-[ التنقيح في حديث التسبيح ]-
شرح حديث: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
ويليه
تحفة الإخباري بترجمة البخاري
للحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي
777 - 842
تحقيق وتعليق
محمد بن ناصر العجمي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الأولى
1413 هـ - 1993 م(/)
التنقيح في حديث التسبيح شرح حديث: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
تأليف الحافظ محمد بن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أحمد الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي 777هـ-842م
تحقيق وتعليق محمد بن ناصر العجمي.(1/53)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
قال مؤلفه رحمه الله: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الشرف محمد بن عبد الله بن عمر بن عوض الصالحي، وأبو الحسن علي بن محمد بن أبي المجد بن علي الدمشقي، وأبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن صديق الصوفي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عثمان بن رسول الأماسي، وأبو العباس أحمد بن سليمان بن محمد بن مروان بن علي بن منجاب بن حمائل الشيباني، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي الفتح بن إدريس بن السراج، وأبو الحسن علي بن عثمان ابن العماد محمد بن الشمس لؤلؤ، وأخته زينب، وأم عبد الله عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد المقدسي، وآخرون قراءة على ابن عوض، وابن الأماسي، وابن مروان، بجامع دمشق متفرقين، وأنا أسمع، وبقراءتي على الباقي منفردين، قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن ابن الشحنة الصالحي الحجار قراءة عليه ونحن نسمع،(1/55)
سوى ابن الشمس لؤلؤ، فقال: وأنا حاضر، وأخبرنا ابن عوض وابن أبي المجد قالا: أخبرتنا وزيرة بنت أبي حفص عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية قراءة عليها ونحن نسمع، وأخبرنا ابن عوض أنا القاضي أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدئم،(1/56)
سوى ابن الشمس لؤلؤ، فقال: وأنا حاضر، وأخبرنا ابن عوض وابن أبي المجد قالا: أخبرتنا وزيرة بنت أبي حفص عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية قراءة عليها ونحن نسمع، وأخبرنا ابن عوض أنا القاضي أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدئم،(1/57)
الأنصاري، وأبو محمد الحسن بن أحمد بن عطاء الأذرعي، وأبو عمرو عثمان بن إبراهيم بن أبي علي الحمصي، وأبو إسحاق إبراهيم بن صدقة بن المخرمي، وأم إبراهيم فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي، قراءة عليهم وأنا شاهد، قالوا كلهم، سوى ابن سعد وابن المخرمي: أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن يحيى بن المبارك بن الزبيدي قراءة عليه، قال القاضي، وابن عبد الدائم، وهدية: ونحن(1/58)
حاضرون، وقال الباقون: ونحن نسمع، وقال ابن الشحنة، والقاضي، وابن عبد الدائم، والمطعم، أيضاً، وابن سعد، وابن المخرمي: أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن اللتي الحريمي البغدادي، قال ابن المخرمي: سماعا، وقال الباقون: إجازةً، وقال القاضي، وابن عبد الدائم، وابن سعد، وابن الشحنة: وأنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد القطيعي، وعلي بن أبي بكر بن روزبة القلانسي.
وقال ابن مشرف، والقاضي: وأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن(1/59)
أبي سعد المديني، ومحمد بن زهير بن محمد شعرانة الأصبهانيان إجازة، زاد القاضي فقال: وأنبأنا أيضا أبو حفص عمر بن كرم الدينوري، وثابت بن محمد الخجندي ح وأخبرنا أشياخنا المذكورون، سوى الصوفي، وابن الأماسي، وابن مروان: قالوا: أنا أبو العباس أحمد بن الشحنة قال: وأنبأنا أبو الفتوح داود بن معمر بن الفاخر عاما. قالوا(1/60)
تسعتهم: أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي قراءة عليه ونحن نسمع، أنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداوودي، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ح، وقال ابن الفاجر أيضاً: أنا غانم بن أحمد الجلودي،(1/61)
وفاطمة بنت محمد بن أحمد البغدادي سماعاً ح وقال ابن مشرف وابنه جوهر أيضاً: أخبرنا الإمام أبو عمرو عثمان بن الصلاح عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري الحافظ قراءة عليه ونحن نسمع، أنا أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي الصاعدي، أنا أبو المعالي محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد الفارسي، وأبو بكر(1/62)
وجية بن طاهر بن محمد الشحامي، وأبو الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي سماعاً، وأبو جدي محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد الفراوي إجازةً، قال هو، والفارسي، وغانم، وبنت البغدادي: أنا أبو عثمان سعيد بن أبي سعيد أحمد بن محمد بن نعيم بن إشكاب العيار(1/63)
الصوفي، أنا أبو علي محمد بن عمر بن شبويه المروزي ح وقال أبو عبد الله الفراوي أيضاً، والشحامي، والشاذياخي أنا أبو سهل محمد بن أحمد بن عبيد الله الحفصي المروزي، أنا أبو الهيثم محمد بن المكي ابن محمد بن زراع الكشميهني قراءة عليه ونحن نسمع، قال هو، وابن حمويه، وابن شبويه: أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن بشر الفربري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، حدثني(1/64)
أحمد بن إشكاب، ثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).
هذا حديث صحيح عال كوفي الإسناد متفق على ثبوته في ((الصحيحين)) من حديث أبي عبد الرحمن محمد بن فضيل بن غزوان بن جرير الضبي، مولاهم، الكوفي، أحد الأئمة الثقات الحفاظ الأثبات، ومن طريقه خرجه غير واحد من أصحاب السنن، كأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الله بن ماجه، وأبي عبد الرحمن النسائي في كتابه ((عمل اليوم والليلة))، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح غريب)).(1/65)
وقد ختم به البخاري ((صحيحه)) في رواية الفربري عنه كما سقناه، وكذا هو في رواية غيره. وليس هو في آخر ((الصحيح)) من رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري؛ لأن آخر ((الصحيح)) عنده حديث الإفك(1/66)
مختصرا المذكور في باب قوله عز وجل: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}، ورواية إبراهيم بن معقل دون رواية الفربري بثلاثمائة حديث.
وهذا الحديث مما نقص عنده آخراً، ورجال هذا الحديث ثقات. وتكلم في بعضهم بشيء لا يقدح فيه.
ذكر أبو حاتم محمد بن حبان البستي أحمد بن إشكاب، شيخ البخاري في كتابه ((الثقات))، وقال: ((ربما أخطأ)). انتهى. وهذا لا يقدح فيه، لأن خطأه نادر. قال سفيان الثوري، فيما رواه عنه عبيد الله الأشجعي: ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، فمن كان الغالب عليه الحفظ، فهو حافظ، وإن غلط. فقول ابن حبان لا يقدح في ابن إشكاب، وقد أثنى عليه الأئمة: قال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: ((ثقة مأمون صدوق كتبت عنه بمصر))، وقال أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي: ((وكان صاحب حديث))، وقال عباس بن محمد الدوري: ((كتب عنه يحيى بن معين كثيراً)).
وقال ابن يونس: ((توفي سنة سبع أو ثماني عشرة ومائتين))، وذكره(1/67)
أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن منده في كتابه ((المستخرج من كتب الناس للتذكره))، ذكره فيمن توفي في سنة ثماني عشرة ومائتين بمصر، وقال البخاري: ((آخر ما لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين)).
وإشكاب يقال اسمه: مجمع، وبعضهم يقول: إشكيب، وبعضهم: إشكاب. قال الصوري المصريون يقولون: ((شكيب)) بغير ألف، وبالياء بعد الكاف، والصواب ((إشكاب)) بألف قبل الشين، وألف بعد الكاف. انتهى، وقد قيل: ((إشكاب)) جد أحمد، فهو أحمد بن معمر بن إشكاب، وقيل: أحمد بن عبيد الله، وقيل: ابن عبد الله بن إشكاب الحضرمي الكوفي الصفار.
ولم ينفرد بهذا الحديث بل تابعه عليه جماعة من الحفاظ، منهم: قتيبة بن سعيد، وزهير بن حرب، وأبو بكر عبد الله بن أبي شيبة، وعلي بن المنذر، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو كريب محمد ابن العلاء،(1/68)
ومحمد بن طريف بن خليفة، ويوسف بن عيسى المروزي، وغيرهم، فرووه عن ابن فضيل.
وقول البخاري حدثني أحمد بن إشكاب، ثنا محمد بن فضيل فلفظة: ثنا هي المرتبة الثانية في أرفع عبارات الأداء، في قول الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب، وغيره، ومعناها ما قال الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، فيما رويناه عنه في كتابه ((العلل)) في آخر ((جامعه)) ثنا أحمد بن الحسين، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي المصري، قال: قال عبد الله بن وهب: ما قلت ثنا فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت حدثني فهو ما سمعت وحدي، وما قلت أنا فهو ما قرئ على العالم، وأنا شاهد، وما قلت أخبرني فهو ما قرأت على العالم.
وهذا الاصطلاح تبعه غير واحد من أئمة الحديث، قال الحاكم(1/69)
أبو عبد الله فيما روينا عنه: والذي اختاره في الرواية، وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري، أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظاً، وليس معه أحد ((حدثني فلان)) وما يأخذه من المحدث لفظاً مع غيره ((حدثنا))، وما قرأ على المحدث بنفسه ((أخبرني فلان))، وما قرئ على المحدث، وهو حاضر: ((أخبرنا فلان))، وما عرض على المحدث، فأجاز له روايته شفاها يقول فيه: ((أنبأني فلان))، وما كتب إليه المحدث من مدينته، ولم يشافهه بالإجازة ((كتب إلي فلان)).
وهذا الذي اختاره الحاكم وغيره لا يقوم له حجة إلا من وجه الاستحسان للتمييز والفرق بين أنواع النقل، وهو اصطلاح حسن للتحري في الرواية، وعليه عمل غالب المتأخرين.
وأول من أحدث الفرق بين ثنا وأنا ابن وهب بمصر. حكاه القاضي عياض عن مسلم بن الحجاج في آخرين.
