حكاية بلا نهاية
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.com
تصميم الغلاف : جاويدا جرعتلي
((
محمد عادل عبد الخالق
حكاية بلا نهاية
* مجموعة قصص *
من منشورات اتحاد الكتّاب العرب
2000
وتنداح الأحزان
ـ 1 ـ
نستقبل العيد في قريتنا ونحن نزور موتانا، نأبى أن تمر أفراحنا بدون أحزان، ونرفض أن لا نشرك الموتى ببعض أفراحنا.. نقف على قبر أمي المغطى بأزهار النرجس البري. تنهمر دموع جدتي، وهي تسألني:
ـ هل قرأت الفاتحة على روح أمك يا أحمد؟
أجيبها وأنا مشدوه بالحشد الكبير من أهل القرية في المقبرة:
ـ طبعاً، طبعاً..
تقول لي أختي:
ـ مضى على وفاة أمك عشر سنوات، كنت في السادسة، هل تذكر قسماتها؟
لا أجيب فقد كنت مسحوراً بقسمات سعاد الواقفة بالقرب من قبر أبيها المجاور لقبر أمي. ولأول مرة في حياتي تجتاحني مشاعر لم أعهدها من قبل. تقبلها عيناي آلاف القبلات من الخدين والشفتين ثم تحط على عينيها الكبيرتين، تلمح نظراتي فيحمر وجهها خجلاً.
ولد حبي الأول في المقبرة، يومها كنت وأختي في زيارة قصيرة لقريتنا، فنحن نعيش في حلب منذ سنوات.
ـ 2 ـ
كثرت زياراتي للقرية، كنتُ أرى سعاد في كل مرة، تلقي عليَّ التحية ثم تختفي. تصافحها عيناي بحرارة، يبثها القلب بصمت دافئ أشواقي وحنيني، ولكنني كنتُ عاجزاً عن البوح لها بما تمور به أعماقي من عواطف متأججة. سنة مرت وأنا أكابد حباً عصياً على الكتمان. وفي ذلك الصيف عزمت على مصارحتها ومهما تكن النتائج. كان موسم الحصاد في ذروته عندما وصلت القرية، "الناس يجمعون ثمار جهودهم وأنا قادم أبحث عن ثمار أحلامي".
أقول لابن عم لي ونحن مستلقيان على بيدر كبير في ضوء القمر، وصوت ناي بعيد يجعل من القرية جزيرة أسطورية مسحورة:
ـ العالم طيب والحياة القادمة أجمل مما هي عليه الآن.
يجيبني وهو يحدق في القمر:
ـ أأنت عاشق؟؟(1/1)
أسأله بلهجة مستنكرة:
ـ وهل هذا محظور؟
يرد بأسى:
ـ في هذا الوطن كل جميل محظور.
لا تعجبني تأملاته الشقية وألتزم الصمت. بعد فترة يردف قائلاً:
ـ زفاف سعاد بعد أيام..
هل كان يقرأ مافي داخلي؟ هل كان يدرك كنه مشاعري؟ كل ما أعرفه أني بكيت بصمت. وفي الصباح الباكر غادرت القرية مقهوراً مدحوراً وفي جعبتي من الأحزان ماينوء على الوصف.
ـ 3 ـ
في نهاية ذلك الصيف سافرت إلى القاهرة. تحولت سعاد إلى ذكرى جميلة وسط انغماسي في الدراسة والنشاط السياسي والفكري الذي كان يطبع الحياة العامة في القاهرة في بداية الستينيات. ولكنني ورغم مشاغلي الكثيرة كنت أحس في قرارة نفسي برغبة جامحة لامرأة أحبها إلى حد الجنون. وفي بداية السنة الدراسية الرابعة تعرفت إلى أمل.
كانت تجلس لوحدها إلى طاولة ملاصقة لطاولتي في مقصف الكلية، استرعى جمالها انتباهي، عيناها الخضراوان ساحرتان، بشرتها البيضاء صافية، شعرها الفاحم ينسدل بتراخ على كتفيها وظهرها، تحيطها هالة من الكبرياء والشموخ وفي نظراتها ثقة لا متناهية. استدرتُ إليها بعفوية وقلت لها:
ـ ما رأيك أن نوحد الطاولة، طبعاً إذا كنتِ لا تمانعين؟
أجابت وبسمة رقيقة زينت وجهها:
ـ أُمانع؟ لا، أهلاً بك..
نهضت عن مقعدي وجلست قبالتها مقدماً نفسي:
ـ أحمد نور.
ـ أمل خضر.
تعارفنا بسهولة وتحدثنا وكأننا صديقان قديمان، وكانت هذه الجلسة القطرة الأولى في غيث منهمر. منذ ذلك اليوم الرائع بدأت علاقتنا تتنامى وشهدت حدائق القاهرة ومقاهيها وجسورها قصة حبنا الوليد.
ـ 4 ـ(1/2)
عرفتُ أنها من حلب وأنها ابنة وحيدة لموظف ميسور مثقف وامرأة متحررة "أبي يختلف عن كل الآباء أو على الأقل عن الآباء الذين عرفتهم، أتاح لي أن أتعرف إلى ماحولي دون حواجز، لم يمنعني قط عن تنفيذ ما أريد، صحيح أنه سلحني بمعرفة عميقة عن واقع مجتمعنا وعن الإنسان بشكل عام، ولكنه كان يترك لي وحدي حرية القرار وحرية الاختيار، حينما أبلغته رغبتي في السفر إلى القاهرة شعرتُ بغمامة من الحزن تلفه، تأثرتُ جداً، قلتُ له: إذا كان ذلك يؤلمك فأنا على استعداد لإلغاء القرار، أنكر عليَّ التراجع وتمنى لي التوفيق. أما أمي فكانت على وفاق تام مع أبي، علمتني حب المطالعة وغرست في نفسي الثقة بالناس، لأنهم ـ كما ترى ـ في أعماق أعماقهم طيبون".
في كنف ذلك الأب وتلك الأم أزهرت أمل.
ـ 5 ـ
مضى على تعارفنا أربعة شهور، عرف كل منا عن الآخر الكثير من الجوانب، كنا نتفق في معظم الأمور، قد نختلف ولكن خلافاتنا ليست من النوع الذي يجعل منا طرفي نقيض، إننا في صف واحد دائماً. كانت اهتماماتنا موحدة، تستقطبنا شؤون الفكر والسياسة والوطن والعلاقة بين الرجل والمرأة. تصالحتُ مع العالم واقترب قاربي من ميناء النار والنور.وفي مقهى مطل على النيل، قالت لي:
ـ أحمد، هل أحببت في حياتك؟
تشابكت نظراتنا وتعانقت، وددت لو ضممتها، لو اعتصرتها، لو قلتُ لها إني لم ولن أحب سواكِ، ولكنني أجبتُ بصوت مرتعش:
ـ نعم أحببتُ ومازلتُ أحب.
كانت عيناي ترفرفان حول عينيها، تحطان بين الحين والآخر على كلماتها، تلامسان شفتيها المكتنزتين الشهيتين، قالت والبسمة تكحل عينيها:
ـ أنا مثلك، أحب، أحب بجنون، أحبك أنت، منذ اليوم الأول أحسستُ أنك صديقي المنتظر، الأيام الحلوة التي قضيناها معاً أكدت لي صدق مشاعري، أحبك يا أحمد، أحبك حتى الموت.(1/3)
فقدتُ إحساسي للحظات بالزمان والمكان، غمرني فرح طاغٍ مفاجئ، وضعتُ يديها الناعمتين البضتين بين يديَّ المرتعشتين وقبلتهما بحرارة وأنا أدمدم كالمحموم:
ـ إني أعبُدك.
قلتُ لها ونحن خارجان من المقهى:
ـ هل تقبلين دعوتي للغداء في شقتي الصغيرة؟
أجابت والبسمة تنداح على وجهها وتتراقص على وجنتيها:
ـ بكل سرور.
ـ 6 ـ
بصراحة إنني لم أمارس الجنس من قبل، كنتُ بكراً إن صح التعبير. ولكنني في الواقع كنتُ أشتهي أمل إلى درجة الحب وأحب أمل إلى حد النشوة. وصلنا الشقة دون إحساس بالزمن. كان الطقس ربيعاً وكان السحر يخيم على كل شيء. غابت في ذاكرتي كل الصور البائسة عن حياة الملايين من حولي ولم يبق إلا الأمل في وطن جميل لا تحاصره المخاوف ولا تلوثه المظالم ولا تكبح قدراته مفاهيم محنطة، وطن تنتصب في قراه المسارح والملاعب ويتنامى في ربوعه العدل والحب.
دخلناها وكان الدخول إلى الجنة، منحتني أمل نعمة لم أذقها حتى ذلك اليوم، كان عطاؤها خصباً دافقاً وبلا حساب. تحولنا إلى جسد واحد، وإلى روح واحدة. وكنتُ أحس ـ في غيبوبة النشوة ـ بطفولة الإنسان على الأرض قبل القيود والحدود. لقد سقطت جميعها كما سقطت ثياب أمل على أرض غرفتي. كانت تأوهاتها أناشيد آلهة جبال أوليمبوس وعيناها الخضراوان يشفان عن أدغال اللذة. كان توقي عارماً كتوقها وكانت رغبتي جارفة كرغبتها، ساعات طويلة ونحن مخدران تماماً، ثملان بحبنا وجسدينا. قالت لي بصوت هامس وهي تضمني:
ـ لقد أصبحتُ زوجتك.
ـ هذا ماكنتُ أحلمُ به.
ـ لقد أصبح واقعاً ًوسأكون أماً.
ـ إذن لابد من إجراء عقد الزواج.
ـ لا تشغل بالك، إنه أمر شكلي.
ـ وأهلك؟
ـ القرار لي وحدي.
ـ أخشى مشاعرهم.
ـ لايهمني في العالم إلا المشاعر التي تقدر مشاعري ومشاعرك.
قبلتها وكأنني لم ألمسها بعد.(1/4)
تم زواجنا شرعياً وهي حامل في الشهر الأول، كانت حياتنا رائعة، غنية، جديدة من كل الوجوه. ندرس معاً، ونعمل في البيت معاً، ونزور أصدقاءنا وصديقاتنا ونناقش كل الأمور كما لو كنا صديقين جديدين.
كانت امتحاناتي لم تبدأ بعد حينما انتهت أمل من امتحاناتها، لذلك طلبتُ منها أن تسافر قبلي. لم ترق لها الفكرة ولكنني ألححتُ عليها خاصة وأن رسائل أمها وأبيها كانت طافحة بالشوق. وافقت أخيراً ثم بدأت تستعد للرحيل. وفي مطار القاهرة ودعتُ أمل. هاجمني حزن صعب عليَّ أن أغالبه، فاضت دموعي، ضمتني بقوة ثم وضعت رأسها على كتفي كحمامة بيضاء، وكانت تردد وهي في ذروة الانفعال:
ـ سأراك بعد أيام قليلة.
كان لابد من الفراق، وشعرت بالندم على سفرها، ولكن الأوان قد فات. وحينما علت طائرتها في الجو شعرت بأن القاهرة كئيبة حزينة وأن الناس فيها قد هجرتهم أفراحهم منذ زمن بعيد. وحينما وصلتُ شقتنا لم أستطع أن أفتح الباب. أصبت بانهيار مفاجئ،غمامة سوداء تربعت على عينيّ، وهرولت إلى شقة صديق لأنزل ضيفاً عليه خلال مابقي لي من أيام.
ـ 7 ـ
وصلني الخبر الأسود في اليوم الأول من امتحاناتي: لقد ماتت أمل في حادث مروع. كان ذلك فوق قدرتي على الاحتمال. تركت الامتحانات وهمت على وجهي في شوارع القاهرة لعدة أيام لم أعرف خلالها طعماً للنوم أو الأكل. لم تكن أمل زوجة فحسب، ولم تكن صديقة فحسب، بل كانت لي بعض ما افتقدته من جرأة على مواجهة الواقع. قلتُ لها ذات مرة:
ـ حينما سيصبح هذا الوطن الكبير دولة واحدة، لن تجدي يا أمل قطعة أرض قاحلة، ستتحول كل الأراضي إلى حقول خضراء، وكل القرى إلى بلدات صغيرة مبنية من القرميد الملون الزاهي، وستجدين خدود الأطفال في حمرة التفاح ... حينذاك سيبدأ التاريخ. أما الواقع الراهن فيدعو للقنوط والإحباط..
علقت آنئذٍ بحماس:(1/5)
ـ صحيح أن الطريق إلى تحقيق ذلك الحلم الجميل شديد الوعورة، ولكننا سنناضل من أجل ذلك مهما كلفنا ذلك، فالأهداف الكبيرة كما تعرف تحتاج إلى تضحيات كبيرة، أليس كذلك يا أحمد؟؟..
لم أغادر القاهرة إلى حلب، لم أجرؤ على ذلك، ومرت أشهر الصيف كالحة كئيبة حارة، وكانت ذكرى أمل تلازمني كظلي. وحينما جاء الخريف كنتُ قد لملمتُ جراح نفسي، وبدأت الاستعداد مجدداً لإعادة العام الدراسي.
ـ 8 ـ
في اليوم الأول من افتتاح الجامعة صادفتُ ندى، كان لقاؤنا حميمياً، تصافحنا بحرارة، انهمرت الدموع من عينيها وقالت لي بصوت مخنوق:
ـ كانت أحب الناس إلى نفسي.
فلقد كانت ندى بالفعل أعز صديقات أمل. كانتا صديقتين منذ الطفولة، كنتُ أعرف ذلك حق المعرفة. قلتُ لها بتدفق وعفوية:
ـ إني سعيد أن أراك يا ندى، إني شديد الحاجة إليكِ.
يومها تناولنا طعام الغداء معاً في إحدى المتنزهات النيلية، ولأول مرة أؤمن بأني قادر على متابعة الحياة مهما حدث.
في سابق الأيام لم أكن أهتم بندى الاهتمام الذي يدخلني إلى عالمها الخاص رغم حضورها المستمر لقاءاتنا الدورية، لقاءاتنا التي كانت تضم طلاب طب وفلسفة وحقوق وكتاب وشعراء من جميع الأقطار العربية. كان الجميع يبحث عن رؤية شمولية للإنسان والكون والمجتمع. كنا نريد أن نكون فلاسفة وفنانين وسياسيين وأطباء وعلماء دفعة واحدة، كنا نتحرق أن نكون شمعات مضيئة في ليل هذه الأمة الطويل. كانت معرفتي بندى محصورة في هذا الإطار، وللحقيقة لابد من الاعتراف أني قلت لأمل بعد أول لقاء بيني وبين ندى:
ـ هذه الفتاة فيها شيء من الادعاء وكثير من الغرور.
عقبت أمل يومها:
ـ ولكن فكرها ناضج وستحبها مع الأيام.
ـ 9 ـ(1/6)
وعلىطاولة الغداء بدأتُ أنفذ إلى عالم ندى الداخلي. تتحدث بطلاقة وتحدٍ، تشعرك بأنها تقاتل شيئاً ما غامضاً في حياتها "أبي طبيب جراح، عاش في أوروبا الشرقية عشر سنوات، أمي أجنبية توفيت منذ سنوات قليلة، لم يتزوج أبي، أولاني وأختي ـ ومازال ـ الكثير من رعايته، يعيش حياته بالطول والعرض، تعلمتُ منه أن الحياة رحلة قصيرة، وعلى الرغم من أنه كان في يوم ما مناضلاً صلباً إلا أنه قد نفض يديه من القضية ولم يعد يهتم إلا بأموره الشخصية". توقفت قليلاً ثم تابعت بهدوء فاجع "إن موت أمي ثم موت أمل علماني الكثير". لم يكن هذا اللقاء يتيماً بل تكرر مرات عديدة، فقد تمتنت أواصر الصداقة فيما بيننا وبدأت أشعر بالحاجة الملحة لها.
كانت متدفقة بالحيوية إلى حد الغرابة، شعورها العدمي الرابض في أعماق أعماقها يدفعها دفعاً لمعانقة الحياة بطريقة مثيرة، تدخن بنهم، وتشرب المنبهات بنهم، ولا تتخلف عن رحلة من رحلات الجامعة، تقرأ وتكتب باستمرار.
وكانت تردد على مسامعي بشكل دائم "الحياة جميلة، إني أحبها بجنون". لا أنسى ذلك الحوار المتوتر الذي جرى بيننا والذي شكل انعطافاً في حياة ندى، بدأتُه قائلاً:
ـ إن الحياة جميلة فلنجعلها للجميع كذلك.
تضحك من قلبها وهي تعقب:
ـ أنتَ غير راضٍ عني، أعرف ذلك، تجدني أبحث عن خلاصي الذاتي، اهتمامي بالآخرين يأتي في المرتبة الثانية.
ـ هذا صحيح، لقد تأثرتِ بأبيكِ تأثراً بالغاً. إنني أؤمنُ بأن التقدم الإنساني لم يأتِ اعتباطاً، إنه حصيلة جهود هؤلاء الذين يفكرون ويعملون من أجل الآخرين، فليكن لنا دور ولو متواضع.(1/7)
ـ بصراحة أُحسُّ أحياناً بأنني غير قادرة على ذلك. حينما نجتمع سوية مع بعض الأصدقاء، وتبدأ النقاشات أشعرُ بأنني أحتضن أنبل مافي العالم من مُثل، فالعالم القادم الرائع لابد له من تضحيات، ولكنني في قرارة نفسي أحسُ بالعجز، أودُ لو أنني لم أمتلك الوعي الذي امتلكته، أودُ لو أستطيع أن أعيش كأي امرأة في هذا الوطن بلا أهداف، بلا مُثل.
ـ كيف تقولين ذلك يا ندى؟ كيف تحولين الوعي من نعمة إلى نقمة؟ وكيف ترضين وأنتِ الفتاة المثقفة أن تعيشي بلا أهداف وبلا مُثل؟ متى كانت العبودية مطلباً والسلبية أمنية؟ أنتِ مازلتِ في بداية الطريق وتتكلمين على هذا النحو، فماذا سيكون موقفكِ بعد سنوات؟ يؤسفني أن أقول أنك عاجزة عن متابعة المشوار.
ثارت، برقت عيناها كقطة وحشية، تطايرت شظايا كلماتها في كل الاتجاهات "هكذا أنا وسأبقى هكذا، لا أحب حياة المعتقلات، أن تناضل من أجل النور يعني أن تعيش في الظلام لفترة ما قد تطول حتى نهاية العمر، أُريد أن أعيش، أريد أن أعانق الشمس، أن أتأمل تساقط أوراق الخريف، أن أسير تحت المطر، أن أستنشق نسيم الربيع، نعم أكره المعتقلات، أمقتها".
لم أجب، مرت فترة صمت طويلة قطعتها متسائلة بلهجة حانية:
ـ أحمد مابك،هل حزنت؟
تصنعتُ الابتسام ثم عقبتُ:
ـ أحزنتني رؤيتك، ومع ذلك فمن حقكِ أن تخططي حياتك بالشكل الذي تريدين، لا نملك ولا يجب أن نملك فرض مسلك معين على حياة الآخرين، يبدو أنكِ قد اخترتِ طريقك وهذا حقك.
بعد هذا الحوار لم تعد ندى تشاركنا نحن مجموعة الأصدقاء جلساتنا المنتظمة.
ـ 10 ـ(1/8)
استمرت صداقتي مع ندى كسابق عهدها، وكنتُ ألحظُ من جانبها محاولات مستمرة لتنظير رؤيتها بطريقة غير مباشرة. كانت تظن أنها قادرة على إقناعي بسلامة خطها وصحة فلسفتها متناسية آلاف الوقائع التي تشدنا يومياً إلى بحث مسؤول عن تغيير واقع أمتنا التعيس. قلتُ لها يوماً كرد على ذلك الحوار الذي كشفت فيه عن عجزها عن لعب دور ما في حياة أمتها: "هؤلاء الناس الذين يتصدون لتغيير الواقع غير مغرمين بالسجون ولا يحبون حياة المعتقلات، إنهم يحبون الحياة حباً عميقاً وأنت تعرفين ذلك، بل إن حب الحياة ذاته هو الذي يدفعهم حثيثاً لتجميل الحياة، لجعلها مقبولة وإنسانية للجميع. الطريق طويلة وشائكة، هذه حقيقة، ولكن النضال من أجل حياة أفضل، من أجل واقع أعدل يبقى عملاً بطولياً يجب أن نحني له الرؤوس". تبتسم ثم تعقب "أمل كانت لك خير صديق". لا أعلم لماذا انتفضتُ حينما قالت ذلك، فلقد كنتُ أحسُ بحاجة حقيقية لصداقتها، لوجودها معي، لاحظت انخطاف لوني فأردفت قائلة: "سأبقى لك صديقة ما حييت".
ـ 11 ـ
بعد انتهاء العام الدراسي عدنا سوية إلى سورية، عملتُ في إحدى الدوائر الحكومية. ورغم تنامي علاقتي بندى وقراري بالزواج منها بعد تخرجها وإدراكها ذلك بوضوح شديد، كنتُ أشعر بأنها تخفي شيئاً ما لم أعرفه إلا في أوائل الخريف قبيل سفرها إلى القاهرة عندما جاءت إلى مكتبي المستقل وهي ممتقعة وكأنها مريضة ثم قالت:
ـ لا أعرف كيف أبدأ الحديث؛ المهم أنني قررتُ عدم متابعة دراستي، هذه رغبة خطيبي ياسر، إنه رجل أعمال لا تهمه الدراسة، إني أعرف تماماً أنك لن تفاجأ، لقد حدثتك مراراً عن رغبتي في أن أعيش حياتي دون هموم عامة، أريد ألا أقترب من عالم الفكر المتعب أو عالم السياسة المضطرب.
