لكن يجوز إبعاده عن الجرّ إلى الرفع أوالنصب بشروط1، وعندئذ لا يسمى ولا يعرب فى حالته الجديدة "نعتاً" وقد يسمى: "نعتا مقطوعا أو منقطعا"2 -. وإنما يكون فى حالة الرفع خبراً لمبتدأ محذوف وجوباً تقديره: هو- مثلا - فيكون المراد: ذهبت إلى الصديق؛ "هوالأديبُ" ابتعدت عن الرجل؛ "هوالسفيهُ. ترفق بالضعيف "هوالبائسُ".
ويكون فى حالة النصب مفعولا به لفعل محذوف وجوباً مع فاعله، تقديره: "أمدحُ"، أو: "أذم"، أو: "ارحمُ"، على حسب معنى الجملة. والفاعل فى هذه الأمثلة ضمير مستتر وجوباً تقديره: أنا. فالمراد: أمدحُ الأديبَ ... أذم السفيهَ ... أرحمُ البائسَ. ولا يصح إعراب كلمة منها ولا تسميتها نعتا بعد أن تركت الجر إلى الرفع أو النصب. ولكن يصح تسميتها نعتا مقطوعا أو منقطعا - كما سبق - 5
ومن الأمثلة: أصغيت إلى الغناء الشجىِّ3، فزعت من رؤية القاتل الفتاك، أشفقت على الطفل اليتيم. فكلمة "الشجىّ" نعت مفرد مجرور؛ تبعاً للمنعوت. وتفيد المدح. وكلمة: "الفتاك" نعت مفرد مجرور؛ تبعاً للمنعوت وتفيد الذم. وكذلك: "اليتيم"، إلا أنها تفيد الترحم. فتلك الكلمات الثلاث وأشباهها - من كل نعت مفرد مجرور يفيد المدح، أوالذم، أوالترحم - قد يجوز إبعادها عن الجر، إلى الرفع أو: النصب؛ فلا تعرب نعتاً مفرداً مجروراً؛ وإنما تعرب فى حالة الرفع خبراً لمبتدأ محذوف وجوباً تقديره: "هو" ويكون المراد: "هوالشجُى". "هوالتفاكُ". "هواليتيمُ" كما تعرب فى حالة النصب مفعولاً به لفعل محذوف وجوباً مع فاعله، تقديره: أمدح ... أو: أذم ... أو: أرحم ... ، على حسب الجلمة؛ فالمراد: أمدحُ الشجىَّ ... أذمُّ الفتاك ... أرحمُ اليتيم4. وبعد إبعادها عن الجر قد تسمى "نعتا مقطوعا، أو منقطعا".
__________
1 ستجيء مفصلة في موضعها الأنسب، وهو: باب النعت، جـ3 ص 471 م 115.
2 قد يسمى نعتا مقطوعا، أو: منقطعا، بمعنى: أنه منقطع عن أصله وتارك لاسمه الأول وحكمه السابق- انظر ما يأتي في رقم 4 من الهامش.
3 الذي يسير ويفرح.
4 قلنا: إن تلك الكلمات وأشباهها لا تعرب نعتا إلا حين تكون تابعة للمنعوت في حركة إعرابه. أما حين تخالفه إلى الرفع أو النصب فلا تكون نعتا، لأن صلتها الإعرابية به تنقطع لدخولها في جملة جديدة مستأنفة- في الرأي الشائع- ولا صلة بينها وبين الجملة السابقة من ناحية الإعراب فكلتاهما مستقلة بنفسها في الرأي الشائع - ولا صلة بينها وبين الجملة السابقة من ناحية الإعراب فكلتاهما مستقلة بنفسها فيه بناء على الرأي المتقدم، نعم إن تلك الكلمة التي كانت في الأصل: "نعتا" قدتسمى: "النعت المقطوع" أو: "المنقطع"، ولكن تسميتها هذه بالنعت لم يلاحظ فيها حالتها الجديدة، وإنما لوحظ فيها حالتها القديمة التي تركتها، فهي تسمية "مجازية" باعتبار ما كان، لا باعتبار ما هو متحقق بعد القطع. أما الوصف بالمقطوع، أو: بالمنقطع ... فملاحظ فيه أنها صارت في حالتها =(1/511)
وإذا كان النعت مرفوعاً فى الأصل جاز قطعه إلى النصب، واذا كان منصوبا جاز قطعه إلى الرَّفع وإذا كان مجرور جاز قطعه للرفع أوالنصب، والذى يتصل بموضوعنا هو: النعت المقطوع إلى الرفع حيث يعرب بعد القطع خبراً لمبتدأ محذوف وجوباً ولا يجب الحذف إلا بشرط أن يكون أصل النعت للمدح، أوالذم، أوالترحم، دون غيرها - كما سبق-.
2- المخصوص بالمدح أوالذم.
وبيانه: أن فى اللغة أساليبَ للمدح، وأخرى للذم، وكلاهما يؤلَّف بطريقة
__________
= الجديدة، وإعرابها المستحدث مقطوعة عن إعرابها السابق، وعن حركتها الأولى. لأن جملتها الجديدة مستأنفة لا محل لها من الإعراب- كما أسلفنا_، فليس بين الجملتين صلة إعرابية، بالرغم من أن الغرض من الجملة الجديدة هو: إنشاء المدح، أو الذم، أوالترحم ... وهذه أغراض كان يدل عليها النعت قبل قطعه ...
أما السبب في تحويلها من نعت مفرد، في جملة إلى خبر مرفوع أو إلى مفعول به، وكلاهما في جملة جديدة مستقلة بنفسها، لا صلة في الإعراب بينها وبين سابقتها.... فسبب بلاغي، ذلك أنهم حين يرون أهمية الغرض من هذه الكلمة، وجلال معناها وأن هذا المعنى جدير بالتنويه، وتوجيه الأبصار والأسماع إليه، يحولونها عن سياقها المألوف، وإعرابها الطبيعي، يقطعها وجوبا من جملتها، إدخالها على تحقيق المراد أقوى واظهر من دلالة الكلمة المفردة.
وقد يكون القصد من القطع تقوية التخصيص، إذا كان وقوعه بعد نكرة، نحو: مررت بأسد في قفصه زائر أو زائرا. أو: تقوية الإيضاح إذا كان وقوعه بعد معرفة، نحو: أصغيت لعلى الشاعر، فيكون الحذف فيهما جائزا.
هذا، وليس من اللازم في النعت المنقطع أن يكون مجرورا قبل القطع تبعا للمنعوت، بل يجوز أن يكون مرفوعا في حالته الأولى، أو منصوبا، تبعا لذلك المنعوت. فإن كان المنعوت مرفوعا جاز في نعته المرفوع النصب على القطع، ولا يجوز الرفع، منعا للالتباس، لأنه إن رفع رفع فلن يعرف أنه مقطوع. وإن كان المنعوت منصوبا جاز قطع النعت إلى الرفع فقط ولا يجوز إلى النصب، منعا للالتباس كذلك. أما إذا كان المنعوت مجرورا فيجوز قطعه إلى الرفع، أو النصب، كما سبق، إذ لا ليس مع أحدهما.
وقد قلنا: إن المنصوب بعد القطع لا يعرب نعتا، فقد دخل في جملة جديدة مستقلة بإعرابها، لأنها في الرأي الشائع جملة مستأنفة إنشائية "من نوع الإنشاء غير الطلبي". فلو ظهر الفعل المحذوف حذفا واجبا لأوهم أن الكلام خبري، وقد حمل على حذف الفعل وجوبا، حذف المبتدأ وجوبا أيضا ولا يجوز القطع إلا إذا كان المنعوت معرفة، أو نكرة خاصة. كما أن الفعل والمبتدأ يكون حذفهما واجبا مع النعت المقطوع الذي أصله للمدح أو الذم أو الترحم، فإن كان أصله لشيء غير ما ذكرنا فالحذف جائز لا واجب- كما تقدم، كما سيجيء في باب النعت، وقد سبقت إشارة لبعض هذا في رقم 1 من هامشي 320 عند الكلام على بعض أحكام العلم.
1 في هذا الهامش، وفي ص 510.(1/512)
معينة، وصُوَر مختلفة، مشورحة فى أبوابها1 النحوية. فمن أساليب المدح: أن تقول فى مدح زارع اسمه حليم: "نِعْم الزارع حليم". وفى ذم صانع اسمه سليم: "بئس الصانع سليم" ... فالممدوح هو"حليم" ويسمى: "المخصوص بالمدح" والمذموم هو: "سليم" ويسمى: "المخصوص بالذم". ومثلهما: "نعْم الوَفى حامد" أو: "بِئْسَ المختلِف وعده زُهَير". فالممدوح هو: "حامد"، ويسمى، "المخصوص بالمدح" والمذموم هو: "زُهير" ويسمى: "المخصوص بالذم" فالمخصوص - فى الحالتين - يقع بعد جملة فعلية، مكونة من فعل خاص - يدل على المدح، أوعلى الذم، - وفاعله. وقد يتقدم المخصوص عليهما؛ فنقول: "حليم نعم الزارع" ... "سليم بئس الصانع". وله صور وإعرابات مختلفة؛ يعنينا منها الآن إعرابه إذا وقع متأخراً؛ فيجوز إعرابه خبراً، مرفوعاً، لمبتدأ محذوف وجوباً تقديره: "هو"2 فيكون أصل الكلام: "نعم الزارع هوحليم". "بئس الصانع هوسليم".
3- أن يكون الخبر صريحاً فى القَسَم "الحَلِف". وصراحته تتحقق بأن يكون معلوماً فى عُرف المتكلم والسامع أنه يمين؛ نحو: فى ذمتى لأسافرن. - بحياتى لأخْدُمَن العدالة. تريد: فى ذمتى3 يمين، أوعهد، أوميثاق ... بحياتى يمين، أوعهد، أوميثاق ...
4- أن يكون الخبر مصدراً يؤدى معنى فعله، ويغنى عن التلفظ بذلك الفعل - فى أساليب معينة، محدّدة الغرض؛ محاكاة للعرب فى ذلك -؛ كأن يدور بينك وبين طبيب، أومهندس، أوزارع ...
__________
1 مثل باب: "نعم وبئس" وما جرى مجراهما. وسيجيء في الجزء الثالث.
2 هذا هو الشائع. ولنا رأي أيسر وأوضح، وسنذكره في مكانه من باب: "نعم وبئس" ... - جـ 3 -.
3 المراد: في ذمتي وفي رقبتي ما يتعلق باليمين أي: بتنفيذ مضمونها، ويتصل بالقسم وتحقيق المراد منه، كالسفر مثلا، أو خدمة العدالة، لأن كلا منهما هو مضمون اليمين والقسم، والغرض منها، ولذلك يسمى "جواب اليمين" أو: "جواب القسم". وهو الذي يستقر في الذمة، ويتعلق بالرقبة وليس اليمين أو العهد أو الميثاق.
وإنما كان حذف المبتدأ واجبا هنا لأنه واجب التأخير بسبب تنكيره، وقد وجد ما يدل عليه عند حذفه، وهو: جواب القسم.(1/513)
كلام فى عمله، فيقول عنه: "عملٌ لذيذ". أى: عمل عملى عملٌ لذيذ. وهذه الجملة فى معنى جملة أخرى1 فعلية، هى: "أعمَلُ عملاً لذيذاً". فكلمة: "عملا" مصدر، ويعرب مفعولا مطلقا للفعل الحالى: "أعمل" وقد حذف الفعل وجوباً؛ للاستغناء عنه بالمصدر الذى يؤدى معناه، وللتمهيد لإحلال جملة اسميه محلّ هذه الجملة الفعلية ... وصار المصدر مرفوعاً بعد أن كان منصوباً؛ ليكون خبراً لمبتدأ محذوف؛ فتنشأ جملة اسمية تؤدى المعنى الأول تأدية أقوى وأبرع من السابقة2.
ومن الأمثلة أن يقول السباح وقد قطع أميالا: "سباحةٌ شاقةٌ" أى: سباحتى سباحةٌ شاقةٌ. وهذه الجملة فى معنى: أسْبَحُ سباحةً شاقةً. فكلمة: "سباحة" مصدر منصوب، لأنه مفعول مطلق للفعل: "أسْبَح"، ثم حذف الفعل وجوباً؛ استغناءً عنه بوجود المصدر الذى يؤدى معناه؛ ثم رفع المصدر ليكون خبراً لمبتدأ محذوف؛ فتنشأ جملة اسمية جديدة، تكون أقوى وأبرع فى تأدية المعنى من الجملة الفعلية الأولى.
ومن الأمثلة أيضاً أن يقول السعيد: شكرٌ كثير. حمدٌ وافر ... وأن يقول المريض أوالمكدود: صبرٌ جميلٌ - أملٌ طيبٌ ... وأن يقول الولد لوالده الذى يطلب شيئاً: سمعٌ وطاعةٌ ... أى: أمرى وحالى سمعٌ وطاعةٌ 3.
__________
1 يوضح هذا الحكم ما سيجيء في جـ 2 م 76 ص 207 - موضوع: "حذف عامل المصدر وإقامة المصدر المؤكد مكانه ". على الرغم من أن المصدر هناك منصوب في أكثر حالاته، وهو هنا مرفوع. قلنا: في معنى جملة أخرى" لنفر من قول القائلين إن أصل الكلام "أعمل عملا لذيذا" ثم تناولوا هذا الأصل بالحذف والزيادة والتأويل..... مما لم يعرفه العرب، ولم يخطر ببالهم. فلكي يكون الكلام صادقا صائبا معا قلنا: في معنى جملة أخرى.
2 لأن هذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام - غالبا - بخلاف الأولى.
3 إنما يكون المحذوف وجوبا هو المبتدأ حين يكون المقصود قيام المصدر مقام فعله نهائيا على الوجه السالف، ووجود قرينة تدل على هذا. فإن لم يكن المقصود ما سبق نحو: "صبر جميل"، وأمل طيب، وباقي الأمثلة الأخرى - تغير الحكم، فجاز أن يكون المحذوف هو المبتدأ، أي: صبري صبر جميل.... وأن يكون المحذوف هو الخبر، أي: صبر جميل أحسن من غيره، أو أنسب لي، أو أليق بك.... وإذا جاز في المحذوف أن يكون هو المبتدأ أو الخبر فأيهما أولى الذكر؟ .
أطال النحاة من غير داع، والأولى بهذا أو ذاك ما له سبب لذكره، أو لحذفه.(1/514)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" هناك مواضع أخرى - غير الأربعة السالفة - يجب فيها حذف المبتدأ؛ منها:
1- الاسم المرفوع بعد "لا سيما"؛ فى مثل: أحب الشعراء، ولا سيما "شوقىّ" بإعراب "شوقىٌّ" خبراً لمبتدأ محذوف وجوباً تقديره: هو1.
2- بعد المصدر النائب عن فعل الأمر: من مثل: "سَقْياً لك"2 ... و"رَعْياً لك" ... ومثلهما فى قول الشاعر:
نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْران عاتبةً ... سَقْيًا ورَعْياً لذاك العاتب الزارى
وغيرهما من كل مصدر ينوب عن فعل الأمر نيابة تغنى عن لفظه ومعناه، وبعد المصدر ضمير مجرور المخاطب. فأصل: "سَقْيًا لك" "اسْقِ يا رب" ... "الدعاء لك يا فلان". وأصل "رَعْياً لك" "ارْعَ يا رب" ...
"الدعاء لك يا فلان"، فالمصدر نائب عن لفظ فعل الأمر وعن معناه، وبعده المخاطب المجرور. والجار مع المجرور خبر لمبتدأ محذوف. ولا يصح أن يكون هذا الجار مع مجروره متعلقاً بالمصدر: "سقياً ورعياً"، لأن هذا التعلق مخالف للأصول العامة
__________
1 سبق في آخر باب الموصول "ص 401 وما بعدها" التفصيل في إعراب: "لا سيما - وأخواتها- وإعراب الاسم الذي بعدها، وطريقة استعمال أسلوبها. ومن ذلك التفصيل نعلم أن الاسم الذي بعدها يجوز فيه الرفع والجر إنكان معرفة- ويجوز فيه الرفع، والنصب، والجر، إن كان نكرة وقلنا هناك: التحقيق أن الأوجه الثلاثة جائزة في الاسم الذي بعدها، سواء أكان معرفة، أم نكرة.... كما قلنا أيضا: إذا كان الاسم الذي بعدها يجوز فيه الأوجه الثلاثة فما الداعي إلى كد الذهن بمعرفة إعراباتها، وتفصيل كل إعراب؟ الحق أنه لا داعي لذلك، فالمهم - وهو حسبنا- أن نعلم الغرض الصحيح من أسلوبها، وطريقة استعمالها، وأن كل اسم بعدها يجوز فيه الحركات الثلاث، من غير تعرض لتوجيه كل حركة، أو إعراب ذلك الاسم وإعرابها.
2 "سقيا لك". هو: دعاء موجه لله أن يسقي المخاطب. وليس الغرض أن يسقيه بالماء حقا، وإنما الغرض من السقي الإنعام الغامر، والرضا الأكمل. "والرعي" دعاء بلرعاية. وهذه اللام فيهما، تسمى: "لام التبيين"، لأنها تبين أن ما بعدها مفعول معنوي - لا نحوي- وما قبلها مفعول كذلك، نحو: قولك الحاقد: بؤسا لك.
- كما سيجيء في هامش الصفحة التالية، وفي جـ2 باب حروف الجر عند الكلام على اللام -.(1/515)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في تكوين الجملة 1.
__________
1 تقضي تلك الأصول بأن الجملة الواحدة لا يصح أن تجمع في وقت واحد بين صيغتين مختلفتين لخطاب اثنين مختلفين، كأن تكون إحدى الصيغتين فعل أمر، أو ما ينوب عنه، والخطاب فيها متجها لشيء، وتكون الصيغة الأخرى مخالفة للأولى فيق لفظها وفي المخاطب الذي تتجه إليه فلو تعلق الجار والمجرور بالمصدر لفلسد المعنى لأن المصدر في مثل: "سقيا" نائب عنفعل الآمر: "اسق" - وله فاعل كفعل الأمر، وفاعله مستتر فيه تقديره: "أنت" ويصح أن يقال: إنه محذوف تقديره: "أنت" طبقا للبيان الذي سنذكره بعد، فهو يتضمن كفعله مخاطبة "الله" بالدعاء، في الوقت الذي يتضمن فيه الضمير المجرور مخاطبة شيء آخر تدعو الله له، وبهذا تشتمل الجملة الواحدة على الخطابين اللذين لا يجتمعان، لأن اجتماعهما يفسد المعنى "إذ يكون التقدير: اسق يا الله لك. فيؤدي هذا إلى أن: الله منه السقي، وله السقي، والشطر الثاني فاسد" ولهذا قالوا - بحق-: إن "سقيا لك" وما هو على نمطها ليس جملة واحدة، وإنما هو جملتان، إحداهما "سقيا" فكلمة: "سقيا" مصدر نائب عن فعل الأمر، ويعرب مفعولا مطلقا منصوبا، وفاعله مستتر فيه أو محذوف - كما تقدم وكما يجيء - وتقديره في الحالتيسن: "أنت والأخرى: "لك" فالجار مع مجوره خبر لمبتدأ محذوف وجوبا تقديره: الدعاء...., وأصل الجملة الثانية: الدعاء لك، وأصل الكلام كله: سقيا "بمعنى: اسق يا الله" الدعاء لك أيها المخاطب الذي أدعو الله لك.
ومما يستحق التنويه أن الضمير الظاهر الواقع بعد ذلك المصدر "وهو ضمير الخطاب المجرور" له اتصال معنوي بالجملة الأولى، مع أنه في جملة بعدها مستقلة عنها في الإعراب وسبب ذلك الاتصال المعنوي: أنه قد يكون هوالمقصود من الأولى، والذي ينصب عليه ما فيها من دعاء أو غيره، فكأنه منجهة المعنى لا من جهة الإعراب مفعول به فمعنى "سقيا لك" اسق يا رب فلانا ... فمن فلان هذا؟ أين هو في الكلام؟ لا يتحقق إلا في المخاطب الواقع بعد اللام فظاهره أنه مجرور باللام، ولكنه في حقيقته المعنوية بمنزلة المفعول به، مع أنه لا يعرب مفعولا به، إذ لا بد من اعتبار الكلام جملتين عند الإعراب كما أوضحنا.
كذلك: "رعيا لك" معناها: ارع يا رب فلانا فمن فلان؟ أين هو في الكلام؟ لا وجود له من حيث المعنى إلا في المخاطب الذي يدل عليه ضمير الخطاب بعد اللام، فظاهره أنه مجرور بها، ولكنه في حقيقته المعنوية بمنزلة المفعول به، مع أنه لا يعرب مفعولا به. إذ لا بد من اعتبار الكلام جملتين عند إعرابه، كما سبق....
وفي بعض الأساليب الأخرى قد يكون ذلك الضمير المجرور وبمنزلة الفاعل من جهة المعنى مع أنه لا يصح إعرابه فاعلا، نحو: "بؤسا لك" أيها العدو، و "سحقا لك"، أو: "بعدا لك". تخاطب عدوا، أو من يخون أمانته، مثلا.... وتدعو عليه. وأصل الكلام: "أبؤس" وهو: الهلاك.
وابعد، في الدعاء عليه بالبعد: وهو: الهلاك أيضا. فكأنك تقول بؤست، وسحقت وبعدت، أي: صرت بائسا، ساحقا، باعدا، فالضمير المجرور بعد اللام هو الذي حل محل الفاعل في المعنى =(1/516)
3- بعد ألفاظ مسموعة عن العرب مثل: "من أنت؟. محمد" وهوأسلوب يقال حين يتحدث شخص حقير بالسوء عن شخص عظيم اسمه: محمد ... والتقدير: من أنت؟ مذكورُك محمد ... أو: مذمُومك محمدّ: أى: من أنت؟ وما قيمتك بالنسبة للشخص الذى تذكره بالسوء؛ وهومحمد؟. فالمثل يتضمن تحقيراً للمغتاب، وتعظيماً لمحمد. فمحمد خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مذكورُك ... أومذمومك "أى: الشخص الذى تذكره فى حديثك أوتذمه فيه". ولما كان هذا الأسلوب قد ورد بغير مبتدأ صار من الواجب التزامه
__________
= لا في الإعراب، وصار مؤديا معناه. غير أنه في مثل هذه التراكيب التي يكون فيها الضمير المجرور فاعلا في المعنى لا يكون التركيب مشتملا على خطابين مختلفين، وإنما يكون مشتملا على خطابين بلفظين مختلفين، والمخاطب واحد فيهما، فإن. "بؤسا" لك "وسحقا" لك "وبعدا" لك - معناها "بؤست، الدعاء لك". "سحقت. الدعاء لك" "بعدت - الدعاء لك" فتاء الخطاب، وكاف الخطاب في كل جملة هما المخاطب واحد، مع اختلاف صيغتهما في اللفظ، بخلاف: "سقيا"، فإن المخاطب فيها غير المخاطب في الضمير المجرور، وهو الكاف عدها.
بالرغم من اتحاد الخطابين في مثل، "بؤسا" لك. فإن الجار والمجرور بعدها يعرب خبرا لمبتدأ محذوف، وجوبا، تقديره: الدعاء.... والكلام يشتمل على جملتين، لا جملة واحدة. وليس الجار مع المجرور هنا متعلقا بكلمة: "بؤسا"، أي: بالمصدر، لأن التعدي باللام يكون المفعول به، ولا يكون للفاعل المعنوي، كالذي هنا، فالمانع هنا من التعلق مخالف للمانع مع الضمير الذي يكون بمعنى المفعول به. وفي الحالتين لا بد أن يكون الكلام جملتين عند الإعراب.
وما سبق من التفصيل مقصور على المصدر النائب على فعل الأمر، وبعده المجرور ضمير المخاطب. فإن ناب المصدر عن غير الأمر، نحو: شكرا لك كثيرا، أي: أشكر لك شكرا، أو كان المجرور اسما ظاهرا، أو ضميرا غير ضمير المخاطب، نحو: سقيا للأمين ورعيا له - فاللام حرف لتقوية العامل، فتكون حرف جر زائد، وما بعدها مجرور بها في محل نصب، لأنه مفعول به للمصدر. أو ليست بزائدة بالجار والمجرور متعلقان بالمصدر، فكأنك تقول: اسق يا رب الأمين، وارعه.
وللبحث تتمة وتقسيم ليس مكانه هنا، وإنما مكانه: باب: "المفعول المطلق" - جـ2 - وباب حروف الجر- جـ2 - عند الكلام على لام الجر التي معناها: "التبيين".
ومن كل ما تقدم يتضح ما ذكرناه من سبب تسمية تلك اللام: "لام التبيين".
بقي إيضاح ما أشرنا إليه من فاعل المصدر النائب عن فعل الأمر، كالمصدر: "سقيا" ونظائره ... أفعاله ضمير مستتر فيه تقديره. هو؟ أم فاعله محذوف....؟ قال الصبان، "جـ2 أول باب: إعمال المصدر" - إن فاعله هنا ضمير مستتر تقديره "أنت" مع أنه سجل في باب الفاعل - جـ 2 - عند الكلام على مواضع حذف الفاعل- أن الفاعل يحذف جوازا "حين يكون عامله مصدرا، مثل: ضربا زيدا، وقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْم ... } بناء على ما ذكروه من عدم تحمله الضمير لحموده،. ثم قال: "وذهب السيوطي إلى أنه في مثل ذلك يتحمل الضمير لأن الجامد إذا تأول بالمشتق تحمل الضمير. وضربا زيدا في معنى: "اضرب" و "إطعام" في معنى: "أن تطعم. وهذا تأويل بالمشتق "هـ.... فالمفهوم أن هناك رأيين أقواهما أن فاعله مستتر فيه كفاعل فعل الأمر تماما، والآخر أنه محذوف، وأن المصدر نائب عن فعل الأمر وفاعله معا، والخلاف شكلي.(1/517)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإبقاء عليه بغير زيادة أونقص؛ لأه بمنزلة المثل؛ والأمثال لا تتغير مطلقاً1.
وقد ورد ذلك الأسلوب بالنصب أيضاً: "من أنت؟ محمداً". التقدير: "من أنت؟ تذكر محمداً، أوتذم محمداً"؛ فتكون الكلمة المنصوبة مفعولاً به لفعل محذوف. ومن الأساليب المسموعة أن يقال: "لا سواءٌ" عند الموازنة بين شيئين. والتقدير: لا هما سواء، أو: هذان لا سواء؛ بمعنى: لا يستويان. فكلمة: "سواء" خبر مبتدأ محذوف وجوباً تقديره: "هما" أو: "هذان".
ويرى فريق من النحاة أن الحذف فى المسألتين جائز لا واجب. والأخذ بهذا الرأى أنسب فيما نصوغه من أساليبنا. أما الوارد المسموع عن العرب نصًّا على أنه مثل من أمثالهم فيجب إبقاؤه كما ورد عنهم.
__________
1 لا في حروفها، ولا في ضبطها، ولا في ترتيب كلماتها كما سبق في رقم 2 من ص 504.(1/518)
مواضع حذف الخبر وجوباً، أشهرها خمسة:
1- أن يقع الخبر كوناً عامًّا1 والمبتدأ بعد "لولا الامتناعية"2، نحو: لولا عدلُ الحاكم لقتل الناسُ بعضُهم بعضاً. ولولا العلم لشقى العالَم، ولولا الحضارة ما سعد البشر ... أى: لولا العدل موجود ... لولا العلم موجود ... لولا الحضارة موجودة ... فالخبر محذوف قبل جواب: "لولا" ...
ومن هذه الأمثلة وأشباهها يتضح أن الخبر يحذف وجوباً بشرطين: وقوعه كونً عامًّا، ووجود لولا الامتناعية قبل المبتدأ. فإن لم يتحقق أحد الشرطين أوهما معاً تغير الحكم؛ فإن لم توجد "لولا" فإنّ حكم الخبر من ناحية الحذف وعدمه كحكم غيره من الأخبار كلها؛ وقد سبق الكلام عليها3. وإن لم يقع كوناً - عاماً بأن كان خاصًّا - وجب ذكره؛ نحو: لولا السفينةُ واسعةٌ ما حملتْ مئات الركاب. لولا الطيارُ بارعٌ ما نجا من العاصفة؛ فكلمة: "واسعة" وكلمة: "بارع" - خبر من نوع الكون الخاص الذى لا دليل يدل عليه عند حذفه، فيجب ذكره؛ فإن دل عليه دليل جاز فيه الحذف والذكر؛ نحو: الصحراء قحلة لعدم وجود الماء بها؛ فلولا الماءُ معدومٌ لأنبتتْ - دخل اللص الحديقة لغياب حارسها؛ فلولا الحارس غائب لخاف اللص. - اضطرب البحر من شدة الهواء. فلولا الهواء شديد ما اضطرب. فكل من: "معدوم" و"غائب" و"شديد" قد وقع خبراً، وهوكون خاص، فيجوز ذكره وحذفه؛ لوجود ما يدل عليه عند الحذف4.
2- أن يكون لفظ المبتدأ نصًّا فى القسم5، نحو: لعمرُ الله6 لأُجِيدَنَّ
__________
1 أي: يدل على مجرد الوجود العام من غير زيادة عليه. وقد سبق شرح هذا في هامش ص 476.
2 لولا" التي هي حرف امتناع لوجود، بخلاف "لولا التحضيضية"، فلا يليها المبتدأ.
ومثل: "لولا" الامتناعية: "لوما" التي تفيد الامتناع أيضا، فيجب حذف الخبر بعدها.
3 في ص 507.
4 ما ذكرناه من حكم الخبر بعد: "لولا" هو أصفى مذاهب النحاة، وأحقها بالقبول، لمسايرته الأصول اللغوية العامة.
5 بحيث يغلب استعماله في القسم غلبة واضحة في الاستعمال، فيدرك السامع أنه قسم قبل أن يسمع المقسم عليه.
6 لحياة الله: فهو حلف بوجود الله.(1/519)
عملى - لأمانةُ الله لن أهملَ واجبى - لحياةُ أبى لا أنصرُ الظالمَ - لأيمنُ الله لأسرعنّ للملهوف ... فالخبر محذوف فى الأمثلة كلها قبل جواب القسم. وأصل الكلام لَعَمْرُ الله قَسَمِى ... لأمانة الله قَسَمِى ... لحياة أبى قَسَمِى ... لأيْمُنُ اللهِ قَسَمِى1 ... ومن الأمثلة قول الشاعر:
لعَمْرك ما الأيامُ إلا مُعَارَةٌ2 ... فما اسْطَعْتَ3 من معروفها فَتَزَوَّدِ....4
فالمبتدأ فى كل مثال كلمة صريحة الدلالة على القسم، غلب استعمالها فيه فى عُرْف السامع لها، ولذلك حذف خبرها؛ "وهو: قسمى" لأنها تدل عليه، وتغنى عنه، ولا يصح أن يكون المحذوف فى الأمثلة السابقة هوالمبتدأ.
وهناك سبب آخر قوى يحتم أن يكون المحذوف هوالخبر؛ ذلك السبب وجود لام الابتداء فى أول كل اسم؛ إذ يدل على وجودها على أن المذكور هوالمبتدأ دون الخبر؛ لأن الغالب عليها أن تدخل على المبتدأ لا على الخبر؛ ليكون لها الصدارة الحقيقية.
فإن لم يكن المبتدأ نصًّا فى اليمين، أولم توجد لام الابتداء - لم يكن حذف الخبر واجباً، وإنما يكون جائزاً، نحو: عهدُ الله قسمى لا أرتكب ذنباً. أمرُ الدين قسمى لا أفعل إساءة؛ بإثبات الخبر أوحذفه.
3- أن يقع الخبر بعد المعطوف بواوتدل دلالة واضحة على أمرين مجتمعين، هما: العطف، والمعية5؛ نحو: الطالب وكتابهُ ...
__________
1 أيمن الله: بركته. "انظر" "جـ" من هامش ص 543".
2 سلفة ترجع لصاحبها بعد حين.
3 أي: استطعت.
4 مثل هذا قول الآخر:
لعمرك ما بالموت عار على الفتي ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
5 معنى المعية هنا هنا، مشاركة ما بعد الواو "وهو المعطوف" لما قبلها "وهو المعطوف عليه" في أمر بحيث يجتمعان فيه، ولا يراد أن ينفرد أحدهما به. وعلامة الواو التي تفيد الأمرين معا: "العطف والمعية" وتكون نصا في المعية - أن يصح حذفها، ووضع كلمة "مع" مكانها فلا يتغير المعنى، بل يزداد وضوحا. والواو هنا غير التي ينصب الاسم بعدها على أنه "مفعول معه" طبقا لما سيجيء في بابه -جـ2- وهي غير "واو المعية" المشار إليها في رقم 2 من هامش الصفحة الآتية.(1/520)
ولبيان هذا نسوق المثال الآتى: إذا أقمت فى بلد تراقب أهله؛ فرأيت الفلاح يلازم حقله، والصانع يلازم مصنعه، والتاجر متجره، والملاّح سفينته، والطالب معهده، وكل واحد من أهلها يتفرغ لشأنه، لا يكاد يتركه. ثم أردت أن تصفهم، فقد تقول: شاهدت أهل البلد عاكفين على أعمالهم، منصرفين لشئونهم؛ "الفلاحُ وحقلُه" - "الصانعُ ومصنعهُ" - "التاجرُ ومتجرةُ" - "الملاح وسفينتُه" - "الطالبُ ومعهدهُ" - "كل رجل وحرفتُه". فما معنى كل جملة من هذه الجمل؟ معناها "الفلاح وحقله متلازمان" - "والصانع ومصنعه متلازمان" وهكذا الباقي ...
وإذا تأملت تركيب واحدة منها "مثل: الفلاح وحقله" عرفت أنها مركبة من مبتدأ؛ هو: "الفلاح". بعده واوتفيد أمرين معاً، هما: العطف، والمعية، وبعد هذه الواويجئ المعطوف على المبتدأ، ويشاركه فى الخبر، ثم يجئ بعده الخبر. لكن أين الخبر الواقع بعد المعطوف؟ إن الخبر محذوف نفهمه من الجملة؛ وهوكلمة: "متلازمان" أو: "متصاحبان" أو: "مقترنان" أو: ما يدل على الملازمة والمصاحبة التى توحى بها الواوالتى بمعنى: "مع" وتدلّ عليها فى وضوح ظاهر للسامع. ومثل هذا يقال فى الأمثلة الأخرى.
__________
1 نشير هنا إلى إشكال يورده النحاة في مثل هذا التركيب ويجيبون عنه، هو: أنه لا يصح عود الضمير إلى "كل" وإلا صار المعنىكل رجل وحرفة كل رجل مقترنان، وهذا يؤدي إلى: كل رجل يقارن حرفة كل رجل" كما لا يصح عودته إلى "رجل"، وإلا كان المعنى: "كل رجل يقارن حرفة رجل واحد، أي: كل رجل وحرفة رجل واحد مقترنان" والمعنيان فاسدان.
والجواب أن كلمة: "كل" في قوة أفراد متعددة، فكأنك تقول: أفراد متعددة، فالضمير العائد عليها أو على ما أضيفت إليه، "مثل: رجل" يكون من مقابلة الجمع بالجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، كما في قولك: ركب القوم دوابهم، إذ معناه ركب كل واحد من القوم دابته. فكذلك هناك، ويكون المعنى: كل فرد وحرفته مقترنان. أو محمد وحرفته، وعلى حرفته ... وهكذا.
2 وهذه الواو التي للمعية والعطف معا لا تدخل هنا إلا على الاسم المعطوف بها، ولا تدخل على فعل، فهي غير نظيرتها الأخرى التي تفيد المعية والعطف مجتمعين مع دخولها على مضارع يجب نصبه بأن مضمرة وجوبا بشرط أن يكون مسبوقا بنفي أو طلب محض على الوجع الموضح في جـ4 باب: "إعراب الفعل" - مثل: لم يتصدق النبيل فيفتخر. وهي غير "واو المعية" المشار ليها في رقم 5 من هامش الصفحة السابقة.(1/521)
فإن لم تكن الواونصًّا فى المعية لم يكن حذف الخبر واجباً؛ وإنما يكون جائزاً عند قيام دليل يدل عليه؛ نحو: الرجل وجاره مقترنان، أو: الرجل وجاره، فقط؛ لأن الاقتصار على المتعاطفين يفيد الاشتراك والاصطحاب. أما جواز ذكر المحذوف فلأن الواوهنا ليست نصًّا فى المعية، إذ الجارُ لا يلازم جاره، ولا يكون معه فى الأوقات كلها، أوأكثرها.
4- الخبر الذى بعده حال تدل عليه، وتسد مسده، من غير أن تصلح فى المعنى لأن تكون هى الخبر؛ نحو: "قراءتى النشيدَ مكتوباً". وذلك فى كل خبر لمبتدأ، مصدر، في الغالب2 وبعد هذا المصدر معموله، ثم حالٌ، تدل على الخبر المحذوف وجوباً، وتغنى عنه، ولا تصلح3 فى المعنى أن تكون خبراً لهذا المبتدأ4 ... ؛ كالمثال السالف. فكلمة "قراءة" مبتدأ، وهى مصدر مضاف، والياء مضاف إليه، "النشيدَ" مفعول به للمصدر، فهوالمعمول للمصدر - "مكتوباً" حال منصوب ولا تصلح أن تكون خبراً لهذا المبتدأ؛ إذ لا يقال: قراءتى مكتوب. وإنما الخبر ظرف محذوف مع جملة فعلية أضيف لها، والتقدير؛ قراءتى النشيد إذا كان مكتوباً، أوإذ كان مكتوباً وقد حذف الخبر الظرف بمتعلَّقه5، ومعه المضاف إليه؛ لوجود ما يدل عليه، ويسد
__________
1 نقلنا "في رقم 4 من هامش ص 410" أن النحاة يقولون: لم يرد في الفصيح وقوع أن المصدرية بنوعيها "المخففة، والناصبة للمضارع" مع صلتها مبتدأ يستغنى عن الخبر مجال سدت مسده، ومثلها "ما" الصدرية راجع البيان هناك- وفي هذا تعارض مع قولهم الآتي في "أ" من هامش ص 526 إلا إن كان مرادهم بالمنع أنه لم يجيء في الفصيح الخالص وإن ورد في غيره.
2 ليس من اللازم أن يكون المبتدأ نفسه هو المصدر فقد يكون "أفعل تفضيل" مضافا إلى المصدر الصريح أو المؤول، طبقا للبيان الآتي في: "أ" من ص 5226.
3 تتخلف الشروط المذكورة في حالة تجيء في "ب" من ص 526.
4 نجيء بكلمة: "إذ" حين يكون الغرض من الكلام الزمني الماضي، لأن "إذ" تستعمل في الغالب ظرفا للماضي. ونجيء بكلمة "إذا" حين يكون الغرض الزمن الحالي، أوالمستقبل، أو المستمر، لأن "إذا" تستعمل ظرفا في كل هذا- غالبا- "وكان" في المثالين تامة، وفاعلها مستتر تقديره: "هو" صاحب الحال. والخبر المحذوف هو الظرف: "إذ أو إذا" وهو مضاف والجملة الفعلية التي بعده مضاف إليه، وقد حذفت معه.
5 إذ الشائع عند النحاة أن الظرف "وكذا الجار مع مجروره" لا يكون خبرا بنفسه مباشرة، وإنما يتعلق بمحذوف يكون هو الخبر. تقديره هنا: "قراءتي النشيد حاصلة إذا كان - أو إذا كان - مكتوبا.... ومثل هذا يقال في باقي الأمثلة التالية حيث يكون الظرف محذوف هو ومتعلقة. أما الرأي في أن شبه الجملة يكون هو الخبر بنفسه مباشرة أو متعلقة فقد سبق البيان الكامل بشأنه في ص 475 وهامشها.(1/522)
مسدهُ فى المعنى؛ وهو؛ الحال التى صاحبها الضمير، الفاعل، المحذوف مع فعله.
ومثله: مساعدتى الرجلَ محتاجاً، أى: إذا كان أوإذ كان محتاجاً. "فمحتاجاً" حال لا تصلح من جهة المعْنى أن تكون خبراً لهذا المبتدأ، إذ لا يقال: مساعدتى محتاج "وصاحب هذه الحال هوالضمير الفاعل المحذوف مع فعله". و"الرجل" مفعول به للمصدر - فهومعموله - ومثل هذا يقال فى شربى الدواء سائلا، وأكلى الطعامَ ناضجاً -.. و ...
فإن كانت الحال صالحة لوقوعها خبراً للمبتدأ المذكور وجب رفعها لتكون هى الخبر؛ فلا يصح إكرامى الضيف عظيماً، بل يتعين أن نقول: إكرامى الضيفَ عظيم ... بالرفع على الخبر1 ...
__________
1 قد يخطر على البال السؤال عن السبب في استعمال هذا الأسلوب، وإيثاره، مع أنه قد يبدو غريبا. ويجيب كثرة النحاة بأنه يفيد معنى دقيقا خاصا، هوقصر هذا المبتدأ على الحال- غالبا- أي: حصر معنى هذا المبتدأ في الحال، فكأن الناطق بمثال من تلك الأمثلة السالفة - ونظيرتها - يقول: قراءتي النشيد لا تكون إلا في حال كتابته، أما في غيرها فلا أقرؤه - مساعدتي الرجل مقصورة على حالة احتياجه، أما في غيرها فلا أساعده. وهكذا ... وعندهم أننا لو لم نصطنع هذا الأسلوب بطريقته المأثورة عن العرب لحرمنا ما يحققه من الغرض المعنوي السالف الذي يقررونه في أكثر الصور.
أما إعراب هذا التركيب فموضع جدل عنيف يثير ادهش والأسف، لعدم جدواه. ويقول صاحب الهمع "جـ1 ص 105" إن مسألة الحال التي تسد مسد الخبر: "مسألة طويلة الذيول، كثيرة الخلاف، وقد أفردتها قديما بتأليف مستقل"، ثم عرض - كغيره - للقليل من تلك الآراء المختلفة فلم يزدنا بسردها ويجدل أصحابها إلا دهشا، وأسفا، بل استنكارا لطول الذيول، وكثرة الخلاف، والتأليف المستقل فيما لا غناء فيه.
لنترك هذا لنقول إن الإعراب الذي ذكرناه هو أحد تلك الآراء المتعددة، والذين ارتضوه أكثر من غيرهم، ويوجبون أن يكون الظرف "إذ - أو: إذا" متعلق بمحذف هو الخبر الأصيل وأن هذا الظرف مضاف إلى جملة فعلية بعده، وهو والجملة محذوفان وجوبا: لدلالة الحال على ذلك المحذوف وسدها مسد الخبر، فلا حاجة لذكره معها. ولا يقبلون أن يكون الظرف بمتعلقه هو الخبر مع وجود الحال ولا يقبلون شيئا يكون هو الخبر، بل يحتمون أن تقوم الحال مقام الخبر المحذوف وتعني عن ذكره، زاعمين أنه لو كان في الجملة خبر أصيل، واقتصرت الحال على إعرابها حالا ليست قائمة مقام الخبر لترتب على هذا أن يفصل الخبر بين هذه الحال وعاملها المبتدأ المصدر، والفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي - وهو هنا الخبر، ممنوع عندهم، ويضمون إلى هذا أدلة جدلية وهمية نرى الخير في إهمالها، وفي إعراب الظرف المحذوف بمتعلقه هو الخبر مباشرة، أو الخبر لفظ آخر محذوف يناسب السياق وتدل عليه القرينة مع إعراب الحال المذكورة حالا أصيلة لا تسد مسد الخبر ولا غيره. وهذا رأي كثير من الكوفيين وبعض البصريين كالمبرد، فقد جاء في كتابه "الكامل" "جـ2 ص 78" حين قال الفرزدق لآخر: "حكمك مسمطا"- وهذه الجملة، كما يقول النحاة من الأمثلة التي وقعت فيها الحال سادة مسد الخبر سماعا، لأن هذه الحال صالحة لوقوعها خبرا- ما نصه: =(1/523)
هذا، وتتلخص جميع مواضع حذف الخبر - التى سبقت - فى العلم بالمحذوف لوجود ما يدل عليه، أوما يغنى عنه فى المعنى لا فى الإعراب.
5- حذفه من بعض أساليب مسموعة عن العرب؛ منها: حَسْبُك يَنَم الناسُ.
"ملاحظة": بقيت حالة سبقت الإشارة إليها1، وهى التى يكون فيها المبتدأ متقدماً - مباشرة - على أداة شرطية، فإن اقترن ما بعدهما بالفاء، أوصلح لمباشرة الأداة الشرطية - كان هوالجواب للأداة الشرطية - فى الرأى الأرجح - وكان خبر
__________
= "إعرابه أنه أراد: لك حكمك مسمطا، واستعمل هذا فكثر حتى حذف - أي: الخبر، وهو لك - استخفافا، "أي: للخفة" لعلم السامع بما يريد القائل: كقولك: الهلال والله. أي: هذا الهلال، وأغنى عن قوله: "هذا" - القصد والإشارة. وكان يقال لرؤبة الشاعر: كيف أصبحت؟ ويقول خير عافاك. الله. فلم يضمر حرف الخفض، ولكنه حذف لكثرة الاستعمال والمسمط: المرسل غير المردود...." أهـ ... فترى من هذا أنه قد الخبر المحذوف لكثرة الاستعمال جارا ومجرورا، ولم يجعل الحال سادة مسده. ولعل هذا الرأي هو الأفضل، ليسره ووضوحه وخلوه من التكلف والتعقيد، ولا مانع من قبول ما ارتضوه على أن يكون رأيهم في المنزلة الثانية بعد الرأي الذي عرضناه.
ومن تكلفهم وتعقيدهم أنهم يوجبون أن يكون صاحب الحال هو الضمير فاعل الفعل "المحذوف. "كان التامة، أو ما يماثلها" وهذا الضمير عائد على معمول المصدر، فلم لا يكون صاحب الحال هو معمول المصدر مباشرة لأدى ذلك إلى أن تجيء الحال في ترتيبها المكاني بعد ذلك المعمول بأن يكون المصدر متقدما، يليه معمول، وبعدهما الحال، لأن الثلاثة كتلة متماسكة، تلتزم الترتيب السابق، ولا يفصل بينهما فاصل، وهذا الترتيب والتماسك يوجبان- عندهم - أن يجيء الخبر بعدها جميعا.... فكيف تسد الحال مسد خبر ذكرت قبله، ولم يحذف قبل مجيئها ليخلي مكانه لها فتحل به؟ يتعللون بهذا مع أن الضمير ومرجعه بمثابة شيء واحد.
ذلك بعض جدلهم بإيجاز كبير، وهو نوع من الجدل الذي يضيع فيه الوقت والجهد بغير طائل، وقد حل وقت نبذه. ومن شاء أن يلم به فليرجع إلى المطولات التي اشتملت عليه كالهمع "جـ 1 ص 105". ولا علينا أن نعرب الحال في الأمثلة السالفة ونظائرها "حالا" مستقلة بنفسها ليست قائمة مقام الخبر، - كما قلنا - وأن الخبر هو الظرف بمتعلقه، أو: هو لفظ غير الظرف يصلح خبرا، وقد حذف بسبب العلم به، وأن صاحب الحال هو معمول المصدر مباشرة، وليس الضمير العائد على ذلك المعمول. ولا داعي لبذل الجهد الضائع في إخضاع كلام عربي بليغ لضوابط لا تنطبق عليه، ولسيطرة "العامل" فيما لا نفع فيه، على حين يجب أن تخضع الضوابط والعوامل لفصيح الكلام العربي المسموع عنهم في هذا الأسلوب.
1 أصل الكلام، حسبك السكوت يتم الناس. "ومعنى حسبك: "كافيك"، فتكون اسما عاديا معربا، أو بمعنى: "يكفيك" فتكون: اسم فعل مضارع - "وقد تقدم الكلام عليها في الضمير ص 282 وسيجيء البيان الأوضح في جـ3 ص 147 م 95 باب الإضافة"، وفي هذا المثال يصح أن تكون اسما مبتدأ مرفوعا، مضافا، والكاف إليه، مبني على الفتح في محل جر- السكوت خبر مبتدأ.(1/524)
المبتدأ محذوفاً وجوبا؛ نحو: الطفل إن يتعلم فهونافع، - الصانعُ إن يتقن صناعته يستفدْ مالا وجاهاً.
فدخول "الفاء" على الجملة الاسمية دليل على أن هذه الجملة جواب للشرط، وليست خبراً؛ لكثرة دخول الفاء على الجمْلة الجوابية دون الخبرية.، وجزم المضارع: "يستفدْ" دليل على أنه جواب الشرط وعلى صلاحه لمباشرة الأداة، وأن الجملة المضارعية ليست خبراً1 ...
فإن لم يقترن ما بعدهما بالفاء، أولم يصلح لمباشرة الأداة، كان خبرا، والجواب محذوفا؛ نحو: الطفل إن يتعلم هونافع - الصانع إن يهمل صناعته ليس يستفيدُ.
إذ لو كان جوابا للشرط لوجب اقترانه بالفاء.
__________
1 في هامش ص 69 حيث البيان وما فيه من خلاف.
2 راجع حاشتي الصبان والحضري جـ 1 باب: "الكلام وما يتألف منه"، عند بيت ابن مالك.
والأمر- إن لم يك للنون محل
فيه، هواشم، نحو: صه، وحيهل
وقد لخصنا ما فيهما هامش نحو: صه، وحيهل
وقد لخصنا ما فيهما في هامش ص 69.(1/525)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
لا فرق فى المصدر الواقع مبتدأ بين أن يكون صريحاً كالأمثلة السابقة1 وأن يكون مؤولا؛ مثل: أن اقرأ النشيد مكتوباً. أن أساعد الرجل محتاجاً. وكذلك لا فرق فى الحال بين المفردة كالتى سبقت، والظرف، نحو: قراءتى النشيد مع الكتابة - أكلى الطعام مع النضج -، والجملة الاسمية نحو: قراءتى النشيد وهومكتوب، أو: الفعلية مضارعية وغير مضارعية؛ نحو: مساعدتى الرجل يحتاج، أو: مساعدتى الرجل وقد احتاج.
وليس من اللازم أن يكون المبتدأ نفسه هوالمصدر فقد يكون المبتدأ أفعل تفضيل مضافاً إلى المصدر - الصريح، أوالمؤول - الذى وصفناه، نحو: أحسن قراءتى النشيد مكتوباً. أكمل مساعدتى الرجل محتاجاً. أحسن ما أقرأ النشيد مكتوباً - أكمل ما أساعد الرجل محتاجاً.
"ب" من الأساليب الصحيحة محمد والفرس يباريها، أو: محمد وهند تسابقه ... ونحوهذا من كل أسلوب يشتمل على مبتدأ، بعده معطوف بواوالعطف، ثم يجىء بعد ذلك المعطوف شئ ينسب حصوله للمعطوف، أوالمعطوف عليه، ويقع أثره المعنوى على الآخر الذى لم ينسب له الحصول، ففى المثال الأول نرى المبتدأ هو: "محمد"، وبعده المعطوف بالواوهو: "الفرس"، وبعده الفعل "يبارى" الذى ينسب حصوله للمبتدأ "محمد"، ولكن يقع أثره على الفرس، فكأنك تقول: محمد يبارى الفرس ... وفى المثال الثانى: المبتدأ هو"محمد" أيضاً، وبعده المعطوف بواوالعطف؛ وهو: "هند" والفعل الذى بعده هو: "تسابق" وينسب حصوله للمعطوف "هند"، ولكن يقع أثره المعنوى على المتبدأ؛ فكأنك تقول: هند تسابق محمداً ... فأين خبر المبتدأ في المثالين السابقين وأشباههما؟
خير الآراء فى ذلك أن الخبر محذوف، والتقدير والفرس يباريها - مسرعان ... محمد وهند تسابقه متناسقان ... ويجوز أن تكون الواوواوالحال والجملة بعدها حال أغنت عن الخبر2 ...
__________
1 في رقم 4 من ص 522.
2 هذا الإعراب - المنقول عنهم - يؤدي - كما سيجيء هنا- إلى إهمال الشروط التي اشتراطها، أكثر النحاة في المبتدأ الذي يستغنى بالحال عن خبره. وقد عرفناها في رقم 4 من ص 522.(1/526)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والأول أحسن؛ لاعتبارين؛
"أولهما": مطابقته لقاعدة عامة؛ هى: أن الأصل فى المبتدأ أن يكون له خبر أصيل، لا شئ آخر - كالحال - يسدّ مسدّه، وأن هذا الخبر الأصيل يصح حذفه لدليل.
"ثانيهما": أنه يصلح لكل التراكيب التى تتصل بموضوعنا. ومن هذه التراكيب ما يكون فيه المبتدأ غير مستوف للشروط التى تجعله يستغنى بالحال عن الخبر كالمثالين المعروضين هنا، وأشباههما1 ...
__________
1 لم يتعرض ابن مالك في ألفيته لمواضع حذف المبتدأ - وقد ذكرناها من قبل في ص 510 و 515 - واقتصر على مواضع حذف الخبر الواجب حيث يقول:
وبعد "لولا" غالبا- حذف الخبر ... حتم، وفي نص يمين ذا استقر
فهذا البيت يتضمن موضعين من مواضع حذف الخبر وجوبا، أحدهما: بعد: "لولا" والآخر الخبر الذي يكون مبتدؤه نصا في اليمين. ويريد بقوله: "غالبا" أي في أغلب الآراء وأكثرها، لأن هناك آراء أخرى غير هذا، ففي الآراء الغالبة لكثرة النحاة أن حذفه "حتم" أي: واجب. وهذا الحكم بالوجوب استقر، أي: ثبت في حالة أخرى هي حالة الخبر الذي يكون لمبتدأ نص في اليمين.
ثم قال:
وبعد واو عينت مفهوم مع ... كمثل: "كل صانع وما صنع".
وقبل حال لا يكون خبرا ... عن الذي خبره قد أضمرا
يريد بالبيت الأخير: أن الخبر يحذف وجوبا قبل حال لا تصلح أن تكون خبرا للمبتدأ الذي خبره قد أضمر.... أي: قد حذف وقدر، وضرب مثالين لتلك الحال، أحدهما فيه المبتدأ مصدر ... والآخر فيه المبتدأ أفعل التفضيل المضاف. فيقول:
كضربي العبد مسيئا، وأتم ... تبييني الحق منوطا بالحكم
أي: أتم.....(1/527)
المسألة الأربعون: تعداد الخبر، تعدد المبتدأ 1
يكثر أن يكون للمبتدا الواحد خبران أوأكثر2؛ مثل: التنبى شاعرٌ، حكيمٌ، فكلمة "المتنبى" مبتدأ، و"شاعرٌ" خبر، و"حكيمٌ" خبر ثان. وكذلك: "شوقىٌّ" شاعر، ناثر، حكيم؛ فكلمة "شوقىّ" مبتدأ و"شاعر" خبر، و"ناثر" خبر ثان، و"حكيم" خبر ثالث. وهكذا يتعدد الخبر.
غير أن هذا التعدد ثلاثة أنواع:
أولهما: أن يتعدد الخبر لفظاً ومعنى، بحيث يكون كل واحد مخالفاً للآخر فى هذين الأمرين؛ نحو: بلدنا زراعىّ، صناعىّ - صحيفتنا علمية، أدبية، سياسية ... فكلمة "بلد" مبتدأ، بعده خبران، مختلفان، لفظاً ومعنى، وكل معنى مقصود لذاته. وكلمة "صحيفة" مبتدأ، وبعدها ثلاثة أخبار؛ كل واحد منها على ما وضفنا. نحوقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
وحكم هذا النوع أنه يجوز فيه عطف الخبرالثاني وما بعده على الخبر الأول، بحرف عطف مناسب3 فيصح فى الأمثلة السابقة أن نقول: بلدُنا زراعىٌّ وصناعىٌّ - صحيفتنا عمليةٌ، وأدبيةٌ، وسياسيةٌ ... - معهدنا علمىٌّ، وأدبىٌّ، ورياضىٌّ، وثقافىٌّ ... بإثبات حرف العطف أوحذفه فى كل الأمثلة؛ فعند إثباته يعرب ما بعده معطوفاً على الخبر الأول4 دائماً. ومع أنّ ما بعد الخبر الأول
__________
1 سيجيء "في "ب" من ص 532" تعدد المبتدأ، وإن كان ابن مالك لم يتعرض له.
2 لأن الخبر حكم على المبتدأ، ولا مانع أن يحكم على الشيء الواحد بحكم أو حكمين أو أكثر.
3 بواو العطف أو بغيرها من أدوات العطف على حسب المعنى.
4 كما هو حكم المعطوف بالواو، ولهذا الحكم تفصيل مدون في مكانه من باب العطف جـ 3.(1/528)
هوخبر فى المعنى والتقدير فإنا لا نسميه عند الإعراب1 خبراً. أما عند حذف العطف فيسمى اللفظ المتعدد: خبراً، ويعرب خبراً.
ثانيهما: أن يتعدد الخبر فى اللفظ فقط وتشترك الألفاظ المتعددة فى تأدية معنى واحد، هوالمعنى المقصود، وذلك بأن تكون الألفاظ مختلفة؛ لكل منها معنى خاص يخالف معنى الآخر -. ولكنه معنى غير مقصود لذاته؛ وإنما المعنى المقصود لا يتحقق إلا بأن تنضم هذه المعانى المتخالفة، بعضها إلى بعض، لتؤدى وهى مجتمعة معنى جديداً لا ينشأ إلا من مجموعها، كأن ترى رجلاً ليس بالقصير ولا الطويل. فتقول: "الرجل طويل قصير" تريد أنه "متوسط" فكل من كلمتى: "طويل" و"قصير" لها معنى خاص يخالف الآخر، ولكنه ليس مقصوداً لذاته؛ وإنما المقصود منه أن ينضم إلى المعنى الآخر لينشأ عن انضمامهما معنى جديد، هو: "متوسط" وهوالمعنى المراد، الذى لا يفهم من إحدى الكلمتين منفردة؛ وإنما يفهم منهما معاً؛ برغم أن كل واحدة منهما تسمى: خبراً2، وتعرب خبراً، ولها معنى خاص، ولكنه غير مقصود، كما قلنا. ومثل: الطفل سمين نحيف، أى: معتدل. ومثل: الفاكهة حلوةٌ مرةٌ، أى: متغيرة الطعم، أومتوسطة، بين الحلاوة والمرارة، وهكذا ...
ولهذا النوع ضابط يميزه؛ هو: أن المعنى المراد يتحقق ويصلح حين نجعل الألفاظ المتخالفة كتلة واحدة هى الخبر، ويفسد إذا جعلنا بعضها هوالخبر دون بعض.
على أننا عند الإعراب لا بد أن نعرب كل واحد خبراً، ونسميه خبراً، - كما قلنا - ونعلم أنه يشتمل3 على ضمير مستتر يعود على المبتدأ، وهوغير
__________
1 يسمى في الإعراب معطوفا، لتوسط حرف العطف بينه وبيسن المعطوف عليه الخبر الأول، لكنه من ناحية المعنى - لا الإعرب- يعتبر خبرا، لأن المعطوف على الخبر خبر، وعلى المبتدأ مبتدأ، وعلى الصلة صلة، وهكذا.... إلا لمانع.
2 وذلك من باب المجاز.
3 إذا كان مشتقا، أو مؤولا به.(1/529)
الضمير المستتر الذى يحويه المعنى الجديد الناشئ من المعانى الفردية غير المقصودة.
وحكم هذا النوع أنه لا يجوز فيه العطف؛ لأن الخبرين أوالأخبار شئ واحد من جهة المعنى، والعطف يشعر بغير ذلك1. كما لا يجوز أن يَفصِل فيه بين الخبرين أوالأخبار فاصل أجنبى، ولا أن يتأخر2 المبتدأ عن تلك الأخبار أويتوسط فيها3.
ثالثها: أن يتعدد الخبر فى لفظه ومعناه ولكن تعدده فى هذه الحالة يكون تابعاً لتعدد المبتدأ فى نفسه حقيقة أوحكماً. ويوصف المبتدأ بأنه متعدد فى نفسه حقيقة حين يكون ذا فردين أوأفرادن أى: حين يكون مثنى أوجمعاً؛ نحو: الصديقان مهندس، وطبيب. ونحو: السباقون غلام، وشاب، وكهل. ففى المثال الأول تعددت أفراد الخبر فكانت فردين، يستقل كل منهما عن الآخر؛ تبعاً لتعدد أفراد المبتدأ المثنى؛ إذ يشمل فردين. وفى المثال الثانى تعددت أفراد الخبر فكانت ثلاثة أفراد - على الأقل - تبعاً للأفراد المقصودة من المبتدأ الجمع. فالمبتدأ المثنى فى المثال السابق فى قوة مبتدأين لكل منهما خبر، والمبتدأ الجمع فى قوة ثلاث مبتدءات لكل منها خبر ... وهكذا.
ويوصف المبتدأ بأنه متعدد حكماً حين يكون منفرداً "أى: شيئاً واحداً" ولكنه ذوأجزاء وأقسام؛ نحو: جسم الإنسان رأس، وجذع، وأطراف. ونحو: البيت غرفة للضيوف، وغرفة للأكل، وغرفة للقراءة، وغرف للنوم. ونحو: حديقة الحيوان جزء للوحوش، وجزء للطيور، وجزء للقردة ... و ... و ...
والفرق بين هذا النوع وسابقه أن المبتدأ فى النوع السابق لا بد أن يكون ذا فردين أوأفراد، وكل فرد له كيان مستقل كامل، يتركب من أجزاء متعددة.
__________
1 لأن العطف - غالبا - يقتضي المغايرة، فالمعطوف غير المعطوف عليه من جهة المعنى، إلا حين تقوم قرينة قوية على توافقهما في المعنى، وأن العطف للتفسير.
2 سبقت الإشارة لهذا في رقم 10 من مواضع وجوب تأخير الخبر ص 498.
3 فحكم النوع الثاني مخالف لحكم الأول العمل؟ .(1/530)
أما فى النوع فالمبتدأ فرد واحد، لكن له أجزاء، ومن هذه الأجزاء مجتمعة يتكون الفرد الواحد.
وحكم هذا النوع أنه يجب فيه عطف الخبر الثانى والثالث وما بعدهما، على الأول1؛ بشرط أن يكون حرف العطف الواو، ومتى عطف الخبر زال عنه اسم الخبر، وسمى عند الإعراب معطوفاً2.
هذا وتعدد الخبر ليس مقصوراً على نوع الخبر المفرد؛ بل يكون فيه "نحو: المجلات طبيةٌ، هندسيةٌ، زراعيةٌ، تجاريةٌ ... " ويكون فى الجملة؛ "نحو: العصفور يغردُ، يتحركُ؛ يطيرُ، يتلفتُ - الصيف نهاره طويل، ليله قصير". وفى شبه الجملة؛ "نحو: الطائر أمامكَ؛ قُرْبك" وقد يكون مختلطاً؛ "نحو: هوأسد يزأر". فكلمة: "أسد" خبر. وكذلك جملة: "يزأر"، "ونحو: الأسد يَكْشِر عن أنيابه، غاضب، عابس". فجملة؛ "يكشر ... " خبر، وكذلك كلمة: غاضب، وكلمة: عابس.
نستخلص من كل أن الأخبار المتعددة:
"أ" وقد تكون واجبة العطف.
"ب" وقد تكون ممتنعة العطف.
"ج" وقد يجوز فيها العطف وعدمه.
__________
1 مع صحة تقديم الأخبار كلها على المبتدأ وتأخيرها كلها عنه، وإلى تعدد الخبر يشير ابن مالك إشارة مختصرة بقوله:
وأخبروا باثنين أو بأكثرا ... عن واحد، كهم سراة شعرا ...
يريد: أن العرب أخبروا بخبرين أو أكثر عن مبتدأ واحد، كما في المثال الذي ساقه، فكلمة "هم": مبتدأ "سراة": خبر أول "شعرا" أي: شعراء-، خبر ثان، مرفوع بضمة مقدرة على الألف. والسراة: جمع سري، وهو: الشريف.
2 مع أنه في المعنى خبر، لما سبق من أن المعطوف على الخبر خبر.
3 يصح في مثل هذه الجملة أن تكون نعتا - كما سيجيء في الزيادة التالية:(1/531)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" من الأخبار المتعددة ما لا يصلح أن يكون نعتاً للخبر الأول؛ نحو: المجلات طبية، هندسية، زراعية؛ لأن المعنى يفسد مع النعت، إذ يؤدى إلى أن الطية صفتها هندسية، زراعية؛ وهوغير المقصود. ومثل: الأسد يَكْشر عن نابه، غاضب؛ إذ لا يوجد فى الكلام ما يصلح أن يكون منعوتاً. وكثير من الأخبار المتعددة يصلح أن يكون نعتاً للخبر الأول؛ مثل: هوأسد يزأر؛ فجملة: "يزأر" تصلح أن تكون فى محل رفع خبراً ثانياً، أونعتاً للخبر الأول. ومثلها: الحُطَيْئة شاعرٌ مُخَضْرَم1، هَجّاء. فيجوز فى كل من "مخضرم" و"هجاء" أن تكون خبراً، وأن تكون نعتاً لكلمة: "شاعر".
ونحو: "ولادة" الأندلسية أميرة شاعرة، كاتبة، موسيقية، فيجوز في كل واحدة من الكلمات الثلاث الأخيرة أن تكون خبرا بعد الخبر الأول. وأن تكون نعتا للخبر الأول.
هذا، وجواز الأمرين في كل ما سبق - وفي غيره من كل ما يجوز فيه أمران أو أكثر - متوقف على عدم القرينة التي تعين واحد يجب الاتجاه إليه وحده، إذ لكل أمر معنى يخالف غيره.
ومن الألفاظ ما يجب أن يكون نعتاً ولا يصلح خبراً؛ وذلك حين يمنع مانع معنوى أولغوىّ، نحو: حامد رجل صالح، أوعلىٌّ رجل يفعل الخير؛ لأن الخبر لا بد أن يتمم الفائدة الأساسية - كما عرفنا - ولم يتممها هنا لعدم إفادة الإخبار بالأول إلا مع النعت؛ لأن رجولته مستفادة من اسمه، لا من الخبر وهذا من نوع الخبر الذى يتمم الفائدة بتابعه2 ... ولذلك كان الأحسن فى قوله تعالى: "كونوا قردة خاسئين" أن
__________
1 المخضرم: من أدرك عصرين مختلفين من العصور التاريخية، لكن أكثر استعماله: في كل من أدرك الجاهلية وأول الإسلام والحطيئة من هذا النوع.
2 راجع "الملاحظة" التي في آخر هامش 443، حيث الكلام على الخبر المحتاج للنعت حتما. وفيها إشارة إلى صورة تدخل في نوع الخبر الذي يتمم الفائدة بتابعه، هي صورة المبتدأ الذي يكون اسم شرط. فالراجح أن خبره هو الجملة الشرطية.(1/532)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تكون كلمة: "خاسئين" خبراً ثانياً، لا نعتاً؛ لان جمع المذكر السالم لا يكون نعتاً لغير العاقل إلا بتأول لا داعى له هنا ...
ومثل قول النحاة: الفاعل، اسم، مرفوع، متأخر عن فعله، دال على من فعل ذلك الفعل، أوقام به ... فيجب أن يكون الخبر هوكلمة: "اسم" فقط، وما بعده صفات له، وليست أخباراً؛ لأن الخبر يجب أن يتم به المعنى الأساسى مع المبتدأ، وهنا لا يتم بواحد مما جاء بعد الخبر الأول، إذ الفاعل لا يتم معناه ولا تتضح حقيقته بأنه مرفوع فقط، أومتأخر فقط ... أو ... فقط. وإنما يتم معناه وتتضح حقيقته بأنه اسم موصوف بصفات معينة؛ مجتمعة هى: الرفع، مع التأخير، مع الدلالة ... فكلمة: "اسم" هى التى تعرب وحدها خبراً؛ لأنها مع تلك القيود التى نسميها نعوتاً - تكمل المعنى مع المبتدأ، وتتمم الفائدة. ومثل هذا يقال فى تعريف المبتدأ، وتعريف الخبر، والمفعول، وكل تعريف من التعريفات العلمية المشتملة على ألفاظ وقيود تصلح أن تكون أخباراً أونعوتاً لولا المانع السابق.
"ب" قد يتعدد المبتدأ. وأكثر ما يكون ذلك فى صورتين: يحسَن عدم القياس عليهما فى الأساليب الأدبية والعلمية التى تقتضى وضوحاً ودقة؛ لأنهما صورتان فيهما تكلف ظاهر، وثقل جلىّ. وقيل إنهما موضوعتان1 فلا يصح القياس عليهما.
__________
1 نقل السيوطي - في الجزء الأول من كتابه: "الهمع"، ص 108، عند الكلام على تعدد الخبر والمبتدأ- ما قاله أبو حيان في هذه الصور وأمثالها من: "أنها من وضع النحاة، للاختبار والتمرين، ولا يوجد مثلها في كلام العرب ألبتة" أهـ. ولهذا يحسن عدم استخدامها. وقد ساق بعد ذلك- مباشرة- أمثلة أخرى هي بالهزل ولغو القول أشبه، تكرر فيها توالي "أسماء الموصول"، يعنينا منها ما ختمها به من قوله: "قال ابن الخباز: العرب" لا تدخل موصولا على موصول" وإنما ذلك من وضع النحويين. وهي شكلة جدا...." اهـ.
وإنما كانت هذه مشكلة خطيرة لما فيها من خلق أساليب لا تعرفها العرب - فوق أنها أساليب بغيضة - ولا تجري على سنن من مناهجهم التي يباح محاكاتها، والابتكار فيها بالطرائق المرسومة.(1/533)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأولى: صالح، محمودن هند، مكرمته من أجله، حيث تعددت المبتدءات متوالية، مع خلوكل منها من إضافته لضمير ما قبله. ثم جاءت الروابط كلها متوالية بعد خبر المبتدأ الأخير. ولإرجاع كل ضمير إلى المبتدأ الذى يناسبه نتبع ما يأتى:
1- أن يكون أول خبر لآخر مبتدأ، ويكون الضمير البارز فى هذا الخبر راجعاً إلى أقرب مبتدأ قبل ذلك المبتدأ الذى أخبر عنه بأول خبر.
2- ثم يكون الضمير البارز الثانى للمبتدأ الذى قبل ذلك. وهكذا ... فترتب الضمائر مع المبتدءات ترتيباً عكسيّاً. ففى المثال السابق نعرب كلمة "مكرمته" خبراً عن "هند"، والضمير الذى فى آخر: "مكرمته" وهوالهاء يعود إلى: "محمو"، والضمير الذى فى آخر: "مكرمته" وهوالهاء يعود إلى: "محمود"، والضمير الذى فى آخر: "أجله"، وهو: الهاء أيضاً يعود إلى: "صالح"، ويكون المراد: محمود هند مكرمته من أجل صالح، أو؛ هند مكرمة محمود من أجل صالح. وذلك بوضع الاسم الظاهر مكان الضمير العائد إليه.
الثانية: فى مثل محمد، عمه، خاله، أخوه قائم، حيث تعددت المبتدءات وكان الأول منها مجرداً من إضافته للضمير. أما كل مبتدأ آخر فمضاف إلى ضمير المبتدأ الى قبله. فمعنى الجملة السابقة، أخوخال عم محمد - قائم - فنضع مكان كل ضمير الاسم الظاهر الذى يفسر ذلك الضمير العائد عليه.
وفى الأمثلة السابقة للصورتين ما ينهض دليلا على أن استعمال هذه الأساليب معيب، والفرار منها مطلوب1.
__________
1 كما في الصفحة السالفة وهامشها.(1/534)
المسألة الحادي والأربعون: مواضع اقترن الخبر بالفاء
الخبر مرتبط بالمبتدأ ارتباطاً معنويًّا قويًّا1. ويزيده قوة بعض الروابط اللفظية؛ كالضمير العائد عليه من الخبر، وكغيره مما عرفناه، ولهذا كان الغالب عليه أن يخلومن الفاء التى تستخدَم للربط2 فى بعض الأساليب الأخرى. فمن أمثلة الخبر الحالية من الفاء: العلمُ وسيلةُ الغنى - النظافةُ وقايةٌ من المرض - التجارةُ بابٌ للثروة.
ومن الألفاظ التى ليست خبراً ولكنها تحتاج - أحيانا - إلى الفاء الرابطة بينها وبين ما سبقها: جواب اسم الشرط3 المبهم4 الدال على العموم؛ "لكونه لا يختص بفرد معين؛ وإنما هوشائع"؛ مثل: منْ يعمل خيراً فجزاؤُه خيرٌ. فكلمة "مَنْ" اسم شرط، يدل على العموم، وبعده فعل الشرط مستقبل الزمن؛ وهو5: "يعمل"، ثم يليه جملة اسمية هى جواب الشرط، أى: نتيجته المترتبة عليه، التى يتوقف حصولها فى المستقبل أوعدم حصولها على وقوعه أوعدم وقوعه، وهى: "جزاؤه خير". وقد اقترنت هذه الجملة الاسمية بالفاء؛ فربطت بينها وبين جملة الشرط. ودل هذا الارتباط على اتصال
__________
1 لأن الخبر محكوم به، والمبتدأ محكوم عليه- كما عرفنا في رقم 8 من هامش ص 442 فلا وجود لأحدهما من هذه الناحية بدون الآخر.
هذا إلى أن الخبر في المعنى هو المبتدأ، كما يقال بحق.
2 لأنها تدل على السببية والتعقيب "أي: على أن ما بعدها مسبب عما قبلها، وأنه يتحقق سريعا بتحققه ووجوده" وهي أيضا تؤكد ترتب ما بعدها على ما قبلها، فهي بمثابة القسم. "أنظر رقم 1 من هامش الصفحة الآتية".
3 في هامش ص 69 في ص 524 الكلام على المبتدأ الذي يليه أداة شرط، وبيان الخبر والجواب.
4 في ص 207 معنى: "الإبهام" - ثم في "حـ" من ص 338 و 3 من هامش ص 340 بيان المبهم من الأسماء خاصة، ومعنى إبهامه، ولا سيما: "أسماء الموصول".
5 فعل أداة الشرط الجازمة مستقبل الزمن دائما الزمن دائما، ولو كان فعلا ماضيا في اللفظ، لأن كل أدوات الشرط الجازمة - وبعضا من الشرطية غير الجازمة تجعل فعل الشرط الماضي في اللفظ مستقبل الزمن من حيث معناه، وكذلك فعل الجواب. "راجع ص 59".(1/535)
بين الجملتين، وأن الثانية منهما نتيجة للأولى. ولولا الفاء الرابطة لكان الكلام جُمَلا مفككة، لا يظهر بينها اتصال. ومثل هذا كل أسماء الشرط الأخرى الدالة على الإبهام والعموم، والتى لها جملة شرطية، تليها جملة جواب مقرون بالفاء ...
والخبر - مفرداً أوغير مفرد - قد يقترن بالفاء وجوباً فى صورة واحدة، وجوازاً فى غيرها1، إذا كان شبيها بهذا الجواب الشرطى، بأن يكون نتيجة لكلام قبله، مستقبل الزمن، وفى صدر هذا الكلام مبتدأ يشتمل غالبا2 على العموم والإبهام؛ نحو: الذى يصادقنى فمحترم: "فالذى" اسم موصول مبتدأ2، وهويدل على الإبهام والعموم، وبعده "يصادقنى" كلام مستقبل المعنى3، له نتيجة مترتبة على حصوله وتحققه، هى الخبر: "محترم" وقد دخلت الفاء على هذا الخبر؛ لشبهه بجواب الشرط فى الأمور الثلاثة السالفة التى هى: "وجود مبتدأ دال على الإبهام والعموم، كما يدل اسم الشرط المبتدأ على الإبهام والعموم" و"وجود كلام بعد المبتدأ مستقبل المعنى؛ كوجود جملة الشرط بعد أداة الشرط" و"ترتّب الخبر على الكلام السابق عليه؛ كترتب جواب الشرط على جملة الشرط - وهذا مهم".
ومن الأمثلة: رجلٌ يكرمنى فمحبوب - من يزورنى فمسرور ...
__________
1 كما سيجيء في ص 538 - والغرض من مجيئتها النص على مراد المتكلم من لزوم وقوع الخبر، نتيجة حتمية لوقوع ما قبله ولولا "الفاء" لكان هناك شك حول النتيجة من جهة احتمال وقوعها وتحققها، أو وقوع غيرها وتحققه "راجع المغني والصبيان، ورقم 2 من الهامش السابق".
"2 و2" انظر ما يتصل بهذا الشرط في رقم 4 من هذا الهامش.
3 ليس من اللازم أن يكون مستقبل اللفظ أيضا كالأمثلة الماضية، وإنما يكفي أن يكون مستقبل المعنى فقط دون اللفظ، نحو: قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} و "ما" في الآية موصولة، وليست شرطية، بدليل قراء من قرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} فالفعل. "أصاب" ماض في اللفظ، مستقبل في المعنى، لأن المراد أن كل شيء يصيبنا في المستقبل هو نتيجة لعملنا، وليس المراد الكلام على شيء سبق.
"4 و4" جاء في حاشية الأمير على "المغنى" عند الكلام على "الفاء" المفردة ودخولها في خبر المبتدأ ما يفيد أن الجملة قد تكون ماضية. ونص كلامه أنها تدخل على كل خبر "لمبتدأ شابه الشرط في العموم وذكر جملة بعده، صلة أو صفة. وأصل الجملة أن تكون مستقبلة كالشرط، وقد تكون ماضية. وقد يراد بالمبتدأ معين، نحو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أهـ. - انظر رقم 4 من هامش ص 541 -(1/536)
الأدباء للوالي: من1 أرادك بسوء فجعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك، وكل عدو فتحت قدمك ...
وهكذا كل خبر تحققت فيه الأمور الثلاثة؛ سواء أكان خبراً مفرداً، أم جملة، أم شبه جملة. فالقاعدة العامة فى اقتران الخبر بالفاء هى: مشابهته لجواب الشرط فى فى تلك الأمور الثلاثة، مع خلوالكلام من أداة شرط بعد المبتدأ، لكيلا يلتبس الخبر بجواب الشرط.
وقد تتبع النحاة مواضع المشابهة فوجدوها تتركز فى موضعين لا تكاد تخرج عنهما، مع خلوكل موضع من أداة شرط بعد المبتدأ.
الأول: كل اسم موصول عامّ وقعت صلته جملة فعلية مستقبلة المعنى في الأغلب2 -، أووقعت ظرفاً، أوجارًّا مع مجروره بشرط أن يكون شبه الجلمة بنوعيه متعلقاً بفعل مستقبل الزمن في الأغلب2.
الثانى؛ كل نكرة عامة، وصفت بجملة فعلية، مستقبلة المعنى، أوبظرف، أوبجار مع مجروره على الوجه السالف الذى يقضى بتعليق شبه الجملة بمضارع مستقبل الزمن في الأكثر -.
وإذا اقترن الخبر بالفاء وجب تأخيره عن المبتدأ؛ كالأمثلة التى أوضحناها، فإن تقدم وجب حذف الفاء3.
__________
1 "من" موصولة. والأفعال الماضية التي بعدها مستقبلة الزمن، لأنها الدعاء وتحقق الدعاء لا يكون إلا في المستقبل "ثم انظر رقم 2 و 3 من الهامش السابق".
"2 و2" انظم رقم 2 و 3 من هامش الصفحة السابقة.
والصلة بالظرف، أو الجار مع مجروره ليست فعلا ملفوظا دالا على المعنى المستقبل، ولكنها تتضمن فعلا مقدرا، لأن كلا منهما بحسب الأصل - متعلق بفعل محذوف يمكن تقديره هنا فعلا مضارعا مستقبلا، مثل: "يستقر" أو بمعناه. وبعد حذف هذا المتعلق حل الظرف أو الجار مع مجروره محله، فكلاهما بمنزلة فعل مستقبل الزمن في هذا التركيب. ومن المقرر في شبه الجملة - بنوعيه - إذا وقع صلة لغير "أل" أن يتعلق بفعل لا باسم.... "راجع المفصل جـ1 ص 100 وكذا ما سبق هنا في شبه الجملة، ص 384"، وقد يكون في الكلام قرينة أخرى تدل على أن معناه لا يتحقق إلا في المستقبل.
3 كما سبق في رقم 2 من ص 497.(1/537)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
لم يكتف النحاة بالتركيز الذى أشرنا إليه وإنما عرضوا للتفصيل، وعدّ المواضع المختلفة التى تقع فيها المشابهة - بشرط استيفاء كل منها الشروط الثلاثة السالفة، مبالغة منهم فى الإبانة والإيضاح. وإليك بيانها بعد التنبيه إلى أمرين:
أولهما: أن الأغلب في كل الجمل الفعلية الواقعة صلة أو صفة في الصور الآتية أن يكون زمنها مستقبلا محضا. ويجوز أن يكون ماضيا - مع قلته، كما أسلفنا1 - فليس من الواجب المحتوم استقبال الزمن في تلك الجمل الفعلية. والأغلب كذلك في شبه الجملة بنوعيه "الظرف والجار مع مجروره" الواقع صلة أو صفة في الصورة التالية أن يتعلق بفعل مستقبل الزمن.
ونستغني بهذا التنبيه عن ذكر كلمة "الأغلب" في كل صورة من الصور التالية. منعا للتكرار.
ثانيها: أن كثيراً منها مع صحته لا تستسيغه أساليبنا الحديثة العالية. فخير لنا ألا نستعمله قدر الاستطاعة، وأن نعرف هذه المواضع لنفهم ما قد يكون منها في كلام السابقين، دون القياس عليها، بالرغم من إباحة هذا القياس.
1- خبر المبتدأ الواقع بعد "أمَّا" الشرطية. نحو: أما الوالد فرحيم. وهذا الموضع يجب فيه اقتران الخبر بالفاء دون باقى المواضع2؛ فيجوز فيها الاقتران وعدمه، والاقتران أكثر.
2- أن يكون المبتدأ اسم موصول صلته جملة فعلية زمنها مستقبل1، تصلح أن تكون جملة للشرط3: نحو: الذى يستريض فنشيط.
__________
"1 و1" انظر رقم 2 و3 من هامش ص 536.
2 هذا الموضع لا يذكره بعض النحاة هنا، لأن اقتران الخبر فيه بالفاء إنما هو لأجل: "أما" المتضمنة معنى الشرط، وليس لشبه المبتدأ بأداة الشرط في الإبهام والعموم.... و....
3 الجملة الفعلية التي تصلح أن تكون للشرط هي التي لا يكون فعلها فعل طلب - كالأمر أو النهي - ولا فعلا جامدا، مثل: ليس أو عسى، ولا فعلا مسبوقا بأداة شرط، نحو قوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي...." ولا بما، ولا لن، النافيتين، ولا قد، ولا السين ولا سوف، ولا رب، ولا القسم ... ولا غير هذا مما يجيء تفصيله في مكانه الخاص، وهو: باب الجوازم "جـ4".(1/538)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3- أن يكون المبتدأ اسم موصول صلته ظرف؛ نحو: الذى عندك فأديب. ولا بد أن يكون شبه الجلمة فى هذه الصورة وفما يليها متعلقاً بمضارع مستقبل الزمن كما سلف.
4- أن يكون المبتدأ اسم موصول صلته جار مع مجروره، نحوالذى فى الجامعة فرجل.
5- أن يكون المبتدأ نكرة عامة بعدها جملة فعلية زمنها مستقبل، صفة لها؛ نحو: رجل يقول الحق فشجاع.
6- أن يكون المبتدأ نكرة عامة، بعدها ظرف، متعلق بفعل مستقبل - والظرف 1 صفة لها، نحو: طالب مع الأستاذ فمستفيد.
7- أن يكون المبتدأ نكرة عامة، بعدها جار ومجرور، صفة لها؛ نحو: طالبٌ فى المعمل فمنتفع.
8- أن يكون المبتدأ مضافاً إلى موصول صلته جملة فعلية مستقبلة الزمن، تصلح أن تكون جملة للشرط؛ نحو: كتاب الذى يتعلم فمصون.
9- أن يكون المبتدأ مضافاً إلى موصول صلته ظرف؛ نحوقلم الذى أمامك فجيد.
10- أن يكون المبتدأ مضافاً إلى موصول صلته جار مع مجروره؛ نحو: مرشدة التى فى البيت فخبيرة.
11- أن يكون المبتدأ لفظ "كل" "أوما بمعناها؛ مثل جميع" مضافاً إلى نكرة موصوفة بجملة فعلية بعدها ... 2، نحو: كل رجل يهمل فصغير.....
12- أن يكون المبتدأ لفظ "كل" "أوما بمعناها"، مضافاً إلى نكرة موصوفة بظرف، نحو: كل وطنى أمام الوطن فمخلص. وقول الشاعر:
كُلُّ سَعْى سوى3 الذى يورث الفو ... زَ فعقباه حسْرةٌ وخَسَارُ
__________
"1و 1" بشرط أن تكون الجملة الفعلية المستقبلة للزمن، صالحة لأن تقع شرطية.
2 ستجيء هنا للصور الخاصة بإضافة كلمة: "كل".
3 على اعتبار "سوى" ظرفا، طبقا لما سيجيء في جـ2 باب: الاستثناء.(1/539)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
13- أن يكون المبتدأ لفظ "كل" "أوما بمعناها" مضافاً إلى نكرة موصوفة بجار ومجرور؛ نحو: كل فتاة فى العمل فنافعة.
14- أن يكون المبتدأ موصوفاً باسم موصول صلته جملة فعلية مستقبلة الزمن تصلح للشرط، نحو: الزميل الذى يعاونك فرياضى.
15- أن يكون المبتدأ موصوفاً باسم موصول صلته ظرف: نحو: الزائرة التى معك فمثاليّة.
16- أن يكون المبتدأ موصوفاً باسم موصول صلته جار مع مجروره؛ نحو: الرائد الذى فى الرحلة فأمين.
17- أن يكون المبتدأ مضافاً إلى اسم موصوف صلته جملة فعلية؛ نحو: خادم الرجل الذى يزرع فنافع.
18- أن يكون المبتدأ مضافاً إلى اسم موصوف بموصول صلته ظرف؛ نحو: كاتب الرسالة التى معك فقدير.
19- أن يكون المبتدأ مضافاً إلى اسم موصوف بموصول صلته جار مع مجروره؛ نحو: مؤلف الكتب التى فى الحقيبة فعظيم.
وفى جميع الأمثلة السابقة يجوز أن يكون الخبر مفرداً، أوجملة، أوشبه جملة. ولا بد من خلوالجملة بعد المبتدأ من أداة شرط - ومن غيره مما سبق في رقم 3 من هامش ص 538.
تلك هى أشهر الصور التى يقترن فيها الخبر بالفاء - وجوباً فى واحدة، وجوازاً فى الباقى - لغرض هام، هو: النص على مراد المتكلم من ترتب الخبر على الكلام الذى قبله، وإبانة أن الخبر نتيجة مترتبة على ما سبقه....2.
ولوفقد شرط من الثلاثة التى بيناها لامتنع دخول الفاء على الخبر؛ فمثال فقد العموم: سعيك الذى تبذله فى الخير محمود. ومثال فَقْد الاستقبال: الذى زارنى أمس مشكور. ومثال الجملة الفعلية3 المستقلة الواقعة صلة أوصفة وهى غير صالحة لأن تقع شرطية لاشتمالها على ما، أو: لن، أو: قد، أو ...
__________
1 مستقبله الزمن، وصالحه لأن تقع شرطية.
2 طبقا للبيان السابق في رقمي 2 و 1 من هامشي ص 535 و 536.
3 يلاحظ ما يتصل بهذا في رقم 2 من هامش 536.(1/540)
أو: إلخ. الذى لن يزورنى مسئ ... ومثل هذا يقال فى الصفة أوالصلة التى لم تستوف الشروط.
وقد تدخل الفاء جوازاً - ولكن بقلة - فى الخبر الذى مبتدؤه كلمة "كل" إما مضافة لغير موصوف أصلا؛ نحو: كل نعمة فمن الله، وقول الشاعر1:
وكلُّ الحادثات وإن تناهتْ ... فمقرون بها الفرج القريبُ
وإمّ مضافة لموصوف لكن غير ما سبق2 نحو: كل أمر مفرح أومؤلم فنتيجة لعلم صاحبه.
وإذا كان المبتدأ "أل" الموصولة وصلتها3 صفة صريحة مستقبلة الزمن - جاز الإتيان بالفاء فى الخبر نحو: الصانع والصانعة فنافعان. المخترع والمخترعة فمفيدان. ومنه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ... وفريق من النحاة منع دخول الفاء فيما سبق، وأوّلَ الآية. وهذا رأى لا يصح الأخذ به مع وجود آية كريمة تعارضه، كما لا يصح تأويل الآية لتوافقه. فالصحيح دخولها على الخبر ولوكان أمراً أونهيًّا.
بقى أن نعرف أن المبتدأ الذى يشبه اسم الشرط فيما سبق إذا دخل عليه ناسخ - غير إنّ، وأنّ، ولكنّ - فإن الناسخ يمنع دخول الفاء على خبره. أما إنّ، وأنّ، ولكنّ، فلا تمنع؛ فيجوز معها دخول الفاء: مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقول الشاعر:
فوالله ما فارقتكم قالياً5 لكم ... ولكنّ ما يُقْضَى فَسَوْف يكونُ
__________
1 البيت الآتي نقله صاحب الأمالي "جـ2 ص 307" عن ابن دريد.
2 في رقم 11، 12، 13 من الصورة السالفة.
3 في ص 372 و 388 طريقة إعراب "أل" مع صلتها.
4 جملة الصلة هنا ماضوية. فهي تؤيد الرأي الذي سبق- في رقم 3 من هامش ص 536 - وهو الرأي الذي يصرح بأن جملة الصلة قد تكون جملة ماضوية في المسألة التي نحن بصددها. أما الذين يشترطون استقبال الصلة فيؤولون الآية الأولى على معنى: "إن الذين يتبين أنهم فتنوا المؤمنين والمؤمنات...." ومثل هذا يقال في الآية الثانية وفي آيات أخرى سردتها المراجع النحوية، ومنها "الصبان" في الجزء الأول آخر باب: "المبتدأ والخبر، عند الكلام على موضوع اقتران الخبر بالفاء.
5 كارها.(1/541)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا عطفت على المبتدأ الذى خبره من الأنواع السابقة المقرونة بالفاء، أوعلى ما يتصل به من صلة، أوصفة، ونحوها - وجب تأخير المعطوف عن الخبر؛ إذ لا يجوز الفصل بينه وبين مبتدئه بالمعطوف، ففى مثل: الذى عندك فمؤدب، لا يصح أن يقال: الذى عندك والخادم فمؤدب، أوفمؤدبان، وهكذا ...(1/542)
نواسخ الابتداء "كان وأخواتها"
مدخل
...
المسألة الثانية والأربعون: نواسخ الابتداء "كان وأخواتها" ... 1
معنى الناسخ:
الجملة الاسمية فى مثل "الرياحين مُتْعة" - تتكون من اسمين مرفوعين، يسمى أولهما: المبتدأ، وله الصدارة فى جملته - غالباً -. ويسمى الثانى: خبراً كما هومعروف. ولكن قد يدخل عليهما ألفاظ معينة تغير اسمهما، وحركة إعرابهما، ومكان المبتدأ من الصدارة فى جملته، ومن هذه الألفاظ: كانَ، إنَّ ... ظنَّ ... ولكل واحدة أخوات1 مثل: كان العامل أُميناً، وقول الشاعر:
وإذا كانت النفوسً كباراً ... وتَعِبتْ فى مرادها الأجسامُ
فيصير المبتدأ اسم "كان" مرفوعاً وليس له الصدارة الآن، ويصير خبر المبتدأ خبر كان منصوباً. ويسمى: خبرها" 2 ... ومثل؛ إنّ العاملَ أمينٌ؛ فيصير المبتدأ اسم "إن" منصوباً، وليس له الصدارة، ويصير خبره خبر "إن" مرفوعاً. ونقول: ظننت العامل أميناً فيصير المبتدأ والخبر مفعولين منصوبين للفعل: "ظننت" وليس للمبتدأ الصدارة. وتسمى الكلمات التى تدخل على المبتدأ والخبر فتغير اسمهما وحركة إعرابهما
__________
"1و1" المراد بأخواتها: نظائرها من الكلمات التي تشابهها في العمل، وتخالفها في اللفظ والمعنى، سواء أكانت مع أختها من جنس واحد، فهما فعلان، مثل: كان _ أضحى - ظل.... أم كانتا من جنسين مختلفين. فإحداهما فعل، مثل: "كان" و "ليس" والأخرى حرف، مثل: "ما" الحجازية التي تعمل عليها.
2 التسمية بالاسم وبالخبر هي مجرد "اصطلاح نحوي" لا مناسبة له في الجملة، فمثل: "كان على غائبا"، تعرب كلمة: "على" اسم "كان"، مع أنه في الحقيقة اسم للذات المعينة، وليس اسما "لكان" ولا علما عليها، لأننا لا نسميها باسم جديد خاص.... ونعرب "غائبا" خبر "كان" مع أنه في الحقيقة والواقع خبر عن: "على"، وليس خبرا عن: "كان" لأنها ليست مبتدأ فنجيء لها بخبر. غير أن الاصطلاح النحوي جرى بما سبق. وقد يكون المراد: الاسم المصاحب لكان، الملابس لها، والمراد بالخبر: أنه خبر بحسب الأصل.
و"كان" الناسخة وأخواتها من الأفعال التي تعمل عملها لا ترفع فاعلا، ولا تنصب مفعولا به، ولا تحتاج لأحدهما ما دامت ناسخة. غير أن هذه الأفعال الناسخة تؤنث لتأنيث اسمها، بالشروط والطرق التي يؤنث بها الفعل التام لتأنيث فاعله. وقد ذكرناها في موضعها الخاص من جـ2 ص 65 م 66.(1/543)
ومكان المبتدأ: "النواسخ"، أو: نواسخ الابتداء؛ لأنها تحدث نسخاً، أى: تغييراً على الوجه الذى شرحناه ولا مانع من دخولها على المبتدأ النكرة ... فيصير اسماً لها؛ إذ لا يشترط فى اسمها أن يكون معرفة فى الأصل، ولكن يشترط في اسمها ألا يكون شبه جملة، لأن اسمها في أصله مبتدأ، والمبتدأ لا يكون شبه جملة3 ...
__________
1 لا تدخل النواسخ على المبتدأ إذا كان واحدا مما يأتي:
1- المبتدأ الذي له الصدارة الدائمة في جملته بحيث لا يصح أن يتقدم عليه شيء: كأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، وكم الخبرية، والمبتدأ المقرون بلام الابتداء ... ويستثنى من هذا النوع الذي له الصدارة في جملته - ضمير الشأن، فيجوز أن تدخل النواسخ عليه.
"وقد تقدم عليه الكلام في باب الضمير ص 250".
وكذلك يستثنى المبتدأ إذا كان اسم استفهام، أو مضافا لاسم استفهام، فيجوز أن تدخل عليه "ظن وأخواتها" مع استيفائها الفاعل، ومع تقديم اسم الاستفهام وجوبا على الناسخ، نحو: أيهم ظننت أفضل؟ وغلام أيهم ظننت أفضل؟ ولا تدخل هنا "كان"، ولا "وأن" ولا أخواتها، لأن الإسم في بابي: "كان وإخواتها" لا يتقدم على العامل، وأما الخبر فيجوز أن يتقدم في بابي: "كان وظن" وأخواتهما إذا كان اسم استفهام، أو مضافا إلى اسم استفهام، نحو: أين كنت وأين ظننت محمودا ... بشرط ألا يمنع من التقدم مانع مما سيجيء عند الكلام على تقدم خبر "كان". أما خبر "إن" وأخواتها فلا يتقدم.
ب- المبتدأ الذي يجب حذفه، وخبره نعت مقط ع. وقد تقدم الكلام عليه، في ص 510.
جـ- كلمات معينة لم تقع إلا مبتدأ في ألأساليب الواردة التي لا يجوز تغيير هيئتها لأنها جرت مجرى الأمثال، والأمثال لا تتغير كالكلمات الملازمة للابتداء، في نحو: لله در الخطيب، ونحو: "أقل رجل يفعل ذلك"، "وقد سبق الكلام عليهما في باب المبتدأ ص 474 و 450" ونحو: "ما" التعجبية مثل "ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا" وهذا النوع يسمى: "الملازم للابتداء بنفسه" "أي: بسبب مزية في نفسه امتاز بها: وهي، أن العرب خصته بالابتداء فلم تستعمله إلا مبتدأ" وكل هذا يسمى: "الاسم غير المتصرف في استعماله" لأنه مقصور على ضبط واحد، وطريقة واحدة في الاستعمال، لا يتجاوزها وليس من اللازم أن يكون مرفوعا فمن أنواعه ما هو مقصور على النصب أو غيره - كالمنصوب على المصدرية لداع، كنيابته عن فعل الأمر في مثل: "سقيا، ورعيا"، "وقد سبق الكلام عليهما في ص 515، فليس أصله المبتدأ الذي يصلح لدخول النواسخ عليه.
ومما يتصل بهذا: المبتدأ المقصور - في الغالب - على معنى واحد لا يستعمل في غيره، كالدعاء، أو القسم، أو غيرهما مع ملازمته صيغة واحدة لا تتغير صورتها، ومع ملازمته الإفراد فلا يكون مثنى، ولا جمعا، كقولهم في الدعاء: "طوبى للأمين" ولا يكون الخبر لكلمة: "طوبى" إلا الجار مع مجروره، "كما سبق في "أ" من ص 481" ومن أمثلته أيضا قول على رضي الله عنه: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". ومثل كلمتي: "ويل، وسلام" في قولهم: "ويل للخائن. وسلام على المصلح"، واللفظان الأخيران يستعملان في غير الابتداء أحيانا. وقولهم في القسم: أيمن الله لألتزمن الإنصاف. ولهذا القسم بيان يتصل بتركيبه في رقم 2 من ص 519.
د- الملازم للابتداء بسبب غيره كالاسم الواقع بعد "لولا" الامتناعية، و "إذا" الفجائية ... فإنهما لا يدخلان إلا على المبتدأ، مثل، لولا العلوم ما تقدمت الحضارة، ومثل: خرجت فإذا الأصدقاء.
2 كما سبق في رقم 4 من هامش ص 486 وفي رقم 11 من ص 488.
3 كما تقدم في رقم 6 من هامش ص 442 و "أ" من ص 447.(1/544)
ومما سبق يتبين أن النواسخ بحسب التغيير1 الذى تحدثه ثلاثة أنواع: نوع يرفع اسمه وينصب خبره - فلا يرفع فاعلا، ولا ينصب مفعولا - مثل: "كان وأخواتها"، ونوع ينصب اسمه ويرفع خبره؛ مثل: "إن وأخواتها"، ونوع ينصب الاثنين ولا يستغنى عن الفاعل؛ مثل: "ظن وأخواتها". ولكل نوع أحواله وأحكامه المفصلة فى بابه الخاص. وكلامنا الآن على: "كان" وأخواتها من الأفعال الناسخة التي تعمل عملها2، وتسمى أيضاً: الأفعال الناقصة3.
وفيما يلي بيان أشهرها، وشروطه عمله، ومعنى كل فعل:
إنها ثلاثةَ عَشَرَ فعلا4؛ كان - ظل - بات - أصبح - أضحْى -
__________
1 أما النواسخ بحسب صيبغتها وتكوينها اللفظي فثلاثة أنواع أيضا. "أفعال" مثل: كان وأكثر أخواتها، و "أسماء" وهي المشتقات من مصادر تلك الأفعال التي يمكن الاشتقاق منها، مثل مصادر كان، واصبح، وأمسى.... فيقال: يكون - كن - كائن.... وهكذا.
وحروف " مثل: "ما الحجازية" من أخوات كان.... ومثل "إن" وأخواتها.
2 ولها نظائر أخرى من الحرو ف تعمل عملها سيجيء الكلام عليها في 593.
3 سميت "ناقصة" لأن كل فعل منها يدل على "حدث ناقص" "أي: معنى مجرد ناقص" لأن إسناده إلى مرفوعه لا يفيد الفائدة الأساسية المطلوبة من الجملة الفعلية إلا بعد مجيء الاسم المنصوب، فالاسم المنصوب هو الذي يتمم المعنى الأساسي المراد، ويحقق الفائدة الأصلية للجملة، وهذا يخالف الأفعال التامة، فإن المعنى الأساسي يتم بمرفوعها الفاعل، أو نائب الفاعل، "فكان" الناقصة مثلا تدل مع اسمها على حصوله ووجوده وجودا مطلقا "وهو: ضد العدم" وهذا معنى غير مراد، ولا مطلوب، فإذا جاء الخبر تعين المعنى المطلوب، وتحدد.
و"صار" مع اسمها تدل على مجرد تحوله، وانتقاله من حالته، من غير بيان لحالته الجديدة. ولا توضيح لما انتهى إليه أمره، والخبر هو الذي يبين ويوضح.
و"أصبح" مع اسمها تدل على مجرد دخوله في وقت الصباح، وليس هذا هو المقصود من الناقصة فإذا جاء الخبر كان كفيلا بتحقيق المراد. وهكذا....
وليس السبب في تسميتها "ناقصة" أنها تتجرد للزمان وحده، ولا تدل معه على حدث معنى" كما يقول بعض النحاة - وأشرنا إليه في رقم 2 من هامش ص 46 -، فهذا الرأي مدفوع بأدلة كثيرة جاوزت العشرة، وسجلتها المطولات "وقد أشار إلى بعضها بإيجاز محمود، ومنطق سليم: صاحب "حاشية الأمير على المغنى" في الباب الثالث المجلد الثاني، عند الكلام على تعلق الظرف والجار والمجرور بالفعل الناقص".
4 غير الأفعال التي بمعنى: "صار" وستذكر بعدها في ص 557، وغير "أفعال المقاربة" وما يتصل بها. ولها باب مستقل- في ص 614-، وغير أفعال أخرى قليلة الشهرة، لقلة استعمالها ناقصة في فصيح الأساليب، مثل أفتأ، بمعنى: فتيء ...
هذا والأفعال السبعة الأولى كاملة التصرف نسبيا- إذ يجيء من مصدرها أكثر المشتقات- "وليس" جامدة بالاتفاق، و "دام" جامدة على الأصح. والأربعة الباقية، ناقصة التصرف.
كما سيجيء في ص 567.(1/545)
أمسى - صار - ليس - زال - برح - فتئ - انفك - دام. وكل هذه الأفعال تشترك فى أمور عامة، أهمها1:
أنها لا تعمل إلا بشرط أن يتأخر اسمها عنها2، وأن يكون خبرها غير إنشائي؛ فلا يصح: كان الضعيف عاونْهُ3. وأن يكون الاسم والخبر مذكورين معاً، ولا يَصح - مطلقاً - حذفهما معا، ولا حَذف أحدهما. إلا "ليس"، فيجوز حذف خبرها، وإلا "كان" فيجوز فى أسلوبها أنواع من الحذف. وسيجئ البيان عند الكلام عليهما4.
وألا يتقدم الخبر عليها إذا كان اسماً متضمناً معنى الاستفهام؛ وهى مسبوقة بأحد حرفى النفى: "ما" أو: "إن"؛ فلا يقال: أين ما يكون الصديق؟ ولا أين إنْ يكونُ الصديق؟ ولا أين ما زال العمل؟ لأنّ "ما" و"إنْ" النافيتين لهما الصدارة فى كل جملة يدخلان عليها؛ فلا يصح أن يسبقهما شىء من تلك الجملة، وإلا كان الأسلوب فاسداً5.
وأنها إذا كانت مسبوقة بما المصدرية وجب ألا يسبقها شيء من صلة "ما"، لأن "ما المصدرية بنوعيها" لا يسبقها شيء من صلتها - كما تقدم6 -.
وأن صيغتها حين تكون بلفظ الماضى، وخبرها جملة فعلية مضارعية - لا بد أن يماثلها زمن هذا المضارع؛ فينقلب ماضياً7 - عند عدم وجود مانع -؛
__________
1 انظر ما نقلناه عن النحاة - في رقم 4 هامش ص 410 - من قولهم: لم يرد في الكلام الفصيح وقوع "أن المصدرية" بنوعيها "المخففة، والناصبة للمضارع" مع صلتها مبتدأ يستغنى عن الخبر بحال سدت مسده، ولا يعد "كان" "وأن" الناسخين بغير فاصل من غيرهما.... وكذلك "ما" المصدرية - راجع البيان هناك -.
2 وسيأتي هذا عند الكلام على حكم معموليها من ناحية التقديم والتأخير - ص 569.
3 لا فرق في المنع بين الإنشاء الطلبي، مثل: كان والدك احترمه، وغير الطلبي مثل: كانت صحتي "يحفظها الله، أو: يكون مالي أدامه الله" على أن تكون الجملة الأخيرة في المثالين دعائية، فلا يصح اعتبار "كان" ناسخة في هذه الأمثلة وأشباهها مما وقع فيها الخبر جملة. إنشائية وللإنشاء بنوعيه إيضاح في رقم 2 من هامش ص 374.
4 في ص 558 و 580.
5 راجع منع هذا التقدم في ص 569 وفي رقم 3 من هامش ص 570.
6 في ص 407.
7 كما سبق هذا عند الكلام على أحوال المضارع من ناحية دلالته الزمنية - ص 61 - ومنه يعلم أنه لا يدخل في هذا الحكم الفعل المضارع الذي في خبر النواسخ الدالة على الحال فقط، كأفعال الشروع، أو الدالة على الاستقبال فقط، كأفعال الرجاء.(1/546)
ففى مثل: أصبح العصفور يغرد - يكون زمن المضارع "يغرد" ماضياً، مع أن الفعل مضارع، ولكنه - هووكل الأفعال المضارعة - يتابع زمن الفعل الماضى الناسخ، بشرط عدم المانع الذى يعينه لغيره - كما أشرنا -.
وأن أخبارها لا تكون جملة فعلية ماضوية، ما عدا "كان" فإنها تمتاز بصحة الإخبار عنها بالجملة الماضوية1.
بقي من شروط الخبر: أن يتمم المعنى بنفسه مباشرة مع الاسم - وهو الغالب - وقد يتممه في بعض الأحيان بمساعدة النعت، طبقا للبيان المفصل الذي سبق في باب: "المبتدأ والخبر" موضحا بالأمثلة....
ويشترط في الخبر أيضا ألا يكون معلوما من اسم الناسخ وتوابعه، كما في البيان السالف2.
أما فى غير الأمور المشتركة السالفة فلكل فعل ناسخ - وكل ما قد يكون لمصدره من مشتقات 3 - معناه الخاص مع معموليه4 وشروطه الخاصة التى سنعرضها فيما يلى:
__________
1 راجع حاشية الألوسي على القطر ص 340 غير أن المراجع الأخرى تضطرب في هذا الحكم وتختلف اختلافا واسعا "تبدو صور منه في حاشية ياسين على التصريح، جـ1 أول هذا الباب، وفي الهمع جـ 1 ص 113....." وخير ما يستخلص من تلك الآراء هو:
1- ما قاله الهمع، ونصه: "شرط ما تدخل عليه: "صار" وما بمعناهما، و "دام" و "زال" وأخواتها - زيادة على ما سبق - ألا يكون خبره فعلا ماضيا "يريد: جملة ماضوية " فلا يقال صار زيد علم، وكذا البواقي، لأنها تفهم الدوام على الفعل، واتصاله بزمن الإخبار، والماضي يفهم الانقطاع، فتدافعا، وهذا متفق عليه.... " أهـ.
ب- أما في غير تلك الأفعال فالصحيح جوازه مطلقا، وعليه البصريون، لكثرة وروده في القرآن، والكلام الفصيح كثرة تبيح القياس عليه - وقد عرض "الهمع" أمثلة متعددة من هذا الوارد ... أما الكوفيون فيشترطون لصحته وجود "قد" قبله، ثم إ ن المفهوم من الحاشية التي على شرح التصريح، بعنوان "فائدة" - برغم تعدد الآراء فيها أن المستحسن غاية الاستحسان - وإن لم يبلغ حد الوجوب عند غير الكوفيين - هو اقتران الخبر بالحرف: "قد" إن كان الفعل الناسخ وفعل الخبر ماضيين معا، أو مضارعين معا. فمتى تماثل في نوعهما الفعلان - الفعل الناسخ والفعل الذي في خبره- فالمستحسن تصدير الخبر بالحرف، "قد" ويجوز عدم مجيئها. وتمتاز "كان" بجواز مجيء "قد" وعدم مجيئها في الحالات السالفة، وغيرها من سائر حالاتها الأخرى. كما تشهد بهذا النصوص العالية الفصيحة التي عرضها النحاة ويقوي مجيء "قد" في الخبر حجة الكوفيين التي ستذكر في رقم 2 من هامش ص 559 ثم انظر ما يتصل بالأخبار وبهذا في ص 254 لأهميته.
2 في هامش ص 443.
3 انظر ما يختص بجمود هذه الأفعال واشتقاقها في ص 567.
4 لأن الفعل وحده بدون معموله لا يحقق الغرض، لأنه يدل على مجرد معنى جزئي غير معين =(1/547)
كان: نفهم معناها من مثل: كان الطفل جارياً؛ فهذه الجملة يراد منها إفادة السامع أن الطفل موصوف بشئ؛ هو: "الجرى"، وان الجرى فى زمن ماض؛ بدليل الفعل: "كان".
ولوقلنا: يكون الطفل جارياً - لكان المراد إفادة السامع أن الطفل موصوف بشئ؛ هو: "الجرى"، وأن الجرى فى زمن حالى أومستقبل، بدليل الفعل المضارع: "يكون".
ولوقلنا: كن جاريًا - لكان المراد إفادة السامع أن المخاطب موصوف بتوجه طلب معين إليه؛ هو؛ مباشرة الجرى، أى: مطالبته بالجرى فى المستقبل؛ بدليل فعل الأمر: "كُنْ".
مما سبق نفهم المراد من قول النحاة: "كان" مع معموليها تفيد مجرد اتصاف اسمها بمعنى خبرها اتصافاً مجرداً1 فى زمن يناسب صيغتها. فإن كانت صيغتها فعلاً ماضياً فالزمن ماض، بشرط ألاّ يوجد ما يجعله لغير الماضى المحض. وإن كانت صيغتها فعلاً مضارعاً خالصا2 فالزمن صالح للحال والاستقبال بشرط لا يوجد ما يجعله لغيرهما، وإن كانت صيغتها فعل أمر فالزمن مستقبل؛ إن لم يوجد ما يجعله لغيره -. وإن كانت الصيغة إحدى مشتقات مصدرها فالزمن على حسب ما يناسب هذا المشتق3.
حكمها: لا بد لإعمالها هي والمشتقات من تحقق الشروط العامة السالفة.
وقد تستعمل "كان" الناسخة بمعنى: "صار"4 فتأخذ أحكامها، وتعمل عملها بشروطه؛ مثل: جمد الماء فكان ثلجاً - احترق الخشب فكان تراباً5.
__________
1 ولا محدد - في زمن خاص، ولا يدل على أكثر من هذا، كالصبح في: أصبح، والمساء في، أمسى والضحا: في أضحى.... ويكون الزمن ماضيا أو حالا أو مستقبلا على حسب نوع الفعل الناسخ. أما الفعل مع معموليه فيدل على اتصاف الاسم بمعنى الخبر في زمن معين، اتصافا ينشأ عنه أن تؤدي الجملة معناها المطلوب الأساسي كاملا واضحا.
1 اتصافا مجردا، أي: لا زيادة معه، لأنها لا تدل بصيغتها على نفي، أو دوام، أو تحول، وزمن خاص، - كالصباح والمساء، والضحا- ولا على غير ذلك مما تدل عليه أخواتها. حقا إنها تدل على الزمن الماضي أو غيره، ولكن دلالتها عليه مطلقة، ولا غير ذلك مما تدل عليه أخوتها. حقا إنها تدل على الزمن الماضي أو غيره، ولكن دلالتها عليه مطلقة، إذ لا تقييد فيها بالصباح، أو المساء، أو غيرهما.
2 أي: حقيقيا، بمعنى أنه غير مصحوب بما يجعل زمنه الماضي فقط، مثل: "لم" أو للمستقبل فقط، مثل: "سوف" أو للحال مثل: "ما النافية....
3 طبقا للأحكام الخاصة بكل مشتق، والمدونة في بابه.
4 سيجيء في ص 556 الكلام على "صار"، وشروطها، ومعناها الذي هو: التحول والانتقال من حالة إلى أخرى....
5 ومنه قوله تعالى {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا، وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} ، أي: "صارت" فيهما، لأن المعنى يقتضي هذا.(1/548)
وقد تستعمل بمعنى: "بَقِىَ على حاله، واستمر شأنه من غير انقطاع ولا تَقَيُّدٍ بزمن معين"1 نحو: كان الله غفوراً رحيماً.
وقد تستعمل تامة2، وتكثر فى معنى: حصل وظهر "أىّ: وُجِد" فتكتفى بفاعلها؛ نحو: أشرقت الشمس فكان النورُ، وكان الدفء، وكان الأمن. أى: حصل وظهر، ومثل قول الشاعر يصف إحدى البقاع3:
وكانت، وليس4 الصبح فيها بأبيض ... وأضحت5، وليس الليل فيها بأسود6
وما تقدم من الأحكام للفعل الماضى: "كان" يثبت لباقى أخواته المشتقات؛ كالمضارع، والأمر، واسم الفاعل. و. و..
هذا، وتضم الكاف من الفعل الماضى: "كان" عند اتصاله بضمائر الرفع المتحركة؛ كالتاء، ونون النسوة، طبقاً للبيان الذى سلف مفصلا7.
وبقى من أحكام "كان" أربعة أخرى سيجئ الكلام عليها مفصلاً فى موضعه من آخر هذا الباب؛ وهى: أنها تقع زائدة8، وأن الحذف يتناولها كما يتناول أحد معموليها9، أوهما معاً، وأن نون مضارعها قد تحذف10، وأن خبرها قد ينفى. وهذا الأخير يجئ الكلام عليه مع باقى الأخبار الأخرى المنفية11.
__________
1 سبقت إشارة لهذا في آخر ص 55.
2 الفعل التام - كما سبق في رقم 545 - هو ما يكتفي بمرفوعه في إتمام المعنى الأساسي للجملة.
3 بأنها في الصبح مظلمة بظلام الليل، لغياب بعض الوجوه المشرقة المنيرة. فإذا ظهرت تلك الوجوه عند الضحا زال الظلام، وحل محله بياض النور. وشبيه بهذا قول القائل في المعنى نفسه:
أرى الصبح فيها منذ فارقت مظلما ... فإن أبت صار الليل أبيض ناصعا
4 ليست هذه الواو من نوع "الواو" الداخلة في خبر الناسخ، والتي يجيء الكلام عليها في: "أ" من الصفحة التالية متضمنا شروطها....
5 أضحى هنا تامة، كما سيجيء في ص 555.
6 ومن الأمثلة أيضا قول حسان رضي الله عنه، يخاطب المشركين في مكة حين اعترضوا المسلمين القادمين من المدينة لزيارة الكعبة.
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الصبح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
7 في رقم 2 من هامش ص 165.
8 ص 579.
9 ص 580.
10 ص 588.
11 ص 590.(1/549)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" إذا وجد نفى قبل "كان" الماضية والمضارعة وكان خبرها جملة مقترنة "بإلا" الاستثنائية الملغاة - جاز أن يقترن بالواو؛ كقول الشاعر:
ما كانَ من بَشَرٍ إلا ومِيتتُهُ ... محْتومة؛ لكِنِْ الآجالُ تختلفُ
لأن النفى قد نقض هنا بـ "إلا". والنفى ونقضه شرطان - على الصحيح - لزيادة الواوفى الجملة الواقعة خبر: "كان" أومضارعها - كما تقدم-.
وهذه الواوتسمى "الواوالداخلة على خبر الناسخ" وتدخل أيضاً فى خبر "ليس بالشرط السالف كما سيجئ1. وقد سُمعت2 قليلا فى خبر غيرهما من النواسخ. ولا يصح القياس على هذا القليل.
وبرغم أن وجودها جائز فى غير القيل مما ذكرناه، فإن الخير - كما يرى كثير من النحاة - فى العدول عنها؛ حرصاً على الدقة فى التعبير، وبعداص عن اللبس الذى قد ينشأ بين هذه الواو والواوالأخرى التى للحال - أوغيره -، ولكل منهما معنى يخالف معنى النوع الأخر3. والبراعة تقتضى الإبانة التامة، وتجنب أسباب اللبس والاشتباه؛ نزولاً على حكم البلاغة.
__________
1 في ص 561 وقد جاء في الصبان - جـ 2 باب: "لا النافية للجنس" عند بيت ابن مالك: "وركب المفرد فاتحا...." - ما نصه:
"قال الروداني: قولهم إن خبر الناسخ تدخله الواو....، غير مسلم على إطلاقه. وحاصل ما في "التسهيل والهمع" أن الخبر إن كان جملة بعد "إلا" لم يقترن بالواو، إلا بعد "ليس وكان" المنفية، دون غيرهما من النواسخ، وبغير "إلا" يقترن بالواو بعد "كان" وجميع أخواتها، لا بعد جميع النواسخ. هذا عند الأخفش وابن مالك. وغيرهما لا يجيز اقتران الخبر بالواو أصلا. وحملوا ما ورد من ذلك على أنه حال، والفعل تام لا ناقص، أو محذوف الخبر للضرورة" أهـ.
ومن أمثلة الواو في خبر "ليس" قول الشاعر:
ليس شيء إلا وفيه - إذا ما ... قابلته عين البصير - اعتبار
وسيعاد البيت في ص 561 لمناسبة هناك.
2 راجع الصبان جـ1 في هذا الموضع آخر باب "كان" وفي جـ 2 منه، أول باب: "لا" النافية للجنس- وقد ذكرنا بعض الأمثلة المسموعة في رقم 2 من هامش من ص 687.
3 ولعل هذا كان السبب فيما ذهب إليه بعض النحاة الأقدمين من منع استعمال هذه الواو، وفي تأويل النصوص القديمة المشتملة عليها تأويلا يتجه مرة إلى اعتبار الواو للحال، والجملة بعدها في =(1/550)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"ب" من الأساليب الأدبية الشائعة: "كائناً ما كان"، و"كائناً من كان"؛ فى مثل: سأفعل ما يقضى به الواجب؛ كائناً ما كان. وسأحقق الغرض الكريم كائناً ما كان ... أى: سأفعل ذلك مهما جدّ وكان ذلك الواجب؛ وذلك الغرض. ومثل: سأرد الظالم: "كائناً من كان" - سأكرم النابغ "كائناً من كان" ... أى: سأفعل ذلك مهما كان الإنسان الظالم، أوالنابغ.
أما إعرابه فمتعدد الأوجه: وأيسر ما يقال وأنسبه هو: "كائناً" حال منصوب، واسمه1 ضمير مستتر تقديره: "هو" يعود على الشئ السابق، و"ما" أو"من" نكرة موصوفة مبنية على السكون فى محل نصب خبر "كائن". و"كان" فعل ماض تام، وفاعله ضمير مستتر يعود على "ما" أو"من" والجملة من الفعل والفاعل فى محل نصب صفة "ما" أو"من". والتقدير النحوىّ: سأفعل ذلك كائناً شيئاً كان. أو: كائناً إنساناً كان. أى: سأفعل ذلك كائناً أىّ شئ وجد أوأىّ إنسان وجد2.
ومن الأساليب المرددة فى كلام القدامى الفصحاء - برغم غرابتها اليوم - قولهم: "ربما اشتدت وَقْدة الشمس على المسافر فى الفلاة؛ فكان مما يُغَطِى رأسَه وذراعيه، وربما ثارت الرمال؛ فكان مما يَحْجُبُ عينيه ومنخريه ... " يريدون: فكان ربما يُغَطى رأسه - وكان ربما يحجب عينيه ومنخريه، أى: يغطيهما ... فكلمة: "مما" بمعنى: "ربما" 3....
__________
= محل نصب حال، وخبر الناسخ محذوف. ومرة إلى أنها زائدة شذوذا.... و.... و.... ونحن في غنى عن هذا كله بتركها، وعدم القياس على المسموع منها. "راجع ص 561 ورقم 2 من هامش ص 687".
1 لأنه اسم فاعل من "كان" الناقصة، فيعمل عملها.
2 تخيرنا ما سبق من بين الآراء المنثورة في المراجع المختلفة، ومنها الجزء الأول من "الأشموني، والتصريح"، في باب: "كان وأخواتها" عند الكلام على: "كان التامة" وما يشاركها من أخواتها.
3 تصدى لهذا الأسلوب عالم معاصر من تونس - هو: الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - وكان عضوا مرسلا بالمجمع اللغوي بالقاهرة- وخصه ببحث في الجزء التاسع من مجلة المجمع "ص 116" عرض في الجلسة "الحادية عشرة" من جلسات مؤتمر المجمع في دورته "الثامنة عشرة"، ووافق عليه المجمع والمؤتمر، وقرر أن ذلك أسلوب لغوي يراد منه الكثرة، وقد يدل على القلة أحيانا. والبحث نفيس وملخصه مع الإيجاز =(1/551)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= هو: أن بعض المركبات استعملت استعمال كلمة مفردة، كالذي ورد في "صحيح البخاري" عن ابن عباس ونصه: "كان رسول الله يعالج التنزيل شدة إذا نزل عليه الوحي، وكان مما يحرك لسانه وشفتيه...." وقد أهمل ابن الأثير في كتابه: "النهاية" معنى قوله: "مما يحرك لسانه وشفتيه" وفسره عياض في كتابه: "المشارق" بأن معناه: "كثيرا ما يحرك به لسانه وشفتيه" وبعد أن فسره روى عن أحد الأئمة من شراح الحديث ما يأتي: "في مثل هذا كأنه يقول: هذا من شأنه ودأبه، فجعل" ما" كناية عن ذلك، ثم أدغم "النون" أهـ. وقال آخر: "إن معنى: "مما" هنا هو: "ربما" وهذا من معنى ما تقدم، لأن "ربما" تأتي للتكثير أيضا، وفي "مسلم"، في حديث: "النجوم أمنة السماء: "وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء" ثم قال: تكون "مما" هنا بمعنى: "ربما التي للتكثير، وقد تكون فيها زائدة" أهـ مسلم ثم قال الباحث المعاصر: ما نلخصه في المسائل الآتية:
1- شواهد هذا الاستعمال كثيرة في الحديث والشعر، منها - غير ما تقدم قول رافع في "البخاري" في باب "الحرث والزرع": "كنا نكري الأرض بالناحية، منها مسمى لسيد الأرض، قال فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك ... ": ومنها قول ابن عباس الوارد في "صحيح مسلم" في كتاب: تعبير الرؤيا "إن رسول الله كان مما يقول لأصحابه: "من رأي منكم رؤيا فليقصها أعبر هاله" ومنها قول البراء بن عازب: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله مما نحب أن نكون عن يمينه. " ومنها قول أبي حية النميري:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
ثم قال الباحث: تعرض لهذا اللفظ "السيرافي" في شرح كتاب سيبويه. بما نصه عند قول سيبويه: "اعلم أنهم مما يحذفون الكلم وإن كان أصله في الكلام غير ذلك ... " اهـ. وهنا قال السيرافي: "أراد: ربما يحذفون.... وهو يستعمل هذه الكلمة كثيرا في كتابه. والعرب تقول: أنت مما تفعل كذا.... أي: ربما تفعل. وتقول العرب أيضا: "أنت مما أن تفعل. أي: أنت من الأمر أن تفعل، فتكون "ما" بمنزلة الأمر - أي: الشيء - و "أن تفعل" بمنزلة الفعل، أي: مصدر تقديره "فعل"، أي: بمنزلة هذا اللفظ - ويكون "أن تفعل"، في موضع رفع بالابتداء، وخبره: "مما" وتقديره: أنت فعلك كذا وكذا من الأمر الذي تفعله" أهـ كلام السيرافي كما نقله الباحث.
2 من السيرافي أخذ ابن هاشم في كتابة: "المغني" عند الكلام على معاني: "من"، فقال عن العاشر من معانيها: "مرادفة "ربما" وذلك إذا اتصلت "بما" كما في قول الشاعر أبي حية النميري:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
قال السيرافي وفريق غيره من النحاة، وخرجوا عليه قول سيبويه: "واعلم أنهم مما يحذفون الكلم...." والظاهر أن "من" فيهما ابتدائية، و "ما" مصدرية، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب مثل خلق الإنسان من عجل" اهـ.
ثم قال الباحث:
في كلامه هذا احتمال مخالفتهم في أن جعلوها بمنزلة: "ربما، " لأن: "ربما" لا تعيين للتكثير، واحتمال أنه فسر كلامهم بحمله على إرادة التكثير كما فسر آخرون.
وقد أشار ابن هشام- كبعض من سبقوه - إلى كيفية الحذف التي اعتورت هذا التركيب، وأبقت =(1/552)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= فيه معنى التكثير، أو معنى "ربما، "، أو غير ذلك، كما هو واضح من كلامهم حيث يظهر ترددهم في منشأ معنى التكثير، أمنشؤه الحرف "من" كما يرى ابن هشام، أم الحرف "ما" كما يرى غيره؟
3- ويقول الباحث: ينبغي التنبيه إلى أن هذا التركيب إذا استعمل هذا الاستعمال يجيء في موضع خبر المبتدأ ويجيء في موضع خبر "كان" وفي موضع الحال، فمن ظن اختصاص ذلك بخبر "كان" فقد وهم. كما ينبغي التنبه إلى أن أصل استعماله في هذا المعنى ألا يصرح معه بلفظ الكثرة، فما وقع فيه لفظ: "كثيرة" فهو جار مجري التفسير من الراوي، أو مجرى التأكيد من القائل، لخفاء دلالة التركيب على التكثير، ومثاله قول سمرة بن جندب: "كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأي أحد منكم رؤيا ... ؟ " وقول أبي موسى: "وكان رسول الله كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء".
والتنبه كذلك إلى أن قول السيرافي: "وتقول العرب أيضا "أنت مما أن تفعل...." غريب، لا يعرف شاهده من فصيح الكلام، فضلا عن كون الحرف "أن" فيه غير واقع موقعا، مع ما فيه من اجتماع ثلاثة أحرف متوالية من أحرف المعاني، وهي: "من" و "ما" و "أن" سواء أجعلت "ما" مصدرية أم زائدة وإلى هنا انتهى كلام الباحث، بعد الاستغناء عن بضع كلمات منه.
هذا ويوضح ما سبق أيضا قول سيبويه جـ1 ص 476" إن "من الجارة إذا كفت بالحرف "ما" الزائدة قد تكون بمعنى: "ربما" واستشهد بالبيت السالف.
وجاء في آخر الجزء الرابع من القاموس - باب الألف اللينة- عند الكلام على: "ما" وأنواعها، واستعمالاتها.... النص التالي: "إذا أرادوا المبالغة في الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل، كالكتابة قالوا: "إن زيدا مما أن يكتب" أي: إنه مخلوق من أمر، ذلك الأمر هو الكتابة "أهـ.
وقد أشرنا بإيجاز - للأسلوب السابق في جـ2، باب "حروف الجر"، م 90 ص 431 عند الكلام على: "من".(1/553)
ظل: تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى خبرها طول النهار غالبا -، فى زمن ماض، أو حاضر، أو مستقبل، بحيث يناسب دلالة الصيغة المذكورة في الجملة1 نحو:
ظل الجو معتدلا يظل الجو معتدلا..... و.......
وتسعمل كثيراً بمعنى: "صار" عند وجود قرينة؛ فتعمل بشروطها2؛ نحوقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} ، أى: صار3. وقد تستعمل تامة فى نحو: ظل الحر؛ بمعنى: دام وطال ...
شروط عملها: لا يشترط لها وللمشتقات أخواتها سوى الشروط العامة التى سلفت.
أصبح: تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى خبرها صباحاً، فى زمن يناسب صيغتها. مثل أصبح1 الساهر مُتعباً. وتستعمل كثيراً بمعنى: "صار" فتعمل بشروطها2؛ مثل: أصبح النِّفطُ دِعامة الصناعة؛ وإنما كانت بمعنى: "صار" فى هذا المثال وأشباهه لأن المراد ليس مقصوراً على وقت الصبح. وإنما المراد التحول من حالة قديمة إلى أخرى جديدة ليست خاصة بالصباح.
وقد تستعمل - بكثرة - تامة فى نحو: أيها السارى4 قد أصبحت. أى: دخلت فى وقت الصباح5.
وشروط عملها هى الشروط العامة؛ فهى مثل: "ظل".
__________
"1 و1" شرحنا معنى: "مناسبة الزمن للصيغة" في ص 548 ورقم 1 من هامشها.
2 وهي في ص 556.
3 لأنه وجهه لم يكن مسودا قبل البشري، وإنما تحول من لونه الأصلي إلى السواد بعد ولادة البنت.
4 المسافر ليلا.
5 وقد وردت زائدة هي و "أمسى" في كلام عربي قديم نصه: "الدنيا ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها". والمراد: ما أبردها، وما أدفاها. وهذا لا يقاس عليه - كما سيجيء في رقم 2 من هامش الصفحة الآتية، وفي ص 581- وإنما نذكره لنفهمه، ونفهم نظيره مما قد يمر بنا في أثناء قراءة النصوص القديمة المقصورة على السماع.(1/554)
أضحى: تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى خبرها وقت الضحا، فى زمن يناسب صيغتها ... مثل: أضحى الزارع نكبًّا على زراعته. وتستعمل كثيراً بمعنى: "صار" فَتعمل بشروطها فى مثل: أضحى الميدان الصناعى مطلوباً. وإنما كانت بمعنى: "صار" لأن المعنى ليس على التقيد بوقت الضحا أوغيره - وإنما على التحول والانتقال من حالى إلى أخرى. وقد تستعمل تامة في مثل: أضحى النائم، أي: دخل في وقت الضحا1.
شروط عملها: هى الشروط العامة التى سبقت؛ فهى وبقية المشتقات تشبه مثل: "ظل". في الاكتفاء بالشروط التامة.
أمسى: تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى خبرها، مسَاءً فى زمن يناسب صيغتها؛ مثل: أمسى المجاهد قريراً. وتكون كثيراً بمعنى: "صار" فتعمل بشروطها؛ مثل: اقتحم العلم الفضاء المجهول: فأمسى معلوماً؛ أى: صار معلوماً؛ لأن المراد ليس التقيد بوقت المساء، وإنما المراد التحول والانتقال. وتستعمل تامة فى مثل: أمسى الحارس. أى: دخل فى وقت المساء2.
شروط عملها وعمل المشتقات من مصدرها: هى الشروط العامة السالفة. كظل.
بات: تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى خبرها طول الليل؛ فى زمن يناسب صيغتها؛ مثل: "بات القادم نائماً، وقول الشاعر:
أبيتُ نجِيًّا للهموم كأنَّما ... خلالَ فِراشى جمرةٌ تتوهَّجُ
وتكون تامة، فى مثل: بات الطائر؛ بمعنى: نزل ليقضى الليل فى بعض الأمكنة.
شروط عملها وعمل المشتقات هي الشروط العامة.
__________
1 وفي مثل البيت الذي سبق - "ص 549" - وفيه "كان"، و "أضحى" تامتان - وهو:
وكانت وليس الصبح فيها بأبيض ... وأضحت وليس الليل فيها بأسود
2 قلنا في رقم 5 من هامش الصفحة السالفة عند الكلام على "أصبح": إنها هي و "أمسى" تزادان كما في العبارة القديمة، "الدنيا ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها"، وقلنا: إن هذا لا يقاس عليه.... كما سيجيء في ص 581.(1/555)
صار: تفيد مع معموليها تَحَوُّلَ اسمها، وَتَغيُّرهُ من حالى إلى حالة أخرى ينطبق عليها معنى الخبر؛ مثل: صارت الشجرة باباً. أى: تحولت الشجرة "وهى اسم: صار" من حالتها الأولى إلى حالة جديدة، سميت فيها باسم جديد، هو: "باب" "وهو؛ الخبر"، ومثل: صار الماء بخاراً؛ فقد تحول الماء "وهو: اسم: صار"، من حالته الأولى إلى حالة جديدة يسمى فيها: "بخاراً" وهوالخبر.
وتستعمل تامة في مثل: صار الأمر إليك، بمعنى، ثبت واستقر لك1 وفي مثل: إلى الله تصير الأمور، أي تتجه: وتخضع له وحده.
شروط عملها: يشترط فيها وفى الأفعال التى بمعناها2، وفي المشتقات من مصدرها.
"1" الشروط العامة السالفة.
"2" ألا يكون خبرها جملة فعلية فعلها ماض، فلا يصح صار الجالس وقف، ولا صار المتكلم سكت3.
__________
1 أي: من أول الأمر من غير أن يكون هذا تحولا عن حالة سابقة.
2 الأفعال التي بمعناها سبق بعضها، وبعض أخر سيجيء، وكلاهما مدون في الصفحة التالية.
3 لأن خبر "صار" لا بد أن يكون معناه متصلا وممتدا إلى وقت الكلام، فإذا قلنا: صار الماء بخارا، وصار السباح يقفز. فلا بد أن يكون البخار والقفز موجودين عند النطق بهذا الكلام. فلو كان الخبر جملة ماضوية لدل على انقطاع المعنى قبل النطق بهذا الكلام، فيفسد المراد.
"أنظر ما يتصل بهذا في رقم 1 من هامش ص 547".(1/556)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ويشترك مع صار فى المعنى، والعمل، والشروط، أفعال أخرى - غير التى سبقت1 - أشهرها أحدَ عشرَ، كل منها يصح أن تحل "صار" محله، واستعماله قياسىّ مثلها: وهي
1- آض، مثل: آضَ الطفل غلاماً. وآض الغلام شابًّا: بمعنى: "صار" فيهما.
2- رجع، مثل: قوله عليه السلام: "لا تَرْجِعوا بعدى كفارا يَضْربُ بعضكم رقابَ بعض".
3- عاد، مثل:
عاد البلد الزراعى صناعيًّا.
4- استحال، مثل: استحال الخشب فحماً.
5- قعد، مثل: قعدتْ المرأةُ مكافحةً فى الميادين المختلفة.
6- حار، مثل:
وما المرْءُ إلا كالشِّهاب وضوْئِهِ ... يَخُورُ رَماداً بَعْد إذْ هوساطعُ
7- ارتد، مثل قوله تعالى: {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} .
8- تَحَول، مثل: تحول القطن نسيجاً، وتحولَ النسيح ثوباً رائعاً.
9- غَدَا: مثل غَدَا العملُ الحرّ مرموماً. وقول الشاعر:
إذا غَدَا ملِكٌ بالَّلهومشتغلاً ... فاحكمْ على مُلكه بالويْل والحَرَبِ2
10- رَاح: مثل: رَاحَ المرءُ مقدَّراً بما يحسنه.
11- جاء، فى مثل: ما جاءت حاجَتَك؟ فقد ورد هذا الأسلوب فى الأساليب الصحيحة المأثورة بنصب كلمة: "حاجة"، ومعناه: ما صارت حاجتك.؟ والمراد: أىُّ حاجة صارت حاجتك؟ وإنّما نُصِبتْ كلمة "حاجة" لأنها خبر "جاء" التى بمعنى: صار، واسمها ضمير يعود على "ما"
__________
1 الإفعال التي سبقت، والتي تشارك "صار" في المعنى والعمل وشروطه.... هي "كان، ص 548" و "ظل - أصبح - أضحى - أمسى -.... في ص 554 و 555".
2 الخراب والنهب(1/557)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاستفهامية التى تعرب مبتدأ مبنية على السكون فى محل رفع، والجملة من "جاء ومعموليها" فى محل رفع خبرها1.
__________
1 يصح القياس على هذا الأسلوب، فيقال: ما جاء ت سفارتك ومفاوضتك....؟ من غير التقيد بكلمة: "حاجة" فيصح إحلال كلمة أخرى محلها على حسب المعنى. كما يجوز ضبط كلمة: "حاجة" ونظائرها بالرفع، فتكون اسم: "جاء"، و "ما" الاستفهامية خبرها، مقدما، في محل نصب. والمعنى: أي شيء صارت إليه حاجتك.(1/558)
ليس: تفيد مع معموليها نفى اتصاف اسمها بمعنى خبرها فى الزمن الحالىّ نحو: ليس القطار مقبلاً. فالمراد نفى القدوم عن القطار الآن1. ولا تكون للنفى فى الزمن الحالى إلا عند الإطلاق، أى: عند عدم وجود قرينة تدل على أن النفى واقع فى الزمن الماضى، أوفى المستقبل: فإن وجدت قرينة تدل على أنه واقع فى أحدهما وجب الأخذ بها؛ نحو: ليس الغريب مسافراً أمس، أو: ليس سافر2 الغريب، أو: وزعت الحقول ليس حقلا3 أو: وجود الفعل الماضي4 بعدها، أوقبلها - دليل على أنه النفى للماضى ... أما فى نحو: ليس الغر مسافراً غداً، أوقوله تعالى في عذاب الكافرين يوم القيامة: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} ، فيكون النفى متجهماً للمستقبل؛ لوجود قرينة لفظية فى المثال؛ وهى كلمة: "غد"،
__________
1 الحال، أو الآن، أو: الحاضر: هو زمن الكلام. وبالرغم من أنها لنفي الحال كثيرا - وقد تكون لنفي الزمن الماضي، أو المستقبل بقرينة- فإنها عند الإعراب تعرب فعلا ماضيا في كل أحوالها، وكذلك لو كانت للنفي المجرد من الزمن ومن العمل.
2 هذا الأسلوب صحيح، ولكنه غير شائع في الكلام القديم، فلا داعي لمحاكاته. والفعل والفعل في محل نصب خبر "ليس" واسمها ضمير الشأن، مستتر فيها، طبقا لرأي بعض النحاة، ومنهم ابن مالك وقد سبق عند الكلام على ضمير الشأن، "ص 250" وقلنا هناك "في رقم 2 من هامش ص 254" أن الأحسن في هذا الأسلوب ونظائره "مما يقع فيه فعل بعد "ليس" مباشرة بغير فاصل...." أن تكون هي حرف نفي مهمل، أي: لا يمل، فليس له اسم ولا خبر. وهذا الإعراب أيسر وأنسب، لأن وقوع الفعل معمولا تاليا مباشرة لعامله الفعل الذي هو من نوعه، قليل جدا في الكلام الصحيح- ولهذا الحكم صلة بما سبق في رقم 1 من هامش ص 547 - وإهمالها في هذه الصورة يوافق لغة تميم التي تهملها في كل الأحوال، وبلغتهم: "ليس الطيب إلا المسك" ولكن لا يحسن اليوم الأخذ برأي تميم، إلا في هذه الصورة التي أشرنا إليها.
ويقول القرطبي في ص 72 من مقدمة تفسيره، في باب: "الرد على من طعن في القرآن"، ما نصه: "إن العرب لم تقل ليس قمت: فأما لست قمت بالتاء فشاذ، قبيح، خبيث، رديء لأن "ليس" لا تجحد "أي: لا تنفي" الفعل الماضي، ولم يوجد مثل هذا إلا في قولهم: "أليس قد خلق الله مثلهم" وهو لغة شاذة...." " أهـ.
واشترط الكوفيون للقياس على هذا الأسلوب دخول "قد" على خبر "ليس" مجاراة للمثال المسموع، ولأن قد " تقربه من الحال.
3 ليس في هذا المثال فعل من أفعال الاستثناء كما سيجيء في بابه، جـ 2 م 83 ص 328.
4 ويفهم من هذا صحة وقوع الفعل الماضي في خبرها" ولكنه قليل قبيح - كما سلف في رقم 2 والمستحسن أن يكون هذا الماضي مقرونا بالحرف" قد" ليقربه من الحال طبقا لرأي الكوفيين الذين يشترطون هذا في الماضي خبر "ليس" "كما سبق هنا، وفي رقم - ب - من هامش ص 547".
أما الاعتراض بأن "ليس" لنفي الزمن الحالي فيلزم من الإخبار عنها بالماضي تناقض...." فقد أجاب عنه النحاة: بأنها تكون لنفي الحال في الجملة غير المقيدة بزمان "أما المقيدة به فنفيها على حسب القيد. هذا إلى أن "قد" تقربه من الحال كما عرفنا.(1/559)
الدالة عليه ولوجود قرينة عقلية فى الآية تدل عليه أيضاً، هى: أن يوم القيامة لم يأت حتى الآن.
وقد يكون المراد منها نفى الحكم نفياً مجرداً من الزمن؛ كقول العرب: ليس لكذوب مروءة، ولا لحسود راحة، ولا لسيء الخلق سُؤْدُد.، وقولهم: "ليس منا من عق أباه1".
شروط عملها؛ وأحكامها:
"1" هى الشروط العامة.
"2" لا تستعمل تامة.
"3" لا يجوز تقدم خبرها عليها فى الرأى الأرجح2.
"4" يجوز حذف خبرها، إذا كان نكرة عامة؛ نحو: ليس أحد. أى: ليس أحد موجوداً، أونحوذلك ... ويجوز جره بالباء الزائدة، بشرط ألا تكون أداة استثناء3؛ وبشرط ألا ينتقض النفى بإلا؛ نحو: ليس الغضب بمحمود العاقبة. وقول الشاعر:
وليس بِمُغْنٍ فى المودة شافعٌ ... إذا لم يكنْ بين الضلوعِ شفيعُ
فإن نقض النفى بإلا لم يصح جر الخبر بالباء الزائدة؛ فلا يجوز ليس الغِثَى إلا بغِنَى النفس4 ...
"5" لا يصح وقوع "إنْ" الزائدة بعدها5 ...
6- يجوز أن يتصل بآخرها الكاف التي هي حرف محض للخطاب 6: مثل: لستك محمدا مهملا. وقد سبق البيان المتصل بهذا7.
وبقي من أحكام ليس حكم يتعلق بخبرها المنفي. وسيجي الكلام عليه مع بقية الأخبار المنفية 8.....
__________
1 عصاه وترك الإحسان إليه.
2 راجع مواضع تقدم الخبر هنا، في ص 569.
3 لأنها لو كانت أداة استثناء لكانت بمعنى: "إلا" والمقترن "بإلا" لا يزاد في أوله "الباء" - كما سيجيء في رقم 2 من هامش 607 - ومثلها: "لا يكون" الاستثنائية. أما الكلام على هذين الفعلين باعتبارهما من أفعال الاستثناء فمكانه باب: الاستثناء" ح2 ظ م 83 ص 276.
4 انظر رقم 4 من هامش ص 448 حيث الكلام على الناسخ الذي يحتاج إلى منصوب فيستغنى عنه بمرفوع. "ومن أمثلة هذا الناسخ: ليس".
5 راجع الصبان، والهمع - أول باب "ما" الحجازية.
6 وهو حرف متصرف على حسب المخاطب، إفرادا وتثنية وجمعا، مع التذكير أو التأنيث في كل ذلك.
7 في رقم 3 من ص 240.
8 في ص 590.(1/560)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"أ" أشرنا فيما سبق1 إلى أنه يجوز فى خبر "ليس" ما جاز فى خبر "كان" الماضية والمضارعة المسبوقة بالنفى، من اقترانه بالواوحين يكون جملة موجبة2، بسبب اقترانها بكلمة: "إلا"؛ كقول الشاعر:
لَيْس شَىْءٌ إلاّ وَفيهِ إذَا ... قَابَلَتْهُ عيْنُ البَصيرِ اعبتارُ
وتسمى هذه الواو: "الواوالداخلة على خبر الناسخ" كما - عرفنا.
ونقول هنا ما قلناه فى "كان": من أن الأحسن العدول عن زيادتها، برغم أن وجودها جائز؛ حرصاً على دقة التعبير، وبعداً عن اللبس الذى قد ينشأ بين هذه الواووالأخرى التى للحال أولغيره ... فلكل واحدة موضع تستعمل فيه ومعنى تؤديهن وتركها يريحنا مما قال بعض النحاة الأقدمين من تأويل للنصوص المشتملة عليها، وتكلف لا داعى له.
"ب" لا تقع "إن" الزائدة بعد "ليس"3 - كما أشرنا فى الصفحة السالفة - فلا يصح أن يقال: ليس إنْ الكذوب محترماً، مع أنه يجوز زيادتها بعد "ما" النافية المهملة التى معناها معنى "ليس"، مثل: ما إنْ الضعف محمود، أما وقوعها بعد "ما" الحجازية فيبطل عملها4.
"حـ" قد يقع بعد خبر "ليس" و"ما" معطوف مشتق، له أحكام مختلفة تجئ فى "ب" من ص 611.
__________
1 في ص 550 وهامشها رقم 1 ويجيء في رقم 2 من هامش ص 689.
2 لأن "ليس" تفيد النفي، والاستثناء ينقض النفي.
3 صرح بهذا الصبان وصاحب "الهمع" في أول باب: "ما" الحجازية - كما أشرنا في رقم 5 من الصفحة السابقة.
4 كما سيجيء في "أ" من ص 594.(1/561)
زال: تدل بذاتها على النفى، وعدم وجوج الشئ؛ من غير أن تحتاج فى هذه الدلالة للفظ آخر؛ فإذا وجد قبلها نفى أوشبهه "وهوالنهى والدعاء" انقلبت معناها للإثبات1؛ مثل: ما زال العدوناقماً. أى: بقى واستمر ناقماً. وفى هذه الحالة تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى الخبر اتصافاً مستمرًّا لا ينقطع، أومستمرًّا إلى وقت الكلام، ثم ينقطع بعده بوقت طويل أوقصير؛ كل ذلك على حسب المعنى. فمثال المستمر الدائم: ما زال الله رحيماً بعباده - ما زال الفير كبير الأذنين. ومثال الثانى: لا يزال الحارس واقفاً. لا يزال الخطيب متكلماً.
ومثالها مع النهى: لا تزَلْ2 بعيداً عن الطغيان. ومع الدعاء "وأدواته هنا: "لا"، أو: "لن"" لا زال الخير منهمراً عليك فى قابل أيامك - لا يزال التوفيق رائدك فى كل ما تقدم عليه - لن تزال عناية الله تحرسك فيما يصادفك التوفيق رائدك فى كل ما تقدم عليه - لن تزال عناية الله تحرسك فيما يصادفك من مكايد ... ، بشرط أن يكون القصد من كل ذلك الدعاء للمخاطب ...
ولا تستعمل زال المسبوقة بالنفي أو شبهه تامة3 ...
ويشبهها فى الدلالة على النفى بذاتها، وصيغتها، وفى اشتراط أداة نفى قبلها، أوشبهه للعمل - أخوات لها فى هذا، هى: "فتئ - برح - انفك وسيأتى الكلام على الثلاثة"4.
__________
1 لأن نفي النفي إثبات. والنهي والدعاء يتضمنان في المعنى نفيا، لأن المطلوب بهما ترك شيء، وهذا الترك نفي.
2 في هذا المثال وأشباهه تكون: "لا" ناهية مع تضمنها معنى النفي - كما سبق في رقم 1 - وهي لا تدخل إلا على المضارع دائما، فإذا كان المضارع بعدها فعلا ناسخا من مضارع هذه الأربعة "زال - فتيء - برح - أنفك" كان متضمنا للنفي مع تضمنها للنهي، فيصير المعنى في المثال: أنهاك عن عدم البعد عن الطغيان. أي: أنهاك عن الطغيان. ومثلها "لن" التي للدعاء فإنها خاصة بالمضارع. بخلاف "لا" الدعائية، فإنها تدخل على الماضي والمضارع.
3 انظر رقم 1 من هامش ص 568 حيث الكلام على مبتدأ ناسخ "مثل: زائل" لا يحتاج إلى خبر إن كان هذا المبتدأ وصفا ناسخا يعمل، لأن اسم الناسخ يغني عن خبر المبتدأ....
4 ومثلها: "وإن كان قليل الاستعمال" "ونسي"، و "رام" التي مضارعها "يريم" وكلاهما بمعنى "زال" الناسخة. ومن شواهد استعمالها:
لا يني الحب شيمة الحب ما دام، ... فلا تحسبنه ذا ارعواء
وقوله:
إذا رمت ممن لا يريم متيما ... سلوا فقد أبعدت من رومك المرمى(1/562)
شروط إعمالها: وإعمال المشتقات من مصدرها
1- يشترط فيها الشروط العامة.
2- أن يسبقها نفى1 أونهى أودعاء؛ كالأمثلة التى سبقت. ولى فرق فى النفى بين أن يكون ظاهراً؛ مثل: لا زال الغِنى ثمرة الجدّ، وأن يكون مقدراً لا يظهر فى الكلام، ولكن المعنى يكشف عنه، والسياق يرشد إليه؛ مثل: تالله يزال الشحيح محروماً متعة الحياة حتى يموت. أى: تالله لا يزال. وحذف النفى قياسى بشرط أن يكون بالحرف: "لا" وأن يكون الفعل مضارعاً فى جواب قسم2.
3- ألا يكون خبرها جملة فعلية ماضوية؛ فلا يصح: ما زال المسافر
__________
1 سواء أكان النفي بالحرف، مثل: "ما" أم بفعل موضوع للنفي، مثل: "ليس"، تقول: ليس ينفك العزيز مكرما وقول الشاعر:
قضى الله يا أسماء أن لست زائلا ... أحبك حتى يغمض العين مغمض
أو بفعل طاريء عليه النفي، مثل: "قلما"، في نحو: "قلما يبرح الأنبياء دعاة الهدى". فكلمة: "قلما" هنا تركت معنى التقليل، صارت بمعنى "ما" النافية، لوجود قرينة تدل على ذلك، هي: أن الأنبياء لا تبرح الدعوة للهدى مطلقا، إذ لا يصح أن يقال: إنها قد تترك دعوة الله بعض الأحيان.
أو بفعل يتضمن معنى النفي ويستلزمه، كالفعل، "أبي"، بمعنى: امتنع وكره، مثل أبيت أزال استغفر الله، لأن معنى: "أبيت" لم أفعل، أو باسم مثل، "غير" في نحو: "غير منفك العالم أسر علمه. ويستعان على إعراب هذا المثال بما سبق في رقم 1 من هامش ص 449 وبما يجيء في رقم 1 من هامش 568.
2 يصح أن تحذف أداة النفي قبل "زال" وأخواتها الثلاث بالشرطين المذكورين، لأن العرب تحذف أحيانا "لا" النافية في جواب القسم، مع ملاحظتها وتقديرها في المعنى، لأن اللبس عندئذ بين المنفي والموجب، مأمون، إذ لو كان الجواب غير منفي في المعنى والتقدير لوجب أن يكون المضارع مؤكدا باللام والنون معا، جريا على الأغلب والأقوى في جواب القسم عند البصريين، وبأحدهما عند كثرة الكوفيين. ومن أمثلة حذف "لا" قوله تعالى: "تا الله تفتأ تذكر يوسف...." أي: لا تفتأ.
جاء في أمالي أبي القاسم الزجاجي - ص 50 في بيت ليلى الأخيلية ترثى توبة، وصدره: "فأقسمت أبكى بعد توبة هالكا...." ما نصه: "تريد: لا أبكى بعد توبة هالكا.... والعرب تضمر "لا" النافية في جواب القسم مع ملاحظتها في المعنى، لأن الفرق بينه وبين الموجب قد وقع بلزوم الموجب اللام والنون، كقولك: والله لأخرجن. قال الله عز وجل: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف ... } أي: لا تفتأ تذكر يوسف" أهـ.
وقال الشاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك، وأوصالي
أما بيت ليلى الأخيلية في رثاء توبة كاملا فهو:
فأقسمت أبكي بعد توبة هالكا ... وأحفل من دارت عليه الدوائر
أي: لا أبكي ولا أحفل ... "حفله، وحفل به، يحفل.... اهتم وبالتي".(1/563)
غاب: لأن زال تفيد مع معموليها استمرار المعنى إلى وقت الكلام ثم ينقطع بعده - كما سبق - أولا ينقطع. والخبر إذا وقع جملة فعلية ماضوية كان منافياً هذا، ومعارضاً له: لدلالته على الماضى وحده دون اتصال بالحال أوالمستقبل1.
4- ألا يقع خبرها بعد: "إلا"؛ فلا يصح ما زال النجم إلا بعيداً: لأن النفى نقِضَ وزال بسبب: "إلا".
5- أن يكون مضارعها هو: "يزال" التى ليس لها مصدر مستعمل. أما: "زال" التى مضارعها: "يَزيل" ومصدرها "زَيْل" - فليست من الأفعال الناسخة، وإنما هى فعل تام، متعد، إلى مفعول به، ومعناها: مَيزَ وفصَل. تقول "زال" التارج بضاعته زَيلا: أى: ميَّزَها وفصَلها من غيرها. وذلك "زال" التى مضارعها: "يزول" ومصدرها" "الزوال" فإنها ليست من النواسخ؛ وإنما هى فعل لازم، معناه: هلك وفَنِىَ ... مثل: زال سلطان الطغاة زوالا؛ بمعنى: هَلَكَ وفَنِىَ هلاكاً، وفناء. وقد يكون معناها: انتقل من مكانه، مثل: زال الحجر؛ أى: انتقل من موضعه ...
وسيجئ آخر هذا الباب حكم خاص بخبرها المنفى، وخبر أخواتها عند الكلام على الأخبار المنفية عامة2.
فتئ: تشترك مع "زال" فى كل أحكامها، أى: فى معناها، وفى شروطها. إلا الأخير؛ - لاختلاف المضارع فيهما وإلا وقوع: "فتئ" تامة فى بعض الأساليب - دون زوال - ومنها: فتئ الصانع عن شئ. بمعنى: نسيه.
برح: تشترك مع "زال" فى كل أحكامها، أى: فى معناها، وفى شروطها، إلا الأخير؛ لاختلاف المضارع فيهما؛ وإلا وقوع "برح" تامة؛ مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ ... } ، أى: لا أذهب، ولا أنتقل3....
__________
1 راجع ما يتصل بهذا في أول ص 547 و "أ" من هامشها.
2 ص 590.
3 لا صلة بين "برح وأبرح" الناسختين، طبقا للبيان الموضح لهما هنا، وأبرحت التامة في قول العرب: "لله درك فارسا، وأبرحت جارا"، بمعنى: عظمت فارسا وعظمت جارا. يقال أبرح الرجل، إذا جاء بالبرح - بسكون الراء - أي: بالعجب "والبيان في جـ 2 باب: "التمييز" م 87 ص 390" فجملة: "أبرحت" فعل وفاعل. "وجارا": تمييز.(1/564)
انْفَكَّ: تشترك مع "زال" فى كل أحكامها إلا فى الشرط الأخير؛ لاختلاف المضارع فيها. وإلا استعمال. "انفك" تامة، بمعنى: انفصل؛ مثل: فككتُ حلَقَات السلسلة فانفكت، أى: انفصلت ...
دام: تفيد مع معموليها استمرار المعنى الذى قبلها مدة محددة؛ هى مدة ثبوت معنى خبرها لاسمها؛ نحو: يفيد الأكل ما دام المرء جائعاً: ويضر ما دام المرء ممتلئاً. ففائدة الأكل تدوم بدوام وقت معين، محدد، هو: وقت جوع المرء. والضرر يدوم كذلك بدوام وقت معين، محدود، هو: وقت الامتلاء، ولا بد فى دوام ذلك الوقت المحدد من أن يستمر ويمتد إلى زمن الكلام.
شروط إعمالها:
1- يشترط فيها الشروط العامة.
2- أن تكون بلفظ الماضى1، فى الرأى الأرجح، وقبلها ما المصدرية الظرفية2.
__________
1 تبعا للرأي الأرجح. كما سيتضح في رقم 2 من هامش الصفحة التالية.
2 هي التي تؤول مع ما بعدها بمصدر مع نيابتها عن ظرف زمان بمعنى: مدة، أو: وقت أو زمن، أو نحو هذا من كل ما يدل على الزمان، ويكون هذا المصدر المؤول معمولا للمضارع الذي قبلها، مثل: أشار كك ما دامت أمينا. "وقد سبق الكلام عليها وعلى المصدر المؤول، في الموصول الحرفي "ص 411" ولتقريب فهمها يفترضون أن أصل الجملة: أشار كك مدة ما دمت أمينا، فكلمة "مدة" ظرف زمان مضاف. وكلمة "ما" مصدرية، تسبك مع الجملة التالية لها بمصدر. تقديره "دوامك" وهذا المصدر المؤول هو المضاف إليه. ثم حذف الظرف المضاف، وناب عنه المضاف إليه من غير سبك "وهو: "ما" مع الجملة التي تليها" وصار هذا المضاف إليه منصوبا على الظرفية، لنيابته عن الظرف المحذوف، كما ناب، المصدر الصريح عن الظرف في مثل. قابلتك غروب الشمس، أي: وقت غروب الشمس، فقد حذف الظرف المضاف، وناب المصدر المضاف إليه عنه، فصار منصوبا.
فإن تقدم على "دام" "ما" المصدرية فقط - أي: "ما" المصدرية غير الظرفية - كانت فعلا تاما، بمعنى: بقي واستمر. نحو: يسرني ما دمت، أي: دوامك وبقاؤك - ومثله: يسرني ما دمت شجاعا، أي: يسرني دوامك شجاعا. ولا يصح أن تكون "ما" مصدرية ظرفية في هذا المثال، فليس المراد يسرني المدة، وإنما المراد: يسرني الدوام والاستمرار، وفرق كبير بين الاثنين: لأن الذي يسر هو الدوام، لا المدة ... وكذلك إن سبقها "ما" النافية كانت فعلا تاما، بمعنى: بقي واستمر طويلا. نحو: ما دام الضيف. أي: ما بقي واستمر، وكذلك إن لم تسبق مطلقا بلفظة "ما" النافية أو غير النافية"، نحو: دام الظلم فأهلك أعوانه، ونحو: دام محمد صحيحا "صحيحا: حال منصوبة، وليست خبرا".(1/565)
وإذا أسندت لضمير رفع متحرك وجب ضم الدال، وحذف الألف1.
3- أن يسبقهما معاً كلام تتصل به اتصالا معنويًّا، بشرط أن يكون جملة فعلية مضارعية2.
4- ألا يكون خبرها جملة فعلية ماضوية؛ لأن دام مع معموليها تفيد استمرار المعنى إلى وقت الكلام، والجملة الماضوية تفيد انقطاعه فيقع التنافى3.
5- ألا يتقدم خبرها عليها وعلى "ما"؛ لأن "ما" المصدرية الظرفية4 لا يسبقها شئ من صلتها التى تسبك معها بمصدر. أما توسطه بينها وبين "ما" فجائز.
ومما سبق نعلم أن جميع أفعال هذا الباب تستعمل ناقصة وتامة إلا ثلاثة أفعال تلتزم النقص؛ وهى: فتئ - زال - ليس" -.
كما نعلم أن كل فعل ناقص "ناسخ" لا يعمل هو وما قد يكون لمصدره من
__________
= ومن المفيد أن نشير إلى أن الفعل "دام" قد يكون ناقصا مع تقدم "ما" المصدرية الظرفية عليه، فليس من اللازم نقصانه عند وجودها، فقد يكون تاما لا يعمل كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} ، فالمعول عليه في الحكم بالنقصان أو عدمه هو أنها لا تعمل بغير أن يتحقق الشرط. لكن وجود الشرط لا يستلزم حتما أن تعمل، فمع وجوده يجوز إهمالها وإعمالها على حسب المعنى، إذ لا يلزم من وجود الشرط وجود الشرط وجود المشروط "كما يقول علماء المنطق"، ولكن لا يوجد المشروط بدون وجود الشرط، كالرؤية لا تكون إلا بوجود العين. لكن وجود العين لا يقتضي الرؤية، إذ يصح أن تكون العين مغلقة، أو ائمة، أو محتجبة عن الإبصار لسبب ...
1 يوضح هذا ما سبق في آخر رقم 2 من هامش ص 165 خاصا بالفعل: "كان".
2 كقول الشاعر:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا ...
وهذا الشرط نص عليه صاحب شرح المفصل "في ص 114 من الجزء السابع" حيث قال: "أما: "دام" فلا تستعمل إلا بلفظ الماضي - كما كانت "ليس" كذلك - ولا يتقدمها إلا فعل مضارع، نحو: لا أكلمك ما دام زيد قائما" أهـ.
أما قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} فلهم فيه كلام يخرجه عما نحن فيه - وقد أشرنا لهذا الشرط في رقم 3 من هامش ص 412. واشتراط مضيها هو الأرجح- كما قلنا - ويعارض فيه بعض النحاة، محتجا بأن لها مضارعا ناسخا هو: "يدوم" ولها مصدر ناسخ كذلك. "راجع الصبان في هذا الموضع". وهذا الرأي ضعيف مردود، لقيامه على فهم نظري محض لا تؤيده الشواهد. والصحيح أنها فعل ماض جامد إذا سبقته "ما" المصدرية الظرفية.
3 راجع ما يتصل بهذا في "أ" من هامش ص 547.
4 والمصدرية غير الظرفية أيضا - راجع حكم النوعين في ص 413 -.(1/566)
إلا بشروط مفصَّلة؛ فلا يكفى الاقتصار على ما يذكره كثير من النحاة من تقسيم هذه الأفعال الناسخة ثلاثة أقسام مجْملة؛ بحسب ما يلزم لها من شروط أولا يلزم، حيث يقولون:
"ا" قسم يعمل بدون شرط وهوثمانية أفعال:
كان - أصبح - أضحى - أمسى - ظل - بات - صار - ليس.
"ب" قسم يعمل بشرط أن يسبقه نفى، أوشبه نفى، وهوأربعة أفعال: زال - برح - فتئ - انفك.
"حـ" قسم يعمل بشرط أن يسبقه "ما" المصدرية الظرفية وهوفعل واحد: "دام" ... لأن هذا التقسيم غير سلم، لاعتباره القسم الأنول غير محتاج إلى شروط، ولأنه ترك فى القسمين الأخيرين شروطاً هامة لا يصح أهمالها. وقد عرفنا تفصيلها1.
بقى أن نعود إلى مسألة أشرنا إليها من قبل2؛ هى: أن النسخ ليس مقصوراً على الأفعال الماضية وحدها، بل يشمهلا ويشمل ما قد يكون معها من مشتقات إنْ وجدت؛ فتعمل بالشروط التى للماضى.
وتفصيل هذا أن الأفعال الناسخة ثلاثة أقسام:
"ا" قسم جامد، أى: لا يتصرف مطلقاً، ولا يوجد منه غير الماضى، وهوفعلان: "ليس بالاتفاق، و"دام"3 فى أشهرها الآراء.
__________
1 ويشير ابن مالك إلى عمل "كان" بقوله:
نرفع كان المبتدأ اسما والخبر ... تنصبه، ككان سيدا عمر
أي: كان عمر سيدا، ويذكر أخواتها بقوله:
ككان: ظل، بات، أضحى، أصبحا ... أمسى، وصار، ليس، زال، برحا
فتى، وانفك، وهذي الأربعة ... لشبه نفي، أو لنفي متبعه
أي: أن الأربعة الأخيرة في الترتيب تتبع نفيا أو شبه نفي، ومعنى تتبعه: تليه وتجيء بعده، "فلا بد أن نتبعها النفي، أي: نذكرها بعده" ثم قال:
ومثل كان: "دام" مسبوقا بما ... كلعط ما دمت مصيبا درهما
أي: أن الفعل: دام" في العمل مثل "كان" في عملها بشرط أن يسبقه "ما المصدرية الظرفية"، ولم يذكر أنها "مصدرية ظرفية" لضيق الوزن الشعري، فاكتفى بمثال يحويها، وهو: أعط درهما ما دمت مصيبا، أي: مدة دوامك مصيبا الدرهم، أو مصيبا المحتاج.
2 في ص 546 و 547.
3 انظر رقم "2" من هامش ص 565.(1/567)
"ب" قسم يتصرف تصرفاً شِبْه كامل؛ فله الماضى، والمضارع، والأمر، والمصدر، واسم الفاعل، دون اسم المفعول وباقى المشتقات؛ فإنها لم ترد فى استعمال الفصحاء؛ وهوسبعة: "كان - أصبح - أضحى - أمسى - بات - ظل - صار" فمن أمثلة "كان" للماضى: كان الوفاء شيمةَ الحر، وللمضارع: يكون الكلامُ عنوانَ صاحبه، وللأمر: كونوا أنصار الله. وللمصدر قول العرب: كوْنك شريفاً مع الفقر خير من كونك دنيئاً مع الغنى. وقول الشاعر:
ببذلٍ وحلم سادَ فى قوْمهِ الفتى ... وكَوْنُكَ إيَّاهُ عليكَ يسيرُ
ولاسم الفاعل:
وما كلُّ من يبَدِى البشاشة كائناً ... أخاكَ إذَا لم تُلْفِه لكَ مُنْجدَا
وهكذا. وبقية الأفعال السبعة مثل "كان" فى هذا لتصرف الشبيه بالكامل والذى يسمونه أحياناً: "الكامل نسبيًّا".
"حـ" قسم يتصرف تصرفاً ناقصاً؛ وهوالأربعة المسبوقة بالنفى، أوشبهه "أى: زال - برح - فتئ - انفك" فهذه الأربعة ليس لها إلا الماضى، والمضارع، واسم الفاعل؛ مثل: لا زالت الأمطارُ موردَ الأنهار. ولا تزال الأنهارُ عمادَ الحياة. وليس النيل زائلاً1 عمادَ الزراعة فى بلادنا، ومن هذا قول الشاعر:
قضي الله يا أسماء أن لست زائلا ... أحبك، حتى يغمض العين مغمض2
__________
1 لو قلنا: ما زائل النيل عماد الزراعة في بلادنا فأين خبر المبتدأ الذي هو كلمة "زائل"؟ أيكون خبره الاسم والخبر معا أم أحدهم؟ الراجح - عند الصبان - أن خبره هو اسمه فقط، فتكون كلمة "النيل" اسم "زائل" وفي الوقت نفسه خبر له باعتباره مبتدأ ولا اعتراض بأن خبر المبتدأ لم يتمم الفائدة الأساسية، لأن عدم إتمامه الفائدة ناشيء من أمر عرضي هو نقصان المبتدأ.
فهذا نوع من المبتدأ الناسخ، يستغنى عن خبر المبتدأ، اكتفاء باسم الناسخ مع بقاء خبر الناسخ على حالة من الضبط الذي يستحقه باعتباره خبر الناسخ. "راجع الصبان في هذا الباب عند بيت ابن مالك: "وغير ماض مثله قد عملا...." وقد أشرنا لهذه الصورة في رقم 2 من هامش ص 444 وفي 3 من هامش ص 562.
2 تقدم البيت في رقم 1 من هامش ص 165 لمناسبة هناك. وفيما سبق يقول ابن مالك:
وغير ماض مثله قد عملا ... إن كان غير الماض منه استعملا
أي: أن الفعل غير الماضي إن وجد واستعمل فإنه يعمل مثله، فغير الماضي يشمل المضارع والأمر وكذلك يشمل ما يوجد من المشتقات الأخرى.
هذا، ولا يصح في كلمة: "مثل" النصب على أنها حال من فاعل: "عمل" إلا للضرورة، أو على رأي ضعيف، لما يترتب على هذا من تقديم معمول الفعل المسبوق بالحرف: "قد" وهو ممنوع في القول الأصح - كما سبق في رقم 1 هامش ص 52 نقلا عن الخضري -.(1/568)
المسألة الثالثة والأربعون: حكم الناسخ ومعموليه من ناحية التقديم والتأخير
الترتيب - فى هذا الباب - واجب بين الناسخ واسمه؛ فلا يجوز تقديم الاسم على عامله الناسخ1. أما الخبر فإن كان جملة خالية من ضمير يعود على اسم الناسخ، فالأحسن تأخيره عن الناسخ واسمه2؛ ذلك لأن تقدمه - فى هذه الصورة - على الناسخ أوتوسطه بين الناسخ واسمْه، غير معروف فى الكلام العربى الفصيح3.
ويجب تأخيره عنهما إن كان جملة مشتملة على ضمير يعود على اسم الناسخ؛ كالضمير الذى فى الجملة الفعلية: "تُوسعه" من قول أعرابى ينصح صديقه: "دَعْ ما يسْبق إلى القلوب إنكارُه، وإن كان عندك - اعتذارُه4 فليس من حكى عنك نُكْراً5 تُوسِعُهُ فيك عُذرا6".
مما تقدم يكون للجملة الواقعة خبرا للناسخ حكم واحد، هو: التأخير عنهما - إما وجوبا، وإما استحسانا.
وأما الخبر الذى ليس جملة "وهوالمفرد وشبه الجملة" فله ست حالات7:
__________
1 كما أشرنا في ص 546.
2 قلنا: "الأحسن"، لأن الخلاف واسع في جواز التقديم، أو منعه، أو تقييده بحالات دون غيره- راجع "الهمع" جـ1 ص 118- ويقول "الهمع" في حالة التأخير الواجب وهي التي جعلناها مستحسنة ما نصه: "لا يجوز تقديمه فيها، ولا توسطه، سواء أكانت اسمية، نحو: كان على أبوه قائم أم فعلية رافعة ضمير الاسم، نحو: كان على يقوم، أم غير رافعة، نحو: كان على يمر محمود به. ومسند المنع في ذلك عدم سماعه." اهـ.
لكن قد يكون الواجب التمثيل بنحو: "كان المريض يغيب الطبيب فيتألم من غيابه، أو: فيتألم الناس من غيابه، كي تكون جملة الخبر خالية من كل ضمير يعود على اسم الناسخ.
3 هذا كلامهم. وبالرغم من أنه غير معروف في الكلام المأثور، يجيز بعض النحاة تقديمه قياسا على خبر المبتدأ، لكن القياس هنا غير مستحسن بعد أن تبين لهم أن الكلام العربي لم يرد به تقدم هذا النوع من الخبر الجملة.
4 العذر لفعله.
5 أمرا مستقبحا.
6 تزيده ما يقنعه ويرضيه. والجملة الفعلية: "توسعه" في محل نصب خبر "ليس".
7 ولمعمولاته- إن وجدت- حالات أخرى سيجيء الكلام عليها في الزيادة، ص 576.(1/569)
الأولى: وجوب التأخر عن الاسم1، وذلك:
1- حين يترتب على التقديم لبْس لا يمكن معه تمييز أحدهما من الآخر2 نحو: كان شريكى أخى - صار أستاذى رفيقى فى العمل - باتت أختى طبيبتى ... فلوتقدم الخبر لأوقع فى لبس لا يظهر معه الاسم من الخبر. والفرق بينهما كبير؛ لأن أحدهما محكوم عليه؛ وهو: الاسم، والآخر محكوم به، وهو: الخبر.
2- حين يكون الخبر واقعاً فيه الحصر؛ كأن يكون مقروناً بإلا المسبوقة بالنفى؛ نحو: ما كان التاريخ إلا هادياً. أو"بإنما"؛ مثل: إنما كان التاريخ هادياً؛ لأن المحصور فيه: "بإلا" يجب اتصاله بها متأخراً عنها، والمحصور فيه: "بإنما" يجب تأخيره. فلوتقدم المتأخر فى الصورتين تغير المقصود، وفات الغرض الهام من الحصر.
الثانية: وجوب التقدم على الاسم فقط، "فيتوسط الخبر بينه وبين العامل الناسخ" وذلك حين يكون الاسم مضافاً إلى ضمير يعود على شيء متصل بالخبر3؛ مع وجود ما يمنع تقدم الاسم على الأداة؛ مثل يعجبنى أن يكون للعملِ أهلُه فلا يصح: "يعبجنى أن يكون للعمل أهلُه 4؛فلا يصح: "يعجبني أن يكون أهله للعمل"، لما فى هذا من عود الضمير على متأخر لفظاص ورتبة، وهوممنوع فى مثل هذا5....
__________
1 وهذا يقتضي التأخر عن الناسخ حتما، لما تقدم من وجوب تأخير اسم الناسخ عن عامله.
2 بأن يكونا معرفتين أو نكرتين معا.... على الوجه الذي تقدم في المبتدأ والخبر ص 492 و "ب" ص 499 م 37".
3 ليس من اللازم أن يكون الضمير "مضافا إليه"، وإنما اللازم أن يكون معمولا للاسم، أو مرتبطا به بصلة إعرابية قوية.
4 هذا المثال هو الذي يوضح الحالة الثانية توضيحا دقيقا، لوجود "أن" المصدرية فيه، لأن وجودها يمنع تقديم شيء عليها من جملتها التي تليها، كما تمنع تقديم شيء يفصل بينها وبين الفعل التي دخلت عليه لتنصبه، فلا يصح تقديم الخبر عليها، أو على الفعل الذي تنصبه، كما لا يصح تأخيره عن الاسم، لأن في الاسم ضميرا يعود على شيء متثل بالخبر، فتقديم الخبر ممنوع، وتأخيره ممنوع، فلم يبق إلا توسطه بين الاسم وعامله الناسخ. أما أمثلة النحاة من نحو: "كان غلام هند بعلها" فلا يوجب الاقتصار على توسط الخبر. "غلام" بين الاسم والعامل الناسخ، لجواز أن يتقدم الخبر على الناسخ في هذا المثال وأشباهه من غير ضعف. فأمثلتهم المشار إليها لا تصلح للتوسط الواجب وحده.
5 هناك حالة أخرى يجب فيها توسط الخبر بين الناسخ واسمه- وهي التي تقدمت في رقم 4 من هامش ص 410 وستجيء في جـ3 م 99 باب: إعمال المصدر- وملخصها: أنه لم يرد في الفصيح وقوع "أن المصدرية" بنوعيها: "المخففة من الثقيلة، والناصبة للمضارع" بعد "كان، وإن" الناسختين بغير فاصل من خبرهما، نحو: كان مطلوبا أن يخلص الصانع - وكان مفيدا أن الصانع متعلم.(1/570)
الثالثة: وجوب التقدم على العامل الناسخ وذلك حين يكون الخبر اسماً واجب الصدارة؛ كأسماء الاستفهام و"كم" الخبرية ... نحو: أين كان الغائب؟ وقوالشاعر:
وقد كان ذِكْرى2 للفِراق يُرُوعبُنى ... فكيف أكونُ اليوم؟ وهويقينُ
ويشترط في هذه الحالة ألا يكون العامل الناسخ مسبوقا بشيء آخر له الصدارة، مثل: "ما" النافية.... لأن الخبر الذي له الصدارة لا يدخل على ماله الصدارة3، فلا يصح: أين ما كان الغائب؟ ولا: أين ما زال البستاني؟ وكذلك لا يصح أن يكون العامل الناسخ هو: "ليس" لأن خبرها لا يجوز أن يسبقها، في الرأي الأرجح4.
الرابعة: وجوب التوسط بين العامل الناسخ واسمه، أوالتأخر عنهما معاً؛ وذلك حين يكون العامل مسبوقاً بأداة لها الصدارة، ولا يجوز أن يفصل بينها وبين العامل الناسخ فاصل. ومن أمثلته: الاستفهام "بهل" فى: هل أصبح المريض صحيحاً؟ فيجب تأخره كهذا المثال، أوتوسطه فنقول. هل أصبح صحيحاً المريض.
الخامسة: وجوب التوسط بين الناسخ واسمه، أوالتقدم عليهما، وذلك:
1- حين يكون الاسم مضافاً لضمير5 يعود على شئ متصل بالخبر؛ فمثال
__________
1 وهذا يقتضي التقدم أيضا على الاسم.
2 تذكري.
3 لكيلا يجتمع شيئان لكل منهما الصدارة، فيقع بينهما التعارض، ولا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر.. و "ما" النافية من الأدوات التي لها الصدارة - كما سيجيء في رقم 3 من هامش الصفحة الآتية - فلا يجوز تقديم الخبر ولا غيره من جملتها عليها. وكذا كل ما له الصدارة، كالاستفهام، وأسماء الشرط، وغيرهما.
هذا ما يقوله النحاة. ولكن السبب الحقيقي هو عدم استعمال العرب الفصحاء للأسلوب المشتمل على أداتين لهما الصدارة.
"راجع رقم 3 من هامش الصفحة الآتية".
4 كما أشرنا في رقم 3 من ص 560 وفي رقمي 4 و 1 من هامش ص 574 و575 وإذا كانت للاستثناء مع النسخ لم يجز تقديم خبرها عليها بالاتفاق. ومثلها: "لا يكون" الناسخة الاستثنائية.
5 انظر رقم 1 من هامش الصفحة السابقة.(1/571)
التوسط: أمسى "فى البستان" حارسه، وبات "مع الحارس" أخوه1. ومثال التقدم عليهما2: فى البستان أمسى حارسه، ومع الحارس بات أخوه. فقد توسط الخبر أوتقدم؛ لكيلا يعود الضمير الذى فى الاسم على شئ متأخر لفظاً ورتبة، وهولا يجوز هنا.
2- حين يكون الاسم واقعاً فيه الحصر كأن يكون مقروناً بإلا المسبوقة بالنفى؛ فمثال التوسط؛ ما كان حاضراً إلا على، ومثال التقدم على العامل ما حاضراً3 كان إلا على: لأن تقديم المحصور فيه يفسد الحصر.
السادسة: جواز الأمور الثلاثة "التأخر، والتقدم على العامل، والتوسط بينه وبين الاسم" فى غير ما سبق؛ نحو: كان الخطيب مؤثراً. أوكان مؤثراً الخطيبُ، أومؤثراً كان الخطيب. ومثله: كان خلقُ المرء سلاحَه، ويجوز: كان سلاحَه خلقُ المرءِ4، كما يجوز: سلاحَه كان خلقُ المرء.
فأحوال الخبر الستة تتلخص فيما يأتى إذا كان غير جملة:
1- وجوب تأخيره عن الناسخ واسمه معا.
__________
1 ليس في هذه الحالة ما يمنع من تقديم الخبر على الناسخ. ولهذا يصح توسطه وتقدمه. بخلاف الحالة الثانية التي يجب فيها تقدم الخبر على الاسم وحده، إذ لا بد فيها من وجود مانع يمنع تقدم الخبر على الناسخ. ويمنع تأخره عن الاسم، فيتعين توسط الخبر بين الناسخ واسمه.
2 بشرط ألا يكون قبل العامل شيء له الصدارة، فإن وجد شيء له الصدارة وجب تقديم الخبر على العامل وحده دون أن يتقدم على ما له الصدارة، إلا أن يكون هناك ما يمنع توسط الخبر بين العامل وماله الصدارة، كحالة الاستفهام بهل: في مثل: هل كان السفر طيبا. "راجع الحالة الرابعة السابقة".
3 إذا كان العامل مسبوقا "بما" النافية فإنه لا يجوز تقديم الخبر عليها وعلى العامل معا، لأن لها الصدارة. لكن يجوز تقديمه على العامل وحده دون "ما" أي: يجوز تقديم الخبر عليها وعلى العامل معا، لأن لها الصدارة. لكن يجوز تقديمه على العامل وحده دون "ما" أي: يجوز أن يتوسط بينهما كما سبق في رقم 3 من هامش الصفحة السالفة فإن كان النافي حرفا آخر، مثل: لم " أو "لا" أو "لن" أو غيرها إلا" إن النافية" فإنها مثل: ما النافية، جاز أن يتقدم عليه الخبر، نحو: مستريحا لم يصبح السهران منصورا لا يزال الحق مخلصا لن يكون الكذاب - انظر رقم 2 من هامش الصفحة الآتية -
4- والضمير هنا عائد على متأخر لفظا فقط. دون رتبة، لأنه عائد على: "خلق" الذي هو اسم: "كن" والاسم متقدم على الخبر في الرتبة.(1/572)
2- وجوب تقديمه عليهما معا.
3- وجوب توسطه بينهما.
4- وجوب تقديمه على العامل الناسخ أوالتوسط بينه وبين الاسم.
5- وجوب توسطه، أوتأخره.
6- جواز تأخره، أوتقدمه، أوتوسطه.
وتلك الأحوال والأحكام تنطبق على جميع أخبار النواسخ فى هذا الباب إلا الأفعال التى يشترط لإعمالها أن يسبقها نفى، أوشبهه، وإلا "دام" التى يشترط لإعمالها أن يسبقها "ما" المصدرية الظرفية، وإلا "ليس" كما سبقت الإشارة إليها1. فهذه ثلاثة أشياء لكل واحد منها صور ممنوعة، وإليك البيان.
فأما الأفعال التى يشترط أن يسبقها نفى أوشبهه فتنطبق عليها الأحكام السابقة إلا حالة واحدة هى وجود النافى "ما"، فلا يجوز تقديم الخبر عليه؛ لأن "ما" النافية لها الصدارة كما سبق2؛ فلا يصح: متكلماً ما زال محمود، ولكن يصح تقدمه على العامل الناسخ وحده دون حرف النفى: "ما" فيصح: ما متكلماً زال محمود. كما يصح تقدمه على حروف النفى الأخرى؛ "مثل: لا، ولم، ولن ... " أما بقية الصور الأخرى من التقديم والتأخير فشأن هذه الأفعال التى لا تعمل إلا بسبق نفى أوشبهه، كشأن غيرها.
وأما "دام" فتنطبق عليها الأحوال والأحكام السابقة إلا حالة واحدة لا تجوز؛ وهى تقدم الخبر عليها وعلى "ما" المصدرية الظرفية3، ففى مثل: "سأبقى فى
__________
1 في رقم 3 من ص 559.
2 في رقم 3 من هامش صفحتي 571 و 572 ومثلها: "إن" في أرجح الآراء. ومنع تقديم الخبر على أحد حرفي النفي: "ما" و "إن" عام، يشمل خبر الأفعال الناسخة التي لا بد أن يسبقها نفي أو شبهة، مثل: زال، كما يشمل خبر الأفعال الناسخة التي لا يشترط أن يسبقها ذلك مثل: "كان" المسبوقة بأحد حرفي النفي، بل إنه يشمل كل جملة أخرى مبدوءة بأحدهما، فلا يجوز تقديم شيء من هذه الجملة على أحدهما.
