القصص القرآني
دراسة لاسلوب القصص القرآني
قصة يوسف عليه السلام نموذجاً
تأليف : علي الطاهر عبد السلام
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على خير الورى جوهر الحق وريحانه .
أما بعد :
فهذا الكتاب إنما هو فصلٌ من فصول كتابٍ كنت قد أعددته ، بعنوان " الاعجاز البلاغي في قصة يوسف عليه السلام ، ولما كان للإعجاز وجوه متعددة رأيت أن أفرد الحديث هنا عن الاعجاز القصصي ، فتناولت فيه المحاور التالية ، فتناولت المعنى اللغوي للقصص القرآني ، من ثم جماليات وحقيقة القصص القرأني ، تطرقت للمقاصد والأغراض التي جاء من أجلها القصص القرآني ، ولله المثل الأعلى فقد قمت بمقارنة سردية بين القصصي القرآني والعهد القديم " التوراة " ، وتم سرد بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام ،وقد كان للقصص القرآني الأثر الكبير في الأدب العربي ، شعراً وقصة إلى غير ذلك من أبواب الأدب ؛ فاستعرضت بعض آثار قصة يوسف في الأدب والشعر ، ومن الملاحظ أن القصص القرآني كثيراً ما يتكرر في مواضع متعددة من القرآن الكريم ، إلا أن قصة يوسف عليه السلام لا يتكرر ذكرها ، ولذلك حكمة ، فمالحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام؟ ، ثم تطرقت للمستويات التي جاءت عليها القصة ، فذكرت المستويات هذه ،ثم تناولت شخصيات هذه القصة القرآنية .
والله أرجو أن يكون هذا العمل في ميزان الحسنات ، وأن يستفيد منه القارئ الكريم ، كما أرجو أن لا يفوته الدعاء لي وللمسلمين ، وما توفيقي إلا بالله .
المعنى اللغوي للقصص .(1/1)
حين ننظر إلى المعنى اللغوي للقصة نجد أن أصل اشتقاقها يتلاقى مع أصل التسمية للقصص القرآني ؛ فالقصة مشتقة من القصص وهو تتبع الأثر واقتفائه ،قال الله تعالى:{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(1) ومن هذا قولهم:"قص الأثر"؛ أي نظر إليه واقتفى آثاره وشواهده قال الشاعر : قُلتَ في عينيهِ أفئدةٌ ... ... تُنَحِّي ما قص من أثره
يقال : قصصتُ أثره واقتصصته وتقصصته ، وخرجت في أثر فلان قصصاً ، قال عز وجل : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (2)، ومنه :
قص عليه الرؤيا والحديث ، قال تعالى في سورة يوسف:{قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(3) ؛ فالقص للأثر أشبه بما يعرف الآن بتصوير البصمات ، أو رفع الآثار وتصويرها ؛ ليستدل على ما وراءها من أحداث مضت ، والقصة في القرآن هي تتبع أحداثٍ ماضيةٍ واقعةٍ ، يعرض فيها ما يمكن عرضه ، ومن هنا جاءت تسمية الأخبار التي جاء بها القرآن قصصاً مما يدخل في المعنى العام لكلمة خبر أو نبأ ؛ فقد استعمل القرآن الخبر والنبأ بمعنى التحدث عن الماضي ، وإن كان قد فرق بينهما في المجال الذي استعملا فيه ، ومن هذه التفرقة نتبين دقة ألفظ القرآن الكريم ؛ جرياً على ما قام عليه نظمه من دقة وإحكام وإعجاز ؛ فقد استعمل النبأ عن الأحداث البعيدة زماناً أو مكاناً في حين استعمل الخبر في الكشف عن الوقائع قريبة العهد والوقوع، أو التي
لا تزال مشاهدتها قائمة للعيان (4) ؛ قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القصص 11 2 - الكهف64
3- يوسف 5
4- القصص القرآني : عبد الكريم خطيب ، دار الفكر العربي ، ص 44(1/2)
بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (1) ، نجد أن القصص القرآني من قبيل الأنباء أو الأخبار التي بعد الزمن بها، واندثرت أو كادت تندثر؛ ولهذا سماها القرآن " أنباء الغيب "، وعندما نمضي بالنظر في القصص القرآني نرى أنه يجيء بمادته من الماضي البعيد، دون أن يكون فيه شيء من واقع الحال أو من متوقعات المستقبل (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكهف 13
2- الفن القصصي : محمد أحمد خلف الله ، مكتبة النهضة ، ص 78
جماليات وحقيقة القصص القرآني .
