التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية
الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد
الجزء الأول
( بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ )
( الحَمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) (1)
__________
(1) قولُه: ( الحمدُ للهِ ): الألفُ واللامُ للاستغراقِ، فجميعُ أنواعِ المحامدِ كُلِّها للهِ سُبحانه مُلكا واستحقاقاً. وهو لغةً الثَّناءُ بالصِّفاتِ الجميلةِ، والأفعالِ الحسنةِ، وعُرفاً فعلٌ ينبئ عن تعظيمِ المُنْعِمِ بِسببِ كونهِ منعِمَاً.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ: الحمدُ هو ذكرُ صفاتِ المحمودِ مع حبِّهِ وتعظيمهِ وإجلالِه، فإن تَجرَّد عن ذلك فهو مدحٌ، فالفرقُ بينهما أنَّ الإخبارَ عن محاسنِ الغيرِ إمّا أَنْ يكونَ إخباراً مجرَّداً من حبٍّ وإرادةٍ أو مقروناً بحبِّهِ وإرادتِهِ. فإذا كان الأوَّلَ فهو مدحٌ، وإن كان الثَّانيَ فهو الحمدُ.
قولُه: ( للهِ ): لفظُ الجلالةِ عَلَمٌ على ذاتِهِ سبحانه وهو أَعرفُ المعارفِ على الإطلاقِ.
وقالَ بعضُ العلماءِ: إنّه الاسمُ الأعظمُ وذُكِرَ في القرآنِ في (2360) ألفين وثلاثمائةٍ وستِّين موضعاً، وهو يتناولُ معانيَ سائرِ الأسماءِ بطريقِ التَّضَمُّنِ، وهو مشتقٌّ من أَلَهَ يَأْلَهُ إذا عَبَدَ فهو إلهٌ بمعنى مألُوهٍ أي معبودٍ، فالإلهُ هو المألوهُ والَّذي تألَهُهُ القلوبُ، وكونُه مستحِقّاً للألوهيَّةِ مُستلزِماً لصفاتِ الكمالِ فلا يستحِقُّ أنْ يكونَ معبوداً محبوباً لذاتِهِ إلا هُوَ، وكلُّ عملٍ لا يُرادُ به وجهُه فهو باطلٌ، وعبادةُ غيرِه وحبُّ غيرِه يوجِبُ الفسادَ كما قالَ تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
قولُه: ( الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ): أي بعثَ رسولَهُ. والرَّسولُ إنسانٌ ذكَرٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ وأُمِرَ بتبليغِهِ، وأمَّا النَّبيُّ فهو مأخوذٌ من النَّبأِ وهو الإخبارُ؛ لأنَّهم مُخْبِرون عن اللهِ أو من النّبوَةِ وهي الرِّفعةُ؛ لارتفاعِ رُتَبِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وهو إنسانٌ أُوحِيَ إليه بشرعٍ ولم يُؤمَر بتبليغِهِ، فكلُّ رسولٍ نبيٌّ ولا ينعكسُ، وعددُ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ مائَةُ ألفٍ وأربعةُ وعشرون ألفاً كما جاء في حديثِ أبي ذرٍّ، وقيلَ لا يُعرَفُ عددُهم بدليلِ قولِهِ سبحانَه: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الآيةَ، وأمّا عددُ الرُّسلِ فهم ثلاثمائةٍ وثلاثةَ عشرَ كما في الحديثِ المذكورِ.
وأولو العَزْمِ مِنهم خمسةٌ كما ذَكَر ذلك البَغَويُّ عن ابنِ عباسٍ وغيره وهم: محمَّدٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ونوحٌ عليهمُ السَّلامُ، وَنَظَمهُم بعضُهم بقولِهِ:
محمَّدٌ ابراهيمُ موسى كليمُه فعيسى فنوحٌ هم أولوا العزمِ فاعلمِ.
وهم في الفضلِ على هذا التَّرتيبِ المذكورِ في البيتِ.(1/1)
بالهُدَى ودِيْنِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّين كُلِّهِ وكَفَى باللهِ شَهِيداً (1)
__________
(1) قولُه: ( بالهدى ): أي العلمِ النَّافعِ.
قولُه: (وَدِينِ الْحَقِّ ): أي العملِ الصَّالحِ.
قولُه: ( ليظهرَهُ ): أي يُعْلِيَهُ وينصرَهُ ظهوراً بالحُجَّةِ والبيانِ، والسَّيفِ والسِّنانِ، حتَّى يَظْهَرَ على مخالفيهِ، وقد وقعَ ذلك، فإنّ المسلمين جاهدوا في اللهِ حقَّ جهادِه حتَّى فتحَ اللهُ عليهم فاتَّسعَتْ رُقعةُ البلادِ الإسلاميَّةِ شرقاً وغرباً في مُدَّةٍ يسيرةٍ مع قلَّةِ عددِهِم وعُدَّتِهِم بالنّسبةِ إلى جيوشِ سائرِ الأقاليمِ من الرّومِ والفرسِ والتُّركِ والبَرْبَرِ وغيرِهم، فقهَروا الجميعَ حتَّى عَلتْ كلمةُ اللهِ، وظهرَ دينُه على سائرِ الأديانِ وامتدَّتِ الممالكُ الإسلاميَّةُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها في أقلَّ من ثلاثين عاماً.
قولُه: ( على الدِّينِ كلِّه ): أي على سائرِ الأديانِ، كما ثبتَ في الصَّحيحِ مِن حديثِ ثَوْبانَ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإَنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا )). وما في هذا لحديثِ أخبَر بهِ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوَّلِّ الأمرِ, وأصحابُه في غايةِ القلَّةِ قبلَ فتحِ مكةَ فكانَ كما أخبرَ فَإِنَّ مُلكَهُم انتشرَ في المشرقِ والمغربِ ما بينَ أرضِ الهندِ أقصى المشرقِ إلى بحرِ طنجَةَ في المغربِ، حيث لا عِمارةَ وراءَه وذلك مالم تَمْلِكْهُ أمَّةٌ من الأممِ، وفي حديثِ جابرٍ: (( إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ )) أخرجاه في الصَّحيحينِ.
قولُه: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ): أي شاهداً أَنَّه رسولُه، وهو ناصِرُه ومُعلِيهِ، وَكَفى بِشَهادَتِهِ سُبحانَهُ إثباتاً لصدقِه، وكفى باللهِ شهيداً أي في علمِهِ، واطّلاعِه على أمرِ مُحمَّدٍ، كفايةً في صدقِ هذا المخبِرِ عنهُ، إذ لو كان مُفْتَرِياً لَعاجَلَه بالعقوبةِ البليغةِ، كما قالَ تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ) الآيةَ.
ومن أسمائهِ سبحانَه الشَّهيدُ، قالَ اللهُ تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي أَنَّه لا يغيبُ عنه شيءٌ، ولا يعْزُبُ عنه، بل هو مُطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ مُشاهِدٌ له عليمٌ بتفاصيلِه، فشهِدَ سبحانَهُ لرسولِه أنَّ ما جاء به حقٌّ وصدقٌ، فلا يليقُ به سبحانه أن يُقِرَّ من يكذبُ عليه أعظمَ الكذبِ، ويخبرُ عنهُ بخلافِ ما الأمرُ عليه ثمَّ ينصرَهُ, ويؤيِّدُه, ويُعْليَ شأنَه، ويجيبَ دعوتَه، ويُظهِرَ على دينِهِ من الآياتِ والبراهينِ ما يعجَزُ عن مثلِهِ قُوَى البشرِ، وهو مع ذلك كاذبٌ عليه ومُفترٍ، ومعلومٌ أنَّ شهادتَهُ سبحانَهُ على كلِّ شيءٍ، واطّلاعَه وقدرتَهُ وحكمتَهُ وعزَّتَهُ وكمالَهُ يَأبى ذلك أشدَّ الإباءِ، ومَن جَوَّزَ ذلك فهو مِنْ أبعدِ النَّاسِ عن معرفتِه سُبحانه. انتهى من كلامِ ابنِ القيّمِ رحمهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى باختصارٍ.(1/2)
( وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ) (1)
__________
(1) قولُه: ( أشهدُ ): أي أُقِرُّ وأَعترفُ أنْ لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ إلا اللهُ، وتأتي ( شَهِدَ ) بمعنى أخبرَ كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: (( شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُم عِنْدِي عُمَرُ )) أي: أخبرني، وتأتي بمعنى حَضَرَ، كما في قولِه سبحانَهُ: (فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي حضَرَ، وتأتي بمعنى اطّلعَ كما في قولِهِ سبحانَهُ: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي مُطَّلِعٌ. أفاده ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابِه (( بدائعُ الفوائدِ )).
قولُه: (أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ): أنْ مُخَفَّفةٌ من الثَّقيلةِ.
قولُه: (لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ) أي لا معبودَ بحقٍّ في الوجودِ إلا اللهُ سُبحانَهُ، وهذا معنى هذه الكلمةِ العظيمةِ الَّتي تدلُّ عليه الأدلَّةُ، خلافاً لمن زَعِمَ أنّ معناها القدرةُ على الاختراعِ، كما يقولُه الأشاعِرةُ، فإنَّ المشركين الَّذين بُعِثَ إليهم الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِرُّون بأنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ المحيي المميتُ المدبِّرُ لجميعِ الأمرِ ولم يُدخِلْهم ذلكَ في الإسلامِ، بل قاتلَهُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستحلَّ دماءَهم وأموالَهم، ولمَّا قالَ لَهم رسولُ اللهِ: اعبدوا اللهَ واتركوا ما كانَ يَعبُدُ آباؤُكم، قولُوا لا إلهَ إلا اللهُ، أنكروا ذلك ونَفَروا، وقالوا: أجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً، فدلَّ على أَنَّ معنى هذه الكلمةِ هو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وتركُ عبادةِ ما سواه.
وهذه الكلمةُ هي أوَّلُ واجبٍ وأعظمُ واجبٍ على الإطلاقِ، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمعاذٍ حينَ بعثَهُ إلى اليمنِ (( فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ )) وفي روايةٍ (( إِلى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ )) فدلَّ على أنَّ التَّوحيدَ هو أولُ واجبٍ على العبادِ، خلافاً لمن زَعَمَ أَنَّ أولَ واجبٍ معرفةُ اللهِ بالنَّظرِ أو القصدِ إلى النَّظرِ أو الشّكِّ كما هي أقوالٌ لأهلِ الكلامِ المذمومِ، فإِنَّ معرفَةَ اللهِ فِطْريَّةٌ فطرَ اللهُ عليها عبادَه، قالَ تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي أفي وجودِهِ شكٌّ؟، فإنَّ الفِطَرَ شاهدةٌ بوجودِه مجبولةٌ على الإقرارِ بِه، فإنَّ الاعترافَ به ضروريٌّ في الفِطَرِ السّليمةِ كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ )).
وَلهذه الكلمةِ أركانٌ وشروطٌ إلى غيرِ ذلك من الأبحاثِ المتعلّقةِ ِبهذه الكلمةِ العظيمةِ.
فأركانُ لا إلهَ إلا اللهُ اثنان: النَّفيُ، والإثباتُ، فـ ( لا إلهَ ) نافياً لجميعِ المعبوداتِ، و ( إلا اللهُ ) مثبِتاً العبادةَ للهِ سُبحانَهُ، وشروطُهما سبعةٌ: العلمُ، واليقينُ، والإخلاصُ، والصّدقُ، والمحبَّةُ، والانقيادُ، والقبولُ، ونَظَمَها بعضُهم بقولِه:-
علمٌ يَقينٌ وإخلاصٌ وَصِدْقُكَ معْ محبّةٍ وانقيادٍ والقَبولِ لها
وَزِيدَ ثامِنُها الكُفرانُ مِنْكَ بما غيرُ الإلهِ من الأوثانِ قَدْ أُلِّها
وتحقيقُها أَنْ لا يُعبدَ إلا اللهُ, كما أَنَّ تحقيقَ شهادةِ أَنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ أَنْ لا يُعبدَ اللهُ إلا بما شرعَ.
وحقُّ هذه الكلمةِ هو فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرَّماتِ، وأَمّا فائدتُها وثمرتُها فسعادةُ الدَّارين لِمن قالَها عارِفاً بمعنَاها، عامِلاً بمقتضاها، وأمَّا مجرَّدُ النُّطقِ بِها فقط فإنّهُ لا ينفعُ.
قالَ الشَّيخُ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى: مَنِ اعتقدَ أَنَّه بِمُجَرَّدِ تلفُّظِهِ بِالشهادةِ يدخلُ الجنَّةَ ولا يدخلُ النَّارَ فهوَ ضالٌّ مخالِفٌ للكتابِ والسُّنّةِ والإجماعِ".
وأمَّا فضلُها فقد تكاثرتِ الأحاديثُ في فضلِ هذه الكلمةِ. منها حديثُ عبادَةَ بنِ الصَّامتِ المتّفقُ عليه أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ )). وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئاً أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. الحديثَ".
وفي هذا الحديثِ وغيرِه ردٌّ على من زَعَمَ أَنَّ الذِّكرَ بالاسمِ المفردِ ( اللهُ ) أفضلُ من الذكرِ بالجملةِ المركَّبةِ، كقولِه: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ وهذا فاسدٌ، فإنَّ الذِّكرَ بالاسمِ المفردِ غيرُ مشروعٍ أصلاً، ولا مفيدٍ شيئاً، ولا هو كلامٌ، ولا يدلُّ على مدحٍ ولا تعظيمٍ، ولا يتعلَّقُ به إيمانٌ ولا ثوابٌ، ولا يدخُلُ الذَّاكرُ بهِ عقدَ الإسلامِ جُمْلَةً، فلو قالَ الكافرُ: ( اللهََ اللهَ ) طولَ عُمُرِهِ لم يصِرْ بذلك مسلماً، فضلاً أَنْ يكونَ مِنْ جُملةِ الذِّكرِ، أو يكونَ أفضلَ الأذكارِ، إلى آخرِ ما ذكرهُ ابنُ القَيِّمِ - رحمهُ اللهُ - في كتابهِ (( سَفَرُ الهِجْرَتَيْنِ )).
وأمَّا نواقضُ لا إلهَ إلا اللهُ فكثيرةٌ جدًّا، ذكرَها العلماءُ في بابِ حُكمِ المُرتدِّ، وأعظمُها الشّركُ باللهِ.
وأمَّا إعرابُ هذه الكلمةِ: فـ ( لا ) نافيةٌ للجنسِ تعملُ عملَ إنَّ ( وإلهَ ) اسمُها مبنيٌّ معها على الفتحِ، وخبرُها محذوفٌ، والتَّقديرُ "حقٌّ" و ( إلاّ ) أداةُ استثناءٍ ملغاةٌ, ولفظُ الجلالةِ مرفوعٌ على البَدَلِيَّةِ.
وأمَّا دَلالتُها على التَّوحيدِ فإنَّها دلَّتْ على أنواعِ التَّوحيدِ الثّلاثةِ، فدلَّتْ على إثباتِ العبادةِ للهِ ونفيِها عَمَّنْ سواهُ، كما دلَّتْ أيضاً على توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإنَّ العاجزَ لا يَصْلُحُ إلهاً، ودلَّتْ على توحيدِ الأسماءِ والصّفاتِ، فإنَّ مَسْلُوبَ الأسماءِ والصّفاتِ ليس بشيءٍ، بل هو عدمٌ مَحْضٌ، كما قالَ بعضُ العلماءِ: المُشَبِّهُ يَعْبُد صَنَماً، والمُعَطِّلُ يعبد عَدَماً، والمُوَحِّدُ يعبدُ إِلهَ الأرضِ والسَّماءِ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ: وشهادةُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ فيها الإِلَهِيَّاتُ، وهي الأصولُ الثَّلاثةُ: توحيدُ الرُّبوبيّةِ، وتوحيدُ الألوهيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ. وهذه الأصولُ الثَّلاثةُ تدورُ عليها أديانُ الرّسلِ وما أُنزِلَ إليهم، وهي الأصولُ الكبارُ الَّتي دلَّتْ عليها وشهدَتْ بها العقولُ والفِطَرُ".(1/3)
(وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ إِقْرَاراً بِه وتَوْحِيداً ) (1)
__________
(1) قولُه: ( وحدَهُ ): فيه تأكيدٌ للإثباتِ. وقولُهُ: ( لا شريكَ لهُ ): تأكيدٌ للنَّفيِ.
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ: تأكيدٌ بعدَ تأكيدٍ؛ اهتماماً ِبمَقَامِ التَّوحيدِ.
وقولُهُ: ( إقراراً به ): أي اعترافاً. وقولُه: ( وتوحيداً ): مصدرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيداً، أي: جعَلَهُ واحداً، أي فَرْداً، فهو بالعبادةِ مع اعتقادِ وحدتِه ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، وسُمِّي دينُ الإسلامِ توحيداً؛ لأنَّ مبناهُ على أَنَّ اللهَ واحدٌ في ملكِه وأفعالِه، وواحدٌ في ذاتِهِ وصفاتِه لا نظيرَ له، وواحدٌ في ألوهيّتهِ وعبادتهِ لا نِدَّ له، وإلى هذه الأنواعِ الثَّلاثةِ ينقسمُ توحيدُ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وهذه الثَّلاثةُ مُتَلازِمَةٌ, كلُّ نوعٍ منها لا يَنْفَكُّ عن الآخرِ.
فتوحيدُ الرُّبوبيَّةِ: هو الإقرارُ بأَنَّ اللهَ هو الخالقُ الرَّازقُ المُحْيي المميتُ المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، وهذا النَّوعُ من التَّوحيدِ أَقرَّ بهِ المشركونَ ولم يُدْخِلْهُم إقرارُهم به في الإسلامِ.
النَّوعُ الثَّاني: توحيدُ الألوهيَّةِ: وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ، وهذا النَّوعُ هو الَّذي فيه الخُصُومَةُ بين الأنبياءِ وأممِهم.
النَّوعُ الثَّالثُ: توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ: وهو أَنْ يُوصَفَ اللهُ بما وصفَ به نفسَهُ وبما وصفَهُ بهِ رسولُه من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وإنْ شئْتَ قلتَ: التَّوحيدُ ينقسمُ إلى قسمينِ كما ذكرهُ ابنُ القيّمِ في (( النُّونيَّةِ )).
( أحدِهما ): التَّوحيدُ الفِعليُّ، وهو المسمَّى بتوحيدِ الألوهيَّةِ، سُمّيَ فِعْليّاً: لأنَّه مُتَضمِّنٌ لأفعالِ القلوبِ والجوارحِ، فأفعالُ القلوبِ كالرَّجاءِ، والخوفِ، والمحبَّةِ، والجوارحِ: كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والحجِّ، ونحوِ ذلك، فهو إفرادُ اللهِ بأفعالِ العبيدِ.
( النَّوعِ الثَّاني ): التَّوحيدُ القوليُّ الاعتقاديُّ، سمّيَ بذلك لاشتمالهِ على أقوالِ القلوبِ، وهو اعترافُها واعتقادُها، وعلى أقوالِ اللسانِ، وهذا النَّوعُ هو المسمَّى توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وتوحيدُ الرّبوبيَّةِ.
والتَّوحيدُ القوليُّ ينقسمُ إلى قسمينِ: الأوَّلِ: النَّفيُ. والثَّاني: الإثباتُ.
فالنَّفيُ ينقسمُ إلى قسمينِ: ( الأوَّلِ ): نفىُ النَّقَائِصِ والعُيوبِ عن اللهِ.
( والثَّاني ): نفيُ التَّشبيهِ والتَّعطيلِ عن أسمائهِ وصفاتِه.
والثَّاني: الإثباتُ: وهو إثباتُ صفاتِ الكمالِ للهِ، ثمَّ السَّلْبُ أيضاً ينقسمُ إلى قسمينِ: الأوَّلِ: سَلْبٌ مُتَّصِلٌ. والثَّاني: سَلْبٌ مُنْفَصِلٌ، فالأوَّلُ نفيُ ما يُنَاقِضُ ما وَصَفَ به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه من كلِّ ما يُضادُّ الصّفاتِ الكاملةَ من النَّقائصِ والعيوبِ؛ كالموتِ والإِعْيَاءِ والنَّومِ والنُّعاسِ والجهلِ والعجزِ، ونحوِ ذلك. والثَّاني سلبٌ منفصل,ٌ وهو تَنْزِيهُهُ سبحانَهُ عن أَنْ يشارِكَهُ في خصائِصه الَّتي لا تكونُ لغيرِه، كالشَّريكِ، والظَّهِيرِ، والشَّفيعِ بِغيرِ إذنِه، ونفيِ الزَّوجةِ والولدِ ونحوِ ذلك.
وأَمَّا ضدُّ التَّوحيدِ: فتوحيدُ الرّبوبيَّةِضدُّه اعْتقَادُ مُدَبِّرٍ أو خالقٍ مع اللهِ سبحانه وتعالى، وضدُّ توحيدِ الألوهيّةِ هو الإعراضُ عن عبادتِهِ، أو عبادةُ غيرهِ معَهُ، وضدُّ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ شيئان: التَّشبيهُ، والتَّعطيلُ.(1/4)
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ (1)
__________
(1) قولهُ: ( محمَّدٌ ): هذا أحدُ أسمائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيلَ: سُمِّيَ به؛ لكَثرةِ خِصَالِهِ الحَمِيدَةِ، وهو اسمهُ الَّذي في التَّوراةِ، وأمَّا اسمُه أحمدُ فهو الذي بَشَّرَ به المسيحُ عليه السَّلامُ كما قال سبحانه وتعالى: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الآية.
قولُه: ( عبدُه ): أضافَه إِليه إِضافَةَ تشريفٍ وتعظيمٍ، وَوَصْفُهُ بالعبوديّةِ بأشرفِ أحوالِهِ، مقامُ الإرسالِ والإسراءِ والتّحدِّي، ومعنى العبدِ هنا: المملوكُ العابدُ، والعبوديَّةُ الخاصّةُ وصفُه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال سبحانه وتعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وأعلى مراتبِ العبدِ العبوديّةُ الخاصّةُ والرِّسالةُ، والنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملُ الخلقِ في هاتينِ الصّفتينِ الشَّريفتينِ، وأمَّا الرّبوبيَّةُ والألوهيَّةُ فهما حقٌّ للهِ لا يَشْرَكُهُ فيهما أحدٌ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مرسَلٌ، فضلاً عن غيرِهما.
وفي قولِه: ( عبدُه ورسولُه ): إشارةٌ للرّدِّ على أهلِ الإِفْرَاطِ والتَّفريطِ، أهلِ الإفراطِ الَّذين غَلَوا فيهِ ورفعوُهُ عن مَنْزِلَتِهِ، وارتكبوا ما نهاهمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغُلُوِّ. وأهلُ التفريطِ الَّذين يشهدون أَنّه رسولُ اللهِ حقّاً وهم مع ذلك قد نَبَذُوا ما جاءَ به وراءَ ظهورِهم، واعتمدوا على الآراءِ المُخَالفةِ لما جاءَ بهِ، فإنَّ شهادةَ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ تقتضي الإيمانَ به، وطاعتَه فيما أمرَ وتصديقَهُ فيما أخبرَ، فما أثبتهُ وَجَبَ إثباتُه، وما نَفاهُ وَجَبَ نَفيُه، فشهادةُ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ كما تقتضي الإيمانَ بهِ تقتضي الإيمانَ بجميعِ الرّسلِ؛ لما بينهُما من التَّلازُمِ، وكذلك الكتُبُ الَّتي جاءَتْ بها الرُّسلُ.(1/5)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً مَزِيداً
[ أَمَّا بَعْدُ؛ فهذا اعْتِقادُ ] الفِرقَةِ النَّاجِيَةِ (1)
__________
(1) قولُه: ( وصلَّى اللهُ على نبِيِّنَا ): صلاةُ اللهِ على عبدِهِ: هو ثَنَاؤُهُ في الملأِ الأعلى، كما ذكره البخاريُّ في صحيحِه عن أبي العَالِيَةِ، وقيلَ: الرَّحمةُ، والصَّوابُ الأولُ لوجوهٍ عديدةٍ ذكَرها ابنُ القيّمِ في (( بَدَائِعِ الفَوَائِدِ ))، و(( جَلاَءِ الأَفْهَامِ )).
قولُه: ( وعلى آلهِ ): أي أَتباعِهِ على دينِه، كما هو روايةٌ عن أحمدَ، وعليه أكثرُ الأصحابِ، وعلى هذا فيشملُ الصّحابةَ وغيرَهُم مِنَ المؤمنين.
قولُه: ( وسلَّمَ ): السَّلامُ بمعنى التّحيّةِ أو السّلامةِ من النّقائصِ والرَّذَائِلِ، ومن أسمائهِ سبحانَهُ: السّلامُ لسلامتِه من النّقائصِ والعيوبِ، كما قالَ ابنُ القيمِ في (( النُونيَّةِ )):
وَهُوَ السَّلامُ عَلَى الحَقِيقَةِ سَالِمٌ مِنْ كُلِّ مَا عِيبَ وَمِنْ نُقْصَانِ
وجمعَ المصنِّفُ بين الصَّلاةِ والسَّلامِ امتِثالاً لقولِه سبحانهُ وتعالى: (صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ).
قولُه: ( مزيداً ): أي زائداً من الزِّيادة وهي النّموُّ.
قولُه: ( أمَّا بعدُ ): هذه الكلمةُ يُؤْتَى بها للانتقالِ من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ آخرَ، ويُنْدَبُ الإِتيَانُ بها: في الخُطَبِ، والُمكَاتَبَاتِ، كما كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأْتي بها في خُطبِهِ ومُكَاتَبَاتِهِ، رواه عبدُ القاهرِ الرَّهَاوِيُّ في الأربعينَ له، عن أربعينَ صحابيّاً.
قولُه: ( اعتقادُ ): الاعتقادُ لغةً الرَّبْطُ والجَزْمُ، اعْتَقَدْتُ كَذَا عَقَدْتُ عليه القلبَ والضَّميرَ. انتهى مصباحٌ. وعَرَّفه بعضُهم اصطلاحاً بقولهِ: هو حُكْمُ الذِّهنِ الَجازِمِ، فإن طابقَ فصحيحٌ وإلا ففاسدٌ.
قولُه: ( الفرقةِ ): أي الطّائفةِ والجماعةِ، وأمَّا الفُرقةُ بالضّمِّ فمعناه الافتراقُ.
قولُه: ( النَّاجيةَِ ): أي الَّتي سَلِمَتْ من الهلاكِ والشّرورِ في الدّنيا والآخرةِ.
وحصلتْ على السّعادةِ بِسببِ استقامتِها على الحقِّ، وتمسُّكِها بما كان عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابُه، كما في حديثِ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((افْتَرَقَتِ اليَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثنتين وسبعينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتِ النَّصارى عَلَى إِحْدَى أَو ثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً )) رواهُ أبو داودَ، والتّرمذيُّ، وابنُ ماجه، وحديثُ ابنِ ماجه مختصرٌ، وقالَ التّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وعن معاويةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنَّه قال: ألا إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قامَ فينا فقالَ: (( إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثنتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ الأُمَّةَ ستفترِقُ عَلَى ثَلاثٍٍ وَسَبْعِينَ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ وهي الجَمَاعَةُ )) رواهُ أبو داودَ، وفي روايةِ التّرمذيِّ (( كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً )) قَالُوا: مَنْ هي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: (( مَنْ كانَ عَلَى مِثْلِ ما أنا علَيه اليومَ وَأَصْحَابِي )) وقالَ: هذا حديثٌ غريبٌ مُفَِّسرٌ لا نعرفهُ إلا مِنْ هذا الوجهِ.
وقد أخطأ بعضُهم في تعريفِ الفرقةِ الناجيةِ أنَّها: أهلُ الحديثِ، والأَشْعَرِيَّةِ، والمَاتُرِيدِيَّةِ، فإنَّ لفظَ الحديثِ يَرُدُّ ذلك، فإنَّ قولَهُ: ( وَاحِدَةً ) يُنافي التّعدُّدَ، فتعيَّنَ أنْ تكونَ الفرقةُ النّاجيةُ هم أهلَ الحديثِ فقط، وهم أهلُ السّنَّةِ والجماعةِ.(1/6)
المَنْصُورَةِ (1)
__________
(1) قولُه: ( المنصورةِ ): أي الَّتي أعانها سبحانَه وأيَّدها وقَوَّاها على مَنْ خَالَفَها وعَاداها، وجعلَ العاقبةَ لها لِتَمَسُّكِها بما كانَ عليه الرَّسولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ المغيرةِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ )) وفي حديثِ جابرِ بنِ سَمُرَةَ وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ )) رواه مسلمٌ وغيرُهُ.
قالَ البخاريُّ وغيرُه: هذه الطَّائفةُ هم أهلُ العلمِ. وقال أحمدُ: إنْ لم يكونوا أهلَ الحديثِ فلا أدري من هم، وكذا قالَ يزيدُ بنُ هارونَ قالَ: قال القاضي عِيَاضٌ: إنَّما أرادَ أحمدُ أهلَ السّنّةِ والجماعةِ ومَنْ يَعْتقدُ مذهبَ أهلِ الحديث.
ففيهِ أعظمُ بِشارةٍ أَنَّ الحقَّ لا يزولُ بِالكُلِّيَّةِ, وفيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنَّه لم يَزَلْ وللهِ الحمدُ هذا الوصفُ باقياً ولا يزالُ، وهذه سنّةُ اللهِ في خلقهِ أَنَّه ينصرُ عبادَه المؤمنين، كما قالَ سبحانَه: ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) وفي صحيحٍ البخاريِّ من حديثِ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (( قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وليّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالحَرْبِ )) ولهذا أهلَكَ اللهُ قومَ نوحٍ، وعاداً، وثمودَ، وأشباهَهم ممن كذَّبَ الرّسلَ، وأنْجى عبادَهُ المؤمنين، وهكذا نصرَ اللهُ نبيَّه محمّداً وأصحابَه على من خالفَهُ وناوَأَهُ وعاداه، فجعل كلمتَهُ العليا، ودينَهُ الظاهرَ على سائرِ الأديانِ، وفتحَ اللهُ عليه مكَّةَ واليمنَ، ودانتْ له جزيرةُ العربِ بِكمالِها وأقامَ اللهُ أصحابَه وخلفاءَه من بعدِه فَبَلَّغُوا عنه دينَ اللهِ، ودَعوْا إلى اللهِ، وفتَحوا البلادَ والأقاليمَ حتَّى انتشرتِ الدَّعوةُ المحمّديّةُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِهَا، ثمَّ لا يزالُ هذا الدِّينُ قائماً منصوراً إلى قيامِ السّاعةِ، كما قالَ اللهُ سبحانه: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) أي يومَ القيامةِ تكونُ النُّصرةُ أعظمَ وأجلَّ.
وعن أبي عُتبةَ الخولانِيِّ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: (( لاَ يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْساً يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ )) رواه ابنُ ماجةَ.
نقلَ نعيمُ بنُ طريفٍ رحمَهُ اللهُ عن أحمدَ أنَّه قالَ: هم أصحابُ الحديثِ، وفي السُنَنِ (( إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )) وقال عَليٌّ رَضِي اللهُ عَنْهُ: لن تخلوَ الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجَّتِه.(1/7)
إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ (1)
__________
(1) قولُه: ( إلى قيامِ السَّاعةِ ): أي ساعةِ موتِهم بمجيءِ الرِّيحِ الَّتي تَقْبِضُ رُوحَ كلِّ مؤمنٍ وهي السَّاعةُ في حقِّ المؤمنين وإلا فالسَّاعةُ لا تقومُ إلا على شِرارِ الخلقِ كما في صحيحٍ مسلمٍ: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ اللهَ اللهَ)) والمُرادُ بالرِّيحِ ما روَى الحاكمُ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمروٍ قال: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الخَلْقِ، هُمْ شَرُّ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ )) وقال عقبةُ لعبدِ اللهِ: اعلمْ ما تقولُ، وأَمَّا أَنَا فسمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ علَيه وَسَلَّمَ يقولُ: (( لاَ تَزَالُ عِصابةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ))، قال عبدُ اللهِ: ويبعثُ اللهُ ريحاً ريحُها ريحُ المسكِ ومَسُّها مَسُّ الحريرِ فلا تتركُ أحداً في قلبِهِ مثقالُ ذرّةٍ من إيمانٍ إلا قبضتهُ ثمَّ يبقى شِرارُ النَّاسِ فعليهم تقومُ السَّاعةُ.(1/8)
أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ (1)
__________
(1) وقولُه: ( أهلُ السّنّةِ ): أي المُخْتَصُّون والمُتَمسِّكون بها والمُعْتنون بدراستِها وفَهْمِها، الُمحَكِّمُون لها في القليلِ والكثيرِ، والسّنّةُ لغةً: الطّريقةُ، وشرعاً: هي أقوالُ النَّبيِّ وأفعالهُ وتَقْرِيرَاتُه، وسُمّوا أهلَ السّنّةِ لانْتِسَاِبِهم لسنَّتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دونَ المقالاتِ كلِّها والمذاهبِ، وقد سُئِل بعضُهُم عن أهلِ السّنّةِ فقال ما لا اسمَ له سوى السّنّةِ، يعني أَنَّ أهلَ السُّنةِ ليس لهم اسمٌ ينتسبون إليه سِواهَا خلافاً لأهلِ البدعِ، فإنَّهم تارةً ينتسبون إلى المَقَالَةِ كالْقَدَرِيَّةِ والمُرْجِئَةِ، وتارةً إلى القَائِل كَالْجَهْمِيَّةِ والنَّجَّاريَّةِ، وتارةً إلى الفعلِ كالرَّوَافِضِ والْخَوارِجِ، وأهلُ السّنّةِ بريئون من هذه النِّسَبِ كلِّها، وإنَّما نسبتُهُم إلى الحديثِ والسّنّةِ.
قوله: ( والجماعةُ ): لغةً: الفِرقةُ من النّاسِ، والمرادُ بهم هنا أصحابُ النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامةِ، وقد تكاثرتِ الأدلَّةُ في الحثِّ على لزومِ الجماعةِ فروَى التِّرْمِذِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعاً: (( إِنَّ يَدَ اللهِ عَلىَ الْجَمَاعَةِ))، وعن أبي ذَرٍّ مرفوعاً: (( عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْمَعْ أُمَّتِي إِلاَّ عَلَى هُدًى )) رواه أحمدُ. وعن أبي ذَرٍّ مرفوعاً: (( مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَقَدْ خَلَعَ ربقةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عنقِهِ )) رواه أحمدُ وأبو داودَ.
قال أبو محمّدٍ عبدُ الرَّحمنِ بنُ إسماعيلَ المعروفُ بأبي شَامَةَ في كتابِ (( البَاعِثُ عَلى إِنْكَارِ الْبِدَعِ وَالحَوَادِثِ )) حيث جاء الأمرُ بلزومِ الجماعةِ، فإنّ المرادَ بها لزومُ الحقِّ، وإنْ كانَ المُتَمَسِّكُ به قليلاً والمُخَالِفُ له كثيراً؛ لأنَّ الحقَّ هو الذي كانَتْ عليه الجماعةُ الأولى من عهدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نظرَ إلى كثرةِ أهلِ الباطل بعدَهم، وقال مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ: قال ابنُ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: الجَمَاعَةُ ما وَافَقَ الحَقَّ وإن كنتَ وَحْدَكَ. وقال نعيمُ بنُ حَمَّادٍ: إذا فَسَدَتِ الجماعة فعليكَ بما كانَتْ عليه الجماعةُ قبلَ أن تفسدَ وإن كنتَ وحدك، فإنَّكَ أنتَ الجماعةُ حينئذٍ، ذكره البَيْهَقِيُّ وغيرُهُ.
قال ابنُ القيّمِ في كتابِه (( أَعْلاَمُ المُوَقِّعِينَ )): واعلمْ أَنَّ الإجماعَ والحُجَّةَ والسَّوَادَ الأعظمَ هو العَالِمُ صاحبُ الحقِّ وإنْ كانَ وحدَه، وإنْ خالفَه أهلُ الأرضِ، وقد شَذَّ النَّاسُ كلُّهم زمنَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ إلا نفراً يسيراً فكانوا همُ الجماعةَ، وكانَ الفقهاءُ والمفتونُ والخليفةُ وأتباعهُ هم الشَّاذّين، وكانَ الإمامُ أحمدُ وحدَه هو الجماعةَ، ولمَّا لم يَتَحَمَّلْ هذا عقولُ النّاسِ قالوا للخليفةِ: يا أميرَ المؤمنين تكونُ أنتَ وقُضَاتُكَ وَوُلاتُكَ والفقهاءُ والمفتون كلُّهم على الباطلِ، وأحمدُ وحدَه على الحقِّ، فلم يَتَّسِعْ علمُه لذلك، فَأَخَذَهُ بالسِّياطِ والعُقوبةِ بعد الحبسِ الطَّويلِ، فلا إلهَ إلا اللهُ ما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ، وهي السبيلُ المُهيعُ لأهلِ السُّنةِ والجماعةِ حتَّى يَلْقَوْا ربَّهُم، مضَى عليها سَلَفُهم وينتظرُها خَلَفُهُم (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ. انتهى بِتَصَرُّفٍ.
ذكرَ المصنِّفُ رحمهُ اللهُ أَنَّ الاعتقادَ النَّافعَ المنجِّيَ من الشّرورِ الَّذي هو سببُ العزّةِ والنَّصرِ والتَّأييدِ والرِّفْعةِ والشّرفِ هو الاعتقادُ المأخوذُ من الكتابِ والسّنّةِ، وهو الَّذي عليه الصَّحابةُ وتابعوهم بإحسانٍ، وأصلُه الَّذي يُبْنىَ عليه هو هذه الأصولُ السّتّةُ المذكورةُ في حديثِ جبريلَ، في هذه الرّسالةِ من أوَّلِها إلى آخرِهَا، تفصيلٌ لهذه الأصولِ السّتّةِ المذكورةِ في هذا الحديثِ وغيرِهِ من الآياتِ، قال تعالى: (آمَن الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ) الآية، وقال: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) الآية، وهذه الأصولُ السّتّةُ اتَّفقَتْ عليها الأنبياءُ والمرسلون عليهمُ الصّلاةُ والسّلامُ، ولم يؤمنْ بها حقيقةَ الإيمانِ إلا أتباعُ الرّسلِ، وأمَّا أعداؤهم ومن سلكَ سبيلَهُم من الفلاسفةِ وأهلِ البدعِ فهم مُتَفَاوِتُون في جَحْدِها وإنكارِها.(1/9)
وهُوَ الإِيمانُ باللهِ (1)
ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ (2)
__________
(1) قولُه: ( الإيمانُ باللهِ ): الإيمانُ معناه لغةً: التَّصْدِيقُ، قال اللهُ سبحانَه وتعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ) أي مصدِّقٍ، وكذلك إذا أُقْرِنَ العَملُ فمعناه التَّصديقُ، قالَ اللهُ: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ).
أمَّا الإيمانُ في الشَّرعِ: فهو قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، وذكرَ بعضُهم إجماعَ السّلفِ على ذلك، ومعنى الإيمانِ باللهِ: إثباتُ وجودهِ سبحانه وأنَّه مُتَّصِفٌ بصفاتِ الجلالِ والعظمةِ والكمالِ، مُنَزَّهٌ من كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وأنّه مستحقٌّ للعبادةِ لا إلهَ غيرُه ولا ربَّ سواه.
(2) قولُه: ( وملائكتِه ): أي التَّصديقُ بِوُجُودِهِمْ وأنَّهم كما وصفَهم اللهُ سبحانَه وتعالى: (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلونَ ) فيجبُ الإيمانُ بهم إِجْمَالاً فيما لم نَعْلَمْهُ تَفْصِيلاً، أمَّا مَنْ عُلِمَ عَينُه كجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافِيلَ ونحوِهِم فيجبُ الإيمانُ بِأَعْيَانِهِمْ.
أمَّا عددُهم فلا يعلمُه إلا اللهُ، وقد دلَّ الكتابُ والسُّنَّةُ على أصنافِ الملائكةِ، وأنّها مُوَكَّلةٌ بأصنافِ المخلوقاتِ: منهم مُوَكَّلون بالسَّحابِ والمطرِ، ومنهم موكَّلون بالأرحامِ، ومِنهم موكَّلون بحفظِ بني آدمَ، ومنهم موكَّلون بحفظِ ما يعملُهُ وِإحْصَائِه وكتابتِه، ومنهم الموكَّلونَ بالموتِ والسّؤالِ في القبِرِ، إلى غيِرِ ذلك من أصنافِ الملائكةِ ممَّا لا يعلمهُ إلا اللهُ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) وممَّا تقدَّم يُعلَمُ بطلانُ قولِ من قالَ: إِنَّ الملائكةَ لا عقولَ لهم، فقد تقدَّم أَنَّ منهم السُّفَرَاءَ بينَ اللهِ ورسلِه، والمُوَكَّلِيَن بِأَصْنَافِ المخلوقاتِ، إلى غيرِ ذلك ممَّا تواترتْ به الأدلَّةُ من صفاِتهم وما كلَّفهُم اللهُ به، وما جاءت به الأدلَّةُ من عبادِتهم العظيمةِ، وخوفِهم من اللهِ سبحانه وتعالى، فهل يُصَدِّقُ عاقلٌ أو من شَمَّ رائحةَ الإيمانِ بما زَعَمَهُ هذا السَّفِيهُ، لا شكَّ أنَّ هذا قولٌ باطلٌ مُصَادِمٌ لأدلَّةِ الكتابِ والسّنّةِ.
وقولُهُ: ( وكتبِه ): أي التّصديقُ بأنَّها كلامُ اللهِ، وأنَّها حقٌّ ونورٌ وهدًى فيجبُ الإيمانُ بما سمَّى اللهُ منها من التَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ، ونؤمنُ بأنَّ للهِ سِوَى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائِه لا يَعرِفُ أسماءَها وعددَها إلا اللهُ سبحانه، قال تعالى: (آمَن الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ) الآيةَ. وغيرَها من الآياتِ الدّالَّةِ على أنَّ اللهَ تكلَّمَ بها حقّاً، وأنَّها أُنْزِلَتْ من عِنْدِه، وفي ذلك إثباتُ صفةِ الكلامِ والعُلُوِّ: أمَّا الإيمانُ بالقرآنِ فَالإِقْرَارُ به، واتِّبَاعُ ما فيه وذلك أمرٌ زائدٌ على الإيمانِ بغيرهِ من الكتبِ.
قولُه: ( ورسلِه ): أي التَّصديقُ بأنّهم صادقون فيما أخْبَروا بهِ وأنَّهم بلَّغُوا الرّسالةَ وأَدَّوُا الأمانةَ وأنَّهم بيّنوا ما لا يَسَعُ أحداً ممَّن أُرسِلُوا إليهم جَهلُه ولا يَحِلُّ خِلافُه وأنَّه يجبُ احترامُهم وأَنْ لا يفرّقَ بينهم، فيجبُ الإيمانُ بمنْ سمَّى اللهُ في كتابِه من رسلِه وأَنَّ للهِ رسُلاً غيرَهم وأنبياءً لا يعلمُ عددَهم إلا اللهُ، فعلينا الإيمانُ بهم جُمْلَةً لأنّه لم يأتِ نصٌّ صحيحٌ في عددِهم، وقد قال تعالى: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) الآية، وقد سبقَ الكلامُ في هذا الموضوعِ.
فيجبُ الإيمانُ بجميعِ الأنبياءِ والمرسَلين، وتصديقُهم بكلِّ ما أَخْبَرُوا به من الغيبِ، وطاعتُهم في كلِّ ما أَمرُوا به ونَهُوا عنه، قال تعالى: (قولواْ آمَنّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ).
قال ابنُ رجبٍ رحمَهُ اللهُ تعالى: والإيمانُ بالرُّسُلِ يلزمُ منه الإيمانُ بجميعِ ما أَخْبَرُوا به من الملائكةِ والأنبياءِ والكتبِ والبعثِ والقَدَرِ وغيِرِ ذلك من صفاتِ اللهِ وصفاتِ اليومِ الآخرِ؛ كالصِّراطِ والميزانِ والجنّةِ والنّارِ ونحوِ ذلك.
وأفضلُ الخلقِ على الإطلاقِ نبيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأفضلُ بعدَه أُولوا الْعَزْمِ من الرّسلِ ثمَّ بَقِيَّةُ الرّسلِ ثمَّ الأنبياءُ، ولا يَبْلُغُ الوَلِيُّ مهما بَلَغَ من الجِدِّ والاجتهادِ في طاعةِ اللهِ درجةَ الأنبياءِ عليهم السّلامُ. وقد شَنَّعَ الشّيخُ تقيُّ الدّينِ رحمهُ اللهُ على من يزعُمُ ذلك وَرَدَّ عليه أَسوأَ رَدٍّ، وقال: إنّ ذلك مُخالفٌ لدينِ الإسلامِ واليهودِ والنّصارى.(1/10)
والبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، والإِيْمانِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، ومِنَ الإِيْمانِ باللهِ: الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ وَ وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
__________
(1) وأمَّا الكلامُ على قولِه: ( والبعثِ بعدَ الموتِ والإيمانِ بالقدرِ ) فسيأتي إنْ شاءَ اللهُ.
قولُه: ( ومن الإيمانِ باللهِ الإيمانُ بما وصفَ به نفسَهُ ): فمن جَحَدَ صفاتِ اللهِ سبحانه وتعالى فليسَ بمؤمنٍ، قال تعالى: (وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ) الآية، وكذلك من عطَّلَها أو شَبَّهَهَا بصفاتِ خلقِه، قال نعيمُ بنُ حَمَّادٍ: من شبَّه اللهَ بخلقِه كفرَ، ومن نفى ما وَصَفَ به نفسَه فقد كفرَ، وليسَ فيما وصفَ اللهُ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه تَشْبِيهاً وقال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في (( النُّونِيَّةِ )):
مَنْ شَبَّهَ اللهَ الْعَظِيمَ بِخَلْقِهِ فَهُوَالنَّسِيبُ لِمُشْرِكٍ نَصْرَاني
أَوْ عَطَّلَ الرَّحْمنَ مِنْ أْوصَافِهِ فَهُوَ الْكَفُورُ وَلَيْسَ ذَا إِيَمانِ
وفي قولهِ: ( بما وصفَ به نفسَهُ ووصفَهُ به رسولُه ): إثباتُ أنَّ صفاتِه سبحانَه وتعالى إنما تُتلقَّى من السَّمعِ لا بآراءِ الخلقِ، فصفاتُه سبحانَه مَبْنِيَّةٌ على التَّوْقِيفِ فلا يُوصَفُ إلا بما وَصَفَ به نفسَه أو وَصَفَهُ بِه رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أحمدُ رحمهُ اللهُ: لا يُوصفُ اللهُ إلا بما وصفَ به نفسَه، أو وصفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يتجاوَزُ القرآنَ والحديثُ.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ في البَدَائِعِ: ما يُطلَقُ عليه في بابِ الأسماءِ والصّفاتِ تَوْقِيفِيٌّ، وما يُطلقُ عليه في بابِ الأخبارِ لا يجبُ أَنْ يكونَ تَوْقِيفِيّاً كالشَّيءِ والموجودِ والقديمِ ونحوِ ذلك.
ذكَر المصنِّفُ رحمهُ اللهُ تعالى هذا الأصلَ العظيمَ في بابِ الأسماءِ والصّفاتِ، فَيُنَاسِبُ أن نَضُمَّ إليه عدّةَ أصولٍ مجموعةٍ من كتبِ المحقّقينَ لتكونَ كالمقدّمةِ.
أوَّلا: إنَّ أسماءَ اللهِ وصفاتِه غيرُ محصورةٍ بعددٍ معروفٍ، وأمَّا حديثُ (( إنَّ لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسماً مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجنَّةَ)) فليسَ فيه حَصْرٌ لها، وإنَّما غايةُ ما فيه: أنَّ هذه الأسماءَ مَوْصُوفَةٌ بأنَّ من أَحْصاها دخلَ الجنَّةَ، كما تقولُ عندي مائةُ عبدٍ عَدَدْتُهُمْ للجهادِ في سبيلِ اللهِ، فلا يُنافي أنّ لديك عبيداً غيرَهم أعْددتَهُم لغيرِ ذلك.
ثانياً: إنَّ الصّفاتِ تنقسمُ إلى قسمين:
القسمِ الأوّلِ: صفاتٌ ذَاتِيَّةٌ، وهي الَّتي لا تَنْفَكُّ عنه بِحَالٍ، كالغِنَى، والقدرةِ، والعُلوِّ، والرَّحمةِ، ونحوِ ذلك من الصّفاتِ الَّتي هي من لوازمِ ذاتِهِ.
القسمِ الثَّاني: صفاتٌ فعليّةٌ، وهي كلُّ صفةٍ تَعَلَّقَتْ بمشيئتهِ وإرادتهِ، ويُعَبَّرُ عنها بالأفعالِ الاختياريّةِ، كالاستواءِ والمَجِيءِ والنّزولِ ونحوِ ذلك.
ثالثاً: أركانُ الإيمانِ بالأسماءِ والصّفاتِ، الإيمانُ بالصّفةِ وما دلَّتْ عليه من المعنى وبما تعلَّقَ بها من الآثارِ، فَتُؤْمِنُ بأنّه عليمٌ، وذو علمٍ عظيمٍ، وأنَّه لا تَخْفَى عليه خَافِيةٌ.
رابعاً: ليسَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه نفيٌ مَحْضٌ، بل كلُّ نفيٍ وُجِدَ في أسماءِ الله وَصِفاتِه فهو لإثباتِ كمالٍ ضِدِّه، إذِ النَّفيُ المحضُ عَدَمٌ، والعدمُ ليس بشيءٍ، فضلاً عن أنْ يُمْدَحَ به، كما قالَ تعالى: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) أي لِكَمالِ عَدْلِهِ، (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا )، أي لكمالِ قوّتِه واقتدارِهِ.
خامساً: طريقةُ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ، هو الإجمالُ في النَّفيِ والتَّفصيلُ في الإثباتِ كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسّنّةُ، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) فَأَجْمَلَ في النّفيِ وَفصَّل في الإثباتِ، وهذا عكسُ ما عليه أهلُ البدعِ من الجَهْمِيَّةِ والمُعتزلَةِ وأشباهِهم فإنَّهم يُجْمِلون في الإثباتِ ويُفَصِّلون في النَّفي.
سادساً: أسماءُ اللهِ سبحانه وتعالى وصفاتُه هي بِالنَّظَرِ إلى الذَّاتِ من قبيلِ المترادفِ، وبالنّظرِ إلى الصّفاتِ من قَبِيلِ المُتبَايِنِ.