3 ملاحظة: قال الأشموني في هذا الموضع ما نصه: "دعوى الإجماع على منع هذه الصورة مسلمة" أهـ. فقال الصبان في سبب المنع ما نصه: "للزوم تقدم بعض الصلة على الموصول الحرفي، وهو ممنوع، ولزوم عمل ما بعد الحرف المصدري فيما قبله، وهو أيضا ممنوع أهـ.
ومن كل ما سبق يتبين أن الموصول الحرفي لا يصح أن يسبقه مطلقا من صلته "أي من كل الجملة التي هي صلة له".(1/573)
البيت ما دام المطر منهمراً" لا يصح أن يقال: "سأبقى فى البيت منهمراً ما دام المطر"؛ لأن "ما" المصدرية الظرفية كسائر الحروف المصدرية المختلفة1، لا يصح أن يتقدم عليها شئ من الجملة التى بعدها "وهى الجملة التى تقع صلة لها" لكن يجوز أن يتقدم الخبر على "دام" وحدها فيتوسط بينها وبين "ما" المذكورة2؛ ففى المثال السابق يصح أن نقول: سأبقَى فى البيت ما منهمراً دام المطر. وفى مثل؛ اقرأ فى الكتاب ما دامت النفس راغبة؛ لا يصح أن نقول: اقرأ فى الكتاب راغبةً ما دامت النفس، ويصح أن نقول، اقرأ فى الكتاب ما راغبةً دامت النفس ... وهكذا3.
وأما "ليس" فتنطبق عليها جميع الأحوال والأحكام السابقة أيضاً4 إلا حالة
__________
1 طبقا لما مر في آخر هامش الصفحة السالفة، وأشرنا إليه في ص 378 وهامشها عند الكلام على الصلة.
2 تقدم: في ص 410 وفي رقم 4 من هامش ص 570 و.... أنه لا يجوز الفصل بالخبر- أو بغيره بين "أن المصدرية" والفعل الذي تنصبه، في حين يجوز الفصل به بين "ما المصدرية الظرفية" والفعل الذي دخلت عليه، "طبقا لما سلف في 378" مع أن كل واحد منهما حرف مصدري لا يجوز أن يسبقه شيء من الجملة التي يدخل عليها - وهي الجملة التي يسبك معها بمصدر.
وبينهما فرق من جهة أخرى، فأن المصدرية تنصب المضارع، فلا يجوز الفصل بينهما مطلقا - بالخبر أو بغيره. محاكاة للوارد الفصيح من كلام العرب "وما المصدرية" لا تنصبه إن دخلت عليه، فيجوز الفصل بينهما بالخبر.
3 إلى بعض ما سبق يشير ابن مالك بقوله:
وفي جميعها توسط الخبر ... أجز، وكل سبقه دام حظر
كذاك سبق خبر: "ما" النافية ... فجيء بها ملتوة، لا تالية
يريد: أن جميع النواسخ السابقة يجوز فيها توسط اخبر بين الناسخ واسمه. ولم يذكر شروط ذلك، ولا تفصيله، وقد تداركناه ثم قال: إن كل النحاة حظر "أي: منع" سبق خبر "دام" عليهما، ولم يبين أهذا المنع خاص بتقديمه عليها وحدها دون "ما" المصدرية الظرفية التي تسبقها، أم بتقديمه عليهما معا، وقد أسلفنا أن الممنوع هو تقديمه عليهما معا. أما توسطه بينهما فليس بمنوع ثم قال: كذلك مع كل النحاة سبق الخبر وتقدمه على "ما" النافية، لأن لها الصدارة في جملتها، فلا يسبقها شيء منها ويجب أن تكون متلوة أي: سابقة، يتلوها غيرها ويجيء بعدها ولا يصح أن تكون تالية غيرها ولا أن تجيء بعده.
4 بشرط ألا تكون للاستثناء، فإن كانت للاستثناء لم يجز تقديم خبرها اتفاقا. ومثلها "لا يكون " الناسخة الاستثنائية" - كما سبق في رقم 4 من هامش ص 571(1/574)
واحدة وقع فيها الخلاف بين النحاة وهى الحالة التى يتقدم فيها الخبر عليها؛ ففريق منع، وفريق أجاز1 والاقتصار على المنع أوْلى.
الآن وقد عرفنا حكم الخبر المفرد، وشبه الجملة، من ناحية التقدم، أو التوسط، أو التأخر.... بقي أن نعرف حكم معمولاته من هذه الناحية أيضا؟ وسيجيء البيان في الصفحة التالية.
__________
1 حجة الفريق الأول أنه لم يرد على ألسنة العرب التقديم، فلا يسوغ لنا مخالفتهم. وحجة الفريق الثاني أنه ورد تقديم معمول الخبر عليها في الكلام الفصيح، ومنه قوله تعالى عن عذاب الكفار: "ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم". فكلمة يوم" ظرف للخير: "مصروفا" فهذا الظرف المعمول للخبر قد تقدم على "ليس"، فتقدمه يشعر بجواز تقدم الخبر!!
وهذا كلام غير مقبول بعد الاعتراف بأن الكلام العربي لم يرد به تقديم الخبر نفسه لا معموله. ويقول ابن مالك- في منع تقدم خبر "ليس"، وأن المنع هو المختار، وفي تعريف الفعل التام، "أي: الذي ليس بناسخ، طبقا للبيان السالف في رقم 3 من ص 545" وفي بيان الأفعال التامة:
وضع سبق خبر "ليس" اصطفى ... وذو تمام ما برفع يكتفي
وما سواه ناقص، والنقص في ... "فتيء "ليس" زال" دائما قفي
اصطفى: اختير.... أي: أن المختار منع تقديم خبر "ليس" عليها. وأن الفعل "التام" هو: الذي يكتفي بمرفوعه الفاعل، أو: نائب الفاعل، "والناقص" هو: الذي لا يكتفي بمرفوعه، وإنما يحتاج إلى اسم وخبر وجميع أفعال هذا الباب تستعمل تامة وناقصة إلا ثلاثة "ليس، فتيء، زال"، فإن النقص فيها لازما قفي، أي: تبعها، ولازمها، ولا يتركها وقد سبق التفصيل.
"هذا وكلمة: "ليس" الأولي مقصود لفظها، وهي مفعول به للمصدر: "سبق" وهذا المصدر مضاف لفاعله: خبر".(1/575)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادَة وتفصيل:
"ا" عرفنا مما تقدم حكم الخبر المفرد وشبه الجملة، من حيث تقدمه وحده على عامله الناسخ، أوتوسطه بينه وبين اسمه، أوتأخره عنهما، وبقى للموضوع بقية تتصل بتقديم معمول هذا النوع من الأخبار على عامل الخبر؛ وهى أن الخبر يمتنع تقديمه وحده على الناسخ إذا كان الخبر قد رفع اسماً ظاهراً؛ ففى مثل: "كان الرجل نبيلا مقصدُه" و"بات المغنى ساحراً صوته" لا يصح: "نبيلا كان الرجل مقصدُه" - ولا ساحراً بات المغنى صوته1؛ لأنه لا يجوز تقديم الخبر وحده دون معموله المرفوع - كما قلنا - فإن تقدم مع معموله المرفوع جاز2؛ فيصح: "نبيلا مقصدُه كان الرجل". "ساحراً صوته بات المغنى" فإن كان معمول الخبر منصوباً نحو: "أضحى الرجل راكباً الطيارةَ" جاز تقديم الخبر وحده على العامل الناسخ لكن مع قبح3. نحو: الطيارةَ أضحى الرجل راكباً.
وإن كان المعمول ظرفاً أوجارًّا مع مجروره جاز تقديم الخبر وحده بغير قبح، ففي مثل؛ ظل الفتى عاملا يوماً، وأمسى قرير العين فى بيته - يقال: يوماً ظل الفتى عاملا، وفى بيته أمسى قرير العين.
"ب" يتصل بمسألة تقديم معمول الخبر مسألة توسط هذا المعمول بين الناسخ واسمه، ففى مثل: كان القادم راكباً سيارة: وكان المسافر راكباً سفينة ... نعرب كلمة: "سيارة" وكلمة: "سفينة" - وأمثالهما - مفعولا به لخبر: "كان" فكل واحدة منهما معمولة لذلك الخبر، وليست معمولة للفعل "كان". فهل يجوز تقديم ذلك المعمول وحده على الاسم بحيث يتوسط بينه وبين كان؛ فنقول: كان سيارةً القادمُ راكباً؟ وكان سفينةً المسافرُ راكباً....؟ لا يجوز ذلك، بشرط ألا يكون المعمول "شبه جملة"، لأن
__________
1 لأن المأثور من الفصيح لم يقع فيه الفصل بين الوصف ومرفوعه بأجنبي عنهما.
2 مع ملاحظة - أن المعمول المرفوع هنا يعرب فاعلا أو نائب فاعل على حسب الجملة فلا يصح تقديمه مطلقا على عامله
3 لقلة شيوعة في الأساليب الفصيحة القديمة.(1/576)
لأنه مخالف للنهج العام الذى تسير عليه الجملة العربية فى نظام تكوينها المأثور، وطريقة ترتيب كلماتها. وذلك النهج يقتضى ألا يقع بعد العامل - مباشرةً معمل لغيره جملة....1، ففي مثل: أقبل القطار يحمل الركاب، نعرب كلمة: "الركاب" مفعولا به للفعل: "يحمل" وهذا الفعل هو، عاملها؛ فهى وثيقة الصلة به، وليست أجنبية منه، فلا يصح أن نقدمها ونضعها بعد عامل آخر؛ هو: "أقبل" لأنها أجنبية عنه؛ فلوقلنا: أقبل الركابَ الواردفى تركيب الجملة؛ وهوالنسق الذى تدل عليه تلك القاعدة العامة التى أشرنا إليها، والتى ملخصها: "أنه لا يجوز أن يلى العامل - مباشرة - معمول لعامل آخر". أو: "لا يصح أن يلى العامل - مباشرة - معمولٌ أجنبي عنه".
ولا فرق فى المعمول التقدم بين أن يكون معمولا الخبر "كان"، أولغيرها من النواسخ، وغير النواسخ، ولا بين أن يكون المعمول مفعولا أوغير مفعول ... إلا الظرف والجار مع مجروره، فإنه يجوز أن يلى عاملا آخر غيرَ عامله. والقاعدة - كما أسلفنا - لا تختص بعامل، ولا تقتصر على معمول، وهى مستمدة من الأساليب الكثيرة الفصيحة وعلى أساسها بنى الحكم السابق.
هذا إذا تقدم المعمول وحده بدون الخبر كالأمثلة السابقة، أوتقدم ومعه الخبر، وكان المعمول هوالسابق على الخبر؛ ففى مثل: كان الطالبُ قارئاً الكتاب، لا يصح أن يقال: كان الكتابَ الطالبُ قارئاً. أما لوتقدما معاً وكان الخبر هوالسابق فالأحسن الأخذ بالرأى الذى يبيحه؛ لمسايرته الأساليب الفصيحة المأثورة2 فيصح أن نقول: كان قارئاً الكتابَ الطالبُ.
__________
1 الشرط ألا يكون المعمول شبه جملة. وبناء على هذه القاعدة العامة لا يصح في باب: "كان" وأخواتها أن يتوسط بين العامل "الناسخ" واسمه المرفوع - معمول لعامل آخر إذا كان المعمول ليس شبه جملة. وإنما قلنا: العامل ومرفوعه، إذ لا يمكن أن يتم التوسط الممنوع هنا إلى بين العامل ومرفوعه، لأنهم يشترطون أن يقع التوسط الممنوع بعد العامل مباشرة، وهذا لا يتأتي إلا إذا كان الفاصل الأجنبي بين الناسخ واسمه المرفوع.
2 وقد تستدعيه بعض الحالات البلاغية. كل ذلك مع مراعاة الأحوال والشروط العامة لتقديم خبر الناسخ، وقد أوضحناها في ص 569.(1/577)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير أن هناك حالة واحدة يصح فيها تقديم معمول الخبر وحده، أومع الخبر، متقدماً عليه، أومتأخراً عنه؛ هى - كما سبق -: أن يكون المعمول شبه جملة "أى: ظرفاً، أو: جارا مع مجروره"، نحو: بات الطير نائماً على الأشجار؛ وأصبح الطَّلُّ متراكما فوق الغصون، فيصح أن يقال: بات على الأشجار الطيرُ نائماً - وأصبح فوق الغصون الطّلّ متراكما ... وهكذا1.... وقد وردت أمثلة قليلة مسموعة تقدم فيها معمول الخبر وحده، مع أنه ليس شبه جملة؛ فتناولها النحاة بالتأويل والتكلف لإدخالها تحت قاعدة عامة تصونها من مخالفة القاعدة السابقة. والأحسن إغفال ما قالوه، - إذ لا يرتاح العقل إليه2 - والحكم على تلك الأمثلة القليلة بالشذوذ؛ فلا يصح القياس عليها.
__________
1 وفيما سبق بقول ابن مالك:
ولا يلي العامل معمول الخبر ... إلا إذا ظرفا أتى، أو: حرف جر
أي: أن معمول الخبر لا يتقدم وحده أو مع الخبر فيقع بعد العامل مباشرة، لأن هذا التقدمم ممنوع، إلا في حالة واحدة، هي: أن يكون المعمول ظرفا أو حرف جر مع مجروره لأن حرف الجر وحده لا أثر له في الجملة.
2 إذا رأوا في الكلام المسموع أسلوبا مثل: صار- الصحف- المتعلمة تقرأ، أعربوها بتقديرات مختلفة أشهرها ما يأتي: "صار" فعل ماضي. إسمه ضمير الشأن المستتر، وهو كالظاهر في الفصل.
"الصحف" مفعول به للفعل "تقرأ". وبهذا الإعراب لا يكون المعمول عندهم قد وقع بعد العامل مباشرة، لوجود ضمير الشأن المستتر فاصلا بينهما، كما قلنا. "المتعلمة" مبتدأ مرفوع. "تقرأ". فعل وفاعل.
وهذه الجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب خبر الناسخ: "صار" وفي هذا تكلف ظاهر، وإضعاف لبناء الجملة وللمراد الحق من معناها بعد تقديرهم ضمير الشأن، وكان الواجب أن يقبلوا مثل هذا الأسلب، أو يرفضوه. أما التكلف والتأويل فلا يعرفه العرب على هذه الطريقة، ولا محل له اليوم. والأحسن أن نختار رفض ذلك الأسلوب، وفيما سبق يقول ابن مالك:
ومضمر الشأن اسما أنو أن وقع ... موهم ما استبان أنه امتنع
يريد: انو ضمير الشأن وقد ره بعد الناسخ مباشرة، إن وردت لك بعض أمثلة توهمك، وتخيل لك أنها التي استبان منعها، أي: ظهر منعها.(1/578)
المسألة الرابعة والأربعون: زيادة "كان" وبعض أخواتها
"كان" ثلاثة أنواع: تامة، وناقصة، وقد عرفناهما - وزائدة، وقعت فى كثير من الأساليب المأثورة بلفظ الماضى، مع توسطها بين شيئين متلازمين1؛ كالمبتدأ والخبر فى مثل: القطار - كان - قادم. أوالفعل والفاعل فى مثل: لم يتكلم - كان - غيرُك، أوالموصول وصلته فى مثل: أقبل الذى - كان - عرفته، أوالصفة والموصوف فى مثل: قصدتُ لزيادة صديقٍ - كان - مريض، أوالمعطوف والمعطوف عليه فى مثل: الصديق مخلص فى الشَّدة - كان - والرخاءِ، أوحرف الجر ومجروره فى مثل: القلم على - كان - المكتبِ، أوبين "ما" التعجبية وفعل التعجب2 فى مثل: ما - كان - أطيبَ كلامَك، وما - كان - أكرمَ فعلكَ ... وقول الشاعر:
ما كان أسعدَ مَن أجابك آخذًا ... بهداك، مجتنباً هَوًى وعِنادا
وقد وردت زيادتها بلفظ المضارع قليلا مع توطسه بين شيئين متلازمين فى مثل؛ أنت - تكون - رجلٌ نابهُ الشأن ... غير أن هذه القلة لم تدخل فى اعتبار النحاة؛ فقد اشترطوا للحكم بزيادة: "كان" شرطين؛ أن تكون يصيغة الماضة، وأن تكون متوسطة بين شيئين متلازمين، على الوجه السالف.
لكن إذا وقت: "كان" زائدة، فما معنى زيادتها؟ وكيف نعربها؟ وأقياسيه تلك الزيادة، أم الأمر مقصور فيها على السماع؟
أما معنى زيادتها فأمران؛ أولهما؛ أنها غير عاملة، فلا تحتاج إلى معمول من فاعل، أومفعول أواسم وخبر، أوغيرهما؛ إذ ليس لها عمل3؛ ليست معمولة لغيرها. وهذا شأن لك فعل زائد.- ولا يتأثر صوغ الأسلوب بحذفها.
__________
1 أي: لا يوجد أحدهما بدون الآخر - ولو تقديرا- إذ لا يمكن أن يستقل بنفسه واحد منهما. وتوسطها بينهما يقتضي أنها لا تقع في أول الجملة أو آخرها، فلا بد أن تكون حشوا بين متلازمين.
2 سيجيء في: "باب التعجب" إشارة لزيادتها - جـ3 رقم 3 من هامش ص 328 - م 108 -
3 يرى بعض النحاة أنها ليست بزائدة، وإنما هي ملغاة فقط - انظر آخر هامش ص 66 - حيث البيان - ولا أثر لهذا الخلاف اللفظي في التسمية، إذ لا يترتب عليه شيء في المعنى والصياغة.(1/579)
وثانيهما: أن الكلام يستغنى عنها، فلا ينقص معناه بحذفها. لا يخفى المراد منه، وكل فائدتها أنها تمنح المعنى الموجود قوة، وتوكيداً؛ فليس من شأنها أن تُحدِث معنى جديداً، ولا أن تزيد فى المعنى الموجود شيئاً إلا التقوية. فحين نقول: الوالد عطوف، فإننا نريد من هذه الجملة نسبة العطف والحنان إلى الوالد، وإلصاقهما بذاته: فلوقلنا؛ والله الوالدُ عطوف. أو، إن الولد عطوف ... لم يزد المعنى شيئاً، ولم ينقص؛ ولكنه استفاد قوة وتمكناً؛ بسبب القسَم، أو: "إنّ" وأشباههما. ومثل هذا يحصل من زيادة "كان" حين نقول: الوالد - كانض - عطوفٌ. وفرق كبير بين كلمة تنشئ معنى جديداً، أوتزيد فى المعنى القائم، وكلمة أخرى لا تنشئ معنى جديداً ولا تزيد فى المعنى الموجود، ولكنها تقتصر على تأكيده وتقويته. لهذا تجردت كلمة: "كان" عند زيادتها من الحدث الذى يكون فى الفعل؛ فلا تحتاج إلى فاعل، ولا إلى اسم، وخبر، ولا لشئ آخر مطلقاً؛ لأن الذى يحتاج لذلك إنما هوالفعل الذى له حَدَث، ومنه: "كان" التامة أوالناقصة. أما الزائدة فمخالفة لهما فى ذلك؛ فهي مقصورة على نفسها حين تكون بصيغة الماضى.
والراجح أنها تدل على الزمن الماضى إذا كانت بصيغته. ولا سيما إذا توسطت بين "ما" التعجبية وفعل التعجب؛ فى مثل: ما - كان - أحسنَ صنيعك، وما - كان - أرَقّ حديثَك؛ فإنها فى هذه الصورة تدل على الزمن الماضى1، إذ المراد أن الحسن والرقة كانا فيما مضى2 ولا تدل على غيره، ولا تحتاج لفاعل، ولا لشئ آخر، كما لا يحتاج عامل ليؤثر فيها.
__________
1 والسبب هو أن التعجب لا يكون لا بصيغة الماضي، ومع أنه بصيغة الماضي لا يدل - في الأرجح - على زمن المضي- ولا غيره، لأنه صار مع التعجب إنشاء لمجرد التعجب، مسلوب الدلالة على الماضي، ولا أثر للزمن فيه. فلما دخلت عليه: "كان" بقيت محتفظة بدلالتها الزمنية الأولى، وصار فعل التعجب معها واقعا في الماضي دالا عليه، وإن سلب بغيرها الماضي. "راجع ما يختص بهذا في باب "التعجب" جـ3 م 108 رقم 3 من هامش ص 328".
2 راجع شرح المفصل جـ 7 ص 105 وقد سبق - في آخر هامش ص 67 - أن نقلنا كلامه الخاص بزيادة "كان".(1/580)
أما قياسية استعمالها أوالاقتصار فيها على السماع فالأنسب الأخذ بالرأى القائل بقياسيتها فى التعجب وحده، دون غيره من باقى الحالات؛ منعاً للخلط، وفِراراً من سوء الاستعمال1، وهذان عيبان يتوقاهما الحريص على لغته، الخبير بأسرارها.
وقد وردت زيادة بعض أخواتها، كأصبح، وأمسى، فى قولهم: الدنيا ما أصبحَ2 أبْرَدَها، وما أمسى - أدْفأها. يريدون: ما أبردها وما أدفاها ... والأمر فى هذا وأشباهه مقصور على السماع لا محالة.
"ملاحظة عامة": الأصل في الكلمة - مهما اختلفت أنواعها، وتباينت صيغها أن تكون عاملة، أو معمولة، أو هما معا، وهذا الأصل واجب المراعاة - دائما - عند عدم المانع، والأخذ به مقدم" حين الفصل في أمر الكلمة من ناحية أصالتها، أو زيادتها. فليس من المستحسن الحكم عليها بالزيادة إذا أمكن الحكم لها بالأصالة3.
__________
1 وقد أشار ابن مالك إلى زيادتها حيث قال مختصرا:
وقد تزاد "كان" في حشو، كما ... كان أصح علم من تقدما
يريد بالحشو. التوسط بين شيئين متلازمين. على الوجه الذي شرحناه في ص 579.
2 سبقت الإشارة لهذا في رقم 5 من هامش ص 554، وفي رقم 2 من هامش 555.
3 انظر ص 47 و 70 وما يتصل باستحداث المعنى.... في "أ" من ص 489.(1/581)
المسألة الخامسة والأربعون: حذف "كان". وحذف معموليها، وهل يقع ذلك في غيرها؟
ليس بين النواسخ السالفة1 "كان" وأخواتها ما يجوز حذفه وحده، أومع أحد معموليه، أومعموليه معاً - إلا: "ليس" "وكان". فأما "ليس" فيجوز حذف خبرها على الوجه الذى شرحناه عند الكلام عليها2.
وأما "كان" فقد اختصت - وحدها - من بين أخواتها بأنها تعمل وهى مذكورة أحياناً، أومحذوفة أحياناً أخرى. والأصل أن تذكر مع معموليها ليقوم كل واحد من الثلاثة بنصيبه فى تكوين الجملة وتأدية المعنى المراد. لكن قد يطرأ على هذا الأصل ما يقتضى العدول عنه، لأسباب بلاغية تدعوإلى حذف واحد أوأكثر.
وصور الحذف أربعة؛ حذف "كان" وحدها، أوحذفها مع اسمها فقط، أوحذفها مع خبرها فقط، أوحذفها مع معموليها. وهذه الصور الأربع شائعة فى الكلام الفصيح شيوعاً متفاوتاً يبيح لنا محاكاته، والقياس عليه. "ومن تلك الصور صورتان تحذف: "كان" فيهما وجوباً، لوجود عِوَض عنها؛ كما سنعلم....".
وبقى حذف خبرها وحده أواسمها وحده، وكلاهما وهذا ممنوع فى الرأى الأصح عند جمهرة النحاة.
1- فأما حذفها وحدها دون معموليها أوأحدهما فبعد "أنْ" المصدرية فى كل موضع أريد فيه تعليل شئ بشئ؛ مثل: "أمَّا أنت غنيًّا فتَصَدَّقْ"؛
__________
1 ما يأتي خاص بالأفعال الناسخة التي سبقت، فلا يشمل أفعال المقاربة وأخواتها، مع أنها من أخوات "كان" وسيجيء الكلام عليها في باب مستقل - ص 614 - لكن بين النوعين اختلاف في أمور وضحناها في "ب" ص 618.
2 ص 559(1/582)
فأصل هذه الجملة فيما يتخيلون لتوضيحها1، تَصَدَّقْ؛ لأنْ2 كنتَ غنيًّا. ثم حذفت اللام الجارة، تخفيفاً؛ لأن هذا جائز وقياسى قبل "أنْ"3؛ فصارت الجملة: تَصدقْ أنْ كنتَ غنيًّا. ثم تقدمت "أنْ" وما دخلت عليه "أى: تقدمت العلة على المعلول" فصارت الجملة: "أنْ كنتَ غنيًّا تصدَّقْ". ثم حذفت: "كان" وأتينا بكلمة: "ما" عوضاً عنها، وأدغمناها فى "أنْ"؛ فصارت: "أمَّا". والحذف هنا واجب، لوجود العِوَض عن "كان". وبقى اسم "كان" بعد حذفها؛ وهو: تاء المخاطب. ولما كانت التاء ضميراً للرفع متصلا؛ لا يمكن أن يستقل بنفسه - أتينا بدله بضمير منفصل، للرفع، يقوم مقامه، ويؤدى معناه؛ وهو: "أنت" فصارت الجملة: أما أنت غنيًّا فتصَدقْ. ثم زيدت: "الفاء" فى المعلول4؛ فصارت الجملة: أما أنت غنيا فتصَدقْ. ومثلها: أما أنت قويًّا فاعملْ بجدّ. وأما أنت شابًّا فحافظ على شبابك بالحكمة5 ...
ويجب عند محاكاة هذا الأسلوب - اتباع طريقته فى تركيب الجملة، وترتيبها، ولا سيما مراعاة الخطاب6.
__________
1 إنما كان ذلك - وهو حسن هنا - من تخيل النحاة بقصد الإيضاح، والتقريب، وتيسير المحاكاة، لأن العرب الأوائل حين تكلموا بمثل هذا الأسلوب لم يدر بخلدهم شيء من هذا الحذف، والتقدير، والتعليل، إنما نطقوا سليقة وطبعا، بغير اعتماد على تحويل وتأويل، أو مراعاة القواعد المنطق، وغيره، مما لم يعرفوه في عصورهم السابقة على وضع القواعد النحوية.
2 فاللام هنا لبيان العلة والسبب، فما بعدها وسبب لما قبلها. فكأن السبب في أمرك الشخص بالصدقة هو: غناه.
3 يجوز حذف حرف الجر قياسا مطردا قبل: "أن وأن" عند أمن اللبس.... - وتفصيل الكلام على هذا الحذف في موضعه المناسب وهو باب: "تعدي الفعل ولزومه "جـ2 م 71 ص 155".
4 تشبيها له بجواب الشرط في ترتبه على ما قبله.
5 من هذه الأمثلة وما سبقها من الشرح والتحليل يتضح أن شروط حذف "كان" وجوبا في هذه الحالة ستة شروط مجتمعة: أن تقع صلة لأن المصدرية، وأن تسبق "أن" المصدرية بحرف الجر الذي يفيد التعليل "كاللام"، وأن يحذف حرف الجر، وأن تتقدم العلة على المعلول مع اقترانه بالفاء، وأن تجيء "ما" عوضا عن "كان" المحذوفة، ثم تدغم في أن.... ثم تجيء بضمير منفصل للمخاطب يحل محل الضمير المتصل. ويكون بمعناه، ويغني عنه.
6 بالرغم من قياسية هذ الأسلوب وإيضاح مرماه بعد ذلك الشرح، يحسن اجتنابه في عصرنا الذي لا يستسيغه، لغرابته، وتعقيده.(1/583)
2- وأما حذفها مع اسمها دون خبرها فجائز وكثير بعد "إنْ" ولوْ" الشرطتين، فمثاله بعد "إنْ": المرء محاسَب على عمله؛ إنْ خيراً يكن الجزاءُ خيرًّا، وإن شرًّا1؛ فالأصل: المرء محاسب على عمله؛ إن كان العمل خيراً يكنْ الجزاء خيراً، وإن كان العمل شرًّا؛ فقد حذفت "كان" مع اسمها.
ومثال حذفهما "لو" الشرطية: تعود الرياضةَ ولوساعةً فى اليوم، واحذر الإرهاقَ ولوبرهةً قصيرة. فالأصل: تعود الرياضة ولوكانت الرياضةُ ساعةً فى اليوم، واحذر الإرهاق، ولوكان الإربهاق برهةً قصيرة ... فحذفت "كان" مع اسمها وبقى الخبر2. ومن هذا قول الشاعر:
لا يأمن الدهر، ذو بغي، ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السهل والجبل
أي: ولو كان ذو البغي ملكا ...
3- وأما حذفها مع خبرها دون اسمها فجائز - مع قلته، بالنسبة للحالة السالفة - بعد: "إنْ" و"لو" الشرطيتين أيضاً؛ فمثاله بعد "إنْ"3: المرءُ محاسَبٌ على عمله؛ إنْ خيرٌ فخيرٌ4 وإن شرٌّ فشرٌّ. الأصل: المرء محاسب على
__________
1 لا فرق في الحذف بين "إن" التي تدل على: "التنويع" "أي: تعدد الأنواع بعدها" كما في المثال. والتي لا تدل على تنويع، مثل قولك للعباس: تبسم، وإن حزينا، أي: وإن كنت حزينا. ولكن الحذف بعد "التنويعية" أشهر وأوضح. ويحسن الاقتصار عليه لذلك، مع أن الثاني صحيح أيضا.
2 "كان" فيهما بلفظ الماضي. ويصح أن تكون فيهما أو في أحدهما بلفظ المضارع، على تقدير: إن يكن العمل خيرا يكن الجزء خيرا، وإن يكن للعمل شرا يكن الجزء شرا، وهكذا في كل مثال، علما بأن الماضي إذا وقع فعل شرط جازم، أو جوابه،.... فإنه يتخلص للزمن المستقبل، فظاهره أنه ماض لكن زمنه مستقبل - كما عرفنا في ص 54 -.
3 وهذه تخالف "إن" التفصيلية التي يجيء الكلام عليها في جـ3 ص 660 م 125.
4 في مثل هذا التركيب يصح في الاسمين بعد "إن" أربعة أشياء، رفعهما معا، نحو: إن خير فخير، أي: إن كان في عمله خير فجزاؤه خير. ويصح نصبهما معا، نحو: إن خيرا فخيرا، على تقدير: إن كان عمله خيرا فهو يلاقي خيرا. ويصح نصب الأول ورفع الثاني، نحو: إن خيرا فخير، أي إن كان عمله خيرا فجزاؤه خير. ويصح رفع الأول ونصب الثاني، نحو: إن خيرا فخيرا، أي: إن كان في عمله خيرا فالجزاء يكون خير.... وهذا الوجه أضعف الأربعة لكثرة الحذف فيه، ولكنه قياسي كالثلاثة الأخرى.
ومن الممكن التخفيف والتيسير والاختصار بمعرفة الأوجه الأربعة دون احتمال العناء في الإعراب التفصيلي لكل حالة، فيكفي أن يقال إن الاسمين يجوز رفعهما معا، أو نصبهما معا، أو رفع الأول ونصب الثاني، أو العكس، إذ الغرض من الإعراب التفصيلي هو الوصول إلى سلامة النطق، وصحة الضبط المؤدي إلى صحة المعنى المراد. وهذا يتحقق بمعرفة القاعدة الإجمالية التي ذكرناها، والاقتصار عليها.(1/584)
عمله؛ إن كان فى عمله خيرٌ فجزاؤه خير، وإن كان فى عمله شرٌّ فجزاؤه شر ... ومثاله بعد "لو": أطعم المسكينَ ولورغيفٌ. أى: ولوكان فى بيتكم رغيف، أو: ولويكون عندكم رغيف.
4- وأما حذفها مع معموليها فواجب بعد "إن الشرطية" أيضاً، ولكن فى أسلوب معين، مثل: "اذهب إلى الريف صَيفاً، إمَّا لاَ". والأصل: "اذهب إلى الريف صيفاً إن كنت لا تذهب إلى غيره". حُذِفت "كان" وهى فعل الشرط، مع اسمها، ومع خبرها، دون حرف النفى الذى قبله، وأتينا بكلمة: "ما" عِوَضاً عن "كان" وحدها1؛ وبسبب العِوَض كان حذفها واجباً؛ فلا تجتمع مع كلمة: "ما". وأدغمت فيها النون من "إنْ" الشرطية؛ فصار الكلام: "إمَّا2 لا". وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، وتقديره: "فافعل هذا".
ومثل ما سبق أن تقول لآخر: "ساعد المحتاج ببعض المال"؛ فيجيب: "ليس عندى ما يزيد على حاجتى". فتقول: "ساعده بالمعاملة الكريمة إما لا". فأصل الكلام: ساعده بالمعاملة الكريمة إن كنت لا تملك غيرها ... وجرى على الجملة من الحذف والتقدير ما جرى على سابقتها، مما يفترضونه للتيسير والإيضاح كما بيناه ...
__________
1 أما اسمها وخبرها فقد حذفا بغير تعويض.
2 يرى بعض النحاة أن الأصل في هذه الجملة وأشباهها لا يشتمل على: "كان" ولا معمولها، وإنما أصل التركيب: أفعل هذا إما لا تفعل غيره ... فلفظ "إما" مركب من "إن الشرطية" المدغمة في "ما" الزائدة للتأكيد، و" لا" نافية لفعل الشرط. ثم حذف فعل الشرط وفاعله وحذف الجواب أيضا لدلالة ما قبله عليه، وصارت الجملة أفعل هذا إما لا.... هذا إن كانت الهمزة مكسورة، أما إن كانت مفتوحة فأصل الكلام: اذهب إلى الريف لأن كنت لا تذهب إلى غير الريف، ثم جري التأويل الذي أشرنا إليه في القسم الأول "رقم "أ" من الحذف الواجب".
سواء أكانت التقدير هذا أم ذاك أم غيرهما، وسواء أكانت الهمزة مكسورة أم مفتوحة.... فالذي يجب الالتفات إليه أن هذه التأويلات والتقديرات - على تعقيدها - لا أهمية لها، وإنما المهم هو معرفة الأسلوب من ناحية صياغته، وطريقة تركيبه، ودقة استعماله في مثل موضعه الذي استعمله العرب فيه، بحيث لا نخطيء في صياغته، ولا طريقة استعماله، ولا فهم المراد منه، وهذا أمر يسير لا نحتاج معه إلى شيء من الكد العقلي المؤدي إلى فهم تلك الأوجه الإعرابية، المختلفة.(1/585)
وحذف "كان" هنا واجب كما سلف؛ لوجود عِوَض عنها؛ فهوالموضع الثانى من موضعَى الحذف الواجب بسبب العوض، ولا يصح الجمع بين العوَض، والمعَوَّض عنه - والموضع الأول بعد "أن" المصدرية السابقة - أما فى غيرهما فالحذف جائز.
ومن الأمثلة الشائعة لحذف كان مع معموليها - بعد "إنْ" من غير تعويض؛ قولك لآخر: أتسافر وإن كان البرد شديداً؟ فيجيب: نعم، وإنْ ... أى: أسافر وإن كان البرد شديداً. ومثله: أتعطى السائل وإن كان أجنبيًّا1؟ ومثل هذا الحذف جائز عند عدم اللبس، ووجود قرينة تدل على المحذوف.
ومما سبق نعلم: أنّ "كان" تحذف جوازاً فى حالتين، ووجوباً فى حالتين أخْرَيَيْنِ، تجئ "ما" عوضاً عنها فى كل منهما، ولا يجوز إرجاع "كان" مع وجود العوَض عنها فى حالتى حذفها وجوباً. أما فى الحالتين الجائزتين فحذفها وإرجاعها سواء.
__________
1 وقد أشار ابن مالك إلى بعض مواضع الحذف باختصار، قائلا:
ويحذفونها ويبقون الخبر ... وبعد: "إن" و "لو" كثيرا، ذا اشتهر
أي: إنهم يحذفون "كان" مع اسمها، ويبقون الخبر، وهذا الحذف قد اشتهر بعد "إن" و "لو" الشرطيتين على الوجه الذي فصلناه. ثم أشار إلى موضع آخر بقوله:
وبعد أن تعويض: "ما" عنها ارتكب ... كمثل: أما أنت برا فاقترب -
يريد: قد ارتكب "أي: حصل" تعويض: "ما" عن: "كان" المحذوفة الواقعة بعد: "أن المصدرية. وضرب لها مثلا هو: "أما أنت برا فاقترب" أصله: اقترب لأن كنت برا. أي: صاحب خير ومعروف، ثم جرى الحذف، والتعويض، والتقديم، والتأخير، والزيادة، كما شرحنا.(1/586)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" ورد فى الكلام القديم حذف كان مع اسمها بعد: "لَدُن": كأن يسألك سائل: متى كان الاجتماع؟ فتجيب: يومَ الخميس من لَدُن عصراً إلى المغرب. أى؛ من زمن كان الوقتُ عصراً إلى المغرب ... وهذا حذف لا يقاس عليه. وإنما عرضناه هنا لِيُفْهَم حين يرد فى كلام القدماء.
"ب" قد وردت كان وحدها محذوفة فى كلام قديم مع بقاء اسمها وخبرها ومنه:
أزمانَ "قومى" والجماعةَ كالذى ... لَزم الرَّحالةَ أنْ تميل مَمِيلاً
أى: أزمان كان قومى مع الجماعة1. فكلمة: "قوم" اسم "كان" المحذوفة و"الجماعة" مفعول معه، و"كالذى" خبرها. والسبب فى تقدير "كان" أن المفعول معه لا يقع - فى الأكثر - إلا بعد جملة مشتملة على لفظ الفعل وحروفه، أوعلى معناه دون حروفه.
__________
1 قالوا: إن مراد الشاعر هو وصف ما كان من استواء الأمور واستقامتها قبل الخليفة عثمان- رضي الله عنه- فشبه حال قومه في تماسكم وتلازمهم، وعدم تنافرهم- بحال راكب لزم الرحالة "وهي: سرج من جلد لا يخالطه خشب" خوف أن يميل مميلا، أي: ميلا.(1/587)
المسألة السادس والأربعون: حذف النون من مضارع "كان"
إذا دخل جازم على الفعل المضارع من: "كان" فإنه: يجزمه، وتُحذَف الواوالتى قبل النون1. نحو: لَمْ أكنْ من أعوان الشر، ولم تكُنْ من أنصاره، وكقول علىّ: لا تكُنْ عبد غيرك، وقد جعلك الله حرًّا. وأصل الفعل بعد الجازم: لَمْ أكونْ - لم تكونْ - لا تكونْ فهومجزوم بالسكون على النون؛ فالتقى ساكنان؛ الواووالنون؛ فحذفت الواو- وجوباً - للتخلص من التقائهما؛ فصار الفعل؛ لم أكُنْ - لم تكْنْ - لا تَكُنْ ... ومثل هذا يقال فى الفعل: "يكنْ" من قول القائل:
إذا لم يكُنْ فيكُنّ ظلٌّ ولا جنًى ... فأبْعدَ كُنًّ اللهُ من شجراتٍ
ويجوز بعد ذلك حذف النون: تخفيفاً؛ فنقول: لم أكُ - لم تَكُ، وكقول الشاعر:
فإنْ أكُ مظلوماً فعَبْدٌ ظلمتَهُ ... وإنْ تكُ ذا عُتْبَى فمِثْلُكَ يُعتِبُ2
وهذا الحذف جائز كما قلنا؛ سواء أوقع بعدها حرف هجائى ساكن3؛ نحو: لم أكُ الذى ينكر المعروف، ولم تكُ الصاحبَ الجاحدَ - أم وقع بعدها حرف هجائى متحرك، نحو: لم أك ذا مَنّ، ولم تكُ مصاباً به. إلاّ إن كان الحرف المتحرك ضميراً متصلا فيمتنع حذف النون؛ نحو: الشبَحُ المقبل علينا يُوحى بأنه صديقى الغائب؛ فإن يَكُنْهُ فسوف نسعد بلقائه، وإن لم يَكنْهُ فسوف نأسف. أى: إن يكن إياه ... وإن لم يكن إياه4.
__________
1 وهي الواو التي أصلها عين الكلمة، وتنقلب "ألفا" في الماضي.
2 البيت من قصيدة الشاعر الجاهلي: النابغة الذبياني،" يمدح بها النعمان بن المنذر، ويعتذر له عن وشاية بلغته. "العتبي: الرضا. يعتب: يزيل أسباب العتاب بالرضا، وقبول العذر".
3 عند من يبيح ذلك، كابن مالك، ومن معه. ورأيه أنسب.
4 ملخص شروط حذف النون سنة: كونها في مضارع، مجزوم، وجزمه بالسكون عند اتصاله في النطق بما بعده "أي: في حالة الوصل، لا الوقف، لأن النون في حالة الوقف ترجع وتظهر". وليس بعده ساكن عند من يشترط هذا، كسيبويه. وغيره لا يشترط هذا - ولا ضمير متصل.(1/588)
وتسرى الأحكام السالفة على المضارع الذى ماضيه "كان" الناقصة، كالأمثلة التى سبقت، والذى ماضيه "كان" التامة2؛ نحو: صفا الجو، واعتدل، فلم تكن سحب، ولم يكن برد ... بإثبات النون أوحذفها. أى: لم توجد سحب ولم يوجد برد 2 ... و ...
وبهذه المناسبة نشير إلى أمرين:
أولهما: ما تقتضيه القواعد اللغوية من حذف "الألف" من عين الفعل: "كان"، ومن حذف "الواو" من عين مضارعه وأمره، بشرط أن تكون الأفعال الثلاثة ساكنة الآخر؛ كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} . وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وقوله تعالى {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . وقول الشاعر:
إِذا كنتَ ذا رأىٍ فكنْ ذا عزيمةٍ ... فإِنَّ فسَادَ الرأى أَنْ تَتَرَدَّدَا
ثانيهما: وجوب ضم الكاف من الماضى عند إسناده لضمير رفع متحرك3، كما فى بعض الأمثل السالفة، وتطبيقاً للبيان الذى سبق من قبل4.
__________
1 ومعناها: حدث، أو: وجد.... - وقد سبق تفصيل الكلام عليهما في ص 549
2 وفي هذا يقول ابن مالك:
ومن مضارع لكان منجزم ... تحذف نون، وهو حذف ما التزم
يريد: أن المضارع من: "كان" مطلقا "سواء أكانت تامة. أم ناقصة" عند جزمه تحذف منه النون، حذفا غير ملتزم، أي: لم تلتزمه العرب ولم تتمسك به باطراد، وإنما فعلته حينا وتركته حينا. ونحن نتابعها فيما فعلت، فنبيح الأمرين.
3 كالتاء، ونون النسوة.
4 في رقم 2 من هامش ص 165.(1/589)
المسألة السابعة والأربعون: نفى الأخبار فى هذا الباب
وحكم زيادة "باء الجر" فيها، وفي الأسماء:
إذا دخلت أداة نفى على فعل من أفعال هذا الباب "غير "ليس"، و"زال" وأخواتها الثلاثة" فإن النفى يقع على الخبر؛ فتزول نسبته الراجعة إلى الاسم؛ ففى مثل: ما كان السارق خائفاً - وقع النفى على الخوف، وسُلبتْ نسبته الراجعة إلى السارق1؛ فإذا أردنا إثبات هذا الخبر، وجعل نسبته موجبَة مع وجود أداة النفى - أتينا قبله بكلمة: "إلاّ" فنقول: ما كان السارق إلا خائفاً؛ لأنها تنقض معنى النفى2، وتزيل أثره عن الخبر متى اقترنت به. وفى مثل قول الشاعر:
لم يك معروفك برْقاً خُلَّبًا3 ... إن خير البرقِ ما الغيثُ مَعَهْ
وقع نَفْى خَلاَبة البرق على المعروف. فإذا أريد إثباتها قيل: لم يك معروفك إلا برقاً خُلَّبًا. كل هذا بشرط ألا يكون الخبر من الكلمات التى ينحصر استعمالها فى الكلام المنفى وحده، مثل: يَعِيج4؛ فإن كان منها لم يجز اقترانه بكلمة: "إلا"؛ ففى مثل: ما كان المريض يَعِيج بالدواء، لا يقال: ما كان المريض إلا يعيج بالدواء. وفى: ما كان مثلُك أحدا5، لا يقال: ما كان مثلُك إلا أحداً.
__________
1 والمراد: ما حصل خوف السارق، وإذا كان النفي داخلا على "كان" الناسخة، أو على مضارعها وبعدهما لام الجحود، تغير الحكم السالف، وصار للجملة كلها معنى وحكم يختلفان عما نحن بصدده هنا - طبقا للبيان الخاص بلام الجحود وسيجيء تفصيله في النواصب جـ4 م 149 -
2 لسبب بلاغي، كالحصر مثلا.
3 البرق الخلب: الذي لا مطر بعده. وهذا لا خير فيه للبلاد التي ترتوي بالمطر.
4 بمعنى: ينتفع، نحو: ما يعيج فلان بالدواء، أي: ما ينتفع به. لا التي بمعنى: أقام: أو وقف، أو رجع، أو غيرها مما لا يلازمه النفي. ومثل: "يعيج" كلمتا "أحد" وديار" وكذا، عريب.... فهذه كلها لا تستعمل إلا في كلام منفي، نحو: ما في البيت أحد، أو: ما فيه ديار، أو: ما فيه عريب. والثلاثة بمعنى واحد.
5 بشرط أن تكون الهمزة أصلية.... وهذا غالب في غير كلمة "أحد" بمعنى "واحد" التي يصح استعمالها في الإثبات والنفي. "راجع رقم 1 من هامش ص 210 حيث الإيضاح لكلمة: أحد".(1/590)
فإن كان الفعل الناسخ هو: "ليس" "وهى معدودة من أدوات النفى1" فالحكم لا يتغير "من ناحية أن المنفى بها هوالخبر، وأنه إذا قصد إيجابه وبقاء نسبته إلى الاسم وضعنا قبله: "إلا"، وأنه إذا كان من الألفاظ التى لا تستعمل إلا فى كلام منفى لم يجز اقترانه بإلا". ومن الأمثلة: ليس الخطيب عاجزاً؛ فقد انصب النفى على "العجز" وزالت نسبته الراجعة إلى الخطيب. فإذا أردنا إبطال النفى عن الخبر، ومنع أثره فى معناه - أتينا قبله بكلمة: "إلا" فقلنا: ليس الخطيب إلا عاجزاً، لأنها تنقض النفى، وتوقف أثره؛ فيصير المراد معها هوالحكم على الخطيب بالعجز، وهوحكم يناقض السابق. أما فى مثل: ليس المريض يَعيج بالدواء، فلا يصح اقتران الخبر بإلا؛ فلا يقال: ليس المريض إلا يَعيج بالجواء. فشأن "ليس" كشأن "كان" المسبوقة بالنفى؛ حيث لا يصح أن يقال فيها: ما كان المريض إلا يعيج بالدواء؛ كما سبق.
فإن كان الفعل الناسخ هو: "زال" أوإحدى أخواتها الثلاث، "وكلها لا بد أن يسبقه2 نفى، أوشبهه" - فخبرها مثبت غير منفى؛ لأن كل واحدة منها تفيد النفي وقبلها نفى، ونفى النفى إثبات؛ فمثل: ما زال المال قوة، فيه إثبات لاستمرار القوة للمال، وحكم موجَب بنسبتها إليه، يمتد من الماضى إلى وقت الكلام؛ فالنفى: فى كلمة: "زال" وأخواتها مسلوب ومنقوض بالنفى الذى قبلها مباشرة. والمعنى فى جملتها موجَب، وخبرها مثبت، كما قلنا - فلا يقترن بكلمة "إلا"؛ فلا يصح ما زال المال إلا قوة؛ فشأنه شأن خبر: "كان" الخالية من نفى قبلها؛ فكلا الخبرين موجَب "مثبت".
وإذا كان خبر الناسخ منفيًّا إما "بليس" غير الاستثنائية، وإما "بما"3 على الوجه السالف4 جاز أن يدخل عليه حرف الجر الزائد: "الباء" نحو: ليس الحِلْم ببلادة5، وما كان الحليم ببليد يحتمل المهانة"، أى: ليس
__________
1 تفصيل الكلام عليها في ص 559.
2 انظر رقم 2 من هامش ص 563.
3 العاملة "الحجازية" باتفاق والمهملة تبعا للأرجح.
4 ويتضمن الشروط التي سلفت، وهي: "أ" وجوب نفي الخبر مع بقاء هذا النفي، وعدم نقضه بإلا" فلا يصح: ما النهر إلا بعذب. ب- إن يكون اخبر صالحا للاستعمال في الكلام الموجب، غير مقصور على الكلام المنفي، فلا يصح: ما مثلك بأحد - حـ- ألا يكون الخبر واقعا في الاستثناء، فلا يصح: كرمت العلماء ليس بالأدعياء ... أولا يكون بالأدعياء.
5 وتعرب كما يأتي: "الباء" حرف جر زائد. "بلادة" مجرورة بحرف الجر الزائد، وعلامة جرها الكسرة، في محل نصب، لأنها خبر "ليس" أيضا، فكلمة: "بلادة" مجرورة في اللفظ بحرف الجر الزائد، ومنصوبة محلا أو تقديرا، لأنها خبر أيضا. والجار الزائد مع مجروره لا يتعلقان بشيء(1/591)
الحِلم بلادة، وما كان الحليم بليداً؛ يحتمل المهانة. فزيدت "باء الجر" فى أول الخبر المنفى فى المثالين - وأشباههما - لغرض معنوى؛ هو: توكيد النفى وتقويته1.
وليست زيادتها مقصورة على أخبار بعض النواسخ دون بعض، وإنما هى جائزة فى جميع تلك الأخبار؛ بشرط أن تكون منفية2، فلا يصح زيادتها فى خبر: "زال" وأخواتها الثلاث؛ لأن الخبر فيها موجب "أى: مثبت" كما عرفنا.
ومع أن زيادتها مباحة بالشرط السالف فإنها متفاوتة فى الكثرة بين تلك الأخبار فتكثر فى خبر: "ليس"، نحوقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَام} وقول الشاعر:
ولسْتُ بهَيَّاب لمنْ لا يَهابُنى ... لسْتُ أرَى للمرء مالاَ يَرَى لِيَا
ثم فى خبر: "ما" الحجازية؛ نحوقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ثم فى خبر "كان".
وإذا تقدم الخبر فتوسط بينَ الناسخ واسمه جاز إدخال؛ "باء" الجر الزائدة على الاسم المتأخر؛ ففى نحو: ليس الشجاع متهوراً - يصح أن يقال: ليس متهوراً بالشجاع. وفى نحو: ما كان الجواد إسرافاً - يصح أن يقال: ما كان إسرافاً بالجود3.
ومن المستحسن ألا نلجأ لهذه الزيادة فى اسم الناسخ إلا حيث يتضح أمرها، وتشتد الحاجة إليها.
__________
1 ذلك أن باء الجر لا تزاد هنا إلا في الخبر المنفي، فوجودها دليل على وجود النفي وإعلان عنه، وإزالة شبهة غيابه. فكأن النفي بها قد تكرر. هذا وقد سبق في أول الكتاب فائدة الحرف الزائد ص 70.
2 زيادتها جائزة في المنفي من أخبار بعض الأفعال النواسخ، فتدخل أخبار "كان" وأخواتها إلا "ليس" الاستثنائية، و "لا يكون" الاستثنائية، وإلا "زال"، و "فتيء" و "برح"، و "انفك"، لأن أخبار هذه الأربعة موجبة - كما تقدم- وتزاد في مضارع: "كان" بشرط أن يكون منفيا بحرف النفي. "لم"، نحو: كلمتني فلم أكن بمشغول عنك، ولم تكن بمنصرف عني. فالباء حرف جر زائد، وما بعدها مجرور بها، في محل نصب - كما سيجيء البيان في ص 607 - وتزاد في المفعول الثاني من مفعولي: "ظن وأخواتها"، نحو: ما ظننت المؤمن بجبان. أما زيادتها في غير هذه المواضع، فالأحسن البعد عن استخدامه، والاقتصار فيه على المسموع دون محاكاته، أو القياس عليه "انظر ص 608".
على أن لزيادة "الباء" موضوعا تفصيليا هاما سجلناه في مكانه الأنسب "وهو باب: حروف الجر- جـ2 م 90 ص 455 وما بعدها، حيث الكلام على الكلام أم أحكام باء الجر. "3" راجع الصبان.(1/592)
المسألة الثامنة والأربعون: الحروف التى تشبه "ليس" وهى "ما-لا- لات-إنْ"
من الحروف نوع يشبه الفعل: "ليس" فى معناه، وهو: النفى1، وفى عمله؛ وهو: النسخ2 فيرفع الاسم وينصب الخبر3. وبهذه المشابهة في الأمرين بعد من أخوات: "ليس". مع أنها فعل وهوحرف، كما يعد من أخوات: "كان" لمشابهته إياها فى العمل فقط. وأشهر هذه الحروف أربعة: ما - لا - لات - إنْ".
وهذه الأربعة - كسائر النواسخ - لا يكون اسم واحد منها شبه جملة، لأن اسم الناسخ في الأصل مبتدأ، والمبتدأ لا يكون شبه جملة مطلقا - كما عرفنا4 -.
فأما الحرف الأول: "ما" فبعض العرب - كالحجازين - يُعْمله، وبَعْض آخر - كبنى تميم - يهمله5. وهويفيد عند الفريقين نفى المعنى فى الزمن الحالى عند الإطلاق6. تقول: ما الشجاع خوافاً، أوما الشجاع خواف؛
__________
1 سبق "في ص 559" أن "ليس" فعل ماض ينفي معنى الخبر في الزمن الحالي عند الإطلاق، "أي: عند عدم وجود قرينة تبين نوع الزمن، أو التجرد منه" فإن وجدت لزم الأخذ بمدلوها ... ومثلها الحروف "ما" و "إن" و "لات" و "لا" العاملة عمل: "ليس"، أما "لا" المهملة فيجيء تفصيل الكلام عليها في رقم 1 من هامش ص 601. فالحروف الأربعة تشبه "ليس" في أمر معنوي مشترك، وهو نفي المعنى في الزمن الحالي عند الإطلاق - وقد سبق في رقم 1 من هامش ص 53 بيان عن "ما" النافية للحال -
2 سبق شرح النسخ ومعناه عند بدء الكلام على النواسخ، ص 543.
3 يشترط، في أخبار هذه الحروف ما يشترط في أخبار النواسخ الأخرى - مما أشرنا له في ص 547 وهو وجوب أن يتمم الخبر المعنى بنفسه مباشرة مع الاسم، وقد يتممه في بعض الأحيان بلفظ آخر يتصل به نوع اتصال، وكذلك وجوب ألا يكون الخبر معلوما من اسم الناسخ وتوابعه. أما البيان التفصيلي ففي باب: "المبتدأ والخبر" - هامش ص 443.
4 في ص 544.
5 وسواء أكان عاملا أم مهملا فله الصدارة في جملته بشرط دلالته على النفي - راجع الصبان في باب ظن وأخواتها عند الكلام على الأدوات التي يقع بها التعليق، لصدارتها، وسيجيء البيان في جـ 2 ص 30، 61 -.
6 انظر ص 53 وهامشها رقم 1 حيث البيان الذي يوضح معنى "ما" النافية وأثرها في الزمن الحالي وغيره، وكلام صاحب المفصل في هذا.(1/593)
بالإعمال أوالإهمال. ومثل هذا فى قول الشاعر:
وما الحسْنُ فى وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكنْ فى فعلِه والخلائق
وقول الآخر:
لَعَمرك ما الإسرافُ فىَّ طبيعةٌ ... ولكنَّ طبعَ البخْل عِندِى كَالموت
لكن الذى يحسن الأخذ به فى عصرنا هوالإعمال، لأنه اللغة العالية، لغة القرآن، وأكثر العرب، ولا داعى للأخذ باللغة الأخرى؛ وهي صحيحة أيضا-1يجوز الأخذ بها منعاً للبلبلة، وتعدد الآراء من غير فائدة....
وتشتهر العاملة باسم: "ما الحجازية". ويشترط لإعمالها خمسة شروط مجتمعة2:
"ا" ألا تقع بعدها كلمة: "إنْ" الزائدة3؛ فيصح الإعمال فى مثل: ما الحق مغلوباً، ولا يصح فى مثل: ما إنْ الحق مغلوب4.
"ب" ألا ينتقض نفيها عن الخبر بسبب وقوع "إلا" بعدها5؛ فتعمل
__________
1 وإنما أشرنا إليها هنا لينتفع بها المتخصص في فهم ما يصادفه من النصوص القديمة التي تطابقها.
2 هناك بعض شروط أخرى تركناها، إما لاندماجها في غيرها، - كاشتراط ألا يكون اسمها شبه. جملة وإما لأنها متكلفة غير مقبولة، فلا داعي للإعنات بها. من هذا اشتراطهم ألا يبدل من خبرها المنفي بدل "موجب" بسبب اصطحابه "إلا" نحو: ما العدو شيء إلا شيء لا يعبأ به. فكلمة "شيء" الأولى خبر المبتدأ والثانية بدل منها. مرفوع. وهو موجب، لوقوعه بعد إلا". ووقوع البدل موجبا يقتضي عندهم أن يكون المبدل منه موجبا ايضا. ثم يقولون، كيف يكون المبدل منه موجبا مع أنه خبر "ما" النافية التي تنفي معنى الخبر؟ فيقع التناقض الذي لا مفر منه إلا باشتراط ذلك الشرط الذي نرى إهماله، وعدم التعويل عليه، لأمرين: أولهما: أن دليلهم منقوض بدليل جدلي مثله، لا نريد أن نعرضه، منعا لإطالة المناقشة الجدلية بغير فائدة.
وثانيهما: - وهو الأهم أن بعض أئمة النحاة، كسيبويه، لم يشترطه لأن صورا كثيرا من الكلام الفصيح تخلو منه. وهذه هي جملة قاطعة، وفيها تسير. وبخاصة إذا أخذنا بقولهم: إنه يغتفر في الثواني مالا يغتفر في الأوائل "كما سيجيء في: جـ3 باب "البدل"، وغيره. وسنشير له في رقم 2 من هامش ص 598؟ ".
3 سبقت الإشارة لهذا في "ب" من ص 560.
4 إن كانت "إن" ليست زائدة وإنما هي لتأكيد النفي لم يبطل العمل، بشرط وجود فاصل لفظي بين الحرفين، أو قرينة أخرى تدل على أنها للتأكيد، طبقا للبيان الذي في رقم 1 من هامش ص 596 وقد سبق: "في ص 561" أنه لا يصح وقوع "إن" الزائدة، بعد "ما" النافية العاملة، ولا بعد "ليس" كما صرح بهذا الصبان، وصاحب الهمع في أول باب: "ما" الحجازية -.
5 أو وقوع "لكن"، أو: "بل" كما سيجيء، في ص 597، وخرج النقض بكلمة: "غير" فإنه لا يبطل عمل: "ما" نحو: ما الإساءة غير بلاء لصاحبها، "بنصب كلمة "غير".(1/594)
فى مثل: ما الجومنحرفاً، ولا تعمل فى مثل: ما الجوإلا منحرف؛ وقول الشاعر:
إذا كانت النعْمَى تُكَدَّرُ بالأذَى ... فما هى إلا مِحْنَةٌ وعذابُ
لأن الخبر مثبت هنا بسبب "إلا" التى أبطلت النفى عنه، ولا يضر نقضه عن المعمول؛ نحو: ما أنت متكلماً إلا بصواب.
"حـ" التزام الترتيب بين اسمها وخبرها الذى ليس شبه جملة، فلا يصح تقديم الخبر الذى ليس شبه جملة عل الاسم؛ ولهذا تَعْمَل فى مثل: ما المعدنُ حجراً، وتُهْمَل فى مثل: ما حجرٌ المعدنُ؛ لتقدم خبرها على اسمها. فإن كان الخبر شبه جملة جاز إعمالها وإهمالها عند تقدمه ومخالفته الترتيب؛ مثل: ما للسرور "دواماً". وقول الشاعر:
وما للمرء خيرٌ فى حياة ... إذا ما عُدَّ من سَقَط المتاع2
بالإعمال أوالإهمال فى كل ذلك؛ فعند الإهمال يكون شبه الجملة فى محل نصب؛ خبر "ما"، وعند الإهمال يكون فى محل رفع؛ خبر المبتدأ3.
"د" ألا يتقدم معمول الخبر على الاسم، بشرط أن يكون ذلك المعمول المتقدم غير شبه جملة؛ ففى مثل: ما العاقل مصاحباً الأحمق - لا يصح الإعمال مع تقدم كلمة: "الأحمق" على الاسم؛ لأنها معمول للخبر، وليست شبه جملة، فيجب الإهمال فتقول: ما، الأحمقَ - العاقل مصاحبٌ، فإن كان المعمول المتقدم شبه جملة جاز الإعمال والإهمال، نحو: ما فى الشرِّ أنت راغباً وما عندك فضلٌ ضائعاً، ويجوز ... راغبٌ، وضائعٌ4.
__________
1 ومثل هذا قول الآخر:
وما الناس إلا واحد كقبيلة ... يعد، وألف لا يعد بواحد
2 سقط المتاع: هو المتاع المهمل المتروك، لعدم فائدته، "وفي هذا البيت وقعت "ما" بعد كلمة "إذا" فيتعين الحكم بزيادة "ما" - كما سبق في رقم 4 من هامش ص 70.
3 لا يظهر للإعمال أو الإهمال أثر مباشر في هذه الأمثلة وأشباهها، وإنما يظهر الأثر فيما يجيء بعدها من توابع، كالعطف مثلا، على الخبر- فعند الإعمال يكون التابع منصوبا كخبر "ما" المنصوب، وعند الإهمال بكون التابع مرفوعا كخبر المبتدأ.
4 السبب العام الموضح في "ب" من ص 576.
كذلك يمتنع تقديم معمول الخبر على الخبر، ومعمول الاسم على الاسم إذا كان المعمول في الصورتين غير شبه جملة، فلا إعمال في نحو: ما العاقل - الصواب - تارك، ولا في نحو: ما الشطط راكب "آمن" والأصل ما العاقل تارك الصواب. وما راكب الشطط آمن. فإن كان شبه جملة جاز تقديمه.(1/595)
"هـ" ألا تتكرر "ما"، فلا عمل لها فى مثل: "ما" "ما" الحُرُّ مقيم على الضيم؛ لأن كلمة: "ما" الأولى للنفى، وكلمة "ما" الثانية للنفى أيضاً؛ فهى قد نفت معنى الأولى، ونفى النفى إثبات1 فتبتعد "ما" الأولى عن النفى، وينقلب معنى الجملة إلى إثبات، وهوغير المراد2.
__________
1 فإن تكررت وكانت لتأكيد النفي في الأولى، لا لإزالته، صح الأعمال- مع ضعفه، حي قيل بشذوذه- وذلك بأن تكون "ما" الثانية توكيدا لفظيا للأولى يقوي نفيها، ولا يزيله، مع ملاحظة أن هذا التوكيد اللفظي ضعيف أو شاذ، كما قلنا، لعدم وجود فاصل بين حرفي النفي، كما تقضي 2ضوابط التوكيد اللفظي - التي منها: أن توكيد الحروف التي ليست للجواب يقتضي تكرار الحرف الأول ومعه لفظ آخر يفصل بينه وبين الثاني الذي جاء للتوكيد - وسيأتي في جـ3 ص 515 م 116 هذا -، والذي يدل على أن الثانية تفيد نفيا جديدا يزيل الأول، أو أنها تفيد نفيا يؤكد الأول، إنما هو القرائن اللفظية - ومنها الفاصل اللفظي - أو المعنوية. ومع التكرار لا يصح بغير شذود أن توجد "ما" ما في الجملة الواحدة أكثر من مرتين، إحداهما: الأولى الثانية تكرارها لها.
2 وقد عرض ابن مالك لبعض ما سبق من الشروط، تاركا بعضا آخر، حيث يقول:
إعمال "ليس" أعملت: "ما" دون: "إن" ... مع بقا النفي، وترتيب زكن
سجل في هذا البيت ثلاث شروط لإعمال: "ما" عمل ليس، وهي: ألا توجد بعدها "إن" الزائدة، وألا ينتقض النفي "بسبب تكرارها نافية، أو بوقوع حرف نفي آخر بعدها يزيل عن خبرها معنى النفي، او بدخول إلا - أو غيرها على الخبر مما يزيل عنه النفي"، وأن يبقي الترتيب بين اسمها وخبرها، فلا يتقدم الخبر على الاسم "وكلمة زكن معناها: علم" ثم يقول:
وسبق حرف جر أو ظرف كما ... بي أنت معنيا، أجاز العلما
أي: أن العلماء أجازوا تقديم الخبر إذا كان حرف جر مع مجروره، ومثل له بقوله: مابي أنت معنيا ومثاله هذا إنما يصلح لتقديم شبه الجملة المعمول للخبر نفسه، لا لتقدم الخبر. لكن جواز تقديمه يؤذن بصحة تقديم الخبر شبه الجملة أيضا. أو كان ظرفا، مثل، ما عند العاجز حيلة، وذلك بناء على ما استنبطوه من كلام العرب.(1/596)
حكم المعطوف على خبرها:
"ا" إن كان حرف العطف مما يقتضى أن يكون المعطوف موجَباً "أى: مثبتاً" مثل: "لَكِنْ" و"بل" - وجب رفع المعطوف1؛ مثل: ما الفضل مجهولا لكنْ معروف؛ وما الإحسان منكوراً بل مشكور؛ فيجب الرفع فى كلمتى: "معروف" و"مشكور" وأشباههما؛ محاكاة لنظائرهما فى الكلام الفصيح المأثور. وتعرب كلا منهما خبراً لمبتدأ محذوف؛ فكأن أصل الكلام. ما الفضل مجهولا لكن هومعروف. وما الإحسان منكوراً بل هومشكور. ويتعين فى هذه الحالة إعراب كل واحدة من "لكن" و"بل" حرف ابتداء، ولا يصح إعرابها حرف عطف، لما يترتب على ذلك من أن يكون المعطوف جملة على حسب التقدير السابق، ولا يصح أن يكون المعطوف بهما جملة.
__________
1 تفصيل ذلك: أن "لكن" تكون حرف عطف بثلاثة شروط، "أن يسبقها نفي، أو نهي" "وألا تكون مقترنة بالواو قبلها"، "وأن يكون معطوفها لا جملة:. ومثالها: ما أغضبت السباق، لكن المتأخر. فإذا كان ما قبلها منفيا - كالمثال السابق - تركته منفيا على حاله، وأقرت معناه المنفي، ولم تغيره، وأثبتت نقيضه لما بعدها، ففي العبارة السابقة انتفى الحكم بالإغضاب على السباق، ووقع الحكم بالإغضاب على المتأخر. وفي مثل: ما غابت فاطمة لكن زينب - انتفى الحكم بغياب فاطمة، وثبت الحكم بغياب زينب. وهكذا نرى الحكم المنفي قبل: "لكن"، يبقى منفيا على حاله، ويثبت نقيضه لما بعدها ... و.... و.... فإن فقد شرط لم تصلح عاطفة، ووجب أن تكون حرف ابتداء محض، واستدراك، وأن تدخل على جملة جديدة لا على مفرد.
وأما "بل" فإنها تكون حرف عطف بعد النفي وغيرها ولا تعطف إلا المفردات الصحيح. فإذا كانت بعد النفي، أو نهي كأن شأنها شأن: "لكن" في أنها تترك ما قبلها على حاله، أي: تقر معناه المنفي ولا تغيره وتثبت نقيضه لما بعدها، نحو: ما أهنت نبيلا بل حقيرا، فقد انتفى حكم الإهالة عن النبيل وثبت حكم الإهانة للحقير. أما إن كانت بعد كلام موجب، أو بعد أمر، فإنها تفيد الإضارب أي: العدول عن الحكم السابق، ونقله إلى ما بعدها، وترك ما قبلها كالمسكوت عنه، بتركه غير محكوم عليه بشيء، نحو: غرد العصفور، بل البلبل. وفي الصفحة الآتية ما يزيد الأمر وضوحا.
2 هذا هو التعليل الصحيح لوجوب الرفع. أما ما زاد عليه من أنه خبر مبتدأ محذوف، وأنه لا يصح العطف و ... و ... مما قيل بع ذلك - فهو تحليل وتعليل منطقي، ابتكره النحاة: لايضاح الحكم السابق، وضبط حدوده، منعا للخطأ، وقد أحسنوا فيه، وإن لم يعرف العرب الأوائل شيئا عنه.(1/597)
ولوجعلنا المعطوف بهما مفرداً ولم نلاحظ التقدير السابق لوجب أن يكون منصوباً ومنفيًّا، تبعاً للخبر المعطوف عليه؛ لأن المعطوف المفرد يشابه المعطوف عليه فى حركات الإعراب، وفى النفى، والإثبات، والعامل فيهما واحد، وهنا يقع التعارض بين المعطوف عليه والمعطوف؛ فالأول مفى "بما" ومعمول لها. والثانى معمول لها أيضاً وموجَب1؛ وقوعه بعد: "لكن" أو: "بل". المسبوقين بنفى. و"ما" لا تعمل فى الموجَب, ومن هنا يجئ التعارض أيضاً؛ وهويقضى بمنع العطف ولوكان عطف مفرد على مفرد2، ويقضى بالرفع. والأحسن أن يكون رفعه خبراً لمبتدأ محذوف.
ومما تقدم نعلم أن الكلام فى حالة: "ا" لا يشتمل على عطف مطلقاً؛ فلا عاطف، ولا معطوف عليه، ولا حرف عطف3.
"ب" أما إن كان العطف لا يقتضى أن يكون المعطوف موجَبًا وإنما يقتضى أن يشابه المعطوف عليه فى حركات إعرابه، ونفيه، وإثباته: كالواووالفاء ... فإنه يجوز فى هذه الحالة نصب المعطوف ورفعه، مثل: ما أنت
__________
1 للسبب الموضح في رقم 1 من هامش الصفحة السابقة.
2 إذا كان خبر "ما" مجرورا بالباء الزائدة مثل: ما النجم بمظلم، لكن مضيء -أو بل مضيء- وجب الرفع أيضا دون النصب والجر، لقول النحاة: لا يصح الجر هنا عطفا على لفظ الخبر المجرور بالباء الزائدة. ولا النصب، عطفا على محله. وحجتهم أن الباء "عملت" الجر في المعطوف عليه، فهي العاملة أيضا في المعطوف تبعا لذلك، لأنه يشابه المعطوف عليه في حركات الإعراب، فالعام فيهما واحد، والمعطوف هنا موجب كما سبق. والباء لا تدخل على الموجب، وإنما تزاد بعد النفي.
وهذا كلام مردود، لأنه نظري فقط، يحتاج إلى سماع يؤيده، فوق أنهم يفتقرون في الثواني ما لا يغتفرون في الأوائل. وسجل النحاة هذا في مواضع متعددة، "كالذي في الصبان، جـ2 باب: "الاستثناء" عند الكلام على تعذر البدل من اللفظ في الاستثناء التام غير الموجب. وكالذي في همع الهوامع جـ1 ص 215، وقد أشرنا لهذا في رقم 2 من هامش ص 594، ويجيء في جـ 2 ص 311 م 81".
والواجب أن يرجعوا للكلام العربي، ويعرضوا لحالته، ثم يستنبطوا منه الحكم الواقع. ولا نعرف أنهم فعلوا. ولهذا نجيز الجر والنصب، وإن كان الرفع هو الأقوى.
3 وقد كان التعبير في أول الأمر بحرف العطف والمعطوف عليه تعبيرا مجازيا، روعي فيه الأصل والصورة الظاهرية التي تشبه صورة العطف، وإن كان الواقع والحقيقة أنه لا أثر العطف هنا.(1/598)
قاسياً وعنيفاً على الضعيف، أو: "عنيف" بنصب كلمة: "عنيفاً"؛ لأنها معطوفة على خبر "ما" المنصوب. وبرفعها لأنها معطوفة على خبر "ما" باعتبار أصله الأول قبل مجئ "ما"؛ فقد كان خبراً مرفوعاً للمبتدأ1. ويحسن الاقتصار على الأول؛ ليكون الأسلوب مُتَّسقًا مؤتلفًا2 ...
وتلخيص ما تقدم فى: "اوب" هو: أن رفع المعطوف جائز مع كل عاطف وأما نصبه فمقصور على بعض حروف العَطف دون بعض آخر يقتضى إيجاب المعطوف مثل: لكن وبل2 ...
__________
1 وإلى ما سبق يشير ابن مالك بقوله:
ورفع معطوف بلكن، أو: ببل ... من بعد منصوب بـ "ما" الزم حيث حل
ومعنى البيت واضح بعد تقديره على الوجه التالي: الزم رفع معطوف بلكن أو ببل من بعد منصوب "بما" حيث وجد ذلك المنصوب. والمراد بمنصوب "ما": خبرها. و "من بعد منصوب"، جاز ومجرور متعلقان بكلمة 611.(1/599)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" إنما عرض النحاة للعطف على خبر "ما" دون العطف على أخبار غيرها من النواسخ الأخرى التى لا يشترط فيها عدم نقض النفى، لأن "ما" يشترط فى عملها ألا ينتقض نفى خبرها. فإن انتقض لم تعمل كما سبق. والحرفان ""لكن"، و"بل"" من حروف العطف، ينقض كل منهما النفى عن المعطوف بعده، ويجعله موجَباً، مع أن المعطوف عليه منفى. ولما كان المعطوف على خبر "ما" بمنزلة خبرها - وجب أن يكون ذلك المعطوف منفيًّا كالخبر المعطوف عليه؛ لكى تعمل فيه "ما" النصب. غير أن المعطوف هنا موجب لوقوعه بعد "لكن"، أو"بل" فالنفى منقوض عنه، وصار موجباً. ولهذا لم يصح نصبه، لأنه بمنزلة الخبر - كما قلنا - و"ما" لا تعمل فى الموجب.
وقياساً على ما سبق1 يجرى هذا الحكم على كل ناسخ آخر، "مثل: إنْ - لا، وسيجئ الكلام عليهما" مما يشترط فى إعماله ألا ينتقض النفى عن خبره فعند العطف على خبره ينطبق عليه الحكم السالف.
"ب" أنسب الآراء، أنه لا يجوز حذف "ما" الحجازية وحدها، أومع أحد معموليها، أومعهما. كما لا يجوز حذف معموليها ولا أحدهما.
"حـ" إذا دخلت همزة الاستفهام على "ما" الحجازية لم تغير شيئاً من أحكامها السابقة.
__________
1 لم أر في الكتب المتداولة نصا على هذا القياس، ولكنه الذي يساير الأصل العام الذي عرضوه.(1/600)
وأما الحرف الثاني-: "لا" فهو للنفى. وفريق من العرب -كالحجازين- يُعْمِله عمل: "ليس" ويجعل النفى به منصبًّا مثلها على الزمن الحالى عند عدم قرينة تدل على زمن غير الحال1. وفريق آخر -كالتميميين- يهْمِله. تقول: لا معروفٌ ضائعاً، أو: لا معروفٌ "ضائعٌ"، بالإعمال أوالإهمال. وله في الحالتين الصدارة في جملته....2
والمهم عند إعمالها هوفهم معناها، وإدراك أثرها المعنوى فى الجملة، ليحسن استخدامها على الوجه الصحيح1 وفيما يلي الإيضاح.
"ا" لا رجلٌ غائباً - تشتمل هذه الجملة على كلمة: "لا" النافية وبعدها اسم مفرد مرفوع، وبعده اسم منصوب. فما الذى تفيده هذه الجملة؟ تفيد هذه الجملة التى يكون فيها اسم: "لا" مفرداً -أى: غير مثنى وغير مجموع- احتمال أمرين: نفى الخبر "وهو: الغياب" عن رجل واحد، ونفى الغياب عن جنس الرجل كله؛ فرداً فرداً؛ فلا غياب لواحد أوأكثر.
ولوقلنا: لا رجلان غائبيْن، ولا رجالٌ غائبِين - لكان الأمر محتملا نفى الغياب عن اثنين فقط، أوعن جماعة فقط، ومحتملا أيضاً نفى الغياب عن جنس الرجل كله؛ فرداً فرداً، أوعن جماعة فقط، ومحتملا أيضاً نفى الغياب عن جنس الرجل كله؛ فرداً فرداً؛ بحيث لا يخلوواحد من الحكم عليه بعدم الغياب.
"ب" لا طائرٌ موجوداً - تفيد هذه الجملة التى يكون فيها اسم "لا" مفردًا أى: غير مثنى وغير مجموع - ما أفادته التى قبلها من احتمال أمرين؛ نفى وجود طائر واحد، ونفى وجود جنس الطائر كله؛ فرداً فرداً؛ بحيث لا يخلوواحد من الحكم عليه بعدم الغياب.
"ب" لا طائرٌ موجوداً - تفيد هذه الجملة التى يكون فيها اسم "لا" مفرداً أى: غير مثنى وغير مجموع - ما أفادته التى قبلها من احتمال أمرين؛ نفى وجود طائر واحد، ونفى وجود جنس الطائر كله؛ فرداً فرداً؛ فلا وجود لطائر واحد، ولا أكثر. ولوقلنا: لا طائران موجودَيْن، ولا طيورٌ موجودةً - لكان النفى إمَّا واقعاً على طائرين فقط، وإما واقعاً على جماعة فقط، وإما على الجنس كله في الصورتين -
__________
"1، 1" إذا كانت مثل "ليس" في معناها وعملها أفادت نفي المعنى عن الخبر في الزمن الحالي، إلا إن دلت قرينة على أن نفي معنى الخبر في زمن آخر - كما تقدم هنا، وفي رقم 1 من هامش ص 593 - وهذا إن كانت "لا عاملة عمل "ليس" فأما "لا" المهملة التي لا عمل لها في الجملة الاسمية -ولا في غيرها- فإنها من ناحية أثرها المعنوي في الجملة الاسمية - تشبه "لا" العاملة عمل "ليس" فهما في المعنى متشابهان، ولكنهما في الإعمال والإهمال مختلفان، فإحداهما تعمل والآخرى لا تعمل. "راجع الصبان أول باب: "لا" النافية للجنس".
فإن كانت "لا" المهملة داخلة على جملة فعلية فعلها ماض فإنها تنفي معناه في زمنه الخاص به وإن دخلت على مضارع فإنها -في الرأي الراجج- تخلص زمنه للمستقبل، وتنفي معناه في هذا الزمن المستقبل. والبيان في رقم 3 من هامش ص 59 "ويلاحظ أن المهملة يصح دخولها على الجملة الاسمية والفعلية".
2 طبقا للرأي الراجح - انظر رقم 2 من هامش ص 603.(1/601)
واحداً واحداً؛ بحيث لا يخلوطائر من الحكم عليه بعدم الوجود.
مما سبق نعلم أن: "لا" النافية التى تعمل عمل: "كان" لا تدل على نفى الجنس كله فرد فرداً دلالة قاطعة لا تحتمل معها أمراً آخر؛ وإنما تدل - دائماً - على احتمال أمرين1، فإن كان اسمها مفرداً دلت على نفى الخبر عن فرد واحد، أوعلى نفيه عن كل فرد من الأفراد. وإن كان اسمها مثنى أوجمعاً دلت أيضاً على احتمال أمرين؛ إمَّا نفى الخبر عن المثنى فقط، أوعن الجمع فقط، وإمَّا نفيه عن كل فرد من أفراد الجنس. فدلالتها على نفى الخبر تحتمل هذا، وتحتمل ذاك فى كل حالة. وليست نصًّا2 فى أمر واحد.
ومن أجل أنها تحتمل نفى الخبر عن الفرد الواحد إذا كان اسمها مفرداً سميت: "لا" التى لنفى الواحد، أو: "لا" التى لنفى الوحْدة، أى: الواحد أيضاً.
والذين يُعملونها يشترطون لذلك شروطاً خمسة3.
أولها: أن يكون اسمها وخبرها نكرتين4؛ أو ما في حكم النكرة5 مثل: لا مالٌ باقياً مع التبذير. فإن كان أحدهما معرفة أوكلاهما - لم تعمل4.
__________
1 ما لم توجد قرينة تمنع الاحتمال، وتعين أحدهما وحده.
2 إذا أردنا النص على أن النفي يقع على كل فرد من أفراد اسم "لا" أي: يقع على أفراد الجنس واحدا واحدا، من غير احتمال آخر - أتينا بالحرف الذي يدل على ذلك وهو: "لا" النافية للجنس، بشرط أن يكون اسمها مفردا، لا مثنى ولا جمعا، وهي من أخوات "إن" تنصب مثلها الاسم وترفع الخبر. "وسيجيء الكلام مفصلا عليها في بابها الخاص، آخر هذا الجزء، ص 683"، فإن لم يكن اسمها مفردا بأن كان مثنى أو جمعا كانت فيهما هي و "لا" العاملة عمل ليس - سواء، فيقع الاحتمال بين أن يكون الخبر منفيا عن الاثنين فقط، أو عن الجماعة فقط، وأن يكون منفيا عن كل فرد من أفراد الجنس. فالفرق بين نوعي "لا" العاملة إنما يتحقق حين يكون اسمها مفردا، "انظر هامش ص 685، حيث البيان".
3 مع ملاحظة ما لا يصلح أن يدخل عليه الناسخ، "وقد سبق في رقم 1 من هامش ص 543". ومنه: ألا يكون اسمها شبه جملة.
"4 و4" فلا يصح: لا السلاح مأمونا في يد الطائش. لا لاح المأمون في يد الطائش، لا السلاح المأمون إذا كان في يد الطائش.... فمثل هذه تراكيب غير صحيحة، بسبب إعمال "لا" مع فقدها شرطا من شروط الإعمال، إلا عند الكوفيين، فإنهم لا يشترطونه، وبمذهبهم قال المتنبي:
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذي ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
5 يجوز أن يكون خبرها جملة فعلية أو شبه جملة، لأنهما يكونان في حكم النكرة - "كما سبق في رقم 1 من هامش ص 48 وفي 1 من هامش ص 213 وفي 2 من هامش ص 209..... - ".(1/602)
ثانيهما: عدم الفصل بينها وبين اسمها وهذا يستلزم الترتيب بين معمونيها، فيجب تأخير الخبر، وكذلك تأخير معموله عن الاسم، كى لا يفصل بينها وبين اسمها فاصل؛ نحو: لا حصنٌ واقياً الظالمَ1. ولا يصح أن يسبقها شيء من جملتها2....
ثالثها: ألا ينتقض النفى بإلا؛ تقول؛ لا سعىٌ إلا مثمر، ولا يصح نصب الخبر3.
رابعها: عدم تكرارها؛ فلا تعمل فى مثل: لا، لا مسرع سَبَّاق. إذا كانت "لا" الثانية لإفادة نفى جديد4.
خامسها: ألا تكون نصًّا فى نفى الجنس5 - كما شرحنا - وإلا عملت عمل: "إنّ":
تلك هى الشروط الحتمية لعمل "لا" وهى نفسها شروط لعمل "ما" مع زيادة شرطين فى عمل "لا" وهما: أن يكون اسمها وخبرها نكرتين، وألا تكون نصًّا فى نفى الجنس6.
وحذف خبرها كثير فى جيد الكلام؛ ومنه أن تقول للمريض؛ لا بأسٌ؛ أى: لا بأسٌ عليك. وفلان وديع لا شكٌّ. أى: لا شكٌّ فى ذلك، أوفى وداعته....
__________
1 فلا يصح: "لا واقيا حصن الظالم" لتقديم الخبر. ولا يصح: لا - الظالم- حصن واقيا، لتقديم معموله وحده. ولا يصح: لا - واقيا الظالم - حصن، لتقديمهما معا. إلا إن كان معمول الخبر شبه جملة فيجوز تقديمه وحده، نحو: لا - في العمل حازم مهملا. ولا ساعة الجد عاقل متوانيا.
2 والصحيح أن "لا" بنوعيها العاملة والمهملة، هي من حروف النفي التي لها الصدارة. "راجع الصبان في باب: "ظن وأخواتها"، عند الكلام على أدوات التعليق التي لها الصدارة". وسيجيء البيان في جـ 2 ص 26 م 61.
3 ومن أثر هذا أنه إذا عطف على خبرها بالحرف، "لكن" أو: "بل" لم يجز العطف بالنصب ووجب رفع المعطوف، لما سبق بيانه في ص 597 وفي الزيادة ص 600.
4 فإن تكررت وكانت الثانية مفيدة لنفي جديد يزيل النفي السابق، وليس توكيدا للأولى - فإنها لا تعمل، لأن نفي النفي إثبات، فتبتعد عن معناها الأساسي في مثل: "لا لا مكافح مسرور. وإن كانت الثانية توكيدا للأولى - مع قلته وضعفه -، بسبب عدم الفاصل بينهما - جاز إعمالها: نحو: لا لا حاسد مستريحا. وقد عرفنا أن الذي يدل على أن الثانية للتوكيد أو لإفادة نفي جديد - هو: القرآن اللفظية أو المعنوية. ولا تتكر - في الأرجح- إلا مرة واحدة بحيث لا تشتمل الجملة منها على أكثر من اثنين "انظر رقم 1 من هامش ص 596 ففيه ما يتصل بهذا".
5 راجع "لا" النافية للجنس آخر هذا الجزء 683.
6 لم يذكر من شروط "لا" عدم وقوع: "إن" الزائدة بعدها كاشتراطه في "ما" لما هو معروف من عدم وقوع: "إن" الزائدة بد "لا".(1/603)
"ملاحظة": لا يتغير شئ من الأحكام السالفة إذا دخلت همزة الاستفهام على "لا" سواء أكان الاستفهام باقياً على حقيقته، أم خرج إلى معنى آخر كالتوبيخ. ز أوالإنكار ... ، مثل: ألا إحسانٌ للفقير من هذا الرجل الغنى1 البخيل ...
أما الحرف الثالث: "إنْ" فهولنفى الزمن الحالى عند الإطلاق، وإعمالُه وإهمالُه سِيَّانِ2. ولكن الذين يُعملونه يشترطون الشروط الخاصة بإعمال "ما"3 النافية إلا الشرط الخاص بعدم وقوع "إنْ" الزائدة بعدها؛ إذ لا تقع "إنْ" الزائدة بعد "إنْ" النافية أيضاً؛ نحو: إنْ الذهبُ رخيصاً "بمعنى: ما الذهب رخيصاً" أو: إنْ الذهبُ رخيص. ففى المثال الأول تعرب "إنْ" حرف نفى ناسخ بمعنى: ما، وبعدها اسمها وخبرها. وفى المثال الثانى: "إنْ" حرف نفى مهمل، وبعده مبتدأ مرفوع، ثم خبره المرفوع4. ومن أمثلة عمالها، قول الشاعر:
إنْ المرْءُ بانقضاءِ حيَاتِه ... ولكنْ بأن يُبْغَى عليه فيُخْذَلاَ
وهى فى حالتى إعمالها وإهمالها لنفى الزمن الحالى، ما لم تقم قرينةٌ على غيره. - كما تقدم -.
وأما الحرف الرابع: "لات"5 فهولنفى الزمن الحالى عند
__________
1 راجع الخضري جـ1 باب: "لا النافية" للجنس عند بيت ابن مالك.
وأعط "لا" مع همزة استفهام ... ما تستحق دون الاستفهام
حيث صرح بأن دخول همزة الاستفهام على "لا" بنوعيها لا يغير من أحكامها، على الوجه الآتي في م 59 ص 704.
2 إذا كانت عاملة وجب دخولها على جملة اسمية - كالشأن في النواسخ كلها - ولا يصح أنه يكون اسمها شبه جملة. أما إذا كانت مهملة فيجوز دخولها على الاسمية والفعلية، فمن أمثلة المهملة الداخلة على الاسمية قوله تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُور} ومن أمثلة الداخلة على الفعلية قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّن} وقوله: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .
3 تقدمت شروطهما، في ص 594 - ويراعي في العطف على خبر "إن" ما سبق في العطف على خبر "ما" "ص 597 والزيادة التي في ص 600".
4 ويجوز هنا ما يجوز في "ما" من صحة نقض النفي عن معمول الخبر، دون الخبر، نحو: ما أنت قارئا كتبا إلا النافعة.
5 يقول النحاة: إن أصلها "لا" ثم زيد عليها التاء لتأنيث اللفظ، كالتاء في "ربت" و "ثمت". غير أن التاء مع "لات" متحركة بالفتح دائما. وزيادتها تفيد مع تأنيث اللفظ توكيد النفي =(1/604)
الإطلاق ويشترط لعملها1:
"ا" الشروط الخاصة بعمل "ما"2 إلا الشرط الخاص بعدم وقوع: "إنْ" الزائدة بعدها؛ إذ لا تقع "إنْ" الزائدة بعد: "لات".
"ب" ثلاثة شروط أخرى؛ هى: أن يكون اسمها وخبرها كلمتين دالتين على الزمان3، وأن يحذف أحدهما دائماً، والغالب أنه الاسم. وأن يكون المذكور منها نكرة؛ مثل: سهوتَ عن ميعادك، ولاتَ حينَ سهو. أى: ولاتَ الحينُ4 حينَ سهو. وإعرابها: "لا" نافية؛ تعمل عمل: "ليس". التاء للتأنيث اللفظى5 واسمها محذوف تقديره: الحينُ، أو: الوقت، أو: الزمن ... "حينَ" خبرها، منصوب بالفتحة الظاهرة، مضاف. "السهو" مضاف إليه مجرور. ومثل: تسرعتَ فى الإجابة، ولاتَ حينَ تَسرُّع. أى: وليس الحينُ حينَ تسرُّعٍ، أوليس الوقت وقتَ تسرع. والإعراب كالسابق.
__________
= وتقويته. هذا كلام النحاة ملخصا من آراء متعددة لا يستريح العقل لواحد منها، ولا إلى أن التاء زيدت على كلمة: "لا".... لأن العرب الأوائل نطقوا بكلتا الكلمتين "لا، ولات" مستقلة، لم يذكروا أن إحداهما أصل للأخرى، ولم يكن لهم علم بشيء مما اصطلح عليه النحاة بعدهم، وبنوا عليه أحكامهم، فن الخير ترك الآراء التشعبة، والاقتصار على اعتبار: "لات" كلمة واحدة مبنية على الفتح، معناها: النفي، وعملها هو عمل "كان" وليس في هذا ما يسيء إلى اللغة في تركيب كلماتها، ولا ضبط حروفها، ولا أداء معانيها على الوجه الصحيح المأثور الذي يجب الحرص عليه وحده أشد الحرص، ولا سيما إذا كان في إتباعه تيسير ومسايرة للعقل والواقع. وقد آن الوقت للتحرر من تلك الآراء الجدلية التي لا حاجة إليها اليوم.
1 مع ملاحظة ما لا يصح أن يدخل عليه الناسخ- وقد سبق بيانه في رقم 1 من هامش ص 544 ورددنا أن اسم الناسخ - مهما اختلفت أنواع النواسخ - لا يكون شبه جملة.
2 وقد سبقت، في ص 594- ويراعي في العطف على خبرها ما سبق في العطف على خبر "ما" "ص 595 وفي الزيادة ص 600".
3 مثل كلمة: "حين" - وهي أكثر الكلمات الزمنية التي استعملها العرب معمولة للحرف: "لات" ومثل: "ساعة" و "أوان" و "وقت" وغيرها مما يدل على الزمن.
4 قالوا: كلمة: "الحين" هنا معرفة "مع أن: "لات" لا تعمل إلا في النكرات" لأن المنفي في المثال هو "حين" معين، معروف، وهو الذي سها فيه المخاطب، فالتقدير: لات حين سهوك حين سهو: أي: ليس زمن سهوك زمن سهو: بمعنى: أن زمن سهوك لا يصح ولا يصلح أن يكون زمن سهو. فاشتراط التنكير في معموليها معا - كما ينص عليه أكثر النحاة - إنما يتحقق في التركيب اللفظي الذي يشتمل على المعمولين مذكورين فيه صراحة، أما في التقدير فلا يشترط ذلك "كما في تقدير المثال السابق".
وخير من هذا كله أن يكون الشرط هو: تنكير ما يذكر صريحا من معمولين، وهذه عبارة بعض النحاة الأقدمين، وتريحنا من الجدل الذي لا داعي له، ومن تحقق الشرط في التركيب اللفظي، دون التقديري، وأمثاله هذا....
5 أو: لات - كلها - حرف نفي مبني على الفتح لا محل له، وهذا أحسن ... اعتمادا على ما تقدم في رقم 5 من هامش الصفحة السابقة.(1/605)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" وردت "لات" فى بعض الكلام العربى القديم مهملة لا عمل بها؛ فهى متجردة للنفى المحض. ومنه قول الشاعر:
تَرَكَ الناسُ لنا أكنافَهم ... وتولَّوا، لاتَ لمْ يُغْنِ الفرارُ
فهى هنا حرف نفى محض1، مؤكد بحرف نفى آخر من معناه، هو: "لم" وهذا الاستعمال مقصور على السماع لا يجوز اليوم محاكاته. وإنما عرضناه لنفهم نظائره فى الكلام القديم حين تمر بنا، ومنه قول القائل:
لَهْفى عليك لِلهفةٍ من خائفٍ ... يَبغى جوارَك حينَ لاتَ مجيرُ
فهى حرف نَفى مهمل2. "ومجير" فاعل لفعل محذوف أومبتدأ خبره محذوف.
"ب" حكم العطف على خبر: "لات" نفسه كحكم العطف على خبر "ما". وقد تقدم "فى ص 540 و543" فيتعين الرفع إن كان حرف العطف يقتضى إيجاب ما بعده، "مثل: لكنْ وبل"، تقول: سئمت ولات حينَ سآمة، بل حينُ صبر، أولكن حينُ صبر. فإن كان حرف العطف لا يقتضى إيجاب ما بعده "كالواو" جاز النصب والرفع، تقول: رغبت فى الراحة أياماً، ولات حين راحة، وحينَ استجمام، بنصب كلمة "حين" المعطوفة أورفعها.
"حـ" من أسماء الإشارة: "هَنَّا" وهى فى أصلها ظرف مكان كما عرفنا فى باب أسماء الإشارة3. وقد وقعت فى الكلام العربى القديم بعد كلمة: "لات" كقول القائل: "حَنَّتْ نَوَارُ ولات هَنَّا حنَّت4" ... وخير ما يقال فى إعرابها: إن: "لات" حرف نَفى مهمل "أى: لا عمل له" و"هنا" اسم إشارة للمكان، منصوب على الظرفية، خبر مقدم "حنت" حن: فعل ماض، قبله "أنْ" مقدرة. والتاء للتأنيث، والفاعل مستتر تقديره: هى. والمصدر المؤول من الفعل والفاعل و"أنْ" المقدرة قبل "نت" فى محل رفع مبتدأ مؤخر. وخبره اسم الإشارة الظرف المتقدم: "هنَّا". وهذا أسلوب يحسن الوقوف فيه عند السماع، والبعد عن محاكاته.
__________
1 لدخولها على جملة فعلية. فليس اسم ولا خبر.
2 لأن معموليها ليسا دالين على الزمان.
3 ص 338.
4 عرضنا لهذا الشاهد وإتمام البيت في ص 338 وذكرنا هنا بعض الآراء، ومنها الرأي القائل إن: "هنا" قد تكون ظرف زمان.(1/606)
المسألة التاسعة والأربعون: زيادة "باء الجر" فى خبر هذه الأحرف
تقدم أن "باء" الجر تزاد فى مواضع1، منها: أخبار الأفعال الناسخة إذا كانت تلك الأخبار منفية؛ "فلا تزاد فى أخبار "ما زال" وأخواتها الثلاثة؛ لأن أخبارها موجبَة" وأن الغرض من تلك الزيادة هوتأكيد النفى وتقويته، كما عرفنا.
ومن تلك المواضع: خبر "ليس"2؛ ويكثر فيه زيادة الباء؛ نحو: ليس الحازم بمتواكل. فالباء زائدة، "ومتواكل" مجرورة بها فى محل نصب خبر "ليس". ومنها: "ما" العاملة والمهملة، فيكثر فى خبرها المنفى زيادة الباء؛ نحو: ما العربى ببخيل، وما العربى بهياب الشدائد. وأصل الكلام ما العربى بخيلا. ما العربى هياباً، فالباء حرف جر زائد، وما بعدها مجرور فى محل نصب خبر: "ما" إن كانت عاملة، أوفى محل رفع خبر المبتدأ، إن كانت: "ما" مهملة3. ومن الأمثلة، قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وقول الشاعر:
أقْصِرْ - فؤادى - فما الذكرَى بنافعَة ... ولا بشافعةٍ فى رَدّ ما كانا
وقد تزاد أحياناً بعد خبر: "لا" العاملة4، نحو: لا جاهٌ بخالد. ولا سلطانٌ
__________
1 في ص 590 وما بعدها، إيضاح مناسب لبعض مواضع زيادة الباء، وسبب الزيادة، وأنها قد تزاد في الاسم إذا توسط الخبر بينه وبين الناسخ.
2 في ص 591 بشرط ألا تكون أداة استثناء، وألا ينتقض النفي "بإلا". فإن كانت أداة استثناء فهي بمعنى: "إلا" فلا يزاد في خبرها الباء. ومثلها "لا يكون" أداة الاستثناء - كما سبق في رقم 3 من هامش ص 560 -.
3 بشرط ألا يكون إهمالها بسبب نقض النفي في خبرها، فإن كان بسببه لم تدخل عليه الباء الزائدة، لأن الكلام يصير مع نقض النفي موجبا، فلا يصح زيادة الباء في مثل: ما أنت إلا ناصح.
وهناك شرط أخر لزيادة: "الباء" في خبر "ما"، هو: أن يكون الخبر من الألفاظ التي تقبل الإيجاب والتي لا يقتصر استعمالها على المعاني المنفية، فلا تزاد "الباء" في كلمة: أحد، وعريب وديار، في نحو: ما مثلك أحد.... فلا بد لزيادة الباء في خبر "ما" من تحقيق الشرطين السابقين. "انظر ص 590 و 591" وهامشهما".
هذا والذي يدل على أن زيادة "الباء" هي في خبر العاملة أو المهملة ما يكون للخبر من توابع، فإن ضبط التابع بغير الجريدل على نوع الخبر. وأنه خبر للعاملة أو للمهملة.
4 سواء أكانت عاملة عمل "ليس" أم عامةل عمل "إن".(1/607)
بدائم. وأصل الكلام: لا جاهٌ خالداً، ولا سلطانٌ دائما. "والإعراب كالسابق" ...
وقد تقدم أنها تزاد فى خبر المضارع من "كان"، بشرط أن يكون منفيًّا بحرف النفى: "لم"؛ نحو: كلمتنى فلم أكنْ بمشغول عنك، ولم أكنْ بمنصرف عن حديثك. أى: لم أكن مشغولا عنك، ولم أكن منصرفاً عن حديثك. فالباء حرف جر زائد، وما بعدها مجرور بها فى محل نصب: خبر "أكن". وأنها قد تزاد أيضاً فى المفعول الثانى من مفعولى: "ظن وأخواتها"، نحو: ما ظننت المؤمن بجبان.
أما زيادتها فى بقية الأفعال والحروف الناسخة، أوفى خبر المبتدأ، أوفى غير ما سبق - فمقصور على السماع.
__________
1 في رقم 2 من هامش ص 592.
2 ما عدا "لا يكون" الاستثنائية لأن الباء لا تزاد في خبرها، ولأنها لا بد أن تكون للغائب وقبلها: "لا" النافية.
3 يقول ابن مالك في كل ما سبق من زيادة الباء ومن الكلام على: "لا - ولات" ما يأتي باختصار: "وقد الكلام على زيادة الباء قبل أن يتكلم على - ولات"، وكان الواجب التأخير عنهما".
وبعد: "ما" و "ليس" جر "البا" الخبر ... وبعد: "لا" ونفي: "كان" قد يجر
أي: جرت "الباء" الخبر بعد: "ما": "ليس". ثم قال: وقد يجر الخبر بعد "لا" التي هي من أخوات "ليس" وبعد: "كان" المنفية، لأن نفيها ينصب على خبرها "بشرط أنها غير الاستثنائية" كما شرحنا - ثم قال:
في النكرات أعملت كليس: "لا" ... وقد تلي: "لات" و "إن" ذا العملا
أي: أعملت،: "ولا" في النكرات عمل "ليس" فترفع الاسم وتنصب الخبر، بشرط أن يكونا نكرتين معا. ثم قال: وقد تتولى "لات" و "إن" هذا العمل فيرفع كل منهما الاسم، ينصب الخبر، ولم يذكر شروطا ثم عاد فقال:
ومما للات في سوى حين عمل ... وحذف ذي الرفع فشا. والعكس قل
يريد: أن "لات" لا تعمل في سوى "الحين" أي: الزمن، فلا بد أن يكون اسمها وخبرها لفظين دالين على الزمن، ولا بد من حذف أحدهما. كما عرفنا. ولكن حذف الاسم صاحب الرفع هو الفاشي، أي: الشائع، والعكس قليل، وهو حذف الخبر، وبقاء الاسم.(1/608)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
يتردد فى مواطن مختلفة من كتب النحوما يسمى؛ "العطف على التوهم"؛ وهونوع يجب الفرار من محاكاته1 - قدر الاستطاعة - ولتوضيحه نسوق المثالين التاليين: "ا" "ليس المؤمن متأخراً عن إغاثة الملهوف". فكلمة: "متأخراً" خبر "ليس"، وهومنصوب. ويجوز - كما عرفنا2 - أن تزاد باء الجر فى أول الخبر؛ فنقول: "ليس المؤمن بمتأخر عن إغاثة الملهوف"؛ فتكون كلمة: "متأخر" فى الظاهر مجرورة بالباء الزائدة، لكنها فى التقدير فى محل نصب، لأنها خبر "ليس".
فإذا عطفنا على الخبر المجرور بالباء الزائدة كلمة أخرى، بأن قلنا: ليس المؤمت بمتأخر وقاعد عن إغاثة الملهوف - فإنه يجوز فى المعطوف - وهوكلمة: "قاعد" مثلا - الجر تبعاً للمعطوف عليه المجرور فى اللفظ، كما يجوز نصبه، تبعاً للمعطوف عليه المنصوب محلا، لأنه خبر "ليس". فالمعطوف فى المثال السابق يجوز نصبه تبعاً لمحل الخبر، كما يجوز جره تبعاً للفظ الخبر المجرور بالباء الزائدة المذكورة فى الجملة، والتى يجوز زيادتها فى مثل هذا الخبر.
لكن إذا خلا الخبر منها فكيف نضبط المعطوف عليه؟ أيجوز النصب والجر مع عدم وجودها كما كانا جائزين عند وجودها؟ يقول أكثر النحاة: نعم. ففى المثال السابق يصح أن نقول: ليس المؤمن متأخراً وقاعداً عن إغاثة الملهوف. أو: ليس المؤمن متأخراً وقاعدٍ ... بنصب كلمة: "قاعد" أوجرها؛ فالنصب لأنها معطوفة على الخبر المنصوب مباشرة؛ ولا عيب فى هذا. والجر لأنها معطوفة على خبر منصوب فى التقدير؛ على تخيل وتوهم أنه مجرور بالباء الزائدة؛ فكأن المتكلم قد تخيل وجود الباء الزائدة مع أنها غير موجودة بالفعل. وتوهم أنها ظاهرة فى أول الخبر؛ - ولذا يسمونه: "العطف على التوهم" - مع أن
__________
1 سيجيء نوع منه - "في جـ4 باب النواصب ص 337 م 149، عند الكلام على فاء السبيبة، وكذلك في باب: "العطف" جـ3 ص 636 م 122"- يقتضيه وضوح الكلام، واستقامة معناه، مع تقدير "أن" المضمرة وجوبا.
2 في ص 605.(1/609)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مع أن توهمه غير صحيح. ومن العجب أن يتوهم ويتخيل ما لا وجود له، ويبنى عليه آثاراً. وهذا أمر يجب الفرار منه - كما قلنا -؛ لما فيه من البعد، والعدول عن الطريقة المستقيمة الواضحة إلى أخرى ملتوية، لا خير فيها. فإن قهرتنا بعض الأساليب القديمة على الالتجاء إليه وجب أن نقتصر عليه فى الوارد، ونحصر أمره فى المسموع من تلك الأساليب، دون أن نتوسع فيها بالمحاكاة والقياس، إذ لا ضرورة تلجئنا إلى محاكاته. وهذا الرأى السديد لبعض النحاة الأقدمين1 تستريح النفس إليه وحده، ولا فرق فيه بين العطف على خبر "ليس" أو"ما" أوغيرهما من الأخبار التى تزاد فى أولها الباء جوازاً2 ...
مثال آخر:
ما المحسن مناناً بإحسانه. كلمة: "مناناً" - خبر "ما" منصوبة، ويجوز أن تزاد "باء" الجر فى خبر: "ما" الحجازية على الوجه المشروح فى زيادتها - فيقال: ما المحسن بمنان بإحسانه. فتكون كلمة: "منان" مجرورة فى الظاهر بالباء الزائدة، ومنصوبة المحل، لأنها خبر "ما"؛ فإذا عطفنا على هذا الخبر المجرور كلمة أخرى3، جاز فى المعطوف إما الجر تبعاً للخبر المجرور لفظه، وإما النصب أيضاً تبعاً للخبر المنصوب محله؛ فيقال ما لامحسن بمنان وذاكر إحسانه أو: "ذاكراً" إحسانه؛ بجر كلمة: "ذاكراً"، أونصبها.
__________
1 وقد تردد في مراجع وأبواب مختلفة، منها شرح الأشموني، آخر باب: "حروف الجر"، ومنها كتاب: "تنزيل الآيات"، شرح شواهد الكشاف، ص 16 عند بيت الشاعر:
مشائيم، ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا يبين غرابها
حيث عطف: "ناعب" بالجر على: "مصلحين: يتوهم إن المعطوف عليه مجرور بالباء، وأن التقدير بمصلحين. وأيضا ورد هذا البيت ومعه آخر في "الكامل للمبرد" جـ 1 ص 279 للاستشهاد بكل منهما على الحكم السالف.
2 والكلام على هذا النوع من الجر يذكرنا نوعا آخر من الجر يجب التشدد في إهماله، وفي ترك استعماله، والاقتصار فيه على المسموع وحده، لوضوح فساده وإفساده، هو: "الجر بالمجاورة". وسيجيء تفصيل الكلام عليه "في جـ2 ص 401 م 89" باب: حروف الجر " وفي جـ 3 ص 8م 93 باب الإضافة".
3 وكان حرف العطف غير: "لكن" و "بل" ... "راجع ص 597 السابقة....".(1/610)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا لم تكن "باء" الجر الزائدة مذكورة فى أول الخبر فكيف نضبط المعطوف؟ يقول أكثر النحاة: إن العسطف عند عدم وجود باء الجر الزائدة فى الخبر كالعطف مع وجودها، فيجوز النصب فى المعطوف تبعاً للنصب اللفظى فى الخبر المعطوف عليه؛ كما يجوز الجر فى المعطوف تبعاً لتوهمهم الجر فى الخبر المعطوف عليه، وافتراضهم أن ذلك الخبر مجرور بالباء الزائدة؛ مع أنها غير موجودة، فى الكلام.
وهوتوهم لا يصح الالتفات إليه اليوم، ولا الأخذ بما يرتبونه عليه ... لما أوضحناه. ويتساوى فى هذا خبر "ليس" وخبر "ما" وغيرهما من الأخبار التى يجوز فى أولها زيادة باء الجر.
"ب" إذا وقع بعد خبر "ليس" وخبر "ما" - مشتق معطوف، فكيف نضبطه؟ لهذا صور يعنينا منها ما1 يأتي:
أولا: أن يكون المشتق المعطوف على خبرها وصفاً2 عاملا وبعده اسم مرفوع، سبىّ3 له، نحو: "ليس المستعمر أميناً، ولا صادقاً وعدُه" أو: "ما المستعمر أميناً ولا صادقاً وعدُه". فيجوز فى الوصف المعطوف وهوكلمة: "صادق" ما يجوز فيه لوكان غير رافع اسماً بعده؛ وعلى هذا يصح فى كلمة: "صادق" النصب بعطفها على الخبر المنصوب مباشرة وهوكلمة: "أميناً" كما يصح فيها الجر عطفاً على الخبر المجرور على حسب توهم النحاة أن الخبر مجرور بباء زائدة غير ظاهرة فى اللفظ ... وهوتوهم وتخيل سبق رفضه فى: "ا" أما الاسم السبى المرفوع بعد الوصف المعطوف فيعرب فى الحالة السالفة فاعلا له "وقد يعرب أحياناً نائب فاعل فى جملة أخرى إذا كان الوصف الرافع له اسم مفعول". وفى المثال السابق بصورتيه يلتزم الوصف الإفراد فلا يثنى ولا يجمع - فى رأى أكثر النحاة -.
ويصح أن يكون الوصف مرفوعاً مبتدأ - لا معطوفاً - وأن يكون السبى4 بعده
__________
1 مع ملاحظة الصور التي سبقت في ص 597.
2 أي اسما مشتقا.
3 و3" السبي هنا: ما له صلة وارتباط بالوصف، كقرابة، أو صداقة، أو عمل، أو شيء متصل به. ويربط بينهما الضمير ونحوه مما يعود على ذلك الوصف.
4 والعطف في المثال السابق بصورتيه عطف مفرد على مفرد.(1/611)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مرفوعاً به يغنى عن الخبر "سواء أكان المرفوع فاعلا أونائب فاعل"، وفى هذه الصورة يلتزم الوصف الإفراد أيضاً. ويكون الوصف مع مرفوعه معطوفاً على الجملة قبله1.
ويصح أن يكون السبي مبتدأ متأخراً والوصف خبراً مرفوعاً متقدماً - لا معطوفاً وفى هذه الحالة يتطابقان؛ إفراداً وتثنية وجمعاً، وتذكيراً، وتأنيثاً؛ نحو: ليس علىّ مهملا ولا مقصرٌ أخوه - ليس على مهملا ولا مقصران أخواه - ليس على مهملا ولا مقصرون إخوانه2 ... - وكذلك لوكان الناسخ "ما" بدلا من "ليس".
ثانياً: أن يكون المعطوف وصفاً أيضاً وقبله: "ليس" ومعمولاها ولكن بعده اسم أجنبى3. فيعطف الأجنبى على اسمها، ويرفع مثله. ويعطف الوصف على خبرها، وينصب مثله، تقول ليس محمود حاضراً، ولا غائباً4 حامد، فكلمة: "حامد" معطوفة على الاسم: "محمود" مرفوعة مثله. وكلمة "غائباً" معطوفة على الخبر "حاضر" منصوبة مثله.
فإن كان خبر "ليس" مجروراً بالباء الزائدة جاز أيضاً جر الوصف؛ تقول: ليس محمود بحاضر، ولا غائب حامد؛ بجر كلمة: "غائب" لأنها معطوفة على الخبر المجرور لفظه بالياء الزائدة؛ ويجوز فى الحالتين السالفتين رفع الأجنبي
__________
1 والعطف على هذا الإعراب عطف جملة على جملة.
2 ويتعين العطف في هذه الصورة، وأن يكون عطف جملة على جملة.
3 أي: ليس سببيا. وقد سبق شرح السببي "في رقم 3 ص 611".
4 في هذا المثال معطوفان، ومعطوفان عليهما، وحرف عطف واحد، هو: الواو، وهذا المثال يصلح أن يكون إما عطف جملة على جملة - أي: ليس محمود حاضر وليس حامد غائبا. وإما: عطف مفردين بالواو على نظيرين لهما سابقين، فتكون كلمة: "غائبا" معطوفة بالواو على كلمة: "حاضرا" وكذلك كلمة: "حامد" معطوفة بالواو أيضا على كلمة، "محمود"، ومن اختصاص الواو أن تعطف معطوفين بالصورة السابقة. لكن من أي أنواع العطف هذا؟ أعطف مفرد على مفرد أم جملة على جملة؟ قولان، سنوضح أمرهما والصواب منهما في باب العطف - جـ3 - والمناسب هنا أن العطف عطف جملة على جملة....(1/612)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على أنه مبتدأ، خبره الوصف المتقدم؛ فيتطابقان. وتكون الجملة الثانية معطوفة على الأولى.
ثالثاً: أن يكون المعطوف وصفاً قبله "ما" ومعمولاها؛ وبعده اسم أجنبى؛ فيجب رفع الوصف الواقع بعد خبرها؛ سواء أكان خبرها منصوباً، أم مجروراً بالباء الزائدة؛ نحو: ما محمود حاضراً ولا غائبٌ حامدٌ1. أو: ما محمود بحاضر ولا غائبٌ حامدٌ1. أو: ما محمود بحاضر ولا غائب حامد.
__________
1 السبب الحقيقي هو أن أساليب العرب الفصحاء جرت على هذا. لكن النحاة يذكرون السبب النحوي أن خبر: "ما" لا يتقدم على اسمها. فكذلك خبر ما عطف على اسمها. لأن كلمة "حامد" معطوفة على: "محمود" التي هي اسم "ما" فكأن كلمة: "حامد" بمنزلة اسم: "ما" بسبب أنها معطوفة على الاسم، وكلمة "غائب" معطوفة على كلمة: "حاضر" التي هي خبر "ما"، فكأنها بمنزلة خبر "ما" بسبب ذلك العطف. وقد تقدم ما هو بمنزلة الخبر على الاسم فلا تعمل فيه: "ما".، لفقد الترتيب. فالأحسن في إعراب الوصف في هذه الحالة الحالة أن يكون خبرا مقدما والمرفوع بعده مبتدأ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، فالعطف عطف جمل.(1/613)
المسألة الخمسون: أفعال المقاربة، وأفعال الشروع، وأفعال الرجاء ... 1
أفعال المقاربة - معناها:
فى جملة مثل: "الماء يَغلى"، يفهم السامع بسبب وجود الفعل المضارع: أن الماء فى حالة غليان الآن2، أوْ: أنه سيكون كذلك فى المستقبل3. فإذا قلنا: "كاد الماء يغلى" - اختلف المعنى تماماً؛ إذ نفهم أمرين، أن الماء اقترب من الغليان اقتراباً كبيراً، وأنه لم يَغْلِ بالفعل، أى: أنه فى حالة إنْ استمرت زمناً قليلا فسيغلى. والسبب فى اختلاف المعنى الثانى عن الأول هووجود الفعل: "كاد" فى الجملة الثانية، مع أنه ماض4.
وكذلك الشأن: فى: "القطار يتأخر" إذ نفهم من الجملة أن القطار يباشر التأخر الآن، أوفى المستقبل. فإذا قلنا: "كاد القطار يتأخر ... " تغيَّر المعنى، وفهمنا أمرين؛ أنه اقترب من التأخر جدًّا، وأنه - بالرغم من ذلك - لم يتأخر فى الواقع. أى: أنه فى حالة، إنْ طال زمنها قليلا يقع فى التأخر. والسبب فى اختلاف المعنى الثانى عن الأول وجود الفعل الماضى: "كاد".
ومثل ما سبق: "الكأس تتدفق ماء" فالمعنى: أن الماء يفيض منها الآن، أومستقبلا. فإذا قلنا: "كادت الكأس تفيض ماء" تغير المعنى، وانحصر في
__________
1 هذا أحد أبواب النواسخ، وقد عرفنا أن اسم الناسخ لا يكون شبه جملة.
2 أي: وقت الكلام، وهو: الزمن الحالي.
3 هو الزمن الذي بعد الكلام.
4 يلاحظ هنا أن المضارع في خبرها ينقلب زمنه قريبا جدا من الحال - "كما سبق في ص 57 وسيجيء في رقم 7 من هامش ص 615" - كما أن زمنها الماضي ينقلب ماضيا قريبا من الحال، ليتوافق زمن الفعل مع زمن خبره، فإذا قلت: كاد المطر ينزل، فالمراد قرب زمن نزوله من الحال، وأنه لم ينزل فعلا. وقد يكون الزمن: "كاد" وفي خبرها مقصورا على الماضي وحده، أو على المستقبل، حين تقوم القرينة القاطعة على أن المراد المقاربة فيما مضى، أو فيما يستقبل، مثل: كاد القطار يتأخر أمس - يكاد المريض يغادر المستشفى غدا.
"راجع في كل ما سبق جـ 7 ص 115 من شرح المفصل: الأفعال المقاربة".(1/614)
أنها اقتربت كثيراً من التدفق، وأنها لم تتدفق بالفعل، وهذا التغير بسبب وجود الفعل الماضى: "كاد".
ومن الأمثلة السابقة - وأشباهها - يتبين أن الفعل: الماضى "كاد" يؤدى فى جملته معنى خاصًّا، هوالدلالة على التقارب بين زمن وقوع الخبر والاسم1، تقارباً كبيراً مجرداً؛ "أى: لا ملابسة2 فيه، ولا اتصال". ومن أجل ذلك سميت "كاد"3 فعل: "مقاربة". ولها إخوة تشاركها فى تأدية هذا المعنى. ومن أشهر أخواتها - كرَبَ - أوشكَ....4 - مثل: كرَبَ الليلُ ينقضى - أوْشكَ الصبح يقبل، بمعنى: "كاد" فيهما. وكلها بمعنى: "قَرُبَ".
عملها:
أفعال المقاربة أفعال ناقصة "أىْ: ناسخة" ترفع المبتدأ5 اسماً لها، وتنصب الخبر6، فلا ترفع فاعلا، ولا تنصب مفعولا ما دامت ناسخة6، فهى من أخوات "كان". غير أن الخبر فى أفعال المقاربة لا بد أن يشتمل على:
"1" فعل مضارع7، ومرفوعه "من فاعل، أونائبه ... " ضميرٌ فى الغالب.
__________
1 هما هنا: اسمها وخبرها وسنعرفهما. فهذه الأفعال جاءت لتفيد قرب زمن وقوع الخبر من الاسم قربا كبيرا- وقد يقع الخبر أولا يقع، بل قد يستحيل وقوعه، نحو قوله تعالى: {يكاد زيتها يضيء....}
2 أي: أن كلا منهما يظل منفصلا عن الآخر، لا يخالطه، ولا يتصل به فعلا، ولا يندمج فيه مباشرة.
3 التي مضارعها: "يكاد"، لا التي مضارعها: يكيد، بمعنى يمكر ويسيء.
4 ونها: "الم" وقد ورد في الأثر: "لولا أنه شيء قضاه الله لألم أن يذهب بصبره." ومنها "أولى".... ولا داعي لاستعمال الغريب من أفعال هذا الباب من غير حاجة، بالرغم من جواز استعماله.
5 ولهذا لا يكون اسمها شبه جملة - كما سبق - لأن المبتدا لا يكون شبه جملة.
"6 و6" مع ملاحظة أنها لا تدخل على الأشياء التي لا تدخل عليها النواسخ- وقد سبق بيانها في رقم 1 من هامش ص 544 - وأن الأخبار في هذا الباب كله بأنواعه المختلفة يشترط فيها ما يشترط في كل أخبار النواسخ "مما أشرنا له في ص 546 وبيانه التفصيلي في باب: "المبتدأ والخبر" هامش 443" والتنبه. إلى الملاحظة التي في هامش ص 480 خاصة بأن "أفعال الرجاء" وبعض أفعال المقاربة يصح أن يقع المعنى فيها خبرا عن الجثة، طبقا للبيان الذي في رقم 1 من الهامش التالي.
7 يكون زمن هذا المضارع ماضيا قريبا من الحالي عند استعمال "كاد" أو إحدى أخواتها بلفظ الماضي - كما سبق في رقم 4 من هامش ص 614 -، فهو مضارع في اللفظ وفي الإعراب، ماض قريب من الحال في الزمن، مثلها، لأن المضارع الواقع مع مرفوعه في خبر كاد الماضية أو إحدى أخواتها يكون زمنه مثلها، كما سبق - بالرغم من إعرابه فعلا مضارعا.(1/615)
"2" وأن يكون هذا المضارع مسبوقاً بأن المصدرية"1 مع الفعل: "أوْشكَ" وغير مسبوق بها مع الفعل: "كاد" أو: "كَرَبَ"، نحو: أوشك المطر أن ينقطع، وكاد الجويعتدل، وكَرَبَ الهواءُ يطيب. ويجوز - قليلا - العكس، فيتجرد خبر: "أوْشَكَ"، من "أنْ" ويقترن بها خبر "كاد" و"كرب"، ولكن الأول هوالشائع فى الأساليب العالية التي يحسن الاقتصار على محاكاتها. ومن النادر أن يكون الخبر غير جملة مضارعية. ولا يصح محاكاة هذا النادر، بل يجب الوقوف فيه عند المسموع2.
وعمل أفعال المقاربة ليس مقصوراً على الماضى منها: بل ينطبق عليه وعلى ما يوجد
__________
1 نترك للنحاة اختلافهم في نوع "أن" الداخلة في أخبار هذا الباب كله "كأخبار أفعال المقاربة هذه، وأفعال الرجاء ص 612" فأكثرهم يميل إلى أنها حرف نصب غير مصدري وأن فائدته تخليص المضارع للزمن المستقبل، دون زمن آخر، ويرفضون أن تكون مصدرية، بحجة أنها لو كانت مصدرية لوجب أن تسبك مع الجملة المضارعية بعدها بمصدر مؤول يكون خبرا للناسخ، فيترتب على ذلك الإخبار بالمعنى عن الجنة، وهو ممنوع - غالبا -. ففي مثل: عسى محمود أن يجود، يقع المصدر المؤول من أن والمضارع وفاعله خبر "عسى" في محل نصب، فيكون التقدير: عسى محمود جوده. فيقع "جود" - وهو أمر معنوي - خبرا عن "عسى" وهو في الحق خبر عن محمود، لأن اسم عسى وخبرها أصلهما المبتدا والخبر، ولا يجوز أن يكون المبتدأ جثة وخبره امرا معنويا - غالبا - ولا يبيح ذلك ناسخا قبلها.
وقال فريق آخر: لا مانع من اعتبار "أن" الداخلة في أخبار هذا الباب هي الناصبة المصدرية، والمصدر النسبك منها ومن المضارع مع فاعله - هو خبر الناسخ، إما على سبيل المبالغة، وإما على تقدير مضاف قبله، أو قبل اسم الناسخ، فيكون التقدير في المثال السابق: عسى محمود صاحب جوده، أو عسى حال محمود جوده ...
هذا كلام السابقين. وخير منه أن تكون "مصدرية ناصبة ويغتفر في هذا الباب كله الإخبار بالمعنى عن الجثة، فنستريح من تكلف التأويلات البصرية السالفة، كما نستريح من تكلف التأويلات الكوفية التي تجعل المصدر المؤول بدل اشتمال من الاسم المرفوع السابق، ويجعلون: "عسى" فعلا تاما معناه: "التوقع". ففي مثل: عسى على أن يحضر.... يكون التقدير: عسى على حضوره، أي: يتوقع على حضوره، ويكون الغرض من "البدل" هو التفصيل بعد الإبهام الداعي للتشويق. والذي يعنينا من هذا كله هو أن التعبير السالف صحيح، لا ضعف في استعماله ومحاكاته، ولا يعنينا بعد هذا نوع التأويل الذي يأخذ به فريق دون الآخر. "ولهذا إشارة في رقم 1 من هامش ص 636".
2 ومنه قوله الشاعر:
فأبت إلى "فهم" وما كدت آيبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
"أبت" رجعت "فهم": اسم قبيلة: "تصفر" أي: تخلو من كل شيء فيها.... والنادر المسموع هو مجيئه مفردا. أما غيره وهو: "الجملة الماضوية، أو الاسمية أو شبه الجملة - فلم يسمع عن العرب(1/616)
المشتقات الأخرى، وهى محدودة؛ أشهرها ثلاثة؛ مضارع للفعل: "كاد"، ومضارع للفعل: "أوشك"، واسم فاعل له، نحو: يكاد1 العلم يكشف أسرار الكواكب - يوشك القمر أن يتكشف للعلماء - أنت موشكٌ أن تنتهى إلى خير.
والأكثر أن تستعمل "كاد" و"كَرَبَ" ناسختين2. أما "أوشك" فيجوز أن تقع تامة؛ بشرط أن تُسنَد إلى "أنْ" والفعل المضارع الذى فاعله "أومرفوعه" ضمير مستتر: نحو: القوىّ أوشك أن يتعب؛ فالمصدر المؤول من "أنْ" والفعل المضارع وفاعله فى محل رفع فاعل "أوشك" التامة3. ومثله قول الشاعر:
إذا المجدُ الرفيع تواكلتْه4 ... بناة السُّوء أوشَك أن يضيعا5
وهي فى حالة تمامها تلزم صورة واحدة لا تتغير، مهما تغير الاسم السابق عليها فلا يتصل بآخرها ضمير رفع مستتر أوبارز: تقول: القويان أوشك أن يتعبا. الأقوياء أوشك أن يتعبوا. القوية أوشك أن تتعب. القويتان أوشك أن تتعبا. القويات أوشك أن يتعبن ... بخلاف ما لوكانت ناقصة؛ فيجب أن يتصل بآخرها ضمير رفيع يطابق الاسم السابق فى التذكير، والتأنيث، وفى الإفراد، وفروعه: فتقول فى الأمثلة السابقة: "أوشَك" - "أوْشكا" - "أوْشكوا" - "أوشكت" - "أوشكَتَا" - "أوشَكْن" فإن وقع المضارع اسم مرفوع ظاهر نحو: أوشك أن يفوز القوىُّ - جاز فى أوشك أن تكون تامة، وأن تكون ناقصة6.
__________
1 ومثل قول الشاعر:
بنا من جوي الأحزان والوجد لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
2 عند وقوعهما تامتين لا يصح إسنادهما إلى "أن" والمضارع، أي: لا يكون في الفصيح فاعلهما أو مرفوعهما مصدرا مؤولا.
3 ويجوز - في هذا المثال - أن تكون ناقصة، واسمها ضمير يعود على "القوى" وخبرها المصدر المؤول بعدها "انظر رقم 1 من الهامش السابق".
4 اتكل بعضهم على بعض في إقامته وحراسته، أو:أهملوه.
5 الألف زائدة في آخر المضارع، للشعر.
6 فعلى اعتبارها تامة تكون كلمة: "القوي" فاعلا للمضارع، والمصدر المؤول فاعلا "لأوشك". وعلى اعتبارها ناقصة، يكون الاسم الظاهر المرفوع: "القوي"، اسمها، طبقا للرأي الآتي في رقم 3 من هامش الصفحة التالية - والمصدر المؤول خبرها. ويجوز إعرابات أرى.
وستجيء لهذا إشارة عند الكلام على أفعال الرجاء.(1/617)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" "كاد" كغيرها من الأفعال فى أن معناها ومعنى خبرها منفى إذا سبقها نفى، ومثبت إذا لم يسبقها نفى، خلافاً لبعض النحاة؛ فمثل: "كاد الصبى يقع" معناه: قارب الصبى الوقوع. فمقاربة الوقوع ثابتة. ولكن الوقوع نفسه لم يتحقق. وإذا قلنا: ما كاد الصبى يقع. فمعناه: لم يقارب الوقوع فمقاربة الوقوع منتفية. والوقوع نفسه منفى من باب أولى، ومثل هذا يقال فى بيت الشاعر:
إذا انصرفت نفسى عن الشئْ لم تكَدْ ... إليه بوجه - آخِرَ الدَهرِ - تُقْبِلُ1
"ب" تعد أفعال المقاربة من أخوات "كان" الناسخة كما عرفنا2. ولكن أفعال المقاربة تخالفها فيما يأتى:
1- خبرها لا بد أن يكون مصدراً مؤولاً من جملة مضارعية - فى الأصح - مسبوقة بأنْ أوغير مسبوقة بأن3، على التفصيل السابق، وفاعل المضارع لا بد أن يكون - فى الأرجح - ضميراً يعود على اسمها: وقد ورد رفعه السبىّ4 فى حالات قليلة، لا يحسن القياس عليها، مثل: كاد الطلل تكلمنى أحجاره.
2- خبرها لا يجوز أن يتقدم عليها.
__________
1 وقد قالوا في بيت ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
إنه صحيح بليغ. لأن معناه: إذا تغير حب كل محب لم يقترب حبي من التغير، وإذا لم يقاربه فهو بعيد منه. فهذا أبلغ من أن يقول: "لم يبرح"، لأنه قد يكون غير بارح من أنه قريب من البراحز بخلاف المخبر عنه بنفي مقاربة البراح. "رسيس الهوى. أوله وشدته". وكذا قوله تعالى: {إذا أخرج يده لم يكد يراها". هو أبلغ في نفي الرؤية من أن يقال لم يرها. لأن من لم ير، قد يقارب الرؤية. بخلاف من لم يقارب:..... "راجع الأشموني، والصبان".
2 في ص 615.
3 إذا كانت الجملة المضارعة مسبوقة بأن الناصبة فالخبر هو المصدر المنسبك. "المؤول". مجاراة للرأي الذي سبق في رقم 1 من هامش ص 616.
4 أي: الاسم الظاهر، المضاف لضمير اسمها- كما سبق في رقم 3 من هامش ص 611-.(1/618)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3- إذا كان الخبر مقترناً "بأن" لم يجز - فى الأشهر1 - أن يتوسط بينها وبين اسمها، أما غير المقترن فيجوز كما فى خبر كان.
4- يجوز حذف الخبر إن علم، نحو: "من تأنى أصاب أوكاد؛ ومن عَجل أخطأ أوكاد، وهوكثير فى خبر "كاد" قليل فى خبر "كان" ومع قلته جائز بالتفصيل الذى سبق فى موضعه2.....
5- لا يقع فعل من أفعال المقاربة زائداً.
"حـ" يرى بعض النحاة أن "أوشك" ليست من أفعال المقاربة، وإنما هى من أفعال الرجاء التى سيجئ الكلام عليها فى هذا الباب3. مستشهداً ببعض أمثلة مأثورة تؤيده. ولا داعى للأخذ برأيه اليوم، بعد أن شاع اتباع الرأى الآخر الذى يخالفه، وتؤيده أيضاً شواهد فصيحة قديمة، تسايرها أساليبنا الحديثة. وإنما ذكرنا الرأى الأول ليستعين به المتخصصون على فهم النصوص القديمة.
__________
1 في هذا الرأي المنسوب للشلوبين ومن معه - تضيق، بالرغم من أنه الأفصح. وهناك رأي للمبرد، والفارسي، والسيرافي، ومن معهم - يبيح التوسط. وفي هذا الرأي تيسير، وإزالة للتفرقة بين الخبر المقرون بأن، وغير المقرون بها، ولكنه غير الأفصح.
وستجيء الإشارة لهذا في رقم 4 من هامش ص 621 ورقم 2 من هامش ص 624 -.
2 ص 582.
3 ص 621.(1/619)
أفعال الشروع - معناها:
ما معنى كلمة: "شَرَعَ" و"أخذَ" فى مثل: شَرَعَ المُغنَّى يُجَرِّبُ صوته، ويُصْلح عوده، وأخذ يوائم1 بين رنات هذا، ونغمات ذاك".....؟
معنى: "شَرَعَ" أنه ابتدأ فعلا فى التجربة ودخل فيها، وباشرها، وكذلك معنى كلمة "أخذ" فهى تفيد أنه ابتدأ فعلا فى المواءمة والتوفيق بين الاثنين.
وكذلك فى مثل: أُعِدَّ الطعامُ: فشرَع المدعوون يتوجهون إلى غرفته، وأخذ كل منهم يجلس فى المكان المهيأ له ... " أى: ابتدءوا فى الذهاب إلى الغرفة، وباشروا الانتقال إليها فعلا، كما ابتدءوا فى الجلوس ومارسوه. ومرجع هذا الفهم إلى الفعل: "شرع"، "وأخذ"، فكلاهما يدل على ما سبق، ولهذا يسميه النحاة: "فعل شروع" يريدون: أنه الفعل الذى يدل على أول الدخول فى الشئ2، وبدء التلبس به، وبمباشرته.
وأشهر أفعال الشروع: شَرَع - أَنشأ - طفِقَ - أَخذَ - عَلِقَ - هَبّ - قام - هَلْهَل - جَعَل3.....
عملها:
هذه الأفعال جامدة لأنها مقصورة على الماضى4، إلا "طفِق"5 و"جعل" فلهما مضارعان. وعملها الدائم هورفع المبتدأ ونصب الخبر بشرط
__________
1 يلائم ويوفق.
2 أي: دخول الاسم في الخبر.
3 هذا الفعل قد يكون بمعنى الظن، أو: التحويل، فينصب مفعولين. وقد يكون بمعنى: خلق، وأوجد، فينصب مفعولا به واحدا، كما سيجيء في جـ2 م 60 باب "ظن وأخواتها".
4 لما كانت هذه الأفعال الماضية دالة على الشروع، كانت ماضية في الظاهر فقط، ولكن زمنها للحال، وزمن المضارع الواقع في خبرها مقصور على الحال أيضا، ليتوافقا فيتلاءم معناهما. ويقول النحاة: إن هذا هو السبب في عدم اقتران خبرها "بأن" المصدرية، إذ "أن" المصدرية تخلص زمن المضارع للاستقبال، وأفعال الشروع تدل على الزمن الحالي. فيقع التعارض بين زمنيها
5 من باب: ضرب، وعلم، وفرح.(1/620)
أن يكون المبتدأ مما يدخل عليه النواسخ1، فلا ترفع فاعلا ولا تنصب مفعولا ما دامت ناسخة؛ فهى من أخوات "كان" الناقصة. ولا تقع تامة2 حين إفادتها معنى: "الشروع" - كما أوضحناه - إلا أنّ خبر أفعال الشروه لا بد أن يكون:
1- جملة مضارعية فاعلها "أو: مرفوعها" ضمير.
2- المضارع فيها غير مسبوق "بأنْ" المصدرية3، كالأمثلة السابقة.
3- تأخير هذه الجملة المضارعية وجوبا عن الناسخ واسمه، فلا يجوز أن تتقدم على عاملها "فعل الشروع" ولا أن تتوسط بينه وبين اسمه 4.
4- جواز حذفها وهي خبر إن دل عليه دليل.
أفعال الرجاء 5 - معناها:
يتضح معناها من مثل: اشتد الغلاء؛ فعسى اللهُ أنْ يُخفف حدَّته - زاد شوق الغريب إلى أهله، فعسى الأيامُ أن تُقَربَ بينهم - تَطَلَّع الرحالة إلى كشف المجاهل؛ فعسى الحكومة أن تهيئ له الوسائل ...
ففى المثال الأول: رجاء وأمل فى الله أن يخفف شدة الغلاء. وفى الثانى: رجاء وأمل أن تُقربَ الأيام بين الغريب وأهله. وفى الثالث كذلك: أن تُعدّ الحكومة للرحالة الوسائل ... ففى كل مثال رجاء وأمل فى تحقيق شئ مطلوب
__________
1 لا يصح أن يكون اسمها شبه جملة - كما أوضحنا - وقد سبق في هامش ص 544 المبتدأ الذي لا يصلح لدخول النواسخ.
2 بعض هذه الأفعال قد يكون للشروع دون أن يكون ناسخا كالفعل "شرع" راجع معناه في: كتاب "لسان العرب".
3 للسبب الموضح في رقم 4 من هامش ص 620.
4 هذا رأي الشلوبين ومن معه، وفيه تضييق. والأنسب الأخذ بالرأي الآخر الذي يبيح التوسط، وهو منسوب للمبرد، والسيرافي والفارسي - كما في رقم 1 و 2 من هامشي ص 619 و 624 - بالرغم من أن الأول هو الأفصح -
5 الرجاء أو الأمل، معناه: الطمع في إدراك شيء محبوب، مرغوب فيه، وانتظار وقوعه، وهو الرجاء المتوقع.(1/621)
يُفهم من الفعل المضارع مع مرفوعه، والكلمة التى تدل على الرجاء والأمل هى: "عسى"، ولهذا تبعد من أفعال الرجاء التى تدل على الرجاء التى يدل كل فعل منها على: "ترقب الخير، والأمل فى تحققه ووقعه". "والخبر المرتقب هنا هو: ما يتضمنه المضارع مع مرفوعه، كما سبق". ومن أشهرها: عسى - حَرَى1 - اخْلَولَقَ2 ... .
عملها:
هى أفعال ماضية فى لفظها3، جامدة1، الصيغة والأغلب أنها ترفع الاسم4 وتنصب الخبر - إن كانا صالحين لدخول النواسخ5 - فهى من الأفعال الناقصة "أى: الناسخة" أخوات "كان". وخبرها - فى الأفصح - مضارع مسبوق: بأنْ6، وفاعله ضمير، لكن يجوز فى خبر "عسى" أن يكون مضارعه غير مسبوق بأنْ، نحو: عسَى الأمن يدومُ7..... كما يجوز أن يكون فاعل هذا المضارع سببيًّا، أى: اسماً ظاهراً مضافاً لضمير اسمها؛ نحو: عسى الوطن يدوم عزُّه.
__________
"1 و1" في آخر الزيادة والتفصيل - ص 629 - بيان عن "حسري" وعن اشتقاقها وجمودها، ومعانيها و....
2 قد يدل بعض هذه الأفعال على الإشفاق، وهو: الخوف من أمر مكروه، ومنه، "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" - كما سيجيء في "ب" من ص 627 - وإذا وقعت "عسى ولعل" في كلام الله كان لها معنى آخر، هو المذكور في رقم 1 من هامش ص 636. ولا تقع "ما" الزائدة بعد "عسى" التي معناها: الرجاء مطلقا. كما سيجيء في رقم 3 من هامش ص 628 ورقم 4 من آخر هامش ص 664.
3 هي ماضية في اللفظ ولكن زمنها هنا مستقبل، إذ لا يتحقق معناها إلا في المستقبل ولذلك كان زمن المضارع الواقع في خبرها مستقبلا فقط، ليتوافقا.
4 ولا يصح أن يكون اسمها شبه جملة.
5 طبقا للبيان الذي سبق في رقم 1 من هامش ص 544.
6 صرح الصباح - في آخر باب: التعجب، جـ 3 بأنه لا يصح إحلال "أن" "مفتوحة الهمزة، مشددة النون" محل "أن" ساكنة النون في خبر "عسى". مع أن كلا منهما حرف مصدري. والظاهر أن الأمر يسري على "عسى" وأخواتها.
"7 و 7" انظر هامش ص 479 وص 480 حيث الملاحظة الخاصة بصحة أن يكون خبر هذه الأفعال معنى عن جثة. والبيان في رقم 1 من هامش ص 616.(1/622)
حكمها:
يجب تقديم هذه الأفعال على معموليها. كما يجب - فى رأى دون آخر1 - تأخير الخبر المقرون بأن عن الأسم. ويجوز حذف الخبر لدليل وقد تقدم أن والأغلب فى استعمال هذه الأفعال أن تكون ناقصة. لكن يجوز فى "عسى" "واخلولق" أن تكونا تامتين، بشرط إسنادهما إلى "أنْ" والمضاعر الذى مرفوعة ضمير يعود على اسم سابق. دون إسنادهما إلى ضمير مستتر أوبارز؛ فلا بد لتمامهما أن يكون فاعلهما مصدراً مؤولا من "أنْ" وما دخلت عليه من جملة مضارعية، ولا يصح أن يكون ضميراً، نحو: الرجل عسى أن يكون. ونحو: الزرع اخلولق أن يتفتح، فالمصدر المؤول فى المثالين فاعل2 وفى هذه الحالة لا يكون فى "عسى" و"اخلولق" ضمير مستتر3.
وفي حالة التمام تلزم "عسى" وأختها صورة واحدة لا تتغير مهما تغير الاسم السابق، فلا تلحقهما علامة تثنية ولا علامة جمع - لأن فاعلهما مذكور بعدهما - ... نحو الرجل عسى أن يقوم - الرجلان عسى أن يقوما - الرجال عسى أن يقوموا.... وهكذا.
أما عند النقص فى: "عسى" و"اخلولق"، فلا بد أن يتصل بآخرهما ضمير مطابق للاسم السابق فتكونا ناقصتين. فإن لم يتصل بهما ضمير، وأسْندتا إلى: "أنْ" والمضارع الذى فاعله ضمير، فهما تامتان، - كما سلف - والمصدر المؤول
__________
1 انظر رقم 3 من هامش الصفحة الآتية، وب" من ص 627
2 ويرى بعض النحاة في الثلاثة أن المصدر المؤول سد مسد المعمولين، فهي عنده- دائما - أفعال ناقصة. وفي هذا الرأي تيسير.
3 وهذا التمام خاص بهما، وبأوشك من أفعال المقاربة - كما سبق عند الكلام عليها في ص 617 والثلاثة بعض الأحكام الأخرى العامة وسيجيء في الزيادة، ص 626.(1/623)
فاعلهما. ففى حالة النقص نقول: الرجل عسى1 أن يقوم - الرجلان عسيا أن يقوما - الرجال عَسْوا أن يقوموا. البنت عست أن تقوم. البنتان عَسَتا أن تقوما - النساء عَسيْن أن يقمن ... و ... 2
فإن كان فاعل المضارع "أومرفوعه" اسماً ظاهراً جاز فى كل منهما أن تكون تامة، وأن تكون ناقصة؛ فعند التمام يكون المصدر المؤول من "أنْ" والمضارع مع مرفوعه الظاهر - فاعلا للناسخ، وعند النقص لا يكون الاسم الظاهر المتأخر مرفوعاً للمضارع، بل يصير هواسم الناسخ ويكون الخبر هو: المصدر المؤول من "أنْ" والمضارع مع مرفوعه3 الفاعل أوما يغنى عن الفاعل.
__________
1 يعتبر من ضمائر الرفع المتصلة بآخر الناسخ كل ضمير مستتر وقع اسما لذلك الناسخ. - راجع رقم 3 من هامش ص 219 -
2 انظر بعض الصور الجائزة في ص 626 و "هـ" ص 628 ومنها بعض الصور والأحكام الخاصة باستعمالات: "حزى".
3 وهذا الإعراب مبني على رأي المبرد، والسيرافي، والفارسي، وغيرهم من القائلين بجواز توسط الخبر بين فعل الرجاء واسمه وفي الأخذ به توسعة وتيسير، دون رأي الشلوبين وغيره ممن يمنعون التقديم، وإن كان المنع هو الأفصح - وقد سبقت الإشارة لهذا في رقم 1 و 3 من هامش من هامش صفحتي: "617و 619" وهناك إعرابات أخرى في الحالتين سيجيء بعضها في الزيادة، وفيما سبق يقول ابن مالك:
ككان "كاد" و "عسى" لكن ندر ... غير مضارع لهذين خبر
وكونه بدون "أن" بعد "عسى" ... نزر، و "كاد" الأمر فيه عكسا
أي: "أن كاد" و "عسى" مثل: "كان" في العمل، كلاهما يرفع الاسم وينصب الخبر، لأنهما من الأفعال الناقصة - ومن النزر، "أي: من القليل جدا" أن يكون خبرهما غير جملة مضارعية. ثم بين أن الجملة المضارعية الواقعة خبرا عن "عسى" لا تخلو من "أن" المصدرية - فيكون المصدر المؤول هو الخبر - ولعكس في الجملة المضارعية الواقعة خبرا عن "كاد". فالأكثر عدم اقترانها "بأن"، ثم قال:
وكعسي "حري". ولكن جعلا ... خبرها حتما "بأن" متصلا
وألزموا اخلولق: "أن" مثل: "حري" ... وبعد: "أوشك" انتفا: "أن" نزرا
يريد: أن "حسرى" كعسى، كلاهما من أفعال الرجاء معنى وعملا. غير أن "حري" لا يخلو خبرها من "أن" المصدرية، فمن المحتم أن يتصل بها. وكذلك "اخلولق"، فقد "أوجبوا" اتصالها "بأن" مثل، "حرى". أما "أوشك" فيلزمها "أن" وقد تحذف نادرا، ولا يقاس على هذا النادر، كما لا يقاس على النزر في كل ما سبق "هذا، والألف في آخر الفعل: "جعل - زائدة" =(1/624)
وكل هذا يصح فى: "اخلولق" أيضاً1.
__________
= ثم قال:
ومثل "كاد" في الأصح "كربا" ... وترك "أن" مع ذي الشروع" وجبا
كأنشأ السائق يحدو، وطفق ... كذا: "جعلت"، و "أخذت" و "علق"
يريد: أن "كرب" مثل: "كاد" في معناها، وهو: المقاربة، وفي عملها، وفي عدم اتصال خبرها "بأن" في الأغلب. ثم عرض لترك "أن" مع ذي الشروع- أي: مع الفعل صاحب الشروع-، فأوجب الحذف، وعد من أن أفعال الشروع، أنشأن وطفق: وجعل: وأخذ، وعلق، ومثل للأول بقوله: أنشأ السائق يجدو، أي: يغني.
ثم قال:
واستعملوا مضارعا "لأوشكا" ... و "كاد" لا غير، وزادوا "موشكا"
أي: أفعال هذا الباب كلها جامدة، ليس لها مشتقات، إلا "كاد" فلها مضارع، وإلا "أوشك" فلها مضارع أيضا. وقد ورد لها اسم فاعل قليلا حيث سمع: موشك، ولا مانع من استعماله.
1 وهذا هو ما قصد إليه ابن مالك بقوله:
بعد عسى، اخلولق، أوشك، قد يرد ... غني بـ "أن يفعل" عن ثان فقد
يريد "بأن يفعل" كل جملة مضارعية، مسبوقة بأن المصدرية، فهو لا يريد "أن يفعل" ذاتها، وإنما يريد ما هو على صياغتها ونمطها، فتستغنى بها تلك الأفعال الثلاثة عن الثاني اللازم لها، وهو الخبر. فالمراد أنها تستغنى بالمصدر المؤول عن الخبر، فلا تحتاج إليه، فهي تكتفي بمرفوعها وتكون تامة لا ناقصة.(1/625)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
إذا وقعت "عسى" ومثلها "اخلولق" و "أوشك" بعد اسم ظاهر مرفوع1، وليس بعدها في الجملة اسم ظاهر ولا ضمير بارز، مثل: الصديق عسى أن يحضر - جاز أمران:
ا- أن تخلو"عسى" من ضمير مستتر فيها أوبارز، فتكون تامة. فاعلها هوالمصدر المؤول بعدها من "أن" والمضارع مع مرفوعه المستتر، والجملة من "عسى" ومرفوعها فى محل رفع خبر المبتدأ الذى قبلها وهو: "الصديق". ونحو: المحمدان عسى أن يتقدما. المحمدون عسى أن يتقدموا. البنات عسى أن يتقدمن.
ب- وجاز أن تكون ناقصة، فتشتمل على ضمير مستتر أوبارز هواسمها يعود على المبتدأ السابق عليها ويطابقه فى التذكير والتأنيث، وفى الإفراد وفروعه، وخبرها هوالمصدر المؤول من "أن" والمضارع مع مرفوعه المستتر أوالبارز. والجملة منها ومن اسمها وخبرها فى محل رفع خبر المبتدأ الذى قبلها؛ مثل: محمد عسى أن يحضر - المحمدان عسيا أن يحضُرا - المحمدون عَسوْا أن يحضُروا - النساء عسَين أن يحضُرْن ... - كما تقدم -.
أما إذا تأخر ذلك الاسم المرفوع بحيث يقع بعد المضارع المسبوق بأن المصدرية كما فى المثال: عسى أن يحضر الوالد - فيجوز أربعة أوجه.
الأول - أن يكون الاسم المتأخر مبتدأ "وهومع تأخره فى اللفظ متقدم فى الرتبة". "عسى" فعل ماض تام، وفاعله هوالمصدر المؤول من "أنْ" ومن
__________
1 بأن كانت مسندة إليه مع مرفوعها.
2 في ص 623.
3 هي التي يكون فيها اسم الناسخ ضميرا للمفرد الغائب أو المفردة الغائبة.
4 وإلى هذه الحالة ويشير ابن مالك بقوله:
وجردان "عسى" أو ارفع مضمرا ... بها إذا اسم قبلها قد ذكرا
5 ومع أن هذه الأوجه جائزة من الناحية الإعرابية فلكل منها معنى قد يختلف عن الآخر بعض الاختلاف من الناحية البلاغية. والأوجه الأربعة إنما تجوز في غير الحالة: "هـ" الآتية في ص 628.(1/626)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المضارع مع مرفوعه المستتر، والجملة من "عسى" وفاعلهما فى محل رفع خبر المبتدأ المتأخر.
الثانى: أن يكون الاسم المتأخر مبتدأ مع تأخره. "عسى" فعل ماض ناقص، اسمها ضمير مستتر تقديره: "هو" يعود على المبتدأ، المتأخر فى اللفظ، المتقدم فى الرتبة، ويطابقه؛ وخبرها هوالمصدر المؤول من "أن" والمضارع مع مرفوعه المستتر. والجملة من "عسى" واسمها وخبرها فى محل رفع خبر المبتدأ المتأخر.
الثالث: أن تكون "عسى" تامة وفاعلها هوالمصدر المؤول بعدها من "أن" والفعل المضارع مع مرفوعه، ومرفوعه هوالاسم الظاهر بعده. "الولد".
الرابع: أن تكون "عسى" ناقصة واسمها هو: الاسم الظاهر المتأخر "الوالد". وخبرها هوالمصدر المؤول من أن والفعل المضارع ومرفوعه المستتر.
وتشترك "اخلولق" و"أوشك" مع "عسى" فى كل ما سبق من الحالات1 ...
"ب" سبق2 أنه لا يجوز فى أفعال الرجاء أن يتقدم خبرها عليها، كما لا يجوز3 - فى رأى - أن يتوسط بينها وبين اسمها إن كان المضارع مقترناً "بأن". ويجوز حذف خبرها للعمل به.
كما سبق عند الكلام على الصلة4 أن أفعال الرجاء لا تصلح أن تكون أفعال صلة، إلا "عسى" طبقا لما هو مدون هناك ...
والأكثر فى "عسى" أن تكون للرجاء. وقد تكون للإشفاق5 "أى: الخوف من وقوع أمر مكروه" مثل قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهوخير لكم} - كما سبق فى رقم 2 من هامش ص 563 وكما يجئ فى رقم1 من هامش ص 575.
"حـ" إذا أسند الفعل: "عسى" لضمير رفع المتكلم أوالمخاطب جاز فتح
__________
1 انظر رقم 2 من هامش ص 623، ورقم 1 من هامش ص 622 خاصا بهذا الإعراب.
2 في ص 623.
3 وهذا على غير الرأي الذي أشرنا إليه في رقم 1 هـ
4 في ص 374 وهامشها.
5 كما سبق في رقم 2 من هامش ص 622 وكما يجيء في رقم 1 من هامش ص 636.(1/627)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السين وكسرها؛ نحو: عسِيَت1 أن أسْلَمَ من المرض، وعسيَت أن تفوز بالغنى، وعَسِيتما ... وعَسِيتم ... وعَسين ... والفتح أشهر2.
"د" فى مثل: عسانَى أزورك - عساك تزورنى، عساه يزورنا من كل تركيب وقع فيه بعد "عسى" الضمير: "الياء" أو"الكاف" أو"الهاء" وهى ضمائر ليست للرفع - تكون: "عسى" حرفاً للرجاء3، بمعنى: "لعل" وتعمل عملها، وهذا أيسر الآراء كما سبق4. ويجوز اعتبار "عسى" من أخوات "كان" وهذا الضمير فى محل رفع اسمها. ولا يكون كذلك فى غير هذا الموضع والأفضل الإعراب الأول، والاقتصار عليه أحسن.
"هـ" فى مثل: عسى أن يتلطف الطبيب مع المريض - يوجب النحاة إعراب كلمة: "الطبيب" فاعلا للفعل: "يتلطف". ولا يجيزون أن تكون مبتدأ متأخراً، ولا اسماً لعسى الناقصة، ولا غير ذلك5. وحجتهم فى المنع أن إعرابها بغير الفاعلية للفعل: "يتلطف" يؤدى إلى وجود كلمة أجنبية فى وسط صلة "أنْ" فمن الخطأ إعراب أن "مصدرية" "يتلطف" مضارع منصوب بها، وفاعله ضمير مستتر تقديره: "هو" يعود على "الطبيب" المتأخر فى اللفظ؛ دون الرتبة؛ وعلة الخطا أن كلمة: "الطبيب" سواء أكانت مبتدأ متأخراً، أم اسماً لعسى، قد
__________
1 وإسناده لهذه التاء التي هي ضمير - دليل من الأدلة التي يعتمد عليها أصحاب الرأي القائل بأن "عسى" فعل ماض، وليست حرفا. أما بقية أفعال هذا الباب فلا خلاف في أنها فعل.
2 وفي هذا يقول ابن مالك:
والفتح والكسر أجز في السين من ... نحو: عسيت، وانتقا الفتح زكن
أي: أن الفتح والكسر جائزان في مثل: "عسيت" حين يتصل بها ضمير رفع لمتكلم، أو لمخاطب كما شرحنا، "زكن" انتقاء الفتح "بمعنى: علم اختياره عن العرب"، وأنه أفضل عندهم من الكسر.
3 وفي هذه الحالة لا تقع بعدها "ما" الزائدة لأن "ما" الزائدة لا تقع بعد عسى -
كما سيجيء في آخر رقم 4 من هامش ص 664 وكما سبق في رقم 2 من هامش ص 622
4 في رقم 3 من هامش ص 622 وفي ب من ص 241 وستجيء لها إشارة في رقم 2 من هامش ص 628.
5 وهذه هي الحالة المستثناء التي أشرنا لها في رقم 5 من هامش ص 626.(1/628)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقعت غريبة بين أجزاء صلة "أنْ" لأنها ليست من تلك الصلة، وفصَلتْ بين تلك الأجزاء. ولا يجوز الفصل بأجنبى فى تلك الصلة. ومثل هذا قالوا: فى إعراب كلمة: "رَبّ"، فى قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} مع إعراب: "مقاماً" ظرف.
و من الاستعمالات الصحيحة وقوع اللفظ: "حَرًى" اسماً منوناً مع ملازمته الإفراد والتذكير فى جميع حالاته؛ نحو: الصانع حَرًى أن يُكرَم - الصانعان حرًى أنْ يُكرَما - الصانعون حَرًى أن يكرموا - الصانعة حَرًى أن تكرم - الصانعتان حَرًى أن تكرما - الصانعات حرى أنْ يكرمن ... ولفظ: "حَرًى" فى كل الاستعمالات السابقة مصدر معناه: جدير وحقيق؛ فهومصدر بمعنى الوصف، والأحسن أن يكون مصدراً لفعل تام متصرف ليس فى "أفعال الرجاء" هوالفعل: حَرِىَ - يَحْرَى - حَرًى. وقد يجئ من هذا الفعل التام المتصرف وصف مشتق على: "حَرِىّ" "وزان: غَنِيّ"، وعلى: حَرٍ "وزان: صَدٍ بمعنى: ظمآن" وهذان الوصفان هما صفتان مشبهتان ولا يلتزمان صيغة واحدة، وإنما تلحقهما علامة التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث فيقال: المكافح حَرِىّ أوحَرٍ أن يفوز - المكافحات حريَّان، أوحَريَان أن يفوزا - المكافحون حريُّون أوحريُون أن يفوزوا - المكافحة حريَّة أوحَرِيةٌ ... المكافحتان حرِّيتَان أوحَرِيتَان ... المكافحات حَرِيَّات أوحَرِيَات ...(1/629)
الحروف الناسخة "إن" وأخواتها
مدخل
...
المسألة الحادية والخمسون: الحروف الناسخة 1 "إن" وأخواتها
يراد بالحروف الناسخة هنا - سبعة أحرف2 لا شك فى حرفيتها، وهي:
__________
1 تقدم معنى الناسخ- في أول باب: "كان وأخواتها ص 543- وبيان ما لا يصح دخول الناسخ عليه.
2 يزاد عليها: "عسى" بشرط أن تكون للرجاء "أي: بمعنى: "لعل" وبشرط أن يكون اسمها ضمير لغير الرفع، وقد سبق تفصيل الكلام عليها في أفعال الرجاء ص 621- وعلى حرفيتها في رقم 3 من هامش ص 222 وفي "من ص 628".
"3 و 3 و3" يجوز تخفيف النون في الحروف الأربعة: المختومة بالنون المشددة، "وهي: إن - أن - كان - لكن" ويترتب على هذا التخفيف أحكام تنشأ عنه، وسيجيء ذكرها تفصيلا في بحث خاص بها، ص 673.
4 مع اعتبار الأداة كلها كلمة واحدة، ولا التفات لما يقال عن أصلها: "الكاف، وأن" "5 و5" تختص "ليت" و "لعل" دون أخواتهما بأنهما لا يكونان إلا في أسلوب إنشائي - كما سبق في رقم 2 من هامش ص 374، وكما يجيء عند الكلام عليهما في رقم 1 و 3 من هامش 635 ولكن نوع الإنشاء معها مختلف فهو "طلبي" مع: "ليت" و "غير طلبي" مع "لعل".
6 ص 685.(1/630)
وكل واحد من هذه السبعة يدخل على المبتدأ والخبر بأنواعهما1 وأحوالهما؛ فيتناولهما بالتغيير فى اسمهما، وفى شئ من ضبط آخرهما؛ إذ يصير المبتدأ منصوباً، ويسمى: اسم الناسخ، ويبقى الخبر مرفوعاً، ويسمى؛ خبر الناسخ، كالأمثلة المذكورة2.
ولكل واحد من تلك الحروف معنى خاص يغلب فيه؛ فالغالب فى: "إنّ" وأنّ": التوكيد3، وفى "لكنّ"
__________
1 انظر "لملاحظة" التي في رقم 4 من هامش ص 410، وتختص بمنع وقوع "أن" بنوعيها بعد "كان" و "إن" و "لا النافية للجنس" وكذلك لا تقع "ما المصدرية" بعد النواسخ الثلاثة السابقة. وهناك شرط يبيح الوقوع في بعض الصور السابقة....
2 تختلف هذه النواسخ عن "كان" وأخواتها" في أمور ثلاثة:
أولها: أن هذه النواسخ حروف: أما "كان" وأخواتها فمنها الأفعال، مثل: كان، وأصبح، وأضحى.... ومنها الحروف، مثل: ما - لا- لا إن.... ومنها الأسماء، وهي المشتقات التي تعمل عما تلك الأفعال.
ثانيها: أن هذه النواسخ تنصب الاسم وترفع الخبر. أما تلك الاسم، وتنصب الخبر.
ثاليها: أن هذه الحروف لازمة التصدير، "أي: لا بد أن تكون في صدر جملتها" إلا "أن" المفتوحة الهمزة، المشددة النون"، فيجوز أن يسبقها شيء من جملتها، كما سيجيء في ص 637 وفي "ب" من ص 645 ويجب أن تكون مع معموليها جزءا في الإعراب من جملة أخرى. أما "كان" وأخواتها فليست لازمة التصدير ...
3 المراد: توكيد النسبة، أي: توكيد نسبة الخبر للمبتدأ، وإزالة الشك عنها أو الإنكار، فكلا الحرفين في تحقيق هذا الغرض بمنزلة تكرار الجملة، ويفيد ما يفيده التكرار، ففي مثل: إن المال عماد العمران....، تغني كلمة "إن" عن تكرار جملة: "المال عماد العمران"،
ومن الخطأ البلاغي استخدامهما إلا حيث يكون الخبر موضع الشك أو الإنكار. والتأكيد بهما يدل على أن خبرهما محقق عند المتكلم، ويس موضع شك. ولا يستعملان إلا في تأكيد الإثبات "انظر ما يقتضيه معنى التوكيد في "أن" - ص 644 "أ"
وقد تكون "أن" مفتوحة الهمزة - للترجي مثل "لعل" في معناها، وسيجيء الكلام على حكمها في رقم 3 من هامش في ص 637ز
وقد تكون "إن" - مكسورة الهمزة - بمعنى: "نعم" فتعتبر حرف جواب محض لا يعمل شيئا، كقول الشاعر:
قالوا: كبرت. فقلت: "إن"، وربما ... ذكر الكبير شبابه فتطربا
أي: فحزن - وقول الآخر:
ويقلن شيب قد علاك، ... وقد كبرت. فقلت: إنه
الهاء للسكت.
ويجوز أن يقع المصدر المنسبك من "أن" "المفتوحة الهمزة، المشددة النون" ومعمولها اسما لأختها مكسورة الهمزة، ولبقية الأحرف الناسخة، بشرط أن يتأخرا، ويتقدم عليه خبرها شبه جملة، نحو: إن عندي أنك مخلص، وكأن في نفسي لذلك تشعر بهذا، ولعل في خاطرك أنك أحب الأصدقاء إلى..... =(1/631)
الاستدراك1 ولا بد أن يسبقها كلام له صلة معنوية بمعموليها2. وفى: "كأن": التشبيه3؛
__________
1 هو إبعاد معنى فرعي يخطر على البال عند فهم المعنى الأصلي لكلام مسموع أو مكتوب، ومثال ذلك قولنا: "هذا غني" فيخطر بالبال أنه محسن بسبب غناء. فإن كان غير محسن أسرعنا إلى إزالة الخاطر بمجيء ما يدل على ذلك، مثل كلمة: "لكن" وبعدها المعمولان، فنقول: هذا غني لكنه غير محسن" ومثل: "الكتاب رخيص" فيقع في الخاطر أنه لا نفع فيه. فإن كان غير ذلك بادرنا بمجيء كلمة: "لكن" مع معموليها لإزالة هذا الوهم، فنقول: "الكتاب رخيص، لكنه كبير النفع ... "وهكذا ... فلا بد أن يكون قبلها كلام يتضمن معنى أصليا يوحي بمعنى فرعي ناشيء منه وهذا المعنى الفرعي هو الذي يراد إبعاده بكلمة: "لكن"، ويعبر النحاة عن هذا بقولهم في "الاستدراك" إنه: "تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته، أو إثبات ما يتوهم نفيه". وهذا يقتضي أن يكون المعنى بعدها مخالفا للمعنى الفرعي الذي يفهم مما قبلها، ومغايرا له. وتقع بعد النفي والإثبات. فإن كان المعنى الفرعي الناشئ مما قبلها موجبا كان ما بعدها منفيا في معناه، وإن كان المعنى الفرعي قبلها منفيا في مضمونه كان المعنى بعدها موجبا، فوجودها ينبيء عن المغايرة والمخالفة بين معنى ما بعدها والمعنى الفرعي المفهوم مما قبلها. من غير حاجة إلى أداة نافية في أحدهما.
ولا يصح أن تكون الجملة الاسمية بعدها خبرا عن مبتدأ أو عن ناسخ قبلها - ولا غير خبر أيضا - كما سنعرف في رقم 2 -.
واستعمال "لكن" في "الاستدراك" هو الأعم الأغلب. ومن الجائز استعمالها في بعض الأحيان لمجرد تأكيد المعنى، كما كان يستعملها الفصحاء، مثل: "لو اعتذر المسيء لتناسيت إساءته، لكنه لم يعتذر" فهي هنا لتأكيد عدم الاعتذار، وهو مفهوم بدونها من كلمة: "لو" التي تفيد في هذا المثال نفي معنى الكلام المثبت بعدها.
ومن الآيات المشتملة على "لكن" قوله تعالى: "لكنا هو الله ربي، وأوضح الآراء فيها أن تقدير الكلام: لكن "بسكون النون" أنا هو الله ربي. فحذفت الهمزة تخفيفا، وأدغمت النون في النون، فصارت: لكنا "بنون مشددة بعدها ألف".
و"لكن" مشددة النون - هي التي تعد من أخوات "إن" في العمل. أما: "لكن" مخففة النون "أي: الساكنة النون" فليست من أخوات "إن" ولا من النواسخ. بالرغم من أن معناها:
"الاستدراك" أيضا.
- كما سيجيء في جـ 3 باب العطف.
2 أي: لا بد أن تتوسط بين جملتين كاملتين، بينها نوع اتصال معنوي، لا إعرابي - بحيث تكون في صدر الثانية منهما، ولا يصح في الجملة الثانية المصدرة بها أن تقع خبرا - أو غيره - عن شيء سابق على "لكن". كما أشرنا - في رقم 1 - أماما ورد في كلام السابقين المولدين من نحو: فلان وإن كثر ماله. لكنه بخيل، أو: إلا أنه بخيل: فقد سبق بيان الرأي فيه "في ص 451".
3 المراد: تشبيه اسمها بخبرها فيما يشتهر به هذا الخبر. والتشبيه بها أقوى من التشبيه بالكاف، فمثل: كأن الجمل فيل في الضخامة، أقوى في التشبيه من: "الجمل كالفيل في الضخامة"، ولا يليها - في الغالب - إلا المشبه. أما "الكاف" و "مثل" ... و.... وأضرابهما فيليها المشبه به في الأكثر، على الصورة التي فصلها البيانيون في كل ذلك.
واستعمالها في التشبيه مطرد في سائر أحوالها عند جمهرة النحاة. ولكن فريقا يقول: إنها لا تكون للتشبيه =(1/632)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= إلا حين يكون خرها اسما أرفع من اسمها قدرا أو أحط منها، نحو: كأن الرجل ملك. أو كأن اللص قرد: أما إذا كان خبرها جملة فعلية، أو ظرفا، أو جارا مع مجروره، أو صفة من صفات اسمها -0 فإنها للظن، نحو: كأن محمودا وقف، أو عندك، أو في الدار، أو واقف ... لأن محمودا هو النفس الذي وقف، ونفس المستقر عندك، أو في الدار، ونفس الواقف ... والشيء لا يشبه بنفسه. ويقول الذين يرونها للتشبيه باطراد: إنها في الأمثلة السابقة ونظائرها - جارية على أداء مهمتها الأصلية، وهي: التشبيه باعتبار أن المشبه به محذوف، فالأصل: كأن محمودا شخص وقف، أو شخص عندك، أو شخص في البيت، أو شخص واقف.... أو اعتبار المشبه به هو نفس المشبه، ولكن في حالة أخرى له. ولا مانع عندهم من تشبيه الشخص في حالة معينة - بنفسه في حالة أخرى تخالفها، فيكون المراد، كأن محمودا في حاله وهو غير واقف شبيه بنفسه وهو واقف....
والخلاف شكلي، ولكن هذا الرأي أنسب لأنه عام ينطبق على كل الحالات، ويريحنا من التشتيت، والخلاف، وتشعيب القواعد. والأخذ بهذا الرأي أو ذاك إنما يكون حيث لا توجد القرينة التي تعين المراد. فإن وجدت وجب الأخذ بها.
ومن الأساليب الفصيحة المسموعة قولهم: "كأنك بالفرج آت، وبالشتاء مقبل". "وكأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل" وقد تعددت الآراء في المراد. ومنها في لأسلوب الأول: التعبير عن قرب مجيء الفرج، وقرب إقبال الشتاء. وفي الثاني خطاب متجه إلى المحتضر: كأن الدنيا لم تكن "أي: لم توجد" أو: كأنك لم تكن بالدنيا، لقصر المدة فيها في الحالتين، وكأنك في الآخرة - تتوهم أنك لم تزل عن الدنيا ولم تبارحها.
وتعددت كذلك في إعراب تلك الأساليب إعرابا يساير معنى واضحا، ومما ارتضوه في الأسلوب الأول أن يكون معنى "كأن" هنا: التقريب. والكاف اسمها. وأصل الكلام: كأن زمانك آت بالفرج. ثم حذف المضاف، وهو كلمة: "زمان" أما الخبر فهو كلمة: "آت" مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة والجار والمجرور: "بالفرج" متعلق بالخبر: "آت". وبالشتاء الواو حرف عطف، والجار مع مجروره متعلق بكلمة: مقبل، المعطوفة على كلمة "آت" السابقة: فأصل الكلام: كأن زمانك آت بالفرج، ومقبل "بالشتاء".
وارتضوا في الأسلوب الأخير أن يكون الخبر محذوفا فيهما. وجملة: "لم تكن" وكذلك جملة: "لم تزل" في محل نصب، حال. والأصل: كأنك تبصر بالدنيا حالة كونك لم تكن بها "لأنك تبصرها في لحظة مغادرتها" وكأنك تبصر بالآخرة في حالة كونك لم تزل "أي: في حالة لم تزل فيها عن الدنيا، ولم تغادرها نهائيا".
وهناك إعراب أخرى كل منها يساير معنى معينا، فتختلف الإعرابات باختلاف المعاني التي يتضمنها كل أسلوب. "راجع حاشية الصبان جـ1 عند الكلام على: كأن".
ولعل الإعراب الواضح الذي يساير معنى واضحا في المثالين الأولين هو افتراض أن أصلها: كأنك أت بالفرج ومقبل بالشتاء، وهذا - مع مسايرته المعنى يفيد القرب الذي سبق الأسلوب شاهدا عليه. لأن المخاطبة دليل القرب.
ولا مانع من اعتبار: كأن للقرب أو للتشبيه فإن كانت للقرب فمعناها ظاهر، وإن كانت للتشبيه فالمراد "كأنك شخص أو شيء آت بالفرج، ومقبل بالشتاء. فالمشبه به محذوف. وعلى هذا أو ذاك =(1/633)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
=تعرب "الكاف" اسمها، و "آت" خبرها. والفرج جار ومجرور متعلق بالخبر. و "مقبل" "الواو" حرف عطف "مقبل" معطوف على: "آت" و "بـ الشتاء" جار ومجرور متعلق بكلمة: "مقبل وما يقولونه في تأييد إعرابهم المخالف مردود وضعيف ... "كالذي ورد في المغني والتصريح وحواشيها عند الكلام على: كأن".
كما يصح في المثال الأخير: اعتبار كلمة "كأن" للتشبيه "تشبيه المخاطب في هذه الحالة بنفسه في حالة أخرى، فالمشبه والمشبه به شخص واحد، ولكن في حالتين مختلفتين، وهذا أمر جائز عندهم، - كما أسلفنا - أي: كأنك في حالة وجودك بالدنيا شبيه بنفسك في حالة عدم وجودك بها. " "فالكاف اسمها، والجار والمجرور، "بالدنيا" متعلق بالفعل: "تكن" فكلمة: "لم" حرف جزم. "تكن" تامة بمعنى "توجد" فعل مضارع مجزوم بها. والفاعل: أنت، والجملة في محل رفع خبر: "كأن". "فالمراد: كأنك عند الاحتضار" لم توجد بالدنيا، فأنت في حالتك هذه تشبه نفسك في حالة عدم وجودك فيها، فالحالتان سيان". و "بالآخرة" الواو حرف عطف. الجار والمجرور حال مقدم من الضمير فاعل الفعل المضارع: "تزل" المجزوم بالحرف: "لم" "فالمراد: كأنك لم توجد بالدنيا ولم تزل عنها في حالة وجودك بالآخرة، لأنك على بابها. والجملة الفعلية الثانية معطوفة على الجملة الفعلية السابقة".
ويرى فريق آخر قصر التشبيه في: "كأن" على الحالة التي يكون فيها خبرها جامدا، مثل: "كأن البخيل حجر". أما في غيره فهي للتحقيق، أو: التقريب، أو الظن.... ومن أمثلة التحقيق عندهم قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، إذ المعنى هنا محقق قطعا. ولا مجال فيه للتشبيه ومثله قول الشاعر المتغزل:
كأني حين أمسي لا تكلمني ... متيم أشتهى ما ليس موجودا
وهذا رأي حسن ولكن جمهرتهم لا يخرجونها عن التشبيه، وحجتهم ما ذكرنا من أن المشبه به قد يكون محذوفا. وقد يكون هو المشبه أيضا، ولكن في حالة أخرى كما سبقت الإشارة، ففي مثل: "كأن عليا يلعب" يكون المراد: كأن عليا شخص يلعب، أو: كأن عليا في حالة عدم لعبه يشبه عليا في حالة لعبه. أي: كأن هيئته في غير لعبة كهيئته في اللعب "راجع الجزء الأول من الهمع ص 133"، وقد قلنا: إن الأخذ بهذا الرأي أحسن عند عدم القرينة، إبعادا للخلاف، واختصارا نافعا في القواعد. أما مع القرينة فلا، كالآية والتأويل في الآية- ونظائرها - عسير، لأن القرينة تدل على أنها للتحقيق قد يكون أصل المضارع في: "كأنك في الدنيا لم تزل...." هو: "يزول" من "زال" التامة، بمعنى، فمني وذهب. فالزاي مضمومة وقد يكون أصله: "يزال"، من "زال"، يزال" الناسخة مثل: لا يزال الحر مكرما، بمعنى: بقي واستمر، فالزاي مفتوحة. والمعنى منها يخالف ما سبق، وفيه بعد، أي: أن الآخرة باقية خالدة تنتظر.(1/634)
وفى: "ليت" التمنى1. وفى: "لعل"2 الترجى والتوقع. وقد تكون للإشفاق3.
__________
1 هو الرغبة في تحقق شيء محبوب حصوله، سواء أكان تحققه ممكنا مثل: ليت الجو معتدل، أم غير ممكن، مثل: ليت القتيل يعود حيا. ولا يصح أن يكون في أمر محتوم الوقوع، مثل: ليت غدا يجيء والتمني معنى إنشائي طلبي، ولهذا كان الأسلوب الذي تتصدره "ليت" إنشائيا طلبيا - كما سبق - في رقم 2 من هامش 374-.
وتختص "ليت" بأسلوب يلتزم فيه العرب حذف خبرها، هو قولهم: "ليت شعري....." ومع حذفهم الخبر فيه باطراد يلتزمون أن يذكروا اسمها، وأن يكون هذا الاسم كلمة: "شعر" مضافة إلى ياء المتكلم، وبعدها الخبر المحذوف وجوبا، ثم تذكر بعده جملة مصدرة باستفهام، نحو: ليت شعري.... أمقيم أخي أم ظاعن؟ ليت شعري ... أراغب صديقي في الزيارة أم كاره؟...... يريدون، ليت شعري عالم بجواب هذا السؤال.... أو: مخبر بجوابه.... أما في غير تلك الحالة، وكذا في باقي الأخبار، فيجوز حذف الخبر وحده لدليل، عملا بالقاعدة اللغوية التي تبيح عند أمن اللبس حذف ما لا يتأثر المعنى بحذفه كما سيجيء في "أ" ص 641.
وتختص "ليت" كذلك بالاستغناء عن اسمها وخبرها إذا دخلت على "أن" "المفتوحة الهمزة المشددة النون" إذ يسد المصدر المؤول من "أن" ومعموليها مسد معمولي: "ليت"، مثل: ليت أن الصحة دائمنا. وقيل: إن الخبر محذوف، والتقدير: ليت دوام الصحة حاصل.... سواء أكان هذا أم ذلك فالذي يعنينا أنها تدخل على "أن" ومعموليها، فيتم الكلام، ويستقيم من غير حاجة إلى زيادة لفظية أخرى، فلا أهمية للخلاف في الإعراب، إذ الغرض الوصول إلى التعبير السليم الذي يؤدي إلى المعنى المقصود، وهو هنا غير متوقف على طريقة الإعراب.
وكذلك تختص - في الرأي الأرجح - بعدم دخول - سوف" على خبرها، فلا يصح: ليت الصحة سوف تدوم، لأن سوف لا تدخل إلا على ما يمكن تحقيقه وادراكه من كل شيء ليس فيه استحالة، ولا بعد، وهذا نقيض ما تفيده "ليت" في الغالب -.
"2" في "لعل" المسندة لياء المتكلم لغات كثيرة، ولهجات متعددة - نحن اليوم في غنى عن أكثرها - وقد نقلها صاحب الأمالي "أبو علي القالي في الجزء الثاني - ص 136" - قال ما نصه: "بعض العرب يقول: لعلي، وبعضهم، لعلني، وبعضهم: على، وبعضهم: علني، وبعضهم: لعني، وبعضهم: عني، وبعضهم لعلنا:، وبعضهم: لأنني، وبعضهم لأني، وبعضهم لوني...." أهـ، وفي لسان العرب لغات أخرى.
3 معنى الترجي: انتظار حصول أمر مرغوب فيه، ميسور التحقق. ولا يكون إلا في الممكن. ومثله التوقع. أما الإشفاق فلا يكون إلا في الأمر المكروه المخوف، مثل: لعل النهر يغرق الزرع والبيوت. وخبرها غير مقطوع بوقوعه، ولا متيقن، فهو موضع شك، بخلاف خبر "إن" و. "أن" - كما سبق - وقد تكون للتعليل، كقوله تعالى: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر....".... وقول الشاعر:
تأن، ولا تعجل - بلومك صاحبا ... لعل له عذرا وأنت تلوم
وقد تكون للاستفهام، كقوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى} وقد تكون للظن..... وجميع هذه المعاني قياسية الاستعمال وإن تفاوتت في الكثرة. وقد تكون للتحقيق "انظر رقم 1 من هامش الصفحة الآتية".
والأسلوب الذي تتصدره "لعل" إنشائي غير طلبي فهي و "ليت" للإنشاء مع اختلاف نعه دون باقي أخواتهما.
- كما سبق في رقم 2 هامش ص 374 ورقم 5 هامش من ص 630 -(1/635)
شروط إعمال هذه الأحرف الناسخة 1:
ا- يشترط لعملها ألا تتصل بها: "ما" الزائدة2. فإن اتصلت بها "ما" الزائدة2 - وتسمَّة: "ما" الكافَّة"3 - منعتها من العمل، وأباحت دخولها على الجمل الفعلية بعد أن كانت مختصة بالاسمية. إلا: "ليت" فيجوز إهمالها وإعمالها4 عند اتصالها بكلمة "ما" السالفة؛ فيجب الإهمال فى مثل: إنما الأمين صديقٌ5، ولكنما الخائن عدوّ، وفى مثل قول الشاعر يصف حصاناً ببياض وجهه، وسواد ظهره:
وكأنما انفَجر الصباح بوجهه ... حسْنًا، أواحْتَبَسَ الظلامُ بِمَتْنِهِ6
__________
1 يشترط في اسمها وخبرها ما يشترط في اسم كان وخبرها مما تقدم ذكره من شروط عامة في ص 545 مع ملاحظ ما يجيء هنا من فروق قليلة بين النوعين ومن شروط أخرى لا بد منها لإعمال "إن" وأخواتها وينفرد خبر "لعل" بجواز تصديره "بأن" المصدرية، نحو: لعل أحدكم أن يسارع في الخيرات فيلقى خبر الجزاء.... "ولا مانع في هذه الحالة أن يقع المعنى خبرا عن الذات كوقوعه خبرا لعسى ... وقد سبق الكلام عليهما في باب أفعال المقاربة رقم 1 من هامش ص 616".
وإذا وقعت "لعل" أو "عسى" في كلام الله تعالى لا يكون معناها الرجاء، أو الإشفاق، لاستحالة ذلك عليه. وإنما يكون معناها التحقيق والقطع حينا، وحينا الرجاء أو الإشفاق منسوبا إلى الذي يدور بصدده الكلام، لا إلى المولى جل شأنه. "ولهذه إشارة في رقم 2 من هامش 622".
2 يشترط أن تكون "ما" حرفا زائدا ليمنع هذه الحروف الناسخة من العمل. فإن لم يكن حرفا زائدا لم يمنعها مثل "ما" الموصولة في نحو: إن ما في القفص بلبل" "أي: إن الذي في القفص بلبل" ومثل "ما" الموصوفة في نحو: إن ما مطيعا نافع، أو إن ما يطيع نافع، "أي: إن شيئا مطيعا أو يطيع - نافع " فكلمة: "ما" في المثالين ليست كافة "أي: ليست مانعة للحرف الناسخ عن العمل"، ويجب فصلها في الكتابة منه. بخلاف الزائدة، فيجب وصلها بآخره في الكتابة. ولا تدخل "ما الزائدة" على "عسى" التي قد تكون حرفا كهذه الأحرف الناسخة.
3 لأنها كفت "أي: منعت" الحرف الناسخ من العمل ولذا يكتفي بعض القدماء في إعراب مثل: "إنما" بقوله: "كافة ومكفوفة" يريد: أن "ما الزائدة" كفت الناسخ عن العمل، وكفت نفسها كذلك عن أن تكون موصولة أو موصوفة...." واقتصرت على أن تكون مهملة زائدة. أو: أنها كفت الحرف الناسخ. وهو قد كفها أيضا أن تكون نوعا آخر غير الزائدة.
4 وفي هذا يقول ابن مالك في بيت سيجيء في ص 664.
ووصل "ما" بذي الحروف مبطل ... إعمالها وقد يبقى العمل
أي: أن اتصال ما" الزائدة بهذه الحروف يبطل عملها. وقد يبقى العمل - اختيارا- في "ليت" وحدها دون أخواتها، في الرأي الأحسن.
5 وقول الشاعر:
إنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقوله تعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها....
إذا اتصلت - ما" الزائدة بأحد الحرفين الناسخين: "إن" أو "إن" منعتهما من العمل، وصار كل واحد منهما بعد هذه الزيادة أداة من أدوات الحصر، تزيد توكيد المعنى قوة ووضوحا.... "وقد سبقت الإشارة الموضحة في رقم 4 من ص 495" مثل: إنما أنت كبير الهمة، أو: عرفت أنما أنت كبير الهمة، فقد قصرنا المخاطب على صفة معينة، هي كبر الهمة، وحصرنا أمره فيها. وتأويل "أن" "المفتوحة الهمزة المشددة النون" مع معمولها بمصدر مؤول تختفي عند ظهوره لا يمنع من إفادتها الحصر عند اتصالها بما الزائدة، لأن إفادة الحصر تتم قبل التأويل وسبك المصدر.
6 بظهره.(1/636)
ويجوز الأمران مع: "ليت" مثل: ليتما علىّ حاضرٌ، أو: لَيّما عَليَا حاضرٌ، وهى فى الحالتين مختصة بالجمل الاسمية.
ب- يشترط فى اسمها شروط، أهمها:
ألا يكون من الكلمات التى تلازم استعمالاً واحداً، وضبطا واحداً لا يتغير؛ كالكلمات التى تلازم الرفع على الابتداء، فلا تخرج عنه إلى غيره؛ ككلمة: "طُوبَى" وأشباهها1 - فى مثل: طوبى للمجاهد فى سبيل الله. - فإنها لا تكون إلا مبتدأ.