وسوى خلق من الأئمة الحجازيين والكوفيين بين ((حدثنا، وأخبرنا))، كالحسن، والزهري، ويحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون، وسفيان بن سعيد الثوري في أحد قوليه، وسفيان بن عيينة، والنضر بن شميل، وأبي عاصم النبيل، ووهب بن جرير، ومالك بن أنس في أحد قوليه،(1/70)
وأحمد بن حنبل، وأبي عبد الله البخاري، وحكى التسوية في ((جامعه الصحيح)) فقال: وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة ((ثنا، وأنا، وأنبأنا، وسمعت، واحداً)). وحكى القاضي عياض في كتابه ((الإلماع)) الإجماع على جوازه، لكن قيده، فقال: لا خلاف بين أحد من الفقهاء والمحدثين والأصوليين بجواز إطلاق ((ثنا، وأنا، وأنبأنا، وخبرنا ونبأنا)) فيما سمع من قول المحدث ولفظه وقراءته وإملائه، وكذلك ((سمعته يقول، أو قال لنا، وذكر لنا))، وغير ذلك من العبارة، وقال مرة في السماع المذكور: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه: ثنا، وأنا، وأنبأنا، وسمعت فلانا يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان.
وقوله في سند الحديث: عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- فهذا يسمى معنعناً، وفي حكمه قولان:(1/71)
أحدهما: أنه من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بشرط سلامة راوية من التدليس، وثبوت لقائه لمن روى عنه بالعنعنه، وهذا هو الصحيح من القولين، وعليه العمل، وذهب إليه جمهور أئمة الحديث وغيرهم، والبخاري، وشيخه علي بن المديني.
ومن تبعهما لا يثبتون المعنعن حتى يصح لقاء الراوي لمن روى عنه بالعنعنة.
وابن فضيل قد شافه عمارة وقد قال في رواية قتيبة عنه لهذا الحديث: ثنا عمارة، وعمارة قد صح لقيه لأبي زرعة، كما صح لقي أبي زرعة لأبي هريرة، وأيضا فابن فضيل غير مدلس، والعنعنة مقبولة من مثله.(1/72)
ولفظة ((عن)) أعلى من لفظة ((قال))، و ((قال)) أقل عبارات الأداء مرتبة، وهي محمولة على السماع بالشرط المذكور في العنعنة قبل.
وإسناد هذا الحديث كوفي، كما تقدم، فابن إشكاب، وابن فضيل، وعمارة، وأبو زرعة كوفيون، وهذه لطيفة في إسناده لا يعرفها إلا الحذاق، ويسمى مسلسلاً بالكوفيين.
وفيه أيضا أخبرنا المسند المعمر أبو عبد الله محمد بن عبد الله النعالي، أنا محمد بن أبي العز الأنصاري، أنا أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الحافظ، أنا منصور بن عبد المنعم، أنبأنا أبو جدي محمد بن الفضل فقيه الحرم، أنا أبو سهل محمد بن أحمد المروزي قراءة عليه. وأنا أسمع، أنا أبو الهيثم محمد بن المكي، أنا محمد بن يوسف، أنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ثنا أحمد بن إشكاب، فذكره. فهذه طريق بديعة، وهي أن رجالها من النبي صلى الله عليه وسلم إلي كل منهم في اسمه ميم أحد حروف المعجم، وهذا يسمى المسلسل بالميم، وهو نادر كونه صحيحاً؛ لأن غالب المسلسلات واهية. وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، أحد(1/73)
علماء التابعين وثقاتهم، واسمه هرم، على المشهور، وجزم به البخاري في ((تاريخه الكبير))، ومسلم في كتابه ((الكنى))، والترمذي في ((جامعه))، وذكر يحيى بن معين في رواية عباس بن الدوري عنه أن اسمه عمرو بن عمرو، وقيل اسمه: عبد الرحمن، وقيل غير ذلك.
وأبو هريرة في اسمه خلاف كثير، قال الحاكم أبو عبد الله في ((مستدركه)) بعد ذكره أوجهاً من الخلاف في اسم أبي هريرة قال: أصحها عندي في الجاهلية عبد شمس، وفي الإسلام عبد الرحمن. وخرج الحاكم قبل هذا من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق حدثني بعض أصحابي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن. وهذا أحد الأوجه التي ذكرها الحاكم، وصححه، وكذلك صححه الحاكم أبو أحمد في ((الكنى))، وغيرهما من الأئمة.
وقال ابن مسهر: اسمه: عامر بن عبد شمس.
وقال المحرر بن أبي هريرة كان اسم أبي عبد عمرو بن عبد غنم.
وقال سعيد بن عبد العزيز: اسم أبي هريرة عبد غنم.
وقال يزيد بن أبي حبيب اسم أبي هريرة عبد نهم بن عامر.
وقيل اسمه: عمرو، وقيل: عمير، وصحح الحافظ أبو محمد الدمياطي أن اسمه عمير بن عامر.(1/74)
وقيل اسمه: جرثوم، وقيل غير ذلك. وهريرة تصغير هرة، وهي الأنثى من السنانير، والذكر هر، والجمع هررة.
قال عمر بن حفص السدوسي ثنا عاصم بن علي، ثنا أبو معشر، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لأن تكنوني بالذكر أحب إلي من أن تكنوني بالأنثى. خرجه الحاكم في ((مستدركه)) للسدوسي. وخرج أيضاً من طريق إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا سفيان بن حمزة الأسلمي، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني أبا هر، ويدعوني الناس أبا هريرة.(1/75)
ومن طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني بعض أصحابي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسميت في الإسلام عبد الرحمن، وإنما كنوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنما لأهلي فوجدت أولاد هرة وحشية، فجعلتها في كمي، فلم رحت عليهم سمعوا أصوات الهر من حجري، فقالو: ما هذا يا عبد شمس؟ فقلت: أولاد هر وجدتها. قالوا: فأنت أبو هريرة، فلزمتني بعد.
قال عبد الرحمن بن لبينة الطائفي أتيت أبا هريرة فإذا هو رجل آدم، بعيد ما بين المنكبين، ذو ضفيرتين أخرق الثنيتين. وروى عن عمير بن(1/76)
هاني، قال: قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: اللهم لا تدركني سنة ستين. فتوفي فيها أو قبلها بسنة.
قال مصنفه -أمتع الله بحياته ورحمه بعد مماته-: مات أبو هريرة -رضي الله عنه- بالمدينة سنة سبع وخمسين قال هشام بن عروة. وغيره. وقيل: سنة ثمان وخمسين. قاله الهيثم بن عدي وطائفة، وقيل سنة تسع وخمسين: قاله الواقدي وغيره، وكان سنة يوم مات ثمانيا وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. هذا هو الصحيح
وأما ما اشتهر في الشام وغيرها أن قبره بعسقلان فباطل، وإنما ذاك الذي يعنون قبر جندرة بن خيشنة بن نقير، أبو قرصافة من بني عمرو بن الحارث بن مالك بن كنانة، صحابي، سكن الشام ومات بها، وقبره بسنجابة بالقرب من عسقلان ذكره أبو حاتم بن حبان في الصحابة.(1/77)
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في ((تاريخه)) في ترجمة أبي هريرة: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا محمد بن راشد، عن مكحول أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان يقول: رب كيس عند أبي هريرة لم يفتحه يعني: من العلم.
وأبو هريرة الدوسي -رضي الله عنه- أول من كني بهذه الكنية فيما أعلم، وآخر من كنى بها من مشيختنا الكبار أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي رحمه الله. وقد كني بها جماعة من المتقدمين منهم:
عريف بن درهم التيمي، وقيل: الشيباني الكوفي الجمال، روى عن الشعبي، وزيد بن علي وجبلة بن سحيم، وعنه مروان الفزاري وغيره.
وأبو هريرة مسكين بن دينار التيمي روى عنه وكيع.
وأبو هريرة عيسى بن بشير الحمصي روى عنه ابنه هاشم بن(1/78)
أبي هريرة، قال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه.
وأبو هريرة شعيب بن العلاء الرازي. صالح الحديث: قاله أبو حاتم الرازي.
وأبو هريرة محمد بن فراس البصري عن سلم بن قتيبة، ووكيع وعنه الترمذي وغيره.
والبخاري نسبة إلى بخاراً أحد البلاد القديمة من إقليم ما وراء النهر إلى جهة المشرق، والنهر نهر جيحون الذي معموده نهر خرباب يخرج من بلاد وخان في حدود بذخشان الذي به معدن البلخش وربما قيل: بذخش فيجتمع إليه أنهار في حدود الختل والوخش فيصير منها هذا النهر العظيم.
وبخارا أجل مدن ما وراء النهر واسمها فيما قبل: بومجكث، وأصلها في قديم الأيام ناقلة إصطخر، وهي أقرب مدن ما وراء النهر إلى خراسان، وبها منزلة الأمراء على جميع خراسان، وأول من جعلها دار(1/79)
الإمارة الأمير الماضي: أبو إبراهيم إسماعيل بن الأمير أحمد بن أسد بن سامان الساماني، لأنه كان مقيماً به، فأتته ولاية خراسان بها، فتيمن بها، وجعلها دار الإمارة، وبقيت الولاية بها في أولاده. وقبل ذلك كانت ولاة ما وراء النهر مقيمين تارةً بسمرقند، وتارةً بالشاش أو فرغانة. ويحيط ببخارا ثلاثة أسوار.
السور الكبير الذي يحيط بقراها ومزارعها. وقصورها، قطره اثنا عشر فرسخاً في اثني عشر فرسخاً، ولا يرى في ذلك قفار ولا خراب ولا بور؛ بل هو مشبك بالقصور والبساتين والمحال والسكك المفترشة والقرى المتصلة. وقد قال مصنف كتاب ((صورة الأرض)) وكان في أوائل المائة الرابعة، ومن كتابه لخص المصنف -رحمه الله تعالى- ما ذكره. قال: ولم أر ولم أسمع في الإسلام بظاهر بلد أحسن من ظاهر بخارا، لأنك إذ علوت قهندزها لم يقع بصرك من جميع النواحي إلا على خضرة تتصل خضرتها بلون السماء، وكأن السماء مكبة زرقاء على بساط أخضر تلوح القصور فيما بين ذلك كالتراس التبتية، أو الحجف اللمطية، أو كالكواكب العلوية بياضاً ونوارً بين أراضي ضياع مقومة بالاستواء، مهندمة كوجه المرآة بغاية الهندسة، وليس بما وراء النهر من البلاد ولا غيرهم من البلدان أحسن قياما بالعمارة والضياع منهم، مع كثرة متنزهات في سعة المسافة وفسحة المساحة من(1/80)
أرضهم، وذلك لهم دون غيرهم، لأن المشار إليه من متنزهات الأرض سغد سمرقند، ونهر الأبلة، وغوطة دمشق.