لم أعلق، نظرتُ إليها بغيظ ثم نهضتُ واقفاً، وقلتُ لها بجفاف:
ـ لقد انتهى مابيننا.. أرجو لك التوفيق.
ترقرقت الدموع في عينيها ثم قالت:
ـ ومع ذلك سنبقى أصدقاء.(1/9)
أجبتها وأنا في ذروة الألم:
ـ ماتت ندى، هذا ما أحسه الآن.
فتحت باب الغرفة وأنا واقف كالمصلوب أحملُ صليبي الذي لا يراه أحد.
****
-12-
كان عليَّ بعد هذه الصدمة أن أُلملم جراح نفسي وأن أبحث عن فتاتي التي طال اشتياقي لها، وكانت سهام نجمة ليالي التعسة وزورقي في تيه بحر شرس الأمواج مجنون الرياح. شاركتني مكتبي بعد فترة قصيرة من تعيينها. سمراء طويلة القامة، أجمل مافيها عيناها السوداوان الضاحكتان، حينما تبتسم تُحسُ بأن العالم أضحى أحلى وأجمل ... وديعة بريئة تملؤك إحساساً بالرضى والراحة. أهلها تجار كبار محافظون "نحن من عائلة كبيرة وغنية، كان جدي أول من أسس مصنعاً للنسيج في حلب، بعد التأميم فقدنا الكثير وبدأنا نخاف المستقبل، ما زالت أوضاعنا جيدة ومع ذلك قررتُ العمل، تردد أبي كثيراً، ولكنني نجحتُ أخيراً في إقناعه". تفاخرها بعائلتها ذكرني بعائلة هكسلي في إنكلترا، تلك العائلة ـ كالكثير من العائلات الارستقراطية في الغرب ـ أنجبت العديد من العلماء والكتاب والموسيقيين. قلتُ لها وأنا أُداري شعوراً بالتهكم الشديد:
ـ هل تتصورين أن أغنياء العالم الثالث يختلفون عن فقرائه؟ كلهم متخلفون، الفروق شكلية، صحيح أن الغنى عموماً ًيتيح للإنسان ظروفاً مواتية لاكتساب الحضارة، ولكنه في محيط التخلف الحضاري المرعب الذي تعيشه أمتنا لعب دوراً مضللاً خادعاً.
خُطِفَ لونها وكأني أشتمها شخصياً وزالت عن نظرتها البراءة وحل محلها جِّد مشوب بالحذر وعقبت بأسى:
ـ سامحني إذا قلتُ لك إني لم أفهم شيئاً.(1/10)
أدركتُ مباشرة بأن سهام لاتختلف عن معظم البنات المتعلمات في مجتمعنا. التعليم بالنسبة لهن طريق للشهادة لا أكثر ولا أقل. ولمعالجة الفراغ الروحي الذي يعصف بهن، يلجأ قسم منهن إلى الاهتمام المبالغ بالمظهر، وقسم إلى الافتخار بما يملكن وليس بما يعملن، وقسم إلى أحلام اليقظة الكاذبة، أقل من القليل منهن يواجهن الحياة بصلابة وحزم فيدركن بأن الوعي هو الخطوة الأولى لاكتساب الإنسان ـ رجلاً أو امرأة ـ إنسانيته.
تابعتُ محاولاً شرح وجهة نظري:
ـ إن أغنياء أمتنا تصوروا أن شراء سيارة أو ركوب طائرة مثلاً يجعلهم في صف المتقدمين حضارياً. ما أبعد ذلك عن الحقيقة. إنهم يستطيعون أن يشتروا الكثير ولكنهم لا يستطيعون فهم المناخات التي أفرزت تلك السيارة أو الطائرة، لأنهم ببساطة متخلفون حتى السمحاق. إنهم لن ينقلوا إلينا مشعل الحضارة الذي انتقل إلى الغرب، بل الأصح إنهم يحاولون تجميل التخلف بكل المكياجات الحضارية. مأساتهم الحقيقية أن مصالحهم مرتبطة بشكل عضوي بالتخلف ونتائجه. ما أريد قوله أن الافتخار بهم ليس له ما يبرره، لأنه افتخار في غير محله.
ران عليها صمت ثقيل أحسستُ معه بأن وجهة نظري هذه قد صدمتها في الصميم، لذلك قلتُ لها بعد فترة قصيرة:
ـ سامحيني يا سهام، إذا أسأتُ إليكِ. صدقاً إني لم أقصد جرح مشاعرك، أنا أحترمكِ بحق.
ردت بحماس:
ـ لم أشعر قط بأنك تهاجمني ولكنني في الحقيقة لم أسمع أحداً يتكلم بهذه الطريقة التي تحدثت بها، عذري في ذلك أني من الجنس الآخر، لا نهتم بالسياسة أو الاقتصاد.
كانت سهام تريد أن تقول المزيد وقد شجعها إصغائي ونظراتي المتعاطفة على أن تعبر عما في نفسها بصدق وعفوية، ولكنها أحجمت، كانت حذرة وجلة، عذبني أن أكون السبب، وتمنيتُ لو أن وجهة نظري لم تؤثر عليها التأثير الذي بدا واضحاً في كل سكنة من سكناتها. إنها لم تغضب، ولم تحزن، ولكنها بدت في غاية الارتباك.
ـ 13 ـ(1/11)
كان هذا أول نقاش بيني وبين سهام حول مواضيع من هذا النوع، لكنه كان بداية سخية لمعرفة عميقة وراسخة بعالم سهام الداخلي. ومع توالي الأيام والشهور أصبحنا أكثر من زميلين في العمل. وخلال تلك الفترة بذلتُ جهوداً جبارة لدفعها للقراءة الجادة. كانت استجابتها مثار دهشتي، تقرأ بنهم وتناقش بمتعة وتختزن ذاكرتها معظم الأفكار الجديدة، نقطة الضعف الوحيدة كانت حساسيتها المفرطة إزاء واقع الحياة. كلمة جارحة قد تكون عرضية تجعلها تعاني من آلام مبرحة أياماً طويلة.
معاملة والدها القاسية تؤرقها وتنغص عليها حياتها. وشيئاً فشيئاً بدأت تحتلُ في حياتي موقعاً متميزاً "فهل ستدخلين حياتي يا سهام" أمل كانت الحب والنضج ثم ماتت، وندى كانت الضعف والخيانة ثم تلاشت، فهل سيكتبُ لي أن أعيش معكِ أيامي القادمة، أن أزرع جسدكِ قبلاً محمومة، أن يروي شوقي ظمأ لذاتك الخافية الخجلى ... أن تعبث يداي وعيناي بتضاريس جسدكِ اللدن؟؟ إن أحببتكِ سأحميكِ من الموت، سأقاتل من أجل أن لا تشوهي وجه الحياة القصيرة بخيانة، وسأجعل من جسدي قارباً تعومين به أطراف العالم لتري كم هو جميل
يمكن أن يكون، كم هوعظيم يمكن أن يكون،
وسنبصق معاً في وجه العالم القديم ونعانق العالم الجديد بشبق مجنون".
ـ 14 ـ
بدأت مشاعر الحب تهب عاصفة في قلبي فتؤجج نيران الرغبة والشهوة وتثير شريطاً طويلاً من الذكريات حلوة ومرة. وبعد شهور طويلة على تعارفنا قلتُ لسهام بعد تمهيد قصير:
ـ أحبك يا سهام، نعم أحبكِ، وكأنني لم أحب من قبل.
تلألأت دموع الفرح في عينيها وغمرت وجهها ابتسامة دافئة وأجابت بتدفق:
ـ لن أحب غيرك، أنت كل شيء في حياتي.
كنتُ أعرف أن طريقنا شائك وأن اليوم الذي سيضمنا فيه بيت واحد بعيد المنال، ولكن ما العمل؟ لماذا يُفرض علينا أن نعاني من أمور لا علاقة لأحد بها سوانا؟ قلتُ لها وأنا أحاول أن أخفي حزناً خيم عليَّ فجأة:(1/12)
ـ هل ستبلغين أهلكِ؟ إني أود التعرف إليهم جميعاً، لابد من بحث الموضوع معهم بلا مواربة.
أجابت وهي تحدق شاردة إلى السماء من نافذة مكتبنا:
ـ كما تريد يا أحمد، كما تريد.
مرت أيام كانت فيها سهام مبلبلة عاجزة عن التركيز. جرفني حزن عميق وتأثرتُ لما تعانيه من متاعب ومصاعب، حاولتُ أن أبحث معها الموضوع ولكنها كانت تردني برفق وتقول:
ـ سأخبرك كل شيء في الوقت المناسب.
ولكنني عزمت أن أعرف لأنه لم يكن هناك أنسب من تلك الأوقات لأشارك سهام ظروفها المعذبة. قالت بعد تردد:
ـ أبلغت أمي عن مشاعري تجاهك وعن رغبتك في زواجي، صُعِقَت، قالت هل يمكن أن يوافق والدك على زواجك بمثل هذا الموظف؟ هل نسيتِ التاجر الكبير ابن السهلي؟ إنه يطلبك بإلحاح، إنني بصراحة لا أجرؤ أن أفاتح والدك بالموضوع، فاتحيه أنتِ ولتعلمي أن حبكِ لزميلك مجرد نزوة عابرة. لم أجبها، بقيتُ صامتة لأني أعرف أمي معرفة حقيقية، إنها سليلة أسرة إقطاعية كبيرة تحتقر كل مالا يمت لطبقتها بصلة، فكرتُ أن أوسط أخي المهندس، أخبرته عن كل شيء، كان يصغي إليَّ باحترام أكبرته عليه، قال لي بعد فترة صمت طويلة إن اختيارك سيسبب لنا أحزاناً كبيرة، ومع ذلك أعدك بأن أفاتح أبي بالموضوع، وأن أطلب منه أن لا يتسرع في اتخاذ القرار وأن يسمح لأحمد بزيارتنا فقد يحبه ويوافق. بعد يومين وقع أبي مريضاً وحينما هممتُ أن أدخل غرفته أبلغتني أمي رغبة أبي في أن لا أعوده، حز في نفسي ذلك وبكيت، ولو لم تكن في حياتي لوضعتُ حداً لها.
ـ لا تقولي هذا يا سهام، لشد ما يحزنني أن يخطر على بالك مثل هذه الهواجس، الانتحار هروب وعلينا مواجهة الحياة لأننا محكومون بالأمل، فإذا لم يوافق أهلكِ هناك حلول عديدة.
ـ هناك حل وحيد كما أرى ..
ـ وما هو ذلك الحل؟
ـ أن نهرب معاً ونتزوج..
ـ لا مانع عندي، ولكنني أود أن نحاول معاً كل الأساليب، وحينما نفشل يفرض رأيكِ نفسه.
ـ 15 ـ(1/13)
بعد ثلاثة أيام من هذا الحديث اعتقلت، لم أستطع أن أودع سهام، غابت عني أخبارها وأسدلت جدران المعتقل ستائر سميكة بيني وبين العالم الخارجي، لا رسائل ولا زوار ولا أخبار ولكن صورة سهام بقيت ساكنة في قلبي "ماذا تفعلين يا سهام في غيابي القسري؟ هل تبكين حظنا العاثر؟ هل واجهتِ أباكِ وانتقمتِ من أخلاقياته العتيقة برفضكِ ابن السهلي؟ هل ضغط عليك حتى تتركي العمل فلا أراكِ بعد إطلاق سراحي المحتم؟" أسئلة عديدة كانت تؤرق حياتي في المعتقل ولكن الأمل في رؤية سهام، في لقائها كان حافزاً طيباً للاحتمال والصبر. والغريب أن حلماً واحداً لازمني في المعتقل سهام"في فستان أبيض تعدو وسط سهول خضراء وخلفها أسراب من طيور ملونة وفراشات بيضاء تزين رأسها الجميل، أعدو وراءها ولكن غيمة داكنة تحول بيني وبينها، أبكي ... أصرخ، ينتصب أمامي رجل قاسي القسمات يسألني ماذا تريد منها؟ أجيبه إنني أحبها، إنها حبيبتي، يرد بغلظة حاقدة ألا تعلم من أنا؟ أنا ابن السهلي وسهام زوجتي". أستيقظ في ليل المعتقل، تنساب الدموع من عيني حارقة وتضطرم الأشواق في دمائي.
ـ 16ـ(1/14)
بعد شهور طويلة يطلق سراحي، أغادر المعتقل، وفرح عظيم يكاد يفجر قلبي الملتاع" سأراكِ يا سهام، مهما كلفني ذلك من ثمن، فلا بد أن تكتحل عيناي بعينيكِ فذلك أمل عشته لحظة إثر لحظة في المعتقل". أصل الدائرة، أسأل عن سهام فيخبرني زميل عن انتحارها، لم أعد أرى طريقي، تدفقت الدموع في عيني "لماذا فعلتِ ذلك يا سهام ... يا وداعة العالم القادم، يا نبلاً يولد وسط مزابل الحقد والكراهية، يا زهرة تفيض أريجاً في مستنقع نتن"، أهيم على وجهي، تقودني قدماي إلى مقبرة بعيدة عن المدينة، أضع على قبرها زهرة حملتها لها هدية للقائنا الذي ما تم. ووسط الدموع والذهول رأيتها قادمة من بعيد في فستان أبيض، ترفرف بذراعيها وتناديني بأعلى صوتها، نهضتُ بسرعة لاستقبالها وعدوتُ باتجاهها، ولكني تعثرتُ بشواهد القبور وسقطت على الأرض فاقد الوعي.
آب 1978.
***
حكاية بلا نهاية
ـ 1 ـ
الحفلة
كنتُ في قرارة نفسي أبحث عن فرصة، عن مناسبة أؤكد فيها لنفسي أولاً وللجميع ثانياً أني أدخل مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة لا علاقة لها بتلك التي تزوجت فيها وأنا في الخامسة والعشرين، ولا تمت بصلة للمرحلة التي عشتهاوَنَمَتْ فيها بيني وبين الدكتور رامي صداقة حميمة وإعجاب متبادل، تلك العلاقة التي استمرت فترة طويلة ثم انتهت منذ سنتين تقريباً، مرحلة أحسستُ فيها بأني على أبواب النضج وأني امتلكت شيئاً فشيئاً مفاتيح الحياة واختلفت عن الآخرين في أمور أساسية.
وقد وقع اختياري على أن تكون حفلة ميلادي الخامس والثلاثين الحد الفاصل بين عمرين إن جاز التعبير.. وكنتُ أريد أن يكون شهود الإثبات على كل ما عزمت أن أؤكده، زميلاتي وزملائي في مستشفى الشرق الذي أعمل فيه كطبيبة منذ عشر سنوات، إلا أن الأمور في تلك الحفلة سارت على نحو لم أخطط له ولم يخطر على بالي، وتحولت إلى مقدمة غنية بالمؤشرات، وقادت إلى ذلك اللقاء العجيب الذي لم أتخيله قط.(1/15)
حضر الدكتور رامي ومعه هدية قيمة أثارت شكوك الجميع. لقد طلق زوجته قبل أيام، إنه واثق من موافقتي على الزواج منه، إني خير من يعرفه، لا يمكن أن يتصور أني رفضته إلى الأبد. ذلك فوق قدرته على المحاكمة، عسير عليه أن يدرك تطوري الروحي وما طرأ على أفكاري ومشاعري من تغيرات وتحولات، أما الدكتور حسين فقد أدهش الجميع. عرض علي الزواج هكذا، وبلا مقدمات، لقد سبر حقيقة مشاعري الحالية نحو الدكتور رامي. وجد أن الساحة خالية ـ كما تصور ـ وما عليه الآن إلا أن يتقدم خطوة قد تكون فاتحة لخطوات أخرى عديدة. ولكن الدكتور حسين لم يكن الرجل الذي أريد وما كان في يوم من الأيام يوليني عناية خاصة وما كانت هناك أي نقاط لقاء تجمعنا على أي صعيد. أما الدكتور كمال الذي اقتحم حياتي بمشاعره الدافئة وأفكاره المحيرة فقد لاذ في الحفلة بالصمت على غير عادته، فرغم الخمسين سنة التي يحملها على كتفيه ورغم زواجه وأبوته لصبية وشاب، كانت روحه شابة مفعمة بالحيوية. لقد سيطرت عليه في الحفلة كآبة واضحة حتى أني شعرت بأنه على وشك الإغماء. ولم تجدِ مداعبات الزميلات والزملاء فتيلاً، وفجأة غادر دون أن يقول لي وداعاً. لقد أثارني موقفه، وأحزنني ما ألم به، وتأكدتْ لي مشاعر بدأت تتبلور شيئاً فشيئاً.
ـ 2 ـ
الماضي
للموت حساب طويل معي. ماتت أمي وأنا في التاسعة، ثم لحقها أبي وأنا في الحادية عشرة، عندها انتقلنا أنا وأخي الوحيد إلى بيت عمي "أبو حامد" كان ذلك البيت نقيضاً لبيتنا في كل شيء. عمي يختلف عن أبي اختلافاً كبيراً، شخصية طاغية لا يعرف الحب إلى قلبه سبيلاً، زوجته وأولاده لا وجود لهم في حضرته. حتى حامد، ولده البكر، كان لا يجرؤ على تركيز بصره فيه، يتكلم معه وهو مطرق إلى الأرض.(1/16)
في ذلك الجو المقيت كانت العودة إلى طفولتي المبكرة عزاء لا مثيل له. كان أبي رقيق المشاعر رحيماً بنا جميعاً ومحباً للآخرين أيضاً. كان موضع ثقة القرية كلها، يحتكمون إليه في خلافاتهم ويطلبون منه المساعدة في حل مشاكلهم ويعتبرونه رجلاً حكيماً نظيف اللسان والضمير. حينما مات، شاهدتُ بأم عيني دموعهم الغزيرة وقسماتهم التي تشي بالتأثر العميق. وكانت أمي كريمة تعتبر أهل القرية أسرة واحدة. أذكر بوضوح أنه في موسم التين والعنب كانت في كل قطفة تحمل منهما إلى المحرومين الحصة نفسها التي نحصل عليها نحن أصحاب الكرم، وحينما نعترض نحنُ على حصتنا القليلة تردد:
"الناس لبعضهم البعض، وتينة مثل تينتين، والواحد ما بياخد من الدنيا إلا السمعة الطيبة".
توالت السنوات وأصبحت صبية ـ في تلك الفترة وجدت في الانكباب على الدراسة مهرباً من إحساسي بالغربة وقسوة الجو العائلي المحيط. كان من عاداتي في أيام الربيع وحتى بدايات الصيف أن أحمل كتاباً وأتجه إلى حقول القرية الخضراء التي ماتزال محفورة في قاع الذاكرة، حقول واسعة يتسلل وسطها نهران صغيران يحملان الخير على مدار السنة. كان حامد يلحقني أحياناً، يغازلني ويعدني بالزواج في المستقبل القريب. كانت مشاعري نحوه مزيجاً من الحب والعطف يخالطهما رغبات بدأتُ أحسُ بها دفاقة حارة عنيفة خاصة عندما يلفني بذراعيه القويتين ويشبعني لثماً وضماً. ورغم انتقالي مع أخي إلى مدينة قريبة لمتابعة الدراسة الجامعية، استمرت علاقتي العاطفية بحامد التي كان يباركها عمي علناً. كان حامد طموحاً في مجال محدد: الحصول على القوة والجاه، وبالفعل فقد تبوأ خلال سنوات قليلة مركزاً مرموقاً مكنه من اكتساب سلطات واسعة وأصبح مرهوب الجانب وتحت إمرته إمكانات واسعة، وحينما كان أخي يناقشه في مدى مشروعية هذا النجاح، ينبري حامد قائلاً:(1/17)
ـ أنت مسكين يا علي، عالمنا ليس عالم قيم، إنه عالم تحكمه القوة. السلطة في عالمنا هذا طريق آمن للامتيازات المادية والمعنوية.
كنتُ، دائماً في صف أخي، فلقد كان علي صورة عن أبي، يعلي من شأن القيم ويعادي كل ضروب النجاح القائم على العسْف والظلم،ولم يكن هذا الجانب فيه منفصلاً عن رؤية جديدة متكاملة بلورها أخي خلال معاناتنا في بيت عمي إلى جانب قراءات مستمرة جادة. لقد فتح علي عينيّ على أمور كثيرة، وبذر بذوراً ما زلت أحس بجذورها في سويداء قلبي.
كانت وجهات نظره انقلاباً كاملاً على كل ماهو سائد في حياتنا من قيم ومفاهيم، وكنتُ أحس إلى جانبه، رغم أنه أصغر مني سناً، بالأمن والأمان، وحينما قرر حامد أن يتزوجني، سألته رأيه، فقال: إنها حياتك يا سارة، ومن حقك أن تتصرفي بالطريقة التي تريحك. ثقي بأنني سأبقى إلى جانبك أبد الحياة وسأدافع عن قرارك المستقل، هذا عهد لن أخونه مهما كانت الظروف. تزوجت بعد تخرجي من كلية الطب مباشرة. لم يدم الزواج سوى شهر واحد. فلقد مات حامد في حادث سيارة كان يقودها بسرعة جنونية.
