التوضيحاتُ الكاشفاتُ
على
كشفِ الشُبَهاتِ
تأليف
د .محمد بن عبد الله بن صالح الهبدان
المشرف العام على شبكة نور الإسلام
تقديم فضيلة الشيخ تقديم فضيلة الشيخ
عبد الله بن عبد العزيز العقيل عبد الله بن عبد الرحمن السعد
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم فضيلة الشيخ
عبد الله بن عبد العزيز العقيل
رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقاً
الحمد لله وأصلي وأسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه ، وبعد :
فلا يخفى أن علم التوحيد أهم العلوم ، وأن التعمق في فهم دقائق مباحثه وغوامض مسائله ، ومعرفة ما ينافيه أو يضاده من الشرك فما دونه ، والتصدي لرد ما يورد المبطلون من شبه على بعض أفراده ؛ من أهم مقاصد العقيدة السلفية .
وإن كتاب كشف الشبهات لشيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – قد كشف كثيراً من شبهات المحرفين والمنحرفين ، ومغالطات الملبسين ، وأبان الحقيقة في بضعة عشر بحثاً من أهم ما يتشبث به علماء السوء ، ودعاة الضلال . وهذه الشبهات يقال إن الذي أوردها هو الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز الأحسائي المتوفى في محرم 1216هـ وهو من شرق بهذه الدعوة المباركة وقام بعدائها بكل وسيلة ، وكتب بذلك لوالي بغداد يغريه بأن يقضي عليها ، وأنشد في ذلك القصائد مع ما بينه وبين الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب من صلة قرابته نسباً وصهراً ؛ فأما النسب فكلاهما من الوهبة من نبي تميم ، وأما المصاهرة فإن عبد الله بن فيروز والد محمد هو ابن عمة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب ؛ ذكر ذلك الشيخ عبد الله البسام في كتاب علماء نجد خلال ثمانين قرون ج 1ص 143.(1/1)
وقد تلقى العلماء هذا الكتاب : [ كشف الشبهات ] بالقبول ، وتداولوه بالبحث والتحقيق والتعليق والشروح والحواشي ؛ ما بين شارح ومحشى ومعلق ؛ كل على حسب ما تيسر له . وإن من أجمعها شرح الشيخ الأستاذ محمد بن عبد الله بن صالح الهبدان المسمى : " التوضيحات الكاشفات على كشف الشبهات " ؛ فقد بسط الكلام واستوعب أغلب ما ذكره من سبقه من شراحها – وكم ترك الأول للآخر – فجاء شرحه هذا مستوعباً لما تضمنته شروح من سبقه ؛ لهذا فاق من قبله حتى صار بمثابة شرح الشروح . وإنني لما اطلعت عليه أعجبت به وسرني ما تضمنه من فوائد جيدة فأوصيته بطبعه ونشره عسى الله أن ينفع به وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء .
قال ذلك الفقير إلى الله عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقاً ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
حرر في 25 /2/1421 هـ
تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد : فإن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة ، وإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من نعوت الجلال وصفات الكمال ، ومحبة أوليائه ومعادات أعدائه والبراءة منهم ومن أفعالهم ؛ هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه ؛ قال الله تعالى ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران : 85 ] وقد بعث الله تعالى بذلك أنبياءه ؛ قال الله تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ]
وقال تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [الأنبياء : 25 ] .(1/2)
وقال تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) [ البقرة : 21 ] .
ولذلك كان كل رسول يقول لقومه : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) كما قال تعالى عن نوح عليه السلام : ( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ الأعراف : 59 ] . إلى آخرهم وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقال : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا الله يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله ) [ الأعراف : 158 ] .
فعلى هذا لابد من تعلّم التوحيد والعلم به ، ومعرفة ما يضاده وتركه والبراءة منه ؛ حتى يقوم الإنسان بدين الإسلام الذي كلّفه الله تعالى به .
وقد قال الله تعالى لأفضل الرسل وخاتمهم وسيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) [ محمد : 19 ] .
وهذه الآية الكريمة ينبغي لكل مسلم أن يقف عندها ويتدبرها ؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من هو يأمره ربه عز وجل بالعلم بأن لا إله إلا الله ، إذًا ما بالك بغيره . ومن المعلوم أن هذه الآية ليست هي أول ما نزل ، بل سبقتها آيات وسور قبلها ؛ لأن سورة محمد صلى الله عليه وسلم التي فيها هذه الآية مدنية .
وقد أمر ربنا عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة بتوحيد الله عز وجل ؛ قال تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
وقال تعالى : ( قل إني أمرت أن اعبد الله مخلصاً له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين * قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله اعبد مخلصاً له ديني ) [ الزمر : 11- 14 ] .
وقال تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر ) [ الكوثر : 1، 2](1/3)
وقال تعالى :( قل هو الله أحد ) [ الإخلاص : 1] إلى غير ذلك من النصوص التي فيها الأمر للرسول بتوحيد الله تعالى وعبادته .
وقال الله تعالى محذراً نبيه صلى الله عليه وسلم والأنبياء صلى الله عليهم وسلم من قبله من الوقوع في الشرك ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) [ الرمز : 65 ، 66]
قال أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ( 24 / 24 ) عند تفسيره هذه الآية : " يقول تعالى ذكره : ولقد أوحي إليك – يا محمد – ربك وإلى الذين من قبلك من الرسل ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) يقول : لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد ليبطلن عملك ولا تنال به ثواباً ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله .. ( و إلى الذين من قبلك ) من الرسل من ذلك مثل الذي أوحي إليك منه ؛ فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك .. ) أ.هـ .
وقد خاف خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام أن يقع في الشرك ؛ قال الله تعالى عنه : ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام * رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ إبراهيم : 35، 36 ] .
مع أن إبراهيم عليه السلام هو الذي كسّر الأصنام بيده ، وهو الذي أراد أن يذبح ابنه طاعة لربه ومع ذلك خاف أن يقع في عبادة الأصنام ، فكيف بغيره ؟ ولذلك قال مغيرة – وهو ابن مقسم الضبي – : كان إبراهيم التميمي يقص ويقول في قصصه : من يأمن البلاء بعد خليل الله إبراهيم (1)
__________
(1) أخرجه ابن جرير 13/ 228، وأخرجه ابن أبي حاتم كما في الدار المنثور 5/46 .(1/4)
وقد خاف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أمته الوقوع في الشرك وحذّرهم منه ؛ قال الإمام أحمد في مسنده ( 4/ 403 ) ، وابن أبي شيبة في مصنفه ( 10/ 37 ) ، ثنا ابن نمير ثنا عبد الملك يعني ابن أبي سليمان العرزمي عن أبي علي – رجل من بني كاهل – قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ، فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذوناً لنا أو غير مأذون ، قال : بل أخرج مما قلت : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ، فقال له من شاء الله أن يقول : وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك به شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلم " وهذا سياق أحمد ، وأخرجه البخاري في الكنى ص 58 ، والطبراني في الأوسط ( 3503 ) كلاهما من طريق ابن نمير ، وقال الطبراني : لم يروه عن عبد الملك إلا ابن نمير ، ولا يروي عن أبي موسى إلا من هذا الوجه أه. وأخرجه في الكبير كما في المجمع ( 10/223 ) .
قلت : وهذا إسناد لا بأس به ، وهو غريب ، وابن نمير ثقة ثبت خرّج له الجماعة ، وعبد الملك ثقة حافظ له بعض الأوهام القليلة خرّج له مسلم وبقية أصحاب السنن ، وأبو علي الكاهلي ليس بالمشهور ؛ ذكره البخاري في الكنى ص ( 52 ، 58 ) وابن أبي حاتم ( 9/ 409 ) وسكتا عنه ، ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه سمع أبا موسى وسمع منه عبد الملك ، وذكره ابن حبان في الثقات ( 5/ 562 ) .
وقال المنذري في الترغيب (1) ( 1/58 ) : رواه أحمد والطبراني ، ورواته إلى أبي علي محتج بهم في الصحيح ، وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحداً جرحه .. أهـ .
__________
(1) وذكره ابن كثير في تفسيره ( 4/420، 421 ) ، والعراقي في تخريج الإحياء ( 3401) وسكت عليه .(1/5)
وقال الهيثمي ( 10/ 224 ) : رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي ووثقه ابن حبان أهـ .
وله شاهد بنحوه أخرجه البخاري في الأدب المفرد ( 716) : ثنا عباس النرسي ثنا عبد الواحد ثنا ليث أخبرني رجل من أهل البصرة قال : سمعت معقل بن يسار يقول : انطلقت مع أبي بكر الصديق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر فذكره بنحوه.
وهذا إسناد ضعيف ؛ ليث هو ابن أبي سليم لا يحتج به وقد اختلط ، وقد اختلف عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وفيه الرجل الذي لم يسم.
وأخرجه : أبو بكر الأموي في مسند الصديق ( 18 ) : ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن ليث عن شيخ من عنزة عن معقل به ، وفيه زيادة : أنه يقول هذا الدعاء ثلاث مرات .
وأخرجه أيضاً ( 17) : ثنا اسحق بن أبي إسرائيل ثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج قال : أخبرني ليث عن أبي محمد عن حذيفة عن أبي بكر ؛ إما حضر ذلك حذيفة من النبي صلى الله عليه وسلم مع أب بكر وإما حدثه إياه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجه أبو يعلى ( 58 ) ثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا هشام بن يوصف به ، وإسحاق بن إبراهيم هو ابن أبي إسرائيل .(1/6)
وأخرجه أيضاً ( 60، 61 ) من طريق عن عبد العزيز بن مسلم عن ليث عن أبي محمد عن معقل : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر أو حدثني أبو بكر ، وأخرجه أيضاً ( 59) من طريق عبد العزيز وفيه : " وحدثني أبو بكر " بدون تردد . ولكن هذا الإسناد ضعيف فيه شيخ أبي يعلى عمرو بن الحصين وهو متروك . وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (1) ( 287 ) من طريق هشام بن يوسف به . قلت : وهذا الاضطراب الظاهر أنه من ليث لضعفه ،لكن روايته لهذا الخبر عن رجل من أهل البصرة – وفي رواية من عنزة ،وفي رواية سماه أبو محمد – عن معقل بن يسار به أرجح من غيرها ؛ لأن ثلاثة من أصحابه اتفقوا عليها وهم : عبد الواحد وهو ابن زياد ، وجرير وهو ابن عبد الحميد ، وعبد العزيز بن مسلم ، وكلهم عراقيون مثل ليث بخلاف ابن جريج فلعله سمعه منه في الحج ، ولا شك أن ما حدّث به الراوي في بلده أثبت مما حدّث به في غير بلده ، وقد تابعهم أبو جعفر الرازي كما أخرجه ابن بطة ( 951) في الإنابة ، وأبو إسحاق وهو الفزاري عند ابن بطة أيضاً ( 982 ) وعبد الوارث بن سعيد ؛ فقد رواه عن ليث ثنى صاحب لي عن معقل عن أبي بكر كما في العلل للدار اقطني ( 1/192 ) .
وجاء في رواية عبد الرحمن بن سليمان ابن أبي الجون عن ليث تسمية شيخه فقال : عن عثمان بن رفيع عن معقل عن أبي بكر كما في العلل للدار اقطني ( 1/191 ) .
وجاء عن أوجه أخرى ؛ فقد أخرجه هناد بن السري في الزهد ثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فذكره ، وهذا مخالف لكل ما تقدم من الروايات .
ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية ( 1379 ) من طريق هناد به ، وجاء عن طريق آخر عن أبي بكر رضي الله عنه فرواه يحيى بن كثير أبو النضر عن سفيان الثوري عن إسماعيل عن قيس عن أبي بكر به .
__________
(1) وتحرف عنده أبو محمد إلى أبي محلز .(1/7)
وأخرجه ابن حبان في المجروحين ( 3/130) ، وابن عدي في الكامل ( 7/ 2695) ، وأبو نعيم في الحلية ( 7/112) كلهم من طريق شيبان بن فروخ عن يحيى به ، وهذا إسناد باطل ؛ قال ابن عدي : وهذا عن الثوري ليس يرويه غير يحيى بن كثير أ.هـ . ومثله قال أبو نعيم ، وقال الدار اقطني في العلل (1 / 193 ) : ولا يصح عن إسماعيل ولا عن الثوري أ.هـ .
قلت : وجاء من طريق أخرى ، ولا يصح منها شيء ؛ انظر : العقيلي ( 3/60 ) والحلية ( 3/36) ، و ( 8/368 ) والحاكم ( 2/291) .
وحديث ليث وإن كان لا يصح ولكنه يقوّي حديث أبي موسى السابق في الجملة ، وليث ضعيف ولكنه يكتب حديثه ، قال ابن معين في رواية معاوية بن صالح : ضعيف إلا أنه يكتب حديثه ، وقال ابن عدي : له أحاديث صالحة وقد روى عنه شعبة والثوري ومع الضعف الذي فيه يكتب حديثه ، وقال الدار اقطني : صاحب سنة يخرّج حديثه ، ثم قال : إنما أنكروا عليه الجمع بن عطاء وطاووس ومجاهد حسب ، وقال البزار : كان أحد العباد إلا أنه أصابه اختلاط فاضطرب حديثه ، وإنما تكلم فيه أهل العلم بهذا وإلا فلا نعلم أحداً ترك حديثه أ.هـ
فمثله يعتبر بحديثه ، وشيخه لا يعرف كما تقدم .(1/8)
وخاف عليه الصلاة والسلام على أمته أيضاً مرة شرك السرائر وحذّر أمته من ذلك : فأخرج أحمد ( 5/428 ، 429 ) وأبو محمد الضراب في ذم الرياء ( 31 ) والبيهقي في الشعب ( 6412) كلهم من طريق عمرو ابن أبي عمرو عن عاصم عن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : " الرياء ،؛ إن الله تبارك وتعالى يقول يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً " وإسناده جيد . وأخرج الطبراني في الكبير ( 4301) من حديث محمود بن لبيد عن رافع بن خديج به ، ولا يصح ذكر رافع بن خديج لأن في إسناده من هو متروك ، وأخرجه ابن خزيمة (937) من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجزة عن عاصم بن عمر به ؛ ولفظه " إياكم وشرك السرائر . قالوا وما شرك السرائر ؟ قال :يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه ؛ فذلك من شرك السرائر " .
وأخرجه البيهقي في الكبرى (2/290) بنفس الطريق السابق ، ولكن وقع عنده : محمود بن لبيد عن جابر به ، والأول أصح .
وما خافه صلى الله عليه وسلم على أمته وحذّرهم منه يجب عليهم أن يحذروا منه ويخافوا من الوقوع فيه ؛ وذلك بتعلم التوحيد ومعرفة ما يضاده والعمل بذلك .
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من أمته من سيقع في الشرك ويعبد الأوثان ، أخرج أحمد (5/278 ، 284) وأبو داود ( 4252) وابن ماجه ( 3952) والحاكم (4/449) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ص ( 469 ) وفي الحلية ( 2/ 289) والبيهقي ( 9/ 181) ؛ من طرق عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " زُويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها .. ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان .. "(1/9)
وهو حديث صحيح ، صححه الحاكم ، وقال أبو نعيم في الحلية : هذا حديث ثابت ، وقد أخرجه مسلم ( 2889) من نفس الطريق ولكن ليس فيه موضع الشاهد .
وقال البخاري في صحيحه في كتاب الفتن : باب تغّير الزمان حتى تعبد الأوثان : (7116) ثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهراني قال : قال : سعيد بن المسيب : أخبرني أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة " .
وذو الخلصة : طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية .
وأخرجه مسلم ( 2906) وابن حبان ( 6749) كلاهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به ، وعند ابن حبان : قال معمر : إن عليه الآن بيتاً مبنياً مغلقاً . أ.هـ.
وقد بوّب عليه ابن حبان بقوله : ذكر الأخبار عن ظهور أمارات أهل الجاهلية في المسلمين .
وقد وقع بعض الصحابة – وبعضهم كان حديث عهد بالإسلام - في شيء من الشرك ، وعندما بيّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا من الشرك رجعوا . أخرج ابن إسحاق في السيرة – كما في سيرة ابن هشام ( 4/70) ومعمر في جامعه ( 20763 ) المطبوع مع مصنف عبد الرزاق ، والحميدي ( 848 ) والطيالسي (1346) وأحمد ( 5/218) ، وابن أبي شيبة ( 15/ 101) والترمذي ( 2180) ، والنسائي في الكبرى (11185) وابن أبي عاصم في السنة ( 76) ، وابن نصر في السنة ( 37، 38، 39، 40) وأبو يعلى ( 14541) ، وابن جرير في تفسيره (15055) ،وابن حبان ( 6702 ) والطبراني في الكبير ( 3290- 3294) والبيهقي في معرفة السنن والآثار ( 329 ) وفي الدلائل ( 5/124، 125) والبغوي في تفسيره (2/194) وعزاه السيوطي في الدر ( 3/533) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ .(1/10)
أخرجوا جميعاً من طريق محمد بن شهاب الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ حنين فمررنا بالسدرة فقلنا : أي رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط – وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها – قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الله أكبر ! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) [الأعراف : 138] إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ).
وهو حديث صحيح ؛ سنان بن أبي سنان ثقة خرّج له الشيخان وروى عنه اثنان من أئمة التابعين : الزهري (1) كما تقدم ، وزيد بن أسلم ، وقد نقل أبو عمرو بن عبد البر عن بن معين أنه قال : حسبك برواية بن شهاب عنه ؛ قال هذا في رواية الزهري عن ابن أكيمة الليثي كما في التمهيد ( 11/22) .
وقد قال العجلي عن سنان : ثقة : وذكره ابن حبان في الثقات ، وصحح هذا الحديث الترمذي وابن حبان ، وقد صرّح ابن شهاب بسماعه من سنان وسنان من أبي واقد الليثي كما في بعض الروايات .
ووقع في سيرة ابن هشام المطبوعة خطأ في الإسناد في سياق سند ابن إسحاق لهذه القصة .
وفي رواية عند بن جرير سقط من الإسناد سنان بن أبي سنان . وقد جاءت هذه القصة من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزي عن أبيه عن جده ، أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير ( 8910)
__________
(1) الذين روى عنهم ابن شهاب الزهري ثلاثة أقسام : أ – ثقات مشاهير وهم الأكثر
ب- غير مشهورين وفيهم جهالة وراية ابن شهاب عنهم تقوية لهم ، انظر ترجمة ابن أكيمة الليثي في كتب الجرح والتعديل .
ج- ضعفاء وهم قلة لا يسميهم بل يدلسهم ، انظر النسائي ( 7/26) وترجمة الزهري من تاريخ ابن عساكر بمفرده ص ( 157- 160)(1/11)
وعزاه السيوطي في الدر ( 3/ 534 ) إلى : بن مردويه والطبراني ، وهذا إسناده ضعيف جداً ، وكثير حاله معروفة ، وأخرج أحمد ( 5/72) ، وابن أبي شيبة (652) في مسنده ، وابن أبي عاصم ( 2743) في الآحاد والمثاني ، والطبراني في الكبير (8214) ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة ( 954، 3955) كلهم من حديث حماد بن سلمة وأخرج ( 5/399) والبخاري في تاريخه ( 4/363) ، والدا رمي ( 2/295) ، والطبراني في الكبير ( 8214) وأبو يعلى ( 4655) (1) كلهم من حديث شعبة .
وأخرج ابن ماجه ( 2118) من حديث أبي عوانة ، وأخرج الطبراني في الكبير (8215) من حديث زيد بن أبي أنيسة كلهم عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل أخي عائشة قال : قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين : نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد . فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد " هذا لفظ الدار مي ، وهذا حديث صحيح ،وقد جاء معنى هذا الحديث في غير ما حديث ، وقد وقع فيه بعض الاختلاف الذي لا يضر ؛ ينظر تاريخ البخاري الكبير مع كلام محققه ، ومسند البزار ( 7/253) والفتح ( 11/ 540) .
وأخرج البخاري (6646) من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ؛ فقال : ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت )
وفي طريق آخر عنده ( 6647) من حديث سالم عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول : " فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً " وأخرج مسلم ( 1646) وفي الباب أحاديث أخرى .
__________
(1) وقع في مسند أبي يعلى : زيادة عائشة بعد الطفيل وهو خطأ .(1/12)
فإذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم مع علو مكانتهم ورفيع درجتهم وَوفور علمهم قد وقع منهم شيء من الشرك ، إذًا فكيف بغيرهم ؛ فالواجب على كل مسلم الاعتناء بهذا الأمر غاية الاعتناء وتدبر كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك ما كتبه أهل العلم في ذلك ؛ ومنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فقد اعتنى بهذا الأمر عناية كبيرة ، وألف المؤلفات الكثيرة في ذلك المبنية على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ومن هذه المؤلّفات :
ثلاثة الأصول ، والقواعد الأربع ،وكشف الشبهات ،وكتاب التوحيد ، وشروح هذه الرسائل والكتب .
ثم بعد ذلك يكثر النظر في الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ثم بعد ذلك الكتب التي ألفت في توحيد الأسماء والصفات من الواسطية والحموية والتدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وغيرها من المؤلفات التي ألّفت في ذلك .
وهذا الكتاب [ التوضيحات الكاشفات على كشف الشبهات ] للشيخ محمد بن
عبد الله الهبدان وفقه الله تعالى ، شرح فيه كتاب كشف الشبهات وذكر فيه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم كلام أهل العلم فجزاه الله خيراً ووفقه .
وكتاب كشف الشبهات من أنفس ما كتبه أهل العلم في ذلك على صغر حجمه ،ذكر فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب التوحيد الذي جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وقرن كل مسألة بدليلها من الكتاب والسنة ، وذكر شبهات المشركين التي يلبسون بها على الناس وبيّن بطلانها فرحمه الله رحمة واسعة وأثابه .
ومن نفاسة هذا الكتاب أن بعض أهل العلم ألف على مثاله وحاكى الشيخ في كتابه هذا ؛ ومنهم الشيخ محمد بن أحمد الحفظي رحمه الله في كتابه : درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين .
مقدمة المؤلف(1/13)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسولُه ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ آل عمران : 102] ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراُ ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) [ النساء : 1]
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) [ الأحزاب : 70 ، 71 ] أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
فإن رسالة الإمام المجدد والعالم الجهبذ محمد بن عبد الوهاب ، والمسومة بـ ( كشف الشبهات ) رسالة قيمة ، عظيمة الفائدة ؛ فقد اشتملت على صغر حجمها على دمغٍ لحجج المبطلين ، ودحضٍ لشبهات المشركين ، وكشفٍ لتلبيس الملبسين ، وإظهارٍ لحجج الموحدين ، ونصرةٍ لأهل الحق والدين .
ولأهمية الكتاب لذوي الألباب رأيت أن أخدمه لينتفع به جل الأصحاب فطرزته بالتوضيحات ، وحلّيته بالتحقيقات ، ووضحت درره المستورات ، وجواهره المخفيات في بطون السطور والكلمات ، ولا أخفيك أني كنت أقدم رِجلاً وأخر أخرى للإقدام على هذا الأمر الجلل ، ولولا إشارة مَنْ إشارته حُكْم ، وطاعته غُنْم ، لما أقدمت على خوض هذا المضمار ، ولكن أسأل الله الإعانة فيما توخيت من الإبانة ، وبالله أعتضد فيما أعتمد ، وأعتصم مما يَصِم ، وأسترشد إلى ما يرشد فما المفزغ إلا إليه ، ولا الاستعانة إلا به ، وبه أستعين وهو نعم المعين .(1/14)
ثم لا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بجزيل الشكر لشيوخي الأجلاء الذين قرأوا أو قدموا للكتاب وكانت لهم التوجيهات السديدة ؛ فجزاهم الله خير الجزاء ؛ فقد قدم للكتاب كل من :
فضيلة الشيخ الفقيه عبد الله بن عبد العزيز العقيل .
فضيلة الشيخ المحدّث عبد الله بن عبد الرحمن السعد ؛ حيث قدم للكتاب بمقدمة مسهبة .
كما قرأه فضيلة الشيخ المحدث سليمان بن ناصر العلوان وكانت له توجيهات وإرشادات جليلة .
فاللهم أجزل لهم المثوبة ، وبارك لنا في أعمارهم وعلمهم ، وارزقنا اللهم الإخلاص في القول والعمل
وكتبه
محمد بن عبد الله الهبدان
ترجمة المؤلف(1)
هو الإمام العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن مشرف بن عمر من أوهبة بني تميم .
وُلد رحمه تعالى سنة 1115هـ في بلدة العيينة من أرض نجد ونشأ فيها ، وقرأ القرآن بها قبل بلوغه العشر ، وكان حاد الفهم ، سريع الإدراك يتعجب أهله من فطنته وذكائه ، ثم اشتغل بالعلم وجد في طلبه ، وبعد بلوغه قدّمه والده إماماً في الصلاة ، ثم حج فقضى فريضة الإسلام ، ثم قصد المدينة وأقام بها شهرين ، ثم رجع إلى وطنه واشتغل بالقراءة على مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، ثم رحل في طلب العلم وزاحم العلماء الكبار ، ورحل إلى البصرة والحجاز مراراً ، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأحبار ، وأتى الأحساء وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء ، فسمع وناظر ، وبحث واستفاد .
أخذ العلم عن عدة مشايخ أجلاء وعلماء فضلاء ؛ ففي نجد عن أبيه وغيره ، وفي المدينة عن الشيخ العالم محمد حياة السندي المدني ، وعن الشيخ إسماعيل العجلوني وغيرهما ، وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغستاني وغيره ، وأجاز محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها ...
__________
(1) مراجع الترجمة : الدرر السنية ( 12/3) الموسعة الميسرة ص 273، وانظر : روضة الأفكار لابن غنام ، وعنوان المجد في تاريخ نجد ص 6.(1/15)
مرحلة الدعوة :
عند ما انتقل والد الشيخ إلى حريملاء ( التي كان يعمل فيها قاضياً ) بدأ الشيخ رحمه الله ينشر الدعوة إلى التوحيد جاهراً بها ؛ وذلك سنة 1143هـ لكنه ما لبث أن غادرها بسبب تآمر نفر من أهلها عليه لقتله .
توجه الشيخ بعدها إلى العيينة وعرض دعوته إلى أميرها عثمان بن معمر الذي قام معه بهدم القبور والقباب ، وأعانه على رجم امرأة زانية جاءته معترفة بذلك ، فلما كثر القيل والقال من أهل البدع والضلال شكوا إلى شيخهم رئيس بني خالد فكتب إلى عثمان يأمره بقتله أو إجلائه ، فأمر بإجلاله ، فخرج الشيخ رحمه الله منها وهاجر إلى الدرعية فنزل ضيفاً على عبد الله بن سويلم ، ثم انتقل إلى تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم ، فلما سمع بمقدمه الأمير محمد بن سعود رحب به ، وبادره بالقبول والتأييد ، فمضى الشيخ والأمير في نشر الدعوة حتى عم خيرها أرجاء البلاد ، وكان لها الأثر الواضح في حركات الإصلاح التي قامت في نواحي البلاد الإسلامية .
وفاته :
توفي الشيخ في الدرعية سنة 1206هـ يوم الإثنين آخر شهر شوال ، وكان يوماً مشهوداً تزاحم الناس على سريره وصلوا عليه في بلدة الدرعية ... ورثاه طوائف من العلماء منهم العالم الجليل محمد بن علي الشوكاني وفي مطلعها :
مصاب دها قلبي فأذكى غلائلي وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي
وخطب به أعشار أحشائي صدعت فأمست بفرط الوجد أي ثواكلي (1)
إلى آخر ما قاله رحمه الله في أبيات طويلة ...
الجانب العلمي في كتابات الشيخ :
امتازت كتابات إمام الدعوة رحمه الله بعدة مميزات منها :
اعتماده رحمه الله فيما يقرره بما جاء في الكتاب والسنة ؛ وهذا واضح لمن قرأ كتبه ككتاب التوحيد مثلاً .
أنه يجمع النصوص بعضها مع بعض ويبوبها ويقعدها ، ويستنبط منها الأحكام ، ككتاب فضل الإسلام .
__________
(1) الدرر السنية ( 12/ 20) .(1/16)
يمتاز أسلوب الشيخ في الكتابة بسهول العبارة ، وتقريب المعنى بيسر وسهولة ، وهذه طريقة القرآن كما قال تعالى : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) [ القمر : 17] .
استخدام الأمثال للتبيين والإيضاح ، وهذا هو عين منهج القرآن كما قال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس ) [ الحشر : 21] ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) [ يوسف : 3 ] .
استخدام طريقة الحوار والمناظرة في بعض كتبه ، وهذا من منهج القرآن الكريم كما في قصة إبراهيم مع قومه في قوله تعالى : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي ) [ الأنعام : 76] . وقصته مع النمرود (1) .
تقرير القاعدة التي يتفق هو وخصمه عليها ومن خلالها يلزمه بنتائجها .
وهي أهمها : عنايته القصوى ببيان التوحيد وتقريره ، وتقعيد عقيدة السلف في توحيد العبادة .
مؤلفاته :
للشيخ مصنفات كثيرة ، نافعة شهيرة ، سارت في الآفاق سيرورة ذُُكاء(2) في الإشراق منها :
كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد .
كشف الشبهات .
مسائل الجاهلية .
فضائل الإسلام .
وقد قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بجمع مؤلفات الشيخ وتحقيقها في كتاب واحد هو ( مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ) فجزاهم الله خير الجزاء .
والله الهادي إلى سواء الصراط .
مقدمات مهمة
قبل الدخول في شرح الكتاب يحسن بنا أن نقف بعض الوقفات مع بعض معالمه (3)
__________
(1) انظر كتاب ( استخراج الجدل من القرآن الكريم ) لعبد الرحمن بن نجم المعروف بابن الحنبلي – رحمه الله – ص 65.
(2) ذكاء : من أسماء الشمس .
(3) وقد تكلم الشيخ عبد الله القحطاني عن بعض هذه الوقفات في تحقيقه لهذا الكتاب فانظره إن شئت . وللفائدة فيوجد لكشف الشبهات ذيلين ، ذكرتهما في تحقيقي لمتن الكتاب .(1/17)
الوقفة الأولى : عنوان الكتاب : كشف الشبهات (1)
أما الكشف : فهو رفعك الشيء عما يواريه ويغطيه . وكشف الأمر يكشفه كشفاً : أظهره( (2) وقال الراغب الأصفهاني : " ويقال كَشَفَ غمّه ؛ قال تعالى : ( وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو ) [ الأنعام : 17] ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك ) [ ق : 22] ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) [ النمل : 62] وقوله : ( يوم يكشف عن ساق ) [ القلم : 42] قيل أصله من : قامت الحرب على ساق ، أي ظهرت .. "(3) .
الشبهات : قال ابن فارس رحمه الله : " الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً ، يقال شِبْه وشَبَه والشبَهُ من الجواهر الذي يشبه الذهب ، والمشبهات من الأمور المشكلات ، واشتبه الأمران إذا أشكلا " (4) وقال ابن منظور : ( الشبه : الالتباس ، وأمور مُشْتَبِهةٌ : مشكلة يشبه بعضها بعضاً .. " (5) وقال أحمد الفيومي : " الشبهة في العقيدة المأخذ الملبس ؛ سميت شبهة لأنها تشبه الحق " (6) .
ومراد المصنف من هذا العنوان – كشف الشبهات – إيضاح أن الحجج التي استدل بها مشركو زمنه لنفي الشرك عنهم لا تصلح أن تكون حججاً لأنها باطلة واضحة البطلان .
__________
(1) وقد اختار الشيخ عبد الله القحطاني هذا العنوان لهذه الرسالة ورجح من خلال النسخ الخطية أنه العنوان الذي أرده المصنف والله أعلم .
(2) لسان العرب : ( 9/300) ط دار صادر .
(3) مفردات القرآن ص 712 ط دار القلم .
(4) مقاييس اللغة ( 3/243) ط دار الجيل .
(5) لسان العرب ( 13/504) .
(6) الصباح المنير ( 1/304) ط دار الفكر .(1/18)
قال سماحة شيخنا العلامة ابن باز – رحمه الله – " فالمؤلف كتب هذه الرسالة – كشف الشبهات – ليضع هذه الشبهات وإبطالها ، وبيان أن هذه الشبهات لا تلتبس على أهل العلم والإيمان ، بل أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم إبطالها ، وأوضح القرآن إبطالها .. " (1).
الوقفة الثانية : لمحة عن منهج المؤلف في الكتاب :
القارئ للكتاب يلمس أن المؤلف رحمه الله ألف كتابه هذا رداً على ما أثاره الخصوم من شبه حول ما دعا إليه المؤلف في دعوته إلى التوحيد الخالص وترك ما يناقضه ، والمؤلف – رحمه الله – ألف كتابه هذا ليس للمشرك ، إنما هو للمسلم الموحد حتى يكشف له شبهات الأعداء كما قال حسين بن غنام – رحمه الله – في تاريخه : " ثم صنف الشيخ – رحمه الله – رسالة عامة للمسلمين تسمى كشف الشبهات جواباً لكثير من شبههم التي أدلوا بها في مصنفاتهم .. " (2) ولهذا جاءت مختصرة ، وأسلوب المؤلف في كتابه يغاير أسلوبه في كتبه الأخرى ؛ فإن المؤلف درج في كتابه هذا إلى أسلوب الحوار ، ولعل الحكمة في ذلك أن الحوار : " هو الطريق الأمثل للإقناع الذي ينبع من أعماق صاحبه ، والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يفرض فرضاً ، وإنما ينبع من داخل الإنسان .. ولذا اعتنى القرآن بالحوار عناية بالغة ؛ فمن ذلك ما دار بين الله سبحانه وتعالى وبين إبراهيم عليه السلام عند ما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى .. ونجد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة متنوعة للحوار ... ومنها حين جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة احتارت قريش وارتبكت وفكرت ودبرت ، وكان مما صنعته أنها أرسلت عتبة بن ربيعة إليه يحادثه ويفاوضه ويغريه .. " (3)
__________
(1) - قاله في شرحه لكشف الشبهات ، الوجه الأول من الشريط الأول .
(2) تاريخ نجد ص 225.
(3) أصول الحوار ص 10، 11 بتصرف .(1/19)
وكتاب كشف الشبهات قصير في محتواه لكنه يعتبر من أشهر ردود مؤلفه على معارضيه ، وهو في هذا الكتاب يريد أن يتوصل إلى إثبات أن المشركين في زمنه – أي زمن المصنف – مشركون ومشابهون من كل وجه للمشركين الأولين ، بل زادوا عليهم ، والرد على من أراد التفريق بينهما ، وحتى يصل إلى هذه النتيجة جعل كتابه على قسمين :
القسم الأول: التمهيد : وذكر فيه قواعد أساسية لمجادلة المشرك وهي كالتالي :
القاعدة الأولى : بيان معنى التوحيد الذي ( هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ،وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده ) (1)
القاعدة الثانية : أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر الضار النافع ، ولم ينفعهم إقرارهم إذ لم يخلصوا الدعاء لله وحده ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ يونس : 31] (2) .
القاعدة الثالثة : أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله ويعظونه ويحجون ويعتمرون ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل(3) .
__________
(1) كشف الشبهات .
(2) الدرر السنية (2/23) وانظر الدرر ( 2/17 ) .
(3) الدرر السنية ( 2/28) .(1/20)
القاعدة الرابعة : أنهم يعتقدون في الملائكة الأنبياء ، والأولياء لأجل قربهم من الله تعالى ؛ قال الله تعالى في الذين يعتقدون في الملائكة : ( ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 40، 41] وقال في الذين يعتقدون في الأنبياء (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قلبه الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضراً ولا نفعاً ) [ المائدة : 75، 76] .
وقال الذين يعتقدون في الأولياء : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ) [ الإسراء :57] . (1) .
القاعدة الخامسة : أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قصدوا من قصدوا بعباداتهم إلا لأجل التقرب والشفاعة منهم إلى الله ، وأنه عز وجل نزه نفسه عن أن يتخذ من دونه ولي أو شفيع ، بل أمرنا بالإخلاص ،وهو أن لا نجعل له واسطة ، فلا نستغيث ولا نستعين إلا به ؛ والدليل على ذلك ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) [ الرمز : 3] (2)
__________
(1) الدرر السنية ( 2/20) .
(2) الدرر السنية ( 2/24 ) .(1/21)
القاعدة السادسة : أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم : منهم من يعبد الشمس والقمر ، ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم ولم يفرق بينهم ،والدليل قوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال : 39] فدليل الشمس والقمر: قوله تعالى : ( ومن آياته والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا الله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) [ فصلت : 37] ودليل الملائكة : ( ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 40 ، 41 ] ودليل الأنبياء : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس له بحق إن كنت قلته فقد علمته ) [ المائدة : 116] ودليل الصالحين قوله تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ) [ الإسراء : 56] ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى : ( أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19، 20] . (1) .
القاعدة السابعة : إذا دخل الشرك في عبادتك بطلت ولم تقبل ، وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك ، والدليل قوله تعالى : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) [ الزمر: 65] وقال تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً ) [ النساء : 48] .
القاعدة الثامنة : المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين (2)
__________
(1) الدرر السنية ( 2/18) .
(2) الدرر السنية : (2/6) . ( ) المصدر السابق : ( 2/29) .(1/22)
.
أحدهما : أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين ؛ لأن الأولين يخلصون لله في الشدة ، ويشركون في الرخاء ، ومشركي زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة ، والدليل قوله تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا لله مخلصين له الدين فلما نجّاهم إلى البر إذا هم يشركون ) [ العنكبوت : 65] .
فعلى هذا الداعي عابد ، والدليل قوله تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) . [ الأحقاف : 5] .
الثاني : أن مشركي زماننا يدعون أناساً لا يوازون عيسى والملائكة. (1) . ومن خلال هذه المقدمات توصل المؤلف إلى مطلوبه وهو أن لا فرق بينهم وبين المشركين الأولين ؟ بل هو أضل .. فإن كان المشرك في زماننا يريد الحق فإنه يستجيب لك وينقاد ، وإلا سيحاول أن ينفي الشرك عن نفسه ويفرق بين شرك الأولين وشركه بفروق سيجيب عنها الشيخ ، وستلاحظ مراوغة المشرك عن الجواب حينما يلجمه الشيخ بحجة فلا يستطيع الجواب ، فيروغ كما يروغ الثعلب وينتقل الشيخ من شبهة إلى شبهة حتى يسقط في يديه ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
القسم الثاني : وقد ذكر – رحمه الله – فيه غالب الشبه التي استدل بها أهل الشرك في زمانه والرد عليها – وهي خمس عشرة شبهة – وهي كالتالي :
ادعاء الفرق بينهم وبين المشركين الأولين في اعتقاد الربوبية ، وقد أجاب عنها المؤلف بجواب واحد.
ادعاء الفرق بين من يعبد الأصنام ومن يعبد الصالحين ، أجاب عنها بجوابين .
الكفار يريدون المنفعة والمضرة ممن يعبدونهم ونحن نريد الشفاعة فقط فأجاب عنها بجواب واحد .
ادعاء أن الالتجاء إلى الصالحين ليس بعبادة أجاب عنها بجواب واحد .
الخلط بين الشفاعة الشرعية والشفاعة الشركية ، أجاب عنها بجواب واحدٍ .
أن الله ملك نبيه الشفاعة ونحن نطلب منه مما أعطاه الله تعالى ، أجاب عنها بجوابين
__________
(1) المصدر السابق : ( 2/29) .(1/23)
ادعاء أن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك ، أجاب عنها بجواب واحد .
ادعاء أن الشرك خاص بعبادة الأصنام ، أجاب عنها بجوابين .
ادعاء أن الكفر خاص بمن نسب الولد إلى الله ، أجاب عنها بأربعة أجوبة .
أولياء الله لهم جاه عند الله ونحن نسأل الله بجاههم ، أجاب عنها بجواب واحد.
ادعاء أن من أدى بعض واجبات الدين لا يكون كافراً ولو أتى بما ينافي التوحيد ، أجاب عنها بتسعة أجوبة ، وذلك لأهمية هذه الشبهة وعظم خطرها وشدة الفتنة بها .
أن بعض أصحاب موسى وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفروا على شناعة طلبهم .
ادعاء أن من أتى بالتوحيد فإنه لا يكفر ولو فعل ما فعل ، أجاب عنها بجوابين : مجمل ومفصل .
إذا جازت الاستغاثة بالأنبياء في الآخرة ، فمن باب أولى أن تجوز في الدنيا ، أجاب عنها بجوابين .
عرض جبريل على إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يغيثه ، فلو كان ذلك شركاً لما فعله ، أجاب عنها بجواب واحد .
وقد تطرق في ثنايا الكتاب إلى موضوعات كثيرة منها :
ذكر أن الجواب على هذه الشبه يكون بالقرآن ثم بيّن رحمه الله كيف تُوضح هذه الشبه وكيفية الجواب عنها ، وذلك من طريقين :
مجمل ومفصل ، وأكد على المجمل وبين أهمية معرفته .
ذكر فوائد من حديث أبي واقد الليثي .(1/24)
وفي نهاية الكتاب ختمه بخاتمة مهمة كشف فيها عن شبه أهل الإرجاء وأوضح حقيقة التوحيد ؛ قال فيها " التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً " وبهذا ينتهي المؤلف من كتابه . وقد تكلم الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود عن موضوع الكتاب وقال إنه : " يمثل خلاصة متميزة جداً ، وفيه شبه كبير برسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، مع اختلاف موضوع الكتاب ، فالتدمرية تمثل خلاصة كتب شيخ الإسلام ، وقد حولت من الأصول والقواعد المتميزة العظيمة ما لا توجد مجتمعة في كتاب من كتب شيخ الإسلام غير هذا الكتاب ، ويدل عليه سبب تأليفه لها ، حيث أن بعض كبار تلامذته طلبوا منه أن يكتب لهم مضمون ما سمعوه منه في بعض المجالس حول التوحيد والصفات ، والشرع والقدر ، فاستجاب لهم وألّف هذه الرسالة ، فجاءت جامعة لخلاصة أصول ومناقشات شيخ الإسلام في هذا الباب ، وقد احتوت على مسائل وقواعد قد تجدها مبثوثة مفرقة في كتب شيخ الإسلام المطولة وغيرها ، لكن بهذا الترتيب ، وبهذه المتانة والقوة في المناقشة وبيان الحق والرد على المخالفين لا تكاد توجد مجموعة إلا في هذه الرسالة الفريدة ، وكتاب كشف الشبهات حسب اطلاعي ومتابعتي يشبه التدمرية ؛ فهو يمثل خلاصة ومناقشات وقواعد الإمام محمد بن عبد الوهاب ، وجواب شبهات المخالفين في باب التوحيد ، وما يضاده من الشرك ، فقد حوى تقريباً كل ما قاله واحتج به دعاة الشرك في الأولياء والأضرحة والقبور وغيرها – قديماً وحديثاً – وناقشها واحدة واحدة بأسلوب قوي متين ، يقطع دابر الشبهة من أساسها لمن رزقه الله فهماً سليماً وعقلاً صحيحاً ، وتجرد من اتباع الهوى والتقليد الأعمى " (1) .
الوقفة الثالثة : ثناء العلماء على الكتاب :
__________
(1) مقدمة لكتاب كشف الشبهات ، تحقيق عبد الله القحطاني ص 7-8 .(1/25)
قد تتابع ثناء العلماء على هذه الرسالة ؛ فمن ذلك ما قاله الإمام سليمان بن عبد الله – رحمه – في أبيات له يقول فيها :
كشف عنا بالكشف كل مشكلة * ظل الذكي بها في الكون حيرانا
نصرت فيها طريقاً للنبي غدت * لا تستطيع له الأفهام عرفاناً
ذرت عليها الذواري فهي خافية * حتى جهدت لها بحثاً وتبياناً
فأصبح الناس قد هبوا وقد عرفوا * من بعد رقدتهم حيناً وأزماناً
أتيت تتلو كتاب الله مجتهداً * حتى شددت من الإسلام أركاناً
أضحت بك الملة بيضاء نائلة * نصراً وعزاً وتثبيتاً وإتقاناً .
جزاك ربك عنا كل صالحة * أمناً ورحماً وتكريماً ورضواناً (1)
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم السناني رحمه الله (2) عن هذه الرسالة : " فوجدتها كاسمها مشتملة على أجل المطالب وأوجب الواجبات ، فكانت جديرة أن تكتب بماء الذهب ثم قلت نظماً :
لقد ضل قوم سموا الكشف بالجمع * وقالوا مقالاً واجب الدفع والرد
إلى أن قال :
فيا طالب الإنصاف بالعلم والهدى * أما تنظر كشف الشبه درة العقد
فقد حل فيها كشف ما كان مشكلاً * بأوضح تبيان تفوق على الشهد
فجازاه رب الخلق خير جزائه * لما قام في التوحيد يهدي ويهتدي (3).
وقال الشيخ محمد الطيب الأنصاري – رحمه الله - :
فجاء كتاباً حجمه صغير لكنه في علمه غزير (4)
__________
(1) استفدت هذه الأبيات على طرة كتاب كشف الشبهات وهو مخطوط برقم 10478/ في جامعة الإمام .
(2) توفي سنة (1269) ولحديثه عن الكشف قصة ارجع إليها في كتاب علماء نجد خلال ستة قرون (3/775) .
(3) علماء نجد خلال ستة قرون ( 3/775- 776) ط مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة .
(4) البراهين الموضحات ص 1 ط دار لينة للنشر والتوزيع ، الطبعة الثانية 413هـ(1/26)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ – رحمه الله - : " وقد تكلم شيخنا في كتابه كشف الشبهات على أكثرها ، فراجعه إن شئت ، فإنه مفيد مع اختصاره ولطافة حجمه " (1) وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله في معرض كلام له : " صنف الشيخ رحمه الله تعالى كشف الشبهات ، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان ما أورده أعداء الله ورسوله من الشبهات ، فأدحض حجمهم ، وبين تفاهتهم ، وكان كتاباً عظيم النفع على صغر حجمه ، جليل القدر ، انقمع به أعداء الله ، وانتفع به أولياء الله ، فصار علماً يقتدي به الموحون ، وسلسبيلاً يرده المهتدون ، ومن كوثره يشربون ، وبه على أعداء الله يصولون ، فلله ما أنفعه من كتاب ، وما أوضحه من خطاب ، لكن لمن كان ذا قلب سليم وعقل راجح مستقيم " (2) .
وقال الشيخ عبد الله بن حميد – رحمه الله - : " وهذا الكتاب مع قصره من أنفع الكتب لأنه يذكر فيه شبه المبطلين من عباد الأصنام والمتوسلين بغير الله ، يذكر شبههم ويجيب عليها شبهة شبهة ، ولهذا سمى الكتاب كشف الشبهات " (3)
وقال الأستاذ مسعود الندوي – رحمه الله - : " وهي – أي كشف الشبهات – رسالة صغيرة إلا أنها كنز من المعلومات والفوائد " (4)
__________
(1) منهج التأسيس ص 27 ط دار الهداية .
(2) الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق ص 93ط الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية .
(3) شرح كشف الشبهات للشيخ عبد الله بن حميد يسر الله طبعه .
(4) كتاب : محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم مفترى عليه ص 169.(1/27)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري – رحمه الله – في ذيله على كشف الشبهات : " فإن شيخنا (1) المغفور له محمد بن عبد الوهاب فد نور البصائر في كشف الشبهات وأزال كل إشكال يورده المبطلون والمخرفون " (2) .
وقال الشيخ محمد العثيمين – رحمه الله - : " أورد فيه المؤلف بضع عشرة شبهة لأهل الشرك وأجاب عنها بأحسن إجابة ، مدعمة بالدليل ، مع سهولة المعنى ، ووضوح العبارة " (3) ، وقال الشيخ سفر الحوالي : " فإن رسالة كشف الشبهات للإمام المجدد السلفي المجاهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – رسالة قيمة مباركة عظيمة الفائدة لما اشتملت عليه من حق ناصع مبين ، وجلاء لشبهات أهل الشرك والتلبيس على المسلمين ، وهي على صغرها تغني عن أسفار كثيرة ، وقد فتح الله بها قلوباً وبصائر كانت عن الحق غافلة وبالشرك عاملة ، وبرب العالمين ، وقدره جاهلة ، وهي جديرة أن تنشر في كل مكان وتترجم بكل لسان "
(4) ) والله أعلم .
[ تعريف التوحيد ]
بسم الله الرحمن الرحيم
اعْلمْ – رَحِمكَ الله – أن التوحيدَ هو إفرادُ الله سبحانه وتعالى بالعبادة
__________
(1) قوله (شيخنا ) لا يعني بذلك أنه تعلم على يديه فالشيخ الدوسري لم يدرك الشيخ الإمام كما هو معلوم ، ولكنه قصد بذلك التتلمذ على كتبه ، وأما قوله المغفور له فهذا من باب الدعاء لا الجزم بذلك والله أعلم .
(2) ص 65.
(3) شرح كشف الشبهات ص 15.
(4) تقديم لكتاب كشف الشبهات ص 5 تحقيق أبو أنس الحسين بن عمر مروزي .(1/28)
قوله ) بسم الله الرحمن الرحيم ) : قال إمام الدعوة – رحمه الله - : " يسن كتابتها أوائل الكتب كما كتبها سليمان عليه السلام ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وتذكر في ابتداء جميع الأفعال ، وهي تطرد الشيطان ؛ قال أحمد : لا تكتب أمام الشعر ولا معه .. " (1) .
وقد ذكروا للبداءة بالبسملة والاقتصار عليها تعليلات منها:
أن البدء بها للتبرك والاستعانة على ما يهتم به .
لعل سبب اقتصار المصنف عليها دون خطبة الحاجة أنه حمد وتشهد نطقاً بها عند وضعه لهذا الكتاب (2)
ج- أن البسملة من أبلغ الثناء والذكر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصر عليها في مراسلاته كما في كتابه لهرقل عظيم الروم ، قال ابن حجر – رحمه الله - : " وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق " (3) فكأن المؤلف – لما لم يفتتح كتابه بخطبة – أجرى مجرى الرسائل إلى أهل العلم ؛ لينتفعوا بما فيه تعلماً وتعليماً (4)
قوله : ( اعلم ) : فعل أمر مبني على السكون ؛ من العلم وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع .
__________
(1) آداب المشي إلى الصلاة ص 7 ؛ والحكمة من قول الإمام أحمد كما قاله القاضي : لأنه يشوبه الكذب والهجوم غالباً ، وأما الناظم في الفقه والتوحيد والنحو ونحو ذلك فأجاز العلماء كتابتها أمامه لعدم العلة التي ذكرها القاضي .
(2) انظر : تيسير العزيز الحميد ص 26 .
(3) فتح الباري ( 1/8) .
(4) أما شرح التسمية فانظره في مجموع المؤلفات ( 4/9) قسم التفسير . للمصنف رحمه الله .(1/29)
والعلم إذا أطلق في نصوص الشرع فالمراد به العلم الشرعي ، قال ابن حجر – رحمه الله - : " والمراد بالعلم ، العلم الشرعي ، الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عبادته ومعاملاته ، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائض ، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه " (1) قال ابن القيم :
العلم قال اللهُ قالَ رسولُه قال الصحابةُ هم أولو العرفان (2)
قوله : ( رحمك الله ) : دعاء لك بالرحمة ، وكثيراً ما يفعل ذلك – رحمه الله - ؛ وهذا من حسن عنايته ونصحه للأمة ... " لكن لماذا المصنف دائماً في كتبه يقول : اعلم رحمك الله ، ولم يقل : اعلم غفر الله لك ؟ .
الحكمة في ذلك : أن الدعاء بالرحمة أعم ، فإنه يشمل ما مضى وما يقع في المستقبل من الذنوب ، فهو بهذا يدعو لك في الماضي والمستقبل ، وأما قوله : غفر الله لك ، فإنها خاصة بما يقع في الماضي ، ولهذا عدل المصنف عن هذا إلى الدعاء بالرحمة حتى يشتمل المستقبل وإذا حصلت الرحمة حصلت المغفرة من الذنوب برحمة من الله تعالى (3) .
قوله : ( إن التوحيد ) : التوحيد لغة : مصدر وحد يوحد توحيداً ، أي جعل الشيء واحداً ، وهذا لا يتحقق إلا بتحقيق ركني التوحيد وهما : النفي والإثبات ، قال إمام الدعوة رحمه الله : " فقولك لا إله إلا الله نفي وإثبات ، فتنفي الألوهية كلها ، وتثبتها لله وحده ، " (4) فالنفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع من مشاركة الغير في الحكم .
__________
(1) فتح البارئ (1/141) .
(2) انظر النونية في شرح الهراس (2/152) ، وانظر للفائدة : الفوائد لابن القيم ص 138، وبيان فضل علم السلف على الخلف لابن رجب ص 45.
(3) قاله العلامة عبد الله بن حميد – رحمه الله – في شرحه على كشف الشبهات .
(4) انظر مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (6/187) وأيضاً ( 1/371) .(1/30)
وأنواع التوحيد بالنسبة لله عز وجل تدخل كلها في تعريف عام وهو : إفراد الله تعالى بما يختص به .
وقد قسم إمام الدعوة – رحمه الله – التوحيد إلى ثلاثة أقسام (1) فقال : " والتوحيد ثلاثة أصول : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الذات والأسماء والصفات .
الأصل الأول : توحيد الربوبية : وهو الذي أقر به المشركون في زمن رسول لله صلى الله عليه وسلم ولا أدخلهم في الإسلام ، وقاتلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم ، وهو توحيد الله بفعله . .