سابعاً: أسماءُ اللهِ سبحانَه وصفاتُه حقيقةٌ، وليستْ من قَبِيلِ الَمجازِ، خلافاً للمبتدعةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهِم، فعلى كلامِ هؤلاء لا يكونُ سبحانَه حيّاً حقيقةً، ولا مريداً حقيقةً، ولا قادراً، تعالى اللهُ عن قولِهِم، وهذا لازمٌ لكلِّ من ادّعى المجازَ في أسماءِ الرّبِّ وصفاتِه وأفعالِه لزوماً لا مَحِيدَ عنه، وكفى أصحابُ هذهِ المقالةِ كفراً.
ثامناً: أسماؤُه سبحانَه وتعالى تنقسمُ إلى قسمين: أَعْلاَمٌ، وأوصافٌ، والوصفيّةُ فيها لا تُنافي العلميَّةَ، بخلافِ أوصافِ العبادِ.
تاسعا: للاسمِ مِن أسمائِه ثلاثُ دلالاتٍ: دلالةٌ على الذّاتِ والاسمِ. بِالْمُطَابَقَةِ، وعلى أحدهِما بِالتَّضَمُّنِ، وعلى الصّفةِ الأخرى بالالتزامِ، مثالُه اسمُ السَّميعِ، يدلُّ على ذاتِ الرَّبِّ وسَمْعِهِ بالمطابقةِ، وعلى الذَّاتِ وحدَها والسّمعِ وحدَه بِالتَّضَمُّنِ، ويدلُّ على الحيِّ وصفةِ الحياةِ بالالتزامِ، وكذلك سائرُ أسمائهِ وصفاتهِ.
عاشراً: إذا كانتِ الصّفةُ منقسمةً إلى كمالٍ ونقصٍ لم تدخلْ بِمطلقِها في أسمائه سبحانه، بل يُطلَقُ عليه منها كمالُها كالمريدِ والصَّانعِ، فإِنَّ هذه الألفاظَ لا تدخلُ في أسمائِه، فإنَّ الصّنعَ والإرادةَ مُنقسمةٌ إلى محمودٍ ومذمومٍ.
الحاديَ عشرَ: لا يلزمُ من الإِخبارِ عنه بالفعلِ مُقَيَّداً أَنْ يُشتقَّ له منه اسمٌ مُطلقٌ، وقد غَلطَ من جعلَ من أسمائِه الَماكِرَ والفَاتِنَ والُمُضِلَّ، تَعالى اللهُ عن قَوْلِهم، ثمَّ إِنَّه على فَهْمِ هذا الغَاِلطِ أنْ يجعلَ من أسمائِه الجَائِيَ والغَضْبانَ ونحوَ ذلك من الأسماءِ الَّتي أُطلقَتْ عليه أفعالُها، وهذا لا يقولُه مسلمٌ ولا عاقلٌ، انتهى من كلامِ ابنِ القيِّمِ ملخصاً.
الثَّاني عشرَ: الأسماءُ والصّفاتُ الَّتي تستعملُ في حقِّ الخالقِ والمخلوقِ، كالعلمِ، والقدرةِ، والسّمعِ، والبصرِ، ونحوِ ذلكَ، هي حقيقةٌ في الخالقِ والمخلوقِ، خلافاً للجهميَّةِ.
قال ابنُ القيّمِ: وهذا قولُ عامَّةِ العقلاءِ وهو الصّوابُ.
الثَّالثَ عشرَ: أسماءُ اللهِ وصفاتُه من قبيلِ المُحْكمِ وليستْ من المتشابِه، فإنَّ معناها واضحٌ معروفٌ في لغةِ العربِ، وأمَّا الكُنْهُ والكَيْفِيَّةُ فهو ممَّا اسْتَأثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ.
الرَّابعَ عشرَ: لا يَلْزمُ من اتّحادِ الاسمينِ تماثلُ مُسَمَّاهُمَا، فإنَّ اللهَ سمَّى نفسَهُ بأسماءٍ تَسَمّى بها بعضُ خلقِه، وكذلك وصفَ نفسَه بصفاتٍ وُصِفَ بها بعضُ خلقِه، فلا يلزمُ من ذلك التَّشبيهُ، فقد وَصَفَ نَفْسَهُ بالسَّمعِ، والبصرِ، والعلمِ، والقدرةِ، وَوُصِفَ بذلك بعضُ خلقهِ، فليس السَّميعُ كالسَّميعِ، ولا البصيرُ كالبصيرِ، فصفاتُ كلِّ موصوفٍ تُناسِبُ ذاتَه وتليقُ به، ولا مُنَاسَبَةَ بين الخالقِ والمخلوقِ.
الخامسَ عشرَ: ذكرَ الشّيخُ تقيُّ الدّينِ في كتابِه (( التّدْمُرِيَّةِ ) أصلين عظيمين نافعين من هذا البابِ:
الأوَّلَ: القولُ في الصّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ، فكما أنَّنا نُثْبِتُ لله ذاتاً لا تُشْبِهُ الذّواتِ فيجبُ أنْ نثبتَ له صفاتٍ لا تشبهُ الصّفاتِ، فالصّفاتُ فَرْعُ الذَّاتِ يُحْذَى فيها حَذْوَها.
الثَّاني: القولُ في بعضِ الصّفاتِ كالقولِ في البعضِ الآخرِ إذ لا فرقَ، فمن أثبتَ الصّفاتِ ونفَى البعضَ الآخرَ كالأشاعرةِ، فقد تَنَاقَضَ، إذ الدّليلُ الَّذي ثبتت به الصّفاتُ الَّتي أقرُّوا بها يوجدُ مثلُه أو أقوى منه يثبِتُ البعضَ الآخرَ، إلى غيرِ ذلك من الأصولِ العظيمةِ الَّتي ذكرها الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ، وابنُ القيّمِ، وغِيرُهما من المحقّقين في كتبِهِم، وقد أَفْرَدْنَا تلك الأصولَ في رسالةٍ مفردةٍ فارْجِعْ إليها.(1/11)
مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ (1)
__________
(1) قولهُ: ( من غير تحريفٍ ): أي تغييرٍ لألفاظِ الأسماءِ والصّفاتِ، أو تغييرٍ لمعانيها، وقد ذَمَّ اللهُ سبحانَه وتعالى الَّذين يحُرِّفُون الكَلِمَ عن مَوَاضِعِه، كما قالَ اللهُ سبحانه وتعالى عن اليهودِ: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) أي يُغَيِّرُونَهُ ويُفَسِّرُونَهُ بغيرِ معناهُ، فالتَّحريفُ لغةً: التَّغييرُ وإِمَالَةُ الشَّيءِ عن وجهِهِ، يُقال انْحَرَفَ عن كذا أي مَالَ وعَدَلَ، واصطلاحاً: هو التَّغييُر لألفاظِ الأسماءِ والصّفاتِ أو معانيها، كقول الجَهْمِيَّةِ في قولِهِ سبحانه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أي اسْتَوْلَى، وقوله (وَجَاءَ رَبُّكَ ) أي أَمرُهُ، فالتَّحريفُ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: تحريفُ اللفظِ، كقولِهم في (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) بِنَصْبِ لفظِ الجلالةِ، وكقولِهِم في (استوَى ): استولى، (وَجَاءَ رَبُّكَ ) أي أَمْرُهُ. وَيُرْوَى أنَّ جَهْمِيّاً طلبَ من أبي عمرو بِنِ اِلعلاءِ أحدِ القُرَّاءِ يقرأُ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيماً) بِنَصْبِ لفظِ الجلالةِ، فقال له: هَبْنِي فَعَلْتُ ذلك فما تَصنَعُ بقولِه: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) فَبُهِتَ الجَهْمِيُّ.
الثَّاني: التَّحريفُ المعنويُّ: كقولِهم في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) أي جَرَّحَهُ بِأَضَافِيِرِ الْحِكْمَةِ تَجْريحاً.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهُ: والتَّحريفُ نوعان تحريفُ اللفظِ، وتحريفُ المعنى، فتحريفُ اللفظِ: العُدُولُ عن جِهَتِهِ إلى غيرِها، إمَّا بزيادةٍ أو نقصانٍ، وإمَّا بتغييرِ حَرَكةٍ إِعْرابيّةٍ أو غيرِ إِعْرابيّةٍ، فهذه أربعةُ أنواعٍ. وأمَّا تحريفُ المعنى: فهو العُدُولُ بالمعنى عن وجهِه وحقيقتِه، وإعطاءُ اللفظِ معنى لفظٍ آخرَ بِقَدَرٍ مَا مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُما.
قولُه: ( ولا تعطيلٍ ): وهو لغةً: الإخلاءُ، يقالُ جِيدٌ عُطْلٌ، أي خَالٍ مِنَ الزِّينَةِ، قال الشّاعرُ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيم لَيْسَ بِفاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وأمَّا معناهُ هنا فهو جحدُ الصّفاتِ وإنكارُ قِيامِها بذاتِه سبحانَه، ونفيُ ما دلَّت عليه من صفاتِ الكمالِ، وأوَّلُ مَنْ قالَ بالتَّعطيلِ في الإسلامِ: الَجَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ، فقتلهُ خالدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْرِيُّ بعدَ استشارةِ علماءِ زمانِه.
قال ابنُ القيّمِ رحمهُ اللهِ في (( النُّونِيَّةِ )):
وَلِذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الـ قَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ
شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ ِلله دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ
وتلقَّى عن الجعدِ مقالةَ التَّعطيلِ: الجَهْمُ بنُ صَفْوانَ التِّرْمِذِيُّ، فنشرها ونَاضَل عنها، فلذا نُسِبَ المذهبُ إليه، فيقالُ: جَهْميَّةٌ بفتحِ الجيمِ، والجهمُ قتَله سَلَمُ بنُ أَحْوَزَ أميرُ خُرَاسَانَ والتّعطيلُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ، كما ذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ:
الأوَّلِ: تعطيلُ المَصْنوعِ مِن صَانِعِهِ، كتعطيلِ الفلاسفةِ الَّذين زعَموا قِدَمَ هذه المخلوقاتِ، وأنَّها تتصرَّفُ بطبيعتِهَا.
الثَّاني: تعطيلُ الصَّانعِ مِن كَمَالِهِ المُقَدَّسِ بتعطيلِ أسمائهِ وصفاتهِ، كتعطيلِ الجهميَّةِ وأشباهِهِم من المعتزلةِ وغيرِهِم.
الثَّالثِ: تعطيلُ حَقِّ معاملتِه، بتركِ عبادتِه، أو عبادةِ غيرِهِ معَه.
قال ابنُ القيّمِ رحمه اللهُ: والتَّعطيلُ شرٌّ من الشّركِ، فإنَّ المُعَطِّلَ جاحدٌ للذَّاتِ أو لِكَمَالِها، وهو جَحْدٌ لحقيقةِ الألوهيّةِ، فإنَّ ذاتًا لا تسمعُ ولا تبصِرُ ولا تغضبُ ولا تَرْضى ولا تفعلُ شيئًا وليسَتْ داخلَ العالمِ ولا خارجَه ولا متّصلةً بالعالم ِ ولا منفصلةً ولا فوقَ ولا تحتَ ولا يمينَ ولا شِمالَ، هو والعدمُ سواءٌ، والمُشْرِكُ مُقِرٌّ باللهِ، لكنْ عبدَ معه غيرَه، فهو خيرٌ من المعطِّلِ للذَّاتِ والصّفاتِ.(1/12)
و لا تَكْيِيفٍ (1)
__________
(1) قولُه: ( ولا تكييفٍ): وهو تعيينُ كُنْهِ الصّفةِ، يُقالُ كَيَّفَ الشّيءَ: أي جَعَلَ له كيفيّةً مَعْلومةً، وكيفيّةُ الشّيءِ صفتُه وحالُه، فالتّكييفُ تعيينُ كُنْهِ الصّفةِ وكيفيّتِها، وهذا ممَّا استأثرَ اللهُ به، فلا سبيلَ إلى الوصولِ إِليه، إذ الصّفةُ تابعةٌ للموصوفِ، فَكما لا يَعلمُ كَيْفَ هُوَ أَلاَّ هُوَ، فكذلك صفاتُهُ فالصّفاتُ يحُذَى فيها حَذْوَ الذّاتِ، وقد سُئِلَ مالكٌ رحمهُ اللهُ تعالى فقيلَ له: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كيف اسْتَوى؟ فقال: الاستواءُ معلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإِيماَنُ به وَاجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعَةٌ، وكذلك رُوِيَ عن ربيعةَ نحواً من هذه الإجابةِ، وكذلك رُوِيَ عن أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقوله: الاستواءُ مَعْلومٌ، أي في لغةِ العربِ، وقولُه: والكَيْفُ مجهولٌ، أي كيفيّةُ استوائِهِ سبحانه وتعالى لا يَعْلَمُ كُنْهَها وكيفيَّتَها إلا هو سبحانَه، وقولُهُ: الإيمانُ به واجبٌ، لتكاثرِ الأدلَّةِ من الكتابِ والسّنّةِ في إثباتِ ذلك، والسّؤالُ عنهُ، أي عن الكيفيّةِ بِدْعَةٌ، فَفَرَّقَ مالكٌ رحمه اللهُ بين المَعْنى المَعْلُومِ من هذه اللفظةِ، وبين الكَيْفِ الذي لا يَعْقِلُهُ البشرُ.
وإجابةُ مالكٍ رحمه الله تعالى وغيرِهِ جوابٌ كَافٍ شَافٍ في جميعِ مسائلِ الصّفاتِ، فإذا سُئلَ إنسانٌ عن المجيءِ أو النّزولِ أو السّمعِ أو البصرِ أو غيرِ ذلك، أجابَ بجوابِ مالكٍ رحمه اللهُ، فيُقالُ مثلاً: المَجِيءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، وكذلك مَنْ سُئِلَ عن الغضبِ والرّضى والضّحكِ وغيرِ ذلك فمعانيها كلُّها مفهومةٌ، وأمَّا كيفيَّتُها فغيرُ معقولةٍ، إذ تَعقُّلُ الكيفيّةِ فَرْعُ العِلْمِ بكيفيّةِ الذّاتِ وكُنْهِها، فإذا كانَ ذلك غيرَ معقولٍ للبشرِ فكيف يُعقلُ لهم كيفيّةُ الصّفاتِ؟!(1/13)
ولا تَمْثيلٍ. (1)
__________
(1) قولُهُ: ( ولا تمثيلَ ): التَّمثيلُ هو التَّشبيهُ، يقال مَثَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ سَوَّاهُ وَشَبَّهَهُ بِهِ، وجعله مثلَهُ وعلى مِثَالِهِ، فالشَّبيهُ والمثيلُ والنَّظيرُ ألفاظٌ مُتقاربةٌ، فلا تُمثّلُ صفاتُهُ بصفاتِ خَلْقِهِ، فإنَّه لا مثلَ له ولا شِبْهَ له ولا نَظِيرَ، لا في ذاتِه وأسمائِه، ولا في صفاتِه وأفعالِه، كما قالَ سبحانه وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) والتَّشبيهُ ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: تشبيهُ المخلوقِ بالخالقِ، كتشبيهِ النَّصارَى عيسى باللهِ، وكتشبيهِهِم عُزيراً وتشبيهِ المشركين أصنامَهم باللهِ، وهذا النَّوعُ هو الَّذي أُرْسلتِ الرُّسلُ وأُنْزلت الكتبُ في النَّهيِ عنه، وهو أعظمُ الذّنوبِ على الإطلاقِ، ومُحْبِطٌ لجميعِ الأعمالِ.
الثَّاني: تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كقولِ المُشِّبهِ: للهِ يَدٌ كَأَيْدِينَا، وسَمْعٌ كأسماعِنا، وهذا هو الَّذي صُنِّفَتْ كتبُ التَّوحيدِ للرَّدِّ على قائلِهِ، وكلا النّوعين كفرٌ، وكلُّ مشبِّهٌ معطِّلٌ وبالعكسِ، فإنَّ المعطِّلَ لم يفهمْ من صِفَاتِ اللهِ إلا ما يليقُ بالمخلوقِ، فأرادَ بزعمِهِ الفاسدِ تنزيهَهُ عن ذلك فوقعَ في التَّعطيلِ، فَشَبَّهَ أوَّلاً وعَطَّل ثانياً وشبَّههُ ثالثاً بالمعدوماتِ والنَّاقصاتِ، تعالى اللهُ عن قولِهِم.
وكذلك المشبِّهُ عطَّلَ الصّفةَ الَّتي تليقُ باللهِ ووصفَه بصفاتِ المخلوقِ، فعطَّلَ أوَّلاً، وشبَّههُ ثانياً، فكلُّ مُعطِّلٍ مُشبِّهٌ وبالعكسِ.
قال الشّيخُ تقيُّ الدّينِ في (( الحَمَوِيَّةِ )): وكلُّ واحدٍ من فَريقي التَّعطيلِ والتَّمثيلِ فهو جامعٌ بين التَّعطيلِ والتَّمثيلِ، أمَّا المُعَطِّلُون فإنَّهم لم يَفْهَمُوا من أسماءِ اللهِ وصفاتِه إلا ما هو اللائقُ بالمخلوقِ، ثمَّ شَرَعُوا في نفيِ تلك المَفْهُوماتِ، فقد جَمَعوا بين التَّمثيلِ والتَّعطيلِ، مثَّلوا أولاً، وعَطَّلوا آخراً، وهذا تَشبيهٌ وتَمثيلٌ منهم للمفهومِ من أسمائهِ وصفاتِه بالمفهومِ من أسماءِ خلقِه وصفاتهِم، وتَعطيلٌ لما يَسْتَحقُّه هو من الصّفاتِ اللائقةِ باللهِ سبحانه، ومذهبُ السّلفِ بين التَّعطيلِ والتَّمثيلِ فلا يُمَثلِّون صفاتِ اللهِ بصفاتِ خلقِه، كما لا يُمثِّلون ذاتَه بِذواتِ خَلْقِهِ، فلا يَنفُون عنه ما وَصَف به نفسَه، أو وَصَفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُعَطِّلُون أسماءَه الحسنى وصفاتِه، ويُحرِّفُون الكلمَ عن مواضِعه، ويُلحدُونَ في أسماءِ اللهِ وآياتِه. انتهى.(1/14)
بَلْ يُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ). (1)
__________
(1) قولُه ( بل يؤمنونَ بأنَّ اللهَ ليس كمِثلهِ شيءٌ وهو السميعُ البصيُر ): كما قالَ سبحانَه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي إنَّه سبحانه لا مثلَ له في ذاتِه، ولا في أسمائِه وصفاتِه، ولا في أفعالِه، فقولُه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ردٌّ على المُشَبِّهَةِ المُمَثِّلَةِ، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ردٌّ على المُعطِّلةِ النُّفاةِ.
والكافُ في قولِه: ( ليس كمثلِهِ شيءٌ )، أصحُّ الأقوالِ أنَّها زائدةٌ، وهذا مَعروفٌ في لغةِ العربِ كقولِ الشَّاعرِ:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ خَلْقٌ يُوَازِيهِ في الْفَضَائِلِ
في هذه الآيةِ المُتقدّمةِ فوائدُ:
الأُولى: إثباتُ السَّمْعِ والبصَرِ والردُّ على مَنْ زعمَ أَنَّ السَّمعَ والبصرَ بمعنى العلمِ، وفيها الردُّ على الُمعطِّلةِ الَّذين يَنْفُون الصّفاتِ بالْكُليّةِ، كالجهميّةِ، والَّذين يُثْبِتون الأسماءَ دون المعاني، كالمعتزلةِ الّذين يقولونَ سميعٌ بلا سمْعٍ، بصيرٌ بلا بصرٍ، وتَصَوُّرُ هذا القولِ يَكفي في ردِّه واسْتِهْجَانِهِ.
وفيها الردُّ على الأشاعرةِ الَّذين يُثْبتون بعضَ الصّفاتِ، ويُؤَوِّلُون البعضَ الآخرَ، وهم مُتَنَاقِضُون أعظمَ تناقُضٍ، وفيها النَّفيُ المُجمَلُ والإثباتُ المفَصَّلُ، وفيها الجمعُ بين النَّفيِ والإثباتِ، وفيها تقديمُ النَّفيِ على الإثباتِ، لأنَّ الأوّلَ من بابِ التَّخْلِيَةِ، والثَّاني من بابِ التَّحْلِيَةِ.
وفيها الجمعُ بين السَّمعِ والبصرِ، فكثيراً ما يُقرَن بينهما لعمومِ مُتَعَلَّقِهِمَا، فسمْعُه سبحانه مُحيطٌ بجميعِ المَسْمُوعاتِ، وبصرُه مُحيطٌ بجميعِ المُبْصِرَات، وسمعُه سبحانَه ينقسمُ إلى قسمين:
الأوَّلِ: سمعٌ عامٌّ، وهو سمعُه سبحانَه لكلِّ مَسْمُوعٍ، كقولِه سبحانَه: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ).
الثَّاني: سمعٌ خاصٌّ، وهو سمعُ الإِجَابةِ والإِثَابَة، كما قال سبحانه: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) الآيةَ، ومنه قولُ العبدِ: ( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ) أي استجابَ سبحانَهُ لمن حمِدَهُ وأثنى عليه، وفيها إثباتُ الصِّفاتِ للهِ على ما يليقُ بجلالِهِ وعظمتِه، وفيها أنَّ صفاتِه ليست كصفاتِ خلقهِ، والمخلوقُ وإنْ كان يُوصَفُ بأنَّه سميعٌ بصيرٌ فليس سمعُه وبصرُه كَسَمْعِ الرَّبِّ وبصرِه، فصفاتُ الخالقِ كما يليقُ بِه، وصفاتُ المخلوقِ كما يليقُ بِه، إذ لا مُنَاسبةَ بين الخالِقِ والمخلُوقِ، فصفاتُ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتَه وحقيقتَه، فلا يَعْلمُ كَيْفَ هُوَ إلا هُوَ.
قال بعضُ السّلفِ: إذا قالَ الجهميُّ: كيف استوى؟ كيف ينزلُ إلى السّماءِ الدّنيا؟ ونحوَ ذلك، فقل لَهُ: كَيْف هُوَ بِنَفْسِهِ؟ فإذا قالَ: لا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلاَّ هُوَ، وَكُنْهُ البَارِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ، فقلْ له: فالعلمُ بِكَيْفيَّةِ الصّفةِ مستلزمٌ للعلمِ بكيفيَّةِ المَوْصُوفِ فكيف يمكنُ أَنْ يُعلمَ كيفيَّةُ صفةٍ لموصوفٍ لم تُعْلَمْ كيفيّتُه، وإنَّما تُعْلمُ الذَّاتُ والصّفاتُ من حيث الجُمْلةُ، فلا سبيلَ إلى العلمِ بِالْكُنْهِ والكيفيّةِ، فإذا كانَ في المخلوقاتِ ما لا يُعْلَمُ كُنْهُهُ فكيف بالباري سبحانه، فهذه الجنّةُ، ورَد عن ابنِ عبّاسٍ: ليسَ في الدُّنيا ممَّا في الجنَّةِ إلا الأسماءُ، وهذه الرُّوحُ نَجْزِمُ بِوجودِهَا وأنّها تَعْرُجُ إلى السّماءِ وأنّها تُسلُّ منه وقتَ النّزْعِ، وقد أَمْسَكتِ النّصوصُ عن بيانِ كيفيّتِها، فإذا كان ذلك في المخلوقِ فكيفَ بالخالقِ سبحانه وتعالى؟
وفيها أعظمُ دلالةٍ على كثرةِ صفاتِ كمالِه ونُعُوتِ جلالِه، وأنَّها لكثرتِها وعظمتِها لم يكن له فيها مثلٌ.. وإلا فلو أُرِيدَ نفيُ الصّفاتِ لكانَ العَدَمُ المَحْضُ أَوْلَى بهذا المدحِ مع أنَّ كلَّ عاقلٍ يَفْهَمُ من قولِ القائلِ: فلانٌ لا مِثْلَ له أنّه قد تَميَّزَ عن النَّاسِ بأَوْصَافٍ ونُعوتٍ لا يشاركونَهُ بها، وهذا واضحٌ من معنى الآيةِ، أنَّ معناها إثباتُ الصّفاتِ لا نفيُها، خلافاً لأهلِ البدعِ من الجهميّةِ وغيِرِهم.
وفي الآية متمسَّكٌ لِمَنْ فَضَّل السَّمْعَ على البصرِ.(1/15)
فلا ينَفونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ (1)
__________
(1) قولُه: فلا ينفُون عنه ما وَصَف به نفسَهُ ووصفَهُ به رسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل يُثْبِتون له الأسماءَ والصّفاتِ، ويُنْفون عنه مُشَابهةَ المخلوقاتِ.
ورَضُوا لربِّهم ما رَضِيَهُ لنفسِه، ورَضِيَهُ له رسُولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنّه سبحانَه أعلمُ بنفسِه وبغيرِه، وكذلك رسلُه فإنَّهم أعلمُ باللهِ وأصدقُ وأنْصَحُ من جميعِ خلقِ اللهِ، وأَقْدَرُ على البيانِ والتَّبليغِ، وقد بَلّغُوا البلاغَ المبينَ، وقد سارَ على منهاجِهم أصحابُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتَّابعون لهم بإحسانٍ، والخيرُ في اتّباعِهِم.
وَخَيرُ الأُمْورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الهُدَى وَشَرُّ الأُمْورِ المُحْدَثاتُ البَدَائِعُ
وأمَّا أهلُ البدعِ من الجهميّةِ وغيرِهِم فَنَفَوا أسماءَ اللهِ وصفاتِه وعَطَّلوها؛ زعماً منهم أنَّ إثباتَها يقتضي التَّشبيهَ، أو التَّجسيمَ، أو التَّحَيُّزَ، ونحوَ ذلك من أقوالِ أهلِ الضَّلالِ الَّذين نَبَذوا كتابَ اللهِ وسنَّةَ رسولِه وراءَ ظهورِهم، ورضُوا بِالتَّلْمَذَةِ على اليهودِ والمجوسِ والصَّابِئِين وأَضْرَابِهِمْ من ضلاَّلِ الأممِ، فإنَّ أَصلَ مقالةِ التَّعطيلِ مأخوذةٌ عن هؤلاءِ، كما ذكر ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدّينِ، وابنُ القيّمِ، وغيرُهُم، فإنَّ الجَهْمَ بنَ صفوانَ تلقَّى مقالةَ التَّعطيلِ عن الجَعْدِ بنِ درهمٍ، والجَعْدُ أخذها عن أَبَّانَ بِنِ سَمْعَانَ، وأبَّانُ أخذها عن طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ، الَّذي سَحَرَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما أنَّ الجهمَ قابلَ قوماً من السُّمِنيَّةِ وسألوه عن اللهِ فتحيَّرَ ومكثَ أربعين يوماً لا يصلِّي، ويُرْوَى أنَّه دخلَ حَرَّانَ وقابلَ قوماً من الصَّابئةِ وبَاحَثَهُمْ، فمقالتُه هذه مَصَادِرُها لا شكَّ أنَّها أَخْبَثُ مَقَالَةٍ، وكفى بقومٍ أَعْرَضوا عن كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِهِ وتتلمذُوا على هؤلاءِ الضُّلاَّلِ كفراً وضلالاً.
وَمَا عِوَضٌ لَنَا مِنْهَاجُ جَهْمٍ بِمِنْهَاجِ ابْنِ الآمِنَةِ الأَمِينِ(1/16)
ولا يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، ولا يُلْحِدُونَ في أَسْماءِ اللهِ وآياتِهِ (1)
__________
(1) قولُه: (ولا يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعِهِ): أي يُغيِّرونه ويُفَسِّرونه بغيرِ معناهُ، قالَ تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ).
قالَ ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: أي يَتَأَوَّلُونه على غيِرِ تأويلِه، ويُفسِّرونه بغيرِ مُرَادِ الله قَصْدًا منهم وافتراءً. قال في شرحِ الطَّحاويَّةِ: والتَّحريفُ على مراتبَ، منه ما يكونُ كفرًا، ومنه ما يكون فِسقًا، وقد يكونُ معصيةً، وقد يكونُ خطأً. انتهى.
قولُه: (ولا يُلحدونَ في أسماءِ اللهِ وآياتِه) أي يَمِيلون ويَعْدِلون عن الحقِّ الثَّابتِ، فالإِلْحَادُ معناه لغةً: الميلُ والعُدولُ عن الشَّيء، ومنه اللَّحْدُ في القبرِ؛ لانحرافِهِ إلى جهةِ القبلةِ عن سَمْتِ الحَفْرِ.
قال ابنُ القيِّمِ: الإلحادُ: هو العُدولُ بأسماءِ اللهِ وصفاتِه وآياتِه عن الحقِّ الثَّابتِ، وقال في ((النُّونيَّةِ)):
أَسْمَاُؤُه أَوْصَافُ مَدْحٍ كلُّها مشتقَّةٌ قَدْ حُمِّلت لِمَعَانِي
إِيَّاكَ وَالإِلْحَادَ فِيهَا إِنَّهُ كُفْرٌ مَعَاذَ اللهِ مِنْ كُفْرانِي
وَحَقِيقَةُ الإِلحَادِ فِيهَا الْمَيْلُ بالـ إِشْرَاك والتَّعْطِيلِ وَالنُّكْرَانِي
فَالمُلْحِدُون إِذًا ثَلاَثُ طَوَائِفٍ فَعَلَيْهِمُ غَضَبٌ مِنَ الرَّحْمنِ
وقال أيضًا: والإلحادُ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه أنواعٌ.
أحدُها: أن يُسمِّيَ الأصنامَ بها، كتسميةِ اللاَّتِ من الإِلهِ، والعُزَّى من العَزِيزِ ونحوِهِ.
الثَّاني: تسميتُه -سبحانه- بما لا يليقُ بجلالهِ، كتَسْمِيةِ النَّصارى له أبًا، وتسميةِ الفلاسفةِ له مُوجِبًا أو عِلَّةً فَاعِلَةً.
الثَّالثُ: وصفُه بما يتعالى وَيَتَقَدَّسُ عنه من النَّقائصِ، كقولِ أَخْبَثِ اليهودِ: إِنَّ اللهَ فقيرٌ، وقولِهِم: يَدُ اللهِ مَغْلولةٌ.
الرَّابعُ: تعطيلُ الأسماءِ الحُسْنى عن معانِيها وجحدُ حقائِقها، كقولِ مَن يقولُ من الجهميَّةِ: إنَّها ألفاظٌ مُجَرَّدةٌ لا تتضمَّنُ صفاتٍ ولا معانيَ، فَيُطلقون عليه اسمَ السَّميعِ والبصيرِ والحيِّ ويقُولون لا سمعَ له ولا بصرَ ولا حياةَ ونحوُ ذلك.
الخامسُ: تشبيهُ صفاتِه بصفاتِ خلقهِ، تعالى اللهُ عن قولِ الْمُلحِدين عُلوًّا كبيرًا، فَجَمَعَهُمُ الإلحَادُ وتفرَّقَت بِهِم طرقُه، وَبَرَّأَ اللهُ أتباعَ رسولِه وورثتَه القائمِين بسُنَّتِه عن ذلك كلِّه، فلم يَصِفُوه إلا بما وَصف به نفسَه، ولم يَجْحدوا صفاتِه ولم يُشَبِّهُوهَا بصفاتِ خلقهِ، ولم يَعْدِلوا بها عمَّا أُنْزلت له لفظًا ولا معنًى، بل أثبتوا له الأسماءَ والصِّفاتِ، ونَفَوْا عنه مشابهةَ المخلوقاتِ، فكانَ إثباتُهم بَرِيئاً من التَّشبيهِ، وتنزيهُهُم خالياً من التَّعطيلِ، لا كَمَنْ شَبَّهَ حتَّى كأنَّه يعبدُ صنمًا، أو عَطَّلَ حتَّى كأنَّهُ يعبدُ عَدَمًا. انتهى.(1/17)
ولا يُكَيِّفُونَ ولا يُمَثِّلُونَ صِفاتِهِ بِصِفاتِ خلْقِهِ، لأنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، ولا كُفْؤَ لَهُ، ولا نِدَّ لَهُ، ولا يُقَاسُ بخَلْقِهِ (1)
__________
(1) قولُه: (ولا يُكَيِّفونَ): شيئًا من صفاتِه -سبحانه- وتعالى، فإنَّه الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا تَبْلُغُها عقولُ الخلائقِ، قالَ تعالى: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) فيجبُ الإيمانُ بصفاتِ اللهِ واعْتِقَادُ أنَّها حقيقةٌ تليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، أمَّا كُنْهُها وكيفيَّتُها فهو ممَّا استأثرَ اللهُ بعلمِه، فلا سبيلَ إلى معرفتِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذا الموضوعِ.
قولُه: (ولا يمثِّلونَ صفاتِه بصفاتِ خلقِه): فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ إثباتُ الأسماءِ والصِّفاتِ، مع نفيِ مُمَاثَلَةِ المخلوقاتِ، إِثْباتًا بلا تمثيلٍ، وتَنْزِيهًا بلا تعطيلٍ، ليس كمثلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ.
قولُه: (لأنَّه -سبحانه- لا سَمِيَّ له): أي لا نظيرَ له، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي من يُسَامِيه أو يُمَاثِلهُ، ويُروى عن ابنِ عبَّاسٍ مَثيلاً أو شَبيهاً.
قولُه: (ولا كُفْؤَ لَهُ): أي لا مِثلَ له سُبْحَانَهُ، قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ).
قولُه: (ولا نِدَّ لَهُ): أي لا شِبهَ له ولا نظيرَ، قالَ تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا).
وفي قولِهِ: (ولا نِدَّ لَهُ.. إلخ) رَدٌّ على المعتزلةِ الَّذين يَزْعُمون أنَّ العبدَ يخلقُ فِعْلَ نفسِه.
قولُه: (ولا يُقاسُ بخلقِه): أي لا يمثَّلُ بهم ولا يُشبَّهُ، والقياسُ في اللَّغةِ التَّمثيلُ.
قال تعالى: (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) فلا يُقاسُ -سُبْحَانَهُ- بخلقِه في أَفعالِهِ، ولا في صفاتِهِ، كما لا يُقَاسُ بهم في ذاتِه، خلافًا للمعتزلةِ ومَن وافقَهم من الشِّيعَةِ، فإنَّهم قَاسُوه -سُبْحَانَهُ- بخلقِه فَشَبَّهُوه بهم، فَوَضَعُوا له شريعةً مِنْ قِبَلِ أنفسِهِم فقالوا: يَجِبُ على اللهِ كذا، وَيَحْرُمُ عليه كذا بالقياسِ على المخلوقِ، فالمعتزلةُ ومَنْ وافقَهم مُشبِّهةٌ في الأفعالِ مُعَطِّلةٌ في الصِّفاتِ، جَحدوا بعضَ ما وصفَ اللهُ به نفسَهُ من صفاتِ الكمالِ، وسَمَّوْهُ توحيدًا، وشبَّهُوه بخلقِه فيما يَحْسُنُ ويقبحُ من الأفعالِ، وسَمَّوْا ذلك عدلاً، فعدلُهم إنكارُ قدرتِه -سُبْحَانَهُ- ومشيئتِه العامَّةِ الكاملةِ الَّتي لا يَخْرجُ عنها شيءٌ من الموجوداتِ ذواتِها وصفاتِها وأفعالِها، وتوحيدُهم: إلحادُهم في أسماءِ اللهِ الحُسنى، وتحريفُ معانيها عمَّا هي عليه، فكان توحيدُهم في الحقيقةِ تعطيلاً وعدلُهم شركًا، انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم بِتَصرُّفٍ.(1/18)
فإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وبغَيْرِهِ، (1)
__________
(1) قولُه: (فإنَّه -سُبْحَانَهُ- أَعْلَمُ بنفسِه وبغيرِه): قالَ اللهُ تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وقال: (وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) أي لا يُحِيطُ الخلائقُ به -سُبْحَانَهُ- علمًا، فهو الموصوفُ بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا تبلغُها عقولُ الخلائقِ، كما في الصَّحيحِ ((لاَ نُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)) فما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ مِن صفاتِه -سُبْحَانَهُ- وَجَبَ الإيمانُ به، وَتَلَقِّيه بالقبولِ والتَّسليمِ، وتركُ التَّعَرُّضِ له بالرَّدِّ والتَّشبيهِ والتَّمثيلِ، فهو الَّذي وَصَفَ بها نفسَه ووصفَهُ بها رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فعلينا أنْ نرضى بما رَضِيه لنفسِه، فإنَّه أعلمُ بما يَجُوزُ ويمتنعُ ويليقُ بجلالهِ.
قال الإمامُ الشَّافعيُّ رحمهُ اللهُ تعالى: آمَنْتُ باللهِ وبما جاءَ عن اللهِ على مُرَادِ اللهِ، وآمنتُ برسولِ اللهِ وبما جاءَ عن رسولِ اللهِ على مُرَادِ رَسُولِ اللهِ، وعلى هذا درَجَ السَّلفُ الصَّالحُ رضوانُ اللهِ عليهم، وقد أُمِرْنا باقتفاءِ آثارِهِم والاهتداءِ بِمَنَارِهِم كما قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالْنَوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كُلَّ مُحْدثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ)).
وقال ابنُ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: ((اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدِ كُفِيتُمْ)) وقال الشَّعْبِيُّ: ((عَلَيْكُمْ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاك وَآرَاءَ الرِّجالِ وَإِنْ زَخْرَفُوه لَكَ بِالْقَوْلِ)).(1/19)
وأَصْدَقُ قِيلاً، وأَحْسَنُ حَدِيثاً مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ رُسُلُهُ صادِقُونَ (1)
__________
(1) قولُه: (وأصدقُ قيلاً): قالَ تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) وثبتَ في الصَّحيحِ من حديثِ جابرٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كانَ يقولُ في خطبتِه يومَ الجُمعةِ: ((إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ مَحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-)) الحديثَ، فما أخبرَ بهِ اللهُ -سُبْحَانَهُ- فهو حقٌّ وصِدقٌ، علينا أنْ نصدِّقَه ولا نُعَارِضَهُ ولا نُعْرِضَ عنه، فَمَنْ عَارَضَهُ بعقلِهِ لم يُصَدِّقْ به، وكذلك مَن أَقَرَّ بِلَفْظِهِ مع جَحدِ معناه، أو حرَّفه إلى معانٍ أُخَرَ غيرِ ما أُريدَ به. لم يكنْ مُصدِّقاً.
قولُه: (وأحسنُ حديثًا من خلقِه): قالَ اللهُ تعالى: (وَمَنْ أََصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) لفظُه لفظُ استفهامٍ، ومعناه لا أَحَدَ أَحْسَنُ حديثًا منه سُبْحَانَهُ، فألفاظُه أفصحُ الألفاظِ وأَبْيَنُهَا وأعظمُها مُطَابقةً لمعانيها المرادةِ منها، ومعانيه أشْرَفُ المعاني، فلا تجدُ كلامًا أحسنَ تفسيرًا ولا أَتَمَّ بيانًا مِن كلامِهِ -سُبْحَانَهُ-، ولهذا سمَّاهُ اللهُ بيانًا، وأخبرَ أنَّه يَسَّرَهُ للذِّكرِ، يَسَّرَ ألفاظَه للحفظِ ويَسَّرَ معانيهِ للفهمِ، فَمُحَالٌ أن يتركَ بابَ الإيمانِ باللهِ وأسمائِه وصفاتهِ مُلتبسًا، وهو أشرفُ العلومِ على الإطلاقِ، بل قد بيَّنهُ اللهُ ورسولُه بيانًا شافيًا قاطِعًا للعذرِ، لا لَبْسَ فيه ولا إِشْكَالَ، فآياتُ الصِّفاتِ واضحةُ المعنى وضوحًا تامًّا، بحيث يَشْتَرِكُ في فَهْمِ معانيها العامُّ والخاصُّ، أي فَهْمُ أصلِ المعنى لا فهمُ الكُنْهِ والكيفيَّةِ كما أنَّها مُفيدةٌ للعلمِ اليقينيِّ الكاملِ.
قولُه: (ثمَّ رسلُهُ صادقون): أي فيما جاؤوا بِه عن اللهِ، والصِّدقُ هو مُطابقةُ الخبرِ للواقعِ، فرسُلُه عليهمُ السَّلامُ صادِقون في جميعِ ما أَتَوْا به إذ هو الحقُّ الصِّدْقُ المُطابقُ للواقعِ، فلا يَصِحُّ لإنسانٍ قولٌ ولا عملٌ إلا باعتقادِ صدقِهم وأَمَانَتِهِمْ، وأنَّهم بلَّغُوا البلاغَ المبينَ بأبلغِ عِبَارةٍ وأَوْضَحِ أسلوبٍ، ليسَ في كلامِهم لُغْزٌ، ولا أَحَاجِي، وليس له باطنٌ يخالفُ ظاهرَه، وأنَّ لديهم من القدرةِ على التعبيرِ وكمالِ العلمِ وتمامِ الشَّفقةِ والنُّصحِ ما ليسَ عند غيرِهِم، فيجبُ أن يكونَ بيانُهم للحقِّ أكملَ من بيانِ كلِّ أحدٍ، فمِن المُحَالِ أن يتركوا بابَ الإيمانِ باللهِ وأسمائِه وصفاتِهِ مُلْتَبِسًا، وهو أشرفُ العلومِ على الإطلاقِ وأَجَلُّهَا وأَوْجَبُهَا، قد بَيَّنوه غايةَ البيانِ ولم يبقَ فيه شكٌّ ولا إشكالٌ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ: ومعلومٌ أنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قد بلَّغَ الرِّسالَةَ كما أُمِرَ ولم يَكْتُمْ منها شيئًا، فإنَّ كِتْمَانَ ما أنزله اللهُ عليه يُنَاقِضُ مُوجبَ الرِّسالةِ، كما أنَّ الكذبَ يُنَاقِضُ مُوجبَ الرِّسالةِ، قال: ومِن المعلومِ في دينِ المُسلمين أنَّه مَعْصُومٌ من الكِتمانِ لشيءٍ من الرِّسالةِ، كما أنَّه مَعْصُومٌ من الكذبِ فيها، والآيةُ تشهدُ له بأنَّه بلَّغَ الرِّسالةَ كما أمرَ اللهُ، وبيَّنَ ما أُنْزِلَ إليه من ربِّه، وقد وَجَبَ على كلِّ مسلمٍ تصديقُه في كلَّ ما أَخْبَر به.(1/20)
[مصْدُوقونَ]؛ بخِلافِ الَّذينَ يَقُولونَ على الله مَا لا يَعْلَمونَ. (1)
__________
(1) قوله: (مَصْدُوقون): أي فيما يَأْتِيهم من الوحيِ الكريمِ، قال تعالى: ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فيجبُ الإيمانُ بجميعِ الأنبياءِ والمُرسلين، وأَنْ لا يُفرَّقَ بين أحدٍ منهم وتصديقُهم فيما أَخْبَروا به واتَّباعُهم في كلِّ ما جَاؤوا به فهو حقٌّ وصدقٌ، وقد اتَّفقَ العلماءُ على كُفْرِ من كَذَّبَ نبيًّا مَعْلُومَ النُّبوَّةِ، وكذا من سَبَّهُ أو انْتَقَصَهُ وَيَجِبُ قتلُهُ؛ لأَنَّ الإيمانَ واجبٌ بجميعِ المرسلين، واتَّباعُهم واتَّباعُ ما أُنْزل إليهم، وقد ختمهم اللهُ بمحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأَنْزَل عليه الكتابَ والحكمةَ، وجعل دعوتَه عامَّةً لجميعِ الثَّقلين، باقيةً إلى يومِ القيامةِ، وانقطعتْ به حُجَّةُ العبادِ على اللهِ سُبْحَانَهُ، وقد بَيَّن اللهُ بِه كلَّ شيءٍ، وأَكَمْلَ له ولأمَّتِه الدِّينَ خَبَرًا وأمْرًا، وأَقْسَمَ بنفسِه أنَّهم لا يُؤمِنونَ حتَّى يحكِّمُوه فيما شَجَرَ بَيْنهم، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآيةَ، وفي حديثِ أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)).
وأعظمُ ما جاءَ به -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو وإخوانُه من الرُّسُلِ: هو الدعوةُ إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِه وحدَه لا شريكَ له: ومعرفتِه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، وأنَّه لا شبيهَ له ولا نظيرَ، فهذا هو مفتاحُ دعوتِهم وزُبْدَةُ رسالتِهم من أوَّلِهم إلى آخِرهم، فَدِينُهُم واحدٌ، وإنَّما اختلَفَت الشَّرائِعُ كما قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ دِيِنُنُا وَاحِدٌ)) الحديثَ.
قولُه: (بخلافِ الَّذينَ يقولونَ على اللهِ ما لا يعلمونَ) أي بخلافِ الَّذينَ يقولونَ على اللهِ في شرعِه ودينِه أو في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه ما لا يَعْلمونَ، بل بِمُجَرَّدِ عقولِهم الفاسدةِ، وتَخَيُّلاتِهِم الكَاسِدَةِ، الَّتي ما أَنْزَلَ اللهُ بها من سلطانٍ، قال تعالى: (وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) وقال: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لتفترُواْ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ ) فالقولُ على اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بلا علمٍ من أعظمِ المنكراتِ، ولهذا جعلَه في أعظمِ مراتبِ التَّحريمِ، فإنَّه بَدَأَ بِأَسْهَلِهَا، وختمَ بأشدِّها، وأعظمِها تحريمًا، وهو القولُ على اللهِ بلا علمٍ، وتواترَ عنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).
قال ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: فالقولُ على اللهِ بغيرِ علمٍ من كبائرِ الذُّنوبِ، سواءٌ كان في أسماءِ اللهِ وصفاتِه وأفعالِه، أو في أحكامِه وتقديمِ الخَيَالِ المُسَمَّى بالعقلِ والسَّياسةِ الظَّالمةِ، والعَوَائِدِ الباطلةِ، والآراءِ الفاسدةِ، والأَذْوَاقِ والكُشُوفَاتِ الشَّيطانيَّةِ على ما جاءَ به رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- انتهى بتصرُّفٍ.(1/21)
ولهذا قالَ سُبْحَانَهُ: ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ ) (1)
__________
(1) قولُه: ولهذا قالَ سُبحانَه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ).
ذكرَ المُصنِّفُ رحمه اللهُ تعالى هذه الآيةَ الكريمةَ دليلاً على ما تقدَّمَ من إثباتِ صدقِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وصحَّةِ ما جاؤوا به، وأنَّه الحقُّ الَّذي يجبُ اعتقادُه، وأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بَلَّغُوا الرِّسالةَ، وأَدُّوْا الأمانةَ، ووصفُوا اللهَ بما يَليِقُ به من صفاتِ الكمالِ، ونَزَّهُوه عن صفاتِ النَّقصِ والعيبِ، وأنَّ مَن قالَ بخلافِ ما جاؤوا به فهو كاذبٌ على اللهِ، قائلٌ عليه بدونِ علمٍ.
قولُه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ): أي تَنْزِيهًا للهِ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
قال ابنُ القيَّمِ: التَّسْبِيحُ: تَنْزِيهُ اللهِ عن كلٍّ سوءٍ، وأصلُ اللفظةِ من المُبَاعَدَةِ من قولِهم: سَبَحْتُ في الأرضِ، إذا تَبَاعَدْتُ فيها. انتهى، وتأتي سُبْحانَ للتَّعجُّبِ.
قولُه: (رَبِّ العِزَّةِ): أي القوَّةِ والغلبةِ، وأَضافها إليه لاختصاصِها به، والعزَّةُ يُرادُ بها عِزَّةُ القوَّةِ، وَعِزَّةُ الامتناعِ، وعزَّةُ الغَلَبَةِ والقهرِ، فله -سُبْحَانَهُ- العزَّةُ التَّامَّةُ بالاعتباراتِ الثَّلاثِ، يُقالُ في الأوَّلِ: عَزَّ يَعَزَّ بفتحِ العينِ في المستقبلِ، وفي الثَّاني بكسرِ العينِ، وفي الثَّالثِ بضمِّها.
قولُه: (عَمَّا يَصِفُونَ) أي تَنَزَّهَ -سُبْحَانَهُ- وتقدَّسَ عمَّا يصِفُه به المخالفونَ للرُّسُلِ من النَّقائصِ والعيوبِ.
قولُه: (وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلينَ): أي سلامُ اللهِ عليهم في الدُّنْيَا والآخرةِ، لسلامةِ ما قالوه في ربِّهم وصحَّتِهِ وأَحقيَّتِه.
قولُه: (والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمينَ): قولُه: (ربِّ): هو الخالقُ الرَّازقُ المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، ولا يُطلقُ إلا على اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- إلا إذا أُضيفَ فيطلَقُ على غيرِه كَرَبِّ الدارِ، وربِّ الدَّابَّةِ، ونحوِ ذلك، ولفظةُ ربِّ وإلهٍ فيهما دَلالةُ الاقترانِ والانفرادِ، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما دَخَل فيه الآخرُ، وإذا ذُكِرَا مَعًا فُسِّرَ الرَّبُّ بما تقدَّم، وفُسِّرَ الإلهُ بأنَّه المَعْبودُ المُطَاعُ.
قولُه: (العالَمِين): العَالَمُ: كُلُّ مَنْ سِوَى اللهِ، سُمِّي بذلك لأنَّه علامةٌ على وُجودِ خالقِه ومُوجِدِه، ووحدانيَّتِه، وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ كما قيل:
فَوَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ أَمْ كَيْفَ يجْحَدُهُ الَجاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
ويُروى أنَّ أعرابيًّا سُئِلَ عن اللهِ فقالَ: "يا سبحانَ اللهِ، إنَّ البَعْرَةَ لَتَدُلُّ على البعيرِ، وإنَّ الأَثَرَ لَيَدُلُّ على المَسِيرِ، فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، وبَحْرٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ، ألا يدلُّ ذلك على وجودِ اللطيفِ الخبيرِ "، ففي هذه الآيةِ نَزَّه نفسَه -سُبْحَانَهُ- عمَّا لا يليقُ بجلالِه، ثمَّ سَلَّمَ على المرسلينَ، وهذا يقتضي سلامتَهم من كلِّ ما يَقُوله المُكَذِّبُونَ لهم، وإذا سَلِمُوا من ذلك لَزِم سَلامةَُ كلِّ ما جَاءوا به من الكذبِ والفسادِ، وأعظمُ ما جاءوا به: هو التَّوحيدُ ومعرفةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وَوَصْفُه بما يليقُ بجلالِه ممَّا وصفَ به نفسَه على ألسنتِهم، وإذا سَلِمَ ذلك من الكذبِ والمحالِ فهو الحقُّ المحضُ وما خَالَفه فهو الباطلُ والكذبُ والمحالُ.
قال ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ: ولمَّا كانَ التَّسبيحُ يتضمَّنُ التَّنزيهَ والتَبْرِئَةَ من النَّقصِ بدلالةِ المُطابقةِ، ويستلزمُ إثباتَ الكمالِ، كما أَنَّ الحمدَ يدلُّ على إثباتِ صفاتِ الكمالِ مُطابقةً ويَسْتَلْزِمُ التَّنزيهَ عن النَّقصِ، قَرَنَ بينهما في هذا الموضعِ وفي مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ؛ ولهذا قال: ((سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) الآيةَ. انتهى.