إن القصص القرآني بوصفه أعظم المصادر وأوثقها في أيدي العرب
لمنهج متميز في قص القصص باللغة العربية ، تكفي للكشف عن الفارق الهائل بين القصص القرآني وقصص الشعوب واللغات الأخرى من الأساطير والروايات والمسرحيات ، بلغ هذا الفارق حد مابين الجد والهزل وما بين الحق والكذب (1) ، فالفارق شاسع وفي جميع المجالات و المقاصد والأغراض
ويتضح أن الغاية أن يكون ذلك القصص نفسه هادياً للمؤمنين إلى الطريق
الصحيح ، والصراط المستقيم . فالله تعالى يقول:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (2) ، ثم(1/3)
يقص الله تعالى قصة يوسف وأخوته ؛ فالقصص الحسن هنا ليس الرواية المتخيلة من الواقع وليست الرواية المصنوعة بمحاكات الواقع ، إنما هي التاريخ والخبر وحقيقة ما كان ، إنه مشاهد التاريخ في حركةٍ وصورٍ وأصواتٍ ، ونجد أن البطل الحقيقي في القصص القرآني ليس هذا الإنسان بذاته الذي تدور به أو من حوله أحداث الخبر ؛ فالبطل هو القانون التاريخي المرتبط بعقيدة الإنسان وأخلاقه وسلوكه ، والبطل هو هذا القانون الذي تظهر نتائجه في أقوال وأفعال الإنسان المؤمن أو الكافر في الجماعة التي يعبر عنها أو التي يعارضها ؛ فالبطل مثلاً ليس يعقوب عليه السلام وأولاده ، إنما هو "الهداية" في يعقوب عليه السلام و" الحسد " في أولاده ، والبطل أيضاً ليس يوسف عليه السلام وامرأة العزيز ؛ بل هو " الطهارة والأمانة " في يوسف عليه السلام، و"الشهوة" في امرأة العزيز، وهكذا في مختلف المواقف يكون الإنسان
بهداية الإيمان أو بضلالة الكفر رمزاً لقانون يحكم(3)،وعلى ما مضى يتضح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح:أحمد موسى سالم،بيروت،دارالجيل،دت ص211
2- يوسف 3
3- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح : أحمد موسى سالم ، ص 212
أن الإنسان في قصص القرآن لم يكن شيئاً مذكوراً من أجل استعراض آلاف الاحتمالات المتخيلة لقوته أو لضعفه ؛ بل هو إنسان مذكور داخل جماعته يحمل قيماً ومبادئ ، ونرى أن الأسوة لغيره ، وهو القدوة لمن يقتدي به ؛ لأنه أعطى قانون البرهان العقلي (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف في القرآن : أحمد ماهر ، الإسكندرية ، 1971م ، ص95
مقاصد وأغراض القصص القرآني .
ليس ثمة حجة لإنكار أن في القصص القرآني توجيهات دينية لكل ما جاء به(1/4)
الإسلام من مبادئ وعقائد،ولكل ما أنكره الإسلام من خلق وعادات وآراء زائفة وعقائد وعادات باطلة،لكن مع كل هذا لا نستطيع عد هذه الأمور أغراضاً حين ندرس أغراض القصص القرآني؛ذلك أن هذه الأمور كانت تأتي بين طيات هذه القصص وثناياها،وهي في هذا الوضع أو من هذا الجانب تشبه تماماً تلك الآراء والصور المنثورة التي تأتي أثناء العرض القصصي في كل قصة(1).
الغرض هنا هو القصد الذي نزلت من أجله القصة القرآنية،وهو الذي من أجله بنيت على صورة خاصة وعرضت بأسلوب خاص،وإلى جانب هذه الأغراض نجد الوظيفة التي تؤديها القصة في المجتمع وتخدم بها الحياة والأحياء،وهي وظيفة تؤديها جميع الفنون من موسيقى ومسرح ونحت وتصوير،هذه الوظيفة نستطيع عدها غرضاً عاماً للقصة أدته في المجتمع العربي على اختلاف ألوانه،وعلى ما فيه من مؤيدين ومعارضين(2)،ونورد فيما يلي أهم وأظهر هذه المقاصد .
1- أولها وأهمها من جهة نظر القرآن نفسه تخفيف الضغط على النبي صلى الله عليه وسلم؛فهذا الضغط كان قوياً وعنيفاً،وكانت أسبابه واضحة جلية؛من كيدٍ للنبي والقرآن والدعوة للإسلام، وهذا أثر بطريقة مباشرة في نفس النبي،
ودفعه إلى أن يضيق صدراً؛فقد قال الله تعالى:{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِمَا يَقُولُونَ}(3)، وقال أيضاً: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }(4)، لقد كان لما يقوله الكفار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- القرآن الكريم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين : محمد الصادق عرجون ، ص 37
2- القرآن نظرة عصرية جديدة : : عبد المنعم الجداوي ،القاهرة ، دت، ص60
3- الحجر97
4- الأنعام 33(1/5)
أثر بالغٌ في نفس النبي ونفس أتباعه وقد قال الله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}(1)فإن كنت"يا محمد صلى الله عليه وسلم"{ في شك مما أنزلنا إليك}من القصص فرضاً{ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب}أي التوراة {من قبلك}فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه،وقد قال قتادة بن دعامة بلغنا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:{ لا أشك ولا أسأل}،إن هذا الضغط لم يقف عند حده ؛ بل تجاوز ذلك إلى ما هو أبعد مدى ، قال الله تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ }(2)،وقال أيضاً:{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } (3)، ونجد أن القرآن صرح بهذا الغرض وذلك في قوله تعالى :{ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) .
نتبين من هذه الآية أن الغرض هو التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وموعظة وذكرى للمؤمنين (5) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يونس 94
2- القلم 48-49
3- هود 12
4- هود 120
5- بحوث في قصص القرآن : عبد الحافظ عبد ربه ، دار الكتاب اللبناني ، ص 89(1/6)
2 - توجيه العواطف القوية الصادقة نحو عقائد الدين الإسلامي ومبادئه ، ونحو التضحية بالنفس والنفيس في سبيل كل ما هو حق ، وكل ما هو خير ، وكل ما هو جميل ، ولعل هذه العواطف هي التي تدفع إلى النشاط للدعوة ، كما تجعل الإنسان يستعذب الألم ويتحمل الأذى في سبيلها ، ومن هنا يكون التوجيه نحو القيم الجديدة والإيمان بها ، ثم الدفاع عنها ، والعمل على حثِّ الناس على الإيمان بها إيماناً لا تزعزعه الحوادث ، وأيضاً تكوين عواطف قوية وصادقة ضد ما هو قبيح وذميم من الأشياء والعادات والأعمال .