والأصل الثاني : وهو توحيد الألوهية : فهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه ، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء والرجاء والخوف والخشية . .
الأصل الثالث : وهو توحيد الذات والأسماء والصفات : كما قال تعالى : ( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد * ) [ الإخلاص : 1-4) .
وقوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) [ الأعراف : 180) .
__________
(1) وهذا التقسيم ليس بدعاً من الشيخ بل قد سبقه علماء أجلاء ، قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه التحذير من مختصرات الصابوني ص 30 : " وهذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما ، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وقرره الزبيدي في تاج العروس ، وشيخنا الشنقيطي في أضواء البيان في آخرين رحم الله الجميع ، وهو استقراء تام لنصوص الشرع ، وهو مطرد لدى أهل كل فن كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف ، والعرب لم تفه بهذا ، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب ، وهكذا من أنواع الاستقراء " انظر : كتاب القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد للشيخ عبد الرزاق البدر .(1/31)
وقال تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ الشورى : 11] (1) .
__________
(1) الدرر السنية ( 2/45/46) ، وانظر في الكلام على هذه الأقسام : الدرر ( 1/47- 92- 103) و ( ( 2/45-84-161-202 ) ، ومجموع الرسائل والمسائل النجدية ( 2/2/90) و ( 4/2، 37) ، ومدارج السالكين ( 1/24) ، و ( 3/449) ، واجتماع الجيوش الإسلامية ص 93 ،و بدائع الفوائد ( 1/138) ، والصواعق المرسلة ( 2/401) والتبيان في أقسام القران ص 44 ، وتيسير العزيز الحميد ص 33 ، والمجموع الثمين لابن عثيمين ( 2/7) .(1/32)
قوله : ( هو إفراد العبادة سبحانه وتعالى بالعبادة ) : عرف المصنف ــ رحمه الله تعالى ــ التوحيد بما ينطبق على قسم من أقسامه ، ليبين أهمية هذا التوحيد ، وأنه ركن ركين وأصل أصيل ، فإن عليه مدار الخلاف بين الرسل وأعدائهم ، وهذا مشهور في كلام الله وكلام رسوله وكلام العرب (1) قال الخطابي – رحمه الله – في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( الدعاء هو العبادة ) : " إنه معظم العبادة ، أو أفضل العبادة ، كقولهم : الناس بنو تميم ، والمال الإبل ، يريدون أنهم أفضل الناس أو أكثرهم عدداً أو ما أشبه ذلك ، وأن الإبل أفضل أنواع الأموال وأنبلها ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " يريد أن معظم الحج ، الوقوف بعرفة ، وذلك لأنه إذا أدرك عرفة فقد أمن فوات الحج . ومثل هذا في الكلام كثير " (2) وقد نبه إلى مثل هذا الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ وكان كلامه – رحمه الله – عن إطلاق السنة حيث يقول : ( ... السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم خصت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات ) ثم قال بعد ذلك : ( وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته ، لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن عظيم ، وشرك أكبر كقوله صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة " (3) ويمكن أن يقال : إن المصنف – رحمه الله – عرف التوحيد بما يستلزم أنواع التوحيد الأخرى والله أعلم . وقد بين إمام الدعوة أهمية توحيد العبادة فقال : " اعلم أن التوحيد في العبادة هو الذي خلق الله الخلق لأجله وأنزل الكتب لأجله ، وأرسل الرسل لأجله ، وهو أصل الدين لا يستقيم لأحد إسلام إلا به ، ولا يغفر لمن تركه وأشرك
__________
(1) انظر : مصباح الظلام ص 163.
(2) شأن الدعاء للقحطاني ص 5- 6 ، وانظر فتح الباري ( 11/ 94) وقد نسب هذا الكلام إلى الجمهور ,
(3) انظر : منهج التأسيس ص 16 .(1/33)
بالله غيره ، كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48] . (1) .
[ التوحيد هو دين الرسل جميعاً ]
وهو دينُ الرسل الذي أرسلَهُم اللهُ به إلى عبادِهِ .
قوله ( وهو دينُ الرسل ) : أي التوحيد – الذي هو إفراد الله بالعبادة – دين الأنبياء والرسل جميعاً ، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة سواه ؛ قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أن لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25] ، وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في أمة رسولاً أن اعبدوا الله ) [ النحل : 36] (2) فتبين بما تقدم أن الرسل جميعاً دعوتهم كانت إلى إفراد الرب جل وعلا بالعبادة ، والاختلاف بين الأنبياء إنما هو في الشرائع كما قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم ، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ... ) (3)
قال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) [ الشورى : 13 ] وقال تعالى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزبٍ بما لديهم فرحون ) [ المؤمنون : 51- 53] أهـ (4) وقال تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) [ المائدة : 48] .
__________
(1) الدرر السنية (1/92) وانظر : زاد المعاد ( 1/1، 2) .
(2) الدرر السنية (1/44) ونظر مدارج السالكين ( 3/ 443) .
(3) رواه البخاري ورقمه (3443) ، ومسلم ( 2365) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظ البخاري ومسلم يغاير ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله .
(4) فتاوى شيخ الإسلام ( 11/ 220) .(1/34)
قال ابن كثير – رحمه الله - : " هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في ألأحكام المتفقة في التوحيد ... " أهـ( (1)
قوله : ( الذي أرسلهم الله به إلى عباده ) : فكل أمة من الأمم بعث الله إليها رسولاً ، قال إمام الدعوة – رحمه الله – : " ما من أمة من الأمم إلا وبعث الله فيها رسولاً يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك ؛ كما قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] وقال تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر : 24] وقال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء : 15] وأعظم ما أمروا به توحد الله بعبادته وحده لا شريك له وإخلاص العبادة له ، وأعظم ما نهوا عنه الشرك في العبادة " (2)
وقد أرسل الله تعالى الرسل لغاية ، قال إمام الدعوة رحمه الله : " وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين ، والدليل قوله تعالى : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ النساء : 165] (3) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم ( 3/121) ، وانظر ( 1/270) وفتح المجيد ص 32 – 33.
(2) الدرر السنية ( 1/96) .
(3) الدرر السنية ( 1/91، وانظر 110، 121) .(1/35)
وإرسال الرسل من النعم العظيمة التي يمن الله بها على عباده ؛ قال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [ آل عمران : 164] ، فإنه " لا سبيل إلى السعادة والفلاح – لا في الدنيا ولا في الآخرة – إلا على أيدي الرسل ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم ن فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق ، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال ، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها ، والروح إلى حياتها ، فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير ، وما ظنك بمن إذا غاب عند هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك ، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة ، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال ، بل أعظم ، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي وما لجرح بميت إيلام " (1) )
[ زمن حدوث الشرك وسببه ]
فأولهم نوحٌ عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسواعا ويغوث ويعوق ونسراً ، وآخر الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين .
__________
(1) زاد المعاد (1/69 ) والصواعق المرسلة (1/150) ت ز على الدخيل الله ، وانظر الفتاوى ( 19/ 93، 96 ) وما بعده .(1/36)
قوله : ( فأولهم نوح عليه السلام ) : قال إمام الدعوة –رحمه الله - : " والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) [ النساء : 163] (1) ومن الأدلة أيضاً حديث الشفاعة : ( فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ) (2)
__________
(1) - الدرر السنية (1/91) .
(2) - أخرجه البخاري ورقمه (3340) ومسلم ( 327) وقد استشكل ذلك بأمرين كما ذكر ابن حجر في الفتح ( 6/372) : الأول : بآدم عليه الصلاة والسلام ، ووجه الإشكال أن نبي فكيف نوح أول رسول ؟ الثاني : استشكل أيضاً بإدريس عليه الصلاة والسلام هل كان قبل نوح أو بعده ؟ انظر في هذا للفائدة : المجموع الثمين ( 2/148) .(1/37)
قوله:( أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسُواعاً ، ويغوث ويعوق ونسراً ) : بين إمام الدعوة - رحمه الله – متى حدث الشرك ، وسببه ؛ فأما زمن حدوثه: فأول ما ظهر الشرك في قوم نوح على المشهور ، قال المصنف – رحمه الله - : " لما مات آدم بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم ، دين الإسلام ، ثم كفروا بعد ذلك ، وسبب كفرهم : الغلو في حب الصالحين كما ذكر الله تعالى في قوله ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ) [ نوح : 23] . وذلك أن هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم ، فماتوا في شهر ، فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم ، فصوروا صورة كل رجل في مجلسه ، لأجل التذكر بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم ، ولم يعبدوهم ، ثم حدث قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم من قبلهم ، ولم يعبدوهم ، ثم طال الزمان ، ومات أهل العلم ، فلما خلت الأرض من العلماء ألقى الشيطان في قلوب الجهال أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم إلا ليشفعوا بهم إلى الله ، فعبدوهم . فلما فعلوا ذلك أرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام ليردهم إلى دين آدم وذريته ، الذين مضوا قبل التبديل ، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه " (1)
__________
(1) - مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( 4/ 9- 10 ) ، وانظر أيضاً من مؤلفات الشيخ (4/ 68 ) .(1/38)
وأما سبب وقوعهم في الشرك : فبينه المصنف بقوله : " لما غلوا في الصالحين " (1) وهو أول شرك بني آدم (2) وقال المصنف – رحمه الله – في كتابه " كتاب التوحيد " : " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغول في الصالحين " (3) ، وقول الله عز وجل : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) [ النساء : 171]
الغلو : هو الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد : أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله ، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله ، والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمم ، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى واليهود في عزير ، كما قال تعالى ك ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) [ الحديد : 16] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم (4)... ) (5) .
__________
(1) - انظر إلى كلام شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى ( 14/ 363) ففيه بيان أن هذا هو أصل الشرك ، وانظر الضياء الشارق ص 430.
(2) - انظر مجموع الفتاوى ( 14/363) والغلو عرفه شيخ الإسلام بقوله : " مجاوزة الحد بأن يزاد في حمده أو ذمه على ما يستحق ، ونحو ذلك " اقتضاء الصراط المستقيم ( 1/127) .
(3) - انظر فتح المجيد ص 297 .
(4) - رواه البخاري ورقمه ( 3445) .
(5) - فتح المجيد ص 297 .(1/39)
وروى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والغلو ، فإنما أهلك من كان من قبلكم الغلو ) (1) وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ؛ أما ود : كانت لِكَلْبٍ بدومة الجندل ، وأما سواع : كانت لهذيل ، وأما يغوث : فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ ، وأما يعوق : فكانت لهمدان ، وأما نسر : فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم . ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عبدت ) (2)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله – : " قوله عُبِدتْ " : لما قال لهم إبليس : إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر ، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها فصار هو معبودهم في الحقيقية كما قال تعالى ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون ) [ يس : 60- 62 ] وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك ، وإن القصد بها حسناً ، فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين ، والإفراط في محبتهم ، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة ، أظهر لهم.
الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ، ليوقعوهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله " (3) .
__________
(1) - رواه أحمد ( 1/15 ، 347) والنسائي ( 5/268 ) ، وابن ماجه ( 3029) ، والبيهقي ( 5/127) ، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ( 1/ 286) إسناده صحيح على شرط مسلم .
(2) - رواه البخاري برقم ( 4920) .
(3) فتح المجيد ص 300.(1/40)
قوله: ( وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - ) : نصوص الكتاب والسنة قاطعة بذلك ؛ قال إمام الدعوة – رحمه الله - : " الدليل على أنه رسول الله قوله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن ما مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } [ آل عمران : 144] ودليل آخر قوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً } [ الفتح : 29] ، والدليل على النبوة قوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [ الأحزاب : 40] وهذه الآيات تدل على أنه نبي ، وأنه خاتم الأنبياء ، والدليل على أنه من البشر ، قوله تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } [ الكهف : 110] ......... وآخرهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -" (1) وقد بين المصنف –رحمه الله – أن النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثه الله إلى الناس كافة ، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس ؛ والدليل قوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } [ الأعراف : 158] وأكمل الله به الدين ؛ والدليل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3] والدليل على موته - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30] (2) .
ومدلولات ختم النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -عديدة منها :
__________
(1) - الدرر السنية ( 1/96) .
(2) - الدرر السنية ( 1/90) .(1/41)
عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -إلى الناس كافة ، وهذا المعنى دلت عليه آيات عديدة ، منها قوله سبحانه : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } [ الأعراف : 158] ، وقوله : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } [ سبأ : 28] وقوله : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام : 19] وهذا الأمر قد تجد في عصرنا الحاضر من يجادل فيه ، وما الدعوة إلى الحوار بين الأديان ، إلا رفض لهذه القضية الكبرى ؛ وهي ختم الرسالة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وعموم رسالته .
أن هذه الشريعة التي أتى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -شريعة كاملة لا تحتاج إلى إكمال ولا إتمام من أي شريعة كانت ، أو مناهج شرقية أو غربية مقتضاه صلاحية هذا الدين لتطبيقه في كل زمان ومكان ؛ فأولئك الذين يتحدثون مثلاً عن أن الإسلام تعداه الزمن وأنه لا يمكن تطبيق الإسلام ، هؤلاء يطعنون في الإسلام ، ويطعنون في ختم النبوة ، ويطعنون في كمال شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لذا كان لزاماً على الدعاة أن تكون هذه القضية من القضايا المسلمة اليقينية في قلوبهم ، التي لا يمكن أن تتأثر بتلك المؤثرات الإعلامية " (1) .
__________
(1) - قاله الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود – حفظه الله تعالى – في شريط له بعنوان ( مقدمة في العقيدة ) بتصرف .(1/42)
قوله : ( وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين ) : أي صور ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، الذين كانوا في زمن نوح ، ثم صارت تماثيلهم في العرب ، كما قال ابن عباس : " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد .." (1) والذي كسرها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في عام الفتح ؛ كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -قال : ( دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً فجعل يطعنها بعود كان بيده ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } [ الإسراء : 81] { جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } [ سبأ : 49] زاد ابن أبي عمر – أحد رواة مسلم - : يوم الفتح ) (2) وكسر الأوثان من المهام التي كلّف الله تعالى بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -كما روى مسلم ذلك في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي - رضي الله عنه -قال : " كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة ،وأنهم ليسوا على شيء – وهم يعبدون الأوثان – فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا ، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً جراء عليه قومه ، فتلطفت عليه حتى دخلت عليه بمكة فقلت له : ما أنت ؟ قال ( أنا نبي ) ، قلت : وما نبي ؟ قال ( أرسلني الله ) ، فقلت : وبأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أرسلني بصلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وان يوحد الله لا يشرك به شيء ... ) الحديث (3) قال إمام الدعوة – رحمه الله - : " فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية والدعوة النبوية هي توحيد الله
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (4920) .
(2) - متفق عليه : رواه البخاري في عدة مواضع منها : كتاب المغازي باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح ، ح ( 4287) ، ومسلم – واللفظ له – كتاب الجهاد والسير ، ح 1781، وانظر كلام ابن حجر في الفتح عند شرحه للحديث 4287، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (4/74) .
(3) - رواه مسلم ( 832) .(1/43)
بعبادته وحده لا شريك له ، وكسر الأوثان .. " (1).
[ بيان بعض ما كان عليه أهل الجاهلية ]
أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله
قوله : ( أرسله الله إلى أناس يتعبدونَ ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله ) : بين إمام الدعوة النجدية – رحمه الله – أن النبي - صلى الله عليه وسلم -بُعث وأُرسل إلى أناس صفتهم أنهم يتعبدون ويحجون ويتصدقون (2)، وقد بين القرآن والسنة هذا الأمر ؛ فيقول الله عز وجل في بيان أن للمشركين محبة لله لكنها ليست خالصة : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165] قال شيخ الإسلام : " إنما ذموا بأن شرَكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوا لله كمحبة المؤمنين له" (3)
__________
(1) - مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
(2) - انظر الدرر السنية . (2/65) وما بعده ، فقد فصّل ذلك – رحمه الله -
(3) - - نقلا عن فتح المجيد ص 469، وانظر جامع الرسائل (2/255) .
- رواه البخاري ( 2032) .(1/44)
... ومما ورد في عباداتهم ما جاء في الصحيح من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن عمر - رضي الله عنه -سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -قال : كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام ، قال : ( فأوف بنذرك ) (1) ، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان المشركون يقولون : لبيك لا شريك لك ، قال فيقول رسول - صلى الله عليه وسلم -: ( ويلكم قد قد ) فيقولون : إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ؛ يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت " رواه مسلم (2) . وأما الصوم ؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية ... " الحديث (3) . وأما الصدقة فروى البخاري أيضاً في صحيحه من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -قال : " قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة ومن صلة رحم فهل فيها من أجر ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( أسلمت على ما أسلف من خير ) " (4) وفي رواية له : " أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة ، وحمل على مائة بعير فلما أسلم حمل على مائة بعير وأعتق مائة رقبة قال : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أصنعها في الجاهلية أتحنث بها – يعني أتبرر بها – قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( أسلمت على ما سلف لك من خير ) (5)
[ بيان شرك الأولين ]
ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله عز وجل ، يقولون : نريدُ منهم التقرب إلى الله تعالى ، ونريدُ شفاعتهم عنده ، مثل الملائكة ، وعيسى ، ومريم ، وأناسِ غيرهم من الصالحين .
__________
(1) - رواه البخاري ( 2032) .
(2) - رواه مسلم (8/90) مع شرح النووي ورقمه (1185) .
(3) - رواه البخاري (7/147 الفتح ) ، ح ( 3831) .
(4) - رواه البخاري ح (1436) .
(5) - رواه البخاري ح( 2538)(1/45)
قوله : (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله عز وجل ؛ يقولون : نريدُ منهم التقرب إلى الله تعالى ، ونريدُ شفاعتهم عنده) : بيّن إمام الدعوة – رحمه الله – سبب تكفير الله لهؤلاء ، مع أنهم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله ؛ حيث قال : ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله . وقد وضح المصنف رحمه الله أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما قصدوا من قصدوا بعبادتهم إلا لأجل التقرب والشفاعة منهم إلى الله ، وأنه عز وجل نزه نفسه عن أن يتخذ من دونه ولي أو شفيع ، بل أمرنا بالإخلاص ، وهو أن لا نجعل له واسطة ، فلا نستغيث ولا نستعين إلا به ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) [ الزمر : 3 ] . (1)
وقد حكى العلماء الإجماع على كفر من جعل بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله ، قال شيخ الإسلام : " فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار ؛ مثل أن يسألهم غفران الذنوب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب ، وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين " (2). ويقول سليمان بن عبد الله آل الشيخ – رحمه الله – معلقاً على الإجماع : " وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين ، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة ، وغيرهم في حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر ، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات ... " (3) .
__________
(1) - الدرر السنية ( 2/24) .
(2) - الفتاوى (1/124) ، وانظر : الإنصاف (10/ 327) ، وكشاف القناع ( 6/168) ، والفروع ( 3/553) ، والصارم المنكي ص 436.
(3) - تيسير العزيز الحميد ص 229.(1/46)
فالمصنف بيّن فيما مضى تعريف التوحيد ، وأنه دين الأنبياء جميعاً ، ثم بيّن ووضح حالة الناس الذين بُعثَ فيهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله تمهيد لبيان الفرق بين التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، وبين ما عليه المشركون من الشرك ، وأراد بذلك أن يتوصل إلى تطبيق ذلك على الواقع الذي يعيش فيه رحمه الله . فهذا منهج ومسلك يضعه المنصف لمن أراد الجدل مع مشرك والله أعلم .
[ بيان السبب الذي من أجله بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ]
فبعثَ اللهُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ُجدد لهم دينَ أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ويُخبرهُم أن هذا التقرب والاعتقاد محضُ حق الله تعالى ؛ لا يصلح منه شيء لغير الله ، لا لمَلكٍ مقرب ولا لنبي مُرسلٍ فضلاً عن غيرِهما .
قوله ( فبعث اللهُ محمدا ً - صلى الله عليه وسلم - ) : بيّن المصنف – رحمه الله – السبب من بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هؤلاء مع أنهم يتعبدون ، وهو أنهم جعلوا بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله ، فأرسله ليجدد لهم دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، قال تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ الجمعة : 2] قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن : " اقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب ، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه في نهيهم عنها " (1) .
__________
(1) - فتح المجيد .(1/47)
قوله : ( يُجدد لهم دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام -) : عبارة المؤلف – رحمه الله – دقيقة ؛ حيث قال : ( يجدد لهم دين أبيهم ) ، فهم إذن يدّعون أنهم على دين إبراهيم - عليه السلام -، وهذا واضح من فعلهم بعض العبادات التي تقدم بيان شيء منها ، ومما يدل على ذلك أيضاً قصة عمرو بن لحي وتغييره دين إبراهيم - عليه السلام -، فقد كانوا قبل عمرو بن لحي على الحنفية حتى جاء بأصنام فعبدت من دون الله ؛ قال إمام الدعوة ، " وكانت الجاهلية على ذلك ، وفيهم بقايا من دين أبيهم لم يتركوه كله ، وأيضاً يظنون أن ما هم عليه ، وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة لا تغير دين إبراهيم ، وكانت تلبية نزار : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ... " (1) ومعرفة هذا تفيدنا فائدة عظيمة في الرد على مشركي زماننا الذين قالوا إن الذين نزل فيهم القرآن لا دين لهم ، ونحن لنا دين ونشهد بالشهادتين ، فيُجاب عليهم ، أن كفار قريش كانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم ، ومع ذلك فقد كفرهم الله في كتابه .
وسيأتي مزيد إيضاح لهذه الشبهة .
[ بيان أن هؤلاء المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ]
وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له ، وانه لا يرزق إلا هو ، ولا يحيي ولا يميت إلا هو ، ولا يدبر الأمر إلا هو ، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن ، والأرضين السبع ومن فيهن ، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره .
__________
(1) - انظر مختصر سيرة الرسول ص 11لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، وانظر مؤلفات الشيخ ( 4/71) . وتفسير ابن كثير ( 1/237) .(1/48)
قوله : ( وإلا فهؤلاء ... تصرفه وقهره ) : بيّن المصنفُ – رحمه الله- أن هؤلاء المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كانوا مقربين بتوحيد الربوبية ، بل جمهور الأمم قد أقر بهذا التوحيد ، ولم ينكر ذلك إلا شواذ الخلق ، قال قتادة – رحمه الله – : " الخلق كلهم يقرون الله أنه ربهم ثم يشركون بعد ذلك " (1) وقال ابن قتيبة – رحمه الله - : " فلست واجداً أحداً إلا وهو مقر بأنه له صانعاً ومدبراً ، وإن سماه بغير اسمه ، أو عبد شيئاً دونه ليقربه منه عند نفسه ، أو وصفه بغير وصفته ، أو أضاف إليه ما تعالى عنه علواً كبيراً ، قال تعالى : { ولئن سألتم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } [ الزخرف : 87] ، (2)وقال العلامة أحمد المقريزي رحمه الله ( ت 845هـ ) : " فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها ، وتوحيد الإلهية، مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين؛ولهذا كانت كلمة الإسلام : لا إله إلا الله ، ولو قال لا رب إلا الله لما أجزأه عند المحققين " (3) وهذا الجحود هو في الحقيقة جحود في الظاهر فقط كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14] .
- - -
[ بيان الأدلة على إقرار الكفار بتوحيد الربوبية ]
__________
(1) - الدرر المنثور ( 4/120) .
(2) - مختلف الحديث ص 122.
(3) - تجريد التوحيد المفيد ص 21 تحقيق على بن حسن ، ط الأولى دار عمار .(1/49)
فإذا أرادتَ الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يشهدون بهذا فأقرأ قوله تعالى { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } [ يونس : 31 ] . وقوله : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون : 84- 89] وغير ذلك من الآيات .(1/50)
قوله : ( فإذا أردت الدليل .. وغير ذلك من الآيات ) : إقرار المشركين بتوحيد الربوبية يفيدنا في الاحتجاج عليهم ؛فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الألوهية ، قال ابن القيم رحمه الله : ( والألوهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها هي العبادة والتأليه ، ومن لوازمها : توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون فاحتج الله عليهم به ؛ فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية " (1) وقال الحافظ ابن رجب – رحمه الله - : " ... فإن من تفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا ، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة ، مستحق أن يفرد بالألوهية والعبادة والسؤال والتضرع والاستكانة قال تعالى : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } ) [ الروم : 40] (2) وقال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – " ... يكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته ، ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير ، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ، ووبخهم منكراً عليهم شركهم به مع اعترافهم ، بأنه هو الرب وحده ، لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده ... " (3)
[ بيان أن إقرار الكفار بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام ]
إذا تحققت أنهم مقرون بهذا ، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
---
قوله : ( إذا تحققت أنهم مقرون بهذا ) : أي مقرون بتوحيد الربوبية .
__________
(1) - إغاثة اللهفان ( 2/135) .
(2) - جامع العلوم والحكم (2/284) .
(3) - أضواء البيان (3/411) .(1/51)
قوله : (وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : بيّن المصنف – رحمه الله – أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي في عصمة الدم والمال والعرض ، فقد أقر إبليس به ( قال رب بما أغويتني ) [ الحجر : 39] وأقر المشركون به ، ومع ذلك لم يدخلهم هذا الإقرار في الإسلام ، ولم يحرم دماءهم وأموالهم ، حتى يقروا بتوحيد الألوهية ، فبين هذين النوعين تلازم ، فالإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية ، فمن عرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع أمره وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له ، والإقرار بتوحيد الألوهية يتضمن الإقرار بتوحيد الربوبية ، فمن عبد الله عز وجل ووحده فلا بد أن يكون قد اعتقد انه هو ربه وخالقه .
ومن هنا يتبين لك أهمية توحيد الربوبية في كونه يعتبر دليلاً لإثبات توحيد الألوهية ، قال إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - : " فأما توحيد الربوبية فهو الأصل ولا يغلط في الألهية إلا من لم يعطه حقه " (1) وقال أيضاً : " فاعلم أن أهم ما فرض الله على العباد معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه ومدبره بإرادته ، فإذا عرفت هذا فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتأله المتضمن للذل والخضوع لأمره ونهيه ، وذلك قبل فرض الصلاة والزكاة ، ولذلك يعرف عباده بتقرير ربوبيته ليرتقوا بها إلى معرفة إلهيته التي هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً ، علماً وعملاً جملة وتفصيلاً " (2) .
[ بيان التوحيد الذي جحده المشركون الأولون ]
وعرفتَ أن التوحيدَ الذي جحدوه هو توحيدُ العبادةِ ، الذي يُسميه المشركون في زماننا [ الاعتقاد ] .
__________
(1) - الدرر ( 2/43) .
(2) - الدرر ( 1/80)(1/52)
--- قوله : ( وعرفتَ أن التوحيدَ الذي جحدوه هو توحيدُ العبادةِ ) : وهذا هو الغالب ؛ أن شرك المشركين يكون في توحيد العبادة ، وهو التوحيد الذي جحده المشركون ، وقد يقع إشراكهم في توحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، فمن الثاني – توحيد الربوبية – ما جاء في الصحيحين من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه قال : (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال : بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ) (1)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله - " قوله : ( أصبح من عبادي ) : الإضافة هنا للعموم ، بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر ، كقوله تعالى : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) [ التغابن : 2]
وقوله : ( مؤمن بي وكافر ) : إذا اعتقد أن للنوء تأثيراً في إنزال المطر فهذا كفر لأنه أشرك في الربوبية ؛ والمشرك كافر ، وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر لأنه نسب نعمة إلى غيره "(2) .
أما توحيد الأسماء والصفات ، فقد أنكر المشركون اسم الرحمن كما في قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً ) [ الفرقان : 60] قال ابن كثير – رحمه الله - : " كانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه ( الرحمن ) كما أنكروا ذلك يوم الحديبية (3) حين قال صلى الله عليه وسلم للكاتب : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ، ولكن اكتب كما نكتب : باسمك اللهم " (4) .
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه ( 846) ومسلم ورقمه (125) .
(2) - فتح المجيد ص 459.
(3) - أخرجه البخاري ورقمه ( 2731، 2732) .
(4) - تفسير ابن كثير ( 6/129 ) .(1/53)
أما الصفات : فقد أنكروا على سبيل المثال صفة القدرة حيث أنكروا قدرة الله على إعادتهم بعد موتهم ، قال تعالى : ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ) [ يس : 78] .
قوله : ( الذي يسميه المشركون في زماننا [ الاعتقاد ] ) : أي يسمون توحيد الألوهية بالاعتقاد ؛ وذلك لأنهم يفسرون توحيد الألوهية بأنه اعتقاد أن الله تعالى هو الخالق والرازق والمحيي المميت والنافع والضار وحده ، ففسروا توحيد الألوهية بنفس معنى توحيد الربوبية ، وكأن المصنف – رحمه الله – يريد بهذا الإشارة إلى أن العبرة بالحقائق لا بالأسماء ، قال الشيخ ابن سحمان – رحمه الله – : " من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها ، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها ، كتسمية عبادة غير الله ، توسلاً وتشفعاً ، أو تبركاً وتعظيماً للصالحين وتوقيراً ، فإن الاعتبار بحقائق الأمور لا بالأسماء والاصطلاحات والحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً لا مع الأسماء " (1)
[ بيان تنوع معبودات المشركين ]
وكانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً ، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجلِ صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له ، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل
اللات (2) أو نبياً مثل عيسى ،
---
__________
(1) - الضياء الشارق ص 408.
(2) - اللات – بتشديد التاء – اسم لرجل كان يلت السويق للحجاج في الجاهلية على صخرة بالطائف ، ولما مات عُبد من دون الله ، قال تعالى : ( أفرأيتم اللات والعزى ) [ النجم : 19] ، وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان اللات رجلاً يلتُ سويق الحاج – رواه البخاري برقم (4859) – وأما اللات بالتخفيف : فهي الصخرة التي كان يلت عليها .(1/54)
قوله ( وكانوا يدعون الله ... مثل عيسى ) : أرد المصنف رحمه الله بذكر معبودات المشركين في قوله ك " ثم منهم من يدعو الملائكة ... " الرد على مشركي زمانه ؛ حيث إنهم يدّعون أن المشركين الأولين كانوا يجعلون واسطتهم أحجاراً وأصناماً وكواكب ، أما نحن فنجعل الواسطة أناساً صالحين من أنبياء وأولياء وملائكة ، فكيف تساوون بين الأصنام والصالحين ؟ فبيّن المصنف أن المشركين الأولين أيضاً كانوا يدعون الأولياء والصالحين ، ومع هذا حكم الله بكفرهم جميعاً ، وقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم .. وقد وضّح ذلك – رحمه الله – في موضع آخر فقال : " ... النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم : منهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم ؛ والدليل قوله تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [ الأنفال : 39] فدليل الشمس والقمر : قوله تعالى ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) [ فصلت : 37] ودليل الملائمة : ( يوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 40- 41] .(1/55)
ودليل الأنبياء : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ) [ المائدة : 116] ودليل الصالحين قوله تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ) [ الإسراء : 56] ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى ( أفرأيتم اللات والعزي * ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19- 20] (1).
[ بيان سبب قتال الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين ]
وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله كما قال تعالى : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن : 18] وقال تعالى : ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ) [ الرعد : 14] وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله ، والنذر كله لله ، والذبح كله لله ، والاستغاثة كلها بالله ، وجميع أنواع العبادة كلها لله .
---
قوله : ( وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ) : بيّن المصنف – رحمه الله – سبب قتال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وهو أنهم أشركوا في العبادة ، فمن ذلك أنهم صرفوا الدعاء لغير الله تعالى ، والدليل على قتالهم قوله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ) (2) .
__________
(1) -الدرر السنية (2/18) وانظر : نفس المصدر (1/321)
(2) - رواه البخاري ورقمه (25) ومسلم ورقمه ( 22) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .(1/56)
وقوله : ( ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله كما قال تعالى : ( فلا تدعو مع الله أحداً ) [ الجن : 18] ... ) قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : : هذه الآية وأمثالها تقطع شبهة كل من دعا غير الله ، من ميت أو غائب " (1)
وقوله : ( وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاءُ كله لله ... ) : ومعنى الدعاء كما قال المصنف – رحمه الله - : " هو الطلب بياء النداء – لأنه ينادى به القريب والبعيد ، وقد يستعمل في الاستغاثة – أو بأحد أخواتها " (2) وبدأ المصنف بالدعاء لأنه من أجل الطاعات وأفضل العبادات ، وقد اعتنى القرآن الكريم ببيان موضوع الدعاء بياناً شافياً ، وهذا الاهتمام كان لأسباب من أبرزها :
أن هذه المسألة – دعاء غيرا لله تعالى – أعظم مسألة خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المشركين ، فإنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته (3) ..
أن أغلب شرك الأوائل الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كان في الدعاء ؛ فالشرك في الدعاء هو الأكثر انتشاراً ووقوعاً بينهم من أنواع الشرك الأخرى كالنذر والذبح والطواف وغير ذلك من أنواع الشرك في الألوهية والعبادة ؛ وذلك لأن هذه الأمور لا يمكن وقوعها كل وقت وزمان ولا في كل مكان ، كما أن الحاجة إليها أقل من الحاجة إلى الدعاء (4) ..
__________
(1) - القول الفصل النفيس ص 89.
(2) - مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (6/104) .
(3) - انظر المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية ( لمحمد بن عبد الوهاب ) شرح يوسف السعيد (1/90) .
(4) - انظر : الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية للعروسي ( 1/298) .(1/57)
ج- أن الله سبحانه وتعالى لم يحذر في كتابه العزيز عن أي نوع من أنواع الشرك مثل ما حذر عن الشرك في الدعاء ؛ قال الشيخ حمد بن ناصر بن مُعمر – رحمه الله - : " لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه " (1) .
وقد قسم العلماء الدعاء إلى قسمين: دعاء عبادة ودعاء مسألة (2)
فالأول : دعاء عبادة : وهذا يكون بأي نوع من أنوع العبادة كالصلاة والصوم ، فإذا صلى أو صام فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له وأن يجيره من عذابه . وصرف هذا النوع لغير الله شرك أكبر مخرج من الملة ؛ قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً ) [ الجن : 18] وقال سبحانه ( فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين ) [ الشعراء : 213] ، قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار ) (3) .
الثاني : دعاء مسألة : وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر . وهذا القسم فيه تفصيل :
إن كان المدعو : حياً ، حاضراً ، سميعاً ، قادراً على ذلك ، فليس بشرك ، كقولك :اسقني ماء لمن يستطيع ذلك ؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه ( ... ومن دعاكم فأجيبوه ) (4) .
إن كان المدعو : ميتاً ، أو غائباً ، لا يسمع ، أو غير قادر والداعي يعلم ذلك ، فدعاؤه شرك مخرج من الملة (5)
__________
(1) - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية . ( 4/602) .
(2) - مجموعة فتاوى شيخ الإسلام (1/69) . ، (10/ 237) وانظر : جلاء الأفهام ص 18.
(3) - رواه البخاري ورقمه (4497) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(4) - رواه أحمد في المسند (7/159) ط أحمد شاكر ، والحاكم (1/412) ، وصححه ووافقه الذهبي .
(5) - استفدت بعضه من المجموع الثمين للشيخ محمد بن عثيمين (2/122) وحاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم ص 36(1/58)
قوله : ( والنذر كله لله ) : النذر جمعه نذور ، وهي مصدر نَذَرَ ونذِر وأنذر، إيجاب الفعل المشروع على النفس بالقول تعظيماً لله تعالى (1)
والنذر عبادة يجب إخلاصها لله تعالى ؛ قال تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيراً ) [ الإنسان :7 ) ، ووجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى مدح الموفين بالنذر ، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب ، أو ترك محرم ، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة ، فمن فعل ذلك لغير الله متقرباً إليه فقد أشرك (2) فمن نذر لغير الله كالنذر للولي أو لصنم أو شجر أو شمس أو قمر فقد أشكر في العبادة ، وقد عقد الشيخ صديق حسن عنواناً في كتابه ( الدين الخالص ) مفاده : إجماع علماء المذاهب الأربعة على كفر من يدعو غير الله وبطلان النذور والذبائح للأضرحة (3) .
وممن نقل ذلك : الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله (4) وممن حكى الإجماع : الشيخ قاسم الحنفي في " شرح درر البحار " فقال : " النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد ، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة ويقول : يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي ، فلك من الذهب كذا أو الفضة كذا ، أو من الطعام كذا أو من الماء ومن الشمع والزيت كذا ، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه :
منها : أنه نذر لمخلوق ، والنذر لمخلوق لا يجوز ؛ لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق .
ومنها : أن المنذور له ميت والميت لا يملك .
__________
(1) - أنظر : معجم لغة الفقهاء ص 477.
(2) - انظر : تيسير العزيز الحميد ص 203.
(3) - انظر الدين الخالص (4/97) .
(4) - فتح المجيد ص 212.(1/59)
ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله ، واعتقاد ذلك كفر " إلى أن قال : " إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليهم فحرام بإجماع المسلمين (1)
قوله : ( والذبح كُلُّهُ لله ) : الذبح :إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ، وهو من أجل العبادات وأفضل القربات التي يتقرب بها العبد لربه عز وجل ؛ ولذا قرن الله بينها وبين الصلاة حينما أمر الله نبيه بقوله : ( فصل لربك وانحر ) [ الكوثر : 2] لأن أفضل العبادات البدنية الصلاة ، وأجل العبادات المالية النحر ، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه أرباب القلوب الحية ، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين ، وحسن الظن أمر عجيب ، وكان صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة ، كثير النحر (2) ولكن خلفت من بعدهم خلوف بدلوا نعمة الله كفراً ، فصرفوا هذه العبادة الجليلة إلى غير لله تعالى؛ إلى أموات لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا نشوراً ، قال إمام الدعوة – رحمه الله – " فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده ، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له ) [ الأنعام : 162، 163] والنسك هو الذبح ، وقال تعالى : ( فصل لربك وانحر ) فتفطن لهذا ، واعلم أن من ذبح لغير الله من جني أو قبر فكما لو سجد له ، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال : ( لعن الله من ذبح لغير الله (3) ... ) (4).
والذبح يكون على ثلاثة أوجه :
__________
(1) - نقلا من التبسير ص 206.
(2) - تيسير العزيز الحميد ص 135.
(3) رواه مسلم ورقمه (1978)
(4) الدرر السنية (2/70) .(1/60)
الأول : أن يقع عبادة بأن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه ؛ فهذا لا يكون إلا لله تعالى ، وصرفه لغير الله يكون شركاً أكبر . وقد ذكر إبراهيم المروزي : " أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه ، لأنه مما أهل به لغير الله " (1) .
الثاني : أن يقع إكراماً لضيف أو وليمة لعرس أو نحو ذلك ، فهذا مأمور به إما وجوباً ، أو استحباباً لقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : " أولم ولو بشاة " (3) .
الثالث : أن يقع على وجه التمتع بالأكل أوالاتجار به ونحو ذلك ؛ فهذا من القسم المباح ، فالأصل فيه الإباحة لقوله تعالى : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ) [ يس : 71- 72 ] وقد يكون مطلوباً أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة له (4) .
قوله : ( والاستغاثة كلُها بالله ) : الاستغاثة هي : طلب الغوث (5) أي النصرة .. وسيأتي إن شاء الله مزيد بحث فيها .
قوله : ( وجميعُ أنواعِ العبادةِ كُلُها للهِ ) : وقد نوع الله تعالى العبادة إلى أنواع كثيرة كلها شرطها الأساسي أن تكون لله تعالى ؛ قال تعالى ( فاعبد الله مخلصا له الدين ) [ الزمر : 2] ، وقد بيّن الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني أنواع العبادة فقال : " اعلم أن الله تعالى جعل العبادة أنواعاً :
__________
(1) - الدين الخالص (2/254 ) .
(2) - رواه البخاري ورقمه ( 6018) . من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) - رواه البخاري ورقمه ( 2048 ) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .
(4) - انظر : شرح الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عثيمين ص 62 بتصرف .
(5) - المصباح المنير ص 231.(1/61)
اعتقادية : وهي أساسها ؛ وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر ، وبيده النفع والضر ، وأنه الذي لا شريك له ، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية .
ومنها لفظية : وهي النطق بكلمة التوحيد ...
وبدنية كالقيام والركوع والسجود في الصلاة ، ومنها الصوم والحج والطواف .
ومالية كإخراج جزء من المال امتثالاً لما أمر الله تعالى به .
وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة ، لكن هذه أمهاتها " (1)
[ التأكيد على القاعدتين الأساسيتين ]
وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وأن قصدَهُمُ الملائكةَ والأنبياءَ والأولياءَ ، يُريدونَ شفاعتَهم والتقربَ إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالَهم .
قوله : ( وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام ) : المؤلف
__________
(1) - تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ص 13 تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله .(1/62)
_ رحمه الله _ يؤكد على القاعدة الأساسية الأولى وهي : إقرار الكفار بتوحيد الربوبية ، وأن هذا الإقرار لم يدخلهم في الإسلام ، لأن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ – رحمه الله – (1) وقال : أيضاً : " ... هذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام ، بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية ؛ لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده .. " ثم ذكر الآيات وقال : " فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده لم يكونوا بذلك مسلمين ، بل قال تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [ يوسف : 106] ، قال مجاهد في الآية : إيمانهم بالله قولهم : إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا؛ فهذا إيمانهم مع شرك عبادتهم غيره ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ..فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته ، وملكه وقهره ، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعاً من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك .. فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم ، وسبي نسائهم ، وإباحة أموالهم ، مع هذا الإقرار والمعرفة ، وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله " (2)
وقوله : ( وإن قصدَهُمُ الملائكةَ والأنبياء والأولياء ، يُريدون شفاعتَهم والتقربَ إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالَهم ) : وهذه هي القاعدة الثانية وهي : بيان أن قصدهم الأنبياء والصالحين بالدعاء والعبادة ، يريدون الشفاعة منهم والتقرب إلى الله بذلك وأن هذا هو الذي أحل دماءهم وأموالهم .
[ بيان معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ]
__________
(1) - تيسير العزيز الحميد . ص 20.
(2) - تيسير العزيز الحميد ص 20- 21بتصرف(1/63)
عرفتَ حينئذٍ التوحيدَ الذي دعتْ إليه الرسلُ ، وأبى عن الإقرارِ به المشركون ؛ وهذا التوحيدُ هو معنى قولِك : لا إله إلا الله ،
---
قوله : ( عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعتْ إليه الرسلُ ، وأبى عن الإقرار به المشركون ) : وهذه المعرفة انبثقت من معرفة القاعدتين الأساسيتين المتقدمتين آنفاً ، فإذا عُلمنا عُرف التوحيد الذي دعت إليه الرسل ؛ وهو إفراد الله سبحانه بالعبادة كما عرفه المصنف في أول الكتاب .
قوله : ( وهذا التوحيدُ هو معنى قولِك : لا إله إلا الله ) : أي توحيد العبادة هو معنى قولك لا إله إلا الله ، فإن المألوه هو المقصود المعتمد عليه ، وهذا أمر هين عند من لا يعرفه ، كبير عظيم عند من يعرفه . وقد بين المصنف – رحمه الله – معنى لا إله إلا الله لغة فقال : " لا " هذه النافية للجنس ن فنفى جميع الآلهة ، و " إلا " حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل ، و" الإله " اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، وهو الله تعالى ، وهو الذي يخلق ويرزق ، ويدبر ، ( والتأله ) التعبد .. " (1) وقال أيضاً – رحمه الله - "اعلم رحمك الله أن معنى لا إله إلا الله نفي وإثبات ، ( لا إله ) نفي ، و ( إلا الله ) إثبات ، تنفي أربعة أنواع ، وتثبت أربعة أنواع ، المنفي : الآلهة ، والطواغيت ، والأنداد ، والأرباب ... والمثبت أربعة أنواع : القصد – كونك ما تقصد إلا الله – والتعظيم والمحبة والرجاء ... ) (2)
__________
(1) - مؤلفات الشيخ (6/105) . وانظر : معنى لا إله إلا الله ص 79 للإمام الزركشي .
(2) - الدرر السنية (2/80) بتصرف .(1/64)
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير " لا إله إلا الله " : " لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية ، ويجوز لك وللخلق عبادته إلا الله " (1)
وقال البقاعي رحمه الله : ( لا إله إلا الله ) أي انتفاء عظيماً أن يكون معبوداً بحق غير الملك الأعظم " (2)
[ مفهوم الإله عند المشركين ]
فإن ( الإله ) عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور ، سوء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرةً أو قبراً أو جنياً ، لم يريدوا أن ( الإله ) هو الخالق الرازق المدبر ، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك ، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ [ السيد ] .
قوله : ( فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور ) : يقصد المصنف بـ(هذه الأمور ) كطلب شفاعة الأولياء والصالحين ، والتوجه إلى الله بدعائهم من دون الله ، والاستغاثة بهم ، وطلب تفريج الكربات وقضاء الحاجات كما يفعله كثير من الجهلة في زماننا والله المستعان .
وقد بيّن المصنف المعنى الصحيح لكلمة الإله فقال : " اعلم أن معنى الإله هو المعبود ، هذا هو تفسير هذه اللفظة بإجماع أهل العلم ، فمن عبد شيئاً فقد اتخذه إلهاً من دون الله ، وجميع ذلك باطل إلا إله واحد وهو الله وحده تبارك وتعالى علواً كبيراً " (3) .
__________
(1) - جامع البيان في تفسير القرآن (26/ 53) ، وانظر مجموع الفتاوى (1/365) كلمة الإخلاص ص 23 لابن رجب . ط 4 المكتب الإسلامي ، فتح القدير للشوكاني (1/271) .
(2) - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ( 7/164) ، والبقاعي هو إبراهيم بن عمر البقاعي أبو الحسن ..ولد سنة (809) مفسر ومؤرخ أديب ... توفي بدمشق سنة (885) انظر الأعلام (1/56) .
(3) - الدرر (2/69) ، وانظر أيضاً الدرر (2/85، 190، 194) ، والقول الفصل ص 100، ومجموع الفتاوى ( 13/ 202) ، وانظر ( 1/76، 136) ، وجامع العلوم والحكم (2/129) .(1/65)
قوله : ( سواء كان ملكاً أو ... بلفظ السيد ) : ومراد المصنف من هذا التقرير أن العبرة بالمعنى الحقيقي والحقيقة أن تغيرت اللغة ، فالحكم يدور مع علته ، فمن عبد شيئاً وتألهه وقال هذا مولى أوولي أو سيد ، لم يغير ذلك الاسم حقيقته ، وأنه إله معبود ، وقد وضح إمام الدعوة – رحمه الله – عبارته فقال: " وأما قولي : أن الإله الذي فيه السر ، فمعلوم أن اللغات تختلف ، فالمعبود عند العرب ، والإله الذي يسمونه عوامنا " السيد " ، و " الشيخ " ، و " الذي فيه السر " ، والعرب الأولون يسمون الألوهية ما يسميها عوامنا " السر " ؛ لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر ، وكونه يصلح أن يدعي ويرجي ويخاف ويتوكل عليه " (1)
ووضح المصنف – رحمه الله – المقصود بالإله عند المشركين في مواطن عديدة من رسائله ؛ فمن ذلك قوله : " الإله في لغتهم هو الذي يسمى في لغتنا " فيه السر " والذي يسمونه الفقراء " شيخهم " يعنون بذلك أنه يدعي وينفع ويضر ، وإلا فهم مقرون لله بالتفرد بالخلق والرزق ، وليس ذلك معنى الإله ، بل الإله المقصود المدعو المرجو " (2) .
__________
(1) - مؤلفات الشيخ (6/76) وانظر : تاريخ نجد ص 278.
(2) - الدرر السنية (2/28) ونظر : ( 2/49، 76، 79، 84) ، ومجموع مؤلفات الشيخ (1/364) .(1/66)
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن – رحمهم الله – معلقاً على عبارة المصنف : " وإنما قال الشيخ – أي محمد بن عبد الوهاب – إن المشركين الأولين يقصدون من لفظ الإله ما يقصده أهل زماننا بلفظ السيد وهذا صحيح ؛ فإن السيد عند أكثر المشركين في هذه الأزمان هو الذي يدعى ويستغاث به في الشدائد ، ويرجى للنوازل ويحلف باسمه ، وينحر له على وجه التعظيم والقربة ، وبعضهم يطلق على ذلك اسم الولي كما في اصطلاح كثير من أهل مصر ، وبعضهم يسمى هذا المعنى السر ، فيقول فلان بن سر ومن أهل السر ، وهذا مشهور معروف ، والاصطلاحات تحدث واللغات تختلف " (1) .
قال ابن مانع : " مراده بالسيد : ما يعتقده الجهال في بعض الأشخاص الدجالين والمشعوذين الذي يلبسون على العوام بأنهم أهل كرامات وتصرف في الأمور ، وأنه ينبغي الالتجاء إليهم ودعاؤهم والتوسل بهم إلى الله ، فالعامة يُسمون هذا الدجال سيداً ، وهذا معروف معلوم ، وهذا مراد الشيخ رحمه الله " (2) .
ومن هؤلاء الذين يدعى العوام أنهم سادة : ما يطلقونه على السيد البدوي والسيد الطوفي والسيد الزيعلي وغيرهم كثير ، فقيض الله لهذا الدين إمام الدعوة – رحمه الله – فجدد الدعوة ونصر السنة وحارب البدعة وحكّم شرع الله في الأرض وجاهد لإعلاء كلمة الله بالسيف والسنان والحجة والبرهان .
ومما يجدر التنبيه عليه حسن تصنيف المؤلف ؛ حيث إنه يضرب الأمثلة تقريباً للمعلومة في ذهن القارئ .
[ بيان أن تحقيق التوحيد لا بد فيه من القول والاعتقاد والعمل ]
فأتَاهُم النبيُ - صلى الله عليه وسلم - يدعُوهم إلى كلمةِ التوحيد ِ وهي : ( لا إله إلا الله ) . والمرادُ من هذه الكلمة ِ معناها لا مجر لفظها
---
__________
(1) - منهاج التأسيس ص 313- 314.
(2) - من تعليقه على كتاب ( كشف الشبهات ) ص 6.(1/67)
قوله : ( فأتاهُم النبيُ - صلى الله عليه وسلم - يدعُوهم إلى كلمة التوحيدِ وهي : ( لا إله إلا الله ) : بيّن المصنف – رحمه الله – أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت دعوته لقومه إلى تحقيق شهادة لا إله إلا الله .
قوله : ( المرادُ من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظلها ) وقد بين المصنف معنى هذه الكلمة العظيمة في كثير من رسائله فقال في بيان معناها : " اعلم أن معنى هذه الكلمة نفي الإلهية عما سوى الله تبارك وتعالى ، وإثباتها كلها لله وحده لا شريك له ؛ ليس فيها حق لغيره ؛ لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل .. " (1) وتعلم معنى هذه الكلمة مقدم على كثير من الأحكام ؛ قال المصنف – رحمه الله - : " اعلم رحمك الله أن فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة والصوم فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة والصوم ... " (2)…
__________
(1) - الدرر (2/ 69) وانظر الدرر ( 2/ 80، 81، 167، 209، 225) ومجموع مؤلفات الشيخ (1/263) ن وقد نقل رحمه الله أقوال العلماء في بيان معنى هذه الكلمة في الدر ( 2/139) .
(2) - الدرر ( 2/79 ) .(1/68)
وقد قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله مبيناً شروط كلمة التوحيد : " وقد قيدت ( لا إله إلا الله ) في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال ، لا بد من الإتيان بجميعها قولاً واعتقاداً وعملاً .. فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له مع العلم بمعناها ومضمونها .. فلا بد من " العلم " بحقيقة هذه الكلمة علماً ينافي الجهل ؛ بخلاف من يقولها وهو لا يعرف معناها . ولا بد من " اليقين " المنافي للشك فيما دلت لعيه من التوحيد . ولا من " الإخلاص " المنافي للشرك ؛ فإن كثيراً من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة وينكرها معناها ، ويعادي من اعتقده وعمل به ، ولا بد من " الصدق " المنافي للكذب ، بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق ، كما قال تعال ( يقولون بألستنهم ما لي في قلوبهم ) [ الفتح : 11 ] .
ولا بد من " القبول " المنافي للرد ، بخلاف من يقولها ولا يعمل بها ، ولا بد من " المحبة " لما دلت لعيه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك ، والفرح بذلك المنافي لخلاف هذين الأمرين (1) ، ولا بد من ط الانقياد " بالعمل بها وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاماً .. وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه " (2)
__________
(1) الأمران هما : القبول والمحبة .
(2) الدرر ( 2/ 156) وانظر أيضاً الدرر( 2/ 158، 162، 231) .(1/69)
وأضاف بعضهم شرطاً ثامناً وهو الكفر بالطاغوت ؛ " وهذا شرط عظيم لا يضح قول : لا إله إلا الله بوجوده ، وإن لم يوجد لم يكن من قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال ؛ لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله ، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلت عليه من ترك الشرك والبراءة منه ومن فعله ، فإذ أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله وتبرأ منه وعادى من فعل ذلك صار مسلماً معصوم الدم والمال ، وهذا معنى قول الله تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) [ البقرة : 256]
[ بيان أن الكفار يعلمون أن تحقيق التوحيد لا بد فيه من القول والعمل ]
والكفارُ الجهَالُ يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو ( إفراد الله تعالى ) بالتعلقِ ( والكفرُ ) بما يعبدُ من دون اللهِ ن والبراءة منه فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله ، قالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجابٌ ) [ ص : 5] .
