* قام الشاعر الدكتور الشيخ الفاضل/ محمد تقي الدين الهلالي ـ رحمه الله ـ وهو من علمتم إمامته في هذا الفن، كتب قصيدة لا يمدح فيها الشيخ فحسب، وإنما يمدح فيها آل باز عموماً .
كتب هذه القصيدة الطويلة، فلما اطلع الشيخ ـ رحمه الله ـ على القصيدة كتب ردّاً عليها فقال رحمه الله: ( قد اطلعت على قصيدة نشرت في العدد التاسع من مجلة الجامعة الإسلامية في الهند لفضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي، وقد كدّرتني كثيراً، وأسفت أن تصدر من مثله، وذلك لما تضمنته من الغلو في المدح لي ولعموم قبيلتي، .. إلى أن قال رحمه الله: وإنني أنصح فضيلته من العود إلى مثل ذلك وأن يستغفر الله مما صدر منه ) ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
فتأمل ـ يا رعاك الله ـ كيف أن الشيخ أنكر على مادحه، ثم مع إنكاره لمادحه توّج هذا الإنكار بالتلطف، فقال عن المادح وهو يرد عليه: لفضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي، ثم قال: وإني لأنصح فضيلته.
* كتب أحد طلبة العلم قصيدة في مدح هذا الإمام ، فلما قرأها الأخ : فهد البكران ( من مجلة الدعوة ) على فضيلة الشيخ ، قال الشيخ : هل تريدون نشرها في مجلة الدعوة ؟
قال فهد : إذا أذنتم بذلك يا سماحة الشيخ .
فقال الشيخ : لا لا لا ، مزقها، مزقها .
يقول فهد : ثم إن الشيخ توجه بوجهه إلى الوجهة الأخرى ـ يعني صرف نظره عن فهد ـ وقال : ـ أي الشيخ ـ وهو يستغفر ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، وتغيّر وجهه.
* في عام 1415هـ خصصت جريدة المدينة ملحق الأربعاء للحديث عن سماحة الشيخ ، وأعد الملحق ، وجهّز للطبع، واستوفيت المعلومات . لكن ما أن علم سماحة الإمام بذلك حتى منع من إخراج الملحق وأصرّ وأخبر أن العبد بحاجة إلى الإخلاص والكتمان ولعل الله سبحانه وتعالى أن يقبله والحالة هذه ، فاستجابت الجريدة ومنع طبع هذا الملحق عن سماحته رحمه الله تعالى .(1/1)
لقد كان رحمه الله تعالى مخفياً لأعماله، إلا أن الله عز وجل كتب لها الظهور لما علمه الله تعالى من صدق نيته وجهاده في الله حق جهاده، ولا تعجبوا أيها الأحبة فإن الله سبحانه وتعالى كما في الحديث: إذا أحبّ عبداً نادى جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السماء : يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض .
وأحسب الإمام من أولئك رحمه الله تعالى .
محمد الدحيم(1/2)
(حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة) رحمك الله يا شيخ الإسلام !!
سقطت (بغداد) في يد التتار، فأخذوا يخربون البلاد، ويأسرون العباد، والناس يفرون من أمامهم، وقد ساد الناس ذعر شديد، وفي هذا الوقت العصيب وُلِد (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية) في (حران) بالغرب من دمشق في يوم الاثنين 10 ربيع الأول 661هـ الموافق 12 يناير 1263م، بعد سقوط بغداد في أيدي التتار بثلاث سنوات.
وخوفًا من بطش التتار انتقل به والده إلى (دمشق) وكانت مليئة بالعلماء والمدارس، فأخذ يتلقى العلم على علمائها وشيوخها حتى وصل عدد شيوخه إلى (200) شيخ، وتفوق (ابن تيمية) في دراسة الحديث والفقه والخط والحساب والتفسير وسنه لا تتجاوز عشر سنوات، فقد كان الطفل الصغير (ابن تيمية) سريع الحفظ، قوي الذاكرة، حتى أدهش أساتذته وشيوخه من شدة ذكائه.
ولم يكن الطفل الصغير (ابن تيمية) كغيره من الأطفال يلعب ويلهو، بل كان يسارع إلى مجالس العلماء يستمع إليهم، ويستفيد منهم، ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف والإفتاء، فاتسعت شهرته وذاع صيته، ولما توفي والده الذي كان من كبار الفقهاء في الفقه الحنبلي؛ تولى التدريس بدلاً منه.
كان الإمام (ابن تيمية) جريئًا في إظهار رأيه، مدافعًا عن السُّنَّة حتى سمي بـ(محيي السنة).. عاش ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام الذي عُني بالجهاد في سبيل الله، فوقف (ابن تيمية) معه ثم مع السلطان قلاوون، وجاهد بسيفه ضد التتار الذين هجموا على البلاد، وذهب على رأس وفد من العلماء وقابل (قازان) ملك التتار، وأخذ يخوفه مرة ويقنعه مرة أخرى حتى توقف زحف التتار على دمشق، وأطلق سراح الأسرى.(1/1)
وكان ابن تيمية قوي الإيمان، فصيح اللسان، شجاع القلب، غزير العلم، وكان وحده قوة عظمى يحسب لها الأعداء ألف حساب، فازداد الناس تعلقًا به، والتفافًا حوله، وظل ابن تيمية يقضي وقته بين التدريس في المساجد، وتبصير الناس بأمور دينهم، وبيان ما أحل الله وحرم، والدفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه
وسلم، ولكن أعداءه ومنافسيه كانوا له بالمرصاد، فأوقعوا بينه وبين سلطان مصر والشام (ركن الدين بيبرس الجاشنكير) فنقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة وكبار رجال الدولة، فحكموا عليه بالحبس سنة ونصف في القلعة، ثم أخرجوه من السجن، وعقدوا جلسة مناظرة بينه وبين منافسيه وخصومه، فكسب (ابن تيمية) المناظرة، ورغم ذلك لم يتركه الخصوم فنُفِي إلى الشام، ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحبس، ثم نقل إلى الإسكندرية حيث حبس هناك ثمانية أشهر.
واستمرت محنة (ابن تيمية) واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك (الناصر محمد بن قلاوون) براءته من التهم الموجهة إليه، وأعطاه الحق في عقاب خصومه الذين كانوا السبب في عذابه واضطهاده، لكن الإمام (ابن تيمية) فضَّل أن يعفو عنهم !! وهكذا تكون شيم الكرام.
وظل (ابن تيمية) في القاهرة ينشر العلم، ويفسر القرآن الكريم، ويدعو المسلمين إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، ثم رحل إلى (دمشق) بعد أن غاب عنها سبع سنين، وخلال وجوده هناك أفتى في مسألة، فأمره السلطان بأن يغير رأيه فيها، لكنه لم يهتم بأوامر السلطان وتمسك برأيه وقال: (لا يسعني كتمان العلم) فقبضوا عليه وحبسوه ستة أشهر، ثم خرج من سجنه، ورجع يفتي بما يراه مطابقًا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/2)
لكن خصومه انتهزوا فرصة إفتائه في مسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، فقد كان (ابن تيمية) يرى أن تلك الزيارة ليست واجبة على المسلمين، فشنَّعوا عليه حتى حبس هو وأخوه الذي كان يخدمه، ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف والكتابة، لكنهم منعوه من ذلك، فأرادوا كتمان صوت علمه أيضًا، فأخرجوا ما عنده من الحبر والورق، فلم تلن عزيمته ولم تضعف همته وتحداهم، فكان يكتب بالفحم على أوراق مبعثرة هنا وهناك، وكان من أقواله (حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة).
وقد توفي (ابن تيمية) عام 728هـ وهو على حاله صابرًا مجاهدًا، مشتغلاً بالعلم، وحضر جنازته أكثر من خمسمائة ألف مسلم، وله مؤلفات كثيرة تجاوزت ثلاثمائة مجلد أغلبها في الفقه وأصوله والتفسير، ومن أهم كتبه (منهاج السنة)
و(درء تعارض العقل والنقل) و(اقتضاء الصراط المستقيم) و(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(الفتاوى الكبرى) و(مجموع الفتاوى) و(السياسة الشرعية في صلاح الراعي والرعية(1/3)
كان يوم وفاته يومًا مشهودًا، اجتمع في تشييع جنازته من الناس ما لا يحصيهم إلا الله، حتى كادت تتوقف حركة الحياة بمصر، يتقدمهم سلطان مصر والخليفة العباسي والوزراء والأمراء والقضاة والعلماء، وصلَّت عليه البلاد الإسلامية صلاة الغائب، في مكة وبيت المقدس، والخليل.. وغيرها، ورثاه الشعراء بقصائدهم، والكتاب برسائلهم.
إنه شيخ الإسلام (شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني) المصري المولد والنشأة، المعروف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه، وُلِد بمصر العتيقة (الفسطاط) في 12 شعبان سنة 773هـ، ونشأ يتيمًا، فما كاد يتم الرضاعة حتى فقد أمه، وما إن بلغ الرابعة من عمره حتى توفي أبوه في رجب 777هـ، تاركًا له مبلغًا من المال أعانه على تحمل أعباء الحياة، ومواصلة طلب العلم.
وبعد موت أبيه، كفله (زكي الدين الخروبي) كبير تجار مصر، الذي قام بتربيته والعناية به، فحفظ ابن حجر القرآن الكريم، وجوَّده وعمره لم يبلغ التاسعة، ولما رحل الخروبي إلى الحج سنة 784هـ رافقه ابن حجر وهو في نحو الثانية عشرة من عمره، ليدرس في مكة الحديث النبوي الشريف على يد بعض علمائها.
ولما عاد إلى القاهرة، درس على عدد كبير من علماء عصره أمثال: (سراج الدين بن الملقن) و(البلقيني) و(العز بن جماعة) و(الشهاب البوصيري) ثم قام ابن حجر برحلات دراسية إلى الشام والحجاز واليمن، واتصل بمجد الدين الشيرازي، وتعلم اللغة صاحب (القاموس المحيط) عليه يديه، غير أن ابن حجر وجد في نفسه ميلا وحبًّا إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقبل عليه منكبًّا على علومه مطالعة
وقراءة، وأجازه معظم شيوخه بالرواية وإصدار الفتاوى والقيام بالتدريس، فكانت تقام له حلقات الدرس، ويجلس فيها العلماء في كل بلد يرحل إليه، حتى انتهت إليه الرياسة في علم الحديث في الدنيا بأسرها، وبلغت شهرته الآفاق، وارتحل أئمة العلم إليه من كل أنحاء العالم الإسلامي.(1/1)
وقد أَهَّلَه علمه الغزير أن يشغل عدة مناصب مهمة، فقام بتدريس الحديث والتفسير في المدرسة الحسنية، والمنصورية، والجمالية، والشيخونية والصالحية.. وغيرها من المدارس الشهيرة بمصر، كما تولى مشيخة المدرسة البيبرسية، وولي الإفتاء
بدار العدل، وتولى ابن حجر منصب القضاء، واستمر في منصبه نحو عشرين سنة شهد له فيها الناس بالعدل والإنصاف، وإلى جانب ذلك تولى الخطابة في الجامع الأزهر ثم جامع عمرو بن العاص .
وكان من عادة ابن حجر أن يختم في شهر رمضان قراءة صحيح البخاري على مسامع تلاميذه شرحًا وتفسيرًا، وكانت ليلة الختام بصحيح البخاري كالعيد؛ حيث يجتمع حوله العلماء والمريدون والتلاميذ، ثم توج حبَّه لصحيح البخاري وشغفه به بأن ألَّف كتابًا لشرحه سماه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) استغرق تأليفه ربع قرن من الزمان!! حيث بدأ التأليف فيه في أوائل سنة 817هـ وانتهى منه في غرة رجب سنة 842هـ.
وهذا الكتاب يصفه تلميذه (السخاوي) بأنه لم يكن له نظير، حتى انتشر في الآفاق وتسابق إلى طلبه سائر ملوك الأطراف، وقد بيع هذا الكتاب آنذاك بثلاثمائة دينار وقد كتب الله لابن حجر القبول في زمانه، فأحبه الناس؛ علماؤهم وعوامهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساؤهم، وأحبه أيضًا النصارى، وكانت أخلاقه الجميلة وسجاياه الحسنة هي التي تحملهم على ذلك، فكان يؤثر الحلم واللين، ويميل إلى الرفق وكظم الغيظ في معالجة الأمور، يصفه أحد تلاميذه بقوله: كل ذلك مع شدة تواضعه وحلمه وبهائه، وتحريه في مأكله ومشربه وملبسه وصيامه وقيامه، وبذله وحسن عشرته ومحاضراته النافعة، ورضي أخلاقه، وميله لأهل الفضائل، وإنصافه في البحث ورجوعه إلى الحق وخصاله التي لم تجتمع لأحد من أهل عصره.
وقد ترك لنا ابن حجر ثروة ضخمة من الكتب تزيد على المائة والخمسين كتابًا، أهمها:(1/2)
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) و(تهذيب التهذيب) في تراجم رجال الحديث و(بلوغ المرام من أدلة الأحكام) في الفقه و(الإصابة في تمييز الصحابة)
و(الدرر الكامنة) في أعيان المائة الثامنة، و(القول المسدد في الذبِّ عن مسند الإمام أحمد).. وغيرها، وفي ليلة السبت 28 ذي الحجة سنة 852هـ توفي شيخ الإسلام، وحامل لواء السنة (ابن حجر العسقلاني).(1/3)
مُنَاي مِنَ الدُّنْيَا عُلُومٌ أَبُثُّهَا
وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دُعَاءٌ إلى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي
تَنَاسَى ذِكْرُهَا فِي المَحَاضِرِ
قد تحققت أمنيتك أيها الفقيه، فأفكارك وكتبك لها مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من أبناء الإسلام، يدرسونها بعناية، ويستفيدون منها، ويتخذون منها مصباحًا كلما ضل بهم الطريق.
في (مدينة) قرطبة الساحرة، إحدى مدن الأندلس وفي قصر أحد الوزراء، في أواخر شهر رمضان في عام 384هـ، كان ميلاد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن كبير، فرح به والده فرحًا شديدًا، وشكر الله سبحانه وتعالى على نعمته وعطائه.
نشأ الغلام في قصر أبيه نشأة كريمة، فقد كان أبوه وزيرًا في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم، والحديث النبوي، والشعر العربي، وفنون الخط والكتابة، وتمر الأيام ويكبر الغلام، فيجعله أبوه في صحبة رجل صالح يشرف عليه، ويشغل وقت فراغه، ويصحبه إلى مجالس العلماء.. إنه: (علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي) الشهير بابن حزم الأندلسي.
كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب، فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم والأدب، ومن ذوي المجد والحسب، تولى أكثر من واحد منهم الوزارة، ونالوا بقرطبة جاهًا عريضًا.
وكان (أحمد بن سعيد) والد (ابن حزم) من عقلاء الرجال، الذين نالوا حظًّا وافرًا من الثقافة والعلم، ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكلام، ويقول: (إني لأعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا).(1/1)
وكانت هذه الثقافة الواسعة، والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلت والد ابن حزم لتولي منصب الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خلافة بني أمية في الأندلس، وفي القصر عاش ابن حزم عيشة هادئة رغدة، ونشأ نشأة مترفة، تحوط بها النعمة، وتلازمها الراحة والترف، فلا ضيق في رزق ولا حاجة إلى مال، وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم عفيفًا لم يقرب معصية.. يقول في ذلك: (يعلم الله وكفي به عليمًا، أني بريء الساحة، سليم الإدام (أي: آكل حلالاً) صحيح البشرة، نقي الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام، أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت إلى يومي هذا).
وتغيرت الأحوال؛ فقد مات الخليفة، وجاء خليفة آخر، فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة بعيدًا عن الفتنة، ومن يومها والمحن تلاحق ابن حزم، فالحياة لا تستقرُّ على حال، فقد كشرت له عن أنيابها، وأذاقته من مرارة كأسها، بعدما كانت له نعم الصديق، واضطر(ابن حزم)إلى الخروج من قرطبة إلى (المَرِيَّة) سنة 404هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام له، وكان ابن حزم واسع الاطلاع، يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجالات، ساعده على ذلك ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة، واهتمام أهل الأندلس بالعلوم والآداب، واشتهر ابن حزم بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة، فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت في عصره في تمكن وإحاطة.
قال عنه أحد العلماء (أبو عبد الله الحميدي): كان ابن حزم حافظًا للحديث
وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفنِّنًا في علوم جمَّة عاملاً بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين..(1/2)
وبعد أن بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، طالب بضرورة الأخذ بظاهر النصوص في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكان ابن حزم متنوع الكتابات، كتب في علوم القرآن والحديث، والفقه والأديان، والرد على اليهود والنصارى، والمنطق.. وغيرها من العلوم، قال عنه أحد المؤرخين: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان
(أي علوم اللغة) وزيادة حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار.. وقد بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريبًا، كما قال ابنه الفضل.. يقول عنه الإمام (أبو حامد الغزالي): وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه (ابن حزم الأندلسي) يدل على عظيم حفظه وسيلان ذهنه.
شغل ابن حزم منصب الوزارة ثلاث مرات، وكان وفيًّا للبيت الأموي الحاكم في الأندلس، ومواليًا لهم، يعمل على إعادة الخلافة للدولة الأموية، ويرى أحقيتها في الخلافة، وبسبب ذلك كان يعرِّض نفسه للأسر أو السجن أو النفي، وقد دبر له خصومه المكائد، وأوقعوا بينه وبين السلطان حسدًا وحقدًا عليه، حتى أحرقت كتبه في عهد (المعتضد بن عباد) فقال ابن حزم في ذلك:
فإن تحرقوا القِرْطاس لا تَحْرِقُوا الذي
تضمَّنه القرطاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيُر مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلتْ رَكَائبي
وَيَنْزِلُ إِنْ أنزل وُيدْفن في قبري
وقد منح الله ابن حزم ذاكرة قوية وبديهة حاضرة، فكان متواضعًا لله، شاكرًا
له، يقول في ذلك: (وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وَهَبَكَ إياها ربُّك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمتَ وحفظتَ).(1/3)
وكان عزيز النفس، واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه، لا ينافق الحكام، ويرفض قبول هداياهم حتى لو سبب له ذلك الكثير من المتاعب، وكانت صفة الوفاء ملازمة له، فكان وفيًّا لدينه وإخوانه وشيوخه، ولكل من اتصل به.
وتفرغ ابن حزم للتأليف؛ فأخرج كتبًا كثيرة، مثل: (المحلَّى) في الفقه و(الفصل بين أهل الآراء والنحل) و(الإحكام في أصول الأحكام) و(جمهرة أنْسَاب العرب) و(جوامع السير) و(الرد على من قال بالتقليد) و(شرح أحاديث الموطأ) كما يعد كتاب (طوق الحمامة) من أشهر كتبه، وفيه الكثير من الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات.
وعاش هذا الفقيه في محراب العلم، يتصدى للظلم والجهل، ويجاهد مع ذلك هوى نفسه، وبعد حياة حافلة بالكفاح والعلم والصبر على الإيذاء، لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة 564 هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة، ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة الموحدين أمام قبره خاشعًا ولم يتمالك نفسه، فيقول: كل الناس عيال على ابن حزم.(1/4)
ولد (أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد) الشهير بابن رشد الحفيد في مدينة (قرطبة) عام 520هـ، وكانت آنذاك عاصمة من عواصم الثقافة والفنون والآداب، كان أبوه قاضيًا، أما جده فقد كان قاضي القضاة بالأندلس، فهو ينتمي لأسرة عريقة في العلم
والقضاء.
نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضيات والطب على يد كبار الأساتذة في عصره، وتولى القضاء بقرطبة، ولم يشغله هذا المنصب عن القراءة، حتى قالوا عنه: إنه لم يترك ليلة من عمره بلا درس ولا تأليف إلا ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه!!
كانت سعادة ابن رشد الحقيقية عندما يكون مع كتبه، وكان يحس بحب زائد تجاه كتب الفلسفة التي كان يحسبها بعض الناس في عصره من الكفر والضلالة!! فلم يهتم بما يُقال عنها؛ لأنه واثق كل الثقة في عقيدته ودينه، فأخذ يقرأ لكبار الفلاسفة مثل أرسطو.. وغيره، حتى أصبح عالمًا بالفلسفة إلى جانب سعة علمه في الفقه وسائر علوم عصره.
ونظرًا لمكانته العلمية استدعاه (المنصور أبو يعقوب) سلطان دولة الموحدين إلى مراكش، فأكرمه وقدره تقديرًا كبيرًا، ولم يكن ابن رشد يرتاد مجالس الطرب، بل كان يتعفف عن حضور هذه المجالس، وبلغ من تعففه أنه أحرق شعره في الغزل أيام شبابه، وكان ابن رشد طبيبًا.. يقول: (من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله) إنه يرى أن من يعمل في مهنة الطب، يرى عن قرب إعجاز الله في خلقه، ويشاهد أعضاء الجسم وهي على نظام دقيق؛ فيزداد إيمانه قوة ورسوخًا.
ولابن رشد كتب كثيرة في الطب؛ أهمها كتاب (العلل) وهو من الكتب التي تتعرض للأدوية، وقد كان ابن رشد فقيهًا عالمًا، قال عنه ابن الأنبار: كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه، وله كتاب في الفقه سماه: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وغير ذلك من الكتب الكثيرة التي بلغت خمسين كتابًا.(1/1)
وبعد هذه الرحلة العلمية المباركة، مرض ابن رشد مرضًا شديدًا ومات ليلة الخميس 9 صفر سنة 595هـ، ونقل جثمانه من(مراكش) إلى قرطبة حسب وصيته حيث المنشأ والأجداد.(1/2)
يا للعجب!! هاهي ذي أرض الفرس، التي كانت أرضًا للكفر تنجب الكثير من رجال الإسلام وأعمدة دفاعه، ويظهر منها عدد كبير من كبار المحدثين والفقهاء، يحفظون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتحققت بذلك نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنَّا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه سورة الجمعة، وفيها قول الله تعالى: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة: 3] فقلت: من هم يا رسول الله؟
فلم يجبه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى سأله أبو هريرة ثلاث مرات، فوضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ثم قال: (لو كان الإيمانُ عند الثريا لناله رجال -أو رجل- من هؤلاء) [متفق عليه].
ففي بلدة (قزوين) التي تقع في أذربيجان، ولد (أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني) الشهير بابن ماجه، نسبة إلى لقب والده سنة (209هـ) وكانت ولادته في زمن الخليفة المأمون الذي كان عهده مليئًا بأئمة الفقه والحديث، وكانت (قزوين) قد فتحت في خلافة عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- في سنة 24هـ، وأصبحت ذات شهرة كبيرة في رواية الحديث النبوي الشريف، فمن أرضها خرج كبار المحدثين الذين يحفظون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشرونها بين الناس.
وقد حفظ ابن ماجه القرآن الكريم، وتعلم الحديث الشريف على يد المشايخ والمحدثين الكبار أمثال: (إسماعيل بن توبة القزويني) وهو محدث وفقيه مشهور، و(هارون بن موسى بن حيان التميمي) و(على بن محمد أبو الحسن الطنافسي).. وغيرهم.(1/1)
رحل ابن ماجه في طلب العلم، وأخذ ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم ويسمع من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى خراسان، والعراق، والحجاز ومصر، والشام.. وغيرها من البلاد، ثم أنهى ابن ماجه رحلاته في طلب الحديث وعاد إلى بلده (قزوين) وأمضى بها بقية عمره في خدمة الحديث إلى أن توفي في عهد الخليفة العباسي (المعتمد على الله) في يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء الموافق الثاني والعشرين من رمضان سنة 273هـ عن عمر يقارب الرابعة والستين.
وكانت لابن ماجه مؤلفات في التفسير والتاريخ، إلا أن أشهر كتبه (السنن) الذي استحق به الإمامة في الحديث الشريف، فهو من كتب الحديث المعتمدة عند علماء الحديث، وأحد كتب الحديث الستة المعروفة، وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن ابن ماجه، وقد احتوت سنن ابن ماجه على كثير من الأحاديث التي لم تروها كتب الحديث الأخرى، كما تضم سنن ابن ماجه أربعة آلاف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/2)
في إقليم صغير مجاور لإقليم السند يدعي (سجستان) ولد (أبو داود سليمان بن الأشعث بن بشر بن شداد بن إسحق السجستاني) سنة 202 هـ، وأحب الحديث منذ صغره، فطاف البلاد يسمع الأحاديث من المشايخ الكبار في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان.. وغيرها من أمثال (أحمد بن حنبل) و(يحيي بن معين) و(مسدد بن مسرهد) و(قتيبة بن سعيد).
تألق نجم أبي داود في الحديث واشتهر بعلمه وعمله، حتى أصبح من كبار أئمة الإسلام في عصره، وروي عنه الترمذي والنسائي وغيرهما من الأئمة الأعلام، ذهب أبو داود إلى بغداد ومنها إلى البصرة ويروى في سبب رحيله إليها: أنه ذات يوم طرق باب أبي داود طارق؛ ففتح له الخادم، فإذا بالأمير (أبو أحمد الموفق) ولي عهد الخليفة العباسي يستأذن، فأذن له أبو داود، فدخل الأمير وأقبل عليه، فقال له أبو داود: ما جاء بالأمير في هذا الوقت؟! فقال: خلال ثلاث، يعني أسباب ثلاثة:
أما الأولى: أن تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنًا، ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض، فتعمر بك، بعد أن خربت وانقطع عنها الناس بعد محنة الزنج.
والثانية: أن تروي لأولادي كتاب (السنن).
والثالثة: أن تفرد لهم مجلسًا لأن أبناء الخلفاء لا يجلسون مع العامة!! فقال أبو داود: أما الثالثة فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
وحاز كتاب السنن الذي جمعه أبو داود وعُرِفَ بـ(سنن أبي داود) إعجاب الناس وتقدير العلماء، فقد روي أنها قُرئت على ابن الأعرابي فأشار إلى النسخة، وهي بين يديه، وقال: لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا كتاب الله عز وجل ثم هذا الكتاب يقصد سنن أبي داود، لم يحتج إلى شيء من العلم بعد ذلك، وهذا الكتاب الذي يبلغ عدد أحاديثه نحو أربعة آلاف حديث وثماني مائة حديث اختارها أبو داود من بين خمس مائة ألف حديث كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/1)
وكان أبو داود متمسكًا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حريصًا كل الحرص على تطبيقها، وبيان أهميتها للناس ليقوموا بأدائها، وكان لأبي داود منهج أشبه بمنهج الصحابة في اتباع السنة النبوية والتسليم بها، وترك الجدل في الأمور التي تشعل نار الفتنة بين المسلمين.