ومن أهم الأمور التي وجه القرآن العواطف نحوها مشكلات البعث والوحدانية،وبشرية الرسل،وتأييد بعضهم بالمعجزات(1)،وإثبات الوحي والرسالة،وبيان أن الدين كله من عند الله،من عهد نوح عليه السلام إلى عهد محمدٍ صلى الله عليه وسلم،وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة،والله واحد رب الجميع (2)
أما الأشياء التي وجه القرآن العواطف ضدها فهي كثيرةٌ ومتنوعة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر :
أ – بخس الناس أشياءهم ، وتطفيف المكيال والميزان ، والزنا والربا ، والسرقة والنميمة .
ب – " إبليس " - لعنه الله - فقصة إبليس مع آدم قصة بليغة وهي إحدى نماذج القصص القرآني .
3- الإيحاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول حقاً ، وتأييده بما اصطفاه الله من الرسالة ، من التحدي بالغيب ، والإعجاز بمعرفة تفاصيلٍ لا يطلع عليها أحدٌ إلا علام الغيوب ولهذا ناحيتان :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفن القصصي في القرآن ، ص 200
2- روح الدين الإسلامي ،ص 159
أ – بلوغ قمة التوحيد والإيمان والتسليم والتوكل على الله اعتزازاً به .
مما يحقق الأسوة الصالحة والقدوة الطيبة ؛ لتملأ النفس المطمئنة بالعزة بالله واللجوء إلى حماه .(1/7)
ب – تعليم الأدب في الحوار والرقة والتلطف والعطف ليتعلم الداخلون في الإسلام تلك القيم ، ويعيشونها (1) .
ومن ناحية أحرى تصديق الأنبياء السابقين ، وتخليد مآثرهم ، وبيان نعمة الله تعالى عليهم كقصص سليمان وداوود وأيوب وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم ؛إذ وردت حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء عليهم السلام برزت فيها النعمة من الله في مواقف شتى .
4- بيان قدرة الله على الخوارق ، وبيان عاقبة الاستقامة والصلاح ، وعاقبة الانحراف والإفساد ، وبيان الحكمة الإنسانية العاجلة ، والحكمة الكونية البعيدة الآجلة كقصة موسى عليه السلام والخضر(2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- دروس وعظات وعبر في قصة يوسف عليه السلام : عبد الرحمن عبد القادر المعلمي ، الإسكندرية ، دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ، دار القمة لتوزيع الكتاب ، الطبعة الأولى ، 2003 ، ص 6
2- علوم القرآن : عدنان زرزور ، ص 161
مقارنة السرد القصصي بين القرآن الكريم والعهد القديم .
قال تعالى:{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}(1).(1/8)
إن الأخبار التي جاء بها القرآن قد وردت في الكتب السابقة له ؛ ولبيان الفارق بين أسلوب القرآن عن غيره من الكتب نورد مشهداً من العهد القديم " التوراة " ، وهذا المشهد هو امتحان ليوسف عليه السلام في بيت العزيز كما عرضه القرآن بأدق تفاصيله وأحداثه ، وبالكلمات المطهرة داخل مشهد فيه امرأة وملك كريم .قال الله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (2) . هذا المشهد بعينه تقدمه التوراة بأيدي الأحبار كما يلي جياشاً بنبضات الإثارة وخافتاً في مفهوم العبرة ، فقد جاء في التوراة : " وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت : اضطجع معي ، فأبى وقال لامرأة سيده : هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت ، وكل ماله دفعه إلى يدي ، ليس هو في هذا البيت أعظم مني ولم يمسك شيئاً عني غيرك ؛ لأنك امرأته ؛ فكيف أصنع هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ، وكان إذا كلمت يوسف يوماً فيوم أنه لا يسمح لها أن يضطجع بجانبها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يونس 94
2- يوسف 23-25(1/9)
ليكون معها ، ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت ؛ فأمسكته بثوبه وقالت اضطجع معي ، فترك ثوبه في يدها وهرب إلى الخارج ، ثم إنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلةً : انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني يداعينا ، دخل إليَّ ليضطجع معي فصرخت بصوتٍ عظيم " (1) .
في ضوء هذه المقارنة في مشهد من المشاهد المشتركة بين القرآن الكريم والتوراة التي تّدَخَّلَ في نصوصها الأحبار ؛ فيتبين ويتضح لنا أن الابتكار في القصة ليس في خلق موضوع جديد لم يسبق إليه ؛ فقد يكون مألوفاً لدى الناس أو لدى طائفة منهم ؛ ولكن بما يشيع فيه الفن من آيات إبداعه ، ويسكب فيه من روحه، وقد كان الفرق جلياً واضحاً سواء في المدخل إلى هذه القصة أو في أسلوب عرض الأحداث ، أو في الأحداث نفسها .