---
قوله : ( والكفارُ الجهالُ يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو ( إفرادُ اللهِ تعالى ) بالتعلقِ ) : أي تعلق القلب به سبحانه؛ فلا يرجى أحد سواه ، ولا يدعى غيره ، ولا تطلب الحوائج إلا منه ن ولا يستعان إلا به (1) .
__________
(1) قاله ابن مانع في تعليقه على ( كشف الشبهات ) .(1/70)
قوله : ( والكفرُ ) بما يعبدُ من دون الله ، والبراءة منه ، فإنه لما قال لهم قولوا : لا إله إلا الله ، قالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجاب ) [ ص : 5] : أي أن الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يدركون – على جهلهم – أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالعبادة ، والكفر بما يعبد من دون الله ، والبراءة منه ، وأن تحقيقها لا يكون بمجرد التلفظ بها ، بل لا بد من اعتقاد معناها ، والعمل بمقتضاها ؛ ولذلك لما قال لهم صلى الله عليه وسلم قولوا : لا إله إلا الله : قالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) .
[ مفاهيم خاطئة للا إله إلا الله ]
فإذا عرفت أن جهالَ الكفارِ يعرفون ذلك فالعجبُ من يدعي الإسلامَ وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهالُ الكفارِ ، بل يظنُ أن ذلك التلفظُ بحروفها من غير اعتقاد القلبِ لشيءٍ من المعاني ، والحاذقُ منهم يظنُ أن معناها ، لا يخلقُ ولا يرزقُ ، إلا اللهُ ، ولا يدبرُ الأمرَ إلا اللهُ ، فلا خير في رجلٍ جُهالُ الكفارِ أعلمُ منه بمعاني ( لا إله إلا الله ) .
---
قوله : ( فالعجبُ ممن يدعي الإسلامَ وهو لا يعرفْ من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهالُ الكفار) : هذا هوا لخطأ الأول جهل كثير من المسلمين بحقيقة لا إله إلا الله ، فتجد أنهم يقولون هذه الكلمة ويرددونها صباح مساء ، ومع ذلك يشركون بالله تعالى غيره من الأولياء وغيرهم ، مع العلم ، " أن أفرض الفرائض عليهم معرفة معنى هذه الكلمة ، ثم التلفظ بها والعمل بمقتضاها .. " (1) . قال إمام الدعوة – رحمه الله - : " فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك –أي معنى التوحيد – أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة والصوم .. " (2) ولكن إلى الله المشتكى وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
__________
(1) - الدرر (2/199).
(2) الدرر ( 2/79) . ـ(1/71)
قوله : ( بل يظنُّ أن ذلك التلفظُ بحروفِها من غير اعتقاد القلبِ لشيءٍ من المعاني ) : وهذا هوا لخطأ الثاني : وهو اعتقاد أن التلفظ بكلمة التوحيد كاف للدخول في هذا الدين ، وهذا اعتقاد فاسد ، فإن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ، ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلماً ، بل هو حجة عليه ، قال المصنف – رحمه الله – في تقرير هذا الأمر : " .. ليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها ؛ فإن المنافقين يقولونها – وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار – مع كونهم يصلون ويتصدقون ، ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب ن ومحبتها ومحبة أهلا ، وبغض ما خالفها ومعاداته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قال لا إله إلا الله مخلصاً ( وفي رواية ) خالصاً من قبله " وفي رواية " صادقاً من قلبه " وفي حديث آخر : " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله " إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة " (1) .
__________
(1) - مؤلفات الشيخ (1/363) .(1/72)
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ – رحمه الله – " .. معلوم أن المراد هنا قولها على وجه يحصل به إفراد لله بالعبادة وترك ما يعبد معه ، والبراءة منه ، وأما مجرد اللفظ مع المخالفة للحقيقة فليس مرادً بإجماع أهل العلم . ولذلك جاء في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) وفي رواية : ( إلى أن يوحدوا الله ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ... ) ؛ والمقصود منه : أنه جعل الغاية توحيد الله بالعبادة ؛ والاستجابة لذلك والتزامه هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، وأما مجرد القول والتلفظ فليس هو عين المراد ، وأما العلماء فقد وافقوا على ذلك وقرروه وذكروا الإجماع عليه وأن الإيمان لا بد فيه من اعتقاد الجنان وإقرار اللسان وعمل الأركان ، وجهّلوا من اقتصر في تعريف مسماه على أحد هذه الثلاثة " (1) ومما يدل على بطلان هذا القول أن " الجهاد لم يشرع إلا لإلزام المكلفين بما جاء من توحيد الله والتزام دين المرسلين لا لمجرد المعرفة فقط ، وقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الضرب من الناس ، واستباح دماءهم وأموالهم ؛ واليهود يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم ، وقد قال تعالى في شأنهم : ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فرياً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) [ البقرة : 146] ؛ فمن جعل مجرد المعرفة هي الإيمان ، والقتال لأهلها الذين لم يلتزموا ما جاءت به الرسل ، بل أعرضوا عنه قتال مفتر ظالم وصنيع مارج فهو من أعظم الخلق صداً عن سبيل الله ، وهدماً لقواعد دينه ، وكذباً على شريعته ، وتلبيساً على عباده ، ورداً لما جاءت به رسله ، وجهلاً بالإيمان وحقائقه . ولازم قوله هذا : الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتاله من عرف أنه على الحق ، وأنه رسول الله ، وكذلك فيه طعن على من قاتل على
__________
(1) مؤلفات الشيخ (1/363) .(1/73)
الشهادتين أو على ركن من أركان الإسلام ، كقتال الصديق رضي الله عنه على الزكاة وجهاد من منعها وفيه طعن على جميع أهل العلم الذين أباحوا القتال على الامتناع عن فعل بعض شرائع الإسلام الظاهرة " (1) .
قوله : ( والحاذقُ منهم يظنُ أن معناها : لا يخلقُ ولا يرزقُ إلا اللهُ ، ولا يدبرُ إلا اللهُ ) : هذا هو الخطأ الثالث في مفهوم الشهادة ، وهو أنهم ظنوا أن معناها قدرته على الاختراع ، وهاذ معلوم بالفطرة ، وبما يشاهد من عظيم مخلوقات الله تعالى كخلق السموات والأرض ، وما فيهما من عجائب المخلوقات ، وبه استدل الكليم موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون لما قال : ( وما رب العالمين * قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين ) [ الشعراء : 23-26] ففرعون يعرف الله ولكن جحده مكابرة وعناداً ، وأما غير فرعون من أعداء الرسل من قومهم ومشركي العرب ونحوهم فأقروا بجود الله تعالى وربوبيته ، كما قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) [ الزخرف : 9] ، فلم يدخلهم ذلك في الإسلام لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده .. فالخصومة بين الرسل وأممهم ليست في وجود الرب ، وقدرته على الاختراع ؛ فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب ، وأنه رب كل شيءٍ ومليكه ، وخالق كل شيء والمتصرف في كل شيء ، وإنما كانت الخصومة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله .. " (2) " فإن قال قائل فما الجواب عن قول من قال بأن معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة؟ قيل الجواب من وجهين :
__________
(1) مصباح الظلام ص 132.
(2) الدرر ( 2/150- 151) بتصرف . قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن .(1/74)
أحدهما : أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا أئمة اللغة ، وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلاً .
الثاني : على تقدير تسلميه ، فهو باللازم للإله الحق ، فإن اللازم له أن يكون خالقاً قادراً على الاختراع ، ومتى لم يكن كذلك ، فليس بإله حتى وإن سمى إلهاً ، وليس مراده أن من عرف أن الإله هو القادر على الاختراع فقد دخل في إسلام ، لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ، ولو قدر أن بعض المتأخرين أراد ذلك فهو مخطئ يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية " (1) .
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 76- 81 قاله الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله .(1/75)
قوله : ( فلا خير في رجلٍ جُهّالٍ الكفارِ أعلمُ منه بمعاني (لا إله إلا الله ) : يشير المصنف – رحمه الله تعالى - إلى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي عنهما وفيه " .. وتكلم رسول الله صلى الله فقال : يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ، ففزعوا لكلمته ولقوله وقالوا كلمة واحدة ! نعم وأبيك عشراً . فقالوا : وما هي ؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ فقال : لا إله إلا الله ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون ك ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ ص : 5] (1) فكفار قريش امتنعوا من الاستجابة لطلب النبي لأنهم لو أظهروا استعدادهم لقبول الكلمة للزم من ذلك ترك ما هم عليه من عبادة الأوثان وذبح القربان وإخلاص العبادة للرحمن لكنهم رفضوا ذلك بحجة هي في الحقيقة مغالطة ومكابرة فقالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) . (2)
__________
(1) 2 ) قال بن كثير رحمه الله في تفسيره ( 7/46) : هكذا رواه أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عبادة غير منسوب به نحوه ، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عُمار الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره نحوه وقال الترمذي : حسن .(1/76)
أما مشركو زماننا فإنهم – كما قال إمام الدعوة - جهال الكفار أعلم منهم بمعنى لا إله إلا الله ، فترى الكثير يتلفظ بها من غير إدراك لمعناها ، ولذا يوصي المصنف – رحمه الله – إخوانه في الله بالاهتمام بهذا الأمر فيقول : " فالله الله إخواني تمسكوا بأصل دينكم ، أوله وآخره ، أسه ، ورأسه ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، واعرفوا معناها ن وأحبوا أهلها ، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين ، واكفروا بالطواغيت ، وعادوهم ، وابغضوا من أحبهم ، أو جادل عنهم ، أو لم يكفرهم ، أو قال ما عليّ منهم ... فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً ، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين " (1)
[ معرفة المؤمن لحقيقة دين الله ، وحقيقة الشرك ، وحال المشركين توجب له الفرح بالتوحيد والخوف من سلبه ]
إذا عرفتَ ما قلتُ لك معرفة قلبٍ ، وعرفتَ الشرك بالله الذي قال الله فيه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دو ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48] وعرفتَ دينَ الله الذي بَعَثَ بهِ الرُسُلَ من أولِهم إلى آخرِهم الذي لا يقبلُ اللهُ من أحدٍ ديناً سواهُ ، وعرفتَ ما أصبح غالبُ الناسِ عليهِ من الجهلِ بهذا ؛ أفادَك فائدتينِ : الأولى : الفرحُ بفضلِ اللهِ ورحمتِه كما قال الله تعالى : ( قل بِفَضْلِ اللهِ وبرحمتِه فبذلك فليفرحوا هو خيرا مما يجمعون ) [ يونس : 58] وأفادَك أيضاً :الخوف العظيم.
---
__________
(1) الدرر (2/78 ) .(1/77)
قوله : ( إذا عرفتَ ما قلتُ لك معرفةَ قلبٍ ) : أي إذا عرفت حال المشركين من الجهل بكلمة التوحيد ببصيرتك ؛ فإن الطريق إلى المعرفة يكون بالعقل المجر، كمعرفة سائر الخلق بألوان الأطعمة والأشربة والمخترعات وغير ذلك من شؤون الحياة الظاهرة ، ويكون أيضاً : بنور البصيرة وهو نور يتبع الإيمان كما قال تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ] . " فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنور العلم ، وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبوا بالعلم والهدى ! وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها ! فإنه سبحانه ذكر عن آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة إنما تكون تذكرة لمن كان له قلب ؛ فإنه من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ! .. وصاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين :
أحدهما : أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه ، فإن كان غائباً عنه مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به ، فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن ألقى سمعه بكليته إلى ما يوعظ به ويرشد إليه . وها هنا ثلاثة أمورٍ :
أحدها ك سلامة القلب وصحته وقبوله .
الثاني : إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق .
الثالث : إلقاء السمع وإصغاؤه ، والإقبال على الذكر . فذكر الله تعالى الأمور الثلاثة في هذه الآية " (1) يقول الله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) [ البقرة : 282] فإذا عرفت ذلك معرفة قلب معنى لا إله إلا الله حقاً ؛ وهو أنه لا معبود حق في الوجود إلا الله ، وعرفت ما عليه الناس من الجهل بمعناها أحدث لك فائدتين عظيمتين سيذكرهما المؤلف فيما يأتي .
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/512) بتصرف .(1/78)
قوله : ( وعرفتَ الشرك بالله الذي قال الله فيه : ( إن الله لا يغفر إن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48] : الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله (1) والأدلة في بيان عظم ذنب الشرك ، وشدة وعيده أكثر من أن تحصى ، قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13] وعن ابن مسعود رضي الله عنه " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الذنب أعظم ؟ قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " (2) .
قوله : ( وعرفتَ دينَ اللهِ الذي بَعَثَ بهِ الرُسُلَ من أولِهم إلى آخرِهم الذي لا يقبلُ اللهُ من أحدٍ سواهُ ) : دين الأنبياء واحد ؛ وهو دين الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله؛وهذا هو الإسلام بالمفهوم العام الذي دعا إليه الأنبياء والرسل جميعاً ؛ قال ابن كثير – رحمه الله – : " والمقصود أن الشرائع وإن تنوعت في أوقاتها إلا أن الجميع آمرة بعبادة الله وحده لا شريك له وهو دين الإسلام الذي شرعه الله لجميع الأنبياء وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة كما قال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران : 85] ، وقال تعالى : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ البقرة : 130- 132]
__________
(1) حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ص 50 . وانظر في تعريفه وبيان أنواعه الدرر السنية (1/130، 133، 197) و ( 2/196، 204) . ومصباح الظلام ص 98) .
(2) رواه البخاري برقم (4761) .(1/79)
وقال تعالى : (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) [ المائدة : 44] فدين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو الإخلاص له وحده دون ما سواه .. ) . (1)
وأما الإسلام بالمعنى الخاص ، فالمراد به ما يختص ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فجميع الشرائع السابقة نسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) [ آل عمران : 19] وقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) [ آل عمران : 85] .
قال ابن كثير – رحمه الله – في قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) : إخباراً من الله تعال بأنه لا دين عنده يقبل من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته ، فليس بمتقبل كما قال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) الآية : وقال في هذه الآية ، مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام ، ( إن الدين عند الله الإسلام ) (2) .
قوله : ( وعرفتَ ما أصبح غالبُ الناسِ عليه من الجهلِ بهذا ) : أي جهل الناس بمعفرة التوحيد ما يضاده ، وهذا – أي جهالة أكثر الناس – ذّكر في كثير من الآيات ، فمن ذلك قوله تعالى : (إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الأنفال : 34] وقال تعالى : ( ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الدخان : 39] .
__________
(1) البداية والنهاية (2/142) وانظر الجواب الصحيح (1/81) .
(2) تفسير ابن كثير . ( 2/19) .(1/80)
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – : " وأما السيئات فمنشؤها الجهل والظلم " (1) وقال أيضاً : " فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل وعدم العلم بكونها تضرهم ضرراً راجحاً " (2) . قال ابن القيم – رحمه الله - : " العلم حياة ونور ، والجهل موت وظلمة ، والشر كله سببه عدم الحياة والنور ، والخير سببه النور والحياة ، فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء,ويبين مراتبها,والحياة هي المصححة لصفات الكمال الموجبة لتسديد الأقوال والأعمال " (3) وقال أيضاً في قوله تعالى : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هو أضل سبيلاً ) [ الفرقان : 44] : " فتشبه أكثر الناس بالأنعام ، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له . وجعل الأكثرين أضل سبيلاً من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي ، وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يميناً ولا شمالاً ، والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ، ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم ، والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه ، وما ينفعها فتؤثره ، والله تعالى لم يخلق للأنعام عقولاً تعقل بها ، ولا ألسنة تنطق بها ، وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار ، فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالاً ممن يهتدي حيث لا دليل معه " (4) . وقال أيضاً – رحمه الله - : " لم يقتصر سبحانه على تشبيه الجهال بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلاً منهم " (5) .
__________
(1) مرجع الفتاوى (14/ 287) .
(2) المرجع السابق ( 14/ 290) .
(3) مفتاح دار السعادة (1/54) .
(4) إعلام الموقعين (1/159) .
(5) مفتاح دار السعادة ( 1/53) .(1/81)
قوله : ( أفادَك فائدتين ) : والذي أفادك ذلك (1) : هو ما تقدم من كلام المصنف – رحمه الله – في الأمور التالية :
أن جُهال الكفار يعرفون التوحيد وأن المراد منه معرفة معناه والعمل بمقتضاه .
عظم جرم الشرك الذي لا يغفره الله تعالى .
ج- معرفة دين الرسل من أولهم إلى آخرهم والذي لا يقبل الله ديناً سواه .
د- ما أصبح عليه غالب الناس فيه من الجهل بهذا التوحيد .
قوله : ( الأولى : الفرحُ بفضل الله ورحمتِه .. ) والفرح بفضل الله ورحمته يكون من وجهين :
الأول : أنّ الله تعالى فتح ومنّ عليك حتى عرفت المعنى الصحيح لهذه الكلمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) متفق عليه (2) .
قال ابن حجر رحمه الله : " وفيه أن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به " (3) ؛ لذلك يقول الله تعالى : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولي الألباب ) [ البقرة : 269] ، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله : " الحكمة هي العلوم النافعة ، والمعارف الصائبة ، والعقول المسددة ـ والألباب الرزينة ، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال ؛ وهذا أفضل العطايا ، وأجل الهبات ، ولهذا قال : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى ، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها وحصول السداد ، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم " (4) .
__________
(1) انظر مؤلفات الشيخ (1/399) .
(2) رواه البخاري ورقمه : ( 71) ، ( 3116) ، (7312) ، ومسلم (1037) .
(3) فتح الباري ( 164) .
(4) تفسير ابن سعدي (1/214) .(1/82)
الثاني : أن الله تعالى منّ عليك حيث لم تكن من الضالين في معرفة معنى التوحيد ؛ يقول جل ذكره ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) [ الحجرات : 17] والفرح بمثل هذا مما أمر الله به كما في قوله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) [ يونس : 58 ] ؛ قال بن القيم رحمه الله : " إن الله تعالى أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته ، وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة ، فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم محسن برّ يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى " إلى أن قال " قال أبو سعيد الخدري (1) رضي الله عنه : ( فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله ) قلت – القائل بن القيم – يريد بذلك أن هاهنا أمرين :
أحدهما ك الفضل في نفسه .
__________
(1) لعل الصواب : عن أنس رضي الله عنه ، كما في الدرر المنثور ( 4/367) .(1/83)
والثاني : استعداد المحل لقبوله ؛ كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له والله أعلم " إلى أن قال : " وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقب قوله : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [ يونس : 57] ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة " إلى أن قال " فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها ؛ أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ، ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به ، لا ما يجمع أهل الدنيا منها فإنه ليس بموضع للفرح لأنه عرضة للآفات ووشيك الزوال ووخيم العاقبة " إلى أن قال : " فالفرح بالله ورسوله وبالإيمان وبالسنُّة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين ؛ قال الله تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ) [ التوبة : 124] .
وقال ) والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ) [ الرعد : 36]
فالفرح بالعلم والإيمان دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره ؛ فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته ورغبته فيه ؛ فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له ، ولا يحزنه فواته ، فالفرح تابع للمحبة والرغبة .. " (1)
قوله : ( وأفادك أيضاً ) : وهي الفائدة الثانية .
__________
(1) مدارج السالكين (3/156) .(1/84)
قوله : (الخوف العظيم ) : من أن تقع في مثل ما وقع فيه هؤلاء المشركون من الإشراك بالله تعالى ، وإذا كان الخليل إبراهيم عليه السلام يخاف على نفسه وعلى بنيه كما أخبر الله عنه بقوله : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [ إبراهيم : 35] وهو " إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده وابتلاه بكلمات فأتمهن وقال : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37] . وأُمرَ بذبح ولده فامتثل أمر ربه ، وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك ، ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه لا بحوله هو قوته . وأما أحسن ما قال إبراهيم التيمي : ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ فهذا أمر لا يؤمن من الوقوع فيه ، وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة ، فاتخذت الأوثان وعبدت ، فالذي خافه الخليل عليه السلام على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة ، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وصرفت لها العبادات بأنواعها واتخذ ذلك ديناً .. فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم ، بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الآلهية : من شركهم في الربوبية مما يطول ذكره ، فذكر عليه السلام السبب الذي أوجب الخوف عليه وعلى ذريته بقوله : ( رب إنهن أضللن كثيرا ًمن الناس ) [ إبراهيم ] ، وقد ضلت الأمم بعبادة الأصنام في زمن الخليل وقلبه وبعده ، فمن تدبر القرآن عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه ، والوعيد على فعله ، والثواب على تركه ، وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه ، ونسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد إنه ولي ذلك والقادر عليه " (1) ولذلك عقد إمام الدعوة في
__________
(1) قرة عيون الموحدين ص 43- 44، ونظر مؤلفات الشيخ (4/345) .(1/85)
كتابه – كتاب التوحيد – باباً بعنوان :
(( باب الخوف من الشرك )) وذكر فيه الأدلة التي تحذر منه وتبين خطره .
[ بيان أن المسلم قد يكفر بكلمة يقولها ]
فإنك إذا عرفتَ أن الإنسانَ يكفرُ بكلمةٍ يُخرجُها من لسانِه ، وقد يقولها وهو جاهلٌ فلا يعذرُ بالجهلِ ، وقد يقولُها وهو يظنُّ أنها تقرُّبه إلى الله تعالى ؛ كما ظنَّ المشركون ، خصوصاً إن ألهمَك اللهُ ما قصَ عن قوم موسى معَ صلاحِهم وعلمِهم ، أنهم أتوْهُ قائلينَ : ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ ) [ الأعراف : 138] فحينئذٍ يعظمُ خوفُك وحرصُك على ما يخلصُك من هذا وأمثالِهِ .
---
قوله : ( فإنك إذا عرفتَ أن الإنسان يكفرُ لكلمةٍ يُخرجُها من لسانِه ) :
الكفر في اللغة هو : الستر والتغطية ، وفي الشرع هو : ضد الإيمان (1) .
وقد توعد الله في كتابه من انقلب على عقبيه وارتد عن دينه وكفر بربه فقال تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ البقرة : 217] وقال تعالى : ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) [ آل عمران : 90] وقد ذكر العلماء رحمهم الله في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله ويكون بها خارجاً عن ملة الإسلام والعياذ بالله ، ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً ما ذكره إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ؛ وهي عشرة نواقض ويمكن إجمالها في أربعة أقسام :
الأول : نواقض اعتقادية : كأن يعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ! أو حكم غيره أحسن من حكمه ؛ كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه .
__________
(1) لمزيد من التفصيل في تعريف الكفر انظر كتاب نواقض الإيمان القولية والعملية ، د . عبد العزيز آل عبد اللطيف ص 36.(1/86)
الثاني : نواقض عملية : كأن يشرك في عبادة الله ، أو يجعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم .
الثالث : نواقض قولية : كأن يستهزأ بشيء من دين الله ، أو ثوابه ، أو عقابه ، أو لم يكفر المشركين ، أو صحح مذهبهم .
الرابع : نواقض شكية : كأن يشك في كفر الكافرين ، أو يرتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أحد من الأنبياء .
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه ، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (1) .
__________
(1) الدرر السنية (8/89) ؛ وهذا التقسيم ذكره صاحب الإقناع في باب حكم المرتد .(1/87)
قوله : ( وقد يقولُها وهو جاهلٌ فلا يُعذرُ بالجهلِ ) : " وقد يقولها .. " هذه للتقليل فيحمل كلامه – رحمه الله – على من سب الله تعالى أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يعذر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر أولئك الذين استهزؤوا به وبأصحابه بل كفرهم ، أو يحمل على الذي فرط وقصر في التعلم (1) . والجهل الذي هو بمعنى فقد العلم عذرٌ رافعٌ للإثم ، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله ، ثم إن كان هذا الذي وقع في شيء مكفر جهلاً منه ينتسب إلى الإسلام فهو في الظاهر يعتبر منهم ، ويعامل معاملة المسلمين ، وإن كان لا ينتسب إلى الإسلام فإن حكمه حكم أهل الدين الذي ينتسب إليه في الدنيا ، ويعامل معاملة الكفار في الظاهر ، أما الباطن – في الآخرة – فنكل أمره إلى الله عز وجل وحكمه حكم أهل الفترة ، وأصح الأقوال فيهم أنهم يمتحنون يوم القيامة بنار يأمرهم باقتحامها فمن اقتحمها دخل الجنة ، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها ، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا ؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل (2) . كما جاء عند أحمد في المسند قال : ثنا على بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنى أبى عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أربعة يحتجون يوم القيامة ، رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفترة .. ) وفيه : ( فيأخذ
__________
(1) قد تكلم العلماء في بيان وإيضاح رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذه المسألة ، فمنهم : الشيخ محمد العثيمين في شرحه لكشف الشبهات ص 46 ، والشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف في تعليقه على كشف الشبهات ص 34، والشيخ عبد الله القرني في كتابه : ضوابط التكفير ص 234، والشيخ محمد الوهيبي في نواقض الإيمان الاعتقادية 1/268 – 282 .
(2) انظر : أضواء البيان ( 3/ 481) .(1/88)
مواثيقهم ليُطِعْنَه ، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلماً ) (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة ، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار " (2) ، ولكن لا بد من الإشارة إلى أمور مهمة في هذه المسألة وهي :
أولاً : ما قاله القرافي رحمه الله : " القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل ؛ فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها؛ فالعلم والعمل بها واجبان ، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين لتركه واجبين " (3) .
وقال ابن اللحام رحمه الله : " جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم ، أما إذا قصر وفرط فلا يعذر جزماً " (4) .
وقال ابن القيم رحمه الله : " فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله ونهى عنه فقصر عنه ولم يعرفه فقد قامت عليه الحجة " (5) .
ثانياً : إن العذر بالجهل لمن لم تبلغهم الدعوة لا يعني نفي الكفر عنهم وقد أظهروه.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله : " أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون ( مسلمين ) بالإجماع ، ولا يستغفر لهم ، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم " (6) .
__________
(1) المسند ( 4/24) وانظر : تفسير ابن كثير (5/55) .
(2) الفتاوى : ( 14/ 477) .
(3) الفروق (4/264) .
(4) القواعد والفوائد الأصولية ص 58.
(5) مدارج السالكين (1/217) .
(6) رسالة في حكم تكفير المعين ص 9 .(1/89)
وقال ابن القيم رحمه الله : " الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر , وإن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة؛ والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه ، هذا في أحكام الثواب والعقاب ، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم في أحكام الدنيا حكم أوليائهم " (1)
ثالثاً : قيام الحجة وفهمها :
حتى يتضح لك الأمر جلياً ، لا بد أن تفرق بين أمرين ، فهم الدلالة ، وفهم الهداية ، فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدي بها ، لكن الله جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس مؤمنهم وكافرهم ، ولكن هذا الفهم لا يشترط في كل المسائل ؛ فالمسائل الظاهرة الجليلة التي يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام ؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين وغيرهم فإن هذا من أظهر شعائر الإسلام ، ويكفي في قيام الحجة أن تبلغه لأنها لا تحتاج إلى فهم ، أما المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس فهذه لا بد من فهمها حتى تقوم عليه الحجة .
وكون المسألة خفية ، من الأمور النسبية التي تختلف بحسب أحوال الناس فلا بد من اعتبار تلك الأحوال والتبين والتثبت .
رابعاً : التفريق بين التكفير المطلق والتكفير المعين .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة " (2) .
__________
(1) طريق الهجرتين ص 413.
(2) انظر كلام شيخ الإسلام في الفتاوى (18/53) وانظر : الدرر السنية (8/244) وفتاوى اللجنة الدائمة (1/528) .(1/90)
ثم يقول : " إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين ، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع .. " (1) .
قوله : ( وقد يقولُها ) : أي كلمة الكفر .
قوله : : ( وهن يظنُّ أنها تقربُه إلى الله تعالى ، كما ظنَّ المشركونَ ، خصوصاً إن ألهمَكَ اللهُ ما قصَّ عن قوم موسى معَ صلاحِهم وعلمِهم ، أنهم أتوْهُ قائلينَ : (أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138] فحينئذٍ يعظمُ خوفُك وحرصُك على ما يخلصُك من هذا وأمثالِهِ ) : أي من الكفر وأسبابه ، ومما يزيدك خوفاً وحرصاً على ما يخلصك من الكفر وأسبابه ، إذا عرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خافه على أصحابه الذين وحدوا الله بالعبادة ورغبوا إليه وإلى ما أمرهم به من طاعته فهاجروا وجاهدوا من كفر به ، وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم وما أنزله الله في كتابه من الإخلاص والبراءة من الشرك ، كما روى أحمد في المسند من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ! قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسولَ الله ؟ قال : الرياء ) (2)
__________
(1) الفتاوى (12/466) .
(2) ؟ مسند أحمد ( 5/ 824، 429 ) ، قال ابن حجر في البلوغ ص 483 : إسناده حسن .(1/91)
فكيف لا يخاف من لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل مما هو أكبر من ذلك، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك الأكبر فيهم ، فروى الإمام أحمد في مسنده عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( .. لا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان .. ) الحديث (1))) ، وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذِي الخلَصة ) (2) . وخصوصاً إذا علمت أن كثيراً ممن يُنسبون إلى العلم اليوم لا يعرفون عن التوحيد إلا ما أقر به المشركون ، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله ، فإذا كان ذلك كذلك فليعظم خوفك وحرصك على ما ينجيك من هذا الشرك بتعلم ما جاء في الكتاب والسنة وفهمهما على فهم السلف الصالح والعمل بما تعلمته ، والدعوة إليه ، ومن أعرض ولم يقبل هدى الله فهو من الهالكين ، أعاذنا الله وإياك من ذلك (3) .
[ بيان حكمة الله من جعله أعداء للأنبياء ]
واعلم أنّ الله سبحانه وتعالى من حكمتِه لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً ، كما قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) [ الأنعام : 112 ] .
__________
(1) مسند احمد ( 5 ، 278) وإسناده صحيح على شرط مسلم .
(2) أخرج البخاري برقم ( 7116) ومسلم ( 2906) .
(3) استفدت هذه المادة من قرة عيون الموحدين ص 43وفتح المجيد ص 105.(1/92)
قوله : ( واعلم أن الله سبحانه من حكمته ... ) : والحكمة في جعله للأنبياء والمصلحين أعداءً : ليحصل الابتلاء والتمحيص ، وأيضاً فالحق لا يظهر نوره ، ولا يشع شعاعه ، ولا ترسخ قدمه ، إلا إذا قاومه أهل الباطل وعارضوه ، فعند ذلك يظهر من علامات ثبوت الحق ، وفساد الباطل وزيفه ودجله ما يتنافس الكثيرون من المصلحين لإثباته وإقراره وتقعيده بكلام كثير ونقاش طويل (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين ، وبيان حقيقة أنباء المرسلين ، ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين ... وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة ، فالقرآن لما كذب به المشركون ، واجتهدوا على إبطاله بكل طريق ... كان ذلك مما دل ذوي الألباب على عجزهم عن المعارضة مع شدة الاجتهاد وقوة الأسباب ، ولو اتبعوه من غير معارضة وإصرار على التبطيل لم يظهر عجزهم عن معارضته التي بها يتم الدليل " (2) والمصنف –رحمه الله – يريد بهذه المقدمة أن يهيأ الداعية إلى الله تعالى – والذي يدعو إلى ما يدعو إليه الأنبياء – إلى أنه سيكون له أعداء يحاربون دعوته فلا بد ن بأن يتهيأ لذلك .
[ بيان أن لأعداء التوحيد حججاً وبراهين ]
وقد يكونُ لأعداء التوحيدِ علومٌ كثيرةُ وكتبٌ وحججٌ ، كما قال تعالى : ( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ) [ غافر : 83]
__________
(1) أنظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله حول هذه المعاني في مجموع الفتاوى (18 / 56) .
(2) الجواب الصحيح ( 1/ 85) . طبعة دار العاصمة الأولى 1414هـ(1/93)
قوله : ( وقد يكونُ لأعداءِ التوحيدِ علومٌ كثيرةٌ وكتبٌ وحججٌ ..) : لكن هذه العلوم وهذه الحجج ما هي إلا ظنون لا تغني من الحق شيئاً ، وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً ، أو كبر خُلب سرعان ما يتلاشى وينطفئ ويزول ، وأوهام لا تثبت أمام الحق أبداً : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) [ الأنبياء : 18] وقد سمى الله عز وجل ما عندهم من العقائد الزائفة والشبه الداحضة علماً استهزاء بهم .
ومن تلك الشبه التي ظنوها علماً قولهم : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) [ الأنعام : 148] وقولهم : ( من يحيي العظام وهي رميم ) [ يس : 18] .
وقد أشار المصنف – رحمه الله- بهذا إلى أنه ينبغي للموحد أن يعلم أن لهؤلاء علوماً وحججاً قد تروج على من غلبهم الجهل وطُمس على بصائرهم ، فلا بد أن يستعد لهم بالحجة والبيان حتى لا يقع في شراكهم ، وهذا المسلك الذي سلكه المصنف هو عين هدى النبي صلى الله عليه وسلم ، فعند ما أرسل معاذاً إلى اليمن قال : ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ... ) الحديث (1) . قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله : " قال القرطبي : .. وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لامتحانهم لأنهم أهل علم سابق ؛ بخلاف المشركين وعبدة الأوثان ، وقال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها ، ثم ذكر معنى كلام القرطبي قلت – القائل الشيخ سليمان بن عبد الله - : وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل ، والتنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة في دنيه لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين ، ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه ، والحرص على طلب العلم " (2) .
[ وجوب التسلح بالكتاب والسنة لدحض شبهات الأعداء ]
__________
(1) أخرجه البخاري في مواضع منها ( 1395) ، ومسلم (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) تيسير العزيز الحميد ص 125.(1/94)
إذا عرفتَ ذلك : وعرفتَ أن الطريق إلى اللهِ لا بد له من أعداء قاعدين عليه ، أهلِ فصاحةٍ وعلمٍ وحججٍ ، فالواجبُ عليك أن تعلمَ من دينِ اللهِ ما يصيرُ سلاحاً تقاتلُ به هؤلاء الشياطين ، الذين قال إمامُهم ومقدمُهم لربك عز وجل : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 16، 17] .
قوله ( إذا عرفتَ ذلك ) : أي لأعداء التوحيد علوماً وكتباً وحججاً .
قوله : ( وعرفتَ أن الطريقَ إلى اللهِ لا بد له من أعداء قاعدينَ عليه، أهلِ فصاحةٍ وعلمٍ وحججٍ ) : وقد أخبر الله تعالى عن استغلالهم لفصاحتهم وحججهم للصّدّ عن سبيله ، والكيد لأوليائه ، واستعانتهم على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعض من لحن القول ، قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ) . [ الأنعام : 112] . قال ابن القيم رحمه الله : " فتأمل هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدر، الذي فيه بيان أصول الباطل ، والتنبيه على مواقع الحذر منها ، وعدم الاغترار بها ، وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات ، وتخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة – وأكثر الخلق كذلك – حتى عن الفجار ليسمون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع ، ويميل إليها الطبع ، فيسمون أم الخبائث : أم الأفراح " (1) .
__________
(1) 7 ) الصواعق المرسلة (2/437) . والخمر في عصرنا الحاضر ، مشروبات روحية .(1/95)
قوله : ( فالواجبُ عليك أن تعلمَ من دينِ الله ما يصيرُ سلاحاً تقاتلُ به هؤلاء الشياطين ، الذي قال إمامُهُم ومقدمُهم لربك عز وجل : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 16 ، 17] : وهذا السلاح الذي يحفظ المسلم ويقيه كيد الكائدين وشر الحاسدين يكون بأمرين :
الأول : أن يكون لديك علم بالأدلة الشرعية ، والحجج العقلية ، التي من خلالها تحاجج هؤلاء بالتي هي أحسن .
الثاني : أن تعرف ما عندهم من الباطل – وهذا في حق القادر على معرفة ذلك والرد عليهم ، وإلا فلا يجوز ؛ لأنها قد تؤدي به إلى الشك والريب والكفر بالله – والمراد باطلهم : هو الرد عليهم وتفنيد شبههم .
لكن من أراد جدال مثل هؤلاء فلا بد أن يراعي ما يلي :
1- أن لا يجادل في موضوع لا يتقنه ولا يحسنه ، لأنه إن فعل ذلك فستحصل مفسدتان :
أ- تعريض نفسه للسخرية والاستهزاء ، وتندر البعض واستخفافهم ، والإحراج أمام الآخرين .
ب - الإساءة إلى الفكرة التي يدعو إليها ؛ لأنه بفعله هذا – وهو الانهزام – سيُعرض الناس عن هذه الفكرة ؛ لأن الناس يعتبرون الانهزام في الجدل دليلاً على أن الدعوة أو الفكرة التي يدعو إليها ليست صحيحة ، وانتصار الخصم دليلاً على أن دعوته على حق ، وهذا يجرنا إلى القول بأنه ينبغي أن لا يجادل الإنسان أحداً أمام ملأ من الناس إلا إذا كان مستعداً غاية الاستعداد ، وقد نهى الله تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، فقال تعالى ( ولا تجادلوا أهلا كتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت : 46] ، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ، : " ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب إذا كانت على غير بصيرة من المجال أو بغير قاعدة مرضية " (1) .
__________
(1) تفسر ابن سعدي (4/64) .(1/96)
ويقول الله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علمٌ ) [ الإسراء : 36] ، ويقول تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) [ يوسف : 108] ، فقوله : ( على بصيرة ) : أي يقين ومعرفة وتحقق ، والبصيرة تكون في ثلاثة أمور :
أن يكون الداعية عالماً بالحكم الشرعي .
أن يكون الداعية عالماً بكيفية الدعوة .
ج – أن يكون الداعية عالماً بحال المدعو .
إذن لا بد من معرفة الأدلة الشرعية وإتقانها حتى تستطيع أن تبلغ دعوة الله إلى الناس جميعاً .
2- قوة البيان : لأن قوة البيان وفصاحة اللسان تجعل للفكرة أثراً قوياً في نفوس الآخرين ، والعكس بالعكس ؛ لذلك سأل نبي الله موسى عليه السلام حين بعثه ربه إلى فرعون أن يرزقه الإبانة عن الحجج والإفصاح عن الأدلة فقال : ( واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي ) [ طه ك 27/28] . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما - : ( إن من البيان لسحراً ) (1)
قال صعصة بن صوحان : " صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم ، إن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب الحق " (2) .
أما إذا كان ذلك البيان لتوضيح الحق وإبطال الباطل فهذا ممدوح ، وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل سأل حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله " هذا والله السحر الحلال " (3) .
3- أن يذكر قاعدة مرضية يتفق هو وخصمه عليها ، ثم يبين بطلان قوله من خلال هذه القاعدة المتفق عليها ، قال شيخ الإسلام : " والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل كتاب لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم " (4) .
__________
(1) رواه البخاري (5146) ، ومسلم ( 869) .
(2) انظر فتح المجيد ص 450.
(3) المصدر السابق .
(4) الفتاوى ( 4/186) .(1/97)
وهذه طريقة القرآن التي سار عليها إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1) . فمن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) [ البقرة : 21] فالكفار مقرون بأن الله هو الخالق ، إذن هذه القاعدة المتفق عليها ، فألزمهم الله من خلال هذا الإقرار بوجوب توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة لأنه هو الخالق .
[ بيان ما يتمسك به المسلم لرد شبهات الأعداء ]
ولكن إذا أقبلتَ على الله ، وأصغيتَ إلى حجج الله وبيناتِه ، فلا تخف ولا تحزن ، (إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً ) [ النساء : 76] .
والعاميُ من الموحدين يغلبُ ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى : ( وإن جُندنا لهم الغالبون ) [ الصافات : 173] . فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان ، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان ، وإنما الخوفُ على الموحّدِ الذي يسلكُ الطريقَ وليس معه سلاحٌ .
قوله : ( ولكن إذا أقبلتَ على اللهِ , وأصغيتَ إلى حجج الله وبيناته ) : المصنف رحمه الله " يقرر أن جهاد المبتدعة والرد على الخصوم يحتاج إلى أمرين مهمين :
أحدهما : الإقبال على الله تعالى : والتعلق به عز وجل ، والتوكل عليه (2) وهذا الإقبال لا بد منه قلباً وقالباً ، وثمرة هذه الإقبال التقوى التي تورث ملكة العلم والحكمة وبها ينال الخير والسعادة ؛ فالله عز وجل علق العلم والمعرفة والتحصيل بالتقوى ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) [ البقرة : 282] فمن أعظم أسباب نيل العلم أن يتقي العبد ربه ، قال عمر رضي الله عنه : " اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم فإنه تتجلى لهم أمور صادقة " (3) .
__________
(1) انظر مثالاً على ذلك : مجموع مؤلفات إمام الدعوة قسم التفسر ص 42.
(2) 1 ) تعليقات على كشف الشبهات ص 39.
(3) الفتاوى لشيخ الإسلام ( 1/473) .(1/98)
" والآخر : بذل الأسباب من التفقه والتعلم وإعداد العدة ، ولعل هذا التقرير مستفاد من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز )(1) .
فعلى المسلم أن يحرص على ما ينفعه من علم نافع أو علم صالح ، وأن يجتهد في تحصيله ، مع صدق اللجأ إلى الله والاستعانة به على نيلها فلا يتكل على حوله وقوته "(2) .
قوله : ( فلا تخف ولا تحزن ، ( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) [ النساء : 76) : وكيف يخاف وهو قد أقبل على الله وتوكل عليه وفوض أمره إليه ، وحصّن نفسه بالحجج والبراهين التي تكفل له إحقاق الحق ودمغ الباطل ، ولكن هذا الخوف الذي يحصل هو خوف طبيعة وجبلة كما خاف موسى عند ما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فقال الله جل جلاله له : ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) [ طه : 68] فأراد المصنف – رحمه الله – بهذا القول أن يزيد من يقين العبد بأن ما عليه هو الحق فيزداد بذلك رسوخاً ، وتعلو همته ، ويشتد ساعده ، ويرى هوان عدوه ، مهما بلغت قواه ما بلغت ، فقد تكفل الله بإحقاق الحق وإزهاق الباطل إن الباطل كان زهوقاً .
قوله : ( والعامي من الموحدين ) : الذي عرف أدلة دينه وإن كان ليس بفقيه ولا عالم ، ليس المراد العامي الجاهل ، اللهم إلا أن يوفق العامي الذي لا يعرف لحجةٍ عقلية وهو نادر(3) .
قوله ( يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى : ( وإن جندنا لهم الغالبون ) [ الصافات : 173] : وأسباب ذلك كثيرة منها :
__________
(1) – رواه مسلم (2664).
(2) - تعليقات على كشف الشبهات ص 39.
(3) - شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 48.(1/99)
أ – أن الله كتب الغلبة والنصر لعباده الموحدين فقال تعالى : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) . [ المجادلة : 21] ، وقال سبحانه : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون * ) [ الصافات : 171- 173] وقال : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51] . قال البغوي في تفسيره : " قال ابن عباس رضي الله عنهما : بالغلبة القهر ، وقال الضحاك : بالحجة وفي الآخرة بالعذاب ، وقيل بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة ، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين ، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم ، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم وإهلاك أعدائهم ، ونصرهم ، بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم ، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل ، قتل به سبعون ألفاَ ، فهم منصورون بأحد هذه الوجوه .."(1) .
__________
(1) - تفسير البغوي (4/100) .(1/100)
ب – أن الله عز وجل يثبت عباده المؤمنين ويقوي عزائهم كما قال تعالى : ( يثبت اللهُ الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) [ إبراهيم : 27] ، بخلاف الكافر فإن الله يضله عن الصواب في الدنيا والآخرة ( ويضل الله الظالمين ) . وقال ابن القيم رحمه الله : " .. إن العبد لا يستغنى عن تثبيت الله له طرفة عين ، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما ، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه – عبده ورسوله - : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) . [ الإسراء : 74 ] ، وقال تعالى لأكرم خلقه : (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) [ الأنفال : 12] ، وفي الصحيحين من حديث البجلي قال : ( وهو يسألهم ويثبتهم ) ( (1) وقال تعالى لرسوله ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) [ هود :120 ] الخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت ، ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت ، وفعل ما أمر الله به العبد فبهما يثبت الله عبده ، فكل من كان أثبت قولاً حسناً فعلاً كان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ، قال تعالى : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ) [ النساء : 66 ] فأثبت الناس قلباً : أثبتهم قولاً ، والقول الثابت هو الحق الصدق وهو ضد الباطل الكذب ، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها ، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ، ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلباً ، والكاذب من أمهن الناس ، وأخبثهم وأكثرهم تلوناً وأقلهم ثباتاً "( (2) ) .
__________
(1) - لم أقف عليه في الصحيحين من حديث البجلي ولكنه عند الإمام أحمد في المسند ( 2/368) والترمذي (7/274 مع التحفة ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : ( وهو يأمرهم ويثبتهم ) ، وقال الترمذي :حسن صحيح .
(2) - بدائع التفسير (3/15) .(1/101)
ج- العامي الموحد يُساير فطرته التي فطرها الله عز وجل في قلبه ن بخلاف المشرك فإنه يخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فهو كمن يواجه أمواج البحار ويصادمها .
د- أن الله تعالى قد أودع هذا الكتاب العزيز من البراهين الساطعة والدلائل القاطعة ما يفهمه العامي من الموحدين ويهزم به كل مبطل من المعاندين .
ومن ذلك ما ذكره الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله : " ... قد استدل بعض من يدعي العلم على مسألة تصرف الأولياء ، وأنهم يُدعون بقوله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ آل عمران : 169] فقال بعض عوام المسلمين : إن كانت القراءة يرزقون – بفتح الياء – فذلك متجه ، وإلا فالآية حجة عليك !؟ "(1) .
قوله : ( فجند الله ) : المراد بجند الله هنا : الذين أدوا ما أوجب الله عليهم ، وعملوا بما وهبهم من العلم النافع والعلم الصالح ، وأصغوا إلى حجج الله وبيناته، وأقبلوا على تعلم ذلك بصدق عزيمة وإخلاص النية ، ودعوا الناس إلى ذلك . قاله ابن مانع – رحمه الله – في تعليقه على كشف الشبهات .
قوله : ( هم الغالبون بالحجة واللسان ) : قال ابن القيم رحمه الله : " فقوام الدين بالعلم والجهاد ، ولهذا كان الجهاد نوعين :جهاد باليد والسنان ، وهذا المشارك فيه كثير .
__________
(1) -- تحفة الطالب والجليس ص 56.(1/102)
والثاني : الجهاد بالحجة والبيان : وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل ، وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين ، لعظم منفعته وشدة مؤنته ، وكثرة أعدائه ، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً * فلا تطع الكافرين وجاههم به جهاداً كبيراً ) [ الفرقان : 51-52 ] فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو اكبر الجهادين ، وهو جهاد المنافقين أيضاً ، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر ، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ) [ التحريم : 9] ، ومعلوم أن جهاد المنافقين كان بالحجة والقرآن " (1) .
قال ابن عبد البر رحمه الله .
ومدار ما تجري به أقلامهم أزكى وأفضل من دم الشهداء
يا طالبي علم النبي محمد ما أنتم وسواكم بسواء (2)
__________
(1) - مفتاح دار السعادة (1/73) ,
(2) - جامع بيان العلم لابن عبد البر (1/31)(1/103)
قوله : ( كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان ) : أي الرماح ، مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) [ الروم : 47] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء من حديث ثوبان رضي الله عنه : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) (1) . قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين – رحمه الله – : " ليس المراد بالظهور بالسيف بل بالحجة دائماً وبالسيف أحياناً " (2) . قال تعالى : ( ولقد سبقت كلماتنا لبعادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) [ الصافات : 171- 173] . فهذا وعد من الله واقع لا محالة ، وكلمة الله باقية إلى قيام الساعة ، وهذا الوعد متحقق في كل دعوة أخلص فيها جندها وتجردوا من الشهوات فلهم الغلبة والتمكين مهما رصدت قوى الشر من قوى الحديد والنار ، أو قوى الدعاية والافتراء أو قوى الحرب والمقاومة ، فمهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل فما هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله وجنده ، وهاذ الوعد سنة ماضية كتعاقب الليل والنهار ، ولا يقتصر هذا الوعد على صورة من صور النصر بل هو شامل لجميع صوره سواء كان ذلك بجهاد أعدائهم والقيام بأمر الله في قتالهم أو كان بدحض شبهاتهم وكشف مفترياتهم ، فالحق غلاب والباطل خلاب ، ولقد يريد الشبر صورة معينة من صور الناصر والغلبة ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى فيكون ما يريد الله (3) ) وما أحسن ما قاله ابن القيم – رحمه الله – في النونية :
والحقُّ منصورٌ ومٌمتحنٌ فلا تعجبْ فهذي سُنَّةُ الرحمنِ
__________
(1) - رواه مسلم ورقمه (170) .
(2) - مجموع الرسائل والمسائل (4/525) .
(3) - استفدت هذه المادة من ظلال القرآن (5/3002) ، وصفة الغرباء ص 89 للشيخ سلمان العودة ، وقد أطال في معنى الظهور والتمكين فانظره إن أردت .(1/104)
وبذالك يَظْهرُ حِزْبُهُ من حَرْبِه ولأجْل ذاكَ الناسُ طائفتانِ
ولأجلِ ذاكَ الحربُ بين الرُّسْلِ والكفارِ مذْ قامِ الورى سِجْلانِ
لكنَّما العُقبَى لأهْلِ الحقِّ إنْ فاتتْ هنا كانَت لدى الدَّيَّانِ (1).
قوله : ( وإنما الخوفُ على الموحّدِ الذي يسلكُ الطريقَ وليس معه سلاحٌ ) : لأنه يخشى عليه أن يفتن في دينه ، وأن يزين الباطل في عينه فيغتر به ، ويلبس عليه شبههم الزائفة الباطلة البين بطلانها لمن عنده أدنى بصيرة ، ولكن الجاهل قد تخفى عليه بل قد يصل الأمر إلى أن يجعلها من الأمور المسلمة ، فذلك يخشى عليه من الانحراف عن شريعة الله .
ففي كلام المصنف تنبيه على أن العبد لا بد أن يسلح نفسه بالعلم والإيمان والحجة والبرهان حتى يدفع عن نفسه شبه الشيطان وأعوانه من الإنس والجان ، وما ظنك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره ربه بقوله : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [ محمد : 19] . وهو الذي بُعث وأُرسل من أجل أن يحققها ويدعو إليها ، فإذا كان كذلك فغيره ممن هو أدنى منه أولى أن يتعلمها وليحقق ما فيها .
[ بيان أن في القرآن الحجج والبينات لرد شبهات المشركين ]
وقد منّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعلَهُ ( تبياناً لكلّ شيءٍ وَهُدًى ورحمة وبشرى للمسلمين ) [ النحل :89 ] ، فلا يأتي صاحبُ باطلٍ بحجةٍ إلا وفي القرآن ما ينقضُها ، ويبين بطلانَها ، كما قال تعالى : ( ولا يأتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) [ الفرقان : 33] ، قال بعض المفسرين : هذه الآية عامة في كل حجةٍ يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة .
__________
(1) - شرح القصيدة النونية للهراس (1/52) .(1/105)
قوله : ( وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعلَهُ .. إلى يوم القيامة ) : وكون الآية عامة ؛ لأن الله جعل هذا الدين حجة على العباد إلى قيام الساعة ؛ قال تعالى : (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً ) [ النساء : 165] .
فتكفل الله لذلك بحفظ هذا الدين والرد على شبه المضلين فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا ووجد في القرآن ما يدحضها ، قال مسروق رحمه الله : " ما أحد من أصحاب الأهواء إلا في القرآن ما يرد عليهم ولكننا لا نهتدي له " وقال الإمام الشعبي رحمه الله : " ما ابتدع في الإسلام بدعة إلا وفي كتاب الله ما يكذبه " .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : " لو تدبر إنسان القرآن كان فيه ما يرد على كل مبتدع وبدعته " . وقال شيخ الإسلام رحمه الله : " فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها " (1) .
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – أن الله تعالى تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل . وإن كان باطل قُبل وجودل به ، فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان ما يدفعه فيضمحل ، ويتبين لكل أحد بطلانه ( فإذا هو زاهق ) أي مضمحل ،فإن هذا عام في جميع المسائل الدينية ، لا يورد مبطل شبهة عقلية ولا نقلية في إحقاق باطل أورد حق إلا وفي أدلة الله من القواطع العقلية والنقلية ما يُذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد ، وهذا يتبين باستقراء المسائل مسألة مسألة فإنك تجدها كذلك " (2) .
[ بيان موضوع الكتاب والغاية من تأليفه ]
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله تعالى في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا .
__________
(1) - تعليقات على كشف الشبهات ص 42.