وألا يكون من الكلمات الملازمة للصدارة في جملتها، إما بنفسها مباشرة؛ كأسماء الشرط، و: "كم"....، وإما بسبب غيرها2؛ كالمضاف إلى ما يجب تصديره؛ مثل: صاحِبُ مَنْ أنت؟ فكلاهما لا يصلح أسماً.
والسبب: هوأن هذه الحروف الناسخة ملازمة للصدارة فى جملتها "ما عدا "أنّ"3 فإذا كان اسم واحد منها ملازماً للصدارة وقع بينهما التعارض. ولهذا كان من شروط إعمالها - أيضاً - أن يتأخر اسمها وخبرها عنها.
وألا يكون اسمها فى الأصل مبتدأ واجب الحذف؛ كالمبتدأ الذى خبره فى الأصل نعت، ثم انقطع عن النعت إلى الخبر4؛ نحو:
__________
1 لهذه الكلمات بيان في رقم 1 من هامش ص 542 - أول باب: "كان" وأخواتها ومثلها بعض الكلمات التي تلازم النصب على المصدرية، أو على غير المصدرية.
2 مما مربيانة في رقم 1 من هامش ص 544.
3 إذا كانت "أن" للترجي - أي: مثل: "لعل" التي تفيد هذا المعنى - وجب ما يأتي: أن تلازم صدر جملتها، وأن تكون الجملة في هذه الصورة اسمية حتما، ولا يصح اعتبار "أن"، حرفا مصدريا يؤول مع معموليه بمصدر مفرد. كما لا يصح وهي بمعنى: "لعل" أن يتقدم عليها أحد معوليها ولا معمول أحدهما - وقد سبق توضيح هذا في رقم 5 من ص 504 ويجيء له إشارة في "و" من ص" 648 -
4 سبق أن أوضحنا المراد بالنعت المقطوع وسببه.... في ص 510 وسيجيء تفصيل الكلام عليه في الباب الخاص بالنعت حـ3 - ويستثنى من المبتدأ الواجب الحذف ضمير الشأن في مثل: "إن من يرض عن الشريلق سوء الجزاء"، إذا الأصل: إنه من يرض.... أي: إنه الحال والشأن "وقد تقدم الكلام على ضمير الشأن ص 250" فهذه الهاء في الأصل نائبة عن مبتدأ، هو: الحال والشأن. ولا يصح أن تكون كلمة "من" اسم "إن" لأن "من" شرطية، والشرط له الصدارة، فلا يسبقه ناسخ، هذا لى أن المضارعين بعدها مجزومان.
ومثله قول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وظباء
أي: إنه من يدخل يلق....
وحذف ضمير الشأن في هذا الباب كثير بقرينة تدل عليه وعلى المراد، "ما هو مشروط عند كل حذف" ومنه الحديث.... إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون. أي: إنه.....(1/637)
عرفت محموداً العالمُ1.
حـ- ويشترط فى خبرها ألا يكون إنشائيًّا2، "إلا الإنشاء المشتمل على: "نِعْم" و"بِئْس" وأخواتهما من أفعال المدح والذم" فلا يصح: إن المريض ساعدْهُ. وليت البائسَ لا تُهنْه ... ويصح: إن الأمين نِعْم الرجل، وإن الخائن بئس الإنسان.
وكذلك يشترط فى خبرها إذا كان مفرداً أوجملة - أن يتأخر عن اسمها، فيجب مراعاة الترتيب بينهما؛ بتقديم الاسم وتأخير الخبر، نحو: إن الحقَّ غَلاّب - إن العظائم كفؤُها العظماءُ - إن كبارَ النفوسِ ينفرون من صغائر الأمور3، وقول الشاعر:
إن الأمينَ - إذا استعان بخائن - ... كان الأمينُ شريكَه فى المأثِم
فلوتقدم هذا الخبر لم تعمل، بل لم يكن الأسلوب صحيحاً. وهذا الشرط يقتضى عدم تقدمه على الناسخ من باب أوْلى.
أما إذا كان الخبر غير مفرد وغير جملة، بأن كان شبه جملة: "ظرفاً أوجاراً مع مجروره". فيجوز أن يتقدم على الاسم فقط، فيتوسطه بينه وبين الناسخ عند عدم وجود مانع4، نحو؛ إن فى السماء عبرةً5، وإن فى دراستها
__________
1 برفع كلمة: "العالم" على أنخا خبر مبتدأ محذوف. وكانت في الأصل نعتا ثم تركته، وصارت خبرا، إذا الأصل "عرفت محمودا العالم" بنصب العالم على أنها صفة، ثم قطعت عن النعت إلى الخبر للأسباب التي أشرنا إليها في ص 510.
2 سواء أكان الإنشاء طلبا أم غير طلب "راجع رقم 2 من هامش 374 ويجوز في خبر "أن" المخففة أن يكون جملة دعائية - كما سيجيء في ص 678 - كقراءة من قرأ بتخفيف النون "أي: تسكينها"، قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ويقول: "الرضى": "لا أرى مانعا من وقوع الجملة الطلبية خبرا عن "إن" و "لكن" مع قلته. " ولا داعي للأخذ بالرأي القليل هنا.
3 ومثل هذا قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
4 ومن الأمثلة قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} . وقوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} وجاء في الأشموني ما نصه: "قال في العمدة: ويجب أن يقدر العامل في الظرف بعد الاسم كما يقدر الخبر وهو غير ظرف" أهـ..... المفهوم أن المراد بالظرف ما يشمل الجار ومجروره. فالمراد هنا: شبه الجملة بنوعيه.
5 فيما سبق يقول ابن مالك في باب عنوانه، إن إخواتها:
لإن، أن، ليت، لكن، لعل ... كأن - عكس ما لكان من عمل -
كإن زيدا عالم بأني ... كفء ولكن ابنه ذو ضعن
يقول: لإن - وما تبعها من الحروف المذكورة بعدها- عكس ما ثبت من العمل لكان وأخواتها "فكان" ترفع الاسم وتنصب الخبر وهذه الحروف تعمل عكسها: تنصب الاسم وترفع الخبر، ووضح هذا =(1/638)
عجائبَ. وقول الشاعر:
إنّ من الحلْم دلاًّ أنت عارِفُهُ ... والحِلْمُ عن قُدرَةٍ فضلٌ من الكرم
ومثل: إن هنا رفاقاً كراماً، وإن معنا إخواناً أبراراً. وقولهم فى وصف رجل: كانَ والله سمْحاً سهْلا، كأنّ بيْنه وبين القلوب نَسَبا، أو: بينه وبين الحياة سبباً. فإن وُجِد مانع لم يجز تقدمه؛ كوجود لام الابتداء فى نحو: إن الشجاعة لفى قول الحق: حيثَ لا يجوز تقديمه وفيه لام الابتداء1 ...
وهناك حالة يجب فيها تقديمه؛ هى: أن يكون فى الاسم ضمير يعود على شئ فى الخبر الجار والمجرور؛ مثل: إن فى الحقل رجالَه، وإن فى المصنع عمالَه. فاسم الناسخ "رجال وعمال" مشتمل على ضمير يعود على بعض الخبر1؛ "أى: على الحقل، والمصنع"؛ ولوتأخر الخبر لعاد ذلك الضمير على متأخر فى اللفظ وفى الرتبة معاً؛ وهوممنوع هنا3.
__________
= بأمثلة في البيت الثاني، هي: إن زيدا عالم بأنى كفء، ولكن ابنه ذو ضغن "أي: حقد" فعرض أمثلة لحروف ثلاثة، هي: إن "أن" لكن....
هذا ويتردد في كلام النحاة القدماء - وغيرهم - اسم "زيد" "عمرو" "بكر" "خالد"، وهي أسماء عربية صحيحة، ولكنها شاعت في استعمالاتهم حتى صارت مبتذلة فيحسن العدول عنها في استعمالنا قدر استطاعتنا، كما أشرنا لهذا كثيرا.
ثم قال:
وراع ذا الترتيب. إلا في الذي ... كليت فيها، أو: هنا - غير البذي
يريد: أن مراعاة هذا الترتيب الوارد في أمثلته بين المعمولين أمر واجب، فيتقدم الاسم ويتأخر الخبر وجوبا إلا في مثل: ليت فيها غير الذي "أي: البذيء، وهو: الوقح" ومثل: ليت هنا غير البذيء، من كل تركيب يقع فيه خبر إن وأخواتها ظرفا أو جارا مع مجروره. وقد اقتصر على بيان هذه الحالة التي يجوز فيها التقديم، ولم يذكر تفصيل المواضع التي يجب فيها التقديم والتي يجب فيها التأخي، وقد ذكرناها.
1 ومن الموانع أن يكون الحرف الناسخ هو: "عسى" "التي بمعنى: لعل" أو الحرف: "لا"- كما سيأتي في بابها ص 690 فلا يجوز تقديم خبر هذين الحرفين مطلقا.
2 لأن الخبر هو الجار مع مجروره، والضمير عائد على المجرور وحده، فهو عائد على بعض الحبر كما سبق أن أوضحناه.
3 وهناك حالة أخرى يجب فيها تقديم خبر أن "المفتوحة الهمزة المشددة النون" ستجيء في: "ب" من ص 645.
وإذا وقع المصدر المؤول من "أن مع معموليها" مبتدأ، وكان تأخير خبره في هذه الصورة مؤديا إلى اللبس، وجب تقديم هذا الخبر، مثل: عندي أنك فاضل.
أما سبب اللبس وما يترتب عليه فقد تقدم في رقم 5 من ص 504 حيث مواضع تقديم خبر المبتدأ وجوبا.(1/639)
ومما تقدم نعلم أن للخبر - فى هذا الباب - ثلاثة أحوال من ناحية تقديمه، أوتأخيره على الاسم.
الأولى: وجوب تأخيره إذا لم يكن شبه جملة.
الثانية: وجوب تقديمه إذا كان شبه جملة، وكان الاسم مشتملا على ضمير يعود على بعض شبه الجملة، "أي: على بعض الخبر".
الثالثة: جواز الأمرين إذا كان شبه جملة، - غير ما سلف - ولم يمنع من التقدم مانع.
أما معمول الخبر "مثل: إن المتعلم قارئ كتابك، وإنه منتفع بعلمك،" فلا يجوز تقديمه على الحرف الناسخ، لكن يجوز تقديمه على الخبر مطلقاً "أى: سواء أكان المعمول شبه جملة، أم غير شبهها، فتقول: إن المتعلم - كتابَك - "قارئُ، وإنه - بعلمك - منتفع. ففى الجملة الأولى تقدم المعمول: "كتابَك" وليس بشبه جملة؛ وفى الثانية تقدم المعمول شبه الجملة، وهوالجار والمجرور: "بعلم.
كما يتضح تقديم معمول الخبر على الاسم والتوسط بينه وبين الناسخ فى حالة واحدة، هى: أن يكون المعمول شبه جملة؛ نحو: إن فى المهد الطفلَ نائم - إن بيننا الودَّ راسخ.
ويؤخذ من كل ما سبق:
1- أنه لا يجوز أن يفصل بين الحرف الناسخ واسمه فاصل إلا الخبر شبه الجملة الذى يصح تقديمه، أومعمول الخبر إذا كان المعمول شبه جملة أيضا الجملة كذلك،
2- كما لا يجوز أن يتقدم على الحرف الناسخ اسمه، أوخبره، أومعمول أحدهما.(1/640)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ا- قد يحذف الحرف الناسخ مع معموليه أوأحدهما، ويظل ملحوظاً تتجه إليه النية؛ كأنه موجود. وأكثر ما يكون الحذف فى إنّ "المكسورة الهمزة المشدّدة النون"، ومنه قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} بناء على أن التقدير: تزعمون أنهم شركائى. وقد تحذف مع الخبر ويبقى الاسم، وقد تحذف وحدها ويبقى اسمها وخبرها، وقد يحذف أحدهما فقط1، وكل ذلك مع ملاحظة المحذوف ولا يصح شئ مما سبق إذا إذا قامت قرينة تدل على المحذوف مع عدم تأثر المعنى بالحذف، وهذه قاعدة لغوية عامة أشرنا إليها من قبل2"؛ هى جواز حذف ما لا يتأثر المعنى بحذفه. بشرط أن تقوم قرينة تدل عليه".
وقد يجب حذف خبر "إن"3 إذا سَدّ مسده واوالمعية، نحو: إنك وخيراً، أى: إنك مع خير، أوسد مسده الحال، نحو: قول الشاعر:
إنَّ اختيارك ما تبغيه ذائقةٍ ... بالله مستظهراً بالحزم والجدّ
أومصدراً مكرراً؛ نحو: إن الفائدة سيراً سيراً.
وتختص: "ليت" بالاستغناء عن معموليها، وبأحكام أخرى سبقت شروطها وتفصيلاتها فى رقم 1 من هامش ص 635.
ب- الأنسب الأخذ بالرأى القائل بجواز تعدد الخبر فى هذا الباب على الوجه الذى سبق إيضاحه فى تعدد خبر المبتدأ4، لأن التعدد هنا وهناك أمر تشتد إليه حاجة المعنى أحياناً.
حـ- من العرب من ينصب بهذه الحروف المعمولين؛ كما تنطق الشواهد الواردة به. لكن لا يصح القياس عليها فى عصرنا؛ منعاً لفوضى التعبير والإبانة، وإنما نذكر رأيهم - كعادتنا فى نظائره - ليعرفه المتخصصون فيكشفوا به، فى غير حيرة ولا اضطراب - ما يصادفهم من شواهد قديمة وردت مطابقة له مع ابتعادهم عن محاكاتها.
__________
1 راجع الأمثلة في هامش ص 665 وما بعدها وكذا في جـ 8 ص 85 من شرح المفصل. وي حاشية الألوسي على شرح القطر جـ 1 ص 268.
2 في رقم 1 من هامش ص 635.
3 هذا التقييد في الحذف الواجب بأنه خبر إن" لم يذكره صاحب "الهمع" بالرغم من أن الأمثلة التي ذكرها للحذف هي لخبر "إن" والأحسن التقييد.
4 ص 528.(1/641)
المسألة الثانية والخمسون: فتح همزة: "إن"، وكسرها
لهمزة "إنّ" ثلاثة أحوال، وجوب الفتح، ووجوب الكسر، وجواز الأمرين.
الحالة الأولى:
يجب فتحها فى موضع واحد، هو: أن تقع مع معموليها جزءا من جملة مفتقرة إلى اسم مرفوع، أومنصوب، أومجرور، ولا سبيل للحصول على ذلك الاسم إلا من طريق مصدر منسبك من "أنّ" مع معموليها. ففى مثل: شاع أن المعادنَ كثيرةٌ فى بلادنا. سرنى أنك بارٌّ بأهلك - لا نجد فاعلا للفعل: "شاع" ولا للفعل: "سَرَّ" مع حاجة كل فعل للفاعل، ولا وسيلة للوصول إليه إلا بسبك مصدر مؤول من: "أنّ" مع معموليها؛ فيكون التقدير: شاع كثرةُ المعادِن فى بلادنا - سرنى برُّك بأهلك1 وكذلك الفعل: "زاد" فى قول القائل:
لقد زادنى حُبًّا لنفْسِىَ أننى ... بغيضٌ إلىّ كل امرئٍ غير طائلِ
وفى مثل: عرفت أن المدن مزدحمة - سمعت أن البحار ممتلئةً بالأحياء ... نجد الفعل: "عرف" محتاجاً لمفعول به، وكذلك الفعل: "سمع". فأين المفعولان؟ لا نتوصل إليهما إلا بسبك مصدر مؤول من: "أن" مع معموليها؛ فيكون التقدير: عرفت ازدحامَ المدنِ - سمعت امتلاءَ البحارِ بالأحياء.
وفى مثل: تألمت من أن الصديقَ مريضٌ - فرحت بأن العربىَّ مخلصٌ للعروبة ... ، نجد حرف الجر: "مِنْ" ليس له مجرور، وكذلك حرف الجر: "الباء" وهذا غيرُ جائز فى العربية. فلا مفر من أن يكون المصدر المنسبك من "أنّ" مع معموليها فى الجملة الأولى هوالمجرور بالحرف: "منْ" وفى الجملة الثانية هوالمجرور "بالباء". والتقدير: تألمت من مرضِ الصديقِ - وفرِحتُ بإخلاص
__________
1 المصدر الذي تقدر به "أن" مع معموليها هو المصدر الصريح المأخوذ إما من خبرها إن كان اسما مشتقا، أو فعلا متصرفا، وإما من الاستقرار والوجود إن كان الخبر ظرفا وجارا مع مجروره، وإما هو الكون المضاف لاسمها إن كان الخبر جامدا. وتفصيل هذا وإيضاحه قد سبق في "ب" من باب: الموصول" ص 414.
2 رجل غير طائل: حقير خسيس.(1/642)
العربىِّ للعروبة ... وهكذا كل جملة تتطلب اسماً لها، ولا سبيل لإيجاده إلا من طريق مصدر منسبك من "أنّ" مع معموليها.
ومن الأمثلة غير ما سبق: "حَقا، أنك متعلمٌ رَفْعٌ لقدرك" - "المعروف أن التعلم نافع". فالمصدر المؤول فى الجملة الأولى مبتدأ، والتقدير: تَعَلمُك رفعٌ لقدرك حقا1، أما فى الجملة الثانية فهوخبر، والتقدير: المعروف نَفْعُ التعلم.
ومثله المصدر المؤول بعد: "لولا" حيث يحب فتح همزة "أنّ" نحو: لولا أنك مخلص لقاطعتك. والتقدير: لولا إخلاصك حاصل لقاطعتك.
ومما سبق نعلم أن المصدر المؤول يجئ لإكمال النقص، فيكون فاعلا، أونائبه، أومفعولا به2، أومبتدأ3، أوخبراً4. وقد يكون غير ذلك5. كما نفهم المراد من قول النحاة: يجب فتح همزة: "أن" إذا تحتم تقديرها مع معموليها بمصدر يقع فى محل رفع، أونصب، أوجر6.
__________
1 انظر ما يختص بكلمة: "حقا" في: "د" من ص 647.
2 بشرط أن يكون المفعول به غير محكي بالقول.
3 انظر "الملاحظة" التي في رقم 4 من هامش ص 410 حيث النص على عدم وقوع "أن المصدرية" بنوعيها "المخففة من الثقيلة، والناصبة للمضارع" مع صلتها مبتدأ يستغنى عن الخبر بحال سدت مسده.
4 عن اسم معنى.... "راجع الزيادة والتفصيل رقم 1 في ص 646".
5 مما سيجيء في "جـ" من ص 645 وما بعدها. إلا في اشياء توضيحها هناك.
6 وفيما سبق يقول ابن مالك:
وهمز: "إن" افتح لسد مصدر ... مسدها، وفي سوء ذاك اكسر
أي: افتح همزة "إن" لسد المصدر مسدها مع معوليها.(1/643)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ا- "أنّ" - مفتوحة الهمزة، مشددة النون - معناها التوكيد - كما شرحنا - وهى مع اسمها وخبرها تؤول بمصدر معمول لعامل محتاج له، فمن الواجب أن يكون الفعل - وغيره مما هى معمولة له - مطابقاً لها فى المعنى؛ بأن يكون من الألفاظ الدالة على العلم واليقين؛ لكيلا قع التعارض والتناقض بينهما "أى: بين ما يدل عليه العامل، وما يدل عليه المعمول" وهذا هوما جرت عليه الأساليب الفصيحة حيث يتقدمها ما يدل2 على اليقين والقطع: مثل: اعتقدت، علمت، ووثِقْت، تيقتنت، اعتقادى ... ولا يقع قبلها شئ من ألفاظ الطمع، والإشفاق، والرجاء3 ... مثل: أردت، اشتهيت، وددْتُ ... وغيرها من الألفاظ التى يجوز أن يوجد ما بعدها أولا يوجد؛ والتى لا يقع بعدها إلا "أنْ" الناصبة للمضارع. وهذه لا تأكيد فيها ولا شبه تأكيد؛ فتقول أرجوأن تحسن إلى الضعيف، وأرغب أن تعاون المحتاج. وكالتى فى الآية الكريمة: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} . وما ذكرناه فى "أنّ" المشدّدة يسرى على: "أنّ" المفتوحة الهمزة المخففة من الثقيلة؛ فكلاهما فى الحكم سواء، نحوقوله تعالى {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} .
ومن الألفاظ ما لا يدل على اليقين ولا على الطمع والإشفاق ولكن يقع بعده "أنْ" المشددة والمخففة الناسختان كما يقع بعده "أنْ" التى تنصب الفعل المضارع. وذلك النوع من الألفاظ هوما يدل على الظن؛ مثل: ظننت، وحسبت، وخلْت. ومعنى الظن: أن يتعارض الدليلان، ويرجح أحدهما الآخر. وقد يقوى الترجيحُ فيستعمل اللفظ بمعنى اليقين؛ نحوقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم مُلاقو ربهم"
__________
1 راجع هذا في رقم 3 من ص 631 ثم التفصيل في "المصدرية" - ص 678- وقد سبقت سبقت الإشارة إلى "أن المصدرية" مع نظائرها من الحروف المصدرية في ص 407.
2 عند المتكلم.
3 سبق بيان المراد من هذه الألفاظ الثلاثة في رقم 3 من هامش ص 635.(1/644)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يضعف حتى يصير مشكوكاً فى وجوده: كأفعال الرجاء والطمع وألفاظهما الأخرى ...
ب- لا تكون "أنّ" "المفتوحة الهمزة. المشدة النون" مستقلة بنفسها مع معموليها: فلا بد أن تطون معهما جزءاً من جملة أخرى1 ... غير أنه لا يجوز أن يقع المصدر المؤول من: "أن ومعموليها" اسماً لأختها المكسورة الهمزة2. فإذا أريد ذلك وجب الفصل بينهما بالخبر، فيتقدم بشرط أن يكون شبه جملة3 نحو: إن عندى أن التجربة خيرُ مرشد. إن فى الكتب السماوية أن الرسل هداةٌ للناس ... وقد سبق4 أنه يجوز وقوع "أنّ" مع معموليها اسماً للأحرف الناسخة - ومنها: أن - "أى: أن يكون المصدر المؤول اسماً للحرف الناسخ" بشرط أن يتقدم عليه الخبر شبه الجملة.
حـ - أشرنا5 - فى ص 181 - إلى بعض مواضع المصدر المؤول من "أنّ ومعموليها". وقد يقع فاعلا لفعل ظاهر كما رأينا أومقدر؛ نحو: اسمع ما أنَّ الخطيب يخطب. أى: ما ثبت أن الخطيب يخطب، "مدة ثبوت خطبته" وذلك لأن "ما" المصدرية الظرفية لا تدخل - فى أشهر الآراء - على الجملة الاسمية المبدوءة بحرف مصدرى6. ومثلها العبارة المأثورة: "لا أكلم الظالم ما أنّ فى السماء نجماً. أى: ما ثبت أن فى السماء نجماً ... ".
ومن الفعل المقدر أيضاً أن يقع ذلك المصدر المؤول بع: "لو" الشرطية؛ نحو: لوأنك حضرت لأكرمتك: فالمصدر المؤول فاعل محذوف، والتقدير: لوثبت حضورك ... لأن "لو" شرطية لا تدخل إلا على الفعل فى الرأى المشهور. والأخذ به أولى من الرأى القائل: إن المصدر المؤول مبتدأ خبره محذوف
__________
1 كما أوضحنا في ص 642.
2 أشرنا لهذا في رقم 3 من هامش ص 631.
3 راجع شرح المفصل جـ 8 ص 71.
ويذكرون في سبب المنع أن كل واحدة منهما تفيد التوكيد وحرف التوكيد لا يدخل مباشرة على نظيره. هذا إلى أن دخول إن المكسورة على أختها قد يوقع في الوهم أن المفتوحة الهمزة أضعف في إفادة التوكيد من المكسورة الهمزة، فجيء بهذه لتجبر الضعف، مع أنهما متساويان. وكل هذا تعليل متكلف ومصنوع، وإنما التعليل الحق هو محاكاة العرب الفصحاء.
4 في رقم 3 من هامش ص 631 ثم انظر رقم 4 من هامش ص 410 بعنوان "ملاحظة"
5 في ص 642.
6 إذ الحرف المصري لا يدخل على نظيره لغير توكيد لفظي. "كما سبق في رقم 5 من هامش ص 412".(1/645)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجوباً، أومبتدأ لا يحتاج إلى خبر. لأن فيهما تكلفاً وبعداً1.
وقد يقع ذلك المصدر نائب فاعل، نحوقوله تعالى: {قُلْ أوحِيَ إليّ أنَّهُ اسْتَمَع نَفرٌ منَ الجنّ ... } ، وقد يقع خبراً عن مبتدأ الآن، كالأمثلة السالفة، أوبحسب الأصل: نحو: كان عندى أنك مقيم. لكن يشترط فى المبتدأ الذى يقع خبره هذا المصدر المؤول، ثلاثة شروط:
1- أن يكون اسم معنى؛ نحو: الإنصاف أنك تُسَوّى بين أصحاب الحقوق؛ فلا يصح: الأسد أنه ملك الوحوش، بفتح الهمزة. بل يجب كسرها - كما سيجئ2-.
2- وأن يكون غير قول3؛ فلا يجب الفتح فى مثل: قولى: أن البطالة مهلكة.
3- وأن يكون محتاجاً للخبر المؤول من "أنّ" ومعموليها ليكمل معه المعنى الأساسى للجملة، من غير أن يكون المبتدأ داخلا فى معنى الخبر؛ "أى: من غير أن يكون معنى الخبر صادقاً عليه"، نحو: اعتقادى أنك نزيه. فكلمة: اعتقادى. مبتدأ يحتاج إلى خبر يتمم المعنى الأساسي. فجاء المصدر المؤول ليتممه. والتقدير: "اعتقادى نزاهتك"، فالخبر هنا يختلف فى معناه عن المبتدأ اختلافاً واضحاً. فإن كان المصدر المؤول من: "أن مع معموليها" ليس هومحط الفائدة الأصلية، "أى: ليس المقصود بتكملة المعنى الأساسى؛ كأن يكون معناه منطبقاً على المبتدأ وصادقاً عليه" فإنه لا يعرب خبراً، بل الخبر غيره. كما فى المثال السابق وهو: "اعتقادى أنك نزيه" إذا لم يكن القصد الإخبار بنزاهته والحكم عليها بها، وإنما القصد الإخبار بأن ذلك الاعتقاد حاصل واقع؛ فيكون المصدر المؤول مفعولا به للمبتدأ، والخبر محذوف؛ والتقدير - مثلا - اعتقادى نزاهتَك حاصل أوثابت....، والمصدر المؤول فى هذا المثال ينطبق على المبتدأ، ويصدق عليه؛ لأن النزاهة هنا هى: الاعتقاد، والاعتقاد هوالنزاهة ... و ...
__________
1 بيان الأسباب في جـ 2 ص 140 م 69 باب: "الاشتغال" - وفي باب: "لو" من الجزء الرابع.
2 في رقم 6 من ص 651.
3 حكم الواقعة بعد قول موضح في رقم 4 من ص 650 و 5 من ص 655.(1/646)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يقع المصدر المؤول مفعولا لأجله؛ زرتك أنى أحبك، أومفعولا معه، نحو: يسنرى قعودك هنا، وأنك تحدثنا. أومستثنى؛ نحو: ترضينى أحوالك، إلا أنك تخلفَ الميعادَ. ويقع مضافاً إليه بشرط أن يكون المضاف مما يضاف إلى المفرد، لا إلى الجملة؛ مثل: سرنى عملك غير أن خطك ردئ. أى: غير رداءة خطك. فإن كان المضاف مما يضاف إلى الجملة وحدها وجب كسر الهمزة؛ مثل: حضرت حيث إنك دعوتنى، بكسر همزة: "إن" مراعاة للرأى الذى يحتم إضافة "حيث" للجمل، دون الرأى الآخر الذى يبيح إضافتها لغير الجملة فيبيح فتح همزتها.
ومثل المواضع السابقة ما عطف عليها؛ نحوقوله تعالى: { ... اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ ... } فالمصدر المؤول وهو"تفضيلى" معطوف على المفعول به: "نعمة"، وكذلك ما أبدل منها؛ نحوقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم ... } ، فالمصدر المؤول، وهو: استقرارها وكونها ... بدل من إحدى. وهكذا ...
ولا يكون هذا المصدر المؤول مفعولا مطلقاً، ولا ظرفاً، ولا حالا، ولا تمييزاً ولا يسدد مسد "مفعول به" أصله خبر عن ذات1، نحو: ظننت القادم إنه عالم. فلوفتحت الهمزة لكان المصدر المؤول من: "أنه عالم"؛ مفعولا ثانياً للفعل: "ظننت" مع أن أصل هذا المفعول خبر عن كلمة: "القادم" فيكون التقدير "القادم علِمْ" فيقع المعنى خبراً عن الجنة2، وهذا مرفوض هنا إلا بتأويل لا يستساغ مع أنّ.
د- من الأساليب الفصحية: "أحقًّا أنَّ جيرتَنا استَقَلُّوا3.... يريدون، أفى حق أن جيرتنا استقلوا. فكلمة: "حقًّا" ظرف زمان4 - فى الشائع -، والمصدر المنسبك من "أنّ" مع معموليها مبتدأ مؤخر. ولهذا وجب فتح همزة "أن". أى: أفى حق استقلال جيرتنا.
__________
1 جثة.
2 المانع الحق: هو استعمال العرب الفصحاء، وكراهتهم فتح الهمزة في مثل هذا الموضع.
3 بمعنى: أحقا أن جيراننا ارتحلوا. "والجيرة" جمع: جار.
4 كما في الخضري والتصريح، آخر باب: "الظرف" والظرفية هنا مجازية. وبيان هذا في باب: الظرف" جـ ص 256 "هـ" م 79.(1/647)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويصح أن تكون كلمة؛ "حقًّا"، مفعولا مطلقاً محذوف تقديره: حَقَّ "بمعنى: ثَبَت" والمصدر المنسبك فاعله، أى: أحق حقًّا استقلال جيرتنا؟ وأحياناً يقولون: "أمَا أنّ جيرتنا استقلوا". فكلمة: "أمَا" "بتخفيف الميم"1 بمعنى: حقًّا، ويجب فتح همزة "أن" بعدها.
وخير ما ارتضوه فى إعرابها: أنها مركبة من كلمتين؛ فالهمزة للاستفهام. "ما" ظرف، بمعنى: شئ. ويراد بذلك الشئ: "حق" فالمعنى: "أحقًّا" وكلمة: "إما" مبنية على السكون فى محل نصب، وهى خبر مقدم، والمصدر المؤول مبتدأ مؤخر2.
هـ- قد يَسُدّ المصدر المؤول من أنّ ومعموليها مسد المفعولين إن لم يوجد سواه، نحو: ظننت أن بعض الكواكب صالح للسكنى. وكذلك فى كل موضع تحتاج فيه الجملة إلى ما يكمل نقصها فلا جد غيره، مع عدم مانع يمنع منه ...
و أشرنا من قبل3 إلى وقوع: "أنَّ" المفتوحة الهمزة المشددة النون - للترجى، فتشارك "لعل" فى تأدية هذا المعنى وتحتاج إلى جملة اسمية بعدها؛ فترفع المبتدأ وتنصب الخبر ولا بد أ، يكون لها الصدارة فى جملتها. ولا يصح أن تسبك مع ما بها بمصدر مؤول؛ فهي تخالف "أنَّ" المفتوحة الهمزة، المشددة النون التى معناها التوكيد فى أمور: فى المعنى، وفى وجوب الصدارة، وفى منع السبك بمصدر مؤول.
__________
1 إذا كانت "أما" - مخففة الميم- حرف استفتاح وجب كسر همزة: "إن" بعدها.
- كما سيجيء في ص 649 وفي رقم 3 من ص 657 -.
2 الكلام على هذا الأسلوب في جـ2 ص 256 "هـ" م 79.
3 في رقم 5 من ص 504 حيث الإيضاح. وله إشارة في رقم 3 من هامش ص 637.(1/648)
الحالة الثانية:
يجب كسر همزة: "إن" فى كل موضع لا يصح أن تسبك فيه مع معموليها بمصدر؛ يجب الكسر فيما يأتى:
"1" أن تكون فى أول جملتها حقيقة، نحو: {إنَّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً} ، وقول الشاعر يمدح محسناً:
يُخفِى صنائعَه، واللهُ يُظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرَا
وتعتبر فى أول جملتها حكماً إذا وقعت بعد حرف من حروف الاستفتاح1؛ مثل: ألاَ، وأَمَا2، نحو: ألاَ إن إنكار المعروف لؤم - أمَا إن الرشوة جريمة من الراشى والمُرتشى. ومثلهما الواوالتى للاستئناف، كقول الشاعر:
وإنى شِقِىٌّ باللئام ولا ترى ... شَقِيًّا بهم إلا كريمَ الشمائِل
وكذلك كل واوأخرى تقع بعدها جملة تامة.
فإن سبقها شىء من جملتها وجب الفتح، نحو: عندى أن الدّين وقاية من الشرور وهكذا3 ...
"2" أن تقع فى جملة الصلة، بحيث لا يسبقها4 شئ منها؛ نحو: أحترم الذى "إنه عزيز النفس عندى."، وكذلك فى أول جملة الصفة التى موصوفها اسم ذات؛ نحو: أحِبُّ رجلا "إنه مفيد". وفى: أول جملة الحال أيضاً؛ نحو: أجِلُّ الرجلَ "إنه يعتمد على نفسه" وأُكْبِرُهُ "وإنه بعيد من الدنايا".
"3" أن تقع فى صدر جملة جواب القسم وفى خبرها اللام؛ سواء أكانت جملة القسم اسمية؛ نحو: لعمرك إن الحذر لمطلوب، أم كانت فعلية فعلُها
__________
1 حرف يدل على بدء الكلام، وعرض جملة جديدة، والتنبيه على أن هذا الكلام هام ومؤكد عنه المتكلم. "2" "انظر رقم 3 من ص 657" ثم "ب" من ص 708 وفي رقم 1 من هامش ص 648.
3 ولصدارتها في الجملة صور أخرى كالتي تجيء في ص 652.
4 فإن وقعت حشوا "كأن سبقها شيء من جملة الصلة" لم تكسر، نحو: جاء الذي عندي أنه فاضل. ومنه: لا أفعله ما أن في السماء نجما. أي: ما ثبت أن في السماء نجما- وقد سبق بيان هذا في "حـ" من ص 645 -.(1/649)
مذكور؛ نحو: أحلف بالله إن العدلَ لمحبوب. أوغير مذكور، نحو: والله إن الظلم لوخيم العاقبة".
فإن لم تقع فى خبرها اللام لم يجب1 كسر الهمزة إلا إذا كانت جملة القسم جملة فعلية فعلها محذوف؛ نحو: والله إن السياحة مفيدة.
يتضح مما سلف أن الكسر واجب فى كل الحالات التى تظهر فيها اللام فى خبر "إنّ". وكذلك فى الحالة التى تحذف فيها تلك اللام من الخبر بشرط أن تكون جملة القسم فعلية، قد حذف فعلها.
"4" أن تقع فى صدر جملة محكيَّة بالقول "لأن المحكىّ بالقول لا يكون إلا جملة، - فى الأغلب - بشرط ألا يكون القول بمعنى الظن1". فتكسر وجوباً فى مثل: قال عليه السلام: "إن الدّين يُسْرٌ". ويقول الحكماء: "إن المبالغة فى التشدد مَدْعاةٌ للنفور"، "فقل للمتشددين: "إن الاعتدال خير""، وكذلك فى الشطر الثانى من بيت الشاعر:
تُعَيّرنا أنَّا قليلٌ عَدِيدنا ... فقلتُ لها: إنّ الكرام قليلُ
فإن وجد القول ولم تكن محكية به بل كانت معمولة لغيره لم تكسر، نحو: أيها العالمُ، أخُصّك القول؛ إنك فاضل؛ أى: لأنك فاضل؛ فالمصدر المؤول معمول للام الجر، لا للقول. وكذلك لا تكسر إن كان القول بمعنى: الظن، بقرينة تدل على هذا المعنى فيعمل عمله فى نصب مفعولين. - نحو: أتقول المراصدُ أن الجوبارد فى الأسبوع المقبل؟ أى: أتظن3 "فتفتح مع أنها مع معموليها معمولة للقول؛ لأن القول هنا بمعنى "الظن" ينصب مفعولين فيكون المصدر المؤول منها ومن معموليها فى محل نصب يسدُّ مسدَّ المفعولين ... "
__________
1 وإنما يجوز الأمران، طبقا للبيان الذي سيجيء في رقم 2 من مواضع الفتح والكسر ص 653.
2 ولا الاعتقاد أيضا.. فلا بد من أمرين:، أن تكون الجملة معمولة للقول، وأن "القول" ليس بمعنى: "الظن ولا الاعتقاد". ولا بد كذلك ألا يكون مبتدأ داخلا في الحالة الخامسة الآتية في ص 655
3 الدليل على أن القول هنا بمعنى. "الظن" أن المراصد حين تتكهن بما سيقع في المستقبل - ولا سيما المستقبل البعيد - لا تملك الدليل القاطع على صحته، على أنه سيتحقق حتما، فقد يقع أو لا يقع. أما تفصيل الكلام على القول بمعنى الظن وأحكامه. فيجيء في أول جـ 2 باب: "ظن وأخواتها".(1/650)
"5" أن تقع بعد فعل من أفعال القلوب1 وقد علِّق عن العمل، بسبب وجود لام الابتداء فى خبرها؛ نحو: علمت إن الإسراف لطريق الفقر. فإن لم يكن فى خبرها اللام2 فتحت أوكسرت. نحو: علمت إن الرياءَ بلاءٌ - بفتح الهمزة، أوكسرها3.
"6" أن تقع خبراً عن مبتدأ اسم ذات؛ نحو: الشجرة إنها مثمرة4 وقد يدخل على هذا المبتدأ ناسخ؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا5 وَالصَّابِئِينَ 6 وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ 7 وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ 8 اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ 9 ... } .
__________
1 سيجيء في باب: "ظن وأخواتها"، أول الجزء الثاني - تفصيل الكلام على أفعال القلوب التي تنصب مفعولين. والذين يعنينا الآن هو: "الفاعال القلبية. المتصرفة التي يدخلها التعليق، "وهو ترك العمل لفظا دون معنى، لمانع"، فتكون في ظاهرها غير ناصبة المفعولين"، أو لأحدهما، بسبب ذلك المانع ولكنها في الحكم والتقدير ناصبة. نحو: "ظننت لطائر مغرد" فالجملة من: "طائر مغرد" مكونة من مبتدا وخبر، في محل نصب، قد سدت مسد المفعولين للفعل: "ظننت" ولم ينصبهما لفظا، لاعتراض ماله صدر الكلام، وهو هنا: "لام الابتداء".
وأشهر أفعال القلوب التي يلحقها التعليق: "رأي - علم - وجد - دري...." وهذه أفعال تدل على اليقين "وخال - ظن - حسب - زعم - عد - حجا - جعل....." وهذه أفعال تدل على الرجحان.
2 يقول النحاة إن السبب في التعليق هو وجود لام الابتداء، لأن لها الصدارةفي جملتها فتمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها. وهنا تأخرت اللام وزحلقت عن مكانها، لوجود "إن" التي لها الصدارة أيضا أنظر البيان رقم 2 من هامش ص 659 والعلة الحقيقية في تأخيرها هي السماع عن العرب.
3 كما سيجيء في رقم 3 من ص 354 فالفتح على اعتبار الفعل غير معلق، والكسر على اعتباره معلقا، أداة التعليق هي: "إن" مكسورة الهمزة، إذ لها الصدارة في جملتها، وكل ما له الصدارة يعد من أدوات التعليق - كما عرفنا - راجع الصبان جـ 2 من في هذا الموضع.
4 لوفتحت لكان المصدر المؤول خبرا عن الجثة، والتقدير، "الشجرة إثمارها" وهو غير المعنى المطلوب، ولا يتحقق هنا إلا بتكلف لا داعي له، أو بتخريجه على المجاز ونحوه ...
5 كانوا يهودا.
6 المتنقلين بين الأديان، أو: هـ عبدة النجوك.
7 الذين يبعدون النار.
8 فكلمة "الذين الأولى، أصلها مبتدأ قبل دخول الناسخ: "إن" ثم صارت اسمه. وجملة إن الله يفصل بينهم، "وهي مكونة من إن ومعموليها" - في محل رفع خبر "إن" الأولى.
9 وفي مواضع كسر همزة "إن" يقول ابن مالك:
فاكسر في الابتدا، وفي بدء صلة ... وحيث "إن" ليمين مكمله
أي: اكسر همزة "إن" إذا وقعت في ابتداء جملتها، أو حيث تكون مكملة لليمين، بأن تقع في صدر جملة جواب القسم - على التفصيل الذي شرحناه - ثم قال:
أو حكيت بالقول، أو حلت محل ... حال، كزرته، وإني لذو أمل
وكسروا من بعد فعل علقا ... باللام، كاعلم إنه لذو تقي(1/651)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ا- يَعْدّ بعض النحاة مواضع أخرى للكسر، منها: أن تقع "إنَّ" بعد كلمة "كلاّ" التى تفيد الاستفتاح؛ نحو: قوله تعالى: "كلاَّ، إن الإنسان لَيَطْغَى، أنْ رآه اسْتغنى ... ".
أويقع فى خبرها اللام من غير وجود فعل للتعليق؛ نحو: إن ربك لسريع العقاب.
أوتقع بعد "حتى" التى تفيد الابتداء نحو: يتحرك الهواء، حتى إن الغصون تتراقص - تفيض الصحراء بالخير، حتى إنها تجود بالمعادن الكثيرة.
والتوابع لشئ من ذلك؛ نحو: إن النشاط محمود وإن الخمول داء ...
والحق أن هذه المواضع ينطبق عليها الحكم الأول، وهوأنها واقعة فى مصدر جملتها؛ فلا يمنع من الحكم لها بالصدارة أن يكون لجملتها نوع اتصال معنوى - لا إعرابىّ - بجملة قبلها؛ كمثال: "حتى" السابق ... "وكلاَّ"، فى بعض الأحيان. أما اتصالها الإعرابىّ فيمنع كسرها إن كان ما قبلها محتاجاً إلى المصدر المؤول منها مع معموليها احتياجاً لا مناص منه، كما سبق.(1/652)
الحالة الثالثة:
جواز الأمرين "أىْ: فتح همزة "إنّ" وكسرها." وذلك فى مواضع، أشهرها:
"1" أن تقع بعد كلمة: "إذا" الدالة على المفاجأة1، نحو: استيقظت فإذا إن الشمس طالعة، وفتحت النافذة، فإذا إن المطر نازل. فالكسر على اعتبار: "إذا" حرف - تبعاً للرأى الأسهل - مع وقوع "إن" فى صدر جملتها الاسمية المصَرّح بطرفيها؛ بأن يُذْكر بعدها اسمها وخبرها. والفتح على اعتبار "إذا" حرف أيضاً والمصدر المؤول من "أنّ" مع معموليها فى محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: استيقظت فإذا طلوع الشمس حاضر، وفتحت النافذة فإذا نزول المطر حاضر ... ويجوز اعتبار "إذا" الفجائية ظرف زمان أومكان أيضاً، خبراً مقدماً. والمصدر المنسبك من "أنّ" ومعموليها مبتدأ مؤخر، والتقدير ففى المكان أوفى الوقت طلوع الشمس حاضر، أونزول المطر ...
"2"أن تقع فى صدر جملة القسم، وليس فى خبرها اللام؛ بشرط أن تكون جملة القسم اسمية؛ نحو: لعمْرك إن الرياء فاضحٌ أهلَه، أوفعلية فعلها مذكور؛ نحو: أقسم بالله أن الباغىَ هالكٌ ببغيه. بفتح الهمزة وكسرها فيهما، "فإن كان فعل القسم محذوفاً فالكسر واجب - كما سبق2 -؛ نحو: بالله إن الزكاة طهارة للنفس". فالكسر بعد جملة القسم الاسمية فى المثال الأول هوعلى اعتبار: "إنّ" فى صدر جملة؛ لأنها مع معموليها جملة الجواب لا محل لها من الإعراب. والفتح هوعلى اعتبار المصدر المؤول منصوب على نزع الخافض3 فهو مجرور بحرف جر محذوف،
__________
1 أي: هجوم الشيء ووقوعه بغتة. والكلام على: "إذا" الفجائية بحرف جر محذوف، من هامش ص 508.
2 في رقم 3 من ص 649.
3 أي: بتقدير حرف جر نزع من مكانه وحذف، فنصب الاسم المجرور بعده - مفعولا به - ليكون نصبه بغير عامل نصب دليلا على المحذوف، هذا تقديرهم الإعرابي الشائع. ولا مانع أن يكون المصدر المؤول مبتدأ خبره محذوف، والجملة جواب القسم مباشرة.
وأصل جواز الفتح والكسر هنا راجع - كما جاء في الهمع - إلى الخلاف في جملة القسم والمقسم عليه، أإحداهما معمولة للأخرى فيكون المقسم عليه مفعولا به، أو بمنزلة المفعول به لفعل القسم، أم لا؟ فمن قال: "نعم" فتح، لأن هذا حكم "إن" إذا وقعت مع معموليها مفعولا به. ومن قال: "لا"، وأن جملة القسم تأكيد القسم عليه من غير عمل فيه، كسر، ومن جوز الأمرين أجاز الوجهين.(1/653)
وشبه الجملة سَد مَسَد جواب القسم، لا محل له. وليس جوابا أصيلا 1 والتقدير: لعمرك قسمى على فضيحة الرياء أهلَه. وكذلك فى المثال الثانى بعد فعل القسم المذكور، فالكسر على اعتبار "إن" مع معموليها جملة الجواب لا محل لها، والفتح على اعتبار المصدر المؤول مجروراً بحرف جرّ محذوف؛ والتقدير: أقسم بالله على هلاك الباغي ببغيه. ويكون الجار مع المجرور قد سد مسد جملة الجواب؛ وأغْنَى عنه - كما سبق -. وليس جوابا أصيلا1، ولم تقع "أن" في صدره.
"3" أن تقع بعد فعل من أفعال القلوب، وليس فى خبرها اللام، - طبقاً لما تقدم بيانه2 -؛ نحو: علمت أن الدِّين عاصمٌ من الزلل.
"4" أن تقع بعد فاء الجزاء3، نحو: مَن يرضَ عن الجريمة فإنه شريك فى الإساءة. فكسر الهمزة على اعتبار "إنّ" مع معموليها جملة فى محل جزم جواب أداة الشرط: "منْ". وفتح الهمزة على اعتبار المصدر المؤول من أن ومعموليها فى محل رفع مبتدأ، خبره محذوف، أوخبر مبتدؤه محذوف. والتقدير: من يرض على الجريمة فشركته فى الإساءة حاصلة، أو: فالثابت شركته فى الإساءة ...
__________
"1 و1" إنما سد مسد الجواب ولم يكن الجواب مباشرة لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة، ولن يترتب على الخلاف في التسمية أثر في المعنى أو في صياغة الأسلوب، فهو خلاف شكلى محض.
2 في رقم 5 من ص 651.
3 هي الفاء الواقعة في صدر جواب الشرط وجزائه، "أي: في صدر النتيجة المترتبة على تحقق فعل الشرط".
وليس من اللازم أن تكون هذه الفاء داخلة في جواب أداة شرط، فقد تكون داخلة على شيء يشبه الجواب لأداة تشبه الشرط في "العموم والإبهام"، كاسم الموصول، وغيره مما سبقت له إشارة في رقم 4 من ص 393 أما البيان ففي م1 4ص 535 ومن الأمصلة قوله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ... " فيجوز في أن" الثانية الفتحة أو الكسر. و"ما" موصولة وليست شرطية: لأن الشرطية لها الصدارة فلا تدخل عليها النواسخ، والعائد محذوف، والتقدير: غنمتموه..... فعلى كسر همزة "إن" تكون جملتها هي الخبر، وعلى الفتح يكون المصدر المؤول منها مع معموليها. مبتدأ خبره محذوف، أي: فكون خمسه لله ثابت، أو يكون خبرا لمحذوف، أي: فالواجب كون خمسه لله، والجملة خبر "إن" الأول. "راجع حاشية الخضري في هذا الموضع".(1/654)
"5" أن تقع1 بعد مبتدأ هوقول، أوفى معنى القول2، وخبرها قول، أوفى معناه أيضاً، والقائل واحد، نحو: قولى: "إنى معترف بالفضل لأصحابه، وكلامى: إنى شاكر صنيع الأصدقاء". فقولى - وهوالمبتدأ - مساوفى مدلوله لخبر "إن" وهو: معترف بالفضل، وخبر "إن" مساوية فى المداول كذلك؛ فهما فى المراد متساويات، وقائلهما واحد، وهو: المتكلم.
كذلك: "كلامى"، مبتدأ؛ معناه معنى خبر "إن": "شاكر صنيع الأصدقاء" وخبر "إن" معناه معنى المبتدأ؛ فالمراد منهما واحد، وقائلهما واحد. وهمزة "إنّ" فيهما يجوز كسرها عند قصد الحكاية؛ أى: ترديد الألفاظ ذاتها فتكون "إن" فيهما يجوز كسرها عند قصد الحكاية؛ أى: ترديد الألفاظ ذاتها فتكون "إن" مع معموليها جملة. وقعت خبراً3. ومع أنها محكية بالقول نصا تعرب فى محل رفع خبر المبتدأ، ويجوز فتح الهمزة ذا لم تُقصَد "الحكاية"؛ وأنما يكون المقصود هوالتعبير عن المعنى المصْدرىّ من غير تقيد مطلقاً بنَصّ العبارة الأولى المعينة، ولا بترديد الجملة السابقة بألفاظها الخاصة فيكون المصدر المؤول من أن مع معموليها فى محل رفع خبر المبتدأ، والتقدير: قولى، اعترافى بالفضل لأصحابه، وكلامى، شكرى صنيع الأصدقاء.
فإن لم يكن المبتدأ قولا أوما فى معناه وجب الفتح، نحو: عملى أنى أزرع الحقل. والمصدر المنسبك خبر المبتدأ. ويجب الكسر إن لم يكن خبر "إن" قولا أوما فى معناه، مثل كلمة: "مستريح4" فى نحو: قولى إنى مستريح. أولم يكن قائل المبتدأ وخبر "إن" واحداً؛ فلا يتساوى مدلول
__________
1 يراعي الفرق بين هذه الصورة والأخرى "رقم4" السابقة في ص 650.
2 الذي في معنى القول هو ما يدل دلالته من غير لفظه، مثل: كلام.....، حديث.... نطق،...... ولا يراد هنا القول" بمعنى: "الظن" وعمله، فقد سبق حكمه في رقم 4 من ص 650 وأنه الفتح.
3 وكأنك قلت في المثالين السالفين عند كسر الهمزة. "قول هذا اللفظ - كلامي هذا اللفظ" أي: هذا النص بحروفه وهنا يقول الصبان: إن المراد: "حكاية لفظ الجملة - أي: الإتيان بها" بلفظها، وليس المراد أنها مقول القول".
4 خير الصور التي توضح هذا الحكم أن يكون خبر "إن" ليس شاملا بمعناه المبتدأ، ولا منطبقا عليه بمدوله، كالاستراحة في المثال المذكور:، فإن معناها لا يشمل القول ولا يتضمنه ولا ينطبق مدلولها عليه ومثل هذا يقال في الحالة الثانية، لأن صاحب الصراخ ليس هو صاحب الكلام الواقع مبتدأ،
4 ومن أمثلتهم لانتفاء القول الثاني: "قولي إني مؤمن" لا يصح الفتح، لأن الإيمان لا يخبر به عن القول، لأن الإيمان مصدره القلب، والقول مصدره اللسان.(1/655)
المبتدا والخبر، ولا يتوافقان؛ نحو: كلامى إن المريض يصرخ. ففى هاتين الحالتين يجب كسر الهمزة، وتكون "إنّ" مع معموليها جملة فى محل رفع خبر المبتدأ1. ....
__________
1 أنظر بعض المواضع الأخرى في الصفحة الآتية، ثم "الملاحظة" المفيدة التي في ص 658.
ومما سبق نفهم كلام ابن مالك في جواز الأمرين حيث يقول في اختصار:
بعد إذا فجاءة، أو قسم ... لا لام بعده - بوجهين نمي
"يريد: نعي - أي: نقل عن السابقين، ونسب إليهم - الوجهان، وهما: الفتح والكسر" بعد إذا فجاءة، وبعد قسم لا لام في جملة جوابه، ثم قال:
مع تلو "فا" الجزا، وذا يطرد ... في نحو: "خير" القول إني أحمد
أي: "ومع تلو فاء الجزاء" فكلمة: "مع" معطوفة على كلمة "بعد"، التي في أول البيت السباق بحرف العطف المحذوف، وهو: الواو: يريد، بعد إذا فجاءة، ومع تلو فاء الجزاء، ثم قال: إن هذا الحكم بجواز الأمرين مطرد في كل أسلوب على شاكلة: "خير القول إني أحمد"، وهذه الحالة الرابعة في كلامه هي الخامسة التي شرحناها. ويلاحظ في مثاله أن المبتدأ كلمة: "خير" ليس قولا، ولكنه مضاف للقول، فهو بمنزلته.(1/656)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ا- سرد بعض النحاة مواضع أخرى يجوز فيها الأمران، ومن الممكن الاستغناء عن أكثرها؛ لفهمها مما سبق. فمما سردوه.
"1" أن تقع "أنّ" مع معموليها معطوفة على مفرد لا يفسدُ المعنى بالعطف عليه. نحو: سرّنى نبوغك، وإنك عالى المنزلة. فيجوز فتح همزة: "أنّ" فيكون المصدر المؤول معطوفاً على نبوغ، والتقدير: سرنى نبوغك وعلومنزلتك. والمعنى هنا لا يفسد بالعطف. ويجوز كسر الهمزة فتكون "إن" فى صدر جملة مستقلة. ومثال ما يفسد فيه المعنى بالعطف فلا يصح فتح الهمزة: لى بيت، وإن أخى كثير الزروع. فلوفتحت الهمزة لكان المصدر المؤول معطوفاً على "بيت" والتقدير: لى بيت وكثرة زروع أخى، وهومعنى فاسد، لأنه غير المراد إذا كان المتكلم لا يملك شيئاً من تلك الزروع. ومثله ما نقله النحاة: "إن لى مالا. وإن عمْراً ناضل" إذ يترتب عليه أن يكون المعنى: إن لى مالا وفضل عمْرو. وهومعنى غير المقصود.
"2" أن تقع بعد "حتى"، فتكسر بعد "حتى" الابتدائية - كما سبق1 - فى مثل: تتحرك الريح حتى إن الغصون تتراقص ... لوقوعها فى صدر جملة. وتفتح إذا وقعت بعد "حتى" العاطفة، أوالجارة، نحو: عرفت أمورك حتى أنك مسابق، أى: حتى مسابقتَك، بالنصب على العطف، أوبالجر والأداة فيهما: "حتى".
"3" أن تقع بعد "أمّا" "المخففة الميم"، نحو: أمّا إنك فصيح، فتكسر إن كانت "أمَا" حرف استفتاح وتفتح إن كانت بمعنى: "حقًّا" - كما سبق2 -.
"4" أن تقع بعد. لا جرم3، نحو: لا جرم أن الله ينتقمُ للمظلوم4.
__________
1 في ص 652.
2 في "د" من 647 وفي رقم 1 هامش ص 649.
3 لها إشارة عابرة في "د" من ص 709 باب. "لا النافية للجنس" أما البيان ففي رقم 4 التالي.
4 فالفتح على اعتبار "لا" زائدة، أو ليست بزائدة، وإنما هي حرف جواب لنفي المعنى السابق عليها إذا كان المتكلم غير موافق عليه، و "جرم" فعل ماض بمعنى: "وجب". والمصدر المؤول من أن مع معموليها فاعل للفعل: "جرم". وهذا إعراب سيبويه، وعليه اقتصر أما الفراء فيقول: معنى: =(1/657)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"5" أن تقع فى موضع التعليل، نحوقوله: "إنَّا كنَّا ندعوه منْ قبلُ، إنه هوالبر الرحيم" قرئ بفتح الهمزة، على تقدير لام التعليل؛ أى: لأنه هوالبر الرحيم. وقرئ بكسر الهمزة على اعتبار: "إن" فى صدر جملة جديدة. ومثله قوله تعالى: {وصَلِّ عليهم إن صلاتكَ سكن لهم} . فالفتح على تقدير لام التعليل، أى: لأن صلاتك سكن لهم، والكسر على اعتبار: "إنّ" فى صدر جملة جديدة ...
"6" وقوعها بعد "أىْ" المفسرة؛ نحو: سرنى ابتداعك المفيد، أى: أنك تبتكر شيئا جديداً نافعاً.
"7" أن تقع بعد حيث الظرفية، نحو: أزورك حيث إنك مقيم فى بلدك بفتح الهمزة وبكسرها، فالفتح على اعتبار الظرف: "حيث" داخله على الفرد المضاف إليه وهوالمصدر الأول. والكسر على اعتبارها داخلة على المضاف إليه الجملة، وهذا هوالأفصح؛ إذ الأغلب فى "حيث" أن تضاف للجملة.
ملاحظة: سردنا فيما تقدم مواضع الحالة الثالثة التي يجوز فيها فتح همزة "إن" وكسرها. ومن الممكن الاكتفاء بوضع ضابط عام مركز يشملها جميعا، ويغني عنها، كأن يقال: "يجوز فتح همزة "إن" وكسرها في كل موضع يصلح لاعتبار "إن" في صدر جملتها، ولاعتبارها مؤولة مع معموليها بمصدر مسبوك، أي: يصلح للأمرين".
__________
= "لا جرم"، هو: "لا بد " فلا نافية للجنس و "جرم" أسمها، مبني على الفتح في محل نصب، والمصدر المنسبك من "أن" ومعموليها مجرور بحرف جر محذوف، والخبر محذوف أيضا - وهو متعلق الجار ومجروره - والتقدير: لا جرم من أن الله.... إلخ وهو يجيز كسر الهمزة، ويقول في سببه: إن بعض العرب يجريها مجرى العين، بدليل وجود اللام في قولهم: "لا جرم لآتينك". والأحسن في هذه الحالة أن نعرب "لا" نافية للجنس و "جرم" اسمها متضمنة القسم، وجملة: "لآتينك" هي: جواب القسم، وأغنت عن الخبر.
"راجع حاشية الصبان في هذا الموضع من جواز فتح الهمزة وكسرها"، وستجيء الإشارة لهذا والإفاضة في القسم وجوابه - في موضعه المناسب من الجزء الثاني وهو: "باب "حروف الجر" عند الكلام. على: "حروف القسم".(1/658)
المسألة الثالثة والخمسون: لام الابتداء 1، فائدتها، مواضعها
حين نقول: أصل الماس فحم، أو: بعض الحيوانات بَرِّىٌّ بحْرِىٌّ - قد يشك السامع فى صدق الكلام، أوينكره؛ فنلجأ إلى الوسائل التى ترشد إليها اللغة لتقوية معنى الجملة، وتأكيد مضمونها، وإزالة الشك عنها أوالإنكار. ومن هذه الوسائل تكرار الجملة. لكن التكرار قد تَنفرُ منه النفس أحياناً. فنعدلُ عنه إلى وسائل تكرار الجملة. لكن التكرار قد تَنفرُ منه النفس أحياناً. فنعدلُ عنه إلى وسائل أخرى لها مزية التكرار فى تأكيد معنى الجملة، كالقسم، أو: "إنّ" فنقول: والله أصل الماس فحم. إن بعض الحيوانات برّى بحْرىّ. أو: لام الابتداء وتدخل على المبتدأ كثيراً "ولهذا سميت: لام الابتداء"، نحو: لرجلٌ فقير يعمل، أنفعُ لبلاده من غنى لا يعمل. ليدٌ كاسبةٌ خيرٌ من يد عاطلة. وتدخل على غيره، كخبر "إنّ"، نحو: إنّ أبطال السلام لخير من أبطال الحرب. وهكذا باقى الوسائل التى تؤكد مضمون الجملة، وتقوى معناها.
وهذه اللام مفتوحة، وفائدتها: توكيد مضمون الجملة المثبتة، وإزالة الشك عن معناها المثبت؛ ولذلك لا تدخل على حرف النفي، ولا فعل النفي، ولا على المنفي بأحدهما، ولكنها تدخل على الاسم المفيد لمعنى النفي. مثل: إن المنافق لغير مأمون الصداقة وسميت: "لام الابتداء" لأن أكثر دخولها على المبتدأ أو على ما أصله المبتدأ، نحو: لوالدك أشفق الناس عليك، وإن عنده لخبرة ليست لك، فاستعن برأيه.
وإذا دخلت هذه اللام على الخبر فقد يسميها بعض النحاة: "اللام المزحلقة2".
أما آثارها النحوية فأشهرها: الصدارة في جملتها- غالبا- وأنها إذا دخلت على
__________
1 سبقت الإشارة إليها في رقم 22 من ص 490 ولم تعرض هناك ولم تعرض هناك لآثارها وأحكامها الهامة، محاراة الكثير من النحاة أثروا أن يكون تفصيل ذلك كله هنا.
2 يقولون في سبب التسمية: إن مكانها في الأصل الصدارة في الجملة الاسمية. فلما شغل المكان بكلمة: "إن" وهي التي لها الصدارة أيضا، كلام الابتداء والتي تفيد التوكيد مثلها، والتي تمتاز بأنهاعاملة - تقدمت، وزحلقت اللام من مكانها الذي تكثر فيه إلى مكان بعده - في الغالب - هو الخبر. لكن السبب الحق هو استعمال العرب. لهذا إشارة في رقم 2 من هامش ص 651 -.(1/659)
المضارع خلصت زمنه للحال، نحو: إن العصفور ليغرد، أي: الآن في وقت الكلام - وهذا إن لم توجد قرينة تدل على غير الحال، كالقرينة الدالة على الاستقبال، في قوله تعالى: {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة.... " لأن يوم القيامة لم يجيء بعد، فهي تعين المضارع للحال إن كان مبهما خاليا من قرينة لغير الحال.
مواضع دخولها:
ولها مواضع تدخلها جوازاً، والخلاف فيها شديد، وقد استصفينا منه ما يأتي:
"1" المبتدأ، كالأمثلة السابقة، وكقول الشاعر:
ولَلْبينُ خيرٌ من مُقام على أذًى ... ولَلمتُ خيرٌ من حياة على ذلِّ
"2" الخبر المتقدم على المبتدأ؛ نحو: لصادقٌ أنت.
"3" خبر إنَّ "المكسورة الهمزة، المشددة النون" - دون أخبار أخواتها فى فى الرأى الأصح؛ نحو: إن الشتاء لفصل النشاط، وإنه لموسم السياحة فى بلادنا وقول الشاعر:
إِنَّا - على البِعادِ والتَّفرُّقِ- ... لَنلْتَقِى بالفكر إن لم نَلْتقِ
ولكن يشترط فى خبر "إنّ" الذى تتصدره لام الابتداء ما يأتى:
أن يكون متأخراً عن الاسم، فلا يجوز دخولها فى مثل: إن فيك إنصافاً، وإن عندك ميلاً للحق؛ وذلك لتقدم الخبر2.
وأن يكون مثبتاً؛ فلا يصح: إن العمل لَمَا طال بالأمس. أو: إن العمل لَمَا نفعُهُ قليل. بل يجب حذفها قبل "ما" النافية وغيرها من أدوات النفى الداخلة على خبر "إن". ....3
__________
1 وقد أشار ابن مالك إلى هذه الموضع بقوله:
وبعد ذات الكسر تصحب الخبر ... لام الابتداء، نحو: إني لوزر
يريد "بذات الكسر،" صاحبة الكسر، وهي: "إن" المكسورة الهمزة. و "وزر" أي: ناصر وملجأ لمن يستعين بي.
2 عرفنا "في ص 638" أن الخبر في هذا الباب لا يتقدم على الاسم إلا إن كان شبه جملة.
3 مثل: "لم، لن، لا، لما.... فدخول لام الابتداء عليه غير مسموع. وهذا هو التعليل الصحيح. فوق أن دخولها على هذه الأدوات المبدوءة باللام يثقل النطق بها.(1/660)
ألا يكون جملة1 فعلية فعلها ماض، متصرف. غير مقرون بكلمة: "قَدْ"؛ فلا يصح: "إن الطيارة لأسرعتْ ... 2" بل يجب حذف لام الابتداء. فإن كان الخبر جملة فعلية فعلها ماض غير متصرف جاز - فى غير ليس - دخول اللام وعدم دخولها؛ نحو: إن القطار لنعم وسيلةُ السفر، أونعم وسيلةُ السفر ... وإن إسراع السائق لبِئْس العملُ، أوبئس العملُ. بإدخال اللام على "نعم"، و"بئس" أوعدم إدخالها ...
وكذلك يجوز إن كان الفعل ماضياً متصرفاً، ولكنه مقرون بكلمة: "قد"3 فتصحبها اللام أولا تصحبها؛ نحو: إن العلم لقد رَفع صاحبه، أو: رفع ...
د- ألا تكون الجملة الفعلية شرطية، لأن لام الابتداء لا تدخل على أداة الشرط، ولا على فعله ولا على جوابه.
__________
1 المشهور بين النحاة أن "لام الابتداء" لا تدخل على جملة فعلية "ماضوية أو مضارعية" إلا إذا كانت هذه الجملة خبر إن "مكسورة الهمزة، مشددة النون" دون غيرها من أخواتها، ودون الجمل الفعلية الأخرى التي ليست خبرا، إذ تكون اللام فيها القسم، أو زائدة، أو غير ذلك، "أنظر رقم 2 التالي".
2 في هذا المثال: "إن الطيارة لأسرعت" يجب حذف اللام على اعتبارها للابتداء - كما سبق في رقم 1 - ويجوز إبقاؤها على أنها في جواب قسم، ويجب أن تقوم قرينة دالة على هذا أو ذاك، لأن بين المعنيين اختلافا واضحا، وإلا كان صياغة الأسلوب غير مسايرة للمعنى، فيقع من الفساد في التعبير ما يجب توقيه.
ويقول النحاة في التفرقة بين اللامين: إذا جاءت "إن" وبعدها اللام المصاحبة لمضارع مؤكد بنون التوكيد أو الداخلة على الماضي المتصرف الحالي من: "قد" فإن هذا الكلام تكون لام قسم مقدر، داخلة على جوابه، وليست لام ابتداء، مثل: إن الحازم ليبتعدن عن المساوي - إن الكفء لنال جزاءه. والسبب في الحالة الأولى منع التعارض بين لام الابتداء التي تخلص زمن المضارع للحال ونون التوكيد التي تخلصه للمستقبل. والسبب في الحالة الثانية: أن لام الابتداء - والزمن معها للحال - لا تدخل على الماضي المنصرف الخالي من "قد"، منعا لتعارض الزمنين بينهما. أما المقترن "بقد" فإنها تقرب زمنه من الحال - كما عرفنا في ص 52 - فلا يتعارض مع اللام الابتداء. وهاتان الصورتان يمتنع فيهما كسر همزة: "إن" إذا تقدم عليها عامل يطلب العمل في موضعهما مع معموليها، تقول: علمت أن الحازم ليبتعد عن المساوي. وعلمت أن الكفء لنال جزاءه. لأن هذه اللام - كما سبق القسم وليست للابتداء، فهي في موضعها المتأخر المناسب لها، غير ملحوظ فيها التقديم قبل مجيء: "إن" ذلك التقديم الذي هو أصلها. بخلافها في مثل: علمت أن الحازم لمبتعد عن المساوي، فإنها تكسر معها، لأن هذه اللام للابتداء، وهي من الأدوات التي لها الصدارة، فتعلق الفعل وتوجب كسر همزة "إن" كشأن ماله الصدارة. وهي مقدمة في الأصل والنية، وإنما تأخرت للعلة السابقة، وهي: أنها تفيد توكيد الجملة، و "إن" كذلك، فبقيت هذه، لأصالتها وقوتها بالعمل، وتأخرت تلك، كما يقال، وستأتي هنا فروق أخرى بين اللامين.
3 لأن "قد" تقرب - أحيانا - الماضي من الحال، كما تقرب المستقبل من الحال أيضا.(1/661)
أما إن كان الخبر جملة فعلية فعلها مضارع مثبت1 فيجوز دخول اللام على المضارع المثبت سواء أكان متصرفاً أم غير متصرف تصرفاً2 كاملا، إلا فى حالة واحدة وقع فيها الخلاف؛ هى التى يكون فيها مبدوءاً بالسين، أوسوف. فلا يصح - فى الرأى الأحق - أن تقول: "إن الطائرة لستحضر، أو: لسوف تحضر" بل يجب حذف اللام من هذا المضارع 4المبدوء بالسين، أوسوف ومن أمثلة دخولها قوله تعالى فى أهل الديانات المختلفة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، وقوله عليه السلام: "إن الُعجْبَ5 ليَأكل الحسنات كما تَأكلُ النارُ الحطب".، وقول الشاعر:
إن الكريم6 ليخفي عنك عسرته7 ... حتى تراه غنيا. وهو مجهود8
__________
1 أما المنفي فالأكثر والأفصح الذي يجب الاقتصار عليه هو عدم دخولها عليه. كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} .
2 غير متصرف تصرفا كاملا مثل الفعل: يدع ويذر، على الرأي القائل: بأنه لا ماضي لهما، ولا مصدر. أما المضارع الذي لا يتصرف مطلقا فلا وجود له.
3 لو دخلت عليه لوقع تعارض واضح، لأن لام الابتداء تجعل زمن المضارع للحال. أما "السين" أو "سوف" فتجعل زمنه للمستقبل، فلو اجتمعنا في أول المضارع لا جتمع فيه علامتان متعارضتان، إحداهما تدل على أن زمنه للحال، والأخرى تدل - في الوقت نفسه - على أن زمنه للمستقبل. لكن قد يصح تلاقيهما معا أو لسوف تحضر.... يكون المعنى: إن الطائرة والله لستحضر، أو لسوف تحضر. فاللام لا تجعل زمن المضارع هنا للحال، وإنما تجعله للمستقبل بقرينة السياق، فلا تعارض بينها وبين السين أو سوف- وهذا فرق آخر بين اللامين غير ما في آخر الصفحة السابقة. ومن المهم إدراك الفرق بين الأسلوبين، فلكل منهما معنى يخالف الآخر، فليس الأمر مجرد احتيال لإدخال اللام أو عدم إدخالها، وإنما الأمر الذي له الاعتبار الأول هو المعنى وحده، فإن اقتضى أن يتضمن الكلام قسما جاز مع القرينة - إدخال اللام على الجملة المضارعة المبدوءة بالسين أو سوف، الواقعة جوابا، وإن لم يقتض قسما لم يجز إدخال اللام على تلك الجملة، وإلا كانت اللغة عبثا.
وفي شروط الموضع الثالث من مواضع "لام الابتداء" يقول ابن مالك باختصار:
ولا يلي ذي اللام ما قد نفيا ... ولا من الأفعال ما كر ضيا
أي: لا يقع بعد هذه اللام الخبر المنفي، سواء أكان جملة فعلية أم اسمية كما مثلنا. وكذلك لا يليها الخبر إذا كان جملة فعلية، فعلها ماض، مثل: "رضي" في أنه ماض، مثبت، متصرف، غير مقرون بكملة: "قد" فإن كان مقرونا بكلمة: "قد" جاز أن يليها، مثل: إن ذا لقد سما على العدا مستحوذا، أي: غالبا، مستوليا على ما يريد.
4 أشرنا في رقم 1 من هامش ص 659 إلى أنه قد سبقت لمحة عابرة عن "لام الابتداء" "في رقم 22 من ص 490.
5 الكبر والاختيال.
6 الشريف الأصل.
7 فقره واحتياجه.
8 يقاسي تعب الفقر. ومن الأمثلة أيضا قول الشاعر:
وإني لأستحيي - وفي الحق مسمح ... إذا جاء باغي الخير أن أتعذرا
مسمح: متسع ومندوحة عن الباطل. أتعذر: أعتذر - عن إجابته.....(1/662)
وإن كان الخبر جملة اسمية جاز دخول اللام على مبتدئها - وهوالأنسب - أوعلى خبره؛ نحو: إنّ الكهرَبا لأثرُها عميق فى حياتنا ... أو: إنّ الكهرَبا أثرُها لعميقٌ فى حياتنا.
وإن كان الخبر شبه جملة دخلت عليه أيضا، نحو: إن الذخائر الأدمية لعندك، وإن نفائسها لفي بيتك.
"4" معمول خبر "إنّ" بشرطين: أن يكون هذا المعمول متوسطاً بين اسمها وخبرها4 أوغيرهما من الكلمات الأخرى التى دخلت عليها "إنّ"، وأن يكون الخبر خالياً من لام الابتداء، ولكنه صالح لقبولها. ففى مثل: إن الشدائد مُظهرةٌ أبطالا، وإن المحن صاقلةٌ نفوساً، يصح تقديم معمول الخبر مقروناً بلام الابتداء؛ فنقول: إن الشدائدَ - لأبطالا- مظهرةٌ، وإن المحن - لنفوساً - صاقلةٌ. فإن تأخر المعمول لم يجز إدخال اللام عليه؛ كما فى المثالين السابقين قبل تقديمه.
وكذلك لا يجوز إدخالها عليه إن كان الخبر مشتملا عليها، ففى مثل: إن العزيزَ ليرْفُضُ هواناً - لا يصح: إنّ العزيزّ لهواناً ليرفضُ2.
وكذلك لا يجوز إدخالها عليه إن كان الخبر الحالى منها غير صالح لها؛ كأن يكون جملة فعلية، فعلها ماض، متصرف، غير مقورن بكلمة "قد"؛ ففى مثل: إنّ الحرَّ رَضِىَ كفاحاً - لا يصح أن نقول: إن الحُرَّ لَكِفَاحاً رَضِىَ.
"5" ضمير الفصل3؛ نحو: إن العظمة لهى الترفع عن الدنايا، وإن
__________
1 سواء أتقدم الاسم كالأمثلة المذكورة، أم تقدم الخبر شبه الجملة نحو: إن عندي لفي البيت ضيوفا. ويجوز أن يتقدم على المعمول المقرون باللام معمول آخر خال منها، نحو: "إن عندي لفي الحديقة ضيفا قاعد". فالمراد: أن يتوسط المعمول المقترن باللام بين الألفاظ الواقعة بعد "إن".
2 ولا يجوز دخولها أيضا على المعمول المتقدم إن كان "حالا"، ففي مثل: إن السائح عاد إلى بلده مسرورا، لا يصح: إن السائح لمسرورا عاد إلى بلده، ومثله، التمييز، والمستثنى، والمفعول معه، دون باقي المعمولات. وكل هذا هو أنسب الآراء.
3 سبق تفصيل الكلام على معناه وحكمه وكل ما يتصل به في "242" باب: "الضمير" وهو هنا يتوسط بين اسم "إن" وخبرها.(1/663)
العظيم لهوالبعيد عن الأدناس. وإذا دخلت على ضمير الفصل لم تدخل على الخبر.
"6" اسم "إن" بشرط أن يتأخر ويتقدم عليه الخبر1 شبه الجملة؛ مثل: إن أمامك لمستقبلا سعيدا، وإن فى العمل الحرّ لمجالا واسعاً، وقول الشاعر يخاطب زوجته:
إن من شيمتى لَبذلَ تِلادِى2 ... دون عِرضى. فإن رضيتِ فكونى3
وإذا دخلت على الاسم المتأخر لم تدخل على الخبر4.
__________
1 وقد يبقى الخبر متأخرا ولكن يتقدم معموله على الاسم، نحو: إن في الدار لضيفا منتظر.
2 مالي الأصيل الذي ليس طارئا.
3 فداومي على حياتك معي.
4 وقد أشار ابن مالك إلى الموضع الرابع والخامس والسادس بقوله:
وتصحب الواسط: معمول الخبر ... والفصل، واسما حل قبله الخبر
يريد: أن لام الابتداء تدخل على الواسط، أي: المتوسط. إذا كان معمولا لخبر "إن" وبعبارة أخرى: تدخل لام الابتداء على معمول الخبر إذا كان المعمول متوسطا بين اسم إن وخبرها، وأو بين غيرهما مما يقع بعدها. وكذلك تدخل الفصل أي: ضمير الفصل ... وتدخل اسم "إن " بشرط أن يحل الخبر قبله، بمعنى: يتقدم عليه. ثم أشار بعد ذلك إلى بيت سبق شرحه في مكان أنسب "ص 636" هو:
ووصل: "ما" بذي الحروف مبطل ... إعمالها. وقد يبقي العمل
يريد: أن اتصال: "ما" التي هي حرف زائد - بهذه الحروف الناسخة، - غير الحرف: ليت - يبطل عملها فقط دون معناها، ومتى بطل عملها صارت غير مختصة بالدخول على الجمل اللاسمية، فتصلح للدخول عليها وعلى الجمل الفعلية أيضا."ولا بد من وصلها في الكتابة بالحرف الذي قبلها". ولكن العمل قد يبقي في: "ليت" وحدها، على القول الأرجح الذي يسحن الاقتصار عليه، فيجوز في "ليت" التي بعدها "ما" الحرفية الزائدة - أن تكون عاملة، وأن تكون مهملة. وهي في الحالتين لا تدخل إلا على الجملة الاسمية - كما سبق - و"ما" الزائدة هذه تسمى "ما" الكافة - لأنها كفت - أي: منعت - تلك الحروف عن العمل. ولا تقع بعد "لا" التي للجنس، ولا "عسى" التي بمعنى: لعل.
"كما سبق في رقم 2 من هامش ص 622 ورقم 3 من هامش 628".(1/664)
المسألة الرابعة والخمسون: حكم المعطوف بعد خبر "إن" وأخواتها 1، وحكمه إذا توسط بين المعمولين
إن الأقمارَ دائراتٌ فى الفضاء، والشموسَ.
إنّ الشعر محمودٌ فى مواطنَ - والنثرَ.
إنّ الإهمال مفسدٌ للأعمال - والجهلَ.ُ
إنّ الحديد دِعامة الصناعة - والنِّفْطَ.
كيف نضبط الأسماء التى تحتها خط، وهى: "الشموس - النثر - الجهل - النِّفْط...." وأشباهها من كل اسم تأخر عن "إن" ومعموليها، وكان معطوفاً على اسمها2.....؟
يجوز أمران، النصب والرفع. ويكفى معرفةُ هذا الحكم من غير تعليل3. وبالرغم من جواز الأمرين فالنصب هوالأوضح والأنسب4؛ لموافقته الظاهرية لاسم "إنّ"، أى: للمعطوف عليه؛ فلا عناء معه ولا شبهة.
فإن تأخر خبر "إنّ" وتوسط ذلك المعطوف بينه وبين اسمها - فالأحسن اتباع الرأى القائل بجواز الأمرين أيضاً، وبعدم وجوب النصب. ومع عدم وجوبه وأن النصب غير واجب5 مع أنه الأوضح والأنسب؛ كما سبق.
__________
1 لا تسري الأحكام التالية على "لا" النافية للجنس، فلها أحكام خاصة تجيء في ص 697 و 701 كما سنعرف.
2 قد يكون العطف على غير اسمها مع بقاء الحكم الآتي، وهو، جواز النصب والرفع - كما سنعرف -
3 لا داعي للاهتمام بتعليله، وبمعرفة الآراء المختلفة في سبب النصب والرفع، إذ المقصود الأول من النحو ضبط الألفاظ ضبطا صحيحا يوافق المعنى. وهذا الغرض يتحقق هنا بمعرفة الحكم السالف، والاكتفاء به، لأنه مستنبط من الكلام العربي الأصيل. وحسب المتعلمين هذا.
4 وحبذا الاقتصار عليه فيما ننشيء من أساليب، فتساير الضبط الأوضح، الذي يسهل إدراك سببه وتوجيهه. وما يقال في عطف النسق من جواز الأمرين وإيثار النصب، يقال في بقية التوابع "النعت، وعطف البيان، والتوكيد والبدل"، مثل: إن محمودا قائم، الفاضل - أو: إن محمودا قائم أبو البركات، أو: أبا البركات، أو إن محمودا قائم، نفسه، أو: إن الرايتين قد استحسنتهما، ألوانهما - بالنصب والرف في كل التوابع السالفة، متابعة للرأي الأحسن.
5 وقد تعرض ابن مالك للحالة الأولى وحدها، وفي حالة العطف بعد مجيء الخبر، فقال:
وجائز رفعك معطوفا علي ... منصوب "أن" بعد أن تستكملا
أي: إذا استكملت "إن" معمولها جاز العطف على اسمها - إن اقتضى المعنى ذلك- ويصح في هذا المعطوف إن يكون منصوبا، أو مرفوعا، أما سبب النصب والرفج فيجيء الكلام عليه في هامش الصفحة التالية.(1/665)
وفيما يلي بعض الأمثلة لتأخر الخبر، وتوسط المعطوف:
إن القاهرةَ ودِمَشقَ ُ حاضرتان عظيمتان
إن مكة والمدينةَ ُ مكرَّمان
إنّ العدالة والنصَفَةَ ُ كفيلتان بالأمن والرخاء
إن الظلمَ والاستبدادَ ُ مؤذنان بخراب العُمران
من التيسير الحسن إجازة النصب والرفع فى كل كلمة من: "دمشق - المدينة - النصفة - الاستبداد ... " وأشباهها، مع الانتصار، على معرفة هذا الحكم دون تعليله. فيكون الحكم فى الحالتين واحداً والقاعدة مطردة، سواء أكان المعطوف متقدماً على الخبر متوسطا بينه وبين الاسم، كهذه الأمثلة، أم متأخراً عنهما معا، كالأمثلة الأولى.
__________
1 فتنطبق - في يسر ووضوح- على الحالتين السالفتين، وعلى أحوال أخرى أتعبت كثرة النحاة في توجيهها، لعدم أخذهم بهذه القاعدة السليمة، فلو أن هذه الكثرة لم تتشدد بغير داع لاستراحت وأراحتنا من التعقيد المتعب. لم يختلف النحاة في حكم الحالة الأولى التي يقع فيها المعطوف متأخرا عن: "إن" ومعموليها، وإنما اختلفوا في تعليل النصب والرفع، وفي توجيه كل مهما، وهو خلاف تشعبت الأدلة فيه، ولما كانت الغاية المقصودة هي - كما قلنا - معرفة الحكم نفسه مع سلامة المعنى المراد، وقد عرفناه، فلا حاجة بعده لاحتمال مشقة التعليل. وبالرغم من هذا نلخصه في وضوح ودقة للمتخصصين:
أ- تعليل النصب عند تأخر المعطوف عل الخبر والاسم معا:
في المثال الأول: "إن الأقمار دائرات في الفضاء، والشموس" يجوز أن تكون "الشموس" بالنصب معطوفة على "الأقمار" منصوبة مثلها. و "دائرات" خبر على المعطوف مع المعطوف عليه، فأصل الكلام "إن الأقمار والشموس دائرا في الفضاء" فالعطف من نوع عطف الكلمة الواحدة على الكملة الواحدة، ويسمونه: "عطف المفرد على المفرد" كما في نحو،: "إن الرسم والتصوير لغتان عالميتان" بعطف كلمة: "التصوير" على كلمة الرسم.
ويجوز أن يكون أصل الكلام "إن الأقمار دائرات، في الفضاء، وإن الشموس دائرات.... فحذفت "إن" الثانية مع خبرها لدلالة ما قبلها عليها "وقد سبق في ص 641 الإشارة إلى هذا الحذف وصوره وأحواله" وكلمة: "الشموس" اسم "إن" المحذوفة مع خبرها، فتكون الجملة الاسمية الثانية المكونة من "إن" المحذوفة ومن اسمها وخبرها، معطوفة على الجملة الاسمية الأولى المكونة من "إن" المذكورة ومعموليها. والعطف هنا عطف جملة اسمية على جملة اسمية "راجع ص 67 من الجزء الثاني من شرح المفصل".
وفي المثال الثاني: "إن الشعر محمود في مواطن، والنثر" - يجوز في كلمة: "النثر" النصب ولكن على اعتبار أنها اسم "إن" المحذوفة مع خبرها، فأصل الكلام، إن الشعر محمود في مواطن وإن النثر محمود في مواطن. ... فحذفت "إن" الثانية مع خبرها، والعطف هنا عطف جملة اسمية "مكونة من "إن" الثانية ومعموليها" على الجملة الاسمية السابقة المكونة من "إن" المذكورة ومعموليها. ولا يصح في هذا المثال =(1/666)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= ما صح في سابقه من عطف المفرد على المفرد "بعطف كلمة: "النثر" على كلمة: "الشعر" التي هي اسم "إن"، لأن العطف على اسم "إن" مباشرة يؤدي هنا إلى تقرير مرفوض، إذ يجعل أصل الكلام، إن الشعر والنثر محمود في مواطن، فيقع الخبر غير مطابق، لأنه مفرد، واسم إن مع ما عطف عليه بالواو متعدد في حكم المثنى، فتضيع المطابقة اللفظية الواجبة بين المبتدأ والخبر، أو: بين ما أصله المبتدأ والخبر، إذ لا يصح أن يقال: "إن الهواء والماء ضروري للحياة بإعراب كلمة: "الماء" معطوفة على: "الهواء" عطف مفردات.... وهذا يقال أيضا في المثال الثالث: "إن الإهمال مفسد للأعمال والجهل" فالنصب جائز على اعتبار عطف الجملة، فيكون التقدير: إن الإهمال مفسد للأعمال وإن الجهل مفسد.... ولا يصح أن يكون عطف مفرد بالواو على مفرد، كي لا يؤد إلى عدم المطابقة اللفظية، يجعل التقدير: إن الإهمال والجهل مفسد للأعمال.....
وهكذا كل أسلوب آخر يشبه هذا الأسلوب ... أما حيث لا مانع من عطف المفردات فيجوز مراعاته، أو مراعاة عطف الجمل كما في المثال الأول....
ب- تعليل الرفع عند تأخر المعطوف أيضا عن الخبر والاسم معا.
يرى بعضهم: أن سبب الرفع في كلمة: "الشموس - النثر - الجهل - النفط" وأشباهها - هو اعتبار كل واحدة منها، مبتدأ خبره محذوف، يفسره خبر "إن" والجملة الاسمية، المكونة من هذا المبتدأ، وخبره المحذوف معطوفة على الجملة الاسمية الأولى المكونة من "إن" ومعمولها. فأصل الكلام إن الأقمار دائرات "والشموس دائرات"- إن الشعر محمود في مواطن "والنثر محمود في مواطن...." وهكذا.... فالعطف عطف جملة اسمية على جملة اسمية.
ويرى آخرون: أن هذه الكلمات المرفوعة معطوفة على الضمير المستتر في خير" "إن" وخاصة إن كان الخبر مشتقا وبينه وبين المعطوف فاصل، لأن الخبر المشتق يحوي الضمير المستتر بغير تأويل، ولأن وجود الفاصل يرضي، القائلين بأنه: "لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المتصل- ومنه المستتر - إلا مع فاصل بين المعطوف والمعطوف عليه "الذي هو: الضمير". فكلمة. "الشموس" يجوز رفعها، لأنها معطوفة على الضمير المستتر في "دائرات" وتقدير الضمير: "هي". والفاصل بينهما موجود. وكلمة "النثر" يجوز رفعها باعتبارها معطوفة على الضمير المستتر في كلمة: "محمود، وتقديره: "هو". والفاصل موجود أيضا. وكلمة: "الجهل" معطوفة على الضمير المستتر في كلمة: "مفسد" وتقديره: "هو"، والفاصل موجود، وهكذا..... فالعطف عطف مفردات.
ويرى فريق ثالث: أن العطف إنما هو على اسم "إن" مباشرة، باعتباره في الأصل مبتدأ مرفوعا قبل مجيء الناسخ، فيجوز الرفع مراعاة لذلك الأصل بشرط ألا يتعارض مع المطابقة المطلوبة بين معمولي: "إن".
ولكل فريق من الثلاثة - وغيرهم - أدلة في تأييد مذهبه، وفي الرد على معارضيه. لكن الحق أن كثيرا من تلك الأدلة جد لي، وأن كثيرا من الأساليب العربية الفصيحة ينطبق عليها بعض الآراء دون بعض.
ننتقل بعد ذلك إلى الحالة الثانية التي يتأخر فيها الخبر ويتقدم عليه المعطوف، فيتوسط بينه وبين اسم "إن" وقد قلنا: "إنه يجوز فيها الرفع النصب أيضا. ولو لم نأخذ بهذا الرأي لوقعنا في لجة غامرة من التمحل والجدل، والتأويل الذي لا خير فيه، والذي يمتد إلى القرآن الكريم، والكلام الفصيح من غير داع مستساغ. وتوجيه النصب هنا يحتاج لمزيد من اليقظة والإدراك، كما سيتبين مما يأتي:
1- تعليل النصب: =(1/667)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= في مثل: "إن القاهرة ودمشق حاضرتان...." يجوز نصب "دمشق" على اعتبار واحد، هو أنها معطوفة على اسم "إن" المنصوب، والخبر هو: "حاضرتان"، فالعطف عطف مفرد على مفرد، ولا يجوز أن يكون عطف جملة على جملة بإعراب "دمشق" منصوبة، اسم "إن" المحذوفة مع خبرها الذي يدل عليه خبر "إن" الموجودة، إذ يكون التقدير: إن القاهرة حاضرتان - وإن دمشق حاضرة - فتختل المطابقة اللفظية. هذا إلى أننا سنعطف جملة على جملة لم تكل ولم تتم. والأمران ممنوعان.
ولو أعربنا كلمة "حاضرتان" خبر "إن" المحذوفة، وخبر المذكورة محذوف لكان التقدير إن القاهرة حاضرة وإن دمشق حاضرتان" وهو فاسد، لاختلال المطابقة اللفظية، كفساده في مثل: محمود وصالح غائبان، على اعتبار كلمة. "صالح" مبتدأ خبره محذوف فيكون التقدير: محمود - وصالح غائب - غائبان.... والفساد واضح هنا، كوضوحه لو أعربنا كلمة: "صالح" مبتدأ، خبره كلمة: "غائبان" والتقدير: محمود غالب وصالح غائبان.
والأمر بالعكس لو قلنا: إن القاهرة ودمشق حاضرة، إذ يصح أن يكون "دمشق" منصوبة إما: على اعتبارها اسم "إن" المحذوفة، وحدها، وكلمة: "حاضرة" المذكورة خبرها. ويكون خبر "إن" المذكورة محذوفة تقديره. عاصمة. مثلا - فالأصل: إن القاهرة عاصمة.... وإن دمشق حاضرة، فالجملة الاسمية الثانية معطوفة على الجملة الاسمية الأولى. والعطف عطف جمل، ولا يصح أن يكون عطف مفردات، لما يترتب عليه من تقدير يجعل أصل الجملة: "إن القاهرة ودمشق حاضرة" فتختل المطابقة اللفظية - كما تختل في مثل: حامد وأمين قائم - بعطف "أمين" مباشرة - على: "حامد" فيقع المفرد خبرا عن المثنى أو ما في حكمه، وهذا ممنوع.
وإما على اعتبارها اسم "إن" المحذوفة - أيضا - مع خبرها. وأصل الكلام: إن القاهرة حاضرة وإن دمشق "حاضرة" فتقدمت الجملة الثانية، واعترضت بين اسم "إن" الأولى وخبرها، فهي جملة معترضة، وليست معطوفة، إذ لا يصح عطف جملة إلا بعد أن تم الجملة الأولى، وهي المعطوف عليها - كما تقدم.
ومما سبق نعرف أن النزول على حكم المطابقة اللفظية أمر محتوم، فحيث تحققت وتحكمت - كالمثال الأول - وجب اعتبار العطف عطف مفردات - وحيث اختلفت - كالمثال الثاني - وجب اعتباره عطف جمل، أو اعتبار الجملة الثانية غير معطوفة، وإنما هي جملة معترضة تقدمت من تأخير تفصلت بين اسم إن وخبرها. وقد تكون مستأنفة إن اقتضى المعنى ذلك.
ب- تعليل الرفع:
في المثال الأول ونظائره من نحو: إن العالة والنصفة كفيلتان بالأمن والرخاء، يجوز رفع كلمة: "النصفة" على أنها معطوفة على اسم "إن" باعتبار أصله مبتدأ مرفوعا قبل مجيء الناسخ، والخبر هو كلمة: "كفيلتان" فالعطف عطف مفردات، لمطابقة الخبر لاسم "إن" مع المعطوف، ولا يصح أن يكون عطف جمل، بإعراب كلمة: "النصفة" مبتدأ خبره محذوف، لما يلزم عليه من فساد الأسلوب لفساد المطابقة، كما شرحنا.... ولما يلزم عليه أيضا من عطف جملة على جملة أخرى لم تكمل.
فلو قلنا: إن العدالة والنصفة كفيلة بالأمن والرخاء، لجاز الرفع على اعتبار كلمة: "النصفة" مبتدأ خبره، كلمة: "كفيلة" الموجودة، وخبر "إن" محذوف. - بعد اسمها - تقديره: كفيلة أو ضامنة.... أو....، وتقدير الكلام: إن العدالة كفيلة بالأمن، والنصفة كفيلة بالأمن. فيكون الكلام عطف جملة اسمية لاحقة على نظيرتها السابقة، كما يجوز إعراب كلمة: "كفيلة" الموجودة خبر "إن". أما خبر المبتدأ فمحذوف تقديره: كفيلة - مثلا- فتكون الجملة المكونة من المبتدأ =(1/668)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= والخبر جملة اعتراضية بين اسم "إن" خبرها، ولا يجوز أن تكون معطوفة، لما سبق من أنه لا يجوز عطف جملة على جملة إلا بعد أن تتم الأولى وهي التي عطف عليها.
ولا اعتداد برأي من يرفض الرفع في الصورة التي لا مطابقة فيها - وغيرها فيمنع أن يقال: إن العدالة والنصفة كفيلة.... كما يمنع أن يقال: إن محمدا وعلى قائم. فلو أخذنا برأيه لاعترضتنا أمثلة ناصعة الفصاحة من القرآن الكريم. والكلام العربي الصحيح، ولم نجد بدا من التمحل الملعيب، والتأويل البغيض. وكيف يوجب كثير من النحاة النصب. وحده - عند العطف بعد الاسم وقبل مجيء خبر "إن" مع مجيء الرفع في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى ... } من آمن بالله...."؟ فكلمة: "الصابئون" وقعت مرفوعة بعد العاطف وقبل مجيء خبر "إن" واسم" إن" هو كلمة: "الذين ومثلها قراءة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ... } برفع كلمة "ملائكة" بعد العاطف وقيل خبر "إن" وكذلك قول الشاعر:
فمن يك أمسى في المدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وكلمة "قيار" "وهي اسم حصان الشاعر" مرفوعة: بعد العاطف وقبل خبر "إن" ومثل قول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
فالضمير "أنتم" ضمير رفع. وغير هذا من الشواهد المتعددة. كيف يقبلون أن تؤول الآية - بغير داع لتطابق القاعدة ولا يتصرفون في القاعدة تصرفا صريحا يساير الآية، مع اعتقادهم أن القرآن أفصح كلام عربي وأعلاه؟ ولم التمحل في الأمثلة العربية الأخرى - وهي كثيرة - وترك القاعدة بغير إصلاح؟ وهل يصير الأسلوب الفاسد صالحا بمجرد التأويل والنية الخفية من غير تغيير يطرأ على ظاهره؟
ثم هم لا يبيحون التأويل إلا في الأمثلة المسموعة التي تخالف قاعدتهم، أما الأمثلة التي هي من كلام المحدثين ففاسدة - في رأيهم - فسادا ذاتيا، فلا يجوز قبولها، ولا التماس التأويل فيها. وهم يؤولون المرفوع في الأمثلة السالفة وأشباهها بما نعتبره حكما عاما صحيحا في ذاته، لا يحتاج لتأويل - وغير مقصور على الوارد المسموع، فيؤولون المرفوع في الآية الأولى وفي البيت بأنه مبتدأ - خبره محذوف، والجملة معترضة - بين اسم إن وخبرها، لتقدم المبتدأ وخبره عن مكانهما، وتوسطهما بين اسم "إن" وخبرها. فأصل الآية - عندهم {إن الذين آمنوا - والصابئون كذلك - من آمن منهم} - وأصل البيت. فإني - وقيار غريب - لغريب، ويفضلون أن تكون الجملة في المثالين اعتراضية لا معطوفة، فرارا من العطف قبل تمام الجملة المعطوف عليها، إن جعل من عطف الجمل، وفرارا من تقدم المعطوف على المعطوف عليه إن عطف المرفوع على الضمير المستتر في الخبر فهم يؤولون البيت بتأويل الآية الأولى وحدها فيجعلون كلمة: "غريب" المشتملة على لام الابتداء خبر "إن" ولا يجعلونها خبرا لكلمة "قيار" لأن دخوول لام الابتداء على خبر المبتدأ ضعيف. فخبره هنا محذوف، والتقدير "قيار غريب" أو "وقيار مثل" والجملة منهما اعتراضية. وكل هذا مقبول، ولكن على أساس أنه حكم عام غير مقصور على السماع - كما تقدم وأنه صحيح ذاتيا.
أما في الآية الثانية: "إن الله وملائكته..... فيلتمسون تأويلا آخر، فيجعلون خبر "إن" هو المحذوف، ويجعلون الاسم المرفوع مبتدأ خبره المذكور بعده، والتقدير عندهم: إن الله يصلي على النبي، وملائكته يصلون على النبي، إذ لا يصلح في هذه الآية التقدير الأول الذي صلح لسابقتها، لما يترتب =(1/669)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= عليه من أن يكون التقدير، إن الله يصلون على النبي، فتختل المطابقة اللفظية بين اسم "إن" وخبرها، وهي لازمة كما قلنا، فإن لم يوجد ما يعين أحد التأويلين فهما - عندهم - جائزان.
كل هذا وما سبقه من تأويل عندهم، عناء لا مسوغ لاحتماله، يريحنا منه الأخذ بالرأي الذي يبيح الأمرين: الرفع والنصب بالتوجيه الذي شرحناه، فوق ما فيه من راحة أخرى، إذ يحمل القاعدة، واحدة مطردة، فيسوي بين العطف بعد مجيء خبر "أن" وقبل مجيئه.
على أننا نقول: حسب الناس في الصور السابقة كلها أن يحاكوا أساليب القرآن، والكلام العربي الفصيح، فلا نرهقهم بالتأويلات المختلفة، وفهمها، ومن شاء أن يؤول كلامهم بعد قبوله كما أول القرآن، فليفعل، وعلى ضوء ما يق يمكن الوصول إلى حكمين:
أولهما: فساد التركيب في مثل: "إن محمدا وإن عليا منطلقان، لاشتماله على خبر واحد لمتعاطفين تكررت فيهما "إن" فيكون معمولا واحدا لعاملين، هما: "إن" الأولى و "إن" الثانية وهو بهذه الصورة غير جائز، لأن كل عامل منهما يحتاج وحده إلى معمول خاص به "راجع الهمع جـ1 ص 135"
ثانيهما: توجيه الأساليب الآتية: تطبقا على ما سبق -:
"إن رجلا وغلاما حاضران". فكلمة "غلاما" منصوبة على أنها معطوفة عطف مفردات على اسم "إن" المنصوب لفظهه. ولو قلنا: إن رجلا وغلام حاضران، لكانت كلمة غلام " مرفوعة، لأنها معطوفة عطف مفردات على اسم "إن" باعتبار أصله المبتدأ قبل أن يصير اسم "إن" وكلمة: "حاضران" هي الخبر في الحالتين، لأنها مثنى، فهي مطابقة للمعطوف والمعطوف عليه معا.
أما إذا لم تطابق في مثل: إن رجلا وغلاما حاضر. تريد: إن رجلا حاضر، وإن غلاما حاضر، مع قيام قرينة تدل على هذا المراد- فالأصول اللغوية العامة لا تنع هذا الأسلوب، فيصح أن تكون كلمة. "حاضر" خبر "إن" المذكورة. وكلمة "غلاما" اسم "إن" المحذوفة مع خبرها، وهذه الجملة معترضة، ولا تصلح أن تكون معطوفة، لما سبق توضيحه - في الرأي الراجح.
وكذلك إ ن لم يتطابق في مثل: إن رجل وغلام حاضر. فكلمة "حاضر" خبر "إن" المذكورة "وغلام" مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: إن رجلا حاضر، وغلام حاضر، وتكون الجملة الثانية معترضة أيضا - بين اسم إن وخبرها.
ويجوز في المثال الأول: "إن رجلا وغلاما حاضر" اعتبار كلمة "حاضر" خبر "إن" محذوفة وحدها. وخبر المذكورة محذوفة أيضا، والجملة الثانية معطوفة على الأولى عطف جمل.... وهكذا
ملاحظة: مما يجب التفطن له أن كل واحد من هذه الاعتبارات - وأشباهها- لا يصح الالتجاء إليه بداعي التمحل المحض في تصحيح كلمة لم يتضح في السياق مرماها المعنوي السليم ولا مهمتها في توضيح المراد، ولا يصح تلمس التصويب لمن نطق بها عفوا على غير هدى لغوي يؤدي إلى المعنى المقصود، وإلا صارت اللغة لعبا ولهوا. وإنما نلجأ إلى التأويل حين يكون هو الوسيلة لتحقيق المعنى المراد الصادر عن قصد، لقيام قرينة تفرضه وتأتي سواه.
وبالرغم من الاعتبارات السالفة تقضي الحكمة ألا نلجأ إلى استعمال تلك الأساليب ما وجدنا مندوحة للبعد عنها. ومن الخير أن أن نكتفي في العطف على اسم "إن" بضبط المعطوف منصوبا فقط، سواء. أكان العطق قبل مجيء الخبر أم بعده، لأن هذا هو المسلك الظاهر، المتفق عليه، والنهج الواضح الذي يعد اتباعه عن أهم مقاصد البلغاء. ما لم يوجد مقصد أسمى يدعو للعدول المحتم عنه، كاقتضاء المقام أن يكون العطف عطف جمل، لا عطف مفردات، لأن الأولى يؤدي غرضا غير الذي يؤديه الثاني.(1/670)
حكم المعطوف مع أخوات "إن"1.
وكل ما قيل فى حكم المعطوف بعد استكمال "إن" خبرها، وقبل استكمالها - يقال أيضاً بعد حرفين من أخواتها، هما: أنّ "المفتوحة الهمزة، المشددة النون" و"لكنّ" المشددة النون، سواء أكان العطف قبل استكمالهما الخبر أم بعده، فالحروف الثلاثة الناسخة: "إنّ - أنّ - لكنّ" مشتركة فى الحكم السالف. تقول: علمت أنّ طائرة مسافرةٌ وسيارةً ٌ، أوعلمت أن طائرةً وسيارةً ٌمسافرتان، ينصب كلمة: "سيارة" ورفعها، مع تقدمها على الخبر وحده، أوتأخرها عنه. كما تقول الفواكه كثيرة فى بلادنا، لكنّ التفاحَ قليل. والبُرقوقَ ُ. أولكنّ التفاح والبُرقوقَ ُ قليلان، بنصب كلمة: "البرقوق" أورفعهما مع التقدم على الخبر وحده أوالتأخر عنه.
أما "ليت" و"لعل" و"كأن" فلا يجوز معها فى المعطوف إلا النصب؛ سواء أوقع بعد استكمالها الخبر أم قبل استكمالها. مثل: ليت الأخ حاضر والصديقَ، أوليت الأخَ والصديقَ حاضرِان؛ بنصب كلمة: "الصديق" فى الحالتين. ومثل: لعل العلاجَ مفيدٌ والدواءَ، أو: لعل العلاجَ والدواءَ مفيدان. بنصب كلمة: "الدواء" فيهما. ومثل: ليت الصحة دائمة والثروةَ، أو: ليت الصحة "والثروةَ" دائمتان. بنصب كلمة: الثروة فيهما. وهكذا.....2
ونستخلص مما تقدم:
ا- أن المعطوف على اسم من أسماء هذه الحروف الناسخة يجوز فيه النصب مطلقاً، "أىْ: سواء أكان الحرف الناسخ هو: "إن" أم غيره من أخواته؛ وسواء أكان العطف بعد استكماله الخبر أم قبل استكماله ومجيئه" إلا "لا" النافية للجنس"3 فللعطف على اسمها أحكام خاصة تجئ فى بابها4.
__________
1 في المسألة التالية ما في سابقتها من كثرة الخلاف، والتشعيب، بحيث يصعب استخلاص حكم يساير أصفى الأساليب الفصيحة، وأدق الأحكام اللغوية العامة، وقد أثبتنا في المسألتين ما استصفيناه
2 وفيما سبق يقول ابن مالك:
وألحقت بإن "لكن"، و "أن" ... من دون "ليت" و "لعل" وكأن
أي: ألحق "بإن" في الحكم السابق الخاص بالعطف - حرفان من أخاتهما، وهما: "أن" "المفتوحة الهمزة، المشددة النون"، و "لكن"، بتشديد النون، وخالفها ثلاثة أخرى، هي: "ليت" و "لعل"، و "كأن" وقد فصلنا ذلك الحكم. ويزاد على هذه الثلاثة "لا الجنسية" لما قررناه من انفرادهما بأحكام خاصة وفي بيت ابن مالك خففت النون في "أن" و "كأن" لضرورة الشعر التي جعلت النون ساكنة فيهما.
3 وهي من أخوات "إن".
4 في ص 697و 701.(1/671)
ونستخلص من كل ما تقدم أمرين:
ا- أن المعطوف على اسم من أسماء هذه الحروف الناسخة يجوز فيه النصب مطلقا، "أي: سواء أكان الحرف الناسخ هو: "إن" أم غيره من أخواته، وسواء أكان العطف بعد استكماله الخبر أم قبل استكماله ومجيئه" إلا "لا" الجنسية، فللعطف على اسمها أحكام خاصة تجيء في بابها1.
ب- امتياز: إنّ، وأنّ، ولكنّ - دون أخواتها - بجواز شىء آخر هوصحة رفع المعطوف على اسمها؛ سواء أكان المعطوف متوسطاً بين الاسم والخبر أم متأخراً عن الخبر.
__________
1 ص 697 و 701 - كما سبقت الإشارة في رقم 1 من هامش ص 665 -(1/672)
المسألة الخامسة والخمسون: تخفيف "النون" فى هذه الأحرف الناسخة 1 "إن، أن، كأن، لكن"
فأما "إنَّ" "المكسورة الهمزة، المشددة النون" فيجوز فيها التخفيف بحذف النون الثانية المفتوحة، وإبقاء الأولى ساكنة. وعندئذ تصلح "إنْ" للدخول على الجمل الاسمية والفعلية، بعد أن كانت مع التشديد مختصة بالنوع الأول.
"ا" فإن خففت ودخلت على جملة اسمية جاز إبقاء معناها وعملها وسائر أحكامها التى كانت لها قبل التخفيف2، وجاز إبقاء معناها دون عملها فتصير مهملة ملغاة. مثل: إنْ جريراً لشاعرٌ أمَوِىٌّ كبير، أو: إنْ جريرٌ لشاعر أموى كبير. مثل: إنْ أبا حنيفة لإمام عظيم، أو: إنْ أبوحنيفة لإمام عظيم. بنصب كلمتى. جريراً و"أبا" على الإعمال، وبرفعهما على الإهمال ... وإهمالها أكثر فى كلام العرب، ويحسن - اليوم - الاقتصار عليه.
وإذا أهملت - مع دخولها على جملة اسمية - وجب مراعاة ما يأتى: "ا" أن يكون اسمها قبل أهمالها - اسماً ظاهراً لا ضميراً؛ مثل: إنْ بَغدادُ لبلد تاريخى مشهور.
"2" أن تشتمل الجملة التى بعدها على لام الابتداء3؛ لتكون رمزاً للتخفيف، ودالة على أنها ليست النافية، ولذا قد تسمى: اللام الفارقة4؛ لأنها تفرق بين المخففة والنافية؛ مثل: إنْ تونُسُ لَرِجالُها عرب. ويجوز تركها والاستغناء عنها متى وجدت قرينة واضحة تقوم مقامها فى تبيين نوع "إنْ"، وأنها المخففة،
__________
1 هذا هو البحث الذي أشرنا إليه في رقم 3 من هامش ص 630.
2 إلا العمل في الضمير، فإن العمل فيه مقصور على المشددة، تقول: إنك عدو الطغيان بتشديد "إن" ولا يجوز التخفيف في اللغة المستحسنة التي هي حسبنا اليوم.
3 تفصيل الكلام عليها في ص 659.
4 هذه لام الابتداء في الرأي الراجح، وتجيء عند التخفيف. ولكن مكانها يختلف باختلاف التراكيب على الوجه التالي:
أ- فعند دخول "إن" المخففة على جملة اسمية فإن اللام تدخل على الخبر عند الإهمال.
ب- وعند دخول "إن" المخففة على جملة فعلية فإن الإهمال واجب في الأرجح - ويكون =(1/673)
وليست النافية، لكن عدم تركها أفضل1. ولا فرق فى القرينة بين أن تكون لفظية فى أومعنوية، والمعنوية أقوى. ومن القرائن الفظية أن يكون الخبر فيها منفيًّا مثل: إنْ المجاملةُ لن تضرَّ صاحبها. فكلمة "إنْ" مخففة، وليست نافية؛ لأن إدخال النفى على النفى لإبطال الأول قليل فى الكلام الفصيح: إذ يمكن مجئ الكلام مثبتاً من أول الأمر، من غير حاجة إلى نفى النفى المؤدى للإثبات بعد تطويل. ومثال القرينة المعنوية: إنْ العاقلُ يتبع سبيل الرشاد. إنْ المحسنُ يكون محبوباً. إنّ الاستقامةُ تجلب الغِنى؛ إذ المعنى يفسد على اعتبار "إنْ" للنفى فى هذه الأمثلة ... ومن هذا النوع قول الشاعر:
أنا بانُ أبَاةِ الضَّيْمِ من آلِ مالكٍ ... وإنْ مالكٌ كانت كرامَ المعادنِ
فلوكانت "إنْ" للنفى لكان عجز البيت ذمًّا فى قبيلة مالك، مع أن صدرهُ لمدحها2.
__________
= الفعل بعدها ناسخا - كما سيجيء في ب من ص 675 وتدخل اللام على خبره الحالي، أو على خبره بحسب الأصل، فالأول نحو: إن كنت لناصرا المظلوم. والثاني: إن ظننتك لطموحا ... فإن كان غير ناسخ - وهذا قليل لا يصح القياس عليه اليوم - دخلت على فاعله إن كان اسما ظاهرا أو ضميرا بارزا، نحو: إن يزينك لنفسك، وإن يشينك لهيه، فكلمة: "نفس" اسم ظاهر، فاعل الفعل: "يزين" وكلمة: "هي" ضمير بارز فاعل للفعل: يشين، والهاء التي في آخر الضمير هاء للسكت. والمراد: إ ن نفسك هي اتي تزينك، وهي التي تشينك، أي: تعيبك - انظر "أ" من ص 676.
فإن اجتمع الفاعل والمفعول به دخلت على السابق منهما، نحو: إن أحسن لكاتب عمله. أو: إن أحسن لعمله كاتب. وإنما تدخل على السابق منهما، نحو: إ ن أحسن لكاتب عمله. أو: إن أحسن لعمله كاتب. وإنما تدخل على السابق منهما بشرط ألا يكون ضميرا متصلا "ظاهرا أو مستترا" فإن كان ضميرا متصلا لم تدخل عليه اللام ودخلت على المتأخر: مثل: إن عظمت لعالما نافعا، وإن مدحت لإياه، والعاقل إن مدح لعظيما "فقد دخلت اللام على المفعول به مع تأخره" لأن الفاعل في المثالين الأولين ضمير متصل بارز، وفي الأخير ضمير متصل مستتر.
1 إلا لمانع يمنع، كدخولها على حرف نفي.
2 حذف اللا م هنا لعدم الحاجة إليها، لأن المقام للمدح، وهو يقتضي الإثبات لا نفي. وفي هذه الحالة يجوز حذفها وإثباتها.
ومما يلاحظ أنا لو أردنا إدخالها في المثال السالف لكان الأنسب إدخالها على كلمة: "كرام" دون الفعل: "كان"، لأنها لا تدخل على ماض، متصرف، خال من طقد" كما سبق - في ص 661 - سواء أكانت "إن" عاملة أم غير عاملة.
هذا، وكلمة: "أباة" جمع "آب" بمعنى: كاره. و "ماليك" اسم قبيلة عربية، سميت باسم زعيمها، والشاعر يتباهى في صدر البيت بأنه من أسرة ذلك الزعيم، وأنها تكره الضم، "أي: الذل" وأنها قبيلة كريمة الأصول. فكلمة "مالك" الأولى اسم للزعيم، والثانية اسم القبيلة، ولهذا أنث الفعل معها.(1/674)
"3" أن يكون الخبر من النوع الذى يصلح لدخول اللام عليه وقد سبق بيانه1.
"ب" وإن خُفِّفت ودخلت على جملة فعلية وجب الإهمال2، وأن يكون الفعل بعدها ناسخا3؛ مثل: الحريةُ عزةٌ، وإنْ كانت لأمنيةَ النفوس الكبيرة، وقول أعرابيّ لأحد الفتيان: رَحِم الله أباك، وإنْ كان ليملأ العين جمالا، والأذن بيانا، ومثل: إن يكادُ الذليلُ ليألفُ الهوان. ومثل: إنْ وجدْنا المنافق لأبْعَدَ من إكبار الناس وتقديرهم4.
__________
1 راجع ص 660.
2 ولا داعي للأخذ بالرأي القائل بأعمالها، واعتبار اسمها ضمير الشأن المحذوف. وهو رأي مقبول أيضا.
3 مثل كان وأخواتها. "ومن أخواتها: أفعال المقاربة، وما يتصل بها...." ومثل: ظن وأخواتها - ويشترط في هذا الفعل الناسخ ألا يكون نافيا، مثل: "ليس"، ولا منفيا، مثل ما كان، ما زال، ما برح، لن أبرح، لن أفتأ.... وأن يكون غير داخل، في صلة، مثل: ما دام، وتجيء اللام في خبر الناسخ الحالي، أو خبره بحسب الأصل "كما سبق في ب هامش ص 673".
4 وفيما سبق يقول ابن مالك:
وخففت: "إن" فقل العمل ... وتلزم اللام إذا ما تهمل
وربما استغنى عنها إن بدا ... ما ناطق أراده معتمدا
أي: إذا خففت "إن" قل إعمالها. وإذا أهملت لزم مجيء اللام بعدها، وقد شرحنا ما يتعلق بمجيئها.
ثم أوضح في البيت الثاني أن هذه اللام قد يمكن تركها، والاستغناء عنها إن بدا. "أي: ظهر" المراد الذي أراده المتكلم، معتمدا، في ظهوره على قرينة توضحه - ومعنى "بدا ما ناطق أراده" ظهر الذي أراده الناطق - ثم قال:
والفعل إن لم يك ناسخا فلا ... تلقيه - غالبا - بإن ذي موصلا
"ذي" بمعنى: هذه يريد: أن الفعل إن لم يكن من الأفعال الناسخة فإنك - غالبا - لا تلفيه "أي: لا تجده" في الكلام الفصيح متصلا بـ "إن" المخففة، فلا يقع بعدها مباشرة "وكلمة: "غالبا" تعرب ظرف زمان أو مكان. فالمعنى: انتفى في غالب الأزمنة، أو في غالب التراكيب وجود الفعل غير الناسخ متصلا مباشرة بالحرف "إن" المخففة".(1/675)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ا- من الأمثلة العربية المسموعة: إنْ يَزينُك لَنَفسُك، وإنْ يَشينُك لَهِيَهْ. وقد سبق1، ومنها إنْ قَنَّعتَ كاتبك لسَوْطاً2. وقول الشاعر:
شَلَّتْ3 يمينُكَ إنْ قتلت لمُسلماً ... حَلَّتْ عليك عقوبةُ المتعمد
وهى أمثلة يستشهد بها النحاة على وقوع الأفعال غير الناسخة بعد "إنَّ" إذا خففت. ولا داعى لمحاكاة هذه الأمثلة القليلة. وحسبنا أن نتبين معناها، والغرض الذى نستعملها فيه، دون القياس عليها من هذه الناحية.
ب- بمناسبة تخفيف "إنّ" يعرض النحاة للقراءات التى فى قوله تعالى: {وإنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِينَّهم رَبُّك أعمالَهم} ، وتوجيه كل قراءة. وإليك بعض ذلك.
"1" "وإنَّ كلاً لَمَا ليُوَفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم" بتشديد النون، وتخفيف "ما"، فيكون الإعراب: "كلاًّ" اسم إن. "لما"؛ اللام لام ابتداء، "ما" زائدة؛ لتفصل بين اللامين. "ليوفينهم" اللام للابتداء؛ لتوكيد الأولى، والجملة بعدها خبر "إنّ".
ويصح إعراب آخر: "كُلاًّ" اسم إن المشددة. "لَمَا" اللام لام الابتداء، "ما": اسم موصول خبر "إنّ" مبنى على السكون فى محل رفع. "لَيُوفينهم" اللام للقسم، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب جواب قسم محذوف؛ وجملة القسم وجوابه صلة "ما"، والتقدير: "لَمَا والله لَنوفَّينَّهم4". وجملة القسم وإن كانت إنشائية - هى لمجرد التأكيد. والصلة فى الحقيقة جوابه. أى: "وإنّ كلا لَلّذين والله ليوفينهم" لهذا لا يقال إن جملة القسم هنا إنشائية مع أن جملة الصلة لا تكون إلا خبرية"5.
__________
1 في "ب" من هامش ص 673.
2 أي: إنك قنعت كاتبك سوطا، بمعنى: ضربته على رأسه بالسوط، فأحاط به إحاطة القناع برأس المرأة.
3 يدعو عليه بشلل يمينه، فالجملة دعائية.
4 انظر ص 378 حيث الأشياء التي يجوز الفصل بأحدها بين الموصول وصلته.
5 راجع الصبان في هذا الموضع، ثم ما يتصل بهذا في ص ص 374 و 378 السابقتين.(1/676)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"2" "وإنْ كُلاًّ لَمَا ليوفنيهمْ ربك أعمالهم" بتخفيف "إنْ" و"ما" مع إعمال "إنْ" كأصلها. والإعراب لا يختلف عما سبق؛ فيصح هنا ما صح هناك.
"3" "وإنْ كُلٌّ لَمَا لَيُوَفِّينَّهم...." بتخفيف "إنْ" و"ما". فكلمة "إنْ" مهملة. كل: مبتدأ. وما بعد ذلك يصح فيه الأوجه السالفة فى الصورة الأولى مع ملاحظة أن الأخبار هنا تكون للمبتدأ.
"4" "وإنْ كلاًّ لمَّا ليوفينَّهم ربك أعمالهم" بتخفيف "إنْ" وتشديد "لمَّا" والإعراب يجرى على اعتبار "إنْ" حرف نفى، و"لما" أداة استثناء بمعنى: "إلا" و"كلاًّ" مفعول به لفعل تقديره: أرى - مثلاً - محذوف، و"ليوفينهم" اللام للقسم، والجملة، بعدها جوابه؛ أى: ما أرى كلاًّ إلى والله ليوفينهم.
"5" "وإنَّ كلاًّ لمَّا ليوفينَّهم ربك أعمالهم" بتشديد "إنّ" و"لمَّا" والأحسن اعتبار "لما" حرف جزم، والمجزوم محذوف، والتقدير: "وإنّ كلاًّ لمَّا يُوَفَّوْا أعمالهم" ... "ليوفينهم" اللام للقسم، والجملة بعدها جوابه، والقسم وجوابه كلام مستأنف.
وعلى ضوء ما تقدم نعرب قوله تعالى: "وإنْ كلٌّ لمَّا جميعٌ لديْنا مُحْضَرون" فعند تشديد "لما" تكون بمعنى "إلا"، و"إنْ" المخففة حرف نفى. "كل" مبتدأ، جميع: خبره، "محضرون" نعت للخبر، مرفوع بالواو، "لدى" ظرف متعلق به، مضاف، "نا" مضاف إليه مبنى على السكون فى محل جر.
وعند تخفيف "ما" يكون الإعراب، كما يأتى:
"إنْ" مهملة "كُلّ" مبتدأ. "لمَا" اللام لام الابتداء، "ما" زائدة، "جميع" مبتدأ ثان1 "محضرون" خبر الثانى، والثانى وخبره خبر الأول. "لدينا" "لدى" ظرف متعلق بكلمة "محضرون". "نا" مضاف إلى الظرف. ويجوز فى هذه الآية وسابقتها إعرابات وتوجيهات أخرى2.
__________
1 وإعرابها هنا مبتدأ أحسن من إعرابها خبرا، لكيلا تدخل "لام الابتداء" على الخبر، مع صحته - لأن دخولها على المبتدأ هو الأكثر.
2 سجلها الصبان والتصريح والخضري في آخر باب "إن" وأخواتها عند الكلام على تخفيف "إن".(1/677)
الحرف الثاني: أن
وأما "أنّ" "مفتوحة الهمزة، مشددة النون" فيجوز فيها التخفيف بحذف النون الثانية المفتوحة، وترك الأولى ساكنة؛ نحو: أيقنت أنْ" "علىٌّ شجاعٌ".
ويتحتم اعتبار "أنْ" مخفَّفة من الثقيلة متى وجدت علامة مما يأتى:
1- أن تقع بعد ما يدل على اليقين1 والقطع، مثل: أيقَن، تيقَّن، جزَم، عَلِم، اعتَرف التى بمعنى: عَلِمَ، أو: أقَرَّ، اعتقادى، لا شَكَّ. وغيرها من الأفعال أوالألفاظ التى تفيد اليقين2؛ نحو: أيقنت أنْ عدلٌ من الله كلُّ جزائه. وقول الشاعر:
أأنت أخى ما لم تكنْ لى حاجةٌ؟ ... فإن عرَضتْ أيقنت أنْ لا أخا ليا
2- أن تدْخل على فعل جامد، أورُبّ، أوحرف تنفيس3؛ نحو: اعتقادى أنْ ليس لشفقة الوالدين مثيل؛ وقول الشاعر:
وإنى رأيت الشمسَ زادت محبةً ... إلى الناس أن ليْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ
ومثل:
أجِدَّكِ ما تَدرينَ أنْ رُبَّ ليلةٍ ... كأن دُجَاها من قُرونِكِ يُنْشَرُ
وقول الناصح لسامعيه:
فإنْ عصيتم مقالى اليوم فاعترفوا ... أنْ سوف تَلْقَوْن خِزْيًا ظاهر العار
3- أن يقع بعدها فعل دعاء، نحوأطال الله عمرك، وأن هيَّأ لك المستقبل السعيد.
__________
1 انظر ص 644 ومما يدل على اليقين عند سيبويه، ومن معه - الألفاظ الدالة على الخوف والحذر إذا كان أمرهما متيقنا- كما في الصفحة المشار إليها.
2 أما التي تقع بعد ما يدل على الظن "مثل، زعم، خال،.... والظن معناه: ترجيح أحد الأمرين" فإنها صالحة لأن تكون مخففة، وأن تكون مصدرية ناصبة للمضارع بعدها. ويعينها لأحدهما وجود قرينة لفظية تقضي بالتعيين. فوجود الفاصل، أو رفع المضارع بعدها- قرينة لفظية على أنها المخففة. ونصب المضارع بعدها قرينة لفظية على أنها المصدرية الناصبة له. فإن لم تكن مسبوقة بما يدل على اليقين أو الظن فهي المصدرية الناصبة للمضارع حتما، كالتي تقع بعد ما يفيد الرغبة أو الإشفاق، أو الطمع أو التوقع "وقد سبق بيان المراد من هذه الألفاظ في رقم 3 من هامش ص 635، نحو: أود أن أشارك في كل عمل نافع - أخشى أن يشتد البرد - أرجو أن أهنيء الزملاء بما يسرهم - يسرني أن يزورني العلماء. "انظر "أوب" من ص 408 وما بعدها و 644، وستجيء الأنواع "أن" المختلفة بيان شامل في باب النواصب "جـ 4 ص 265 و 273 م 148".
3 هو السين، أو: سوف، وقد سبق الكلام على معناهما، والفرق بينهما في ص 60 -.(1/678)
4- أن تكون داخلة على جملة اسمية مسبوقة بجزء أساسى من جملة - لا بجملة كاملة - بحيث يكون المصدر المؤول من: "أنْ" المخففة والجملة الاسمية التى دخلت عليها - مكملاً أساسياً للجزء السابق. كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فالمصدر المؤول خبر المبتدأ. "أخِر"1. وقول الشاعر:
كفى حزَنًا أنْ لا حياةَ هنيئةٌ ... ولا عملٌ يرضَى به اللهُ - صالحُ
فالمصدر المؤول فاعل: "كفى"2.
ويترتب على التخفيف أربعة3 أحكام، يوجب أكثر النحاة مراعاتها:
أولها: إبقاء معنى: "أنّ" وعملها على حالهما الذى كان قبل التخفيف.
ثانيهما: أن يكون اسمها ضميراً4 محذوفاً، ويغلب أن يكون ضمير شأن5 محذوف كالمثال السابق؛ وهو: أيقنت أنْ "علىٌّ شجاعٌ"6.
ثالثها: أن يكون خبرها جملة؛ سواء أكانت اسمية أم فعلية؛ نحو: علمتُ أنْ حاتمٌ أشهرُ كرام العرب، وأيقنت أن قد أشْبَههُ كثيرون.
رابعها: وجود فاصل - فى الأغلب - بينها وبين خبرها إذا كان جملة فعلية7، فعلها متصرف، لا يقصد به الدعاء. والفاصل أنواع.
"ا" إما "قد"8 نحو: ثبت أنْ قد ازدهرت الصناعة فى بلادنا، ونحوقول الشاعر:
شَهِدْتُ بأنْ قدْ خُطَّ ما هوكائنٌ ... وأنَّكَ تَمْحُوما تَشَاءُ وتُثْبِتُ
"ب" وإما أحد حرفي التنفيس9 مثل: أنت تعلم أن سأكونُ نصير الحق،
__________
1 سيجيء للآية مناسبة أخرى في: "أ" ص 680.
2 راجع ما سبق في ص 644.
3 في رقم 4 من هامش ص 410 بعض أحكام أخرى تقتضي الرجوع إليها.
4 سواء أكان المتكلم، أم مخاطب، أم غائب، ومن الأمثلة قوله تعالى: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} التقدير عند سيبويه: أنك يا إبراهيم.
5 سبق الكلام على ضمير الشأن تفصيلا في ص 250 وما بعدها.
6 اسم "أن" ضمير محذوف تقديره "هو" أي: الحال والشأن - والجملة الاسمية بعده في محل رفع، خبر: "أن" المخففة.
7 هذا الفاصل قد يزيد في توضيح نوعها، ويؤكد أنها المخففة من الثقيلة، وليست المصدرية الناصبة للمضارع.
8 تدخل هنا على الماضي فقط.
9 وهما: "السين" و "سوف" ويدخلان على المضارع المثبت فقط. "وقد سبق الكلام عليهما في ص 60".(1/679)
قول الشاعر:
وإذا رأيتَ من الهلال نُمُوّهُ ... أيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملا
وقول الآخر:
واعلمْ - فَعلُم المرءِ يَنْفَعُهُ - ... أنْ سَوْفَ يأتِى كُل ما قُدِرَا
"حـ" وإما حرف نفى من الحروف الثالثة التى استعملها العرب فى هذا الموضع؛ وهى2: "لا - لن - لم". نحو: أيقنت أنْ لا3 يَغْدِرُ الشريفُ، وأنْ لن يحيد عن الحق. ووثقت أنْ لم ينصر الله المبطلين.
ومن الأمثلة قوله تعالى: "وحسبوا4 أنْ لا تكونُ فتنةُ" فى قراءة من رفع "تكونُ". وقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَد} ، وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} .
"د" وإما "لو" والنص عليها فى كتب النحاة قليل مع أنها كثيرة فى المسموع؛ نحو: أوقن أنْ لوأخلصنا لبلادنا لم يطمع الأعداء فينا.
ومما تقدم5 نعلم أن الفصل غير واجب6 في الحالات الآخرى التي منها:
"ا" أن يكون الخبر جملة اسمية نحوقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ7 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ونحو: "الثابت أنْ انتقامٌ من الله يحلّ بالباغى". إلا
__________
1 وفي بعض الروايات: إن الهلال إذا رأيت نموه....
2 وتدخل "لا" على الماضي والمضارع، وتختص "لم" و "لن" بالمضارع. وزاد الرضى "ما" وجعلها مثل "لا".
3 في هذه الصورة - وأشباههما - يجب فصل "أن"، وإظهار النون قبل "لا" في الكتابة دون النطق وضابط إبرازها خطا لا نطقا ينحصر في أن تكون غير ناصبة للمضارع، سواء أكان بعدها فعل أم اسم، نحو: تيقنت أن لا ينتصر ضعيف ونحو: أشهد أن لا إله إلا الله.
4 بشرط أن تكون بمعنى: اعتقدوا.
5 لخص بعض النحاة الفواصل السابقة ومواضعها فقال: "الفعل إما مثبت وإما منفي، وكل منها إما ماض، وإما مضارع. فالمثبت إن كان ماضيا ففاصله: "قد" وإن كان مضارعا ففاصله أحد حرفي التنفيس. والمنفي: إن كان ماضيا ففاصله: "لا" فقط، وإن كان مضارعا ففاصله أحد حرفي التنفيس. والمنفي: إن كان ماضيا ففاصله: "لا" فقط، وإن كان مضارعا ففاصله: "لا"، أو: "لن" أو: "لم" وأما "لو" فإنها في الامتناع شبيهة بالنفي فتدخل على الماضي والمضارع" اهـ. وقد سبق في رقم 2 من هذا الهامش أن: "الرضى" جعل "ما" مثل "لا".
6 وإنما هو جائز في الأنواع التي ستذكر: إن لم يوجد مانع، إذ لا تدخل "أن" المصدرية الناصبة للمضارع على هذه الأنواع، فلا مجال لخوف اللبس بينها وبين المخففة، ومتى أمن اللبس كان الفصل جائزا لا واجبا.
7 على اعتبارها مخففة، لا مفسرة. وقد سبقت مناسبة أخرى للآية في أول الصفحة السالفة.(1/680)
عند إرادة النفى نحوَ: عقيدتى أنْ لا كاذبَ محترم؛ ومنه: أشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ.
"ب" أن يكون الخبر جملة فعلية جامد؛ نحوقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . وثقت أنْ ليس للكرامة مكان فى نفوس الأدنياء.
"حـ" أن يكون الخبر جملة فعلية؛ فعلها متصرف، ولكن قصد به الدعاء1 كالذى رواه أعرابى عن أخيه الواقف يدعو: أسأل ربى التوفيق لما يرضيه، ودوام العافية علىّ - ونظر إلىّ وصاح -: وأنْ كتب الله لك الأمن والسلامة ما حييت، وأن أسبْغَ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة فى قابل أيامك، وأنْ أهْلَك كلَّ باغٍ يَتَصَدّى لإيذائكَ.
وفى الرسم التالى بيان للصور السالفة:
__________
1 سواء أكان بخير أم شر، كما يتبين من المثال بعد.
2 وفي أحكام "أن" المخففة من الثقيلة يقول ابن مالك.
وإن تخفف "أن" فاسمها استكن ... والخبر اجعل جملة من بعد "أن"
تضمن هذا البيت حكمين من أحكامها الأربعة التي تترتب على التخفيف:
أولهما: أن لها اسما استكن، أي: استتر واختفى، لأنه لا يظهر في الكلام، وإنما يكون ضمير محذوفا. ولم يذكر أنه ضمير، لضيق الشعر. كما أنه خفف نون الفعل: "استكن" للضرورة. وثانيهما: أن خبرها يكون جملة، وأوضح بعد ذلك ما يكون في الجملة الفعلية الواقعة خبرا، حيث تكلم عن فعلها قائلا:
وإن يكن فعلا ولم يكن دعا ... ولم يكن تصريفه ممتنعا
فالأحسن الفصل بقد، أو: نفي، أو ... تنفيس، أو: لو. وقليل ذكر "لو"
أي: إن يكن صدر الجملة فعلا، لا يراد منها الدعاء، ولم يكن جامدا، فالأحسن الفصل بينه وبين "أن" المخففة بفاصل من الفواصل التي سردها في البيت الآخير.
"إن يكن فعلا.... يريد: إن يكن الخبر فعلا.... والفعل وحده لا يكون الخبر، وإنما الخبر الجملة المكونة من الفعل والفاعل معا. ففي التعبير تساهل. أو: المراد: إن يكن صدر الجملة فعلا".(1/681)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
ورد فى بعض النصوص القديمة - اسم "أنْ" المخففة من الثقيلة ضميراً بارزاً، لا ضميراً محذوفاً. ومعه الخبر جملة فعلية أومفرد. من ذلك قول الشاعر يخاطب زوجته:
فلوأنْكِ فى يوم الرَّخاءِ سألتِْنى ... طلاقَكِ، لم أبخَلْ وأنتِ صَديقُ
فقد وقعت "الكاف" اسم: "أنْ" وخبرها جملة: سألتنى. ومثل قول الآخر:
لقد علمَ الضيفُ والمرْمِلون1 ... إذا اغبرَّ أفق2 هُناكَ تكون الشِّمالا3
بلأتم ربيع4 وغيث مريع ... وأنك هناك تكون الشمالا5
ففى البيت الثانى تكررت "أنْ" المخففة مرتين، واسمها ضمير "بارز" فيهما، وخبر الأولى مفرد، وهوكلمة: "ربيع"، وخبر الثانية جملة فعلية هى: "تكون الثمال". وقد وصفت هذه الأمثلة الشعرية بأنها شاذة، أوبأنها لضرورة الشعر، كما وُصفت نظائرها النثرية بأنها شاذة. فالواجب أن نقتصر على الكثير الشائع الذى سردنا قواعده وضوابطه، منعاً للاضطراب فى التعبير، دون محاكاة هذه الشواهد التى تخالفها، والتى نقلناها، منعاً للاضطراب فى التعبير، دون محاكاة هذه الشواهد التى تخالفها، والتى نقلناها، ليعرفها المتخصصون فيستعينوا بها على فهم ما قد يكون لها من نظائرها قديمة. دون أن يحاكوها.
__________
1 الفقراء. المفرد: مرمل.
2 المراد: أسودت الدنيا في عين الإنسان: من شدة بؤسه وحاجته.
3 أي: هبت الريح شمالا. فكلمة: "شمالا" حال منصوبة. وصاحب الحال هو الضمير المستتر، فاعل الفعل: "هب" وهبوب الشمال الباردة العاصفة في بعض المواسم والبقاع قد يكون باعث فزع، ودليل قحط.
4 كالربيع موسم النضرة، والفواكه، ونمو الزروع، ونضجها، فأنت مثله - محبوب نافع: "مربع" خصيب. والغيث الخصيب، هو: المطر الغزير الذي يكون من آثاره إنبات الزرع، والخصب الكثير.
5 الشمال: الذي يغيث المحتاج، ويعين من يستعين به.(1/682)
الحرف الثالث: كأن
وأما "كأنّ" فيجوز تخفيف نونها المشددة "بحذف الثانية المفتوحة، وإبقاء الأولى ساكنة" ويترتب على التخفيف أمور؛ منها:
"ا" أن معناها لا يتغير، وإعمالها واجب.
"ب" أن اسمها - فى الأغلب - يكون ضميراً للشأن. أولغير الشأن؛ فمثال الأول. كأنْ عصفورٌ سهمٌ فى السرعة1، أى: كأنه "الحال والشأن" عصفورٌ سهمٌ. ومثال الثانى: يَدُقُّ البَرَدُ النافذةَ، وكأنْ حجرٌ، أى: كأنه حجر. ولوقلنا: يَدُق البرَدُ2 النافذة وكأنْ "حجر"3 صغير يَدُق - لجاز الاعتباران4.
وقد اجتمعت المشددة والمخففة فى قوله تعالى يصف المُضَلِّل عن سبيله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} 5.
"حـ" أن خبرها لا بد أن يكون جملة إذا وقع اسمها ضمير شأن6. فإن كانت اسمية فلا حاجة لفاصل بينها وبين "كأن" مثل: كأنْ سبَّاحٌ فى سباحته سمكة فى انسيابها. وإن كانت فعلية7، فالأحسن الفصل8 بالحرف
__________
1 فاسم "كأن" ضمير الحال والشأن المحذوف. وخبرها الجملة الاسمية بعدها. ولا يصح هنا أن يكون اسما ضميرا لغير الحال والشأن، لعدم وجود مرجع سابق يعود عليه. "وتفصيل الكلام على ضمير الشأن في ص 250....".
2 ما جمد من قطرات المطر، وصار قطعا ثلجية صغيرة.
3 فاسم "كأن" ضمير محذوف ليس ضمير شأن، لعدم وجود جملة بعده تفسره، وهي جملة لازمة له كما سبق في شرحه - ص 250 وما بعدها - وكما سيجيء في رقم 6 من هذا الهامش.
4 أي: يجوز اعتبار الضمير للشأن، لوجود جملة بعده تفسره، وعدم اعتباره للشأن، لوجود ما يصلح قبله أن يكون مرجعا له.
5 الوقر هنا: ثقل السمع، أو: الصمم. وأول الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا.....}
6 لأن ضمير الشأن - كما قلنا - لا بد له من جملة بعده تفسره. وهذه الحالة وحدها هي التي يجب فيها وقوع خبر: "كأن" المخففة جملة. أما باقي الحالات فيحوز أن يكون جملة أو غير جملة وفي بعض أمثلة مسموعة جاء اسم "كأن" المخففة اسما ظاهرا كقول الشاعر:
وصدر مشرق النحر ... كأن ثدييه حقان
ولا يقاس على هذا.
7 فعلها غير جامد، وغير دعائي "كما في الصبان".
8 لأن هذا الفصل هو الذي يفرق بين "كان المخففة من الثقيلة "وأن المصدرية" الناصبة المضارع، المسبوقة بحرف الجر الكاف.(1/683)
"قد" قبل الماضى المثبت، وبالحرف: "لم" قبل المضارع المنفى، نحو: كأنْ قد هَوَى الغريقُ فى البحر؛ كصخرة هَوَتْ فى الماء، وكأنْ لم يكن بين الغرق والنجاة وسيلة للإنقاذ.
الحرف الرابع: لكن
وأما "لكنّ" فيجوز تخفيف نونها المشددة "فتحذف الثانية المفتوحة، وتبقى الأولى ساكنة".
ويترتب على التخفيف وجوب إهمالها، وزوال اختصاصها بالجملة الاسمية؛ فتدخل على الاسمية، وعلى الفعلية، وعلى المفرد، ويبقى لها معناها بعد التخفيف وهو: الاستدراك1. ومن الأمثلة قول الشاعر:
ولستُ أجازِى المعتدِى باعتدائه ... ولكنْ بصفح2 القادر المتَحِلِم
وأما "لعل" فلا يجوز تخفيف لامها المشددة.
....................... 3
__________
1 قد سبق شرح معناه في رقم 1 من هامش ص 632.
2 الجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره: "أجازي" أو "أصافح" فتكون "لكن" داخلة على جملة فعلية. ويصح تعلقهما بمصدر محذوف تقديره: مجازاة - أي: ولكن مجازاته بصفح.... فتكون داخلة على جملة اسمية. والأول أوضح.
3 وفي الأحكام السالفة كلها يقول ابن مالك:
وخففت "كأن" فنوي ... مصنوبها وثابتا أيضا روى
فقد اقتصر على الإشارة إلى تخفيفها وإلى أن اسمها ينوي، أي: "يطوي في النفس، فيكون ضميرا، ولا يكون ظاهرا - نوي ينوي: طوي يطوي" وقد روى ظاهرا ثابتا في الكلام. وهذا قليل، سبق مثاله.(1/684)
"لا" النافية للجنس
مدخل
...
المسألة السادسة والخمسون: "لا النافية للجنس" 1
نسوق بعض الأمثلة لإيضاح معناها:
حين نقول: لا كتابٌ فى الحقيبة؛ بإدخال: "لا" على جملة اسمية - فى أصلها -، ورفع كلمة: "كتاب" - التى للمفرد" يكون معنى التركيب مُحتَمِلا أمرين:
أحدهما: نفى وجود كتاب واحد فى الحقيبة، مع جواز وجود كتابين أوأكثر فيها.
والآخر: نفى وجود كتاب واحد، وما زاد على الواحد؛ فليس بها شئ من الكتب مطلقاً. فالتركيب مُحتمِل للأمرين، ولا دليل فيه يعين أحدهما، ويمنع الاحتمال.
وكذلك حين نقول: لا مصباحٌ مكسوراً، "بإدخال: "لا" على جملة اسمية - فى أصلها - ورفع كلمة: "مصباح" التى للمفرد" فإن التركيب يحتمل أمرين:
أحدهما: نفى وجود مصباح واحد مكسور، ولا مانع من وجود مصباحين مكسورين؛ أوأكثر.
والآخر: نفى وجود مصباح واحد مكسور وما زاد على الواحد أيضاً. فلا وجود لشئ من جنس المصابيح المكسورة. فالتركيب يحتمل نفى الواحد المكسور فقط، كما يحتمل نفى الواحد وما زاد عليه.
ومثل هذا يقال فى: لا سيارةٌ موجودةً، بإدخال "لا" على جملة اسمية الأصل، ورفع كلمة: "سيارة" - التى للمفردة" حيث يحتمل التركيب الأمرين: نفى وجود سيارة واحدة، دون نفى سيارتين وأكثر، ونفى وجود شىء من جنس السيارات مطلقاًن فلا وجود لواحدة منها؛ ولا لأكثر.
مما سبق نعلم: أن، "لا" فى تلك الأمثلة - وأشباهها - تدل على نفى
__________
1 يلاحظ ما لا يصح أن يدخل عليه الناسخ، وقد سبق البيان في رقم 3 من هامش ص 544- وصرحنا في مواضع مختلفة أن اسم الناسخ "ومنه اسم "لا الجنسية" لا يكون شبه جملة مطلقا.(1/685)
يُحتَمل وقوعُه على فرد واحد فقط، أوعلى فرد واحد وما زاد عليه. ولمّا كان النفى بها صالحاً لوقوعه على الفرد الواحد سماها النحاة: "لا" - التى لنفى الوَحْدة "أى: الواحد" وهى إحدى الحروف الناسخة1 التى تعمل عمل "كان" الناقصة.
فإذا أردنا أن تدل الأمثلة السابقة وأشباهها على النفى الصريح2 العام3 ودب أن نضبط تلك الألفاظ ضبطاً آخر؛ يؤدى إلى هذا الغرض؛ فنقول: لا كتابَ فى الحقيبة؛ - لا مصباحَ مكسورٌ - لا سيارةَ موجودةٌ، فضبط تلك الكلمات المفردة بهذا الضبط الجديد - وهوبناء الاسم على الفتح، ورفع الخبر، كما سيجئ - يجعل النفى فى كل جملة صريحاً فى غرض واحد؛ لا احتمال معه لغيره، كما يجعله عامًّا؛ ينصبُّ على كل فرد؛ فيقع على الواحد، وعلى الاثنين، وعلى الثلاثة، وما فوقها، ولا يسمح لفرد أوأكثر بالخروج من دائرته.
ومثل هذا يقال فى نحو: لا مهملاً عملَه فائزٌ - لا راغباً فى المجد مُقصّرٌ ... ونحوهما مما يقع فيه الاسم منصوباً بعد: "لا" وليس مرفوعاً، والخبر هوالمرفوع - على الوجه الذى سنشرحه - فهى تنفى الحكم عن كل فرد من أفراد جنس الشئ الذى دخلت عليه نفيًا صريحًّا وعاماً؛ كما قلنا: وهذا مراد النحاة بقولهم فى معناها:
"إنها تدل على نفى الحكم عن جنس اسمها نصًّا"4. أو"إنها لاستغراق5 حكم النفى لجنس اسمها كله نصًّا." ويسمونها لذلك؛ "لا" - النافية للجنس"6. أى: التى قصد بها التنصيص على استغراق النفى لأفراد الجنس
__________
1 سبق تفصيل الكلام عليها مع أخواتها "في ص 601" وقد اقتضى المقام هناك - في رقم 2 من هامش ص 602 الإشارة إلى "لا" النافية للجنس، دون التفصيل الذي مكانه هنا.
2 أي: القاطع في أمر واحد، لا مجال معه للاحتمال السالف بين أمرين.
3 الذي يشمل نفي المعنى عن الفرد الواحد، وعما زاد عليه.
4 أي: بغير احتمال الأكثر من معنى واحد.
5 يراد بالاستغراق: الشمول الكامل الذي يتناول كل فرد من أفراد الجنس، دون أن يترك أحدا ويسميها بعضهم: "لا التي للتبرئة"، لأنها تدل على تبرئة جنس اسمها كله من معنى الخبر. وبهذا الاسم ترد في بعض الكتب القديمة، وتختص به، لقوة دلالتها على النفي المؤكد أكثر من أدوات النفي الأخرى.
والنفي بها قد يكون مطلق الزمن، أي: لا يقع على زمن معين. وإنما يراد منه مجرد نفي النسبة بين معموليها وسلب المعنى بغير تقييد بزمن خاص. نحو: لا حيوان حجر- لا وفاء لغادر ... وقد يراد بها نفي المعنى =(1/686)
كله. تمييزاً لها من: "لا" التى لنفى الوَحْدَة؛ فليست نصًّا فى نفى الحكم عن أفراد الجنس كله؛ وإنما تحتملِ نفيه عن الواحد فقط، وعن الجنس1 كله؛ على ما عرفنا. ...... -
"ملاحظة": سبق2 بيان هام في حكم "لا" النافية المهملة "أي: التي لا عمل لها في الجملة الاسمية ولا في غيرها" فإنها من ناحية أثرها المعنوي في الجملة الاسمية تشبه "لا" العاملة"ليس" فالحرفان متشابهان في المعنى دون العمل، إذ أن أحدهما يعمل، والآخر لا يعمل.
__________
= في زمن معين حين تقوم قرينة كلامية أو غير كلامية تدل على نوع الزمن- ويكثر أن يكون الحال - كقوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ... } وكأن يسأل سائل: أفي المزرعة الآن أحد؟ فيجاب: لا أحد فيها: وقد يكون الزمن بالقرينة مستقبلا، كقوله تعالى عن يوم القيامة {لا بشرى يومئذ للمجرمين} أو ماضيا - كقول الشاعر:
تعز، فلا إلفين بالعيش متعا ... ولكن لوراد المنون تتابع
وغير هذا من الأمثلة التي سيجيء بعض منها. فإن لم توجد قرينة فالغالب الحال.
1 لهذا يصح أن يقال مع "لا التي لنفي الوحدة" حين يكون اسمها مفردا: لا كتاب في الحقيقة، بل كتابان، أو: بل كتب فيها، فيكون القصد نفي المعنى عن الفرد الواحد دون ما عداه. ولا يصح أن يقال هذا مع "لا" النافية للجنس حين يكون اسمها مفردا.
وتسوقنا المناسبة إلى بيان أمر هام، وهو: أن المراد من النفي لا يختلف في نوعي "لا" "النافية للجنس، والنافية للوحدة" إذا كان اسمهما مثنى أو جمعا: نحو: "لا صالحين خائنان، أو: لا صالحين خائنون، ونحو: لا صالحان خائنين، ولا صالحون خائنين". فالنفي في هذه الصور لا يختلف من جهة احتماله أن يكون واقعا في كل صورة على الجنس كله فردا فردا، وأن يكون واقعا على القيد الخاص بالاثنينية أو بالجمعية، فالفرق الصحيح بين المراد من النفي في نوعي: "لا" إنما يظهر في موضع واحد، هو الموضع الذي يكون فيه اسمها مفردا، لا مثنى ولا جمعا - فيكون النفي في "لا" النافية للجنس نصا لا يقبل احتمالا، وشاملا كل فرد حتما. ويكون في النافية للوحدة محتملا أمرين. أما عند تثنية اسميهما أو جمعه فالنفي لا يختلف باختلاف نوعهما، فيكون محتملا في كل منهما إما نفي الحكم عن الجنس كله، وإما نفي قيد التثنية فقط، أو قيد الجمع فقط كما قلنا، فمؤداه فيهما واحد عند تثنية الاسم أو جمعه، ولكنه مختلف عند إفراد الاسم.
وصفوة القول في هذا المقام. أن "لا" العامة بنوعيها لا يختلف المراد منها إذا كان اسمها مثنى أو جمعا، إذ يكون المراد نفي الحكم عن الجنس كله فردا فردا، أو نفي القيد الخاص بالتثنية أو بالجمع، دون غيرهما، أما إذا كان الاسم مفردا فالفرق بين النوعين يكون كبيرا، فالتي لنفي الجنس تنفي الحكم عن كل فرد من أفراده على سبيل التنصيص والشمول، التي لنفي الوحدة يدور الأمر فيها بين أمرين، نفي الحكم عن أفراد الجنس كله، ونفيه عن فرد واحد منه، فالنفي فيها محتمل الأمرين ...
وما سبق موافق رأي" الصبان" هنا، وهو واضح مفيد، مؤيد بما قاله "السعد" في "المطول" وقد ختم "الصبان" الكلام بقوله نصا: "احفظ هذا التحقق ولا تلتفت إلى ما وقع في كلام البعض وغيره مما يخالفه...." اهـ.
2 وفي رقم 1 من هامش ص 601 و 2 من هامش ص 602.(1/687)
عملها وشروطه:
"لا" النافية للجنس حرف ناسخ من أخوات: "إنًَّ"1 ينصب الاسم2: ويرفع الخبر3. ولكنها لا تعمل هذا العمل إلا باجتماع شروط ستة:
أولهما: أن تكون نافية. فإن لم تكن نافية لم تعمل4 مطلقاً.
ثانيهما: أن يكون الحكم المنفى بها شاملا جنس اسمها كله، "أى: منصبًّا على كل فرد من أفراد ذلك الجنس". فإن لم يكن كذلك لم تعمل عمل "إنّ"5،: نحو: لا كتابٌ واحدٌ كافياً....، إذ أن كلمة: "واحد" قد دلت دلالة قاطعة على أن النفى ليس شاملا أفراد الجنس كله، وإنما هومقصور على فرد واحد.
ثالثهما: أن يكون المقصود بها نفى الحكم عن الجنس نصًّا - لا احتمالا - فإن لم يكن على سبيل التنصيص لم تعمل عمل "إنّ"5 كالأمثلة السالفة أول البحث.
رابعها: ألا تتوسط بين عامل ومعموله "بأن تكون مسبوقة بعامل قبلها
__________
1 ومن الفوارق بينهما صحة وقوع: "ما" الزائدة بعد: "إن" وأخواتها على الوجه السابق في بابهما، ولا يصح وقوعها بعد: "لا" وقد سبقت الإشارة لهذا في آخر رقم 5 من هامش ص 664 -
2 انظر الملاحظة المدونة في رقم 4 من هامش ص 410 وتختص بعدم وقوع "ما المصدرية" و"أن المصدرية" بنوعيها "المخففة والناصبة للمضارع" مع صلتهما مبتدأ بعد "لا" النافية للجنس غير المكررة -راجع البيان هناك-
3 سبق في أول هامش ص 444 ما يفيد أن خبرها كغيره من أخبار المبتدأ وأخبار النواسخ، قد يتمم المعنى بنفسه - كالأمثلة السالفة - وقد يتممه بنفسه مع تابعه حين لا تتحقق الفائدة به وحده كقول الشاعر:
ولا خير في رأي بغير روية ... ولا خير في جهل تعاب به غدا
هذا، ويشترط في خبرها ما يشترط في كل أخبار النواسخ مما سبقت إليه الإشارة في ص 546 و 547 وفي المبتدأ والخبر، هامش ص 443.
4 كأن تكون اسما بمعنى، غير، نحو: فعلت الخير بلا تردد، أو: تكون الزائدة، فلا تعمل شيئا في الحالتين، ولا تختص بالدخول على الجمل الاسمية، ومن الأمثلة الزائدة قوله تعلى مخاطبا إبليس:
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ....} وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَاب} ومثل، "لا" الثانية في قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة....} أو تكون ناهية فتختص بجزم المضارع، مثل: لا تتردد في عمل الخير.
"5 و5" وعملت عمل ليس، نحو: لا قلم مكسورا، أو أهملت وتكررت، نحو: لا قلم مكسور، ولا كتاب ضائع. "واختيار هذه أو تلك خاضع لما يقتضيه المعنى المراد".(1/688)
يحتاج لمعمول بعدها" كحرف الجر فى مثل: حضرت بلا تأخير1 وقول الشاعر:
مُتارَكةُ السَّفيه بلا جوابٍ ... أشَدُّ على السَّفيه من الجواب
خامسها: أن يكون اسمها وخبرها نكرتين2 فإن لم يكونا كذلك لم تعمل: مطلقاً3 ولا تعد من أخوات "إنّ" ولا "ليس"؛ كالتى فى قول الشاعر:
__________
1 تعرب "لا" اسما بمعنى "غير"، مجرورا بكسرة مقدرة على الألف. و "لا" مضاف و "تأخير" مضاف إليه مجرور، وهذا أوضح إعراب.
ويجوز أن تكون "لا" حرف نفي باقية على حرفيتها. وقد تخطاها حرف الجر "الباء" وعمل الجر مباشرة في كلمة: "تأخير" التي بعدها. و "لا" في هذه الصورة ليست زائدة.. بالرغم من أن العامل تخطاها، لأن الحكم بزيادتها يؤدي إلى فساد المعنى.
2 إلا في أمثلة مسموعة يجيء الكلام عليها في الزيادة والتفصيل "ص 695" ويدخل في حكم النكرة أمران:
1 شبة الجملة بوعيه. "الظرف والجار مع مجروره" وذلك على اعتبار شبه الجملة نفسه هو الخبر كما تقدم في ص 475 وما بعدها" أو على اعتبار أن متعلقه نكرة محذوفة، هي الخبر، كقولهم: لا قوة فوق الحق، ولا أمان مع الطغيان. وقولهم: لا راحة لحسود، ولا مروءة لكذوب، ولا خير في لذة تعقب ندما. وقول الشاعر:
لا خير في وعد إذا كان كاذبا ... ولا خير في قول إذا لم يحن فعل
"ويلاحظ هنا في إعراب:"لا" ومعوليها ما يجيء في رقم 2 من هامش ص 691. وقول الآخر:
فلا مجد في الدنيا - لمن قل ماله ... ولا مال -في الدنيا- لمن قل مجده
ب الجملة الفعلية "لأنها في معنى النكرة وبمنزلتها، "كما جاء في التصريح في هذا الباب، عند آخر الكلام على شروطها - كما في أبواب أخرى، والبيان في رقم 1 من هامش ص 213" وقد اشتملت الأساليب الفصحى على أمثلة للجملة الفعلية، نقلوا منها البيت السابق "في هامش ص 687" وهو:
تعز فلا إلفين بالعيش متعا ... ولكن لوراد المنون تتابع
ومنها:
يحشر الناس لا بنين ولا آ ... باء إلا وقد عنتهم شئون
فجملة"متعا" في البيت الأول في محل رفع خبر: "لا"، وكذلك جملة: "عنهم شئون" في البيت الثاني. والواو التي قبل هذه الجملة هي التي تزاد في خبر الناسخ. ما لم تأخذ بالرأي الذي يشترط في "لا" العاملة عمل "إن" ألا ينتقض نفيها بإلا. فإن أخذنا به - وهو الأشهر، كما سيجيء في آخر هامش الصفحة الآتية. كانت الواو للحال، والجملة بعدها حالية والخبر محذوف "وقد سبق في ص 550 وهامشها رقم 1 - وفي "أ" من ص 561 أن هذه الواو تدخل في خبر "كان" المنفية إذا سبقته "إلا" الناقضة للنفي، ومثله خر "ليس" المسبوق بالإعلى الوجه الذي أوضحناه هناك. وقيل تدخل في خبر غيرهما كالبيت السابق، وكقول أحد شعراء ديوان الحماسية: "فأمسى وهو عريان " وقولهم: "ما أحد إلا وله نفس إمارة". وقيل إن هذا مقصور على "كان وأخواتها" دون بقية النواسخ ... وهناك التفصيل.
3 لأن التعريف فيه تحديد وتعيين، وهذا يناقض أنها لنفي الجنس كله بغير تحديد ولا تعيين.(1/689)
لا القومُ قومى، ولا الأعْوان أعْوانى ... إذا وَنا1 يوم تحصيل العُلا وانِى
سادسها: عدم وجود فاصل بينها وبين اسمها. فإن وجد فاصل اهْملَتْ "أى: لم تعمل شيئاً" وتكررت؛ نحو: لا فى النبوغ حَظ لكسلان، ولا نصيبٌ2. وهذا الشرط يستلزم الترتيب بين معموليها3 فلا يجوز أن يتقدم الخبر - ولوكان شبه جملة - على الاسم. فإن تقدم مثل: لا لهازلِ هيبةٌ ولا توقير - لم تعمل مطلقاً.
وكذلك لا يجوز تقدم معمول الخبر على الاسم؛ ففى مثل: لا جندىَّ تاركٌ ميدانَه ... لا تعمل حين نقول، لا ميدانَه جندىٌّ تاركٌ.
فإذا استوفت شروطها وجب إعمالها4: "إن اقتضى المعنى ذلك؛ سواء أكانت واحدة، أم متكررة - على التفصيل الذى سنعرفه".
__________
1 تباطأ وأهمل. فإن لم يكن اسمها نكرة أهملت ووجب تكرارها، نحو: لا على مقصر،، ولا حامد. ومثل: لا البخل محمود، ولا الإسراف مقبول، وإن لم يكن خبرها نكرة وجب إهمالها، والغالب تكرارها أيضا. نحو: لا إنسان هذا ولا حيوان.
2 ومع تكرارها وعدم إعمالها - بسبب وجود فاصل- يظل معناها هو نفي الجنس كله نصا، بشرط وجود النكرتين بعد هذا الفاصل، فعدم إعمالها في هذه الحالة لا يخرجها عن أنها من الناحية المعنوية لنفي الجنس كله. بشرط دخولها على النكرتين بعد الفاصل.
3 لأن تقديم الخبر أو معموله على الاسم يؤدي إلى الفصل بين "لا" واسمها وهو ممنوع. ومن باب أولى لا يصح تقديم الخبر أو معموله عليها، لأن ما يقع في حيز النفي "أي: في مجاله ودائرته" لا يجوز أن يتقدم على أداة النفي، فلها الصدارة حتما. لكن هل يجوز أن يتقدم معمول الخبر على الخبر وحده؟ يجيب بعض النحاة: نعم.
4 الشروط الستة منها أربعة في "لا" مباشرة، هي: "كونها للنفي - لجنس - للتنصيص - عدم توسطها بين عامل ومعموله" واحد في معموليها، هو: "تنكيرهما معا" واحد في اسمها هو: اتصاله بها مباشرة وهذا يستلزم تأخير خبرها عن اسمها".
وزاد بعضهم شرطا فيها، هو: ألا ينتقض نفيها بإلا - طبقا للأشهر - كما سبق في "ب" من هامش الصفحة السابقة -.(1/690)
حكم اسم "لا" المفردة؛ "أى: المنفردة التى لم تتكرر". لهذا الاسم حالتان:
الأولى: أن يكون مضافاً1 أوشبيهاً بالمضاف2. وحكمه وجوب إعرابه، مع نصبه بالفتحة، أوبما ينوب عنها. فمن أمثلة المضاف:
لا قولَ زُورٍ نافعٌ............................
...
كلمة: "قول" اسم "لا"، منصوبة بالفتحة، لأنها اسم مفرد: ومضاف.
لا أنصارَ خيرٍ متنافورن...................
...
كلمة: "أنصار" اسم "لا"، منصوبة بالفتحة لأنها جمع تكسير، ومضاف.
لا ذا أدبٍ نمامٌ............................. ...
كلمة: "ذا" اسم "لا"، منصوبة بالألف نيابة عن الفتحة؛ لأنها من الأسماء الستة، مضافة.
لا نصيحتىْ إخلاصٍ أنفعُ من نُصح الوالدين
...
كلمة: "نصيحتى ... " اسم "لا"، منصوبة بالياء نيابة عن الفتحة، لأنها، مثنى مضاف؟
لا خائِنى وطنٍ سالمون................ ...
كلمة: "خائنى ... " اسم "لا" منصوبة بالياء نيابة عن الفتحة، لأنها جمع مذكر؛ مضاف.
لا مهملاتِ عملٍ مُكرماتٌ...............
...
كلمة: "مهملات" اسم "لا"، منصوبة بالكسرة نيابة عن الفتحة: لأنها جمع مؤنث سالم مضاف.
__________
1 إما لنكرة، وإما لمعرفة بشرط ألا يكتسب منها التعريف، بسبب توغله في الإبهام، ككلمة: "مثل" - نحو: لا مثل محمود مؤدب - ... و "غير" وسواهما مما لا يكتسب التعريف غالبا "كما أوضحنا في رقم 5 من هامش الجدول الذي في ص 80، وكذا في رقم 1 من هامش ص 422" لأن: "لا" لا تعمل في معرفة.
2 هو الذي يجيء بعده شيء يكمل معناه. بشرط أن يكون ذلك الشيء التالي: إما مرفوعا باسم "لا"، نحو: لا مرتفعا شأن خامل، وإما منصوبا به، نحو: لا متعهدا أموره مقصر "ويلحق بهذا النوع: الأسماء المعطوف عليها، وليست علما، نحو لا سبعة وأربعين غائبون، وتمييز العقود وغيرها. نحو: لا عشرين رجلا متكاسلون" وإما جارا ومجرورا متعلقين به، نحو: لا متواكلا في عمله محمود. فإن كان مجرورا بالإضافة فإنه يكون من المضاف لا من الشبيه بالمضاف، كما عرفنا -
والشبيه بالمضاف يجب أن يكون معربا ومنونا. إلا أن وجد مانع من التنوين. وأجاز فريق من غير البصريين عدم تنوينه، محتجا بقوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَج} ، لأن المعنى عنده: "ولا جدال في الحج مقبول" فالجار والمجرور من متممات اسم "لا" والخبر محذوف لا تعلق للجار والمجرور به. وكذلك قوله عليه السلام: "لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت" لأن المعنى عنده على حذف الخبر، والجار والمجرور من متممات اسم "لا" فهما متعلقان به، لا بالخبر- وقد أجيب عن هذين وأمثالهما بأن الخبر المحذوف، موضعه قبل الجار والمجرور، والأصل: "ولا جدال حاصل في الحج" ولا مانع مانع لما أعطيت، فالجار والمجرور متمم للخير المحذوف، متعلقان به وهذا تكلف مردود، لتكراره وتقييد موضعه في فصيح الكلام، وبالرغم منه يحسن التزام التنوين - لأنه الأكثر والأشهر الذي تتوحد عنده الألسنة -.
ولا يدخل شيء من التوابع الأربعة "كالنعت ما عدا صورة العطف السابقة...." في الأشياء التي تكمل المعنى، وتجعل الاسم بسببها شبيها بالمضاف: لأن الاسم غير عامل فيها - انظر رقم 2 من هامش. ص 703 -.(1/691)
ومن أمثلة الشبيه بالمضاف:
لا مرتفعاً قدرهُ مغمورٌ ... ... كلمة "مرتفعاً" اسم "لا" منصوبة بالفتحة
لا بائعاً دينَه بدنياه رابحٌ ... ... كلمة "بائعاً" اسم "لا" منصوبة بالفتحة
لا خمسةً وعشرين غائبون ... ... كلمة "خمسة" اسم "لا" منصوبة بالفتحة
لا ساعياً وراء الرزق محرومٌ ... ... كلمة "ساعياً" اسم "لا" منصوبة بالفتحة
لا قاعداً عن الجهاد معذور ... ... كلمة "قاعداً" اسم "لا" منصوبة بالفتحة
لا سائقَيْنٍ طيارةً غافلان ... ... كلمة "سائقين" اسم "لا" منصوبة بالياء لأنها مثنى
لا حارسِينَ بالليل نائمون ... ... كلمة "حارسين" اسم "لا" منصوبة لأنها جمع مذكر
لا راغباتٍ فى الشهرة مُسْتَريحاتٌ ... كلمة "راغبات" اسم "لا" منصوبة بالكسرة؛ لأنها جمع مؤنث سالم
ومن الأمثلة السالفة يتضح الإعراب مع النصب بالفتحة مباشرة فى المفرد1 وفى جمع التكسير، "ومثله: اسم الجمع2، كقوم، ورَهْط3. إذا كانا من الحالة الأولى المذكورة"، وبما ينوب عن الفتحة وهو: الألف، فى الأسماء الستة، والياء فى المثنى وجمع المذكر السالم، والكسرة فى جمع المؤنث السالم.
الثانية: أن يكون مفرداً "ويراد بالمفرد هنا: ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، ولوكان مثنى، أومجموعاً" وحكمه: وجوب بنائه على الفتح4 أوما ينوب عن الفتح5 فيبنى على الفتح مباشرة إن كان مفرداً أوجمع تكسير
__________
1 وهو الذي ليس بمثنى ولا جمع.
2 سبق - في رقم 2 من هامش ص 148 - بيان موجز عن "اسم الجمع"، وقلنا: إن البيان الوافي موضعه جـ4 ص 510 م 73 باب جمع التكسير.
3 جماعة.
4 وهناك حالة يبنى فيها على الضم، ستجيء في "ب" من الزيادة - ص 695 - ويعللون سبب البناء على الفتح بأنه تركيب "لا" مع اسمها، بحيث صارا كالكلمة الواحدة، فأشبها الأعداد المركبة كـ "خمسة عشر.... وغيرها". لكن السبب الحق هو استعمال العرب.
ومن المعلوم أنه حين بنائه على الفتح لا يدخله التنوين. وأنه يكون دائما في محل نصب: فلفظه مبني على الفتح أو ما ينوب عن الفتحة. ومحله النصب دائما. ولهذا يراعى المحل - أحيانا - في التوابع - كما سيجيء. في ص 694 وفي:"أ" من ص 702.
5 ولا تنوب الألف هنا عن الفتحة، لأن الألف تنوب عنها في نصب الأسماء الستة، حين تكون مضافة، والإضافة - في الأغلب - تتعارض مع حالة البناء التي نحن بصددها. ولهذا اضطربت آراء النحاة أمام الأسلوب الفصيح الوارد عن العرب من قولهم: "لا أبالك".... حيث وقع اسم "لا" منصوبا بالألف مع أنه مفرد "أي: غير مضاف"، فقالوا في تأويله: إن "أبا" مضاف للكاف، =(1/692)
أواسم جمع؛ مثل: لا عالمَ متكبرٌ1 - لا علماءَ متكبرون - لا قومَ للسفيه.
ويبنى على الياء نيابة عن الفتة إن كان مثنى أوجمع مذكر سالماً؛ نحو: لا صديقَيْن متنافران - لا حاسدِينَ متعاونون.
ويبنى على الكسرة نيابة على الفتحة إن كان جمع مؤنث سالماً، نحو: لا والداتٍ قاسياتٌ.
وبالوجهين روى قول الشاعر:
إن الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ، ولا لذات للشيب
ببناء كلمة: "لذات" على الفتح، أو على الكسر.
__________
= منصوب بالألف بغير تنوين، لأنه مضاف، واللام زائدة. والخبر محذوف. والتقدير: لا أباك موجود. ومع أنه مضاف - ليس معرفة، لأن إضافته غير محضة، فهي كالإضافة في قولنا: "غيرك"، و "مثلك".... ونحوهما مما لا يفيد المضاف تعريفا. وذلك القائل لم يقصد نفي أب معين، وإنما يقصد نفيه ومن يشبه، إذ هو - غالبا - دعاء بعدم الناصر، والإضافة غير المحضة ليس مقصورة على إضافة الوصف العامل إلى معمول، فلم تعمل "لا" في المعرفة. وإنما زيدت اللام بين المضاف والمضاف إليه دفعا لكراهية إدخال: "لا" على المضاف إليه الذي يشبه في صورته الظاهرية المعرفة، دون حقيقته المرادة.
وهناك آراء أخرى تقتضي الفائدة الإلمام بها "وقد ذكرناها تفصيلا عند الكلام على هذا الأسلوب ومعناه في ص 115" وكل رأي يواجه باعتراض. وانتهى الأمر إلى أن الأفضل اعتبار كلمة: "أبا" اسم "لا" مبنية على فتح مقدر على الألف "كما جاء في الخضري في أول باب "لا"، جريا على لغة العصر التي تلزم الألف فيها آخر الأسماء الستة. وعلى أساسها لا تكون كلمة "أبا" في الأسلوب السالف معربة. أما الخبر فالجار والمجرور بعدها.
ومن الأساليب المسموعة - بكثرة - أيضا قولهم: "لا غلمي لك" "بالتثنية" و "لا خادمي لك" "بالجمع" على اعتبار أن نون المثنى ونون الجمع قد حذفت كلتاهما للإضافة- كما سبق في ص 156 - وأن المثنى والجمع منصوبان، لأنهما مضافان. فكيف يعدان من نوع المضاف مع وجود اللام فاصلة بين المضاف والمضاف إليه، وهذا لا يجوز في رأي المعترضين؟
وقد أجيب بأن النون لم تحذف للإضافة، وإنما حذفت للتخفيف، فالكلمتان مبنيتان على الياء، لا معربتان، والجار والمجرور بعدهما خبر. وقيل: إن الكلمتين شبيهتان بالمضاف بسبب اتصال "لك" بهما. والنون محذوفة للتخفيف. وخبرهما محذوف.... إلى غير ذلك من الإجابات. ومن الواجب ألا نحاكي هذا الأسلوب برغم أن بعض النحاة يبيحه، "كما سيأتي في باب الإضافة، جـ 3 ص 10- م 93". لأن الأخذ به - ولا سيما اليوم - يبعد اللغة عن أخص خصائصهما، وهو: الإبانة، والوضوح، والفرار من اللبس.
1 ومن أمثلة المفرد:
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن حسن الجسوم عقول(1/693)
ومع أنه مبنى فى الحالات السالفة، هوفى محل نصب دائماً. أى: مبنى لفظاً منصوب محلا1.
__________
1 طبقا للبيان السابق في رقم 4 من هامش ص 692.
2 وبهذه المناسبة نشير إلى ما نسمعه اليوم من بعض الواهمين المتسرعين الذين يطلبون الأخذ برأي قديم ضعيف ملخصه، وضع اسم "لا" بأنواعه الثلاثة "لا المفرد، والمضاف، والشبيه بالمضاف" تحت حكم واحد، هو: "الإعراب والنصب" وأن يقال في إعراب الاسم المفرد: "إنه منصوب بغير تنوين" ويزعمون - خاطئين - أن في هذا تيسيرا واقتصارا على حكم واحد شامل بدل حكمين مختلفين. فكيف غاب عن بالهم ما في هذا الرأي من الخطل والفساد؟
ذلك أن اللغة في مصطلحاتها المشهورة، لا تعرف اسما معربا بغير تنوين، إلا الممنووع من الصرف للأسباب المعروفة، أو لداع آخر، كالإضافة، أو البناء أو بعض صور النداء.... فالأخذ بذلك الرأي يوجد في اصطلاحات اللغة قسما جديدا لا تعرفه من الأسماء المعربة الممنوعة من التنوين. على أن هذا القسم الجديد يحتاج - كما يقولون - إلى التصريح بأنه: "معرب منص ب بغير تنوين". وهذا حكم خاص به يختلف عن حكم النوعين الآخرين - فأين - غذا الاختصار والاقتصار على حكم واحد كما يتوهمون؟ وكيف خفى عليهم أن النصب هنا بغير تنوين معناه: "البناء على الفتح"، أو أن الكلمة ممنوعة من الصرف.... كما أشرنا -؟
وشيء آخر هام لم يفطنوا له، هو أن بناء الاسم المفرد على الفتح في محل نصب يقتضي أن يراعى محله حتما في بعض التوابع، فيؤثر فيها - كما عرفنا هنا، وكما سيجيء في ص 697 فتصير منصوبة منونة عند عدم المانع - تبعا لمحله فقط. وقد غاب عنهم هذا.(1/694)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" سبق1 أن من شروط إعمال "لا": تنكير معموليها. وقد وردت أمثلة فصيحة وقعت فيها عاملة مع أن اسمها معرفة. من ذلك قوله عليه السلام، إذا هلك كِسْرِى فلا كسرَى بعده، وإذا هَلَك قَيْصَرُ فلا قيصرَ بعده. ومن ذلك قولهم قضية" ولا أبا حسن2 لها. وقولهم: لا أمية3 في البلاد وقولهم: لا هيثم 4 الليلة للمطىّ. وقولهم: يُبْكَى على زيد ولا زيدَ مثلُه ... وغير هذا من الأمثلة المسموعة. وقد تناولها النحاة بالتأويل5 كي يخضعوها لشرط التنكير. وهوتأويل لا داعى لتكلفه مع ورود تلك الأمثلة الصريحة، الدالة على أن فريقاً من العرب لا يلتزم التنكير. فعلينا أن نتقبل تلك النصوص بحالها الظاهر دون محاكاتها، ونقتصر فى استعمالنا على اللغة الشائعة المشهورة التى تشترط الشروط التى عرفناها؛ توحيداً لأداة التفاهم، ومنعًا للتشعيب بين المتخاطبين بلغة واحدة.
ب- قلنا إن حكم اسم "لا" المفرد هوالبناء على الفتحة، أوما ينوب عن الفتحة. وقد يصح بناؤه على الضمة العارضة فى حالة واحدة6، هى أن يكون الاسم كلمة: "غير" - ونظيراتها - فتكون كلمة: "غير" مبنية على الضمة الطارئة
__________
1 في ص 689.
2 هي كنية: على بن أبي طالب، والد الحسن والحسين. وهذه عبارة نثرية من كلام عمر بن الخطاب، صارت مثلا في الأمر العسير يتطلب من يحله.
3 علم على الرجل الذي تنسب إليه الدولة الأموية.
4 اسم لص، أو اسم سائق إبل.
5 من ذلك قولهم: "إن المراد من المعرفة هنا - نكرة، فالمراد من: "قيصر، وأبا حسن، وأمية، وهيثم، وزيد - شخص، أي شخص، مسمى بهذا الاسم. فحين تقول: لا كسرى أو: لا قيصر بعده، تريد: لا مسمى بهذا الاسم، وحين نقول "لا أبا حسن لها: أي: لا مسمى بهذا الاسم لها، أو لا فيصل لها، وهكذا..... فالكلمة معرفة في الظاهر، ولكنها نكرة تأويلا. وهذا مسوغ لعمل "لا" عندهم. ومن تأويلاتهم: أن المعرفة كان قبلها مضاف محذوف ملحوظ، وهو نكرة. ثم أقيم المضاف إليه مقامه، فيقدرون في لا كسرى.... أو: لا قيصر بعده.... لا مثل كسرى، ولا مثل قيصر.... ولا مثل أبي حسن.... ولما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه صار الكلام: لا كسرى، لا قيصر، لا أبا حسن.... وعلى كل تأويل اعتراض، أو أكث سجلته المطولات.
والحق أن مثل هذا التأويلات افتعال لا خير فيه، لعدم مسايرته الحقيقة الناطقة، بأن بعض العرب قد يعمل: "لا" مع تعريف اسمها.
6 وهي التي سبقت الإشارة إليها في رقم 4 من هامش ص 692.(1/695)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فى محل نصب، بشرط أن تكون مضافة مسبوقة بكلمة: "لا - أو: ليس" - وبشرط أن يكون المضاف إليه محذوفاً قد نُوى معناه على الوجه المفصَّل فى مكانه من باب الإضافة نحو: قطعت ثلاثة أميال لا غيرُ - أوليس غيرُ - أى: لا غيرُها، أوليس غيرُها مقطوعاً.
والنحاة يقولون فى إعراب هذا: إنه مبنى على فتح مقدر، منع من ظهوره الضم العارض للبناء أيضاً - فى محل نصب. وفى هذا تكلف وتطويل يدعوهم إليه رغبتهم فى إخضاع هذا النوع الحكم المفرد بحيث يكون الحكم "وهوالبناء على الفتح فى محل نصب" عاماً مطردًا. لكن لا داعى لهذا التكلف، إذ لا مانع من أن يقال: إنه مبنى على الضمّ - مباشرة - فى محل نصب.
"كما فى الصبان والخضرى، عند كلامها على أحكام: "غير" فى باب الإضافة وستجئ فى الموضع الذى أشرنا إليه"1.
__________
1 جـ 3 ص 131 م 95.(1/696)
المسألة السابعة والخمسون: اسم "لا" المتكررة مع المعطوف
"1" ... لا خيرَ مرجومن الشِّرير، ولا نفعَ
لا خيرَ مَرجومن الشرير، ولا نفعاً
لا خيرَ مرجومن الشرير، ولا نفعٌ
...
إذا تكرّرت: "لا" وكانت كل واحدة مستوفية شروط العمل، فكيف نضبط الاسم الواقع بعد: "لا" المكررة، وهى التى ليست الأولى؟ 1.
لهذا الاسم صور متعددة بتعدد الأساليب التى يوضع فيها. ونبدأ بصورة من أكثر تلك الصور استعمالا؛ هى التي يكون فيها اسم لا الأولى مفرداً، واسم المتكررة مفرداً معطوفاً على اسم على الأولى. كما فى الأمثلة المعروضة2
"2" ... لا تقدمَ ولا رقيَّ مع الجهالة
لا تقدمَ ولا رقيًّا مع الجهالة
لا تقدمَ ولا رُفيٌّ مع الجهالة
"3" ... لا نهرَ فى الصحراء ولا بحرَ
ولا بحراً - ولا بحرٌ
يجوز فى هذا الاسم المفرد المعطوف أحد ثلاثة أشياء3:
أولها: البناء4 على الفتح، أوما ينوب عن الفتحة؛ فنقول فى المثال الأول: لا خيرَ مرجوولا نفعَ. على اعتبار "لا" المكررة نافية للجنس. "نفعَ" اسمها، مبنى على الفتح فى محل نصب - وخبرها محذوف5 تقديره: مرجُو- مثلا -
__________
1 أما الأولى فقد سبق الكلام عليها في ص 685 وما بعدها.
2 عرفنا - في ص 692 - أن المراد بالمفرد هنا. ما ليس مضافا ولا شبيها بالمضاف، فيدخل في المفرد بهذا المعنى، المثنى والجمع. وإذا تكررت والاسم غير مفرد فالحكم يجيء في رقم 1 من هامش ص 701.
3 ولكل إعراب معنى خاص به.
4 وفي حالة البناء لا يدخله التنوين، كالشأن في كل مبني، ولما سبق في ص 692 ورقم 4 من هامشها.
5 ومما هو جدير بالتنويه أن خبر الكررة قد يكون محذوفا كهذا المثال، وأن العطف فيه من نوع عطف الجملة على الجملة، خضوعا لقاعدة المطابقة. وقد يكون الخبر مذكورا والعطف عطف جملة على جملة كقولنا: لا خير مرجو من الشرير ولا نفع مرجو منه، ومثله: لا كرامة لمنافق، ولا شرف لكذاب، وقولهم: اللهم لا شكاية من قضائك، ولا استبطاء لجزائكن ولا كفران لنعمتك، ولا مناصبة لقدرتك. وقد يكون الخبر صالحا للاثنين معا كالمثال الثاني "لا تقدم ولا رقي مع الجهالة". فالظرف من حيث المطابقة صالح للاثنين، فالعطف عطف مفردات إن جعلنا الظرف خبرا عن المعطوف عليه والمعطوف معا. أما إن جعلناه خبرا لأحدهما فقط، وخبر الثانية محذوفا فالعطف عطف جمل. ومثل هذا يقال في المثال الثالث أيضلا فلا بد قبل الحكمم على نوع العطف "بأنه عطف جمل أو عطف مفردات" من النظر أولا إلى الخبر، ومطابقته، أو عدم مطابقته للمعطوف والمعطوف عليه معا، وأنه صالح للإخبار به عنهما، أو غير صالح. وهذه من الأمور التي تتطلب يقظة وإدراكا تأمين.(1/697)
مرجو 1. والجملة الاسمية الثانية معطوفة على الجملة الاسمية الأولى، فعندنا جملتان.
ونقول فى المثال الثانى: لا تقدمَ ولا رقىَّ مع الجهالة؛ فتكون كلمة: "رقىّ" اسم، "لا" الثانية على الاعتبار السابق، ولكن خبرها وخبر الأولى هوالظرف: "مع" فإنه يصلح خبراً لهما2.
ونقول فى الثالث: لا نهرَ فى الصحراء ولا بحرَ. فيجرى على هذا المثال ما جرى على الثانى2.
ثانيهما: الإعراب3 مع نصبه بالفتحة أوما ينوب عنها. فنقول فى المثال الأول: لا خيرَ مرجُومن الشرير، ولا نفعاً، بإعرابه منصوباً. وهذا على اعتبار: "لا" الثانية زائدة لتوكيد النفى؛ فلا عمل لها. وكلمة. "نفعاً" معطوفة بحرف العطف على محل اسم "لا" الأولى؛ لأن محله النصب. "فهومبنى فى اللفظ، لكنه منصوب المحل، كما سبق4".
ونقول فى المثال الثانى: لا تقدمَ ولا رقيًّا مع الجهالة. على الاعتبار السابق أيضاً؛ فتكون "لا" المكررة زائدة لتوكيد النفى، "رقياً" معطوفة على محل اسم "لا" الأولى. وخبر "الأولى" هوالظرف: "مع".
ونقول فى المثال الثالث: لا نهرَ فى الصحراء ولا بحراً؛ كما قلنا فى الأول تماماً.