مات أبو داود عن ثلاثة وسبعين عامًا، قضاها في خدمة السنة النبوية المطهرة، بعد أن ترك له ابنًا يشبهه في كثير من صفاته هو: الحافظ (أبو بكر عبد الله بن أبي داود) الذي كان تلميذًا نجيبًا لوالده، وشارك أباه في التتلمذ على شيوخه بمصر والشام، وسمع الحديث عن كبار العلماء ببغداد وخراسان وأصبهان وسجستان وشيراز، فصار عالمًا فقيهًا، وألف كتاب (المصابيح).
رحم الله أبا داود وجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد كان للسنة النبوية الشريفة حصنًا منيعًا(1/2)
في مدينة الكوفة ولد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري سنة 113هـ، وتطلع إلى العلم والدراسة فلم يجد خيرًا من مجلس الفقيه الكبير (أبي حنيفة) فتتلمذ على يديه، ودرس عنده أصول الدين والحديث والفقه.
ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول: كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي حنيفة، وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة، فجاءني أبي يومًا فانصرفت معه، فقال لي: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة (أي لا تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك ولا تنقطع للعلم)، فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ فقال لي: ما شغلك عنا ؟ قلت: الشغل بالناس وطاعة والدي، وجلست حتى انصرف الناس، ثم دفع لي صرة وقال:
استمتع بها.
فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال: الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت.
ولم يكن لأبي حنيفة تلميذ في نجابة أبي يوسف وذكائه، فقد استمر في تلقي العلم حتى حفظ التفسير والحديث والمغازي وأيام العرب، وسار أبو يوسف على نهج أستاذه أبي حنيفة في الفقه، إلا أنه كانت له اجتهادات خاصة به، وألف كتبًا كثيرة أشهرها كتاب (الخراج) وهو رسالة في إدارة المال العام والقضاء، وقد قربه الخليفة (هارون الرشيد) إليه، وولاه القضاء، ومنحه لقب قاضي القضاة، وكان يستشيره في أمور الدين والدنيا.(1/1)
وفي عام (182هـ) مات أبو يوسف وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أجر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكلما أشكل عليَّ أمر جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، ومات الفقيه أبو يوسف، فحزن عليه الناس جميعًا؛ وقال صديقه
أبو يعقوب الحريمي: (اليوم مات الفقيه).. فرحم الله أبا يوسف وأسكنه فسيح جناته(1/2)
في مدينة (الري) القريبة من (طهران) ولد (أبو بكر محمد بن زكريا) سنة 251هـ/865م وسمي بالرازي نسبة إلى مدينة (الري) التي ولد فيها، أحب الرازي الغناء والضرب على العود في بداية حياته، ثم هجر ذلك كله واتجه إلى الطب والكيمياء، يقرأ فيهما كثيرًا، وأراد أن يجري إحدى التجارب الكيميائية، فاستنشق غازًا سامًّا سبب له مرضًا شديدًا، وعالجه أحد الأطباء حتى شفي، وكان له صديق يعمل بالصيدلة، فأخذ يتردد عليه، وطالع كثيرًا من الكتب عن الطب، حتى أصبح طبيبًا مشهورًا.
ولما بلغ سن الأربعين، صار أشهر أطباء عصره، فطلب منه الخليفة العباسي (المقتدر بالله جعفر بن المعتضد) إنشاء مستشفى في مدينة (بغداد) عاصمة الخلافة ففكر طويلاً واستشار أصدقاءه وتلاميذه، وأخذ يناقش معهم أنسب الأماكن لإقامة المستشفى، وبعد طول بحث ونقاش أدهش الجميع بفكرته الرائعة، حين أخذ قطعة لحم كبيرة، وقطعها إلى قطع صغيرة، ووضعها في أماكن مختلفة من ضواحي مدينة بغداد، وانتظر بضعة أيام، ثم طاف على الأماكن التي وضع القطع فيها ليرى تأثير الجو والزمن عليها، فإذا تَلِفَتْ القطعة بسرعة اعتبر أن هذه المنطقة لا تصلح لإقامة المستشفى، أما إذا ظلت قطعة اللحم كما هي دون أن يصيبها التلف، أو تأخر، فهذا دليل على طيب هواء المنطقة، وصلاحيتها لإقامة المشروع، وهكذا وقع اختياره على المكان المناسب لإقامة مستشفاه.(1/1)
ذهب الرازي إلى الخليفة ينصحه ببناء المستشفى في هذا المكان، فأعجب الخليفة بذكائه، وأمر أشهر المهندسين، وأمهر البنائين بتشييدها وبنائها، حتى تمَّ البناء، فكان الرازي هو مدير ذلك المستشفى ورئيس أطبائه بتكليف من الخليفة، واعتاد الرازي أن يشرك تلاميذه في استشاراته الطبية، فكان يجلس في بهو المستشفى الكبير ومن حوله الأطباء أصحاب الخبرة في الدائرة القريبة منه، ثم الأطباء المبتدئون في الدائرة الخارجية، وعند حضور أحد المرضى يعرض حالته أولاً على المبتدئين، فإذا لم يستطيعوا معرفة نوع المرض، انتقل المريض إلى الدائرة الداخلية ليفحصه الأطباء المتمرسون، فإذا لم يعرفوا تشخيص حالة المريض، تولى الرازي بنفسه فحص المريض ومعالجته.
وكانت طريقة الرازي مميزة في العلاج إذ أنه كان يتعرف أولا على أعراض المرض في دقة وصبر، ثم يحصر الاحتمالات التي تشير إلى حقيقته، ثم يستبعد منها ما توحي خبرته وملاحظاته بضرورة استبعاده، فإذا عرف المرض وتأكد منه، وصف له العلاج، وتتبع حالة المريض، وكان النجاح يحالفه في أكثر الحالات التي عرضت عليه.
وكان الرازي دائمًا ينصح تلاميذه أن يساعدوا الفقراء بأن يعالجوهم مجانًا، ويعلمهم أن مهنتهم مهنة الرحمة بالضعفاء والمعذبين، وأن عليهم مساعدة مرضاهم على الشفاء بالكلمة الطيبة، وإحياء الأمل في نفوسهم ورفع روحهم المعنوية، كما كان ينصحهم بالمدوامة على القراءة والبحث والاطلاع في المراجع الطبية مهما بلغوا من العمر والخبرة، كما نصحهم بالتعفف عند الكشف على النساء، والالتزام بالشريعة الإسلامية السمحة، ونهاهم عن الكبر والخيلاء.(1/2)
وفي مكتبة البيمارستان (المستشفى) كان الرازي يقرأ على تلاميذه ما قاله الفلاسفة من الأطباء القدماء عن الأمراض المختلفة، وكان من رأيه أنه يجب على الأطباء أن يعرفوا تشريح أعضاء الجسم، لذلك كان يأتي بالقرود من بلاد زنجبار في أفريقيا ويجري عليهم تجاربه أمام تلاميذه، فإذا نجحت التجربة على الحيوان يقوم بإجرائها على الإنسان.
وكان الرازي من أشد المعجبين بجابر بن حيان، فقرأ كتبه، واستطاع أن يطور الكثير مما اكتشفه أستاذه (جابر) وأجرى مئات التجارب الكيمائية، وكان دائم البحث عن أدوية جديدة ووسائل مبتكرة تنفع في علاج المرضى، فحصل على (الكحول) من تقطير المواد النشوية والسكرية المتخمرة، واستعمله في علاج بعض الأمراض، وصنع الأدوية الطبية، واخترع الأنبوب الذي يخرج الدم الفاسد خارج الجرح، ونجحت تجاربه في خياطة أجهزة الجسم الداخلية بخيوط تصنع من أمعاء الحيوانات.
ومن أهم إنجازات الرازي العلمية والطبية أنه اكتشف مرض الحساسية، وكذلك (اليرقان) الناجم عن تكسر الدم، وميَّز بينه وبين التهاب الكبد المعدي، واكتشف أيضًا مرض الحصبة، وميَّز بينه وبين مرض الجدري، واستعمل الرازي خبرته كعالم كيميائي في إدخال بعض المركبات الكيمائية لأول مرة في العلاج.(1/3)
وكان الرازي من أوائل الأطباء الذين يعالجون مرضاهم بأسلوب نفسي بدون أدوية.. ويأتي بالقصاصين إلى المستشفى ليقصُّوا على المرضى القصص والحكايات ليرفهوا عنهم، وينسوهم آلام المرض، واستمر الرازي في خدمة مرضاه، وكلما اكتشف شيئًا جديدًا؛ ازداد تواضعًا وحبًّا لعمله، وظل الرازي يبحث ويفكر ويكتب الكثير من الكتب؛ فترك لنا نحو 224 كتابًا في الطب والصيدلة والكيمياء وغيرها من العلوم المختلفة، ومن أشهر كتبه: كتاب (الحاوي) الذي يعد من الكتب المهمة في مجال الطب، وكان مرجعًا للأطباء، وترجمه الأوربيون واستفادوا منه، وقد سماه (الرازي) الحاوي لأن كتابه هذا يعد موسوعة علمية طبية تحوي كل الكتب والأقاويل الطبية القديمة من أهل صناعة الطب، ويقع في عشرين مجلدًا، ويتناول الكتاب جميع الأمراض الموجودة في جسم الإنسان، ومعالجتها وكيفية الوقاية منها قبل وقوعها.
ومن كتبه المهمة: (رسالة في الجدري والحصبة) وهي رسالة علمية هامة، وكتاب (أخلاق الطبيب) الذي شرح فيه الرازي العلاقة الإنسانية بين الأطباء والمرضي، وبينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الحكام، كما تحدث فيه أيضًا عن نصائح عامة للمرضى في تعاملهم مع الأطباء، وكتاب (المنصوري) وهو أقل حجمًا من الحاوي فقد جعله الرازي عشرة أقسام في أبواب الطب، وفي القسم الثامن تجارب أجراها على الحيوانات لاختبار أساليب جديدة في العلاج، وكتاب (سر الأسرار) من أشهر مؤلفاته في الكيمياء.
ومن كتبه الأخرى: (قصص وحكايات المرضى) و(المدخل الصغير إلى الطب) و(الطب الروحاني) و(رسالة في الداء الخفي) و(المدخل التعليمي) و(مجموعة الرسائل الفلسفية).. وغير ذلك من كتب كثيرة تحتوي على كثير من المعارف والعلوم التي درسها الرازي، واستمر الرازي يجري التجارب حتى أثرت أبخرة المواد الكيميائية على عينيه؛ فضعف بصره، وفي ليلة من ليالي عام 311هـ/923م مات الرازي، بعد أن ترك تراثًا طبيًّا عظيمًا.(1/4)
في مدينة (طوس) إحدى مدن بلاد (فارس) وبالتحديد في قرية (غزالة) جلس طفلان صغيران ينظران إلى والدهما وهو يغزل الصوف، أخذا يتأملان أصابعه؛ ويتابعانه في إعجاب شديد، ترك الأب مغزله وأخذ ينظر إلى ولديه (محمد وأحمد).
شعر الشقيقان أن أباهما يريد أن يقول لهما شيئًا، لقد فهما ذلك من نظرات عينيه، وفجأة.. انهمرت الدموع من عيني الأب الذي عرف بالتقوى والصلاح، فقد تملكه إحساس جارف بأنه سيموت قريبًا، ولم يترك لولديه شيئًا من المال يعينهما على تحمل أعباء الحياة، غادر الأب دكانه، وذهب إلى صديق وفي له؛ فأوصاه بتربية ولديه الصغيرين، وترك له ما كان معه من مال، وكان قليلاً، ومات الأب، فعمل الصديق بالوصية، فنشَّأ الطفلين تنشئة دينية صحيحة، وعاملهما معاملة طيبة وألحقهما بإحدى المدارس، وكانت أمهما ترعاهما بعناية كبيرة، وتتابع دراستهما، فنبغ الطفلان، وتفوَّقا على أقرانهما، وبخاصة (محمد الغزالي) الذي تعلم مبادئ النحو واللغة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفارسية.
وسافر محمد إلى (جرجان) لسماع دروس الإمام (أبو نصر الإسماعيلي)، وفي أثناء عودته إلى بلدته (طوس) قطع اللصوص عليه الطريق، وأخذوا منه مخلته التي فيها كتبه وكراريسه، ظنًّا منهم أن فيها نقودًا ومتاعًا، وساروا في طريقهم؛ فتبعهم (أبو حامد الغزالي) وأخذ يلح عليهم أن يعطوه أوراقه وكتبه التي هاجر من أجلها ومعرفة ما فيها؛ فضحك كبير اللصوص وقال له: كيف تزعم أنك عرفت علمها، وعندما أخذناها منك، أصبحتَ لا تعلم شيئًا وبقيت بلا علم؟! ولكنه أشفق عليه وسلمه الكتب.(1/1)
وكان هذا درسًا عظيمًا للغزالي، فعندما وصل إلى طوس مكث ثلاث سنوات يحفظ ما كتب في هذه الأوراق، حتى لا يتعرض علمه للضياع مرة أخرى، وانتقل الغزالي إلى مدينة (نيسابور) سنة 473هـ/1080م، فتعلم الفقه والمنطق والفلسفة، وأصول الفقه وغيرها من العلوم على يد (أبي المعالي الجويني) الملقب بإمام الحرمين وكان الغزالي أحد تلامذته الأذكياء فبرع في الفقه وأتقن الجدل، وبدأ في تصنيف الكتب.
ولازم الغزالي أستاذه، يتعلم على يديه، حتى انتقل إمام الحرمين إلى ربه سنة 478هـ/1085م، فخرج الغزالي من نيسايور إلى العسكر حيث لقي الوزير السلجوقي (نظام الملك) الذي أكرمه وبالغ في إكرامه، وكان الغزالي حينئذ متزوجًا وله ثلاث بنات وولد اسمه (حامد) لذلك كني أبا حامد.
وناظر الغزالي وناقش فكرة الجهاد ضد الباطل سواء داخل أو خارج بلاد الإسلام مع الأئمة والعلماء في مجلس الوزير، فبهرهم غزارة علمه وقوة منطقه، وأعجب به (نظام الملك) فولاه منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد سنة 484هـ/1091م، فأقبل عليه الطلاب إقبالا شديدًا، واتسعت حلقاته، وذاع صيته واشتهر؛ حتى لقب بإمام بغداد، فكلفه الخليفة العباسي (المستظهر بالله) بالردِّ على بعض الفرق التي انحرفت عن الإسلام؛ فكتب الغزالي في الرد عليهم: (القسطاس المستقيم) و(حجة الحق).. وغيرهما من الكتب التي كشفت فساد وضلال هذه الفرق.(1/2)
وترك (الغزالي) التدريس بالمدرسة النظامية، واتجه إلى طريق الزهد والعبادة، ورحل إلى عدة مدن إسلامية، فرحل إلى (دمشق) وأقام مدة قصيرة، ثم رحل إلى بيت المقدس، ومنها ذهب إلى (مكة) واختار طريق التصوف وفضَّله على كل الطرق، ولم يزل الغزالي على حالته في الزهد والعبادة حتى طلب منه السلطان العودة مرة أخرى إلى نيسابور للتدريس ونشر العلم، لكنه لم يمكث بها مدة طويلة، فقد عاد بعد سنتين إلى طوس، وهناك أنشأ الغزالي زاوية للزهاد والصوفية وطلبة الفقه والعلوم الشرعية، وظل بـ(طوس) حتى توفاه الله في 14 جمادى الآخرة عام 505هـ/1111م عن خمسة وخمسين عامًا قضاها في العلم والتعلم ونشر الفكر الإسلامي الصحيح بين المسلمين، والدفاع عن الإسلام ضد أهل الديانات الأخرى والفرق الضالة، ومن هنا لُقِّب الغزالي بـ (حجة الإسلام).
وللغزالي مؤلفات كثيرة تزيد على أربعمائة؛ منها: (إحياء علوم الدين) و(الوسيط) في الفقه الشافعي و(تهافت الفلاسفة) و(المستصفي في أصول الفقه).. وغير ذلك، ومع غزارة إنتاج الغزالي، فإن أسلوبه يتسم بالعبارة السهلة،والبعد عن التعقيد.. فجزاه الله خيرًا عما قدم للإسلام من خدمات جليلة.(1/3)
كان كثير العبادة، لا ينام الليل إلا قليلا؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صلاته، يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من الله!!
وأبوه (ثابت) كان تاجرًا غنيًّا أسلم فحسن إسلامه، قيل: إنه التقى بالإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فدعا له الإمام ولذريته بالخير والبركة، واستجاب الله الدعاء، ورزق الله ثابتًا بطفل أسماه النعمان وكناه (أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة.
نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة، فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان، ورأى طلاب العلم يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار، منهم: فقيه الكوفة (حماد بن أبي سليمان) والإمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة).. وغيرهم، وكان(حماد) من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها، وأعجب حماد هو الآخر بتلميذه (أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله: لا يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة.
وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدلا من أبيه، لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل إلى النحو لحبه له، فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛ فقبل أبو حنيفة، وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء والأمراء، لكنه لم ينْسَ فضل شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير، ويدعو له حتى قال أبو حنيفة: (ما صليتُ قط إلا ودعوتُ لشيخي (حماد) ولكل من تعلمتُ منه علمًا أو علمته).
وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره، ويكثر التعطر، ويُرى وقورًا حليمًا، فهو الذي يقول: (اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله: يا مبتدع، يا زنديق، فردَّ عليه بقوله: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحدًا) منذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه.(1/1)
وكان أبو حنيفة كريمًا واسع الكرم، وتاجرًا أمينًا ماهرًا، ظل يعمل بالتجارة طوال حياته، وكان له دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يحب العمل حتى ينفق على نفسه، فكان يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف).
سمع أبو حنيفة رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل؛ فقال: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل؛ فكان يحيي الليل صلاة وتضرعًا، فكان ورعًا، ولا يحدث بالحديث الذي يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ، وكان يتورع عن القسم خشية الهلاك، حتى إنه جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار.
وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس، فلقد روي أن رجلاً قال له: اتق الله، فانتفض، وطأطأ رأسه، وأطرق.. وقال له: يا أخي جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يذكرهم الله تعالى، وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي.
ومات سنة 150هـ، وصلى عليه خمسون ألف رجل، ودفن في بغداد، ويقال إنه مات في نفس الليلة التي ولد فيها الإمام الشافعي.
وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد انتشر مذهبه في العراق والهند وبلاد المشرق، يقول عنه الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة، وقيل: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح علمه عليهم، وقال عنه ابن المبارك: (ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه يزيد بن هارون: (ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة).(1/2)
قال د . محمد بن سعد الشويعر :
في حج عام 1406 هـ قدم للمملكة أول وفد رسمي من حجاج الصين الشعبية ويتقدم هذا الوفد بعض العلماء فجاءوا للسلام على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وكان رئيس الوفد شيخا طاعنا في السن قد درس في الأزهر وهو يتقدمهم في المقابلة وعددهم سبعة ..
فقال لي بعد أن سلموا : أين الشيخ عبد العزيز بن باز ؟ ومتى يحضر ؟ فقلت له : هاهو ذا الذي سلمت عليه قبل قليل ، فلم يصدق وكان يتحدث العربية بطلاقة فقال : أريد أن أراه في سفرتي هذه ، وكأنه لم يصدقني ..
فقلت له : هاهو ذا ثم أكدت له ذلك فقام من مجلسه وتقدم للمرة الثانية ليسلم على الشيخ فأخبرت الشيخ عن رغبته هذه ، فقام إليه وتعانقا ورأيت هذا الشيخ الصيني يضم الشيخ إلى صدره بحنو ويبكي ويقول : الحمد لله الذي أراني إياك ..
فكنا نسمع عنك ونحن في الصين بأنك أمل المسلمين ومنقذهم والمدافع عنهم ، ثم قال احد مرافقي هذا الشيخ الصيني : أدعو الله يا شيخ أن تأخذ من عمري عشر سنين لمالك من نفع للإسلام وأهله ، أما أنا فإنسان عادي كغيري من أبناء الإسلام ..
ثم زاد الشيخ في البكاء ومعاودة السلام والمعانقة وهو يردد : الحمد لله الذي أراني إياك قبل موتي فقد كنت أتمنى ذلك طول عمري .
( شريط وانطفأ السراج ) .(1/1)
خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنينًا، وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ.
كان والده قائدًا في جيش خراسان، أما جده فكان واليًا للأمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبلاد خراسان، وحين بلغ أحمد من العمر ثلاث سنوات توفي
والده، فنشأ يتيمًا، تكفله أمه وترعاه، وتقوم على تربيته والعناية به، وعاش أحمد عيشة فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير، فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره.
حفظ أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس.
ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير.
وفكَّر أحمد أن يطوف ببلاد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة
يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء.(1/1)
سأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: (مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحو ذلك.
وبعد أن تعلم الإمام أحمد بن حنبل ما تعلم، وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة، ليعلم الناس أمور دينهم؛ فأقبل الناس على درسه إقبالا عظيمًا، فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه.
وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه.
ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل كان يعمل بما في هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملتُ به، وكان الإمام أحمد زاهدًا في الدنيا، يرضى بالقليل، فقد كان كثير العبادة والذكر لله.(1/2)
وقد تعرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- للتعذيب والأذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع التي حدثت في زمانه، تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم، فكان يُضرب بالسياط، حتى أغمي عليه عدة مرات، ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف، ثم خرج منه مريضًا يشتكي من الجراح، وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه، ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلافة لم يتعرض الإمام أحمد للإيذاء، لكنه منعه من الاجتماع بالناس، فظل معزولاً عنهم، حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخلافة الذي عامل الإمام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه المال، فرفضه، لكنه ألح عليه أن يأخذه، فتصدق به كله على الفقراء.
ورغم انشغال الإمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الاهتمام بمظهره، فقد كان من أنظف الناس بدنًا، وأنقاهم ثوبًا، شديد الاهتمام بتهذيب شعر رأسه، وكان الإمام أحمد يميل إلى الفقراء، ويقربهم منه في مجلسه، وكان حليمًا، كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وكان إذا جلس في مجلسه بعد العصر لا يتكلم حتى يُسأل، كما كان -رضي الله عنه- شديد الحياء، كريم الأخلاق، سخيًّا، وكان مع لينه شديد الغضب لله.
والإمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ترك الإمام أحمد كتبًا كثيرة منها: (المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية، إذ يحتوي على أربعين ألف حديث، وكتاب (الزهد) و(الناسخ والمنسوخ).
ومرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- واشتد عليه المرض يوم خميس، فتوضأ، فلما كانت ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها، فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا، وصاح الناس، وعلا(1/3)
بكاؤهم، حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وأخرجت الجنازة بعد انصراف الناس من صلاة الجمعة، وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان، بالإضافة إلى الذين صعدوا إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على الإمام أحمد بن حنبل.
إسم الكاتب تاريخ الإضافة التقييم / المقيمين زيارات القصة
موسوعة القصص 01/04/2008 0 / 0 211(1/4)
في سنة 1217هـ/ 1852م سعدت (بغداد) بميلاد (أبي الثناء شهاب الدين محمود الألوسي) أمير المفسرين في العصر الحديث!!
تطلع منذ صغره إلى العلم، فأخذ العلم عن كبار العلماء في عصره أمثال الشيخ (خالد النقشبندي) والشيخ (علي السويدي) فضلاً عن والده الذي تعلم على يديه، ظهرت علامات النبوغ والذكاء على شهاب الدين الألوسي منذ صغره، حتى إنه اشتغل بالتدريس وهو في الثالثة عشرة من عمره، وهبه الله قوة الذاكرة، يقول عن نفسه: ما استودعت ذهني شيئًا فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني.
لم يترك الألوسي علمًا من علوم الدين إلا وقرأ فيه، فكان يسهر الليالي، ويضحِّي براحته وصحته طلبًا للمعرفة، ورغم هذا المجهود الكبير الذي كان يبذله فإنه كان يشعر بسعادة كبيرة، وفي داره قام بتدريس علوم الدين، فتتلمذ على يديه الكثيرون، ولم يكن يفيض عليهم من علمه الواسع فحسب، بل كان يعطف عليهم ويرعاهم، ويعطيهم من ملبسه ومأكله ويسكنهم بيته!!
ولما ترك الألوسي منصب الإفتاء بالعراق، تفرغ لتفسير القرآن الكريم، وتعلقت نفسه رغبة لإتمام هذا العمل، فكان في أحيان كثيرة يقوم من نومه، ويترك فراشه حين يخطر بذهنه معنى جديد لم يذكره المفسرون السابقون عليه، ولا يهدأ له بال حتى يسجل خواطره في كراريسه، وعندئذ يعود إليه الهدوء، ويزول عنه القلق والتوتر، ويذهب إلى فراشه حيث يستسلم للنوم.(1/1)
وكان يجمع كل ما كتبه غيره في التفسير، وينقيها من كل شائبة (الإسرائيليات) ويظهر الحقيقة جلية واضحة، كل ذلك في أسلوب رائع جذاب، حتى أصبح تفسيره الذي سمي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) من أحسن التفاسير جامعًا لآراء السلف، مشتملا على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من كتب التفاسير.. وكانت مؤلفات الإمام الألوسي في أنواع مختلفة من العلوم والمعارف، أهمها تفسيره الشهير بـ(تفسير الألوسي) و(دقائق التفسير) و(غرائب الاغتراب).. وغير ذلك من الكتب.
