرد الحادث، أغلبية؛ لأنه قد يدل2 -قليلًا- عن المعنى الدائم، أو شبه الدائم، نحو: دائم، خالد، مستمر، مستديم ... و ... 3
ودلالته على ذلك المعنى المجرد مطلقة "أي: لا تفيد النص على أن المعنى قليل أو كثير ... " فصيغته الأساسية محتملة لكل واحد منهما4، إلا أن وجدت قرينه تعين أحدهما دون الآخر.
__________
= لا اسم فاعل. هذا هو الاصطلاح المشهور. وأما ما يأتي في: "أبنية أسماء الفاعلين" من أنه يطلق عليها اسم الفاعل فباعتبار اصطلاح آخر، وهو مجاز -كما سيأتي.
"وإن شئت فقل: اسم الفاعل ما دل على فاعل الحدث، وجرى مجرى الفعل في إفادة الحدوث. فخرج بالأول اسم المفعول، وبالثاني الصفة بجميع أوزانها، وأفعل التفضيل" ا. هـ.
واستعمال ذلك الإصلاح شائع قبل "ابن مالك"، ومنه ما جاء في "أمالي القالي" -ج2 ص184 ونصه: "قال أبو علي: غمَض وغمُض "بفتح الميم وضمها" فمن قال غمُض بضم الميم، قال في الفاعل: غميض. ومن قال: غمَض بفتح الميم، قال في الفاعل غامض" ا. هـ. فالمراد بالفاعل في الأول: الصفة المشبهة، وفي الثاني: اسم الفاعل.
1 أصلها: واشيٌ، على وزن: فاعل، حذفت الضمة؛ لثقلها على الياء، ثم حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين، طبقًا للبيان الذي سبق عند الكلام على المنقوص ج1 م16 ص173.
2 شرط هذه الدلالة أن تكون هي المعنى الصريح لصيغته اللفظية، أو أن توجد قرينة أخرى توجه المعنى إلى الدوام وشبهه، مع بقاء اسم الفاعل في الحالتين على صيغته وصورته الخاصة به، وأحكامه النحوية التي تفرَّد بها "انظر الزيادة الآتية في ص242".
3 وكذلك في الحالة التي يصير فيها: "صفة مشبهة" وستأتي في الزيادة ص242.
4 جاء في ص130 من شرح درة الغواص، ما نصه: "قال ابن بري: ... إن باب "فاعل" كضارب، وقاتل ... عام لكل من صدر منه الفعل، قليلًا كان أو كثيرًا؛ فلا يمنع أن يقع "فاعل" موقع "فعال" المختص بالكثير؛ لعمومه. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} لا يقتضي أن يكون السائل هنا من قل سؤاله؟ ومثله في صفات الباري: الخالق والخلاق، والرازق والرزاق ... والمراد بأحدهما ما يراد بالآخر". اهـ، وفي حاشية ياسين على شرح الفاكهي لقطر الندى "ج2 ص217 ما نصه: "قال الشاطبي في شرح الألفية: اسم الفاعل دال على الفعل، كثيرًا كان أو قليلًا: فيقال "فاعل" لمن تكرر منه الفعل وكثر، ولمن وقع منه فعل ما ... فإذا أرادوا أن يشعروا بالكثرة وضعوا لها مثالا دالًّا عليها؛ مثل: فَعُول" ا. هـ ... ولهذا إشارة في ص257 وهامشها.(3/239)
صوغه 1:
أ- يصاغ من مصدره الماضي الثلاثي، المتصرف، على وزن: "فاعِل"؛ بأن نأتي بهذا
المصدر -مهما كان وزنه- وندخل عليه من التغيير ما يجعله على وزن: "فاعِل". ولا فرق في الماضي بين المتعدي واللازم، ولا بين مفتوح العين، ومكسورها، ومضمومها2؛ نحو: "فتح، يفتَح، فتحًا؛ فهو: فاتح، قعَد، يقعُد، قعودًا؛ فهو: قاعد، حسب، يحسب، حُسابًا؛ فهو: حاسب. نعم، ينعم، نعمًا؛ فهو: ناعم" كرم، يكرم كرمًا؛ فهو كارم. حسن، يحسن، حسنًا؛ فهو: حاسن"؛ بشرط أن يكون الكرم والحسن أمرين طارئين، لا دائمين3
__________
1 عقد ابن مالك بابًا مستقلا لإعمال اسم الفاعل، وضمنه إعمال اسم المفعول "وسيجيء شرحه في هامش ص250". ثم عقد بابًا آخر "سيجيء شرحه أيضًا في هامش ص289" لابنيتهما وصيغهما، وأبنية الصفة المشبهة، فاصلًا بينهما بباب آخر؛ هو: "باب أبنية المصادر". وهذا ترتيب ارتضاه لسبب ذكرناه في أول باب "أبنية المصادر" ص181 ولم نقبله هناك، ولا نستحسنه هنا؛ إذ الكلام على الشيء وإعماله لا بد أن يجيء بعد معرفة ذلك الشيء وإدراك كنهه، وهذا يقتضي تقديم الكلام على صيغة وأبنيته أولا. كذلك لا نستحسن عقد بابين مستقلين؛ أحدهما الصيغ والأبنية. والآخر للإعمال والأحكام: لما في هذا من التشعيب والتشتيت من غير مسوغ.
2 مضموم العين لا يكون إلا لازمًا. "انظر البيان الخاص باللازم في هامش ص289".
3 نص على هذا كثيرون -في باب: أبنية أسماء الفاعلين ... ؛ منهم "الخضري" و"الصبان"، وصاحب حاشية "التصريح"؛ ومنهم: "صاحب المصباح المنير" في فصل الفعل ودلالته، ودلالة المشتقات، بآخر كتابه، ص947 وما بعدها، وكذلك محمد الرازي في كتابه: "غرائب أي التنزيل" المطبوع على هامش كتاب: "إملاء ما من به الرحمن ... " للعكبري، ص133 حيث عرض للآية الكريمة: {ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} وأوضح السبب في التعبير بكلمة: "ضائق" دون "ضيق" بما نصه:
"إن ضيق صدر الرسول عارض غير ثابت؛ لأن النبي عليه السلام كان أفسح الناس صدرًا. ونظيره قولك: فلان سائد وجائد. فإذا أردت وصفة بالسيادة والجود الثابتين المستقين، قلت: سيد وجواد. كذا قال الزمخشري" ا. هـ.
ويقول ابن يعيش في الآية السالفة: {ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} إنه عدل عن "ضَيِّق" إلى: "ضائق" ليدل على أن هذا الضيق عارض في الحال، غير ثابت ... ؛ ومثل هذا يقال في كلمة: "فارح" من قول أشجع السلمي يرثي عمرو بن سعيد الباهلي:
وما أنا من رزه -وإن جل- جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح
وراجع ما يأتي في ص292 حيث البيان والإفصاح.(3/240)
وكذلك بقية المعاني السابقة، حين يكون المراد النص على حدوث المعنى.
ويجب أن يَتَحقق في صيغة: "فاعل" المذكورة أمران؛ أن يكون ماضيها الثلاثي متصرفًا، وأن يكون معنى مصدره غير دائم؛ لأن الماضي الجامد "مثل: نِعْم، وعسى، وليس ... " لا يكون له مصدر، ولا اسم فاعل، ولا شيء من المشتقات الأخرى، ولأن المصدر الدال على معنى دائم، أو شبه دائم -لا يُشتق منه ما يدل نصا على الحدوث، وعدم الدوام، وهو: اسم الفاعل. إنما يشتق من ذلك المصدر شيء آخر يدل على الدوام أو شبهه؛ "كالصفة المشبهة"1، ولها صيغ متعددة بتعدد الاعتبارات المختلفة، وأحكام خاصة بها، سنعرفها في بابها2.
__________
1 لها باب خاص يجيء في ص281.
ومثلها اسم التفضيل، فإنه يدل على الدوام، طبقًا للبيان الذي في رقم 1 من هامش ص282، ولما سيجيء في بابه ص394.
2 ص281.(3/241)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- قلنا: إن صيغة "فاعل" المراد بها: "اسم الفاعل" لا تُشتق إلا من مصدر فعل ماضٍ، ثلاثي، متصرف. ويتساوى في هذا كل أنواع الماضي "الثلاثي المتصرف، المتعدي واللازم، مفتوح العين، ومضمومها، ومكسورها" ... فلا مكان للتوهم بأن بعض أنواع الماضي الثلاثي المتصرف اللازم لا يصاغ من مصدره اسم الفاعل على صيغة "فاعل" للدلالة على الحدوث نصًّا؛ إذ من أين يجيء التوهم بعد أن قطع الأئمة بالحكم العام السابق، وبقياسية: كرُم الرجل؛ فهو: كارم، بخل فهو: باخل، شرف فهو: شارف، "أي: صار صاحب شرف"، وحسن فهو: حاسن، وغني فهو: غانٍ ... و.... وأمثال هذا مما فعله ثلاثي متصرف، لازم، يدل على معنى طارئ غير ثابت، ولا شبيه بالثابت. أمَا إن كان المعنى ليس طارئًا حادثًا وإنما هو دائم أو شبه دائم -فيجب التصرف؛ إما بتغيير صيغة "فاعل" الدالة على الحدوث إلى أخرى دالة على الثبوث أو شبهه؛ كأن نقول: كريم، بخيل، شريف، حسن، غني -"كما سيجيء في باب الصفة المشبهة" وإما بإيجاد قرينة -لفظية أو معنوية - تدل على أن صيغة: "فاعل" لا يراد منها الحدوث؛ وإنما يراد منها الثبوت، ومن القرائن اللفظية: إضافة اسم الفاعل من الثلاثي اللازم إلى فاعله1، نحو: لي صديق، راجح العقل، رابط الجأش، حاضر البديهة ... والأصل: راجع عقله،
__________
1 إضافة اسم الفاعل إلى فاعله تخرجه -حتمًا- من بابه من غير تغيير في صيغته التي هو عليها عند إضافته لفاعله، وتدخله في باب: "الصفة المشبهة"؛ فتسري عليه كل أحكامها المعروضة في بابها "وستجيء الإشارة لهذا في ص256، 265، 292، والبيان الوافي في "د" ص265". ونلخصه فيما يأتي:
أإن كان فعله لازمًا ثلاثيًّا أو غير ثلاثي فلا يكاد يوجد خلاف في جواز إضافته إلى فاعله عند الرغبة في إبعاده عن باب اسم الفاعل وإدخاله في باب الصفة المشبهة على الوجه السابق لتحقيق الغرض المعنوي الذي تحققه تلك الصفة: ومتى تم إدخاله في باب الصفة المشبهة زال عنه اسمه القديم، وصار اسمه عند فريق من النحاة "الصفة المشبهة"، وعند فريق آخر "الملحق بها"، وهذا الخلاف في التسمية لا أثر له في المعنى ولا في الإعراب =(3/242)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رابط1 جأشه، حاضرة بديهته. ومنها: أن تكون صيغته اللفظية صريحة الدلالة على الدوام أو شبهه2.
ومثال القرينة المعنوية قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وقول المؤمن: رباه، آمنت بك، خالقَ الأكوان، لا شريك لك، وخفتك قاهرَ الطغاة لا يعجزك شيء ... وقول شوقي:
__________
= والفريقان متفقان على أن صورته الأولى لا تتغير، بالرغم من تغير اسمه.
ب- وإن كان فعله متعديًا لأكثر من مفعول به لم يجز إضافته لفاعله. "راجع ما يتمم هذا في رقم 3 من هامش ص256".
ج- وإن كان فعله متعديًا لمفعول به واحد فالصحيح جواز إضافة اسم الفاعل إلى فاعله للغرض السالف، وهو إدخاله في باب: "الصفة المشبهة"؛ ليؤدي ما تؤديه، مع بقائه على صورته الأولى. أما المفعول به الذي ينصبه هذا الفعل فالغالب الفصيح حذفه والاستغناء عنه متى وجد اسم الفاعل المضاف لفاعله، والذي انتقل نهائيا إلى باب: "الصفة المشبهة". ويجوز على قلة يباح الأخذ بها أن ينصبه اسم الفاعل الذي صار صفة مشبهة. وإنما ينصبه بشرط أمن اللبس عند ذكره فلا يختلط بغيره، وبشرط تغير اسمه، فلا يسمى "مفعولًا به"، وإنما يسمى: "الشبيه بالمفعول به" كما يقال في إعرابه إنه منصوب؛ لاعتباره "شبيهًا بالمفعول به"؛ كالشأن في إعرابه مع الصفة المشبهة الأصلية. وسبب الاشتراط أن اسم الفاعل في هذه الصورة الجديدة ليس اسم فاعل إلا في الصورة الشكلية والصيغة الظاهرة دون الحقيقة الواقعة، وهي المعنى الذي انتهى إليه، وصار بسببه صفة مشبهة أو ملحقًا بها، والصفة المشبهة وما ألحق بها -كاسم الفاعل في حالته التي نتكلم عنها- لا تنصب المفعول به الأصلي.
ولما كان كثير من الأساليب الفصيحة المأثورة، قد ظهر فيها بعد هذه الصفة وملحقاتها مفعول فعلها منصوبًا وهو لا يصلح أن يكون حالًا، ولا تمييزًا، ولا شيئًا آخر من المنصوبات غير المفعول به لجأ النحاة إلى التوفيق بين الدواعي المختلفة؛ لمنع التعارض بينها؛ فأجازوا وقوع المفعول به بعد هذه الصفة المشبهة، بشرط أن يتغير اسمه؛ فيسمى: "الشبيه بالمفعول به" لا مفعولًا به، واشترطوا لوقوعه بعد ملحقاتها أن يسمى أيضًا: "الشبيه بالمفعول به" لا مفعولا به، وألا يؤدي إلى لبس في الحالتين. وقالوا: إن الأفصح بعد ملحقات الصفة المشبهة حذفه؛ مبالغة من أمن اللبس، بالرغم من صحة ذكره، وسيجيء إيضاح آخر لهذا في هامش ص264، 265.
1 ربط جأشه رِباطة -بالكسر- اشتد قلبه كما في القاموس ا. هـ فالفعل هنا لازم.
2 طبقًا للبيان السابق في ص239.(3/243)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قف "بروما"1 وشاهد الأمر، واشهد ... أن للملك مالكًا، سبحانَهْ
فهذه الأوصاف المتصلة بالله، من المُلك2 والخلق، والقهر ليست طارئة، ولا عارضة، ولا مؤقتة بزمن محدود تنقضي بانقضائه؛ لأن هذا لا يناسب المولى جل شأنه، ومن ثم كانت تلك الصيغ في معناها ودلالتها: "صفات مشبهة" وليست "اسم فاعل"، إلا في الصورة اللفظية، والأحكام النحوية الخاصة به برغم أنهما على صيغة: "فاعل"؛ فهذا الوزن وحده ليس كافيًا في الدلالة على الحدوث أو على الثبوت والدوام؛ فلا بد معه من القرينة التي تعين أحدهما، وتزيل عنه اللبس والاحتمال؛ كي يمكن القطع بعد ذلك بأنه في دلالته المعنوية -لا الشكلية- اسم فاعل، أو صفة مشبهة.
__________
1 يسميها العرب القدماء: رومية.
2 يمعنى التملك.(3/244)
ب- ويصاغ اسم الفاعل من مصدر الماضي غير الثلاثي بالإتيان بمضارعه، وقلب أول هذا المضارع ميمًا مضمومة، مع كسر الحرف الذي قبل آخره، إن لم يكن مكسورًا من الأصل. فإذا أردنا الوصول إلى اسم الفاعل من الفعل: "قاوم" آتينا بمضارعه، وهو: "يقاوم"، وأجرينا عليه ما سبق؛ فيكون اسم الفاعل هو: "مقاوم"، وفي مثل: يتبين -وهو مضارع للماضي: "تبين"- نقول: متبيِّن ... نحو: الفريسة مقاوِمة المفترس، والغلب متبيِّن للقوي. وفي مثل: أذل وأعز؛ ومضارعهما يذل ويعز ... نقول: "مذِلّ" و"معِزّ" كقول عائشة -رضي الله عنها- في رثاء أبيها: "نضر الله وجهك يا أبت؛ فقد كنت للدنيا مذلًا بإدبارك عنها، وللآخرة معزًا بإقبالك عليها".
ج- مجيء الصيغة من مصدر الفعل غير الثلاثي بالطريقة السالفة لا يكفي -من غير قرينة- للقطع بأنها صيغة "اسم فاعل"؛ فقد يوهمنا مظهرها أنها كذلك، مع أنها في حقيقتها "صفة مشبهة"؛ بسبب دلالتها على معنى ثابت. ومن هذا: الصيغة المضافة إلى فاعلها1 في مثل: "النجم مستدير الشكل، متوقد الجرم؛ مستضيء الوجه. والكوكب مستدير الشكل، منطفئ الجسم، مظلم السطح". والأصل: مستدير شكله، متوقد جرمه، مستضيء وجهه، منطفئ جسمه، مظلم سطحه. وأفعالها هي: "استدار, توقد، استضاء، انطفأ، أظلم ... و ... " فقد قامت في الأمثلة السابقة قرينة لفظية، "هي إضافة الصيغة إلى فاعلها على الوجه المشروح" وقرينة معنوية، "هي اليقين الشائع بدوام تلك الأوصاف"، وتدل كل منهما وحدها على أن الصيغة ليست اسم فاعل؛ بالرغم من صورتها الظاهرة. وإذًا لا بد من قرينة تقوم بجانب الصيغة هنا -كما قامت في صيغة "فاعل" المشتق من مصدر الثلاثي؛ لتبعد الوهم، وتحدد النوع؛ أهو اسم فاعل نصًّا، أم صفة مشبهة قطعًا.
د- لا بد من زيادة تاء التأنيث في آخر "اسم الفاعل" للدلالة على
__________
1 إيضاح هذا في هامش ص242، وما تشير إليه من صفحات أخرى، ولا سيما ص265.(3/245)
تأنيثه، سواء أكان فعله ثلاثيًّا أم غير ثلاثي؛ إلا في المواضع التي يحسن ويكثر ألا تزاد فيها1، ومنها: اسم الفاعل الخاص بالمؤنث؛ كالمرأة مثلًا؛ أي: الخاص بأمر مقصور عليها، يناسب طبيعتها وتكوينها الجسمي؛ فلا يحتاج لعلامة تدل على التأنيث، وتمنع اللبس؛ مثل: الحامل، والمرضع، في نحو: "ولدت الحامل، وصارت مرضعًا"2.
هـ- كسر الحرف الذي قبل الآخر في اسم الفاعل من مصدر الفعل غير الثلاثي -قد يكون كسرًا ظاهرًا كما في مثل: "متوقِّد، منطفِئ، مظلِم ... "، وقد يكون مقدرًا كما في مثل: "مستضِيء، مستدير، مختار"؛ فأصلها: مستضْوِئ، مستدْوِر، مختَيِر ... و ... فقلبت الواو في الكلمتين الأوليين ياء بعد نقل كسرتها إلى الساكن الصحيح قبلها؛ تطبيقًا لقواعد صرفية في "الإعلال". وكذلك قلبت الياء في "مختير" ألفًا: لوقوعها متحركة بعد فتحة ...
إعماله:
يجري اسم الفاعل مجرى فعله في العمل، وفي التعدي واللزوم بتفصيلات وشروط تختلف باختلاف حالتي تجرده من: "أل" الموصولة3 أو اقترانه بها4.
__________
1 هي مدونة في باب: "التأنيث" ج4 ص542 م 169.
2 إنما يكون الأحسن والأبلغ حذف تاء التأنيث من كلمة: إذا كانت بمعنى: "حبلى" فيكون الشأن في "حامل" كالشأن في "لابِن، وتامِر" أي: صاحب لبن وتمر. أي: منسوب لهما. أما إن كانت بمعنى التي تحمل شيئًا فوق رأسها أو ظهرها أو نحوهما فلا تحذف التاء.
وكذلك تحذف استحسانًا من كلمة: "مرضع" إن أريد بها التي من شأنها وبمقتضى طبيعتها الجسمية أن تكون صالحة للإرضاع، ولو لم تزاوله فعلًا، وكذا المرأة المنسوبة للإرضاع، كالتي تتخذه حرفة، أو تشتهر به. أما التي ترضع الطفل فعلًا بأن تلقمه ثديها فيتناوله بفمه، فهي مرضعة.
وسيجيء الإيضاح الكامل لهذا في موضعه المشار إليه من الجزء الرابع.
3 لأن "أل" الداخلة على المشتقات العاملة هي: الموصولة -غالبًا- كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص254، وكما سبق عند الكلام على "أل" في باب "الموصول" ج1. وهل هي في الوقت نفسه تفيد التعريف؟ رأيان.
4 في الصفحة التالية تفصيل الكلام على حالة التجرد "أ" أما حالة الاقتران ففي: "ب" ص254.(3/246)
أ- فإن كان مجردًا منها رفع فاعله بغير شرط إن كان الفاعل ضميرًا مستترًا1 أو ضميرًا بارزًا2، وعمل كذلك في باقي المعمولات التي ليست فاعلًا ظاهرًا، ولا مفعولًا به.
أما الفاعل الظاهر فلا يرفعه إلا إذا كان اسم الفاعل مستوفيًا للشروط الآتية3، وفي مقدمتها اعتماده على أحد الأشياء المذكورة هناك. نحو: أقادم صديقنا الآن؟
وأما نصبه المفعول به فلا يجوز إلا بعد استيفائه تلك الشروط، ومنها الاعتماد أيضًا، وأن يكون: بمعنى الحال أو الاستقبال، أو الاستمرار المتجدد4 الذي يشمل الأزمنة الثلاثة، مثل: "من يكن اليوم مهملًا عمله يجد نفسه غدًا فاقدًا رزقه". ومثل: "ما أعجب الصانع الماهر، مديرًا مصنعه في حزم، مدبرًا أمره في يقظة".
ويقولون في سبب إعماله: إنه جريانه -غالبًا- على مضارعه الذي بمعناه5، وإن هذه الشروط تقرِّبه من الفعل، وتبعده من الاسمية المحضة ...
__________
1 إذا كان فاعله ضميرًا مستترًا وجب أن يكون ضمير غائب؛ طبقًا للبيان الذي في "ج" من الزيادة ص252.
2 إلا إن كان اسم الفاعل مبتدأ مستغنيا بمرفوعه عن الخبر فالأكثر اعتماده على نفي أو استفهام كالشأن في جميع المشتقات العاملة "وسيجيء هذا في "أ" من ص252".
3 في ص249. والاعتماد هنا يختلف عنه في باب: "المبتدأ والخبر" -طبقًا للبيان الآتي في "أ" ص252.
4 الاستمرار التجددي معناه: أن الأمر يحدث ثم ينقطع، ثم يعود ثم ينقطع، وهكذا دواليك، كاستمرار الليل والنهار. وهناك استمرار الدوامي؛ وهو الذي لا انقطاع فيه؛ نحو: مرتفع القامة، واسع الفم "وقد سبقت الإشارة الموضحة لهذا في ص39، وله إشارة أخرى في رقم 2 من هامش ص282".
5 يريدون: أن اسم الفاعل في هذه الصورة يوافق مضارعه في المعنى، وفي الحدث والتجدد، وفي عدد الحروف، وفي هيئتها؛ "بأن يكون الساكن في أحدهما مقابلا في ترتيبه لساكن في الآخر، وكذلك المتحرك فيهما"، هذا إلى الاشتراك في الحروف الأصلية. خذ مثلًا لذلك اسم الفاعل: "مخبِر" فإنه موافق لمضارعه: "يخبر" في كل ما سبق؛ فمعناهما واحد، وكلاهما أربعة أحرف، ثانيها ساكن وما عداه، تحرك؛ فكل حرف ساكن أو متحرك يماثله في الحركة والسكون نظيره في الترتيب. وكلاهما يشابه الآخر في الحروف الأصلية. ومثله اسم الفاعل: "فاقد" فإنه جارٍ على مضارعه فيما سبق. وهكذا. مسافر ويسافر، ومتدحرج ويتدحرج، ومتعلم ويتعلم، والسبب لسالف مستنبط من الاستعمال العربي الذي هو السبب الأول الأصيل.(3/247)
ولهذا يمكن أن يحل محله المضارع الذي بمعناه.
فإن لم يكن اسم الفاعل المجرد من "أل" الموصولة مستوفيًا الشروط الآتية -ومنها الاعتماد- لم يرفع فاعلًا ظاهرًا ولم ينصب مفعولًا به. وإن لم يكن بمعنى الحال، أو الاستقبال، أو الاستمرار المتجدد؛ بأن كان بمعنى الماضي المحض، لم ينصب المفعول به إلا بشرطين:
أولها: تحقق الشروط الآتية؛ ولا سيما الاعتماد.
وثانيهما: صحة وقوع مضارعه موقعه من غير فساد المعنى. نحو: "كانت الأمطار أمسِ غاسلةً الأشجارَ، منقيةً مياهُها الهواءَ"؛ إذ يصح: كانت الأمطار أمس تغسل الأشجار وتنقي مياهها الهواء. ولا يصح: هذا حاصدٌ قمحًا أمس؛ إذ لا يقال: هذا يحصد قمحًا أمس.
وأما عمله في شبه الجملة بنوعيه وفي باقي المعمولات الأخرى التي ليست بفاعل ظاهر، ولا بمفعول به منصوب -فلا يشترط فيها شيء؛ لأن الشروط مطلوبة لإعماله في الفاعل الظاهر، والمفعول به المنصوب، كما أسلفنا، وهذا أمر يجب التنبُّه له.
وإنما أهمل اسم الفاعل الذي بمعنى الماضي، فلم ينصب المفعول به مباشرة من غير اشتراط شيء -كما نصب فعله المتعدي- لأنه لا يجري على لفظ الفعل الماضي الذي بمعناه، فهو يشبهه معنى، لا لفظًا؛ ولهذا لا يجوز أن ينصب المفعول به مباشرة عند عدم تحقق الشروط؛ فيجب في هذه الصورة الإضافة، بأن يكون اسم الفاعل مضافًا، ومعموله مضافًا إليه مجرورًا1، ولا يصح تسمية هذا المعمول مفعولًا به، ولا إعرابه كذلك ... والإضافة في
__________
1 انظر رقم 3 من هامش ص255.
وملخص ما تقدم: أن اسم الفاعل المجرد من "أل" الموصولة في حالتي مضيِّه وعدم مضيِّه يرفع الفاعل الضمير؛ مستترًا وبارزًا. لكنه لا يرفع الفاعل الظاهر في الحالتين إلا بتحقق الشروط؛ ومنها: الاعتماد، ولا ينصب المفعول به مباشرة -كما ينصبه فعله- إلا إذا كان لغير الماضي، مع استيفائه بقية الشروط الأخرى التالية. فإن كان بمعنى الماضي لم ينصب المفعول به إلا بعد استيفاء تلك الشروط مزيدًا عليها صحة وقوع مضارعه موقعه. أما العمل في بقية المعمولات الأخرى فلا يحتاج لاشتراط شيء، فهو كالفاعل الضمير، سواء أكان اسم الفاعل بمعنى الماضي أم غيره.(3/248)
هذه الصورة إضافة محضة، لا يجوز فيها وجود "أل" في اسم الفاعل ما دام بمعنى الماضي فقط كما تقدم في باب الاضافة1.
وفيما يلي تلك الشروط التي أشرنا إليها:
1- أن يسبقه شيء يعتمد عليه؛ كالاستفهام المذكور نصًّا، مثل قول الشاعر:
أمنجزٌ أنتمُ وعدًا وثقت به ... أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوبِ?
أو الاستفهام المقدر في مثل: غافرٌ أخوك الإساءة أم محاسب عليها؟ فإن الأصل: أغافرٌ أخوك ... ؟ بدليل وجود "أم" المعادلة2 ...
أو النداء في مثل: يا بانيًا3 مستقبلك بيمينك ستدرك غايتك. أو النفي4 في مثل: ما مخلفٌ عهده شريف، وقول الشاعر:
سليمُ دواعي الصدر5، لا باسطًا أذى ... ولا مانعًا خيرًا، ولا قائلًا هجرًا6
أو: أن يقع نعتًا لمنعوت مذكور؛ في مثل: الحسد نار قاتلةٌ صاحبها. أو لمنعوت محذوف لقرينة؛ مثل: كم معذب نفسه في طلب الحرية لبلاده يرى العذاب من أجلها نعيمًا، وكم مبدد ثروته في سبيلها يرى التبديد ذخرًا. أو يقع حالًا في مثل: سحقًا وبعدًا للمال جالبًا الذل والشقاء لصاحبه. أو يقع خبرًا لمبتدأ، أو لناسخ، أو مفعولا لناسخ؛ مثل: هذا منفقٌ مالًا في وجوه البر. اشتهر العربي بأنه حامٍ عشيرته، أحسب الحر موطنًا نفسه على احتمال المشتقات في سبيل حريته، وكنت أزعم المشقة موهنةً عزيمته؛ فإذا هي
__________
1 راجع "د" من ص5 ورقم 3 من هامش ص12.
2 في ص585 -باب العطف- إيضاح الكلام على: "أمْ" وبيان أحكامها.
3 يرى النحاة في مثل هذه الصورة أن اسم الفاعل المنادى بمنزلة نعت لمنعوت محذوف؛ والتقدير: يا شخصًا بانيًا. فالمسوغ عندهم هو وقوعه نعتًا لا منادى. والخلاف شكلي لا يُلتفت إليه؛ لأنه لا يغير الحكم، ولا أثر له مطلقًا.
4 ويشمل النفي التقديري الذي في مثل: إنما محسن علي صنيعه؛ لأن معناه: ما محسن على إلا صنيعه، وفي مثل: غير مهمل واجبه عاقل.
5 دواعي الصدر: الأمور والدوافع التي تحرك القلب.
6 قولًا رديئًا سيئًا.(3/249)
أكبر حافز. أعلمتُ الجنودَ القائدَ مضاعفًا الثناء عليهم ...
2- ألا يكون مصغرًا، فلا يصح: يقف حويرسٌ زرعًا؛ أي: يقف حارس زرعًا.
3- ألا يكون له نعت يفصل بينه وبين مفعوله؛ فلا يصح: يقبل راكب مسرعٌ سيارةً. فإن تأخر النعت عن مفعول اسم الفاعل جاز؛ يقبل راكب سيارة مسرع. ويجوز الفصل بالنعت إن كان معمول اسم الفاعل شبه جملة، لا مفعولًا به؛ نحو: "لا تستشر إلا قادرًا، ناصحا، على حل المشكلات، ولا تركن إلى صداقة ساعٍ، طامع، وراء مآربه"؛ والأصل: قادرًا على حل المشكلات، ناصحًا، ساعٍ وراء مآربه، طامع.
4- ألا يفصل بينه وبين مفعوله فاصل أجنبي "وهو الذي ليس معمولًا لاسم الفاعل، وإنما يكون معمولًا لغيره"؛ فلا يجوز "هذا مكرِّمٌ، واجبها، مؤديةً" والأصل: هذا مكرمٌ مؤديةً واجبها؛ ففصلت كلمة: "واجب" بين اسم الفاعل ومفعوله، مع أنها ليست معمولًا لاسم الفاعل: "مكرم"؛ وهذا لا يصح.
وهناك حالة يصح فيها الفصل بالأجنبي؛ هي: أن يكون الفاصل الأجنبي شبه جملة، أو أن يكون معمول اسم الفاعل شبة جملة، لا مفعول به؛ نحو: الرحيم مساعدٌ، عن النهوض، عاجزًا. ونحو: إن هذا الشاهد ناطقٌ، نافعٌ، بالحق، والأصل: الرحيم مساعد عاجزًا عن النهوض. إن هذا الشاهد ناطق بالحق نافع1.
__________
1 فيما سبق يقول ابن مالك في الباب الذي عنوانه: "إعمال اسم الفاعل"؛ وضمنه إعمال اسم المفعول أيضًا:
كفعله اسم فاعل في العملِ ... إن كان عن مضيه بمعزلِ
وولي استفهامًا، أو: حرف نِدا ... أو: نفسًا، أو: جا صفة، أو: مسندًا
يقول: اسم الفاعل في العمل -من ناحية التعدي واللزوم- كفعله، بشرط أن يكون بمعزل عن الزمن الماضي، أي: بمكان بعيد عنه. والمراد: أنه لا يكون للزمان الماضي. ويشترط أن يلي =(3/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= استفهامًا "أي: يقع بعد استفهام" أو: بعد حرف نداء، أو: بعد نفي، أو: أن يكون اسم الفاعل صفة "والمراد بها هنا: النعت، والحال". أو مسندًا. والإسناد المقصود يتحقق بكونه خبرا للمبتدأ أو الناسخ، كما يتحقق بكونه مفعولًا لناسخ من النواسخ التي تنصب مفعولين أو أكثر. "والجار والمجرور: "عن مضيه" متعلقان بكلمة: "معزل": فإن اسم المكان فيه رائحة الفعل، برغم أنه مشتق لا يعمل؛ فيجوز أن يتعلق به شبه الجملة، كما في رقم 5 من هامش ص235 وفي رقم 2 من هامش ص321، وكما سبق في ج2 ص343 م89 عند الكلام على تعلق شبه الجملة، وراجع الخضري عند كلامه على البيت السالف". هذا ما تضمنه البيتان. وفيهما قصور واضح تداركناه في الشرح.
أو يقع نعتًا في المعنى لمنعوت محذوف معروف. وهذا الذي يشير إليه ابن مالك بقوله بعد البيتين السابقين:
وقد يكون نعتُ محذوفٍ عرفْ ... فيستحق العمل الذي وُصِفْ(3/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يختلف الاعتماد هنا عنه في باب: المبتدأ والخبر؛ فهو هناك مقصور على النفي والاستفهام دون غيرهما -كما أشرنا1- فوجود أحدهما شرط "أغلبي" لكي يرفع الوصف فاعلًا يغني عن الخبر. وقد يمكن الاستغناء عن هذا الشرط هناك. فيرفع الوصف فاعله الذي يستغني به عن الخبر بدون اعتماد على نفي أو استفهام، كما أوضحنا الحكم وتفصيله في موضعه المناسب من باب: المبتدأ والخبر2.
ب- إذا وقع الوصف "ومنه اسم الفاعل ... " مبتدأ مستغنيًا بمرفوعه عن الخبر فإنه يحتاج إلى شروط أغلبية3 أخرى؛ أهمها: ألا يكون مُعرَّفا، ولا مثنى، ولا مجموعًا؛ لأن الوصف -فيما يقولون- بمنزلة الفعل، والفعل لا يعرف، ولا يثنى، ولا يجمع. وتفصيل هذا في مكانه من الباب المشار إليه....4.
ج- إذا رفع اسم الفاعل ضميرًا مستترًا وجب أن يكون مرجع هذا الضمير غائبا5؛ لأن اسم الفاعل لا يعود ضميره إلا على الغائب؛ ففي مثل: أنا ظانٌّ محمدًا قائمًا -يكون التقدير: أنا رجل ظان ... فالضمير في: "ظان" تقديره: "هو"، يعود على ذلك المحذوف، ولا يصح تقديره: أنا6 ... فقد قال النحاة: إن الضمير قد يختلف مع مرجعه في مثل: "أنا عالم فائدة التعاون، وأنا مؤمن بحميد آثاره، فالضمير في كلمتي: "عالم ومؤمن" مستتر يتحتم أن يكون تقديره: "هو" كما عرفنا. لكن ما مرجعه؟
يجيبون: إن أصل الجملة: أنا رجل عالم فائدة التعاون، وأنا رجل مؤمن بحميد آثاره. فالضمير للغائب، تقديره؛ "هو" عائد هنا على محذوف حتمًا،
__________
1 في رقم 2 من هامش ص247.
2 ج1 ص324 م 23.
3 أي: مراعي فيها أنها الأغلب.
4 باب: المبتدأ والخبر -ج1 م34.
5 أي: يجب أن يكون ما يعود عليه هذا الضمير غائبًا.
6 راجع الخضري ج1 باب "ظنَّ" عند بيت ابن مالك: وخص بالتعليق والإلغاء ما ...(3/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يصح عودته على الضمير: "أنا" المتقدم، كما لا يصح أن يكون الضمير المستتر تقديره: "أنا"، بدلًا من: "هو" لأن اسم الفاعل لا يعود ضميره إلا على الغائب، وهذا يقتضي أن يكون الضمير المستتر للغالب أيضًا.
الظاهر أن هذا الحكم ليس مقصورًا على اسم الفاعل، بل يسري على غيره من المشتقات المحتملة ضميرًا مستترًا؛ فيجب إرجاعه للغائب كذلك.(3/253)
ب- وإن كان اسم الفاعل مقترنًا "بأل" الموصولة1 فإنه يعمل مطلقًا بغير تقيد بزمن معين2، ولا بشرط من الشروط السالفة التي منها: الاعتماد، وعدم التصغير ... و ... نحو: ما أعجب رائدنا هذا، فهو الناظم أمس قصيدة رائعة، وهو الناطق الآن الحكمة والبيان، وهو المواجه خصمه غدًا بالحجة والبرهان3 ... وكقول المتنبي:
القاتل السيف في حسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجالُ
بعض أحكام اسم الفاعل العامل:
1- إذا كان اسم الفاعل مستوفيًا شروط إعماله لنصب المفعول به جاز نصب هذا المفعول مباشرة -بشرط أن يكون اسمًا ظاهرًا- وجاز جره باعتباره "مضافًا إليه"، واسم الفاعل هو "المضاف"؛ ففي نحو: ما أنت اليوم مصاحب الغادر -يصح نصب كلمة: "الغادر" باعتبارها مفعولًا به لاسم الفاعل، ويجوز جرها باعتبارها مضافًا إليه. فإذا جاء تابع للمفعول به المنصوب مباشرة وجب في هذا التابع النصب، مراعاة للفظ المتبوع المنصوب، ولا يصح إلا النصب. أما عند جر المتبوع بالإضافة فيجوز في تابعه الأمران، إما مراعاة الأصل السابق وهو النصب؛ لأن المضاف إليه كان مفعولًا به في أصله -وإما مراعاة الأمر الواقع الآن، وهو: الجر. ففي مثل: ما أنت مصاحب الغادر
__________
1 لأن: "أل" الداخلة على المشتقات العاملة هي الموصولة، غالبًا، "كما أشرنا في رقم 3 من هامش ص246"، وهل هي في الوقت نفسه معرفة؟ رأيان.
"راجع الكلام عليها في ج1 باب الموصول ص320 م26".
2 لأنه مع فاعله سيكون صلة لـ"لأل" الموصولة، فهو بمنزلة الفعل، والفعل يعمل ماضيًا وغير ماضٍ، وكذلك ما كان بمنزلته، وحل محله. والتعليل الصحيح هو استعمال العرب.