ثالثها: الإعراب مع رفعه5 بالضمة، أوبما ينوب عنها؛ فنقول فى المثال الأول: لا خيرَ مرجومن الشرير، ولا نفعٌ. برفع كلمة: "نفع" على اعتبار "لا" الثانية زائدة لتوكيد النفى؛ فلا عمل لها. و"نفع" مبتدأ مرفوع، خبره محذوف، والجملة الاسمية الثانية معطوفة على الجملة الاسمية الأولى.
ويصح اعتبار "لا" الثانية عاملة عمل "ليس" وكلمة: "نفع" اسمها
__________
1 في مثل هذا المثال وأشباهه لا يمكن اعتبار كلمة: "نفع" المبنية معطوفة على كلمة: "خبر" المبينة، واكتسبت منها البناء. لا يمكن ذلك، لأن البناء لا ينتقل إلى التوابع، ولا يراعي فيها إن كان سببه بناء المتبوع- كما في "جـ" من هامش ص 701 وفي "أ" من ص 702 -.
"2 و2" انظر رقم 5 من هامش الصفحة السابقة.
3 الإعراب يقتضي تنوينه. إلا إن وجدنا ما يمنع التنوين، كمنع الصرف....
4 في ص 694 وهامشها.
5 ومع تنوينه أيضا، إلا إن وجد ما يمنع التنوين، كمنع الصرف.(1/698)
مرفوع، والخبر محذوف، والجملة من "لا" الثانية ومعموليها معطوفة على الجملة الأولى.
ويصح اعتبار "لا" الثانية زائدة لتوكيد النفى، وكلمة: "نفع" معطوفة على "لا" الأولى مع اسمها1، لأنهما بمنزلة المبتدأ المرفوع: فالمعطوف عليهما معاً يكون مرفوعاً أيضاً2.
ويجرى على المثالين الأخيرين ما جرى على المثال الأول؛ حيث يصح فى كلمتى رقىّ، و"بحر" الرفع على أحد الاعتبارات الثلاثة السابقة3.
"ملاحظة": إذا تكررت "لا" وكل واحدة مستوفية الشروط، مفردة الاسم؛ وكانت الأولى لنفى الوَحدة "أى: عاملة عمل ليس" جاز فى اسم المكررة بعد عاطف، أمران: أن يكون معرباً مرفوعاً بالضمة أوبما ينوب عنها، وأن يكون مبنيًّا على الفتح أوما ينوب عن الفتحة؛ مثل: لا قوىٌّ ولا ضعيفٌ أمام القانون. أو: لا قوىٌّ ولا ضعيفَ أمام القانون.
"ا" فالرفع - فى هذا المثال - إما على اعتبار "لا" المكررة زائدة لتوكيد النفى، والاسم بعدها معطوف على اسم الأولى؛ فالمعطوف مرفوع كالمعطوف عليه، والخبر عنهما هوالظرف: "أمام". وإما على اعتبار "لا" المكررة زائدة للنفى أيضاً، والاسم بعدها مبتدأ4. وإما على اعتبار "لا" المكررة عاملة عمل "ليس" والمرفوع بعدها اسمها5.
وإنما جاز الرفع على هذين الاعتبارين، ولم يجز النصب لأن النصب إنما يجرى على اعتبار أن "لا" المكررة زائدة، والاسم الذى بعدها معطوف على محل اسم الأولى، المبنى لفظاً المنصوب محلاً، ولما كان اسم الأولى هنا مرفوعاً، وليس مبنيًّا على الفتح
__________
1 أو على اسم "لا" وحده عند بعض النحاة - في هذه الصورة - وأشباهها مما يأتي- باعتباره مبتدأ في الأصل. ولا أثر للخلاف بين الرأيين.
2 إنما يصح هذا الاعتبار على تقدير: "لا خير ولا نفع مرجو من الشرير" بشرط أن يكون العطف هنا "عطف تفسير" لا مغايرة فيه بين معنى المعطوف والمعطوف عليه، كالتفسير في مثل: أخذت العسجد والذهب فصنته وانتفعت به. أما إن كان العطف مقتيا للمغامرة المعنوية - كأكثر حالات العطف - فلا يصح الإعراب السالف، إذ فيه تختل المطابقة حين نقول: لا خير ولا نفع مرجو من الشرير. والصواب: "مرجوان" كما تقول: لا كبير ولا صغير مهملان، لا مهمل.
3 تنطبق الاعتبارات السابقة على كلمة: "مال" في قول شاعرهم:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
4 وخبره هو الظرف: "أمام" وخبر الأولى محذوف. أو العكس، فيكون الظرف خبر الأولى وخبر الثانية هو المحذوف. وعلى كلا الاعتبارين تكون الجملة الاسمية الثانية معطوفة على الجملة الاسمية الأولى.
5 والخبر هنا ونوع العطف كالحالة السابقة.(1/699)
لفظاً. كان غير منصوب محلا؛ فلا يجوز العطف بالنصب على محل لا وجود له1.
ب- والبناء على على الفتح على اعتبار "لا" المكررة نافية للجنس، إلى هنا انتهى الكلام على أحكام اسم "لا" المكررة حين يكون مفرداً بعد كل واحدة. وهى أحكام تسرى على اسم "لا" المكررة2 مرة أو
__________
1 إلى كل الأحكام السابقة يشير ابن مالك إشارة موجزة بقوله:
عمل "إن" اجعل للا" في نكره ... مفردة جاءتك، أو: مكرره
يريد: اجعل عمل "إن" من اختصاص "لا" النافية للجنس المكررة وغير المكررة، فتعمل النصب في الاسم، والرفع في الخبر، بشرط أن يكون ما تعمل فيه نكرة، فلا يجوز أن يكون اسمها أو خبرها معرفة، ومن باب أولى لا يجوز أن يكون معرفتين، ثم قال:
فانصب بها مضافا أو مضارعه ... وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه
وركب المفرد اتحا، كلا ... حول ولا قوة. والثان اجعلا:
مرفوعا، أو: منصوبا أو مركبا ... وإن رفعت أولا لا تنصبا
عرف في هذه الأبيات لأحكام اسم "لا" فقال: انصبه، "لأنها العامل الذي يعمل فيه النصب" وذلك حين يكون مضافا، أو مضارعا له، أي: مشابها للمضاف. وبعد ذلك الاسم المنصوب اذكر الخبر رافعا إياه. ويؤخذ من هذا البيت أمران.
أولهما: أن اسم:"لا" يكون معربا منصوبا حين يقع مضافا، أو شبيها بالمضاف.
وثانيهما: أن الخبر يرفع بشرط أن يجيء بعد الاسم، غير متقدم عليه، فلا بد من الترتيب بينهما بحيث يتقدم الاسم ويتأخر الخبر. ولم يتعرض لبقية الشروط التي ذكرناها.
وأوضح بعد ذلك حكم الاسم الذي ليس مضافا ولا شبيها به، وهو: الاسم المفرد، فقال: "ركب المفرد فاتحا" اي: ركبه مع "لا" فاتحا إياه، بأن تجعله مبنيا على الفتح كلمة واحدة، مثل: خمسة عشر، وغيرها من الأعداد المبنية على الفتح، من أجل تركيبها" ومثال المفرد المبني كلمة: "حول"، وكلمة "قوة" في نحو: "لا حول ولا قوة أمام قدرة الله. وهو مثال أيضا للاسم "لا" المكررة. وبين أن حكم اسمها الرفع، أو النصب، أو التركيب مع "لا" فيكون مبنيا معها على الفتح" أي: أن اسم "لا" المكررة إذا كان مفردا يجوز فيه ثلاثة أشياء: الرفع، أو النصب، أو البناء على الفتح". ثم أوضح أن هذه الثلاثة جائزة بشرط أن يكون أسم "لا" الأولى غير مرفوع فإن كان مرفوعا- لأنها عاملة عملس "ليس، أو مهملة، لعدم استيفائها الشروط- لم يجز في اسم "لا" المكررة إلا الرفع أو البناء على الفتح، ولم يجز فيه النصب، وقد شرحنا ذلك كله، وعرضنا لأسبابه.
2 في مثل: قصدتك يوم لا حر ولا برد.... يجوز جملة إعرابات، منها: رفع كلمتي: "حر" وبرد" على اعتبار "لا" ملغاة، أو عاملة عمل "ليس" ومنها: بناء الكلمتين على الفتح باعتبارها "لا" عاملة عمل "إن" - والخبر في كل الصور السالفة محذوف. ومنها جر الكلمتين باعتبار "لا" اسم بمعنى "غير" وهو مضاف، ونعت، منعوتة كلمة: "يوم" مع تنوين يوم. والمضاف إليه هو الكلمتان المجرورتان - راجع الصبان جـ2 باب الإضافة، عند الكلام على "إذا" ففيه بعض البيان -.(1/700)
أكثر، بشرط استيقفاء كل واحدة شروط العمل، وإفراد اسمها؛ كما عرفنا1.
حكم المعطوف على اسم "لا" بغير تكرارها2.
إذا لم تتكرر: "لا" الجنسية وعطف على اسمها جاز فى المعطوف النكرة الرفع
__________
1 أما إذا تكررت "لا" المستوفية الشروط ولم يكن اسم كل واحدة مفردا فإن الحكم يختلف باختلاف الصور الناشئة من ذلك، وأهمها:
1- أن تكون الأسماء كلها مضافة أو شبيهة بالمضاف، نحو: لا زارع حقل، ولا بستاني حديقة هنا، فيجوز في الاسم بعد المكررة إما النصب على اعتبارها نافية الجنس، وهو اسمها منصوب بها، وخبرها محذوفة، أو: هو المذكور، وخبر الأولى محذوف، والجملة الاسمية الثانية معطوفة على الأولى في الحالتين. وإما النصب أيضا لكن على اعتبارها زائدة لتوكيد النفي، وهو معطوف على اسم الأولى المنصوب. والظرف، "هنا" خبر عنهما "والعطف عطف مفردات، لأن المعطوف ليس جملة، وكذلك المعطوف عليه". وإما الرفع على اعتبار "لا" مهملة: "وبعدها مبتدأ. أو على اعتبارها عامة عمل: "ليس" وهو اسمها، والخبر في الحالتين محذوف أوهو المذكور. والجملة الاسمية الثانية معطوفة على الجملة الاسمية الأولى "وعند اعتبار المذكور خبرا يكون الخبر الآخر محذوفا".
ب- أن يكون الاسم بعد الأولى مضافا أو شبيها بالمضاف، وبعد المكررة مفردا مثل: لا عمل خبر ولا بر أولى من إكرام الوالدين، فيجوز في الاسم المفرد بعد المكررة أن يكون اسمها مبنيا على الفتح، لأنها نافية للجنس وخبرها محذوف أو هو المذكور وخبر الأخرى هو المحذوف، والجملة الاسمية الثانية معطوفة على الجملة الاسمية الأولى.
ويجوز فيه النصب عطفا على اسم الأولى المنصوب "عطف مفردات" ويجوز فيه الرفع على اعتبار "لا" نافية للوحدة وهو اسمها. أو على اعتبارها مهملة وهو مبتدأ، والخبر في الحالتين محذوف أو هو مذكور وخبر الأخرى هو المحذوف، والجملة فيهما معطوفة على الجملة الاسمية الأولى.
حـ- أن يكون الاسم بعد الأولى مفردا وبعد المكررة مضافا أو شبيها، نحو لا برولا عمل خبر أولى من إكرام الوالدين.... فالاسم بعد الأولى مبني وبعد المكررة يجوز فيه النصب عطفا على محل اسم الأولى، وتكون "لا" المكررة زائدة لتوكيد النفي، أو: أن الثانية نافية للجنس والاسم بعدها منصوب بها، والخبر محذوف أو مذكور وهي مع جملتها معطوفة على الأولى مع جملتها. وهنا العف عطف جمل. ويجوز رفعه على أنه اسم لا العاملة عمل "ليس" أو على أنه مبتدأ وهي مهملة، وفي الحالتين يكون الخبر محذوفا أو مذكورا على حسب الجملة، والعطف فيهما عطف جمل.
وهذا ولا تراعى حالة البناء في اسم الأولى لأن البناء لا يراعى في التوابع - كما سبق - في رقم 1 من هامش ص 698 ويأتي في "ا" من ص 702.
ومن المفيد التنويه مرة أخرى بأن اعتبار العطف عطف جمل أو عطف مفردات، إنما يتوقف على الخبر المذكور، أهو خبر للأولى وحدها فيكون خبر الثانية محذوفا ويكون العطف من نوع عطف الجمل، أم أنه خبر الثانية، فيكون خبر الأولى المحذوف، والعطف عطف جمل أيضا؟ أو أنه صالح لهما معا "كما إذا كان شبه جملة" فيصح أن يكون العطف عطف مفردات، أو جمل، نحو: لا سيارة ولا طيارة هنا. فإن جعلنا الظرف خبرا لأحدهما فقط وجعلنا خبر الأخرى هو المحذوف فالعطف عطف جمل. فمن المهم التنبه لهذا كله، وإلى مطابقة الخبر وعدم مطابقته.
2 وهذا الحكم خاص بالمعطوف على اسم "لا" دون أخواتها من الحروف الناسخة، فلهن أحكام أخرى سبقت في ص 665.(1/701)
أوالنصب فى جميع الحالات "أى: سواء أكان مفرداً أم غير مفرد، وسواء أكان اسمها - وهوالمعطوف عليه -، مفرداً أم غير مفرد، ومن أمثلة ذلك:
"ا" لا كتابَ وقلمٌ فى الحقيبة. أو: لا كتابَ وقلماً فى الحقيبة. فيجوز فى المعطوف أمرانْ:
الرفع على اعتبار أن كلمة: "قلم"، معطوفة على "لا" مع اسمها، وهما بمنزلة المبتدأ المرفوع، فالمعطوف عليهما مرفوع أيضاً. أو: على الاسم وحده باعتباره مبتدأ فى الأصل - وهذا أحسن -.
والنصب على اعتبار أن كلمة: "قلم" معطوفة على محل اسم "لا" المبنى، لأنه مبنى فى اللفظ لكنه منْصوب المحل، فيجوز العطف عليه بمراعاة محله، لا لفظه "لأن البناء لا يراعى فى التوابع، كما سبق"1.
"ب" لا كتابَ هندسة وقلمُ رصاص فى الحقيبة، يجوز فى المعطوف الأمران، الرفع على الاعتبار السالف، والنصب على العطف على لفظ اسم "لا" المنصوب.
"حـ" لا كتابَ حساب وقلمٌ أوقلماً فى الحقيبة. يجوز فى المعطوف الأمران: الرفع أوالنصب على الاعتبارين السالفين فى: "ب".
"د" لا كتابَ وقلمَ ُ رصاص، فى الحقيبة. يجوز فى المعطوف الأمران: الرفع أوالنصب على الاعتبارين السالفين فى: "ا".
فإن كان المعطوف معرفة لم يجز فيه إلا الرفع على اعتباره مبتدأ2 ...
وعلى ضوء الصور والأساليب السالفة - إفراداً وتركيباً - تُضبط الصور الأخر التى لم نعرضها هنا. ويجب مراعاة الخبر بدقة، ليظهر المعنى، وليمكن تمييز نوع العطف إن وجد3.
حكم المعطوف على اسم "لا" المكررة.
يتَبَع المعطوف عليه، "أى: يتبع اسمها" فى إعرابه رفعاً ونصباً دون أن يتبعه فى البناء كما عرفنا.
__________
1 في رقم 1 من هامش ص 698 وفي آخر "حـ" من هامش ص 701.
2 لأن اسم: "لا" بنوعيها لا يكون عرفة، وعند عطفه على اسم الأولى يكون بمنزلة الاسم مع عدم صلاحيته لذلك:، بسب تعريفه. هكذا يعللون. والعلة الصحيحة هي نطق العرب، واستعمالهم.(1/702)
المسألة الثامنة والخمسون: حكم نعت اسم "لا"
لا تاجرَ خداع ناجحٌ ...
كيف نضبط الكلمات التى تحتها خط وهى: "خدّاع - مسرعة - رديئة" وأشباعها من كل كلمة وقعت نعتاً، مفرداً، لاسم: "لا" النافية للجنس، المفرد ولم يفصل بين النعت والمنعوت فاصل؟
لا سيارةً مسرعة مأمونةٌ
لا كتابةَ، رديئة ممدوحةٌ
يجوز فى ضبط هذا النعت أحد أمور ثلاثة:
"ا" بناؤه على الفتح أوبما ينوب عن الفتحة؛ كالشأن فى اسم: لا، فنقول: لا تاجرَ خداعَ ناجحٌ - لا سيارةَ مسرعةَ مأمونةٌ - لا كتابةَ رديئةَ ممدوحةٌ.
"حـ" إعرابه مرفوعاً بالضمة أوبما ينوب عنها. على اعتباره نعتاً لكلمة: "لا" مع اسسها؛ وهما معاً بمنزلة المبتدأ المرفوع؛ فنعتهما مرفوع كذلك. أولاسمها وحده3 تقول:
__________
1 فالشرط ثلاثة. أن تكون الكلمة: نعتا مفردا "أي: ليست مضافة، ولا شبيهة بالمضاف" - وأن يكون اسم: "لا" مفردا، وألا يفصل بين النعت والمنعوت فاصل.
هذا، والنفي ينصب في الحقيقة على النعت. وسيجيء في الزيادة: - " ص 707 - أسلوب خاص يشتمل على نوع من النعت له حكم يختلف عما سيذكر هنا.
2 على تخيل أنه ركب مع اسم "لا" قبل مجيئها كتركيب خمسة عشر، وغيرها من الأسماء المركبة من كلمتين صارتا بمنزلة كلمة واحدة، وبنيت على فتح الجزأين بسبب التركيب. ولا يصح أن يكون بناء النعت هنا تبعا لبناء اسم "لا" لما تقرر من أن بناء المتبوع لا ينتقل إلى التابع. كما أن وجود نعت لاسم "لا" المفرد لا يخرج الاسم على حالة الإفراد - كما سبق في آخر رقم 3 من هامش ص 691 -، لأنه لا عمل له في النعت.
3 باعتبار أن أصله مبتدأ.(1/703)
لا تاجرَ خداعٌ ناجحٌ -لا سيارةَ مسرعةٌ مأمونةٌ- لا كتابةَ رديئةٌ ممدوحةٌ. فإن اختل شرط من الشروط السالفة لم يصح بناء النعت على الفتح، وصحّ أن يكون مرفوعاً أومنصوباً. فإذا كان النعت غير مفرد، مثل: لا تاجر خَدّاعَ الناس ناجحٌ، لا يجوز أن يكون النعت "وهو: خداع" مبنيًّا على الفتح1 ويجوز أن يكون مرفوعاً أومنصوباً على الاعتبار الذى أوضحناه سالفاً "فى: "ب وجـ"" وإن كان المنعوت غير مفرد، مثل: لا تاجرَ خشبٍ خداعٌ ناجحٌ، لم يجز البناء على الفتح أيضاً2، وجاز الرفع أوالنصب كسابقه.
وكذلك الحكم إن وجد فاصل بين النعت والمنعوت؛ مثل لا تاجرَ وصانعٌ خَدَّاعان ناجحان. فلا يجوز بناء كلمة، "خداعان" بل يجب رفعها أونصبها.
ومما يلاحظ أن المنعوت إذا كان غير مفرد بأن كان مضافاً أوشبيهاً بالمضاف" فإنه سيجئ بعده ما يفصل بينه وبين النعت حتماً.
__________
1 وفي هذه الأحكام يقول ابن مالك:
ومفردا نعتا لمبني يلي ... فافتح، أو: انصبن، أو: ارفع، تعدل
يريد: أن النعت المفرد، الذي يلي اسم "لا" المبني، يجوز فيه الفتح، أو النصب. وإن شئت، فارفعه، تكن عادلا بين الرفع وغيره. أو تكن عادلا بين الثلاثة "والفاء في: "فافتح زائدة لتحسين اللفظ، فلا تمنع من تقدم معمول ما دخلت عليه. مثل كلمة: "مفردا" هنا".
2 لأن بناء على الفتح يقوم على تخيل أنه مركب مع اسم "لا" كتركيب الأسماء التي يقتضي التريب بناءها على فتح الجزأين، كسبعة عشر، وغيرها من الأعداد والأسماء المركبة - كما أوضحناه في رقم 2 من هامش الصفحة 703 - وهذا التركيب لا يكون إلا بين كلمتين فقط. فإذا كان النعت غير مفرد، أو كان المنعوت غير مفرد - ترتب على هذا أن يقع التركيب بين أكثر من كلمتين، وهذا مرفوض. وكذلك الشأن لو وجد فاصل بين النعت والمنعوت، فإنه سيؤدي إلى قيام التركيب بين أكثر من كلمتين.
3 وإلى النعت غير المستوفي للشروط يشير ابن مالك بقوله:
وغير ما يلي، وغير المفرد ... لا تبن: وانصبه، أو الرفع اقصد
يقول: إذا كان النعت لا يلي المنعوت، لوجود فاصل بينهما، أو كان أحدهما أو كلاهما غير مفرد - فلا تبن النعت، بل انصبه، أو اقصد إلى الرفع، فأنت مخير بين النصب والرفع - دون البناء. ثم أشار بعد ذلك إلى حكم العطف على اسم "لا" التي لم تتكرر، فقال: إن حكم المعطوف هو كحكم النعت المفصول. ذلك الحكم الذي يقضي باختيار النصب أو الرفع دون اختيار البناء. وقد شرحنا حكم ذلك العطف تفصيلا، ويقول فيه ابن مالك:
والعطف إن لم تتكرر: "لا" احكما ... له بما للنعت ذي الفصل انتمى
انتمى، أي: انتسب. واحكما، أصلها: احكمن، بنون التوكيد الخفيفة، وقلبت ألفا عند الوقف.(1/704)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
البدل النكرة "وهوالصالح لدخول: "لا"" كالنعت المفصول، نحو؛ لا أحدَ، رجلا، وامرأةً فيها. بالنصب أوالرفع، ولا يجوز بناؤه على توهم تركبه مع المبدل منه، لأن البدل على نية تكرار العامل: "لا"، فيقع بين البدل والمبدل منه فاصل مقدر يمنع من ذلك التركيب الوهمى. وأجازه بعضهم لأن هذا الفاصل - وهو"لا" - يقتضى الفتح1.
فإن كان البدل معرفة وجب رفعه2، نحولا أحد محمدٌ وعلىٌّ فيها. وكذا يقال فى عطف البيان.
وأما التوكيد فالأفضل فى اللفظىّ منه أن يكون جارياً على لفظ المؤكَّد من ناحية خلوه من التنوين. ويجوز رفعه أونصبه. وأما المعنوى فيمتنع هنا تبعاً للرأى الشائع القائل: إنه لا يَتْبَع نكرة؛ لأن ألفاظه معارف. أما على الرأى القائل إنه يتبعها فيتعين رفعه، لعدم دخول "لا" على المعرفة3.
__________
1 ومن المستحسن هنا عدم الأخذ بهذا الرأي الذي يوقع في لبس.
2 على اعتباره بدلا من "لا" مع اسمها وهما بمنزلة المبتدأ المرفوع....، أو من اسمها بحسب أصله المبتدأ.
3 حاشية الخضري جـ1 باب "لا" عند الكلام على تكرارها ووقوع اسمها بعد عاطف.(1/705)
المسألة التاسعة والخمسون: بعض أحكام أخرى
...
المسألة التاسعة الخمسون: بعض أحكام أخرى
"ا" دخول همزة الاستفهام على "لا" النافية للجنس1.
إذا دخلت همزة الاستفهام على: "لا" النافية للجنس صار الأسلوب إنشائيًّا، ولم يتغير شىء من الأحكام السالفة كلها - وهذا أوضح الآراء وأيسرها - يتساوى معه أن تكون "لا" مفردة، ومكررة، وأن يكون الاسم مفرداً وغير مفرد، منعوتاً وغير منعوت، معطوفاً وغير معطوف.... إلى غير ذلك من سائر الأحكام التى أوضحناها.
ولا فرق فيما سبق بين أن تكون الهمزة للاستفهام الصريح عن النفى المحض "أىْ: دون قصد توبيخ أوغيره ... "؛ نحو: ألا رجلَ حاضراً2؟ أوللاستفهام المقصود به التوبيخ3؛ نحو: ألا إحسانَ منك وأنت غنى؟. أوللاستفهام المقصود به التمنى4؛ نحوألامالَ5 فأساعدَ المحتاج6؟
__________
1 وكذلك على "لا" التي لنفي "الوحدة" كما تقدم في رقم 1 من هامش ص 604 منقولا عن الخضري ...
2 إذا كان السؤال عن عدم حضور أحد من الرجال.
3 ولا يسمى الآن استفهاما، فقد تحول عنه إلى الغرض الجديد، "من التوبيخ، أو التمنى، أو: غيرهما" وتسميته استفاما إنما هي بحسب أصله قبل أن يتحول.
4 انظر الزيادة والتفصيل ص 707.
5 الخبر محذوف، تقديره، موجود. "راجع ما يأتي في الزيادة والتفصيل - 707 - خاصا بكلمة: "ألا" التي للتمني".
6 وفيما سبق يقول ابن مالك:
وأعط "لا" مع همزة استفهام ... ما تستحق دون الاستفهام(1/706)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
"ا" ومن الأساليب الصحيحة فى التمنى: "ألا ماءَ ماءَ بارداً". فكلمة "ماء" الثانية نعت1 للأولى: فهومبنى على الفتح، لأنه بمنزلة المركب المزجىّ مع اسم "لا" ويجوز نصبه، ولكن يمتنع رفعه عند سيبويه ومن معه - على مراعاة محل "لا" مع اسمها، وأنهما بمنزلة المبتدأ، ويجوز عند المازنى ومن وافقه.
وعلى هذا، تكون "ألا" التى: للتمنى محتفظة عند بعض النحاة - بجميع الأحكام الخاصة التى كانت لكلمة: "لا" قبل دخول الهمزة. وقبل أن يصبرا كلمة واحدة للتمنى.
وإذا لم يكن خبرها مذكوراً فهومحذوف. ويخالف فى هذا فريق آخر كسيبويه فيرى أنها حين تكون للتمنى - لا تعمل إلا فى الاسم؛ فلا خبر لها؛ لأنها صارت بمنزلة: أتمنى. فقولك: "ألا ماء"، كلام تام عنده؛ حملا على معناه، وهو: أتمنى ماء. فلا خبر لها لفظاً ولا تقديراً، واسمها هنا يكون بمنزلة المفعول به. ولا يجوز إلغاء عملها فى الاسم، كما لا يجوز الوصف ولا العطف بالرفع مراعاة للابتداء؛ كما أشرنا. ولا يقع هذا الخلاف فى النعوت الأخرى. التى سبق حكمها2.
والرأى الأول -مع عيبه- أفضل؛ لأنه مطرد يساير القواعد العامة؛ فلا داعى للأخذ بالرأى الثانى المنسوب لسيبويه ومن معه.
ويتعين تنوين كلمة: "بارداً"، لأن العرب لم تركب أربعة أشياء3 تركيباً مزجياً، ولا يصح إعراب كلمة: "ماء" الثانية توكيداً ولا بدلا؛ إذ يكون مقيداً بالنعت الآتى بعده، والأول مطلق؛ فليس مرادفًا له حتى يؤكده، ولا مساوياً له حتى يبدل منه بدل مطابقة.
لكن جوز بعضهم التوكيد فى قوله تعالى: {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ
__________
1 لجواز النعت بالجامد الموصوف بالمشتق، مثل: مررت برجل رجل صالح وهو من النعت الذي يسمى نعتا موطئا، أي: ممهدا "إذ يحصل به التمهيد للنعت بالمشتق الذي بعده"، وسيجيء بيان هذا في موضعه الخاص - وهو باب النعت جـ 3 ص 370 م 114.
2 في ص 703.
3 راجع ص 300 و 313 حيث المركب المزجي "تعريفه، وأنواعه، وحكمه".(1/707)
كَاذِبَة} فكذا هنا. وجوز بعضهم أن يكون عطف بيان"؛ لأنه يجيز أنّ يكون أوضح من متبوعه1.
"ب" قد ترد كلمة: "ألا" للاستفتاح والتنبيه "بقصد توجيه الذهن إلى كلام هام مؤكد عند المتكلم؛ يجئ بعدها"2. وهى كلمة واحدة. لا عمل لها، فتدخل على الجملة الاسمية والفعلية؛ نحو: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون} وقوله: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} فقد دخلت على "ليس".
كما تجئ وهى كلمة واحدة للعَرْض3، والتحضيض؛ فتَخْتَص بالجملة الفعلية؛ فمثال العَرْض: ألا تشاركنى فى الرحلة الجميلة. ومثال التحضيض ألاَ تقاوم أعداء الوطن.
جـ - يجرى على خبر "لا" ما يجرى على سائر الأخبار، من جواز الحذف - وكثرته - إنْ دلَّ دليل. وليس من اللازم لجواز الحذف أن يكون الخبر هنا شبه جملة فقد يكون شبه جملة كقول الشاعر:
إذا كان إصلاحى لجسمىَ - واجباً ... فإصلاح نفسى لا محالة أوجب
اى: لا محالة فى ذلك. وقول الآخر:
لا يصلح الناس فِوْضَى لا سَرَاة4 الهم ... ولا سَراةَ إذا جُهَّالهم سادوا
أى: ولا سَرَاة لهم إذا جُهَّالهم سادوا. وقد يكون جملة؛ كان يقال: هل من جاهل يصلح للسيادة؟
__________
1 الخلاف شديد بين النحاة في كل إعراب من هذا الإعرابات "وتراه ملخصا في آخر باب "لا النافية للجنس" في الجزء الأول من "التصريح، والصبان، وموجزا في حاشية الخضري"
والذي يمكن استصفاؤه من الجد العنيف وما يتضمنه من اعتراضات هو: صحة الإعرابات السالفة كلها، وأن أحسنها إعراب الكلمة الثانية "نعتا "نعتا موطئا "كما سيجيء في باب النعت من الجزء الثالث ص 370 م 114 طبقا لما أشرنا".
2 كمما في رقم 1 من هامش ص 649.
3 العرض: طلب الشييء برفق. والحض: طلبه بشدة وقوة. وتفصيل الكلام عليهما في الجزء الرابع: باب: ألا، ولولا، ولوما.... م 162 ص 477.
4 جمع سري، وهو: الشريف، كريم الحسب.(1/708)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيجاب: لا جاهلَ. أى: لا جاهل يصلح للسيادة.... وقد يكون مفرَداً كالأمثلة الآتية بعد:
والدليل على الحذف قد يكون مقاليًا؛ كأن يقال: من المسافر؟ فيجاب: لا أحد. أى: لا أحدَ مسافر. وقد يكون الدّليل مفهوماً من المقام والحالة الملابسة؛ كأنْ يقَال للمريض: لا بأسَ، أى: لا بأس عليك. وللسارق: لا نجاة، أى: لا نجاة لك. وبغير الدليل لا يصحّ الحذف....1.
ومن الأساليب التى حذف فيها الخبر: "لا سيما" وقد سبق الكلام عليها2. فى ص 363-.
ومنها: لا إله إلا الله3؛ ومنها: لا ضَيْرَ4. ومنها: لا ضرر ولا ضِرَار5. ومنها: لا فوْت6....
وقد يحذف الاسم لدليل، نحو: لا عليك. أى: لا بأس عليك.
د- بمناسبة الكلام على: "لا" يتعرض بعض النحاة لتفصيل الكلام على
__________
1 وفي هذا يقول ابن مالك:
وشاع في هذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
2 في الجزء الأول: "آخر باب: الموصول" 28 ص 401".
3 يصح في كلمة: "الله" في هذا المثال - كما سيجيء في الصفحة التالية - الرفع إما باعتبار أنها بدل من "لا" مع اسمها، لأنهما في حكم المبتدأ، إذ هما في محل رفع بالابتداء عند سيبويه.... و..... ووإما باعتبار أنها بدل من اسم "لا" قبل دخول الناسخ عليه، فقد كان في أصله مبتدأ قبل مجيء "لا" وإما باعتبارها بدلا من الضمير المستتر في الخبر المحذوف - وهذا هو الرأي الشائع - وتقدير الضمير "هو" فتكون كلمة: "الله" بدلا منه.
ويصح نصب كلمة: "الله" على الاستثناء، لأن الكلام تام غير موجب، فيجوز فيه البدلية والنصب - كما هو معروف في أحكام المستثنى - "راجع الصبان حـ2 أول باب الاستثناء. حيث عرض الآراء السالفة" وقالوا لا يجوز في لفظة: "الله" وأشباهها - أن تكون بدلا من لفظ "إله" لأنه مستثنى منه منفي، والمستثنى هنا موجب بسبب وقوعه بعد" "إلا"، والعامل المشترك الذي عمل فيهما معا هو "لا". فيترتب على هذا الإعراب أن تكون "لا" قد عملت في الموجب- لأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه، عند أكثرهم -، وه لا تعمل في الموجب. هذا سبب المنع عند أكثرهم. لكن آخرين يقولون بالجواز، بحجة أنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل - طبقا للبيان الذي يجيء في باب: "الاستثناء" -.
4 لا ضرر.
5 لا ضرار: لا ضرر ولا معارضة ولا مخالفة بغير حق.
6 لا فوات، ولا ضياع وقت أو غيره.(1/709)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأسلوب الذى يشتمل على: "لا جرمَ" واعتبار "لا" زائدة. أوغير زائدة. وقد سبق1 تفصيل هذا فى رقم 4 من ص 595.
هـ- إن جاء بعد "لا" جملة اسمية صدرها معرفة، أوصدرها نكرة لم تعمل فيها - بسبب وجود فاصل، مثلا - أوجاء بعدها فعل ماض لفظاً ومعنى2 لغير الدعاء - وجب تكرارها فى أشهرا الاستعمالات. فمثال الاسمية التى صدرها معرفة قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} 3.
والشطر الثاني من قول الشاعر:
عليها سلام لا تواصل بعده ... فلا القلب محزون "ولا الدمع سافح4
ومثال النكرة التى لم تعمل فيها قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ5 وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُون 6 ... } . ولم تعمل هنا لوجود فاصل.
ومثل الماضى قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ... } وفى الحديث: إن المنْبَتَّ7 لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وقولهم: والله لا حاق الشر إلا بأهله، ولا لصق العار إلا بكاسبه.
"و" إذا وقعت كلمة "إلاّ" بعد "لا" جاز فى الاسم المذكور بعد "إلا" الرفع والنصب. نحو: لا إلهَ إلا اللهَ، - بالرفع أوالنصب، ولا سيفَ إلا ذوالفَقَار. أوذَا الفقار فالنصب على الاستثناء، والخبر محذوف قبل "إلاّ". والرفع على البدل؛ إما من محل "لا" مع اسمها؛ والخبر محذوف قبل "إلاّ". والرفع على البدل؛ إما من محل "لا" مع اسمها؛ وإما على البدل من
__________
1 في رقم 4 من ص 657.
2 الماضي لفظا ومعنى هو - كما تقدم في ص 52 "د" - ما كانت صيغته كالماضي وكذلك معناه فإن كان زمنه للحال أو الاستقبال فهو ماضي اللفظ دون المعنى، ومنه: لا غفر الله للقائل: فإنه فعل ماض الدعاء، والدعاء يجعل معناه مستقبلا. وفي هذه الحالة لا يجب تكرار "لا".
3 إن كانت الجملة الاسمية دعائية لم يجب معها تكرار "لا" ولو كانت هذه الجملة مستوفية للشروط، كقولك للمحسن الذي تدعو له: لا فقر يصيبك.
4 ومثله قول الآخر:
فلا هجره يبدو - وفي اليأس راحة - ولا وده يصفو لنا فنكارمه
5 صداع وضرر، أو سكر.
6 تسلب عقولهم.
7 الذي انقطع عن رفاقه في السفر، بسبب إرهاقه دابته في الإسراع حتى عجزت، فسبقه الوفاق.(1/710)
الضمير المستتر فى الخبر المحذوف، وإما من محل اسم "لا" بحسب أصله الأول؛ فقد كان مبتدأ، وقد أوضحنا هذا قريباً1.
"ز" إذا لم تعمل: "لا" بسبب دخولها على معرفة، أولوجود فاصل بينها وبين اسمها - فالواجب عند الجمهور تكرارها - كما تقدم -.
ويلزم تكرارها2 مع اقترانها بالواوالعاطفة إذا وليها مفرد منفى بها وقع خبراً أونعتًا، أوحالا؛ نحو: علىٌّ لا قائمٌ ولا قاعدٌ، ومررت برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ، ونظرت إليه لا قائماً ولا قاعداً.
وتتكرر أيضاً إذا دخلت على الماضى لفظاً ومعنًى، وكان لغير الدعاء -كما سلف- نحو: محمود لا قام ولا قعد. وقد يغنى عن تكرارها حرف نفى آخر؛ وهذا قليل؛ مثل لا أنت أبديت رأيك ولم تظهر غرضك. ومنه وقول الشاعر: " ... فلا هوأبداها ولم يتجمجم"3، وبمناسبة صحة هذا على قلته ننقل هنا ما قاله الصبان، في باب: الاشتغال - جـ1 وحكم الاسم السابق، وكيف يضبط عند شرح بيت ابن مالك:
"واختبر نصب قبل فعل ذي طلب ... وبعد ما إملاؤه الفعل غلب....."
حيث قال الأشموني: إن النصب يختار في مواضع، منها.... و.... ومنها النفي بما، أو: لا، أو: إن، وضرب الأمثلة الآتية الحرفي هو: "ما زيدا رأيته، ولا عمرا كلمته، وإن بكرا ضربته ... " وهنا قال الصبان ما نصه: "قوله: ولا عمرا كلمته.... مقتطع من كلام، أي: لا زيدا رأيته، ولا عمرا كلمته، لأن "لا" الداخلة على الماضي غير الدعائية، يجب تكرارها. كذا نقله شيخنا عن الدنوشري وأقره هو والبعض. وعندي أنه يقوم مقام تكرار لا الإتيان بدل "لا" الأولى بما "النافية" كما في المثال، لأنها مثلها في الدلالة على النفي وفي الصورة، إذ كل منهما فقط ثنائي آخره ألف لينة" اهـ.
__________
1 في رقم 3 من هامش ص 709.
2 راجع الصبان أيضا جـ2 آخر باب: "النعت".
3 من كلام زهير في معلقته التي أولها:(1/711)
ولم تتكرر فى نحو: لا نَوْلُك أن تفعل كذا ... لأنه بمعنى: لا ينبغى1....
فلم يبق شيء لا تتكرر فيه وجوباً سوى المضارع؛ نحو: حامد لا يقوم ...
تم الكتاب ولله الحمد والمنة
__________
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم...........................
1 فكأنها دخلت على المضارع، فلا يجب تكرارها، وقد سبق الكللام على هذا الأسلوب ومعناه في ص 7 وسيجيء أيضا في الرقم التالي:
2 قال الرضي: "يجب تكرير "لا" المهملة الداخلة على غير لفظ الفعل إلا في موضعين، أحدهما: أن تكون داخلة على الفعل تقديرا. وذلك إذا دخلت على منصوب بفعل مقدر، نحو: لا مرحبا، أي: لا لقيت مرحبا. أو لا رحب موضعك مرحبا. أو على جملة اسمية بمعنى الدعاء، نحو: لا سلام على الخائن، لأن الدعاء بالفعل أولى، فكأنه قيل "لا" لا سلم سلاما، ولذا دخلت على "قولك" كما مر- في "ز" وفي ص 450 - قولهم: لا نولك أن تفعل كذا، بمعنى: لا ينبغي لك،.... والنول العطية، وهو مبتدأ، وما بعده مصدر مؤول خبره. وقيل فاعل أو نائب فاعل سد مسد الخبر على اعتبار أن "النول" بمنزله الوصف الذي له مرفوع يسد مسد الخير - وإنما لم تتكرر "لا" في هذه المواضع لأنها إذا دخلت على الفعل لم يجب تكرارها إلا إذا كان الفعل ماضيا غير دعاء، نحو قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} .
وثانيهما: أن تكون بمعنى "غير" مع أحد ثلاثة شروط:
1- أن تدخل على لفظة: "شيء" سواء انجر بالإضافة نحو: هو ابن لا شيء أو بحرف الجر - أي حرف كان - نحو: كنت بلا شيء، وغضبت من لا شيء، أو انتصب، نحو: إنك ولا شيئا، أو ارتفع، نحو أنت ولا شيء.
2 أن ينجر ما بعد "لا" بباء الجر قبلها، نحو: كنت بلا مال، ولا ينجر إذا لم يكن لفظ شيء" إلا بها من بين حروف الجر.
3- أن يعطف ما بعد "لا" على المجرور بكلمة "غير" كقوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ... } أهـ راجع التصريح هنا.(1/712)
الفهرس:
"1" المقدمة: وتتضمن الأسباب الداعية لتأليف هذا الكتاب، وتوضح منهج تأليفه، وتبيين قيمة النحو، ومزاياه.
"ب" بيان الأبواب العامة التي يشتمل عليها هذا الجزء.
رقم الصفحة عنوان الباب
13 الكلام وما يتألف منه.
72 الإعراب والبناء، والمعرب والمبني.
206 النكرة والمعرفة.
217 الضمير.
286 العلم.
321 اسم الإشارة.
340 الموصول.
421 المعرف بأداة التعريف وهي أل"
441 الابتداء. المبتدأ والخبر.
543 نواسخ الابتداء: "كان وأخواتها.. وهي: "ما - لا - لات - إن"
614 أفعال المقاربة. أفعال الشروع.
أفعال الرجاء
630 الحروف الناسخة
"إن" وأخواتها"
685 "لا" النافية للجنس.
تفصيل المسائل والموضوعات التي تشتمل عليها الأبواب العامة السابقة، مع ملاحظة أن العناوين المكتوبة في الفهرس بخط صغير هي بعض الموضوعات الواردة في: "الزيادة، والتفصيل"، والهوامش.
1- مقدمة الكتاب، ودستور تأليفه. بيان هام
باب الكلام وما يتألف منه
المسألة الأولى
13 الكلمة. الكلام "الجملة".
الكلم. القول
الكلمة والمعنى الجزئي والمعنى المركب.
أول حروف الهجاء: "الهمزة" لا "الألف". حروف المباني، حروف الربط، ومنها حروف المعاني.
عدد الأحرف في الكلمة العربية.
14 الكلمة قبل إدخالها في التركيب لا توصف بإعراب ولا بناء(1/713)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
15 الكلام الجملة، جمل زال عنها اسم الجملة، كجملة النعت، وجملة الشرط ... اللفظ.
16 الكلم - القول- إشارة لبعض أنواع المركب.
17 استعمال "الكلمة" بمعنى: "الكلام".
17 أقسام الكلمة.
من أي أقسامها "اسم الفعل؟ "
18 موازنة بين الأنواع السابقة.
21 إشارة إلى اسم الجنس، وأنواعه.
22 ما يجوز في اسم الجنس الجمعي، وفي ضميره، وخيره، والإشارة إليه.
23 تكلمة في معناه، والمراد منه.
24 أنواعه.
25 تعريف القاعدة.
المسألة الثانية.
26 أقسام الكلمة: "اسم - فعل - حرف".
الاسم وعلاماته.
الجر - والتنوين.
27 المناداة "النداء".
28 حكم حرف النداء إذا دخل على مالا ينادي.
العلامة الرابعة والخامسة:
"أل" و "الإسناد".
29 سبب تعدد علامات الاسم. علامات أخرى.
30 طريقة الإسناد إلى اسم يراد لفظه.
31 فائدة حكاية اللفظ.
32 أقسام الاسم.
المسألة الثالثة
33 أقسام التنوين وأحكامه.
الأول: تنوين الأمكنية، توضيحه.
متى ينون الممنوع من الصرف؟
34 مناقشة أسباب منع الصرف، رفضها.
37 الثاني: تنوين التنكير.
38 الثالث: تنوين التعويض.
39 إعراب المموع من الصرف المحذوف آخره.
رفض آراء النحاة في بعض صيغ منتهى الجموع.
40 تنوين: "كل وبعض" وحكم إدخال "أل" عليهما.
41 تنوين المقابلة.
تثنية العلم أو جمعه مما يزيل علميته.
43 تحريك التنوين.
مواضع حذف التنوين.
مواضع حذف التنوين، ومنها آخر الكلمات الموصوفة بكلمة: "ابن"
44 متى تحذف همزة الوصل من كلمتي: ابن وابنة.
المسألة الرابعة
46 الفعل وأقسامه، علامة كل. للزمن ملغي في التعريفات العلمية، وفي بعض الأفعال الأخرى
"مثل: كان الزائدة - نعم - بئس ... ".(1/714)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
47 لا يصح اعتبار اللفظ زائدا إذا أمكن اعتباره أصيلا
الفعل والجملة الفعلية والاسمية في حكم النكرة.
أحرف المضارعة، واستعمالها.
48 علامات الماضي.
49 كلمة عن اسم الفعل.
50 كلمة عن تاء التأنيث وهائه.
مكان تاء التأنيث من الفعل متى نستعملها هي أو نون النسوة؟ تحريكها أحيانا.
حركة أول الساكنين.
التقاء الساكنين.
إشارة إلى جواز التقاء الساكنين في مواضع
نوع الزمن في الماضي.
52 أثر "قد" في تقريبه من الحال.
53 وكذلك "ما" النافية.
لا يصح تقديم شيء من مدخول "قد" عليها.
دخول "قد" على الفعل الماضي المنفي. حكم دخولها على المضارع المنفي: "لا".
56 علامات المضارع
السين وسوف.
لا يصح أن يدخل عليهما نفي.
بعض أحكام خاصة بهما "وانظر ص 60".
57 نوع الزمن في المضارع.
60 عودة إلى السين وسوف، معناهما.
الفرق بينهما.
62 نوع الزمن عند عطف فعل على فعل.
64 علامة الأمر.
علامتان مشركتان بين المضارع والأمر.
65 نوع الزمن في الأمر.
المسألة 5
66 الحرف، معناه.
معنى أدوات الربط.
حروف المباني، وحروف المعاني، وحروف التوكيد.
معنى زيادة اللفظ.
68 قد يراد بالحرف الكلمة مطلقا.
69 إذا وقع بعد المبتدأ أداة شرط، فأين الخبر؟ وأين الجواب؟
70 وقوع معنى الحرف الأصلي على ما بعده.
الحروف الزائدة، الغرض منها.
أثرها. عدم تعلقها بعامل.
متى يكون اللفظ زائدا؟
صحة زيادة الباء في مثل: كيف بك، وخرجت فإذا بالأصدقاء ...
71 الحروف نوعان: عامل، ومهمل. حروف الجر قد تسمى: "حروف الإضافة".
الحروف الآحادية وغيرها.(1/715)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش
باب الإعراب والبناء - المعرب والمبني.
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 6
72 معنى كل، وسببه.
73 حقيقة العامل.
الرأي فيما يوجه للعامل من مطاعن
74 فائدة الإعراب.
75 كلمات لا توصف بإعراب ولا بناء.
76 المعرب والمبني من الأسماء، والأفعال، والحروف.
المبني لا تراعي ناحيته اللفظية في توابعه.
أولا - الحروف
ثانيا - الأسماء - المبني منها وجوبا، والمبني جوازا.
79 إذا سمي بالاسم المفرد أعرب ونون.
- ما لم يمنع من الصرف.
80 ثالثا - الأفعال.
أحوال بناء الماضي.
أحوال بناء الأمر.
الفعل المؤكد بالنون لا يتقدم عليه معموله إلا في الضرورة، أو أن يكون المعمول شبه جملة.
81 أحوال بناء المضارع.
82 اتصال نون النسوة بالفعل مباشرة دون نون التوكيد.
82 المضارع المبني لفظا المعرب محلا.
84 "أ" الإعراب المحلي والتقديري، وأثرهما.
84 جدول لأشهر المبنيات، وعلامة بنائها
87 علامة لا توصف بأنها علامة إعراب ولا بناء. "وانظر ص 106".
88 "ب" "الرأي في أسباب البناء والإعراب
91 زيف كثير من التعليلات ولا سيما:
"أنواع الشبه الوضعي والمعنوي"
94 "ح" إعراب أمثلة معقدة يكون المضارع فيها مفصولا من نون التوكيد.
توالي الأمثال الممنوع، وغير الممنوع.
96 متى يجوز التقاء الساكنين؟
97 مواضع تتحرك واو الجماعة؟
ما نوع حركتها؟
ضابط عام في تحريكهما- إيضاح لما سبق
99 "هـ" رأي في السكون في آخر الماضي
"و" أنواع معدودة من المبني بناء عارضا، وأخرى لا تعد مبنية.
المسألة 7
100 أنواع البناء والإعراب. "أو: ألقا بهما" علامة كل منهما.
علامات البناء الأصلية.
منها: السكون، وقد يسمي: "الوقف". الفتح. الضم. الكسر.
101 العلامات الفرعية.
102 جدول يشمل علامات البناء الأصلية والفرعية، ومواضعها.(1/716)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش
رقم الصفحة الموضوع
103 أنواع الإعراب. علاماتها الأصلية.
104 علاماتها الفرعية مفصلة
عودة إلى المؤكد بنون التوكيد.
وأن معموله لا يتقدم عليه
106 السبب في أن لكل واحد من الإعراب والبناء علامات خاصة به.
نوع من نيابة الحرف عن الحركة.
علامات لا توصف بأنها علامة إعراب،
ولا بناء "انظر ص 87".
الكلام على: "الأتباع".
107 الإشارة إلى نوع آخر من حركة الإتباع.
المسألة 8
108 "أ" الأسماء الستة. طريقة إعرابها. اللغات التي فيها.
109 "ذو" وتفصيل الكلام على استعمالها.
110 - فائدتها. متى تجمع وجوبا جمع مؤنث سالم "ذوات"؟ وكذلك ابن آوي وبنات آوي ... ؟
111 ما يحسن الاقتصار عليه من لغات الأسماء الستة.
112 متى يرجع الحرف الأصلي المحذوف من الثلاثي؟
114 ما فائدة دراسة تلك اللغات؟
إعراب ما سمي بواحد من هذه الأسماء
115 متى يحذف حرف إعرابها؟
معنى: "لا أبا لفلان" وإعرابه.
المسألة 9
117 "ب" المثني - تعريفه.
الحقيقي منه والمجازي.
118 التغليب. معناه. تقسيمه، حكمه.
العرب قد تغلب المؤنث.
119 المراد من المثني في اللغة والنحو.
المراد من الملحق بالمثني، ومن الجمع واسم الجمع. المثنى في المعنى يجوز
إفراده، وتثنيته، وجمعه، إذا أضيف إلى ما يتضمنه. اسم المثنى.
120 ملحقات المثنى: كلا وكلتا اثنان واثنتان. إضافتهما.
123 اللغات المختلفة في إعراب المثنى.
124 عود إلى: "كلا وكلتا".
الضمير العائد عليهما، وعلى كلمات أخرى تشبههما. "مثل: كم - من - ما أي - بعض.."
125 بعض حالات إعرابية تصلح للتوكيد أو لا تصلح.
ما سمى بالمثنى، الغرض من التسمية.
طريقة إعرابه.
126 حروف العلم لا يدخل عليهما نقص ولا زيادة.
126 طريقة تثنية المسمى بالمثنى.
128 شروط المثنى.
129 من شروط تثنية القلم تنكيره قبل التثنية، ثم تعريفه بعدها، السبب في ذلك. الطريقة
لإعادة التعريف إلى العلم بعد تثنيته.
130 طريقة إعراب الاسم المركب.
133 متى تهمل التثنية استغناء بالعطف.(1/717)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
134 الرأي في: "أنتما قائمان" وفي بعض الملحقات
"اثنان واثنتان"
إعراب كلمة: "عشر" بعدهما
135 متى تحذف نون المثنى؟
تثنية بعض كلمات محذوفة الآخر "مثل: أب - يد ... ".
136 إشارة إلى بعض أحكام هامة أخرى تتعلق بالمثنى ونونه ودلالته على أكثر من اثنين.
المسألة 10
137 "ح" جمع المذكر والسالم.
تعريفه.
سبب تسميته هو وجمع المؤنث السالم بجمعي التصحيح.
العدد الذي يدل عليه كل منهما. ضبط كلمة: "السالم" فيهما.
إطلاق الجمع لغة على الاثنين "المثنى".
138 حكم الاستغناء بالعطف عن الجمع.
139 دلالة الجامد والمشتق، نوع دلالة الوصف "أي: المشتق" إذا صار علما.
زوال العلمية عند الجمع. الطريقة لإعادة التعريف للجمع. العلم جامد ولو كان في
الأصل مشتقا.
عودة إلى: "التغلب".
140 شروطه
141 المراد من خلوه من تاء التأنيث.
كيفية جمع أنواع المركب جمع مذكر سالم
143 نوع تاء التأنيث في الصفة "أي: في المشتق".
146 كيف يجمع المبني جمع مذكر سالم؟
المسألة 11
148 الملحق بجمع المذكر.
أنواع الستة السماعية.
كلمة عن اسم الجمع.
149 العموم الشمولي والعموم البدلي.
151 التسمية بجمع المذكر السالم.
153 إعراب ما سمي به.
155 طريقة جمع المسمى به، وبملحقاته.
156 عودة للكلام على "نون" المثنى وجمع المذكر من جهة حركتها، وفائدتهما، وحذفها،
وما يترتب على الحذف.
زيادة الفاء للتحسين.
157 إعراب كلمة "عشر" بعد اثنى ... واثنتي....
158 قد يدل المثنى على معنى الجمع.
159 حالات تقدير الواو. زيادة موضع لالتقاء الساكنين.
160 ما يتبع في تثنية أعضاء الجسم، وجمعها.
التثنية جمع لغوي.
161 هل يثني جمع التكسير ويجمع؟
المسألة 12
162 د جمع المؤنث السالم، تعريفه، شروطه، سبب تسميته هو وجمع المذكر السالم
بجمعي التصحيح - كما سبق - ضبط كلمة: "السالم".(1/718)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
162 الاستغناء عنه بالعطف أحيانا.
هل الأفضل تسميته بالجمع المزيد بالألف والتاء؟ أنواع المؤنث.
163 العدد الذي يدل عليه هذا الجمع.
164 حكمه.
165 ملحقاته.
حركة "الكاف" في "كن" وأصل "كان".
166 إشارة إلى السبب في التسمية بالجمع.
حكم التنوين في آخر ما سمي به.
167 حكم في ضبط حروف الهجاء عند قصرها.
168 الأشياء التي ينقاس فيها هذا الجمع.
170 حركة عين الثلاثي.
171 تثنية المركب الإضافي وجمعه هذا الجمع.
طريقة جمع أسماء الأجناس التي في صدرها كلمة "ذو" أو ابن، أو أخ....
172 طريقة تثنية المسمى بهذا الجمع، وجمعه.
المفرد الذي لا يجمع جمع المذكر سالم لا يجمع جمع مؤنث سالم، الرأي في هذا
المسألة 13
174 "هـ" إعراب مالا ينصرف، والأحكام المتصلة بهذا.
175 قاعدة لغوية في ضبط الفعل: "جر" وأشباهه.
176 قد يعرب جمع المؤنث إعراب ما لا ينصرف.
بعض المبنيات يعرب إعراب الممنوع من الصرف.
بعض القبائل يجعل "أم" مكان: "أل".
المسألة 14
177 "و" الأفعال الخمسة، وأحكامها.
179 الفرق بين "النساء لن يسعفون - النساء يعفون - الرجال يعفون."
حذف نون الرفع لغير ناصب أو جازم.
حالات نون الرفع مع نون الوقاية
180 ملخق حالات نون الرفع.
181 الرأي في مثل: "هما يفعلان"، وتفعلان "للمؤنثتين، وهن يفعلن وتفعلن.
المسألة 15
182 "ز" المضارع المعتل الآخر:
أقسامه الثلاثة، وحكم كل قسم، ومعنى تقدير الإعراب فيه.
185 بعض اللغات لا يحذف منه حرف العلة مطلقا.
حكم المعتل إن كان حرف العلة مبدلا من الهمزة.(1/719)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
186 المضارع المعتل الآخر بالياء قد تحذف ياؤه جوازا
قد تحذف ياء المتكلم جوازا من آخر الأفعال
المسألة 16
187 الاسم المعتل الآخر، أنواعه الثلاثة، ومنها: المقصور والمنقوص.
أحكام كل نوع، وحكم صحيح الآخر، وما يشبه صحيح الآخر "أو: المعتل الجاري مجري
الصحيح".
معنى المعتل عند النحاة وعند الصرفيين، حرف العلة، وحرف اللين، وحرف المد.
المعتل والمعل.
188 تفصيل الكلام على المقصور معنى قولهم: "ألف المقصور موجودة دائما".
معنى المقصور والممدود عند اللغويين والنحاة والقراء.
189 نوع من نيابة حرف عن حركة
189 كيف تكتب ألف المقصور؟
190 تفصيل الكلام على المنقوص
193 نوع ثالث معتل الآخر بالواو
196 المنقوص الواقع صدر مركب.
197 حكم الظرف: "لدى" عند إضافته للضمير.
198 الإعراب التقديري وأثره، والحاجة إليه.
حصر مواضع الإعراب التقديري.
199 الكلام على سكون التخفيف ومنه سكون التخفيف مع الوصل على نية الوقف.
200 أنواع من حركة الإتباع".
201 نوعا الإضافة لياء المتكلم، حالات الياء.
203 الأصل في التخلص من التقاء الساكنين الكسر
204 أشهر المواضع التي تقدر فيها الحروف
النائبة عن الحركات.
205 إعراب: "إنه من يتق ويصبر..... "
باب النكرة والمعرفة وفروعهما
المسألة 17
206 معناهما: معنى الشيوع والإبهام.
معنى الحقيقة الذاتية والتشابه فيها.
209 الجمل والأفعال في حكم النكرات.
علامة النكرة. الهمزة في كلمة: "أل"
ذاتها للقطع. متى تتحول همزة الوصل إلى القطع.
إذا صار المشتق علما دخل في عداد الجامد.
210 حكمة كلمة: "أحد" الملازمة للنفي، وغير الملازمة.
211 أنواع المعارف.
معنى اللفظ المتوغل في الإبهام.(1/720)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
212 اختلاف درجة المعارف في التعيين.
بيان درجاتها وترتيبها.
213 حكم الجمل وأشباهها بعد المحض وغير المحض من المعارف والنكرات.
معنى المحض، درجاته.
النكرة التامة، والناقصة، والمعرفة كذلك.
215 حكم عام في شبه الجملة بعد المعرفة والنكرة. نكرات في اللفظ دون المعنى، والعكس. ما
يصلح للأمرين.
باب الضمير
المسألة 18
217 تعريفه. - أمثلة منه.
الكلام على أصل الضمير: "أنا" وألفه، وأثر ذلك في النطق وفي الكتابة.
إذا رفع المشتق ضميرا مستترا وجب أن يكون للغائب. الضمير جامد، لا يكون نعتا ولا منعوتا.
"الكاف" التي هي حرف محض الخطاب، أمثلة منها ومن بعض أخواتها ...
218 حكم الضمير.
219 يقال: كتبت الرسالة لسبع خلو، أو دخلت من الشهر.
"أقسام الضمير بحسب مدلوله "تكلم - خطاب - غيبة.: "
تقسيمه بحسب ظهوره، وعدم ظهوره إلى: "بارز مستتر- متصل- منفصل ... وأقسام كل".
الفرق بين المستتر والمحذوف.
221 أقسام المتصل بحسب مواقعه من الإعراب..
إشارة إلى موضع حكم الضمائر.
حركة الهاء التي للغائب في مثل: سليه.... متى تشبع حركتها؟
المنفصل.
الضمائر مبنية لفظا معربة محلا.
اتصال التاء ببعض الحروف، "مثل ما، وميم الجمع، ونون النسوة"، ونوع حركة التاء.
222 حركة "ميم الجمع" إذا وليها ضمير متصل. حذف واو الجماعة في بعض الهجات، مع
الاكتفاء بالضمة قبلها، متى تكون الألف والواو من الضمائر.
إعراب الضمير في نحو: لولاي - عساي - عساك - عساه.
223 الفرق بين الياء في مثل: قومي، ومثل أكرمني. يصح حذف ياء المتكلم من آخر الفعل.
الفرق بين كتابة الهاء للغائب والغائبة.
ومتى يزاد بعدها. ما - ميم الميم- النون المشددة للنسوة.(1/721)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
225 حكم دخول "ها" التي للتنبيه على ضمير الرفع المتصل المنفصل الذي خبره اسم إشارة؛
مثل: ها أنا:
226 أقسام المنفصل بحسب مواقعه من الإعراب. يقال للغائبات: تسافرون، أو: يسافرن ...
ولمثنى الغائبتين؛: هما تسافران – هما يسافران.
معنى الضمير الأصل والفرعي.
حركة الهاء في: "هو – هي" متى تسكن؟
227 تقسيم المستتر إلى واجب الاستتارة، وجائزه.
هل تستعمل ضمائر الرفع المنفصلة في غيره؟
228 مواضع المستتر وجوبا.
231 إعراب المرفوع المستتر جوازا.
متى يستغنى الفعل واسم الفعل عن الفاعل؟
233 تلخيص ما سبق من أقسام البارز والمستتر
المسألة 19
235 الضمير المفرد "البسيط" والمركب.
236 كيفية إعراب الضمير بنوعيه
238 عودة إلى "الكاف" التي هي حرف خطاب فقط، ومواضع لها.
239 إعراب مثل قوله تعالى: {أرايتك هذا الذي كرمت علي} .
241 عودة إلى إعراب الضمير بعد"لولا" و"عسى".
242 ضمير الفصل وشروطه، وإعرابه.
تسميته "عمادا" أو "دعامة".
250 ضمير الشأن، أو القصة، أو الضمير المجهول، أو ...
255 مرجع الضمير. الفرق الاصطلاحي بين الضمير والمبهم.
عودة الضمير على متقدم
257 معنى التقدم في اللفظ وفي الرتبة التقدم المعنوي.
256 عودة الضمير على المضاف لا المضاف إليه عند عدم القرينة – والعكس.
258 عودة الضمير على متأخر "وهي مواضع التقدم الحكمي".
259 إعراب مثل: "ربه صديقا" – الضمير المجهول.
261 تعدد مرجع الضمير، الضمير العائد على المضاف، ومتى يعود على المضاف إليه؟
262 التطابق بين الضمير ومرجعه.
263 عودة الضمير على أحد الأمرين السابقين ... ، أو عليهما معا.
266 حكم مطابقة الضمير العائد على: "كم - كلا – كلتا – من – ما – كل – بعض – أي ... "
268 تفاوت المرجع في القوة.
271 اختلاف نوع الضمير مع مرجعه.(1/722)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 20
272 حكم اتصال الضمير بعامله.
273 تقديم الضمير الأخص.
جواز مجيئه متصلا أو منفصلا.
276 حالات واجبة الانفصال.
المسألة 21
280 نون الوقاية، وأحكامها، وفائدتها.
وقوعها في غير آخر فعل.
282 الكلام على: "قدني، قطني، حسبي".
ملخص ما تقدم.
284 الحكم عند اجتماعها مع نون الأفعال الخمسة، أمثلة مسموعة وقعت فيها آخر المشتق.
285 حكمها مع نون النسوة.
باب العلم.
المسألة 22
286 علم الشخص، وعلم الجنس،
287 العلم الذهني.
288 عودة إلى اسم الجنس، والنكرة، وعلم الجنس، وعلم الشخص، وأحكامه
المسألة 23
292 أقسام العلم
293 علم الشخص وأحكامه.
294 تنكير العلم، وسببه،
إضافة العلم.
295 معنى: "إيضاح المعرفة وتخصيصها"
عند إضافتها، وكذا النكرة.
296 علم الجنس وأحكامه، واستعمالاته.
299 استعمالات أخرى لعلم الجنس.
300 أقسام العلم باعتبار لفظه إلى:
مفرد، ومركب- أقسام المركب "إضافي- إسنادي- مزجي" وتعريف كل وملحقاته.
الكنية مركب إضافي- إسنادي - مزجي"
وتعريف كل وملحقاته".
الكنية مركب إضافي ولكن معناه إفرادي302 أقسامه باعتبار الأصالة إلى: "مرتجل" ومنقول".
303 حكم المرتجل إذا انتقل لنوع آخر.
وضع العلم المرتجل ليس مقصورا على العرب.
304 الفرق بين النقل من جملة فعلية والنقل من فعل فقط.
305 العلم اسم "جامد" ولو كان منقولا من مشتق. صغية العلم لا تزيد ولا تنقص.
306 قد تتحول همزة الوصل إلى القطع.(1/723)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
307 انقسامه إلى: اسم، وكنية، ولقب، الفوارق بينها في الدلالة والمعنى.
308 عودة إلى أن الكنية مركب إضافي ولكن معناه إفرادي،
أثر ذلك.
الأحكام الخاصة بالأقسام السالفة.
أولها: الأحكام الخاصة بإعراب المفرد والمركب.
310 معنى حكاية الأعلام، الملحق بالمركب الإسنادي.
المركب الوصفي.
312 طريقة تثنية أنواع المركب وجمعها.
313 إعراب المركبات العددية، "ومنها اثنا عشر، واثنتا عشرة" والظرفية، والحالية، وهي من
أنواع المركب المزجي.
314 إشارة إلى الإعراب المحلي. "انظر ص 84، 198".
316 الترتيب بين قسمين أو أكثر - من أقسام العلم.
319 الترتيب والإعراب عند اجتماع الأقسام الثلاثة.
320 بقية الأحكام المعنوية واللفظية
باب اسم الإشارة
المسألة 24
321 معنى اسم الإشارة. أقسامه بحسب الإفراد والقرب وفروعهما.
322 الإفراد الحقيقي والحكمي. الإشباع.
324 معنى المد والقصر عند النحاة، وغيرهم.
324 الكلام على "لام البعد".
"وكاف الخطاب" وبيان حكمها، و "ها، التنبيه"
326 ضبط لام البعد.
327 سبب تسميتها.
331 جدول لكل ما سبق من أسماء الإشارة.
المسألة 25
333 كيفية استعمال أسماء الإشارة، وإعرابها.
336 إشارة إلى إعراب "كاف الخطاب" فيها.
337 الفصل بين "ها التنبيه" واسم الإشارة. مواضع "ها".
338 "هنا" قد تكون اسم إشارة للزمان. اسم الإشارة مبهم. وكذا اسم الموصول: معنى
الإبهام هنا.
339 إعراب الاسم الذي بعد اسم الإشارة.(1/724)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
باب الموصول
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 26
340 تقسيم الموصول، وتعريفه.
الأسماء المبهمة، ومعنى الإبهام في الموصول، وغيره.
عودة إلى الفرق بين المضمر والمبهم، وإلى إعراب الاسم الذي بعد اسم الإشارة.
341 سبب التسمية بالموصول.
342 ألفاظ الموصول الاسمى الخاصة والعامة.
345 المراد من المقصور والممدود عند النحاة، وغيرهم.
346 معنى الجمع اللغوي.
347 "أل" الداخلة على أسماء الموصول زائدة لوصف المعارف بالجمل.
ألفاظ القسم العام "المشترك".
348 استعمالات: "من" الموصولة
351 استعمالات "ما" الموصولة.
352 ما يصلحان له. ومنه النكرة التامة.
353 ما تنفرد به "ما" اللفظ الزائد "اسما كان، أو فعلا، أو حرفا". يسمى أيضا: صلة
356 استعمال "أل" صلتها
357 نوع جديد من شبه الجملة - إعراب "أل" الموصولة.
ذو
358 ذا.
360 إلغاء "ذا" وعدم إلغائها أثر كل من الأمرين.
363 أي: أحوال إعرابها وبنائها.
365 باقي أنواعها.
368 متى تكون بمعنى: "كل" أو "بعض"
369 جدول يشتمل على الموصولات الخاصة ثم العامة.
371 كيفية إعراب أسماء الموصول.
المسألة 27
373 صلة الموصول والرابط تعريفها
شروطها
للصلة معان اصطلاحية.
أنواعها
374 الجملة الخيرية، والجملة الإنشائية. أنواعهما.
متى يبقى للجملة اسمها، ومتى يزول؟
377 الاستغناء باسم ظاهر عن الضمير العائد "الرابط".
قد تخلو الصلة من الرابط.
378 شروط أخرى للصلة.
حكم تقديم بعض أجزاء الصلة.
379 الفصل بين الموصول وصلته.
380 الرابط، ومطابقته، وعدم مطابقته، وخاصة في التكلم، والخطاب، والغيبة.
383 جزم المضارع بعد جملة الصلة. الظرف من جهة حذف المتعلق وذكره
384 النوع الثاني: شبة الجملة.(1/725)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
385 شبه الجملة المستقر واللغو. المشتق وأنواعه.
387 وقوع الصفة الصريحة صلة.
متى تكون في قوة الجملة؟
388 إدغام "أل" في تاء المضارع الداخلة عليه.
390 تعدد الموصول دون الصلة، أو مع تعددها، حذف الصلة.
392 حذف الموصول.
393 خبر المبتدأ الموصول قد يقترن بالفاء، وكذلك المبتدأ الذي له اتصال بالموصول.
المسألة 28
394 حكم حذف الرابط "العائد".
حذف الرابط "العائد" المرفوع.
معنى الإفراد في الصلة، وفي الخبر، وفي غيرهما.
396 حذف الرابط "العائد" المنصوب
398 حذف العائد المجرور.
401 قد يستغنى الموصول عن العائد.
401 الكلام على: "ولا سيما".
404 النكرة التامة - أيضا.
المسألة 29
407 "ب" الموصولات الحرفية بيانها، الفرق بينها وبين الاسمية.
408 الكلام على كل واحد منها. أن:
409 هل تكون صلتها طلبية؟
إشارة إلى "أن" المفسرة والزائدة
410 أن - كي.
411 ما
313 لو.
414 من حروف السبك همزة التسوية.
كيف يصاغ المصدر المؤول؟
417 لماذا نلجأ له؟ الفرق بينه وبين الصريح.
419 نوع الزمن في المصدر المؤول.
باب المعرفة بأل
المسألة 30
421 أنواعها، إشارة أخرى إلى تحول همزة الوصل للقطع.
422 النكرات المتوغلة في الإبهام.
إعراب ومعنى كلمتي: "فقط" و "حسب".
423 "أل" المعرفة والتي للعهد،
وأنواع العهد.
"أل" التي للتعريف غير الموصولة التي سبق الكلام عليها وعلى إعرابها "في ص 356
و357".(1/726)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 31
429 "أل" الزائدة بنوعيها
إعراب كلمة: "الأول" فالأول" والآن.
431 "أل" التي للمح الأصل
المسألة 32
433 العلم بالغلبة، تعريفة،
435 أحكامه:
درجته في التعريف تلغي الدرجة التي سبقتها.
438 تعريف العدد "بأل".
440 الاسم النكرة المضاف إلى معرفة.
440 المنادي النكرة المقصودة.
باب المبتدأ والخبر، وما يتصل بهما
المسألة 33
441 تعريفها. معنى العامل، أنواعه.
إشارة عابرة إلى حكم مجيء الحال من المبتدأ.
442 تقسيم المبتدأ، المراد "بالوصف".
442 الفعل - كالجملة - كلاهما في حكم النكرة.
443 تمييز المبتدأ من الخبر، وطريقة ذلك.
الخبر يتم الفائدة بنفسه، أو مع مساعده.
444 مبتدأ خبره الجملة الشرطية.
إشارة إلى أنواع من المبتدأ لا يكون خبرها إلا جملة.
المبتدأ الناسخ قد يستغنى عن الخبر.
445 أوجه التشابه بين الفعل والوصف.
446 الجملة وتقسيمها.
447 رافع المبتدأ والخبر
448 دخول العوامل الزائدة "دون الأصلية" على المبتدأ.
إعراب "بحسبك كذا".
- كافيك - ناهيك.
دخول الباء الزائدة في مثل: كيف بك - إذا بالرجل....
449 أشياء تجري مجرى الوصف.
أنواع النفي - مرفوع يغني عن المنصوب.
450 أساليب سماعية تجري مجرى الوصف.
451 أين الخبر في مثل: فلان وإن كثر ماله لكنه بخيل؟.
452 الكلام المولد.
المسألة 34
453 تطابق المبتدأ الوصف مع مرفوعه.
أنواع من المطابقة.
454 صور للتطابق وعدمه.
455 مناقشة التقسيم القديم.
457 صور أخرى من التطابق، وأحكامها.
ومنها مراعاة معطوف محذوف.
460 متى يراعى البدل؟(1/727)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 35
أقسام الخبر.
461 الكلام على الخبر المفرد.
462 الخبر المفرد وتحمله الضمير.
نوع ذلك الضمير. مشتقات تتحمل الضمير، وأخرى لا تتحمل وجوب إبرازه أحيانا.
463 جريان الخبر على من هو له وعلى غيره أحيانا.
465 مسائل أخرى يجب فيها إبراز الضمير.
466 الخبر الجملة، شروطها- متى تفقد الجملة اسمها.
الحرف لا يخرج الكلمة عن الصدارة.
معنى: "الجملة في محل كذا" أو: "نائبة عن الفرد".
467 أنواع الروابط.
رأي في إعراب "إن هذان لساحران"
471 وقوع الجملة الإنشائية خبرا.
471 إعراب الجملة الواقعة خبرا وحكايتها
473 وكذا المبتدأ الجملة. مبتدأ لا يكون خبره إلا جملة، أو شبهها.
474 إعراب: "طوبى".
475 الخبر شبه الجملة، وغيره.
478 شبه الجملة التام وغير التام.
479 نوع الظرف الذي يقع خبرا.
معنى إفادة الظرف. الغرض من الكلام الإفادة
480 وقوع المعنى خبرا عن الجثة.
481 عودة للكلام على: "طوبي" ونوع خبرها. تعلق الظرف بالإسناع وقوع ظرف الزمان خبرا
عن الجثة.
482 كيف يضبط ويعرب الظرف.
485 المبتدأ المعرفة، والمبتدأ النكرة الفعل في حكم النكرة- مسوغات الابتداء بالنكرة.
487 معنى الخبر المختص
489 تتمة المسوغات.
مالا فائدة منه لا خير في ذكره.
490 إشارة إلى لام الابتداء. وأرقام الصفحات المشتملة على أحكامها "أنظر م 53 ص 659".
المسألة 37
492 تأخير الخبر جوازا وجوبا وهي أيضا تقديم حالة المبتدأ" حالة الوجوب - كملة عن التساوي
والتقارب في درجة التعريف والتنكير.
493 عودة إلى المبتدأ، وأنه محكوم عليه، والخبر محكوم به. معنى القرينة. تقسيمها.
495 معنى القصر "الحصر" أركانه الثلاثة
497 مواضع أخرى يجب فيها تأخير الخبر.
الرأي في مطابقة الخبر للمبتدأ المضاف والمضاف إليه معا.
499 تقديم أحدهما عند تساويهما أو تقاربهما في درجة التعريف والتنكير، والجدل حول ذلك.
المعول عليه في تقديم المبتدأ والخبر
المسألة 38
501 تقديم الخبر وجوبا "وهي الحالة - الثالثة له".(1/728)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
504 مواضع أخرى يجب فيها تقديمه.
الأمثال لا تتغير.
المسألة 339
507 حذف المبتدأ والخبر.
قاعدة عامة في كل ما يحذف. إشارة إخرى.
508 الكلام على: "إذا" الفجائية
509 الكلام على: "كيف". معناها، وإعرابها.
510 حذف المبتدأ وجوبا.
قد يراد بالظرف الجامع مجروره الكلام على النعت المقطوع، والغرض منه وإعرابه، وسبب
القطع.
515 مواضع أخرى يجب فيها حذف المبتدأ تلخيص موجز لما سبق في معنى: "لاسيما"،
وإعرابها.
إعراب: سقيا ورعيا" وأساليب أخرى.
ألفاظ أخرى مسموعة وغير مسموعة
519 حذف الخبر وجوبا.
524 إعراب: "حسب".
وبعض أساليب في الحذف.
عودة إلى المبتدأ الذي يليه أداة شرط.
المسألة 40
528 تعدد الخبر، وأنواعه، وحكم كل نوع
533 تعدد المبتدأ.
الخبر الذي يصله نعتا للخبر الأول.
والذي لا يصلح.
الخبر في التعريفات العلمية.
تعدد المبتدأ وما فيه من عيب.
المسألة 41
535 مواضع اقتران الخبر بالفاء- فائدتها
نواسخ الابتداء
المسألة 42
543 معنى الناسخ، ونوعه، ومعنى اسمه وخبره
544 أشياء لا يدخل عليها.
544 الكلام على "طوبى" أيضا، نوع الزمن في خبر الناسخ.
546 شروط عمل "كان" وأخواتها.
نوع الزمن في خبر "كان" الماضية وأخواتها إذا كان الخبر جملة مضارعية
547 حكم دخول: "قد" إذا كان جملة فعلية
550 إشارة إلى زيادة "الواو" في خبر الناسخ.
551 إشارة إلى زيادة "الواو" في خبر الناسخ.
551 معنى: كائنا ما كان"، أو:
"من كان" وإعرابها، وقولهم: "كان مما يفعل كذا".
554 ظل - أصبح-
555 أضحى. أمسي - بات -(1/729)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موصوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
556 صار.
557 أفعال بمعنى: "صار". إعراب قولهم: "ما جاءت حاجتك".
559 "ليس". حكم دخولها على الماضي.
حكم دخول الفعل على الفعل الذي من نوعه
561 عودة إلى زيادة الواو في خبر الناسخ.
إشارة إلى حكم المعطوف المشتق بعد خبرها.
562 زال-
نفي النفي إثبات، وكذلك نفي النهي والدعاء.
إشارة إلى المبتدأ الناسخ الذي لا يحتاج
إلى خبر.
563 شروط إعمالها وإعمال المشتقات.
متى يحذف حرف النفي قبل الناسخ؟
564 فتيء - برح-
565 انفك - دام.
"ما" المصدرية الظرفية، وغير الظرفية.
567 مجمل تقسيم الأفعال الناسخة.
568 مدخول "قد" لا يتقدم عليها.
عودة إلى المبتدأ الناسخ الذي يستغني باسمه على خبر المبتدأ.
المسألة 43
569 الترتيب هذا الباب بين الناسخ ومعموليه. حكم أخبار النواسخ هنا من ناحية التقديم
والتأخير.
570 "أن" المصدرية لا يتقدم عليها شيء
من مدخولها - لا يجوز الفصل بينهما وبين فعلها.
571 كل ماله الصدارة كالاستفهام وغيره لا يتقدم عليه شيء من مدخوله.
572 ملخص الأحوال السابقة.
573 بعض صور ممنوعة.
"ما" النافية لا يتقدم عليها شيء من مدخولها، وكذلك، "إن" النافية.
574 الفرق بين "أن" و "ما" المصدرتين من جهة العمل.
كذلك "ما" المصدرية الظرفية.
576 حكم تقدم معمول الخير وتوسطه.
لا يقع بعد العامل معمول لغيره.
المسألة 44
579 زيادة "كان" وبعض أخواتها.
580 قد يكون فعل التعجب مجردا من الزمن 581 متى يصح الحكم بزيادة الكلمة.
المسألة 45.
582 حذف "كان"، وحذف معموليها.
هل يقع ذلك في غيرها.
المسألة 46.
588 حذف النون من مضارع: "كان".
589 متى تحذف الألف والواو من "كان" ويكون؟ متى تضم كاف الماضي، مثل: كن
المسألة 47.
590 نفي الأخبار في هذا الباب.
591 زيادة باء الجر في أحد المعمولين "الخبر، أو: الاسم".(1/730)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش باب الحروف التي تشبه "ليس" في المعنى والعمل: ما لا - لات - إن
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 48
593 "ما".
594 شروط إعمالها.
597 حكم المعطوف على خبرها.
601 "لا" العاملة عمل "ليس".
602 الفرق بينها وبين "لا" النافية للجنس.
604 "إن" العاملة عمل "ليس" "لات".
606 قد تهمل "لات".
606 حكم العطف على خبرها.
وقوع "هسنا بعدها.
المسألة 49
607 زيادة "باء الجر" في خبر هذه الأحرف
609 كلمة في: "العطف على التوهم".
610 إشارة إلى الجز بالمجاورة.
611 عطف المشتق بعد خبر "ما" و "ليس".
باب أفعال المقاربة، وأفعال الشروع، وأفعال الرجاء.
المسألة 50
614 أفعال المقاربة، معناها. نوع الزمن فيها وفي أخبارها.
615 عملها.
وقوع المعنى خبرا عن الجثة.
618 "كاد" كغيرها في النفي.
620 أفعال الشروع، معناها، عملها.
621 أفعال الرجاء، معناها،
622 عملها.
623 حكممها.
بعض أفعال هذا الباب يستعمل تاما وناقصا.
627 بعض شروط في أفعال الرجاء.
ضبط "السين" في "عسى" عند الإسناد للتاء التي هي ضمير.
628 إعراب: "عساني - عساك".
عدم الفصل بأجنبي بين ما دخلت عليه "أن" التي في خبر: "عسى" وغيره.
629 الكلام على: "عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا".
استعمال: "حسري" بالتنوين.(1/731)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة هي بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
باب الحروف الناسخة: "إن وأخواتها".
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 51
630 إشارة إلى أشياء لا يدخل عليها الناسخ.
631 أوجه الاختلاف بينها وبين "كان" وأخواتها
معاني هذه الأحرف. متى نستخدمها؟
دخول هذه الأحرف على "أن".
632 إعراب قوله تعالى: "لكنا هو الله ربي.
633 الكلام م على بعض أساليب مسموعة:
"كأنك بالفرج آت".
635 ما تختص به: "ليت".
636 شروط إعمال هذه الأحرف تصدير خبر: "لعل" "بأن" المصدرية.
معنى "لعل" و "عسى في كلام الله تعالى.
"ما" الكافية. فصل. "ما" ووصلها.
معنى قولهم: "كافة ومكفوفة".
638 متى يتقدم الخبر، ومتى يمتنع تقدمه؟
640 متى يتقدم معموله؟
641 حذف الحرف الناسخ والمعمولين.
تعدد أخبار هذه الأحرف.
نصب المعمولين عند بعض العرب.
المسألة 52
642 فتح همزة "إن" وكسرها الحالة الأولى: وجوب الفتح
644 نوع العامل في "أن" المفتوحة الهمزة مع معموليها.
مواضع "أن" المخففة، والمصدرية الناصبة للمضارع، والصالحة للاثنين مواضع المصدر
المؤول من "أن" ومعموليها، ومواضع المخففة.
647 الكلام على: "أحقا كذا"؟
648 قد يسد المصدر المؤول مسد المفعولين، وغيرهما.
649 الحالة الثانية: كسر همزة "إن" وجوبا.
652 مواضع أخرى للكسر.
653 الحالة الثالثة: جواز الفتح والكسر.
إعراب "إذا" الفجائية.
654 جواب القسم قد يكون شبه جملة.
معنى فاء الجزء - مواضعها.
جملة جواب القسم قد تغني عن الخبر.
657 مواضع أخرى لجواز الأمرين.
معنى: "لا جرم" وإعرابها.
المسألة 53
659 لام الابتداء، سبب التسمية، فائدتها، مواضعها،
اللام المزحلقة. أنواع من اللام.
661 نوع من الفرق بين لام الابتداء ولام القسم
662 حكم الجمع بين اللام، والسين، وسوف".(1/732)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 54
665 حكم المعطوف بعد خبر "إن" وحكمه إذا توسط بين معموليها
666 مناقشة رأي الاقدمين في ذلك.
المسألة 55
673 تخفيف "النون" في هذه الأحرف الناسخة.
تخفيف "إن".
676 بعض أمثال مسموعة في "إن" المخففة من الثقيلة.
إعراب بعض آيات قرآنية تشتمل على المخففة، كقوله تعالى: {وإن كلا لما ليوفينهم ربك
أعمالهم}
678 تخفيف "أن" مفتوحة الهمزة عودة إلى تعيين نوع "أن".
680 متى تظهر نون "أن" كتابة....
683 تخفيف: "كأن".
684 تخفيف: لكن، ولعل.
باب: "لا" النافية للجنس
المسألة 56
685 معناها، معنى التي لنفي الوحدة.
اتفاق معناهما في غير المفرد. صدارتها.
686 عمل النافية للجنس، وتسمى: "لا" التي للتبرئة - شروطه
689 العامل قد يتخطى الكلمة، ولا يعمل فيها مع أنها أصلية.
عودة إلى "الواو" الداخلة في خبر الناسخ.
690 الحرف: "لا" - يتصدر جملته، لأن الذي في حيز النفي لا يتقدم على النافي.
691 حكم اسمها إذا لم تتكرر.
تعريف الشبيه بالمضاف.
692 عودة إلى الكلام على: "لا أباله".
693 أمثلة سماعية أخرى، منها: لا غلامي لك.
695 حكم أمثلة مسموعة ليست نكرة.
يصح بناء "اسم لا" على الضمة العارضة.
المسألة 57.
697 اسم "لا" المتكررة مع العطف 701 حكم المعطوف على اسم لا" بغير تكرارها.
المسألة 58
703 حكم نعت اسم "لا".
704 قد تكون "الفاء" زائدة لتحسين اللفظ
705 حكم بقية التوابع بعد اسم "لا".(1/733)
الموضوعات المكتوبة بحروف صغيرة بعض موضوعات الزيادة، والتفصيل، والهامش.
رقم الصفحة الموضوع
المسألة 59
706 بعض أحكام أخرى.
دخول همزة الاستفهام على: "لا".
707 حكم "ألا" التي للتمني في مثل "ألا ماء ماء باردا".
النعت الموطيء، أو: النعت بالجامد أحيانا.
708 "ألا" التي للأستفتاح والتنبيه.
حذف خبر "لا".
709 حذف اسمها إشارة إلى: "ولا سيما"
710 عودة إلى الكلام على: "لا جرم" متى تتكرر: "لا".
حكم "لا" عند وقوع "إلا" بعدها.(1/734)
المجلد الثاني
ظن وأخواتها
المسألة 60: ظن وأخواتها
...
ظن وأخواتها:
المسألة 60: ظن وأخواتها 1
أمثلة:
الكلام عنوان على صاحبه ... علمت الكلام عنوانًا على صاحبه
المجاملة حارسة للصداقة ... ظننت المجاملة حارسة للصداقة
الوفاء دليل على النبل ... اعتقدت الوفاء دليلًا على النبل
الماء الجامد ثلج ... صبر البرد الماء ثلجًا
الجلد أسود ... ردت2 الثمن المجلد أسود
الخشب مشتعل ... تركت النار الخشب رمادًا
من النواسخ ما يدخل -في الغالب3- على المبتدأ والخبر فينصبهما معًا، ويُغير اسمهما؛ إذا يصير اسم كل منهما: "مفعولًا به"4 للناسخ. "مثل: علم، ظن - أعتقد - صبر ... ، وغيرها من الكلمات التي تحتها خط في الأمثلة المعروضة". وهذا هو: "القسم الثالث" من النواسخ، ويشتهر باسم:
__________
1 هما من النواسخ. ويلاحظ ما لا يصلح أن يدخل عليه الناسخ، "وقد سبق بيانه وباين معنى الناسخ، وعمله، وأقسامه، وما يتصل بهذا - في جـ 1 ص 543 م42 - باب: "كان وأخواتها". وتأتي له إشارة في ص 21".
2 صيرت.
3 كان دخول هذا النوع من النواسخ على المبتدأ والخبر أمرًا غالبًا؛ لأن منه ما قد يدخل عليهما، وعلى غيرهما، كالفعل: "حسب"، ومنه ما لا يدخل إلا على غيرهما؛ كأفعال التحويل الآتية - في ص8- وللنجاة تعليل يسوغ الدخول على غيرهما، سيجيء في "أ" من ص11.
4-وبالرغم من اعتبارهما مفعولين، هما "عمدتان"، لا "فضلتان" كبقية المفعولات، "كما سيجئ في رقم1 هامش ص179", لأن أصلهما المبتدأ والخبر؛ فيكون الثاني في المعنى هو الأول، ولو تأويلًا، والأول هو الثاني في المعنى أيضًا؛ كالشأن في المبتدأ والخبر دائما وقد يدخل هذا الناسخ على غيرهما، كما سنعرف في "أ" من ص 11- والمفعول الثاني هنا هو الذي تتم به الفائدة الأساسية؛ لأنه الخبر في الأصل، فهو أهم.
لاحظ ما يأتي في "ج" من ص12، لأهميته.(2/3)
"ظن وأخواتها" وليس يه حروف؛ فكله أفعال، أو أسماء تعمل عملها. وتنحصر هذه الأسماء في مصادر تلك الأفعال، وفي بعض المشتقات العاملة عملها. فالفعل الماضي المتصرف1 هنا، لا ينفرد وحده بالعمل السالف؛ وإنما يشابهه فيه ما قد يكون له من مضارع، وأمر، ومصدر، واسم فاعل، واسم مفعول، دون بقية المشتقات2 الأخرى. أما غير المتصرف فعمله مقصور على صبغته الخاصة به، إذا ليس لها فروع، ولا صيغ أخرى تتصل بها.
وقد ارتضى بعض النحاة تقسيم الأفعال العاملة هنا قسمين؛ مراعيًا الأغلب في استعمالها3؛ هما: "أفعال قلوب"4 و "أفعال تحويل"5. ولا بد لكل
__________
1 الفعل الماضي المتصرف إما إن يكون تصرفه كاملًا إما أن يكون تصرفه كاملًا؛ فيكون له المضارع، والأمر، والمصدر، واسم الفاعل ... وبقية المشتقات المعروفة، كالفعل: "سمع" إما أن يكون تصرفه ناقصًا؛ فيكون له بعض تلك المشتقات فقط؛ كالفعل: "كاد"؛ من أفعال المقاربة، وكالفعل: "يدع". أما غير التصرف مطلقًا فهو الجامد الذي يلازم صيغة واحدة لا يفارقها؛ كالفعل: "تعلم" بمعنى: "اعلم"، والفعلِ: "هب"، بمعنى: ظن وهما من أفعال هذا الباب القلبية، وكالفعل "عسى" و "اليس" وهما من أخوات "كان" والأنواع المشتقات إشارة عابرة في رقم 2 التالي.
2 رددنا في مناسبات مختلفة، أسماء المشتقات الاصطلاحية من المصدر؛ وهي: اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، أفعل التفضيل، المصدر الميمين اسم الزمان، اسم المكان، اسم الآلة. "ويدخل في عداد المشتقات أكثر الأفعال بأنواعها الثلاثة". وهذه المشتقات قسمان:
قسم يعمل عمل فله بشروط؛ فبرفع الفاعل مثله، أو نائب الفاعل، وقد ينصب المفعول به، كفعله أحيانًا، وهو: اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، أفعل التفضيل، المصدر الميمي. ويدخل في هذا القسم العامل: المصدر الأصلي أيضًا "بالرغم من جموده، في الرأي الشائع".
وقسم لا يعمل شيئًا من عمل الفهل؛ ويسمى: "المهمل" وهو: اسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلة. ولا دخل للقسم المهمل في أحكام هذا الباب. بل إن بعض المشتقات العاملة لا يدخل في أحكامه؛ فالصفة المشبهة الأصيلة خارجة من أحكامه؛ لأنها تجئ من الفعل اللازم وحده؛ فلا تنصب مفعولًا به. أما غير الأصيلة فقد تنصب بالشروط والطريقة المذكورة في بابها "جـ3 ص282 م104" وأفعل التفضيل خارج؛ لأنه لا ينصب مفعولًا به. والفعل الماضي الذي للتعجب خارج؛ لأنه ينصب مفعولًا واحدًا فالثلاثة لا تصلح لأحكام هذا الباب -كما سيجئ في ص26 م61-.
3 راجع "ج" من ص12 حيث تقسيم آخر، وبيان عن سبب التقسيمين.
4 سميت بذلك لأن معانيها قائمة بالقلب، متصلة بهِ، وهي المعاني النفسية التي تعرف اليوم: بالأمور النفسية؛ ويسميها القدماء: الأمور القليلة، لاعتقادهم أن مركزها القلب. ومنها: الفرح - الحزن - الفهم - الذكاء - اليقين - الإنكار....
5 تدل على انتقال الشيء في حالة إلى حالة أخرى تخالفها. وتسمى أيضًا: "أفعال التصيير"؛ لأن كل فعل منها بمعنى: "صبر"، أي: حول الشيء من حالته القائمة إلى أخرى تغايرها.(2/4)
فعل من القسمين من فاعل1, ولا يغني عنه وجود المفعولين أو أحدهما:
أ- فأما أفعال القلوب2 فمنها ما قد يكون معناه العلم. "أي: الدلالة على اليقين3 والقطع"، ومنها ما قد يكون معناه الرجحان4 والنوعان صالحان للدخول - مباشرة - على المبتدأ الصريح، وعلى المصدر المؤول من "أن مع معموليها"، أو: "أن والفعل مع مرفوعة"5.
ويشتهر من الأفعال الأول6 سبعة:
1- علم7؛ مثل: علمت البر سبيل المحبة، وعملت المحبة سبيل القوة.
2- رأى8؛ مثل: رأيت الأمل داعي العمل، ورأيت اليأس رائد الإخفاق، وقول الشاعر:
__________
1 بخلاف "كان" وأخواتها من أفعال الناسخة؛ فإنها لا ترفع الفاعل - وهذا أحد وجوه الاختلاف بين النوعين.
2 أفعال القلوب ثلاثة أنواع: نوع لازم "لا ينصب المفعول به" مثل: فكر - تفكر - حزن - جبن ... ونوع ينصب مفعولًا به واحدًا؛ مثل: أخب - كره ... ونوع ينصب مفعولين؛ كأفعال هذا الباب المذكورة هنا، بشرط أن تؤدي معنى معينًا؛ كما سنعرف.
3 هو: الاعتقاد الجازم الذي لا يعارضه دليل آخر يسلم به المتكلم. وقد يكون هذا الاعتقاد صحيحًا في الواقع أو غير صحيح.
4 الشك: ما ينشأ في النفس من تعارض دليلين في أمر واحد؛ بحيث تساوى قوتهما في التعارض والاستدلال؛ فلا يستطيع المرء ترجيح أحدهما على الآخر؛ لعدم وجود مرجح. أما الجرحان أو الظن، فهو ما ينشأ من تغلب أحد الدليلين المتعارضين في أمر، بحيث يصير أقرب إلى اليقين. فالأمر الراجح محتمل للشك واليقين، لكنه أقرب إلى اليقين إلى الشك، وفي هذه الحالة يسمى المرجوح: "وهما".
5 فاعله أو نائب الفاعل. وانظر "ب" من ص11.
6 وهي الدالة على العلم، وقد يستعمل كل منها في معان أخرى عبر "اليقين" فينصب مفعولًا واحدًا، أو لا ينصب. "وسنعرض لبعض هذا في "جـ" ص 12".
7، 8 يستعمل الفعل: "علم" أحيانًا في القسم غير الصريح؛ فيحتاج لجواب، ونكسر بعده همزة "إن". "وقد أشرنا لهذا في آخر الجزء الأول؛ وله إشارة تجئ في ص500 وسيجئ في الباب التالي: "اعلم وأرى" ص59 حكم الفعلين: "علم" و "رأى" إذا سبقتهما همزة النقل؛ "أي: همزة التعدية".
ومما يتصل بمعنى الفعل "رأى" وباستعماله ماضيًا وروده في الأساليب العالية بمعنى: "أخبروني"؛ نحو: أرأيتك هذا الكتاب، هل عرفت قيمته؟ ... وقد أوضحنا هذا الأسلوب ونوع الكاف وحكمها، بتفصيل واف يشمل معناه، وصياغته، وطريقة استعماله. "في باب الضمير شص 238، م19 من الجزء الأول- الطبعة الرابعة" وسيجئ له إشارة في ص16.(2/5)
رأيت لسان المرء وافد1 عقله ... وعنوانه؛ فأنظر بماذا تعنون؟ 2
3- وجد؛ مثل: وجدت ضعاف الأمم تهبًا لأقوياتها، ووجدت العلم أعظم أسباب القوة3.
4- دري؛ مثل: دريت المجد قريبًا من الدائب في طلبه، ودريت لذة إدراكه ماحية تعب السعي إليه.
5- ألفي4, مثل: ألفيت الشدائد صاقلة للنفوس، وألفيت إحتمالتها سهلًا على كبار العزائم.
6- جعل؛ مثل: جعلت5 الإله واحدَا، لا شك فيه.
7- تعلم6, مثل: "اعلم": مثل: تعلم وطنك شركة بين أبنائه، وتعلم نجاح الشركة رهنًا بالإخلاص والعمل.
__________
1 رسول عقله ودليله، وبعد هذا البيت:
ويعجبني زي الفتى وجماله ... فيسقط من عيني ساعة يلحن
2 وكذلك قول الآخر:
=
قد جعلنا الوداد حتمًا علينا ... ورأينا الوفاء بالعهد فرضًا
3 ومثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} ، {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ...
4 لا يستعمل هذا الفعل هنا إلا مزيدًا بالهمزة.
5 أي: اعتقدت. ومن هذا- في بعض الآراء- قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} أي: اعتقدوا - انظر رقم 4 ي هامش ص8:
ولهذا الفعل معان أخرى سيجئ بعضها "وقد أشرنا لها في رقم 3 من هامش ص9".
6 الفعل: "تعلم" بمعنى: "اعلم"، فعل أمر جامد -عند فريق من النحاة- لا يجيئ من صيغته الأصلية غير الأمر، مع كثرة دخوله على مصدر مؤول، أداته: "أن" المشددة أو المخففة الناسختين، أو "أن" الداخلة على الفعل؛ ومتصرف عند فريق آخر يجري عله أحكام الفعل المتصرف. وقد شاع الرأي الأول - ويسد فيه المصدر مسد المفعولين - فيحسن أتباعه؛ توحيدًا للتفاهم "وسيجيئ إيضاح هام لمعناه في رقم 1من هامش ص19".(2/6)
ويشتهر من الأفعال الثانية1 ثمانية، هي:
1- ظن؛ مثل: ظن الطيار النهر قناة، وطن البيوت الكبيرة أكواخًا.
2- خال2, مثل: خال المسافر الطيارة أنفع له، وهو يحال الركوب فيها متعة.
3- حسب؛ مثل: أحسب السهر الطويل إرهاقًا، وأحسب الإرهاق سبيل المرض، وقول الشاعر:
لا تحسبن الموت موت المبلي ... وإنما الموت سؤال الرجال3
4- زعم4؛ مثل: زعمت الملاينة مرغوبة في مواطن، وزعمت التشدد مرغوبًا في أخرى.
__________
1 وهي الدالة على الرجحان. وقد يستعمل كل منها في معان أخرى؛ فينصب مفعولًا واحدًا، أو لا ينصبه. "كما سيجئ قريبًا في جـ من ص12 وما بعدها".
2 ومضارعها المسموع كثيرًا للمتكلم هو: إخال - بكسر الهمزة غالبًا. وهذا السماعي الغالب مخالف للقياس، = وفتح الهمزة لغة قليلة مسموعة أيضًا. والمستحسن الاقتصار على الكثير الغالب - كما سبق في جـ1 م4 عند الكلام على: "أحرف المضارعة" ص47.
فإن كان الفعل "خال" بمعنى: تكبر" أو طلع التي بمعنى: عرج ... فهو لازم.
3 بعد هذا البيت:
كلاهما موت. ولكن ذا ... أفظع من ذاك، لذل السؤال
4 كثر الكلام في معنى: "زعم". وصفوة ما يقال: إنها قد تكون بمعنى اليقين أحيانًا عند المخاطب؛ كقول أبي طالب يخاطب الرسول:
ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت، وكنت ثم أمينا
وقد تكون بمعنى الاعتقاد من غير دليل؛ كقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} ... إلخ. وقد تدل على الرجحان. وقد تستعمل للدلالة على الشك، وهو الغالب في استعمالها. وقد تستعمل في القول الكاذب؛ فإذا قلت: "زعم فلان كذا" فكأنك قلت: كذب، وردد كلامًا غير صحيح. والقرئية هي التي تحدد المعنى المناسب لمقام من بين المعاني السالفة. وقد تكون بمعنى: "كفل" أو بمعنى رأس "أي: ساد وشرف" أو بمعنى: سمن أو هزل: فيتغير حكمها في التعدي واللزوم -تبعًا للغير المعنى- على الوجه المبين في رقم5 من هامش ص20.
وزعم- كغيرها من الأفعال القلبية الناصبة للمفعولين. قد تنصب المفعولين مباشرة، وقد تدخل على "أن" مع الفعل ومرفوعه، أو "أن" مع معموليها؛ فيكون المصدر المؤول في الحالتين سادًا مسد المفعولين، ومغنيًا عنهما، وهذا هو الأغلب في "زعم" كما سيجئ في رقم 4 من هامش ص11 - وإليه تميل أكثر الأساليب الأدبية؛ كقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} ... وقول الشاعر:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي - يا عز - لا يتغير؟(2/7)
(5) عَدَّ؛ مثل: عدَّدت الصديق أخاً. وقول الشاعر:
فلا تَعْدُد المولَى (1) شريكَك في الغنى ... ولكنما المولَى شريكُكَ في العُدمِ (2)
(6) حَجَا (3) ؛ مثل: حَجَا السائحُ المِئذنة بُرْجَ مراقبة.
وقول الشاعر:
قد كنت أحْجُو أبا عمْروٍ أخاً ثقةً ... حتى ألَمَّتْ بنا يوماًَ مُلِمَّاتُ
(7) جَعَلَ؛ مثل: جعل الصياد السمكةَ الكبيرةَ حوتاً.
وقوله تعالى في المشركين: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ... (4) [الزخرف: 19]
(8) هَبْ؛ ": هبْ مالَك سلاحاً في يدك؛ فلا تعتمد عليه وحده (5) ...
وهذا الفعل دون بقية أفعال الرجحان السّالفة -جامد، ملازم صيغة الأمر (6)
***
(ب) وأما أفعال التحويل (أو: التَّصيير) فأشهرها سبعة، ولا تدخل على مصدر مؤول من "أنَّ" مع معموليها، أو: من "أنْ" الفعل مع مرفوعه (7) - وهي:
(1) صَيَّر؛ مثل: صَيَّر (8) الصائغُ الذهب سبيكةً، وصَيَّر السبيكةَ سوَاراً.
__________
(1) الناصر، أو الصديق.
(2) الفقر الشديد.
(3) لهذا الفعل معان أخرى يتغير بسببها حكمه، طبقاً للبيان الذي في رقم 5 من هامش ص20.
(4) وقيل: إن "جعل" هنا بمعنى: اعتقد -كما في رقم 5 من هامش ص6.
(5) لهذا الفعل الجامد معنى واستعمال يخالف فيهما المتصرف الذي على صورته الآتية في ص20.
(6) هو فعل أمر، بمعنى: "ظُنّ" وهو بهذا المعنى فعل جامد، لا يكون منه غير الأمر، ودخوله محل نصب، سد مسد المفعولين. وهذا استعمال نادر في الأساليب الرفيعة، بالرغم من إجازته (انظر الخضري والتصريح. ثم رقم 4 من هامش ص11 الآتية) .
(7) كما سيجيء في آخر. "ب" من ص11.
(8) "صَيَّر"، و"أصار"، فعلا، أصلهما قبل التعدية بالتضعيف والهمزة: "صار" الذي هو من أخوات "كان، نحو: صار الخشب باباً. وبعد تعديهما ابتعدا عن عمل "كان"، وانتقلا منه إلى نصب المفعولين؛ نحو: صيَّر الجوهري الدرّ فصوصاً، وأصار الفصوص عقداً.
أما "صيَّر" بمعنى: "نقل" فينصب مفعولاً واحداً، نحو: صيرت السائح إلى دار الآثار، أي. نقلته.(2/8)
(2) جَعَلَ؛ مثل: جعل الغازلُ القطنَ خيوطاً، وجعل الحائك الخيوط نسيجاً (1) ...
وقول الشاعر:
اجعلْ شعارك رحمةً ومودةً ... إن القلوب مع المودة تُكْسَبُ
(3) اتَّخذَ؛ مثل: اتخذ المهندسون الحديدَ والخشبَ باخرةً، واتخذ المسافرون الباخرةَ فُنْدُقاً.
(4) تَخٍِذَ؛ مثل: تَخِذَت الحرارةُ الثلجَ ماءً، وتَخِذَت الماءَ بخاراً.
(5) تَرَك؛ مثل: ترك الموجُ الصخورَ حصىً، وتركت الشمس الحصَى رمالا.
(6) رَدَّ؛ مثل: ردّ الأمل الوجوهَ الشاحبةَ مُشْرقةً، وردّ النفوس اليائسة مستبشرةً.
(7) وَهَبَ؛ مثل: وهَبَت الحَبَّ دقيقاً، ووهبت الدقيقَ عجيناً (2) .
***
وفيما يلي بيان موجزَ للأفعال السابقة (3) ، وأنواعها المختلفة:
__________
(1) ومثل قوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] خِلْفة: يجيء كل منهما بعد الآخر.
(2) وهبَ، بمعنى: "صير" -فعل ماض جامد، ولا يستعمل في معنى التحويل إلا بصيغة الماضي. ومنه قولهم: "وهبني الله فداء الحق"، أي: صيرني.
(3) إلى ما سبق يشير ابن مالك باختصار، قائلاً:
اِنْصِبْ بِفِعْل القلْبِ جُزْأَيِ ابتِدا ... أَعْني: رأَى -خَالَ - عَلمْتُ - وَجَدَا
ظَنَّ - حَسِبْت - وزَعَمْتُ - مَعَ عَدْ ... حجَا - دَرَى - وجَعَل: اللَّذْ كاعْتَقَدْ
وهَبْ - تَعَلَّمْ - والَّتِي كَصَيَّرَا ... أَيْضاً - بِهَا انْصِبْ مُبْتَداً وخَبَرا=(2/9)
ظن وأخواتها
أ- أفعال قلْبية
- أفعال يقين، وأشهرها سبعة:
(1) علِمَ 1 (2) رأى (3) وجَد (4) دَرَى (5) ألفَى (6) جَعَل (7) تعلَّم، بمعنى: اعلم
- أفعال رجحان، وأشهرها ثمانية: (1) ظنّ (2) خال (3) حسِبَ (4) زعم (5) عَدَّ (6) حَجَا (7) جعل (8) هبْ
ب- أفعال تحويل
أشهرها سبعة: (1) صَيَّر (2) جَعَل (3) اتخذَ (4) تَخِذَ (5) تركَ (6) ردّ (7) وهبَ
__________
=أي: انصب بفعل القلب جملة ذات ابتداء -وهي الجمل الاسمية الخالصة- وسرد في الأبياد كثيراً من أفعال القلوب التي شرحناها؛ منها ما يدل على اليقين، ومنها ما يدل على الرجحان. وقبل سردها صرح بكلمة: "أعني" ليدل على أن المقصود أفعال معينة، دون غيرها؛ فليس كل فعل قلبي ينصب مفعولين -كما أوضحنا في رقم 2 من هامش ص5- وطالب أن تنصب هذه الأفعال جزأي ابتداء (وهما: المبتدأ والخبر) كما أشار إلى أن "جعل" إذا كان من أفعال القلوب -أي: بمعنى الفعل: "اعتقد" فإنه ينصب مفعولين مثله. وهو يختلف في المعنى والعمل عن "جعل" الذي سبق الكلام عليه في باب: "أفعال المقاربة والشروع" من الجزء الأول، كما يختلف في معناه عن "جعل" الذي هو من أفعال الرجحان، والذي من أفعال التحويل والتصيير؛ كما عرفنا في الشرح.
والفعل: "اعتقد" معدود من أفعال كثيرة قد تنصب مفعولين ولم تذكر في هذا الباب. منها: تيقن - تمنى - توهم - تبين - شعر - أصاب ... إلى غير هذا مما سرده صاحب الهمع في هذا الباب (ج1 ص151) ونقل بعضه الصبان هنا.
أما أفعال التحويل والتصيير فلم يذكرها ابن مالك، واكتفى بأن يشير إليها بقوله:
...... والَّتِي كَصَيَّرا ... أَيضاً بِهَا انْصِبْ مُبْتَداً وخَبَراً
أي: انصب -أيضاً- مبتدأ وخبراً بالنواسخ التي مثل "صير" في إفادة التحويل.
وقضت ضرورة الشعر على الناظم بزيادة الألف في آخر الفعلين: "وجد"، "صير"، وبتخفيف الدال في الفعل: عدّ. أما كلمة: "اللذ" في أبياته فهي لغة صحيحة في "الذي".
1 انظر ما له صلة بهذا الفعل في رقم 7، 8 من هامش ص5.(2/10)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
(1) ليس من اللازم -كما أشرنا (1) - أن يكون المفعولان أصلهما المبتدأ والخبر حقيقة، بل يكفي أن يكون أصلهما كذلك ولو بشيء من التأويل المقبول، كالشأن في أفعال التحويل، وكالشأن في: "حسب"؛ مثل: صيرُ الفضة خاتَماً؛ إذ لا يصح المعنى بقولنا: الفضةُ خَاتَمٌ؛ لأن الخبر هنا لس هو المبتدأ في المعنى الحقيقي؛ فليست الفضة هي الخاتم، وليس الخاتم هو الفضة؛ إلا على تقدير هذه الفضة ستئُول (2) إلى خاتم. ومثل: حسبت المِرِّيخَ الزُّهَرَة؛ إذ لا يقال على سبيل الحقيقة المحضة: المِرِّيخُ الزُّهَرة؛ لفساد المعنى كذلك؛ فليس أحدهما هو الآخَر، إلا على ضرب من التشبيه. أو نحو من التأويل السائغ، المناسب للتعبير. فالأول (أي: التشبيه) قد جعل المفعول الثاني بمنزلة ما أصله الخبر. وإن لم يكن خبراً حقيقياً في أصله.
هذا كلامهم. والواقع أنه لا داعي لهذا التمحل، والتماس التأويل؛ إذ يكفي أن يكون فصحاء العرب قد أدخلوا النواسخ على ما أصله المبتدأ والخبر حقيقة، وعلى ما ليس أصله الحقيقي المبتدأ والخبر، مما يستقيم معه المعنى المراد بغير غموض.
(ب) ليس من اللازم أن تدخل أفعال هذا الباب القلبية على المبتدأ والخبر لتنصب كلاًّ منهما مباشرة (3) فقد تدخل على "أنّ" مع معموليها، أو: على "أنْ" مع الفعل؛ فيكون المصدر سادّاً مسد المفعولين (4) ، مغنياً عنهما.
__________
(1) في رقم 4 من هامش ص3.
(2) أي: ستتحول وينتهي أمرها في المستقبل إليه.
(3) أي: نصباً صريحاً لا تأويل فيه، ولا سبك، ولا تقدير.
(4) وسنعود للكلام على هذا المصدر عند بحث الحكم الثالث من الأحكام التي تختص بها الأفعال القلبية (في ص43) ،
والأغلب في "زعم" وفي "تعلمْ" بمعنى: "اعلمْ" دخولهما على "أنَّ" مع معموليها، أو على "أنْ"، والفعل مع مرفوعه - كما في رقم 6 من هامش ص6 وفي 4 من هامش ص7- والأغلب في "هب" الأمر الجامد بمعنى "ظن" عدم دخوله عليهما، برغم صحة دخوله: كما سبق (في رقم 6 من هامش ص8. أما الأمر المتصرف فله حكم في ص20) .
والأحسن الأخذ بالرأي السهل القائل: إن المصدر المؤول في هذا الباب يسد مسد المفعولين، دون=(2/11)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مثل: علمت أن السباحة أسْلمُ من الملاكمة، وأظن أن العاقل يختار الأسلم وقول الشاعر:
يرى الجبناء أن الجبن حزمٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
ومثل: دَرَيت أن الكِبْرُ بغيض إلى النفوس الكبيرة، ووجدت أن صغائر الأمور محببة إلى النفوس الصغيرة. ومثل: من زعم أن يَخْدعَ الناسَ فهو المخدوع ومن حسب أن يدرك غايته بالتمني فهو مخبول (1) .
أما أفعال التحويل فلا تدخل على "أنّ" ومعمليها، ولا على "أنْ" والفعل مع فاعله (2) ...
(ج) جرى بعض النحاة على تقسيم الأفعال القلبية السابقة أربعة أقسام، بدلاً من اثنين:
فلليقين وحده خمسة: وجد - تَعلمْ، بمعنى: اعلم - دَرى - ألْفَى - جعل.
وللرجحان وحده خمسة: جعل - حجا - عدّ - زعم - هبْ، بمعنى: ظُنّ.
وللأمرين والغالب اليقين، اثنان: رأى - علِم.
وللأمرين والغالب الرجحان، ثلاثة: ظنّ - خال - حَسِب.
__________
=الرأي القائل: إنه يسد مسد المفعول الأول، وأن المفعول الثاني محذوف، وتقديره: "ثابتاً"، أو ما يشبهه؛ ففي نحو: وجدت أن الصب أنفع في الشدائد -يقدرون: وجدت نفع الصبر في الشدائد ثابتاً ... وهذا نوع من التضييق والإطالة لا داعي له.
(1) في مثل قولهم: "غبت"، وما حسبتك أن تغيب" تكون "الكاف" حرفاً محضاً لمجرد الخطاب ومتصرفاً. وليس اسماً ضميراً؛ إذ لو كان ضميراً لكان هو المفعول الأول للفعل "حسب" ومفعوله الثاني هو المصدر المؤول: (أن تغيب) . ويترتب على هذا أن يكون ذلك. المصدر المؤول خبراً عن "الكاف"، باعتبار أن أصلهما المبتدأ والخبر؛ لأن مفعولي "حسب" أصلهما -في الغالب- المبتدأ والخبر.
وإذا وقع المصدر المؤول هنا خبراً عن الكاف أدّى إلى الإخبار بالمعنى عن الجثة. وهو ممنوع عندهم في أغلب الحالات إذا كان المراد الإخبار من طريق الحقيقة، لا من طريق المجاز. أما من طريق المجاز فصحيح -كما سبق البيان في الجزء الأول ص241 م19. باب: "الضمير" عند الكلام على "كاف الخطاب"-
(2) كما سبق في: "ب" من ص8.(2/12)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لكن التقسيم الثنائي أنسب، لأنه أدمج القسم الثالث فى الأول، والرابع في الثاني؛ نظراً للغلب عليهما، وتقليلاً للأقسام (1) ، واكتفاء بالإشارة إلى أن كل فعل يستعمل في معنىً آخر غير ما ذكر له، مع ضرب أمثلة لذلك:
1- فمن أفعال اليقين وألفاظه ما يستعمل في الرجحان؛ فينصب مفعولين أيضاً، وقد يستعمل في بعض المعاني الأخرى، فينصب مفعولاً به واحداً، أو لا ينصب؛ فيكون لازماً. كل ذلك على حسب معناه اللغوي الذي تدل عليه المراجع اللغويَّة الخاصة، وليس هنا موضع استقصاء تلك المعاني؛ وإنما نسوق بعضها: فمن الأمثلة: الفعل "عَلِمَ"؛ فإنه ينصب المفعولين حين يكون بمعنى: اعتقد وتيقن -كما سبق-؛ مثل: علمت الكواكبَ متحركةً. وقد يكتفي بمفعول به واحد في هذه الحالة؛ بأن نأتي بمصدر المفعول الثاني، وننصبه مفعولاً به، ونكتفي به، بعد أن نجعله مضافاً أيضاً، ونجعل المفعول الأول هو المضاف إليه. فنقول: علمت تَحَرّكَ الكواكب، فيستغني عن المفعول الثاني وعن تقديره.
ومن النحاة من لا يقصر هذا الحكم على "عَلِمَ"؛ بل يجعله عامًّا في جميع أفعال هذا الباب؛ فيحيز إضافة مصدر المفعول الثاني إلى المفعول الأول، والاكتفاء بهذا المصدر مفعولاً به واحداً (2) .
وقد يكون بمعنى: "ظن" فينصب مفعولين أيضاً؛ مثل أعْلَمُ الجوَّ بارداً في الغد. فإن كان بمعنى: "عرف" نصب مفعولاً به واحداً (3) ؛ مثل:
__________
(1) راجع الخضري أول هذا الباب.
(2) وهذا الرأي فيه اختصار محمود، ولا ضرر في الأخذ به أحياناً. وتفضيل أحدهما متروك للمتكلم؛ ليختار منهما ما يناسب كلامه على حسب الدواعي البلاغية. ومن تلك الدواعي أن الإبانة قد تقتضينا أحياناً- أن نصرح بالمفعولين منصوبين- ... فإن لم يكن في التصريح بهما زيادة إيضاح، أو إزالة لبس عند السامع، أو إتمام فائدة -فالاختصار أحسن.
(3) في بعض كتب اللغة -دون بعض- ما يدل على أن "المعرفة" مقصورة على العلم المكتسب بحاسة من الحواس؛ جاء في "المصباح المنير"، مادة "عرف" ما نصه: (عرفته عِرفة -بالكسر- وعرفاناً، علمته بحاسة من الحواس الخمس) . وأيضاً يرى كثير من النحاة فرقاً بين "علم" التي بمعنى: "عرف" و"علم" التي بمعنى: "اعتقد" وأنهما غير متساويين في المعنى ولا في العمل، وحجته: =(2/13)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
علمت الخبر، أي عرفته (1) . وإن كان بمعنى: "انشَقّ" فهو لازم لا ينصب المفعول المفعول به؛ مثل عَلِم البعيرُ (2) ، أي: انشقت شفته العليا ...
والفعل: "رأى" ينصب المفعولين إذا كان بمعنى: اعتقدَ وتيقَّن، أو:
__________
=أن "العلم" الذي بمعنى: "المعرفة" يتعلق بنفس الشيء وذاته المادية؛ تقول: "علمت القمر"، كما تقول "عرفت القمر" كلاهما معناه منصب على ذاته المحسوسة وجرمه، (أي: حقيقته المادية) وعلى هذا تكون "علم التي بمعنى: "عرف" مختصة عندهم بما يسميه المناطقة: "الذات" أو: "الشيء المفرد" أي: "البسيط" وكلا الفعلين بهذا المعنى يتعدى لواحد.
أما "علم" الناصبة للمفعولين فمختصة -عند تلك الكثرة- بوصف الذات بصفة ما، ولا شأن لها بالذات وحدها مباشرة، مثل: علمت القمر متنقلاً. أي: علمت اتصاف ذات القمر بالتنقل، وليس المراد علمت ذات القمر وجرمه. فالفعل "علم" بهذا المعنى مختص بما يسميه المناطقة: "الكليات".
على أساس ما سبق كله يكون القائل: "عرفت قدوم الضيف" مريداً عرفت القدوم ذاته، دون زيادة أخرى عليه، فهو لا يريد وصف الضيف بالقدوم بخلاف من يقول: علمت من الرسالة الضيف قادماً، فإنه يريد اتصاف الضيف بالقدوم، ولا يريد أنه علم حقيقته القدوم المنسوب إلى الضيف، بشرط أن يكون الفعل "علم" في هذا المثال ناصباً مفعولين.
وقال الرضى: لا فرق بين الفعلين في المعنى، وإنما الفرق في العمل؛ فالفعل: علم "بمعنى: عرف" ينصب مفعولاً واحداً، والآخر ينصب مفعولين، بالرغم من تساويهما معنى؛ لأن العرب هي التي فرقت بينهما في العمل دون المعنى، فلا اعتراض عليها.
غير أن كلامه هذا -مع قبوله والارتياح له- مناقض لما قرره في هذا الشأن في باب: "كان" -كما نصوا على ذلك- والحق أن الخلاف بين الآراء السابقة يسير، يكاد يكون شكليًّا، ذلك أن بين الفعلين (المتعدي لواحد والمتعدي لاثنين) فرقاً في المعنى الحقيقيّ لا المجازي، وأنه لا مانع من استعمال أحدهما مكان الآخر مجازاً لسبب بلاغي.
(1) وإلى هذا يشير ابن مالك في بيت متأخر، نصه:
لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وظَنٍّ تهَمَهْ ... تَعْدِيَةٌ لِواحِد مُلْتَزَمَهْ
("لعلم عرفان"؛ أي للعلم المنسوب للعرفان، ولمعنى العرفان.. "ظن تهمه"؛ أي: الظن المنسوب معناه للتهمة ... ) يريد: أن "علم" بمعنى - والمصدر: العلم؛ بمعنى: العرفان - يتعدي لمفعول واحد. ومثله: الفعل: "ظن" بمعنى: اتهم - والمصدر: الظن؛ بمعنى: الاتهام - ومثال الأول: اقترب الشبح فعلمت صاحبه؛ أي عرفته. ومثال الثاني: اختفى القلم، فظننت اللص، أي: اتهمته.
(2) فهو أَعلَم. والناقة عَلْماء. (والفعل من بابي: فرح وضرب، وهو لازم في الحالتين) .(2/14)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمعنى: "ظَنّ". وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى عن منكري البعث ويوم القيامة: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (1) [المعارج: 6، 7] فالفعل الأول بمعنى: "الظن" والثاني بمعنى: اليقين (2) . وكلاهما نصب مفعولين. وكذلك إن كان معناه مأخوذاً من: "الحُلمُ" (أي: دالاًّ على الرؤيا المنامية) ، نحو: كنت نائماً؛ فرأيت الصديق مسرعاً إلى القطار (3) .
فإن كان معناه الفهم وإبداء الرأي في أمر عقليّ فقد ينصب مفعولاً به واحداً، أو مفعولين، على حسب مقتضيات المعنى؛ مثل: يختلف الأطباء في أمر القهوة؛ فواحد يراها ضارَّةً، وآخر يراها مفيدةً إذا خلت من الإفراط. أو: واحد يرى ضررها، وآخرُ يرى إفادتها.
فإذا نظرت رأيت قوماً سادة ... وشجاعة، ومهابة، وكمالا
وقول الآخر:
إنّ العرانين تلقاها محسَّدة ... ولن ترى للئام الناس حسَّادا
__________
(1) المراد بالبعد هنا: عدم حصول الشيء، ونفى وقوعه. وبالقرب: حصوله ووقوعه. وعلى هذا جرت ألسنة العرب وأساليبهم الفصيحة.
(2) كاليقين في الفعل "رأى" من قول الشاعر:
وإذا الكريم رأّى الخمول نزيله ... في موطن فالحزم أن يترحّلا
(3) وفي هذا يقول ابن مالك:
ولِرَأَى الرُّؤْيَا انْمِ مَا لِعَلِمَا ... طِالِبَ مَفْعُولَيْنِ مِنْ قَبْلُ انْتَمَى
(انم: انسب. انتمى. انتمى: انتسب. والتقدير: انم للفعل: "رأى" الذي مصدر "الرؤيا" أي: انسب للفعل: "رأى" الذي مصدره: "الرؤيا" هي المصدر الغالب لرأى الحُلُمية) أي: انسب للفعل: "رأى" الذي مصدره: "الرؤيا" المنامية -ما انتسب وثبت من قبل للفعل: ص43 أن "رأى" الحلمية لا يدخلها تعليق ولا إلغاء، بخلاف: "علم") .(2/15)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ْوكذلك أن كان معناه أصاب: الرئة؛ مثل انطلق السهم فرأى الغزَالَ؛ أي: أصاب رئتهُ.
وقد أشرنا قريباً (1) إلى أن الأساليب العالية يتردد فيها الماضي: "رأى" -دون المضارع، والأمر، والمشتقات الأخرى- مسبوقاً بأداة استفهام. ومعناه: "أخْبِرني"؛ نحو: أرأيتَكَ هذا القمر، أمسكون هو؟ وينصب مفعولاً به، أو مفعولين، على حسب المراد من الأسلوب، وأوضحنا الأمر بإسهاب فيما سبق (2) كذلك يتردد في تلك الأساليب وقوع المضارع: "أُرَى" مبنيّاً للمجهول -غالباً- على حسب السماع، وناصباً للمفعولين (3) ؛ لأن معناه: "أظنُّ"
__________
(1) في رقم 8 من هامش ص5.
(2) هذا الأسلوب يتطلب بياناً شافياً، جليا، يتعرض لنواحيه المختلفة، كصياغته، وتركيبه، وإعرابه، ومعناه ... وقد وفيناه حقه في موضعه من الجزء الأول، ص238 م19. -من الطبعة الرابعة- عند الكلام على الضمير وأنواعه ...
(3) إذا كان المضارع "أُرى" بمعنى: "أَظن"، ويعمل عمله -فكيف ينصب مفعولين مع رفعه نائب فاعل، هو في الأصلب مفعول به أيضاً؟ أليس معنى هذا أنه كان قبل بنائه للمجهول ينصب من المفاعيل ثلاثة، مع أن الفعل: "أظن" ينصب اثنين فقط؟
يجيب النحاة بإجابتين؛ كل واحدة منهما وافية في تقديرهم. وفي الأولى من التعارض والتكلف ما سنعرفه.
الأولى: أن هذا المضارع: "أُرى" المبني للمجهول -غالباً، طبقاً للسماع- قد يكون ماضيه هو "أَرى" مفتوح الهمزة، الناصب لثلاثة من المفاعيل، والذي معناه: "أَعلم" الدال على اليقين -وسيجيء الكلام عليه في الباب التالي ص58-؛ مثل: أَرى العالمُ الناس السفر للكواكب سهلاً؛ أي: أعلمهم السفر سهلا ... ومقتضى هذا أن يكون مضارعه ناصباً ثلاثة أيضاً، وليس ناصباً اثنين فقط.
لكن السبب في نصبه اثنين أنه ترك معنى ماضيه، وانتقل إلى معنى آخر جديد؛ إذ صار بمعنى: الفعل المضارع: "أَظنُّ" لا بمعنى الفعل المضارع: "أعلم ويعلم" وغيرهما مما فعله الماضي: "أَعلم" الدال على اليقين. فلما ترك معناه الأصلي إلى معنى فعل آخر، كان من الضروري أن يترك عمله الأصلي ليعمل العمل المناسب للمعنى الجديد، فينصب مفعولين لا ثلاثة، وعلى هذا يتعين أن يكون ضمير المتكلم في المضارع المبني للمجهول فاعلاً، ولا يصح أن يكون نائب فاعل؛ لأن اعتباره نائب فاعل يؤدي إلى اعتباره مفعولاً به في الأصل قبل أن ينوب عن الفاعل؛ فينتهي الأمر إلى أن ذلك المضارع قد نصب من المفاعيل ثلاثة. وهذا مرفوض عندهم حتماً. فالسبب في تعدية المضارع المبني للمجهول -سماعاً- إلى مفعولين مع أن ماضيه:(2/16)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدال على الرجحان؛ نحو: كنت أُرى الرحلة مُتْعبة، فإذا هي سارّة.
ولا يكون معناه في الفصيح الوارد: "أعْلَمُ"؛ الدّال على اليقين، بالرغم
__________
"أَرى" الدال على العلم واليقين، ينصب ثلاثة، هو استعماله بمعنى الفعل: "أظن" المتعدي لاثنين، من باب الاستعمال في اللازم؛ لأن معنى: "أَرى العالمُ الناسَ السفر سَهلا" هو: "جعل العالم الناس ظانين السفر سهلا" وصحة هذا المعنى تستلزم صحة قولنا: ظن الناس السفر للكواكب سهلا.
أما إن كان الفعل "أَرى" مفتوح الهمزة (أي: غير مبتي للمجهول، وهذا جائز) ومعناه: "أظن" فينصب مفعولين بغير حاجة لتأويل واضح التكلف والالتواء، كالذي سبق.
الثانية: أن الفعل: "أُرى" المضارع المبني للمجهول سماعاً، ينصب ثلاثة من المفاعيل برغم أنه بمعنى أنه بمعنى: الظن، وأن ماضيع بمعنى: "أُظْننْت" وأول المفاعيل الثلاثة هو الذي صار نائب فاعل، ويليه المفعولان المنصوبان. ويقولون: إن الفعل "أُرى" المبني للمجهول هو المضارع للفعل الماضي: "أُريت" المبني للمجهول أيضاً، بمعنى: "أُظْننْتُ" كما سبق، وإن العرب لم تنطق بالماضي "أُريت" إلا مبنيّاً" للمجهول، ولم يعرف عنهم بناؤه للفاعل، كما لم يعرف عنهم أنهم قالوا: "أٌظْننْت" ببناء الماضي "أظننت" للمجهول مع أنه بمعنى الماضي "أُريت". وفي هذه الإجابة بعض اليسر ومسايرة القواعد العامة، وإن كانت -كالأولى- لا تخلو من تكلف، والتواء.
وخير منها أن نقول: (إذا كان المضارع "أُرى" المبني للمجهول بمعنى: "أظن" فإنه يرفع نائب فاعل، وينصب بعده مفعولين فقط) وبهذا نستريح من الإطالة والإعانات والتأويل، ولن يترتب على هذا الرأي ضرر لفظي أو معني.
وقد اتفق النجاة على أن نائب فاعله لابد أن يكون ضميراً للمتكلم الواحد أو الأكثر، نحو: شاع الحديث عن الحياة في الكواكب، وأُرَى المرِّيخ مأهولا. أو نُسري المريخ مأهولا. وقد يكن للمخاطب؛ كقراءة من قرأ الآية الكريمة: (وتُرَ الناسَ سكارى) بنصب كلمة: "الناس".
مما تقدم نعلم أنه لابد للمضارع: "أُرى" الذي سبق الكلام عليه -من نائب فاعل يكون ضميراً للمتكلم- في الأغلب -ومن مفعولين منصوبين. أما الفعل: "أُريت" الذي يتردد في الأساليب الصحيحة أيضاً بصيغة الماضي المبني للمجهول- فقد يكون بمعنى: "أُظنْنْتُ"، لكن الغالب في استعماله أن يكون بمعنى: "أُعْلمت" أي: من مادة "العلم" لا من مادة الظن.
(راجع في كل ما سبق: حاشية الخضري، والصبان، والتصريح، في باب "إن وأخواتها" عند الكلام على المواضع التي يجوز فيها فتح همزة "أن" وكسرها، ومنها: "إذا الفجائية". وبيت الشاعر:
وكنت أُرى زيداً كما قيل سيداً ... الخ، ثم راجع بعد ذلك المراجع السالفة في باب "ظن" عند الكلام على "رأى" وأنواعها.
بقي بعد ذلك -بهذه المناسبة- سؤال؛ هو: أهناك فعل مبني للمجهول دائماً؟ الجواب: لا؛ طبقاً لما سيجيء في ص108.(2/17)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من أنّ الماضي: "أُريتُ" المبني للمجهول والمسند للضمير: "التاء" -لا يستعمل في الأكثر إلا بمعنى: "أُعْلِمْتُ" المفيد لليقين؛ مثل: أُرِيتُ الخير في مقاومة الباطل.
وكذلك يتردد في بعض الأساليب المسموعة وقوع المضارع: "تَرَى" قد حذف آخره، وقبله الحرف: "لا"، أو: "لو"، وبعده "ما" الموصولة في الحالتين. ومعناه فيهما: "لا سيَّما"، مثل: كرّمت الضيوف، لا تر ما عليّ -أو: كرّمت الضيوف لو ترما عليّ. والمعنى ولا سيّما عليّ (1) ...
والفعل: "وجَد" قد يكون بمعنى: "لقِيَ، وصادف"، فينصب مفعولاً به واحداً؛ نحو: وجدت القلم. وقد يكون بمعنى "استغنَى"، فلا يحتاج لمفعول؛ نحو: وَجَد الأبيُّ بعمله.
والفعل: "دَرَى" قد ينصب المفعولين كما سبق، والأكثر استعماله لازماً مع تعديته إلى مفعوله بحرف الجر: "الباء"؛ نحو: "دَرَيتُ بالخبر السارّ. فإن سبقته همزة التعدية نصب بنفسه مفعولاً آخر مع المجرور؛ نحو: قد أدريتك بالحبر السارّ (2) . وكذلك يتعدى لواحد إن كان بمعنى: "ختلَ" (أي: خدَع) نحو: دَرَيت الصيد؛ بمعنى: ختلتهُ وخدعتهُ.
والفعل: "تعلَّمْ" ينصب المفعولين حين يكون جامداً بمعنى: "اعْلَمْ".
فإن كان مشتقًّا بمعنى: "تَعَلَّمْ" نصب مفعولاً به واحداً؛ مثل: تَعَلَّمْ
__________
(1) سبق الكلام على معنى هذين الأسلوبين المسموعين، وتفصيل إعرابهما، وأحكامهما في الموضع المناسب. وهو الجزء الأول، باب الموصول، -م28 ص363 من الطبعة الثالثة التي بعدها- عند الكلام على "لا سيما" والاقتصار في الاستعمال على هذه أحسن.
(2) فإن وقعت همزة التعدية بعد أداة استفهام، كما في قوله تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ؟} [القارعة: 1 - 3] فقيل إن الفعل في الآية نصب ثلاثة مفاعيل؛ أولها: الضمير "الكاف"، وثانيها وثالثها معاً الجملة الاسمية التي بعد الضمير، فقد سدت مسد المفعولين الأخيرين، وقيل إن الفعل نصب بنفسه مفعولاً واحداً هو الضمير، وإن الجملة سدت مسد المفعول الآخر الذي يتعدى إليه الفعل "أدري" بحرف الجر: "الباء" فالجملة في محل نصب بإسقاط حرف الجر، كما في قولنا: فكرت.، أهذا صحيح أم لا؟ وأصله: فكرت، في هذا، أصحح أم لا ... (راجع الخضري في هذا الموضع وراجع أيضاً" "ح" من ص37.(2/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فنون الآداب (1) .
والفعل: "ألفَى" قد يكون بمعنى: "وَجَدَ" و"لَقِيَ" فينصب مفعولاً به واحداً؛ نحو: غاب عصفوري، ثم ألفيتُهُ.
2- ومن أفعال الرجحان ما قد يستعمل في اليقين؛ فينصب المفعولين أيضاً.
وقد يستعمل في بعض المعاني اللغوية الأخرى؛ فينصب بنفسه مفعولاً واحداً؛ أوْ لا ينصبه؛ وذلك على حسب ما ترشد إليه اللغة. ومن أمثلة ذلك الفعل: "خال" فمعناه اليقين في نحو: إخالُ الظلمَ بغيضاً إلى النفوس الكريمة. وكذلك في نحو: حَسِبت المالَ وقايةً من ذل السؤال. فإن كان "حَسِبَ" (2) بمعنَى: "عَدّ" نصب مفعولاً به واحداً؛ نحو: حَسَبت النقود التي معي. أي: عددتها. وإن كان معناه صار ذا بياض، وحمرة، وشقرة -كان لازماً؛ نحو: حَسِب الغلام ... و ...
والفعل: "جعل" إن كان بمعنى: "أوْجَد" أو بمعنى: "فَرَض وأوجب" -نصب مفعولاً به واحداً؛ نحو: جعل الله الشمس، والقمر، والنجوم، وسائر
__________
(1) بين الفعلين فرق في اللفظ والمعنى والاستعمال؛ فالفعل الأول: تعلمْ: بمعنى: "اعلمْ" فعل أمر جامد؛ لا ماضي له، ولا مضارع، ولا مصدر، ولا شيء من المشتقات في الرأي الأقوى (كما أسلفنا في رقم6 من هامش ص6) . والغالب في استعماله دخوله على "أنّ" مع معموليها، أو "أنْ" والفعل مع مرفوعه؛ نحو: تعلمْ أن احتمال الأذى في سبيل الله لذة ... فالمصدر المؤول من "أنّ" مع معموليها سد مسد المفعولين. ومعناه مطلوب تحقيقه سريعاً، وتحصيل المراد منه في المستقبل القريب الذي يشبه الحال؛ وذلك بالإصغاء للمتكلم، واستيعاب ما يريده فوراً، وتنفيذ ما يجيء بعد فعل الأمر بغير تمهل.
أما الفعل الثاني فلفظه أمر أيضاً، ولكنه غير جامد، فله ماض هو: "تَسَلَّمَ" وله مضارع هو: "يتعلَّمُ" وله مصدر ... وباقي المشتقات ... والغالب في استعماله دخوله مباشرة على مفعوله الصريح.
ومعناه مطلوب تحقيقه وتحصيله في المستقبل، ولكن مع تمهل وامتداد، واتخاذ للوسائل المختلفة. الكفيلة بالوصول.
(2) الغالب في الفعل: "حسب" بمعنى: "عَدَّ"، فتح "السين" في الماضي، وضمها مضارعه.(2/19)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المخلوقات، أى: أوجدها وخلقها (1) ..، ونحو: جعلت للحارس أجراً (2) ، بمعنى فرضت له، وأوجبت عليّ ...
والفعل؛ "هبْ" ينصب مفعولاً به واحداً إن كان متصرفاً (3) أمراً من الهبة؛ نحو: هبْ بعض المال لأعمال البرّ (4) . أو أمراً من الهيبة؛ نحو: هبْ ربَّك في كل ما تقدم عليه من عمل. وهكذا (5)
__________
(1) ومن هذا قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] .
(2) قد يكون الفعل: "جعل". بمعنى: شرع. (وقد سبق الكلام عليه مع أفعال الشروع في باب أفعال المقاربة ج1 ص464 م50) وقد يكون بمعنى: اعتقد، أو ظن، أو "صيَّر" -كما عرفناه فيما سبق.
(3) وهذا "الأمر" المتصرف مخالف في معناه واستعماله لفعل الأمر الجامد الذي على صورته وسبق الكلام عليه في ص8.
(4) وردت أمثلة صحيحة نصب فيها مفعولين بنفسه؛ منها: انطلق معي؛ أهبْك نبلا. (المخصص ج12 ص227) . ولا مانع من محاكاتها وإن كانت قليلة؛ إذ الكثير أن ينصب بنفسه مفعولاً واحداً، ويتعدى للآخر بحرف الجر. وقد صرح المغني بأن هذا الفعل نصب المفعول الثاني بعد إسقاط حرف الجر: "اللام" ومن المستحسن هنا تسجيل النصوص الواردة في المراجع المختلفة للدلالة على صحة استعمال هذا الفعل: (وَهَب) متعديا بنفسه إلى مفعولين مباشرة، أو إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بمعونة حرف الجر؛ كي ينقطع الجدل حول صحة تعديته إلى المفعولين مباشرة. جاء في المخصص -ج12 ص227- ما نصه: ("قال سيبويه: وهبت لك، ولا يقال: وهبتك. قال أبو علي: وقد حكاها غيره؛ ذكر أبو عمرو: أنه سمع أعرابياً يقول لآخر: "انطلق معي أهبك نبلا". حكاه أبو سعيد السيرافي") اهـ. وجاء في "المغني" عند الكلام على اللام المفردة -ج1 ص184- ما نصه ("تنبيه: زادوا اللام في بعض المفاعيل المستغنية عنها -كما تقدم- وعكسوا ذلك فحذفوها من بعض المفاعيل المفتقرة إليها؛ كقوله تعالى: "تبغونها عوجاً" وقوله تعالى: "والقمر قدرناه منازل" وقوله: "وإذا كالوهم أو وزنوهم ... " وقالوا: وهبتك ديناراً، وصدتك ظبياً، وجنيتك ثمرة ... ") اهـ وجاء في الصبان -ج2 ص216 باب: حروف الجر، عند التمثيل للام الملك بقول الأشموني: وهبت لزيد ديناراً- ما نصه: ("التمليك مستفاد من الفعل، لا من اللام؛ بدليل أنك لو أسقطت اللام، وقلت: وهبت زيداً ديناراً لكان الكلام صحيحاً دالاًّ على التمليك. ولو مثل: بجعلت لزيد ديناراً لكان أحسن") . اهـ.
(5) إن كان الفعل: "زعم" بمعنى: "كفل"، أو: "رأس (أي: شرُف وساد) تعدى لواحد بنفسه، أو بحرف الجر، والمصدر: "الزعامة". وإن كان بمعنى: سمِن أو هزُل (أي: أصابه الهزال) لم ينصب بنفسه مفعولاً. (راجع ما يتصل بهذا ويتممه في رقم 4 من هامش ص7) .
وإن كان الفعل "حجا" بمعنى: قصد، أو: رد، أو: ساق، أو: حفظ، أو: كتم، أو غلب في المحاجة (وهي إقامة الحجة، وإظهار البرعة وحدة الذكاء في تقديمها) نصب مفعولاً به واحداً- ...(2/20)
شروط إعمالها:
يشترط لإعمال هذه النواسخ بنوعيها القلْبيّ والتحويليّ، أن يكون المبتدأ الذي تدخل عليه صالحاً للنسخ على الوجه الذي سبق تفصيله وتوضيحه عند بدء الكلام على النواسخ (1) . وملخصه:
أن النواسخ بأنواعها المختلفة لا تدخل على شيء مما يأتي:
(1) المبتدأ الذي له الصدارة الدائمة في جملته؛ بحيث لا يصح أن يسبقه منها شيء. ومن أمثلته: أسماء الشرط -أسماء الاستفهام - كَم الخبرية - المبتدأ المقرون بلام الابتداء ... (نحو: من يكثُر مزحُه تَضعْ هيبته. من ذا الذي ما ساء قط؟ كَمْ من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله!!. لَكلمةُ حقّ في وجه حاكم ظالم أفضلُ عند الله من اعتكاف صاحبها يوما في المسجد) .
ويستثنى من هذا النوع الذي له الصدار في جملته -ضمير الشأن (2) فيجوز أن تدخل عليه النواسخ بأقسامها المختلفة؛ نحو حَسِبته "الحقُّ واضح".
لكن تختص النواسخ في هذا الباب -دون غيرها من النواسخ- بجواز دخولها على المبتدأ الذي هو اسم استفهام، أو المضاف إلى اسم استفهام. وإذا دخلت على أحدهما وجب تقديمه عليها؛ نحو: أيًّا ظننتَ أحسنَ؟ وغلامَ أيٍّ حسبتَ أنشطّ؟.
ولا تدخل على أحدهما "كان" ولا "إن" ولا أخواتهما؛ منعاً للتعارض؛ إذ الاسم في بابي "كان" و"إنَّ" وأخواتهما لا يصح تقديمه على الناسخ. فلو وقع الاسم أحدهما لامتنع تقديمه على الناسخ؛ تطبيقاً لهذا الحكم، مع أن الاستفهاك لابد أن يتقدم (3) .
__________
(1) راجع ج1 ص402 م42 من هذا الكتاب؛ حيث التفصيل والبيان الذي لا غنى عنه.
(2) سبق شرحه، في ج1 ص177 باب: الضمير وأنواعه.
(3) أما الخبر فيجوز أن يكون اسم استفهام، أو مضافاً إلى اسم استفهام في البابين، ولا يجوز هنا أن يكون جملة إنشائية؛ ويجوز تقديمه في بابي: "ظن" و"كان" بشرط ألا يوجد مانع يمنع من=(2/21)
(ب) المبتدأ الملازم للابتداء بسبب غيره؛ كالاسم الواقع بعد "لولا"؛ الامتناعية، أو بعد "إذا" الفجائية؛ فإنه لا يكون إلا مبتدأ؛ إذ لا يصح -في الرأي الأشهر- دخول أحدهما على غير المبتدأ؛ نحو: لولا العقوبةُ لزادت الجرائم. ونحو؛ فتحت الكتاب؛ فإذا الصّوَرُ فاتنة.
(ج) المبتدأ الذي يجب حذفه بشرط أن يكون أصلُ خَبَرِه نعتاً مقطوعاً (1) نحو: شكراً للمتعلم، النافعُ العزيزُ (أي: هو النافعُ العزيزُ) .
(د) كلمات معينة لم ترد عن العرب إلا مبتدأ. ومنها: "ما" التعجبية، وكلمة: "طُوبى"؛ (بمعنى: الجنة) وكلمة: دَرّ (2) ، وكلمة: أقلّ ...
وذلك في نحو: ما أجملَ الهواء سَحَراً!!، وما أطيب الرياضة عصراً!! طوبى للشهداء، ولله دَرُّهم (2) !! وأقَلُّ (3) رجل يُسْكِر فضلهم.
__________
=تقديمه، كوجود "ما النافية" قبل الناسخ، أو غيرها من الموانع التي ذكرناها في أحوال خبر "كان" (ج1 ص420 م43) ، مثل: أين كنت؟ وأين ظننت الكتاب؟ أما خبر "إن" وأخواتها فلا يتقدم عليها -كما سبق في باباها ج1- وقد قلنا إن الخبر هنا لا يكون جملة إنشائية برغم ورود صور منها مسموعة، نقل النحاة واحدة منها ثقيلة في نطقها، ولا أدري لماذا تخيروها دون غيرها مع ما فيها من ثقل وإن كانت صادقة المعنى؟ هي قولهم: "رأيت الناس، أخْبُرْ تَقْلَِهُ". أي: اختبر كل واحد منهم تبغضه وتكرهه؛ لما تكشفه من عيوبه. فهذا -وأمثاله- على إضمار قول مقدر؛ أي: رأيت الناس مقولا فيهم: اختبر كل واحد منهم تبغضه وتكرهه. ويرى كثير من النحاة عدم القياس على هذا. والحق أن القياس عليه جائز بشرط وجود قرينة كاشفة تمنع الغموض؛ وتهدي للمقصود؛ لأن هذا هو الموافق للأصول اللغوية العامة. وفيه تيسير وتوسيع في ميدان الكلام والتعبير بغير ضرر، كما يتبين هذا من الباب الخاص بأحكام "الحكاية".
(1) سبق تفصيل الكلام على النعت المقطوع في الجزء الأول ص375 م39. وله تفصيل أشمل في باب النعت ج3 ص357 م115.
(2 و2) الدر: اللبن. "ولله در البطل" ... أسلوب يتقدم فيه الخب وجوباً، (لأن العرب التزمت فيه التقديم) ويقصد به المدح والتعجب من بطولته، معاً ... والسبب: هو ما يدعيه القائل من أن اللبن الذي ارتضعه البطل في صغره، ونشأ عليه، وترعرع -لم يكن لبناً عادياً كالمألوف لنا، وإنما هو لبن خاص أعده الله لهذا البطل في طفولته؛ لينشأ نشأة ممتازة، ويشب عظيماً. فنسب اللبن لله -ادعاه- ليكون من وراء ذلك إظهار الممدوح في صفات تفوق صفات البشر، وكأنه ليس منهم، فهو أسمى وأرقى، للعناية الإلهية التي خصته برعايتها.
(راجع رقم1 من هامش ص424 و"ج" من ص427" من هذا الجزء، وص504 ج1 م38 من الطبعة الرابعة) .
(3) أي: قَلّ رجل يقول ذلك، بمعنى: صغُر وحقُر. (راجع ج1 ص328 م33) .(2/22)
ومثل بعض ألفاظ الدعاء؛ ومنها (1) : سلامٌ - ويلٌ؛ في نحو: سلام على الأحرار، وويل للجبناء.
***
حكم الناسخ ومعموليه من ناحية التقديم والتأخير:
لا ترتيب في هذا الباب بين الناسخ ومعموليه؛ فيجوز -لغرض بلاغي- أن يتقدم عليهما معاً، ويتأخر عنهما، ويتوسط بينهما. لكن يترتب على كل حالة أحكام سيجيء تفصيلها قريباً (2) . فمثال تقدُّم الناسخ عليهما: يظنّ الجاهلُ السرابَ ماء. ومثال تأخره عنهما: السرابَ ماءً يظن الجاهل السرابَ.
أما الترتيب بين المفعولين وتقديم أحدهما على الآخر دون الناسخ فحكمه حكم الترتيب بين أصلهما المبتدأ والخبر قبل دخول الناسخ عليهما؛ فما ثبت لأصلهما يثبت لهما من غير اعتبار لوجود الناسخ. ويترتب على هذا أن يكون المفعول الأول واجب التقديم على المفعول الثاني في كل موضع يجب فيه تقديم المبتدأ على الخبر، وأن يكون المفعول الثاني واجب التقديم على المفعول الأول في كل موضع يجب فيه تقديم الخبر على المبتدأ، وأن يكون تقديم أحدهما على الآخر جائزاً في كل موضع يجوز فيه تقديم المبتدأ أو الخبر بغير ترجيح. فلا بد من مراعاة الأصل (3) في ناحية التقديم والتأخير، وتطبيقه على الفرع تطبيقاً مماثلاً. ففي مثل: حسبت أخي شريكي، يجب الترتيب، بتقديم المفعول الأول وتأخير الثاني؛ منعاً لوقوع لَبْس لا يمكن معه تمييز الأول من الثاني؛ فيلتبس المعنى تبعاً لذلك. وفي مثل: علمت الكلب حارساً أميناً إلا الكلب. أي: أنه لا حارس أميناً سواه. وفي مثل: ظننت القِطّ البَرَِّّ (4) ثعلباً، يجوز تقديم المفعول الثاني؛
__________
(1) الكثير في اللفظين الآتيين الرفع على الابتداء، ولا مانع من النصب على اعتبار آخر؛ كما سيجيء البيان في ص230.
(2) في ص38.
(3) سبق إيضاحه في الجزء الأول (ص361 م37) عند الكلام على مواضع تأخير الخبر.
(4) الصحراوي غير الأليف.(2/23)
فتقول: ظننت ثعلباً القِطّ البَرّيّ؛ إذ لا مانع يمنع تقديم أحدهما على الآخر ... وهكذا تجب مراعاة الأحكام الخاصة بالترتيب بين المبتدأ والخبر، وتطبيقها هنا، عند النظر في الترتيب بين المفعولين (1) .
***
ما تنفرد به الأفعال القلبية الناسخة، هي وما يعمل عملها:
تنفرد النواسخ القلبية بخمسة أحكام، منها حكم واحد مشترك بينها جميعاً، سواء أكانت متصرفة أم جامدة، وهذا الحكم
هو: تنوّع مفعولها الثاني. أما الأحكام الأربعة الأخرى فمقصورة على النواسخ القلبية المتصرفة، دون الجامدة، وسيجيء لهذه الأربعة بحث مستقل (2) .
(1) فأما تنوع المفعول الثاني الذي أشرنا إليه فلأنه إليه فلأنه خبر في الأصل، فهو ينقسم إني مثل ما ينقسم إليه الخبر؛ من مفرد (ة3) ، وجملة (4) ، وشبه جملة (5) ؛ فليس من اللازم في المفعول الثاني أن يكون مفرداً، وإنما اللازم أن يكون الناسخ قلبيّاً متصرفاً أو غير متصرف (6) ؛ كما في الأمثلة الآتية، ومن المهم التنبه لإعراب كل قسم، ولا سيما الجملة وشبهها.
__________
(1) ستجيء إشارة موجزة لهذا الترتيب في 2176 م72.
(2) في ص26 المسألة: 61.
(3) المراد بالمفرد هنا وفي الخبر: ما ليس جملة ولا شبهها.
(4) بشرط ألا تكون إنشائية.. لأن الإنشائية لا تصلح هنا (انظر رقم 3 من هامش ص21) .
(5) طبقاً لما جاء في بعض المراجع الوثيقة وتؤيده النصوص الفصيحة التي تكفي لإباحة القياس عليه.
(6) قد سبقت أمثلة المفرد. ومثال الجملة الاسمية قول الشاعر:
حَذَارِ، حذارِ من جَشعٍ؛ فإِني ... رأَيت الناس أَجشعُها اللئامُ
ومثال الجملة الفعلية المضارعية قول الشاعر:
فَهبْك عدوى لا صديقي فربما ... رأيت الأَعادِي يرحمون الأَعاديا
ومثال الماضوية:
وإني رأيت الشمس زادت محبةً ... إلى الناس أَن ليست عليهم بسرمد
فكل واحدة من الجمل (أجشعها اللئام - يرحمون - زادت محبة) . سدت مسد المفعول الثاني الذي يحتاج إليه الفعل الناسخ. ومثال شبه الجملة -قول بعضهم: رأيت قدرة الله في كل شيء، وألفيت سلطانه فوق كل سلطان. وقول الشاعر يفتخر:
إني -إذا خفى الرجال- وجدتني ... كالشمس؛ لا تخفى بكل مكان
فشبه الجملة (الجار مع مجروره، أو الظرف) سد مسد الثاني.(2/24)
جدول
___________________________________________________________________
الجملة مشتملة على الفعل القلبي ومفعوليه...... المفعول الثاني..... نوعه. ... إعرابه
___________________________________________________________________
علمت الرياءَ داءً وبيلا. ...................... داءً............... مفرد...... مفعول ثان منصوب
أحسب النفاقَ مزرياً بصاحبه.................. مزرياً............ مفرد...... مفعول ثان منصوب
زعمت الكذبَ سوءَ أدب...................... سوءَ............... مفرد...... مفعول ثان منصوب
___________________________________________________________________
أرى الفضلَ يعرف أهله..................... (يعرف×) ...... جملة فعلية. ...... فعل مضارع، فاعله ضمير مستتر تقديره:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هو والجملة في محل نصب (1) تسد مسد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . المفعول الثاني.
تعلمْ (اعلمْ) الفرصة تَضيع بالتواني.......... (تضيع×) ...... جملة فعلية...... فعل مضارع، فاعله ضمير مستتر تقديره:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هي والجملة في محل نصب تسد مسد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . المفعول الثاني.
وجدت التوفيقَ حالفَ أهل الإجادة........... (حالَف×) ...... جملة فعلية (2) ..... فعل ماضي، فاعله ضمير مستتر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تقديره: هو والجملة في محل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نصب تسد مسد المفعول الثاني.
___________________________________________________________________
ألفيت الإذاعة هي المنبرُ العام،............ هي المنبر...... جملة اسمية...... هي: مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . المنبر خبره الجملة في محل نصب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تسد مسد المفعول الثاني
إخالُ سلطانَ الضمير هو السلطان لأكبر.. هو السلطان...... جملة اسمية..... هو: مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . السلطان خبره. الجملة في محل نصب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تسد مسد المفعول الثاني
أظن المجدَ هو هدفُ العظيم.............. هو هدف.......... جملة اسمية...... هو: مبتدأ مبني على الفتح في محل رفع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هدف خبره. الجملة في محل نصب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تسد مسد المفعول الثاني
___________________________________________________________________
دَرَيت الصديقَ عند الشدة. ................. عند............ ظرف منصوب...... متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني، أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الظرف نفسه سد مسد المفعول الثاني (3)
جعلت الكتابَ معك. ........................ مع............ ظرف منصوب...... متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني، أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الظرف نفسه سد مسد المفعول الثاني
أعلمُ قَّوةَ الحق فوق طغيان الباطل. ......... فوق........... ظرف منصوب...... متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني، أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الظرف نفسه سد مسد المفعول الثاني.
___________________________________________________________________
أحسب الخيرَ في مجانبة أهل السوء...... في مجانبة...... جار مع مجروره...... متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني، أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجار مع مجروره سد مسد المفعول الثاني (3)
أرى السعادة في عمل الخير. ............ في عمل........ جار مع مجروره...... متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني، أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجار مع مجروره سد مسد المفعول الثاني.
علمت العفوَ من دواعي التآلف. ........ من دواعي. ...... جار مع مجروره...... متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني، أو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجار مع مجروره سد مسد المفعول الثاني.
___________________________________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ما معنى في محل نصب ... ؟
سبق الجواب عن هذا واضحاً عند تفصيل الكلام على الإعراب المحلي والتقديري. -ج1 م6 في آخر المعرب والمبني ...
(2) قد يكون الفعل الثاني في الجملة الفعلية ناسخاً؛ كقول الشاعر:
رأيت دنوّ الدار ليس بنافع ... إذا كان ما بين القلوب بعيداً
(3 و3) راجع رقم 2 من هامش ص450 م89، وهي تلخيص لما سبق في ج1 ص271 و346 م27 وم35 حيث الكلام على شبه الجملة بنوعيه، من ناحية وقوعه هو أو متعلقه خبراً، وصفة ... و ...(2/25)
المسألة 61:
ب- الأحكام الأربعة الخاصة بالأفعال القلبية المتصرفة (1) .
عرفنا (2) أن الأفعال القلبية متصرفة، إلا فعلين؛ هما: "تعَلَّمْ" (3) بمعنى "اعلَمْ"، و"هَبْ" بمعنى: "ظُنَّ"؛ نحو: تعلمْ داءَ الصمت خيراً من داء الكلام. وهبْ كلامَك محموداً؛ فتَخَيرْ له أنسب الأوقات.
والفعل القلبيُّ المتَصرف قد يكون له الماضي، والمضارع، والأمر، والمصدر واسم الفاعل، واسم المفعول، وبقية المشتقات المعروفة، لكن الناسخ الذي يعمل في هذا الباب هو الماضي وما جاء بعده مما صرّحْناه باسمه هنا، دون بقية المشتقات المعروفة (4) التي اكتفينا بالإشارة الموجزة إليها، ولم نصرح بأسمائها. وبديهٌ أن النواسخ المتصرفة التي سردنا أسماءها - متساوية في العمل؛ لا فرق بين ماض وغيره، ولا بين فعل واسم مما سردناه (5) . أما الناسخ الجامد فيعمل وهو على صورته
__________
(1) هذا البحث هو الذي سبقت الإشارة إليه في ص24 عند بيان ما تنفرد به الأفعال القلبية من خمسة أمور سبق منها واحد -في ص24- قبل هذه الأربعة الآتية.
(2) في رقم 1 من هامش ص4 وفي رقم 6 من هامشي ص6، 8.
(3) على الرأي ال قائل بأنه جامد. وهو الرأي الشائع الذي يحسن الاقتصار عليه (كما سبق في رقم 6 من هامش ص6 ورقم 1 من هامش ص19) . أما على الرأي القائل بأنه متصرف فيجري عليه ما يجري على الأفعال القلبية المتصرفة.
(4) أوضحنا -في رقم 1 و2 من هامش ص4- معنى المتصرف وقسميه، وبيان المشتقات المختلفة، والعامل منها وغير العامل، وما العامل، وما يعمل في غير هذا الباب ولكنه لا يصلح للعمل هنا، وأسباب ذلك ...
(5) ومن الأمثلة، الفعل: "علم"، وما يتصرف له؛ نحو: علم العاقل الحياةَ جهاداً -يعلم العاقل الحياةَ جهاداً- اعلمْ الحياةَ جهاداً، فمارسه - عِلْم العاقل الحياةَ جهاداً دافع له إلى الصبر والدأب- العاقل عالمُ الحياة جهاداً- أمعلوم الحياةُ جهاداً. (الحياة: هي المفعول الأول؛ لكنه صار نائب فاعل لاسم المفعول من نائب فاعل حتما. لا فاعل) .
اسما ظاهراً، أو ضميراً. غير أن الضمير لا بد أن يكون للغائب دائماً، ولهذا قالوا في مثل: أنا صائم.. ومثل أنا مخلص..، إن فاعل اسم الفاعل ضمير مستر تقديره: "هو". على تأويل: أنا رجل صائم ... =(2/26)
القائمة، لا يفارقها، ولا يَدْخُل عليها تغيير.
وتختص الأفعال القلبية المتصرفة، هي وما تتصرف له مما ذكرنا اسمع صريحاً بأحكام تنفرد بها؛ فلا يدخل -في الأغلب- حكم منها على المشتقات القلبية التي لا تعمل هنا (1) ، ولا على الأفعال القلبية الجامدة، ولا على أفعال التحويل وما يتصرف منها. وأشهر تلك الأحكام أربعة (2) .
الحكم الأول -التعليق:
ومعناه: "منع الناسخ من العمل الظاهر في لفظ المفعولين معاً، أو لفظ أحدهما، دون منعه من العمل في المحلّ" (3) . فهو في الظاهر ليس عاملاً النصب، ولكنه في التقدير عامل. وهذا ما يعبر عنه النحاة بأنه:
"إبطال العمل لفظاً، لا محلاً". سواء أكان أثر الإبطال واقعاً على المفعولين معاً، أم على أحدهما.
هذا المنع والإبطال واجب إلا في صورة واحدة (4) . وسببه أمر واحد، هو: وجود لفظ له الصدارة (5) يَلِي الناسخ؛ فيفصل بينه وبين المفعولين معاً،
__________
=أنا رجل مخلص ... فالضمير المستتر تقديره: "هو" للغائب، وعائد على محذوف؛ ليكون عائداً على الغائب؛ إذ لا يصح أن يعود إلا عليه. فمن الخطأ إرجاعه إلى متكلم أو مخاطب.
(راجع الخضري ج1 "باب ظن" عند الكلام على بيت ابن مالك: "وخص بالتعليق والإلغاء ... ".
- وستجيء الإشارة لهذا في باب اسم الفاعل ج3 ص191 م102 كما سبق البيان في ج1 م19 ص243 من الطبعة الثالثة، عند الكلام على اختلاف نوع الضمير مع مرجعه) .
والظاهر أن هذا الحكم ليس مقصوراً على اسم الفاعل وحده، بل يشاركه فيه كل مشتق يتحمل ضميراً مستتراً؛ فيجب أن يكون الضمير المستتر للغائب، ويعود على غائب دائماً.
(1) وهي المشتقات التي لم نصرح فيما سبق باسمها. إلا التعليق بالاستفهام فإنه عام شامل، وسيجيء الإشارة لهذا في رقم 2 من هامش ص32 أما البيان المفصل ففي 36.
(2) وهي غير الحكم المشترك: "ا" الذي يدخل النواسخ القلبية المتصرفة والجامدة، وغيرها.
وقد سبق بيانه في ص24.
(3) تفصيل الكلام على الإعراب المحلي في ج1 م6 في الزيادة والتفصيل التي في آخر: "المعرب والمبني" -كما أشرنا-
(4) جائزة، وتجيء في رقم 4 من هامش ص30.
(5) تردد هذا في المراجع النحوية المختلفة ومنها: حاشية الصبان على الأشموني، في هذا الموضع=(2/27)
أو أحدهما، ويَحُول بينه وبين العمل الظاهر، ويسمى هذا اللفظ الفاصل: "بالمانع" ويقع بعده جملة (1) -في الغالب-؛ ففي مثل: علمت البلاغة إيجازاً، ورأيت الإطالة عجزاً. نجد: "عَلِم" قد نصب مفعولين مباشرة. وكذلك الفعل؛ "رأى" -لم يَنصب كل من الفعلين شيئاً في الظاهر، بسبب وجود "لام الابتداء" التي فصلت بين كل فعل ناسخ ومفعوليه- وهي من ألفاظ التعليق، أي: من الموانع -، ولكن هذا الفعل يَنْصِب المحلّ؛ فنقول عند الإعراب: "البلاغة": مبتدأ- "إيجازٌ": خبره. والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب؛ سدّت مَسدّ مفعولي "عَلم" (وهذه الجملة هي التي تَلِي -في الغالب- اللفظ المانع من العمل) .
وكذلك نقول: "الإطالةُ": مبتدأ -"عجزٌ": خبره. والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب؛ سدّت مسد مفعولَيْ: "رأى". فقد وقع التعليق بسبب وجود المانع من العمل، ووقع بعد المانع جملة محلها النصب؛ لتسدّ مسد المفعولين.
أما في مثل: علمت البلاغةَ لَهِي الإيجازُ، ورأيت الإطالةَ لَهِيَ العجزُ، فاللفظ المانع من العمل -وهو لام الابتداء- قد وقع في المثالين بعد المفعول به الأول، ووقع بعد المانع جملة سدت مَسَدّ المفعول به الثاني الذي لا يظهر في الكلام، وحلَّت محله وحده. فعند الإعراب يَحْتَفظ المفعول به الأول باسمه وبإعرابه؛ (مفعولاً به أول، منصوباً) (2) . وتعرب الجملة التي بعد المانع إعرابها التفصيلي، ويزاد عليه: "أنها في محل نصب؛ سدّت مسد المفعول به الثانين (3) الذي وقع عليه التعليق".
__________
=من الباب حيث يتكلم على أدوات "التعليق"، ومنها: "كم" بنوعيها؛ فقال ما نصه: ("كل ما له الصدر يُعلق") اهـ.
(1) إلا إن كان المانع هو أحد المفعولين بحسب أصله: نحو؛ علمت من أنت، أو وقع المصدر المؤول ساداً مسد المفعولين، أو ثانيهما وحده.
(2) ستجيء حالة يجوز فيها رفعه -في رقم4 من هامش ص30-.
(3) إذا سدت جملة مسد المفعول الثاني -أو مسد غيره مما يكون مفرداً لا جملة- فهي مفرد في=(2/28)
نعلم مما تقدم أن أثر التعليق في منع العمل لفظي ظاهريّ فقط، لا حقيقيّ، محليّ، وأن سببه الوحيد وجود فاصل لفظي له الصدارة، يسمى: "المانع"؛ يفصل بين الناسخ ومفعوليه معاً، أو أحدهما (1) ، وبعد "المانع" جملة (2) تسدّ مسدّ المفعولين معاً، أو أحدهما على حسب التركيب ...
ولما كان أثر التعليق مقصوراً على ظاهر الألفاظ دون محلها كان اختفاء النصب عن المفعولين معاً أو أحدهما، هو اختلفا شكليّ محض؛ لا حقيقيّ محليّ -كما قدمنا- ولهذا يصح في التوابع (كالعطف ... ) مراعاة الناحية الشكلية الظاهرة، أو مراعاة الناحية المحلية؛ فنقول: علمت لَلبلاغةُ إيجازٌ والفصاحةُ اختصارٌ- ورأيت لَلإطالةُ عجزٌ والحشوُ عيبٌ؛ برفع المعطوف، تبعاً للفظ المعطوف عليه، وحركته الظاهرة (3) . أو نقول: علمت لَلبلاغة إيجازٌ، والفصاحةَ اختصاراً -ورأيت لَلإطالةُ عجزٌ والحشوَ عيباً؛ بنصب المعطوف؛ تبعاً للحكم المحليّ في المعطوف عليه. فمراعاة إحدى الناحيتين جائزة (3) .
أما سبب التعليق في هذه الأمثلة وأشباهها، فيرتكز في الأمر الواحد الذي
__________
=المعنى؛ ففي مثل: أظن محمداً أبوه قائم، تعرف الجملة -"أبوه قائم"- مبتدأ وخبر، في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني؛ فهي مفرد في المعنى؛ لأن المعنى: أظن محمداً قائم الأب. وقد نص النحاة على هذا، وتضمنته كتبهم، = (ومنها: الصبان في الجزء الأول عند الكلام على علامات الأسماء، وأوضحنا هذا وبسطنا الكلام على الإعراب المحلي في الموضع الذي أشرنا إليه في رقم 1 من هامش ص25) .
(1) فلابد من تقدم الناسخ على "المانع"، ولابد من تقدم "المانع" على المفعولين معاً، أو على الثاني فقط؛ إذ ليس من اللازم -كما كان عرفنا- أن يقع أثر التعليق. على المفعولين معاً، فقد يقع على الثاني وحده، ويبقى الأول منصوباً كما قبل التعليق. أما وقعه على الأول دون الثاني فغير ممكن؛ لأن أداة التعليق التي تفصل بين الناسخ ومفعوله الأول ستكون فاصلة كذلك بين الناسخ ومفعوله الثاني في الوقت نفسه.
(2) إلا في الحالة التي سبق استثناؤها في رقم 4 من هامش ص27. وتجيء في رقم 4 ص30..
(3) يجب عند العطف بالنصب على محل الجملة التي عُلق عنها الناسخ -أن يكون المعطوف إما جملة اسمية في الأصل؛ كالأمثلة السابقة؛ فيعطف كل جزء من جزأيها على ما يقابله، في الجملة المتبوعة.
وإما مفرداً فيه معنى الجملة؛ نحو: علمت لمحمودٌ "أديبٌ" و"غيرَ" ذلك من أموره. فلا يصح: علمت ولمحمودٌ أديب" وحامداً، ولا: علمت لمحمود "أديبٌ" وشاعراً -إلا على تأويل وتقدير محذوف في كل صورة، أما كلمة "غير" في المثال السالف فإنها منصوبة جوازاً؛ لأنها بمنزلة الجملة كما قلنا-. فهي معطوفة بالنصب على محل الجملة الاسمية التي هي المعطوف عليها؛ فلفظ "غير" -وهو مفرد- قد=(2/29)
ذكارناه، وهو: وجود فاصل لفظيّ بعد الناسخ؛ يفصل بينه وبين مفعوليه أو أحدهما، بشرط أن يكون هذا الفاصل اللفظي من الألفاظ التي لها الصدارة (1) في جملتها، مثل: لام الابتداء، وأدوات الاستفهام (2) ، وغيرها من كل ما له الصدارة في جملته (3) . وبعبارة أخرى:
(يحدُث التعليق بكل لفظ له الصدارة إذا فصل بين الناسخ ومفعوليه معاً، أو توسط بين المفعولين) .
وإليك مثالاً آخر للمانع يفصل بين الناسخ ومفعوليه معاً، أو يَفصل بين الناسخ ومفعوليه الثاني فقط:
أعلَمُ، أمحمودٌ حاضرٌ أم غائبٌ؟ أعلَمُ محموداً، أحاضر هو أم غائب؟
فمتى وقع بعد الناسخ مانع بإحدى الصورتين السالفتين مَنع العمل الظاهر حتماً، دون العمل التقديريّ (المحليّ) كما رأينا، وأوجب التعليق (4) .
وأشهر الموانع الألفاظ الآتية التي لها الصدارة، وكل واحد منها يوجب (4) التعليق:
__________
=ساغ عطفه على محل الجملة؛ لأنه بمعناها؛ إذ معناه: علمت لمحمودٌ "أديبٌ" ومحموداً غيرَ ذلك، أي متصفاً بغير ذلك. (أي: علمت محموداً متصفاً بغير ذلك) .
- راجع ج3 ص478 م121 باب العطف. وعطف المفرد على الجملة، والعكس-.
(1) تقدم الناسخ على "المانع" واجب. وهو مع تقدمه لا يعمل النصب في "المانع"، ولا فيما بعده، إذ لو عمل فيه أو فيما بعده النصب لفقد المانع صدارته في جملته، وصار حشواً لا يصلح سبباً للتعليق؛ ووقوعه حشواً مع بقاء أثره غير جائز.
(2) انظر ما يختص بالاستفهام في ص36.
(3) انظر رقم 5 من هامش ص27.
(4 و4) إلا في حالة يكون فيها جائزاً، وستجيء هنا. وعند إعراب المثال الأول الوارد هنا نقول: "محمود حاضر"، مبتدأ وخبر. وجملتها في محل نصب سدت مسد مفعولي: "أعلم". وفي المثال الثاني نقول: "محموداً"، مفعول أول. "حاضر": خبر مقدم، "هو": مبتدأ مؤخر، والجملة منهما في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني وحده. ومن المثالين يتضح أن الجملة الواقعة بعد "المانع" وجوباً قد تسد مسد المفعولين معاً أو مسد الثاني عند وجود الأول منصوباً لفظاً.
أما الحالة التي يكون فيها التعليق جائزاً -لا واجباً- فحين تكون أداة التعليق مسلطة على الثاني وحده (كأن يكون المفعول الثاني قد صدر -في الغالب- بكلمة استفهام، أو مضافاً إليها وقد سبقها المفعول الأول، في الصورتين؛ نحو: علمت الأديب من هو؟ وظننت الشاعر أخو من هو؟) ففي هاتين الصورتين يجوز نصب الكلمة السابقة التي هي المقعول الأول؟ لأن الناسخ سلط عليها من غير مانع، =(2/30)
(أ) لام الاربتداء، كالأمثلة السالفة.
(ب) لام القسم: نحو: علمت لَيُحَاسَبَنَّ (1) المرء على عمله.
(ج) حرف من حروف النفي الثلاثة (2) : (ما - إنْ - لا) دون غيرها من
__________
=ويجوز رفعها؛ لأنها هي وما بعدها الاستفهام شيء واحد في المعنى؛ فكأنها واقعة بعد الاستفهام فلا يؤثر فيها الناسخ. فالتعليق جائز هنا.
(1) يقولون في مثل هذا: إن اللام داخلة على جواب القسم المقدر. وأصل الجملة: "علمت - أقسم والله - ليحاسبن المرء على عمله". فجواب القسم -وهو جملة: "يحاسبن المرء"- مع جملة القسم المقدرة وهي: (أقسم×) في محل نصب سدّاً معاً مسد المفعولين. أي: أن مجموع الجملتين هو الذي سد مسد المفعولين، وأنه في محل نصب. وما يترتب على هذا الإعراب من عدم وقوع أداة التعليق في صدر جملتها يدفعونه بأن وقوعها في الصدارة ليس واجباً مطرداً؛ وإنما هو الغالب. وبفرض أنه واجب حتماً فالمقصود بالقسم وجملته هو تأكيد جملة جوابه؛ فهما معاً كالشيء الواحد؛ فإذا تقدمت أداة التعليق على جواب القسم وحده فكأنها في الوقت نفسه قد تقدمت على جملة القسم واحتلت مكان الصدارة اللازم لها؛ فلا تعتبر متخلية عنه. فوجودها في صدر الثانية يعد بمنزلة التصدر في الأولى.
لكن سيترتب على قولهم هذا محظور آخر؛ هو: وقوع جملة جواب القسم في محل نصب، والشائع أنها لا محل لها من الإعراب. وقد أجابوا: بأنها لا محل لها باعتبارها: "جواب قسم"- ولا مانع أن يكون لها محل باعتبار آخر؛ هو: "التعليق" ومعنى هذا أن جملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب إذا لم يوجد عامل يحتاج إليها حتماً؛ فإنوجد عامل يحتاج إليها حتماً كانت معمولة له.
وقيل إن "العلم" في المثال السالف منصب على مضمون جملة الجواب فقط، بدون نظر إلى أنها جواب قسم؛ فجملة الجواب وحدها على هذا الاعتبار في محل نصب سدت مسد المفعولين. (راجع الصبان ج2 عند الكلام على أدوات التعليق) .
وفي هذا الرأي راحة وتيسير؛ لأنه واقعي؛ لا يلتفت إلى الجملة القسمية المستترة، ولا يتناسى أن جواب القسم هنا ليس مجلوباً للقسم: وإنما الغرض الأساسي الأول هو إيفاء الناسخ ما يريده، ولا ضرر في أن يستفيد القسم منه بعد ذلك.
(وسيجيء الكلام على جملة القسم وجوابه في باب: حروف الجر (ص500 وفي ص506 النص الخاص بأن جملة جواب القسم قد يكون لها محل إعرابي مع جملة القسم) .
(2) سواء أكان واحد منها ناسخاً أم مهملاً، فالأولان قد يعملان عمل "ليس"، والأخير قد يعمل عمل "إنّ" أو: "ليس" فالثلاثة مع الإعمال أو الإهمال صالحة لأن تكون أداة تعليق. ولا داعي لاشتراط بعضهم القسم قبل كل أداة من الثلاثة؛ لأن هذا الاشتراط -فوق ما فيه من تضييق- لا سند له من النصوص الفصيحة الكثيرة، فالوارد منها يدعو إلى إغفاله. ويزيد التمسك بإغفاله قوة ما يقوله أصحابه من أن القَسم قبل هذه الأدوات الثلاثة يجب تقديره إن لم يكن ظاهراً في الجملة؛ مثل: "علمت ما محمد جبان" إذ يقدرونه: علمت والله ما محمد جبان. فما الحاجة إلى التقدير والتأويل بغير داع، ولا سيما التأويل القائم على مجرد التخيل المذكور؟ وإنه لتخيل مستطاع في كل صورة خالية من القسم، =(2/31)
أدوات النفى الأخرى. فمثال "ما" النافية: علمت ما التهوّر شجاعة. ومثال "إنْ" النافية: زعمت إنْ الصفحُ الجميلُ ضارٌّ (أي: ما الصفح الجميل ضارّ) ومثال "لا" النافية: ألفيتُ لا الإفراطُ محمودٌ ولا التفريط (1) .
(د) الاستفهام (2) ؛ وله صور ثلاث: أن يكون أحد المفعولين اسم استفهام
__________
=فتصير به صحيحة إلا أنه يدفعنا إلى الدخول في الجدل المرهق الذي مر في المسألة السابقة -في رقم 1 من هامش الصفحة الماضية- الخاصة بجواب القسم ومحله من الإعراب، كما سيفتح علينا أبواباً أخرى للاعتراض والجدل، نحن في غنى عنها، ولا حاجة للبيان اللغوي الناصع بها.
وزيادة في البيان نقول: إن اشتراط القسم مقصور عند جمهرة النحاة على: "لا - إن"- النافيتين، ولا يكاد يوجد خلاف في صدارة "ما" النافية غير الزائدة؛ عاملة وغير عاملة. فقد جاء في الجزء الأول من "المغني" عند الكلام على "لا" ما نصه:
(تنبيه - اعتراض لا" بين الجار والمجرور في محو: غضبت من لا شيء، وبين الناصب والمنصوب في نحو قوله تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" ... وبين الجازم والمجزوم في نحو: إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض ... " وتقدم معمول ما بعدها عليها في نحو قوله تعالى: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها ... "- دليل على أنها ليس لها الصدر. بخلاف "ما" ... "اللهم إلا أن تقع في جواب القسم فإن الحروف التي يتلقى بها القسم كلها لها الصدر. ولهذا قال سيبويه في قوله: "آليت حَسب العراق الدخر أطعمه ... " أن التقدير: على حب العراق، فحذف الخافض، ونصب ما بعده، بوصول الفعل إليه، ولم يجعله من باب: "زيداً ضربته"؛ لأن التقدير "لا أطعمه" وهذه الجملة جواب: لآليت؛ فإن معناه: حلفت. وقيل: لها الصدر مطلقاً، وقيل "لا" مطلقاً. والصواب الأول) اهـ.
وإنما قال سيبويه ذلك لأن "لا" هنا لها الصدارة؛ لوقوعها في جواب القسم؛ فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولا يفسر عاملاً أيضاً ... وقال الأشموني عند سرد الأدوات التي لها الصدارة، ويحدث التعليق بسببها ما نصه: (التزم التعليق عن العمل في اللفظ إذا وقع الفعل قبل شيء له الصدر؛ كما إذا وقع قبل "ما" النافية؛ نحو قوله تعالى "لقد علمت ما هؤلاء ينطقون" وقيل "إنْ - ولا" النافيتين في جواب ق سم ملفوظ أو مقدر ... ) اهـ.
وقد استدرك الصبان فقال ما نصه:
(قوله في جواب قسم..، قيل الصحيح أنه ليس بقيد. لكن في "المغني" ما يظهر به وجه التقييد؛ حيث نقل فيه أن الذي اعتمد سيبويه أن "لا" النافية إنما يكون لها الصدارة حيث وقعت في صدر جواب القسم. وقال في محل آخر: "لا" النافية في جواب القسم لها الصدر؛ لحلولها محل ذوات الصدر؛ كلام الابتداء و"ما" النافية.. اهـ و"إن" مثل: "لا" اهـ كلام الصبان.
(1) الإفراط: المبالغة في إعداد الشيء حتى يتجاوز حدوده المحمودة. والتفريط: الإهمال فيه. فهما نقيضان.
(2) لأن الاستفهام له الصدارة، فلا يعمل ما قبله فيه، إلا إن كان ما قبله حرف جر؛ نحو: ممن علمت الخبر؟. - بم جئت؟ - عن يتساءلون؟ - على أي حال كنت؟..=(2/32)
نحو: علمت أيُّهم بطلٌ؟ أو يكون مضافاً إلى اسم استفهام؛ نحو: علمت صاحبُ أيِّهم البطلُ؟ أو يكون قد دخلت عليه أداة استفهام؛ نحو: علمت أعليٌّ مسافرٌ أم مقيمٌ؟ وأعلمُ على الشتاء أنسبُ للعمل من الصيف (1) ؟ وقولهم لظريف: لا ندري أجِدُّك أبلغُ وألطف، أم هزلُك أحبُّ وأظرف؟.
(هـ) الألفاظ الأخرى التي لها الصدارة في جملتها؛ مثل "كم" (2) . الخبرية؛ في نحو: دريْت كم كتاب اشتريته. ومثل: "إنّ" وأخواتها، ما عدا "أنّ" مفتوحة الهمزة؛ فليس لها الصدارة؛ نحو: علمت إنك لمُنصف (3) ،
__________
=أو كان ما قبله مضافاً واسم الاستفهام مضاف إليه، نحو: صديق من أنت؟ ... )
وجدير بالتنويه أن التعليق بالاستفهام عامٌّ ليس مقصوراً على أفعال هذا الباب القلبية -كما أشرنا في رقم: 1 من هامش ص27؛ وسيجيء البيان في ص36-.
(1) عرض بعض النحاة لهذه الصورة الثلاث بشيء من التفصيل، فقال: إن الاستفهام قد يكون بالحرف؛ نحو قوله تعالى: "وإن أدري أقريب أم بعد ما توعدون". أو بالاسم الواقع مبتدأ مباشرة، نحو: ستعلم أيُّ الرأيين أفضل؟ أو يكون المبتدأ مضافاً إلى اسم الاستفهام؛ نحو: علمت أبو منْ صالح. أو يكون اسم الاستفهام خبراً؛ نحو علمت متى السّفر. أو يكون الخبر مضافاً إلى اسم الاستفهام نحو: علمت صباح أي يوم قدومك. أو يكون اسم الاستفهام فضلة؛ نحو: علمت أيّ كتاب تقرأ.
وقول الشاعر:
حُشَاشَة نفسٍ ودّعتْ يومَ ودّعوا ... فلم أدرِ أَيَّ الظاعنَيْنِ أُشَيَّعُ
ومما سلف يتبين أن الاستفهام قد يكون حرفاً فاصلاً بين العامل والجملة، وقد يكون اسماً فضلة، وقد يكون اسماً عمدة، سواء أكان العمدة مبتدأ مباشرة للاستفهام، أم خبراً مباشرة كذلك. وسواء أكان العمدة مبتدأ مضافاً والاستفهام هو المضاف إليه أم خبراً مضافاً والاستفهام هو المضاف إليه.