وذكر أن سغد سمرقند أنزه الثلاثة لأن من حد بخارا على وادي السغد يميناً وشمالاً ضياعاً تتصل إلى حد جبال البتم، لا تنقطع خضرتها، ولا تتصرم زهرتها، ومقدارها في المسافة ثمانية أيام مشتبكة الخضرة والبساتين والرياض والميادين، قد حفت بالأنهار الدائم جريها ومن وراء الخضرة عن جانبي النهر مزارعها.
وفواكه بخارا أصح فواكه ما وراء النهر وألذ طعماً، ومياههم من النهر الأعظم الجاري بنواحي سمرقند، ويعرف بنهر السغد، وهو من جبال البتم الأوسط، ويتشعب من هذا النهر في بخارا أنهار كثيرة يحمل غالبها السفن لغزارة مياهها، وجميعها داخل السور المذكور.
ودون هذا السور الذي ذكرناه السور الثاني وهو نحو فرسخ مثله.
والسور الثالث السور الحصين المحتاط بالمدينة التي ببخارا.
وللمدينة سبعة أبواب من حديد. وقهندز خارجها متصل بها وهو في قدر مدينة صغيرة، وبه القلعة وسكن ولاة خراسان ومسجد الجامع على بابه في المدينة.
وللمدينة ربض طويل عريض به أسواقها. ومعاملة أهله بالدراهم(1/81)
والدنانير والفلوس، ودراهمهم على أصناف منها: المحمدية،ومنها المسيبية، ومنها: الغطرفية. والغطرفية مركبة من حديد وصفر ورصاص وأخلاط بجواهر مختلفة.
والغالب على زي أهلها في لباسهم الأقبية، والقلانس، كزي من وراء النهر، ولسانهم كلسان أهل السغد، وفي بعضه تحريف.
ونهر السغد المذكور يشق ربض بخارا وأسواقها، وهو آخر نهر السغد، ويصير بها إلى طواحين وضياع ومزارع ويسقط الفاضل منه في مجمع ماء يجاور بيكند ويقارب فربر يعرف بسام خاش.
وأقرب الجبال إلى بخارا جبل قرية وركه وهو جبل يمتد إلى سمرقند ويمتد حتى ينتهي إلى بحر الصين.
ومن الأمر الغريب، والاتفاق العجيب أنه ما أخرج من قلعتها جنازة والٍ قط، ولا عقد فيها لواء عسكر أو راية فخرج منها، فانهزم ذلك العسكر قط، وأهلها معروفون بحسن السيرة والديانة، وجميل المعاملة والأمانة، وبذل المعروف، وسلامة النية فضلوا بذلك جميع من بخراسان.
خرج من بخارا هذه أبو عبد الله صاحب ((الصحيح))، وخلق من الأعلام، وعلماء الإسلام.
والبخاري نسبة أيضاً إلى بخارا فولاذ من بلاد تركستان، سميت بذلك(1/82)
لأن جماعة من بخارا الأولى نزلوا هذا الموضع وبنوا فيه بليدة واستوطنوها، وسموها باسم الأولى.
وأيضاً نسبة إلى البخارية: سكة بالبصرة، نقل عبيد الله بن زياد أهل بخارا إلى البصرة، فأسكنهم بها، فسميت بهم. ذكره ياقوت في ((معجم البلدان)).
ونسبةً أيضاً إلى البخور بالعود وغيره، واشتهر بها أبو المعالي أحمد بن أبي نصر بن محمد بن علي البخاري البغدادي، وأخوه أبو البركات هبة الله، سمعا من ابن غيلان، والجوهري، وغيرهما.
وأيضاً نسبة إلى الجد منها: الفقيه أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر محمد بن حمدون بن بحاز البخاري النيسابوري روى عنه الحاكم أبو عبد الله توفي سنة إحدى وثمانين وثلثمائة. وكان أبوه أبو بكر من المعدلين بنيسابور، مات سنة ثمان وأربعين وثلثمائة.(1/83)
وهذا من المتفق والمفترق في النسبة فهذه نبذة من فوائد سند هذا الحديث.
وأما فوائده المتعلقة بمتنه، فمن فقهه:
توحيد الله -عز وجل- الذي هو أصل الإيمان، فقوله صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله)) معناه ما قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبيد الله بن محمد القرشي، حدثني عبد الرحمن بن حماد، عن طلحة بن يحيى، عن أبيه، عن جده -رضي الله عنه- قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله، فقال: ((تنزيه الله من السوء)).(1/84)
طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي هذا متكلم فيه، ولا يروى مرفوعاً عن طلحة إلا من هذا الوجه والله أعلم.
ورواه الثوري عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة مرسلاً.
وجاء عن الحجاج بن أرطأه عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله عز وجل {فسبحان الله}، قال: تنزيه الله عز وجل نفسه عن السوء.
وسبحان واجب النصب بفعل محتم واجب الإضمار والتقدير: أسبح الله سبحاناً، وسبحان ملازم الإضافة إلا ما أتى غير مضاف نادراً.
وسبحان مصدر أريد به الفعل وأصله: من سبح إذا سار على الماء منبسطاً وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه.
قال أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي الضرير في إملائه في كتابه ((المحكم في اللغة)) قال: وعندي أن سبحاناً ليس بمصدر سبح، إنما هو مصدر سبح، أي: بالتخفيف – قال أيضا: وسبحان الله، معناه: تنزيهاً لله عز وجل من الصاحبة والولد وتبرئةً من السوء. هذا معناه في اللغة، وبذلك جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1/85)
قال سيبويه: وزعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك: براءة الله وزعم أن مثل ذلك قول الأعشى:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
أي براءةً منه.
وبهذا استدل على أن سبحان معرفةٌ، إذ لو كان نكرةً لانصرف قال: وقد جاء في الشعر سبحان منونةً منكرةً قال أميةٌ:
سبحانه ثم سبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
وقال ابن جني: سبحان، اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه، بمنزلة عثمان وحمران، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون، وكلاهما علةٌ تمنع من الصرف. انتهى.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((وبحمده)) أي: بنعمته التي يحمد عليها سبحناه، لأنه تعالى وفقنا لتسبيحه، وألهمنا ذلك من غير حول منا ولا قوة، وتوفيقه إيانا لذلك نعمة(1/86)
عظيمة يجب حمده عليها، فقلنا: سبحان الله، وبحمده سبحناه، أو وبحمده تسبيحنا، فتكون الباء فيه متعلقة بمحذوف تقديره: وبحمده سبحناه، أو تسبيحنا، كما تقدم.
وذكر الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي في كتابه ((الدعاء)) في تفسير ((سبحانك اللهم وبحمدك)). قال: وأما دخول الواو في قوله: ((وبحمدك)) فإن الحسن بن خلاد أخبرني، قال: سألت عنه الزجاج، فقال: سألت عما سألتني عنه أبا العباس، محمد بن يزيد، فقال سألت أبا عثمان المازني عما سألتني عنه، فقال: المعنى سبحتك اللهم بجميع آلائك وبحمدك سبحتك قال: ومعنى سبحانك: سبحتك.
وقال الخطابي أيضاً: وسمعت أبا عمر يقول: سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن قوله: ((وبحمدك)) فقال: أراد: ((سبحتك بحمدك)) كأنه يذهب إلى أن الواو صلة انتهى.
وقيل معنى: ((وبحمده)): أي أسبح الله -تعالى- وأثني بحمده، كما يقال: سبحان الله والحمد لله.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله العظيم)). هي الكلمة الثانية، والمراد بها تأكيد التنزيه والطهارة والبراءة والتقديس لله – عز وجل- من النقائص وكل سوء، فإذاً التوحيد حاصل في هذا الحديث: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
وفيه إثبات البعث والنشور والجزاء على الأعمال، وأن الميزان حق(1/87)
يوزن فيه الحسنات والسيئات يوم القيامة، وله لسان وكفتان. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
ولهذا المعنى ذكره البخاري في ترجمة قول الله عز وجل: {وتضع الموازين القسط ليوم القيامة}، وأن أعمال بني آدم وقولهم توزن، وهذا معتقد أهل السنة، قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً، وكان من مذهبهم:
أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.(1/88)
وذكر الاعتقاد، وفيه: والميزان حق، الذي له كفتان يوزن فيهما أعمال العباد، حسنها وسيئها حق.
وقد بين ذلك في المجلس المسمى: ((بمنهاج السلامة في ميزان القيامة)).
وفي هذا الحديث أن الله تعالى مرصوف بما وصف به نفسه من المحبة، وهي من صفات الله عز وجل، وقد صرح به القرآن في آيٍ كثيرة، ووردت بها السنة في أحاديث خطيرة.
قيل معنى محبة الله للعبد قبول دعائه، وتكفير سيئآته، وهدايته إلى ما يقربه إليه، وحمايته من المعاصي لأنه سبحانه وتعالى يغار عليه.(1/89)
وفيه أيضاً: وصف الله عز وجل بالرحمة
ومن فوائده أيضاً: ما ذكره البخاري في باب ((إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى، أو قرأ، أو سبح، أو كبر، أو حمد، أو هلل، فهو على نيته)) وذكر الحديث مستدلاً به.
ووجه الدلالة قوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان)). وقول البخاري في الترجمة فهو على نيته، أي: إن نوى جنس الكلام فيحنث بالتسبيح وشبهه، وإن نوى كلام الآدميين في محاوراتهم لم يحنث، وإن حلف لا يتكلم، وأطلق، ولم ينو شيئاً لم يحنث بالتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء، على الصحيح من المذهب، ولا يحنث بقراءة القرآن.
ومن الفوائد: أن الإنسان مشروع له أن يتعلم الخير، ويحث الناس على تعلمه واتباع السنة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه حث الناس على اتباع الهدى وحذرهم من سلوك طرق الردى. وفي هذا الحديث حث على الذكر بهاتين الكلمتين بقوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)) الحديث، ومنها أيضاً أنه يستحب لمن رغب غيره في عمل خير أن يذكر له شيئاً من فوائده، وما يحصل له إذا عمل به، لينشطه للعمل، كقوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)) الحديث.
ومن فوائده أيضاً: أن في الذكر شيئاً أفضل من شيء، وشيئاً أعظم أجراً من شيء ومنها: أن الأذكار إذا قدم غير الراوي شيئاً منها متأخراً على ما قبله، ويتغير المعنى، حصل للذاكر به الأجر المرتب عليه، ولا ينقص الأجر بالتقديم والتأخير.(1/90)
وقد خرج البخاري هذا الحديث وإحدى الكلمتين مقدمة على الأخرى في باب فضل التسبيح عن زهير بن حرب، ثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده)). وهكذا خرجه الترمذي في ((جامعه))، فقال: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا محمد بن الفضيل، فذكره.