3 وفي المقترن بـ"أل" يقول ابن مالك:
وإن يكن صلة "أل" ففي المُضِي ... وغيره إعماله قد ارتُضِي
يريد: أن اسم الفاعل إذا كان مبدوءًا بـ"أل" الموصولة فإنه يعمل في حالتي التعدي واللزوم عمل فعله، من غير تقيد بنوع زمن أو بغيره، فيعمل بغير شرط سواء أكان الزمن ماضيًا أم غير ماضٍ.(3/254)
والمنافقَ، يتعين نصب المعطوف، وهو كلمة: "المنافق" تبعًا للمعطوف عليه المنصوب؛ وهو كلمة: "الغادر". وفي مثل: ما أنت مصاحب الغادر والمنافق؛ بجر المعطوف عليه، يجوز في المعطوف النصب، ويذكر في إعرابه: أنه منصوب؛ تبعًا لأصل المعطوف عليه، كما يجوز فيه الجر تبعا لحالة المعطوف اللفظية.
ويجوز في مفعول اسم الفاعل أن تدخل عليه لام التقوية1، فتجره، نحو: أنت متقنٌ "العملَ" أو للعمل ... ونحو قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 2، والأصل: فعّال2 ما يريد.
فإن كان لاسم الفاعل المستوفي الشروطَ مفعولان أو ثلاثة وأضيف إلى واحد منها وجب ترك الباقي مفعولًا به منصوبًا كما كان، نحو: أنا ظانٌّ الجوَّ معتدلًا. أأنت مخبرٌ الصديقَ الزيارةَ قريبةً؟ وفعلهما "ظن" الناصب لمفعولين، و"أخبر" الناصب لثلاثة، فاسم الفاعل المستوفي لشروط نصب المفعول به مماثل لفعله في نصب المفعول به أو المفعولين أو: الثلاثة، وعند إضافته لمفعول به منها يظل الباقي على حاله منصوبا3.
وقد يضاف اسم الفاعل للخبر؛ لشبهه بالمفعول به، مثل: أنا كائن
__________
1 سبق إيضاحها في ج2 ص348 م90 باب: حروف الجر.
"2، 2" صيغة: "فعّال" هذه إحدى صيغ المبالغة التي هي نوع من اسم الفاعل. وستأتي في ص257.
3 وإذا كان اسم الفاعل غير مستوفٍ لشروط نصب المفعول به -كأن يكون بمعنى الماضي مع خلوه من: "أل"- وكان فعله ناصبًا مفعولين أو ثلاثة وجب في هذه الحالة أن يضاف اسم الفاعل إلى ما يليه مما هو في أصله مفعول به للفعل، ويترك الباقي منصوبًا على حاله. وإن وجد فاعل ظاهر وجب تركه مرفوعًا، "ولا يجوز إضافة اسم الفاعل إلى فاعله إذا بقي اسم الفاعل محتفظًا باسمه وبمعناه سواء أكان فعله لازمًا أم متعديًا؛ "كما سيجيء في الحكم الثاني بالصفحة التالية، والبيان في ص265" نحو: هذا معطي محتاجٍ أمس درهمًا. ومُعْلم حامدٍ أمس محمودًا قادمًا. والناصب لهذه المفعولات الباقية على حالها من النصب فعل محذوف إليه اسم الفاعل الحالي الذي لا يعمل. وأجاز بعض النحاة أن يكون الناصب هو اسم الفاعل المذكور؛ لأنه اكتسب بالإضافة شبهًا بالمقرون "بأل" الموصولة، والمقرون "بأل" هذه يعمل، ولو لم يستوفِ الشروط طبقًا لما تقدم؛ كما إذا كان بمعنى الماضي. وهذا رأي فيه تيسير، يحسن الاقتصار عليه؛ لبعده من التكليف. "والحكم السابق تكملة هامة في هامش ص243".(3/255)
أخيك. فإن كان مفعول اسم الفاعل ضميرًا متصلًا وجب جره بالإضافة1 نحو: والدك مكرمك، ولا يجوز إعرابه مفعولًا به إلا في رأي مرجوح.
2- عرفنا2 أنه لا يجوز إضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه مع احتفاظه باسمه وبقائه اسم فاعل. لكن إن دل على الثبوت، وقامت قرينة تدل على هذا من غير أن تتغير صيغته وصورته اللفظية الظاهرة، صار صفة مشبهة يجري عليه كل أحكامها، ومنها: أن يكون لازمًا ينصب مفعولًا به أصيلًا، وأن تجوز إضافته إلى فاعله3، وهذا أحد الأحكام التي يختلف فيها اسم الفاعل العامل، والمصدر العامل4.
__________
1 تطبيقًا لقاعدة وصل الضمير التي مرت تفصيلاتها في "ج1 ص181 م20". فإن كان الضمير معمولًا لوصف يعرب -غالبًا- صلة "أل"، وهذا الوصف للمثنى أو لجمع المذكر السالم وملحقاتهما؛ نحو: والداك المكرماك. أهلك المكرموك ... و ... فالأحسن -عند حذف نون التثنية والجمع- اعتبار الضمير "مضافًا إليه" "كما سبق البيان في باب الإضافة، ص10" ونقلنا: أن بعض النحاة يجيز اعتبار الضمير مفعولًا به للوصف، "وهو هناك أم فاعل"، والنون محذوفة للتخفيف لا للإضافة. وقلنا إن الخير في الاقتصار على الإعراب الأول؛ منعًا للإلباس والغموض المنافيان للغرض الأصيل من اللغة، كما قلنا إن هذه النون قد تحذف في حالات أخرى، "عرضناها في ج1 م11 ص142، وتشمل حالة في باب "لا" النافية للجنس. ط1 م56 هامش ص629".
2 في هامش ص242. والتفصيل في "د" من ص265.
3 لهذا إيضاح وتفصيل هامَّان، سجلناهما في هامش ص242 وفي ص265.
4 قال شارح المفصل "ج1 ص62" -بتصرف- الفرق بين المصدر العامل واسم الفاعل العامل من وجوه أشهرها خمسة:
"أولها": أن "أل" في المصدر مقصورة على التعريف غالبًا، ولكنها في اسم الفاعل للتعريف، وهي اسم موصول في الوقت نفسه؛ وهذا رأي شارح المفصل ويخالفه آخرون "راجع ج1 ص251 م 26 باب الموصول".
"ثانيها": أن المصدر العامل يضاف إلى فاعله حينًا، وإلى مفعوله حينًا آخر، ولكن اسم الفاعل لا يضاف لفاعله، إلا إذا ترك اسمه، وصار نوعًا من الصفة المشبهة -كما سبق، في هامش ص342.
"ثالثها": أن المصدر يعمل في الأزمنة الثلاثة. أما اسم الفاعل فلا يعمل إلا في الحال أو في المستقبل بشروط، وقد يعمل في غيرهما، ولكن بشروط أيضًا.
- طبقًا للتفصيل الذي سبق في إعماله، ص246.
"رابعها": أن المصدر لا يتقدم عليه شيء من معمولاته ... "إلا شبه الجملة بالإيضاح الذي =(3/256)
3- جميع ما تقدم من الأحكام، والشروط، والتفصيلات الخاصة باسم الفاعل المفرد تسري باطراد عليه إذا صار مثنى1 لمذكر أو مؤنث، أو جمعًا لمذكر أو مؤنث سالمين، أو جمع تكسير. فلا فرق بين مفرده ومثناه وجمعه في شيء مما سبق1 خاصًّا بإعماله، أو عدم إعماله، مقترنا "بأل" أو غير مقترن بها.
صيغة المبالغة: "تكوينها، والغرض منها"
4- يجوز تحويل صيغة. "فاعل" -وهي صيغة: "اسم الفاعل" الأصلي من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف- إلى صيغة أخرى تفيد من الكثرة والمبالغة الصريحة في معنى فعلها الثلاثي الأصلي ما لا تفيده إفادة صريحة صيغة: "فاعل"2 السالفة، مثال هذا أن نتحدث عن شخص يزرع الفاكهة، فنقول: فلان زارعٌ فاكهة. فإذا أردنا أن نبين في صراحة لاحتمال معها، كثرة زراعته الفاكهة، ونبالغ في وصفه بهذا المعنى -نقول: فلان زرَّاعٌ فاكهة مثلًا. فكلمة: "زرَّاع" تفيد من كثرة زراعته، ومن المبالغة في مزاولة الزراعة ما تفيده كلمة: "زارع" مع أن الكلمتين من فعل ثلاثي واحد؛ هو: "زرع"، وكلتاهما تدل على أمرين؛ معنى مجرد؛ هو: "الزرع" وذاتٌ فعلته. ولكنهما تختلفان بعد ذلك في درجة الدلالة على المعنى المجرد، "أي: في
__________
= تقدم في رقم 4 من ص215" أما اسم الفاعل المقرون بـ"أل" فلا يتقدم عليه إلا شبه الجملة، وأما غير المقرون بها فيجوز أن يتقدم عليه الجملة وغيره. "إلا في بعض حالات تجيء في ص263 أ".
"خامسها": أن اسم الفاعل يتحمل الضمير؛ لأنه جارٍ على فعله، والفعل يتحمل الضمير، أما المصدر الذي لا ينوب عن فعله فلا يتحمل الضمير، والفاعل معه يكون ملاحظًا في النية، مقدرًا غير مستتر فيه ... "ويرى بعض النحاة أنه مستتر فيه".
هذا ملخص ما جاء في المرجع السالف بتصرف قليل يقتضيه التحقيق.
"1، 1" وهذا إذا صح تثنيته وجمعه؛ فهناك حالات يغلب عليه فيها أن يلتزم الإفراد والتنكير وقد أشرنا إلى بعضها في: "ب" من ص252. "ومنها: أن يكون مبتدأ مستغنيًا بمرفوعه عن الخبر، على الوجه المشروح في ج1 ص324 م23".
2 لأن صيغة اسم الفاعل الأساسية مطلقة. "أي: لا تدل بذاتها على قلة أو كثرة" فهي صالحة للأمرين، ما لم تقم قرينة تعين أحدهما دون الآخر وقد سبق البيان الكامل في ص239 وفي هامشها رقم 4.(3/257)
مقدار قلته، وكثرته، وضعفه، وقوته"؛ فصيغة: "فاعل" التي هي وزن "اسم الفاعل" من الثلاثي لا تدل وحدها على شيء من ذلك إلا من طريق الاحتمال، ولا تدل دلالة صريحة خالية من هذا الاحتمال، على قوة، ولا ضعف، ولا كثرة، ولا قلة في المعنى المجرد؛ فكلمة "زراع" لا تدل بلفظها -بغير قرينة أخرى- على أكثر من ذات متصفة بأنها تفعل الزراعة. وليس في صيغة الكلمة دليل صريح على أن تلك الذات تفعل الزراعة قليلًا أو كثيرًا ... بخلاف صيغة "فعّال" مثلًا؛ فإنها تدل بنصها وصيغتها الصريحة على الكثرة والمبالغة في ذلك الفعل، أي: في المعنى المجرد. ولهذا تسمى: "صيغة مبالغة"، ومن ثَمَّ كان الذي يستخدم صيغة "فاعل" يرمي إلى بيان أمرين: "المعنى المجرد مطلقا، وصاحبه"، دون اهتمام ببيان درجة المعنى؛ قوة وضعفًا، وكثرة وقلة. بخلاف الذي يستخدم "صيغة المبالغة"؛ فإنه يقصد إلى الأمرين مزيدًا عليهما بيان الدرجة1، كثرةً وقوةً.
وما قيل في: "زارعٌ فاكهة وزرّاعٌ فاكهة" يقال في: ناظمٌ شعرًا، ونظّامٌ شِعرًا. صانعٌ خبزًا، وصنّاع خيرًا. قائلٌ الصدق، وقوّالٌ الصدق ... وهكذا يمكن تحويل صيغة "فاعل" الدالة على اسم الفاعل من الثلاثي المتصرف إلى صيغة: "فعّال" أو غيرها من الصيغ المعروفة باسم: "صيغ المبالغة".
وأشهر أوزانها خمسة قياسية؛ هي:
"فعّال"2؛ نحو: ما أعظم الصديق إذا كان غير قوّال سوءًا. ولا فعّال إساءة، وقول الشاعر:
وإني لقوّال لِذِي البثِّ3 مرحبا ... وأهلا إذا ما جاء من غير مَرْصَد4
و"مِفعال"5، نحو: الطائر مِحذار صائده، مِخواف أعداءه.
__________
1 ولهذا لا تصاغ من مصدر فعل لا يقبل الزيادة والتفاوت؛ طبقًا للبيان الذي في: "هـ من ص269، وانظر الملاحظة الآتية في ص262.
2 قد تكون صيغة: "فعّال" للنسب أحيانًا، طبقًا للبيان الآتي في "و" من ص269.
3 الحزن.
4 ميعاد.
5 هذه الصيغة مشتركة بين صيغ المبالغة واسم الآلة الذي سيجيء الكلام عليه في باب خاص ص333 م107 فهي صيغة مشتركة في البابين. والتفريق بينهما يكون خاضعًا للقرائن.(3/258)
و"فعول"؛ نحو: البارُّ وَصُول أهله. وقول الشاعر يخاطب سيدًا كريمًا:
ضَرُوب بنصل السيف سُوق سِمَانها1 ... إذا عدموا زادًا فإنك عاقر
وقول الآخر يفتخر:
إذا مات منا سيد قام سيد ... قَُئول2 بما قال الكرام فَعُولُ3
ومثل:
ذريني؛ فإن البخل يا أم مالك ... لصالح أخلاق الرجال سَرُوقُ
و"فَعِيل"؛ نحو: أقدُرُ4 من يكون سَمِيعًا خَيْرًا، نَصِيرًا عدلًا5.
وقول الشاعر:
فتاتان: أما منهما فشَبِيهة ... هلالًا، وأخرى منهما تشبه البدرا
و"فَعِل"؛ نحو: يسوءنا أن نرى جاهلًا مَزِقًا أوراقه، راميًا بها في الطريق. وقول الشاعر:
حَذِرٌ أمورًا لا تضير، وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار
هذه هي الصيغ الخمس القياسية. وهناك بعض صيغ قليلة مقصورة على السماع عند أكثر القدماء؛ أشهرها من الفعل الماضي الثلاثي: "فِعِّيل"6.
__________
1 الضمير عائد على الإبل ونحوها مما يُعقَر؛ ليُشوَى، أو يُطبَخ فيؤكل.
2 كثير القول.
3 كثير الفعل.
4 أعظِّم.
5 متى تزاد تاء التأنيث على صيغة "فعيل" ومتى لا تزاد؟ لهذا بيان مفيد يجيء في ج4 باب "التأنيث" م169.
6 يخالف هذه الأكثرية في رأيها فريق آخر، منهم: "ابن قتيبة" في كتابه: "أدب الكاتب، باب: اختلاف الأبنية في الحرف الواحد؛ لاختلاف المعاني" حيث يقول ما نصه: "ما كان على "فِعِّيل" فهو مكسور الأول، لا يفتح منه شيء، وهو لمن دام منه الفعل؛ نحو: رجل سِكِّير، كثير السكر، وخِمِّير، كثير الشرب الخمر، وفِخِّير كثير الفخر. وعِشِّيق كثير العشق. وسِكِّيت دائم السكوت. وضِلِّيل، وصِرِّيع، وظِلِّيم، ومثل ذلك كثير. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرة أو مرتين حتى يكثر منه، ويكون له عادة" ا. هـ. فهو يقرر أن صيغة: "فِعِّيل" كثيرة في المبالغة، وإذا ثبتت كثرتها كان القياس عليها جائزًا. وقد جعل المجمع القاهري هذه
الصيغة قياسية، وليست مقصورة على السماع، كما يرى النحاة الأقدمون. ونص قراره "كما جاء في الصفحة التاسعة، من تقرير لجنة الأصول المرفوع إلى المؤتمر اللغوي الذي انعقد في آخر يناير سنة 1967 فوافق عليه" هو: "في اللغة ألفاظ على صيغة "فِعِّيل" من مصدر الفعل الثلاثي اللازم والمتعدي للدلالة على المبالغة. وكثرتها تسمح بالقول بقياسيتها، ومن ثم يجوز أن يصاغ من مصدر الفعل الثلاثي -لازمًا أو متعديًا- لفظ على صيغة "فِعِّيل" -بكسر الفاء وتشديد العين- لإفادة المبالغة" ا. هـ. وقد ذكر هذا القرار مرة أخرى ومعه بعض البحوث والمذكرات العلمية التي اعتمد عليها المجمع ومؤتمره في ص34 من الكتاب الذي أصدره المجمع سنة 1969 باسم: "كتاب في أصول اللغة" مشتملًا على القرارات من دورة 29 إلى 34.(3/259)
و"مِفْعَل"؛ نحو: إنه شِرِّيب أهوال، ومِسْعَر1 حروب. وفعلهما الثلاثي؛ شرب، وسعر. ومن غير الثلاثي: دَرَّاك، سَآَّر، معوان2، مهوان، نذير، سميع، زهوق، وأفعالها الشائعة: أدرك. أسأر "بمعنى: ترك في الكأس بقية" أعان، أهان، أنذر، أسمع، أزهق.
أحكامها: لصيغ المبالغة القياسية أحكام؛ أهمها:
أ- أنها لا تصاغ إلا من مصدر فعل ثلاثي، متصرف، متعدٍّ، ما عدا صيغة: "فعَّال" فإنها تصاغ من مصدر الفعل الثلاثي اللازم3 والمتعدي؛ كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ 4 مَهِينٍ 5، هَمَّازٍ 6 مَشَّاءٍ 7 بِنَمِيمٍ 8، مَنَّاعٍ 9 لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} ، وقولهم: فلان بسَّام الثغر، ضحَّاك السن، وقول الشاعر:
__________
1 مسعر حرب: من يكثر إشعالها، وإيقاد نيرانها.
2 ومنه قول شاعرهم:
وكن على الخير معوانًا لذي أمل ... يرجو نداك؛ فإن الحر معوان
ومثله "متلاف" "من أتلف" في قول أبي فراس الحمداني:
3 يرى بعض اللغويين أن المسموع كثير من صيغة "فعال" المشتقة من مصدر الفعل الثلاثي اللازم للدلالة على المبالغة؛ ولذا يجيز -لشدة الحاجة إليها- اشتقاقها من مصدر الثلاثي اللازم أيضًا، ومنه الآية التالية. وهو رأي حسن ارتضاه المجمع اللغوي، وسجله في مجلته ج3 ص14، 15.
وفي المراجع اللغوية صيغ متنوعة مسموعة -غير صيغة "فعال"- لم تستوفِ شروط الصياغة، فيجب الوقوف عليها فيما عند حد السماع. ومن أمثلتها "ضحوك وعبوس" في قول شاعرهم:
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس
فقد صاغ من الثلاثي اللازم كلمتي: "ضحوك وعبوس" مع أن فعلهما لازم، كما صاغ كلمة "مطراق" مع أن فعلها الشائع رباعي؛ هو: أطرق، بمعنى: سكت، ونظر إلى الأرض. وسيعاد البيت في ص266 لمناسبة هناك. ومثل: "بشوش" في قول عنترة:
ألقى صدور الخيل وهي عوابس ... وأنا ضحوك نحوها وبشوش
4 كثير الحلف.
5 حقير دنيء.
6 كثير الهمز "أي: كثير الطعن والضرب، والإيذاء".
"7، 8" كثير المشي بالنميمة "وهي: السعي بين الناس بالإفساد".
7 كثير المنع ...(3/260)
وإني لصبَّار على ما ينوبني ... وحسبك أن الله أثنى على الصبرِ
ولست بنظَّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء في جانب الفقرِ
ب- وأنها لا تجري على حركات مضارعها وسكناته، بالرغم من اشتمالها على حروفه الأصلية، ولهذا كانت محمولة في عملها على اسم الفاعل لا على فعله.
ج- وأنها -في غير الأمرين السالفين- خاضعة لجميع الأحكام التي يخضع لها اسم الفاعل بنوعيه المجرد من: "أل" والمقرون بها، فلا اختلاف بينهما إلا في الأمرين المتقدمين، وكذلك في شكل الصيغة، وفي أن صيغة المبالغة بنصها الصريح أكثر مبالغة، وأقوى دلالة في معنى الفعل1 من صيغة اسم الفاعل المطلقة، وما عدا هذا فلا اختلاف بينهما في سريان الأحكام والشروط وسائر التفصيلات التي سبق الكلام عليها في اسم الفاعل2.
__________
1 وهو المعنى المجرد.
2 في الأحكام المتعددة السالفة يقول ابن مالك أبياتًا نذكرها بترتيبها في "ألفيته"، وإن لم نلتزم ترتيبه في عرض مسائلها، وشرحها؛ إذ اخترنا ترتيبًا آخر يصل المسائل المرتبطة بعضها ببعض. قال في صيغ لمبالغة:
فعالٌ، أو مِفعالٌ، أو فعولُ ... في كثرة عن "فاعل" بديلُ
فيستحق ما لَه من عملِ ... وفي "فعيل" قلَّ "ذا" و"فَعِلِ"
يريد: أن. صيغة فعال، ومفعال، وفعول، تغني -عند إرادة الكثرة- عن صيغة "فاعل" وأنها تذكر من أجل ذلك بدلًا من صيغة فاعل، وكل واحد من هذه الألفاظ يستحق ما يستحقه "فاعل" من العمل عند استيفاء الشروط. ثم بين أن استعمال صيغتي: "فعيل" و"فعل" قليل في المبالغة.
ثم انتقل إلى تسجيل قاعدة أخرى؛ هي: أن اسم الفاعل -ومثله صيغ المبالغة- لا تتغير أحكامه إن كان غير مفرد؛ فالأحكام السابقة كلها مطردة في المفرد وغير المفرد، إلا بعض حالات وكلاهما سواء في الخضوع لتلك الأحكام والتفصيلات التي سبق بيانها عند الكلام على اسم الفاعل المفد، وشروط إعماله مقترنًا وغير مقترن ... إلى غير ذلك من سائر القواعد التي سلفت. قال في هذا:
وما سوى المفرد مثله جعلْ ... في الحكم والشروط حيثما عملْ
ثم تعرض لاسم الفاعل العامل الناصب مصرحًا بجواز نصب مفعوله، أو جره مضافًا إليه فإن =(3/261)
ملاحظة: ورد في المسموع الذي لا يقاس عليه بعض صيغ المبالغة خاليًا من معنى: "المبالغة"، مقتصرًا في دلالته المعنوية على المعنى المجرد الذي لا مبالغة فيه؛ فهو يدل على ما يدل عليه اسم فاعله الخالي من تلك المبالغة المعنوية: مثل كلمة: "ظلوم" في قول الشاعر:
وكل جمال للزوال مآله ... وكل ظَلُوم سوف يلبى بظالمِ
فإنها ليست للمبالغة؛ إذ المقام هنا يقتضي أن يكون المراد من لفظ: "ظلوم" هو: "ظالم" وليس كثير الظلم؛ لأن كلا من الاثنين سيلقى ظالمًا. من غير أن يتوقف هذا اللقاء إلا على مجرد وقوع الظلم من أحدهما، دون نظر لقلة الظلم أو كثرته1.
__________
= نصب أكثر من مفعول جاز جر واحد ووجب نصب الباقي، قال:
وانصب بذي الإعمال تلوًا، واخفضٍ ... وهو لنصب ما سواه مقتضي
"ذي الإعمال": صاحب الإعمال، أي: المستوفي شروط العمل، وهو اسم الفاعل. "تلوًا": تاليًا -أي: المفعول به الذي يتلوه".
وبيَّن بعد ذلك أن الاسم المجرور على الوجه السالف يجوز فيه الجر، ويجوز فيه النصب:
واجررْ أوانصب تابع الذي انخفضْ ... كمبتغي جاهٍ ومالًا من نهضْ
والأصل: من نهض مبتغي جاهٍ ومالًا. فعطف كلمة: "مالا" على كلمة: "جاه" المجرورة بالإضافة، ولكنها منصوبة باعتبارها مفعولًا به لاسم الفاعل في الأصل قبل الإضافة.
1 ينطبق هذا على كلمة: "فخور" في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} فليس المراد هنا كثرة الفخر؛ لأن الله يكره صاحب الفخر مطلقًا؛ بغير نظر إلى كثرة فخره أو قلته.(3/262)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- إذا كان اسم الفاعل -ومثله صيغ المبالغة- مقرونًا بـ"أل" لم يجز تقديم شيء من معمولاته عليه إلا شبه الجملة. لأن "أل" الداخلة عليه موصولة، واسم الفاعل مع فاعله بمنزلة الصلة لها؛ والصلة لا تتقدم هي ولا شيء منها ولا من معمولاتها على الموصول؛ إلا شبه الجملة1؛ لأنه محل التساهل؛ فيصح أن يقال: أنا لك المرافق، ومعك الدائب، أي: أنا المرافق لك، الدائب معك.
أما إن كان مجردًا منها فيجوز تقديم المعمول: مفعولًا كان أو غير مفعول2 إلا في بعض حالات، فمثال التقديم الجائز: الحديقة، عطرًا، فواحة، والأصل: الحديقة فواحة عطرًا.
ومن الحالات التي لا يجوز فيها التقديم أن يكون اسم الفاعل مجرورًا بالإضافة، أو بحرف جر أصلي، نحو: يروقني رسم مصور طيورًا، ألا تغضب من معذب الحيوان؟ فلا يجوز: يروقني -طيورًا- رسم مصور. ألا تغضب، الحيوان، من معذب، بخلاف المجرور بحرف جر زائد؛ فيجوز أن يتقدم عليه معموله؛ نحو: ما العزيز، الهوان يقابل، والأصل: ما العزيز يقابل الهوان.
وأجاز قوم تقديم المعمول إن كان اسم الفاعل: "مضافًا إليه"، و"المضاف" كلمة: "غير" أو: "حق"، أو: "جد" أو: مثل، أو: أول، نحو: "المنافق، الوعد، غير منجز". "هذا، الأعداء, حق قاهر، أو: جد قاهر"، والأصل: المنافق غير منجز الوعد. هذا حق قاهر الأعداء، أو: جد قاهر الأعداء. "شاعرنا، درًا، مثل ناظم"، "العرب، ضيفًا، أول ناصر". وهذا الرأي حسن؛ لما فيه من تيسير، وأحسن منه براعة استخدامه في أنسب الأساليب له، وأليق المواقف.
__________
1 راجع ج1 ص276 م27 وسبقت الإشارة للسبب في رقم 1 من هامش 216.
2 راجع هامش ص256 الوجه الرابع.(3/263)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجوز أيضًا تقديم معموله على مبتدأ يكون اسم الفاعل خبرًا له، نحو: الضيوف أنت مصافح. والأصل: أنت مصافح الضيوف.
ب- يجوز إعمال اسم الفاعل -أحيانا- وهو محذوف؛ مثل: أعليًّا أنت مساعده؟ فقد اشتغل اسم الفاعل المذكور بضمير الاسم السابق، واستغنى بنصبه عن نصب الاسم السابق، فلم يبق إلا أن يكون الناصب للاسم السابق عاملًا آخر، محذوفًا، يفسره المذكور على الوجه المعروف في باب: "الاشتغال"1 والتقدير: أمساعد عليًّا أنت مساعده؟ ومثله أيضًا: أعليًّا أنت مساعد أخاه، والتقدير: أمساعد عليًّا أنت مساعد أخاه. ومثله في كل ما سبق صيغ المبالغة.
ج- عرفنا أن اسم الفاعل يدل -غالبًا- هو وصيغ المبالغة، على الحدوث وعدم الدوام، وعرفنا طريقة صوغه.
لكن قد يراد منه النص على الثبوت والدوام مع قيام قرينة تدل على هذا، فيصير صفة مشبهة2. ويسمى باسمها -بالرغم من بقائه على صورته الأصلية3؛ ويجري عليه أحكام الصفة المشبهة؛ فيجوز في السببي4 بعده إن كان معرفة:
__________
1 في هذا المثال -وأشباهه- نجد الاسم السابق منصوبًا مع أن الضمير الراجع إليه مجرور. لكنه مجرور في حكم المنصوب؛ لأن كلمة: "مساعد" في حكم الفعل، وتنوينها ملحوظ وإن لم يكن ملفوظًا؛ فالضمير هنا كالضمير في مثل: أعليا مررت به؛ مجرور وهو في الحكم منصوب. كما سبق في باب الاشتغال ج1 "راجع شرح المفصل ج6 ص69".
2 سيجيء في 281 م104 باب خاص بها يتضمن تعريفها، وتفصيل أحكامها، والتغيير في دلالة اسم الفاعل والصفة المشبهة.
3 كما سبق في ص243، 256، ويجيء في ص292.
4 لا بد لكل اسم مشتق عامل من صاحب يقوم به معنى المشتق، مثل: محمد عالم. علي محسن. الجو معتدل؛ فالكلمات: محمد، علي، الجو: هي الصاحب الأصيل الذي قام به معنى المشتق قيامًا مباشرًا متصلًا بذاته، وقد يقوم المعنى بشيء آخر يتصل بالصاحب الأصيل بنوع اتصال، ويرتبط به من بعض النواحي؛ كأن نقول: محمد عالم أبوه، علي محسن أخوه، الجو معتدل حرارته، فالأب والأخ والحرارة ... و ... ليست الصاحب الأصيل للوصف المشتق؛ وإما ترتبط معه برابط يجمع بينهما؛ كالأبوة، والأخوة، والتبعية في أمر ما. هذا الرابط يسمى: "السببي" ولا بد فيه من ضمير يعود على الأصل. وقد تقوم "أل" خلفًا عن الضمير في مذهب الكوفيين -كما سيجيء في ص268 وفي رقم 4 من هامش ص277 وفي رقم 3 من هامش ص310- وقد اشترطوا وجوب السببية في مرفوع اسم الفاعل إذا جرى اسم الفاعل على موصوف؛ نحو: الرجل صادق أبوه، -كما سيجيء في هامش ص310-(3/264)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرفع والنصب والجر، نحو: هذا عابد طائع، مرتفع الجبهة، طاهر القلب، ناصعٌ صفحة؛ فيجوز في السببي هنا؛ "وهو: الجبهة، القلب، صفحة" الرفع على أنه فاعل للصفة المشبهة. والجر على اعتباره مضافًا إليه، والنصب على أنه شبيه بالمفعول به وليس مفعولا به1.
فإن كان السببي نكرة -جاز نصبه على أنه تمييز، أو على أنه شبيه بالمفعول به. ومقتضى ما سبق أن السببي المعرفة والنكرة يجوز فيه دائمًا الرفع على الفاعلية، والجر على الإضافة2؛ كما يجوز فيه النصب أيضًا؛ ولكن المنصوب في حالة التعريف يعرب شبيهًا بالمفعول به، وفي حالة التنكير يعرب شبيهًا بالمفعول به، أو: تمييزًا.
د- لا يجوز إضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه "سواء أكان فعله ثلاثيًا أم غير ثلاثي، لازمًا أم متعديًا" إلا إذا أريد منه الثبوت والدوام، وقامت القرينة على هذا؛ فيصبر صفة مشبهة، تجري عليه كل أحكامها، ومنها: أن يحكم عليه باللزوم فلا ينصب المفعول به الأصيل ولو كان فعله متعديًا، وهذا على حسب البيان المشروح فيما سبق3 وفيما يلي:
__________
1 لأن "الصفة المشبهة" الأصيلة -كما سبق البيان في ص242- كفعلها لا تنصب المفعول به؛ لأنها تصاغ من مصدر فعل ثلاثي لازم، فلما كان السببي بعدها منصوبًا ولا يصلح لإدخاله تحت نوع آخر من المنصوبات -أعربوه "شبيهًا بالمفعول به" إن كان معرفة، ولم يعربوه مفعولا به؛ لأن المفعول به لا بد أن يقع عليه أثر فعل الفاعل، وهذا لا يقع عليه أثر الصفة المشبهة؛ وهي بمنزلة الفعل في هذه الحالة، ومن ثم لم يحملوه في التسمية على المفعول به الذي ينصبه اسم الفاعل مع أن الصفة المشبهة إنما سميت باسمها؛ لشبهها اسم الفاعل في كثير من الأمور، "وسيجيء بيان وافٍ عن هذا كله في بابها". أما إن كان نكرة فيجوز نصبه على التشبيه بالمفعول به، أو على التمييز.
2 بشرط خلوِّ المضاف مما يعارض الإضافة؛ كالتنوين..؟
3 في هامش ص242.(3/265)
...............................................................................................................................
اسم الفاعل المضاف لفاعله بقصد النص على الثبوت والدوام بقرينة، فيترك الحدوث، وينتقل إلى معنى الصفة المشبهة- ثلاثة أنواع "وكذا صيغة المبالغة، وهذه لا تصاغ إلا من الثلاثي":
أولها: نوع مأخوذ من الفعل اللازم -الثلاثي وغير الثلاثي- مثل: عالٍ وشامخ ... في نحو: هذا عالي القامة، شامخ الأنف "وفعلهما: علا، شمخ". ومثل "تائب" في قول الشاعر:
تباركت؛ إني من عذابك خائفٌ ... وإني إليكم تائب النفس باخعُ1
"والفعل: تاب"، وقول الآخر يمدح:
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس2
ولا يكاد يوجد خلاف في جواز انتقال هذا النوع من حالة الحدوث إلى معنى الصفة المشبهة.
ثانيها: نوع مأخوذ من فعل متعدٍّ لمفعول به واحد. والراجح في هذا النوع جواز انتقاله إلى معنى الصفة المشبهة، بشرط أن يكون اللبس مأمونًا؛ "وهو: التباس الإضافة للفاعل بالإضافة للمفعول به". فإذا لم يؤمَن اللبس لم تجز الإضافة؛ كقولهم: فلان راحم الأبناء، نافع الأعوان، يريدون: أن أبناءه راحمون وأعوانه نافعون. فإذا كان المقامُ مقامَ مدح الأبناء والأعوان جاز؛ لدلالة المقام على أن الإضافة للفاعل؛ كصدورها ممن يرد على قول القائل: "ليس أبناء فلان بمفطورين على الرحمة، ولا أعوانه بمطبوعين على النفع"، أو من يرد على قول القائل: "أبناء فلان قساة، وأعوانه ضارون، بسجيتهم ... " ففي هذا المثال وأشباهه مما يحذف فيه المفعول به ويؤمن فيه اللبس لقرينة لفظية، أو: معنوية، يجوز في السببي -ككلمة: "الأبناء" وكلمة: "الأعوان"- إما الرفع؛ على أنه فاعل للصفة المشبهة "وهي: راحم. نافع"، وإما النصب
__________
1 قاتل لها حزنًا.
2 والفعل: "أطرق. عبس"، وقد سبق هذا البيت في رقم 3 من هامش ص260 لمناسبة أخرى.(3/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على أنه شبيه بالمفعول به، ولا يصلح تمييزًا إن كان معرفة، كما في المثال. وإما الجر، على أنه مضاف إليه. وهذه الأوجه الإعرابية الثلاثة هي التي تجري على معمول الصفة المشبهة الأصيلة1، كالتي في مثل: "فلان جميل الوجه، حسن الهيئة، حلو الحديث" ومن أمثلة هذا النوع:
ما الراحم القلب ظلامًا وإن ظلما ... ولا الكريم بمناع وإن حرما
وفي هذا النوع من الإضافة إلى المرفوع يكثر حذف المفعول به، الذي كان معمولًا لاسم الفاعل قبل إضافته لفاعله، وقبل أن يصير بهذه الإضافة صفة مشبهة. ويصح ذكر هذا المفعول به في الرأي الراجح -مع إعرابه "شبيهًا بالمفعول به"، لا مفعول به أصيلًا، مثل: "فلان راحم الأبناء الناس، ونافع الأعوان أفرادًا كثيرة". فكلمتا: "الناس" و"أفرادًا" شبيهتان بالمفعول به. ولا داعي لمنع هذا الشبيه المنصوب من ذكره وظهوره في الجملة، بزعم أن منصوب الصفة المشبهة -إذا كان شبيهًا بالمفعول به- لا يزيد على واحد كما قرره النحاة. وقرارهم حق؛ فمنصوبها الشبيه بالمفعول به لا يزيد على واحد. والذي في المثال السابق -ونظائره- لم يزد على واحد. ولكن المانعين يتوهمون أن الواحد يشمل "المضاف إليه" بعد الصفة المشبهة؛ لأن هذا "المضاف إليه" يجوز نصبه على التشبيه بالمفعول به قبل إضافته2؛ فاعتبروه بمنزلة "الشبيه بالمفعول به". برغم أنه: "مضاف إليه" مجرور، وبنوا على هذا عدم صحة المنصوب
__________
1 لا يقال في هذا النوع: إن فعله متعدٍّ في أصله؛ فكيف يصح تحويله إلى صفة مشبهة، لا تصاغ إلا من الثلاثي اللازم كما سبق؟
فقد أجابوا أن المراد باللزوم إما اللزوم "الأصلي" "بأن يكون الفعل موضوعًا في أصله لازمًا" وإما اللزوم: "التنزيلي، أو: الحكمي" "بأن يحذف مفعول الفعل المتعدي حذفا غالبًا في بعض حالاته كالتي هنا"، وإما اللزوم: "التحويلي" "بأن يكون الفعل متعديًا ولكنه يحول إلى صيغة "فَعُل" بضم العين، وهي صيغة لازمة؛ لغرض عين، كالمدح، أو الذم" ونتيجة الثلاثة واحدة؛ هي أن التعدي غير معتبر هنا. فلا تنصب الصفة المشبهة المفعول به الأصيل كما ينصبه فعلها حين تكون منقولة عن اسم الفاعل، ولكنها قد تنصبه على "أنه شبيه بالمفعول به"، وليس مفعولًا به "كما سبق الإيضاح في هامش ص242، وستجيء إشارة هنا، وفي رقم 4 من هامش ص306".
2 انظر رقم 3، 4 من ص314.(3/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآخر معه؛ لئلا يزيد منصوب الصفة المشبهة على واحد إذا كان شبيهًا بالمفعول به.
قال "الصبان" في هذا الموضع1: لا داعي للأخذ بالوهم السابق، ولا بما يترتب عليه، فالصحيح عنده في هذه الصورة وأشباهها جواز الإضافة إلى المرفوع مع ذكر المنصوب الواحد بعده، والذي يعرب "شبيهًا بالمفعول به".
وفي رأيه تيسير، واستبعاد لشرط أن يكون الفعل محذوف المفعول به، كما اشترطه بعضهم.
ثالثها: نوع مأخوذ من فعل متعدٍّ لمفعولين، أو ثلاثة: نحو: "أنا ظانٌّ رفيقًا قادمًا، ومخبر الأصدقاء السرور شاملًا بقدومه". ولا يكاد يوجد كبير خلاف في منع انتقال هذا النوع إلى معنى الصفة المشبهة من طريق إضافته لفاعله؛ لأن الوصف ينصب مفعولين أو أكثر كفعله، ومنصوب الصفة المشبهة لا يزيد على واحد على الوجه الذي أوضحناه في النوع السالف.