توفي الإمام الكبير في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1270هـ/ 1854م بعد أن ملأ الأرض علمًا، ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ (معروف الكرخي) في (الكرخ).(1/2)
نسبه و مولده
هو إمام الأمة أبو عبدالله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن بَردِزبَة الجعفي البخاريأصله فارسي .. فقد كان جده المغيرة مولى لليمان البخاري والي بخارى .. فانتسب إليه بعد إسلامهولد ببخارى سنة 194 هـ ونشأ يتيما و أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة
رحلاته في طلب العلم
رحل شيخنا في طلب العلم إلى الشام و مصر و الجزيرة و العراق .. وأقام في الحجاز ستة أعوام يأخذ الحديث عن أربابه .. وتلقى عنه الناس الحديث ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره .. سمع من نحو ألف شيخ وأخذ الحديث عنهم .. لا يسمع بشيخ في الحديث إلا رحل إليه وسأل عنه وأخذ عنه علمه
قال عن نفسه مبينا رحلاته إلى الأمصار الإسلامية (( دخلت الشام و مصر و الجزيرة مرتين وإلى البصرة أربع مرات و أقمت بالحجاز ستة أعوام ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة و بغداد مع المحدثين )) ... وجمع من الحديث أكثر من ستمائة ألف حديث .
حياته
كان رحمه الله تعالى شديد الورع و التقوى .. قليل الأكل لا ينام من الليل إلا أقله و كان مجدا في تحصيل العلم وتأليف الكتب فيه .. يقوم من الليل ثماني عشرة مرة أو أكثر يسرج المصباح ويتذكر الأحاديث فيكتبها و يدقق البعض الآخر فيعلم عليها
لم يكن له هم سوى الحديث النبوي .. كان شغله الشاغل ليله و نهاره .. كثير الإحسان إلى الطلبة رفيقا بهم , مهذب العبارة حتى مع المخالفين له .. ولم يطلق لسانه في الساقطين متروكي الحديث .. فإذا أراد جرح راوٍ قال : فيه نظر أو سكتوا عنه وكان ينقل رأي النقاد في رواة الحديث .. كتب الله له القبول في قلوب العلماء .. قال محمود بن النضر سهل الشافعي (( دخلت البصرة و الشام و الحجاز و الكوفة و رأيت علمائها .. كلما جرى ذكر محمد بن اسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم ))(1/1)
كان آية في الحفظ والذكاء و الإتقان .. كأن الله سبحانه قد اختاره لحراسة و حفظ الحديث النبوي ... وقد جرت له في بغداد حادثة مشهورة تشهد له بذلك .. تداولها علماء التاريخ و الحديث في كتبهم ... ذلك أن علماء بغداد أرادوا اختبار حفظه و ذكائه و إتقانه , فجاء أصحاب الحديث بمائة حديث فقلبوا متونها و أسانيدها .. ودفعوها إلى عشرة رجال .. إلى كل رجل عشرة أحاديث .. وأمروهم إذا حضروا الإجتماع يلقون هذه الأحاديث المقلوبة على البخاري فلما اجتمعوا كلهم مع حشد من الناس انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث فقال لا أعرفه , فما زال يلقي عليه حديثا بعد آخر حتى فرغ من عشرته .. وهكذا حتى فرغوا من الأحاديث المائة المقلوبة .. والبخاري لا يزيدهم على (( لا أعرفه )) .. فاستغرب الناس كيف لا يعرف الأحاديث كلها .. فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال : أما حديثك الأول فهو كذا .. وحديثك الثاني فهو كذا و هكذا إلى آخر الأحاديث المائة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه .. فأقر له الناس بالحفظ و أذعنوا له بالفضل
يقول الحافظ بن حجر رحمه الله عن هذه الحادثة : ليس العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا .. بل العجب من حفظه الخطأ على ترتيب ماألقوه عليه من مرة واحدة
شهد له العلماء بالفضل و العلم .. قال شيخ البخاري محمد بن بشار الحافظ (( حفاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري , ومسلم بن الحجاج بنيسابور , وعبدالله بن عبدالرحمن الدرامي بسمرقند , ومحمد بن اسماعيل ببخارى ))
وقال عنه الإمام الترمذي (( لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل و التاريخ و معرفة الأسانيد أحدا أعلم من محمد بن اسماعيل ))
أشهر كتبه
كان كتاب (( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه )) ..(1/2)
أشهر كتبه على الإطلاق .. وهو أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى .. وهو أول من جمع الأحاديث الصحيحة مجردة عن غيرها .. ولكنه لم يستوعب كل الصحيح .. فقد ترك من الحديث الصحيح أكثر مما أثبته لئلا يطول الكتاب .
ابتدأ تأليفه بالحرم النبوي الشريف ولبث في تصنيفه ست عشرة سنة و أتمه ببخارى .. وماكان يضع حديثا إلا بعد أن يغتسل و يصلي ركعتين ويستخير الله في وضعه .. فقد قال (( ماأدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله و تيقنت صحته ))
ومما ألف أيضا كتاب (( التاريخ الكبير )) جمع فيه أسامي من روى عنه الحديث من زمن الصحابة إلى زمنه .. وله أيضا (( التاريخ الأوسط )) و (( التاريخ الصغير )) و (( الأدب المفرد )) و (( الكنى )) و (( الوحدان )) و (( الضعفاء ))
وفاته
توفي ليلة السبت بعد صلاة العشاء , وكانت ليلة عيد الفطر , ودفن يوم الفطر .. بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين 256 هـ بخَرتَنك وهي قرية بالقرب من بخارى وهي القرية التي ولد فيها
رحمه الله تعالى فقد خدم السنة النبوية , ووقف حياته لها , وخلف تراث الأمة الإسلامية .. أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى : صحيح البخاري .. فجزاه الله عن الأمة خير الجزا
مر البخاري رحمه الله بمحنتين
محنته مع أهل نيسابور
قال الحاكم في تاريخه: قدم الإمام البخاري نيسابور سنة 250 ، فأقام بها مدة يحدث على الدوام، قال فسمعت محمد بن حامد البزار يقول: سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: اذهبوا الى هذا الرجل فاسمعوا منه، قال: فذهب الناس إليه فأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى، قال: فَتُكُلِّمَ فيه بعد ذلك
قال أحمد بن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ، أن محمد بن اسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده حسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن اسماعيل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.(1/3)
فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق؟
فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثا، فألح عليه، فقال البخاري: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، و الامتحان بدعة، فشغب الرجل و قال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق
و قال أبو حامد الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق و من زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، و لا يجالس و لا يكلم، ومن ذهب بعد هذا الى محمد بن اسماعيل البخاري فاتهموه فإنه لا يحضر الى مجلسه إلا من كان على مذهبه
وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ، انقطع الناس عن البخاري إلا مسلم بن الحجاج و أحمد بن سلمة
قال أبو عمر أحمد بن نصر النيسابوري يوما للبخاري: يا أبا عبد الله ههنا من يحكي عنك أنك تقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فقال: يا أبا عمرو احفظ عني من زعم من أهل نيسابور، وسمى غيرها من البلدان بلادا كثيرة، أنني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإنني لم أقله إلا أني قلت أفعال العباد مخلوقة
محنته مع أمير بخارى
قال أحمد بن منصور الشيرازي: لما رجع عبد الله البخاري الى بخارى نصبت له قباب على فرسخ البلد، واستقبله عامة أهل البلد، حتى لم يبق مذكور، ونثر عليه الدراهم و الدنانير، فبقي مدة ثم وقع بينه وبين الأمير فأمره بالخروج من بخارى، فخرج الى بيكند
و قال الحاكم: سمعت محمد بن العباس الضبي يقول: سمعت أبا بكر بن أبي عمرو يقول: كان سبب مفارقة أبي عبد الله البخاري البلد، أن خالد بن طاهر سأله أن يحضر منزله فيقرأ التاريخ و الجامع على أولاده، فامتنع من ذلك. وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوما آخرين فاستعان خالد بحريث ابن أبي الورقاء و غيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهبه، فنفاه عن البلد(1/4)
المرجع : كتاب (( معالم السنة النبوية )) للدكتور عبدالرحمن عتر رحمه الله تعالى ... بتصرف(1/5)
فتح عينيه على الحياة فوجد العلم يحيط به من كل جانب، وشاهد منذ طفولته حلقات الحديث والفقه والتفسير تموج بطالبي العلم حول شيخ أو معلم زاده العلم بهاءً ووقارًا، فأحب أن يكون مثل هؤلاء وتطلعت نفسه إلى تحقيق ذلك، فكان له ما أراد؛ فملأ الدنيا علمًا، ورددت الألسنة ذكره إعجابًا وإجلالاً، أليس هو صاحب صحيح البخاري، إنه الإمام (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة) الإمام الحافظ البخاري.
ولد بمدينة (بخارى) وهي تقع في جمهورية أوزبكستان سنة 194هـ، وكان والده عالم كبير يحفظ آلاف الأحاديث النبوية، ورحل في طلب العلم إلى المدينة المنورة، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء والمحدثين، أمثال: مالك بن أنس، وحماد بن زيد وغيرهما، وكان رجلا غنيًّا، أنعم الله عليه بثروة كبيرة كان ينفقها في الخيرات على الفقراء والمساكين.
توفي والد البخاري وتركه طفلاً مع والدته بعد أن ترك له مالا كثيرًا وعلمًا نافعًا، وظلت أمه تعطف عليه وتحيطه بحنانها ورعايتها لتعوضه عن فقد أبيه، وما إن بلغ البخاري سن العاشرة حتى ظهرت عليه علامات الذكاء والتفوق؛ فحفظ القرآن الكريم وكثيرًا من الأحاديث النبوية، وتردد على حلقات علماء الحديث في بلده ليتعلم على أيديهم، وعمره إحدى عشرة سنة، وكان مع صغر سنه يصحح لأساتذته وشيوخه ما قد يخطئون فيه.(1/1)
ومن ذلك ما روي عنه أنه دخل يومًا على أستاذه (الداخلي) فقال الداخلي: عن سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقال له البخاري: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم وقال له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.. وقد ساعد البخاري على ذلك حفظه الجيد للأحاديث، وذاكرته القوية والكتب الكثيرة التي تركها له والده، فحفظها ودرسها دراسة جيدة، وأصبح البخاري -ذلك الغلام الصغير- يحترمه الشيوخ ويقدرونه حق قدره، ولِمَ لا، وهو يحفظ في هذه السن كتب ابن المبارك ووكيع بن الجراح وهما من أئمة الحديث النبوي وكثير من الأحاديث؟!
فقد قرأ على زملائه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، وفي كل يوم كان البخاري يزداد علمًا، وكان مشايخه يأملون له خيرًا ويتوقعون له مستقبلا كريمًا، وكان من الممكن أن يقنع الفتي الصغير بذلك القدر من العلم، ولكنه رحل مع والدته وأخيه الأكبر أحمد إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج وعمره ستة عشر عامًا ولما أدى الفريضة استقر هناك يتعلم الحديث على أيدي علماء مكة وشيوخها، ثم رحل إلى المدينة المنورة فزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وظل في المدينة المنورة سنة، ثم رحل إلى البصرة ليسمع الحديث، ومكث بها خمس سنوات، كان يتردد فيها على مكة المكرمة في مواسم الحج؛ ليلتقي فيها بعلماء المسلمين، وظل البخاري ينتقل في بلاد الإسلام لطلب العلم.
يقول البخاري عن نفسه: لقيت أكثر من ألف رجل، أهل الحجاز والعراق والشام ومصر لقيتهم مرات؟ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، ومكثت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدِّثي خراسان.(1/2)
كتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث، وكان يدوِّن الأحاديث الصحيحة، ويترك الأحاديث التي يشك في أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالها، وقد أدهش البخاري العلماءَ والشيوخَ لسرعة حفظه للأحاديث حتى ظنوه يشرب دواءً للحفظ، فقد كان البخاري ينظر إلى الكتاب مرةً واحدة فيحفظ ما فيه من أحاديث لا يستطيع غيره أن يحفظها في شهور عديدة.
وفي أحد رحلاته إلى بغداد أراد العلماء أن يختبروه فاجتمعوا واختاروا مائة حديث، وقلبوا متونها وأسانيدها أي أسندوا الأحاديث إلى غير رواتها، ليمتحنوا حفظه، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فقام أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر فقال: لا أعرفه وهكذا حتى فرغ من أحاديثه العشرة، ثم قام آخر فسأل البخاري، وكذلك الثالث والرابع إلى آخر العشرة..
فلما فرغوا التفت البخاري إلى الأول منهم فقال له: أما أحاديثك: فالأول قلت كذا وصحته كذا، والثاني قلت كذا وصحته كذا ... إلى آخر العشرة أحاديث؛ وفعل بالآخرين مثل ذلك، عندئذ أقر له الناس بالحفظ.
وكان البخاري عالمًا كبيرًا إذ كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، مما جعل عشرات الآلاف من طلاب العلم يلتفوا حوله؛ لينهلوا منه ويتتلمذوا عليه، ومن أشهرهم الإمام مسلم صاحب كتاب الجامع الصحيح، وقد أثني العلماء على البخاري، فقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري.. وقال قتيبة بن سعيد: جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل (البخاري) وهو في زمانه كعمر في الصحابة .(1/3)
وكان البخاري كثير العبادة لله -عز وجل- يجتمع مع أصحابه في أول شهر رمضان، فيصلى بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، ويظل هكذا إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة، وكذلك كان ينفق من أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه على الفقراء من المسلمين، وتعلم البخاري رمي السهام، ولم يشغله طلب العلم عن ذلك، بل إنه كان يرى ذلك واجبًا على كل مسلم؛ حتى يستطيع الدفاع عن ديار المسلمين.
وعاد البخاري إلى بلدته (بخارى) فاستقبله أهلها أروع استقبال، ومن فرحتهم الشديدة بقدومه نثروا عليه الدراهم والدنانير، فعقد جلسات للعلم في مسجده ومنزله ليورث علمه للمسلمين، ولم يبخل البخاري بعلمه على أحد، غير أن أمير بخارى (خالد بن أحمد) طلب منه أن يأتيه بكتبه؛ حتى يسمعها له ولأولاده في قصره وحدهم، فرفض البخاري أن يستجيب لطلبه، وقال: من أراد أن يتعلم فليأت إلى مجلس العلم، فالعلم يؤتى له ولا يأتي، ولا يمكنني أن أحرم الناس الآخرين من علمي، وقال لرسول الأمير قل له: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن كان له إليَّ شيء منه حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبه هذا فإنه سلطان فليمنعني من الجلوس، ليكون لي عُذر عند الله يوم القيامة لئلا أكتم العلم.
وظل الإمام البخاري عزيزًا كريمًا، لا يخضع لأحد مهما كان مركزه وقدره، فأحبه الناس، وأراه الله في حياته قبل مماته منزلته ومكانته، حيث كان الناس ينصرونه بأنفسهم حفظًا للعلم والعلماء، وكتب إليه أهل بغداد يومًا قائلين:
المسْلِمَونَ بِخَيْرِ مَا بَقِيتَ لَهَمْ
وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ(1/4)
وقد كتب الإمام البخاري الكثير من الكتب النافعة؛ من أشهرها: كتابه (الجامع الصحيح) المعروف بصحيح البخاري الذي كان يغتسل ويصلى ركعتين لله قبل أن يكتب أي حديث فيه، وقد كتبه في ست عشرة سنة، ويعد أصح كتب الحديث على الإطلاق وألف أيضًا (التاريخ الكبير) في تراجم رجال الحديث، و(الأدب المفرد).
وقد توفي البخاري ليلة عيد الفطر سنة 256هـ بعد أن ملأ الدنيا بعلمه وأضاءها بإخلاصه.. رحم الله البخاري جزاء ما بذل وقدم.(1/5)
بين أحضان والدين حريصين على تنشئة أبنائهما تنشئة إسلامية صحيحة، ولد عبد الملك بن عبد الله بن يوسف سنة 419هـ في جوين (وهي مدينة بين بسطام ونيسابور) ببلاد فارس، فوالده (عبد الله الجويني) كان يعقد في (نيسابور) ببلاد فارس المجالس للمناظرة والفتوى، وتعليم الخاصة والعامة، وكان يحب العلم حبًّا شديدًا حتى إنه كان يدعو ويقول: (اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق ولا تمنعنا عنه بمانع) وكان زاهدًا عابدًا يحرص حرصًا شديدًا على ألا يقع في الشبهات، حتى إنه كان يحتاط في أداء الزكاة فيؤديها في السنة مرتين، خوفًا من النسيان وزيادة في القربى.
ولازم الطفل الصغير (عبد الملك) والده الفقيه المحدث المتكلم، فتعلم الفقه واللغة العربية على يديه، كما تعلم من والده الالتزام بأخلاق الإسلام كالأمانة والصدق وحب الخير؛ فقد كان والده خير قدوة له، وتفوق الجويني على زملائه ممن كانوا يتعلمون على يد أبيه، ولم يقتصر إمام الحرمين على قراءة العلوم الإسلامية وحدها، بل إنه أخذ يطالع في كل العلوم، يصل ليله بنهاره قراءة واطلاعًا.
وقبل أن يبلغ (عبد الملك) سن العشرين أصبح أحد الأئمة الكبار، وما إن توفي والده، حتى قعد مكانه للتدريس، إلا أنه استمر في تحصيل العلم، فكان يذهب إلى (أبي القاسم الإسفراييني) وهو من العلماء الكبار يتعلم منه الفقه والأصول، ويذهب في الوقت نفسه إلى مجالس (عبد الله محمد بن علي النيسابوري الخبازي) ليتلقى عنه علوم القرآن.(1/1)
وظل طوال الفترة التي أقامها بنيسابور يدرس علوم الدين، وكان بارعًا في مناظرة الخصوم، يحاورهم في ذكاء شديد، ولا يبغي من وراء ذلك إلا إظهار الحق، إلا أن أعداءه أخذوا يكيدون له، فترك (نيسابور) إلى بغداد واشتهر هناك، ووفد إليه الناس من كل مكان للتعلم على يديه، لكنه لم يقم بها طويلاً، وإنما توجه إلى مكة، وظل بها أربع سنوات تفرغ فيها للعلم والعبادة ينشر العلم، ويلقي الدروس، ويجمع طرق المذهب الشافعي، وكانت هذه الفترة سببًا في تسميته بإمام الحرمين تكريمًا له واعتزازًا بمجهوده وقدره.
وكان يقضي نهاره في تعليم الناس، وهدايتهم إلى طريق الحق والنور، ويقضي ليله بجوار الكعبة الشريفة في عبادة الله، وبعد أن قضى أربع سنوات في مكة رجع إمام الحرمين إلى (نيسابور) وقام بالتدريس بالمدرسة النظامية، التي بناها له الوزير (نظام الملك) ليتولى الجويني التدريس بها لما علمه عنه من رسوخ في العلم ونبوغ لم يتوافر لغيره، وظل بها نحو ثلاثين سنة، وجاء إليه الكثيرون من شتى البلاد يطلبون العلم على يديه، ومن أشهر تلاميذه: أبو حامد الغزالي، والكيا الهراسي، وعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي.
وقد ترك (الجويني) مؤلفات عديدة من أهمها: كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) وهو كتاب كبير في الفقه الشافعي و(البرهان في أصول الفقه) و(الإرشاد في أصول الدين) و(الرسالة النظامية) ومن كتبه أيضًا: (غياث الأمم في التياث الظلم) في الفقه السياسي الإسلامي و(الورقات) في أصول الفقه وأدلته.. وغيرها من الكتب المهمة، وقد مرض إمام الحرمين في أيامه الأخيرة، وتوفي وله من العمر 59 سنة، وكان ذلك سنة 478هـ.(1/2)
قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!!
في غزة بأرض فلسطين سنة 150هـ، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم، يملأ الأرض علمًا ويحيي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويلتقي الشافعي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجدِّ الأعلى.
فتح الشافعي عينيه على الحياة، فلم يجد والده بجانبه، حيث مات بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيمًا، لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، ففيها أهله وعشيرته وعلماء الإسلام، وظلت تربيه تربية صالحة، وترعاه، وتأمل أن يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه، ولما كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!!
وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية، وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلاغة؛ فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ
أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان، ينشد الأشعار، ويذكر الآداب وأخبار العرب إلى أن اتجه إلى طريق الفقه والحديث، فرحل الشافعي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلتقي بعالم المدينة الإمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، ولما التقي به قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن.(1/1)
وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية، فما مال إلى شرٍّ، ولا جنح إلى لهو أو مجون، بل كان قانعًا بما قسم الله له، يرضى بالقليل، ويقنع باليسير، ويزداد زهدًا كلما وقف على قيمة الدنيا، ويعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، وظل الشافعي يتتلمذ على يد الإمام (مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه، لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى، يتعلم على أيدي علمائها وشيوخها، فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره، وهناك ظهرت صلابة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين، ولكنه استطاع بثقته في الله ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه.
ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من
علمه، ويقصده الطلاب من كل مكان.
وجاء الشافعي إلى مصر في عام 198هـ، لينشر مذهبه فيها، وليبتعد عن جو الاضطرابات السياسية في العراق، وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم، وبقي في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته: كتاب (الأم) في الفقه، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه، وهو يُعدُّ أول كتاب يُصنف في هذا العلم.
وقد لقي الشافعي تقديرًا كبيرًا من فقهاء عصره ومن بعدهم، سأل عبد الله بن
أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن.
وقيل فيه :
ومَنْ يَكُ عِلمُ الشافعي إمَامهَ
فمرتعه في باحة العلم واسع(1/2)
وكان أحمد بن حنبل -أحد تلاميذه- يحرص على ألا يفوته درس الشافعي، ويقول لأحد أصحابه: (يا أبا يعقوب، اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله) وكان (سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي يستفسر منه عن بعض الأحكام الفقهية التي لم يقف عليها.
وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى
علم، يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو الشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر!!
وكما كان الشافعي فقيهًا ومحدثًا كبيرًا، كان أيضًا شاعرًا رقيقًا فاض شعره بالتقرب إلى الله، فها هو ذا يستغفر الله ويدعوه قائلا:
ولما قَسا قَلْبي وضاقَتْ مذاهبي
جعلتُ رجائي نحو عفوِك سُلَّمًا
تعاظَمَني ذَنبْي فلمَّا قِرَنْتُهُ
بعفْوِكَ ربِّي كان عفُوك أَعْظَما
ويوصي الشافعي من خلال شعره بألا نرد على السفيه قائلاً:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه
وإن خليته كمدًا يموت
ويصور عزة نفسه، وإن كانت ثيابه قديمه بالية، فتحتها نفس أبية عزيزة غالية لا مثيل لها فيقول:
عليَّ ثياب لو يباع جميعها
بفلس لكان الفلس منهن أكْثَرا
وفيهن نفسٌ لو يُقاسُ ببعْضِها
نفوسٌ الورى كانت أجلَّ وأكْبَرا
ومرض الشافعي، وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له: كيف أصبحت؟ فأجاب الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ومن كأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الكريم سبحانه واردًا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها.(1/3)
ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204هـ، وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة من بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها، حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت السيدة نفيسة -رضي الله عنها- بإدخال النعش إلى بيتها، ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صلاة الجنازة، وقالت: رحم الله الشافعي إنه كان يحسن الوضوء.(1/4)
في بلاد (طبرستان).. بلاد العلم والأدب والفقه، وفي أجمل مدنها..مدينة (آمُل) العريقة عاصمة طبرستان، والتي تقع الآن في دولة أذربيجان، جنوب بحر قزوين، وُلد حجَّة العلوم، وعالم العلماء في عصره، الإمام (محمد بن جرير الطبري) سنة 224هـ، ولُقب بالطبري لأن أهل طبرستان جميعًا يُنْسَبون إليها؛ فيقال لكل واحد منهم طبري، فكان أهل طبرستان كثيري الحروب، فكان كل منهم يحمل سلاحه في يده، وهو نوع من الأشجار يسمى (الطبر).
لم يكد الطبري يبلغ السن التي تؤهله للتعلم حتى عهد به والده إلى علماء (آمُل) وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه علامات النبوغ، فكان هذا النبوغ المبكر حافزًا لأبيه على إكمال تعليم ابنه، وبخاصة أنه رأى رؤية تفاءل من تأويلها، قال الطبري: (رأى أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي مِخلاة مملوءةٌ بالأحجار، وأنا أرمي بين يديه) وقصَّ رؤياه على مفسر للأحلام، فقال له: إن ابنك إن كبر نصح في دينه، ودافع عن شريعته، فحرص أبي على معونتي من أجل طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
أخذ ابن جرير الطبري يرحل في طلب العلم، فتعلم الفقه ببغداد، والمغازي والسير في الكوفة، ثم توجه ناحية مصر، وفي طريقه إليها مرَّ ببيروت، وقضى بها عدة أيام حتى قرأ القرآن برواية الشاميين، ثم واصل مسيرته، وفي مصر تلقى الطبري العلم، فأخذ من علمائها قراءة (حمزة) (وَوَرْش) ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى، وانقطع للعلم والدراسة والتأليف في كثير من الأوقات، وكان يتاجر بقية الوقت ليأتي برزقه.
وكان الطبري عالي الهمة،عظيم الاجتهاد؛ ومما يحكى عنه: أن رجلاً جاءه يسأله في العَرُوض (وهو علم يعرف به الشعر من النثر) ولم يكن الطبري له إلمام كبير بهذا العلم فقال له: علي قولٌ ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غد فتعالَ إلي، ثم طلب أبو جعفر كتاب العروض، فتدارسه في ليلته، وقال: أمسيت غير عَرُوضي، وأصبحت عروضيًّا.(1/1)
وقد تمكن ابن جرير من نواحي العلم، وأدلى بدلوه فيها، حتى أصبح إمام عصره بغير منازع، وقد قيل عنه: كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو.. وظل الطبري أربعين عامًا يكتب كل يوم أربعين ورقة، قاصدًا بذلك وجه الله، بما ينفع به الإسلام والمسلمين، وكان رحمه الله من العباد الزهاد، يقوم الليل، نظيفًا في ظاهره وباطنه، ظريفًا، حسن العشرة، مهذبًا في جميع أحواله.
من مؤلفاته العظيمة: (تفسير القرآن) المعروف بتفسير الطبري في 30 جزءًا، وهو من أجلِّ التفاسير وأعظمها، و(تاريخ الرسل والملوك) في 11 مجلدًا، وهو يعد أَوْفَى عمل تاريخي بين مصنفات العرب، و(لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام).. وغير ذلك الكثير.. وفي يوم السبت ليومين بقيا من شوال سنة 310هـ فاضت روحه إلى بارئها، تاركًا للمسلمين تراثًا علميًّا ضخمًا، نفع الإسلام والمسلمين، فجزاه الله خير الجزاء.(1/2)
الخشية من الله والبكاء يلازمانه، لا يُرى إلا وعيناهٍ تفيض من الدمع، كلما ذكر اسم الله تعالى عنده ظهر عليه الخوف والوجل، وارتعشت كل أعضاء جسده، ترى من يكون هذا الرجل الذي غمر الإيمان قلبه ؟!