وفي هذهِ الآيةِ إثباتُ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، فإِنَّ الحمدَ يتضمَّنُ إثباتَ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، فإنَّ الحمدَ مَدْحُ الْمَحْمُودِ بصفاتِ كمالهِ ونعوتِ جلالِه، مع محبَّتِه والرِّضا عنه والخضوعِ له، ومن المعلومِ أنَّ فاقدَ صفاتِ الكمالِ لا يكونُ إلهًا، ولا مدبِّرًا، بل هو مذمومٌ، مَعِيبٌ، ليس له الحمدُ، وإنَّما الحمدُ لمَن له صفاتُ الكمالِ، ونُعوتُ الجلالِ، الَّتي لأجلِهَا استحقَّ الحمدَ، واشتملتْ هذه الآيةُ على وصفِه -سُبْحَانَهُ- بالعزَّةِ المتضمَّنةِ للقوَّةِ والقدرةِ وعدمِ النَّظيرِ، والحمدِ المُتَضَمَّنِ لصفاتِ الكمالِ والتَّنزيهِ عن أضدادِها، وعلى إثباتِ صفةِ الكلامِ، وعلى الرَّدِّ على جميعِ المُخالفين، وإثباتِ أنَّ ما جاءَ به المرسلونَ هو الحقُّ الَّذي يتعيَّنُ اعتقادُه لسلامةِ ما قالُوه في ربِّهم من النَّقصِ والعيبِ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم مُلَخَّصًا.(1/22)
فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ المُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وسَلَّمَ عَلَى المُرْسَلِينَ؛ لِسَلامَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ والعَيْبِ. (1)
__________
(1) قولُه: (فسبَّحَ نفسَه): أي نزَّهَها عما يَصِفُه به العبادُ إلا ما وَصَفَهُ به المرسلون وأتباعُهم، فإنَّ هذه الكلمةَ: أي سبحانَ ربِّك، تنزيهٌ للرَّبِّ، وتعظيمُه وإجلالُه عمَّا لا يليقُ به من النَّقائصِ والعيوبِ، فالرُّسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأتباعُهم وَصفوه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بصفاتِ الكمالِ ونَزَّهُوه عمَّا لا يليقُ به من الشَّبيهِ والمثالِ، وأمَّا أعداءُ الرُّسلِ فوصفوه بضدِّ ذلك من النَّقائصِ والعيوبِ وأَلْحَدُوا في أسماءِ الله وصفاتِه وآياتِه، وحَرَّفُوا الكَلِمَ عَنْ مواضِعه، فالحقُّ هو ما كانَ عليه الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه، وما جاء به عِلْمًا وَعَمَلاً واعتقادًا في بابِ صفاتِ الرَّبِّ وأسمائِه، وتوحيدِه وأَمْرِهِ ونَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِه، وكلُّ ذلك مُسَلَّمٌ إلى رسولِ اللهِ دونَ آراءِ الرِّجالِ وأَوْضَاعِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ واصْطِلاَحَاتِهِمْ، فكلُّ ما خالفَ ما عليهِ الرَّسولُ وأصحابُه فهو باطلٌ مردودُ على صاحبِه كائنًا مَن كانَ.
قولُه: (لسلامةِ ما قالُوه): أي أَنَّ ما قالُوه في ربِّهم سالمٌ من النَّقصِ والعيبِ، فإنهَّم أَعْلَمُ الخلقِ بالحقِّ وأَنْصَحُ الخلقِ وأفصحهُم وأقدرُهم على البيانِ والتَّبليغِ، فَمَا بَيَّنُوه من أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وغيرِ ذلك هو الغايةُ في الكمالِ، وهو الحقُّ الَّذي يجبُ اعتقادُه واتَّباعُه، ولا تحِلُّ مخالفتُه.
قال في القاموسِ: السَّلامةُ: البراءةُ من العيوبِ. اهـ.، والعيبُ والنَّقصانُ مُترادفان.(1/23)
وهُو سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وسَمَّى بِه نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ والإِثْباتِ. (1)
__________
(1) قوله: (جَمَعَ): الجَمْعُ في اللغةِ: الضَّمُّ، والاجتماعُ: الانْضِمَامُ، والتَّفْرِيقُ ضِدُّه.
قولُه: (وَصَفَ): الوصفُ لغةً: نعتُه بما فِيهِ. وَصَفَ الشَّيءَ نعتَهُ بما فيه وحلاَّه, والصِّفةُ النَّعتُ، والصِّفةُ ما يَقُومُ بالموصوفِ كالعلمِ والجمالِ، وأسماؤه -سُبْحَانَهُ- تنقسمُ إلى قِسمين: أعلامٍ وأوصافٍ، والوَصْفِيَّةُ فيها لا تُنافي العَلَمِيَّةَ، بخلافِ أوصافِ العبادِ، وصفاتُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- دَالَّةٌ على مَعَانٍ قائمةٍ بذاتهِ، فيجبُ الإيمانُ بها، والتَّصديقُ، وإثباتُها للهِ حقيقةً على ما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، وهي بالنَّظرِ إلى الذَّاتِ من قَبِيلِ المُتَرَادِفِ، و بالنَّظرِ إلى الصِّفاتِ من قَبِيلِ المُتَبايِنِ، وهي تنقسمُ كما مضى إلى قسمينِ: صِفَاتِ ذاتٍ وصِفَاتِ فِعْلٍ.
قولُه: (بين النَّفيِ والإثباتِ): فالنَّفيُ كقولِه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقولِه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وقولِه: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) وقولِه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا).
والإثباتُ كقولِه: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وقولِه: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وقولِه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ).
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: ومعاني التَّنزيهِ تَرْجِعُ إلى هذين الأصْلين: إثباتِ الكمالِ، ونفيِ التَّشبيهِ والمثالِ، وقد دَلَّ عليهما سورةُ الإخلاصِ، فاسمُه الصَّمَدُ: يجمعُ معانيَ صفاتِ الكمالِ، والأَحَدُ: يَتَضمَّنُ أنَّه لا مِثلَ له ولا نَظيرَ. مِن المنهاجِ بتصرُّفٍ.
والنَّفيُ ليس مقصودًا لذاتِه، وإنَّما هو مقصودٌ لغيرِهِ، إذ النَّفيُ المحضُ ليس بمدحٍ ولا ثناءٍ، بل هو عَدَمٌ مَحْضٌ ولا مَدْحَ في ذلك.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ في كتابِه ((التَّدْمُرِيَّةِ)): ويَنبغي أن يُعْلَمَ أنَّ النَّفيَ ليسَ فيه كمالٌ ولا مدحٌ، إلا إذا تضمَّنَ إثباتًا، وكلُّ ما نَفى اللهُ عن نفسِه من النَّقائصِ ومُشَاركةِ أحدٍ له في خصائصِه فإنَّها تدلُّ على إثباتِ ضدِّها مِنْ أنواعِ الكمالاتِ. انتهى.
وطريقةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في النَّفيِ الإِجْمَالُ، وفي الإثباتِ التَّفْصِيلُ، كما جاء في الكتابِ والسُّنَّةِ: فَأثْبتوا له -سُبْحَانَهُ- الأسماءَ والصِّفاتِ ونفَوا عنه مماثلةَ المخلوقاتِ، ومَن خالفَهم من المُعَطِّلَةِ والمُتَفَلْسِفَةِ وغيرِهم عَكَسُوا القضيَّةَ فجاؤوا بنفيٍ مُفَصَّلٍ وإثباتٍ مُجْمَلٍ، فيقولون: ليسَ كذا ليسَ كذا. ذكر معناه في ((التَّدْمُرِيَّةِِ)) وغيرِها.(1/24)
فَلا عُدُولَ لأهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ المُرْسَلُونَ؛ فإِنَّهُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ (1)
__________
(1) قولُه: (فلا عُدولَ): أي فلا مَيْلَ ولا انحرافَ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ عمَّا جاءَ به المُرسلون، بل هم مقتفون آثارَهُم، مستضِيئون بأنوارِهم، مؤمنونَ بجميعِهم، مُصَدِّقُون لهم في كلِّ ما أَخْبَروا به من الغيبِ، إذ هو الحقُّ والصِّدقُ الَّذي يجِبُ اعتقادُه واتِّباعهُ، ولا تجوزُ مخالفتُهُ، وأعظمُ ما جاءَ به المرسلونَ: هو الدَّعوةُ إلى توحيدِ اللهِ وعبادتهِ وحدَه لا شريكَ له، ومعرفتِه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، وأَنَّه لا شبيهَ له، ولا نظيرَ، فهذا دينُهم من أوَّلِهم إلى آخرِهم قالَ تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) أي إنَّ الدِّينَ الَّذي جاءَ به محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو دِينُ الأنبياءِ من أوَّلِهم إلى آخرِهم، ليسَ للهِ دِينٌ سِواه، فالإسلامُ دينُ أهلِ السَّماواتِ، ودينُ أهلِ التَّوحيدِ من الأرضِ، لا يَقْبلُ اللهُ من أحدٍ دِينًا سواه.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ: فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ المتِّبعُون لمحمَّدٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرِهم من رسلِ اللهِ، يُثْبِتُون ما أَثْبَتُوه من تَكْلِيمِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ ورَحْمَتِهِ وسائِرِ ما له من الأسماءِ والصِّفاتِ، ويُنَزِّهُونَهُ عن مُشَابَهَةِ الأَجسادِ الَّتي لا حياةَ فيها، وأمَّا أهلُ البدعِ من الجهميَّةِ ونحوِهِم فإنَّهم سَلَكُوا سبيلَ أعداءِ الرُّسلِ إبراهيمَ وموسى ومحمَّدٍ الَّذين أنكَروا أنَّ اللهَ كلَّمَ موسى تكليمًا، واتَّخذَ إبراهيمَ خليلاً، وقد كلَّم اللهُ محمَّدًا واتَّخذهُ خليلاً ورفعهُ فوقَ ذلك درجاتٍ، وتَابَعُوا فِرْعَوْنَ الَّذي قال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا) وتَابَعُوا المُشركين الَّذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ) الآيةَ. واتَّبَعُوا الَّذين أَلْحَدُوا في أسماءِ اللهِ, فهم يجحدون حقيقةَ الرَّحمنِ، أو أنَّه يَرْحَمُ، أو يُكَلِّمُ، وزعموا أنَّ مَن أَثْبَتَ له هذه الصِّفاتِ فقد شبَّههُ بالأَجْسامِ الميتةِ، وأنَّ هذا تشبيهٌ للهِ بخلقِه، تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا.
قولُه: (فإنَّه الصِّراطُ المستقيمُ) أي أنَّ ما جاءَ به المرسلون هو الصِّراطُ المستقيمُ، المُوصِلُ إلى السَّعادةِ الأبديَّةِ، وهو الَّذي لا طريقَ إلى اللهِ ولا إلى جنَّتِه سواه، والصِّراطُ في اللغةِ: الطَّريقُ الواضحُ. قال الشَّاعرُ:
أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذا اعْوَجَّ الْمَوارِدُ مُسْتَقِيمٌ
والمستقيمُ: الَّذي لا اعْوِجَاجَ فيه ولا انحرافَ، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) وعن ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: خَطَّ رسولُ اللهِ خَطًّا بِيَدِهِ ثمَّ قال: ((هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا) ثمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْ سَبِيلٍ إلاَّ وَعَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)) ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) الآيةَ. رواه الإمامُ أحمدُ، والنَّسائيُّ، وابنُ أبي حاتمٍ، والحاكمُ. وصحَّحَه، والمرادُ بالصِّراطِ: قيل: الإسلامُ، وقيل: القرآنُ، وقيل: طريقُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: ولا ريبَ أنَّ ما كانَ عليه رسولُ اللهِ وأصحابُه عِلْمًا وَعَمَلاً وهو معرفةُ الحقِّ وتقديمُه وإيثارُه على غيِرِه، هو الصِّراطُ المستقيمُ، وكلُّ هذه الأقوالِ المتقدِّمةِ دَالَّةٌ عليه جَامِعَةٌ له. انتهى.
والصِّراطُ المذكورُ في الكتابِ والسُّنَّةِ ينقسمُ إلى قسمين: مَعْنَوِيٍّ وحِسِيٍّ، فالمعنويُّ: هو ما تقدَّمتِ الإشارةُ إليه، والحِسِّيُّ: هو الجسرُ الَّذي يُنْصَبُ على مَتْنِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ، يمرُّ النَّاسُ عليه على قَدْرِ أعمالِهم، فَبحَسَبِ استقامةِ الإنسانِ على الصِّراطِ المعنويِّ الَّذي نَصَبَهُ اللهُ لعبادِه في هذه الدَّارِ تكونُ استقامتُه على ذلك الصِّراطِ الحِسِّيِّ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ (جَزَاءً وِفَاقًا)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ).
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: أفردَ الصِّراطَ لأنَّ الحقَّ واحدٌ، وهو صراطُ اللهِ المستقيمُ الَّذي لا صراطَ يوصلُ إليه سواه، وهو عبادةُ اللهِ بما شرعَ على لسانِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهذا بخلافِ طرقِ الباطلِ فإنَّها متعدِّدةٌ مُتَشَعِّبَةٌ، ولهذا يجمعُها، كقولِه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) الآيةَ، ولا يناقضُ هذا قولَه سُبْحَانَهُ: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ) فإنَّ تلك هي طُرُقُ مَرْضَاتِهِ الَّتي يَجْمَعُها سبيلُه الواحدُ.(1/25)
صِرَاطُ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ. (1)
__________
(1) قولُه: (صراطُ): بَدَلٌ من الصِّراطِ الأوَّلِ، أي طريقُ المُنْعَمِ عليهم، قال تعالى في سورةِ الفاتحةِ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهؤلاءِ هم المذكورون في قولِه -سُبْحَانَهُ وتعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) والنِّعْمةُ: بكسرِ النَّونِ الإحسانُ وبالضمِّ المَسَرَّةُ وبالفتحِ المتعةُ من العَيْشِ اللَّيِّنِ.
قوله: (أنعمَ اللهُ عليهِم): أي أنعمَ عليهِم الإنعامَ المطلقَ التَّامَّ، وهي النِّعمةُ المتِّصلةُ بسعادةِ الأبدِ، وهي نعمةُ الإسلامِ والسُّنَّةِ، وهي الَّتي أمرنَا اللهُ أنْ نسألَهُ أنْ يهديَنا صراطَ أهلِها، ومَن خَصَّهُمْ بها، وجعلَهُم أهلَ الرَّفيقِ الأعلى، كما قالَ تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ) الآيةَ، فهؤلاءِ الأصنافُ الأربعةُ هم أهلُ هذه النِّعمةِ المُطْلَقَةِ وأصحابُها هم المَعْنِيِّونَ بقولِه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِسْلاَمَ دِينًا) فأضافَ إليهم الدِّينَ، إذ هم المُخْتَصُّون بهذا الدِّينِ القيِّم دونَ سائرِ الأُممِ، وأمَّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فعلى المؤمنِ والكافرِ، فكلُّ الخلقِ في نعمتِه، فالنِّعمةُ المطلقَةُ لأهلِ الإيمانِ، ومطلقُ النِّعمةِ يكونُ للمؤمنِ والكافرِ. انتهى، ذكره ابنُ القيِّمِ.
وفي قولِه: (الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم) تنبيهٌ على الرَّفيقِ في هذا الطَّريق، وأنَّهم هم الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم من النَّبيِّين والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحين، ليزولَ عن سَالِكِ هذا الطَّريقِ وَحْشَةُ التَّفَرُّدِ عن أهلِ زمانِه، وبَنِي جِنْسِهِ، إذا اسْتَشْعَر أنَّ رفيقَهُ في هذا الصِّراطِ هم الأنبياءُ والشُّهداءُ والصَّالحون.
قالَ بعضُ السَّلفِ: لاتستوحشْ من الحقِّ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، ولاتَغْتَرَّ بالباطلِ لكثرةِ الهالكينَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
قال الشَّيخُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ في كتابِهِ ((في مَسَائِل التَّوْحِيدِ)): وفيه عمقُ عِلْمِ السَّلفِ وهو عدمُ الاغترارِ بالكثرةِ وعدمُ الزُّهدِ في القلَّةِ. انتهى.
والصِّراطُ تارةً يُضافُ إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى، إذ هو الَّذي شَرَعَهُ ونَصَبَهُ، كقولِه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) وتارةً يُضافُ إلى العبادِ لكونِهِم أهلَ سلوكِه، أفادَه ابنُ القيِّمِ.
وفي قولِه: (الَّذين أنعمَ اللهُ عليهم) إشارةٌ إلى أنَّهم إنَّما استحقُّوا هذا الإنعامَ المطلقَ بسببِ سلوكِهم هذا الصِّراطَ، وفيه إشارةٌ إلى وجوبِ توحيدِ هذا الصِّراطِ بالسُّلوكِ، وأنْ لا صراطَ موصلٌ للسَّعادةِ سوى هذا الصِّراطِ.
قال ابنُ القيِّمِ في ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):
فَلِواحِدٍ كنْ واحدًا في واحدٍ أعني سبيلَ الحقِّ والإيمانِ
قال ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِه ((مدارجِ السَّالكين)): والهدى التَّامُّ يتضمَّنُ توحيدَ المطلوبِ وتوحيدَ الطَّلبِ وتوحيدَ الطَّريقِ الموصلةِ، والانقطاعُ وتخلَّفُ الوصولِ يقعُ من الشِّركةِ في هذه الأمورِ أو في بعضِها، فالشِّركةُ في المطلوبِ تُنافي التَّوحيدَ والإخلاصَ، والشِّركةُ في الطَّلبِ تُنافي الصِّدقَ والعزيمةَ، والشِّركةُ في الطَّريقِ تنافي اتَّباعَ الأمرِ، فالأوَّلُ يوقعُ في الشِّركِ والرِّياءِ، والثَّاني يُوقِعُ في المعصيةِ والبطالةِ، والثَّالثُ يُوقِعُ في اتِّباعِ البدعةِ ومفارقةِ السُّنَّةِ. فتأمَّلْ، فتوحيدُ المطلوبِ يعصمُ من الشِّركِ والرِّياءِ، وتوحيدُ الطَّلبِ يعصِمُ من المعصيةِ، وتوحيدُ الطَّريقِ يعصِمُ من البدعةِ، والشَّيطانُ إنَّما يَنصبُ فَخَّه بهذه الطُّرقِ الثَّلاثةِ.
قولُه: (مِنَ النَّبِيِّينَ): الَّذين اختصَّهُم من خلقِه وشَرَّفَهم برسالتِه ونبوَّتِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على الأنبياءِ.
قولُه: (والصِّدِّيقينَ): الَّذين صدَّقوا أقوالَهم بأفعالِهم، فالصِّدِّيقُ المبالِغُ في الصِّدقِ كما في الحديثِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتىَّ يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا) أو المبالغُ في التَّصديقِ كما سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقَ.
قال ابنُ القيِّمِ: الصِّدِّيقُ أبلغُ من الصَّدُوق، والصَّدوقُ أبلغُ من الصَّادِقِ، فأعلى مراتبِ الصِّدقِ الصِّديقيَّةُ، وهي كمالُ الانقيادِ للرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- معَ كمالِ الإخلاصِ للمُرسِلِ.
قولُه: (والشُّهداءِ): والشَّهيدُ هو المقتولُ في سبيلِ اللهِ، قيل سُمِّيَ بذلكَ لأنَّ اللهَ وملائكتَه شهدُوا له بالجنَّةِ، أو لأنَّ ملائكةَ الرَّحمةِ تشهدُه، أي تحضُره، قالَ العلماءُ: والشَّهيدُ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: شهيدٌ في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهو المقتولُ في سبيلِ اللهِ في حربِ الكفَّارِ.
الثَّاني: شهيدٌ في الآخرةِ دونَ أحكامِ الدُّنْيَا، وهو الغريقُ، والحريقُ، والمطعونُ، والمبطونُ، ومن قُتِلَ دونَ مالِه أو دونَ نفسِه أو دون حُرمتِهِ.
الثَّالثِ: شهيدٌ في الدُّنْيَا دون الآخرةِ، وهو من غَلَّ من الغنيمةِ أو قُتِلَ مُدْبِرًا.
قولُه: (والصَّالحين): الصَّالحُ: هو القائمُ بحدودِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ في كتابِ ((الإيمانِ)): ولفظُ الصَّالحِ والشَّهيدِ يُذكرُ مفردًا فيتناولُ النَّبيِّين، والصِّدِّيقينَ، والشَّهداءَ، ويُذكرُ مع غيِرِهِ فيفُسَّرُ بِحسَبِهِ. اهـ.
وقدَّم النبِيِّين على الصِّدِّيقين لشرفِهِم، ولكونِ الصِّدِّيقِ تابعًا للنَّبيِّ، فاستحقَّ اسمَ الصِّدِّيقِ بكمالِ تصديقِه للنَّبيِّ، فهو تابعٌ محضٌ، وقدَّمَ الصِّدِّيقين على الشُّهداءِ لفضلِ الصِّدِّيقين عليهم، وقدَّمَ الشُّهداءَ على الصَّالحين لفضلِهِم عليهم. انتهى من ((البدائعِ)) بتصرُّفٍ
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ تعالى: وأفضلُ الخلقِ: النَّبيُّونَ، ثمَّ الصِّدِّيقونَ، ثمَّ الشَُّهداءُ، ثمَّ الصَّالحون، وأفضلُ كلِّ صنفٍ أتقاهُم. انتهى.(1/26)
وقَدْ دَخَلَ في هذهِ الجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بهِ نَفْسَهُ في سُورَةِ الإِخْلاَصِ، التي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وقد دخلَ في هذه الجملةِ): أي المتقدِّمةِ من قولِهِ: (وقد جمعَ فيما وصفَ وسمَّى به نفسَهُ).
قولُه: (في سورةِ الإخلاصِ): أي سورةِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فإنَّها اشتملتْ على النَّفي والإثباتِ: إثباتِ صفاتِ الكمالِ ونفيِ التَّشبيهِ والمثالِ، ومعاني التنزيهِ ترجعُ إلى هذين الأصلين، وهذا عكسُ ما عليه أهلُ البدعِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهم. فإنَّهم يَنْفُونَ صفاتِ الكمالِ، ويُثبتون ما لا يوجدُ إلا في الخيالِ.
قولُه: (الجملةِ): وهي لغةً: جماعةُ الشَّيءِ وما تركَّبَ من مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه، جمعُه جُملٌ.
قولُه: (سورةِ): السُّورةُ: القطعةُ من القرآنِ معلومةُ الأوَّلِ والآخرِ.
قولُه: (الإخلاصِ): أي سورةُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) سُمِّيتْ بسورةِ الإخلاصِ لأنَّها أخلصتْ في صفةِ اللهِ، ولأنَّها تُخَلِّصُ قارِئَها من الشِّركِ العلميِّ الاعتقاديِّ.
قوله: (تَعدلُ): عَدلُ الشَّيءِ بالفتحِ: ما سِوَاه من غَيرِ جِنْسِه، وبالكسرِ ما سواه من جِنْسِه).
قولُه: (ثُلُثَ القُرْآنِ): وذلك لأنَّ معانِيَ القرآنِ ثلاثةُ أنواعٍ: توحيدٌ، وقَصصٌ، وأحكامٌ، وهذه السُّورةُ صفةُ الرَّحمنِ فيها التَّوحيدُ وحدَهُ، وفي صحيحِ البخاريِّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا سمِعَ رَجُلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يردِّدُها، فلمَّا أصبح جاء إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فذكرَ له ذلك، وكأنَّ الرجلَ يَتَقالُّها، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِه إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ))، الحديثَ. والأحاديثُ بِكونِها تعدلُ ثلثَ القرآنِ تكادُ تبلغُ مبلغَ التَّواترِ، انتهى مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ.(1/27)
حَيْثُ يَقُولُ: ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)
__________
(1) قال القسطلانيُّ: وذلك لأنَّ القرآنَ على ثلاثةِ أنحاءٍ: قَصَصٍ، وأحكامٍ، وصفاتِ اللهِ، و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) متضمِّنةٌ للتَّوحيدِ والصِّفاتِ، فهي ثلثُه. قال: وفيه دليلٌ على شرفِ علمِ التَّوحيدِ، وكيف لا والعلمُ يُشْرفُ بشرفِ المعلومِ، ومعلومُ هذا العلمِ هو اللهُ وصفاتُه وما يجوزُ عليه وما لا يجوزُ، فما ظنُّك بشرفِ منزلتِه وجلالةِ محَلِّهِ. انتهى.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على تفاضلِ القرآنِ، وكذلك تفاضلِ آياتِ الصِّفاتِ، وأنَّ علمَ التَّوحيدِ أفضلُ العلومِ، إذ شَرَفُ العلمِ بشرفِ موضوعِه.
وسببُ نزولِ هذه السُّورةِ: هو ما رواه أحمدُ، عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، أنَّ المشركين قالُوا للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: انسبْ لنا ربَّك، فأنزلَ اللهُ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وأخرجَه التِّرمذيُّ والطَّبريُّ، فالمُشركون سألوا رسولَ اللهِ عن حقيقةِ ربِّه من أيِّ شيءٍ، فدلَّهم على نفسِه بصفاتِه فلم يجعلْ لهم سبيلاً إلى معرفةِ الذَّاتِ والكُنهِ، فحقيقةُ الذَّاتِ والكُنْهِ غيرُ معلومةٍ للبشرِ، فقال -سُبْحَانَهُ وتعالى: (قُلْ) يا محمَّدُ، لهؤلاءِ المُشركين (اللهُ أَحَدٌ) أي منفردٌ في ذاتِه، وأسمائِه، وصفاتِه، وأفعالِهِ، لا شريكَ له، ولا مثيلَ، ولا نظيرَ، (أَحَدٌ) بمعنى واحدٍ، ولا يُطلقُ هذا اللفظُ في الإثباتِ إلا عليه سُبْحَانَهُ، لأنَّه الكاملُ في جميعِ صفاتِه وأحكامِه، وفي هذا دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، إذ لو كانَ كلامَ النَّبيِّ أو غيرِه لم يقلْ (قُلْ) ففيه الرَّدُّ على المعتزلةِ القائلينَ إنَّ القرآنَ كلامُ محمَّدٍ أو جبريلَ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: فدلَّ على أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مُبَلِّغٌ عن اللهِ، فكان مُقتضى البلاغِ التَّامِّ أنْ يقولَ: (((قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ففيه الرَّدُّ على الجهميَّةِ والمعتزلةِ وإخوانِهم ممَّن يقولُ هو كلامُه ابْتدَأَهُ من قِبَلِ نفسِه، ففي هذا أبلغُ ردٍّ لهذا القولِ، وأنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بَلَّغَ ما أُمِرَ بتبليغهِ، على وجههِ ولفظهِ، فقيلَ له: (قُلْ) فقال: (قُلْ) لأنَّه مبلِّغٌ محضٌ، فما على الرَّسولِ إلا البلاغُ المبينُ، وفيه دليلٌ على الجهرِ بالعقيدةِ والتَّصريحِ بِها.(1/28)
اللهُ الصَّمَدُ. (1)
__________
(1) قولُه: (اللهُ الصَّمَدُ): قال أبو وائلٍ: الصَّمدُ: السَّيِّدُ الَّذي انتهى سُؤدُده، والعربُ تُسمِّي أشرافَها: الصَّمدَ، لكثرةِ الأوصافِ المحمودةِ للمسمَّى به، قال الشَّاعرُ:
ألا بكَّرَ النَّاعي بخيرِ بني أسدٍ بعمرِ بنِ مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدِ
فإنَّ الصَّمدَ مَن تُصمدُ إليه القلوبُ بالرَّغبةِ والرَّهبةِ، وذلك لكثرةِ خصالِ الخيِرِ فيه. انتهى. وقال عكرمةُ عن ابنِ عبَّاسٍ: معنى الصَّمدِ: هو الَّذي يصمدُ إليه الخلائقُ في حوائِجهم ومسائِلهم.
وقال الرَّبيعُ بنُ أنسٍ: هو الَّذي لم يلدْ ولم يولدْ، كأنَّه جعلَ ما بعدَهُ تفسيرًا له، وهو تفسيرٌ جيِّدٌ، وقد تقدَّمَ الحديثُ من روايةِ ابنِ جريرٍ عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ في ذلك وهو صريحٌ في ذلك. انتهى. من ابنِ كثيرٍ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ تعالى: ومَن قالَ: إنَّ الصَّمَدَ هو الَّذي لا جوفَ له، فقولُه لا يُناقضُ هذا التَّفسيرَ، فإنَّ اللفظةَ من الاجتماعِ، فهو الَّذي اجتمعَتْ فيه صفاتُ الكمالِ ولا جوفَ له، فإنَّما لم يكنْ أَحَدٌ كفوًا له لمَّا كان صَمَدًا كاملاً في صمدانيَّتِه، فلو لم يكنْ له صفاتُ كمالٍ ونعوتُ جلالٍ ولم يكنْ له علمٌ ولا قدرةٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ ولا يقومُ به فعلٌ ولا يفعلُ شيئًا ألبتَّةَ ولا له حياةٌ ولا كلامٌ ولا وجهٌ، ولا يدٌ ولا فوقَ عرشِه ولا يَرضى ولا يغضبُ ولا يُرى ولا يمكنُ أنْ يُرى ولا يُشارُ إليه لكان العَدَمُ المحضُ كفوًا له، فإنَّ هذه الصِّفةَ منطبقةٌ على المعدومِ، فلو كان ما يقولُه المعطِّلونَ هو الحقَّ لم يكنْ صمدًا وكان العدمُ كفوًا له، فاسمُه الأحدُ دلَّ على نفيِ المشاركةِ والمماثلةِ، واسمُه الصَّمدُ دلَّ على أنَّه مُستحقٌّ لصفاتِ الكمالِ، فصفاتُ التَّنزيهِ ترجعُ إلى هذين المَعْنيين: نفيِ النَّقائصِ عنه، وذلك من لوازمِ إثباتِ صفاتِ الكمالِ، فمَن ثبتَ له الكمالُ التَّامُّ انتفى عنه النُّقصانُ المضادُّ له، والكمالُ من مدلولِ اسمِهِ الصَّمدِ.
والثَّاني: أنَّه ليسَ كمثلِه شيءٌ في صفاتِ الكمالِ الثَّابتةِ له، وهذا من مدلولِ اسمهِ الأحدِ، فهذان الاسمانِ العظيمانِ يتضمَّنان تنزيهَهُ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، وتنزيهَه في صفاتِ الكمالِ أنْ يكونَ له مُماثِلٌ في شيءٍ منها، فالسُّورةُ تضمَّنَتْ كُلَّ ما يجبُ نفيُه عن اللهِ، وما يجبُ إثباتُه للهِ من وجهَيْنِ: من جهةِ اسمهِ الصَّمدِ، ومن جهةِ أنَّ كلَّ ما نُفِيَ عنهُ من الأصولِ والفروعِ والنَّظيِرِ استلزمَ ثُبوتَ صفاتِ الكمالِ، فإنَّ ما يمدحُ به من النَّفي فلابدَّ أن يتضمَّنَ ثبوتًا، وإلا فالنَّفيُ المحضُ عَدَمٌ محضٌ، والعدمُ المحضُ ليس بشيءٍ، فضلاً عن أنْ يكونَ صفةَ كمالٍ. انتهى مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ بتصرُّفٍ.(1/29)
لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ. ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ). (1)
__________
(1) قولُه: (لَمْ يَلِدْ): فيه الرَّدُّ على اليهودِ والنَّصارى والمُشركين، فإنَّ اليهودَ قالُوا: عُزيرٌ ابنُ اللهِ، وقالَتِ النَّصارى: المسيحُ ابنُ اللهِ، ومشركوا العربِ زعموا: أنَّ الملائكةَ بناتُ اللِه، تعالى اللهُ عن قولِهم.
قولُه: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) الكفوُ: المثلُ والشَّبيهُ، فهذه السُّورةُ تضمَّنت توحيدَ الاعتقادِ والمعرفةِ وما يجبُ إثباتُه للرَّبِّ من الأحديَّةِ المنافيةِ لمطلقِ المشاركةِ بوجهٍ من الوجوهِ، والصمديَّةِ المثبتةِ له جميعَ صفاتِ الكمالِ الَّذي لا يلحقُه فيها نقصٌ بوجهٍ من الوجوهِ، ونفيِ الولدِ والوالدِ الَّذي هو من لزومِ صمديَّتِه وغِناهُ وأحديَّتهِ، ونفيِ الكفؤِ المتضمِّنِ لنفيِ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ، فتضمَّنتْ هذه السُّورةُ إثباتَ كلِّ كمالٍ، ونفيَ كلِّ نقصٍ عنه، ونفيَ إثباتِ مثلٍ له، أو شبيهٍ له في كمالِه، ونفيَ مطلقِ الشَّريكِ عنه، فهذه الأصولُ هي مَجامِعُ التَّوحيدِ العلميِّ الاعتقاديِّ، الَّذي يباينُ به صاحبُه جميعَ فرقِ الضَّلالِ والشِّركِ، ولهذا كانتْ تعدلُ ثلثَ القرآنِ، فأخلصتْ سورةُ الإخلاصِ الخبرَ عنه، وعن أسمائهِ وصفاتهِ، فعدلتْ ثلثَ القرآنِ، وخلَّصتْ قارئَها المؤمنَ بها من الشِّركِ العلميِّ.اهـ.، مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى ملخَّصًا.
وفي هذهِ السُّورةِ الجمعُ بين النَّفيِ والإثباتِ، وفيها الإجمالُ في النَّفيِ، والتَّفصيلُ في الإثباتِ، وهذه طريقةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ خلافًا لأهلِ الكلامِ المذمومِ، وتضمَّنتْ هذه السُّورةُ أنواعَ التَّوحيدِ الثَّلاثةَ.(1/30)
ومَاَ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِهِ، حَيْثُ يَقُولُ: ( اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيْمُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وما وصفَ به نفسَه في أعظمِ آيةٍ في كتابِ اللهِ ): وهي آيةُ الكرسيِّ، وذلك لما اشتملَتْ عليه من العلومِ والمعارفِ، كما في الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لأُبيِّ بنِ كعبٍ: ((يَا أَبَا المُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيَّ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟)) فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَرَدَّدها مِرارًا ثُمَّ قالَ أُبَيٌّ: هِيَ آيَةُ الكُرْسِيِّ (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ) فقالَ((: لِيَهْنَكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ)).
قولُه: (آيَةٍ): هي لُغةً: العلامةُ، واصطلاحًا: طائِفَةٌ من كلماتِ القرآنِ متميِّزةٌ بفصلٍ. سُمِّيَت هذه الآيةُ آيةَ الكرسيِّ لذكرِ الكرسيِّ فيها، وفيه دليلٌ على فضلِ هذه الآيةِ، وأنَّها أعظَمُ آيةٍ في كتابِ اللهِ، وفيه دليلٌ - كما تقدَّم - على فضلِ علمِ التَّوحيدِ. وأنَّ القرآنَ يتفاضلُ بل آياتُ الصِّفاتِ تتفاضلُ.
قولُه: (اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ) أي لا معبودَ بحقٍّ إلا هُوَ، قولُه: (الحَيُّ) أي الدَّائمُ الباقي الَّذي لا سبيلَ للفناءِ عليه، قولُه: (القَيُّومُ) أي القائمُ بنفسِهِ، المُقيمُ لِما سواهُ، فهذان الاسمانِ عليهما مدارُ الأسماءِ الحُسنى، وإليهما ترجعُ معانيها جميعًا، فإنَّ الحياةَ مستلزمةٌ لصفاتِ الكمالِ، والقيُّومُ متضمِّنٌ لكمالِ غِناه وكمالِ قدرتِهِ، فإنَّه القائمُ بنفسِهِ لا يحتاجُ إلى مَنْ يُقيمُه بوجهٍ من الوجوهِ، وهذا من كمالِ غِناه بنفسِه عمَّا سواهُ، وهو المقيمُ لغيرهِ، فلا قيامَ لغيرهِ إلا بإقامتِهِ، وهذا من كمالِ قدرتهِ وعزَّتِهِ. انتهى مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ بتصرُّفٍ.
قولُه: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ): السِّنَةُ: النُّعاسُ، وهو النَّومُ الخفيفُ، والنَّومُ ثِقَلٌ في الرَّأسِ، والسِّنَةُ في العينِ، والنَّومُ في القلبِ، وهو تأكيدٌ للقيُّومِ، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَعتَرِيهِ نقصٌ ولا غفلةٌ ولا ذهولٌ ولا يغيبُ عنه شيءٌ ولا تَخْفى عليهِ خافيةٌ، كما في الصَّحيحِ من حديثِ أبي موسى قَال: قامَ فينا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِأَرْبَعِ كلماتٍ، فقال: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حجابُه النَّارُ – أَو النُّورُ- لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مُلْكًا وَخَلقًا وَعَبِيدًا)).
قولُه: (مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بإِذْنِهِ) أي ليسَ لأحدٍ أنْ يشفعَ عندَه لعظمتِه وكبريائِه إلا بإذنهِ: أي بأمرِهِ, قولُه: (وَلاَ يُحِيْطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) أي لا يُحيطُ الخلقُ بشيءٍ من علمهِ إلا بما شاءَ أنْ يعلِّمَهُم إيَّاهُ، ويطلعَهُمْ عليهِ، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- عن الملائكةِ: (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا).
قولُه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ): أي ملأ وأحاطَ، والكرسيُّ مخلوقٌ عظيمٌ، وهو مَوضِعُ القدمَينِ لله ِسُبْحَانَهُ وتعالى، كما يُروى عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرهِ، وقد قيلَ: إنَّهُ العرشُ، والصَّحيحُ أنَّه غيرُهُ، كما رَوى ابنُ أبي شيبةَ والحاكمُ وقال إنَّه على شرطِ الشَّيخينِ، عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ): أنَّه قالَ: الكُرسيُّ موضعُ القدمينِ، والعرشُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلا اللهُ، وقد رُويَ مرفوعًا، والصَّوابُ أنَّه موقوفٌ على ابنِ عبَّاسٍ، وذكر ابنُ جريرٍ عن أبي ذرٍّ: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ)) وأمَّا مَا زعمَهُ بعضُهُم أنَّ معنى (كُرْسِيُّهُ) عِلْمُهُ، ونَسبَهُ إلى ابنِ عبَّاسٍ فليسَ بصحيحٍ، بل هو مِن كلامِ أهلِ البدعِ المذمومِ، وإنَّما هو كما قالَ غَيرُ واحدٍ من السَّلفِ: الكرسيُّ بين العرشِ كالمرقاةِ إليه.
قوْلُه: (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يُكرثُه ولا يُثقِلُه ولا يُعجزهُ حفظُهما، أي حفظُ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهما، بل ذلك عليه سهلٌ يسيرٌ، وهذا النَّفيُ في قولِه: (ولا يؤودُه حفظهُما) لثبوتِ كمالِ ضدِّهِ، وكذلك كلُّ نفيٍ يأتي في صفاتِ اللهِ، وقد تقدَّمَت الإشارةُ إلى ذلك.
قولُه: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ): (ال) في قولِه: (وَهُوَ الْعَلِيُّ) للشُّمولِ والاستغراقِ، فله -سُبْحَانَهُ- العُلوُّ الكاملُ من جميعِ الوجوهِ: عُلوُّ القدرِ، وعلوُّ القهرِ، وعلوُّ الذَّاتِ، كما تواترتْ بذلك الأدلَّةُ، وطابقَ على ذلك دليلُ العقلِ، فدليلُ العلوِّ عقليٌّ ونقليٌّ، وهو من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ كصفةِ الفوقيَّةِ، فوصفُهُ -سُبْحَانَهُ- بالعلوِّ يجمعُ معانيَ العلوِّ جميعَها: علوِّ القهرِ، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- علا كلَّ شيءٍ، بمعنى: أَنَّه قاهرٌ له قادرٌ عليه مُتصرِّفٌ فيه، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وعلوِّ القدرِ، أي أنَّه عالٍ عن كلِّ عيبٍ ونقصٍ، فهو عالٍ عن ذلك مُنَزَّهٌ عنه، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) الآيةَ، وفي دعاءِ الاستفتاحِ ((وَتَعَالى جَدُّكَ)). وعلوِّ الذَّاتِ، أي أنَّهُ -سُبْحَانَهُ- عالٍ على الجميعِ فوقَ عرشِه، فتبيَّنَ أنَّ أنواعَ العلوِّ ثلاثةٌ، وأنَّ اسمَه العليُّ يتضمَّنُ اتِّصافَه بجميعِ صفاتِ الكمالِ والتَّنزيهِ له -سُبْحَانَهُ- عمَّا ينافيها من صفاتِ النَّقصِ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
قولُه: (الْعَظِيمُ) أي الَّذي لا أعظَم منه ولا أجلَّ، لا في ذاتِه ولا في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، فهذه الآيةُ اشتملتْ على فوائدَ عظيمةٍ.
الأولى: إثباتُ ألوهيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- وانفرادُه بذلك، وبطلانُ ألوهيَّةِ كلِّ مَن سواه.
الثَّانيةِ: إثباتُ صفةِ الحياةِ له -سُبْحَانَهُ- وتعالى، الحياةِِ التَّامَّةِِ الدَّائمةِ الَّتي لا يلحقُها فناءٌ ولا اضمحلالٌ، فهي صفةٌ ذاتيَّةٌ تواطأَ على إثباتِها النَّقلُ والعقلُ.
الثَّالثةِ: إثباتُ صفةِ القيُّومِ، أي قيامِهِ بنفسِهِ وقيامِهِ بتدبيِرِ أمورِ خلقِه، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) وهذان الاسمانِ أعني الحيَّ والقيُّومَ – ذُكِرا معًا في ثلاثةِ مواضعَ من القرآنِ، وهما من أعظمِ أسماءِ اللهِ وصفاتِه، ووردَ أنَّهما الاسمُ الأعظمُ، فإنَّهما مُتَضَمِّنان لصفاتِ الكمالِ أعظمَ تضمُّنٍ، فالصِّفاتُ الذَّاتيَّةُ كلُّها ترجعُ إلى اسمِ الحيِّ، والصِّفاتُ الفعليَّةُ ترجعُ إلى اسمِ القيُّومِ، ويَدُلُّ القيُّومُ على معنى الأزليَّةِ والأبديَّةِ، وعلى قيامِهِ بذاتِهِ وعلى قيامِ كلِّ شيءٍ به، وعلى أنَّه موجودٌ بنفسِه، وهذا معنى كونِه واجبَ الوجودِ.
الرَّابعةِ: تنزيهُهُ -سُبْحَانَهُ- عن صفاتِ النَّقصِ، كالسِّنَةِ والنَّومِ والعجزِ والفقرِ ونحوِ ذلك، وهو تأكيدٌ للقيُّومِ؛ لأنَّ مَن جازَ عليه السِّنَةُ والنَّومُ استحَالَ أنْ يكونَ قيُّومًا.
الخامسةِ: سَعةُ ملكِهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى-، له ما في السَّماواتِ والأرضِ مُلكًا وعبيدًا تحت قهرِه وسلطانِه.
السَّادسةِ: فيه دليلٌ على عظمتِه وسلطانِه، وأنَّ أحدًا لا يشفعُ عندَهُ إلا بعدَ إذنِهِ -سُبْحَانَهُ- ورضاه عن المشفوعِ له.
السَّابعةِ: فيه إثباتُ الشَّفاعةِ بقيودِها، وهو إذنُ اللهِ للشَّافعِ أنْ يشفعَ ورِضاهُ عن المشفوعِ له.
الثَّامنةِ: فيه الرَّدُّ على المشركين الَّذين يزعمونَ أنَّ أصنامَهم تشفعُ لهم، فظهرَ أنَّ الشَّفاعةَ تنقسمُ إلى قِسمين: شفاعةٌ منفيَّةٌ وشفاعةٌ مُثبتةٌ.
التَّاسعةِ: فيه إثباتُ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وأنَّه يتكلَّمُ متى شاءَ، إذا شاءَ، وأنَّه يتكلَّمُ -سُبْحَانَهُ- بحرفٍ وصوتٍ يليقانِ بجلالِه وعظمتِه، وأنَّ كلامَهُ -سُبْحَانَهُ- يُسمَعُ لقولِه (إِلاَّ بإِذْنِهِ).
العاشرِ: فيها إثباتُ صفةِ العلمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وإحاطتِه بكلِّ معلومٍ، وأَنَّه يعلمُ ما كانَ وما يكونُ وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ يكونُ.
الحاديَ عشرَ: في ذكرِ إحاطةِ علمهِ -سُبْحَانَهُ- بالماضي والمستقبلِ إشارةٌ إلى أنَّه لا يَنسى، ولا يغفلُ، ولا يحدثُ له علمٌ، ولا يتجدَّدُ.
الثَّانيَ عشرَ: فيه الرَّدُّ على القدريَّةِ والرَّافضةِ ونحوِهم الَّذين يزعمون أنَّ اللهَ لا يعلمُ الأشياءَ إلا بعدَ وقوعِها، والرَّدُّ على من زعمَ أنَّ الله لا يعلمُ إلا الكلِّيَّاتِ، تعالى اللهُ عن قولهِم.
الثَّالثَ عشرَ: فيها اختصاصُه بالتَّعليمِ، وأنَّ الخلقَ لا يعلمونَ إلا ما علَّمَهم، كما قالتِ الملائكةُ: ( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا).
الرَّابعَ عشرَ: فيه إثباتُ عظمتِهِ -سُبْحَانَهُ- بعظمةِ مخلوقاتِه، فإذا كان عَظَمَةُ كرسيِّهِ هذه العظمةَ الَّتي جاءَتْ بها الأدلَّةُ، فمِن بابٍ أولى أَنْ يكونَ الخلقُ أعظمَ وأجلَّ.
الخامسَ عشرَ: فيها إثباتُ الكرسيِّ وعظمتِه، وأنَّه مخلوقٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- والرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كرسيَّهُ علمُه.
السَّادسَ عشرَ: فيه إثباتُ صفةِ المشيئةِ للهِ سُبْحَانَهُ.
السَّابعَ عشرَ والثَّامنَ عشرَ والتَّاسعَ عشرَ: فيه إثباتُ عظمتِهِ واقتدارِهِ، وفيه إثباتُ السَّماواتِ وتعدُّدِها، وإثباتُ عُلوِّهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وإثباتُ عظمتِهِ -سُبْحَانَهُ- ذاتًا وصفاتٍ وأفعالاً.
قال ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: قَرَنَ بين هذينِ الاسمين الدَّالَّينِ على عُلوِّهِ وعَظمتهِ -سُبْحَانَهُ- في آخرِ آيةِ الكرسيِّ، وفي سورةِ الشُّورى، وفي سورةِ الرَّعدِ، وسورةِ سبأٍ.
ففي آيةِ الكرسيِّ ذكرَ الحياةَ الَّتي هي أصلُ جميعِ الصِّفاتِ، وذكرَ معها قيُّوميَّتَه المقتضيةَ لدوامهِ وبقائهِ، وانتفاءِ الآفاتِ جميعِها عنه من السِّنَة والنَّومِ والعجزِ وغيرِها، ثمَّ ذكرَ كمالَ مُلكِهِ ثمَّ عقَّبهُ بذكرِ وحدانيَّتِه في مُلكِه، وأنَّهُ لا يشفعُ عندَهُ أحدٌ إلا بإذنِهِ، ثمَّ ذكرَ سعَةَ علمهِ وإحاطتِهُ، ثمَّ عقَّبهُ بأنَّهُ لا سبيلَ للخلقِ إلى علمِ شيءٍ من الأشياءِ إلا بعدَ مشيئتِهِ لهم أنْ يعلموه، ثمَّ ذكرَ سَعَةَ كرسيِّهِ منبِّهًا على سَعتِه -سُبْحَانَهُ- وعظمتِه وعلوِّهِ، وذلك تَوْطِئَةً بين يدي علوِّه وعظمتِهِ، ثمَّ أخبَرَ عن كمالِ اقتدارِه وحفظِه للعالمِ العلويِّ والسُّفليِّ من غيرِ اكتراثٍ ولا مشقَّةٍ ولا تعبٍ، ثمَّ ختمَ الآيةَ بهذين الاسمينِ الجليلينِ الدَّالَّينِ على علوِّ ذاتِه وعظمتِه. انتهى من الصَّواعقِ.(1/31)
ولهذا كانَ مَن قرَأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لم يزلْ عليه حافظٌ، ولم يقربْهُ شيطانُ حتّى يصبحَ. (1)
__________
(1) قولُه: (ولهذا كانَ من قرأَ هذه الآيةَ في ليلةٍ لمَ يَزَلْ عليه من اللهِ حافظٌ، ولم يقربْه شيطانٌ ).
هذا الحديثُ في صحيحِ البخاريِّ، عن أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قال: وكَّلَنِي رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بحفظِ زَكاةِ رَمضانَ، فأتانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو من الطَّعامِ فَأَخذْتُهُ، وقلتُ: لأَرْفَعنَّكَ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-..قال: دَعْني فإنَّي مُحتاجٌ، وعَليَّ عيالٌ، لا أعودُ فَرَحِمْتُه وَخَلَّيْتُ سبيلَهُ، فأصبحتُ فقال لي رسولُ الله: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ )) قُلتُ: يا رسولَ اللهِ شَكَا حاجةً وعِيالاً فَرَحِمتهُ وخَلَّيْتُ سَبيلَه، قال: ((أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ)) فَعَرفْتُ أَنَّهُ سَيعُودُ، لقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: إِنَّه سيعودُ، فَرَصَدْتُهُ فجاءَ يحثُو مِن الطَّعامِ فَأَخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: دَعْنِي فإنِّي مُحتاجٌ وعليَّ عِيالٌ، لا أعودُ، فَرحِمْتُهُ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فقالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ؟)) فقلتُ: يا رسولَ اللهِ شَكَا عِيالاً وحاجةً فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سبيلَه، قال: ((أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ)) فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثةَ فجاءَ يحثُو من الطَّعامِ فَأَخَذْتُهُ فَقلتُ: لأَرفَعَنَّكَ إلى رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وهذه آخِرُ ثلاثِ مرَّاتٍ تَزعُمُ فيها أَنَّكَ لا تعودُ ثمَّ تعودُ، فقال: دَعْني أُعَلِّمْكَ كلماتٍ يَنْفَعْكَ اللهُ بِها، قُلتُ: وَما هِي؟ فقالَ: إِذا أَوَيْتَ إِلى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتَّى تختمَ الآيةَ فإنَّكَ لن يَزالَ عَليكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حتَّى تُصبحَ، وكانوا أَحْرَصَ شَيءٍ على الخَيْرِ، فَقَالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَمَا إنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ؟)) قلتُ: لا. قالَ: ((ذَاكَ الشَّيْطانُ)) كذا رواهُ البخاريُّ معلَّقًا بصيغةِ الجزمِ، وقد رواه النَّسَائيُّ في اليومِ والليلةِ عن إبراهيمَ بنِ يعقوبَ عن عثمانَ بنِ الهيثمِ فذكره، وقد رُوِيَ عن أبي هريرةَ بسياقٍ آخرَ قَريبٍ من هذا.