وتخريج البخاري له بهذا اللفظ في ((باب فضل التسبيح)) دليل لما ذكرناه والله أعلم.
ومن فوائد هذا الحديث: التنبيه على بعض خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أوتي جوامع الكلم.
وروينا من حديث هشيم بن بشير، عن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أعطيت جوامع الكلام وخواتمه وجوامعه)) الحديث.
وخرج أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في ((سننه)) من طريق زكريا بن عطية، ثنا سعيد بن خالد، حدثني محمد بن عثمان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أوتيت جوامع(1/91)
العلم، واختصر لي الحديث اختصاراً)).
وقال أبو داود في كتابه في ((المراسيل))، ثنا محمد بن عبيد، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة أن عمر -رضي الله عنه- مر بقوم من اليهود فسمعهم يذكرون دعاء من التوراة فانتسخه، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقرؤه، وجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال رجل: يا ابن الخطاب ألا ترى ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع عمر الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله بعثني خاتماً، وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصاراً، فلا يلهينكم المتهوكون)).
فقلت لأبي قلابة: م المتهوكون؟ قال: المتحيرون. وخرجه أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في كتابه ((فضائل القرآن العظيم))، فقال: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها، فقال: ((يا ابن الخطاب أتتهودون كما(1/92)
تتهود اليهود والنصارى، أما والذي نفس محمدٍ بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقيةً، ولكن أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً)).(1/93)
وأما لطائف هذا الحديث فمنها: أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن)): أي محبوبتان عنده.
قال أبو جعفر، محمد بن عبد الله الحضرمي مطين، ثنا عباد بن(1/94)
يعقوب، ثنا حفص [عن] حجاج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس عن علي –رضي الله عنهم- في قوله: (سبحان الله).
قال: ((كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال))، وروي عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحب الكلام إلى الله -عز وجل- أن يقول العبد: سبحان ربي وبحمده)).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((خفيفتان على اللسان)) لسرعة نطق الذاكر بهما.
ولأن حروفهما خالية من الحروف الشديدة التي حروف القلقلة منها، إلا الباء والدال. والحروف الشديدة يجمعها: (أجدت طبقك)، وحروف القلقلة: (طبق جد).
وحروفهما عاريةٌ أيضاً عن الحروف السبعة المستعلية إلا الظآء المعجمة ومعنى المستعلية التي تصعد في الحنك الأعلى حين النطق بها وهي الصاد والضاد، والطاء، والظاء، والخاء، والغين، المعجميات والقاف. والأربعة الأول مستعلية مطبقة، والثلاثة الأواخر لا إطباق مع استعلاء، وليس في حروف هاتين الكلمتين الثاء المثلثة، ولا الشين المعجمة المستثقلة ولا الضاد المعجمة التي لا توجد في غير لسان العرب لصعوبة النطق بها. بل فيهما غالب الحروف اللينة السهلة الخفيفة، فهما خفيفتان بهذا المعنى. وقال قتيبة بن سعيد، ثنا الليث عن، خالد، عن سعيد قال: بلغني أن عمر -رضي الله عنه- جلد رجلاً يوماً، وعنده كعب، فقال الرجل حين وقع عليه السوط: سبحان الله، فقال عمر للجلاد دعه، فضحك كعب، فقال له:(1/95)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ثقيلتان في الميزان)) أي بالحسنات المضاعفة لقائلهما، والأجور المدخرة للذاكر بهما.
خرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((والتسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه)). الحديث.(1/96)
وقال هشام بن عمار، ثنا صدقة بن خالد، ثنا عثمان بن أبي العاتكة الأزدي، عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال: ((من هاله الليل أن يكابده، وبخل بماله أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده، فليكثر من سبحان الله وبحمده فإنهما أحب إلى الله تعالى من جبلي ذهب أو فضة ينفقهما في سبيل الله.(1/97)
وقال تمام بن محمد الرازي في ((فوائده)) أنا أبو عبد الله جعفر بن محمد، ثنا يوسف بن موسى، ثنا مخيمر بن سعيد، ثنا روح بن عبد الواحد، ثنا خليد بن دعلج، عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا غلبكم الليل أن تكابدوا، وعدوكم أن تجاهدوا، ومالكم أن تنفقوا فأكثروا من قول: سبحان الله وبحمده، فإنهن خير من جبل ذهب وفضة أن تنفقوا في سبيل الله عز وجل)).
ورواه العباس بن الوليد البيروتي، أنا عقبة – يعني ابن علقمة- المعافري، حدثني أبو الأصبغ، عن الربيع بن خثيم، عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: ((إن الله -عز وجل- قسم بينكم أخلاقكم كما قسم(1/98)
بينكم أرزاقكم، وإن الله -تعالى- يعطي المال من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فإن هالكم الليل أن تكابدوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، وضننتم بالمال أن تنفقوه، فعليكم بالقرينتين: سبحان الله وبحمده، فإنهما أحب إلى الله تعالى من جبلي ذهب وفضة، لو كانا لأحدكم فنحتهما فأنفقهما في سبيل الله تعالى)).
وقال أبو الحسن الواجدي في كتاب ((الدعوات))، وأنا أبو عبد الله -يعني محمد بن عبد الله الفارسي-، أنا أبو سعيد القرشي، أنا محمد بن أيوب، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا مالك بن مغول، عن زبيد، عن مرة، قال: قال عبد الله: ((إن بخلتم بالمال أن تنفقوه، وضعفتم عن الليل أن تساهروه، فاستكثروا من قول: سبحان الله والحمد لله، فإنهما أحب إلى الله عز وجل من جبل ذهب وفضة)).(1/99)
تابعه سليمان بن حرب، ومحمد بن طلحة، عن زبيد وتابعهم سفيان الثوري عن زبيد نحوه، فيما رواه عيسى بن يونس عنه.
وحدث عاصم بن علي، عن سليمان بن كثير، عن ثابت، قال: قال عبيد بن عمير: ((إن تعظمكم الليل أن تساهروه، وبخلتم بالمال أن تنفقوه، وعجزتم عن العدو أن تقاتلوه، فعليكم بسبحان الله وبحمده، والذي نفسي بيده لهما أحب إلى الله عز وجل من جبلي ذهب وفضة)).
وقال عبد الجبار بن العلاء، ثنا سفيان قال سمع عمرو بن دينار عبيد بن عمير يقول: ((تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن يوم القيامة خيرٌ من أن تسير معه جبال الدنيا ذهباً)).
وقال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا علي بن حمشاذ، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا عبد العزيز بن يحيى، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني ألممت بذنب عظيم فماذا يكفر عني؟ قال: ((عليك بالجهاد)). قال: والذي بعثك بالحق إني لمن أجبن الناس، وما آتي حاجتي إلا ومعي مؤنس من أهلي، قال: ((عليك(1/100)
بالصلاة))، قال: والذي بعثك بالحق إني لمن أهل بيت ينامون عن الصلاة ولولا أن أهلي يوقظونني للفريضة لما [يقظت] إليها، وما قمت إليها، قال: ((عليك بالصوم)). قال: والذي بعثك الحق ما أشبع من أكل، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه والناس حوله وقال: ((عليك بكلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان يرضيان الرحمن سبحان الله وبحمده، وهما القرينتان)).
وقال أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه ((الديباج))، ثنا أبو الوليد هاشم بن عمار الدمشقي، ثنا سويد بن عبد العزيز السلمي، ثنا أبو عبد الله النجراني، عن الحسن بن ذكوان، عن ابن أبي رباح عن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قال لا إله إلا الله كتب له بها عند الله عهد، ومن قال: سبحان الله وبحمده كتب له بها ألف حسنة وأربع وعشرون حسنة)).(1/101)
وقال الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ((من قال سبحان الله وبحمده من غير تعجب ولا سمعها من أحد جعل لها عينان وجناحان، ثم طارت تسبح مع المسبحين)).
وحدث الحافظ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن الوليد الكتاني في ((التاريخ)) عن أبي حاتم الرازي سمعت سريجاً أبا عمرو العابد، يقول: بلغني لو قسم ثواب تسبيحة على جميع هذا الخلق لأصاب كل واحد منهم خير.
فبهذا المعنى هما ثقيلتان في الميزان، وعلى المعنى الأول خفيفتان على اللسان.
ومن فوائد الحديث أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الكلمة الأولى بحمد الله(1/102)
الذي يستحقه ويستوجبه، وقرن الثانية باسمه العظيم المستحق للتنزيه عن النقص؛ ففي التعظيم جعله صفةً، فقال: ((سبحان الله العظيم))، وفي الحمد ذكره بالعطف، فقال: ((سبحان الله وبحمده)) لأنه يتضمن معنى زائداً على مطلق التسبيح.
وفي هاتين الكلمتين اسمان من أسماء الله الحسنى، أحدهما: الله عز وجل.
قيل في تفسير قوله تعالى: {هل تعلم له سيماً}، هل تعلم أحمداً يسمى الله غير الله.
قبض الله القلوب عن التجاسر على إطلاق هذا الاسم الشريف على غيره سبحانه مع كثرة أعداء الدين ومعارضتهم للقرآن.
وقال العرب: لا حظار على الأسماء. قال أبو الحسن بن سيده في ((المحكم)) يعني أنه لا يمنع أحدٌ أن يسمي بما شاء، أو يتسمى به. انتهى. فلم يطلق هذا الاسم الشريف على غير الرب تبارك وتعالى.(1/103)
وهذا الاسم الأعظم ألجمت هيبته كثيراً من العلماء عن التماس علم اشتقاقه من اللغة العربية وأجمعوا على تعظيمه بالاتفاق.
قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه ((معاني القرآن)) وأكره أن أذكر جميع ما قاله النحويون في اسم الله -جل وعز- أعني قولة الله تنزيهاً لله جل وعز، ولم يتعرض الزجاج -رحمه الله- لشيءٍ من اشتقاقه.
وقد بلغنا عن أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الأزدي -رحمه الله- أنه رؤي في المنام، فقيل له ما فعل الله بك فقال: غفر لي(1/104)
بقولي في اسم الله أنه غير مشتق. وقد قال أكثر العلماء إنه الاسم الأعظم.
قال هدبة بن خالد، ثنا أبو هلال، ثنا حيان الأعرج، وصالح الدهان، عن جابر بن زيد قال: اسم الله الأعظم هو الله، ألم تروا أنه يبدأ به في القرآن قبل الأسماء كلها.