إن القرآن يضع القصة في إطار ديني ، تنفذ معه أشعة روحية إلى النفوس ببيان العبرة الأخلاقية والتربوية التي من أجلها أنزل الله القصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح ص 236
بعض الدلالات النفسية في قصة يوسف عليه السلام .
إن قصة يوسف عليه السلام في القرآن هي قصة الشخصية والأحداث معاً؛ فهي لا تسجل واقعاً فحسب،بل تنتصر للقيم الإنسانية الجديرة بالخلود،إنا تنتصر للإيمان وللصبر وللعفاف وللأمانة وللإخلاص والطهر،وقد قام بالأدوار فيها شخصيات متباينة في السن،وفي المكانة الاجتماعية،ولكلٍ منها طابعها الخاص وفق التربية والتجارب التي مرت بكل منها؛كالبراءة والحكمة والحسد والعلم (1)(1/10)
إن المتمعن في هذه القصة من القرآن يتلمس شحنات نفسية من أبطال القصة ، ومن بعض كلماتها وإشاراتها ؛ فكلمة " الصبر " مثلاً تجدها حاضرة دائماً على لسان يعقوب عليه السلام ، والاستعاذة من الظلم على لسان يوسف عليه السلام ، وتوكيد الإيمان على لسان أخوته ، ولو نظرنا من منظورِ علم النفس لوجدنا سلوكاً متبايناً من شخصياتها ، كالتبرير والإسقاط والكذب والغيرة والقلق والإحساس بالذنب ، ونحو ذلك من الحيل النفسية اللاشعورية التي يلجأ لها الإنسان في معاملاته النفسية ، والتي يسميها علم النفس " آليات عقلية " ، يغالب بها المرء إحباطه وقلقه وتوتره الناشئ عن فشله،وهو يحاول تحقيق رغباته(2).فأخوة يوسف عليه السلام ضلوا ضحايا الكبت الذي عاشوه؛كي يخفوا رغبتهم في التخلص من أخيهم يوسف؛حتى يخلو لهم حب أبيهم،ولكنهم يفشلون في إخفاء وكبت هذه الرغبة؛بل كثيراً ما تبدو فيما يصدر عنهم من تصرفات ومواقف وكلمات ضد يوسف؛مما جعل يعقوب عليه
السلام يشك في حسن نواياهم عندما دعوا يوسف إلى أن يلعب معهم؛فقال لهم :
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف في القرآن ص 123
2- سيكلوجية القصة في القرآن : التهامي نقرة ، تونس ، الدار التونسية للتوزيع ، الطبعة الثانية ، 1987 ، ص 516
3- يوسف 13(1/11)
وكان من نتيجة هذا الكبت ومعاناته أن انحرفوا بتفكيرهم،فكل ما يهمهم تحقيقه هو أن يحُولوا بين يوسف وأبيه؛فكان اتفاقهم على قتله،وتلطيخ قميصه بالدم، وادعاء أن الذئب أكله لمَّا ذهبوا يتسابقون وتركوه عند متاعهم،غير أن التلفيق كان واضحاً؛لأن القميص لم يكن ممزقاً بآثار أسنان الذئب؛مما جعل يعقوب عليه السلام لا يصدقهم؛ولهذا كان دائماً يدعوهم إلى أن يتقصوا آثار أخيهم،ولو أنه صدَّقَهم في دعواهم لما أصر على أن يقتفوا آثاره،وقد وقعوا في حالة التبرير كما يفعل المذنب؛إذ يعمد إلى تفسير سلوكه؛ليبين لنفسه وللناس أن لسلوكه هذا أسباباً معقولةً،فهم يقولون:{ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } (1) .
أما الإسقاط فهو حيلة يسقط بها المرء نقائصه وعيوبه على الآخرين ، ويهمه بالدرجة الأولى أن يلصقها بمن يظنه منافساً له مباشرةً ، كالصديق الذي يغدر بصديقه ثم يتهمه بالغدر .