قولُه: (لَم يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظٌ): أي يحفظُهُ مِن الشَّياطينِ وغيرِهم، وفي روايةٍ: ((إِذَا قُلْتَهُنَّ لمَْ يَقْرَبْكَ ذَكَرٌ وَلا أُنْثى مِنَ الإِنْسِ وَلا مِنَ الجِنِّ)) وفي حديثِ عليٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ قَرَأَهَا – يَعْنيِ آيَةَ الكُرْسيِّ – حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ أمَّنَهُ اللهُ عَلى دَارِهِ وَدَارِ جَارِهِ وَأَهْلِ دُوَيْراتٍ حَوْلَهُ)). رواه البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ.
قولُه: (شَيْطانٌ): الشَّيطانُ يُطلقُ على كلِّ متمرِّدٍ عاتٍ مِن الجنِّ والإنسِ، مِن شَطَنَ إذا بَعُدَ لبعدِه عن رحمةِ اللهِ. أو من شَاطَ يَشيطُ إذا هلكَ واحترقَ.
في هذا الحديثِ فضلُ آيةِ الكرسيِّ، وَعظمُ منفعتِها وتأثيرُها العظيمُ في التحرُّزِ من الشَّيطانِ، وذلك لِما اشتملتْ عليهِ من العلومِ والمعارفِ، ولذلك إذا قَرَأها الإنسانُ عندَ الأحوالِ الشَّيطانيةِ بصدقٍ أبْطَلَتْهَا، مثلُ مَن يدخلُ النَّارَ بحالٍ شيطانيٍّ، أو يحضرُ المُكَاءَ والتَّصْدِيَةَ وتنزلُ عليه الشَّياطينُ، وتتكلَّمُ على لسانِه كلامًا لا يُعلمُ، وربما لا يُفقهُ، وربما كاشفَ بعضَ الحاضرينَ بما في قلبِه، إلى غيرِ ذلك منَ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ، فأهلُ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ تنصرفُ عنهم شياطينُهم إذا ذُكرَ عندَهُم ما يطردُها. مثلُ آيةِ الكرسيِّ، أشارَ إلى ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ في كتابِه ((الفرقانِ بينَ أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ الشَّيطانِ)).(1/32)
وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ والبَاطِنُ ... . (1)
__________
(1) قولُهُ: (هُوَ الأَوَّلُ) أي الَّذي ليس قبلَهُ شيءٌ، كما فسَّرَهُ بذلك رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالَ: ((الَّلهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)) رواه مُسلمٌ. فهو -سُبْحَانَهُ- أوَّلٌ ليس له بدايةٌ، وأمَّا القديمُ فقد ذكرَهُ بعضُ المتكلِّمينَ في أسماءِ اللهِ، والصَّوابُ أنَّه ليس من أسمائِه -سُبْحَانَهُ- لأنَّه لم يرِدْ دليلٌ في تسميتِهِ -سُبْحَانَهُ- بذلك، ولأنَّ القِدمَ ينقسمُ إلى قِسمين:
قِدَمٍ حقيقيٍّ، وقِدمٍ نِسبيٍّ، فالقِدَمُ الحقيقيُّ: هو الَّذي لم يسبقْهُ عدمٌ، والنِّسبيُّ: هو قِدمُ المخلوقاتِ على بعضٍ، كما قال سُبْحَانَهُ: (حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ) وقد تقدَّمَ الأصلُ الَّذي ذكره ابنُ القيِّمِ أَنَّ الصِّفةَ إذا كانتْ منقسمةً إلى كمالٍ ونقصٍ لم تدخلْ بمطلقِها في أسمائِه الحُسنى، وذكرَ أنَّ بابَ الإخبارِ عنه -سُبْحَانَهُ- أوسعُ من بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وذكرَ أنَّه يُخبَرُ عنه -سُبْحَانَهُ- بالقديمِ ولا يُسمَّى به، وقال في ((النُّونيَّةِ )):
وهو القديمُ فلم يزلْ بصفاتِه مُتَفَرِّداً بل دائِمَ الإحسانِ
قولُه: (وَالآخِرُ) أي الَّذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ. قولُه: (وَالظَّاهِرُ) أي العالي المرتفعُ الَّذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، ولا ريبَ أنَّه ظاهرٌ بذاتِه فوقَ كلِّ شيءٍ، فالظُّهورُ هنا: هو العُلوُّ، كما قالَ تعالى: (فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ) ولا يَصِحُّ أنْ يُحْمَلَ الظُّهورُ على الغلبةِ، لأنَّهُ قابلَهُ بقولِه وأنتَ الباطنُ.
قولُه: (وَالْبَاطِنُ) أي الَّذي ليسَ دونَهُ شيءٌ، كما فسَّرهُ الرَّسولُ: بطَنَ -سُبْحَانَهُ- بعلمِه فلا يحجبُهُ شيءٌ. قال ابنُ القيِّمِ: فهذه الأسماءُ الأربعةُ متقابلةٌ, اسمانِ لأزليَّتهِ وأبديَّتهِ سُبْحَانَهُ، واسمانِ لعلوُّهِ وقربِه، فَأوَّليَّتُه -سُبْحَانَهُ- سابقةٌ على أوليَّةِ كلِّ ما سواه، وآخريَّتُه -سُبْحَانَهُ- ثابتةٌ بعد آخريَّةِ كلِّ ما سواه، فأوليَّتُه سَبْقُهُ لكلِّ شيءٍ، وآخريَّتُه بقاؤه بعدَ كلِّ شيءٍ، وظاهريَّتُه: فوقيَّتُه وعلوُّه على كلِّ شيءٍ، ومعنى الظهورِ يقتضي العُلوَّ، وظاهرُ الشَّيءِ هو ما علا منهُ وأحاطَ بباطنِه، وبُطونُه -سُبْحَانَهُ-: إحاطتُه بكلِّ شيءٍ، بحيثُ يكونُ أقربَ إليهِ من نفسِهِ، وهذا قربُ الإحاطةِ العامَّةِ. وأمَّا القربُ المذكورُ في الكتابِ والسُّنَّةِ فقُربٌ خاصٌّ من عابديهِ وسائليهِ، وهو ثمرةُ التَّعبُّدِ باسمِهِ الباطنِ. ذَكرَ البيهقيُّ عن مُقاتلٍ قولَه تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) هو الأوَّلُ قبلَ كلّ شيءٍ، والآخرُ بعدَ كلِّ شيءٍ، والظَّاهرُ فوقَ كلِّ شيءٍ، والباطنُ أقربُ من كلِّ شيءٍ، وإنَّما يعني القربَ بعلمِه وقدرتِه، وهو فوقَ عرشِه وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ.اهـ.(1/33)
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ ). (1)
__________
(1) قولُه: (عَلِيْمٌ) جاءَ على بناءِ فعيلٍ للمبالغةِ في وصفِه بكمالِ العلمِ والإحاطةِ بكلِّ شيءٍ علمًا، فهو من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، فهذه الآيةُ أفادتْ أوليَّتَه -سُبْحَانَهُ- وسبقَهُ لكلِّ مخلوقٍ، وأنَّه لا شيءَ قبْلَه، كما أفادَت دوامَهُ وبقاءَه وآخريَّتَه، وأنَّهُ لا شيءَ بعدهُ، وأفادت عُلوَّه وارتفاعَهُ وفوقيَّتَه سُبْحَانَهُ، وأفادتْ قربَه ودنوَّه وإحاطتَه وسعَةَ علمِه. وأنَّه لا يَخفى عليه شيءٌ، وفيه الرَّدُّ على المعتزلةِ والرَّافضةِ الَّذين يزعمُون أنَّ اللهَ لا يعلمُ الأشياءَ إلا بعدَ وقوعِها، والرَّدُّ على مَن يزعُمُ أنَّه يعلمُ الكُلِّيَّاتِ دونَ الجزئيَّاتِ.(1/34)
وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذي لا يَمُوتُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذي لاَيَمُوتُ): الآيةَ، أي فَوِّضْ أمورَك إليه، فمَنْ توكَّلَ عليه كفاهُ وشفاهُ ويسَّرَ له كلَّ شديدٍ وقرَّبَ له كلَّ بعيدٍ، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) والتَّوكُّلُ لغةً: التَّفويضُ، يُقالُ: وَكَّلتُ أمري إلى فلانٍ أي فوَّضتُه، وحقيقتُه شرعًا: هو صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللهِ في جلبِ ما ينفعُ ودفعِ ما يضرُّ، ومن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- الوكيلُ، ومعناهُ الكافي لعبدِهِ، والقائِمُ بأمورِه ومصالِحِه، وأمَّا حكمُ التَّوكُّلِ، فهو فرضٌ لهذه الآيةِ ولغيِرِها من الأدلَّةِ، وهو لا يُنافي الأخذَ بالأسبابِ، بل يُجامِعُه كما في حديثِ عمرَ رَضِي اللهُ عَنْهُ الَّذي رواه أحمدُ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَةَ وابنُ حِبَّانَ والحاكمُ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)) رواه التَّرمذيُّ وقالَ: حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجَ التَّرمذيُّ من حديثِ أنسٍ قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ فقالَ: ((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)) وذكر عن يحيى القطَّانِ إنَّه قال: هو عندي حديثٌ مُنكرٌ.
ففيهِ إشارةٌ إلى أنَّ التَّوكُّلَ لا يُنافي الإتيانَ بالأسبابِ، بل يكونُ جمعُهما أفضلَ، كما رُويَ أنَّ عُمرَ لَقي أناسًا من أهلِ اليمنِ، فقال: مَن أنتم؟ فقالوا: نحنُ المتوكِّلون، قال: بل أنتم المُتأكلون، إنَّما المتوَكِّلُ الَّذي يُلقي حَبَّهُ في الأَرضِ وَيَتَوَكَّلُ عَلى اللهِ. َذكره ابنُ رجبٍ.
قال ابنُ القيِّمِ في ((المدارجِ)): أجمعَ القومُ على أنَّ التَّوكُّلَ لا يُنافيِ القيامَ بالأسبابِ، فلا يصحُّ التَّوكُّلُ إلا مَع القيامِ بِها، وإلا فهوَ بطالةٌ وتوكُّلٌ فاسدٌ، وقالَ سهلُ بنُ عبدِ اللهِ: مَن طَعَنَ في الحركةِ فقد طَعَنَ في السُّنَّةِ، ومَن طَعنَ في التَّوكُّلِ فقد طَعنَ في الإيمانِ، فالتَّوكُّلُ حالُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، والكسبُ سُنَّتُه، فمَن عملَ على حالِه فلا يتركَنَّ سُنَّتَه.
والتَّوكُّلُ ينقسمُ إلى قِسمين: الأوَّلِ: توكُّلٌ على اللهِ، فهو مِن أشرفِ أعمالِ القلوبِ وأَجلِّهَا. والثَّاني: التَّوكُّلُ على غيرِه -سُبْحَانَهُ- وينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: التَّوكُّلُ على غيرِ اللهِ في الأمورِ الَتي لا يَقدِرُ عليها إلا اللهُ، كالتوكُّلِ على الأمواتِ، والطَّواغيتِ. في رزقٍ، أو نصرٍ، أو نفعٍ، أو ضرٍّ، ونحوِ ذلك، فهذا شِركٌ أكبَرُ.
الثَّاني: التَّوكُّلُ في الأسبابِ الظَّاهرةِ، كمَن يتوكَّلُ على أميرٍ، أو سلطانٍ، فيما أَقْدَرَهُ اللهُ عَلَيهِ من رزقٍ، أو دَفعِ أذًى، ونحوِ ذلك، فهذا النَّوعُ شِركٌ أصغرُ.
الثَّالثِ: توكيلُ الإنسانِ غيرَه في فعلِ ما يقدرُ عليه نيابةً عنهُ، فهذه الوكالةُ الجائزةُ لكن ليسَ له أنْ يعتمدَ عليهِ، بل يتوكَّلُ على اللهِ في تيسيرِ أمرِه، وذلك من جملةِ الأسبابِ الجائِزةِ، فهذه الآيةُ أفادتْ الحثَّ على التَّوكُّلِ على اللهِ، وتعليقَ الأملِ به -سُبْحَانَهُ- دونَ غيرِه، كما أفادتْ وجوبَ التَّوكُّلِ على اللهِ، إذ مُطلقُ الأمرِ يقتضي الوجوبَ، وأفادتْ إثباتَ صفةِ الحياةِ الكاملةِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.(1/35)
وَقَوْلُهُ: ( وهُوَ الحَكِيْمُ الخَبِيْرُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (الحكيمُ): أي الحاكمُ بينَ خلقِه بأمرِه الدِّينيِّ الشَّرعيِّ، وأمرِه الكونيِّ القدريِّ، الَّذي لَهُ الحكمُ في الدُّنْيَا والآخرةِ، كما قال تعالى: (وَمَا اختلفتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) وقال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فهو -سُبْحَانَهُ- الحَكَمُ، والحاكِمُ بين خلقهِ في الدُّنْيَا والآخرةِ، يحكمُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في الدُّنْيَا بِوَحيِهِ الَّذي أنزلَهُ على الأنبياءِ والرُّسلِ، ويحكمُ يومَ القيامةِ إذا نزلَ لفصلِ القضاءِ بين العبادِ، والحكيمُ: المحكِمُ المُتقِنُ للأشياءِ، الَّذي يضعُ الأشياءَ مواضِعَها، والَّذي له الحكمةُ التَّامَّةُ في خلقِهِ وأمرِه، فعليه يكونُ للحكيمِ معنيانِ:
الأوَّلُ: بمعنى المحكمِ المتقنِ للأشياءِ, والإحكامُ يكونُ في شرعِه وأمرِه، وفي خلقِه وقدَرِه، وكُلٌّ منهما مُحكَمٌ من وجهينِ: الأوَّلِ: وجودُه على صورَتِهِ المُعَيَّنَةِ.
الثَّاني: في غايتِه المحمودةِ الَّتي يَتَرَتَّبُ عليها.
وأمَّا حكمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فينقسمُ إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: حُكمٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ، كقولِهِ: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ).
الثَّاني: حكمٌ دينيٌّ شرعيٌّ، كقولِهِ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ – إلى قولِه - إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).
والحكمةُ وضعُ الأشياءِ مواضعَها.
قال ابنُ القيِّمِ في ((المدارجِ)): الحكمةُ حكمتانِ: عِلْمِيَّةٌ، وَعَمَلِيَّةٌ، فالعلميَّةُ: الاطِّلاعُ على بواطنِ الأشياءِ، ومعرفةُ ارتباطِ الأسبابِ بمسبَّباتِها خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا، والعمليَّةُ: وضعُ الشَّيءِ في موضِعِه. انتهى.
وحكمتُه -سُبْحَانَهُ- صفةٌ قائمةٌ به، كسائرِ صفاتِه من سمعِه وبصرِه وعلمِه وقدرتِه ونحوِ ذلك، وهي تنقسمُ إلى قسمينِ: إحدَاها: حكمةٌ في خلقِه وهي نوعانِ:
الأوَّلُ: إحكامُ هذا الخلقِ وإيجادُه في غايةِ الإحكامِ والإتقانِ.
والثَّاني: صدورُه لأجلِ غايةٍ محمودةٍ مطلوبةٍ له -سُبْحَانَهُ- الَّتي أَمَرَ لأجلِها وخَلَقَ لأجْلِها.
الثَّانيةُ: الحكمةُ في شرعِه، وتنقسِمُ أيضًا إلى قسمينِ: الأوَّلِ: كونِها في غايةِ الإحسانِ والإتقانِ. والثَّاني: كونُها صدرتْ لغايةٍ محمودةٍ وحكمةٍ عظيمةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ.
قال في ((المنهاجِ)): أجمعَ المُسلمون على وصفِه -سُبْحَانَهُ- بالحكمةِ، وتنازَعوا في تفسيرِ ذلك، فقالَ الجمهورُ من أهلِ السُّنَّةِ وغيِرِهم: هو حكيمٌ في خلقِه وأمرِه، والحكمةُ تتضمَّنُ ما في خلقِه وأمرهِ من العواقبِ المحمودةِ، والغاياتِ المحبوبةِ، والجمهورُ يقولون: لامُ التَّعليلِ داخلةٌ في أفعالِ اللهِ وأحكامِه. انتهى.
فاسمُه الحكيمُ فيه إثباتُ الحكمةِ، والحِكمةُ تتضمَّنُ كمالَ علمِه وخبرتِه، وأنَّه أمرٌ ونهيٌ، وخلقٌ وقدرٌ لِما له في ذلك من الحكمِ والغاياتِ الحميدةِ الَّتي يستحقُّ عليها كمالَ الحمْدِ، والإحكامُ الَّذي في مخلوقاتِه دليلٌ على علمِه، وإنَّما يدلُّ إذا كان الفاعلُ حكيمًا يفعلُ الحكمةَ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
والحكمُ معناه لغةً: المنعُ، وشرعًا: هو خِطابُ اللهِ المتعلِّقُ بأفعالِ المكلَّفينَ اقتضاءً أو تخييرًا، وينقسمُ الحكمُ بالنسبةِ إلى الرِّضا به وعدمِه إلى أقسامٍ: قسمٍ يجبُ الرِّضا به والانقيادُ والاستسلامُ له، وهو الحُكمُ الدِّينيُّ الشَّرعيُّ، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآيةَ، وأمَّا الحُكمُ الكونيُّ القدريُّ فمنه ما يُستحبُّ الرِّضا به، كالرِّضا بالفقرِ، والعاهةِ، والأمراضِ، ونحوِ ذلك، ومنه ما يحرمُ الرِّضا به كالرِّضا بالكفرِ، والمعصيةِ، ونحوِ ذلك.
وأمَّا اسمُه -سُبْحَانَهُ- الخبيرُ، فمعناه الَّذي انتهى علمُه إلى الإحاطةِ ببواطنِ الأشياءِ وخفاياها، كما أحاطَ بظواهِرِها. انتهى من ((الصَّواعقِ)).
يقالُ: خبرتُ الأمرَ أخبُره إذا عرفتُه على حقيقتِه.
(38) قولُه: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ): أى يدخلُ، قال وَلَجَ يَلِجُ، أي دَخَلَ يَدْخُلُ، أى يعلمُ ما يَدْخُلُ فيها، أي في الأرضِ من القطرِ والبذورِ والكنوزِ والمَوْتى وغيرِ ذلك.
قولُه: (مَا يَخْرُجُ مِنْهَا): أي من الأرضِ من النباتِ والمعادِنِ.
قولُهُ: (وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ): من المطرِ والملائكةِ.
قولُه: (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): أي يَصعدُ في السَّماءِ.
قولُهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) سَيَأْتِى الكلامُ على المعيَّةِ.
قولُه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) أى خَزائنُه، أو الطُّرقُ الموصلةُ إلى عِلمِه.
قولُه: (لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ هُو): قال المناوِيُّ رحمه اللهُ: فَمن ادَّعى علمَ شيءٍ منها كَفَرَ، وَمفاتحُ الغيبِ هى الخمسةُ المذكورةُ
في قولِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى-: (إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا َتَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) كما رَواه البُخَارِيُّ في صحيحِه.(1/36)
وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيْها )(38) )وهو معكُمْ أينَمَا كنتُمْ واللهُ بما تعمَلُونَ بصيرٌ ( وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ ). (1)
__________
(1) قولُه: (ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ): أي القِفارِ من النَّباتِ والدَّوابِّ وغيرِ ذلك.
قولُه: (وَالبَحْرِ) أي يعلمُ ما فيه من الحيواناتِ والجواهِرِ ونحوِ ذلك.
قولُه: (ومَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ): أي من أشجارِ البرِّ والبحرِ وغيِرِ ذلك.
قولُه: (إِلاَّ يَعْلَمُها): سُبْحَانَهُ.
قولُه: (ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَاتِ الأَرْضِ): من حبوبِ الثِّمارِ، والزُّروعِ وغيِرِ ذلك.
قولُه: (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ): هذا عمومٌ بعدَ خصوصٍ.
قولُه: (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ): أي مكتوبٍ في اللَّوحِ المحفوظِ، لأنَّ اللهَ كَتَبَ علمَ ما يكونُ وما قَدْ كانَ قبلَ أَنْ يخلقَ السَّماواتِ والأرضَ، فجميعُ الأشياءِ صغيِرِها وكبيرِها مثبتةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ على ما هي عليه، فتقعُ جميعُ الحوادثِ طِبقَ ما جَرى به القلمُ، وهذا أَحَدُ مراتبِ القضاءِ والقدرِ، فإنَّها أربعُ مراتبَ: علمُه -سُبْحَانَهُ- الشَّاملُ لجميعِ الأشياءِ، وكتابُه المحيطُ بجميعِ الموجوداتِ، ومشيئتُه العامَّةُ الشَّاملةُ لكلِّ شيءٍ، وخلقُه لجميعِ المخلوقاتِ، وسيأتي الكلامُ على هذا إنْ شاءَ اللهُ في الكلامِ على القدرِ.
ففي هذهِ الآيةِ إثباتُ صفةِ العلمِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وهي مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، وفيها الرَّدُّ على المعتزلةِ حيثُ قالوا: إنه عالمٌ بلا علمٍ، وفيها إثباتُ إحاطَةِ علمِه بكلِّ شيءٍ، فلا يَخْفى عليه خافيةٌ، وأنَّه يعلمُ الكُلِّيَّاتِ والجُزئيَّاتِ، ويعلمُ كلَّ شيءٍ، ما كانَ وما يكونُ وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ يكونُ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ) وقال تعالى: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) وفي هذهِ الآيةِ الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يعلمُ الغيبَ، فهي صريحةٌ في أنَّ هذه الخمسَ لا يعلمُها إلا اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما تقدَّمَ الحديثُ الَّذي في الصَّحيحين أنَّهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللهُ ... . لا يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ إِلا اللهُ)) الحديثَ.
وقالَ القُرطبيُّ رحمهُ اللهُ: لا مَطمعَ لأحدٍ في علمِ شيءٍ من هذهِ الأمورِ الخمسةِ. اهـ. والمرادُ بالغيبِ المشارِ إليه هو الغيبُ المطلقُ: وهو مالا يعلمهُ إلا اللهُ، لا الغيبُ المقيَّدُ: وهو ما عَلِمَه بعضُ المخلوقاتِ دونَ بعضٍ، فهو غيبٌ بالنِّسبةِ لمَن لم يعلمْهُ دونَ من عَلِمَه، فيكونُ غيبًا عَمَّنْ غابَ عنه من المخلوقِين، لا عَمَّن شهِدَهُ، فتلخَّص أنَّ الغيبَ ينقسمُ إلى قِسمين: مطلقٍ، ومقيَّدٍ.(1/37)
وقولُه: ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ )، وقَوْلُهُ: ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ). (1)
__________
(1) قولُه: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى) ((ما)) مصدريةٌ أي أنَّه -سُبْحَانَهُ- يعلمُ في أيِّ يومٍ تحملُ، وفي أيِّ يومٍ تضعُ، وهلْ هُوَ ذكرٌ أو أُنثى، ففي هذِه الآيةِ إثباتُ صفةِ العلمِ، كما تقدَّمَ، وقد تواطأتِ الأدِلَّةُ على إثباتِ هذه الصِّفةِ عقلاً ونقلاً، وفيها سَعةُ علمِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّهُ منفردٌ بعلمِ ما في الأرحامِ وعلمِ مدَّةِ إقامتِه فيه، وهذا أَحَدُ أنواعِ الغيبِ الَّذي لا يعلمُها إلا اللهُ.
قولُه: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) هذه الآيةُ فيها إثباتُ صفةِ القدرةِ لله -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه، فجميعُ الأشياءِ مُنقادَةٌ لقدرتهِ، تابعةٌ لمشيئتِه سُبْحَانَهُ، وقديرٌ فعيلٌ، بمعنى فاعلٍ، بمعنى القادرِ وهي من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، كما ذكره في ((الفتحِ)) قال ابنُ بطَّالِ: القدرةُ من صفاتِ الذَّاتِ، والقوَّةُ والقدرةُ بمعنًى واحدٍ. انتهى.
وأمَّا المقتدِرُ فمعناه التَّامُّ القدرةِ، الَّذي لا يمتنعُ عليه شيءٌ. قالَ أحمدُ رحمهُ اللهُ: القدرةُ قدرةُ اللهِ، واستحسنَ ابنُ عقيلٍ هذا من أحمدَ، والمعنى أنَّه لا يمنعُ من قدرةِ اللهِ شيءٌ، وَنُفَاةُ القَدَرِ قد جحدُوا كمالَ قدرةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وقد قالَ بعضُ السَّلفِ: ناظِروهم بالعلمِ، فإن أَقَرُّوا به خُصِمُوا، وإن جحدُوه كفُروا، وقد استدلَّ العلماءُ على إثباتِ القدرِ بشمولِ القدرةِ والعلمِ، فقولُه سُبْحَانَهُ: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عامٌّ يَتناولُ كلَّ شيءٍ، فيدخلُ فيه أفعالُ العبادِ من الطَّاعاتِ والمعاصي، فإنَّها داخلةٌ تحتَ قدرةِ اللهِ ومشيئتِه، وكما أنَّه المُريدُ لها القادرُ عليها هم الفاعلون لها، الواقعةُ بقدرتِهم ومشيئتِهم، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
والقدريَّةُ تُنكِرُ دخولَ أفعالِ خلقِه تحتَ قدرتِه ومشيئتِه وخلقِه، فهم في الحقيقةِ مُنكرونَ لكمالِ عزَّتهِ ومُلكِه، قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):
وهو القديرُ لكلِّ شيءٍ فهو مقـ ـدورٌ له طوعًا بلا عصيانِ
وعمومُ قدرتِهِ تدلُّ بأنَّه هو خالقُ الأفعالِ للحيوانِ
هي خلقُه حقًّا وأفعالٌ لهم حقًّا ولا يتناقضُ الأمرانِ
فحقيقةُ القدَرِ الَّذي حارَ الورى في شأنِه هو قدرةُ الرَّحمنِ
واستحسنَ ابنُ عقيلٍ ذا من أحمدَ لمَّا حَكاه عن الرِّضى الرَّبَّاني
قالَ الإمامُ شفى القلوبَ بلفظةٍ ذاتِ اختصارٍ وهي ذاتُ معانِي.
فهو -سُبْحَانَهُ- خالِقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، لا خالقَ غيرُه ولا ربَّ سواه، ما شاءُ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكنْ، فكلُّ ما في الوجودِ مِن حركةٍ أو سكونٍ فبقضائِه وقدَرهِ ومشيئتِهِ وخلقِه، وهو -سُبْحَانَهُ- أمرَ بطاعتِه وطاعةِ رسولِهِ، ونَهى عن معصيتِه ومعصيةِ رسولهِ، ولا يتناقضُ الأمرانِ، خلافًا لأهلِ البدعِ.
قولُه تعالى: (وأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
فلا يخرجُ حادثٌ من الأعيانِ والأفعالِ عن قدرتِه وخلقِه، كما لا يخرجُ عن علمِه ومشيئتِه.
تنبيهٌ: يجيءُ في كلامِ بعضِ النَّاسِ ((وَهُوَ على ما يَشاءُ قَديرٌ)) وليس ذلك بصوابٍ، بل الصَّوابُ ما جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لعمومِ قدرتِهِ ومشيئتِهِ، خلافًا لأهلِ البدعِ من المعتزلةِ وغيرِهم.(1/38)
وقَوْلُهُ: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ... (1)
ذُو القُوَّةِ المَتْيِنُ )، وقَوْلُهُ: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ )، وقَوْلُهُ: ( إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيْعاً بَصِيْراً ). (2)
__________
(1) قولُه: (الرَّزَّاقُ): فعَّالٌ، من أبنيةِ المبالغةِ، ومعناه الَّذي أعطى الخلائقَ أرزاقَها وساقَها إليهم، والرَّزقُ بالفتحِ: العطاءُ وبالكسرِ لغةً: الحظُّ والنَّصيبُ، وشرعًا: "هو ما ينفعُ من حلالٍ أو حرامٍ".
*وينقسم الرِّزقُ الى قِسمين:
الأوَّلِ: الرِّزقُ المطلقُ: وهو المستمرُّ نفعُه في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهو رزقُ القلوبِ العلمُ والإيمانُ والرِّزقُ الحلالُ.
الثَّاني: مطلقُ الرِّزقِ: وهو الرِّزقُ العامُّ لسائِرِ الخليقةِ بَرِّهَا وفاجرِها وبهائِمها وغيرِها، وهو سَوْقُ القوتِ لكلِّ مخلوقٍ، وهذا يكونُ من الحلالِ والحرامِ، واللهُ رازقُهُ، قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا). الآيةَ.
(2) قولُه: (ذُو القُوَّةِ): أي صاحبُ القوَّةِ التَّامَّةِ الَّذي لا يعتريهِ ضعفٌ، وهو بمعنى العزيزِ. انتهى. والقوَّةُ من صفاتِ الذَّاتِ، وهو بمعنى القدرةِ، لم يزلْ -سُبْحَانَهُ- ذا قوَّةٍ وقدرةٍ، والمعنى في وصفِه بالقوَّةِ أنَّه القادرُ البليغُ الاقتدارِ على كلِّ شيءٍ. انتهى. من ((الفتحِ)).
قولُه: (المَتْيِنُ): أي الَّذي له كمالُ القوَّةِ، قال البيهقيُّ: القويُّ: التَّامُّ القدرةِ لا يُنسَبُ إليه عَجزٌ في حالٍ من الأحوالِ. انتهى. فهذه الآيةُ فيها إثباتُ صفةِ الرَّزَّاقِ، وهي من الصِّفاتِ الفعليَّةِ، وفيها إثباتُ صفةِ القوَّةِ، وهي من الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ.
قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ): هذه الآيةُ قد تقدَّمَ الكلامُ عليها.
قوله: (نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ): نِعمَ من ألفاظِ المدحِ و ((ما)) قيلَ نكرةٌ موصوفةٌ، كأنَّه قيل: نعمَ شيئًا يعظُكم به، أو موصولةٌ، أي نعمَ الشَّيءُ الَّذي يعظُكُم به.
قولُه: (يَعِظُكُمْ): أي يأمُركُم به من أداءِ الأماناتِ، والحُكمِ بين النَّاسِ بالعدلِ.
قولُه: (إِنَّ الله كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا): أي إنَّه -سُبْحَانَهُ- سَميعٌ لِما تقولونَ، وبصيرٌ بما تفعلونَ، فهذه الآيةُ وما قبلَها من الآياتِ تدلُّ على إثباتِ السَّمعِ والبصرِ للهِ حقيقةً، كما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، وفيه دليلٌ على أنَّ صفةَ السَّمعِ غيرُ صفةِ البصرِ، إذ العطفُ يقتضي المغايرةَ، فالصِّفاتُ بالنَّظرِ إلى الذَّاتِ مترادفةٌ، لأنَّها كلَّها صفاتٌ لذاتٍ واحدةٍ، وبالنَّظرِ إلى الصِّفاتِ متباينةٌ لأنَّ كلَّ صفةٍ غيرُ الصِّفةِ الأخرى، فالسَّمعُ غيرُ البصرِ، وكذلك العلمُ وهَلُمَّ جَرَّا.
عن أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّه سَمِعَ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يَقْرَأُ هذه الآيةَ وَيَضَعُ إبهامَهُ على أُذُنِهِ والَّتي تَليها على عَيْنِهِ وَيَقُولُ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يَقْرَؤُهَا وَيَضَعُ إصْبَعَيْهِ، رَوَاهُ أبو داودَ، وابنُ حبَّانَ في صحيحِه، والحاكمُ في مستدركِه. وعملُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هذا دليلٌ على إثباتِ هاتينِ الصِّفتين، وأنَّهما غيرُ صفةِ العلمِ، وإلا لأشارَ إلى صدرِه، ووضعُه إبهامَيْه تحقيقًا لصفةِ السَّمعِ والبصرِ، وأنَّهما حقيقةٌ لا مجازٌ، خلافًا لأهلِ البدعِ.(1/39)
وقَوْلُهُ تَعَالى: ( وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللهِ )، وقَوْلُهُ: ( وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وَلَوْلاَ): أي وهلاَّ، قولُه: (إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي هلاَّ قلتَ حين دخلتَ بُستانَك. قولُه: (مَا شَاءَ اللهُ): ((ما)) موصولةٌ، أي: الأمرُ ما شاءَ اللهُ إقرارًا بمشيئتِه، أي أنَّه إنْ شاءَ أبقاها، وإنْ شاءَ أفناها، واعترافًا بالعجزِ وأنَّ القدرةَ للهِ سُبْحَانَهُ.
قالَ بعضُ السَّلفِ: من أعجبهُ شيءٌ فليقلْ: ما شاءَ اللهُ لا قوَّةَ إلا باللهِ، وفي هذه الآيةِ وصفُه -سُبْحَانَهُ- بالقوَّةِ وإثباتُ المشيئَةِ له الشَّاملةِ العامَّةِ، فما وقعَ من شيءٍ فقد شاءه وأرادَهُ، لا رَادَّ لأمرِهِ ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِه.
قولُه: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ): أي لو شاءَ -سُبْحَانَهُ- عدَمَ اقتتالِهم لم يَقتتِلوا، إذ لا يَجْري في مُلكِه إلا ما شاءَ سُبْحَانَهُ، فهذه الآيةُ فيها إثباتُ المشيئَةِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وأنَّ ما شاءَه لا بُدَّ من وقوعِه، فكلُّ ما وجِدَ فهو بمشيئتِه -سُبْحَانَهُ- لا رادَّ لأمرِه ولا مُعَقِّبَ لحكمِه، وهذا يُبْطِلُ قولَ المعتزلةِ، لأنَّه أخبرَ أنَّه لو شاءَ أَنْ لا يَقتتِلوا لم يقْتتِلوا، وهم يقولونَ شاءَ أَنْ لا يقتتِلوا فاقتَتلوا، والأدلَّةُ على بُطلانِ قولِ المعتزلةِ كثيرةٌ جدًّا، ومَن أضلُّ سبيلاً وأكفرُ ممَّن يزعمُ أَنَّ اللهَ شاءَ الإيمانَ من الكافرِ، والكافِرَ شَاءَ الكُفرَ، فغلبتْ مشيئَةُ الكافِرِ مشيئَةَ اللهِ: (تعالى اللهُ عن قولِهم) وفيها إثباتُ الفعلِ حقيقةً للهِ، كما يليقُ بجلالِه، وأَنَّ القدرةَ عليه صفةُ كمالٍ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- لم يزلْ فَعَّالاً لِما يريدُ ولم يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، والفعلُ من لوازمِ الحياةِ، والرَّبُّ لم يزلْ حيًّا فلم يزلْ فعَّالاً، وأفعالُه -سُبْحَانَهُ- كصفاتِه قائمةٌ به، ولولا ذلك لم يكنْ فَعَّالاً ولا موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، فأفعالُه -سُبْحَانَهُ- نوعانِ: لازمةٌ، ومتعدِّيةٌ كما دلَّت على ذلك النُّصوصُ الَّتي لا تُحصى وهي أفعالٌ حقيقةً وليستْ مجازًا، وليستْ كأفعالِ خلقِه، فصفاتُه تليقُ به سُبْحَانَهُ، انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ باختصارٍ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: قولُه: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ): دليلٌ على أمورٍ. أحدِها: أنَّه -سُبْحَانَهُ- يفعلُ بإرادتِهِ ومشيئتِه. الثَّاني: أنَّه لم يزلْ كذلك، لأنَّه ساقَ ذلك في مَعْرِضِ المدحِ والثَّناءِ على نفسِه، وأَنَّ ذلك مِن كمالِه، فلا يجوزُ في وقتٍ من الأوقاتِ أَنْ يكونَ عادمًا لهذا الكمالِ، وما كانَ من أوصافِ كمالِه ونعوتِ جلالِه لم يكنْ حادِثًا بعد أَنْ لم يكن. الثَّالثِ: أنَّه إذا أرادَ شيئًا فعلَهُ، فإنَّ ((ما)) موصولةٌ عامَّةٌ، أي يفعلُ كلَّ ما يريدُ أنْ يفعلَه، وهذا في إرادتِه المتعلِّقةِ بفعلِه، وأمَّا إرادتُه المتعلِّقةُ بفعلِ العبدِ فلها شأنٌ آخرُ، فإنَّ هنا إرادتيْنِ: إرادةَ أَنْ يفعلَ العبدُ، وإرادةَ أنْ يجعلَهُ الرَّبُّ فاعلاً، وليستا مُتلازمتَينِ، وإنْ لزمَ مِن الثَّانيةِ الأولى مِن غيرِ عكسٍ. الرَّابعِ: أنَّ إرادتَه وفعلَه متلازمتانِ، فما أرادَ أنْ يفعلَهُ فعلَه، وما فعلَه فقد أرادَهُ، بخلافِ المخلوقِ، فما ثَمَّ فعَّالٌ لما يريدُ إلا اللهَُ.
الخامسِ: إثباتُ إراداتٍ متعدِّدةٍ بحسَبِ الأفعالِ، وأَنَّ كلَّ فعلٍ له إرادةٌ تخُصُّه، هذا هو المعقولُ في الفِطَرِ.
السَّادسِ: أنَّ كلَّ ما صَلَحَ أَنْ تتعلَّقَ به إرادتُه جازَ فعلُه.(1/40)
وقَوْلُه سُبْحَانَهُ: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (أُحِلَّتْ) أي أُبيحتْ.
قولُه: (بَهِيْمَةُ الأَنْعَامِ): أي الإبلُ والبقرُ والغنمُ سُمَّيت بهيمةً؛ لأنَّها لا تتكلَّمُ وأمَّا النَّعمُ فهي الإبلُ خاصَّةً.
قولُه: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ): أي إلا ما يُتلى عليكم تحريمُه في قولِه سُبْحَانَهُ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) الآيةَ.
قولُه: ((غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ): غيرَ نصبٌ على الحالِ، ومعنى الآيةِ: أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ كلُّها إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنَّه صيدٌ لا يَحِلُّ لكم في حالِ الإحرامِ.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ): أي يحكُمُ ما يريدُ من التَّحليلِ والتَّحريمِ، لا اعتراضَ عليهِ، فهو الحَكَمُ -سُبْحَانَهُ- الحكيمُ لا حاكمَ غيرُهُ، فكلُّ حُكمٍ سوى حكمِه فهو باطلٌ ومردودٌ، وكلُّ حاكِمٍ بغير حُكْمِهِ وحُكْمِ رسولهِ فهو طاغوتٌ كافِرٌ باللهِ، قال تعالى: (وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وهذا عامٌّ شامِلٌ فما من قضيَّةٍ إلا وللهِ فيها حُكمٌ: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) ولا شكَّ أنَّ مَنْ أعرضَ عن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولهِ واعتاضَ عنها بالقوانينِ الوضعيَّةِ أنَّه كافرٌ باللهِ.
وكذلك منْ زَعَمَ أنَّه يسعُهُ الخروجُ عن شريعةِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو زَعَمَ أنَّ هَديَ غيرِ محمَّدٍ أفضلُ من هديهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو أحسنُ، أو زعمَ أنَّه لا يسعُ النَّاسَ في مثلِ هذه العصورِ إلا الخروجُ عن الشَّريعةِ وأنَّها كانتْ كافيةً في الزَّمانِ الأوَّلِ فقط، وأَمَّا في هذه الأزمنةِ فالشَّريعةُ لا تُسايرُ الزَّمنَ ولا بُدَّ من تنظيمِ قوانينَ بما يناسبُ الزَّمنَ، لا شكَّ إن اعتقدَ هذا الاعتقادَ أنَّه قد استهانَ بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ، وتَنَقَّصَهما فلا شكَّ في كُفرِه وخروجِه عن الدِّينِ، وكذلك مَنْ زعمَ أنَّه محتاجٌ للشَّريعةِ في علمِ الظَّاهرِ دونَ علمِ الباطنِ، أو في علمِ الشَّريعةِ دونَ علمِ الحقيقةِ، أو أنَّ الإنسانَ حُرٌّ في التَّديُّنِ في أيِّ دينٍ شاءَ من يهوديَّةٍ أو نصرانيَّةٍ أو غيِرِ ذلك، أو أنَّ هذه الشَّرائعَ غيرُ منسوخةٍ بدينِ محمَّدٍ، أو استهانَ بدينِ الإسلامِ أو تَنَقَّصَهُ أو هزلَ به أو بشيءٍ من شرائعِه أو بمَن جاءَ به، وكذلك ألحقَ بعضُ العُلماءِ الاستهانةَ بحَمَلَتِه لأجلِ حملِهِ، فهذه الأمورُ كلُّها كفرٌ، قال تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) الآيةَ.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ): فيها إثباتُ صفةِ الحكمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وقد تقدَّمَ أنَّ حُكمَهُ ينقسمُ إلى قِسمين. كونيٍّ، كما في قولِه: (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي)، وشرعيٍّ: كما في هذه الآيةِ.
قولُه: (مَا يُرِيدُ): فيه إثباتُ الإرادةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه، وأنَّه لم يزلْ مُريدًا بإراداتٍ متعاقِبةٍ، فنوعُ الإرادةِ قديمٌ، وأمَّا إرادةُ الشَّيءِ المعيَّنِ إنَّما يريدُه في وقتِه، فالإرادةُ مِن صفاتِ الفاعلِ، وهي تنقسمُ إلى قِسمين: إرادةٍ كونيَّةٍ قدريَّةٍ، وهذه مُرادِفَةٌ للمشيئةِ، وما أرادَه -سُبْحَانَهُ- كونًا وقدرًا فلابُدَّ مِن وقوعِهِ، فهذه الإرادةُ هي المتعلِّقةُ بالخلقِ وهو أنَّه يريدُ -سُبْحَانَهُ- أنْ يفعلَ هو. الثَّاني: إرادةٌ شرعيَّةٌ دينيَّةٌ، وهذه الإرادةُ المتعلِّقةُ بالأمرِ، وهي أنْ يُريدَ مِن عبدِه أنْ يفعلَ، وهذه مرادفةٌ للمحبَّةِ والرِّضا، فتجتمعُ الإرادتانِ في حقِّ المُخلصِ المُطيعِ، وتنفردُ الإرادةُ الكونيَّةُ في حقِّ العاصي، ومَن لم يُفرِّقْ بين النَّوعين فقدْ ضَلَّ كالجهميَّةِ والقدريَّةِ، فالإرادةُ الكونيَّةُ كقولِه: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ)، والدينيَّةُ كقولِهِ: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ) الآيةَ، فالمحبَّةُ والرِّضا أَخَصُّ مِن الإرادةِ، خلافًا للمعتزلةِ، وأكثرِ الأشاعرةِ القائلين: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا والإرادةَ سواءٌ، فأهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: إنَّ اللهَ لا يُحبُّ الكفرَ والفسوقَ ولا يَرْضاه، وإنْ كانَ قد أرادَهُ كونًا وقدرًا، كما دخلَتْ سائرُ المخلوقاتِ لِما في ذلك من الحكمةِ، وهو وإنْ كانَ شرًّا بالنَّسبةِ إلى الفاعلِ فليسَ كلُّ ما كان شرًّا بالنِّسبةِ إلى شخصٍ يكونُ عديمَ الحكمةِ، بل للهِ في بعضِ المخلوقاتِ حِكَمٌ قد يعلمُها بعضُ النَّاسِ وقد لا يعلَمُها. انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ، بتصرُّفٍ.(1/41)
وقَوْلُهُ: ( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ... (1)
__________
(1) قولُه: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ): أي مَن شاءَ -سُبْحَانَهُ- أن يَدُلَّهُ ويرشدَهُ ويوفِّقَهُ ويجعلَ قلبَهُ قابِلاً للخيِر هداهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ووفَّقه، فهدايةُ القلوبِ إليه -سُبْحَانَهُ- يهدي مَن يشاءُ بفضلِه، ويُضلُّ مَنْ يشاءُ بعدلِه، فلا تُطلبُ الهدايةُ إلا منه -سُبْحَانَهُ- فهو الهادِي كما قال: (مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ) وفي الحديثِ: ((كَلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)) وليستْ هذه الآيةُ معارِضةً لحديثِ عياضِ بن حِمارٍ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ اللهُ: ((خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ _ وفي روايةٍ – مُسْلِمينَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّياطِينُ)) – فإنَّ اللهَ خلقَ بني آدمَ وفطرَهُمْ على قبولِ الإسلامِ والميلِ إليه دونَ غيرهِ، والتَّهيُّؤِ لذلك والاستعدادِ له بالقوَّةِ، لكنْ لا بُدَّ للعبدِ من تعلُّمِ الإسلامِ بالفعلِ، فإنَّه قَبلَ التَّعليمِ جاهلٌ لا يعرفُ شيئًا، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مَّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) الآيةَ، فإنْ هداهُ اللهُ سبَّبَ له مَن يعلِّمُهُ الإسلامَ فصارَ مهديًّا بالفِعلِ، بعدَ أَنْ كانَ مهديًّا بالقوَّةِ، وإِنْ خَذَلَهُ قَيَّضَ له ما يغيِّرُ له فطرتَه، كما قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) الحديثَ.(1/42)
يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلامِ): أي يُوسِّعْ قلبَهُ للإيمانِ، بأَنْ يقذفَ في قلبِه نورًا فينفسحَ له، ويَقْبلَه.
قوله: (ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا): أي ومَنْ شاءَ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يُضلَّهُ عنِ الهُدى يجعلْ صدرَهُ ضيِّقا، أي عن قبولِ الإيمانِ، وحرجًا، أي شديدَ الضِّيقِ، فلا يَبقى فيه منفذٌ للخيرِ، ومكانٌ حَرِجٌ، أي ضيِّقٌ، كثيرُ الشَّجرِ، لا تصِلُ إليه الرَّاعيةُ، والحرجُ أيضا: الإثمُ.
قولُه: (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماءِ): أي إذا كُلِّفَ الإيمانَ كأنَّما يَصَّعدُ في السَّماءِ لشدَّتهِ عليه.
قولُه: (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) يقولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: كما يجعلُ صدرَ مَن أرادَ إضلالَهُ ضيِّقًا كذلك يُسلِّطُ عليه الشَّيطانَ وعلى أمثالِه ممَّن أبَى الإيمانَ باللهِ ورسولِه، فيغُويه ويُصَدُّه عن سبيلِ اللهِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: الرِّجسُ: الشَّيطانُ، وقال مجاهدٌ: الرِّجسُ كلُّ ما لا خيَر فيهِ، وقيلَ: العذابُ، ففي هذه الآيةِ أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيدِ اللهِ، وفيها أنَّ العبدَ مُفتقِرٌ إلى ربِّه في كلِّ شيءٍ، وأنَّ العبادَ لا يملكونَ لأنفسهِم نفعًا ولا ضرًّا، وأنَّ مَن تفرَّدَ بخلقِ العبدِ ورزقِه هو المستحِقُّ أَنْ يُفرَدَ بالألوهيَّةِ والعبادةِ والسُّؤالِ، وأنَّه ليسَ عندَ أحدٍ من هدايةِ القلوبِ وتفريجِ الكروبِ شيءٌ من ذلك، لا الأنبياءُ ولا الملائكةُ ولا غيرُهم، ففيه الرَّدُّ على مَن زعمَ ذلك للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فَضْلا عن غيرِه. ا هـ.
وفي هذه الآيةِ كغيرِها دليلٌ على إثباتِ العلَّةِ والحكمةِ في أفعالِ اللهِ، إذ لا يعقلُ مريدٌ إلا إذا كان المُريدُ قد فعلَ لحكمةٍ يقصدُها بالفعلِ، وإثباتُ الحكمةِ في أفعالِه -سُبْحَانَهُ- هو قولُ السَّلفِ، وجمهورِ المُسلمين، وجمهورِ العُقلاءِ، وقالتْ طائفةٌ كَجَهْمٍ وأتباعِه: إنَّه لم يَخلقْ شيئًا لشيءٍ، ووافقَهُ أبو الحسنِ الأشعريُّ ومَن اتَّبعه، وهم يُثبتُون أنَّه مُريدٌ، ويُنكرونَ أنَّ له حِكمةً يريدُها، وهذا تناقَضٌ، انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ بتصرُّفٍ.
وفي هذهِ الآيةِ – كسوابِقها - إثباتُ الإرادةِ للهِ، كما يليقُ بجلالِه، وعُلِمَ ممَّا تقدَّم أنَّ الإرادةَ تنقسمُ إلى قِسمين، وأنَّ المشيئةَ لا تنقسمُ، وأنَّها مرادِفةٌ للإرادةِ الكونيَّةِ، كما عُلِمَ أنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخصُّ مِن مطلقِ الإرادةِ، وأنَّ الأدلَّةَ دلَّتْ على الفرقِ بين المشيئةِ والمحبَّةِ والرِّضا، وأنَّ مَنْ جمعَ بينهما فقد ضلَّ ضلالاً مُبينًا، وصادمَ أدلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وجمعَ بيَن ما فَرَّقَ اللهُ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: فالإرادةُ الكونيَّةُ: هي المشيئةُ لما خلقَهُ، وجميعُ المخلوقاتِ داخلةٌ في مشيئتِه وإرادتِه الكونيَّةِ، والإرادةُ الدِّينيَّةُ الشَّرعيَّةُ: هي المتضمِّنةُ للمحبَّةِ والرِّضا، المتناولةُ لجميعِ ما أمرَ به، وجعلَهُ شرعًا ودِينًا، وهذه مختصَّةٌ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، قال: ومنشأُ ضَلالِ مَن ضَلَّ: هو من التَّسويةِ بينَ المشيئةِ والإرادةِ، وبين المحبَّةِ والرِّضا، فَسوَّى بينهما الجبريَّةُ والقدريَّةُ، فقالت الجبريَّةُ: الكونُ كلُّه بقضائِه وقدرِه، فيكونُ محبوبًا مرضيًّا، وقالتِ القدريَّةُ النُّفاةُ: ليستِ المعاصِي محبوبةً له ولا مرضيَّةً، فليسَتْ مُقدَّرةً ولا مقضيةً، فهي خارجةٌ عن مشيئتِه وخلقِه.
وقد دَلَّ على الفرقِ بيَن المشيئةِ والمحبَّةِ: الكتابُ والسُّنَّةُ والفطرةُ الصَّحيحةُ، أمَّا نصوصُ المشيئةِ والإرادةِ فكقولِه سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ... )، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ) وأمَّا نصوصُ المحبَّةِ والرِّضا فكقولِه: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)، وقولِه: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) الآيةَ. انتهى.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في ((المدارجِ)): ومرادُهُ -سُبْحَانَهُ- نوعانِِ: مُرادٌ يُحبُّه ويرضَاه ويمدحُ فاعِلَه ويوالِيه، فموافقتُه في هذا المُرادِ هي عينُ محبَّتِه، وإرادةُ خلافِه رعونةٌ ومعارضةٌ واعتراضٌ، ومُرادٌ يبغضُه ويكرهُه ويمقتُ فاعلَهُ، فموافقتُه في هذا المُرادِ عينُ مُشاقَّتِه ومعاداتِه، فهذا الموضِعُ موضعُ فُرقانٍ، فالموافقةُ كلُّ الموافقةِ في معارضةِ هذا المُرادِ، واعتراضِه بالدَّفعِ والرَّدِّ. انتهى.