كان عاصيًا فتاب الله عليه، وجعله من عباده المؤمنين، تحول من قاطع طريق يروع الآمنين إلى عابد زاهد، وكان سبب توبته؛ أنه كان يتسلق جدران أحد المنازل بالليل؛ فسمع صوتًا يتلو قوله تعالي: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: 16] فلما سمعها قال: بلي يا رب، قد آن.
فرجع فمرَّ على أرض خربة، فوجد بها قومًا، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: ننتظر حتى نصبح، فإن الفضيل يقطع علينا الطريق، قال (أي: الفضيل): ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني !! وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع (أي أن الله قدر لي أن آتي إلى هذا المكان لأتوب وأرجع إليه) اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.. لقد جعل مظاهر توبته مجاورته لبيت الله حيث الرحمة والبركة، يدعو الله ويستغفره، ويندم على ما فرط في حقه.
في أرض خراسان ولد (الفضيل بن عياض) ثم رحل إلى الكوفة في العراق، فسمع الأحاديث النبوية الشريفة والفقه من العلماء؛ أمثال (الأعمش) و(يحيي بن سعيد الأنصاري) و(جعفر الصادق) فأثرت تأثيرًا كبيرًا في شخصيته، حتى أصبح من الزهاد الذين يرون أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تستحق أن يتكالب الناس عليها، ويتصارعون من أجلها، فهي فانية زائلة، بل الأولى أن يعمل الناس
لأخراهم، فهي الباقية الدائمة بفعل الخير، وتجنب المعاصي، ثم انتقل إلى مكة وأقام بها حتى توفي.
وكان إذا خرج في جنازة مع الناس، يعظهم ويذكرهم بالآخرة، حتى إذا وصل إلى المقبرة، جلس في حزن شديد، وظل يبكي ولا ينقطع بكاؤه، سأله الخليفة(1/1)
(هارون الرشيد) ما هي صفات المؤمن أيها الزاهد؟ فقال له الفضيل: صفات
المؤمن؛ صبر كثير، ونعيم طويل، وعجلة قليلة، وندامة طويلة.
ومرَّ الفضيل بن عياض على جماعة أغنياء، فوجدهم يلعبون ويشربون ويلهون؛ فقال لهم بصوت عال: إن مفتاح الخير كله هو الزهد في الدنيا، وقد سأله أحدهم: وما الزهد في الدنيا ؟ فقال: القناعة والرضا وهما الغنى الحقيقي، فليس الغنى في كثرة المال والعيال، إنما الغنى غنى النفس بالقناعة والرضا في الدنيا، حتى نفوز في الآخرة، ثم توجه إلى الله داعيًا: اللهم زهدنا في الدنيا، فإنه صلاح قلوبنا وأعمالنا وجميع طلباتنا ونجاح حاجتنا.
وحجَّ هارون الرشيد ذات مرة؛ فسأل أحد أصحابه أن يدله على رجل يسأله؛ فدله على الفضيل، فذهبا إليه، فقابلهما الفضيل وقال للرشيد: إن عمر بن عبد العزيز لما ولِّي الخلافة دعا أناسًا من الصالحين فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء
(يعني الحكم) فأشيروا علي.. فعدَّ عمر الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك
نعمة، فبكى الرشيد، فقال له صاحب الرشيد: ارفق بأمير المؤمنين، فقال الفضيل: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا ؟ (يقصد أن عدم نصحه كقتله) فقال له الرشيد: زدني يرحمك الله..
فأخذ يعظه وينصحه، ثم قال له: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح
وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاشٌ لهم إلا حَرَّمَ الله عليه الجنة) [متفق عليه] فبكي هارون وقال له: أعليك دين أقضيه عنك؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، والويل لي إن ناقشني، فالويل لي إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني من دين العباد.(1/2)
قال: إن ربي لم يأمرني بهذا؛ أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادة ربك، فقال الفضيل: سبحان الله،أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا، سلَّمك الله ووفَّقك، ثم صمت فلم يكلمنا؛ فخرج الرشيد وصاحبه، وكان الفضيل شديد التواضع، يشعر دائمًا بأنه مقصر في حق الله، رغم كثرة صلاته وعبادته.
وتمضي الأيام، ويتقدم السن بالفضيل بن عياض وذات مرة كان بعض الناس جلوسًا عنده، فقالوا له: كم سنك ؟ فقال:
بلغتُ الثَّمانين أوجُزْتهَا
فَمَاذا أُؤمِّلُ أَو أَنَْتظِرْ
عَلَتْني السِّنُون فأبْلَيْننَي
فَدَقَّ العِظامُ وَكَلَّ البَصَرْ
ومرض الفضيل، فسُمِع يقول: ارحمني بحبي إياك، فليس شيء أحب إلي منك، وأقام الزاهد العابد الفضيل بن عياض بـ(مكة) حتى توفي عام 187هـ وأطلق عليه
هناك (شيخ الحرم المكي(1/3)
لله درك يا إمام.. لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد والورع.
في سنة 94هـ، وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد، في قرية (قرقشندة) من قرى مصر، ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية، فوجد الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن الكريم، فأسرع الليث إلى منزله، وأحضر أوراقه وقلمه، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، ثم درس الحديث والفقه والعلوم العربية، فسبق زملاءه، وساعده على ذلك نبوغه المبكر، وذكاؤه الفريد.
واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ، فكان كلما قرأ شيئًا في الفقه أو الحديث عَلَقَ بذاكرته وحفظه فلا ينساه أبدًا، فقد كان قوي الذاكرة، جيد الحفظ، ولفت الفتى الليث الأنظار إليه بعلمه وورعه، وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله، يعرفون فضله، ويقدمونه على من سواه، ولكن الفتى لم يغترَّ بهذه الشهرة، ولم يخلد إليها ولا إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء، بل استمر يتعلم ويتزود وينهل من غيره من العلماء، حتى صار أستاذًا يدرس للعلماء.
واشتاقت نفس الليث يومًا لزيارة بيت الله الحرام وزيارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فشدَّ رحاله وأعد نفسه للسفر، وهناك في تلك الأراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛ والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب الزهري).. وغيرهم، فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم، ومضت الأيام والسنون، وأصبح الليث شيخًا جاوز الخمسين من عمره، وهو لا يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في عصره.
وكان الإمام الفقيه الليث بن سعد غنيًّا، ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف دينار ولا يدخر منها شيئًا لنفسه، ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين، ويطعم الناس عسل النحل وسمن البقر في الشتاء، واللوز والسكر في الصيف.(1/1)
جاءته امرأة ذات يوم وقالت له: يا شيخنا، إن لي ابنًا مريضًا يشتهي أكل العسل، فقال الليث: يا غلام، أعطها مرطًا من عسل (والمرط: مائة وعشرون رطلاً) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه الغلام قال: يا شيخنا إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قَدْرِهَا ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط.
ولم يكن الليث بن سعد كريمًا على أهل بلده فحسب، بل كان سخيًّا كريم اليد على الآخرين، فيحكى عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق من الرطب، فلم يشأ الليث أن يرد الطبق إلى الإمام مالك خاويًا، فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه.
وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل الإمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث، فقال: الليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث، وقال عنه يحيى بن بكير: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، لم أَرَ مثله.
وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء، ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فرفض وقال: إني عاهدت الله ألا ألي شيئًا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله ألا أفي بعهدي، فقال له المهدي: الله.. قال الليث: الله.. قال المهدي: انطلق فقد أعفيتك، وكان الليث زاهدًا في حكام الدنيا، مشغولاً عن الجاه والسلطان بغرس الأخلاق العظيمة في نفوس الناس، وكان يصل النهار بالليل في العلم والعبادة ليرضي ربه.
وفي سنة 175هـ توفي الإمام الكبير الليث بن سعد، فحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وكان الشافعي -رضي الله عنه- يحب لقاءه، فلم يمهله القدر فوقف يومًا على قبره وقال: لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم:
العلم، والعمل، والزهد، والورع(1/2)
حفظ الله دينك، كما حفظت علينا ديننا).. كلمة قالها الخليفة العباسي (القادر بالله) وذلك بعد أن قرأ كتابًا للماوردي في الفقه فأعجب به وأثنى عليه، فمن ذلك الرجل الذي حفظ دين الإسلام؟!
في شوارع البصرة وفي زمن العباسيين، كان هناك طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره، ورث عن أبيه صناعة (ماء الورد) يقضي النهار كله أمام أبواب المساجد، يبيع ماء الورد لطلاب العلم ورواد المدارس مقابل دراهم معدودة، يتقوَّى بها على متاعب الحياة.
وقد أصبح هذا الصبي من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم ومن أبرز رجال السياسة، وقاضيًا من أعدل القضاة، وأديبًا ناضجًا ومؤلفًا عظيمًا في شتى فروع ثقافة أمته.. إنه (أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي) الشهير بالماوردي.. ولد
عام 364هـ-974م في مدينة البصرة، ونشأ فيها يسقي طلاب العلم ماء الورد، ويرتوي من علم العلماء المشهورين في زمانه، وظل في البصرة حتى سمع أن عالمًا ببغداد يقصده الطلاب من كافة الأنحاء هو (أبو حامد الإسفراييني) فتعلم على يديه الفقه والعلوم الشرعية، وأصبح من مريديه، ومازال يرحل ويتنقل في بلاد المسلمين طلبًا للمعرفة حتى عاد إلى بغداد، ليبدأ فيها رحلة الدرس والتأليف، يتلقى عنه الطلاب القادمون من بلاد كثيرة.
وتولى الماوردي القضاء في البلاد التي رحل إليها، كما تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور، وذاعت شهرته، ولقب بأقضى القضاة سنة 429هـ، وكان أول من لقب بذلك في تاريخ الإسلام، وعلم الماوردي أن توليه القضاء ليس تشريفًا له، ولكنها رسالة وأمانة في عنقه؛ فكان يتمهل قبل أن يصدر أحكامه، ويقرأ كتاب الله وأحاديث رسوله، حتى لا يضل الطريق؛ فيقضي بحكم فيه ظلم لأحد، كما كان جريئًا عادلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، يحكم بالحق حتى على أولي القربى وأصحاب السلطان.(1/1)
فقد أمر الخليفة العباسي أن يلقب (جلال الدين بن بويه) بلقب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك، واختلف الفقهاء ما بين موافق، وغير موافق لأن هذا اللقب لا يجوز إلا في حق الله، وانحاز عوام الناس إلى رأي الفقهاء المانعين، وانتظر الجميع رأي القاضي الماوردي الذي كانت تربطه بجلال الدين البويهي صلة ود وصداقة؛ وظهرت شجاعة الماوردي، فانحاز إلى جانب الحق، وضرب مثلا فريدًا في الثبات على الحق، فأفتى بالمنع، وأعجب جلال الدين بصدقه وشجاعته فقال له: (أنا أعلم أنك لو حابيت أحدًا لحابيتني، لما بيني وبينك من أواصر المحبة، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي).
ولما ذاعت شهرة الماوردي أثناء فترة إقامته ببغداد لما عُرِفَ عنه من فضل وعلم، وحسن رأي، وجلالة قدر؛ اختير ليكون سفيرًا بين رجال الدولة في بغداد، وبني بويه في أصبهان من سنة 381هـ/ 991م إلى 422هـ/ 1030م، وكان لقربه من الحياة السياسية في عصره، واختلاطه بالأمراء والوزراء أثر كبير، فقام بكتابة العديد من المؤلفات السياسية الرائعة التي صدرت عن خبرة كبيرة ودراسة واسعة مثل (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) وكانت له مكانة ممتازة عند الأمراء والملوك في عصره، فكان يتصدر المراسم والاحتفالات الرسمية، وأسندوا إليه عقد قران الخليفة القائم بأمر الله على خديجة بنت داود أخي السلطان (طغرلبك) سنة 448هـ.
واشتهر الماوردي بالحلم والوقار والأدب والتعفف عن سؤال غيره، كما عرف عنه التدين والتنزه عن اللهو والهزل، وشهد المعاصرون للماوردي بالصلاح والتقوى، وهم محقون في ذلك، فقد أخفى مؤلفاته عن الناس في عصره خوفًا من أن يكون قد خالطها الرياء وهو يؤلفها، وعهد إلى صديقٍ له ألا يظهرها إلا بعد وفاته، وترك الماوردي العديد من المؤلفات منها: كتاب في التفسير و(الحاوي) في الفقه الشافعي و(قانون الوزارة وسياسة الملك) و(أدب الدنيا والدين).(1/2)
والماوردي مفكر سياسي إسلامي يعد من أوائل من اهتموا بعلم السياسة وأصول الحكم الإسلامي، يأخذ أفكاره وآراءه من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وظل الماوردي في خدمة العلم إلى أن فاضت روحه إلى بارئها في يوم الثلاثاء آخر شهر ربيع الأول سنة 450هـ، وحضر جنازته جمع من الخطباء والعلماء والقضاة يودعونه إلى مثواه الأخير.(1/3)
قال علي بن عبد الله ألدربي : من القصص التي وقفت عليها وتأثرت منها جدا هي أنه قام أربعة رجال من إحدى الهيئات الإغاثة في المملكة بالذهاب إلى أدغال أفريقيا لتوزيع المعونات من قبل هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية ..
وبعد مسير أربع ساعات على الأقدام وبعد أن أضناهم السير مرَّوا على عجوز في خيمة فسلموا عليها وأعطوها بعض المعونات فقالت لهم : من أي بلاد أنتم فقالوا : نحن من المملكة العربية السعودية ..
فقالت : بلغوا سلامي للشيخ بن باز . فقالوا : يرحمكِ الله وما يدري ابن باز عنك في هذه الأماكن البعيدة .
فقالت : والله إنه يرسل لي في كل شهر ألف ريال بعد أن أرسلت له رسالة أطلبه المساعدة والعون بعد الله عز و جل .
( جريدة المدينة عدد : 13182) .(1/1)
في مدينة الكوفة، ولد (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) أحد الأئمة الأعلام
سنة 97هـ، وتفتحت عينا سفيان على الحياة، فوجد كتب الحديث والفقه تحيط به من كل جانب، فقد كان والده من العلماء الكبار الذين يحفظون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نشأ سفيان في أسرة فقيرة صالحة تعبد الله حق عبادته، وكانت أمه تنظر إليه وهو مازال طفلاً وتقول له: (اطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي، وإذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تَرَ ذلك فلا تتعبن نفسك).. فيالها من أم صالحة!! لا تفكر في الجاه ولا الثراء، ولكن كل ما كانت ترجوه لولدها أن يتعلم علمًا نافعًا يبتغي به وجه الله، وبدأ (سفيان) يتعلم ويجعل من والده قدوة صالحة له، ويستجيب لرغبة والدته التي أحبها من قلبه.
ومرت الأيام، وأصبح سفيان شابًّا فتيًّا، وفي إحدى الليالي أخذ يفكر ويسأل نفسه: هل أترك أمي تنفق علي؟ لابد من الكسب والعمل .. لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس؛ فالمال ضروري للإنسان حتى ولو كان عابدًا زاهدًا، ومن أجل ذلك عمل سفيان بالتجارة، ولم يكن المال هدفه في الحياة، بل وهب سفيان نفسه للعلم وأخذ يتعلم ويحفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصبح في دنياه لا يطلب إلا العلم، فكان يقول: (الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم).
واشتهر سفيان بين الناس بعلمه وزهده وخوفه من الله، وظل طالب علم، متواضعًا يتعلم ويستفيد من الآخرين، يستمع إليهم، ويحفظ ما يقولون، وينشر ما تعلمه على الناس، يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويملي عليهم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان سفيان الثوري إذا لقي شيخًا سأله: هل سمعت من العلم شيئًا؟ ولقد منحه الله ذاكرة قوية فحفظ الآلاف من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كان يحبها أكثر من نفسه.(1/1)
كان ينصح العلماء ويقول لهم: (الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء؟!) وكان يقول: (إذا فسد العلماء، فمن بقي في الدنيا يصلحهم) ثم ينشد:
يا معشرَ العلماءِ يا مِلْحَ البلدْ
ما يصلح الملحَ إذا الملح فَسَدْ
وبمرور الأيام، كانت شهرة سفيان الثوري تزداد في بلاد الإسلام، ويزداد معها احترام الناس له، لخلقه الطيب، وعلمه الغزير، وحبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، حتى إن أحد العلماء قال عنه: ما رأيت أحدًا أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان، وكان الناس يتسابقون إلى مجلسه ويقفون بباب داره في انتظار خروجه.. قال عنه شعبة وغيره: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري.
ولذلك كان ينصح الناس قائلاً: أكثروا من الأحاديث؛ فإنها سلاح، وكان يتجه إلى الشباب الذي كان ينتظر خروجه من منزله ويقول لهم: (يا معشر الشباب تعجلوا بركة هذا العلم) وكان سفيان لا يخشى أحدًا إلا الله، كثير القراءة للقرآن الكريم، فإذا تعب من القراءة وضعه على صدره، حريصًا على الصلاة في الثلث الأخير من الليل، وإذا نام قام ينتفض مرعوبًا ينادي: النار النار.. شغلتني النار عن النوم الشهوات، ثم يطلب ماء، فيتوضأ ثم يصلى فيبكي بكاء شديدًا.
عاش سفيان حياته كلها يدعو إلى الله، وكانت سعادته في هداية إنسان عاصٍ أحب إليه من الدنيا وما فيها، وعرض عليه أن يكون قاضيًا فهرب خوفًا من الحساب أمام الله، وأرسلت إليه هدايا الملوك والأمراء فرفضها، فعاش حياته لله، وفي سبيل الله، وبعد هذه الحياة الكريمة في خدمة الإسلام والمسلمين، مات سفيان الثوري بالبصرة في شعبان سنة 161هـ.(1/2)
الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي. المصلح العظيم وباعث النهضة الإسلامية في العصر الحديث.
ولد في بلدة العيينة في نجد سنة 1115هـ وقرأ القرآن قبل بلوغ العاشرة وكان ذكيا حاد الفهم أخذ العلم عن والده وغيره. ثم ذهب لطلب العلم إلى البصرة ومكة والمدينة و الأحساء وغيرها، ثم عاد إلى نجد.
كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر داعيا إلى توحيد الله وإقامة حدوده ونبذ الشرك والبدع التي انتشرت في وقته ولاقى في سبيل ذلك أذى كثيرا رحمه الله.
ولما اشتهر أمره عاداه كثير من الناس ـ كما هي سنة الله فيمن دعا إلى الحق ـ إما جهلا أو حسدا وعنادا للحق.
ثم انتقل إلى الدرعية والتقى بأميرها محمد بن سعود فناصره، ومنها بدأ أمر دعوته في الاستقرار والظهور فاهتم بنشر العلم وتوافد الناس عليه من البلدان المجاورة للدرعية.
ثم بدأ بمكاتبة أهل البلدان المجاورة وتبيين ما هم عليه من الباطل بالدليل من الكتاب والسنة. فلم يستجب له أكثر الناس وعاداه كثير من العلماء المبتدعة وأثاروا الناس عليه وبثوا عنه وعن دعوته الأكاذيب من أنه يكفر الناس وينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء.
فبدأ بالجهاد بالسيف مع الدعوة لإخراج الناس من الشرك وإدخالهم في التوحيد، فخضع لهم كثير من البلدان المجاورة.
أثنى عليه وعلى دعوته الكثير من العلماء المعاصرين له، والذين أتوا من بعده، منهم عالم اليمن الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني الذي كان معاصرا له، وكذلك العلامة محمد بن علي الشوكاني الذي أتى بعده.
تتلخص أصول دعوته في الأمور الآتية:
1ـ الدعوة إلى التوحيد الخالص من شوائب الشرك صغيره وكبيره.
2ـ الاتباع التام لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخالص من شوب البدعة ولو كان يسيرا.(1/1)
3ـ الدعوة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، بفهم علماء السلف، وجعلهما المصدر الأساس للدين والبعد عن الجمود على التقليد إذا استبان الدليل، مع البعد عن علم الكلام.
4ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يلزم من ذلك من نشر العلم الشرعي والجهاد في سبيل الله وإقامة الحدود والرد على أهل الباطل.
5ـ إحياء مبدأ الولاء للمؤمنين ولو كانوا أبعد الناس والبراء من المشركين والملحدين ولو كانوا أقرب الناس.(1/2)
هذه ترجمة مختصرة لسيرة الشيخ رحمه الله
هو صاحب الفضيلة الشيخ العالم العلامة (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي) المولود بمدينة "عنيزة" بالقصيم في إقليم نجد بالمملكة العربية السعودية، وكان أبواه قد توفيا في صغره، إلا أنه كان على قدر وفير من الذكاء والفطنة والرغبة في طلب العلم، وقد بدأ حفظ القرآن في سن مبكرة حتى أتمه وأتقنه في الثانية عشر من عمره وشرع في طلب العلوم وأخذ يتلقاها عن علماء بلده وغيرهم ممن قدم إليها وبذل جهده في سبيل ذلك حتى نال الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من العلوم والمعارف.
وفي سن الثالثة والعشرين ابتدأ الجمع بين طلب العلم وتدريسه واستفادته وإفادته وقضى في ذلك جميع وقته طول حياته وقد تلقى الكثيرون عنه وانتفعوا به.
ومن شيوخه الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر وكان أول من قرأ عليه.
الشيخ صالح بن عثمان قاضي عنيزة أخذ عنه الأصول والفقه والتوحيد والتفسير والعربية، ولازمه إلى وفاته، وكان الشيخ ذا معرفة تامة بالفقه وأصوله وخبرة كاملة بالتوحيد ومسائله بسبب اشتغاله بالكتب المعتبرة واهتمامه بتصانيف ابن تيمية وابن القيم خاصة. كما كان ذا عناية فائقة بالتفسير وفنونه، فقرأه حتى برع فيه وأتقنه، وصارت له اليد الطولى فيه، وله من المؤلفات في التفسير:
تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن في ثمانية أجزاء.
تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن.
القواعد الحسان لتفسير القرآن.
ومن مؤلفاته التي ينصح باقتنائها والاستفادة منها سوى ما تقدم:
الإرشاد إلى معرفة الأحكام.
الرياض الناضرة.
بهجة قلوب الأبرار.
منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين.
حكم شرب الدخان وبيعه وشرائه.
الفتاوى السعدية.
له ثلاثة دواوين خطب منبرية نافعة.
الحق الواضح المبين بشرح توحيد الأنبياء والمرسلين.
توضيح الكافية الشافية (نونية ابن القيم).(1/1)
وله مؤلفات كثيرة في الفقه والتوحيد والحديث والأصول والأبحاث الاجتماعية والفتاوى المختلفة.
وفاته: وقد أصيب بمرض شديد مفاجئ أنذر بدنو منيته، حيث وافاه الأجل في ليلة الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1376هـ بمدينة عنيزة، وقد ترك أثراً وحزناً عميقاً في نفس كل من عرفه أو سمع عنه أو قرأ له رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا بعلمه ومؤلفاته. آمين.(1/2)
* مولده:
ولد في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض وكان بصيرا ثم أصابه مرض في عينه عام 1346هـ وضعف بصره ثم فقده عام 1350هـ.
* طلبه للعلم:
حفظ القرآن الكريم قبل سن البلوغ ثم جد في طلب العلم على العلماء الرياض، ولما برز في العلوم الشرعية واللغة، عين في القضاء عام 1357هـ ولم ينقطع عن طلب العلم حتى اليوم، حيث لازم البحث والتدريس ليل نهار، ولم تشغله المناصب عن ذلك مما جعله يزداد بصيرة ورسوخا في كثير من العلوم، وقد عُني عناية خاصة بالحديث وعلومه حتى أصبح حكمه على الحديث من حيث الصحة والضعف محل اعتبار وهي درجة قل أن يبلغها أحد خاصة في هذا العصر، وظهر أثر على كتاباته وفتواه حيث كان يتخير من الأقوال ما يسنده الدليل.
* مشائخه:
تلقى العلم على أيدي كثير من العلماء ومن أبرزهم:
الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الشيخ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض.
الشيخ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض.
سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية، وقد لازم حلقاته نحوا من عشر سنوات، وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداء من سنة 1347هـ إلى سنة 1357هـ.
الشيخ سعد وقاص البخاري من علماء مكة المكرمة، أخذ عنه علم التجويد في عام 1355هـ.
* من مواقفه:
احتاج أحد الطلاب من الجامعة إلى مساعدة (مائتي ريال) فكأن كاتب الشيخ قرأها ـ خطأـ ألفين ريال، فأمر الشيخ بصرف المبلغ له، وعند مراجعة الأوراق اتضح أن الطالب طلب مائتي ريال، فأراد الكاتب تصحيح الأمر، فنهاه الشيخ قائلا: لعله كان محتاجا للألفين واستحيا، فرزقه الله.. أعطه الألفين.
* آثاره:(1/1)
منذ تولى القضاء في مدينة الخرج عام 1357هـ وهو ملازم التدريس في حلقات منتظمة إلى يومنا هذا، ففي الخرج كانت حلقاته مستمرة أيام الأسبوع، عدا يومي الثلاثاء والجمعة ولديه طلاب متفرغون لطلب العلم من أبرزهم:
1) الشيخ عبد الله الكنهل.
2) الشيخ عبد الله بن صالح الخنين.
3) الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك.
4) الشيخ عبد اللطيف بن شديد.
5) الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود.
6) الشيخ عبد الرحمن بن جلال.
7) الشيخ صالح بن هليل وغيرهم.