هذا، ولأكثر النحاة فلسفة خيالية فيما تقدم؛ فهم يقولون2: إن إضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه تتم على الصور السابقة في ثلاث مراحل مرتبة3:
أولها: تحويل الإسناد عن المرفوع إلى ضمير الموصوف.
وثانيها: نصب المرفوع بعد ذلك على التشبيه بالمفعول به.
وثالثها: جره على الإضافة.
ففي مثل: الطبيب رائف القلب، يكون الأصل: الطبيب رائف قلبه؛ -برفع كلمة: قلب"- ثم يتحول الإسناد عن المرفوع السببي، وينتقل إلى الضمير المضاف إليه؛ وهو: "الهاء" ويستتر هذا الضمير في الوصف: "رائف"، ويعوض منه "أن" في رأي الكوفيين4؛ وينصب المرفوع الذي تحول عنه الإسناد؛ لأنه صار بعد تحويل الإسناد عنه أشبه بالفضلة؛
__________
1 آخر باب: إعمال اسم الفاعل.
2 كما سيجيء في "ب" ص315 في الصفة المشبهة.
3 والضمير في هذه المراحل قد يشابه الصورة الآتية في ص310، وقد يمتنع بعض هذه المراحل؛ طبقًا لما سيجيء في ص305.
4 كما سلف في رقم 4 من هامش ص264، وكما يجيء في رقم 4 من هامش ص277.(3/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسبب استغناء الوصف عنه بضمير الموصوف؛ فينصب مثلها، ويصير: "الطبيب رائف القلب". ثم يجر بالإضافة؛ فرارًا من القبح البادي في إجراء الوصف اللازم أو ما يشبهه مجرى المتعدى. "والمراد بما يشبهه1: الوصف المتعدي لمفعول واحد، ومفعوله محذوف". فيصير: "الطبيب رائف القلب".
ويقولون في تعليل هذه المراحل الثلاث2 المتخيلة: إنه لا يصح إضافة الوصف لمرفوعه مباشرة؛ لأنه عينه في المعنى؛ فلزم إضافة الشيء إلى نفسه3، ولا يصح حذفه لعدم الاستغناء عنه، فلم يبقَ طريق إلى إضافته لمرفوعه إلا ذلك الطريق الذي وضحنا مراحله. ويستدلون على الإضافة بكثير من الأمثلة المأثورة تؤيد4 رأيهم.
وكل هذا كلام افتراضي؛ لا تعرفه طوائف العرب؛ أصحاب اللغة، ومرجعها الأول الصحيح. فإغفاله خير. ولن يترتب عليه ضرر.
هـ- لا تجيء "صيغ المبالغة" إلا من مصدر فعل قابل للزيادة، فلا يقال: موات ولا قتال، في شخص مات أو قتل؛ إذ لا تفاوت في الموت والقتل.
و سيجيء1 أنه كثر في الأساليب الفصيحة المسموعة استعمال صيغة: "فعال" للدلالة على "النسب" -بدلًا من يائه- وكثر هذا الحرف؛ فقالوا: حداد لمن حرفته "الحدادة"، ونجار لمن حرفته "النجارة" ... وكذا: لبَّان، وبقَّال، وعطَّار. ونحوها من كل منسوب إلى صناعة. والأحسن الأخذ بالرأي القائل بقياس هذا في النسب إلى الحرف؛ لأن الكثرة الواردة منه تكفي للقياس عليه.
__________
1 انظر هامش ص267.
2 أشرنا في آخر الهامش السالف إلى أن بعض هذه المراحل قد يمتنع؛ طبقًا لما سيجيء في ص305.
3 وهذه حجة ضعيفة بعد ما تقدم في ص40 وما بعدها من جواز هذه الإضافة.
4 سنعرض بعضها في ص285 ونزيد الأمر وضوحًا عند الكلام عليه في الصفة المشبهة ص294.
في ج4 باب: "النسب" م179 "ج" من ص684.(3/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجعلوا من استعمالها في النسب قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي: بمنسوب إلى الظلم، وحجتهم أن صيغة "فعال" هنا لو كانت للمبالغة وليست للنسب لكان النفي منصبًّا على المبالغة وحدها؛ فيكون المعنى: وما ربك بكثير الظلم؛ فالمنفي هو الكثرة وحدها دون الظلم الذي ليس كثيرًا. وهذا معنى فاسد؛ لأن الله لا يظلم مطلقًا، لا كثيرًا ولا قليلًا.(3/270)
المسألة 103:
اسم المفعول:
تعريفه:
اسم مشتق1، يدل على معنى مجرد، غير دائم2، وعلى الذي وقع عليه هذا المعنى. فلا بد أن يدل على الأمرين معًا3، "وهما: المعنى المجرد، وصاحبه الذي وقع عليه". مثل كلمة: "محفوظ" و"مصروع" في قولهم: العادل محفوظ برعاية ربه، والباغي مصروع بجناية بغيه. "فمحفوظ" تدل على الأمرين أيضًا؛ المعنى المجرد؛ "أي: الحفظ" والذات التي وقع عليها الحفظ وكذلك "مصروع" تدل على الأمرين أيضًا؛ المعنى المجرد؛ "أي: الصرع"، والذات التي وقع عليها. ومثل هذا يقال في كلمة: "منسوب" من قول الشاعر:
لا تلم المرء على فعله ... وأنت منسوب إلى مثله4
وهكذا ...
ودلالته على الأمرين السالفين مقصورة على الحدوث -أي على: الحال- فهي لا تمتد إلى الماضي، ولا إلى المستقبل، ولا تفيد الدوام إلا بقرينة في كل صورة.
صوغه 5:
أ- يصاغ قياسًا على وزن: "مفعول" من مصدره الماضي الثلاثي
__________
1 في ص182 بيان مفصل عن أصل المشتقات.
2 أي: لا يلازم صاحبه. وسيجيء أيضًا أن هذا المعنى المجرد يفيد الحدوث، فلا يمتد إلى الماضي ولا إلى المستقبل إلا بقرينة.
3 يمكن استجلاء المراد من بعض ألفاظ التعريف على ضوء ما سبق في تعريف اسم الفاعل ص238.
4 وبعد هذا البيت:
من ذم شيئًا وأتى مثلَهُ ... فإنما يزري على عقلِهِ
5 أشرنا في رقم 3 من هامش ص239 إلى ابن أبي مالك وضع في "ألفيته" بابين؛ أحدهما =(3/271)
المتصرف1؛ مثل: "محفوظ" من "حفظ" و"مصروع" من "صرع" و"منسوب" من "نسب"، و"معلوم" من "علم" و"مجهول" من "جهل" و"معروف" من "عرف". ومثل "محمود" من "حمد" في قول الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
ب- ويصاغ قياسيًا من مصدر الماضي غير الثلاثي بالإتيان بمضارعه وقلب أوله ميمًا مضمومة مع فتح ما قبل الآخر.
فللوصول إلى اسم المفعول من: "سارع" نجيء بمضارعه: "يسارع"، ثم ندخل عليه التغيير السالف، فيكون اسم المفعول: "مسارَع"، نحو: الخبر مسارَع إليك. واسم المفعول من "هدَّم" هو: مهدَّم؛ نحو: صرح البغي مهدم، واسم المفعول من: "أوجع" هو: "موجَع؛ كما في قول الشاعر2 الكهل الوفي:
خُلقْت ألوفًا؛ لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجَعَ القلب، باكيًا
وهكذا: استخرج، يستخرج، مستخرج، نحو: المستخرج من النفط في بلادنا يكفي حاجاتنا. ومثل: "منزهة"، ومكرمة" في قول أبي تمام في وصف قصائده:
منَزَّهة عن السرق المورَّى3 ... مكرمة عن المعنى المعاد
__________
= عنوانه: "إعمال اسم الفاعل"، ولكنه ضمنه إعمال اسم الفاعل واسم المفعول معًا، فهو باب ينطوي على إعمالهما. وقد مرَّ شرح أبياته في مناسباتها الخاصة ابتداء من ص249. وثانيهما عنوانه: "أبنية أسماء الفاعلين، والمفعولين، والصفات المشبهة بها"، وسيجيء شرح أبياته في مناسباتها ابتداء من هامش ص289، وفصل بين البابين بآخر عنوانه: "أبنية المصادر" وقد ارتضى هذا الترتيب لحكمة رآها، قد تكون -كما يقول بعض النحاة- الرغبة في موالاة مواضع الإعمال للمصدر وللمشتقات، حتى إذا فرغ من الكلام على شئون الإعمال لهذه العوامل الاسمية التي بينها كثير من الترابط والتشابه انتقل إلى الكلام على أبنيتها وصيغها. وقد سبق أن أشرنا أننا لا نرتضي هذا الترتيب؛ لما فيه من توزيع الأحكام والصيغ على بابين مستقلين ومنفصلين عن الإعمال؛ إذ الأنسب تعريف ل عامل مع ذكر صيغه وأحكامه في باب واحد.
1 أما الماضي الجامد فليس له مصدر، ولا اسم مفعول، ولا اسم فاعل، ولا صفة مشبهة، ولا غيرها من المشتقات ...
2 هو المتنبي.
3 السرق المورى: السرقة التي يخفيها السارق.(3/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- فتح الحرف الذي قبل الآخر قد يكون ظاهرًا كالأمثلة السالفة، وقد يكون مقدرًا؛ مثل: مستعان، منقاد ... أصلهما: مستعون. منقود ... قلبت الواو ألفًا بعد فتح ما قبلها بنقل حركتها إليه؛ تطبيقًا لقاعدة صرفية1.
ب- إذا كان اسم المفعول مؤنثا وجب زيادة تاء التأنيث في آخره؛ كما في آخر: "منزهة، ومكرمة" من بيت أبي تمام السابق.
ج- قد وردت صيغ سماعية تؤدي ما يؤديه اسم المفعول المصوغ من مصدر الثلاثي وليست على وزنه؛ فهي نائبة عن صيغة "مفعول" في الدلالة على الذات والمعنى. ومن تلك الصيغ: "فعيل"، بمعنى: مفعول؛ نحو: كحيل: بمعنى: مكحول. و"فعل"، كذبح؛ بمعنى مذبوح. و"فعل" كقنص، بمعنى: منقوص، و"فعلة"؛ كغرفة، ومضغة، وأكلة، بمعنى: مغروفة، وممضوغة ومأكولة ... وهذه الصيغ وأمثالها غير مقيسة. لكن هل تعمل عمل اسم المفعول كما تؤدي معناه؟ الأحسن الأخذ بالرأي القائل: إنها تعمل عمله -بشروطه- فترفع نائب فاعل حتمًا، وقد تنصب مفعولًا به -أو أكثر- إن كان فعلها المبني للمجهول كذلك؛ فحكمها حكم المبني للمجهول. وفي هذا الرأي توسعة لمن شاء اتباعه2.
غير أن حكمًا سيجيء3 لا يسري عليها؛ هو أن اسم المفعول يجوز أن يضاف لمرفوعه بشرط أن تكون صيغته أصلية4، فإن كانت نائبة عن
__________
1 في باب "الإعلال والإبدال" ج 4.
2 سيجيء كلام ابن مالك على صياغة: "اسم المفعول" وعلى صيغة: "فعيل" في الباب الذي خصه بأبنية المشتقات، هامش ص289، وما بعدها.
3 في ص275.
4 هي التي تكون من الثلاثي على وزن: "مفعول"، ومن غير الثلاثي على وزن المضارع بعد إبدال أوله ميمًا مضمومة مع فتح الحرف الذي قبل الآخر. أما غير الأصلية. فقد أوضحناها في "ج" هنا.(3/273)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأصيلة -كفعيل؛ بمعنى: مفعول، وغيرها مما سبق -فلا تضاف لمرفوعها.
د- سبقت الإشارة1 إلى أنه وردت صيغ مسموعة على وزن: "مفعول"، ولكن معناها هو معنى المصدر؛ فهي في حقيقة أمرها مصادر سماعية على وزن المفعول، منها: معقول، مجلود، مفتون، ميسور، معسور، أي: عقل، جلد، فتنة؛ بمعنى: خبرة، يسر "سهل"، عسر "ضد: سهل"، ومن كلامهم: "فلان لا معقول له ولا مجلود". وقد سبق شرح هذا وشرح بقية الكلمات الأخرى في ص198، وأوضحنا رأي سيبويه هناك.
__________
1 في ص198 تحت عنوان ملاحظة.(3/274)
إعماله:
يجري على اسم المفعول كل ما يجري على اسم الفاعل من الاقتران "بأل" وعدم الاقتران بها، ومن الشروط اللازمة لعمله ... و ...
فإن كان مقرونًا "بأل" عمل مطلقًا، "بغير اشتراط شيء". وإن لم يكن مقترنًا بها وجب تحقق كل الشروط التي سبقت لإعمال اسم الفاعل1؛ وفي مقدمتها: الاعتماد، وعدم التصغير، وأن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال أو الاستمرار التجددي ... و ... فإذا استوفى شروط الإعمال كلها عمل ما يعمله مضارعه المبني للمجهول؛ فيحتاج -وجوبًا- لنائب فاعل مثله: ويكتفي بنائب فاعله إن كان مضارعه مكتفيًا بنائب الفاعل2. نحو: يساعد القوي زميله. يساعد الزميل. هل القوي مساعد زميله؟ ولما سبق يمكن أن يحل محل اسم المفعول مضارع بمعناه مبني للمجهول.
وإذا كان مضارعه ناصبًا مفعولين ثم حذف فاعله فإن أحد المفعولين ينوب عنه، ويصير مرفوعًا مثله، ويبقى المفعول الآخر على حاله منصوبًا، وكذلك اسم المفعول؛ نحو: يظن الرجل العوم نافعًا -يظن العوم نافعا- هل المظنون العوم نافعًا؟ ...
وإن كان فعله متعديًا لثلاثة ثم حذف فاعله وناب أحد المفعولات عنه صار مرفوعًا مثله. ووجب نصب ما عداه؛ وكذلك الشأن في اسم المفعول؛ نحو: تخبر المراصد الطيارين الجو هادئًا -يخبر الطيارون الجو هادئًا- هل المخبر الطيارون الجو هادئًا؟.
ويجوز -بقلة في الأحوال السابقة كلها أن يضاف اسم المفعول إلى نائب فاعله الظاهر؛ بشرط أن تكون صيغة اسم المفعول أصلية3 فيصير نائب الفاعل مضافًا إليه، مجرور اللفظ، ولكنه مرفوع المحل؛ مراعاة
__________
1 ص246 وما بعدها، وفي "ب" من ص254.
2 وهذا يتحقق حين المضارع من الأفعال التي تنصب مفعولًا به واحدًا قبل بنائه للمجهول، وقد حذف فاعله، وقام المفعول به الواحد مقامه، وناب عنه؛ وصار مرفوعًا، ولم يبق، في الكلام مفعول به آخر.
3 شرحنا الأصلية في رقم 4 من هامش ص273، وغير الأصلية في "ج" من تلك الصفحة.(3/275)
لأصله1؛ نحو: إن القوي مساعد الزميل، هل يشيع مظنون العوم نافعًا" أمخبر الطيارين الجو هادئًا؟ فإن لم تكن صيغته أصلية امتنع أن يضاف لمرفوعه. وإذا جاء تابع لهذا المضاف إليه جاز جره مراعاة للفظ المضاف إليه، أو رفعه؛ مراعاة لأصله؛ نحو: إن القوي مساعد الزميل والزميلة -هل يشيع مظنون العوم البارع نافعًا؟ أمخبر الطيارين المسافرين -أو المسافرون- الجو هادئًا؟ بجر التابع أو رفعه في كل ذلك وأشباهه.
ما سبق حين يكون مضارعه متعديًا. فإن كان لازمًا قد حذف فاعله وناب عنه شيء آخر غير المفعول به؛ كالظرف، أو الجار مع مجرور أو المصدر ... فإن اسم المفعول يكون لازمًا أيضًا، ويحتاج لنائب فاعل من هذه الأشياء الصالحة للنيابة عند عدم وجود المفعول به، نحو: "اعتكف المريض في الغرفة، يُعتكف في الغرفة، هل الغرفة معتكف فيها؟ ". "اتسع المجال أمام المخلص. يتسع أمام المخلص. هل المتسع أمام المخلص"2.
هذا؛ واسم المفعول حين يضاف بقلة إلى مرفوعة- نحو: الغرفة مفتوحة النوافذ، وقول المتنبي وقد سبق:
خلفت ألوفًا، لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيًا
والأصل: مفتوحة نوافذها. موجع قلبي يظل مع إضافته لمرفوعه دالًا
__________
1 هذا الحكم مأخوذ من كلام ابن مالك الآتي؛ حيث يقول:
وكل ما قُرِّر لاسم فاعلِ ... يعطى اسم مفعول بلا تفاضلِ
2 فيما سبق من الكلام على اسم المفعول، وأنه يجري عليه ما يجري على اسم الفاعل، وأنه كالمضارع المبني للمجهول في أنه يرفع نائب فاعل، لا فاعلًا. يقول ابن مالك في الباب الذي عنوانه: "إعمال اسم الفاعل" وضمنه اسم المفعول.
وكل ما قرر لاسم فاعلِ ... يعطى اسم مفعول بلا تفاضلِ
فهو كفعل صِيغَ للمفعول في ... معناه؛ كالمعطَى كفافًا يكتفي
"لا تفاضل، أي: بلا زيادة في أحدهما على الآخر". وإعراب المعطى كفافًا يكتفي: "المعطى": مبتدأ، "أل" فيه موصولة يعود عليها الضمير الذي في كلمة: "معطى"، وهذا الضمير نائب الفاعل، وأصله المفعول الأول لكلمة: "معطى"، "كفافًا": المفعول الثاني. "يكتفي" هذه الجملة المضارعية خبر المبتدأ.(3/276)
على الحدوث، كما كان قبل الإضافة إليه1. إلا إن قامت قرينة تدل على أن المراد منه الثبوت والملازمة الدائمة، فيصير صفة مشبهة؛ لما أوضحناه2 من أن الأصل في اسم المفعول أن يدل على معنى حادث غير دائم الملازمة لصاحبه "فهو -عند عدم القرينة- يدل على مجرد الحدوث الذي لا يشمل الماضي ولا المستقبل ولا يفيد الاستمرار". فإن قصد به النص على الثبوت والدوام -وقامت قرينة تدل على هذا- صار صفة مشبهة3؛ فيسمى باسمها، ويخضع لأحكامها؛ وبالرغم من بقائه على صورته الأصلية؛ إذ لا يصح تغيير صورته بسبب انتقال معناه من الحدوث إلى الدوام والاستمرار.
والكثير الغالب في اسم المفعول عدم إضافته إلى مرفوعه إلا إذا أريد تحويله إلى الصفة المشبهة؛ ليدل مثلها على معنى ثابت دائم، لا حادث؛ وبشرط وجود القرينة التي تدل على ثبوته ودوامه. وإذا صار صفة مشبهة جاز في السببي4 الواقع بعده الرفع، على اعتباره "فاعلًا"، ولا يصح اعتباره نائب فاعل للصفة المشبهة5 التي جاءت على صورة اسم المفعول. ويجوز فيه النصب على اعتباره "شبيهًا بالمفعول به" إن كان معرفة، و"تمييزًا" أو "شبيهًا بالمفعول به" إن كان نكرة، ويجوز فيها الجر على اعتباره مضافًا إليه، ففي مثل: أنت مرموق المكانة دائمًا، مسموع الكلمة؛ مُحَصَّن خلقًا، مكمَّل علمًا، يجوز في الكلمات5: "المكانة، الكلمة، خلقا، علمًا" الرفع على اعتبارها فاعلًا
__________
1 وهذه الإضافة مع الدلالة على الحدوث قليلة -كما سيجيء- وهي مع قلتها جائزة. لكنها لا تساير الكثير من الأساليب الفصيحة المأثورة.
2 في ص271.
3 يحسن الاستئناس فيما يأتي بنظيره السابق في اسم الفاعل في "ج" من ص264؛ فكلاهما موضع للآخر.
4 أوضحنا للسببي تفصيلًا في رقم 4 من هامش ص264 ثم في ص310، وملخصه: أنه الذي ليس أجنبيًّا من الموصوف: فيشمل ما يحوي ضمير الموصوف لفظًا؛ نحو: الوالد مسموعة كلمته. أو تقديرًا، نحو: الوالد مسموع الكلمة، أي: مسموع الكلمة منه. وقيل إن "أل" خلف عن الضمير؛ تبعًا لرأي الكوفيين الذي سبقت الإشارة إليه في رقم 4 من هامش ص264 وفي ص268.
5 لأن الصفة المشبهة لا ترفع نائب فاعل مطلقًا.(3/277)
للصفة المشبهة، ويجوز فيها الجر؛ لاعتبارها مضافًا إليه، ويجوز فيها النصب، إما على التشبيه بالمفعول به إن كانت معرفة، وإما على التمييز أو على التشبيه بالمفعول به إن كانت نكرة. ولا مناص من قيام قرينة تدل على أن المراد من الصيغة هو الصفة المشبهة، وليس اسم المفعول.
أما إذا أضيف اسم المفعول لمرفوعه بغير إرادة تحويله إلى الصفة المشبهة وبغير القرينة الدالة على إفادة الدوام، وهذه الإضافة قليلة جائزة، كما سبق؛ فإنه يظل محتفظًا باسمه وبكل الأحكام الخاصة به، وقد عرفناها.
ولا بد في اسم المفعول الذي يصير صفة مشبهة من أن يظل على صيغته الأصيلة التي أوضحناها، لا الصيغة التي تنوب عليها، وأن يكون فعله في أصله متعديًا لمفعول واحد؛ ليكون هذا المفعول الواحد في السببي الذي يصح في إعرابه الأوجه الثلاثة السالفة؛ كالمثال السابق؛ وكقولهم: لا ينقضي يوم لا أراك فيه إلا علمت أنه مبتور القدر، منحوس الحظ1.
فإن كان فعله لازمًا لم يصلح أن يصاغ منه اسم المفعول الصالح للانتقال إلى الصفة المشبهة. وكذلك إن كان فعله متعديًا لأكثر من واحد؛ فإنه في الرأي الشائع لا يصلح2؛ سواء أذكر مع السببي مفعول آخر أم لم يذكر.
ومن الأمثلة لاسم المفعول المراد منه الصفة المشبهة3 ما ورد عنهم في رفع السببي على الفاعلية، هو:
بثوب، ودينار، وشاة، ودرهم ... فهل أنت مرفوع بما ههنا رأسُ4؟
__________
1 نحس السعد حظ: جفاه وتركه.
2 حجة المانعين هو ما سبق مفصلًا في ص267 وفيها الرد عليهم، ومنه يفهم أنه لا مانع أن يكون الفعل متعديًا لاثنين فقط، يكون أحدهما السببي المجرور، ويبقى الآخر منصوبًا؛ على اعتباره شبيهًا بالمفعول به، لا مفعول به أصيلًا.
3 إذ المقصود إفادة الثبوت.
4 وردت البيت بهذا النص في بابي صوغ: "اسم المفعول، والصفة المشبهة" ببعض المراجع النحوية؛ "كالتصريح والهمع ... "، ولكنه ورد بنص آخر في الجزء الأول من كتاب: "معاني القرآن" للفراء، سورة البقرة ص52، قال:(3/278)
فكلمة: "رأس" فاعل للصفة المشبهة التي هي كلمة: مرفوع.
وفي نصبه على التشبيه بالمفعول به:
لو صنت طرفك لم تُرَع بصفاتها ... لما بدت مجلوة وجناتها1
وفي جره:
تمنى لقائي الجونُ2 مغرورُ نفسِهِ ... فلما رآني ارتاع ثُمت3 عردا4
وهكذا ... و ... 5.
__________
فأبلغْ أبا يحيى إذا ما لقيته ... على العيس في آباطها عَرَق يَبْسُ
بأن السُّلامِيَّ الذي بِضَريَّة ... أمير الحمى قد باع حقي بني عبْسِ
بثوب، ودينار، وشاة، ودرهمٍ ... فهل هو مرفوع بما ههنا رأسُ؟
العرق اليبس: الجفاف. السلامي: رجل منسوب إلى موضع بنجد، يقال له: سلام -ضربة: قرية نجدية في طريق القادمين من البصرة إلى مكة- وكلمة: "عبس" مجرورة، مع أن السين في آخر أبيات القصيدة كلها مرفوعة. وهذه المخالفة في الشعر تسمى الإقواء.
1 الدليل على النصب أن الأنسب أن تكون منصوبة بالكسرة؛ لتساير آخر الشطر الأول الذي وقعت فيه كلمة: "صفاتها" مجرورة بالكسرة.
2 من معاني "الجون" في اللغة: الأبيض أو الأسود، وهو هنا: اسم رجل.
3 بمعنى: "ثم" حرف عطف، والتاء للتأنيث.
4 فر هاربًا.
5 فيما سبق من إضافة اسم المفعول لمرفوعه يقول ابن مالك من غير تفصيل:
وقد يضاف ذا إلى اسم مرتفعْ ... معنى؛ كمحمود المقاصد الورعْ
يشير بكلمة "ذا" إلى اسم المفعول لاتجاه الكلام السابق إليه. وأصل مثال الناظم الورع محمود مقاصد، لحقه ما ذكرناه في الزيادة التالية.(3/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
يضاف اسم المفعول إلى مرفوعه بالشروط والتفصيلات التي سلفت1، ولكن بالطريقة التي ارتضوها، وقد شرحناها2 وافية في إضافة اسم الفاعل لمرفوعه؛ أي: بعد تحويل الإسناد عن السببي إلى ضمير الموصوف، ثم نصب السببي على التشبه بالمفعول به، ثم جره على الإضافة بعد ذلك، كمثال الناظم، وهو: محمود المقاصد الورع. فأصله: الورع محمودة مقاصده. فكلمة: "مقاصده" مرفوعة على النيابة "لمحمودة" ثم صار: الورع محمود "المقاصد" بالنصب؛ ثم صار: ... محمود المقاصد، بالجر.
والسبب عندهم: ما تقدم2 من أن الوصف هو عين مرفوعة في المعنى؛ فلو أضيف إليه من غير تحويل للزم إضافة الشيء إلى نفسه من غير مسوغ وهي -في الأغلب- غير صحيحة. ولا يصح حذفه؛ لعدم الاستغناء عنه. فلا طريق إلى إضافته إلا بتحويل الإسناد عنه إلى ضمير يعود إلى الموصوف ثم ينصب السببي لصيرورته فضلة حينئذ، بسبب استغناء الوصف بالضمير، ثم يجر السببي، فرارًا من قبح إجراء وصف المتعدي لواحد مجرى وصف المتعدي لاثنين3 ...
وقد قلنا4 إن هذه الأمور الثلاثة بترتيبها السابق فلسفة خيالية يرددها كثير من النحاة؛ "كصاحب التصريح، وعنه أخذ الصبان"، ولا شيء منها يعرفه العربي الأصيل، فليس في إهمالها إساءة.
__________
1 في ص275 وما بعدها.
"2-2" ص268 وما يليها.
3 من المفيد الرجوع إلى ص267 وما يليها.
4 في ص269.(3/280)
المسألة 104:
الصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدي لواحد 1:
تعريفها:
نسوق الأمثلة التالية؛ لكشف دلالتها، وإيضاح ما في معناها من دقة: سئل أحد الأدباء القدامى أن يصف: "أبا نواس"؛ فكان مما قال: "عرفته جميل الصورة، أبيض اللون، حسن العينين والمضحك، حلو الابتسامة، مسنون الوجه2، ملتف الأعضاء، بين الطويل والقصير، جيد البيان، عذب الألفاظ.. و ... ".
في هذا الوصف كثير مما يسمى: "صفة مشبهة"؛ مثل: جميل، أبيض، حسن، حلو ... و ... فما الذي تدل عليه كل كلمة من هذه الكلمات، ونظائرها؟
لنأخذ مثلًا كلمة: "جميل" فإنها اسم مشتق، يدل على أربعة أمور مجتمعة:
أولها: المعنى المجرد الذي يسمى: "الوصف"، أو "الصفة". وهو هنا: الجمال.
ثانيها: الشخص، أو غيره من الأشياء التي لا يقوم المعنى المجرد إلا بها، ولا يتحقق وجوده إلا فيها. وإن شئت فقل: هو الموصوف الذي يتصف بهذا الوصف، "الصفة" ... ، ولا يمكن أن يوجد الوصف مستقلًا بنفسه بغير موصوفه.
والمراد به في المثال: الشخص الذي ننسب له الجمال، ونصِفُه به.
__________
1 في ص294، 300 وهامشهما، سبب هذه التسمية، وفي ص182 بيان مفصل عن أصل المشتقات.
2 وجه مسنون: أملس جميل.(3/281)
ثالثها: ثبوت هذا المعنى المجرد "الوصف، أو: الصفة" لصاحبه في كل الأزمنة ثبوتًا عامًا؛ أي: الاعتراف بتحققه ووقوعه شاملًا الأزمنة الثلاثة المختلفة؛ فلا يختص ببعض منها دون آخر، بمعنى أنه لا يقتصر على الماضي وحده، ولا على الحال وحده، ولا على المستقبل كذلك، ولا يقتصر على زمنين دون انضمام الثالث إليهما؛ فلا بد أن يشمل الأزمنة الثلاثة؛ بأن يصاحب موصوفه فيها. فوصف شخص بالجمال على الوجه الوارد في العبارة السابقة معناه الاعتراف بالجمال له، وأن هذا الجمال ثابت متحقق في ماضيه، وفي حاضره، وفي مستقبله، غير مقتصر على بعض منها. "ولهذا نتيجة حتمية تجيء في الأمر الرابع التالي".
رابعها: ملازمة ذلك الثبوت المعنوي العام للموصوف ودوامه؛ لأنه -كما أوضحناه- يقتضي أن يكون المعنى المجرد الثابت وقوعه وتحققه ليس أمرًا حادثًا الآن، ولا طارئًا ينقضي بعد زمن قصير. وإنما هو أمر دائم ملازم صاحبه "الموصوف" طول حياته، أو أطول مدة فيها حتى يكاد يكون بمنزلة الدائم1؛ إذ ليس بمعقول أن يصحبه في ماضيه وحاضره ومستقبله من غير أن يكون ملازمًا له، أو كالملازم2؛ فالجمال مثلًا لا يفارق صاحبه، وإن فارقه3 فزمن المفارقة أقصر من زمن الملازمة الطويلة التي هي بالدوام أشبه. ومن ثم كان هذا الأمر الرابع نتيجة للثالث4.
__________
1 ويشبهها في هذا الدوام والاستمرار "أفعل التفضيل" -كما في رقم 2 من هامش 251 وكما سيجيء في بابه ص395.
2 يدخل في حكم الملازمة بعض الأوصاف التي لا تفارق صاحبها، ولكن آثارها لا تظهر إلا في مناسبات خاصة بها؛ فمثلها يطرأ، ويزول، ثم يتجدد ... وهكذا، مما يسمى: "الاستمرار المتجدد، أو: الاستمرار التجددي". ومن هذا النوع كثير من العادات والسجايا؛ كالفرح؛ والغضب، والشبع، نحو: فلان فرح، أو: غضوب، أو شبعان ... فهذه صفات تظهر في مناسباتها -كما سيجيء في الأمر الأول من ص285، وفي الثالث من ص307.
3 تكون هذه المفارقة لسبب طارئ مؤقت -في الغالب- كمرض، أو خوف، أو شيخوخة ...
4 ولا بد من النص على هذا الأمر الرابع؛ إذ لا يلزم من حصول الأمر الثالث وتحققه أنه يلازم صاحبه ملازمة دائمة؛ فمن الممكن حصول الأمر في الماضي وفي الحال وفي المستقبل من غير أن يلازم صاحبه الملازمة المستمرة -أو شبهها- في كل حالة: ومن الممكن أن يقع فيها كلها مجتمعة من غير أن يستمر في المستقبل كذلك.(3/282)
فكلمة: "جميل" في الكلام السالف -وأشباهه- تدل على:
1- معنى مجرد "أي: على وصف، أو: صفة"؛ هو: الجمال.
2- وعلى صاحبه الموصوف به.
3- وعلى ثبوت ذلك المعنى له وتحققه ثبوتًا زمنيًا عامًا. "ويشمل الماضي والحاضر، والمستقبل".
4- وعلى دوام الملازمة، أو ما يشبه الدوام1.
والناطق بتلك الكلمة إنما يريد الأمور الأربعة مجتمعة، إن كان خبيرًا باللغة، وبدلالة الألفاظ فيها.
ومثل هذا يقال في كلمة: "أبيض"؛ فهي اسم مشتق يدل على ما يأتي:
1- معنى مجرد "أي: وصف، أو: صفة"، هو: البياض.
2- الشيء الذي لا يقوم ولا يتحقق المعنى المجرد إلا بوجوده فيه "أي: الموصوف الذي يراد وصف بصفة: "البياض"، وهو هنا الشخص الذي نريد أن ننسب له تلك الصفة؛ ونصفه بها.
3- أن ذلك المعنى المجرد "الوصف، أو: الصفة"، ثابت له متحقق في كل الأزمنة ثبوتًا عامًا؛ فليس خاصًا بزمن من الثلاثة دون غيره، أو بزمنين، فالبياض، يصاحب المتصف به في ماضيه، وحاضره، ومستقبله.
4- أن هذا الثبوت العام يلازم صاحبه، ولا يكاد يفارقه؛ لأن مصاحبته إياه في الأزمنة الثلاثة تقتضي أن يكون ملازمًا له أو في حكم الملازم، برغم أنه قد يفارقه حينًا.
فالناطق بكلمة: "أبيض" في التركيب السابق -ونظائره- إنما يريد بها الدلالة على تلك الأمور الأربعة مجتمعة إن كان يفهم أسرار العربية، ويجيد اختيار الألفاظ التي توضح تلك الأسرار.
وما يقال في كلمتي: "جميل"، و"أبيض" يقال في: "حسن" و"حلو"، ... و ... وأمثالهما ...
من كل ما تقدم يتبين المراد من قول النحاة في تعريف الصفة المشبهة
__________
1 إلا إنْ وجدت قرينة تمنع الدوام وشبيهه، كما سيجيء في ص307. وانظر رقم 1 من هامش ص293.(3/283)
الأصيلة إنها: "اسم مشتق؛ يدل على ثبوت صفة لصاحبها1 ثبوتًا عامًّا"2.
أنواعها، وطريقة صوغ كل نوع:
الصفة المشبهة ثلاثة أنواع قياسية3:
أولها وأكثرها: "الأصيل"، وهو المشتق الذي يصاغ أول أمره من مصدر الفعل الثلاثي، اللازم، المتصرف؛ ليدل على ثبوت صفة لصاحبها ثبوتًا عامًا -وقد شرحناه بالأمثلة- ولهذا النوع أوزان وصيغ كثيرة خاصة به، وسنذكر أشهر القياسي منها....
ثانيها: الملحق بالأصيل من غير تأويل، ويلي الأول في الكثرة؛ وهو: "المشتق الذي يكون على الوزن الخاص باسم الفاعل أو باسم المفعول4، من غير أن يدل دلالتهما على المعنى الحادث وصاحبه، وإنما يدل -بقرينة- على أن المعنى ثابت لصاحبه ثبوتًا عامًا". وقد عرفنا طريقة صياغته في الباب الخاص بكل منهما5.
وحكم هذا النوع أنه قياسي، وأنه بمنزلة الصفة المشبهة؛ فله اسمها، ودلالتها، وأحكامها المختلفة، دون أوزانها؛ لأنه يظل على صيغته الخاصة باسم الفاعل أو اسم المفعول، ويلازم وزنه السابق، على الوجه الذي شرحناه في باب كل منهما5.
ثالثها وأقلها: الجامد المؤول بالمشتق، وهو: "الاسم الجامد الذي يدل دلالة الصفة المشبهة مع قبوله التأول بالمشتق6".
وحكمه: أنه قياسي يظل على لفظه الجامد القابل للتأويل، ويؤدي معناها، ويعمل عملها دون أن تتغير صيغته.
__________
1 وقد يقتصرون في التعريف على: أنها اسم مشتق يدل على ثبوت صفة لصاحبها. أو: اسم مشتق يدل على الثبوت. ولا بأس بالإيجاز إن كان المراد معه واضحًا -موافقا ما شرحناه-.
2 أي: شاملًا الأزمنة الثلاثة شمولًا مستمرًا ثابتًا -كما شرحناه-.
3 بيان قياسيتها في رقم 2 من هامش ص291.
4 سواء أكان فعلهما ثلاثيًا أم غير ثلاثي.
"5، 5" في هامش ص242 وفي "ج" من ص264 وفي "د" من ص264، ثم في ص277.
6 ولذا يصح وقوعه نعتًا كما سيجيء في ص463 "باب النعت".(3/284)
وبالرغم من قياسيته يحسن الإقلال منه قدر الاستطاعة، وقد يزاد على آخره ياء مشددة للنسب، فتقرِّبه من المشتقات؛ نحو: تناولنا شرابًا عسلًا طعمه، أو: تناولنا شرابًا عسليًّا طعمه. ويجوز في معموله "وهو هنا كلمة: طعم" ما يجوز في معمول الصفة المشبهة من الرفع، أو النصب، أو الجر، على التفصيل المذكور في إعمالها -وسيأتي1- فنقول: تناولنا شرابًا عسليًا طعمه بالرفع، عسلًا طعمًا بالنصب، عسل الطعم بالجر بالإضافة. مع جواز زيادة الباء المشددة في كل حالة، وعليها تقع علامات الإعراب.
ومن أمثلته قول الشاعر يهجو:
فراشة الحِلمِ، فرعون العذاب، وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
والمراد بفراشة: طائش، وبفرعون: أليم، أو: شديد. والمعاني الثلاثة على التأويل بالمشتق، وقول الآخر:
فلولا الله والمهر المفدى ... لأبْت وأنت غربال الإهاب
والمراد: مثقب الجلد. وهذا على التأويل بالمشتق أيضًا.
والآن نعود إلى صياغة النوع الأول الأصيل، وأوزانه:
لما كانت الصفة المشبهة الأصلية لا تصاغ قياسًا إلا من مصدر الفعل الماضي الثلاثي، اللازم، المتصرف ... تحتم أن يكون فعلها كسائر الأفعال الثلاثية، إما مكسور العين "أي: على وزن: "فعِل"، وهو أكثر أفعالها المتصرفة التي يقع الاشتقاق من مصدرها، وإما مضموم العين، "أي: على وزن "فعُل"، ويلي الأول في كثرة الصياغة من مصدره، وإما مفتوح العين، "أي: على وزن "فعَل"، وهو أقل أفعالها، بل أندرها. وأوزانها القياسية من هذه الأنواع الثلاثة كثيرة نعرض أشهرها، وضوابطه فيما يلي:
1- فإن كان الماضي الثلاثي اللازم على وزن "فعِل" -بكسر العين- وكان دالًا على فرح، أو حزن، أو أمر من الأمور التي تطرأ وتزول سريعًا،
__________
1 في ص294.(3/285)
ولكنها تتجدد1، وتتردد على صاحبها كثيرًا لأنه اعتادها -فالصفة المشبهة على وزن: "فعل" للمذكر، و"فعلة" للمؤنث- ويلاحظ أن هذين الوزنين ليسا مقصورين على الصفة المشبهة من مصدر الفعل "فعل" فقد يكونان من مصدر "فعل" أيضًا، كما سنعرف -نحو: فرح فهو فرِحٌ، طرب فهو طرِبٌ، بطر فهو بطِر، حذر فهو حذِر، تعب فهو تعِب، ومن هذا قولهم: الحذِر آمن، والضجِر مكروب، والبطِر مهدَّد بزوال النعم.