وفي الآيةِ إثباتُ الهدايةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّه الهادي لا سِواه، ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- الهادي، وهو الَّذي بصَّرَ عبادَهُ وعرَّفهم طريقَ معرفتِه، وهدى كلَّ مخلوقٍ إلى ما لابُدَّ له منه، وتنقسمُ الهدايةُ إلى قِسمين:
الأوَّلِ: هدايةٌ خاصَّةٌ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لا هاديَ غيرُه ولاتُطلبُ إلا منه، وهي هدايةُ التَّوفيقِ والقبولِ والإلهامِ، وهي المُستلزمةُ للاهتداءِ، وهي المذكورةُ في قولِه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).
الثَّاني: الهدايةُ العامَّةُ، وهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ والبيانِ، وهي المذكورةُ في قولِه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو المُبَيِّنُ عن اللهِ، والدَّالُّ على دينِهِ وشرْعِه، وكذلك الأنبياءُ، وأتباعُهم، وهذه الهدايةُ لا تستلزمُ الاهتداءَ، ولهذا ينتفي معها الهُدى، كما في قولِه تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) أي بَيَّنا لثمودَ وأرشدْنَاهم فلم يَهتدُوا.
فالهدايةُ المنفيَّةُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وغيرِه هي: هدايةُ التَّوفيقِ والقبولِ، وأمَّا المثبتةُ له كغيرِه من الأنبياءِ والمُرسلين وأتباعِهم فهي هدايةُ الدَّلالةِ والإرشادِ.
وفي الآيةِ المتقدِّمةِ إثباتُ الصِّفاتِ الفعليَّةِ، وأنَّها تنقسمُ إلى قِسمين: مُتَعَدِّيَةٍ، ولازمةٍ. فالمتعدِّيةُ: ما تعدَّى إلى مفعولٍ، مثلِ خلقَ ورزقَ وهَدَى وأضلَّ. واللازمةُ كقولِه: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ) (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) إلى غيرِ ذلِك ممَّا لا يُحْصى من النَّوعينِ، ذكرَ ذلك الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ، وابنُ القيِّمِ رحمهما اللهُ.
ذكرَ المصنِّفُ - رحمهُ اللهُ تعالى - الآياتِ في إثباتِ المشيئةِ والإرادةِ، ثمَّ ذكرَ الآياتِ في إثباتِ المحبَّةِ والرِّضا، إشارةً إلى الرَّدِّ على مَنْ زعمَ التَّسويةَ بين ما ذُكِرَ، وأنَّ المحبَّةَ والرِّضا والمشيئةَ متلازمان، ولا شكَّ في بُطلانِ هذا القولِ وفسادِه، فالأدلَّةُ الكثيرةُ دلَّتْ على الفرقِ بين محبَّتِهِ ورضاه وإرادتِه.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ في ((المنهاجِ)): فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يقولون: إنَّ اللهَ يُحِبُّ ويَرْضى، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسُّنَّةُ، ويقولون: إنَّ المحبَّةَ والرِّضا أخصُّ من الإرادةِ، فيقولون: إنَّ اللهَ لا يحبُّ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، ولا يَرضاه، وإنْ كانَ داخلاً في مُرادِه، كما دخلتْ سائرُ المخلوقاتِ، لِما في ذلك من الحكمةِ. انتهى.(1/43)
وقوله سُبْحَانَهُ: ( وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنينَ): لمَّا حثَّ على الصَّدقةِ والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ أمرَ بالإحسانِ، وهو أعلى مقاماتِ الطَّاعةِ، وهو الإتيانُ بالعملِ على أحسنِ أحوالِهِ وأكملِها، وهذا أمرٌ عامٌّ بالإحسانِ في معاملةِ اللهِ، وفي معاملةِ خلقِه، إذ حَذْفُ المعمولِ يُؤْذِنُ بالعمومِ.
عن شدَّادِ بنِ أوسٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلى كُلِّ شَيءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رواه مُسلمٌ. فهذا الحديثُ كالآيةِ فيهما دليلٌ على وجوبِ الإحسانِ في كلِّ شيءٍ من الأعمالِ، لكنَّ إحسانَ كلِّ شيءٍ بحسَبِهِ، وفي هذه الآيةِ وأمثالِها دليلٌ على أنَّ اللهَ موصوفٌ بالمحبَّةِ، وأنَّه يحبُّ حقيقةً, ومحبَّتُه -سُبْحَانَهُ- كما يليقُ بجلالِه، وفيها دليلٌ على أنَّه يُحبُّ مقتضى أسمائِه وصفاتِه وما يوافقُها، فهو مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحْسِنين، ومُؤمِنٌ يُحبُّ المؤمنينَ، وفي هذه الآيةِ وأمثالِها دليلٌ على أنَّ محبَّتَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- تتفاضلُ، فيحبُّ بعضَ المؤمنين أكثرَ من بعضٍ، وفيها إشارةٌ إلى أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، وأنَّ الإحسانَ أَعظَمُ سَبَبٍ لمحبَّةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- للعبدِ، وفيها أدلَّةٌ واضحةٌ على إثباتِ فِعلِ العبدِ وكسبِه، وأنه يُثَابُ على حَسَنِه ويُعاقَبُ على سيِّئِه، فتضمَّنتْ هذه الآيةُ الرَّدَّ على القدريَّةِ والجبريَّةِ، وفيها إثباتُ العلَّةِ والحكمةِ.(1/44)
وَقَوْلُهُ( وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ). (1)
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقْيِموا لَهُم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ )،وَقَوْلُهُ ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ ). (2)
__________
(1) قولُه: (وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ): أي اعدلُوا في معاملاتِكم، وأحكامِكم مع القريبِ والبعيدِ، يقالُ: أَقْسَطَ بمعنى عدلَ، وقَسَطَ بمعنى جارَ، قال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) ومن أسمائِه سُبْحَانَهُ: المُقْسِطُ أي العادلُ، ففي هذه الآيةِ الحثُّ على العدلِ وفضلِه، وأنَّه سببٌ لمحبَّةِ اللهِ، وأنَّ العدلَ في الرَّعيَّةِ من أفضلِ القُرَبِ، سواءٌ كانتْ رعيَّةً عامَّةً كالحاكمِ، أوِ خاصَّةً كعدلِ آحادِ النَّاسِ في بيتِه وولدِهِ، كما في الحديثِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رعيَّتِه)) وفي صحيحِ مُسلمٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((إِنَّ المُقْسِطِينَ عَلى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمينِ الرَّحْمنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا)) وفي التِّرمذيِّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ أَحَبَّ العِبَادِ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ إِليْهِ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ)).
(2) قولُه: (فَمَا استقامُوا): ((ما)) شرطيَّةٌ، أي ما استقامَ لكم المُشركونَ على العهدِ ولم ينقضُوه فاستقِيموا لهم على الوفاءِ به.
قولُه: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ): أي المتَّقين للذِّنوبِ والمعاصِي، والتَّقوى: هي التَّحرُّزُ بطاعةِ اللهِ عن معصيتِه، فهي كلمةٌ جامعةٌ لفعلِ المأموراتِ، وتركِ المنهِيَّاتِ. قالَ طلقُ بنُ حبيبٍ: التَّقوى: أنْ تَعبُدَ اللهَ، على نورٍ من اللهِ، ترجُو ثوابَ اللهِ، وأنْ تَتركَ معصيةَ اللهِ، على نورٍ من اللهِ، تخافُ عِقابَ اللهِ. في هذه الآيةِ الحَثُّ على الوفاءِ بالعهدِ وتحريمُ الغدرِ، وفيها فضلُ التَّقوى والحثُّ عليها، وفيها إثباتُ محبَّةِ اللهِ.
قولُه: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ): أي من الذُّنوبِ والمعاصي، والتَّوَّابُ: هو الَّذي كُلَّما أَذْنَبَ تَابَ، يُقالُ: تابَ يتوبُ أي: رجعَ، وتَوَّابٌ كثيرُ التَّوبةِ، وتوَّابٌ من أسماءِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، أي كثيرُ التَّوبةِ على عبادهِ، وتابَ على العبدِ ألهمه التَّوبةَ وقَبِلَ توبَتهُ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: والعبدُ توَّابٌ واللهُ تَوَّابٌ، فتوبةُ العبدِ رجوعُه إلى سيِّدِه بعد إباقٍ، وتوبةُ اللهِ نوعانِ: إذنٌ وتوفيقٌ، وقبولٌ واعتدادٌ. ا هـ.
فالتَّوبةُ لغةً: الرُّجوعُ. يُقالُ: تابَ وآبَ وأنابَ وثابَ، كلُّها بمَعْنى رجعَ.
وشرعًا: الرُّجوعُ عن الذَّنبِ، وهي واجبةٌ من جميعِ الذُّنوبِ على الفورِ، قالَ اللهُ تعالى: (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) والآياتُ والأحاديثُ في الأمرِ بالتَّوبةِ والحثِّ عليها كثيرةٌ جدًّا، وتصحُّ التَّوبةُ من بعضِ الذُّنوبِ دونَ بعضٍ، وللتَّوبةِ ثلاثةُ شروطٍ:
الأوَّلِ: النَّدمُ على ما فاتَ، والثَّاني: العزمُ على أَنْ لا يعودَ، والثَّالثِ: الإقلاعُ عن الذَّنبِ، فإن كانتِ التَّوبةُ من حقوقِ الآدميِّين اشتُرِطَ شرطٌ رابعٌ: وهو الخروجُ عن تلك المظلِمةِ واستحلالُه إنْ كانتْ غيبةً، وللتَّوبةِ أيضًا شرطٌ خامسٌ: وهو أنْ يتوبَ قبلَ الغرغرةِ، كما في الحديثِ الصَّحيحِ: ((إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرْ)). وأمَّا في حالةِ الغرغرةِ وهي حالةُ النَّزعِ فلا يقبلُ توبتَهُ، وأمَّا التَّوبةُ النَّصوحُ فهي الخالصةُ الَّتي لا يختصُّ بها ذنبٌ دونَ ذنبٍ، وقيلَ إنَّ التَّوبةَ النَّصوحَ هي أَنْ يتركَ الذَّنبَ ثمَّ لا يعودُ إليه، كما لا يعودُ اللبنُ في الضَّرْعِ.
قولُه: (ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ) أي عن الذُّنوبِ والمعاصي، وعن الأحداثِ والنَّجاساتِ.
فالطَّهارةُ لغةً: النَّزاهةُ والنَّظافةُ عن الأقذارِ حِسِّيَّةً كانت أو معنويَّةً، فالحسِّيَّةُ كالطَّهارةِ عن الأحداثِ والنَّجاساتِ، والمعنويَّةُ كالطَّهارةِ عن الذُّنوبِ والمعاصي، والآيةُ شاملةٌ عامَّةٌ حاثَّةٌ على الطَّهارتينِ، وفي حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ الَّذي رواه مسلمٌ: ((الطُّهورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)) الحديثَ. وتقديمُ التَّوابينَ على المتطهِّرينَ من بابِ تقديمِ السَّببِ على المسبَّبِ؛ لأنَّ التَّوبةَ سَبَبُ الطَّهارةِ. أفاده ابنُ القيِّمِ في ((بدائعِ الفوائدِ)).
ففي هذه الآياتِ المتقدِّمةِ إثباتُ محبَّتِهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، خلافًا للمبتدعَةِ من جهميَّةٍ ومعتزلةٍ, الَّذين أنْكروا محبَّتَه سُبْحَانَهُ، وهم في الحقيقةِ مُنكرون للإلهيَّةِ، فإنَّ الإلهَ هو المألوهُ الَّذي تألهُهُ القلوبُ محبَّةً وإجلالاً وخوفًا وتعظيمًا.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: في هذه الآياتِ إثباتُ محبَّةِ اللهِ، وهي على حقيقتِها عند سلفِ الأمَّةِ ومشائِخِها. وأوَّلُ مَن أنكرَ حقيقتَها شيخُ الجهميَّةِ الجعدُ بنُ درهمٍ، فهو أوَّلُ مَن ابتدعَ هذا في الإسلامِ، في أوائلِ المائةِ الثَّانيةِ، فضحَّى به خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ أميرُ العراقِ والمشرقِ بواسطَ. خطبَ النَّاسَ يومَ الأضحى فقالَ: يا أيُّها النَّاسُ ضَحُّوا تقبَّلَ اللهُ ضحاياكم، فإنَّي مُضحٍّ بالجعدِ بنِ درهمَ، فإنَّه زعمَ أنَّه لم يتَّخذْ إبراهيمَ خليلاً ولا كلَّمَ موسى تكليمًا، ثمَّ نزلَ وذبحَه، وكان ذلك بِفَتوى أهلِ زمانِه من عُلماءِ التَّابعين رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وأخذَ هذا المذهبَ عن الجعدِ بنِ درهمٍ: الجهمُ بنُ صفوانَ، فأظهرَه وناظرَ عليه، وإليه أُضيفَ قولُ الجهميَّةِِ فقتلهُ سلمُ بنُ أجوزَ أميرُ خُراسانَ بها، ثمَّ انتقلَ ذلك إلى المعتزلةِ أتباعِ عمرِو بنِ عبيدٍ، وظهَرَ قولُهم في أثناءِ خلافةِ المأمونِ، حتَّى امتحنَ أئمَّةَ الإسلامِ ودَعوهم إلى الموافقةِ على ذلك؛ وأصلُ ذلك مأخوذٌ عن المشركينَ والصَّابئةِ وهم يُنكرون أنْ يكونَ إبراهيمُ خليلاً، لأنَّ الخُلَّةَ هي: كمالُ المحبَّةِ المستغرقةِ للمحبِّ كما قيل:
قد تخلَّلتَ مسلكَ الرَّوحِ مِنِّي وبذا سُمِّيَ الخليلُ خليلاً
ولكنَّ محبَّتَه وخُلَّتَه كما يليقُ به كسائرِ صفاتِه. اهـ.
والَّذي يُوصفُ به -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من أنواعِ المحبَّةِ: الإرادةُ والودُّ والمحبَّةُ والخُلَّةُ كما ورَد النَّصُّ. من ((شرحِ الطَّحاويَّةِ)).(1/45)
وقولُه: ( قَلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يَحْبِبْكُمُ اللهُ ويغفر لكم ذنوبكم)، وقَوْلُهُ: ( من يرتد منكم عن دينه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومةَ لائم). (1)
__________
(1) قولُه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). قالَ الحسنُ: ادَّعى قومٌ أنَّهم يُحِبِّون اللهَ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ مِحْنَةً لهم، فهذه الآيةُ فيها دليلٌ على أنَّ مَن ادَّعى ولايةَ اللهِ ومحبَّتَه وهو لم يَتَّبِعْ ما جاءَ به رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فليسَ من أولياءِ اللهِ، بل من أولياءِ الشَّيطانِ، وفيها أنَّ علامةَ ودليلَ محبَّةِ الله هو اتِّباعُ رسولِهِ، وأنَّ مَن اتَّبعَ الرَّسولَ حصلَتْ له محبَّةُ اللهِ، قال بعضُ السَّلفِ: ليس الشَّأنُ أنْ تُحِبَّ، إنَّما الشَّأنُ أن تُحَبَّ، وفيها إثباتُ المحبَّةِ من الجانبينِ، فمحبَّةُ اللهِ لأنبيائِه ورسلِه وعبادِه الصَّالحين صفةٌ زائدةٌ على رحمتِه وإحسانِه وإعطائِه، فإنَّ ذلك أثرُ المحبَّة وموجبُها، فإنَّ اللهَ لمَّا أَحَبَّهم كان نصيبُهم من رحمتِه وإحسانِه أَتَمَّ نصيبٍ.
هذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وأمَّا الجهميَّةُ والمعتزلةُ فعكسُ هؤلاءِ، فإنَّه عندَهم لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، ولم يمكنْهم تكذيبُ النُّصوصِ المتكاثرةِ في إثباتِ المحبَّةِ من الجانبينِ، فَأَوَّلُوا نصوصَ محبَّةِ العبادِ له على محبَّةِ طاعتِه وعبادتِه، وأوَّلوا نصوصَ محبَّتِه لهم بإحسانِه إليهم، وإعطائِهم الثَّوابَ، ونحوِ ذلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، المصادمةِ لأدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ الكثيرةِ في إثباتِ المحبَّةِ من الجانبينِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وجميعُ طرقِ الأدلَّةِ عقلاً ونَقْلا وفطرةً وقياسًا وذوقًا واعتبارًا ووجدانًا تدلُّ على إثباتِ محبَّةِ العبدِ لربِّه، والرَّبِّ لعبدِهِ، وقد ذَكَرنا لذلك قريبًا من مائةِ دليلٍ في كتابِنا الكبيِرِ في المحبَّةِ. اهـ.
قولُه: (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ): أي يرجعُ، والرَّدُّ لغةً: الرُّجوعُ.
وشرعًا: هو الَّذي يكفرُ بعدَ إسلامهِ نُطقًا أو اعتقادًا أو شكًّا أو فِعلاً.
قولُه: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ): أي مَنْ تولَّى عن نُصرةِ دينِه وإقامةِ شريعتِهِ فإنَّ اللهَ يستبدلُ به مَنْ هو خيرٌ منه وأَقومُ سبيلاً، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم) الآيةَ، والقومُ: الجماعةُ من النَّاسِ.
قولُه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ): أي: أهلِ رقَّةٍ وتواضعٍ للمؤمنينَ، قال عطاءٌ: للمؤمنينَ كالولدِ لوالدِه، والعبدِ لسيِّدِه، وعلى الكافرين كالأسدِ على فريستِه.
قولُه: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ): أي أهلِ غلظةٍ وشدَّةٍ على الكافرين، وهذه من صفاتِ المؤمنينَ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (مَّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وفي صفةِ رسولِ اللهِ: أنَّه الضَّحوكُ القتَّالُ، فهو ضحوكٌ لأوليائِه، قتَّالٌ لأعدائِه.
قولُه: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أي بأموالِهم، وأنفسِهِم، وألسنتِهم، وذلك تحقيقُ دعْوى المحبَّةِ، والجهادُ لغةً: بَذْلُ الطَّاقةِ والوُسْعِ. وشرعًا: قتالُ الكفَّارِ، وقد تَكاثَرتِ الأدلَّةُ على فضلِ الجهادِ والحثِّ عليه.
قوله: (وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ): أي لا تَأْخُذهم في اللهِ لومةُ لائمٍ، وهذا علامةُ صِحَّةِ المحبَّةِ، أي لا يَرُدُّهم عن مَا هُمْ فيه من طاعةِ اللهِ ورسولِه رَادٌّ، ولا يَصُدُّهم عنهم صَادٌّ، ولا يَخافونَ في ذلك لومةَ لائمٍ، ولا عَذْلَ عَاذِلٍ، كما روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي ذرٍّ قال: أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِيِن وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أنْظُرَ إِلى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الحقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاحَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ.(1/46)
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ... ). (1)
__________
(1) قولُه: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ): أي مَن اتَّصفَ بهذه الصِّفاتِ فإنَّما هو مِنْ فضلِ اللهِ عليه وتَوْفيقِه له.
قولُه: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ): أي واسعُ الفضلِ، عليمٌ بمَن يَستحقُّ ذلك مِمَّنْ يَحْرِمُهُ إيَّاه، أفادت هذه الآيةُ: إثباتَ المحبَّةِ حقيقةً من الجانبَينِ، خلافًا للمبتدعةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ، ومَن سلكَ سبيلَهم، وأفادتْ هذه الآيةُ التَّحذيرَ عن معصيةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّ الكافرَ والعاصيَ لم يضرَّ إلا نفسَه، وأفادت عظيمَ قُدرتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في أنَّ مَن تَوَلَّى عن دينِه وأَعْرَضَ عنه فإنه يَسْتَبدِلُ به غيرَه، وأفادتْ أنَّ هذه الأربعَ من صفاتِ المؤمنينَ، وهي: الحبُّ في اللهِ، والبغضُ في اللهِ, والجهادُ في سبيلِ اللهِ، والقيامُ بأمرِه علىالكبيرِ والصَّغيرِ والقريبِ والبعيدِ، وأفادتْ أيضًا إثباتَ فعلِ العبدِ حقيقةً، كما أفادت أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ سببٌ للسَّعادةِ، كما قال تعالى (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وأنَّ ذلك من فضْلِه -سُبْحَانَهُ- وتوفيقِه، كما في الصَّحيحِ: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ)). وفيها أيضًا وجوبُ إفرادِه -سُبْحَانَهُ- بالمحبَّةِ، فإنَّ محبَّتَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- هي أصلُ دينِ الإسلامِ، فَبِكَمَالها يكملُ دينُ العبدِ وبنقِصهَا ينقصُ.
قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ تعالى: وقد عُلِمَ أنَّ العبادةَ إنما تَنْبَني على ثلاثةِ أصولٍ: الخوفِ والرَّجاءِ والمحبَّةِ، وكلُّ منها فرضٌ لازمٌ، والجمعُ بين الثَّلاثةِ حتمٌ واجبٌ، ولهذا كانَ السَّلفُ يَذُمُّونَ مَن تَعَبَّدَ بواحدٍ منها دونَ الآخرِ. انتهى.(1/47)
وقولُهُ سبحانه وتعالى ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ )، وقَوْلُهُ: ( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ ) (1)
__________
(1) قولُه: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ): أي يُجاهدون في سبيلِ اللهِ بأموالهِم وأنْفُسهِم في إعلاءِ كلمةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قولُه: (صَفًّا): أي يَصُفُّون أنفسهَم عندَ القتالِ صفًّا، ولا يَزُولُون عن أماكِنهم، كأنَّهم بُنيانٌ مَرْصُوصٌ قد رُصَّ بعضُه ببعضٍ، أي أُلزِقَ بعضُه ببعضٍ وأُحْكِمَ، فليس فيه فرْجةٌ ولا خللٌ. روى الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((ثلاثةٌ يَضْحَكُ اللهُ إِليْهِمْ: الرَّجُلُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلصَّلاَةِ، والقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلقِتَالِ)) رواه ابنُ ماجةَ.
أفادتْ هذه الآيةُ: فضلَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ والحثَّ عليه، وأفادَت النَّدبَ إلى الصُّفوفِ في القتالِ، وأفادتْ إثباتَ المحبَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وهو قولُ جميعِ السَّلفِ، وأنكرتِ الجهميَّةُ حقيقةَ المحبَّةِ من الجانِبينِ، زعمًا منهم أنَّ المحبَّةَ لا تكونُ إلا لمُناسبةٍ بين المُحِبِّ والمحبوبِ، وأنَّه لا مُناسبةَ بينَ القديمِ والمُحْدَثِ تُوجِبُ المحبَّةَ، وهذا القولُ باطلٌ تَرُدُّه أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ المُتكاثرةُ.
قولُه: (الغَفُورُ): من أَبْنِيَةِ المبالغةِ، أي كثيرُ المغفرةِ، وأصلُ الغَفْرِ السَّترُ، ومنه المِغْفرُ فهو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يَغفرُ لمَن تابَ إليه، أي يَسترُ ذنوبَه ويتجاوزُ عن خطاياه.
قال ابنُ رجبٍ رحمهُ اللهُ تعالى: المغفرةُ مَحْوُ الذَّنبِ وإزالةُ أثرهِ ووقايةُ شرِّهِ، ومنه المِغْفرُ لِما يَقي الرَّأسَ من الأذَى، لا كما ظنَّه بعضُهُم السَّترُ، فالعِمامةُ لا تُسمَّى مِغْفَرًا مع سترِها، فلا بُدَّ في لفظِ المغفرِِ من الوقايةِ. انتهى.
والغَفُورُ أبلغُ من الغَافِرِ، لأن فَعولَ موضوعٌ للمبالغةِ، والغَفَّارُ، أي السَّتَّارُ لذنوبِ عبادهِ أبلغُ من الغفورِ، لأنَّه للتَّكثيِرِ من غيرِ حَصْرٍ، وقد جاءَ في التَّنزيلِ: الغَفورُ والغَفَّارُ والغَافِرُ.
قولُه: (الوَدُودُ): من الوُدِّ: وهو خالصُ الحبِّ وألطفُه وأرقُّه، والودودُ من صفاتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أصلُه من المودَّةِ، أي المُتَوَدِّدُ إلى عبادهِ بنعمِهِ، الَّذي يودُّ مَن تابَ إليه وأَقْبَلَ عليه، وهو أيضًا الوَدودُ، أي المحبوبُ. قال البخاريُّ في صحيحِه: الودودُ الحبيبُ، والتَّحقيقُ: أنَّ اللفظَ يدلُّ على الأمريْنِ، على كونِه وادًّا لأوليائِه، ومودودًا لهم. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم باختصارٍ.(1/48)
قَوْلُهُ: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ): الباءُ في بسمِ اللهِ لِلاستعانةِ، وهي متعلِّقةٌ بمحذوفٍ، والتَّقديرُ أبْتَدئُ أو أُؤَلِّفُ على حسَبِ ما يُضْمِرُه المُتكَلِّمُ، والاسمُ مشتقٌّ مِن السُّمُوِّ وهو العُلوُّ أو مِن السِّمَةِ وهي العلامةُ، ولفظُ الجلالةِ مشتقٌّ من أَلِهَ، ومعنى كونِه مُشتقًّا أنَّه دالٌّ على صفةٍ هي الألوهيَّةُ كسائرِ أسمائِه الحُسنى، كالعليمِ والسَّميعِ والبصيرِ ونحوِ ذلك، وهو جامِعٌ لمعاني الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُليا وَرَاجِعَةٌ إليه.
قولُه: (الرَّحْمنِ الرَّحِيْمِ): هما صِفتانِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مُشتقَّتانِ من الرَّحمةِ وهما من أبنيةِ المُبالغةِ: والرَّحمنُ أبلغُ من الرَّحيمِ؛ لأنَّ زيادةَ البِنَاءِ تدلُّ على زيادةِ المعنى، والرَّحمنُ خاصٌّ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لا يُسمَّى به غيرُه ولا يُوصَفُ، بخلافِ الرَّحيمِ، فيوصَفُ به غيرُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فيقالُ رجلٌ رحيمٌ، والرَّحمةُ صفةٌ من صفاتِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- اللائقةِ بجلالِه وعظمتِه، فيجبُ أنْ يُوصفَ بها كما وَصَفَ بها نفسَه وَوَصَفَهُ بها رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بخلافِ ما عليه أهلُ البدعِ، الَّذين نَفَوا هذه الصِّفةَ وَأَوَّلُوها، كمن يُؤِوِّلُهَا بِالإنْعَاِم، أو بإرادةِ الإنعامِ، إلى غيِرِ ذلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، فالرَّحمةُ ثابتةٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كغيرِهَا من الصِّفاتِ، سواءٌ كانَتْ ذاتيَّةً كالعلمِ والحياةِ، أو فِعْليَّةً كالرَّحمةِ الَّتي رَحمَ بها عبادَهُ، فكلُّها صفاتٌ قائمةٌ به -سُبْحَانَهُ- ليست قائمةً بغيرِه، فَيُوصَفُ بها -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةً كما يليقُ بجلالِه.
وقد اجتمَعَ في (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ) أنواعُ التَّوحيدِ الثَّلاثةُ: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وتوحيدُ الألوهيَّةِ، وتوحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وكذلك قد اجتمعَ فيها أنواعُ الخَفْضِ الثَّلاثةُ فَبِسْمِ مَخْفُوضٌ بالحرفِ، ولفظُ الجلالةِ مَخْفُوضٌ بالإضافةِ، والرَّحمنِ الرَّحيمِ مَخْفُوضَانِ بِالتَّبَعِيَّةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وتضمَّنتْ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إثباتَ النُبُوَّاتِ من جهاتٍ عديدةٍ: (الأوَّلِ): من اسمِ اللهِ وهو المَأْلُوهُ المَعْبُودُ، ولا سبيلَ إلى معرفةِ عبوديَّتِه إلا مِن طريقِ رُسُلِهِ. (الثَّاني): من اسمِه الرَّحمنِ، فإنَّ رحمتَه تَمْنَعُ إهمالَ عبادِه وعدمَ تَعْرِيفِهم ما يَنَالُونَ به غايةَ السَّعادةِ، فَمَنْ أَعْطى هذا الاسمَ حَقَّهُ عَرَفَ أنَّه مُتَضَمِّنٌ لإرسالِ الرُّسلِ، وإنزالِ الكتبِ، أَعْظَمَ من تَضَمُّنِهِ عِلْمَ إنزالِ الغَيْثِ، وإنباتِ الكَلاء وإخراجِ الحبِّ، فاقْتِضَاءُ الرَّحمةِ لِما يَحْصُلُ بِهِ حياةُ القلوبِ والأرواحِ أعظمُ من اقْتِضَائِها ما يحصلُ به حياةُ الأبدانِ والأشباحِ. انتهى ((مدارجُ)).
وقال في البَدَائِعِ: (الرَّحْمنِ): دالٌّ على الصِّفةِ القائمةِ به سُبْحَانَهُ، وَ (الرَّحِيْمِ) دالٌّ على تَعَلُّقِهَا بالمَرْحومِ، كما قال تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ولم يَجئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ، فكانَ الأوَّلُ للوصفِ، والثَّاني للفعلِ، فالأوَّلُ: دَالٌّ على أنَّ الرَّحمةَ وَصْفُهُ، والثَّاني دَالٌّ على أنَّه يَرْحَمُ خلقَه برحمتِه. انتهى.(1/49)
( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً )، وقوله: (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيماً )، وقوله:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). (1)
__________
(1) قولُه: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) أي وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كلَّ شيءٍ، فما من مُسلمٍ ولا كافرٍ إلا وهو متقلِّبٌ في نِعمتِه، فهذه الآيةُ فيها دليلٌ على إثباتِ رحمتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ودليلٌ على سَعَتِهَا وشُمُولِها، روى الإمامُ أحمدُ عن أبي عثمانَ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ لِلَّهِ مَائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحَمُ بِهَا الخَلْقُ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أَوْلاَدِهَا، وأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِيْن إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ)). انفردَ بإخراجِه مسلمٌ.
وقولُه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيمًا) وقولُه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ): أي: أنَّ رحمتَهُ -سُبْحَانَهُ- عَمَّتْ وشَمِلَتْ كلَّ شيءٍ. قال الحسنُ وقتادةُ: وَسِعَتْ رحمتُه -سُبْحَانَهُ- في الدُّنْيَا البَرَّ والفَاجِرَ، وهي يومَ القيامةِ لِلمُتَّقينَ خاصَّةً. فهذه الآيةُ فيها إثباتُ الرَّحمةِ وشمولِها، ودلَّت هذه الآيةُ وما قَبلَها على أنَّ الرَّحمةَ تنقسمُ إلى قِسمين: الأوَّلِ: رحمةٌ عامَّةٌ وهي الرَّحمةُ المُشْتَرَكَةُ بين المسلمِ والكافرِ، فما يَصِلُ إليه من رزقٍ وصحَّةٍ ونحوِ ذلك فكلُّه من رحمةِ اللهِ، كما في هذه الآيةِ. الثَّاني: رحمةٌ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، كما في الآيةِ الَّتي قبلَها (وَكَانَ بِالمُؤمِنينَ رَحِيمًا).(1/50)
قوله: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيْمُ ). (1)
__________
(1) قولُه سُبْحَانَهُ: (كَتَبَ رَبُّكمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): أي أَوْجَبَهَا على نفسِه الكريمةِ، تَفَضُّلاً منه وإحسانًا، كما في الصَّحيحين من حديثِ أبي هريرةَ قالَ: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))، الحديثَ، فالكتابُ المذكورُ في الآيةِ هو الإِيجَابُ على نفسِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وكذلك ما وردَ في الحديثِ: ((وَحَقُّ العِبَادِ عَلى اللهِ)) تَفَضُّلٌ منه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وإحسانٌ، وإلا فليسَ للعبادِ حقٌّ واجبٌ كحقِّ المخلوقِ على المخلوقِ، كما تَزْعمُهُ المعتزلةُ، فإنَّ المعتزلةَ تَزْعُمُ: أنَّه واجبٌ عليه بالقياسِ على المخلوقِ، والأدلَّةُ تَرُدُّ قولَهم عليهم، وتُبْطِلُ قولَهم، وتدلُّ على ما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهو أنَّ العبدَ لا يَسْتَوْجِبُ على اللهِ بِسَعْيِهِ نَجَاةً، ولا فَلاحًا، ولا يَدْخُلُ أحدٌ الجنَّةَ بعملِه ويقولون: إنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- هو الَّذي كتبَ على نفسِه الرَّحمةَ، وأوجبَ الحقَّ، لم يوجبْه عليه مخلوقٌ، خلافًا للمعتزلةِ قال بعضُهم:
مَا لِلْعِبَادِ حَقٌّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ كَلاَّ وَلاَ سَعْىٌ لَدَيْهِ ضَائِعٌ
إن عُذِّبُوا فَبِعْدَلِهِ أَوْ نُعِّمُوا فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكَرَيمُ الوَاسِعُ
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ تعالى: كونُ المُطيعِ يَسْتحقُّ الجزاءَ هو استحقاقُ إِنْعامٍ وفضلٍ، وليس هو استحقاقُ مُقَابَلَةٍ كما يستحقُّ المخلوقُ على المخلوقِ. انتهى.
وهذا كما في حديثِ: ((لَوْ عَذَّبَ اللهُ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيرًا لَهُمْ))، والحديثِ المتقدِّمِ: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجنَّةَ)) الحديثَ، وهذا الحديثُ لا يُنافِي قولَه: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فإنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- نَفى باءَ المُقَابَلَةِ والمُعَادَلةِ، والقرآنُ أثبتَ باءَ التَّسَبُّبِ، فَالْمَنْفِيُّ: اسْتَحَقَاقُهَا بِمُجَرَّدِ الأعمالِ وكونِ الأعمالِ ثَمنًا وعِوَضًا لها كما تَزْعُمُهُ المعتزلةُ، والمُثْبَتُ كونُها سببًا لدخولِ الجنَّةِ بتوفيقِه وهُداهُ.(1/51)
( فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ). (1)
__________
(1) وقولُه: (وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وقولُه: (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): أي أنَّ حِفظَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- خيرٌ من حِفظِكُم، فمَن تَوَكَّلَ عليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وفَوَّضَ أمورَه إليه كَفَاهُ، وَوَقَاه، وحفِظَه وحَمَاهُ، فلا سبيلَ لأحدٍ عليه ولا قدرةَ لأحدٍ أنْ يصلَ إليه بما يُؤْذِيه.
ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الحفيظُ وهو نوعانِ: أحدُهما: حِفْظُه علىعبادِه جميعَ ما عَمِلُوا من خيرٍ وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ. والثَّاني: أنَّه الحافظُ لعبادهِ من جميعِ ما يَكرهونَ، وهذا نوعانِ: أحدُهما: عامٌّ. والثَّاني: خاصٌّ.
فالأوَّلُ: حِفظُه لجميعِ المخلوقاتِ بِتَيْسِيرِ ما يَقِيتُها ونحوِ ذلك.
الثَّاني: حِفظٌ خاصٌّ، وهو حفظُه لأوليائِه سِوى ما تقدَّمَ عمَّا يُزَلْزِلُ إيمانَهم، ويُضعفُ يَقِينَهُمْ, وحِفْظُهم عمَّا يَضُرُّهم في دينِهِم ودُنياهم. انتهى. مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
أفادتْ هذه الآيةُ كغيرِها إثباتَ صفةِ الرَّحمةِ، وأنَّها أكملُ رحمةً، وأنَّها حقيقةٌ لا مجازٌ، وهذا عكسُ ما عليه الجهميَّةُ وأَضْرَابُهُمْ الَّذين نَفَوا رحمتَه -سُبْحَانَهُ-، وزعمُوا أنَّها مجازٌ، وأنَّ رحمةَ المخلوقِ حقيقةٌ، ولا شكَّ أنَّ هذا مِن أعظمِ الإلحادِ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه، فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أثبتَ لنفسِه هذه الصِّفاتِ ووصفَ نفسَهُ بها، كما وَصَف بعضَ خلقِه بهذهِ الصِّفاتِ، ولكن ليستْ رحمتُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كرحمةِ المخلوقِ، ولا سمعِه، ولا بصرِه، فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ليسَ كمثلِه شيءٌ، فاتِّفَاقُ الاسْمَيْنِ لا يَقْضِي بِاتِّحَادِ المُسَمَّى، فإنَّه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وَصَفَ نفسَه بهذه الصِّفاتِ وَوَصَفَ به بعضَ خلقهِ فأثبتَ -سُبْحَانَهُ- الاسمَ ونفى المُمَاثلةَ، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وفي هذا أَظْهَرُ دليلٍ على أنَّ أسماءَ الرَّبِّ مُشتقَّةٌ من أوصافٍ ومعانٍ قَامَتْ به، وأنَّ كلَّ اسمٍ يناسبُ ما ذُكِرَ معه واقتَرنَ به من فعلِهِ وأمرِهِ. انتهى.
فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ صفةِ الرَّحمةِ، وأنَّها حقيقةٌ لا مجازٌ، كما أفادتْ أنَّ الرَّحمةَ المضافةَ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- تنقسِمُ إلى قِسمين: قسمٍ يُضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وكما في الحديثِ: ((بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)). والثَّاني: يُضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِهِ، وهي الرَّحمةُ الْمَخْلُوقَةُ كما في الحديثِ ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ مائَةَ رَحْمَةٍ)) والحديثُ الآخرُ أنَّه قالَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- للجنَّةِ ((أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ)).(1/52)
وقَولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) لمَّا ذَكر أعمالَهم الصَّالحةَ ذَكر أنَّه أَثَابَهُمْ عليها رِضَاهُ الَّذي هو أعظمُ وأَجَلُّ من كلِّ نعيمٍ، قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ).
أفادتْ هذه الآيةُ إثباتَ صفةِ الرِّضا للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه، ولا يقالُ: الرِّضا إرادةُ الإحسان,ِ والغضبُ إرادةُ الانتقامِ، كما تَزْعمُهُ المبتدِعةُ، فإنَّ هذا نفيٌ للصِّفةِ وصَرْفٌ للقرآنِ عن ظاهرِه وحقيقتِه بغيرِ مُوجبٍ، وهذا لا يجوزُ.
وفي هذِه الآيةِ دليلٌ على إثباتِ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ وأدلَّةُ ذلك من الكتابِ والسُّنَّةِ لا تُحْصرُ، وفيها دليلٌ على إثباتِ فعلِ العبدِ وأنَّ له فعلاً اختياريًّا.
وفيها دليلٌ على أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، وفيها فضلُ الرِّضا عن اللهِ، والرِّضا لغةً: ضدُّ السَّخطِ والكراهةِ، وقال بعضُهُم: هو سُكونُ القلبِ تحتَ مَجَاري الأحْكَامِ، قال في ((فَتْحِ المَجِيِدِ)): هو أن يُسْلِمَ العبدُ أمرَه إلى اللهِ ويُحْسِنَ الظَّنَّ به ويَرْضى عنه في ثوابِه.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: الرِّضا ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: الرِّضا باللهِ، والرِّضا عن اللهِ، والرِّضا بقضاءِ اللهِ، فالرِّضا باللهِ فرضٌ، والرِّضا عنه وإنْ كان من أَجَلِّ الأمورِ وأَشْرَفِهَا فلم يُطَالَبْ به العُمومُ لِعَجْزِهِم عنه ومَشقَّتِه عليهم، وأوجَبَهُ بعضُهم، وأمَّا الرِّضا بِكلِّ مقضيٍّ فلا يجبُ، بل المقضيُّ ينقسمُ إلى ما يجبُ الرِّضا به، وهو المَقْضِيُّ الدِّينيُّ، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم) الآيةَ، ومَقضيٌّ كَوْنيٌّ قَدَرِيٌّ، فإنْ كان فَقرًا أو مَرضًا ونحوَ ذلك اسْتُحِبَّ الرِّضا به ولم يجبْ، وَأوجبَه بعضُهم، وإنْ كان كُفرًا أو معصيةً حُرِّمَ الرِّضا به مخالفةً لربِّه، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَرضى بذلك ولا يُحبُّهُ، قال تعالى: (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) الآيةَ، وأمَّا القضاءُ الَّذي هو صفةُ اللهِ وفعلُه فالرِّضا به واجبٌ. انتهى بتصرُّفٍ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ في ((تَائِيَّتِهِ)):
فَنَرْضَى مِنَ الْوَجْهِ الَّذي هُوَ فِعْلُهُ وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابٍ بِحِيلَتِي
وقال السَّفارينيُّ في ((الدُّرَّةِ المُضِيئَةِ)):
وَلَيْسَ واجِبًا عَلَى الْعَبْدِ الرِّضا بِكُلِّ مَقْضِيٍّ وَلَكِنْ بِالْقَضَاءِ(1/53)
وقولُه سبحانه وتعالى: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيْها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ). (1)
__________
(1) قولُه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنًا): احْتَرَزَ بذلك عن قتلِ الكافرِ (مُتَعَمِّدًا) العَمْدُ لغةً: القَصْدُ. وشرعًا: أن يَقصدَ مَن يعلمُه آدميًّا مَعْصُوما فيقتُلَه بما يغلبُ على الظَّنِّ موتُه به، واحْتَرَزَ بقولِه متعمِّدًا عن قتلِ الخطأِ.
وقولُه: (فَجَزاؤُهُ): أي عِقابُه. قولُه: (جَهَنَّمُ): عَلمٌ على طَبَقَةٍ من طبقاتِ النَّارِ.
قولُه: (خَالِدًا فِيْها): أي مُقيمًا، والخلودُ: هو المُكْثُ الطَّويلُ، قولُه: (وَلَعَنَهُ) أي طردَهُ عن رحمتِه، فاللعنُ هو الطَّردُ والإبعادُ عن رحمةِ اللهِ.
قولُه: (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا): أي هَيَّأَ له ذلكَ لعظيمِ ذنبِه.
في هذه الآيةِ الوعيدُ الشَّديدُ لمنْ تَعاطى هذا الذَّنبَ العظيمَ، ويُروى عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّدًا لا تُقْبَلُ له توبةٌ، ويقولُ: هذه الآيةُ من آخرِ ما نزلَ ولم يَنْسَخْها شيءٌ، وممَّن ذهبَ إلى قولِه: زيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو هريرةَ، وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، وعبيدُ بنُ عميرٍ، والحسنُ، وقتادةُ، والضَّحَّاكُ، نقله ابنُ أبي حاتمٍ، والَّذي عليه الجمهورُ سلفًا وخَلفًا: أنَّ القاتلَ له توبةٌ فيما بينه وبينَ اللهِ، فإنْ تابَ وأنابَ وعمِلَ صالِحًا بَدَّلَ اللهُ سيئاتِه حسناتٍ وعَوَّضَ المَقْتُولَ عن ظَلاَمَتِهِ، قال تعالى: (قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) الآيةَ، وهذا عامٌّ في جميعِ الذَّنوبِ، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) الآيةَ، وهذه الآيةُ عامَّةٌ في جميعِ الذُّنوبِ، عدا الشِّركِ باللهِ، إلى غيرِ ذلك من الأدلَّةِ، وما يُرْوى عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه فهو مبالغةٌ وتشديدٌ في الزَّجْرِ عن القتلِ، وقال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: ((والتَّحقيقُ في المسألةِ أنَّ القتلَ تتعلَّقُ به ثلاثةُ حقوقٍ: حقُّ اللهِ، وحقُّ المقتولِ، وحقُّ الوليِّ، فإذا سَلَّمَ القاتلُ نفسَهُ طوعًا واختيارًا نَدَمًا على ما فعلَهُ وخوفًا من اللهِ وتوبةً نصوحًا سَقَطَ حقُّ اللهِ بالتَّوبةِ، وحقُّ الأولياءِ بِالاسْتِيفَاءِ أو الصُّلحِ أو العفوِ، وبَقِي حقُّ المقتولِ يُعوِّضُه اللهُ عنه يومَ القيامةِ عن عبدِه التَّائبِ المُحسنِ، ويُصلحُ بينَه وبينَه، فلا يضيعُ حقُّ هذا ولا يَبْطلُ حقُّ هذا، انتهى. وبتقديرِ دخولِ القاتلِ النَّارَ فليس بِمُخلَّدٍ فيها أبدًا، بل الخلودُ هو المكثُ الطَّويلُ، وقد تواترتِ الأحاديثُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: أَنَّهُ ((يَخرجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، فدخولُ النَّارِ على قِسمين: دخولٌ مطلقٌ، ومطلَقُ دُخولٍ.
فالأوَّلُ: هو دخولُ المُشركين والكفرةِ فهؤلاء يدخلونَها ولا يَخرجونَ منها أبدًا.
والثَّاني: وهو دخولُ المُوحِّدين الَّذين عليهم ذنوبٌ ومعاصٍ، فهؤلاء يُعذَّبون فيها بقدرِ سيَّئاتِهم ثمَّ يَخْرُجون منها إنْ لم يَحْصلْ سببٌ للخروجِ مِنها قبلَ ذلك، من شفاعةٍ، أو غيِرِها من الأسبابِ، فالنَّاسُ ينقسِمونَ بحسبِ ما تقدَّمَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: المُشركون والكفَّارُ، كُفْرٌ يُخْرِج عن المِلَّةِ الإسلاميَّةِ، فهؤلاء يَدخلونَ النَّارَ ويُخَلَّدون فيها دائِمًا، ولا يَخْرجون منها أبدًا.
النَّوعِ الثَّاني: مَن ماتَ على التَّوحيدِ وليسَ عليه ذنوبٌ فهذا يدخلُ الجنَّةَ من أوَّلِ وهلةٍ.
الثَّالثِ: مَن ماتَ مُوَحِّدًا وعليه ذنوبٌ ومعاصٍ، فهذا تحتَ مشيئةِ اللهِ، إِنْ شاءَ اللهُ عَفَا عنه وأَدْخَله الجنَّةَ من أوَّلِ وهلةٍ، وإن شاءَ عذَّبَه بقدرِ ذنوبِه ثمَّ أدخلَه الجنَّةَ، هذا ما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهو الَّذي تواترتْ به الأدلَّةُ من الكتابِ والسُّنَّةِ، عكسُ ما عليه المرجئةُ والخوارجُ والمعتزلةُ.
قال السَّفَارِينيُّ في ((الدُرَّةِ المُضِيئةِ)):
وَمَنْ يَمُتْ وَلَمْ يَتُبْ مِنَ الْخَطَا فَأَمْرُهُ مفَوَّضٌ لِذِي الْعَطَا
فَإِنْ يَشَأْ يَعْفُو وَإِنْ شَاءَ انْتَقَمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى وَأجْزَلَ النِّعَمَ
وفي هذه الآيةِ دليلٌ على إثباتِ الغضبِ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- يغضبُ ويَرْضى كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه.
(59) قولُه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهُ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ): أي ذلك الضربُ والقبضُ لأرواحهِمْ بهذه الشِّدَّةِ بسببِ اتَّبَاعِهم ما يُسخِطُ اللهَ مِن الكفرِ وعداوةِ الرَّسولِ، وبسببِ كراهتِهم رضوانَه؛ أي ما يُرضيهِ مِن الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ.
فهذه الآيةُ أفادَتْ إثباتَ صفةِ السَّخَطِ والرِّضا، وأنَّه -سُبْحَانَهُ وتعالى- يَسْخَط ويَرْضى حقيقةً، كما يليقُ بجلالِه وعظمَتِه، فيجبُ إثباتُ ذلك الوجهِ اللاَّئِقِ بجلالِهِ وعظمَتِه، هذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعَةِ، وكلًُّ ما وَرَدَ في الكتابِ والسُّنَّةِ يجبُ إثباتُهُ على الوجهِ اللاَئِقِ بجلاَلِه وعظَمَتِه، والبابُ كلُّه واحدٌ.
وفي هذه الآيةِ إثباتُ العِلَلِ والأسبابِ، وأنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ سببٌ للسَّعادةِ، والأعمالَ السَّيِّئةَ سببٌ للشَّقَاوةِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَمَ: أنَّه لا ارتباطَ بينَ العملِ والجزاءِ. انتهى.
وفيها –أيضًا- ذمُّ مَن أحبَّ ما كرهَهُ اللهُ أو كَرِهَ ما أحبَّهُ، فالواجبُ على كلِّ مؤمنٍ: أنْ يُحبَّ ما أحبَّهُ اللهُ محبَّةً تُوجِبُ الإتيانَ بما وجَبَ عليه منه، فإنْ زادَت المحبَّةُ حتى أتى بما نُدِبَ إليه منه كان ذلكَ فضلاً، وَأَنْ يكرَهَ ما كَرِهَهُ اللهُ كَرَاهةً تُوجبُ له الكفَّ عمَّا حرَّم اللهُ عليه منه، فإنْ زادَت الكراهةُ حتى أوجبَت الكفَّ عمَّا كَرِهَهُ تنْزيهًا كان ذلكَ فضلاً، وقدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحين عنه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قالَ: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). فلا يكونُ العبْدُ مؤمنًا حتى يُقَدِّمَ محبَّةَ الرَّسولِ على محبَّةِ جميعِ الخَلْقِ، ومحبَّةُ الرَّسول تابِعَةٌ لمحبَّةِ مُرْسِلِهِ، والمحبَّةُ الصَّحيحةُ تقتضي المتابعةَ والموافقةَ في حُبِّ المحبوباتِ وبُغْضِ المكروهاتِ، قالَ تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) الآيةَ، انتهى مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
قولُه: (آسَفُونَا): أيْ أَغْضبونَا، وأَسِفَ لها معنيانِ: تأتِي بمعنى غَضِبَ كهذه الآيةِ، وتأتي بمعنى حَزِنَ كقولِه -سُبْحَانَهُ- عن يعقوبَ أنَّه قالَ: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) الآيةَ.