(2) "كم" نوعان: "استفهامية"؛ وهي: اسم يسأل به عن عدد شيء. وتحتاج لتمييز منصوب في الغالب؛ نحو: كم درهماً تبرعت به؟ وتدخل في أدوات التعليق الاستفهامية. "وخبرية"؛ وهي: اسم يدل على كثرة الشيء ووفرته، ولها تمييز مجرور في الغالب؛ نحو: كم ظالمٍ أهلكه الله بظلمه.
و"كم" بنوعيها لها باب خاص في الجزء الرابع يضم أحكامها المختلفة (2425 م168) .
(3) في هذا المثال يصح أن تكون أداة التعليق هي: "إنّ"، أو "لام الابتداء"؛ فكلاهما له الصدارة؛ فيصلح للتعليق. ولا يقال: "لام الابتداء فيه ليس بعدها جملة". ففي هذا القول إغفال لما قرروه من أن موضعها الأصيل هو أول الجملة. فلما شغلته "إنّ" -ولها الصدارة أيضاً- تخلت عنه اللام، وتأخرت إلى الخبر؛ منعاً إلى الخبر؛ منعاً للتعارض. على أن هذا من التعليلات المصنوعة التي لا خير في ترديدها. وحسبنا أن نهتدي إلى ما في الكلام المأثور من تعليق، سببه "إن" أو "لام=(2/33)
ونحو: لا أدرى لعل الله يريد بكم خيراً. والأغلب الفصيح في: "لعل" هذه أن تكون أداة تعليق للفعل: "أدْرِي" المبدوء بالهمزة، أو بحرف آخر من حروف المضارعة (نَدْري - تَدْري - يدرِي (1) ... ) .
ومثل: أدوات الشرط الجازمة وغير الجازمة في نحو: لا أعلم إن كان الغد ملائماً للسفر أو غير ملائم. ونحو أحْسَب لو ائتلف العامل وصاحب العمل لَسَعِدا.
***
فيما يلي أمثلة تزيد التعليق وضوحاً (2) ، وتبيّن موضع "المانع"، وأن موضعه بعد الناسخ حتماً ويليه المفعولان، أو بعد الناسخ مع توسط هذا المانع بين المفعولين:
__________
=الابتداء"، أو: هما معاً؛ فكل هذا صحيح ومريح.
وما يقال في لام الابتداء الداخلة على خبر "إن" يقال في لام الابتداء الداخلة على اسم "إنّ" المتأخر، أو على معمول خبرها؛ نحو: "حسبت إن في الصحراء لمناجم، وعلمت إن المناجم لكنوزاً ممتلئةٌ". ويجب كسر همزة "إن" في الأمثلة السابقة وأشباهها من كل جملة تجمع بين "إن" و"لام الابتداء". كما سبق في مواضع كسرها. وسبب ذلك في رأيهم: أن "لام الابتداء" تصيب الفعل القلبي بالتعليق، وهذا التعليق يقتضي أن تقع بعده في الغالب جملة -كما سبق في ص28-. فلما وقعت "إن" في صدر هذه الجملة كسرت وجوباً. فلام الابتداء كانت السبب في التعليق، وفي كسر همزة "إنّ".
فإذا لم توجد "لام الابتداء" فلن يكون هناك داع للتعليق، ولا لكسر همزة "إن" فتفتح.
لكن أيتفق هذا مع إدخالهم "إن" في عداد الأدوات التي لها الصدارة، وتحدث التعليق؟ لا. ومن أجله قال بعض النحاة بحق: يجوز كسر همزة "إن" وفتحها في المثال السابق عند خلوه من لام الابتداء.
فمن اختار الكسر لسبب عنده فله اختياره. ولكن يحب مع الكسر تعليق الفعل القلبي، لما سبق تقريره من اعتبار "إن" مكسورة الهمزة في عداد أدوات التعليق. ومن اختار الفتح لسبب آخر فله اختياره، ولا يصح تعليق الفعل القلبي في هذه الحالة؛ لعدم وجود أداة التعليق؛ إذ ليست "أن" مفتوحة الهمزة من أدواته. (راجع ج1 ص488 م51) .
وراجع الصبان ج2 باب ظن وأخواتها عند الكلام على أدوات التعليق.
(1) ومن الأمثلة قول الشاعر:
ولا تحْرم المرء الكريم فإنه ... أخوك ولا تدري لعلك سائله
(2) من الممكن البدء بهذه الأمثلة، وتفهمها قبل الدخول في تعريق التعليق وما يتصل به.(2/34)
جدول
_____________________________________________________________________
الجملة وفيها الناسخ بغير تعليق............... الجملة بعد تعليق الناسخ............... السبب
_____________________________________________________________________
علمت التواضعَ غيرَ الضعة........... علمت للتواضعُ غيرُ الضعة....... الفصل بلام الابتداء بين الناسخ ومعموليه معاً.
ألفيت العظمةَ غيرَ التعاظم........... ألفيت للعظمةُ غير التعاظم......... الفصل بلام الابتداء بين الناسخ ومعموليه معاً.
عددت (1) التجارِبَ خيرَ معلم....... عددت والله التجارب خيرُ معلم...... الفصل بالقسم بين الناسخ ومعموليه معاً.
جعلت اتباعَ الهوى شرَّ البلايا..... جعلت ما اتباعُ الهوى إلا شرُّ البلايا.... الفصل بأداة النفي "ما" بين الناسخ ومعموليه معاً.
_____________________________________________________________________
وجدت الشرقَ مسترّاً مجده. ............... وجدت الشرق لهو مستردٌّ مجده.......... وقوع لام الابتداء قبل المفعول الثاني
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحده جعل أثر التعليق ينصب عليه
أرى التقصيرَ في العمل إساءةً للوطن....أرى التقصير في العمل والله هو إساءةٌ للوطن.... وقوع لام الابتداء قبل المفعول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الثاني وحده جعل أثر التعليق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ينصب عليه
أحسب خلفَ الوعد إهانةً لصاحبه......... أحسب خلف الوعد ليهينن صاحبه.................. كذلك لام القسم.
دريت إكرامَ الجار مؤدباً لطيب الإقامة..... دريت إكرامَ الجار لا يؤدي إلا لطيب الإقامة...... وكذلك حرف النفي: "لا"
_____________________________________________________________________
ففي الأمثلة الأربعة الأولى وقع المانع (الفاصل) بعد الناسخ وقبل المفعولين مباشرة، فلا نقول في إعرابهما إنهما مفعولان؛ وإنما نقول هما -في الأمثلة المعروضة- مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب سدّ مسدّ المفعولين.
وفي الأمثلة الأربعة الأخيرة وقع الناسخ في صدر جملته، ثم ولِيَه المفعول به الأول. أما المفعول به الثاني فغير ظاهر في الكلام بعد أن حلت محله جملة جديدة.
وفي مثل هذه الحالة يبقى المفعول به الأول محتفظاً باسمه وبعلامة إعرابه، فيعرب مفعولاً به أول، وتعرب الجملة التي (2) بعده إعراب الجملة المستقلة، ويزاد على إعرابها أنها في محل نصب، تسدّ مسدّ المفعول به الثاني ...
__________
(1) أيقنت.
(ن2) قد تكون الجملة فعلية، وقد تكون اسمية؛ فالحكم عليها بأنها جملة اسمية مركبة من مبتدأ وخبر، أو جملة فعلية مكونة من فعل ومرفوعه ... موقوف على نوعها المعروض.(2/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- زيادة وتفصيل:
(أ) تقدم (1) أن الفعل القلبي الناصب لمفعولين يصيبه التعليق إذا وُجدت إحدى أدوات التعليق، ومنها: "الاستفهام".
والتعليق بالاستفهام ليس مقصوراً على الأفعال القلبية المتصرفة الخاصة بها الباب -كما أشرنا من قبل (1) -، وإنما يصيبها غيره، طبقاً للبيان الآتي:
1- الفعل القلبي الناصب لمفعول به واحد؛ مثل: نسى - عرف ... ومنه قول الشاعر:
ومن أنتمو؟ إنا نسينا من انتمو ... وريحكموا من أي ريح الأعاصر
2- الفعل القلبي اللازم، مثل: تفكَّر؛ كقوله تعالى: "أولم يتفكروا؟ ما بصاحبهم من جنة؟ "؛ فالتعليق هنا عن الجار والمجرور (2) ؛ لأن المجرور بالحرف بمنزل المفعول به (3) .
2- ما ليس قَلبيّاً، وينطبق على أفعال كثيرة لا تكاد تدخل تحت حصر؛ مثل: نظر - أبصر - سأل - استنبأ- ... و..، ومن الأمثلة قوله تعالى: (فَلْيَنظُرْ أَيُّها أزكَى طعاماً) ، وقوله تعالى: (فستُبصر ويُبصرون؛ بأيِّكم المفتون؟) ، وقول تعالى: (يَسألون: أيَّانَ يومُ الدين؟) ، وقوله تعالى: (ويستنبئونكَ: أحَقٌّ هُو؟ ... ) ، فهذه الأفعال ونَظائرها قد يصيبها التعليق بأداة الاستفهام، ولهذا يوقف في الآية الأولى على قوله: (يتفكروا) ، والكلام بعدها مستأنف، وهو: (ما بصاحبكم من جنة؟) ، وما الستفهامية بمعنى النفي، إذ المراد: أي شيء بصاحبكم من الجنون؟ ليس به شيء منه (4) .
__________
(1 و1) وفي رقم 1 من هامش ص27 وفي "د" من ص32.
(2) انظر "ج" الآتية.
(3) كما سيجيء في ص159.
(4) ما نوع "ما" في الآية؟ يقول الصبان إن بعض النحاة يراها على حسب الظاهر نافية؛ ويكون الوقف على قوله: "أولم يتفكروا ... " فما بعده استئناف. ويراها آخرون: "استفهامية" بمعنى "النفي" - أيْ: أيّ بصاحبكم من الجنون؟ أي: ليس به شيء منه ... ".(2/36)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ب) عرفنا (1) أن التعليق لا يكون في الأفعال القلبية الجامدة، ولا في بعض النواسخ الأخرى؛ كأفعال التحويل ... و ... فما المراد من هذا؟ أيراد أن ألفاظ التعليق لا تقع بعد تلك الأفعال الجامدة ولا بعد تلك النواسخ؛ فلا يحدث التعليق؟ أم يراد أن هذه الألفاظ مع وقوعها بعدها لا تقوى على منعها من العمل الظاهري فكأنها غير موجودة؟ يرتضي النحاة الرأي الأول. والاقتصار عليه حسن.
(ج) سبق (2) أن الجملة بعد أداة التعليق تسدّ مسدّ المفعولين إن كان الناسخ إليهما، ولم يَنصب المفعول به الأول مباشرة، فإن نصبه سدت مسدّ الثاني فقط ...
فإن كان الفعل ليس ناسخاً ولا يتعدى لمفعولين، ووقعت بعده جملة مسبوقة بأداة التعليق -فإن كان يتعدى بحرف جر، فالجملة في محل نصب بإسقاط الجار؛ نحو: فكرت أصحيح هذا أم غير صحيح؟ أي: فكرت في ذلك (3) . وإن كان الفعل يتعدى بنفسه إلى واحد غير مذكور سدت مسدّه؛ نحو: عرفت البارع أبو مَنْ هو؟ فقيل الجملة بدل كل من كل، على تقدير مضاف؛ أي: عرفت شأن البارع، وقيل بدل اشتمال من غير حاجة إلى تقدير، أو هي مفعول ثان لعرفت بعد تضمينه معنى: "علمت". والرأيان الأخيران أوضح وأيسر استعمالاً، ولكل منهما مزية قد يتطلبها المقام، ويقتضيها المعنى.
(د) إذا كانت "رأى" حُلُمِيَّة لم يدخل عليها التعليق (4) .
***
__________
(1) في ص27.
(2) في ص28 وما بعدها.
(3) سبقت إشارة لهذا ولإعراب آخر في رقم2 من هامش ص18.
(4) كما سيجيء في "ج" من ص42.(2/37)
الحكم الثاني - الإلغاء:
وهو: "منع الناسخ من نصب المفعولين معاً، لفظاً ومحلا، منعاً جائزاً، -في الأغلب- لا واجباً) . أو هو: "إبطال عمله في المفعولين معاً لفظاً ومحلاًّ، على سبيل الجواز لا الوجوب". ولا يصح أن يقع المنع على أحد المفعولين دون الآخر.
وسببه: إمَّا توسط الناسخ بين مفعوليه مباشرة بغير فاصل آخر بعده يوجب التعليق (1) ، وإما تأخره عنهما. فإذا تحقق السبب جاز -في الأغلب (2) - الإعمال أو الإهمال، وإن لم يتحقق وجب الإعمال. فللناسخ ثلاث حالات من ناحية موقعه في الجملة، وأثر ذلك:
الأولى: أن يتقدم على المفعولين. وفي هذه الحالة يجب إعماله -عند عدم المانع-؛ فينصبهما مفعولين به، نحو: رأيت النزاهةً وسيلةً لتكريم صاحبها.
الثانية: أن يتوسط بين مفعوليه مباشرة. وفي هذه الحالة يجوز -في الأغلب (2) - إعماله؛ فينصبهما مفعولين (3) به؛ نحو: النزاهةَ - رأيت - وسيلةً لتكريم صاحبها. ويجوز إهماله (4) ؛ فلا يعمل النصْبَ فيهما معاً، ولا في أحدهما؛
__________
(1) إذ يجب التعليق لوجود سببه، ويجوز في صورة واحدة - وبيانها في رقم 4 من هامش ص30-.
(2 و2) إلا في مسائل ستذكر في رقم 3 من هامش الصفحة الآتية. ثم انظر رقم 1 من هامش ص40.
(3) في حالة توسط العامل بين مفعوليه يجوز أن يكون المفعول الثاني هو المتقدم عليه، ويجوز في حالة - تقدم هذا المفعول الثاني أن يكون جملة، أو شبه جملة، أو مفرداً، وهي الأنواع الثلاثة التي ينقسم إليها -كما سبق في: "ا" من ص24- ومن الأمثلة لتقدمه وهو جملة ما نقلوه من نحو:
(شجاك - أظن - رَبع الظاعنين ... ) فكلمة "ربع" يجوز ضبطها بالنصب مفعولاً أول للفعل: "أظن". والجملة الفعلية "شجاك" (أي: أحزنك) في محل نصب تسد مسد المفعول الثاني. ويصح في كلمة: ربع" الرفع على أنها فاعل للفعل: "شجا" ويكون الفعل "أظن" مهملا. ويجوز أيضاً رفع كلمة: "ربع" على أنها خبر للكلمة: "شجا" المبتدأ، ومعناها: "حزن" ولا تكون في هذه الصورة فعلا، ويكون الفعل: "أظن" متوسطاً بينهما، مهملا.
(4) وفي هذه الصورة تكون جملة: "رأيت"، معترضة، لا محل لها من الإعراب.(2/38)
وإنما يرتفعان باعتبارهما جملة اسمية: (مبتدأ وخبراً) ، ونحو: النزاعةُ - رأيت - وسيلةٌ لتكريم صاحبها.
الثالثة: أن يتأخر عن مفعوليه؛ والحكم هنا كالحكم في الحالة السابقة؛ فيجوز إعماله فينصب المفعولين؛ نحو: النزاهةَ وسيلةً لتكريم صاحبها - رأيت.
ويجوز إهماله فلا يعمل النصب (1) ويرتفع الاسمان باعتبارهما جملة اسمية، مركبة من مبتدأ وخبره؛ نحو: النزاهةُ وسيلةٌ لتكريم صاحبها - رأيت.
مما تقدم ندرك أوجع الفرق بين التعليق والإلغاء؛ وأهمها:
(أ) أن التعليق واجب (2) عند وجود سببه. أما الإلغاء فجائز - في الأغلب (3) - عند وجود سببه.
__________
(1) والجملة من الفعل وفاعله استئنافية، كما كانت قبل التأخر عن المفعول ين.
(2) إلا في الحالة التي يكون فيها جائزاً، (وقد سبق بيانها في رقم 4 من هامش ص30) .
(3) الإلغاء جائز في أغلب الأحوال. لكن هناك بعض حالات أخرى يجب فيها الإعمال فقط، أو الإهمال فقط. فيجب الإعمال إذا كان الناسخ منفياً، سواء أكان متأخراً عن المفعولين، أم متوسطاً بينهما، نحو: "مطراً نازلاً لم أظن". أو: "مطراً لم أظن نازلاً"؛ لأنه لا يجوز أن يبني الكلام على المبتدأ والخبر ثم نأتي بالظن المنفي، إذ إلغاء الفعل المنفي -في الصورتين- قد يوهم أن ما سوى الفعل مثبت.
مع أن نفي الفعل يعم الجملة كلها، ويتجه في المعنى إلى المفعولين المنصوبين عند تقدمهما، أو تأخر أحدهما. فلمنع هذا الاحتمال والوهم يجب الإعمال؛ مبالغة في الاحتراس؛ كما يقولون.
وهذا التعليل -دون الحكم- لا ترتاح له النفس إلا إن أيدته النصوص الفصيحة التي لم يعرضوها فيما وقع في يدي من المراجع.
ويجب الإهمال إذا كان العامل مصدراً؛ نحو: (المطر قليل - ظني غالب) ؛ لأن المصدر المتأخر لا يعمل -غالباً- في شيء متقدم عليه، فلا يصح تقديم مفعوله عليه أو مفعوليه (عند كثير من النحاة ويخالفهم آخرون، كما سيجيء في باب، ج3) .
وكذلك يجب الإهمال إذا كان في المفعول المتقدم لام ابتداء، أو غيرها من ألفاظ التعليق؛ نحو: لَخالدٌ مكافح ظننت؛ لأن لام الابتداء وألفاظ التعليق تقدم الناسخ. ولا قيمة لهذا الخلاف في التسمية؛ لأن الأثر واحد -إلا في التوابع كما سيجيء في "د"- لا يتغير باختلاف الرأيين؛ فكلاهما يوجب الإهمال، وهذا حسبنا.
وكذلك يجب الإهمال إذا وقع الناسخ بين اسم إن وخبرها؛ مثل: إن التردد - حسبت - مضيعة.
أو بين "سوف" وما دخلت عليه؛ نحو: سوف - إخال - أكافح الشر. أو بين معطوف ومعطوف عليه؛ نحو: دعاك الخير - أحسب - والبر.(2/39)
(ب) أن أثر التعليق يصيب المفعولين معاً أو أحدهما. أما الإلغاء فيصيبهما معاً.
(ج) ان أثر التعليق لفظي ظاهري، لا يمتد إلى الحقيقة والمحل. وأثر الإلغاء لفظيّ ومحليّ معاً.
(د) أن التعليق يجوز في توابعه مراعاة ناحيته اللفظية الظاهرية، أو مراعاة ناحيته المحلية. والإلغاء لا يجوز في توابعه إلا مراعاة الناحية الواحدة التي هو عليها؛ وهي الناحية الظاهرة المحضة.
(هـ) أن التعليق لابد فيه من تقدم الناسخ على معموليه؛ ومن وجود فاصل بعده له الصدارة.
أما الإلغاء فلا بد فيه من توسط (1) الناسخ بينهما، أو تأخره عنهما؛
__________
(1) يذكر النحاة بعض أمثلة يستدلون بها على أن الإلغاء قد يقع والفعل الناسخ متقدم على مفعوليه، وليس متوسطاً ولا متأخراً. ثم يؤولون تلك الأمثلة تأويلاً يخرجها من حكم الإلغاء، ويدخلها في أحكام أخرى مطردة تنطبق عليها بعد ذلك التأويل. وهذا تكلف مردود، وتصنع يجب البعد عنه، منعاً للفوضى في التعبير، والخلط في الأصول العامة. وفي تلك الأمثلة قول الشاعر:
أَرجو وآملُ أن تدْنو مودتها ... وما إِخالُ لدينا منكِ تنويلُ
فالفعل: "إخال" قد ألغى؛ فلم ينصب المفعولين: "لدى" و"تنويل" مع أنه مقدم عليها، ومع تقدمه فكلمة "لدى" ظرف، خبر متقدم، وكلمة: "تنويل" مبتدأ مؤخر. أي: أنه لم ينصبهما؛ بدليل رفع الثانية. فما السبب في الإلغاء؟ لا سبب. لهذا ينتحلون ما يجعل الأسلوب صحيحاً. فيتخيلون وجود "ضمير شأن" مستتر بعد الفعل: "إخال"؛ فالتقدير: "إخاله. فيكون ضمير الشأن المستتر هو المفعول به الأول، وتكون الجملة الاسمية بعده: (لدينا تنويل) في محل نصب، تسد مسد المفعول الثاني، إذ يصح في الأفعال القلبية -كما سبق، في "أ" ص24- أن يكون مفعولها الثاني جملة أو غيرها.
وبهذا التأويل الخيالي لا يوجد في الكلام ناسخ متقدم لم يعمل. أي: لا يوجد في الكلام إلغاء، ولا مخالفة للقاعدة التي توجب عمل الناسخ المتقدم..، فلم هذا؟ ما فائدته؟ إن واقع الأمر صريح في مخالفة التعبير للقاعدة. والسبب هو الضرورة الشعرية، أو المسايرة للغة ضعيفة، أو ما إلى ذلك مما يخالف اللغة الشائعة في البيان الرفيع الذي يدعونا لهجر تلك التأويلات، والفرار منها؛ حرصاً على سلامة اللغة، وإيثاراً للراحة من غير ضرر، والاقتصار في القياس على ما لا ضعف فيه، ولا شذوذ، ولا تأويل ...
ومن الأمثلة أيضاً قول الشاعر:
كذاك أُدِّبتُ حتى صار من خُلُقي ... أَني وجدتُ مِلاكُ الشيمة الأَدبُ=(2/40)
وليس في حاجة بعد هذا إلى فاصل، أو غيره (1) .
__________
=ففي البيت فعل قلبي (هو: وجد) لم ينصب المفعولين: مع أنه متقدم. فلماذا أصابه الإلغاء مع تقدمه؟ ويجيبون بمثل الإجابة السابقة؛ فيتأولون. ويتخيلون وجود "ضمير شأن" مستتر بعد ذلك الفعل، ويعربون هذا الضمير مفعوله الأول، والجملة الاسمية: "ملاك الشيمة الأدب" في محل نصب سدت مسد المفعول به الثاني. أو: يقول: إن الفعل أصابه "التعليق" بسبب وقوع لام ابتداء مقدرة بعده، واصل الكلام كما يتخيلون: "أني وجدت لملاك الشيمة الأدب" ... وفي هذا ما في سابقه مما يوجب عدم الأخذ بمثل هذا التخيل، والتأويل، واتقاء ضرره بالاقتصار على ما لا حاجة فيه إلى تصيد وتحايل.
(1) فيما سبق يقول ابن مالك بإيجازه المعروف:
وخُصَّ بالتَّعْلِيقِ وَالإِلْغاءِ ما ... مِنْ قَبْل: "هَبْ" والأَمْرُ: "هَبْ" قَدْ أُلْزِما
كَذَا: "تَعَلَّمْ". ولِغَيْرِ الماضِ مِنْ ... سِوَاهُمَا اجْعَلْ كُلَّ مَا لَهُ زُكِنْ.
("خص": فعل أمر. ويصح أن يكون فعلا ماضياً مبنياً للمجهول. "الأمر": مبتدأ مرفوع. "هب": مبتدأ ثان. "ألزم" فعل ماض للمجهول، ونائب فاعله ضمير مستتر تقديره: هو، يعود على "هب" والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو: "الأمر". والرابط محذوف، والتقدير: أُلزمه، أي: أُلزِم صورة الأمر وصيغته. والألف التي في آخر: "ألزما: زائدة لأجل الشعر، وتسمى: "ألف الإطلاق". أي: الألف الناشئة من إطلاق الصوت بالفتحة، ومدّه بها حتى ينشأ من المد: "ألف". "زكن": علم) .
ومعنى البيتين: التعليق والإلغاء مختصان ببعض الأفعال التي سبقت أول الباب دون بعض. ولم يبين الأفعال المقصودة، مكتفياً بأن قال: إنها الأفعال التي ورد ذكرها قبل: "هبْ" و"تعلمْ" في الأبيات الثلاثة الأولى من الباب. وبالرجوع إليها يتبين أنها الأفعال القلبية المتصرفة، دون فعلين منها أخرجهما صراحة؛ هما: "هبْ" بمعنى: "ظُنّ"، وتعلَّمْ بمعنى: "اعلمْ"، -ويزاد عليهما أفعال التحويل أيضاً- ثم قال:
إذا كان الناسخ هنا غير ماض فإنه يعمل عمل الماضي، ويدخل عليه من الأحكام ما يدخل على الماضي. ولم يذكر تفصيل شيء من هذا المجمل. ثم انتقل بعد ذلك إلى الكلام على بعض أحكام التعليق والإلغاء؛ فقال:
وجَوَّزِ الإِلْغاءَ لاَ فِي الاِبْتِدَا ... وانْوِ ضَمِيرَ الشَّانِ أَوْ لاَمَ ابْتِدا:
فِي مُوهِمٍ إِلْغَاءَ مَا تَقَدَّمَا ... والْتَزِم التَّعْلِيقَ قَبْلَ: نَفْي "مَا"
و"إنْ"، و"لا" "لاَمُ ابتِدَاءٍ"، أَوْ قَسَمْ ... كَذَا، و"الاِسْتِفْهَامُ" ذَا لَهُ انْحَتَمْ
يريد: أن الإلغاء أمر جائز؛ لا واجب، وأنه لا يقع حين يكون الناسخ في ابتداء جملته، أي: متقدماً على مفعوليه. فإذا كان في ابندائها لم يصح إلغاء عمله -أما إذا لم يكن فيب ابتدائها- بأن وقع بين المفعولين أو بعدهما فإن الإلغاء والإعمال جائزان -في الأغلب- ثم أشار بتقدير "ضمير للشأن"، أو تقدير "لام ابتداء" إذا وردت أمثلة قديمة توهم أن الناسخ المتقدم قد ألفى عمله. وقد شرحنا هذا وأبدينا الرأي فيه. ثم سرد بعض الموانع التي تكون سبباً في التعليق؛ فعرض منهما ثلاثة أدوات للنفي (ما - إنْ - لا) وعرض ثلاثة تغايرها؛ هي: لام الابتداء - القسم - الاستفهام. وقال في الاستفهام: انحتم له ذا".
"لِعِلْمِ" عِرْفَانٍ، وَ"ظَنِّ" تُهَمَهْ ... تَعْدِيةٌ لِوَاحِدٍ مْلْتَزَمَهْ=(2/41)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
(أ) إذا تقدم الناسخ على مفعوليه فلن يخرجه من حكم هذا التقدم -في الرأي الأصح- أن يسبقه معمول آخر له، أو لأحدهما؛ نحو: متى علمت الضيفَ قادماً؟ باعتبار: "متى" ظرفاً للناسخ، أو لمفعوله الثاني.
وكذلك لن يخرجه من حكم التقدم أن يسبقه شيء آخر ليس معمولاً له، ولا لأحدهما، مثل: إني علمت الحذرَ واقياً الضرر.
(ب) يختلف النحاة في بيان الأفضل عند توسط العامل أو تأخيره. ولهم في هذا جدل طويل، لا يعنينا منه إلا أن الأنسب هو تساوي الإلغاء والإعمال عند توسط العامل. أما عند تأخره فالأمران جائزان ولكن الإلغاء أعلى، لشيوعه في الأساليب البليغة المأثورة.
وإذا توسط الناسخ أو تأخر وكان مؤكداً بمصدر فإن الإلغاء يَقْبُح؛ نحو: الكتابَ -زعمت زعماً- خيرَ صديق؛ لأن التوكيد دليل الاهتمام بالعامل، والإلغاء دليل على عدم الاهتمام به؛ فيقع بينهما شبه التخالف والتنافي. فإن أكَّد الناسخ بضمير يعود على مصدره المفهوم في الكلام بقرينة، أو باسم إشارة يعود على ذلك المصدر -كان الإلغاء ضعيفاً أيضاً؛ نحو: السفينةَ - ظننتُه - قصراً.
أي: ظننت الظن -و: السفينةَ ظننت - ذاك - قصراً. أي ذاك الظن ...
(ج) رأي الحُلُمية لا يصيبها الإلغاء، وقد سبق (1) أنها لا يصيبها تعليق.
***
__________
=وَلِرَأَى الرُّؤْيَا، انْم مَا لِعَلِمَا ... طَالِبَ مَفْعُولَيْنِ مِنْ قَبلُ انْتَمَى
وقد سبق شرح هذين البيتين في مناسبة قريبة -ص14 و15- بما ملخصه: أن "عَلِم" إذا كان منسوباً للعرفان (بأن كان معناه: "عرف" الذي مصدره: "العرفان") . وأيضاً: "ظن" إذا كان مصدره "الظن" المنسوب للتهمة (بأن يكون الفعل: "ظن" بمعنى: "اتَهم". ومصدره: "الظن" بمعنى الاتهام؛ ومنه التهمة) -فإن كل فعل منهما يتعدى لمفعول واحد لزوماً؛ أي: حتماً.
ما دام معناه ما سبق. ثم قال: إن الفعل "رأى" المنسوب للرؤيا (بأن كان مصدره "الرؤيا" المنامية) ينصب مفعولين.
(1) في "د" من ص37.(2/42)
الحكم الثالث- الاستغناء عن المفعولين بالمصدر المؤول:
يجوز أن يَسُدّ المصدر المؤول من ("أنّ" الناسخة (1) وما دخلت عليه، أو:
"أنْ" المصدرية الناصبة وما دخلت عليه من جملة فعلية - مسدّ المفعولين،
ويغني عنهما (2) . ويجب أن يراعى فى معنى المصدر بعد تأويله أن يكون مثبتاً أو
ِمنفيّاًَ على حسب ما كان عليه المعنى قبل التأويل.
فمن أمثلة المثبت ما جاء فى خطبة لقائد مشهور: (عَلِمْنا أن السيفَ ينفع حيث
لا ينفع الكلام، ورأينا أنّ كلمة القَوِيّ مسموعة، فن زعم أنْ يفوز وهو
ِضعيف فقد أخطأ، ومن ظن أن يَسْلمَ بالاستسلام فقد قضى على نفسه ... ) .
وتقدير المصادر المؤولة (3) : (علمنا نفعَ السيف ... -رأينا سماعَ كلمة القويّ-
من عم فوّزه ... - من ظنّ سلامته ... ) فَكل مصدر من المصادر التى نشأت من
التأويل سدّ مسدّ المفعولين المطلوبين للفعل القلبي الذي قبله. فالمصدر "نفَعْ"،
أغْني عن مفعولى الفعل "عَلمَ ". والمصدر: "سماع"، أغنى عن مفعولى الفعل:
"رأى". والمصدر: "فوز"، أغنى عن مفعولى الفعل: "زعم" والمصدر:
سلامة" أغنى عن مفعولى الفعل "ظن" (4) ... ويقاس على هذا أشباهه (5)
__________
(1) سواء أكانت مشددة النون أم مخففة.
(2) سبق (فى رقم 6 و4 و6 من هامش 6 و7 و8 وفي1 من هامش ص 19) أن هذا كثير في
الفعلين "زعم" و"تعلم" بمعنى، "اعلمْ". قليل في: "هبْ" بمعنى: ظُنّ. وأن المصدر المؤول
سد مسد المفعولين معاً طبقاً للرأى المختار هناك، وفي رقم 4 من هامش ص11.
(3) سبق (في ج1 ص299 م29 من هذا الكتاب، باب: الموصول) إيضاً شامل لطريقة صوغ المصدر المؤول بصوره المختلفة، وبيان الدافع لاستعمال الحرف المصدري، وصلته، دون الالتجاء إلى المصدر الصريح ابتداء.
(4) وكذلك المصدر المؤول بعد فعل الأمر الذي في آخر الآية الكريمة: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. واعلموا أن الله شديد العقاب) .
(5) يكون الفعل القلبي في الأمثلة السابقة وأشباهها عاملاً في لفظ المصدر المتصيد (أي، المستخرج) من "أنّ" و"أنْ" وصلتهما، وليس عاملاً في الجملة التي دخلت عليها "أنْ" أو "أنّ" إذ لو كان عاملاً في الجملة نفسها لوجب تعليق الفعل عن العمل، بسبب الفاصل (طبقاً لما عرفناه في "التعليق") ولوجب أيضاً كسر همزة "إن" لوقوعها في صدر جملة جديدة. فالذي حل محل المفعولين هو المصدر المؤول وهو مفرد. وكل هذا بشرط خلو خبر "إن" من لام الابتداء؛ لأن وجودها يوجب كسر همزة "إن" ويوجب " التعليق
(راجع رقم 3 من هامش ص33 ورقم 4 ةمن هامش ص48. وكذلك ج1 ص489 م51) .(2/43)
من مثل قول الشاعر (1) :
توَد عدوى ثم تَزعُم أنني ... صديقك؛ إن الرأي عنك لعازب
فالمصدر المؤول من "أنّ مع معموليها" يسدّ مسدّ مفعولي الفعل: "تزعمُ" ومن أمثلة المعنى المنفي قول الشاعر:
الله يعلم أني لم أقل كَذبا ... والحق عند جميع الناس مقبول
وتأويل المصدر مع زيادة ما يدل على النفي هو: "الله يعلم عدم كذب قولي".
- وقد سبق (2) تفصيل الكلام على طريقة صوغ المصدر المؤول.
الحكم الرابع (3) - جواز وقوع فعلها ومفعولها الأول ضميرين معينين:
وذلك بأن يكونا ضميرين متصلين، متحدين في المعنى (4) ، مختلفين في النوع؛ نحو: عَلِمتُني راغباً في مودة الأصدقاء، ورَأيتُني حريصاً عليها.
فالتاء والياء في المثالين ضميران. متصلان، ومدلولهما شيء واحد؛ فهما للمتكلم، مع اختلف نوعهما: فالتاء ضمير رفع فاعل، والياء ضمير نصب، مفعول به.
ونحو: علِمتَك زاهداً في الشهرة الزائفة، وحسِبْتَك نافراً من أسابها. فالتاء والكاف في المثالين ضميران، متصلان، ومعناهما واحد؛ لأن مدلولهما هو المخاطب، مع اختلاف نوعهما كذلك؛ فالتاء ضمير رفع فاعل، والكاف ضمير نصب، مفعول به (5) .
__________
(1) وقول الآخر:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خِلت أنني ... دُعيتُ فلم أكسَل، ولم أتبلّدِ
(2) سبق في (ج1 ص299 م29 من هذا الكتاب، باب: الموصول) .
(3) انظر تكملته الهامة في الزيادة والتفصيل.
(4) بأن يكون مدلولهما واحداً (أي: أن صاحب كل منهما هو صاحب الآخر، فكلاهما يدل على ما يدل عليه الثاني) .
(5) ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}
فالفعل: "رأى" فاعله ضمير مستتر، تقديره: "هو" -والضمير المستتر نوع من المتصل- ومفعوله الأول: "الهاء" -فقد وقع الفاعل والمفعول هنا ضميرين، متصلين، متحدين في المعنى؛ لأن مدلولهما واحد؛ هو: الغائب، مع اختلاف نوعهما، فالضمير المستتر: "هو" ضمير رفع، فاعل والضمير "الهاء" المذكور ضمير نصب، مفعول به.(2/44)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
الحكم الرابع غير خاص بالأفعال القلبية وحدها؛ فهناك بعض أفعال أخرى تشاركها فيه؛ مِثل: "رأى" البصرية والحلُمية، وهو كثير فيهما، ومثل: "وجَد" (بمعنى: لَقِيّ) ، وفَقَد. وعَدِم. وهو قليل في هذه الثلاثة، ولكنه قياسي في الخمسة، وفي غيرها مما نصّت عليه المراجع؛ وليس عامّاً في الأفعال؛ نحو: اسْتيقظتُ فرأيتُني منفرداً --أخذني النوم فرأيتُني جالساً في حفل أدبيّ-. ساءلت نفسي في غمرة الحوادث: أين أنا؟ ثم وجَدْتُني (أي: لقيتُ نفسي، وعرفتُ مكانها) -فقدتُني إن جنحت إلى خيانة، أو عدمتني. ولا يجوز هذا في غير ما سبق إلا ما له سند لغوي يؤيده. فلا يصح: كرمتُني، ولا سمعتُني، ولا قرأتُني، وأشباهها مما لم يرد في المراجع. إلا إن كان أحد الضميرين منفصلاً، فيجوز في جميع الأفعال، نحو: ما لمستُ إلا إياي- ما راقبتُ إلا إياي (1) .
ويمتنع في باب: "ظن وأخواتها"، وفي جميع الأفعال الأخرى -اتحاد الفاعل والمفعول اتحاداً معنويّاً إن كان الفاعل ضميراً، متصلاً، مستتراً، مفسَّراً بالمفعول به، فلا يصح محمداً ظَن قائماً- ولا عليا نَظر؛ بمعنى: محمداً ظنَّ نفسه..، وعليّاً نظر نفسه ... لأن مفسر الضمير هنا: (أي مرجعه) هو المفعول به. فإن كان الضمير الفاعل منفصلاً بارزاً صَحّ؛ فيقال: ما ظن محمداً قائماً إلا هو. وما نظر عليّاًَ إلا وهو ...
__________
(1) "ملاحظة": المفهوم من كلام النحاة أنهم يمنعون ما سبق من اجتماع الفاعل والمفعول به إذا كان ضميرين، متصلين، متحدين معنى -بأن يكونا لمتكلم واحد، أو لمخاطب واحد- مختلفين نوعاً، ولا فرق في هذا بين المفعول به الحقيقي، والمفعول به التقديري، وهو الذي يتعدى إليه العامل بحرف جر، إذا المجرور في هذه الصورة مفعول به تقديراً، فيمتنع عندهم أن يقال: "أَحضرتني، أو أَحضرتُ بي" إذا كان الضميران للمتكلم. كما يمتنع أن يقال: أَوثقتك، وأوثقتَ بك إذا كان الضميران لمخاطب واحد.
لكن يعترض رأيهم في المفعول التقديري آيات كريمة متعددة، منها قوله تعالى: (وهزّي إليك بجذع النخلة ... ) وقوله تعالى: (واضمم إليك جناحك ... ) قوله تعالى: (أَمسك عليك زوجك) ولا عبرة بما يقوله "الصبان" نقلا عن "المغني" من أن الآيات مؤولة على تقدير حذف مضاف، وكلمة التأويل أن توافق الآيات رأيهم، مع أن الواجب أن يغيروا رأيهم ليوافق أفصح كلام عرفوه؛ فلا عليها من اتباعه، ومن شاء فليتأوله.(2/45)
المسألة 62:
الْقَوْل
معناه، متى ينصب مفعولا واحداً؟ ومتى ينصب مفعولين؟
يعرض النحاة فى هذا الباب للقول ومشتقاته، لتشابهٍ بينه وبين "الظن" فى بعض المعاني والأحكام. وصفوة كلامهم: أن "القوْل" متعدد المعاني، وأنّ الذى يتصل منها بموضوعنا مَعْنيان؛ أحدهما: "التلفظ المحض، ومجرد النطق"
والآخر: "الظن".
(1) فإن كان معناه: "التلفظ المحض، ومجرد النطق" فإنه ينصب مفعولاً
به واحداً، تكون دلالته المعنوية مقصودة غير مهملة (1) ، سواء أكان الذى جرى به
التلفظ، ووقع عليه القول -كلمة مفردة (2) ، أم جملة. فمثال المفردة ما جاء على
لسان حكيم: (تسألني عن العظَمة الحقة، فأقول: "الكرامةَ"، وعن رأس
الرذائل، فأقول: "الكذبَ") فمعنى "أقول" هنا: "أنطقُ، وأتلفظُ".
والكلمة التى وقع عليها القول (أى: التي قيلت) ، هى: "الكرامة"-
"الكذب". وكلتاهما مفعول به منصوب مباشرة.
ومن الأمثلة للكلمة المفردة أيضاً: سألت والدي عن مكان نقضى فيه وم
العُطلة، فقال: "الريفَ". وعن شىء نعمله هناك، فقال: "التنقلَ"،
فمعنى قال: "تلفظَ ونَطق"، والكلمة التي وقع عليها القول هي: "الريفَ" -"التنقلَ" وتعرب كل واحدة منهما مفعولاً به منصوباً مباشرة. ومثل هذا قول الشاعر:
جَدَّ الرحيل، وحَثَّني صحْبي ... قالوا: "الضباحَ"؛ فطيَّروا لُبِّي (3)
__________
(1) المراد من أنها مقصودة غير مهملة: ألا تكون مجرد تصويت لا اعتبار فيه للمعنى مطلقاً ولا التفات للمدلول على الوجه المشار إليه في رقم 7 من هامش الصفحة الآتية.
(2) أي: ليست جملة، ولا شبه جملة.
(3) وقول الآخر:
بلدٌ يكاد يقول جِيـ ... نَ تزروه: "أهلا وسهلا"(2/46)
ومن أمثلة الجملة بنوعيها (1) : (قلتُ: الشعرُ غذاءُ العاطفة (2) ... -
(أقول: تصفو النفسُ بسماع الغناء الرفيع) - (قال شوقي: "آيةُ هذا الزمانِ الصحفُ")
-ويقولُ: "تسيرُ" مَسِيرَ الضحا فى البلاد " ... ) .
ومثل:
(يقولون: "طالَ الليل") ، والليلُ لم يُطلْ ... ولكنّ من يشكو من الهمّ يسهرُ
فمعنى "القول" في هذه الأمثلة كسَابقه. وبعده جملة اسمية، أو فعلية، يزاد على إعرابها: أنها في محل نصب (3) سدّت مسدّ المفعول به للقول، وليست مفعولاً به (4) مباشرة. بخلاف الكلمة المفردة، فإنها هي المفعول به مباشرة -كما تقدم- سواء أكان الناطق بالكلمة قد نطقها ابتداء؛ دون أن يسمعها من غيره فيرددها بعده؛ كالتي في المثال الأول (5) . أم كان نطقه تالياً لنطق آخر، وترديداً لما سمعه؛ كثرة النحاة (6) . ولو كان النطق بها ترديداً ومحاكاة لنطق سابق؛ لأن الحكاية في هذا الباب لا تكون عندهم للكلمة المفردة (7) .
__________
(1) وقعت الجملة الاسمية والفعلية بعد القول في البيت التالي:
قالوا: نراك بلا سُقْم. فقلت لهم: السُّقْم في القلب. ليس السّقْم في البدن.
(2) ومن الجملة الاسمية أيضاً قوله تعالى: (قلْ: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى) .
(3) وهذا هو الأعم الأغلب في محلها -انظر "ا" من ص53-.
(4) لأن أصل المفعول به لا يكون جملة، فهي تسد مسد، ولا تكون مفعولاً به أصيلاً.
(5 و5) من "ا".
(6) انظر "ا" من ص53.
(7) إلا إذا كانت الكلمة المفردة لا تدل على جملة، ولا تعبر عنها، ولا عن مفرد؛ وإنما يراد نص لفظها المنطوق من قبل (دون نظر لمعناه مطلقاً، ولا لمدلول؛ فالمراد هو ترديد الكلمة ترديداً صوتياً مجرداً. (انظر ما يوضح هذا في رقم 1 من هامش الصفحة السابقة) . فيجب حكايته ورعايته إعرابه بضبطه المنطوق السابق، نحو: "قال على بابٌ"، إذا تكلم بكلمة: "باب" مرفوعة، ومثل كلمة "نعمْ" في قول الشاعر:
إذا قلت في شيء "نَعمْ" فأتمَّهُ ... فإنَّ "نعَمْ" دينٌ على الحُرّ واجب
هذا، ولا يخرج الكلمة عن وصفها بالإفراد أن يكون في المقصود منها: الجملة أو الجمل؛ أي: أن تكون في ظاهرها لفظة مفردة يراد بها مضمون جملة أو جمل، مثل: (سمعت المؤذن يصيح: "الله أكبر"، لقد قال: كلمة رائعة) . فالكلمة هنا مفردة في معنى الجملة؛ لأنها تقوم مقامها في المضمون. ومثل: كنت في ندوة أدبية؛ فسمعت من يقول حديثاً، وأصغيت لشاعر يقول قصيدة، والخطيب يقول خطبة، فكل كلمة من الكلمات الثلاث: (حديثاً - قصيدة - خطبة) مفردة في ظاهرها، ولكنها في مقام جمل=(2/47)
أما الجملة التى تسُدّ- في الأغلب (1) - مسدّ مفعول "القول" والتى محلها
النصب فيسمونها: "مَحْكيَّةً بالقول" بشرط أن تكون قد جرَتْ من قبل على لسان، ثم أعادها المتكلم، وردّ ما سبق أن جرى على لسانه أو على لسان غيره. فلابد في الجملة التي تسمى: "مَحْكِيَّة" أن تكون قد ذُكرَتْ مرة سابقة قبل حكايتها بالقول. وإلا فلا يصح تسميتها: "مَحْكِيَّة" على الصحيح. والأغلب أنها في الحالتين في محل نصب، سادة مسدّ المفعول به.
وتشتهر بين المعرْبين بأنها: "مقُول القول" (2) ؛ أي: الجملة التي جرى بها القول، وهي المرادة منه.
***
(ب) وإن كان معنى "القول" -ومشتقاته هو: "الظنّ" (أي: الرجحان (3) -) فإنه ينصب مفعولين مثله -بالشرط التي سنعرفها- ويجرى عليه ما يجري على "الظن" (4) (بمعنى الرجحان) من التعليق، والإلغاء، وسائر الأحكام السابقة الخاصة بالأفعال القلبية؛ فهو والظن سواء. إلا في اختلاف
__________
=كثرة؛ لأن الحديث الذي في الندوة لا يكون إلا جملة متعددة، وكذلك القصيدة، والخطبة؛ فالكلمة هنا مفردة ولكنها في معنى الجملة، كما يقول النحاة.
وقد يراد بالكلمة المفردة، لا نصها؛ وإنما الرمز والكناية إلى لفظة أخرى؛ مثل: قلت "كلمة".
أريد: لفظة معينة نطقت بها قبل نطقي الآن؛ مثل لفظة: عصفور، أو بلبل، أو خديجة، أو كتاب، أو غير ذلك مما أشير إليه، ولا أريد إعادة النطق به لداع يمنعني.
فالكلمة المفردة التي لا تحكي، ثلاثة أنواع هنا: كلمة مفردة لا يراد التمسك بنصها الحرفي بضبطه الأول المنطوق، وكلمة مفردة في لفظها ولكنها في معنى الجملة، وكلمة هي رمز لأخرى مفردة. والثلاثة مفعول به مباشرة للقول-.
ثم انظر "ا" من ص53؛ لأهميتها.
(1 و1) وقد تكون فاعلاً أو نائب فاعل، طبقاً للبيان الذي في ص66 وفي3 هامش ص113.
(2) وهذا التعبير أحسن؛ إذ يصدق على الجملة التي سبق النطق بها والتي لم يسبق، فهو تعبير عام يشمل الحالتين وقد اجتمعتا في قول جميل:
بثينة قالت -يا جميل- أَرَبْتَنِي ... فقلت: كلانا -يا بُثَيْنُ- مُريب
أما التعبير هنا بكلمة: "المحكية" فيؤدي إلى أن يشمل ما سبق النطق به، وما لم يسبق، مع أن الشائع قصر "الحكاية" على الذي يعاد، إلا عند إرادة المجاز.
(3) سبق معنى الرجحان في رقم (4) من هامش ص5.
(4) ولهذا تفتح همزة "أن" الواقعة بعد "القول" الذي معناه "الظن"؛ لأن القول بهذا المعنى ينصب مفعولين؛ فيكون المصدر المؤول من "أن" مع معموليها سادّاً مسدّ المفعولين. (كما سبق في ج1 في موضع الكسر ص488 م51، ولما تقدم هنا في رقم5 من هامش ص43 ويجيء في رقم 5 من هامش ص52) .(2/48)
الحروف الهجائية. ومن الأمثلة: أتقول السماءَ صحْواً (1) فى الغد-؟ أتقولان
الكتابَ نفيسًا إنْ تَمّ إعداده؟ - أتقولون السفرَ المنتظَر مفيداً؟ ...
فلا بد من مفعولين منصوبين بعده (2) - إلا عند التعليق أو الإلغاء (3) - فإن لم يتحقق له المفعولان المنصوبان لم يكن معناه "الظن" وإنما يكون معناه: "التلفظ المحض، ومجرد النطق"، وفي هذه الصورة يكون من النوع الأول "ا" الذي ينصب مفعولاً به واحداً، ولا ينصب مفعولين؛ فمدلوله إن كان كلمة مفردة وقع عليها القول وجب اعتبارها مفعوله المنصوب مباشرة؛ مثل: أتقول: الجَوَّ؟؛ أي: أتنطق بكلمة: "الجَوّ" وإن كان مدلوله جملة اسمية أو فعلية فهي في محل نصب تسدّ مسدّ ذلك المفعول به الواحد، مثل: أتقول: الحروبُ خادمةٌ للعلوم؟ -أتقول: السَّلمُ الطويلة داءٌ؟ -. ومثل: أتقول: قد يجمع الله الشتيتين بعد اليأس من التلاقي؟ -أنقول: لا يضيع العُرف (4) بين الله والناس؟ فمعنى "تقول" في هذه الجمل هو: تنطق، ومعنى "القول" في كل ما تقدم هو "النطق" لا الظن، والجملة بعده في الأمثلة المذكور: "مَقُولُ القول" ولا تُسمى محْكية بالقول إلا إذا سبق النطق بها قبل هذه المرة -كما أوضحما-.
وملخص ما تقدم: أن القول المستوفي للشروط (5) إذا وقع له مفعولان منصوبان به كان بمعنى: "الظن" حتماً، وتجري عليه أحكام "الظن" ولا وجود للحكاية هنا أو غيرها، -على الأرجح-. وإذا وقع له كلمة واحدة (هي التي قيلت) كان معناه: "مجرد النطق"، ونَصَبها مفعولاً به واحداً، ولا تسمى هذه الكلمة محكية (6) ، مع أنها هي مفعوله المباشر. وكذلك إذا وقع له جملة اسمية أو فعلية كان معناه مجرد النطق أيضاً، ولكنه ينصب مفعولاً به واحداً نصباً غير مباشر؛ لأن الجملة التي بعده تكون في محل نصب؛ فتسدّ مسدّ المفعول به، وتسمى:
__________
(1) لا غيم ولا مطر فيها.
(2) ويجوز أن يحل محل المفعول به الثاني جملة، أو شبه جملة، (كما أسلفنا في أحكام الأفعال القلبية -"ا" ص24- ومنها: القول بمعنى الظن) . وتكون الجملة في محلة نصب.
(3) أو: عند قيام قرينة تدل على حذفهما، أو حذف أحدهما -كما سيجيء في ص56 م63.
(4) المعروف والخير.
(5) وهي موضحة في الصفحة الآتية.
(6) إلا في الصورة التي تقدمت في رقم 7 من هامش ص47.(2/49)
"مًقُول القول" دائماً، ولا تسمى "محكية بالقول" إلا إذا سبق النطق بها.
فالقول بمعنى "الظن" لا حكاية معه -كما عرفنا- إذا وقع له مفعولاه المنصوبان. فإذا تغير ضبطهما وصارا مرفوعين أصاله (1) فإن معناه وعمله يتغيران تبعاً لذلك؛ إذ يصير معناه: النطق المجرد، ويقتصر عمله على نصب مفعول واحد فتكون الجملة الجديد اسمية في محل نصب، تسدّ مسدّ مفعوله.
***
شروط القول بمعنى الظن:
يشترط النحاة ما يأتي لإجراء القول مجرى الظن معنى وعملاً، طبقاً لما استنبطوه من أفصح اللغات العربية، وأكثرها شيوعاً:
(1) أن يكون فعلاً مضارعاً.
(2) وأن يكون للمخاطب بأنواعه المختلفة (2) .
(3) وأن يكون مسبوقاً باستفهام (3) .
(4) وألا يَفصل بين الاستفهام والمضارع فاصل. لكنْ يجوز الفصل بالظرف، أو بالجار (4) مع مجروره، أو بمعمول آخر للفعل، أو بمعمول معموله (5) .
وكثير من النحاة لا يشترط عدم الفصل، ورأيه قوي، والأخذ به أيسر.
(5) ألا يتعدى بلام الجر، وإلا وجب الرفع على الحكاية (6) ، نحو: أتقول للوالد فضلُك مشكورٌ؟.
فمثال المستوفي للشروط الخمسة: أتقول المنافقَ أخطرَ من العدو؟
أتقول الاستحمامَ ضارّاً بعد الأكل مباشرة؟.
__________
(1) أي: بغير سبب إلغاء العامل.
(2) المفرد وغير المفرد، والمذكر والمؤنث ...
(3) سواء أكانت أداة الاستفهام اسماً أم حرفاً، وسواء أكان المستفهم عنه الفعل أم بعض معمولاته ...
(4) بشرط ألا يكون الجار هو اللام المعدية للمضارع، كما سيأتي في الشرط الخامس.
(5) لا مانع من الفصل بأكثر من واحد مما ذكر.
(6) ويكون القول بمعنى النطق، والجملة بعده في محل النصب سادة مسد مفعوله.(2/50)
ومثال الفصل بالظرف: أفوق السحاب - تقول الطائرَ مرتفعاً؟.
وقوك الشاعر:
أبَعْدَ بُعْدٍ تقول الدارَ جامعةً ... شملي بهم، أم تقول البعدَ محتوماً
وبالجار مع مجروره: -أفي أعماق البحر- تقول الغواصةَ مقيمةً؟.
وبمعمول الفعل مباشرة: -أواثقاً- تقول الكيمياءَ دِعامةَ الصناعة؟ ومن هذا أن يفصل أحد المفعولين بين الاستفهام والفعل المضارع، كقول الشاعر:
أجُهَّالا تقول: بَنِي لُؤَيّ ... لعمر أبيك أم متجاهلينا
والأصل: أتقول بني لؤي جهالا ...
وبمعمول معموله: -أللأمن- تقول: العدلَ ناشراً. والأصل: ناشراً للأمن.
فإذا اختل شرط من الشروط السابقة لم يكن "القول" بمعنى: "الظن" فلا يكون بمعنى: "النطق والتلفظ"؛ فينصب مفعولاً به واحداً لا محالة.
أما إذا استوفى شروطه مجتمعة فيجوز أن يكون كالظن معنى وعملا، على التفصيل الذي شرحناه. ويجوز -مع استيفائه تلك الشروط كاملة- أن يكون بمعنى: "النطق والتلفظ" فينصب مفعولاً به واحداً فقط، وعندئذ يتعين أن يكون الاسمان بعده مرفوعين حتماً -كما سلف- ويتعين إعرابهما مبتدأ وخبراً في محل نصب، لتسد جملتُهما مسد المفعول به. فالأمران جائزان عند استيفائه الشروط (1) .
ولكن لكل منهما معنى وإعراب يخالف الآخر. والمتكلم يختار منهما ما يناسب المراد. فيصح: أتقول: الطائرَ مرتفعاً؟ كما يصح: أتقول: الطائرُ مرتفعٌ؟ ينصب الاسمين معاً، أو برفعهما على الاعتبارين السالفين المختلفين (1) ؛ طبقاً للمعنى المقصود.
وهناك رأي آخر مستمَدّ من لغة قبيلة عربية اسمها: سُلَيْمٌ، وملخصه:
__________
(1 و1) فليس استيفاؤه الشروط موجباً تنزيله منزلة "الظن". وإنما يجيز ذلك فقط. أما إجراؤه مجرى الظن فيوجب أولاً تحقيق الشروط كلها ...(2/51)
أن القول -ومشتقاته- إذا كان معناه: "الظن" فإنه ينصب مفعولين مثله.
وتجري عليه بقية أحكام "الظن" بغير اشتراط شيء من تلك الشروط الخمسة أو غيرها، فالشرط الوحيد عندهم أن يكون معناه: "الظن" (1) فإن لم يتحقق هذا الشرط يكن معناه -في الغالب- "النطق المجرد والتلفظ"، وينصب مفعولاً به واحداً، ولهذا يجب رفع الاسمين بعده، واعتبار جملتها الاسمية في محل نصب تسدّ مسدّ مفعوله.
__________
(1) ويروي بعض النحاة: أن "سُلما" لا يشترطون أن يكون معناه "الظن" فعندهم القول قد ينصب مفعولين دائماً. وفي هذا الرأي ضعف. وقد أشرنا (في رقم 4 من هامش ص48) إلى وجوب فتح همزة "أن" الواقعة بعد "القول" إةذا كان معناه الظن، لأنه يحتاج إلى مفعولين؛ فيكون المصدر المؤول من "أن" مع معموليها في محل نصب سادّاً مسدّ المفعولين، ونشير هنا إلى أن الرأي السالف يساير لغة سليم وغيرها ما دام القول بمعنى الظن؛ لحاجته إلى ما بعده، فتفقد "إن" الصدارة في جملتها؛ فتفتح همزتها وجوباً.(2/52)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
(1) تضطرب أقوال النحاة فى اللفظ المحْكيّ بالقول، أيكون مفرداً وجلمة؛ أم يقتصر على الجملة فقط؟ أيكون ترديداً ومحاكاة لنطق سابق به، أم يكون ابتداء كما يكون ترديداً ومحاكاة؟ أيكون حكاية للقول بمعنى النطق والتلفظ فقط، أم يكون حكاية له بهذا المعنى، وبمعنى الظن أيضاً؟ ... إلى غير ذلك من صنوف التفريع؛ والخلف، والاضطراب الذي يخفي الحقيقة، ويُغَشَّى على وضوحها، ويكدّ الذهن في استخلاصها. وقد تخيرنا أصفى الآراء فيها، وقدمناه فيما سبق (1) . وللحكاية تفصيلات وأحكام أخرى في بابها الخاص، وأشرنا في الجزء الأول (2) إلى بعض أحكامها.
(ب) الأصل (3) في الجملة المحكية بالقول أن يذكر لفظها نصّاً كما سُمع من غير تغيير، وكما جرى على لسان الناطق بها أول مرى. لكن يجوز أن تحكَى بمعناها، لا بألفاظها (4) فإذا نطق الناطق الأول، وقال حكمةً؛ هي: الأممُ الأخلاقُ "جاز لمن يحكيها بعده أن يرددها بنصها الحرفي، وبضطبها وترتيبها، فيرددها بالعبارة التالية: قال الحكيم: الأممُ الأخلاقُ". وجاز أن يرددها بمعناه مع مراعاة الدقة في المعنى؛ كما يأتي: قال الحكيم: الأمم ليست شيئاً إلا الأخلاق". أو: الأمم بأخلاقها". أو: ما الأمم إلا أخلاقها" ... وعلى هذا لو سمعنا شخصاً يقول: البرد قارس". لجاز في الحكاية أن نذكر النصّ بحروفه وضبطه وترتيبه: قال فلان: البرد قارس"، أو بمعناه: قال فلان: البرد شديد" ...
وإذا قالت فاطمة أنا كاتبة" -مثلاً- وقلتَ: لزينب أنت شاعرة"؛ فلك في الحكاية أن تذكر النصّ: (قالت فاطمة "أنا كاتبة"، وقلت لزينب "أنت شاعرة") ، مراعاة لنَصّ اللفظ المحليّ فيهما، ولك أن تذكر المعنى: (قالت فاطمة "هي كاتبة"، وقلت لزينب "هي شاعرة"، أو: إنها شاعرة") مراعاة لذلك المعنى
__________
(1) في ص46 وما بعدها.
(2) م2 ص31.
(3) ومراعاته أحسن.
(4) إن لم يكن هناك ما يقتضي التمسك بالنص الحرفي لداع ديني، أو علمي، أو قضائي، أو نحو ذلك ...(2/53)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فى حالة الحكاية؛ حيث تكون فيها فاطمة وزينب غائبتين وقت الكلام (1) .
فالحكاية بالمعنى لا تقتضى المحافظة على اسمية الجملة، أو فعليتها، أو نصّ
كلماتها، أو إعراب بعض كلماتها إعراباً معيناً؛ وإنما تقتضى المحافظة على
سلامة المعنى، ودقته، وصحة الألفاظ، وصياغة التركيب، فيكفي فى الجملة
المحكية أن تكون صحيحة في مطابقة المعنى الأصلي، وسليمة من الخطأ اللفظي.
فإن كانت الجملة المحكية مشتملة فى أصلها على خطأ لغويّ أو نحويّ وجب
حكايتها بالمعنى للتخلص مما فيها من خطأ. إلا إن كان المراد إظهار هذا الخطأ،
وإبرازه لسبب مقصود؛ وعندئذ يجب حكايتها بما اشتملت عليه.
(ج) هل يُلحق "بالقول" الذى معناه النطق والتلفظ، ما يؤدى معناه
من كلمات أخرى؛ مثل:. ناديت، دعوت، أوحيت، قرأت - أوصيت -
نصحت ... وغيرها من كل ما يراد به: "النطق المجرد، والتلفظ المحض" فتنصب مفعولاً به أو مفعولين (2) ، على التفصيل الذي سبق؟.
الأنسب الأخذ بالرأي القائل: إنها تُلحق به في نصب المفعول والمفعولين، ما دامت واضحة الدلالة على معناه. ومن الأمثلة قوله تعالى: (ونادَوْا يا مالكُ: لِيَقْضِ علينا ربك) ، وقوله تعالى: ( {فَدَعَا رَبَّهُ: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} بَكَسر الهمزة في قراءة الكسر. وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} ... ولا داعي للتأويل في هذه الآيات وغيرها بتقدير "قوْل" ... إذ لا حاجة للتقدير مع الدلالة الواضحة، وعدم فساد المعنى أو التركيب ...
أما إذا اقتضى المقام التقدير فلا مانع منه لسبب قوي، ومن ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ... أيْ: فيقال لهم: أكفرتم؟ فهنا القول
__________
(1) لأن ذكر اسميهما دليل -في الغالب- على غيابهما وقت حكاية الكلام، ولولا غيابهما لاتجه إليهما الخطاب: "قلت لك"- ... بدلاً من "قلت لفاطمة.. وقلت لزينب ... ". (راجع حاشية الصبان ج2 آخر باب "ظن" وكذلك الخضري -وغيره- في هذا الوضع) .
(2) طبقاً للرأي الذي يفيد أن سُليماً -كما نقل بعض النحاة- تنصب بالقول مفعولين مطلقاً، (أي: ولو لم يكن بمعنى: الظن.، كما سبق في رقم 1 من هامش ص52) .(2/54)
محذوف (1) ولا بد من تقديره لصحة المعنى والأسلوب.
__________
(1) هذا موضح من كل واضع حذفه جوازاً، لوجود كلام قبله يدل عليه وعلى مكانه، وهو قوله
تعالى: (يوم تبيض وجوه ... إلخ) . ومثله قراءة من قرأ قوله تعالى فى سورة الشعراء:
( {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} ... بالتاءين - لا بالياء فالتاء، وهذه قراءة أخرى -قال ابن جني في كتابه: "المحتسب - ج2 ص127- عن هذه قال القراءة ما نصه: ("هو عندنا على إضماء القول فيه. وإيضاحه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} . وقد كثر حذف القول عندهم، من ذلك قول الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} ، ... سلام عليكم ... ". أي: يقولون سلامٌ "عليكم") "اهـ".
هذا، ومما سبق يظهر أن ابن جني من أصحاب الرأي الذي لا يلحق بالقول الذي معناه النطق والتلفظ ما يؤدي معناه؛ مثل: ناديت ...(2/55)
المسألة 63:
حذف المفعولين، أو أحدهما، وحذف الناسخ
الاختصار أصل بلاغيّ، لا يختص بباب، ولا يقتصر على مسألة،
ويراد به: حذف ما يمكن الاستغناء عنه من الألفاظ لداع يقتضيه. وهو جائز
بشرطين:
(1) أن يوجد دليل يدل على المحذوف، ومكانه (1) .
(ب) وألا يرتب على حذفه إساءة للمعنى، أو إفسادٌ فى الصياغة اللفظية (2) .
واستناداً إلى هذا الأصل القويم يصح الاختصار هنا بحذف المفعولين معاً
أو أحدهما. فمثال حذفهما معاً: - هل علمتَ الطيارةَ سابحةً فى ماء الأنهار؟.
فتجيب: نعم، علمتُ ... - هل حسبت الإنسان واصلا إلى الكواكب
الأخرى؟. نعم، حسبت ... ، أى: علمت الطيارَةَ سابحةً ... -وحسبت
الإنسانَ واصلاً ...
ومثال حذف الثانى وحده (وهو كثير) : أيّ الكلامين أشدُّ تأثيراً في الجماهير؛ آلشعرُ أم الخَطابة؟ فتقول: أظن الخطابة ... أي: أظن الخطابة أشدَّ ...
ومثال حذف الأول وحدع، (وحذفه أقل من الثاني) : ما مبلغ علمك بخالد بن الوليد؟ فتقول: أعلم ... بطلا صحابيّاً من أبطال التاريخ. أيْ: أعلم خالداًَ بطلا..
فقد صَحّ الحذف في الأمثلة السابقة؛ لتحقق الشرطين معاً. فإن لم يتحقق
__________
(1) لأن عدم معرفة المحذوف يفسد المعنى فساداً كاملاً، وعدم معرفة مكانه يؤثر في المعنى قليلاً أو كثيراً؛ فلوضع الكلمة في الجملة أثر في المعنى. ولا فرق في الدليل (القرينة) بين أن يكون مَقَاليّاً؛ (أي: قولاً يدل على المحذوف) وأن يكون حالياً: (أي: أمراً آخر مفهوماً من الحال والمقام، بغير نطق ولا كلام. ولهذا إشارة في رقم 1 من هامش ص219 م76، وراجع ج1 ص362 م37) .
(2) يرى بعض النحاة الاقتصار على هذا الشرط؛ لأنه يتضمن معنى الشرط الأول. ولكنا ذكرناهما معاً مبالغة في الإيضاح والإبانة.(2/56)
الشرطان معاً لم يجز الحذف (1) ؛ فلا يصح فى تلك الأمثلة وأشباهها: علمت فقط،
ولا حسبت فقط؟ بحذف المفعولين فيهما. ولا يصح علمت الطيارة ...
ولا حسبت الإنسان ... بحذف المفعول الثانى فقط، ولا علمت ... سابحةً،
ولا حسبت ... واصلا؟ بحذف الأول. وهكذا امن كل ما فقد الشرطين
معًا؟ أو أحدهما.
واعتماداً عك الأصل البلاغي السابق أيضًا يصح حذف الناسخ مع
مرفوعه؛ نحو: ماذا تزعم؟ فتجيب: ... الأخَ منتظراً فى الحقل. أى:
أزعم (2)
__________
(1) ولا التفات لمن أباح: "الاقتصار"؛ وهو الحذف بغير دليل. لأن هذه الإباحة مفسدة.
(2) في المسألتين الأخيرتين؛ (مسألة 62: "القول" ومسألة 63: "الحذف")
يقول ابن مالك في الحذف:
وَلاَ تُجِزْ هُنَا بِلاَ دَليلِ ... سُقُوطَ مَفْعُولَيْنِ، أَوْ مَفعُولِ.
يريد: ليس من الجائز في هذا الباب سقوط مفعول (أي: حذفه) أو مفعولين. إلا بوجود دليل يدل على المحذوف. وكلامه مختصر، وقد وفيناه. ويذكر في القول:
و"كَتَظُنُّ" اجْعَلْ: "تقُولُ" إنْ وَلِي ... مُسْتَفْهَماً بِهِ. وَلَمْ يَنْفَصِل
بغَيْرِ ظَرْفٍ، أَوْ كَظَرْفٍ، أَوْ عَمَلْ ... وإِنْ ببَعْضِ ذِي فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ
المعنى: اجعل "تقول" -وهي مضارع للمخاطب- مثل "تظن" في المعنى والعمل إن وليت: "تقول" مستفهماً به، أي: إن جاءت "تقول" بعد أداة يُستفهم بها. (فوقوع الفعل "تقول" بعد الاستفهام شرط) .
وشرط آخر؛ هو: ألا ينفصل الفعل المضارع: "تقول" عن أداة الاستفهام بفاصل غير الظرف.
أما الظرف فيجوز أن يقع فاصلاً بينهما، كذا ما يشبه الظرف؛ وهو الجار مع مجروره. -وقد يطلق "الظرف" -أحياناً- على شبه الجملة بنوعيه- وكذا كل شيء آخر وقع عليه عمل الفعل: "ظن" أو عَسَلُ معمول الفعل؛ كالأمثلة التي سبقت في الشرح.
ثم بين الرأي الآخر في: "القول" بالبيت التالي:
وأُجْريَ "القوْلُ"، "كَظَنٍّ" مُطْلَقَا ... عِنْدَ "سُلَيم"؛ نَحْو؛ قُلْ ذَا مُشْفِقَا
أي: قبيلة "سليم" تجري القول مجرى الظن في المعنى، والعمل والأحكام المختلفة، من غير اشتراط شيء مطلقاً. إلا اشتراط أن يكون "القول" بمعنى "الظن" ... مثل: قل هذا مشفقاً. وقد سبق رأي آخر لهم. في رقم 1 من هامش ص52.(2/57)
المسألة 64: أعلم ... أرى ...
أ ... فرح ... الحزين. ... ... أفرحت الحزين.
زهق ... الباطل. ... ... أزهق الحق الباطل.
لان ... المتشدد. ... ... ألانت الحوادث المتشدد.
ب ... سمع ... الصديق الخبر السار. ... ... أسمعت الصديق الخبر السار.
ورد ... الغائب أهله. ... ... أوردت الغائب أهله.
قرأ ... الأديب القصيدة. ... ... أقرأت الأديب القصيدة.
جـ ... علمت ... الحرفة وسيلة الرزق. ... ... أعلمت الغلام الحرفة وسيلة الرزق.
علم ... الشباب الاستقامة طريق السلامة. ... ... أعلمت الشباب الاستقامة طريق السلامة.
رأيت ... الفهم رائد النبوغ. ... ... أريت المتعلم الفهم رائد النبوغ.
رأى ... الخبراء الآثار كنوزًا. ... ... أريت الخبراء الآثار كنوزا.
الفعل نوعان: "لازم"؛ "أي: قاصر؛ لا ينصب بنفسه المفعول به" و"متعد"؛ينصب بنفسه مفعولًا به، أو مفعولين، أو ثلاثة، ولا يزيد عليها.
ولتعدية الفعل اللازم وسائل معرفة في بابه1، منها: وقوعه بعد "همزة النقل". "أي همزة التعدية"، فإذا دخلت همزة النقل على الفعل الثلاثي اللازم، أو الثلاثي المتعدي لواحد أو لاثنين غيرت حاله، وجعلت الثلاثي اللازم متعديًا لواحد - كأمثلة: "أ"- وصيرت الثلاثي المتعدي لواحد متعديًا
لاثنين -كأمثلة "ب"- وصيرت الثلاثي المتعدي لاثنين متعديًا لثلاثة -كأمثلة: "ج"- فشأنها أن تجعل فاعل الفعل الثلاثي مفعولًا به2؛ فتنقله من حالة إلى أخرى تخالفها3؛ فتسكب الجملة مفعولًا به جديدًا لم يكن له وجود قبل دخول همزة النقل
__________
1 هو باب "تعدي الفعل ولزومه"، وسيأتي في ص150م 70.
2 كما سيجيء في ص158م 71، وفي رقم2 من ص165.
3 ولهذا سميت أيضًا: "همزة النقل".(2/58)
على الفعل أما غير الثلاثي، فلا تدخل عليه هذه الهمزة.
ولا يكاد يوجد خلاف هام في أن التعدية بهمزة النقل على الوجه السالف قياسية في الثلاثي اللازم، وفي الثلاثي المتعدي بأصله لواحد1، إنما الخلاف في الثلاثي المتعدي بأصله لاثنين؛ أتكون تعديته بهمزة النقل مقصورة على فعلين من الأفعال القلبية؛ هما: علم -ورأى 2- دون غيرهما من باقي الأفعال القلبية التي تنصب مفعولين، والتي سبق الكلام عليها3 -أم ليست مقصورة على الفعلين المذكورين؛ فتشملهما، وتشمل أخواتهما القلبية التي مرت في الباب السالف؟
رأيان: وتميل إلى أولهما جمهرة النحاة، فتقصر التعدية على الفعلين المعينين "علم" و"رأى" ولا تبيح قياس شيء عليهما من أفعال اليقين، والرجحان وغيرهما، فلا يصح عندها أن تقول: أظننت الرجل السيارة قادمة، وأحسبته السفر فيها مريحًا، في حين يصح هذا عند بعض آخر يبيح القياس على الفعلين السالفين، ولا يرى وجهًا للتفرقة بينهما وبين نظائرهما من أفعال اليقين والرجحان التي تنصب مفعولين بحسب أصلها4.
سواء أخذنا برأي الجمهرة أم بالرأي الآخر، فالفعل القلبي الناصب للمفعولين بحسب أصله، وبحسب رأي كل منهما في نوعه5 ... سينصب ثلاثة بعد دخول
__________
1 راجع الأشموني والصبان -ج1 أول باب: "تعدي الفعل ولزومه".
2 سواء أكانت علمية كالأمثلة المذكورة، أم حلمية؛ وهي التي مصدرها "الرؤيا" المنامية، كقوله تعالى:
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ... } .
3 في ص5، ثم راجع رقم2 من ص 165 ورقم 1 من هامشها.
4 وهذا رأي حسن اليوم؛ فإنه مع خلوه من التشدد والتضييق، يساير الأصول اللغوية العامة، ويلائم التعبير الموجز المطلوب في بعض الأحيان، فتقول: أظننت الرجل السيارة قادمة؛ بدلًا من جعلت الرجل يظن السيارة قادمة، إذ من الدواعي البلاغية، والاستعمالات اللازمة في العلوم الحديثة ما قد يجعل له التفضيل، فمن الخير إباحة الرأيين، وترك الاختيار للمتكلم يراعى فيه الملابسات.
5 من ناحية أنه محصور في الفعلين السالفين دون غيرهما من أفعال القلوب، أو غير محصور فيهما، وإنما يشمل كل أفعال القلوب التي سبق شرحها.(2/59)
همزة التعدية عليه، ومفعوله الثاني والثالث أصلهما المبتدأ والخبر، ويجري عليهما في حالتهما الجديدة ما كان يجري عليهما قبل مجيء همزة التعدية، فتطبق عليهما وعلى أفعالهما -وباقي المشتقات- والأحكام والآثار الخاصة بالأفعال القلبية التي سبق شرحها، ومنها: التعليق، والإلغاء، والحذف اختصارًا لدليل ...
فمن أمثلة التعليق: أعلمت الشاهد لأداء الشهادة واجب، وأريته إن1 كتمانها لإثم كبير، ومن أمثلة الإلغاء أو عدمه: النخيل أعلمت البدوي أنسب للصحراء -أو: أنسب للصحراء أعلمت البدوي النخيل- أو: النخيل أنسب للصحراء أعلمت البدوي، وأصل الجملة: أعلمت البدوي النخيل أنسب للصحراء، أما المفعول به الأول من الثلاثة فقد كان في أصله فاعلًا كما عرفنا، فلا علاقة له بهذه الأحكام والآثار الخاصة بالأفعال القلبية السالفة.
ومن أمثلة حذف المفعول به الثاني لدليل أن يقال: عرفت حالة المزرعة؟ فتجب: أعلمني الخبير ... جيدةً، أي: أعلمني الخبير المزرعة جيدة، ومثال حذف الثالث لدليل؛ أن يقال: هل علم الوالد أحدًا قادمًا لزيارتك؟ فتجيب: أعلمته زميلًا، أي: زميلًا قادمًا2 لزيارتي ومثال حذف الثاني والثالث معًا أن تقول: أعلمته.
فإن كان الفعل: "علم" بمعنى: "عرف" أو كان الفعل: "رأى" بمعنى "أبصر" - لم ينصب كلاهما في أصله إلا مفعولًا به واحدًا كما سبق3، نحو: علمت الطريق إلى النهر -رأيت الشهب المتساقطة، فإذا دخلت على أحدهما همزة التعدية صيرته ينصب مفعولين، نحو: أعلمت الرجل الطريق إلى النهر، وأريت4 الغلام الشهب المتساقطة، وهذان المفعولان ليسا في الأصل مبتدأ وخبرًا؛ إذ لا يصح: الرجل الطريق -الغلام الشهب، ولهذا لا يصح
__________
1 يوضح هذ المثال مع كسر همزة "إن" ما سبق في رقم3 من هامش ص33.
2 المعنى الأساسي لا يتم إلا بهذه الكلمة، فلا تعرب حالا؛ لأن الحال فضلة.
3 في ص13، 14.
4 سبقت أحكام خاصة ببعض حالات هذا الفعل عند بنائه للمجهول، وطريقة إعرابه -في رقم3 من هامش ص16 م60.(2/60)
تطبيق الأحكام وآثار الخاصة بالأفعال القلبية عليهما، إلا التعليق فجائز؛ ومنه قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي 1 كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} .
وقد نصت كتب اللغة على أفعال أخرى -قلبية وغير قلبية- قد ينصب كل فعل منها بذاته ثلاثة من المفاعيل، دون وجود همزة التعدية قبله، وأشهر تلك الأفعال خمسة: نبأ - أنبأ - حدث - أخبر - خبر ... مثل: نبات الطيار الجو مناسبًا للطيران - أنبأت البحار الميناء مستعدًا - حدثت الصديق الرحلة طيبة - أخبرت المريض الراحة لازمة - خبرت البائع الأمانة أنفع له، والكثير من الأساليب المأثورة أن يكون فيها تلك الأفعال الخمسة مبنية للمجهول، وأن يقع أول المفاعيل الثلاثة نائب فاعل مرفوعًا، ويبقى الثاني والثالث مفعولين صريحين، ومن الأمثلة قول الشاعر:
نبت نعمى على الهجران عاتبة ... سقيًا ورعيًا2 لذاك العاتب الزاري
وقد جاء في القرآن "نبأ" ناصبًا مفعولًا واحدًا صريحًا، وسد مسد المفعولين الآخرين جملة "إن" مع معموليها، بعد أن علقت الفعل عنها باللام في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 3.
__________
1 فالآية تشتمل على فعل الأمر "أر"، وهو من "أرى" البصرية التي تنصب مفعولين بشرط وجود همزة التعدية قبلها، و"ياء المتكلم" هي مفعوله الأول، وجملة "كيف تحيي الموتى" في محل نصب سدت مسد المفعول الثاني، في الرأي الراجح، باعتبار "كيف: استفهامية معمولة للفعل: "تحي" "وقد سبق الكلام على إعراب "كيف" في ج1 ص 462 م 39، وسيجيء في رقم 3 من هامش ص113.
2 في رقم 3 من هامش ص 222 بيان عن كلمتي "سقي ورعي"، وفي ج1 م39 ص 468 بيان أكمل.
3 فيما سبق يقول ابن مالك في باب مستقل، عنوانه: "أعلم وأرى".
إلى ثلاثة "رأى و"علما" ... عدوًا، إذا صارا: أرى وأعلما
وما لمفعولي: "علمت مطلقًا" ... للثان والثالث: أيضًا حققا
التقدير -وهو شرح أيضًا-: النحاة عدوا الفعل: "رأى" والفعل: "علم" إلى ثلاثة من المفاعيل إذا صار كل من الفعلين في صيغة جديدة؛ هي: "أرى، وأعلم"؛ حيث سبقتهما "همزة التعدية"، ثم بين أن ما ثبت لمفعولي "علم" من الأحكام المختلفة باعتبارهما في الأصل مبتدأ وخبرًا -يثبت للثاني والثالث هنا، فليس الثاني والثالث مع وجود همزة التعدية إلا الأول، والثاني قبل دخولها على فعلهما، "والألف في "علماء" وأعلما -وحققا- ألف الإطلاق الزائدة لوزن الشعر، ثم قال: =(2/61)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
من الأساليب الفصيحة: أحب العلوم، ولا تر ما العلوم الكونية، أو: أحب العلوم، ولو تر ما العلوم الكونية ... بمعنى: ولا سيما العلوم الكونية.
وقد سبق الكلام مفصلًا على: "لا سيما" وعلى هذه الأساليب التي بمعناها 1- وسيجيء هنا لمناسبة أخرى2.
__________
=
وإن تعديا لواحد بلا ... همز، فلاثنين به توصلا
والثان منهما كثاني اثني كسا ... فهو به في كل حكم ذو ائتسا
يريد: إذا تعدى كل من "علم" و"رأى" إلى مفعول واحد قبل مجيء حرف التعدية "وهو: الهمزة"، فإن الفعل يتوصل بحرف الهمزة إلى مفعولين يتعدى لهما"، ليس أصلهما المبتدأ والخبر، الثاني منهما كالثاني للفعل: "كسا" في مثل: كسوت المحتاج ثوبًا؛ حيث لا يصلح الثاني في هذا المثال، وأشباهه أن يقع خبرًا للأول: إذ لا يصح: المحتاج ثوب ...
ولما كان المفعول الثاني للفعل: "كسا" ليس خبرًا في الأصل -كان هو وفعله غير قابلين للأحكام الخاصة بالأفعال القلبية وآثارها، ومنها أن يكون جملة، وشبه جملة، والإلغاء ... و ... إلا التعليق فيجوز على الوجه الذي سبق في ص60، ومثله المفعول الثاني للفعل: "علم" بمعنى "عرف" والفعل "رأى" بمعنى: "أبصر" كلاهما يشبهه في هذا الحكم، فالمفعول الثاني للفعل "علم" و"رأى" بالمعنيين المذكورين "ذو ائتسا" بالمفعول الثاني للفعل: "كسا" أي: ذو محاكاة ومتابعة واقتداء به فيما سبق، ثم قال ابن مالك:
وكأرى السابق: نبا، أخبرا ... حدث، أنبأ، كذاك خبرا
أي: مثل الفعل: "أرى" السابق أول الباب، في نصب ثلاثة من المفاعيل بضعة أفعال أخرى، سرد منها في البيت خمسة، وإنما قال "أرى" السابق ليبتعد عن "أرى" الذي بعده وهو الذي ينصب مفعولين بعد دخول همز التعدية، وماضيه هو: رأى، بمعنى: نظر.
1 في ج 1 م 28 ص 363 -الطبعة الثالثة.
2 في "هـ" من ص 361.(2/62)
المسألة 65: الفاعل 1
تعريفه:
اسم، مرفوع، قبله فعل تام2، أو ما يشبهه 3، وهذا الاسم هو الذي فعل 4 الفعل، أو قام به 5.
__________
1 للنحاة فيه تعريفات كثيرة، راعوا في أكثرها جانب اللفظية المنطقية، ولا بأس بهذا؛ لولا أنهم بالغوا حتى انتهوا إلى إطالة مذمومة لا تناسب التعريف، أو اختصار معيب؛ يحوي الغموض والإبهام، وقد اخترنا من تعريفاتهم ما خلا من العيبين السالفين، ومال إلى الوضوح، واليسر، وإن اشتمل على بعض أجزاء يعدها المناطقة من أحكام الفاعل، لا من تعريفه؛ مثل: الرفع، ولكن هذا لا أهمية له قديمًا وحديثًا.
2 أي: ليس من الأفعال الناقصة -وهي النواسخ التي تحتاج إلى اسم وخبر، لا إلى فاعل؛ مثل: الفعل "كان" وأخواتها الفعلية- ويشترط في الفعل أيضًا أن يكون مبنيًا للمعلوم؛ لأن المبني للمجهول يحتاج إلى نائب فاعل في الأغلب، ولا يحتاج إلى فاعل، وإنما قلنا في "الأغلب" لتخرج الأفعال الملازمة للبناء للمجهول -فيما يقال- فإنها قد تحتاج لفاعل أحيانًا -وسيجيء البيان، والتفصيل في ص 108.
3 من كل ما يعمل عمل الفعل؛ كالمصدر، واسم الفاعل، والصفة المشبهة، وباقي المشتقات العاملة التي سبق الكلام عليها "في الباب الأول، هامش ص4، وغيره" وكاسم الفعل أيضًا، فالمصدر نحو عجبت من إتلاف المال محمد، واسم الفاعل؛ مثل: أصانع الثوب فتاة؟ والصفة المشبهة مثل: سحرنا الخطيب بكلام جميل أساليبه، قوي براهينه، وأفعل التفضيل؛ نحو: هذا الإكمال خلقه ... وهكذا، ما اسم المفعول فحكمه حكم المبني للمجهول، كلاهما يرفع نائب فاعل، "كما سيجيء"، ومثل الجامد المؤول بالمشتق؛ نحو: العدو نمر، أي: هو؛ لأنه بمعنى: غادر فهو جامد مؤول بالمشتق وفاعله ضمير مستتر فيه، وقد يكون ظاهرًا نحو: القائد، أسد هجماته، أي: القائد جريئة هجماته.
"وقد سبق بيان الجامد المؤول بالمشتق في ج 1ص 326 م33 باب المبتدأ ".
4 أو يفعله الآن، أو في المستقبل؛ ليشمل المضارع الذي يقع مدلوله الآن أو في المستقبل؛ ويشمل الأمر الذي يقع مدلوله في المستقبل؛ وكذا الفعل الذي قبله أداة تعليق؛ مثل: إن يحضر الغائب نستقبله، والفعل هنا قد يكون داخلًا في جملة إنشائية للمدح؛ مثل: نعم المحسن؛ لأن الفعل في بعض الجمل، ومنها الجمل الإنشائية التي للمدح، وفي التعريفات العلمية لا يدل على زمان -كما قرره المحققون، وأشرنا إليه هامش ج1 ص 31 م 4- ولا فرق بين أن يكون معنى الفعل موجبًا أو منفيا؛ نحو: انتصر الشجاع، ولم ينتصر الجبان.
5 يرد على البال السؤال عن الفرق المعنوي بين الفاعل الذي قام به الفعل، والمفعول به الذي وقع عليه الفعل؛ لأن المعنى اللغوي للعبارتين واحد، بحيث لو وضعت إحداهما مكان الأخرى ما تغير المعنى اللغوي ... =(2/63)
فمثال الاسم، صريحًا، أو مؤولًا: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} ، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 1، "شاع أن البغي وخيم العاقبة"، "اشتهر أن تنتقل العدوى من المريض للسليم".
ومثال ما يشبه الفعل: أواقف على الشجرة عصفورة - ما فرج أعداؤنا بوحدتنا وقوتنا، فكلمة: "عصفورة" فاعل للوصف؛ "وهو" واقف، اسم الفاعل" وكلمة: "أعداؤنا" فاعل للوصف: "فرح - الصفة المشبهة".
ومن أمثلة الفاعل الذي قام به الفعل أيضًا: اتسعت ميادين العمل في بلادنا، وتنوعت أسبابه؛ فلن يضيق الرزق بطالبيه ما داموا جادين.
__________
= إن الفرق اللفظي بين الفاعل والمفعول به معروف للنحاة؛ فالفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب، وهذا الفرق اللفظي يستتبع عندهم فرقا اصطلاحيًا في معنى كل جملة، يوضحه ما يأتي:
"تحرك الشجر"، كلمة: "الشجر" تعرب فاعلا نحويًا، لكن هذا الإعراب لا يوافق المعنى اللغوي الواقعي لكلمة: "فاعل"، وهو: "من أوجد الفعل حقيقة، وباشر بنفسه إبرازه في الوجود"؛ لأن الشجر لم يفعل شيئًا؛ إذ لا دخل له في إيجاد هذا التحرك، ولا في خلقه، وجعله حقيقة واقعة بعد أن لم تكن، فليس للشجر عمل إيجابي -مطلقا- في إحداث التحرك، وكل علاقته به أنه استجاب له، وتفاعل معه؛ فقامت الحركة به؛ وخالطته، ولابسته، من غير أن يكون له اختيار أو دخل في إيجادها، كما سبق، فأين الفاعل الحقيقي الذي أوجد التحرك من العدم، وكان السبب الحقيقي في إبرازه للوجود؟
ليس في الجملة ما يدل عليه، أو على شيء ينوب عنه، فإذا قلنا: حرك الهواء الشجر -تغير الأمر؛ فظهر الفاعل الحقيقي المنشئ للتحرك، وبان الموجد له، الذي أوقع أثره على المفعول به.
مثال آخر: تمزقت الورقة، تعرب كلمة: "الورقة" فاعلًا نحويًا، وهذا الإعراب لا يوافق ولا يساير المعنى اللغوي لكلمة؛ "فاعل"، ولا يوافق الأمر الواقع؛ لأن الورقة في الحقيقة لم تفعل شيئًا؛ فلم تمزق نفسها، ولا دخل لها في تمزقها، ولا تشترك فيه بعمل إيجابي يحدثه؛ ولكنها تأثرت به حين أصابها، فأين الفاعل الحقيقي -لا النحوي- الذي أوجد التمزق، وجعله حقيقة قائمة بالورق؟ لا وجود له في الجملة، ولا دليل يدل عليه أو على شيء ينوب عنه، لكن إذا قلنا: مزق الطفل الورقة -ظهر الفاعل الحقيقي، واتضح من أوجد الفعل بمعناه اللغوي الدقيق.
ومما سبق يتبين الفرق المعنوي بينهما، وأنه ينحصر في:
أ- أن الفاعل النحوي -على الوجه السالف- ليس هو الفاعل الحقيقي، وإنما هو المتأثر بالفعل، وليس في الجملة ما يدل على ذلك الفاعل الحقيقي، أو على شيء ينوب عنه.
ب- وأن المفعول به ليس فاعلًا نحويًا ولا حقيقيًا، وإنما هو المتأثر بالفعل، أيضًا، ولكن مع اشتمال جملته على الفاعل الحقيقي، أو ما ينوب عنه.
1 المراد بالاسم الصريح هنا: ما يشمل الضمير، كما في الآية.(2/64)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
يكون الفاعل مؤولًا إذا وقع مصدرًا منسبكًا من حرف مصدري وصلته. وحروف المصادر خمسة1، لكن الذي يصلح منها للسبك في باب الفاعل ثلاثة2؛ هي: "أن" - "أن" - "ما"، المصدرية بنوعيها، مثل: يسعدك أن تعمل الخير، ويسعدني أنك حريص عليه، "أي: يسعدك عمل الخير ويسعدني حرصك عليه" ... ومثل: ينفعك ما أخلصت في عملك - يسرني ما طالت ساعات الصفر، "أي: ينفعك إخلاصك في عملك -يسرني مدة 3 إطالة ساعات الصفو"، فلا يوجد المصدر المؤول إلا من اجتماع أمرين مذكورين - غالبًا 1 في الكلام، هما: حرف سابك وصلته، ولا يجوز حذف أحدهما إلا "أن" الناصبة للمضارع
__________
1 و 1 حروف المصادر وتسمى: "حروف السبك"، خمسة، وهي: "أن الناصبة للمضارع أن مشددة ومخففة - ما - كي - لو "، وقد سبق الكلام على معناها، وصلتها، وكل ما يتعلق بها في ج 1 - آخر باب: الموصول - ص 368 م 29 من هذا الكتاب، وزاد عليها بعضهم همزة التسوية؛ فإنها من أدوات السبك عندهم، وهي التي تقع بعد كلمة: "سواء" ويليها صلتها مشتملة على لفظة "أم" الخاصة بهما.
كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ... } فالهمزة تسبك - بغير سابك - مع الجملة بعدها بمصدر يعرب هنا فاعلًا. والتقدير: إن الذين كفروا سواء - بمعنى: متساو - إنذارك وعدمه عليهم، فهم يعربون كلمة: "سواء" خبر "إن" والمصدر المؤول - من غير سابك - فاعل لكلمة "سواء" التي هي بمعنى اسم الفاعل.
"وتفصيل الكلام على هذا في مكانه الخاص ج3 باب العطف عند بيان أحوال "أم"، ص 431 م 118 -وسبقت الإشارة له في ج 1 بآخر "باب الموصول" م 29، كما قلنا.
2 أما: "كي" المصدرية فلا تصلح للسبك في باب الفاعل؛ لأنها - في الغالب - تكون مسبوقة بلام الجر لفظًا، أو تقديرًا، فالمصدر المؤول منها ومن صلتها مجرور باللام؛ فلا يكون فاعلًا وكذلك: "لو" المصدرية؛ لأنها - في الغالب مسبوقة بجملة فعلية، فعلها "ود" أو "يود" - أو ما في معناهما، فالمصدر المنسبك منها ومن صلتها يعرب مفعولًا للفعل الذي قبلها ...
3 بشرط أن يكون المراد: أن مدة الإطالة هي التي تسر، وليست الإطالة نفسها؛ وإلا كانت "ما" مصدرية فقط.(2/65)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإنها قد تحذف وحدها وجوبا أو جوازا في مواضع معينة، وتبقى صلتها -كما سيجيء1- ومع حذفها في تلك المواضع تسبك مع صلتها الباقية مصدرا يعرب على حسب حالة الجملة، وقد حذفت سماعا في غير تلك المواضع، وبقيت صلتها أيضا، وهو حذف شاذ لا يصح القياس عليه، ومنه قولهم: وما راعني إلا يسير الركب، أي: إلا أن يسير الركب، والتقدير ... ما راعني إلا سير الركب، فالمصدر المؤول فاعل، ومثله: يفرحني يبرأ المريض، أي: أن يبرأ المريض والتقدير: يفرحني برء المريض، فالمصدر المنسبك فاعل، وهو نظير المسموع، وكلاهما لا يجوز القياس عليه، وإنما يذكر هنا لفهم المسموع الوارد في الكلام العربي القديم، دون محاكاته.
وقد دعاهم إلى تقدير "أن" حاجة الفعل الذي قبلها إلى فاعل، فيكون المصدر المنسبك منها ومن صلتها في محل رفع فاعلًا، ولولا هذا لكان الفاعل محذوفًا أو جملة: "يسير الركب - يبرأ المريض"، وكلاهما لا يرضى عنه النحاة، لمخالفته الأعم الأغلب.
وبهذه المناسبة نشير إلى أن الراجح الذي يلزمنا أتباعه اليوم يرفض أن تقع الجملة الفعلية أو الاسمية فاعلًا، وأما قوله تعالى في قصة يوسف: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّه} ، فالفاعل ضمير مستتر تقديره، "هو" عائد على المصدر المفهوم من الفعل، أي: بدا لهم بداء، أي: ظهور رأي، وهذا أحد المواضع التي يستتر فيها الضمير - كما سبق2.
وهناك رأي يجيز وقوعها فاعلًا مطلقًا، ورأى ثالث يجيز وقوعها فاعلًا بشرط أن تكون فعلية معلقة3 بفعل قلبي، وأداة التعليق الاستفهام؛ كقوله
__________
1 في الجزء الرابع، باب "إعراب الفعل" حيث الكلام على النواصب ثم الجوازم ...
2 جـ1 ص181 م20 عند الكلام على "مرجع الضمير".
3 شرحنا في الباب الأول: "ظن وأخواتها" التعليق وأدواته، ص27.(2/66)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} 1، والرأي الأول أكثر مسايرة للأصول اللغوية، وأعبد من التشتيت والتفريق، وأثارهما السيئة في الإبانة والتعبير، فالاقتصار عليه أولى.
نعم إن كانت الجملة مقصودًا لفظها وحكايتها بحروفها وضبطها جاز وقوعها فاعلًا؛ لأنها -بسبب قصد لفظها- تعتبر بمنزلة الفرد؛ كأن تسمع صوتًا يقول: "رأيت البشير"، فتقول: "سرني رأيت البشير"؛ فتكون الجملة كلها باعتبارها كتلة واحدة متماسكة، فاعلًا، مرفوعًا بضمة مقدرة على آخره، منع من ظهروها حركة الحكاية2.
__________
1 تفصيل الكلام على حالات: "كيف الإعرابية والبنائية" في جـ1 م39 ص509.
2 انظر رقم 3 من هامش ص119 حيث البيان الخاص بنوع الجملة التي تصلح نائب فاعل.(2/67)
المسألة 66: أحكام الفاعل
للفاعل أحكام تسعة، لا بد أن تتحقق فيه مجتمعة:
أولها: أن يكون مرفوعًا، كالأمثلة المتقدمة، ويجوز أن يكون الفاعل مجرورًا في لفظه، ولكنه في محل رفع، ومن أمثلته إضافة المصدر إلى فاعله؛ في نحو: يسرني إخراج الغني الزكاة؛ فكلمة: "الغني" مضاف إليه مجرور، وهي فاعل المصدر؛ إذ المصدر هنا يعمل عمل فعله1، "أخرج" فيرفع مثله فاعلًا، وينصب مفعولًا به، وأصل الكلام: يعجبني إخراج الغني الزكاة؛ ثم صار المصدر مضافًا، وصار فاعله مضافًا إليه مجرورًا في اللفظ، ولكنه مرفوع في المحل بحسب أصله2، كما قلنا؛ فيجوز في تابعه "كالنعت، أو غيره من التوابع الأربعة3"، أن يكون مجرورًا؛ مراعاة للفظه، أو مرفوعًا مراعاة للمحل، تقول: يعجبني إخراج الغني المقتدر الزكاة؛ برفع كلمة: "المقتدر" أو جرها.
ومن أمثلة ذلك أيضًا الفاعل المجرور بحروف جر زائد، ويغلب أن يكون حرف الجر الزائد هو: "من"، أو: "الباء"، أو: "اللام"، نحو: ما بقي من أنصار للظالمين -كفى4 بالحق ناصرًا ومعينًا- هيهات لتحقيق الأمل بغير الجهد الصادق. فكلمة: "أنصار" مجرورة في اللفظ بحرف الجر الزائد: "من"، ولكنها في محل رفع فاعل، وكلمة: "الحق" مجرورة بحرف الجر الزائد: "الباء" في محل رفع؛ لأنها "فاعل"، وكذلك: كلمة: "تحقيق" مجرورة بلام الزائدة في محل رفع؛ لأنها فاعل لاسم الفعل: "هيهات".
__________
1 في أول الجزء الثالث باب خاص بإعمال المصدر، وأحكامه المختلفة، وكذا اسم المصدر.
2 ومثل المصدر المضاف لفاعله اسم المصدر في نحو: يسرني عطاء الغني الفقير. فكلمة "عطاء" اسم مصدر الفعل: "أعطى" الذي مصدره: إعطاء، وقد أضيف اسم المصدر لفاعله، ونصب مفعوله، ففاعله مجرور اللفظ، مرفوع المحل.
3 في آخر الجزء الثالث باب مستقل لكل واحد منها.
4 فعل ماض، معناه: وفي وأغنى: "حصل به الاستغناء"....(2/68)
فالفاعل في الأمثلة الثلاثة وأشباهها مجرور اللفظ، مرفوع المحل؛ بحيث لو جاء بعده تابع "كالعطف، أو غيره من التوابع الأربعة" لجاز في تابعه الرفع والجر؛ كما أسلفنا- ففي المثال الأول نقول: ما بقي من أنصار وأعوان1 للظالمين؛ بالجر والرفع في كلمة: "أعوان" المعطوفة، وفي المثال الثاني نقول: كفى بالحق والأخلاق ... يجر كلمة: "الأخلاق" ورفعها، وفي الثالث هيهات لتحقيق الأمل والفوز ... بجر كلمة: "الفوز" ورفعها2.
ثانيها: أن يكون موجودًا -ظاهرًا، أو مستترًا- لأنه جزء أساسي 3 في
__________
1 إذا كان المعطوف معرفة والمعطوف عليه مجرورًا بمن الزائدة؛ مثل: ما بقي من أنصار والجنود ... ، وجب في المعطوف الرفع فقط - كما يقول النحاة - لأن "من" الزائدة لا تكون جارة زائدة - في الرأي الأغلب - إلا بشرطين - كما سيجيء في ص 462 - أن تكون مسبوقة بنفي أو شبهه، وأن يكون المجرور بها نكرة، ولما كان المعطوف في حكم المعطوف عليه، ويعد معمولًا مثله لحرف الجر الزائد: "من" وجب عندهم أن يكون نكرة كالمعطوف عليه، فإن لم يكن مثله لم يصح أن يكون معمولا للحرف "من" فلا يصح فيه الجر، ويجب فيه الاقتصار على الرفع، وكذا إن كان المعطوف عليه نكرة وأداة العطف: "لكن" أو: "بل"؛ لأن المعطوف بهما بعد النفي والنهي يكون مثبتًا؛ فلا يصح جره؛ لأنه بمنزلة المجرور بالحرف "من" والمجرور به لابد أن يكون نكرة منفية.
"راجع إيضاح الكلام على: "بل" و"لكن" في ج1 ص 443 م 43، وفي باب العطف جزء 3".
هذا تلخيص كلامهم، وهو مناقض لما يقولونه في مواضع مختلفة؛ من أنه يغتفر في الثواني "أي في التوابع وأشباهها" ما لا يغتفر في الأوائل -راجع البيان ص 338 م 81، وله إشارة 632- وبنوا على هذا أحكامًا كثيرة؛ فلا داعي هنا لخروجهم على ما قرره، وتشددهم وتضييقهم.
والرأي -عندي- تطبيق قاعدتهم السابقة على توابع الفاعل المجرور؛ فيجوز في توابعه الجر مطلقًا؛ مراعاة للفظ المجرور، والرفع مراعاة لمحله، وليس في هذا ضرر لفظي أو معنوي بل فيه تيسير، وتخفف، وتقليل للتفريغ.
2 وإلى ما سبق يشير ابن مالك بقوله:
الفاعل الذي كمرفوعي: أتى ... زيد منيرًا وجهه، نعم الفتى
وقد اكتفى في تعريف الفاعل بذكر أمثلة مستوفية للشروط هي: أتى زيد ... فكلمة "زيد" فاعل للفعل المتصرف: "أتى" وكلمة: "وجه" فاعل للوصف المشبه للفعل؛ وهو: "منير" اسم فاعل، و"الفتى" فاعل للفعل الجامد: "نعم"؛ فقد عدد الفاعل تبعًا لأنواع العامل.
3 الجزء الأساسي في الجملة، أو الأصيل، هو: الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أداء معناها الأصلي، ويسميه النحاة: عمدة، ومنه: المبتدأ - الخبر - الفاعل - كثير من أنواع الفعل ...(2/69)
جملته؛ لا بد منه، ولا تستغني الجمة عنه لتكملة معناه الأصيل مع عامله؛ ولهذا لا يصح حذفه.
ويستثنى من هذا الحكم أربعة أشياء1 كل منها يحتاج للفاعل، ولكنه قد يحذف -وجوبًا، أو جوازًا- لداع يقتضي الحذف؛ وهي:
أ- أن يكون عامله مبينًا للمجهول؛ نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، ومثل: إن القوي يخاف بأسه. وأصل الكلام: كتب الله عليكم الصيام إن القوي يخاف الناس بأسه ... ثم بني الفعل للمجهول، فحذف الفاعل وجوبًا: وحل مكانه نائب له.
ب- أن يكون الفاعل واو جماعة أو ياء مخاطبة، وفعله مؤكد بنون التوكيد؛ كالذي في خطبة أحد القواد ...
" أيها الأبطال، لتهزمن أعداءكم، ولترفعن راية بلادكم خفاقة بين رايات الأمم الحرة العظيمة ... فأبشري يا بلادي "فوالله لستمعن أخبار النصر المؤزر2، ولتفرحن بما كتب الله لك من عزة، وقوة، وارتقاء".
"وأصل الكلام: تهزمونن - ترفعونن - تسمعينن - تفرحينن - حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، ثم حذفت وجوبًا واو الجامعة وياء المخاطبة، لالتقاء الساكنين"3.
جـ- أن يكون عامله مصدرًا؛ مثل: إكرام الوالد4 مطلوب، والحذف هنا جائز.
__________
1 زاد عليها بعض النحاة، ولكن الزيادة لم تثبت على التمحيص، ولم يرض عنها المحققون "راجع الخضري ج 1، والصبان ج2 أول باب الفاعل عند الكلام على مواضع حذفه" بل إنهم لم يرضوا عن هذه الأربعة، وقالوا هناك: إن الحذف فيها ظاهري فقط، وليس بحقيقي، ولهم أدلتهم المقبولة القوية، وإن كنا قد وقفنا وسطًا.
2 البالغ الشديد.
3 الكلام على هذا الحذف من نواحيه المختلفة مدون بالجزء الأول ص 2 المسألة السادسة، أما التفصيل الأكمل ففي ج 4 ص 129 م 143، بابي: نون التوكيد، ثم الإعلال والإبدال.
4 يرى بعض النحاة: أن المصدر جامد، فلا يتحمل ضميرًا مستترًا فاعلًًا، إن حذف فاعله الظاهر، إلا أن كان نائبًا من عامله المحذوف فيتحمل ضميره "راجع ص 221"، ويرى بعض آخر أنه جامد مؤول بمشتق فهو محتمل للضمير، ففاعله مستتر فيه "راجع: رقم 2 ص 113 ورقم 2 من هامش ص 221".(2/70)
د- أن يحذف جوازًا مع عامله لداع بلاغي، بشرط وجود دليل يدل عليهما مثل: من قابلت؟ فتقول: صديقًا1، أي: قابلت صديقًا.
وفي بعض الأساليب القديمة التي نحاكيها اليوم ما قد يوهم أن الفاعل محذوف في غير المواضع السالفة، لكن الحقيقة أنه ليس بمحذوف، ومن الأمثلة لهذا: أن يتكلم اثنان في مسألة، يختلفان في تقديرها، والحكم عليها، ثم ينتهي بهما الكلام إلى أن يقول أحدهما لصاحبه: إن كان لا يناسبك فافعل ما تشاء، ففاعل الفعل المضارع: "يناسب" ليس محذوفًا، ولكنه ضمير مستتر تقديره: "هو" يعود إلى شيء مفهوم من المقام، أي: إن كان لا يناسبك رأيي، أو نصحي، أو الحال الذي أنت فيه2.
ومنها: أن يعلن أحدهما رأيه بقوة وتشدد؛ فيقول أحد السامعين: ظهر -أو: تبين- أو: تكشف ... يريد: ظهر الحق.... أو تبين الحق ... أو: تكشف الحق.
وقصارى القول: لا بد -في أكثر3 الحالات- من وجود الفاعل اسمًا ظاهرًا، أو ضميرًا مستترًا أو بارزًا، وقد يحذف أحيانًا؛ كما في تلك المسائل الأربعة. وحذفه في المسألتين الأوليين واجب، أما في الأخيرتين فجائز.
__________
1 ليس من اللازم في هذه الصورة، وأشباهها من كل اسم مذكور وحده -أن يعرب مفعولًا به بل يصح إعرابه شيئًا آخر يناسب الغرض والمقام؛ كأن يكون مبتدأ خبره محذوف، أو العكس ... أو ... أو ... أو ... أو ...
2 سبق الكلام على هذا الوضع عند الكلام على مرجع الضمير ج1 ص 230 م19.
3 انظر ص 72.(2/71)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
هناك أفعال لا تحتاج إلى فاعل مذكور أو محذوف؛ منها: "كان"1 الزائدة؛ مثل: المال - كان - عماد للمشروعات العمرانية.
ومنها الفعل التالي لفعل آخر؛ ليؤكده توكيدًا لفظيًا؛ مثل: "اقترب - اقترب - القطار"؛ "فتهيأ - تهيأ - له"، فالفعل الثاني منهما مؤكد للأول توكيدًا لفظيًا، فلا يحتاج لفاعل2 مع وجود الفاعل السابق.
ومنها أفعال اتصلت بآخرها: "ما" الكافة: "أي: التي تكف غيرها عن العمل، وتمنع ما اتصلت به أن يؤثر في معمول" مثل: طالما - كثر ما - قلما، نحو: "طالما أوفيت بوعدك، وكثر ما حمدت لك الوفاء، وقلما3 يخلف النبيل وعده"، ويعرب كل واحد فعلًا ماضيًا مكفوفًا عن العمل "أي: ممنوعًا" بسبب وجود "ما" التي كفته، وقد يقال في الإعراب: طالما - أو كثر ما - أو: قلما - "كافة ومكفوفة" بمعنى: أن كل كلمة من الاثنتين كفت الأخرى، ومنعتها من العمل، فهي كافة لغيرها، ومكفوفة بغيرها.
وهناك رأي أفضل؛ يعرب الفعل ماضيًا، ويعرب "ما" مصدرية، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها في محل رفع فاعل الفعل الماضي؛ فالتقدير: طال إيفاؤك بوعدك - وكثر حمدي لك الوفاء - وقل إخلاف النبيل وعده، وإنما كان هذا الرأي أفضل؛ لأنه يوافق الأصل العام الذي يقضي بأن يكون لكل فعل أصلي فاعل؛ فلا داعي لإخراج هذه الأفعال من نطاق ذلك الأصل4.
هذا ويقول اللغويون: إن تلك الأفعال - هي - في الرأي الأحسن الجدير بالاتباع - لا يليها إلا جملة فعلية؛ كالأمثلة السابقة.
__________
1 تفصيل الكلام على زيادتها، وفائدتها وإعرابها ... في ج 1 ص 428 المسألة: 44.
2 ولا لشيء آخر من المعمولات "طبقا للبيان التفصيلي الآتي في باب التوكيد"، ج 3 - م 116 ص 510.
3 نستعمل: "قلما" في أغلب الأساليب لإثبات الشيء القليل؛ كهذا المثال المذكور بعد، وقد تستعمل في بعض الأساليب للنفي المحض؛ فتكون حرفا نافيًا -لا فعلًا- مثل: "ما" النافية، و"لا" النافية نحو: قلما يسلم السفيه من المكاره. أي: ما يسلم ... ولا بد في استعمالها حرف نفي من وجود قرينة تدل على هذا والأحسن ترك هذا الاستعمال القليل -بالرغم من جوازه- قراره من اللبس.
4 ولأن العلة التي يذكرونها لكف الفعل في مثل: "قلما" وعدم احتياجه للفاعل -وهي كما جاء في المعنى -شبهه في معناه للحرف: "رب" علة واهية.
وعلى اعتبار "ما" كافة، يجب وصلها بالفعل الذي قبلها في الكتابة؛ فتشبك بآخره، أما على اعتبارها مصدرية فيجب فصلها في الكتابة.(2/72)
ثالثها: وجوب تأخيره عن عامله، كالأمثلة السالفة، وقد يوجد في بعض الأساليب الفصحى ما يوهم أن الفاعل متقدم، والواقع أنه ليس بفاعل في الرأي الأرجح؛ ففي مثل: "الخير زاد"، لا نعرب كلمة: "الخير" فاعلًا مقدمًا، وإنما هي مبتدأ، وفاعل الفعل بعده ضمير مستتر تقديره: "هو" يعود على الخير، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، وفي مثل: إن ملهوف استعان بك فعاونه، تعرب كلمة: "ملهوف" فاعلًا1 بفعل محذوف يفسره الفعل بعدها؛ والتقدير: إن استعان بك ملهوف -استعان بك- فعاونه، ومثله: إن أحد استغاث بك فأغثه ...
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} ، فالفاعل لا يكون متقدمًا، ما الاسم التقدم على الفعل في تلك الأمثلة وأشباهها فقد يعرب حينًا، مبتدأ، وفاعل الفعل الذي بعده ضمير مستتر يعود على ذلك الاسم، وقد يعرب في حالات أخرى فاعلًا لفعل محذوف يفسره المذكور بعده2، أو غير هذا من الأوجه الإعرابية الصحيحة التي تبعده عن أن يكون فاعلًا متقدمًا.
رابعها: الشائع أن يتجرد عامله "فعلًا كان، أو شبه فعل" من علامة في آخره تدل على التثنية، أو على الجمع حين يكون الفاعل اسمًا ظاهرًا مثنى أو جمعًا، نحو: طلع النيران -أقبل المهنئون- برعت الفتيات في الحرف المنزلية، فلا
__________
1 بيان السبب في ص 144.
2 هذا رأي فريق كبير من النحاة، وخاصة البصريين ويرى غيرهم -ولا سيما الكوفيين- جواز تقدم الفاعل على عامله، وهم يعربون الاسم الظاهر المرفوع من الأمثلة المذكورة فاعلًا.
وبالرغم من الميل للتيسير وتقليل الأقسام يبدو رأي البصريين هنا أقرب مسايرة للأًصول اللغوية؛ ذلك أن مهمة "المبتدأ" البلاغية تختلف عن مهمة "الفاعل"، فلا معنى للخلط بينهما، وإزالة الفوارق التي لها آثارها في المعنى -كما سيجيء إيضاحه مفصلًا في مكانه المناسب ص 144 من باب "الاشتغال".
وفي الحكم الثاني والثالث يقول ابن مالك:
وبعد فعل فاعل، فإن ظهر ... فهو، وإلا فضمير استتر
أي: أن الفعل لا بد له -في الأغلب- من فاعل بعده، فإن ظهر فهو المطلوب، ولا استتار ولا حذف، وإلا فهو ضمير مستتر ... أو محذوف إن كان الموضع موضع حذفه.(2/73)
يصح في الأمثلة السابقة وأشباهها -طبقًا، للرأي الشائع- أن يتصل بآخر الفعل ألف تثنية، ولا واو جماعة، ولا نون نسوة؛ فلا يقال: طلعًا النيران -أقبلوا المهنئون- برعن الفتيات1 ... إلا على لغة تزيد هذه العلامات مع وجود الفاعل الظاهر بعدها، وهي لغة فصيحة2، ولكنها لم تبلغ من درجة الشيوع والجري على ألسنة الفصحاء ما بلغته الأولى التي يحسن الاكتفاء بها اليوم، والاقتصار عليها؛ إيثارًا للأشهر -وتوحيدًا للبيان- مع صحة الأخرى.
ومثل الفعل في الحكم السابق ما يشبهه في العمل، فلا يقال في اللغة الشائعة: هل المتكلمان غريبان؟ هل المتكلمون غريبون، بإعراب كلمتي: "غريبان" و"غريبون" فاعلًا للوصف، ويجوز على اللغة الأخرى3.
__________
1 لا يقال هذا ولو كانت التثنية والجمع من طريق التفريق والعطف بالواو؛ مثل: طلعا الشمس والقمر ... حضروا محمود، وصالح؛ وحامد ... تعلمن فاطمة، ومية وبثينة ...
2 لأن الوارد المسموع بها كثير في ذاته، وإن كان قليلًا بالنسبة للوارد من اللغة الأخرى، ولا معنى لما يتكلفه بعض النحاة من تأويل ذلك الوارد المشتمل على علامة التثنة، أو الجمع مع وجود الفاعل الظاهر بعد تلك العلامة؛ قاصدًا بالتأويل إدخال تلك الأمثلة تحت حكم آخر لا يمنع اجتماع الضمير مع ذلك الاسم المرفوع في جملة فعلية واحدة؛ فهذا خطأ منهم؛ إذ المقرر أن القلة النسبية لا تمنع، القياس، وأنه لا يصح إخضاع لغة قبلية للغة أخرى ما دامت كلتاهما عربية صحيحة.
ويستدل الذين يجيزون الجمع من الأمرين بأمثلة كثيرة: منها قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ... وقوله تعالى: {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بإعراب كلمة: "الذين" وكلمة "كثير" هي "الفاعل" والواو حرف محض وللدلالة على الجمع، وعليها قول الشاعر:
جاد بالأوال حتى ... حسبوه الناس حمقا
وقول الآخر:
لو يرزقون الناس حسب عقولهم ... ألفيت أكثر من ترى يتكفف
ولا داعي عندهم لإعراب الواو فاعلًا، مع إعراب الاسم الظاهر بدلًا، أو غيره من ضروب التأويل التي منها إعراب الاسم الظاهر مبتدأ متأخرًا، وتكون الجملة الفعلية قبله خبرًا متقدمًا ...
ومن البديه أن محاكاة القرآن في ألفاظه المفردة والمركبة محكاة دقيقة أمر سائغ بل مطلوب، فإذا حاكيناه في مثل الآيتين السابقتين -وغيرهما- كانت المحاكاة الدقيقة صحيحة قطعًا، ولا يجرؤ أحد أن يصف التركب بالخطأ، ومن شاء بعد ذلك أن يؤول تعبيراتنا بمثل ما أول من الآيتين فليفعل، فليس يعنينا إلا صحة التركيب المساير للقرآن وسلامته من الخطأ، سواء أكانت صحته وليدة التأويل أم غيره، فالمهم الصحة لأنوع التعليل.
3 لعل الأخذ باللغة الأخرى التي تزيد هذه الحروف في آخر الفعل -أحسن في حالة الوصف؛ =(2/74)
خامسها: أن عامله قد يكون مضمرًا "أي: محذوف اللفظ" جوازًا أو وجوبًا:
أ- فيكون العامل مضمرًا "أي: محذوف لفظه" جوازًا إذا وقع جواب استفهام ظاهر الأداة، تشتمل جملته على نظير العامل المحذوف، نحو: من انتصر؟ فتجيب: الشجاع، أي: انتصر الشجاع ... ونحو: أحضر اليوم أحد؟ فتجيب: الضيف، أي: حضر الضيف ...
أو يكون في جواب استفهام ضمني مفهوم من السياق من غير تصريح بأدائه ودلالته؛ نحو: ظهر المصلح فاشتد الفرح به ... ؛ العلماء - القادة - الجنود - أي: فرح العلماء - فرح القادة - فرح الجنود فكان سائلًا سألك من فرح به؟ فكان الجواب: العلماء ... و؛ فالاستفهام غير صريح، ولكنه مفهوم من مضمون الكلام، ومثل: ازدحم الطريق؛ الأولاد، السيارات، الدراجات ... أي: زحمه الأولاد، زحمته السيارات ... زحمته الدراجات فليس في الكلام استفهام صريح، وإنما فيه استفهام ضمني، أو مقدر يفهم من السياق؛ فكأن أصل الكلام: من زحمه؟ فأجيب: الأولاد، أي: زحمه الأولاد، ومثل: العيد بهجة مأمولة، وفرحة مشتركة: الكبار، الأطفال، الرجال، النساء ... ففي الكلام سؤال ضمني أو مقدر؛ هو: من يشترك فيها؟ فأجيب: الكبار.. و. أي: يشترك فيه الكبار. .. و..، ومثل: لم يدخل الحزن قلبك لموت فلان، فتقول: بل أعظم الحزن. فكأن أصل الكلام: هذا أصحيح؟ فأجبت أعظم الحزن، أي بل دخله أعظم الحزن ...
__________
= لأنه أيسر وأوضح -كما سبق أن قلنا في باب المبتدأ والخبر عند الكلام على الوصف- ج 1 ص 330 م 34، وفي الحكم الرابع يقول ابن مالك:
وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين، أو جمع كفاز الشهدا
وقد يقال: سعيدا وسعدوا ... والفعل للظاهر بعيد مسند
يقول: لا تلحق بآخر الفعل الذي فاعله اسم ظاهر -مثنى أو جمع- علامة تثنية أو جمع، وساق مثالًا لذلك: "فاز الشهداء" فالفاعل جمع تكسير للرجال، وفعله مجرد من علامة جمع الرجال؛ فلم يقل: فازوا الشهداء، ثم عاد فقال: إنه قد يصح في بعض اللغات زيادة علامة التثنية والجمع على اعتبارها مجرد علامة حرفية، وليست ضميرًا فاعلًا؛ لأن الفاعل اسم ظاهر مذكور بعدها، والفعل قلبه؛ فنقول: سعدا الرجلان، وسعدوا الرجال.(2/75)
وهكذا1.
ب- ويكون العامل مضمرًا وجوبًا إذا وقع مفسرًا بما بعد فاعله من فعل آخر "أو ما يشبهه" يعمل في ضمير يعود على الفاعل الظاهر السابق، أو: في اسم مضاف إلى ضمر2 يعود على ذلك الفاعل؛ نحو: إن ضعيف استنصرك فانصره - إن صديق حضر والده فأحسن استقباله، فالفعل: "استنصر" و"حضر" هو المفسر للفعل المحذوف، وأصل الكلام: إن استنصرك ضعيف استنصرك، وفاعل الفعل المفسر ضمير مستتر تقديره: "هو" يعود على فاعل الفعل المحذوف. وكذلك فاعل الفعل: "حضر" فإنه مفسر لفعل محذوف، والتقدير: إن لابس صديق؛ حضر والده فأحسن استقباله3، فالضمير في كلمة: "والده" مضاف إليه، والمضاف هو كلمة: "الوالد" المعمولة للفعل المفسر: "حضر" وفي هذين المثالين وأشباههما لا يجوز الجمع بين المفسر والمفسر؛ لأن المفسر هنا يدل على الأول، ويغني عنه؛ فهو كالعوض، ولا يجوز الجمع بين العوض والمعوض عنه4.
سادسها: أن يتصل بعامله علامة تأنيث تدل على تأنيثه "أي: على تأنيث الفاعل حين يكون مؤنثًا، هو، أو نائبه"5، وزيادتها على الوجه الآتي:
__________
1 يجوز في الأسماء التي أعريناها فاعلًا لفعل محذوف إعرابات أخرى لغير ما نحن فيه.
2 هذا الاسم المضاف يسمى: "الملابس للفاعل، أي: الذي يجمعه به صلة أي صلة؛ كقرابة، أو صداقة، أو عمل، أو تملك ...
3 سيجيء في باب: "الاشتغال" تفصيل المسألة، وتوضيحها، وسبب اختيارهم هذا الإعراب -ص 140 م69 و 145 وما بعدهما.
4 وفي الحكم الخامس يقول ابن مالك:
ويرفع الفاعل فعل أضمرا ... كمثل: زيد، في جواب: من قرا؟
يريد أن الفاعل قد يكون مرفوعًا بفعل مضمر، "أي: غير مذكور مع فاعله"، وضرب لهذا مثالًا هو: أن يسأل سائل: من قرأ؟ فيجاب: زيد: أي: قرأ زيد. واكتفى بهذا عن سرد التفصيل الخاص بهذا الحكم وقد ذكرناه.
5 وكذلك تدل على تأنيث اسم الناسخ إن كان العالم من النواسخ، وتمتنع التاء، في مواضع سنذكر في "هـ" من ص 84.(2/76)
أ- إن كان العامل فعلًا ماضيًا لحقت آخره تاء التأنيث الساكنة1، مثل قول شوقي في سكينة بنت الحسين بن علي: رضي الله عنهما:
كانت سكينة تملأ الدنيا ... وتهزأ بالرواة
روت الحديث، وفسرت ... آي الكتاب البينات
ب- إن كان العامل مضارعًا فاعله المؤنث اسم ظاهر، للمفردة، أو لمثناها أو جمعها، لحقت أوله تاء متحركة: مثل: تتعلم عائشة، تتعلم العائشتان -تتعلم العائشات، وكذلك إن كان فاعله ضميرًا متصلًا للغائية المفردة أو لمثناها2، مثل: عائشة تتعلم3- العائشتان تتعلمان، ومثل قولهم: عجبت للباغي كيف تهدأ نفسه، وتنام عيناه، وهو يعلم أن عين الله لا تنام؟ وكالمضارع تملأ" و"تهزأ" في البيت السالف.
فإن كان فاعله ضميرًا متصلًا لجمع الغائبات "أي: نون النسوة"، فالأحسن - وليس بالواجب4- تصديره بالياء، لا بالتاء؛ استغناء بنون النسوة في آخره؛ نحو: الوالدات يبذلن الطاقة في حماية الأولاد، ويسهرن الليالي في رعايتهم. ويصح: تبذلن، تسهرن ... ولكن الياء أحسن -كما تقدم.
ج- إن كان العامل وصفًا5 لحقت آخره تاء التأنيث المربوطة6؛ مثل:
__________
1 وفي هذا يقول ابن مالك:
وتاء تأنيث تلي الماضي إذا ... كان لأنثى؛ كأبت هند الأذى
والفاعل في مثاله مؤنث حقيقي، وقد يكون مؤنثًا - مجازيًا؛ "كالعين؛ والطلول" في قول الشاعر:
وتلفتت عيني؛ فمذ خفيت ... عني الطلول، تلفت القلب
ومن الأمثلة أيضًا قول الشاعر - وفيه الفاعل مؤنث لفظي مجازي:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
2 أما تاء المخاطبة للمفردة، ومثناها، وجمعها؛ فليست تاء تأنيث؛ وإنما هي للدلالة على الخطاب لا على التأنيث؛ نحو: أنت يا زميلتي لا تعرفين العبث - أنتما يا زميلتي لا تعرفان العبث- أنتن يا زميلاتي لا تعرفن العبث.
3 الضمير المستتر نوع من المتصف -كما سبق في ج 1 م 18 ص 198 باب الضمير.
4 كما سبق تفصيل هذا في باب الفعل "ج1 م4 رقم 2 من هامش ص 46 عند الكلام على: المضارع وكذا في "ج" ص 181 م14 عند الكلام على الأفعال الخمسة.
5 أي: اسمًا مشتقًا.
6 انظر "ج" من ص 84 حيث التكملة.(2/77)
أساهرة والدة الطفل؟.
وحكم زيادة تاء التأنيث عام ينطبق على المواضع الثلاثة السالفة " أ - ب - ج " غير أن زيادتها قد تكون واجبة، وقد تكون جائزة، فتجب في حالتين.
الحالة الأولى: أن يكون الفاعل اسمًا ظاهرًا، حقيقي التأنيث1، متصلًا
__________
1 المؤنث أنواع اصطلاحية، فمنه: "المؤنث الحقيقي" وهو الذي يلد ويتناسل. وقد يكون تناسله من طريق البيض والتفريخ؛ كالطيور.
ومنه: " المؤنث المجازي"، وهو الذي لا يلد ولا يتناسل، ولكنه يجري في أغلب استعمالاته اللفظية على حكم المؤنث الحقيقي فيؤنث له الفعل أحيانًا، وكذلك الصفة والخبر، ومن أمثلته: شمس، أرض، سماء ...
ومن الأنواع: "المؤنث اللفظي" وهو الذي يشتمل لفظه على علامة تأنيث؛ سواء أكان مؤنثًا حقيقي، أم مجازيًا، أم دالًا على مذكر، فمن أمثلة المؤنث اللفظي والحقيقي معًا: عائشة - فاطمة - ليلى - سعدى - نجلاء، ومن أمثلة المؤنث اللفظي والمجازي معًا: ورقة، صحيفة، صحراء، ومن أمثلة المؤنث اللفظي ومعناه مذكر: طلحة، معاوية ...
وهناك نوع من المؤنث يسمونه "المؤنث المعنوي" فقط هو: ما كان دالًا على مؤنث مطلقًا، مع خلو لفظه من علامة تأنيث.
ونوع آخر يسمونه: "المؤنث تأويلًا"؛ كالكتاب، مرادًا به: الصحيفة: وكاللسان، مرادًا به الرسالة.
ونوع آخر؛ يقال له: "المؤنث حكمًا" وهو المذكر المضاف لمؤنث؛ نحو كلمة: "كل" في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} ، ونحو كلمة: "صدر" في قول الشاعر: "وتحطمت صدرا لفتاة على العدا" فكلمة: "كل" مذكرة، وكذا كلمة: "صدر"، ولكنهما في المثالين مؤنثتين؛ فقد اكتسبتا التأنيث من المضاف إليه وأنث الفعل لتأنيثهما، وهذا النوع وكذا المؤنث تأويلًا مع جواز استعماله وصحة محاكاته يقتضينا أن نقتصد في استعماله، منعًا للشبهة اللغوية: وحيرة السامع والقارئ، فإن خيف اللبس باستعماله وجب العدول عنه، نزولًا على الصالح اللغوي.
وليس من اللازم أن توجد لأمة لفظية للتأنيث في المؤنث الحقيقي، أو المجازي: فقد توجد كبعض الأمثلة السابقة: أو لا توجد مثل: زينب، سعاد، مي ... ومثل: عين، أذن، يد ...
" وفي الجزء الرابع -ص 437 م169- الباب الشامل الخاص بالتأنيث، وأقسامه المتعددة، وعلاماته، وأحكامه المختلفة".
وقد أشار ابن مالك إلى حالتي الوجوب بقوله:
وإنما تلزم فعل مضمر ... متصل أو مفهم ذات حر
يريد: أن علامة التأنيث تكون لازمة في الفعل فاعله ضمير متصل مستتر، أو بارز - يعود على مؤنث مطلقًا، وكذلك في الفعل الذي فاعله اسم ظاهر متصل به ما يفهم، ويدل على مؤنثة حقيقية ...(2/78)
بعامله مباشرة1، غير مراد منه الجنس، وغير جمع2 وما يجري مجراه كقولهم: سعدت امرأة عرفت ربها حق المعرفة؛ فأطاعته: وشقيت امرأة لم تراقبه في السر والعلن، ويلاحظ التفصيل الآتي:
1- إن كان الفاعل اسمًا ظاهرًا مؤنثًا حقيقيًا، ولكنه مفصول من عامله بفاصل جاز تأنيث العامل وعدم تأنيثه3؛ نحو: نسق الزهر مهندسة بارعة، أو نسقت ... ومثل: ما صاح إلا طفلة صغيرة، أو: صاحت، وعدم التأنيث هو الأفصح حين يكون الفاصل كلمة: "إلا" 4 والأفصح مع غيرها التأنيث5.
__________
1 لزم التأنيث في هذه الحالة باق إذا عطف على الفاعل مذكر؛ نحو: قامت عائشة ومحمد، كما يلزم التذكير في عكسه؛ مثل: قام محمد وعائشة، أما قولهم يغلب المذكر على المؤنث عند الاجتماع فخاص بنحو: عائشة ومحمد قائمان.
"راجع الصبان" وانظر ما يتصل بهذا في رقم 4 من هامش ص 83.
2 بأن يكون مفرد، أو مثنى؛ لأن للمجموع حكمًا سيجيء هنا.
3 سواء أكان الفاصل ضميرًا كالذي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ... أم غير ضمير كالأمثلة التي ستجيء.
4 أو: غير، أو سوى ... مع ملاحظة أن كلمة: "غير" أو: "سوى" هي التي تعرب فاعلًا، ولكنها مضافة إلى المؤنث.
5 وفي هذا يقول ابن مالك:
وقد يبيح الفصل ترك التاء في ... نحو: أتى القاضي بنت الواقف
يريد: أن الفصل بين الفعل وفاعله الظاهر المؤنث الحقيقي الذي وصفناه -يبيح تجريد الفعل من علامة التأنيث، وضرب لذلك مثلًا هو: أتى - القاضي - بنت الواقف، ويصح أتت القاضي، ولولا الفصل لوجب تأنيث الفعل، ثم قال:
والحذف مع فضل بإلا فضلا ... كما زكا إلا فتاء ابن العلا
وفي رأي ابن مالك أن عدم التأنيث مفضل على التأنيث حين يكون الفاصل كلمة: "إلا" مثل: ما زكا إلا فتاة ابن العلا؛ ما صلحت إلا فتاة الرجل المعروف بابن العلا، ثم قال:
والحذف قد يأتي بلا فصل ومع ... ضمير ذي المجاز في شعر وقع
أي: أن العامل الذي فاعله مؤنث ظاهر حقيقي قد يتجرد من علامة التأنيث مع عدم وجود فاصل؛ نحو: قال فتاة، وكذلك قد تحذف علامة التأنيث من العامل الذي فاعله ضمير متصل -مستتر، أو بارز- يعود على مؤنث مجازي "ذي مجاز، أي: صاحب مجاز" نحو الأرض اهتز بالأمس اهتزازًا شديدًا، ثم انشق بعد ذلك وهذا الحذف شاذ لا يصح محاكاته، ولا القياس عليه.(2/79)
2- وكذلك يصح الأمران إن كان الفاعل ظاهرًا، ومؤنثًا حقيقيًا غير مفصول، ولكن لا يراد به فرد معين، وإنما يراد به الجنس كله ممثلًا في الفاعل: فكأن الفاعل رمز لجنس معناه، أو مرادٌ به ذلك الجنس كله، ومنه "الفاعل" الذي فعله: "نعم" أو"بئس" أو أخواتهما1، فيجوز إثبات علامة التأنيث في العامل وحذفها: نحو: نعم الأم، ترعى أولادها، وتشرف على شئون بيتها ... فكلمة "الأم" هنا لا يراد بها واحدة معينة، وإنما يرمز بها إلى جنس الأم من غير تحديد ولا تخصيص، وهذا على اعتبار "أل" جنسية2؛ فيجوز أن يقال: نعم الأم، ونعمت الأم3.
3- وكذلك إن كان الفاعل ظاهرًا ولكنه جمع تكسير للإناث، أو الذكور فيصح تأنيث العامل، وعدم تأنيثه؛ نحو: عرفت الفواطم طريق السداد، واتبعت الهنود سبل الرشاد، ويصح: عرف ... واتبع ... ؛ فالتأنيث على قصد تأويل الفاعل بالجماعة، أو الفئة، وعدم التأنيث على قصد تأويله بالجمع أو الفريق؛ فكأنك في الحالة الأولى تقول: عرفت جماعة الفواطم طريق السداد، واتبعت جماعة الهنود سبل الرشاد، وكأن: في الحالة الثانية تقول: عرف جميع الفواطم 4 ... واتبع جمع الهنود 4 ... فالتأنيث ملاحظ فيه معنى "الجماعة"، والتذكير ملاحظز فيه معنى " الجمع"، وكأن العامل مسند إلى هذه أو تلك؛ ويجري التأنيث أو التذكير على أحد الاعتبارين.
ومثل قولهم؛ إذا دعا البدوي استجاب سكان الحي لدعوته؛ فأسرع الرجال
__________
1 في الجزء الثالث باب خاص بهما، وبألفاظ المدح والذم الأخرى.
2 وليست للعهد، ومقتضى ذلك -كما قالوا، ونصوا على أنه لا بعد فيه- جواز الأمرين في مؤنث قصد به الجنس؛ نحو: صار المرأة متعلمة كالرجل. ومثل هذا: ما قام من امرأة؛ فيصح زيادة تاء التأنيث وعدم زيادتها؛ لأن "من" أفادت الجنسية، بخلاف ما قامت امرأة؛ لكون المراد بها الفرد، وإنما جاء العموم من النفي ...
3 ليس من اللازم في هذه الصورة أن يكون الفاعل ظاهرًا، فقد يكون ضميرًا مفسرًا بنكرة بعده، نحو: نعم فتاة عائشة؟
4-4 وإنما صح حذف التاء من الفعل مع أن فاعله اسم ظاهر حقيقي التأنيث؛ لأن تأويله بمعنى " الجمع" جعله بمنزلة المذكر مجازًا؛ فأزال المجازي الطارئ ما كان يلاحظ لأجل التأنيث الحقيقي كما أزال التذكير الحقيقي في "رجال " في الصورة التالية.(2/80)
إليه، وبادر الفتيان لنجدته ... ويجوز: استجابت - أسرعت - بادرت؛ فيجري التأنيث أو التذكير هنا - كما في سابقتها - على أحد الاعتبارين.
ويجري على اسم الجمع1 واسم الجنس الجمعي2 المعرب3، ما يجري على جمع التكسير؛ نحو: قالت طائفة لا تسالموا العدو، ونحو: شربت البقر ... ويجوز: "قال، وشرب"4 ...
4- وإن كان الفاعل الظاهر جمع مؤنث ساملًا - مستوفيا للشروط 5- فحكمه كحكم مفرده؛ فيجب تأنيث عامله - في الرأي الأقوى- كقولهم: بلغت الأعرابيات في قوة البيان وبلاغة القول مبلغ الرجال، وكانت الشاعرات تجيد
__________
1 هو ما يدل على ما يدل عليه الجمع، ولكن ليس له مفرد من لفظه، مثل: قوم - رهط - طائفة، أو: هو ما يدل على أكثر من اثنين، وليس له مفرد من لفظه ومعناه معًا، وليست صيغته على وزن خاص بالتكسير، أو غالب فيه - فيدخل فيه اسم الجمع ماله مفرد من معناه فقط، مثل: إبل وقوم، وجماعة؛ فلهذه الكلمات - وأشباهها - مفرد من معناها فقط، فمفرد إبل هو: جمل أو ناقة: ومفرد قوم وجماعة هو: رجل أو امرأة، وليس لها مفرد من لفظها ومعناها معًا، وبرغم دلالتها على أكثر من اثنين، وسنعيد هذا البيان مفصلًا في ج 4 باب "جمع التكسير"، م 174 ص 625 وباب "التأنيث" م169 - حيث الكلام في: "ج" على تذكير أسماء الجمع وتأنيثها ... و ... لمناسبة تقتضيه هناك.
2 سبق تعريفه وكل ما يتصل به في ج 1 م 1 ص 20، وانظر حكم مفرده في: "أ" ص 84.
3 بخلاف المبني مثل "اللذين" في رأي من يعتبرها اسم جنس جميعًا "وانظر" "أ" في ص 84 حيث تتمة الحكم الخاص بعامل اسم الجنس الجمعي.
4 وفي جمع التكسير وفي فاعل "نعم" وأخواتها، "وهي التي سبق الكلام عليها قبل جمع التكسير -ص 81" يقول ابن مالك:
والتاء مع جمع سوى السالم من ... مذكر كالتاء مع إحدى اللبن
أي: تاء التأنيث التي تزاد في العامل على تأنيث الفاعل - حكمها من ناحية وجودها أو الاستغناء عنها، كحكمها في العامل الذي يكون فاعله هو كلمة: "اللبن" "بمعنى: الطوب الذي لم يطبخ بالنار ولم يدخلها" حيث يقال: تكاثر اللبن، أو تكاثرت اللبن؛ بزيادة تاء التأنيث أو بحذفها؛ فكذلك الشأن في كل جمع سوى جمع المذكر السالم المستوفي للشروط -وجمع المؤنث السالم المستوفي أيضًا- فلم يبق جمع سواهما إلا جمع التكسير، فكأنه يريد أن يقول: إذا كان الفاعل جمع تكسير جاز في عامله التأنيث؛ نحو: قام الرجال، وقامت الرجال، على نحو ما شرحناه، ثم قال:
والحذف في "نعم الفتاة" استحسنوا ... لأن قصد الجنس فيه بين
5 سبقت شروطه في جـ1 ص100 المسألة 12.(2/81)
القريض كالشعراء، وربما سبقت شاعرة كثيرًا من الفحول ...
فإن لم يكن مستوفيًا للشروط جاز الأمران؛ نحو: أعلنت الطلحات السفر، أو أعلن ... "جمع: طلحة، اسم رجل"، وكقول بعض المؤرخين: "لما تمت "أذرعات" 1 نباء وعمرانًا هيأ واليها طعامًا للفقراء، ونظر فإذا جمع من النساء مقبل؛ فقال: الحمد لله، أقبل أولات الفضل من عملن بأنفسهن، وساعدن بأولادهن؛ ابتغاء مرضاة الله " فيصح في الفعلين: "تم ... " "أقبل ... " زيادة تاء التأنيث في آخرهما، أو عدم زيادتها.
وبديه أن الفاعل إذا كان جمع مذكر سالمًا مستوفيًا للشروط، لا يجوز -في الرأي الأصح- تأنيث عامله وإنما يحكم له بحكم مفرده، كقولهم: "أسرع المحاربون إلى لقاء العدو، فرحين، ولم يتزحزح الواقفون في الصفوف الأمامية، ولم يتقهقر الواقفون في الصفوف الخلفية؛ حتى كتب الله لهم النصر، وفاز المخلصون بما يبتغون".
فإن كان غير مستوف للشروط2 جاز الأمران على الاعتبارين السالفين - "معنى الجمع أو معنى الجماعة" نحو: أظهر أولو العلم في السنوات الأخيرة عجائب؛ لم يشهد الأرضون مثلها من بدء الخليقة، وشاهد العالمون من آثار العبقرية ما جعلهم يرفعون العلم والعلماء إلى أعلى الدرجات؛ فيصح في الأفعال المذكورة عدم إلحاق علامة التأنيث بها كما هنا، أو زيادتها فيقال: أظهرت - تشهد - شاهدت ...
5 وإن كان الفاعل الظاهر مؤنثًا غير حقيقي "وهو: المؤنث المجازي" صح تأنيث عامله وعدم تأنيثه؛ نحو: امتلأت الحديقة بالأزهار -تمتلئ الحديقة بالأزهار، ويصح: امتلأ، ويمتلئ.
6- هناك صور للفاعل المؤنث الحقيقي لا يصح أن يؤنث فيها عامله، منها: أن يكون الفعل هو التاء التي للمفردة؛ مثل: كتبت - أو لمثناها؛ نحو كتبتما،
__________
1 اسم بلد بالشام.
2 ومن هذا أن يدخل على صيغة المفرد عند الجمع تغيير -أي تغيير- في عدد الحروف، أو في ضبطها.(2/82)
أو التي معها نون النسوة؛ مثل كتبتن1 ... أو يكون الفاعل هو: "نا" التي لجماعة المتكلمات؛ نحو: كتبنا، أو نون النسوة، نحو: كتبن.
ومنها: أن يكون الفاعل المؤنث الحقيقي مجرورًا في اللفظ بالباء التي هي حرف جر زائد، وفعله هو: كلمة؛ "كفى" مثل: "كفى بهند شاعرة"2.
الحالة الثانية3: أن يكون الفاعل ضميرًا متصلًا عائدَا على مؤنث مجازي، أو حقيقي؟ كقولهم: بلادك أحسنت إليك طفلًا، وأفاءت عليك الخبر يافعًا؛ فمن حقها أن تسترد جزاءها منك شابًا وكهلًا، وكقولهم: الأم المتعلمة تحسن رعاية أبنائها؛ فترفع شأن بلادها4، ففاعل الأفعال "وهي: أحسن - أفاء - تسترد" ضمير مستتر تقديره: "هي" يعود على مؤنث مجازي، وأما فاعل الفعلين: "تحسن - ترفع ... "، فضمير مستتر تقدير: "هي" يعود على مؤنث حقيقي ...
فإن كان الفاعل ضميرًا بارزًا منفصلًا كان الأفصح الشائع في الأساليب العالية عدم تأنيث عامله: نحو: " ما فاز إلا أنت يا فتاة الحي" - "الفتاة ما فاز إلا هي" - "إنما فاز أنت - إنما فاز هي"، ووأشباه هذه الصور مما يقال عند إرادة الحصر، ومع أن التأنيث جائز فإن الفصحاء يفرون منه.
__________
1 طريقة إعراب هذا الضمير ونظائره موضحة تفصيلًا في موضعها الأنسب وهو "كيفية إعراب الضمير" ج 1 م 19 ص 213.
2 نص النحاة على أن يكون الفعل هو: "كفى" الذي يكون فاعله مجرورًا بحرف الباء الزائدة، ويفهم من هذا أن غيره من الأفعال التي فاعلها مجرور بحرف جر زائد - قد يتصل بها علامة تدل على تأنيث ذلك الفاعل، بل إنهم ذكروا أمثلة للتأنيث بمناسبة عارضة في باب النائب عن الفاعل، ومن تلك الأمثلة قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} ... وقوله تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} وقوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} .
3 سبقت الأولى من حالتي التأنيث في ص 87.
4 ملاحظة: التأنيث في صور الحالة الثانية واجب ولو عطف على الفاعل مذكر؛ نحو: البنت قامت - هي - والوالد؛ كوجوبه في نحو: قامت البنت والوالد- كما يلزم التذكير في عكسه؛ نحو: الوالد قام هو والبنت؛ كوجوبه في نحو: قام الوالد والبنت، أما قولهم: "يغلب المذكر على المؤنث عند الاجتماع فخاص بنحو: البنت والوالد قائمان، الوالد "ولهذا إشارة موضحة سبقت في رقم 1 من هامش ص 79.(2/83)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- اسم الجنس الجمعي الذي يفرق بينه وبين واحدة بالتاء المربوطة - إذا وقع مفرده هذا فاعلًا وجب تأنيث عامله مطلقًا؛ "أي: سواء أكان من الممكن تمييز مذكره من مؤنثه: كبقرة وشاة، أم لم يمكن؛ كنملة ودودة"؛ فيقال: سارت بقرة - أكلت شاة - دأبت نملة على العمل - ماتت دودة.
أم اسم الجنس المفرد الخالي من التاء الذي لا يمكن تمييز مذكره من مؤنثه فيجب تذكير عامله، ولو أريد به مؤنث؛ مثل: صاح هدهد - غرد بلبل، ... فإن أمكن تمييز مذكره من مؤنثه روعي في تأنيث العامل، وعدم تأنيثه ما يدل عليه التمييز، فالمعمول عليه في تأنيث عامل اسم الجنس المفرد الخالي من التاء، أو عدم تأنيثه - هو مراعاة اللفظ عند عدم التمييز.
ب - إذا كان الفاعل جمعًا يجوز في عامله التذكير والتأنيث "كجمع التكسير"، فإن الضمير العائد على ذلك الفاعل يجوز فيه أيضًا التذكير والتأنيث؛ نحو: قامت الرجال كلهم -أو قام الرجال كلها، والأحسن لدى البلغاء موافقة الضمير للعامل في التذكير وعدمه؛ نحو: قامت الرجال كلها، أو قام الرجال كلهم، ونحو: حضرت الأبطال كلها، أو: حضر الأبطال كلهم، وذلك ليسير الكلام على نسق متماثل.
ج- كما تلحق تاء التأنيث الفعل في المواضع السابقة تلحق أيضًا الوصف - كما سبق1- إلا إذا كان الوصف مما يغلب عليه ألا تلحقه التاء في بعض حالاته، مثل: "فعول" بمعنى: "فاعل"؛ كصبور، وجحود ... ومثل: "فعيل" بمعنى: مفعول؛ كطريح وطريد، بمعنى: مطروح، ومطرود2، ومثل: "أفعل التفضيل"3 في بعض صوره، وكذلك لا تلحق آخر اسم الفعل4، كهيهات. ولا العامل
__________
1 في "جـ" من ص77.
2 بيان هذا وتفصيله في الباب الخص بالتأنيث جـ4 م169 ص437.
3 له باب مستقل في جـ3 م112 ص322.
4 له باب مستقل في جـ4 م141 ص108.(2/84)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كانت شبه جملة على الرأي الذي يجعل شبه الجملة رافعًا فاعلًا بشروط اشترطها، وهو رأي يحسن إغفاله اليوم.
د- إذا قصد لفظ كلمة ما؛ "اسمًا كانت، أو فعلًا، أو حرفًا" جاز اعتبارها مذكرة على نية: "لفظ" أو مؤنثة على نية: "كلمة"، وكذلك حروف الهجاء في الرأي الأشهر؛ تقول في كلمة سمعتها مثل: "هواء" أعجبني الهواء، أو: أعجبتني الهواء، فالأولى على إرادة: أعجبني لفظ: "الهواء" والثانية على إرادة: أعجبتني كلمة: "الهواء"، وتقول في إعراب: "أعجب" إنه فعل ماض، أو إنها فعل ماض.
وتقول "أل" هو: حرف يفيد التعريف أحيانًا: أو: هي حرف تفيد التعريف أحيانًا، وهكذا.
وتنظر للحروف الهجائي "الميم" مثلًا فتقول: إنه جميل المنظر، أو إنها جميلة المنظر ...
وعلى حسب التذكير أو التأنيث في كل ما سبق، ونظائره - يذكر أو يؤنث العامل والضمائر وغيرها من كل ما يتصل بالمطابقة.
هـ- الأحكام الخاصة بالتذكير والتأنيث المترتبين على وقوع الفاعل مفردا مؤنثًا، تطبق أيضًا حين وقوعه مثنى مؤنثًا، فيجري على عامل الفاعل المؤنث المثنى، وعلى الضمائر العادة عليه من التذكير والتأنيث، ما يجري عليهما مع الفاعل المفرد المؤنث -كما يفهم مما سبق- كما سبق حكم العامل مع الفاعل المجموع1.
__________
1 في ص80.(2/85)
سابعها: أن يتقدم - أحيانًا - على المفعول به؛ كالأمثلة السابقة، وكقول الشاعر:
وإذا أراد الله امرًا لم تجد ... لقضائه ردًّا ولا تحويلًا
ولهذا التقدم أحوال ثلاث؛ فقد يكون واجبًا، وقد يكون ممنوعًا، وقد يكون جائزًا.
أ- فيجب الترتيب بتقديم الفاعل وتأخير مفعوله في مواضع، أشهرها:
1- خوف اللبس الذي لا يمكن معه تمييز الفاعل من المفعول به؛ كأن يكون كل منهما اسمًا مقصورًا؛ نحو: ساعد عيسى يحيى، أو مضافًا لياء المتكلم؛ نحو: كرم صديقي أبي1، فلو تقدم المفعول به على الفاعل لخفيت حقيقة كل منهما، وفسد المراد بسبب خفائها؛ لعدم وجود قرينة تزيل هذا الغموض2، واللبس. فإن وجدت قرينة لفظية أو معنوية تزيله لم يكن الترتيب واجبًا، فمثال اللفظية: أكرمت يحيى سعدى، فوجود تاء التأنيث في الفعل دليل على أن الفاعل هو المؤنث "سعدى"، ومثل: كلم فتاه يحيى؛ لأن عودة الضمير على "يحيى" دليل على أنه الفاعل، وأنه متقدم في الرتبة3، برغم تأخره في اللفظ، "ولهذا يسمى المتقدم حكمًا، ولم يكن معولًا به لكيلا يعود الضمير على شيء متأخر في اللفظ والرتبة؛ وهذا
أمر لا يساير الأساليب الصحيحة التي تقضي بأن الضمير لا بد أن يعود على متقدم في الرتبة، إلا في بعض مواضع 4 معينة، ليس منها هذا الموضع.
ومثال المعنوية: أتعبت نعمى الحمى، فالمعنى يقتضي أن تكون "الحمى" هي الفاعل؛ لأنها هي التي تتعب "نعمى"، لا العكس.
__________
1 يقع اللبس في صور كثيرة؛ فيشمل كل الأسماء التي يقدر على آخرها الإعراب، كالمقصور، وكالمضاف إلى ياء المتكلم، وكالأسماء التي تعرب إعرابًا محليًا، ومنها "المبنيات"ح كأسماء الإشارة، وأسماء الموصول ...
2 لا التفات لما يقال من أن مخالفة الترتيب جائزة مع اللبس، فهذا كلام لا يساير الأصول اللغوية العامة، ولا يوافق القصد من التفاهم الصريح بالكلام.
3 بيان الرتبة والدرجة ملخص في رقم 1 من هامش ص 88.
4 سبقت في باب الضمير ج 1 ص 184 م 10.(2/86)
2- أن يكون الفاعل ضميرًا متصلًا والمفعول به اسمًا ظاهرًا؛ نحو: أتقنت العمل، وأحكمت أمره، ولا مانع في مثل هذه الصورة من تقدم المفعول به على الفعل والفاعل معًا؛ لأن الممنوع أن يتقدم على الفاعل وحده؛ فيتوسط بينه وبين الفعل.
3- أن يكون كل منهما ضميرًا متصلًا ولا حصر1 في أحدهما؛ نحو عاونتك كما عاونتني.
4- أن يكون المفعول به قد وقع عليه الحصر، "والغالب أن تكون أداة الحصر هي: "إنما" أو"إلا" المسبوقة بالنفي"، نحو: إنما يفيد الدواء المريض، أو: ما أفاد الدواء إلا المريض.
وقد يجوز تقديم المفعول به على فاعله إذا كان المفعول محصورا بإلا المسبوقة بالنفي، بشرط أن تتقدم معه "إلا"؛ نحو: ما أفاد -إلا المريض- الدواء2.
ومع جواز هذا التقديم لا يميل أهل المقدرة البلاغية إلى اصطناعه؛ لمخالفته الشائع بن كبار الأدباء.
ب- ويبج إهمال الترتيب: وتقديم المفعول به على الفاعل فيما يأتي:
1- أن يكون الفاعل مشتملًا على ضمير يعود على ذلك المفعول به؛ نحو: صان الثوب لابسه -قرأ الكتاب صاحبه3 ... ففي الفاعل "وهو: لابس- صاحب" ضمير يعود على المفعول به السابق4، فلو تأخر المفعول به لعاد ذلك
__________
1 سبق في الجزء الأول -ص 346 م 37- الإشارة إلى معنى الحصر "القصر" والغرض منه.
2 لما كان المحصور بإلا هو الواقع بعدها مباشرة كان تقدمه معها لا لبس فيه؛ لأن وجودها قبله مباشرة يدل على أنه المحصور بغير غموض، أما المحصور "بإنما" فإنه المتأخر عنها، الذي لا يليها مباشرة، فإذا تقدم ضاع -في بعض الحالات، الغرض البلاغي من الحصر، ولا قرينة في الجملة تدل على التقديم وموضعه، فيقع اللبس الذي يفسد الغرض.
3 ومثل الشطر الثاني من قول الشاعر:
حديث ذوي الألباب أهوى وأشتهي ... كما يشتهي الماء المبرد شاربه
4 يتساوى في هذا الحكم اتصال الضمير بالفاعل مباشرة، كالمثالين المذكورين -واتصاله بشيء ملازم للفاعل، لا يمكن أن يستغني عنه الفاعل، كصلة الموصول إذا كان الفاعل -أو نائبه- اسم موصول كالذي في قول الشاعر:
سمرت فأدركت العلاء وإنما ... يلقى عليات العلا من سما لها
ففي الصلة: "سمالها" ضمير يعود على المفعول به، "وهو: عليات"، فوجب تقدم المفعول لهذا.(2/87)
الضمير على متأخر لفظًا ورتبة1؛ وهو مرفوض في هذا الموضع، أما عوده على المتأخر لفظًا دون رتبة -وهو المسمى بالمتقدم حكمًا- فجائز، ومن أمثلته: عود الضمير من مفعول به متقدم على فاعله المتأخر؛ نحو؛ حملت ثمارها الشجرة - فالضمير "ها" في المفعول عائد على "الشجرة" التي هي الفاعل المتأخر في اللفظ، دون الرتبة؛ لأن ترتيب الفاعل في تكون الجملة العربية يسبق المفعول به. ونحو: أفادت صاحبها الرياضة - أروى حقله الزارع ...
أما عودة الضمير على المتأخر لفظًا ورتبة فكما عرفنا - ممنوعة إلا في بعض مواضع محددة، وقد وردت أمثلة قديمة عاد الضمير فيها على متأخر لفظًا ورتبة في غير تلك المواضع؛ فحكم عليها بالشذوذ وبعدم صحة محاكاتها، إلا في الضرورة الشعرية، بشرط وضوح المعنى، وتمييز الفاعل من المفعول به؛ فمن الخطأ أن تقول: أطاع ولدها الأم - أرضى ابنه أباه.
2- أن يكون الفاعل قد وقع عليه الحصر "بأداة يغلب أن تكون إلا" المسبوقة بالنفي، أو"إنما" نحو: لا ينفع المرء إلا العمل الحميد - إنما ينفع المرء العمل الحميد، وقد يجوز تقديم المحصور "بإلا" على مفعوله إذا هي تقدمت معه وسبقته؛ نحو: لا ينفع إلا العمل الحميد المرء ...
"ملاحظة": ستأتي2 مواضع يجب أن يتقدم فيها المفعول به على عامله، فيكون متقدمًا على فاعله تبعًا لذلك.
__________
1 شرحنا "في باب الضمير ج 1 ص 182" معنى التقدم في اللفظ مع التقدم في الرتبة، ومعنى التقدم في اللفظ دون الرتبة، وملخصه: أن بناء الجملة العربية قائم على ترتيب يجب مراعاته بين كلماتها؛ فتتقدم واحدة على الأخرى وجوبًا أو جوازًا؛ فإن كان تقدم اللفظ واجبًا بحسب الأصل الغالب عليه سمي تقدمًا في الرتبة، أو في الدرجة، فالأصل في المبتدأ وجوب تقدمه على الخبر، والأصل في الفعل وجوب تقدمه على فاعله ومفعوله: والأصل في الفاعل أن يتقدم على المفعول ... فإذا تحقق هذا الأصل ووضع كل لفظ ي مكانه وفي درجته قيل: إنه متقدم في اللفظ وفي الرتبة؛ كالمبتدأ حين يتقدم على خبره، وكالفاعل حين يتقدم على مفعوله، فإذا تأخر المبتدأ عن خبره، أو الفاعل عن مفعوله، لم يفقد درجته؛ ولم تزل عن رتبته، برغم تأخره اللفظي؛ فيقال عنه: إنه متأخر لفظًا لا رتبة.
وهناك مواضع يجوز فيها عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة شرحناها -كما قلنا- في مكانها الأنسب لها، وهو باب الضمير ج 1 ص 234 م 20 برغم أن بعض المطولات النحوية تذكرها في آخر باب الفاعل لمناسبة طارئة.
2 في الصفحة التالية.(2/88)
جـ- في غير ما سبق "في: أ، ب" يجوز الترتيب وعدمه، ومن أمثلة تقديم الفاعل على المفعول جوازًا1 قول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
ومن أمثلة تقديم المفعول به -جوازًا- على فاعله وحده: الجهل لا يلد الضياء ظلامه ... ، والشطر الأول من قول الشاعر:
أبت لي حمل الضيم نفس أبية ... وقلب إذا سيم الأذى شب وقده2
ويفهم من الأقسام السالفة أن المواضع التي يتقدم فيها الفاعل وجوبًا -هي عينها المواضع التي يتأخر فيها المفعول به وجوبًا، فيمتنع تقديمه على فاعله، والعكس صحيح كذلك؛ فالمواضع التي يتقدم فيها المفعول به على فاعله وجوبًا هي عينها المواضع التي يتأخر فيها الفاعل وجوبًا، ويمتنع تقديمه عليه، حيث لا وجوب في التقديم أو التأخير يجوز الأمران، ولا يمتنع تقديم هذا أو ذاك.
بقيت مسألة الترتيب بينهما وبين عاملهما، وملخص القول فيها: أن الفاعل لا يجوز تقديمه على عامله -كما سبق3 وأن المفعول به يجب تقديمه على عامله في صور4، ويمتنع في أخرى؛ ويجوز في غيرهما.
أ- فيجب تقديمه:
1- إن كان اسمًا له الصدارة في جملته؛ كأن يكون اسم استفهام، أو اسم شرط؛ نحو؛ من قابلت؟ أي نبيل تكرم أكرم ... وكذلك إن كان مضافًا لاسم له الصدارة؛ نحو: صديق من قابلت؟ - صاحب أي نبيل تكرم أكرم ...
__________
1 إلا إذا أوجب الوزن الشعري أحدهما.
2 ناره، ومن أمثلة التقديم الجائز قول الشاعر:
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن حسن الجسوم عقول
3 في ص 73.
4 وفي هذه الصور يكون متقدمًا على فاعله أيضًا -كما أشرنا؛ إذ لا يمكن أن يتقدم على عامله دون أن يتقدم على فاعله.(2/89)
2- كذلك يجب تقديمه إن كان ضميرًا مفصلًا لو تأخر عن عامله لوجب اتصاله1 به؛ كقولهم: "أيها الأحرار: إياكم نخاطب، وإياكم ترقب البلاد ... "، فلو تأخر المفعول به: "إيا" لا تصل بالفعل، وصار الكلام: نخاطبكم ... ترقبكم ... ؛ فيضيع الغرض البلاغي من التقديم "وهو: الحصر".
3- وكذلك يجب تقدميه إذا كان عامله مقرونًا بفاء الجزاء2 في جواب "أما" الشرطية الظاهرة أو المقدرة، ولا اسم يفصل بين هذا العامل وأما، فيجب تقديم المفعول به ليكون فاصلًا؛ لأن الفعل -وخاصة المقرون بفاء الجزاء- لا يلي "أما" الشرطية3، ومن الأمثلة قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} ، وقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 4 بخلاف: أما اليوم فساعد نفسك، حيث لا يجب تقديم المفعول به، لوجود الفاصل؛ وهو هنا: الظرف5.
ب- ويمتنع تقديم المفعول به على عامله في الصور الآتية6: وقد سبقت الإشارة لبعضها.
1- جمع الصور التي يمتنع فيها تقدمه على فاعله، وقد سبقت 7؛ "ومنها أن يكون تقدمه موقعًا في لبس، نحو: ساعد يحيى عيسى، فلو تقدم المفعول به -من غير قرينة- لالتبس بالمبتدأ، ومهمة المبتدأ المعنوية تخالف مهمة الفاعل.
__________
1 وذلك في غير باب: "سلنيه" و"خلتنيه" حيث يجوز الاتصال والانفصال مع تأخر المفعول عن عامله؛ "كما تقدم في ج 1 ص 172 باب الضمير. م 20".
2 في هذا الموضع يصح أن يعمل ما بعد فاء الجزاء فيما قبلها.
3 كما سيجيء في ص 139.
4 هذا الموضع يعبر عنه بعض النحاة بأنه ما يكون العامل فيه جوابًا للأداة " أما" الشرطية المقدرة، ويعبر عنه بعض آخر بما يكون العامل فيه أمر مقرونًا بالفاء، والمعمول به منصوبًا بفعل الأمر، ولم يشترط وجود "أما" المقدرة، فعند الإعراب قد يلاحظ وجودها، فتكون الفاء في الأمثلة السابقة داخلة على جوابها، أولا يلاحظ وجودها فتكون الفاء زائدة، والمفعول المتقدم معمولًا لفعل الأمر المتأخر عنه، وهذا الإعراب أيسر وأوضح لخلوه من التقدير، "ثم انظر الأمر الثالث ص 139".
5 ترده ص 139.
6 مع ملاحظة ما هو مذكور منها في الزيادة، ص 93.
7 في ص 86.(2/90)
وكذلك بقية الصور الأخرى، ما عدا الثانية؛ فيجوز فيها الأمران.
2- أنه يكون مفعولًا لفعل التعجب "أفعل" في مثل: ما أعجب قدرة الله التي خلقت هذا الكون.
3- أن يكون محصورًا بأداة حصر، هي: "إلا" المسبوقة بالنفي، أو "إنما" نحو: لا يقول الشريف إلا الصدق - إنما يقول الشريف الصدق.
4- أن يكون مصدرًا مؤولًا من "أن المشددة أو المخففة" مع معموليها؛ نحو: عرف الناس أن الكواكب تفوق الحصر، وأيقن العلماء أن بعض منها قريب الشبه بالأرض، إلا أن كانت "أن" مع معموليها مسبوقة بأداة الشرط: "أما"؛ نحو: أما أنك فاضل فعرفت؛ لأن "أما" لا تدخل إلا على الاسم.
5- أن يكون واقعًا في صلة حرف مصدري1 ينصب الفعل "وهو: أن - كي" في نحو: "سرني أن تقرن القول الحسن بالعمل الأحسن؛ لكي يرفع الناس قدرك"، فإن كان واقعًا في صلة حرف مصدري غير ناصب جاز -في رأي- تقديمه على عامله، لا على الحرف المصدري؛ نحو: أبتهج ما الكبير احترم الصغير، والأصل: ابتهج ما احترم الصغير الكبير، وامتنع -في رأي آخر 2 تقديمه على عامله، وهذا الرأي أقوى وأنسب في غير صلة " ما" المصدرية 3.
6- أن يكون مفعولًا لعامل مجزوم بحرف جزم يجزم فعلًا واحدًا 4، فيجوز تقدمه على عامله وعلى الجازم معًا، ولا يجوز تقدمه على العامل دون الجازم؛ تقول: وعدًا لم أخلف، وإساءة لم أفعل، ولا يصح: لم وعدًا أخلف، ولم إساة أفعل.
7- أن يكون مفعولًا به لفعل منصوب بالحرف: "لن"، فلا يجوز أن يتقدم
__________
1 بيان الحروف المصدرية، وتفصيل الكلام على أحكامها مدون في ج 1 ص 294 م 29.
2 لهذا بيان في ج 1 م 29.
3 راجع " الصبان" في هذا الموضع، ثم "التصريح" في باب "الحال"، عند الكلام على تأخر الحال عن عاملها وجوبًا.
4 فخرج حرف الشرط الذي يجزم فعلين مثل: إن، فلا يجوز التقدم عليه.(2/91)
على عامله فقط، وإنما يجوز أن يتقدم عليه، وعلى "لن" معًا، نحو، ظلمًا لن أحاول، وعدوانًا لن أبدأ1.
وفي غير مواضع التقديم الواجب، والتأخير الواجب2، يجوز الأمران.
__________
1 وقد عرض ابن مالك عرضًا سريعًا موجزًا لأحوال الترتيب السابقة، واكتفى فيها بالإشارة المختصرة التي لا توفي الموضوع حقه من الإيضاح، والتفصيل النافعين، قال:
والأصل في الفاعل أن يتصلا ... والأصل في المفعول أن ينفصلا
وقد يجاء بخلاف الأصل ... وقد يجي المفعول قبل الفعل
يريد: أن الأصل في تكوين الجملة العربية، وترتيب كلماتها، يقتضي اتصال الفاعل بعامله، وانفصال المفعول عن ذلك العامل بسبب وقوع الفاعل فاصلًا بينهما؛ إذ مرتبة الفاعل مقدمة على مرتبة المفعول به، ومراعاة هذه المرتبة تجعل الفاعل هو الذي يلي العامل، وتجعل المفعول به مفصولا منه بالفاعل، ثم بين أن هذا الأصل لا يراعى أحيانا، فيتقدم المفعول به على الفاعل، ويفصله عن فعله وعامله، وانتقل بعد ذلك إلى حالتين من الحالات التي يجب فيها تأخير المفعول به، وهما حالة خوف اللبس، وحالة الفاعل الضمير، غير المحصور، الواجب اتصاله بعامله، فقال فيهما:
وأخر المفعول إن لبس حذر ... أو أضمر الفاعل غير منحصر
وأوضح بعد ذلك أن المحصور "بإلا" أو"إنما" يجب تأخيره؛ فاعلًا كان أو مفعولًا به، وأنه يجوز تقديمه.
ولم يذكر النوع الذي يصح تقديمه، ولا شرطه، مكتفيًا بأن يقول: إن تقديم المنحصر يصح إذا ظهر المقصود، ولم يخف المعنى، أو يتأثر بالتقديم، وفي هذا يقول:
وما بإلا أو بإنما انحصر ... أخر، وقد يسبق إن قصد ظهر
وختم كلامه بأن بين أن عود الضمير من المفعول به المتقدم على فاعله المتأخر شائع في أفصح الأساليب لا عيب فيه؛ لأنه عائد على متأخر في اللفظ متقدم في الرتبة، وهذا كثير سائغ، كما قلنا: وساق مثالًا لذلك هو: خاف ربه عمر. أما عود الضمير من الفاعل المتقدم على مفعوله المتأخر فوصفه بأن شاذ، لا يصح القياس عليه: ومثل له بنحو: زان نوره الشجر، فيقول:
وشاع نحو: "خاف ربه عمر" ... وشذ نحو: "زان نوره الشجر"
وكلامه مجمل، بل مبتور.
2 ومن مواضع التأخير الواجب ما يأتي في الزيارة -ص 93.(2/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
هناك مواضع أخرى لا يجوز فيها تقدم المفعول به على عامله، منها1: أن يكون مفعولصا به لفعل مؤكد بالنون، نحو: حاربن هواك.
أو مفعولًا به لفعل مسبوق بلام الابتداء؛ وليس قبلها "إن"؛ ففي مثل: لينصر2 الشريف أهل الحق ... لا يصح أن يقال: أهل الحق لينصر الشريف، ويصح أن يقال: إن الشريف أهل الحق لينصر.
أو يكون فعله مسبوقًا بلام القسم؛ نحو: والله لفي غد أقضى حق الأهل.
أو مسبوقًا بالحرف: "قد" نحو: قد يدرك المتأني غايته؛ أو: "سوف"؛ نحو: سوف أعمل الخير جهدي.
أو مسبوقًا باللفظ: "قلما"؛ نحو: قلما أخرت زيارة واجبة.
أو: "ربما"، نحو: ربما أهلكت البعوضة الفيل.
__________
1 راجع المواضع التالية في الصبان، وكذا الهمع جـ1 ص166.
2 على اعتبار هذه اللام للابتداء.(2/93)
ثامنها: عدم تعدده؛ فلا يصح أن يكون للفعل وشبهه إلا فاعل واحد، أما مثل: تصافح علي وأمين، ومثل تسابق حليم، ومحمود، وسليم، و ... فإن الفاعل هو الأول، وما بعده معطوف عليه، ولا يصح في الاصطلاح النحوي إعراب ما بعده فاعلًا، برغم أن أثر الفعل ومعناه متساو بين الأول وغيره1.
تاسعها: إغناؤه عن الخبر حين يكون المبتدأ وصفًا مستوفيًا الشروط 2؛ مثل: أمتقن الصانعان؟
__________
1 يقول النحاة: إن مجموع المعطوف والمعطوف عليه في المثالين السابقين، وأشباههما هو الفاعل الذي أسند إليه الفعل؛ فلا تعدد إلا في أجزائه، لكن هذا المجموع من حيث هو مجموع لا يقبل الإعراب، فجعل الإعراب في أجزائه.
2 للوصف المستغني بفاعله عن الخبر أحكام وتفصيلات سبق بيانها في بابها المناسب لها "باب المبتدأ والخبر ج 1 ص 322 م 33".(2/94)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
مسألة أخيرة: عرض بعض1 النحاة لما سماه: "الاشتباه بين الفاعل والمفعول به"، وصعوبة التمييز بينهما في بعض الأساليب، وأن ذلك يكثر حين يكون أحدهما اسمًا ناقصًا "أي: محتاجًا لتكملة بعده تبين معناه؛ كاسم الموصول، و"ما الموصوفة" والآخر اسمًا تامًا؛ أي: لا يحتاج للتكملة، وضرب لذلك مثلًا؛ هو: "أعجب الرجل ما كره الأخ"، فما الفعل في الجملة السابقة؟ أهو كلمة: "الرجل"، أم كلمة: "ما" التي بعده؟ وما "المفعول به" في الحالتين؟
وقد وضع ضابطًا مستقلًا لإزالة الاشتباه؛ ملخصه:
أ- أن نفرض الاسم التام هو الفاعل؛ فضع مكانه ضميرًا مرفوعًا للمتكلم، ونفرض الاسم الناقص هو المفعول به؛ ونضع مكانه اسمًا ظاهرًا، منصوبًا، أي اسم، بشرط أن يكون من جنسه2؛ "حيوانًا مثله إن كان المراد من الاسم الناقص حيوانًا، وغير حيوان إن كان الناقص كذلك، فإن استقام المعنى مع هذا الفرض فالضبط الأول صحيح، على اعتبار أن الاسم التام هو الفاعل، وأن الناقص هو المفعول به، وإن لم يستقم المعنى لم يصح الضبط السابق، نقول في المثال السالف أعجبت الثوب، فالتاء ضمير للفاعل المتكلم، جاءت بدلًا من الاسم التام "الرجل" وكلمة: "الثوب" جاءت بدلًا من الاسم الناقص: "ما" وهي من جنسه، باعتباره من جنس غير حيواني، وقد ظهر أن المعنى على هذا الفرض غير مستقيم؛ وهذا ينتهي إلى أن الضبط الذي كان قبله غير صحيح أيضًا.
فإن كان المقصود من: "ما"، إنسانًا مثلًا، فوضعنا مكانها فردًا من أفراد الإنسان فقلنا: أعجب محمدًا ... صح الفرض وصح الضبط الذي كان قبله.
ب- نفرض الاسم التام: "الرجل" في المثال السابق هو المفعول به، "وما" هي الفاعل؛ فنضع مكان المفعول به ضميرا منصوبًا للمتكلم، ونضع مكان الناقص اسمًا ظاهرًا، أي اسم، بشرط أن يكون من جنسه؛ فإن استقام المعنى صح الضبط السابق وإلا فلا يصح؛ نقول: أعجبني الثوب؛ إن كان المراد من "ما" شيئًا غير حيواني، فيستقيم المعنى ويصح الضبط الأول.
__________
1 منهم الأشموني في آخر باب الفاعل.
2 عاقلا كان الجنس أم غير عاقل.(2/95)
جـ- إذا لم يصلح المعنى على اعتبار الاسم التام فاعلًا أجريت التجربة على اعتباره مفعولًا به، وكذلك العكس إلى أن يستقيم.
وكالمثال السالف: أمكن المسافر السفر1، بنصب: "المسافر"، كما يدل على هذا الضابط السالف؛ لأنك تقول: أمكنني السفر؛ بمعنى: مكنني فاستطعته، ولا تقول: أمكنت السفر ...
والحق أن هذه المسالة التي عرض لها بعض النحاة لا تفهم بضابطهم2، ولا يزول ما فيها من اشتباه إلا بفهم مفرداتها اللغوية، وقيام قرينة تدل على الفاعل والمفعول به، وتفرق بيانهما، أما ذلك الضابط وما يحتويه من فروض فلا يزيل شبهة، ولا يكشفها؛ لأنه قائم على أساس وضع اسم ظاهر مكان الناقص بشرط أن يكون من جنسه "حيوانًا عاقلًا، وغير عاقل - أو غير حيوان"، فكيف نختار هذا البديل من جنس الأصيل إذا كنا لا نعرف حقيقة ذلك الأصيل وجنسه؟ فمعرفة البديل متوقفة على معرفة الأصيل أولًا، ونحن إذا اهتدينا إلى معرفة الأصيل لم نكن بعده في حاجة إلى ذلك الضابط، وما يتطلبه من فروض لا تجدي شيئًا؛ ذلك أن الأصيل سيدل بمعناه في جملته على من فعل الفعل، فيعرف من وقع عليه الفعل تبعًا لذلك، ويزول الاشتباه، وإذًا لا حاجة إلى الضابط، ولا فائدة من استخدامه؛ لأن الغرض من استخدامه الكشف عن حقيقة الاسم الناقص، وهذا الكشف يتطلب اختيار اسم من جنسه ليحل محله. فكيف يمكن الاهتداء إلى اسم آخر من جنسه إذا كان الاسم الناقص مجهول الجنس لنا؟.
فمن الخير إهمال تلك المسألة بضابطها، وفروضه، والرجوع في فهم المثالين السابقين وأشباهما إلى فهم المعاني الصحيحة لمفرداتها اللغوية، والاعتماد بعد ذلك على القرائن، مع الفرار -جهد الطاقة- من استعمال تلك الأساليب الغامضة، هذا هو الطريق السديد، وعليه المعول.
__________
1 الاسمان هنا تامان -وهي حالة قليلة بالنسبة للأولى.
2 عبارة الضابط كما وردت عنهم هي: "أن تجعل في موضع التام إن كان مرفوعا ضمير المتكلم المرفوع، وإن كان منصوب ضميره المنصوب، وتبدل من الناقص اسما بمعناه في العقل وعدمه".(2/96)
المسألة 67: النائب عن الفاعل 1
من الدواعي2 ما يقتضي حذف الفاعل دون فعله، ويترتب على حذفه أمران محتومان؛ أحدهما: تغيير يطرأ على فعله3، والآخر: إقامة نائب عنه يحل محله، ويجري عليه كثير من أحكامه التي أسلفناها4؛ كأن يصير جزءًا أساسيًا في الجملة؛ لا يمكن الاستغناء عنه، ويرفع مثله؛ وكتأخره عن عامله5، وتأنيث عامله له أحيانًا، وتجرد العامل من علامة تثنية أو جمع؛ وكعدم
__________
1 يسميه كثير من القدماء: المفعول الذي لم يسم فاعله، والأول أحسن؛ لأنه أخصر؛ ولأن النائب عن الفاعل قد يكون مفعولًا به في أصله وغير مفعول به؛ كالمصدر، والظرف، والجار مع مجروره -كما سيجيء في ص 113 م 68.
هذا، والذي يحتاج لنائب فاعل ويرفعه شيئان، أحدهما: "الفعل المبني للمجهول"، وقد يسمى أيضًا: "الفعل المبني للمفعول"، والتسمية الأولى أحسن -طبقا لما سبق في رقم 1- والآخر: "اسم المفعول"؛ فلا بد لكل منهما من نائب فاعل، ويزاد عليها المصدر المؤول في رأي سيجيء في "ب" من ص 110، أما اسم المفعول، وأحكامه، وكل ما يتعلق به، فله باب خاص مستقل في الجزء الثالث.
2 بعضها لفظي؛ كالرغبة في الاختصار في مثل: لما فاز السابق كوفي، أي: كافأت الحكومة السباق، مثلا ... وكالمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة في السجع؛ نحو: من حسن عمله عرف فضله، فلو قيل: عرف الناس فضله، لتغيرت حركة اللام الثانية، ولم تكن مماثلة للأولى، وكالضرورة الشعرية ...
وبعضها معنوي؛ كالجهل بالفاعل، وكالخوف منه، أو عليه ... "ومما يصلح لكل واحد من الثلاثة قولنا: قتل فلان، من غير ذكر اسم القاتل" وكإبهامه، أو تعظيمه بعدم ذكر اسمه على الألسنة صيانة له، أو تحقيره بإهماله، وكعدم تعلق الغرض بذكره، حين يكون الغرض المهم هو الفعل، وكشيوعه ومعرفته في مثل: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ... أي: جبلها الله وخلقها.
3 ولا بد أن يكون فعله غير جامد، وغير أمر -كما سيجيء في رقم 8 من ص 107.
4 في ص 68.
5 يرى بعض النحاة أنه يجوز تقديم نائب الفاعل إذا كان شبه جملة؛ لأن علة منع التقديم -وهي خوف التباس الجملة الاسمية بالفعلية- غير موجودة هنا " راجع الصبان ج 3 باب، "أفعل التفضيل" عند قول ابن مالك: "وما به إلى تعجب وصل ... "، ولهذا إشارة في رقم 2 من هامش ص 111.(2/97)
تعدده، وكإغناء هذا النائب عن الخبر أحيانًا في مثل: أمزروع الحقلان؟ " فالحلقلان، نائب فاعل للمبتدأ اسم المفعول، واسم المفعول لا يرفع إلا نائب فاعل؛ كما عرفنا من قبل" إلى غير هذا من الأحكام الخاصة بالفاعل؛ والتي قد تنتقل بعد حذفه إلى نائبه1.
ولكل واحد من الأمرين تفصيلات وأحكام تخصه.
أ- إليك ما يتعلق بالأمر الأول:
1- إن كان الفعل ماضيًا، صحيح العين2، خاليًا من التضعيف - وجب ضم أوله، وكسر الحرف الذي قبل آخره إن لم يكن مكسورًا من قبل، فالفعل في مثل: "فتح العمل باب الرزق - أكرم الناس الغريب"، يتغير بعد حذف الفاعل؛ فيصير في الجملة: "فتح باب الرزق3 أكرم الغيب 4"، "وهناك بعض حالات يجوز فيها كسر أوله،
__________
1 وفي هذا يقول ابن مالك:
ينوب مفعول به عن فاعل ... فيما له - كنيل خير نائل
وأصل الكلام: ناب المستحق خير نائل؛ أي: خير عطاء، فحذف الفاعل، وتعتبر الفعل بعد حذفه تغيرًا سنعرفه، ونائب عنه المفعول به، وليس من اللازم أن يكون النائب مفعولًا به، كما قلنا ...
2 من الاصطلاحات اللغوية الشائعة: "فاء" الكلمة، "عين" الكلمة، "لام" الكلمة، يريدون بالفاء: الحرف الأول من الكلمة الثلاثية، أصيلة الأحرف، وبالعين: الحرف الثاني منها، "أي: الأوسط" وباللام الحرف الثالث؛ "أي: الأخير" ويقولون عنها لذلك: أنها على وزن: "فعل"ح مثل: كتب - قعد - فتح ... فكل واحدة على وزن "فعل".
3 ومثل الفعل: "جمع" في قول الشاعر:
إذا جمع الأشراف من كل بلدة ... فأفضلهم من كان للخير صانعًا
4 أين الكسر في نحو: صيم الشهر - بيع القطن؟
أصلهما: صوم - بيع، وخضوعًا لأحكام عامة في: "الإعلال" طرأ عليهما تغير معروف؛ بقلب الضمة فيهما كسرة، فقلب الواو ياء، وحذف الكسرة من ياء: "بيع" - وانظر رقم 5 الآتي ص 102 - فالكسر مقدر كتقديره في المضعف؛ "مثلك عد، فأصله: عدد قبل الإدغام".
وأين الكسر أيضًا قبل الآخر في الفعل: "أصيب" - ونحوه - من قول الشاعر:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا
الكسر مقدر؛ إذ الأصل: "أصوب"؛ نقلت حركة: الواو للحرف الصحيح قبلها بعد حذف السكون؛ ثم قلبت الواو عبد الكسرة ياء.(2/98)
وستجيء ... 1".
2- إن كان الفعل مضارعًا وجب -في كل حالاته- ضم أوله أيضًا، وفتح الحرف الذي قبل آخره إن لم يكن مفتوحًا من قبل؛ فالمضارع في مثل: "يرسم المهندس البيت - يحرك الهواء الغصن ... " يصير في الجملة بعد حذف الفاعل: يرسم البيت - يحرك الغصن2، ومثل قول الشاعر:
أعندي وقد مارست3 كل خفية ... يصدق واش، أو يخيب سائل
وقد يكون الفتح قبل الآخر مقدارًا لعلة تمنع ظهوره؛ مثل: يصام، "أصله: يصوم، ثم صار "يصام" لسبب صرفي معروف"4، ومثل: "تصاب وتنال"، في قول الشاعر:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
وفي قول الآخر:
إن الكبار من الأمور ... تنال بالهمم الكبار
والأصل قبل التغيير الصرفي: تصوب وتنيل ...
__________
1 في رقم 5 من ص 102.
2 وفي الحالتين السابقتين يقول ابن مالك:
فأول الفعل اضممن، والمتصل ... بالآخر اكسر في مضي؛ كوصل
واجعله من مضارع منفتحًا ... كينتحي؛ المقول فيه: ينتحي
أي: أن أول الفعل المبني للمجهول ويضم في الماضي والمضارع، وأن الحرف المتصل بالآخر يكسر في الماضي؛ مثل: وصل؛ فأصله: وصل، ويصير مفتوحًا في المضارع، مثل: ينتحي، فإن الحرف الذي قبل آخره يفتح البناء للمجهول؛ فيصير: "ينتحى"، "ينتحي الرجل إلى الشجرة، أي: يميل بها، ويتجه نحوها". وقد قلنا: إن هناك بعض حالات يكسر فيها أول الماضي، كالحالة الخامسة والسادسة، والسابعة - وستجيء.
3 جربت وعرفت.