في عام 1372هـ انتقل إلى الرياض للتدريس في معهد الرياض للتدريس في معهد الرياض العلمي، ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها سنة 1373هـ في علوم الفقه والحديث والتوحيد، إلى أن نقل نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1381هـ. وقد أسس حلقة للتدريس في الجامع الكبير بالرياض منذ انتقل إليها ولا زالت هذه الحلقة مستمرة إلى يومنا هذا، وإن كانت في السنوات الأخيرة اقتصرت على بعض أيام الأسبوع بسبب كثرة الأعمال. ولازمها كثير من طلبة العلم، وأثناء وجوده بالمدينة المنورة من عام 1381هـ نائبا لرئيس الجامعة ورئيسا لها من عام 1390هـ إلى 1395هـ عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي. ومن الملاحظ أنه إذا انتقل إلى غير مقر إقامته استمرت إقامة الحلقة في المكان الذي ينتقل إليه مثل الطائف أيام الصيف. وقد نفع الله بهذه الحلقات.
* مؤلفاته:
1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة صدر منه الآن ثلاثة أجزاء.
2) الفوائد الجلية في المباحث الفرضية.
3) التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك).
4) التحذير من البدع ويشتمل على أربع مقالات مفيدة (حكم الاحتفال بالمولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية المسمى الشيخ أحمد).
5) رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.
6) العقيدة الصحيحة وما يضادها.(1/2)
7) وجوب العمل بالسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها.
8) الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة.
9) وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه.
10) حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار.
11) نقد القومية العربية.
12) الجواب المفيد في حكم التصوير.
13) الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته.
14) ثلاث رسائل في الصلاة: (أ) كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ب) وجوب أداة الصلاة في جماعة. (ج) أين يضع المصلي يديه حين الرفع من الركوع.
15) حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن أو في رسول الله صلى اله عليه وسلم.
16) حاشية مفيدة على فتح الباري وصل فيها إلى كتاب الحج.
17) رسالة الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب.
18) إقامة البراهين على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين.
19) الجهاد في سبيل الله.
20) الدروس المهمة لعامة الأمة.
21) فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.
22) وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة.
23) هذا ما تم طبعه ويوجد له تعليقات على بعض الكتب مثل: بلوغ المرام، تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر (لم تطبع)، تحفة الأخيار ببيان جملة نافعة مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من الأدعية والأذكار (طبع)، التحفة الكريمة في بيان كثير من الأحاديث الموضوعة والسقيمة، تحفة أهل العلم والإيمان بمختارات من الأحاديث الصحيحة والحسان، إلى غير ذلك.
الأعمال التي يزاولها غير ما ذكر:
1) صدر الأمر الملكي بتعيينه رئيسا لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى جانب ذلك:
2) عضوا لهيئة كبار العلماء.
3) رئيسا للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء التي أصدرت هذه الفتاوى.
4) رئيسا وعضوا للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
5) رئيسا للمجلس الأعلى العالمي للمساجد.
6) رئيسا للمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي.(1/3)
7) عضوا للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
8) عضوا في الهيئة العليا للدعوة الإسلامية.
ولم يقتصر نشاطه على ما ذكر، فقد كان يلقي المحاضرات، ويحضر الندوات العلمية، ويعلق عليها ويعمر المجالس الخاصة والعامة التي يحضرها بالقراءة والتعليق بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح صفة ملازمة له.
* كيف كان يقضي وقته:
يبدأ البرنامج بصلاة الفجر في المسجد، ثم يبدأ بذكر الله تعالى وقتا معينا، ثم يلتفت إلى طلابه إعلانا ببدء الدروس اليومية وهي بعد صلاة الفجر وهي عبارة عن دراسة ستة علوم إسلامية: الفقه والحديث والتفسير والعقيدة والرقائق (ولما كنت حاضرا في تلك الفترة كان يقرأ عليه حادي الأرواح لابن القيم، وتستغرق الدروس عادة ساعة والنصف ثم بعد ذلك يختم المجلس بصلاة الشروق ثم يتجه الشيخ إلى بيته قليلا ثم يذهب إلى عمله وهو المفتي العام للمملكة.
وفي مقر عمله يباشر الشيخ رحمه الله من الفتوى ومقابلة الوفود الإسلامية من كل مكان وخدمة المسلمين والواسطات وحل النزاعات بين الجماعات وطلبة العلم ومساعدة المسلمين بكل ما يملك من وقت ومال وجهد وهو في الثمانين من عمره.
حدثنا الشيخ سلمان العودة قال: لقد عرف عن الشيخ ابن باز رحمه الله خدمته للإسلام والمسلمين ما يعجز عنه الأشداء حتى قيل: لو أن رجلا من أهل الرياض انقطعت عنه الكهرباء للجأ للشيخ ابن باز في حلها.
وقد علم الناس أن الشيخ ابن باز لا يكفيه راتبه الذي يستلمه من الدولة إلا أياما ثم يتسلف من إخوانه وقد ذكر ذلك العالم الجليل عبد الرزاق عفيفي رحمه الله.. أنه كان يتسلف منه حتى يسد دينا أو يعين محتاجا.(1/4)
ولا أنسى هنا أن أذكر أن الرد على فتاوى المستفتين يأخذ من الشيخ الوقت والجهد العظيم وقد شهدت أنا شيئا منه ولو كنت مكان الشيخ - وأستغفر الله من هذا - لأغلقت السماعة في وجه المتصلين! لكن الشيخ بصبره وحلمه يساعد هذا ويعين هذا، ومن الغرائب أن الشيخ لا يكتفي بالإجابة بل أنه يسعى بحلها تماما كما سأله أحدهم عن دية القتل غير المتعمد فقال له الشيخ: عتق رقبة فقال السائل عبر الهاتف ما فيه رقبة هذه الأيام فقال الشيخ: بلى يوجد تعال عندي وأنا أشتري لك من... وذكر أحد البلدان التي فيها هذا الأمر.
ثم بعد الدوام يذهب الشيخ للبيت وهناك ينتظره الغداء الجماعي اليومي لكل من حضر بدعوة أو غير دعوة من كبار الناس وفقرائهم عربهم وعجمهم..
وبعد الغداء فتاوى على الهاتف ثم راحة ثم صلاة العصر وبعد العصر درس وفتوى ولقاء حتى المغرب تدرس حتى العشاء.. نفعنا الله بعلمه وأسكنه بفسيح جناته اللهم آمين.
* وفاته:
انتقل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى جوار ربه في فجر يوم الخميس 27/1/1420 هـ في مدينة الطائف إثر نوبة قلبية. وقد أقيمت صلاة الميت على جثمانه - رحمه الله - في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة، وقد أدى الصلاة عليه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود وسمو ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وسمو النائب الثاني الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود وعدد كبير من الأمراء والوزراء والمسئولين وجمع غفير من المسلمين، كما أديت عليه صلاة الغائب في جميع مساجد المملكة وعدد كبير من الدول الإسلامية والعربية، غفر الله لشيخنا وأسكنه فسيح جناته.(1/5)
اسمه ونسبه
هو أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي.
مولده ونشأته
ولد الشيخ أبو عبد الله في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم عام 1347هـ في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك في عائلة معروفة بالدين والاستقامة.
تتلمذ الشيخ على بعض أفراد عائلته أمثال جده لأمه الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ، رحمه الله، فقد قرأ عليه القران فحفظه ثم اتجه لطلب العلم فتعلم الخط والحساب وبعض فنون الآداب.
وكان الشيخ قد رزق ذكاء وهمة عالية وحرصا على التحصيل العلمي في مزاحمة الركب لمجالس العلماء وفي مقدمتهم الشيخ العلامة المفسر الفقيه عبد الرحمن بن ناصر السعدي، رحمه الله.
ولم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض حين فتحت المعاهد العلمية عام 1372 فألتحق بها.
وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي رشح الشيخ محمد بن صالح العثيمين لإمامة الجامع الكبير عندها تصدى للتدريس مكان شيخه.
ولم يتصدى للتأليف إلا عام 1382 حين ألف أول كتاب له وهو فتح رب البريه بتلخيص الحموية وهو تلخيص لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية، الحموية في العقيدة.
واستغل الشيخ وجوده في الرياض بالدراسة على الشيخ عبد العزيز بن باز فقرأ عليه صحيح البخاري وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الكتب الفقهية.
مشايخه
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
الشيخ علي بن حمد الصالحي حفظه الله
الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله
الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان رحمه الله
الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ رحمه الله
منهجه العلمي(1/1)
لقد أوضح الشيخ حفظه الله منهجه وصرح به مرات عديدة أنه يسير على الطريقة التي انتهجها شيخه العلامة عبد الرحمن الناصر السعدي وهو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء الجريرة عامتهم أو غالبتهم، حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية والاعتماد على كتاب زاد المستقنع في فقه الأمام أحمد بن حنبل، فكان الشيخ عبد الرحمن السعدي معروفا بخروجه عن المذهب الحنبلي وعد التقيد به في مسائل كثيرة.
ومنهج الشيخ السعدي هو كثيرا ما يتبنى آراء شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ويرجحهما على المذهب الحنبلي فلم يكن عنده جمود تجاه مذهب معين بل كان متجردا للحق وقد انطبعت فيه هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه محمد الصالح العثيمين.
وللشيخ حفظه الله آثار علمية عديدة تجاوزت الخمسين مؤلفا.
نسأل الله العلي القدير أن يرحمه ويدخله فسيح جناته
والحمد لله رب العالمين..(1/2)
لقد فجع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بوفاة العلامة الجهبذ والمحدث الكبير، ناصر السنة، وقامع البدعة، فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وغفر له ونور ضريحه، وألهم ذويه الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.
فموته خسارة على المسلمين لا تعوض ورزية عظيمة وثلمة لا ترفأ، كيف لا وهو علم من أكبر أعلام الإسلام ومرجع للسنة من أكبر المراجع، أفنى شبابه وحياته في الدعوة إلى الله وطلب العلم ونشره والعناية بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قيضه الله لدراسة أحاديث المصطفى، صلى الله عليه وسلم وإبرازها للناس بعد تصنيفها وتحقيقها وبيان الصحيح منها من الضعيف، والموضوع من غيره فرد عنها غلو الغالين وتحريف المحرفين، وكيد الكائدين.
فلقد ولد رحمه الله عام 1332هـ في مدينة اشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك، ونشأ في أسرة فقيرة ومن بيت علم، حيث نزح مع والده من ألبانيا إلى سوريا بعد تولي الحاكم الهالك أحمد زوغو، الذي حول الحكم في ألبانيا لتكون دولة علمانية تحارب الإسلام وأهله.
بدأ الشيخ دراسته الابتدائية في دمشق ثم تابع دراسته على المشايخ فتعلم القرآن وختمه على يد والده مع بعض الفقه الحنبلي، وقرأ على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفلاح وشذور الذهب وبعض كتب البلاغة، ومنحه الشيخ محمد راغب الطباخ إجازة في الحديث، وكان رحمه الله يكتسب رزقه من مهنة إصلاح الساعات حيث ورثها من والده، وقد توجه في بداية العشرين من عمره إلى علم الحديث متأثراً بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا.(1/1)
أخذ رحمه الله يتردد على المكتبة الظاهرية والمكتبات الخاصة مثل مكتبة سليم القصيباني والمكتبة العربية الهاشمية، وكان الشيخ يلبث في المكتبة وقتاً طويلا للبحث والاطلاع إلى درجة أنه خصص له بالمكتبة الظاهرية غرفة خاصة للبحث والاطلاع، وقد ذكر عنه أنه يصعد السلم ليتناول أحد الكتب من الرفوف فإذا تناول الكتاب جلس ساعة أو أكثر يقرأ وهو على السلم، وقد نسي نفسه ووضعه على السلم وذلك من شغفه وحبه للقراءة, وقد قدم للمملكة العربية السعودية في عام 1381هـ للتدريس في الجامعة الإسلامية بترشيح من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ودرَّس في الجامعة ثلاث سنوات ثم رجع إلى سوريا ثم إلى الأردن.
وقد رشحه الملك خالد رحمه الله عضواً في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام 1395هـ وقد فاز رحمه الله بجائزة الملك فيصل العالمية لعام 1419هـ في فرع الدراسات الإسلامية، نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة الإسلام والعناية بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وقد ألف رحمه الله العديد من الكتب النافعة تربو على مائة كتاب منها سبعون كتاباً مطبوعة منشورة ومن هذه الكتب:
1- سلسلة الأحاديث الصحيحة.
2- سلسلة الأحاديث الضعيفة.
3- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل.
4- تلخيص أحكام الجنائز.
5- تخليص صفة صلاة النبي.
6- التوسل أنواعه واحكامه.
7- حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
8- دفاع عن الحديث النبوي والسيرة.
9- الحديث حجة بنفسه.
10- جلباب المرأة المسلمة.
وخشية الإطالة نكتفي بذكر هذا العدد من كتبه الكثيرة.
وذكر أن الشيخ رحمه الله قد أوصى بأن تودع مكتبته، مكتبة الجامعة الاسلامية.(1/2)
وكان الشيخ رحمه الله لشدة محافظته على الوقت إذا رغب أحد في زيارته والاستفادة منه حدد له وقتاً للزيارة، حيث يقول أحد من زاره: اتصلنا بالشيخ ليحدد لنا وقتاً لمقابلته فقال تأتون ساعة واحدة من التاسعة إلى العاشرة، يقول فحضرنا متأخرين، أي التاسعة والنصف، فلامنا الشيخ على ذلك وما أن أشارت الساعة إلى العاشرة، وإذا بالشيخ يقول: انصرفوا راشدين، لأن هناك من رتب معه موعداً بعد العاشرة.
وهذا مما يدل على حرصه ودقته في المواعيد وضبطه للوقت للاستفادة منه، فيا للعجب كم يضيع علينا من الأوقات بلا فائدة؟
وقد أثنى عليه علماء كثر منهم: سماحة الشيخ العلامة ابن باز، رحمه الله، حيث قال لي أحد الثقات أنه سمعه في برنامج نور على الدرب يقول: لا نعلم أحداً أعلم بالحديث منه يعني بذلك الألباني، وقد نقل كثيراً عن العلامة ابن باز أنه قال: ما تحت أديم السماء عالم بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني أو كلمة نحوها، وقد ألف محمد الشيباني كتاباً عن حياة الألباني وذلك قبل وفاته فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه.
وممن أثنى عليه بعد موته: معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد حيث قال: الحمد لله على قضائه وقدره (إنا لله وإنا إليه راجعون) ولا شك أن فقد العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: مصيبة لأنه علم من أعلام الأمة ومحدث من محدثيها وبهم حفظ الله جل وعلا هذا الدين ونشر الله بهم السنة,, الخ .(1/3)
وقال معالي الشيخ الدكتور عبد الله بن صالح العبيد الأمين العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة: لاشك بأن فقد الأمة الإسلامية بوفاة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني تعتبر خسارة فادحة، وقال: وشواهد الشيخ وإسهاماته جليلة وكبيرة من خلال عمله في المؤسسات الاسلامية الكبرى مثل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وغيرها من المؤسسات الإسلامية الكبرى وقد كان فضيلته، رحمه الله، موضع التقدير والاحترام من قبل المسلمين أفراداً وهيئات وجماعات ودولاً، وقد توج ذلك بمنحه جائزة الملك فيصل لخدمته الجليلة للدراسات المتعلقة بالحديث.
ويذكر أن إمرأةً اتصلت هاتفياً من الجزائر بالشيخ رحمه الله فقالت: إني رأيت في المنام الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم يمشي وأنت تمشي خلفه، فبكى الشيخ رحمه الله من هذه الرؤيا وأخذ يجهش في البكاء.
وأما صلته بالعلماء، فقد التقى رحمه الله بالعديد منهم كالشيخ حامد الفقي، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز فقد كان له به علاقة قوية وجلسات علمية عديدة مفيدة.
وللشيخ الألباني دروس أسبوعية كثيرة في كتب كثيرة، كفتح المجيد والروضة الندية، وفقه السنة، ومنهاج الإسلام، حيث درس عليه نخبة طيبة من طلبة العلم منهم: الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، والدكتور ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق، والشيخ محمد بن إبراهيم شقرة، والشيخ يسلم بن عيد الهلالي، وغيرهم كثير.
ومن أول مؤلفاته الفقهية كتاب تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، وأول عمل في الحديث عُني به الشيخ هو نسخ كتاب المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، وكذلك من أوائل كتب التخريج، كتاب الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير، ولا يزال مخطوطاً.(1/4)
وأما عن أولاده: فقد رزق الشيخ بسبعة أولاد وست بنات، حيث أنه رحمه الله تزوج من أربع نساء، جعل الله ذريته خير خلف لخير سلف وبارك الله فيهم وحفظهم وأعظم أجرهم في وفاة والدهم فقيد المسلمين.
ولم تأل جهداً حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في الأمر على من يلزم باستقبال الشيخ وعلاجه في أرقى المستشفيات بالمملكة وذلك بشفاعة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ولكن ظروف الشيخ الألباني الأسرية وتأجيله للقدوم للمملكة حالت دون ذلك، وكل شيء بإرادة الله ومشيئته سبحانه، حيث وافاه الأجل المحتوم مساء يوم السبت 22/6/1420هـ في أحد مستشفيات عمان عاصمة الأردن، بعد معاناة طويلة مع المرض.
وقد شيعه وصلى عليه خلق كثير، رحمه الله وغفر له واسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً وجبر مصيبتهم فيه وأخلفهم خيراً منه، إنا لله وإنا إليه راجعون.
الشيخ محمد بن سعد السعيّد إمام وخطيب جامع سلطانة الشرقي بالرياض.(1/5)
للشيخ مزاح كثير، وعنده دعابة ومرح رحمه الله تعالى .
* إذا جاء أحد إلى الشيخ في بيته، قال له ـ أي الشيخ ـ : العشاء معنا، فإذا قال أنا يا شيخ لا أستطيع، قال: أنت تخاف من زوجتك ؟! تعشى معنا .
* زوج حفيدة الشيخ جاء إليه وقال : يا شيخ نريدك تأتي إلى بيتنا، ونستضيفك . قال الشيخ : لا مانع، إذا تزوجت مرة ثانية نأتي إلى الوليمة إن شاء الله تعالى .
فذهب هذا وأخبر حفيدة الشيخ ، وقال الشيخ يقول نأتي إليكم إذا تزوجت . فأخذت الهاتف وتكلمت مع جدها الشيخ وقالت : كيف يا شيخ ... ؟ فقال : نحن نمزح معه، لا نريده يتزوج ، نأتي بغير زواج .
* الشيخ إذا جلس يسجل نورٌ على الدرب، يخلع شماغه وطاقيته، ويقول : من يحمل الأمانة ؟ فإن قال أحد الجالسين : أنا، قال : خذ.
* في أحد المرات كان عنده أحد الأخوة وكان الشيخ يريد أن يسجل " نورٌ على الدرب" ، وكان الشيخ يريد هذا أن يخرج ، لكن بأدب ، فقال: يا هذا نحن نريد أن نسجل حلقتين متواصلات وأظن يطول عليك، قال: لا إن شاء الله أجلس وأستفيد، قال الشيخ : أخاف تكح ، تعرف التسجيل ما فيه كح ولا شيء، قال: لا إن شاء الله ما فيني كحة، قال الشيخ : لا الكحة تجيك، قال : ففهمت وخرجت .
محمد الدحيم.(1/1)
في مدينة (مرو) سنة 118هـ ولد (عبد الله بن المبارك) ونشأ بين العلماء نشأة صالحة، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة العربية، وحفظ أحاديث كثيرة من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرس الفقه، وأنعم الله عليه بذاكرة قوية منذ صغره، فقد كان سريع الحفظ، لا ينسى ما يحفظه أبدًا، يحكي أحد أقربائه واسمه (صخر بن المبارك) عن ذلك فيقول: كنا غلمانًا في الكتاب، فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب، فأطال خطبته، فلما انتهى قال لي ابن المبارك: قد حفظتها، فسمعه رجل من القوم، فقال: هاتها، أسمعنا إن كنت حفظتها كما تدَّعي، فأعادها عليه
ابن المبارك وقد حفظها ولم يخطئ في لفظ منها.
وفي الثالثة والعشرين من عمره رحل عبد الله إلى بلاد الإسلام الواسعة طلبًا للعلم، فسافر إلى العراق والحجاز.. وغيرهما، والتقى بعدد كبير من علماء عصره فأخذ عنهم الحديث والفقه، فالتقى بالإمام مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان، وكان عبد الله كلما ازداد علمًا، ازداد خوفًا من الله وزهدًا في الدنيا، وكان إذا قرأ كتابًا من كتب الوعظ يذكره بالآخرة وبالجنة والنار، وبالوقوف بين يدي الله للحساب، بكى بكاء شديدًا، واقشعر جسمه، وارتعدت فرائصه، ولا يكاد يتكلم أحد معه.
وكان عبد الله يكسب من تجارته مالا كثيرًا، وها هو ذا يعطينا درسًا بليغًا في السلوك الصحيح للمسلم، وذلك حين أتاه أحد أصدقائه واسمه (أبو علي) وهو يظن أن الزهد والتجارة لا يجتمعان قائلاً لعبد الله: أنت تأمرنا بالزهد، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد (خراسان) إلى (البلد الحرام) كيف ذا ؟! فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأُكْرِم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، وكان عبد الله بن المبارك لا يبخل على أحد بماله، بل كان كريمًا سخيًّا، ينفق على الفقراء والمساكين في كل سنة مائة ألف درهم.(1/1)
وكان ينفق على طلاب العلم بسخاء وجود، حتى عوتب في ذلك فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا أعلم بعد النبوة أفضل من بثِّ العلم.
وكان ابن المبارك يحبُّ مكة، ويكثر من الخروج إليها للحج والزيارة، وكان كلما خرج من مكة قال:
بُغْضُ الحياةِ وخوْفُ اللَّهِ أخرجنَِي
وَبيعُ نَفْسي بما لَيسَتْ لَهُ ثمَنَا
إني وزنْتُ الَّذي يبْقَي لِيعْدلَه
ما ليس يبْقي فَلا واللَّهِ ما اتَّزَنَا
وكان عبد الله بن المبارك يجاهد في سبيل الله بسيفه، حتى إن كثيرًا ممن أتوا ليستمعوا إلى علمه، كانوا يذهبون إليه فيجدونه في الغزو، وكان يرى أن الجهاد فريضة يجب أن يؤديها المسلمون كما أداها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويروى عنه أنه أرسل إلى صاحبه الفضيل بن عياض يحثُّه على قتال الأعداء، ويدعوه إلى ترك البكاء عند البيت الحرام قائلاً له:
يا عابِدَ الحرَميْن لو أبْصَرْتَنا
لَعلِمْتَ أنَّكَ في العبَادةِ تَلْعَبُ
من كان يَخْضِبُ خدَّه بدُمُوعِه
فنحوُرنا بدمائِنا تتخضَّب
أوْ كان يُتْعب خيلَه في باطل
فخيولُنا يوم الصبيحة تَتْعبُ
ريح العبير لكم، ونحن عبيرُنا
رَهَجُ السَّنَابك والغبارُ الأطيبُ
وأحبَّ عبد الله بن المبارك أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حبًّا عظيمًا وكان لا يجيب أحدًا يسأله عن حديث منها وهو يمشي، ويقول للسائل: (ليس هذا من توقير العلم) وكان حفَّاظ الحديث في الكوفة إذا اختلفوا حول حديث قالوا:
مروا بنا إلى هذا الطبيب نسأله (يقصدون عبد الله بن المبارك).(1/2)
ولقد اجتمع نفر من أصحابه يومًا وقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، والفصاحة والزهد، والورع، والإنصاف، وقيام الليل، والعبادة، والفروسية، والشجاعة، والشدة في بدنه، وترك الكلام في ما لا يعنيه.. حتى أجهدهم العدُّ.
ولقد قدر الناس عبد الله بن المبارك وزادت مهابته لديهم على مهابة هارون الرشيد.. رُوي أن هارون الرشيد قدم ذات يوم إلى (الرقَّة) فوجد الناس يجرون خلف عبد الله بن المبارك لينظروا إليه، ويسلموا عليه، فنظرت زوجة هارون الرشيد من شباك قصرها، فلما رأت الناس قالت: ما هذا ؟! قالوا: عالم من خراسان قدم (الرقَّة) يقال له (عبد الله بن المبارك) فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان.
وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 181هـ توفي عبد الله بن المبارك وهو راجع من الغزو، وكان عمره ثلاثة وستين عامًا، ويقال: إن الرشيد لما بلغه موت عبدالله، قال: مات اليوم سيد العلماء.(1/3)
قل لي بالله عليك.. مالك لا تخاف سطوةً ولا سلطانًا.. تهابك الملوك والسلاطين، وأنت الذي لا تحمل في يدك سوطًا ولا سيفًا؟! عفوًا يا سلطان العلماء، لا تجب، فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا لله، تطيع أوامره، وتجتنب نواهيه، يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة، فمنحك الله قوة وعزة!!
تمكن التتار من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار، فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء، وأصبحت هذه البلاد مركزًا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد والمدارس، ووفد إليها طلاب العلم، من كل مكان ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ، إلى جانب الفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات.. وغيرها.
وسط هذا الجو الذي يشجع على التعلُّم والدراسة، ولد بدمشق عام 577هـ
(عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السلام) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر وضيق العيش، ونشأ عز الدين على حب العلم، فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده، وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن الحرستاني) وغيرهما من الأساتذة الكبار، حتى أصبح عالمًا له مكانته المرموقة بين أساتذته.
وكان منصب الخطابة في الجامع الأموي (بدمشق) منصبًا عظيمًا لا يتولاه إلا كبار العلماء، فتولاه (عز الدين بن عبد السلام) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بكلمة الحق، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، فحارب كل بدعة، وأمات كل ضلالة، وكان يقول: (طوبى لمن تولى شيئًا من أمور المسلمين، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن).(1/1)
وفي عام 635هـ ولاه السلطان الكامل الأيوبي قضاء دمشق، لكنه لم يستمر فيه طويلا، بل تركه في العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خلاف مع الشيخ عز الدين؛ لأن الملك الصالح تحالف مع الصليبيين، وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلان، وسمح لهم بدخول دمشق، وترك لهم حرية الحركة فيها، وشراء السلاح منها، وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر، فلم يرضَ الشيخ عز الدين بهذا الوضع المهين، فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد الأموي هجومًا عنيفًا، وقطع الدعاء له في خطب الجمعة، وأفتى بتحريم بيع السلاح للصليبيين أو التعاون معهم، ودعا المسلمين إلى الجهاد.