وقولُه: (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ): أيْ عاقبَهُمْ -سُبْحَانَهُ- بالغَرَقِ وغيرِه مِن العقوباتِ، والانتقامُ: هو أنْ يبلغَ في العقوبَةِ حدَّها، ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- المنتقِمُ، كما جاءَ في حديثِ أبي هُريرةَ الَّذي رواه التِّرْمِذِيُّ في جامِعه، في عددِ الأسماءِ الحُسنى، ومعنَاهُ المُبَالِغُ في العقوبَةِ لِمَن يشاءُ، وقالَ الشيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رحمه اللهُ-: المُنتَقِمُ ليسَ مِن أسماءِ اللهِ الْحُسْنَى الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وإنَّما جاءَ في القرآنِ مقيَّدًا كقولِه -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)، وقولِهِ: (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) والحديثُ الَّذي في عدَدِ الأسماءِ الحُسنى يُذْكَرُ فيها المنتقِمُ ليسَ هوَ عندَ أهْلِ المعرفةِ بالحديثِ مِن كلامِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بلْ هذا ذكَرهُ الوليدُ بنُ مسلمٍ عن بعضِ شيوخِهِ، ولهذا لم يوردْهُ أحدٌ مِن أهْلِ الكُتُبِ المشهورَةِ إلاَّ التِّرمذيُّ. انتهى.(1/54)
وقولُه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:(ذَلِكَ بأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رَضْوَانَهُ)،وقَوْلُهُ تَعَالَى:(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ).(59)
وقَوْلُهُ: ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) (1)
__________
(1)
(60) قولُه: (كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ): أي أَبغَضَ خروجَهم معكم إلى الغزوِ.
قولُه: (فَثَبَّطَهُمْ): أي كسَّلَهم، والتَّثبيطُ: ردُّ الإنسانِ عن الشَّيءِ الَّذي يفعلُه، أي أنَّه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كسَّلهم عن الخروجِ للغزوِ قضاءً وقدرًا، وإن كانَ قدْ أمرَهم بالغزوِ وأقدرَهُم عليه، ولكنْ ما أرادَ إعانَتَهُم؛ بلْ خذلَهُم وثبَّطهم لحِكمةٍ يعلمُها سُبْحَانَهُ وتعالى: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ).
قوله: (كَبُرَ): أي عَظُمَ.
قَولُهُ: (مَقْتًا): منصوبٌ على التَّمييزِ، والمقتُ أشدُّ البُغضِ.
وفي الآيةِ الحثُّ على الوفاءِ بالعهدِ، والنَّهيُ الأكيدُ عن الخُلْفِ في الوعدِ وغيرِهِ، وبها استدلَّ بعضُ العُلماءِ على أنَّهُ يجبُ الوفاءُ بالوعدِ مطلقًا، سواءً ثبَتَ عليه عزمٌ للموعودِ أم لا، واحتجَّوا بما ثبتَ في الصَّحيحين: أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قالَ: ((آيةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا أُؤْتُمِنَ خَانَ)) وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ البُغضِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كَمَا يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وفيه دليلٌ على أنَّ بُغضَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يتفاوتُ، فبَعضُه أشدُّ مِن بعضٍ، كما في الحديثِ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثلَهُ، ولنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثلَهُ)).
وفيه دليلٌ على أنَّ الشَّخصَ قد يكونُ عدوًّا للهِ ثمَّ يصيرُ ولِيًّا، ويكونُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يُبغضُه ثمَّ يُحبُّه، وهذا مذهبُ الفقهاءِ والعامَّةِ، وهو قولُ المعتزلةِ والكراميَّةِ والحنفيَّةِ قاطبةً، والمالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ، وعلى هذا يدلَُّ القرآنُ، قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، وقال: (وَإِنْ تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ)، وقَولُهُ: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وغيرُها مِن الآياتِ والأحاديثِ. انتهى ملخَّصًا مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيْميةَ رحمهُ اللهُ تعالى.
فهذه الآياتُ المتقدِّمةُ دليلٌ على صفةِ الغضبِ والرِّضا، والولايةِ والحُبِّ والبغضِ والسَّخطِ والكراهةِ ونحوِ ذلك، وهذا مذهبُ السَّلفِ الصَّالحِ وسائرِ الأئمَّةِ يُثبتونَ جميعَ ما في الكتابِ والسُّنَّةِ على المَعنى اللاَّئِقِ به، كما يقولونَ ذلك في السَّمْعِ والبصرِ والعلمِ والكلامِ وسائرِ الصِّفاتِ، وقد تقدَّمَ ذلك.(1/55)
وقَوْلُهُ: ) كبُرَ مقتًا عندَ اللهِ أنْ تقولُوا ما لا تفعلُونَ (
وَقَوْلُهُ: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامٍ وَالمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وإلى اللهِ تُرجَعُ الأمورُ) (1) ، وقولُه تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ )،وقوله: ( كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً. وجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفّاً صَفّاً). (2)
__________
(1) قَولُهُ: (هَلْ): حرفُ استفهامٍ.
قَولُهُ: (يَنْظُرُونَ): أي يَنتظرُ الكفَّارُ، يُقَالُ نَظَرْتُهُ وانْتَظَر به بمعنًى واحدٍ، إلاَّ إذا عُدِّيَ بإلى، أو ذُكِرَ الوجهُ، فمعناه النَّظَرُ، أو عُدِّيَ بفي فمعناه التَّفكُّرُ والاعتبارُ.
قَولُهُ: (إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ): أي لفصلِ القضاءِ بينهم يومَ القيامةِ، فيجْزِي كُلَّ عاملٍ بعملِه إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.
قَولُهُ: (في ظُلَلٍ): جمعُ ظُلَّةٍ، والظُّلَّةُ: ما أظلَّك وسترَكَ.
قَولُهُ: (مِنَ الغَمَامِ): أي السَّحابِ الأبيضِ الرَّقيقِ، سُمِّيَ غمامًا؛ لأنَّه يَغُمُّ، أي يسترُ.
قَولُهُ: (وَالمَلاَئِكَةُ): أي والملائكةُ يجيئونَ في ظُللٍ مِن الغَمامِ، ففيه إثباتُ مجيءِ الملائكةِ يومَ القيامةِ؛ لأنَّهم يُحيطونَ بالإنْسِ والجِنِّ، ثمَّ ينزلُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- لفصلِ القضاءِ بينَهُم.
(2) قَولُهُ: (وَقُضِيَ الأَمْرُ): أي تَمَّ أمرُ هلاكهِم.
قَولُهُ: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ): أي تصيرُ أمورُ العبادِ إلى اللهِ في الآخرةِ.
قال محمَّدُ بنُ جريرٍ: حيثُ ذكرَ إتيانَ الملائكةِ فهو محتمِلٌ لإتيانِهم لقبضِ الأرواحِ، ويُحتملُ أنْ يكونَ نزولُهم لعذابِ الكفَّارِ وإهلاكِهم، وأمَّا إتيانُ الرَّبِّ فهو يومَ القيامةِ لفصلِ الخطابِ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ تعالى: نزولُه -سُبْحَانَهُ- إلى الأرضِ يومَ القيامةِ تواترتْ به الأحاديثُ والآثارُ، ودلَّ عليه القرآنُ صريحًا، كما في هذه الآياتِ. انتهى.
قَولُهُ: (إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ): أي لقبضِ أرواحِهم.
قَولُهُ: (أَوْ يَأْتِيَ ربُّكَ): أي يومَ القيامةِ لفصلِ القضاءِ بينَ العبادِ.
قَولُهُ: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): وهو طلوعُ الشَّمسِ مِن مغربِها، وطلوعُها مِن مغربِها هو أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكبارِ، وإذا طلعتْ مِن مغربِها أُغْلِقَ بابُ التَّوبةِ، وإذا رآهَا النَّاسُ طلعتْ مِن مغربِها آمَنُوا أجمعونَ، ولكنْ لا يُقْبَلُ لأحدٍ توبةٌ ما لم يكنْ آمنَ مِن قبلِ ذلكَ، كما في الصَّحيحينِ، وغيرِهِما من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ تَقُوُمُ السَّاعَةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فإذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أجْمَعُونَ فَذاكَ حِيْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيْمَانُهَا لمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)).
قَولُهُ:(كَلاَّ): هي حرفُ ردعٍ وزجرٍ.
قَولُهُ: (دُكَّتِ الأَرْضُ): أي زُلزلتْ حتَّى ينهدِمَ كلُّ بناءٍ عليها وينعدمَ.
قَولُهُ: (دَكًّا دَكًّا): أي دكًّا بعدَ دكٍّ، أي كرَّرَ الدَّكَّ عليها حتَّى عادتْ هباءً منبثًّا.
قَولُهُ: (وجَاءَ رَبُّكَ): أي لفصلِ القضاءِ بين عبادِه.
قَولُهُ: (والمَلَكُ): أي جنسُ الملائكةِ.
قَولُهُ: (صَفًّا صَفًّا): أي يُصَفُّونَ صفًّا بعد صفٍّ، قد أحْدَقوا بالجنِّ والإنسِ، كما رُوِيَ أنَّ الملائكةَ كلَّهم يكونونَ صفوفًا حولَ الأرضٍ.(1/56)
وقَوْلَهُ: ( ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامَ ونُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (ويَوْمَ تَشَقَّقُ): المرادُ باليومِ يومُ القيامةِ، وتشقُّقُ السَّماءِ أي: انفطارُها.
قَولُهُ: (بِالغَمَامِ): أي يخرجُ منها الغمامُ، وهو السَّحابُ الأبيضُ، وحينئذٍ تنزلُ الملائكةُ إلى الأرضِ فيحيطونَ بالخلائقِ في مقامِ المحشرِ، ثمَّ يجيءُ الرَّبُّ لفصلِ القضاءِ بين عبادِه، فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ المجيءِ والنُّزولِ والإتيانِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وهذه من صفاتِه -سُبْحَانَهُ- الفعليَّةِ، فيجبُ إثباتُ جميعِ الصِّفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ، كما أثبتَها اللهُ -سُبْحَانَهُ- لنفسِه، وأَثْبَتها له رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ودلَّتْ هذه الآياتُ أيضًا على أنَّ نزولَهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وإتيانَهُ ومجيئَهُ ونحوَ ذلك من أفعالِه أنَّه حقيقةٌ كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، إذِ الأصلُ الحقيقةُ ولا صارِفَ عن ذلك، خلافًا لأهلِ البدعِ، ودلَّتْ على أنَّه نزولٌ وإتيانٌ ومجيءٌ بذاتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، خلافًا لأهلِ البدعِ الَّذين ينفونَ ذلك، ويؤَوِّلونَ مجيئَه بمجيءِ أمرِه، ونزولَه بِنزولِ رحمتِه، أو بعضِ ملائكتِه ونحوِ ذلك، ويقولونَ هذا مجازُ حذفٍ، والتَّقديرُ في: (وَجَاءَ رَبُّكَ): أي أمرُه، ويَنزِلُ ربُّنَا أي: أمرُه أو بعضُ ملائكتِه أو رحمتِه ونحوُ ذَلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ، ولا شَكَّ في بُطلانِ هذه التَّأويلاتِ ومصادمتِها أدلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ الصَّريحةِ وما عليه أهلُ السُّنةِ والجماعةِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ تعالى في (الصَّواعقِ المُرسَلَةِ): وممَّا ادَّعَوا فيه المجازَ قَولُهُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ)، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، قالوا: هذا مجازُ الحذفِ، تقديرُه وجاء أمرُ ربِّكَ، وهذا باطلٌ من وجوهٍ:
أحدِها: إنَّه إضمارُ ما لا يدلُّ عليه اللَّفظُ بمطابقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا لزومٍ، وادِّعاءُ حذفٍ بلا دليلٍ يرفعِ الوثوقِ مِن الخطابِ، وساقَ وجوهًا عديدةً في إبطالِ دَعْواهم المجازَ، وساقَ الأدلَّةَ الكثيرةَ الصَّريحةَ الدَّالَّةَ على أنَّه مجيءُ حقيقةٍ بذاتِه سُبْحَانَهُ. ا هـ.
والإتيانُ والمجيءُ المضافُ إليه -سُبْحَانَهُ- نوعانِ: مطلقٌ ومقيَّدٌ، فإذا كانَ مجيءُ رحمتِه أو عذابِه ونحوِ ذلكَ قُيِّدَ بذلك، كما في الحديثِ: ((حَتَّى جَاءَ اللهُ بالرَّحَمَةِ والخَيْرِ)) وقَولُهُ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ). النَّوعُ الثَّاني: الإتيانُ والمجيءُ المطلقُ فهذا لا يكونُ إلاَّ مجيئَه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)، وقَولُهُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). انتهى. من الصَّواعقِ ملخَّصًا.
وأفادتْ هذه الآياتُ إثباتَ أفعالِه -سُبْحَانَهُ- الاختياريَّةِ، فالإتيانُ والنُّزولُ والمجيءُ والاستواءُ، والارتفاعُ والصُّعودُ كلُّها أنواعُ أفعالِه، وهو فَعَّالٌ لِما يريدُ، وأفعالُه كصفاتِه قائمةٌ به سُبْحَانَهُ، ولولا ذلكَ لم يكنْ فَعَّالاً ولا موصوفًا بصفاتِ كمالِه، وأفعالُه سُبْحَانَهُ: نوْعَان: لازمةٌ، ومتعدِّيةٌ، كما دلَّتِ النُّصوصُ الَّتي هي أكثرُ مِن أنْ تُحصرَ على إثباتِ النَّوعين، وأنَّها حقيقةٌ ليست بمجازٍ، وليست كأفعالِ المخلوقِ، فصفاتُه -سُبْحَانَهُ- تليقُ به، أمَّا المبتدعةُ فإنَّهم نَفَوْا أفعالَه، فزعمُوا أنَّها مجازٌ، فوقَعوا في مَحذورينِ: محذورِ التَّشبيهِ، ومحذورِ التَّعطيلِ، انتهى مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ.
وفي هذه الآياتِ دليلٌ على إثباتِ علُوِّ اللهِ على خلقِه، لأنَّه لا يمكنُ أَنْ يأتيَ إلا مِن جهةِ العُلوِّ، وذكَرهُ ابنُ القيِّمِ أحدَ الطُّرقِ في إثباتِ العلوِّ.(1/57)
وقَوْلُهُ: (كلُّ مَنْ عليْهَا فانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ): أي كلُّ مَن على الأرضِ يُعْدَمُ ويَمُوتُ، ويبقى وجهُه سُبْحَانَهُ، قال الشَّعبيُّ رحمه اللهُ: إذا قرأتَ قَولَهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فلا تسكتْ حتَّى تقرأَ قَولَهُ: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ) وهذا مِن فقهِهِم في القرآنِ، وكمالِ علمِهِم؛ إذ المقصودُ الإخبارُ بفناءِ مَنْ عليها مع بقاءِ وجههِ، فإنَّ الآيةَ سِيقتْ لبيانِ تَمَدُّحِهِ -سُبْحَانَهُ- بالبقاءِ وحدَه، ومجرَّدُ فناءِ الخليقةِ ليسَ فيه مدحٌ، إنَّما المدحُ في بقائِه -سُبْحَانَهُ- بعد فناءِ خلقهِ، فهي نظيرُ قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ). انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (وَجْهُ رَبِّكَ): فيه إثباتُ صفاتِ الوجهِ للهِ، وهو مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ كالسَّمْعِ والبصرِ واليدينِ وغيِرِ ذلك من الصِّفاتِ، فعلى العبادِ الإيمانُ بها، والتَّسليمُ واعتقادُ أنَّها حقيقةٌ تليقُ بجلالِ اللِه وعظمتِه، وعلى هذا مَضَى الصَّحابةُ والتَّابعونَ والأئمَّةُ.
قَولُهُ: (ذُو الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ): أي ذو العظمةِ والكبرياءِ.
قَولُهُ: (وَالإِكْرَامِ): أي المُكرِّمِ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالحين، وقيلَ: ذو الجلالِ أيْ: هو المستحِقُّ لأنْ يُجَّلَ ولأنْ يُكَرَمَ، والإجلالُ يتضمَّنُ التَّعظيمَ، والإكرامُ يتضمَّنُ الحمدَ والمحبَّةَ، وقد قالَ بعضُ السَّلفِ: لا يَهديَّنَّ أحدُكُم للهِ ما يستحي أحدُكُم أنْ يهديَهُ لكريمِه، فإنَّ اللهَ أكرمُ الكُرماءِ، أي هو أحقُّ مِن كلِّ شيءٍ بالإكرامِ، إذ كانَ أكرمَ مِن كلِّ شيءٍ، وقالَ أيضًا: وإذا كان مستحقًّا للإجلالِ والإكرامِ لَزِم أنْ يكونَ متَّصفًا في نفسِه بما يوجبُ ذلك، كما إذا قالَ الإلهُ: هو المستحِقُّ لأنَّه يؤلَّهُ أي يُعبدُ، كان هو في نفسِه مستَحِقًّا لما يوجبُ ذلك، والإجلالُ من جنسِ التَّعظيمِ، والإكرامُ من جنسِ الحُبِّ والحمدِ، وهذا كقَولِهِ: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فله الإجلالُ وله الإكرامُ والحمدُ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.(1/58)
وقوله: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ): أي أَنَّ جميعَ أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماء سيموتونَ ويذهَبُون إلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ، ولا يبقى إلاَّ وجهُه -سُبْحَانَهُ وتعالى-، والمُسْتثنى من الهلاكِ والفناءِ ثمانيةٌ، نَظمها السُّيوطيُّ بقَولِهِ:
ثمانيةٌ حُكْمُ البقاءِ يَعُمُّهَا مِنَ الخلْقِ والبَاقونَ في حيِّزِ العَدَمِ
هي العَرشُ و الكرسِيُّ نارٌ وجنَّةٌ وعجبٌ وأرواحٌ كذا اللَّوحُ والقلمُ
وأمَّا قَولُهُ: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ)، وقَولُهُ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) فإنَّ المُرادَ كلُّ شيءٍ كُتِبَ عليه الفناءُ والهلاكُ هالكٌ، والجنَّةُ والنَّارُ خُلقتَا للبقاءِ لا للفناءِ، وكذا العرشُ فإنَّهُ سقفُ الجنَّةِ والكرسيُّ إلى آخرِها، فإنَّ عمومَ (كُلُّ) في كلِّ مقامٍ بحسبهِ، ويُعرَفُ ذلكَ بالقرائِن كقَولِهِ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ) ومساكنهُم شيءٌ لم تدخلْ في عمومِ كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ المُرادَ تدمِّرُ كلَّ شيءٍ يقبلُ التَّدميرَ بالرِّيحِ عادةً، وكقَولِهِ عن بلقيسَ: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) فالمرادُ من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه الملوكُ، وهذا القيدُ يُفهَمُ من قرائنِ الكلامِ، إذ المرادُ أَنَّها مَلِكةٌ تامَّةُ المُلكِ.
ففي هذه الآياتِ كغيرِها من أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ إثباتُ صفةِ الوجهِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، كما يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ، وإثباتُ أنَّهُ وجهٌ حقيقةً لا يُشبِهُ وجوهَ خلقِه، ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، وهذا هو الَّذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجمَاعةِ، خلافًا للمُبْتَدعةِ من الجهميَّةِ وأشباهِهم، ممَّن نَفى الوجهَ وعطَّلَه، وزعمَ أنَّه مجازٌ عن الذَّاتِ، أو الثَّوابِ أو الجهةِ أو غيِرِ ذلك، وهذه تأويلاتٌ باطلةٌ من وجوهٍ عديدةٍ، منها أنَّه فرَّقَ بين الذَّاتِ والوجهِ، وعطفُ أحدِهِما على الآخرِ يَقْتضِي المُغايرةَ، كما في حديثِ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المسْجِدَ قَالَ أَعُوذُ باللهِ الْعظِيمِ وبِوجْهِهِ الكرِيْمِ))، ومنها أنَّه أضافَ الوجهَ إلى الذَّاتِ، وأضافَ النَّعتَ إلى الوجهِ، ولو كانَ ذِكْرُ الوجهِ صلةً ولم يكن صفةً للذَّاتِ لقالَ ذي الجلالِ، فلمَّا قالَ ذو الجلالِ تبيَّنَ أنَّه نعتٌ للوجهِ، وأنَّ الوجهَ صفةٌ للذَّاتِ، كما ذكرَ معنى ذلك البَيْهقيُّ والخطَّابيُّ، وروى مسلمٌ في صحيحِه حديثَ: ((إنَّ اللهَ لا يَنَامُ ولا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبْحَاتُ وجهِهِ ما انْتَهَى إليهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)). ومنها أنَّ الوجهَ حيثُ وردَ فإنَّما وردَ مضافًا إلى الذَّاتِ في جميعِ مواردِه، والمضافُ إلى الرَّبِّ نوعانِ:
أعيانٌ قائمةٌ بنفسِها، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ورَوْحِ اللهِ وعبدِ اللهِ، فهذه إضافةُ تشريفٍ وتخصيصٍ، وهي إضافةُ مملوكٍ إلى مالكِهِ.
الثَّاني: صِفاتٌ لا تقومُ بنفسِها، كعلمِ اللهِ وحياتِه وقُدرتِه وسَمْعِه وبصرِه ونورِه، فهذه إضافتهُا إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- إضافةُ صفةٍ إلى موصوفٍ بها، إذا عُرِفَ ذلك فإضافةُ السَّمْعِ والبصرِ والوجهِ ونحوِ ذلك إضافةُ صفةٍ إلى موصوفٍ، لا إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقِه , وفي سُننِ أبي داودَ عنه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه كان إذا دخلَ المسجدَ قال: ((أَعُوذُ باللهِ العَظيمِ وَبِوجْهِهِ الكَريمِ وبِسُلْطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))، فتأمَّلْ كيفَ قرنَ بينَ الاستعاذةِ بالذَّاتِ والاستعاذةِ بوجهِهِ الكريمِ، وهذا صريحٌ في إبطالِ قولِ مَنْ قالَ: إنَّه الذَّاتُ نفسُها، وقولِ مَنْ قالَ: إنَّه مخلوقٌ، إذ الاستعاذةُ لا تجوزُ بمخلوقٍ، إلى غيرِ ذلك مِن الوجوهِ الَّتي ذكرها ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ بالصَّواعقِ في إثباتِ الوجهِ صفةً للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه وجهٌ حقيقيٌّ يليقُ بجلالِه وعظمتِهِ، وإبطالِ قولِ مَن زعَم غيرَ ذلك.(1/59)
وقَوْلُهُ: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ): أي يقولُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مخاطِبًا لإبليسَ لَمَّا امتنَعَ من السُّجودِ لآدمَ: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أي إنَّه -سُبْحَانَهُ- باشرَ خلقَه بيدهِ، كما في الحديثِ: ((لَمْ يَخْلُقِ اللهُ بِيَدِهِ إلاَّ ثَلاَثًا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ)) الحديثَ، ففيه إثباتُ اليدينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّهما يدانِ حقيقةً لائقَتانِ بجلالِه وعظمتِه، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ غيرَ ذلك ممَّن صادمَ أدلَّةَ الكتابِ والسُّنَّةِ، واتَّبعَ هواهُ وعطَّلَ هذه الصِّفةَ، وزعم أنَّ المرادَ باليدِ القدرةُ أو النِّعمةُ كما تقَولُهُ الجهميَّةُ والمعتزلةُ وأشباهُهم، وهذا التَّأويلُ الَّذي زعَموه تأويلٌ فاسدٌ مصادمٌ لأدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ المتكاثرةِ الصَّريحةِ في إثباتِ اليدينِ صفةً للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فلو كانَ المرادُ باليدِ القدرةَ لوجبَ أنْ يكونَ له -سُبْحَانَهُ- قُدرتانِ، وقدْ أجمعَ المُسلمون على أنَّه لا يجوزُ أَنْ يكونَ له قُدرتانِ، وكذلكَ لا يجوزُ أنْ يُقَالَ خَلَقَ آدمَ بِنعمَتين؛ لأنَّ نِعَمَ اللهِ على آدمَ وغيرِه لا تُحصى.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: وَردَ لفظُ اليدِ في الكتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ الصَّحابة والتَّابعِين في أكثرَ مِن مائةِ موضعٍ ورودًا متنوِّعًا متصرَّفًا فيه مَقروناً بما يدلُّ على أنَّها يدٌ حقيقةً من الإمساكِ والطَّيِّ والقبضِ والبسطِ والنَّضحِ باليدِ والخلقِ باليدين والمباشرةِ بهما، وكتبَ التَّوراةَ بيدِه وغرسَ جنَّةَ عدنٍ بيدِه.
وقَولُهُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ): فقطعَ بالضَّرورةِ أنَّ المرادَ يدُ الذَّاتِ، لا يدُ القدرةِ والنِّعمةِ، فإنَّ السِّياقَ والتَّركيبَ لا يحتملُه ألبتَّةَ، انتهى.
وقد ردَّ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ على المبتدِعةِ الَّذين عطَّلُوا صفةَ اليدِ، وزعموا أنَّ المرادَ باليدِ: القدرةُ أو النِّعمةُ، أو غيرُ ذلك من التَّأويلاتِ الفاسدةِ من وجوهٍ عديدةٍ أنهاها إلى عِشرينَ وجهًا، وساقَ الأدلَّةَ الكثيرةَ الصَّريحةَ في إثباتِ اليدِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةً، كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه.(1/60)
( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ): قال ابنُ عبَّاسٍ: المرادُ بُخْلُه. فالغلُّ كنايةٌ عن البُخْلِ.
قَولُهُ: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ): أي أمسكتْ عن الخيرِ.
وقَولُهُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ): أي بالفضلِ والعطاءِ، فهذه الآيةُ كسابقتِهَا فيها إثباتُ صفةِ اليدَينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، فعلينا أنْ نُثبتَ له -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ذلك، كما أثْبتَه لنفسِه وكما أثبَته له رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهذا مَذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وفي حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: ((إنَّ اللهَ لَمْ يُبَاشِرْ بِيدِهِ أَوْ لَمْ يَخْلُقْ بِيَدِهِ إلاَّ ثَلاَثًا: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، وكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ)).
وقال ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى: هل يصحُّ في عقلٍ أو نقلٍ أو فطرةٍ أنْ يُقَالَ لم يخلقْ بقدرتِه إلا ثلاثًا، أو لم يخلقْ بنعمتِه إلاَّ ثلاثا؟ وأيضًا فلو كانَ المرادُ به ههنا القدرَةَ لبَطلَ تخصيصُ آدمَ، فإنَّه وجميعَ المخلوقاتِ حتَّى إبليسَ مخلوقٌ بقدرتِه، فأيُّ مزيَّةٍ لآدمَ على إبليسَ في قَولِهِ: (أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). اهـ.
وقال البيهقِيُّ في كتابِ (الأسماءِ والصِّفاتِ)، ((بابُ ما جاءَ في إثباتِ اليدينِ صِفتينِ، لا مِن حيثُ الجارحةُ)) فذكَرَ الآياتِ ثمَّ قال: قالَ بعضُ أهلِ النَّظرِ: قد تكونُ اليدُ بمعنى القوَّةِ، كقَولِهِ (ذُو الأَيْدِ والأَبْصَارِ)، أي ذو القوَّةِ، وبمعنى المُلكِ والقدرةِ والنِّعمةِ، وتكونُ صلةً أي زائدةً، ثمَّ أبطلَ البيهقيُّ ذلك كلَّه، وأثبتَ أنَّ اليدينِ صِفتانِ تعلَّقتا بخلقِ آدمَ تشريفًا له، دون إبليسَ تعلُّقَ القَدَرِ بالمقدورِ، لا مِن طريقِ المُباشرةِ ولا مِن حيثُ المماسَّةُ، وليس لذلك التَّخصيصِ وجهٌ غيرَ ما بيَّنَه بقَولِهِ: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). اهـ.(1/61)
وقولُهُ: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَاصْبِرْ): الصَّبرُ لغةً: الحبسُ والمنعُ، وهو حبسُ النَّفْسِ عن الجزعِ، وحبسُ اللسانِ عن التَّشكِّي والتَّسخُّطِ، وحبسُ الجوارحِ عن لطمِ الخدودِ وشقِّ الجيوبِ، وذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى، أفادت الآيةُ وجوبَ الصَّبرِ قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: هو واجبٌ بالإجماعِ، انتهى.
وينقَسِمُ الصَّبرُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
صبرٍ على طاعةِ اللهِ، وصبرٍ عن معصيةِ اللهِ، وصبرٍ على أقدارِ اللهِ المؤلمةِ.
زاد الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ: وصبرٌ على الأهواءِ المضلَّةِ، والنَّوعانِ الأوَّلان أفضلُ من الأخيرِ، وهو الصَّبرُ على أقدارِ اللهِ المؤلمةِ، صرَّحَ بذلك السَّلفُ منهم سعيدُ بنُ جبيرٍ وميمونُ بنُ مِهرانَ وغيرُهما، والنَّوعُ الأوَّلُ أفضلُ من النَّوعِ الثَّاني.
قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ: وأفضلُ أنواعِ الصَّبرِ: الصِّيامُ، فإنَّهُ يجمعُ أنواعَ الصَّبرِ الثَّلاثةَ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِ ((المدارجِ)): وتمامُ الصَّبرِ أنْ يكونَ كما قال اللهُ: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الآيةَ وأقواه أَنْ يكونَ باللهِ معتَمِدًا عليه لا على نفسِه، ولا على غيرِه من الخلقِ. انتهى.
وقد تكاثرتِ الأدلَّةُ على الحثِّ على الصَّبرِ والتَّرغيبِ فيه والثَّناءِ على أهلِه، قال الإمامُ أحمدُ: ذكرَ اللهُ الصَّبرَ في تِسعين موضعًا من كتابِهِ، وفي الآيةِ إثباتُ صفةِ الحُكمِ للهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، وقد تقدَّمتِ الإشارةُ إلى تقسِيمِه إلى قِسمينِ: حُكمٌ شرعِيٌّ دينيٌّ، وحكمٌ قدريٌّ كونيٌّ، فالشَّرعيُّ متعلِّقٌ بأمرِه، والكونيُّ متعلِّقٌ بخلقِه وهو -سُبْحَانَهُ- له الخَلْقُ والأمرُ، وحكمُه الدِّينيُّ الطَّلبيُّ نوعان بحسبِ المطلوبِ، فإنَّ المطلوبَ إنْ كانَ محبوبًا له فالمطلوبُ فِعلُه إمَّا وجوبًا وإمَّا استحبابًا، وإن كانَ مبغوضًا له فالمطلوبُ تركُه إمَّا تحْريما وإمَّا كراهةً، وذلك أيضا موقوفٌ على الصَّبرِ، فهذا حكمُه الدِّينيُّ الشَّرعيُّ، وأمَّا حكمُه الكونيُّ -وهو ما يقتَضِيه وما يقدِّرُه على العبدِِ من المصايبِ الَّتي لا صُنْعَ له فيها- فغرضُه الصَّبرُ عليها، وفي وجوبِ الرِّضا بها قولانِ للعُلماءِ أصحُّهما: إنَّه مستحَبٌّ. فرجعَ الدِّينُ كلَُّه إلى هذهِ القواعدِ الثَّلاثِ: فِعْلُ المأمورِ وتركُ المحظورِ، والصَّبْرُ على المقدورِ، انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنا): أي بِمَرأى منَّا، وتحتَ حفظِنا وكَلاَءَتِنَا (واللهُ يعصِمُكَ مِن النَّاس)ِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ: وهذا يتضمَّنُ الحِراسةَ والكلاءةَ والحِفظَ للصَّابرِ لحكمِه -سُبْحَانَهُ وتعالى-، وفيها معيَّةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- للصَّابرِ لحكمِه -سُبْحَانَهُ- وحفظُه، وفيها إثباتُ فعلِ العبدِ حقيقةً، وأدلَّةُ ذلك أكثرُ مِن أن تُحصرَ.(1/62)
وقولُه: ُ( وَحَمَلْنَاهُ عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)،وقولُهُ: (وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَحَمَلْنَاهُ): أي نوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
قَولُهُ: (عَلى ذَاتِ أَلْواحٍ): أي على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ، المرادُ خشبُ السَّفينةِ العريضُ.
قَولُهُ: (وَدُسُرٍ): أي المساميرُ الَّتي تُشدُّ بها الألواحُ، يقال: دَسَرْتُ السَّفينةَ، إذا شددتُها بالمساميرِ.
قَولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا): أي بأمرِنا بمَرْأى منَّا تحت حفظِنا وكلاءتِنا، والنَّونُ للتَّعظيمِ.
قَولُهُ: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ): أي جزاءً لهم على كُفرهِم، وانتصارًا لنوحٍ عليه السَّلامُ عليهم.
قَولُهُ: (وأَلْقَيْتُ): أي وَصَنعتُ (عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي): أي إنَّ اللهَ أحبَّه وحبَّبهُ إلى خلقِه.
قَولُهُ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي): أي بِمَرأى ومنظرٍ منِّي، والمعنى أنَّ اللهَ أحبَّ موسى وحبَّبه إلى خلقِه، وربَّاه بِمَرأى منه سُبْحَانَهُ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: والفرقُ بين قَولِهِ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، وقَولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أنَّ الآيةَ الأولى وردَتْ في إظهارِ أمرٍ كان خفيًّا، وإبداءِ ما كانَ مكتُومًا، فإنَّ الأطفالَ إذْ ذاك كانوا يتغذَّون ويُصنعُونَ سِرًّا، فلمَّا أرادَ أنْ يُصنعَ موسى ويُغذَّى ويُربَّى على حالِ أمْنٍ وظهورٍ دخلت(على)في اللفظِ تَنبيهًا على المعنى، لأنَّها تُعطي الاستعلاءَ، والاستعلاءُ ظهورٌ وإبداءٌ، فكأنَّه يقولُ: وتُصنعُ على أمْنٍ لا تحتَ خوفٍ، وذَكرَ العينَ لتضمُّنِها معنى الرِّعايةِ والكلاءةِ، وأمَّا قَولُهُ: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) فإنَّه يريدُ برعايةٍ منَّا وحفظٍ، ولا يريدُ إبداءَ شيءٍ ولا إظهارَه بعد كتمٍ، فلم يحتجْ في الكلامِ إلى مَعنى(على)بخلافِ ما تقدَّمَ. اهـ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ إثباتُ محبَّةِ الله -سُبْحَانَهُ- لعبدِه موسى، وتحبيبِه لخلقِه، وفيها عنايةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بعبدِه موسى وتربيتُه على مَرأًى منه، وهذه عنايةٌ خاصَّةٌ ومعيَّةٌ لعبدِه موسى تَقْتَضي حفظَه وكلاءتَه وعنايتَه، وفي هذه الآياتِ إثباتُ صفةِ العَينينِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، فيجبُ على المؤمنِ أنْ يُثبتَ لخالقِه وبارئِه ما أثبتَه لنفسِه من العَينينِ والسَّمْعِ والبصرِ وغيرِها، وغيرُ المؤمنِ مَن ينفِي عن اللهِ ما أثبَتَه في مُحكمِ تنزيلِه، وكذلك أثبَتَه له رسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.(1/63)
وقَوْلُهُ: ( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيْعٌ بَصِيْرٌ ) (1)
__________
(1) قَولُهُ: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا): أي تراجُعك أيُّها النَّبيُّ في شأنِ زوجِها، وهي خولةُ بنتُ ثعلبةَ، وزوجُها أوسُ بنُ الصَّامتِ، وذلك حينَ ظاهرَ منها زوجُها، وقال لها: أنتِ علَيَّ كظهْرِ أمِّي، فأتت النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقال: ((قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)) فَقَالَتْ: إنَّ ليْ صِبْيِةً صِغَارًا إنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاُعوا، وإنْ ضَمَمْتُهمْ إليْهِ ضَاعُوا، فَقَالَ: ((قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ)) فَقَالَت: أَشكو إلى اللهِ فَاقَتي وجَهْدِيِ، وكُلَّما قَالَ حَرُمْتِ عَلَيْه جَعَلَتْ تَهْتفُ وتَشْكُو.
قَولُهُ: (وَتَشْتَكِي): أي تُظهِرُ ما بها مِن المكروهِ.
وقَولُهُ: (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا): أي مراجعتَكُما الكلامَ، مِنْ حارَ إذا رَجَعَ.
قَولُهُ: (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): أي أحاطَ سمعُه بجميعِ المسموعاتِ، وبصرُه بجميعِ المُبصَراتِ، فلا يَخفى عليه خافيةٌ، وكثيرًا ما يقرنُ -سُبْحَانَهُ- بين هذينِ الاسمينِ (السَّميعُ والبصيرُ) فكلٌّ مِن السَّمعِ والبصرِ محيطٌ بجميعِ متعلِّقاتِه الظَّاهرةِ والباطنةِ، فالسَّميعُ: هو الَّذي أحاطَ سمعُه بجميعِ المسموعاتِ، والبصيرُ: هو الَّذي أحاطَ بصرُه بجميعِ المبصراتِ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ إثباتُ السَّمعِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه سميعٌ، ويسمعُ، أحاطَ سمعُه بجميعِ المسموعاتِ، وكلُّ ما في العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ من الأصواتِ يسمعُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، سواءً السِّرُّ والعلانيَّةُ، قالت عائشةُ رَضِي اللهُ عَنْهُا: الحمدُ للهِ الَّذي وَسِعَ سمعُه الأصواتَ، لقد جاءتِ المجادِلةُ تشتَكِي إلى رسولِ اللهِ وأنا في جانبِ الحُجرةِ يخفى عَلَيَّ بعضُ كلامِها فأنزلَ اللهُ قَولَهُ: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا) الآيةَ، وقال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
وهوَ السَّميعُ يَرى ويسمَعُ مَا في الكونِ منْ سرٍّ ومِنْ إعلانِ
ولكلِّ صوتٍ منْهُ سَمْعٌ حاضرٌ فالسِّرُّ والإعلانُ مُستوِيَانِ
والسَّمعُ منْهُ واسعُ الأصواتِ لا يَخفى عليهِ بُعدُهَا والدَّانِي
قال البيهقيُّ في كتابِ (الأسماءِ والصِّفاتِ): السَّميعُ الَّذي له سمعٌ يدركُ به المسموعاتِ، والبصيرُ مَن له بصرٌ يدرك به المرئيَّاتِ، ولكلٍّ منهما في حقِّ البارِي صفةٌ قائمةٌ بذاتِه، وقد أفادتِ الأحاديثُ الرَّدَّ على مَن زعمَ أنَّه سميعٌ بصيرٌ بمعنى عَليمٍ، كما أخرجَ أبو داودَ بسندٍ قويٍّ على شرطِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي هريرةَ قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقرأ قَولَهُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها) – إلى قَولِهِ – (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) ويضعُ أُصبعيهِ، قال أبو يونسَ: وَضعَ أبو هُريرةَ إبهامَه على أذنِه والَّتي تَلِيها على عينِه، قال البيهقيُّ: وأرادَ بهذه الإشارةِ تحقيقَ إثباتِ السَّمْعِ والبصرِ للهِ بِبيانِ محلِّهما مِن الإنسانِ، يريدُ أنَّ له سمعًا وبصرًا، لا أنَّ المرادَ بها العِلمُ، فإنَّه لو كانَ المرادُ بها العِلمَ لأشارَ إلى القلبِ، لأنَّه محلُّ العِلمِ، ولم يُرِدِ الجارِحَةَ، فإنَّ اللهَ منزَّهٌ عن مشابهةِ المخْلوقينَ، ثمَّ ذكرَ لحديثِ أبي هريرةَ شاهدًا من حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ على المنبرِ: ((ربَّنَا سَمِيعٌ بَصِيرٌ)) وأشارَ إلى عينَيهِ، وسندُه حسنٌ.
وفي صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلىَ صُوَرِكُمْ وأَمْوَالِكُمْ وَلَكنْ يَنْظُرُ إِلىَ قُلُوبِكُمْ)). انتهى.
ولا شَكَّ أنَّ مَن سمعَ وأبصرَ أدخلُ في صفةِ الكمالِ ممَّن انفردَ بأحدِهما دونَ الآخرِ، فصحَّ أنَّ كونَهُ سميعًا بصيرًا يفيدُ قدرًا زائدًا على كونِه عليمًا، وكونَه سميعًا بصيرًا يتضمَّنُ أنَّه يسمعُ بسمعٍ ويبصرُ ببصرٍ، كمَا تضمَّنَ كونَه عليمًا: أنَّه يعلمُ بعلمٍ، ولا فرقَ بين كونِه سميعًا بصيرًا وبينَ كونِه ذا سمعٍ وبصرٍ، وقالَ وهذا قولُ أهلِ السُّنَّةِ قاطبةً ذكره في (فتحِ الباري).
وفي هذه الآيةِ وغيرِها دليلٌ على ثبوتِ الأفعالِ الاختياريَّةِ للهِ وقيامِها بهِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، وقَولُهُ: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) الآيةَ. وفي هذهِ الآيةِ الشَّكوى إلى اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وأنَّ الشَّكْوى إليه -سُبْحَانَهُ- لا تُنافي الصَّبرَ كهذِه الآيةِ، وكشكايةِ يعقوبَ إلى اللهِ، وأمَّا الشَّكوى إلى مخلوقٍ فإنَّها تُنافي الصَّبرَ، والشَّكوى نَوعانِ: شَكْوى بلسانِ المقالِ، وشَكْوى بلسانِ الحالِ، وفعلُها أعظمُ، وأمَّا إخبارُ المخلوقِ بالحالِ فإنْ كانَ للاستعانةِ بإرشادِه أو مُعاونتِه لم يقدحْ ذلك في الصَّبرِ كإخبارِ المريضِ للطبيبِ، وقد كانَ النَّبيُّ إذا دَخَلَ على مريضٍ يسألُه عن حالِه، ويقولُ: كَيْفَ تَجِدُكَ، انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ بتصرُّفٍ.(1/64)
وقولُهُ: ( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ ). (1)
وقَوْلُهُ: ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ). (2)
__________
(1) 71) قَولُهُ: (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ): الآيةَ، سببُ نزولِ هذه الآيةِ: أنَّ اليهودَ حينَ سَمِعوا قَولَهُ: (مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا): قالوا: إنَّ إلهَ محمَّدٍ يَستقرضُ منَّا، فنحنُ إذًا أغنياءُ وهو فقيرٌ.
قَولُهُ: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا): أي سنأمرُ الحفظَةَ بكتابةِ ما قالوا في الصَّحائفِ.
أفادت هذه الآيةُ كغيرِها مِن الآياتِ والأحاديثِ إثباتَ صفةِ السَّمعِ للهِ كما يليقُ بجلالِه، وفي قَولِهِ: (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) تحذيرٌ وتخويفٌ، فإنَّه ليسَ المرادُ به مجرَّدَ الإخبارِ بالسَّمْعِ، لكنَّ المرادَ مع ذلك الإخبارُ بما يترتَّبُ على ذلك من المجازاةِ بالعدلِ، وأفادتْ إثباتَ وجودِ الحفظةِ وأنَّهم يكْتُبون ما يُقالُ، وسيأتي الكلامُ على الحفَظةِ.
(2) قَولُهُ: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ): السِّرُّ: هو حديثُ الإنسانِ بينَه وبينَ نفسِه أو غيرِه في خِفيةٍ، والنَّجوى: هو ما يتحدَّثُ به الإنسانُ معَ رفيقِه ويُخفيهِ عن غيرِه.
قَولُهُ: (بَلَى): أي نسمعُ سِرَّهم ونَجْواهم، فهو -سُبْحَانَهُ- السَّميعُ الَّذي أحاطَ سمعُهُ بجميعِ المسموعاتِ.
قَولُهُ: (وَرُسُلُنَا): أي الملائكةُ الحفظةُ للأعمالِ (لَدَيْهِمْ): أي عندَهم.
قَولُهُ: (يَكْتُبُونَ): أي يكتبونَ ما يقولونَ وما يفعلونَ.
فهذه الآيةُ فيها تحذيرٌ وتخويفٌ، فإنَّ طريقةَ القرآنِ بذكرِ العلمِ والقدرةِ تهديدًا وتخويفًا لترتُّبِ الجزاءِ عليها كهذه الآيةِ، وقَولُهُ: (اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) الآيةَ، وليس المرادُ به مجرَّدَ الإخبارِ بالقدرةِ والعلمِ، لكنَّ الإخبارَ مع ذلك بما يترتَّبُ عليهما مع الجزاءِ بالعدلِ، انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
وفي هذهِ الآيةِ دليلٌ على إثباتِ صفةِ السَّمعِ وإحاطتِه إحاطةً تامَّةً بكلِّ مسموعٍ، وفيها دليلٌ على وجودِ الملائكةِ الحفظَةِ، وأنَّهم يكْتبونَ كلَّ ما قالَ العبدُ أو فعلَ أو نَوى أو همَّ به؛ لأنَّ النِّيَّةَ فعلُ القلبِ، فدخلتْ في عمومِ قَولِهِ: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) ويشهدُ لذلك قَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فاكتُبُوهَا عَلَيْهِ، وإِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرًا)).
ويجبُ الإيمانُ بالحفظَةِ، والأدلَّةُ على إثباتِ وجودِهِم من الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ، قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقَولُهُ: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).
قالَ علماؤُنَا منهم ابنُ حِمْدَانَ في (نهايةِ المُبتدئينَ): الرَّقيبُ والعتيدُ مَلكَانِ موكَّلانِ بالعبدِ، يجبُ أَنْ نؤمِنَ بهما ونُصدِّقَ بأنَّهما يَكتبانِ أفعالَهُ، واستدَلَّ بالآيتينِ المذكورتَينِ، قال ولا يُفارقَانِ العبدَ بحالٍ، وقيلَ بلْ عندَ الخلاءِ، وقال الحسنُ: إنَّ الملائكةَ يجتنبونَ الإنسانَ على حاليْنِ: عندَ غائطِه وعندَ جِمَاعِه، ومفارقتُهما للمكلَّفِ حينئذٍ لا يمنعُ مِن كِتابتِهما ما يصدرُ منه في تلكَ الحالِ، كالاعتقادِ القلبيِّ يجعلُ اللهُ لهما أمارةً على ذلك.(1/65)
( إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )، ( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (إِنَّني مَعَكُمَا): أي يقولُ -سُبْحَانَهُ- لكليمِه موسى عليه السَّلامُ وأخيهِ هارونَ: (إِنَّني مَعَكُمَا) أي بِحفظِي ونصرِي وكلاءتِي وتَأْييدِي.
قَولُهُ: (أَسْمَعُ وَأَرَى): أي أسمعُ كلامَكُما وكلامَه وأرى مكانَكُما ومكانَه، ولا يَخْفى عليَّ شيءٌ من أمرِكُم، فأنَا معَكُما بحِفْظي ونَصْري، وهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ الَّتي تَقْتَضي الحِفظَ والنَّصرَ والتَّأييدَ والإعانَةَ، كقَولِهِ: (كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا لاَتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)).
والمعيَّةُ تنقسمُ إلى قسمينِ: معيَّةٍ خاصَّةٍ ومعيَّةٍ عامَّةٍ، فالعامَّةُ: هي معيَّةُ العِلْمِ والإحاطةِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ).
والثَّانيةُ: وهي المعيَّةُ الخاصَّةُ، وهي معيَّةُ القُربِ. كما تقدَّمَ، كقَولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) والفرقُ بينهما أنَّها إذا جاءتِ المعيَّةُ في سياقِ المحاسبةِ والمجازاةِ والتَّخويفِ فهي عامَّةٌ، وإذا أتتْ في سياقِ مدحٍ أو ثناءٍ فهي معيَّةٌ خاصَّةٌ، وكلا المعيَّتينِ منه -سُبْحَانَهُ- مصاحبِةٌ للعبدِ، لكنْ هذه مصاحبةُ اطِّلاعٍ وإحاطةٍ، وهذه مصاحبةُ موالاةٍ ونصرٍ وحفظٍ، فمَعَ في لغةِ العربِ للصُّحبةِ اللاَّئقةِ لا تُشعِرُ بامتزاجٍ ولا اختلاطٍ ولا مجاورةٍ ولا مجانبةٍ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) وتقولُ: زوْجَتي مَعي، وهذه المعيَّةُ لا تُنافِي علُوَّ اللهِ على عرشِه، فإنَّ قُرْبَه ومعيَّتَه ليست كقربِ الأجسامِ بعضِها من بعضٍ، ليس كمثلِهِ شيءٌ؛ كما قالَ مالكٌ: الاستواءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ.
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه اللهُ: وهذا شأنُ جميعِ ما وصفَ اللهُ به نفسَهُ، فلو قال في قَولِهِ: ((إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) كيفَ يسمعُ وكيف يَرَى؟ لقلنا: السَّمعُ والرَّؤيةُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، ولو قالَ كيفَ يتكلَّمُ؟ لقلنا الكلامُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ.
وقَولُهُ: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى): أي أمَا عَلمَ هذا النَّاهي عن الهُدى أنَّ اللهَ يراه ويسمعُ كلامَه؟! وسَيُجازيه على فعلِه أتمَّ الجزاءِ، وهذا وعيدٌ.(1/66)
( الَّذِي يَرَاكَ حِيْنَ تَقُومُ وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيْعُ العَلِيْمُ )، ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (يَرَاكَ):أي يبصرُك وينظرُ إليك لا تَخْفى عليه خافيةٌ، فتوكَّلْ عليه فإنَّه سيحفظُكَ وينصُرُك ويعزُّكَ، وتضمَّنَ ذلك الوعدُ بالإثابةِ على ذلك أتمَّ الثَّوابِ.
وقَولُهُ: (حِيْنَ تَقُومُ): أي يراكَ حينَ تقومُ للصَّلاةِ وغيرِها، (وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ): أي يَرى تقلُّبَك في السَّاجدينَ من قيامٍ وقعودٍ وركوعٍ وسجودٍ، ففيه فضيلةُ صلاةِ الجماعةِ. استُفيدَ من هذه الآياتِ: إثباتُ صفةِ السَّمْعِ والبصَرِ وإثباتُ علمِه المحيطِ، واستُفيدَ منه كما تقدَّمَ: الإشارةُ إلى فضيلةِ السَّمعِ على البصرِ لتقديمِه عليه.
وقَولُهُ: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). أي قلْ يا محمَّدُ لهؤلاءِ المُنافقينَ: اعمَلوا ما شِئتم واستمرُّوا على باطلِكم ولا تحسبُوا أنَّ ذلكَ سَيخفَى عليهِ، وهذا وعيدٌ شديدٌ لمَن خالفَ أوامرَه.
قَولُهُ: (فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ) الآيةَ، أي سَيُظهِرُ أعمالَكم للنَّاسِ في الدُّنْيَا، وهذا وعيدٌ للمخالِف أوامرَه بأنَّ أعمالَهم ستُعرَضُ عليه وعلى الرَّسولِ وعلى المؤمِنينَ، وهذا كائنٌ لا محالةَ يومَ القيامةِ، كما قال سُبْحَانَهُ: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ) وقال: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) وقد يُظهِرُ اللهُ ذلك للنَّاسِ في الدُّنْيَا، كما روى الإمامُ أحمدُ عن أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((لو أنَّ أحدَكُمْ يَعملُ في صخرةٍ ليسَ لَهَا بابٌ ولاَ منفذٌ لأَخرجَ اللهُ عمَلَهُ للنَّاسِ كَائِنًا مَا كانَ)) وقد وردَ أنَّ أعمالَ الأحياءِ تُعرضُ على الأمواتِ مِن الأقرباءِ والعشائرِ في البرزَخِ.