ـ 3 ـ
الدكتور رامي
بعد وفاة زوجي بفترة، انتقلتُ أنا وأخي إلى هذه المدينة البعيدة عن قريتنا، والتحقت بمستشفى الشرق حيث قابلته لأول مرة. كان عائداً من الولايات المتحدة بعد غياب طويل. متوسط القامة جميل القسمات حيوي الحركة. لم يستطع بداية أن يخلف انطباعاً مؤثراً عليّ، بقي مجرد زميل. وحينما تزوج بعد التحاقه بالمستشفى هنأته ببرود يوازي فتور العلاقة بيننا، إلا أن هذا الفتور لم يطل. بدأ يخطب ودي ويحاول أن يقتنص الفرص للتقرب مني، لم أمانع. حدثني عن بؤس حياته الزوجية التي لم يمضِ عليها سوى شهور معدودة وعن سوء الفهم المستحكم بينه وبين زوجته.
كان الدكتور رامي، كما اتضح لي بعد سنوات، خدعة كبيرة. يصب كل ذكائه في تغيير صورته الحقيقية أمام الآخرين. لا أنسى حديثه في بداية علاقتنا عن زوجته وعن الثقافة:(1/18)
ـ أنا أحب المرأة المثقفة. ولكن ثقافة زوجتي لم تعلمها كيف تعيش بسعادة. سألته:
ـ ألم تفهمك؟!..
ـ تؤكد أنها فهمتني الآن، أي بعد الزواج، وتصر على أننا من عالمين مختلفين.
ـ المفروض أن تبذل أنت جهداً للتقريب بين هذين العالمين.
ـ لقد سدت عليّ كل الطرق، تقول لقد كان زواجنا خطأ فظيعاً.
كم تغير هذا الموقف المخادع؟! أعلن مرة في سورة غضب وهو يحدثني ـ بعد أن امتدت جسور الصداقة بيننا لسنوات ـ عن موقفه من زوجته ومن الثقافة:
ـ سارة أريد أن أقول لك بصراحة، أنا أحس بالقرف من الثقافة، أنا فعلاً أحتقر الثقافة والمثقفين، ومع احترامي لكِ، أعتبرهم مجموعة فاشلة، تعوض فشلها بالتنظير والتحليل وتعيش عيشة بائسة تليق بها. كل ما أقدمه لزوجتي من ضروب الرفاه لا يشبعها روحياً، تصوري هذا المنطق.
لم يدهشني هذا الاعتراف، فقد تنامت معرفتي به، وملكت مفاتيح شخصيته. أقسم أنه لم يقرأ كتاباً في حياته خارج المقررات الدراسية. عالمه صغير محدود. يفاخر أنه يملك عيادة خاصة يعمل بهامساء، وبيتاً أشبه بقصر، ودخلاً يحسده عليه زملاؤه.
ـ ماذا يطلب الإنسان أكثر من ذلك؛ وماذا تريد زوجتي، إنها غبية، تحطم سعادتها بيديها.
بدأ يردد هذه المعزوفة بعد أن اطمأن إلى رسوخ علاقتنا، ولكننا بدأنا نختلف وكان الاختلاف يتصاعد.
كان في البداية يثني على وجهات نظري ويطري ذوقي ويمتدح ذكائي. كنت في عينيه نموذجاً للمرأة الكاملة. لم أستطع أن أقيّم إعجابه آنذاك، فتطورت علاقتنا سريعاً.كان إعجابنا متبادلاً وكان هناك اتفاق غير مكتوب بيننا أن نتزوج بعد الطلاق الذي نراه آتٍ لا ريب فيه، ولكن مشاعري نحو رامي لم تتحول في يوم ما إلى حب، كنت أحس مع مرور الزمن أن هناك شيئاً ما في شخصيته ( يباعد ما ... ) بيني وبينه، ثم أدركت
بوضوح شديد عبر سنوات تلك العلاقة ذلك الشيء أو تلك الأشياء التي بدأت تباعد مابيننا والتي أدت إلىإنهاء
تلك العلاقة.(1/19)
لم يأتِ قراري هذا طفرة بل كانت له مقدمات. ذكرتُ لكم مايكفي منها، ولكني لم أرو لكم مقابلة زوجته لي ذات يوم. كانت امرأة جذابة، طبيبة ومثقفة، سأنقل لكم بعض المقاطع من حديثها دون تدخل:
ـ نحن في هذا البلد نعيش في شبه قرية، هكذا بدأت، قصة صداقتك مع رامي بدأت تلوكها الألسن. لا تظني أنني جئت لأقول لك هذا عيب، ابعدي عن زوجي، هذه ليست بضاعتي، إنما جئت لأثبت لك كامرأة أن رامي حالة نموذجية تحتاج إلى عيون كثيرة كي تراه من جميع الجهات ومن الداخل أيضاً. سمعتُ عنكِ أنكِ عاقلة وتحاكمين الأمور بتبصر شديد، ولكن مع ذلك خشيت عليك الوقوع. قد لا تصدقين دوافعي هذه ولكني لست ملزمة تجاهك بتقديم وثيقة تثبت حسن نيتي، المهم أن تعرفي أن رامي يركز كل ذكائه في إرضاء من يطلب وده، وحينما يقع بين يديه يكشر عن أنيابه وهي أنياب سامة أحياناً. والمأسوي في هذا الموضوع، وهو مايستحق بحثاً نفسياً معمقاً، أنه يوقع في حبائله من لا يريده ومن يضطر لمعايشته على مضض. ماذا أقول لكِ. كان أيام الخطبة يصغي باهتمام ـ هكذا كما يبدو ـ لما كنت أقدمه من وجهات نظر في أمور كثيرة، وكان يعجب بثقافتي ومحاولتي المستمرة أن أكون مواطنة ذات دور، وبعد الزواج أصبحت الثقافة في نظره أمراً مزعجاً، والمثقفون أناس فاشلون، متزمت رغم معايشته مجتمعاً أجنبياً لسنوات طويلة. عالمه أشبه بثقب الإبرة، لا يهمه سوى بطنه وجمع المال وما عدا ذلك إلى الجحيم. في بداية زواجنا كان يعاتبني بخبث لاهتمامي بمرضاي وعطفي عليهم وصدقي معهم، ثم بدأ يُنظِّرْ، من يريد أن يعيش عليه أن يكذب ويخدع وإلا فلا مال ولا رفاه. يحتقر مرضاه، ولا يجد فيهم من مزية سوى أنهم يدفعون. ثقي بأني لن أكمل المشوار معه مهما كانت الظروف(1/20)
تحدثتْ بصدق وحرارة وفتحت عينيّ على جوانب كثيرة كنتُ غافلة عنها. ولم يعد رامي بالنسبة لي أكثر من زميل. لكنه لم ييأس، حاول إقناعي بالعدول عن قراري هذا ولكني كنت عازمة على الانتهاء منه إلى الأبد. وحينما طلق زوجته، فكر بأنني سأوافق على الزواج مباشرة. أعرفه كيف يحلل الأمور. لقد حضر الحفلة وقدم الهدية وهو على ثقة مطلقة بأن كل شيء سيسير على مايرام.
بعد الحفلة، زارني عارضاً الزواج فرفضت بحزم، وبعد أيام، نعم بعد أيام، سمعت أنه تزوج، فحمدت الله أنه وجد من ترى فيه أنه مرغوب جداً.
ـ 4 ـ
الدكتور حسين
تعرفتُ عليه منذ خمس سنوات. كان في حدود الأربعين. عازب ويبدو عليه أنه سيبقى كذلك. إنه أشبه بلوح الشمع،لا إشعاع ولا حيوية، باردُ يذكر بالمناطق القطبية؛ لا يجيد الضحك من القلب. ورغم الجليد الذي يتراكم في داخله، كانت تطارده دائماً إشعاعات هامسة حول محاولاته الجنسية للتقرب من الممرضات. إنه رجل عملي، يعرف مايريد بدقة، لا تسكنه أحلام في علاقاته بالمرأة، دقيق وكأنه آلة مبرمجة.
الجانب الهام في شخصيته والذي كنتُ أكبرهُ عليه ولعه بالمطالعة وانفتاحه على الثقافة العالمية. قدم لي ولغيري الكثير من الكتب الهامة. ينتقد الكثير من الظواهر في حياتنا ويمارسها بفجاجة. يحمل رؤية متكاملة ولكنها جافة جامدة تفتقر إلى حرارة الإنسان. قال لي ذات مرة:
ـ دكتورة سارة اسمحي لي أن أعرف لك الإنسان. إنه معدة وجنس وعقل، إشباع هذا الثلاثي يعني السعادة، وما عدا ذلك أضغاث أحلام، وأوهام لا علاقة لها بالواقع الفعلي، فما رأيك؟
ـ عالمك هذا أرفضه، أمقته. إنه سجن مسموح فيه النشاط الجنسي.
قابلني بعد الحفلة، سلم عليَّ ببروده المعهود ثم سألني:
ـ عفواً دكتورة سارة، لقد عرضتُ عليك الزواج في الحفلة، فهل فكرتِ في ذلك؟
ـ دكتور حسين، نحن زملاء والأفضل أن نبقى كذلك.(1/21)
ـ أليس من الأجدى أن نكون زوجين، عمرنا متقارب، وضعنا الاجتماعي والثقافي ... . ثم ... إني أرتاح لكِ وأتوقع أن تكون حياتنا معقولة.
ـ سامحني أن أقول لكَ أن كل العوامل التي ذكرتها غير كافية ـ في نظري على الأقل ـ لبناء حياة زوجية سعيدة. أرجوك أن تنسى هذا الموضوع.
أجاب دون تأثر مع بسمة خفيفة ارتسمت على وجهه: كما تشائين.
ـ 5 ـ
الدكتور كمال
التحق بمستشفى الشرق منذ ثلاث سنوات. سبقته أخباره، فلقد كان سياسياً في يوم ما، ولكنه هجر السياسة فجأة وعاد إلى عمله كطبيب، أول مايخلفه من انطباع حيويته الزائدة وحساسيته المفرطة. بعد تعارفنا بفترة قصيرة قال مازحاً:
ـ دكتورة سارة هل قال لك أحد إنك غجرية، قسماتك، زينتك، لباسك، كلها تؤكدأنك غجرية عظيمة.
ـ لا، لم يقل لي أحد من قبل. ولكن هل هذا مدح أم ذم؟؟
ـ إنه مدح شديد. فأنا أحب الغجر وحياة الغجر. الغجر يحبون الحياة إلى درجة التصوف.
ـ إذن أنا غجرية حقاً.
ـ هذا ما أراه، ثم ضحكنا..
سرعان ما تنامت علاقتي بالدكتور كمال إلى حد أن رامي بدأ يتضايق من هذه العلاقة، ويحاول أن يفتري عليه بأكاذيب ليس لها من وجود سوى في ذهنه المريض.
كان مخلصاً في عمله بشكل ملفت، العمل عنده مقدس ورعايته للمرضى نموذج يحتذى، يداوم صباحاً ومساء فهو لا يملك عيادة خاصة، رقيق مهذب مع الصغير والكبير. الآخرون، القيم الجديدة، العالم القادم، احترام الرأي الآخر، العقلانية، التسامح ... . تعابير يرددها دون كلل أو ملل، كنت حريصة على الحوار معه، ففي كل حوار يولد في داخلي فكرة جديدة، أحاسيس خصبة.
قلت له ذات مرة ما رأيك في القائلين بأننا نولد لنواجه مأساتين، مأساة الوجود كوجود ومأساة الوجود الاجتماعي؟(1/22)
قال: سارة العزيزة، الموت لا يُقهَر ولكننا ننتصر عليه باجتثاث الخوف منه، يعني أن نحب الحياة وكأننا خالدون فيها. أما المأساة الثانية فهي من صنع الإنسان وهو مسؤول عن قهرها. ثم تابع بلهجة خطابية يداخلها مزيج من الجد والهزل: الحياة رائعة أيتها الغجرية العظيمة فلنحيها بفرح ولنعمل بكل مانملك ليعيشها الآخرون كذلك.
إني أرى يا سارة أن الفرح عمل جماعي كالضحك تماماً، هل يمكن للإنسان أن يضحك بمفرده من صورة كاريكاتورية أو نكتة أو طرفة؟ كذلك لا يمكن أن نفرح فرحاً حقيقياً إن كان الآخرون غائبين أو غارقين في المتاعب والهموم.
كان كمال منعطفاً في حياتي وواحة أمان ألجأ إليها كلما ادلهمت عليَّ قسوة الظروف. يسمعني وعيناه في عيني، يلتقط كل سكنة وحركة ويحاصرني بأسئلة محرجة. أستطيع أن أقرر دون تردد أن علاقتي به كانت من العوامل الهامة التي سرَّعت في وقف علاقتي بالدكتور رامي. ومع ذلك لم يحدثني ولو مرة عن حياته العائلية، إلا أنني عرفت وبطرقي الخاصة أن زوجته مصابة بمرض عضال يصعب الشفاء منه، كان ذلك الجانب، كما يبدو، سراً دفيناً يشبه تماماً علاقتي المقطوعة برامي. يطالع باستمرار ويحرص على أن أشاركه في قراءاته، وكان يهتم بشؤون العالم ككل ويسعده أن نعيش ثورة الاتصالات ويؤكد بغبطة بالغة:
ـ لقد أصبح العالم قرية صغيرة..
قلتُ له بعد التغيرات الكاسحة التي طرأت أخيراً على العالم: لقد هزني ماحصل، فما رأيك أنت؟
ـ لا تستعجلي الأمور، المهم أن ندرك أن الوصاية على الناس خطيئة تاريخية فاحشة.
تابعتُ: هل لي أن أعرف رأيك في الدين؟
ـ ولماذا اخترتِ هذا الموضوع بالذات؟
ـ بصراحة لأنني ألاحظ أن لك موقفاً خاصاً كثيراً ما أشتم منه أنك ملحد.
مرت فترة صمت، أشعل سيكارته بهدوء وأخذ نفساً عميقاً، ثم قال:(1/23)
ـ هل تعلمين أن أول كلمة أرددها بعد استيقاظي هي كلمة الله، وهل تعلمين، أن أعذب كلمة أسمعها هي ياالله خارجة من فم مظلوم، أو مقهور يشكو أمره إلى السماء. من لا يحب الله لا يمكن أن يكون إنساناً. أنا مؤمن ولكني لست مستعداً أن أقدم كشف حساب لأحد عن هذا الجانب. إنه جانب شخصي بحت، ولذلك ورغم احترامي العميق لكل الأديان إلا أنني لست مؤمناً بقيام دولة على أساس الدين.
كان يحيرني، يعذبني، يتعبني، وأحس أحياناً أنه يتحداني، ولكنه في الوقت نفسه، كان يحترم رأيي، ويؤكد أنه ليس من حق أحد أن يدعي امتلاك الحقيقة فذلك في رأيه طريق الاستبداد والعنف، فالآراء اجتهادات، مجرد اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب.
بصراحة مطلقة أصبح كمال صديقاً لا أستطيع البعد عنه، وكنت أخشى خشية شديدة أن يعرف بعلاقتي القديمة بالدكتور رامي، كنت أتساءل بيني وبين نفسي هل تسربت إليه أنباء تلك العلاقة؟ وهل استطاع رصد علاقتي الجديدة برامي؟ كان هذا السؤال أشبه بكابوس يؤرقني ويثقل على روحي.
وكانت الحفلة، وما حدث فيها مناسبة جيدة للتحقق من هذا الموضوع. وفي أول لقاء بيننا بعد الحفلة سألته: ما رأيك بالدكتور رامي؟
ضحك ضحكة طويلة ثم أجاب: كان الأحرى بك أن تسأليني هل تعرف العلاقة بيني وبين رامي؟ توقف قليلاً، فارقته الضحكة وتغيرت ملامح وجهه، ثم أردف: نعم أعرفها، وأنا حزين جداً لذلك، إنه لا يستحقك أنت الغجرية العظيمة، أنت سارة العزيزة.
ران عليَّ صمت ثقيل، لم يستطع أن يميز نوعية علاقتي الجديدة برامي، ولا كان بوسعي إبلاغه قراري الحازم بعدم الزواج من رامي وخروجه من حياتي إلى الأبد. داريت جرحي فسألته: ما الذي اعتراك في الحفلة، غادرتها قبل الجميع دون كلمة وداع، ابتسم وقال بهدوء: هذا حديث طويل، حديث ذو شجون يحتاج لجلسة هادئة، هل لي أن أزورك غداً مساء في بيتك لنتحدث في هذا الموضوع؟ أجبته دون تردد: بكل سرور.
ـ 6 ـ
اللقاء(1/24)
لا أعلم لماذا شغلني ذلك اللقاء، ولماذا فجر في ذهني توقعات غامضة، وأثار أسئلة لا حصر لها، نمت بعد الظهر. وحينما استيقظت اغتسلت بماء دافئ، وبدأت أستعد، ارتديت فستاناً غريب الطراز لم ألبسه من قبل، ووضعت مكياجاً فاقع الألوان، وسرحت شعري لينسدل على ظهري بحرية، وتعطرت بعطر أثنى عليه الدكتور كمال نفسه في يوم ما.
وحينما انتهيت ألقيت نظرة فاحصة على نفسي، فاكتشفت لأول مرة أنني بالفعل غجرية، بدءاً من أحمر الشفاه فالحلق الطويل ذي الشناشيل إلى العطر فالفستان. وفي تمام الساعة الثامنة قُرع الجرس. تسارعت نبضات قلبي، هرعت مسرعة وقبل خطوة أو خطوتين تصنعت الهدوء وفتحت الباب، كان يقف وبسمته تغمر وجهه، رحبت به ترحيباً حاراً ودخلنا معا إلى غرفة الاستقبال. قال لي:
ـ أنا لست ضيفاً، حبذا أن نجلس في غرفة مكتبك، أجبته بعفوية:
ـ أنت في بيتك.
دخلنا غرفة المكتب. جلس على أول كرسي صادفه، وجلستُ قبالته. وأعدتُ الترحيب به، شكرني وهو ينقل بصره في أركان الغرفة ليستقر أخيراً عليّ. تفحصني بدقة واستقرت عيناه على عيني، ثم قال أنت رائعة كل يوم ولكنك الآن أروع من الروعة، أنت غجرية عظيمة. ضحكت، قلت له مداعبة: "هكذا أنت تريدني"، فعلق بسرعة، وهل تفعلين ما أريد؟ أجبته عندما ينسجم مع قناعتي. ضحك وطلب القهوة. كان تحضير القهوة فترة راحة لكلينا، وحينما وضعتُ فنجان القهوة أمامه تساءل بلهجة جدية: هل تعلمين لماذا جئتُ لزيارتك؟ جئتُ لسبب قد لا يخطر ببالك مطلقاً.
سرت رجفة في أوصالي، سألته: ألا يمكنني أن أخمن، أجاب بثقة، لا، لا أعتقد، مرت فترة صمت مرهقة، كان سارحاً، مشتت الذهن والأفكار، قرأت ذلك من عدم قدرته على الثبات على جلسة واحدة. قال لي فجأة وبصوت متوتر وعيناه على نافذة تنسدل عليها ستائر حريرية: سارة إني أحبك، نعم إني أحبك، هل توقعتِ ذلك، هل خطر ببالكِ ذلك؟ أجبته دون تفكير: لا، لم أتوقع ذلك.(1/25)
تابع: إنها قصة طويلة، بدأت بعد تعارفنا بفترة قصيرة، سرعان ما تحول إعجابي بك إلى حب عاصف، أصبحت صورتك تسكن روحي ليل نهار. كنت أحس بعلاقتك بالدكتور رامي فيزيد شقائي وعذابي. كنت أتساءل كيف أن روحاً كروحك تنسجم مع روح مشوهة كروحه. وكانت ارتباطاتي العائلية مصدراً آخر للصراعات التي استفحلت في حياتي. ثقي بأني حاولت بجهد بالغ أن أجتث حبك من قلبي، وأن أهجر هواكِ لقناعتي أني لستُ قادراً على تحقيق ماقد تحلمين به، خاصة وأن أحلامنا بشكل عام يشكلها المجتمع الذي فيه نعيش، قد نرفضها نظرياً ولكننا عملياً نجد أنفسنا أسرى لها، أقول لقد حاولت ذلك بجهد صادق، ولكني كنت كمن يحاول أن يطفئ النار بأوراق الغار، وأن يحجب وجه الشمس بغربال لم يبق منه سوى إطاره. أحبك يا سارة، أعبدك، أقدسك ولو أتيح لي أن أقدم لك روحي هدية لما ترددت لحظة واحدة.(1/26)
كان منفعلاً وعيناه لا تستقران على مكان محدد. توقف لحظة ثم أردف: نحن كبشر نحب بجنون حينما نكون في سن الشباب ولكني الآن وفي هذه السن أي حب هذا الذي يتجذر في كل خلية من خلايا جسدي، ماذا أسميه؟ ماذا يسميه الآخرون؟ أنا لست من الذين يؤمنون بأن الحب خاص بفترة معينة من فترات العمر، ولكن في الوقت نفسه يذهلني حبك لأنه طغيان غير معهود في سني. قاطعته: كمال أنا أعرف أنك قادر على حل الكثير من المشاكل، تبحث عن الأسباب، عن الجذور، ثم تجد الحل، فلماذا لم تستطع ضبط عواطفك؟ أطرق صامتاً وقد انكسرت حدة انفعاله ثم حدق فيَّ قائلاً: لك الحق، وتنهد تنهيدة عميقة ثم أكمل: من السهل يا سارة أن نحل مشاكل الآخرين لأننا نستطيع أن نراها من جميع الزوايا، أما مشاكلنا فنعجز عن حلها، لأننا محكومون برؤيتها من بعض الزوايا، وأحياناً نراها من جوانب قد تزيدنا تشويشاً وتضاعف من ضياعنا، حاولتُ، نعم حاولتُ أن أفسر حبي لكِ وأن أضع يديَّ على الأسباب الكامنة وراء جنوني بك، هل يمكن أن يكون السبب كامناً في عدم انسجامي الروحي مع من هم أقرب الناس إليَّ؟ هل يمكن أن تكون الرغبة بالانتصار على واقع شديد التعقيد قاسي الوطأة سبباً وجيهاً؟ هل أردتُ بصورة لا واعية أن أصالح بحبك العالم أو على الأقل أن أهادنه؟ هل هو البحث عن الدفء في عالم شديد البرودة؟ أسباب عديدة طرحتها وناقشتها ولم أفز بجواب حاسم.