غضب السلطان الصالح إسماعيل، وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد الأموي، ومنعه من الفتوى والاتصال بالناس، ولم يكتف بذلك، بل منعه من الخروج من بيته، فقرر عز الدين الهجرة من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها عام 638هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه، فبعث إليه السلطان أحد وزرائه، فلحق به في نابلس، وطلب منه العودة إلى دمشق، فرفض، فقال له الوزير: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتعتذر إليه وتقبل يده لا غير.
فقال عز الدين: والله يا مسكين، ما أرضى أن يقبل السلطان يدي، فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ.. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له الوزير: قد أمرني السلطان بذلك، فإما أن تقبله، وإلا اعتقلتك، فقال: افعلوا ما بدا لكم!!
واعتقله جنود السلطان في نابلس، وظل في محبسه، حتى جاءت جنود مصر وخلصته، وجاء الشيخ عز الدين إلى القاهرة عام 639هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وولاه منصب قاضي القضاة، وخطيب مسجد عمرو بن العاص، واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء، والجرأة في الحق، حتى أحبه الناس والتفوا حوله.(1/2)
وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله: فقد أفتى العز بن عبد السلام أن أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيدًا رقيقًا، وأنه يجب بيع هؤلاء الأمراء لصالح بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي، حتى يجوز لهم أن يتصرفوا تصرف الأحرار، فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم، حطمت كبرياءهم، وعطلت مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدرًا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم، وزاد طغيانهم، وكثرت مظالمهم.
غضب الأمراء المماليك غضبًا شديدًا، وقدموا شكوى إلى السلطان، وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد السلام، بالعدول عن رأيه، فتحدث معه السلطان في ذلك، وطلب منه أن يتركهم وشأنهم، فغضب عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة، وعزم على مغادرة مصر، فحمل أمتعته على حمار، وحمل أهله على حمار آخر، وسار خلفهم على قدميه خارجًا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا وراءه، فخاف السلطان من الثورة، وقال له أعوانه: متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!! فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره، لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إلا بعد أن وافق السلطان على بيع الأمراء المماليك في مزاد علني.
رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على الأمراء في المزاد، وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب السلطنة، فغضب واشتد غيظه، ورفض أن يباع كما تباع الماشية، وصاح في كبرياء: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي.(1/3)
ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من الأمراء، وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله، وطرقوا الباب، فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائفًا يخبره بما رأى، ابتسم الشيخ في وجهه، وقال له: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج إلى أمراء المماليك، فنظر إليهم نظرة عزة وإباء، وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهرًا سيفه؛ فارتعدت مفاصل نائب السلطان وسقط السيف من يده، ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، وتمَّ للشيخ ما أراد وباع الأمراء في المزاد واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، ثم صرفه في وجوه الخير.
وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السلام) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء الإسلام والمسلمين، وكان له دور فعال في هذا الأمر، ولم يَرْضَ أن تتحمل جماهير الشعب وحدها نفقات الجهاد، وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال: إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي، ويبقى لكل الجند سلاحه، وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال، فلا.
وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو، وكان دائمًا يحرض السلطان (قطز) على حرب التتار حتى كتب الله له النصر في (عين جالوت) عام 658هـ(1260م) وكان (العز بن عبد السلام) شجاعًا مقدامًا، فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفًا أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجردًا، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟(1/4)
فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟
قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة..
فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة، فسأل أحد تلاميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ:
يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟ قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه.
وكان (العز بن عبد السلام) رغم فقره كريمًا كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيِّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيرًا.
وعاش الشيخ (عز الدين) 83 عامًا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام -في ذلك الوقت- الظاهر (بيبرس).
وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ الإسلام
(تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء).. رحم الله العز بن عبد السلام رمز العزة والإباء.(1/5)
" الرقة ولين الفؤاد صفتان جميلتان مدح بهما الرسول صلى الله عليه وسلم قوماً من الناس , وذم آخرين يوم أن اتصفوا بنقيضها . وشيخنا العلامة الكبير محمد بن صالح العثيمين _ رحمه الله _ ممن عُرف بالقوة والحياة الجادة والثبات والشدة في الحق والكل يعرف عنه ذلك , لكن مما اتصف به شيخنا _ رحمه الله _ مع ذلك رأفة القلب وصفاء النفس ومحبة الخير والسعي لنفع الناس ..وعدد ما شئت مما يتصف به العلماء . وبين يدي قصة عشتها وأثرت فيَّ أحداثها .
عبد الرحمن بن داوود من خيرة طلاب شيخنا وأحاسنهم أخلاقاً من يمن الإيمان والحكمة له في قلوب الجميع محبة ومكانة .. .
حصل له حادث توفي على أثره وهو في طريقه لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم , حزن الجميع للنبأ وسلمنا لقضاء الله وقدره ووضعت الجنازة بعد صلاة المغرب ليتقدم شيخنا _ رحمه الله – ويصلي عليه , ثم تُحمل الجنازة إلى المقبرة .
وفجأة بعد الصلاة إفتقدنا الشيخ رحمه الله فقال البعض لعله تبع الجنازة وقال آخرون لعل الشيخ صائم فذهب للإفطار كما هي عادته وسيعود بعد ربع ساعة أما البعض فقد رأوا شيخنا عندما نزل بعد الصلاة إلى قبو المسجد , فجلسوا حول كرسي الشيخ في إنتظار صعوده للدرس اليومي .
ثم قام أحد الأخوة من طلبة الشيخ المعروفين_ ممن لم ير الشيخ _ فنزل إلى القبو ريثما يعود الشيخ , وفجأة وهو ينزل إذ بالشيخ _ رحمه الله _ يصعد من القبو وهو يمسح الدموع عن وجهه , وقد ظهر على وجهه التأثر الشديد والبكاء , هنا ألقى صاحبنا على شيخنا السلام ثم صعد , أما الشيخ فقد كفكف دمعه وصعد إلى مكان الدرس وجلس على كرسيه والجميع حوله ثم ترحم على إخينا _ عبد الرحمن _ وذكره بخير ثم استمر في درسه وكأن شيئاً لم يكن . ما ذا نقول .؟! ثبات و قوة في رقة و إيمان ..
رحم الله عبد الرحمن بن داود ورحم الله شيخنا فقد لحق المعلم بالطالب ونحن على الأثر.(1/1)
يقول الشيخ عبد السلام العييري وهو يتكلم عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله وهو يتحدث عن موقف أثر فيه كثيراً يقول:
ياللعار! أنتم أيها الناس تأكلون وتشربون وتنامون على الفرش الوفيرة وتصغون إلى أصوات المذياع وتتمددون على مقاعد المقاهي وإخوانكم هناك يخوضون في الدم، يا للعار!.
إني لأكتب هذه الكلمة وأنا أبكي ولقد مرت علي أيام شداد ومصائب جسام فما بكيت ولا ترقرقت في مقلتي دمعة، ولكني أقسم بالله العظيم أبكي الآن من أعماق قلبي.
أتدرون لماذا؟.
كنت قاعداً أشرب بعض الشاي وأشتغل بكتابي الذي أؤلفه فما سمعت إلا ضجة في الدار وكلاماً لم أتبينه ولهجة لم آلفها .
فسألت فإذا في الدار امرأة من فلسطين شريفة غنية من أسرة كبيرة كشفت ملاءة عليها بالية فإذا ليس تحتها شيء وإذا هي عارية ليس على جسمها إلا سراويل وإذا هي قد قصفها الجوع.
وانطلقت تصف ما جرى عليها منذ قتلوا زوجها وأخاها وطفلها إلى أن نجت بالباقين وهي عارية من المال والثياب إلى أن وصلت إلى محطة الشام فتركت أطفالها في المحطة تحت حرارة الشمس ومشت على غير هدى حتى وجدت هذا الباب فولجته.
انطلقت تحكي وأهل الدار يبكون حتى كادت تصير الدار كأنها مناحة، ثم وضعوا بين يديها كل ما يقدرون عليه، ثم ذهبت لا أدري إلى أين ولا أدري ماذا تصنع غداً ولا الذي بعده، ولا أعلم من معها وماذا جرى لغيرها؟.
فهل في الناس من يعلم ويدري، وهل في الناس من يحب أن يعلم، وهل في البلد مسلم، هل في البلد عربي، هل في البلد إنسان؟!.
سيبكي بعض القراء وينتحب ثم ينام ولا يدفع شيئاً.
سيهز بعض الموظفين أكتافه ويقول: أنا لا أشتغل بالسياسية، ثم يذهب إلى السينما أو البار أو دار القمار.
سيفرك الشيخ كفه ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم يذهب يعد قروشه على سبحته.
سيلوح التاجر بيديه ويقول: التجارة واقفة، ماذا نصنع؟ .(1/1)
لا يا سادة، لا البكاء ينفعنا ولا الحوقلة، إن هذه ليست سياسة ولكنها واجب وطني ديني إنساني.
إن أصغر تاجر يستطيع أن يساعد فلسطين.
يا أيها الناس! إن المئات من النساء يضلن في الطرقات جائعات عاريات في مدن فلسطين وفي أراضي الشام.
إن المرأة التي ذهبت الآن من دارنا مثال من هؤلاء النساء، فمن يتطوع للبحث عنهن، من يتقدم فيستأجر لهن الدور ويجمع من الناس فينفق عليهن.
أتذهب هذه الكلمة صيحة في واد، ألم يبق في البلد مسلم؟! ألم يبق عربي؟! ألم يبق شريف؟!
أتعاد مأساة أندلس جديدة وأنتم تنظرون؟ ألم يكف هذا الموقف المخجل الذي وقفه رؤساء العرب، أتكون الشعوب العربية أيضاً مقصرة.
مائة وعشرة أيام مرت على فلسطين، لا البائع باع فيها ولا الصانع اشتغل، ولا الأجير أخذ أجرته.
فمن أين يعيش فقراء فلسطين؟! من أين يجدون ثمن الخبز؟! ألم تفكروا في هذا، ألم يخطر لكم على بال؟!
أتأكلون وتشربون وتلعبون وتطربون وأهل فلسطين يموتون؟!
يا للعار يا للعار.
المصدر: شريط ( من أعلام العصر ) .(1/2)
• إلى هذه الدرجة الدقة
قال الشيخ محمد بن صالح المنجد :
كان متحرياً للدقة حتى في تصحيح درجات الطلاب فربما يعطي واحدا من خمس وأربعين وواحداً من ثمانين فيقول له بعض من حوله من المدرسين : إلى هذه الدرجة الدقة فقال : لا أستطيع أن أزيده فأظلم غيره ولا أن أنقصه فأظلمه .
• خصم مكافأة من المحاضرات
قال الأمير فيصل بن بندر :
كان العلامة الراحل أستاذاً في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود ، ومعروف أن الأساتذة لهم رواتب في ضوء ما يقدمونه من محاضرات .
وقد يحدث أحياناً أن يكون للشيخ ارتباطات في عمله في هيئة كبار العلماء أو في الحج أو في أي ارتباطات أخرى، ومن ثم لا يتمكن من حضور بعض هذه المحاضرات ، فلما جاءت أوراق تسلم الرواتب طلب من المسؤول عنها خصم مكافأة جميع المحاضرات التي أعتذر عنها .
• الراحة في خدمة المسلمين
قال الشيخ بدر بن نادر المشاري :
رغم مرض الشيخ ( رحمه الله ) حرص على خطب الجمعة في الجامع الكبير والإمامة والإلتقاء بالناس للإجابة على أسئلتهم واستفساراتهم رغم كل معاناته حتى قيل له في وقت مرضه : أرح نفسك يا شيخ .
قال : الراحة في خدمة المسلمين ...
• صلاة وقراءة قرآن
قال الشيخ سعد بن عبد الله البريك :
إن هذا العالم الجليل حتى آخر لحظة من لحظات عمره كما يخبرني الطبيب الذي كان معه آخر أيام حياته وقابلته بعد موته بساعة أو ساعتين في المستشفى التخصصي في جدة قال : إني كنت آخر الأيام مع الشيخ فسألته ما كان دأبه في الأيام ألأخيرة قال : ما رأيت عليه سوى الصلاة وقراءة القرآن ، ما اشتغل بغير ذلك بشيء أبداً .
• كلمة تدون بماء الذهب
قال الشيخ بدر بن نادر المشاري :(1/1)
لما رجع من أمريكا بعد العلاج سئل عن حالته العلاجية والصحية فقال الشيخ كلمه تدون بماء الذهب قال: اعلموا أن المرض لا يقدم الآجال وأن العافية لا تؤخر الآمال والآجال وأن أجلي مكتوب وأجلكم مكتوب من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض فآمنوا بهذا فإني قد آمنت به .
• أصابه ألم في ركبته
قال الشيخ علي بن عبد الله السلطان :
اذكر أنه من حرص الشيخ ( رحمه الله ) على التعليم أنه قبل سنة ألف وأربعمائة للهجرة أصيب في ركبته أو أصابه ألم في ركبته أقعده حيث لم يتمكن معه الذهاب إلى الجامع الكبير فترةً من الزمن ، فما كان منه ( رحمه الله ) إلا أن نقل الدرس إلى المسجد الذي في جوار بيته مسجد ، كل ذلك حرصاً على عدم انقطاع الدرس ...
• اعملوا ما شئتم وسألقي الدرس
قال الشيخ محمد رابع سليمان :
سجل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين خلال شهر رمضان الماضي موقفاً مؤثراً أمام أطبائه الذين كانوا يشرفون على حالته الصحية داخل المسجد الحرام فقد كانت حالة الشيخ الصحية تستدعي راحته في تلك الليلة وعدم إلقائه الدرس بعد صلاة التراويح لأن الأطباء يرغبون في إضافة دم للشيخ وعمل بعض الفحوصات ، لكن الشيخ قال لهم : اعملوا ما شئتم وسألقي الدرس ، فكان يتحدث ويلقي المحاضرة والأطباء يضعون الإبر في جسده لزيادة الدم واستكمال الفحوصات والتأكد من درجة الحرارة والضغط والحالة الصحية العامة ، فهكذا وإلى هذه الدرجة كان حرصه على نشر العلم وتعليم الناس حتى آخر يوم من رمضان قبل مغادرته المسجد الحرام .
• بكى بكاءً شديداً
قال خالد بن عبد الله الحمودي :
قبل وفاته رحمه الله حضرنا مجلسا ًوكنت معه فتليت قصيدةً في هذا المجلس عن الموت فبكى الشيخ بكاءً شديداً وهو يسأل الله قائلاً : اللهم أعنا على الموت وكان ذلك قبل وفاته بأشهر قليلة .
• بحث في المساجد
قال الشيخ محمد بن صالح المنجد :(1/2)
دخل مرةً البلد والمساجد مغلقة ، بعدما رجع من سفر فبحث في المساجد حتى وجد واحداً مفتوحاً فبدأ به بركعتين تطبيقاً للسنة إذا دخل البلد يبدأ بالمسجد ويصلي ركعتين .
• قليل الكلام و كثير الحمد
قال الشيخ بدر بن نادر المشاري :
قال الطبيب المعالج للشيخ أن الشيخ محمد ( رحمةُ الله عليه ) كان يقرأ القرآن الكريم ثم دخل في غيبوبة قبل وفاته بساعة ، وكان الشيخ قليل الكلام وكثير الحمد والاستغفار ، يقول الطبيب : سمعته مرة يقرأ سورة الفاتحة وتارة كان يتمتم لصعوبة حالته الصحية ، وعندما سُئل أبناؤه عما يتمتم به الشيخ ذكروا بأنه كان يقرأ القرآن .
كتاب / صفحات مشرقة من حياة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله(1/3)
كان ابن باز رحمه الله تعالى من العلماء الربانيين وكان من منهجه في الفتوى أن يقول : لا أدري للشيء الذي لا يعلمه ..
وهذا منهج نبوي ، فقد قالها محمد صلى الله عليه وسلم !!
لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أي البقاع أحب إلى الله ؟ وأي البقاع أبغض إلى الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا أدري حتى يأتي أخي جبريل فأسأله .
فقول العالم لا أدري تزيد من مكانته، ويفتح الله عليه فتوحاً لم تكن بالحسبان، لأنه وكل العلم إلى عالمه، والشيخ رحمه الله مع سعة علمه واطلاعه يقف عند المسائل التي لا علم له بها.
* سئل ـ رحمه الله ـ عن رجل قرأ في الصلاة " آية الدَّيْن " فقسمها بين الركعتين، فتوقف الشيخ، ثم قال: لأول مرة أسأل عن هذه المسألة .
ثم قال : إن قرأها فلا بأس، لكن الأولى أن يقرأها في ركعة واحدة .
فعلى كثرة المسائل والفتاوى التي تعرض عليه، يعترف ويقول على مسامع الطلبة ببساطة: أنا أول مرة تمر علي هذه المسألة .
الشاهد قوله : لأول مرة تعرض علي هذه المسألة، بعكس المتعالم الذي كل شيء يعلمه وعلى اطلاع بكل شيء، أما الشيخ رحمه الله تعالى فكان العالم الحق الذي يخشى الله عز وجل، هكذا نحسبه والله حسيب الجميع .
* حصل كثيرا جداً أن يقول الشيخ : هذه المسألة تحتاج إلى مراجعة، فيحيل هذه المسألة إلى بعض طلبة العلم في الدرس فيقول : يا فلان هل تبحث لنا المسألة ولك منا الدعاء ؟ فيقول الطالب : نعم، ثم يأتي بالبحث ويقرأه على الشيخ ، ثم يعلق عليه رحمه الله . وقد صدر في ذلك أجزاء حديثية مما قرأ على الشيخ مما أمر ببحثه.
* جاء رجل واستفتى الشيخ رحمه الله أثناء الدرس، وكان الشيخ يفتي الذين خارج الدرس حتى أثناء الدرس؛ يقول: هم أصحاب حاجات، يعني لا علاقة لهم بالدرس، فهذا الرجل استفتى الشيخ، فقال الشيخ : لا أدري ، لا أعرف .
فقال الرجل : أنت تقول لا أعرف .
قال الشيخ : أّذّن في الآفاق أن ابن باز لا يعرف.(1/1)
محمد الدحيم(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
لمحة عن حياة الإمام ابن تيمية
661 - 728 هو شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام المحدث الحافظ الناقد والمفسر الغواص في معاني القرآن والمؤرخ المطلع على أحداث التاريخ المبرز في العلوم النقلية والعقلية على كبار المتخصصين فيها والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الزاهد العابد المجاهد المظفر في ميادين القتال وفي ميادين الدفاع عن حياض الإسلام بالحجة والبرهان.
سيف الله المسلول على الفلاسفة والملحدين وعلى الغلاة المبتدعين، جندت كثير من الأقلام لترجمته وإبراز شخصيته الفذة وسطرت في هذا الشأن عشرات من المجلدات(1) وفي ذلك ما يغني القارئ عن أن أترجم له في هذه المقدمة، غير أني أرى أن أتحف القارئ بشذرات مما زكاه به كبار علماء عصره تتناول بعض الجوانب من حياته وأن أعطيه فكرة مجملة عن كثرة مصنفاته الدالة على تبحره في العلوم وامتلاك نواصيها.
1 - قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت744): "هو الشيخ الإمام الرباني إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر وقريع الدهر، شيخ الإسلام، وعلامة الزمان ترجمان القرآن، علم الزهاد، أوحد العباد وقامع المبتدعين وآخر المجتهدين، تقي الدين أبوالعباس، أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن، عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة، شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات، عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، نزيل دمشق، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها"(2).(1/1)
2 - وقال الإمام الحافظ الفقيه الأديب ابن سيد الناس فتح الدين أبوالفتح محمد بن محمد اليعمري المصري الشافعي: وهو يتحدث عن المزي: "وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظاً. إن تكلم في التفسير، فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه، فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل، لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته. برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه(3).
3 - وقال الإمام الحافظ الناقد أبوالحجاج يوسف المزي (ت742):
ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه".
4 - وقال العلامة كمال الدين ابن الزملكاني:
"كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف، إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا قد عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين.. واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها"(4).
وقال الإمام الحافظ أبوعبد الله شمس الدين الذهبي (ت 748) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:(1/2)
"كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك رأساً في معرفة الكتاب والسنة، والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعة وسخاء وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وكثرة التصانيف وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة وتقدم في علم الأصول وجميع علوم الإسلام: أصولها وفروعها، ودقها وجلها سوى علم القراءات فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا وسرد وأُبلسوا واستغنى وأفلسوا وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سيناء يقدم الفلاسفة فلَّهم وتيَّسهم وهتك أستارهم وكشف عوراهم وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدتين وهو بشر من البشر له ذنوب فالله يغفر له ويسكنه أعلى الجنة فإنه كان رباني الأمة فريد الزمان وحامل لواء الشريعة وصاحب معضلات المسلمين، وكان رأسا في العلم يبالغ في إطراء قيامه في الحق، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لحظتها من فقيه.
وقال في مكان آخر: قلت: وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل وبالصحيح وبالسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث" لكن الإحاطة لله غير أن يغترف من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي.(1/3)
وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعظم إطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين ويوهي أقوالاً عديدة وينصر قولاً واحدًا موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث.
ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه الآن تبلغ خمسمائة مجلدة، وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد(5).
شيوخه
بلغ عدد شيوخه أكثر من مائتي شيخ، من أبرزهم والده عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 682)، والمحدث أبوالعباس أحمد ابن عبد الدائم (ت668)، وابن أبي اليسر، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت689)، وابن الظاهري الحافظ أبوالعباس الحلبي الحنفي (ت690).
تلاميذه
أَمَّا تلاميذه فلا يحصون كثرة، فمن تلاميذه البارزين والمبرزين:
1 - شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751).
2 - والحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت 744).
3 - والحافظ أبوالحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي المتوفى (742).
4 - والحافظ المؤرخ أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي (ت748).
5 - وأبوالفتح ابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري المصري (ت734).
6 - والحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي (ت739).
مؤلفاته:
إن مؤلفات هذا الإمام كثيرة جداً بحيث عجز تلاميذه ومحبوه عن إحصائها، قال تلميذه النجيب شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أبي بكر المشهور بابن القيم - رحمه الله -:(1/4)
"أما بعد: فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ أوحد زمانه، تقي الدين أبوالعباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه - فذكرت لهم أني عجزت عن حصرها وتعدادها لوجوه أبديتها لبعضهم وسأذكرها إن شاء الله فيما بعد...".
ثم قال:
1 - "فمما رأيته في التفسير" فذكر اثنين وتسعين مؤلفا ما بين رسالة وقاعدة(6).
2 - قال: "ومما صنفه في الأصول مبتدئًا أو مجيباً لمعترض أو سائل" فذكر عشرين مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة وقاعدة(7).
3 - ثم قال: "قواعد وفتاوى" فذكر خمسة وأربعين ومائة ما بين كتاب وقاعدة ورسالة(8).
4 - "الكتب الفقهية" وسرد خمسة وخمسين مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة وقاعدة(9).
5 - "وصايا وإجازات ورسائل تتضمن علوماً" بلغت اثنتين وعشرين(10).
وذكر الحافظ ابن عبد الهادي كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام مع ذكر نماذج لبعض المؤلفات والتنويه بمكانتها في كتابه العقود الدرية(11) من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذه لمحة خاطفة عن حياة هذا الإمام العظيم - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته.
المصدر: مقدمة كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة(1/5)
بُشِّر أنس بن مالك بن أبي عامر ذات يوم ببشرى سعيدة، فقد رزقه الله بمولود أسماه (مالكًا) كان ذلك الحدث السعيد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة على بقعة من أطهر بقاع الأرض وهي المدينة المنورة، البلد الذي هاجر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فاستنارت بهم وازدانت.
فتح مالك عينيه على الحياة، فوجد التقدير والمهابة يعم المدينة وأهلها، وكيف لا وقد حوى ترابها جثمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودفن فيها، وضمت أرجاؤها حلقات العلم التي تنتشر في كل مكان.
نشأ الطفل في أسرة تشتغل بالعلم، فجده (مالك بن أبي عامر) من كبار التابعين فشجعه ذلك على حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وأتقن تلاوته، لكنه لم يكتفِ بذلك بل إنه أراد حفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب إلى أمه وقال لها: يا أماه إني أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأريد أن أحفظ أحاديثه، فكيف لي بذلك؟! ابتسمت أمه ابتسامة صافية، وضمته إليها، ثم ألبسته ثيابًا جميلة وعممته وقالت له: اذهب إلى (ربيعة الرأي) -وكان فقيهًا كبيرًا- وتعلم من أدبه قبل علمه.(1/1)
فجلس الطفل الصغير -مالك بن أنس- يستمع إلى شيخه وينهل من علمه، وبعد انتهاء الدرس يسرع بالجلوس تحت ظلال الأشجار ليحفظ ما سمعه من معلمه؛ حتى لا ينساه، وقد رأته أخته ذات مرة وهو على هذه الحال؛ فذهبت إلى أبيها وقصت عليه ما شاهدته، فقال لها: يا بنيتي إنه يحفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مالك بن أنس كغيره من الأطفال الصغار يحب اللعب؛ فشغله ذلك عن الدرس والعلم قليلاً إلى أن حدث له موقف كان له أثر كبير في حياته، فقد سأله أبوه يومًا في مسألة هو وأخوه النضر، فأصاب النضر، وأخطأ مالك في الرد على السؤال؛ فغضب منه والده، فكانت هذه الحادثة سببًا في عزمه على الجد والاجتهاد في العلم، فذهب من فوره إلى (ابن هرمز) وهو عالم كبير، فأخذ يتلقى العلم عليه سبع سنوات، وكان شديد الحرص على الاستفادة منه خلالها.