وقال وكيع بن الجراح: رأيت رجلاً في المنام له جناحان، قلت: من أنت؟ قال: ملك قلت: ما اسم الله الأعظم؟ قال: الله. قلت: وما بيان ذلك، قال: قوله لموسى: {إنني أنا الله}، ولو كان اسم أعظم منه لقاله له.(1/105)
وخرج أبو الحسين علي بن جهضم في كتابه ((بهجة الأسرار)) فقال: وثنا هارون بن محمد الموصلي، ثنا أحمد بن أنس، ثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثي أبو اليمان الحمصي كان لنا شيخ يقال إنه كان يعرف اسم الله الأعظم قال: فأتيته فقلت له: يا عم قد بلغني أنك تعرف اسم الله الأعظم. فقال: يا ابن أخي أتعرف قلبك. قال: قلت: نعم، فقال: إذا رأيته قد أقبل وخشع ورق ودمعت عينك فسأل الله عند ذلك حاجتك فهو اسم الله الأعظم وحدث به أبو نعيم في ((الحلية)) عن عبد الله بن محمد، ثنا إسحاق بن أبي حسان، ثنا أحمد بن أبي الحواري فذكره بنحوه.
قال مصنفه -أمد الله بحياته ورحمه بعد مماته-: إن أنعمت النظر في هذا الأثر وجدت قائله قد صرح لأبي اليمان بالاسم الأعظم، العظيم الشأن، ويكفيك عن العبارة النظر إلى الإشارة لكنه ورى بالكلام الذي قدم(1/106)
غيره منه على الاسم الأعظم، ويفهم منه أن مقام الداعي به في الإجابة على قدر حاله في الإقبال على الله والإنابة.
ونظير هذا الأثر في التلويح البديع قول السايح أبي الربيع وهو ما قال أبو الشيخ الأصبهاني عبد الله بن محمد، ثنا أبو الحريش، ثنا أبو الربيع يعني الرشديني سمعت سعيد بن إبراهيم الخولاني صديقاً لإدريس -يعني ابن يحيى الخولاني- قال: قال رجل لأبي الربيع السايح علمني اسم الله الأعظم قال معك دواة وقرطاس، قال: نعم، قال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أطع الله يطعك.
وهذا الاسم الشريف جميع الأسماء الحسنى تضاف إليه، فيقال: الرحمن الرحيم من أسماء الله –تعالى-، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن.
ويجتمع فيه حرف النداء مع الألف واللام، فيقال: يا الله، ولا يجتمع في غيره من الأسماء وكيف ما تصرف في هذا الاسم الشريف يدل على الإلهية، فلو حذفت منه ألفاً بقي لله أو حذفت منه لاماً بقي إله أو حذفت لاماً وقدمت اللام على الألف بقي لاه. قال أبو الحسين بن فارس اللغوي: اللاه: اسم الله عز وجل. وأدخلت الألف واللام للتفخيم انتهى.
والعرب يقصدون بقولهم لاه ما يقصدون بقولهم لله، يقول: لاه درك، أي: لله درك.(1/107)
قال ذو الأصبع العدواني:
لاه بن عمك ما أنصفت في نسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
ويضيفون إليها الميم فيقولون: لاهم اغفر لي، ويلحقون بذلك الألف واللام فيقولون: اللهم فكيف ما تصرف في هذا الاسم الشريف يدل على الإلهية.
قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -رحمة الله عليه-: هو أعظم الأسماء المذكورة لأنه يدل على الموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنفرد بنعوت الربوبية. انتهى.
ولفظ هذا الاسم الشريف سهل على الذاكر، سلس القياد للناطق، لا يجد بتكراره كلفة، ولا يعتريه في نطقه به مشقة، وهو خال من الحروف الشديدة الثمانية، وعارٍ عن حروف الاستعلاء السبع التي ذكرناها قبل، إشعاراً بأن من وحد الله وعبده يفتح له أبواب الجنة الثمانية، ويغلق عنه أبواب النيران السبعة. قال بعضهم في تمجيد الله عز وجل:
هو الله كلت ألسن الخلق كلهم ... ولم يبلغوا الوصف الذي هو حقه(1/108)
فكبر وعظم واعترف أن كلما ... أتيت به دون الذي يستحقه
ولهذا الاسم الشريف من الخصائص اللفظية والمعنوية ما لا يحصى، وكل من أطنب في نعته فذاك منسوب إلى العي.
وأما الاسم الثاني الذي في هاتين الكلمتين فهو: العظيم، ومعناه العالي الجلال والشأن والجمال والسلطان الذي عظم شمول قدرته ونفوذ إرادته، وعموم عمله، ووفور حلمه سبحانه وتعالى.
سئل بعضهم –أظنه مالك بن دينار- عن عظمة الله تعالى: فقال: ما نقول فيمن له عبد واحد له ستمائة ألف جناح لو نشر جناحاً منها سد الخافقين. وخرج أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتابه ((حلية الأولياء)) من حديث سلمة بن شبيب، ثنا إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، قال: إن في السماء ملكاً يقال له: إسماعيل، لو أذن له ففتح أذناً من آذانه فسبح الرحمن عز وجل لمات من في السماوات والأرض.
وحدث الطبراني عن محمد بن عبد الله بن عرس المصري، ثنا وهب بن رزق أبو هبيرة، ثنا بشر بن بكر، ثنا الأوزاعي، حدثني عطاء،(1/109)
عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن لله عز وجل ملكاً لو قيل له التقم السماوات السبع والأرضين لفعل. تسبيحه سبحانك حيث كنت)).
ويروى عن أنس -رضي الله عنه- رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أذن لي في الحديث عن ملك، إن قدميه لعلى الأرض السابعة، ثم لقد خرج في الهواء ما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى أن كان العرش على هامته، لو أن الطير سخرت فيما بين أصل عنقه إلى منتهى رأسه خفقت فيه سبعمائة عام قبل أن تقطعه)) الحديث.(1/110)
وجاء من حديث حفص بن عمر، عن محمد بن عجلان، عن محمد بن جابر عن ابن عباس مرفوعاً، قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، رجلاه في الأرض السابعة السفلى على قرنه العرش، ومن شحمة أذنه إلى عاتقه لخفقان الطير مسيرة مائة عام)) غريبٌ من حديث محمد، عن ابن عباس قاله أبو نعيم.(1/111)
وقال الطبراني في ((معجمه الأوسط)) ثنا أحمد بن شعيب، ثنا أحمد بن حفص، ثنا أبي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن(1/112)
المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة ربي -عز وجل- من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)).
لم يروا هذا الحديث عن موسى بن عقبة إلا إبراهيم بن طهمان قاله الطبراني.
وحدث به أبو داود في ((سننه)) عن أحمد بن حفص، وصحح الذهبي إسناده في ((مسألة العلو)) التي ألفها فيما وجد بخطه.
وقال الحاكم أبو عبد الله في ((مستدركه)) أنا أبو عبد الله الصفار، ثنا أحمد بن مهران، ثنا عبيد الله بن موسى، أنا إسرائيل، عن معاوية بن(1/113)
إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله -عز وجل- أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض، وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظم ربنا، قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً)). هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه قاله الحاكم.(1/114)
وحدث إسماعيل بن عياش، عن الأحوص بن حكيم، عن شهر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، فقال: ((ما جمعكم))؟ قالوا: اجتمعنا نذكر ربنا ونتفكر في عظمته، فقال: ((ألا أخبركم ببعض عظمته))؟ قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: ((إن ملكاً من حملة العرش يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، قد مرقت قدماه في الأرض السفلى، ومرق رأسه من السماء السابعة، في مثله من خليقة ربكم(1/115)
عز وجل))، من أفراد إسماعيل.
وحدث به أحمد بن حنبل عن عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد الجليل بن عطية، عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن سلام، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه، وهم يتفكرون في خلق الله. وذكر الحديث بنحوه ومعناه.
وفي كتاب ((الفاروق)) لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن مت الأنصاري الهروي، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه(1/116)
قال في حملة العرش: ما بين موق عينيه إلى مؤخر عينيه خمسمائة عام.
وعن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: حملة العرش، أقدامهم ثابتة في الأرض السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش.(1/117)
وجاء عن الحكم بن ظهير عن، السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يعني في قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك}، قال: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
وروى جعفر بن [أبي] المغيرة، عن سعيد بن جبير في الآية قال: ثمانية صفوف من الملائكة، وقال أسد بن موسى، ثنا يوسف بن زياد، عن أبي إلياس ابن بنت وهب بن منبه قال: وقال وهب بن منبه: إن حول العرش سبعون ألف ملك من الملائكة، صفاً خلف صف، يدورون حول العرش(1/118)
الليل والنهار، يقبل هؤلاء، ويدبر هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً، هلل هؤلاء، وكبر هؤلاء، ومن ورائهم سبعون ألف صف، قيام أيديهم إلى أعناقهم، قد وضعوها على عواتقهم، فإذا سمعوا تهليل أولئك وتكبيرهم رفعوا أصواتهم، وقالوا: سبحانك وبحمدك، أنت الذي لا إله إلا أنت، الأكبر الأكبر ذخر الخلائق كلهم، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة، قد وضعوا اليد اليمنى على اليسرى على نحورهم، من رؤسهم إلى أقدامهم شعر، ووبر، وزغب، وريش، ليس فيها شعرة ولا وبرة، ولا زغبة، ولا ريشة، ولا مفصل، ولا قصبة، ولا عظم، ولا عصبة، ولا جلد، ولا لحم، إلا وهو يسبح لله تعالى وبحمده بلون من التسبيح، والتحميد لا يسبحه الآخر، وما بين حاجبي الملك مسيرة ثلاثمائة عام، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة أربعمائة عام، وما بين كتفي أحدهم مسيرة خمسمائة عام، وما بين ثديي أحدهم مثل ذلك، ومن قدمه إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام وما بين ركبتيه إلى كعبيه مسيرة مائتي عام، وما بين فخذه إلى أضلاع جنبيه مسيرة ثلاثمائة عام، وما بين ضلعين من أضلاعه مسيرة مائتي عام، وما بين كفيه إلى مرفقه مسيرة مائتي عام، وما بين مرفقه إلى منكبيه مسيرة مائة عام، وما بين مرفقيه إلى أصل منكبه مسيرة ثلاثمائة عام، وإن كفيه لو أذن الله له أن يأخذ بإحديهما جبال الأرض كلها فعل، وبالأخرى أرض الدنيا كلها فعل.(1/119)
خرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه ((العظمة)) من طريق أسد بن موسى.