توقف، أخرج علبة السكائر من جيبه، ووضعها على الطاولة الصغيرة أمامه ثم أردف قائلاً: ثم لا تنسي كونكِ أنتِ تختلفين عن النساء في كثير من الجوانب. توقف، عدل جلسته وكأن الانفعال قد أنهكه، سحب سيكارة ثم أشعلها بيد مرتجفة وساد صمت ثقيل قطعته محاولة أن أخفف وطأته: مارأيك بالويسكي، لدي قليل منه تركه أخي قبل أن يسافر إلى الخارج؟ ابتسم ابتسامة حزينة
ووافق مباشرة.(1/27)
غادرت الغرفة ورأسي أشبه بخلية نحل. المهم رجعت بالويسكي والجليد وكان في الزجاجة نصفها. وضع قطعتي جليد في الكأس وصب كمية كبيرة من الويسكي وجرعها دفعة واحدة. أعاد صب الكمية نفسها تقريباً. أشعل سيكارة أخرى وبدأ يعب أنفاساً متلاحقة ثم التفت إليّ وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة مفعمة بالمرارة قال: ليس غريباً يا سارة أن أصاب بهذا الجنون، فالطبيعة من حولنا تمر بالأعراض نفسها أحياناً. بماذا نفسر البراكين وهبوب الأعاصير والهزات الأرضية؟ طبعاً هناك أسباب ولكن الأعراض أعراض مجنونة في كل الأحوال.
جرع كأسه الثانية ثم صب الكأس الثالثة. شعرت فجأة بحاجة ماسة لفنجان قهوة ثان، استأذنته وقبل أن أغادر الغرفة وضعت شريطاً من الموسيقى الهادئة في المسجلة وشغلتها. حينما عدت كان واقفاً أمام لوحة وفي يده كأس الويسكي. بدا الحزن في عينيه وآثار السكر واضحة في حركاته، قال وهو يحاول أن يبتسم:
"حينما ولدتِ، قالت لي أمك تعال يا كمال ألق نظرة على سارة، هل هي التي وصفتها لي؟ اقتربت منكِ، الوجه نفسه الذي حلمت به. كنت سارة التي أريد، شكرت أمك، قبلت يديها وانحنيت أشتم رائحة عنقك، خشيت عليك من القبل، كنت لا أسمح لأحد برفع صوته عليكِ- هذه سارة حبيبتي دعوها تجمل العالم، كان قلبي حارساً أميناً لكِ، إذا انحسر عنكِ الغطاء وأنت في سريرك الصغير اندفعتُ لأضع يديّ على جسدكِ الغض ليعوض الحرارة التي فقدها، وحينما ماتت أمك شاركتكِ الأحزان، وعندما مات أبوكِ بكيتِ بدموعي، لم أغب عنكِ لحظة واحدة، كنتُ دائماً معكِ وكان فرحي بصباكِ عرساً رقصت فيه كل غجريات العالم، كنتُ لا أحب حامد، فهو شاب شوهته السلطة والتسلط، ولم أحب رامي فقد شوهته المفاهيم المنحطة وروح الجشع والخسة وضيق الأفق، أما علي فهو المستقبل".(1/28)
كان يمثل المشاهد كما لو كان على خشبة مسرح. هل كان يهذي؟ هل أصيب بمس من الجنون؟ كنت أرقبُ حركاته بدهشة، وشعرتُ بأني أخطأت خطأً كبيراً في تقديم الويسكي له. ركزّ بصره عليّ ثم تابع وهو يترنح: سارة إني أراكِ وفي حضنكِ علي الصغير، له نفس عيونك الجميلة، يرضع من صدرك الحنون حليباً أنقى من مياه الينابيع، إني أراكِ وأنت إلى جانبي في السرير تغطين في نوم عميق وتهرين كقطة أنيسة لها عينان ساحرتان، سارة إني أحبك. قال الكلمات الأخيرة بضعف شديد وكأنما فقد سيطرته على نفسه تماماً ثم جلس. ماذا أقولُ لكم؟ لقد تأثرت تأثراً بالغاً وشعرت للحظات إني أحبه منذ الأزل، وأن العالم بدونه صحراء صمتها مخيف ورياحها مرعبة، ولكني لم أتوقع، بل لم أتخيل، قصة حب بهذا العنف، أذهلتني حرارة العواطف.
رفع بصره نحوي ونادى بصوت ضعيف: اقتربي مني أرجوك.
اعتراني شيء من الارتباك، ماذا يريد مني ونحن وحيدان وهو سكران حتى الثمالة ؟
أجبته: أراك من هنا بصورة أفضل.
-أتخافين مني يا سارة؟
-معاذ الله أن تساورني الشكوك من تصرفاتك.
ضحك بصوت عالٍ ثم عقب: لو قبلتكِ لكانت قبلتي مشروعة جداً، ولكن ذلك لن يحدث، فأنا أريد منك روحك أولاً. توقف قليلاً ثم أردف: هل تحبينني يا سارة؟
شعرتُ مباشرة وكأنني أمام لجنة تحقيق وعليّ أن أجيب عن سؤال لم أطرحه على نفسي من قبل. فكيف أرد هكذا وبسرعة؟ أجبته بهدوء مصطنع: كمال حبذا أن تعفيني من الإجابة الآن. انتفض، امتقع لونه، زاغ بصره وقال وكأنه يحدث نفسه: من يحب رامي لا يمكن أن يحبني. حينما سمعت ما قاله شعرت أنه أهانني في الصميم، فأجبته على الفور بانفعال شرس:
نعم من يحب رامي لا يمكن أن يحبك. كنت أعني ما أقول تماماً وما يعنيه أيضاً، لا أجافي الحقيقة وأرد الصاع صاعين. نهض وهو ثمل تماماً وسمعته يقول بصوت متهالك متقطع سامحيني يا سارة إن أزعجتك، وداعاً.(1/29)
نهضتُ، وقفت قبالته، اقتربتُ منه، شممت رائحة العطر الذي كان به مغرماً ممزوجة برائحة الويسكي، وتمنيتُ في هذه اللحظة أن يحضنني وأن يقبلني آلاف القبلات وأن أقول له ما يرضيه. رافقته حتى الباب، خرج دون أن يلتفت وقفلتُ الباب ودخلت.
انفجرت في بكاء عنيف، لا أعرف لماذا، ولا أريد أن أعرف. تمددتُ على سريري دون أن أنام، وفي الفجر نهضت، تناولت قرصاً منوماً ثم استسلمت للنوم، ورأيت كمال في نومي يعتذر لي عن الإساءة ويقبلني بحرارة.
-7-
الرسالة
في اليوم التالي ذهبتُ إلى المستشفى وأنا مهدودة القوى. سألتُ عنه، لم يداوم وعرفت أنه مريض. عذبني ذلك اللقاء وأثر على صحتي. غصت في أعماقي أبحثُ عن جواب شافٍ لهذا السؤال: هل أحب هذا الرجل؟ تساءلت لماذا كنتُ حريصة إلى حد المبالغة في إخفاء علاقتي بالدكتور رامي عنه؟ لماذا كنتُ أخصه بمواضيع لا يمكن أن أطرحها على أحد؟ لماذا كنتُ راغبة بمعرفة دقائق حياته الشخصية، ولماذا يسعدني أن أكون جميلة جذابة في عينيه؟ وأجبت نفسي: نعم إني أحبه، ولكنني في الوقت ذاته كنت أدرك الارتباطات التي تكبله والصراعات التي تستحكم بحياته وخاصة مرض زوجته، بين قطبي الرحى هذين كنت محشورة. باختصار أحبه وكنت أتمنى أن لا أحبه، هذه هي الحقيقة، حقيقة مرة ولكنها تعبر عن الموقف بدقة. بعد عودته توقعت أن يزورني صباحاً وكنت في شوق عارم لرؤيته، إلا أنه لم يأت حتى انتصف النهار. دخل عليّ وفي عينيه انكسار واضح. قال لي بلهجة محايدة وكأن ذلك اللقاء لم يتم: سارة عندي رسالة لك، هل يزعجك أن تقرئيها؟ قلت له ببرود مرسوم: لا، أبداً.
سلمني الرسالة ثم غادر، لم يرض أن يجلس. أغلقت الباب ومزقت الظرف على عجل وبدأت بالقراءة.
"سارة العزيزة(1/30)
لم يعد الصمت ممكناً، أصبح الصمت قاتلاً لذلك كان إعلاني دفاعاً عن النفس، كان بودي أن يكون بوحي عرساً بلا رصاص، فأنا لا أحب إطلاق الرصاص في الأعراس أو سوء الفهم بين البشر، لأنه ظلم يضاف إلى ظلم الطبيعة فيحول الحياة إلى مأساة، يختفي فيها العنبر ليسود فيها الحنظل، لا يهمني امتلاك جسدك بل يهمني امتلاك روحك أولاً. في عينيك سر من يفك حروفه لا يموت. ليكن حبك صرخة احتجاج على كل عفونات العالم، وبقدر ما أحبك ستكون الصرخة مجلجلة. سامحيني إن أسأت، أدفع عمري كي تبقى بسمتك كإشراقة الصباح، وفرحك كحقول قمح معطاءة، وعبيرك يعطر مساكب الفل والياسمين، أحبك بكل جوارحي، وأحس بأنك توأم روحي المعذبة.
نساء العالم كلهن يحلمن أن يكن مثلك، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. إني محموم بحبك ولكني سعيد حتى النهاية. فهو يغسلني من كل أوضار الحياة ويمنحني القدرة على المقاومة. من يفهمك، من يحل طلاسم عوالمك الداخلية يستحقك عن جدارة. لو أتيح لي أن أعلن حبك على الملأ لما ترددت لحظة، فالوردة لا تخجل من عطرها، والصبية لا يعيبها صدرها، والأرض لا تحرجها زهورها، لن أتخلى عن حبك، إنه انتصار على قسوة الواقع وحتمية الموت، إنه جنون مخطط ضد جنون عشوائي، أحبك نعم أحبك".
قرأتُ الرسالة مرات عدة وحاولت أن أفهم ما وراء الكلمات والحروف، وتوقفت طويلاً عند نهايتها "لن أتخلى عن حبك، إنه انتصار على قسوة الواقع وحتمية الموت، إنه جنون مخطط ضد جنون عشوائي". إني أعرف طبيعته، فهو مغرم بتشريح مشاعره وتشخيص الأسباب والدوافع. إنه يحبني بجنون، ولا يسمح لأي سبب كان أن يوقف هذا السيل من المشاعر، إنه الجنون بقرار في مواجهة قدر مجنون اعتباطاً. فماذا أفعل أنا؟ وما هو التصرف الحكيم في مواجهة هذا الموقف الجديد في "عمري الجديد"؟
-8-
نهاية بلا نهاية(1/31)
الشهور التي أعقبت الرسالة حزينة. لم يعد كمال يزورني، كان يراني من بعيد فيقترب ليلقي التحية باستحياء ثم ينسحب مباشرة. كنت أدركُ حجم الصراعات العنيفة التي تفتك به ومدى إحساسه بالإحباط الشديد. لقد فقد حيويته ورافقته كآبةٌ تمزّق القلب. لم يجد في زواج الدكتور رامي فرصة مواتيه لعودة العلاقات بيننا وإن وجد فيه- كما أتصور دليلاً ساطعاً على خطأ تقديراته المتعلقة بمشاعري نحو الدكتور رامي. وفي الوقت نفسه أدرك بحس سليم أن عدم ردي على سؤاله عن مشاعري نحوه يخفي وراءه صراعات كانت تتنامى وأصبحت الآن مستفحلة.
إنه يحبني ويريد الزواج مني، لقد كشفته تصوراته وخيالاته ليلة اللقاء، ولكن أنى لي أن أوافق على مشروع كهذا؟ إني أعترف إني أحبه وأتخيل أنه ليس في هذا العالم من سيحبني حبه، أنا واثقة من ذلك، ولكن بعد انتظاري الطويل أتزوج رجلاً كهلاً له زوجة مصابة بمرض خطير وأبا لابنة صبية وابن شاب؟ كم سيكون الأمر قاسياً على تلك الزوجة المسكينة، وقد يكون سبباً في موتها؟
أسئلة مضنية تلاحقني وتنغص عليّ عمري. لم توافق واحدة من اللواتي لجأت إليهن على فكرة الزواج من كمال، يناقشن الأمر بمنطق الربح والخسارة ولا شيء سواه.
قالت لي إحدى الصديقات الثريات:
-هل كمال غني؟
-لا، أبداً، ليس هناك ما يدل على ذلك.
-كيف إذن يفكر بالزواج، إن أمره عجيب حقاً، أنا لم أسمع بمثل هذه القصة في حياتي. كبار السن الأغنياء هم الذين يفكرون بالزواج مرة ثانية. أنت مجنونة يا سارة إن وافقت على هذا الرجل.
وقالت لي صديقة أخرى مطلقة بعد سنة من زواجها.
-أنا على يقين أنه سيهرب مع مشاكله إليكِ، وقد يترك لك المشاكل ويهرب ثانية.
وقالت ثالثة تفخر بثقافتها:
-أنا لا أنكر أن الحب في مثل سن صديقك ناضج كثمرة شهية، ولكن زوجة مريضة وأولاد ومشاكل.. أنا لا أرضى لكِ بمثل هذا الزواج.(1/32)
لم تساعدني آراء الآخرين على اتخاذ موقف، كانت تشوشني وتزيدني بلبلة. وكنت أحياناً أضيق ذرعاً بصعوبة الموقف الذي وضعني فيه كمال فأسقط عليه بعض المشاعر السلبية، ثم أعود إلى نفسي لأواجه فيضاً من مشاعر الحب الذي يتوهج في حنايا قلبي.
ماذا أفعل؟ كان السؤال الذي يلازمني في نومي ويقظتي، وكان وجود كمال معي في العمل ورؤيته يومياً يؤجج عواطفي ويضاعف من إحساسي بوحدته وعذابه "لن أتخلى عن حبك، إنه انتصار على قسوة الواقع وحتمية الموت، إنه جنون مخطط ضد جنون عشوائي". أعرف ما يعنيه: إذا كان الحب في مرحلة الشباب ينسجم مع قوانين الطبيعة، فالحب في مرحلة الكهولة هو محاولة للانتصار على تلك القوانين نفسها، وهي محاولة جديرة بأن تعاش، ففيها من العواطف بقدر ما فيها من الفكر، إني معه، إنه النضوج الإنساني في ذروته.
لم أصل إلى قرار، أعتقد أن ذلك مستحيل في الوقت الحاضر. سأترك ذلك للزمن عله يضع نهاية لحكايتي التي ما زالت بلا نهاية].
***
جدتي
رغم أنها عاشت في بيئة فقيرة مادياً وروحياً، كانت جدتي –طيّب الله ثراها- تتمتع بغنى روحي عزّ نظيره.(1/33)
كانت تصلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، تصوم لأن الصوم يفجر في قلبها ينابيع الحنان على المعدمين والبائسين، تتعبد الله لأن العبادة طريقها إلى التمسك بالقيم الإنسانية النبيلة. وكان الناس في قريتنا، التي هجرها والدي منذ مطالع شبابه، وفي القرى المجاورة يحجون إليها طالبين البركة والدعاء. لم يجرؤ أي متنفذ على دعوتها لأعمال السخرة، فاحترامها يصل إلى حد التبجيل. ورثت عن أمها خبرة في معالجة بعض الأمراض البسيطة، وكانت تقوم بذلك لوجه الله. تُقبل على مساعدة الجميع وكأنها مكلفة بذلك، دخلها البسيط كان مشاعاً لمن هم أفقر منها. تحفظ كثيراً من الزجل وتردده بمسرة، تختزن ذاكرتها الكثير من الحكايات الشعبية الشائقة. حينما كانت تتكلم عن العلاقة بين الرجل والمرأة يزدحم حديثها الشهي بالإشارات الجنسية الصارخة دون أن ترى في ذلك تناقضاً مع مسلكها الصارم. وكنتُ إذا ناقشتها في أمر ما وفضحتني روح الشك المبكرة، لا تعنفني بل تسمع رأيي باهتمام شديد، ثم تدعو لي بالهداية بقلب مفعم بالتسامح والمحبة. وكانت آخر زيارة لي –قبل وفاتها- وأنا في الرابعة عشرة من عمري ذكرى يصعب عليّ نسيانها.
كنا ننام على سطح البيت، نسهر، نتحدث، نتمتع بنسائم ليالي الصيف المنعشة. تشاركنا السطح مجموعة من العجائز، حكاية إثر حكاية ويطيب السهر. أستلقي على الفراش بجانب جدتي، أعد النجوم وأُصغي إلى نباح الكلاب وصرير الجنادب الرتيب ثم أغرق في النوم وأحلم بحكايات العجائز الغريبة. وعند بزوغ الفجر أسمع صوت جدتي وهي تصلي وصياح الديكة يؤذن بمقدم نهار جديد.(1/34)
لقد حان وقت الذهاب إلى الكرم، أنهض مسرعاً تصافح عيناي منظر القرية النائمة على سفح الجبل، أحتضن يد جدتي وننطلق عبر أزقة القرية، صمت محبب ونور الصباح يزحف بطيئاً كسير جدتي تماماً. نعلو الجبل، تستقبلنا نسائم الفجر الندية عبقة برائحة الأرض. الطيور الصغيرة تغرد من حولنا ومن بعيد نلمح أشخاصاً يسيرون نحو الكروم. أقفز من مكان إلى مكان ومن صخرة إلى أخرى وأحس بأن العالم ملعب فسيح. شعور عميق بالرضا أقرأه في قسمات وجه جدتي الطيب. نسير بين الكروم، نسمع صوت صبية تغني عن الحب فتبتسم جدتي وتقول: إنها عاشقة، وحين أسألها تعشق من؟ تجيبني بصوت هادئ: تعشق الحياة، لقد نضجت. أعقب بخبث طفولي: وحان وقت قطافها، تضحك من قلبها وتقول: مهلاً يا أحمد ما زلت صغيراً، فأضيف مازحاً: الصغار أيضاً يعشقون.
نصل الكرم، نتسلق سياجه القصير ثم ندخل. شجيرات التين محملة بالثمار والدوالي بالعناقيد الشهية. أنتقل من شجرة إلى شجرة ومن دالية إلى أخرى كعصفور طليق حديث الطيران. جدتي تملأ سلتها الصغيرة ببطء منتج. أسمعها تدمدم أغنية عن الشباب وأفراحه، فأقترب متسائلاً بصوت جريء فيه كثير من الدلال والحب: هل أنتِ عاشقة؟
تتهلل أساريرها بفرح حقيقي وترد:
-أنا عشقت وانتهيت، أحببت جدك حباً ملك عليّ قلبي
-لكنه مات منذ زمن بعيد
-حبه ما زال حياً.
-ألا ترغبين في أن تعودي صبية وتعشقي من جديد؟
-لا أفكر في المستحيل
-إذاً لماذا تعيشين؟
-لأني أحب الحياة، أحبها تتدفق في شجيرات التين، أعشقها تتدفق في شرايينك قوية جارفة، أقدسها كامنة في الأرض التي تعطي بلا انقطاع.(1/35)
الشمس الخجلى لم تعد خجلى والحياة تدب من حولنا، الكون يستيقظ، تتضح الرؤية ويغمر النور كل شيء. تمتلئ السلة بالتين والعنب، تضعها جدتي على رأسها، نغادر الكرم، نسير في دروب ضيقة، نعلو الجبل، نطل على القرية، ننحدر، الطيور تملأ السماء والشمس تتوسد الشرق ضاحكة مفعمة بالنور والحرارة، ندخل القرية، نحس بنبض الحياة في الناس، في البيوت، في الأزقة الضيقة، في وجوه الأطفال وهم في انتظار التين والعنب. تمد جدتي يدها إلى السلة لتعطي بعضهم. نصل إلى البيت، لم يبق في السلة إلا القليل، أسألها:
-لماذا أعطيت البعض وأهملتِ الآخرين؟ ترد: أعطيت الذين لا يملكون.
-وهل تعطيهم في كل مرة؟
-طبعاً الحياة بلا تعاون جحيم لا يطاق.
أرى كلباً في انتظار جدتي.
وماذا يريد هذا الكلب؟
-إنه ينتظر فطوره.