ففي هذه الآيةِ إثباتُ الكلامِ، وفيها دليلٌ على ثبوتِ الأفعالِ الاختياريَّةِ للرَّبِّ وقيامِها بهِ، وأدلَّةُ ذلك كثيرةٌ تزيدُ على الألفِ، كما ذكرهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ وتلميذهُ ابنُ القيِّمِ رحمهما اللهُ تعالى. وقالَ شيخُ الإسلامِ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ في كتابِ (الرَّدِّ على المنطِقيِّينَ) قَولُهُ: (فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ) وقَولُهُ: (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسولَ) أي لنرى أو لِنُميزَ، وهكذا قال عامَّةُ المفسِّرين إلا لِنَرى ونميِّزَ، وكذا قالَ جماعةٌ من أهلِ العِلْمِ. قالوا: لنعلمَهُ موجودًا واقعًا بعد أنْ كانَ قد عُلِمَ أنَّه سيكونُ، ولفظُ بعضِهم قالَ العِلْمُ على مَنزلتينِ: علمٍ بالشَّيءِ قبلَ وجودهِ، وعلمٍ به بعدَ وجودِه، والحكمُ للعلمِ بِه بعد وجودِه؛ لأنَّه يوجبُ الثَّوابَ والعقابَ، قالَ: فَمَعنى قَولِهِ: (إِلاَّ لِنَعْلَمَ)، أي لنعلمَ العِلمَ الَّذي يستحقُّ به العاملُ الثَّوابَ والعقابَ، ولا ريبَ أنَّه كانَ عالمًا -سُبْحَانَهُ- بأنَّه سيكونُ، لكنْ لم يكنِ المعلومُ قد وُجدَ، والقرآنُ قد أخبرَ أنَّه -سُبْحَانَهُ- يعلمُ ما سيكونُ في غيرِ موضعٍ، وأخبرَ بما أخبَرَ به مِن ذلك قبلَ أنْ يكونَ، وقد أخبرَ بعلمهِ المتقدِّمِ على وجودِه، ثمَّ لَمَّا خلقَهُ علمَه كائنًا مع علمِه الَّذي تقدَّمَ أنْ سيكونُ، فهذا هو الكمالُ، وقد ذكرَ اللهُ علمَهُ بما سيكونُ بعدَ أنْ يكونَ في بضعَ عشرةَ آيةً من القرآنِ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسولَ) مع إخبارِهِ في مواضعَ كثيرةٍ مِنْ أنَّه يعلمُ ما سيكونُ قبلَ أنْ يكونَ.
وفي هذهِ الآياتِ دليلٌ واضحٌ على أنَّ اللهَ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ مِن العِلمِ والقُدرةِ والإرادةِ والحياةِ والكلامِ والسَّمعِ والبصرِ والوجهِ واليديْنِ والغضبِ والرِّضا والفرحِ والضَّحكِ والرَّحمةِ والحكمةِ، وبالأفعالِ كالمجيءِ والإتيانِ والنُّزولِ إلى سماءِ الدُّنْيَا ونحوِ ذلك، والعلمُ بمجيءِ ذلك عن الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ضروريٌّ، وإخبارُه به ضروريٌّ فوقَ العِلمِ بوجوبِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ وتحريمِ الفواحشِ، وفرضَ على الأمَّةِ تصديقَهُ فرضًا لا يتمُّ أصلُ الإيمانِ إلا به، خلافًا للجهميَّةِ والمعتزلةِ وأشباهِهِمْ.
وفي هذه الآياتِ أيضًا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي للعبدِ أنْ يعبدَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على استحضارِ قُربِهِ واطِّلاعِه، وأنَّه بين يَديهِ، وذلك يوجبُ للعبدِ الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتَّعظيمَ ويوجبُ النُّصحَ في العبادةِ، وهذا هو مقامُ الإحسانِ كما في حديثِ عمرَ: ((الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)) وقد دلَّ القرآنُ على هذا المعنى في مواضعَ كثيرةٍ، وكذلك وردتْ أحاديثُ صحيحةٌ بالنَّدبِ إلى استحضارِ هذا القربِ في حالِ العباداتِ، كقَولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِذَا قَامَ أَحْدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ)). انتهى. مِن كلامِ ابنِ رجبٍ بتصرُّفٍ.(1/67)
وقَوْلُهُ: ( وَهُوَ شَديِدُ المِحَالِ ). (1)
و قَوْلُهُ: ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ )، وقَوْلُهُ: ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْناً مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )، وقَوْلُهُ: ( إِنَّهُمْ يَكِيْدُون كَيْداً وَأَكِيْدُ كَيْداً ). (2)
__________
(1) قَولُهُ: (وَهُوَ شَديِدُ الْمِحَالِ): أي شديدةٌ مماحلتُه في عقوبةِ مَن طَغى عليه وعَتَى وتَمَادى في كُفْرِه، وعن عليٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ: شديدُ المِحالِ: أي شديدُ الأخذِ، ورُويَ شديدُ القوَّةِ، قال النَّسفِيُّ في تفسيرِهِ: والمعنى أنَّهُ شديدُ المكرِ والكيْدِ لأعدائِه يأتِيهم بالهَلَكةِ مِن حيثُ لا يحْتسبِون. انتهى.
(2) وقَولُهُ: (وَمَكَرُوا): أي كفَّارُ بني إسرائيلَ حين أرادُوا قتلَ عيسى وصَلبَه، والمكرُ فعلُ شيءٍ يُرادُ به ضدُّه.
قَولُهُ: (وَمَكَرَ اللهُ): أيْ جازَاهم على مكرِهم، بأنْ رفعَ عيسى إلى السَّماءِ وألقَى شَبهَهُ على مَنْ أرادَ اغتيالَهُ حتَّى قتلَ، كما رَوى ذلك.
قَولُهُ: (وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ): أي أقْوَى المُجازين وأقدرُهم على العقابِ من حيثُ لا يشعرُ المعاقَبُ، انتهى. نسفيٌّ.
قَولُهُ: (وَمَكَرُوا): أي دبَّروا أمرَهُم على قتلِ صالحٍ عليه السَّلامُ وأهلِه على وجهِ الخِفْيةِ حتَّى مِن قومِهِم، خوفًا مِن أوليائِه.
قَولُهُ: (وَمَكَرْنا مَكْرًا): أي بنصرِ نبيِّنَا صالحٍ عليه السَّلامُ، وإهلاكِ قومِه المُكذِّبين، وقال تعالى: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ).
هذه الآياتُ فيها التَّحذيرُ مِن الأمنِ مِن مكرِ اللهِ، قالَ الحسَنُ رحمَهُ اللهُ تعالى: مَن وسَّعَ اللهُ عليه فلا يَرَى أنهَ يَمْكُرُ به فلا رأْيَ له، وفي الحديثِ: ((إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ عَلَىَ مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فاعْلَمْ أَنَّما هُوَ اسْتِدْرَاجٌ)) رواه أحمدُ وابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، وهذا هو تفسيرُ المكرِ في قولِ بعضِ السَّلفِ، يستدرجُهُمُ اللهُ بالنِّعمِ إذا عصَوهُ، ويُملِي لهم ثمَّ يأخذُهم أخْذَ عزيزٍ مُقتدرٍ، وهذا مَعنى المكرِ والخديعةِ ونحوِ ذلك، ذكرهُ ابنُ جريرٍ بمعناه. انتهى. مِن ((فتحِ المجيدِ)).
قَولُهُ: (إِنَّهُمْ يَكِيدُون كَيْدًا): أي إنَّ كفَّارَ قريشٍ يكيدونَ كيدًا، وكيدُهم هو ما دبَّروه في شأنِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من الإضرارِ به وإبطالِ أمرِه.
قَولُهُ: (وَأَكِيدُ كَيْدًا): أي أُجازيهم على كيدِهم، والكيدُ استدراجُهم كما في الآيةِ: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: إنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يكيدُهم كما يكيدونَ دينَهُ ورسولَهُ وعبادَهُ، وكيدُه سُبْحَانَهُ: استدراجُهم مِن حيثُ لا يعلمونَ، والإملاءُ لهم حتَّى يأخذَهمْ على غرَّةٍ، فإذا فَعَل ذلك أعداءُ اللهِ بأوليائِه ودينِه كان كيدُ اللهِ لهم حسنًا لا قُبْحَ فيه، فيُعطيهم ويستدرجُهم مِن حيثُ لا يَعلمونَ. انتهى. بتصرُّفٍ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: المكرُ ينقسمُ إلى قسمينِ: محمودٍ، ومذمومٍ. فإنَّ حقيقةَ إظهارِ أمرٍ وإخفاءِ خلافِه ليُتوصَّلَ إلى مرادِه , فمن المحمودِ مكرُه -سُبْحَانَهُ- بأهلِ المكرِ مقابلةً لهم بفعلِهم، وجزاءً لهم من جنسِ عمَلهِم، قال تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) وكذلك الكيدُ ينقسِمُ إلى نَوعينِ، قال تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) وقَولُهُ: (كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) وكذلكَ الخداعُ ينقسمُ إلى محمودٍ، ومذمومٍ. فإنْ كانَ بحقٍّ فهو محمودٌ، وإن كانَ بباطلٍ فهو مذمومٌ. انتهى.
وهذه التَّفاسيرُ المتقدِّمةُ للمكرِ والكيدِ والخداعِ ونحوِ ذلك ليستْ مِن بابِ التَّأويلِ الَّذي ينكرُه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، بل من بابِ التَّفسيرِ، فإنَّ جميعَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ يصِفونَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بأنَّه شديدُ القوَّةِ، وكذلك شديدُ المكرِ وشديدُ الأخذِ، كما وصفَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- نفسَهُ بذلك في غيرِ آيةٍ من كتابِه، كقَولِهِ: (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، وقَولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، وقَولُهُ: (إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) فيُمِرُّوُنَ هذه الآياتِ على ظواهرِها، ويعرفُون معنَاها، ولكنْ لا يُكيَّفُونَها ولا يُشبِّهونَها بصفاتِ المخلُوقينَ، وهذا مُجْمَعٌ عليه بينَ أهلِ السُّنَّةِ. انتهى. ملخَّصًا مِن ردِّ الشَّيخِ عبدِ اللهِ بنِ محمَّدٍ على الزَّيديَّةِ.
وقال ابنُ القيِّمِ رحِمه اللهُ في ((الصَّواعقِ)): واللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لم يصفْ نفسَهُ بالكيدِ والمكرِ والخداعِ والاستهزاءِ مطلقًا، ولا ذلك داخلٌ في أسمائِه الحُسْنى، فإنَّ هذه الأفعالَ ليست ممدوحةً مطلقًا، بل تُمدحُ في موضعٍ وتُذمُّ في موضعٍ، فلا يجوزُ إطلاقُ أفعالِها على اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مطلقًا، فلا يقالُ: إنَّ اللهَ يمكرُ ويخادعُ ويستهزئُ، فكذلك بطريقِ الأوْلَى أن لا يُشْتَقَّ لَه منها أسماءٌ يُسمَّى بها؛ بل إذا كانَ لم يأتِ في أسمائِه الحُسنى المريدُ ولا المتكلِّمُ ولا الفاعلُ ولا الصَّانعُ؛ لأنَّ مسمَّياتِها تنقسمُ إلى ممدوحٍ ومذمومٍ، فكيفَ يكونُ منها الماكرُ والمخادعُ والمستهزئُ، وهذا لا يقَولُهُ مسلمٌ ولا عاقلٌ، والمقصودُ أنَّ اللهَ لم يصفْ نفسَه بالكيدِ والمكرِ والخداعِ إِلا على وجهِ الجزاءِ لمَن فعلَ ذلك لغيرِ حقٍّ، وقد عُلم أنَّ المُجازاةَ حسنةٌ من المخلوقِ فكيف من الخالقِ سُبْحَانَهُ وتعالى.(1/68)
وقَوْلُهُ: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُو عَنْ سُوْءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيْراً ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا): أي تُظهرُوه.
قَولُهُ: (أَوْ تُخْفُوهُ): أي فَتعمَلوا سرًّا، وهذا عامٌّ شامِلٌ لكلِّ خيرٍ قوليٍّ أو فِعْليٍّ، ظاهرٍ أو باطنٍ.
قَولُهُ: (أَوْ تَعْفُو عَنْ سُوْءٍ): أي تَتَجاوزوا عمَّن أساءَ إليكم في أنفسِكم أو أموالِكم أو غيرِ ذلك. فالعفوُ هو التَّجاوزُ عن الذَّنبِ والصَّفحُ عنه، فَعَفا تأتِي في اللغةِ لمَعانٍ:
الأوَّلِ: عفَا عن الذَّنبِ، أي صفحَ عنه، وعَفا: أسقطَ حقَّه كما قال تعالى: (إلاَّ أَن يَعْفُونَ): أي يُسقطونَ حُقوقَهم، وعفَا القومُ، أي كَثُروا، ومنه حتَّى عفَوا أي كثرُوا وعفا المنزِلُ أي انْطَمسَ، ومنه قولُ حسَّانَ:
عَفَتْ ذاتُ الأصابعِ فالجواءُ ... أي زالتْ وزالَ أهلُها وانطمسَتْ.
قَولُهُ: (عَفُوًّا): معناه ذو العفوِ، وهو تركُ المؤاخذَةِ على ارتكابِ الذَّنبِ، وهو أبلغُ من المغفرةِ، فإنَّها مُشتقَّةٌ من الغَفْرِ وهو السَّترُ، والعفوُ إزالةُ الأثرِ، ومنه عفتِ الدِّيارُ. قال ابنُ القيِّمِ في ((النُّونيَّةِ)):
وهُوَ العفوُّ فعفوُه وسِعَ الورَى لولاهُ غارَ الأرضُ بالسُّكَّانِ
قَولُهُ: (قَدِيْرًا): أي قادرًا على كلِّ شيءٍ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: فمَن جعلَ شيئًا مِن الأعمالِ خارجًا عن قدرتِه ومشيئتِه فقد ألحدَ في أسمائِه وآياتِه، بخلافِ ما عليه القَدَرِيَّةُ. انتهى.(1/69)
وقَوْلُهُ: ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا): العفْوُ: السَّترُ و التَّجاوزُ، والصِّفحُ: الإعراضُ، مشتقٌّ مِن صفحةِ العُنُقِ، وهو أنْ يُعرِضَ عن عقابِ المُذنبِ وعتابِه، وكأنَّه ولاَّه صفحةَ عُنقهِ، وهو أبلغُ مِن العفوِ؛ لأنَّ الصَّفحَ لا لومَ فيه ولا تَثريبَ.
هذه الآيةُ نزلَتْ في شأنِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ حين حلفَ أنْ لا يُنْفِقَ على مِسطَحٍ ابنِ خالتِه لخوضِه في أمْرِ عائشةَ، وكان مسكينًا بدريًّا مهاجِرًا، فلمَّا تلاها النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على أبي بكرٍ قالَ: بلى أحِبُّ أنْ يغفرَ اللهُ لي، وردَّ على مِسطحٍ نفقتَه.
وقَولُهُ: (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): غفورٌ، أي كثيرُ المغفرةِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على ذلك، في هذه الآياتِ وصفُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بالعفوِّ والغفُورِ، وفيها الحثُّ على الصَّفحِ والعفوِ ومكارمِ الأخلاقِ ومعالِي الأمورِ، وفيها أنَّ ما ذُكِرَ سببٌ للمغفرةِ، وفيها دليلٌ على أنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، والأدلَّةُ على ذلك في الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ، وفيها حِلمُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وكرمُه ولطفُه بعبادِه مع ظُلمهِم لأنفسِهم، وفيها إثباتُ فعلِ العبدِ وأنَّه فاعلٌ حقيقةً، والرَّدُّ على المجبرةِ الَّذين يزعمونَ أنَّ العبدَ لا فِعلَ له، وإنَّما يُنسبُ إليه الفعلُ على جهةِ المجازِ، ولو كان الأمرُ كما يزعمونَ لم يُؤمرْ بما ذُكِر، ولم يُنسبْ إليه الفعلُ، ولم يعاقَبْ على سوءٍ، وقَولُهُم باطلٌ تردُّه أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ، بل الفطرةُ والعقلُ وطردُه يَخْتلُّ به النِّظامُ، ولا يمكنُ أنْ تعيشَ عليهِ أمَّةٌ أبدًا.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: ثمَّ ختَمَ الآيةَ بصِفَتينِ من صفاتِه -سُبْحَانَهُ- مُناسِبتين لِما تضمَّنته، فقال: (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ففيه إشارةٌ إلى أنَّ كُلَّ اسمٍ يناسِبُ ما ذُكِرَ معه واقترَنَ به من فعلِه وأمرِه سُبْحَانَهُ، وفيها أنَّ أسماءَ الرَّبِّ مشتقَّةٌ من أوصافٍ ومعانٍ قامتْ به سُبْحَانَهُ، فهي أسماءٌ وهي أوصافٌ وبذلك كانت حُسنى، إذ لو كانتْ ألفاظًا لا معانيَ لها لم تكنْ حُسنى، ولا كانتْ دالَّةً على المدحِ ولا الكمالِ، ولَسَاغ وقوعُ أسماءِ الانتقامِ والغضبِ في مقامِ أسماءِ الرَّحمةِ والإحسانِ، فيُقالُ اللهمَ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي إنَّك أنتَ المنتقمُ، ونحوُ ذلك، ونفيُ معاني أسمائِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من أعظمِ الإلحادِ فيها.انتهى.(1/70)
وقولُه: ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ): يعني الغلبةَ والقدرةَ، فمن يردْ العزَّةَ فليطلُبْهَا بطاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولهِ، فالعزَّةُ والعلوُّ إنَّما هما لأهلِ الإيمانِ، قال تعالى: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مَّؤْمِنِينَ) فللعبدِ من العلُوِّ بحسبِ ما معه من الإيمانِ، قال تعالى: (وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ) فلهُ من العزَّةِ بحسبِ ما معه من الإيمانِ وحقائقِه، فإذا فاتَه حظُّه من العُلوِّ والعزَّةِ ففي مقابَلةِ ما فاتَه من حقائقِ الإيمانِ عِلمًا وعَملاً، ظاهرًا وباطِنًا، فالمؤمنُ عزيزٌ عالٍ مُؤَيَّدٌ منصورٌ مُكفىٌّ مدفوعٌ عنه بالذَّاتِ أينَ كان، ولو اجتمعَ عليه من أقطارِها إذا قامَ بحقيقةِ الإيمانِ وواجباتِه، فمنْ نقصَ إيمانُه نقصَ نصيبُهُ من النَّصرِ والتَّأييدِ بحسبِ ما نَقصَ من إيمانِه، انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ بتصرُّفٍ.
وفي هذه الآيةِ إثباتُ العزَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الكاملةِ من جميعِ الوجوهِ، قال تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والعزَّةُ في الأصلِ؛ القوَّةُ والغلبَةُ والشِّدَّةُ، تقول: عزَّ يَعِزُّ بكسرِ العينِ إذا صارَ عزيزًا، وعَزَّ يَعَزُّ بالفتحِ إذا اشتدَّ وقوِيَ، ومنه أرضٌ عزازٌ، أي صلبةٌ، وعَزَّ يعُزُّ بالضَّمِّ إذا غلبَ وقهَرَ، فلاسمِه العزيزِ -سُبْحَانَهُ- ثلاثةُ معانٍ:
الأوَّلُ: بمعنى المُمتنعِ الجنابِ عن أنْ يصلَ إليه ضررٌ أو يلحقَهُ نقصٌ أو عيبٌ، كقَولِهِ: (وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ).
الثَّاني: بمعنى القوَّةِ كقَولِهِم: ((مِن عزيزٍ)).
الثَّالثُ: بمعنى غلبةِ الغيرِ وقهرِه، ومنه: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ): أي غلَبَنِي.
وكلُّ هذه المعاني ثابِتَةٌ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بِمُقتَضى اسمهِ العزيزِ، كما قال: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَألْ تفيدُ الاستغراقَ والشُّمولَ لجميعِ معانِي العِزِّ، قال ابنُ القيِّمِ في ((النُّونيَّةِ)):
وهو العزيزُ فَلَنْ يُرامَ جنابُه أنَّى يُرامُ جنابُ ذي سُلطانِ
وهو العزيزُ القاهِرُ الغلاَّبُ لمْ يغلبْهُ شيءٌ، هذه صِفتانِ
وهو العزيزُ بقوَّةٍ هي وصفهُ فالعِزُّ حينئذٍ ثلاثُ معانِ
وهي الَّتي كَمُلَتْ له -سُبْحَانَهُ- مِن كلِّ وجهٍ عادمِ النُّقصانِ
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِ ((المدارجِ)): فاسمُه العزيزُ يتضمَّنُ كمالَ قدرتِه وقوَّتِه وقهرِه، وهذه العِزَّةُ مستلزِمةٌ للوحدانيَّةِ، إذ الشَّركةُ تُنقصُ كمالَ العزَّةِ. انتهى.(1/71)
وقولُهُ عن إِبلِيسَ: ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ )،وقَوْلُهُ: ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) (1)
__________
(1) قَولُهُ: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ): فيه دليلٌ على الحلفِ بعزَّةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وكذا غيرُها من صفاتِه، وفيه دليلٌ على أنَّ صِفاتِ اللهِ غيرُ مخلوقةٍ، إذ الحَلِفُ بالمخلوقِ شِركٌ، وفيه إثباتُ العزَّةِ للهِ -سُبْحَانَهُ- ردًّا على مَن قالَ: عزيزٌ بلا عزَّةٍ، كما قالُوا: إنَّه عليمٌ بلا علمٍ، والعزَّةُ المضافةُ إليه -سُبْحَانَهُ- تنقسمُ إلى قِسمين: قسمٍ يضافُ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، وهي العزَّةُ المخلوقةُ الَّتي يِعزُّ بها أنبياءَه وعبادَه الصَّالحينَ.
والثَّاني: يُضافُ إليه من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كما في هذه الآيةِ، وكما في الحديثِ: ((أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)).
قَولُهُ: (تَبَارَكَ): أي تعاظَمَ، وهو فعلٌ ماضٍ لا يتصرَّفُ، وهو خاصٌّ باللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، والبركةُ لغةً: النَّماءُ والزِّيادةُ، والتَّبريكُ: الدُّعاءُ بذلك، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى: البركةُ نَوعانِ:
أحدُهما: بركةٌ هي فِعلُه، والفعلُ منها باركَ، والمفعولُ منها مُباركٌ، وهو ما جَعلَ فيها ذلك، فكانَ مُباركًا بجعلِه سُبْحَانَهُ.
والثَّاني: بركةٌ تُضافُ إليه إضافةَ الرَّحمةِ والعزَّةِِ، والفعلُ منها تبَاركَ، ولهذا لا يُقالُ لغيرِهِ ذلك ولا يصلحُ إلا له سُبْحَانَهُ، فهو المتبارِكُ ورسولُه مُبارَكٌ. كما قالَ المسيحُ: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ) وأمَّا صِفتهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- تباركَ فمختصَّةٌ به -سُبْحَانَهُ-، كما أطْلقَها على نفسِه. انتهى، مُلخَّصًا مِن ((البدائعِ)).(1/72)
وقَوْلُهُ: ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (فَاعْبُدْهُ): أي أَفْرِدْهُ بالعبادةِ ولا تعبدْ معه غيرَه، وهذا أمرٌ بإفرادِه -سُبْحَانَهُ- بالعبادةِ، ويتضمَّنُ النَّهْيَ عن عبادةِ ما سِواه، وعبادتُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- هي أعظمُ واجبٍ، والإشراكُ به هو أعظمُ محرَّمٍ على الإطلاقِ، والعبادةُ لغةً: الذُّلُّ، يُقالُ طريقٌ معبَّدٌ إذا كان مذلَّلاً قد وطئَتهُ الأقدامُ كما قالَ الشَّاعرُ:
تباري عتاقًا ناجياتٍ وأَتْبَعَتْ وضيفًا وضيفًا فوقَ مورٍ معبَّدِ
والعبادةُ شرعًا: "ما أُمرَ به شرعًا من غيرِ اطِّرادٍ عُرفيٍّ ولا اقتضاءٍ عقليٍّ"، وعرَّفَها الشَّيخُ تقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ تعالى بقَولِه: "العبادةُ اسمٌ جامِعٌ لكلِّ ما يحبُّه اللهُ وَيَرضَاه، مِن الأقوالِ والأعمالِ الباطنةِ والظَّاهرةِ، كالصَّلاةِ، والصَّومِ، والحجِّ، ونحوِ ذلك،" وفيها دليلٌ على أنَّ العبادةَ تجبُ على كلِّ مكلَّفٍ، وأنَّه مهما بلغَ فلنْ يصلَ إلى حدٍّ تسقطُ عنه التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ، ومَن زعَمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، فإنَّ قَولَهُ: (فَاعْبُدْهُ) خِطابٌ لنبيِّه، وأمَّتُهُ تبعٌ له، فإذا كانَ هذا في حقِّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فغيرُه مِن بابِ أوْلى وأحَرْى، وللعبادةِ شروطٌ لا تصِحُّ إلا بها:
الأوَّلُ: الإخلاصُ، وهو أنْ يكونَ العملُ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى. الثَّاني: المُتابعةُ، وهو أنْ يكونَ العملُ على سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما قالَ تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) فقَولُهُ: (مَنْ) إشارةٌ إلى الإخلاصِ، وقَولُهُ: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) إشارةٌ إلى المُتابعةِ، وقال الفُضَيْلُ بنُ عياضٍ في قَولِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال: أخلصُه وأصوبُه، قيل: يا أبا عليٍّ، ما أخلصُه وأصوبُه؟ قال: إنَّ العملَ إذا كانَ خالِصًا ولم يكنْ صوابًا لم يُقبلْ، وإذا كانَ صوابًا ولم يكنْ خالصًا لم يُقبلْ حتَّى يكونَ خالصًا صوابًا، والخالصُ أنْ يكونَ للهِ، والصَّوابُ أنْ يكونَ على سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وللعبادةِ ثلاثةُ أركانٍ وهي: المحبَّةُ والخوفُ والرَّجاءُ.
قَولُهُ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا): أي هل تعلمُ له مُساميًا ومُشابهًا ومُماثلاً من المَخلُوقين؟ وهذا استفهامٌ بمعنى النَّفيِ المعلومِ بالعقلِ، أي: لا تعلمُ له مُشابهًا؛ لأنَّه الرَّبُّ وغيرُه المربوبُ، الغَنِيُّ مِن جميعِ الوجوهِ، وغيرُه الفقيرُ، الكاملُ الَّذي له الكمالُ المُطلقُ من جميعِ الوجوهِ، وغيرُه ناقِصٌ من جميعِ الوجوهِ، فهذا بُرهانٌ قاطِعٌ على أنَّه هو المُستحِقُّ للعبادةِ، وأنَّ عِبادةَ غيرِه باطِلةٌ، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّه لا مِثلَ له ولا شبيهَ ولا نظيرَ، لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه، ولا في أسمائِه ولا في أفعالِه، وهذا النَّفيُ متضمِّنٌ لإثباتِ جميعِ صفاتِ الكمالِ على وجهِ الإكمالِ، وهذا هو المعقولُ في فِطَرِ النَّاسِ، فإذا قالوا: فلانٌ لا مِثْلَ له ولا شبهَ له، فإنَّهم يُريدون: أنَّه تفرَّدَ في الصِّفاتِ والأفعالِ والمجدِ فلا يلحقُه فيه غيرُه، وفي الآيةِ دليلٌ على إثباتِ الصِّفاتِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه، وفيه دليلٌ على كثرةِ الصِّفاتِ وعظمتِها، فلو كان المرادُ به نفيَ صفاتِه لكان ذلك وصفًا بغايةِ الذَّمِّ، فإنَّ النَّفيَ المحضَ عدمٌ، والعدمُ لا يُمدحُ به أحدٌ، وإنَّما يكونُ النَّفيُ كمالاً إذا تضمَّنَ الإثباتَ، كقَولِهِ تعالى: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)، أي لكمالِ حياتِه وقيُّوميَّتهِ.
وفيه دليلٌ على نفيِ المثليَّةِ، فاتِّفاقُ اسمِ الخالقِ واسمِ المخلوقِ لا يَقْضي بتماثُلِهما، فصفاتُ الخالقِ تُناسبهُ وتليقُ بذاتِه، وصفاتُ المخلوقِ تناسبُه.(1/73)
وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )، وقَوْلُهُ: ( فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ): قد تقدَّم الكلامُ على ذلك.
وقَولُهُ: (فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا): أي أمثالاً ونظراءَ تَعبدونهم كعبادتِه وتُساوونَهم به في المحبَّةِ والتَّعظيمِ، فلا نِدَّ له في ذاتِه ولا في صفاتِه، ولا في أفعالِه ولا في عبادتِه، والنِّدُّ في اللغةِ: المِثلُ والنَّظيرُ والشَّبيهُ، يُقالُ فلانٌ نِدُّ فلانٍ، أي شبيهُه ونظيرُه، كما قال حسَّانُ بنُ ثابتٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ:
أتهجُوهُ ولستَ له بندٍّ فشرُّكُما لخيرِكُمَا الفِدَاءُ
واتِّخاذُ النِّدِّ ينقسمُ إلى قِسمينِ: قسمٍ من الشِّركِ الأكبرِ، كاتِّخاذِ ندٍّ يدعوُه أو يرجُوه أو يخافُه أو يذبحُ له أو ينذرُ له ونحوِ ذلك، كما في الصَّحيحينِ عن ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)) الحديثَ. قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابِه ((الكافيةِ الشَّافيةِ)):
والشِّركُ فاحذرْهُ فشركٌ ظاهرٌ ذا القسمُ ليسَ بقابلِ الغُفرانِ
وهو اتِّخاذُ النِّدِّ للرَّحمنِ أيْ يَّا كانَ مِنْ حَجَرٍ ومِن إنسانِ
يدْعُوهُ أو يرجوهُ ثمَّ يخافُهُ ويحبُّه كمحَبَّةِ الرَّحمنِ
القسمِ الثَّاني: ما هو مِن نوعِ الشِّركِ الأصغرِ كقولِ الرَّجلِ: ما شاء اللهُ وشئتَ، ولولا اللهُ وأنتَ. لم يكنْ كذا، والحلفُ بغيرِ اللهِ ونحوِ ذلك، كما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللهُ وحدَهُ)) أخرجه النَّسائيُّ وابنُ ماجةَ.
قَولُهُ: (وَأنتمْ تَعْلَمونَ): أي إنَّهُ ربُّكم وخالقُكم وخالقُ كلِّ شيءٍ، فهو المُستحقُّ للعبادةِ، فكيفَ تجعلونَ له أندادًا وقد عَلِمتم أنَّه لا نِدَّ له يشارِكُهُ في فعلِه؟!
ففي هذه الآيةِ: الرَّدُّ على جميعِ فرقِ الضَّلالِ، ففيه الرَّدُّ على المشبِّهةِ الَّذين يشبِّهون اللهَ بخلقِه، والَّذين يشبِّهون خلقَه به، كعبَدَةِ الأوثانِ، وفيها الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يزعُمونَ: أنَّ العبدَ يخلقُ فعلَ نفسِه استقلالاً بدونِ مشيئةِ اللهِ، فيكونُ شريكًا للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وندًّا، وفيها الرَّدُّ على المعطِّلَةِ الَّذين نفَوا صفاتِ اللهِ فرارًا مِن التَّشبيهِ فشبَّهوه بالمعدوماتِ والنَّاقصاتِ، وفيها دليلٌ على أنَّ معرفةَ اللهِ والإقرارَ به فِطريٌّ ضروريٌّ، فطرَ اللهُ عليه العبادَ، كما في الحديثِ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ وَيُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)).
وإنْ كانَ بعضُ النَّاسِ قد يحصلُ له ما يُفسِدُ فطرتَه حتَّى يحتاجَ إلى نظرٍ تحصلُ به المعرفةُ، كما قالَ تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ)، أي أَيُشَكُّ في اللهِ حتَّى يُطلبَ إقامةُ الدَّليلِ على وجودِهِ؟، وأيُّ دليلٍ أصحُّ وأظهرُ مِن هذا المدلولِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: وسمعتُ شيخَ الإسلامِ يقولُ: كيف يُطلبُ الدَّليلُ على مَنْ هو دليلٌ على كلِّ شيءٍ؟ وكانَ كثيرًا يتمثَّلُ بهذا البيتِ:
ولَيْسَ يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتَاجَ النَّهارُ إلى دَليلِ
وقد تكلَّمَ الشَّيخُ ابنُ تَيْمِيةَ رحمهُ اللهُ على قولِ مَن قالَ: إنَّ أوَّلَ واجبٍ هو النَّظرُ أو القصدُ إلى النَّظرِ أو الشَّكِ، وبيَّن أنَّها كلَّها غلطٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلفِ والأئمَّةِ، وباطلةٌ بالعقلِ أيضًا، وقرَّرَ هو وغيرُه أنَّ أوَّلَ واجبٍ على العبدِ هو التَّوحيدُ، كما في حديثِ معاذٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، حيثُ بعثه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى اليمنِ وقال: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ شَهَادَةَ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وفي روايةٍ: ((إِلَى أنْ يوحِّدُوا اللهَ)) وكذلك جميعُ الرُّسلِ أوَّلُ ما يَفْتَتِحُون دعوتَهُم بالدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: أولُّ مَن أنكرَ معرفةَ اللهِ الفطريَّةَ هم أهلُ الكلامِ الَّذين اتَّفقَ السَّلفُ على ذَمِّهمْ من الجهميَّةِ والقَدَريَّةِ، وهم عندَ سلفِ الأمَّة مِن أجهلِ الطَّوائفِ وأضلِّهم. انتهى. وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ بقَولِهِ: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ويزعمُ: أنَّ جَعَلَ بمعنى خَلَقَ، فردَّ أحمدُ عليهم بقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا) فليستْ جعلَ بمعنى خَلَقَ هنا. وفيها أنَّه -سُبْحَانَهُ- يحتجُّ على المُشركينَ بإقرارهِم بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ على إثباتِ توحيدِ الألوهيَّةِ. وفيها الاستدلالُ بهذه المخلوقاتِ على وجودِه سُبْحَانَهُ، فهي دليلٌ وآيةٌ على توحيدِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وإثباتِ أسمائِه وصفاتِه وكمالِه وصدقِ رُسلِه عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويُروى أنَّه سُئِلَ بعضُ الأعرابِ: ما الدَّليلُ على وجودِ الرَّبِّ؟ فقالَ للسَّائلِ: يا سبحانَ اللهِ إنَّ البَعْرَ ليدلُّ على البعيِرِ وإنَّ أثرَ الأقدامِ لَيدلُّ على المسيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ، وبحرٌ ذاتُ أمواجٍ، ألاَ يدلُّ ذلك على وجودِ اللطيفِ الخبيرِ؟!(1/74)
وقوله ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا): أي نظراءَ وأمثالاً يُساويهم في اللهِ بالعبادةِ والمحبَّةِ والتَّعظيمِ، وهؤلاء لا يُساوونهم باللهِ في الرِّزقِ والتَّدبيرِ، وإنَّما يسوُّونهم باللهِ في المحبَّةِ، فيعبُدونَهم ليقرِّبوهم إلى اللهِ زُلفى، فأخبَر -سُبْحَانَهُ- أنَّ مَن أحبَّ من دونِ اللهِ شيئًا كما يُحبُّ اللهَ فهو ممَّن اتَّخذَ من دونِ الله أندادًا، ففيها دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- لا نِدَّ له، وإنَّما المُشركون جعلوا بعضَ المخلوقاتِ أندادًا له تسميةً مجرَّدةً ولفظًا فارغًا من المعنى، كما قال تعالى: (وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ) الآيةَ، والمذكورُ في الآيةِ هو المحبَّةُ الشِّركيَّةُ المستلزمةُ للخوفِ والتَّعظيمِ والإجلالِ والإيثارِ على مُرادِ النَّفسِ، فمحبَّةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- هي أصلُ دينِ الإسلامِ وبكمالِها يكملُ، فهي أعظمُ الفروضِ، فصرفُها لغيرِ اللهِ شِركٌ أكبرُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: فتوحيدُ المحبوبِ أنْ لا يتعدَّدَ محبوبُه، أي مع اللهِ بعبادتِه له، وتوحيدُ الحبِّ أنْ لا يَبْقى في القلبِ بِقِيَّةُ حُبٍّ حتَّى يبذلَهَا له.
وقَولُهُ: (وَالَّذِينَ آمَنواْ أَشَدُّ حُبًّا للَّهِ): أي من أصحابِ الأندادِ لأندادِهِم، فمحبَّةُ المؤمِنين لربِّهم لا تُساويها محبَّةٌ، والمعنى والَّذين آمَنوا أشدُّ حُبًّا للهِ من محبَّةِ أهلِ الأندادِ للهِ؛ لأنَّ محبَّةَ المؤمِنين للهِ خالِصةٌ ومحبَّةَ المُشركينَ لله مُشتركةٌ، قد أخَذت أندادُهُم قِسطًا من محبَّتِهم، والمحبَّةُ الخالصةُ أشدُّ من المُشتركةِ، ففي هذه الآياتِ أنَّ مَن أشركَ معَ اللهِ غيرَه في المحبَّةِ فقد جعلَهُ شريكًا للهِ، واتَّخذَ نِدًّا للهِ، وأنَّ ذلك هو الشِّركُ الأكبرُ، فالمحبَّةُ تَنْقَسِمُ إلى أقسامٍ، كما ذكره ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ وغيرُه.
الأوَّلِ: محبَّةُ اللهِ سُبْحَانَهُ، ولا تَكفي وحدَها بالنَّجاةِ من النَّارِ والفوزِ بالجنَّةِ، فإنَّ المُشركين يُحبُّون اللهَ سُبْحَانَهُ. الثَّاني: محبَّةُ ما يُحبُّه اللهُ، وهذه المحبَّةُ هي الَّتي تُدخِلُ في الإسلامِ وتُخرِجُ من الكُفرِ، وأحبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أقومُهم بهذه المحبَّةِ. الثَّالثِ: المحبَّةُ في اللهِ وللهِ، وهي فرضٌ كمحبَّةِ أولياءِ اللهِ وبغضِ أعداءِ اللهِ، وهي مِن مُكَمِّلاتِ محبَّةِ اللهِ ومِن لوازمِها، فالمحبَّةُ التَّامَّةُ مستلزمةٌ لموافقةِ المحبوبِ في محبوبِه ومكروهِه وولايتِه وعداوتِه، ومِن المعلومِ أنَّ مَن أحبَّ اللهَ المحبَّةَ الواجبةَ فلا بُدَّ أنْ يَبغضَ أعداءَ اللهِ ويُحبَّ أولياءَه. الرَّابعِ: المحبَّةُ مع اللهِ المحبَّةَ الشِّركيَّةَ، وهي المستلزمةُ للخوفِ والتَّعظيمِ والإجلالِ فهذه لا تصلحُ إلا للهِ سُبْحَانَهُ، ومتى أحبَّ العبدُ بها غيرَ اللهِ فقد أشركَ الشِّركَ الأكبرَ. الخامسِ: المحبَّةُ الطَّبيعيَّةُ وهي ميلُ الإنسانِ إلى ما يُلائِمُ طبعَه، كمحبَّةِ المالِ والولدِ ونحوِ ذلك، فهذه المحبَّةُ لا تُذَمُّ إلا إنْ أشغلتْ وألهتْ عن طاعةِ اللهِ كما قال سُبْحَانَهُ: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).(1/75)
وقَوْلُهُ: ( وَقُلِ الحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ في المُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيراً). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَقُلِ الحَمْدُ للهِ): أل للاستغراقِ والشُّمولِ، أي الحمدُ كلُّه للهِ، فهو المُستحقُّ للحمدِ لما اتَّصفَ به مِن صفاتِ الكمالِ، والحمدُ هو الثَّناءُ عليه -سُبْحَانَهُ- بما هو أهلُه، والثَّناءُ هو ذكرُ الصِّفاتِ الجميلةِ مرَّةً بعدَ أُخْرى، وأمَّا الثَّناءُ بتقديمِ النُّونِ فيكونُ في الخيرِ والشَّرِّ، وأمَّا المجدُ فهو ذكرُ صفاتِ الجلالِ والعظمةِ، وأمَّا الشُّكرُ فهو فِعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ المُنعمِ، بسببِ كونِه مُنْعِمًا، وشرعًا هو صرفُ العبدِ جميعَ ما أنعمَ اللهُ لما خُلِقَ لأجلِه.
والفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ: أنَّ الشُّكرَ يكونُ باللسانِ والجنانِ والأركانِ، أمَّا الحمدُ فلا يكونُ إلا باللسانِ والجنانِ، وأيضًا فإنَّ الشُّكرَ لا يكونُ إلا في مُقابلةِ نعمةٍ، وأمَّا الحمدُ فهو يكونُ في مقابلةِ نعمةٍ وفي غيرِ مقابلةِ نِعمةٍ، قال الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: والحمدُ نوعانِ: حمدٌ على إحسانِه إلى عبادِه وهو من الشُّكرِ، وحمدٌ لما يستحقُّه من نعوتِ كمالِه، وإنَّما يَستحقُّ ذلك مَنْ هو متَّصفٌ بصفاتِ الكمالِ، وهي أمورٌ وجوديَّةٌ، فإنَّ الأمورَ العدميَّةَ لا حمدَ فيها ولا خيرَ ولا كمالَ، ومعلومٌ أنَّ كلَّ ما يحمدُ فإنَّما يُحمدُ على ما له مِن صفاتِ الكمالِ، فكلُّ ما يُحمدُ به الخلقُ فهو من الخالقِ، فَثبتَ أنَّه المستحِقُّ للمحامدِ كُلِّها، وهو أحقُّ بالحمدِ من كلِّ محمودٍ، وبالكمالِ من كلِّ كاملٍ. اهـ.
قَولُهُ: (الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا): هذا ردٌّ على اليهودِ والنَّصارى والمُشركين، فإنَّ النَّصارى يقولونَ المسيحُ ابنُ اللهِ، واليهودُ يقولونَ العُزيرُ ابنُ اللهِ، والمُشركون يقولونَ الملائكةُ بناتُ اللهِ.
قَولُهُ: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ في المُلْكِ): هذا ردٌّ على المجوسِ والمُشركين والقَدَرِيَّةِ.
قَولُهُ: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِن الذُّلِّ): أي ليسَ بذليلٍ فيحتاجُ إلى أنْ يكونَ له وليٌّ أو وزيرٌ أو مشيرٌ؛ لأنَّه -سُبْحَانَهُ- عزيزٌ لا يفتقرُ إلى وليٍّ يَحمِيه ويمنعُه مِن الذُّلِّ، فنَفَى الولايةَ على هذا المعنى، لأنَّه غنِيٌّ عنها، ولم يَنفِ الولايةَ على وجهِ المحبَّةِ والكرامةِ لمَن شاءَ مِن عبادِه، فلم ينفِ الوليَّ نفيًا عامًّا مطلقًا، بل نَفَى أنْ يكونَ له وليٌّ مِن الذُّلِّ، وأثبتَ في موضعٍ آخرَ أنْ يكونَ له أولياءٌ بقَولِهِ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) فهذه موالاةُ رحمةٍ وإحسانٍ، والموالاةُ المنفيَّةُ موالاةُ حاجةٍ وذُلٍّ، كما أشارَ إلى هذا المعنى ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ.
وقَولُهُ: (وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا): أي عَظِّمْه عمَّا يقَولُهُ الظَّالمِونَ المُخالفون للرُّسلِ.
ففي هذه الآيةِ أمَرَ نبيَّه بحمدِه؛ لأنَّه المُستحقُّ أنْ يُحمدَ لما اتَّصفَ به مِن صفاتِ الكمالِ , وفيها تنزيهُهُ -سُبْحَانَهُ- عن الولدِ، وذلك لكمالِ صمديَّتِه -سُبْحَانَهُ- وغِناه وَتَعَبُّدِ كُلِّ شيءٍ له، فاتِّخاذُ الولدِ يُنافي ذلك كما قالَ سُبْحَانَهُ: (قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) الآيةَ.
وفيها تنزيهُه -سُبْحَانَهُ- أَنْ يكونَ له شريكٌ في المُلكِ المتضمِّنِ تفرُّدَه بالرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ، وتوحُّدَه بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا يُوصَفُ بها غيرُه. وهذه الآيةُ آيةٌ عظيمةٌ، وتُسَمَّى آيةَ العِزِّ. قال ابنُ كثيرٍ: قال قتادةُ: ذُكِرَ لنا أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يُعَلِّمُ أهلَه هذه الآيةَ الصَّغيرَ والكبيرَ.
قلتُ: وقد جاءَ في حديثٍ "أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمَّى هذه الآيةَ آيةَ العِزِّ، وفي بعضِ الآثارِ أنَّها ما قُرِئَتْ في بيتٍ ليلةً فيصيبَه سرقٌ أو آفةٌ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ كثيرٍ.(1/76)
وَقَوْلِهِ تَعَالى: ( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا في الأرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحيي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ)، وقَوْلُهُ: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ للْعَالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ في المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (1)
__________
(1) قَولُهُ: (يُسَبِّحُ للهِ): أي يُنَزِّهُهُ عمَّا لا يليقُ بجلالِه وعظمتِه، فالتَّسبيحُ يَقتضي التَّنزيهَ للهِ -سُبْحَانَهُ- مِن كلِّ سوءٍ وعيبٍ وإثباتَ صفاتِ الكمالِ للهِ سُبْحَانَهُ.
وهذا التَّسبيحُ قيل بلسانِ الحالِ، وقيل بلسانِ المَقالِ وهو الصَّحيحُ، واللهُ -سُبْحَانَهُ- قادِرٌ على خَلْقِ الإدراكِ في الجَماداتِ وإنطاقِها، كما قالَ -سُبْحَانَهُ- عن الجلودِ: (أنطَقَنَا اللَّهُ الَّذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ، وقد سَمِعَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تَسبيحَ الْحَصَى، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ))، وكما في الحديثِ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لَمَّا خَطَب على المِنبرِ حَنَّ الجِذْعُ الَّذي كان يخطبُ عليه سابقًا، وقال تعالى: (وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الآيةَ.
قَولُهُ: (مَا فِي السَّماواتِ وَمَا في الأرْضِ): أي جميعُ ما في السَّماواتِ والأرضِ يُسبِّحُ للهِ وحدَه، وينزِّهُه عمَّا لا يَليقُ بجلالِه وعظمتِه، وقدَّمَ السَّماواتِ على الأرضِ لأنَّها مقدَّمةٌ بالرُّتبةِ والفضلِ والشَّرفِ، أفاده ابنُ القيِّمِ في ((البدائعِ)).
قَولُهُ: (لَهُ المُلْكُ): أي هو المالكُ وحدَه لجميعِ المخلوقاتِ النَّافِذُ فيها أمرُه، يتصرَّفُ فيها كيفَ يشاءُ لا مُعقِّبَ لحكمِه ولا رادَّ لأمرِه.
قَولُهُ: (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): ففي هذه الآيةِ دليلٌ على وجودِ التَّسبيحِ من جميعِ المخلوقاتِ، وأنَّه تسبيحٌ حقيقيٌ، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- قادرٌ، على خلقِ الإدراكِ للجماداتِ، وقادرٌ على إنطاقِها، وفيها إثباتُ جميعِ صفاتِ الكمالِ للهِ -سُبْحَانَهُ- ونفيُ كلِّ نقصٍ وعيبٍ، لأنَّ التَّسبيحَ يقتَضي ذلك.
قَولُهُ: (تَبَارَكَ): من البركةِ وهو لغةً: النَّماءُ والزِّيادةُ، وتباركَ فِعلٌ مختصٌّ باللهِ لم يُنطقْ له بمضارعٍ.
قَولُهُ: (الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ): أي القرآنَ سُمِّيَ بذلك لأنَّه يفرقُ بين الحقِّ والباطلِ، ومنه الفاروقُ، وفيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، وفيه دليلٌ على علُوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه؛ لأنَّ الإنزالَ والتَّنزيلَ لا يكونُ إلاَّ مِن أعلى إلى أسفلَ، وأفادت هذه الآيةُ: فضلَ هذا الكتابِ على الكُتبِ الأخْرَى.
قَولُهُ: (عَلَى عَبْدِهِ): أي على عبدِه ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهذا صِفةُ مدحٍ وثناءٍ؛ لأنَّه أضافَهُ إلى عبوديَّتِه ووصفَه بها في أشرفِ مقاماتِه، مقامِ الإرسالِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) ومقامِ الإسراءِ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) ومقامِ التَّحدِّي كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) الآيةَ، وهذه الإضافةُ إضافةُ تشريفٍ وتعظيمٍ، وتقدَّم أنَّ المُضافَ إليهِ -سُبْحَانَهُ- ينقسمُ إلى قِسمينِ: إضافةُ أعيانٍ وإضافةُ معانٍ، فإضافةُ المعانِي إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مِن بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كإضافةِ السَّمعِ والْبَصَرِ والعلمِ والقُدرةِ ونحوِ ذلك إليه -سُبْحَانَهُ- مِن كلِّ شيءٍ لا يقومُ بنفسِه. الثَّاني: إضافةُ الأعيانِ إليه سُبْحَانَهُ، فإضافتُها إليه -سُبْحَانَهُ- مِن بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ، والحِجرِ يمينِ اللهِ وعبدِ اللهِ ورسولِ اللهِ ونحوِ ذلك. وفي هذه الآيةِ فضلُ نبيِّنا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- حيث أضَافه إليه ووصَفَه بالعبوديَّةِ الَّتي هي من أشرفِ مقاماتِ العبدِ.
قَولُهُ: (لِيَكُونَ للْعَالَمِينَ نَذِيرًا): أي مُنذرًا، والإنذارُ: هو الإعلامُ بأسبابِ المخافةِ، فكلُّ إنذارٍ إعلامٌ ولا يَنْعَكِسُ، قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ تعالى: والإنذارُ المذكورُ في الآيةِ إنذارٌ عامٌّ، فإنَّ الإنذارَ ينقسم إلى قِسمين: إنذارٍ عامٍّ وإنذارٍ خاصٍّ. والخاصُّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) وقَولِهِ: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) الآيةَ.
فهذا الإنذارُ الخاصُّ هو التَّامُّ النَّافعُ الَّذي ينتفعُ به المُنذرُ، والإنذارُ: هو الإعلامُ بالخوفِ، فعَلِمَ المخوفَ فآمنَ وأطاعَ. انتهى.
ونذارتُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تَنقسم إلى قِسمين: عامَّةٍ وخاصَّةٍ، فالعامَّةُ كما في هذه الآيةِ، والخاصَّةُ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) الآيةَ.