وقول الشاعر:
ويل للشجِي2 من الخلي3 فإنه ... نصب الفؤاد، بحزنه مهموم
وإن كان دالًّا على خلو، أو امتلاء، ونحو هذا مما يطرأ ويتكرر ولكنه يزول ببطء -فالصفة المشبهة على وزن: "فعلان" ومؤنثها -في الغالب- على وزن: "فعلى"- نحو: عطش فهو عطشان، ظمئ فهو ظمآن، صدى فهو صديان، شبع فهو شبعان، روي فهو ريان، يقظ فهو يقظان، عرق فهو عرقان. ومن هذا قولهم في الهجاء: فلان شبعان البطن، صديان الروح، نائم العقل، يقظان الهوى.
__________
1 ويسمى استمرارها: متجددًا، أو: تجدديًا -كما أوضحنا في ص39 وفي رقم 4 من هامش ص247 وفي رقم 2 من هامش ص282.
2 الحزين المهموم.
"ملاحظة": في كلمة "شجي" ونظائرها بيان لغوي مفيد، نعرضه فيما يأتي:
جاء في القاموس المحيط "ج4 مادة: شجاه" ما نصه: "شجاه: حزنه وطربه؛ كأشجاه فيهما. ضد ... و ... شجي به، كرضي شجًى. والشجِي المشغول. وشدد ياؤه في الشعر ... " ا. هـ كلام القاموس.
لكن قوله: "شدد ياؤه في الشعر" تقييد غير صحيح؛ فقد جاء في: "الاقتضاب، في شرح أدب الكتاب" تأليف ابن السيد البطليوسي، في باب: ما يشدد، والعامة تخففه ص197 ما نصه:
"أكثر اللغويون من إنكار التشديد في لفظة: "الشجي" وذلك عجيب منهم؛ لأنه لا خلاف بينهم أنه يقال: شجوت الرجل أشجوه إذا أحزنته، وشجي يشجى إذا حزن. فإذا قيل: "شجٍ" بالتخفيف كان اسم الفاعل من "شجي" يشجى؛ فهو "شجٍ"؛ كقولك: "عمي يعمى فهو عمٍ". وإذا قيل: "شجيٌّ" بالتشديد، كان اسم المفعول من: "شجوته" أشجوه؛ فهو مشجوٌّ وشجيٌّ". كذلك مقتول وقتيل، ومجروح وجريح.
ثم انبرى بعد ذلك يسرد أمثلة مسموعة للمشدد تؤيد رأيه" ا. هـ.
وقريب من هذا المثل في معناه قولهم أيضًا: "ما أهون على النائم القرير سهر المسهَّد المكروب".
3 الخالي من الهم والحزن.(3/286)
فإذا كان دالًا على أمر خلقي يبقى ويدوم، "مثل: لون، أو عيب، أو حلية، وكل هذا خلقي يبقى ويثبت" فالصفة في الغالب على وزن: "أفعل" للمذكر، و"فعلاء" للمؤنث؛ نحو: حمر فهو أحمر، خضر فهو أخضر، عرج فهو اعرج، عور فهو أعور، حور1 فهو أحور، كحل فهو أكحل ... ومنه قولهم: اشتهرت الخيول العربية برشاقة الجسم، وضمور البطن، وأنها دعجاء2 المقلة، كحلاء العين، وَطْفاء الأهداب3.
فالصفات المشبهة التي ماضيها مكسور العين -تدور معانيها الغالبة حول ثلاثة أشياء؛ أمور تطرأ وتزول سريعًا ولكنها تتردد كثيرًا، أو أمور تطرأ وتتكرر، تزول ببطء. أو أمور تثبت وتبقى في الغالب.
2- إذا كان الثلاثي اللازم على وزن: "فعُل" "بضم العين" فالصفة المشبهة كثيرة الأوزان؛ فقد تكون على وزن: "فعيل"؛ مثل: شرُف فهو شريف، نبُل فهو نبيل، قبُح فهو قبيح.
أو: على وزن: "فَعْل"؛ مثل: ضخُم فهو ضخْم، شهُم فهو شهْم، صعُب فهو صعْب.
أو على وزن: "فَعَل"؛ مثل: حسُن فهو حَسَن، بَطُل4 فهو بَطَل.
أو على وزن: "فَعَال"؛ مثل: جبُن فهو جبان، رزُنت المرأة فهي رزان5، حصُنت فهي حصان، أي: عفيفة.
أو على وزن: "فُعَال"؛ مثل شجُع فهو شُجاع، فَرُت الماء "بمعنى: عذب"، فهو فُرَات.
__________
1 الحور: شدة بياض العين مع شدة سوادها.
2 الدعج: سعة العين مع شدة سوادها. "دعج، دعجًا، فهو أدعج، وهي: دعجاء".
3 غريزة شعر الجفون "وطِف وطفًا؛ فهو: أوطف؛ وهي: وطفاء".
4 صار بطلًا.
5 بمعنى: متوقرة، غير طائشة. والكثير قصر هذا الوزن على المؤنث.(3/287)
أو على وزن: "فُعْل": مثل: صلُب فهو صُلْب - أو على وزن: "فِعْل"؛ نحو ملُح الماء فهو مِلْح.
أو على وزن: فَعِل: مثل نَجُس الصديد فهو نَجِس.
أو على وزن: "فَاعِل"؛ مثل: طهُر فهو طاهر.
وليست الأوزان السابقة مقصورة على الصفة المشبهة المصوغة من مصدر: "فعُل" بضم العين، بل بعضها مقصور عليها؛ وهو: "فَعَل" كحسن، و"فَعَال": كجبان، و"فُعال": كشجاع ... وبعضها غير مقصور ولا مختص؛ لأنه مشترك بين فعُل -بضم العين- وفعِل، بكسرها. ومن هذا:
"فعيل"؛ مثل: بخُل الوضيع فهو بخيل. كرُم الماجد فهو كريم.
ومنه: "فَعْل"؛ مثل: سبط فهو سَبْط1، ضخم فهو ضَخْم؛ ومنه: "فِعْل" مثل؛ صفِر جيب المسرف؛ فهو صِفْر. ملُح ماء البحر فهو مِلْح.
ومنه: "فُعْل"؛ مثل: حَرَّ القوي فهو حُرٌّ، "والأصل: حَرِرَ". صلُب الحديد فهو صُلْب.
ومنه: "فَعِل"، كفرِح المنتصر فهو فَرِح. نَجُس الطعان الحرام فهو نَجِس.
ومنه: "فاعل"، مثل: صحِب الضوء الشمس فهو صاحب. طهر ثوب المصلى فهو طاهر.
3- وإن كان الثلاثي اللازم على وزن "فَعَل" بفتح العين وهو أندر أفعالها. كما أسلفنا- فالصفة المشبهة على وزن فيعِل؛ نحو: مات يموت فهو ميت2.
__________
1 طويل.
2 ومثله: ساد يسود؛ فهو: "سَيِّد. وإنما كان ساد ومات على وزن "فَعَل" بفتح العين؛ لأن مضارعهما بضم العين، وهذا لا يجيء إلا من ماضٍ مفتوح العين أو مضموم العين، ومضمومها لا يصلح هنا؛ لأنه -في الغالب- للمدح أو الذم، على غير ما هنا.(3/288)
تلك أشهر الصيغ والأوزان القياسية للصفة المشبهة1.
وهناك صيغ أخرى سماعية، متناثرة في الكلام العربي الفصيح ومراجعه،
__________
1 وقد عرض ابن مالك -كما أشرنا في رقم 3 من هامش ص239 ورقم 5 من هامش ص271- لصياغة الصفة المشبهة في باب مختلط، عقده لصياغتها وصياغة اسم الفاعل واسم المفعول، عنوانه:
"أبنية أسماء الفاعلين، والمفعولين، والصفات المشبهة بها".
ونص ما جاء على حسب ترتيب أبياته:
كفاعلٍ صغ اسم فاعل إذا ... من ذي ثلاثة يكون؛ كغَذَا
"غذا الماء: سال. غذوت الوليد: أطعمته، أو ربيته. فالفعل لازم، ومتعدٍّ".
يقول: صغ اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المتصرف على مثال "فاعل" أي: على وزن فاعل. وضرب مثلًا للفعل الثلاثي هو "غذا"، ويصلح مثالًا للثلاثي المتعدي واللازم، إشارة إلى أن اسم الفاعل لا يختلف وزنه باختلاف تعدي الثلاثي أو لزومه. فالمهم أن يكون ثلاثيًا، أو على وزن "فعَل" -بفتح العين- كما يفهم من المثال، ومن الكلام الآتي بعد. ثم قال:
وهو قليلٌ في: "فَعُلْت" و"فَعِلْ" ... غير معدًّى، بل قياسه "فَعِلْ"
أي: أن صيغة "فاعل" قليلة إذا جاءت من مصدر الفعل "فعُل" أو "فعِل" اللازمين؛ نحو: حمُض فهو حامض، وطمِع فهو طامع. وبين أن اسم الفاعل في مصدرهما يجيء على وزن "فَعِل"؛ نحو: نجُس فهو نجِس، فرِح فهو فرِح، وبطِر فهو بطِر ... والحق أن هذه الصيغة ليست باسم فاعل حقيقي، وإنما هي صفة مشبهة -وقد سبق البيان في هامش ص238 وكذلك الصيغ الآتية التي عرضها في البيت التالي، وفعلها هو "فعل" مكسور العين أيضًا. يقول:
"وأفعَلٌ" "فعلان" نحو: أشِرِ ... ونحو صديانَ، ونحو: الأجهرِ
يريد: أن "أفعل" و"فعلان" شأنهما كشأن: "فعِل" فكل من الثلاثة عنده هو اسم الفاعل من مصدر "فعل" الثلاثي اللازم مكسور العين، وضرب لها أمثلة هي أَشِر الأحمق فهو أَشِرٌ، وصدي الضال في الصحراء فهو صديان "كعطش فهو عطشان؛ وزنًا، ومعنى، وحكمًا". وجهر الرجل "لم يقدر على الإبصار في الشمس" فهو أجهر. وكل هذه صفات مشبهة، وليست باسم فاعل حقيقي، كما قد يفهم من ظاهر كلام ابن مالك "انظر هامش ص238"، ولعل قصده -كما قال بعض الشراح- أن تلك الأفعال تدل في الغالب على معانٍ لازمة أو ما يشبهها، فيناسبها أن يصاغ منها صفات مشبهة بتلك الأوزان، لا أسماء فاعلين. ثم قال:
"وفَعْلٌ" اولى "وفعيل" بِفَعُلْ ... كالضخْم، والجميل، والفعل جَمُلْ
أي: أن الماضي الثلاثي إذا كان على "فعل" -بضم العين- فالأولى أن يكون اسم فاعله على وزان "فعل: أو "فعيل"؛ مثل: ضخم الفيل فهو ضخم، وجمل الغزال فهو جميل ... =(3/289)
فإذا عرف المتكلم صيغة مسموعة مخالفة للصيغة القياسية جاز له استعمال ما يشاء منهما، ولكن الأفضل الاقتصار على المسموعة، ولا سيما الصيغة المشهورة.
__________
= ثم بين في البيت الآتي أن مجيء اسم الفاعل من مصدر ذلك الفعل على وزان: "أفعل"، أو: "فعل" قليل، نحو: خضب فهو أخضب. وبطل العربي فهو بطل، وكذلك بين أن اسم الفاعل -أحيانًا قليلة- لا يجيء من مصدر: "فعل" على صيغة "فاعل" التي هي الغالبة فيه؛ نحو، شاب الرجل فهو أشيب، وشاخ الشاب فهو شيخ، فقد استغني عن صيغة فاعل بأخرى. وفي هذا كله يقول:
"وأفْعَلٌ" فيه قليل، و"فَعَلْ" ... وبسوى الفاعل قد يَغنَى "فَعَلْ"
"غني يغنى، بمعنى: استغنى". ونكرر ما سبق أن كل الصيغ التي من مصدر الثلاثي وليست على وزن: "فاعل"، هي -على غير ما يفهم من ظاهر كلام ابن مالك- "صفات مشبهة"، وليست "اسم فاعل" إلا من طريق التسمية المجازية التي شاعت قديمًا حتى صارت اصطلاحًا عندهم؛ طبقًا للبيان السالف في هامش ص238.
ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان صيغة اسم الفاعل من غير الثلاثي، فقال: إنها على وزن مضارعه، مع كسر متلوِّ الأخير "أي: كسر الحرف الذي يتلوه الأخير، ويجيء بعده" وضم ميم زائدة تجيء أول المضارع بدلًا من حرف المضارعة، نحو: "ساعد، يساعد، مساعد". "تكرم، يتكرم، متكرم". "واصل، يواصل، مواصل ... " يقول:
وزنة المضارع اسم فاعل ... من غير ذي الثلاث؛ كالمواصلِ
مع كسر متلوّ الأخير مطلقًا ... وضم ميمٍ زائدٍ قد سبقا
يريد: زنة اسم الفاعل من مصدر الفعل غير الثلاثي هي زنة مضارعه، بشرط كسر الحرف الذي قبل الأخير في المضارع، وضم حرف الميم الزائد الذي يسبق بقية حروف المضارع؛ "لأنه يتصدر الفعل، ويحل محل حرف المضارعة". نحو: المواصل، والفعل الرباعي؛ هو؛ واصل، ومضارعه يواصل، واسم الفاعل: مواصِل. وقد تحقق المطلوب؛ بكسر الحرف الذي قبل الأخير، وحذف حرف المضارعة من الأولى، وإحلال الميم المضمومة الزائدة محله "وقد تكلمنا على كل ما سبق في ص236".
ثم انتقل بعد ذلك على الكلام على صيغة اسم "الفعل" من مصدر الفعل غير الثلاثي؛ فأوضح أنها هي صيغة اسم الفاعل من مصدر غير الثلاثي، ولكن بعد أن يفتح الحرف الذي قبل الآخر. فلا فرق بين صيغتيهما، وطريقة الوصول إليهما إلا في أمر واحد: هو أن الحرف الذي قبل الآخر مكسور في صيغة اسم الفاعل، مفتوح في صيغة اسم المفعول، نحو: مساعد، ومساعد -متكرِّم، متكرَّم، ومواصِل، ومواصَل. منتظِر. ومنتظَر ... أما صيغة اسم المفعول من مصدر الفعل الثلاثي فهي على وزن: "مفعول" باطِّراد؛ كالوزن الذي نأتي به من: "قصد" فنقول: مقصود. أو من "كتب" فنقول: مكتوب. وفيما سبق يقول:(3/290)
أما إذا لم توجد صيغة مسموعة، أو وجدت ولكنه لا يعرفها1 فليس أمامه إلا استخدام الصيغة القياسية2.
__________
=
وإن فتحت منه ما كان انكسرْ ... صار اسم مفعول: كمثل: المنتظرْ
وفي اسم مفعول الثلاثي اطَّرَدْ ... زنة مفعول، كآتٍ مِن: قَصَدْ
أي: كالوزن الآتي من الفعل: قصد، وأشار بعد هذا إلى أن اسم المفعول من الثلاثي قد يكون على وزن "فعيل"، لا مفعول؛ فيعمل عمله -بشروطه- وأن هذا نقل عن العرب، وسماع منهم؛ فهو مقصور على النقل والسماع، ولا يجوز القياس عليه، بل يجب الوقوف عند ما ورد منه، لا نزيد عليه شيئًا. وقد مثل له: بفتاة كحيل؛ بمعنى مكحولة العينين، وفتى كحيل؛ بمعنى: مكحولهما. "ويلاحظ أن صيغة: "فعيل" التي بمعنى: "مفعول" يستوي فيها المذكر والمؤنث -غالبًا- فتستعمل بلفظ واحد لهما من غير زيادة تاء تدل على التأنيث، بشروط وتفصيلات يجيء الكلام عليها في الجزء الرابع، "الباب الخاص بالتأنيث"، وأهم هذه الشروط ألا يذكر قبلها الشيء الذي نتحدث عنه أو نَصِفُهُ، أي: الموصوف الذي يقوم به معناها ويتحقق فيه مدلولها" يقول:
وناب نقلًا عنه ذو فعيلِ ... نحو: فتاة أو فتى كحيلِ
وقد تكلمنا على كل ما سبق خاصًّا باسم المفعول في ص271. ذو فعيل: أي صاحب هذا اللون. موازنه".
1 لخفائها عن العلماء؛ لا لقصور وجهل من المتكلم.
2 الصفة المشبهة قياسية "كما صرح بهذا في أول بابها الأشموني -وغيره- كالتصريح في أول باب: "كيفية أبنية أسماء الفاعلين ... وفي أول باب: الصفة المشبهة"؛ فيجوز صياغتها على وزن إحدى الصيغ التي عرضناها، بشرط أن تتحقق الشروط والأوصاف الخاصة بهذه الصيغة. ولا التفات إلى الرأي القائل بوجوب الاقتصار على الصيغ السماعية إن وجدت؛ لأن الأخذ بهذا الرأي معطل للقياس؛ منافٍ لمعناه الحقيقي، وللغرض منه. فوق ما فيه من إعنات ومشقة لا يحتملها جمهرة الخاصة، بله العامة؛ إذ يطالب بالرجوع إلى المراجع اللغوية، وجميع المظان الحاوية لمفرداتها، للبحث عن الصيغة السماعية قبل استعمال القياسية. فإذا ثبت عدم وجود صيغة سماعية جاز استعمال القياسية ... وليس هذا بمعقول ولا سائغ، بل ليس من صالح اللغة تضييقها على هذا الوجه المعوق لها، الحائل دون استعمالها، من غير فائدة مرجوة في هذا التحجير والإرهاق.
وأعجب من هذا رأي آخر يحرم استخدام الصيغ القياسية مطلقًا "مع وجود أخرى سماعية أو عدم وجودها، كالذي قيل في صوغ المصدر ص188 وما بعدها". زاعمًا أن إيجاد الصيغة القياسية إنما هو إيجاد وخلق اللفظ لم ينطق به العرب أصحاب هذه اللغة، المستأثرون بخلق مفرداتها وكلماتها وهو زعيم خاطئ دفعناه مرارًا في أجزاء هذا الكتاب، وأوضحنا أسباب خطئه؛ قاصدين أن نكشف خطره وضرره، كي لا يجد له في أيامنا واهِمًا يأخذ به.
وهذه المناسبة تحملنا إلى أن يعود فنردد هنا أيضًا ما سبق أن عرضناه في رقم 3 من هامش ص188 من إباحة استخدام المصدر وغيره استخدامًا قياسيًّا مطردًا. ونشير بوجه خاص إلى كلام ابن جني المدون هناك، وهو كلام هامٌّ مفيد.(3/291)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
وبهذه المناسبة نشير إلى حكم سبق1، فنردده لأهميته؛ وهو: أن الصفة المشبهة قد يراد منها النص على الحدوث؛ لحكمة بلاغية، مع قيام قرينة تدل على هذا المراد- فتصير اسم فاعل؛ لما اسمه، ومعناه، وحكمه، وتنتقل إلى صيغته الخاصة به، "وهي صيغة اسم "فاعل" من مصدر الثلاثي"؛ فلا بد أن تترك اسمها، وصيغتها، ومعناها، وحكمها، وتصير إليه في كل شأن من شئونه بغير إبقاء على حالها السابق. فإذا أردنا النص على وصف رجل بالفصاحة. وبيان أنها صفة ثابتة ملازمة له؛ ردًّا على من قال إنها طارئة عليه، مؤقتة -أتينا بالصفة المشبهة، "دون اسم الفاعل الحادث"؛ لأنها المختصة بهذه الدلالة، وتخيرنا من صيغها وأوزانها الصيغة الملائمة للمراد. فقلنا: "فصيح" وأجرينا على هذه الصيغة اسم "الصفة المشبهة وكل أحكامها، بشرط إرادة النص. ووجود القرينة الدالة عليه.
لكن إذا أردنا الدلالة على الحدوث نصًّا، وأن الفصاحة طارئة غير ملازمة -أتينا باسم الفاعل الحادث، دون الصفة المشبهة؛ لأنه المختص بهذه الدلالة نصًّا. وجئنا بصيغته الخاصة من مصدر الثلاثي، وهي صيغة "فاعل"، فقلنا: "فاصح" غدًا، مثلًا، وأجرينا عليها اسمه، وكل أحكامه وحده كما أسلفنا1.
وربما تترك الصفة المشبهة دلالتها على الدوام، وتدل على المضي وحده -وهذا نادر2. أو تدل على الحال وحده، أو المستقبل كذلك، من غير أن تترك صيغتها، وإنما تظل عليها مع تغير الدلالة، وكل هذا حين توجد قرينة تدل على
__________
"1، 1" في ص241، 242 حيث البيان والدليل.
2 لتحقيق هذه المسألة يمكن الرجوع إلى: "الخضري" في أول باب: "الإضافة" عند قول ابن مالك: "وإن يشابه المضاف يفعل ... " حيث صرح أنها لا تكون للماضي وحده مطلقًا ... كما يمكن الرجوع للصبان أول باب: "الصفة المشبهة" حيث صرح بأنها مع القرينة قد تكون للماضي وحده، أو للحال وحده، أو للمستقبل كذلك. وساق مثالًا هو "كان زيد حسنًا فقبح، أو سيصير حسنًا، أو هو الآن فقط حسن"؛ ففي الحكم خلاف، والمختار ما قررناه من الندوة. ثم انظر رقم 1 في هامش الصفحة التالية؛ لأهميته.(3/292)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن المراد هو الاقتصار على: المضي، أو على الحال، أو على الاستقبال، وليس المراد الدوام1؛ بالرغم من بقاء الصيغة على صورتها؛ نحو: "هذا المتسابق سريع العدو في الساعة الماضية، بطيء الحركة الآن، وسيبدو بعد قليل فسيح الخطو، بعيد القفز، عظيم الأمل في الفوز". ولكن بقاءها على صيغتها مع تغير دلالتها بسبب اقتصارها على زمن بعيد خاص -ولا سيما الماضي- رأي ضعيف2؛ لا يحسن اتباعه ولا القياس عليه؛ بالرغم من وجود القرينة الدالة على تغير الدلالة. أما إذا لم توجد القرينة فيجب تغيير الصيغة بتحويلها إلى صيغة: "فاعل"3.
واسم الفاعل من الثلاثي إذا أريد به الدلالة على الثبوت -بشرط وجود قرينة- فإنه يصير صفة مشبهة يحمل اسمها دون اسمه، ويدل دلالتها، ويخضع لأحكامها وحدها. وتتغير صياغته؛ فتصير من الثلاثي على وزن من أوزانها القياسية، وقد يظل محتفظًا بصيغته التي كان عليها قبل الانتقال4، إلى الدلالة الجديدة، بشرط وجود القرينة، كما في مثل: أهذا الطبيب رحيب الصدر؟ فيجاب: نعم، راحب الصدر5. وقد بسطنا القول في كل هذا في موضعه من البابين.
__________
1 جاء في "التصريح، شرح التوضيح" -ج2 باب: "أبنية أسماء الفاعلين ... " أمثلة متعددة لها، قال بعد سردها ما نصه: "جميع هذه الصفات المتقدمة الدالة على الثبوت، صفات مشبهة باسم الفاعل إلا إذا قصد بها الحدوث؛ في أسماء الفاعلين" ا. هـ.
وجاء في الحاشية تعليقًا على هذا نصه: "قوله: إلا إذا قصد بها الحدوث- قضيته: إن تلك الصيغ تستعمل للحدوث، وإن لم تحول إلى فاعل. فقولهم: "إذا قصدوا الحدوث حولت إلى فاعل" ... ليس بواجب إلا أن أريد النص على الحدوث كما يدل عليه قول الرضي؛ استدلالا لشيء ذكره. ولهذا اطرد تحويل الصفة المشبهة إلى: "فاعل" كحاسن وضائق عند قصد النص على الحدوث" ا. هـ.
2 وسيجيء في ص307.
3 كما سيجيء في رقم 3 ص307. وانظر رقم 1 هنا.
4 كما سبق في هامش ص242، و"ج" من صفحتي 245، 264.
5 بإضافة اسم الفاعل إلى فاعله؛ لتكون هذه الإضافة هي القرينة المطلوبة.(3/293)
إعمالها:
الصفة المشبهة الأصلية1 مشتقة من مصدر الفعل الثلاثي اللازم؛ فحقها أن تكون كفعلها؛ ترفع فاعلًا حتمًا، ولا تنصب مفعولًا به. لكنها خالفت هذا الأصل، وشابهت اسم الفاعل المتعدي لواحد؛ "فإنه -كفعله المتعدي- يرفع فاعلًا حتمًا، وقد ينصب مفعولًا به"، وصارت مثله ترفع فاعلها حتمًا، وقد تنصب معمولًا2 لا يصلح إلا مفعولًا به، ولكن هذا المعمول حين تنصبه لا يسمى مفعولا به، وإنما يسمى: "الشبيه بالمفعول به3؛ إذ كيف يعتبر مفعولًا به وفعلها لازم لا ينصب المفعول به؟ لهذا يقولون في إعرابه حين يكون منصوبًا، إنه: "منصوب على التشبيه4 بالمفعول به".
ولا تنصب هذا الشبيه إلا بشرط: "اعتمادها"5؛ سواء أكانت مقرونة؛ "بأل" أم غير مقرونة. مثل الكلمات: القول، الطبع، القلب ... وفي قولهم: "إنما يفوز برضا الناس الحلو القول، الكريم الطبع، الشجاع القلب" ... ولا يشترط هذا الشرط لعملها في معمول آخر "غير الشبيه بالمفعول به": كالحال، والتمييز، وشبه الجملة ...
__________
1 سبق في ص284 أن الصفة المشبهة ثلاثة أنواع: أصيل، وملحق به، ومؤول.
2 وهذا من أسباب تسميتها بالصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدي لواحد. وسيجيء التفصيل في ص288 وما بعدها، وفيها أنواع المعمولات التي تنصبها.
3 كما سيجيء في رقم 3 من ص300.
4 أشرنا إلى هذا في مناسبة سابقة "هامش ص242، 265" فقلنا إن السبب هو: صوغ الصفة المشبهة من مصدر فعل ثلاثي لازم، وقد ورد السببي بعدها منصوبًا لا يصلح أن يعرب نوعًا آخر من المنصوبات غير المفعول به، فأعربوه "شبيهًا بالمفعول به"، ولم يعربوه مفعولًا به؛ لئلا تخالف فعلها. وأيضًا فالمفعول به يقع عليه أثر فعل الفاعل. أما معمول الصفة المشبهة هذا فلا يقع عليه الأثر، فلم يجعلوا اسمه "مفعولا به" كاسم المنصوب الذي نصبه اسم الفاعل، مع أنه الصفة المشبهة سميت باسمها لشبهها باسم الفاعل في كثير من أحواله، ومنها عمل النصب. ففي مثل: الحاكم ضارب المذنب، يعرب "المذنب" مفعولًا به مباشرة، لأنه وقع عليه الضرب. لكن إذا قلنا: الحاكم سمح الطبع، لا يعرب "الطبع" إلا شبيهًا بالمفعول به؛ لأن السماحة لم تقع عليه وإنما قامت به، وفرق كبير بين الاثنين أوضحناه من قبل "في ج2 ص53 م65". ومثل هذا حسن الرأي، جميل المظهر ... "راجع الشرح المفصل ج6 ص81".
4 سبق بيان الاعتماد في ص249.(3/294)
لأن كلمة "معمول" ليست مقصورة الدلالة على هذا الشبيه، ولا على النوع المنصوب منه. بل إن معمولها الشبيه البارز -ويسمى أيضًا السببي1"- يجوز فيه ثلاثة أوجه2؛ أن يكون مرفوعًا على اعتباره فاعلًا لها، ويجوز أن يكون منصوبًا على التشبيه بالمفعول به إن كان هذا المعمول "أي: السببي" نكرة، أو معرفة: كالأمثلة السابقة، أو منصوبًا على التمييز بشرط أن يكون نكرة3؛ "نحو ... الحلوُ قولًا، الكريم طبعًا، الشجاع قلبًا"، ويجوز أن يكون مجرورًا بالإضافة: "نحو: ... الحلو القول، الكريم الطبع، الشجاع القلب" أي: أن هذا المعمول السببي يجوز فيه -دائمًا- ثلاثة أوجه إعرابية؛ "إما الرفع على الفاعلية"4، "وإما النصب على التشبيه بالمفعول به، إن كان المعمول -أي: السببي- معرفة أو نكرة، ويصح في المعمول النكرة دون المعرفة نصبه تمييزًا"، "وإما الجر على الإضافة"، ولا فرق في هذه الأوجه الثلاثة بين أن تكون الصفة المشبهة مقرونة "بأل" أو مجردة منها"، كما تقدم، ولا بين أن يكون هذا المعمول مقرونًا بها أو مجردًا منها. إلا أن المعمول المقرون بها لا يعرب تمييزًا كما عرفنا.
وفي جميع حالاتها لا يشترط لإعمالها: "الاعتماد"، إلا في الحالة الواحدة التي سبقت، وهي التي تنصب فيها "الشبيه بالمفعول به"5.
__________
1 تكرر في مناسبات مختلفة إيضاح معنى "السببي" والمراد منه؛ كالذي في رقم 4 من هامش ص264.
2 هناك معمولات يمتنع فيها الرفع، وأخرى يجب. وسيجيء ذكرها في ص304 وما بعدها. وهناك معمولات مجرورة وأخرى منصوبة، غير الشبيه بالمفعول به، منها: الحال، والتمييز، والظروف وغيرها مما سيجيء في ص309، والمعمولات كلها بحالاتها الإعرابية المختلفة لا تقتضي اعتماد الصفة المشبهة إلا الشبيه بالمفعول به -كما سبق، وكما سيجيء في رقم 3 من ص300.
3 لأن التمييز في الأغلب لا يكون إلا نكرة.
4 في حاشية ياسين أول هذا الباب عند تعريف الصفة المشبهة: "أن نحو: زيد حسن ليس صفة مشبهة، ثم جاء بعد ذلك مباشرة ما نصه: "إن النحاة لا يسمونها صفة مشبهة إلا إذا خفضت أو نصبت" ا. هـ.
ويفهم من هذا أنها لا تسمى صفة مشبهة في مثل: "فلان حسنٌ وجهُه"، ونحوه من كل ما وقع فيه فاعلها اسما ظاهرًا أو مستترًا. وهذا رأي مرفوض -بحق- إلا عند ابن هشام.
5 راجع ص294 ورقم 3 من ص300.(3/295)
وينشأ من هذا التفريع صور متعددة أكثرها صحيح، وأقلها غير صحيح. ومن المشقة والإرهاق أن نتصدى لحصر صورهما، ونحدد عددهما على الوجه الذي فعله بعض الخياليين، فأوصلهما إلى مئات، بل ألوف1، وانتهى به التحديد إلى ما لا خير فيه.
وإذا كان التحديد على الوجه السالف خياليًا مرهقًا، فإن الحرص على سلامة الأداء، وصحة التعبير يقتضينا أن نعرف الصور الممنوعة؛ كي نتجنبها، ونصون أنفسنا من الخطأ. وقد وضع لها النحاة ضابطًا نافعًا، يسهل فهمه واستيعابه، فقالوا2:
يمتنع جر المعمول في كل صورة جمعت ما يأتي كاملًا؛ حيث لا يصح إضافة الصفة المشبهة إلى معمولها:
1- إفراد الصفة المشبهة "بأن تكون غير مثناة، وغير جمع مذكر سالم".
2- اقترانها "بأل".
3- تجرد معمولها من "أل"، ومن الإضافة إلى ما فيه أل، ومن الإضافة إلى المختوم بضمير يعود على ما فيه "أل".
4- تجرد الموصوف من "أل".
فيمتنع الجر في: غرد محمود الرخيمُ3 صوتِهِ، ولا يمتنع في: غرد الطائر الرخيمُ صوته. فإذا كانت الصفة بـ"أل"، وكذلك معمولها صح الجر بالإضافة مثل: لا تجادل إلا السمحَ الخلقِ، العفَّ القولِ، الأمينَ الزللِ.
ويجوز الجر بالإضافة أيضًا إذا كانت الصفة مقرونة بـ"أل" والمعمول مجردًا، لكنه مضاف إلى المقترن بها: مثل: هذا الحكيم إعدادِ الخطط، الحسنُ تدبيرِ الأمور. كما يجوز الجر إن كانت الصفة مقرونة بـ"أل"، ومعمولها مجرد من: "أل"، ولكنه مضاف لمضاف إلى ضمير يعود على المقرون بها،
__________
1 كما جاء في حاشية الصبان وغيره من المطولات.
2 راجع حاشية الخضري.
3 الضمير عائد على؛ "محمود": وهو خال من: "أل".(3/296)
مثل: راقني الطاووس البديعُ لونِ ريشِهِ؛ فإن الضمير الذي في آخر كلمة: "ريش" عائد على الطاووس وفيه "أل". وهكذا.
هذا هو الضابط العام الذي يرشدنا إلى المعمول الذي يمتنع جره بالإضافة، ويوضح الصور الكثيرة التي لا يجوز فيها إضافة الصفة المشبهة إلى معمولها. وأقرب هذه الصور للخاطر: الأربعة الآتية1، وهي حالات جر ممنوع حين يكون فيها الموصوف مجردًا من: "أل".
1- أن تكون الصفة مقرونة بـ"أل" والمعمول مجرد منها، مضاف إلى ضمير الموصوف الخالي منها؛ نحو: إبراهيم النبيلُ خلقِهِ.
2- أن تكون الصفة مقرونة بـ"أل" والمعمول مجرد منها، مضاف إلى مضاف لضمير الموصوف الخالي منها؛ نحو: إبراهيم النبيلُ خلقِ والده.
3- أن تكون الصفة مقرونة بـ"أل" والمعمول مجرد منها، مضاف إلى الخالي من "أل" والإضافة؛ نحو: هذا النبيل خلقِ والدٍ.
4- أن تكون الصفة مقرونة بـ"أل" والمعمول مجرد منها، خالٍ من "أل" والإضافة؛ نحو: هذا النبيل خلقٍ.
__________
1 عدها الأشموني تسعًا نكتفي بالإشارة إليها. وفي الصفحة التالية تقسيم آخر حسن.(3/297)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- سلك بعض النحاة مسلكًا حسنًا آخر؛ لبيان أكثر الصور الصحيحة والممنوعة التي تتردد على الخواطر؛ فقال:
الصفة المشبهة إما أن تكون مقرونة بـ"أل"، وإما أن تكون مجردة منها؛ فإذا كانت مقرونة بـ "أل" فلمعمولها ستة أحوال يمتنع الجر في بعضها:
1- أن يكون مقرونًا بـ"أل" أيضًا مثل: أحب الكتاب العظيم الفائدة.
2- أن يكون مجردًا من "أل" ولكنه مضاف للمقرون بها: مثل: أحب الكتاب العظيم فائدة البحوث.
3- أن يكون مجردًا من "أل" ولكنه مضاف لضمير يعود على الموصوف مثل: أحب الكتاب العظيم فائدته.
4- أن يكون مجردًا من "أل" ولكنه مضاف لمضاف للمقرون بضمير يعود على الموصوف؛ مثل: أحب الكتاب العظيم فائدة بحوثه.
5- أن يكون مجردًا من "أل"، ولكنه مضاف إلى الخالي من "أل" والإضافة؛ مثل: أحب الكتاب العظيمَ فائدةِ بحوث.
6- أن يكون مجردًا من "أل" ومن الإضافة معا؛ نحو: أحب الكتاب العظيمَ فائدة.
وهذه الحالات الست قد يكون المعمول في كل واحدة منها مرفوعًا، أو منصوبًا. أو مجرورًا، فمجموع الصور ثماني عشرة صورة. وبعضها يمتنع فيه جر المعمول.
هذه أحوال المعمول وصوره حين تكون الصفة مقرونة بـ"أل". فإن كانت مجردة منها فله ست حالات هي الحالات السالفة نفسها مع تجريد الصفة من "أل" وبعد هذا التجريد يكون المعمول في كل حالة مرفوعًا أو منصوبًا، أو مجرورًا، فله ثماني عشرة صورة أيضًا، بعضها يمتنع جره كذلك. فمجموع صوره(3/298)
في حالتي اقتران الصفة "بأل" وعدم اقترانها هو: ست وثلاثون صورة بعضها يمتنع جره.
وأظهر الممنوع منها هو الأربعة التي سبق إيضاحها قبل هذه الزيادة مباشرة1. "وهناك غيرها ممنوع ولكن لا حاجة للإثقال بسرده؛ لقلة وروده على الأذهان، وندرته في الأساليب الناصعة".
ب- ما ليس ممنوعًا من الصور يجوز استعماله. ولكنه -مع جواز استعماله- متفاوت في درجته؛ حسنًا وقبحًا، وقوة وضعفًا:
1- فمن القبيح أن ترفع الصفة المقرونة: بـ"أل" أو المجردة منها، فاعلًا نكرة؛ نحو: صلاح الحسن وجه، أو الحسن وجه أب ... أو: صلاح حسن وجه، و ...
ومن القبيح أيضًا أن تكون الصفة مقترنة بأل، أو مجردة، ومرفوعها مقرونًا "بأل"، أو مجردًا منها. ولهذا صور أربع.
2- من الضعيف: أن تكون الصفة المشبهة نكرة ومعمولها معرفة منصوبة أو مجرورة، إلا إذا كان المعمول "بأل"، أو مضافًا لما فيه "أل".
ومن الضعيف أيضًا: أن تكون الصفة "بأل" مضافة على معمولها الخالي منها. ولكنه مضاف لضمير يعود على المقرون بها.
وما عدا حالتي القبح والضعف -مما ليس ممنوعًا- حسن قوى.
__________
1 في ص297.(3/299)
المسألة 105:
أوجه التشابه والتخالف بينها وبين اسم الفاعل المتعدي لواحد 1:
يجدر بنا الآن -وقد عرفنا أحوال كل منهما وقياسيته، وفرغنا من شرح أحكامهما- أن نعرض لموازنة نافعة بينهما.