تمد يدها إلى قطعة خبز كبيرة وترميها له، يلتقطها ويغادر. تعد طعام الفطور ثم تطلب مني أن أحمل ما تبقى في السلة لامرأة مقعدة أعرف بيتها. أحمل التين والعنب وأحمل في قلبي حباً عميقاً لجدتي.
****
مهرجان الحب
-1-
يقول عصفور لصديقه: ألا تلاحظ حزن تلك الشجرة، إن قلبي يكاد يتمزق لوعة وأسى عليها.(1/36)
يجيبه الصديق: ألن يعود النهر؟ إنه العلاج الوحيد في رأيي، فلقد كانت مغرمة به مفتونة بهواه، تشاركهما فراشة كانت بالقرب منهما وتقول: لا أحد يعلم متى يعود النهر، ولا أحد يعلم لماذا رحل. يسترعي انتباههم صوت خافت صادر عن أغصان الشجرة الحزينة، لقد كانت الأغصان تبكي بحرقة. تمر غيمة تعرف قصة الشجرة وترى دموع الأغصان فتسكب كل غيثها بكرم عفوي، تغسل دموع الأغصان وتروي ظمأ الأم للنهر الذي غاب فجأة. تنتشر الأخبار بين الأشجار عن حزن الشجرة حبيبة النهر المسافر، ويعلم الجميع أن مخاض الشجرة الجديد محفوف بالمخاطر، فالحزن العميق والكآبة المسيطرة وراء عسر المخاض. بكت الشجرات، بكت السروة في السر، بكى النرجس في الساحات، بكت الشجرات. جرت الأمطار ساقية، ولكن الشجرة الحزينة كانت تعلم أن الساقية ليست النهر، وأن النهر المسافر لم يعد بعد. كان فيما مضى ينساب وسط الحقول الخضر هداراً بحب الحياة، يمنح العطاء للجميع بلا ثمن، ويبحث عن حبيبة، كانت الشجرة آنذاك شجيرة صغيرة تضج حيوية، ويمور في جذعها الفتي شوق طاغٍ لحب يروي ظمأ شبابها ويناعة صباها، وحينما رأته أحبته، أحبها، تعانقا طويلاً، تعاهدا على الحياة معاً، كانت سعيدة به وكان سعيداً بها، خلف لها أغصاناً قوية تحميها هوج العواصف وزمهرير الشتاء.
-2-
الطيور المهاجرة بحثاً عن الدفء والحب تراه في بلاد بعيدة، ترى النهر ينساب صامتاً في أرض قفراء، تحوم حول ضفافه تسأله عن سبب هجرته، يبكي بصمت وغزارة، تتحول مياهه الباردة إلى مياه دافئة، تخبره عن مخاض شجرته العسير، يُصعق، يهدر، يزمجر، ينوح، تبكي الطيور والزهور البرية وآلاف الشجيرات التي نمت على ضفافه من جديد، لا بد من العودة، يقولها بصوت واضح، يجتمع الكل لوداعه، يحول مجراه ويسرع عائداً إلى بلاده وينشد في طريق العودة بصوت شجي دافئ:
من أجلك أعود
ومن أجل أغصانكِ
أعبر القفار والسدود، فمتى ألقاكِ(1/37)
يا سيدة الأشجار؟ يا ضوء النهار؟
على المحيط وحيداً أمتطي
شراعي، شوقي وحبك قاربي
وأغصانك مرافئي
فمتى نلتقي؟
يا سيدة الأشجار
يا ضوء النهار؟
قطع الفيافي والقفار، محيطات وبحار، سمع أغاني العاشقين البائسين تتردد في الغابات البكر وعند شروق الشمس وانبلاج النهار، حنينه كالسيل، كشلالات أسطورية في جبال شاهقة لا تسكنها إلا الأسرار، تسأله الجبال والسهول عن سر حنينه، تسأله الأشجار والغابات عن سر عودته، تسأله الأرض والسماء عن سر حبه، ولكنه لا يجيب، لا وقت للكلام، لا وقت للكلام.
-3-
يبدأ المخاض، يزحف الألم على الشجرة، تحيطها أغصانها بكل محبة، تحلم بالنهر يعانقها، يلامس جذورها، ترتاح على ضفافه كما كانت في أيام اللقاء الأول، تحلم به باسماً عبر السهول الملونة، تعانقه الأرض وتباركه السماء، تحلم به ضاحكاً من القلب الذي ما عرفت أرق منه ولا أنبل، تبكي بصمت ولكنها تحس في قرارة نفسها أن الغصن الجديد لن ينبثق بسهولة، تغني لها الطيور أحلى الأشعار، وتنشد لها الأشجار أجمل الكلمات، وتلقي لها الأرض عند جذعها أطواقاً من أزهار فاتنة ساحرة، ولكنها حزينة. يشتد الألم وتروح في غيبوبة، تبكي أغصانها، وتنوح الريح، وتتحسر الزنابق والفراشات.
-4-(1/38)
تسمع الأغصان صوت أبيها النهر قادماً من بعيد، تهتز، تتمايل، ترقص، تزغرد: لقد عدت إلينا في الوقت المناسب. يسمعهم، يحفر مجراه مسرعاً كالبرق، صاخباً كالرعد، هائجاً كالمحيط، حزيناً حتى الثمالة، تستقبله الغابات بأشجارها، والطيور بتغريدها، والأزهار بأريجها، والأعشاب برقصاتها، ولكنه يندفع نحو الشجرة، لا يرى أمامه سواها ، يعانقها عناقاً لاهباً، ينخلع قلبه لاصفرارها، تفتح عيونها، تراه، تدب الحياة فيها من جديد، تضع جذعها على ضفته، تشرب، ترتوي، تسيل دموع الفرح على أوراقها، ترشقه الأغصان بالزهور والقبلات، تضحك الشجرة، وفجأة ينبثق الغصن الجديد بيسر وسهولة، فتضحك الغابات ويدفق الفرح كمطر غزير، فرحت الشجرات، فرحت السروة في العلن، رقص النرجس في الساحات، فرحت الشجرات.
***
الرجال يبكون أيضاً
لا يكاد يصدق، لقد حدث كل شيء فجأة وبدون تمهيد، مكالمة هاتفية قصيرة تتأكد من اسم ابنه الذي يخدم حديثاً كجندي احتياط في بيروت، ثم يُطلب منه بعد ذلك عنوان منزله بالتفصيل، يحاول أن يستفهم عن أسباب هذه المكالمة، وعن الجهة التي تستوضح، ولكن خط الهاتف قُطع، عندها يدرك أن أمراً خطيراً قد وقع، وأن ابنه أحمد قد أصيب بمكروه. صحيح أنه لم يمضِ على ذهاب أحمد سوى بضعة أيام، ولكن المعارك طاحنة في بيروت والحصار حولها يشتد يوماً بعد يوم، لا يستطيع الجلوس، يود من أعماقه أن تكون أم أحمد إلى جانبه الآن، لكنها بعد يومين من مغادرة ابنها سافرت إلى بيت أهلها في دمشق، علها تهرب من مشاعر القلق والخوف التي انتابتها منذ مغادرة أحمد البيت، اصطحبت معها ابنتها وولدها الثاني وتركته وحيداً. قالت له قبل سفرها ودموعها تغسل وجهها:
"إن قلبك من حجر، لا يهمك غياب أحمد ووجوده في بيروت المحاصرة، لم تذرف دمعة واحدة على فراقه، كأن كل شيء من حولك طبيعي وعادي". لم يجبها، كان يقدر ظروفها، وهي في كل الأحوال امرأة.(1/39)
الرجال لا يبكون، قد يتألمون، يقتلهم الانفعال، يفتتهم الأسى ولكنهم لا يبكون، هكذا علمه أبوه.
لا يذكر أنه ذرف دمعة واحدة طيلة حياته، كانت بعض المواقف مؤثرة للغاية، وكانت تمور في أعمق أعماقه انفعالات تدفعه للبكاء والعويل، لكنه كان يبذل جهوداً خارقة لكبتها ولجمها. ينتقل في غرف البيت كالمحكوم بالإعدام قبيل تنفيذ الحكم، وتختلط في ذهنه شتى الاحتمالات والعديد من الصور، لقد هزته هذه المكالمة هزاً عنيفاً، ولا بد من القيام بعمل ما لمعرفة ما حدث. لم تمر سوى دقائق معدودة حتى قرع باب الدار، ينطلق كالسهم، يفتح الباب، يصعقه المنظر، أربعة جنود يحملون تابوتاً ملفوفاً بعلم البلاد، يتسمر في مكانه، يدخلون التابوت ويقدمون له العزاء، يعجز عن الرد، أحدهم يقبله والدموع تتقاطر في عينيه، وآخر يقول: "لقد استشهد أحمد، وهو يقاتل قتالاً ضارياً، مات ميتة الرجال". غادروا الدار وأغلقوا الباب من ورائهم، بقي والتابوت وحيدين في الدار التي خيم عليها صمت مميت.
لقد استشهد أحمد إذن، يحس بدوار شديد وخدر يبلد مشاعره، يجثو بجانب التابوت، يرفع غطاءه، ألواح الجليد على الجثمان، تمتد يدان معروقتان مرتجفتان باتجاه الوجه، وتشخص عيناه وهو يحاول رفع الكفن عن الوجه، ينجح، ويطل وجه أحمد، شعره ووجهه مرطبان بماء الجليد، عيونه مغمضة ولونه أصفر فاقع. يحس باحتراق في أحشائه يصل حنجرته، ويسمع بوضوح جريان الدم في عروقه. يمط رقبته لتقبيل أحمد، يغمر الوجه بالقبلات وتتغلغل يداه في الشعر الأسود، ثم يرفع رأسه وعيناه لا تفارقان قسمات الوجه.
الرجال لا يبكون، يتألمون، يقتلهم الانفعال، يفتتهم الأسى، ولكنهم لا يبكون.
يقفز كالملسوع، لا بد من إبلاغ أم أحمد، ولكن كيف؟(1/40)
أيقول لها تعالي بسرعة، فقد جاء أحمد في إجازة قصيرة؟ لا، إن هذه الكذبة قد تحطمها نهائياً، إذ كان أحمد وحيدها لفترة طويلة، سيقول لها إن أحمد وصل مجروحاً جرحاً بسيطاً، لكن ما الفرق بين الكذبة الأولى والثانية، عيناه لا تفارقان وجه أحمد، يود لو يحتضنه آلاف المرات، وأن يضع كل جليد العالم في جوفه الوالع.
يمسك سماعة الهاتف القريب من التابوت، ويقرر أن يقول لها: أُصيب أحمد بجرح خطير، وسيصل اليوم. يستجمع كل قواه في عينيه كي لا يخطئ الأرقام، يلقط الخط بعد محاولات، يبدأ الرنين المتقطع، يتذكر كيف عليه أن ينطق الكلمة الأولى وما هي؟ يتواصل الرنين ويزداد ارتباكاً ويكاد أن ينهار، ثم يُفتح الخط ويسمع صوت أم أحمد واهناً ضعيفاً، يا للصدمة أم أحمد على الخط، آلو تكررها مرات عديدة، يحاول أن يتماسك، يستنفر كل قواه ويجيبها بصوت مفجوع نعم، ثم يصمت، تهاجمه نوبة انفعال حادة ويفقد توازنه ولا يسمع إلا صوتاً مخنوقاً وكأنه في كابوس، هل أصيب أحمد؟ هل مات أحمد؟ أجبني أرجوك، فينفجر في نشيج ويبكي كالأطفال الذين فقدوا أمهاتهم فجأة في مكان موحش، وتسقط السماعة من يده ويقع على الأرض فاقد الوعي.
***
اللحظات الأخيرة(1/41)
انتفض جسده على رنين جرس المنبه، فنهض مذعوراً وأسكت الصوت حالاً. لم يستطع تحديد المكان الذي كان فيه، أو تذكر الوقت الذي نام فيه، إلا أن حالة الذهول هذه لم تستمر طويلاً، فقد استعاد بعد لحظات وعيه بالمكان والزمان معاً. تذكر أنه في بيته، وأنه نام بعد أن غادرت زوجته والأولاد البيت عصراً، لم يرافقهم، رغم إلحاح زوجته. كان يحس بتعب ينخر كل خلية من خلايا جسده، ورغم أن عمره لم يتجاوز الخمسين، كان يشعر وخاصة في الفترة الأخيرة أنه قد تجاوز السبعين، بل والثمانين، صحيح أن صحته منذ الطفولة لم تكن على ما يرام، ولكنها الآن غاية في السوء، يطحنه إنهاك شديد، ويسيطر عليه شعور بالإحباط لا يشابههما ما كان يعانيه في ليالي المعتقل الموحشة. غادر غرفة النوم إلى الصالون، وقد عاودته آلام معدته. جلس على أحد المقاعد دون أن يضيء المصباح. تذكر بمرارة كيف رفسه المحقق بحذائه على معدته، عندما جاء دوره للتحقيق بعد اعتقاله بسنة تقريباً، وهو يصرخ في وجهه بانفعال مجنون: أنت بطل يا ابن الكلب، سأحطمك، عندها فقد الوعي ونقل إلى مستشفى المعتقل، حيث بقي هناك حوالي الشهر، ثم أفرج عنه فيما بعد لاعتبارات صحية. حدث ذلك منذ سنوات، إلا أن آلام معدته ترافقه كظله، تغيب أحياناً ثم تتفاقم فجأة وبلا مقدمات. ومما زاد في عذاباته التغيرات التي طرأت على العالم بصورة مغايرة لأحلامه وتصوراته، حتى الذين ناضلوا معه في يوم ما يلهثون هذه الأيام وراء خلاصهم الشخصي، دون أي اعتبار لأية قيمة نبيلة، لقد ضاعت كل التضحيات وتبددت كل الآمال كما كان يرى.(1/42)
خطر بباله فنجان من القهوة، فراقت له الفكرة، نهض وفيه بعض النشاط، أنار مصباح الصالون، واتجه إلى المطبخ. أعد القهوة ثم عاد إلى مقعده وأشعل سيكارة هي الثالثة في ذلك اليوم، لقد خفف التدخين إلى حد كبير، لم يعد مذاق التبغ مستساغاً كما كان. وقبل أن يبدأ في ارتشاف قهوته ألقى نظرة على ساعة الحائط. إنه ينتظر نشرة الأخبار المصورة، يود أن يشاهد أحداث الأراضي المحتلة. كل ما يهمه حالياً أخبار الانتفاضة وما عداها لا يستحق حتى الذكر. لقد أحيت فيه بعض الأمل، وأنعشت في روحه بقايا حلم. اشتدت آلام معدته، وأحس بأنه غير راغب في إكمال قهوته، فأطفأ السيكارة، وتمدد على الديوانة المواجهة للتلفزيون. لحظات وتبدأ نشرة الأخبار، لا بد أن يكحل عينيه بمرأى الأطفال والصبية وهم يقذفون الحجارة بعنف على جنود العدو. داهمته نوبة دوار شديد، ولكنه انتبه إلى أن موعد النشرة قد حان. فنهض بتثاقل وضغط على زر التشغيل، كاد أن يقع ولكنه وبجهد جهيد عاد إلى مكانه. كان الخبر الثاني حول الانتفاضة، استجمع قواه وأصاخ السمع "شهداء جدد ينضمون إلى القافلة، العدو يتفنن في وسائل التعذيب فيلجأ إلى تكسير الأطراف، وسنعرض عليكم الآن فيلماً قصيراً عن تلك العملية الهمجية". ركز بصره فرأى جنوداً إسرائيليين يرفسون يافعين بأبواطهم، واليافعان يتلويان من شدة الألم. وبعد ثوانٍ ينحني بعض الجنود ليلتقط كل منهم حجراً كبيراً، ويبدؤون في تكسير الأطراف، ضرب وحشي قاتل، عندها صرخ صرخة مدوية، لم يحتمل، انهار فجأة، قذف من فمه كمية كبيرة من الدم وسقط على الأرض، رفع رأسه محاولاً أن ينهض، استقرت عيناه مرة أخرى على المنظر، كان التحطيم مستمراً، هاجمته عندئذ نوبة غثيان جديدة، فقذف كمية أخرى من الدم، زاغ بصره وبدأ وعيه يتشوش، وصرخ بصوت مخنوق: لا تضربوني، إني أتألم، أطرافي، معدتي، آخ، آخ، ثم ارتمى على الأرض وسط بركة من الدماء.(1/43)
جاء في تقرير الطبيب الشرعي ما يلي: مات إثر نزيف حاد ناتج عن انفجار كتلة لحمية ضخمة في المعدة مجهولة السبب، ولكن التقرير لم يشر إلى سبب انفجار تلك الكتلة.
***
موت هوغو
حدثت هذه القصة منذ سنتين فقط. ففي اليوم الأخير من مهمتي الرسمية في لندن، فكرت في قضاء الساعات القليلة المتبقية لي، قبل الانتقال إلى المطار، في قاعة الاستقبال الرئيسية في الفندق الذي أنزل فيه. ففي مثل تلك القاعات يمكنك أن ترى شريحة واسعة من المجتمع المحلي، إذ أنها تستقبل الناس عموماً فضلاً عن النزلاء. وما إن دخلت تلك القاعة الواسعة التي كانت تغص بالناس، حتى استقر بصري على سيدة تجلس إلى طاولتها وحيدة والدموع تنهمر من عينيها. كانت في حدود الثلاثين، بشرتها بيضاء كالحليب، وعيناها الخضروان واسعتان كمرج قد بلله الندى للتو. كل ما في وجهها ساحر، الفم القرمزي، الوجنتان الورديتان، الأنف الصغير المستقيم، أما الشعر الأشقر فأشبه بتاج ذهبي. كانت أنيقة بدون تكلف، فاتنة بدون مكياج. خمنت مباشرة أنها إنكليزية. جلست إلى طاولة قبالتها وعيناي لا تفارقان عينيها. لم تلاحظ نظراتي، كانت ذاهلة عما حولها، تستغرقها عذابات مضنية. وجالت في ذهني تساؤلات عديدة: هل تعرض أحد أطفالها لحادث مروع؟ هل فقدت على نحو مفاجئ أباً، أماً أو أخاً؟ هل اكتشفت حديثاً خيانة زوجها؟ وإلا فلماذا كل هذه الدموع المدرارة؟ وقد أثار دهشتي أن الآخرين، رغم قربهم منها، كانوا مشغولين عنها، غير آبهين لدموعها. سيطرت عليّ رغبة ملحة في مواساتها، فلغتي الإنكليزية تساعدني على القيام بهذه المهمة، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟؟ بعد مرور بعض الوقت، بدأت أفكر جدياً بالانتقال إلى طاولتها، وماذا يكلفني ذلك؟ سؤال صغير وينتهي الأمر، فإن وافقت تم لي ما أردت، وإن رفضت عدتُ إلى طاولتي وأنا راضٍ أني قد حاولت.(1/44)
نهضت بهدوء وثقة، وقد شجعني أنها لم تنتبه إلى جلوسي إلى الطاولة المقابلة لها. وقفتُ أمامها ثم قلتُ بصوت خفيض: هل تمانعين في الجلوس معك؟
-لا، لا أمانع، يمكنك الجلوس.
بعد فترة قصيرة نظرت إليّ نظرة متفحصة، ثم قالت بلهجة واثقة:
-أنت غريب، أنت لست إنكليزياً بالتأكيد.
-نعم أنا لست إنكليزياً، أنا عربي.
لم تجب ولم تعلق بل عادت إلى ذهولها، قلتُ لها بعد أن فكرت ملياً في سؤالي التالي الذي قد يكون مفتاحاً لبدء حديث طويل:
-هل تعرفين لماذا أردتُ الجلوس معك؟
-لا، لا أعرف، ولا يهمني كثيراً أن أعرف.
تجاهلتُ القسم الثاني من ردها، وأردفت قائلاً:
-أردتُ في الواقع أن أواسيكِ، أن أخفف عنك أحزانكِ، فدموعك تشي بمصاب أليم.
-أشكر مشاعرك الرقيقة، هذا لطف منك.
انتهزت فرصة تجاوبها فسألتها على الفور.
-هل فقدت عزيزاً عليك يستحق كل هذا الحزن؟
مرت فترة صمت ثقيلة، كانت عيناها لا تستقران على شيء محدد، ثم حدقت في وجهي وقالت بصوت تحاصره ذكريات مؤلمة:
-نعم فقدتُ هوغو، خمس سنوات ونحن نعيش معاً في بيت واحد، لم نفترق ولو ليوم واحد، يستقبلني عند عودتي من العمل بشوق جارف، يشاركني كل زياراتي، ولا ينام قط إذا أحس أني قلقة أو مريضة.
توقفت بعد أن طفرت الدموع من عينيها، ثم تابعت وهي تغالب نوبة انفعال مفاجئة:
-منذ شهور قليلة أصيب بمرض عضال، استشرت عدة أخصائيين، أجمع الكل على ضرورة القيام بعمل جراحي. صمتت، ثم بدأت تمسح دموعها، وبعد لحظات أردفت:
-منذ ثلاثة أيام أُجريت له العملية الجراحية، البارحة مساءً فارق الحياة.
تغير لون وجهها، وتهدج صوتها، وامتدت يدها نحو محفظتها، وكأنها تبحث عن غصن يحميها من الغرق، ثم قالت لي وهي تهم بالمغادرة:
-شكراً على اهتمامك.
قلتُ لها وأنا أودعها:
-سامحيني إذا أثرتُ شجونك، عزائي أنكِ لا بد وقد خلفت طفلاً من هوغو.