(2) - تفسير ابن سعدي (3/271) .(1/106)
قوله : ( وأنا أذكر لك شيئاً مما ذكره الله تعالى في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا ) : قال الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم – رحمه الله - : " هذا فيه بيان موضوع الكتاب وما صنف فيه ، فهو رد شُبَهٍ شَبَّهَ بها بعض المشركين على توحيد العبادة ، فإن الشيخ – رحمه الله – لما تصدى للدعوة إلى الله وبين ما عليه الكثير من الشرك الأكبر تصدى بعض الجهال بالتشبيه على جهال مثلهم ، وزعموا أن المصنف – يكفر المسلمين ، وحاشاه ذلك ، بل لا يكفر إلا من عمل مكفراً وقامت عليه الحجة فإنه يكفره ، فقصد كشف تلك الشبه المشبهة على الجهال وردها وإن كانت أوهى من خيط العنكبوت لكن تشوش عليهم ، وقدم المصنف – رحمه الله – مقدمة نافعة في بيان حقيقة دين المرسلين وما دعوا إليه ، وحقيقة دين المشركين وما كانوا عليه ، ليعلم الإنسان حقيقة دين المرسلين عند ورود الشبهة ، يعلم من هو أولى بدين المرسلين من دين المشركين ، وبين أن مشركي زمانه هم أتباع دين المشركين " (1) .
[ الرد على أهل الباطل إجمالاً وتفصيلاً ]
فنقول : جوابُ أهلِ الباطلِ من طريقين ، مُجْمَلٍ ، ومُفَصّلٍ .
---
__________
(1) - شرح كشف الشبهات لمحمد بن إبراهيم ص 50- 51.(1/107)
قوله : ( فنقول : جوابُ أهلِ الباطلِ من طريقين : مُجْمَلٍِ ، ومُفَصّلٍ ) : لما ذكر المصنف – رحمه الله – في الكلام السابق أن المبطلين لهم حجج يتعلقون بها ، وأن القرآن كفيل برد حججهم وكيدهم ، أراد هنا أن يقدم بين يديك بعض هذه الشبه التي يموهون بها على ضعفاء العقول وقليلي العلم ثم يرد فيها بما ينقضها من أجوبة مجملة ومفصلة ، فبدأ بالمجمل ، وملخصه : أن المبطل قد يلقي عليك بعض الشبه ، ويحاول الاستدلال عليها ببعض النصوص المتشابهة ، ثم لا يكون لديك العلم الكافي لفهم هذا المتشابه وإرجاعه ليوافق المحكم ، فطريقك في هذا المجال أن تجادله بما لديك من نصوص محكمة واضحة ، وأن تبين له أن المحكم والمتشابه كله من عند الله ، والطريق السليم هو رد المتشابه إلى المحكم لا العكس وهو تحريف المحكم والواضح ليوافق ظاهر المتشابه . وهذه طريق لرد شبه المبطل نافعة (1) .
والحكمة من بدأ المصنف بالمجمل قبل المفصل لأمور منها :
– أن الكلام على المجمل قليل ، بخلاف الكلام على المفصل ، ولو بدأ بالثاني لتشتت ذهن القارئ لطول الكلام وتشعبه .
أن الجواب المجمل وضعه المصنف لعامة الناس لسهولته ويسره ، فبدأ به حتى يتقنه العامي ، ويُجيده .
أن الجواب المجمل مهم جداً ، فهو جواب سديد على كل شبهة ، فلربما تجابه بشبهة لا تحسن ردها فيكون هذا الجواب مسعفاً لك ، وكما قيل : الأهم يقدم على المهم ، وهذا من حسن تصنيف المؤلف رحمه الله (2)
[ الجواب المجمل ]
__________
(1) - انظر تعليق الشيخ البسام على كشف الشبهات ص 17.
(2) -- استفدته من شرح شيخنا الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ على كشف الشبهات .(1/108)
أما المجمل : فهو الأمرُ العظيمُ ، والفائدةُ الكبيرةُ لمن عقلها ، وذلك قوله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) [ آل عمران : 7] وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابهه منهُ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) (1)
---
قوله : ( أما المجمل : فهو الأمر العظيم : والفائدة الكبيرة لمن عقلها ): لما بين المصنف – رحمه الله – أن الجواب على شبهات المشركين من طريقين مجمل ومفصل ، شرع في بيان كيفية الجواب المجمل وبيانه كالتالي :
لا بد أن تعلم – رعاك الله – أربعة أمور لتدرك الجواب المجمل وهي :
أولاً : أن في القرآن محكماً ومتشابهاً ، والمراد بالمحكم : ما كانت فيه الدلالة واضحة لا تحتمل إلا معنى واحداً ، والمراد بالمتشابه : ما كانت فيه الدلالة غير واضحة ؛ أي إنها تحتمل أكثر من معنى .
ثانياً : أن تعالى أمر بالرجوع إلى المحكم لقوله : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب) وأم الشيء : أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه والإشكال (2) فيقتضي ذلك أن لا يفسر المتشابه بما يخالف المحكم ، بل يرد إلى الأم وهو المحكم ويفسر به .
قال ابن القيم – رحمه الله –" قسم الله سبحانه الأدلة السمعية إلى قسمين : محكم ومتشابه . وجعل المحكم أصلاً للمتشابه وأماً له يرد إليه ، فما خالف ظاهر المحكم فهو متشابه يرد إلى المحكم ،وقد اتفق المسلمون على هذا ، وأن المحكم هو الأصل والمتشابه مردود عليه " (3)
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه ( 4547) ومسلم ورقمه ( 2665) من حديث عائشة رضي الله عنها .
(2) - انظر شرح كشف الشبهات لمحمد بن إبراهيم ص 51-52.
(3) - الصواعق المرسلة (2/772) .(1/109)
ثالثاً : أن الله تعالى ذم الذين يتبعون المتشابه بمعنى أنهم يفسرونه بخلاف المعنى الذي دل عليه المحكم ؛ لأن هذا التصرف منهم يقتضي جعل كلام الله متناقضاً .
رابعاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الذين يتبعون المتشابه .
والمقصود من معرفة هذه الأمور الأربعة : أن نلزم صاحب الشبهات – إن كان يدعي إرادة الحق _ نلزمه بأن يحتج بالمحكم دون المتشابه (1)
قوله : ( وذلك قوله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) : " فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف – لسوء قصدهم – يتبعون المتشابه منه ، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة ، طلباً للفتنة ، وتحريفاً لكتاب الله ، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم ؛ ليَضلوا ويُضلوا ، وأما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم إلى أفئدتهم فأثمر لهم العلم والمعارف ؛ فيعلمون أن القرآن كله من عند الله ، وأنه كله حق محكمه ومتشابهه ، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف ، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان ، يردون المتشابه إلى المحكم فيعود كله محكماً ويقولون : ( آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر ) للأمور النافعة والعلوم الصائبة ( إلا أولو الألباب ) أي أهل العقول الرزينة ، ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب ، وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة والعقول الواهية والقصود السيئة "(2)
__________
(1) - انظر شرح كشف الشبهات لخالد بن عبد الله با حميد ص 17. لم يطبع بعد .
(2) - تفسير ابن سعدي ( 1/230) .(1/110)
قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) : قال شيخ الإسلام رحمه الله " جمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ، وهذا المأثور عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم ... " (1) ) .
قوله : ( وقد صح عن رسول الله صلى الله علي وسلم أنه قال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم " : بيّن النبي صلى الله عليه وسلم وصف أهل البدع ، وهو أنهم يتبعون المتشابه من القرآن ويلوون النصوص على بدعهم (2) قال ابن حجر رحمه الله : " المراد التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن " (3) . وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " سيكون أقوام يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن ، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل " (4) ، قال البغوي : " قد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم " (5) .
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه حينما فعلوا ذلك ، فروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا ، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال : " بهذا أمرتم – أو بهذا بعثتم – أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا ، إنكم لستم مما ههنا في شيء ، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا والذي نهيتم عنه فانتهوا " (6) .
__________
(1) - التدمرية ص 90 ، وانظر كلامه في المحكم والمتشابه ص 102.
(2) - انظر في ذلك شرح الطحاوية ص 354.
(3) - فتح البارئ (8/211) .
(4) - كتاب الشريعة للإمام الآجري ص 74.
(5) - شرح السنة (1/227) ,
(6) - مسند أحمد (6845) ط : أحمد شاكر ، وقد صحح الحديث رحمه الله ( 11/73) .(1/111)
وقد أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صبُيغ بن عَسل وكان يسأل عن متشابه القرآن فضربه عمر حتى شجه وسال الدم من وجهه (1) .
قال أبو قلابة : " لا تجالسوهم ولا تخالطوهم ؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون " (2)
[ مثال على الجواب المجمل ]
مثالُ ذلك : إذا قال لك بعضُ المشركين : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يجزنون ) [ يونس : 62] أو إنَّ الشفاعةَ حقٌ ، أو إنَّ الأنبياءَ لهم جاهٌ عندَ اللهِ ، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يَستدلُ به على شيءٍ باطلهِ ، وأنت لا تفهم معنى الكلامِ الذي ذكرَه ، فجاوبهُ بقولكَ : إن الله ذكرَ أنَّ الذين في قلوبهم زَيْغُ يتركونَ المحكمَ ويتبعونَ المتشابهَ ، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية ، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18] هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه ، وما ذكرت لي – أيها المشرك – من القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض ، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله عز وجل .
وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى ، فلا تستهن به ، فإنه كما قال تعالى : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلاقها إلا ذو حظ عظيمٍ ) [ فصلت : 35] .
وأما الجواب المفصلُ : فإن أعداءَ اللهِ لهُمُ اعتراضاتٌ كثيرةٌ على دينِ الرسلِ يصدونَ بها الناسَ عنهُ .
__________
(1) . انظر كتاب الشريعة ص 73.
(2) - - شرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي ( 1/134)(1/112)
قوله : ( مثالُ ذلك: إذا قال لك بعضُ المشركين ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس ك 62] . أو إنَ الشفاعةَ حقُ ، أو إن الأنبياءَ لهم جاهٌ عندَ الله ، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يَستدل ُ به على شيءٍ من باطلهِ ، وأنت لا تفهم معنى الكلامِ الذي ذكرَه ، ) : ذكر المصنف – رحمه الله – أمثلة على شبه المشركين التي قد تعرض للعامي الموحد فذكر منها قولهم :
إن للأولياء والصالحين مكانة وجاهاً عند الله تعالى ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم .
أو يقول لك : نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات وتفريج الكربات من دون الله ، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله فنحن نريد من الله بجاههم وشفاعتهم والشفاعة حق !! .
وكلام المصنف له مفهوم ؛ فقوله " وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره " يفيد أنك إن كنت تفهم ما يقول فجاوبه بالجواب المفصل ، وإن كنت لا تفهم فجاوبه بالجواب المجمل ؛ فالجواب المجمل لا يصار إليه إلا في حالة الحاجة إليه في الرد على الخصم ؛ وذلك إذا لم تفهم كلام الخصم والله أعلم .
قوله : ( فجاوبهُ بقولك : إن الله ذكرَ أنَّ الذين في قلوبهم زَيْغُ يتركونَ المحكمَ ويتبعونَ المتشابهَ ) : إذا أورد عليك مورد مثل هذه الشبه فجاوبه بهذا الجواب المجمل الذي ذكرت ملخصه فيما تقدم ، وفي هذا المثال يكون الجواب بما يلي :
يقال له : أنت تركت المحكم الذي يدل على عدم جواز دعاء الأولياء واتخاذهم شفعاء – كقوله تعالى : ( فلا تدعوا مع اله أحداً ) [ الجن : 18] - وعمدت إلى المتشابه ، وهو قوله تعالى ك ( ألا إن أولياء الله الخوف عليهم ولا يحزنون ) [ يونس : 62] .
وتذكر له بعد ذلك أن المشركين الأولين مقرون بالربوبية لله وحده ، ولكن الله كفرهم بسبب دعائهم الأولياء وطلب الشفاعة منهم ، فهذا صريح في أن كل من فعل مثل فعلهم فحكمه مثل حكمهم .(1/113)
ج- فيقال له : إن كنت طالباً للحق فيلزمك أمران :
الأول : التسليم للدليل المحكم وعدم تقدميه المتشابه عليه ، فإن الله تعالى جعل المحكم هو المرجع ، وذمَّ الذين يتبعون المتشابه ، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر منهم .
الثاني : وهو فرع عن الأول ، وهو أن لا تجعل كلام الله تعالى متناقضاً ، فإذا دل النص المحكم على عدم جواز دعاء الأولياء فيجب أن لا يحمل المتشابه على الجواز ؛ لأن هذا يؤدي إلى وجود تناقض في كلام الله تعالى وهذا محال (1) .
قوله: ( وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية ، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم : ( هؤلاء شفعاءنا عند الله ) [ يونس : 18] هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه ) :
يريد بذلك أمرين :
الأول : أن الذين في قلوبهم زيغ يحتجون بالمتشابه ويتركون المحكم .
الثاني : أن المشركين الأولين مقرون بالربوبية ، وأنهم ما كانوا مشركين إلا بتعلقهم بالأولياء ونحوهم رجاء شفاعتهم وتقربهم إلى الله زلفى .
فهذان الأمران محكمان لا يقدر أحد أن يغير معناهما .
__________
(1) - انظر شرح كشف الشبهات للشيخ خالد با حميد ص 18.(1/114)
قوله : ( وما ذكرت لي – أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه ) : لكن ليعلم أنه ليس في كلام الله ورسوله شيء لا يعرف معناه جميع الأمة ، بل لا بد بأن يكون معروفاً لجميع الأمة أو بعضها ؛ لقوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس وما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ النحل : 44] وقوله : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين ) [ النحل : 89] ، ولأنه لو كان فيه ما لا يعلم معناه أحد لكان بعض الشريعة مجهولاً للأمة ، ولكن المعرفة والخفاء أمران نسبيان فقد يكون معروفاً لشخص ما كان خفياً على غيره ، إما لنقص في علمه ، أو قصور في فهمه ، أو تقصير في طلبه ، أو سوء في قصده (1).
وقوله : ( لا أعرف معناه ) : أي مما تقول أيها المشرك وتدعيه انه حق ، وهو ضرب من الشبه التي أعلم أنها باطلة ؛ لأن كلام الله تعالى لا يناقض بعضه بعضاً ؛ قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) [ النساء : 82] وكذلك سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تناقض ما جاء عن الله تعالى ، قال تعالى ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3، 4 ] .
قوله : ( ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض ، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله عز وجل ، وهذا جواب جيد سديد ) : وهو الجواب المجمل الذي فيه رد المتشابه إلى المحكم ، وأن كلام الله وكلام رسوله لا يناقض بعضه بعضاَ . وسبب كونه جواباً جيداً مسدداً – والله أعلم – أمور :
أنه مشى على القاعدة الشرعية وهي رد المتشابه إلى المحكم .
اعتماده على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ج- عجز المشرك أن يرد عليه شيء في هذا الجواب لأنه محكم .
__________
(1) - تقريب التدمرية للشيخ محمد العثيمين ص 58.(1/115)
د- وهو – على إتقانه وجودته – سهل ميسور يفهمه عامة الناس .
قوله : ( ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى ) : فالعلم والفهم لا يأتيان فقط بالاكتساب وفعل الأسباب ، بل لا بد مع ذلك من توفيق المولى جل وعلا للعبد وإعانته عليه وتيسيره له كما جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين ) الحديث (1) . قال ابن حجر رحمه الله : " ومفهوم الحديث : أن من لم يتفقه في الدين – أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع – فقد حرم الخير ... " (2) .
قوله : ( فلا تستهن به ، فإنه كما قال الله تعالى : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) : قوله تعالى ( وما يلقاها ) أي وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة : ( إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) لكونها من خصال خواص الخلق التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخر التي هي خصال مكارم الأخلاق (3) .
وهذا هو نهاية الكلام على الجواب المفصل الذي يصلح أن يرد به كل شبهة ، ويسهل على عامة الناس أن يفهموه ويخاصموا به أهل الشرك ويفحموهم به ، وهذا جواب جيد سديد كما قال المصنف رحمه الله .
قوله : ( وأما الجوابُ المفصلُ ) : أي أنه جواب على كل شبهة يوردها أهل الشرك بعينها .
قوله : ( فإن أعداءَ الله لهُمُ اعتراضاتٌ كثيرةٌ ) : مراد المصنف رحمه الله باعتراضات الأعداء : الشبهات التي يلقيها المشركون في زمنه لنفي الشرك عن أنفسهم مع أنهم يفعلون الشرك .
__________
(1) - رواه البخاري ومسلم ، وتقدم تخريجه ص 115.
(2) - فتح البارئ (1/165) وانظر : كلام ابن القيم على الحديث في مفتاح دار السعادة (1/60) .
(3) - تفسير ابن سعدي (4/399) باختصار .(1/116)
قوله : ( على دينِ الرسلِ يصدونَ بها الناسَ عنه ) : ما ذكره المنصف من أعداء الله لهم اعتراضات وشبه كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس فهو حق ؛ ومصداقه في كتاب الله قوله تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذروهم وما يقترفون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) [ الأنعام : 112، 113] ، وقال تعالى : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) [ الأنعام : 121] وقال سبحانه : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) [ البقرة : 109] وقال تعالى : ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ) [ آل عمران : 69] وقال سبحانه : ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) [ الصف : 8 ] .
[ الشبهة الأولى ]
[ الأولياء والصالحون لهم جاه عند الله ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم ]
منها قولُهم : نحنُ لا نشركُ بالله ، بل نشهدُ أنه لا يخلقُ ولا يرزقُ ولا ينفعُ ولا يضرُ إلا الله وحدَه لا شركَ لهُ ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملكُ لنفسه نفعاً ولا ضراً ، فضلاً عن عبد القادر (1) أو غيرِه ، ولكن أنا مذنبٌ والصالحونَ لهم جاهٌ عندَ الله ، وأطلبُ من الله بهم.
__________
(1) - هو أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي ، شيخ بغداد ، أحد الزهاد وشيخ الإسلام ، ولد بجيلان في سنة إحدى وسبعين وأربع مائة ، وتوفي في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة . [ سير أعلام النبلاء : 20/439 ، ونقل المحقق في الحاشية عن معجم الشيوخ (1/52) أن جنكي دوست أي : عظيم القدر ،وكذا أحال على (المعجم الفارسي ) تحت معاني ( دوست ) ] .(1/117)
فجاوِبهُ بما تقدمَ : وهو أن الذين قاتَلَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، مقرونَ بما ذكرتَ ، ومقرونَ أن أوثانَهم لا تدبرُ شيئاً ، وإنما أرادوا الجاهَ والشفاعةَ ، واقرأ عليه ما ذكرَ اللهُ في كتابِهِ ووضَّحَهُ .
قوله : (منها قولُهم : نحنُ لا نشركُ بالله ، .... وأطلب من الله بهم ) تأمل كلام هذا المشرك ، تجده غير دقيق ؛ ووجه ذلك : أنه نفى الشرك عن نفسه بادئ ذي بدء ، ثم أثبت لنفسه إقراره بالتوحيد ، وهذا التوحيد الذي يراه هو توحيد الربوبية ! فهو أثبت توحيد الربوبية ، وفر من توحيد الألوهية الذي هو مدار الخلاف بيننا وبينه ، فتأمل .
وهذه الشبهة يقولون فيها : نحن نقر بتوحيد الربوبية ، ونعلم أن الأنبياء والصالحين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ، وأن النفع والضر بيد الله ، ولكن لهم جاه عند الله ومكانة ، ونحن أناس مذنبون ومقصرون ، ولذا فنحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم ! فهم جعلوا الأموات وسائط بينهم وبين الله عز وجل ، وهذا كفر بإجماع العلماء كما حكاه إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1) .
قوله :(وهو أن الذين قاتَلَهم رسولً الله صلى الله عليه وسلم ، مُقِرُّون بما ذكرتَ) : أي مُقِرُّون بأنه لا يخلق ولا يدبر ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له .
__________
(1) - مجموعة التوحيد النجدية ص 37 وما بعدها .(1/118)
قوله : ( ومُقِرُّون أن أوثانَهُم لا تدبرُ شيئاً ، وإنما أرادوا الجاهَ والشفاعةَ ) : وقال المصنف رحمه الله في موضع آخر جواباً على هذه الشبهة : " فيقال لهذا الجاهل : المشركون عباد الأصنام الذين قاتلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وغنم أموالهم وأبناءهم ، كلهم يعتقدون أن الله هو النافع الضار الذي يدبر الأمر ، وإنما أرادوا ما أردت من الشفاعة عند الله ، كما قال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18] [ الزمر : 3] وإلا فهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق النافع الضار ، كما أخبر الله عنهم بقوله : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ يونس : 31] .
فليتدبر اللبيب العاقل الناصح لنفسه الذي يعرف أن بعد الموت جنة وناراً هذا الموضع ، ويعرف الشرك بالله الذي قال الله فيه :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48]
وقال : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [ المائدة : 72] فما بعد هذا البيان بيان ، إذا كان الله عز وجل قد حكى عن الكفار ، أنهم مقرون أنه هو الخالق الرازق المحيي المميت ، الذي يبر الأمر ، وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم التقرب والشفاعة عند الله تعالى ، وكم آية في القرآن ذكر الله فيها هذا ؛ كقوله تعالى : ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) [ العنكبوت : 63] وغير ذلك من الآيات التي أخبر الله بها عنهم أنهم أقروا بهذا لله وحده ، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم إلا الشفاعة لا غير ذلك " (1) .
إذاً جواب هذه الشبهة مركب من أمور وهي :
__________
(1) - الدر ( 2/71) وانظر أيضاً : مجموع مؤلفات الشيخ ( 1/367) ، ومصباح الظلام ص 175.(1/119)
أولاً : أن تبين لهذا المشرك حالة المشركين الذين كانوا في زمن النبي من إقرارهم بتوحيد الربوبية كما قال تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [ يونس : 31] .
ثانياً : أن تبين له اعتراف هؤلاء المشركين بأن الأصنام والصالحين وغيرهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً كما في الآية السابقة .
ثالثاً : أن تبين له أنهم كانوا يسألون الله تعالى بجاه الأنبياء والصالحين ومكانتهم ، وهذا مُصَدَّقٌ لاعترافهم وإقرارهم به ، كما في قوله تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ يونس : 18] .
رابعاً : إذا تبين له ما تقدم فيجابه بهذا السؤال : لماذا قاتل الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء المشركين ، واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم ؟! فإن كان يريد الحق فسيسلم لك الأمر ، وإلا فمن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزئ الله الشاكرين .
قوله : ( واقرأ عليه ما ذكرَ اللهُ في كتابِهِ ووضَّحَهُ ) : أي من الآيات الدالة على كفر من دعا غير الله من الأنبياء والصالحين والأحجار والأشجار وغيرها ؛ قال تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) [ الأحقاف : 5] ، وقال تعالى : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) [ فاطر : 13، 14] ، وقال سبحانه : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) [ آل عمران : 80](1/120)
[ الشبهة الثانية وجوابها (1) ) ]
[ الكفار كانوا يدعون الأصنام ونحن ندعو الصالحين وفرق بينهما ]
فإن قال : إن هؤلاء الآيات نزلتْ فيمن يعبدُ الأصنامَ ، كيفَ تجعلونَ الصالحينَ مثلَ الأصنام ؟ أم كيف تجعلونَ الأنبياءَ أصناماً ؟
فجاوبْهُ بما تقدَمَ : فإنَهُ إذا أقرَ أن الكفارَ يشهدون بالربوبيةِ كلِّها لله ، وأنهم ما أرادوا ممن قصدُوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يُفرقَ بين فعلِهم وفعلِه بما ذكر ، فاذكرْ لهُ أن الكفارَ : منهم من يدعو الأصنامَ ، ومنهم من يدعو الأولياءَ الذين قال الله فيهم : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) [ الإسراء : 57] ويدعون عيسى ابن مريم وأمَّهُ ، وقد قال الله تعالى : ( ما المسيحُ ابن مريم إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أني يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم ) [ المائدة : 75، 76] واذكر له قوله تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 40 ، 41] ، وقوله تعالى : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ) [ المائدة : 116] .
فقل له : أعرفتَ أن الله كفَّرَ من قصدَ الأصنام ، وكفَّرَ أيضاً من قصد الصالحينَ ، وقاتَلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) - انظر : مجموعة الرسائل النجدية (4/19، 27) فقد أجاب إمام الدعوة عن هذه الشبهة ، وانظر أيضاً : الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للشوكاني ، ص 88.(1/121)
قوله : ( فإن قال : إن هؤلاء الآيات نزلتْ فيمن يعبدُ الأصنامً ، كيفَ تجعلونَ الصالحينَ مثلَ الأصمان ؟ أم كيفَ تجعلونَ الأنبياءَ أصناماً ؟ ) : هذه هي الشبهة الثانية ، وأتى بها المصنف على صيغة اعتراض من المشرك على الموحد يقول فيها : كيف تجعل الأصنام مثل الصالحين وتساويهم بها ؟ فأراد أن يفرق بينهما ظناً منه أن الشرك الذي وقع فيه الأولون خاص بعبادة الأصنام .
وقول المصنف – رحمه الله - : أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً ، تنبيه على أسلوب من أساليب أهل الباطل وهم أنهم ينسبون إلى أهل الحق الذين يُنزلون الأولياء والصالحين منازلهم التي أنزلها الله لهم بدون إفراط ولا تفريط ؛ بأنهم ينتقصون الصالحين ويبخسونهم حقهم ومنزلتهم ، وعند أدنى تأمل يتبين لكل ذي لب بأن أهل الحق محقون في فعلهم ، محسنون في صنعهم ؛ لأنهم أعطوا أنبياء الله والصالحين من عباد الله حقهم الواجب لهم ونزهوهم عما لا يصلح لهم من الباطل .
قوله : ( فجاوبْهُ بما تقدَمَ ) : ذكر المصنف رحمه الله في الرد على هذه الشبهة جوابين : الأول منهما أشار إلى أنه تقدم وهو : أن المشركين الأولين مقرون بالربوبية، وإنما كانوا مشركين باتخاذهم الشفعاء كما قال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3] فإذا أقر لك بهذا الجواب ولكن أراد أن يفرق بين فعله وفعل المشركين الأولين فاذكر له الجواب الثاني : وسيأتي .
قوله : : ( فإنَهُ إذا أقرَ أن الكفارَ يشهدونَ بالربوبية كلِّها لله ، وأنهم ما أرادوا ممن قصدُوا إلا الشفاعة ) : فإنه بذلك قد خُصم والسبب في ذلك أن المشركين الذي كفَّرهم الله تعالى كانوا يدعون الصالحين والأولياء ، كما أنهم أيضاً كانوا يدعون الأصنام والأوثان .(1/122)
قوله : ( ولكن إذا أرد أن يُفرقَ بين فعلِهمِ وفعلِه بما ذكر ن فاذكرْ لهُ أن الكفارَ منهم من يدعو الأصنام ، ومنهم من يدعو الأولياء ) : هذا هو الجواب الثاني : ويتلخص فيما يلي :
أن هؤلاء المشركين تنوعت معبوداتهم من دون الله ؛ فمنهم من يدعو الأصنام كما قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ) [ الإسراء : 56] ومنهم من يدعو عيسى أو الأولياء أو الملائكة أو الجن ، وقد ذكر المصنف أدلة على ذلك فاحفظها جيداً .
إذا أقر بذلك كله وسلم لك به – ولا بد أن يفعل ذلك - فيقال له : الله جل جلاله ساوى في الحكم فيمن اعتقد في الأنبياء أو الصالحين مثل عيسى وعزير واللاَّت وناس من الجن ، وبين من اعتقد في الأصنام ، ولم يفرق بينهما وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم قاتلهم جميعاً ولم يستثن أحداً ، مما يدل على أنه لم يفرق بين الأمرين ، ومن المعلوم من قواعد الشريعة عدم التفريق بين المتماثلات ، وأي فرق بين من صرف العبادة لصالح أو صنم ، وأيضاً من المعلوم أن الإله هو المقصود المعتمد عليه سواء كان صنماً أو نبياً أو ولياً ، ولكن من لم يجعل الله لو نوراً فما له من نور .
قوله : ( الذين قال الله فيهم : ( أولئك الذين يدعون يبغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) : قال ابن القيم رحمه الله : " أي هؤلاء الذين يعبدونهم من دوني هو عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي ويخافون عذابي كما ترجون أنتم رحمتي وتخافون عذابي ، فلماذا تعبدونهم من دوني ؟ " (1) .
__________
(1) - الصواعق المرسلة ) 2/463) .(1/123)
قوله : ( ويدعونَ عيسى ابن مريمَ وأمَّهُ ، وقد قال الله تعالى : ( ما المسيحُ ابن مريم إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أني يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم ) : قال ابن القيم – رحمه الله - : " وقد تضمنت هذه الآية الحجة دليلين يبطلان إلهية المسيح وأمه :
أحدهما : حاجتهما إلى الطعام والشراب وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما ، بل هي محتاجة فيما يقيمها إلى الغذاء والشراب ؛ والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهاً ؛ إذ من لوازم الإله أن يكون غنياً .
الثاني : أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره من انفصالها عنه ، بل يستحي من التصريح بذكرها .
ولهذا – والله أعلم – كنى سبحانه عنهما بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة ، فكيف يليق بالرب سبحانه أنه يتخذ صاحبة ولا وولداً من هذا الجنس .. فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مغمزاً له ، ولا مطعناً فيه ، ولا تشكيكاً ، ولا سؤالاً يورده بل يأخذ بقلبه وسمعه " (1) .
قوله : ( واذكر له قوله تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) : ففي يوم القيامة يسأل الله جل جلاله ملائكته – وهو أعلم بهم لكن لأجل إبطال حجة هؤلاء المشركين – ( أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) ، فدل على أن منهم من يعبد الملائكة وهم من خيار خلق الله تعالى وأكرمهم ، فتبين بطلان قولهم بأن الفرق بينه وبين المشركين أنه هو يدعو الصالحين والأولياء والمشركين يعبدون الأصنام والله أعلم .
__________
(1) - الصواعق المرسلة : ( 2/482- 483) .(1/124)
قوله : ( وقوله تعالى : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) [ المائدة : 116] .
فقل له : أعرفتَ أن الله كفرَ من قصدَ الأصنامَ ، وكفرَ أيضاً من قصدَ الصالحينَ وقاتَلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . )
إذاً يمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بعدة أجوبة ، وهي كالتالي :
أن المشركين الذين وردت فيهم تلك النصوص ليسوا كلهم يعبدون الأصنام ؛ فإن منهم من يعبد الأولياء والصالحين ، ومنهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء ، ومنهم من يعبد الأحجار وهي في الأصل صور رجال صالحين ، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن ومن أوضحها قوله تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً ) [ الإسراء : 56 ، 57] .
فهذه الآية في العقلاء بلا شك ، وإن اختلف المفسرون في تعيينهم فالقول ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله : " .. هذه الأقوال كلها حق ، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر ، والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل ؛ كما يقول الترجمان لما سأله ما معنى لفظ ( الخبز ) فيريه رغيفاً فيقول : هذا . فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه ، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين ، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ، ويرجو رحمته ويخاف عذابه ، وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس " (1) .
__________
(1) - الرد على البكري ص 286 ، ومجموع الفتاوى (15/ 226) .(1/125)
2- ثم لو سلمنا أن تلك النصوص وردت في الأصنام فقط على سبيل التنزل فإننا نقول: إن تلك الأصنام هي تماثيل لقوم صالحين فقد ثبت في ود وسواع ويغوث .. إلخ ، أنها أسماء رجال صالحين من نوح ، كما ثبت أن اللاَّت رجل يلت السويق للحجيج.. وعلى هذا فعبادة الأصنام ترجع في الحقيقية إلى عبادة الصالحين فهي الأساس في العبادة وأصل الفتنة (1) .
3- ثم إن تلك النصوص عامة شاملة لجميع المدعوين من دون الله سواء كانوا من الأصنام الجامدات أو العقلاء. لأن تلك النصوص وردت بألفاظ العموم فتشمل الجميع(2).
[ الشبهة الثالثة ]
[ الكفار يريدون المنفعة ودفع المضرة ونحن نريد الشفاعة ، وطلبها منهم ليس بشرك ]
فإن قال : الكفارُ يريدونَ منهم ، وأنا أشهد أن الله هو النافعُ الضارُ المدبرُ ، لا أريدُ إلا منه ، والصالحونَ ليسَ لهم من الأمر شيءٌ ولكنْ اقصدُهُمُ أرجو من الله شفاعتَهم .
فالجوابُ : أن هذا قولُ الكفارِ سواءً بسواءٍ ؛ فاقرأ عليهِ قولَه تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3] وقوله تعالى : ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18] .
قوله حكاية عن المشرك : ( الكفارُ يريدونَ منهمْ ) : أي أنهم يطلبون من الأصنام أو الصالحين أو غيرهم ممن يُعْبَد مع الله ، قضاء الحاجات وتفريج الكربات .
قوله حكاية عن المشرك : ( ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم ) هذا تناقض منه في دعواه ، حيث إنه قال في دعواه : (لا أريد إلا منه ) أي من الله ، فكيف تتوجه إلى غير الله إذن ؟ .
__________
(1) - انظر : الصراع بين الإسلام والوثنية (2/169) .
(2) - انظر تفصيل هذه الأجوبة في كتاب " الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (2/890) فهو مفيد.(1/126)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " ولا ريب أن اتخاذ الشفعاء والتوجه إليهم بالقلب واللسان ينافي إسلام القلب والوجه لله وحده .. والاستشفاع بالأموات يتضمن أنواعاً من العبادة : سؤال غير الله ، وإنزال الحوائج به من دون الله ، ورجاءه والرغبة إليه والإقبال عليه بالقلب والوجه والجوارح واللسان ؛ وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله (1) .
قوله : ( فالجوابُ : أن هذا قولُ الكفارِ سواءً بسواءٍ ، ) : وهو أن اعتذارهم هذا هو عين اعتذار المشركين عن عبادة الأصنام ، فقد قال تعالى حكاية عن المشركين في اعتذارهم عن عبادة الأصنام : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا على الله زلفى ) فالمشركون ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئاً ، بدليل قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف : 87] .
وهكذا أنتم تفعلون : ففعلكم هذا هو عين فعل المشركين سواء بسواء (2) .
وقد اعترض بعض أهل البدع على الجواب بعدة اعتراضات منها :
الأول : أن المشركين جعلوا الأصنام آلهة ، والمسلمون ما اعتقدوا إلا إلهاً واحداً ، فعندهم أن الأنبياء أنبياء ، والأولياء أولياء ، ليس إلا ، فلم يتخذوهم آلهة مثل المشركين .
الجواب عنه : أن يقال : إن هذا " جهل عظيم ، وغباوة مفرطة ، فإن المشركين عبدوا الملائكة ، وعيسى ، واللات – وهو قبر رجل صالح – مع الأصنام المصورة ، وصرفوا لهم خالص حق الله ، كما تقدم ذكره .
__________
(1) - القول الفصل النفيس ص 86- 90 باختصار . نقلاً من تعليقات على كشف الشبهات ص 54.
(2) - انظر في الجواب عن هذه الشبهة الضياء الشارق ص 410.(1/127)
وأيضاً : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ( قولوا لا إله إلا الله ) قالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ ص : 5] فالكفار يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق ، والكفر بما يعبد من دون الله ، والبراءة منه ، وأن يكون الدين كله لله ، فإذا صرف المشركون لمن يعتقدون فيه شيئاً من هذه العبادة كانوا مشركين فكذلك من يزعم انه مسلم ، ويتلفظ بالشهادتين ، ويقر بسائر الأركان إذا صرف من هذه العبادة شيئاً لغير الله كان مشركاً ، ولا ينفعه اعتقاده أن الله إله واحد ، وهو يعبد معه غيره ، ولا تنفعه معرفته أن الأنبياء أنبياء ، والأولياء أولياء وهو يشركهم في عبادة الله " (1) .
الاعتراض الثاني : أن المشركين اعتقدوا أن تلك الآلهة تستحق العبادة ، بخلاف المسلمين فإنهم لم يعتقدوا أن أحداً من المتوسلين بهم مستحق لأقل عبادة، وليس عندهم المستحق للعبادة إلا الله وحده .
والجواب : أن نقول : " هذه العبادة التي صرفها المشركون الأولون هي ما يفعله المشركون من عباد القبور في هذه الأزمان سواء بسواء ، وإن زعموا أن هذا توسل ، فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء .
__________
(1) - الضياء الشارق ص 404- 405.(1/128)
فإن المشركين الأولين ما زعموا أن آلهتهم التي عبدوها من دون الله من الأنبياء والأولياء شاركوا الله في خلق السموات والأرض ، ولا أنهم مستحقون للعباد ة، ,إنما كانوا يدعونهم ، ويلتجئون إليهم ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم وليقربوهم إلى الله زلفى ... فقوله عن مشركي هذا الزمان أنهم ك لا يعتقدون أن أحداً منهم بتوسله يزعم أنهم يستحقون لأقل عبادة تمويه وسفسطة ؛ لأن المستحق للعبادة هو الذي تألهه القلوب محبة ، وإجلالاً ، وتعظيماً ؛ فمن تأله غير الله فقد اعتقد أنه مستحق للعبادة بتألهه إياه بأنواع هذه العبادة شاء أم أبى ، ولا ينفعه إقراره أن المستحق للعبادة هو الله وحده وهو يشرك به غيره " (1) .
الاعتراض الثالث : أن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل كما قال تعالى حكاية عنهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3 ] والمسلمون ما عبدوا الأنبياء والصالحين في توسلهم إلى الله تعالى .
فالجواب أن يقال : " إن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل الصادر منهم ، كالدعاء ، والحب ، والخوف ، والاستغاثة ، والاستعاذة ، فصرفوا لهم هذه العبادة ليشفعوا لهم عند الله ، وليقربوهم إلى الله زلفى ؛ وهكذا حال مشركي هذه الأزمان : إنما عبدوهم بالفعل والاعتقاد فيهم ، وتوسلوا بهم ، وقصدوهم لأجل التبرك بهم ، والاستشفاع بجاههم ، لا لأجل أنهم مستحقون للعبادة ، ولا أنهم مستقلون بالخلق والإيجاد .. وأيضاً فإن مجرد ارتكاب فعل أو قول أو اعتقاد لغير الله مما يعد من العبادة من الدعاء والذبح موقع في الإشراك سوء وجد معه اعتقاد ألوهية غير الله أم لا " (2)
[ منزلة الشُبة الثلاثة عند المشركين ]
__________
(1) - الضياء الشارق ص 407- 409.
(2) - انظر : الضياء الشارق ص 410وما بعده فقد ذكره خمسة اعتراضات وأجاب عنها كلها فانظره – إن شئت فإنه مفيد جداً .(1/129)
واعلمْ أن هذهِ الشبهَ الثلاثَ هي أكبرُ ما عندَهُمْ ، فإذا عرفتَ أن الله وضحَها لنا في كتابِهِ ، وفهِمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسرُ منها .
قوله : ( واعلم أن هذهِ الشبهَ الثلاثَ ) : وهذه الشبه هي :
الأولى : أن الأولياء والصالحين لهم جاه عند الله ، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم
الثانية : أن الكفار كانوا يدعون الأصنام ، ونحن ندعو الصالحين وفرق بينهما .
الثالثة : أن الكفار يريدون المنفعة ودفع المضرة ، ونحن نريد منهم الشفاعة فقط .
هذه هي الشبه التي يحتجون بها على باطلهم ، وهي – كما وصفها المصنف – من أكبر ما عندهم ، وإن كانت في الحقيقة شبهاً زائفة ، وحججاً باطلة ، وقد صدق القائل :
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور (1)
وقد تصدى إمام الدعوة – رحمه الله – لكشف عوارها ، وتوضيح خفاياها ، وتبين زيفها ، فرفع الله درجته ، وأسكنه الفردوس الأعلى ، آمين .
قوله : ( هي أكبرُ ما عندَهُمْ ، فإذا عرفتَ أن الله وضحَها لنا في كتابِهِ وفهِمتها فهماً جيداً ) : فيه إشارة إلى أنه ينبغي الحرص والاعتناء بمعرفة هذه الشبه الثلاث وفهمهما فهماً جيداً مع أجوبتها ؛ لأن هذه الشبه هي أكبر ما عندهم.
قوله : ( فما بعدها أيسرُ منها ) : : لأنه إذا كانت هذ الشبه هي أكثر ما عندهم _ على وضوحها كما رأيت وسهولة الرد عليها – فما بعدها من باب أولى أن تكون أيسر وأسهل ؛ ففيه تهوين وينشط لما سيذكره المؤلف في رسالته . وهذا غاية الجودة والإتقان في فن التأليف والتصنيف .
[الشبهة الرابعة ]
[ الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة ]
فإن قال : أنا لا أعبدُ إلا الله ، وهذا الالتجاءُ إليهِمْ ، ودعاؤُهم ليس بعبادة .
---
__________
(1) - قاله الخطابي في الرد على المتكلمين : انظر : نقض المنطق ص 26، ومجموع الفتاوى : 4/28، والحموية ص 114.(1/130)
قوله : ( فإن قال : أنا لا أعبدُ إلا الله ... بعباده ) : هذا من كيد الشيطان لهؤلاء ؛ أنه لما علم أن كل من قرأ القرآن أو سمعه ينفر من الشرك ، ومن عبادة غير الله تعالى ؛ ألقى في قلوب الجهال أن ما يفعلونه مع المقربين وغيرهم ليس عبادة لهم ؛ وإنما هو توسل وتشفع بهم والتجاء إليهم ونحو ذلك ، فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب (1) وقد " سلك المصنف – رحمه الله – إزاء هذه الشبهة ، مسلك التدرج مع الخصم ، والانتقال مما هو متفق عليه مع الخصم ، إلى ما هو مختلف فيه ، وجعل المجمع عليه دليلاً على المختلف فيه ، وتبين – من خلال هذا المسلك – ظهور حجة المصنف وقوة إلزامه .
وقول المشرك : ( أنا لا أعبد إلا الله ) ينقصه بالكلية تتمة كلامه حيث قال : ( وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاءهم ليس بعبادة ) فالالتجاء من معاني الاستعاذة ، والاستعاذة من العبادات التي أمر الله تعالى بها فلا تكون إلا بالله تعالى ؛ فالاستعاذة هي : الاعتصام والتحرز والالتجاء إلى الله وحده والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر " (2)
وقول المشرك هذا ( أنا لا أعبد إلا الله ) يوضح لك سبب وقوعهم في مثل هذه الشبهة ، وهو عدم إدراكهم للمعنى الصحيح للعبادة ؛ فمنهم من لا يعرف معنى العبادة مطلقاً ، ومنهم من يظن أن معنى العبادة هو اعتقاد الربوبية لله تعالى .
[ الجواب الأول ]
__________
(1) - الانتصار لحزب الله ص 11، 13.
(2) - انظر : فتح المجيد 1/295 نقلاً من تعليقات على كشف الشبهات ص 55.(1/131)
فقلْ لهُ أنت تُقر أن الله فرضَ عليكَ إخلاصَ العبادةِ ، وهو حقُّهُ عليكَ ؟ فإذا قال : نعم . فقلْ لهُ : بينْ لي هذا الذي فرضَ عليكَ ، وهو إخلاصُ العبادة لله ، وهو حقُّه عليك ، فإنّه لا يعرفُ العبادةَ ، ولا أنواعَها ، فبينها له بقولك : قال الله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ) [ الأعراف : 55] فإذا أعلمتَهُ بهذا ، فقل له : فإذا علمتَ بهذا هل هو عبادة لله ؟ فلا بد أن يقولَ : نعم ، والدعاءُ مخُ العبادة . فقل لهُ : إذا أقررتَ أنها عبادةٌ ، ودعوتَ اللهَ ليلاً ونهاراً ، خوفاً وطمعاً ، ثم دعوتَ في تلكَ الحاجةِ نبياً ، أو غيرَه ، هل أشركتَ في عبادةِ الله غيرَه ؟ فلا بد أن يقولَ : نعم ، فقلْ لهُ : قال الله تعالى : ( فصل لربك وانحر ) [ الكوثر : 2] فإذا أطعتَ الله ونحرتَ له ، هل هذه عبادةٌ ؟ فلا بد أن يقولَ : نعم . فقلْ لهُ : إذا نحرتَ لمخلوقٍ نبيٍ أو جنيٍ أو غيرِهما ، هل أشركتَ في هذهِ العبادةِ غيرَ الله ؟ فلا بد أن يقر ، ويقولَ : نعم .
---
قوله : ( فقلْ لهُ : ) : المصنف – رحمه الله – بدأ مع هذا المشرك بتعريف العبادة وإخلاصها ، والحكمة من ذلك أن هذا المشرك أخرج الدعاء والالتجاء من العبادة بقوله : ( وهذا الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة ) ، فأراد رحمه الله أن يبين له بطلان قوله ، وأن الدعاء هو أعظم العبادات وأجل الطاعات ، فهذا التقرير يعتبر هو الدليل الأول لبطلان قول الخصم .
وملخص جواب المصنف – رحمه الله – هنا : أن يُسأل الخصم عن معنى العبادة ، فإنه لا يعرفها ، فيبين له بالمثال ، فيقال له : إذا دعوت الله تعالى ، فهل تكون بذلك عبدته ؟ فلا بد أن يقول : نعم لأن الدعاء عبادة ، فيقال له : كذلك إذا دعوت غير الله تكون بذلك عبدت غيره ، لأن الدعاء عبادة . وهكذا يقال في الذبح والالتجاء ونحو ذلك .(1/132)
قوله : ( أنتَ تُقر أن الله فرضَ عليكَ إخلاصَ العبادةِ ، وهو حقُّهُ عليكَ ؟ ) : الإخلاص هو " أن يتوجه المكلف بأعماله كلها لله وحده دون سواه ؛ فلا يقصد بعبادته ملَكَا ولا مِلكا ، ولا يعبد شجراً ولا حجراً ولا شمساً ولا قمراً ؛ الإخلاص يعني أن يتوجه بالأعمال القلبية لله وحده ، كما يتوجه بالأعمال الظاهرة ، والإخلاص هو الدين الذي بعث الله به الرسل جميعاً ، فكان محور دعوتهم ولبها ، وهو الدين الذي طالبت به الرسل الأمم التي أرسلت إليها : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) [ البينة : 5] ، وكل رسولٍ كان يقول لقومه : ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ المؤمنون : 32] وقد قرر الله هذه الحقيقة : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25] وقال : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل : 36] . (1).
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : ( .. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ... ) الحديث (2).
قوله : ( فقلْ لهُ : بينْ لي هذا الذي فرضَ عليكَ : هو إخلاصُ العبادة لله ، وهو حقُّه عليك ؛ فإنّه لا يعرفُ العبادةَ ، ولا أنواعَها ) :
العبادة في اللغة هي : الطاعة مع الخضوع ؛ ومنه طريق معبد : إذا كان مذللاً بكثرة الوطء (3) وفي الشرع : قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " (4) .
__________
(1) الإخلاص لعمر الأشقر ص 15- 16.
(2) أخرجه البخاري (128) ومسلم (30) .
(3) - لسان العرب (3/273) .
(4) - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ( 10/149) .(1/133)
وأنواع العبادة كثيرة ؛ منها على سبيل المثال لا الحصر : الصلاة والزكاة والصيام والجهاد وصلة الأرحام وإطعام الطعام وبر الوالدين والنذر والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة والدعاء ؛ كلها عبادة لا تصرف إلا لله وحده لا شريك له ، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد أشرك بالله تعالى ، قال تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) [ النساء : 48] وقال : ( فلا تدعو مع الله أحداً ) [ الجن : 18] .
قوله : ( فبينها له بقولك : قال الله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً ) : المصنف رحمه الله أراد تعريف العبادة لهذا المشرك بالمثال ؛ لأن التعريف بالمثال أقرب للفهم من غيره ، واختار المؤلف هذه الآية دون غيرها لأنها تخص عبادة الدعاء ؛ إذ ينكر هذا المشرك أن يكون دعاء الصالحين من العبادة ، ووجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى قرر فيها أنه هو الرب فقال : ( ادعوا ربكم ) . والرب هو الخالق الرازق النافع الضار ، ومن يملك ذلك فهو المستحق للعبادة دون من سواه ، والدعاء هو العبادة كما جاء عند الترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدعاء هو العبادة ) (1) ، وقد فسر الله تعالى دعاء المشركين لأصنامهم بأنها عبادة لها كما في قوله تعالى ( وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ) [ فصلت : 48] وقال سبحانه ( قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون ) [ الكافرون : 1، 2] بهذا يعرف معنى العبادة .
__________
(1) - رواه الترمذي ( 9/149) مع التحفة : وقال : حديث حسن صحيح ، وصححه الذهبي في تلخيصه على مستدر الحاكم (1/491) ، والنووي في الأذكار ص 345، وقال ابن حجر في الفتح (1/49) : إسناده جيد .(1/134)
قوله : ( فقل له : فإذا علمتَ بهذا هل هو عبادة الله ؟ فلا بدَ أن يقولَ : نعم ، والدعاءُ مخُ العبادة ) : هذا نص حديث أخرجه الترمذي من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبان بن صالح عن أنس به . قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة .أ هـ . (1) .
والحديث له شاهد قدم الكلام عليه . والمعنى أن الدعاء لب العبادة وخالصها ؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه ، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقهما (2) .
قوله : ( فقل له : قال الله تعالى ( فصل لربك وانحر ) ... ويقول نعم ) : هذا هو المثال الثاني الذي ضربه المصنف ليبين لمن يجادله معنى العبادة ببعض أفرادها وصورها ؛ فمن صور العبادة الذبح ومثل به المصنف لأنه آكد أنواع العبادة العميلة المالية وأفضلها ، وقصد بهذه التقريرات أن يصل إلى بيان العبادة ، وأن من صرف نوعاً منها لغير الله فقد أشرك .
[ الجواب الثاني ]
وقلْ لهُ أيضاً : المشركونَ الذين نزلَ فيهمُ القرآن ، هل كانوا يعبدون الملائكةَ والصالحين واللاتَ وغيرَ ذلكَ ؟ فلا بد أن يقول : نعم . فقلْ لهُ : وهل كانتْ عبادتُهم إياهُم إلا في الدعاء والذبحِ والالتجاءِ ونحو ذلك ، وإلا فهُمْ مُقِرُّون أنهم عبيدهُ وتحتَ قهرِ الله ، وأن الله هو الذي يُدبرُ الأمرَ ، ولكنْ دعوهُم ، والتجأوا إليهم للجاهِ والشفاعةِ ، وهذا ظاهر جداً .
---
قوله:( وقلْ لهُ أيضاً : المشركونَ ... ) الجواب الثاني لبطلان قول الخصم ؛ وهو أن عبادة المشركين لمعبوداتهم كانت في الدعاء والذبح ونحوها ليس إلا ؛ وقد أخبر القرآن عن ذلك في آيات كُثْر ، وإلا فهم مُقِرُّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت كما تقدم بيانه
حاصل الأجوبة على هذه الشبهة
الجواب على هذه الشبهة من وجوه منها :
__________
(1) - الترمذي (9/310) . مع التحفة .
(2) - انظر تحفة الأحوذي ( 9/311) .(1/135)
أولاً : أن هذا القول يصادم النصوص الواضحة التي سمّت الدعاء عبادة ، وهي كثيرة ؛فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( الدعاء مخ العبادة ) .
ثانياً : إن قول المشرك ( الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة ) هذا قول باطل لأن الأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني ؛ فتغيير الاسم لا يغير حقيقة المسمى ولا يزيل حكمه (1) ؛ لأن العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ والأسماء.
قال ابن القيم : " فالشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه ؛ فمن سجد لمخلوق وقال : ليس هذا بسجود له هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة ، أو هذا إكرام ؛ لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجوداً لغير الله ، وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم عبادة " (2)
ومن كيد الشيطان لهؤلاء أنه لما علم أن كل من قرأ القرآن أو سمعه ينفر من الشرك ومن عبادة غير الله تعالى ألقى في قلوب الجهال أن ما يفعلونه مع المقربين وغيرهم ليس عبادة لهم ؛ وإنما هو توسل وتشفع بهم والتجاء إليهم ونحو ذلك ، فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب (3) .
__________
(1) - تطهير الاعتقاد ص 20، والانتصار لحزب الله ص 10.
(2) - بدائع الفوائد ( 2/235) .
(3) - الانتصار لحزب الله ص 11، 13.(1/136)
ثالثاً : وأيضاً نقول لهم : لا نسلم بأن الدعاء لا يدخل في العبادة ، فإنه إن لم يكن الدعاء من العبادة فلا عبادة يمكن أن نتصورها ؛ لأن الدعاء يتضمن أنواعاً من العبادات وليس عبادة واحدة فقط ؛ فهو يتضمن الرجاء والخوف والتوكل والتضرع والابتهال والخشية والطمع والتوجه إلى الله والإقبال عليه والانطراح بين يديه وحسن الظن بالله والمراقبة لله ... فإذا لم تكن هذه الأمور عبادة فلا يمكن أن نتصور عبادة ؛ وقد وردت الأدلة الصحيحة بأن الدعاء هو العبادة وأنه مخها وروحها ، قال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما : ( الدعاء هو العبادة ) : " فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجلَ العبادات ؛ فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً ، فليس في الأرض شرك ، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادات " (1) .
رابعاً : إن السبب الذي أوقعهم فيما قالوا أنهم ضيقوا مفهوم العبادة وظنوا أنها لا تشمل إلا نحو السجود والركوع ، فيقال لهؤلاء :
إن السجود عبادة ، ومثله الدعاء والنذر والذبح والالتجاء .. فما الفارق الذي أباح صرف هذا دون هذا ؟ بل الذي ورد في خصوص الدعاء أكثر مما ورد من السجود (2) .