وخرجه من طريق ابن البراء، ثنا عبد المنعم، عن أبيه عن وهب فذكره بنحوه.
وخرج أيضاً في الكتاب من حديث إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد، عن وهب، قال: إن حملة العرش الذين يحملونه، لكل ملك منهم أربعة وجوه، وأربعة أجنحة، جناحان على وجهه من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وجناحان يطير بهما، أقدامهم في الثرى، والعرش على أكتافهم، لكل واحد منهم وجه ثور ووجه أسد، ووجه إنسان، ووجه نسر، ليس لهم إلا(1/120)
أن يقولوا: قدسوا الله القوي، ملأت عظمته السماوات والأرض.
وخرج أبو نعيم في كتابه ((حلية الأولياء)) من طريق مجاشع بن عمرو، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن كعب قال: إن لله -عز وجل- ملكاً يقال له صنديائيل، البحار كلها في نقرة إبهامه.
وجاء عن الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن الرعد ملك يسوق السحاب وإن بحور الماء لفي نقرة إبهامه.
تاهت الأفكار، وطاشت العقول، وكلت الألسنة عن وصف بعض المخلوقات فالله العلي العظيم: {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير}، أعلى وأجل وأعظم.
بلغنا عن الأوزاعي -رحمة الله عليه- أنه قال: بلغني أن الله عز وجل يقول: وعزتي لو يعلم العباد قدر عظمتي ما عبدوا غيري.
وفي عظمة الله -جل وعلا- أخبارٌ غير ما ذكرنا.
فهذا مما يتعلق بهذين الاسمين الشريفين ولما كان التسبيح والتقديس خالصاً لله -عز وجل- لا يستحق ذلك سواه. أضيف في هاتين الكلمتين إلى أخص الأسماء وهو الله.(1/121)
ولهذا قيل: ما دعا الله تعالى أحد باسم من أسمائه تعالى إلا ولنفس الداعي حظ من ذلك الاسم المدعو به يطلبه بدعائه إياه، إلا قول الداعي: يا الله فإنه دليل على الوحدانية الخالصة، ولما كان من جزاء التسبيح الرحمة ذكر في سياق وصفهما اسم الله المناسب لذلك وهو الرحمن.
ولفظ الرحمن بني على فعلان، لأن معناه الكثرة، وذلك لأن رحمته وسعت كل شيء. قاله أبو الحسن بن سيده في ((المحكم))، وقال: قال الزجاج: الرحمن اسمٌ من أسماء الله تعالى مذكورٌ في الكتب الأول، ولم يكونوا يعرفونه من أسماء الله تعالى.
قال أبو الحسن: أراه يعني أصحاب الكتب الأول، ومعناه عند أهل اللغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة، لأن فعلان بناء من أبنية المبالغة. انتهى.
وقيل في معناه: الذي تعم رحمته المؤمن والكافر في الدنيا.
وقال بعضهم الرحمن برحمة واحدةٍ، والرحيم بمائة رحمة، أشار إلى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله -عز وجل- خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمةً واحدةً)). الحديث.
وسياق هذا الاسم الشريف، وهو الرحمن في أول الحديث، وفي آخره الاسم الأعظم ليفهم منه الذاكر به معنى الخوف والرجاء، فمعنى الرحمن يرجع إلى الإنعام والإحسان بالرحمة، ومعنى العظيم الهيبة والإجلال، فإذا استحضر ذلك لم يمنعه من رجاء الرحمة والإفضال الخوف من هيبة الله(1/122)
ذي العظمة والجلال، ولا تمنعه رحمة الله، وتوالي إفضاله من خوف الله وهيبته وجلاله، فيكون الذاكر به في جميع أحواله خائفاً راجياً لأنه {لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، {ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
نعم، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن))، ولم يذكر غيره من أسامي الرب -عز وجل- سارٍ على سنن أهل اللسان، وجار على صياغة أهل البلاغة، وصناعة أولي البراعة للمناسبة بين الألفاظ وموازنتها، وفي ذلك إشعار بالرحمة للذاكر بهما، لأن كل اسم من الأسماء الحسنى يذكر عند الأمر الذي مقصوده مشتق من ذلك الاسم كقوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً}، ونحو ذلك.
فإن قيل: فهلا قال: الرحيم والمعنى المذكور حاصل به. فجوابه أن معنى الرحمن الذي تعم رحمته المؤمن والكافر في الدنيا كما تقدم.
ولما كان في هاتين الكلمتين توحيد الله النافع للكافر لو وحد الله في الدنيا، ما لم يعاين فإذا عاين لم ينفعه توحيده، حسن أن يذكر في وصفهما الرحمن النافع للكافر في الدنيا وغير نافعٍ له إذا وحد الله عند المعاينة.
وربما يلتفت من قوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن)) إلى قوله -عز وجل-: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان}، لأن ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، من أبلغ البيان الذي علمه الرحمن، فيقوى مناسبة اسم الرحمن في وصفهما وليتفكر الذاكر بهما نعم الرحمن التي من بعضها أن جعله إنساناً، وعلمه قرآناً، وألهمه منطقاً وبياناً، فنعمه -تبارك وتعالى- في تعليم البيان كنعمه في خلق الإنسان، لأن النطق، فيما ذكر هواء يخرج من قصبة الرئة، فينضم في الحلقوم، ثم ينفرش في أقصى الحلق، ووسطه، وآخره، وأعلاه،(1/123)
وأسفله، وعلى وسط اللسان، وأطرافه، وبين الثنايا، وفي الشفتين والخيشوم، فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوتٌ غير صوت المقطع المجاور له، فإذا هو حروف، فألهم -سبحانه- الإنسان نظم بعضها إلى بعض فإذا هي كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمه تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض، فإذا هي كلام دال على أنواع من المعاني.
لولا عجائب صنع الله ما نبتت ... تلك الفضائل في لحمٍ ولا عصب
فإذا قال ذو اللب السليم: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ونحو ذلك، تفكر من أين خرج هذا البيان، من هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره جارٍ في مجار، قد هيأت وأعدت لتقطيعه، وتفصيله، ثم لتأليفه وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين أحسن الخالقين. فحينئذٍ يزداد شكر الذاكر، ويقوى إيمانه بالله تعالى، وبكمال قدرته وعلمه وحكمته وإحسانه إلى خلقه وعنايته بتربيته، فيضاعف له حينئذٍ بذلك الثواب والحسنات، وترفع له الدرجات في الجنات.
وأما ما في هذا الحديث من فنون البلاغة، وعيون الفصاحة، والمعاني الرفيعة، والأبواب البديعة، المذكور ذلك عند أهل النقد والبلاغة في علمي المعاني والبيان. فمن ذلك حسن الابتداء، ولا يخفى ما في هذا الحديث من حسن الابتداء، وبراعة الاستهلال وبلاغة الفاتحة.
ومنه المطابقة وهي: مقابلة الشيء لضده على القول المختار، وتارة يجيء طباقاً محضاً ويسمى عندهم التكافؤ، كما في هذا الحديث، الخفة والثقل، وتقرب من المطابقة المحضة: المقابلة وهي موجودةٌ في الحديث أيضاً، وتارةً يجيء طباقاً غير محضٍ كالسواد مع الضوء، مثلاً وبعضهم يسمى هذا مخالفاً.(1/124)
ومنه المناسبة؛ لأن بين الميزان واللسان مناسبة؛ لأن الميزان لها لسان يعرف به الراجح من غيره، كما أن لسان الإنسان يعرب عن الحق والباطل، وفيه المناسبة الأخرى التي هي رأس الفصاحة، وهي مناسبة الألفاظ وموازنتها، والموازنة والمناسبة والموالفة بمعنى واحد، وكله من حسن النظم، ومناسبة ألفاظه، وهذا الحديث موازن الألفاظ، مماثل الفقر، مناسب السجع، لا تنافي فيه ولا تنافر.
ومنه تشابه الأطراف، ويسمى إيهام التناسب، وهو: أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه في المعنى نحو قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}.
وقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((العظيم)) لا يخفى مناسبته لابتدائه الذي هو سبحان الله، فإن المنزه عن كل سوء المبرأ عن كل نقصٍ هو العظيم.
ومنه التكرار: فقوله صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) من التكرار الحسن، والعطف الفائق؛ لأن التكرار في الكلام منه ما يكون معيباً، وهو إذا كان في جملة واحدة. ومع اختلاف الجمل وبعد ما بينهما ليس بعيب ومنه ما يكون محتملاً لأن يكون معيباً، وأن يكون حسناً.
ومنه ما يكون حسناً معدوداً في باب البلاغة، والتكرار في هذا الحديث من هذا القبيل، وهو يخرج السامع من شيء إلى شيء، فيزداد نشاطه، وتتوفر رغبته، ويسمى هذا النوع الترديد، وهو أن تعلق كلمة في البيت من النظم أو الفقرة من النثر بمعنى، ثم تردد فيه بعينها، وتعلق بمعنى آخر كقول زهير بن أبي سلمى من قصيدةٍ مدح بها هرم بن سنان المري أولها:
إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا
وفارقتك برهنٍ لا فكاك له ... يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا(1/125)
إلى أن قال:
إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السماحة منه والندى خلقاً
قال أبو تمام: لا أعلم أحداً أحسن صنعة في الترديد من زهير في قوله، وذكر البيت المذكور.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، فسبحان الله الأولى متعلقة بمعنى، ورددت الثانية فعلقت بمعنى آخر، وإن كان في هذا غموض ما فقد تكرر الكلمة في البيت أو الفقرة للتعظيم أو للبيان، ويعد ذلك في ضروب البلاغة وهذا ظاهر في الحديث، وقد يكون التكرار في هذا الحديث لاستلذاذ الناطق به كما قال الشاعر:
ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هند ... وهندٌ أتى من دونها النأي والبعد
قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله التنوخي المعري: من حبه لهذه المرأة لم ير تكرير اسمها عيباً، فهو يجد للفظ بها حلاوة.