نظرت إليّ باستغراب شديد ثم قالت:
-لقد أخطأت الفهم، هوغو ليس إنساناً، إنه كلب.(1/45)
غمرني شعور بالحرج الشديد، وانتصب أمامي سؤال ملحاح: لماذا أخطأتُ الفهم رغم أني استوعبتُ كل كلمة من كلماتها؟؟
***
تراب الوطن
أخيراً أقلعت الطائرة به من مطار نيويورك متوجهة إلى مطار دمشق، بعد سبع سنوات طوال قضاها محمد عبد الرحيم في الولايات المتحدة، وهو يصل الليل بالنهار للحصول على الدرجة العلمية المطلوبة، الشهادة التي تحتويها الآن حقيبة يده مزينة بدرجة شرف. وخلال تلك الفترة لم يزر سورية ولو مرة واحدة، فكلفة السفر مرتفعة، وإمكاناته المادية محدودة. أسند رأسه على مقعده في الطائرة، وأطلق لخياله العنان. كل شيء سار على ما يرام في بلده – أثناء غيابه- باستثناء حادثة واحدة نغصت عليه حياته. فلقد مات أحمد العامري أعز صديق عليه بعد إصابته بمرض عضال، وعندما وصله الخبر الحزين خلال السنة الثانية من دراسته بكى كالأطفال. كان أحمد صديق طفولته وشبابه، أحبه من قلبه وبكل جوارحه، وقد قال له في المطار قبل السفر إلى الولايات المتحدة: ثق يا أحمد أنّي لن أنساك، فأنت الأخ الذي لم تلده المرحومة أمي. ترقرقت الدموع في العيون، عندها حاول محمد أن يخفف من تأثير الموقف، فأضاف مازحاً:
-وثق أني لن أنسى تراب الوطن الذي تكرره دائماً على مسامعي.
ولهذا المزاح أسبابه القريبة والبعيدة. فقد كان أحمد العامري يؤكد لمحمد، بعد أن تقرر إيفاده إلى الولايات المتحدة، على أن قيمة أي بلد في العالم، ومهما تكن ظروفه أفضل، لا تعادل حفنة من تراب الوطن. وكان محمد يرد عليه محاولاً إغاظته دون إمعان التفكير:
-التراب هنا أو هناك متشابه، مجرد تراب.
فيرد عليه أحمد:
-إذا كنت جاداً، فأنت غلطان، وستبرهن لك الحياة على خطل رأيك.
وأكثر من ذلك، كان من عادة أحمد أن لا يستخدم كلمة الوطن إلا مقرونة بالتراب، حتى أن محمد قال له ذات مرة مداعباً:
-سأسميك أحمد تراب الوطن. فأجاب بلهجة حازمة:
-إنه شرف كبير.(1/46)
كم يحزنه أن لا يجد "أحمد تراب الوطن" في استقباله. عزاؤه أنه سيرى والده وإخوته وأخواته وعدداً كبيراً من الأصدقاء المخلصين. ولكن ما يقلقه عدم سماع صوت أبيه خلال الاتصالات الهاتفية الأخيرة التي جرت بينه وبين إخوته. تبادرت إلى ذهنه احتمالات عدة ولكنه نحاها جميعاً، وأقنع نفسه بما قاله له أخوه الكبير في آخر اتصال هاتفي:
-ذهب أبوك إلى القرية بعد أن اطمأن على تخرجك وعودتك القريبة، إنه يريد أن يستقبلك وهو في صحة رائعة.
سبب معقول، فرغم إقامتهم في مدينة حلب إلا أنهم في الأصل من قرية "عين"، وما زال لهم هناك منزل متواضع يؤمونه بين الحين والآخر للاستجمام والراحة.
إنه في شوق عارم لملاقاة الجميع، الجميع بلا استثناء، صحيح أن بعضاً منهم قد أخطأ معه في يوم من الأيام، إلا أن روح التسامح تنداح في قلبه كسيل عرمرم ترفدها مشاعر الفرح المتفجرة بلا انقطاع.
"حقاً إن الغربة موحشة والحنين إلى الوطن قتال"، كرر ذلك مرات عديدة بينه وبين نفسه، ثم استدرك بأسى احتراماً لذكرى أحمد "والحنين إلى تراب الوطن قتال". صحيح أن البشر بشر في كل مكان، وأن البيوت والشوارع والمحلات عموماً متشابهة، إلا أن هناك فروقاً جوهرية يصعب التعبير عنها. فرغم تمكنه من اللغة الإنكليزية، وقدرته على التواصل مع الآخرين في الغربة، ورغم إقامة بعض علاقات الصداقة مع زملائه الطلبة، إلا أنه كان يحس في أعماقه أنه غريب ومعزول. في الوطن، كل شيء له حكاية، له تاريخ، له طعم، له رائحة تؤكد وجوده وإنسانيته، أما في بلد أجنبي، فهذه الأمور لا تخصه، ولا تثير فيه أي إحساس أو شعور أو فكرة.
يحاول أن يوقف تأملاته وتداعي خواطره وذكرياته فيفشل، إلا أن صوت المضيفة، وهي تعلن الاقتراب من مطار دمشق، يمكّنه من السيطرة على نفسه، لقد لازمه فجأة إحساس بأنه على وشك الإفراج عنه بعد سجن طويل.(1/47)
وحينما دخل قاعة المطار أحس بأن خفقات قلبه تتسارع على نحو لم يألفه منذ زمن بعيد، وأن عينيه مشدودتان، كما لو أنهما تودان الخروج من محجريهما، وبعد لحظات يجد نفسه بين الجميع تغمره قبلاتهم الحارة وتحياتهم القلبية، ولكن أين والده؟
يسأل ويلح في السؤال. يقول له أخوه الكبير: ما زال في القرية، إنه متعب قليلاً، لم يقتنع، يحس إحساساً صادقاً بأنه قد مات. يكبت عواطفه، لا يحب أن يشوه فرحة اللقاء. وفي حلب يبلغونه بالحقيقة، لقد مات والده منذ أيام قليلة.
يقرر السفر مباشرة إلى القرية، لا بد من زيارة قبر ذلك الرجل الذي حَلُم آلاف المرات بضمه إلى صدره، بتقبيله، بالاستسلام لذراعيه الحانيتين، الرجل الوحيد الذي يحوله إلى طفل صغير.
دخل مقبرة القرية مع مجموعة من إخوته وأصدقائه، وعند القبر توقفوا. كان القبر يتوسط قبور أعمامه السبعة. وفي لجة دموعه الغزيرة الحارقة وأشواقه المكلومة، داهمته رغبة ملحة بتقبيل تراب القبر الذي مازال رطباً. وفي هذه اللحظة قال له أحد إخوته محاولاً أن يكسر الصمت الثقيل الذي خيم على الجميع: لقد دفن والدك في قبر جدك، الغريب أن الرفاة التي وجدناها في القبر كانت كثيرة جداً، يحتمل أن يكون جد جدك كان مدفوناً هنا أيضاً. عندئذ انحنى على قبر والده بخشوع وملأ قبضة يده من التراب ثم قبله بشفتين مرتجفتين وهو يقول:
أرجوكم خذوني إلى قبر أحمد تراب الوطن. لم يعرف أحد من هو ذلك الشخص، إلا أن أحد الحاضرين خمن بفطنة من هو المقصود فانبرى قائلاً:
-قبر أحمد العامري خلفك.
استدار، فإذا به أمام شاهدة قبر أحمد. لقد أدرك الآن معنى تراب الوطن، ثم همس: رحم الله أحمد تراب الوطن، وبارك الله في تراب الوطن.
***
حتى الحب يموت(1/48)
هذه المخابرة الهاتفية التي أعلمني فيها نور عن زواج نشوة منذ أيام قليلة، فجرت مخاوفي عليه، لذلك طلبت منه أن نلتقي في مقهى الواحة بعد ساعة واحدة. صحيح أنه نقل الخبر دون أن يشي صوته بأي تأثر، إلا أني خشيت من إخفائه حقيقة مشاعره عني، خاصة وأني كنت ألاحظ بوضوح مدى خجله وحساسيته من نقدي المتكرر لعجزه عن التخلص من حبه لنشوة.(1/49)
ارتديت ثيابي على عجل، رغم أن هناك متسعاً من الوقت، فلقد كان نور صديقاً حميماً منذ الطفولة، يطلعني على أدق تفاصيل خصوصياته. وكان قارئاً نهماً، يحاول باستمرار أن يطور ثقافته، وهو إلى جانب ذلك نموذج متفرد في أشواقه المجنونة لعالم جديد مطهر من الوضاعة والظلم والمفاهيم المشوهة. ورغم اختلافي معه في بعض الموضوعات، كنت احترمه لحرصه على عدم فرض قناعاته على أحد، بل وأكثر من ذلك، كان يردد بأقصى درجات الصدق أن آراءه مجرد محاولات أو اجتهادات قد تكون صائبة أو قد لا تكون. يُعلي من شأن العقل، ويغوص في تحليلات وكتابات نقدية عن العلاقات الاجتماعية وواقع الأمة بشكل عام. لا يشغله تحسين أوضاعه المادية وكذلك مركزه الوظيفي، إذا ما شكل ذلك تناقضاً ولو بسيطاً مع قناعاته واجتهاداته. ورغم عقلانيته والروح النقدية التي يتمتع بها، كان عاطفياً إلى حد كبير، وقد يكون ذلك مرجعه إلى طفولته اليتيمة. وكان للمرأة دور هام في حياته. وقد أدى اهتمامه الكبير بقضية تحرر المرأة، ومفاهيمه المتقدمة عنها، إلى التقليل من دور الموروث في تصرفاتها ورؤيتها. وما إن وصلت مقهى الواحة حتى طلبتُ فنجاناً من القهوة، فما زال لدي نصف ساعة كاملة حتى يحين موعد اللقاء. لقد سيطر عليّ التفكير بنور وقصة حبه الفاشلة. فمنذ خمس سنوات أخبرني عن إعجابه الشديد بنشوة التي كانت تعمل معه في نفس البنك. قال لي يومها: "إنها المرأة الحلم التي أريد، الطريق إلى قلبها يمر عبر عقلها، إنها ناضجة، طموحة، دؤوبة وتتعامل مع الآخرين باحترام وذكاء ملفتين"، قلت له آنذاك وأنا أعرف مدى اهتمامه بثقافة الإنسان ورؤاه:"وماذا عن ثقافتها ورؤيتها؟"أجابني بارتباك: إنها ليست مثقفة،إلا أن استعداداتها للثقافة كبيرة، ورؤيتها عموماً تقليدية، ومع ذلك، فهي تعاني أحياناً(1/50)
من صراعات بين المفاهيم الثاوية في أعماقها، وأنماط السلوك المتعلقة بالمفاهيم المستنيرة، إنها باختصار شخصية ناضجة ومفاهيم عتيقة. علقتُ: لا تتسرع في إعجابك، فهذه الفتاة قد لا تناسبك. أذكرُ يومها أنه احتج بشكل عصبي ودافع عنها دفاع المستميت، فأيقنت أن نور وقع في حب نشوة، وأن ما يسميه إعجاباً ليس إلا لعباً على الكلمات. وبالفعل فقد اندفع في حبها اندفاعاً جنونياً، وأصبحت شغله الشاغل كما كان يحدثني خلال لقاءاتنا المنتظمة. أذكرُ أنه بعد حوالي سنتين، قال لي والحزن يتوسد في عينيه: ما زلتُ أذكر تعليقك حول علاقتي بنشوة، كان صائباً جداً. لقد بدأتْ تُلمح منذ أن أدركت طبيعة مشاعري نحوها، أنها تحلم برجل "جاهز"، إن رجلاً مثلي لا يحقق لها طموحاتها. قالت لي ذات يوم بجدية "إن مفاهيمك وتصرفاتك وأحلامك لن تجعل منك رجلاً ناجحاً، وستبقى أوضاعك المادية السيئة على ما هي عليه، إن لم تتحول نحو الأسوأ، إنك صاحب رسالة، هذا صحيح، ولكن عصرنا هذا ليس عصر أصحاب الرسالات". اكتشاف نور لحقيقة نشوة كاد أن يودي بعقله. أصيب بكآبة مرعبة لازمته فترات طويلة كنت خلالها أحرص على المزيد من اللقاءات معه، أشجعه، أسمع منه ما يعتمل في نفسه من آلام مبرحة، استنفر قواه المعنوية للخلاص من تلك العذابات المضنية التي تكويه. قال لي ذات يوم بعد أن عاتبته على استمرار مشاعره نحوها: "إن الحب يا صديقي هو الحالة الوحيدة من الجنون الذي يدرك صاحبه أنه مصاب به". ثم تابع "أرجوك قدر ظروفي، ثق أني سأعمل كل ما بوسعي لمقاومة الضعف الذي ألم بي".(1/51)
مرت سنوات وبدا لي أن أوضاعه قد تحسنت، واستعاد نشاطه الفكري وفعاليته الذهنية وحمدت الله على ما آلت إليه صحته النفسية، وتعمدت أن لا أتوقف طويلاً خلال لقاءاتنا التالية حول نشوة التي بدأ افتتانه بها يخف تدريجياً، كما كان يؤكد لي، إلا أني في الواقع كنت مرتاباً في حقيقة مشاعره، وكنت أقول بيني وبين نفسي لعل احترامه لذاته وحرصه على إقناعي بقدرته على الانتصار على ضعفه، كانا وراء خداع نفسه وخداعي. أما زواج نشوة وبهذه السرعة فقد أثار كل مخاوفي عليه وخشيت أن ينتكس مرة أخرى. إني أنتظر الآن وبفارغ الصبر وصوله، وسأكون دقيقاً في تصرفاتي خشية الوقوع في خطأ ما. ها هو نور قادم من بعيد يحمل كتاباً في يده اليسرى، ويسرع الخطى نحو مقهى الواحة.
-أهلاً أهلاً يا نور.
-أهلاً يا رشدي، أهلاً يا صديقي.
ثم صافحني بحرارة وجلس.(1/52)
الأمور كلها تبدو على السطح مُطمئنة، قررتُ مباشرة أن لا أكون البادئ في فتح الموضوع، وأن لا أشير حتى مجرد إشارة إليه، لذلك دارت أحاديثنا حول مواضيع شتّى، ثم طلب القهوة.وحين وُضِع الفنجان أمامه، أشعل سيجارة بهدوء ثم سرح قليلاً وانطلق يقول: "منذ سنوات شهدتُ فيلماً بعنوان صيف ودخان، قصة الفيلم مقتبسة من مسرحية أمريكية. إنها قصة حب رائعة. فتاة مرهفة رقيقة تقع في حب طبيب شاب ماجن، لا يهمه من المرأة سوى إشباع رغباته الجنسية. وذات يوم كما أذكر، جاءت الفتاة إليه وهو في حالة سُكر شديد. وعندما حاول أن يراودها عن نفسها امتنعت بإصرار. فما كان منه إلا أن أمسك بعصا طويلة مدببة الرأس وهو يترنح من السُكر والانفعال، وتقدم من صورة تشريحية لجسم الإنسان، ثم أشار بالعصا إلى الجمجمة قائلاً: هنا عقل يتطلع إلى المعرفة، ثم نقل المؤشر إلى المعدة قائلاً: وهنا معدة تتوق للطعام، ثم حوّل المؤشر إلى مكان العضو الجنسي قائلاً: وهنا عضو يتحرق للذة، وختم محاضرته مؤكداً: هذا هو الإنسان، وكأنه يريد أن يقول للفتاة: أنتِ لا تفهمين حقيقة نفسك. عندها غادرت الفتاة الغرفة وهي تنتحب بصمت. بعد سنوات قليلة وخبرات عديدة، عاد الطبيب للبحث عن الفتاة التي هدها الحب الفاشل، وحولها إلى شبح. وعندما التقى بها، قال لها فيما قاله، والندم يكاد يقتله:
-لقد عرفتُ الآن- وبعد أن خضت غمار الحياة- أن هناك شيئاً ما في حياة الإنسان لا يمكن أن نعبر عنه بالكلمات، لا يمكن أن نمسكه، لا يمكن أن نلامسه، إنه أشبه بدخان خفيف في أمسيات الصيف الجميلة، إنه الحب.
ولكن الفتاة لا تستجيب لندمه، وتتركه إلى الأبد.(1/53)
صمت نور بعد أن كان يتدفق كنهر غزير، ثم أردف قائلاً بنبرة هادئة: "لقد تحدثتُ عن هذا الفيلم لكثير من الأصدقاء، وقد أكون قد حدثُتكَ أنتَ أيضاً عنه، إلا أن هناك شيئاً بقي غائراً في أعماقي لم أبح به لأحد، وهو سؤال برز في أعقاب مشاهدة الفيلم لم أجد له جواباً: لماذا لم تقبل تلك الفتاة اعتذار الشاب، وتعود إليه عاشقة كما كانت في الأيام الخوالي الطافحة بمشاعر الحب العظيمة؟؟"
قاطعته وأنا أمسك بما يريد، قائلاً:
-بعد زواج نشوة جاءك الجواب.
رد نور على الفور:
-نعم هذا ما حدث فعلاً. كان من المفروض أن يصدمني زواجها، أو أن يزعجني كحد أدنى، إلا أني لم أتأثر على الإطلاق، وهذا ما أدهشني شخصياً. لقد هنأتها كما أهنئ أية زميلة أخرى. صحيح أنني أحببتها في يوم ما، وصحيح أيضاً أنني عانيت الأمرين في حبها، ولكن الصحيح أيضاً أن كل شيء يموت حتى الحب، نعم حتى الحب يموت.
ثم استأنفنا أحاديثنا العادية.
***
الاستثناء(1/54)
استيقظت مساءً بعد قيلولة طويلة. كان جو آب حاراً لاهباً. أخذت حماماً سريعاً، وارتديت ملابسي، وخرجت إلى الصالون. لم أجد أحداً، بيت الضيافة صامت، وكأنه يغط في نوم عميق. كان أملي أن أراها، ساورني إحساس قوي بعد استيقاظي بأنها في انتظاري. هل ما زالت في غرفتها، أو أنها غادرت بصورة مؤقتة، أو إلى غير رجعة؟؟ وقد كشف لي هذا التساؤل غفلتي عن معرفة مدة إقامتها هنا. وبالفعل لم يخطر ببالي أن أسألها عن هذا الموضوع خلال اليومين الماضيين من تعارفنا. وبدأتُ أتساءل: لماذا كل هذا الاهتمام بامرأة جمعتني بها الصدف في بيت ضيافة ينزل فيه موظفو عدة مؤسسات حينما يقومون بمهام رسمية في العاصمة؟ إني لا أعرف سهام سابقا،ً ولا أعرف المؤسسة التي تعمل فيها، فهل تعارفنا خلال هذه الفترة القصيرة كافٍ لتبرير كل هذا الاهتمام؟ رأيتها أول البارحة- بعد نزولي في بيت الضيافة بساعات- جالسة في الصالون لوحدها. كانت تقلب صفحات عمل روائي قرأته منذ فترة، إذ عرفته مباشرة من طبعته المميزة. ألقيتُ تحية المساء، وجلست قبالتها. انطلقت عيناي كنحلتين تحومان حول شعرها الأسود الفاحم وعينيها الكبيرتين وشفتيها المكتنزتين المشربتين بحمرة طبيعية. كان صدرها مثقلاً بثماره، وساقاها يلمعان من شدة البياض، وجسدها مائلاً إلى الامتلاء قليلاً. قلتُ لها بعد لحظات: -يسرني أن نتعرف على بعضنا إذا كنتِ لا تمانعين.
ردت وهي تغلق الكتاب وبشيء من الارتباك: -لا، أبداً
-فاضل العادل
-سهام الطل.
ثم أردفت وفي عينيها رغبة في الحديث: - هل تحب القراءة؟
أجبتها، وأنا مأخوذ بعذوبة صوتها وسحر عينيها:
-في رأيي، القراءة أهم مصدر للثقافة.
-هذا صحيح، صحيح جداً.
ثم أضافت بحماس معقبة: -القراءة حاجة أساسية في حياة الإنسان سواء أكان رجلاً أم امرأة، إنها في كل الأحوال ليست أمراً كمالياً.
وتابعت شرح وجهة نظرها وكأنها تحاضر.(1/55)
تحولتُ كلي إلى آذان صاغية، وسرعان ما تنامى إعجابي بثقافتها وحضورها، رغم أنه لم يمضِ على تعارفنا ساعة واحدة تقريباً. تابعنا الحوار في موضوعات عديدة، كنا نتفق في كثير من النقاط، وقد ساعدنا هذا الاتفاق على رفع الكلفة شيئاً فشيئاً. بعد فترة سألتني بلهجة ودودة: -سيد فاضل، ما رأيك بفنجان من القهوة.
-هذا لطف منكِ لن أنساه.
احتسينا القهوة وكأننا صديقان منذ سنوات، وقبل انتهاء جلستنا بقليل شاركنا الصالون نزيلان جديدان لم يدر بيننا وبينهما سوى تحية المساء، ثم اقتربت مني بعد أن وقفت، وبصوت خفيض قالت لي: -سامحني لقد جعت، لا بد من الذهاب إلى مطعم. أجبتها بصوت هامس وقد شجعتني جسور الود التي امتدت بيننا: ما رأيك أن نذهب معاً؟
وافقت مباشرة
جلسنا في ركن هادئ بمطعم "العاصمة". حدثتني عن حياتها بصدق يدعو للإعجاب، عرفت أنها مطلقة منذ سنوات، لم تنجب، ليس لأنها عقيم، ولكن لإحساسها أن اختيارها كان خطأ قاتلاً. كان حديثها يتدفق كشلال غزير، ويكشف عن ولع بالتحليل وعقلنة الأمور إلى حد مدهش. لم ترفض الإجابة عن أي سؤال، حتى ولو كان يمس أدق خصوصياتها. قلت لها ورغبة جامحة تدفعني للتعرف على مشاعرها الحالية: -سؤال أخير يا سهام، ألم تحبي بعد طلاقك؟
-لا، لم يحدث ذلك، إن التجربة الأولى يجب أن لا تعاد، كنت صغيرة السن والخبرة، أما الآن فالأمور مختلفة.