ويقال لهؤلاء أيضاً : إن هذا جهل بمعنى العبادة ؛ فإنها ليست منحصرة في السجود والصلاة .. : " بل رأسها وأساسها الاعتقاد ، وقد حصل في قلوبهم ذلك ، بل يسمونه معتقداً ويصنعون له ما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والحلف والنذر وغير ذلك " (3) .
__________
(1) - تيسير العزيز الحميد ص 219.
(2) - الانتصار لحزب الله ص 26 .
(3) - تطهير الاعتقاد ص 34.(1/137)
ج- ويقال أيضاً لمن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والالتجاء إلى الصالحين عبادتهم : : " فلأي مقتضى صنعت هذا الصنيع ؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك ، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك " (1) .
خامساً : أن المشركين الذي نزل فيهم القرآن كانت عبادتهم للملائكة والصالحين في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك ، كما قال تعالى عنهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [ الزمر : 3] فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم ، وقد بيّن الله تعالى المراد من هذه العبادة في مواضع منها قوله تعالى : ( وقيل له أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ) [ الشعراء : 92، 93] وقوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98] وقوله سبحانه ( لا أعبد ما تعبدون ) [ الكافرون : 2] . وهو كثير في القرآن ؛ فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها .
[ الشبهة الخامسة ]
[ من ينكر طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين فهو منكر لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره ]
فإن قالَ أتنكرُ شفاعةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتبرأُ منها ؟ فقل له : لا أُنكرها ولا أتبرأ منها ، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافعُ المشفعُ ، وأرجو شفاعَتَهُ ، ولكن الشفاعةَ كلّهَا للهِ تعالى كما قال تعالى : ( قل لله الشفاعة جميعاً ) [ الزمر : 44] .
---
__________
(1) - الدر النضيد ص 75.(1/138)
قوله : ( فإن قالَ : أتنكرُ شفاعةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها ؟ ) : عند ما أنكر المصنف _ رحمه الله _ على الذين يطلبون الشفاعة من المخلوقين وبيَن أن الشفاعة حق الله عز وجل لا تطلب إلا منه سبحانه ، أورد عليه مورد فقال : هل تنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ، وأراد بهذا الإلزام أن يلزم الإمام بالقول بجواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بان يشفع له عند الله ، وسيأتي الجواب عنها في كلام المصنف رحمه الله .
قوله : " ( لا أُنكرُها ولا أتبرأ منها ، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافعُ المشفعُ ، وأرجو شفاعَتَه ) : وهذه فرية وتهمة ألصقت بالمصنف رحمه الله ، وقد أشار إلى ذلك في موضوع آخر : " يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم ، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع ، صاحب المقام المحمود ، نسأل الله رب العرش العظيم أن يشفعه فينا ، وأن يحشرنا تحت لوائه ، هذا اعقتقادنا ، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح ،وهم أحب الناس لنبيهم وأعظمهم في اتباع شرعه " (1) )
قوله : ( ولكن الشفاعةَ كلّهَا لله تعالى كما قال تعالى : ( قل لله الشفاعة جميعاً ) : بيّن المصنف – رحمه الله – أن الشفاعة ملك لله عز وجل وستدل على ذلك بقوله تعالى ( قل لله الشفاعة جميعاً ) ؛ قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن _ رحمه الله _ تعليقاً على هذه الآية " أي هو مالكها وليس لمن تطلب منه شيء منها ، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل ما سواه ؛ لأن ذلك عبادة وتأله لا يصلح إلا لله " (2) .
__________
(1) - مجموع مؤلفات الشيخ (5/48) .
(2) - فتح المجيد ص 279.(1/139)
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله : " ... الشفاعة كلها ، ليس لأحد فيها شيء .. " (1) . وقال الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – " اللام عند جميع العلماء للملك ؛ بينت الآية أن الشفاعة ملك لله وحده ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أُعطيها لا استقلالاً دون الله ، بل أكرمه المالك لها لأنها مخصوصين في مقدار مخصوص ، فهو شيء محدود لشيء محدود " (2) .
وإذا كانت الشفاعة ملكاً لله وحده فإنه لا يحق لأي مخلوق أن يشفع مهما كانت مرتبته وعلت منزلته إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
[ شروط الشفاعة المثبتة ]
ولا تكونُ إلا من بعد إذن الله كما قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255] ولا يُشفعُ في أحدٍ إلا من بعدِ أن يأذن الله فيهِ كما قال تعالى : (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28] وهو لا يرضى إلا التوحيدَ كما قال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دنياً فلن يقبل منه ) [ آل عمران : 85] .
---
قوله : ( ولا تكونُ إلا من بعدِ إذن الله ... ) : هذا بيان لشروط الشفاعة المثبتة وهي :
الأول : إذن الله تعالى للشافع أن يشفع ؛ قال المصنف : " ولا تكونُ إلا من بعدِ إذن الله كما قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) " قال الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - : " فأي قائل أو أي إنسان يخرج النبي من هذا العموم ؟ " (3) .
الثاني : رضا الله عن الشافع والمشفوع له ؛ قال المصنف – رحمه الله - : " ولا يشفعُ في أحدٍ إلا من بعدِ أن يأذن الله فيهِ كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) " .
__________
(1) . الهدية السنية ص 42، وانظر تفسير ابن جرير (24/ 9) .
(2) - شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 73
(3) - شرح كشف الشبهات ص 73.(1/140)
ثم بيّن – رحمه الله - الشرط في المشفوع له بقوله : " وهو لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) [ آل عمران : 85] وفي موضوع آخر قال : " ولا يأذن إلا لأهل التوحيد " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله : " سبب الشفاعة توحيد الله وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له ؛ فكل من كان أعظم إخلاصاً كان أحق بالشفاعة ؛ فإن الشفاعة مبدؤها من الله ، وعلى الله تمامها ن فلا يشفع أحد إلا بإذنه ، وهو الذي يأذن للشافع ، وهو الذي يقبل في المشفوع له (1) .
قال ابن القيم رحمه الله : " ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه ولياً أو شفيعاً أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من والاهم ، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255] وفي الفصل الثاني : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28] . وبقي فصل ثالث : وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول ... فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها : لا شفاعة إلا بإذنه ، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله ، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله " (2) .
__________
(1) - مجموع الفتاوى (14/ 414) .
(2) - مدارج السالكين ( 1/341) .(1/141)
وقال : "تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه وقد سأله من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبله ) (1) . كيف جعل الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد ، عكس ما عند المشركين ، أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله ، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب ، وأخبر أن سبب الشفاعة هو تجريد التوحيد ، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع " (2) . وقال في موضع آخر عن هذا الحديث : " إنما تنال بتجريد التوحيد ؛ فمن كان أكمل توحيداً كان أحرى بالشفاعة ، لا أنها تنال بالشرك بالشفيع كما عليه أكثر المشركين وبالله التوفيق " (3) .
[ الطريقة الشرعية لطلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ]
فإذا كانت الشفاعةُ كلُها لله ، ولا تكونُ إلا من بعد إذنه ، ولا يشفعُ النبيُ صلى الله عليه وسلم ولا غيرُهُ في أحدٍ حتى يأذن الله فيه ، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد ؛ تبين لك : أن الشفاعةَ كلَها لله ، وأطلبُها منه فأقول : اللهم لا تحرمني شفاعتَه ، اللهم شفّعه فيّ ، وأمثال هذا .
---
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (99) .
(2) - مدارج السالكين (1/341) .
(3) - تهذيب السنن (7/134) .(1/142)
قوله : ( فإذا كانت الشفاعةُ كلُها لله ... ) : عندما ذكر المصنف أن طلب الشفاعة من غير الله لا يجوز – فلا يصح مثلاً أن يقال : يا رسول الله أسألك الشفاعة – بيّن رحمه الله لمن أراد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الشرعي في سؤالها ؛ وهي أن تقول : اللهم لا تحرمني شفاعته ، اللهم شفّعه فيّ وأمثال هذا ، وهذا مما يؤكد لنا حرص المصنف رحمه الله على الاقتداء بمنهج الكتاب والسنة ، فالله عز وجل إذا حرّم شيئاً ذكر له بديلاً عنه كما في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) [ البقرة : 104] وكما جاء عند أبي داود في سننه عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقولوا ما شاء الله وفلان ، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ) (1) .
إذاً جواب إمام الدعوة –رحمه الله – على هذه الشبهة التي قال صاحبها : أتنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، يتضمن النقاط التالية :
إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم التبرؤ منها .
بيان أن الشفاعة ملك لله تعالى وهو المتصرف فيها بما يشاء .
أن يوضح له أن الله جعل لنيل الشفاعة شروطاً لا بد من توافرها في الشافع والمتشفع فيه ، وإلا انتفت الشفاعة . مع التأكيد بأن هذه الشفاعة خاصة بأهل التوحيد فقط دون غيرهم كما في حديث أبي هريرة المتقدم " من أسعد الناس " الحديث .
__________
(1) - رواه أبو داود ورقمه ( 4980) ، وصححه النووي في الأذكار ص 308، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : ( رواه أبو داود بسند صحيح ) انظر :فتح المجيد ص 601.(1/143)
أن يرسم له الطريق الشرعي في كيفية سؤال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتمل العلاج ويبرأ الداء بإذن الله تعالى ، فيقال له تقول مثلاً اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك ، فيكون الدعاء موجهاً لله تعالى بأن لا يحرمك شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح لك أن تقول : يا رسول الله أسألك الشفاعة . والله تعالى أعلم وأحكم .
[ الشبهة السادسة ]
[ النبي أُعطي الشفاعة وأنا أطلب منه مما أعطاه الله ]
فإن قالَ : النبيُ صلى الله عليه وسلم أُعطي الشفاعةَ وأنا أطلْبُهُ مما أعطاه الله .
[ الجواب الأول ]
فالجوابُ : أن الله أعطاهُ الشفاعةَ ونهاكَ عن هذا فقال : ( فلا تدع مع الله أحداً ) [ الجن : 18] ، فإذا كنت تدعو الله أن يُشّفعَ نبيهُ فيكَ فأطعْهُ في قوله : ( فلا تدعو مع الله أحداً ) .
---
قوله : ( فإن قالَ : النبيُ أُعطي الشفاعةَ وأنا أطلْبُهُ مما أعطاهُ الله ) : صدق الله – ومن أصدق من الله قيلاً _ ( يخادعون اللهَ والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) [ البقرة : 9- 10 ] ؛ فهذا المشرك ليس لبوس التقوى والاستجابة لأمر الله ، فأصبح يتظاهر بأن فعله هذا صادر عن استجابة لأمر الله تعالى وانقياد له ، فهو ما طلب الشفاعة من نبيه صلى الله عليه وسلم إلا لأن الله أعطاه إياها، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً !!
قوله : ( فالجوابُ : أن الله أعطاهُ الشفاعةَ ونهاكَ عنْ هذا ) : أجاب المصنف عن هذه الشبهة بجوابين هذا الأول منهما (1) :
__________
(1) - انظر جلاء العينين ص 446، مصباح الظلام ص 255.(1/144)
أي نهاك عن أن تطلبها من النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنت الآن تدعي أن فعلك هذا إنما هو استجابة لأمر الله ، فالله جل جلاله ينهاك أيضاً عن هذا الفعل الذي تفعله ويقول لك : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) فهل تستجيب لأمره ؟ أم يصدق عليك قول الله سبحانه ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) [ البقرة : 85] قال عبد الله القصيمي رداً على هذه الشبهة : " من ذا الذي قال بأن كل من أعطي شيئاً جاز طلبه منه ؟ وأي دليل على هذا القول ؟ وهل يجوز للناس جميعاً أن يسألوا الأغنياء الأموال والأشياء التي أعطاهم الله إياها ؟ وهل يجوز لكل مسلم أن يسأل كل مخلوق ما أعطاه الله وما ملكه إياه من أنواع الأموال والأعطيات بحجة أن الله أعطاه ذلك ، وبحجة أنه لا مانع من سؤال الخلق ما أعطوا ، لأن طلب الحق لا يكون باطلاً ... " (1) .
[ الجواب الثاني ]
وأيضاً : فإن الشفاعة أعطيَها غيرُ النبي صلى الله عليه وسلم فصحَ أن الملائكةَ يشفعونَ والأفراطَ يشفعون ، والأولياءَ يشفعونَ .
أتقولُ : إن الله أعطاهمُ الشفاعةَ فأطلبُها منهم ؟!
فإن قلتَ هذا ، رجعتَ إلى عبادةَ الصالحينَ التي ذكرها الله في كتابِه ، وإن قلتَ : لا ، بطل قولُك : أعطاهُ الله الشفاعةَ وأنا أطلبُهُ مما أعطاه الله .
---
قوله :( وأيضاً ) : هذا هو الجواب الثاني لهذه الشبهة .
__________
(1) - الصراع بن الإسلام والوثنية (2/212) وقد ألّف الكتاب قبل إلحاده وزندقته نسأل الله العفو والعافية.(1/145)
قوله : ( فإن الشفاعةَ أعطيَها غيرُ النبي صلى الله عليه وسلم فصحَ أن الملائكةَ يشفعونَ ) : كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً قال : ( فيقول الله تعالى شفعت الملائكةَ ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض الله قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيرًا قط ) رواه مسلم (1) .
قوله : ( والأفراط يشفعون ) : الأفراط هم الأطفال ؛ روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من الناس من مسلم يُتوفى له ثلاث لم يبلغن الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ) (2) .
قوله : ( فإن قلتَ هذا رجعتَ إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه ، وإن قلتَ : لا بطل قولُك : أعطاهُ الله الشفاعةَ وأنا أطلبُهُ مما أعطاهُ الله ) : أي إن قلت : إنني أطلب الشفاعة من غير النبي كالأولياء والملائكة فقد وقعت في الشرك الذي هو عبادة الصالحين التي ذكرها في كتابه كما قال تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3 ] وقال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18] وبهذه الإلزامات خصم المصنف خصمه لأنه لن يقول بهذا !!
إذاً يمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بعدة أجوبة ، منها :
أولاً : أن الله أعطى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الشفاعة ، ونهاك عن سؤاله الشفاعة والدليل قوله تعالى : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن : 18] .
__________
(1) - قطعة من حديث طويل ، أخرجه مسلم ورقمه (183) .
(2) - رواه البخاري ورقمه ( 1248) . وانظر للمزيد من الأدلة في ذلك رسالة الشيخ مقبل الوادعي في الشفاعة ص 201.(1/146)
ثانياً : " من ذا الذي قال بأن كل من أعطي شيئاً جاز طلبه منه ؟ وأي دليل على هذا القول ؟ وهل يجوز للناس جميعاً أن يسألوا الأغنياء الأموال والأشياء التي أعطاهم الله إياها ؟ وهل يجوز لكل مسلم أن يسأل كل مخلوق ما أعطاه الله وما ملكه إياه من أنواع الأموال والأعطيات بحجة أن الله أعطاه ذلك ، وبحجة أنه لا مانع من سؤال الخلق ما أعطوا ، لأن طلب الحق لا يكون باطلاً ... " (1) .
ثالثاً : أن الله تعالى أعطى الشفاعة غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فالملائكة يشفعون والأولياء يشفعون .. فهل تطلب الشفاعة من هؤلاء كما تطلبها من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فإن قال الخصم : نعم ، رجع إلى عبادة الصالحين كما قال تعالى ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ الزمر : 3 ] وقال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18] .
وإن قال الخصم : لا أطلب الشفاعة منهم ، بطل قوله : إن الله أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم الشفاعة فأنا أطلبه مما أعطاه !
رابعاً : " أن الله سبحانه وتعالى أعطاه الشفاعة ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بإذنه ، ولا يشفع إلا لمن ارتضاه الله ، ومن كان مشركاً فإنه الله لا يرتضيه ، فلا يأذن أن يشفع له ؛ كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) [ الأنبياء : 28] (2) .
__________
(1) - الصراع بن الإسلام والوثنية (2/212)
(2) - شرح كشف الشبهات للشيخ محمد العثيمين – رحمه الله – ص 93.(1/147)
خامساً : " إطلاق القول بأن الله ملّك المؤمنين الشفاعة خطأ ، بل الشفاعة كلها لله وحده ( قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ) [ الزمر : 44] وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحين يشفعون ، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة يصح أن يقال إنه ملك ما أذن الله في فقط ، لا ما لم يأذن الله له فيه ، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا لا تمليك مطلق ... وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع حتى يقال له ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع " (1) .
سادساً : لا دليل صحيح صريح على جواز طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، ولذا قال المصنف : " القائل أنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من اجتماع الأمة ، والحق أحق أن يتبع " (2)
[ الشبهة السابعة ]
[ الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك ]
فإن قالَ : أنا لا أشركُ بالله شيئاً ، حشا وكلا ، ولكنَّ الالتجاءَ إلى الصالحينَ ليس بشركٍ . فقلْ لهُ : إذا كنتَ تُقرُّ أن الله حرمَ الشركَ أعظمَ من تحريم الزنا ، وتقرُ أن الله لا يغفره ، فما هذا الذي حرمَهُ الله وذكرَ أنه لا يغفره ؟ فإنه لا يدري . فقل لهُ : كيف تبرئُ نفسك من الشركِ وأنتَ لا تعرفهُ ؟ أم كيف يُحرِّم عليك هذا ويذكرُ أنه لا يغفرهُ ولا تسألُ عنهُ ولا تعرفُه ؟ أتظنُ أن الله يُحرمُهُ ولا يبينه لنا ؟!!.
__________
(1) - تأسيس التقديس ص 82.
(2) - مؤلفا ت الشيخ 5/48.(1/148)
قوله : ( إذا كنتَ تقرُّ أن الله حرم الشرك أعظمَ من تحريمِ الزنا ) : وهذا أمر لا شك فيه ؛ فالشرك هو أعظم ذنب عصي الله به كما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] ، وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) (1) . " ووجه كونه ظلماً عظيماً أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوّى المخلوق من تراب ، بمالك الرقاب ، وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله ، وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه ، وسوّى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه ؛ فهل أعظم من هذا الظلم شيء ؟ وهل أعظم ظلماً ممن خلقه الله تعالى لعبادته وتوحيده فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب " (2) .
قوله : ( وتقرُّ أن الله لا يغفرهُ ) : وذلك كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفرُ أن يشرك به ) [ النساء : 48 ] ، ولا شك أن الخصم يسلم بذلك لأنه يزعم الالتزام بالقرآن .
قوله : ( فما هذا الأمر الذي حرمَهُ وذكرَ أنهُ لا يغفره ؟ فإنه لا يدري ) : لا يخلو حال الخصم من أمرين :
أحدهما : أنه لا يعرف معنى الشرك ، فيقال كيف تدعي البراءة من الشرك ، وأنت لا تعرفه ؟ أو تظن أن الله حرم الشرك ، وحذر منه ، ولم يبينه لعباده ؟ فهذا ممتنع (3) .
الأمر الأخر : أن يُعَرَّفَ الشرك بتعريف لا يصح ، لكونه غير جامع لأفراد الشرك وأنواعه .
قوله : (فقل له : ) : أي إذا كان الخصم لا يعرف الشرك .
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (4761 ) ، ومسلم برقم (142 ) .
(2) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (6/155) .
(3) - انظر تعليقات على كشف الشبهات : ص 71.(1/149)
قوله : ( كيف تبرئُ نفسك من الشركِ وأنتَ لا تعرفهُ ؟ أم كيفَ يُحرِّمُ عليكَ هذا ويذكر أنه لا يغفرهُ ولا تسألُ عنهُ ولا تعرفهُ ؟ ) : هذا مما يدل على تفريطهم في طلب معرفة الحق ، مع أن الحق في هذه المسألة أوضح من الشمس في رابعة النهار ، فإذا كان الله عز وجل عظم أمر الشرك ، وحذر منه غاية التحذير ، وتوعد من فعله أنه لا يغفر له بل هو خالد في نار جهنم – نعوذ بالله من ذلك – قال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) [ المائدة : 72 ] . ، ومع ذلك كله يتساهل ويتكاسل ولا يسأل عن هذا الذي حرمه الله عز وجل ، ومن العجيب أنك تراهم إذا عزموا على صفقة تجارية أو أعمال دنيوية لا يقدمون عليها إلا بعد أن يستنفروا كل الطاقات والإمكانات المتاحة لهم لمعرفة مدى نجاحها ومكاسبها – وهذا الأمر بحد ذاته فعل حسن – لكن لماذا يكيلون بمكيالين ، ويزنون بميزانين ؟ لماذا لا يتحرى أحدهم ويسأل قبل أن يقدم على فعل من أفعال العبادة ؟ ويسأل عن مدى ثبوتها وصفتها التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤديها عليها ؟ فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قوله : ( أتظنُ أن الله يُحرمُهُ ولا يبينهُ لنا ؟ ! ) : وهذا من أبطل الباطل ؛ أن الله يحرم شيئاً ولا يبينه ، " فإن ظن ذلك فقد ضل ضلالاً أعظم من ضلاله الأول وأضاف إلى ذلك كفراً آخر " (1) .
أخرج الهروي عن الشافعي قال : سئل مالك عن الكلام والتوحيد ؟ فقال مالك : محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) فما عصم به المال والدم حقيقة التوحيد .
فإذا عرفنا التوحيد عرفنا الشرك كما قال القائل :
__________
(1) - شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 78.(1/150)
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء (1)
وضد التوحيد هو الشرك – أعاذنا الله وإياك منه وجميع المسلمين –
قال ابن القيم رحمه الله وقد تكلم عن قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعاً في قوله تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ... ) [ سبأ : 22] " والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هم مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ) ؛ وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك ، وما عابه القرآن وذمه ، وقع فيه وأقره ، ودعا إليه وصوّبه وحسنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية ، أو نظيره أو شر منه ، أو دونه ، فيقضي بذلك عرى الإسلام عن قلبه ، ويعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، والبدعة سُنِّة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ، ويُبدع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع . ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً والله المستعان " (2) .
وملخص جواب هذه الشبهة – التي قال فيها صاحبها : أنا لا أشرك بالله ، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك – أن يقال جواب ذلك من وجهين :
" الأول : أن يقال : كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه ، وهل الحكم على الشيء إلا بعد تصوره ؛ فحكمه ببراءة نفسك من الشرك وأنت لا تعلمه حكم بلا علم فيكون مردوداً .
__________
(1) - شرح ديوان المتبنى لعبد الرحمن البرقوقي ( 1/149) .
(2) - مدارج السالكين ( 1/343) .(1/151)
الوجه الثاني : أن يقال لماذا لا تسأل عن الشرك الذي حرمه الله تعالى أعظم من تحريم قتل النفس والزنا وأوجب لفاعله النار وحرم عليه الجنة ؟ أتظن أن الله حرمه على عباده ولم يبينه لهم ؟ حشاه من ذلك " (1)
[ الشبهة الثامنة ]
[ خصوصية الشرك بعبادة الأصنام ]
فإن قالَ : الشركُ عبادةُ الأصنامِ ، ونحنُ لا نبعدُ الأصنامَ .
فقلْ لهُ : ما معنى عبادة الأصنامِ ؟
أتظنُّ أنهم يعتقدونَ أن تلكَ الأحجارَ والأخشابَ تخلقُ وترزقُ وتدبرُ أمرَ من دعاها ؟ فهذا يُكذبُهُ القرآنُ .
وإن قالَ : هو من قصدَ خشبةً أو حجراً أو بُنْيَةً على قبرٍ أو غيرِه يدعونَ ذلك ويذبحونَ له ويقولونَ : إنهُ يُقربُنا إلى الله زلفى ، ويدفعُ الله عنا ببركتِهِ ، أو يعطينا ببركتِه .
فقلْ : صدقتَ ، وهذا هو فعلُكم عند الأحجارِ والبِنَا التي على القبورِ وغيرِها .
فهذا أقرَ أن فعلَهم هذا هو عبادةُ الأصنامِ ، وهو المطلوبُ .
---
قوله : ( فإن قال : الشركُ عبادةُ الأصنامِ ، ونحنُ لا نعبدُ الأصنامَ ) : هذا هو تعريف الشرك عند هذا المشرك ، وتعريفه له لا يخرج التعريف الصحيح للشرك ؛ فالقاعدة أن " تغير الأسماء لا يغير من الحقائق " ؛ فالحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً ، وليس مع الأسماء والألفاظ ؛ فلذا قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله : " .. من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها ، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها ، كتسمية عبادة غيرا لله توسلاً وتشفعاً ، أو تبركاً وتعظيماً للصالحين وتوقيراً ، فإن الاعتبار بحقائق الأمور لا بالأسماء والاصطلاحات ، والحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً لا مع الأسماء .. " (2) .
__________
(1) - شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن العثيمين ص 96.
(2) - الضياء الشارق ص 182، وانظر تطهير الاعتقاد ص 20، والانتصار لحزب الله ص 10.(1/152)
قوله : ( فقلْ لهُ : ما معنى عبادة الأصنام ؟ ) : طالبه المصنف ببيان معنى عبادة الأصنام لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وهو لم يتصور حقيقة الشرك ولا معناه ، ولذلك حصره في عبادة الأصنام .
فحتى تقام عليه الحجة لابد من بيان معنى الشرك الذي تزول به الشبهة .
قوله : ( أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأحجار والأخشابَ ... ) : لا يخلو المشرك عند تفسير عبادة الأصنام من أمرين : إما أن يفسرها بأنها تخلق وترزق من دعاها ؛ فهو – كما قال المصنف – محجوج بأن القرآن يكذب هذا ؛ قال تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون اللهُ فقل أفلا تتقون ) [ يونس : 31] ، وإما أن يفسرها بأنهم يتقربون إليها بالذبح والدعاء من أجل أن تقربهم إلى الله زلفى ، فإن فسرها بذلك فهو المطلوب كما قال المصنف لأنه بذلك قد خصمه .
[ الجواب الثاني ]
ويُقالُ لهُ أيضاً : قولُكَ الشركُ عبادةُ الأصنامِ .
هلْ مُرادُكَ أن الشركَ مخصوصٌ بهذا ؟ وأن الاعتمادَ على الصالحين ودعاءَهُم لا يدخلُ في ذلك ، فهذا يردُّه ما ذكرَ الله في كتابهِ من كفرِ من تعلقَ على الملائكةِ أو عيسى أو الصالحينَ ، فلا بدَ أن يُقرَّ لكَ أن من أشركَ في عبادةِ الله أحداً من الصالحين فهو الشركُ المذكورُ في القرآنِ ، وهذا هو المطلوبُ . ---
قوله : ( ويُقالُ لهُ أيضاً ( : هذا جواب آخر على شبهة هذا المشرك ، وقد ألزم المصنف فيه هذا المشرك إلزامين :
هل الشرك مخصوص بعبادة الأصنام ؟ وهذا باطل .
هل الاعتماد على الصالحين ودعاؤهم لا يدخل في الشرك ؟ وهذا يرده القرآن.(1/153)
قوله : ( هل مُرادُكَ أن الشركَ مخصوصٌ بهذا ؟ وأن الاعتمادَ على الصالحينَ ودعاءَهُم لا يدخلُ في ذلك ) : أي لا يدخل في عبادة الأصنام ؛ قال الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمه الله : " مَنْ التفت إلى وحي الله أدنى التفاتة قلبية عرف أن الشرك بالله ليس مقصوراً على عبادة صنم ، بل إنه يتمثل في انصراف القلب على غير الله من أي معظم محبوب صامت أو ناطق ؛ لأن قلب الإنسان إذا انصرف إلى شيء من ذلك أسلم وجهه له ، وعمل من أجله ، وبذل في سبيله ، وانحصر ولاؤه وعداؤه فيه ، وكانت خشيته وهيبته منه وتعلقه به ، ورغبته إليه ؛ فما أبعده عن توحيد الله واتباع رسوله ، ولكن كلٌ مِنْ دجل الدجالين وتشقق المضللين وأطماع الجاهلين يحول ركاماً دون معرفة التوحيد الذي جاءت به الرسل ، وإلا فالله قال : ( واعبدوا اللهَ ولا تشركوا به شيئاً ) [ النساء : 36 ] ولم يقل ( ولا تشركوا به صنماً ) وقال : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) [ البقرة : 22] ولم يقل ( فلا تجعلوا لله أصناماً ) " (1) .
قوله : ( فهذا يردُّه ما ذكرَ الله في كتابِه من كفرِ من تعلقَ على الملائكةِ أو عيسى أو الصالحينَ ) : من ذلك قوله تعالى : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) [ آل عمران : 80] قوله تعالى : ( ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) [ سبأ : 40] ومثل قوله تعالى ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ) [ المائدة : 71، 72 ] ، وقوله تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له ) [ الأحقاف : 5] الآية ، وقوله ، (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ... ) [ الرعد : 14] .
__________
(1) - عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين ص 83.(1/154)
قوله : ( فلا بدَ أن يُقرَّ لكَ أن من أشركَ في عبادةِ الله أحداً من الصالحين فهو الشركُ المذكورُ في القرآنِ ، وهذا هو المطلوبُ ) : هذا إن كان يريد الحق ويطلبه ، وأما " من اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا ، تبرقعتْ دونه البينات ، واستهوته الشبهات ، فذهبت به إلى حيث ألقت رجْلها أم قشعم " (1) .
وملخص جواب هذه الشبهة هو كالتالي :
الخصم لا يخلو من حالتين : إما أن يكون جاهلاً بمعنى الشرك أو يكون عالماً به .
فإن كان جاهلاً يقال له : كيف تدعي لنفسك البراءة من الشرك وأنت لا تعرفه ؟ أتظن أن الله حرم الشرك وحذر منه ، ولم يبينه لعباده ؟ فهذا من أبطل الباطل .
وإن كان عالماً بالشرك فإنه سيفسر الشرك بقوله : الشرك عبادة الأصنام ، ونحن لا نعبد الأصنام ، "فجوابه من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : إن كنت تريد بعبادة الأصنام أن مشركي العرب كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تخلق وترزق فهذا يكذبه القرآن ، كما سبق في الآيات القرآنية الدالة على إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق .
الوجه الثاني : وإن كنت تريد بعبادة الأصنام أنه يقصد غير الله كخشبة أو حجر أو بنية ونحوه ن فيسأله ويذبح له بدعوى أنه يقربه إلى الله زلفى ، فيقال : صدقت ، وهو عين فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور .
الوجه الثالث : وإن كنت تريد أن الشرك مخصوص بعبادة الأصنام ، فهذا مردود بالأدلة القرآنية الدالة على كفر من تعلق أو دعا الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين ، ومن ثم فلا بد أن يقر بأن الشرك هو عبادة ما سوى الله تعالى ، سواء كان صنماً أو حجراً أو شجراً أو نبياً أو ملكاً أو صالحاً .
__________
(1) - القائد إلى تصحيح العقائد ص 22.(1/155)
ولذا عرَف العلماء الشرك تعريفاً جامعاً وشاملاً لأنواعه ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحق وحده ؛ فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور ، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك " (1) .
[ حاصل الأجوبة عن الشبهة الثامنة ]
وسرُّ المسألةِ : أنه إذا قالَ : أنا لا أشركُ باللهِ ، فقلْ لهُ : وما الشركُ باللهِ ؟ فسَرْهُ لي : فإن قال : هو عبادةُ الأصنامِ ، فقل : وما معنى عبادةِ الأصنامِ ؟ فسّرها لي ، فإن قال : أنا لا أعبدُ إلا الله ، فقل : ما معنى عبادةِ الله ؟ فسرها لي .
فإن فسرها بما بينَهُ الله في القرآن فهو المطلوبُ ، وإن لم يعرفْهُ فكيفَ يدَّعي شيئاً وهو لا يعرفهُ ؟ وإن فسر ذلك بغير معناه ، بيَّنْتَ له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه ، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا ، ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا : ( أجهل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ ص : 5 ]
---
قوله : ( وسرُّ المسألةِ ) : يعني خالص وحاصل الأجوبة عن الشبهة الثامنة هو أن هذا المشرك لا يخلو من حالات :
الأولى : أن يتوقف ولا يعرف الحق من الباطل ، وهذا كاف في الرد على شبهته . وهذه حال كثير ممن يعبد الأصنام ؛ لا يعرف الشرك ولا أهله .
الثانية : أن يفسرها بما فسره القرآن ؛ فهذا هو المطلوب لأنه كفانا مؤنته وهدم أصله الذي بنى عليه ، وتبين له أنه لم يحقق عبادة الله وحده حيث أشرك به .
الثالثة : أن يفسر عبادة الله بغير معناها – أي بمعنى باطل – فهذا تُبيَّن له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان (2) .
__________
(1) - الاستقامة : (1/344) نقلاً من تعليقات على كشف الشبهات ص 73بتصرف .
(2) - انظر : شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 81- 82 وشرح الشيخ محمد العثيمين ص 98.(1/156)
قوله : ( فكيف يدعي شيئاً وهو لا يعرفهُ ؟ ) : إذا كان لا يعرف معنى العبادة ، فكيف يدعي العلم بها ، وأنه من أهلها وهو جاهل بحقيقتها ؟ - وهذا ما يسمى بالجهل المركب - وبهذا وأمثاله أصيبت الأمة ؛ فإن مثل هذا قد يضل بسببه فئام من الناس : إما لجاهه ، أو لماله ، .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العلماء ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) (1)
قال الإمام الطرطوشي : " فتدبر هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله ... قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوماً بكاءً شديداً ، فقيل له : أمصيبة نزلت بك ؟ فقال : لا ولكنه استفتي من لا علم عنده " (2) . فرحم الله ربيعة ، كم عرف عظم هذا الأمر حتى أبكاه ، يقول الله عز وجل : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) [ الأعراف : 33] .
قال ابن القيم : " فذكر سبحانه المحرمات الأربع مبتدئاً بالأسهل منها ، ثم ما هو أصعب ثم كذلك حتى ختمها بأعظمها وأشدها وهو القول على الله بلا علم " (3) .
__________
(1) - رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر ( 1/194 الفتح ) ومسلم ورقمه (2673) .
(2) - كتاب البدع والحوادث ص 53.
(3) - نقلاً من التفسير المجموع له المسمى بدائع التفسير (2/2008) .(1/157)
قوله : ( وإن فسر ذلك بغير معناه ) : أي فسر عبادة الله بغير معناها الشرعي فتُبيَّن له المعنى الشرعي للعبادة ، وأن الذي يفعلونه في زمانهم هو الشرك الذي وقع فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) [ زلفى : 3] وقال تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعادتهم كافرين ) [ الأحقاف :5، 6] ، وقال تعالى : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن : 18] .
[ الشبهة : التاسعة ]
[ الكفر خاص بمن نسب الولد إلى الله ]
فإن قالَ : إنهم لم يكفروا بدعاءِ الملائكةِ والأنبياءِ ، وإنما كفروا لما قالوا : الملائكةُ بناتُ الله ، ونحنُ لم نقل : إنّ عبدَ القادرِ ولا غيرَهُ ابن الله ؟
فالجواب : أن نسبة الولد إلى الله تعالى كفرٌ مستقلٌ ؛ قال تعالى : ( قل هو الله أحد * الله الصمد ) [ الإخلاص : 1 ، 2 ] والأحدُ : الذي لا نظيرَ لهُ ، والصمدُ : المقصودُ في الحوائجِ . فمن جحدَ هذا كفر ، ولو لم يجحدْ السورِة .
قوله : ( فإن قالَ : إنهم لم يكفروا بدعاء الملائكةِ والأنبياءِ ، وإنما كفروا لما قالوا الملائكةُ بناتُ الله ، ونحنُ لم نقل ك إنَّ عبدَ القادرِ ولا غيرَهُ ابن الله ؟ ) : مفاد هذه الشبهة أنهم ينفون الكفر عمن دعا الملائكة والأنبياء ونحوهم ، وإنما الكفر – بزعمهم – ينحصر فيمن ينسب إلى الله الولد ، وهو يقولون نحن لا ننسب إليه الولد !! فهم حصروا إطلاق الكفر إلى أمورٍ معينة فقط دون غيرها ، وقد أجاب المصنف عليها من أربعة أوجه .
قوله : ( فالجواب أن نسبة الولد إلى الله تعالى كفرُ مستقلٌ ) : هذا هو الجواب الأول ؛ وهو أن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل .(1/158)
قوله : ( والأحد : الذي لا نظيرَ لهُ ) : قال ابن كثير –رحمه الله – في تفسيره : " يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل ، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل ، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله " (1) .
قوله : ( والصمدُ : المقصودُ في الحوائج ) : قال شيخ الإسلام رحمه الله : " قوله { الصمد } بيان لاختصاصه بكمال الصمدية ، وقد ذكرنا تفسير الصمد واشتماله على جميع صفات الكمال كما رواه العلماء من تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقد ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم في قوله { الصمد } ؛ يقول : السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له ، ليس له كفؤ ، وليس كمثله شيء سبحانه ، الواحد القهار ، وكذلك قد ثبت من حديث الأعمش عن أبي وائل ، وقد ذكره البخاري في صحيحه (2) .
ورواه ابن كثير من أهل العلم في كتبهم ؛ قال : الصمد : السيد الذي انتهى سؤدده ، وقد قال غير واحد من السلف كابن مسعود وابن عباس وغيرهما : الصمد الذي لا جوف له . وكلا القولين حق موافق للغة كما سبق في موضعه ، أما كون الصمد هو السيد فهذا مشهور ، وأما الآخر فهو أيضاً معروف في اللغة " (3) .
[ الجواب الثاني ]
وقال تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) [ المؤمنون : 91 ] ففرق بين النوعين وجعل كلاً منهما كفراً مستقلاً .
وقال تعالى : ( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) [ الأنعام : 100] ففرقَ بين الكفرين .
__________
(1) - تفسير ابن كثير 8/ 527. سورة الإخلاص .
(2) - رواه البخاري معلقاً (8/739- فتح ) .
(3) - الفتاوى : ( 17/ 142) .(1/159)
قوله : ( وقال : تعالى : ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) [ المؤمنون : 91 ] ففرق بين النوعين وجعل كلاً منهما كفراً مستقلاً ) : هذا هو الجواب الثاني ومراد المصنف – رحمه الله – بهذا الجواب هو أن الله عز وجل كفّر المشركين بعدة أمورٍ ، ولم يقتصر التكفير على نسبة الولد ، بل كفرهم على دعائهم غيره ، وذبحهم لغيره وهكذا ؛ فكما أن للإيمان شعب فكذلك الكفر له شعب كما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (1) .
وتقدم ذكر نواقض الإسلام التي من ارتكبها فإنه يكفر بذلك ويخرج من الملة ، فهذا يدلل ويبرهن على تهافت هذه الشبهة .
قوله : ( وقال تعالى : ( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بين وبنات بغير علم ) [ الأنعام : 100] ففرقَ بين الكفرين ) : ووجه التفريق في الآية الأولى : أنه سبحانه نفى عن الولد ، ونسبة هذا إليه كفر ، وكذلك نفي جل وعلا أن يكون معه شريك في ألوهيته فقال : ( وما كان معه من إله ) ففرق سبحانه بين الكفرين , وفي الآية الثانية يخبر تعالى أن المشركين جعلوا له شركاء يدعونهم ويعبدونهم من الجن الذي هم من خلق الله ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، فجعلوهم شركاء لله الذي له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين ، وكذلك أنكر سبحانه على المشركين حيث خرقوا له بنين وبنات أي افتعلوا ذلك كذباً وكفراً ، وتأمل تعبير القرآن في قوله ( وخرقوا ) يظهر لك أن هذا الوصف الذي وصفوه به كذب وافتراءٌ ، فالخرق في الثوب ليس أصلياً بل هو عارض ، وأيضاً أن الخرق في الثوب ليس صفة كمال للثوب بل هو صفة نقص والله منزه عن ذلك كله ، والمراد أن الله أنكر على هؤلاء جعلهم مع الله شريكاً وأنكر أيضاً على من نسب البنين والبنات إليه سبحانه ففرق بين الكفرين .
[ الجوابان الثالث والرابع ]
__________
(1) - انظر كتاب الصلاة ص 53.(1/160)
والدليلُ على هذا أيضاً : أن الذين كفروا بدعاء اللات مع كونهِ رجلاً صالحاً لم يجعلوه ابن الله ، والذين كفروا بعبادة الجنِّ لم يجعلوهُم كذلك .
وكذلك أيضاً : العلماءُ في جميع المذاهب الأربعة ، يذكرونَ في ( باب حكم المرتد ) أن المسلم إذا زعمَ أن لله ولداً فهو مرتدٌ ، وإنْ أشركَ باللهِ فهو مرتدٌ ، فيفرقون بين النوعينِ وهذا في غاية الوضوح .
---
قوله : ( والدليلُ على هذا أيضاً : .. ) : هذا هو الجواب الثالث ، وهو أن الذين كفروا بدعاء اللات مع كونه رجلاً صالحاً لم يجعلوه ابن الله .
قوله : ( وكذلك : أيضاً: ... ) : وهذا هو الجواب الرابع ، وانظر إلى ما كتبه الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا ، فقد قال رحمه الله : " وقد اعتنى العلماء رضي الله عنهم بذلك في كتبهم وبوّبوا لذلك في كتب الفقه في كل مذهب من المذاهب الأربعة وهو ( باب حكم المرتد ) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه ، وذكروا أنواعاً كثيرةً كل نوع منها يكفر به المسلم ويبيح دمه وماله ، وسأذكر إن شاء الله تعالى من ذلك ما يكفي ويشفي لمن هداه الله وألهمه رشده ، وأجعل كلام كل طائفة من أتباع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد عل حِدة ؛ ليسهل ذلك على من أراد الإطلاع عليه ، ونبدأ بكلامهم في الشرك الأكبر وتكفيرهم لأهله حين وقع في زمانهم من بعض المنتسبين إلى الإسلام والسنة لأنه هو المهم " ثم شرع رحمه الله يذكر أقوالهم .. (1) .
قوله : ( فيفرقونَ بين النوعين ) : والنوعان هما : كفر من زعم لله ولداً ، وكفر من جعل لله شريكاً ، ففرقوا بين النوعين ، وجعلوا كل واحد منهما كفراً مستقلاً .
[ الشبهة العاشرة ]
[ أولياء الله لهم جاه عند الله ونحن نسأل الله بجاههم ]
__________
(1) - انظر الدر السنية ( 8/177) فهو مفيد .(1/161)
وإن قال : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62 ] فقلْ : هذا هو الحقُ ، ولكن لا يُبعدونَ ، ونحنُ لا نُنكرُ إلا عبادتَهم مع الله ، وإشراكهم معهُ ، وإلا فالواجب عليك حُبهم وإتباعهم والإقرار بكراماتهم .
---
قوله : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62 ] أي إن قال هذا المشرك في هذه الشبهة : إن للأولياء والصالحين جاهاً ومكانة عند الله تعالى ، ونحن نسأل الله تعالى بجاههم ومكانتهم . هذا مفاد هذه الشبهة .
قوله : ( فقل : هذا هو الحقُ ) : أي هذه الآية : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم) ، وهذا أمر لا شك فيه ؛ فقد جاء في الحديث : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب .. ) الحديث(1) ) .
قوله : ( ولكن لا يٌعبدونَ ، ونحنُ لا نُنكرُ إلا عبادتَهم مع الله وإشراكهم معهُ ) : أجاب المصنف عليه بقوله : إن ما تقوله حق ؛ وهو أن للأولياء والصالحين جاهاً ومكانةً عند الله ، لكن هذا الجاه والمكانة لا تكون سبباً لعبادتهم من دون الله تعالى ، ولذلك اختلف " الناس في معاملة الصالحين على ثلاثة أقسام :
أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة والتوقير والتبجيل .
وأهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها .
وأهل الحق الذي يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم (2)
وهذا ما قرره الشيخ رحمه الله في رسائله الأخرى أيضاً ؛ ومن ذلك : " وأما الصالحون فهم على صلاحهم رضي الله عنهم ، ولكن نقول ليس لهم شيء في الدعوة ؛ قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) [ الجن : 18] (3) .
قوله : ( وإلا فالواجب عليك حُبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم ) :
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه ( 6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) - القول السديد ص 76- 77.
(3) - الدرر السنية (1/69] .(1/162)
الكرامة هي : " ما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات " (1) . ، " وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة الإسلام والسُّنة والجماعة ، وقد دل عليها القرآن في غير موضع ، والأحاديث الصحيحة ، والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين .. " (2) .
[ كرامات الأولياء عند أهل السنة وغيرهم ]
ولا يجحدُ كراماتِ الأولياءِ إلا أهلُ البدع والضلالاتِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ( ولا يجحدُ كراماتِ الأولياءِ إلا أهلُ البدعِ والضلالاتِ ) :
فأهل السُّنة يثبتون الكرامات كما تقدم ، وأما أهل البدع – كالمعتزلة والجهمية ومن تابعهم – فهم يجحدونها ، وقد نبه شيخ الإسلام إلى قضية مهمة وهي أن " كثيراً ممن يدعيها أو تدعى له يكون كذاباً أو ملبوساً عليه ، وأيضاً فإنها لا تدل على عصمة صاحبها ، ولا على وجوب إتباعه في كل ما يقوله، بل قد تصدر بعض الخوارق من الكشف وغيره عن الكفار والسحرة بمؤاخاتهم للشيطان ؛ كما ثبت عن الدجال أنه يقول للسماء أمطري فتمطر ، وللأرض أنبتي فتنبت ، وأنه يقتل واحداً ثم يحييه ، وأنه يخرج خلفه كنوز الذهب والفضة ؛ ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية – بل ولا إسلام – حتى ينظر وقوفه عند الأمر والنهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " (3) .
وهناك فرق بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والدجالين ؛ فمن ذلك .
أن كرامات الأولياء سببها الإيمان وطاعة الرحمن ، وأما السحرة والدجالون والمشعوذون فسبب خوارقهم الكفر وطاعة الشيطان (4) .
__________
(1) - الفتاوى (3/156) .
(2) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600.
(3) - مختصر الفتاوى المصرية ص 600.
(4) - انظر : الفتاوى لشيخ الإسلام ( 11/287) .(1/163)
أن أولياء الله ملتزمون بشرع الله محافظون على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف السحرة والمشعوذين فهم على النقيض (1) .
أن أولياء الله يغلب عليهم العلم بأحكام الشرع والصدق والبر ، بخلاف هؤلاء (2) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ومما ينبغي أن يعرف : أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل ؛ فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه ما يقوي إيمانه ويسد حاجته ، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنياً عن ذلك فيأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته ، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة ، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة " (3)
[ وسطية أهل السُّنة الجماعة ]
ودين الله وسط بين طرفين ، وهدى بين ضلالتين ، وحق بين باطلين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) انظر : الفتاوى لشيخ الإسلام ( 11/287)
(2) - للزيادة في معرفة الفروق انظر إلى ما كتبه العلامة ابن القيم في كتابه الروح ص 264، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ صالح الفوزان ص 159.
(3) - الفتاوى ( 11/ 295) .(1/164)
قوله ك (ودين الله وسط بين طرفين ، وهدى بين ضلالتين ، وحق بين باطلين ) : فالأمة وسط بين أهل الملل ، والوسط يأتي بمعنى التوسط بين الشيئين ، والمراد هنا العدل الخيار ؛ فأهل السُّنة والجماعة وسط أي عدل خيار معتدلين بين الطرفين المنحرفين في جميع أمورهم ؛ قال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110] وقال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) [ البقرة : 143] . وأهل السنة والحديث وسط في الفرق (1) ؛ : فدين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه ، وخير الناس النمط الوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ، ولم يلحقوا بغلو المعتدين ، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين ، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط ، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف ، والأوساط محمية بأطرافها ، فخيار الأمور أوسطها ، قال الشاعر :
هي الوسط المحمي فاكتنفت
بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً " (2).
[ بيان أن شرك الأولين أخف من شرك المتأخرين لأمرين ]
فإذا عرفتَ أن هذا الذي يُسميهِ المشركونَ في زماننا ( الاعتقادَ ) هو الشركُ الذي أُنزلَ فيه القرآنُ ، وقاتلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه ، فاعلم أن شركَ الأولين أخفُّ من شرك أهلِ وقتِنا بأمرين :
__________
(1) - انظر التنبيهات على الواسطية ص 192، والروضة الندية ص 227.
(2) - إغاثة اللهفان ( 1/182) .(1/165)
أحدهما : أن الأولين لا يشركونَ ولا يدعونَ الملائكةَ أو الأولياءَ أو الأوثانَ مع الله إلا في الرخاء ، وأما في الشدةِ فيُخلِصونَ الدينَ لله ، كما قال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) [ العنكبوت : 65] ، وقال تعالى : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً ) [ الإسراء : 67] وقال تعالى : ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ) [ الأنعام ك 40، 41] وقوله : ( وإذا مس الإنسانَ ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل ) [ الزمر : 8] وقوله : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) [ لقمان : 32] . فمن فهِمَ هذه المسألة التي وضحهَا الله في كتابِه ؛ وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعونَ الله، ويدعونَ غيرَهُ في الرخاء ، وأما في الضراء والشدةِ فلا يدعونَ إلا اللهَ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وينسونَ سادَتهم ، وتبينَ لهُ الفرقُ بين شركِ أهلِ زمانِنا وشركِ الأولينَ ، ولكن أين من يفهمُ قلبُهُ هذهِ المسألةِ فهماً راسخاً ؟ والله المستعانُ .
الأمر الثاني : أن الأولينَ يدعونَ مع الله أناساً مُقربينَ عندَ اللهِ ؛ إما نبياً وإما ملائكةً ، أو يدعونَ أحجاراً ، وأشجاراً مُطيعةَ لله تعالى ليستْ بعاصيةٍ ، وأهلُ زمانِنَا يدعونَ مع الله أناساً من أفسق الناسِ ، والذين يدعونَهُم هم الذين يحكونَ عنهم الفجور من الزنا ، والسرقة ، وتركِ الصلاةِ ، وغير ذلك ، والذي يعتقدُ في الصالحِ ، والذي لا يعصي – مثل الخشبِ والحجرِ – أهونُ ممن يعتقدٌ فيمن يُشاهدُ فسقُهُ وفسادُه ويشهدُ بهِ .(1/166)
إذا تحققَ أن الذين قاتلَهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصحُّ عقولاً وأخفُ شركاً من هؤلاء ، فاعلمْ أن لهؤلاءِ شبهةً يورِدُونَها على ما ذكرنا وهي من أعظمِ شُبَهِهِمْ فأصغِ سمعكَ لجوابِها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( فإذا عرفتَ أن هذا الذي يُسميهِ المشركونَ في زماننا ( الاعتقاد ) هو الشركُ الذي أُنزل فيه القرآن ، وقاتل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه ) : تقدم قول المصنف من قوله : " وعرفت أن التوحيد الذي جحده هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا ( كبير الاعتقاد ) " فإذا تبين أن هذا هو الشرك الأكبر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإن سموه بغير اسمه – فتسمية الشيء بغير اسمه لا تُخرج الشيء عن مسماه
قوله : ( فاعلم أن شركَ الأولينَ أخفُّ من شرك أهلِ وقتِنا ) : أي شرك أهل مكة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أخف من شرك المشركين في زمن المصنف وذكر وجه ذلك مع أدلته .
قال الشيخ عبد الرحمن الدوسري – رحمه الله – " ولقد تفاقم شر الشرك في هذا الزمان – أي زمن الشيخ عبد الرحمن – ولبس أثواباً غير الأثواب التي عهدها وعالجها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذريته – غفر الله لهم – ففي عهدهم وقبله بقرون تمثلت اللات والعزى ومناة وذات أنواط وغيرها بمقبورين تعيسين ، وأشجار ... ونحوها ولكن في هذا الزمان تمثلت اللات والعزى ونحوها بمبادئ قومية ، ومذاهب مادية ، وطواغيت وأصنام ناطقة متزعمين لهذه المبادئ والمذاهب ، التي غدت تتمثل في شخصياتهم ، وأصبحوا مألوهين بسببها من دون الله.(1/167)
أسلم كثير من الناس وجوههم لهم بكامل الحب والتعظيم الذي لا يحظى به الله منهم ، وأصبحوا يتقبلون ما يصدر منهم بكل تسليم وانشراح صدر ، زاعمين أنه لا يخالف الدين ، وأصبحوا أمناء أقوياء على تنفيذ ما يشرعونه من الأنظمة والقرارات بكل ترحيب وتصميم ، بل يجعلهم البعض في مصاف الرسل مناديًا للزعيم بقوله : ( يا نبي الشرق أو يا رسول القرن العشرين ، ويا رسول الحرية ) وغيره مما لا نحب ذكره ، بل يغالي البعض في إطراء بعض الزعماء قائلاً عنه : إنه حقق ما لم يحققه محمد – صلى الله عليه وسلم – "
قوله : ( أحدهما أن الأولين َ لا يشركونَ ولا يدعونَ الملائكةَ أو الأولياء أو الأوثانَ مع الله إلا في الرخاءِ ...): بين المصنف أن مشركي زمانه أشد شركاً من المشركين السابقين ؛ فالمشركون الأولون كانوا يشركون في حالة الرخاء فقط ، ويخلصون الدعاء والعبادة في حالة الضراء ، أما مشركو زماننا فيشركون في الحالتين : في السراء والضراء ، فصاروا يهتفون بأسماء هؤلاء الأموات في كل مناسبة ، فأصبح لسان الواحد منهم يردد أسماء الصالحين ويدعوهم من دون الله أشد من ذكره لله جل وعلا ؛ كما قال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في رسالة تطهير الاعتقاد :
وكم هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
بل زاد مشركو زماننا على مشركي أهل الجاهلية بأمر ثالث وهو : أنهم اعتقدوا في الموتى وغيرهم أنهم يدبرون الكون ويتصرفون فيه ، كما حصل في كثير من المدائح النبوية التي نظمها بعض الغالين ، كقول البوصيري صاحب البردة :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم(1/168)
وما بعدها من الأبيات ، التي مضمونها إخلاص الدعاء والالتجاء والرجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتماد عليه في أضيق الحالات ، ولتنفيس الصعوبات وتفريج الكربات ، ولم يترك لله شيئاً ، بل وصل الأمر أن بعضهم لو استحلفته – وهو كاذب – بالصالحين لم يحلف ؛ لما لهم من التعظيم في قلبه أشد من تعظيم الله ، ولو استحلفته بالله – وأنت تعلم أنه كاذب – لحلف ولعد الأمر هيناً سهلاً ؛ فهذا عظّم المخلوق أشد من تعظيم الله ، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى إلا بالتوبة ، ولقد أحسن الأديب مصطفى المنفلوطي حينما بُعثت إليه رسالة قال فيها صاحبها – وهو من علماء الهند – إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً ... موضوع تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني ... وذكر مناقبه وكراماته ، فرأى فيه من الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبد القادر ولقبه بها صفاتٍ وألقاباً هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة .. فضلاً عن مقام الولاية ؛ كقوله : ( سيد السماوات والأرض ) , ( والنافع الضار ) و ( ومحيي الموتى ) و( ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمة ) ... إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب !
ويقول صاحب الرسالة : إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه : " أول ما يجب على الزائر : يتوضأ وضوءً سابغاً ، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار ، ثم يتوجه إلى تلك الكعبة المشرفة ، وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول : يا صاحب الثقلين أغثني وأمدني بقضاء حاجتي وتفريج كربتي ، أغثني يا محيي الدين عبد القادر ، أغثني يا وليي عبد القادر .. أغثني يا سلطان عبد القادر ... أغثني يا بادشاه عبد القادر .... يا حضرة الغوث الصمداني ، يا سيدي عبد القادر الجيلاني ، عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة ! " .(1/169)
" هذا ما كتبه إلى ذلك الكاتب . ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء ، وأظلمت الدنيا في عيني ، فما أبصر مما حولي شيئاً ، حزناً وأسفاً على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعد ما عرفوه ، ووضعوه بعد ما رفعوه وذهبوا به مذاهب لا يعرفها ، ولا شأن له بها .
أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظر المحزن : منظر أولئك المسلمين ، وهم ركع سجد على أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خير من ساكنه في حياته ، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته ؟!
أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة فلا يطير جزعاً حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكاً بالله وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات ؟! " .
إلى أن قال : " والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم ، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد ، وإن طلوع الشمس من مغربها ، وانصباب ماء النهر من منبعه ، أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله ، ويقولون للأول كما يقولون لله: أنت المتصرف في الكانات،وأنت سيد الأرضين والسماوات .(1/170)
إن الله أغير على نفسه من أن يُسعد أقواماً يزدرونه ويحتقرونه ويتخذونه وراءهم ظهرياً ، فإذا نزلت بهم جائحة ، أو ألمت بهم ملمة ، ذكروا الحجر قبل أن يذكروه ، ونادوا الجذع قبل أن ينادونه .. إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم وغذوكم ورواحكم : ( كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف ) . فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبراً ، أو يتوسلون بضريح ؟ وهل تعلمون أن أحداً منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قبر أحد من أصحابه , وآل بيته ، يسأله قضاء حاجة ، أو تفريج هم ؟ وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين ، والصحابة التابعين ؟ وهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثاً ولعباً ؟ أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى ؟ وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ، ما دام كل منها يجر إلى الشرك ، ويفسد عقيدة التوحيد ؟ والله ما جهلتم شيئاً من هذه ، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتكم ، وانتقاص أمركم ، وسلط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم ، ويستعبدون رقابكم ويخربون دياركم ، والله شديد العقاب " (1) .
__________
(1) - كتاب النظرات (2/ 66-70) انظر فيه – إن أردت - فهو مفيد . …(1/171)
قوله : ( ولكن أين من يفهمُ قلبُه هذهِ المسألةِ فهماً راسخاً ؟ والله المستعانُ ) : لأنه كما أخبر الله تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [ يوسف : 103] وقال تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [ يوسف : 106] ، فأصيب الناس بالغفلة وعدم الاهتمام بأمر التوحيد ، وانشغلوا بالمفضول عن الفاضل ، وبالمهم عن الأهم ، وهذا من تزيين الشيطان ، ولكن من أراد الله به خيراً وفّقه الله لتدبر كتابه ؛ قال تعالى : ( إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ] . فلن نفهم هذه المسألة وغيرها فهم إيمان إلا من أحضر قلبه وسمعه ولم يتشاغل عن ذلك بشيء والله المستعان .
قوله : ( الأمرُ الثاني : أن الأولينَ يدعونَ مع الله أُناساً مُقربينَ عندَ الله ؛ إما نبياً وإما ولياَ وإما ملائكةً ، أو يدعونَ أحجاراً ، وأشجاراً مُطيعةً لله تعالى ليستْ بعاصيةٍ ) : والمراد بهذه الطاعة : الطاعة الكونية التي لا خيار للمخلوق فيها ، وقد بيّن لنا القرآن خنوع هذه المخلوقات ووجلها من ربها ، كما في قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ) [ الحشر : 21] وقال سبحانه : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً ) [ الأعراف : 143] ، وقد أخبر الله تعالى عن خضوع الكائنات بأسرها : جمادها وحيواناتها ، وكذا ما كان منها مكلفاً من إنس أو جن أو ملك من الملائكة ؛ فقال تعالى ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات و ما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ النحل : 48- 50 ) وقال تعالى : ( ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال ) [ الرعد : 15] .(1/172)
وهذه الأحجار والأشجار لم تكن تُقْصَد لذاتها ، فهم يعلمون أنها لا تنفع ولا تضر ، ولكنهم يجعلونها واسطة بينهم وبين الله ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
قوله : ( وأهلُ زمانِنا يدعونَ مع الله أناساً من أفسقِ الناسِ ، والذين يدعونهم هم الذين يحكونَ عنهمُ الفجورَ من الزنا ، والسرقة ، وتركِ الصلاةِ ، وغير ذلك ) : ومن ذلك من يدعو إمام أهل وحدة الوجود ابن عربي ، فإن عليه الآن قبة في الشام ، قال فيه أبو محمد بن عبد السلام : " هو شيخ سوء مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً ، وقال إبراهيم الجعبري : ( رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله " (1) .
ومنهم من يدعو العفيف التلمساني الذي قال فيه شيخ الإسلام رحمه الله : " التلمساني أعظمهم تحقيقاً لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها ؛ أكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر " (2) . قال ابن القيم رحمه الله في النونية :
مثل العفيف التلمساني الذي هو غاية في الكفر والطغيان
__________
(1) - مجموع الفتاوى (2/240) .
(2) - مجموع الفتاوى ( 2/ 175) .(1/173)
ومنهم البدوي ؛ قال السخاوي : ( حديث المقريزي – في عقوده – عنه – أي عن الغماري – عن شيخه أبي حيان قال : ألزمني الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي ابن البابا ، المسير معه لزيارة أحمد البدوي بناحية طنتدا (1) . فوافيناه يوم الجمعة ، وإذا هو رجل طوال عليه ثوب جوخ عال ، وعمامة صوف رفيع ، والناس يأتونه أفواجاً ؛ فمنهم من يقول : يا سيدي خاطرك مع غنمي ، وآخر يقول مع بقري ، وآخر مع زرعي إلى أن حان وقت الصلاة ، فنزلنا معه إلى الجامع وجلسنا لانتظار إقامة الجمعة ، فلما فرغ الخطيب وأقيمت الصلاة وضع الشيخ رأسه في طوقه بعد ما قام قائماً ، وكشف عن عورته بحضرة الناس وبال على ثيابه وحضر المسجد ، واستمر ورأسه في طوق ثوبه وهو جالس إلى أن انقضت الصلاة ولم يصل " (2) .
ومن هؤلاء أيضاً : ابن الفارض وابن سبعين وغيرهم ، وفي زمن المصنف رحمه الله من أمثالهم كثير ؛ منهم يوسف وشمسان وتاج (3) .
قوله : ( والذي يعتقدُ في الصالحِ ، والذي لا يعصي – مثل الخشبِ والحجرِ – أهونُ ممن يعتقدُ فيمن يُشاهدُ فسقُهُ وفسادُه ويشهدُ به ) : لأن الذي يعتقد في الصالح له شبهة ، ويستدل لها من كتاب الله بدليل ، كقوله تعالى : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ يونس : 62] وإن كانت هذه الشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت ، بخلاف الذي يدعو الفاسق الفاجر ، بل الكافر الخارج من ملة الإسلام ، فهذا ليس له أدنى شبهة ، فالأمر فيه بيّن واضح .
__________
(1) - بلدة بمصر تعرف اليوم باسم ( طنطا ) ، وفيها مشهد للبدوي .
(2) - انظر الضوء اللامع ( 9/150) ، القول النفيس ص 162، قرة عيون الموحدين ص 114.
(3) - ستأتي ترجمة لهؤلاء فيما بعد ، ص 268 ، 269 .(1/174)
وقول المصنف رحمه الله ( أهون ) أي قد يكون له بعض الشيء من الوجاهة ؛ لأن هذا له شبهة وذلك لا شبهة له ، ومن هذا القبيل ما قاله شيخ الإسلام رحمه لله في كتابه " الرد على البكري " : " الخوارج الذين كفروا علياً وعثمان .... متمسكون بظواهر من القرآن ، مع أنهم أعظم الناس جهلاً وابتداعاً ، وهم – مع هذا – أظهر حجة وأبين محجة من مثل هذا الضال ( أي البكري ) وأمثاله ، الذين ليس لهم فيما يبتدعونه من الشرك سوى محض البهتان والافتراء والاعتداء ) (1) .
وإن كان الكل شرك وكفر وضلال ومصيرهم النار ، لكن كما هو معلوم أن النار دركات ، كما في حديث النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل تضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه " (2)
قوله : ( إذا تحققتَ أن الذين قاتلَهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحُّ عقولاً) : لأنهم في حال الشدة يلجأون إلى الله لا إلى غيره ؛ فأصبحوا بذلك أصح عقولاً من مشركي زمان المصنف ، ومن مشركي زماننا . فالله المستعان .
__________
(1) - الرد على البكري ص 127، وانظر : شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 87 .
(2) - رواه مسلم ورقمه ( 213) .(1/175)
قوله : ( وأخفُ شركاً من هؤلاء ، فاعلمْ أن لهؤلاءِ شبهةٌ يورِدُنَها على ما ذكرنا ، وهي من أعظمِ شُبَهِهِمْ فأصغِ سمعكَ لجوابِها ) : المصنف رحمه الله يهيئ القارئ لما سوف يأتيه من الأشياء المهمة ؛ حتى يستعد لها ذهنياً ، ويحرص على فهمها وتدبر ما فيها ، وهذا منهج النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ..) الحديث (1) . فالنبي صلى الله عليه وسلم نبه معاذاً إلى نوعية القوم ، حتى يستعد لهم بالحجة والبيان ، وهذه من عادة المصنف رحمه الله ، اقتفاء الكتاب والسنة والسير على منهاجهما .
[ الشبهة الحادية عشرة ]
[ من أدى بعض واجبات الدين لايكون كافراً ولو أتى بما ينافي التوحيد ]
وهي أنهمْ يقولونَ : إن الذين نزلَ فيهمُ القرآنُ لا يشهدونَ أن لا إله إلا الله ، ويكذبونَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، وينكرونَ البعثَ ، ويكذبونَ القرآنَ ويجعلونَهُ سحراً ، ونحنُ نشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللهُ ، ونصدقُ القرآنَ ، ونؤمنُ بالبعثِ ،ونصلي ونصومُ ، فكيفَ تجعلونَنا مثلَ أولئكَ ؟ )
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه ( 1395) ، ومسلم ( 19) وانظر فتح المجيد ص 113.(1/176)
قوله : (إن الذين نزلَ فيهمُ القرآنُ .... فكيفَ تجعلونَنا مثلَ أولئكَ ؟ ) : مفاد هذه الشبهة : أن من أتى ببعض شعائر الدين وواجباته وفعل ما يناقض التوحيد كالذبح لغير الله أو دعا غير الله ... فهذا لا يُعَدُّ – بزعمهم – مشركاً ولا كافراً ، ويستدل لهذه الشبهة بالأدلة العامة ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته من أحق الناس بها يوم القيامة ؟ قال : ( من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) رواه البخاري (1) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم ) الحديث (2) .
وكذلك حديث عتبان بن مالك : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) (3) ويقول : إن الآيات التي نزلت بتكفير من دعا غير الله أو ذبح لغير الله لا يدخل فيها هؤلاء لأنهم يُقِرُّون بالشهادتين وغيرها من مباني الإسلام .
وقد أجاب المصنف عن هذه الشبهة بتسعة أجوبة (4) ؛ وذلك لأهميتها وقوة اللبس فيها ، وهي كما قال المؤلف : من أعظم شبههم فأصبحت الشبه الكبار أربع ، الشبه الثلاثة الأولى ، وهذه هي الرابعة ، وهي كبيرة لكثرة من يقتنع بها ، لا لأن أدلتهم عليها قوية .
[ الجواب الأول ]
[ إجماع العلماء على كفر من آمن ببعض وكفر ببعض ]
__________
(1) - رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورقمه (99) .
(2) - تقدم تخريجه ص 81.
(3) - رواه البخاري ورقمه ( 425) ومسلم ورقمه ( 263) ,
(4) - انظر في الجواب عن هذه الشبه أيضاً : الدرر السنية (1/32) ، والدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص 77، الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية ( 2/896) وهو مفيد جداً .(1/177)
فالجواب : أنَهُ لا خلافَ بين العلماءِ كلِّهم أن الرجلَ إذا صدَّقَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في شيءٍ ، وكذبَهُ في شيءٍ أنهُ كافرٌ لم يَدخلْ في الإسلامِ ، وكذلكَ إذا آمنَ ببعضِ القرآنِ وجحدَ بعضهُ ؛ كمنْ أقر بالتوحيدِ ، وجحدَ وجوبَ الصلاةِ ، أو أقرَ بالتوحيدِ والصلاةِ ، وجحدَ وجوبَ الزكاةِ أو أقرَّ بهذا كلِّهِ وجحد وجوب الصومِ ، أو أقرَ بهذا كله وجحدَ وجوب الحجِّ ، ولما لم ينقدْ أناسٌ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحجِّ ، أنزل الله في حقهم : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) [ آل عمران : 97] ومن أقرَ بهذا كُلِّهِ وجحدَ البعثَ كفر بالإجماعِ وحلَ دمُهُ ومالُهُ ؛ كما قال تعالى : ( إن الذي يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا لهم عذاباً مهيناً ) [ النساء : 150 ، 151] .
فإذا كان الله قدْ صرحَ في كتابهِ أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهوَ الكافرُ حقاَ وأنهُ يستحقُ ما ذكر ؛ زالت هذه الشبهة , وهي التي ذكرهَا بعضُ أهلِ الأحساءِ في كتابهِ الذي أرسلَ إلينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/178)
قوله : (فالجواب : أنَهُ لا خلافَ بين العلماءِ كلِّهم أن الرجلَ إذا صدَّقَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في شيءٍ ، وكذبَهُ في شيءٍ أنهُ كافرٌ لم يَدخلْ في الإسلامِ ) : قال شيخ الإسلام رحمه الله : " من آمن ببعض ما جاء وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن ؛ كما قال تعالى : ( إن الذي يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا لهم عذاباً مهيناً ) [ النساء : 150 ، 151](1).
وقال ابن حزم رحمه الله : " اتفقوا على أن من لم يؤمن بالله تعالى وبرسوله ، وبكل ما أتى به عليه السلام مما نقل كافة ، أو شك في التوحيد ، أو في النبوة ، أو في محمد ، أو في حرف مما أتى به عليه السلام ، أو في الشريعة التي أتى بها عليه السلام مما نقل كافة ، فإن جحد شيئاً مما ذكرنا ، أو شك في شيء منها ومات على ذلك ؛ فإنه كافر مشرك مخلد في النار أبداً " (2)
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : " ... لا يشترط في التكفير أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول ، بل يكفي في الكفر والردة – والعياذ بالله – أن يأتي بما يوجب ذلك ولو في بعض الأصول ، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب " (3) .
__________
(1) - الفتاوى (11/170) ، وانظر : مجموع الرسائل والمسائل النجدية (4/11) ، وانظر : إجماعات العلماء على كفر من أتى بما ينافي التوحيد بالكلية ، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أو جيب ( 2/886) .
(2) - مراتب الإجماع ص 177.
(3) - منهاج التأسيس ص 72.(1/179)
قوله : ( كذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه ... وأقرَ بهذا كله وجحدَ وجوب الحجِّ ) : قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ؛ لا ينازعون في ذلك ، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت العتيق ، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة : كالفواحش والظلم والخمر وغير ذلك ، أو جحد بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح ، فهو كافر مرتد يستتاب وإلا قتل ... "( (1) .
قوله : ( ولما لم يَنْقَدْ ) : من المعلوم أن الانقياد شرط من شروط كلمة التوحيد ؛ فمن لم ينقد فهو كافر كما جاء في الحديث الذي رواه النسائي والترمذي من حديث صفوان بن عسّال قال: قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي وفيه : ( ... فقبلوا يديه ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي ، قال : " فما يمنعكم أن تتبعوني " قالوا : إن داود دعا بأن لا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود ) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح (2) . فهؤلاء لم يكونوا مسلمين بذلك لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم ، أي : نعلم ونجزم أنك رسول الله .. فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد ، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم ، فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين ، فكانوا كفاراً في الباطن ، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين ، فكانوا كفاراً في الظاهر والباطن ، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه يعلم بنوة محمد وأنشد عنه :
ولقد علمت بأن دينَ محمدٍ من خير أديانِ البريةِ ديناً
__________
(1) - الفتاوى ( 11/ 405) . انظر ما بعده .
(2) - أخرجه الترمذي ورقمه (2657) ، و( 3069) ، والنسائي ( 4078) ، وابن ماجه ورقمه ( 3705) .(1/180)
لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة ، حباً لدين سلفه وكراهة أن يعيره قومه ، فلما لم يقترن بعلمه الباطن الحب والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمناً (1) .
قوله : ( ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحجِّ ، أنزلَ الله في حقِهم : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) [ آل عمران : 97 ] :
ما ساقه المؤلف رحمه من أن سبب نزول هذه الآية أن أناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقادوا للحج لم أجده في كتب التفسير وكتب أسباب النزول ، وربما أراد المصنف ما ذكره الإمام ابن جرير في تفسيره عن الضحاك في قوله : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) قال : " لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فقال : يا أيها الناس ، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجوا ،فآمنت به ملة واحدة ، وهي من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ، وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله ، فأنزل الله عز وجل ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) (2) .
وأخرج أيضاً من حديث عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً ) [ آل عمران : 85]
" فقالت الملل :نحن مسلمون ، فأنزل الله عز وجل ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) فحج المؤمنون ، وقعد الكافرون ) (3) . فلعل المصنف قصد هذه الأسباب والله تعالى أعلم .
قوله : ( ومن أقرَ بها كُلِّهِ وجحدَ البعثَ ؛ كفر بالإجماعِ ) : وقد نقل الاتفاق على كفره شيخ الإسلام ابن تيمية (4) .
__________
(1) - راجع : مجموع الفتاوى ( 7/ 561) .
(2) تفسير ابن جرير (4/20) .
(3) أنظر : مجموع الفتاوى ( 3/231) .(1/181)
قوله : ( وحلَ دمُهُ ومالُهُ ، كما قال تعالى ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ... ) قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية : " ... والمقصود أن من كفر بني من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء ؛ ولهاذ قال الله تعالى : ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ) .
قوله : ( فإذا كان الله قدْ صرحَ فيْ كتابهِ أن من آمنَ ببعض وكفر ببعض فهو الكافرُ حقاَ وأنهُ يستحقُ ما ذكر ) : وذلك في قوله سبحانه : ( أولئك هو الكافرون حقاَ واعتدنا للكافرين عذاباً مهنياً ) وقوله : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) [ البقرة : 85] .
قوله : ( زالتْ هذهِ الشبهُ ) : التي قالوا فيها : إن من أدى بعض واجبات الدين لا يكون كافراً ولو أتى بما ينافي التوحيد .
قوله : ( وهذهِ التي ذكرهَا بعضُ أهلِ الأحساءِ ) : الأحساءُ مدينة معروفة مشهورة ، كان أول من عمرها وحصّنها قصبة هَجَرَ أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنّاني القرمطي ، وهي إلى الآن مدينة مشهورة عامرة (1) .
وقد اشتهر عن أهل الأحساء في زمن الشيخ الغلو في أهل البيت ، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه (2) .
ومن المعلوم أيضاً أنها كانت آهلة بالعلماء من سائر المذاهب فعاند بعضهم وهدى الله بعضاً فاتبع الحق والهدى بتوفيق الله (3) .
__________
(1) - معجم البلدان لياقوت الحموي ( 1/112) . بتصرف يسير .
(2) - مجموع الرسائل (2/2/ 6 ) .
(3) - قاله ابن مانع في تعليقه على كشف الشبهات ص 22بتصرف يسير.(1/182)
قوله : ( في كتابه الذي أرسل إلينا ) : لعله يقصد بالكتاب : الذي أرسله أحمد بن عبد الكريم ؛ فقد كتب لهذا الرجل رسالةً جواباً عما وقع فيه من الاشتباه والإشكال ، حيث يفهم من هذه الرسالة أن أحمد بن عبد الكريم تلبّس بهذه الشبهة ، فزعم أن من أظهر الإسلام لا يكفر ولا يقتل ، وإن وقع في ناقض من نواقض الإسلام ، فأجاب الشيخ عن هذه الشبهة وأورد الأدلة الشرعية والوقائع التاريخية التي تقرر أن من أظهر الشرك أو الكفر فهو كافر حلال الدم والمال (1) .
[ الجواب الثاني ]
[ التوحيد أعظم فريضة فكيف يكفر من جحد الصلاة ، ولا يكفر من جحد التوحيد ؟ ]
ويقالُ أيضاً : إن كنتَ تقرُ أن من صدقَ الرسولَ في كلِ شيءٍ وجحدَ وجوبَ الصلاةِ ، أنه كافرٌ حلالٌ الدمِ بالإجماعِ ،وكذلك إذا أقرَ بكلِ شيءٍ إلا البعثَ ، وكذلكَ لو جحدَ وجوبَ صومِ رمضانَ ، { وكذَّبَ بذلك ، لا يُجْحَد هذا } (2) ، ولا تختلفُ المذاهبُ فيه ، وقدْ نطقَ به القرآن كما قدمنا ؛ فمعلومٌ أن التوحيدَ هو أعظمُ فريضةٍ جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظمُ من الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِ ، فكيفَ إذا جحدَ الإنسانُ شيئاً من هذهِ الأمورِ كفرَ ، ولو عملَ بكلِ ما جاءَ به الرسولُ ، وإذا جحدَ التوحيدَ الذي هو دينُ الرسلِ كلِهم لا يكفرُ ؟!
سبحانَ الله ! ما أعجبَ هذا الجهلَ !!
__________
(1) - أنظر : مؤلفات الشيخ ( 5/ 212- 224) . نقلاً من تعليقات على كشف الشبهات ص 88.
(2) - قوله ( وكذب بذلك ) : أي كذب برمضان ولم يؤمن به ، قوله : ( ولا يجحد هذا ) أي لا يُنكَرُ كفره . وفي نسخة للكشف : ( وصدق بذلك كله ، ولا يُجْحَد هذا ) ولا تعارض بين العبارتين لأن قوله : ( وصدق بذلك كله ) يعود إلى أنه صدق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه جحد الصوم ، ( ولا يجحد هذا ) أي ما جاءت به الشريعة من الحكم بكفره ؛ لا تختلف المذاهب في كفره والله أعلم .(1/183)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( وكذلك إذا أقرَ بكلِ شيءٍ إلا بالبعث ) : فهو كافر بالإجماع كما تقدم في كلام المصنف (1) . حلال الدم والمال .
قوله : ( فمعلوم أنّ التوحيد هو أعظمُ فريضةٍ جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظمُ من الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِّ ،) : قال إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - : " ... معلوم أن التوحيد الذي جاء به جبريل أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فكيف إذا جحد الإنسانُ شيئاً من أركان الإسلام كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول ، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل من نوح(2) إلى محمد لا يكفر ؛ لأنه يقول : لا إله إلا الله ، أو لأنه يفعل كذا وكذا ؟ فما الذي فرق بين رسول الله وبين قريش ؟ هل هو الملك والرياسة والتطاول ؟ أو عند لا إله إلا الله محمد رسول الله ؟ فتفرقوا عند ذلك وقالوا : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءُ عجابٌ ) [ ص : 5] أتظن أن قريش لو يعلمون أن هذا الكلام مجرد قول بلا عمل ، وأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، وينشئون على دينهم ولا يضرهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى منهم بذلك ، وأنه ما يحاربهم ولا يكفرهم ولا يقاتلهم ؛ أتراهم يتركون التلفظ بلا إله إلا الله ، وأن من قالها فهو المسلم ؟ وتؤثرون عليها حديث جبرائيل (3) ، وحديث بني الإسلام على خمسة أركان (4) . وحديث
__________
(1) - سبق ذلك في الجواب الأول ص 253، ص 258.
(2) - التوحيد دين الرسل جميعاً من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وقع الشرك في قوم نوح عليه السلام ولعل هذا هو مراد المصنف – رحمه الله - .
(3) - هو الحديث المشهور الذي فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان ؛ رواه مسلم ورقمه (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 94 .
(4) - رواه البخاري (8) ومسلم ( 16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .(1/184)
أمرت أن أقاتل الناس (1) ، وحديث أسامة (2) وحديث من صلى صلاتنا (3) . ولكن الأمر كما قال عمر رضي الله عنه : ( إنها لا تنقض عرى الإسلام عروة عروة حتى ينشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ) (4) . فذلك أنه إذا لم يعرف من الشرك ما عابه القرآن وما ذمه ، وقع فيه أو دونه أو شر منه ، فتنقض بذلك عرى الإسلام ، ويعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، والبدعة سنّة والسُّنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ، ويبدع بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " (5) .
__________
(1) - تقدم تخريجه ص 81 ، وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(2) - سيأتي تخريجه . ص 306.
(3) - رواه البخاري (391) من حديث أنس بن مالك ؛ ولفظ الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته ) .
(4) - انظر كتاب الفوائد لابن القيم ص 202.
(5) - مجموع الرسائل والمسائل النجدية ( 4/45) وانظر : الدرر 2/52، القواعد الحسان لابن سعدي ص 192.(1/185)
قوله : ( فكيفَ إذا جحدَ الإنسانُ شيئاً من هذهِ الأمورِ كفرَ ، ولو عملَ بكلِ ما جاء بهِ الرسولُ ، وإذا جحدَ التوحيدَ الذي هو دينُ الرسلِ كلِهم لا يكفرُ ؟! سبحانَ الله ! ما أعجبَ هذا الجهلَ !! ) :تعجب المصنف في محله ؛ لأن الأساس الذي تنبني عليه صحة وقبول الأعمال هو التوحيد ، فبدونه لا يقبل العمل ؛ ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذاً إلى اليمن أمره بقوله : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – في رواية- إلى أن يوحدوا الله – فإن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ,, ) الحديث (1) ؛ فبدأ صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ثم عقبه بباقي الأعمال ! فهل يعقل أن يكفر الإنسان بجحد الصلاة والزكاة ، ولا يكفر بجحد التوحيد ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم !! " بل التوحيد قد يكفي وحده في إسلام العبد ودخوله الجنة ، فإنه إذا تكلم بكلمة التوحيد ثم توفي قبل وجوب شيء من الفروع عليه كفى التوحيد وحده ، فالتوحيد ليس فقيراً إليها بل هي الفقيرة إليه في صحتها " (2)
وهذا مما يؤكد لنا جهل هؤلاء بحقيقة التوحيد وعظمته وإلا لما قالوا ما لا يُعقل .
[ الجواب الثالث ]
[ قتال الصحابة لبني حنيفة مع أدائهم لبعض واجبات الدين ]
__________
(1) - تقدم تخريجه ص 131 ، ص 205 .
(2) - انظر : شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 95 .(1/186)
ويقالُ : أيضاً هؤلاء أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة ، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يشهدونَ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ، ويؤذنونَ ، ويصلونَ . فإن قالَ : إنهمْ يقولونَ : إن مسيلمة نبيٌ قلنا : هذا هو المطلوبُ ؛ إذا كان من رفعَ رجلاً إلى رتبةِ النبيِ صلى الله عليه وسلم كفرَ ، وحلَ مالُه ودمُه ، ولم تنفعه الشهادَتانِ ، ولا الصلاةُ ، فكيفَ بمن رفعَ شمسانَ أو يوسفَ ، أو صحابياً ، أو نبياً ، إلى مرتبة جبارِ السمواتِ والأرضِ ؟! سبحان الله ما أعظمَ شأنَهُ ( كذلكِ يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) [ الروم : 59] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ويقالُ :هؤلاء أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنفية ، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم ) :عند ما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ،وفرغ من تبوك ، وأسملت ثقيف وبايعت ، قدمت إليه وفود العرب من كل وجه حتى إن سنة تسع كانت تسمى سنة الوفود (1) ) . ومن هذه الوفود التي قدمت في تلك السنة وفد بني حنفية .
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن مسيلمة الكذاب قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في بشر كثير من قومه بني حنيفة ، فجعل يقول : " إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته " ، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس وفي يد رسول الله صلى الله قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه ، فقال : ( لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت ، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني ) ثم انصرف عنه .
__________
(1) - سيرة ابن هشام (4/205) بتصرف . وقد ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق معلقاً .(1/187)
وقد سأل ابن عباس أبا هريرة رضي الله عنهم عن قوله صلى الله عليه وسلم (وأني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت ،فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحِيَ إلي في المنام أن انفخهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذّابين يخرجان بعدي ؛ أحدهما العنسي ، والآخر مسيلمة ) (1).
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (4374) ،( 3621) ، ومسلم في صحيحه ورقمه (2273) ،وانظر في تفصيل خبرهم : تاريخ الطبري ( 2752) ،والبداية والنهاية لابن كثير ( 6/ 315) . والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 642.(1/188)
قوله ( وهم يشهدونَ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ، ويؤذنونَ ، ويصلونَ) : وجه الاستدلال : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلوا دماء وأموال هؤلاء مما يدل على أنهم كفار ، وإقرارهم بالشهادتين وفعلهم لبعض شعائر الدين لم ينفعهم ؛ لفعلهم ما يناقض التوحيد ؛ قال إمام الدعوة رحمة الله بعد أن ذكر ما حصل من الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : " فمن أهم ما على المسلم اليوم تأمل هذه القصة التي جعلها الله حجة على خلقه إلى يوم القيامة ، فمن تأمل هذه تأملاً جيداً ، خصوصاً إذا عرف أن شهرها على ألسنة العامة ، وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر في ذلك (أي قتال مانعي الزكاة ) ، وجعلوها من أكبر فضائله وعلمه ؛ أنه لم يتوقف عن قتالهم أول وهلة ، وعرفوا غزارة فهمه في استدلاله عليهم بالدليل الذي أشكل عليهم ، فرد عليهم بدليلهم بعينه ، مع أن المسألة موضحة في القرآن والسنة ؛ أما القرآن فقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) [ التوبة : 5 ] .وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ،وحسابهم على الله تعالى ) فهذا كتاب الله الصريح للعامي البليد ، وهذا كلام رسول الله ، وهذا إجماع العلماء الذي ذكرت لك ، فمن بعدهم تريد ؟ فما بعدهم إلا الضلال البعيد أو تسويل كل شيطان مريد " .(1/189)
ثم قال رحمه الله : ( فاعلم – رحمك الله – أن هذه المسألة أهم الأشياء عليك ، لأنها هي الكفر والإسلام ، فإن صدقتهم فقد كفرت بما أنزل على رسوله كما ذكرنا لك من القرآن ،والسنة ،والإجماع ،وإن صدقت الله ورسوله عادوك وكفروك ، وهذا الكفر الصريح بالقرآن والرسول .." (1).
قوله : ( فإن قالَ : إنهمْ يقولون: إن مسيلمةَ نبيٌ ) : افترض المصنف هذا الإشكال الذي قد يجابه به الموحد أثناء جداله مع المشرك ليكون على بينة من أمره ،وهذا الإشكال هو : أن بني حنيفة اعتقدوا في مسيلمة النبوة فأصبحوا بذلك كفاراً ، فتصور أنه بهذه الحجة سيفحم خصمه ؟ وما علم المسكين أن الحجة ستنقلب عليه ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) [ فاطر : 43] .
قوله : ( فكيف بمن رفعَ شمسانَ أو يوسفَ ) : قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عند سُئل عن هؤلاء فأجاب بقوله : " يوسف وشمسان وتاج أسماء أناس كفرة طواغيت ... فأما تاج فهو من أهل الخرج تُصرف إليه النذور ويُدعى ويعتقد فيه النفع والضر ، وكان يأتي إلى أهل الدرعية من بلده الخرج لتحصيل ما له من النذور ، وقد كان يخافه كثير من الناس الذين يعتقدون فيه ، وله أعوان وحاشية لا يتعرض لهم بمكروه ، بل يدعي فيهم الدعاوى الكاذبة ، وتنسب إليهم الحكايات القبيحة . ومما ينسب إلى تاج أنه أعمى ويأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده .
وأما شمسان فالذي يظهر من رسائل إمام الدعوة رحمه الله أنه لا يبعد عن العارض ، وله أولاد يُعتقد فيهم .
وأما يوسف فقد كان قبره وثن يعتقد فيه ويظهر أن قبره في الكويت أو الأحساء ، كما يفهم من بعض رسائل الشيخ رحمه الله .
__________
(1) - الدرر السنية (8/19) .(1/190)
أما تاريخ وجودهم فهو قريب من عصر إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وقد ذكرهم في كثير من رسائله لأنهم من أشهر الطواغيت التي يعتقد فيها أهل نجد وما يقاربها ، وكانوا يعتقدون فيهم الولاية ويصرفون لهم شيئاً من العبادة ، وينذرون لهم النذور ، ويرجون بذلك نظير ما يرجوه عُبّاد اللات والعزى " (1)
قوله : ( أو صحابياً ، أو نبياً ، إلى مرتبةِ جبارِ السمواتِ والأرض ؟! ) : فهؤلاء صرفوا أنواعاً من العبادات لغير الله تعالى ، فهم بذلك جعلوا منزلة من عبدوهم كمنزلة الجبار – جل وعلا – فأيهما أشد ضلالاً وانحرافاً وفساداً في الطبع وانتكاساً في الفطرة ؟ من رفع أناساً إلى مقام النبوة والرسالة ، أم من رفعهم إلى مقام الألوهية ؟! ولكن كما قال الله تعالى : ( ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون * كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) [ الروم : 5-59 ] نعم كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فتصبح لا تدرك الأشياء على حقيقتها، بل ترى الحق باطلاً والباطل حقاً .
__________
(1) - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم ( 1/134) ،وانظر : تاريخ نجد لابن غنام ص 15. ومجموعة الرسائل والمسائل 3/383، والضياء الشارق ص 24، والدرر السنية 1/74، 2/120- 121،وعلماء الدعوة ص 12 للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف .(1/191)
قوله : ( سبحان الله ما أعظمَ شأنَهُ ) : إن شان الله عظيم ، ولكن لجهل هؤلاء بعظمة الرحمن حصل منهم ما حصل ، وعلى قدر معرفة العبد لربه يكون تعظيمه له أشد ، وخوفه منه أزيد ، وإذا تصورنا عظمة خلقه فكيف به جل جلاله وتقدست أسمائه ؛ فإذا علمت أن هذه السموات السبع بالنسبة إلى كرسيه كحلقة ملقاة في فلاة ، وأن فضل عرش الرحمن على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ، فلا شك أن ذلك سيزيدك إجلالاً وتعظيماً لله ؛ قال ابن كثير رحمه الله : قال ابن جرير: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرْس ) ، قال وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض ) . وقال أبو بكر بن مردويه ... عن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ما السموات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ) (1) .
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي محمد ! إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع ؛ فيقول : أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجده تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وما قدر الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ الزمر : 67] (2) ).
__________
(1) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير ( 1/457) بتصرف ، وانظر فتح المجيد ص 741.
(2) - رواه البخاري ورقمه ( 4811) ، وأخرجه مسلم في صحيحه ( 2786) .(1/192)
ولأحمد عن عبد الله (ابن مسعود ) قال : "رأى رسول الله جبريل في صورته وله ستمائة جناح ؛ كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم " (1) .
والملائكة الذين هذا عظم خلقهم ، حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، والتقديس والتكبير ، وحين يمتلأ قلبك من مثل هذا فإنه حينئذ يقوم القلب كما قال ابن القيم – رحمه الله – بين يدي الرحمن مطرقاً لهيبته ، خاشعاً لعظمته ، عانياً لعزته ، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع منها إلى يوم المزيد .. (2) .
وأما من غابت عن ذهنه مثل هذه الحقائق وانطفأت في قلبه مثل هذه المعالم فلا حيلة فيه ، ولا يستنكر أن يفعل ما لا يرضيه ، فلا يرفع لله رأساً ، ولا يؤدي له حقاً إلا أن يشرك غيره معه ، فالله المستعان .
[ الجواب الرابع ]
[ إجماع الصحابة على تكفير وقتل من اعتقد في عليّ الألوهية مع دعواهم الإسلام ]
ويقالُ أيضاً : الذين حرقهُمْ عليُ بن أبي طالبٍ بالنار ، كلُهم يدَّعون الإسلامَ ، وهم من أصحابِ عليِ رضي الله عنه ، وتعلموا العلمَ من الصحابةِ ، ولكن اعتقدوا في عليِّ مثلَ الاعتقادِ في يوسفَ وشمسانَ وأمثالهما ، فكيفَ أجمعَ الصحابةُ على قتلِهم وكفرِهم ؟
أتظنونَ أن الصحابةَ يكفرونَ المسلمينَ ؟ أم تظنونَ أن الاعتقادَ في تاجٍ وأمثالِه لا يضرُّ ، والاعتقادَ في عليٍ بن أبي طالبٍ يُكفرُ ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - رواه أحمد ( 1/395 ، 398 ، 407، 412، 460) وقد أخرج البخاري في صحيحه أول الحديث إلى قوله : ستمائة جناح " ورقمه (3223) ، ومسلم (174) .
(2) - انظر : فتح المجيد . ص 731.(1/193)
قوله : ( ويقالُ أيضاً : الذين حرقهُمُ عليُّ بن أبي طالبٍ بالنار ... مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما ) : أثر علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه هذا أخرجه البخاري من حديث عكرمة أن علياً رضي الله عنه حرق قوماً فبلغ ابن عباس فقال : " لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من بدل دينه فاقتلوه " (1) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح : "زعم أبو المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية – وهم السبئية – وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهودياً ثم أظهر الإسلام ، وابتدع هذه المقالة ، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال : ( قيل لعلي : إن هنا قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم ، فدعاهم فقال لهم : ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وارجعوا ، فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر فقال : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال : أدخلهم ، فقالوا كذلك ، فلما كان الثالث قال : لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فقال : يا قنبر ائتني بفَعَلَة معهم مرورهم ، فخد لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر وقال : احفروا فأبعدوا في الأرض ، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعون ، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال :
__________
(1) - أخرجه البخاري ورقمه ( 3017) و ( 6922) .(1/194)
إني إذا رأيت أمراً منكراً أوقدت ناري ودعوت قنبرأ (1) .
قوله : ( فكيفَ أجمعَ الصحابةُ على قتلِهم وكفرِهم ؟ ... والاعتقادَ في عليٍّ بن أبي طالبٍ يُكفرُ ؟ ) : قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله " فحينئذ إذا تحققت وعلمت أن هذا صدر من علي على وقت الصحابة فيلزم أهل هذه الشبهة أحد ثلاثة أمور :
إما أن يقولوا إن الصحابة غلطوا وأخطئوا وكفّروا المسلمين ، وقتلوا من لا يستحق الكفر والقتل وهم على ضلالة – وهم لا يقولون ذلك لوضوحه في السير والتاريخ – وإن قالوه في الصحابة فهو كافٍ في الرد عليهم ؛ لأنهم صاروا من الخوارج الذين يكفرون الصحابة ويسبونهم . أو يقولون حشاهم من تكفير المسلمين ومن قصد ظلمهم أو الاجتماع على غلط .
وإما أن يقولوا إن الاعتقاد في تاج وأمثاله والتوسل بالصالحين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات لا يضر ، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر – وهم لا يقولون ذلك – فإن قالوا إنه لا يكفر كفى أنه كفر وشرك ، وظهر عظيم جهلهم لفضل علي على هؤلاء بما لا نسبة فيه ؛ فلو كان مسامحة في دعوة غير الله أو يكون أسهل لكانت دعوة علي .
فحينئذ يلزم الأمر الثالث ؛ وهو أن يذعنوا ويسلموا أن من تعلق على غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فهو كافر خارج من الملة مرتد ، أغلظ كفراً ممن ليس معه هذه الأعمال ،وأن إقراره بالشهادتين والصلاة والزكاة ونحو ذلك فرق غير مؤثر وغير نافع ، فظهر بذلك أنهم ضلال في تشبيههم وترويجهم ؛ فإن الغالية في علي ما اعتقدوا فيه إلا مثل الاعتقاد في تاج وأمثاله من هذه الأصنام
__________
(1) - فتح الباري (12/ 270)، وقال عن سند القصة: ( هذا سند حسن ). وأما مسألة تحريقهم بالنار فقد قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 13/33): (.... الذي قاله بن عباس هو مذهب أكثر الفقهاء... ) .(1/195)
وإن قالوا : ليس من الغلو ، ففي أول الكتاب ما يبين أنه من الغلو بعبادة المخلوق مع الله " (1) .
[ الجواب الخامس ]
[ إجماع العلماء على كفر بني عُبيد مع إظهارهم الإسلام ، لفعلهم ما يناقضه ]
ويقالُ : أيضاً : بنو عبيد ٍ القداحِ الذي ملكوا المغربَ ومصرَ في زمانِ بني العباسِ ، كلُّهم يشهدونَ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ويدّعونَ الإسلامَ ويصلون َ الجمعةَ والجماعةَ . فلما اظهروا مخالفةَ الشريعةِ في أشياءَ دون ما نحنُ فيهِ ، أجمعَ العلماءُ على كفرِهمْ وقتالهِم ، وأن بلادَهم بلادُ حربٍ ، وغزاهُمُ المسلمونَ حتى استنقذوا ما بأيديهمْ من بلدانِ المسلمينَ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله:( ويقالُ أيضاً : بنو عبيدٍ القداحِ ) : بنو عبيد القداح المسمون كذباً وزوراً بالفاطميين ، وقد ظهروا على رأس المائة الثالثة ؛ فادعى عبيد الله أنه من آل علي من ذرية فاطمة ؛ قال الذهبي رحمه الله : " عبيد الله أبو محمد ، أول من قام من الخلفاء الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام ؛ أعلنوا بالرفض ، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية ، وبثوا الدعاة ، يستغوون الجبلية والجهلة ، وادعى هذا المدبر أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق .. " وقال عنه أيضاً : " وفي نسب المهدي أقوال حاصلها أنه ليس بهاشمي ولا فاطمي ، وكان موته في نصف ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثمائة ، وله اثنتان وستون سنة . وكانت دولته خمساً وعشرين سنة وأشهراً " (2)
وقال ابن كثير رحمه الله : " قد كتب غير واحد من الأئمة ؛ منهم الشيخ أبو حامد الاسفراييني ، والقاضي الباقلاني ، والقدوري أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمون ... " (3) .
__________
(1) - شرح كشف الشبهات ص 99- 100 ، وانظر : الدرر السنية (8/21 ) .
(2) - سير أعلام النبلاء ( 15/ 141- 151 ) .
(3) - البداية والنهاية ( 11/ 192) .(1/196)
قال الذهبي رحمه الله : " قال القاضي عياض : أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة " (1) . وقال أيضاً : " وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه.." وقال أيضاً : " وتسارع الفقهاء والعباد في أهبة كاملة بالطبول والبنود ، وخطبهم في الجمعة أحمد بن أبي الوليد وحرضهم وقال : جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله وغير أحكام الله ، وسب نبيه وأصحاب نبيه ، فبكى الناس بكاء شديداً وقال اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله ، المدعي الربوبية جاحد لنعمتك ، كافر بربوبيتك ، طاعن على رسلك ، مكذب بمحمد بنيك ، سافك للدماء ، فالعنه لعناً وبيلاً ، واخزه خزياً طويلاً ، واغضب عليه بكرة وأصيلاً ، ثم نزل فصلى بهم الجمعة " (2) .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – عنهم : " فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه ، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمناً في الباطن ؛ إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق ؛ قال الله تعالى : (ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقرة : 8] وهؤلاء القوم يشهد علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة ، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر . فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه ؛ إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم ، وكذلك " النسب " قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود " (3) .
__________
(1) - اليسر ( 15 /151 ) .
(2) - السير ( 15/ 155) ، وقد جمع رحمه الله في هذا المجلد سير حكام هذه الدولة العبيدية .
(3) - مجموع الفتاوى ( 35 / 128 ) .(1/197)
قوله : (كلُّهم يشهدونَ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ويدّعونَ الإسلامَ ، ويصلونَ الجمعةَ والجماعةَ . فلما أظهروا مخالفةَ الشريعةِ في أشياءَ دون ما نحنُ فيهِ ، أجمعَ العلماءُ على كفرِهم وقتالهمْ ) : قال إمام الدعوة رحمه الله : " ... أجمع أهل العلم على أنهم كفار – أي العبيديين - وأن دارهم دار حرب مع إظهارهم شعائر الإسلام وشرائعه ، وفي مصر من العلماء والعباد ناس كثير ، وأكثر أهل مصر لم يدخل معهم فيما أحدثوه ، ومع ذلك أجمع العلماء على ما ذكرنا ، حتى إن بعض أكابر العلماء المعروفين بالصلاح قال : لو معي عشرة أسهم لرميت بواحد النصارى المحاربين ، ورميت بالتسعة في بني عبيد . ولما كان في زمن السلطان محمود بن زنكي أرسل إليهم جيشاً عظيماً فأخذوا مصر من أيديهم ، ولم يتركوا جهادهم لأجل من فيها من الصالحين ، فلما فتحها السلطان فرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً ، وصنف ابن الجوزي كتاباً في ذلك سماه ( النصر على مصر ) ، وأكثر العلماءُ التصنيفَ والكلام في كفرهم مع ما ذكرنا من إظهار شرائع الإسلام الظاهرة " (1) .
قوله : ( وأن بلادَهم بلادُ حربٍ : وغزاهُمُ المسلمونَ حتى استنفذوا ما بأيديهمْ من بلدانِ المسلمين ) : " كانت دولتهم مائتى سنة وثمانياً وستين سنة ، وقد صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتاب " كشف أسرار الباطنية " فافتتحه ببطلان انتسابهم إلى الإمام علي ، وكذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي " (2) .
[ الجواب السادس ]
[ لا يشترط في التكفير الجمع بين مكفرات عدة
وإلا ما معنى تخصيص العلماء باب حكم المرتد ]
__________
(1) - الدرر السنية ( 8/ 21) .
(2) - سير أعلام النبلاء ( 15/ 213) .(1/198)
ويقالُ أيضاً : إذا كان َالأولونَ لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بينَ الشركِ وتكذيبَ الرسولِ والقرآن ، وإنكار البعثِ ، وغير ذلكَ ، فما معنى البابِ الذي ذكرَ العلماءُ في كلّ مذهب " باب حكم المرتد " ، وهو المسلمُ الذي يكفرُ بعد إسلامِهِ ؟ ثم ذكروا أنواعاً ؛ كلُّ نوع منها يُكَفِّرُ ويحلُّ دمَ الرجلِ ومالَه ، حتى إنهم ذكروا أشياءَ يسيرةً عند من فعلها ؛ مثلَ كلمةٍ يذكرُها بلسانِه دون قلبِه ، أو كلمةِ يذكرُها على وجهِ المزاحِ واللعبِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويقالُ أيضاً:إذا كان َالأولونَ لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بينَ الشركِ وتكذيبَ الرسولِ والقرآن ، وإنكار البعثِ ، وغير ذلكَ ، فما معنى البابِ الذي ذكرَ العلماءُ في كلّ مذهب " باب حكم المرتد " ، وهو المسلمُ الذي يكفرُ بعد إسلامِهِ ؟ ) : قال ابن قدامة رحمه الله : " المرتد : هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر ؛ قال تعالى : (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هو فيها خالدون ) [ البقرة : 217] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) (1) ، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين .. " (2) .
قوله : ( ثم ذكروا أنواعاً ؛ كلُّ نوعٍ منها يُكَفِّرُ ويحلُّ دمَ الرجلِ ومالَهُ ، حتى إنهم ذكروا أشياءَ يسيرةً عند من فعلها ؛ مثل كلمةٍ يذكرُهَا بلسانِه دون قلبِه ) كما جاء في الحديث الصحيح : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق ) (3) .
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (3017) .
(2) - المغني ( 12/ 264) .
(3) - رواه البخاري ورقمه ( 6477) ومسلم ورقمه ( 2988) .(1/199)
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً ، يهوي بها سبعين خريفاً في النار ) قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه (1) .
فهذا الحديث يفيدك فائدة عظيمة وهي : الحذر على هذا الإيمان الذي بين جنبيك ، وأن أي كلمة تخلفه قد يكفر الإنسان بها ولا عبرة باعتقاد القلب .
قال أبو ثور – رحمه الله - : " لو قال : المسيح هو الله ، وجحد أمر الإسلام ، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك ؛ أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن "(2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – " إنْ سبّ الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً ، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم ، أو كان مستحلاً له ، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده ؛ هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السُّنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل " (3) .
وقال ابن نجيم الحنفي : " والحاصل أن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل ، ولا اعتبار باعتقاده كما صرح به قاضي خان في فتاواه " (4) .
__________
(1) - أخرجه الترمذي ورقمه ( 2314) .
(2) - أصول اعتقاد أهل السنة (4/849.
(3) - الصارم المسلول ( 3/ 955) .
(4) - البحر الرائق ( 5/134) .(1/200)
قوله : ( أو كلمةٍ يذكرُها على وجهِ المزاحِ واللعبِ ) : لكن ينبغي مراعاة مسألة اعتبار المقاصد ؛ فالذي يقول الكلمة (1) . وهو قاصد لها ليس كمن لم يقصدها فهذا لا يكفر كما قال شيخ الإسلام فيمن سب الله تعالى ؛ قال –رحمه الله – في الصارم المسلول : " فإن سبّ موصوفاً بوصف أو مسمى باسم وذلك يقع على الله سبحانه أو بعض رسله خصوصاً أو عموماً ، ولكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك ، إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه ، أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه ، ولكن ظهر أنه لم يرده لكونه الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره ، فهذا القول وشبهه حرام في الجملة ، يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام ، ويعزر مع العلم تعزيراً بليغاً ، لكن لا يكفر بذلك ولا يقتل ، وإن كان يخاف عليه الكفر " (2) ) .
ومما يستدل به في هذا المقام ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده .. وفيه : ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) (3) .
[ الجواب السابع ]
[ تكفير الله تعالى لمن استهزأ بالرسول وأصحابه مع كونهم يؤدون العبادات ]
ويقالُ أيضاً : الذين قالَ الله فيهمْ : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) [ التوبة : 74] أما سمعتَ الله كفرَهم بكلمة مع كونهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يُجاهدون معَه ، ويُصلونَ معه ، ويزكونَ ، ويحجونَ ، ويوحدونَ ؟ !
__________
(1) - سواء كان جاداً أو هازلاً .
(2) - الصارم المسلول (3/1042) وانظر : نواقض الإيمان القولية والعملية د . عبد العزيز آل عبد اللطيف ص 85 فقد تطرق لهذا الموضوع ونقل فيه أقوال الأئمة فليراجعه من شاء
(3) - رواه مسلم ورقمه ( 2988) ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه ورقمه ( 6309) .(1/201)
وكذلكَ الذين قالَ الله فيهم ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) [ التوبة : 65، 66 ] ، فهؤلاءِ الذين صرحَ الله أنهم كفروا بعدَ إيمانهم وهم مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوكَ ، قالوا كلمةً ذكروا أنهم قالوها على وجهِ المزاحِ ، فتأملْ هذهِ الشبهةِ ؛ وهي قولُهم : تُكفرونَ من المسلمينَ أناساً يشهدونَ أن لا إله إلا الله ويصلونَ ، ويصومونَ ، ثم تأملْ جوابَها ؛ فإنهُ من أنفعِ ما في هذه الأوراقِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ويقالُ أيضاً ) : هذا هو الجوب السابع على من قال : إن من أتى بشيء من الدين لا يكفر ولو فعل ما فعل مما يناقض التوحيد.