هذا في اسم مخلوق، فما ظنك باسم الخالق، جل اسمه؟ فحسن أن يكرر، فيقال: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
ومنه الانسجام: وهو أن يكون الكلام مشابهاً للماء في انسجامه وتحدره وسهولته، ولا خفاء بما في هاتين الكلمتين من حسن سبكهما وسهولتهما وخفة النطق بهما. وكذلك وصفهما، وهذا الضرب من أحسن ضروب الكلام وأزينه؛ لأنه إذا كان مؤلفاً من حروف سهلة المخارج كان أحسن في البلاغة،(1/126)
وأبلغ في الحسن ومنه الإطناب؛ لأن أفضل الكلام أبينه، وأبينه أشده إحاطةً بالمعاني والإطناب في المواعظ وشبهها محمودٌ مندوبٌ إليه عند أهل النقد والبلاغة، فلو قيل: سبحان الله العظيم وبحمده، حصلت الفائدة، لكن قال صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، فأطنب لفوائدٍ منها: زيادة أجر الذاكر بهما المرتب على تكرير تسبيح الله عز وجل.
ومن بديع هذا الحديث الإيجاز وإذا كان الإيجاز في الكلام وتحته معان كان بالقلوب أوقع، وإلى الحفظ أسرع، ولا يخفى ما في هذا الحديث من الإيجاز، لأنهما كلمتان وتحتهما من المعاني ما لا ينحصر، كما قدمنا بعضه، وهذه نكتة بديعة في الحديث؛ لأنه جمع بين ضدين الإيجاز والإطناب، مثلما جمع بين الخفة والثقة كما بينا ذلك.
ومنه الحذف وهو على وجوه:
منها قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ابتداءً: ((كلمتان)) ففيه حذفٌ لو ظهر كان -والله أعلم- اسمعوا أيها الناس، أو نحو ذلك كلمتان حبيبتان إلى الرحمن.
ومنه: الاكتفاء، ويقرب من النوع الذي قبله، فقوله صلى الله عليه وسلم : ((ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده)). الحديث. فاكتفى بذكرهما عن أداة الإشارة إليهما، كما قال سبحانه وتعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}، أي: فأفطر، فعليه كذا، فاكتفى بالمسبب الذي هو قوله {فعدة من أيام أخر} من السبب الذي هو الإفطار.
ومنه: حسن الأخذ، ويسمى الاتباع. وهو أن يعمد إلى معنىً سبق إليه، فيورده بلفظ غير ذلك، وقد ذكر الله -تعالى- التسبيح في غير مكان(1/127)
من كتابه العزيز، فمن ذلك: {فسبح بحمد ربك}، فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ((سبحان الله وبحمده)).
ومنه التزام ما لا يلزم، وهو: أن يلتزم الناظم أو الناثر حرفاً فأكثر قبل القافية، وبهذا يصير للقوافي طلاوة، وللأسجاع حلاوة، ولا يخفى ما في هذا الحديث من هذا النوع.
ومنه التوزيع، وهو: أن يلتزم المتكلم في نثره أو نظمه في كل كلمة من ذلك حرفاً من حروف المعجم، وهذا من سند هذا الحديث ومتنه، أما في سنده، فقد تقدم أن في كل اسم من أسماء رجاله ميماً من النبي صلى الله عليه وسلم إلي وفي كل كلمة من متنه ألفاً خلا لفظتي: ((من)) و ((بحمده)) ومنه التسهيم، قال أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن حماد بن إسحاق الموصلي: هذا لقب نحن اخترعناه. انتهى. وسماه بعضهم: الإرصاد، وهو أن يعلم قافية البيت أو السجعة بدلالة أول الكلام عليها نحو قول الله عز وجل: {وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((خفيفتان)) دال على قوله: ((على اللسان))، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم : ((ثقيلتان)) دال على قوله في الميزان، وهذا معنى التوشيح الذي يبين آخر الكلام بأوله.
ومنه حسن السبر، وجودة التعبير، فإنه صلى الله عليه وسلم فسر الكلمتين بعد إبهامهما وأعرب عن الحبيبتين بعد إعجامهما، فقال: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)).
ومنه التتميم، وهو أن لا يترك المتكلم شيئاً يتم الإحسان معه في كلامه إلا أتى به، كهذا الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)) الحديث. فلو اقتصر على قوله: ((سبحان الله وبحمده))، فقط لخيل للسامع أن إحدى الكلمتين ((سبحان الله)) والأخرى: ((وبحمده)) لا سيما وقد(1/128)
جاء الحديث الذي قدمناه من طريق أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ((إني ألممت بذنبٍ عظيم فماذا يكفر عني؟ وذكر الحديث وفي آخره، وقال صلى الله عليه وسلم : ((عليك بكلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، ترضيان الرحمن: سبحان الله وبحمده وهما القرينتان، [فتمم] صلى الله عليه وسلم بقوله في هذا الحديث: ((سبحان الله)) حقيقة مراده، ويمم السامع طريقة اجتهاده، وأعطى المعنى نصيبه من القوة، ووفاه حظه من الجودة.
ومنه المبالغة، ويقال التبليغ، وسماها قوم: الإيغال: ومن أنواعها أن يذكر المتكلم شيئاً لو وقف عليه أجزأه في غرضه، فلا يقف عليه ويتجاوزه إلى شيء آخر زيادة في البيان، ومبالغة في المعاني الحسان، كما في هذا الحديث، فالاكتفاء على سبحان الله وبحمده مجزٍ في الغرض، لا سيما وقد ترتب أجر الكلمتين على سبحان الله وبحمده فقط، كما تقدم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة، فزاد في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في ((الصحيح)): ((سبحان الله العظيم)) مبالغةً في المعنى الجسيم.
ومن المبالغة نوع آخر، وهو أعلى أنواعها، وهو أن يكون الكلام مبالغاً في فحواه، مشتملاً على أعلى عبارات معناه، كقول الله عز وجل: {يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت}، وإنما خص المرضعة دون لفظ الوالدة؛ لأن المرضعة لا تفارق الولد ليلاً ولا نهاراً وعلى حسب القرب تكون المحبة والألفة وذلك بخلاف الوالدة.(1/129)
ووجه هذا النوع من المبالغة في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن)). فلو قيل حبيبتان إلى الله لكان من البيان الحسن والبلاغة التامة وإنما خص الرحمن من بين الأسماء الحسنى مبالغةً لفوائد كثيرةٍ تقدم ذكر بعضها، والله أعلم.
ومنه جمع المؤتلف والمختلف: وهو أن يجمع في كلام قصير أشياء كثيرة مختلفة أو متفقة، كقوله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي}، فقوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)) إلى قوله: ((في الميزان)) جمع بين أشياء مختلفة وقوله: ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))، جمع بين أشياء متفقة من تمجيد الرب عز وجل.
ومنه الإيغال ويسميه قوم بالتبليغ: وهو أن يتم الكلام قبل فراغ مقطعه، ثم يؤتى بالمقطع لتمام البيت، أو السجع يفيد معنى زائداً، فقوله صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله))، تم به الكلام، ثم قال: ((العظيم)) أفاد معنىً زائداً.
ومنه الوحي، والإشارة، وهو التعبير عن الشيء بأحد توابعه مشيراً إلى معانٍ كثيرة دالاً عليها مع الوجازة، كما قيل: البلاغة لمحة دالة.
وقال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب عن الإشارة: هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة باللمحة الدالة.(1/130)
قال مصنفه -رحمه الله تعالى-: ومن الإشارة أنواع ترجع إلى معنى واحد، ومنها: الوحي، ومن أمثلتها التي في القرآن قول الله عز وجل: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}، ويقرب من هذا النوع الإرداف والتبليغ والكناية، ووجه بلاغة هذه الأنواع واحد، كما قال القاضي عياض، وكلها راجعةٌ إلى المبالغة في الوصف والإيجاز، وإذا تأملت هذا الحديث رأيت له من هذه البلاغة حظاً وافراً، ووجدته عن وجه المعاني الكثيرة سافراً؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن))، ردف عن روادف المحبة التي هي من صفات الرب -جل وعلا- فاكتفى صلى الله عليه وسلم بذلك عما يتعلق بمحبة الرب -عز وجل- وما يتحصل منها للعبد من خيري الدنيا والآخرة، فهذا من نوع الإرداف ودخوله في الوحي والإشارة بأنه لما كان معنى محبة الله -عز وجل- يقتضي أموراً، وكان ذكر الرحمن معها إلى أشياء من اللطائف مشيراً، ويظهر منهما لذوي البصيرة المعاني الحسان رمز عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن))، وذهب بذلك من الإيجاز مذهب البلاغة والبيان.
ومنه المماثلة، وهي أن يريد المتكلم معنى فيأتي بعبارة تكون موضوعةً لمعنى آخر ينبئ بذلك عن المعنى الذي أراده، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن)).
أريد به -والله أعلم- أن الرحمن -عز وجل- يحب قائلهما قال الله عز وجل في هذا الحديث: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)).
ومنه التشطير، وهو أن: يتوازن المصراعان من النظم، أو الجزآن من(1/131)
النثر مع قيام كلٍ منهما بنفسه، واستغنائه عن صاحبه، كقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ((حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان))، فقد تعادل الجزءان مع استغناء كل منهما عن الآخر.
ومنه التطريز، وهو: أن يقع في الكلام المنظوم أو المنثور كلمات متساوية في الوزن يكون فيه كالطراز في الثوب، ((فحبيبتان، وخفيفتان، وثقيلتان))، المذكورات في الحديث تطريز له.
ومنه السجع والازدواج، والقرآن العزيز مشحون منه، فقوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)) إلى آخر وصفهما من هذا النوع، وفي هذا الحديث أيضاً نوع من الازدواج حسن، ويسمى: بالموازنة أيضاً، وبالتسميط، وبالتضفير، والتسجيع، وبالترصيع، وهذا في قوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان))، لأن كل سجعة داخلها أخرى، وهذا من أحسن وجوه السجع وأعلاها.
وفي القرآن العزيز من هذا كثير، كقوله جل وعلا: {إن إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم}، وكقوله عز وجل: {والعاديات ضبحاً. فالموريات قدحاً. فالمغيرات صبحاً. فأثرن به نقعاً. فوسطن به جمعاً}.
والسجع لا يشترط فيه أن تكون فقره متساويةً، لكن إذا وقع الطول في أول فقرة من الفقرتين كان عياً، كما قاله القاضي عياض، وغيره، وربما أحوج تطويل الأولى إطالة الثانية، فيظهر على ذلك التكلف، وتعتريه وصمة(1/132)
التعسف، كما ذكر أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب أن كاتباً كتب في تعزيةٍ: ((إذا كان للمحزون في لقاء مثله أكثر الراحة في العاجل))، فأطال هذا الجزء، وعلم أن الجزء الثاني ينبغي أن يكون مثل الأول وأطول، فقال: ((وكان الحزن راتباً إذ أرجع إلى الحقائق وغير زائل))، فأتى باستكراه وتكلف عجيب. انتهى.