تكرر العشاء البارحة. وعلى المائدة حدثتها عن حياتي، عن تجاربي، عن علاقتي بنجود – رحمها الله- التي كانت أجمل قصة حب في حياتي. كانت تصغي بانتباه شديد، تعلق باقتضاب، وتتدخل بذكاء. وقبل أن أنهي حديثي، قالت بروح مفعمة بمشاعر الود: -خلال حديثك هناك تلميحات كثيرة عن الحب والجنس، لا بد أن يكون لك رؤية في هذا الموضوع، فهل لي أن أعرف وجهة نظرك وبالتفصيل؟
أجبتها بلهجة مازحة: -أمرك سيدتي ولكن بدون تفاصيل، بتركيز شديد.
-موافقة.(1/56)
-إني أرى يا سهام أن الحب ليس الجنس كما قد يتصور البعض. ممارسة الجنس صفة عامة لكل الكائنات الحية بما فيها النوع الإنساني، أما الحب فصفة خاصة بالنوع الإنساني، أقصد بأرقى الكائنات الحية. الجنس لذة عابرة، أما الحب فنشوة دائمة، نشوة يتحول من خلالها الجنس إلى طقس جميل، إلى ضرب من ضروب العبادة التي تشبع حاجاتنا العضوية والروحية معاً. متعة الجنس عمرها قصير، إنها كالنيازك تضيء وهي تتلاشى، أما الحب فضوء شمس لا تغيب أبداً. كما أزعم بأن ممارسة الجنس دون حب عمل بهيمي، حتى ولو كانت تلك الممارسة ضمن إطار مشروع. فإذا كان الجنس شاهداً على أننا كائنات حية، فالحب شاهد على أننا كائنات اجتماعية، كائنات عاقلة لا تحقق وجودها إلا من خلال العطاء، التفاهم واحترام الجنس الآخر كند. هذا رأيي يا سهام، فهل لبيتُ الطلب يا سيدتي؟؟
ردت وبسمة عريضة حلوة تنتثر على وجهها الشهي وبلهجة مسرحية مرحة قالت: -أشكرك يا مولاي شرحت فأفضت.
ثم ضحكنا معاً.
لا بد أن أعترف، لقد أسرتني سهام بشخصيتها الناضجة وثقافتها الواسعة وأنوثتها المتفجرة.
مرّ وقت طويل ثقيل ولم تظهر سهام، بدأ القلق يتنامى في داخلي، لا يمكن أن تغادر دون أن تقول كلمة وداع، هذا مؤكد فأين هي الآن؟
والغريب أن بيت الضيافة على عكس اليومين الماضيين هادئ تماماً، وكأن ليس هناك نزلاء هذا اليوم، وإلا فلماذا لم يأتِ أحد منهم إلى الصالون حيث يجلس الجميع بعد خروجهم من غرف النوم لمشاهدة البرامج التلفزيونية؟
وحوالي الساعة التاسعة دُق جرس بيت الضيافة. هرعت لفتح الباب فإذا بي أمام سهام وبسمتها المثيرة تعلو وجهها الشهي.
قالت لي: طبعاً لوحدك؟
-كيف عرفت ذلك؟
تابعت متجاهلة سؤالي: -بيت الضيافة لنا هذه الليلة، ليس هناك نزلاء، صدفة غريبة.
قلت لها مندهشاً: - هل أنتِ متأكدة؟
-نعم متأكدة جداً، أبلغني ذلك موظف الاستقبال.(1/57)
قالت ذلك وهي تقرب وجهها من وجهي بحركة عفوية، وشعرتُ وكأنها تريد أن تقول شيئاً ثم غيرت رأيها فجأة. اتجهت إلى المطبخ، كانت تحمل أكياساً عديدة، عرضتُ مساعدتي فاعتذرت وطلبت مني البقاء في الصالون. بعد قليل جاءت وهي تحمل بعض أطباق الطعام الذي أحضرته معها، استمرت في نقل الأطباق رافضة مساعدتي بحزم.
ازدحم رأسي بالتساؤلات والتحليلات، ماذا يعني كل ذلك؟ إنها سعيدة جداً وإن كانت تحاول إخفاء مشاعرها الحقيقية كما بدا لي. وقلتُ بيني وبين نفسي: أن لا تشعر بالقلق من وجودنا معاً وحيدين فذلك مقبول ومبرر، فلقد تعارفنا خلال اليومين الماضيين، وتوطدت أواصر الصداقة فيما بيننا، فضلاً عن أن كلاً منا قد تجاوز الثلاثين من العمر كما يبدو بوضوح، لكن السؤال الأهم: ما هو مبرر هذا الفرح المفاجئ، خاصة وقد ارتبط ببقائنا وحيدين؟ لم أستطع الوصول إلى جواب مقنع، وإن بدأت تتسرب إلى ذهني تصورات يتوق لها القلب منذ سنين. وأخيراً جلست، حدقت في عيني وقالت وكأننا عاشقان منذ الأزل: -أرجو أن تكون الوجبة ملائمة لذوقك.
-الأكل متعة حسية بلا شك، ولكن لكل متعة في حياة الإنسان جانباً روحياً يزيد في لذتها. توقفتُ قليلاً ثم أردفتُ بجرأة: -وجودكِ كافٍ ليجعل هذه الوجبة أكثر من رائعة.
ضحكتْ وقالتْ لي وهي تصارع شيئاً في داخلها: -هل أنت سعيد بخلوتنا؟؟
أجبتُ بعفوية: -أكثر مما تتصورين.
ثم قالت وهي تهم بالوقوف: -إني أفضل أن أرتدي فستان النوم، أريد أن أرتاح، هل عندك مانع؟
أجبتها: أبداً، تصرفي كما يحلو لكِ.
ذهبت إلى غرفة نومها، تلاحق المفاجآت شلّ قدرتي على المحاكمة. لم أستطع أن أفهم تصرفات سهام منذ عودتها إلى بيت الضيافة، كانت محيرة غريبة، تصرفات لم أتوقعها مطلقاً، وتساءلت في سري هل هناك مخاض يسير لولادة حب فيما بيننا؟؟(1/58)
بعد دقائق عادت وكانت أشبه بعروس في ليلة زفافها. سرى خدر لذيذ في خلايا جسدي. كان فستان نومها القصيرلوحة فنية تستر جزءاً من صدرها وفخذيها، وما عدا ذلك كان عارياً كأروع ما يكون عري المرأة. عيناها لا تفارقان عينيّ وبسمات عذبة تقطر من وجهها. قالت لي وهي ما زالت واقفة:- هل أعجبتك، رجاءً بلا مجاملة؟
أجبتها بصوت مثقل باللذة: - أية مجاملة يا سهام، أنت فاتنة بحق.
علقت وهي تهم بالجلوس: -إذاً لقد نجحتُ في الحصول على إعجابك؟
أجبتُ وقد انتبابتني رعشة خفيفة رافقها جفاف في الحلق: - جسداً وروحاً.
جلست قبالتي وقد علا الدم وجنتيها وتهدلت شفتها السفلى وذبلت عيناها بشكل مثير. أصيبت عيناي بالجنون، كانتا تحومان حول شفتيها العطشتين للقبل، حول إبطيها المزروعين بزغب طبيعي خفيف، حول برعمي نهديها المرسومين على الفستان، حول فخذيها الناعمين البيضاوين.
كنت أسمع هدير الدم في عروقي وقد اجتاحني إعصار صعب عليّ مقاومته، شعرت بأن أجدادي كلهم يصهلون في جسدي، كل المحرومين من المرأة يتسابقون في عيني. أنّى لي أن أحتمل كل هذا العطاء المفاجئ؟
طلبتْ مني أن نبدأ العشاء.(1/59)
هدأ الإعصار قليلاً وتظاهرت بالأكل، وبدأت تحدثني عن الاستثناء والقاعدة، لم أفهم ولم أحاول أن أفهم ولم يخطر ببالي حتى السؤال عن أسباب إثارة هذا الموضوع وفي هذا الوقت بالذات. وبعد قليل أسندت ظهرها على المقعد، فانزاح فستان نومها عن مرابض الفتنة. أحسست عندها بقطيع من الثيران الهائجة يقذفني، ضممتها بعنف، قبلتها بشراهة، شممت رائحة جسدها المثيرة، تحسست تضاريس مساكبها وأحراشها وغاباتها، لم تقاوم، كانت تنتظر ذلك بفارغ الصبر. لقد تحولتْ إلى حيوان جميل في موسم شبقه. بدأ جسدها يتبلل بقطرات العرق التي أضاءت بساتينها، كما تضيء حبات المطر مسكبة ورد جوري بعد اغتسالها حديثاً. قالت لي بعد ساعات وهي مسترخية على ذراعي، وجسدها العاري بكل ثماره ما زال مثيراً بضاً ناعماً ودافئاً:
-لا بد أن ننام قليلاً.
قبلتها وأنا أهم بالذهاب إلى غرفتي، وقد راعني أن أرى دموعها تنهمر من عينيها الجميلتين. داهمني إحساس غامر بالذنب، وتسمرت في مكاني وأنا أقول لها بقلب مفعم بمشاعر الحب المجنونة:
-سهام إني أعتذر إذا أسأتُ لكِ.
بسمة وديعة غمرت وجهها، كما تغمر الشمس سماء الربيع التي غسلتها الأمطار، وأجابتني بحنان:
-لا، لا يا فاضل لا تفهمني خطأ، هذا موضوع ليس وقته الآن. اطمئن أنا سعيدة، سعيدة جداً بالفعل. اذهب الآن ونم، فأنت بحاجة لبعض الراحة.
استلقيت في غرفتي، لم أفكر بشيء. كان شعور الارتواء والإحساس بإنسانيتي شعوراً طاغياً.
نمت مباشرة واستيقظت حوالي الساعة الثانية ظهراً، خرجتُ إلى الصالون فلم أر سهام، اتجهت إلى غرفتها. كان الباب مفتوحاً وليس في الغرفة أحد، عندها هرعت إلى مكتب الاستقبال، كان الموظف يهم بالانصراف، سألته عن سهام دون أي مقدمات، أجابني وعلى وجهه ارتسمت علائم الدهشة: -سهام؟؟ لقد سافرتْ الساعة العاشرة إلى كندا، وبصورة أدق، لقد هاجرت إلى كندا، مضى عليها أربعة أيام في انتظار الطائرة.(1/60)
اعترضتُ دون وعي وكأني مسؤول عن بيت الضيافة:
-كيف نزلتْ في بيت الضيافة وهي ليست موظفة على رأس عملها؟
-لقد كانت موظفة، ولكنها استقالت منذ فترة قصيرة، الشركة التي كانت تعمل فيها استضافتها هذه الأيام القليلة، هذا أمر طبيعي كما أرى.
عدتُ إلى غرفتي وقد صدمتني هذه الأخبار. كيف غادرت دون كلمة وداع. هل هذا معقول، هل هذا مقبول؟؟ عندها هاجمتني نوبة كآبة قاتلة. هبطت على طرف السرير وأنا مثقل بأحزان لا تعادلها سوى الأحزان التي عصفت بي بعد موت نجود..
ألقيت نظرة على المنبه، كانت الثانية والربع، ثم استرعى انتباهي مظروف موضوع تحت المنبه. أخذته فوراً. كان مفتوحاً، رسالة قصيرة من سهام، لم أر في البداية شيئاً، تسارعت ضربات قلبي ثم هدأتُ نفسي محاولاً أن أقرأ وأن أستوعب:
"حبيبي فاضل
حينما ستقرأ هذه الكلمات أكون في طائرتي وصورتك لا تفارقني، أنا متأكدة من ذلك. ما حدث بيننا هو الاستثناء، ولكن ولكي لا أتفلسف طويلاً، إني أرى أن الاستثناء هو القاعدة في ظروف غاية في الخصوصية، إنه ليس أمراً شاذاً أو سلبياً على الدوام، إنه فريد الحدوث ولكنه ليس مستحيل الحدوث. أحببتك، نعم أحببتك من قلبي خلال تلك الأيام القليلة. إن ما قمنا به عملٌ مشروعٌ تماماً، حد أدنى وفق نظريتك، أليس كذلك؟ صدقني إنها المرة الأولى في حياتي التي أمنح فيها جسدي بهذه الدرجة من الشرعية والجرأة. الظروف التي فرضت عليّ الهجرة قاهرة، يصعب عليّ تغييرها، لقد كانت نجود حبك الأول وسهام حبك الثاني، هل أقول إلى اللقاء؟
أقبلك بحرارة".
طويتُ الرسالة بعد أن قرأتها عدة مرات ثم استلقيت على سريري وأنا أستعيد دقائق هذه العلاقة القصيرة مع سهام، ثم قلتُ لنفسي والأسى يعتصرني:
-لا أعتقد أن قصة الحب هذه، نعم قصة الحب، قد تتكرر في حياتي مرة أخرى، إنها الاستثناء فعلاً.
***
في ضوء القمر(1/61)
تعرفت على سلمى في الشركة التي نعمل فيها معاً. لم تكن فاتنة رغم أنوثتها ولم تكن مثيرة رغم نعومتها، ولم يكن فيها ما يشد الانتباه العابر أو يستوقف العيون الجائعة لجسد يضج بالشهوة. كانت تبدو لأول وهلة عادية في كل شيء، في ملبسها، في قوامها، في حركاتها وفي قسماتها. إلا أن ما جذبني إليها تصرفاتها الحكيمة مع الزملاء، وحساسيتها المفرطة التي تحاول إخفاءها بالانهماك في العمل، وحماسها في مساعدة الآخرين، وثقافتها الواسعة التي يجسدها شغف محموم بقراءة الأعمال الأدبية والفكرية القيمة.
قلتُ لها ذات يوم وهي تعيد لي كتاباً استعارته مني:
-سلمى، إني معجب بشخصيتك، أنت بحق فتاة مختلفة.
أجابتني آنذاك وفي عينيها فرح مكبوت:
-أنا فخورة بإعجابك، ولكن من الإنصاف أن أقول: إن كل ما أريده أن لا أكون أنثى فحسب بل إنسانة، أريد أن أكون مواطنة ذات دور، دور لا يختلف عن دورالرجل.
ومع توالي الأيام والشهور توطدت العلاقة بيننا وأيقنت بأنها المرأة الحلم التي أبحث عنها. عندها عزمت على مفاتحتها بمشاعري مدفوعاً بإحساس وطيد بأنها تبادلني نفس المشاعر. وكانت تلك الرحلة مع سلمى إلى مصيف جبلي جميل. كنا آنذاك مجموعة من الزملاء والزميلات وكان ذلك في شهر حزيران المعتدل. نزلنا في فندق، فلقد كان مقرراً أن نقضي ليلة واحدة ثم نعود في اليوم التالي إلى المدينة.
لم أفارقها منذ صولنا إلى المصيف، وعند المساء شجعتُ نفسي وقلتُ لها بصوت خفيض:
-سلمى ما رأيك بنزهة ليلية على سفح ذلك الجبل؟
-لوحدنا، وماذا يقول الآخرون؟
-لا يهم، طالما نحن مقتنعون بذلك.
-وكيف نسير في الظلام؟
-نحن في منتصف الشهر، ستكون ليلة قمراء.
ابتسمت بخجل وقالت لي بصوت متقطع:
-كما تريد.(1/62)
كانت سعادتي لا توصف، وبعد فترة بدت لي طويلة جداً، تربع القمر بدراً في السماء. كانت سفوح الجبال مضاءة بلون فضي وقد غطتها أشجار الزيتون الفتية ودوالي العنب المستلقية على الأرض بتراخ، وكانت أصوات الجنادب تمنح الجو موسيقى عذبة. انطلقنا سوية في طريق جبلي صغير وقد خيم علينا صمت صاخب. وبعد مسافة قصيرة قلتُ لها مداعباً:
-ها نحن في الجنة معاً.
ضحكت ثم قالت:
-ألا تعرف ما فعلته حواء بآدم؟
قلتُ:
-ما أحلى العودة إلى الأرض، انظري أي سحر رائع يلفنا.
صمتت وكأنها تذوب في السحر الذي يهمي علينا.
قلتُ لها وأنا أفكر ملياً بمصارحتها:
-هل قرأتِ قصة "في ضوء القمر" لجي دي موباسان(1)؟
التفتت إليّ وبسمة حلوة تكحل عينيها، ثم قالت:
-لقد قرأتُ بعض القصص لموباسان، ولكني لم أسمع بهذه القصة، اروها لي فكلي آذان صاغية.
اقتربتُ منها حتى كدت أن ألامس جسدها وبدأتُ السرد:
كان الأب مارينان متعصباً بعض الشيء إلا أن ذلك لم يستطع أن يطمس سمو روحه وحبه للجمال. وكان مغرماً بمعرفة الغرض من خلق كل شيء. كان يقول لنفسه مثلاً: لماذا خلق الله الشمس؟ ويجهد نفسه كي يعرف الهدف من خلقها، كان يريد أن يعرف سر الله في الموجودات ولماذا خلقها. وكان يكره النساء ويعتبر المرأة سبب الخطيئة الأزلية.
قاطعتني معلقة بروح خفيفة:
-إذا كان البحث عن سر الموجودات له، فكره النساء عليه، مسكين، لقد حرم نفسه من الحب ففقد سداد الرأي، ما رأيك؟ هل توافقني؟
أجبتها بتدفق:
-بلا تحفظ.
ثم تابعتُ: ولسوء حظه أو لحسن حظه كانت له ابنة أخت تعيش في كنفه، وكانت في ميعة الصبا، وعندما كانت تداعبه وتتودد له يدفعها بغلظة متخيلاً الشهوة التي تتقد في جسدها المسكون بالشيطان. لقد قرر أن يجعل منها راهبة.
__________
(1) أديب فرنسي يعتبر من أبرز كتاب القصة القصيرة في القرن التاسع عشر.(1/63)
وذات يوم حدث الزلزال: أخبرته خادمته مساء ذلك اليوم وهو يحلق ذقنه أن ابنة أخته تغادر البيت سراً لملاقاة عشيقها، ثار ثورة عارمة، توقف عن الحلاقة، اتهم خادمته بالكذب، إلا أنها أصرت طالبة منه أن يتأكد بنفسه، فلقد غادرت الفتاة البيت منذ قليل إلى المكان المعهود. حطم كرسياً كان بجانبه بضربة واحدة، وبدأ يزرع الغرفة جيئة وذهاباً في سورة غضب محموم. وبعد فترة غادر البيت قاصداً المكان الذي حددته الخادمة. حينما خرج كانت السماء مزينة بالبدر كهذه الليلة تماماً، وكان ضوء القمر قد أحال تلك الليلة الصيفية إلى لوحة طبيعية يعجز عن رسمها كبار الرسامين. سار مسرعاً وسط الحقول، وكانت نسائم عليلة تهب بين الفينة والأخرى على وجهه فتكنس شيئاً فشيئاً من انفعالات الغضب، كما كانت أصوات الحشرات الليلية ونقيق الضفادع من نهر بعيد تضفي على الجو عذوبة تخفف من آلام كرامته الجريحة. وفجأة قفز سؤال عزيز على نفسه: لماذا خلق الله كل هذا الجمال في الوقت الذي نام فيه معظم القرويين؟ وألح عليه السؤال حتى كاد أن ينسى الغرض من خروجه في ذلك الليل الهادئ المنعش.
قالت لي مقاطعة وهي ترمقني بعينين لم ولن أجد أكثر عذوبة منهما:
-أسعفني، هل وجد الجواب؟
قلتُ لها وعيناي تغرقان في عينيها ويدي تحط بهدوء على كتفها:
-سنعطيه الجواب.
قالت وهي تضع رأسها على كتفي:
-نحن؟
أجبتها بصوت متلعثم:
-نعم نحن.
-كيف
تلاشت الكلمات، لم تعد الحروف تسعفني، أنّى لي أن أجيب ومشاعر مجنونة تسكرني، وددتُ لو أحتضنها، أقبلها، أن أطير بها.
توقفنا عن المسير ووقفنا وجهاً لوجه، ورفعتُ يدين مرتعشتين تحتضنان وجهها الذي طالما حلمتُ به، بريئاً كوجه طفل وليد، معطاراً كمساكب ورد جوري.
خيم علينا صمت عاصف، ثم استجمعتُ قوايَ وتابعت: حينما رآنا كان الجواب. لقد خُلق هذا الجمال من أجلنا، من أجل الحب، عندها قفل راجعاً خجلاً مما كان مقبلاً عليه من خطأ قد لا يغفره الله أبداً.(1/64)
سألت كحمامة وديعة: وماذا كان العاشقان يفعلان؟ قبلتها بكل ما اختزنته من شوق وحنان منذ تعارفنا وأحسست باستجابتها فسكرت. وبعد هنيهة قالت لي: هل تحبني إلى هذا الحد؟
شعرت بحرارة أنفاسها تدغدغ وجهي وأجبتها بقبلة حملت كلمات ذابت في رحيق فمها: أكثر مما تتصورين.