4 هو: نقل فتحة "الواو" و"الياء" إلى الساكن الصحيح قبلهما؛ فتكون "الواو" وكذا "الياء" متحركة بحسب أصلها -قبل نقل فتحتها- ويكون ما قبلها متحركًا بحسب الحالة الجديدة التي طرأت عليه بعد أن كان ساكنًا؛ فيقلب حرف العلة "ألفًا".(2/99)
3- إن كان الماضي مبدوءًا بتاء تكثير زيادتها عادة - سواء أكانت للمطاوعة1
__________
1 حين نسمع شخصًا يقول: "علمت الغلام الزراعة" يتردد على الذهن سؤال؛ هو: هل استجاب الغلام للتعلم واستفاد؟ ويظل السؤال قائمًا حتى يجد جوابًا. فإذا قال المتكلم: علمت الغلام الزراعة فتعلمها - دل الفعل الثاني على أن الغلام تعلم، واستفاد واستجاب للتعلم، وحقق معناه، وهذا هو ما يسمى: "المطاوعة"، وحين يقول شخص: "كسرت الحديد"، وقد يرد على الذهن: كيف تستطيع تكسير الحديد؟ هل استطعت تكسيره حقًا؟ فإذا قال المتكلم: كسرت الحديد فتكسر، كان الفعل: "تكسر" هو الجواب عن المطلوب، الماحي للشبهة السالفة، الدال على أن الحديد تأثر بالكسر واستجاب له، وحقق معنى الفعل الأول، ولهذا يسمى الفعل الثاني: "مطاوعًا"، ومثله: حطمت الصخر. فتحطم، بريت الخشب، فانبرى ... مع وجود الفاء العاطفة في كل لك، ولا يصح العطف هنا بغيرها -طبقًا لما نص عليه ابن الأثير في كتابه: الجامع الكبير ج 1 ص 202 عند كلامه على حرف العطف- فالمطاوعة فعل هي:
" قبول فاعله التأثر بأثر واقع عليه من فاعل فعل ذي علاج محسوس إلى فاعل فعل آخر يلاقيه اشتقاقًا، بحيث يحقق التأثر معنى ذلك الفعل".
والتعريف السابق للمطاوعة هو أوضح التعريفات وأشملها، وهو ملخص الذي ارتضاه "الخضري" -وكذا الصبان- في باب: "تعدي الفعل ولزومه" ج 1. ونصًا على اشتراط العلاج الحسي، وعلى تلاقي الفعلين في الاشتقاق؛ فلا يقال: علمت الرجل المسألة فانعلمت؛ لعدم المعالجة الحسية، ولا يقال: ضربته فتألم لعدم التلاقي في الاشتقاق.
وحصول الأثر وتحققه لي بالواجب، وإنما هو الغالب الكثير؛ طبقًا لما جاء في حاشية التصريح، ج 1، باب: "التعدي واللزوم"، نقلًا عن البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّه} حيث صرح بأنه: يقال: كسرته فلم ينكسر، وعلمته فلم يتعلم، وقال: إن حصول الأثر غالب لازم". ا. هـ. وهذا الرأي يساير المسموع كثيرًا، ويلاحظ أنه جعل الفعل: "علم" من أفعال المعالجة الحسية، خلافًا لسابقه.
وللمطاوعة أحكام وصيغ قياسية تشتمل كل صيغة منها على بعض حروف خاصة ترمز للمطاوعة، وتدل عليها، منها التاء في أول الماضي، ويسمونها لذلك: تاء المطاوعة؛ مثل: دربت الصانع؛ فتدرب، همدت الحائط؛ فتهدم. فجرت الماء فتفجر - كسرت الغصن فتكسر، وسيجيء بعض الأحكام والصيغ - في هامش ص 167 - وهو بضع هام.
وقد عقد صاحب "المخصص" "ابن سيده" بحثًا لطيفًا " "في الجزء 14 ص 175 وما حولها" عرف فيه لكثير من أوزان المطاوعة القياسية، ومنها: أن كل ماضي ذي أربعة أحرف على وزن "فعل" يكون له مضارع على وزن "تفعل"، وهذا جزء من قواعد عامة هناك تفيد أعظم الفائدة، وتتسع لكثير مما نظنه محذورًا، وفي الجزء الأول من مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة شيء "قليل من تلك الأوزان، مستخلص من المرجع السابق الأصيل.
ومن بين قرارات هذا المجمع قياسية جمع أفعال المطاوعة، وقد سجل هذا القرار في الصفحة الثامنة من المجلد الذي أصدره بعنوان: "البحوث والمحاضرات" في مؤتمر الدورة الخاصة بسنة 1963 - 1964.
ومن قراراته أيضًا ما جاء في ص 39 من كتابه: "مجموعة القرارات العلمية من الدورة الأولى إلى الدورة الثامنة والعشرين" خاصًا بمطاوع "فعل" الثلاثي المتعدي ونصه: "وسيعاد للمناسبة في ص 168" "كل فعل ثلاثي متعد، دال على معالجة حسية فمطاوعة القياسي هو: "الفعل"، ما لم تكن فاء الفعل واوًا، أو لامًا، أو نونًا، أو ميمًا، أو راء، ويجمعهما قولك: "ولنمر" فالقياس فيه: "افتعل". ا. هـ.(2/100)
أما لغيرها - "مثل الماضي: تعلم، تفضل - تعاون - تناشد، تجاهل" وجب ضم الحرف الثاني مع الأول؛ ففي مثل: تعلم الصبي حرفة - تفضل الصديق بالزيارة - ... يصير الماضي: تعلمت حرفة - تفضل بالزيارة1 وفي مثل قولهم: "تعلم البحار في الملاحة، وتعاون مع رفاقه فأمن الخطر" يصير الكلام بعد بناء الفعل الماضي للمجهول: تعلم2 فن الملاحة، وتعوون مع الرفاق؛ فأمن الخطر وهكذا.
4- إن كان الماضي مبدوءًا بهمزة وصل فإن ثالثة يضم مع أوله؛ ففي مثل: "اعتمد العاقل على كفاحه - انتصر المكافح بعمله" - يقال في بناء الفعلين للمجهول: اعتمد على الكفاح - انتصر بالعمل3.
__________
1 يقول ابن مالك:
والثاني التالي "تا" المطاوعة ... كالأول اجعله بلا منازغه
أي: اجعل الحرف الثاني في الماضي مضمومًا كالأول، إن كان الأول تاء المطاوعة، إذ لا نزاع - أي لا خلاف في هذا.
2 إذا كانت التاء في أول الماضي لا تكثر زيادتها فلا يضم الحرف الذي يليها؛ مثل: ترمس الزارع الحب، "أي: رمسه، بمعنى: دفنه"، وإنما كانت زيادة التاء غير معتادة في هذه الكلمة -وأشباهها- لأنها جاءت للتوصل إلى النطق بالساكن، وهو الراء، وهذا اختصاص همزة الوصل.
3 وفي هذا يقول ابن مالك:
وثالث الذي بهمز الوصل ... كالأول اجعلنه كاستحلي
أي: أن الحرف الثالث من الفعل المبدوء بهمزة الوصل بضم كالأول، ومثل له بالفعل "استحلي" المبني للمجهول، وأصله: "استحلى" مبدوءًا بهمزة وصل. فلما بني للمجهول ضم الحرف الأول والثالث منه.
ومما يلاحظ في البيت أن كلمة: "ثالث" ... بالنصب تعرف مفعولًا به لفعل محذوف يفسره الفعل الآتي بعده؛ وهو: "اجعل" المؤكد بالنون، مع أن الفعل المؤكد بالنون لا يصلح أن يعمل فيما قبله، ولا أن يفسر عاملًا محذوفًا قبله. وكذلك إعراب "كالأول" جار ومجور متعلق بالفعل المتأخر عنه المؤكد بالنون، وهو: "اجعل" والفعل المؤكد بالنون لا يصح أن يتعلق به شبه جملة قبله، وهذا هو الرأي الأقوى والأفصح، ويخالفه رأي آخر أقل شيوعًا وقوة يراه مقبولًا في شبه الجملة وحدها، لكن ابن مالك يقع في هذه المخالفة كثيرًا لضرورة النظم، وقد سبق لها نظائر في الجزء الأول "انظر فهرس الجزء الأول م7 هامش ص 96 طبعة 3 ورقم 1 هامش ص75 قبلها"، والمعربون يلتمسون تأويلات وتقديرات لتصحيح مخالفته، ولا داعي لشيء من هذا، لما فيه من تكلف وتعسف، ويكفي التصريح بأن النظم قهره على ارتكاب المخالفة؛ وهذا هو السبب الحق.(2/101)
5- إن كان الماضي الثلاثي معل العين1؛ واويًا كان أو يائيًا -مثل: صام، باع - وبني للمجهول، جاز في فائه عند النطق أو الكتابة، إما الكسر الخالص؛ فينقلب حرف العلة ياء؛ نحو: صيم، بيع، وإما الضم الخالص، فينقلب حرف العلة واوًا، نحو: صوم، بوع، وإما الإشمام2 وهذا لا يكون إلا في النطق.
والكسر أعلاها، فالإشمام، فالضم، وكل واحد من الثلاثة جاز بشرط ألا يوقع في لبس، وإلا وجب العدول عنه إلى ضبط آخر لا لبس فيه؛ فكثير من الماضي المعل الوسط قد يوقع في اللبس إذا بني للمجهول، وأسند لضمير تكلم، أو خطاب؛ سواء أكان الضمير فيهما للمفرد المذكر أم لغيره، وكذلك
__________
1 معل العين "ما يكون وسطه حرف علة"، ويخضع لأحكام "الإعلال" المعروفة في الباب الخاص بهذا "ج4"، ومنها: قلب حرف العلة الواو أو الياء ألفًا، في نحو: صام - هام - فأصلهما صوم - هيم ... ومنها: نقل حركة حرف العلة الواقع عين الكلمة إلى ساكن صحيح قبله بالشروط المذكورة هناك؛ نحو: يقوم، وأصله: يقوم ... إلى غير ذلك من أحكام "الإعلال" التي تدخل على حرف العلة؛ فتحدث به تغييرًا.
فإذا كان حرف العلة الواقع عين الفعل لا يخضع للأحكام السابقة، فإنه لا يسمى: "معلًا" إنما يسمى: "معتلًا" وجاز في فائه من الحركات الثلاث ما يجوز في فاء الفعل الصحيح؛ مثل: عور - هيف - اعتور ... وغيرها من الأفعال المتشابهة لها؛ فإنها تسلك مسلك الفعل الصحيح عند بنائها للمجهول - كما قلنا.
والشائع بين النحاة أن حروف العلة الثلاث "و - أ - ي" إذا سكنت وكان قبلها حركة مجانسة لها سميت: حروف علة، ومد، ولين، فإن لم تجانسها الحركة التي قبلها سميت: حروف علة ولين، فإن تحركت فهي حروف علة فقط "راجع حاشية الخضري ج2 أول باب: الإعلال بالنقل".
ومن النحاة من يطلق اللين على حرف العلة المتحرك، وهذا مخالف للشائع، كما قال الخضري في المرجع السالف - "وقد سبقت لهذا إشارة في ج 1 م 16 هامش ص 169 من الطبعة الثالثة - وسيجيء التفصيل الأوضح في ج 4 في بابي "الترخيم" و"الإعلال والإبدال".
2 الإشمام -عند النحاة- هو: النطق بحركة صوتية تجمع بين الضمة والكسرة على التوالي السريع، بغير مزج بينهما؛ فينطق المتكلم أولًا بجزء قليل من الضمة، يعقبه جزء كبير من السكرة؛ يجلب بعده ياء، فالجمع بين الحركتين ليس معناه الخلط بينهما في وقت واحد خلال النطق؛ وإنما معناه مجيئهما على التعاقب السريع بالطريقة التي أسلفناها.(2/102)
إذا أسند لنون النسورة الدالة على الغائبات، فالفعل: "ساد" - وأشباهه - في نحو "ساد الرجل قومه بالفضل" ... إذا أسندناه لضمير متكلم أو مخاطب من غير أن يبنى للمجهول، قلنا عند الضم: "سدت"، ولو بنينا الفعل للمجهول، وقلنا: "سدت" أيضًا 1؛ لوقع اللبس حتمًا بين هذه الصورة التي بني فيها للمجهول، والصورة السالفة التي لم يبن فيها للمجهول، وفرارًا من اللبس الذي ليس معه قرينة تزيله، ويجب البعد عن ضم الحرف الأول2 في هذه الصورة المبنية للمجهول، ولنا بعد ذلك استعمال الكسر، أو: الإشمام.
ومثل: الفعل: "ساد" غيره ن كل فعل ماض ثلاثي، إما معل الوسط بألف أصلها واو؛ "وليس من باب: "فَعِلَ يَفْعَلُ"؛ كخاف يخاف.3 مثل: شاق، يشوق، رام، يروم ... وإما معقل الوسط بألف أصلها ياء أيضًا، فليس اللبس مقصورًا على الماضي الثلاثي المعل الوسط بألف أصلها واو، وليس من باب فعل يفعل، بل يمتد إلى الماضي الثلاثي المعل الوسط بألف أصلها ياء؛ مثل الفعل: "زاد" في نحو: قد زادك الصديق ودًا،
__________
1 لإيضاح هذا المثال وأشباهه نقول في: "ساد الرجل قومه بالفضل" إذا أسند الماضي المبني للمعلوم إلى ضمير المخاطب مثلًا؛ صارت الجملة سدت قومك بالفضل - بضم السين - فإذا صارت الجملة: يا مهمل سادت النابغ ... وأردنا بناء الفعل للمجهول مع إسناده للمخاطب أيضًا، فإننا نحذف الفاعل "النابغ"، ونقيم المفعول به "وهو: كاف الخطاب" مقامه، ولما كان الضمير "الكاف" لا يقع في محل رفع وجب استبداله ووضع ضمير آخر بمعناه في مكانه؛ بحيث يصلح الضمير الجديد أن يكون في محل رفع نائب فاعل، لهذا نجيء بدله بضمير
الخطاب التاء، فنقول عند بنائه للمجهول: يا مهمل سدت، أي: صرت مسودا، لا سيدا، بمعنى أن غيرك صار سيدك، فالصورة الشكلية للفعل واحدة عند الضم، في حالتي بنائه للمعلوم والمجهول، وفيها يقع اللبس، وللفرار منه منعوا في المبني للمجهول ضم أوله إن كانت عينة ألفًا أصلها واو ... إلا نحو: خاف - كما سيجيء هنا.
2 لا يجوز الضم في الواوي إلا إذا كان ماضيه فعل "بكسر العين"، ومضارعه على وزن: يفعل "بفتح العين" نحو: خاف - يخاف "وأصله: خوف - يخوف"، ذلك أن الفعل: "خاف" وأشباهه - إذا أسند وهو مبني للمعلوم لمخاطب - مثلًا يصير: خفت، بكسر أوله، وحذف وسطه، طبقًا لقواعد الإسناد، فلو بني للمجهول وكسر أوله لأوقع في لبس؛ بسبب تشابه صورتي الفعل في حالتي بنائه للمعلوم وللمجهول، والفرار من هذا اللبس يوجب ضم أوله عند بنائه للمجهول أو الإشمام.
3 للسبب الذي تقدم في رقم 3 والذي يمنح الكسر في مثل: "خاف يخاف" عند بناء الماضي للمجهول ويوجب الضم.(2/103)
فإنه إذ أسند لضمير المخاطب -مثلا- من غير بناء للمجهول يصير: قد زدت الصديق ودا، بكسر أول الماضي، وإذا أسند للمخاطب أيضا مع البناء للمجهول، فإن كسر أوله صار: زدت ودا1 كذلك، فصورته في الحالتين واحدة مع اختلاف الإسناد والمعنى، وهذا هو اللبس الواجب توقيه، ومن أجله لا يصح الكسر هنا عند بنائه للمجهول؛ فيجب العدول عنه؛ إما إلى ضم أوله نطقًا وكتابة، فنقول: "زدت"، وإما إلى الإشمام "وهذا لا يكون إلا في حالة النطق -كما عرفنا"-.
ومثل الفعل "زاد" كثير من الأفعال الماضية المعلة الوسط بالألف التي أصلها الياء؛ ومنها: دان، يدين - قاس، يقيس - عاب، يعيب - باع - يبيع.
وخلاصة ما سبق:
أن الواجب يقتضي العدول عن ضم فاء الثلاثي المعل العين بالواو، عند خوف اللبس "لا ما كان مثل: "خاف"".
والعدول عن كسر فاء الثلاثي المعل العين بالياء عند خوف اللبس أيضًا.
وكذلك إن أوقع الإشمام في لبس وجب العدول عنه إلى النطق بالكسرة الصريحة الواضحة، أو بالضمة الصريحة الواضحة.
ومن أجل اللبس والعمل على اجتنابه وضح النحاة القاعدة التالية:
"يجوز في فاء الفعل الماضي، الثلاثي، المعتل الوسط، عند بنائه للمجهول ثلاثة أشياء: الضم، أو: الكسر، أو: الإشمام، بشرط أمن اللبس في كل حالة، فإن أوقع الضم في لبس وجب تركه إلى الكسر أو الإشمام، وأن أوقع الكسر في لبس وجب تركه إلى الضم أو الإشمام، وإن أوقع الإشمام في لبس وجب العدول
__________
1 وذلك بعد حذف الفاعل وإقامة المفعول به "وهو: الكاف" مقامه، ولما كانت "الكاف" -كما أوضحنا في رقم1 من هامش ص 103- من الضمائر التي لا تقع في محل رفع أتينا مكانها بضمير للمتكلم مثلها مع صلاحيته، لأن يكون نائب فاعل في محل رفع، هو: تاء المخاطب، والمعنى المقصود في المثال الثاني المبني للمجهول هو الدلالة على وقع الزيادة على المخاطب، أما في المثال الأول فهو الدلالة على وقوع الزيادة من المخاطب "الفاعل"، على الصديق "المفعول به"، والفرق كبير بين الدلالتين مع اتفاق الصورة الشكلية للفعلين. ومن هنا يقع اللبس الذي يجب الفرار منه؛ بتغيير الشكل في المبني للمجهول ...(2/104)
عنه إلى النطق بحركة صريحة واضحة، وهي: الضمة أو الكسرة، بحيث يمتنع اللبس معها، وعند صحة الأمور الثلاثة، يكون الكسر أحسنها1، فالإشمام، ثم الضم وهو أقلها استعمالًا.
6- وإن كان الماضي الثلاثي المبني للمجهول مضعفًا2 مدغمًا؛ مثل الفعل: "عد" في: "عد الصيرفي المال"3 ... جاز في فائه الأوجه الثلاثة، "الضم الخالص، وهو الأكثر هنا، فالإشمام، فالكسر الخالص"، تقول وتكتب: عرفت أن المال قد عد -بضم العين أو كسرها- كما يجوز الإشمام في حركتها عند النطق، وإذا خيف اللبس في وجه من الثلاثة وجب تركه إلى غيره؛ كالفعل: "عد" - "رد"، وأشباههما، فإن فعل الأمر منهما يكون مضموم الأول: فيلتبس به الماضي المبني للمجهول إذا كانت حركة فائه الضمة؛ إذ يقال: عد المال، رد العدو، فلا تتضح حقيقة الفعل؛ أهو فعل ماضي مبني للمجهول أم فعل أمر؟ وفي مثل هذه الحالة يجب العدول عن الضم إلى الكسر، أو الإشمام؛ لأن الكسر والإشمام لا يدخلان أول هذين الفعلين إذا كانا للأمر4.
__________
1 وبالكسر جاء قول الشاعر:
إذا قيس إحسان امرئ بإساءة ... فأربى عليها فالإساءة تغفر
2 مضعف الثلاثي: ما كانت عينه ولامه من جنس واحد؛ نحو: عد - مد - شق - صب.
3 وفي قول الشاعر:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا ... إلى المجد؛ حتى عد ألف بواحد
4 وإنما قرئ: "ردوا" بالضم قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ... لوجود قرينة تمنع اللبس، هي: أن فعل الأمر لا يكون فعل شرط للأداة "لو" أو غيرها.
وفي الأوجه الثلاثة الجائزة في الثلاثي معل العين، وفي الثلاثي المضعف، ومنع ما يوقع منها في لبس، يقول ابن مالك:
واكسر أو اشمم "فاء" ثلاثي أعل ... عينًا، وضم جا، كبوع: فاحتمل
أي: اكسر أو أشمم فاء الماضي الثلاثي المعل العين، وقد جاء فيه الضم عن العرب؛ فيجوز القياس عليه؛ واحتمل قبوله؛ لمجيئه عنهم، "فا" هي مقصور الحرف: "فاء"، و"جا" هي: مقصور الفعل: "جاء"، وعند قراءة كلمة "أو" في البيت تتحرك الواو بالفتحة التي انتقلت إليها من الهمزة التي بعدها، والأصل: أو اشمم؛ لأنه أمر من الفعل: "أشم" الرباعي، وقد انتقلت حركة الهمزة إلى الواو الساكنة بعد حذف الهمزة للوزن الشعري، ثم يقول: =(2/105)
7- وتجوز الأوجه الثلاثة أيضًا في الحرف الثالث الأصلي من الماضي المعل العين؛ إذا كان على وزن؛ انفعل، أو: افتعل؛ مثل: "انقاد - انهال - انهار"، ومثل: "اختار - اجتاز - احتال ... ".
ويلاحظ هنا أن حركة الحروف الأول "وهو: همزة الوصل" لا تلزم صورة واحدة في ضبطها، فلا تقتصر على حركة معينة، وإنما تماثل وتساير حركة الحرف الثالث، وأن ضمة الثالث ستؤدي إلى قلب الألف التي بعده واوًا، وأن كسرته ستؤدي إلى قلبها ياء؛ فلا بد في حركة الحرف الأول -وهو همزة الوصل- من أن تكون مناسبة لحركة الثالث في الضم، أو الكسرة، أو الإشمام، كما سبق؛ فيقال ويكتب فيهما: انقود، أو: انقيد، أو: ينطق بالإشمام في حركة الحرف الأول والثالث، وكذا باقي الأفعال التي تشبه: "انقاد".
كذلك يقال ويكتب: اختور، أو: اختير، أو: ينطق بالإشمام في حركة الحرف الأول والثالث، وكذا يقال في باقي الأفعال التي تشبه: "اختار".
ويشبههما في الحكم السابق: "انفعل" و"افتعل" إذا كانا صحيحين مضعفي اللام؛ نحو: انصب - انسد - انجر - ... ومثل: امتد - اشتد - ابتل، فإذا بني فعل للمجهول من هذه الأفعال ونظائرها - جاز في حرفه الثالث - عند أمن اللبس - الضم، الخالص نطقًا وكتابة، أو: الكسر الخالص كذلك، أو الإشمام نطقًا، وفي كل حالة من الثلاث يتحرك الحرف الأول؛ - وهو همزة الوصل - بمصل حركة الحرف الثالث، نحو: انصب - أو انصب، امتد - امتد1.
__________
=
وإن بشكل خيف لبس يجتنب ... وما لباع قد يرى لنحو حب
يريد: أن أدى وجه من الأوجه الثلاثة السالفة إلى اللبس الذي لا يمكن معه تمييز الفعل المبني للمجهول من غيره، وإلى اختلاط المعاني -وجب اجتناب ذلك الوجه إلى آخر ليس فيه لبس.
ثم بين أن ما ثبت من الأحكام لفاء الفعل: "باع" - وغيره من الماضي الثلاثي المعل الوسط - عند البناء للمجهول، قد يثبت لنحو: "حب" من كل فعل ماضي ثلاثي مضاعف، حيث يجوز في فائه الأمور الثلاثة، بشرط أمن اللبس؛ فإن خيف اللبس في أحدها وجب تركه.
1 وفي هذا يقول ابن مالك: =(2/106)
8- إن كان الفعل جامدًا أو فعل أمر لم يصح بناؤه للمجهول مطلقًا ...
9- إن كان الفعل ناقصًا "مثل: كان، وكاد، وأخواتهما"، فالصحيح أنه يبنى للمجهول، وتجري عليه أحكام المبني للمجهول1 بشرط الإفادة، وعدم اللبس -إلا الناقص الجامد؛ مثل: ليس، وعسى؛ لأن الجامد لا يبنى للمجهول- كما سبق.
__________
=
وما لفا باع لما العين تلي ... في اختار، وانقاد، وشبه ينجلي
وفي هذا البيت شيء من التعقيد بسبب التقديم، والتأخير، والحذف، والأصل الذي يريده: الذي يثبت لفاء: "باع" يثبت كذلك للحرف الذي تليه عين الفعل من نحو: "اختار" و"انقاد" أو شبه لهما ينجلي، "أي: يتضح" والمشابهة تكون في الوزن والإعلال، وهناك ما يشبههما من جهة انطباق الحكم عليه؛ كافعل وافتعل؛ الصحيحين مشددي اللام، تلي العين؛ أي: تليه، فالهاء محذوفة.
والمعنى: ما تقرر من الأوجه الثلاثة في حركة الفاء من الفعل المعل العين، "مثل: باع، صام" يتقرر مثله للحرف السابق لعين الفعل المعلة، إذا كان الفعل على وزن: "افتعل" أو"انفعل" وأشباههما وما يلحق بهما.
1 بالرغم من صحة بناء هذه الأفعال للمجهول، فمن المستحسن عدم بنائها للمجهول؛ مسايرة للأساليب العليا، وأحكام البلاغة التي ترى فيها ثقلًا في النطق، وقبحًا في الجرس، وسيأتي في "ب" من ص 122 كلام خاص بخبر "كان" وحدها يتصل بما نحن فيه.(2/107)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- ورد عن العرب أفعال ماضية تشتهر بأنها ملازمة للبناء للمجهول، سماعًا عن أكثر قبائلهم، وهي الأفعال التي يعتبرها اللغويون مبنية للمجهول في الصورة اللفظية، لا في الحقيقة المعنوية1؛ ولذلك يعربون المرفوع بها فاعلًا؛ وليس نائب2 فاعل، ومن أشهرها: هزل - دهش وشده، وهما بمعنى واحد -؛ ومنها: "شغف بكذا، وأولع به، وأهتر به، استهتر به، وأغري به، وأغرم به ... ، وكلها بمعنى واحد؛ هو: التعلق القوي بالشيء"، ومنها: أهرع، بمعنى: أسرع، ومنها: نتج، ومنها: عني بكذا؛ أي: اهتم به، ومنها: حم فلان "بمعنى أصابته الحمى" - أغمي عليه - فلج - امتقع لونه "بمعنى تغير" - زهي "بمعنى تكبر" ... و ... 3.
لكن ما حكم مضارع هذه الأفعال؟ أيجب بناؤه للمجهول مثلها، أم يتوقف أمره -كماضيه- على السامع الوارد من العرب في كل فعل؟
الصحيح أنه مقصور على السماع الوارد في كل فعل4، ومنه في الشائع: "يهرع، يعني، يولع، يستهتر ... ".
بقي توضيح المراد من أن تلك الأفعال الماضية ملازمة للبناء للمجهول سماعًا عن أكثر القبائل:
__________
1 لأن الفاعل -في الأغلب- هو الذي فعل الفعل، أو قام به الفعل" ... وهذا ينطبق على الاسم المرفوع بعد هذه الأفعال.
2 وهذا في الرأي الشائع الذي ورد صريحًا في كثير من المراجع؛ كالقاموس المحيط، في مقدمته تحت عنوان "المقصد، في بيان الأمور التي اختص بالقاموس"، وهو المقصود بعنوان: "مسألة"، وكالخضري في مواضع متفرقة، منها: باب "أبنية المصادر" عند الكلام على مصدر: "فعل" ... إلا إن كان المبني للمجهول لزومًا غير رافع الاسم بعده؛ نحو: سقط في يد المتسرع، "بمعنى: ندم"، فشبه الجملة نائب فاعل، وليس بفاعل: لأن الفاعل لا يكون شبه جملة.
3 عقد "ابن سيده" في كتابه، "المخصص" "ج 15 ص 72" بابًا سماه: ما جاء من الأفعال على صيغة ما لم يسم فاعله.
4 جاء النص على هذا في مقدمة "القاموس" في "بيان الأمور التي اختص بها القاموس" تحت عنوان "مسألة".(2/108)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرى أكثر النحاة أن المراد هو عدم استعمالها في معانيها السالفة مبنية للمعلوم؛ تقول: شدهت من الأمر، بالبناء للمجهول، ولا يصح عند هؤلاء شدهني الأمر، بالبناء للفاعل، لاعتمادهم على ما جاء في كتاب: "فصيح ثعلب"، ونحوه من التصريح القاطع بأنها لا تبنى للمعلوم.
وأنكر بعض المحققين -كابن بري1- ما قاله ثعلب وغيره من اللغويين والنحاة، وحجة ابن بري في الإنكار أن "ثعلبًا"، ومن معه لم يعلموا ما سجله ابن درستويه وردده؛ ونصه2: "عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا: إنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم، وهذا غلط منهم؛ لأن هذه الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي؛ فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل، ولم نخص بذلك بعضها دون بعض، وقد بينا ذلك بعلته وقياسه؛ فيجوز: عنيت بأمرك، وعناني أمرك - وشغلت بأمرك، وشغلي أمرك - وشدهت بأمرك، وشدهني أمرك". ا. هـ، هذا ما نقله "ابن بري"1 وختمه بقوله: "وفي ذلك كفاية تغني عن زيادة إيضاح وبيان". ا. هـ.
ورأيه هو السديد الذي تؤيده النصوص الصحيحة التي تحمل الباحث على أن يسأل: كيف خفيت هذه النصوص على كثير من اللغويين والنحاة القدامى؟ وكيف رتبوا على وجود نوع وهمي من الأفعال يلازم البناء للمجهول -في رأيهم- أحكامًا خاصة؛ كمنع مجيء "صيغتي التعجب" من الثلاثي مباشرة، وعدم صحته إلا بوسيط، وكمنع صوغ "أفعل التفضيل" من مصادرها إلا بوسيط كذلك ... و ... و ...
ولا شك أن رأي "ابن بري"، ومن معه من المحققين هو السديد -كما تقدم- والأخذ به يؤدي إلى إلغاء تلك الأحكام الخاصة، ويبيح في الثلاثي "التعجب" المباشر، وكذا "التفضيل" بغير وسيط، ويرد لتلك الأفعال اعتبارها وحقها، ويجعل شأنها شأن غيرها من باقي الأفعال التي يصح أن تبنى للمعلوم حينًا، وللمجهول حينًا آخر، على حسب مقتضيات المعنى.
__________
1 و 1 ضبط القاموس الياء مشددة بالشكل.
2 ما يأتي منقول مما يسمى بالاسم الآتي نصه: "الرسالة المشتملة على انتقاد "ابن الخشاب البغدادي" على العلامة "أبي محمد الحريري" في مقاماته، وانتصار الشيخ الإمام العلامة أبي محمد عبد الله بن بري للإمام الحريري في الرد على " ابن الخشاب". ا. هـ. وهذه الرسالة مطبوعة في ختام بعض طبعات "مقمات الحريري".(2/109)
ب- عرفنا1 أن نائب الفاعل يكون مرفوعًا بأحد شيئين؛ الفعل المبني للمجهول، واسم المفعول، فهل يرتفع بالمصدر المؤول المسبوك في أصله من "أن"، والفعل المبني للمجهول؟ انتهى النحاة إلى أن الأصح جوازه بشرط أمن اللبس، ومن أمثلتهم: عجبت من أكل الطعام؛ بتنوين المصدر "أكل" ورفع كلمة: "الطعام" على اعتبارها نائب فاعل له، والأصل عندهم: عجبت من أن أكل الطعام، فلما سبك المصدر المؤول صارت كلمة: "الطعام" نائب فاعل له بعد سبكه.
فإن أوقع في السبك لبس لم يصح؛ نحو؛ عجبت من إهانة علي، إذا كان علي هو المهان، "والأصل: من أن أهين علي"، فيتعين أن يكون المصدر مضافًا و"علي"، هو المضاف إليه المجرور، وهو في محل نصب مفعول به، ولا يصح الرفع؛ لوقوع اللبس بسببه.
وكما صح رفع نائب الفاعل بالمصدر المؤول يصح أن يكون مجرورًا باعتباره مضافًا إليه، والمصدر هو المضاف، فيكون نائب الفاعل مجرورًا لفظًا -مرفوعًا محلًا؛ كما يجوز جعل ما أضيف إليه المصدر في محل نصب على المفعولية. والفاعل محذوف من غير نيابة شيء عنه.
أما على الرأي الذي يمنع المصدر المؤول من رفع نائب فاعل يتعين إضافة المصدر لما بعده ويكون ما بعده -وهو المضاف إليه- في محل نصب على المفعولية2.
بالرغم من أن الأصح -عندهم- جوازه، فالأنسب اليوم عدم الالتجاء إليه؛ لأنه لا يكاد يخلو من غموض وثقل ينافيان الأساليب الناصعة العالية، وأسس البلاغة، وهذان أمران لهما اعتبارهما، ويزيدهما قوة ورجاحة خلو المراجع المتداولة من أمثلة مسموعة من فصحاء العرب تؤيده.
ج- في الفعل الثلاثي المعل العين، وفي غيره من الأفعال الماضية المبنية للمجهول لغات أخرى، أعرضنا عنها؛ لأنها لهجات متعددة، لقبائل متباينة لا نرى خيرًا في استعمالها اليوم؛ حرصًا على الإبانة والتوحد المفيد قدر الاستطاعة، ومنعًا للتشتت والتعدد في أهم وسيلة للتفاهم والإيضاح، وهي: اللغة.
__________
1 في رقم 1 من هامش ص97.
2راجع: " الخضري، والصبان".(2/110)
المسألة 68:
ب- الأشياء التي تنوب عن الفاعل بعد حذفه.
ننتقل إلى الأمر الثاني1 الذي يترتب على حذف الفاعل؛ وهو: إقامة نائب عنه يحل محله، ويخضع لكثير من أحكامه، -كما قلنا-.
والذي يصلح للنيابة عن الفاعل واحد من أربعة أشياء؛ المفعول به، والمصدر والظرف، والجار مع مجروره 2، وقد تلحق بها -أحيانًا- حالة خامسة، ستيجيء3.
1- فأما المفعول به فقد سبقت له أمثلة كثيرة، غير أن فعله قد يكون متعديًا لواحد؛ كالأمثلة المشار إليها، وقد يكون متعديًا لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر؛ كمفعولي: "ظن" وأخواتها4 -في مثل ظن الغلام الندى مطرا، أو ليس أصلهما المبتدأ والخبر، كمفعولي: "أعطى"، وأخواتها، ومنها: "كسا"، في مثل: أعطى الغني الفقير مالًا، وكسا المحتاج ثوبًا 5، وقد يكون متعديًا لثلاثة؛ "كأعلم" و"أرى" 6، نحو: أعلم الطبيب المريض الدواء شافيًا.
فإن كان الفعل متعديًا لمفعول به واحد، مذكور في الكلام أقيم هذا الواحد مقام الفاعل ... وإن كان متعديًا لاثنين مذكورين، فقد يكون أصلهما المبتدأ والخبر أو ليس أصلهما كذلك، فأي المفعولين ينوب؟
__________
1 أما الأول فقد سبق في ص 98.
2 راجع ما قلناه أول الباب " في رقم 5 من هامش ص 97" من أن بعض النحاة يجيز تقديم نائب الفاعل إذا كان شبه جملة، وبيان السبب.
3 في ص 119، أما غير هذه الخمسة فسيجيء عنه كلام في الزيادة والتفصيل ص 122 أ- ومنه يعلم وجود أشياء أخرى.
4 سبق بابها في ص 3.
5 ليس أصل المفعولين هنا المبتدأ والخبر، إذ لا يقال على سبيل الحقيقية اللغوية، لا المجاز: الفقير مال -المحتاج ثوب؛ لفساد المعنى الحقيقي على هذا.
6 سبق بابهما في ص 58.(2/111)
وإن كان متعديا لثلاثة مذكورة فأيها ينوب كذلك1.
خير الآراء وأنسبها: اختيار الأول للنيابة إذا كان هو الأظهر والأبين للقصد مهما كان نوع فعله، لكن لا مانع من تركه، واختيار غيره؛ فيكون في هذا اختيار لغير الأفضل، فإن كان غير الأول هو الأقدر على إيضاح المراد، وإبراز الغرض من لجلمة فنيابته مقدمة على نيابة الأول، ولا بد في كل الحالات من أمن اللبس؛ وإلا وجب العدول عما يحدثه إلى ما لا يحدثه، وفيما يلي أمثلة لأنواع الفعل المتعدي قبل بنائه للمجهول، وبعد بنائه، وما يحدث اللبس وما لا يحدثه.
فما لا يحدثه؛
"عرف المسترشد الصواب - عرف الصواب".
"ظن الجاهل الخفاش طائرًا - ظن الخفاش طائرًا - ظن طائر الخفاش".
" أعطى الوالد الطفل كتابًا - أعطى الطفل كتابا - أعطى كتاب الطفل".
"أعلمت التاجر الأمانة نافعة - أعلم التاجر الأمانة نافعة - أعلم الأمانة التاجر نافعة - أعلم نافعة التاجر الأمانة".
ولا يصح إنابة غير الأول في مثل: "أعطيت محمدًا فريقًا من الأعوان"، "منحت الشركة مهندسًا"؛ لأن كلا من الأول والثاني يصلح أن يكون أخذًا ومأخوذًا؛ فلا يمكن التمييز بينهما عند بناء الفعل للمجهول إلا باختيار أولهما ليكون نائب فاعل؛ لأن اختياره يجعله بمنزلة الفاعل في المعنى؛ فيتضح من تقدمه أنه الآخذ؛ وغيره المأخوذ، ومثل هذا يقال في: ظننت الولد الوالد، حيث يجب اختيار الأول للنيابة؛ لأن كلا منهما صالح أن يكون هو المظنون الشبيه بالآخر. ولا يمنع هذا اللبس إلا اختبار الأول وذلك للسبب السالف، ولا سيما أن الأول هنا
__________
1 الخلاف بين النحاة عنيف متشعب فيما يصلح للنيابة عند تعدد المفعول به، وتباين أوصافه؛ أهو الأول وحده، فلا يصح إنابة غيره، أم الأول وغيره؛ فيختار واحد بغير تعيين؟ وهل الأول وغيره سواء عند الاختيار، مزية لأحدهما على الآخر؟ وهل بين المفعولين أو الثلاثة ما لا يصلح للنيابة؟ ... و ... و ...
ولا نريد الإرهاق بسرد أوجه الخلاف، وأسبابه، وأدلته كما وردت في المطولات فليس في السرد ما يناسبنا اليوم، وحسبنا أن نستقصي الآراء، ونستصفي مال خير لتقدمه هنا.(2/112)
هنا أصله مبتدأ، والمبتدأ متقدم بحسب أصل رتبته على الخبر، ومثل هذا يقال في: "أعلم السائق المهندس زميله مهملًا"، حيث يجب اختيار الأول؛ لما سلف.
وإذا وقع الاختيار على واحد وجب ترك ما عداه على حاله -كما كان- مفعولًا به منصوبًا 1.
ومما يجب التنبه له أن المفعول الثاني "لظن"، وأخواتها قد يكون جملة -كما سبق في بابها2- فإن كان جملة لم يصح اختياره نائب للفاعل؛ لأن الفاعل ونائبه لا يقعان جملة3 في الراجح، وينطبق هذا على غير "ظن" أيضًا؛ فهو حكم عام فيها وفي غيرها ...
2 وأما المصدر -ومثله اسم المصدر- فيصلح للنيابة عن الفاعل بشرطين؛ أن يكون متصرفًا، ومختصًا، والمراد بالتصرف: ألا يلازم النصب على المصدرية،
__________
1 وإلى بعض ما سبق يشير ابن مالك بقوله:
باتفاق قد ينوب الثان من ... باب: "كسا" فيما التباسه أمن
في باب: "ظن" و"أرى" المنع اشتهر ... ولا أرى منعًا إذا القصد ظهر
يريد: أن النحاة اتفقوا - بناء على ما استنبطوه من كلام العرب - على جواز إنابة المفعول الثاني الذي فعله "كسا" وشبهه، - وهو الفعل الذي ينصب مفعولين، ليس أصلها المبتدأ والخبر - إذا أمن الالتباس، أما إنابة الثاني مما فعله "ظن" أو"رأى" - وأخواتهما فقد بين أن المشهور المنع، وهو لا يوافق على المنع إذا كان القصد ويتضح بالثاني، ولم يتعرض للمفعول الثالث الذي فعله ينصب ثلاثة، وقد ذكرنا أن حكمه كغيره. وسيعاد البيتان لمناسبة أخرى في هامش ص 120.
2 ص 24.
3 قد تقع الجملة نائب فاعل إذا حكيت بالقول، وقصد لفظها بحروفها وضبطها - بالتفصيل المبين "في ب" من ص 53؛ لأنها تكون حينئذ بمنزلة المفرد؛ بسبب قصد لفظها - مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض} ، فيجوز أن تكون جملة: "لا تفسدوا" هي نائب الفاعل مرفوعة بضمة مقدرة على آخرها، منع من ظهورها الحكاية ... ومثل المحكية أيضًا المؤول بالمفرد؛ نحو: عرف كيف جاء علي، أي: عرف كيفية مجيء علي.
"راجع ج1 م 39 - هامش ص 509 - حيث تفصيل الكلام على حالات إعراب: "كيف"، وبنائها وقد أشرنا إليه في رقم 1 من هامش ص 61 و 1 من هامش ص 67، وهذا يشمل المفعول الثاني لظن وغيرها.
أما وقوع الجملة فاعلًا فقد سبق فيه في ص 66 وأن الأرجح المنع.(2/113)
وإنما ينتقل بين حركات الإعراب المختلفة؛ فتارة يكون مرفوعًا، وأخرى يكون منصوبًا، أو مجرورًا، على حسب حالة الجملة؛ مثل: فهم، جلوس، تعلم ... ؛ نحو: الفهم ضروري للمتعلم - إن الفهم ضروري ... - اعتمدت على الفهم ... و ... كذا الباقي ونظائره مما لا يلازم النصب على المصدرية؛ لأن ملازمته النصب على المصدرية تمنع أن يكون مرفوعًا مطلقًا؛ فلا يصلح نائب فاعل أو غيره من المرفوعات.
فإن كان المصدر - أو اسمه 1 - ملازمًا النصب على المصدرية لم يكن متصرفًا، ولم يصح اختياره للنيابة عن الفاعل؛ مثل: "معاذ"؛ فإنه مصدر ميمي لم يشتهر استعماله عن العرب إلا منصوبًا مضافًا2 في نحو: معاذ الله أن يغدر الأمين، ومثل: "سبحان" 3؛ فإنه اسم مصدر لم يشتهر استعماله عن العرب كذلك إلا منصوبًا مضافًا - في الأغلب - فلو وقع أحدهما نائب فاعل لصار مرفوعًا، ولخرج عن النصب الواجب له، وهو ضبط لا يصح مخالفته، ولا الخروج عليه؛ حرصًا على اللغة، ومحافظة على طرائقها المشهورة.
والمراد بالاختصاص: أن يكتسب المصدر من لفظ آخر معنى زائدًا على معناه المبهم، المقصور على الحدث المجرد؛ ليكون في الإسناد إليه فائدة، فالمعاني المبهمة المجردة "مثل؛ قراءة - أكل - سفر ... و ... وأمثالها"؛ يدل كل منها على معناه الذي يفهم من لفظه نصًا، دون زيادة شيء عليه؛ فكلمة: "قراءة" ليس في معناها الحرفي ما يدل على أنها قراءة سهلة أو صعبة، نافعة أو ضارة، و"الأكل" ليس في معناه الحرفي ما يدل على أنه لذيذ أو بغيض، قليل أو كثير، حار أو بارد ... و"السفر" ليس في معنى نصه الحرفي
__________
1و 1 اسم المصدر في جميع ألفاظه وصيغه مقصور على السامع، "كما سيجيء في الباب الخاص بتعريفه وبأحكامه -ج 3 م 99 ص 201- ستأتي لهذه إشارة في رقم 3 من هامش ص 214.
2 "معاذ" في نحو: معاذ الله أن أنس الفضل، مصدر ميمي نائب عن اللفظ بفعله، "أي: يغني عن التلفظ بفعله"، والأصيل أعوذ بالله معاذًا، ثم حذف الفعل، وقام المصدر نائبًا عن لفظه، وأضيف، فصار: معاذ الله ويعرب مفعولًا مطلقًا، وستجيء إشارة له في ص 236 م 76، ولاستعماله غير مضاف، لضرورة الشعر".
3 اسم مصدر معناه: التسبيح، وفعله: سبح، وستجيء إشارة له في ص 234 م 76؛ ولاستعماله في ضرورة الشعر غير مضاف.(2/114)
ما يدل على أنه سفر قريب أو بعيد، سهل أو شاق، مرغوب فيه أو مرغوب عنه.. وهكذا يدل المصدر وحده -وكذا اسمه- على المعنى المجرد، أي: على ما يسمونه: "الحدث المحض" فمثل هذا المصدر، أو اسمه لا يصلح أن يكون نائب فاعل؛ لأن الإسناد إليه لا يفيد معنى جديد أكثر من معنى فعله، فكأنه جاء لتأكيد معنى فعله، وتوكيد المعنى الموجود ليس هو المقصود الأساسي من الإسناد، ولا يوصف بأنه معنى جديد، فلا يصح أن يقال: علم علم، فهم فهم ... إذ لا بد مع المصدر من زيادة معنى جديد على معناه الأصلي، ليكون صالحا للنيابة عن الفاعل، وهذه الزيادة تأتيه من خارج لفظه، وهي التي تجعله مختصا.
وتحدث بواحد أو أكثر من أمور متعددة؛ منها: وصفه؛ نحو: علم علم نافع - فهم فهم عميق، ومنها: إضافته؛ نحو: علم علم المخترعين، وفهم فهم العباقرة. ومنها: دلالته على العدد؛ نحو: قرئ عشرون قراءة ... وغير هذا من كل ما يزيل إبهام المصدر، واسمه، ويزيد معناهما على مجرد تأكيد معنى الفعل، ويجعل الإسناد إليهما مفيدًا فائدة جديدة أساسية.
ومما سبق نعلم لمراد من قولهم المختصر: "إن المصدر يصلح للنيابة إذا كان مفيدًا"، ويكتفون بهذه الجملة؛ لأن الإفادة لا تحقق إلا بالشرطين السالفين وهما: "التصرف والاختصاص".
3 وأما الظرف بنوعيه فيصلح للنيابة عن الفاعل إذا كان مفيدًا أيضًا، وهذه الفائدة تتحقق بشرطين، أن يكون الظرف متصرفًا كامل التصرف، وأن يكون مختصًا.
والمراد بالتصرف الكامل: صحة التنقل بين حالات الإعراب المختلفة؛ من "رفع، إلى نصب، إلى جر؛ على حسب حالة الجملة"، وعدم التزامه النصب على الظرفية وحدها دائمًا، أو النصب على الظرفية مع الخروج عنها أحيانًا إلى شبه الظرفية، وهو الجر بالحرف "من" 1 - في الغالب؛ لأن عدم تصرفه
__________
1 ينقسم الظرف -باعتبار التصرف وعدمه- إلى ثلاثة أقسام: ظرف كامل التصرف، وظرف ناقص التصرف، ويسمى أيضًا التشبيه بالمتصرف -وظرف غير متصرف مطلقًا، وسيجيء هنا موجز عنها، أما تفصيل الكلام على الأقسام كلها ففي باب الظرف ص 242 م 78.(2/115)
الكامل يمنع وقوعه مرفوعًا - نائب فاعل أو غيره من المرفوعات، كما سبق - فمثال الظرف الكامل التصرف: يوم - زمان - قدام - خلف؛ لأنك تقول: اليوم يوم طيب - قضيت يومًا طيبًا - تطلعت إلى يوم طيب ... وتقول: قدامك فسيح - إن قدامك فسيح - سأتجه إلى قدامك، فهذه الظروف المتصرفة يصح وقوعها نائب فاعل إن كانت مختصة1.
ومثال الظرف غير المتصرف مطلقا، "وهو يلازم النصف على الظرفية وحدها": قط2 - عوض 3 - إذا - سحر؛ "بشرط أن يراد به سحر يوم معين دون غيره؛ ليكون ظرفصا ملازمًا للنصب"، فلا يصح أن يقع واحد من هذه الظروف - وأشباهها - نائب فاعل؛ فلا يقال عنه نائب فاعل في مثل: ما كتب قط - لن يكتب عوض - مما يجاء إذا جاء الصديق - مدح سحر. لا يقال ذلك4 لعدم تحقق الفائدة المطلوبة من الإسناد، ولئلا يخرج الظرف عن الظرفية إلى غيرها، وهي الحكم الدائم الثابت له في الكلام العربي الأصيل الذي لا تجوز مخالفة طريقته.
ومثال الظروف الشبيه بالمتصرف "أي: الظرف ناقص التصرف، وهو الذي لا يترك النصب على الظرفية إلا إلى ما يشبهها؛ وهو الجر بالحرف "من" -غالبًا-
__________
1 "ملاحظة": إذا صار الظرف نائب فاعل، أو شيئًا آخر غير النصب على الظرفية، فإنه لا يسمى ظرفًا -كما سيجيء في بابه، ص 244.
2 ستجيء له إشارة أخرى في "ب" من ص 261، والأشهر في ضبطه أن يكون بفتح القاف مع تشديد الطاء المضمومة، وأن يفيد استغراق الزمن الماضي كله منفيًا؛ لأنه -في الأشهر- لا بد أن يسبقه النفي أو شبهه؛ نحو: ما تأخرت قط، أي: ما تأخرت فيما انقضى من عمري إلى الآن، وهو ظرف مبني على الضم، "وفيه لغات أخرى أقل شيوعًا".
و"قط" هذه غير التي في مثل: تصدق بدرهمين أو ثلاثة فقط، فإن هذه بمعنى: حسب"، والفاء زائدة لتزيين اللفظ.
"وتفصيل المسألة وإيضاحها في ج 1 م 30 ص 382 عند بيت مالك في باب: " المعرف بأل": "أل" حرف تعريف أو اللام فقط ... ".
3 هو ظرف لاستغراق الزمن المنفي؛ لأنه -في الغالب- يكون مسبوقًا بالنفي. وحكمه عند عدم إضافته: البناء على الضم أو الفتح أو الكسر، فإن أضيف كان معربًا؛ نحو: لن أنافق عوض العائضين -كما سيجيء في "ب" من ص 261.
4 لا يقال ذلك؛ سواء اعتبرنا كلا منهما نائب فاعل، مرفوعًا مباشرة، أو اعتبرناه غير معرب، أي: نائبًا مبنيًا في محل رفع.(2/116)
كما سبق " عند - ثم - مع ... وهذا النوع لا يصلح للنيابة عن الفاعل؛ لأنه كسابقه - لا يفيد الفائدة المطلوبة من الإسناد؛ ولأنه لا يصح إخراجه عن الحكم والضبط الذي استقر له وثبت في الكلام العربي المأثور؛ وهو النصب أو الجر الغالب بمن، فلا يقال: قرئ عند، ولا كتب ثم؛ ولا عرف مع1.
والمراد بالاختصاص هنا: أن يزاد على معنى الظرف معنى جديد آخر يكتسبه من كلمة تتصل به اتصالًا قويًا؛ ليزول الغموض والإبهام عن معناه، كأن يكون الظرف مضافًا؛ نحو: أذن وقت الصلاة - نودي ساعة البيع ... أو يكون موصوفًا؛ نحو: قضي شهر جميل في المصايف - قطع يوم كامل في السفر - أو يكون معرفًا2؛ نحو: يحب اليوم؛ لأنه معتدل، أو غير ذلك مما يزيد معنى جديدا على الظرف، ويخرج معناه السابق من الإبهام والتجرد.
4 وأما الجار مع مجروره فإن كان حرف الجر زائدًا - نحو: ما صودر من شيء - فلا خلاف أن النائب هو المجرور وحده - "وأنه مجرور لفظًا، مرفوع محلًا، فيجوز في التوابع مراعاة لفظه أو محله.
أما حرف الجر الأصلي مع مجروره - نحو: قعد في الحديقة الناضرة، فالصحيح أن الذي ينوب منهما عن الفاعل هو المجرور وحده 3 "برغم أن الشائع
__________
1 بعض النحاة يجير في مثل: جلس عندك - بإضافة الظرف إلى الضمير - أن يكون الظرف منصوبًا على الظرفية مع كونه في الوقت نفسه في محل رفع بالنيابة عن الفاع، ويجيز في قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ... وقوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أن يكون الظرف في الآية الأولى منصوبًا على الظرفية في محل رفع فاعلًا، وأن يكون في الآية الثانية منصوبًا على الظرفية في محل رفع مبتدأ. وهذا غريب، والمشهور في الآيتين ونظائرهما مما يضاف فيه الظرف إلى المبني أن يبنى على الفتح جوازًا؛ فيكتسب البناء من المضاف إليه.
وفي هذه الحالة التي يبنى فيها على الفتح جوازًا تكون فتحته فتحة بناء، لا فتحة إعراب، فيكون مبنيا على الفتح في محل رفع، أو نصب، أو جر على حسب حاجة الجملة.
2 ومنه التعريف بالعلمية؛ مثل: رمضان، للشهر المعروف، ومثل: "سحر" - في رأي - إذا جعل علمًا على سحر يوم معين عند القائلين بعلميته.
3 فهو مجرور في الظاهر، ولكنه في المعنى والتقدير مرفوع، ولا يصح - في الرأي القوي - مراعاة هذا المعنى والتقدير في التوابع أو غيرها؛ فهو أمر ملاحظ عقليا فقط، ولا يجوز مراعاته أو تطبيق حكمه على غيره، شأنه في ذلك شأن المجرور بحرف جر أصلي بعد فعل لازم مبني للمعلوم؛ نحو: قعد الرجل في البيت، فإن كلمة: "البيت" مجرورة في اللفظ؛ لكنها في المعنى والتقدير منصوبة؛ لأنها بمنزلة المفعول به للفعل اللازم، ولا يصح في الرأي الأحسن مراعاة هذا النصب في التوابع أو غيرها؛ فنصبها التقديري أمر ملاحظ فيها عقليا، مقصور عليها وحدها؛ فالمجرور بحرف جر أصلي مع الفعل المبني للمجهول مرفوع "محلًا"، ورفعه هذا مقصور عليه، والمنصوب حمًا مع الفعل المبني للمعلوم منصوب محلًا، ونصبه هذا مقصور عليه؛ فكلاهما يشبه الآخر في حركة معنوية عقلية، مقصورة عليه وحده؛ لا يظهر لها أثر في غيره، "انظر رقم 1 من هامش ص 126 ثم رقم 3 من هامش 151 لأهميته حيث تجد رأيا آخر، وتعليقًا عليه".(2/117)
على الألسنة هو: الجار مع مجروره، ولا مانع من قبوله تيسيرًا وتخفيفًا"1.
ويشترط لإنابتهما أن يكون الإسناد إليهما مفيدًا، وتتحقق الفائدة بأمرين؛ أن يكون حرف الجر متصرفًا، وأن يكون مجروره مختصًا.
والمراد من التصرف في حرف الجر ألا يلتزم طريقة واحدة لا يخرج عنها إلى غيرها.
كأن يلتزم جر الأسماء الظاهرة فقط؛ "ومن أمثلته: مذ - منذ - حتى "، أو جر النكرات فقط؛ "ومن أمثلته: رب" أو يلتزم جر نوع آخر معين من الأسماء؛ "كحروف القسم؛ فإنها لا تجر إلا مقسمًا به، وكحروف الجر التي للاستثناء "وهي: خلا - عدا - حاشًا"، فإنها لا تجر إلا المستثنى، ومثل: مذ ومنذ: فإنهما لا يجران إلا الأسماء الظاهرة الدالة على الزمان"، فلا يصح وقوع شيء من تلك الحروف مع مجروراتها نائب فاعل؛ فلا يقال نائب فاعل في مثل: صنع منذ الصبح، ولا زرع حتى الشاطئ، ولا قوتل رب رجل عنيد ... و ... 2.
والمراد بالاختصاص: أن يكتسب الجار مع مجروره معنى زائدًا فوق معناهما
__________
1 وفوق ذلك يريحنا من أنواع مرهقة من الجدل الثقيل حول إثبات أن النائب هو حرف الجر وحده، أو مجروره وحده ... و ...
2 وكذلك يشترط ألا يكون معنى حرف الجر هو: "التعليل" كالذي يفهم من "اللام" و"الياء" وقد يفهم من حرف الجر "من" أحيانًا، والداعي لهذا الاشتراط عنهم أن حرف الجر حين يكون معناه التعليل يكون مجروره مبينًا على سؤال مقدر، أي: يكون بمنزلة جواب عن سؤال مقدر؛ فكأن المجرور من جملة أخرى، ويمثلون له بأمثلة منها قول الشاعر:
يغضي حياء، ويغضي من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم
أي: يغضي هو، أي الطرف؛ لأن الإغضاء خاص بالطرف؛ فيدل عليه، ولا يصح عندهم أن يكون الجار والمجرور نائب فاعل؛ لأن معنى حرف الجر هنا: "التعليل"، فالمجرور مبني على سؤال مقدر، هو: لماذا يغضى؟ فأجيب: من مهابته، فكأن الجواب من جملة أخرى في رأيهم -كما سبق- لكن كيف نوفق بين هذا الرأي، وما يخالفه مما يأتي في: "أ" ص 122 الإجابة هناك.(2/118)
الخاص بهما، ويجيئهما هذا المعنى الزائد من لفظ آخر يتصل بهما؛ كالوصف، أو المضاف إليه، أو غيرهما، مما يكسبهما معنى جديدًا؛ فتحصل الفائدة المطلوبة من الإسناد.
ومن أمثلة الجار والمجرور المستوفيين للشروط: أخذ من حقل ناضج - قطع في طريق الماء، فلا يصح: أخذ من حقل - قطع في طريق.
من كل ما سبق نعرف أن "الإفادة" هي الشرط الذي يجب تحققه فيما ينوب عن الفاعل من مصدر، أو ظرف، أو جار مع مجروره، وأن هذه الإفادة تنحصر في التصرف والاختصاص معًا.
5- يلحق بما تقدم الجملة المحكية بالقول، وكذا المؤولة بالمفرد، طبقًا للبيان الذي سلف1 عنهما.
إلى هنا انتهى الكلام على الأشياء التي يصلح كل واحد منها أن يكون نائب فاعل إذا لم يوجد غيره في الجملة، فإذا وجد أكثر من واحد صالح للإنابة لم يجز أن ينوب عن الفاعل إلا واحد فقط؛ لأن نائب الفاعل -كالفاعل- لا يتعدد لكن ما الحق بالنيابة عند وجود نوعين مختلفين، صالحين، أو أكثر؟ يميل كثير من النحاة إلى الرأي القائل باختيار المفعول به2 دائمًا، "أي في كل الحالات"؛ ليكون هو النائب؛ ويفضلونه على غيره، وهم -مع ذلك- يجيزون ترك الأفضل؛ ففي مثل: أنشد الشاعر القصيدة إنشادًا بارعًا في الحفل أمام الحاضرين، يكون الأفضل عندهم -حين بناء الفعل للمجهول- اختيار المفعول به نائبًا؛ فيقال: أنشدت القصيدة، إنشادًا بارعًا، في الحفل أمام الحاضرين، ولا مانع من ترك الأفضل واختيار غيره، كما قالوا.
__________
1 في رقم 3 من هامش ص 113.
2 ويبالغون، فيفضلونه، ولو كان من نوع المفعول به المنصوب على نزع الخافض، ويترتب على هذا الاختيار بعض صور لها أحكام خاصة، منها ما سيجيء في "ج" من ص 122.(2/119)
والحق أن الرأي السديد الأنسب هو أن نختار من تلك الأنواع ما له الأهمية في إيضاح الغرض، وإبراز المعنى المراد، من غير تقيد بأنه مفعول به أو غير مفعول به، وأنه أول أو غير أول، متقدم على البقية أو غير متقدم، ففي مثل: "خطف اللص الحقيبة من يد صاحبتها أمام الراكبين في السيارة" - تكون نيابة الظرف: "أمام" أولى من نيابة غيره؛ فيقال خطف أمام الراكبين في السيارة الحقيبة من يد صاحبتها؛ لأن أهم شيء في الخبر وأعجبه أن تقع الحادثة أمام الراكبين، ويحورهم؛ وهم جمع كبير يشاهد الحادث فلا يدفعه، ولا يبالي بهم اللص ...
وقد تكون الأهمية في مثال آخر: للجار والمجرور؛ نحو: سرف في ديوان الشرطة سلاح جنودها ... وهكذا1.
__________
1 وفيما سبق يقول ابن مالك:
قابل من ظرف أو من مصدر ... أو حرف جر بنيابة حري
يريد: أن اللفظ القابل للنيابة حر "أي: حقيق وجدير بها" إذا كان ذلك اللفظ ظرفًا أو مصدرًا؛ أو حرف جر، ولعل ابن مالك يريد: أو مجرور الحرف "فكلمة "قابل" مبتدأ خبره: "حر" وقد حذف التنوين ورجعت الياء عند الوقف؛ فصارت "حرى"، وقوله: "من ظرف" جار ومجرور، حال من الضمير في "قابل" أو صفة لقابل؛ فتقدير البيت نحويًا هو: ولفظ قابل للنيابة حر بنيابة؛ حالة كون هذا اللفظ ظرفًا، أو مصدرًا، أو حرف جر - أو هذا اللفظ موصوف بأنه من ظرف، أو من مصدر، أو حرف جر، ثم قال بعد ذلك:
ولا ينوب بعض هذي إن وجد ... في اللفظ مفعول به وقد يرد
يريد أنه لا يصح -في الغالب- إنابة شيء مما ذكره في البيت السابق مع وجود المفعول به، ثم عاد فقرر أنه قد يرد في الكلام الصحيح إنابة غير المفعول به مع وجوده، ثم سرد بعد ذلك بيتين سبق شرحهما في مكانهما الأنسب من هذا الباب ص 113 - وهما:
وباتفاق قد ينوب الثان من ... باب "كسا" فيما التباسة أمن
في باب: "ظن وأرى" المنع اشتهر ... ولا أرى منعًا إذا القصد ظهر
ثم ختم الباب بالبيت التالي:
وما سوى النائب مما علقًا ... بالرافع، النصب له، محققًا
يريد: أن النائب عن الفاعل سيصير مرفوعًا؛ لتعلق معناه بالفعل الرافع له؛ فلأن معناه علق =(2/120)
ومثل هذا يقال عند حذف الفاعل، وعدم وجود مفعول به في الجملة ينوب عنه، مع وجود أنواع أخرى تصلح للنيابة: فإن اختيار بعض هذه الأنواع دون بعض يقوم على أساس الأهمية ودرجتها؛ فما كان أكبر أهمية وأعظم تحقيقًا للمراد من الجملة، فهو الأحق بالاختيار، والأولى بالنيابة.
__________
= برافعه "وثبت أنه رافعه" لا بد أن يرتفع، وما سوى هذا النائب فالنصب له، أي: حكمه النصب "وكلمة محققًا، حال من الضمير، الهاء في: "له"، فإذا وجد في الكلام مفعول به أو أكثر، ومعه شيء آخر يصلح للنيابة عن الفاعل -فالذي وقع عليه الاختيار للإنابة يرتفع، وما عداه ينصب لفظًا، إلا الجملة المحكية، والمؤولة بالمفرد، وقد سبق حكمها في رقم 3 من هامش ص 113، وإلا المجرورة، فيبقى جزء على حاله لفظًا، وينصب محلًا، بالتفصيل الذي عرضناه.(2/121)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- في الإنابة عن الفاعل لا يجوز إنابة الحال، والمستثنى، والمفعول معه، والتمييز الملازم للنصب، والمفعول لأجله؛ فكل واحد من هذه الخمسة لا يصلح للإنابة؛ لأنها تخرجه من مهمته الخاصة، وتنقله إلى غيرها، وقد تتغير حركته الملازمة له. لكن فريقًا من النحاة يرى -بحق- جواز نيابة التمييز المجرور بالحرف "من"، وكذا نيابة المفعول لأجله المجرور، بشرط أن يحقق كل منهما الفائدة المطلوبة منه، والغرض من وجوده؛ نحو: يقام لإجلال العلماء النافعين، ويفاض من سرور رؤيتهم، ويسمى كل منهما: نائب فاعل، ويزول عنه الاسم السابق، ورأي هذا الفريق حسن1.
ب- الصحيح أنه لا يجوز إنابة خبر "كان"2 ولا سيما المفرد؛ لعدم الإفادة؛ فلا يصح؛ كين قائم، "على فرض استساغته"؛ إذ معناه كما يقولون: حصل كون لقائم، ومن المعلوم أن الدنيا لا تخلو من حصول كون لقائم.
جـ- عرفنا3 أن جمهرة النحاة تختار المفعول به -دون غيره- لإقامته نائبًا عن الفاعل المحذوف عند تعدد الأنواع الصالحة للنيابة، وقد شرحنا رأيهم، وأوضحنا ما فيه، ويترتب على الأخذ برأيهم ما يأتي:
إذا قلت: زيد في أجر الصانع عشرون - كانت "عشرون" باعتبارها مرفوعة النائب عنه الفاعل، ولا يكون الفعل متحملًا ضميرًا، ولا يلحق بآخره علامة تثنية أو جمع.
أما إذا قدمت: "الصانع" فقلت: الصانع زيد في أجره عشرون -فيجوز أحد أمرين:
1- أن تكون: "عشرون" مرفوعة على أنها نائب الفاعل، والفعل معها خال
__________
1 لكن كيف نوفق بين هذا الرأي، وما يخالفه مما سبق في رقم 2 من هامش ص 118؟ في الرأي الآخر تضييق بغير داع.
2 هذا الحكم خاص بخبر كان -دون أخواتها "انظر رقم 1 من هامش ص 107".
3 في ص 119.(2/122)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الضمير، فلا يتصل بآخره علامة تثنية أو جمع، وفي هذه الصورة يجب بقاء الحال والمجرور، واشتماله على ضمير مطابق للاسم السابق - المبتدأ - ويكون هو الرابط، مثل: الصانعان زيد في أجرهما عشرون - الصانعون زيد في أجرهم عشرون ... وهكذا.
2- نصب كلمة: "عشرين" على أنها ليست نائب فاعل1، وإنما النائب ضمير مصتل بالفعل؛ لأن الفعل في هذه الصورة يتحمل الضمير مستترًا أو بارزًا، يعود على المبتدأ ويطابقه ويكون هو الرابط، وفي هذه الحالة يمكن الاستغناء عن الجار ومجروره، أو عدم الاستغناء مع بقاء الضمير الذي في آخر المجرور، ومطابقته أيضًا للمبتدأ: "تقول: الصانعان زيدًا عشرين أو: الصانعان زيدًا في أجرهما عشرين" - "الصانعون زيدوا عشرين، أو الصانعون زيدوا في أجرهم عشرين ... " وهكذا.
__________
1 والأحسن في هذه الصورة أن تعرب مفعولا مطلقا "أي: نائبة عن المصدر".(2/123)
المسألة 69: اشتغال العامل عن المعمول
أ- في مثل: "شاورت الخبير" - يتعدى الفعل المتصرف: "شاور" بنفسه إلى مفعول به واحد؛ فينصبه؛ ككلمة: "الخبير" هنا، ويجوز - لسبب بلاغي، أو غيره - أن يتقدم هذا المفعول به الواحد على فعله1، ويحل في مكانه بعد تقدمه أحد شيئين:
إما ضمير عائد إليه، يعمل فيه الفعل الموجود النصب مباشرة، ويستغنى به عن ذلك المفعول المتقدم، فنقول: الخبير شاروته "فالهاء ضمير حل محل المفعول السابق، واكتفى به الفعل".
وإما لفظ ظاهر آخر، يعمل فيه الفعل المنصرف النصب أيضًا؛ بشرط أن يكون هذا اللفظ الظاهر سببًا2 للمفعول به المتقدم الذي استغنى عنه الفعل، وأن يكون مشتملًا على ضمير يعود على ذلك المفعول به؛ نحو: الخبير شاورت زميله، فاللفظ الظاهر: "زميل" هو الذي حل محل المفعول به السابق، وهو سببي له ومضاف، والضمير في آخره مضاف إليه، عاد على المفعول به المتقدم.
والسببي في هذا المثال مضاف، ولكنه في مثال آخر قد يكون متبوعًا بنعت، ونعته هو المشتمل على الضمير المطلوب؛ نحو: التجارة عرفت رجلًا يتقنها؛ فجملة "يتقنها" نعت، وفيها الضمير العائد، وقد يكون متبوعًا بعطف بيان مشتمل على ذلك الضمير أيضًا؛ نحو: الصديق أكرمت الولد أباه، وقد يكون متبوعًا
__________
1 بشرط ألا يفصل بين الفعل والمفعول به المتقدم فاصل، غير توابع الاسم المتقدم "من: النعت والتوكيد والعطف البياني، أو العطف بالواو، والبدل"، وغير المضاف إليه، وغير الظرف، وغير الجار ومجروره، ويصح الفصل بالأمرين؛ الظرف والجار ومجروره معًا، كما يجوز الفصل بما لا بد منه مما يقتضيه المقام، وذكر الضمير، فإن كان العامل وصفًا صالحًا للعمل جاز الفصل - كما سيجيء في ص 129.
2 المراد بالسببي للاسم: كل شيء له صلة وعلاقة بذلك الاسم، سواء أكانت صلة قرابة، أم صدقة، أم عمل أم غير هذا معًا يكون فيه جمع، وارتباط بين الاسمين بنوع من أنواع الجمع والارتباط.(2/124)
بعطف نسق بالواو -دون غيرها- مشتملًا على الضمير المذكور، نحو: الزميلة أكرمت الوالد وأهلها، ولا يصلح من التوابع سببي غير أحد هذه الثلاثة.
ومن الممكن حذف ما حل محل المفعول به السابق من ضميره العائد إليه مباشرة، أو سببية المشتمل على ضميره يعود عليه كذلك، ومتى وقع هذا الحذف صار الاسم المتقدم مفعولًا به للفعل المتأخر عنه كما كان، وتفرغ هذا الفعل لنصبه.
وكالأمثلة السابقة نظائرها؛ نحو: يصاحب العاقل الأخيار ... أنجز الوعد ... وأشباههما؛ حيث ينصب الفعل المتصرف مفعولًا به واحدًا1؛ يجوز أن يتقدم على عامله، ويحل محله أحد الشيئين؛ إما ضميره العائد عليه مباشرة، والذي يعمل فيه الفعل الموجود النصب، ويستغنى به عن المفعول السابق؛ فنقول: الأخيار يصاحبهم العاقل - الوعد أنجزه - وإما لفظ ظاهر سببي يشتمل على ضمير يعود على المفعول به المتقدم، ويشتغل الفعل الموجود بنصبه، ويكتفي به عن ذلك المفعول؛ فنقول: الأخيار يصاحب العاقل زملاءهم - الوعد أنجز صاحبه ... وهكذا، من غير أن نتقيد في السببي بأن يكون مضافًا؛ فقد يكون مضافًا، أو منعوتًا، أو عطف بيان، أو عطف نسف بالواو، مع اشتمال كل واحد على الضمير العائد إلى الاسم السابق.
ويصح - كما سبق - حذف الضمير العائد على ذلك الاسم المتقدم، كما يصح حذف السببي وما فيه من ضمير عائد عليه أيضًا؛ فيصير الاسم المتقدم في الحالتين مفعولًا به للفعل المتأخر، ويتفرغ هذا الفعل لنصبه بعد أن كان قد انصرف عنه إلى الضمير المباشر، أو إلى السببي.
ب- وليس من اللازم أن يكون الفعل المتصرف متعديًا بنفسه مباشرة إلى المفعول به الواحد؛ وإنما يجوز أن يكون هذا الفعل قاصرًا لا يتعدى إلى المفعول به إلا بمساعدة حرف جر أصلي؛ نحو: فرحت بالنصر؛ فالفعل: "فرح" لازم لم ينصب مفعوله "وهو: النصر" بنفسه مباشرة؛ وإنما نصبه بمعونة حرف الجر:
__________
1 وقد ينصب أكثر من واحد، ولكن الذي يتقدم عليه واحد فقط - كما سيأتي في رقم 2 من هامش ص127.(2/125)
"الباء"، فكلمة "النصر" في ظاهرها مجرورة بالباء، ولكنها في المعنى والحكم بمنزلة المفعول به1، ويصح في هذه الكلمة المجرورة التي تعتبر بمنزلة المفعول به في المعنى والحكم، أن تتقدم وحدها -دون حرف الجر- على فعلها؛ بشرط أن يحل محلها بعد حرف الجر مباشرة أحد الشيئين: إما الضمير الذي يعمل فيه الفعل معًا وحكمًا، والذي يعود على المفعول به المعنوي السابق؛ نحو: النصر فرحت به، وإما لفظ آخر سببي، يعمل فيه الفعل، ويشتمل على ضمير يعود على المفعول به المعنوي "المحكمي" السابق، نحو: النصر فرحت بأبطاله2.
ومثل هذا يقال في النظائر: من نحو؛ ينتصر الحق على الباطل - سر في طريق الخير ... ، حيث يصح: الباطل ينتصر الحق عليه - الباطل ينتصر الحق على أعوانه - طريق الخير سر فيه - طريق الخير سر في جوانبه، وهكذا، من غير أن نتقيد في السببي بأن يكون مضافًا؛ فقد يصح أن يكون واحدًا من التوابع الثلاثة التي ذكرناها.
ومن الممكن حذف الضمير أو السببي، فيرجع الاسم السابق إلى مكانه القديم فيعمل فيه عامله الجر.
جـ- وليس من اللازم أيضًا أن يكون العامل فعلًا، فقد يكون3 اسم
__________
1 ومع أنها بمنزلة المفعول به معنى وحكمًا لا يجوز نصبها مع وجود حرف الجر قبلها، كما لا يجوز -في الرأي الأنسب- اعتبارها في محل نصب: ولهذا لا يصح في توابعها إلا الجر فقط.
"راجع رقم 3 من هامش ص 117 ثم رقم 3 من هامش ص 151 م 70 - حيث الرأي الآخر، والتعليق عليه".
2 إذا كان الاسم المشتغل عنه ظرفًا وجب في الضمير العائد عليه أن يجر بالحرف "في" نحو: يوم الخميس سافرت فيه، وهذا هو المشهور، ويجوز حذف حرف الجر؛ توسعًا، فيقال: سافرته؛ طبقًا للبيان المفصل الذي سيجيء في رقم 3 من هامش ص 247، ورقم 1 من هامش ص 252.
3 لا يكون العامل هنا إلا فعلًا متصرفًا، أو اسم فاعل، أو صيغة مبالغة، أو اسم مفعول، ولا يكون صفة مشبهة، ولا تفضيلًا، ولا وصف آخر؛ لأن ما بعد هذه الثلاثة من معمولاتها لا يكون مفعولًا به، ويشترط في هذا الوصف العامل ألا يوجد ما يمنعه من العمل في المتقدم؛ كاسم الفاعل المبدوء بكلمة "أل"، وكذلك إذا كان مجردًا منها ومعناه المضي المحض، فإنه لا ينصب مفعولًا به بعده، فلا يصلح أن يوضح عاملًا قبله، أو يرشد إليه إن كان محذوفًا، فلا اشتغال في مثل: المخترع أنا المادحه، ولا المخترع أنا مادحه أمس، ولا اشتغال إذا كان اسم المفعول للماضي، أو مقرونًا بأل، أو كان العامل اسم فعل؛ لأن اسم الفعل لا يتقدم معموله عليه؛ فهو لا يعمل فيما قبله؛ والذي لا يتقدمه مفعوله لا يصلح أن يكون موضحًا ولا دالًا على عامل قبله محذوف، لهذا السبب نفسه لا يصح الاشتغال إذا كان العامل مصدرًا، ... أو فعلا جامدًا، كفعل التعجب، وعسى، وليس، وغيرها من كل ما ليس له مفعول به، أو لا يصلح أن يتقدم عليه مفعوله، هذا إلى أن العامل في الاشتغال لا بد أن يكون مشتقًا والمصدر وما بعده مما ذكرناه هنا - ليس مشتقًا، نعم يجوز الاشتغال في المصدر، وفي اسم الفعل، وفي ليس، عند من يجيز تقديم معمول الأولين، وخير ليس، نحو: محمودًا لست مثله، أي: باينت محمودًا لست مثله، وهو رأي - على قلة أنصاره - مقبول، وفيه توسعة.(2/126)
فاعل، أو: اسم مفعول، فنحو: أنا مشارك الأمين، نقول فيه: الأمين أنا مشاركة1 - الأمين أنا مشارك رفاقه، ونحو: الحق منصور على الباطل، نقول فيه: الباطل الحق منصور عليه - الباطل الحق منصور على شياطينه.
فمتى تقدم المفعول به على عامله، وحل محله ما يشغل مكانه، ويغني العامل عن ذلك المفعول به المتقدم، فقد تحقق ما يسميه النحاة: "اشتغال العامل عن المعمول"، ويقولون في تعريف الاشتغال.
أن يتقدم اسم واحد2، ويتأخر عنه عامل يعمل في ضميره مباشرة، أو يعمل في سببي للمتقدم، مشتمل على ضمير يعود على المتقدم، بحيث لو خلا الكلام من الضمير الذي يباشره العامل، ومن السببي، وتفرغ العامل للمتقدم - لعمل فيه النصب لفظا، أو معنى "حكما" حكما كما كان قبل التقدم.
فلا بد في الاشتغال من ثلاثة أمور مجتمعة، "مشغول"، وهو: العامل، ويسمى أيضا: "المشتغل"، وله شروط عرفناها3، "ومشغول به": وينطبق على الضمير العائد على الاسم السابق مباشرة، كما ينطبق على اللفظ السببي الذي له ضمير يعود على ذلك المتقدم، و"مشغول عنه"، وهو: الاسم المتقدم الذي
__________
1 سيأتي في الجزء الثالث "باب اسم الفاعل، م 102 ص 214 - الهامش رقم 1" ما نصه: "في هذا المثال - وأشباهه - نجد الاسم السابق منصوبًا مع أن الضمير الراجع إليه مجرور، لكنه مجرور في حكم المنصوب: لأن كلمة: مشارك"، أو"مساعد" - ونظائرهما في مثل هذا التركيب في حكم الفعل، وتنوينها ملحوظ، وإن لم يكن ملفوظًا، فالضمير هنا كالضمير في مثل: "أعليا مررت به" مجرور في حكم المنصوب "راجع شرح المفصل ج 6 ص 69"، وانظر "ب" السابقة ص 125.
2 التقييد بواحد هو الرأي الصحيح عند عدم تعدد العامل المقدر، ولا مانع أن يكون العامل متعديا إلى أكثر من واحد، ولكن الذي يتقدم عليه هو معمول واحد له - كما سبق في رقم1 من هامش ص125.
3 في الصفحات السابقة، وفي رقم3 من هامش ص126، وانظر رقم1 من ص138.(2/127)
كان في الأصل متأخرا، مفعولا به حقيقيا أو معنويا "حكميا"، ثم تقدم على عامله، وترك مكانه للضمير المباشر، أو للسببي، فانصرف العامل عن المفعول، واشتغل بما حل محله.
ولا بد في هذا الاسم المتقدم أن يتصل بعامله بغير فاصل ممنوع بينهما1 إذا
__________
1 وقد سبق في رقم1 من هامش ص124 ما يجوز الفصل به.
وفي بيان "الاشتغال" وتوضيح أمره يقول ابن مالك:
إن مضمر اسم سابق فعلا شغل ... عنه بنصب لفظه أو المحل-1
فالسابق انصبه بفعل أضمرا ... حتما موافق لما قد أظهرا-2
"أي: إن شغل ضمير اسم سابق فعلا، عن نصب الاسم السابق لفظا أو محلا، مثل: البيت قعدت فيه - فانصب الاسم السابق بفعل مضمر "أي: غير ظاهر؛ لأنه محذوف" حتما، أي: إضمارا حتما، لا مفر منه في حالة النصب؛ لأنه محذوف، ويكون ذلك الفعل المحذوف موافقا للفعل الظاهر في الجملة من ناحية اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط -كما سيأتي-" ذلك تقدير البيتين ومعناهما، مع ما فيهما من التواء النظم، بسبب التقديم والتخير، والحذف.
يريد: حين يوجد اسم متقدم على فعله، ولهذا الاسم المتقدم ضمير يعود عليه، ويشغل فعله بدلا من نصب السابق لفظا أو محلا -فإن ذلك الاسم السابق يجوز نصبه، ولكن بفعل غير ظاهر حتما، فلا يجوز إظهاره، ويكون هذا الفعل المحذوف موافقا للفعل المذكور "فكلمة حتما: صفة لمصدر محذوف، أي: إضمارا حتما، فتعرب مفعولا مطلقا، و"بنصب" بمعنى عن: نصب، فالباء بمعنى: "عن" ثم بين بعد أبيات: أن العامل قد يتعدى إلى مفعوله بمساعدة حرف جر، فينصبه محلا، "أي: حكما" حين لا يتعدى إليه مباشرة، وعندئذ يفصل حرف الجر بينهما، وقد يفصل بينهما المضاف حين يكون المضاف إليه هو الضمير العائد للاسم السابق، والحكم في حالة فصل العامل المشغول كالحكم في حالة وصله المباشر بالمعمول، فيقول:
وفصل مشغول بحرف جر ... أو بإضافة كوصل يجري-1
وصرح بعد ذلك بأن العامل هنا قد يكون فعلا أو وصفا عاملا، فالوصف العامل يساوي الفعل فيما تقدم، بشرط ألا يوجد مانع يمنع الوصف من العمل ونصب مفعوله إذا تقدم، فيقول:
وسو في ذا الباب وصفا ذا عمل ... بالفعل، إن لم يك مانع حصل-11
وقد شرحنا من قبل -في رقم3 من هامش ص126- نوع الوصف الذي يصلح للعمل هنا، والمانع الذي يعوقه عن العمل، وسبب ذلك ثم ختم الباب بالبيت التالي:
وعلقة حاصلة بتابع ... كعلقة بنفس الاسم الواقع-12
ومضمونه: أن السبي الخالي من الضمير إذا كان له تابع يشمل على ضمير عائد على الاسم السابق فإن العلقة "أي: العلاقة" تحصل وتتم بين العامل والتابع كما تحصل وتتم بالاسم الواقع بعد العامل مباشرة، وهذا الاسم هو ضمير المتقدم، أو سببيه المشتمل على ضميره.(2/128)
كان العامل فعلا1، أما إن كان وصفا فيجوز الفصل.
حكم الاسم السابق في الاشتغال:
يجوز في هذا الاسم السابق من ناحية إعرابه وضبط آخره، أمران -بشرط ألا يوجد ما يحتم أحدهما مما سنعرفه.
أولهما: إعرابه مبتدأ، والجملة بعده خبره2.
وثانيهما: إعرابه مفعولا به لعامل محذوف وجوبا، يدل عليه ويرشد إليه العامل المذكور بعده في الجملة، فيكون العامل المحذوف وجوبا مشاركا للمذكور إما في لفظه ومعناه معا، وإما في معناه، فقط، ولا يصح الجمع بين العاملين ما داما مشتركين3، إذ المذكور عوض عن المحذوف، فمثال الأول: الأمين شاركته، فالتقدير: شاركت الأمين شاركته، ومثال الثاني: البيت قعدت فيه، التقدير: لابست البيت، قعدت فيه: أو: لازمت البيت، قعدت فيه، ومثل: الحديقة مررت بها، أي: جاوزت الحديقة مررت بها، وهكذا نستأنس بالعامل المذكور في الوصول إلى العامل المحذوف وجوبا من غير أن نتقيد أحيانا بلفظ العامل المذكور أما معناه، فنحن مقيدون به في كل حالات الاشتغال.
مع جواز الأمرين السالفين فالأول "وهو إعرابه مبتدأ" أحسن؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير عامل محذوف، ولا إلى التفكير في اختياره، وفي موافقته للعامل المذكور، وقد تكون موافقته معنوية فقط؛ فتحتاج -أحيانًا- إلى كد الفكر4.
__________
1 يجوز الفصل بتوابع الاسم السابق، -إلا العطف بحرف غير الواو- وبالمضاف إليه، وشبه الجملة، وغير هذا مما سبق تفصيله كاملا في رقم1 من هامش ص124.
2 في هذه الصورة التي يرفع فيها الاسم السابق - تخرج المسألة من باب: "الاشتغال" كما تخرج صور أخرى ستجيء "انظر رقم1 من هامش ص130".
3 فإن لم يكونا مشتركين جاز أن يكون الأول مذكورا، ومعنى هذا جواز نصب الاسم السابق بفعل مخالف للمذكور، فلا اشتغال معه، -كما سنوضحه في الزيادة والتفصيل في رقم 2 من ص138.
4 والبلاغيون يفرقون بين الأمرين، إذ يترتب على أحدهما أن تكون الجملة اسمية، وعلى الآخر أن تكون فعلية، وفرق بلاغي بين المدلولين، مع صحتهما؛ لهذا يقولون: إن أحسن الأمرين هو ما يتفق مدلوله مع غرض المتكلم، فإن لم يعرف غرضه فهما سيان.(2/129)
والنحاة يتخيرون هذا الموضع للكلام على حكم كثير من الأسماء المتقدمة على عواملها وينتهزون فرصة: "الاشتغال" ليعرضوا أحكام تلك الأسماء؛ سواء منها ما يدخل في باب: "الاشتغال" وتنطبق عليه أوصافه التي عرفناها، وما لا يدخل فيه، ولا تنطبق عليه صفاته1: وهم يقسمونها ثلاثة أقسام2: ما يجب نصبه، وما يجب رفعه، وما يجوز فيه الأمران.
__________
1 كالحالة التي يجب فيها رفع الاسم السابق؛ إذ لا ينطبق عليها في الصحيح تعريف "الاشتغال" الأصيل، ومثلها حالات الرفع الأخرى التي يكون الرفع فيها جائزًا، فحالة الرفع بنوعيه لا ينطبق عليها -في الصحيح- الاشتغال الحقيقي ما دام الاسم مرفوعًا.
كما سيجيء في "ب" من ص 132 ثم انظر رقم 2 من ص 138.
2 الواقع أنهم يقسمونها خمسة أقسام، "قسم يجب فيه النصب"، وقسم يجب فيه الرفع، وقسم يجوز فيه الأمران والنصب أرجح، وقسم يجوز فيه الأمران والرفع أرجح، وقسم يجوز فيه الأمران على السواء"، وواضح أن هذا التقسيم يوجب النصب وحده في بعض حالات، ويوجب أخرى كذلك، ويجيز الأمرين في كل حالة من الأحوال الثلاثة الباقية، ولكن هذه الإجازة قد تكون مع الترجيح أحيانًا؛ كأن يكون النصب هو الأرجح؛ فيكون الرفع هو الراجح؛ أو العكس؛ "بأن يكون النصب هو الراجح، والرفع هو الأرجح"، واستعمال الراجح ليس معيبًا ولا ضعيفًا من الوجهة اللغوية، نعم هو -مع كثرته وقوته- لا يبلغ "درجة" الأرجح فيهما، لكن كلاهما عربي فصيح، وهذه الأرجحية مزية يسيرة إذا كان الداعي لها أمرًا بلاغيًا مما يطأ ويتغير بحسب الدواعي، فهي ليست أرجحية ذاتية دائمة؛ إنما هي خاضعة لأذواق البلغاء في العصور اللغوية المختلفة، متفاوتة بتفاوت تلك الأزمان والدواعي؛ -لكيلا تتجر البلاغة وتجمد عند حد لا تتجاوزه كما يصرح علماؤها - فالراجح قد يشيع ويكثر استعماله في عصر لغوي؛ فيكون هو الأرجح، وعندئذ ينزل الأرجح إلى "درجة" الراجح، ثم يبدل الحالة مرة أخرى في عصر لغوي جديد، فيذيع استعمال بلاغي لم يكن ذائعًا من قبل، بل في بيئة أخرى مع اتحاد العصر، فيقع التغيير في "الدرجة" كما وصفنا؛ وهكذا دواليك ... = فالتفاوت بينهما منشؤه الأرجحية التي قد تتغير، ولا تثبت -كما قلنا - ولو كان منشؤه القلة الذاتية المعيبة والضعف، أو الحسن والقبح اللغويين، لوجب الاقتصار على القوي دون الضعيف، وعلى الحسن دون القبيح، لهذا لا داعي لكثرة الأقسام، والأحكام، وتعدد الآراء في كل حكم، وما يتبعه من عناء لا طائل وراءه.
على أنا سنشير إلى أقسامهم الخمسة "في ص 137"، ونصف منها بالقلة ما وصفوه، علمًا بأن هذه القلة -كما سبق- ليست المعيبة في الاستعمال، ولا المانعة من القياس على نظائرها؛ لأنها نسبية لا ذاتية، أي: أنها قلة عددية راجحة، بالنسبة للكثرة العددية التي للأرجح، ولو كانت القلة معيبة هنا ما وصفوا الضبط الوارد بها بأنه "راجح"، وأن غيره أرجح؛ إذ المعيب الذي لا يصلح استعماله لا يوصف بأنه راجح ولا حسن، وفوق هذا فالخلاف محتدم في أمر هذي الوصفين وانطباقهما، أو عدم انطباقهما على بعض أقسامهم.(2/130)
1 فيجب نصب الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الفعل، كأداة الشرط، وأداة التحضيض1، وأداة العرض1، وأداة الاستفهام2، إلا الهمزة 3؛ نحو: "إن ضعيفًا تصادفه4 فترفق به - حيثما أديبا تجالسه يؤنسك" - "هلًا حلمًا تصطنعه - ألا زيارة واجبة تؤديها" - "متى عملًا تباشره؟ أين الكتاب وضعته؟ "فلا يجوز الرفع في هذه الأمثلة ونظائرها على الابتداء، أما الرفع على أنه فاعل، أو نائب فاعل لفعل محذوف، أو أنه اسم لكان المحذوفة - فجائز5.
ومن الأمثلة للرفع قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} ، وقول الشاعر:
__________
1 و 1 التحضيض هو: الحث وطلب الشيء بقوة وشدة تظهر في نبرات الصوت وكلماته، والعرض: طلب الشيء برفق وملاينة، تعرف من نبرات الصوت، وصياغة كلماته أيضًا، وكثير من أدواتهما مشترك بينهما؛ مثل: - هلًا - ألا - ألا - لولا - لوما ... "، ولهذه الأدوات باب خاص - في ج 4 م 162 - بفصل أحكامها المختلفة التي منها: اختصاصها بالفعل إذا كانت للتحضيض أو العرض".
2 إنما تكون أدوات الاستفهام مختصة بالفعل وحده إذا وقع بعدها في جملتها؛ كالمثالين المذكورين؛ بخلافها في نحو: متى العمل؟ - أين الكتاب؟ لخلو كل جملة من فعل بعد أداة الاستفهام، أي: أن وجود الفعل بعد أداة الاستفهام - غير الهمزة؛ لأنها ليست مختصة بالأفعال، بل تدخل عليها كما تدخل على الأسماء ووقوعه متأخرًا عنها في جملتها، يجعل هذه الأداة مختصة بالدخول على الفعل.
3 لما تقدم من أنها غير مختصة بالأفعال، وفي هذا الموضع الذي يجب فيه النصب يقول ابن مالك:
والنصب حتم إن تلا السابق ما ... يختص بالفعل؛ كإن، وحيثما-3
"تلا السابق: أي: وقع الاسم السابق بعد ما يختص بالفعل".
4 المضارع هنا مرفوع لا يصح جزمه؛ لأنه ليس فعلًا للشرط؛ لأن الشرط المجزوم هو الفعل المحذوف مع فاعله، وموضعهما؛ بعد اداة الشرط مباشرة - بغير فاصل - أما هذا الفعل المذكور فهو مع فاعله جملة مضارعية مفسرة يتحتم رفع مضارعها، وهي تفسر الجملة الفعلية التي حذفت، وبقي معمولها المنصوب والتي بعد أداة الشرط مباشرة، فالمفسر جملة، وكذلك المفسر، ولا يصح أن يكون الفعل المذكور هو المفسر وحده، بالرغم من أنه للفعل المحذوف، والدال عليه، وسيجيء في الزيادة والتفصيل في رقم 4 من ص 139 وما بعدها" بيان مناسب عن الفعل إذ كان هو المفسر وحده، وأنه يكون كذلك عند رفع الاسم الواقع بعد أداة الشرط، باعتباره مرفوعًا لفعله المحذوف، وعن الجملة الفعلية إذا كانت بتمامها هي المفسرة، وليس الفعل وحده.
5 سيجيء في الزيادة والتفصيل "ص 138 رقم 3 و 4 وما بعدهما" إيضاح واف عن النصب الواجب ومكانه، ثم عن هذا الرفع وما يقال فيه، ثم تعقيبه بعرض للرأي السديد.(2/131)
وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
وقول الآخر:
وإذا مطلب كسا حلة العار ... فبعدا1 لمن يروم نجازه2
التقدير: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ... وإذا كانت أخلاقهم كانت 3 وإذا كسا مطلب كسا حلة العار ... وهكذا 4.
ب- ويجب 5 رفع الاسم السابق:
1- إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الاسم؛ فلا يجوز أن يقع بعدها فعل؛ مثل: إذا "الفجائية"6 نحو: خرجت فإذا الرفاق أشاهدهم؛ فيجب رفع كلمة: "الرفاق"، ولا يجوز نصبها على الاشتغال بفعل محذوف؛ لأن "إذا الفجائية" لا يقع بعدها الفعل مطلقًا؛ لا ظاهرًا ولا مقدرًا.
__________
1 فهلاكًا "دعاء بالهلاك".
2 إنجازه، والحصول عليه.
3 ومثله قول الشاعر:
وما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
4 ومن الأمثلة أيضًا قول الشاعر:
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
الأصل: أعطيت الغنى فحذف الفعل: "أعطي الأول"، وبقي نائب فاعله: "التاء، وهو ضمير واجب الاتصال، لا يستقل بنفسه، فأتينا مكانه بضمير منفصل له معناه وحكمه، وهو: أنت.
ومثل هذا يقال في كلمة: "حن" من قول الشاعر:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
الأصل: وإن أومأنا أومأنا، حذف الفعل الأول، وبقي فاعله: "نا" وهو ضمير متصل لا يستقل بنفسه، فأتينا مكانه بما يصلح محله، وهو: "نحن".
وكذلك الضمير: "نحن" في قول الآخر:
إذا نحن ناصرنا امرأ ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر
"انظر ما يوضح هذا في ص 141 وما بعدها".
5 وهذه الحالة -كغيرها من حالات الرفع الواجب والجاز- ليست داخلة في الاشتغال الأصيل "انظر رقم 1 من هامش ص 130".
6 سبق إيضاح لها في ج 1 ص 482.(2/132)
ومثل "إذا" الفجائية أدوات أخرى؛ منها: "لام" الابتداء في نحو: إني للوالد أطيعه؛ فلا يجوز نصب كلمة: "الوالد" على الاشتغال، ولا اعتبارها مفعولًا به لفعل محذوف مع فاعله؛ لأن لام الابتداء لا تدخل على المفعول به.
ومنها: واو الحال الداخلة على الاسم الذي يليه المضارع المثبت، في مثل: أسرع والصارخ أغيثه، فلا يصح نصب "الصارخ" على اعتباره مفعولًا به لفعل محذوف مع فاعله، وتقديرهما: "أغيث" والجملة من الفعل المحذوف مع فاعله في محل نصب على الحال لا يصح هذا؛ لأن الجملة المضارعية التي مضارعها مثبت، غير مسبوق بلفظ: "قد" ... لا تقع حالًا -على الأرجح- إذا كان الرابط هو: "الواو" فقط1، كهذا المثال وأشباهه.
ومنها: "ليست" المتصلة "بما" الزائدة؛ فلا نصب على الاشتغال في مثل: ليتما وفي أصادفه؛ لأن "ما" الزائدة لا تخرج "ليت" من اختصاصها بالأسماء؛ إذ يجوز إعمال "ليت" وإهمالها؛ فالمنصوب بعدها اسم لها، ولا يصح أن يقع بعدها فعل مطلقًا.
2- وكذلك يجب رفع الاسم السابق إذا وقع قبل أداة لها الصدارة في جملتها؛ فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وبعد تلك الأداة العامل، مثل أداة الشرط، والاستفهام2 وما النافية ولا النافية الواقعة في جواب قسم3؛ فلا يصح نصب الاسم السابق في نحو: الكتاب إن استعرته فحافظ عليه - المريض هل زرته؟ الحديقة ما أتلف زروعها - والله الذنوب لا أرتكبها؛ لأن هذه الأدوات لها الصدارة، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ "أيك لا يجوز أن يتقدم
__________
1 كما سيجيء في ص398 من باب الحال.
2 انظر رقم2 من هامش ص131.
3 ومما لا يعمل ما بعده فيما قبله: أدوات التحضيض والعرض، ولام الابتداء، وكم الخبرية، والحروف الناسخة، "ما عدا أن"، والموصول، والموصوف، وحروف الاستثناء، فكل هذا لا يعمل ما بعده فيما قبله، فلا يصلح دالا على المحذوف، فلا يصح النصب في الأسماء التي في أول الجمل التالية: التائة هلا أرشدته - الضال ألا هديته -الخائف لأنا مؤمنه - الهرم كم مرة زرته!! - الخير إني أحببته - النزيه الذي أصطفيه - الغناء فن أهواه - شاع ما المال إلا ينفقه العاقل في النافع، أما حرفا التنفيس فالشائع جواز النصب والرفع في الاسم الذي يسبقهما، نحو الرسالة سأكتبها - القصيدة سوف أحفظها.(2/133)
معمولها عليها، ولا معمول لعامل بعدها"، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون دالًا على عامل محذوف يماثله، ولا مرشدًا إليه1 ومثلها: أدوات الاستثناء؛ فلا نصب في نحو: ما السفر إلا يحبه الرحالون1.
ج ويجوز الأمران2، في غير القسمين السالفين، فيشمل ما يأتي:
1 - الاسم - المشتغل عنه - الذي بعده فعل دال على طلب؛ كالأمر3، والنهي، والدعاء؛ نحو: الحيوان ارحمه - الطيور لا تعذبها - اللهم
__________
1 و 1 لأن ما لا يصلح أن يكون عاملًا بنفسه لا يصلح أن يكون مفسرًا لعامل محذوف، وفي وجوب الرفع يقول ابن مالك:
وإن تلا السابق ما بالابتداء ... يختص فالرفع التزمه أبدا-4
كذا إذا الفعل تلا ما لم يرد ... ما قبل معمولًا لما بعد، وجد-5
ومعنى البيتين: إن تلا الاسم السابق ما يختص بالابتداء ... - أي: أن وقع الاسم السابق بعد لفظ مختص بالدخول على المبتدأ - فالتزم رفع ذلك الاسم السابق.
كذلك يجب رفع الاسم السابق إذا كان الفعل المشتغل قد وقع بعد لفظ لا يرد ما قبله معمولًا لعامل بعده، "الفعل تلا ما لم يرد ما قبل معمولًا لما بعد وجد"، أي: تلا الفعل شيئًا، لم يرد ما قبل ذلك الشيء معمولًا لما وجد بعده، وفي هذا البيت شيء من التعقيد.
2 مع ملاحظة أن المسألة لا تكون من باب: "الاشتغال" في حالة ضبط الاسم السابق بالرفع - كما سبق في رقم 1 من هامش ص 130.
3 سواء أكان الأمر بصيغة فعل الأمر؛ نحو: التردد اجتنبه، أم بلام الأمر الداخلة على المضارع؛ نحو: التردد لتجتنبه.
"ملاحظة" هذا من المواضع التي بعدها النحاة جائزة النصب والرفع، ولكن النصب عندهم أرجح؛ بحجة "أن الإخبار بالطلب عن المبتدأ قليل، وخلاف القياس؛ لعدم احتمال الصدق والكذب إلا بتأويل ... بل قيل بمنعه، وإنما اتفقت السبعة على الرفع في آية السرقة وهي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ؛ لأنه ليس مما نحن فيه؛ لتقديره عند سيبويه: "مما يتلى عليكم حكم السارق ... " فخبره -وهو الجار والمجرور- محذوف، والفعل "اقتلوا" بعده مستأنف لبيان الحكم؛ فالكلام جملتان؛ لأن هذا ليس من مواضع دخول الفاء في الخبر عنده، أما عند المبرد فالجملة الفعلية خبر ودخلته الفاء لما في المبتدأ في معنى الشرط؛ ولذا امتنع النصب؛ لأن ما بعد فاء الجزاء وشبهها لا يعمل فيما قبلها". ا. هـ كلام الخضري، ومثله في الصبان وغيره.(2/134)
الشهيد ارحم، أو: الشهيد رحمه الله.
وكذلك إن وقع الاسم السابق بعد أداة يغلب أن يليها فعل، كهمزة الاستفهام، نحو: أطائرة ركبتها؟ وكأدوات النفي الثلاثة: "ما - لا إن"؛ نحو: ما السفه نطقته - لا الوعد أخلفته، ولا الواجب أهملته - إن السوء فعلته، ومثل: "حيث" المجردة من "ما"، نحو: اجلس حيث الضيف أجلسته.
وكذلك إن وقع الاسم السابق عد عاطف تقدمته جملة فعلية، ولم تفصل كلمة: "أما"1 بين الاسم والعاطف؛ نحو: خرج زائر والقادم استقبلته، فلو فصلت "أما" بينهما كان الاسم "المشتغل عنه" في حكم الذي لي يسبقه شيء؛ نحو: خرج زائر، وأما المقيم فأكرمته.
فالأمثلة في كل الصور السابقة وأشباهها، يجوز فيها الأمران، النصب والرفع. وجمهرة النحاة تدخلها في النوع الذي يجوز فيه الأمران قياسًا، والنصب أرجح1 عندهم، وحجتهم: أن الرفع يجعل الاسم السابق مبتدأ، والجملة الطلبية بعده خبر، ووقوع الطلبية خبرًا -مع جوازه- قليل بالنسبة لغير الطلبية، أو يجعل الاسم السابق مبتدأ بعد همزة الاستفهام ونحوها، ووقوع المبتدأ بعدها - مع جوازه- قليل أيضًا، لكثرة دخولها على الأفعال دون الأسماء، أو يجعل الجملة الاسمية بعده إذا كانت غير مفصولة بأما2، معطوفة على الجملة الفعلية قبله؛
__________
1 كان الفاصل المراد هنا -غالبا- هو: "أما"؛ لأن ما ما بعدها مستأنف، ومنقطع في إعرابه عما قبلها: فلا أثر للفصل بغيرها "راجع الأمر الثالث ص138".
2 وإلى الأمور التي مرت في القسم الأول يشير ابن مالك، ويبين أن المختار النصب فيقول:
واختير نصب قبل فعل ذي طلب ... وبعد ما إيلاؤه الفعل غلب-6
وبعد عاطف -بلا فصل على ... معمول فعل مستقر أولا ... -7
يريد: أن النصب والرفع جائزان في أمور، ولكن النصب هو المختار فيها، وذلك حين يقع الاسم السابق قبل فعل دال على الطلب، "انظر رقم 3 من هامش الصفحة السابقة لأهميته" أو: بعد شيء غلب إيلاؤه الفعل، "أي: غلب أن يليه ويقع بعده الفعل، كهمزة الاستفهام"،
وكذلك بعد عاطف يعطف الاسم السابق على معمول لفعل آخر مذكور أول جملته بغير فصل بين العاطف والمعطوف، وصياغة البيت الثاني عاجزة عن تأدية المراد منه، إذ المراد أن الاسم المشتغل عنه =(2/135)
والعطف عل جملتين مختلفتين في الاسمية والفعلية -مع صحته- قليل.
2- الاسم السابق "أي: المشتغل عنه" الواقع بعد عاطف غير مفصول بالأداة: "أما" وقبله جملة ذات وجهين1، مع اشتمال التي بعده في حالة نصبه على رابط يربطها بالمبتدأ السابق2، -كالضمير العائد عليه، أوالفاء المفيدة للربط به-، نحو: "النهر فاض ماؤه صيفا، والحقول سقيناها من جداوله" - "العلم الحديث نجح في غزو الكون السماوي، فالعلوم الرياضية، استلهمها الغزاة قبل الشروع"، فيصح رفع كلمتي: "الحقول - والعلوم" على اعتبار كل منهما مبتدأ، خبره الجملة الفعلية بعده، وهذه الجملة الاسمية معطوفة على الاسمية التي قبلها، ويجوز نصب الكلمتين على أنهما مفعولان لفعل محذوف، والجملة من هذا الفعل المحذوف وفاعله معطوفة على الجملة الفعلية الواقعة خبرا قبلهما، وفي الحالتين تتفق الجملتان المعطوفتان مع الجملتين، المعطوف عليهما في ناحية الاسمية أو الفعلية، فيجري الكلام على نسق واحد، ولهذا يتساوى3 الأمران.
__________
= يجوز فيه الأمران، والنصب أرجح إذا كان ذلك الاسم واقعًا -مباشرة- بعد عاطف يعطف جعلته التي تحتويه، على الجملة الفعلية قبله والتي استقر مكان فعلها في أولها، سواء أكان المعمول في الجملة الفعلية السابقة مرفوعًا؛ مثل: غاب حارس وحارسًا أحضرته "فكلمة حارس" الأولى فاعل وهو معمول للفعل: غاب" أم معمولًا منصوبًا، نحو: صافحت رجلًا، وجنديًا كلمته "فكلمة: رجلًا" مفعول، وهو معمول للفعل: معمولًا منصوبًا، نحو: صافحت رجلًا، وجنديًا كلمته، "فكلمة: رجلًا" مفعول، وهو معمول للفعل: صافح" فنصب الاسم المشتغل عنه يقتضي أن يكون مفعولًا لفعل محذوف يوضحه المذكور بعده، والجملة عن الفعل المحذوف وفاعله معطوف على الجملة التي قبلها، فالعطف عطف جملة فعلية على جملة فعلية وليس عطف مفردات، فلا معنى لقول ابن مالك: إن العطف على معمول فعل مستقر في أول جملته التي قبل العاطف، ذلك أن المعمول في الجملة السابقة ليس معطوفًا عليه كما أوضحنا، ولكن ضيق الوزن وضرورة الشعر أوقعاه في التعبير القاصر، وقد تأوله النحاة بأن التقدير: وبعد عاطف - فلا فصل - على جملة معمول فعل مستقر أولًا ... ومهما كان العذر فإن الخبر هو في اختيار الأسلوب الناصع الوافي الذي لا يحوي عيبًا، ولا يتطلب تأويلًا أو تقديرًا.
1 وهي الجملة الاسمية التي يكون المبتدأ فيها اسمًا خبره جملة فعلية؛ مثل: الشجرة ظهر ثمرها - الفاكهة طاب طعمها - ومنها: الجملة التعجبية، ولكن التعجبية لا تصلح في هذا الموضع أو: هي جملة اسمية صدرها مبتدأ، وعجزها جملة فعلية، كقولهم: النبيل زادته النعمة نبلًا وشرفًا، واللئيم زادته النعمة لؤمًا وبطرًا - الحر ينتصر لكرامته - والذليل يمتهنها.
2 لأنها حينئذ تكون معطوفة على الخبر، فلا بد فيها من رابط كالخبر "راجع الأشموني والصبان".
3 وفي هذا يقول ابن مالك:(2/136)
3- الاسم السابق "المشتغل عنه" الواقع في غير ما سبق، نحو الرياحين زرعتها. والنحاة يجيزون الأمرين ويرجحون الرفع؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير عامل محذوف1.
"ملاحظة" بانضمام هذا الأقسام الثلاثة "1، 2، 3" إلى القسم الذي يجب فيه النصب فقط، والقسم الذي يجب فيه الرفع فقط، تنشأ الأقسام الخمسة التي عرضها النحاة فيه هذا الباب، وارتضوها وجعلوا لكل منها حكمًا، وقد أشرنا 2 إلى أنه يمكن إدماج بعضها في بعض وجعلها ثلاثة، اختصارًا وتيسيرًا.
__________
وإن تلا المعطوف فلا مخبرا ... به عن اسم فاعطفن مخيرا-8
يريد: إن وقع الاسم السابق بعد حرف عطف قبله فعل، وهذا الفعل -مع فاعله- خبر عن مبتدأ قبلهما وقيل: حرف العطف، فلك الخيار في هذه الحالة أن تعطف ما بعد حرف العطف على ما قبله مباشرة، عطف جملة فعلية على الجملة الفعلية السابقة، وأن تعطف ما بعد حرف العطف على كل ما قبله، عطف جملة اسمية على نظيرتها الاسمية، وقد شرحنا توجيه كل حالة من هاتين الحالتين المتساويتين في الصحة، شرحًا يوضح هذا البيت الغامض المبتور.
1 وفي حالة الرفع لا تكون المسألة من باب "الاشتغال" -كما كررنا في كل حالات الرفع الواجب والجائز- وفي هذا يقول ابن مالك:
والرفع في غير الذي مر رجح ... فما أبيح افعل، ودع ما لم يبح-9
2 في رقم 2 من هامش ص 130.(2/137)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
1- زاد فريق من النحاة شروطًا أخرى للاشتغال رفضها سواه، بحجة أنها لا تثبت على التمحيص، وهذا رأي سديد حملنا على إهمالها؛ ادخارًا للجهد، وإبعادًا لنوع من الجدل لا خير فيه للنحو.
2- أشرنا قريبًا1: إلى صحة أن يكون الاسم السابق المنصوب مفعولًا به لفعل محذوف، يخالف الفعل المذكور بعده في جملته، ولا يكون له صلة بلفظه ولا بمعناه؛ وذلك حين تقوم قرينة تدل على هذه المخالفة: كأن يقال: ماذا اشتريت؟ فتجيب: كتابًا أقرؤه، "فكتابًا" مفعول به لفعل محذوف تقديره: اشتريت كتابًا أقرؤه؛ فالفعل المحذوف مخالف للمذكور في لفظه ومعناه؛ فلا تكون المسالة من باب "الاشتغال"، ولا يكون العامل الثاني صالحًا للعمل في المفعول به السابق، ولا مفسرًا لعامله المحذوف، وفي هذه الحالة التي يختلف فيها الفعلان: المحذوف والمذكور، لا يكون الحذف واجبًا، وإنما يكون جائزًا 2، فيصح في الفعل المحذوف أن يذكر، أما الحذف الواجب ففي: "الاشتغال"؛ فلا يصح الجمع بينهما؛ لأن الثاني بمنزلة العوض عن الأول؛ ولا يجمع بين العوض والمعوض عنه3.
3- إنما يقع "الاشتغال" بمعناه العام الذي يشمل الاسم السابق المرفوع بعد أدوات الشرط، والتحضيض والاستفهام، غير الهمزة، كما سبق في الشعر؛ فقط؛ للضرورة، وأما في النثر فلا يحسن بعد تلك الأدوات إلا صريح الفعل4
__________
1 في رقم 3 من هامش ص 129.
2 ما لم يوجد سبب آخر غير الاشتغال يوجبه.
3 لا يصح الجمع بين العوض والمعوض عنه، وهذا أسلم من قولهم: لا يصح الجمع بين التفسير والمفسر، "أي: المفسر والمفسر"؛ لأنه يصح أحيانًا الجمع بين هذين كما في التفسير بما بعد الحرف: "أي" وكالتفسير بعطف البيان، وبواو العطف التي تفيد التفسير ... كما سيجيء في ص 143 - ومن كان التعبير بعدم جواز الجمع بين العوض والمعوض عنه هو الأسلم والأدق.
4 يقول النحاة: إن قوعه في النثر مستقبح، ولو وقع فيه لجاز مع القبح.(2/138)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستثنى من أدوات الشروط ثلاثة أشياء؛ يقع بعدها الاشتغال نثرًا ونظمًا.
أولها: أدوات الشرط التي لا تجزم؛ ومنها: إذا - ولو - مثل قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} إلخ، ومثل: لو الحرب امتنعت لطابت الحياة.
وثانيهما: "إن"، بشرط أن يكون الفعل في التفسير ماضيًا لفظًا، نحو: إن علمًا تعلمته فاعمل به، أو ماضيًا معنى1 فقط، نحو: إن علمًا لم تتعلمه فاتتك فائدته. فإن كان فعل التفسير مضارعَا مجزومًا 2 لم يقع الاشتغال بعده إلا في الشعر، دون النثر.
وثالثها: "أما" الشرطية، ولكن لا يجب نصب الاسم بعدها؛ لأن الاسم يليها حتمًا3 ولو كان الفعل مذكورًا بعده؛ نحو: قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} ، فقد قرئ "ثمود" بالرفع على الابتداء، وبالنصب على الاشتغال، وفي حالة النصب يجب تقدير العامل بعد الاسم المنصوب، وبعد الفاء معًا؛ لأن "أما" لا يليها إلا الاسم4 ولا يفصل بينها وبين الفاء إلا اسم واحد، والتقدير -كما يقولون- وأما ثمود فهديناهم5 هديناهم، وللبحث تحقيق.
4- من الأصول النحوية أن المحذوف قد يحتاج -أحيانًا- إلى شيء مذكور يفسره، ويدل عليه، وقد يكون التفسير واجبًا، كما في باب: "الاشتغال" وفي هذا الباب إن كان المحذوف جملة فعلية، فتفسيره لا يكون إلا بجملة مذكورة في الكلام، مشاركة للمحذوفة في لفظها ومعناها معًا، أو في المعنى فقط؛ نحو:
__________
1 كالمضارع الداخلة عليه "لم" فإنها، في الأغلب -تقلب زمنه للمضي.
2 انظر سبب الجزم في رقم 2 من هامش ص 141.
3 كما تقدم هنا، وفي رقم 1 ص 90.
4 وقد عرفنا أن شرط وجوب النصب وحده أن تكون الأداة الشرطية مختصة بالدخول على الأفعال دون الأسماء، وليست "أما" كذلك؛ لأنها لا تدخل إلا على الاسم.
لهذا كان الاقتصار على نصب الاسم السابق غير واجب، بل يجوز فيه الأمران.
5 للآية السالفة بيان هام يجيء في الجزء الرابع -آخر باب: "أما الشرطية" م 161 ص 474- عند الكلام على حذف "أما" كالذي في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ... } .(2/139)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العظيم نافسته - المصنع وقفت فيه - التقدير: نافست العظيم نافسته - لابست المصنع وقفت فيه، أو نحو ذلك مما يؤدي إلى الغرض في الحدود المرسومة، ولا يصح هنا تفسير الجملة بغير جملة مثلها على الوجه السابق.
وإن كان المحذوف فعلًا فقط أو وصفًا عاملًا يشبهه، ويحل محله، جاز أن يفسر كل منهما بفعل أو بما يشبهه، تفسيرًا لفظيًا ومعنويًا معًا، أو معنويًا فقط والأفضل التماثل عند عدم المانع بأن يفسر الفعل نظيره الفعل، ويفسر الوصف نظيره الوصف، نحو: إن أحد دعاك لخير فاستجب - ما الصلح أنت كارهه. التقدير: إن دعاك أحد، دعاك لخير فاستجب - ما أنت كاره الصلح - أنت كارهه.
ويدور بين النحاة جدل طويل في موضع الجملة المفسرة؛ أيكون لها محل من الإعراب، أو ليس لها محل؟ وقد يكون الأنسب الأخذ بالرأي القائل: إنها تساير الجملة المحذوفة، "المفسرة" وتماثلها في محلها الإعرابي وعدمه، كما تمثلها في لفظها ومعناها على الوجه السالف، وعلى هذا إن كانت الجملة المحذوفة "المفسرة" لا محل لها من الإعراب فالمفسرة كذلك لا محل لها من الإعراب؛ نحو: البحر أحببته، أي: أحببت البحر أحببته؛ فالجملة التفسيرية لا محل لها من الإعراب؛ لأن الأصلية المحذوفة كذلك، وإن كانت الجملة المحذوفة "المفسرة" لها محل من الإعراب؛ فالتي تفسرها تسايرها وتماثلها فيه؛ نحو قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، أي: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر؛ فالجملة المحذوفة " المفسرة" في محل رفع خبر "إن"، فالتي تفسرها: كذلك في محل رفع خبر، ونحو: العقلاء الواجب يؤدونه؛ أي: العقلاء يؤدون الواجب يؤدونه، فالجملة المحذوفة "المفسرة" في محل رفع خبر المبتدأ والمفسرة في محل رفع خبر المبتدأ كذلك، وفي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} تقع الجملة الاسمية "المفسرة" مفعولًا به في محل نصب؛ لأن المحذوف المفسر مفعول به منصوب؛ إذ التقدير: "الجزاء، أو الجنة وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات، لهم مغفرة"، فجملة: "لهم مغفرة" هي المفسرة المفعول به المحذوف1.
__________
1 ولا يصح أن تكون هي المفعول الثاني للفعل: "وعد"؛ لأنه من باب "كسا"، أي: من الأفعال التي لا يقع فيها المفعول الثاني جملة.(2/140)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تكون الجملة هي المفسرة في باب الاشتغال إلى حين يكون الاسم السابق منصوبًا كالأمثلة السالفة؛ فإن كان مرفوعًا للمحذوف فالمحذوف هو فعله وحده1، ويتعين أن يكون مفسره هو الفعل المذكور وليس الجملة، ولا بد -عند المحققين- أن يكون هذا الفعل المذكور "المفسر" مسايرا للمحذوف " المفسر" في حكمه وإعرابه اللفظي، والتقديري، والمحلي ... مثل إن العتاب يكثر يؤد إلى القطيعة، التقدير: إن يكثر العتاب - يكثر - يؤد إلى القطيعة، فالمفسر هو الفعل: "يكثر" الثاني، وهو مضارع مجزوم كالأول المحذوف2، إذا العناية تلاحظك عيونها فلا تخف شيئًا، التقدير: إذا تلاحظك العناية تلاحظك عيونها، فالمفسر في المثال هو الفعل: "تلاحظ" وحده، وهو كالأول في حكمه
__________
1 كما أشرنا في رقم 4 من هامش ص 132 وفي ص 140، سواء أكان الفعل مبنيًا للمعلوم أم للمجهول، تامًا أم ناقصًا؛ مثل كان، كل هذا على حسب السياق، وعلى مقتضاه يعرب الاسم المرفوع فاعلًا، أو نائب فاعل، أو اسمًا لكان ... مثل: إن يرد اشتد فاحترس -إن عمل أتقن فلازمه- وقول الشاعر:
وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابًا
ومثل هذا: المرء مجزي بعمله إن خير كان فجزاؤه خير ... التقدير: "إن اشتد برد - اشتد - فاحترس" - "إن أتقن عمل - أتقن - فلازمه" - "المرء مجزي بعمله" إن كان في عمله خير - كان - فجزاؤه خير" إذا كانت أخلاقهم كانت.
2 ما سبب الجزم؟ خلاف فيه، وجاء في الصبان ما نصه: "قال أبو علي: الفعل المذكور والفعل المحذوف في نحو قوله: " لا تجزعي إن منفسًا أهلكته"، مجزومان محلًا؛ وجزم الثاني ليس على البدلية؛ إذ لم يثبت حذف المبدل منه، بل على تكرير "إن"، أي: إن أهلكت منفسًا إن أهلكته، وساغ إضمار "إن" أي: وإن لم يسغ إضمار لام اأمر إلا في ضرورة، لاتساعهم فيها، ولقوة الدلالة عليها بتقديم مثلًا، واستغنى بجواب "إن" = الأولى "عن جواب الثانية. ا. هـ.
لكن ما ورد في كلامه من أن حذف المبدل منه لم يثبت، هو مخالف لما قالوه من أنه قد يحذف في بعض الصور، وسيجيء في الجزء الرابع -باب البدل، م 123 ص 652- أحكام متفرقة، منها الحكم: "د" ونصه: "قد يحذف المبدل منه، ويستغنى عنه بالبدل بشرط أن يكون المبدل منه في جملة وقعت صلة موصول؛ نحو أحسن إلى الذي عرفت المحتاج، أي: الذي عرفته المحتاج؛ فكلمة: "المحتاج" يصح أن تكون بدلًا من الضمير المحذوف". ا. هـ، ويصح فيها إعرابات أخرى ذكرت هناك.(2/141)
الإعرابي، ومثل:
إذا الملك الجبار صعر خده1 ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
أي: إذا صعر الملك خده، صعره، فالمفسر هو الفعل الماضي وحد "صعر"، ومثل:
فمن نحن نؤمنه2 يبت وهو آمن ... ومن لا نجره يمس منا مفزعًا
التقدير: فمن نؤمنه يبت وهو آمن، فالمفسر هو الفعل "نؤمن" وحده، وهو مجزوم كالفعل المفسر المحذوف، وكلمة: "نحن" في البيت ضمير فاعل للفعل المحذوف، وقد برز هذا الضيمر -بعد استتاره الواجب- بسبب حذف فعله وحده؛ إذ لا يبقى الفاعل مستترًا بعد حذف عامله، فإذا رجع العامل وظهر، عاد الضمير الفاعل إلى الاستتار كما كان، فإن ظهر مع ظهور عامله لم يعرب -في الرأي الشائع- فاعلًا؛ وإنما يعرب توكيد لفظيًا للضمير المستتر المماثل له. وينطبق هذا الكلام على البيت التالي:
فإن أنت لم ينفعك علمك3 فانتسب ... لعلك تهديك القرون الأوائل
التقدير: فإن لم تنتفع لم ينفعك علمك ... وأشباه هذا، فالفعل "ينفع" هو وحده المفسر للفعل المحذوف، وهو مساير لذلك المحذوف في الجزم والنفي معًا. والضمير البارز "أنت" فاعل الفعل المحذوف، وكان مستترًا وجوبًا فيه، فلما حذف الفعل برز في الكلام فاعله المستتر، ولما رجع الفعل إلى الظهور في الجملة الأخيرة عاد فاعله الضمير إلى الاستتار، كما كان أولًا، ومثله قول الشاعر:
__________
1 صعر خده: حوله إلى جهة لا يرى فيها الناس؛ تكبرا منه وترفعًا.
2 بمعنى: نؤمنه، أي: نمنحه الأمان.
3 يريد: إن لم يكن لك علم بحوادث الموت المحيطة بك بحيث يعظك فارجع. إلى أصولك الأوائل الذاهبين، لعل لك عظة في موتهم.(2/142)
إذا أنت 1 فضلت امرأ ذا براعة ... على ناقص كان المديح من النقص
وقول الآخر:
بليغ إذا يشكو إلى غيرها الهوى ... وإن هو لاقاها فغير بليغ
وفي مثل:
لا تجزعي إن منفس أهلكته ... فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
يكون التقدير: لا تجزعي إن هلك منفس أهلكته ... والمحذوف هنا مطاوع للمذكور، فهو من مادته اللفظة ومن معناه، وإن كانت المشاركة اللفظية ليست كاملة.
أما تفضيل الرأي القائل بمسايرة الجملة المفسرة للجملة المفسرة في حكمها، ومحلها الأعرابي فراجع إلى أمرين:
أولهما: أن الجملة المفسرة قد يكون لها محل من الإعراب -بالاتفاق- في بعض مواضع، كالجملة المفسرة لضمير الشأن2 في نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فإن جملة "الله أحد" مبتدأ وخبر في محل رفع؛ لأنها خبر لضمير الشأن: "هو"، وفي نحو: ظننته: "الصديق نافع"؛ الجملة الاسمية في محل نصب؛ لأنها المفعول الثاني لظن ... وليس في هذا خلاف.
وثانيهما3: أن هناك كلمات تفسر غيرها وقد تسايرها في حركة إعرابها؛ كالكلمات الواقعة بعد "أي" التي هي حرف تفسير في مثل: هذا سوار من عسجد؛ أي: ذهب، فكلمة: "أي" حرف تفسير؛ يدل على أن ما بعده يفسر شيئًا قبله، وكلمة: "ذهب" هي التفسير لكلمة: "عسجد" ويجب أن تضبط مثلها في حركات الإعراب، نعم إنهم يعربون كلمة "ذهب"، وأمثالها
__________
1 فالأصل: إذا فضلت ... فلما حذف الفعل بقيت التاء، وهي هنا ضمير متصل فاعل لا يستقل بنفسه، فأتينا مكانها بضمير مرفوع منفصل بمعناها؛ هو الضمير: "أنت" - كما سبق مثل هذا في رقم 4 من هامش ص 132 - فإذا رجع الفعل المحذوف رجع فاعله السابق، وهو "التاء" واتصل به.
2 راجع ضمير الشأن ج 1 ص 226 م 198 - باب الضمير.
3 لهذا إشارة في رقم 3 من هامش 138.(2/143)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مما يقع بعد "أي" التفسيرية بدلًا أو عطف بيان؛ لكن هذا لا يخرجها عن أنها مماثلة للمفسر في حركة إعرابه؛ إذ كل من البدل وعطف البيان تابع هو بمنزلة متبوعه.
ومن الكلمات التي تفسر غيرها، ويتحتم أن تسايره في حركة إعرابه ما يقع بعد حرف العطف: "الواو" الذي يدل أحيانًا على أن ما بعده مفسر لما قبله، كما في مثل: الماء الصافي يشبه اللجين والفضة، فالواو وحرف عطف للتفسير؛ لأن ما بعدها يفسر ما قبلها، وهو مساير له - وجوبًا - في حركات إعرابه؛ إذا المعطوف كالمعطوف عليه في كثير من أحكامه التي منها حركات الإعراب.
فالرأي القائل باعتبار الجملة التفسيرية مسايرة لما تفسره يجعلها كنظائرها من الجمل التي لها محل من الإعراب، وكغيرها من المفردات التي تؤدي مهمة التفسير، ولا معنى للتفرقة في الحكم بين ألفاظ تؤدي مهمة واحدة، إلا إن كان هناك سبب قوي، ولم يتبين هنا السبب القوي؛ بل الذي تبين أن الكلام المأثور الفصيح يؤيد أصحاب هذا الرأي الواضح الذي يمنع تعدد الأقسام والأحكام، ويؤدي إلى التيسير بغير ضرر.
وقد أشرنا1 إلى أن الجملة لا تكون مفسرة في باب "الاشتغال" إلا حين يكون الاسم السابق منصوبًا، فإن كان مرفوعًا لعامله المحذوف فالمحذوف هو فعله وحده، ويتعين أن يكون التفسير بفعل فقط، كما قلنا: إن الاسم السابق إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الفعل وجب نصبه، ولا يجوز رفعه على أنه مبتدأ، وإنما يجوز رفعه على أنه مرفوع فعل محذوف؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْه} ، فكلمة: "أحد" فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده، والتقدير: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ... إلى آخر ما أوضحنا ...
والذي نريد بسطه الآن أن بعض القدامى والمحدثين لا يروقهم هذا التقدير، ويسخرون منه، مطالبين بإعراب الاسم المرفوع -في الآية السالفة وأشباهها- إما مبتدأ مباشرة، وإما فاعلًا مقدمًا للفعل الذي بعده "أي: للمفسر"، وبإهمال التعليل الذي يحول دون هذا الأعراب؛ لأنه -كما يقولون- تعليل نظري محض،
__________
1 في رقم4 من هامش ص132 وفي ص140.(2/144)
ساسه التخيل والتوهم، وتعارضه النصوص الكثيرة الواردة بالرفع الصريح ...
ولا حاجة إلى عرض أدلة كل فريق ممن يبيح، أو يمنع فقد فاضت بها المطولات والكبت التي تتصدى لمثل هذا الخلاف، وسرد تفاصيله وأدلته التي تضيق بها الصدور -أحيانًا- حين تقوم على مجرد الجدل، وتعتمد على التسابق في إظهار البراعة الكلامية، ومنها: كتاب: "الإنصاف في أسباب الخلاف"، لابن الأنباري ...
والحق يقتضينا أن نحكم على كل وجه من أوجه الإعراب الثلاثة بالضعف. ولكن الضعف في حالة تقدير عامل محذوف، أخف وأيسر، ويما يلي البيان بإيجاز، ولعل فيه -مع إيجازه- ما يرد بالأمر مورده الحق، ويضعه في نصابه الصحيح، هذا، وفي الاستئناس والاسترشاد بما يقال في الاسم المرفوع بعد أداة الشرط -كالآية السابقة، وأمثالها- ما يكفي ويوصل لتأييد النحاة، ودعم رأيهم في باقي حالات رفعه.
أ- في مثل: إن عاقل ينصحك ينفعك، لو أعربنا الاسم السابق: "عاقل" مبتدأ لكانت الجملة الفعلية بعده "وهي: ينصحك" في محل رفع، خبره - ويترب على هذا أن تكون أداة الشرط، وهي تفيد - دائمًا - التعليق 1 قد دخلت على جملة اسمية، مع أن الجملة الاسمية تفيد الثبوت2 في أكثر الصور، وهو من أضداد التعليق، وهنا يقع في الجملة الواحدة التعارض الواسع بين مدلول الأداة، ومدلول المبتدأ مع خبره؛ وهو تعارض واقعي3 لا خيالي؛
__________
1 توقف حصول شيء، أو عدم حصوله، على آمر آخر؛ فيكون الثاني -في الأغلب- مترتبًا على الأول وجودًا وعدمًا، فإن كانت أداة الشرط جازمة، فالتعلق والتوقف لا يتحقق إلا في المستقبل.
2 ثبوت الحكيم إيجابًا أو سلبًا، أي: تحقق وقوعه والقطع بحصوله؛ سواء أكان موجبًا أو منفيًا.
3 لإيضاح هذا التعارض نقول: الأصل في الجملة الاسمية - كما هو مقرر مقطوع به - أنها تدل - في الأغلب - على الثبوت إذا كانت اسمية محضة؛ "أي خالية من فعل"، ومن أمثلتها: الوالد رحيم - الولدان نفعهما عميم ... وقد تقيد مع الثبوت الدوام بقرينة، هذا شأن الجملة الاسمية المحضة، فإن كانت غير محضة، "وهي التي يكون فيها الخير جملة فعلية" نحو: الوالد زاد فضله، فإنه تقيد مع الثبوت التجدد، وقد تفيد الاستمرار التجددي، وكل ما سبق موضح بتفصيلاته في لوم البلاغة وغيرها.
ومنه يتبين أن الدلالة التي تؤديها الجملة الاسمية بنوعيها "المحضة، وغير المحضة" تعارض وتناقص "التعليق"، فكيف يجتمعان في جملة واحدة؟(2/145)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذ مرده الاستقراء المنتزع من الأساليب العربية الصحيحة التي لا يسوغ مخالفتها، ولا سيما في النواحي المتعلقة بالمعنى، وإلا اضطربت المعاني، وتناقضت، ولم تؤد اللغة مهمتها - بخلاف الجملة الفعلية؛ فإنها تقبل التعليق، ولا تعارضه.
وشيء آخر يؤيد ما سلف؛ هو أن بعض النصوص الفصيحة الواردة تدل على وجود لغات أو لهجات ترفع المضارع "ينصح" في ذلك المثال وأشباهه، فإذا ورد مرفوعًا فأين فعل الشرط؟ أيكون هو فعل الشرط مع رفعه، فنتكلف أقبح التأول والتمحل في إعرابه؟ أم نتركه على حاله مرفوعًا، ونقدر فعلًا آخر للشرط مجزومًا مباشرة؟ الأمران معيبان، ولكن الثاني أقرب إلى القبول؛ لأنه - بسبب جزمه المباشر الخالي من التأول - ينخرط في عداد أفعال الشرط؛ إذ الأصل في أفعال الشرط أن تكون مجزومة، وهذا دليل آخر يدفعنا إلى رفض الوجه الإعرابي السابق "المبتدأ"، كما تحمل على رفضه أمور نحوية، وبلاغية دقيقة وفي مقدمتها الفصل بالمبتدأ بين أداة الشرط الجازمة وفعلها، وهذا ممنوع1؛ لمخالفته المأثور الشائع، ومنها: أن دخول النواسخ على المبتدأ مطرد، مع أن كثير من النواسخ لا يصح دخوله هنا على المبتدأ، ومن هذا الكثير الحرف: "إن" إذ له الصدارة في جملته، فلا يصح وقوعه بعد أداة الشرط ... و ... و ...
ب- ولو أعربنا الاسم السابق وهو: "عاقل" وأشباهه، فاعلًا - أو شيئًا آخر مرفوعًا بالعامل الذي بعده - كما يرى فريق من الكوفيين لكان هذا أخذًا برأي ضعيف أيضًا، فوق ما فيه من الفصل الممنوع عند أكثر النحاة - كما أوضحنا-، ومن اختلاط الأمر في كثير من الأساليب بين المبتدأ والفاعل
__________
1 عند جمهور البصريين "راجع شرح العكبري، للديوان المتنبي وبيته التالي:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شيء عن الدوران
من القصيدة التي مطلعها:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك: القمران(2/146)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المتقدم كما في المثال المعروض ونظائره -وما أكثرها- فيوجد من يعرب كلمة؛ "عاقل" مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، ومن يعربها فاعلًا مقدمًا للفعل بعده. وعلى الإعراب الأول تكون الجملة اسمية، وقد سبق ما فيها من عيب، إما على الإعراب الثاني فالجملة فعلية؛ ودلالتها مختلفة عن سابقتها، فشتان بين مدلولي الجملتين في لغتنا، هذا إلى مشكلات أخرى تتعلق بوجود فاعل مذكور - أحيانًا- بعد الفعل المتأخر، كالتاء في قول الشاعر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فهل يمكن إعراب الضمير "أنت" في كل شطر فاعلًا مع وجود التاء بعده، ومشكلات تتعلق بالضمائر: المستترة المتصلة بالفعل المتأخر، كموقع الضمير "أنت" في مثل قول الشاعر:
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه
فما إعراب "أنت"؟ أتكون فاعلًا مقدمًا للفعل "تشرب" مع أن فاعله ضمير مستتر وجوبًا، لا يجوز إظهاره؟ أم تكون توكيدًا متقدمًا لذلك الفاعل المستتر مع أن التوكيد لا يصح تقديمه على المؤكد؟ إلى غير هذا من مشكلات تتصل بالضمائر - وسواها - كمشكلة الفاعل المتقدم في مثل: "محمد" قام، بإعراب "محمد" فاعلًا عند من يجيزونه، فما إعرابه إن سبقه ناسخ مثل: كان محمد قام؟ أين الفاعل؟ وأين اسم الناسخ؟ وكذلك مشكلة عودة الضمائر، ومطابقتها للفاعل المتقدم أو عدم مطابقتها، واعتبارها حروفًا أو أسماء مهملة حينًا وغير مهملة حينًا آخر بغير ضابط سليم يعتمد عليه في كل ذلك.
ج- فلم يبق إلا اختيار الإعراب الثالث القائم على تقدير فعل محذوف، "تحقيقًا لما اشترطه جمهور النحاة من دخول أداة الشرط على فعل ظاهر، أو مقدر ومنع دخولها على الاسم واعتباره أفضلها، وأن العيب فيه أخف وأيسر، كما قلنا، ولن يترتب على هذا "التقدير" خلط بين المعاني والمدلولات اللغوية، ولا تداخل بين القواعد النحوية، على أن "التقدير" باب واسع وأصيل في لغتنا، ولكنه محكم، وسائغ ممن يحسن استخدامه - عند مسيس الحاجة الشديدة - على النط الوارد الفصيح الذي يحتج به، والذي لا يؤدي إلى خلط أو اضطراب.(2/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4- أجرى بعض النحاة الذين لا يقصرون الاشتغال على النصب - أحكامًا أربعة على الاسم السابق إذا كان مرفوعًا، وبعده فعل قد عمل الرفع في ضميره أو في ملابسه:
فيجب رفع هذا الاسم السابق إما بالابتداء إذا وقع بعد أداة لا يليها فعل؛ كإذا الفجائية، وليتما "المختومة بما الزائدة"، نحو: خرجت فإذا النسيم ينعش - ليتما الجو يعتدل، وإما على الفاعلية يفعل محذوف إذا وقع بعد أداة لا يليها إلا الفعل -كأداة الشرط- نحو: إن سيارة أقبلت فاحترس منها، وقول الشاعر:
إذا أنت لم تحم القديم بحادث ... من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
ويكون الرفع بالابتداء راجحًا في مثل: الزارع يكافح: حيث لا يحتاج إلى تقدير شيء محذوف، أما إعرابه فاعلًا بفعل محذوف فيحتاج إلى تقدير ذلك الفعل، والتقدير هنا ردئ ما دام الاسم غير واقع بعد أداة تطلب فعلًا؛ كأداة الاستفهام، ونحوها ...
وقد يكون الرفع بالفعل المحذوف راجحًا على الرفع بالابتداء في مثل: العاملة لتجتهد؛ لأن وقوع الجملة الطلبية خيرًا قليل بالنسبة لغير الطلبية.
وقد يتسويان في مثل كلمة: "الزروع" من نحو: المطر نزل، "والزروع ارتوت منه؛ لأن الجملة الأولى ذات وجهين فإذا أعربت كلمة "الزروع" مبتدأ والجملة بعدها الخبر كانت هذه الجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية التي قبلها. وإذا أعربت كلمة: "الزروع" فاعلًا لفعل محذوف كانت هذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية الواقعة خبرًا قبلها.
5- أبيات ابن مالك في هذا الباب ليست مرتبة ترتيبًا متماسكًا يساير المعاني ويؤالف بعضه بعضًا، فقد يذكر بيتًا أو بيتين في أول الباب يشرح بهما قاعدة معينة، ثم يأتي ببيت أو أكثر ليشرح قاعدة ثانية، فثالثة ... ثم يذكر بيتًا آخر يتمم القاعدة الأولى، فآخر يتمم الثالثة، وهكذا تتفرق أجزاء القاعدة الواحدة في بيتين أو أكثر ليس بينهما توال، أو اتصال مباشر، فلم يكن يد من استيفاء كل قاعدة على حدة استيفاء كاملًا، ثم الإشارة في الهامش إلى أبيات ابن مالك(2/148)
المتعلقة بتلك القاعدة، وتدوينها على حسب ما يقتضيه تماسك القاعدة وتكاملها، لا على حسب ورودها في ألفيته؛ وإلا جاءت القاعدة مفككة، متناثرة هنا وهناك، متداخلة في غيرها، على أنا وضعنا بجانب كل بيت من أبيات ابن مالك رقمه الخاص به الذي يدل على ترتيبه الحقيقي بين أبيات هذا الباب كما وردت في ألفيته.
6- أسلوب: "الاشتغال" بمعناه العام دقيق، يتطلب براعة في تأليفه وضبطه، كي يسلم من الخطأ، والالتواء، والتفكك؛ فحيذا الاقتصاد في استعماله.(2/149)
المسألة 70: تعديل الفعل ولزومه الكلام على المفعول به وأحكامه المختلفة
مدخل
...
المسألة 70: تعدية الفعل ولزومه الكلام على المفعول به، وأحكامه المختلفة
الفعل التام1 ثلاثة أنواع:
أ- نوع يسمى: "المتعدي2"؛ وهو: "الذي ينصب بنفسه مفعولًا به3 أو اثنين، أو ثلاثة؛ من غير أن يحتاج إلى مساعدة حرف جر، أو غيره مما يؤدي إلى تعدية الفعل اللازم4" مثل، سمع - ظن - أعلم، في نحو: لما سمعت الخبر ظننت الراوي مخطئا، لكن الصحف أعلمتنا الخبر صحيحا.
__________
1 الفعل التام، هو: ما يكتفي بمرفوعه في تأدية المعنى الأساسي للجملة؛ مثل: ساد - أضاء - تحرك - وأشباهها؛ حيث يقول: ساد الهدوء - أضاء النجم - تحرك الكوكب، أما الناقص فهو الذي لا يكتفي بمرفوعه في ذلك، وإنما يحتاج معه لمنصوب حتمًا؛ مثل: "كان وأخواتها" من الأفعال الناسخة التي ترفع الاسم وتنصب الخبر - كما سبق في ج 1 ص 403 م 42 - وهذه الأفعال الناقصة "الناسخة" لا توصف بأنها متعدية أو لازمة، وإنما هي قسم مستقل، ومثلها الأفعال المسموعة التي تصلح للأمرين؛ فنستعمل في المعنى الواحد لازمة ومتعدية، مثل: شكرت لله على ما أنعم، ونصحت للعاقل بشكره، أو شكرت الله على ما أنعم، ونصحت العاقل بشكره، فهذه الأفعال وأشباهها قسم قائم بذاته أيضًا.
وعلى هذا تكون أنواع الفعل من ناحية التعدي، واللزوم أو عدمها - أربعة نوع متعد فقط، ونوع لازم فقط، ونوع صالح للأمرين، ونوع ناقص لا يوصف بأحدهما، والثلاثة الأولى أقسام للتام وحده.
2 يسميه بغض القدماء "المجاوز" أو"الواقع": لأن أثره لم يقتصر على الفاعل وإنما جاوزه إلى المفعول به، فوقع مدلوله عليه، "وفي ص 86 بعض الأحكام الخاصة بالمفعول به من ناحية تقدمه وتأخره في الجملة وترتيبه فيها".
3 "المفعول به" هو: ما وقع عليه فعل الفاعل إيجابًا أو سلبًا؛ نحو: بطلب العاقل السعادة، ولا ينسى السعي الحميد لها، وقد سبق - في رقم 5 من هامش ص 36 بيان الفرق الكبير بين الذي يقع عليه الفعل، وهو المفعول به، والذي يقوم به الفعل، وهو الفاعل.
والمفعول به يعد -في الأغلب- من الفضلات؛ طبقًا للبيان الذي في ص 179 - ولا ينصبه إلا الفعل المتعدي وفروعه، أما غيره من أنواع المفاعيل فينصبها الفعل المتعدي واللازم، وكذا بقية المنصوبات، ويجوز الاقتصار على كلمة: "مفعول" وحدها، دون تقيدها بالجار والمجرور بعدها؛ لأن كلمة: "مفعول" إذا ذكرت مطلقة بغير قيد لا يراد منها إلا "المفعول به"، وهو غير "المفعول المطلق" الذي سيجيء في ص 204، ويختلف عنه اختلافًا واسعًا.
4 اللازم أنواع ثلاثة، يجيء بيانها في ص 157، وسيجيء في ص 158 بيان الوسائل التي تؤدي إلى تعدية الفعل اللازم.(2/150)
ب- نوع يسمى "اللازم"1 أو: "القاصر"، وهو: "الذي لا ينصب بنفسه مفعولًا به أو أكثر؛ وإنما ينصبه بمعونة حرف جر، أو غيرها مما يؤدي إلى التعدية" مثل: أسرف - انتهى - قعد - في نحو: إذا أسرف الأحمق في ماله انتهى أمره إلى الفقر، وقعد في بيته ملومًا محسورًا2، فكل كلمة من: مال، فقر، بيت ... هي في المعنى - لا في الاصطلاح - مفعول به للفعل قبلها، ولكن الفعل لم يوقع معناه وأثره عليها مباشرة من غير وسيط؛ وغنما أوصله ونقله بمساعدة حرف جر؛ كان هو الوسيط في ذلك؛ فهي في الظاهر مجرورة به، وهي في المعنى في حكم المفعول به لذلك الفعل3.
جـ- نوع مسموع، يستعمل متعديًا ولازمًا، مثل: شكر، ونصح4.
__________
1 وقد يسمى: غير المتعدي، أو: المتعدي بحرف الجر.
2 منقطعًا من أسباب الخير، ووسائل القوة.
3 وإذا كانت في حكم المفعول به المعنى، فهل يجوز في توابع هذا المفعول الحكمي "أي: المعنوي" النصب مراعاة لحكمه، كما يجوز الجر مراعاة للفظه؟
تؤخذ الإجابة من شرح كتاب: "المفصل" - في ج 7 ص 65 - ونصها: "لفظه مجرور وموضعه نصب؛ لأنه مفعول؛ ولذلك يجوز فيما عطف عليه وجهان، الجر والنصب؛ نحو قولك: مررت بزيد وعمرو – وعمرًا؛ فالجر على اللفظ، والنصب على الموضع؛ وذلك من قبل أن الحرف يتنزل منزلة الجزء من الفعل؛ من جهة أنه به وصل إلى الاسم؛ فكأنه كالهمزة في: أذهبته، والتضعيف في: فرحته، وتارة يتنزل منزلة الجزء من الاسم المجرور به؛ ولذلك جاز أن يعطف عليها بالنصب: فالجر على الاسم وحده، والنصب على موضع الحرف والاسم معًا. ا. هـ. والرأي صريح في جواز الأمرين، ولا شك أن ما يجري في العطف يجري في غيره من باقي التوابع، ثم عاد فردد هذا - في ج 8 ص 10 - من غير أن يقتصر من النواسخ على العطف، بل نص على الصفة أيضًا، ولا ريب أن بقية التوابع يجري عليها ما يجري على العطف والنعت.
ولعل الخير اليوم في إهمال ها الرأي، والاقتصار على الرأي الآخر السديد الذي يوجب الجر وحده في التوابع، وترك النصب لما قد يكون مسموعًا من الكلام القديم دون محاكاته؛ حرصًا على الضبط في أداء المعاني بدقة وإحكام، ومنعًا للخلط الذي يؤدي إليه إباحة النصب، إذ يترتب على جواز النصب أن يكون لكل اسم مجرور بحرف جر أصلي إعراب محل غير إعرابه اللفظي، وهذا الحكم العام الشامل - الذي يقضي بإعراب جميع الأسماء المجرورة بحرف جر أصلي إعرابًا محليا بعد إعرابها اللفظي، وبإدخالها في أنواع الألفاظ التي لها إعراب محلي - يوقع في اللبس بين أصالة حرف الجر، وزيادته فوق أن ذلك الحكم غير معروف من المعربات المحلية -، ولم يذكره أحد بين أنواعها المعروضة في المراجع المتداولة - فيما تعرف اللهم إلا المنادي المستغاث المجرور باللام، بالتفصيل الخاص به في باب الاستغاثة ج 4 م 133 ص 61.
"راجع ما سبق في رقم 3 من هامش ص 117 و: "ب" ص 125 وما يتبعها في رقم: 1 من هامش ص 127، وص 159 ثم ص 441.
4 انظر "ب" من هامش ص162.(2/151)
وقد أراد النحاة تيسير التمييز بين الفعل المتعدي بنفسه والفعل اللازم، وسهولة تعيين كليهما؛ فوضعوا لذلك ضابطين يصلح كل منهما لأداء هذه المهمة - في رأيهم1.
أولهما: أن يتصل بالفعل ضمير؛ كالهاء2، أو: ها - يعود على اسم سابق غير ظرف وغير مصدر.
وطريقة ذلك: أن يوضع الفعل في جملة تامة، وقبله اسم جامد، أو مشتق؛ بشرط أن يكون هذا الاسم غير مصدر وغير ظرف، وبعد الفعل ضمير يعود على ذلك الاسم المتقدم، وإن صح التركيب واستقام المعنى فالفعل متعد بنفسه، وإلا فهو لازم، فإذا أردنا أن نبين حقيقة الفعل: "أخذ" من ناحية التعدي واللزوم وضعنا قبله اسمًا غير مصدر وغير ظرف، وجعلنا بعد الفعل ضميرًا يعود على ذلك الاسم؛ فنقول: الصحف أخذتها، فنرى المعنى سليمًا، والتركيب صحيحًا "لموافقته الأصول والضوابط اللغوية"؛ فنحكم بأن هذا الفعل متعد؛ ينصب المفعول به بنفسه، إلا إن صار المفعول به نائب فاعل فيرفع3.
ومثل هذا يتبع في الفعل "قعد" حيث نقول: الغرفة قعدتها؛ فندرك سريعًا فساد الأسلوب والمعنى، ولا سبب لهذا الفساد اللغوي إلا تعدية الفعل، "قعد" تعدية مباشرة، لهذا نحكم بأنه لازم.
ومثل الفعلين "أخذ" و"قعد" غيرهما من الأفعال؛ حيث يمكن التوصل إلى معرفة المتعدي واللازم باستخدام الضابط السالف.
وإنما اشترطوا في الاسم السابق أن يكون غير مصدر وغير ظرف؛ لأن الضمير يعود عليهما من الفعل المتعدي واللازم على السواء؛ فلا يصلح الضمير العائد على المصدر أو الظرف أن يكون أداة للتمييز، بين المتعدي واللازم؛ ففي مثل: طلبت
__________
1 انظر الحكم على هذا في رقم 3 من هامش الصفحة التالية.
2 وتسمى: "هاء المفعول به"؛ لأنها تعود عليه.
3 وفي هذا يقول ابن مالك:
علامة الفعل المعدى أن تصل ... "ها" غير مصدر به؛ نحو: عمل
فانصب به مفعوله، إن لم ينب ... عن فاعل، نحو: تدبرت الكتب
أي: تأملتها.(2/152)
منك أن تمشي في الصباح المبكر طويلا، ثم تستريح ساعة، تذهب بعدها إلى مزاولة عملك فماذا فعلت؟
قد يكون الجواب: "المشي مشيته، والساعة استرحتها1، والذهاب ذهبته، والعمل زاولته"، ففي الإجابة ضمائر عاد بعضها على المصدر أو على الظروف، مع أن أفعالها لازمة، كما في الثلاثة الأولى، وعاد بعضها على المصدر أيضًا مع أن الفعل: "زوال" متعد بنفسه.
ثانيهما: صياغة اسم مفعول تام2 من الفعل الذي معرفة تعديته أو لزومه؛ فإن أدى اسم المفعول معناه بغير حاجة إلى جار ومجرور كان فعله متعديًا بنفسه، وإلا كان لازمًا، في مثل: فتح - أكل - أعلن ... نقول: الباب مفتوح - الفاكهة مأكولة - الخبر معلن ... فنرى اسم المفعول مستغنيًا عن الجار والمجرور في أداء لمراد منه، بخلافه عند صياغته في مثل: قعد - يئس - هتف ... حيث نقول: الحجرة مقعود فيها - القضاء على أسباب الحرب ميئوس منه - العظيم مهتوف باسمه ... فاسم المفعول هنا لم يستغن في أداء معناه عن الجار مع مجروره ...
فالوسيلة إلى معرفة التعددية واللزوم تكون باستخدام أحد الضابطين السالفين، أو باستخدامهما معًا؛ كما يقول النحاة3.
__________
1 انظر نيابة العدد عن الظرف - في ص 265.
2 أي: لا يحتاج في تأدية المعنى المراد منه إلى جار مع مجروره.
3 الحق أن تلك الوسيلة ليست ناجحة، ولا سليمة، وأن الضابط الصحيح هو حكم اللغة بمفرداتها، وتراكيبها الواردة عن أهلها العرب، وقد حوت النصوص والمراجع الوثيقة كثيرًا من هذه المفردات والتراكيب، وأبانت الكتب اللغوية - في عناية تامة - ما تعدى من الأفعال وما لزم، مع سرد معانيها؛ نشهد هذا في كتاب: المصباح المنير، وفي القاموس المحيط، وشرحه تاج العروس وفي لسان العرب، وفي أساس البلاغة ... وغيرها من المطولات اللغوية، أما الضابطان السالفان فلا يصلح أحدهما أو كلاهما للإبانة دون الرجوع إلى تلك المراجع الوثيقة، وإلا فمن أين نعلم ويعلم المستعرب أن الفعل: "فتح - أكل - أعلن" واسم المفعول منه مستغنيان عن الجار والمجرور، وأن الفعل: "قعد - يئس - هتف"، واسم مفعوله لا يستغنيان؟ من أين نعلم أن هذا الأسلوب صحيح في تركيبه بعد التعدية؛ أو غير صحيح؟ وأن مثل: "الحجرة قعدتها" خطأ؟ لا سبيل لذلك إلا بالرجوع إلى تلك المصادر اللغوية الأمينة، ولا دخل للذوق الشخصي في الصحة أو الفساد؛ لأنه غير مأمون، ومعنى ما تقدم أننا -ولا سيما المستعربون- لا نستطيع الانتفاع بأحد الضابطين السالفين أو =(2/153)
وبالرغم من هذه الوسيلة لجئوا إلى أخرى أدق منها وأصح؛ فقد بذلوا الجهد -قدر استطاعتهم- في استقصاء كلام العرب، وحصر الأفعال اللازمة الواردة فيه، وتقسيمها أقسامًا تقريبية متعددة، لكل قسم عنوان معين ينطبق - إلى حد كبير - على عدد كثير من الأفعال اللازمة الداخلة تحته؛ فيكتفي الراغب بمعرفة هذا العنوان، وتطبيق معناه على الفعل الذي يريد الحكم عليه بالتعدية أو باللزوم؛ فيصل - غالبًا - إلى ما يريد، فمنزلة هذا العنوان العام منزلة القاعدة التي تطبق على أفراد متعددة؛ فتغني عن المراجع اللغوية، وتوصل إلى الغاية المرجوة بغير جهد مبذول، ولا وقت ضائع، وقد نجحوا في وضع هذه العناوين أو القواعد التقريبية نجاحًا كبيرًا يمكن الاعتماد عليه، والاكتفاء به، بالرغم من أنها لم تنطبق على قليل من الأفعال وصف بالشذوذ، ونحوه، وأشهر تلك العناوين والقواعد التقريبية الدالة -في الغالب- على الأفعال اللازمة ما يأتي:
1- الأفعال الدالة على صفة تلازم صاحبها، ولا تكاد تفارقه إلا لسبب قاهر، وهي الأفعال الدالة على السجايا، والأوصاف الفطرية: مثل: شرف فلان؛ نبل - ظرف - قصر - طال - سمن - نحف ... والأغلب في هذه الأفعال أن تكون على وزن: "فعل" - بفتح فضم - وهذه صيغة تكاد تقتصر على الفعل 1 اللازم.
ويتصل بها ما لا يدوم ولكن ومنه يطول، أو يتكرر؛ مثل: جبن - شجع - نهم 2 - جشع.
__________
= بهما معًا دون تحكيم اللغة أولًا، والاعتماد على ما تشير به، ولها وحدها القول الفصل، أما الضابطان أو أحدهما فيستطيع من عرف أولًا، من اللغة تعدية هذا الفعل أو لزومه - أن يلجأ إليهما، لمجرد الاستئناس، لا لمعرفة أمر مجهول، بل إنه لا يحتاج إلى مثل هذا الاستئناس؛ لاستغنائه عنه بالمعرفة اللغوية السابقة.
وهناك سبب آخر هام، هو أن هذه "الهاء" - ونحوها- قد تتصل بآخر الفعل اللازم وتعرب مع لزومه مفعولًا به، طبقًا للبيان والتفصيل في رقم 3 من هامش ص 247، فكيف تصلح علامة المتعدي؟
1 ويقول صاحب المغني ج 2 الباب الرابع: الأمور التي لا يكون الفعل معها إلا قاصرًا: إنه لم يرد منها متعديًا سماعًا إلا اثنان؛ هما: رحب، طلع - بفتح أولهما - وضم ثانيهما؛ في مثل رحبتكم الدار، طلع القمر اليمن - كما سيجيء في ص 170، وفي رقم 3 من هامش ص 183 - وكلام صاحب المغني وتحديده منوض بمثل الفعل: "بصر"، فإنه يتعدى في الأكثر بالباء، وقد يتعدى بنفس مباشرة، طبقًا لما في بعض المراجع اللغوية ومنها: "المصباح المنير".
ولهذا صلة بما يجيء في رقم 1 من هامش ص 170.
2 فهم الرجل: اشتدت رغبته في الطعام ولازمته.(2/154)
2- الأفعال الدالة على أمر عرضي1 طارئ، يزول بزوال سببه المؤقت؛ كالأفعال في مثل: مرض المتعرض للعدوى - أحمر وجهه - ارتعشت يده ... وكالأفعال الدالة على فرح أو حزن؛ "هنئ - سعد - حزن - جزع - فزع - رجف"، أو على نظافة ودنس؛ مثل: نظف الثوب أو غيره - طهر - وضؤ - دنس - وسخ - قذر - نجس.
3- الأفعال الدالية على لون، أو حلية، أو عيب، مثل: خمر - احمر - احمار - سود، أسود - ابيض ... ومثل: دعج2، كجل - عور - عمي ...
4-الأفعال التي على وزن "افعلل" نحو: اقشعر - ابذعر3 - اشمأز - وما ألحق بهذا الوزن من مثل: افوعلّ "بسكون الفاء، وفتح الواو والعين، وتشديد اللازم"، نحو: أكوهد4 وأكوأل ...
5- الأفعال التي على وزن "افعنلل"؛ من كل فعل في وسطه نون بعدها حرفان أصليان، نحو: رنجم5.
وكالأفعال التي تضاهي "افعنلل" من كل فعل في وسطه نون بعدها حرفان أحدهما زائد للإلحاق، نحو: اقعنسس6؛ فإن السين الثانية زائدة للإلحاق 7؛ باحرنجم.
__________
1 يراد بالعرض هنا، المعنى الطارئ الذي ليس له طول ثبات، ولا دوام، وليس حركة جسم، أما الفعل الدال على الحركة فقد يكون لازمًا؛ مثل: مشي، وقد يكون متعديًا مثل: مد.
2 دعجت العين: اشتد سوادها وبياضها - أو اتسعت مع شدة سواد المقلة.
3 ابذعر القطيع: تفرق هربًا.
4 أكوهد الفرخ: ارتعش؛ ليشعر أمه بجوعه، وأكوأل الرجل، بمعنى: قصر.
5 احرنجم الرجل: أراد شيئًا ثم عدل عنه، واحرنجمت الخيل أو الإبل، اجتمعت متزاحمة.
6 اقعنسس الجمل: أبى أن ينقاد، أو: رجع إلى الخلف.
7 كانت العرب تزيد على الكلمة الشائعة حرفًا؛ لتجعلها مساوية في عدد حروفها وفي وزنها لكلمة أخرى، وتجري مجراها في التصغير، والنسب، والجمع، وغيرها والذي يدعوها لذلك دواع في مقدمتها ضرورة الشر، والتلميح، أو التهكم ...
وليس من حق أحد -سوى العرب القدامى- أن يزيد في بنية الكلمة الواردة شيئًا للإلحاق؛ فتلك الزيادة مقصورة عليهم، وقد انتهى زمنها بانتهاء عصورهم التي حددت للاستشهاد بكلامهم، والتي حددها مجمع اللغة العربية بالقاهرة، بنهاية القرن الثاني الهجري في الحواضر، ونهاية القرن الرابع الهجري في البوادي.
"راجع ص 18 من كتابنا: "رأي في بعض الأصول اللغوية والنحوية"، وص 202 من الجزء الأول من مجلة المجمع اللغوي القاهري، و 294، 303 من محاضر انعقاده الأول.(2/155)
ويلحق بهما ما كان على وزن "افعنلى" نحو اسلنقى1 واحرنبى2.
6- الأفعال التي على وزن "فعل" -بكسر العين أو فتحها- إذا كان الوصف منها على "فعيل"؛ نحو: قوي الرجل، فهو قوي، وذل3 الضعيف فهو ذليل.
7- الأفعال التي على وزن: انفعل؛ نحو: انبعث وانطلق، والتي على وزن "أفعل"، ومعناها: صار صاحب شيء معين، مثل: أغد البعير؛ بمعنى: صار ذا غدة4.
أو التي على وزن: "استفعل" وتفيد الصيرورة5 أيضَا؛ نحو: استنوق الجمل، أي: صار كالناقة، واستأسد القط؛ أي: صار كالأسد في صورته.
8- الأفعال الدالة على مطاوعة 6 فعل لفعل آخر متعد بنفسه لواحد؛ مثل: "امتد" في نحو: مددت الحديد الساخن فامتد، ومثل: "توفر" في نحو: وفرت المال فتوفر، ومثل: انكسر في نحو: كسرت الخشبة فانكسرت.
9- الأفعال الرباعية الأصول التي يزاد عليها حرف أو حرفان؛ مثل: تدحرج، واحرنجم.
تلك هي أشهر أنواع الأفعال التي يغلب عليها اللزوم7.
__________
1 اسلنقى المريض: نام على ظهره.
2 احرنبى الديك: نفش ريشه؛ استعدادًا للقتال.
3 من باب: ضرب، يضرب.
4 يريدون بها: ورمًا ناتئا يظهر في بعض أعضائه.
5 التحول والانتقال من حالة إلى حالة.
6 سبق شرح المطاوعة شرحًا وافيًا وإيضاحها بالأمثلة في رقم 1 من هامش ص 100"، وأشرنا هناك إلى أن صاحب كتاب "المخصص" "ابن سيده" عقد بحثًا وافيًا للمطاوعة ضمنه كثيرًا من شئونها "في الجزء 14 ص 175"، كما أشرنا إلى قرار المجمع اللغوي القاهري بقياسية أفعال المطاوعة كلها، وقرار الخاص بمطاوع "فعل" الثلاثي ... و ...
7 وفيما سبق يقول ابن مالك:
ولازم غير المعدى، وحتم ... لزوم أفعال السجايا؛ كنهم
=(2/156)
"ملاحظة":
للفعل اللازم ثلاثة أنواع يتردد ذكرها في مناسبات مختلفة1.
أولها: اللازم أصالة؛ ويراد به الفعل الموضوع في أصله اللغوي لازمًا؛ مثل: نام - قعد - تحرك.
ثانيها: اللازم تنزيلًا؛ ويراد به الفعل المتعدي لواحد، ولكن مفعوله هذا يحذف - غالبًا - في بعض الاستعمالات؛ كأن يشق من مصدر هذا الفعل اسم فاعل يضاف إلى فاعله، فيصير اسم الفاعل بسبب هذه الإضافة دالًا على الثبوت بعد أن كان قبل الإضافة دالًا على الحدوث، ويصير في حالته الجديدة: "صفة مشبهة" ويسمى باسمها، وتجري عليه كل أحكامها مع بقائه على صورته الأولى، دون بقاء اسمه السابق، وهو في حالته الجديدة لا ينصب "مفعولًا به"؛ لأنه صار - كما قلنا - صفة مشبهة، والصفة المشبهة لا تشتق أصالة إلا من فعل لازم، فحق ما هو بمنزلتها أن يكون كذلك، فيحذف - في الغالب - مفعوله؛ مجاراة لها، ففي مثل: رحم قلب المؤمن الضعفاء، يقال فيه: فلان راحم القلب.
ثالثها: اللازم تحويلًا، وهذا يكون بتحويل الفعل المتعدي لواحد إلى صيغة: "فعل" بقصد المدح أو الذم2 وهذه الصيغة لا تكون إلا لازمة؛ مثل: جهل الأمي، في ذم الأمي، والأصل المتعدي قبل التحويل هو: جهله ... ؛ فصار بعد التحويل لازمًا.
__________
= يريد: اللازم هو الذي ليس متعديًا، وشرع يبين أنواع الأفعال اللازمة، فقال: حتم لزوم أفعال السجايا وعدم تعديتها، أي: أن لزومها محتوم: وسرد أنواعًا أخرى في الأبيات التالية:
كذا: "افعلل" والمضاهي اقعنسسا ... وما اقتضى نطافه أو دنسا
أو عرضا، أو طاوع المعدى ... لواحد؛ كمده فامتدا
أي: ما كان على وزان "افعلل" فهو لازم، وكذا الفعل الذي على وزن يضاهي ويشابه في أحكامه الفعل: "اقعنسس"، فإنه يشابه الفعل "افعنلل" مثل: "احرنجم" - كما أوضحنا في الشرح - وكذلك من اللازم أيضًا ما دل على نظافة، أو دنس، أو عرض، أو مطاوعة لفعل متعد لواحد ...
1 ولا سيما باب "الصفة المشبهة" ج 3 م 104 و 105 ص 16 و 250 حيث البيان.
2 لهذا التحويل أحكام وضوابط مكان تفصيلها ج 3 م 111 ص 370 بعنوان: "الأفعال التي تجري مجرى "نعم وبئس".(2/157)
المسألة 71:
طريقة تعدية الفعل اللازم الثلاثي:
من الممكن جعل الفعل الثلاثي اللازم متعديًا إلى مفعول به واحد، أو في حكم المتعدي إليه1؛ وذلك بإحدى الوسائل التي ستذكرها، وكلها قياسي؛ إلا الأخيرة2 ...
وقبل أن نسردها نشير إلى أمر هام، هو: أن هذه الوسائل كلها تشابه في أمر واحد، يتركز في صلاحية كل منها لتعدية الفعل اللازم، وتختلف بعد ذلك بينهما اختلافًا واضحًا، وناحية الخلاف تتركز أيضًا في أن كل وسيلة منها تؤدي مع التعدية معنى خاصًا لا تكاد تؤديه وسيلة أخرى؛ فواحدة تفيد - مثلًا - مع التعدية جعل الفاعل مفعولًا به؛ كهمزة النقل3، ولهذا أثره في تغيير المعنى الأول4، وواحدة تفيد التكرار والتمهل؛ كالتضعيف، وهذا تغيير طارئ على المعنى السابق، وثالثة تفيد المشاركة، ولم تكن موجودة، كتحويل الفعل اللازم إلى صيغة فاعل ...
وهكذا ... ، مما سيتضح عند الكلام على كل واحدة، وما تجلبه من المعنى الطارئ مع التعدية، فإن كان أثر الوسائل من ناحية التعدية واحدًا، فإن أثرها مختلف من ناحية المعنى لهذا لا تختار وسيلة منها إلا على أساس أنها - مع تعديتها
__________
1 الذي في حكم المتعدي هو ما يبدو متعديًا بحسب المظهر الشكلي اللفظي دون الواقع الحقيقي المعنوي، ويتضح هذا جليًا في الوسيلتين الأخيرتين "7، 8" كما سيجيء عند الكلام عليهما، في ص 169 و 171 هذا، وما يسري على الفعل يسري على شبهة.
2 الأخيرة المقصورة على السماع هي: إسقاط حرف الجر وحده -دون مجروره- كما سيجيء في ص 171 - وتلك الوسائل القياسية مستنبطة من الكلام العربي الأصلي الشائع؛ لاستخدامها كسائر القواعد العامة المستنبطة منه ولا يلتفت إلى الرأي القائل: إن استخدامها أو بعضها مقصور على السماع؛ إذ لو كان كذلك ما كان هناك داع لتدوين هذه الوسائل، ولوجب الاقتصار على المسموع، وهذا غير مقبول إلا في الحالة الأخيرة؛ حالة إسقاط حرف الجر وحده - كما سيأتي في ص 171 "انظر رقم 4 من هامش ص 163"، أما جعل المتعدي لازمًا أو في حكمه، فيجيء الكلام عليه في ص 182.
3 إيضاحها في ص 165 ولها إشارة في "ج" ص 178.
4 كما سيجيء في رقم 2 من ص 165.(2/158)
الفعل - تجلب معها معنى جديدًا يساير الجملة، ويناسب الغرض، وعلى هذا الأساس وحده يقع الاختيار على وسيلة دون أختها؛ فالتي تصلح لمعنى لا تصلح لغيره في الغالب إلا إذا عرف عنها أنها قد تشابه غيرها في تأدية معناه، كحرف الجر الأصلي فإنه يؤدي ما تؤديه همزة النقل أحيانًا؛ نحو: أذهبت العصفور، وذهبت به ... وإليك الوسائل:
1- إدخال حرف الجر الأصلي المناسب للمعنى، على الاسم الذي يعتبر في الحكم - لا في "الاصطلاح" كما شرحنا أول هذا الباب، وكما يأتي هنا1 - مفعولا به معنويًا للفعل اللازم 2، ليكون حرف الجر الأصلي مساعدًا على توصيل أثر الفعل إلى مفعوله المعنوي؛ فمثل: قعد - صاح - خرج - يقال في تعديته بحرف الجر: قعد المريض على السرير - صاح الجندي بالبوق - خرجت من القرية، فكلمة: السرير - البوق - القرية ... هي من الناحية المعنوية في حكم المفعول به، لوقوع أثر الفعل عليها، وإن كانت لا تسمى في "اصطلاح" النحاة مفعولًا به حقيقيًا 3، ولا يجوز -في الرأي الأنسب- نصب شيء من توابعها ما دام حرف الجر الأصلي مذكورًا قبلها في الكلام "كما سبق وكما سيجيء"4.
وقد وردت أمثلة قليلة مسموعة عن العرب، حذف فيها حرف الجر، ونصب مجروره بعد حذفه؛ منها: "تمرون الديار" بدلًا من: تمرون بالديار، ومنها: "توجهت مكة، وذهبت الشام"، بدلًا من: توجهت إلى مكة، وذهبت إلى الشام ... ، فهذه كلمات منصوبة على نزع الخافض5، كما يقول
__________
1 التعدية بحرف الجر ليست مقصورة على الثلاثي اللازم؛ وإنما تشمله وتشمل المتعدي لواحد أو أكثر؛ فإنه يتعدى لغيره بالجار أيضًا -كما أشار إليه "الصبان"، ونص عليه "الخضري" صراحة في أول هذا الباب.
2، 3؛ لأن "المفعول به" الحقيقي عندهم؛ هو الذي يقع عليه الأثر مباشرة بدون
مساعدة، لذا يسمون التعدية بحرف الجر: "تعدية غير مباشرة"؛ لأنها جاءت نتيجة معاونة قدمت للفعل اللازم، ولم يستطع التعدية إلا بهذه المعاونة.
4 راجع رقم 3 من هامش ص 117؛ ثم "ب" ص 125 م 69 ثم 3 من هامش ص 151، ثم في ص 439 ورقم 2 من هامشها.
5 أي: عند نزعه من مكانه، والمراد: عند حذفه، وفي هذه الحالة تسمى أفعالها: متعدية مما يسمى: "الحذف والإيصال" أو: "بنزع الخافض"، -وهذا نوع من الأول- أما مع وجود حرف الجر فتسمى: متعدية بالحرف؛ كما سبق.
ولزع الخافض بيان مجيء في "أ" من رقم 5 من بهامش ص 161، وإشارة في رقم 3 من هامش ص 492، عند الكلام على حذف حرف الجر.
هذا، ويلاحظ أن الكلام هنا وفي ص 191 على حذف الجار مع بقاء مجروره يختلف في حكمه عن حكم حذف الجار مع مجروره، وسيجيء في ص 532.(2/159)
النحويون، والنصب به سماعي1 - على الأرجح المعول عليه؛ مقصور على ما ورد منها منصوبًا مع فعله2 الوارد نفسه؛ فلا يجوز -في الرأي الصائب- أن ينصب فعل3 من تلك الأفعال المحددة المعينة كلمة على نزع الخافض إلا التي وردت معه مسموعة عن العرب، كما لا يجوز في كلمة من تلك الكلمات المعدودة المحدودة أن تكون منصوبة على نزع الخافض إلا مع الفعل4 الذي وردت معه مسموعة، أي: أن هذه الكلمات القليلة المنصوبة على نزع الخافض لا يجوز القياس عليها، فهي، مقصورة على أفعالها الخاصة بها، وأفعالها مقصورة
__________
1، 2 راجع حاشية الأمير على "المغني" -جـ 1- عند الكلام على: "لكن" مشددة النون.
والحكم بأنه مقصور على السماع هو الأنسب؛ لأنه يمنع اللبس والاضطراب اللغوي، وهو رأي أكثر أئمة اللغة؛ كابن هشام، وابن مالك، والرضي، وابن حيان، وآراؤهم مسجلة في المراجع المختلفة؛ ومنها ما جاء في حاشية "ياسين" في هذا الباب منقولًا عن ابن هشام في "التوضيح" وشرحه، عند كلامه على السبب الأول، والثاني من أسباب: "التعدية" حيث يقول ما نصه على سبب التعدية بنزع الخافض:
"لكن المصنف سيذكر أنه سماعي" وفعلًا صرح به المصنف في "التوضيح" بعد ذلك آخر الباب: وسجلت تلك الحاشية في آخر صفحة من صفحات الجزء الثاني - باب: الإدغام" ما نصه: "إن النصب على نزع الخافض لا يصار إليه مع تيسير غيره ... "، وجاء في "حاشية الأمير على المغني" "ج 1 مبحث الحرف "علي" الجار، وبيان الأفعال التي حذف بعدها حرف الجر سماعًا ونصب المجرور بعد حذفه" ما نصه بعد تلك الأفعال المسموعة" " ... إنما جاز ذلك في هذه لتعين الحرف، وتعين محله، ولا يجوز القياس عليها وإن تعين الحرف، وتعين محله، فلا يجوز بريت القلم السكين، خلافًا لعلي بن سليمان". ا. هـ.
ويقول الرضي -ج 1 ص 75 من شرح الشافية- ما نصه: "إن باب الحذف والإيصال شاذ عند النحاة".
وانظر رقم 4 من هامش ص 171 الآتية.
ويقول ابن مالك في تعدية الفعل اللازم بحرف الجر: يصح نصب الاسم المجرور بشرط حذف حرف الجر، وهذا مقصود على "النقل؛ أي: على السماع. ونص كلامه في "ألفيته" هو:
وعد لازمًا بحرف جر ... وإن حذف فالنصب للمنجر
... نقلا ...
وسيجيء الكلام على هذا البيت في هامش ص 164.
3 أو ما يشبه الفعل.
4 وشبهه.(2/160)
عليها1، ولولا هذا لكثر الخلط بين الفعل اللازم2 والفعل المتعدي، وانتشر اللبس والإفساد المعنوي، وفقدت اللغة أوضح خصائصها؛ وهو: التبيين؛ وأساسه الضوابط السليمة المتميزة التي لا تداخل فيها، ولا اختلاط.
وليس للتعدية بحرف الجر الأصلي -وشبهه 3- حرف معين يجب الاقتصار عليه وحده، وإنما يختار للتعدية الحرف الذي يحقق المعنى المراد، ويناسب السياق؛ فقد يكون الحرف: من، أو، إلى، أو الباء، أو غيرها ... ؛ كالأمثلة السابقة، وكقولنا: انصرف الصانع إلى مصنعة - وانصرف من المصنع إلى بيته - انصرف العالم عن الهزل - انصرف في سيارته ... وهكذا تتغير أحرف الجر، وتتنوع مع العامل اللازم بتنوع4 المعاني المطلوبة.
وحرف الجر إذا كان وسيلة للتعدية، "وهي التعدية غير المباشرة"، لا يجوز حذفه مع بقاء معموله مجرورًا، إلا في بضعة مواضع قياسية5.
__________
1، 2 إلا الكلمة المنصوبة على ما يسمي: "الحذف والإيصال" أو: "نزع الخافض" في مثل "أرأيتك الحديقة، هل راقك جمالها" على اعتبار أن "أرأيتك" بمعنى: أخبرني، والحديقة: منصوبة على نزع الخافض، والأصل عن الحديقة.
ولهذه المسألة تفصيل هام، وإيضاح مفيد في ج 1 ص 216 م 19 - باب: "الضمير".
3 توضيح حرف الجر الأصلي وشبهه - مدون في ص 434، وفي رقم 2 من هامش ص 436 حيث البيان المفيد عن تقسيم حروف الجر من ناحية الأصالة وعدمها، وفائدة كل قسم ... و ...
4 هذا أمر يجب التنبيه له، فإذا رأينا لغويًا -أو غيره- ينص صراحة أو تمثيلًا على أن فعلًا - مثل: قعد، أو نام يتعدى بحرف الجر "في"، أو بحرف جر آخر ينص عليه، فليس مراده أن هذا الفعل لا يتعدى إلا بوسيلة واحدة هي: المجيء بجار مع مجروره، وأن حرف الجر الذي يجيء هو "في" أو غيره مما نص عليه. وإنما مراده أمران معًا، هما: أن هذا الفعل لازم، وأنه يجوز تعديته بإحدى وسائل التعدية التي ستذكر هنا، والتي منها الإتيان بحرف جر مناسب للمعنى وللسياق مع مجروره، دون الاقتصار على حرف جر واحد في الأساليب والمعاني المختلفة، فإذا اقتضى الأمر تعديته بالوسيلة القياسية وكانت حرف الجر جاز لنا أن نختار من بين حروف الجر حرفًا يناسب المقام والغرض المراد، من غير التزام حرف واحد في كل المواقف المعنوية المتباينة، وعلى هذا يقول: قعدت على الكرسي -قعدت منذ ساعة- من قعدت به همته لم تنهض به عشيرته ... وهكذا.
ويزيد الأمر وضوحًا ما سيجيء في ص 436 خاصًا ببيان المراد من تعلق الجار والمجرور بالعامل.
5 سيجيء كثير منها في باب حروف الجر ص 532 م 91 - وقد استفاض الخلاف، والجدل في جواز حذف الحروف الجارة حذفًا قياسيًا، أو عدم جوازه، وفي حكم المجرور بعد الحذف، أيبقى مجرور كما كان أم ينصب على "نزع
الخافض"؟ وهو نوع يسمى: "الحذف والإيصال" =(2/161)
ويعنينا الآن من تلك المواضع ما يكون فيه المجرور مصدرا مؤولا من حرف
__________
= وعند نصبه أيجوز أن يكون مفعولًا به لعامله المذكور، أم لا يجوز؟ وما حكم المصدر المؤول إذا كان مجررًا بالحرف المحذوف؟ أيكون في محل جر أم في محل نصب على: "نزع الخافض" أو على أنه مفعول به العامل الجديد؟ ... و ... و ... ، بحوث جدلية، وتفريعات متشعبة، وصفوة ما يقال: هو أن حذف الجار على أربعة أنواع:
أ- نوع يحذف وينصب بعده المجرور بما يسمى: "النصب على الحذف والإيصال" - أين نزع الخافض -؛ مثل قولهم: تمرون الديار - توجهت مكة - ذهبت الشام، وهذا نوع قليل جدًا - فهو غير مطرد، وقد أوضحنا بإفاضة - في ص 159 - حكمه بأنه سماعي محض؛ فلا يجوز في الفعل - وشبهه - الذي ورد معه أن ينصب على نزع الخافض لفظًا غير مسموع، ولا يجوز في الاسم المنصوب على نزع الخافض أن ينصب على هذه الصورة إلا مع الفعل الوارد معه؛ فلا يجوز تمرون الحقول، ولا: توجهت الحديقة، ولا ذهبت النهر، ولا أشباه هذا؛ لأن تعدية هذه الأفعال لم ترد عن العرب -فما يقال- إلا في: "الديار" و"مكة" و"الشام" على التوزيع السالف، وكان ورودهما فيها قليلًا جدًا فلا يسمح بالقياس، ومثلهما: مطرنا السهل والجبل، وضربت الخائن الظهر والبطن، أي: في السهل والجبل - وعلى الظهر والبطن.
والقول بأن هذه الأسماء منصوبة على نزع الخافض أولى من القول بأنها مفعول به، وأن الفعل قبلها نصبها شذوذًا؛ لأن نصبها على المفعولية مباشرة ولو على وجه الشذوذ - قد يوحي - خطأ - أن الفعل قبلها متعد بنفسه؛ وأن المعنى لا يحتاج إلى المحذوف؛ فيقع في الوهم إباحة تعديته مباشرة في غيرها، لكن إذا قلنا: "منصوبة على نزع الخافض" سماعًا كان هذا إعلانًا صريحًا عن حرف جر محذوف، نصب بعده المجرور؛ فيكون النصب دليلا على ذلك لا يستقيم المعنى إلا بملاحظته، وتقدير وجوده.
ومن هذا النوع المنصوب سماعًا ما نصب على نزع الخافض للضرورة.
والنصب على نزع الخافض -في السعة أو في الضرورة- هو النوع الأشهر مما يتردد في كثر من المراجع اللغوية باسم: "الحذف والإيصال" ويراد به هنا: حذف حرف الجر، ونصب مجروره، وإيصاله بالعامل المحتاج للتعدية بعد حذف الجار، وقد تردد كذلك في عديد من المراجع اللغوية - ورد اسم كثير منها في كتاب: "السماع والقياس" ص 74 لأحمد تيمور - النص الصريح على أن الحذف والإيصال، مقصور على السماع، ولا يجوز استخدامه قياسًا، وهذا الرأي هو الذي ارتضاه الصبان كذلك، ونقلنا كلامه في رقم 4 من هامش ص 171 ومن الواجب الاقتصار عليه؛ منعًا للإفساد اللغوي الذي يترتب على رأي ضعيف آخر يعارضه، ومن بعض صوره ما أشرنا إليه في رقم 3 من هامش ص 171.
ب- نوع يحذف وينصب بعده المجرور أيضًا، ولكن على اعتباره مفعولًا به مباشرة - العامل الذي يطلبه؛ كالحرف التي يكثر استخدامها في تعدية بعض الأفعال المسموعة، فتجر الأسماء بعدها، وكذلك يكثر حذفها بعد تلك الأفعال المعنية؛ فتنصب الأسماء بعد حذفها؛ مثل الفعل: "دخل" فقد استعملته العرب كثيرًا متعديًا بالحرف: "في" مثل: دخلت في الدار، وكذلك استعملته بغير "في" ونصبت ما بعده فقالت: دخلت الدار، ولم تقتصر في حالة وجوده أو حذفه على كلمة "الدار" بل أكثرت من غيرهما، مثل: المسجد - الغرفة - الخيمة - القصر - الكوخ ... ، فكثرة استعمال الفعل بغير حرف الجر، ووقوع تلك الأسماء المختلفة بعده منصوبة مع عدم وجود عامل آخر - كل ذلك يدعو إلى الاطمئنان =(2/162)
مصدري من الحروف الثلاثة مع صلته، "وهي: أن، وأن المختصة بالفعل1
__________
= أن تلك الأسماء المنصوبة هي مفعولات للفعل الموجود، وأن هذا الفعل نصبها مباشرة؛ فلا حاجة إلى اعتبارها منصوبة على نزع الخافض - كما يرى بعض النحاة دون بعض - لما في هذا من العدول عن الإعراب الواضح، المساير لظواهر الألفاظ، ومعانيها - إلى الإعراب؛ والتعقيد من غير داع.