والتطويل في الجزء الثاني مع قصر الأول غير معيب، قال القاضي عياض: بل ربما جاء مستحسناً، لا سيما إن توالت الفقر على سجع واحد، وجاءت على تقدير متعاضد، فالخروج من آخرها بعد زيادة فيها على تقدير أخواتها أحسن في السجع، وأوقع في السمع، وهذا ما لا ينكره حسن الذوق في الكتابة، ولا يجهله إلا طبع الطبع في الخطابة. انتهى.
وبعض الفقرات الأواخر من هذا الحديث أطول من التي قبلها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان)) أقصر من قوله: ((حبيبتان))، وهذا أحسن في السجع، وأوقع في السمع وأعلق باللب، وأوصل للقلب.
وربما يدخل هذا الحديث في باب الجناس، لأن الكلام إذا لم يكن مشتقاً من أصل واحد، لكن بعض الكلمة منه أو أكثر مجانسة لبعض حروف صاحبتها أو أكثرها، فهذا سماه بعضهم جناساً، حكاه القاضي عياض بنحوه وحكى عن أبي الفرج قدامة بن جعفر أنه سمى هذا النوع ((مضارعة)) وهو التجنيس في أكثر الكلمة أو بعضها. قال القاضي عياض: وإنما حسن -يعني التجنيس- لوزن الكلمتين، واتفاق أواخرها وقرب مخارج أوائلها(1/133)
أو أوساطها. انتهى. و((حبيبتان، وخفيفتان، وثقيلتان)) في هذا الحديث ربما يدخل في هذا النوع -والله أعلم- لأن آخر كل كلمة من الكلمات الثلاث متجانس، مماثل لآخر الأخرى، موافق له.
ومنه الترتيب، وهو أن يقدم من الكلام ما يحسن تقديمه، ويؤخر ما يحسن تأخيره. قال سيبويه: إنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعنى وإن كانا جميعاً مهماتهم وبيانهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن)) إلى آخره. من أحسن الترتيب؛ لأن القصد من السامع المبادرة إلى العمل، فقدم صلى الله عليه وسلم [ما] ينشط السامع من أول مرة بقوله صلى الله عليه وسلم : ((حبيبتان إلى الرحمن))، لأن العابد إذا سمع بشيءٍ يحبه الرحمن سارع إليه. ووجه نظم قوله صلى الله عليه وسلم : ((خفيفتان على اللسان)) بما قبله لأن العابد إذا سارع إلى ما يحبه الرحمن ويرضاه لم يبال بما يحصل له من المشقة والكلفة في ذلك، فأعلمه أنه لا مشقة عليه ولا كلفة في مسارعته إلى العمل بهما، فقال: ((خفيفتان على اللسان))، ثم قال بعد ذلك: ((ثقيلتان في الميزان))، لأن الخير حصل لمن ذكر بهما معجلاً في قوله: ((حبيبتان إلى الرحمن)) ومؤجلاً في قوله: ((ثقيلتان في الميزان))، والمؤجل مؤخر، فظهر بهذا حسن الترتيب في الحديث.
وأما رواية زهير بن حرب ويوسف بن عيسى، عن ابن فضيل هذا الحديث ولفظه: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن))، فهذا -والله أعلم- خطاب للعامة، وفي تلك الرواية خطاب(1/134)
للخاصة فابتدأ صلى الله عليه وسلم في كل بما يليق به لأن عامة الناس قصدهم بالعمل الثواب، والخاصة قصدهم الملك الوهاب، ففي هذه الرواية الآخرة ابتدأ بقوله صلى الله عليه وسلم : كلمتان خفيفتان على اللسان؛ لأن من يثقل عليه العمل ونفسه مشرفة للثواب إذا سمع بعدم المشقة في العمل بادر إليه، وإذا سمع بثوابه اشتدت رغبته فيه، فقيل لهذا وأمثاله من أول وهلة: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)) وفي تلك الرواية ابتدأ بقوله: ((حبيبتان إلى الرحمن)) خطاباً للخواص الذين إذا سمعوا بشيءٍ يحبه الرحمن بادروا إليه، وإن كان فيه غاية المشقة، فظهر بهذا حسن الترتيب في كلا الروايتين. والله أعلم.
ومنه حسن الاختتام، وهو: أن يكون آخر الكلام من أحسن المقاطع، وأبلغ الختام بحيث يقضي من الغرض وعده، ولا يستدعي كلاماً بعده، وقوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث: ((سبحان الله العظيم))، قد حاز من براعة الختام أجملها، ونال من بلاغة المقاطع أكملها، ولهذا عذب في الأسماع موقعه، وحسن في ختام ((صحيح البخاري)) موضعه.
والبخاري -رحمة الله عليه- افتتح كتابه بالإخلاص بحديث: ((الأعمال بالنيات))، واختلف في سبب ذلك، والأظهر أنه فعل ما رواه عن(1/135)
عبد الرحمن بن مهدي من قوله فيما خرجه الإمام أبو بكر البيهقي -رحمه الله- قال: سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، سمعت محمد بن سليمان بن فارس، سمعت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بحديث: ((الأعمال بالنيات))، وقد حدث بهذه الحكاية عن الحاكم غير البيهقي، وفيها إرسال؛ لأن البخاري لم يسمع من أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي، إنما سمع من أصحابه.
وقد حدث أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر سمعت بنداراً محمد بن بشار، سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لو صنفت الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((الأعمال بالنية)) في أول كل باب. وختم البخاري ((صحيحه)) بحديث الكلمتين المشتمل على توحيد الله وتنزيهه والإيمان به، وباليوم الآخر والحساب والميزان، وخرجه في آخر باب في الصحيح مستدلاً به على(1/136)
ثبوت الميزان في الآخرة، لكن عنده أحاديث مصرحة بثبوت الميزان غير هذا الحديث، فخصوصية إدخاله هنا دون غيره لماذا؟
يحتمل -والله سبحانه أعلم- أن يكون امتثالاً لقوله عز وجل: {وسبح بحمد ربك حين تقوم}. فكأن البخاري -رحمة الله تعالى- حين فرغ من تصنيف كتابه قام عن مجلس الكتابة، والتصنيف، فقال بلسان حاله أو بلسان قاله، أو بهما: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
أو أنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله في آخر عمره من التسبيح بحمد الله حين أمره ربه عز وجل: {فسبح بحمد ربك واستغفره}، فكذلك البخاري سبح بحمد الله في آخر تصنيفه.
أو أن البخاري لما جمع الأدلة الشرعية، والآداب المرعية، وتم له ما أراد كما أراد شبهه بالفتح والنصر على أهل البدع والضلال الذين نبغوا في زمانه فسبح بحمد ربه، كما سبح النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه نصر الله والفتح.(1/137)
أو أنه لما جمع تراجم كتابه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين خوفاً من الزلل وليس هو بمعصوم، فلما فرغ خاف أن يكون وقع منه في ذلك خطأ لم يشعر به فاستظهر لنفسه حين فرغ بتسبيح الله وحمده اعتماداً على قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).(1/138)
أو أن كتابه من أعظم العبادات والتسبيح يحسن عقيب العبادات، كما يستحب بعد الصلوات، فسبح عقيب فراغه من التصنيف.
أو أنه أراد بذلك الدعاء عند فراغه من كتابه لقوله عز وجل: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}، فختم بالتسبيح لله والحمد له، وفيهما معنى الدعاء، كما في قوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، قال الله عز وجل: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم}، فالبخاري -رحمه الله- قد يكون دعا الله تعالى بما أحب عقيب ختم الكتاب في تسبيحه لله وحمده إياه وثنائه عليه.
أو أن البخارى اقتدى بما روي عن السلف الصالح في ذلك:
قال إبراهيم بن الأشعث، ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: الأواب الحفيظ الذي لا يقوم من مجلس إلا استغفر الله، يقول: اللهم اغفر لنا ما أصبنا من مجلسنا، سبحان الله وبحمده. خرجه أبو نعيم في كتابه ((الحلية)) لابن الأشعث.
وروي عن قرة بن خالد قال: كان الحسن يظهر عند السكتة -يعني إذا(1/140)
سكت- عن الحديث فيكون هجيراه سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
فجميع ما ذكرنا محتمل لإيراد البخاري هذا الحديث في آخر ((صحيحه))، فإن في مقاصده في تراجم هذا الكتاب وترتيبه إياه على هذه الأبواب أسراراً عجيبة، وأموراً غريبة، يحار فيها المتأملون: {وما يعقلها إلا العالمون}. قال مصنفه -رحمه الله تعالى-: فهذه لمحةٌ يسيرةٌ، ولمعةٌ منيرةٌ، مثيرةٌ كل معنىً لطيف، من معاني هذا(1/141)
الحديث الشريف، مشيرةٌ إلى ما فيه من بديع جوامع الكلم، وضروب العلوم، وفنون الحكم المقتبسة من مشكاة السراج المنير، المكتسبة له صلى الله عليه وسلم من إيحاء العلي الكبير، المشار إلى شرفها الأعلى بقوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى}، ذكرناها ليتنبه ذو البصيرة على ما وراءها من معاني الأحاديث الخطيرة، ولئلا يقنع طالبٌ من الحديث باسمه، ولا يكتفي من التحديث برسمه، فإثارة معاني الآثار فعل الأثبات، وقد قلت في معنى ذلك هذه الأبيات:
خذ الحديث وجل بالفكر فيه تجد ... به جوامع علمٍ منه تقتسم
ولا يكن حظك التحديث منه فقط ... علمٌ بلا خبرةٍ نقصٌ بمن علموا
فذو البصيرة أعلى من ذوي بصرٍ ... أما سمعت مقالاً قاله فهم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم؟!
فاسلك بنا ربنا سبل الألى عملوا ... بعلمهم وأنلنا مثلما غنموا
لأنهم فتحوا بالعلم أعينهم ... كما بخير فعالٍ عمرهم ختموا
آخر الجزء. ولله الحمد حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(1/142)
علقه لنفسه داعياً لمصنفه العبد الفقير إلى الله تعالى: عبد الرحمن بن عبد الله بن موسى بن أحمد بن عمر بن زهير الشافعي بدمشق المحروسة في ثالث شهر ربيع الآخر عشرين وثمانمائة، غفر الله له، ولوالديه، وأبنائه، وأقاربه، ومشايخه وأصحابه، وجيرانه، وجميع المسلمين. آمين.(1/143)