***
النكوص
عندما سمع أخت زوجته تبلغه على الهاتف نبأ مغادرة زوجته إلى الأرجنتين، هبط قلبه وكأنه سقط فجأة من علو شاهق. حاول بكل قواه أن يعرف المزيد إلا أنها رفضت بحزم إعطاء أية تفاصيل. اجتاحه دوار شديد، ولولا مساعدة صديقه أحمد الذي كان يرافقه إلى المكتب الخاص بالمكالمات الدولية لسقط على الأرض حتماً. خواء صحراوي يداهمه، وألم ضار يمزق معدته، وغثيان يقتلعها، وعرق يتصبب من كل أعضائه. كيف حدث هذا؟؟ إنه كابوس بالتأكيد، لا يصدق أن تسافر زوجته الأرجنتينية مع ابنتيهما إلى باريس لزيارة أختها المتزوجة هناك، ثم تغادر إلى الأرجنتين هكذا وبلا مبرر معقول. لقد هربت بالتأكيد ولن تعود. وافق على سفرها إلى باريس دون تردد، حملها الهدايا، ودعها في المطار دون أن يراوده أي شك في هروبها. صحيح أنها كانت تتمنى أن يهاجرا إلى الأرجنتين، ولكنها مجرد أمنية يبررها حب الوطن ويغذيها الشوق للأسرة والأقرباء والمحيط الذي شبت فيه. لم يخطر بباله ولو مرة واحدة منذ زواجهما –الذي مضى عليه عشر سنوات تقريباً- فكرة هروبها. كانت علاقتهما ممتازة، وفوق كل ذلك كانت تدرك مدى تعلقه بابنتيه رنيم التي لم تتجاوز بعد ربيعها السابع، ورند التي تجاوزت ربيعها الأول بقليل، وكانت كثيراً ما تردد أمام أهله وأصدقائه: لم أر في حياتي أباً حنوناً مثل زوجي، إنه مجنون بحب ابنتيه.(1/65)
وغالباً ما كانت تعلق عندما تضيق ذرعاً باهتمامه البالغ بإحداهما: إني أتساءل، مجرد تساؤل، ماذا سيحل بكَ إذا أصيبت - لا سمح الله-إحداهما بمكروه؟ إني أتصور أن كارثة ماحقة ستحل بك، وأن العالم سينهار أمام عينيك دفعة واحدة. نعم لقد انهار العالم في عينيه الآن.
ينتبه أحمد الذي عقلت الأخبار لسانه إلى أنهما منذ أن غادرا المكتب لم يتبادلا كلمة واحدة، فيحاول كسر جليد الصمت:
-أنا معك يا محسن الموقف صعب بالفعل، ولكن لماذا تتصور ذهابها هروباً؟ قد تكون زيارة قصيرة ثم تعود. أرجوك لا تتسرع في الحكم.
لا يجيب، يبقى صامتاً، فيضيف أحمد:
-في رأيي، لقد فشل مخططك في الذهاب إلى بيتك هذه الليلة، أرجو أن تعود إلى بيت أهلك، ما رأيك؟؟
يرد محسن بصوت خفيض:
-معك الحق، معك الحق.(1/66)
إنه بالفعل لا يجرؤ على دخول البيت لوحده، فلقد تحول فجأة إلى أطلال تعوي فيها الرياح وتستوطنها أشباح مرعبة. كانت الشوارع خالية تقريباً من المارة، فالليل قد انتصف وأمطار خفيفة قد بدأت بالهطول، ودع أحمد الذي أصبح بيته قريباً جداً واستقل سيارة خاصة قاصداً بيت أهله. وفي الطريق خطرت على باله فكرة الذهاب إلى بيته للتأكد من وجود الأوراق الثبوتية والوثائق الخاصة بزوجته، ففي ذلك دليل قاطع على الحقيقة، يطلب من السائق تغيير الاتجاه. لا بد من أن يقطع الشك باليقين. تمنحه الفكرة بعض النشاط ويستعيد توازنه، وينبعث بصيص من أمل. يستحيل أن تهرب، لقد أحبها من كل قلبه وأحبته إلى حد الجنون، وتزوجها خلال دراستهما المشتركة في بلد كلاهما غريب عليه، وزادت الأيام من لحمة علاقتهما ومهرتها الطبيعة بميلاد رنيم ورند.. لا.. لا يمكن أن تهرب. وحينما دخل البيت داهمه خوف شديد لم يعرف كنهه وأحس ببرودة رؤوس أصابعه رغم أن الربيع قد اكتسح أخيراً كل مواقع الشتاء. ظلام كثيف يجثم في البيت وصمت ثقيل يغمره، شيء واحد ينعش روحه الكسيرة، رائحة البنتين التي تخيلها منثورة في كل ركن، يضيء مصباح الصالون، يتجه مباشرة إلى درج الطاولة الذي اعتادت زوجته أن تحتفظ فيه بكل الوثائق الهامة. يفتح الدرج، يصعق، لا يجد ولو ورقة واحدة، أخذت كل شيء، جميع شهاداتها بل وأكثر من ذلك، كل الوثائق المتعلقة برنيم ورند، لقد كانت خطة الهروب محكمة. يترنح، يشعر بأنه على وشك الإغماء، يهبط على كرسي قريب، يمسك جبينه بقوة كأنه يحاول أن يمنع عظام جمجمته من الانفجار. لقد هربت بالفعل وضاع كل أمل.(1/67)
ومضت في ذهنه فكرة الفراق الأبدي، داهمته مشاعر غريبة كتلك التي تسبق نوبات الجنون، نوبات الانفصال عن الواقع، واختلطت في ذهنه شتى الصور والأفكار والأحاسيس. وكدفاع عن قواه العقلية يحلم برؤية رنيم ورند ولو بعد سنين، وتمتلئ نفسه كرهاً لزوجته، لقد خدعته وسلبته أجمل ما في حياته هكذا ظلماً وعدواناً.
ينهض عن الكرسي، يضيء مصابيح جميع الغرف، تستطلع عيناه كل الجدران والزوايا، ثم يدخل غرفة الصغيرتين، تتعلق عيناه بدفتر رنيم المفتوح على طاولتها الصغيرة بالقرب من سريرها، لقد كانت تكتب وظيفتها قبيل السفر، ثم يرى حذاء رند الملون فيأخذه بين يديه بحنان متخيلاً أنه يداعب قدميها، ويتحسس -والدموع تتقاطر من عينيه -سرير كل منهما، ويشم ويضم وسادتيهما، تهاجمه مرة أخرى مشاعر الفقد والشوق فيكاد أن يتمزق، يكاد أن يفقد عقله، يترك كل شيء على حاله ويهرب من البيت بسرعة. وفي الطريق إلى بيت أهله يحس بحاجة ماسة إلى أمه. فرغم أنه تجاوز الثلاثين من العمر، يسيطر عليه شوق طاغ لحضن أمه، يريد أن تعانقه، أن تضمه إلى صدرها. وعندما يفتح الباب، يسمع أمه تخاطبه بصوت متقطع، وهي تحاول النهوض من سريرها:
-تأخرت يا محسن، لقد قلقت عليك جداً
ثم تقترب منه والدموع في عينيها، لم يعرف أنها اتصلت بصديقه أحمد هاتفياً، وعرفت منه كل شيء. تأخذه بين ذراعيها، تضمه بقوة فيستسلم لها كطفل صغير وينفجر في بكاء رهيب.
***
تعذيب جحش
1-الحادثة(1/68)
التف الناس حوله وعلى وجوههم ارتسمت علامات الدهشة والحيرة والارتباك، لم يألفوا منظراً كهذا. كان محمد الراشد ينهال بعصاه الغليظة على جحشه وكأنه يضرب جذع شجرة معمرة، وكان الجحش يرمح ويدور عند كل ضربة. وشيئاً فشيئاً بدأ إيقاع الضرب يتسارع، ونفرت دماء غزيرة من رأس الحيوان، ثم سقط على الأرض، صوت تكسر العظام ولون الدماء واهتزاز جسد الحيوان البطيء اعتقل حركة الجميع. صمت مطبق لا يقطعه سوى ضرب متسارع، ضرب لا يفرق بين عضو وعضو، ودماء ساحت على جسد المسكين الذي فرد قوائمه واستسلم لسكرات الموت. لم يتوقف محمد الراشد رغم وضوح موت الحيوان، بل استمر بضرب الجثة ناثراً عند كل ضربة كمية من دم حار على جموع المشاهدين، لقد تناثرت نقط الدم على وجوههم وثيابهم مما دفعهم للابتعاد قليلاً. كانت الوجوه صفراً والحلوق جافة، وفي النظرات مزيج من الألم والتساؤل.. وفي هذه اللحظة اندفعت طفلة صغيرة لم تتجاوز الخامسة من العمر باتجاه محمد الراشد، لتأخذ منه العصا التي استحال لونها إلى أحمر قان، لم يمانع، كان منهكاً قد أعياه الانفعال الشديد، وهدّه الجهد المتواصل. تقدمت الطفلة بخطى مترنحة نحو جثة الحيوان، وضعت العصا على الأرض بالقرب من الجثة، ثم انحنت لتربت بيديها الصغيرتين المرتجفتين على رأس الحيوان وعينيه ووجهه، ثم انخرطت في عويل رهيب. تفجرت دموع المشاهدين، عندها غادر محمد الراشد المكان على عجل دون أن يجرؤ على مواجهة نظرات الآخرين.
2-التفسير
لم تمر الحادثة ببساطة رغم أن الضحية جحش، فقد شغلت القرية لفترة طويلة. منهم من قال إن محمد الراشد مصاب بلوثة عقلية على الرغم من مظهره الهادئ وطيبته الظاهرة، فهو ميال للعزلة، قليل الكلام وحساس إلى حد كبير. فمن يعذب جحشاً إلى هذا الحد لا بد أن يكون مجنوناً.(1/69)
ومنهم من قال إن محمد الراشد كان مصاباً طوال عمره بالخوف، وقد تبين لهم أنه قبل الحادثة بأيام قليلة تلقى تهديداً من أحد المتنفذين الكبار لرؤيته جحش محمد الراشد في أرضه. وكي يدفع عن نفسه أذى متوقعاً أراد أن يبرهن لذلك المتنفذ عن حسن سلوكه واعتذاره له عن ذلك "الخطأ الفظيع".
وآخرون قالوا إن محمد الراشد لا يحتمل أن يُعصى له أمر، ولو كان ذلك صادراً عن جحش. صحيح أنه ليس شجاعاً، ولكنه في حدود ما يملكه يستطيع أن يتصرف على هواه. فالجحش جحشه وقد عصاه، كما يبدو، فلا بد له من جزاء.
ومنهم من قال إن قصة محمد الراشد قصة وراثة. فأبوه كان مغرماً بتعذيب الحيوانات وجده من قبله كان أشهر من نار على علم في هذا المجال، بل إنهم يؤكدون إن جد جده كان أسطورة في التلذذ بالتعذيب، وقتل الكائنات الحية.
3-طلب التحقيق
لم تقف أصداء الحادثة عند حدود القرية بل تعدتها إلى رحاب العالم. فلقد صادف أن أرسل أحد شبان القرية الصغار رسالة إلى أخيه المهاجر إلى إحدى الدول، أخبره فيها عن تفاصيل تلك الحادثة المرعبة. قام ذلك المهاجر برفع تقرير مفصل عنها إلى جمعية الرفق بالحيوان في ذلك البلد. رُوِّعت تلك الجمعية بالتفاصيل الواردة في ذلك التقرير، فدعت إلى اجتماع موسع واتخذت القرار التالي: إن تعذيب جحش إلى حد الموت أمر فظيع حقاً. نطالب بالتحقيق، وفي حال ثبوت الجريمة لا بد من الحجر على الجاني. إن احترام الكائنات الحية مبدأ مقدس يجب مراعاته في كل دول العالم.
4-النهاية(1/70)
تابعت القرية باهتمام بالغ الوضع الصحي للطفلة، وهي الابنة الوحيدة لمحمد الراشد، إذ وقعت طريحة الفراش منذ الحادثة. أصابها مرض استعصى على الأطباء، حمى شديدة عقلت لسانها وعطلت حواسها ورمتها في سُبات عميق. استمرت حالتها على هذا المنوال شهوراً طويلة ثم فارقت الحياة في النهاية. لم تشهد القرية جنازة حاشدة كجنازة تلك الطفلة. ولقد ألقى أحد الشباب المثقفين كلمة مؤثرة على قبرها، ومما جاء فيها: لم تتحمل تلك الطفلة تعذيب جحش ولم تصدق أن يكون الفاعل أباها، لقد كانت بحق ضميرنا الحي، ثم ختم كلمته قائلاً: كان بودنا أن يطول بها العمر لتصبح أماً، فتعلم أولادها حب الكائنات الحية، وتزرع في قلوبهم الغضة احترام الحياة على سطح هذا الكوكب.
***
موت السيد المسؤول
قال له رئيس المكتب بلهجة حيادية: سيادته مشغول، عنده اجتماع. ثم أردف قائلاً: إذا أردت الانتظار فأهلاً بك.(1/71)
غاص قلبه بين ضلوعه، فلقد كان يخشى هذا الموقف خشية مرضية. ألقى بجسده المتعب على أحد المقاعد الوثيرة، وحاول جاهداً أن يوقظ الأمل بمقابلة صديقه السيد المسؤول، فما زال أمامه ثلاث ساعات حتى نهاية الدوام الرسمي. كان فيما مضى يستطيع زيارة صديقه في منزله، فيما إذا حدث طارئ حال دون مقابلته في العمل، أما الآن وبعد التغيرات التي طرأت على علاقة صديقه به، لم يعد يفكر بذلك مهما كان الأمر خطيراً أو مستعجلاً. كما أنه لا يستطيع البقاء يوماً آخر، فإجازته يوم واحد مما فرض عليه السفر من بلدته فجراً كي يصل إلى المدينة الكبيرة قبل الظهر، عندها يتاح له متسع من الوقت وتتزايد فرص اللقاء بصديقه. وبمرور الوقت يتنامى قلقه، يلقي نظرات متكررة على ساعة يده، يتمنى من كل قلبه أن يسمع ما يشعر بانتهاء الاجتماع. يقنع نفسه بعد استعراض شتى الاحتمالات بحتمية المقابلة، إذ لا يمكن لصديقه أن يرفض استقباله مهما كانت الأعذار، خاصة بعد توقفه عن الزيارات مدة سنتين تقريباً. وفي الحقيقة لم يكن التوقف عن الزيارات أمراً عفوياً، بل كان قراراً اتخذه في أعقاب زيارته الأخيرة لصديقه المسؤول. كان يتمنى من كل قلبه أن لا يتراجع عن قراره ولكن إلحاح ابنه ولمدة شهور ومطلبه الحق كانا وراء تغير موقفه.(1/72)
قال له ابنه منذ أيام: "منذ سنة وأنا عاطل عن العمل، الاعتماد فقط على شهادتي الجامعية وهم وسراب، كثير من الجامعيين لايجدون منذ سنوات ما يسد الرمق، لا بد من واسطة في هذا المجال، وأنت خير من يعرف ذلك، فلماذا لا تطلب من صديقك السيد المسؤول مساعدتنا؟ إنه يدرك أن راتبك وأجور العمل الإضافي بالكاد يفيان بالحاجات الأساسية للبيت، وإن تأمين عمل لي قد يخفف عنك بعض الأعباء، وهو في كل الأحوال بمثابة أخ لك، فلماذا توقفت زياراتك له في الفترة الأخيرة؟ أرجوك أن تساعدني، أرجوك أن تسافر وتشرح له مدى حاجتي لعمل يمكنني من الاعتماد على نفسي وبالتالي التفكير بالزواج، فلقد بلغت الثلاثين من العمر. أنا واثق من مساعدته، إنه يحترمك ويقدر أنك أمضيت زهرة شبابك في الدفاع عن كل ما تؤمن به من مثل عليا بكل شرف ونبل، دون التفكير بمصالحك الشخصية، ألم يساعدك في الماضي؟ ألم تحدثني أنه قال لك ذات يوم: إنك الأخ الذي لم تلده أمي".
لم يجب، صمت كصخرة، لا يريد أن يطلع ابنه على الطعنة التي تلقاها من صديقه السيد المسؤول في تلك الزيارة، والتي جاءت في أعقاب سلسلة من المواقف المتسمة بالبرود الشديد، ففي ذلك اللقاء قال لصديقه وهو يهم بمغادرة المكتب الفخم بعد ثلاث دقائق من دخوله:
-لم أتصور في يوم ما أن تصل علاقتنا إلى هذا المستوى من التردي، لقد انتظرت ساعة كاملة قبل السماح لي بمقابلتك، إنني أقدر مسؤولياتك وما يفرضه مركزك من تبعات، إلا أن ما يؤلمني مشاعرك، طريقة تعاملك معي، لقد حولتني إلى مجرد مراجع..
قاطعه بغلظة وهو يرد عليه بلهجة انفعالية:
-هل تريد أن أترك أعمالي وأن ألغي مقابلاتي الرسمية لاستقبل "حضرتك"؟
عندها لم يجب، ودعه ثم غادر مطعوناً كسير النفس.(1/73)
وها هو الآن وبعد أن ماطل ابنه شهوراً عديدة يعود عن قراره، ويجلس في انتظار صديقه المسؤول. يتمنى من كل قلبه أن يصحو الماضي في ذاكرة صديقه. كم كان الماضي عبقاً بالذكريات العذبة! وكم كان مفعماً بآلاف المواقف التي وحدت بينهما في كل شيء! نشأا في حي واحد، درسا في مدارس واحدة، اعتنقا نفس الأفكار والمبادئ، حتى أنهما تابعا الدراسة الجامعية في نفس الاختصاص. وكان كثير من الناس يعتبرونهما توأماً. وحينما بدأا حياتهما العملية ظهرت الاختلافات، ولكن مشاعر الصداقة العارمة حالت دون القطيعة بينهما. ذات يوم قال له صديقه:
-تلازم القول والفعل في حياتك مثل يحتذى، إني أحترم مبدئيتك، أما أنا فمختلف عنك، هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، ولكنني سأبقى صديقاً وفياً لك، هذا قدر، أنت أخي الذي لم تلده أمي.
بعد ساعتين أو أكثر يغادر رئيس المكتب الغرفة، فلقد استدعاه السيد المسؤول، عندها تتداخل بعنف مشاعر الأمل بمشاعر الإحباط في أعماقه، فالدوام قد قاربت نهايته. وما أن يرى رئيس المكتب يخطو خطواته الأولى في الغرفة حتى يقف ويده على قلبه ويسأله بلهفة مكبوتة: هل لي أن أقابله؟
فيرد عليه رئيس المكتب بلا مبالاة: ليس لديه وقت لمقابلتك، إذا كان لديك ما تطلبه سجله على ورقة وسأضعها في بريده.
صُعق، امتقع لون وجهه، تصبب العرق من كل خلية من خلايا جسده، كاد أن يغمى عليه، تمالك نفسه إلى أن احتضنه الشارع. ومن خلال الدموع الغزيرة التي أغرقت وجهه، رأى جنازة حاشدة، فاندفع وراءها بعفوية، وكأن الميت صديق قديم.
***
المحتويات
وتنداح الأحزان ... 3
حكاية بلا نهاية ... 3
جدتي ... 3
مهرجان الحب ... 3
الرجال يبكون أيضاً ... 3
اللحظات الأخيرة ... 3
موت هوغو ... 3
تراب الوطن ... 3
حتى الحب يموت ... 3
الاستثناء ... 3
في ضوء القمر ... 3
النكوص ... 3
تعذيب جحش ... 3
موت السيد المسؤول ... 3
***
من أعمال المؤلف
-كتاب بعنوان "وجهة نظر" ، مجموعة من المقالات القصيرة والطويلة (لم ينشر بعد).(1/74)
-ترجمة كتاب "علّم طفلك الصغير القراءة" للمربي الأمريكي جلين دومان. صدر عن دار ربيع للنشر في حلب.
كما صدر له عن دار شعاع للنشر والعلوم في حلب ترجمة الروايات المبسّطة التالية:
1- جزيرة الكنز، للكاتب روبرت لويس ستيفنسون
2- الأسود الجميل ... للكاتبة آنا سويل
3-عائلة روبنسون السويسرية، للكاتب جوهان رودلف ويس
4-جين آير، للكاتبة شارلوت برونتي
5-مرتفعات وذرينغ ، للكاتبة إملي برونتي
6-عالم جديد رائع ... للكاتب الدوس هكسلي.
***
رقم الإيداع في مكتبة الاسد الوطنية :
حكاية بلا نهاية ... :: مجموعة قصص/ محمد عادل عبد الخالق- دمشق : اتحاد الكتاب العرب، 2000- 128ص؛ 20سم.
1- 813.01 ع ب د ... ... 2- العنوان
3- عبد الخالق
ع ... :1851/ 10/2000 ... ... مكتبة الأسد
(((
هذا الكتاب
تتحدث المجموعة، بشكل عام، عن تجارب حياتية، كالعشق والحياة وحب الوطن والرق بالكائنات، وهي تدور في إطار النقد الاجتماعي لأمور سلبية تنخر جسد مجتمعنا. فكرية كانت أم عاطفية أم اجتماعية.
(((1/75)