إذا كان هذا هو مفهوم الإسقاط في علم النفس فإن القرآن روى ذلك عن أخوة يوسف، وذلك حينما دس يوسف عليه السلام صواع الملك في متاع أخيه،وألقى القبض عليه بتهمة السرقة ليستبقيه دون أن يكشف لهم عن شخصيته فقالوا :
{ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ }(2). وفي السورة آيات أخرى نستخلص من خلالها أدق النظريات التي جاء بها علم النفس الحديث (3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 17
2- يوسف 72
3- القرآن نظرة عصرية جديدة . ص 221
أثر قصة يوسف في الأدب والشعر .(1/12)
كانت قصة يوسف مطمح أنظار الكتاب والشعراء قديماً وحديثاً ، ومنبعاً يستوحون منه خيالاتهم وإبداعاتهم ؛ وقد قال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } (1) ؛ فهذه زوجة شاعر لم تصدق دموع زوجها حين رأته يبكي ؛ فشبهتها بقميص يوسف لما جاء به أخوته وعليه دم كذب ، وهذه إحدى دلالات القميص في القصة فقالت :
جفونك والدموع تجول فيها ... ... وقلبك ليس بالقلب الكئيبِ
نظير قميص يوسف يوم جاءوا ... ... على لباته بدمٍ كذوبِ
وقال أبو الطيب المتنبي:
يَحِطَّ كُلَّ طَويلِ الرُمحِ حامِلُهُ مِن سَرجِ كُلِّ طَويلِ الباعِ يَعبوبِ
كَأَنَّ كُلَّ سُؤالٍ في مَسامِعِهِ قَميصُ يوسُفَ في أَجفانِ يَعقوبِ
وقال آخر يمجد صاحبته ويندب حظه فيقول :
لها علم لقمان وسورة يوسف ... ولي حزن يعقوب وقصة آدم
فلا تقتلوها إن قتلت بها جوىً ... بلى فاسألوها كيف حل لها دمي
ويقول ابن الفارض :
وأرغَمَ أنفَ البَين لُطْفُ اشتِمالِها عليَّ بما يُرْبي على كُلّ مُنيَة
بها مثلمَا أمسَيتُ أصْبحتُ مُغرَماً وما أصْبحتْ فيه من الحسنِ أمست
فلوْ منحتْ كلّ الورى بعضَ حُسنها خَلا يوسُفٍ ما فاتَهُم بمَزِيَّة
وقال ابن عبد ربه الأندلسي وفي حديثه إشارة إلى الحسن اليوسفي الذي اكتحلت به الأبصار:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 7
يا مَن عليهِ رداءُ البأسِ والجودِ من جودِ كفكَ يجري الماءُ في العودِ
لمَّا تطلعتَ في يومِ الخميسِ لنا والناسُ حولك في عيدٍ بلا عيدِ
وبادرتْ نحوكَ الأبصارُ واكتحلتْ بحسنِ يوسُفَ في محرابِ داودِ
وهذا العباس بن الأحنف يستشهد بإحدى دلالات قميص يوسف وهي البراءة مما اتهمته به امرأة العزيز، فقال :
رَماني فَلَمّا أَقصَدَتني سِهامُهُ بَكى لي وَشامَ الباقِياتِ مِنَ النَبلِ
وَقَد زَعَمَت يُمنٌ بِأَنّي أَرَدتُها عَلى نَفسِها تَبّاً لِذَلِكَ مِن فِعلِ(1/13)
سَلوا عَن قَميصي مِثلَ شاهِدِ يوسُفٍ فَإِنَّ قَميصي لَم يَكُن قُدَّ مِن قُبلِ
وقال ابن عبد ربه الاندلسي :
بَكيتُ حَتَّى لم أَدَعْ عَبرَةً إِذْ حَملوا الهودَجَ فَوقَ القَلوصْ
بُكاءَ يَعقوبٍ على يُوسُفٍ حَتَّى شَفَى غُلَّتَهُ بالقَميصْ
وقال ابن النقيب :
كأنَّه وهو في كفي أقلبه قميصُ يوسفَ في أجفان يعقوب
ويقول ابن راشد الحمامي :
لِلّهِ وَردٌ ناضِرٌ في سَوسَن غَضٌّ حَيا اِستِحيائِهِ يَحمِيهِ
عَن سِحرِ هارُوتٍ يُحدِّثُ لَحظُهُ وَجَمالُهُ عَن يُوسُفٍ يَروِيه
وقال ابن سالم الهمداني :
وَلَكِنَّهُ مُذ لاحَ لامَ عذارِهِ تَجَنّى فَلا يَلوي عَلى مَن تَعَذّرا
شَراني بِبَخسٍ وَهُوَ في الحُسنِ يُوسُفٌ وَما بِاعَني إِلّا بِأَرخَصِ ما اِشتَرى
فَيُمسي إِذا ما أظَلَمَ اللَيلُ ظالِمي وَيَهجُر إِن صامَ النَهارُ وَهَجّرا
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد استحضر قمة الحسن التي ليوسف ، وكذلك استحضر الحدث الذي وقع عند خروج يوسف عليه السلام على نسوة المدينة اللاتي قطعن أيديهن ، يقول شوقي :
الحسنُ حلفت بيوسفه ... والصورة أنك مفردُهُ
إذ ودَّتْ كلُّ مقطِّعةٍ ... يدها لو تُبْعَث تشهدُهُ
وقال ابراهيم الأحدب :
يا من بيوسف سموه فتاه على أهل الصبابة واستعلى على البشر
ما فيك من يوسف المشهور من صفة سوى القميص الذي قد قد من دبر
وقال ابن الوردي :
أقسمتُ لو شاهدتَهُ يختالُ تحتَ المصحفِ
لحسبتَ صورةَ يوسفٍ تمشي بسورةِ يوسفِ
ويزخر الأدب العربي بنتاجٍ وافرٍ يستلهم من القصة أدواته وخيالاته ومداده ؛ ذلك لما للقصة من أثر واضح في نفوس الأدباء .
الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف في القرآن .(1/14)
إن من المعروف عن سمات القصص القرآني ظاهرة التكرار ؛ وهو أن تتكرر القصة في أكثر من موضع من القرآن ، كما في قصة موسى عليه السلام ، وقصة نوح عليه السلام وغيرهم من الأنبياء ، ولكن نجد أن قصة يوسف عليه السلام لم تتكرر في أي موضع من القرآن ؛ فقد جاءت في موضع واحد ، وهنا يطرح السؤال نفسه:ماالحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام،وسوقها مساقاً واحداً في موضع واحد دون غيرها من القصص؟،والحكمة في عدم تكرارها كما يراها بعض علمائنا الأجلاء تتجلى فيما يلي: فيها من تشبيب لنسوة بيوسف عليه السلام ، وتضمنها أخباراً عن حال امرأة ونسوة افتتن بأروع الناس جمالاً ، وأرفعهم منالاً ، فناسب عدم تكرار ما فيها من الإغضاء والستر عن ذلك ؛ ولأنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ؛ فإن مآلها إلى الوبال كقصة نوح وهود وقوم صالح عليهم السلام وغيرهم ؛ فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمات القصص.