أ- إنها تشبهه في أمور، ومن أجل هذه الأمور مجتمعة2 سميت: "الصفة المشبهة باسم الفاعل المتعدي لواحد". وأهم هذه الأمور المشتركة بينهما:
1- الاشتقاق. فإن لم تكن مشتقة -كما في بعض أنواعها3 القليلة- فليست بصفة أصيلة مشبهة باسم الفاعل، وإنما هي صفة مشبهة على وجه من التأويل، نحو: عرفت رجلًا أسدًا أبوه، أو نمرًا خادمه، أو ثعلبًا حارسه ... ونحو: هذه قمر وجهها، حرير شعرها، "ويجوز في كل هذا النوع زيادة ياء النسب في آخره" والمعنى التأويلي شجاع أبوه، غادر خادمه، ماكر حارسه، مضيء أو جميل وجهها، ناعم شعرها ... و ...
وهذا النوع المؤول3 قياسي -على قلته- ولكن يحسن التخفف منه قدر الاستطاعة.
2- الدلالة على المعنى وصاحبه.
3- عملها النصب في "الشبيه بالمفعول به" بشرط اعتمادها. ولكن هذا الاعتماد عام في المقرونة "بأل" والمجردة منها. "وقد سبق بيان هذا عند الكلام
__________
1 أما غير المتعدي فلا تشبهه؛ لأنها تعمل النصب فيما يسمى: الشبيه بالمفعول به. وأما الفعل اللازم فلا ينصب المفعول به، ولا ما يشبهه. أما المتعدي لأكثر من واحد فلا تشبهه؛ لأن الصفة المشبهة الأصيلة مشتقة من فعل لازم.
2 مجموعها كاملًا هو السبب في التسمية؛ لا بعضها.
"3، 3" راجع الكلام عليه في ص284.(3/300)
على إعمالها، كما سبق1 تفصيل الاعتماد، وما يتصل به في موضعه المناسب من باب اسم الفاعل2، ومنه يعلم أن الاعتماد ضروري لعمل اسم الفاعل النصب إذا كان غير مقترن بـ"أل" ... أما هي فالاعتماد ضروري لها في الحالتين3، إذا أريد أن تنصب الشبيه ... ".
ومما تجب ملاحظته أن الاعتماد شرط في نصب الصفة المشبهة لما يسمى: "الشبيه بالمفعول به"، أما غيره فتعمل عملها فيه بدون شرط؛ كالرفع في فاعلها، والجر فيما أضيف إليها، والنصب في كل المنصوبات الأخرى؛ ومنها: الحال، والتمييز، والمفعول لأجله، والظرف، والمفعول المطلق4، وكل معمول مرفوع، أو مجرور، أو منصوب. إلا المنصوب على "التشبيه بالمفعول به" فلا بد فيه من الاعتماد.
4- قبول التثنية. والجمع، والتذكير، والتأنيث، مثل: "جميل، جميلة، "جميلان، جميلتان"، "جميلون، جميلات"، ومثل: "حسن، حسنة"، "حسنان، حسنتان"، "حسنون، حسنات"، وهكذا ... و ...
فإن لم تصلح للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث؛ فليست صالحة لأن تكون صفة مشبهة؛ مثل كلمتَي: "قنعان"5، و"دلاص"6؛ فلكتاهما تستعمل بلفظ واحد للمفرد وفروعه، وللمذكر والمؤنث، تقول: "رجل، أو رجلان، أو رجال. أو امرأة، أو امرأتان، أو نسوة"، قُنْعَان، في كل حالة مما سبق. "وهذه درع ... أو هاتان درعان
__________
1 في ص294، 295.
2 في ص294.
3 فاقترانها بـ"أل" أيضًا يقتضي الاعتماد؛ بناء على الرأي القوي الذي يجعل "أل" فيها للتعريف. "انظر رقم 2 ص313".
4 نصب المفعول المطلق في مذهب يحسن الأخذ به.
5 القنعان "بضم القاف، وسكون النون" من يستطيع إقناع غيره بكلامه، ويحمله على الرضا برأيه.
6 درع دلاص: براقة لينة.(3/301)
... أو هؤلاء دروع" -دلاص، في كل حالة أيضًا. ومثل كلمة: "مرضع" في نحو: ما أعظم حنان، مرضع الأولاد. فإن هذه الكلمة لا تلحقها علامة التأنيث -غالبًا-1، لأنها خاصة بالمؤنث، ولا تستعمل بهذا المعنى في المذكر.
__________
1لإلحاق التاء بهذه الكلمة أو عدم إلحاقها بيان جليل في رقم 2 من هامش ص 246.(3/302)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
بمناسبة الإشارة إلى تأنيث "الصفة المشبهة" وتذكيرها نعرض للحالات التي يجب أن
تطابق فيها الموصوف وحده، أو السببي وحده، والحالات التي يجوز فيها مطابقة هذا، أو ذاك. ويشترط أن تكون الحالات السالفة وأحكامها مقصورة على تأنيث الصفة المشبهة وتذكيرها حين ترفع السببي للمنعوت:
1- إذا رفعت الصفة المشبهة سببيًّا للمنعوت، وكانت صالحة1 في لفظها ومعناها للمذكر والمؤنث جاز أن تطابق هذا أو ذاك، سواء أكانا مذكرين معًا. أم مؤنثين معًا، أم مختلفين تذكيرًا وتأنيثًا، فمثال المذكرين معًا: هذا عالم عظيم نفعه. ومثال المؤنثين معًا: هذه عالمة عظيمة والدتها. ومثال المنعوت المذكر والسببي المؤنث: هذا عالم عظيمةٌ تلميذاتُه، أو عظيمٌ تلميذاتُه، ومثال المنعوت المؤنث والسببي المذكر: هذه عالمة عظيمٌ اختراعُها، أو عظيمةٌ اختراعها.
وسبب الإباحة في هذه الحالة أن الكلمة صالحة1 للأمرين مع زيادة تاء التأنيث في المؤنث، وانتفاء القبح اللفظي والمعنوي2 منها. بخلاف الصور الآتية، فإن فيها قبحًا، ولذا تمتنع المطابقة.
2- إذا كان لفظها -دون معناها- مختصًا بأحدهما وجب -في الأغلب- أن يكون المنعوت مثلها في التذكير، أو في التأنيث، ولا يصح -في الرأي الأغلب- أن تقع نعتًا لما يخالف لفظها في التذكير أو التأنيث؛ مثل كلمة:
__________
1 صلاحها بأن تكون صيغتها بما يستعمل لنعت المذكر حينًا، ولنعت المؤنث حينًا آخر؛ فلا يكون وزنها أو معناها مختصًّا بأحدهما، لا يستعمل في الآخر.
2 "ملاحظة": بالرغم من جواز الأمرين في الصور السالفة يحسن مراعاة السببي تذكيرًا وتأنيثًا. وذلك بوضع فعل مكان الصفة المشبهة وتطبيق ما يجري على هذا الفعل من ناحية التذكير والتأنيث على الصفة المشبهة؛ فإذا وجب تأنيث الفعل أو جاز أو امتنع كان الشأن في حكم الصفة المشبهة مثله. وبهذا يتوحد الحكم هنا وفي باقي أنوع النعت السببي الذي يجيء في ص452.(3/303)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عجزاء1.... و ... نحو: تلك فتاة عجزاء أختُها. فلا يصح: ذلك فتى عجزاء أختُه.
3- وكذلك إن كان معناها -دون لفظها- مختصًّا بأحدهما، فلا يصح -في الأغلب- أن تقع نعتًا لما يخالف معناها في التذكير أو التأنيث، مثل: كلمتَي: خصي، ومرضع2 ... و ... في قول بعض المؤرخين: يصف بيت أحد المماليك ... وشاهدت مملوكًا خصيًّا خادمه، وأميرًا مرضعًا جاريتها ... و ... فلا يصح: مملوكة خصيًّا خادمها، ولا أميرًا مرضعًا جاريته.
4- وكذلك إن كان لفظها ومعناها مختصين بأحدهما؛ كأكمر "وهو خاص بالذكور"، ورتقاء "وهو خاص بالنساء"؛ نحو: انصرف رجل أكمرُ وليدُه. وعجبتْ أمٌّ رتقاءُ وليدتُها. فلا يصح -في الأغلب- انصرفت امرأة أكمرُ ابنها، ولا: عجب والد رتقاءُ بنته ...
ومن النحاة من يجعل الحالات الثلاث الأخيرة كالحالة الأولى، فيجيز أن تقع الصفة بعد موصوف يخالفها لفظًا فقط، أو معنى فقط، أو لفظًا ومعنى معًا، فلا فرق عنده في جميع الأحوال الأربعة السابقة من حيث التذكير والتأنيث. فيجيز أن تكون الصفة مطابقة فيهما للموصوف أو للسببي. وهذا الرأي -على قلة أنصاره- سائغ؛ لما فيه من التيسير، ومنْع التشعيب، مع موافقته لبعض النصوص العربية الفصيحة. ولكن الرأي الأول أكثر شيوعًا في النصوص العالية المأثورة التي تمتاز بسمو عبارتها، وقوة بلاغتها، وبُعدها من القبح اللفظي.
كل ما سبق مقصور على الحالات التي ترفع فيها الصفة المشبهة سببي المنعوت. لكن هناك بعض حالات خاصة تحتاج إلى إيضاح3؛ ففي مثل: "مررت
__________
1 امرأة عجزاء: أي: كبيرة العجيزة؛ "وهي: المقعدة"، ولا يقال في الفصيح: رجل أعجز.
2 لكلمة "مرضع " بيان خاص بمعناها وبإلحاق تاء التأنيث بآخرها، أو عدم إلحاقها في رقم 2 من هامش ص246.
3 ما يأتي هو ما أشرنا إليه في رقم 1 من هامش ص268.(3/304)
بفتاة حسن الوجهُ" يكون السببي -وهو: الوجه- واجب الرفع، لا يجوز فيه الجر بالإضافة؛ لأن الجر بالإضافة يقتضي إزالة الإسناد عنه "بالطريقة التي سبق شرحها في ص268 ... والتي ستأتي في "ب" ص310"، وتحويله إلى ضمير الموصوف وهو الضمير المستتر في الصفة، ومتى تحملت الصفة المشبهة هذا الضمير المستتر وجب -في المثال السالف وأشباهه- "تأنيثها بالتاء؛ مراعاة للمنعوت: فعدم التأنيث في المثال السابق وأشباهه دليل على أن المعمول ليس "مضافًا إليه" مجرورًا؛ وإنما هو فاعل واجب الرفع.
وقد يتعين عدم الرفع؛ كما في: "امرأة حسنة الوجهِ"؛ لأن "الوجه" لو كان فاعلًا لوجب تذكير الوصف للسبب السالف. وقد يجوز الأمران -الرفع والجر- كما في: "مررت برجل حسن الوجهُِ".
فالصفة المشبهة إذا تحملت ضميرًا مستترًا للموصوف وجب مطابقتها في التأنيث والتذكير لذلك الموصوف، ووجب أن يكون معمولها غير فاعل1 ...
__________
1 ملاحظة: راجع كل الحالات السابقة وتوابعها في حاشية الصبان، آخر الباب عند قول ابن مالك: "فارفع بها" ...(3/305)
ب- وتخالفه في أمور وأحكام هامة؛ توضح حقيقة كل منهما، وتميزه من الآخر؛ منها:
1- اشتقاقها من الفعل اللازم حقيقة، أو من المتعدي الذي هو في حكم اللازم وفي منزلته؛ فمثال الأول: حسن، وجميل؛ في نحو: "الغزال حسن الصورة، جميل العينين"، وفعلهما: حسُن وجَمُل "بضم عينهما". وهما فعلان لازمان. وكذلك سَمْح، وجامد، في قول الشاعر:
السمح في الناس محبوب خلائقه ... والجامد1 الكف ما ينفك ممقوتا
وفعلهما: "سَمُح، وجمد"، وهما لازمان.
ومثال الثاني: "هذا فارع2 القامة، عالي الرأس؛ إذا أريد بكل من: "فارع" و"عالٍ" الثبوت والدوام3، لا التجدد والحدوث. وفعلهما: "فرع" وعلا؛ وكلاهما متعدٍّ. ولكن مجيء الصفة المشبهة من مصدره -عند إرادة الثبوت نصًّا- جعله بمنزلة اللازم؛ إذ إنها لا تصاغ أصالةً إلا منه، ولا تصاغ من المتعدي إلا على هذا الاعتبار الذي يجعله بمنزلة اللازم4. أما اسم الفاعل فيصاغ من اللازم والمتعدي بغير تقيد بأحدهما.
1- تعدد صيغها القياسية وكثرة الأوزان المسموعة؛ بخلاف اسم الفاعل؛ فإن له صيغة قياسية واحدة إذا كان فعله ثلاثيًا؛ وهي صيغة: "فاعل". وأخرى على وزن مضارعه مع إبدال أوله ميما مضمومة وكسر الحرف الذي قبل الآخر -كما عرفنا- إذ كان فعله غير ثلاثي. والصيغتان محدودتان مضبوطتان.
__________
1 جامد الكف هو: البخيل. وكلمة: "جامد" في أصلها اسم فاعل، ولكنها هنا صفة مشبهة، بقرينة لفظية؛ هي إضافتها إلى الفاعل، "واسم الفاعل إذا أضيف لمرفوعه صار صفة مشبهة؛ طبقًا لما تقرر في بابه ... " وأخرى معنوية، هي: أن الجمود -بمعنى: البخل- صفة من الصفات الثابتة التي تلازم صاحبها غالبًا.
2 طويل مرتفع ...
3 يدل على هذا هنا إضافة اسم الفاعل إلى فاعله؛ لأن إضافته لمرفوعه تصيره صفة مشبهة.
4 راجع إيضاح هذا وبيان أنواع اللزوم في هامش ص267، ومن تلك الأنوع: أن يحول الثلاثي المتعدي إلى صيغة "فعُل" "بضم العين" بقصد المدح أو الذم أو غيرهما، فيصير لازمًا بالتحويل؛ "لأن هذه الصيغة لا تكون إلا لازمة". وعندئذ تجيء الصفة المشبهة من مصدره قياسًا، ومن ثم كان "الرحمن"، و"الرحيم" و"العليم" ... ونظائرها من صفات المولى -معدودًا- من الصفات المشبهة ... مع أن فعلها الأصلي: هو: "رحِم"، "علِم" وهما فعلان متعديان.(3/306)
3- دلالتها على معنى دائم الملازمة لصاحبه، أو كالدائم؛ فلا يقتصر على ماضٍ وحده، أو حال وحده، أو مستقبل كذلك، أو على اثنين دون الثالث، فلا بد أن يشمل معناها الأزمنة الثلاثة مجتمعة مع دوامه أو ما يشبه الدوام كما شرحنا. وهذا يعبر عنه بعض النحاة بأنه: "دلالتها على معنى في الزمن الماضي المتصل بالحاضر1 الممتد، مع الدوام"؛ لأن اتصال الماضي بالحاضر، ودوام هذا الحاضر، وامتداده يستلزم اتصال الأزمنة الثلاثة حتما. فغاية العبارتين واحدة. وعلى هذا لا يصح أن يقال في الرأي الأقوى الذي يجب الاقتصار عليه: الوجه حسنٌ أمس، أو الآن، أو غدًا. أما على الرأي الضعيف الذي سبق أن أشرنا بإهماله2 فيجوز -بشرط وجود قرينة- بقاءُ الصفة المشبهة على صيغتها مع تغير دلالتها إلى الماضي، أو الحال، أو المستقبل. وأما على الرأي القوي فنقول في هذه الصور وأمثالها مما يقتصر فيه المعنى على نوع من الزمن دون اكتمال الأنواع كلها: الوجه حاسنٌ أمس، أو: الوجه حاسنٌ الآن، أو: الوجه حاسنٌ غدًا؛ وذلك بتحويل صيغة الصفة المشبهة إلى صيغة اسم الفاعل، وإخضاعها لأحكامه كلها. وهذا الرأي وحده أحق بالأخذ. وقد سبق أن أوضحنا3 أن من يريد الدلالة على ثبوت الوصف ودوامه نصًّا فعليه أن يجيء بالصفة المشبهة، ومن يريد الدلالة نصًّا على حدوثه وتقييده بزمن معين دون باقي الأزمنة فعليه أن يجيء باسم الفاعل. وأنه لا بد مع الإرادة من قرينة تبين نوع الدلالة؛ أهي الثبوت والدوام، أم الحدوث.
ولا فرق في دلالتها على دوام الملازمة بين أن يكون الدوام مستمرًّا لا يتخلله انقطاع؛ "كطويل القامة، حلو العينين"، وأن يتخلله انقطاع أحيانًا، "نحو: سريع الحركة، بطيء الغضب"، فيمن طبعه هذا؛ فإن الانقطاع الطارىء -ولو تكرر- لا يخرج الصفة عن أنها في حكم الملازمة لصاحبها؛ إذ إنها من عاداته الغالبة عليه4.
__________
1 أي: بالزمن الحالي.
2 في ص293. مع الرجوع إلى رقم 1 من هامش ص293.
3 في ص242 عند الكلام على اسم الفاعل، وأحكامه، ثم في ص293.
4 على الوجه الذي سبق في هامش ص282.(3/307)
4- مجاراتها لمضارعها في حركاته وسكناته حينًا، وعدم مجاراته أحيانًا إن كان فعلها في الحالتين ثلاثيًّا. "والمراد بالمجاراة أمران: أن يتساوى عدد الحروف المتحركة والساكنة في كل منهما، وأن يكون ترتيب المتحرك والساكن فيهما متماثلا، فإن كان الثاني أو الثالث أو الرابع -أو غيره- في أحدهما متحركًا كان في الآخر كذلك. أو كان ساكنًا فهو ساكن في الآخر. وليس من اللازم أن يتفق نوع الحركة في كل منهما؛ فقد يكون الأول مفتوحًا في أحدهما، مضمومًا في الآخر مثلًا.
فمن أمثلة المجاراة بينهما قولهم في الذم: فلان ساكن الريح1، أشأم الطالع، والمضارع من الثلاثي هو: يسكن. يشؤم. ومن الأمثلة المخالفة: رخيص، ثمين، نجيب، هجين، لطيف، وغيرها مما في قول شوقي:
"الوطن كالبنيان؛ فقير إلى الرأس العاقل، والساعد العامل، وإلى العتب الوضيعة، والسقوف الرفيعة. وكالروض محتاج إلى رخيص الشجر وثمينه، ونجيب النبات وهجينه؛ إذ كان ائتلافها في اختلاف رياحينه؛ فكل ما كان منها لطيفًا موقعه، غير نابٍ موضعه فهو من نوابغ الزهر قريب، وإن لم يكن في البديع ولا الغريب ... ". وأفعالها المضارعة التي لا تجاريها "وهي من الثلاثي": يرخص، يثمن، ينجب، يهجن، يلطف ...
أما الصفة المشبهة من مصدر غير الثلاثي2 فلا بد من مجاراتها لمضارعها؛ إذ هي في الأصل اسم فاعل أو اسم مفعول من غير الثلاثي وهما من غير الثلاثي يجاريان المضارع حتمًا، ثم أريد من كل منهما الثبوت؛ فصار صفة مشبهة على هذا الاعتبار -كما عرفنا- لأن الصفة المشبهة لا تصاغ أصالة إلا من ثلاثي؛ فوجب أن تكون من غير الثلاثي مجارية لمضارعها. ومن الأمثلة: فلان مستقيم الخطة، معتدل النهج، مسدد الرأي. ومضارعها: يستقيم، يعتدل، يسدد ... و ...
__________
1 أي: ثقيل الظل.
1 وهذا إن كانت في أصلها اسم فاعل، أو اسم مفعول، وقد تحول كل منهما إليها في الدلالة.(3/308)
أما اسم الفاعل فلا بد أن يجاري مضارعه دائمًا1 -نحو: ذاهب، ويذهب، فاهم ويفهم، سامع ويسمع. ونحو: مكافح ويكافح، مرتفع ويرتفع، متمهل ويتمهل.
5- امتناع تقديم معمولها عليها إن كان "شبيهًا بالمفعول به"2، أما غيره فيصح؛ كشبه الجملة، والمنصوبات الأخرى التي ينصبها الفعل القاصر والمتعدي والتي يجوز تقديمها؛ كالمفعول لأجله، والحال، ... و ... و ... فلا يصح الغزال العين جميل؛ بنصب كلمة: "العين" على التشبيه بالمفعول به للصفة المشبهة بعدها.
أما اسم الفاعل فيجوز تقديم معموله عليه في حالات كثيرة إذا كان3 غير مقرون بـ"أل" مثل: العواصف شجرًا مقتلعةٌ، والسحب الكثيفة نور الشمس حاجبةٌ. والأصل: مقتلعة شجرًا، حاجبة نور الشمس.
وكذلك يجوز في الصفة المشبهة تقديم معمولها عليها إن كان شبه جملة أو فضلة ينصبها العامل المتعدي واللازم ولا يمنع من تقديمها مانع آخر كما قلنا. ومن أمثلة هذا قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فشبه الجملة: "على كل شيء" متعلق بالصفة المشبهة: "قدير"، وكذلك ما ورد في وصفهم عمر رضي الله عنه: "كان بالضعفاء رحيم القلب، لين الجانب، وعلى الطغاة شديد البأس، قاسي الفؤاد. وأمام الشدائد ثقة بالله. ثبت الجنان، قوي الإيمان ... "، والأصل: "كان رحيم القلب بالضعفاء شديد البأس على الطغاة، ثبت الجنان أمام الشدائد، ثقة بالله.
6- وجوب سببية معمولها المجرور، أو المنصوب على التشبيه بالمفعول به. فلا بد أن يكون معمولها سببيًا في الحالتين، وكذلك إذا كان معمولها
__________
1 كما أشرنا في ص37 وفي هامش ص238.
2 وبمقتضى القواعد العامة لا يجوز تقديم معمولها المرفوع، ولا المضاف إليه.
3 وقد عرضنا لتلك الحالات في بابه ص263.(3/309)
مرفوعًا، والصفة جارية على موصوف. والمراد بالسببي1: الاسم الظاهر المتصل بضمير يعود على صاحبها2، اتصالًا لفظيًا أو معنويًا. فمثال اللفظي: لنا صاحب سمح خليقته، حلو شمائله، كريم طبعه، تهفو القلوب إليه كأنما بينه وبينها نسب، وقول الشاعر:
لقد كنت جلدًا قبل أن توقد النوى ... على كبدي نارًا بطيئًا خمودها
فكل كلمة من الكلمات: خليقة، شمائل، طبع، خمود ... معمول للصفة المشبهة التي قبله، وهو معمول سببي؛ لأنه اسم ظاهر، متصل بضمير يعود -مباشرة- على المتصف بمعنى تلك الصفة.
ومثال المعنوي قول الفرزدق في مدح زين العابدين بن الحسين:
سهل الخليقة، لا تخشى بوادره ... تزينه الخصلتان: الحلم3، والكرمُ
لا يخلف الوعد ميمون بغرته ... رحب الفناء، أريب حين يعتزمُ
والأصل: سهل الخليقة منه، رحب الفناء منه، أي: من زين العابدين في المثالين. فالضمير محذوف مع حرف الجر، وهو مع حذفه ملحوظ كأنه موجود4. أو أنه لا حذف في الكلام. وأن "أل" الداخلة على السببي تغني عن الضمير5.
أما اسم الفاعل فيعمل في السببي والأجنبي، مثل: "مكرم، مكرمة، منكرة، عاطفة ... في قولهم: "تكريم العظيم تأييد له، ونصر للفضيلة، وتكريم الحقير إغراء له، ومشاركة في جرائمه؛ فشتان بين مكرم عظيمًا
__________
1 سبق إيضاح السببي مرة أخرى بتمثيل جلي في رقم 4 من هامش ص264. واشتراط سببية المعمول مقصور على حالتي نصبه على التشبيه بالمفعول به، أو جرِّه بالإضافة. أما المعمول المرفوع أو المنصوب على اعتبار ووجه آخر؛ كباقي المكملات المنصوبة -فلا يشترط فيه السببية؛ فيجوز أن يكون أجنبيًّا في الحالتين: نحو: أجميل النجمان؟ وما مظلم الفرقدان: "وهما، نجمان متقاربان" والوالد بك فرح. ولكن نجيب السببية في مرفوعها -كما قلنا -إذا جرت الصفة على موصوف أي على شيء يجري عليه معناها؛ نحو: البلبل جميل تغريده، وكذلك اسم الفاعل؛ نحو: الرجل قام أبوه.
2 هو الموصوف، أي الذي يتصف بمعناها. وقد يغني عن الضمير "أل" على الوجه الكوفي المبين في رقم 4 من هامش ص264. وفي رقم 4 التالي.
3 لاحظ الشبه بين الضمير في هذه الصورة وبينه في المراحل الثلاث التي سلفت في ص268.
4 كما سبق في رقم 4 من هامش ص264 وص269، ورقم 4 من هامش ص277، وهذا =(3/310)
يستحق التكريم ومكرم صغيرًا هو أولى بالزراية والتحقير. وما الجماعة الناهضة إلا المكرمة عظماءها، المنكرة أراذلها، العاطفة أقوياؤها على ضعفائها".
7- استحسان إضافتها إلى فاعلها المعنوي1 وجره بالإضافة2؛ سواء أكانت الصفة المشبهة من الصفات التي تلازم صاحبها ولا تفارقه، مثل: البدوي طويل القامة، عريض الجبهة، أسمر اللون، أم كانت من الصفات التي تلازمه طويلًا وقد تفارقه نحو: العربي قوي السمع، حديد3 البصر خفيف الحركة ... والأصل: البدوي طويلة قامته، عريضة جبهته، أسمر لونه، قوي سمعه، حديد بصره ... و ...
أما اسم الفاعل فإضافته إلى مرفوعه ممنوعة في أكثر أحواله التي يدل فيها على الحدوث، لا على الدوام. وقد سبق تفصيل هذا4؛ حيث أوضحنا أن اسم الفاعل الدال على الحدوث، وفعله لازم أو متعدٍّ لأكثر من مفعول، لا يجوز إضافته لفاعله إلا إذا أريد منه الدلالة على الثبوت، كدلالة الصفة المشبهة، وأن الذي فعله متعدٍّ لمفعول واحد قد يجوز إضافته لفاعله عند أمن اللبس ... للدلالة على الثبوت ... و ... إلى آخر ما سردناه هناك، وأن اسم الفاعل إذا ترك الدلالة على الحدوث إلى الدلالة على الثبوت والدوام لا يبقى له اسمه، ولا أحكامه، وإنما ينتقل إلى الصفة المشبهة؛ فيسمى باسمها، ويخضع لأحكامها دون أن تتغير صيغته.
__________
= الرأي الكوفي أحسن؛ لخلوه من الحذف والتقدير. وكل ما يقال للغض منه مردود؛ إذ ليس فيه ضعف. على هذا يكون السببي هو الاسم الظاهر المتصل بضمير صاحب الصفة، أو بما يغني عن الضمير. وقد اجتمع الأمران في قول الشاعر "سويد بن أبي كاهل" يصف ثغر فتاة:
أبيض اللون، لذيذ طعمُهُ ... طيب الريق إذا الريق خدعْ
"خدع: فسد".
1 المراد بالفاعل المعنوي الاسم الواقع بعدها، المتصف بمعناها، الذي يعرب فاعلًا حقيقيًا لها لو جعلناها فعلًا.
2 سيجيء سبب الاستحسان في ص316.
3 قوي.
4 في ص242 و265.(3/311)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- بقيت، أمور وأحكام أخرى تنفرد بها الصفة المشبهة1، ولا يشاركها فيها اسم الفاعل، منها:
__________
1 فيما سبق من الأحكام الخاصة بإعمال الصفة المشبهة يقول ابن مالك في باب عقده لها؛ عنوانه: "الصفة المشبهة باسم الفاعل". ولكنه باب مختصر؛ لم يستوفِ تلك الأحكام. قال في تعريفها:
صفةٌ استحسنَ جرُّ فاعلِ ... معنى بها المُشْبِهَةُ اسم الفاعلِ
يريد: الصفة التي يستحسن أن يجر بها فاعلها في المعنى، هي: "الصفة المشبهة باسم الفاعل"، وهي تجره باعتباره مضافًا. وفاعلها المعنوي هو المضاف إليه. وقد شرحنا هذا الاستحسان "في رقم 7 من ص311 وفي "ب" من ص315 الآتية" وقال بعد ذلك:
وصوغها من لازمٍ لحاضرِ ... كطاهر القلب جميل الظاهر
أى: أنها تصاغ من مصدر الثلاثي اللازم للدلالة على معنى متصل بالزمن الحاضر؛ "أي -الحالي" اتصال دوام وملازمه؛ فيشمل الأزمنة الثلاثة "على الوجه المشروح في: "ثالثًا، ورابعًا" من ص282" ومثل لها بمثالين؛ أحدهما: صفه مشبهه، كانت فى أصلها اسم فاعل، ثم أريد منه الثبوت والدوام؛ فصار صفة مشبهة، في معناه وأحكامه. وبقي على وزنه وصيغته الأولى الخاصة باسم الفاعل؛ هو: طاهر القلب، والثاني: صفة مشبهة أصيلة في صيغتها، وفى معناها؛ هو: جميل الظاهر. ثم قال:
وعمل اسم فاعل المعدَّى ... لها على الحد الذي قد حدا
"قد حدا: أصله: قد حد، زيدت ألف في آخر الفعل لأجل الوزن الشعري. والمراد: على الرسم والضبط والتحديد التي قد حدد لكل منهما، ووضعت له الشروط الخاصة به".
يقول: ما ثبت لاسم الفاعل المتعدى -والمراد: المتعدي لواحد فقط -يثبت لها؛ بشرط مراعاة الحدود والضوابط التي وضعت لكليهما، والتي منها: أن منصوبها لا يسمي مفعولًا به، وإنما مسمى: "المنصوب على التشبيه بالمفعول به". وهذا إن كان المنصوب معرفة؛ فإن كا نكرة، فهو تمييز =(3/312)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- عدم تعرفها بالإضافة "في الرأي الراجح بين آراء قوية أيضًا أشرنا إليها من قبل1" أما هو فيتعرف بها إذا كان بمعنى الماضي فقط، أو أريد به الاستمرار فيلحظ في هذا الاستمرار جانب المضي وحده.
2- "أل" الداخلة عليها قد تعتبر للتعريف وموصولة معًا -في رأي- وأداة تعريف فقط في رأي أقوى.
أما الداخلة عليه فمعرفة واسم الموصول معًا "كما سبق في بابه. وفي ج1 ص278 م27".
__________
= أو منصوب على التشبيه أيضًا، ومنصوب اسم الفاعل المتعدي لواحد يسمى: "مفعولًا به" وكذا بقيه الفوارق بينهما، فيجب مراعاتها. ثم بين شرطين من شروط إعمالها؛ هما عدم سبق معمولها عليها. وكونه سببيًّا؛ يقول:
وسبق ما تعمل فيه مجتنب ... وكونه ذا سببيه وجب
"أى: مجتنب أن يسبقها ما تعمل فيه، ووجب كون معمولها ذا سببيه". ولم يذكر التفصيلات اللازمة. وانتقل بعد ذلك إلى كيفية ضبط هذا المعمول. فأدمجه في ثلاثة أبيات حرمت كثيرًا من الوضوح والتوقية؛ هي:
فارفع بها، وانصب، وجرَّ مع "ألْ" ... ودون "ألْ" مصحوب "أل" وما اتصلْ:
يعني: ارفع بالصفة المشبهة، أو: انصب، أو جر ... وكل هذا جائز مع وجود "أل" في الصفة المشبهة، ودون وجودها. لكن ما الذي سترفعه الصفة أو تنصبه أو تجره؟ بينه بأنه المعمول المصحوب "أل" "أى: المقترن بها"، وأنه أيضًا هو المعمول الذي اتصل.
بها، مضافًا، أو مجردًا، ولا ... تجرر بها مع "أل" سما من "أل" خلا:
ومن إضافة لتاليها، وما ... لم يخل فهو بالجواز وسما
يريد: أنه المعمول الذ اتصل بالصفة مع إضافته، أو مع تجريده من "أل" والإضافة -كما أوضحنا كل هذا بالأمثلة الكثيرة "في ص294"، وانتقل بعد ذلك إلى بيان حالات لا يجوز فيها الجر. فقال: لا تجر بالصفة المشبهة المقرونة بـ"أل" سما "اسما" خلا من "أل" أو خلا من الإضافة إلى تالي "أل" فعنده أن معمول الصفة المشبهة لا يصح أن يكون مجرورًا بها وهي مقترنة بـ"أل" مع خلاوه من "أل"، أو عدم إضافته لما فيه "أل". فإن لم يخل جاز الجر. وفي هذا الكلام نقص كبير.
1 انظر ص6، 29.(3/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3- مخالفتها فعلها اللازم أصالة، فتنصب معمولها على التشبيه بالمفعول به دون فعلها؛ فإنه قاصر لا ينصب المفعول به1، ولا شبهه. أما اسم الفاعل فلا يخالف فعله في التعدي واللزوم.
4- إعراب معمولها المنصوب مشبهًا بالمفعول به -وليس مفعولا به- سواء أكان المعمول معرفة أم نكرة، وتمييزًا فقط إن كان نكرة1.
أما معموله فمفعول به مباشرة، ما دام منصوبًا قد وقع عليه فعل الفاعل.
5- تأنيثها يكون أحيانًا بألف التأنيث؛ نحو: هذه بيضاء الصفحة. أما هو فلا تدخله ألف التأنيث.
6- عدم مراعاة محل معمولها المجرور بإضافته إليها، المتبوع بعطف؛ أو بغيره من التوابع. بخلاف اسم الفاعل.
7- عدم إعمالها محذوفة؛ فلا يصح هذا حسن القول والفعل، بنصب "الفعل"، على تقدير: وحسن الفعل، أما هو فيجوز: أنت ضارب اللص والخائن، بنص الخائن. كما يجوز في باب: "الاشتغال" أن يقال: أضعيفًا أنت مساعده، أي: أمساعدًا ضعيفًا ... ؟ " بتقدير اسم فاعل محذوف بعد الهمزة، ولا يصح: أوَجْهًا هذه المرأة جميلته2.
8- عدم الفصل بينها وبين معمولها المرفوع أو المنصوب3 بظرف أو جار ومجرور -في الرأي الأرجح- إلا عند الضرورة، بخلافه.
9- وجوب تغيير صيغتها إلى صيغة اسم الفاعل إن تركت الدلالة على الثبوت -بقرينة- إلى الدلالة على الحدوث. أما هو فقد يبقى على صيغته إن ترك الدلالة على الحدوث -بقرينة- إلى الدلالة على الثبوت.
10- جواز إتباع معمولة بالنعت أو غيره من باقي التوابع. أما معمولها فلا يتبع بنعت، أي: لا يصح نعته.
__________
"1، 1" انظر ما يتصل بهذا في ص266، 267، وفي رقم 4 من هامش ص294.
2 يوضح هذا ما سبق في: "ب" 264.
3 أما الفصل بينها وبين معمولها المجرور فحكمه حكم الفصل بين المتضايفين، وقد سبق في ص53.(3/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ب- يذكر النحاة تعليلًا جدليًا1 لاستحسان إضافة الصفة المشبهة لفاعلها دون إضافة اسم الفاعل لفاعله، ونلخصه هنا "بالرغم من أنه جدل منقوض بجدل مثله، ومعارض بأمثلة كثيرة، أوردها المعترضون، وضمنوها بطون المطولات، وأن التعليل الحق هو استعمال العرب ليس غير".
إن إضافة اسم الفاعل إلى فاعله ممنوعة -على وجه يكاد يقع عليه الاتفاق- إذا بقي على دلالة الحدوث نصًّا، وكان فعله لازمًا، أو متعديًا لأكثر من مفعول به؛ لأن إضافته في هاتين الصورتين توقع في اللبس. فتوهم أنه أضيف؛ ليجاري الصفة المشبهة -حيث تضاف لفاعلها كثيرًا- وأنه ترك دلالته على الحدوث والتجدد؛ ليصير دالًا على الثبوت والدوام مثلها؛ فأضيف إضافتها؛ ليؤدي دلالتها.
أما إن كان فعله متعديًا لواحد؛ فقد يمتنع إضافته إذا أوقعت في لبس. كما في مثل: البارُّ مكرمٌ أبوه فلو قلنا: البار مكرم الأب لجاز أن يقع في الوهم أن الإضافة هي للمفعول، لا للفاعل، وأن الأصل: البار مكرم أباه؛ بل إن إضافته قليلة حين يكون فعله متعديًا لواحد، ومعناه من المعاني التي لا تقع على الذوات، "أي: على الأجسام"؛ حيث اللبس مأمون، والإبهام غير واقع. مثل محمد كاتبٌ أبوه، فلا يصح: محمد كاتبُ الأبِ -إلا على قلة كما سبق- مع أنه لا لبس ولا إبهام في الإضافة؛ إذ الكتابة لا تقع على الذوات.
أما السبب في عدم صحة هذا -إلا على قلة- فلأن الصفة الدالة على الثبوت لا تضاف إلى فاعلها إلا بعد تحويل إسنادها عنه إلى ضمير موصوفها، واستناد الضمير فيها "كما أشرنا في ص268"، إذ لو لم يتحول الإسناد بالطريقة السالفة للزم إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن الصفة هي نفس مرفوعها في المعنى، وهو أمر غير جائز، إلا في مواضع2 ليس منها الموضع الحالي.
ويؤيد هذا -عندهم- تأنيث الصفة المشبهة بالتاء في مثل: مررت بالفتاة
__________
1 أشرنا إليه في ص268.
2 سبقت في باب الإضافة "د" ص40.(3/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحسنة الوجه1؛ فلو لم تكن الصفة مسندة إلى ضمير الفتاة لوجب تذكيرها كما تذكر مع فاعلها المرفوع؛ لهذا كان من المستحسن -وقيل: من الواجب- في مثل: أقبلت الفتاة الجميل وجهها أن تضاف الصفة إلى فاعلها؛ فيقال: أقبلت الفتاة الجميلة الوجه، لأن في الإضافة تخفيفًا وتقليلًا من عدة أمور تتشابه في أن كل اثنين منها بمنزلة شيء واحد، ففي المثال السابق قبل الإضافة "وهو: مررت بالفتاة الحسن وجهها" -الجار والمجرور بمنزلة الشيء الواحد، وكذلك الصفة مع الموصوف، والفعل مع فاعله، والمضاف مع المضاف إليه. وكل هذه الأمور المتشابهة المجتمعة تقتضي التخفيف، ولم يمكنهم أن يزيلوا منها شيئًا إلا الضمير؛ حيث تصرفوا في شأنه، فنقلوه، وجعلوه فاعلًا بالصفة، فاستتر فيها؛ لأن الصفة في هذه الصورة تعد بمنزلة الجارية على من هي له2، حيث رفعت ضميره، ومن ثم استحسنت الإضافة في المثال السالف، وفي نحو: أقبلت الفتاة الجميلة وجهها، فيصير: أقبلت الفتاة الجميلة الوجه، ولم تستحسن، أو لم تصح في: محمد كاتب الأب، "وأصله قبل الإضافة. محمد كاتب أبوه"؛ لقلة الأشياء المتشابهة التي تقتضي التخفيف.