قوله : ( الذين قالَ الله فيهمْ : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) [ التوبة : 47 ] أما سمعتَ الله كفرَهم بكلمةِ مع كونِهم في زمنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُجاهدونَ معهُ ، ويُصلونَ معه ، ويزكونَ ، ويحجونَ ، ويوحدونَ ؟! ) : هذه الآية لم يثبت لها سبب نزول كما قال الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره بعد أن ذكر ثلاثة أسباب قال : " والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذباً على كلمة تكلموا بها لم يقولوها ، وجائز أن يكون ذلك القول ما روى عن عروة أن الجلاس قاله ، وجائز أن يكون قاله عبد الله بن أبي بن سلول ، والقول مما ذكر قتادة عنه أنه قال ولا علم لنا بأن ذلك من أي إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة ، ويتوصل به إلى يقين العلم به ، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل ، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) (1) .
__________
(1) - تفسير ابن جرير ( 10/186) .(1/202)
وقال القرطبي في تفسيره : " وقول ثالث : أنه قول جميع المنافقين ، قاله الحسن بن العربي ؛ وهو الصحيح لعموم القول ووجود المعنى فيه وفيهم ؛ وجملة ذلك اعتقادهم فيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنبي " (1) .
قوله : ( وهم مع رسولِ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوكَ ) : تبوك موقع شمال الحجاز يبعد عن المدينة المنورة 778 كيلاً حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر : وكانت من ديار قضلعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك ، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بتبوك (2) . ، وأما بالنسبة للغزوة ، فوقعت هذه الغزوة في رجب من صيف عام تسع للهجرة بعد العودة من حصار الطائف بستة أشهر تقريباً (3) . ورغم أن المؤرخين – على عادتهم – حاولوا أن يجدوا سببا مباشراً لها ، فذكر ابن سعد أن هرقل جمع جموعاً من الروم وقبائل العرب الموالية لها ، وأن المسلمين علموا بخبرهم فخرجوا إلى تبوك ، وذكر اليعقوبي أن الثأر لجعفر بن أبي طالب هو سبب الغزوة ، ولكن الصحيح أنها استجابة طبيعية لفريضة الجهاد ، وقد نبه على ذلك ابن كثير – رحمه الله- بقوله : " فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم ؛ لأنهم أقرب الناس إليه ، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق ؛ لقربهم إلى الإسلام وأهله ... ولا صحة لما قيل إن الخروج إلى تبوك كان عن مشورة يهود وقولهم :إنها أرض المحشر وأرض الأنبياء تغريراً بالمسلمين ليخرجوهم من المدينة ويعرضوهم لخطر المواجهة مع الروم ، وأن الآية (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك ) [ الإسراء : 76] نزلت في ذلك : فإن الخبر في ذلك مرسل ضعيف ، ويرده أن الآية مكية (4)
__________
(1) - تفسير القرطبي (8/131) .
(2) - جاء ذلك في صحيح مسلم ورقمه .(706 ) وانظر : السيرة النبوية الصحيحة ( 2/522) .
(3) - انظر فتح الباري (8/111) . بتصرف يسير .
(4) - انظر : السيرة النبوية الصحيحة (2/522) . وانظر أيضاً : زاد المعاد (3/526) ، والبداية والنهاية لابن كثير (5/3) .(1/203)
وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة لما كان أصاب المسلمين من الضيق والحاجة وقتها ، وفي هذه الغزوة لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم حرباً من الأعداء فرجع إلى المدينة منتصراً ، بعد أن أقام بتبوك عشرين ليلةً .." (1) .
قوله : ( قالوا كلمةً ذكروا أنهم قالوها على وجهِ المزاحِ ) : أخرج هذا الخبر ابن جرير – رحمه الله – فقال : ثني هاشم بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد لله بن عمر رضي الله عنهم قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء ، فقال رجل في المجلس : كذبت ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن ، قال عبد الله ابن عمر فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله تنكبه الحجارة وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله يقول : ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) (2) .
قوله : (فتأمل ) : التأمل المراد به : تدبر الشيء ، وهو أن تعيد النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه .
__________
(1) - السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 630.
(2) - أخرجه ابن جرير في تفسيره (6/173) ، وذكره السيوطي في الدرر المنثور (3/254) ، وابن الجوزي في زاد المسير (3/464) ، وقال الشيخ مقبل الوداعي في كتابه : الصحيح المسند من أسباب النزول ص 78، وقد ذكر رواية ابن أبي حاتم (4/63) .. وقال : " الحديث رجاله رجال الصحيح إلا هشام بن سعد ، فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد ، بسند حسن عند أبن أبي حاتم (4/64) من حديث كعب بن مالك .(1/204)
قوله : ( تكفرون من المسلمين أناساً .. فإنه من أنفع ما في هذه الورقة ) : وذلك أن شبهتهم من أقوى الشبه تلبيساً وأشد تدليساً ؛ فإن من شهد أن لا إله إلا الله وصلى وصام ؛ عَظُمَ إطلاق الكفر عليه عند الجاهل ، ولم يعلم أنه هدم هذه الأعمال بشركه ودعوته غير الله فلم تنفعه عبادته ؛ لأن من لم يأت بالتوحيد الخالص لم يعبد الله ؛ فلهذا صار هذا الجواب من أنفع الأجوبة . قاله ابن مانع في تعليقه على الكشف .
وقد بين المصنف رحمه الله في أول كلامه أهمية هذه الشبهة فقال : ( فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا ، وهي من أعظم شبههم فاصغ سمعك لها ) .
وقد أكثر المصنف – رحمه الله – الكلام على هذه الشبهة في كثير من رسائله وكتبه وألّف رسالة في الرد على هذه الشبهة وهي : " مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد " (1) .
__________
(1) - انظر : مؤلفات الشيخ (1/307) ، والقسم الرابع ، التفسير ، ص 345. )(1/205)
ومن تقريراته أيضاً : الباب الذي عقده في كتاب التوحيد ، وترجمته : ( باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ) وأورد تحته ما يناسب من أدلة من كتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ والتي تدل على وقوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منهم إلى عبادة الأوثان (1) يقول : الشيخ عبدالرحمن بن سعدي – رحمه الله – : " مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه ، وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة ، والرد على من زعم أن من قال : لا إله إلا الله ،وتسمى بالإسلام ؛ فإنه على إسلامه ، ولو فعل ما ينافيه من الاستغاثة بأهل القبور ودعائهم ، وسمى ذلك توسلاً لا عبادة ؛ فإن هذا باطل ؛ فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله ، لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية ، ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع ، وهو العبادة ؛ فإنه حق الله وحده ، فمن دعا غير الله أو عبده ؛ فقد اتخذه وثناً ، وخرج بذلك عن الدين ، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام ؛ فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد وكافر ومنافق ! والعبرة بروح الدين وحقيقته ، لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها (2) .
[ الجوابان : الثامن والتاسع ]
ومن الدليلِ على ذلكَ أيضاً : ما حكى الله عن بني إسرائيلَ مع إسلامِهِم وعلمِهم ، وصلاحِهم أنهم قالوا لموسى : ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138 ] وقول أناسٍ من الصحابةِ : " اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ فحلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا مثلُ قولِ بني إسرائيلَ ( اجعل لنا إلهاً ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - انظر : تيسير العزيز الحميد " ص 315 .
(2) - القول السديد في مقاصد التوحيد ص 89- 92 .(1/206)
قوله : ( ومن الدليلِ على ذلكَ أيضاً ) : كأن المصنف رحمه الله رغب في زيادة البيان والتبيان في هذه الشبهة ، فكرّ عليها مرة أخرى بجوابين آخرين ،وهما : الجواب الثامن : والجواب التاسع ، مما يبين لك أيها القارئ حرص المصنف على بيان الحق وإيضاحه للناس ، وإرشادهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم ، خاصة في المسائل التي يكثر الخلط فيها كهذه الشبهة التي أطال فيها – رحمه الله تعالى - .
قوله : ( ما حكى الله عن بني إسرائيلَ ) : المراد بإسرائيل هو يعقوب عليه السلام كما في قوله تعالى : ( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) [ آل عمران : 93] وبنو إسرائيل هم اليهود .
قوله : ( مع إسلامِهِم وعلمِهم ، وصلاحِهم أنهم قالوا لموسى : ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) [ الأعراف : 138 ] وقول أناسٍ من الصحابةِ : " اجعل لنا ذاتَ أنواطٍ فحلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا مثلُ قولِ بني إسرائيلَ (اجعل لنا إلهاً ) : ونص الحديث هو : عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر ! إنها السنن ؛ قلتم والذي نفسي بيده ، كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) [ الأعراف : 138 ] لتركبن سنن من كان قبلكم " (1) .
__________
(1) - أخرجه أحمد ( 5/ 218) ، والترمذي ( 21802) وقال : حسن صحيح . وصححه ابن حجر في الإصابة ( 4/216) .(1/207)
والأنواط جمع نوط – بسكون الواو – وهو : ما يعلق عليه الشيء ، فكان أهل الجاهلية يتبركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم رجاءَ البركة ، وقد بين العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله – وجه الشبه بين المقالتين فقال: " شبّه –أي النبي صلى الله عليه وسلم – مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل ، بجامع أن كلاًّ طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله ، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد ، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة " (1) .
[ الشبهة الثانية عشرة ]
[ أن بعض أصحاب موسى وأصحاب رسول الله لم يكفروا مع شناعة طلبهم ]
ولكنْ للمشركين شبهةٌ يُدلونَ بها عندَ هذه القصةِ ؛ وهيَ أنهم يقولونَ : إن بني إسرائيلَ لم يكفروا بذلكَ ، وكذلكَ الذينَ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم " أن يجعلَ لهمْ ذاتَ أنواطٍ " . فالجوابُ أن نقولَ : إن بني إسرائيلَ لمْ يفعلوا ، وكذلكَ الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك ، ولا خلافَ أن بني إسرائيلَ لو فعلوا ذلكَ لكفروا . وكذلك لا خلافَ في أن الذين نهاهُم النبيُ صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوهُ ، واتخذوا ذاتَ أنواطٍ بعدَ نهيِه لكفروا . وهذا هو المطلوبُ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (ولكنْ للمشركين شبهةٌ يُدلونَ بها عندَ هذه القصةِ ) : أي حديث أبي واقد الليثي المتقدم ذكره آنفاً :
__________
(1) - فتح المجيد ص 185 .(1/208)
قوله : ( وهي أنهم يقولونَ : إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلكَ ، وكذلكَ الذينَ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلَ لهمْ ذاتَ أنواطٍ ) : ووجه الدلالة من القصة : أن بني إسرائيل طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً ، فلم يأمرهم بتجديد دينهم ، وأن بعض الصحابة طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كالمشركين ، فنهاهم ، ولم يأمرهم بتجديد إسلامهم ، فمعنى هذا أن مثل هذه الأشياء تقع على مسمع ومرأى من الأنبياء ولم يكفروا بها ، فكيف أنتم تكفرون بها . هذه هي الشبهة ؟ (1) .
قوله : ( فالجوابُ أن نقولَ : إن بني إسرائيلَ لمْ يفعلوا ذلك ، وكذلكَ الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك ، ولا خلاف أن بني إسرائيلَ لو فعلوا ذلكَ لكفروا ، وكذلك لا خلافَ في أن الذين نهاهُم النبيُ صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوهُ ، واتخذوا ذاتَ أنواطٍ بعدَ نهيهِ لكفروا . وهذا هو المطلوبُ ) : فهم كانوا في بداية الأمر جهلة ، ثم نُبهوا إلى خطر ما قالوه ، فرجعوا ، ولو لم يحصل منهم الرجوع لكفروا ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله : " إن من أرد أن يفعل الشرك جهلاً فنُهي عن ذلك فانتهى لا يكفر " (2) .
إذًا ، جواب هذه الشبهة من وجوه :
1-أنهم معذورون ؛ لأنهم حُدثاء عهد بكفر كما ورد في الحديث (3) .
__________
(1) - قاله الشيخ عبد الله البسام في تعليقه على كشف الشبهات ص 42 .
(2) - تيسير العزيز الحميد ص 185 .
(3) - انظر الدرر السنية ( 8/ 244 ) .(1/209)
2- أنهم ما فعلوا ما قالوه . قال إمام الدعوة رحمه الله : ( ... لا خلاف أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا.. ) وقد ذكر المصنف في كتابه – كتاب التوحيد – في المسائل : ( الثالثة : كونهم لم يفعلوا ) (1) . وقال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله : " ... لا شك أن هؤلاء لو اتخذوا ذات أنواط بعد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لكفروا " (2) .
3- أنهم إنما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهة المشركين في تعليق أسلحتهم على شجرة يتخذونها لذلك ، ومشابهة الكفار منهي عنها ولذا أغلظ عليهم .
وعلى هذا حمل الشاطبي الحديث وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية (3) .
[ فوائد من حديث أبي واقد الليثي ]
__________
(1) - في باب : من تبرك بشجر أو حجر ..
(2) - الانتصار ص 35 .
(3) - انظر : الاعتصام 2/245- 246، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 644. وبعض أهل العلم حمل الحديث على أنهم طلبوا شجرة يعكفون حولها ويتبركون بها كما يفعل المشركون وهذا شرك أكبر ، وعليه جرى كلام الشيخ هنا – خلافاً لما قرره في كتاب التوحيد باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما من أنه شرك أصغر – وكذا ابن القيم في إغاثة اللهفان حيث ذكر أن اتخاذ هذه الشجرة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يدعونها . وكذا الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – حيث يقول : " ليس ما طلبوا من الشرك الأصغر ، ولو كان منه ، لما جعله النبي نظير قول بني إسرائيل ( اجعل لنا إلهاً ) وأقسم على ذلك ، بل هو من الشرك الأكبر ، كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الأكبر ، وإنما لم يكفروا بطلبهم ، لأنهم حدثاء عهد بكفر " تعليقه على فتح المجيد ص 146 ، تعليق 2 . ولعل هذا هو الصحيح الظاهر والله تعالى أعلم .(1/210)
ولكنَ هذهِ القصةَ تفيدُ : أن المسلمَ - بل العالمَ – قد يقعُ في أنواعٍ من الشركِ وهو لا يدري عنها .
فتفيدُ : التعلمَ والتحرزَ ، ومعرفةَ أن قولَ الجاهلِ : " التوحيدَ فهمناهُ " ، أن هذا من أكبرِ الجهلِ ومكائدِ الشيطانِ ، وتفيدُ أيضاً : أن المسلمَ المجتهدَ إذا تكلمَ بكلامِ كُفْرٍ ، وهو لا يدري فنبِّه على ذلك فتابَ من ساعتِه أنه لا يكفرُ كما فعلَ بنو إسرائيلَ ، والذين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وتفيدُ أيضاً : أنه لو لم يكفرْ ، فإنهُ يُغَلظُ عليهِ الكلامُ تغليظاً شديداً ، كما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله ) ولكنَ هذهِ القصةَ ) : أي قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ، وبعض الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤلف ذكر من هذه خمس فوائد .
قوله : ( تفيدُ : أن المسلمَ – بل العالمَ – قد يقعُ في أنواعٍ من الشركِ وهو لا يدري عنها ) : هذه الفائدة الأولى وهي : أن المسلم الجاهل قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها ، بل العالم قد يقع في الشرك وهو لا يدري ؛ فإن كان إبراهيم يخافه على نفسه فكيف بغيره ؟ وإذا كان الشرك قد وقع فيه أذكياء العالم فكيف بمن دونهم ؟ وإذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم حينما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط ، ظنوا هذا الطلب حسناً ، حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كقول بني إسرائيل ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والفضل بإضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل ، وبُعد العهد بآثار النبوة ؟! (1) .
__________
(1) - انظر : فتح المجيد ص 184 .(1/211)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن : " إذا كان هذا التوحيد الذي هو حق الله على العباد قد خفي على أكابر العلماء في أزمنة سلفت ، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور ؟! خصوصاً إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد وقبوله ومحبته والدعوة إليه وتطلب أدلته واستحضارها ذهناً وقولاً وطلباً ورغبة ً " (1).
قوله : ( فتفيد التعلم والتحرز ) : وهذه الفائدة الثانية ، وهي : إذا كان المسلم بل العلم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها، ( فتفيد التعلم ) أي : تعلم أسباب النجاة ، فإنه لا نجاة إلا بالعلم ومعرفة الضد والشر لغيره ، يعرف الشرك وأقسامه ووسائله وذرائعه ليسلم من الوقوع فيه كما قال تعالى : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) الأنبياء : 35. ( والتحرز ) يعني اتهام العمل أن يكون دخله شيء من الشرك ، بل يجعل على باله هل أخلص قبل دخوله فيه ؟ وتفقد النفس ولحظاتك فيمن هي ، ولذا كان لزامًا على المسلم أن يتعلم التوحيد وما يضاده حتى يسلم من الوقوع في الشرك وهو لا يشعر . قال المصنف رحمه الله : " مسائل التوحيد ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة ، بل البحث عنها وتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل ، والمحرم والمحل ، والذكر والأنثى .."
قوله : (ومعرفةَ أن قولَ الجاهلِ ) : لعل المؤلف يشير إلى مقالة المويس ( 1175هـ ) أحد الخصوم الألداء الذين ناهضوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وسعوا إلى الصدّ عن دين الله تعالى ، وقد حكى الشيخ مقالته في إحدى رسائله : ( ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس أن بنيات حرمه وعيالهم يعرفون التوحيد فضلاً عن رجالهم ) (2).
__________
(1) - الدرر السنية ( 1/ 193 ) .
(2) - مؤلفات الشيخ ( 5/ 173) نقلاً من كتاب : تعليقات على كشف الشبهات ص 103 .(1/212)
قوله : (" التوحيدَ فهمناهُ " ، أن هذا من أكبر الجهلِ ومكائدِ الشيطانِ ) : الفائدة الثالثة : أن قول القائل التوحيد فهمناه (1)– بمعنى : لا حاجة لتدريسه وتعليمه – مكيدة شيطانية ومن أكبر الجهل ؛ فإذا كان هؤلاء الصحابة وقعوا في هذا الشرك فما بالك بغيرهم ، ومن هنا كان الجاهل هدفاً للشيطان يوجه إليه سهام الشبهات وزُعاف الشهوات ، فالجاهل لا يعرف كيد الشيطان فيحذره ، ولا مكائده فيجتنبها ، وعندها يسهل على الشيطان صده وإضلاله بأدنى الحيل وأضعف الشبه ؛ فالجهل مدخل من مداخل الشيطان ومصائده ، بل يمكن القول بأن كل مداخل الشيطان وحبائله تبدأ بالجهل ؛ قال ابن الجوزي : " اعلم أن أول تلبيس إبليس على الناس : صدهم عن العلم ؛ لأن العلم نور فإذا أطفأ مصابيحهم خبطهم في الظلم كيف شاء " (2) .
" ولما كان الجهل داءً دوياً ، ومرضاً مستحكماً قوياً ، كان دواؤه الذي هو العلم ، أصعب شيء على النفس وأشقه ، وكلما كانت الغاية غالية اقتضت همةً عاليةً ونفساً سامية " (3) .
__________
(1) - انظر ما ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم على هذه المسألة في شرحه لكشف الشبهات ص 108- 109 .
(2) - تلبيس إبليس ص 310 .
(3) - ذم الجهل ص 5.(1/213)
وحاجة الناس إلى العلم والتذكير به – خاصة علم التوحيد الذي يتوقف عليه نجاة العبد يوم القيامة – أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، كما قال الإمام أحمد : "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب ؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين ، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " (1) ؛ لذا فقول هذا الجاهل أو المتجاهل ( إن التوحيد فهمناه ) مع وقوع الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة في الإشراك بالله ، مما يدل على بطلان هذه المقولة الزائفة والعبارة الزائغة ، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يرسخ في القلوب أمر التوحيد ، ويقشع عنها ظلمة الشرك ، حتى وهو في لحظة الاحتضار صلى الله عليه وسلم نجده يندد ويحذر مما فعله مشركو أهل الكتاب باتخاذ القبور مساجد ، وهذا القرآن كله في أمر التوحيد ؛ تبييناً لمعالمه وإيضاحاً لمقاصده ، ومع ذلك كله قد كثر في الأمة الشرك بالله ، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور ، وصرفت لها العبادات بأنواعها ، واتخذ ذلك ديناً ، فكيف يقال : إن التوحيد فُهم ؟ وحالة الأمة على هذا الوضع المزري الذي يندي له الجبين ، مما يؤكد لك زيف هذه المقولة ، وكونها من أبطل الباطل ، ومن كيد الشيطان لإضلال الإنسان . حمانا الله وإياكم من كيده وشره .
قوله : ( وتفيدُ أيضاً : أن المسلمَ المجتهدَ إذا تكلم بكلامِ كُفْرٍ ، وهو لا يدري فنبِّه على ذلك فتابَ من ساعتِه أنه لا يكفرُ ؛ كما فعلَ بنو إسرائيلَ والذين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ) :
__________
(1) - المصدر السابق ص 7 .(1/214)
الفائدة الرابعة : أن المسلم المجتهد إذا قال ما يقتضي الكفر ، جاهلاً بذلك ثم نبه فانتبه فإنه لا يكفر لأنه معذور بجهله . ولاحظ تعبير المصنف فإنه قال : ( المسلم المجتهد ) أي المجتهد بفعله ليخرج غير المجتهد الذي لا يعذر ؛ قال ابن حزم – رحمه الله – " ولا خلاف في أن امرءاً لو أسلم – ولم يعلم شرائع الإسلام - فاعتقد أن الخمر حلال ، وأن ليس على الإنسان صلاة وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً ، بلا خلاف يعتد به حتى إذا قامت الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر " (1).
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به ؛ فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة ، كما قال تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) [ النساء : 165] ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ، أو يعلم أن الخمر حرام لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا ، وتحريم هذا ، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ) (2) .
وقال أيضاً في المسائل الماردينية : ( وحقيقة الأمر في ذلك : أن القول قد يكون كفراً ، فيطلق القول بتكفير صاحبه فيقال : من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ) (3) .
وقال الشيخ محمد العثيمين : " تدل هذه القصة على أن المسلم إذا قال ما يقتضي الكفر جاهلاً بذلك ، ثم نبه فانتبه وتاب في الحال ، فإن ذلك لا يضره ؛ لأنه معذور بجهله ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، أما لو استمر على ما علمه من الكفر فإنه يحكم بما تقتضيه حاله ) (4) .
__________
(1) - المحلى ( 13/ 151) .
(2) - الفتاوى ( 11/ 406) .
(3) -ص 71 .
(4) - التعليقات على كشف الشبهات ص 77.(1/215)
قوله : ( وتفيدُ أيضاً : أنه لو لم يكفرْ ، فإنهُ يُغَلظُ عليه الكلامُ تغليظاً شديداً ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : هذه الفائدة الخامسة ، وهي كما قال المؤلف : ( لو لم يكفر يُغَلظُ عليه الكلام تغليظاً شديداً ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) حيث قال : " الله أكبر إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) قال إنكم قوم تجهلون... " الحديث ، قال المؤلف رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد ، بعد أن ذكر الشاهد من الحديث: " فتغليظ الأمر بهذه الثلاث " (1) . وهذه الثلاثة هي :
قوله صلى الله عليه وسلم ( الله أكبر ) ، وقوله : ( إنها السنن ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ) (2) .
قال الشيخ عبد الله بن حميد – رحمه الله - : ( ثم تفيد – أي القصة – أنه لو قالها جهلاً وتاب ينبغي أن يغلّظ عليه من أجل أن يكون وقعها في القلوب عظيماً ، فإذا أنكرت عليه إنكاراً شديداً مغلَظاً عليه هذه الكلمة التي تكلم بها يكون أوقع في قلبه من أنه ارتكب جريمة ، ولا سيما الكلمات التي تؤدي إلى الكفر ، فهذه لا بد من التغليظ في الإنكار فيها . .. ) (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأنكر النبي مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم ، فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه ) (4).
[ الشبهة الثالثة عشرة ]
[ من أتى بالتوحيد فإنه لا يكفر ولو فعل ما يناقضه ]
__________
(1) - انظر : فتح المجيد ص 189 .
(2) - انظر : التوضيح المفيد لمسائل كتاب التوحيد ص 71 .
(3) - شرح كشف الشبهات ص 86 للشيخ عبد الله بن حميد .
(4) - اقتضاء الصراط المستقيم ( 2/644) .(1/216)
وللمشركينَ شبهةٌ أخرى ؛ يقولونَ : إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكرَ على أسامةَ رضي الله عنه قتلَ من قالَ : لا إله إلا الله ، وقالَ له : ( أقتلته بعد ما قالَ لا إله إلا الله؟ ) ، وكذلكَ قولُه : ( أمرت أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله ) (1) . وأحاديثُ أخرى في الكفّ عمن قالها ، ومرادُ هؤلاءِ الجهلةِ : أن من قالَها لا يكفرُ ولا يقتلُ ولو فعلَ ما فعلَ .
قوله : ( وللمشركينَ شبهةٌ أخرى ؛ يقولونَ : إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكرَ على أسامةَ رضي الله عنه قتلَ من قالَ : لا إله إلا الله ، وقالَ له : ( أقتلته بعد ما قالَ لا إله إلا الله ؟ ) : حديث أسامة أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، ولفظ البخاري : عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشينا قال : لا إله إلا الله ، فكف الأنصاري ، فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا النبي صلى الله عليه وسلم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا أسامة ، أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ ) قلت : " كان متعوذاً " ، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم " (2) .
__________
(1) - سبق تخريجه ص 81 ،وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) - رواه البخاري ورقمه ( 4269) ومسلم ورقمه ( 96 ) .(1/217)
قوله : ( وكذلكَ قولُه : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها ) : كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته ، من أحق بها يوم القيامة ؟ قال : ( من قال : لا إله إلا الله ، خالصاً من قلبه ) (1) وكذا حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) (2) .
قال إمام الدعوة –رحمه الله - : " وهذه الأحاديث الصحيحة إذا رآها هذا الجاهل أو بعضها أو سمعها من غيره ؛ طابت به نفسه وقرت عينه واستنقذه المساعد على ذلك ، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك ، فلو أنه دعا غير الله أو ذبح له أو حلف به أو نذر ، لم ير ذلك شركاً ولا محرماً ولا مكروهاً .. ." (3) .
[ الجواب المجمل ]
فيقالُ لهؤلاءِ المشركينَ الجهال : معلومٌ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قاتلَ اليهودَ وسباهُم وهو يقولون : لا إله إلا الله . وأن أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفةَ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ، ويُصلون ، ويَدّعُونَ الإسلامَ . وكذلك الذين حرقَهُم علىُّ ابنُ أبي طالبٍ بالنارِ . وهؤلاءِ الجهلةِ مُقرُّونَ أن من أنكرَ البعثَ كفر وقُتل ولو قال لا إله إلا الله ، وان من أنكرَ شيئاً من أركانِ الإسلامِ كفر وقُتل ولو قالَها .
فكيفَ لا تنفعهُ إذا جحدَ شيئاً من الفروعِ ، وتنفعُهُ إذا جحدَ التوحيدَ الذي هو أساسُ دينِ الرسلِ ورأسُهُ ؟! .
ولكن أعداءُ اللهِ ما فهموا معنى الأحاديثِ .
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه ( 99 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) - رواه البخاري ورقمه ( 425) ومسلم ورقمه ( 263 ).
(3) - مجموع الرسائل والمسائل ( 4/ 24 ) وانظر : (3/ 446) .(1/218)
قوله : ( فيقالُ لهؤلاءِ المشركينَ الجهال ) : المصنف رحمه الله تعالى رد على هذه الشبهة بجوابين ، جواب مجمل ، وجواب مفصل ، والجواب المجمل يتضمن أمرين :
الأول : أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاتلوا بعض من قال : لا إله إلا الله ، لكونه أتى بما يناقضها ويضادها ، ولم تنفعه هذه الكلمة ، وقد ذكر المؤلف على ذلك ثلاثة أمثلة وهي : اليهود ، بنو حنيفة ، والذين غلوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
قال الشيخ عبد الله البسام في تعليقه على الكشف : " كلمة التوحيد ليست عاصمة بلفظها ، وإنما هي دليل العصمة ، فيجب التثبت مع من قالها ، فإن حققها فهو المسلم المعصوم ، ومن لم يحققها فمجرد لفظها لا يعصمه " .
الثاني: أن هؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر وجوب الصلاة أو الزكاة أو غيرها من أركان الإسلام وشعائره العظام ، أنه يكفر ويقتل ولو قال : لا إله إلا الله ، فألزمهم المصنف بهذا الإقرار أن من حجد التوحيد – الذي هو أساس الدين- فإنه يكفر ولو قال : لا إله إلا الله وهذا على سبيل الأولوية ؛ لأنه إذا كان يُكفّر بالفرع فمن باب أولى أن يُكفَّر بالأصل وهو التوحيد إذا أتى بما يناقضه .
قوله : ( معلومٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلَ اليهودَ وسباهُم وهو يقولون لا إله إلا الله ) : الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه : ( فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال : قد وضعت السلاح ، والله ما وضعته اخرج إليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم " فأين ؟ " فأشار إلى بني قريظة ، فأتاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه ، فرد الحكم إلى سعد ، قال : إني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم .. ) (1) .
__________
(1) - رواه البخاري روقمه ( 4122) ومسلم ورقمه ( 1769 ) .(1/219)
قوله : ( وأن أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفةَ وهو يشهدونَ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ، ويُصلون ، ويَدّعُونَ الإسلامَ ) : هم : مسيلمة الكذاب وأصحابه ؛ وهؤلاء لم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم بل أجمعوا على ذلك .
قوله : ( وهؤلاء الجهلةِ مقرونَ أن من أنكرَ البعثَ كفر وقُتلَ .. جحدَ التوحيدَ الذي هو أساسُ دينِ الرسلِ ورأسُهُ ؟! ) : هذا هو نهاية الجواب المجمل لهذه الشبهة الآنفة الذكر وسيذكر المصنف رحمه الله الجواب المفصل .
قوله : ( ولكن أعداءُ اللهِ ما فهموا معنى الأحاديثِ ) : لأنهم أهل زيغ وانحراف ، وقد أخبرنا الله تعالى عن منهج هؤلاء وأمثالهم في تعاملهم مع النصوص ، فقال سبحانه : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) [ آل عمران : 7 ] ولكن كما قال القائل :
أقاويل لا تعزي إلى عالم فلا
تساوي فلساً إن رجعت إلى النقد (1)
" وإلا تصوروا هذه المسألة تصوراً حسناً يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين ، الأول : إذا كان من انتسب على الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول : لا إله إلا الله ، ويصلي ويفعل كذا وكذا ، لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير ، بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة ، أو العمى أو العرج ، فإن كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم ، وإن ادعى ملّة غيرها فهو كافر ، وهذه فضيحة كافية في رد هذا القول الفظيع .
__________
(1) - مؤلفات الشيخ ( 1/ 310 ) من قول الأمير الصنعاني رحمه الله .(1/220)
الوجه الثاني : أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعلوم الضرورية ؛ فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس وأبلدهم : ما تقول فيمن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك مع أنه يدعي أنه مسلم متبع ؟ إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر ، من غير نظر في الأدلة أو سؤال لأحد العلماء ، ولكن لغلبة الجهل وغربة العلم وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين اشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق .. "(1) .
[ بداية الجواب المفصل ]
فأما حديثُ أسامةَ رضي اللهُ عنه : فإنَهُ قتلَ رجلاً ادعى الإسلامَ بسببِ أنَّهُ ظنِّ أنَّهُ ما ادعاه إلا خوفاً على دمِهِ ومالِه . والرجلُ إذا أظهرَ الإسلامَ وجبَ الكفُ عنهُ حتى يتبين منهُ ما يُخالفُ ذلكَ . وأنزلَ اللهُ تعالى في ذلكَ : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) [ النساء : 94 ] أي تثبوا .
فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت ، فإذا تبين منه بعد ذلكَ ما يخالفُ الإسلام قُتِلَ لقولِهِ تعالى : ( فتبينوا ) ولو كان لا يقتلُ إذا قالها لم يكن للتثبت معنى . وكذلكَ الأحاديث الأخر وأمثالُهُا فمعناها ما ذكرنا : أن من أظهرَ الإسلامَ والتوحيدَ وجبَ الكفُّ عنهُ إلا أن يتبينَ منهُ ما يناقضُ ذلكَ .
__________
(1) - مؤلفات الشيخ ( 1/ 307 – 308 ) ) بتصرف .(1/221)
والدليل على هذا أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي قالَ : ( أقتلتَهُ بعدَ ما قال لا إله إلا الله ؟ ) وقالَ : ( أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله ) . هو الذي قال في الخوارجِ : ( أينما لقيتُموهم فاقتُلوهُم ) ، ( لئن أدرَكْتُهم لأقتُلنهم قتلَ عادٍ ) (1) مع كونهم من أكثر الناس عبادةً ، وتهليلاً ، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم ، وهو تعلموا العلمَ من الصحابة فلمْ تنفعهمُ لا إله إلا الله ولا كثرةُ العبادةِ ، ولا ادعاءُ الإسلامِ لما ظَهرَ منهمْ مخالَفةُ الشريعة.
وكذلكَ ما ذكرنَا من قتالِ اليهودِ ، وقتالِ الصحابةِ رضي الله عنهم بني حنيفةَ . وكذلك أرادَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المطلق لما أخبرَهُ رجلٌ أنهمْ منعوا الزكاة حتى أنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) [ الحجرات : 6 ] وكانَ الرجلُ كاذباً عليهم ، فكلُ هذا يدلُ على أن مرادَ النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديثِ الواردة ما ذكرنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - قوله : ( أينما لقيتموهم ) قطعة من حديث أخرجه البخاري ورقمه ( 6930 , 3931 ) ومسلم ورقمه ( 1066) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفيه : ( سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث السن سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناحرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ) هذا لفظ البخاري رحمه الله . . وقوله : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم ... ) قطعة من حديث أخرجه البخاري أيضاً ورقمه ( 3344) ، ومسلم ( 1064 ) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه : ( إن من ضئضئ هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، لإن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ٍ ) .(1/222)
قوله : ( فأما حديثُ أسامةَ رضي الله عنه : فإنّهُ قتلَ رجلاً ادعى الإسلامَ بسببِ أنه ظنَّ أنّهُ ما ادعاه إلا خوفاً على دمِهِ ومالِهِ . والرجلُ إذا أظهر الإسلامَ وجبَ الكفُّ عنهُ حتى يتبينَ منهُ ما يخالفُ ذلكَ ) : أجاب المصنف رحمه الله عن حديث أسامة بن زيد بأن من قال لا إله إلا الله فإنه لا يكفر ولا يقتل ويجب الكف عنه ، لكن ينظر بعد ذلك في حاله ؛ فإن استقام على كلمة التوحيد فنعم ، وإن لم يكن كذلك بأن أتى بما يناقضه فلا ؛ كما في الآية التي استدل بها المؤلف ، فمفهومها أن من تبين لكم مخالفته ، فإنه يقتل ؛ لأنه لو كان لا يقتل لما كان للتبيين فائدة ؛ قال ابن عبد البر رحمه الله (.. من أظهر الشهادة بأن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، حقنت دمه ، إلا أن يأتي ما يوجب إراقته مما فُرض عليه من الحق المبيح لقتل النفس المحرمة .) . (1) .
__________
(1) - التمهيد ( 10/153) .(1/223)
وقال الشوكاني رحمه الله : ( ولا شك أن من قال : لا إله إلا الله ، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد فهو مسلم محقون الدم والمال إذ جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويحجوا البيت ويصوموا رمضان ) ، وهكذا من قال : لا إله إلا الله فتشهد بها شهادة الإسلام ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام ؛ فالواجب حمله على الإسلام عملاً بما أقر به لسانه وأخبر به من أرد قتله ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد ما قال . وأما من تكلم بكلمة التوحيد وفعل أفعالاً تخالف التوحيد : كاعتقاد هؤلاء المعتقدين ، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد .. ) إلى أن قال : ( فمن ترك أحد هذه الخمس ( أي أركان الإسلام ) لم يكن معصوم الدم ولا المال ، وأعظم من ذلك التارك معنى التوحيد أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال ) (1).
قوله : ( فتبينوا ) التبين : شدة طلب البيان ؛ أي التأمل القوي ، حسبما تقتضيه صيغة التفعل ( (2) . قال الشوكاني : ( قرأ الجمهور – ( فتبينوا ) من التبين ، وقرأ حمزة والكسائي ( فتثبتوا ) من التثبت . والمراد من التبين التعرف والتفحص ، ومن التثبيت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر ) (3) .
وقال القرطبي : ( فتبينوا ) في هذا أوكد ؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يتبين ) (4).
__________
(1) - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص 79.
(2) - قاله ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (5/ 167) .
(3) - فتح القدير ( 5/60) .
(4) - الجامع لأحكام القرآن (5/ 338) .(1/224)
قوله : ( وكذلكَ الأحاديث الأخر وأمثالُهَا فمعناها ما ذكرنا : أن من أظهر الإسلام والتوحيدَ وجبَ الكفُّ عنهُ إلا أن يتبينَ منهُ ما يناقضُ ذلكَ ) وهذا الطريق الصحيح ؛ وهو الجمع بين النصوص فلا يعمل بنص دون نص آخر يرتبط به ، والجمع هنا ما قاله المؤلف بأن من نطق بالشهادتين فهو معصوم الدم والمال ؛ وذلك لما دلت عليه بعض النصوص التي ذكرها المصنف ، وجاءت نصوص أخرى تدل على أن من أتى بما يخالف الشهادتين فإنه يقتل ؛ كما هو واضح في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج مع شدة عبادتهم لله تعالى حتى أن الصحابة قد يحقر أحدهم صلاته عند صلاتهم وصيامهم عند صيامهم .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - : ( فصار هنا ثلاث صور :
الأولى : أن يُعرف أنه حينما نطق بها عمل بها ؛ فهذا لا يقتل .
الثانية : أن يُشك في حاله ، ولو يُظن أنه متعوذ فقط ؛ فهذا أيضاً لا يقتل .
الثالثة : أن يقولها ولكن ينقضها ؛ فهذا يقتل لقوله : ( فتبينوا ) ، لأنه تبيّن منه ما يخالف الإسلام ، فحل دمه وماله ، وكذلك إذا كان من قبل يقولها ولا يعمل بها ومتكرّر منه ذلك فلا حكم لها (1) .
__________
(1) - شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 115.(1/225)
قوله : ( "أُمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله" ) : وتمام الحديث ( فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) : قال الشيخ حمد بن معمر جواباً عن الحديث : ( فهذا لا إشكال فيه بحمد الله ، وليس لكم فيه من حجة ، بل هو حجة عليكم ، ولو لم يكن إلا قوله : ( إلا بحقها ) لكان كافياً في إبطال قولكم ؛ فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله ، وقد قال علماؤنا رحمهم الله : إذا قال الكافر لا إله إلا الله ، فقد شرع في العاصم الأول لدمه فيجب الكف عنه ، فإن تمم ذلك تحققت العصمة ، وإلا بطلت ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت ؛ فقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كُفَّ عنه ، وصار دمه وماله معصوماً . ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين ، فقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسولُ الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ) فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك ، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام ، كما وقعت لبعض الصحابة ، حتى جلاّها أبو بكر الصديق ، ثم وافقوه رضي الله عنه ) (1) .
__________
(1) - الدرر السنية ( 10/309، 310، 316) باختصار وتصرف يسير . نقلاً من تعليقات على كشف الشبهات . وانظر : الدرر السنية ( 7/ 347- 350) .(1/226)
قوله : ( هو الذي قالَ في الخوارجِ : ) : هذا الاسم أطلق على الفرقة التي خرجت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عام 37هـ حيث أنكروا على علي رضي الله عنه قبول التحكيم مع معاوية رضي الله عنه وقالوا : لا حكم إلا لله ؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة ؛ حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين على بن أبي طالب فعاقب الطائفتين ) (1) .
قال شيخ الإسلام في بيان أشهر مسائلهم : ( الخوارج هم من أول من كفَّر المسلمين بالذنوب ، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله ) (2).
وقد اختلف العلماء في تكفيرهم على قولين مشهورين ؛ قال شيخ الإسلام : ( أما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران ، وهما روايتان عن أحمد ، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر ، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً ، وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع ، لكن تكفير الواحد المعين منهم ، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه ؛ فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له ... ) (3) ) .
وقال أيضاً رحمه الله : ( الخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها ، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره ، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع ) (4) ) .
__________
(1) - الفتاوى ( 3/ 279) .
(2) - الفتاوى ( 7/ 248) .
(3) - الفتاوى ( 28 /500) .
(4) - كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ص 205 وانظر : الفتاوى ( 3/ 282) . ومنهاج السنة ( 5/ 247، 248) .(1/227)
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( إذا علمت ذلك فاعلم ألهمك الله الصواب وأزال عن قلبك ظلم الشك والارتياب أن الذي عليه المحققون من العلماء أن أهل البدع كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة ونحوهم لا يكفرون ؛ وذلك لأن الكفر لا يكون إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ) (1)
قوله : (( وكذالكَ أرادَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المُصطلقِ لما أخبرَهُ رجلٌ أنهمْ منعوا الزكاة حتى أنزلَ الله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا" [ الحجرات : 6 ] وكانَ الرجلُ كاذباً عليهم )) : ونص الحديث هو : ما رواه أحمد (2) . عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : (( قدمت على رسول الله صلى الله فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، فيرسل إلىَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة .
__________
(1) - الدرر السنية ( 8/161) وانظر : رسالة الشيخ ناصر العقل المرقومة ( الخوارج أول فرقة في تاريخ الإسلام ) ص 47.
(2) - قال الشيخ سليمان العلوان : ( بسند فيه لين ) .(1/228)
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتسب عليه الرسول فلم يأته ، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله ، فدعا بسروات قومه فقال لهم : إن رسول الله كان وقت لي وقتاً يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث . فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتهم ؟ قالوا : إليك . قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعت الزكاة وأردت قتله . قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني . فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي : قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله ، قال : فنزلت الحجرات : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا" [ الحجرات : 6 ] إلى هذا المكان " فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [ الحجرات : 8 ] (1)
__________
(1) - رواه أحمد ( 4/279) ، قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره : " ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق وقد روى ذلك من طرق ، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده " وذكره . قال شيخ الإسلام في الفتاوى (7/248) : " هذه القصة معروفة من وجوه كثيرة " .(1/229)
والشاهد من القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم همَّ أن يغزو بني المصطلق لأنه بلغه أنهم امتنعوا عن أداء الزكاة ، ولم يمنعه إقرارهم بالشهادتين ذاك من إرادة قتالهم وحربهم ، مما يدل دلالة واضحة على أنه من أتى بناقض من نواقض الإسلام يكفر ويقاتل ولو تلفظ بالشهادتين ، وأدى بعض فرائض الدين .
قوله : ( فكلُ هذا يدل على أن مرادَ النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الواردة ما ذكرنا ) : وهو أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض التوحيد . وبهذا الجمع تلتئم النصوص ويزول الإشكال ويتضح المقال .
[ الشبهة الرابعة عشرة ]
[ إذا جازت الاستغاثة بالأنبياء في الآخرة فمن بابِ أوْلى أن تجوزَ في الدنيا ]
ولهمْ شُبهةٌ أخرى : وهي ما ذَكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الناسَ يومَ القيامةِ يستغيثونَ بآدمَ ، ثُمَّ بنوحٍ ، ثمَّ بإبراهيم ، ثمَّ بموسى ، ثمًَّ بعيسى ، فكلُّهم يعتذرُون ، حتى ينتهلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، قالوا : فهذا يدلُ على أن الاستغاثة بغيرِ الله ليستْ شركاً .
فالجوابُ أن نقولَ : سبحانَ من طبعَ على قلوبِ أعدائِه ، فإن الاستغاثةَ بالمخلوقِ فيما يقدرُ عليه لا نُنكرها ؛ كما قال تعالى في قصة موسى : (( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ )) [القصص: 15] وكما يستغيثُ الإنسانُ بأصحابِهِ في الحربِ ، وغيرِه في أشياءَ يقدرُ عليها المخلوقُ .
ونحن أنكرنا استغاثَةَ العبادة التي يفعلونَها عندَ قُبُورِ الأولياءِ أو في غَيبتِهم في الأشياءِ التي لا يقدرُ عليها إلا الله تعالى .
__________
(1) - أخرجه البخاري ورقمه (6565) ومسلم (2/56) بشرح النووي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .(1/230)
إذا ثبتَ ذلكَ : فالاستغاثةُ بالأنبياءِ يومَ القيامةِ ، يُريدونَ منهم أن يدعو الله أن يحاسبَ الناسَ حتى يستريحَ أهلُ الجنةِ من كربِ الموقفِ ، وهذا جائزٌ في الدنيا والآخرة ؛ أن تأتيَ عندَ رجلٍ صالحٍ ، حتى يُجالسكَ ، ويسمعُ كلامَك ، تقولُ لهُ : ادعُ الله لي كما كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يسألونَهُ في حياتِه .
وأما بعدَ موتِه فحاشا وكلا أنهم سألوهُ ذلك عندَ قبرِه ، بل أنكرَ السلفُ على من قصدَ دعاءَ الله عندَ قبرِه ، فكيفَ بدعائِه نفسه ؟! .
قوله : (( ولهمْ شُبهةٌ أخرى : وهي ما ذَكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الناسَ يومَ القيامةِ يستغيثونَ بآدمَ .. )) قال شيخ الإسلام في تعريف الاستغاثة : " هي طلب الغَوْث ؛ وهو إزالة الشدة ؛ كالاستنصار : طلب النصر ، والاستعانة : طلب العون " (1) .
قوله : ( قالوا : فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً ) : فممن احتج بذلك السبكي في شفاء السقام ، والنبهاني في شواهد الحق ، وداود بن جرجيس كما في مصباح الظلام ، والعزامي في البراهين ، وانتحله صاحب المفاهيم (2) .
__________
(1) - مجموع الفتاوى (1/103) .
(2) - انظر : كتاب " الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية " . (2/748) .(1/231)
قوله :((فإن الاستغاثةَ بالمخلوقِ فيما يقدرُ عليه لا نُنكرها )) : أجاب إمام الدعوة رحمه الله عن هذه الشبهة بجوابين ؛ هذا الأول منهما ؛ وهو أن الاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر السامع فيما يقدر عليه جائزة ، فإذا توفرت هذه الشروط جازت الاستغاثة بالمخلوق كما قال تعالى : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى )) [ المائدة : 2 ] . وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام (( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ )) [القصص : 15] قال شيخ الإسلام : "وقد مضت السُّنة أن الحي يُطلب منه الدعاء كما يطلب سائر ما يقدر عليه ، وأما المخلوق والغائب والميت فلا يطلب منه شيء "(1)
قال الشوكاني رحمه الله : "طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها .. " (2) . وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله : " .. استغاثة المخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوه .. هذا جائز لا نزاع فيه " (3) .
قوله : (( ونحن أنكرنا استغاثَةَ العبادةِ التي يفعلونَها عندَ قُبُورِ الأولياءِ أو في غيبَتِهم في الأشياءِ التي لا يقدرُ عليها إلا الله تعالى ))
__________
(1) - الرد على البكري ص 46.
(2) - الدرر النضيد ص 87.
(3) - منهاج التأسيس والتقديس ص 346.(1/232)
هذه هي الاستغاثة المحرمة التي تكون بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهي التي أنكرها المصنف وينكرها أهل السُّنة جميعاً ؛ كالاستغاثة بالأموات ، والاستغاثة بالأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وبالغائبين ؛ من شفاء المرضى ، وتفريج الكربات ، ودفع الضر ، فهذا النوع شرك أكبر ؛ روى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله )) (1) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن : " فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي ولا بمن دونه ، كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه ، وإن كان مما يقدر عليه في حياته ، حماية لجنبات التوحيد ، وسداً لذرائع الشرك ، وأدباً وتواضعاً لربه ، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال ؛ فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ؟ .. " (2) .
قوله :(( إذا ثبتَ ذلكَ : فالاستغاثةُ بالأنبياء يومَ القيامة ، يُريدونَ منهم أن يدعو الله أن يحاسبَ الناسَ حتى يستريحَ أهلُ الجنة من كربِ الموقفِ ))
__________
(1) - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد (10/159) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، وأخرجه أحمد (5/317 ) من حديث عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح أن رجلاً سمع عبادة يقول : .. الحديث ، والحديث فيه ابن لهيعة والرجل الذي لم يسم ، وبهذا أعله الهيثمي كما في مجمع الزوائد (8/40) وانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله على هذا الحديث في كتابه : الرد على الأخنائي ص 153.
(2) - فتح المجيد ص 244 .(1/233)
هذا هو الجواب الثاني ومفاده : أن الذي حصل من الناس في الموقف هو من باب سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائِه وليس هذا دعاءً لهم بذواتهم ، " وفرق ظاهر بين من يستغيث بالمخلوق ليكشف عنه الضر والسوء ، وبين من يستشفع بالمخلوق إلى الله تعالى ليزيل الله عنه ذلك " (1) .
قال إمام الدعوة رحمه الله : " وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء (2) . وغيره ، ولما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئاً من ذلك البتة ، ففرَّقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهم أعلم الأمة وأفضلها – بين حالتي الحياة والممات ، وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه ، وفي الصلاة والخطب وعند ذكره ، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم )) (3) ولما أراد عمر
__________
(1) - انظر شرح كشف الشبهات لابن عثيمين – رحمه الله – ص 126.
(2) - رواه البخاري ورقمه (932) ومسلم ورقمه (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
(3) - أخرجه أبو داود ورقمه (2042) وأحمد في مسنده (2/367) من حديث عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء (2/654) : (( إسناده حسن ورواته ثقات مشاهير ، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه .. )) وقال ابن عبد الهادي – كما في قرة عيون الموحدين ص 125- : (( هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة " وقال إمام الدعوة في كتاب التوحيد : (( رواه أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات )) .(1/234)
أن يستسقي بالناس أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال : (( اللهمّ إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، قال : فيسقون )) (1) . فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي إلى عمه العباس ، فلما عدلوا عنه إلى العباس ، علم أن التوسل بالنبي بعد وفاته لا يجوز في دينهم ، وصار هذا إجماعاً منهم .. " (2) .
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (1010) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
(2) - مجموع الرسائل (4/239) .(1/235)
قال شيخ الإسلام : " والعبد يسأل ربه بالأسباب التي تقتضي مطلوبة ؛ وهي الأعمال الصالحة التي وعد الثواب عليها ، ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه وشفاعته " إلى أن قال : " ومن ذلك ما رواه أهل السنن وصححه الترمذي : ( أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرد علي بصري فأمره أن يتوضأ ، ويصلي ركعتين ويقول : اللهم إني أتوجه إليك بنبيك ، نبي الرحمة ، يا محمد ، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها ، اللهم فشفعه فيّ " (1) . فهذا طلب من النبي ، وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له في توجهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة إلى الله ؛ فإن هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته " (2) . وقال رحمه الله أيضاً : " فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم وبطاعتهم ؛ كالصلاة والسلام عليهم ومحبتهم وموالاتهم أو بدعائهم وشفاعتهم ، وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد ، إن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم ، وليس في ذلك ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم إلا يكون بسبب منه إليهم ؛ كالإيمان بهم والطاعة لهم ، أو بسبب منهم إليه كدعائهم له وشفاعتهم ، فهذان الشيئان يتوسل بهما " (3) .
__________
(1) - أخرجه الترمذي ورقمه (3502) ، وابن ماجه ورقمه (1385) وأحمد (16605) من حديث عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف أن رجلاً . الحديث قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخطمي .
(2) - الفتاوى : (27/132) .
(3) - الفتاوى : ( 27/135) . وانظر : الدر النضيد للشوكاني ص84.(1/236)
قوله : ( وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتيَ عندَ رجلٍ صالحٍ ، حيّ ، يُجالسكَ ، ويسمعُ كلامكَ ، تقولُ له : ادعُ الله لي ) : فصّل شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة الدعاء من الغير فقال : "من قال لغيره من الناس : ادع لي - أو لنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء ، وينتفع هو أيضاً بأمره ويفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير ؛ فهو مقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤتم به ليس هذا من سؤال المرجوح ، وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه ؛ فهذا ليس من المقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم المؤتمين به في ذلك ، بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تركه إلى الرغبة إلى الله ورسوله أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله ، وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع .. " (1) .
والأصل في سؤال الناس : التحريم ، إلا في طلب العلم ، وما يضطر إليه الإنسان ، قال شيخ الإسلام :
" سؤال الخلق في الأصل محرم ، لكنه أبيح للضرورة ، وتركه توكلاً على الله أفضل قال تعالى : (( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ )) ( الشرح : 7- 8) .