وفي عدم تكرارها إشارة إلى عجز العرب ، كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبياء (1) ، وثمة أمر آخر وهو أن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم ، فقد روي الواحدي والطبري يزيد أحدهماعلى الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أُنزل القرآن فتلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه زماناً ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني . بيروت ، دار القرآن الكريم ، ص 52(1/15)
فقالوا - أي المسلمون بمكة - يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(1) فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة وترويح النفوس بها،والإحاطة بطرفيها،استخلاصاً لعبرها ودلالاتها .
وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء عليهم السلام إنما تكررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم وآذوهم ؛ والمواقف التي يعيشها النبي تستدعي ذلك التكرير ؛ ذلك لتكرير تكذيب الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما كذبوا أنزلت قصةٌ منذرةٌ بحلول العذاب كما حل على المكذبين ؛ ولهذا قال تعالى:{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ }(2)وقال أيضاً :{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }(3)وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك (4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 1-3
2- الأنفال 38
3- الأنعام 6
4- الإتقان في علوم القرآن : السيوطي ، القاهرة ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الثالثة ، 1952 م ، 2/185
مستويات قصة يوسف .(1/16)
تعد قصة يوسف من القصص الطوال ، وقد تشكلت بنيتها من خلال عدة أمور تشابكت فيما بينها مكونةً قصة من أروع القصص وأحسنها . قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (1) .
وتختلف هذه الأمور وتتباين فيما بينها فبعضها يخص البناء الزماني ، وبعضها البناء المكاني ، وبعضها بناء الشخصيات ، تتكاثف هذه الأبنية ويظهر من خلالها مستويات عدة،نتناول في هذا البسط ثلاثة مستويات هي :
" مستوى الرؤيا ، مستوى الرمز ، مستوى الحيل "
أولاً : مستوى الرؤيا .
وهو المستوى الأول الذي بدأت به القصة عموماً ، قال تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (2) . وينقسم مستوى الرؤيا إلى أربع مراحل :
المرحلة الأولى : رؤيا يوسف عليه السلام :
وهي التي قصها على أبيه حيث قال : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }(3) ، وقد ظهر لأبيه منها أنه سوف ينزله الله منزلاً مباركا ، وسوف يؤتيه الحكمة ويجعله نبياً ، فخشي عليه من أخوته فأمره أن لا يحدث بها أخوته ، خوف أن يكيدوا له ويؤذوه . وتمثل هذه الرؤيا مساراً سارت على خطوطه أحداث القصة ، على مختلف أماكنها وأزمانها ؛ لتلتقي في نهايتها بالتأويل ، فقد جعلها الله حقاً . قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 3 2- يوسف 4
3- يوسف 4(1/17)
تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }(1) .
المرحلة الثانية : رؤيا فتى السجن الأول .
حين دخل عليه السلام السجن صاحَبَ ذلك أن دخل معه فتيان ، ورأى كلٌ منهما رؤيا . قال تعالى:{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا }(2)؛فعبرعليه السلام رؤيا الفتى بأنه سيسقي ربه خمراً ، وربه أي" سيده " قال تعالى:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} (3)
واستعملت هذه اللفظة لأنه معروف في اللغة أن يقال للسيد رب(4).قال الأعشى :
أَذلَلتَ نَفسَكَ بَعدَ تَكرِمَةٍ لَها أَو كُنتَ ذا عَوَزٍ وَمُنتَظِرٍ غَدا
أَم غابَ رَبُّكَ فَاِعتَرَتكَ خَصاصَةٌ فَلَعَلَّ رَبُّكَ أَن يَعودَ مُؤَيَّدا
رَبّي كَريمٌ لا يُكَدِّرُ نِعمَةً وَإِذا يُناشَدُ بِالمَهارِقِ أَنشَدا
المرحلة الثالثة : رؤيا فتى السجن الثاني .
هو الفتى الآخر الذي دخل معه السجن وقص عليه رؤياه التي كان تعبيرها له وقع كبير على النفس البشرية ، قال تعالى :
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 100
2- يوسف 36
3- يوسف 41
4- الجامع لأحكام القرآن : القرطبي ،ت أحمد عبد العليم البردوني، القاهرة ، دار الشعب ،الطبعة الثانية ، 9/194(1/18)
الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } (1) ولو نظرنا إلى القصة من جهة الدعوة لله نرى أنه عليه السلام لم يترك فرصةً إلا واستغلها في الدعوة لله عز وجل ، فنراه وهو في سجنه يدعو لله ، فعندما طُلبَ منه تعبير الرؤيا لم يعبرها لهم مباشرةً ، ونستطيع أن نتلمس إصغاءهم إليه ، واستفادته من هذا الإصغاءفي الدعوة.قال تعالى:{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ* يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } (2) .(1/19)
المرحلة الرابعة : رؤيا الملك :
رأى الملك رؤيا سعى لتعبيرها قال تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 41
2- يوسف 36-41
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } (1) .