قال (ابن هرمز) لجاريته في يوم من الأيام: انظري من بالباب، فلم تر إلا (مالكًا) فرجعت إلى الشيخ وقالت له: لا يوجد إلا ذلك الغلام الأشقر (تعني مالكًا) فقال لها: دعيه يدخل فذلك عالم الناس!! وتعلم منه مالك كيف يرد على أصحاب البدع والضلالات، وأراد مالك المزيد، فذهب إلى نافع (مولى عبد الله بن عمر) أحد الرواة العظام الذين رووا عن ابن عمر أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان ينتظره في شدة الحر يترقب خروجه من منزله، ثم يصطحبه إلى المسجد، حتى إذا ما انتهى (نافع) من أداء الصلاة ومكث برهة؛ انتهز الصبي الصغير الفرصة وسأله في الحديث والفقه، فنهل من علمه وأخذ عنه ما في رأسه من نور رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/2)
ثم لازم مالك بن أنس المحدث الكبير (ابن شهاب الزهري) ليتعلم على يديه، وحرص على ألا يفوته درس من دروس هذا الشيخ، حتى يوم العيد نفسه وهو اليوم الذي يلهو فيه الصبيان ويمرحون، روي عن مالك أنه قال: شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فنظرت، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك.. قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت: لا، قال: هل أكلت شيئًا ؟ قلت: لا، قال: اطعم، قلت: لا حاجة لي فيه، قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني.. قال لي: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثًا فقلت: زدني، قال: حسبك، إن كنت رويت هذه الأحاديث (أي يكفيك هذه الأحاديث إن كنت حفظتها) فأنت من الحفاظ، قلت: قد رويتها، فجذب الألواح من يدي، ثم قال حدث، فحدثته بها، فردها إليَّ.. أي الألواح.
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكًا في العلم والفقه، والحفظ، والعزة ولم يجلس للفتوى حتى شهد له سبعون من جلة العلماء أنه أهل لذلك، يقول الإمام مالك: (ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقال له رجل: فلو أنهم نهوك؟ قال مالك: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه).
اشتهر الإمام مالك بكتابه (الموطأ) وهو كتاب حديث وفقه معًا، جمع فيه ما قوي عنده من حديث أهل الحجاز وأضاف إليه أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم رتبه على أبواب الفقه كالطهارة والصلاة والزكاة، وقد عمل في هذا الكتاب نحو أربعين عامًا، وقد تلقاه الناس بالقبول، وسمى مالك كتابه بهذا الاسم لأنه مهد به للناس ما اشتمل عليه من الحديث والفقه، أو لأن العلماء المعاصرين له بالمدينة واطئوه ووافقوه عليه، وقد طُبِعَ الكتاب كثيرًا في مصر والهند.(1/3)
والإمام مالك هو مؤسس المذهب المالكي الذي انتشر في المغرب العربي وبلاد الأندلس وصعيد مصر، فهذا هو مالك بن أنس شيخ الأئمة، وإمام دار الهجرة، مات بالمدينة سنة 179هـ وهو ابن تسعين سنة(1/4)
قال الشيخ ناصر العمر في شريط ما الهم الذي تحمله سأحدثكم عن رجل واحد (كان) يعيش بيننا أضرب به مثلا من أجل شحذ الهمم والعزائم، وأريد أن أقول عندما أحدثكم عن هذا العلم وعن هذا القدوة، فسأتحدث عن جانب واحد فقط وهو جانب حمله لهم الإسلام حتى يكون لنا عبرة وقدوة، ألا وهو:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله). أيها الأخوة، لو تحدثت وتحدثت لما وفيته حقه، ولكني سأقتصر على الجزء الذي أشرت إليه والذي يتعلق بحمله لهم الإسلام، وسأذكر لكم حقائق ووقائع تؤكد هذه الحقيقة وتبينها لعله يكون دافعا لنا، خذوا هذه الحقائق، خذوا هذه الدرر: منذ عرفت الشيخ منذ أكثر من عشرين سنة لا أعرف أنه أخذ إجازة: لا شهر في السنة ولا يوم أبدا، وكنت أتحدث في هذا الكلام في عدة مجالس أنني منذ عرفته في بداية التسعينات، أي التقيت معه لا أعرف أنه أخذ إجازة يوما واحد. واذكر لكم حقيقة تبين هذا الأمر حيث ذهبت في عام 1391هـ إلى المدينة من أجل لقاء مع سماحته وكان معي أحد المشايخ. ذهبنا بتوصية من أحد مشايخنا في الرياض بارك الله في الجميع وفيكم، فجئنا إلى الشيخ بعد أن وصلنا المدينة ليلة الجمعة كهذه الليلة. ثم بعد صلاة الفجر في المسجد النبوي خرجنا ننتظر خروج الشيخ، فلما خرج قلنا يا سماحة الشيخ نحن جئنا من الرياض ومعنا لك رسالة ونريد أن نلتقي معك. فقال لنا يا أبنائي هذا اليوم يوم الجمعة وهو مخصص للأولاد ، فلعلكم تأتون غدا إلى الجامعة الإسلامية (عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية). فقال له صاحبي يا فضيلة الشيخ نحن مسافرون وورائنا أعمال ودراسة، (وقد كنا طلاب في كلية الشريعة وقته) ، فلعلك تستقبلنا هذا اليوم. فقال إذا ائتوني ضحى في بيتي وسأحاول أن أقضي حاجتكم. فقلت لأخي الشيخ الذي معي لا يليق أن نذهب إلى الشيخ هذا اليوم وقد خصصه لأولاده ، فهو اليوم جالس مع أولاده ومع زوجاته وهو يوم جمعة.(1/1)
فلو انتظرنا إلى الغد ونحن على خير، نصلي في المسجد النبوي والحمد لله والصلاة فيه بألف صلاة لعلنا ننتظر إلى الغد. قال لا نذهب استثمارا للوقت. ذهبنا وكنت أقدم رجلا وأخر أخرى وأتصور أن الشيخ سيكون بين أولاده وننتزعه من بينهم، فلما وصلنا إلى بيته، طرقنا الباب وكان مفتوحا. وكنت أنا الطارق حيث كان صاحبي ورفيقي كفيف البصر لا كفيف البصيرة، بل أنار الله بصيرته بكتاب الله جل وعلا. كنت أطرق الباب فجاءنا رجل أعرابي من أهل المدينة وقال تطرقون بيت من ؟ فخشيت أنني أخطأت، فقلت أليس هذا بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز، فقال وهل بيت الشيخ عبد العزيز ابن باز يطرق ؟ أدخلوا ودخل أمامنا. فدخلنا فإذا الشيخ في مجلسه وإذا المجلس مكتظ بالناس. سبحان الله، سبحان الله. قدمنا للشيخ الكتاب فقال إذا تتغذون معنا، فقلنا خيرا إن شاء الله. فلما صلينا قال لي صاحبي مرة أخرى لنذهب إلى الشيخ. فقلت له يا أخي الكريم أخذنا عليه الضحى ولا نريد أن نأخذ عليه وقت الغذاء وعلى الأقل يتغداء مع أولاده. قال سنذهب واختلفنا والخلاف شر. ولذلك تأخرنا على الشيخ وذهبنا في النهاية، فدخلنا المجلس ولم يشعر الشيخ بنا، وجلسنا وإذا المجلس مليء بالناس. فإذا الشيخ يقول هل حظر فلان وفلان (يسمينا بأسمائنا)؟ قالوا نعم، قال أعطونا الغذاء. إذا يا أحبتي الكرام هذا اليوم الذي قال لنا سماحة الشيخ أنه مخصص لأولاده، هكذا قضاه. قبل رمضان كنت جالسا مع أحد الملازمين للشيخ فتحدثنا في هذه القضايا فإذا هو يقول لي إنني سمعت بأذني سماحة الشيخ يقول منذ أيام لأحد المشايخ: منذ ثمان وخمسين سنة لم أخذ إجازة يوم واحد.(1/2)
هذا يحمل هم ماذا ؟ هم الدنيا ؟!! والله أنني منذ عرفت الشيخ وجلست معه ما سمعته يوما يتكلم بأمر من أمور الدنيا: التي تتعلق بالبيع والشراء والتجارة أبدا، أبدا إلا إذا كانت في صالح المسلمين، أما أن يتكلم عن أسعار الأراضي، أو السيارات، أو البيوت، أو الوظائف لا يعرف فيها شيء. أقول لكم منذ عشرين سنة لم أسمعه يوما واحدا يتكلم إلا في ما يخص أمور المسلمين، ويرضي ربه جل وعلا من ذكر وتسبيحا وقراءة قرآن وكلمات طيبة وحل مشاكل المسلمين. هذا يحمل هم ماذا أيها الأخوة ؟ سماحة الشيخ عبد العزيز (رحمه الله) وعمره فوق الثمانين سنة: وكان لا ينام إلا بحدود أربع إلى خمس ساعات فقط.، والباقي عشرين ساعة كلها في ذكر الله وطاعته وعبادته وقضاء حوائج المسلمين، قال لنا أكثر من مرة أنه مستحق للتقاعد منذ سبعة عشر عاما بكامل الراتب ، ولكن والله ما بقيت إلا من أجل أن أخدم المسلمين. نعم أيها الأخوة هذه حقائق. حقائق أيها المسلمون. قلت لكم هذا الرجل (كان) يعيش بيننا هذا همه ومع ذلك هل هو يفتر في عبادته؟ الذي أعرفه عن سماحة الشيخ أنه (لم يكن) يترك ورده من القرآن يوميا أبدا وخذوا هذه القصص: يقول أحد كتّاب الشيخ، ذهبت أنا وإياه إلى مكة وجلست أقرأ عليه المعاملات بعد العشاء إلى حدود الساعة الحادية عشر ليلا. فقال سماحة الشيخ بأدبه وتواضعه يبدو أننا تعبنا، الشيخ ما تعب ولكن الذي تعب هو الموظف، فالشيخ بأدبه ما أراد أن يقول للموظف هل تعبت، فقال يبدو أننا تعبنا. يقول الموظف فقلت له نعم يا شيخ. قال إذا ننام، يقول فوضعت المعاملات وقام الشيخ يصلي. يقول قمت فصليت ما كتب الله لي ثم نمت. فاستيقظت بعد الثانية عشرة فإذا الشيخ يصلي، ثم استيقظت قبل الفجر فإذا الشيخ يصلي.(1/3)
ويقول أحد إخوانه الذين جاءوا معه من الطائف إلى الرياض عن طريق البر، ولم صرنا في منتصف الليل بعد الساعة الثانية ليلا تقريبا قال الشيخ لمرافقيه: يبدو أننا تعبنا وسهرنا، قفوا لننام في الطريق. يقول فوقفنا فما لمست أقدامنا الأرض إلا ونمنا والجيد منا من استطاع أن يصلي ركعة أو ثلاث ركعات، وشرع الشيخ في الصلاة، فلما استيقظنا قبل صلاة الفجر فإذا الشيخ يصلي. يحدثني أحد الملازمين للشيخ قبل أسبوعين فيقول ما ترك الشيخ كلمة بعد صلاة العصر إذا صلى في أي مسجد إلا وألقى كلمة حتى يوم الجمعة، ما تركها أبدا. ندوة الجامع الكبير، إذا كان الشيخ في الرياض لا يترك حضور ندوة الجامع الكبير أبدا إلا لعارض صحي. إذا يا أخوان، هذه حقائق ممن يحمل هم الإسلام . وأختم الحديث عن حياته بقصة حدثني فيها أحد الموظفين بدار الإفتاء منذ عدة سنوات فيقول: جاءت رسالة من الفلبين لسماحة الشيخ: فإذا فيه امرأة تقول أن زوجي مسلم أخذوه النصارى فألقوه في بئر، فأصبح أطفالي يتامى، وأصبحت أرملة وليس لي أحد بعد الله جل وعلا. وسألت من يمكن أن اكتب له في الأرض ؟ قالوا لا يوجد إلا الشيخ عبد العزيز أبن باز، فآمل أن تساعدني. كتب عليها الشيخ للجهات المسؤولة في دار الإفتاء لمساعدتها، فجاءته إجابة أن يا سماحة الشيخ لا يوجد بند من البنود عندنا لمساعدة امرأة وضع زوجها في البئر، فالبنود المالية محددة، فيقول الشيخ لكاتبه، أكتب مع التحية لأمين الصندوق أن أخصم من راتبي عشرة لآلاف ريال وأرسله إلى هذه المرأة. معذرة فالحديث عنه لا يمل، بقول لي أحد الزملاء في الجامعة: وقد ذهب في دورة إلى دولة أفريقية، يقول جاءتنا عجوزا في وسط أفريقيا ثم سألتنا عبر المترجم من أين أنتم؟ قالوا لها إنهم من السعودية، فقالت بلغوا سلامي الشيخ عبد العزيز ابن باز. عجوز في وسط أفريقيا، كيف عرفت الشيخ عبد العزيز أبن باز ؟ لأنه يحمل همها.(1/4)
في قرية (العيينة) من قرى (نجد) شمال غرب مدينة الرياض، ولد (محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي) في عام 1115هـ ونشأ بين أحضان أسرة صالحة، تقتدي في أفعالها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتهتدي بسنته، وكان والده قاضيًا في بلدة العيينة، فقام بتحفيظ ولده الصغير القرآن الكريم، وعلمه الفقه، فنشأ (محمد) نشأة صالحة، واجتهد في الدراسة، وأخذ يحفظ كثيرًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كبر اشتاق إلى زيارة بيت الله الحرام، وهناك تتلمذ على بعض علماء الحرم الشريف، ثم توجه إلى المدينة المنورة، واجتمع بعلمائها وشيوخها وتعلم على أيديهم، ثم عقد (محمد بن عبد الوهاب) العزم على السفر إلى (العراق) لطلب العلم.
وفي مدينة (البصرة) كانت بداية دعوته إلى جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا في جرأة العالم المسلم الذي يحاول أن يبعد عن دينه كل ما التصق به من خرافات ومبتدعات، مما عرضه لثورة بعض علماء البصرة، الذين اجتمعوا لمحاربته وإيذائه، فخرج حزينًا مهمومًا إلى بلده، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة (حد يملا) فانتقل حيث صار والده، واستقر هناك واشتهر بالتقوى وصدق التدين، وأخذ يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويطالب الأمراء بتطبيق حدود الله، ومعاقبة المجرمين الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، حتى تآمر عليه بعض خصومه لقتله وللخلاص منه.(1/1)
وعلم (محمد بن عبد الوهاب) بنيتهم وغدرهم، فرحل إلى بلدته (العيينة) ورحب به أمير البلدة (عثمان بن محمد بن معمر) وأكرمه وقال له: قم فادع إلى الله ونحن معك، فأخذ (محمد) يعلم الناس أمور دينهم، يدعوهم إلى الخير، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر حتى اشتهر في بلدته والقرى المجاورة، فجاء إليه الناس يستمعون إليه ويستفيدون من علمه الواسع، وظل ينير لهم الطريق، ويدعوهم إلى طريق الحق والنور، وينصحهم بالبعد عن طريق الظلمات، حتى أحبه الناس، والتفوا حوله، فقوي نفوذ (محمد بن عبد الوهاب) وصار يحكم بين أتباعه وأنصاره بشرع الله.
ولما علم أمير الإحساء بأمر (محمد بن عبد الوهاب) خاف على سلطانه، فسعى لقتله، فانتقل محمد بن عبد الوهاب، إلى بلدة تسمى (الدرعية) وكان أميرها (محمد بن سعود) رجلا صالحًا، فألهمه الله أن يذهب إلى محمد بن عبد الوهاب في منزله بالدرعية، فسلم عليه وقال له: يا شيخ محمد أبشر بالنصرة، وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة، فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصرة والتمكين والعافية الحميدة، هذا دين الله، من نصره، نصره الله، ومن أيده؛ أيده الله فقال:يا شيخ، سأبايعك على دين الله ورسوله، وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على أعداء الإسلام، أن تبتغي غير أرضنا، وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى، فقال: لا أبايعك على هذا، أبايعك على أن الدم بالدم والهدم بالهدم لا أخرج من بلادك أبدًا.(1/2)
وتعاهد الأمير والشيخ على أن ينصرا دين الله، وظل الشيخ محمد يحاول إزالة الخرافات والأباطيل التي لا يرضاها الإسلام، ومن ذلك ما انتشر في (نجد) وما حولها من سحرة وكهنة يخدعون الناس، ويدعون أنهم يعلمون الغيب، كما انتشر فيها بعض المجانين والمعتوهين الذين يدعون أنهم أولياء الله، بل وجد بها من يعبد الأشجار والأحجار من دون الله عز وجل، فأخذ الشيخ (محمد) يدعوهم بمساعدة الأمير (محمد بن سعود) إلى دين الله، ويلقي الدروس في الفقه والتفسير والحديث .. وغير ذلك من العلوم النافعة، ويرسل إلى أمراء البلدان المجاورة ينصحهم بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبتطبيق شرع الله فازدادت شهرة الشيخ في كل بلاد الإسلام، وتأثر بدعوته أناس كثيرون في الهند، ومصر، وأفغانستان والشام وغيرها، وتحمل الشيخ الكثير من الأذى، وظل يجاهد في نصرة دين الله بلسانه أولاً، ثم بسيفه لينصر الحق، ويبطل الباطل، وساعده أنصاره من آل سعود.
واستمر في جهاده أكثر من خمسين عامًا يدعو إلى دين الله، فكان له فضل كبير في عودة الناس إلى الالتزام بشرع الله، والبعد عن الباطل، والعودة إلى الحق، فانتشر نور الله في الجزيرة العربية وما حولها وازدحمت المساجد بتدريس كلام الله والسنة المطهرة، حتى توفي الشيخ في عام 1206هـ، واستمر أبناؤه وأحفاده وتلاميذه وأنصاره في الدعوة والجهاد، وتحذير الناس من البدع والخرافات، وما تزال دعوته لها أنصارها ومؤيدوها في جزيرة العرب وما حولها حتى اليوم.(1/3)
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله:
في ذات يوم رفعت إلي من قبل الشرطة شكوى من امرأة توفي زوجها وخلف لها عدة أطفال، وقد وجدت في أوراقه أن له ديوناً عند بعض الناس مقابل أعمال له.
فأحضرت الشرطة هؤلاء الذين يطالبهم الزوج بالديون، فأنكروا أن يكون في ذمتهم حق للمتوفى، وأظهروا استعدادهم لليمين وأنهم يستطيعون أن يحلفوا.
وحضرت الأرملة مع أطفالها إلى المحكمة وتبين لي أن لا بينة لديها سوى تلك القيود.
يقول: وفي الجلسة الأولى حضرت المدعية وأحد الغرماء، واستوقفت الكاتب عن كتابة الدعوى، ثم استدنيت الرجل وقربته مني وأجريت معه هذا الحوار.
فقلت له: هل تعرف خصمك في هذه القضية؟.
فقال: نعم، هذه المرأة الحاضرة.
قلت: كلا، إن خصمك هو زوجها، فهل تعلم أين هو؟ لقد توفي، حقاً لقد توفي وترك هذه الأرملة وهؤلاء الأيتام ولا شك لديك أنك ماض إلى ما مضى إليه وأنك معروض معه على الله عز وجل الذي سيسألك عن دعواه، وهو أعلم بما أنتما عليه، ولا يحتاج إلى بينة، ولا تخفى عنه خافية.
فما الذي يؤمّنك أنه يخلصك من عذابه ذلك اليوم فأجب به الآن، واليوم أوسع لك من ذلك الموقف الذي لا درهم فيه ولا دينار، فماذا تقول في دعوى هذه المرأة؟.
فأطرق الرجل ملياً ثم قال: أمهلني يا شيخ في الإجابة إلى الغد.
وسألته: ولم الإمهال؟.
قال: لأراجع حسابي مع المتوفى.
ولمست في هيئته ولهجته أنه يريد الحق فأخرته أسبوعاً.. وهكذا فعلت مع بقية الغرماء، وكانت النتيجة واحدة مع الجميع.
وفي اليوم المحدد أدلى كل منهم باعتراف يفوق المبلغ المدعى به عليه، ومنهم من أحضر المال فسدد ما عليه، واستمهل بعضهم إلى موعد الراتب آخر الشهر.
ولن أنسى وقع هذا الموقف في نفس تلك الأرملة، لقد غلبتها دموع الفرح ورفعت يديها بالشكر الحار إلى الله عز وجل الذي وفق إلى كل هذا الخير.(1/1)
وإني لأسأل في غبطة لا توصف هل بقي مثل هذا التجاوب العالي مع الحق في غير نفوس المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.
المصدر: شريط ( من أعلام العصر ) للشيخ عبد السلام العييري.(1/2)
بعد نظر يفوق الوصف :
قال محمد عبد الرحمن العيسى : لقد كان رحمه الله يحسن الظن في معظم الناس وكان لديه بعد نظر يفوق الوصف .. ومن ذلك يأتيه أحيانا من يطلب شفاعته وعليه أثر معصية فيقال له عن حاله فيقول ربما أن هذه الشفاعة تكون سببا في استقامته . ( الأسرة ـ عدد : 72 )
بعد العشاء على العادة :
قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن جلال : ذهبنا كعادتنا وسلمنا على الشيخ في المسجد في المغرب وطلب مني وإخواني أن نجلس بعد المغرب في المجلس العام وقال : وبعد العشاء لابد من العشاء والجلوس قلت : طيب هذه روضتي وعندما قارب أذان العشاء قمت أتوضأ ومررت بالمكتب ..
فقال لي أحد كتابه وأظنه محمد بن موسى : جئتم اليوم والشيخ مشغول عنكم لا يمكن أن تجلسوا معه بعد العشاء فقلت : عساه خير إن شاء الله ماذا عند الشيخ قال : عنده زواج ابنته الليلة ..
قلت : خير إن شاء الله بدل الليلة ليلة أخرى وذهبت وجلست بجانب الشيخ وبعد ما أذن وقام الشيخ قبلت رأسه وقلت : أستودعك الله واسمح لنا سمعت أنكم مشغولون الليلة وبدل الليلة ليلة أخرى قال : أبدا عندنا زواج البنت والوفود الآتين عندهم الأولاد أما أنتم فأنا وإياكم بعد العشاء على العادة .
وفعلا صلينا العشاء ورجعنا ودخل بنا في المكتبة وجلسنا معه وضيوفه عند أبنائه في المجلس وجلسنا حتى جاء موعد العشاء فجاءه ابنه عبد الله وقال يا أبي العشاء جاهز . فقال : قوموا تفضلوا وذهبنا وتعشينا مع ضيوفه وكان الزواج مختصرا وبعد العشاء قال : تفضلوا وجلسنا معه في المكتبة مرة أخرى والزوج ومن معه قابلهم أولاد الشيخ وأدخلوهم على بنت الشيخ وانتهوا .
( شريط لقاءات مع طلبة العلم وأعيان أهل الدلم )(1/1)
* الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
لقد كان سماحة الإمام ابن باز أنموذجاً فريداً في حرصه على نفع الأمة وقضاء حوائجهم والإجابة على إشكالاتهم ومسائلهم .
ففي إحدى الليالي المباركة يوم الجمعة وبينما كنا نستعد للتسجيل مع الشيخ داخل مكتبته إذا بباب المكتبة يقرع ، وإذا بأحد المشايخ يدخل وهو فضيلة الشيخ محمد الموسى.. يهمس في أذن الشيخ قائلاً: إن هناك امرأة كبيرة في السن ، جاءت من مكان بعيد في شمال المملكة ، وتريد أن تسأل سماحتكم عن موضوع رضاع؛ لأنها ستسافر في هذه الليلة، فاستأذن سماحة الشيخ رحمه الله قائلاً : أرجو أن تأذنوا لنا دقائق .
ثم قام سماحة الشيخ وقضى حاجتهم، ثم رجع إلينا قائلاً: هذه امرأة جاءت من مكان بعيد فأفتيناها وأجبناها على أسئلتها.
رحمك الله يا عَلم الأمة على هذا التواضع الجم والخلق الرفيع.. إن هذه الأعمال تذكرنا بمواقف السلف الصالح .
وفي موعد آخر مع سماحته أصر ابني خالد على الذهاب معي للتسجيل وهو في الصف الثالث الابتدائي، وأثناء سلامنا على الشيخ وتقبيل رأسه قلت: هذا ابني خالد يريد السلام عليك ، فسلم خالد على الشيخ وقبل رأسه . وسأله الشيخ : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأجابه خالد على الأسئلة ، فدعا له الشيخ بالتوفيق والهداية . وهذه دروس في التعامل مع الصغار ومؤانستهم.
* الشيخ صالح بن غصون رحمه الله:
في أيام حرب الخليج وفي ذروتها كنا نسجل البرنامج مع فضيلته ليلاً ، وكان لسانه قبل التسجيل وبعده لا يفتر عن ذكر الله ، والدعاء لهذه البلاد المباركة بالنصر والتمكين والعزة والرفعة، وأن يحفظها الله من كيد الأشرار والأعداء، وقد سمعته يلح بالدعاء كثيراً بأن يحفظ الله هذه البلاد.. قبلة المسلمين ومأوى أفئدتهم ومنطلق رسالة التوحيد.(1/1)
لا أذكر أن الشيخ رحمه الله اعتذر يوماً عن التسجيل، أو سوف، أو تراخى على مدى 14 سنة، إنما هي همة الرجال ( دعوة وعمل ) في بذل الخير ونفع المسلمين ، رجال عاهدوا الله على المضي في الطريق الصعب ، فاشتروا الآخرة وعملوا لها .
كان الشيخ رحمه الله محباً لإذاعة القرآن الكريم، فكان قبل كل تسجيل يسأل عن الجديد في إذاعة القرآن الكريم، وعن برامجها ومواعيدها، وكان فضيلته رحمه الله يخصص لي أسبوعين كاملين عدا يوم الجمعة في بعض الأحيان؛ لأنه يجتمع بأولاده وأسرته، فكان يسجل حلقات الدورة الإذاعية كاملة (24) حلقة دون كلل أو ملل.
وقد تعلمت من الشيخ رحمه الله كيف يكون المسلم حريصاً على الدعوة إلى الله وعلى أهمية الوقت في حياة المسلم واحترام المواعيد والدقة فيها.
* الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
كان سماحته رحمه الله مضرب في ضبط الوقت والاعتناء به، فقد كان صادق الوعد، حافظ العهد، دقيق الموعد.
وقد كانت حياته جداً وجهاداً، وعلماً وتعليماً، ودعوة وإفتاء، وفقهاً وتأليفاً، وما هذا العلم المبثوث في الأشرطة والإذاعات والكتب والرسائل إلا ثمرة استغلال الوقت والدقة في الانتفاع به، فرحم الله الشيخ كم كان حريصاً على نفع الأمة بوقته.