وسبب آخر -عندهم- هو: أن الإسناد في مثل؛ الفتاة الجميلة الوجه -بإضافة الصفة إلى فاعلها- قد تغير؛ فصار الجمال مسندًا إلى الضمير العائد إلى الفتاة كلها بعد أن كان الإسناد متجهًا إلى وجهها فقط، وهو جزء منها، أي: أن الإسناد في ظاهره هو للكل، ولكن المراد منه الجزء على سبيل المجاز؛ لأن من جَمُل وحَسُن بعضه ساغ أن يسند الجمال والحسن إلى كله مجازًا؛ لحكمة بلاغية؛ قد تكون المبالغة أو نحوها ... وهذا لا يستساغ في مثل: محمد الكاتب الأب "والأصل: محمد كاتب أبوه"؛ لأن من كتب أبوه لا يحسن أن تسند الكتابة إليه إلا بمجاز بعيد غير مقبول، سرى من المضاف -وهو "الأب"- إلى المضاف إليه؛ وهو: "الهاء". فهو
__________
1 إيضاح هذا في ص303.
2 سبق إيضاح الكلام على الضمير العائد على من هو له أو غير من هو له في ج1 ص335 م35.(3/316)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الإسناد إلى المضاف إليه، مع إرادة المضاف. وشتان بين الإسنادين والمجازين؛ فالإسناد في الأول واقع بين الكل والجزء الذي هو بعضه، فيصح إطلاق كل منهما وإرادة الآخر، بخلاف الثاني فهو بين الأبوة والبنوة.
هكذا يقولون1، وهو تعليل جدلي محض كما قلنا. وفيه مخالفة لما أجازوه من قبل، من إضافة الشيء إلى نفسه أحيانا ... 2.
__________
1 راجع حاشية التصريح في المكان.
2 كالذي في ص41، 51 وما بينهما.(3/317)
المسألة 106: اسم الزمان واسم المكان 1
تعريفهما:
اسمان يصاغان من المصدر الأصلي1 للفعل بقصد الدلالة على أمرين معًا: هما: المعنى المجرد الذي يدل عليه ذلك المصدر؛ مزيدًا عليه الدلالة على زمان وقوعه، أو مكان وقوعه.
أو يقال: اسم الزمان ما يدل -بكلمة واحدة- على المعنى المجرد وزمانه2، واسم المكان ما يدل -بكلمة واحدة- على المعنى المجرد ومكانه3.
ومن الميسور الوصول إلى هذه الدلالة بتعبيرات أخرى خالية من الاسمين السالفين. ولكنها تعبيرات لن تبلغ في الإيجاز مبلغ اسم الزمان واسم المكان، فمزية كل منهما أنه يؤدي بكلمة واحدة ما لا يؤديه غيره إلا بكلمات متعددة.
صوغهما:
أ- طريقة صياغتهما، والوصول إليهما من الماضي الثلاثي، غير معتلِّ العين بالياء4، تتحقق بالإتيان بمصدره القياسي -مهما كانت صيغته- ثم
__________
"1، 1" لم يعرض لهما ابن مالك في: "ألفيته". وعرضنا لهما هنا استيفاء للمشتقات. وقد سبق في ص182 بيان مفصل عن المشتقات، وعن أصلها؛ أهو المصدر الصريح، أم الفعل الماضي؟ وأن بعض القدامى يطلق كلمة: "الأخذ" على الاشتقاق من غير المصدر الصريح.
2 وفي حالة نصبه التي يكون مشتركا فيها مع حروف عامله يعرب ظرف زمان؛ كقولهم: قعدت مقعد الضيف، أي: زمن قعوده. فكلمة: "مقعد" ظرف زمان منصوب. "راجع الخضري والصبان ج1 أول باب الظرف".
3 وإذا كان منصوبًا مشتركًا مع عامله في حروفه فإنه يعرب ظرف مكان -كما تقدم في باب الظرف في الجزء الثاني- نحو: قعدت مقعد الغائب، أي: مكان قعوده.
4 أما صوغهما من الثلاثي معتل العين بالياء فقد سبق حكمه في ص229 تحت عنوان: "ملاحظة"، كما أشرنا في ص308.(3/318)
جعلها على وزن: "مَفعَل"1 -بفتح الميم والعين- في جميع الحالات، ما عدا حالتين، تكون الصيغة فيهما على وزن "مَفعِل"1 -بكسر العين-:
الأولى: الماضي الثلاثي صحيح الأحرف الثلاثة، مكسور العين في المضارع؛ مثل: جلس يجلس، رجع يرجع، قصد يقصد، حسب يحسب ... و ...
الثانية: الماضي معتل الفاء بالواو2، صحيح اللام3، بشرط أن يكون مضارعه مكسور العين4، تحذف فيه الواو لوقوعها بين الفتحة والكسرة، مثل: وأل يئل5، وثق يثق، وجم يجم6، وخز يخز7، وعد يعد.
فمن أمثلة "مفعَل" -بفتح العين- للزمان: مطلع الفجر خير وقت للقراءة والإطلاع النافع. لكثير من الطيور هجرة سنوية، فرارًا من البرد فإذا أقبل المشتى، وحل المهجر، رحلت إلى بلد أكثر دفئًا، وأنسب
__________
"1، 1" سيجيء في "ب" من ص325 حكم زيادة تاء التأنيث في آخر هذه الصيغة.
2 بعض النحاة قد صرح بأن يكون حرف العلة الذي في أول الفعل الثلاثي هو "الواو" وبعضهم أطلق ولم يعين نوع الحرف، مكتفيًا بأن يذكر أن الفعل معتل الأول. لكن السيوطي قد نص على أن الماضي المعتل الفاء بالياء، الصحيح اللام مثل: يَقِظ. يَمِن. يَسِر، تكون الصيغة منه على وزن: "مفعَل" بفتح العين "الهمع ج2 ص168".
3 لأن معتل الفاء واللام معًا يجب فيه فتح "العين"؛ تطبيقًا للقاعدة العامة؛ وهي: أن الثلاثي معتل اللام يجب أن تكون صيغة مصدره الميمي واسم زمانه واسم مكانه على وزن "مفعل" -بفتح العين- دائمًا؛ سواء أكان بعض أصوله الأخرى حرف علة أو حرفًا صحيحًا: فاعتلال "لامه". ولو انفردت بالاعتلال -كافٍ لتطبيق القاعدة السالفة وجوبًا.
4 بعض النحاة لا يشترط في معتل الفاء بالواو أن يكون مضارعه مكسور العين، ولا ما يترتب على كسرها من حذف الواو في المضارع أحيانًا كثيرة. فيقولون "الموجل والموحل". بالكسر فيهما، على اعتبار أن عين الفعل المضارع فيهما مفتوحة "أي: وجل يوجل وحل يوحل" وأمثالهما. وبناء على هذا يجوز في اسم الزمان واسم المكان من الثلاثي المعتل الأول بالواو أن تكون صيغته على وزن "مفعل" -بفتح العين وكسرها- "وقد قال شارح المفصل -ج6 ص108- إن الفتح أقيس، والكسر أفصح" فالأمران صحيحان قويان.
5 وأل يئل، بمعنى: التجأ يلتجئ.
6 وجم من الأمر وجومًا، كرهه، أو: تركه مضطرًا. أو: سكت على غيظ.
7 طعن برمح ونحوه.(3/319)
جوًّا. والمراد: زمن طلوع الفجر. زمن الشتو "بمعنى: الشتاء". زمن الهجر: "بمعنى الهجرة". وأفعالها الثلاثية هي: طلع. شتا. هجر.
ومن أمثلة "مفعل" -بكسر العين- للزمان: كلمتا مغرس، وموعد في قولهم: لغرس الشجر مواسم معينة: فإذا حان المغرس، وحل موعده أسرع الزراع إلى غرس ما يريدون.
ومن أمثلة "مفعِل" -بفتح العين -للمكان: "مدخل، مطعم، مطبخ، مكتب، ملعب، مشرب، منأى، مسرح، مأوى ... " في قول القائل: "زرت بيتًا لأحد الرفاق؛ فراقني جماله؛ وتمام نظافته، وبراعة تنسيقه، ووفاؤه بمطالب الحياة السعيدة؛ فهذا مدخل للأضياف، يسلمهم إلى غرفة استقبال أنيقة. وهذا مطعم واسع، حسن الترتيب، يحمل إليه شهي الطعام من مطبخ آية في النظافة. وفي جانب هادئ غرفة واسعة جعلها رب البيت مكتبًا له، تطل على حديقة عامرة بعيون الأزاهير. وفي أحد الأطراف ملعب فسيح، مهدت طرقه، وفرشت أرضه بالكلأ الناعم الأخضر. وفي ركن منه مشرب للدافىء والبارد. وفي منأى عنه مسرح ومأوى للطيور الأليفة، وبعض الحيوانات المستأنسة ... ".
والمراد؛ مكان الدخول، مكان الطعام، مكان الطبخ، مكان الكتابة. مكان اللعب، مكان الشرب، مكان النأي، أي: البعد. مكان السرح أي: الرعي، مكان الإيواء ...
ومن أمثلة "مفعل" -بكسر العين- للمكان؛ مجلس، مرجع، مقصد، موثق، موئل، مورث؛ كقولهم في وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: كان واضح الجلال، عظيم الهيبة. مجلسه مجلس علم ووقار؛ لا تسمع فيه لغوًا، ولا تأثيمًا، والإمام فيه مرجع الفتوى، ومقصد المستفهم، وموثق الشاك، وموئل اللائذ ...
أي: مكان الجلوس، مكان الرجوع، مكان القصد، مكان الوثوق، مكان الوأل، "أي: الالتجاء".(3/320)
أما صياغتهما والوصول إليهما من الماضي الثلاثي المعتل العين بالياء فقد سبق بيانها1.
ب- فإن كان الماضي غير ثلاثي فطريقة صوغهما تتحقق بالإتيان بمضارعه: ثم قلب أوله ميمًا مضمومة، وفتح الحرف الذي قبل الآخر، فتنشأ صيغة صالحة لأن تكون اسم زمان واسم مكان2، ويكون توجيهها لأحدهما خاضعًا للقرائن اللفظية أو غير اللفظية، فالقرينة وحدها هي التي تتحكم في هذه الصيغة؛ فتجعلها لأحدهما دون الآخر.
فمن الأمثلة: ممسى ومصبح "أمسى، يمسى، ممسى. أصبح، يصبح، مصبحًا"، نحو: الحمد لله ممسانا ومصبحنا، ونحو قول التاجر: متجري مصبحي وممساي. والمراد: "الحمد لله في وقت إمسائنا وإصباحنا. متجري مكان إصباحي وإمسائي.
ونحو: الفلك دوار في حركة دائبة، فليس له منقطع يتوقف عنده إذا حان، ولا متوقف يستريح ساعته إذا حلت. والمراد؛ ليس له زمان انقطاع، ولا زمان توقف.
ومن الأمثلة: كوخ تملؤه السكينة والطمأنينة والوئام خيرٌ مستقرًا وأعظم مقامًا من قصر فخم يسوده القلق والفزع، ودواعي الشقاق. والمراد: خير مكان للاستقرار، وأعظم مكان للإقامة.
حكمها:
اسم الزمان والمكان مشتقان يصح أن يتعلق بهما شبه الجملة3
__________
1 وفي ص236 بعنوان: "ملاحظة".
2 وصالحة أيضًا لأن تكون مصدرًا ميميًّا، وأن تكون اسم مفعول -لأن هذه المشتقات الأربعة مشتركة في صيغتها التي تصاغ من مصدر غير الثلاثي، متحدة في طريقة الوصول إلى إيجاد هذه الصيغة. وعلى هذا يكون التفريق والتمييز المعنوي بينها موكولًا للقرائن، خاضعًا لوحيها.
3 يجوز أن يتعلق بهما شبه الجملة؛ لأن فيهما رائحة الفعل، وهي تكفي مسوغًا للتعليق؛ "كما سبق في هامش ص351".(3/321)
ولكنهما لا يعملان شيئًا من عمل فعلهما؛ فلا يرفعان الفاعل -أو نائبه، ولا ينصبان المفعول به، ولا غيره ...
ويصح -عند الحاجة- زيادة تاء التأنيث في آخر صيغة "مفعل" -بفتح العين، وكسرها- بشرط أن تكون الصيغة للمكان؛ مرادًا تأنيث معناه؛ سيجيء البيان الخاص بهذا1.
__________
1 في "ب" من ص325 مشتملًا على قرار المجمع اللغوي في ذلك.(3/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- يقول فريق من النحاة: إن اللغة أسماء للزمان أو للمكان على وزن "مفعل" -بكسر العين- سماعًا عن العرب. وكان القياس الفتح؛ ومنها: المشرق، المغرب، المطلع، المسجد، المرفق1، المنسك2، المفرق3، المجزر4، المسقط5، المنبت، المسكن، المحشر، الموضع، مجمع الناس، المخزن، المركز، المرسن6، المنفذ7، المعدن، المأوى، إذا كان خاصًّا بالإبل تأوي إليه.
والملاحظ أن النحاة كثير من مراجعهم حين يسردون الكلمات السالفة يصفونها بأنها وردت عن العرب بالكسر، وأن قياسها الفتح، ويكتفون بهذا، دون أن يعرضوا ببيان شافٍ لأمرين هامين.
أولهما: ما تنص عليه المراجع اللغوية من ورود السماع الصحيح بالكسر وبالفتح في أغلب تلك الكلمات "دون الاقتصار على أحد الضبطين"8 مثل: مسجد، موضع، منبت، مطلع، مسقط، مظنة، مشرق، مغرب، مسكن، مجمع الناس، مغرب، مرفق، منسك9، محشر ... فورود السماع بالفتح أيضًا أدخل تلك الكلمات في مجال الضابط العام، وجعله منطبقًا عليها. وإذًا لا معنى لإبرازها ووصفها بأنها: "وردت مكسورة، وكان قياسها الفتح". فقد ثبت أنها وردت بالفتح أيضًا؛ فاجتمع في الفتح السماع وانطباق الضابط
__________
1 مكان الرفق "والرفق: ضد العنف والقسوة". ويطلق اليوم على المكان الذي يكون مقر المنفعة العامة، كمرفق الكهرباء، أو مرفق السكك الحديدة.
2 المعبد.
3 مكان الفرق في وسط الرأس.
4 مكان الذبح.
5 مكان السقوط.
6 لموضع الرسن، وهو الحبل الذي تقاد به الدابة ...
7 موضع النفوذ.
8 ومن هذه المراجح التي نصت على مجيئها بالفتح والكسر نصًّا مريحًا: "المصباح المنير" آخر ج2 ص964 الفصل الخاص بصيغة مفعل للزمان والمكان والمصدر الميمي.
9 ومن الكلمات الواردة بالفتح والكسر غير ما سبق، ما سجله السيوطي في كتابه: المزهر. ج2 ص63 في باب: ضوابط واستثناءات في الأبنية وغيرها. وهي: "المطلع، المفرد، المحشر، المنبت، المذمة، المحل ... ".(3/323)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العام عليه، "أي: اجتمع فيه السماع والقياس" كما أن ورود السماع بالكسر يجيز فيها استخدام الكسر أيضًا: مراعاة للمسموع، دون أن يوجب الاقتصار عليه. بل إن ورود السماع بالكسر وحده لا يوجب الاقتصار عليه وإهمال القياس1. فيكف وقد اجتمع لها السماع والقياس معًا؟
ثانيهما: أن كثيرًا من أفعال تلك الألفاظ يصح في مضارعه كسر العين؛ طبقًا للوارد عن العرب؛ كمضارع الأفعال الصحيحة: "رفق، فرق، جزر، حشر ... " فليست عين المضارع فيها مقصورة في اللغة على الفتح أو على الضم؛ بل يجوز فيها الكسر أيضًا" طبقًا للوارد. وإذا جاز فيها الكسر كانت صيغة الزمان والمكان بكسر العين قياسية مطردة؛ وتكون كنظائرها الكثيرة المكسورة التي تخضع للضابط العام، وتنطبق عليها القاعدة الخاصة بطريقة الصوغ المطرد، ولا يكون ثمة معنى لإبرازها من بين نظائرها، وتخصيصها بأنها: "وردت مسموعة بالكسر، وكان قياسها الفتح". ذلك أن الفتح والكسر سماعيان وقياسيان معًا فيها ...
وخلاصة ما تقدم أن تلك الكلمات التي تمالأ فريق من النحاة على أنها مسموعة بالكسر، وأن قياسها الفتح ليست مخالفة للقياس الأصيل، ولا خارجة عن نطاق القاعدة العامة المتعلقة بالصياغة المطردة؛ إما لأنها مسموعة بالفتح أيضًا كورودها مسموعة بالكسر، وإما لأن عين مضارعها مسموعة بالكسر وغير الكسر، ومتى ورد فيها الكسر صح مجيء الصيغة مكسورة العين، وفاقًا للقاعدة العامة، والقياس المطرد ... 2.
__________
1 طبقًا للبيان الشامل الذي سبق في هامش ص191 وما بعدها؛ وهو عام في كل ما ينطبق عليه سماع وقياس من المصادر، والجموع، وغيرها ... وفيه نص خاصٌّ بالكلمات التي وردت هنا؛ والتي وصفوها بأنها: "وردت مسموعة بالكسر، وكان قياسها الفتح ... "، فقد قال عنها "القاموس المحيط" في مادة: "سجد" ما نصه: "ألزموها كسر العين والفتح جائز، وإن لم نسمعه"، أما بقية الأدلة على الموضوع العام فهناك بيانها الأكمل ...
2 هذا إلى ما نقلناه عن القاموس في رقم 1 السابق من الحكم عليها بحكم عام شامل؛ هو قوله: "الفتح جائز، وإن لم نسمعه".(3/324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ب- وردت صيغ -كثيرة لاسم المكان، قليلة لاسم الزمان- من مصدر الثلاثي على وفاق القاعدة، ولكنها مختومة بتاء التأنيث للدلالة على تأنيث المعنى المراد من الكلمة؛ "إذ يقصد منها: البقعة، بمعنى المكان". فمما ورد في الكلام العربي الفصيح: "المَزِلَّة" بكسر الزاي لموضع الزلل، المظَنة بفتح الظاء1" لمكان الظن، المَشْرَقة "بفتح الراء" لموضع شروق الشمس والقعود فيها، موقَعَة الطائر "بفتح القاف" للمكان الذي يقع فيه، المشرَبة للغرفة، المدبغة، المزرعة، المزلقة، المنامة ... وكثير مثل هذا يزيد على المائة، ولكنه يكاد يقتصر على المكان. فهل يجوز القياس على هذا الوارد من المكان مرادًا منه: "البقعة"، بزيادة تاء التأنيث على صيغة "مفعَِل" التي هي بفتح العين أو بكسرها، لتصير "مفعَِلة" بفتح العين أو كسرها2 مع بقاء الدلالة على ما كانت عليه؟
اختلف قدماء النحاة في الرأي؛ فقليلهم يجيز القياس، وأكثرهم يميل -بغير داعٍ قوي- إلى المنع؛ لتوهمه أن هذا الكثير -المسموع المختوم بالتاء في صيغة اسم المكان- قليل لا يكفي للقياس عليه.
والحق أن الرأي الذي يبيح القياس عليه سديدٌ موفقٌ؛ إذ كيف يوصف الوارد من تلك الأمثلة المكانية بالقلة مع أنه يبلغ العشرات3؟ نعم؛ إنها قلة، ولكنها: "نسبية"، "أي: بالنسبة للصيغ الواردة من غير تاء التأنيث"، والقلة "النسبية" على هذا الوجه تبيح القياس العام، وتجيز المحاكاة من غير تقييد4، وإن كانت لا تبلغ في درجة القوة والفصاحة مبلغ الأولى5، فاختلاف الدرجة في القوة والفصاحة لا يمنع من صحة القياس والمحاكاة. ولا داعي للتضييق الذي لا يدفع عن اللغة أذى؛ ولا يجلب لها نفعًا. فالأنسب إباحة القياس في صيغة "مفعَِلة"
__________
1 وقد سمع فيها الكسر أيضًا.
2 دالة على المؤنث، المراد به البقعة، بمعنى المكان.
3 قال شارح "القاموس المحيط" في مادة "أسد" إن بعضهم جعله مقيسًا؛ لكثرة أمثاله.
4 انظر البيان الخاص بهذا في رقم 4 من هامش ص79.
5 هذا رأي بعض أئمة العربية ممن يفسرون القياس "كما جاء في مجلة المجمع اللغوي ج1 ص232" بأنه الجري على مقتضى الكثرة في جنسها، لا الأغلبية العامة. وبه أخذ المجمع اللغوي في كثير من أحكامه وقراراته، بع أن بيَّن قوته، ورجاحة أدلته، وشدة الحاجة للأخذ به.(3/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفتح العين أو كسرها؛ تبعًا للقواعد السابقة الخاصة بصياغتها، مع الاقتصار في القياس على اسم المكان؛ لأن أمثلته الواردة هي التي بلغت في الكثرة حدًّا يبيح القياس عليها، دون اسم الزمان، حتى لقد علل النحاة واللغويون التأنيث بأنه إرادة البقعة لا المكان1 وهى غير "مفعلَة" الآتية هنا في "ج".
وأهم مما سبق وأقوى في إباحة القياس أن النحاة يقررون أن إلحاق تاء التأنيث بالمشتقات قياسي لتأنيث معناها، وأن هذا الإلحاق قياسي مطرد في جميع أنواعها، إلا بعض صيغ معينة، ليس منها صيغة اسم الزمان والمكان -كما سيجيء في باب التأنيث، ج4 م169 ص440.
هذا، وقد أباح مؤتمر المجمع اللغوي القاهري "في دورته الثالثة والثلاثين التي بدأت في آخر يناير سنة 1967 زيادة التاء للتأنيث في "مفعلة" "صيغة اسم المكان" مطلقًا، "أي: سواء كثر في المكان الشيء أو لم يكثر، وعرض عليه من المسموع الصحيح الوارد لها نحو: ستة وعشرين ومائة "126" كلمة ختمت فيها صيغة المكان بتاء التأنيث2.
ج- قد يصاغ من الاسم الجامد الثلاثي3 الحسي4 صيغة على وزن:
__________
1 جاء هذا التعليل في بعض المراجع الكبيرة، "ومنها: شرح المفصل ج6 ص109 موضوع: اسم الزمان والمكان". وسيبويه أحد الأئمة الذين يجيزون في الكلمة ملاحظة لفظها أو ملاحظة معناها؛ فيعود عليها الضمير، وأسماء الإشارة، ونحوها مما تقع فيه المطابقة -بالتذكير أو التأنيث؛ مراعاة لأحد الاعتبارين السابقين مع وجود قرينة تمنع اللبس والاشتباه. نحو: "أتتني كلام أُسَرُّ بها"، مراعيًا المعنى، أي: أتتني رسالة، أو عبارة، أو مقالة. ويصح: أتاني كلام أسرُّ به، مراعيًا اللفظ؛ وهو: الكلام. ومثل: "حاشا" يكون حرف جر" ويكون فعلًا ماضيًا. وإذا كانت فعلًا ماضيًا فالكثير الفصيح ألا تقع بعد "ما" المصدرية ... ". فالتأنيث ملحوظ فيه الكلمة، والتذكير ملحوظ فيه اللفظ، أو الحرف. والأفضل اليوم -بل الواجب- عدم الأخذ برأي سيبويه هنا إلا في "مفعلة" التي نحن بصددها. أما غيرها فيقتصر فيه على ما سمع أو ورد فيه نص خاص باستعماله، دون إطلاق هذا الحكم وتعميمه. فالواجب تقييده بما سلف؛ منعًا لإفساد البيان اللغوي، وحرصًا على سلامة اللغة.
2 راجع القرار وما يتصل به في ص43 من الكتاب الذي أخرجه المجمع سنة 1969 باسم: "كتاب في أصول اللغة، مشتملًا على مجموعة القرارات التي أصدرها المجمع ومؤتمره من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين".
3 الثلاثي أصالة أو تحويلًا "بالتفصيل المبين في الصفحة الآتية.
4 سواء أكان حيوانًا، أم نباتًا، أم جمادًا، وقد أشرنا لهذا في "ب" من هامش ص180. حيث الكلام على أصل "المشتقات" بتفصيل مفيد، وأن بعض القدماء كان يطلق كلمة: "الأخذ" على الاشتقاق من غير المصدر الصريح كالجامد الحسي و ... و....(3/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"مَفعَلة" بفتح الميم والعين دائمًا بقصد الدلالة على مكان يكثر فيه ذلك الشيء1 الحسي المجسم، "أي: الذي ليس معنويا2. فإذا وجد مكان يكثر فيه: "ورق" -مثلًا- صغنا "مفعَلة" من: "ورق" فقلنا: "مورَقَة"؛ للدلالة على مكان يكثر فيه ذلك الشيء الحسي المسمى: "بالورق". وإذا وجد مكان يكثر فيه: "عنب" صغنا من كلمة "عنب": "معنَبة"، للدلالة على مكان يكثر فيه ذلك الشيء المجسم المسمى: "بالعنب". وإذا وجد مكان يكثر فيه: "البلح"، صغنا من كلمة: "بلح"؛ "مبلحة" للدلالة على المكان الذي يكثر به البلح. وهكذا تصاغ "مفعلة" -من الاسم الثلاثي الجامد للدلالة على أمرين معًا، هما: المكان وما يكثر فيه من شيء حسي معين، "كما سبقت الإشارة لهذا3".
فالمراد: هو وصف بقعة، أو قطعة من الأرض بكثرة ما فيها من شيء خاص مجسم. ومن الأمثلة أيضًا: مأسدة: لأرض يكثر فيها الأسد. مذأبة: لأرض يكثر فيها الذئب. مذهبة: لأرض يكثر فيها الذهب. مقمحة: لأرض يكثر فيها القمح. مرملة: لأرض يكثر فيها الرمل. إلى غير ذلك من الأسماء الثلاثية الجامدة الحسية. ويسمى الاشتقاق بالطريقة السالفة: الاشتقاق من أسماء الأعيان3 الثلاثية". أما غير الثلاثية فلا يصاغ منها "مفعلة" لهذا القصد. إلا إن كان الاسم مشتملًا على بعض الحروف الزائدة التي يمكن حذفها، وتجريده منها، وإبقاؤه على ثلاثة أحرف أصلية تشتق منها تلك الصيغة بغير لبس؛ مثل: "مبطخة" لأرض يكثر فيها: "البطيخ". و"مغزلة" لأرض يكثر فيها الغزال، و"محصنة" لأرض يكثر فيها الحصان. فالأمر في هذه الصيغة مقصور على الثلاثي؛ إما أصالة، وإما
__________
1 هذه الكثرة شرط لا بد من تحققه قبل الصياغة المطلوبة.
2 أما المعنوي "كالمصدر" فهو أصل الاشتقاق.
3 سبقت الإشارة لهذا في "ب" من هامش ص183.
4 الأعيان، أو الذوات: جمع عين وذات، وهي الشيء المجسم المشخص. وهذا النوع من الاشتقاق مخالف للنوع الآخر المأخوذ من المصادر؛ إذ المصدر أمر معنوي محض.(3/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تحويلًا؛ بأن يتجرد المزيد من أحرف زيادته ويسير ثلاثيًا؛ اتِّباعا للمأثور الغالب عن العرب.
أما المجرد من غير الثلاثي فيسلك معه مسالك أخرى في التعبير عن هذه الدلالة على حسب اختيار المتكلم وقدرته البلاغية؛ دون استخدام لتلك الصيغة؛ إذ لا يكاد يوجد خلاف في منع صياغة: "مفعلة" من المجرد الذي تزيد حروف الأصلية على ثلاثة1.
بقي أن نشير إلى مسألتين هامتين:
الأولى: أقياسيةٌ تلك الصيغة أم مقصورةٌ على السماع؟ لقد ارتضى المجمع اللغوي القاهري قياسيتها، ونصُّ قرارِه2:
"جاءت أمثلة من تلك الصيغة عن العرب، ولنا أن نتكلم بما جاء عنهم. وهل لنا أن نقيس عليه؛ فنقول مثلًا: "مغزلة" للأرض التي يكثر فيها الغزال، وقد جرد لفظ: "الغزال" من زيادته، ومخسة للأرض التي يكثر فيها الخس، و"متبرة" للأرض التي يكثر فيها التبر -إذا كان العرب لم يقولوا هذا؟
__________
1 قال الرضي في شرحه للكافية في الباب الذي عنوانه: "ما كثر بالمكان يبنى على مفعلة". ما نصه: "لم يأتوا بمثل هذا -يقصد أنهم لم يأتوا بمفعلة- في الرباعي فما قوته؛ نحو: الضفدع، والثعلب، بل استغنوا بقولهم: كثير الثعالب. أو تقول: مكان مثعلب ومعقرب ومضفدع ومطحلب بكسر اللام الأولى -"يريد: اللام الأولى في الوزن الصرفي للكلمات الرباعية " -على أنها اسم فاعل- قال لبيد:
يمَّمْن أعدادًا "بلُبْنَى؛ أو "أجا" ... مضفدعات كلها مطحْلِبَهْ"
ا. هـ. ص188 من الطبعة التي أخرجها: الزفزاف وزميله.
وقد جاء في شرحها البيت السالف إن معنى: "يممن" هو: قَصَدْنَ -ومعنى الأعداد: "بفتح الهمزة" هو: الماء الذي لا ينقطع. المفرد: عد؛ بكسر أوله -ولبنى وأجا: جبلان- مضفدعات: كثيرة الضفادع، مطحلبة: كثيرة الطحالب ...
2 ورد قراره مسجلًا في ص12 من محاضر جلسات الدورة الثالثة المطبوعة بالمطبعة الأميرية سنة 1938. وله إشارة عابرة في ص43 من الكتاب الذي أخرجه المجمع سنة 1969 مشتملًا على القرارات المجمعية من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين.(3/328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في المسألة رأيان مبنيان على الاختلاف في التقدير:
"أحدهما: أن هذا البناء -مع كثرته- من قبيل المسموع ومعنى هذا أن الكثرة لم تصل إلى حد أن يقاس عليها.
"والآخر: أن الكثرة وصلت إلى حد أن يقاس عليها. وله من كلام بعض1 الأئمة الكبار ما يعضده.
"وقد أخذ المجمع بالرأي الثاني؛ لأنه قوي، والحاجة داعية إلى القياس على ما قال العرب" ا. هـ2.
__________
1 ومن هؤلاء صاحب: "المكمل، شرح المفصل" حيث يقول ما نصه: "اعلم أنهم إذا أرادوا أن يذكروا كثرة حصول شيء بمكان وضعوا لها "مفعلة"، وهذا قياس مطرد في كل اسم ثلاثي، كقولك أرض مسبعة، أي: يكثر فيها ... " ا. هـ. وسرد بعد هذا أمثلة كثيرة.
2 للقرار المجمعي السابق ما يشبه التتمة المستقلة، صدرت بعده بأمد طويل؛ ففي الجلسة التالية للمؤتمر المجمعي بتاريخ 17/ 12/ 1959 عرض استفسار لأحد الأعضاء، نصه:
"كان المجمع الموقر قد اتخذ القرار الآتي: "تصاغ: "مفعلة" "بفتح العين" قياسًا من أسماء الأعيان الثلاثية الأصول للمكان الذي تكثر فيه الأعيان؛ سواء أكانت من الحيوان، أم من النبات، أم من الجماد ... ". وقد يسر هذا القرار لواضعي المصطلحات العلمية وضع كثير من الألفاظ العربية على هذا الوزن أمامها أشباهها من الألفاظ الأعجمية؛ مثال ذلك: ملبنة، مزبدة، مقطنة، موردة، مقصبة ...
"وفي أثناء معالجتي لهذه الألفاظ -وما يشابهها- برزت عقبة لم أستطع تذليلها، ولذلك رأيت عرضها على مؤتمر المجمع الموقر؛ وهي تلخص بالسؤال الآتي:
إذا لم يكن لاسم العين الثلاثي فعل وكانت عين الاسم حرف علة، "كما في كلمات: توت. خوخ. جوز، وأشباهها" فما هو حرف العلة في اسم المكان الذي يصاغ من اسم العين على وزن مفعلة؟
"وبعد؛ أرجو المذاكرة في هذا الموضوع، أو إحالته على اللجنة المختصة؛ بغية اتخاذ قرار ينير السبيل أمام الباحثين في المصطلحات العلمية" ا. هـ.
وقد أحيل الاستفسار إلى لجنة الأصول؛ فدرسته واتخذت فيه قرارًا قدمته للمؤتمر فوافق عليه، ونص القرار: "القاعدة في صوغ: "مفعلة" مما وسطه حرف علة هي: "الإعلال" فيقال في مثل: "توت"، و"خوخ"، و"تين": متاتة، ومخاخة، ومتانة. لكن وردت في اللغة ألفاظ كثيرة بالتصحيح لا الإعلال؛ مثل: مثوبة، مشورة، مصيدة، مقودة، مبولة، ويرى النحاة أن الاحتفاظ بالأصل يلجأ إليه أحيانًا. ولا شك أن بقاء الكلمة من غير إعلال أبين في الدلالة على المعنى. ولإعلال في هذا الباب غير مستحكم. وقد نقل عن أبي زيد النحوي إجازة التصحيح في "أفعل"، و"استفعل"؛ كأغيم، وأغيل، واستحوذ، واستقوم، واستجوب، =(3/329)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثانية: أن هذه الصيغة تختلف في مدلولها وفي المراد منها عن صيغتي:
__________
= واستصوب ... وإذا أجيز الصحيح في الأفعال فالإجازة في الأسماء مقبولة؛ لأن الأسماء في هذا الباب محمولة على الأفعال، في الإعلال" ا. هـ.
هذا نص الاستفسار، وقرار اللجنة والمؤتمر بشأنه، "كما وردت نصوصها الحرفية في ص50 من مجموعة البحوث، والمحاضرات لمؤتمر المجمع، في دورته السادسة والعشرين، سنة 1959-1960".
وإني ألحظ في هذا القرار غموضًا وتعارضًا يتطلبان التجلية والتوفيق. فالقرار ينص على أن القاعدة هي: الإعلال. وهذا حكم يقتضينا التمسك بالقاعدة. وعدم الخروج عليها، ما دامت قد استحقت اسمها: وما خالفها فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه كما يقولون.
لكن القرار يعود بعد ذلك فيقول: وردت ألفاظ كثيرة في اللغة بالتصحيح لا بالإعلال ... فما مراده بالكثرة؟ إن كانت قد بلغت الحد الذي يصح القياس عليه لم تكن القاعدة السالفة "وهي قاعدة: "الإعلال" فريدة يجب الاقتصار عليها؛ وإنما تكون إحدى قاعدتين، يجوز القياس على كل منهما؛ هما: "التصحيح والإعلال". وإن كان لم تبلغ حد الكثرة المطلوبة وجب الاقتصار على الأول عند التعليق، واعتبار ما ورد من الثانية شاذًّا.
ثم ما المراد من أن الأصل يُلجأ إليه أحيانًا؟ أهذا الالتجاء واجب أم جائز؟ وما تحديد هذه الأحيان؟ ومن الذي له الحق في تحديدها؟ ... و ...
وإذا كان بقاء الكلمة من غير إعلال أبين من غير شك "كما يقول القرار" في الدلالة على المعنى من الإعلال -فلماذا نترك الأبين إلى غيره؟ وكيف يختار أئمة النحو ضابطًا عامًّا يؤدي إلى غير الأبين مع ترك ما يؤدي إلى الأبين؟ وإذا كان الإعلال في هذا الباب غير مستحكم "كما يقول القرار" فلم التمسك به، وبناء القاعدة عليه؟ وإذا كان المنقول عن أبي زيد -كما يشعر القرار -جواز التصحيح في "أفعل" و"استفعل"، فهل يجوز التعميم بحيث يشمل التصحيح غيرهما أيضًا، بالرغم من أن أبا زيد قصر الأمر عليهما دون غيرهما؟ وبالرغم أيضًا مما قاله ابن جني في كتابه الخصائص "ج1 ص99" ونقله السيوطي وغيره في كتابه: "الأشباه والنظائر" وفي كتابه المزهر "ج1 ص136" عند الكلام على المطرد في الاستعمال مع شذوذه في القياس؟ مثل: استحوذ واستصوب؟ فقد قال ما نصه: "اعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال، وشذ عن القياس فلا بد من اتباع السماع الوارد فيه نفسه، لكنه لا يتخذ أصلا يقاس عليه غيره، ألا ترى أنك إذا سمعت استحوذ، واستصوب ... أديتهما بحالهما، ولم تتجاوز ما ورد به السماع فيهما إلى غيرهما؛ ألا تراك لا تقول في استقام استقوم، ولا في استساغ استسوغ، ولا في استباع استبيع، ولا في أعاد أعود ... ولم نسمع شيئًا من ذلك. قياسًا على قولهم أخوص الرمث ... "الرمث: نبت حامض. وأخوص: صار كالخوص" ... فهل يجوز التعميم برغم كل ما سبق مما نقلناه؟
وما المراد من قول التقرير: إذا أجيز التصحيح في الأفعال فالإجازة في الأسماء مقبولة ... ؟ فهل اطرد التصحيح في الأفعال حتى تحمل عليه الأسماء فيه؟ وإذا كان مطردًا أو كثيرًا إلى الحد الذي يبيح قياس الأسماء عليه فلم منعه القدماء إلا في المسائل التي نصوا عليها؟ ... تلك هي بعض =(3/330)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"مفعل" و"مفعلة" الخاصتين "باسم المكان" فهاتان الصيغتان مشتقتان من المصدر، وتدلان على المكان وعلى المعنى المجرد الذي يحدث به. أما تلك فتضاغ من الثلاثي المحسوس للدلالة على المكان وعلى شيء حسي معين يكثر به، لا على شيء معنوي، فالفرق كبير بين الدلالتين. والفرق أكبر وأوسع في الأصل الذي يشتقان منه، وفي طريقة الصياغة، ووزن الصيغة، ما يتبين هذا جليًّا في الشرح الخاص بكل.
د- ملخص ما سبق من أوزان المصدر الميمي1 واسمي الزمان والمكان إذا كانت أفعالها الماضية ثلاثية، وماضي المصدر الميمي غير مضعف هو:
1- إذا كان الماضي الثلاثي معتل اللام، "مثل: دعا. سعى ... " فالصيغة للمشتقات الثلاث هي وزن: "مفعل" "بفتح، فسكون، ففتح" تقول: مدعى. مسعى ...