ومعنى ما سبق أن الفعل: "دخل" بعد من الأفعال المسموعة التي تتعدي بنفسها تارة وبحرف الجر أخرى، فهو: مثل: شكر - نصح - حيث تقول فيها: شكرت لله على ما أنعم، ونصحت الغافل بأن يشكره، أو شكرت الله على ما أنعم، ونصحت الغافل بأن يشكره، وهذا النوع هو "ج" الذي وصفناه أول هذا الباب - عند تقسيم الفعل التام إلى متعد ولازم، ص 151 - بأنه قسم مستقل بنفسه يسمى: "الفعل الذي يستعمل لازمًا ومتعديًا، وهذا النوع يطرد فيه النصب مع حذف حرف الجر كما يطرد الجر مع ذكر الحرف.
ج- نوع يحذف فيه الحرف قليلًا مع بقاء مجروره على حالة من الجر؛ كما كان قبل حذف الجار، وهذا النوع القليل منصور على السماع لا محالة؛ فلا يجوز التوسع فيه بجر كلمات غير الكلمات التي وردت عن العرب كقولهم: "لاه ابن عمك" ... " أي: لله ابن عمك"، قد حذفت اللام وبقي مجرورها؛ فلا يجوز عند حذفها وضع مجرور آخر؛ كأن يقال: المجد أنت - العمل النافع أخوك - تريد: للمجد أنت - للعمل النافع أخوك، فهذا - وأشباهه - مما لا يصح.
ومن هذا المسموع القليل حذف "الباء" أو"على"، مع بقاء مجرورها في قول أعرابي سئل: كيف أصبحت؟ فأجاب: "خير والحمد لله" أي: بخير، أو: على خير، وحذف "إلى" في قول آخر:
إذا قيل أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي: أشارت إلى كليب الأصابع مع الأكف ... وهكذا من كل ما حذف فيه حرف الجر وبقي مجروره على حالة، وهذا النوع لا يطرد فيه الجر، وإنما يقتصر على المسموع، كما قلنا.
د- نوع يكثر فيه حذف الجار مع إبقاء مجروره على حالة من الجر، وهذا النوع قياسي يطرد في جملة أشياء؛ أشهرها: حرف الجر الذي مجروره المصدر المؤول من أحد الحروف المصدرية الثلاثة مع صلته1، وهذه الحروف الثلاثة هي: "أن - أن - كي"، وقد تكلمنا عليها هنا - أما بقية الأشياء ومناقشتها، فموضوع الكلام عليها: آخر باب حروف الجر عند الكلام على حذف حرف الجر، وإبقاء عمله - ص 535 م 91 - والكثير منها غير داخل في موضوع التعدية بحرف الجر الذي نحن فيه.
ومما تقدم نعلم أن حرف الجر إذا حذف، ينصب الاسم بعده في حالتين؛ إحداهما: قليلة غير مطردة، فالنصب فيها مقصور على السماع، والأخرى كثيرة مطردة؛ فالنصب فيها قياسي، ويجر في حالتين؛ إحداهما: قليلة غير مطردة؛ فالجر فيها سماعي، والأخرى: كثيرة مطردة فالجر فيها قياسي فالحالات الأربع؛ منها اثنتان قياسيتان واثنتان سماعيتان.
1 إذا وقعت "أن وأن" بعد حرف الجر الباء في صيغة: "أفعل" - بفتح فسكون فكسر - الخاصة بالتعجب جاز حذف الباء مع "أن" قياسا دون "أن" المشددة في رأي قوي، بحجة أن السماع لم يرد بحذفها؛ وهذه التفرقة بينهما في مسألة واحدة غير مقبلة؛ لأن حذف الباء قبلهما جائز في كل المسائل الأخرى، فلم تخرج هذه المسألة - كما سنشير في ص 495 وفي رقم 3 من هامش ص 534 لكن إذا حذفت الباء في التعجب بعد الصيغة السالفة أتلاحظ في التقدير أم لا؟ رأيان، كما سيجيء في باب التعجب ج 3 - ص 272 م 109.(2/163)
وكي1"، مثل: "سررت من أن الناشئ راغب في العلم، حريص على أن يزداد منه، لكي يبني مجده، ويرفع شأن بلاده"، فيصح حذف الجار قبل كل حرف من الثلاثة، فتصير الجملة: "سررت أن الناشئ ... حريص أن يزداد ... كي يبني ... " فالمصادر التي تؤول في العبارات السالفة من الحرف المصدري وصلته، تكون مجرورة على التوالي بالحرف: "من" فالحرف: "على"، فالحرف: "اللام" ولا داعي لأن يكون المصدر المؤول في محل نصب على نزع الخافض - كما يرى فريق - لأن حرف الجر المحذوف ملاحظ هنا بعد حذفه، والمعنى قائم على اعتباره كالموجود، فهو محذوف بمنزلة المذكور؛ ولأن النصب على نزع الخافض خروج على الأصل السائد الغالب، فلا نلجأ إليه مختارين.
وهذا الحذف القياسي لا يصح إلا عند أمن اللبس2 كما في الأمثلة السالفة، وفي قول الشاعر:
ولا عار أن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عارًا أن يزول التجمل
والأصل: "في أن زالت ... - في أن يزول ... " فإن خيف اللبس لا يصح الحذف؛ ففي مثل: "رغبت في أن يفيض النهر"، لا يصح حذف حرف الجر: "في" فلا يقال: رغبت أن يفيض النهر؛ إذ لا يتضح المراد بعد الحذف؛ أهو: رغبت في أن يفيض النهر، إذ لا يتضح المراد بعد الحذف، أهو: رغبت في أن يفيض النهر، أم رغبت عن أن يفيض ... ، والمعنيان متعارضان متناقضان، لعدم معرفة الحرف المحذوف المعين، وخلو الكلام من قرينة تزيل اللبس، ومثل هذا: انصرفت عن أن أقرأ المجلة، فلا يجوز حذف الجار؛ لأن حذفه يؤدي إلى أن تصير الجملة: انصرفت أن أقرأ المجلة، فلا ندري المقصود، أهو: انصرفت إلى أن أقرأ ... ، أم انصرفت عن أن أقرأ....، والمعنيان متناقضان، ولا قرينة تزيل اللبس3.....
__________
1 كي المصدرية لا بد أن يسبقها - لفظا وتقديرا - لام الجر التي تفيد التعليل.
2 طبقًا لما سيجيء في رقم 2 من ص 532.
3 وفيما سبق يقول ابن مالك مقتصرا على بعض الحالات:
وعد لازما بحرف جر ... وإن حذف فالنصب للمنجر
=(2/164)
2- إدخال همزة النقل على أول الفعل الثلاثي1 "وهي همزة تنقل معنى الفعل إلى مفعوله، ويصير بها الفاعل مفعولًا، ولا تقتضي -في الغالب- تكرارا، ولا تمهلًا" نحو: خفي القمر -وأخفى السحاب القمر- ومثل: جزعنا وأجزعنا، في قول الشاعر:
فإن جزعنا فإن الشر أجزعنا ... وإن صبرنا فإنا معشر صبر2
3- تضعيف عين الفعل اللازم، بشرط ألا تكون همزة3، ففي نحو:
__________
نقلًا - وفي "أن" و"أن" يطرد ... مع أمن لبس، كعجبت أن يدوا
"عجبت أن يدوا": أي أن يعطوا الدية، وهي التعويض المالي الذي يدفعه من ارتكب نوعًا معينًا من الجرائم؛ ليأخذه المظلوم الذي وقعت عليه الجريمة.
يقول: إن تعدية اللازم تكون بإدخال حرف الجر على مفعوله المعنوي - كما شرحا - وعند حرف الجر ينصب الاسم المجرور، بشرط أن يكون هذا النصب نقلًا عن العرب؛ أي: مسموعًا في كلمات واردة عنهم؛ فليس النصب قياسًا ولا مباحًا في غير المنقول عنهم، ثم بين أن حذف الجار قياسي مطرد قبل "أن" و"أن".
1 التعدية القياسية بهمزة النقل ليست مقصورة على الفعل الثلاثي اللازم؛ فقد صرح "الأشموني" في أول هذا الباب - وتبعه "الصبان" - أن همزة النقل تدخل أيضًا على الثلاثي المتعدي للواحد؛ فتجعله متعديًا لاثنين.
أما دخولها على المتعدي لاثنين فإن لم يكن من أفعال اليقين والرجحان، فلا يصح تعديته بها لثلاثة، وإن كان منهما جاز تعديته بها للثالث - بشرط أن يكون الفعل هو: "أعلم" أو: "أرى" دون أخواتهما من أفعال اليقين والرجحان، فإن في تعدية أخواتها الخلاف الذي سبق في ص 59.
ويقول صاحب الهمع - ج 3 ص 81 باب " العوامل" وأولها: "الفعل" - ما نصه عن همزة النقل إنها: "لا تعدي ذا الاثنين إلى ثلاثة في غير باب: "علم "بإجماع". ا. هـ، فكيف وصف الحكم بالإجماع مع وجود الخلاف فيه، كما أشرنا.؟
2 جمع صبور، والبيت لأعشى باهلة.
3 لأنه غير مسموع فيها، هذا، والتضعيف يقتضي -غالبا- التكرار والتمهل، بخلاف همزة النقل، بشرط ألا توجد قرينة تعارض كالتي في قوله: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فإن: "جملة واحدة" تعارض التكرار والتمهل في الفعل: "نزل"، "انظر "و" في هامش ص169".
وقد جعل مجمع اللغة العربية بالقاهرة تعدية الفعل الثلاثي اللازم قياسية بالتضعيف لإفادة التكثير والمبالغة، مصرحا بهذا في مواضع مختلفة من بحوثه اللغوية، ومنها بحثه الخاص بصحة استعمال: "برر" بمعنى: "سوغ" حيث قال "في ص224 من كتابه الذي عنوانه: "في أصول اللغة" مشتملا على مجموعة القرارات المجمعية التي أصدرها من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين" ما نصه الموافقة والتأييد لما عرضته عليه لجنة الأصول وهو: "ترى اللجنة إجارة ما شاع من استعمال "التبرير" في معنى " التسويغ" - استنادًا إلى قرار المجمع في قياسية تضعيف الفعل للتكثير، والمبالغة". ا. هـ.
وفريق من النحاة يرى أن تعدية الثلاثي بالتضعيف ليست مقصورة على اللازم بل تشمله وتشمل المتعدي لواحد، أيضًا فيتعدى لاثنين - راجع الصبان والخضري وغيرهما.(2/165)
فرح المنتصر - نام الطفل، نقول: فرحت المنتصر - نومت الأم طفلها.
4- تحويل الثلاثي اللازم إلى صيغة: "فاعل" الدالة على المشاركة؛ نقول في: جلس الكاتب، ثم مشى، وسار - جالست الكاتب، وماشيته، وسايرته.
5- تحويل الفعل الثلاثي اللازم إلى صيغة: "استفعل" التي تدل على الطلب1، أو على النسبة لشيء آخر، فمثال الأول: حضر - عان "بمعنى: عاون" تقول: استحضرت الغائب - استعنت الله؛ أي: طلبت حضور الغائب، وعون الله. ومثال الثاني: حسن - قبح ... تقول: استحسنت الهجرة - استقبحت الظلم: أي: نسبت الحسن للهجرة، ونسبت القبح للظلم.
وقد تؤدي صيغة استفعل إلى التعدية لمفعولين إذا كان الفعل قبلها متعديًا لواحد؛ نحو: كتبت الرسالة - استكتبت الأديب الرسالة، وربما لا تؤدي، نحو: استفهمت الخبير، والأحسن قصر هاتين الحالتين الأخيرتين على السماع2...............
__________
1، 2 أما صيغة: "استفعل" الدالية على الصيرورة فلازمة - غالبًا، نحو: استأسد اللقظ - استرجل الغلام ... أي: صار القط أسدًا - صار الغلام رجلًا، وقد أباح المجمع اللغوي القاهري قياسية صوغها، وجاء قراره صريحًا "في ص 364 من محاضر جلسات دور الانعقاد الأول"، ونصه: "يرى المجمع أن صيغة استفعل" قياسية لإفادة الطلب أو الصيرورة". ا. هـ.
وجاء في ص 40 من الكتاب الذي أخرجه المجمع اللغوي في سنة 1969 باسم: "كتاب في أصول اللغة" مشتملًا على القرارات التي أصدرها المجمع من الدورة التاسعة والعشرين إلى الدورة الرابعة والثلاثين ما نصه تحت عنوان: "السين والتاء" للاتخاد, و"الجعل".
"سبق للمجمع أن أقر قياسية دخول السين والتاء للطلب، أو الصيرورة لكثرة ما ورد من أمثلة، وترى اللجنة أن زيادة السين والتاء للاتخاذ والجعل وردت في أمثلة كثيرة؛ نحو: استعبد عبدًا، واستأجر أجيرًا، واستأتى أبًا، واستأمى أمة، واستفحل فحلًا - واستخلف فلانًا، واستعمره في أرضه واستشعر الرجل إذا لبس شعارًا، و ... و ...
وفي اعتبار هذه الصيغة قياسية تيسير للاصطلاح العلمي، "والاستعمال الكتابي - لهذا ترى اللجنة أن للمجمع قبول ما يصاغ من الكلمات على هذه الصيغة للدلالة على الجمل أو الاتخاذ". ا. هـ.
وقد وافق المجمع ومؤتمره على رأي اللجنة، وصدر قرار الموافقة في الجلسة الثامنة لمؤتمر الدورة الواحدة والثلاثين في سنة 1965، هذا، وفي ص 41 وص 203 من الكتاب المجمعي السالف بحوث ومذكرات مفيدة تتصل بالقرار، وربما اعتمد عليه المجمع والمؤتمر في الأخذ به وتأييده.(2/166)
6- تحويل الفعل الثلاثي إلى فعل "مفتوح العين" الذي مضارعه "يفعل" "بضمها"، بقصد إفادة المغالبة1؛ نحو: كرمت الفارس أكرمه؛ بمعنى: غلبته في الكرم - شرفت النبيل أشرفه؛ بمعنى: غلبته في الشرف2 ...
__________
1 تسابق اثنين أو أكثر - إلى أمر؛ وتزاحمهما عليه، رغبة في انتصار كل فريق على الآخر؛ وتغلبه في ذلك الأمر، ولأهمية المغلبة سنعود للكلام عليها في الزيادة والتفصيل، ص 173.
2 فيما يلي بعض صيغ فعلية، كثيرة التداول، أصلها ثلاثية مجردة، ثم اشتملت على شيء من حرف الزيادة، فكان لزيادة هذه الحروف المختلفة أثر في إيجاد معان مختلفة تتضح فيما يأتي - دون أن تفيد حصرًا ولا تحتيمًا -وإليك البيان:
"منقولا من الصبان - ج 4 - باب: التصريف عند الحاشية المتصلة بقول ابن مالك:
ومنتهاه أربع إن جردا ... وإن يزد فيه فما ستا عدا
أ- "أفعل"، يجيء لمعان، منها:
"التعدية" كأخرج محمد عليًا - و"الكثرة"، كأضب المكان، أي: كثر ضبابه، وأعال الرجل: كثرت عياله.
"وللصيرورة"؛ كأغد البعير؛ صار ذا غدة.
و"الإعانة" على ما اشتق الفعل منه؛ كأحلبت فلانًا، أي: أعنته على الحلب.
و"التعويض له" كأبعت العبد، أي: عرضته للبيع.
و"لسلبه" كأقسط محمد، أي: أزال عن نفسه القسوط، وهو الجور، وأشكيت فلانًا، أي: أزلت شكايته.
و"ووجدان المفعول به متصفًا به"؛ كأبخلت الرجل، أي: وجدته بخيلًا.
و"بلوغه" كأومأت الدراهم، أي بلغت مائة، وأنجد فلان، بلغ نجدًا.
و"المطاوعة" ككببته فأكب - وقد سبق بيان معنى "المطاوعة"، وبضع أحكامها الهامة في رقم 1 من هامش ص 100، وتجيء تكملة لها هنا في " د - هـ - ز ":
ب- "فاعل" هو: "لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظًا والاشتراك فيهما معنى"؛ فمحمد وعلي من: "ضارب محمد عليًا" قد اقتسما الفاعلية والمفعولية بحسب اللفظ؛ فإن أحدهما فاعل والآخر مفعول، واشتركًا فيهما بحسب المعنى؛ إذ كل منهما ضارب لصاحبه، ومضروب له ...
وقد جاء "أصل الفعل" كباعدته، أي: أبعدته، وسافر فلان، وقاتله الله، وبارك فيه.
جـ- "تفاعل" نحو: تضارب - هو: "للاشتراك في الفاعلية لفظًا، وفيها وفي المفعولية معنى"، وقد جا "الأصل الفعل"؛ كتعالى الله، و"تخييل الاتصاف به" كتجاهل، و"المطاوعة" كباعدته فتباعد ... ، - وقد سبق إيضاح "المطاوعة" وحكمها في رقم 1 من ص 100 -كما أشرنا- ثم انظر "د" التالية فيها أن: "افتعل" تكون بمعنى تفاعل.
د- "افتعل" يجيء لمعان، منها: التسبب في الشيء والسعي فيه، تقول: اكتسبت المال =(2/167)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= إذا حصلته بسعي وقصد، وتقول: كسبته، إن لم يكن بسعى وقصد، كالمال الموروث.
"ولأصل الفعل"، كالتحى، أي: طلعت لحيته، و"المطاوعة" كأوقدت النار فاتقدت:
و"معنى تفاعل" نحو: اقتتلوا واختصموا.
"ملاحظة": ومما يختص بصيغة: "افتعل وتفاعل" الدالتين على الاشتراك ما قرره مؤتمر مجمع اللغة العربية "في دورته السابعة والثلاثين" من جواز إسناد الصيغتين إلى معموليهما، باستعمال "مع" أو"الباء" في الصيغة الأولى، واستعمال "مع" في الصيغة الثانية؛ "كقولهم: اتفق معه، والتحم معه، والتقى به، واتصل به، واجتمع معه، واجتمع به، وتجاوب معه ... و ... ".
ومما يتصل بصيغة "افتعل" قرار المجمع اللغوي القاهري "طبقًا لما جاء في ص 39 من كتابه المسمى: "مجموعة القرارات العلمية" الصادرة في الدورة الأولى والدورات التي تليها إلى نهاية الثامنة والعشرين"، ونص القرار الخاص بمطاوع: "فعل" المتعدي - وقد سبقت الإشارة إليه من هامش ص 100 - هو: "كل فعل ثلاثي، متعد، دال على معالجة حسية، فمطاوعة القياسي هو: "انفعل"، ما لم تكن فاء الفعل واوًا، أو: لامًا، أو: نونًا، أو: ميمًا، أو: راء، ويجمعها قولك: "ولنمر" فالقياس فيه: "افتعل". ا. هـ - وسيجيء هذا في "هـ" ومعه الأمثلة.
وجاء في كتاب: "الجامع الكبير" لابن الأثير - ج1 ص 48 - ما نصه بهامشها:
"قال الحريري في درة الغواص: يقولون: انضاف الشيء إليه، وانفسد الأمر عليه، وكلا اللفظين معيرة لكتاب، والمتلفظ به، لمخالفته السماع والقياس. والوجه: أضيف إليه، وسد عليه؛ فقد تقرر أن مطاوع "فعل" الثلاثي هو: "انفعل وافتعل" ومطاوع "أفعل" الرباعي هو: "فعل" ويشترط في ذلك التعدي. وما ورد مما يخالف ما ذكر - نحو: انزعج مطاوع "أزعج"، وانطلق مطاوع "أطلق" وانفحم مطاوع "أفحم"، ونحو: انسرب مطاوع "سرب"، وهو لازم - شاذ لا يقاس عليه، ونقل العلامة شهاب الدين الألوسي "في كشف الطرة ص 48" أنا أبا علي الفارسي صحيح قياس "انفعل" من "أفعل" الرباعي، وأن ابن عصفور اختاره، وأن ظاهر قول ابن بري قياسية "انفعل" من "أفعل" الرباعي. قلنا: والسبب في ذلك كله اضطراب النحويين في فهم "المطاوعة". ا. هـ، ما جاء في كتاب: الجامع الكبير، لكن القاموس يقول في مادة: "فسد" إن القياس لا يأتي انفسد.
وفيما يلي مباشرة الكلام على صيغة: "انفعل".
"هـ" "انفعل" يقول الصبان ما نصه: هو: "المطاوعة الفعل ذي العلاج "أي: التأثير" المحسوس؟؛ كقسمته فانقسم؛ فلا يقال: علمت المسألة فانعلمت، ولا ظننت ذلك حاصلًا فانظن؛ لأن العلم والظن مما يتعلق بالباطن، وليس أثرهما محسوسًا، وأما نحو: فلان منقطع إلى الله تعالى، وانكشفت لي حقيقة المسألة، وحديث: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" - فمن باب: "التجوز"، سلمنا أنه حقيقة، لكن لا نسلم أنه مطاوع، بل هو من باب انطلق علي". ا. هـ.
"وجاء لأصل الفعل" كانطلق؛ أي: ذهب "لبلوغ الشيء" كانحجز؛ بلغ الحجاز، واستغنوا عن انفعل بافتعل - كما سبق في "د" - فيما فاؤه لام كلويته فالتوى، أو راء، كرفعته ارتفع، أو واو كوصلته فاتصل، أو نون كنقلته فانتقل، وكذا الميم غالبًا؛ كملأته فامتلأ(2/168)
7 - التضمين - "وهو أن يؤدي فعل - أو ما في معناه - مؤدى فعل آخر
__________
= وسمع محوته فامحى، ومزته فاماز، والأصل: انمحى وانماز؛ فقبلت النون ميما وأدغمت، وقد يستغنون عنه به في غير ذلك، كاستتر واستد، "وقد يشاركان في غير ذلك"؛ كحجبت الشيء فانحجب واحتجب. "انظر ما يتصل بهذا في الملاحظة السالفة".
"و" "فعل" - بتشديد العين، بشرط ألا تكون همزة - ويجيء لمعان؛ منها:
"تعدية اللازم، أو: ذي الواحد" "يريد: أو: المتعدي لمفعول واحد"؛ كفرحت عليًا، وخوفته صالحًا.
و"التكثير في الفعل"ح كطوف محمود؛ أي كثر طوافه ومنه قولهم: يهدم الصدر الضيق ما شيده العقل - أو: في الفاعل: كبركت الإبل، أو: في المفعول، كغلقت الأبواب.
و"السلب"؛ كقردت البعير؛ أي: أزلت قراده, "التوجه"؛ كشرق وغرب، أي: توجه إلى الشرق والغرب، و"نسبة المفعول إلى ما اشتق الفعل منه"؛ كفسقته، أي: نسبته إلى الفسق, "الصيرورة" كعجزت الناقة؛ أي: صارت عجوزًا، و"لأصل لفعل" مثل: فكر، أي: تفكر".
ومن "فعل" ما صيغ من المركب لاختصار حكايته؛ نحو: "هلل"، إذا قال: لا إله إلا الله، و"أمن" إذا قال: آمين، و"أيه" إذا قال: أيها الرجل؛ ونحوه.
وتشديد العين على الوجه السالف يفيد أحيانًا "التكرار والتمهل"؛ نحو: علمت الطالب، وبصرته بالحقائق ... وتقدم البيان في رقم 3 من ص 165، وهامشه.
ومما يلاحظ أن "الصبان" قرر هنا أن صيغة "فعل" تجيء لتعدية: "اللازم، أو ذي الواحد" مع أنه قرار "في ج2 آخر باب: تعدي الفعل ولزومه قرارًا آخر نصه: "قال في المغني: التضعيف سماعي في اللازم وفي المتعدي لواحد، ولم يسمع في المتعدي لاثنين، وقيل: قياسي في الأولين". ا. هـ، فبأي الرأيين تأخذ؟
الأنسب الأخذ بالرأي الذي يشمل اللازم والمتعدي لواحد - كما سبق؛ لأنه يتضمن تيسيرًا بغير ضرر لغوي ولا فساد.
"انظر ما يتصل بهذا البحث، في جـ 4 باب: "التصريف" م 180 ص 694 "ب" معاني أحرف الزيادة....".
"ز" "استفعل" يجيء لمعان، منها: "الطلب؛ كاستغفرت الله - أي: طلبت منه المغفرة - و"عد الشيء متصفًا بالفعل"؛ كاستسمنت فلانًا؛ أي: عددته سمينًا. "والصيرورة"؛ كاستحجر الطين، أي: صار حجرًا، و"لوجدان الشيء متصفًا بالفعل"؛ كاستوبأت الأرض، وجدتها وبيئة، و"المطاوعة"؛ كأرحته فاستراح - "وقد أشرنا إلى أن إيضاح "المطاوعة" مدون في رقم 4 من هامش ص 100، ثم انظر رقم 2 من هامش ص 166.
ح - "افعل وافعال" - بتشديد اللام فيهما - وأكثر مجيئهما للألوان ثم العيوب الحسية، وقد يجيئان لغيرهما؛ كانقض الطائر، أي: سقط؛ واملاس الشيء من الملامسة، والأكثر في ذي الألف العروض، "أي: أن الأكثر في المشتمل على الألف بعد العين أن يكون أمرًا عارضًا غير ملازم.
وفي ساقطها اللزوم، وقد يكون الأول لازمًا كقوله تعالى في وصف الجنتين: {مُدْهَامَّتَانِ} والثاني عارضًا؛ كاحمر وجهه خجلًا.
ط "افعوعل" يجيء لمعان فيها: "المبالغة " نحو اخشوش الشعر، أي: عظمت خشونته واعشوشب المكان كثر عشبه، و"الصيرورة" نحو: احلولى، الشيء، أي صار رحلوا.(2/169)
أو في معناه، فيعطى حكمه في التعدية واللزوم"1، ومن أمثلته في التعدية: لا تعزموا السفر، فقد عدي الفعل، "تعزم" إلى المفعول به مباشرة؛ مع أن هذا الفعل لازم لا يتعدى إلا بحرف الجر1؛ فيقال: أنت تعزم على السفر، وإنما وقعت التعدية بسبب تضمين الفعل اللازم: "تعزم" معنى الفعل المتعدي: تنوي، فنصب المفعول بنفسه مثله؛ فمعنى: "لا تعزموا السفر" لا تنووا السفر ... ومثل: رحبتكم الدار – وهو مسموع – فإن الفعل: "رحب" لازم؛ لا يتعدى بنفسه إلى مفعول به1 ولكنه تضمن معنى: "وسع فنصب المفعول به "الكاف" مثله؛ إذ يقال: وسعتكم الدار؛ بمعنى: اتسعت لكم، ومثل: طلع القمر اليمن، وهو من الأمثلة المسموعة أيضًا – والفعل: "طلع"2
__________
1 عرفه كثير من النحاة بأنه: "إشراب اللفظ معنى لفظ آخر، وإعطاؤه حكمه؛ لتؤدي الكلمة معنى كلمتين"، لكن التعريف الذي ذكرناها هو الذي ارتضاه المجمع اللغوي القاهري من بين تعريفات كثيرة؛ كما ورد في الجزء الأول من مجلته ص 180 وما حولها، وكما في ص 202 من محاضر جلساته في دور الانعقاد الأول، وفي المرجعين السالفين بحوث لطيفة وافية في أمر "التضمين" من نواحيه المختلفة، وقرار المجمع في ص 180 المشار إليها صريح في أن "التضمين" قياسي بشروط ثلاثة، "أولها: تحقق المناسبة بين الفعلين، ثانيها: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس ثالثًا: ملاءمة التضمين للذوق العربي، ويوصي المجمع بعدم الالتجاء إلى التضمين إلا لغرض بلاغي".
لكن أيكون التضمين في الفعل وما شابهه – نوعًا من المجاز، أم من الحقيقة، أم مركبًا منها؟ وهل يتلف التضمين بمعناه السالف النحوي عن: "التضمين البياني" وهو الذي يقضي بتقدير حال محذوفة موضعها قبل المجار والمجرور، مناسبة في معناها لهما، ويتعلق بها الجار والمجرور من غير حاجة إلى إعطاء كلمة معنى كلمة أخرى لتؤدي المعنيين، كما يقول النحاة؟ وهل يمكن وجود التضمين السماعي؟ كل هذا وأكثر منه وأوفى وأوضح، مدون في المرجعين السالفين وقليل منه مدون في حاشية الصبان قبيل آخر الباب، وكذلك عرض له "ياسين" في حاشيته على "التصريح" – أول الجزء الثاني، باب "حرف والجر هذا" تحت عنوان: "فصل – في ذكر معاني الحروف الجارة" عرضًا محمود الإسهاب، في نحو أربع صفحات كبيرة، وقرر أن المختار أنه سماعي.
وقد سجلنا في آخر هذا الجزء الثاني –ص 556– بحثًا نفيسًا خاصًا به؛ لا يستغني عنه المتخصصون، ثم أبدينا فيه رأينا بإيجاز، وهو بحث لأحد أعضاء المجمع اللغوي القاهري ألقاه صاحبه على زملائه، ثم تبعه في الجلسة نفسها بحث لعضو آخر، وقد سجلتهما – مع المناقشات التي دارت حولهما – مجلة المجمع، ونقلنا ذلك كله في ص 566 وما يليها، مختومًا برأينا الخاص في "التضمين".
2و 2 هذا كلامهم، كيف وقد ورد متعديًا صراحة ي القرآن أو في الكلام العربي؟ ففيم التأويل؟(2/170)
– بضم اللام1 – لازم، ولكنه نصب المفعول به بنفسه بعد أن ضمن معنى: "بلغ".
ومن أمثلة جعل المتعدي لازمًا: "سمع الله لمن حمده"، فالفعل: "سمع" في أصله متعد بنفسه، ولكنه هنا تضمن 2 معنى: "استجاب" فتعدى مثله باللام، وهكذا ...
والصحيح عندهم أن التضمين قياسي؛ والأخذ بهذا الرأي يفيد اللغة تيسيرًا وإتساعًا3، ولما كان الفعل في التضمين لا يتعدى إلا بعد أن يستمد القوة من فعل آخر، فقد وصف بعد هذه التقوية بأنه في حكم المتعدي، وليس بالمتعدي حقيقة؛ لأن المتعدي الحقيقي لا تتوقف تعديته على حالة واحدة تجيئه فيها المعونة من غيره.
8– إسقاط حرف الجر توسعًا، ونصب المجرور على ما يسمى: "نزع الخافض"4، وهذا – مقصور على السماع الوارد فيه نفسه، دون استعمال آخر5 ... كقوله تعالى: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} ، أي: عن أمره، وهذا
__________
1 كشأن جميع الأفعال التي على وزن: "فعل" –بفتح فضم– وقد نقلنا في رقم 1 من هامش ص 154 من صاحب المغني أنه لم يرد من هذه الصيغة متعديًا إلا رحب وطلع – بضم ثانيهما، فيما يعرف، ولكن هذا التحديد والحصر مدفوعان بمثل: "بصر" كما قلنا هناك، وذكرنا مرجعه، وكما سيجيء أيضًا في رقم 3 من هامش ص 183.
2 قد ورد في كلام عربي أصيل، ففيم التضمين؟
3 ويمتاز التضمين من بقية وسائل التعدية بأنه قد ينقل الفعل اللازم طفرة إلى أكثر من مفعول واحد؛ ولذلك عدي: "آلوت" بمعنى: "قصرت" إلى مفعولين بعد أن كان الفعل قاصرًا، ذلك في نحو قولهم: لا آلوك نصحًا؛ لأنه تضمن معنى: "لا أمنعك" الذي ينصب مفعولين، وعدي: "أخبر، وخبر، وحدث، ونبأ" إلى الثلاثة، بعد أن تضمنت معنى: "أعلم" وبعد ما كانت متعدية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بحرف الجر، نحو قوله تعالى: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} – {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} – {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} .
4 وهو نوع مما يسمى: "الحذف والإيصال" وهذا النوع من نصب المجرور على "نزع الخافض" غير حذف حرف الجر حذفًا قياسيا مع بقاء الجر – طبقًا لما سيجيء في ص 534.
5 قال الصبان في هذا الوضع ما نصه في حكم الصب على نزع الخافض: "إنه مخصوص بالضرورة؛ فلا يجوز لنا استعماله نثرًا – أي: في غير الضرورة: الشعرية ولو في منصوبه المسموع". ا. هـ.
وقال في أول باب المفعول له – ج 2: "إن النصب به سماعي على الأرجح". ا. هـ.
وقد سبقت الإشارة الوافية لهذه المسألة في ص 159، "وفي ج 1 في رقم 3 من هامش ص 103 – م 7 عند شرح بيت ابن مالك الذي أوله –وسيأتي هنا– فارفع بضم وانصبن فتحًا ... ".(2/171)
-كسابقه1- يكون فيه الفعل في حكم المتعدي وليس بالمتعدي حقيقه، مراعاة؛ لأنه العامل في المجرور معنى، ولكن لا دخل له في نصبه.
إلى هنا انتهى الكلام على أشهر الوسائل لتعدية الفعل اللازم، ومنها يتضح ما أشرنا إليه2 قبل سردها، وهو:
أن كل وسيلة تؤدي مع تعدية الفعل اللازم معنى خاصا لا تؤديه أختها -في الغالب- وأن تلك الوسائل قياسية مطردة، ما عدا: إسقاط حرف الجر توسعا، مع نصب المجرور على نزع الخافض، فإن إسقاطه بهذه الصورة3 مقصور على السماع.
__________
ولا داعي للأخذ بالرأي القائل إنه قياسي إذا وجد حرف جر سابق نظير للحرف المحذوف، ولو فصل بينهما فاصل، كبيت ابن مالك:
فارفع بضم، وانصبن فتحًا وجر ... كسرًا، كذكر الله عبده يسر
أي: انصب بفتح، وجر بكسر، لا داعي للأخذ بهذا الرأي؛ منعًا للخلط، ودفعًا للإلباس؛ إذ قد يقع في وهم كثيرين أن الفعل متعد بنفسه.
انظر ما يتصل بهذا في رقم 1 من هامش ص 162.
1 كما سبقت لهما الإشارة في رقم 1 من هامش ص 158، لكن كيف يكون منصوبًا على نزع الخافض مع وروده منصوبًا صريحًا في القرآن الكريم؟ فلم التقدير؟
2 في ص 158.
3 كما سيجيء في ص 535 – ويلاحظ الفرق بينهما، وبين حذف الجار قياسًا مع بقاء معموله مجرورًا، على الوجه الذي سيجيء في ص 534 كما يلاحظ ما سبق "في رقم 5 من هامش ص 161" من أنواع حذف الجار، وحكم كل نوع.(2/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
سبق تعريف "المغالبة"1، ووعدنا أن نتكلم عليها هنا، ملخصين آراء الباحثين فيها:
جاء في مقدمة "القاموس" – في المقصد الأول الخاص ببيان الأمور التي امتاز بها القاموس، عند تعليق المصحح على الأمر الخامس، والكلام على الأمور التي توجب ضم العين في المضارع ضمًا قياسيًا، ومنها أن يكون دالًا على المغالبة – التعليق التالي:
"قوله: أو دالًا على المغالبة ... " يقتضي أن باب المغالبة قياسي؛ وليس كذلك، كما يدل عليه عبارة الرضي؛ حيث قال: "واعلم أن باب المغالبة ليس قياسيًا بحيث يجوز نقل كل لغة إلى هذا الباب، قال: س2. "وليس في كل شيء يكون هذا ألا ترى أنك لا تقول: نازعني فنزعته أنزعه بضم العين "وهي الزاي"، للاستغناء عنه بغلبته، وكذا غيره، بل نقول: هذا الباب مسموع كثير". ا. هـ.
وقال صاحب القاموس في الجزء الرابع مادة: الخصومة: ما نصه:
"الخصومة: الجدل – خاصمه مخاصمة، وخصومة؛ فخصمه يخصمه: غلبه، وهو شاذ؛ لأن فاعلته ففعلته يرد "يفعل" منه "أي: المضارع منه" إلى الضم، إن لم تكن عينه حرف حلق فإنه بالفتح؛ كفاخره ففخره يفخره، وأما المعتل كوجدت وببعت فيرد إلى الكسر إلا ذوات الواو؛ فإنها ترد إلى الضم؛ كراضيته فرضوته أرضوه – وخاوفني فخفته أخوفه، وليس في كل شيء3؛ فلا يقال: نازعته أنزعه؛ لأنهم استغنوا عنه بغلبته".
وقال الجاربردي في شرح الكافية4:
"معنى المغالبة: ما يذكر بعد المفاعلة مسندًا إلى الغالب"، أي: المقصود
__________
1 في رقم1 من هامش ص167.
2 يريد: سيبويه.
3 أي: لا يقال هذا في كل شيء، وإنما يقال في بعض الحالات دون بعض.
4 وقد نقلنا كلامه عن ص68 جـ1 من المواهب الفتحية.(2/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بيان الغلبة في الفعل الذي جاء بعد المفاعلة، على الآخر، فإذا قلت: كارمني، اقتضى أن يكون من غيرك إليك كرم، مثل ما كان منك إليه؛ فإذا غلبته في الكرم فإنك تبينه على "فعل" بفتح العين؛ لكثرة معانيه، ثم خصوا من أبوابه بالرد إليه ما كان عين مضارعه مضمومة، وإن كان من غير هذا الباب، نحو كارمني فكرمته، يكارمني فأكرمه، وضاربني فضربته، يضاربني فأضربه "بضم الراء في المضارع"، فهذا قد ضربته وضربك، ولكنك قد غلبته في الضرب. ويجوز ألا يكون قد ضربك، وإنما ضربتما غيركما؛ لتغلبه في ذلك أو لتغلبك؛ كذا البواقي.
وإنما فعلوا ذلك؛ لأن "الفعل" بمعنى المغالبة قد جاء كثيرًا من هذا الباب؛ نحو الكبر؛ وهو: الغلبة في الكبر: والكثر، وهو الغلبة في الكثرة، والقمر، وهو الغلبة في القمار، فنقلوا من غير ذلك الباب أيضًا إليه، ليدل على المراد الموضوع؛ ثم استثنوا من هذه القاعدة معتل الفاء؛ واويًا كان نحو: وعد، أو يائيًا نحو: يسر؛ فإنه لا ينقل إلى "يفعل" بضم العين، لئلا يلزم خلاف لغتهم؛ إذ لم يجئ "مثال"1 مضموم العين، فيقال: واعدني فوعدته أعده، وياسرني فيسرته، ومعتل العين أو اللام، اليائي؛ فإنه لا ينقل إلى "يفعل" بالضم، بل يبقى على الكسر؛ فيقول بايعني فبعته أبيعه، وراماني فرميته أرميه؛ إذ لم يجئ أجوف ولا ناقص يأتي من: "يفعل" بالضم؛ لأنك لو ضممت عينه لانقلب حرف الباء واو، فيلتبس بذوات الواو، ومثل هذا قاله الرضي وغيره من شراح الكافية". ا. هـ.
وجاء في الهمع "ج 2 ص 163" في فعل يفعل ما نصه: "لزموا الضم في باب المغالبة، على الصحيح؛ نحو: ضاربني فضربته أضربه – وكابرني فكبرته أكبره، وفاضلني ففضلته أفضله، وجوز الكسائي فتح عين مضارع هذا النوع إذا كان عينه أو لامه حرف حلق؛ قياسًا؛ نحو: فاهمني ففهمته أفهمه، وفاقهني ففقهته أفقهه، وحكى الجوهري: واضأني فوضأته، أوضؤه؛ قال: وذلك بسبب الحرف الحلقي، وروى غيره: وشاعرته فشعرته، أشعره.
__________
1 المثال: ما كانت فاؤه حرف علة.(2/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفاخرته ففخرته أفخره، بالفتح، ورواية أبي ذر بالضم ... ". ا. هـ.
ورأى الكسائي –مع قلته– حسن؛ لأن فيه تيسيرًا باستعمال ضبطين في بعض الصور والأساليب، والعجيب أن اللغتين شائعتان –حتى اليوم– في كثير من نواحي الإقليم الجنوبي "الصعيد" المصري.
مما تقدم – عن باب: المغالبة – يعلم أنه مسموع كثير عند سيبويه، والوصف بأنه مسموع كثير يؤدي إلى الحكم بأنه قياسي، وكذلك يعلم من قول شارح الكافية السابق – وهو: "أنك تبنيه على كذا – أن هذا من عملك؛ فهو مقيس لك؛ لكثرته، وهذا رأي ابن جني أيضًا في كتابه: "الخصائص" ج1 عند الكلام على المغالبة".
وخير ما يلخص به الموضوع تلخيصًا وافيًا حكيمًا هو ما جاء في الجزء الثاني من مجلة المجمع اللغوي القاهري ص 226، ونصه1:
ذهب بعض إلى أن المغالبة ليست قياسًا؛ وإنما هي مسموعة كثيرًا، وذهب بعض إلى أن استعمالها مطرد في كل ثلاثي متصرف تام خال مما يلزم الكسر.
وإنه يكفي أنه مسموع كثير لنقيس عليه، كما قرر المجمع، وكما قال ابن جني". ا. هـ.
وهذا هو الحكم الموفق الذي يحسن الاقتصار عليه.
__________
1 بقلم شيخ الجامع الأزهر - الخضر حسين، وكان -رحمه الله- أحد أعضاء المجمع اللغوي الأجلاء.(2/175)
المسألة 72:
تعدد المفعول به، وما يتبع هذا من ترتيب1، وحذف
عرفنا أن الفعل المتعدي قد يتعدى -مباشرة- إلى مفعول به واحد2؛ نحو: عدل الحاكم يكفل السعادة للمحكومين، أو إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، نحو: رأيت الظلم أقرب طريق للخراب، أو ليس أصلهما المبتدأ والخبر؛ نحو: منعت النفس التسرع في الرأي، وقد ينصب ثلاثة؛ نحو علمني العقل: الاعتدال وافيًا من البلاء ... ولا يتعدى الفعل لأكثر من ثلاثة.
أ- فإن كان الفعل متعديًا لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر جاز مراعاة هذا الأصل في ترتيبهما، فيتقدم المفعول به الذي أصله المبتدأ على المفعول به الذي أصله الخبر؛ - ففي مثل "الصبر أنفع في الشدائد ... " يجوز: حسبت الصبر أنفع في الشديد، كما يجوز: حسبت أنفع في الشدائد الصبر، لكن مراعاة الأصل أحسن.
وقد تجب مراعاة الأصل في المواضع التي يجب فيها تقديم المبتدأ على الخبر3، كأن يؤدي عدم الترتيب إلى الوقوع في اللبس؛ ففي نحو: خالد محمود ... "والمراد: خالد كمحمود" نقول: ظننت خالدًا محمودًا؛ فلو تقدم الثاني لاختلط الأمر والتبس؛ إذ لا يمكن تميز المشبه من المشبه به؛ لعدم وجود قرينة تساعد على هذا؛ فيكون التقديم بمراعاة الأصل هو القرينة.
وقد تجب مخالفة الأصل؛ فيتقدم المفعول الثاني في المواضع التي يجب فيها تقديم الخبر على المبتدأ4؛ كأن يكون في المفعول الأول ضمير يعود على الثاني؛ نحو: ظننت في البيت5 صاحبه.
__________
1و 2 سبق -في ص86- حكم "المفعول به" الواحد من ناحيتي تقدمه وتأخره في الجملة "أي: من ناحية ترتيبيه فيها".
3 و4 وقد سبق البيان في بابهما بالجزء الأول م37 ص61.
5 سبق في "ص24 من باب "ظن وأخواتها"" أن المفعول الثاني للأفعال القلبية يجوز أن يكون جملة، وأن يكون شبه جملة، كالمثال المذكور هنا، وقد وجب فيه التقديم على المفعول الأول كي لا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، وهذا ممنوع إلا في مواضع أخرى محدودة، ليس منها هذا الموضع.(2/176)
فأحوال الترتيب بين المفعولين ثلاثة: حالة يجب فيها مراعاة الأصل بتقديم ما أصله المبتدأ وتأخير ما أصله الخبر، وحالة يجب فيها مخالفة هذا الأصل، وثالثة يجوز فيها الأمران، وقد تقدم هذا مفصلًا في موضعه الأنسب من باب: "ظن وأخواتها"1.
ب– إن لم يكن أصلهما المبتدأ والخبر، فالأحسن تقديم ما هو فاعل في المعنى على غيره؛ نحو: أعطيت الزائر وردة من الحديقة: "فالزائر" هو الآخذ، و"الوردة" هي المأخوذة؛ فهو في المعنى بمنزلة الفاعل؛ وهي بمنزلة المفعول به؛ وإن كانت هذه التسمية المعنوية لا يلتفت إليها في الإعراب.
ويجوز مخالفة الأصل؛ فيقال: أعطيت وردة من الحديقة الزائر، لكن الترتيب أحسن.
وقد يجب التزام الترتيب بتقديم الأول حتما وتأخير الثاني في مواضع، أشهرها ثلاثة:
1- خوف اللبس؛ نحو أعطيت محمودًا زميلًا في السفر، فلا يجوز تقديم الثاني؛ إذ لو تقدم لم يتبين الآخذ من المأخوذ، ولا قرينة تزيل هذا اللبس، ولا وسيلة لإزالته إلا بتقديم ما هو فاعل في المعنى على غيره؛ ليكون التقديم هو الدليل على أنه الفاعل المعنوي.
وفي هذه الصورة يجوز تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول وعلى الفعل معًا؛ لعدم اللبس في هذه الحالة؛ نحو زميلًا في السفر أعطيت محمودًا.
2- أن يكون الثاني واقعًا عليه الحصر2؛ نحو: لا أكسو الأولاد إلا المناسب. فلو تقدم الثاني لفسد الحصر، ولزال الغرض منه.
ولا مانع من تقديمه مع "إلا" على المفعول الأول؛ إذ لا ضرر من هذا؛ لأن المحصور فيه هو الواقع بعد "إلا" مباشرة؛ نحو: لا أكسو إلا المناسب الأولاد.
3- أن يكون الأول ضميرًا متصلًا والثاني اسمًا ظاهرًا؛ نحو: منحتك الود، "لكن لا مانع من تقديم المفعول الثاني على الأول والفعل معًا، نحو الود منحتك".
وتجب مخالفة الترتيب في مسائل، أشهرها ثلاثة أيضًا:
1- أن يكون المفعول الأول "أي: الفاعل في المعنى" محصورًا نحو: ما أعطيت
__________
1 ص23 م60.
2 تقدم في جـ1 ص364 م37 إيضاح للحصر "معناه وطريقته".(2/177)
المكافأة إلا المستحق، ويجوز تقديمه مع "إلا " على المفعول الأول وحده، دون عامله.
2- أن يكون المفعول الأول –الذي هو فاعل معنوي– مشتملًا على ضمير يعود على المفعول الثاني؛ نحو: أسكنت البيت صاحبه، فإن كان الثاني هو المشتمل على ضمير يعود على الأول جاز الأمران، نحو: أسكنت محمدًا بيته، أو: أسكنت بيته محمدًا.
3- أن يكون المفعول الثاني ضميرًا متصلًا، والأول "أي: الفاعل المعنوي" اسمًا ظاهرًا؛ نحو: القلم أعطيته كاتبًا ...
فأحوال الترتيب ثلاث ي هذا القسم "ب"؛ هي: وجوب التزامه في ثلاثة مواضع، ووجوب مخالفته في ثلاثة أخرى، وجواز الأمرين في غير المواضع السالفة1.
جـ- إن كان الفعل متعديًا لثلاثة، فالأول منها كان فاعلًا، وقد صيرته همزة النقل مفعولًا به2، فالأصل الذي يراعى فهي أن يقدم على المفعول الثاني والثالث، وأصلهما الأرجح مبتدأ وخبر؛ فيراعى في الترتيب بينهما ما يراعى بين المبتدأ والخبر؛ طبقًا للبيان الذي سبق 3 "عند الكلام على حكم الناسخ ومعموليه من ناحية التقديم والتأخير".
__________
1 ترك ابن مالك الكلام على أحوال القسم الأول: " أ " – واقتصر على أحوال هذا القسم: "ب" فقال: بإيجاز:
والأصل سبق فاعل معنى؛ "كمن" ... من "ألبسن من زراكم نسج اليمن"
ويلزم الأصل لموجب عرى ... وترك ذاك الأصل حتمًا، قد يرى
يريد: إذا تعدى الفعل لمفعولين: أحدهما فاعل في المعنى، فالأصل المستحسن أن يتقدم هذا المفعول على غيره، وساق مثالًا هو: "ألبسن من زاركم نسج اليمن"، فكلمة: "من" مفعول به، وهي من ناحية المعنى – لا الاصطلاح النحوي – بمنزلة الفاعل؛ لأن مدلولها هو: اللابس، "ونسج اليمن"، هو الملبوس، وفي هذه الحالة يراعى الأصل بتقديم المفعول الذي هو فاعل معنوي، ويجوز عدم مراعاته؛ فنقول: ألبسن نسج اليمن من زاركم والمراعاة أحسن، ثم صرح بعد ذلك بأن مراعاة هذا الأصل قد تلزم بسبب موجب لمراعاتها قد عرا، – أي: حل ووجد – كما صرح بأن ترك مراعاة الأصل قد يرى حتمًا، أي: قد يرى أمرًا محتومًا، واجبًا، "حتمًا: مفعول يرى".
2 راجع رقم 2 من ص 165.
3 في ص 23 و 176.(2/178)
حذف المفعول به:
الأغلب أن يؤدي المفعول به معنى ليس أساسيًا 1 في الجملة؛ فيمكن الاستغناء عن المفعول به من غير أن يفسد تركيبها، أو يختل معناها الأساسي، ولهذا يسمونه: "فضلة" "وهي اسم يطلقه النحاة على كل لفظ معناه غير أساسي في جملته".
بخلاف المبتدأ، أو الخبر، أو الفاعل، أو نائبه ... أو غير هذا من كل جزء أصيل في الجملة لا يمكن أن تتكون ولا أن يتم معناها الأساسي إلا به، مما يسميه النحاة "عمدة".
بالرغم من أن المفعول به فضلة – فقد تشتد الحاجة إليه أحيانًا؛ فلا يمكن الاستغناء عنه في بعض المواضع، ولا يصح حذفه بها: كما سنرى، أما في غيرها فيجوز حذفه –واحدًا أو أكثر– لغرض لفظي، أو معنوي.
1- فمن اللفظي: المحافظة على وزن الشعر، كقول شوقي:
ما في الحياة لأن تعا ... تب أو تحاسب متسع
"أي: تعاتب المخطئ أو تحاسبه2"....، ومنها: المحافظة على تناسب الفواصل 3 نحو قوله تعالى مخاطبًا رسوله الكريم: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وقوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى 4، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 5 فحذف مفعول الفعل: "يخشى" ولم يقل: "يخشاه" أو: يخشى الله؛ لكي تنتهي الجملة الثانية بكلمة مناسبة في وزنها لكلمة: "تشقى" التي انتهت بها الجملة الأولى، وكذلك الفعل: "قلا" الذي حذف مفعوله؛ فلم يقل: "قلاك" ليكون مناسبًا في وزنه للفعل: "سجا".
__________
1 هذا في غير مفعولي "ظن" وأخواتها؛ لأن أصلهما المبتدأ والخبر –غالبًا– فهما عمدتان بحسب أصلهما، كما سبق في رقم 4 من هامش ص 3، وقد سبق الكلام على حذفهما في ص 56 م 63.
2 ومثل قول الشاعر:
شكرتك؛ إن الشكر نوع من التقى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي
يريد: يقضي حقها من الشكر ... ، أو يقضي شكرها.
3 الكلمات التي في نهاية الجمل المتصلة اتصالًا معنويًا.
4 هدأ وسكن، وخلا من الرياح والعواصف، وأشباهها.
5 كره.(2/179)
ومنها: الرغبة في الإيجاز؛ نحو: دعوت البخيل للبذل، فلم يقبل، ولن يقبل – أي: لم يقبل الدعوة، أو البذل، ولن يقبل الدعوة أو البذل ...
ب– ومن المعنوي: عدم تعلق الغرض به، كقول البخيل لمن يعيبه بالبخل: طالما أنفقت، وساعدت، وعاونت؛ أي: طالما أنفقت المال، وساعدت فلانًا. وعاونت فلانًا1.
أو: الترفع عن النطق به؛ لاستهجانه، أو: لاحتقار صاحبه، أو نحو هذا من الدواعي البلاغية وغير البلاغية.
فإذا اشتدت حاجة المعنى إلى ذكر المفعول به بحيث يختل المعنى أو يفسد بحذفه لم يجز الحذف؛ كأن يكون المفعول به هو الجواب المقصود من سؤال معين؛ مثل: ماذا أكلت؟ فيجاب: أكلت فاكهة، فلا يجوز حذف المفعول به: "فاكهة" لأنه المقصود من الإجابة.
أو: يكون المفعول به محصورًا؛ نحو: ما أكلت إلا الفاكهة.
أو: يكون مفعولًا به متعجبًا منه بعد صيغة: "ما أفعل" التعجبية، نحو: ما أحسن الحرية.
أو: يكون عامله محذوفًا: نحو: قول القائل عند نزول المطر: خيرًا لنا، وشرًا لعدونا، أي: يجلب خيرًا.
وليس هذا الحذف مقصورًا على مفعول الفعل المتعدي لواحد؛ بل يشمله ويشمل المفعول الأول وحده، أو الثاني وحده، أو هما معًا للفعل الذي ينصب مفعولين؛ مثل: "ظن" وأخواتها، وكذلك يشمل المفعول الثاني والثالث – دون الأول 2 – للأفعال التي تنصب ثلاثة؛ مثل: "أعلم وأرى" كما سبق الكلام على
__________
1 وقد حذفت المفعولات؛ لأن الغرض الهام من الجملة ليس فلانا وفلانا من الأشخاص المعينة، إنما الغرض هو: البذل والإعطاء لهذا أو لذاك بغير تعيين. ومن هذا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ... } أي: أعطى المال واتقى الله ... وقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، يعطيك الخير، فترضاه.
2 لأنه في الأصل فاعل، وقد صيرته همزة النقل مفعولا به "راجع البيان الخاص بهذا ص58 ثم في ص60".(2/180)
هذا وإيضاحه بالأمثلة1.
حذف عامل المفعول به:
بمناسبة الكلام على حذف المفعول به الواحد أو المتعدد يعرض النحاة إلى حذف عامله جوازًا أو وجوبًا.
أفيجيزون حذفه إن كان معلومًا بقرينة تدل عليه، مثل؛ ماذا حصدت فتقول: قمحًا: أي: حصدت قمحًا, وماذا صنعت؟ فتجيب: خيرًا. أي: صنعت خيرًا 2....
ب- ويوجبون حذفه في أبواب معينة؛ منها: الاشتغال؛ وقد سبق3، ومنها: النداء4، ومنها: التحذير والإغراء5، ومنها: الاختصاص6....، بالشروط
__________
1 في ص 60.
وقد اقتصر ابن مالك على بعض مواضع الحذف؛ فقال:
وحذف فضله أجز إن لم يضر ... كحذف ما سبق جوابًا أو حصر
يقول: أجز حذف الفضلة "والمراد هنا: المفعول به" بشرط ألا يضر حذفها. وبين التي يضر حذفها بأنها ما سيقت جوابًا، أو وقعت محصورة على الوجه الذي شرحناه فيهما.
هذا والفعل: "يضر" هو مضارع مجزوم، ماضيه، "ضار" بمعنى: ضر، تقول ضارني البرد يضيرني، بمعنى: ضرني، يضرني.
2 من القرائن ما يدل عليه سياق الكلام؛ كقول الشاعر:
أمجدا بلا سعي؟ لقد كذبتكمو ... نفوس ثناها الذل أن تترفعا
يريد: أتحبون مجدًا ... ؟ أو نحو هذا ...
3 في ص 124.
4 فإن المنادى منصوب بعامل محذوف وجوبًا، تقديره، أنادي، أو أدعو، وحرف النداء عوض عنه "طبقًا للبيان الآتي في باب "النداء" أول الجزء الرابع".
5 يشترط في حذف العامل في التحذير أن يكون التحذير بكلمة: "إياك"؛ نحو: إياك والكذب، أو: مع العطف؛ نحو: الكذب والنفاق، أو مع التكرار؛ نحو: النار النار ... ويشترط في الإغراء: العطف؛ نحو الكرامة والشهامة، أو التكرار؛ نحو الحياء الحياء ... وسيجيء البيان والتفصيل في الباب الخاص بالإغراء والتحذير، ج 4 م 140.
6 إيضاحه وتفصيل الكلام عليه في بابه الخاص "ج 4 م 139".(2/181)
المدونة في باب1 كل ومنها: الأمثال المسموعة عن العرب بالنصب؛ نحو: أحشفا وسوء كيلة2؟ وكذلك ما يشبه الأمثال؛ كقوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} ، أي: واعملوا خيرًا لكم.
الاشتباه بين الفاعل والمفعول به:
سبق تفصيل الكلام عليه، وعلى طريقة كشفه، في آخر باب "الفاعل"3.
جعل الفعل الثلاثي المتعدي لازمًا أو في حكم اللازم4، قياسًا.
يصير الثلاثي المتعدي لواحد لازمًا –قياسًا– أو في حكم اللازم لسبب مما يأتي5.
__________
1 بالجزء الرابع.... وفي حذف العامل الناصب للفضلة يقول ابن مالك:
ويحذف الناصبها إن علما ... وقد يكون حذفه ملتزمًا
أيك يجوز حذف ناصب الفضلة "والمراد بها هنا: المفعول به" إن كان الناصب معلومًا بقرينة، وقد يكون الحذف أحيانًا لازمًا لا بد منه.
2 هذا مثل قاله في الأصل أعرابي آخر يبيع التمر رديئًا، ولا يوفي الكيل، وقد اشتهر المثل حتى صار يقال لمن يسيء إلى غيره إساءتين في وقت واحد."الحشف: أردأ التمر".
والمثل: الكلام يشبه مضربه بمورده؛ أي: يشبه ما يستعمل فيه أخيرًا بما وضع له في الأصل، أما ما يشبه المثل؛ "أي: يجري مجراه"، فكلام مستعمل فيما وضع له من الأصل، واستعماله شائع ودورانه على الألسنة كثير.
3 ص 95.
4 يصير لازمًا بأن ينسلخ عن التعدية، ويتركها نهائيًا؛ بحسب الظاهر، وبحسب الحقيقة الواقعة والمعنى؛ كما في السبب الثاني والثالث، ويصير في حكم اللازم بأن يكون بحسب المظهر الشكلي اللفظي لازمًا؛ لا بحسب المعنى والواقع الحقيقي؛ كما في الأول، والرابعن والخامس؛ لأن "المضمن"، متعد باعتبار دلالته الأصلية على معنى الفعل المتعدي؛ ولأن الضعيف عن العمل، المحتاج إلى مساعدة حرف الجر، متعد في المعنى وفي أصله للمفعول به، وطالب له. وكذلك الفعل في الضرورة ... هكذا قالوا.
أما جعل الفعل الثلاثي اللازم متعديًا، فقد سبق الكلام عليه "في ص 158".
5 ليس من المناسب الأخذ بالرأي القائل: إن كل الأسباب الآتية أو بعضها مقصور على السماع؛ إذ لو كان كذلك ما كانت هناك حاجة إلى ذكر هذه الضوابط، ولوجب قصر الأمر على العرب، وفي هذا تضييق وإفساد يجافي طبيعة اللغة، وينفي أصولها، كما سبق في الحالة الأخرى "رقم 2 من هامش ص 158"، ويلاحظ أن الثلاثة الأولى تجلب مع منع التعدية معنى جديدًا، على الوجه الذي سبق شرح نظيره في طريقه تعدية الفعل اللازم "ص 158 م 71".(2/182)
1- التضمين1 لمعنى فعل لازم؛ نحو: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، فإن الفعل: "يحذر" متعد في الأصل بنفسه، تقول حذرت عواقب الغضب، ولكنه حين تضمن معنى الفعل المضارع: "يخرج" صار متعديًا مثله بحرف الجر: "عن"، فالمراد: فليحذر الذين يخرجون عن أمره، ومثله قوله تعالى: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، فالفعل "تعدو" بمعنى "تتجاوز" متعد بنفسه؛ كما في مثل: أنت لا تعدو الحق؛ أي: لا تتجاوز الحق، ولكنه هنا متعد بحرف الجر: "عن"؛ بسبب تضمنه معنى فعل آخر، هو: "تنصرف" الذي يتعدى بحرف الجر: "عن".
ومثله قول القائل: "قد قتل الله زيادًا عني" فالفعل: "قتل" في أصله متعد بنفسه مباشرة إلى مفعول واحد، مستغن بعد ذلك –غالبًا– عن التعدية بالحرف الجار إلى مفعول ثان، ولكنه هنا تضمن معنى الفعل: "صرف" المتعدي بنفسه إلى المفعول الأول، وإلى الثاني بحرف الجر: "عن"؛ فصار مثله متعديًا بنفسه إلى الأول، وبهذا الحرف الجار إلى الثاني، فالمراد: قد صرف الله بالقتل زيادًا عني.
والتضمين من الوسائل التي تجعل المتعدي في حكم اللازم، ولا تجعله لازما حقيقيا، لما بيناه من قبل2.
2- تحويل الفعل الثلاثي المتعدي لواحد إلى صيغة: "فعل" "بفتح أوله وضح عينه"3بشرط أن يكون القصد من التحويل إما المبالغة في معنى الفعل، والتعجب منه4، نحو: نظر القط، وإما المدح أو الذم5 مع التعجب فيهما؛ نحو:
__________
1 سبق الكلام على معناه، والغرض منه، وحكمه "في ص 169 وما بعدها م 71"، وقلنا: إن في آخر هذا الجزء بحثًا نفسيًا خاصًا به، لا يستغني عنه المتخصصون، ويليه رأينا فيه بإيجاز.
2 في رقم 1 من هامش ص 158 وفي ص 171.
3 وإنما كان تحويل الفعل الثلاثي المتعدي، إلى هذه الصيغة مؤديًا إلى لزومه؛ لأنها صيغة لا تكاد تستعمل إلا لازمة، إذ لم يرد منها في المسموع متعديًا إلا فعلان
–فيما يقول ابن هشام– هما: رحب، وطلع "بفتح أولهما وضم ثانيهما" على الوجه الذي سبق بيانه ورفضه في رقم 1 من هامش ص 154.
4 بشرط استيفاء الفعل لشروط التعجب المدونة في بابه الخاص –ج 3 ص 204 وص 293.
5 يجوز تحويل الفعل الثلاثي إلى: "فعل" –بضم العين– ليكون المدح أو الذم كنعم، وبئس على الوجه المشروح في بابهما ج3 مع أوجه اختلاف بينهما؛ أشهرها: =(2/183)
سبق الفيلسوف وفهم، وذلك في مدحه بالسبق والفهم، ومنع القادر وحبس؛ عند ذمه بمنع المعونة وحبسها.
3- الإتيان بمطاوع1 للفعل الثلاثي المتعدي لواحد؛ نحو: هدمت الحائط المائل؛ فانهدم، ثم بنيته؛ فانبنى.
4– ضعف الفعل الثلاثي عن العمل بسبب تأخيره عن معموله؛ نحو، قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} ، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} .
ومثله العامل الوصف الذي يعتوره الضعف بسبب أنه من المشتقات؛ مثل قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، وقوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، والأصل: إن كنتم تعبرون الرؤيا – الذين يرهبون ربهم – فعال لما يريد – مصدقًا ما بين يديه ...
وفي كل ما سبق تجيء قبل المعمول لام الجر، وتسمى: "لام التقوية"؛ لأنها تساعد العامل على الوصول إلى مفعوله المعنوي الحالي الذي كان في الأصل مفعوله الحقيقي.
والضعف على الوجه السابق يجعل المتعدي في حكم اللازم، وليس لازمًا حقيقة2.
__________
= أمران في معنى: "فعل"؛ وهما: إشرابه التعجب مع عدم الاقتصار على المدح الخالص أو الذم الخالص، وأنه للمدح الخاص بمعنى الفعل، أو الذم الخاص كذلك، لا العام الشامل الذي لا يقتصر فيهما على معنى الفعل.
وأمران في فاعله الظاهر؛ وهما: جواز خلوه من "أل" المباشرة وغير المباشرة؛ نحو قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وجواز جره بالباء الزائدة؛ نحو حب بزيارة المخلص.
واثنان في فاعله المضمر؛ وهما: جواز عوده إلى ما قبله، مع مطابقته له، نحو: محمد شرف رجلًا؛ فيصح أن يكون الفاعل ضميرًا عائدًا على "محمد" المتقدم أو عائدًا على: "رجلًا" المتأخر، فإن عاد على المتقدم كان مطابقًا له في الإفراد، والتثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث، وإن كن عائدًا على المتأخر لزم الإفراد؛ تقول: المحمدان شرفًا رجلين، المحمود شرفوا رجالًا، فاطمة شرفت امرأة، وهكذا.
1 سبق شرح المطاوعة في ص 100، م 76.
2 لأن العامل متعد في المعنى إلى ما بعد لام التقوية؛ لكنه بحسب الشكل اللفظي الظاهر لازم، فمجيء اللام للتقوية يجعل العامل لازمًا بحسب المظهر.
ونعود فنشير إلى ضعف كلام النحاة في هذه الوسيلة الرابعة –كما سيجيء البيان المفيد عنها في حروف =(2/184)
5- ضرورة الشعر، كقول القائل:
تبلت فؤادك1 في المنام خريدة2 ... تسقي الضجيع ببارد بسام
فإن الفعل "تسقى" ينصب مفعولين بنفسه، ولكنه تعدى إلى الثاني هنا: "بالباء" نزولا على حكم الضرورة الشعرية، وهذه الوسيلة أيضا مما يجعل الفعل في حكم اللازم، وليس باللازم حقيقة، لما أوضحناه من قبل3.
__________
= الجر، "ص 475" – إذ من المعروف أن الفعل المتعدي لواحد يجوز تقديم مفعوله عليه "إلا في بعض صور قليلة واجبة التقديم أو التأخير"، وأنه لا يترتب على ذلك التقديم إبعاد الفعل عن التعدية إلى اللزوم إبعادًا حتميًا، وإذا كان بقاؤه متعديًا مع التقديم أمرًا جائزًا، فمن أين يأتيه الضعف الذي يعالج بلام التقوية؟ وما سبب هذا الضعف؟ وإذا عرفنا أنه يجوز حذف هذه اللام فيعود الاسم بعدها مفعولًا منصوبًا كما كان قبل مجيئها من غير أن يترتب على هذا فساد في صياغة الأسلوب، أو في معناه فما الحاجة الحقيقية إليها؟ وأين الضعف الذي تزيله؟
كذلك المشتقات العاملة التي يصفونها بالضعف، من أين يأتيها الضعف؟ وما سببه وهو التي جوز –أحيانًا– أن تنصب مفعولها الخالي من لام التقوية مع تقدمه أو تأخره؛ كما يجوز حذف لام التقوية إن وجدت، فتنصبه المشتقات مباشرة، من غير أن يترتب على حذفها ضرر؟
والأول بالنحاة أن يقولوا:
أ- إذا تعدى الفعل إلى "مفعول به" واحد، وجاز تقدم هذا المفعول على فعله، فقد يبقى على حاله من النصب، وقد يجر باللام؛ فالأمران صحيحان.
ب إذا كان المشتق ناصيبًا مفعولًا به واحدًا جاز في مفعوله النصب مباشرة أو جره باللام، سواء أكان المفعول متقدمًا أم متأخرًا عن عامله.
1 أصابته بالمرض سبب الحب.
2 امرأة حسناء.
3 في رقم 1 من هامش ص 158 وفي ص 171.(2/185)
المسألة 73: التنازع في العمل 1
أ– في مثل: وقف وتكلم الخطيب – نجد فعلين لا بد لكل منهما من فاعل، وليس في الكلام إلا اسم ظاهر واحد، يصلح أن يكون فاعلًا لأحدها، وهذا الاسم الظاهر هو: "الخطيب"، فأي الفعلين أحق بالفاعل؟ وإذا فاز به أحدهما، فأين فاعل الفعل الثاني؟.
ب- وفي مثل: سمعت وأبصرت القارئ – نجد فعلين أيضًا، يحتاج كل منهما إلى مفعول به منصوب، وليس في الكلام ما يصلح أن يكون مفعولًا به إلا شيئًا واحدًا؛ وهو: "القارئ" فأيهما أحق به؟ وإذا فاز به أحدهما فأين مفعول الفعل الثاني؟.
جـ– وفي مثل: أنشد وسمعت الأديب، نجد فعلين يحتاج أحدهما إلى مرفوع يكون فاعلًا، ويحتاج الآخر إلى منصوب، يكون مفعولًا به، فمطلب كل منهما يخالف الآخر –على غير ما في الحالتين السالفتين– وليس في الكلام إلا لفظة: "الأديب" وهي تصلح لأحدهما، فأي الفعلين أولى بها؟ وما نصيب الآخر بعده؟
د– وفي مثل: أنست وسعدت بالزائر الأديب، نجد كلا من الفعلين محتاجًا إلى الجار مع مجروره2؛ ليكمل المعنى، فأي الفعلين أولى؟ وما نصيب الآخر بعد ذلك؟.
__________
1 لنا في هذا الباب المضطرب المائج، وفي أحكامه، رأي خاص، نراه أنسب، وقد سجلناه في آخره، 201.
2 أوضحنا في باب: "تعدي الفعل ولزومه" ص 151 –وفي حروف الجر– ص 439" أن المجرور للتعدية في هذا المثال وأشباهه يعد في المعنى بمنزلة المفعول به، فهو في حكم المنصوب محلًا، برغم أنه مجرور لفظًا، ولا يجوز في الرأي الأحسن مراعاة المحل إذا جاء تابع بعده.
وفي باب التنازع قد يتكلم النحاة أحيانًا على العامل الذي ينصب المفعول به لفظًا، والذي ينصبه محلًا، يريدون بالأول ما يصل إليه العامل بنفسه، وبالثاني: ما يصل إليه بحرف الجر.(2/186)
ومن الأمثلة السالفة –وأشباهها– نعرف أن الأفعال1 قد تتعدد في الأسلوب الواحد، ويحتاج كل منها إلى معمول خاص به، ولكن لا يوجد في الكلام إلا بعض معمولات ظاهرة، تكفي بعض الأفعال دون بعض، مع حاجة كل فعل إلى معمول خاص به؛ فتتزاحم تلك العوامل الكثيرة على المعمولات القلية، وكأنها تتنازع ليظهر كل منها وحده بالمعمول، ولهذا يسمى الأسلوب: "أسلوب التنازع"2، يعرفه النحاة بأنه:
"ما يشتمل على فعلين – غالبًا3، متصرفين 4، مذكورين، أو على اسمين يشبهانهما في العمل، أو على فعل واسم يشبهه في العمل، وبعد الفعلين وما يشبههما معمول مطلوب 5 لكل من الاثنين السابقين.
والفعلان أو ما يشبههما يسميان: "عاملي التنازع"، والمعمول يسمى: "المتنازع فيه".
فلا بد في التنازع من أمرين: أولهما: تقدم فعلين أو ما يشبههما في العمل، وكلاهما يريد المعمول.
ثانيهما: تأخير المعمول عنهما.
فمثال تقدم العاملين وهما فعلان متصرفان: تصدق وأخلص الصالح، ومثال تقدم العاملين وهما اسمان مشتقان يعملان عمل الفعل: المؤمن ناصر ومساعد الضعيف، ومثال المختلفين: دراك وساعد الملهوف، بمعنى أدرك وساعد، وهكذا الصور6 الأخرى التي تدخل في التعريف.
__________
1 مثل الأفعال ما يشبهها مما يعمل عملها – كما سيجيء هنا.
2 يسميه بعض النحاة القدامى: "الإعمال".
3 سنعرف –في ص 189– أنه يجوز أن تزيد العوامل على اثنين مع زيادة المعمولات أو عدم زيادتها، ويشترط في كل الحالات أن يزيد عدد العوامل على المعمولات في الكلام؛ لكي ينشأ "التنازع".
4 إلا "فعلي التعجب"، فيجوز أن يكونا عاملين في "التنازع" مع أنهما جامدان – كما في الصفحة التالية.
5 من حيث المعنى والعمل معًا، ولو كان عملهما مختلفًا، وسيجيء في الزيادة والتفصيل نوع المعمول.
6 كأن يكون الفعلان معًا من نوع واحد "للماضي، أو المضارع، أو للأمر" وقد يكونان مختلفين في بعض الصور، وقد يكون أحد العاملين فعلًا والآخر اسمًا يشبهه، وقد يكون الفعل هو المقدم على الاسم الذي يشبه, أو العكس ...(2/187)
على هذا لا يصح أن يكون من عوامل التنازع الحرف، ولا العامل المتأخر في مثل: أي الرجال قابلت وصافحت، ولا العامل الذي توسط المعمول بينه وبين العامل الآخر، نحو: اشتريت الكتاب وقرأت، ولا العامل الجامد؛ مثل: "عسى" أو"ليس"، كما في قول الشاعر:
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
إلا فعلي التعجب1 فإنهما مع جمودهما يصح أن يكونا العاملين في أسلوب التنازع؛ نحو ما أحسن وأنفع صفاء النفوس، وأحسن وأنفع بصفاء النفوس.
__________
1 كما أشرنا في رقم4 من الهامش السالف.(2/188)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– ليس من اللازم – كما أشرنا1 – الاقتصار في أسلوب "التنازع" على عاملين متقدمين، ولا على معمول واحد ظاهر2 بعدهما،
فقد يقتضي الأمر أن يكون العوامل ثلاثة3 متقدمة من غير أن يتعدد المعمول؛ نحو: يجلس ويسمع ويكتب المتعلم، وقد تتعدد العوامل والمعمولات
الظاهرة؛ نحو: تكتبون وتقرءون وتحفظون النصوص الأدبية كل أسبوع، ففي صدر الكلام ثلاثة عوامل تتنازع العمل في معمولين بعدها؛ "أي: في المفعول به، وهو: النصوص"، وفي الظرف4، وهو: "كل ... "، والكثير في التنازع الاقتصار على عاملين ومعمول واحد. ولا يعرف في الأساليب القديمة الزيادة على أربعة عوامل، ولكن لا مانع من الزيادة عند وجود ما يقتضيها، ويشترط -في كل الحالات- أن تقوم القرينة على أن الأسلوب أسلوب تنازع؛ لتجري عليه أحكام التنازع، وأنه ليس من باب اللف والنشر: مثل: غرد وزأر العصفور والأسد؟ أي غرد العصفور، وزأر الأسد....
__________
1 في رقم 3 من هامش الصفحة 187.
2 لا فرق في المفعول بين أن يكون اسمًا ظاهرًا، أو ضميرًا بشرط أن يكون الضمير منفصلًا مروعًا، أو منصوبًا، أو متصلًا مجرورًا، نحو: على إنما قام وقعد هو، وما زرت وصافحت إلا إياه، ووثقت وتقويت بك.
كذلك لا فرق بين اختيار الأول وغيره للعمل ما لم يكن لأحدهما مرجح؛ كوجود "لا" أو: "بل" العاطفين، فيجب إعمال الأول في مثل: أهنت لا أكرمت النمام، ويجب إعمال الثاني في مثل: ضربت بل أكرمت الرجل؛ لأن "بل" –هنا– تجعل الحكم لما بعدها – فما قبلها مسكوت عه، فلا يطلب المعمول، و"لا" – هنا – تجعل الحكم لمال قبلها مثبتًا، فما بعدها منفي لا يطلب المفعول.
3 ومنه قول القاطمي:
صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شب حتى شاب سود الذوائب
فقد تنازع العمل في الظرف: "لدن" عوامل ثلاثة؛ هي: صريع، وراق – وراق، الثاني أيضًا، المسند إلى نون النسوة.
4 انظر "ج" ص 190.(2/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ب– لا بد أن يكون بين العاملين –أو العوامل– نوع ارتباط؛ كالعطف في مثل: أعيد وأخاف الله، أو أن يكون العامل المتأخر جوابًا معنويًا عن السابق؛ نحو قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} 1، أي: يستفتونك في الكلالة، قل الله يفتيكم في الكلالة ... أو جوابًا نحويًا، كجواب الأمر وغيره مما يحتاج لجواب؛ نحو: أنشد، أسمع القصيدة، أو يكون المتأخر معمولًا للسابق؛ نحو قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطا} ، أو أن يكون العاملان خبرين عن اسم؛ نحو: الحاكم مكافئ معاقب المستحق.
ج– يقع التنازع في أكثر المعمولات، ومنها: المفعول به، والمفعول المطلق، والمفعول لأجله، وشبه الجملة، دون الحال والتمييز -على الأصح-.
د– ليس من التنازع "التوكيد اللفظي" كالذي في قولهم:
"هيهات هيهات العقيق ومن به ... "؛ لأن شرط التنازع: أن يكون المعمول مطلوبًا لكل واحد من العاملين من حيث المعنى، وأن يوجد الضمير -إذا كان مرفوعًا– في العامل المهمل، وهو غير موجود في هذا التوكيد؛ إذ الطالب للمعمول إنما هو كلمة: "هيهات الأولى؛ فهي وحدها المحتاجة للعقيق؛ لتكون فاعلها، والإسناد بينهما، أما كلمة: "هيهات" الثانية فلم تجئ للإسناد إلى العقيق؛ وهي خالية من المضير المرفوع؛ وإنما جاءت لمجرد تأكيد الأولى وتقويتها؛ فالأولى هي المحتاجة للفاعل، أما الثانية فلا تحتاج لفاعل؛ ولا لغيره، فليست عاملة، ولا معمولة؛ شأن نظائرها التي تجيء للتوكيد اللفظي: ومثل هذا: جاءك جاءك الراغبون في معرفتك2.
__________
1 الكلالة: الميت الذي ليس له والد ولا ولد، أو: الوارث الذي ليس بوالد ولا بولد للميت.
2 فريق من النحاة يدخل هذين المثالين وأشباهما في باب التنازع، ويجري عليهما أحكامه، بأن يكون العامل هو الأول، وفي الثاني ضمير مستتر، أو العكس مع مراعاة التفصيل الخاص بأحكام =(2/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضمير في باب التنازع، في هذه الحالة لا يكون العامل الثاني في باب التوكيد اللفظي؛ لأن العامل الثاني في بابه زائد للتوكيد اللفظي؛
فلا فاعل له – في الرأي الشائع – فلا يتحمل ضميرًا – كما سيجيء في باب: "التوكيد" من الجزء الثالث، ص 510 م 116.
والذين يقولون: إن التوكيد اللفظي لا يصلح للتنازع يستدلون بأمثلة مسموعة: منها قول الشاعر يخاطب نفسه:
فأين إلى أين النجاة ببغلتي؟ ... أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس
فلو كان في الكلام تنازع لقال – أتاك أتوك اللاحقون، أو: أتوك أتاك اللاحقون، تطبيقًا لأحكام التنازع.
والحق أن كلا الرأيين لا يصلح للأخذ المطلق أو الرفض المطلق؛ لمجرد أنه منسوب لذا أو لذاك، وإنما الذي يعول عليه عند عدم الضمير البارز هو الأخذ بما يساير المعنى ويحقق الغرض؛ فيجب أن أن تكون المسألة من باب التوكيد اللفظي وحده – ولا دخل للتنازع فيها – حين يقتضي المقام تحقيق غرض من أغراض التوكيد اللفظي، وفي مقدمتها إزالة شك يحيط بالعامل وحده؛ كأن يجري الحديث عن سقوط المطر عدة أيام متوالية؛ فيقول أحد الحاضرين: لم يسقط المطر أمس ... فيرد آخر: سقط سقط
المطر أمس، ففي هذه الصورة يدور الشك حول الفعل: "سقط" وحده دون فاعله؛ إذ ليس هناك شك في أن الذي سقط هو: المطر، وليس حجرًا، ولا حديدًا، ولا خشبًا ... و ...
أما في صورة أخرى يدور الشك فيها حول العامل ومعموله معًا، فإن إزالة الشك عنها قد تكون بتكرار الجملة كلها، وتكرارها قد يدخلها في باب التنازع، ولا سيما منع وجود الضمير البارز، مثال ذلك: أن يدور حول عدم حضور أحد من الغائبين؛ بأن يقول قائل: لم يحضر أحد من الغائبين، فيرد آخر: حضر حضر أخي، أو: حضر حضر المجاهدان، أو: حضرا حضر المجاهدان ... فالمقام هنا يقتضي أن يكون المسألة من باب: "التنازع" وليست من توكيد الجملة الفعلية بأختها؛ لأن توكيد الجملة الفعلية بنظيرتها الفعلية يقتضي تكرار لفظي الفعل والفاعل في كل واحدة منها كما هو مدون في باب: "التوكيد" جـ 3 م 116ص 510-(2/191)
الأحكام الخاصة بالتنازع 1:
تتلخص هذه الأحكام يما يأتي:
1- لا مزية لعامل على نظيره من ناحية استحقاقه للمعمول "أي: للمتنازع فيه"؛ فكل عامل يجوز اختياره للعمل من غير ترجيح في الأغلب2؛ فيجوز اختيار الأول السابق مع إهمال الأخير، ويجوز العكس3، وإذا كانت العوامل ثلاثة أو أكثر فإن الحكم لا يتغير بالنسبة للأول والأخير، أما المتوسط بينهما – ثالثًا أو أكثر – فيصح أن يساير الأول أو الأخير؛ فالأمران متساويان بالنسبة لإعمال الثالث المتوسط، وما زاد عليه من كل عامل بين الأول والأخير.
2– إذا وقع الاختيار على الأول ليكون هو العامل المستحق للمعمول وجب تعويض العامل الأخير المهمل تعويضًا يغنيه عن المعمول، وذلك بإلحاق ضمير4 به يطابق ذلك المعمول مطابقة تامة في الإفراد والتثنية، والجمع، والتذكير،
__________
1 سنذكر أشهر الآراء، ثم نردفه – آخر الباب في الزيادة والتفصيل ص 201 و 203 – برأي لنا خاص قد يكون يه يسر ونفع خالصان من الشوائب – كما أشرنا في رقم 1 من هامش ص 186.
2 إلا في الحالتين المذكورتين في رقم 2 من هامش ص 189.
3 الكوفيون يعملون الأول لسبقه، والبصريون يعملون الثاني لقربه، وهذا خلاف يجب إهماله؛ إذ لا قيمة له في الترجيح، وفي تفضيل أحد العاملين على الآخر إلا ما سبقت الإشارة إليه –في رقم 2– ويقول ابن مالك في الإشارة للتنازع ما نصه:
إن عاملان اقتضيا في اسم عمل ... قبل، فللواحد منهما العمل
والثان أولى عند أهل البصره ... واختار عكسا غيرهم ذا أسره
يقول: إن وجد عاملان يتطلبان عملًا في اسم ظاهر، وكانا قبله، فلواحد منهما العمل دون نظيره، وهذا الواحد ليس معينًا مقصورًا على أحدهما، وإنما يجوز أن يعمل هذا أو ذاك؛ ولا يصح أن يكون العمل لهما معًا في ذلك الاسم: وإعمال الثاني أولى عند البصريين، لقربه، واختار غيرهم العكس، أي: إعمال الأول، لسبقه، ومعنى: "ذا أسرة"، صاحب رابطة قوية، يريد بها الرابطة العلمية، وأصحاب هذا الرأي هم الكوفيون، "التقدير: اختار غيرهم العكس حالة كون غيرهم ذا أسرة".
4 إلا في الحالة التي في ص 195 والأخرى التي في ص 198 حيث يجب إحلال اسم ظاهر يدل ذلك الضمير، طبقًا للتفصيل الموضح هناك.(2/192)
والتأنيث، لأن المعمول، "المتنازع فيه" هو المرجع للضمير، ويعتبر هذا المرجع متقدمًا برغم تأخر لفظه عن الضمير، ولا بد من المطابقة بين الضمير ومرجعه في الأشياء السالفة.
والأفضل وجود الضمير في جمع الحالات؛ سواء أكان ضمير رفع، أم نصب، أم جر؛ فمن إعمال الأول في المعمول المرفوع مع إعمال الأخير في ضميره: المثال الوارد في "أ"، وهو1: "وقف – وتكلم – الخطيب"، فنقول: "وقف – وتكلما – الخطيبان"، "وقف – وتكلموا – الخطيبون"، "وقفت – وتكلمت – الخطيبة"، "وقفت – وتكلمتا – الخطيبتان" – "وقفت – وتكلمن – الخطيبات".
فكأن الأصل: "وقف الخطيب، وتكلم"، "وقف الخطيبان وتكلما"، "وقف الخطيبون، وتكلموا"، "وقفت الخطيبة، وتكلمت"، "وقفت الخطيبتان، وتكلمتا"، "وقفت الخطيبات وتكلمن"، وهكذا.
والوسيلة المضبوطة لاستعمال الضمير على الوجه الصحيح أن نتخيل العامل الأول، وهو في صدر الجملة، ثم يليه مباشرة المعمول: "المتنازع فيه"، وقد تقدم من مكانه حتى صار بعد العامل الأول بغير فاصل بينهما، ثم يليهما كل عامل مهمل، وبعده الضمير المناسب لهذا التركيب القائم على التخيل المحض؛ كما في الأمثلة السالفة؛ وكما في الآتية:
"أوقد واستدفأ الحارس"؛ فكل من الفعلين: "أوقد" و"استدفأ" يحتاج إلى كلمة: "الحارس" لتكون فاعلًا له، فإذا أعملنا الأول وجب تعويض الأخير بإلحاق ضمير مناسب بآخره، ولكي يكون الضمير مناسبًا صحيح الاستعمال نتخيل أن الاسم الظاهر "المتنازع فيه"، وهو كلمة: "الحارس" قد تقدم حتى صار بعد العامل الأول مباشرة "أي: بغير فاصل بينهما"، وهذا يقتضي أن يتأخر عنهما كل عامل مهمل، فكأن أصل الأسلوب: "أوقد الحارس واستدفأ"، "فالحارس" هو الفاعل للفعل: "أوقد" أما الفعل المهمل"استدفأ"، فقد لحق
__________
1 ص186.(2/193)
بآخره ضمير مستتر، مرفوع، يعرب فاعلًا، ويغني عن الاسم الظاهر "المتنازع فيه"، وهذا الضمير هنا مفرد مذكر؛ ليطابق مرجعه "المتنازع فيه"، فلو كان المرجع مفردًا مؤنثًا أو مثنى أو جمعًا بنوعيهما، لوجب أن يطابقه الضمير، فتقول: "أوقدت – واستدفأت – الحارسة"، "أوقد – واستدفأ – الحارسان". "أوقدت – واستدفأتا – الحارستان"، "أوقد – واستدفئوا – الحارسون"، "أوقدت – واستدفأن - الحارسات" ... و ... وهكذا، فكأن الأصل: "أوقدت الحارسة، واستدفأت"، "أوقد الحارسان، واستدفأا"، "أوقدت الحارستان، واستدفأتا"، "أوقد الحارسان، واستدفئوا"، "أوقدت الحارسان، واستدفأن....".
هذا حكم "التنازع" عند إعمال الأول حين تتعدد العوامل، ولا يتعدد المعمول المرفوع؛ وهو هنا الفاعل الظاهري الذي يطلبه كل منهما.
وما سبق يقال في مثال: "ب"1 وهو: "سمعت وأبصرت القارئ" عند إعمال الأول أيضًا؛ حيث تعددت العوامل التي يحتاج كل منها إلى المفعول به؛ وليس في الكلام إلا مفعول به واحد؛ فنقول: "سمعت – وأبصرته – القارئ"، "سمعت – وأبصرتها القارئة"، "سمعت – وأبصرتهما – القارئين"، "سمعت – وأبصرتهما – القارئتين"، "سمعت – وأبصرتهم – القارئين" "سمعت – وأبصرتهن – القارئات".
فكأن أصل الكلام عند التخيل: "سمعت القارئ وأبصرته"، "سمعت القارئة وأبصرتها" "سمعت القارئتين، وأبصرتهما"، "سمعت القارئتين، وأبصرتهما"، "سمعت القارئين وأبصرتهم"، "سمعت القارئات وأبصرتهن".
وكذلك يقال في مثال: "ج"2 وهو: "أنشد وسمعت الأديب"، برغم اختلاف المطلب بني العاملين، فأحدهما يريد المعمول فاعلًا له، والآخر يريد مفعولًا به؛ فنقول؛ عند إعمال الأول3؛ و"أنشد – وسمعته – الأديب"4، "أنشدت - وسمعتها - الأديبة"، "أنشد - وسمعتهما - الأديبان"، "أنشدت -
__________
1، 2 ص 186.
3 أما عند إعمال الأخير المحتاج للمفعول به، فيجيء حكمه في ص 199.
4 ومثله قول أبي الأسود – كما رواه صاحب أساس البلاغة:
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لي يعطيني الجزيل، وناصر(2/194)
وسمعتهما – الأديبتان"، "أنشد – وسمعتهما – الأديبون"، "أنشدت – وسمعتهن – الأديبات".
فكأن الأصل مع التخيل: "أنشد الأديب، وسمعته"، "أنشدت الأديبة، وسمعتها". "أنشد الأديبان، وسمعتهما"، "أنشد الأديبون وسمعتهم"، "أنشدت الأديبات وسمعتهن ... ".
ومثل هذا يقال عند إعمال الأول أيضًا في مثال: "د"1 وهو: "أنست وسعدت بالزائر الأديب" حيث يحتاج كل من العاملين في تكملة معناه إلى الجار مع المجرور؛ نحو: "أنست – وسعدت – بالزائر الأديب، به2"، "أنست- وسعدت – بالزائرة الأديبة، بها"، "أنست – وسعدت - بالزائرين الأديبين، بهما"، "أنست – وسعدت بالزائرتين الأديبتين، بهما"، "أنست – وسعدت – بالزائرين الأديبين، بهم"، "أنست - وسعدت - بالزائرات الأديبات، بهن".
وكأن الأصل مع التخيل: "أنت بالزائر الأديب، وسعدت به"، "أنست بالزائرة الأديبة، وسعدت بها"، "أنست بالزائرين الأديبين، وسعدت بهما"، "أنست بالزائرتين الأديبتين، وسعدت بهما"، "أنت بالزائرين الأديبين، وسعدت بهم"، "أنت بالزائرات الأدبيات، وسعدت بهن ... "... و ... وهكذا نرى أن إعمال الأول يقتضي أمرين محتومين: ألا يعمل الأخير مباشرة في ذلك المعمول الظاهر، وأن يعمل هذا الأخير في ضمير مطابق للمعمول الظاهر، في الإفراد والتثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث.
ويعتبر مرجع الضمير في كل الصور السالفة متقدمًا عليه، بالرغم من تأخر لفظ المرجع – كما أسلفنا.
وهناك حالة واحدة لا يصح فيها مجيء الضمير لتعويض الأخير المهمل، وإنما يجب أن يحل محله اسم ظاهر، تلك الحالة تتحقق بأن يكون هذا الفعل المهمل محتاجًا إلى مفعول به لا يصح حذفه؛ لأنه عمدة في الأصل، ولا يصح إضماره، إذ لو أضمرناه لترتب على إضماره عدم مطابقته لمرجعه الاسم الظاهر؛ مثل: "أظن – ويظناني أخا – محمودًا وعليًا، أخوين"، فكلمة: "محمودا" هي المفعول به الأول
__________
1 ص186.
2 يجيز فريق من النحاة تقديم هذا المعمول بعد عامله، وسيجيء في الزيادة والتفصيل رأى مستقل.(2/195)
للعامل، وهو الفعل: "أظن"، وكلمة: "عليًا" معطوفة عليها، و"أخوين" هي المفعول به الثاني للفعل: "أظن"، وإلى هنا استوفى الفعل – العامل: "أظن" مفعوليه، ويبقى الفعل الأخير المهمل: "يظنان" وهو محتاج لمفعولين كذلك. فأين هما؟ أو أين ما يغني عنهما؟.
إن "الياء" ضمير، وهي مفعوله الأول، وبقي مفعوله الثاني، فلو أتينا به ضميرًا أيضًا، فقلنا: أظن –ويظناني إياه– محمودًا وعليًا أخوين، أي: أظن محمودًا وعليا أخوين، ويظناني إياه - لكان "إياه" مطابقا في الإفراد "للياء" التي هي المفعول الأول، فتتحقق المطابقة بينهما، على اعتبار أن أصلهما مبتدأ وخبر، كما هو الشأن في مفعولي: "ظن وأخواتها"، ولكنها لا تتحقق بين الضمير "إياء"، وما يعود عليه؛ وهو: "أخوين"؛ إذ "إياه" ضمير للمفرد، ومرجعه دال على اثنين؛ فتفوت المطابقة بين الضمير ومرجعه، وهذا غير جائز.
ولو أتينا بالضمير الثاني مثنى فقلنا: أظن – ويظناني إياهما – محمودًا وعليًا، أخوين – لتحققت المطابقة بين الضمير ومرجعه؛ فكلاهما لاثنين، ولكن تفوت المطابقة بين المفعول الثاني، والمفعول الأول، مع أن الثاني أصله خبر عن الأول، ولا بد من المطابقة هنا بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما المبتدأ أو الخبر، – كما أشرنا.
فلما كان الإضمار هنا يوقع في الخطأ وجب العدول عنه إلى الإظهار الذي يحقق الغرض، ولا يوقع في الخطأ، فنقول: أظن – ويظناني أخًا – محمودًا وعليصا أخوين، أي: أظن محمودًا وعليًا أخوين، ويظناني أخا، وفي هذه الصورة لا تكون المسألة من باب التنازع1.
3- إذا أعملنا الأخير، وأهملنا الأول، وجب الاستغناء عن تعويض الأول المهمل؛ فلا نلحق به ضمير المعمول "المتنازع فيه"، ولا ما ينوب عن ذلك الضمير، إلا في ثلاث حالات، لا بد في كل واحدة من الإتيان بضمير مطابق للمعمول، المتأخر عن هذا الضمير "وفي الحالات الثلاث يجوز عودة الضمير على متأخر لفظًا ورتبة"2.
__________
1 لهذه الحالة نظير "في ص198"، ولكن عند إعمال الأخير وإهمال الأول.
2 كما سبق في بابي: الضمير، والفاعل، جـ1 ص184م 20.(2/196)
الأولى: أن يكون المعمول المتأخر مرفوعًا، كأن يكون فاعلًا مطلوبًا لعاملين قبله –أو أكثر– وكل عامل يريده لنفسه؛ نحو: شرب وتمهل العاطش، فإذا أعملنا الأخير وأهملنا الأول وجب إلحاق الضمير المناسب بالأول1؛ فنقول: "شربت، وتمهلت العاطشة"، "شربا، وتمهل العاطشان"، "شربتا، وتمهلت العاطشتان" "شربوا وتمهل العاطشون"، "شربن وتمهلت العاطشات".
الثانية: أن يكون المعمول "المتنازع فيه" اسمًا منصوبًا أصله عمدة؛ كمفعولي "ظن" وأخواتها؛ فأصلهما المبتدأ والخبر؛ وكخبر "كان" وأخواتها2، وفي هذه الحالة لا يحذف الضمير المناسب، وإنما يبقى ويوضع متأخرًا من المعمول "المتنازع فيه"، نحو: أظنهما – ويظن محمد حامدًا ومحمودًا، مخلصين – إياهما، فالفعلان تنازعا كلمة: "مخلصين" لتكون المفعول الثاني ... فجلعناها للأخير، وأعلمنا الأول في الضمير العائد إليهما وجعلناه ومتأخرًا.
والمراد: يظن محمد حامدًا ومحمودًا مخلصين، وأظنهما إياهما، أي: أظن حامدًا ومحمودًا مخلصين، "فحامدًا"؛ مفعول أول للفعل: "يظن"، و"محمودًا" معطوف عليه، "مخلصين" مفعول ثان للفعل: "يظن"، و"أظنهما": "أظن" مضارع، فاعله مستتر تقديره: "أنا"، "هما" ضمير، مفعول أول، وقد تقدم ليتصل بفعله؛ لأن الاتصال ممكن؛ وهذا يقتضي التقديم فلا داعي للانفصال3، "إياهما": المفعول الثاني الذي جاء متأخرًا4.
ومثل: كنت وكان الصديق أخا إياه، فالفعلان تنازعا كلمة: "أخا" لتكون خبرا، فجعلناها للمتأخر منهما، وأعملنا السابق في ضمير هذا الخبر وجعلنا
__________
1 ولكي يقع الضمير موقعا صحيحا نتخيل -كما سبق- أن الفعل المهمل قد تأخر عن مكانه إلى آخر الجملة، وقد سبقته واو العطف وقبلها الفعل العامل وفاعله، وعلى أساس هذا التخيل نجيء بالضمير مطابقا لمرجعه المتقدم عليه، فكأن أصل الكلام: تمهلت العاطشة، وشربت، تمهل العاطشان وشربا، تمهلت العاطشتان وشربتا، تمهل العاطشون وشربوا، تمهلت العاطشات وشربن....
2 إلا خبر الجامد منها، مثل: "ليس" و"عسى" إذ لا يصلح الجامد الذي ليس فعل تعجب قياسي أن يكون عاملا في "التنازع" -كما أوضحنا في ص187 و188-.
3 طبقا لما سبق في باب الضمير من الجزء الأول م20.
4 هناك رأي حسن، يجيز حذفه، وارتضاه كثير من النحاة.(2/197)
الضمير متأخرا بعد الخبر، فالمراد: كان الصديق أخا، وكنت إياه، أي: كنت أخا، ويصح: كنته؛ لأن الاتصال ممكن وجائز، فلا داعي لوجوب الانفصال1.
بقي أن نذكر حالة2 لا يصح فيها حذف ضمير الاسم المتنازع فيه، ولا إعمال الأول المهمل فيه، وإنما يجب أن يحل محله اسم ظاهر، وهذه الحالة هي التي يكون فيها الفعل الأول المهمل محتاجا إلى مفعول به، أصله عمدة، فلا يحذف3 ولو أضمرناه لترتب على إضماره عدم مطابقه لمرجعه الاسم الظاهرة، نحو: "يظناني، وأظن الزميلين أخوين -أخا"، فكلمة: "أظن" مضارع، فاعله مستتر، تقديره: "أنا" وهذا المضارع محتاج إلى مفعولين، أصلهما: المبتدأ والخبر، فلا يحذف واحد منهما، "الزميلين" مفعوله الأول، "أخوين": مفعوله الثاني، إلى هنا استوفى العامل الأخير مفعوليه، بقي أن يستوفي المتقدم المهمل "وهو: "يظنان""، مفعوليه، فالفعل "يظنان" مضارع، فاعله: "ألف الاثنين" و"الياء"، مفعوله الأول، فأين مفعوله الثاني؟.
لو جئنا به ضميرا مطابقا للمفعول الأول فقلنا: يظناني -وأظن الزميلين أخوين إياه- لتحققت المطابقة بين المفعول الثاني "إياه" والمفعول الأول: "الياء" وهي المطابقة الواجبة بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما المبتدأ والخبر، ولكن تفوت المطابقة بين الضمير: "إياه" الذي للمفرد، ومرجعه المثنى، وهو: "أخوين".
ولو جئنا به مثنى، فقلنا: يظناني -وأظن الزميلين أخوين- إياهما، لتحققت المطابقة الواجبة بين الضمير ومرجعه، فكلاهما للتثنية، وضاعت بين المفعول الثاني، الدال على التثنية، والمفعول الأول وهو "الياء" الدالة على المفرد، مع أن المطابقة بينهما لازمة؛ لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر.
فللخروج من هذا الحرج نأتي بالمفعول الثاني اسما ظاهرا، فنقول: يظناني وأظن الزميلين أخوين -أخا، ولا تكون المسألة من باب "التنازع"4.
فإن كان المفعول: "المتنازع فيه" ليس عمدة في أصله، وكان العامل هو
__________
"1، 2" وهي التي أشرنا إليها في رقم1 من هامش ص196 عند إعمال الأول، وإهمال الأخير.
3 بالرغم من جواز الحذف في غير التنازع -انظر "ا" من ص201.
4 فهي في هذا كالتي سبقت في ص196.(2/198)
المتأخر، فالأحسن حذف المعمول، نحو: عاونت وعاونني الجار، وليس من الأحسن أن يقال: عاونته وعاونني الجار.
الثالثة: أن يكون الضمير مجرورا1، ولو حذف لأوقع حذفه في لبس، فيبقى ويوضع متأخرا عن المعمول، نحو: استعنت -واستعان علي الزميل- به، فالفعل الأول يطلب كلمة: "الزميل" لتكون مجرورة بالباء: "أي: استعنت بالزميل" والفعل الأخير يطلبها لتكون فاعلا؛ لأنه استوفى معموله المجرور بالحرف، "على"، فأعملنا الفعل المتأخر في الاسم الظاهر، وأضمرنا بعده ضميره مجرورا بالباء، فقلنا: "به"، ولو تقدم بحيث يقع بعد عامله المهمل، ويتوسط بين الفعلين لترتب على هذا تقدم الضمير الفضلة، المجرور على مرجعه، وهو غير مستحسن في هذه الصورة، ولو حذفناه وقلنا: استعنت -واستعان على الزميل لأدى حذفه إلى لبس، إذ لا ندري: آلزميل مستعان به، أم مستعان عليه ...
فإن أمن اللبس فالأحسن الحذف مع ملاحظة المحذوف في النية، فكأنه موجود، نحو: مررت ومر بي الصديق2.
__________
1 يعد المجرور بحرف جر للتعدية بمنزلة المفعول به المنصوب حكما، "كما سبقت الإشارة في رقم2 من هامش ص186".
2 عرض ابن مالك أحكام التنازع مجملة، موجزة، متداخلة، وساقها في الأبيات القليلة التالية:
وأعمل المهمل في ضمير ما ... تنازعاه، والتزم ما التزما
يريد: إذا أعمل واحد وأهمل الآخر، فإن المهمل يعمل في ضمير الاسم المتنازع فيه، مع التزام الطريقة التي أشار النحاة بالتزامها في الإعمال، أو: مع التزام الطريقة التي التزمها العرب في مثل هذه الأساليب، ولم يوضح هذه الطريقة، ولم يتعرض لتفصيلها إلا بذكر مثالين في البيت الآتي، يوضح أولهما إعمال العامل الأخير في الاسم الظاهر المتنازع فيه، مع إعمال المتقدم في ضميره. ويوضح ثانيهما إعمال الأول في ذلك الاسم الظاهر المتنازع فيه مع إعمال الأخير في ضميره، وكلا الفعلين يحتاج للاسم الظاهر، ليكون فاعلا له، يقول:
كيحسنان ويسيء ابناكا ... وقد بغى واعتديا عبداكا
فالاسم المتنازع فيه هو: "ابناك"، وقد أعمل فيه مباشرة الفعل المتأخر: "يسيء" أما الفعل =(2/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= المتقدم: "يحسن" فقد أعمل في ضميره، فصار: "يحسنان" والمثال الذي في الشطر الثاني يشتمل على الاسم المتنازع فيه، وهو: "عبداك"، وقد أعمل فيه الأول: "بغى" وأهمل المتأخر وهو، "اعتدى"، ولكنه أعمل في ضميره، فصار: "اعتديا"، ولم يحذف الضمير في المثالين؛ لأنه ضمير رفع، فلا يحذف ...
ثم انتقل إلى بيان حكم خاص بالعامل الأول المهمل، يتلخص في أنه لا يعمل في ضمير الاسم المتنازع فيه، إلا إذا كان ذلك الضمير للرفع، فإن كان للنصب، أو للجر لم يذكر مع الأول، وإنما يحذف إن كان ضميرا ليس عمدة في الأصل، ويؤخر إن كان أصله عمدة، "وقد شرحنا هذا تفصيلا، وأوضحناه بالأمثلة". ويقول فيه:
ولا تجئ مع أول قد أهملا ... بمضمر لغير رفع أوهلا
بل حذف الزم إن يكن غير خبر ... وأخرنه إن يكن هو الخبر
"أوهل: أهل، أي: صار أهلا، بمعنى: أعد، واستعمل في غير الرفع"، ثم بين الحالة
التي يحل فيها الظاهر محل الضمير، فقال:
وأظهران يكن ضمير خبرا ... لغير ما يطابق المفسرا
نحو: أظن ويظناني أخا ... زيدا وعمرا أخوين في الرخا
"الرخا = الرخاء، وهو سعة الرزق".(2/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
يعد باب "التنازع" من أكثر الأبواب النحوية اضطرابا، وتعقيدًا، وخضوعًا لفلسفة عقلية خيالية، ليست قوية السند بالكلام المأثور الفصيح، بل ربما كانت مناقضة له.
أ– فأما الاضطراب فيبدو في كثرة الآراء والمذاهب المتعارضة التي لا سبيل للتوفيق بينها، أو التقريب، وقد أهملنا أكثرها.
يتجلى هذا في أن بعضها يجيز حذف المرفوع؛ كالفاعل، وبعضها لا يجيز. وفريق يجيز أن يشترك فعلان أو أكثر في فاعل واحد، وفريق يمنع، وطائفة تبيح الاستغناء عن المعمولات المنصوبة، وعن ضمائرها ... ، وطائفة تبيح حذف ما ليس عمدة الآن أو في الأصل، وفئة تحتم تقدير ضمير المعمول متأخرًا في بعض الصور، وفئة لا تحتم ... و ... فليس بين أحكام "التنازع" حكم متفق عليه، أو قريب من الاتفاق، حتى ما اخترناه هنا، وقد يبدوا الخلاف واضحًا في كثير من المسائل النحوية الأخرى، ولكنه في مسائل "التنازع" أوضح وأفدح، كما يبدو في المراجع المطولة1، حيث يدور الرأس، وتضيق النفس.
ومن مظاهر الاضطراب أيضًا أن يحرموا هنا ما أباحوه في أبواب أخرى، فقد منعوا حذف ضمير الاسم المتنازع فيه إن كان أصله عمدة؛ كأحد مفعولي "ظن" وأخواتها، مع أنهم أباحوا ذلك في باب "ظن"2، ومنعوا حذف المعمول إن كان فضله، والمهمل هو المتأخر، مع أنهم أجازوه في الأساليب الأخرى التي ليست للتنازع، ومنعوا هنا الإضمار قبل الذكر في بضع الحالات، مع أنهم أباحوه في مكان آخر ... و ...
وكأن اسم هذا الباب قد سرى إلى كل حكم من أحكامه.
ب– وأما التعقيد فلما أوجبوه مما ليس بواجب، ولا شبه واجب؛ فقد حتموا أن يكون ضمير الاسم المتنازع فيه واجب التأخير عنه حينًا – في رأي كثرتهم؛
__________
1 كالأشموني وحاشيته، والتوضيح وشروحه وحواشيه، والجزء الثاني من الهمع و ... و ...
2 سبقت الإشارة لهذا في رقم 3 من هامش ص 198.(2/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قرارًا من الإضمار قبل الذكر، ومتقدمًا حينًا آخر إذا تعذر تأخيره لسبب ما تخيلوه، وربما استغنوا عن الضمير، وأحلوا محله اسمًا ظاهرًا مناسبًا إذا أدى الإضمار إلى الوقوع في مخالفة نحوية عندهم.
ولقد نشأ من مراعاة أحكامهم هذه أساليب بلغت الغاية في القبح، لا ندري: ألها نظير في الكلام العربي، أم ليس لها نظير؟ كقولهم ما نصه الحرفي: "استعنت واستعان علي زيد به"، "وطننت منطلقة وظننتي منطلقًا هند إياها"، "وأعلمني وأعلمته إياه إياه زيد عمرًا قائمًا"، "وأعلمت واعلمنى زيدًا عمرا قائمًا إياه إياه ... و ... و ... "1، وهذا قليل من الأمثلة البغيضة، التي لا يطمئن المرء إلى أن لها نظائر في الأساليب المأثورة، ومن شاء زيادة عجيبة منها فليرجع إلى مظانها في المطولات.
ج– وأما الخضوع إلى الفلسفة العقلية الوهمية فواضح في عدد من مسائل هذا الباب؛ منها: تحتيمهم التنازع في مثل: قام وذهب محمد؛ حيث يوجبون أن يكون الفاعل: "محمد" لأحد الفعلين، وأما فاعل الآخر فضمير، ولا يبيحون أن يكون لفظ: "محمد" فاعلًا لهما؛ بحجة "أن العوامل كالمؤثرات فلا يجوز اجتماع عاملين على معمول واحد"2، ولا ندري السبب في منع هذا الاجتماع مع إباحته لو قلنا: "قيام محمد وذهب"، فإن فاعل الفعل: "ذهب" ضمير يعود على محمد، فمحمد في الحقيقة فاعل الفعلين؛ ولا يقبل العقل غير هذا ...
من كل ما سبق يتبين ما اشتمل عليه هذا الباب من عيوب الاضطراب؛ والتعقيد، والتخيل الذي لا يؤيده –في ظننا– الفصيح المأثور.
ومن سلامة الذوق الأدبي وحسن التقدير البلاغي الفرار "من محاكاة الصور البيانية، وأساليب التعبير الواردة بهذا الباب - ولو كان لها نظائر مسموعة – لقبح تركيبها، وغموض معانيها، وصعوبة الاهتداء إلى صياغتها الصحيحة ...
__________
1 الأشموني – في هذا الباب – عند شرح بيت ابن مالك الذي شطره الأخير:
وأخرنه إن يكن هو الخبر
وكذا في المطولات الأخرى.
2 حاشية الصبان وغيره، وقد أجاز الاجتماع فريق آخر ودفع الإجازة فريق ثالث! وهكذا دواليك.(2/202)
ولتدارك هذا كله، والوصول إلى أحكام واضحة، سهلة، لا غبار عليها من ناحية السلامة اللغوية، وقوة مشابهتها للكلام البليغ، وتناسقها مع الأحكام النحوية الأخرى – نرى أن تكون أحكام التنازع مقصورة على ما يأتي، "وكلها مستمد من آراء ومذاهب لبعض النحاة، تضمنتها الكتب المتداولة، وهذا ما نود التنويه به".
1- تعريف التنازع: هو ما سبق أن ارتضيناه من مذاهب النحاة، ونقلناه أول هذا الباب1.
2- تتعدد العوامل؛ فتكون اثنين، أو أكثر، وقد تتعدد المعمولات، أو لا تتعدد، ويشترط عند تعددها أن تكون أقل عددًا من عواملها المتنازعة.
3 كل عامل من العوامل المتعددة يجوز اختياره وحده للعمل في المعمول المذكور في الكلام، ولا ترجيح من هذه الناحية، لعامل على آخر.
4- إذا تعددت العوامل وكان كل واحد منها محتاجًا إلى معمول مرفوع؛ "كاحتياجه إلى الفاعل في مثل: جلس وكتب المتعلم"، فالمرفوع الظاهر في الكلام يكون لأحدها، أما غيره من العوامل فمرفوعه ضمير يعود على ذلك الاسم المرفوع، ولا مانع ها من عودة الضمير على متأخر في الرتبة.
ويجوز أن يكون المرفوع الظاهر مشتركًا بين العوامل المتعدد كلها2؛ إذا كان متأخرًا عنها؛ فيكون فاعلًا –مثلًا– لها جميعًا، ولا يحتاج واحد منها للعمل في ضميره.
5- إذا تعددت العوامل وكان وكان كل منها محتاجًا إلى معمول غير مرفوع جاز اختبار أحدهما للعمل، وترك الباقي من غير عمل، لا في ضمير المعمول، ولا في اسم ظاهر ينوب عنه؛ لأن الاستغناء عن هذا الضمير أو ما يحل محله من اسم ظاهر، وجائز في الأساليب الفصيحة الخالية من التنازع، فلا بأس أن يجري في التنازع أيضًا، وبضع المأثور من أمثلة التنازع يطابق هذا ويسايره، ولا فرق بين ما أصله عمدة، وما أصله فضلة، وإذا أوقع الحذف في لبس وجب إزالته بإحدى الوسائل التي لا تعقيد فيها، ولا تهوى بقوة الأسلوب، وحسن تركيبه.
__________
1 ص187.
2 وتعدد العوامل مع وجود معمول واحد لها، وأي يبيحه ويصرح به بعض أئمة النحو، كالفراء -ومكانته بين كبار النحاة معروفة، وقد أوضحناها في جـ3 م98 ص158 باب: "أبنية المصادر".(2/203)
المسألة 74: المفعول المطلق
مدخل
...
المسألة 74: المفعول المطلق 1
معناه:
الفعل -بعد إدخاله في جملة- يدل على أمرين معًا؛ أحدهما: "المعنى المجرد"2، ويسمى: "الحدث"، والآخر: "الزمان"، ففي مثل: "رجع المجاهد؛ فأسرع الناس لاستقباله، وفرحوا بقدومه ... نجد ثلاثة أفعال، هي: رجع - أسرع - فرح"، وكل فعل منها يدل بنفسه مباشرة؛ أي: من غير حاجة إلى كلمة أخرى، - على أمرين معًا.
أولهما: معنى محض نفهمه بالعقل؛ هو: الرجوع - الإسراع - الفرح ... وهذا المعنى المجرد هو ما يسمى أيضًا: "الحدث".
وثانيهما: زمن وقع فيه ذلك المعنى المجرد "الحدث"، وانتهى قبل النطق بالفعل؛ فهو زمن قد فات، وانقضى قبل الكلام، وهذا الفعل يسمى: "الفعل الماضي".
ولو غيرنا صيغة الفعل؛ فقلنا: "يرجع المجاهد؛ فيسرع الناس لاستقباله، ويفرحون بقدومه" - لظل كل فعل بعد التغيير دالًا على الأمرين معًا؛ وهما: "المعنى المجرد، والزمن"، ولكن الزمن هنا صالح للحال والاستقبال، ويسمى الفعل في هذه الصورة الجديدة: "الفعل المضارع".
__________
1 المطلق، أي: الذي ليس مقيدًا تقييد باقي المفاعيل بذكر شيء بعده، كحرف جر مع مجروره، أو غيره من القيود؛ كالمفعول به - المفعول لأجله - المفعول معه ...
ويقولون في سبب إطلاقه: إنه المفعول الحقيقي لفاعل الفعل؛ إذ لا يوجد من الفاعل إلا ذلك الحدث؛ نحو: قام المريض قيامًا؛ فالمريض قد أوجد القيام بنفسه، وأحدثه حقًا بعد أن لم يكن؛ بخلاف باقي المفعولات فإنه لم يوجدها، وإنما سميت باسمها باعتبار إلصاق الفعل بها، أو وقوعه لأجلها، أو معها، أو فيها؛ فلذلك لا تسمى مفعولًا إلا مقيدة بشيء بعدها.
هذا، وقد لازمته كلمة: "المطلق" حتى صارت قيدًا.
2 أي: العقلي المحض الذي لا يقع تحت إحدى الحواس؛ إذ لا كيان ولا وجود له إلا في العقل؛ فهو صورة عقلية بحتة؛ فلا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بغيره، ولا يدل على صاحبه الذي يقوم به، ولا على إفراد ولا تثنيه، ولا جمع، ولا تذكير، ولا تأنيث، هذا هو المراد من "التجريد البحت".(2/204)
ولو غيرنا الصيغة مرة ثالثة فقلنا: "ارجع ... أسرع ... افرح ... " – لدل الفعل في صورته الجديدة على الأمرين معًا؛ وهما: "المعنى المجرد، والزمن" لكن الزمن هنا مستقبل فقط، وينشأ ما يسمى: "فعل الأمر".
فالفعل المتصرف –بأنواعه الثلاثة السالفة– يدل على: "المعنى المجرد" "الحديث"، والزمان1 معًا.
ولو أتينا بمصدر صريح 2 لتلك الأفعال – أو نظائرها – لوجدناه وحده يدل في جملته على أمر واحد معين، هو المعنى المجرد "أي: الحدث" فقط؛ كالمصدر وحده في مثل: الرجوع حسن – الإسراع نافع – الفرح كثير؛ فهو يدل على أحد الشيئين اللذين يدل عليهما معًا الفعل، ولا يدل على الثاني ... وهذا معنى قولهم:
"المصدر الصريح3 يدل – في الغالب4 – على الحدث، ولا يدل على الزمان5.
والمصدر الصريح أصل المشتقات – في الرأي الشائع6 – ويصلح لأنواع الإعراب المختلفة؛ فيكون مبتدأ، وخبرًا، وفاعلًا، ومفعولًا به ... و ...
و
__________
1 وهذا هو الغالب؛ لأن هناك أفعالًا لا تدل – في الرأي الأرجح – على الزمان؛ كنعم وبئس في المدح والذم، وكالأفعال التي في التعريفات العلمية، وغيرها – مما أوضحناه وفصلناه – فيما يتعلق بمعنى الفعل، وأقسامه، والزمان، وغيره، بالجزء الأول م 4 ص 29.
2 أي: غير مؤول، وإذا أطلق المصدر كان المراد: الصريح.
3 لأن المؤول يدل على زمن معين، "على الوجه الذي بسطناه في مكانه من الجزء الأول، م 29 ص 302".
4 لأن المصدر الصريح قد يدل مع الحدث على: "المرة، أو الهيئة"، وإيضاح هذا وتفصيله في موضعه الخاص من بابهما "ج 3 م 100".
5 وإلى هذا أشار ابن مالك بقوله:
المصدر اسم ما سوى الزمان من ... مدلولي الفعل، كأمن، من أمن-1
يقول في تعريف المصدر: إنه اسم يطلق على شيء غير الزمان من المدلولين اللذين يدل عليهما الفعل، ولما كان المدلولان هما: "الحدث، والزمان"، وقد صرح بأنه يدل على غير الزمان – اتجهت الدلالة بعد ذلك إلى المعنى المجرد وحده، ومثل للمصدر بكلمة: "أمن" وقال عنه: نه من الفعل الماضي: "أمن"، يريد بذلك: أن معنى هذا المصدر هو بعض مما يحويه الفعل "أمن" إذ الأمن يدل على المعنى المجرد الذي هو أحد شيئين يدل عليهما الفعل: أمن.
6 راجع هذا الرأي في ج 3 باب: "أبنية المصادر"، م 98 وفي م 99 باب: "إعمال المصدر، واسمه".(2/205)
.. و ... وقد يكون منصوبًا في جملته باعتباره مصدرًا صريحًا جاء لغرض معنوي خاص؛ كتأكيد معنى عامله المشارك له في المادة اللفظية، "أو غير هذا مما سيجيء هنا" مثل: حطم التمساح السفينة تحطيمًا، وفي هذه الحالة الخاصة وأشبهها يسمى: "مفعولًا مطلقًا"1، ويقال في إعرابه: إنه منصوب على المصدرية، أو: منصوب؛ لأنه مفعول مطلق.
وإذا كان منصوبًا على هذه الصورة الخاصة، فناصبه قد يكون مصدرًا آخر من لفظه ومعناه معًا، أو من معناه فقط، وقد يكون فعلًا2 من مادته ومعناه معًا، أو من معناه فقط، وقد يكون الناصب له وصفًا متصرفًا يعمل عمل فعله – إلا أفعل التفضيل؛ كقولهم: "إن الترفع عن الناس ترفعًا أساسه الغطرسة، يدفع بصاحبه إلى الشقاء دفعًا لا يستطيع منه خلاصًا"، وقولهم: "المخلص لنفسه إخلاص العقلاء يصدها عن الغي؛ فيسعد، والمعجب بهما إعجاب الحمقى يطلق لها العنان فيهلك" ... 3.
فالمصدر: "ترفعًا" – قد نصب بمصدر مثله؛ هو: ترفع.
والمصدر: "دفعًا" – قد نصب بالفعل المضارع قبله؛ وهو: يدفع.
والمصادر: "إخلاص ... " قد نصب باسم الفاعل قبله؛ وهو: المخلص.
__________
1 سيجيء تعريفه في رقم 1 من هامش ص 210.
2 بشرط أن يكون متصرفًا، وتامًا، وغير ملغي عن العمل، فخرج الفعل الجامد؛ كفعل التعجب، والناقص مثل: كان، والملغي، مثل "ظن" عند إلغائها بالطريقة السابقة – في ص 38.
3 وفي ناصب المصدر يقول ابن مالك:
بمثله: أو فعل، أو وصف نصب ... وكونه أصلا لهذين انتخب-2
بين في هذا البيت حكم المصدر، وأنه قد ينصب بمصدر مثله، أو يفعل، أو يوصف، وانتخب كونه أصلًا للفعل والوصف؛ أي: وقع الاختيار والتفضيل على الرأي القائل بهذا، ثم بين أقسام المصدر بحسب فائدته المعنوية؛ فقال:
توكيدًا، أو نوعًا يبين، أو عدد ... كسرت سيرتين؛ سير ذي رشد-3
أي: أن المصدر قد يفيد التوكيد، أو يبين النوع، أو يبين العدد، وساق مثالًا يجمع الأقسام الثلاثة؛ فإن: "سيرتين" هي لبيان العدد مع التوكيد أيضًا، و"سير ذي رشد" لبيان النوع مع التوكيد أيضًا، وترك القسم الرابع النائب عن عامله، وسيجيء في ص 219.(2/206)
والمصدر: "إعجاب" – قد نصب باسم المفعول قبله؛ هو: المعجب.
وكقولهم: الفرح فرحًا مسرفًا، كالحزين حزنًا مفرطًا؛ كلاهما مسيء لنفسه، بعيد عن الحكمة والسداد.
فالمصدر: "فرحًا" – منصوب بالصفة المشبهة قبله وهي: "الفرح".
وكذلك المصدر: "حزنًا" – فإنه منصوب بالصفة المشبهة قبله، وهي: "الحزين"1.
تقسيم المصدر بحسب فائدته المعنوية:
أ- قد يكون الغرض من المصدر المنصوب أمرًا واحدًا؛ هو: أن يؤكد – توكيدًا لفظيًا – معنى عامله المذكور قبله2، ويقويه، ويقرره؛ "أي: يبعد عنه الشك واحتمال المجاز"، ويتحقق هذا الغرض بالمصدر المنصوب المبهم3، نحو: بلع الحوت الرجل بلعا – طارت السمكة في الجو طيرانًا.
ب– وقد يكون الغرض من المصدر المنصوب أمرين معًا – فهما متلازمان: توكيد معنى عاملة المذكور، وبيان نوعه4، ويكون بيان النوع هو
__________
1 والصفة المشبهة تنصب المصدر في الرأي الأنسب: لأن فيه تيسيرًا – كما سيجيء في بابها ج 3 م 105.
"ملاحظة": قد يكون العامل في المنادى هو العامل في نصب المصدر، ومن الأمثلة قول الشاعر:
يا هند دعوة صب هائم دنف ... مني بوصل، وإلا مات أو كربا
"راجع الهمع ج 1 ص 173، وستجيء لهذا إشارة في ج 4 باب النداء، م 127 ص 6".
2 في ص 211و 212 الكلام على تقدم عامله عليه.
3 و4 المصدر المبهم هو الذي يقتصر على معناه المجرد دون أن تجيء له زيادة معنوية من ناحية أخرى؛ كإضافة أو وصف، أو عدد، أو "أل" التي للعهد.
والمصدر المختص: ما يؤدي معناه المجرد مع زيادة أخرى تجيء لمعناه من خارج لفظه؛ كالتي تجيء له بسبب إضافته، أو وصفه، أو "أل العهدية" في أوله، أو ... وفي هذا يقول الخضري في المبين للنوع ما نصه:
"يقع مبينًا للنوع لكونه مضافًا، أو موصوفًا؛ كما مثله الناظم بقوله: سرت سيرتين سير ذي رشد – أو محلي، بأل العهدية؛ كسرت السير، أي: المعهود بينك وبين مخاطبك، فهو ثلاثة أقسام، ويسمى: "المختص" أيضًا؛ لاختصاصه بما ذكر، والتحقيق أن المعدود مختص أيضًا لتحديده بالعدد المخصوص؛ لذا جعل في التسهيل المفعول المطلق قسمين، "مبهم" وهو المؤكد، =(2/207)
الأهم1؛ نحو: نظرت للعالم نظر الإعجاب والتقدير، وأثنيت عليه ثناء مستطابًا. وقوله تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} ، وليس من الممكن بيان النوع2 وحده من غير توكيده لمعنى العامل.
جـ– وقد يكون الغرض منه أمرين متلازمين أيضًا؛ هما: توكيد معنى عامله
__________
= "ومختص"، وهو قسمان: معدود، ونوعي ... ثم قال ما نصه: إن النوعي إن كان مضافًا كان من باب النيابة على التحقيق – طبقًا للبيان الذي في رقم 2 من هامش هذه الصفحة – وأما "ذو أل"، فالظاهر أنه قد يكون كذلك؛ كما إذا قصدت تشبيه سيرك الآن يسير سابق معهود للمخاطب سواء أكان منك أو من غيرك، وقد يكون أصليًا؛ كأن قصدت الإخبار عن ذلك السير المعهود الذي وقع منك بعينه استحضارًا لصورته. ا. هـ كلام الخضري.
والبلاغة تقتضي أن يكون استعمال المصدر المبهم مقصورًا على الحالة التي يكون فيها معنى عامله موضع غرابة أو شك؛ فيزيل المصدر المبهم تلك الغرابة، وهذا الشك؛ كالأمثلة التي عرضناها، فليس من البلاغة أن يقال: قعدت قعودا - أكلت أكلا ... وأشباه هذا، ما دام الفعل: "قعد" أو": "أكل"، ليس موضع غرابة أو شك، نعم التعبير صحيح لغويًا، ولكنه ركيك بلاغيًا، أما مثل: طارت السمكة طيرانًا، فالبلاغة ترضي عن مجيء المصدر المبهم؛ لغرابة معنى عامله، وتشكك السامع في صحته ... وهكذا.
وتوكيد المصدر لعامله هو من نوع التوكيد اللفظي – الذي سيجيء في الجزء الثالث م 116 ص 434 –، فيؤكد نفس عامله إن كان مصدرًا مثله، ويؤكد صدر عامله الذي ليس بمصدر ليتحد المؤكد والمؤكد معًا في نوع الصيغة؛ "تطبيقًا لشرط التوكيد اللفظي، ومنه التوكيد بالمصدر الذي نحن فيه"، فمعنى قولك: عبرت النهر عبرًا – أوجدت عبرًا عبرًا، وهذا رأي المحققين، ولكن سيترتب على الأخذ برأيهم حذف المؤكد في التوكيد اللفظي، وهذا الحذف – عند أكثرهم – ينافي الغرض من التوكيد اللفظي، وفوق هذا عامله الحقيقي محذوف أيضًا؛ ففي الكلام حذف كثير.
هل يجاب بأن المؤكد مع حذفه ملاحظة يدل عليه اللفظ المذكور الذي يشاركه في الاشتقاق، وهو: "عبرت" فهو محذوف كالمذكور؟
1 يدخل في هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة على الهيئة، "وسيجيء الكلام عليه في ج 3 م 100".
2 يقولون بحق: إن المصدر النوعي كان مضافًا فالأصح اعتباره نائب مصدر؛ لاستحالة أن يفعل الإنسان فعل غيره؛ وإنما يفعل فعله الصادر منه؛ فالأصل في مثل: سرت سير ذي رشد؛ هو: سرت سيرًا مثل سير ذي رشد؛ فحذف المصدر، ثم صفته، وأنيب المضاف إليه منابه، ولولا ذلك لكان المعنى: أن سير ذي الرشد قد سرته هو نفسه؛ وهذا فاسد، إذ كيف أسير السير المنسوب لذي الرشد؟ كيف يكون ذو الرشد هو الذي ساره وأوجده في حين أقول: أنا الذي سرته وأوجدته؟ ففي الكلام تناقض وفساد لا يزيلهما إلا اعتبار النوعي المضاف نائب مصدر، وهذا كلام دقيق، ويتجه إليه غرض المعربين، وإن لم يتقيدوا به في إعرابهم الشائع المقبول أيضًا؛ تيسيرًا وتخفيفًا، "راجع رقم 1 هامش ص 216".(2/208)
المذكور مع بيان1 عدده، ويكون الثاني هو الأهم، ولا يتحقق الثاني وحده بغير توكيده معنى العامل؛ نحو: قرأت الكتاب قراءتين وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات.
د– وقد يكون الغرض منه الأمور الثلاثة مجتمعة2؛ نحو: قرأت الكتاب قراءتين نافعتين – وزرت الآثار الرائعة ثلاث زورات طويلات.
ولا بد من اعتبار المصدر مختصًا في هذه الحالات الثلاث الأخيرة: "ب – ج – د"؛ لأن المصدر المبهم مقصور على التوكيد المحض؛ لا يزيد عليه شيئًا، فإذا دل مع التوكيد على بيان النوع، أو بيان العدد، أو عليهما معًا – وجب اعتباره مصدرًا مختصًا3.
ومما تقدم نعلم أن فائدة المصدر المعنوية قد تقتصر على التوكيد وحده، ولكنها لا تقتصر على بيان النوع وحده، ولا بيان العدد وحده، ولا على هذين الآخيرين معًا؛ إذ لا بد من إفادة التوكيد في كل حالة من هذه الحالات الثلاث، ومن ثم قسم بعض النحاة المصدر قسمين؛ "مبهمًا"؛ ويراد به: المؤكد لمعنى عامله المذكور، و"مختصًا"؛ ويراد به المؤكد أيضًا مع زيادة بيان النوع، أو زيادة بيان العدد، أو بيانهما معًا.
وقسمه بعض آخر ثلاثة أقسام؛ هي: المؤكد لعامله المذكور، والمؤكد المبين لنوعه، والمؤكد المبين لعدده، وسكت عن المؤكد المبين للنوع والعدد معًا؛ لأنه مركب من الأخيرين؛ فهو مفهوم ومقبول بداهة، ونتيجة التقسيم واحدة4.
__________
1 ويدخل في هذا القسم المصدر المصوغ للدلالة على المرة، وهو – في الغالب – لا يعمل، كسائر المصادر العددية.
"وسنشير لهذا في رقم 4 من هامش ص 211، وكما في ص 212، أما تفصيل الكلام عليه، ففي بابه الخاص من ج 3 م 100".
2 هي: توكيد المعنى، وبيان النوع، وبيان العدد.
3 انظر رقم 3 من هامش ص 207 – حيث البيان.
4 وهناك قسم آخر – سيجيء في ص 220 – هو المصدر النائب عن عامله المحذوف، وهو مستقل بنفسه في رأي حسن؛ ولذا يقول المحققون: إن أقسام المصدر أربع، والأخذ بهذا الرأي أنفع؛ لأنه يذلل صعوبات لا يمكن تذليلها إلا بالتأويل والتقدير والتكلف من غير داع، ومن أمثلة هذا: أن المصدر المؤكد لعامله لا يجوز في الغالب حذف عامله – كما سيجيء في ص 211 و 219 وفي رقم 2 من هامش ص 220 – ولا أن يعمل، مع أن هناك أنواعًا من المصادر قد تؤكد عاملها، وتعمل عمله مع وجوب حذفه؛ كالمصدر النائب عن عامله المحذوف؛ فهذا تناقض يمنعه أن يكون هذا قسمًا مستقلًا.(2/209)
أمثلة لما سبق:
أمثلة للتوكيد وحده: كلم الله موسى تكليمًا – غزا العلم الكواكب غزوًا – نزل الطيارون فوق سطح القمر نزولًا، ومشوا عليه مشيًا، صافح الفيل صاحبه مصافحة.
أمثلة للتوكيد مع بيان النوع: ترنم المغني ترنم البلبل – رسم الخبير رسمًا بديعًا – أجاد المطرب إجادة الموسيقى.
أمثلة للتوكيد مع بيان العدد: قرأت رسالة الأديب قراءة واحدة، وقرأها أخي قراءتين، وقرأها غيرنا ثلاث قراءات.
أمثلة للتوكيد مع بيان الأمرين: ترنمت ترنيمي البلبل والمغني الساحرين – رحلت لبلاد الشام ثلاث رحلات جميلات.
العلاقة بين المصدر والمفعول المطلق:
النحاة يسمون المصدر المنصوب الدال بنفسه على قسم مما سبق: "المفعول المطلق"1.
فالمفعول المطلق تسمية يراد منها: المصدر المنصوب المبهم، أو المختص"، وقد يراد منها: "النائب عن ذلك المصدر"، فهي تسمية صالحة لكل واحد منهما، تنطبق عليه، كما سنعرف2.
__________
1 يقول ابن هشام في تعريف المفعول المطلق: "إنه اسم يؤكد عامله، أو يبين نوعه، أو عدده، وليس خبرًا عن مبتدأ "كقولنا: علمك علم نافع" ولا حالًا "نحو: ولى مدبرًا". ا. هـ.
لا داعي لقوله: "ليس خبرًا عن مبتدأ"؛ لأن هذا الخبر مرفوع وعمدة، كما أن خبر النواسخ عمدة، ولا لقوله: "ليس حالًا"؛ لأن الحال مشتق – في الغالب – أمال المفعول المطلق فليس مرفوعًا ولا عمدة، وليس بمشتق في الغالب هذا، والحال في المثال مؤكدة لعاملها.
2 سنعلم مما سيجيء في ص 213 أن هناك أشياء تنوب عن المصدر الأصيل عند حذفه؛ فتعرب مفعولًا مطلقًا، أو نائب مصدر، ولا تعرب مصدرًا، وعلى هذا قد يكون المصدر مفعولًا مطلقًا كالأمثلة السابقة، وقد يكون المصدر غير المفعول المطلق؛ وذلك إذا كان المصدر مرفوعًا، أو مجرورًا أو كان منصوبًا لا يبين توكيدًا، ولا نوعًا، ولا عددًا، نحو: القتل أشنع الجرائم، والفتنة أشد من القتل، إن القتل أشنع الجرائم، وقد يكون المفعول المطلق غير مصدر؛ كالأشياء التي أشرنا إليها؛ وهي التي تنوب عن المصدر عند حذفه، فالمصدر والمفعول المطلق يجتمعان معًا في بضع الحالات فقط، وينفرد كل منهما بحالات لا يوجد فيها الآخر.
"وهذا يسمى عند المناطقة، بالعموم الوجهي بين شيئين؛ فيجتمعان معًا في جهة معينة، وينفرد كل منهما في جهة أخرى تجعله أعم، وأشمل، وأكثر أفرادًا من نظيره ... ".(2/210)
حكم المصدر 1:
1– إذا كان المصدر مؤكدًا لعامله المذكور في الجملة تأكيدًا محضًا2، فإنه لا يرفع فاعلًا3، ولا ينصب مفعولًا به – إلا إن كان مؤكدًا نائبا عن فعله المحذوف4.
كما لا يجوز –في الرأي الشائع– تثنيته، ولا جمعه، ما دام المراد منه في كل حالة هو المعنى المجرد، دون تقييده بشيء يزيد عليه، "أي: ما دام المصدر مبهمًا"؛ فلا يقال: صفحت عن المخطئ صفحين، ولا وعدتك وعودًا، إلا إن كان المصدر المبهم مختومًا بالتاء؛ مثل التلاوة؛ فيقال: التلاوتان، والتلاوات.
وسبب امتناع التثنية والجمع أن المصدر المؤكد به معنى الجنس5 لا الأفراد؛ فهو يدل بنفسه على القليل والكثير، فيستغنى بهذه الدلالة عن الدلالة العددية في المفرد، والتثنية، والجمع؛ لأن دلالته تتضمنها: ومثل المصدر المؤكد ما ينوب عنه.
ولا يجوز أيضًا –في الغالب– حذف عامل المصدر المؤكد ولا تأخيره؛ عن معموله المصدر؛ لأن المصدر جاء لتقوية معنى عامله، وتقريره بإزالة الشك عنه، وإثبات أنه معنى حقيقي، لا مجازي، والحذف مناف للتقوية والتقرير، كما أن التأخير ينافي الاهتمام6، لكن هناك مواضع بحذف فيها عامل المصدر المؤكد وجوبًا بشرط إنابة المصدر عنه، وستجيء 7.
__________
1 أفرد النحاة لإعمال المصدر بابًا خاصًا بهذا العنوان، يشمل شروط إعماله، مختلف أحكامه، "وسيجيء في ج 3 ص 201 م 99".
2 أي: مجردًا من كل زيادة أخرى تنضم إلى التوكيد؛ كالزيادة الدالة على النوع أو على العدد، أو عليهما.
3 لأنه نوع من التوكيد اللفظي – كما أشرنا في رقم 3 من هامش ص 207 – والتوكيد اللفظي لا يكون عاملًا ولا معمولًا، إلا فيما نص عليه البيان المدون هنا، وفي بابه الخاص "ج3".
4 هذه الحالة الفريدة التي يعمل فيها المصدر المؤكد عمل فعله، وستجيء مواضع نيابته عنه في ص 221 م 76، أما المبين – بنوعيه – فلا يعمل في الغالب، كما سنذكره.
5 المراد: الجنس الإفرادي، وهو ما يصدق على القليل والكثير، مثل: ماء – هواء – ضوء "راجع ج 1 ص 15 م 1".
6 هذا تعليل النحاة، أما التعليل الأنسب فهو "المحاكاة" للوارد عن فصحاء العرب.
7 في ص 221 م 76.(2/211)
2- أما المصدر المبين للنوع – إذا اختلفت أنواعه – أو المبين للعدد، فيجوز تثنيتهما وجمعهما جمعًا مناسبًا1 وتقدمهما على العامل، وهما في حالة الإفراد أو التثنية أو الجمع، ولا يعملان شيئًا – في الغالب 2؛ فليس لهما فاعل ولا مفعول ... ؛ فمثال تثنية الأول وجمعه: سلكت مع الناس سلوكي العاقل؛ الشدة حينًا، والملاينة حينًا آخر – سرت سير الخلفاء الراشدين؛ أي: سلكت مع الناس نوعين من السلوك، وسرت معهم أنواعًا من السير، "وليس المراد ببيان عدد مرات السلوك، وأنه كان مرتين، ولا بيان مرات السير، وأنه كان متعددًا3، وإنما المراد بيان اختلاف الأنواع في كل حالة، بغير نظر للعدد3.
ومثال الثاني: خطرت في الحديقة عشر خطوات، ودرت في جوانبها أربع دورات4.
__________
1 المراد بالجمع المناسب هنا: ما تحققت شروط صحته؛ ذلك أن الجمع ثلاثة أنواع؛ "جمع مذكر – جمع مؤنث سالم – جمع تكسير"، ولكل جمع من الثلاثة شروط خاصة به، لا بد من تحققها في مفرده قبل جمعه قياسيًا، وتلك الشروط تختلف باختلاف المفرد لكل نوع.
2 وقد يعمل المبين للنوع أحيانًا، كأن يكون مضافًا لفاعله، ناصبًا مفعوله أو غير ناصب؛ تألمت من إيذاء القوي الضعيف – حزنت حزن المريض، وهذا العمل – على قلته – قياسي، "كما سيجيء لبيان في ج 3 م 99".
3و 3 لأن دلالة المصدر على العدد هي من اختصاص القسم التالي العددي، وليست من القسم النوعي.
4 وإلى هذا يشير ابن مالك ببيت ذكره متأخرًا عن هذا المكان المناسب له – وسيجيء في هامش ص 218:
وما لتوكيد فوحد أبدًا ... وثن، واجمع غيره، وأفردا
أي: أن المصدر الدال على التوكيد يجب توحديه؛ أي: إفراده فلا يترك الإفراد إلى التثنية أو إلى الجمع، أما غيره فثنه إن شئت، أو اجمعه جمعًا مناسبًا، أو أفرده، أي: اجعله مفردًا، وقد أوضحنا في الصحة الآتية أن النائب عن المصدر المؤكد، أو: المبين، يجري على حكمه.(2/212)
المسألة 75:
حذف المصدر الصريح، وبيان ما ينوب عنه:
يجوز حذف المصدر الصريح بشرطين: أن يكون صيغته "أي: مادته اللفظية" من مادة عاملة اللفظية1، وأن يوجد في الكلام ما ينوب عنه بعد حذفه.
وحكم هذا النائب: النصب دائمًا2، ويذكر في إعرابه: أنه منصوب لنيابته عن المصدر المحذوف، أو: منصوب؛ لأنه مفعول مطلق، ولا يصح في الإعراب الدقيقي أن يقال: "منصوب؛ لأنه مصدر"؛ ذلك؛ لأنه ليس مصدرًا للعامل المذكور؛ إذ مصدر العامل المذكور قد حذف، وهذا نائب عنه ... فمن الواجب عدم الخلط بين المصطلحات، والتحرز من الخطأ في مدلولاتها؛ فعند إعراب المصدر الأصلي المنصوب نقول: إنه "مصدر منصوب" أو: "مفعول مطلق" منصوب كذلك: أما عند حذف المصدر الأصلي، ووجود نائب عنه فنقول في إعرابه: "إنه نائب عن المصدر المحذوف، منصوب"، أو: "مفعول مطلق، منصوب"، ولا يصح أن يقال: مصدر ...
__________
1 يشترط النحاة أن يكون المصدر متأصلًا في المصدرية، ويفسرونها بأنها التي تكون من لفظ عامله وحروفه، لا مطلق المصدر، ففي مثل: سررت فرحًا – أو فرحت جذلا – لا تعد كلمة "فرحًا" ولا كلمة: "جدلًا" مصدرًا متأصلًا للفعل المذكور؛ لعدم الاشتراك اللفظي في الصيغة، وإنما هما نائبتان عن المصدرين الأصليين المحذوفين، والأصل: "سررت سرورًا" و"فرحت فرحًا"، ثم حذف المصدر الأصيل، وناب عنه مصدر آخر من غير لفظه، ولكنه يرادفه من جهة المعنى، لهذا يعربون المصدر المرادف السالف "نائبًا عن المصدر الأصيل" أو: "مفعولًا مطلقًا" كما قلنا، وكما عرفنا في رقم 2 من هامش ص 210 أن المفعول المطلق يطلق –أحيانًا– على المصدر الأصيل المنصوب على المصدرية. وقد يطلق على ما ينوب عنه أحيانًا أخرى، كما في هذا المرادف.
والمترادفان هما اللفظان المشتركان في المعنى تمام الاشتراك – بحيث يؤدي أحدهما المعنى الذي يؤديه الآخر – مع اختلاف صيغتهما في الحروف؛ مثل: "فرح، وجذل" ومثل: "شنآن، وكره" ومثل: "حب، ومقة".
2 مع خضوعه لبقية الأحكام التي كان يخضع لها المصدر المحذوف؛ كما أشرنا قريبًا في آخر الهامش ص 212.(2/213)
والأشياء التي تصلح للإنابة عن المصدر كثيرة 1؛ منها: ما يصلح للإنابة عن المصدر المؤكد، قد ينوب عن المصدر المبين أيضًا إذا وجدت قرينة تعين المصدر المبين المحذوف، ومنها ما لا ينوب عن المصدر المؤكد، ولكنه ينوب عن غيره من باقي أنواع المصدر، فمما يصلح للإنابة عن المصدر المؤكد:
1- مرادفه2؛ مثل: أحببت عزيز النفس مقة، وأبغضت الوضيع كرهًا.
2- اسم المصدر3, بشرط أن يكون غير علم4: نحو: توضأ المصلي وضوءًا – اغتسل – الصانع غسلًا، فالوضوء والغسل اسما مصدرين للفعلين قبلهما، نائبين عن المحذوف، ومثل: فرقة، وحرمة، في قولهم: افترق الأصدقاء فرقة، ولكني أحترم عهودهم حرمة، فالكلمتان اسما مصدرين للفعلين "افترق، واحترم" قبلهما، ونائبين عن المصدرين المحذوفين5؛ كالشأن في كل ما يلاقي المصدر في أصول مادة الاشتقاق6؛ بأن يشاركه في حروف مادته
__________
1 يتبين مما يأتي أن أربعة أشياء تصلح للنيابة عن كل مصدر أصيل محذوف هي: "المرادف" – "ملاقيه في الاشتقاق ومن هذا اسم المصدر غير العلم" – "الضمير" – "اسم الإشارة".
2 راجع رقم 1 من هامش الصفحة الماضية.
3 هو: ما ساوى المصدر في الدلالة على معناه، وخالفه من ناحية الاشتقاق. بنقص بعض حروفه عن حروف المصدر – وهذا هو الغالب – كما في الأمثلة المعروضة، فهما يتلاقيان في الاشتقاق، ولكن الغالب أن اسم المصدر تقل حروفه عن حروف المصدر الذي يلاقيه في مادة الاشتقاق.
وقد عرضوا للفرق بين المصدر واسم المصدر من الناحية اللفظية السابقة، ومن الناحية المعنوية؛ فقالوا فيهما: إن لفظ المصدر يجمع في صيغته جميع حروف فعله فهو يجري عليه في أمرها، واسم المصدر لا يجري على فعله، وإنما ينقص عن حروفه – غالبًا – وإن معنى المصدر ومدلوله هو: الحدث، أما اسم المصدر فمعناه ومدلوله المصدر لا الحدث، فهو يدل على الحدث بواسطة، أي: أن المصدر يدل على الحدث مباشرة وبالإصالة، واسم المصدر بمنزلة النائب عنه في ذلك، على أن تفصيل الكلام على تعريفهما، وإيضاح الفروق الدقيقة بينهما وسدر أحكامهما – سيجيء في الباب الخاص بهما؛ هو: باب: "إعمال المصدر، واسمه" "ج 3 ص 201 م 99"، ومن الفوارق اللفظية المدونة هناك أن اسم المصدر مقصور على السماع، أما المصدر فمنه السماعي، ومنه القياسي.
4 وحجتهم أن العملية معنى زائد على المصدر؛ لأن المصدر يدل على الحدث فقط، كما عرفنا فإذا كان النائب اسم مصدر وعلمًا معًا، فقد اجتمع فيه أمران هما: "العلمية، والدلالة على الحدث" ... واجتماعهما بجعله غير صالح للنيابة عن المصدر المحذوف؛ لأن المصدر المحذوف لا يدل على العلمية؛ فكيف يدل عليها اسم المصدر وهو نائب عنه في لفظه وفي معناه؟ أي: كيف يدل النائب على شيء ليس في الأصيل؟
5 انظر المصباح المنير، مادة: "حرم".
6 يدخل في هذا المصدر الميمي.(2/214)
الأصلية؛ إما مع كونه مصدر فعل آخر؛ كالمثالين الأولين، ونحو: "التبتيل" في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ 1 إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ، فإنه مصدر2 للفعل: "بَتَّل" وقد تاب عن "التبتل"، الذي هو مصدر الفعل: "تبتل" وإما مع كونه اسم3 عين؛ نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} ، فكلمة: "نباتًا" اسم للشيء الثابت من زرع أو غيره، وقد ناب عن: "إنباتًا" الذي هو المصدر القياسي للفعل: "أنبت"4.
3- بعض أشياء أخرى؛ كالضمير العائد عليه بعد الحذف؛ وكالإشارة له بعد الحذف أيضًا: كقولهم لمن يتكلم عن الإخلاص: "أخلصته لمن أوده"، وعن الإقبال: "أقبلت هذا"، والأصل: أخلصت الإخلاص، وأقبلت الإقبال، فالضمير عائد على المصدر المؤكد الذي حذف، ونائب عنه، وهو: "الإخلاص" واسم الإشارة يشير إلى المصدر المؤكد الذي حذف وينوب عنه؛ وهو "الإقبال".
والذي يصلح للإنابة في الأنواع الأخرى:
1- لفظ كل أو بعض، بشرط الإضافة لمثل المصدر المحذوف؛ نحو: لا تنفق كل الإنفاق، ولا تبخل كل البخل؛ وابتغ بين ذلك قوامًا5 إذا سنحت الفرصة لغاية كريمة فلا تتمهل في اقتناصها بعض تمهل، ولا تتردد بعض تردد؛ فإنها قد تفلت، ولا تعود.
ومثل كل وبعض ما يؤدي معناهما من الألفاظ الدالة على العموم، أو على
__________
1 تفرغ وانقطع لعبادته وطاعته.
2 لم يعتبروا: "التبتيل" اسم مصدر للفعل: "تبتل"؛ لأن حروفه تزيد على حروف مصدر هذا الفعل، واسم المصدر -في الرأي عندهم- لا بد أن تقل حروفه عن حروف مصدر الفعل الذي يجري على مقتضاه في الاشتقاق، أما الرأي الذي لا يشترط أن يقل عن حروف المصدر، ويبيح أن تزيد، فيجعل "تبتيلا" اسم مصدر.
3 ذات مجسمة، وليس – كالمصدر – واسمه معنى مجردًا.
4 يرى بعض النحاة أن كلمة "نبات" في الآية مصدر جرى على غير فعله؛ لأنه في الأصل مصدر للفعل: "نبت" – ثم سمي به الثابت؛ فيكون داخلًا في قسم الملاقي للمصدر في الاشتقاق مع كونه مصدر فعل آخر، ولا مانع أن تكون "نبات" اسم مصدر للفعل: "أنبت".
5 اطلب طريقًا وسطًا معتدلًا بين الأمرين.(2/215)
البعضية، مثل: جميع، عامة، بعض، نصب، شطر ...
2– صفة المصدر المحذوف1؛ نحو: تكلمت أحسن التكلم وتكلمت أي تكلم2، إذ الأصل: تكلمت تكلمًا أحسن التكلم – وتكلمت تكلمًا أي تكلم، بمعنى: تكلمت تكلمًا عظيمًا – مثلًا.
3– مرادف المحذوف؛ نحو: وقوفًا وجلوسًا في مثل: قمت وقوفًا سريعًا للقادم العظيم، وقعدت جلوسًا حسنًا بعد قعوده، ومثل: لما اشتعلت النار صرخ الحارس صياحًا عاليًا؛ لينبه الغافلين، ولم يتباطأ توانيًا معيبًا في مقاومتها.
4– اسم الإشارة؛ والغالب أن يكون بعده مصدر كالمحذوف؛ كأن تسمع من يقول: "راقني عدل عمر"، فتقول: سأعدل ذاك العدل العمري، ويصح مع القرينة: سأعدك ذاك.
ومثل أن تسمع: أعجبني إلقاؤك الجميل، وسألقي ذاك الإلقاء أو سألقي ذاك، فقد حذف المصدر بعد اسم الإشارة: لوجود القرينة الدالة عليه بعد حذفه، وهي اسم الإشارة – في المثالين – فإنه يدل دلالة المصدر هنا بالإشارة إليه، ويغني عنه3.
5- الضمير العائد على المصدر المحذوف؛ كأن تقول لمن يتحدث عن الإكرام التام والإساءة البالغة: "أكرمه من يستحقه، وأسيئها من يستحقها" تريد: أكرم الإكرام التام من يستحقه ... ، وأسيء الإساءة البالغة من يستحقها4.
__________
1 ويدخل في صفة المصدر المحذوف المصدر النوعي المضاف الذي سبق أن أشرنا إليه في رقم 2 من هامش ص 208، وأوضحنا الرأي والسبب في اعتباره نائبًا عن المصدر.
والكثير في الصفة النائبة عن المصدر أن تكون مضافة إليه؛ كالأمثلة المذكورة. وقول الشاعر:
الغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق
أي: قبيح قبحًا قدر قبح الكريم في الإملاق.
2 هذا التركيب فصيح بالاعتبار الذي يليه، والذي يبين أصله، وما طرأ عليه من حذف، "وبسط الكلام على صحته مدون في ج 3 – باب الإضافة، م 95 ص 110، 112 وما بعدها حيث الرأي الحاسم في موضوع "أي"، ولها إشارة في باب النعت – ج 3 م 114 ص 452.
3 لا بد من هذه القرينة التي تجعل المحذوف بمنزلة المذكور، وإلا كان اسم لإشارة نائبًا عن مصدر مؤكد، لا عن مصدر نوعي.
4 مثل هذا الأسلوب قد يبدوا غريبًا، لكن إذا عرفنا أن معناه: الإكرام، أكرم إكرامًا من يستحقه، والإساءة، أسيء إساءة إلى من يستحقها – ذهبت الغرابة – وهو أسلوب عربي صحيح له نظائر كثيرة في القرآن؛ وغيره مثل قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} أي: لا أعذب العذاب – لا أعذب عذابًا – أحدًا من العالمين ...(2/216)
6– العدد الدال على المصدر المحذوف: نحو: يدور عقرب الساعات في اليوم والليلة أربعًا وعشرين1دورة، ويدور عقرب الدقائق في الساعة ستين1 دورة.
7- الآلة التي تستخدم لإيجاد معنى ذلك المصدر المحذوف، وتحقيق دلالته؛ نحو: سقيت العاطش كوبًا – ضرب اللاعب الكرة رأسًا، أو رجلًا، أي: سقيت العاطش سقي كوب – ضرب اللاعب الكرة ضرب رأس، أو ضرب رجل، بمعنى: سقيت العاطش بأداة تؤدي مهمة السقي: تسمى: "الكوب" وضرب اللاعب الكرة بأداة معروفة بهذا الضرب تسمى: الرأس، أو: الرجل2 ولا بد من الآلة أن تكون معروفة بأنها تستخدم في إحداث معنى المصدر؛ فلا يصح سقيت الرجل العاطش دلوًا – ولا ضرب اللاعب الكرة بطنًا؛ لأن الدلو لا يسقي بها الرجل، والبطن لا يضرب به الكرة.
8– نوع من أنواعه؛ نحو؛ قعد الطفل القرفصاء 3 – مشي العدو القهقري 4. أو: التقهقر – سرت وراءه الجري – نام الآمن ملء جفونه5 ... أي: قعد قعود القرفصاء – مشى مشي القهقري، وسرت سير الجري – نام الآمن نومًا ملء جفونه ...
__________
1و 1 والأصل: دورانًا أربعًا وعشرين دورة – دورانًا ستين دورة، ثم حذف المصدر، وباب عنه عدده.
2 في مثل هذه الأمثلة ونحوها حذف المضاف – وهو المصدر المنصوب – وأقيم المضاف إليه مقامه؛ فصار منصوبًا مثله؛ إذ الأصل كما قلنا: سقيت العاطش سقي كوب – ضرب اللاعب الكرة ضرب رأس، أو ضرب رجل.
3 نوع من القعود – يستقر فيه الجالس – وفخذاه ملتصقتان ببطنه، يحيط بهما ذراعاه، أو ينكب على ركبتيه، لاصقًا فخذيه ببطنه، وكفاه تحت إبطيه ...
والقرفصاء والقهقري معدودان هنا نائبين للمصدر؛ لأنهما من غير لفظ العامل؛ بالرغم من أنهما مصدرين أصليين للفعلين: "قرفص" و"قهقر" فهما مع فعليهما المشاركين لهما في المادة – مصدران، أما مع عامل آخر لا يشاركهما في المادة اللفظية – كالذي هنا – فنائبان عن المصدر – كما سلف في رقم 1 من هامش ص 213.
4 هي الرجوع إلى الخلف.
5 ومن هذا قول المتنبي عن قصائده، ومشكلاتها المعنوية:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جرها ويختصم
"جراها = من جرائها، أي: من أجلها ... "، ومما يصلح للنو قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
والأصل: تؤخذ الدنيا أخذ غلاب، ثم حذف المصدر المضاف رجل المضاف إليه محله، ونصب.(2/217)
9– اللفظ الدال على هيئة المصدر المحذوف؛ كصيغة: "فعله"؛ نحو: مشى القط مشية الأسد، ووثب وثبة النمر، فكلمة: مشية – وثبة – تدل على نوع من الهيئة يكون عليه المصدر؛ فهي هنا نائبة عنه.
10– وقته؛ نحو: فلان يلهو ويمرح؛ لأنه لم يحي ليلة المريض، ولم يعش ساعة الجريح، أي: لم يحي حياة ليلة المريض، ولم يعش عيشة ساعة الجريح، "تريد: لم يحي في ليلة كليلة المريض، ولم يعش في ساعة كساعة الجريح؛ يذوق ما فيهما من آلام"، ومن هذا كلمة: "ليلة" في قول الشاعر:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم1 مسهدا
11– "ما" الاستفهامية؛ نحو: ما تكتب خطك؟ بمعنى: أي كتابة تكتب خطك؟ أرقعة، أم ثلثًا أم نسخًا ... ؟ ومثله: ما تزرع حقلك؟ بمعنى: أي زرع تزرع حقلك؟ أزرع قمح، أم ذرة، أم قطن ... ؟
12– "ما" الشرطية؛ نحو: ما شئت فاجلس، بمعنى: أي جلوس شئته فاجلس.
تلك هي أشهر الأشياء التي تنوب عن المصدر غير المؤكد عند حذفه2.وتتخلص كلها في أمر واحد، هو: وجود ما يدل عليه عند حذفه3، ويغني عنه من غير لبس.
__________
1 الملدوغ.
2 ومنها: ملاقيه في الاشتقاق؛ نحو قوله تعالى في مريم: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَنا} واسم المصدر غير العلم؛ نحو تكلم المتعلم كلام النبلاء – انظر رقم 2 ص 214،
ورقم 1 من هامشها.
3 وفي هذا يقول ابن مالك:
وقد ينوب عنه ما عليه دل ... كجد كل الجد، وافرح الجذل-6
فسجل في هذا البيت أن المصدر ينوب عنه عند حذفه كل شيء يدل عليه، واقتصر في التمثيل على نائبين؛ هما: لفظ "كل" وقد أضافها للمصدر؛ حيث قال: "جد كل الجد"، ولفظ المرادف، وهو: الجذل، بمعنى الفرح، في "افرح الجذل".
ثم ساق بعد هذا البيت بيتًا آخر سبق تدوينه، وشرحه في مكانه المناسب له – بهامش ص 212 – من مسائل الباب، هو:
وما لتوكيد فوحد أبدًا ... وثن واجمع غيره وأفردا-5(2/218)
المسألة 76:
حذف عامل المصدر:
إقامة المصدر المؤكد نائبًا عن عامله في بعض المواضع.
أ– يجوز حذف عامل، المصدر المبين للنوع أو للعدد بشرط وجود دليل1 مقالي، أو حالي يدل على المحذوف، فمثال حذف عامل النوعي لدليل مقالي، أن يقال: هل جلس الزائر عندك؟ فيجاب: جلوسًا طويلًا؛ أي: جلس جلوسًا طويلًا، ومثال حذفه لدليل حالي أن ترى صيادًا أصاب فريسته؛ فتقول: إصابة سريعة؛ أي: أصاب إصابة سريعة، ومن هذا قولهم للمتهيئ للسفر: "سفرًا حميدًا، ورجوعًا سعيدًا"، أي: تسافر سفرًا حميدًا، وترجع رجوعًا سعيدًا.
ومثال حذف عامل العددي لدليل مقالي: هل رجعت إلى بيتك اليوم؟ فيجاب: رجعتين، أي: رجعت رجعتين، ولدليل حالي أن ترى خيل السباق وهي تدور: في الملعب؛ فتقول: دورتين؛ أي: دارت دورتين ... وهكذا.
والمصدر في الحالات السالفة منصوب بعامله المحذوف جوازًا، وليس نائبًا عنه.
ب– أما المصدر المؤكد لعامله فالأصل عدم حذف عامله؛ لما عرفنا2 من أن هذا المصدر مسوق لتأكيد معنى عامله في النفس، وتقويته، ولتقرير المراد منه، - أي: لإزالة الشك عنه – ولبيان أن معناه حقيقي لا مجازي – وهذه هي دواعي المجيء بالمصدر المؤكد، ومن أجلها لا يصح تثنيته، ولا جمعه، ولا أن يرفع فاعلًا أو ينصب مفعولًا، ولا أن يتقدم على عامله، ولا أن يحذف عامله3 ... لأن هذا الحذف مناف لتلك الدواعي، معارض للغرض من الإتيان بالمصدر المؤكد4.
__________
1 في رقم 1 من هامش ص 56 أن الدليل "ويسمى: القرينة أيضًا" قد يكون مقاليًا، أي: مرجعه إلى القول والكلام – وقد يكون حاليًا، لا شأن له بالقول أو الكلام؛ وإنما الشأن فيه للمشاهدة، أو نحوها مما يحيط بالشخص، ويجعله يفهم أمرًا مستنبطًا مما حوله، دون أن يسمع لفظًا مطلقًا.
2 في ص 211 و"أ" من ص 207.
3 سبقت أحكامه في ص 211.
4 فيما سبق يقول ابن مالك:
وحذف عامل المؤكد امتنع ... ومن سواه لدليل متسع-6
يريد: أن هناك للحذف في غير المؤكد، عند وجود دليل على المحذوف.(2/219)
لكن العرب التزموا حذف عامله باطراد في بعض مواضع معينة، وأنابوا عنه المصدر المؤكد؛ فعل محله، وعميل عمله في رفع الفاعل، ونصب المفعول، وأغنى عن التلفظ بالعامل، وعن النطق بصيغته؛ وصار ذكر العامل ممنوعًا معه؛ لأن المصدر بدل عنه، وعوض عن لفظه ومعناه1؛ ولا يجتمع العوض والمعوض عنه2.
ولما كان العرب قد التزموا الحذف "والإنابة – معًا - باطراد في تلك المواضع، لم يكن بد من أن نحاكيهم، ونلتزم طريقتهم الحتمية في حذف العامل في تلك المواضع، وفي إنابة المصدر المؤكد عنه، ولهذا قال النحاة:
إن عامل المصدر المؤكد لا يحذف جوازًا –في الصحيح– وإنما يحذف وجوبًا في المواضع التي التزم فيها العرب حذفه لحكمه مقصودة، مع إقامة المصدر المؤكد مقامه، والأمران متلازمان.
ومع أن العامل محذوف وجوبًا، فإنه هو الذي ينصب المصدر النائب عنه "أي: أن المصدر نائب عن عامله المحذوف، ومنصوب به معًا".
أما المواضع التي ينوب فيها هذا المصدر عن عامله3 المحذوف وجوبًا، فبعضها خاص بالأساليب الإنشائية الطلبية، وبعض آخر خاص بالأساليب الإنشائية غير الطلبية، أو بالأساليب الخبرية المحضة4.
__________
1 هذا المصدر النائب أساسه المبالغة، فهو أبلغ وأقوى في تأدية المعنى من عامله.
2 سبقت الإشارة "في رقم 4 من هامش ص 209، وفي رقم 1 من هامش ص 225 إشارة أيضًا" إلى أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسمًا مستقلًا بذاته يزاد على الأقسام الثلاثة المشهورة، والسبب أن كثيرًا من المصادر النائبة عن عاملها المحذوف قد يكون مؤكدًا لعامله، والأصل في المؤكد ألا يعمل، وألا يحذف عامله ... و ... مع أن المؤكد هنا يعمل ويحذف عامله، فيقع التعارض والتناقص بين حكم المؤكد هنا وحكمه في ناحية أخرى، ولا سبيل للتغلب على هذا التعارض والتناقض إلا بالتأويل والتقدير؛ وهذا معيب أو باعتبار المؤكد هنا، والمحذوف عامله وجوبًا، قسمًا مستقلًا، ولا ضرر في هذا بل فيه تغلب على الصعوبة السالفة.
3 بعض المصادر المؤكدة قد تنوب عن عوامل مهملة، أو ليست من لفظها؛ فتكون مقصورة على السماع، كما يجيء في ص 223 مثل: ويح، ويل ... وسيجيء الكلام عنها في الزيادة، ص 230.
4 سبق في جـ1 ص374 م27 إيضاح للجملة الخبرية، والجملة الإنشائية. وملخصه: أن الجملة الخبرية هي التي يكون معناها صالحا للحكم عليه بأن صدق أو كذب، من غير نظر لقائلها من ناحية أنه معروف بهذ أو بذاك، مثل: نزل المطر أمس، فهي جملة صالحة، لأن توصف بأنها - في حد ذاتها - صادقة أو كاذبة ...
والجملة الإنشائية هي التي يطلب بها إما حصول شيء، أو عدم حصوله، وإما إقراره والموافقة عليه، أو عدم إقراره، فلا دخل للصدق أو الكذب فيها. =(2/220)
1– فيراد بالأساليب الإنشائية الطلبية هنا: ما يكون فيها المصدر المؤكد النائب دالًا على أمر، أو نهي أو دعاء، أو توبيخ والكثير أن يكون التوبيخ مقرونًا بالاستفهام1؛ فمثال الأمر أن تقول للحاضرين عند دخول زعيم: قيامًا، بمعنى: قوموا، وأن تقول لهم بعد دخوله واستقراره: جلوسًا، بمعنى: اجلسوا: فكلمة: "قيامًا" مصدر "أو: مفعول مطلق" منصوب
بفعل الأمر المحذوف وجوبًا. والمصدر نائب عنه في الدلالة على معناه، وفي تحمل ضميره المستتر الذي كان فاعلًا2 له؛ فصار بعد حذف فعله فاعلًا للمصدر النائب، ومثل هذا يقال في: "جلوسًا" وأشباههما، والأصل قبل حذف العامل وجوبًا: قوموا قيامًا – أجلسوا جلوسًا 3 ...
ومثال النهي أن تقول لجارك وقت سماع محاضرة، أو خطبة ... سكوتًا، لا تكلمًا؛ أي: اسكت، لا تتكلم، فكلمة: "سكوتًا" مصدر – أو مفعول مطلق – منصوب بفعل الأمر المحذوف وجوبًا، والذي ينوب عنه هذا المصدر في أداء معناه, وفاعل المصدر النائب مستتر وجوبًا تقديره: أنت؛ وقد انتقل إليه هذا الفاعل بعد حذف فعل الأمر على الوجه السالف2، وكلمة: "لا" ناهية،
__________
= وهي قسمان: إنشائية طلبية، أي: يراد بها طلب حصول الشيء أو عدم حصوله، وتشمل الأمر، والنهي، والدعاء، والاستفهام، والتمني، والعرض، والتحضيض ... ، كما هو مدون في المصادر الخاصة بالبلاغة، وإنشائية غير طلبية وهي التي يريد بها المتكلم: إعلان شيء والتسليم به، وتقرير مدلوله، من غير أن يصحب هذا الإعلان والتسليم طلب أمر آخر، كما سيجيء في ص 223، وتشمل جملة التعجب –في الرأي الشائع– وجملة المدح والذم بنعم وبئس ونظائرهما، وجملة القسم نفسه، لا جملة جوابه ... ، وصيغ العقود التي يراد إقرارها؛ مثل: بعت؛ وهبت ... إلى غير هذا مما في المرجع السابق.
1 انظر رقم 4 من هامش الصفحة الآتية.
2 و 2 ذلك أن فعل الأمر المحذوف وحده، له فاعل لم يحذف، فلما ناب المصدر عن فعل الأمر المحذوف وحده انتقل فاعله إلى المصدر النائب، وصار فاعلًا له بعد أن كان فاعلًا لفعل الأمر المحذوف؛ فالمصدر متحمل لضمير عامله، وقيل: إن المصدر ناب عن الفعل المحذوف ومن فاعله معًا؛ فلا يحتاج لفاعل.... وقيل ... و ...
والرأي الأول أحسن؛ لأنه يساير القواعد النحوية العامة، والثاني أخف وأيسر. ولا تأثير لاختلافهما في الاستعمال الكلامي والكتابي.
3 ومثل قول الشاعر:
أكابرنا عطفًا علينا فإننا ... بنا ظمأ برح، وأنتم مناهل
يريد: يا أكابرنا، أعطفوا علينا ... ، والبرح: الشديد: المناهل: جمع منهل، وهو مورد الماء العذب الصافي.(2/221)
و"تكلما": مصدر منصوب بالمضارع المحذوف، المجزوم بلا الناهية1، ونائب عنه في تأدية معناه، وفاعل المصدر ضمير مستتر فيه، تقديره: أنت، وهذا الضمير انتقل للمصدر النائب من المضارع المحذوف -كما تقدم.
ومثال الدعاء بنوعيه2 قول زعيم: "ربنا إنا قادمون على معركة فاصلة مع طاغية جبار؛ فنصرًا عبادك المخلصين، وهلاكًا وسحقًا للباغي الأثيم"، أي: فانصر –بارب– عبادك المخلصين، وأهلك واسحق الباغي الأثيم ...
ومنه "سقيًا" و"رعيًا" 3 لك، "وجدعًا وليًا" لأعدائك، وإعراب المصادر في هذه الأمثلة كإعرابها في نظائرها السابقة.
ومثال الاستفهام التوبيخي4: أبخلًا وأنت واسع الغنى؟ أسفاهة وأنت
__________
1 والأصل قبل الحذف فيهما: اسكت سكوتًا، لا تتكلم تكلمًا، ولا يكون حذف المضارع المجزوم "بلا" الناهية واجبًا إلا في هذه الصورة – كما سيجيء هذا في موضعه من باب: "الجوازم"، ج 4 م 153 عند الكلام على "لا الناهية".
2 الخير والشر.
3 يوجب أكثر النحاة حذف العامل هنا؛ مراعاة للسماع، ويكون التقدير: "اسق يا رب، ارع يا رب، الدعاء لك أيها المخاطب"، فالجار والمجرور في الصورتين خبر لمحذوف؛ تقديره: الدعاء –مثلًا– ولا يصح أن يكون الجار والمجرور متعلقين بالمصدر قبلهما؛ لئلا يفسد المعنى؛ إذ يكون: اسق يا رب لك – ارع يا رب لك وهذا فاسد؛ لأن السقي ليس مطلوبًا لله، وكذلك الرعي. من أجل هذا قالوا بحق في مثل: سقيا لك – إن الكلام جملتان وليس جملة واحدة.
على أن لهذا البحث تفصيلات واسعة وتفريعات دقيقة؛ لا غنى عن الإلمام بها لتعدد أحكامها بتعدد استعمالاتها – وقد سجلناها في ج 1 ص 372 م 39.
ويجيز فريق من النحاة عدم التقيد بوجوب حذف العامل في مثل هذه الصورة المسموعة، ورأيه سائغ، والأول هو الأفصح والأقوى - كما سيجيء ي "ح" من ص 232.
4 قد يكون التوبيخ للمتكلم، بأن يوجه صيغة التوبيخ مشتملة على الخطاب يريد بها نفسه، بقرينة، كقول القائل لنفسه: أتركا للعمل وأنا فقير؟ وقد يكون التوبيخ للمخاطب، نحو: أسرقة وأنت غني؟ وقد يكون للغائب: نحو: أخوفًا وهو جندي؟ وقد يكون التوبيخ مسبوقًا بأداة استفهام، إما مذكورة صراحة، أو ملحوظة في حكم المذكورة، وإما غير مذكورة ولا ملحوظة، فمثال المذكورة وما في حكمها قول الشاعر:
أذلا إذا شب العدا نار حربهم؟ ... وزهوًا إذا ما يجنحون إلى السلم؟
والأصل: أتذل ذلًا؟ وتزهو زهوًا"، فالأول مسبوق بهمزة الاستفهام المذكورة، والثاني مسبوق بها ملاحظة وتقديرًا، ومثال غير المذكورة وغير المقدرة قول الشاعر:
خمولًا، وإهمالا، وغيرك مولع ... بتثبيت أسباب السيادة والمجد
أي: تخمل خمولًا، وتهمل إهمالًا ...(2/222)
مثقف؟ أي: أتبخل بخلًا ... . أتسفه سفاهة.... وإعراب المصدر هنا كسابقه.
ونيابة المصدر عن عامله المحذوف في الأساليب الإنشائية الطلبية –قياسية– بشرط أن يكون العامل المحذوف فعلًا من لفظ المصدر ومادته، وأن يكون المصدر مفردًا منكرًا، وإلا كان سماعيًا؛ مثل: ويحه، ويله1 ... – كما تقدم 2.
2– ويراد – هنا – بالأساليب الإنشائية غير الطلبية: المصادر الدالة على معنى يريد المتكلم إعلانه وإقراره، والتسليم به، من غير طلب شيء3، أو عدم إقراره، كما سبق4، والكثير من هذه المصادر مسمع عن العرب جار مجرى الأمثال، والأمثال لا تغير؛ كقولهم عند تذكر النعمة: "حمدًا، وشكرًا، لا كفرًا"؛ أي: أحمد الله وأشكره – ولا أكفر به، وكانوا يردون الكلمات الثلاث مجتمعة لهذا الغرض وهو إنشاء المدح، والشكر، وإعلان عدم الكفر, ووجوب حذف العامل متوقف على اجتماعها؛ مراعاة للمأثور؛ وإلا لم يكن الحذف واجبًا.
وكقولهم عند تذكر الشدة: "صبرًا، لا جزعًا"، بمعنى "أصبر5،
__________
1 المصادر الدالة على الطلب لا تصلح أن تكون نعتًا، ولا منعوتًا - كما سيجيء في باب النعت – ج 3 م 114 ص 445.
2 في رقم 3 من هامش ص 220.
3 المقصود في الأساليب الآتية: الإنشاء غير الطلبي – وقد شرحناه في رقم 4 من هامش ص 220 – ولكنهم جعلوها من قسم الخبر نظرًا لصورة العامل ولفظه، ويرى بعض النحاة أنها أساليب خبرية لفظًا ومعنى، وهذا رأي حسن، لوضوحه، والمسألة رهن، بالاصطلاح.
4 في رقم 4 من هامش ص 220.
5 أما كلمة: صبرًا في مثل قول الشاعر:
فصبرًا في مجال الصوت صبرًا ... فما نيل الخلود بمستطاع
فتصح أن تكون مصدرًا نائبًا عن الفعل المضارع: "أصبر" يكون هذا المصدر من نوع الإنشاء غير الطلبي، وتصح أن تكون مصدرا نائبًا عن فعل الأمر – أي عن: "أصبر" – فيكون المصدر من نوع الإنشاء الطلبي الذي سبق بيانه.(2/223)
لا أجزع، يريد إنشاء هذا المعنى، وعند ظهور ما يعجب: "عجبًا" بمعنى أعجب، وعند الحث على أمر: "افعل وكرامة"، أي: وأكرمك, وعند إظهار الموافقة والامتثال: "سمعًا وطاعة"، بمعنى: أسمع وأطيع.
والمصادر في كل ما سبق – أو: المفعول المطلق – منصوب بالعامل المحذوف وجوبًا، وهو الذي ناب عنه المصدر في أداء المعنى، وفي تحمل الضمير الفاعل، وتقديره للمتكلم: أنا.
ونيابة هذا النوع من المصادر عن عامله تكاد تكون مقصورة على الألفاظ المحددة الواردة سماعًا عن العرب، ويرى بعض المحققين جواز القياس عليها في كل مصدر يشيع استعماله في معنى معين، ويشتهر تداوله فيه، وله فعل من لفظه، من غير اقتصار على ألفاظ المصادر المسموعة, وهذا رأي عملي مفيد1.
3- ويراد بالأساليب الخبرية المحضة أنواع، كلها قياسي، بشرط أن يكون العامل المحذوف وجوبًا فعلًا من لفظ المصدر ومادته.
منها: الأسلوب المشتمل على مصدر يوضح أمرًا مبهمًا مجملًا، تتضمنه جملة قبل هذا المصدر، ويفصل عاقبتها؛ أي: يبين الغاية منها، "فالشروط ثلاثة في المصدر: تفصيله عاقبه، وأنها عاقبة أمر مبهم تتضمنه جملة، وهذه الجملة قبله" مثل: "إن أساء إليك الصديق فاسلك مسلك العقلاء؛ فإما عتابًا كريمًا، وإما صفحًا جميلًا2"؛ فسلوك مسلك العقلاء أمر مبهم، مجمل، لا يعرف المقصود منه؛ فهو مضمون جملة محتاجة إلى إيضاح، وتفصيل، وإبانة عن المراد، فجاء بعدها الإيضاح والتفصيل البيان من المصدرين: "عتابًا" و"صفحًا" المسبوقين بالحرف الدال على التفصيل؛ وهو: "إما".
وهما منصوبان بالفعلين المحذوفين وجوبًا، وقد ناب كل مصدر عن فعله في بيان معناه، والتقدير: فإما أن تعتب عتابًا كريمًا، وإما أن تصفح صفحًا جميلًا.
__________
1 لأنه يساير الأصول اللغوية العامة، ولا تضار اللغة باتباعه، وقد أشرنا لهذا في "ج" من ص 232.
2 وتغني "أو" عن "إما" الثانية؛ كقول الشاعر:
وقد شفني ألا يزال يروعني ... خيالك إما طارقًا أو معاديًا(2/224)
ومثله: "إذا تعبت من القراءة فاتركها لأشياء أخرى؛ فإما مشيًا في الحدائق، وإما استماعًا للإذاعة، وإما عملًا يدويًا مناسبًا"، فالمصادر "مشيًا" – "استماعًا" – "عملًا" ... موضحه ومفصله لأمر غامض مجمل في جملة قبلها، يحتاج لبيان، هو: "الترك لأشياء أخرى" فعامل كل منها محذوف وجوبًا، والتقدير: تمشي مشيًا – تستمع استماعًا – تعمل عملًا ... فهي مصادر منصوبة بفعلها المحذوف الذي نابت عنه في تأدية معناه ... وانتقل إليه الفاعل بعد حذف العامل؛ فصار فاعلًا مستترًا للمصدر النائب، والتقدير: "أنت"، ومثل قول الشاعر:
لأجهدن؛ فإما درء واقعة ... تخشى، وإما بلوغ السؤل والأمل
والتقدير: فإما أدرأ درء واقعة، وإما أبلغ بلوغ السؤال ...
ومنها: الأسلوب الذي يكون فيه المصدر مكررًا أو محصورًا، ومعناه مستمرًا إلى وقت الكلام، وعامل المصدر واقعًا في خبر مبتدأ اسم ذات1، فمثال المكرر: المطر سحا سحا – الخيل الفارهة2 صهيلًا 3 صهيلًا، وقول الشاعر:
أنا جدًا جدًا ولهوك يزدا ... د إذا ما إلى اتفاق سبيل
__________
1 الشروط أربعة: أن يكون المصدر مكررًا أو محصورًا، وأن يكون عامله خبرًا لمبتدأ، أو ما أصله المبتدأ، وأن يكون هذا المبتدأ اسم عين؛ "أي: اسم ذات مجسمة"، فلا يراد به أمر معنوي "عقلي" كالعلم – الفهم – النيل - البراعة ... ، وأن يكون معنى المصدر مستمرًا إلى زمن الحال؛ لا منقطعًا ولا مستقبلًا محضًا، فإن فقد شرط من الشروط لم يكن الحذف واجبًا، وإنما يكون جائزًا - في رأي.
ويقوم مقام التكرار والحصر لسالفين بشرط استيفاء باقي الشروط – دخول الهمزة على المبتدأ نحو: أأنت طيرانًا، والعف على المصدر؛ نحو أنت طيرانًا وعومًا.
ويلاحظ هنا ما سبق أن أشرنا إليه "في ب من ص 219" من أن حذف عامل المؤكد ممنوع –على الصحيح– إلا حين يكون المصدر نائبًا عن فعله في المواضع التي ينوب فيها عنه، "ومنها هذه الصورة التي ينوب فيها وجوبًا عند استيفاء الشروط، وجوازًا –في رأي– عند فقد شرط أو أكثر"، وأن الأحسن اعتبار المصدر النائب عن عامله قسمًا رابعًا مستقلًا بنفسه؛ لأنه قد يؤكد عامله المحذوف، والأصل في المؤكد ألا يحذف عامله، فلدفع هذا التعارض يعتبر قسمًا مستقلًا؛ كي لا يدخل في قسم المؤكد غير النائب، فيقع تعارض واضح بين حكم المؤكد، وهو يقتضي عدم حذف عامله، وحكم هذه الأنواع التي يكون فيها المصدر نائبًا عن عامله ومؤكدًا له، مع أن هذا العامل محذوف "كما أشرنا في رقم 4 من هامش ص 209، وفي رقم 2 من هامش ص 220.
2 النشيطة القوية.
3 الصهيل: صوت الخيل.(2/225)
ومثال المحصور: "ما الأسد مع فريسته إلا فتكا – ما النمر عند لقاء الفيل إلا غدرًا"؛ التقدير: يسح سحًا سحًا – تسهل صهيلًا صهيلًا – أجد جدًا جدًا – إلا يفتك فتكًا – إلا يغدر غدرًا – فهذه المصادر وأشباهها؛ تقتضي – بسب التكرار، أو الحصر – حذف فعلها، وهي منصوبة بفعلها المحذوف وجوبًا، ونائبة عنه في بيان معناه، ومتحملة لضميره المستتر الذي صار فاعلًا لها، وتقديره: "هو"، أو: "هي" على حسب نوع الضمير المستتر.
ومنها: الأسلوب الذي يكون فيه المصدر مؤكدا لنفسه، بأن يكون واقعا بعد جملة مضمونها كمضمونه، ومعناها الحقيقي -لا المجازي1- كمعناه، ولا تحتمل مرادا غير ما يراد منه، فهي نص في معناه2 الحقيقي، نحو: "أنت تعرف لوالديك فضلهما يقينا"، أي: توقن يقينا، فجملة: "تعرف لوالديك فضلهما" هي في المعنى: "اليقين" المذكور بعدها؛ لأن الأمر الذي توقنه هذا هو: الاعتراف بفضل والديك، والاعتراف بفضل والديك هو الأمر الذي توقنه، فكلاهما مساو للآخر من حيث المضمون.
ومثلها: سرتني رؤيتك حقا، بمعنى: أحق حقا، أي: أقرر حقا، فالمراد من: سرتني رؤيتك، هو المراد من: "حقا"، إذ السرور بالرؤية هو: "الحق" هنا، والحق هنا هو: السرور بالرؤية"، فمضمون الجملة هو مضمون المصدر، والعكس صحيح.
فكلمة: "يقينا"، و"حقا" وأشباههما من المصادر المؤكدة لنفسها، منصوبة بالفعل المحذوف وجوبا، النائبة عن في الدلالة على معناه، أما فاعله فقد صار بعد حذف الفعل فاعلا للمصدر، وهذا الفاعل ضمير مستتر تقديره في المثالين: أنا.
ولا يصح في هذا النوع3 من الأساليب تقديم المصدر على الجملة التي يؤكد معناها، ولا التوسط بين جزأيها.
__________
1 لأن المجازي قد يراد منه ما لا يراد من المعنى الحقيقي للمصدر، فقد يراد في الأمثلة الآتية السخرية أو التهكم ...
2 ولذلك سمي المؤكد لنفسه؛ لأنه بمنزلة إعادة الجملة التي تتضمن معناه نصًا؛ فكأنه نفس الجملة التي أعيدت؛ وكأنها ذاته.