ومن خلال رؤيا يوسف عليه السلام ، ورؤيا الفتيين بالسجن ، ورؤيا الملك تتجلى صور مرئية ، من الكواكب الساجدة والشمس والقمر ، إلى الخمر المعصورة ، إلى الخبز المحمول ، إلى الطيور الآكلة من رأس الفتى ، إلى البقرات التي تأكل مثيلاتها الهزيلات والسنابل الخضر واليابسات ، فكل هذه الصور تكاد تراها بعينيك رأي العين ؛ ذلك راجع لقوة التعبير البلاغي الذي تمتاز به القصة ، ويمتاز به النظم القرآني .
فشخصيات القصة " يوسف ، ويعقوب ، وأخوته ، والملك ، وفتيا السجن" هي صور مختلفة للجنس البشري ،تتباين وتختلف في مستويات متباينة ، سواء كانت هذه المستويات اجتماعية أو دينية أو ثقافية أو طبقية ، تتفاعل فيما بينها متممةً البناء والشكل النهائي للقصة .
ويظهر المكان كعنصر متغير في ثنايا القصة والرؤى التي تتضمنها ؛ فالمكان في الرؤيا الأولى هو الكون الذي سجدت فيه الكواكب والشمس والقمر.
أما في الرؤيا الثانية فالمكان هو الوظيفة اليومية ، والرؤيا الثالثة مكانها الحياة اليومية لخباز من خلال حمله للخبز على رأسه والسير به ، أما الرؤيا الرابعة فمكانها هو الدولة ؛ فالسنابل والبقر تمثلان رمز الثروة الوطنية ؛ أي مصدر الرزق والحياة . ويتطور الزمن في القصة من خلال نمو يوسف عليه السلام والمحيطين به ؛ يوسف طفلاً،ويوسف شاباً ، ثم بلوغه الرشد قال تعالى :
{(1/20)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 43 2- يوسف 22
ويتفاعل الحدث من خلال تفجر عناصر الحياة التي تتضمنها الرؤيا من خلال دلالاتها المتعددة ، فالرؤيا هي التي تحرك الشخصيات والمواقف ؛ فرؤيا يوسف عليه السلام أيقظت هواجس يعقوب وخوفه على يوسف عليه السلام ؛ فدفعته لتحذيره من أخوته ، هذا التحذير والخوف مبعثه شعوره بما يكنه له أخوته من كيد وحسد ، وبالتالي تغذي حسد الأخوة فلجأوا إلى تغييب يوسف عليه السلام .
أما الساقي فتأويل يوسف رؤياه له أنجاه من السجن ، ومن التهمة التي أُلصقت به ومهَّد تأويله لرؤيا الملك ؛ لعودته إلى العائلة ، وكشف المؤامرة الأولى ، ومن ثم تحققت الرؤيا الأولى .
ثانياً : مستوى الحيلة .
ثمة أربع حيل تنتمي إلى مراحل القصة المتعاقبة المكونة لبنيتها ، غير أنها تختلف من حيث دوافعها السلبية أو الإيجابية ، وهي كالتالي :
أ - حيلة أخوة يوسف :
ويتمثل موضوعها في التغييب الكامل لوجود يوسف عليه السلام ، سواء الوجود المادي أو الاجتماعي , والدافع لها كما مر بنا هو حب الأب ليوسف ، قال تعالى :{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }(1) ، وبدأت الحيلة باستدراج يوسف عليه السلام وهو " العزل" بعد أخذ الإذن من أبيه ، قال تعالى : { قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(2) وقد استعملوا" الكذب "على أبيهم ، ثم نفذوا الحيلة برميه في البئر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 8 2- يوسف 11-12(1/21)
ب – حيلة امرأة العزيز الأولى :
والدافع إليها هو حبها له وشغفها به ، قال تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } (1) .
ج – حيلة امرأة العزيز الثانية :
وهي حيلتها على نساء المدينة ، ودافعها هو الاقتصاص من تلك النسوة
اللاتي أطلقن الشائعات في المدينة حولها،قال تعالى:{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }(2)، واحتالت عليهن بأن أعدت لهن متكأً،وأعطت كل واحدةٍ منهن سكيناً،وأمرتْه بالخروج؛فلما رأينه قطعن أيديهن بلا شعور،وقلن"ماهذا بشراً"،وهذا ما تصبو امرأة العزيز إليه؛لتسويغ فعلتها،فقالت لهن:إن هذا هو الذي لمتنني فيه ، فكشفت عن سبب موقفها من يوسف؛مغيبةً مكانته"كابن"،ومظهرة مكانته"كرجل"، قال تعالى:{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } (3).
د – حيلة يوسف عليه السلام :
وهي حيلة إيجابية،مفادها وموضوعها إعادة الحق إلى نصابه،وتحقيق العدالة والمستهدف من هذه الحيلة هم أخوة يوسف عليه السلام؛فقد استدرجهم وطلب
منهم أن يأتوا بأخٍ لهم من أبيهم،ولما أتوا به جعل برحله صواع الملك،متهماً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 23
2- يوسف 30
3- يوسف 31(1/22)
إياهم بالسرقة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } (1) ؛ لوصوله إلى الهدف الذي هو اجتماع الأسرة والتمام الشمل ، بعد كشف حيلتهم الأولى ، قال تعالى : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (2) .
ثالثاً : مستوى الرمز :
شكل القميص رمزاً دلالياً بعيد الدلالة ، فقد شكل نقاط تحولٍ بالقصة كاملة ، وتكرر في ثلاث قصصٍ جزئية من قصة يوسف ، من رؤياه الأولى إلى تحققها بسجود أبويه له . وسوف نتتبع المواقف التي ظهر بها القميص .