كنت أقرع الباب الساعة التاسعة تماماً فيفتح سماحته الباب فأسلم عليه ويرد بأحسن منه، وأقبل رأسه، ويأذن لي بالدخول، ثم يخرج ساعة من جيبه وينظر إليها ويقول: على الموعد يا أبا خالد .. جزاك الله خيراً.
كان حريصاً على هذا البرنامج وحلقاته وعدم انقطاعه، فكان لا يتوانى في نشر الخير وتبليغ العلم والدعوة إلى الله.
واستمر سماحته رحمه الله مواصلاً لتسجيلاته الإذاعية في منزله القديم.. في مجلس كبير جداً فرش بقطع من الزل المتواضع، حيث كان سماحته رحمه الله إماماً في الزهد والتواضع، فكان يجلس في ركن من أركان المجلس ويقرب هذا الركن موقد نار توضع حوله أواني الشاي والقهوة فأجلس قريباً منه.(1/2)
ومن المواقف مع سماحته رحمه الله أنه كان حريصاً على تطبيق السنة ناصراً لها ذاباً عنها، محارباً للبدعة محذراً منها، فكان من تطبيقه للسنة: البشاشة والمصافحة والتبسم لمن قابله، آخذاً بالحديث: ( تبسمك في وجه أخيك صدقة ) فكان حريصاً على إدخال السرور على المسلمين.
وكنا إذا تناولنا طعام الغداء بعد التسجيل فكان الشيخ رحمه الله يلعق الصفحة آخذاً بالحديث الوارد ويشرب الماء ثلاثاً.
محمد الجهني.
المصدر: مواقف وذكريات مع كبار العلماء.(1/3)
نماذج لرجال من السلف . .
يحدث أبو حاتم الرازي عن نفسه وجهاده في طلب العلم فيقول : بقيت في البصرة ثمانية أشهر وكان في نفسي أن أقيم بها سنة كاملة ، لكن انقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي حتى نفذت وبقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع إلى المساء، فانصرف رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، وانصرفت جائعا، فلما كان من الغد غدا علي فقال : مر بنا إلى المشايخ ، قلت : أنا ضعيف لا يمكنني . قال : فما ضعفك ؟ قلت : لا أكتمك أمري ، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا. فقال : قد بقي معي دينار فنصفه لك ونجعل النصف الاخرفي الكرى، فخرجنا من البصرة وأخذت منه نصف الدينار" . هكذا كان حرص العلماء على أوقاتهم على الرغم من الشدة التي تقابلهم. .
* نموذج آخر يذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ ، وفي سيرأعلام النبلاء عن ابن أبي حاتم صاحب الجرح والتعديل يقول . كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا : هو عليل ، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاح هذه السمكة ومضينا إلى المجلس ، فلم نزل حتى أتى على السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة، لم يكن لنا فراغ أن نشوي السمك . ثم قال . إن العلم لا يستطاع براحة الجسد" * وعبدالغني المقدسي الجماعيلي المتوفي في القرن السابع أيضا حكى عنه الذهبي ووضع فصلا في حفظه لأوقاته فقال : كان لا يضيع شيئا من أوقاته بلا فائدة، كان يصلي الفجر ويلقن القران وربما قرأ شيئا من الحديث تلقينا ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثلاثمائة(1/1)
ركعة با لفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومة ثم يصلي الظهر و يشتغل إما بالتسميع أو بالنسخ الى المغرب ، فإن كان صائما أفطر وإلا صلى من المغرب إلى العشاء ، ثم يصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده ثم قام كأن إنسانا يوقظه فيتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، وربما توضأ سبع مرات أوثمان في الليل . وقال : ما تطيب لي الصلاة إلا مادامت أعضائي رطبة ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر وهذا دأبه " . وحفظ الأوقات ليس قصرا على الرجال وحدهم بل كانت لدينا نماذج من النساء حافظات لأوقاتهن . .
* وفي مقدمة هؤلاء النسوة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي كانت محل استشارة الصحابة ، وحينما يشكل عليهم أمر من الأمور في الدين ، بالفقه أو بالفرائض أو بغيرها تكون أم المؤمنين عاثشة رضي الله تعالى عنها هي مرجعهم ، ويقال عن عائشة أنه لو وزن علمها بعلم النساء مجتمعة لوزن علم عائشة علم النساء كلهن ، لم تحصل عائشة على هذا العلم الجليل الذي أصبحت به من رواة الحديث المشهورين إلابحفظها وحرصهاعلى وقتها. . وهذه أيضا عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية وقد كانت في حجر عائشة وروت عنها، قال عنها ابن سعد : إنها كانت عالمة . . وربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة بنت أم سلمة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها يقال : إنها كانت أفقه إمرأة بالمدينة في وقتها . . وأم الدرداء رضي الله تعالى عنها كانت من العالمات وكانت من الحافظات لأوقاتها ولذلك كانت تحرص على حلق العلم وحلق الدروس مع أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه وكانت هناك حلقة للنساء خاصة. . ومن النساء أيضا جليلة بنت علي بن الحسين بن الحسين الشجري كانت كما يقول عنها العلماء محدثة قارئة للقرآن وهي من سجستان ، وطلبت الحديث بالعراق وخراسان وكتب عنها الصمعاني وكانت تعلم الصبيان القران الكريم .(1/2)
* وخيرة أم الحسن البصري أيضاوهي مولاة أم سلمة رضي الله تعالى عنها نمؤنج من نماذج النساء الحافظات لأوقاتهن ، وأنتج هذا الحفظ علما غزيرا وفقها كثيرا وعبادة جليلة وكانت خيرة كما قيل عنها تقص على النساء وتعلمهن أمور دينهن . . بل يصل الأمر أيها الأخت المسلمة لحفظ بعض النساء لأوقاتهن أن أصبح منهن إمرأة تعتبر من شيوخ الإمام الشافعي - رحمه الله -، والإمام الشافعي من هو في العلم وفي الحفظ ومع ذلك هذه المرأة التي تدعى نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، هذه كانت من شيوخ الإمام الشافعي ، بل إن العجب ليأخذني ويأخذكم أيضا حينما تعلمون أنها كانت أمية ومع ذلك كانت تحفظ القرآن الكريم وتحفظ الكثيرمن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الذي جعلها واحدة من مشايخ الإمام الشافعي ، قال عنها ابن كثيرأيضا : كانت عابدة زاهدة كثيرة الخير وكانت أيضا ذات مال فأحسنت إلى الناس وأنفقت على الزمنى والمرضى وعموم الناس . . وكان من النساء أيضا على وقت الرسول صلى الله عليه وسلم ، من كانت مثالا لحفظ الوقت ، تغزو معه إذا غزا وتتعلم منه وهي نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها وهي المرأة المجاهدة العالمة وهي نموذج من هذه النماذج ، وقد كان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت كما ساق ذلك ابن حجرفي تهذيب التهذيب ، وكانت في المغازي تمرض المرضى وتداوي الجرحى وشهدت غسل ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ..(1/3)
ما أن كادت دموعنا تجف ، وقلوبنا عن اضطرابها تخف ؛ حتى فُجعنا بعد عصر 22 / جمادى الأولى / 1420 هـ ، الموافق 2 / 10 / 1999 مـ بوفاة إمام السنَّة ، وعلم الحديث ، الإمام المحدث شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله .
وكان لزاماً علينا أن نعرِّف الأمة بشيءٍ من حياته ، وترجمة مختصرة عن أعماله ، لعله أن يكتسب بسببها دعوة مِن محبٍٍّ ، أو عدل من منصف .
اسمه ومولده
هو ناصر الدين بن نوح بن نجاتي الألباني ، وقد أضاف إلى اسمه اسم محمد لما في اسمه الذي سمي به من تزكية ، فكان أحق الناس أن يكون ناصر الدين هو نبينا محمد .
وقد ولد في مدينة (( أشقودرة )) في ألبانيا ، سنة 1355 هـ ، الموافق 1914 م ، وقد توفي بعد عمر في هذه الفانية بلغ حوالي 85 سنة .
هجرته واستقراره
هاجر هو وأهله من ألبانيا ، وكان عمره آنذاك تسع سنوات ، حفاظاً من والده على دين أهله ، واستقر به المقام في دمشق عاصمة سوريا ، ثم تنقل بين بيروت والإمارات حتى استقر به المقام في عمَّان الأردن ، حيث توفي فيها .
طلبه للعلم
كانت بدايته في طلبه للعلم – رجمه الله – مع كتاب الحافظ العراقي (( المغني عن حمل الأسفار )) ، وهو كتاب خرَّج فيه الحافظ العراقي كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي ، فقام الشيخ الألباني بنقل كتاب العراقي ، وأتم أحاديثه ، وشرح غريبه ، وقد انتفع بهذا الكتاب كثيراً كما قال هو رحمه الله .
وقد كان لمجلة المنار ، وبالأخص مقالات صاحبها محمد رشيد رضا أعظم الأثر في حياة الشيخ رحمه الله وتوجهه للعلم .
جلده في طلب العلم
ونذكر في ذلك حادثتين :
الأولى : أنه أصيب في عينه أيامه الأولى في الشام ، وطلب منه الطبيب أن يمكث شهراً لا يعمل بمهنة الساعات ، و لا يقرأ شيئاً ! فمكث أياماً ، ثم أصابه الملل ، فطلب من بعض إخوانه أن ينسخ له من المكتبة الظاهرية في دمشق كتاب "ذم الملاهي " لابن أبي الدنيا .(1/1)
فنسخ الناسخ حتى وصل إلى مكان فيه ورقة ضائعة ، قطعت اتصال الكلام ، فلما أخبر الشيخ بذلك طلب إليه الشيخ أن يستمر بالنسخ . فلما فرغ الناسخ وانتهت مدة العلاج ؛ ذهب الشيخ يبحث عن تلك الورقة الضائعة في المكتبة الظاهرية ، فظل الشيخ ينقب عن تلك الورقة ، فلم يجدها ، وفي تلك الأثناء كان يدون الأحاديث التي يقف عليها في المخطوطات ، حتى دوَّن أكثر من أربعين مجلداً من الأحاديث بخط يده !! وكان عدد المخطوطات آنذلك حوالي عشرة آلاف مخطوطة !!
الثانية : وقد بلغت الهمة والجلَد عند الشيخ رحمه الله أنه كان ينسى معهما الطعام والشراب ، فكان يأتي إلى مكتبة الظاهرية قبل موظفيها ، ويخرج بعدهم !!
ويأتيه أهله بطعام الإفطار ، فيظل على ما هو عليه إلى موعد الغداء ، فيؤخذ طعام الإفطار ويوضع طعام الغداء ! وهكذا مع العَشاء .
وقد ظل الشيخ الإمام رحمه الله على هذه الهمة إلى أن توفاه الله ، فإذا كان يعجز عن البحث قرأ ، فإذا عجز عن القراءة قُرِأ عليه .
ومن رأى همة الشيخ ونشاطه قبل مرضه الأخير لم يفرق بين أول حياته وبين هذه الأيام .
وإذا قيل للشيخ في رحلاته أن يرتاح ، قال : إن راحتي في الكلام والبيان !! لا في السكوت .
رجوعه إلى الحق
والشيخ رحمه الله عرف عنه رجوعه إلى الحق ، حتى أصبح متميزاً به ، فكم من حديث صححه وانتشر في الآفاق بسببه ، ولما تبين له ضعفه من بعد الطلبة تراجع عنه بقوة وإنصاف ، ومثال ذلك حديث دخول المنزل (( اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج )) فهو حديث صححه الشيخ ثم تراجع عنه .(1/2)
وقل الأمر نفسه في المسائل الفقهية العملية ، كما هو الحال في مسألة جماع الزوجة بعد طهرها من الحيض ، حيث كان الشيخ يرى أنه يكتفى بانقطاع الدم دون الغسل ، ثم تراجع عنه إلى قول الجمهور ، وهو عدم جواز الجماع إلا بعد الغسل . وهذا الأمر – أعني تراجعه إذا تبين له الحق – استغله بعض الجهلة والحساد لبيان أن ذلك من تناقضه ولم يدر هؤلاء أن هذا من أعظم أخلاق الدين ، وقد قل أهله في هذا الزمان ، فكم من إنسان جادل بالباطل من بعد ما تبين له الحق فأصر مستكبراً كأن لم يسمع الحق ؟!!
والشيخ برأه الله من ذلك وكتبه طافحة برجوعه عن أقواله التي تبين فيها خطؤه ملياً ، ولم ينقصه ذلك بل رفعه الله به ، ولكن عند المنصفين العقلاء ، وهذا هو المهم، والأهم أنه كان يراقب ربه ولا يهمه ما يقال بعد لك .
تعظيمه لاعتقاد السلف ومنهجهم
وقد كان الشيخ رحمه الله من أعظم المدافعين والمنافحين عن دين الله عز وجل في هذا القرن ، حتى عدَّه بعض الأفاضل – وهو الشيخ مقبل الوادعي - من المجدِّدين لهذا الدين ، وقد سلك سبلاً كثيرة في توضيح اعتقاد السلف الصالح والدفاع والذب عنه ، فكان أن أخرج للناس مختصر العلو للذهبي وضمنه تلك المقدمة الماتعة في بيان اعتقاد سلف هذه الأمة ، وبيان زيغ أعدائها وضلالهم .
وكذلك أخرج للناس كتابه (( تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد )) وقد حذر فيه كثيراً من عمل المشركين الذي سرى إلى المسلمين في بناء الأضرحة والمقامات ودعاء الأولياء الأموات ، والذبح والنذر عندها .
وأما منهج السلف وفهمهم للكتاب والسنة ، فقد كان رحمه الله من أعظم المتمسكين به في نفسه ، الداعين له من خلال كتبه وأشرطته ، وقد كان قوله تعالى : (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً )) شعاراً له رحمه الله .
كتبه ومؤلفاته(1/3)
وهي بحمد الله كثيرة نافعة ، ولا يُعلم له رسالة مكررة أو أنه يمكن للباحث أن يستغني عن العلم الذي فيها ، وقد بلغ المطبوع منها حوالي 40 ما بين تحقيق وتأليف ، وله من المؤلفات المخطوطة في خزانته ما لعله أن يبلغ ضعف هذا العدد .
وقد نفع الله بكتبه كثيراً من الناس ، فنهلوا من علمها واستفادوا من التحقيق الذي فيها ، وإن كان بعضهم سطا عليها سرقة منها دون أن يشير ولو بأدنى إشارة أنها لغيره، ويصدق على هذا قوله تعالى : (( ولا تحسبن الدين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ..)) وينطبق عليهم قوله: (( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )) .
ثناء العلماء عليه
وقد أثنى عليه أهل العلم ثناء عطراً ، وهو يستحق أكثر منه ، فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : (( ما علمت تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ الألباني )) ، وللشيخ محمد بن صالح العثيمين ثناء عليه وقد وصفه بالعلامة المحدث ، وقد أثنى عليه غيرهما ، وقيلت فيه أشعار لطيفة يمكن للقارئ أن ينظرها في كتاب (( حياة الألباني )) لأخينا محمد بن إبراهيم الشيباني .
عداءُ أهل البدعة له
لا يحب الألباني إلا صاحب سنَّة ، أو فطرة سليمة ، ولا يبغضه إلا صاحب بدعة ، أو جاهل بقدره ، وقديماً قال السلف : (( من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر )) .
وقد تكالب على الشيخ رحمه الله أهل البدع والضلال من جميع الطوائف والفرق ، فكان رحمه الله كالطود الشامخ يرد على هذا ، ويفند شبهة هذا ، حتى أتى على بنيانهم من قواعده فخر عليهم السقف من فوقهم .
فتوى الهجرة من فلسطين
وقد شنع على شيخنا بعض المشاغبين من أهل الجهل ؛ فراح يُلبس الشيخ رداءً ليس له ، ويحمِِّل كلامه ما لم يحتمله ، أو يزوِّر الحقائق التي أتى بها الناس .(1/4)
وملخص هذه المسألة أن الشيخ رحمه الله سئل عن أناس يعيشون في بلادٍ لا يستطيعون إظهار شعائر دينهم فيها ، فقال لهم الشيخ بوجوب الهجرة إلى بلاد يستطيعون فيها ذلك استدلالاً بقول الله تعالى : (( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها )) وهذا تبكيت من الملائكة لمن ظلَّ بين الكفار أو العصاة فأثر ذلك في دينه فاحتج على فعله بغيره .
ولما سئل الشيخ : هل هذا ينطبق على فلسطين ؟ قال : على كل بلاد الدنيا ، ما الفرق بين فلسطين وغيرها ؟! كما أن مكة أعظم عند الله من فلسطين ، ومع هذا هاجر منها المسلمون وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن الصحابة من هاجر إلى الحبشة وهي بلاد كفر ، لما لم يكن يستطيع إظهار دينه .
فقام وطبل وزمر لهذه الفتوى أهل التطبيل والتزمير من أهل الجهل والضلال وكان ذلك قرب موعد الانتخابات النيابية ، ظنَّاً منه أنه يستطيع استعطاف الناس للحصول على الأصوات !! أما أن تكون القضية قضية دين فلا ، فهو غارقٌ في تصوف بالٍ ، وسادر في جهل فاضح .
والعجب من أولئك المشايخ - وأغلبهم دكاترة في الشريعة - اجتماعهم على تخطئة الشيخ رحمه الله ، ولم نرَ اجتماعهم هذا على تضليل الحبشي مثلاً ، أو على التحذير من فسقٍ أو فجور أو ضلال ، وبعض من وقَّع على ذلك يعتبر من غلاة الأشاعرة ، وبعضهم لا يدرى منهجه أو اعتقاده !! وبعضهم على خير لكن استجر على التوقيع .
والقضية علمية شرعية تكلم فيها الشيخ بعلم وأدلة ، ومن خالف لم يحسن من ذلك شيئاً ، وبعضهم – لغباء أو جهل أو شرود ذهن – ظن أن أهل فلسطين يقفون على الحدود رافعين جوازاتهم ينتظرون فتوى الألباني ليغادروا فلسطين !! والأكثر لا يهمهم دين من بقي بين اليهود ، فتخلق بأخلاقهم وتعودوا على عاداتهم ، فمنهم من زوج ابنته ليهودي !! ومنهم من شكك في كفرهم !!.
والمهم عند هؤلاء ألا يخرج من فلسطين ولو ضيع دينه أي أن المهم ألا تضيع الأرض !!(1/5)
نشاطه في الدعوات والزيارات العلمية
والشيخ رحمه الله من النشيطين في الدعوة إلى الله ، فلم يكن ليكتفي بالتأليف حتى أضاف إليه الخروج إلى الناس وزياراتهم في بلدانهم وقراهم .
فمنذ أن كان بالشام وهو يسافر إلى حلب وحماة وإدلب و غيرها ، وحدثني بعض من كان هناك أن الشيخ كان يأتيهم كل أسبوع على دراجة هوائية ، وكانت المسافة من دمشق إليهم حوالي 45 كيلو متراً !!
وقد سافر الشيخ رحمه الله إلى أسبانيا والكويت والإمارات وقطر وطاف في مناطق المملكة العربية السعودية جميعها تقريباً !!
وكذا أمره عندنا في الأردن ، فما من أحدٍ يدعو الشيخ إلا ويلبي دعوته ويزوره ويلقي عندهم ما يسر الله من العلم النافع ، وكان الشيخ قد شرفني بزيارة إلى بيتي في إربد ، وسجل اللقاء تحت عنوان " مسائل فقهية " ، ولم تكن هذه الزيارة هي الأولى له إلى الشمال ، فقد سبقها أخوات لها .
نماذج من أخلاق الشيخ رحمه الله
كراهيته للمدح
لم يكن الشيخ رحمه الله يحب أن يمدحه أحد ، وخاصة في وجهه ، وكتبه كلها ليس فيها لفظ (( الشيخ )) قبل اسمه !! وقد مدحه مرة الشيخ محمد إبراهيم شقرة في وجهه فبكى ، ومدحه آخر فبكى وأنكر على من مدحه .
خوفه من الرياء(1/6)
وجاءه مرة بعض إخواننا من بنغلادش – من أهل الحديث – وقالوا للشيخ : إن عددهم حوالي أربعة ملايين وأنهم يودون زيارة الشيخ لهم هناك ، وقد جهزوا ملعباً يتسع لأعداد كبيرة للقائه والاستماع إليه ، فرفض الشيخ الدعوة . فقال الداعي : إنها أسبوع يا شيخ !! فرفض الشيخ : فأنزل المدة إلى ثلاثة أيام !! فرفض الشيخ فأنزلها إلى يوم واحد !! فرفض الشيخ وبشدة ، فقال الداعي في النهاية : نريد محاضرة وتغادر على نفس الطائرة !! فرفض الشيخ وبشدة أيضاً فتعجب الرجل من رفض الشيخ وكذلك الذين معه ، وانصرف الرجل حزيناً ، فسأل الأخُ أبو ليلى - وهو الذي حدثني بهذه القصة – الشيخَ : لم رفضت يا شيخ ؟ فرد عليه رحمه الله : ألم تسمع ماذا قال ؟ فقال أبو ليلى : وماذا قال يا شيخ ؟ فقال : ألم تسمع قوله إنهم أربعة ملايين !! فتصور أني أحاضر بمثل هذا العدد ، فهل آمن على نفسي من الرياء ؟!! وكان درساً عظيماً من الشيخ لتلاميذه وللناس جميعاً بالبعد عن المواضع المهلكة للداعية .
تفقده لإخوانه
- كنا مرة في رحلة معه ، فانتهينا منها في الواحدة ليلاً وكنا في خمس سيارات ، وأنا أقود واحدة منها ، فسبقنا الشيخ ، ففوجئت بأن إطار سيارتي قد ذهب هواؤه ، فأصلحته وقد ذهبتْ السيارات جميعاً ، فما هي إلا لحظات حتى رجع إلينا الشيخ مع السيارات ، وسأل عن سبب التأخر ، فلما رأى السبب علم بالحال ، وكان رحمه الله قد افتقدنا في الطريق ورأى أن سيارة قد نقصت ، فسأل عنها ، فلما لم يُعطَ جواباً فرجع من طريقه فرآنا على تلك الحال ، فطلبنا من الشيخ أن يذهب إلى أهله وبيته ونحن نصلح الإطار ، ونلحق بهم ،فأبى رحمه الله إلا أن ينتظرنا لننتهي مما نحن فيه ، وكان ذلك وغادرنا سوياً .(1/7)
- وحدثني بعض تلامذته أنه كان يتصل بالشيخ كل يوم ، وفي يومٍ من الأيام لم يفعل ذلك، فما هو إلا أن يدق جرس الهاتف ، ويتبين للأخ أنه الشيخ الإمام الألباني !! وأنه افتقد هذا الأخ لعدم اتصاله ، فسارع للسؤال عنه .
- ودخل هذا الأخ نفسه المستشفى لحادث وقع له ، وإذ بالشيخ الإمام يأتي لزيارته في المستشفى !! قال : فأثرت هذه الزيارة فيَّ وفي أهلي الشيء الكثير .
مقابلته الإحسان بالإحسان
وكان بعض تجار عمان على علاقة بالشيخ رحمه الله ، قال : ففاجأني الشيخ يوماً بزيارة إلى محلي !! وجاء معه بمجموعة قيمة من الكتب وقدَّمها هدية لي !!
بكاؤه
والشيخ رحمه الله – على خلاف ما يظن الكثيرون – رقيق القلب ، غزير الدمع ، فهو لا يُحدَّث بشيء فيه ما يبكي إلا وأجهش في البكاء ، ومن ذلك :
أ. حدثته امرأة جزائرية أنها رأته يسأل عن الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدُلَّ عليه فسار على خطواته لا يخطئها ، فلم يحتمل كلامها ، وأجهش بالبكاء .
ب. وفي آخر لقاء لي به رحمه الله ، حدثته عن رؤيا رآها بعض إخواننا ، وهي أنه رأى هذا الأخ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله : إذا أشكل عليَّ شيء في الحديث مَن أسأل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سل محمد ناصر الدين الألباني .
فما أن انتهيت من حديثي حتى بكى بكاءً عظيماً ، وهو يردد " اللهم اجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون " .
ج. وحدثه بعض إخواننا عن سب والده للرب والدين – والعياذ بالله – فبكى الشيخ لما سمع من جرأة من ينتسب للدين على بعض هذه القبائح و العظائم في حق الله ، وحكم على والده بأنه مرتد كافر .
د. وأخبره بعض إخواننا عن مشكلة حصلت معه، وأنه في ورطة ، فقال الأخ : فما هو إلا أن رأيت الشيخ وقد دمعت عيناه ودعا لي بأن يفرج الله كربي ، فكان ذلك .
هـ . وهذا غير ما سبق من بكائه عند مدحه في وجهه .
زوجاته وأولاده(1/8)
تزوج الشيخ الإمام رحمه الله من أربع نسوة :
أ . فأنجب من الأولى : عبد الرحمن ، و عبد اللطيف ، و عبد الرزاق .
ب . ومن الثانية : عبد المصور ، و عبد المهيمن ، ومحمد ، وعبد الأعلى ، و أنيسة ، و آسية ، و سلامة ، و حسَّانة ، و سكينة .
ت . ومن الثالثة : هبة الله .
ث . ولم ينجب من الرابعة ، وهي " أم الفضل " ، وهي التي ظلت معه إلى آخر أيامه .
مرضه ووفاته.
وقد أصابت الشيخ أواخر حياته أمراض مؤلمة ، نزل وزنه بسببها إلى أن وصل يوم وفاته إلى أقل من 30 كيلو .
وقد أكرمه الله بصفاء ذهنه وعدم تخليط عقله ، وكان يعرف زواره ؛ بعضهم بأسمائهم ، وبعضهم بصورهم وأشكالهم .
وقد كان يبذل جهداً كبيراً في الكلام وكان أغلب وقته في الفراش .
وكان رحمه الله لا يهدأ في أوقات القدرة عن البحث والمطالعة وإذا لم يستطع ذلك أمر بعض أبنائه أو من عنده بأن يحضر له كتاباً معيناً ويقرأ منه .
وهكذا قضى رحمه الله أكثر من ستين سنة بين كتب أهل العلم دراسة وتدريساً ، علماً وتعليماً ، إلى آخر أيام حياته .
فما أحلاها من حياة وما أكرمها من أيام ، وما أجملها من سنوات ، وما أغلاها من لحظات تلك التي قضاها إمامنا وشيخنا غفر الله له ، وألحقنا به على خير .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/9)