3 من هذا النوع: لا أفعل الأمر ألبتة، فكلمة: "ألبتة"، مصدر حذف عامله وجوبا.
والتاء فيه ليست للتأنيث، وإنما هي للوحدة، ومعنى "البت" القطع، أي: أقطع في هذا الأمر القطعة الواحدة، لا ثانية لها، فلا أتردد، ثم أجزم بعد التردد، وقد تكون "أل" هنا للعهد، أي: القطعة المعهودة بيننا؛ وهي التي لا أتردد معها. فألبتة: تفيد استمرار النفي الذي قبلها، ولو لم توجد لكان انقطاعه محتملًا.
والأفصح ملازمة: "أل" لكلمة: "ألبتة" في الاستعمال السالف، وأن تكون همزتها للقطع.(2/226)
ومنها: الأسلوب الذي يكون فيه المصدر مؤكدا لغيره، بأن يكون المصدر واقعا بعد جملة معناها ليس نصا في أمر واحد يقتصر عليه، ولا يحتمل غيره، وإنما يحتمل عدة معان مختلفة، منها المعنى الذي يدل على المصدر عليه قبل مجيئه، فإذا جاء بعدها منع عنها الاحتمال، وأزال التوهم، وصار المعنى نصا في شيء واحد، نحو: هذا بيتي قطعا أي: أقطع برأيي قطعا، فلولا مجيء المصدر: "قطعا" لجاز فهم المعنى على أوجه متعددة بعضها حقيقي، والآخر مجازي......، أقربها: أنه بيتي حقا، أو: أنه ليس بيتي حقيقة، ولكنه بمنزلة بيتي، لكثرة ترددي عليه، أو: ليس بيتي ولكنه يضم أكثر أهلي ... أو: ... ، فمجيء المصدر بعد الجملة قد أزال أوجه الاحتمال والشك، والمجاز، وجعل معناها نصا في أمر واحد1 بعد أن لم يكن نصا.
وهو منصوب بعامله المحذوف وجوبا، وقد ناب عنه بعد حذفه لتأدية معناه. وفاعل المصدر ضمير مستتر فيه، تقديره: أنا، انتقل إليه بعد حذف ذلك العامل ولا يصح -أيضا- في هذا النوع من الأساليب تقديم المصدر "المؤكد" لغيره على تلك الجملة، ولا التوسط بين جزأيها.
ومنها: الأسلوب الذي يكون فيه المصدر دالا على التشبيه بعد جملة مشتملة -إجمالا- على معناه وعلى فاعله المعنوي2، وليس فيا ما يصلح عاملا غير المحذوف3
__________
1 ولهذا سمي المؤكد لغيره، أي: للجملة التي قبله، والتي لا تتضمن معناه نصًا؛ لأنه أثر فيها، وجعل معناها نصًا، فصار به مؤكدًا قويًا، لا ضعف فيه ولا احتمال، وقد كان ذلك المعنى ضعيفًا قبل مجيء المصدر.
2 يراد به الفاعل اللغوي –لا النحوي– وذلك من فعل الشيء حقيقة، ولو لم تنطبق عليه الشروط النحوية للفاعل، كالمغني في المثال الآتي ... ، فهل فاعل معنى للغناء والتصويت، كذلك: "الشجاع" هو فاعل الزئير معنى، لا نحويًا.
3 جملة الشروط في الحقيقة سبعة: كونه مصدرًا – مشعرًا بأن معناه مما يحدث ويطرأ، وليس أمرًا ثابتًا دائمًا أو كالدائم "أي: أنه ليس من السجايا الثابتة، ولا الأمور الفطرية الملازمة، كالذكاء – الطول – السمنة، فلا يكون مما نحن فيه: لفلان ذكاء ذكاء العبقري: بنصب كلمة: "ذكاء" الثانية؛ لأنها من السجايا – كونه دالًا على التشبيه – بعد جملة – هذه الجملة مشتملة على فاعله المعنوي، وعلى معناه – ليس فيها ما يصلح للعمل.
قال الخضري في هذا المكان: "هذه الشروط لوجوب حذف الناصب إذا نصب، ويجوز معها رفعه؛ بدلًا مما قبله، أو: صفة له؛ بتقدير: "مثل" أو خبرًا لمحذوف، وهل النصب حينئذ أرجح، أو هما سواء؟ قولان ... ا. هـ.(2/227)
نحو: "للمعنى صوت صوت البلبل"، أي: للمغني صوت، يصوت صوت البلبل، بمعنى: صوتا يشبهه، ومنه: "للشجاع المقاتل زئير زئير الأسد"، أي: يزأر زئير الأسد، أي: زئيرا يشبه زئيره، ومنه: "للمهموم أنين، أنين الجريح"، أي: يئن أنين الجريح، "أنينا شبيها بأنين الجريح" ... وهكذا، والمصدر منصوب في هذه الأمثلة على الوجه الذي شرحناه1.
__________
1 عرض ابن مالك –بإيجاز– لمواضع حذف عامل المصدر وجوبًا، فقال:
والحذف حتم مع آت بدلًا ... من فعله: كندلًا اللذ كاندلا
أي: الحذف واجب في عامل المصدر الآتي بدلًا وعوضًا عن فعله، ومغنيًا عن التلفظ به؛ مثل: المصدر: "ندلًا" ومعناه: "خطفًا"؛ وهو بمعنى "اندل" في الدلالة على طلب الندل، أي: الخطف، فالمصدر "ندلًا" منصوب بعامله المحذوف "اندل"، ونائب عنه في تأدية معناه، ومتحمل لضميره الفاعل الذي تقديره: أنت، "واللذ: الذي".
ثم قال:
وما لتفصيل: كإما منا ... عامله يحذف حيث عنا
"عنا، أصله: عن، بمعنى: عرض، والألف لوزن الشعر، ويسمونها: ألف الإطلاق؛ لأن الصوت ينطلق من غير حبس، ويمتد؛ فيجيء بها".
يريد: أن عامل المصدر بحذف حيث عرض هذا العامل بشرط أن يدل المصدر على تفصيل أمر مبهم مجمل قبله، وساق لهذا بعض آية تصلح للتمثيل؛ هي قوله تعالى يخاطب المسلمين، في أمر أسرى الكفار المهزومين: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} .
الوثاق – القيد، ومعنى شدة: إحكام ربطه وتمكينه، وموضع الشاهد هو: "منا، وفداء" – التقدير: تمنون منا بإطلاق الأسرى أحرارًا بغير مقابل، أو يفدون أنفسهم فداء، أي: يدفعون الفدية – وهي: التعويض المال أو غيره – في نظير إطلاق سراحهم, ثم قال:
كذا مكرر، وذو حصر، ورد ... نائب فعل لاسم عين استند
أي: يحذف عامل المصدر وجوبًا إذا وقع المصدر نائبا عن فعل محذوف استند لمبتدأ اسم عين. =(2/228)
هذا، وقد اشترطنا أن تكون الجملة السابقة مشتملة على معناه، فهل يشترط أن تكون مشتملة على لفظه أيضًا؟.
الجواب: لا؛ فإنها قد تشتمل على لفظه كالأمثلة السابقة، وربما لا تشتمل؛ مثل قول القائل يصف النخيل: "رأيت شجرًا محتجبًا في الفضاء، ارتفاع المآذن"، فكلمة: "ارتفاع" مصدر منصوب بعامل محذوف وجوبًا، تقديره: يرتفع ارتفاع المآذن، وإنما حذف وجوبًا لتحقق الشروط، التي منها؛ وقوع المصدر بعد جملة مشتملة على معناه، وإن كانت غير مشتملة على لفظه؛ لأن معنى: "رأيت شجرًا محتجبًا في الفضاء" – هو رأيت شجرًا مرتفعًا، ومثله: رأيت رجلًا يزحم الباب، ضخامة الجمل، أي: يضخم ضخامة الجمل.
__________
أي: كان مسندًا هو وفاعله، والمسند إليه مبتدأ، دال على اسم عين "أي: على ذات"، وقد شرحناه، ثم انتقل إلى = المؤكد لنفسه أو لغيره:
ومنه ما يدعونه مؤكدًا ... لنفسه، أو غيره، فالمبتدا
نحو: له علي ألف عرفا ... والثان كابني أنت حقًا صرفا
يريد بالمبتدأ: النوع الأول، وهو المؤكد لنفسه، "عرفًا"، أي: اعترافًا، وهو المصدر المؤكد لنفسه، والأصل اعترف اعترافًا، فحذف الفعل وجوبًا وناب عنه مصدره، و"صرفًا"، أي: خالصًا، وهي نعت لكلمة: "حقًا" أي: حقًا خالصًا لا شبهة فيه، و"حقًا" هي المصدر النائب عن فعله المحذوف وجوبًا، ثم قال:
كذاك ذو التشبيه بعد جمله ... كلي بكًا، بكاء ذات عضله
يريد: المصدر المقصود به التشبيه بعد جملة مشتملة على فاعله المعنوي – كما أوضحنا في الشرح –، ومثل له بمثال هو: "لي بكا بكاء ذات عضلة"، أي: لي بكًا، أبكي بكاء ذات عضلة؛ "فبكاء" هي المصدر الدال على التشبيه، وعامله محذوف وجوبًا ... ولا يصح أن يكون عامله المصدر الذي قبله، وهو كلمة: "بكًا" المقصورة؛ لأن المصدر لا يعمل هنا؛ لأنه ليس نائبًا عن فعله، ولا مؤولًا بالحرف المصدري، وهذان هما الموضوعان اللذان يعمل في كل منهما المصدر الصريح.
و"العضلة" الداهية, و"بكاء ذات عضلة"، أي بكاء من أصابتها داهية.(2/229)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– كررنا أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسمًا مستقلًا بنفسه، ينضم إلى الأقسام الأخرى الشائعة، وأوضحنا1 سبب استقلاله، أما عامله المحذوف فلا بد أن يكون في جميع المواضع القياسية فعلًا مشتركًا معه في المادة اللفظية، وفي حروف صيغتها، كالأمثلة الكثيرة التي مرت، وأما الأمثلة السماعية، فمنها الخالي من هذا الاشتراك اللفظي؛ مثل: ويح – ويل – ويس - ويب ... وأمثالها من الألفاظ التي كانت بحسب أصلها كنايات عن العذاب والهلاك، وتقال عند الشتم والتوبيخ، ثم كثر استعمالها حتى صارت كالتعجب؛ يقولها الإنسان لمن يحب ومن يكره، ثم غلب استعمال: "ويس" و"ويح" في الترحم وإظهار الشفقة، كما غلب استعمال: "ويل" و"ويب" في العذاب.
وإذا نصبت الألفاظ الأربعة – وأشباهها – كانت مفعولات مطلقة لعامل مهمل2،
__________
1 في رقم 4 من هامش ص 209، و 2 من هامش ص 220، ورقم 1 من ص 225.
2 أي: لفعل من لفظها؛ كان يستعمله العرب قديمًا، ثم تركوا استعماله اختيار؛ فصار مهملًا مستغنى عنه؛ شأن كل شيء مهمل، لكن أيجوز استعمال اللفظ الذي أهمله العرب – سواء أكان فعلًا أم غير فعل؟.
الرأي السديد أنه لا مانع من استعماله ما دام معروفًا بنصه وصيغته، ومما يؤيد استعمال الفعل المهمل، ما جاء في المزهر: "ج 2 ص 30 باب: ذكر نوادر من التأليف" ونصه: "قال ابن درستويه في شرح: "الفصيح" إنما أهمل استعمال "ودع، ووذر" – واللذين مضارعهما: يدع ويذر – لأن في أولهما واوًا، وهو حرف مستثقل؛ فاستغني عنهما بما خلا منه، وهو "ترك"، قال: واستعمال ما أهملوا من هذا جائز صواب، وهو الأصل، بل هو في القياس الوجه، وهو في الشعر أحسن منه في الكلام لقلة اعتياده؛ لأن الشعر أقل استعمالًا من الكلام". ا. هـ.
فإن لم يكن معروف الصيغة نصًا، وكان المعروف مصدرًا أو مشتقًا، فقد انطبق عليه رأي بعض اللغويين – كابن جني – وهو يقضي بصحة استعماله، وبإباحة تكملة مادته اللغوية الناقصة بما يجعلها على غرار نظائرها، فالمصدر تشتق منه فروع تساير الفروع التي تشتق من نظيره في الدلالة العامة، وفي الوزن ... ، والمشتق – كاسم الفاعل – وغيره – تكمل له الأنواع، والفروع، ومصدره بما يساير نظائره في كل ذلك، وقد ارتضى مجمع اللغة بالقاهرة هذا المذهب، وسار عليه في بعض قراراته.
وفيما يلي كلام ابن جني:
قال في كتابه الخصائص "ج1 ص362 باب: في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، ما نصه: =(2/230)
أو لفعل من معناها؛ فالأصل: "رحمه الله ويحًا وويسًا بمعنى: رحمة الله رحمة" - أو: "رحمة الله ويحه وويسه، بمعنى رحمه الله رحمته ... " وكذا: "أهلكه الله ويلًا، وويبًا، أو أهلكه الله ويله، وويبه؛ بمعنى أهلكه الله إهلاكًا، وأهلكه الله إهلاكه"، فالفعل مقدر في الأمثلة بما ذكرناه، أو بما يشبهه أداء المعنى من غير تقيد بنص الأفعال السالفة التي قدرناها.
وقيل: إن الكلمات السالفة: "ويح – ويس – ويل – ويب ... " عند نصبها تكون منصوبة على أنها مفعول به؛ وليست مفعولًا مطلقًا؛ فالأصل مثل: ألزمه الله ويحه، أو ويله ... أو ... ، وهذا رأي حسن لوضوحه ويسره، وإن كان الأول هو الشائع، ومثله: بله الأكف "في حالة الكسر" بمعنى: ترك الأكف، أي: اترك ترك الأكف ...
ب– من المصادر المسموعة التي ليس لها فعل من لفظها، ما يستعمل مضافًا وغير مضاف، كالكلمات الخمسة السابقة، فإن كانت مضافة فالأحسن نصبها على اعتبارها مفعولًا مطلقًا لفعل محذوف، أو مفعولًا به، كما شرحنا. والنصف هو الأعلى، ولم يعرف –سماعًا– في كلمة: "بله" المضافة سواه، أما الكلمات الأربع التي قبلها، فيجوز فيها الرفع على اعتبارها مبتدأ خبره محذوف,
__________
= "حكى لنا أبو علي عن ابن الأعرابي أظنه قال: يقال: درهمت الخبازي، أي: صارت كالدرهم؛ فاشتق من الدرهم، وهو اسم عجمي، وحكى أبو زيد – رجل مدرهم، قالوا ولم يقولوا منه درهم؛ إلا أنه إذا جاء اسم المفعول فالفعل نفسه حاصل في الكف، ولهذا أشباه". ا. هـ.
ثم قال بعد ذلك في ص 367 من الفصل نفسه ما نصه:
"ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع؛ فإذا أخذ إنسان على مثلهم، وأم مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعًا، ولا أن يرويه رواية ... ".
وفي ص 127 – باب تعارض السماع والقياس – ما نصه:
"إذا ثبت أمر المصدر الذي هو الأصل لم يتخالج شك في الفعل الذي هو الفرع، قال لي أبو علي في الشام: إذا صحت الصفة "المشتق" فالفعل في الكف. وإذا كان هذا حكم الصفة "المشتق" كان في المصدر أجدر؛ لأن المصدر أشد ملابسة للفعل من الصفة ... "، ثم ضرب أمثلة تحتاج إلى حسن تفهم وأناة ...
وله فصل آخر جليل الشأن، عظيم النفع، عنوانه: فصل في اللغة المأخوذة قياسًا "ج 1 ص 439" – يؤيد ما سبق – وستذكر هنا في آخر الجزء – هذا الفصل كاملًا؛ لأهميته، ونفيس مضمونه.(2/231)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو خبرا والمبتدأ محذوف، وتقدير الخبر المحذوف: ويحه مطلوب – مثلًا – ويله مطلوب – مثلًا – وهكذا الباقي ... وتقدير المبتدأ المحذوف: المطلوب ويحه ... المطلوب ويله ... وهكذا ...
فإذا كانت الكلمات الأربع مقرونة "بأل"، فالأحسن الرفع على الابتداء – وهو
الشائع؛ نحو: الويح للحليف، والويل للعدو، ولا مانع أن تكون خبرًا؛ نحو: المطلوب الويح – المطلوب الويل، ويجوز النصب على أنها مفعول مطلق للفعل المحذوف، أو مفعول به لفعل محذوف أيضًا.
وإن كانت تلك الكلمات خالية من "أل ومن الإضافة" جاز النصب والرفع على السواء؛ كقولهم: "الوعد دين، فويل لمن وعد ثم أخلف" – "ويحًا للضعيف المظلوم"، بالنصب أو الرفع في كل واحدة من الكلمتين.
وملخص الحكم: أن الرفع والنصب جائزان في كل حالات الألفاظ الأربعة غير أن أحد الأمرين قد يكون أفضل من الآخر أحيانًا، طبقًا للبيان السالف1.
جـ– أشرنا2 إلى أن فريقًا من النحاة يجيز عدم التقييد بالسماع، وعدم وجوب حذف العامل في المصادر المسموعة بالنصب على المصدرية لنيابتها من عاملها، مثل: "سقيًا" و"رعيًا" ... كما يجيز في التي ليست مضافة،
__________
1 ويجوز في حالتي الرفع والنصب المذكورتين أن يكون الاسم المفعول لهما مجرورًا باللام؛ نحو: ويح للمحسنين، وويل للظالمين ... أو: ويحًا وويلًا، ومن هذا قول جرير:
كسا اللؤم تيمًا خضرة في جلودها ... فويل لتيم من سرابيلها الخضر
ومن الرفع قولهم: "ويل للشجي من الخلي"، وتفصيل الكلام على ذا المثل العربي من حيث معناه، وتشديد يائه، وتخفيفها ... مدون في مكانه الأنسب – باب: "الصفة المشبهة"، ج 3 ص 274 – ومعه مثل آخر هو: "ما أهون على النائم القرير سهر المسهد المكروب".
أما كلمة: "تعسًا" ... و"بعدًا" – و"تبا"، فأفصح الاستعمالات فيها النصب مع جر معمولها باللام، فيقال: تعسًا للخائن، وبعدًا له "أي: هلاكًا" وتبا له – "راجع كتاب مجمع البيان لعلوم القرآن ج 1 ص 290"؛ وهناك استعمالات أخرى جائزة.
2 في رقم 3 من هامش ص 222.(2/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا مقرونة بأل، أن تضاف، وأن تقترن بأل؛ فتجري عليها الأحكام السالفة في كل حالة، وهذا هو الأنسب اليوم؛ ليسره مع صحته وإن كان الأول هو الأقوى.
د– هناك مصادر أخرى مسموعة بالنصب، وعاملها محذوف وجوبًا، وهي نائبة عنه1.
1- منها: ما هو مسموع بصيغة التثنية مع الإضافة؛ مثل: "لبيك وسعديك"، لمن يناديك أو يدعوك لأمر، والأصل: ألبى لبيك، وأسعد سعديك؛ بمعنى: أجيبك إجابة بعد إجابة، وأساعدك مساعدة بعد مساعدة، أي: كلما دعوتني وأمرتني أجبتك، وساعدتك.، المسموع في الأساليب الواردة استعمال: "سعديك" بعد "لبيك"، واتباع هذه الطريقة الواردة أفضل، لكن يجوز استعمال "سعديك" بدون "لبيك" إن دعت حكمة بلاغية، أما "لبيك"، فالمسموع فيها الاستعمالان.
ومثل: حنانيك في قولهم: "حنانيك، بعض الشر أهون من بعض" بمعنى: حن علي حنانيك؛ "أي: تحنن واعطف" حنانًا بعد حنان، ومرة بعد أخرى – فهي هنا كلمة: "استعطاف".
ومثل: دواليك، في نحو: تقرأ بعض الكتاب، ثم ترده إلي، فأقرأ بعضه، وأرده إليك، فتقرأ وترد ... وهكذا دواليك ... بمعنى أداول دواليك، أي: أجعل الأمر متداولا ومتنقلا بيني وبينك، مرة بعد مرة.
ومثل: هذا ذيك، في نحو: هذا ذيك في غصون الشجر، أي: تهذ هذا ذيك، بمعنى: تقطع مرة بعد مرة، ومثل: حجازيك، في نحو: حجازيك عن إيذاء اليتامى: أي: تحجز حجازيك، بمعنى: تمنع مرة بعد أخرى.
ومثل: حذاريك، في نحو: حذاريك الخائن، أي: احذر حذاريك بمعنى: احذر الخائن، حذرا بعد حذر ...
__________
1 كثير من هذه المصادر متفرق في النصوص الأدبية القديمة وفي المراجع اللغوية، وقد جمع طائفة كبيرة منها شارح المفصل جـ1 ص109 وما بعدها، وكذلك صاحب الهمع، جـ1 ص188 وما بعدها.
وسيجئ تفصيل الكلام عليها من جهة إضافتها في أول الجزء الثالث م94 ص65.(2/233)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمصادر السالفة كلها منصوبة، وعاملها محذوف وجوبًا وهي نائبة عنه، وكلها غير متصرف – في الأغلب -، أي: أنها ملازمة في الأكثر حالة واحدة سمعت بها، وهي حالة النصب والتثنية مع الإضافة إلى كاف الخطاب – التي هي ضمير مضاف إليه – وقد ورد بعضها بغير التثنية، أو بغير الإضافة مطلقًا، أو: بالإضافة مع غير كاف الخطاب، أو: له عامل مذكور ... لكن لا داعي لمحاكاة هذه الأمثلة القليلة؛ فلا خير في محاكاتها، وترك الأكثر الأغلب.
بقي أن نسأل: ما معنى التثنية في الأمثلة السابقة وأشباهها؟ أهي تثنية حقيقية يصير بها الواحد اثنين ليس غير، فيكون معنى: "لبيك"، و"سعديك" و"حنانيك" ... تلبية موصولة بأخرى واحدة، ومساعدة موصولة بمساعدة واحدة، وحنانًا موصلًا بمثله واحد؟ أيكون هذا الاقتصار المعنوي على اثنين هو المراد، أم يكون المراد هو مجرد التكثير الذي يشمل اثنين، وما زاد عليهما؟
رأيان قويان ... ، ولا داعي للاقتصار على أحدهما دون الآخر؛ لأن بعض المناسبات والمواقف المختلفة قد يصلح له هذا ولا يصلح له ذاك، وبعض آخر يخالفه؛ فالأمر موقوف على ما يقتضيه المقام.
2- ومنها ما هو مفرد منصوب ملازم للإضافة –إلا في ضرورة الشعر– مثل: "سبحان1 الله" أي: براءة من السوء، ومثله: معاذ2 الله؛ أي: عياذًا بالله، واستعانة به، ومثل ريحان الله؛ أي: استرزاق الله، ولا يعرف لهذا فعل من لفظه؛ فيقدر من معناه؛ أي: أسترزقه، والكثير استعماله بعد سبحان الله، والثلاثة السالفة غير متصرفة، ومثلها: حاش 3الله؛ بمعنى تنزيه الله.
__________
1 "سبحان" اسم مصدر؛ فهو في حكم المصدر "وقد سبقت الإشارة إليه في: ص 114 م 68"، ومن استعماله غير مضاف لضرورة الشعر قول الأعشى:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
2 سبقت الإشارة الموضحة إليه في ص 114 م 68.
3 تفصيل الكلام عليها وعلى لغاتها وأوجه إعرابها موضح في باب "الاستثناء" ص 354، وفي "ب" من ص 360 عند بيان أنواع: "حاشا".(2/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
3- أمثلة أخرى أكثرها ملازم النصب بغير تثنية ولا إضافة؛ مثل: "سلامًا" من الأعداء، بمعنى: براءة منهم، لا صلة بيننا وبينهم، بخلاف "سلام" بمعنى: "تحية"؛ فإنه متصرف.
ومثل: "حجرًا" في نحو قولك لمن يسألك: أتصاحب المنافق؟ فتجيب: "حجرًا"، أي: أحجر حجرًا؛ بمعنى أمنع نفسي، وأبعده عني، وأبرأ منه1 ...
ومثل قولك لمن يطالب إنجاز أمره: "سأفعله، وكرامة ومسرة – أو: نعمة، أو: ونعام عين – وهذه مضافة" أي: سأفعله وأكرمك كرامة، وأسرك مسرة، وأنعم نفسك نعمة، وأنعم نعام عين، أي: إنعام عين ... بمعنى أمتعك تمتع عين.
4- أمثلة أخرى تختلف عن كل ما سبق في أنها ليست مصادر، ولكنها أسماء منصوبة تدل على أعيان، أي: على أشياء مجسمة محسوسة: "ذوات"، كقولهم في الدعاء على من يكرهونه: "تربًا2 وجندلًا 3"، والأحسن أن تكون هذه الكلمات وأشباهها مفعولًا به لفعل محذوف، والتقدير: ألزمه الله تربًا وجندلًا. أو: لقي تربًا وجندلًا، أو: أصاب، أو: أصاب، أو: صادف ... أو: نحو هذه الأفعال المناسبة لمعنى الدعاء المطلوب ...
__________
1 في الجزء الأول من تفسير القرطبي ص 78 ما نصه:
"العرب تقول عند الأمر تنكره: "حجرًا له" – بضم الحاء – وسكون الجيم – أي: دفعًا له، وهو استعاذة من الأمر". ا. هـ.
وجاء في بعض كتب التفسير الأخرى ما نصه "الحجر – بالكسر وبفتح – الحرام، وأصله: المنع". ا. هـ، وفي كتب اللغة ما يأتي:
جاء في الأساس: "هذا حجر عليك": حرام، "والحاء هناك مضبوطة بالحركات الثلاث، ضبط قلم، "أي بالشكل".
وفي القاموس ما نصه: "الحجر – مثلثه – المنع فصرح بتثليث الحاء".
2 ترابًا.
3 صخرًا.(2/235)
المسألة 77: المفعول له، أو: المفعول لأجله
أ ... لازمت البيت؛ استجمامًا ... - أو: للاستجمام.
زرت المريض؛ اطمئنانًا عليه ... - أو: للاطمئنان.
أتغاضى عن هفوات الزميل؛ استبقاء لمودته ... - أو: لاستبقاء مودته.
أحترم القانون؛ دفعًا للضرر ... - أو: لدفع الضرر.
ب ... تنزهت؛ طلب الراحة ... - أو: لطلب الراحة.
تحفظت في كلامي؛ خشية الزلل ... - أو: لخشية الزلل.
ألتزم الاعتدال؛ رغبة السلامة ... - أو: لرغبة السلامة.
أسال الخبير؛ قصد الاسترشاد ... - أو: لقصد الاسترشاد.
جـ ... أجلس بين الأصدقاء؛ الصلح ... - أو: للصلح.
أطلت المشي بين الزروع؛ التمع بها ... - أو: للتمتع بها.
أسعى بين المتخاصمين؛ التوفق ... - أو: للتوفيق.
هجرت الصحف الهزلية؛ النفور منها ... - أو: للنفور.
كل جملة من الجمل المعروصة تصلح أن تكون سؤالًا معه جوابه على النحو الآتي:
ما الداعي أو: ما السبب في أنك لازمت البيت؟ الجواب: الاستجمام.
ما العلة، أو: ما السبب في أنك زرت المريض؟ ... الاطمئنان.
ما السبب في تغاضيك عن هفوات زميلك؟ استبقاء المودة ...
وهكذا باقي الأمثلة؛ حيث يدل كل مثال على أنه يصلح سؤالًا عن السبب1، جوابه كلمة معه في جملته.
__________
1 والغالب أن تكون أداة الاستفهام هي: "لماذا"؟ أو: "ليم"؟، أو: "ما"؟، أو نحوها من كل ما يسأل به عن السبب.(2/236)
ولو لحظنا الكلمة الواقعة جوابًا لوجدناها – مصدرًا، يبين سبب ما قبله "أي: علته ... "، ويشارك عامله في الوقت، وفي الفاعل1؛ لأن زمن الاستجمام وفاعل الاستجمام هو زمن ملازمة البيت وفاعلها، وزمن الاطمئنان وفاعله، هو زمن زيادة المريض وفاعلها.... وكذا الباقي ...
فكل كلمة اجتمعت فيها الأمور – أو الشروط – الأربعة السالفة تسمى: "المفعول له"، أو: "المفعول لأجله"2 فهو: المصدر3 الذي يدل على سبب ما قبله "أي: على بيان علته"4، ويشارك عامله في وقته، وفاعله ...
أقسامه:
المفعول لأجله ثلاثة أقسام 5 قياسية، مجرد من "أل" والإضافة؛ كالقسم الأول: "أ" ومضاف؛ كالقسم الثاني: "ب" ومقترن بأل؛ كالقسم الثالث "جـ"، وهذا القسم دقيق في استعماله وفهمه، قليل التداول قديمًا وحديثًا –مع أنه قياسي– ومن المستحسن لذلك أن نتخفف من استعماله.
أحكامه:
1- إذا استوفى شروطه جاز نصبه مباشرة، وجاز جره بحرف من حروف
__________
1 وهذا هو الأعم الأغلب الذي يجب الاقتصار عليه.
2 أي: لأجل شيء آخر، بسببه حصل هذا المفعول، فالمراد: ما فعل لأجله فعل.
3 أي الصريح، ومثله: المصدر الميمي، واسم المصدر، وكذلك المصدر المنسبك؛ "وأمثلته في رقم 1 من هامش ص 240"، ومن المصدر الميمي قول الشاعر:
وأمر تشتهيه النفس، حلو ... تركت مخافة سوء السماع
أي: تركته خوف السوء السمعة، وقول الأحنف بن قيس: "رب حلم قد تجرعته؛ مخافة ما هو أشد منه"، أي: خوف الذي هو أشد منه.
4 ولأنه يبين علة ما قبله وسببه لا يكون من لفظ عامله؛ لكيلا يصير مصدرًا مؤكدًا لعامله، والشيء لا يكون علة نفسه، كما سيجيء في رقم 1 من هامش ص 239 ولا من معناه، ولا يبين نوعه، أو عدده؛ لأن هذا كله مناقض للتعليل الذي هو شرط أساسي في المفعول لأجله، ومن أظهر أمثلة التعليل في المصدر كلمة: "شرف" في قول الشاعر:
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفًا ... أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
5 إذا كان المفعول لأجله مضافًا لمعرفة، أو مقترنًا "بأل" التي تفيد التعريف – فإنه يكون معرفة، وإذا كان مجردًا منهما فإنه يكون نكرة.(2/237)
الجر التي تفيد التعليل؛ وأوضحها1: "اللام – ثم: في، والباء، ومن"، والأمثلة السالفة توضح أمر النصب والجر باللام، ومن الممكن حذف اللام من تلك الأمثلة، ووضع حرف جر آخر من حروف التعليل مكانها – لكنه في جميع حالات جره لا يعرب – اصطلاحًا – مفعولًا لأجله، وإنما يعرب جارًا ومجرورًا متعلقًا بعامله، وهذا برغم استيفائه الشروط، وبرغم أن معناه في حالتي نصبه وجره لا يختلف1.
ومع أن النصب والجر جائزان، والمعنى فيهما لا يختلف – هما ليسا في درجة واحدة من القوة والحسن؛ فإن نصب المجرد أفضل من جره، لشيوع النصب فيه، ولتوجيهه الذهن مباشرة إلى أن الكلمة: "مفعول لأجله"، وجر المقترن "بأل" أكثر من نصبه، أما المضاف فالنصب والجر فيه سيان، "وقد تقدمت الأمثلة للأنواع الثلاثة".
فإن فقط شرط من الأربعة2 لم يجز تسميته مفعولًا لأجله، ولا نصبه على هذا الاعتبار؛ وإنما يجب جره بحرف من حروف التعليل السابقة، إلا عند فقد التعليل؛ فإنه لا يجوز جره بحرف من هذه الحروف الدالة على التعليل؛ منعًا للتناقض.
__________
1 من أمثلة "في" التي لبيان السبب "أي: للتعليل" قوله عليه السلام: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها" ... أي: بسبب هرة، ومن أمثلة الباء التي لبيان السبب قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُم} ، أي: بسبب ظلم.
ومن أمثلة "من" الدالة على بيان السبب قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} أي: بسبب إملاق: "فقر".
وسيجيء البيان التام عن هذه الأحرف مع نظائرها من حروف الجر، في الباب الخاص بها، آخر هذا الجزء ص 458.
2 و 2 يرى بعض النحاة أن المفعول لأجله حين يكون منصوبًا، لا يكون منصوبًا بالعامل الذي قبله؛ وإنما يكون منصوبًا على نزع الخافض "أي: عند نزعه من مكانه، وحذفه؛ كما تقدم في رقم 4 من هامش ص 171 من باب: تعدي الفعل ولزومه"، ولا داعي للأخذ بهذا الرأي؛ لما فيه من تكلف وتعقيد بغير فائدة، وحمل على مذهب ضعيف، مردود – طبقًا للبيان السابق في ص 159 و 171 وما بعدهما، ومثله الآراء الأخرى التي تزيد بعض الشروط أو تنقص، ومن الزيادة أن يكون المفعول لأجله "قلبيًا"؛ لأن هذا الشرط مفهوم من شرط آخر، "هو: التعليل؛ إذ التعليل –غالبًا– يكون بأمور قلبية معنوية، لا بأمور حسية من أفعال الجوارح، ويفهم أيضًا من باقي الشروط ...(2/238)
فمثال ما فقد المصدرية: "أعجبتني الحديقة: لأشجارها، وسرتني أشجارها؛ لثمارها"؛ فالأشجار والثمار ليستا مصدرين، ولهذا لم يصح نصبهما مفعولين لأجله، وصارتا مجرورتين.
ومثال ما فقد التعليل: "بعدت الله عبادة، وأطعت الرسول إطاعة1" ... ولا يجوز في هذين، وأمثالهما الجر بحرف جر يفيد التعليل – كما سبق.
ومثال ما لم يتحد مع عامله في الوقت: "ساعدتني اليوم، لمساعدتي إياك غدا"2".
ومثال ما لم يتحد مع عامله في الفاعل: "أجبت الصارخ؛ لاستغاثته"؛ لأن فاعل الإجابة غير فاعل الاستغاثة3.
__________
1 نصب المصدران: "عبادة" و"إطاعة" على المصدرية؛ لأن كلا منهما مصدر مؤكد لعامله، ولا يصلح مفعولًا لأجله؛ لأن الشيء لا يكون علة نفسه، كما سبق في المفعول المطلق المؤكد، فكلاهما فقد شرط التعليل.
2 المراد من اتحاد المصدر مع عامله في الوقت أن يقع، ويتحقق حدث العامل في أثناء ومن تحقق معنى المصدر، فيتحقق المعنيان معًا في وقت واحد؛ مثل: هرب اللص جبنًا، أو: يقع أول زمن العامل في آخر زمن تحقيق المصدر: نحو: حبست المتهم خوفًا من فراره، أو العكس، نحو: جئتك حرصًا على إفادتك.
3 وفيما سبق يقول ابن مالك:
ينصب "مفعولًا له" المصدر، إن ... أبان تعليلًا؛ كجد شكرًا، ودن
أي: ينصب المصدر على اعتباره، مفعولًا له إن أبان تعليل ما قبله؛ أي: إن بين سبب ما قبله، وضرب لهذا مثلًا هو: جد شكرًا، بمعنى: جد لأجل الشكر، فكلمة: "شكرًا" مصدر بين سبب الجود، ومعنى: "دن"، داين الناس بجودك وفضلك: ليشكروك، فهو فعل أمر من دان الرجل غيره بمعنى: صار دائنًا له. ويصح أن يكون فعل أمر من: "دان" بمعنى: صار صاحب دين "بكسر الدال" وعلى المعنيين يصح أن يكون للفعل مفعول لأجله محذوف؛ تقديره، شكرًا. ويكون أصل الكلام: جد شكرًا، ودن شكرًا، ثم قال في بيان بقية الشروط:
وهو –بما يعمل في– متحد ... وقتًا، وفاعلًا، وإن شرط فقد:
فاجرره بالحرف، وليس يمتنع ... مع الشروط، كلزهد ذا قنع
يريد: أنه يكون مفعولًا لأجله بشرط أن يكون متحدًا مع عامله في الوقت والفاعل، وهذا مراده من قوله: "بما يعمل فيه متحد"، أي: وهو متحد بالذي يعمل فيه النصب، والضمير عائد على المفعول له، فإن عقد شرط فاجرر بالحرف، ولا تنصب: ثم بين أن الجر بالحرف ليس ممتنعًا مع استبقاء الشروط؛ مثل =(2/239)
2- ومن أحكامه أنه يجوز حذفه لدليل يدل عليه عند الحذف؛ كأن يقال: "إن الله أهل للشكر الدائم؛ فاعبده شكرًا، وأطعه"، والتقدير: أطعه شكرًا؛ فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، ومثل: "إن الضيف الذي سيزورنا جدير أن نظهر له التكريم في كل حركاتنا؛ فنقف تكريمًا، ونتقدم عند قدومه تكريمًا، ونصافحه ... "، أي: نصافحه تكريمًا، ومثل هذا ما سبق من قول ابن مالك: "جد شكرًا ودن ... ".
__________
= هذا قنع زهدًا؛ فيصح: هذا قنع لزهد، وانتقل بعد ذلك لبيان درجة النصب والجر من القوة البلاغية عند دخولهما في أقسام المفعول لأجله، فقال:
وقل أن يصحبها المجرد ... والعكس في مصحوب "أل" وأنشدوا:
لا أقعد الجبن عن الهيجاء ... ولو توالت زمر الأعداء
"قل أن يصحبها: أي: يصحب الحرف، وأنثه باعتباره: كلمة، ويجوز التذكير باعتبار أنه حرف"، فدخول حرف الجر على المجرد من "أل والإضافة" قليل، ودخوله كثير على المقرون بأل؛ مثل قول الشاعر القديم: لا أقعد الجبن عن الهيجاء ... " أي: لا أقعد عن الهيجاء الجبن، يريد: للجبن، أي: بسبب الجبن".
ولم يتعرض ابن مالك للمضاف، وكلامه السابق بشعر بالحكم، وهو أن النصب والجر سيان، إذ بين أن أحد الثلاثة يكثر فيه النصب دون الجر، وأن واحدًا آخر يكثر فيه الجر دون النصب، وسكت عن الثالث، فالسكوت في هذه الحالة قد يوحي بجواز الأمرين على التساوي.
1 من أمثلة حذفه – قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} .
والأصل: كراهة أن تضلوا، أي: كراهة ضلاكم؛ فالمصدر المؤول مفعول له – كما نص على ذلك صاحب: "المغني" عند الكلام على الحرف: لا.
والمفهوم أن المفعول لأجله "وهو كلمة: كراهة" مضاف إلى المصدر المؤول بعدها، ثم حذف المضاف؛ فقام المضاف إليه مقامه، وأعرب إعرابه –ومثل هذا يقال في المصدر المؤول في الآية الكريمة التالية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} .
أي: كراهة حبوط أعمالكم – في فسادها وضياع قيمتها – وكالذي في الآية التالية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .(2/240)
3- ومنها: أنه – وهو منصوب أو مجرور – يجوز تقدمه على عامله؛ نحو: "طلبًا للنزهة – ركبت الباخرة"، "انتفاعًا – شاهدت تمثيل المسرحية"، والأصل: ركبت الباخرة؛ طلبًا للنزهة – شاهدت تمثيل المسرحية؛ انتفاعًا، وقول الشاعر:
فما جزعًا – ورب الناس – أبكي ... ولا حرصًا على الدنيا اعتراني
والأصل: فما أبكي جزعًا1.
4– ومنها: جواز حذف عامله؛ لوجود قرينة تدل عليه؛ نحو: بعدًا عن الضوضاء؛ في إجابة من سأل: لم قصدت الضواحي؟ ...
5– ومنها: أنه لا يتعدد 2؛ سواء أكان منصوبًا أم مجرورًا؛ فيجب الاقتصار على واحد للعامل الواحد، ولا مانع من العطف عليه أو البدل منه 3 – لهذا قالوا في الآية الكريمة: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} ، أن كلمة: "ضرارًا" مفعول لأجله، والجار والمجرور: "لتعتدوا" متعلقان بها، ولا يصلح أن يكون التعلق في الآية بالفعل إلا عند إعراب: "ضرارًا" حالًا مؤولة؛ بمعنى: مضارين.
__________
1 ومثل هذا كلمة: "شوقًا" في بيت الكميت:
طربت، وما شوقًا إلى البيض أطرب ... ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب؟
يريد: وما أطرب شوقًا إلى البيض، كما يريد: وأذو الشيب يلعب؟ فحذف همزة الاستفهام؛ لأن حذفها كثير للخفة عند أمن اللبس – كما جاء في المحتسب ج 2 ص 205.
2 لأن العلة في وجود الشيء لا تكون إلا واحدة، والسبب الواحد لا يوجد إلا مسببًا عنه واحدًا.
3 ومن أمثلة العطف عليه قول علي رضي الله عنه في بعض الأشرار: "لا تلتقي بذمهم الشفتان؛ استصغارًا لقدرهم، وذهابًا عن ذكرهم"، وكذلك: "لعبًا" في الشطر الثاني من البيت السابق.
ومن أمثلة البدل قول أحد الباحثين: "ما تأملت الكون إلا تجلت لي عظمة الله، وعجائب قدرته؛ فأطأطئ الرأي إخباتًا، خشوعًا، وتواضعًا ... "، فالخشوع هو الإخبات، بدل كل من كل.(2/241)
المسألة 78: ظرف الزمان، وظرف المكان 1
في مثل: "جاءت السيارة صباحًا، ووقفت يمين الطريق؛ ليركب الراغبون" تدل كلمة: "صباحًا" على زمن معروف؛ هو أول النهار وتتضمن في ثناياها معنى الحرف: "في" الدال على الظرفية2، بحيث نستطيع أن نضع قبلها هذا الحرف، ونقول: "جاءت السيارة في صباح، ووقفت يمين الطريق"؛ فلا يتغير المعنى مع وجود "في"، ولا يفسد صوغ التركيب، فهو حرف عند حذفه هنا ملاحظ كالموجود، يراعى عند تأدية المعنى؛ ولأن كلمة: "صباحًا" ترشد إليه، وتوجه الذهن لمكانه؛ وهذا هو المقصود من أن كلمة "صباحًا" تتضمنه 3.
ولو غيرنا الفعل: "جاء"، ووضعنا مكانه فعلًا آخر؛ مثل: وقف – ذهب – تحرك ... – لبقيت كلمة: "صباحًا" على حالها من الدلالة على الزمن المعروف، ومن تضمنها معنى: "في"، وهذا يدل على أن تضمنها معنى: "في" مطرد4 مع أفعال كثيرة متغيرة المعنى.
__________
1 يسمى الظرف بنوعيه: "المفعول فيه"، وهو نوع من: "شبه الجملة"، وكذا من "شبه الوصف" كما سيجيء في رقم 1 من هامش الصفة الآتية.
2 أي: "على أن شيئًا في داخل شيء آخر"؛ فالغلاف الخارجي هو الظرف، وما في داخله هو: المظروف؛ نحو: الماء في الكوب، وفي مثل: "السفر اليوم"، يكون الظرف هو اليوم، والمظروف هو السفر.
3 فالمراد من تضمنها: أنها تشير إلى معنى "في" من غير أن تتضمن لفظه، أو تنوب عنه في أداء معناه، أو عمله، أو تكتسب شيئًا بهذا التضمن، ولولا ذلك لوجب بناء هذه الظروف؛ "لما يسميه النحاة: "السبب التضمني، أو المعنوي" وهو يمنع غالبًا، ظهور الحرف وقد سبق بيانه في الجزء الأول، ص 60 م 7، وهو يزيد الأمر هنا وضوحا" مع أن أكثر الظروف معرب، برغم تضمنه معنى: "في".
4 أي: مستمر في مختلف الأحوال، ومع كل الأفعال ومشتقاتها العاملة، غير مقصور على نوع معين منها، لكن يجب ملاحظة أمور ثلاثة.
أولها: أن كلمة: "في" لا يصح التصريح بها مع الظروف التي لا تتصرف كما سيجيء في رقم 4 من ص 236 و"د" من ص 270 بخلاف المتصرفة. =(2/242)
بخلاف ما لو قلنا: الصباح مشرق – صباح الخميس معتدل، ... فإن كلمة: "الصباح" في المثالين، وأشباهما تدل على الزمن المعروف، ولكنها لا تتضمن معنى "في"، فلو وضعنا هذا الحرف قبلها لفسد الأسلوب والمعنى المراد منه؛ إذ لا يصح أن يقال: في الصباح مشرق – ولا في صباح الخميس معتدل؛ ومن أجل هذا لا يصح اصطلاحًا تسمية كلمة: "الصباح" في هذين المثالين ظرف زمان؛ لعدم وجود شيء مظرف فيها، بالرغم من أنها تدل على الزمان فيهما.
وتدل كلمة: "يمين" في المثال الأول على المكان؛ لأن معناها وقفت السيارة في مكان؛ هو: "جهة اليمين"، وهي متضمنة معنى: "في"، إذ نستطيع أن نقول: وقفت في اليمين، أو: في جهة اليمين؛ فلا يتغير المعنى.
ولو غيرنا الفعل، وجئنا بآخر، فآخر ... لظلت كلمة: "يمين" على حالها من الدلالة على المكان، ومن تضمنها معنى "في" باطراد.
بخلاف قولنا: اليمين مأمونة – إن اليمين مأمونة – خلت اليمين ... فإنها في هذه الأمثلة وأشباهها – لا تتضمن معنى الحرف: "في"، ويفسد الأسلوب والمعنى بمجيئه؛ إذ لا يقال: في اليمين مأمونة، وكذا الحال في باقي الأمثلة وأشباهها؛ لهذا لا يصح تسميتها في هذه الأمثلة ظرف مكان، لعدم وجود شيء مظرف فيها ...
فكلمة: "صباحًا" في المثال الأول ونظائرها تسمى: ظرف "زمان". وكلمة "يمين" ونظائرها، تسمى: "ظرف مكان".
فالظرف1 هو: "اسم منصوب يدل على زمان أو مكان، ويتضمن معنى:
__________
= وثانيها: أن نوعين من الظروف المكانية لا ينصبهما إلا أفعال معينة خاصة، أو مشتقاتها؛ فلا يتضمنان في الأعم الأغلب معنى: "في" باطراد كما سيجيء في رقم 3 من هامش ص 235 فالظروف الدالة على المقادير لا تنصبها إلا أفعال السير ومشتقاتها، والظروف التي تلاقي فعلها في الاشتقاق إنما ينصبها ما تجتمع معه في حروف مادته من فعل، أو وصف بعمل عمله.
ثالثها: أن أسماء الزمان التي تلاقي فلها في الاشتقاق، ينصبها ما تجتمع معه في حروف مادته من قل: أو وصف يعمل عمله ... "انظر "ج" من ص 254".
1 يسمى الظرف بنوعيه: "المفعول فيه" كما سبق في رقم 1 من هامش الصفحة الماضية، وقد يطلق الظرف في كلام الأقدمين أحيانًا مرادًا منه الجار مع مجروره؛ لأن كلمة: "الظرف" عندهم قد تشمل "شبه الجملة" بنوعيه، وتطلق على كل منهما، صرح بهذا: "المغني" جـ 1 في مبحث: "كيف" والهمع =(2/243)
"في" باطراد1 ... "، وينقسم إلى ظرف زمان، وظرف مكان2.
أحكام الظرف بنوعيه:
أشهرها سبعة:
1– أنه منصوب3 على الظرفية4، فلو كان مرفوعًا، أو كان منصوبًا لداع آخر غير الظرفية، أو مجرورًا 4ولو كان الجار هو: "في" الدالة على الظرفية فإنه لا يسمى ظرفًا، ولا يعرب ظرفًا، ولو دل على زمان أو مكان5.
وناصبه ويسمى: عامله إما مصدر؛ نحو: المشي يمين الطريق أسلم. والجري وراء السيارات يعرض للأخطار.
وإما فعل6 لازم أو متعد، نحو: أنجزت عملي مساءً، ثم قعدت أمام المذياع، أتمتع به.
__________
= ج 1 في باب الظرف" – في المبحث المستقل الذي عنوانه "كيف" ص 214، وكذا الخضري – وغيره، في ج 1 باب: "المبتدأ والخبر" عند بيت ابن مالك الذي نصه: "وفي" جواب كيف زيد؟ قل دنف ... ".
وانظر النحو الوافي "ج1 م 39 ص362 من الطبعة الثالثة.
وشبه الجملة يسمى أيضًا: "شبه المشتق"، أو: شبه الوصف" للسبب المدون في رقم 3 من هامش ص 373".
أما حكم شبه الجملة بنوعيه: "الظرف، والجار مع مجروره" بعد المعارف والنكرات فيجيء في ص 446.
1 أي: بأن يتعدى إليه كل الأفعال مع بقاء تضمنه في المعنى لذلك الحرف الدال على احتواء الظرف لمعنى عامله، إلا الظروف التي أشرنا إليها "في رقم 4 من هامش ص 242"، ومنها نوعان لا يتضمنان معنى "في" إلا في حالات معينة يكون فيها الفعل العامل أو مشتقاته من نوع معين؛ فهما بسبب هذا التعين لا يتضمنان معنى "في" باطراد.
2 وفي هذا يقول ابن مالك:
الظرف وقت أو مكان ضمنًا: ... "في" باطراد؛ "كهنا" أمكث "أزمنا"
والأحسن في: "ضمنا" أن تكون ألفه للتثنية المراد منها الوقت والمكان، وكلمة: "أو" للتنويع، بمعنى الواو.
3 إما مباشرة؛ لأنه معرب مثل: يوم وراء ... ، وإما مبني في محل نصب. مثل: حيث – منذ.
4 و 4 انظر "أ" من ص 259 حيث الكلام على الظرف المتصرف.
5 كالصور التي يجب فيها جزء بالحرف: "في" وإعرابهما بعد ذلك خبرًا لمبتدأ، وقد سبقت في باب المبتدأ والخبر، ج 1 م 35.
6 تام أو ناقص، جامد أو متصرف ... ، أو غير ذلك ... إلا الفعل: "ليس" ففي التعلق به، خلاف "وسيجيء الكلام على سبب التعلق في ص 249، وفي باب حروف الجر، ص 436 ب".(2/244)
وإما وصف1 حقيقي عامل، "اسم فاعل، اسم مفعول ... " نحو الطيارة مرتفعة فوق السحاب، والسحاب مركوم تحتها لا يعوقها.
إما وصف تأويلًا؛ ويزاد به الاسم الجامد المقصود منه الوصف بإحدى الصفات المعنوية، مثل: أنا عمر عند الفصل في قضايا الناس، وأنت معاوية ساعة الغضب، فالظرف: "عند" منصوب بكلمة: "عمر", والمراد منها: "العادل". وكلمة: "ساعة" منصوبة بكلمة: "معاوية" والمراد منها: الحليم2 ...
2- ولا بد أن يتعلق3 الظرف بناصبه "أي: بعامله"، وليس من اللازم أن يكون عامله متقدمًا عليه؛ كالأمثلة السالفة، فقد يكون متأخرًا عنه؛ كقولهم: "الجر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد"، والمشهور أنه لا يتعلق بعامله المباشر إن كان هذا العامل حرفًا من "حروف المعاني"4.
__________
1 أي: مشتق، والحقيقي: غير التأويل الآتي.
2 وقد يكون ناصبه هو العامل في المنادى؛ كالطرف: "بين" في قول الشاعر:
يا دار بين النقا والحزن ما صنعت ... يد النوى بالألى كانوا أهاليك؟
وسيجيء بيان هنا، وفي باب: "المنادى"، ج 4 م 127.
3 معنى التعلق موضح في "ب" ص 267، وفيها أن التعلق قد يكون بعامل معنوي، وهو: "الإسناد".
4 المراد من: "حروف المعاني" موضح، في صدر الجزء الأول "م 5" عند الكلام على موضوع: "الحرف" ومن أنواعها: حروف العطف، وحروف الاستفهام، وحروف النفي ... و ...
ونزيد هنا ما يقول صاحب " المفصل" في ج 8 ص 7 من أنها حروف جاءت عوضًا عن الجمل، ومفيدة معناها، بأوجز لفظ، فكل حرف منها يفيد فائدتها المعنوية مع الإيجاز والاختصار؛ فحروف العطف جيء معناها، بأوجز لفظ، فكل حرف منها يفيد فائدتها المعنوية مع الإيجاز والاختصار؛ فحروف العطف جيء بها عوضًا عن: "أعطف"، وحروف الاستفهام جيء بها عوضًا عن: "أستفهم" وحروف النفي إنما جاءت عوضًا عن "أجحد"، أو: "أنفى"، وحروف الاستثناء جاءت عوضًا عن: "أستثني"، أو: "لا أقصد"، وكذلك لام التعريف نابت عن: "أعرف"، وحروف الجر جاءت لتنوب عن الأفعال التي بمعناها؛ فالباء نابت عن: ألصق مثلًا والكاف ثابت عن أشبه، وكذلك سائر حروف المعاني: كأحرف النداء والتمني ...
وقد عقد صاحب المغني في الجزء الثان من كتابه فضلًا من شبه الجملة بنوعيه "الظرف، والجار مع مجروره"، عنوانه: "هل يتعلقان بأحرف المعاني"؟ ملخصة: أن هناك ثلاثة آراء: =(2/245)
3- أن عامله قد يحذف جوازًا، أو وجوبا، فيحذف جوازا حين يدل عليه دليل؛ كأن يقال: متى حضرت؟ فيجاب: يوم الجمعة؛ أي: حضرت يوم الجمعة، ومتى وصلت يوم الجمعة؟ فيجاب: مساءً، أي: وصلت مساءً، ومثل: كم ميلًا مشيت؟ فيجاب: ميلين؛ أي: مشيت ميلين، ويسمى الظرف الذي ذكر عامله أو حذف جوازًا لوجود قرينة تدل عليه: "الظرف اللغو"1، أما الذي حذف عامله وجوبًا فيسمى: "الظرف المستقر"1.
__________
= أولها: المنع مطلقًا، وهو المشهور، ثانيها: الجواز مطلقًا، ثالثها: التفصيل؛ فإن كان حرف المعنى نائبًا عن فعل حذف جار ذلك على طريق النيابة، لا الأصالة، وإلا فلا؛ فنحو "يا لمحمد" يكون الجار والمجرور متعلقين بالحرف: "يا"، لنيابته عن "أدعو"، أو: "أنادي".
وأما الذين قالوا بالجواز مطلقًا، فمثلوا له بقول الشاعر:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن عضيض الطرف مكحول
فالظرف: "غداة" ظرف للنفي، أي: انتفى كونها في هذا الوقت إلا كأغن، ولا يصح تعلقه بما بعد "إلا"؛ لأن معمول المستثنى لا يتقدم عليهما كما سيجيء في بابه ص 328 م 81، ومثل: ما ضربت الغلام للتأديب، فإن قصدت نفي ضرب معلل بالتأديب فالجار والمجرور متعلقان بالفعل، والمنفي ضرب مخصوص، وللتأديب تعليل للضرب المنفي، أما إذا قصدت نفي الضرب على كل حال فالجار والمجرور متعلقان بالنفي، والتعليل له، أي: أن انتفاء الضرب كان لأجل التأديب؛ لأنه قد يؤدب بعض الناس بالصفح عنه، وتركك إياه دون أن تضربه.
ومثله في التعلق بحرف النفي عندهم: ما أكرمت المسيء لتأديبه، وما أهنت المحسن لمكافأته؛ إذ لو علق هذا بالفعل لفسد المعنى المراد، ومثل هذا قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ؛ فالباء متعلقة بالنفي؛ إذ لو علق الجار والمجرور بكلمة: "مجنون" ولم يتعلقا بالنفي لأفاد نفي جنون خاص؛ هو الجنون الذي يكون من نعمة الله، وليس في الوجود جنون هو نعمة، ولا المراد نفي جنون خاص ... و ...
ثم قال صاحب المغني تعليقًا على هذا الرأي ما نصه:
"هذا كلام بديع، إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلق بالحرف، فينبغي على قولهم أن يقدر التعلق بفعل دل عليه النافي ... و ... ". ا. هـ.
وإذا كان الكلام السالف بديعًا "كما يقول بحق صاحب المغني"، فكيف لا يوافق عليه جمهرة النحاة بعد ما بدا له من تلك الآثار المعنوية الهامة التي كشفها أصحابه، وأبانوا جليل قدرها؟ ولم التقدير والتأويل من غير داع؟
لهذا لم يكن بد من الاطمئنان إلى ذلك الكلام والاقتصار عليه، وإن خالفه الجمهور بغير حجة واضحة، اللهم إلا إن كان القصد أن التعلق بالفعل الذي يدل عليه النافي أظهر وأبين، فهذا صحيح.
1 و 1 تكلمنا بإسهاب على الظرف "اللغو" والظرف "المستقر" بفتح القاف، وعن =(2/246)
ويجب حذف هذا العامل في ستة مواضع:
أن يقع خبرًا، أو حالًا، أو صفة، أو صلة، أو مشتغلًا1 عنه، أو لفظًا مسموعًا عن العرب محذوفًا في أكثر استعمالهم، فمثال الخبر: الأزهار أمامنا، والزروع حولنا، ومثال الحال: هذا الأسد أمام مروضه كالفأر، ومثال الصفة: إن شهادة زور أمام القضاء قد تحفر هوة سحيقة تحت أقدام شاهدها، ومثال الصلة: احتفيت بالصديق الذي معك، ومثال الاشتغال: يوم الأحد سافرت فيه2. ومثال المسموع: حينئذ الآن.
__________
= سبب التسمية؛ وما يصحبها من أحكام مختلفة؛ في الجزء الأول "في ص 271 م 27 و 246 م 35"، وهي أحكام هامة "منها: أن الظرف اللغو لا يقع بنفسه خبرًا، ولا صلة ... و ... وإنما الذي يقع هو عامله المذكور، أو المحذوف جوازا لقرينة -كما سيجيء في، في ص249- وبعضها يؤدي إلى تيسير محمود، ثم عدنا إلى الكلام المفصل مرة أخرى في هذا الجزء الثاني بمناسبة الكلام على حروف الجر، وتعلقها بعامل محذوف – وغيره – وآثاره من النواحي المختلفة "في رقم 3 من هامش ص 245"، والموضوع كله جدير بالاطلاع عليه.
1 تقدم باب الاشتغال في هذا الجزء ص 124.
2 القياس في الاشتغال بمعناه العام أن نقول: سافرته، إلا أن الضمير العائد على الظرف يغلب جزء بفي، وقد تحذف تيسيرًا وتوسعًا؛ - كما قالوا – على تخيل أن الفعل اللازم متعد بنفسه، وبناء على هذا التخيل يكون الضمير المتصل به مباشرة، مفعولًا به، لا ظرفًا – بالرغم من أنه عائد على الظرف، ويصير الفعل متعديًا بنفسه، "راجع الصبان في هذا الموضع، ثم المفصل ج 2 ص 46"، وهذا التخيل يؤدي إلى اللبس والخلط بين المتعدي واللازم، فالخير في إبقاء حرف الجر وجوبًا كما يرى كثرة النحاة، أما عند حذفه فالأنسب إعراب الضمير ظرفًا؛ لأنه راجع إلى الظرف – "انظر رقم 2 من هامش ص 126 ثم من ص 252".
ومما فيه إشارة إلى التخيل السالف كلام "أبي علي القالي" في كتابه: "ذيل الأمالي والنوادر" – ص 3 – عند عرضه قصيدة الأبيرد الرياحي في رثاء أخيه، ومطلعها:
تطاول ليلي لم أنمه تقلبًا ... كأن فراشي حال من دونه الجمر
قال: أبو علي، بعد الفراغ منها ما نصه: "قال أبو الحسن – يريد: أبا الحسن علي بن سليمان الأخفش – من روى: "لم أنمه" جعله مفعولًا به على السعة، كما قالوا: "اليوم صمته"، والمعنى: لم أنم فيه، وصمت في اليوم، جعله مثل: زيد ضربته". ا. هـ.
ومثل هذا في كتاب: "الكامل للمبرد" – ص 27 – فقد نقل في باب عنوانه: "من كلام العرب: الاختصار" حذف كلمة "في" من قول العرب: "أقمت ثلاثًا ما أذوقهن طعامًا ولا شرابًا"، وقول الراجز: "في اسعة يحبها الطعام" – ببناء المضارع للمجهول – ثم قال بعد ذلك: "يريد في اسعة يحب فيها الطعام. وكذلك الأول معناه ما أذوق فيهن ... ، وذلك أنه ضمير الظرف تجعله العرب مفعولًا به على السعة؛ كقولهم يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته ... ؛ فهذا يشبه في السعة بقولك: "زيد ضربته" وما شابهه، فهذا بين". ا. هـ.(2/247)
والعامل المحذوف في الثلاثة الأولى يصح أن يكون وصفًا أو فعلًا؛ فالتقدير على اعتباره وصفًا هو: "مستقر، أو موجود، أو كائن، أو حاصل ... ، وأشباه هذا مما يناسب"، وعلى اعتباره فعلًا هو: "استقر – وجد – كان التي بمعنى: وجد – حصل ... وأشباه هذا مما يناسب".
أما مع الصلة فيجب أن يكون فعلًا1؛ لأن الصلة لغير "أل" لا بد أن تكون جملة فعلية، والوصف مع مرفوعه ليس جملة2.
والأحسن في "المشغول عنه" هنا، وفي "المسموع" أيضًا أن يكون فعلًا، فأصل المشغول عنه: سافرت يوم الأحد سافرت فيه، وأصل المسموع في قولهم: حينئذ الآن، هو: "كان ذلك حينئذ، واسمع الآن3".
__________
1 وكذلك العامل المحذوف في – القسم؛ لأن القسم والصلة – لغير أل –، لا يكونان إلا جملتين، ولن يتحقق هذا إلا بتقدير العامل المحذوف فعلًا، وليس اسمًا مشتقًا يشبهه – كما سيجيء في باب حروف الجر ص 500 – أما صلة "أل" فصفة صريحة؛ فيجب أن يكون المحذوف اسمًا مشتقًا يصلح أن يكون صلة لها على الوجه الذي تقدم بيانه عند الكلام عليها في باب الموصول والصلة "ج1 ص 253 م 26 و 271 م 27".
2 إذا كان المحذوف في الصلة وغيرها هو متعلق الظرف، فهل يجوز أن نقول: إن الظرف نفسه هو الصفة، أو الصلة، أو الحال، أو الخير، ونستريح من التقدير؟.
الجواب؛ نعم، "وتفاصيل هذا وأدلته قد سبقت في ج 1 ص 272، م 27 وفي باب المبتدأ والخبر شبه الجملة، م 35 وسيجيء تلخيصها في الزيادة "ص 249"، وفي: "باب حروف الجر" "رقم 3 من هامش ص 445".
3 هذا مثل يقال لمن ذكر أمرًا تقادم عهده، أي: "حصل ووقع ما تقوله حين إذ كان كذا وكذا، واسمع الآن كلامي"، فهما جملتان، والمقصود منعه من ذكر ما سبق، وأمره بسماع ما يقال له الآن.
وفي نصب الظرف وحذفه عامله جوازًا أو وجوبًا يشير ابن مالك بقوله:
فأنصبه بالواقع فيه مظهرًا ... كان، وإلا فانوه مقدرًا
وكل وقت قابل ذاك، وما ... يقبله المكان إلا مبهمًا
نحو: الجهات، والمقادير وما ... صيغ من الفعل؛ كمرمى من رمى
الظرف يقع فيه المعنى إما من المصدر المجرد، أو من الفعل، أو من الوصف العامل – وهو هنا يقول: انصب الظرف بالعامل الذي معناه يقع في هذا الظرف، فالمراد: انصبه بواحد من الأشياء السالفة إن كان موجودًا، وإلا فقدره، ثم بين أن كل وقت، - أي: ظرف للزمان – يقبل النصب على الظرفية، مبهمًا كان أم مختصًا، أم ظرف المكان فلا ينصب منه إلا ما ذكره من الجهات، والمقادير، وما صيغ من الفعل.
"وسيأتي شرح هذا في ص 252".(2/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
إذا كان عامل الظرف محذوفًا وجوبًا بعض المواضع1، فما الداعي إلى ملاحظته عند الإعراب، ووجوب تقديره في تلك المواضع، واعتباره هو الخبر أو الصفة، أو الحال، أو الصلة، أو ... ، دون الظرف نفسه؟ لم لا يكون الظرف نفسه هو الخبر، أو الصفة، أو الحال، أو الصلة، أو ... في تلك المواضع ما دام متعلقة المحذوف واجب الحذف، ولا يصح ذكره بحال؟ وإذا كان كلام العرب خاليا منه دائمًا فكيف عرفنا أنه محذوف؟ إن الحكم بالحذف يقتضي علمًا سابقًا ومعرفة من اللغة بأن هذا المحذوف أو نظائره قد وجد حقيقة في الكلام العربي، ثم حذف لسبب طارئ، وهذه المعرفة لم توجد حقًا، فكيف حكمنا إذا بأنه محذوف؟ ... إلى غير هذا مما يحتج به المعارضون، وينتهون منه إلى أن الظرف نفسه هو الخبر، أو الصفة، أو ... أو ... ، وليس من اللازم في رأيهم أن يكون هذا الظرف منصوبًا بالعامل المحذوف، فقد يكون منصوبا بشيء آخر في الجملة، أو بعامل معنوي كالحذف ... أو بغير عامل ... ، ولا ضرر في هذا عندهم.
وفريق منهم يقول: إن خصائص العامل ومنها: معناه، وتحمله للضمير قد انتقلت للظرف؛ فلا مانع أن يكون الظرف نفسه بعد هذا هو الخبر، أو: الصفة ... أو ...
"وقد أشرنا لهذا الرأي في ص 447، وسبق إيضاحه في الجزء الأول، هامش ص 271 م 27 وص 346 م 35"، وأنه رأي مقبول عند بعض القدامى المحققين".
أما الذين يحتمون أن يكون العامل المحذوف هو الخبر، أو الصفة ... أو ... دون الظرف، ويشترطون أن يكون للظرف في تلك المواضع متعلقًا هو الخبر أو الصفة ... أو ... ، فلهم حجة منطقية قوية، ولكنها على قوتها تتسع للتيسير والتخفيف بغير ضرر، وتنتهي إلى ما يقوله المعارضون؛ هي: أن الزمان المجرد لا وجود له؛ فمن المستيحل أن يوجد زمان لا يقع فيه حادث جديد، أو لا يستمر فيه حادث موجود، فخلو الزمان من أحداث جديدة، أو مستمرة محال. وبتعبير
__________
1 سبق بيانها في ص 247.(2/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أدق: لا بد من اقتران كل حادث بزمان، ويستحيل أن يوجد حادث في غير زمان، ولهذا سمي الزمان ظرفًا؛ تشبيهًا بالظرف الحسي كالأواني والأوعية التي توضع في داخلها الأشياء، وإذا كان الأمر هكذا فكل زمان مقرون حتمًا بالحادث المتصل به الواقع فيه، وكثير من هذه الحوادث أمر عام يدل على مجرد "الوجود المطلق" من غير زيادة معنوية عليه، فهو معروف، فلا داعي لذكره؛ إذ لا فرق في المعنى بين: قولنا: "السفر حاصل غدًا"، وقولنا: "السفر غدًا"؛ لأنه هو والزمان متلازمان كما سلف؛ فذكر الثاني كاف في الدلالة على وجود المحذوف؛ فهو مع حذفه ملاحظ وكأنه موجود، هذا من الناحية العقلية المحضة1.
وهناك شيء آخر يقولونه في شبه الجمة الواقع خبرًا أو غير خبر من الأشياء التي سلفت؛ هو: أن اللفظ الدال على الزمان لا يكمل وحده بغير متعلقه المعنى الأساسي للجملة، ولا يستقل بنفسه في تحقيق فائدة تامة، وإنما يجيء لتكملة معنى آخر فيما يسمى: "العامل"؛ فليس من شأن اللفظ الزماني أن يتمم المعنى الأساسي المراد بغير ملاحظة العامل المحذوف؛ فلولا ملاحظته في مثل: "السفر يوم الخيمس" لكان المعنى: السفر زمان، وهذا الزمان يوم الخميس، وبعبارة أخرى: السفر هو يوم الخميس نفسه، ويوم الخميس هو السفر، والمعنى لا شك فاسد، مع أن الثابت المقرر من استقراء كلام العرب يوجب أن يكون الخبر هو المبتدأ في المعنى، والمبتدأ هو الخبر في المعنى كذلك، ولا فساد في ذلك مطلقًا.
ومثل هذا يقولون في ظرف المكان؛ فالمكان المجرد لا وجود له؛ فمن المستحيل أن يوجد مكان لا تقع فيه أحداث جديدة، أو تستمر يه أحداث قديمة؛ فالحوادث والأماكن مقترنان متلازمان على الدوام، فذكر الثاني في الكلام كاف في الدلالة على وجود المحذوف الملاحظ حتمًا، فيتساوى المعنى بين: "علي موجود في البيت" و"علي في البيت، وكذلك بين" "علي موجود أمامك"، و"علي
__________
1 بل إن الظرف بنوعيه لا بد أن يدل في أصله على: "الوجود المطلق"، ثم يمتاز "اللغو" بدلالته فوق هذا على معنى خاص آخر، كالأكل، أو الشرب، أو غيرهما مما يزاد عليه فيجعله خاصًا مقيدًا بعد أن كان عامًا مطلقًا، وسيجيء الموضوع بيان في باب: "حروف الجر"، عند الكلام على شبه الجملة رقم 3 من هامش ص 445.(2/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أمامك"، هذا إلى أن ظرف المكان وحده بغير ملاحظة عامله المحذوف لا يتمم المعنى الأساسي المراد، ولا يكمل القصد؛ فالمكان إنما يجيء لتكملة معنى، ولا يمكن أن يستقل بإيجاد معنى أساسي جديد، وإذا ثبت أن لكل حادثة زمنًا فلا بد لها من مكان أيضًا، وإذا استحال أن يخلو زمان من حادثة استحال أن يخلو مكان من حادثة أيضًا.
ولولا ملاحظة المحذوف لكان المبتدأ في مثل: "الجلوس فوق" هو نفس الخبر، أي: أن: الجلوس هو "فوق"، "وفوق" هو الجلوس ذاته1، وهذا معنى فاسد، ومثل هذا يقولون في الجار مع مجروره؟
تلك هي الأدلة القوية، ولا حاجة لغير المتخصصين بمعاناتها، وحسبنا أن نحكم بقوة الرأي القائل بأن شبه الجملة هو الخبر، أو الحال، أو ... ، وأنه رأي سديد لا مانع من مسايرته، على الوجه المدون في الجزء الأول في الصفحات المشار إليها.
__________
1 لما تقرر من أن المبتدأ هو الخبر في المعنى، والخبر هو المبتدأ في المعنى في غير هذه المواضع.(2/251)
4– أن أسماء الزمان الظاهرة1 كلها تصلح للمنصب على الظرفية، يتساوى في هذا ما يدل على الزمان المبهم2، وما يدل على الزمان المختص4 فمثال الأول: عملت حينًا، واسترحت حينًا، ومثال الثاني: قضيت يومًا سعيدًا في الضواحي، وأمضيت يوم الخميس في الريف، كما يتساوى في هذا ما كان منها جامدًا؛ مثل: يوم، وساعة ... وما كان مشتقًا مرادًا به الزمان؛ كصيغتي: "مفعل، ومفعل" بفتح العين وكسرها القياسيتين الدالتين على "الزمان"، بشرط أن تكون الصيغ القياسية المشتقة جارية على عاملها "أي: مشتركة معه في مثل
__________
1 بخلاف المضمرة كضمير الظرف في مثل: يوم الجمعة سرت فيه فإنه ظرف يجر بالحرف: "في" وجوبًا؛ فلا يقال: سرته، إلا على رأي يبيح التوسع بحذف حرف الجر قبله، وإعرابه مفعولًا به، "وقد سبق البيان والتفصيل في رقم 2 من هامش ص 247 وله إشارة في رقم 2 من هامش ص 126".
2و2 اسم الزمان المبهم هو: النكرة التي تدل على زمن غير محدود، "أي: غير مقدر بابتداء معين، ونهاية معروفة"؛ مثل: حين، وقت، مدة، زمن، أو: تدل على وجه من الزمان دون وجه، مثل: صباح، عشية، غداة، "كما سيجيء في ص 301م 79 أما الإيضاح الأنسب فهو في باب الإضافة ج3م 94".
والمختص: عكسه؛ ومنه المقدر المعلوم؛ لتعريفه بالعملية؛ كرمضان، أو بالإضافة مثل: زمن الشتاء، أو بأل، مثل: اليوم ... ، ومنه أيضًا: المقدر غير المعلوم؛ كالنكرة المعدودة غير المعينة، نحو: سرت يومًا أو يومين، والنكرة الموصوفة كسرت زمنًا طويلًا.
وهناك فرق آخر يترتب على ما سبق؛ هو: أن الظرف الزماني المبهم بمنزلة التأكيد المعنوي لزمن عامله؛ لأن معنى: سار الرجل، هو: حصول سير من الرجل في زمن فات، فإذا قلنا: "سار الرجل زمنًا" كان المعنى أيضًا: حصول سير الرجل في زمن فات، فالظرف الزماني لم يفد إلا التأكيد العنوي للزمن؛ كما قلنا، ومنه "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا"، فكلمة: "ليلا" ظرف زمان يؤكد زمن الفعل، "أسرى"؛ لأن الإسراء لا يكون إلا ليلًا.
أما الظرف المختص فيفيد التأكيد المعنوي مع الزيادة الدالة على الاختصاص. وعلى هذا يكون من الظروف الزمانية ما يؤكد عامله كما يقع تأكيد العامل بالمصدر والحال، ومنها ما يؤكده مع زيادة أخرى؛ كالشأن في المصدر المبين للنوع أو للعدد، وقد سبق.
وسيجيء الكلام على الظرف المؤكد والمؤسس في "ب" من ص 257.
وظرف الزمان المبهم غير الأسماء المبهمة التي سبق الكلام عليها في ج 1 ص 305 "ج" م 25، وفي رقم 3 من هامش ص 306 م 26".
وبمناسبة الكلام على الظرف الزماني المضاف تردد كتب اللغة "أن العرب لم تضف كلمة: "شهر" إلا إلى "رمضان، والربيعين" لكن لا مانع من إضافتها إلى الشهور الأخرى، ولا مانع كذلك من ترك الإضافة إلى: "رمضان والربيعين" وغيرهما؛ كما نص على ذلك النحاة.
"راجع الصبان ج 1 عند الكلام على الظرف "المبهم والمختص"، وكذلك الهمع ج1 باب "الظرف" ص 199 حيث البيان أوسع.(2/252)
حروفه الأصلية"، مثل: قعدت مقعد الضيف، أي: زمن قعود الضيف1.
أما أسماء المكان فلا يصح منها للنصب على الظرفية إلا بعض أنواع:
أ- منها: المبهم2 وملحقاته؛ نحو: الجهات الست، في مثل: وقف الحارس أمام البيت وطار العصفور فوقه ... ، فإن كان المكان مختصًا لم يصح نصبه على الظرفية، ووجب جره بالحرف: "في" إلا في حالتين:
الأولى: أن يكون عامل الظرف المكاني المختص هو الفعل: "دخل" أو: "سكن" أو: "نزل"، فقد نصب العرب كل ظرف مختص مع هذه الثلاثة؛ نحو: دخلت الدار، وسكنت البيت ... ، ونزلت البلد ... ، والأحسن في إعراب هذه الصور وأشباهها أن يكون كل من " الدار"، و"البيت"، "والبلد" مفعولًا به لا ظرفًا ويكون الفعل قبلها متعديًا3 إليها بنفسه مباشرة.
الثانية: أن يكون الظرف المكاني المختص هو كلمة: "الشام" وعامله هو الفعل: "ذهب"، فقد قال العرب: "ذهبت الشام" وتعرب هنا ظرفًا ومثله الظرف المختص: "مكة" مع عامله الفعل: "توجه" فقد قال العرب أيضًا: توجهت مكة. فنصب ظرفًا مع هذا الفعل وحده، و"الشام" و"مكة" ضرفان مكانيان على معنى: "إلى".
ب– ومنها: المقادير4، نحو: غلوة – ميل – فرسخ –
__________
1 انظر رقم 3 من هامش ص 254 "راجع أول "باب الظرف" في ج 1 من حاشيتي الخضري والصبان".
2 المراد به: ما ليس له هيئة ولا شكل محسوس، ولا حدود تحصره بين نهايات مضبوطة، تحدد جوانبه؛ ومنه: الجهات الست، وما يشبهها في الشيوع وهي "أمام – خلف – يمين – شمال – فوق – تحت"، والمختص: عكسه؛ مثل: بيت – دار – غرفة ...
وقد ألحق بالجهات الست ألفاظ ستجيء؛ في "أ" من ص 257 منها: عند، ولدي ... و ... وهناك تفصيل آخر في باب الإضافة ج 3 م 94.
3 لنستريح من النصب على نزع الخافض، ومن اعتراضات أخرى على إعرابه ظرفًا منصوبًا.
4 ويلاحظ ما سبقت الإشارة إليه "في رقم 4 من هامش ص 242 ورقم 1 من هامش ص 244"، وهو ان الظروف الدالة على ضمير لا تتضمن معنى: "في" باطراد، وإنما تتضمنها أحيانًا قليلة؛ لأن ناصبها لا بد أن يكون من أفعال السير، أو مشتقاتها؛ فلا توجد: "في" مع ناصب آخر:
كذلك النوع الآتي: وهو ما صيغ من مادة فعله وحوى حروفه، فإن هذا الظرف لا يتضمن معنى =(2/253)
بريد1 ... و ... و ... مثل: مشيت غلوة، ثم ركبت ميلًا، ثم سرت فرسخًا.
ج– ومنها: ما صبغ، على وزن2: "مفعل"، أو"مفعل" للدلالة على المكان، بشرط أن يكون الوزن جاريًا على عامله، "أي: مشتركًا معه في مثل حروفه الأصيلة ومشتملًا عليها"3، مثل: وقفت موقف الخطيب، وجلست مجلس المتعلم صنعت مصنع الورق، وبنيت مبناه ... ، فلو كان عامله من غير لفظه لوجب الجر بالحرف: "في"، نحو: جلست في مرمى الكرة4.
__________
= "في" باطراد؛ لأن ناصبه من فعل أو وصف يعمل عمله، لا بد أن يكون مشتركًا معه في حروف صيغته، فلا توجد "في" مع غيره، ففي هذين النوعين لا تطرد "في"؛ إذ توجد مع بعض الأفعال المعينة، ومشتقاتها دون بعض آخر لا يمكن أن يتضمنها معنويًا؛ لأنه غير صالح للعمل في النوعين السالفين.
هذا، وقد اختلف النحاة في المقادير؛ أهي من المبهم، أم شبيهة بالمبهم، أم قسم قائم بذاته ... ولسنا في حاجة إلى العناء؛ فاعتبارها قسمًا مستقلًا أنسب، وليست من المبهم؛ لأنها معلومة المقدار، ولكنها مختلفة الابتداء، والانتهاء، والبقعة، بحسب الاعتبار؛ فليس لها جهة ثابتة مستقرة فيها، فالميل قد يكون في بلد؛ وقد يكون في غيرها ... ، يكون في صحراء، وقد يكون في حضر، وقد يكون في الشرق بالنسبة لشيء آخر، أو في الغرب، وهكذا.
1 الغلوة: مائة باع تقريبًا، أو: هي أبعد مسافة يقطعها السهم، والميل: ألف باع، والفرسخ: ثلاثة أمثال، وللبريد: أربعة فراسخ ...
2 كما سبق في ص 252 ويكون اسم الزمان والمكان من الثلاثي على وزن: مفعل "بفتح العين" إن كان مضارع فعله مفتوح العين، أو مضمومها "مثل: يلعب يقعد"، أو: كان مضارعه معتل اللام؛ نحو: يرمي، ويكون على وزن مفعل "بكسر العين" إن كان مضارع فعله مكسور العين، مثل: يجلس، أو: معتل الفاء في أصلها الماضي، مع سلامة اللام، بشرط أن تكون الفاء واوًا تحذف في مضارعه؛ مثل: يعد، من: وعد.
أما من غير الثلاثي فيكون على وزن مضارعه، مع إبدال أوله ميمًا مضمومة وفتح ما قبل الآخر؛ مثل: "مستخرج" ومضارعه: "يستخرج".
"وفي ج 3 ص 242 م 106 تفصيل الكلام عليها وعلى أحكامها".
3 وكذلك ما سبقت إليه الإشارة "في رقم 4 ص 252"، وهو المشتق من مصدر الفعل للدلالة على الزمان وتحقق فيه هذا الشرط وكان منصوبًا؛ فإنه يصلح أن يعرب ظر زمان؛ كالمثال: قعدت مقعد الضيف؛ أي: زمن قعود الضيف.
4 وردت ألفاظ مسموعة بالنصب لا يصح القياس عليها، مثل قولهم: فلان يجلس من الباب مقعد القابلة "أي: المولدة" كناية عن قربه من الباب، وفلان مزجر الكلب، ومناط الثريا، كناية عن البعد فيهما.(2/254)
ومن ثم كان هذا النوع غير متضمن معنى "في" باطراد، ومستثنى من التضمن1 المطرد.
وهذا القسم يكون مختصا كالأمثلة السالفة، ومبهما، نحو: وقفت موقفا، جلست مجلسا2.
ومما يلاحظ أن هذه الصيغة: "مفعل -مفعل" صلحة للزمان والمكان ويكون التمييز بينهما بالقرائن، كأن يقال: متى حضرت؟ فيجاب: حضرت محضر القطار، أي: زمن حضور القطار؛ لأن "متى" للاستفهام عن الزمن، بخلاف: أين حضرت؟ فيجاب: حضرت محضر المجتمعين حول الخطيب، أي: مكان حضور المجتمعين ... لأن "أين" أداة استفهام عن المكان.
5- أنه يجوز تعدد الظروف المنصوبة على الظرفية لعامل واحد بغير اتباع3، بشرط اختلافها في جنسها: "أي: اختلافها زمانا ومكانا"، مثل: استرح هنا ساعة أقم عندنا يوما، أما إذا اتفقت في جنسها فلا تتعدد إلا في صورتين، إحداهما: الاتباع، يجعل الظرف الثاني بدلا4 من الأول، نحو: أقابلك يوم
__________
1 كما سبق في رقم4 من هامش ص242، وفي رقم 3 من هامش ص253.
هذا والظروف المكانية الثلاثة: "المبهم - المقدار - ما صيغ من الفعل" هي التي أشار إليه ابن مالك فيما سبق رقم 3 من هامش ص248 بقوله:
........................ ما ... يقبله المكان إلا مبهما
2 وإلى هذا أشار ابن مالك "وهو يسرد الأشياء التي تصلح للنصب على الظرفية المكانية، ومنه ما صيغ من الفعل كمرمى من رمى، " بقوله:
وشرط كون ذا مقيسا أن يقع ... ظرفا لما في أصله معه اجتمع
3 أي: بغير أن يكون واحد مها تابعا للآخر، "نعتا له، أو عطفا، أو توكيدا، أو بدلا".
4 ولا يبدل الأكثر من الأقل على الصحيح ففي نحو: كتبت الرسالة يوم الخميس سنة كذا ... يعرب الظرف الثاني "سنة" حالا من الأول، وليس بدلا "راجع أول الباب السادس من المغني".
وهذا رأي البصريين، لكن جاء في "الهمع"، ما يرده بقوة حيث قال في جـ2 ص127 باب البدل ما نصه: "المختار - خلافا للجمهور - إثبات بدل الكل من البعض، لوروده في الفصيح ... ". ا. هـ، وسرد أمثلة من القرآن والشعر تؤيد رأيه، وقد ذكرناها في باب البدل جـ3 م123.(2/255)
الجمعة ظهرًا، فكلمة "ظهرا" بدل بعض من كلمة: يوم1.
والأخرى، أن يكون العامل اسم تفضيل؛ نحو: المريض اليوم أحسن منه أمس. "فاليوم وأمس؛ ظرفان عاملها أفعل التفضيل وهو: أحسن"، وقد تقدم عليه واحد، وتأخر واحد ...
6- أنه يجوز عطف الزمان على المكان وعكسه؛ مسايرة للرأي القائل بذلك، توسعًا وتيسيرًا؛ نحو: أعطيت السائل أمامك ويوم العيد قرأت الكتاب هنا، ويوم السبت الماضي2.
7– إذا وقع الظرف خبرًا فإنه يستحق أحكامًا خاصة يستقل بها، وقد سبق تسجيلها في مكانها الأنسب، وهو باب: "المبتدأ والخبر"3، ومن تلك الأحكام أن يكون في مواضع معينة باقيًا على حالته من النصب، وفي مواضع أخرى يكون مرفوعًا أو مجروًا، ولا يسمى في هاتين الحالتين ظرفًا ... إلى غير هذا من الأحكام الهامة المدونة في الموضع المشار إليه.
__________
1 ملاحظة: في ضوء ما سبق نفهم ما جاء في حاشية الخضري، جـ2، أول باب: "البدل" ونصه: ".... بدل كل من بعض كلقيته غدوة يوم الجمعة، بنصب" "يوم"، إذ لا يصح جعله ظرفا ثانيا؛ لأن ظرف الزمان لا يتعدد بلا عطف.". ا. هـ، هذا، وإن تعدد بعطف فإن ما بعد العاطف لا يسمى ظرفا، وإنما يسمى: "معطوفا".
2 لهذا الحكم تفصيل في المكان الأنسب "ج 3 آخر باب: "العطف" م 122".
3 ج 1 م 35 ص 475.(2/256)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ- عرفنا1 "المبهم" من ظروف المكان، وأنه يشمل أنواعًا منها: "الجهات الست"، وقد ألحقوا بهذه الجهات ألفاظًا أخرى، منها: "عند – لدى – وسط – بين – إزاء – حذاء ... "، واختلفوا في مثل2: "داخل – خارج – ظاهر – باطن – جوف الدار – جانب"، وما بمعناه "مثل: جهة – وجه – كنف" في مثل: قابلته داخل المدينة أو خارجها، أو ظاهرها ... ؛ فكثير من النحاة يمنع نصب هذه الكلمات على الظرفية المكانية؛ لعدم إبهامها، ويوجب جرها بالحرف: "في"، وفريق يجيز، ويرى أن هذا هو الأوجه3، لما فيه من تيسير؛ لأن تلك الكلمات الدالة على المكان لا تخلو من إبهام، فهي شبيهة بالمبهم، وملحقة به.
وكان الجدير بكل فريق أن يستند في تأييد رأيه على موقفه من كثرة المسموع المأثور، ويعتمد عليه وحده في الاستدلال، واستنباط الحكم، فمن نصره السماع الكثير فرأيه هو الأقوى، دون غيره، ولكنهم لم يفعلوا، ومن ثم يكون الرأي المجيز أولى بالاتباع، وإن كانت المبالغة في الدقة والحرص على سلامة الأسلوب وسموه تقتضي البعد عن الخلاف باستعمال الحرف "في"؛ لاتفاق الفريقين على صحة مجيئه؛ فيجري التعبير اللغوي على سنن موحد.
ب- من أنواع الظرف ما يكون مؤسسًا، وما يكون مؤكدًا، فالمؤسس هو الذي يفيد زمانًا أو مكانًا جديدًا لا يفهم من عامله؛ نحو: صفًا الجو اليوم، فقضيته حول المياه المتدفقة، وبين الأزاهر والرياحين، فكل واحد من الظروف: "اليوم – حول – بين ... " يسمى: "ظرفًا مؤسسا، أو تأسيسيًا"؛ لأنه أسس أي: أنشأ معنى جديدًا لا يفهم من الجملة بغير وجود هذا الظرف.
__________
1 في ص 253.
2 من كل خما لا يدل على حقيقته بنفسه، وإنما تعرف حقيقته بما تضاف إليه؛ مثل: مكان – ناحية – أمام – وراء – جهة ... فيقال مثلًا: مكان علي – ناحية محمود ...
3 راجع حاشية الخضري، باب: "الظرف" ج1، ففيها تلخيص الرأيين، وبيان الأوجه منهما، وأنه المفهوم من كلام صاحب "الهمع" في هذا الباب.(2/257)
والمؤكد: هو الذي لا يأتي بزمن جديد، ولا مكان جديد، وإنما يؤكد زمنًا أو مكانًا مفهومًا من عامله، ومن الأمثلة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} ، فالظرف: "ليلًا" لا جديد معه إلا التوكيد لزمن الإسراء؛ لأن الإسراء لا يكون إلا ليلًا، ومثل: صعد الخطيب فوق المنبر؛ فالظرف: "فوق" لم يأت بجديد إلا توكيد معنى عامله الدال على الصعود، أي: الارتفاع والفوقية.
لما سبق كان الظرف في مثل قول القائل: سرت حينًا ومدة لم يزد زمنًا جديدًا غير الزمن الذي دل عليه الفعل 1 ...
__________
1 انظر رقم 2 من هامش ص252.(2/258)
المسألة 79: الظرف المتصرف وغير المتصرف، وأقسام كل
الظرف بنوعيه قد يكون متصرفًا، وقد يكون غير متصرف.
أ- فالمتصرف هو الذي لا يلازم النصب على الظرفية، وإنما يتركها إلى كل حالات الإعراب الأخرى التي لا يكون فيها ظرفًا؛ كأن يقع مبتدأ، أو خبرًا، أو فاعلًا، أو مفعولًا به، أو مجرورًا بالحرف: "في" المذكور قبله أو بغيره ... أو ...
فمثال الزمان المتصرف كلمة: "يوم" في العبارات التالية: يومكم مبارك، ونهاركم سعيد، إن يومكم مبارك، وإن نهاركم سعيد، جاء اليوم المبارك ... إنا نرقب مجيء اليوم المبارك في يوم العيد يتزاور الأهل، والأصدقاء ... و ...
ومثال المكان المتصرف: يمينك أوسع من شمالك العاقل لا ينظر إلى الخلف إلا للعبرة؛ وإنما وجهته الأمام، ومثل: الفرسخ ثلاثة أميال، ونعرف أن الميل ألف باع1.
وقد سبق2 أن الظرف بنوعيه إذا ترك النصب على الظرفية إلى حالة أخرى غير النصب على الظرفية ولو إلى الجر "بفي" أو بغيرها، فإنه لا يسمى ظرفًا، ولا يعرب ظرفًا، ولو دل على زمان أو مكان3 ...
__________
1 وفي الظرف المتصرف يقول ابن مالك:
وما يرى ظرفًا وغير ظرف ... فذاك ذو تصرف في العرف
أي: في عرف النحاة واصطلاحهم.
2 في ص 244.
3 من أمثلة هذا كلمة: "اليوم" و"عام" في قول الشاعر:
يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وعام نلتقي فيه قصير
ومثل كلمة: "غد" في قول الشاعر:
لا مرحبا بغد، ولا أهلًا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد(2/259)
حكم الظرف المتصرف:
1- إما معرب منصرف؛ مثل: يوم – شهر – يمين – مكان1.
2- وإما معرب غير منصرف مثل: غدوة2؛ وبكره3, وضحوة؛ بشرط أن تكون كل واحد "علم جنس"4، على وقتها المعين المعروف؛ سواء أكان هذا الوقت مقصودًا ومحددًا من يوم خاص بعينه، أم غير مقصود ولا محدد من يوم معين، فهذه الثلاثة وأشباهها متصرفة؛ تستعمل ظرفًا وغير ظرف، وفي الحالتين تمنع من الصرف، وسبب منعها من الصرف: "العلمية الجنسية والتأنيث اللفظي"، فإن فقدت العلمية لم تمنع من الصرف، وذلك لعدم التعيين؛ "لأنها فقدت تعيين الزمن وتحديده؛ وصارت دالة على مجرد الوقت المحض الخالي من كل أنواع التخصيص إلا بقرينة أخرى للتعيين"؛ مثل: غدوة وقت نشاط، يسرني السفر غدوة والقودم ضحوة، بشرط أن يراد بهما مطلق زمن بغير تعيينه، ومن هذا قوله تعالى في أهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} 5.
__________
1 انظر ما يختص بهذه الكلمة في ص 265.
2 الوقت في طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وفي ص 553 كلام يختص بهذه الكلمة.
3 الوقت من طلوع الشمس إلى الضحوة، أي: الضحا، وهو وقت ارتفاع الشمس في الأفق.
4 سبق إيضاحه في مكانه المناسب "ج 1 ص 261 م 22 و 266 م23".
5 لزيادة الإيضاح نسوق ما قاله الصبان في هذا الموضع من الجزء الثاني آخر باب الظرف، قال: عن "غدوة وبكرة" ومثلهما: ضحوة ما نصه:
"إنهما علمان جنسيان؛ بمعنى أن الواضح وضعهما علمين جنسيين لهذين الوقتين؛ أعم من أن يكونا من يوم بعينه، أو لا، وهذا معنى قولهم: قصد بهما التعيين أو لم يقصد، كما ضع لفظ: "أسامة" علمًا للحقيقة الأسدية، أعم من أن يقصد به واحد بعينه أو لا، فالتعيين المنفي قصده هو التعيين الشخصي، لا النوعي؛ إذ هو لا بد منه، فلا اعتراض "بأن عدم قصد التعيين يصيرهما نكرتين منصرفتين"، ويؤيد ما ذكرناه قول الدماميني: "كما يقال عند قصد التعميم: أسامة شر السباع، وعند التعيين هذا أسامة فاحذره يقال عند قصد التعميم غدوة أو بكرة وقت نشاط، وعند قصد التعيين لأسيرن الليلة إلى غدوة أو بكرة"، قال: "وقد يخلوان من العلمية فينصرفان، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ، وحكى الخليل: جئتك اليوم غدوة، وجئتني أمس بكرة، والتعيين في هذا لا يقتضي العلمية حتى يمنع الصرف؛ لأن التعيين أعم من العلمية، فلا يلزم من استعمالهما في يوم معين أن يكونا علمين؛ لجواز أن يشار بهما إلى معين مع بقائهما على كونهما من أسماء الأجناس النكرات بحسب الوضع، كما تقول: رأيت رجلا وأنت تريد شخصًا معينًا، فيحمل على ما أردته من المعين، ولا يكون علمًا". ا. هـ، ما نقله الصبان.
ثم انظر الكلام عليهما في جـ 1 ص 110 م 22.(2/260)
3– وإما مبني، والمبني قد يكون مبنيا على السكون، مثل: "إذ" الواقعة "مضافًا إليه"، والمضاف زمان، نحو: لاح النصر ساعة إذا أخلص المجاهدون كان النصر يوم إذ جاهد المخلصون، أو مبنيًا على الكسر، مثل الظرف: "أمس" عند الحجازيين؛ في نحو: اعتدل الجو أمس.
ب– أما غير المتصرف1: فمنه الذي لا يستعمل إلا ظرفًا، ومنه ما يستعمل ظرفًا، وقد يترك الظرفية ولا يسمى ظرفًا إلى شبهها، وهو الجر بالحرف: "من" غالبًا2، فمثال الذي لا يستعمل إلا ظرفًا: "قط"3، و"عوض"4 و"بدل" بمعنى: مكان "مثل: خذ هذا بدل ذلك"، و"مكان" بمعنى: "بدل"، "أما "مكان" بمعناه الأصلي فظرف متصرف".
"وسحر"5؛ إذا أريد به سحر يوم معين محدد؛ نحو: أزورك سحر يوم السبت المقبل؛ وإلا فهو ظرف متصرف؛ نحو: تمتعت بسحر منعش؛ فهل يساعفني سحرا مثله؟.
ومثال ما يلازم النصب على الظرفية، وقد يتركها إلى شبهها: "عند، ولدن
__________
1 ستجيء له امثلة أخرى في "الزيادة والتفصيل"، ص 266 وما بعدها.
2 قلنا: "غالبًا"؛ لأن الظرف: "أين" قد يخرج عن النصب على الظرفية إلى الجر بالحرف: "من" أو: "إلى".
وكذلك الظرفان: "ثم" و "هنا" بلغاتهما المخلتفة وهما في الوقت نفسه من أسماء الإشارة؛ فيخرجان إلى الجر بأحد الحرفين: "من" أو"إلى" "راجع الصبان ج 1 باب اسم الإشارة عند الكلام على: ثم وسبق لذا بيان في ج 1 باب اسم الإشارة م 25".
وكذلك الظرف: "متى" قد يخرج إلى الجر بالحرف: "إلى" أو: حتى.
3 و4 سبق الكلام عليهما في هذا الجزء ص 116 م 68 وملخصه: أن "قط" ظرف زمان لاستغراق الماضي، ولا يستعمل في الغالب إلا بعد نفي أو شبهة. والأصح في ضبطه: فتح القاف وضم الطاء مع تشديدها، وفيها لغات أخرى وهو ظرف مبني على الضم، مثل: ما خدعت أحدًا قط "وقط" غير: "فقط" التي سبق الكلام عليها في رقم 2 من هامش ص 116، وقلنا هناك: إن إيضاحها، وبيان حكمها في ج 2 م 30 ص 382 عند بيت ابن مالك في المعرف، بأل": "أل" حرف تعريف" وأنها بمعنى: "حسب" واالفاء زائدة لتزيين اللفظ" ...
وعرض: ظرف لاستغراق الزمان المستقبل، غالبًا ولا يكاد يستعمل إلا بعد نفي أو شبهه: وهو مبني على الضم، أو الفتح، أو الكسر، إن لم يضف فإن أضيف أعرب؛ نحو: لن أخادع عوض العائضين.
5 الثلث الأخير من الليل.(2/261)
وقبل، وبعد، وحول1، و ... "، مثل: مكثت عندك ساعة، ثم خرجت من عندك إلى بيتي سأقصد الحدائق لدن الصبح حتى الضحا، ثم أعود من لدنها حضرت قبل الميعاد ولم أحضر بعده، أو: حضرت من قبل الميعاد، ولم أحضر من بعده2.
حكم الظرف غير المتصرف:
1– إما معرب ممنوع من الصرف؛ مثل: عتمة3 عشية4 سحر5 بشرط أن يقصد بكل واحدة التعيين الدال على وقت خاص، فتكون علم جنس عليه؛ لدلالتها على زمن معين محدد دون غيره من الأزمان المبهمة الخالية من التعيين، نحو: استيقظت: ليلة الخميس سحر، حضرت يوم الجمعة عشية، سهرت يوم السبت عتمة.
فإن فقدت هذه العلمية صارت نكرة لا تدل على وقت مخصص من يوم بذاته، وخرجت من نوع الظرف غير المتصرف، ودخلت في نوع المتصرف المنصرف؛ فتصير مبتدأ، وخبرًا، وفاعلًا ... و ... وغير ذلك، مع التنوين في كل حالة؛ نحو سحر خير من عيشة، ورب عتمة
خير من سحر5.
__________
1 من ظروف المكان غير المتصرفة: "حول" بلغاته المختلفة التي منها: حول ... ، وحوال ... ، وحوالي ... وحولى وأحوال ... وأحوالى ... مع إضافته في كل الصور، ومعناه الجهات المحيطة بالمضاف إليه راجع الصبان واللسان، ولهذا إشارة وبيان، في ص 272.
2 لهذه الظروف وملازمتهما النصب على الظرفية أحكام تفصيلية موضع الكلام عليها باب: "الإضافة" ج 3 ص 114 وما بعدها، وفي هذا يقول ابن مالك:
وغير ذي التصرف: الذي لزم ... ظرفية، أو شبهها من الكلم
يريد: أن الظرف غير المتصرف من الكلمات، هو: الذي لزم الظرفية وحدها، أو: لزم الظرفية وقد يتركها إلى شبهها أحيانًا، وفي البيت قصور في صياغته؛ لقوله: وغير صاحب التصرف، بدل قوله: غير المتصرف، وكالحذف في الشطر الأخير حيث الواجب: ظرفية فقط، أو: ظرفية وشبهها.
3 الثلث الأول من الليل، "وهي ممنوعة من الصرف، على رأي راجح".
4 آخر النهار.
5و 5 فتمنع كلمة: "سحر" للعلمية والعدل عن السحر؛ لأنها تدل على معين كما تدل عليه الكلمة المقرونة بأل التي للتعريف؛ فكان حقها التصدير بكلمة "أل" التي للتعريف، ولكن العرب عدلوا عن هذا؛ فاجتمع في الكلمة العلمية والعدل، وبسبب اجتماعهما تحقق ما يوجب منع الصرف كما يقول النحاة.
وتمنع كلمتا: "عتمة وعشية" للعلمية والتأنيث اللفظي، "وقد يوضح العلمية هنا ما سبق في رقم 5 من هامش ص 260"، ويشترط لمنع الثلاثة من الصرف الخلو من "أل"، ومن الإضافة فغن نكرت نونت وتصرفت؛ كقوله تعالى: {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} ، وكذلك مع أل أو الإضافة؛ نحو: سافر الرجل يوم الجمعة السحر منه، أو في سحره، "ولهذا الكلام صلة بما سيجيء عنها في ص 553" وما بعدها.(2/262)
2– وإما معرب مصروف مثل: "بدل" و"مكان" السالفين1.
3– وإما مبني على السكون أو غيره في مثل: لدن، ومتى2، ومد، ومنذ3 وقط، ... وغيرها "مما سيجيء 4".
4- جميع الظروف غير المتصرفة لا يصح التصريح قبلها بالحرف: "في" بخلاف المتصرفة، وإذا ظهرت "في" قبل الظرف مطلقًا، فإنه يصير اسمًا محضا مجرورًا بها، ولا يصح تسميته ظرف زمان، أو ظرف5 مكان.
ما ينوب عن الظرف:
أ– يكثر حذف الظرف الزماني المضاف إلى مصدر، وإقامة المصدر مقامه6. فنيصب مثله باعتباره نائبا عنه، وذلك بشرط أن يعين المصدر الوقت ويوضحه، أو يبين مقداره، وإن لم يعينه؛ فمثال الأول: أخرج من البيت شروق الشمس، وأعود إليه غروبها أزوركم في العام الآتي قدوم الراجعين من الحج، "تريد: أخرج من البيت وقت طلوع الشمس، وأعود إليه وقت غروبها، ووقت قدوم الراجعين"، فحذف الظرف الزماني: "وقت" وقام مقامه المصدر، وهو: "شروق، غروب، قدوم"، فأعرب طرفًا بالنيابة.
__________
1 في ص 261.
2 "له إشارة في رقم 2 من هامش ص 261"، وهو ظرف غير منصرف، مبني على السكون المقدر دائمًا، ويسأل به عن الزمان وقد يكون مع ظرفيته هذه اسم شرط جازم طبقًا لما سيجيء في ج 4 باب الجوازم التي تجزم فعلين.
3 لا يكون "مذ ومنذ" غير متصرفين إلا على الرأي الذي يمنع وقوعهما مبتدأ، أو شيئًا آخر غير الظرفية، "كما يجيء في رقم 3 هامش ص 270".
4 في الزيادة والتفصيل، ص 268.
5 كما سبق في ص 259 و 1 من ص 244.
6 والمصدر قد يقع أحيانًا ظرفًا دون تقدير مضاف؛ مثل: أحقًا أنك مكافح، أي: أفي حق ... ، "وسيجيء في من ص 273" ...(2/263)
ومثال الثاني: أمكث عندك كتابة صفحة؛ "أي: مدة كتابة صفحة"، وأنتظرك لبس الثياب، "أي: مدة لبسها"، وأغيب غمضة عين، "أي: مدة غمضها"، ففي هذه الصور ونحوها بيان للمقدار الزمني الذي يدل عليه المصدر في كل صورة، دون أن يعين ذلك الوقت، ويحدده: "أهو الصبح، أم الظهر، أم الغروب، أم غيرهما ... ؟ ".
وقد يحذف الظرف وينوب عنه مصدر مضاف إلى اسم عين1، ثم يحذف هذا المصدر المضاف أيضًا، ويحل محله اسم العين، باعتباره نائبًا عن النائب عن الظرف الزماني، ويعرف ظرفًا بالإنابة، نحو: لا أكلم السفية النيرين أي: مدة طلوع النيرين؛ "وهما: الشمس والقمر": فحذف الظرف الزماني؛ وهو "مدة"، وقام مقامه المصدر المضاف: "طلوع"، ثم حذف المصدر المضاف وحل محله المضاف إليه؛ وهو: كلمة: "النيرين" وتعرب ظرفًا بالإنابة كما قلنا ومن أمثلتهم: لا أجالس لمحدًا الفرقدين2، ولا أماشيه القارظين3 يريدون: مدة ظهور الفرقدين، ومدة غياب القارظين.
هذا، والإنابة فيكل ما سبق قياسية إذا تحقق ما شرحناه.
ب– أما نيابة المصدر عن ظرف المكان، فقليلة حتى قصروها على المسموع دون غيره مثل كلمة: قرب نحو: جلست قرب المدفأة، أي: مكان قرب المدفأة، فكلمة: "قرب" مصدر بالنيابة.
ج– وهناك أشياء أخرى غير المصدر تصلح للإنابة قياسًا عن الظرف بنوعيه بعد حذفه، وتعرب ظرفًا بالنيابة.
منها: صفته؛ نحو: صبرت طويلًا من الدهر جلست شرقي المنزل؛ أي: صبرت زمنًا طويلًا ... جلست مجلسًا شرقي المنزل، أو جلست مكانًا شرقي المنزل.
__________
1 أي: اسم ذات، أي: شيء حسي مجسم.
2 اسم نجمين.
3 رجلان خرجا يجمعان القوظ، "وهو: ثمر شجر السنط، ويستخدم في الدباغة"، فلم يرجعا.(2/264)
ومنها: عدده، بشرط أن يوجد ما يدل على أنه عدده: كالإضافة إلى زمان، أو مكان؛ نحو: مشيت خمس ساعات قطعت فيها ثلاثة فراسخ.
ومنها: كل أو بعض، وغيرهما مما يدل على الكلية والجزئية، بشرط الإضافة إلى زمان أو مكان1؛ نحو: نمت كل الليل، وقول الشاعر:
أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقي علي، وما يقيني؟
ومثل: استمخر الحفل بعض الليل ... مشت القافلة كل الأميال أو بعض الأميال2 ...
__________
1 كما سيجيء في باب الإضافة ج 3 ص 58 م 94.
2 وفيما سبق يقول ابن مالك:
وقد ينوب عن مكان مصدر ... وذاك في ظرف الزمان يكثر(2/265)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زيادة وتفصيل:
أ– الظروف من حيث التصرف وعدمه، ودرجته، أربعة أقسام:
قسم يمتنع تصرفه أصلًا؛ مثل: "قط"، "عوض" وقد سبقا، ومثل: "بين" إذا اتصلت بها "الألف" أو"ما" فصارت: "بينا أو بينما"، فإنها عندئذ تلازم الظرفية تمامًا كالتي في ص 277، و 278 أيضًا.
ويلحق بهذا القسم: "عند، وفوق، وتحت"1، وأشباهها مما لا يخرج عن الظرفية إلا إلى الجر بالحرف: "من" غالبًا 2.
وقسم ثان: يتصرف كثيرًا، كيوم، شهر، يمين3، شمال، ذات اليمين ذات الشمال4.
وثالث: متوسط في تصرفه؛ وهو: أسماء الجهات "إلا ما سبق حكمه في القسمين السالفين؛ من مثل: فوق، وتحت، ويمين، وشمال، وذات اليمين، وذات الشمال ... ".
ومن هذا القسم المتوسط: "بين" التي لم يتصل بآخرها: "الألف" أو"ما"، فإن اتصلت بها: "الألف" أو: "ما" وصارت: "بينا، بينما" ... فهي ممنوعة التصرف 5، كما أسلفنا.
__________
1 هناك رأي يقول: "فوق، وتحت" يتصرفان نادرًا، ولا داعي للأخذ به، وسيجيء في ص 283 الكلام على حالات بنائهما وإعرابهما.
2 انظر رقم 2 من هامش ص 261.
3 كل من الظرفين: "يمين" و"شمال" قد يكون معربًا كما في ص 259، وقد يكون مبنيًا، بالتفصيل الذي في رقم 5 من ص 283 أما تفصيل الكلام على معناها، وإضافتهما ففي ج 3 ص 36 م 93.
4 بشرط إضافة: "ذات" إلى: "اليمين" أو: "الشمال".
"كما سيأتي في ص 272 من هذا الجزء، وفي ج 3 ص 36 م 39، هذا، إلى أن لكلمة: "ذو" و"ذات" أحكامًا أخرى في ج 1 ص 70 م 8، باب: "الأسماء الستة"، ص 254 م 26 باب: "الموصول".
5 وفي الحالتين يجب تصديرها وإضفاتها للجملة؛ طبقًا للبيان التفصيلي، الآتي في ص 287.(2/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ورابع: تصرفه نادر في السماع، لا يقاس عليه، مثل: الآن، وحيث، ودون، التي ليست بمعنى رديء ووسط؛ بسكون السين في الغالب، أما بفتحها فاسم متصرف في الغالب أيضًا، وفي غير الغالب يجوز في كليهما التسكين والفتح، والأفضل اتباع الغالب؛ ليقع التفاهم بغير تردد، وقد وضعوا علامة للتميز المعنوي بين الكلمتين؛ فقالوا: إن أمكن وضع كلمة: "بين" مكان: "وسط" واستقام المعنى فهي ظرف؛ نحو: جلست وسط القوم، أي: بينهم، وفي هذه الحالة يحسن تسكين السين؛ مراعاة للغالب، وإن لم تصلح كانت اسمًا، نحو: احمر وسط وجهه، وفي هذه الصورة يحسن تحريك السين بالفتح، مراعاة للغالب.
ب– إذا كان الظرف منصوب اللفظ أو المحل على الظرفية، وجب عند الأكثرين أن يكون متعلقًا بالعامل الذي عمل فيه النصب1، وهذا العامل يكون في الغالب فعلًا2، أو مصدرًا، أو شيئًا يعمل عمل الفعل3 كالوصف؛ نحو: سافرت يوم الجمعة فوق دراجة بخارية، أو: أنا مسافر يوم الجمعة فوق دراجة بخارية، فالظرفان "يوم" و"فوق" متعلقان بعاملهما "سافر" أو: "مسافر" ... و ... ومعنى أنهما متعلقان به: مرتبطان ومستمسكان به، كأنهما جزءان منه لا يظهر معناهما إلا بالتعلق به، فاستمساكهما بالعامل كاستمساك الجزء بأصله، ثم هما في الوقت نفسه يكملان معناه.
بيان هذا: أن العامل يؤدي معناه في جملته، ولكن هذا المعنى لا يتم ولا يكمل إلا بالظرف الذي هو جزء متمم ومكمل له؛ ففي مثل: جلس المريض ... قد نحس في المعنى نقصًا يتمثل في الأسئلة التي تدور في النفس عند سماع هذه
__________
1 سبق "في رقم 4 من هامش ص 245، ثم في ص 249 م 78" كلام هام يتصل بهذا الموضوع، وبتممه؛ من ناحية التعلق بحروف المعاني، والحكمة في وجوب التعلق، وسيجيء في ص 445، رقم 3 من هامش، باب حروف الجر، عند الكلام على شبه الجملة م 89 ما يزيده توفية واكتمالًا.
2 والرأي الشائع القوي أن شبه الجملة بنوعيه "وهما الظرف، وحرف الجر الأصلي مع مجروره" لا يجوز أن يتقدم على عامله الفعل المؤكد بالنون طبقًا للبيان الذي سبق في رقم 3 من هامش ص 101.
3 وقد يكون تعلقهما بعامل معنوي، إذا لم يوجد عامل آخر يصح التعلق به وهذا العامل المعنوي هو: الإسناد "أي: النسبة" على الوجه المشروح في هامش ص 357 ورقم 2 من ص 441 أما تعلقه بأحرف المعاني، فقد سبق بيانه في رقم 4 من هامش ص 245 م 78.(2/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الألفاظ؛ ومن الأسئلة: أين جلس؟ أكان فوق السرير، أم أمامه، أو وراء النافذة، ... أيمين الداخل ... أم شمال الخارج....؟ متى جلس؟ أصباحًا، أم ظهرًا، أم مساء ... ؟ وهكذا ... فإذا جاء الظرف الزماني أو المكاني، فقد أقبل ومعه جزء من الفائدة ينضم إلى الفائدة المتحققة من العامل؛ فيزداد المعنى العام اكتمالًا بقدر الزيادة التي جلبها معه؛ فمجيئه إنما هو لسبب معين، ولتحقيق غاية مقصودة دعت إلى استحضاره، هي عرض معناه، مع تكملة معنى عامله، فلهذا وجب أن يتلعق به.
والاهتداء إلى هذا العامل قد يحتاج في كثير من الأحيان إلى فطنة ويقظة، ولا سيما إذا تعددت في الجملة الواحدة الأفعال أو لا يعمل عملها؛ حيث يتطلب استخلاص العامل الحقيقي من بينها أناة وتفهمًا؛ خذ مثلًا لذلك: "أسرعت الطائرة التي تخيرتها بين السحب" ... فقد يتسرع من لا دراية له فيجعل الظرف "بين" متعلقًا بالفعل القريب منه، وهو الفعل: "تخير" فيفسد المعنى؛ إذ يصير الكلام: تخيرت الطيارة بين السحب، إنما الصحيح: أسرعت بين السحب، وهذا يقتضي أن يكون الظرف متعلقًا بالفعل "أسرع"، فيزداد معناه، ويكمل بعض نقصه، كما لو قلنا: تخيرت الطيارة فأسرعت بين السحب.
مثال آخر: "قاس الطبيب حرارة المريض، وكتبها تحت لسانه"، فلا يصح أن يكون الظرف "تحت" متعلقًا بالفعل "كتب"؛ لئلا يؤدي التعلق إلى أن الكتابة كانت تحت اللسان؛ وهذا معنى فاسد لا يقع، أما إذا تعلق الظرف "تحت" بالفعل: "قاس" فإن المعنى يستقيم، وتزداد به الفائدة، أي: قاس الطبيب حرارة المريض تحت لسانه، فالقياس تحت اللسان، وهكذا يجب الالتفات لسلامة المعنى وحدها دون اعتبار لقرب العامل أو بعده من الظرف1.
__________
1 ومن الأمثلة أيضًا الشطر الثاني قول الشاعر يخاطب الإمام عليًا رضي الله عنه:
يخبرنا الناس عن فضلكم ... وفضلكم اليوم فوق الخبر
حيث يتعين تعليق الطرفين "اليوم، فوق" بالخبر المحذوف، طبقًا لأقوى الآراء.(2/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جـ- الزمان أربعة أقسام 1:
أولها: المعين2 المعدود3 معًا، مثل: رمضان، المحرم من غير أن يذكر قبلهما كلمة: شهر"، الصيف، الشتاء، وهذا القسم يصلح جوابًا لأداتي الاستفهام: "كم، ومتى"، نحو: كم شهرًا صمت؟ متى رجعت من سفرك؟ والجواب: صمت رمضان، رجعت الصيف ...
ثانيًا: غير المعين وغير المعدود؛ فلا يصلح جوابًا لواحد منهما؛ مثل: حين، وقت.
ثالثها: المعين غير المعدود؛ فيقع جوابًا لأداة الاستفهام: "متى" فقط؛ نحو: يوم الخميس، وكلمة: "شهر" المضاف إلى اسم بعده من أسماء الشهور، مثل: شهر صفر، شهر رجب ... وذلك جوابًا فيهما عن قول القائل: متى حضرت؟ متى تغيبت؟.
رابعها: المعدود غير المعين؛ فيقع جوابًا لأداة الاستفهام: "كم" فقط، نحو: يومين، ثلاثة أيام، أسبوع، شهر، حول.
1– فالذي يصلح جوابًا للأداتين: "كم"، و"متى" "وهو القسم الأول" أو يصلح جوابًا للأداة: "كم" وهو القسم الرابع يستغرقه الحدث "المعنى"، الذي تضمنه ناصبه سواء أكان الجواب نكرة أم معرفة بشرط ألا يوجد ما يدل على أن الحدث مختص ببعض أجزاء ذلك الزمان، فإذا قيل: كم سرت؟ فأجبت: "شهرًا"، وجب أن يقع السير في جميع الشهر كله، ليله ونهاره إلا إن قامت قرينة تدل على أن المقصود المبالغة والتجوز وكذا إن كان الجواب: المحرم، مثلًا. وكذا يقال في الأبد والدهر، مقرونين بكلمة: "أل" فالحدث الواقع من ناصبهما يستغرقها ليلًا ونهارًا 4.
__________
1 من ناحية استغراق المعنى: "راجع الهمع ج 1 ص 197، والصبان ج 2 ص 95، وبينهما اضطراب ظاهر تداركناه بمعونة مراجع أخرى".
2 أي: المعين بالعلمية.
3 الدال بلفظه على عدد محدود.
4 أما كلمة؛ "أبدًا" بغير "أل" فلاستغراق الزمن المستقبل وحده؛ فإذا قلت: صام الرجل الأبد، كان معناه: صام كل زمن من أزمنة عمره، القابلة للصوم، عادة إلى حين وفاته، ولا تقول صام أبدًا؛ وإنما تقول إذا أردت المستقبل وحده: لأصومن أبدًا.(2/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن كان حدث الناصب "أي: معناه" مختصًا ببعض أجزاء الزمان، استغرق بعضها الذي يختص به، وانصب عليه وحده دون غيره من الأجزاء الأخرى. فإذا قيل: كم صمت؟ فكان الجواب: "شهرًا" انصب الصوم على الأيام دون الليالي؛ لأن الصوم لا يكون إلا نهارًا، وإذا قيل: كم سريت؟ فكان الجواب: "شهرًا" انصب السرى على الليالي دون الأيام؛ لأن السرى لا يكون إلا ليلًا. وكذا يقال: ي الليل والنهار معرفين، فالحدث الواقع على كل منهما مقصور على زمنه الخاص.
2– وغير ما سبق يجوز فيه التعميم والتبعيض؛ كيوم، وليلة، وأسماء أيام الأسبوع، وأسماء الشهور؛ بشرط أن يذكر قبلها المضاف وهو كلمة: شهر؛ كشهر رمضان، شهر المحرم.
وهناك رأي آخر من عدة آراء في هذا البحث؛ هو: أن ما صلح جوابًا لأداة الاستفهام: "كم" أو: "متى" يكون الحدث "المعنى" في جميعه تعميمًا أو تقسيطًا، فإذا قلت: سرت يومين؛ فالسير واقع في كل منهما من أوله إلى آخره، وقد يكون في كل واحد من اليومين، وإن لم يشمل اليوم كله من أوله إلى آخره. ولا يجوز أن يكون في أحدهما فقط، ومن التعميم: صمت ثلاثة أيام، ومن التقسيط أذنت ثلاثة أيام، ومن الصالح لهما: تهجدث ثلاث ليال.
وعلى كل فهذه كما قالوا ضوابط تقريبية، والقول الفصل للقرائن الحاسمة، ولا سيما العرف الشائع؛ فتلك القرائن هي التي توضح أن المراد التعميم أو التبعيض.
د– قلنا1: إن الظرف غير المتصرف إما معرب منصرف، وإما معرب غير منصرف، وإما مبني، وقد تدمت الأمثلة، وهو في حالالته الثلاث لا يجوز أن تسبقه "في" 2، فالمبنى قد يكون مبنيًا على السكون مثل: مذ3، ولدن ... أو على الضم مثل: منذ3، أو على فتح الجزأين؛ مثل ظروف الزمان أو المكان
__________
1 في 262 م 79.
2 كما سبق في: "أ" رقم4 من هامش ص 242، وفي رقم 4 من ص 263.
3 و 3 لا يكون "مذ ومنذ" غير متصرفين إلا في الرأي الذي يقصرهما على الظرفية وحدها، ويمنع وقوعهما مبتدأ، "كما سبق في رقم 3 من هامش ص 263".(2/270)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المركبة تركيب مزج1؛ "نحو: صباح مساء – يوم يوم – صباح صباح. والمعنى: كل صباح ومساء "أي: كل صباح، وكل مساء"، وكل يوم، وكل صباح".
"ومثل: بين بين وستأتي" 2، فإن فقدت الظروف التركيب، أو أضيف أحد الجزأين للآخر، أو عطف عليه امتنع البناء، ووجب إعرابها وتصرفها ... لكن أيبقى المعنى في الجميع مع فقد التركيب بسبب وجود العطف، أو الإضافة كما كان مع التركيب أم يختلف؟ اتفقوا على أنه باق في الجميع، إلا صباح مساء عند الإضافة، مثل: أنت تزورنا صباح مساءٍ، ففريق يرى أنها كغيرها من الظروف المركبة التي تتخلى عن التركيب وتضاف، فيظل المعنى الأول باقيًا بعد الإضافة "وهو هنا: كل صباح وكل مساء"، وفريق يرى أن المعنى مع الإضافة يختلف؛ فيقتصر على الصباح وحده كما في المثال السالف، حيث تقتصر الزيارة فيه على الصباح فقط؛ اعتمادًا على أن المعنى منصب على المضاف، "وهو الصباح"، أما المضاف إليه فهو مجرد قيد له؛ أي: صباحًا لمساء3.
والحق أن الأمرين محتملان في المثال، إلا عند وجود قرينة تحتم هذا وحده، أو ذاك، فوجودها ضروري لمنع هذا الاحتمال.
ومن الظروف المركبة مزجًا، المبنية لهذا على فتح الجزأين، والتي لا تتصرف، "بين بين"4 بمعنى: التوسط بين شيئين: مثل: درجة حرارة الجو أو الماء: بين بين، أي: متوسطة بين المرتفعة والمنخفضة، ثروة فلان بين بين، أي: بين الكثرة والقليلة ... فإن فقد الظرف: "بين" التركيب جاز أن يكون معربًا
__________
1 تفصيل الكلام على المركب المزجي تعريفه، وتقسيمه، وحكمه مدون في الجزء الأول "م 23 ص 270 و 279، وما بعدهما في أقسام العلم ... ".
2 الكلام على بعض استعمالات: "بين" في ص 277 و 286.
3 هذا رأي الحريري ومن تابعه، وقد دفعه آخرون، منهم ابن بري، والرأيان معروضان في الهمع ج 1 ص 197.
4 ستجيء إشارة إليها في ص 277 بمناسبة الكلام على: "إذ" كما سيجيء بعض أحكامها الهامة في ص 286، وبيان "عن تركيبها المزجي" في ص 289.(2/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
متصرفًا ومنه قوله تعالى: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} ، وقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} في قراءة من قرأه مرفوعًا، أما من قرأه بالنصب يدل الرفع فقد جرى على أغلب أحواله1 ومثله الظرف: "دون" في قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} .
ومن الظروف غير المتصرفة2: "ذا"، و"ذات"، بشرط إضافتها إلى الزمان دون غيره، فيلتزمان النصب على الظرفية الزمانية فلا يجوز جرهما بـ"في" ولا وقوعهما في موقع إعرابي آخر، إلا على لغة ضعيفة لقبيلة "خثعم" تبيح فيهما التصرف، وقد رفضها جمهرة النحاة3؛ نحو: قابلت الأخ ذا صباح، أو ذا مساء، أو ذات يوم، أو ذات ليلة، أي: وقتًا ذا صباح، ووقتًا ذا مساء، ومدة ذات يوم، ومدة ذات ليلة، أي: وقتًا صاحبًا لهذا الاسم، ومدة صاحبة لهذا الاسم4.
وقد تضاف "ذات"، إلى كلمة: "اليمين" أو: "الشمال" وهما من الظروف المكانية كما سبق5 فتصير ظرف مكان متصرفًا؛ نحو: تتحرك الشجرة ذات اليمين وذات الشمال، ونحو: دارك ذات اليمين والحدائق ذات الشمال، "وقد سبقت الإشارة إلى "ذا" و"ذات" من ناحية إفرادهما وجمعهما في الجزء الأول، باب الأسماء الستة م 8 ص 699، وفي آخر هامش ص 321 منه إشارة إلى استعمال: "ذات" استعمال الأسماء المحضة المستقلة، وأن النسب إليها هو: "ذووي، أو ذاتي" طبقًا للبيان التفصيلي في باب النسب ج 2 م 178، وص 544".
ومن غير المتصرف أيضًا: حوال – حوالى – حول – حولى ... – أحوال – أحوالى6 ... وليس المراد في الغالب حقيقة التثنية والجمع، وإنما
__________
1 يجوز إعرابه ظرفًا منصوبًا مباشرة، والفاعل محذوف، ويجوز اعتباره اسمًا مبنيا على الفتح في محل رفع فاعل ... وهناك إعرابات أخرى ... وانظر كلامًا يختص به في ص 277 و 286.
2 لهذا الظرف أمثلة أيضًا في ص 261 و 266 م 79.
3 راجع الهمع ج 1 ص 168.
4 سبقت الإشارة لهذه الظروف في ص 266 أما إيضاح معناها وحكم إضافتها مفصلة، فيجيء في ج 3 ص 36 م 93.
5 في ص 266.
6 لهذه الألفاظ إشارة في رقم 1 من هامش ص 262.(2/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المراد المعنى المفهوم من الكلمة المفردة، وهو: الإحاطة والالتفاف وقد يستعمل "حواليك" مصدرًا: مثل: لبيك1؛ لأن الحول، والحوال يكونان بمعنى "جانب الشيء المحيط به"، كما يكونان بمعنى: "القوة".
ومن الظروف التي لا تصرف "شطر" بمعنى: ناحية أو جهة؛ كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، ومنها: زنة الجبل، أي: إزاءه، ومثله: وزن الجبل، أي: الناحية التي تقابله؛ سواء أكانت قريبة أم بعيدة.
ومنها في أي: صددك وصقبك، تقول: بيني صدد بيتك، بنصبه على الظرفية؛ أي: قربه وقبالته، وبيتي صفت بيتك، أي: قربه كذلك، والصحيح أن هذين الظرفين يتصرفان؛ فيستعملان اسمين.
هـ- هناك ألفاظ مسموعة بالنصب، جرت مجرى ظرف الزمان والمكان، كانت مجرورة بحرف الجر: "في" فأسقطوه توسعًا، ونصبوها على اعتبارها متضمنة معناه، فمن أمثلة الزمان كلمة "حقًا" في مثل: أحقًا أنك مسرور؟ فحقًا ظرف زمان ومنصوب خبر مقدم، والمصدر المؤول بعده مبتدأ والأصل: أفي حق سرورك2؟ وقد نطقوا بالحرف "في" أحيانًا فقالوا:
"أفي حق مواساتي أخاكم ... "، وقالوا: "أفي الحق أني مغرم بك هائم ... " وهذا الاستشهاد قد يصلح دليلًا على أن كلمة: "حقًا" السالفة ظرف زمان ... ومثلها: "غير شك أنك مسرور"، أو: "جهد رأيي أنك محسن"، أو: "ظنا مني أنك أديب"، فغير، وجهد، وظنا كلمات منصوبة هنا على الظرفية الزمانية3 توسعًا بإسقاط حرف الجر: "في" والأصل: في غير شك في
__________
1 سبق الكلام عليه في ص 233 م 76.
2 والظرفية هنا زمانية مجازية كما في الخضري والتصريح آخر باب: "الظرف"، وقد سبق الكلام عليه مفصلًا في ج 1 ص 586 "د" م 52 عند الكلام على فتح همزة "أن"، وسبقت الإشارة إليه في رقم 6 هامش ص 263.
3 والمعنى: سرورك حاصل في زمن لا شك في وقوع السرور فيه، وإحسانك متحقق في زمن سجلت فيه هذا قدر جهدي واستطاعتي، وأدبك حاصل في زمن أظن وقوعه فيه.(2/273)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جهد رأيي في ظني والظرف فيها جميعًا خبر مقدم، والمصدر المؤول بعده مبتدأ مؤخر.
ومن أمثلة ظروف المكان السماعية: مطرنا السهل والجبل، وضربت الجاسوس الظهر والبطن، وإنما كانت هذه الظروف سماعية مقصورة عليه؛ لأنها لا تدخل في أنواع الظروف المكانية القياسية1.
و– قد ينزل بعض الظروف منزلة أداة الشراط؛ فيحتاج لجملة بعدها جملة بمثابة الجواب، وقد تقترن هذه بالفاء؛ كقوله تعالى: في منكري القرآن: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} .
وعلى هذا قول ابن مالك في حكم "خلا وعدا"، في باب "الاستثناء".
"وحيث جرًا فهما حرفان ... "2
ز- هل يجو عطف الزمان على المكان وعكسه؟ سيجيء الجواب في مكانه الأنسب، من باب العطف آخر الجزء الثالث3.
ح– الظروف الزمانية والمكانية متعددة الأنواع، والأحكام، جديرة أن تستقل برسالة توفيها حقها من البسط، والإيضاح، والتهذيب، وجمع شتاتها المتناثر في المطولات، والمراجع الكبيرة، واستصفاء ما يجدر الأخذ به، واستبعاد ما يغشيه مما لا يناسب، وتحقيق هذا كله غرض جليل هام يقتضي بحثًا مستقلًا؛ لا تزحمه البحوث الأخرى، فتضغطه، أو تطغى عليه.
على أن هذا لا يحول دون استخلاص موجز، مركز، دقيق؛ قد يفيد القانع؛ أو يسعف المضطر، ولكنه لا يغني المستقصي، الذي لن يرضى بغير التوفية بديلًا. ومثل هذا لا يجد طلبته إلا في بطون المراجع الواسعة؛ كالمعنى، وشرح
__________
1 ظرف المكان القياسية مدونة في ص 253 وما بعدها.
2 راجع الصبان والخضري عند شرح البيت، ويجيء الإيضاح في هامش ص 357، وانظر الكلام على الظرف "بين" في ص 286 وما يليها من رقم 4 هامش ص 287" وهامشها؛ لصلته بالموضوع.
3 ج 3 م 122 ص 524 وقد عرض الصبان لهذا البحث في آخر باب الظرف من الجزء الثاني من حاشيته على الأشموني.(2/274)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المفصل، والجزء الأول1 من همع الهوامع: للسيوطي؛ فقد حوى أو كاد من شأن "الظرف" بنوعيه، ولا سيما الظرف المبني، ما لم يهيأ لسواه، وجمع في فصل: "الظروف المبنية" ما وصفه صادقًا بقوله1: "إني أوردت في هذا الفصل ما لم أسبق إلى جمعه واستيفائه من مبني ظروف الزمان والمكان، مرتبا على حروف المعجم ... ".
وفيما يلي الموجز: الذي استخلصناه من تلك المراجع، ورتبناه على حسب الحروف الهجائية، مع ترك ما سبق الكلام عليه2.
1- إذ3 ظرف للزمن الماضي في أكثر استعمالاتها، وقد تكون للمستقبل بقرينة4، وهي مبنية على السكون، غير متصرفة5 في الأغلب وتكون أحيانًا
__________
1 و 1 في ص 204.
2 مما يمكن الاكتفاء به.
3 سبق كلام موجز عن "إذ" لمناسبة في "ج1 م 3".
وسيجيء الكلام على "إذ" و"إذا " بمناسبة أخرى في ج 3 باب: "الإضافة" " ص 77 و 79 و 84 و 92 م94"، وفي ذلك الكلام بعض المسائل والأحكام الهامة ومن دواعي الاستفادة الكاملة الرجوع إليها، وربط المشترك منها بين هذا الباب، وذاك وسيجيء كلام آخر مفيد على "إذا" في ج 4 باب: "عوامل الجزم"، ص 333 م 56.
4 بيان هذا في رقم 5 الآتي.
5 جاء في المغني ج 1 عند الكلام عليها ما يفيد أنها: متصرفة؛ حيث يقول في الوجه الثاني من أوجه استعمالها ما نصه: "أن تكون مفعولًا به، نحو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} ، والغالب على المذكورة في أوائل القصص في التنزيل أن تكون مفعولًا به بتقدير، "اذكر"، نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} ، وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ} ، وقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} – وبعض المعربين يقول يذلك إنه ظرف للفعل: "اذكر" محذوفًا وليس مفعوًا به وهذا وهم فاحش؛ لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في ذلك لوقت، مع أن الأمر للاستقبال، وذلك الوقت قد مضى قبل تعلق الخطاب بالمكلفين منا، وإنما المراد ذكر الوقت نفسه أي: تذكره لا الذكر فيه". ا. هـ. كلام المغني.
وقال صاحب الهمع "ج 1 ص 204" في دلالتها الزمنية، وفي تصرفها، ما نصه: "أصل وضعها أن تكون ظرفًا للوقت الماضي، وهل تقع للاستقبال؟ قال الجمهور: لا، وقال جماعة منهم ابن مالك: نعم، واستدلوا بقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ، والجمهور جعلوا الآية ونحوها من باب قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} أي: من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما قد =(2/275)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مضافًا إليه، والمضاف اسم زمان؛ نحو: حيئذ، يومئذ.... فتتحرك "الذال" بالكسر عند التنوين.
وإذا كانت ظرفًا التزمت الإضافة إلى جملة1؛ إما اسمية ليس عجزها فعلًا ماضيًا2، نحو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} ، وإمال فعليه نحو: جئتك إذ دعوتني، ويشترط في الجملة الفعلية أن تكون ماضوية لفظًا ومعنى فقط كأن يكون فعلها مضارعًا قصد به حكاية الحال الماضية3، وألا تكون شرطية، ولا مشتملة على ضمير يعود على المضاف، فلا
__________
= وقع، قال ابن هاشم: ويحتج لغيرهم أي: لغير الجمهور بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} ؛ فإن: "يعلمون" مستقبل لفظًا ومعنى: لدخول حرف "التنفيس" عليه، وقد عمل في "إذ"، فيلزم أن يكون بمنزلة "إذا"؛ لأن "إذا" للمتسقبل.
"وتلزم "إذ" الظرفية؛ فلا تتصرف بأن تكون فاعله أو مبتدأة، أو غيرهما ... إلا أن يضاف اسم الزمان إليها؛ نحو: "حينئذ"، "يومئذ" ... وجوز الأخفش، الزجاج، وابن مالك وقوعها مفعولًا به، نحو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} وبدللًا منه؛ نحو: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} ، والجمهور لا يثبتون ذلك، ووافقهم أبو حيان، فقال:
"لأنه لا يوجد في كلام العرب: "أحببت إذ قدم زيد، ولا كرهت إذ قدم"، وإنما ذكروا ذلك مع الفعل: "اذكر" لما اعتاض أي: التوى، وصعب عليهم ما ورد من ذلك في القرآن وتخريجه سهل، وهو أن تكون "إذ" معمولة لمحذوف يدل عليه المعنى، أي: اذكروا حالتكم، أو: قضيتكم "أو أمركم ... وقد جاء بعض ذلك مصرحًا به؛ قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ، "فإذا" ظرف معمول لقوله: "نعمة الله"، وهذا أولى من إثبات حكم كل بمحتمل، بل مرجوح". ا. هـ. كلام أبو حبان. ا. هـ، ما دونه الهمع.
1 وفي هذه الحالة يشترط في "إذ" الظرفية المحضة ألا تكون مختومة بما الزائدة – نص على هذا المبرد في كتابه المقتضب، ج 2 ص 54.
2 والسبب كما يقولون أن "إذ" للزمان الماضي في أغلب استعمالاتها، والفعل الماضي مناسب لها في الزمان، فلا يسوغ الفصل بينهما بالمبتدأ أو غيره، وهما في جملة واحدة، أما إذا كان الفعل بعدها مضارعًا، ولا بد أن يكون بمعنى الماضي ولو تأويلا ففصله وعدم فصله سواء؛ كلاهما حسن ... وسيجيء البيان مفصلًا في موضعه الأنسب. "ج 3 م 94 ص 79 و 84 باب: الإضافة ... ".
3 وقد اجتمع أنواع الجمل الثلاث في قوله تعالى عن رسوله الكريم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَن} ، فقد أضيفت "إذ" لجملة ماضوية، ثم لجملة اسمية، ثم لجملة مضارعية.(2/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يصح: أتذكر إذ إن تأتنا نكرمك ... وقد يحذف شطر الجملة الاسمية أحيانًا مع ملاحظة وجوده؛ كقول الشاعر:
هل ترجعن ليال قد مضين لنا ... والعيش منقلب إذ ذاك أفنانًا
والتقدير عندهم: العيش منقلب أفنانًا إذ ذاك كذلك؛ لأنها لا تضاف في الأغلب1 إلى مفرد2، ومثله قول الآخر:
كانت منازل آلاف عهدتهموا ... إذ نحن إذ ذاك دون الناس إخوانًا
أي: إذ ذاك كذلك.
وقد تحذف الجملة التي تضاف إليها، ويعوض عنها التنوين3؛ نحو: أقبل الغائب وكنتم حينئذ مجتمعين، أي: حين إذ أقبل ...
وقد تزاد للتعليل؛ كقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} ؛ أي: لأجل ظلمكم في الدنيا ... ولا تصلح للظرفية هنا؛ لأن الظلم لا يقع يوم القيامة، وإنما يقع قبله في الدنيا ... وهي حرف بمنزلة لام التعليل وهذا أسهل وقيل: ظرف، والتعليل مستفاد من قوة الكلام، لا من اللفظ.
وقد تكون حرفًا للمفاجأة، أو زائدة لتأكيد معنى الجملة كلها؛ وذلك بعد كلمة: "بين"4 المختومة "بالألف" الزائدة، أو"ما" الزائدة؛ نحو: بينا نحن جلوس إذ أقبل صديق ... ومثل: "فبينما العسر إذا دارت مياسير5".
__________
1 راجع الخضري والصبان "باب: "إن" مواضع كسرل الهمزة وجوبًا، وهل منها: "حيث"؟.
2 قد يبدو هذا التقدير غريبًا، ولكن نزول غرابته كما يجيء في ج 3 ص 65 م 94 بأمثلة أخرى توضحه وتؤيده، كأن نقول: المنافق منقلب أحوالًا إذ هذا المنافقان منقلبان أحوالًا إذ هذان، المنافقون منقلبون أحوالًا إذ هؤلاء، ففي كل هذه التراكيب وأشباهها وما أكثرها لا يتم المعنى إلا بالتقدير السالف.
3 كما سبق في ج 1 ص 26 م 3.
4 لها بيان في ص 286 وما يليها، ومنه يعلم أنها واجبة الصدارة، والإضافة للجملة إذا كانت مختومة بالألف الزائدة، أو"ما" الزائدة.
5 ولا بشرط فيها غير هذا، بخلاف "إذا" الفجائية التي ستجيء الكلام عليها في ص 280.(2/277)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا، واستعمال "إذ" قياسي في جميع الصور، والحالات المختلفة التي سردناها في الكلام عليها.
2– إذا1 الصحيح أنها اسم؛ بدليل وقوعها خبرًا مع مباشرتها الفعل؛ نحو: الهناء إذا تسود المحبة الأهل، ووقوعها بدلًا من الاسم الصريح، نحو: المقابلة غدًا إذا تطلع الشمس.
أ– وهي ظرف للمستقبل في أكثر استعمالاتها، وتكون للماضي بقرينة؛ نحو قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ؛ لأن الآية نزلت بعد انفضاضهم.
وقد تكون ظرفًا للحال بعد القسم؛ نحو قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؛ لأن الليل والغشيان مقترنان، وهل "إذا" في الآية متعلقة بفعل القسم، وفعل القسم للحال2؟ ومثل قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} .
ب- والغالب ي استعمالها أن تتضمن مع الظرفية معنى الشرط بغير أن تجزم إلا في ضرورة الشعر، وتحتاج بعدها إلى جملتين، الأولى تحتوى على فعل الشرط، والثانية الجواب: نحو قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} .
وقد تتجرد للظرفية المحضة الخالية من الشرط3؛ كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ
__________
1 لبعض أنواعها بيان يجيء في ج 3 م 94 ص 92 باب: "الإضافة"، وكذا في ج 4 ص 405 م 155، الأمور التي تختلف فيها الأدوات الشرطية، وص 413 م 156: النوع الثالث.
2 هذا رأي فريق من النحاة، ولم يوافق عليه آخرون؛ لما يلزم عليه من أن يكون القسم في وت غشيان الليل، وأنهما يحصلان معًا في زمن واحد. وارتضى هؤلاء أن تكون "إذا" ظرفًا متعلقًا بمضاف يدل عليه القسم؛ إذ لا يقسم بشيء إلا لعظمته، والتقدير: وعظمة الليل إذا يغشى، "راجع الصبان، جـ 2 باب الإضافة عند الكلام على "إذا".
3 جمهرة النحاة في هذه الحالة توجب نصبها على الظرفية دون غيرها، فلا تكون فاعلًا، ولا مفعولًا به، ولا غيرهما، أما قوله عليه السلام لعائشة: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية" ... فيؤولونه بأن المراد: إني لأعلم شأنك إذا كنت عني راضية، ولا يوافقون على أن تكون مفعولًا به، لئلا يفسد المعنى؛ إذ المراد ليس العلم بالزمن، وإنما المراد العلم بالحال والشأن.
وهذا صحيح في الحديث السالف أما في غيره، فقد يكون المراد وقوع الأثر على الزمن نفسه، وعندئذ لا يمنع مانع من أن تكون "إذا" مفعولًا به، نزولا على ما يقتضيه المعنى.(2/278)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ، وقوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} 1، وقد اجتمع النوعان الظرفية المحضة، والظرفية الشرطية، مع حذف فعل الشرط في قول الشاعر:
إذا أنت لم تترك أخاك وزلة2 ... إذا زلها أوشكتما3 أن تفرقا4
وإذا كانت للشرط فإنها لا تدل على التكرار؛ في مثل: إذا خرجت أخرج معك، يتحقق المراد بالخروج مرة واحدة، وهي أيضًا لا تفيد الشمول والتعميم في الرأي الشائع، فلو حلف رجل على أن يتصدق بمائة مثلًا إذا رجع ابن من أبنائه الغائبين؛ فرجع ثلاثة، لم يجب عليه إلا مائة، وتسقط عنه اليمين بعدها.
وتستعمل "إذا" الظرفية الشرطية في التعليق إذا كان الشرط محقق الوقوع5، نحو: إذا أقبل الشتاء أقيم عندكم، أو مرجع الوقوع، نحو: إذا دعوتموني أيها الإخوان أحضر.
ج "وإذا" الظرفية الشرطية تضاف دائمًا إلى جملة فعلية خبرية، غير مشتملة على ضمير يعود على المضاف، والأكثر أن تكون ماضوية، وقد اجتمع
__________
1 لو كانت "إذا" في الآية شرطية لاشتمل جوابها "هم يغفرون" على الفاء الرابطة أو ما ينوب عنها في الربط؛ لأن هذا الجواب جملة اسمية تحتاج للرابط، ولا داعي للتمحل بأن الرابط قد يحذف أحيانًا. "انظر ج 4 ص 413 م 156 لأهيمته، واشتماله على بعض أوجه مفيدة".
2 هفوة.
3 اقتربتما.
4 الأصل: تتفرقا، حذفت إحدى التاءين تخفيفًا.
5 وهي بهذا تختلف عن "إن" الشرطية وأخواتها؛ مما يكثر في الأمر المحتمل، أو المشكوك في تحقيقه، وقد تدخل على المستحيل، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} .
وقد تدخل على الأمر المحقق إن كان غير متيقن الزمان: كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ؟ فالموت محقق، ولكن زمنه مبهم.
"وفي الجزء الرابع ص 327 م 155 وص 333 م 156 باب الجوازم البيان الشامل لهذه الأدوات كلها".(2/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النوعان في قول الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
والماضي في شرطها أو جوابها مستقبل الزمن1؛ فإن وليها اسم مرفوع بعده فعل فالاسم في الغالب فاعل لفعل محذوف2 مثل: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وحين تقع شرطية ظرفية تكون مضافة إلى الجملة الشرطية المكونة من فعل الشرط ومرفوعه، ومنصوبة بما يكون في جملة الجواب من فعل أو شبهة3.
د– وقد تكون "إذا" للمفاجأة4، والأحسن في هذه الحالة اعتبارها حرفًا5؛ فتدخل وجوبًا؛ إما على الجمل الاسمية، نحو: اشتدت الريح، فإذا البحر هائج، وإما على الجمل الفعلية المقرونة بقد؛ لأن "قد" تقرب زمن الفعل من الحال نحو: اشتدت الرياح، فإذا قد لجأت السفن إلى المواني يضطرب البحر، فإذا قد يتألم ركاب البواخر، كما يجب في كل حالاتها أن يسبقها
__________
1 سواء أكان ماضي اللفظ والمعنى معًا، "وهو الماضي الحقيقي بصيغته وزمنه"، أم كان ماضيًا معنى وحكمًا دون لفظ، وهو المضارع المسبوق بحرف الجزم: "لم"، فإن هذا الجازم يقلب في الغالب زمنه للمضي كما هو موضح في باب "الجوازم"، ج4 فإذا وقع الماضي الحقيقي، أو المعنوي وهو المضارع المسبوق بالحرف "لم" فعل شرط للأداة: "إذا" الشرطية أو لأداة شرطية جازمة أخرى تخلص زمنه للمستقبل المحض؛ كقول الشاعر:
إن السماء إذا لم تبك مقلتها ... لم تضحك الأرض عن دان من الثمر
2 أو نائب فاعل أحيانًا، ولهذا الرأي توضيح واف سبق في باب: "الانشغال" من هذا الجزء رقم 1 هامش ص 133 وفي ص 142.
3 ولا يمنع من هذا العمل أن يكون الجواب مشتملًا أحيانًا على الفاء الرابطة، أو ما ينوب عنها؛ لأن هذه الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها في غير هذا الموضع الذي يكون فيه العامل واقعًا في جواب الشرط.
4 أي: مفاجأة ما بعدها، بمعنى: هجومه.
5 ويجوز اعتبارها ظرف زمان أو مكان أيضًا، بمعنى: "ففي الوقت أو ففي المكان" راجع ج ص 492 م 52.(2/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلام قبلها تقع عليه المفاجأة، وأن تكون المفاجأة في الزمن الحالي1 حتمًا لا المستقبل، ولا الماضي وأن تقترن بها الفاء الزائدة للتوكيد2، وأن تخلو من جواب بعدها، وقد تليها الباء الزائدة التي تدخل سماعًا في مواضع؛ ومنها بعض أنواع معينة من المبتدأ، كالمبتدأ الذي بعدها، نحو نظرت فإذا بالطيور مهاجرة3.
3– الآن وهو اسم للوقت الحاضر جميعه، وهو الوقت الذي يستغرقه نطق الإنسان بهذه الكلمة نحو: أنارت الشمس الآن، أو الحاضر بعضه فقط، مثل: الملآح يحرك سفينته الآن، فإن تحريكه السفينة لا يعم ولا يشمل كل وقته الحاضر عند النطق، وقد يقع على الماضي القريب من زمن النطق، أو على المستقبل القريب منه: تنزيلًا للقريب في الحالتين منزلة الحاضر.
وهو ظرف، مبني على الفتح تلازمه "أل"، وظرفيته غالبة، لازمة أي: لا يخرج عنها إلا في القليل المسموع الذي لا يقاس عليه، ويرى بعض النحاة أنه معرب منصوب على الظرفية، وليس مبنيًا، وله أدلة تدعو إلى الاطمئنان والاستراحة لرأيه الأسهل4.
__________
1 المقصود بالزمن الحالي: الزمن الذي يتحقق فيه المعنيان في وقت واحد؛ المعنى الذي بعدها والمعنى الذي قبلها؛ بحيث يقترنان معًا في زمن تحقيقها، ولو كان زمن ماضيًا؛ كالذي في نحو: خرجت أمس فإذا المطر فياض.
2 وقد سبقت الإشارة لهذا في ج 1 ص 492.
3 راجع المغني ج1 عند الكلام على "الباء"، وص 493 الآتية و495 حيث الكلام على حرف الجر الباء، والبيان الأنسب من حيث الأصالة والزيادة.
4 في الجزء الأول من: "همع الهوامع" "باب: الظرف ص 207" عرض واف للآراء المختلفة المتعددة التي تدور حول الظرف: "الآن" من ناحية الحكم عليه بالبناء، أو بالإعراب، وأدلة كل رأي، وجميعها أدلة جدلية محضة لا قيمة لها في إثبات المراد؛ لأن إثباته القاطع إنما يكون بعرض الأمثلة الصحيحة الواردة عن العرب التي تكفي في تأييد هذا أو ذاك، لا في مجرد الجدل المحض الذي لا تسايره الشواهد الكثيرة.
على أن صاحب الهمع بعد فراعه من عرض الآراء أدلى برأيه، فقال ما نصه: المختار عندي القول بإعرابه؛ لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة؛ فهو منصوب على الظرفية، وإن دخلته "من" جر. =(2/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
4– أمس، اسم، معرفة، متصرف، وهو اسم زمان لليوم الذي قبل يومك مباشرة، أو ما في حكمه عند إرادة القرب ويستعمل مقرونًا بأل لزيادة التعريف، أو غير مقترن بها فلا يفقد التعريف.
وللعرب فيه لهجات ولغات مختلفة، تعددت بسببها آراء النحاة في استنباط حكمه، وخير ما يستصفى منها أنه:
إذا كان مقرونًا بأل فإعرابه وتصرفه هو الغالب، ولا يكون ظرفًا؛ نحو كان المس طيبا، إن الأمس طيب، أسفت على انقضاء الأمس.
وإذا لم يكن مقترنًا بأل فالأحسن عند استعماله ظرفًا أن يكون مبنيًا على الكسر دائمًا في محل نصب، نحو: أتممت الكتابة أمس ... وإن لم يستعمل ظرفًا، فالأحسن بناؤه على الكسر أيضًا في جمع أحواله، نحو: انقضى أمس بخير، إن أمس كان حسنًا، لم أشعر بانقضاء أمس.
ومما يتصل باستعمال "أمس" ما جاء في كتاب: "لسان العرب" وغيره، وهو أنك تقول: ما رأيت الصديق مذ أمس؛ إذا كان ابتداء عدم الرؤية هو
__________
= وخروجه عن الظرفية غير ثابت، ولا يصلح الاستدلال له بالحديث السابق لما تقرر غير مرة". ا. هـ، ثم قال بعد ذلك ما نصه:
وفي شرح الألفية لابن الصائغ: إن الذي قال بأنه أصله "أوان" يقول بإعرابه، كما أن "أوانًا" معرب. ا. هـ.
أما الحديث المشار إليه فقد ذكره قبل رأيه هذا قائلًا ما نصه: "وقال ابن مالك: ظرفيته "أي: الآن" غالبة لازمة؛ فقد يخرج عنها إلى الاسمية، كحديث: "فهو يهوي في النار، الآن حين انتهى إلى قعرها ... " فـ"الآن" في موضع رفع بالابتداء، "وحين انتهى" خبره، و"حين" مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض". ا. هـ.
وإنما كان الحديث السالف غير صالح عنده للاستدلال به؛ لأن صاحب الهمع من طائفة ترى أن الحديث النبوي لا يستشهد به في اللغويات، لاحتمال أن يكون مرويًا بالمعنى دون حرص على النص اللفظي الذي نعلق به الرسول، ولأن بعض رواة الحديث أجنبي لا يحسن النطق بالكلام العربي الصحيح.
وهذا رأي له معارضون لا يوافقون عليه، وللفريقين أدلة وبحوث طويلة في هذا الشأن عرضها مختصرة صاحب: "خزانة الأدب" في أولها، وكذلك عرض لها بشيء من البسط صاحب كتاب: "المواهب الفتحية" في الجزء الثاني.(2/282)
اليوم الذي قبل يومك الحالي مباشرة، فإن لم تره يومًا قبل أمس قلت: ما رأيته مذ أول من أمس1، فإن لم تره مذ يومين قبل أمس قلت: ما رأيته مذ أول من أول من أمس، ولا يقال إلا ليومين قبل أمس، أي: لا يصح ذكر "أمس" لما قبلهما2.
5- بعد، أول، قبل، أمام، قدام، وراء، خلف، أسفل، يمين، شمال، فوق، تحت، عل3، دون ... 4.
من الظروف المبنية حينًا، والمعربة حينًا آخر: "بعد" وهو ظرف5 زمان أو مكان6، ملازم للإضافة في الحالتين.
__________
1 هذا التركيب مثل قولهم: ما رأيته أول من أمس، "راجع ما يتصل به في ص 285".
2 راجع الكلام على كلمة "أول" في ص 285، ثم إيضاح آخر عنها في ج 3 ص 623، 125، م 94 باب: الإضافة.
3 في الظرف "عل" لغات مختلفة، أوضحناها في باب الإضافة ج 3، منها: "علا" "على وزن: عصا"، وبعض العرب يجيز إضافته، ولكنه يوجب قلب ألفه ياء عند إضافته لياء المتكلم طبقًا للبيان الخاص به في باب: الإضافة.
4 في باب الإضافة من ج 3 ص 155 م 95 تفصيل الكلام على هذه الظروف، وعرض أحكامها مستوفاة.
5 معناه الغالب: الدلالة على تأخر شيء عن شيء في زمانه، أو مكانه، ومن أمثلة دلالته على التأخر في الزمان ما قيل في رثاء زعيم سادات العرب:
كأن الناس بعدك نظم سلك ... تقطع: لا يقوم له نظام
وقد يكون معناه: "مع"؛ كقوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} أي: مع ذلك: "العتل: جافي الطبع: فاحش الزنيم: الشرير، دنيء الأصل ... ".
6 صرح صاحب "الهمع" ج 1 ص 209 باب: الظرف بما نصه: "بعد" ظرف زمان لازم الإضافة". ا. هـ، ولم يذكر شيئًا يدل على أنه يكون للمكان، وكذلك صاحب "المصباح المنير" حيث قال في مادة: "بعد" ما نصه: "بعد" ظرف" مبهم لا يفهم معناه إلا بالإضافة لغيره، وهو زمان متراخ عن السابق، فإن قرب منه قيل: "بعيده" بالتصغير كما يقال: "قبل العصر"؛ فإذا قرب قيل: "قبيل العصر"، بالتصغير، أي: قريبًا منه، ويسمى هذا: "تصغير التقريب". ا. هـ.
غير أن صاحب التصريح ج 1 ص 50 باب: "الإضافة" نص في وضوح وجلاء على أن يكون للزمان والمكان؛ فقد قال في معرض الكلام عن الظرفية: "قبل وبعد" ما يلي: =(2/283)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أ- غير أن المضاف إليه قد يذكر، نحو: صفا الجو بعد المطر، وفي هذه الحالة يتعين أن يكون الظرف معربًا منصوبًا بغير تنوين؛ لأنه مضاف، ويجوز جرء بالحرف: "من".
ب– وقد يحذف المضاف إليه وينوي وجود لفظه بنصه الحرفي؛ فيبقى المضاف على حاله معربًا منصوبا غير منون؛ كما كان قبل حذف المضاف إليه؛ نحو: لما انقطع المطر صفا الجو بعد، أي: بعد المطر، وحكم الظرف هنا كسابقه.
جـ– وقد يحذف المضاف إليه، ويستغنى عنه نهائيًا كأن لم يكن؛ مثل: صفا الجو بعدًا ... والظرف في هذه الحالة معرب، منصوب، نون ...
د– وقد يحذف المضاف إليه وينوى معناه، "أي: ينوى وجود كلمة أخرى تؤدي معنى المحذوف في غير أن تشاركه في نصه وحروفه"، وفي هذه الصورة يلتزم الظرف المضاف: البناء على الضم؛ مثل: لما انقطع المطر صفًا الجو بعد، أي: بعد انقطاعه، أو: بعد ذلك1 ...
__________
= لا يختصان بالزمان فقد يكونان للمكان كقولك: داري قبل دارك أو بعدها ... ". ا. هـ، بل بالغ بعضهم فجعل الأولى في استعمال: "بعد" أن يكون ظرف مكان، يدل على هذا ما سجله ياسين في تعقبه على ما جاء بالتصريح "ج 2 باب: "حروف الجر"، عند الكلام على الحرف من، ص 8".
والحق أن "بعد" تكون للزمان تارة وللمكان أخرى، ولا داعي للتأويل الذي يراد منه قصرها على أحدهما.
ثم انظر في رقم 1 التالي بعض الاستعمالات الأدبية.
1 يكثر وقوع الظرف: "بعد" تاليًا "أما الشرطية" التي ستجيء أحكامها مفصلة في باب خاص بها ج4 م161 ص 470 كقولهم: " ... أما بعد، فإن شر الكلام الكذب ... "، وقد تحل "الواو" محل "أما الشرطية"، فيقال: "وبعد، فإن ... "، فمن أي الصور والحالات السالفة ما يكثر في بدء الخطب والرسائل الأدبية، ونحوها من مثل: تحية الله وسلامة عليكم: "وبعد"، فإدراك الغايات رهن باتخاذ الوسائل الناجعة ... " وقول صاحب: "القاموس المحيط" في ديباجة قاموسه: ما نصه: "الحمد لله منطق البلغاء ... وبعد فإن للعلم رياضًا ... ". ا. هـ.
قال شارع الديباجة حين عرض لهذه العبارة قبل ذلك في تقييداته الأولى التي سماها: شرح ديباجة =(2/284)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فالأحوال أربعة 2 تعرب في ثلاثة منها، وتبنى في حالة واحدة هي: التي يحذف فيها المضاف وينوى معناه.
وتلك الأحوال الأربعة تنطبق على باقي الظروف التي وليت: "بعد".
غير أن هناك بعض الأمور تتصل بلفظ: "أول" الذي ليس ظرفًا1، منها: اعتباره اسمًا مصروفًا معناه ابتداء الشيء المقابل لنهايته، ولا يستلزم أن يكون له ثان؛ فقد يكون له ثان، وربما لا يكون؛ تقول: هذا أول ما اكتسبته: فقد تكتسب بعده شيئًا، أولا تكتسب، وقيل: يستلزم كما أن الآخر يستلزم أولًا، والحق الرأي الأول، وللقرائن دخل كبير في توجيه المعنى إلى أحد الرأيين، ومنه قولهم: "ما له أول ولا آخر2.
ومنها: أن يكون وصفًا مؤولًا، أي: افعل تفضيل بمعنى: "أسبق"، فيجري عليه حكمه؛ من منع الصرف وعدم التأنيث بالتاء، ووجوب إدخال "من" على المفصل عليه؛ ... نحو: هذا أول من هذين، ولقيته عام أول من عامنا3.
__________
= القاموس، للهوريني قال ما نصه: "بعد، كلمة يفصل بها بين الكلامين عند إرادة الانتقال من كلام إلى غيره وهي من الظروف، قيل: زمانية، وقيل: مكانية وعامله محذوف، قال الدماميني، والتقدير: أقول بعد ما تقدم من الحمد، والصلاة والتسليم على نبيه العظيم، "فإن" بالفاء، إما على توهم "أما" أو على تقديرها في نظم الكلام، وقيل: إنها لإجراء الظرف مجرى الشرط، وقيل: "إنها عاطفة وقيل: زائدة ... ". ا. هـ، والذي يعنينا هو فهم هذا الأسلوب، وأنه فصيح بالفاء.
لاحظ البيان الذي في رقم 6 من هامش ص 283؛ لأهميته.
1 تفصيل أحكامها وأحوالها في ج 3 ص 53 م 59 باب الإضافة.
2 تقدم له بيان آخر في ص 283، وكذلك في جـ1 ص 194 م17 باب النكرة والمعرفة، وستجيء إضارة مهمة إليه في جـ 3 باب الإضافة.
3 راجع الكلام عليه مع الظرف "أمس" في ص 283، وله بيان آخر في جـ 3 باب الإضافة ص 125.
4 ويصح لقيته عامًا أول من عامنا، جاء في الهمع "ج 1 ص 54 باب: "النكرة والمعرفة" ما نصه: "من الأسماء ما هو معرفة معنى، نكرة لفظًا، نحو: كان عامًا أول، وأول من أمس؛ فمدلولهما معين لا شيوع فيه بوجه، ولا يستعملا إلا نكرتين ... ". ا. هـ.
وقد سبق بيان هذا في جـ 1 م.(2/285)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنها: أن يكون اسمًا معناه: "السابق"؛ فيكون مصروفًا؛ نحو لقيه عامًا أولًا، أي: سابقًا.
أما "أول" الظرف الزماني فمعناه: "قبل" نحو: رأيت الهلال أول الناس.
هذا، وأصل أول في الأرجح، بنوعيه: الظرف، والاسم، هو "أو أل" بوزن: أفعل؛ قلبت الهمزة الثانية واوًا، ثم أدغمت الواو في الواو، بدليل جمعه على أوائل1.
6- بين2 بدل فأما: "بين" فأصله ظرف للمكان، وقد يكون للزمان أيضًا. والكلمة في الحالتين مضافة إلا عند التركيب كما سبق2 وتتخلل شيئين3، أو ما في تقدير شيئين4، أو أشياء5، وتصرفها متوسط، وكذلك وقوعها معربة، مثل قوله تعالى في الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَ} ، فقد وقعت اسمًا معربَا مضافًا إليه، مجرور بالكسرة الظاهرة؛ كشأنها في قوله تعالى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، وقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} في قراءة من رفع الظرف، وقوله: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} .
__________
1 انظر ما يتعلق به في ص 563 وفي ج 3 باب الإضافة.
2و2 سبقت الإشارة إلى بعض أحكامها، "وهو: التركيب المزجي"، في ص 271، ولها إشارة أخرى في ص 277 بمناسبة الكلام على: "إذ".
3 كقوله تعالى: ... {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
4 كقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، أي: بين الجهر والمخافتة.
5 كقول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أي: بين مواضع الدخول، ومما يصلح لتقدير شيئين، أو أشياء قول الشاعر:
قدر الهجر بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي(2/286)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تضاف إلا إلى متعدد؛ كقولهم: مقتل المرء بين فكيه، وقول الشاعر:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني فأقام بين ضلوعي
فإن أضيفت لمفرد وكان ضميرًا لا يدل على تعدد، وجب تكرارها مع عطف المكررة بالواو، كالآية السابقة؛ وهي: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، وإن كان اسمًا ظاهرًا فالكثير أنها لا تتكرر, إذ يكتفى بالعطف بالواو على الاسم الظاهر المضاف إليه، مع جواز التكرار، وإن كان الأول هو الأكثر1؛ مثل: تضيع الغاية بين التردد واليأس، وقولهم: شتان بين روية وتسرع.
وقد يتصل بآخرها "الألف" الزائدة أو"ما"2 الزائدة، فتصير في الحالتين زمانية غير متصرفة، واجبة3 الصدارة والإضافة إلى جملة "اسمية، أو فعلية"، وبعدها كلام مرتب على هذه الجملة، يعتبر منزلة الجواب4
__________
1 تكرارها بين المتعاطفين الضميرين واجب، أما بين المتعاطفين الظاهرين فجائز للتوكيد؛ فيصح أن يقال: المال بين محمود وبين علي، بزيادة: "بين" الثانية، للتأكيد؛ كما قاله ابن بري وغيره، وبذلك يرد على منع الحريري تكرارها. راجع حاشية ياسين على شرح التصريح ج 2، وكذا "الصبان" أول باب: "عطف النسق" فيها عند الكلام على واو العطف.
ويؤيد ما سبق ورودها مكررة في بعض الأحاديث الشريفة التي نقلها، وشرحها صاحب المواهب الفتحية ج2، وفي كلام آخر لعلي بن أبي طالب نقلناه في ج 3 م 118 باب: عطف النسق، عند الكلام على "الواو" وما تنفرد به
ص 544، وفي كلام لعمر بن عبد العزيز، وهو ممن يحتج بكلامهم.
وكذلك وردت في شعر يحتج به نقله "الطبرسي في كتابه مجمع البيان ج 1 ص 45"، ونصه: قال عدي بن زيد:
وجاعل الشمس مصرًا لا خفاء به ... بين النهار، وبين الليل قد فضلا
المصر: الحاجز وقول أعشى همدان:
بين الأشح وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولود
2 وقوع "ما" الزائدة بعد الظرف: "بين" يوجب وصلهما في الكتابة، وتصديرهما في الجملة، وكذلك مع الألف الزائدة كما تقدم في ص 268 و 279.
3 كما في القاموس وغيره.
4 يكون الظرف مضافًا للجملة التي بعده مباشرة، ومنصوبًا لعامل في الكلام المتأخر عنها، المترتب =(2/287)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
= عليها، كأنه جواب لها، معلق عليها كتعليق الجواب على الشرط، وقد يقترن هذا الجواب بالفاء ... على الوجه الذي سبق في "و" ص 276، وكما يجيء في هامش ص 359"، وما سبق هو رأي الجمهور، وهناك آراء أخرى أيسرها أنها بعد اتصال "ما" الزائدة، أو: الألف الزائدة بها، تصير ظرف زمان غير مضاف؛ لأن الحرف الزائد قد كفها عن العمل، ويصير الظرف "بين" منصوبًا بالعامل الذي في الجملة التي تليه مباشرة، والجملة التي تليها بمنزلة الجواب، وهذا رأي حسن، وفيه تيسير.
ومن المفيد الذي يوضح ما سبق أن نسجل هنا ما جاء في حاشية الأمير على المغني، وما جاء في الصبان عن هذه المسألة بالرغم مما في كلامهما من تحليل لا يعرفه العربي القديم:
"أ" جاء في المغنى؛ ج في الكلام على "إذا" وأنواعها، ما نصه: "تكون للمفاجأة، نص على ذلك سيبويه، وهي الواقعة بعد "بينا"، أو"بينما" ... و ... "، وقد علق على هذا: الأمير في حاشيته، قائلًا ما نصه:
أصل: "بين" مصدر "بان"، إذا تفرق، ثم استعملت الظروف؛ زمانية ومكانية، ولا تضاف إلا لمتعدد؛ فأصل قولك: جلست بين زيد وعمرو، وأتيت بين الظهر والعصر، جلست مكان تفرق زيد وعمرو، أي: المكان الواقع بينهما، وأتيت زمن تفرق الظهر والعصر، أي: الذي يفصل بينهنما، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ثم لما أرادوا أن يضيفوها إلى الجملة مع كونها لازمة للإضافة للمفرد أي: لغير الجملة وكانت الإضافة إلى الجملة كلا إضافة، لعدم تأثيرها في لفظ المضاف إليه وصلوها بأحد الأمرين، "ما" التي شأنها الكف، فكأنها كفتها عن الإضافة، أو"الألف" مشبعة عن الفتحة؛ لأنها أيضًا تفيد قطع ما قبلها في الوقف، مبدلة عن تنوين إثر فتح، كالظنونا في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، ثم هي بعد ظرف زمان فقط؛ لأنه ليس لنا مكان يضاف للجملة غير "حيث"، وإن تأملت ما سبق أغناك عن إضمار "أزمان" بعدها إذا أضيفت للجملة كما قيل"". ا. هـ، وهذا الرأي أحسن من التالي.
"ب" وقال الصبان في الجزء الثاني باب الإضافة عند الكلام على قول ابن مالك:
وألزموا إضافة إلى الجمل ... حيث وإذ.........................
ما نصه:
"اعلم أن أصل: "بين" أن تكون مصدرًا بمعنى: الفراق، فمعنى جلست بينكما: جلست مكان فراقكما، ومعنى أقبلت بين خروجك ودخولك: أقبلت زمان فراق خروجك ودخولك، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فتبين أن: "بين" المضافة إلى المفرد أي: الذي ليس جملة تستعمل في الزمان والمكان. فلما قصدوا إضافتها إلى الجملة، اسمية أو فعلية والإضافة إلى الجملة كلا إضافة زادوا عليها تارة: "ما" الكافة: لأنها تكف المقتضى عن اقتضائه، وأشبعوا تارة أخرى الفتحة، فتولدت "ألف" لتكون الألف دليل عدم اقتضائه للمضاف إليه؛ لأنه حينئذ كالموقوف عليه؛ لأن =(2/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للظرف1 فمثال الفعلية: بينما أنصفتني بالود ظلمتني بالمن، وقول الشاعر:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف2
ومثال الاسمية:
استقدر الله خيرا3، وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطًا ... إذ صار في الرمس4 تعفوه الأعاصير
وقد ورد في السماع الذي لا يقاس عليه إضافة "بينا" للمصدر دون: "بنيما" على الصحيح ...
وقد تركب تركيب مزج "كخمسة عشر"، فتبنى مثلها على فتح الجزأين كقول الشاعر:
__________
= الألف قد يؤتى بها للوقوف، كما في: "أنا" والظنونا يشير إلى أن الأصل في "نا" خلوها من الألف، وإلى قوله تعالى: "وتظنون بالله الظنونا"، وتعين حينئذ ألا تكون إلا للزمان، لما تقرر أنه لا يضاف إلى الجمل من المكان إلا حيث. وإضافة: "بينما" أو "بينا" في الحقيقة إلى زمان مضاف إلى الجملة، فحذف الزمان المضاف، والتقدير: بين أوقات زيد قائم، أي بين أوقات قيام زيد كذا قرره الرضي.
"وقد يضاف "بينا" إلى مفرد مصدر دون "بينما" على الصحيح، كذا في الدماميني والهمع، وتقدير: "أوقات"؛ لأن "بين" إنما تضاف لمتعدد، وناقش أبو حين بأن: "بين" قد تضاف للمصدر المتجزئ، كالقيام، مع أنهم لا يحذفون المضاف إلى الجملة في مثل هذا.
"قال في الهمع: وما ذكر من أن الجملة بعد: "بينا" و"بينما" مضاف إليها هو قول الجمهور، وقيل: "ما" و"الألف" كافتان؛ فلا محل للجملة بعدها، وقيل: "ما" كافة دون الألف بل هي مجرد إشباع".
وعلى عدم إضافتهما يكون عاملها ما في الجملة التي تليها كما في المغني". ا. هـ، كلام الصبان.
1 ومن النادر المسموع أن يتحقق لها هذا دون أن يتصل بآخرها "الألف الزائدة"، أو: "ما الائدة" كالوارد في كلام الحارث بن حلزة اليشكري حيث يقول:
بين الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج
الخالج: الذي يقتلع الشيء وينتزعه.
2 فطلب الإنصاف.
3 أسأله أن يقدره ويهيئه لك.
4 القبر.(2/289)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نحمي حقيقتنا وبعض ... القوم يسقط بين بين
الأصل: بيننا وبين الأعداء، أي: بين المقاتلين، فأزيلت الإضافة من الظرفين، وركب الأسمان تركيب خمسة عشر.
فإن أضيف صدر: "بين إلى عجزها جاز بقاء الظرفية في الصدر، وجاز زوالها. فمن الأول قولهم: المنافق بين بين، ينصب الأولى على الظرفية مباشرة، ومن الثانية قولهم: المنافق بين بين، أما إذا وقعت مضافًا إليه، فيتعين زوال الظرفية.
وأما: "بدل" قد سبق الكلام عليه في ص 261.
7– حيث من الظروف المكانية الملازمة للبناء، برغم أنها مضافة1، والأكثر أن تبنى على الضم، وتضاف للجمل2 الاسمية والفعلية، وإضافتها للفعلية أكثر نحو: قعدت حيث الجو معتدل، وبقيت حيث طاب المقام؛ وقول الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
ومن القليل إضافتها للمفرد، ومع قلته جائز، ولكن لا داعي لترك الكثير إلى القليل، ومثله دلالتها على الزمان3.
__________
1 سيجيء الكلام عليها من ناحية إضافتها للجملة أو المفرد "في باب: الإضافة، ج 3 م 93 ص 77"، وبناء الظروف مع إضافتها شائع، كما ترى في هذا الباب.
2 بشرط أن تكون "حيث" غير مختومة بما الزائدة عند إضافتها إلى الجملة. وقد نص على هذا الشرط فيها، وفي "إذ" الظرفية المحضة المبرد في كتابه: "المقتضب" ج2 ص 54.
3 فقد قالوا: إن الأصل فيها أن تكون للمكان، وقد تكون للزمان؛ كقول الشاعر:
للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه
" أي: حين تهدي ... " كما قالا: إنها لا تستعمل في الغالب إلا ظرفًا، وندر جرها بالباء، نحو: تلاقينا بحيث صافح أحدنا الآخر، وكذلك جرها بالحرف "إلى"، كقول الشاعر:
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم
و"في" نحو: أصبحنا في حيث التقينا، ونص ابن مالك على أن تصرفها نادر. وقال ابن هشام في المغني: الغالب كونها في محل نصب على الظرفية، أو خفض بمن، وقد تخفض بغيرها، كقول الشاعر: إلى حيث ... إلخ، والأحسن الأخذ برأي ابن هشام؛ لما فيه من تيسير وإن كان الجر قليلًا.(2/290)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
8– حول.... سبق عنه بيان مناسب 1.
9– ريث أصله: مصدر راث، يريث، إذا أبطأ، ويجوز أن يترك المصدرية ويستعمل في معنى ظرف الزمان، فيكون مبينًا على الفتح، ومضافًا إلى جملة فعلية؛ نحو: بقيت معك ريث حضر زميلك، أي: قدر بطء حضور زميلك. وقد تقع بعدها "ما" الزائدة أو المصدرية فاصلة بينها وبين الجملة الفعلية، نحو: فلان يمنح المحتاج ريث ما2 يسمع.
10- عند، ظرف يبين أن مظروفه إما حاضر حسًا، أو؛ معنى، وإما قريب حسًا، أو: معنى، فالأول، نحو: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} 3، والثاني: نحو قوله: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} ، والثالث: نحو قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} ، والرابع: نحو قوله تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} ، وقوله: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .
وهي ظرف مكان معرب، لا يكاد يستعمل إلا منصوبًا على الظرفية المكانية، كالأمثلة السابقة، أو مجرورًا بالحرف: "من" دون غيره من حروف الجر مثل: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} ، وقد وردت للزمان قليلًا في مثل: أزورك عند شروق الشمس وقولهم: الصبر عند الصدمة الأولى، ويجوز محاكاته عند قيام قرينة، بشرط إضافة "عند" للزمان4.
__________
1 في رقم 1 من هامش ص 262، وفي ص 272.
2 إن كانت "ما" زائدة فالأحسن في الكتابة وصلها بالظرف: "ريث"، وإن كانت مصدرية فالأحسن فصلها، وبالصورتين تصلح في البيت الثاني من قول الشاعر:
ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي، ومأكل
ولكن نفسًا حرة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحول
3 ومثل قول الشاعر:
إذا الشعر لم يطربك عند سماعه ... فليس خليقًا أن يقال له شعر
4 جاء في المصباح المنير في مادة: "عند" ما نصه: =(2/291)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتشترك: "عند"1 مع "لدى" – و"لدن"1 في أمور، أهمها: الدلالة على ابتداء غاية مكانية أو زمانية 2، وتخالفهما في أمور أخرى يجيء الكلام عليها مع الكلام عليهما.
__________
= "والأصل في استعمال هذا الظرف أن يكون فيما حضرك من أي قطر "ناحية" كان من أقطارك، أو دنا منك، وقد استعمل في غيره؛ فتقول: عندي مال؛ لما هو بحضرتك، ولما غالب عنك؛ فقد ضمن معنى الملك والسلطان على الشيء، ومن هنا استعمل في المعاني فيقال: عنده خير، وما عنده شر؛ لأن المعاني ليس لها جهات ... ". ا. هـ.
ويقول أيضًا: "عند" ظرف مكان، ويكون ظرف زمان إذا ضيف إلى الزمان؛ نحو: عند الصبح، وعند طلوع الشمس، ويدخل عليه من حروف الجر "من" لا غير؛ تقول: جئت من عنده، وكسر العين هو اللغة الفصحى وتكلم بها أهل الفصاحة.... وحكى الفتح والضم". ا. هـ.
1 و 1 سيجيء الكلام على: "لدن ولدي في ص 294 و 295"، وأيضًا على "عند، ولدن" في باب الإضافة، ج 3 ص 101 م 95.
2 قال صاحب المفصل ج 4 ص 85 ما نصه في معنى ظروف الغايات: "قيل لهذا الضرب من الظروف غايات؛ لأن غاية كل شيء ما ينتهى به ذلك الشيء، وهذه الظروف إذا أضيفت كانت غايتها آخر المضاف إليه؛ لأن به يتم الكلام، وهو نهايته، فإذا قطعت عن الإضافة وأريد معنى الإضافة صارت هي غايات ذلك الكلام؛ فلذلك من المعنى، قيل لها: غايات". ا. هـ.
وهذا يوافق ما يقوله بعض الشراح في تعريف ظروف الغايات، ونصه: "هي الظروف المبنية على الضم لحذف المضاف إليه، فتصير غاية وظرفًا بعد حذفه". ا. هـ.
راجع حاشية المغني للعلامة الأمير أول ج 2 فصل لكلام على "ما".
وتوضيحًا لما سلف نسوق بعض الأمثلة التي تجلي المراد، منبهين إلى أن الغاية لها معان أخرى تختلف باختلاف الموضوعات، والمناسبات "منها: ما سيجيء في رقم 4 من هامش ص 459 ورقم 2 من هامش ص 468، ومنها: ما سيجيء كاملًا في ص 101 و 121 م 95 من الجزء الثالث، وفيه الأمثلة التي نسوقها لمناسبة دغت إليها هناك":
أ- في مثل: سافرت من لدن بيتنا إلى الضاحية تشتمل هذه الجملة على الفعل: "سافر"، والسفر يقتضي الانتقال من مكان إلى آخر، فلا بد لتحققه من نقطة معينة يبتدئ منها، وأخرى ينتهي إليها، أي: لا بد له من مكان ابتداء، ومكان انتهاء، محددين، مضبوطين؛ كالذين هنا، وهما: البيت والضاحية، وبين نقطتي الابتداء والانتهاء مسافة محصورة بينهما، لا محالة، ويطلق على مجموع الثلاثة اسم اصطلاحي، هو: "الغاية المكانية" أي: "المسافة المكانية" أو: المقدار المكاني، وهي تشتمل كما ترى مكانا محدودا، محصورا، له بداية ونهاية معينتان، ومسافة تصل هذه بتلك، وقد دخل =(2/292)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
11، 12- عوض، قط، سبق الكلام عليهما في ص116 و261
__________
= لفظ "لدن" على كلمة هي بداية الغاية؛ فدخوله على هذه الكلمة وعلى نظائرها يرشد إلى أنها أول جزء من أجزاء الغاية المكانية، أو أنها نقطة البداية.
ولو قلت: سافرت من لدن الصبح إلى العصر، لدل الفعل: "سافر" على أنه استغرق زمنًا محددًا معينًا، له بداية زمنية معروفة، ونهاية زمنية معروفة كذلك؛ فله نقطتا ابتداء وانتهاء، زمنيتان مضبوطتان، وينحصر بينهما مقدار زمني يصلهما، ويتكون من مجموع الثلاثة "أي: من نقطة البداية، ونقطة النهاية، وما بينهما" ما يسمى في الاصطلاح: "الغاية الزمانية" بمعنى: "المقدار الزماني"، ودخول لفظ "لدن" على الكلمة التي بعده يرشد إلى أن هذه الكلمة نفسها هي نقطة البداية، أي أول: جزء من أجزاء الغاية الزمانية.
ويفهم مما سبق أن "لدن"، و"عند" اسمان يدلان على ما بعدهما من بدء الغاية ... فسمى كل منهما "نقطة البداية" نفسها، وليس الابتداء الذي هو أمر معنوي، ولهذا كانا اسمين عند النحاة دون "من"، "ومنذ" الحرفين اللذين معناهما الابتداء المعنوي، فإضافة "لدن"، و"عند" إنما هي من إضافة الاسم إلى مسماه.
"هذا وقد أطلنا الكلام في ج 1 ص 56 م 6 عن سبب تفريقهم بين كلمة: "ابتداء" واعتبرها اسما، وكلمة: "من" الجارة المقيدة للابتداء، واعتبارها حرفًا".
لكن قد يخطر على البال السؤال الآتي: إذا ان لفظ "لدن" للدلالة على بداية الغاية، فما الداعي لمجيء الحرف "من" قبله، ومعناه الابتداء أيضًا؟
أجاب النحاة عن هذا إجابة غير مقنعة؛ فقالوا: إن دلالة "لدن" على بداية الغاية ليست مألوفة في الأسماء؛ فجاء الحرف "من" ليكون بمنزلة الدال على ذلك، ولهذا يكون في الأعلم الأغلب موجودًا. "راجع حاشية ياسين على شرح التصريح في هذا الموضع".
والسبب الحق هو استعمال العرب القدامى لهما مجتمعين، دون تعليل آخر:
ب– ما سبق يقال في الظرف: "عند"؛ فلو وضعناه مكان "لدن" في الأمثلة السالفة وأشباهها لم يتغير الأمر؛ ففي مثل: قرأت الكتاب من عند المقدمة إلى الخاتمة، تجد الفعل: "قرأ" لا يتحقق كاملًا إلا بنقطة مكانية معينة تبتدئ منها القراءة؛ هي: "المقدمة"، ونقطة أخرى محددة تنتهي إليها؛ هي: "الخاتمة"، وبين النقطتين المكانيتين مسافة مكانية تصل بينهما هي المسافة الأخرى المكتوبة، ومن اجتماع الثلاثة: "أي نقطة البداية المكانية، ونقطة النهاية المكانية، وما بينهما" يتكون ما يسمونه: "الغاية المكانية" التي يجيء الظرف "عند" ليدل على أن المضاف إليه هو نقطة البداية فيها:
وإذا قلت: قرأت الكتاب من عند العصر إلى المغرب نشأت: "الغاية الزمانية" التي تتكون من اجتماع تلك الثلاثة، والتي يدخل الظرف "عند" على أول جزء منها؛ فيكون وجوده دليلًا على أن ما بعده "وهو المضاف إليه" نقطة البداية الزمانية ...
مما تقدم يتضح الفرق بين "الغاية"، ومبدأ الغاية الذي يدل عليه "لدن" أو"عند"؛ فالغاية =(2/293)