الأول : في المؤامرة التي حاكها أخوته ضده وهي رميه بالجب ، وعودتهم إلى أبيهم يحملون قميصه ، وعليه دمٌ كذبٌ ، فالقميص الملطخ بالدم هو كل ما تبقى من يوسف الغائب ، لذا حمل في هذا الموقف " رمز الغياب "؛ وربما حمل دلالة الاحتيال والكذب ؛ فقد استخدم هذا القميص الملطخ بالدم الكذب في الدلالة على الكذب ؛ فجاء في الشعر العربي :
جفونك والدموع تجول فيها ... ... وقلبك ليس بالقلب الكئيبِ
نظير قميص يوسف يوم جاءوا ... ... على لباته بدمٍ كذوبِ
الثاني:وذلك حينما حاولت امرأة العزيزالدفاع عن نفسها،وصرف التهمة عنها بادعائها أن يوسف هو المُدانُ،بإرادته السوء بها؛ولثبوتِ البراءةِ شهدَ شاهدٌ من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 70 2- يوسف 100(1/23)
أهلها ، بأن قميصه إذا قُدَّ من أمام فهي صادقة ، وهو كاذب ، وإن كان قميصه قُدَّ من خلفٍ فإنه صادق وهي كاذبة . قال تعالى : { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } (1) ، فصار هذا القميص هو القاعدة الأساسية التي بني عليها الحكم .
الثالث : حين عادوا بقميص يوسف إلى يعقوب عليهما السلام ؛ فقد حل القميص محل يوسف ، فالقميص هو الذي يرد البصر إلى يعقوب عليه السلام . فهو من خلال هذا القميص يشم ريح يوسف ، قال تعالى : { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 26-27
2- يوسف 93-96
شخصيات قصة يوسف عليه السلام .
تتكون القصة من عدة جزئيات من القصص المكونة للبناء التام لقصة يوسف عليه السلام ، وهذه الجزئيات التي تشكلها شخصيات القصة بها أنماطاً مختلفةمن النفس البشرية ،على مختلف الرتب والطبقات الاجتماعية والحياة الدينية ، والنزعات المختلفة ، فكل الشخصيات الأخرى مأسورة بفكرة معينة أو بحالة نفسية منفردة .
ا - يوسف عليه السلام .
إن شخصية يوسف عليه السلام هي الشخصية المحورية بالقصة ، وهي التي تدور حولها كل القصص المكونة لقصته عليه السلام .(1/24)
ب – يعقوب عليه السلام .
هو ذلك الإنسان الحكيم الذي يمتلك بعد النظر ويستطيع أن يقرأ أو يستشعر ما سيحدث قال تعالى:{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (1) ، فحالته النفسية التي تتسم بالخوف على يوسف من أن يكيد له أخوته دعته لتحذيره منهم ، وأن يكتم رؤياه عنهم ؛ قال تعالى : { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } (2) .
ج - أخوة يوسف عليه السلام .
هم أخوة أخذت الغيرة منهم مأخذاً كبيراً ، فغمر الحسد قلوبهم ، فعملوا على تغييب أخيهم بالكيد له ورميه بالجب .
د – امرأة العزيز .
امرأة افتتنت،همها إشباع رغباتها،وفي النهاية تعود وتشهد لصالحه بعد سجنه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف 96
2- يوسف 5
هـ - الملك .
تتحكم به فكرة الصراع ، والاهتمام بشؤون دولته ؛ لذا ظهرت في رؤياه السنابل والبقرات التي هي رمز للاقتصاد .
و – السيارة " البدو"
هم مجموعة من البدو،حصلوا على غنيمة وأرادوا بيعها للحصول على المال .
ز – الفتيان .
هما صاحباه في السجن ، وهما يمثلان الحياة اليومية ، فأحدهما بائعٌ للخبز ، والآخر عاصرٌ للخمر .
ح – النسوة .
هن نسوة بالمدينة يثرن الإشاعات على امرأة العزيز .
ط – الشاهد .
وهو الشاهد الذي أشار إلى القميص وموضع قدِّه ، من القبل أم الدبر .
ونعود لشخصية يوسف عليه السلام ؛ فهي الشخصية المحورية ، فقد كان دوره تحرير الإنسان من الفكرة المسيطرة عليه ، وهو يقف في وجه الحسد ودوافعه ، ويواجه الدعوة لإشباع الشهوات خارج النظام الأخلاقي والاجتماعي ، وهو يوجه الملك إلى نظامٍ اقتصادي بديع ، وعمل على الدعوة له عز وجل ، ودعا لتحرير الإنسان من نوازعه الذاتية الضيقة (1) .(1/25)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر القرآن والشعر : دلال عباس . بيروت ، دار المواسم للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، 2000م ص 125-130
المعنى اللغوي للقصص ....................................................... 3
جماليات وحقيقة القصص القرأني ......................................... 5
مقاصد وأغراض القصص القرآني ......................................... 7
مقارنة السرد القصصي بين القرآن الكريم
والعهد القديم " التوراة "................................................... 11
بعض الدلالات النفسية في قصة
يوسف عليه السلام ................................. .......................... 13
أثر قصة يوسف في الأدب والشعر ........................................ 15
الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام ...................... 18
مستويات قصة يوسف ....................................................... 20
شخصيات قصة يوسف ...................................................... 28(1/26)