2- إذا كان الماضي الثلاثي صحيح الأحرف ومضارعه مضموم العين أو مفتوحها: "مثل: نظر ينظر. فتح يفتح ... " فالصيغة للثلاثة على وزن "مفعل" أيضًا كالسابقة.
3- إذا كان الماضي الثلاثي صحيح الأحرف، ومضارعه مكسور العين، "مثل: جلس يجلس. عرف يعرف ... " فالميمي على وزن: "مفعَل" أيضًا، واسما الزمان والمكان على وزن: "مفعِل" بكسر العين.
__________
= الجوانب التي تحتاج إلى إلى التجلية والبيان، مع ترك جوانب أخرى من ذلك القرار يغشيها الغموض أيضًا ولا سيما إذا عرضنا لرأي سيبويه في مثل تلك الكلمات التي لم يجر عليها الإعلال بالنقل من مثل: استحوذ، استصوب.. فهو يقول ما ملخصه: سمعنا جميع الشواذ المذكورة معلة أيضًا على القياس إلا استحوذ، واستروح الريح، وأغيلت ... ثم قال: ولا مانع من إعلالها وإن لم يسمع؛ لأن الإعلال هو الكثير المطرد. راجع ص47 من كتاب: ليس من كلام العرب لابن خالويه.
ويدور بخلدي أن القرار لو اقتصر على سرد القاعدة التي جاءت في صدره، وزاد عليها إباحة التصحيح في حالة واحدة هي: أن يخفى معنى الكلمة بالإعلال أو يلتبس بغيره، ولا منجاة من الخفاء اللبس إلا بالتصحيح -لو فعل هذا- لكان سليمًا من الغموض، بعيدًا من التعارض، مسايرًا بعض المذاهب اللغوية العامة.
1 سبق تفصيل الكلام عليه في ص231.(3/331)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4- إذا كان الماضي الثلاثي معتل الفاء بالواو، صحيح اللام، ومضارعه مكسور العين تحذف فيه الواو؛ "مثل: وعد يعد ... " فالصيغة للثلاثة هي: "مفعل" بكسر العين.
ويتبين مما سبق أن صيغة الثلاثة لا تختلف إلا في صورة واحدة هي التي يكون فيها الماضي الثلاثي صحيح الأحرف مكسور العين في المضارع، فيصاغ المصدر الميمي على وزن "مفعل" -بفتح العين- ويصاغ اسمًا للزمان والمكان على وزن "مفعل" بكسر العين. ويجوز في المصدر الميمي أيضًا أن يكون على وزن "مفعل" -بفتح العين أو كسرها- إن كان ماضيه مضعفًا1.
كل ما سبق حين يكون الماضي ثلاثيًا فإن كان غير ثلاثي فيصاغ الثلاثة -وكذا اسم المفعول- على وزن المضارع مع إبدال أوله ميمًا مضمومة وفتح الحرف الذي قبل آخره، وتكون القرائن هي المميزة بين الأنواع الثلاثة والدالة على النوع المناسب للسياق دون غيره الثلاثة الأخرى.
__________
1 طبقًا لما سلف في ص227.(3/332)
المسألة 107: اسم الآلة
تعريفه:
اسم يصاغ قياسًا من المصدر الأصلي1 للفعل الثلاثي المتصرف -لازمًا أو متعديًا- بقصد الدلالة على الأداة التي تستخدم في إيجاد معنى ذلك المصدر. وتحقيق مدلوله.
وليس الوصول إلى تلك الدلالة المعنوية مقصورًا على صيغة اسم الآلة القياسي، فمن الممكن الوصول إلى تلك الدلالة بأساليب مختلفة، ليس في واحد منها الصيغة القياسية التي تخص "اسم الآلة"، ولكن هذا الوصول يتطلب ألفاظًا، وكلمات متعددة لا يتطلبها صوغ اسم الآلة القياسي؛ فإنه يقوم بهذه الدلالة المعنوية بكلمة واحدة، فمزيته أن يؤدي باللقطة المنفردة ما لا يؤديه غيره إلا بالكلمات المتعددة.
صوغه:
صياغته القياسية لا تكون إلا من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف مطلقًا2 يصاغ من غيره.
وأوزان اسم الآلة ثلاثة قياسية: هي: مِفعَل. مِفعَال. مِفعَلة. وطريقة صوغها أن نجيء بذلك المصدر مهما كان وزنه، وندخل عليه من التغيير ما يجعله على وزن إحدى الصيغ الثلاث3. مثال ذلك:
1- نشر النجار الخشب نشرًا، فآلة النشر هي: مِنشَر. أو: مِنشار، أو: مِنشَرة.
__________
1 في ص182 تفصيل الكلام على أصل المشتقات؟ مصدرًا وغير مصدر ... ولم يعرض ابن مالك في "ألفيته" لاسم الآلة. وقد عرضنا له استيفاء المشتقات.
2 أي: سواء أكان الفعل متعديًا أم لازمًا، كما تقدم. وانظر: "ب" ص236 حيث البيان الخاص يصوغه من اللازم.
3 زاد عليها مجمع اللغة العربية أوزانًا أخرى تجيء في ص337.(3/333)
2- برد الصانع الحديد بردًا، فآلة البرد هي: مبرد، أو: مبراد، أو: مبردة.
3- ثقبت سداد القارورة ثقبًا -فآلة الثقب هي: مثقب، أو: مثقاب، أو مثقبة.
4- سخن الماء سخانة وسخونة -فالآلة التي تتحقق بها السخونة، هي: مسخن، أو: مسخان، أو: مسخنة.
5- سلكت الطريق سلوكًا، أي: ذهبت فيه ونفذت منه. فالآلة التي يتحقق بها الذهاب والنفاذ، هي: مسلك، أو: مسلاك، أو: مسلكة.
6- سمحت للمحتاج ببعض الغلة سموحًا، وسماحًا، وسماحة، فالآلة التي يتحقق بها السماح وتستخدم في الإعطاء، والتناول، هي: مسمح أو: مسماح، أو: مسمحة ... و ... وهكذا.
حكمه:
اسم الآلة لا يعمل عمل فعله؛ فلا يرفع فاعلًا أو نائب فاعل، ولا ينصب مفعولًا به، ولا غيره؛ فهو واسم المكان واسم الزمان المشتقات الثلاث التي لا تعمل عمل فعلها1.
ويلاحظ أن صيغة "مفعال" مشتركة بين "اسم الآلة" و"صيغة المبالغة"؛ فهي من الأوزان الصالحة لهذه، ولتلك -كما سبق2- والتفرقة بينهما في الدلالة تكون بإحدى القرائن اللفظية أو المعنوية؟ كالشأن في كل صيغة مشتركة، أو لفظ يصلح لمعنيين أو أكثر؛ فالقرينة وحدها هي التي تتحكم في التوجيه هنا أو هناك، ففي مثل: "تخيرت للخشب الجزل منشارًا قويًّا يمزقه" -تكون صيغة "مفعال" اسم آلة: بخلافها في مثل: "ما أعجب فلانًا في التحدث عن
__________
2 وكذلك المصدر المصوغ للدلالة على المرة -كما سبق في رقم 1 من هامش 274- ومع أن هذه الأربعة لا تعمل، يجوز أن يتعلق بها شبه الجملة لما فيها من رائحة الفعل "راجع هامش ص221".
3 في رقم 4 من هامش ص258.(3/334)
نفسه، ونشر أخباره، وانتهاز الفرص للإعلان عن شئونه!! إنه جدير بأن يسمى: منشارًا"؛ فإنها صيغة مبالغة في النشر. ومثل: كلمة: "مذياع"؛ فقد يراد منها الآلة الصماء التي تستخدم في نقل الأخبار المذاعة. وقد يراد منها الشخص المتكلم في تلك الآلة1. فمثال الحالة الأولى تدل عليها القرينة: توقف المذياع لخلل في أسلاكه. ومثال الثانية التي تدل عليها القرينة أيضا: ما أفصح المذياع، وما أعذب صوته، لم يتلجلج، ولم يتردد، ولم يشوه كلامه بلحن أو خطأ، مع أنه كان يرتجل بغير إعداد.
__________
1 هذا من الوجهة اللغوية. وقد جرى العرف اليوم على تسمية الآلة "بالمذياع" وتسميه الشخص: بالمذيع.(3/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- وردت ألفاظ مسموعة شذت صيغتها عن القياس؛ منها: "المنخل"؛ للأداة التي ينخل بها الدقيق. "والمدق"؛ للأداة التي تدق بها الأشياء الصلبة "والمدهن"؛ للأداة التي تستخدم في الدهان. و"المكحلة"؛ للأداة التي تستخدم في الكحل، أو للوعاء الذي يوضع فيه. و"المسعط"؛ للأداة التي يسعط بها العليل، أو الصبي؛ إي: يوضع بها الدواء في أنفه، "وكل ما سبق بضم أوله وثالثه إلا "المدق" فبضم أوله وثانيه"، "وإراث" للأداة التي توقد النار ...
ولما كانت تلك الأوزان -وأشباهها- خارجة عن الصيغ القياسية، جاز استعمالها كما وردت مسموعة عن العرب، وجاز -كما سيتبين بعد1- اشتقاق صيغة قياسية من مصادر أفعالها الثلاثية المتصرفة تؤدي معناها ومهمتها، بحيث تجيء الصيغة الجديدة على وزن "مفعل" أو: "مفعلة" أو "مفعال" وهي الأوزان الثلاثة القياسية لاسم الآلة.
ب- في محاضر جلسات المجمع اللغوي القاهري، في دور انعقاده الأول "ص371"، بحث وافٍ على اسم الآلة، ونصوص متعددة من المراجع المطولة الأصيلة التي تصدت لبيان أحكامه. ومن ذلك البحث وما تبعه من بحوث فرعية، وما أثاره من جدل عنيف، ومناقشات مستفيضة مسجلة هناك -يتبين أن بين العلماء خلافًا شديدًا يكاد يتركز في ثلاث مسائل:
أولها: أن يكون اشتقاق اسم الآلة من مصدر الثلاثي المتصرف، المتعدي واللازم، أم من مصدر المتعدي فقط، كما يميل إليه أكثر السابقين؟ وهل يشتق من أسماء الأعيان؟
ثانيها: أيجوز اشتقاق من مصدر الأفعال غير الثلاثية، أم أمره مقصور على الثلاثية وحدها؟
ثالثها: أيجوز القياس مع وجود صيغة مسموعة تخالفه، أم يجب الاقتصار عليها؟
__________
1 في "ب" التالية.(3/336)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وخير إجابة عن تلك الأسئلة -وهي إجابة مستمدة في أكثرها من البحوث والمناقشات التي دارت بالمجمع، ثم من مراجع واعتبارات أخرى- هي:
1- جواز الاشتقاق من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف اللازم والمتعدي، دون مصدر الأفعال غير الثلاثية، ودون أسماء الأعيان. فيجب الاقتصار في هذين على المسموع وحده.
2- ويجوز القياس بصوغ اسم الآلة من مصدر الفعل الثلاثي المتصرف مع ورود صيغة مسموعة تخالفه. لكن الأحسن الاقتصار على هذه الصيغة المسموعة، وبخاصة إذا كانت شائعة.
"ملاحظة": جاء في مجلة المجمع اللغوي، القرار الآتي نصه1:
"يضاف إلى الصيغ الثلاث المشهورة في اسم الآلة، "وهي: مفعل، مفعلة، مفعال، وكذا: "فعالة" التي أقر مجلس المجمع قياسيتها من قبل" ... صيغ أخرى؛ هي:
أ- فعال؛ مثل: إراث "لما تؤرث به النار، أي: توقد".
ب- فاعلة: مثل: ساقية.
ج- فاعول؛ مثل: ساطور.
وبهذا تصبح الصيغ القياسية لاسم الآلة سبع" ا. هـ.
وفي الصيغ الأربع الجديدة التي اشتمل عليها هذا القرار ما يقتضي التأمل والتلبث. فصيغة: "فعالة" المقترحة: "اعتمادًا على كثرتها في الاستعمال القديم والحديث؛ ومن الحديث: ثلاجة، خرامة، خراطة, كسارة: لآلة الثلج، والخرم، والخرط، والكسر؛ إنما تصاغ على أصل عربي فصيح وهو صيغة: "فعال" المؤنثة المشتقة للدلالة على المبالغة، أو على النسب لأمر من
__________
1 راجع ص250 من مجلة المجمع اللغوي، العدد الخاص بالبحوث والمحاضرات التي ألقيت في مؤتمر الدورة التاسعة والعشرين، سنة 1962-1963. وكذلك ص19 من كتابه الذي أخرجه سنة 1969 باسم "كتاب في أصول اللغة" مشتملًا على مجموعة القرارات التي أصدرها من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين وفي هذا المرجع القرار متبوعًا بالأدلة والبحوث العلمية التي تؤيده.(3/337)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأمور؛ طبقًا لما سيجيء في باب: "النسب1"، ثم تستعمل بعد ذلك مجازًا "لغرض بلاغي" في الدلالة على الآلية أو السببية. وهذا الاستعمال المجازي مباح فصيح في كل عصر، بشرط توافر ركني المجاز "وهما: العلاقة، والقرينة" ومن المعروف بلاغة أن المجاز إذا اشتهر صار حقيقة عرفية فصيحة؛ ينسى معها "العلاقة والقرينة"؛ طبقًا لما قرره البلاغيون، فلا حاجة -إذًا- لقرارٍ بزيادة تلك الصيغة على صيغ اسم الإلة. هذا إلى أنها لا تكون نصًّا في دلالتها على الآلية -أحيانًا- وبذا تختلف عن الصيغ المسموعة.
أما الصيغ الثلاث الجديدة التي زيدت أيضا "أ. ب. ج" فأمر قياسيتها غير واضح؛ فهل المراد أن يصاغ على وزنها اسما، آلات من كل ما يصاغ منه اسم الآلة؟
إن كان هذا هو المراد -وهو ما يقتضيه حكم القياس- كان غريبًا؛ لأن الاستعمال العربي القديم لتلك الكلمات كان متجهًا في بعضها إما للمجاز على الوجه الذي شرحناه؛ كاستعمالهم كلمة: "الساقية"، وإما للأداة الخاصة في بعض كلمات أخرى معينة دون غيرها كما في كلمة "إراث" و"ساطور"، ونحوهما من عشرات الكلمات المتباينة التي استعملوا -بقلة- كل واحدة منها أداةً دون أن تخضع تلك الكلمات كلها لكثرة استعمالهم أو لصيغة واحدة تجمعها، أو وزن واحد تندرج تحته؛ فالحكم بالقياس على تلك الصيغ الثلاث واستعمالها من غير طريق المجاز مخالف للمراد من القياس اللغوي، ومؤدٍّ للاضطراب. هذا إلى أنه يمكن الاستغناء عن الصور الجديدة كلها باختيار صيغة من الصيغ القديمة تستعمل أداة موصلة للمعنى المراد من كل صيغة من هذه الصيغ المستحدثة.
__________
1 في الجزء الرابع.(3/338)
المسألة 108: التعجب
مدخل
...
المسألة 108: التعجب
معناه:
إذا رأينا في أحد الكواكب أشباحًا تحاول الاتصال بنا، أو شاهدنا بئرًا تغيض1 فجأة، أو مطرًا ينهمر في يوم صحو2، أو سيارة جديدة تتوقف عن المسير بغير سبب معروف، كان هذا أمرًا باعثًا للدهش، وانفعال3 النفس به؛ واستعظامها إياه؛ لخفاء سره عليها، وعدم وجود نظير له، أو قلة نظائره، وقد يعبر عنه الناس بأنه أمر عجيب، أو غريب، أو مثير ... أو نحو هذا من العبارات التي يريدون منها ما يسميه اللغويون: "التعجب"، ويعرفونه بأنه:
"شعور داخلي4 تنفعل به النفس حين تستعظم أمرًا نادرًا، أو لا مثيل له؛ مجهول الحقيقة5، أو خفي السبب"6. ولا يتحقق التعجب إلا باجتماع هذه الأشياء كلها.
أسلوبه:
له أساليب كثيرة7 تنحصر في نوعين:
__________
1 يجف ماؤها.
2 لا غيم فيه، ولا مطر، ولا برد.
3 تأثر.
4 وقد يترتب عليه ظهور آثار خارجية؛ كالتي تبدو على الوجه، أو غيره.
5 أي: الذات. بأجزائها التي تتركب منها.
6 لهذا يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، ولهذا أيضًا لا يوصف المولى جل شأنه بأنه متعجب؛ إذ لا يخفى عليه شيء، وإذا ورد في كلامه، أو في الحديث الشريف، أو غيرهما، ما يدل على أنه يتعجب، فالمراد: إما توجيه السامعين إلى إظهار العجب والدهشة، وإما المراد: اللازم؛ هو الرضا والتعظيم، أو: نحو ذلك من الأغراض البلاغية.
7 والغرض الأساسي من كل منها هو: "التعجب". لكن بعضها قد يتضمن أحيانا كثيرة التعجب وغرضًا آخر معه: "المدح، أو الذم": كما سيتبين في هذا الباب، وفي باب "نعم وبئس" عند الكلام على الأفعال التي تجري مجراهما ص370.(3/339)
أحدهما: مطلق؛ لا تحديد له ولا ضابط، وإنما يترك لمقدرة المتكلم، ومنزلته البلاغية، ويفهم بالقرينة.
والآخر: "اصطلاحي"، أو "قياسي" مضبوط بضوابط وقواعد محددة، ولا تكاد تختلف في استعماله أقدار المتكلمين.
ومن أمثلة الأول: "لله در1 فلان"، في قول القائل:
لله درك!! أي جنة2 خائف ... ومتاع دنيا. أنت للحدثان3
ومنها: "يا لك، أو يا له، أو يا لي" ... كقول الشاعر:
فيالك بحرًا لم أجد فيه مشربًا ... وإن كان غيري واجدًا فيه مسبحًا
ومنها: "شَدَّ4" في نحو: شَدَّ ما يفخر اللئيم بأصوله إن كانت له أصول، ويتمدح بفعاله إن كان له فعل محمود.
ومنها كلمة: "عَجَب"، مصدرًا، ومشتقاته، مثل: عَجِب، و"عجيب" في نحو: قولهم: عجبت لمن يشتري المماليك بماله، ولا يشتري الأحرار بكريم فعاله. وقول الشاعر:
أقاطنٌ5 قومُ سَلْمَى أَم نَوَوْا ظَعْنَا6؟ ... إِنْ يَظْعَنوا فعجيبٌ عيْشُ مَنْ قَطَنا
ومنها: الاستفهام المقصود منه التعجب؛ كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْْ} ، وكقول شوقي يخاطب تمثال أبي الهول7:
إلامَ ركوبُكَ مَتنَ الرمالِ ... لِطَيِّ الأَصيلِ، وجَوْب السِّحَرْ?
__________
1 أصل هذا الأسلوب ومعناه مدون في ج2 م60 ص21.
2 وقاية.
3 حوادث الدهر ومصائبه.
4 فعل ماضٍ يفيد التعجب من شدة الأمر وكثرته.
5 أمقيم؟
6 ارتحالًا وسفرًا.
7 تمثال رأسه كرأس إنسان، وجسمه على هيئة جسد الأسد. أقامه أحد الفراعين في صحراء الأهرام، بالجيزة. "قرب القاهرة".(3/340)
ومنها: "سبحان الله" التي تصاحبها قرينة تدل على أن المقصود منها التعجب؛ كقول رجل سئل عن اسمه: "سبحان الله! تجهلني، والخيل والليل والبيداء تعرفني؟!! ... ".
إلى غير ذلك من كل لفظ يدل على التعجب1 وتُفهم منه هذه الدلالة بقرينة، من غير أن يكون من النوع "الاصطلاحي" "القياسي".
أما النوع "الاصطلاحي، أو القياسي: فصيغتان2: "ما أفعله" و"أفعِل به". وهذان وزنان يُستعملان عند إرادة التعجب من شيء تنفعل به النفس على الوجه الذي شرحناه؛ فعند التعجب من الجمال الباهر -مثلًا- أو الضخامة البالغة، أو: القصر المتناهي ... أو غيره ... نأتي بأحد أسلويين قياسيين.
أولهما3: فعل ماضٍ، ثلاثي4، يشتمل على المعنى الذي يراد التعجب منه، ثم نجعل هذا الماضي على وزان، "أفعل". وقبله: "ما" الاسمية التي هي مبتدأ، وعلامة التعجب؛ ولذا تسمى: "ما التعجبية" وتقديمها على هذا الماضي واجب، وفاعله ضمير مستر وجوبًا، تقديره: "هو" يعود على: "ما"، وبعده اسم منصوب هو في ظاهره وفي إعرابه مفعول به5. ولكنه في المعنى فاعل6؛ إذ كان في الجملة -وفي الحقيقة- قبل التعجب فاعلًا؛ نحو؛ ما أجمل الوردة الناضرة!. ما أضخم هرم الجيزة!. ما أقصر
__________
1 مثل كلمة: "واها" في نحو: واها لسلمى ثم واهًا واهًا ومثل حرف النداء في: يا جارتا ما أنت جارة!!
2 هناك صيغة ثالثة قياسية يأتي الكلام عليها في "ج" من ص347.
3 الثاني في ص344. وكلاهما يجب تصحيح عينه المعتلة إن كانت مستحقة للإعلال بالنقل طبقًا للبيان الآتي في: "أ" ص347.
4 وقد يصاغ من الرباعي الذي على وزن: أفعل، على الوجه الآتي في ص348.
"5، 6" لهذا لا يصلح التعجب إن كان المفعول به حقيقيًا في أصله "قد وقع عليه فعل الفاعل" ففي مثل: سقى المطر الزرع؛ لا يصح أن يقال: ما أسقى الزرع؛ بقصد التعجب الواقع على الزرع.
لأن المفعول به هنا حقيقي، وليس فاعلًا في المعنى انظر "أ" من ص347.(3/341)
سكان المناطق القطبية! فكلمة: "ما" في هذه الأمثلة وأشباهها مبتدأ1، والجملة الفعلية بعدها خبرها، ثم المفعول به الذي هو فاعل في المعنى: فالأصل جملت الوردة، ضخم الهرم، قصر سكان المناطق القطبية.
وعند إرادة التعجب من كبر قارة آسيا، وسعتها، وغزارة سكانها، وعلو جبالها ... و ... نقول: ما أكبرها!! وما أوسع رقعتها!! وما أغزر سكانها!! وما أعلى جبالها!! ... والإعراب كما سبق تمامًا، وكذلك المفعول به.
و"ما" التعجبية في هذه التراكيب -ونظائرها- هي نوع من "النكرة التامة"2، وتتضمن -بذاتها3- معنيين معًا، أو أنها ترمز إليهما معًا؛ هما: "توجيه الذهن إلى أن ما بعدها عجيب. وأن الذي أوجده أمر عظيم"، ويصفها النحاة بأنها "نكرة تامة". والماضي بعدها جامد لا محالة4 مع أنه في أصله ثلاثي متصرف، ولكنه يفقد التصرف باستعماله في التعجب رباعيًا على وزن "أفعل" كما يفقد -في الأرجح- الدلالة على الزمن إن لم توجد قرينة تدل على الزمن5.
__________
1 انظر "أ" من الزيادة التالية في ص343.
2 يريدون بالتنكير أنها بمعنى: "شيء" أي شيء. وبالتمام: أنها لا تحتاج إلا للخبر، فلا تحتاج بعدها إلى نعت أو غيره من القيود. وتنكيرها أفادها إبهامًا جعلها في أسلوب التعجب بمعنى: "شيء عظيم". وعلى هذا تكون "النكرة التامة" هي النكرة المحضة الخالصة من كل قيد، أما المقيدة بنعت أو غيره من القيود فتسمى: "نكرة ناقصة". وبيان هذا في ج1 م 17.
3 أي: بلفظها وتكوينها، لا بلفظ أو شيء آخر غيرها.
4 ولا يدل -عند المحققين- على زمن؛ لأن الجملة التعجبية متجردة لمحض "الإنشاء" المقصود منه "التعجب"، فلا دلالة فيما على زمن عندهم "كما سيجيء في رقم 2 من هامش ص344 وفي رقم 1 من هامش ص349، وفي رقم 4 من هامش ص361 وعدم دلالتها على الزمن مشروط بألا تشتمل على لفظة: "كان" أو "يكون" أو غيرهما من الألفاظ أو القرائن التي أريد منها أن تدل على زمن معين؛ طبقًا للبيان الخاص بهذا في الصفحات السالفة، وفي صدر الجزء الأول عند الكلام على الأفعال م4.
5 كما سيجيء في ص 347، 349، 357.(3/342)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- لسنا بحاجة إلى الأخذ برأي من يقول: إن "ما" التعجبية اسم موصول، مبتدأ، والجملة بعدها صلتها، والخبر محذوف. ولا برأي آخر يقول: إنها نكرة ناقصة "تحتاج إلى نعت بعدها" والجملة بعدها نعت لها، والخبر محذوف، ولا استفهامية ... ولا ... ولا ... فكل هذه الآراء تحمل في طياتها كثيرًا من التعسف، وتقوم على الحذف والتأويل من غير داعٍ، ومن غير أن تمتاز بمزية تصرفنا عن الإعراب الأول الذي يتضمن كل مزاياها، ويخلو من عيوبها. فعلينا التمسك به وحده، وأن نختصر في الإعراب، فنقول: "ما" تعجبية، قاصدين مع هذا الاختصار أنها نكرة تامة مبتدأ -من غير حاجة للتصريح بما اصطلحنا عليه ...
ب- ورد عن العرب قولهم: "ما أمليح فلانًا وما أحيسنه، بتصغير الفعلين الماضيين: "أملح وأحسن" عند استخدامهما في التعجب، مع أن الأفعال لا تصغر ... فهل يصح تصغير غيرهما من الأفعال الماضية المستخدمة في التعجب، والتي على وزن "أفعل"؛ قياسًا على هذين الفعلين الماضيين؟ الرأي الشائع عدم الجواز، ولكن سيبويه وبعض البصريين وفريق من غيرهم يبيحه. وفي الأخذ بهذا الرأي -أحيانًا- تيسير وتوسعة لا ضرر منهما1 ...
__________
1 تفصيل هذا كاملًا في باب: "التصغير" من الجزء الرابع م175 ص631.(3/343)
ثانيهما1: فعل ثلاثي لازم مشتمل على المعنى الذي يراد التعجب منه، ونجعل هذا الفعل على وزن: "أفعل"، وبعده باء الجر، تجر اسمًا ظاهرًا، أو: ضميرًا متصلًا بها، وكلاهما هو الذي يختص بمعنى الفعل. ففي الأمثلة السابقة يقال: أَجْمِلْ بالوردة النَّاضرة! أضْخِم بهرم الجيزة! أَقْصِرْ بسكان المناطق القطبية!. أَكْبِرْ بقارة آسيا! وأَوْسِعْ برقعتها! وأغزِرْ بسكانها! وأَعْلِ بجبالها! أو: أَكبِرْ بقارة آسيا! وأَوسِعْ بها! وأَغزرْ بسكانها! وأكثْر بهم!
أما إعراب: "أجملْ بالوردة الناضرة" ففيه وفي نظائره إعرابان:
أ- أن نقول "أجْمِلْ"، فعل ماضٍ على صورة الأمر، "أي على شكله الظاهر فقط2، دون الحقيقة المعنوية" ... "بالوردة" الباء، حرف جر زائد3 "الوردة " فاعل مجرور بالباء لفظًا، ولكنه في محل رفع على الفاعلية. "الناضرة" نعت، إما مجرور بالكسرة تبعًا للفظ الفاعل المنعوت، وأما مرفوع بالضمة تبعًا لمحل المنعوت، ويكون المراد هو: جَمُلت الوردةُ، أي: صارت ذات جمال عجيب، وضخم الهرمُ، أي: صار ذا ضخامة عجيبة. قَصُرَ سكان المناطق القطبية. أيضًا ... وهكذا باقي صيغ "أفْعِل" التي جاءت في ظاهرها على صورة الأمر، وهي في الحقيقة فعل ماضٍ؛ يراد منه في ظاهره وفي حقيقته التعجب. ومِثْل النعت هنا غيره من التوابع؛ فكل منها يجوز فيه الجر والرفع.
هذا إعراب الفاعل المجرور بالباء حين يكون اسمًا ظاهرًا معربًا، أما حين يكون اسمًا مبنيًا؛ كالضمير البارز، أو غيره من المبنيات "ومن الأمثلة
__________
1 أما أولهما ففي ص341 وكلاهما يجب تصحيح عينه المهملة كما أشرنا هناك؛ طبقًا للبيان الآن في: "أ" ص347.
2 جاء على صورة الأمر لإنشاء "التعجب"؛ فالجملة كلها إنسانية محضة، ولا دلالة لها -عند المحققين- على زمن، إلا إن وجد تقييد يدل على الزمن "كما أشرنا في رقم 4 من هامش ص342 وكما سيجيء في رقم 1 من هامش ص349 و353 و362"، وهو مبني على السكون حينًا، وعلى حذف آخره حينًا آخر على حسب أحكام بناء الأمر.
3 وزيادته في هذا الموضع لازمة؛ فلا يمكن الاستغناء عنه بشرط أن يكون المجرور به اسمًا صريحًا، ولا مصدرًا مؤولًا من "أن أو أنْ" وصلتهما؛ إذ في هذه الصورة المصدرية يجوز -إلا مع "أنْ" الناسخة في رأي- حذف حرف الجر. انظر رقم 2 من هامش الصفحة الآتية.
كما سبق عند الكلام على "باء الجر" هامش رقم 1 من ص153 م71، 351، م89، وكما سيجيء البيان في رقم 1 من هامش ص362.(3/344)
الآية الكريمة: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} وبعض الأمثلة التي سلفت؛ "فإنه يكون مبنيًا ويذكر في إعرابه: "أنه مجرور بكسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها علامة البناء الأصلي في محل رفع"1؛ فهو كسابقه في أنه مجرور اللفظ، مرفوع المحل، وفي أنه يجوز في تابعه الأمران: الرفع والجرّ.
ب- أو نقول: "أَجْمِلْ" فعل أمر حقيقي، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنت، يعود على مصدر الفعل المذكور "وهو: الجمال"، و"بالوردة" الباء حرف جر أصلي، وهي ومجرورها أصليان متعلقان2 بالفعل. والمراد الملحوظ: يا جمالُ أجمِلْ بالوردة؛ أي: لازِمْها؛ ولا تفارقْها. فالخطاب الملحوظ موجه لمصدر الفعل المذكور، بقصد طلب استمراره، ودوام بقائه معه3. ومثل هذا يقال في الأمثلة الأخرى، والفاعل مفرد مذكر للمخاطب دائمًا؛ لأنه ضمير مستتر للمصدر المخاطب في كل الأحوال.
والإعرابان صحيحان4. والمعنى عليهما صحيح أيضًا؛ فلا خلاف بينهما
__________
1 يلاحظ أن الضمير الواقع فاعلًا في آية: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} إنما جاء خلفًا عن "واو الجماعة" للغائبين؛ إذ الأصل بناء على التقدير السالف: "سمعوا"، ولما كانت واو الجماعة لا تكون في محل جر امتنع وقوعها بعد "باء الجر" الزائدة لزومًا. ولم يكن بد من التوفيق بين الآمرين بالاستغناء عن واو الجماعة والإتيان بالضمير "هم" مكانه؛ لأنه الضمير الذي يصلح للرفع وللجر مع دلالته على جماعة الغائبين.
2 لازمان لا يمكن الاستغناء عنهما، إلا في حالة واحدة يمكن فيها حذف الباء "في الرأي الأغلب. حين تجر مصدرًا مؤولًا ... "وسيجيء تفصيل الكلام عليها عند بيان الحكم التاسع من أحكام التعجب ص362 م109، وسبقت الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش الصفحة السالفة، وفي ج2 ص175 م71".
3 ويصح أن يكون موجهًا للمخاطب الذي يراد منه أن يتعجب مع وجوب إبقاء الضمير على حاله من الإفراد والتذكير. وهذا الوجه هو الذي ينطبق في يسر وغير تكلف على مثل قول الشاعر:
إذا عُمِّرَ الإنسان تسعين حِجَّةً ... فأَبْلِغْ بها عُمْرًا، وأَجْدِرْ بها شُكرا
4 وبهما قال الأقدمون، ولكل رأي أنصاره وأدلته المقبولة؛ فلا معنى لتجريح أحدهما كما يفعل بعض المتسرعين. ومن الإنصاف القول بأن المذهبين مقبولان، ولكن كثيرًا من أدلتهما وتعليلاتهما مصنوع، لا يثبت على التمحيص؛ ولا يعرفه العربي صاحب هذه اللغة ولا يدور بخلده، فوق أنه لا يساير القواعد النحوية الأصلية المنتزعة من كلامه. فمن الخير إهمال الجدليات والتعليلات الزائفة التي تتردد في نواحٍ كثيرة من هذا الباب وغيره.(3/345)
في تأدية الغرض. إلا أن الإعراب الثاني أيسر وأوضح، وهو إلى عقول ناشئة المتعلمين أقرب. ويزداد يسرًا ووضوحًا حين يكون الفاعل المجرور بالباء اسمًا مبنيًا كالضمير، وغيره من المبنيات التي تحتاج في إعرابها إلى تطويل.
ويلاحظ أن صيغة: "أفْعِلْ" هذه جامدة -كأختها الأولى- مع أن فعلهما الأصلي ثلاثي متصرف، ولكنه يفقد التصرف بسبب استعماله في التعجب -كما أوضَحْنا1-
__________
1 في ص342، وما يجيء من ص349، 357 وفي الأحكام السابقة يقول ابن مالك في باب عنوانه: "التعجب":
بـ"أَفْعَلَ" انْطِقْ بعْد: "ما"؛ تعجبًا ... أَوْ جِئْ بـ"أَفْعِلْ" قَبْل مجْرُورِ بِـ"ببا"
أي: انطق بصيغة: "أفعَل" لأجل التعجب، بشرط أن تكون هذه الصيغة واقعة بعد كلمة "ما" وهي: "ما" التعجبية، وإن شئت فَجِئْ بصيغة أخرى هي: "أَفْعِلْ" وبعدها المتعجب منه "أي من شيء فيه". مجرور بالباء. ثم قال:
وتِلْوَ "أَفْعَلَ" انْصِبنَّهُ؛ كَما ... أَوْفَى خَلِيلَيْنَا! وأَصْدِقْ بِهِما!
أي: "انصب ما يجيء بعد "أفعل". والذي يجيء بعد "أفعل" هو المفعول به المتعجب منه، "أي: من شيء، فيه" ثم ساق في آخر البيت مثالين؛ أحدهما: للمتعجب منه "أي: من شيء فيه" المنصوب بعد "أفعل"؛ وهو: "خليلينا". والثاني المتعجب منه المجرور بالباء بعد "أفعِلْ" وهو "أصدِقْ بهما". ثم ساق بيتًا ثالثًا ضمنه حكمًا سنذكره في مكانه من الأحكام بصفحة 360؛ هو جواز حذف المتعجب منه إذا دل عليه دليل، ولم يتأثر المعنى بحذفه؛ يقول:
وحَذْفَ ما مِنْه تَعَجَّبْت اسْتَبِحْ ... إِنْ كَانَ عِنْدَ الحَذْفِ معناهُ يَِحْ
يضح. أي: يتضح. والفعل: "وضَح يضِح"، والأصل: "يوضح، ثم حذفت الواو خضوعًا لقاعدة صرفية تقضي بحذفها إذا وقعت ساكنة في المضارع وقبلها فتحة وبعدها كسرة، وسيذكر البيت لمناسبة أخرى في ص360.
ثم ذكر بعد هذا بيتًا يقرر فيه أن هذين الفعلين ممنوعان من التصرف؛ فهما جامدان بحكم قديم محتوم قرره النحاة: ونص البيت:
وفي كِلاَ الفِعْلَيْنِ قِدْمًا لَزِما ... مَنْعُ تَصَرُّفٍ بِحُكْمِ حُتِما
في ترتيب البيت التواء، والأصل: ولزم منع تصرف في كلا الفعلين بحكم حتم قدمًا؛ أي: قديمًا. وسيجيء إيضاح لهذا البيت في مكانه الأنسب عند الكلام على أحكام التعجب "ص375".(3/346)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- همزة الماضي: "أفعل" في التعجب هي لتعدية الصيغة التي يكون فعلها الثلاثي إما لازمًا في الأصل، وإما متعديًا، ولكنه يفقد التعدية عند أخذ الصيغة منه؛ فتحل محلها تعدية جديدة تغايرها. فمثال الأول: ما أظرف الأديب!! فإن الفعل: "ظرف" لازم أصالة؛ فصار متعديًا. ومثال الثاني: ما أنفع الحذر!! فإن الفعل: "نفع" متعدٍّ في أصله. وتزول عند أخذ الصيغة منه، فتنصب مفعولًا به جديدًا كان في الأصل فاعلًا؛ إذ الأصل: نفع الحذر. فكلمة: "الحذر" فاعل يصير مفعولًا به بعد التعجب1.
أما همزة "أفْعِلْ"، فللصيرورة على اعتباره ماضيًا على صورة الأمر ...
ويجب تصحيح العين في الصيغتين إن كانت في غير التعجب تستحق الإعلال بالنقل؛ مثل: ما أطول النخلة، وأطول بها2 ومن هذا قولهم: "ما أحوج الجبانَ إلى أن يرى ويسمع عجائب الشجعان" وكذلك يجب فكَ "أفْعِلْ" المضعف، نحو: أشْدِد بحمرة الورد. وقول الشاعر:
أعْزِرْ عَليّ بأن تكون عليلًا ... أو أن يكون لك السَّقام نزيلًا
ب- يشيع في هذا الباب ذكر: "المتعجب منه" "وهو المعمول المنصوب أو المجرور بالباء" والتعبير الأنسب: هو: "المعمول المتعجب من شيء يتصل به" الأن التعجب في مثل: ما أنفع العلم!!، إنما هو من نفع العلم" لا من العلم ذاته. ولا بأس بالتعبير الشائع على اختصاره المقبول؛ لأن المراد منه مفهوم.
ج- هناك صيغ أخرى للتعجب3، وأشهرها: "فَعُلَ"4 -بضم
__________
1 كما سبق في ص341.
2 عملًا بالضابط العام في الإعلال بالنقل. وسيجيء تفصيل الكلام على هذا الضابط في موضعه المناسب "ج4 م183 -ص733".
3 سيجيء تفصيل الكلام عليها في ص384 م111 من باب: "نعم وبئس".
4 جاء في الأشموني -ج2 آخر باب "تعدي الفعل ولزومه" -ما نصه عند الكلام على =(3/347)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العين وهو فعل لازم؛ نحو: كبرت كلمة تخرج من فم الجاحد، وخبث لفظًا يجري على لسانه.