__________
(1) - الفتاوى (1/193) .(1/237)
أي ارغب إلى الله لا إلى غيره " (1) وقال أيضاً : " فأما ما يسوغ مثله من العلم ، فليس من هذا الباب لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه بل يزداد بالجواب ، والسائل محتاج إلى ذلك ؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((هلا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فان شفاء العي السؤال )) (2) . ولكن من المسائل ما ينهي عنه كما قال تعالى: ((لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء )) ( المائدة : 101) . وكنهيه عن أغلوطات المسائل ونحو ذلك " (3) .
وقد ذكر رحمه الله مفاسد سؤال الخلق فقال : " فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد : مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي نوع من الشرك ، ومفسدة إيذاء المسؤول وهي نوع ظلم الخلق ، وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس .. " (4) .
__________
(1) - الفتاوى : ( 1/181) .
(2) - أخرجه أبو داود ورقمه ( 284) من حديث عبد الرحمن بن موسى للأنطاكي ، حدثنا محمد بن مسلمة عن الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر رضي الله عنه . قال ابن حجر رحمه الله في البلوغ ص 76 : ( رواه أبو داود بسند فيه ضعف ، وفيه اختلاف على رواته )) .
(3) - الفتاوى (1/78) .
(4) - المرجع السابق (1/190) .(1/238)
قوله : (( كما كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يسألونَهُ في حياتهِ )) :جاءت العبارة في كثير من النسخ المطبوعة: (( كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في حياته )) أي يسألونه الدعاء . وأما في النسخ الخطية فكلمة (( ذلك )) غير موجودة إلا في نسخة واحدة (1) "ولعل ذلك هو الصواب وهو الأليق بحال أفاضل الصحابة وأكابرهم ، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : "ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوا شيئاً من ذلك ولا سألوه أن يدعو لهم ، وإن كانوا يطلبون منه أن يدعو للمسلمين .. وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين ، كما سأله الأعمى أن يرد عليه بصره ، وكما سألته أم سليم أن يدعو الله لخادمه أنس ، وكما سأله أبو هريرة رضي الله عنه أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين ، ونحو ذلك " (2)
قوله : (( وما بعدَ موتِه فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلكَ عندَ قبرهِ )) : أي سألوه الدعاء ، والذي يدل على ذلك أدلة كثيرة منها :
__________
(1) - وقد حقق الشيخ عبد الله القحطاني الكتاب على تسع نسخ كلها اتفقت على هذا باستثناء مخطوطة واحدة بقلم الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله وأخرى جاءت العبارة هكذا (( يسألونه في حياته الاستسقاء وغيره )) انظر : تحقيق كشف الشبهات للشيخ عبد الله القحطاني ص 96، وتعليقات على كشف الشبهات ص 117-118 .
(2) - مجموع الفتاوى (1/186) .(1/239)
أ- أن الصحابة رضوان الله عليهم قد وقعوا في مصائب جسيمة ، ووقائع أليمة ، ومع هذا لم ينقل عنهم أنهم قصدوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور كبار الصحابة رضوان الله عليهم ، بل عملوا المشروع الوارد ؛ مثل خروجهم إلى الصحراء في الاستسقاء وكذلك لم ينقل عن التابعين والأئمة بعدهم ، ويدل على أنه لم يفعلوا ذلك عدم النقل عنهم ؛ إذ لو فعلوا لنقل عنهم كما نقل عملهم المشروع ، لأن مثله مما تتوافر الدواعي والهمم على نقله ، بل على نقل ما دونه (1) ، وقد قال وارث علم السلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وما أحفظ لا عن صحابي ولا عن تابعي ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده ، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الأئمة المعروفين ، وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه من الآثار ، فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء عند شيء من القبور حرفاً واحداً فيما أعلم "( (2) .
__________
(1) - انظر : كتاب الدعاء للعروسي ( 2/606) .
(2) - اقتضاء الصراط المستقيم (2/721) .(1/240)
ب -أن الصحابة رضوان الله عليهم : " لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرهما ، إذا وجدوا قبراً يقصد الدعاء عنده ؛ غَيَّبوه " (1) وأخفوه ، كما أنهم لما فتحوا بيت المقدس لم يقصدوا قبر الخليل ولا غيره من الأنبياء للدعاء ولا للصلاة ، بل إذا رأوا أحداً ينتاب مكاناً معيناً للصلاة ونحوها نهوه وزجروه ، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا رآهم ينتابون مكاناً يصلون فيه لكونه صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك ويقول : " هكذا هلك أهل الكتاب ؛ اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً ، من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصل ، ومن لم يعرض له منكم فيها الصلاة فلا يصل " (2) . ومن ذلك ما فعل الصحابة بقبر دانيال ؛ فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن أنس : " أنهم لما فتحوا تستر ، قال فوجد رجلاً أنفه ذراع في التابوت كانوا يستظهرون ويستمطرون به فكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب عمر أن هذا نبي من الأنبياء ، والنار لا تأكل الأنبياء والأرض لا تأكل الأنبياء ، فكتب أن انظر أنت وأصحابك – يعني أصحاب موسى – فادفنوه في مكان لا يعلمه أحد غيركما ، قال : فذهبت أنا وأبو موسى فدفناه " (3)
__________
(1) - منهاج السنُّة (2/483) .
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة (2/376- 377) وقال الألباني : وسنده صحيح على شرط الشيخين ، تحذير الساجد ص 137 .
(3) - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/28) ورقمه (15666) وانظر : كتاب الدعاء للعروسي (2/608) .(1/241)
قوله : ((بل أنكرَ السلفُ على من قصدَ دعاءَ الله عندَ قبرِه ، فكيفَ بدعائِهِ نفسِه ؟! )) : فمن ذلك ما ورد عن الحسين رضي الله أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : (( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم )) رواه في المختارة (1) .
ومن ذلك أيضاً : ما روى عن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم : قال سهيل بن أبي سهيل : " رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء ، فقلت : لا أريده ، قال : ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت : سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ، ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه سلم قال : ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء " (2) .
__________
(1) - رواه في المختارة ورقمه (428) ، والبزار في مسنده ورقمه (509) ، وأبو يعلى ورقمه (465) ، وابن أبي شيبة (3/375) ، والبخاري في التاريخ (2/186) ، وقال البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ، وقد روى بهذه الإسناد أحاديث صالحة فيها مناكير فذكرنا هذا الحديث لأنه غير منكر ، ( لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً ) ، قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ها الوجه ، وقال السخاوي في القول البديع ص 155: ( هو حديث حسن ) ، وحسنه ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 414.
(2) - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/345) ، وعبد الرزاق (3/577) .(1/242)
فهذه السُّنة مخرجها من أهل البيت وأهل المدينة الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط (1) .
ومن ذلك : ما روي عن مالك رضي الله عنه أنه قال : " لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه يدعو ولكن يسلم ويمضي "( (2) وقال مالك أيضاً : " ذلك لأن هذا هو المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت أو يا أبتاه ، ثم ينصرف ، ولا يقف يدعو " (3) . فرأى مالك ذلك من البدع .
{ الشبهة الخامسة عشرة ]
[ عرضُ جبريلَ على إبراهيمَ أن يغيثه فلو كان ذلك شركاً لما فعله ]
ولهمْ شبهةٌ أخرى : وهي قصةُ إبراهيمَ لما أُلقيَ في النارِ ، اعترضَ لهُ جبريلُ في الهواءِ فقالَ : ألكَ حاجةٌ ؟ فقالَ إبراهيمُ عليه السلام : أما إليك فلا "
قالوا : فلو كانتِ الاستغاثةُ بجبرائيلَ شِركاً لم يعرضْها على إبراهيمَ.
فالجواب : أن هذا من جنس الشبهةِ الأولى ، فإن جبريل عليه السلام عرضَ عليه أن ينفعَهُ بأمر يقدرُ عليهِ ، فإنَهُ كما قال الله تعالى فيه : (( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )) [ النجم : 5] . فلو أذنَ اللهُ لهُ أن يأخذَ نارَ إبراهيمَ ، وما حولَها من الأرضِ ، والجبالِ ، ويُلقيها في المشرقِ أو المغربِ لفعلَ ، ولو أمرَهُ الله أن يضعَ إبراهيمَ في مكانٍ بعيدٍ عنهم لفعلَ ، ولو أمرَهُ أن يرفعَهُ إلى السماءِ لفعل .
__________
(1) - اقتضاء الصراط المستقيم ص 224 ، وإغاثة اللهفان (1/151) ، وانظر : كتاب الدعاء للعروسي (2/610) وما بعده .
(2) - انظر : منهاج السنة 2/444.
(3) - أخرجه مالك في الموطأ 1/166، والقاضي إسماعيل ص 81، وهو صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهم .(1/243)
وهذا كرجلٍ غنيٍّ لهُ مالٌ كثيرٌ يرى رجلاً محتاجاً فيعرضُ عليه أن يُقرضَهُ ، أو يهَبَهُ شيئاً يقضي به حاجَتَهُ ، فيأبى ذلكَ المحتاجَُ أن يأخذَ ويصبرَ إلى أن يأتيَهُ اللهُ برزقٍ لا منَّةَ فيهِ لأحدٍ ؛ فأينَ هذا من استغاثةِ العبادةِ والشركِ لو كانوا يفقهون ؟!
قوله : (( ولهمْ شبهةٌ أخرى : وهي قصةُ إبراهيمَ لما أُلقيَ في النارِ ، اعترضَ لهُ جبريلُ في الهواءِ فقالَ : ألكَ حاجةٌ ؟ فقالَ إبراهيمُ عليه السلام : أما إليك فلا )) : هذه الرواية أخرجها ابن جرير في تفسيره (1) . وفي تاريخه (2) من طريق الحسن قال: حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال :
" جاء جبريل إلى إبراهيم عليه السلام ، وهو يوثق ويقمط ليلقى في النار ، قال : إبراهيم ، ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا " والحديث بهذا الإسناد لا يصح ؛ لأن فيه جهالة أصحاب المعتمر بن سليمان التيمي ، وقد ذكره البغوي في تفسيره (3) بلفظ أعم من هذا اللفظ ، وقال : " وروي عن أبي بن كعب " ثم ذكره وفيه زيادة في آخره وهي قوله : "حسبي من السؤال علمه بحالي " وهذه الزيادة منكرة وباطلة ؛ قال شيخ الإسلام : " أول هذا الحديث معروف وهو قوله : ( إما إليك فلا ) وأما قوله ( حسبي من سؤالي .. ) فكلام باطل ؛ لأنه خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء من دعائهم الله ومسألتهم إياه ، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة كقولهم : (( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) ( البقرة : 201 ) ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها ، فكيف يكون مجرد العلم مسقطاً لما خلقه وأمر به ؟ والله أعلم " (4) .
__________
(1) - أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/45) .
(2) - تاريخ ابن جرير (1/148) .
(3) - تفسير البغوي (3/250) .
(4) - مجموع الفتاوى (8/539) .(1/244)
وقد نسب ابن كثير رحمه الله أول هذا الأثر لبعض السلف عند تفسير للآية .
وقال الألباني عن هذه الزياة : ( لا أصل له ، أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه السلام وهو من الإسرائليات ولا أصل له في المرفوع ..) (1)
قوله : (( قالوا : فلو كانتِ الاستغاثةُ بجبرائيلَ شِركاً لم يعرضْها على إبراهيمَ . فالجواب : أن هذا من جنس الشبهةِ الأولى )) : وهي أن هذه الاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر القادر ، وهي جائزة كما تقدم بيانه ، وهذا الجواب على فرض صحة الرواية ، والرواية لا تصح كما تقدم والله أعلم وأحكم .
__________
(1) - في السلسلة الضعيفة (1/28) .(1/245)
قوله : (( فإن جبريل عليه السلام عرضَ عليه أن ينفعَهُ بأمر يقدرُ عليهِ ... ولو أمرَهُ أن يرفعَهُ إلى السماءِ لفعل )) وهذا المعنى ذكره بعض السلف في تفسير الآية ؛ فذكر ابن جرير في تفسيره فقال : " حدثنا موسى قال ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدي قال : ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) (الصافات : 97 ) قال: فحبسوه في بيت وجمعوا له حطباً ، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : لئن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم ، فلما جمعوا له وأكثروا من الحطب ، حتى إن الطير لتمر بها فتحترق من شدة وهجها ، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء فقالت السماء ، والأرض والجبال والملائكة : ربنا ! إبراهيم يحرق فيك ، فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه " (1) وورد حول هذا المعنى عن مجاهد فأخرج ابن جرير في تاريخه (2) . من طريق ابن إسحاق عن الحسن بن دينار عن ليث بن أبي سُليم عن مجاهد وفيه : ( صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلا الثقلين – فيما يذكرون- إلى الله عز وجل صيحة واحدة : أي ربنا ! إبراهيم ؛ ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يحرق بالنار فيك ! فأذن لنا في نصرته . فيذكرون والله أعلم أن الله عز وجل حين قالوا ذلك قال : إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك ، فإن لم يدع غيري فأنا وليه فخلوا بيني وبينه ، فأنا أمنعه .. ) وإن كان السند إلى مجاهد لا يصح ، فالمعنى صحيح .
__________
(1) - تفسير ابن جرير (11/43) .
(2) - تاريخ ابن جرير (1/146) .(1/246)
قوله : (وهذا كرجلٍ غنيٍّ لهُ مالٌ كثيرٌ يرى رجلاً محتاجاً فيعرضُ عليه أن يُقرضَهُ ، أو يهَبَهُ شيئاً يقضي به حاجَتَهُ ، فيأبى ذلكَ المحتاجَُ أن يأخذَ ويصبرَ إلى أن يأتيَهُ اللهُ برزقٍ لا منَّةَ فيهِ لأحدٍ ؛ فأينَ هذا من استغاثةِ العبادةِ والشركِ لو كانوا يفقهون ؟!) : هذا مثل عقلي ضربه المصنف رحمه الله لتقريب المعنى لهذا المجادل ، فمثل المصنف بحالة إبراهيم وجبريل فقال: ( وهذا كرجل غني .. ) هذا مثل جبريل : (يأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ .. ) هذا مثل إبراهيم عليه السلام ؛ فكما أن الفقير لو قبل من الغني لم يكن مشركاً فكذلك هذه (1)
فالحق في هذه المسألة أوضح من الشمس في رابعة النهار ، فالأدلة فيها واضحة ، والبراهين قاطعة ، والحجج ساطعة ، ولم يبق إلا التسليم والانصياع لرب الأرض والسماء ، ولكن :
إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ
فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أسباب الانحراف والزيغ عن الحق واعتقاده وأجملها في سببين (2) .
الأول : التفريط في اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) - انظر : شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص 125.
(2) - انظر : الفتاوى (3/314) وما بعدها .(1/247)
الثاني : ترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفة الحق : " فلما أعرضوا عن هدي السماء ، وتخلوا عن استخدام عقولهم للبحث عن الحق والوصول إليه تاهوا في دروب الضلالة ، وشعب العماية ؛ وبرهان ذلك في كتاب الله ، قال تعالى : ((فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)) ( طه : 123- 126) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ، أن لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، ثم قرأ هذه الآية ) (1) .
[ وجوب تطبيق التوحيد بالقلب واللسان والجوارح ]
ولنختمْ الكتابَ بذكرِ مسألةٍ عظيمة مهمةٍ تُفهمً مما تقدمَ ، ولكنْ نُفرد الكلامَ لعظمِ شأنِها ، ولكثرةِ الغلطِ فيها ، فنقولُ : لا خلافَ أن التوحيدَ لا بدَ أن يكونَ بالقلبِ ، واللسانِ ، والعمل ِ ، فإن اختل شيءٌ من هذا لم يكنِ الرجلُ مسلماً .
قوله : ((ولنختمْ الكتابَ بذكرِ مسألةٍ عظيمة مهمةٍ تُفهمً مما تقدمَ )) : هذه المسألة يعنون لها في كتب العقيدة بمسألة الإيمان ، وأنه قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بطاعة الرحمن وينقص بالعصيان .
__________
(1) - مقدمات في الاعتقاد ص 52 د. ناصر القفاري .(1/248)
قوله : (( ولكنْ نُفرد الكلامَ لعظمِ شأنِها ، ولكثرةِ الغلطِ فيها ، فنقولُ : لا خلافَ أن التوحيدَ لا بدَ أن يكونَ بالقلبِ ، واللسانِ ، والعمل ِ )) : هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة وقد عرفوا الإيمان به ، وتنوعت عبارات السلف في تعريفهم للإيمان ولكنهم متفقون على الأمور الثلاثة التي ذكرها المصنف وهي : الاعتقاد بالقلب – الإقرار باللسان – العمل الجوارح ، وحول هذه الأركان تدور تعريفات السلف للإيمان (1) ، وسنبين أهمية كل واحد منها بشكل مقتضب .
فالأول : الاعتقاد بالقلب : ومن أدلته قوله تعالى : (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )) [ الحجرات : 14] وقوله سبحانه : (( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)) [ المجادلة : 22] والاعتقاد بالقلب يتضمن أمرين يلزم تحقيقهما في القلب وهما :
قول القلب : والمقصود به العلم والتصديق والمعرفة .
عمل القلب : والمقصود به الالتزام والانقياد للتوحيد .
قال شيخ الإسلام : " فإن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب ، ولا بد فيه من شيئين : تصديق بالقلب ، وإقراره ومعرفته ، ويقال لهذا : قول القلب ؛ قال الجنيد بن محمد : التوحيد قول القلب ، والتوكل عمل القلب . فلا بد فيه من قول القلب وعمله ، ثم قول البدن وعمله ، ولا بد فيه من عمل القلب ، مثل حب الله ورسوله ، وخشية الله ، .. " إلى أن قال : "وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان" (2) . فأما الأول فيقول فيه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل : "من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً ، فإن فساد هذا القول معلوم من الدين الإسلام " (3) .
__________
(1) - انظر : نواقض الإيمان الاعتقادية (1/38) .
(2) - كتاب الإيمان ص : (176)
(3) - المرجع السباق ص 277.(1/249)
وقد تقدم سابقاً في بيان شروط لا إله إلا الله أن من شروطها : العلم بمعناها ؛ كما قال تعالى : (( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )) ( محمد : 19) ، وقال تعالى : (( إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) ( الزخرف : 86) . ، وبيَّن ابن القيم رحمه الله أهمية هذين الأمرين بقوله : ".. إذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء ؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة ، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق .. فأهل السنة والجماعة مجمعون على زوال الإيمان ، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه ، أو اليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول ، بل ويقرون به سراً وجهراً ويقولون : ليس بكاذب ، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به .. " (1) .
الثاني : قول اللسان : ومن أدلته قوله تعالى : (( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا )) [ الحجرات : 14] وما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا .. )) الحديث .
والقول باللسان عنصر أساس من عناصر الإيمان ؛ فلا يتحقق دخول المرء في الإسلام إلا به ؛ قال شيخ الإسلام : ".. فعلم أن من لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمناً ، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان .." (2) . ، وقال أيضاً :
" وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر .. " (3) .
__________
(1) - كتاب الصلاة لابن القيم ص 54.
(2) - الإيمان ص 131.
(3) - الإيمان ص 287.(1/250)
الثالث : العمل بالجوارح : ومن الأدلة الدالة على أن العمل داخل في مسمى الإيمان دخولاً أولياً (1) قوله تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) (البينة : 5 ) .
وكما في حديث وفد عبد القيس ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لهم : ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس .. )) (2) قال شيخ الإسلام رحمه الله : "وقد تبين أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنُّة ، دخلت فيه الأعمال .. " (3) وقال أيضاً : " ولهذا كان القول إن الإيمان قول وعمل عند أهل السنُّة ومن شعائر السنُّة ، وحكي غير واحد الإجماع على ذلك ، وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في ( الأم ) : وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر " ( (4) .
فهذه الثلاث إذا اختل واحد منها لم يكن العبد بها مسلماً ؛ قال إمام الدعوة : " اعلم رحمك الله أن دين الله : يكون على القلب بالاعتقاد وبالحب والبغض ، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر ، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام ، وترك الأفعال التي تكفر ، فإذا اختلّ واحدة من هذه الثلاثة ؛ كفر وارتد .. ) (5) .
[ أقسام الناس في التوحيد ]
__________
(1) - انظر ما كتبه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/830) .
(2) - رواه البخاري ورقمه (53) ومسلم ورقمه (17) .
(3) - الإيمان ص 112.
(4) - الإيمان ص 292.
(5) - الدرر السنية (8/87) ، وانظر : مجموع الرسائل (4/37) .(1/251)
فإن عرفَ التوحيدَ ، ولم يعملْ بهِ فهوَ كافرٌ معاندٌ ، كفرعونَ وإبليسَ وأمثالِهما ، وهذا يغلطُ فيهِ كثيرٌ من الناسِ يقولون : هذا حقٌ ونحنُ نفهمُ هذا ، ونشهدُ أنهُ الحقُ ولكنْ لا نقدر أن نفعَلَهُ ، ولا يجوزُ عندَ أهلِ بلدنا إلا من وافَقَهُمْ ، أو غير ذلكَ من الأعذارِ ، ولمْ يدرِ المسكينُ أن غالبَ أئمةِ الكفرِ ، يعرفونَ الحقَ ، ولم يتركوهُ إلا لشيءٍ من الأعذارِ كما قال تعالى : ((اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً )) [ التوبة : 9 ] . وغيرِ ذلكَ من الآياتِ ، كقولِه تعالى : (( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ )) ( البقرة : 146) فإن عملَ بالتوحيدِ عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ، أو لا يعتقدهُ بقلبِهِ فهو منافقٌ ، وهو شرٌ من الكافرِ الخالصِ : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً )) ( النساء : 145) .
وهذه المسألة مسألة كبيرةٌ طويلةٌ تتبينُ له إذا تأملْتَها في ألسنة الناسِ ؛ ترى من يعرفُ الحقَ ويتركُ العملَ به لخوف نقصِ دينا أو جاهٍ ، أو مداراةٍ ، وترى من يعملُ بهِ ظاهراً لا باطناً ، فإذا سألتَهُ عما يعتقدُ بقلبِهِ فإذا هو لا يعرفُه .
______________________________________________
قوله : (( فإن لم عرفَ التوحيدَ )) : المؤلف رحمه الله ذكر أقسام الناس في التوحيد وقسمهم على أربعة أقسام :
من علم التوحيد وعمل به ظاهراً وباطناً فهذا هو المؤمن ، وتقدم الكلام عليه (1) .
من عرف التوحيد ولم يعمل به ؛ فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما .
من عمل بالتوحيد ظاهراً ولكنه لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه ؛ فهو منافق .
من علم التوحيد وعمل به باطناً لا ظاهراً للإكراه الحاصل عليه ؛ فهذا معذور .
__________
(1) - ص 308- ص 314 من هذا الشرح .(1/252)
قوله : (( ولم يعملْ بهِ فهوَ كافرٌ معاندٌ ، كفرعونَ وإبليسَ وأمثالِهما)) : هذا هو القسم الثاني من أقسام الناس في التوحيد وهو : من عرف التوحيد ولم يعمل به ، وهو على صنفين :
الصنف الأول : الذي ترك العمل بالتوحيد عناداً ؛ قال المصنف : "كفرعون وإبليس وأمثالهما " ، وهذا ما يسمى بكفر الإباء والاستكبار ؛ قال تعالى : (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )) [ النمل : 14] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"... كفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم ؛ فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر ، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين ؛ فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك ، لا لأجل تكذيب ، وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً .." (1) . وقال ابن القيم رحمه الله : " وأما كفر الإباء الاستكبار : فنحو كفر إبليس ؛ فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار ، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ، ولم يَنقَدْ له إباءً واستكباراً ، وهو الأغلب على كفر أعداء الرسل .. ) (2) .
قوله : (( وهذا يغلطُ فيهِ كثيرٌ من الناسِ يقولون : هذا حقٌ ونحنُ نفهمُ هذا ، ونشهدُ أنهُ الحقُ ولكنْ لا نقدر أن نفعَلَهُ ، ولا يجوزُ عندَ أهلِ بلدنا إلا من وافَقَهُمْ ، أو غير ذلكَ من الأعذارِ )) :
__________
(1) - الإيمان الأوسط 76، وانظر : الفتاوى (20/ 97) والعبودية ص 110 .
(2) - مدارج السالكين (1/366) ، وانظر معارج القبول (2/22-23) .(1/253)
هذا هو الصنف الثاني : من ترك العمل بالتوحيد وليسَ له عذر صحيح ؛ ومثل له المصنف بقوله حكاية عنهم : " لا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم " ، وهذا القسم ركز عليه المصنف لأنه من القضايا المعاصرة في زمانه ، وهو الذي لا يعمل بالتوحيد وليس له عذر صحيح ، إنما له أعذار واهية باطلة ، وهذا فيمن عرف التوحيد وأقر به لكن ترك العمل به لما يعتقده عذراً له في ذلك ، وسيعدد المصنف بعد قليل أصنافاً من هذه الأعذار( (1) ، ولكنه سيقدم عليها الكلام على أئمة الكفر وأعذارهم ، وعلى المنافقين .
__________
(1) - وذلك في ص 360.(1/254)
قوله : (( ولمْ يدرِ المسكينُ أن غالبَ أئمةِ الكفرِ ، يعرفونَ الحقَ )) : لكن هذا لا يكفي ؛ لان المعرفة والعلم بالتوحيد لا تعتبر إيماناً بحد ذاتها ؛ فأبو طالب يعرف الحق بل وينطق به كما تقدم ، ومع ذلك فهو في النار كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، إذن لا بد من الانقياد الذي افتقدوه ، قال ابن القيم رحمه الله : " الإيمان هو التصديق ، ولكن ليس مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له ، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً لكان إبليس ، وفرعون وقومه ، وقوم صالح ، واليهود الذين عرفوا أن محمداً رسول الله كما يعرفون أبناءهم ؛ مؤمنين مصدقين ، وقد قال تعالى : ((فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ )) [ الأنعام : 33] أي يعتقدون أنك صادق ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )) [ النمل : 14] وقال موسى لفرعون : (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ )) [ الإسراء : 102] . إلى أن قال : " وأبلغ من هذا قول النفرين اليهوديين لما جاءا إلى النبي وسألوه عما دلهما على نبوته فقالا : ( نشهد أنك نبي ، فقال : (( ما يمنعكما من اتباعي ؟ )) قالا : إن داود دعا ألا يزال في ذريته نبي ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود ) (1) . فهؤلاء قد أقروا لألسنتهم إقراراً مطابقاً لمعتقدهم أنه نبي ، ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان لأنهم لم يلتزموا طاعته والانقياد لأمره ، ومن هذا كُفْرُ أبي طالب ؛ فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق ، وأقر بذلك بلسانه وصرح به في شعره ، ولم يدخل بذلك في الإسلام ... ) (2) .
__________
(1) - أخرجه الترمذي ورقمه (3069) ، وابن ماجه ورقمه (3705) ، وأحمد (4/240) من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن عسال رضي الله عنه ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
(2) - كتاب الصلاة ص 44 .(1/255)
قوله : (( ولم يتركوهُ إلا لشيءٍ من الأعذارِ كما قال تعالى : ( اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) [ التوبة : 9 ] . وغيرِ ذلكَ من الآياتِ ، كقولِه تعالى : ( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ) [ البقرة : 146] ) : وهي أعذار أوهى من بيت العنكبوت ، متهافتة كتهافت ورق الشجر في مهب الريح ، وهذه الأعذار إما أن يكون سببها شبهات أو شهوات ، وهذان الأمران هما أصل كل بلاء ومنبع كل فتنة وينشآن من اتباع الهوى ، وتقديم الرأي ؛ يقول ابن القيم - رحمه الله -: " وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع ، والهوى على العقل ؛ فالأول أصل فتنة الشبهة ، والثاني أصل فتنة الشهوة " (1) .
وقد أوضح ابن القيم - رحمه الله -: سبب الوقوع في فتنة الشبهات فقال: " فتنة الشبهات من ضعف البصيرة ، وقلة العلم ؛ ولا سيَّما إذا اقترن بذلك فساد القصد ، وحصول الهدى ، فهنالك الفتنة العظمى ، والمصيبة الكبرى ، فقل ما شئت في ضلال سيّئ القصد ، الحاكم عليه الهوى لا الهدى ، مع ضعف بصيرته ، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله ؛ فهو من الذين قال تعالى فيهم : ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ) [ النجم : 23] (2) ويقول أيضاً : " وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد ، وتارة من نقل كاذب ، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به ، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع ، فهي من عمي في البصيرة وفساد في الإرادة " (3) .
__________
(1) - إغاثة اللهفان (2/167) .
(2) - إغاثة اللهفان (2/165) .
(3) - المرجع السابق 2/166) .(1/256)
وأما الشهوات فهي : التطلع إلى الرياسة والزعامة ، كما حدث لرأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول وغيره ، وكالكبر والحسد كما جرى من فرعون هذه الأمة أبو جهل ، وحب ملذات الدنيا والاستغراق فيها كما حصل لأمية بن الصلت عندما أراد الإسلام وقيل له إنه يحرم الخمر ، فرجع على أنه سيسلم من العام القابل ، ليتلذذ منها ثم يعود ليسلم ، ولكنه هلك قبل أن يسلم ! وأمثال ذلك ؛ فهذه الشهوات هي التي تصد القلوب عن التسليم والخضوع للحق ، وسبب ذلك هو الهوى الذي ران على القلوب ، فطمس بصيرتها ، فهم كالأنعام بل هم أضل ؛ يقول الله عز وجل : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) [ الأعراف : 179 ] . وقد أخبر الله تعالى بأنه لا أحد أضل ممن يتبع هواه بغير هدى ولا علم ؛ كما قال تعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ) [ القصص : 50 ] . وقال تعالى : ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( الروم : 29) . وقال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) [الأنعام:119 ] . وقد نهى الله تعالى نبيه عن طاعة الغافلين المتبعين للهوى فقال : ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) [ الكهف: 28 ] .(1/257)
قال شيخ الإسلام عن ما يعرض للقلوب : " لكن قد يعرض لها ما يفسدها؛ إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق ، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه ، ولهذا أمرنا الله أن نقول في الصلاة : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) [ الفاتحة : 6- 7 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون ) لأن اليهود يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته ، والنصارى لهم عبادة وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ، لكن بلا علم فهم ضلال ، هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح ، وهؤلاء لهم قصد في الخير بلا معرفة له ، وينضم إلى ذلك الظن واتباع الهوى ، فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ولا قصد نافع ، بل يكون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [ الملك : 10]
وقد ذكر إمام الدعوة رحمه الله في مسائل الجاهلية (1) أموراً يعتذر بها الكفار في ترك الحق وقال : إن من أعظمها – وهي القاعدة الكبرى لجميع الكفار من أولهم إلى آخرهم – التقليد كما قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) [ الزخرف : 23 ]
وقال : إن من أكبر قواعدهم الاغترار بالأكثر ويحتجون به على صحة الشيء ويستدلون على بطلان الشيء بغربته وقلة أهله .
ومنها : الاحتجاج بالمتقدمين ؛ كقوله تعالى : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ) [ طه : 5 ] .وقوله : ( مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ) [المؤمنون : 24 ] .
__________
(1) - الفتاوى (7/528) .(1/258)
ومنها : الاستدلال على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء ؛ كقوله : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) [ الشعراء : 111] .
ومنها : الاقتداء بفسقة العلماء ؛ فأتى بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) [ التوبة : 34 ] .
ومنها : الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله ، وعدم حفظهم ؛ كقوله : ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) [ هود : 27 ] .
ومنها : الاستدلال بالقياس الفاسد ؛ كقوله : ( إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) [إبراهيم : 10 ].
ومنها : اعتذارهم من اتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم ؛ كقوله : ( قُلُوبُنَا غُلْفٌ) [ البقرة : 88) ]. ( يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا ) [ هود : 91 ] .
ومنها : أن الحياة الدنيا غرتهم ، فظنوا أن عطاء الله يدل على رضاهم ؛ كقوله : ( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) [سبأ : 35]
ومنها : ترك الدخول في الحق إذا سبقتهم إليه الضعفاء تكبراً وأنفة .
ومنها : الاستدلال على بطلانه بسبق الضعفاء ؛ كقوله : ( لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) [ الأحقاف : 11 ] .(1/259)
قوله : (( فإن عملَ بالتوحيدِ عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه )) : قول المصنف ( وهو لا يفهمه ) أي الأمر الذي يدخل الإنسان به في الإسلام ، أما تفاصيل الدين فلا يلزم عوام المسلمين أن يتعلموها ؛ قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله : " وأما من ظاهره لا إسلام ولا كفر ، بل هو جاهل فنقول : هذا الرجل الجاهل إن كان معه الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام فهو مسلم ولو كان جاهلاً بتفاصيل دينه ، فإنه ليس على عوام المسلمين ممن لا قدرة لهم على معرفة تفاصيل ما شرعه الله ورسوله أن يعرفوا على التفصيل ما يعرفه من أقدره الله على ذلك من علماء المسلمين وأعيانهم مما شرعه الله ورسوله من الأحكام الدينية ، بل عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً كما قرر ذلك شيخ الإسلام في المناهج ، وإن لم يوجد معه الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام فهو كافر ، وكفره هو سبب الإعراض عن تعلم دينه لا علمه ولا تعلمه ولا عمل به .. " (1) .
قوله : (( أولا يعتقدهُ بقلبِهِ ، فهو منافقٌ ، وهو شرٌ من الكافرِ الخالصِ :( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )[النساء : 145 ]))
__________
(1) - الدرر السنية (8/257) وانظر : مجموع الفتاوى (7/273) .(1/260)
: هذا هو القسم الثالث من أقسام الناس في التوحيد وهو خلاف القسم الثاني ، فهذا عمل بالتوحيد ظاهراً وأبطن خلافه ؛ فهو لا يعتقده بقلبه ، وهذا منافق في الدرك الأسفل ، فالمنافق يظهر التوحيد ، لكن يبطن نقيضه ، قال المصنف رحمه الله : ".. من أقر بهذا الدين وشهد أنه الحق وأن الشرك هو الباطل ، وقال بلسانه ما أريدَ منه ، ولكنه لا يدين بذلك ؛ إما بُغضاً له أو عدم محبة – كما هو حال المنافقين الذين هم بين أظهرنا– وإما إيثاراً لدنيا مثل التجارة وغيرها ، فيدخلون في الإسلام يوم يخرجون منه كما قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) [ المنافقون : 3 ] . وقال: ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) [النحل : 106] . وقوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ) [النحل : 107] .
قوله : (( وهذه المسألةُ مسألةٌ كبيرةٌ طويلةٌ )) : وهي أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ، فإذا اختل شيء منها ؛ لم يكن الرجل مسلماً .
قوله : (( تتبينُ لكَ إذا تأملْتَها في ألسنةِ الناسِ ، ترى من يعرفُ الحقَ ويتركُ العملَ بهِ ، لخوف نقصِ دنيا أو جاهٍ ، أو مداراةٍ )) : حاصل أسباب ترك العمل بالحق بعد معرفته سبعة أعذار باطلة لا تغني ولا تسمن من جوع :
العذر الأول : ترك التوحيد خوف نقص دنيا – وهذا الخوف غير ملجئ– ومثاله : إذا علموا أنه موحد لا يشترون منه ، أو لا يبيعون له في غير الضرورات .. فهذا ليس عذراً له ، فيجب المجاهرة بالتوحيد . أما لو كان الخوف ملجئاً فإنه يعذر .. مثل لو ضربوه أو سجنوه أو أخذوا ماله، فهذا يعذر .
العذر الثاني : ترك العمل بالتوحيد من أجل خوف نقص جاه ، كأن يكون له مكانة اجتماعية ، فإذا عمل بالتوحيد ، وأنكر الشرك ، نزلت مكانته الاجتماعية .(1/261)
العذر الثالث : ترك العمل بالتوحيد مداهنة لقوله ؛ كأن يعمل مكفراً من أجل إرضاء أحد.
العذر الرابع : ترك العمل بالتوحيد مشحة بالوطن ؛ كأن يكون وطنه غالياً عليه ، فلو أنكر الشرك اضطر لترك بلاده وهو يحب البقاء فيها ، فآثر السكوت مع البقاء في بلده .
العذر الخامس : ترك العمل بالتوحيد مشحة الأهل والعشيرة ؛ فيؤدي حبه لأهله وعشيرته ومخافة تركهم إلى عدم العمل بالتوحيد ، وإنكار الشرك .
العذر السادس : ترك العمل بالتوحيد خوفاً على الملك .
العذر السابع : ترك العمل بالتوحيد على وجه المزح واللعب .
هذه الأمثلة التي نص عليها المؤلف كلها أعذار غير صحيحة لعدم العمل بالتوحيد وإنكار الشرك ، ثم نص عليها المؤلف أنها وجدت في زمانه ، وهي في الحقيقة في كل زمان ؛ تجد من لا ينكر الشرك بهذه الأعذار .
وقوله : (( أو مدارة )) : لعل مراده بالمداراة هنا : المداراة المذمومة والتي بمعنى المداهنة ، وإن كان ثابتاً الفرق بين المداراة والمداهنة عند بعض علماء نجد ، كما وضَّحه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله بقوله : " والمداهنة ترك ما يجب لله من الغيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتغافل عن ذلك لغرض دنيوي وهو نفساني ... وأما المداراة فهي درء شر المفسدة بالقول اللين وترك الغلظة ، أو الإعراض عنه إذا خيف شره وحصول منه أكبر مما هو ملابس " (1)
__________
(1) - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/421) .(1/262)
قوله: (( وترى من يعملُ به ظاهراً لا باطناً ، فإذا سألتَهُ عما يعتقدُ بقلبهِ فإذا هو لا يعرفهُ )) : فالإيمان له جانبان : فالأول باطنه وحقيقته ؛ وهو ما يتعلق بالقلب قولاً وعملاً ، والجانب الآخر – وهو الظاهر – وهو ما يتعلق بالجوارح ، وينبغي مراعاة الفرق بين الحكم على الظاهر والباطن ، ومن ثم مراعاة الفرق بين الحكم عند الناس من جانب ، والحكم عند الله من الجانب الآخر ، أو الفرق بين الأحكام الدنيوية ، والأحكام الأخروية ) (1)
يقول شيخ الإسلام : " إن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة ؛ فإن المنافقين الذين قالوا : ( آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) [ البقرة: 8] . هم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ، ويصومون ويحجون ، ويغزون ، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحكم النبي في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر " (2) .
[ من يعذر بترك التوحيد ومن لا يعذر ]
ولكنْ عليكَ بفهمِ آيتينِ من كتاب الله :
أولاهُما : ما تقدم ؛ وهي قولُه : ( لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [التوبة : 66] ، فإذا تحققتَ أن بعضَ الصحابةِ الذين غزوا الرومَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه كفروا بسبب كلمةٍ قالوها على وجهِ المزْحِ واللعبِ ، تبينَ لكَ : أن الذي يتكلمُ بالكفرِ أو يعملُ به خوفاً من نقصِ مالٍ ، أو جاهٍ ، أو مداراةٍ لأحدٍ أعظمُ ممن يتكلمُ بكلمةٍ يمزحُ بها .
__________
(1) - نواقض الإيمان ص 28د . عبد العزيز آل عبد اللطيف .
(2) - الفتاوى (7/210) .(1/263)
والآية الثانية : قولُهُ تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ )
[ النحل : 106- 107] .
فلم يَعذرِ اللهُ من هؤلاءِ إلا من أُكره مع كونِ قلبه مُطمئناً بالإيمانِ ، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه ، سواءً فعل خوفاً ، أو مداراة ، أو مشحة بوطنه ، أو أهله أو عشيرته ، أو ماله ، أو فعله على وجه المزاح ، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره ، فالآية تدلُ على هذا من جهتين .
الأول قولُه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِه َ) فلمْ يستثنِ الله إلا المكرهَ . ومعلومٌ أن الإنسان لا يكرهُ إلا على العملِ أو الكلامِ ، وأما عقيدةُ القلبِ فلا يُكرهُ أحدٌ عليها .
والثاني : قولُه تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ) [ النحل : 107] فصرحَ أن هذا الكفرَ والعذابَ لم يكن بسبب الاعتقادِ أو الجهلِ أو البغضِ للدين أو محبةِ الكفر ، وإنما سببُه أن لهُ في ذلك حظاً من حظوظِ الدنيا فآثرَهُ على الدينِ ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
قوله : (( ولكنْ عليكَ بفهمِ آيتينِ من كتاب الله )) : أرشد المصنف رحمه الله إلى تأمل وتدبر آيتين من كتاب الله لأنه من خلالهما تفهم هذه المسألة الطويلة المتشعبة التي ذكرها المصنف آنفاً .(1/264)
قوله: (( أولاهُما : ما تقدم ؛ وهي قولُه : ( لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [ التوبة : 66 ] )) هذه الآية نزلت في شأن المنافقين ؛ يقول الله تعالى في الآية السابقة لها : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [ التوبة : 65- 66 ] والمؤلف أراد من هذا التقرير أن يصل إلى أنه إذا كان من يتكلم بكلمة الكفر مازحاً أو هازلاً يعد كافراً ، فما الشأن بمن يتكلم بكلمة الكفر جاداً أو خائفاً من نقص مال ، أو جاه ، ونحوه ؟ وكيف إذا كان من يتكلم بكلمة الكفر من أجل الدعوة ؟ قال المؤلف رحمه الله : "إذا عرفت أن أعظم أهل الإخلاص وأكثرهم حسنات لو قال كلمة الشكر مع كراهيته لها ليقود غيره بها إلى الإسلام حبط عمله وصار من الخاسرين ، فكيف بمن أظهر أنه منهم وتكلم بمئة كلمة لأجل تجارة أو لأجل أن يحج لما مُنِع الموحدين من الحج كما منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى فتح الله مكة "(1)
قوله : (( فإذا تحققتَ أن بعضَ الصحابةِ الذين غزوا الرومَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه كفروا بسبب كلمةٍ قالوها على وجهِ المزْحِ واللعبِ )): وقد بيّن المؤلف هذا المزح والاستهزاء وأنواعه فقال : " فالقول الصريح في الاستهزاء بالدين مثل ما قدمت لك (2) ، وأما الفعل فمثل مدّ الشفة وإخراج اللسان ، أو رمز العين ، مما يفعله كثير من الناس عند ما يؤمر بالصلاة والزكاة ، فكيف بالتوحيد " (3)
__________
(1) - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (4/11) .
(2) - يعني مقال القوم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء ، يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
(3) - تاريخ نجد ص 452.(1/265)
قوله : ((والآية الثانية : قولُهُ تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ) [ النحل : 106- 107] . فلم يَعذرِ اللهُ من هؤلاءِ إلا من أُكره مع كونِ قلبه مُطمئناً بالإيمانِ )) : هذا هو القسم الرابع الذي أشرت إليه سابقاً وهو من ترك العمل بالتوحيد ظاهراً لعذر صحيح ولكن بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان ، وأن تكون الموافقة ظاهراً لا باطناً ، هذه هو المكره ،
والإكراهُ معناه : حمل الغير على أمر لا يريد مباشرته بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به (1) والإكراهُ لا يسمى إكراهاً إلا إذا توفرت فيه أربعة أركان وهي :
أن يكون المكرِهُ قادراً على تحقيق ما تهدد به .
أن يكون المكرَه عاجِزاً عن أن يدافع عن نفسه؛ لا بمقاومة شخصية، ولا استغاثة بغيره، ولا فراراً من المكرِه؛ فمتى استطاع أن يقوم بأحد هذه الأمور ولم يفعله لم يكن مكرَهاً.
أن يكون الأمر المتهدد به من الأمور المحرمة على المكرَه .
أن يكون المتهدد به عاجلاً ويغلب على ظن المكرَه بأن المكرِه سيوقع ما هدد به في الحال ، إن لم يفعل ما أمره به (2) .
وقد قسم العلماء الإكراه إلى قسمين :
القسم الأول : إكراه تام : كمن كبل وقيد وأُلقي على آخر فقتله ؛ فهذا لا يكون المكرَه مكلفاً بالإجماع ، كما نقله الشنقيطي رحمه الله (3) ؛ لأنه لا قدرة له فهو كالآلة في يد المكرِه .
القسم الثاني : إكراه غير تام : وهو نوعان :
__________
(1) - عوارض الأهلية عند الأصوليين ص 472.
(2) - انظر : عوارض الأهلية عند الأصوليين ص 472بتصرف .
(3) - مذكرة أصول الفقه ص 39 .(1/266)
النوع الأول : إكراه ملجئ : كمن هُدِّد بالقتل أو القطع أو الإيذاء في النفس أو المال أو العرض على فعل شيء كالذبح لغير الله أو سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك فهذا فيه تفصيل :
إن كان الإكراه على حق الغير : كأن يقال له اقتل فلاناً وإلا قتلناك فهذا لا يعذر ؛ لأنه مخير بين أن يفعل ما أمر به ، أو لا يفعل ، فلو قتل مثلاً فقد قدَّم حظ نفسه على حظ غيره ، مع مساواة النفسين ، فيآخذ بذلك .
إن كان الإكراه في غير حق الغير : فالظاهر إن الإكراه عذر يسقط التكليف بدليل قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) لكن بشروط وهي :
أن يكون مكرهاً كما هو معلوم إكراهاً ملجئاً .
أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان .
هذا الإكراه هو في القول والفعل دون القلب .
قال المصنف رحمه الله : " فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، بشرط طمأنينة قلبه ، والإكراهُ لا يكون على العقيدة ، بل على القول والفعل ؛ فقد صرح بأن من قال الكفر أو فعله فقد كفر إلا المكره بالشرط المذكورة ؛ وذلك أن ذلك بسبب إيثار الدنيا لا بسبب العقيدة " (1) قال البغوي في تفسيره : " أجمع العلماء على أن من أكره على كلمة الكفر يجوز له أن يقول بلسانه ، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفراً ، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل .. " ( (2) .
وقال ابن كثير : "والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله .. " (3) . وفصَّل الشيخ محمد العثيمين في مسألة هل الأفضل أن يجيب أم يصبر ويقتل ؟
فقال في معرض كلامه عن حكم من أكره على الكفر :
__________
(1) - تاريخ نجد لابن غنام ص 344 .
(2) - تفسير البغوي (3/86) .
(3) - تفسير ابن كثير (4/526) .(1/267)
القسم الثالث: أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ، ويصبر على القتل ، فهذا جائز ، وهو من الصبر لكن هل الأولى أن يصبر أو لا ؟ فيه تفصيل : أولاً : إذا كان الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة ، فإن الأولى أن يوافق ظاهراً لا باطناً لا سيما إن كان بقاؤه فيه مصلحة للمسلمين كصاحب المال ، أو العلم المنتفع بهما ، وأما أشبه ذلك ؛ حتى وإن لم يكن فيه مصلحة ففي بقائه على الإسلام ، زيادة عمل صالح وهو خير ، وقد رخص له بالكفر ظاهراً .
ثانياً : إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الدين ، فإنه يصبر وقد يجب الصبر ولو قتل ؛ لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله ، وليس هذا من باب إبقاء النفس ، ولهذا لما شكا الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من مضايقة المشركين ، ذكر لهم أنه كان فيمن قبلنا من يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه (1) , ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة المشركين وهم قلة لحصل بذلك ضرر عظيم على المسلمين ، والإمام أحمد رحمه الله أوذي وصبر حين أبى أن يقول : القرآن مخلوق ، ولو وافقهم ظاهراً لحصل في ذلك مضرة على الإسلام " (2) ولهذا شدد الإمام أحمد رحمه الله في هذا الأمر حين سئل عن العالم ، وهل له أن يأخذ بالتقية في فتواه ، فقال : " إذا أجاب العلماء تقية ، والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق " (3) .
النوع الثاني : إكراه غير ملجئ : وهو ما لا يكون التهديد فيه مؤدياً إلى إتلاف النفس أو عضو من الأعضاء ؛ كالتهديد بالقيد أو الحبس مدة (4) فهذا ليس بعذر .
__________
(1) - رواه البخاري ورقمه (3612) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه .
(2) - المجموع الثمين (2/35) .
(3) - البحر المحيط لأبي حيان (2/424) نقلاً من كتاب ضوابط التكفير للشيخ عبد الله القرني ص 278.
(4) - انظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص 243 للشيخ صالح بن حميد .(1/268)
ومن الإكراه غير الملجئ لو خاف خوفاً غير سائغ ؛ كما لو خاف التعيير أو الانتقاد أو التشهير ، فهذا ليس بملجئ ولا يعذر به ؛ قال تعالى : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران : 175] . (1) وجاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يحقر أحدكم نفسه ، قالوا : يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمراً لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول: خشية الناس ! فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى ) (2) .
قوله : (( وأما غير هذه فقد كفر بعد إيمانه )) : قال شيخ الإسلام رحمه الله : ".. من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره ، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً ، وأن من قال : إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر في الظاهر ، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين .. " (3) .
__________
(1) - انظر : شرح كشف الشبهات للشيخ علي الخصير ص 147.
(2) - رواه ابن ماجه (4008) . قال المنذري في الترغيب 3/160 رواته ثقات . قال الشيخ سليمان العلوان : ( وأعل بالإرسال ) .
(3) - الفتاوى (7/557) .(1/269)
قوله : (( إلا المكره ، فالآية تدلُ على هذا من جهتين : الأول قولُه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ) فلمْ يستثنِ الله إلا المكرهَ . ومعلومٌ أن الإنسان لا يكرهُ إلا على العملِ أو الكلامِ ، وأما عقيدةُ القلبِ فلا يُكرهُ أحدٌ عليها )) : أي أن الله تعالى لم يستثن في الآية من الكافرين إلا من أكره ، والإكراه لا يكون إلى على القول أو الفعل ، أما عقيدة القلب فلا يطلع عليها إلا الله ولا يتصور فيها الإكراه (1) ؛ لأن الاعتقاد في القلب من الأمور الباطنة التي لا يمكن لأحد أن يطلع عليها ، فكيف يمكن إكراهه إذا كانت كذلك ؟
وهذا معلوم بدلالة العقل ، فالإكراه إذاً قاصر على أمرين هما القول والفعل فقط .
__________
(1) - انظر شرح كتاب كشف الشبهات لابن عثيمين ص 136.(1/270)
قوله : (( والثاني : قولُه تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ ) [ النحل : 107] فصرحَ أن هذا الكفرَ والعذابَ لم يكن بسبب الاعتقادِ أو الجهلِ أو البغضِ للدين أو محبةِ الكفر ، وإنما سببُه أن لهُ في ذلك حظاً من حظوظِ الدنيا فآثرَهُ على الدينِ )) : وجرى هذا لأناس كثيرين تركوا الالتزام بهذا الدين ؛ لا كرهاً له ، ولا تكذيباً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا حَنقاً على هذا الدين ، بل هم يعلمون في قرارة نفوسهم أنه الدين الحق الذي جاء به الله لإنقاذ البشرية من الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء ، لكن حب الدنيا وملذاتها والرغبة في الملك وشهواته جعلتهم يحيدون عنه ؛ فمن ذلك هرقل ملك الروم ؛ ترك الدخول في دين الإسلام رغبة في بقائه على الملك ، وإلا فهو القائل : " فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع هرقل عظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع فقال: " يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأي هرقل نفرتهم ، وأيس من الإيمان قال:ردوهم علي..." الحديث رواه البخاري (1) .
وما جرى لجبلة بن الأيهم الغساني من ذلك أيضاً (2) . وما حصل لرأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، وكذا كفار قريش ؛ كأبي جهل وأضرابه من هذا الجنس ؛ تركوا الانصياع لهذا الدين من أجل حطام الدنيا فاختاروا الكفر على الإيمان فمنعهم الله من الهداية فقال في نهاية الآية (وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [النحل: 107 ] .
__________
(1) - ورقمه (7) .
(2) - انظر خيره في البداية والنهاية (8/65) .(1/271)
قوله : (( والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم )) : هذا خاتمة الكتاب ، وقد أرجع المؤلف رحمه الله فيها العلم إلى الله عز وجل ، ولا يمكن للمرء أن يحيط بشيء من علم الله إلا إذا شاء الله سبحانه .
قال تعالى : ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ) [ البقرة : 255] . ثم ختمها أيضاً بالصلاة والسلام على نبينا على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تم بحمد الله الفراغ منه في الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتمت مراجعته في الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وتسعة عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولله الحمد والمنة وتم تنقيحه والزيادة عليه في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة وعشرون من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وقبل أن أغلق قلمي أقول بما قال بعض من فاق في قومه : اعلم يا أخي أنه لا يكتب إنسان في يومه إلا قال في غده ، لو كان غير هذا لكان أحسن ، لو زيد هذا لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أجمل ، ولو ترك هذا لكان أفضل ، وهذا من أعظم العبر ، ودليل استيلاء النقص على البشر ، ولا يقدر ولا يكون إلا أراده وقضاه من أمره بين الكاف والنون.
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا التوفيق والسداد ، ويجعل ما سطرناه يفي بالمراد ،خالصاً لوجهه الكريم ، ومخلصاً للفوز بجنات النعيم ، ونستمنحه حسن القبول وبلوغ المأمول ، وفلاح المآل، وصالح الحال ، والسير بهذا التأليف مسير الصبا والقبول ، وأرجو من كل من اطلع على هذا الشرح أن يمد خلله بالعفو والصفح ، وأن يسبل على ما فيه ذيل الأستار ، ويصلح بعد التأمل إن بدا خطأ ولا يبادر بالإنكار وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/272)