ومنها: "أفْعَلَ" بغير "ما" التعجبية، وأصله فعل ثلاثي زيد في أوله، همزة التصيير؛ نحو: أحسنت قولًا، وأبرعت عملًا. أي: ما أحسن قولك، وما أبرع عملك ... وفعلها الثلاثي حَسُن وبرَعَ.
والمشهور أن الصيغة الأولى قياسية، والثانية سماعية ذكرناها لندرك أمثلتها المسموعة.
__________
= السبب الثاني الذي يجعل الفعل المتعدي لازمًا:
"التحويل إلى "فَعُل" -بضم العين- لقصد المبالغة والتعجب، نحو: ضَرُب الرجل، وفهُم ... بمعنى: ما أَضرَبَه وأَفهَمَه! ". ا. هـ، فلم يأتِ في كلامه ولا في حاشية الصبان ما يدل صراحة على أن المبالغة والتعجب يلازمان مدحًا أو ذمًّا؛ مع أن النحاة صرحوا بأن تحويل الفعل الثلاثي إلى "فَعُل" -بضم العين- بقصد المدح أو الذم يستلزم التعجب حتمًا -كما سيجيء في ص384.(3/348)
شروط الفعل الذي يبنى منه الصيغتان القياسيتان بناءً مباشرًا:
يشترط فيه ثمانية شروط:
1- أن يكون ماضيًا1.
2- ثلاثيًا؛ فلا يصاغان من فعل زادت حروفه على ثلاثة؛ مثل: دحرج. تعاون. استفهم ... إلا أن كان الرباعي قبل التعجب على وزن: "أفعل" فيجوز -في الرأي الأنسب2- صياغتهما منه بشرط أمن اللبس؛ كالأفعال "أعطَى "أعطى، أقفر، أظلم، أولى ... " فيقال: ما أعطى التقي، ما أقفر الصحراء، ما أظلم عقول الجهلاء، ما أولى الناصح بردع نفسه.
ومن الشاذ قولهم: ما أخصرَ كلام الحكماء، فبَنوه من "اخْتُصِر" الخماسيّ المبنى للمجهول أيضًا3.
3- متصرفًا في الأصل تصرفًا كاملًا، قبل أن يدخل في الجملة التعجيبة. "أما بعد دخوله فيها فيصير جامدًا4". فلا يصاغان من: ليس، عسى، نعم، بئس ... ونحوها من الأفعال الجامدة تمامًا، ولا من نحو: "كاد" التي هي من أفعال المقاربة؛ لأن "كاد" هذه ناقصة التصرف ليس لها إلا المضارع في الأغلب.
4- أن يكون معناه قابلا للتفاضل والزيادة؛ ليتحقق معنى "التعجب"؛ فلا يصاغان مما لا تفاوت فيه، نحو: فَنِيَ، مات، غرق، عَمِيَ؛ إذ لا تفاوت في الفناء، ولا في الموت، ولا الغرق، ولا العمى، وحيث يمتنع التفاوت والزيادة في معنى الفعل يمتنع الداعي للعجب؛ إذ يكون المعنى مألوفا.
__________
1 مع ملاحظة أن الفعل الذي يدخل في صيغة التعجب يفقد -غالبًا- الدلالة على الزمن عند عدم القرينة -في رأي المحققين. ويتجرد منها إلا في صورة واحدة تقدمت.
"طبقًا لما أشرنا إليه في هامش ص342، نقلًا عن الجزء الأول؛ حيث البيان وذكر المراجع في صدره عند الكلام على الأفعال. وسيجيء الإيضاح في هامش ص353، وص361".
2 وبه أخذ المجمع اللغوي؛ طبقًا لما جاء في ص121 من كتابه الذي أخرجه سنة 1969باسم: "كتاب في أصول اللغة" ...
3 ففيه شذوذان؛ أنه غير ثلاثي، وأنه مبني للمجهول. وسيجيء أنهما لا يصاغان من المبني للمجهول.
4 كما سبق في هامش ص342 ويجيء في ص357.(3/349)
5- ألا يكون عند الصياغة مبنيًّا للمجهول بناء يطرأ ويزول، كالأفعال: عُرِف، عُلِم، فُهِم ... وغيرها مما يبنى للمجهول حينًا وللمعلوم حينًا آخر، دون أن يلازم البناء للمجهول في كل الأحوال.
أما الأفعال المسموعة التي يقال إنها تلازم البناء للمجهول. "مثل: زُهيَ، هُزِلَ ... "1 فالأنسب الأخذ بالرأي الذي يجيز الصياغة منها بشرط أمن اللبس2؛ فيقال: ما أزهى الطاووس! وما أهزل المريض! ...
6- أن يكون تامًّا، "أي: ليس ناسخًا"؛ فلا يصاغان -وفي الرأي الأقوى- من "كان، وكاد"، وأخواتهما ...
7- أن يكون مثبتًا، فلا يصاغان من فعل منفى؛ سواء أكان النفي ملازمًا له، أم غير ملازم؛ مثل: ما عاج الدواء، بمعنى: ما نفع، ومثل ما حضر الغائب، فالفعل الأول، وهو: "عاج" الذي مضارعه: "يَعِيج " ملازم للنفي في أغلب أحواله، لا يفارقه إلا نادرًا، والفعل: "حضر" في هذا التركيب وأشباهه مسبوق بالنفي، ويستعمل بغير النفي كثيرًا، وكذلك أفعال أخرى متعددة.
__________
1 تقدم بيانها، وحكمها، وتحقيق هام خاص بها "في ج2 ص102 م67 باب: النائب عن الفاعل" ومن هذا التحقيق الخاص يتبين خطأ القول بوجود أفعال ملازمة للبناء المجهول دائمًا "بعدها مرفوعها فاعل بها؛ كما يزعمون"، وأن الأفعال المعروفة ببنائها للمجهول دائمًا ليست إلا كغيرها من سائر الأفعال الأخرى؛ تبنى حينًا للمعلوم، وحينًا للمجهول، على حسب مقتضيات المعنى، ودواعي الاستعمال الصحيح. أما قصر عدد معين من الأفعال على البناء المجهول دائمًا دون استعماله للمعلوم فغلط شائع. وبناء على هذا التحقيق الهام والتصحيح المفيد يجوز أن يصاغ من مصادر تلك الأفعال مباشرة من غير وسيط. "صيغتا التعجب" القياسي، وأن يصاغ من مصدرها مباشرة: "أفعل التفضيل". وفوق هذا يؤيد فريق من النحاة -ومنهم ابن مالك- صياغة التعجب من مصدر تلك الأفعال بفرض أنها ملازمة البناء للمجهول. أما الأفعال الأخرى التي ليس ملازمة للمجهول فلا يصح التعجب المباشر منها -اتفاقًا- إذا كانت مبنية للمجهول عند الصياغة للتعجب بناء عارضًا، لا ملازمًا في رأي من يقول بهذه الملازمة التي قرر المحققون خطأها.
2 وهذا رأي المجمع اللغوي أيضًا -ما جاء في ص121 من كتابه المجمعي الذي أصدره سنة 1969 باسم: "كتاب في أصول اللغة".(3/350)
8- ألا تكون الصفة المشبهة1 منه على وزن: "افعل" الذي مؤنثه: "فعلاء"، نحو "عرج، فهو: أعرج، وهي: عرجاء". "خضر، فهو: أخضر، والحديقة خضراء". "حمر الجلد؛ فهو: أحمر، والوردة حمراء". "حور فهو: أحور، وهي: حوراء" ... وهكذا من كل صفة مشبهة تدل على لون، أو عيب، أو حِلية، أو شيء فطري2 ...
__________
1 سبق الكلام عليها وعلى أوزانها في ص381 م104.
2 لا ترتاح النفس للتعليلات التي ذكروها لمنع الصياغة من هذا القسم بأنواعه المختلفة، التي لا ينطبق عليها الشرط الثامن، ولا سيما التعليل بخوف اللبس بين صيغتي: "أَفْعَلَ" التي تستعمل أحداهما في التعجب، والأخرى في الصفة المشبهة فإن هذا اللبس وَهْم لا يتحقق؛ إذ كيف يتحقق وإحداهما فِعْل، والأخرى اسم، ولكل منهما أحكام تغاير الأخرى. فالقرائن قوية تمنعه. ولا علة إلا علة الاستعمال العربي المجرد. وهو -فيما يبدو لنا- لا يمنع من صياغة التعجب من تلك الأشياء، وكذا "التفضيل" كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص398؛ وذلك لسببين:
أولهما: ورود السماع بقدر من تلك الأشياء يكفي للقياس عليه.
وثانيهما: شدة الحاجة إلى التعجب منها في عصرنا؛ بسبب ما كشفه العلم الحديث من التفاوت الواسع في معنى كل منها، والاختلاف البعيد بين أنواعه ودرجاته وليس من الممكن إغفال هذا التفاوت والاختلاف في استعمالاتنا التى تساير الحياة. ومثل هذا يقال في صوغ "التفضيل" من الأفعال الدالة على تلك المعاني، وبالرغم من أن للنحاة ما يشبه العذر في بعض أنواع "التفضيل"، ولكنه عذر يمكن دفعه -كما سيجيء البيان المفيد في رقم 1 من هامش ص398.
ويصرح بعض أئمة الكوفيين: كالكسائي، وهشام الضرير وغيرهما، برأي حسن يوافق ما سبق؛ هو صحة مجيء التعجب مما يدل على الألوان والعاهات، ووافقهم الأخفش من البصريين في العاهات، دون الألوان. وبرأي الكوفيين أخذ المجمع اللغوي -كما جاء في ص121 من كتابه السالف.
وفي الشروط السابقة يقول ابن مالك "ساردًا سبعة، أما الثامن وهو: "الفعل الماضي" فمفهوم من السياق":
وَصْغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلاثٍ، صُرِّفَا ... قَابِلَ فَضْلِ، تَمَّ، غيْرِ ذِي انْتِفَا
وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يضاهي أَشْهَلا ... وَغَيْرِ سَالكٍ سَبِيلَ فُعِلا
يريد: صغهما من صاحب الحروف الثلاثة "وهو الماضي الثلاثي"، المتصرف، القابل للتفاوت، التام، غير المنفي، والذي صفته المشبهة ليست مثل: "أشهل" "شَهِل الرجل، فهو: أشهل، الأنثى شَهْلاء، أي: قلّ سواد عينه، وخالطتها حمرة"، وغير مبني على صيغة: "فُعِل"؛ وهي صيغة بناء الماضي الثلاثي للمجهول، فهذه سبعة شروط لم يذكر بينها أنهما يصاغان من فعل، لا من اسم ولا من حرف؛ لأن هذا الذي تركه مفهوم مما سرده، كما قلنا.(3/351)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
زاد بعض النحاة شرطا آخر خالف به الأكثرين؛ هو: ألا يُستغنَى عن الصياغة منه بصيغة أخرى مسموعة؛ فلا يصح: ما أقْيله!! في التعجب من قيلولته1؛ لأنهم استغنوا عنها بقولهم: ما أكثر قائلته. ولا يصح ما أسكره، ولا ما أقعده، ولا ما أجلسه؛ لأنهم استغنوا عنها بقولهم: ما أشدَّ مكره. ما أكثر قعوده. ما أحسن جلوسه.
والحق أن هذا شرط غير مقبول2؛ إذ يقتضينا أن نرهق أنفسنا بالبحث المضني في جميع المظان لمعرفة ما استغنوا به عن الصيغة القياسية؛ وهذا تكليف لا يطاق، ولا يمكن تحقيقه، وفيه تعويق للتعبير، وتعطيل للقاعدة، وتحويل للقياس عن معناه السديد.
__________
1 وهي وقت اشتداد الحر ظهرًا. والفعل الماضي: قال.
2 ولم يأخذ المجمع اللغوي بهذا الشرط.(3/352)
كيفية التعجب إذا كان الفعل غير مُسْتَوْفٍ للشروط الثمانية:
1- إن كان الفعل جامدًا؛ مثل: نعم، وبئس ... أو غير قابل للتفاوت؛ مثل: مات. فني ... و ... فلا يصاغ منه صيغة تعجب.
2- إن كان الفعل زائدًا على ثلاثة "مثل: انتصرَ وتَغَلَّب" أو: كان الوصف منه على "أفْعَل فَعْلاء" "مثل: حور وخضر" لم تجئ منه الصيغة مباشرة. وإنما تجيء من فعل آخر مستوفٍ للشروط؛ صالح لما نريده؛ "نحو: قوي، ضَعُفَ، حَسُن، قَبُح، عظُمَ، حَقَر ... " فنقول: "ما أقوى، ما أضعف، ما أحسن، ما أقبح، ما أعظم، ما أحقر، ما أشد، ما أكبر، ما أصغر" ... ونحو ذلك مما يناسب؛ أو نقول: "أقْوِ، أضعف، أحْسِنْ، أقْبِحْ، أعظِمْ، أحْقِرْ ... ".
ثم نجيء بعد هذه الصيغة بمصدر الفعل الذي لم يستوفِ الشروط بسبب زيادته على ثلاثة أحرف، أو بسبب أن الوصف منه على: "أفعل فعلاء"، ونضعه بعد صياغة الفعل الجديد المناسب، المستوفي. وننصب هذا المصدر بعد "ما أفعل" ونجره بالباء بعد "أفعل": نحو: ما أقوى انتصار الحق! وما أضعف تغلب الباطل! أقو بانتصار الحق! وأضعف بتغلب الباطل! ... ونحو: ما أَجْمَلَ حَوَر العيون! أجمل بحور العيون! ما أنضر خضرة الزرع! أنضر بخضرة الزرع! والأفعال غير المستوفية هي: "انتصر، تغلب، حور، خضر". أما الأفعال التي تخيرناها للصياغة مكانها فهي: "قوي، ضعف، جمل، نضر ... ".
3- إن كان الفعل منفيًّا أخذنا الصيغة من الفعل المناسب الذي نختاره بالطريقة السالفة، ووضعنا بعدها مضارع الفعل المنفي مسبوقًا "بأن" المصدرية، والنفي: ففي نحو: ما فاز الرأي الضعيف!. نقول: ما أجمل ألا يفوز الرأي الضعيف1!. وفي نحو: ما حضر خطيب الحفل، نقول مثلًا: ما أقبح ألا
__________
1 كان الفعل ماضيًا منفيًا قبل التعجب، فصار بعده مضارعًا، مسبوقًا "بأن المصدرية"؛ وهي تخلصه للاستقبال. فهل بين الصورتين اختلاف في الزمن؟ أجابوا: إن الصيغة مع التعجب صارت خالصة لإنشاء التعجب المحض إنشاء غير طلبي، وتركت الدلالة على الزمان: كالشأن الغالب في التعجب عند عدم وجود ما يدل على تقييد زمني مقصود.
"وقد أشرنا لهذا في هامش ص342، ويجيء إيضاح لها في رقم 4 من هامش ص361 وفي هذا الهامش صورة مستثناة لا تتجرد من الزمن".(3/353)
يحضر خطيب الحفل. والمصدر المؤول من "أن والفعل" في هذه الأمثلة وأشباهها في موضع نصب مفعول به.
وإنما أتينا "بأن والفعل"؛ لنستطيع المحافظة على بقاء الفعل الأصلي منفيًا؛ إذ لو أخذنا منه صيغة التعجب مباشرة لزال نفيه، ولم يظهر الشأن في التعجب أهو منفي أم غير منفي?
ويجوز أن نقول في الصور السابقة: أجْمِلْ بألا يفوز الرأي الضعيف! أقْبِح بألا يحضر خطيب الحفل! فيكون المصدر المؤول مجرورًا بالباء. فالمصدر المؤول من: "أن والفعل" المنفي وفاعله إما أن يكون في محل نصب بعد: "ما أفعل" وإما أن يكون في محل جر بالباء بعد: "أفعل".
ويجوز في الفعل المنفي أن نجيء بمصدره الصريح -بدلًا من المصدر المؤول- مسبوقًا بكلمة: "عدم" الصريحة في معنى النفي "أو بما يشبهها" ومجرورًا بالإضافة إليها؛ ففي مثل: ما صرخ المتكلم وما هسَّ، نقول: ما أحسن عدم صراخ المتكلم، وما أجمل عدم همسه. أحسن بعدم صراخ المتكلم!، وأجمل بعدم همسه!.
4- إن كان الفعل مبنيًّا للمجهول بناء عارضًا يطرأ ويزول أخذنا الصيغة من الفعل الذي نختاره بالطريقة التي شرحناها، ووضعنا بعدها الفعل المبني للمجهول، مسبوقا بـ"ما المصدرية"1، ففي نحو: عُرف الحق، وهُدي إليه الضالّ: نقول: ما أحسَنَ ما عُرف الحق! وما أنفع ما هُدي إليه الضال. أو: أحسِن بما عرف الحق!، وأنفع بما هدي إليه الضال؛ فالمصدر المؤول من "ما" وصلتها مفعول به بعد الصيغة الأولى، ومجرور بالباء بعد الصيغة الثانية.
__________
1 وهي الغالبة في هذا الموضوع دون غيرها.(3/354)
وإنما أتينا "بما" المصدرية محافظة على بقاء الفعل مبنيًّا للمجهول، ولولاها لزال بناؤه للمجهول فلا يتبين أسلوب التعجب أللمجهول هو أم للمعلوم؟
أما الفعل الملازم للبناء للمجهول سماعًا عند من يقول بهذه الملازمة1 فقد سبق2 أن الأنسب الأخذ بالرأي الذي يجيز الصياغة من مصدره مباشرة.
5- وإن كان الفعل ناسخًا، "أي: غير تام" فإن كان له مصدر وجب أن نضع مصدره بعد صيغة التعجب التي نأخذها من الفعل الآخر الذي نختاره على الوجه المشروح فيما سلف، ففي مثل: كان العربي رحالًا بطبعه، نقول: ما أكثر كون العربي رحالًا بطبعه! -أو: أكثر بكون العربي رحالًا بطبعه! ... وإن لم يكن له مصدر أخذنا الصيغة من الفعل الآخر الذي نختاره ووضعنا بعدها الفعل الأصلي الذي ليس له مصدر، وقبله "ما" المصدرية فينشأ منها ومن الفعل والفاعل بعدها مصدر مؤول هو مفعول به منصوب بعد: "ما أفتل" ومجرور "الباء" بعد: "أفعل". ففي مثل: كاد الكذب يهلك صاحبه، نقول: ما أسرع ما كاد الكذب يهلك صاحبه ... وهكذا ...
هذه هي الطرائق الموصلة للتعجب إذا كان الفعل غير مستوفٍ للشروط. أما إذا كان مستوفيًا للشروط كلها فإن الصيغتين القياسيتين3 تؤخذان منه مباشرة. ولا مانع من التعجب منه بالطريق غير المباشر أيضا؛ وذلك بالإتيان بفعل آخر مناسب. "نحو: حَسُن، قبُح، قوي، وغيرها من الأفعال الثلاثية التي تناسب المراد"، ثم نأخذ منه الصيغة التعجبية، ونجعل بعدها مصدر الفعل المستوفي للشروط، إما منصوبًا بعد "ما أفعل" وإما مجرورًا بالباء بعد "أفعل" ففي مثل: برع الذكي، وسبق أنداده، نقول: ما أعظم براعة الذكي!، وما أوضح سبقه أنداده! أو: أعظم ببراعة الذكي! وأوضح بسبقه أنداده ... فليس من اللازم -والفعل مستوفٍ للشروط- أن نأخذ
__________
1 انظر تخطئة هذا الرأي في رقم 1 من هامش ص350.
2 في ص350.
3 وهناك الصيغ المشار إليها في "ج" من ص347.(3/355)
منه صيغة التعجب مباشرة، وإنما يجوز أن نأخذها منه أو من طريق فعل مختار آخر كما أوضحنا1 ...
__________
1 وفي طريقة التعجب إذا كان الفعل غير مستوفٍ للشروط يقول ابن مالك:
وَأَشْدِدَ اوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهُهُمَا ... يَخْلُفُ مَا -بَعْضَ الشُروط- عَدِمَا
يريد: أن صيغة: "أشدِد" "على وزن: أفعِل" وصيغة "أشد" على وزن: "أفعل"؛ لأن أصلها قبل الإدغام: "أشدد" أو شبه هاتين الصيغتين مما يؤخذ من فعل آخر مستوفٍ للشروط، تخلف الصيغة التي لا يمكن صوغها مباشرة من الفعل الذي عدم بعض الشروط، أي: فقَدَ بعض الشروط فهي تحل محلها. "وكلمة: "أو" في البيت: حذفت همزتها ونقلت حركتها الواو الساكنة قبلها؛ محافظة على وزن الشعر".
ثم بيَّن أن مصدر الفعل العادم للشروط ينصب بعد الصيغة الجديدة التي جئنا بها إن كانت على وزن: "أفعل"، ويجر هذا المصدر بالياء إن كانت على وزن: "أفعل" يقول:
وَمَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ، يَنْتَصِبْ ... وَبَعْدَ: "أَفْعِلْ" جَرُّه بـ"الْبَا" يَجِبْ
"بعد" أي: بعد الصيغة الجديدة ... ثم قرر أن ما جاء مخالفًا لما سبق فهو محكوم عليه بالندور "القلة القليلة جدًّا"، وأنه لا يقاس على المأثور منه "أي: المسموع منه عن العرب":
وَبالنُّدُورِ احْكمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ ... وَلا تَقِسُ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ(3/356)
المسألة 109:
الأحكام الخاصة بالتعجب
أشهر أحكامه ما يأتي:
1- وجوب اعتبار فعليه جامدين بعد صياغتهما للتعجب1. "مع أنهما في أصلهما الثلاثي قبل التعجب مشتقان حتمًا" ولهذا لا يجوز أن يتقدم عليهما "المتعجب منه"2، فلا يصح: العلم ما أنفع!! والجهالة ما أضر!! بتقديم المعمولين: "العلم والجهالة". كما لا يصح: بالعلم أنفِع!! وبالجهالة أضرِرْ!!
ولا يصح أن تلحقهما علامة تذكير، أو تأنيث، أو إفراد، أو تثنية، أو جمع؛ فلا بد من بقائهما على صيغتهما في كل الأحوال من غير زيادة ولا نقص، ولا تغيير في ضبط الحروف. ولكن إذا اتصل بآخرهما ضمير بارز يعود على المتعجب منه وجب أن يكون هذا الضمير مطابقًا لمرجعه، نحو: الزارع ما أنفعه!، والزارعة ما أنفعها! والجنديان ما أشجعهما! والوالدات ما أشفقهن! و ... و ...
2- وجوب إفراد فاعلهما المستتر3، وتذكيره، فلا يكون لغير المفرد المذكر، وإذا كان ضميرًا مستترًا فهو واجب الاستتار.
3- امتناع الفصل بين فعل التعجب ومعموله إلا بشبه الجملة، أو
__________
1 كما سبق في ص342، 346، 349، وفي عدم تصرفهما يقول ابن مالك:
وفي كلا الفعلين قِدْمًا لَزِما ... منْعُ تصرُّف بحُكِمٍ حُتِما
وقد سبقت الإشارة لهذا البيت بمناسبة أخرى في ص346.
2 لأن الجامد لا يتقدم عليه معموله، في الأغلب -كما سيجيء البيان في رقم 2 من هامش ص400.
3 أما غير المستتر فلا يسري عليه هذا الحكم كالذي في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} . وقد سبق إعراب هذه الآية في ص344، وستذكر لمناسبة أخرى في ص360، وفي رقم 4 من هامش ص361.(3/357)
بالنداء؛ أو "كان" الزائدة بالإيضاح الآتي بعد1. فلا يجوز: "ما أضيع -حقًا- المودة عند من لا وفاء له، وما أبعَد -يقينًا- المجاملة ممن لاحياء عنده". ويجوز: "ما أضيع -في بلادنا- المودة عند من لا وفاء له! وما أبعد -بيننا- المجاملة ممن لا حياء له! ". كما يجوز: السماحة تدفع إلى أداء الحقوق، والشح يصد عنها؛ فأكرم -يا أخي- بها! وأقبِحْ يا زميلي به! " ... ومن أمثلتهم في الفصل بالجار والمجرور قولهم: "ما أهون على النائم القرير سهر المسهَّد المكروب ... "2 وقول الشاعر:
بني تغلب، أَعْزِزْ عَليَّ بأن أرى ... دياركمو أمست وليس بها أَهْلُ
وبالظرف قول الشاعر:
أقيمُ بدارِ الحزمِ ما دام حزمُها ... وَأَحْرِ -إِذا حالتْ- بأن أَتَحَوَّلا
ويشترط في شبه الجملة الذي يجوز الفصل به أن يكون متعلقًا بفعل التعجب3 -كالأمثلة السالفة- فلو كان متعلقًا بمعمول فعل التعجب أو بغير فعل التعجب. لم يصح الفصل به -ففي مثل: "ما أحسنَّ الحليم عند دواعي الغضب!. وما أشجع الصابر على الكفاح! " لا يجوز: "ما أحسنَ عند دواعي الغضب الحليم، ولا: ما أشجع على الكفاح الصابر"؛ لأن الظرف متعلق بكلمة: "الحليم"، والجار والمجرور متعلقان بكلمة: "الصابر".
وقد يجب الفصل بالجار ومجروره المتعلقين بفعل التعجب إذا كان معمول فعل التعجب مشتملًا على ضمير يعود على المجرور، نحو: ما أليقَ بالطبيب أن يترفق!، وما أحق بالمريض أن يصبر! ... فالمصدر المؤول من "أنْ والفعل" هو معمول لفعل التعجب، ومشتمل على ضمير يعود على المجرور ... 4 ومنه قول الشاعر:
__________
1 في الحكم الثامن؛ ص361.
2 سبق هذا المثل في آخر رقم 2 من هامش ص286.
3 قد يتعدى فعل التعجب إلى مفعوله بحرف جر معين تبعًا لفعله الأصلي قبل التعجب. وسيأتي بيان هذا في الزيادة ص363.
4 في الحكمين السابقين يقول ابن مالك باختصار في ختام الباب: =(3/358)
خَليلَيَّ ما أَحْرَى بذي اللُّبُ أنْ يُرى ... صَبورًا، ولكنْ لا سبيلَ إلى الصبْرِ
4- عدم جواز العطف مطْلقًا. على فاعل "أفْعَلَ" في التعجب وكذلك لا يجوز اتباعه، فالتوابع كلها ممنوعة إذا كان هو المتبوع وحده. أما إن كان المتبوع هو الجملة التعجبية كلها "فعلها وفاعلها" فلا يمتنع؛ فيصح عطف جملة جديدة على الجملة التعجبية؛ كقول الشاعر:
أولئك قومي بارك الله فيهمُو ... على كل حال ما أَعفَّ وأَكْرَما ...
فقد عطفت الجملة الثانية "المكونة من الفعل الماضي: "أكرم" وفاعله" على الجملة التعجبية التي تسبقها "والتي تتكون من الماضي "أعفَّ" وفاعله". وكما يجوز الاتباع بالعطف بجملة يجوز الاتباع بالتوكيد اللفظي بجملة تؤكد الجملة التعجبية كلها توكيدًا لفظيًا. ويجوز الإبدال منها كذلك "بدل جملة من جملة". أما الاتباع بالنعت فلا يصح؛ لأن المتبوع "وهو: المنعوت" لا يكون جملة.
5- وجوب أن يكون المعمول "أي: المتعجَّب منه" معرفة، أو نكرة مختصة، فمثال المعرفة ما تقدم من الأمثلة الكثيرة، وقول الشاعر:
ما أصعبَ الفعلَ لمن رامَه! ... وأَسهلَ القَوْلَ على من أَرَاد!
ومثال النكرة المختصة بوصف أو إضافة أو غيرهما مما يفيد الاختصاص: ما أسعد رجلًا عرف طريق الهدى فسار فيه! وما أشقى إنسانًا تبين الرشد من الغي، فانصرف عن الرشد، واتبع الضلال!
__________
=
وفِعْلُ هَذَا البَابِ لَنْ يُقَدَّمَا ... مُعْمُولُهُ، وَوَصْلَهُ به الْزَمَا
أي: معمل الفعل في هذا الباب لا يتقدم على فعله. والزم وصل المعمول بفعله، بحيث لا يفصل بينهما فاصل إلا ما أشار إليه في البيت الأخير التالي:
وَفصْلُهُ بظَرْفٍ اوْ بِحًرْفِ جَرْ ... مُسْتَعْمَلٌ، والْخُلْفُ فِي ذَاكَ اسْتَقَرْ
أي: أن الفصل بشبه الجملة مستعمل في الكلام المأثور، والخلاف بين النحاة ثابت في أمر القياس عليه. ولكن الرأي الرشيد جواز القياس عليه. وكذا الفصل بالنداء فيه خلاف، والصواب جوازه. وهل يجوز الفصل بالظرف ومعه الجار والمجرور؟ في هذا خلاف: والأرجح المنع.(3/359)
ولولا هذا الشرط لكان التعجب لغوًا؛ إذ لا فائدة من قولنا: ما أسعد رجلًا ... ما أشقى إنسانًا ... ويتساوى في هذا الحكم معمول "أفْعَلَ وأفْعِلْ".
6- جواز حذف المعمول المتعجب1 منه في إحدى حالتين؛ "سواء أكان منصوبًا بأفْعَلَ، أم مجرورا بالباء بعد أفْعِلْ".
أولاهما: أن يكون ضميرًا يدل عليه دليل بعد الحذف؛ كقول الشاعر:
جزى اللَّهُ عني -والجزاء بفضله- ... ربيعةَ، خيرًا. ما أَعَفَّ! وأَكْرَمَا!
أي: ما أعَفَّها وأكرَمها. وقول الآخر:
أرى أمَ عمْرو دَمْعُها قَدْ تَحَدَّرَا ... بكاءً على عَمُرٍو. وما كان أصبرا!
أي: أصبرها.
ثانيتهما: أن تكون صيغة التعجب هي: "أفْعِلْ" وقد حذف معمولها المجرور وحذف معه حرف الجر، وقبلها صيغة للتعجب على وزن: "أفْعِلْ" أيضًا، ولهذه الصيغة الأولى معمول مذكور، مماثل للمعمول المحذوف مع حرف الجر ... وقد عطفت الصيغة الثانية مع فاعلها على الأولى مع فاعلها: عطف جملة على جملة2؛ كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} 3، أي: وأَبصِرْ بهم. ونحو: أحسِنْ بصاحب المروءة وأكرِمْ!؛ أي: وأكرِم بصاحب المروءة، وقول الشاعر:
أَعْزِزْ بنَا!، وأَكْفِ! إِنْ دُعينا ... يَوْمًا إلى نَصْرِةَ مَنْ يَلينَا4
__________
1 سبقت الإشارة في "ب" من ص347 إلى ما يتردد في هذا الباب من قولهم: "المتعجَّب منه"، وأنهم يريدون: المعمول الذي له صلة بالأمر الذي يدعو للتعجب.
2 لم يشترط بعض النحاة شيئا من هذا كله، واكتفى باشتراط وجود قرينة تدل على المحذوف، وقالوا هذا الرأي أحسن وأوجه.
2 سبق هذا المثال لمناسبة أخرى في ص344، وفي رقم 3 من هامش ص357.
3 وإلى هذا أشار ابن مالك ببيت سبق شرحه في ص346، هو:
وحذْفَ ما مِنْه تَعجَّبْتَ اسْتَبحْ ... إِنْ كَانَ عِنْد الحذفِ معناه يَضِحْ(3/360)
7- تجرد فعل التعجب -في الأغلب1- من الدلالة على زمن؛ لأن الجملة التعجبية كلها إنشائية محضةُ، الغرض منها إنشاء التعجب، فتركت الدلالة الزمنية، وانسلخت منها، واقتصرت على تحقيق الغرض الذي أُنشئت من أجله، وهو "الإنشاء غير الطلبي"، المقصود منه إعلان التعجب، كما أسلفنا2.
8- جواز الفصل بين "ما" التعجبية وفعل التعجب بـ"كان" الزائدة3 كقول الشاعر يحن إلى أهله ورفاقه:
ما كان أَجملَ عهدَهم وفعالهَم! ... من لي بعهدٍ في الهناءِ تصَرّما؟
وقول الآخر:
ما كان أَحوجَ ذا الجمالَ إِلى ... عَيْب يُوَقِّيهِ من الْعَينِ
وقد تقع "كان" التامة المسبوقة بما المصدرية بعد صيغة التعجب؛ نحو: ما أحسن ما كان الإنصاف4.
__________
1 قلنا: "في الأغلب" لوجود حالة قد يدل فيها على الزمن هي المشار إليها في رقم 3 من هامش ص342 ...
2 انظر رقم 3 من هامش ص342 حيث الحالة التي يدل فيها على الزمن. وهامش ص353، ورقم الآتي هنا.
3 سبق تفصيل الكلام على زيادتها، وما يستتبعه من أحكام في ج1 ص418" م44، وفي هامش ص39 منه.
4 "ما" مصدرية، "كان" فعل ماضٍ تام، بمعنى: وُجد وظهر، الإنصاف" فاعلها. والمصدر المؤول مفعول فعل التعجب. والتقدير: ما أحسن وجود الإنصاف في الماضي. فإن قصد الاستقبال جيء، بالفعل التام: "يكون" بدلًا من الفعل: "كان ". ووجود الفعل الماضي "كان". والمضارع: "يكون" يقيد التعجب بزمن معين، وهذا -وإن كان قليلًا جائز؛ فمن الجائز تقييد فعل التعجب بزمن ماضٍ والمجيء بالفعل "كان"، أو: "أمسى" للنص على هذا التقييد بالمضي، وبكلمة: "الآن" أو ما بمعناها للنصّ على التقييد بالزمن الحالي، وبالفعل "يكون" ونحوه. كالظروف المستقبلة للدلالة على الاستقبال، ومنه قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} والمهم وجود قرينة تدل على التقييد المقصود. وبغير التقييد تتجرد الجملة التعجبية من الدلالة الزمنية "كما رددنا في هامش ص342، 349، 353 و ...
- "راجع الأشموني والصبان آخر هذا الباب".
وقد تقع "كان" بلفظ الماضي زائدة بين "ما" التعجبية وفعل التعجب. والأحسن في هذه الصورة أن تكون مهملة لا عمل لها مطلقًا، ولا فائدة منها إلا الدلالة على أن زمن التعجب ماضٍ "طبقًا للبيان والتفصيل السابقين في ج1 م44 "زيادة كان" وكذلك م4 عند الكلام بل الأفعال.(3/361)
9- جواز حذف الباء الداخلة على معمول "أَفْعِلْ" بشرط أن يكون ما تجره مصدرًا مؤولًا من "أن المصدرية". و"الفعل"، أو "أن" مع معموليها1، نحو: أحببْ أن تكون المقدَّم، وقول الشاعر:
أَهْوِنْ عليَّ إِذا امتلأَتَ من الكَرَى ... أَنِّي أبيتُ بليلةِ الملسوع
والأصل: بأن تكون ... وبأني ...
__________
1 يرى بعض النحاة "كما أشرنا في رقم 3 من هامش ص344، وكما سبق في ج2 ص135 م71" أن حذف "الباء" ممنوع هنا قبل المصدر المؤول من "أنَّ" ومعموليها؛ بحجة أنه غير مسموع بخلاف حذفها قبل المصدر المؤول من "أنَّ والفعل والفاعل" فهو مسموع إلى الحد الذي يبيح القياس عليه. وهذا رأي رفضه آخرون -ورأيهم حق- لأن حذف حرف الجر مطَّرد قبل: "أنْ وأنَّ" المصدريتين؛ فلا معنى لإخراج "أنَّ" هنا، وبخاصة مع وجود أمثلة مسموعة، ولو قليلة؛ لأن قلتها في موضع بعينه لا تقدح في الاطِّراد المستمد من أغلب الحالات.
لكن إذا حذفت "باء الجر" أتلاحظ وتقدر بعد الحذف، فيعرف ما بعدها على اعتبارها كالمذكورة، أم لا تلاحظ ولا تقدر؛ فيعرب ما بعدها على اعتبار عدم وجودها وعدم ملاحظتها؟ قولان. ولعل الأول هو الأنسب؛ لمسايرته الحالات الأخرى التي ليست للتعجب، فيكون الأمر مطردًا في التعجب وغيره.
ومن الضرورات الشعرية المستقبحة التي لا يرتضيها كثير من النحاة -حذف "باء الجر" من المتعجب منه إذا لم يقع بعدها "أنّ"، أو "أنْ" وإذا حذفت -مع الاستقباح- فما حكم الاسم الظاهر بعدها؟ قيل: يرفع؛ لأنه في الأصل بمنزلة الفاعل، وقيل: ينصب؛ لأنه بمنزلة المفعول به.(3/362)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- عرفنا1 أن صيغة: "أفْعَلَ" تحتاج إلى معمول بعدها منصوب، يعرب مفعولًا به، وأن صيغة: "أَفْعِلْ" تحتاج إلى معمول بعدها مجرور بالباء، وأنهما يحتاجان -أحيانًا- إلى شبه جملة بعدهما، وقد يفصل شبه الجملة بينهما وبين معمولهما ... و....
وقد تحتاج صيغة التعجب إلى معمولات أخرى غير التي سبقت؟ كالحال والتمييز، والاستثناء ...
وقد تحتاج إلى معمول مجرور بحرف جر معين2؛ مجاراة لفعلها الأصلي قبل التعجب؛ ويصير الجار والمجرور متعلقين بها. "أي: بصيغة فِعْل التعجب"3. ولكن ما هو هذا الحرف المعين من حروف الجر؟ 4.
إن كان فعل التعجب دالًّا على حب، أو كره، أو ما بمعناهما؛ -كالود، والبغض- فحرف الجر المناسب: هو: "إلى" بشرط أن يكون ما بعد "إلى" فاعلًا في المعنى لا في اللفظ" وما قبلها مفعولًا في المعنى لا في اللفظ؛ نحو: ما أحبَّ العلم إلى النابغين، وما أبغض النقص إلى القادرين!!. ففعل التعجب: "أحبّ" قد نصب مفعوله. واحتاج إلى جارٍّ ومجرور تبعًا لأصله، فجيء بهما. وحرف الجر هو: "إلى" لأن فعل التعجب دالٍّ على "الحب"، وما بعد "إلى" مجرور بها. لكنه فاعل معنوي، لا نحوي؛ لأنّ النابغين
__________
1 في ص341.
2 كما أشرنا في رقم 3 من هامش ص358.
3 إذا كان المفعول به لصيغة الماضي "أفعل" ضميرًا بعده تمييز؟ فما نوع هذا التمييز؟ أتمييز مفرد أم تمييز جملة؟ وكذلك ما نوع التمييز بعد الضمير المجرور بالباء في صيغة: "أَفِعِلْ به"؟
الإجابة في: "باب التمييز" -ج2 م88 ص343.
4 انظر أمن ص432؛ حيث الكلام على تعدية "أفعل التفضيل" بحرف الجر، فيتبين التشابه والتخالف بين التعجب والتفضيل" في هذه التعدية.(3/363)