قَولُهُ: (لِيَكُونَ للْعَالَمِينَ نَذِيرًا): اللامُ في قَولِهِ ليكونَ لامُ العلَّةِ ودخولُ لامِ التَّعليلِ في شَرعِه أكثرُ مِن أنْ يُعَدَّ، ففيهِ دليلٌ على تعليلِ أفعالِ اللهِ وأنَّه لا يفعلُ شيئًا إلا لعلَّةٍ وحكمةٍ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ: هذا قولُ السَّلفِ وجمهورِ المُسلمين، وجمهورِ العُقلاءِ، وقالتْ طائفةٌ كجهمٍ وأتباعِه: إنَّه لم يَخلقْ شيئًا لشيءٍ، ووافقَه أبو الحسنِ الأشعريُّ ومَن اتَّبعه مِن الفقهاءِ أتباعِ الأئمَّةِ. انتهى.
قَولُهُ: (للْعَالَمِينَ): المرادُ بالعالَمين هنا: الجنُّ والإنسُ، ففيه دليلٌ على عمومِ رسالتِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وبعثتِه إلى الجنِّ والإنسِ، وفيه دليلٌ على أنَّ الجنَّ مُكَلَّفون ويتضمَّنُ الدَّلالةَ على أنَّهم يُثابون على الحسناتِ ويُجازونَ على السَّيئاتِ، وفيه دليلٌ على أنَّ مَن بَلَغه القرآنُ فقد قامَتْ عليه الحُجَّةُ، لقَولِهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) الآيةَ، ففيه الردُّ على مَن زعَمَ أنَّ كلامَ اللهِ ورسولِه لا يفيدُ اليقينَ، فلو كانَ الأمرُ كما زعمَ هؤلاءِ المبتدعةُ لم تقمْ بالقرآنِ حُجَّةٌ على المكلَّفينَ، وأفادتْ هذه الآيةُ الحكمةَ في إرسالِ الرُّسلِ وإنزالِ الكتبِ.
قَولُهُ: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ): أي له التَّصرُّفُ فيهما، والجميعُ خلقُه وعبيدُه.
قَولُهُ: (ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا): أي لكمالِ غِناه وقيامِه بنفسِه وحاجةِ كلِّ شيءٍ إليه، وافتقارِه وقيامِ كلِّ شيء به سُبْحَانَهُ وتعالى.
قَولُهُ: (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ): أي أوجدَ وأنشأَ وأبدعَ، وتأتي خلقَ بمعنى قدرَ، وتأتي بمعنى كذبَ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا)، وقال الشَّاعرُ:
لي حيلةٌ فيمن ينمُّ وليسَ في الكذابِ حيلة
مَن كانَ يخلقُ ما يقولُ فحيلتي فيه قليلة
وقَولُهُ: (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلقَ كلَّ شيءٍ مخلوقٍ، فيدخلُ في ذلك أفعالُ العبدِ، فهي خلقٌ للهِ وفعلٌ للعبدِ، ولا يدخلُ في ذلك أسماءُ اللهِ وصفاتُه؛ لأنَّ الأسماءَ والصِّفاتِ تابعةٌ للذَّاتِ يُحتذى فيها حَذوُها. وعمومُ (كُلَّ) في كلِّ مقامٍ بحسبِه كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) أي كلَّ شيءٍ أُمرَت بتدميرِه، وقَولُهُ: (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) أي من كلِّ شيءٍ يصلحُ للملوكِ فلا يدخلُ في ذلك القرآنُ؛ لأنَّ القرآنَ كلامُه وهو صفةٌ من صفاتِه، واللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بصفاتِه غيرُ مخلوقٍ، كما في الصَّحيحِ من حديثِ خولةَ: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً وَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) فاستعاذَ بكلماتِ اللهِ، والاستعاذةُ بالمخلوقِ شِركٌ، فَدَلَّ على أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقٍ كما استدلَّ بذلك أحمدُ وغيرُه.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في ((المدارجِ)): استدلَّ الجهميَّةُ على خلقِ القرآنِ بهذه الآيةِ، فأجابَهم السَّلفُ بأنَّ القرآنَ كلامُه سُبْحَانَهُ، وكلامُه من صفاتِه، وصفاتُه داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه، كعلمِه وقدرتِه وحياتِه وسمعِه وبصرِه ووجهِه، فليسَ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أسماءٌ لذاتٍ لا نعتَ لها ولا صفةَ ولا فعلَ ولا وجهَ ولا يَدينِ، فإنَّ ذلك إلهٌ معدومٌ مفروضٌ في الأذهانِ لا وُجودَ له في الأعيانِ، كإلهِ الجهميَّةِ الَّذي فرضُوه لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهِ ولا متَّصلَ فيه ولا منفصلَ عنه ولا محايدَ ولا مباينَ، أمَّا إلهُ العالَمين الحقُّ هو الَّذي دعتْ إليه الرُّسلُ وعرَّفوه بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه فوقَ سماواتِه، بائنٌ من خلقِه موصوفٌ بكلِّ كمالٍ منَّزهٌ عن كلِّ عيبٍ، فتجريدُ الذَّاتِ عن الصِّفاتِ والصِّفاتِ عن الذَّاتِ فَرضٌ وخيالٌ ذِهْنِيٌّ لا حقيقةَ له. انتهى.
قَولُهُ: (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا): أي قَدَّرَ رزقَه وأجلَه وحياتَه وموتَه وما يصلحُ له، ففيه دليلٌ على الإيمانِ بالقدرِ، ودليلٌ على ما سَبق علمُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بالأشياءِ، وكتابتِها، كما ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((قَدَّرَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ))، وفي البخاريِّ عن عمرانَ بنِ حصينٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) وفي روايةٍ: ((ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) وأحاديثُ تقديرِه وكتابتِه -سُبْحَانَهُ- لما يريدُ أن يَخْلُقَهُ كثيرةٌ جدًّا.
أفادتْ هذه الآيةُ عدا ما تقدَّم: عمومَ ربوبيَّتهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وملكِه، وأنَّه الإلهُ الحقُّ، وبطلانَ عبادةِ ما سواه، وأفادت الحثَّ على التَّوكُّلِ؛ لأنَّ مَن وَقَرَ في قلبِه أنَّ المُلكَ للهِ وأنَّه المُتصرِّفُ النَّافعُ الضَّارُّ لم يبالِ بأحدٍ مِن الخلقِ، وأفادتْ كما ذَكره بعضُهم: أنَّ العبادَ لا يملكونَ الأعيانَ ملكًا مطلقًا، وإنَّما يملكونَ التَّصرُّفَ فيها على مُقتضى الشَّرعِ، وأفادتْ تحريمَ الإفتاءِ بغير علمٍ؛ لأنَّ ربوبيَّتَه وملكَهُ يمنعُ مِن الحكمِ والإفتاءِ بغيرِ إذنِه وبغيرِ حكمِه، وأفادتْ تعدُّدَ السَّماواتِ، وأنَّها أشرفُ مِن الأرضِ؛ لأنَّه قَدَّمها، وقد تقدَّم كلامُ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ في هذا الموضوعِ، وفيها تنزيهُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عن مُشابهةِ المخلوقِينَ في قَولِهِ: (ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) فإنَّ الولدَ عادةً يكونُ من جنسِ الوالدِ، وفيها الرَّدُّ على اليهودِ القائِلينَ: العزيرُ ابنُ اللهِ، والنَّصارى القائلين: المسيحُ ابنُ اللهِ، والمشركينَ القائلين الملائكةُ بناتُ اللهِ، وفيها الرَّدُّ على المشركين في إشراكِهِم معه غيرَه، والرَّدُّ على المجوسِ القائلين: بأنَّ النَّورَ خَلَقَ الخيرَ، والظَّلامَ خَلَقَ الشَّرَّ، والرَّدُّ على الدَّهريَّةِ القائلين: ما هي إلا حياتُنا الدُّنْيَا، وفيها الرَّدُّ على القَدَريَّةِ القائلين: بأنَّ العبادَ يخلقونَ أفعالهَم، وتضمَّنت إثباتَ صفةِ العلمِ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فإنَّ الخالقَ لا بُدَّ أن يعلمَ مخلوقَه، إذ الخلقُ فرعُ العلمِ، فلا يُمكِنُ الخلقُ إلا بعدَ العلمِ، قال تعالى: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ففيها الرَّدُّ على غُلاةِ القَدَريَّةِ الَّذين نَفَواْ علمَه سُبْحَانَهُ، فَكَفَّرهم السَّلفُ قاطبةً بذلك، وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أَنَّ العرشَ غيرُ مخلوقٍ، وفيها الرَّدُّ على المجبرةِ القائلين:إنَّ العبدَ لا فِعلَ له، وأنَّ فِعْلَه كحفيفِ الأشجارِ أو كحركةِ المرتعشِ، وهذا باطلٌ تردُّهُ أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ، بل العقلُ والفطرةُ، فإنَّ أفعالَ العبادِ داخلةٌ في عمومِ كلِّ المضافةِ إلى شيءٍ، فهي مخلوقةٌ، والمخلوقُ بائنٌ ومنفصلٌ عن الخالقِ، فليس هو فعلُه، فإذًا لا بُدَّ له من فاعلٍ يقومُ به، وهم العبادُ، وكلُّ أحدٍ يفرِّقُ بين الحركةِ الاختياريَّةِ والاضطراريَّةِ وقد قالَ العلماءُ: إنَّ مَن صارَ كالآلةِ لا ضمانَ عليه لأنَّه غيرُ مكلَّفٍ فيلزمُ على قولِ هؤلاء المجبرةِ أنَّ النَّاسَ غيرُ مكلَّفين، وهذا ممَّا يردُّه أدلَّةُ العقلِ والنَّقلِ والفطرةِ، والأدلَّةُ على إثباتِ فِعْلِ العبدِ وأنَّ له فعلاً حقيقةً يُنسبُ إليه على جهةِ الحقيقةِ لا على جهةِ المجازِ أكثرَ مِن أن تُحصرَ، وفيها انتظامُ هذا الكونِ واتَّساقُه على أكملِ نظامٍ وأتمَّه، ممَّا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ له خالقًا وَمُدَبِّرًا وهو اللهُ سُبْحَانَهُ.(1/77)
وقَوْلُهُ: ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ... (1)
__________
(1) قَولُهُ: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ): أي لأنَّه منزَّهٌ عن المثلِ والشَّبيهِ والنَّظيِر، والولدُ يُشبه والدَه فلم يتَّخذْ ولدًا لكمالِ صمديَّتِه وغناهُ وملكِه وتعبُّدِ كلِّ شيءٍ له، فاتَّخاذُ الولدِ يُنافي ذلك كما قال سُبْحَانَهُ: (وقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) ففيه الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ له ولدًا، كاليهودِ والنَّصارى والمشركين وغيرِهم، والرَّدُّ على المشبِّهةِ الممثِّلةِ.
قَولُهُ: (ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ): أي ليسَ معه -سُبْحَانَهُ- شريكٌ في الألوهيَّةِ، لتفرُّدهِ -سُبْحَانَهُ- بالألوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ وتوحُّدِه بصفاتِ الكمالِ الَّتي لا يُوصَفُ بها غيرُه -سُبْحَانَهُ- فيكونُ شريكًا له، وكذا كلُّ سَلْبٍ وُجِدَ فهو لتضمُّنِه إثباتَ كمالِ ضدِّهِ، وإلا فالسَّلبُ المحضُ ليس بمدحٍ ولا ثناءٍ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (إذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ): أي لو كانَ معهُ إلهٌ لذهبَ كلُّ إلهٍ بما خلقَ، أي انفردَ به ومنعَ غيرَه مِن الاستيلاءِ عليه، فلو قُدِّرَ ذلك لما كان ينتظمُ الوجودُ، والمُشاهدُ أنَّ الوجودَ مُنْتَظِمٌ مُتَّسِقٌ، (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ).
قَولُهُ: (وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ): أي لو كانَ معه إلهٌ لعلا بعضُهم على بعضٍ مُغَالَبَةً، كفعلِ ملوكِ الدُّنْيَا، فكلُّ واحدٍ منهم يطلبُ قهرَ الآخرِ، والمتكلِّمونَ ذكرُوا هذا المعنى وعَبَّروا بدليلِ التَّمانعِ.
قَولُهُ: (سُبْحَانَ اللهِ): أي تنزيهًا للهِ -سُبْحَانَهُ-، والتَّسبيحُ: التَّنزيهُ عن كلٍّ نقصٍ وعيبٍ.
قَولُهُ: (عَمَّا يَصِفُونَ): أي تنزيهًا للهِ -سُبْحَانَهُ- عمَّا يَصِفُه به المُخالفون للرُّسلِ عليهم السَّلامُ.
وقال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: تأمَّلْ هذا البرهانَ الباهرَ بهذا اللفظِ الوجيزِ البَيِّنِ، فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا بُدَّ أَنْ يكونَ خالقًا فاعلاً يُوصلُ إلى عابديه النَّفعَ ويدفعُ عنهم الضُّرَّ، فلو كانَ معه إلهٌ آخرُ لكان له خلقٌ وفعلٌ، وحينئذٍ فلا يرضى شَركةَ الإلهِ الآخرِ معه؛ بل إنْ قدرَ على قهرِه والتَّفرُّدِ بالألوهيَّةِ دونَه فَعلَ، وإن لم يقدرْ على ذلك انْفردَ بخلقِه وذهبَ به، كما يَنفردُ ملوكُ الدُّنْيَا بعضُهم عن بعضٍ بممالِكهم إذا لم يقدر المنفردُ على قهرِ الآخرِ والعلوِّ عليه، فلا بُدَّ من أحدِ أمورٍ ثلاثةٍ:
إمَّا أنْ يذهَبَ كلُّ إلهٍ بخلقِه وسلطانِه، وإمَّا أنْ يعلوَ بعضُهم على بعضٍ، وإما أنْ يكونوا كلُّهم تحتَ قهرِ إلهٍ واحدٍ يتصرَّفُ بهم ولا يتصرَّفون فيه، فيكونُ وحدَه هو الإلهُ الحقُّ، وهم العبيدُ المَرْبوبون المقهورونَ، وانتظامُ أمرِ العالمِ العلويِّ والسُّفليِّ وارتباطُ بعضِه ببعضٍ وجريانِه على نظامٍ محكمٍ لا يختلفُ ولا يفسدُ مِن أدلِّ دليلٍ على أنَّ مُدَبِّرَهُ واحدٌ لا إلهَ غيرُه، كما دلَّ دليلُ التَّمانعِ على أنَّ خالقَه واحدٌ لا رَبَّ غيرُه، فذلك تمانعٌ في الفعلِ والإيجادِ، وهذا تمانعٌ في الغايةِ والألوهيَّةِ، فكما يستحيلُ أنْ يكونَ للكونِ ربَّانِ خالِقان متكافِئان، كذلك يستحيلُ أنْ يكونَ له إلهانِ معبودانِ.ا هـ.(1/78)
عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ): أي يعلمُ ما غابَ عن العبادِ وما شاهدوه، والغيبُ ينقسمُ إلى قِسمين: غيبٍ مُطلقٍ، وغيبٍ مقيَّدٍ.
فالمطلقُ: لا يعلمُه إلا اللهُ، وهو ما غابَ عن جميعِ المخلوقِين الَّذين قال فيه: (فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا).
والغيبُ المقيَّدُ: ما عَلِمه بعضُ المخلوقاتِ مِن الجنِّ والإنسِ، فهو غيبٌ عمَّن غابَ عنه وليس هو غَيبًا عمَّن شَهِدَهُ، والنَّاسُ قد يغيبُ عن هذا ما يشهدُه هذا فيكون غيبًا مقيَّدًا، أي غيبًا عمَّن غاب عنه من المخلوقين لا عَمَّن شَهِده، وليس هو غيبًا مُطلقا عن المخلوقينَ قاطبةً. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ بِتصرُّفٍ.
قَولُهُ: (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ): قَولُهُ: (فَتَعَالَى) أي علا وتنَزَّه وتقدَّسَ عمَّا لا يليقُ بجلالِه، فله -سُبْحَانَهُ- العلوُّ الكاملُ المطلقُ من جميعِ الوجوهِ، علوُّ القهرِ، أي إنَّه علا على كلِّ شيءٍ بمعنى أنَّه قاهرٌ له، قادرٌ عليه متصرِّفٌ فيه، كما قال تعالى: (إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) انتهى. وله -سُبْحَانَهُ وتعالَى- علوُّ القدرِ، فتعالى -سُبْحَانَهُ- وتنَزَّه عن المثيلِ والنَّظيِرِ، وتنَزَّه عن النَّقائصِ والعيوبِ، كما قال: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وفي دعاءِ الاستفتاحِ: ((وَتَعَالى جَدُّكَ))، وله -سُبْحَانَهُ- علوُّ الذَّاتِ، أي أنَّه عالٍ على الجميعِ فوقَ عرشِه, وإثباتُ علوِّه -سُبْحَانَهُ- على ما سِواه وقدرتِه عليه وقهرِه يقْتَضي ربوبيَّتَه له وخلقَه له، وذلك يستلزمُ ثبوتَ الكمالِ، وعلوًّا عن الأمثالِ يقْتَضي أنَّه لا مثلَ له في صفاتِ الكمالِ فاسمُه العليُّ الأعلى يتضمَّنُ اتَّصافَه بجميعِ صفاتِ الكمالِ، وتنزيهَه عمَّا يُنافيها من صفاتِ النَّقصِ، وعن أَنْ يكونَ له مثلٌ، وأنَّه لا إلهَ إلا هو ولا ربَّ سواه، انتهى. ملخَّصًا مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه اللهُ.(1/79)
قوله: ( فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأَنْتُم لاَ تَعْلَمونَ )، ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وأَنْ تَقُولوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمونَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ): يعني: الأشبَاهَ فَتُشَبِّهونَهُ بخلقِه، وتجعلونَ له شريكًا فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا مِثلَ له ولا نِدَّ له لا في ذاتِه ولا في أسمائِه وصفاتِه ولا في أفعالِه، وضربُ المثلِ هو تشبيهُ حالٍ بحالٍ، فلا يُمَثَّلُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بخلقِه، ولا يُشبَّهُ بهم -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، فإنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لا مثلَ له.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ في أثناءِ كلامٍ له: واللهُ -سُبْحَانَهُ- لا تُضْرَبُ له الأمثالُ الَّتي فيها مماثلةٌ لخلقِه فإنَّ اللهَ لا مثلَ له، بل له المثلُ الأعلى، فلا يجوزُ أن يُشرَكَ هو والمخلوقُ في قياسِ تمثيلٍ ولا قياسِ شمولٍ تستوي أفرادُه، بل يُستعمَلُ في حقِّه المثلُ الأعلى، وهو أنَّ كلَّ ما اتَّصفَ به المخلوقُ من كمالٍ فالخالقُ أولى به، وكلَّ ما يُنَزَّهُ عنه المخلوقُ من نقصٍ فالخالقُ أوْلى بالتَّنزيه، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) وهذا يُبيَّنُ أنَّ العالِمَ أكملُ ممَّن لا يعلمُ، وحينئذٍ فالمتَّصفُ به أولى، وللهِ المثلُ الأعلى، وقال تعالى: (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) فدلَّ على أنَّ السَّميعَ البصيرَ الغنيَّ أكملُ، وأنَّ المعبودَ يجبُ أنْ يكونَ كذلك، فمن جعلَ الواجبَ الوجودَ لا يقبلُ الاتَّصافَ بصفاتِ الكمالِ المذكورةِ فقد جعله من جنسِ الأصنامِ الجامدةِ الَّتي عابها اللهُ وعابَ عابِديها، واللهُ -سُبْحَانَهُ- لم يذكرْ هذه النُّصوصَ لمجرَّدِ تقريرِ صفاتِ الكمالِ، بل ذَكرها لبيانِ أنَّه المستحقُّ للعبادةِ دونَ مَن سِواه، فأفادَ الأصليْنِ اللذين بهما يتمُّ التَّوحيدُ، وهو إثباتُ صفاتِ الكمالِ ردًّا على أهلِ التَّعطيلِ، وبيانُ أنَّه المستحقُّ للعبادةِ لا إلهَ إلا هو ردًّا على المُشركين. انتهى.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأَنْتُم لاَ تَعْلَمونَ): أي يعلمُ أنَّه لا مثلَ له ولا ندَّ، وأنَّه الإلهُ الحقُّ لا إلهَ غيرُه، وأنتم بجهلِكُم تُشركون به غيرَه من الأوثانِ والأندادِ وتشبِّهونها به. ...
قَولُهُ: (قُلْ): أي قلْ يا محمَّدُ، ففيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ ليسَ كلامَ محمَّدٍ ولا غيرِه، وإنَّما محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُبَلِّغٌ لكلامِ اللهِ.
قَولُهُ: (إِنَّمَا): أداةُ حصرٍ تُثبتُ المذكورَ وتَنفي ما سواه.
قَولُهُ: (حَرَّمَ): أي جعلَه حرامًا ومنعَ منه، والحرامُ شرعًا: هو ما أُثيبَ تاركُهُ وعُوقِبَ فاعلُه، وبمعناه المحظورُ والممنوعُ، والتَّحريُم ينقسمُ إلى قسمينِ: شرعيٍّ كما في هذه الآيةِ، وكونيٍّ قدريٍّ كما في قَولِهِ تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يَرْجِعُونَ).
قَولُهُ: (رَبِّيَ): الرَّبُّ هو الخالقُ الرَّازقُ المُحيي المميتُ المدبِّرُ لجميعِ الأمورِ، وإذا أُفرِدَ أو عُرِّفَ لم يطلقْ إلا على اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، أمَّا إذا أُضيفَ فيطلقُ على غيرِه، كما يقالُ ربُّ الدَّارِ، وربُّ الدَّابَّةِ ونحوُ ذلك.
قَولُهُ: (الفَواَحِشَ): هي جمعُ فاحشةٍ، وهو ما استعظم من الذَّنوبِ والمعاصي كالزِّنا واللواطِ وقتلِ النَّفسِ ونحوِ ذلك، سمَّاه اللهُ فاحشةً لتَنَاهي قبحِه.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِه ((المدارجِ)): فيه دليلٌ على أنَّ الأفعالَ الَّتي تُوصفُ بأنَّها حسنةٌ وقبيحةٌ، كما أنَّها نافعةٌ وضارَّةٌ ولكن لا يترتَّبُ عليها ثوابٌ ولا عقابٌ إلا بالأمرِ والنَّهيِ، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال: (ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) وعلى أحدِ القولينِ هو أنَّ المعنى لم يهلكْهم بظلمٍ قبل إرسالِ الرُّسلِ، فتكونُ الآيةُ دالَّةً على الأصلينِ، أنَّ أفعالَهم وشركَهُم قبيحٌ قبلَ البعثةِ، وأنَّه لا يُعاقِبُهُم إلا بعدَ الإرسالِ.
قَولُهُ: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ): أي ما أُعلنَ منها وما أُسرَّ.
قَولُهُ: (وَالإِثْمَ): أي الذَّنبَ تعميمٌ بعد تخصيصٍ، وقيل المرادُ بالإثمِ: الخمرُ كما قال الشَّاعرُ:
شربتُ الإثمَ حتَّى ضَلَّ عقلي كذاك الإثمُ تذهبُ بالعُقولِ
قَولُهُ: (وَالبَغْيَ): هو التَّعدِّي على النَّاسِ.
قال ابنُ القيِّمِ في ((المدارجِ)): وأمَّا الإثمُ والعدوانُ فهما قرينانِ، قال تعالى: (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فكلٌّ منهما إذا انفردَ تضمَّنَ الآخرَ، فكلُّ إثمٍ عدوانٌ، إذ فعلُ ما نهى اللهُ عنه وتركُ ما أمَر اللهُ به فهو عدوانٌ على أمرهِ ونهْيهِ، وكلُّ عدوانٍ إثمٌ، فإنَّه يَأْثَمُ به صاحبُه، ولكن عند اقترانِهما فهما شيئانِ بِحسبِ متعلَّقِهما ووصفِهما، فالإثمُ: ما كان مُحَرَّمَ الجنسِ، كالكذبِ والزِّنا وشربِ الخمرِ، والعدوانُ: ما كان مُحَرَّمَ القدرِ والزَّيادةِ، فالعدوانُ تعدِّي ما أبيحَ منه إلى القدرِ المحرَّمِ، كالاعتداءِ في أخذِ الحقِّ ممَّن هو عليه، إمَّا أنْ يتعدَّى على مالِه أو بدنِه أو عِرضِه وهذا نوعانِ: عدوانٌ في حقِّ اللهِ، وعدوانٌ في حقِّ العبدِ.
فالعدوانُ في حقِّ اللهِ كما إذا تعدَّى ما أُبيحَ له من الوطءِ الحلالِ في الأزواجِ والمملوكاتِ إلى ما حُرِّمَ عليه من سِواهما، والإثمُ والعدوانُ هما الإثمُ والبغيُ المذكورانِ في سورةِ الأعرافِ، مع أنَّ الغالبَ استعمالُه في حقوقِ العبادِ والاستطالةِ عليهم، وعلى هذا فإذا اقترنَ بالعدوانِ كان البغيُ ظُلمَهم بمحرَّمِ الجنسِ، كالسَّرقةِ والكذبِ والبهتِ، والعدوانِ تعدِّي الحقِّ في استيفائِه إلى أكبرَ منه، فيكونُ البغيُ والعدوانُ في حقِّهم كالإثمِ والعدوانِ في حدودِ اللهِ. انتهى. بتصرُّفٍ.
قَولُهُ: (وَأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ): أي تُصرِفوا شيئًا من حقِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- إلى غيرِه من الأوثانِ والأندادِ، والشِّركُ باللهِ هو أعظمُ الذُّنوبِ على الإطلاقِ وأجهلُ الجهلِ وأظلمُ الظُّلمِ، كما في الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟)) قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((الإِشْرَاكُ وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ))، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: ((أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ)) فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ، وفي الصَّحيحِ من حديثِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)) قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ((أَنْ تَقْتلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يطْعَمَ مَعَكَ)) قالَ: قلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ((أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ)).
والشِّركُ ينقسمُ إلى قِسمينِ: أكبرَ وأصغرَ، فحدُّ الشِّركِ الأكبرِ "هو تسويةُ غيرِ اللهِ باللهِ فيما هو خاصٌّ باللهِ".
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: هو التَّشبَّهُ باللهِ أو تشبيهُ غيرِه به، والتَّعريفانِ مُتقاربانِ. وأمَّا الشِّركُ الأصغرُ فحدُّه ما وردَ في النُّصوصِ تسميتُه شركًا، ولم يصلْ إلى حدِّ الشِّركِ الأكبرِ.
وينقسمُ الشَّركُ الأكبرُ إلى قسمين: شركٍ يتعلَّقُ بذاتِ المعبودِ وأسمائِه وصفاتِه، وقسمٍ يتعلَّقُ بمعاملتِه.
فالنَّوعُ الأوَّلُ ينقسم إلى قسمين: شِركِ تعطيلٍ وشركِ تمثيلٍ.
فشركُ التَّعطيلِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: تعطيلِ المخلوقِ من خالقِه، وتعطيلِ الصَّانعِ من كمالِه المقدَّسِ بتعطيلِ أسمائِه وصفاتِه، وتعطيلِ حقِّ معاملتِه، وقد تقدَّمتِ الإشارةُ إلى ذلك.
القسمِ الثَّاني: شركُ التَّمثيلِ وينقسمُ إلى قسمين: تَشبيهِ المخلوقِ بالخالقِ، كشِركِ النَّصارى وعَبَدَةِ الأوثان، شبَّهوا أوثانَهم باللهِ وعبدُوها معه، القسمِ الثَّاني: تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كأنْ تقولَ: يدُ اللهِ كأيدينا. وعينُ اللهِ كأعينِنَا ونحوُ ذلك، وقد تقدَّمَتِ الإشارةُ إلى ذلك.
النَّوعُ الثَّاني: شركٌ يتعلَّقُ بمعاملتِه -سُبْحَانَهُ- وهذا ينقسمُ إلى أقسامٍ:
الأوَّلِ: شركُ الدَّعوى، كقَولِهِ تعالى: (فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
الثَّاني: شركُ المحبَّةِ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبُّ اللَّهِ ) الآيةَ.
الثَّالثِ: شركُ الطَّاعةِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) الآيةَ.
الرَّابعِ: شركُ الإرادةِ والقصدِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ).
ويفترقُ الشِّركُ الأكبرُ عن الشِّركِ الأصغرِ في أمورٍ، منها أنَّ الشِّركَ الأكبرَ لا يُغْفَرُ لصاحبِه، لقَولِهِ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ). أمَّا الشِّركُ الأصغرُ فهو تحتَ مشيئةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، ومنها أنَّ الشِّركَ الأكبرَ محبطٌ لجميعِ الأعمالِ، لقَولِهِ تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) وقَولِهِ: (وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الآيةَ. وأمَّا الشِّرْكُ الأصغرُ فلا يُحبِطُ إلا العملَ الَّذي قارَنَه.
ومنها أنَّ الشِّركَ الأكبرَ مُخرجٌ من الملَّةِ الإسلاميَّةِ، والأصغرَ لا يُخرجُ من الملَّةِ الإسلاميَّةِ.
ومنها أنَّ المشركَ شركًا أكبرَ خالدٌ مخلَّدٌ في النَّارِ، أمَّا المشركُ شركًا أصغرَ فهو كغيرِه من الذُّنوبِ.
قَولُهُ: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا): أي برهانٌ وحجَّةٌ، بل أنزلَ البرهانَ والحجَّةَ في تحريمِه، وأنَّه أعظمُ الذُّنوبِ على الإطلاقِ، والسُّلطانُ والبرهانُ والحُجَّةُ والدَّليلُ ألفاظٌ مترادفةٌ، وسلطانٌ يأتي بمعنى الحجَّةِ، كما في هذه الآيةِ، ويأتي بمعنى المَلِكِ كقَولِهِ: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) ويأتي بمعنى التَّسلُّطِ والسَّيطرةِ كقَولِهِ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنواْ) الآيةَ.
قَولُهُ: (وأَنْ تَقُولوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمونَ): أي وأن تقولوا على اللهِ من الافتراءِ والكذبِ ما لا عِلْمَ لَكُمْ به، فختمَ هذه المحرَّماتِ بالقولِ على اللهِ بلا علمٍ؛ لأنَّه أصلُها وأعظمُها، وأصلُ كلِّ بدعةٍ وحدثٍ في الدِّينِ، ففيه تحريمُ القولِ على اللهِ بلا علمٍ، في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وشرعِه وقدرِه ووصفِه بضدِّ ما وصَفَ به نفسَهُ. اهـ.
وفي هذه الآيةِ رَتَّبَ المحرَّماتِ أربعَ مراتبَ وبدأ بأسْهلِها، وهي الفواحشُ، ثمَّ ثنَّى بما هو أشدُّ تحريمًا، وهو الإثمُ والظُّلمُ، ثمَّ ثلَّثَ بما هو أعظمُ تحريمًا منهما، وهو الشِّركُ باللهِ، ثمَّ ربَّعَ بما هو أعظمُ تحريمًا من ذلك كلِّه وهو القولُ على اللهِ بلا علمٍ، في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وفي دينِه وشرعِه. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّم رحمه اللهُ.(1/80)
وَقَولُهُ: ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) في [ سبعة ] مواضعَ: [ في سورةِ الأعرافِ قولُه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى): في سبعةِ مواضعَ، أي إنَّه نصٌّ في معناه لا يحتملُ التَّأويلَ، وصريحٌ في أنَّه بذاتِه استوى استواءً يليقُ بجلالِه وعظمتِه.
قَولُهُ: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ): أي هو المعبودُ وحدَه لا شريكَ له وعبادةُ غيرهِ باطلةٌ.
قَولُهُ: (الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ): خَلَقَ، أي أَنْشَأَ وَأَوْجَدَ، والخلقُ هو: اختراعُ الشَّيءِ على غيرِ مثالٍ سبقَ، ففيه إضافةُ الفعلِ والخلقِ إليه -سُبْحَانَهُ- على جهةِ الحقيقةِ؛ لأنَّها الأصلُ، وقد ردَّ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ على مَن زعمَ أنَّ خلقَهُ وفِعلَه مجازٌ من وجوهٍ عديدةٍ.
قَولُهُ: (في سِتَّةِ أَيَّامٍ): أوَّلُها يومُ الأحدِ وآخرُها يومُ الجمعةِ، وفيه اجتمعَ الخلقُ كلُّهم وهذه الأيَّامُ كأيَّامنا، هذا هو المُتبادرُ إلى الأذهانِ وهو ظاهرُ الأدلَّةِ.
قَولُهُ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ) أي استوى استواءً يليقُ بجلالِه وعظمتِه، لا تُكيِّفُه ولا تُمثِّلُه ولا يَعلمُ كيف هوَ إلا هوَ، كما قال مالكٌ: الاستواءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ والإيمانُ به واجبٌ والسُّؤالُ عنه بدعةٌ، فقولُ مالكٍ: الاستواءُ معلومٌ، أي في لغةِ العربِ، وقَولُهُ: والكيفُ مجهولٌ، أي كيفيَّةُ استوائِه لا يعلمُها إلا هوَ، والإيمانُ به أي بالاستواءِ واجبٌ لتكاثُرِ الأدلَّةِ في إثباتِه، والسُّؤالُ عنه، أي عن الكيفيَّةِ بدعةٌ إذ لاَ يَعلمُ كيفيَّةَ استوائِه إلا هو، فإنَّ الكلامَ في الصِّفاتِ فرعٌ عن الكلامِ في الذَّاتِ، فكما نعلمُ أنَّ للهِ ذاتًا لا تشبهُ الذَّواتِ، فكذلك يجبُ أَنْ نُثبتَ له صفاتٍ لا تُشبهُ الصِّفاتِ، فإثباتُنا للصِّفاتِ إثباتُ وجودٍ لا إثباتُ تكييفٍ وتمثيلٍ، إذ العلمُ بالصِّفةِ فرعٌ عن العلمِ بالموصوفِ، ولا يعلمُ كيفَ هو إلا هو، وكذلك يُقالُ في بقِيَّةِ الصِّفاتِ، كصفةِ المجيءِ والنُّزولِ والإتيانِ والوجهِ واليدِ ونحوِ ذلك، فهذا الجوابُ الواردُ عن مالكٍ رحمه الله كافٍ شافٍ في سائرِ الصِّفاتِ.
قال الذَّهبيُّ: فانْظُر إليهم كيفَ أثبتُوا الاستواءَ للهِ وأخبروا أنَّه معلومٌ لا يحتاجُ لفظهُ إلى تفسيرٍ، ونفَوا عنه الكيفيَّةَ، أمَّا معنى الاستواءِ في اللغةِ فلها أربعةُ معانٍ تأتي بمعنى عَلا وبمعنى ارتفعَ وبمعنى صَعِد واستقرَّ كما قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في كتابِه المُسمَّى بـ (النُّونيَّةِ):
ولهم عباراتٌ عليها أربعٌ قد فُسِّرتْ للفارسِ الطَّعَّانِ
وهي استقَرَّ وقد علاَ وكذلك ار تفعَ الَّذي ما فيه من نُكرانِ
وكذاكَ قد صَعِدَ الَّذي هو رابعٌ وأبو عبيدةَ صاحبُ الشَّيباني
يختارُ هذا القولَ في تفسيرهِ أدرى من الجهميِّ بالقرآنِ
والأشعريُّ يقولُ تفسيرُ استوى بحقيقةِ استولى على الأكوانِ
فهذه الأربعةُ الَّتي ذكرَها ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ هي الَّتي تدورُ عليها تفاسِيرُ السَّلفِ رحمهم اللهُ، قال البخاريُّ رحمه اللهُ في صحيحِه: قال مجاهدٌ: استوى عَلى العرشِ، وقال إسحاقُ بنُ راهَويهِ سمعتُ غيرَ واحدٍ من المُفسِّرين يقولون: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)، أي ارتفعَ، وقال محمَّدُ بنُ جريرٍ في قَولِهِ: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى)، أي علا وارتفعَ، وشواهدُه في أقوالِ الصَّحابَةِِ والتَّابعين وأتباعِهم معروفةٌ.
وأمَّا تفسيرُ: (اسْتَوى) باسْتَولى أو مَلَكَ أو قَهَرَ فهو تفسيرٌ باطلٌ مردودٌ من وجوهٍ عديدةٍ.
منها: أنَّ هذا التَّفسيرَ لم يفسِّرْه به أحدٌ مِن السَّلفِ لا مِن الصَّحابة ولا مِن التَّابعيَن، بل أوَّلُ من عُرِفَ عنه هذا التَّفسيرُ بعضُ الجهميَّةِ والمعتزلةِ.
ثانيا: أنَّ الاستواءَ في لغةِ العربِ الَّذين نزلَ القرآنُ بلغتِهم نوعانِ: مطلقٌ ومقيَّدٌ، فالمطلقُ ما لم يقيَّدْ بحرفٍ، كقَولِهِ تعالى: (لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) وهذه معناها تمَّ وكمُلَ، وأمَّا المقيَّدُ فثلاثةُ أنواعٍ: أحدُها مقيَّدٌ بإلى كقَولِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ) وهذا بمعنى العلُوِّ والارتفاعِ بإجماعِ السَّلفِ، الثَّاني: مقيَّدٌ بِعلى كقَولِهِ: (لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ) وقَولِهِ: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) وهذا أيضًا معناه العلوُّ والارتفاعُ والاعتدالُ بإجماعِ أهلِ اللغةِ، الثَّالثُ: المقرونُ بواوِ المعيَّةِ، كقَولِهِم: استوى الماءُ والخشبةَ، وهذا بمعنى سَاواها، فهذه معانِي الاستواءِ المعقولةِ في كلامهِم ليسَ فيها معنى استولى ألبتَّةَ، ولا نقلَهُ أحدٌ من أئمَّةِ اللغةِ، وإنَّما قاله متأَخِّرو النُّحاةِ ممَّن سلكَ طريقَ الجهميَّةِ والمعتزلةِ، مستدلِّين ببيتٍ للأخطلِ النَّصرانيِّ وهو قَولُهُ:
قد استوى بشرٌ على العراقِ من غيِر سيفٍ أو دمٍ مِهْراقِ
وهذا البيتُ ليسَ من شعرِ العربِ، وأهلُ اللغةِ لمَّا سَمِعوه أنكرُوه غايةَ الإنكارِ، ولم يجعلوه من لغةِ العربِ.
ثالِثًا: أنَّ معنى هذه الكلمةِ مشهورٌ، كما قال مالكٌ وربيعةُ وغيرُهم.
رابعا: أنَّه لو لم يكنْ معنى الاستواءِ في الآيةِ معلومًا لم يحتجْ أنْ يقولَ: والكيفُ مجهولٌ؛ لأنَّ نفيَ العلمِ بالكيفِ لا يَنفي إلا ما قد عُلمَ أصلُه.
خامسا: أنَّ الاستواءَ خاصٌّ بالعرشِ، وأمَّا الاستيلاءُ فهو عامٌّ على سائرِ المخلوقاتِ، فلو كان معنى الاستواءِ الاستيلاءَ لجازَ أنْ يقولَ اسْتَوى على الماءِ والهواءِ والأرضِ.
سادسا: أنَّه أخبرَ بخلقِ السَّماواتِ والأرضِ في ستَّةِ أيامٍ ثمَّ استوى على العرشِ، وأخبَر أنَّ عرشَه على الماءِ قبلَ خلقِهما، والاستواءُ متأخِّرٌ عن خلقِهنَّ، واللهُ مستولٍ على العرشِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ وبعدَه، فَعُلِمَ أنَّ الاستواءَ على العرشِ الخاصِّ به غيرُ الاستيلاءِ العامِّ عليه وعلى غيرهِ.
سابعًا: أنَّه لم يثبتْ في اللغةِ أنَّ معنى (اسْتَوَى) استولى، إذ الَّذين قالوا ذلك عُمْدَتُهم البيتُ المذكورُ، ولم يَثبتْ نقلٌ صحيحٌ أنَّه عربيٌ، وغيرُ واحدٍ من أئمَّةِ اللغةِ أنكروه وقالوا بيتٌ مصنوعٌ لا يُعرفُ في اللغةِ، فكيف تُعارَضُ أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ ببيتِ شعرٍ لنصرانيٍّ، ومع ذلك لم يثبتْ، قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمهُ اللهُ في (لاميَّتِه) المشهورةِ:
قبحًا لمن نبذَ الكتابَ وراءَه وإذا استدلَّ يقولُ قالَ الأخطلُ
وقال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في كتابهِ النُّونيَّةِ:
ودليلُهم في ذاكَ بيتٌ قالهَ فيما يقالُ الأخطلُ النَّصراني
إلى غيرِ ذلك من الوجوهِ الَّتي ذكرَها أهلُ العلمِ في ردِّ وإبطالِ هذا التفسيرِ، وقد أنْهاها ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ إلى اثْنينِ وأربعينَ وجهًا.
قَولُهُ: (العَرْشِ) هو لغةً: عبارةٌ عن السَّريرِ الَّذي للملكِ، كما قال تعالى عن بلقيسَ: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) فالعرشُ سريرٌ ذو قوائمَ تحمِلُه الملائكةُ، وهو كالقبَّةِ على العالمِ وهو سقفُ المخلوقاتِ.
قال البيهقيُّ رحمهُ اللهُ: اتَّفقتْ أقاويلُ أهلِ التَّفسيرِ على أنَّ العرشَ هو السَّريرُ، وأنَّهُ جسمٌ خلقَه اللهُ وأمَرَ ملائكتَه بحملِه، وتَعَبَّدَهُم بتعظيمِه والطَّوافِ به، كما خلقَ بيتًا في الأرضِ وأمر بني آدمَ بالطَّوافِ به واستقبالهِ، وقد اختلفَ العلماءُ في السَّابقِ بالخلقِ هل هو العرشُ أو القلمُ، ونَظَّم ذلك ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ) بقَولِهِ:
والنَّاسُ مختلفونَ في القلمِ الَّذي كُتبَ القضاءُ به من الديَّانِ
هل كانَ قبلَ العرشِ أو هو بعدَه قولان عندَ أبي العَلا الهمذانِي
والحقُّ أنَّ العرشَ قبلُ لأنَّه قبلَ الكتابةِ كان ذا أركانِ
وكتابةُ القلمِ الشِّريفِ تعقَّبتْ إيجادَه من غيرِ فصلِ زمانِ(1/81)
وقوله تعالى: (يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) (1) .
__________
(1) قَولُهُ: (يُغْشِي): أي يُغطِّي (اللَّيْلُ النَّهَارَ ) فيذهبُ ظلامُ هذا بضياءِ هذا، وضياءُ هذا بظلامِ هذا، وكلٌّ منهما يطلبُ الآخرَ طلبًا حثيثًا، أي سريعًا لا يتأخَّرُ عنه، بل إذا ذهَب هذا جاء هذا وعكسُه.
قَولُهُ: (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنَّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) أي الجميعُ تحتَ قهرِه وتصريفِه ومشيئتِه.
قَولُهُ: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ): أي هو خالقُ كلِّ شيءٍ، وهذا عامٌّ فيشملُ أفعالَ العبادِ، وله الأمرُ، أي الملكُ والتَّصرُّفُ، فلا رادَّ لأمرِه ولا مُعَقِّبَ لحكمِه، والأمرُ ينقسم إلى قسمين: أمرٍ شرعيٍّ دينيٍّ كقَولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) وأمرٍ كونيٍّ قدريٍّ كقَولِهِ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نَّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) الآيةَ. تضمَّنتْ هذه الآيةُ إثباتَ أنواعِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ، وأفادت الرَّدَّ على الفلاسفةِ القائِلين بِقِدَمِ هذه المخلوقاتِ، وأفادتْ عمومَ خلقِه لهذه المخلوقاتِ، فيشملُ ذواتِها وصفاتهِا، وأفادتِ الاستدلالَ بهذه المخلوقاتِ على وجودِ الخالقِ، وأفادتْ إثباتَ أسمائهِ وصفاتهِ وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ، وأفادتْ إثباتَ صفةِ الخلقِ، وأفادتْ إثباتَ الأفعالِ الاختياريَّةِ اللازمةِ والمتعدِّيةِ.
وأفادتْ إثباتَ خلقِ السَّماواتِ ووجودِها، وأفادتْ تعدُّدَها، وأفادتْ فضلَ السَّماءِ على الأرضِ، وأفادتْ أنَّ خلقَ هذه المخلوقاتِ في ستَّةِ أيامٍ، أوَّلُها يومُ الأحدِ، وأفادتْ إثباتَ الاستواءِ على العرشِ استواءً يليقُ بجلالهِ، وتضمَّنتْ إثباتَ العلوِّ للهِ، وأفادتْ أنَّ الاستواءَ صفةُ فعلٍ، وأفادتْ أنَّ الاستواءَ خاصٌّ بالعرضِ، وأفادتْ أنَّ العرشَ مخلوقٌ، وقد ثبتَ أنَّ العرشَ مخلوقٌ عظيمٌ ذو قوائمَ وله حملةٌ، خلافًا للمبتدعةِ الَّذين ينفُون وجودَ العرشِ ويقولون عرشُه ملكُه، فعلى قولِ هؤلاء المبتدعةِ يكون قَولُهُ تعالى: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) معناه ويحملُ ملكَ ربِّكَ، وهذا قولٌ باطلٌ مردودٌ، وأفادت أنَّ الاستواءَ على العرشِ بعدَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، لأنَّه عَقَّبَهُ بِثُمَّ، وأفادتِ الرَّدَّ على الجهميَّةِ وأضرابهِم الَّذين يقولون: إنَّ معنى استوى استولى؛ لأنَّه تحريفٌ وزيادةٌ في كتابِ اللهِ وحملٌ له على غيرِ ما يحتملُ، فتواردُ الأدلَّةِ على هذا المعنى نصٌّ فيه، فلا يجوزُ تأويلهُ، قال ابنُ القيَّمِ:
نونُ اليهودِ ولامُ جهميٍّ هما في وحيِ ربِّ العرشِ زائدتان
قالَ الذهبيُّ: وأوَّلُ وقتٍ سمعتُ مقالةَ مَنْ أنكرَ أنَّ اللهَ فوقَ عرشِهِ هو من الجعدِ بنِ درهمٍ، وكذلك أنكرَ جميعَ الصِّفاتِ، وقتله خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ وقصَّتُه مشهورةٌ، فأخذَ هذه المقالةَ عنه الجهمُ بنُ صفوانَ إمامُ الجهميَّةِ فأظهرَها واحتجَّ لها بالشُّبهاتِ، وكان ذلك في آخرِ عصْرِ التَّابعين، فأنكرَ مقالتَه أئمَّةُ ذلك العصرِ، مثلُ الأوزاعيِّ وأبي حنيفةَ ومالكٍ والليثِ بنِ سعدٍ والثَّوريِّ وحمَّادِ بنِ زيدٍ وحمَّادِ بنِ سلمةَ وابنِ المباركِ ومَن بعدَهم من أئمَّةِ الهُدى.
وأفادت الاستدلالَ بهذه المخلوقاتِ على وجودِ خالقِها وَمُدَبِّرِها وأنَّها آيةٌ واضحةٌ، ودلالةٌ صريحةٌ على وجودهِ سُبْحَانَهُ، وأنَّه المدبِّرُ والمسخِّرُ لهذه المخلوقاتِ، وهي مستلزمةٌ للعلمِ بصفاتِ كمالهِ، وتضمَّنَ ذلك أنَّه المعبودُ الحقُّ، وأنَّ عبادةَ غيرهِ باطلةٌ، إذ ما سواه عاجزٌ، والعاجزُ لا يصلحُ للأهليَّةِ، وأفادتِ التَّفريقَ بين الخلقِ والأمرِ، وفيه الرَّدُّ على الجهميَّةِ والمعتزلةِ القائلين بأنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ، وأنَّ خلقَهُ وأمرَهُ واحدٌ، ويُروى عن سُفيانَ الثوريِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه قالَ: فرقَ اللهُ بينَ الخلقِ والأمرِ فمنْ جمعَ بينهما فهو كافرٌ. انتهى.
وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ من الفلاسفةِ: أنَّ العرشَ هو الخالقُ الصَّانعُ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ العرشَ لم يزلْ معَ اللهِ وهو مذهبٌ باطلٌ، انتهى. من (فتحِ البارِي).(1/82)
وَقَوْله سُبْحَانه: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) وقوله: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ).
وقالَ سبحانه في سورةِ يونُسَ عليهِ السَّلامُ: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ)، وقالَ في سورةِ الرَّعدِ: ( اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها): أي رفعَ السَّماواتِ بغيِر عمدٍ بل بإذنِه وتسخيرهِ، رفَعَها عن الأرضِ بُعدًا لا يُنالُ ولا يُدركُ، مَداها كما في حديثِ: ((إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَكَذَلِكَ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ)) وجاءَ عن بعضِ السَّلفِ: أنَّ ما بين العرشِ إلى الأرضِ مسيرةُ خمسينَ ألفَ سنةٍ، وبُعدَ ما بينَ قُطريهِ خَمسونَ ألفَ سنةٍ، وهو من ياقوتةٍ حمراءَ.
قَولُهُ: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها): أي بغيِر عمدٍ.
وقَولُهُ: (تَرَوْنَها): تأكيدٌ للنَّفي، أي هي مرفوعةٌ بغيرِ عمدٍ، كما ترونها. قال ابنُ كثيرٍ: وهذا هو الأكملُ في القدرةِ.(1/83)
وقالَ تعالى في سُورةِ طه: ( الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى )،وقالَ في سُورَةِ الفُرْقانِ: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ الرَّحْمنُ )، وقالَ في سُورةِ السَّجدة: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّة أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ )، وقالَ في سُورةِ الحَديدِ: ( هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ )]، وقَوْلُهُ: ( يَا عِيْسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ )،( بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليهِ ). (1)
__________
(1) وقَولُهُ في سورةِ طه: (الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى) إلخ الآياتِ – فهذه الآياتُ فيها دلالةٌ واضحةٌ على إثباتِ الاستواءِ على العرشِ وأنَّهُ استواءُ حقيقةٍ يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَمَ أنَّ ذلكَ مجازٌ عن القهرِ أو الاستيلاءِ، وفيها دليلٌ على إثباتِ العرشِ وأنَّه مخلوقٌ، والرَّدُّ على مَن زعمَ: أنَّ معنى العرشِ المُلكُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الاستواءَ صفةُ فعلٍ، وفي هذه الآياتِ دليلٌ على عُلوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، فأدلَّةُ الاستواءِ كلُّها أدلَّةٌ على إثباتِ العلوِّ، وينقسمُ العلوُّ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلِ: علوُّ القهرِ. الثَّاني: علوُّ القدرِ. الثَّالثِ: علوُّ الذَّاتِ، خلافًا للمبتدعةِ الَّذين يُنكرون علوَّ الذَّات.
وأدلَّةُ العلوِّ عقليَّةٌ، فقد تواطأتْ أدلَّةُ السَّمعِ والعقلِ على إثباتهِ، وكذلك قد فُطِرَ الخلقُ على إثباتهِ، أمَّا الاستواءُ فدليلُه سمعيٌّ فقط، وهو أيضًا صفةُ فعلٍ.اهـ.
وفي الآياتِ دليلٌ صحيحٌ على أنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- ليسَ هو عينَ هذه المخلوقاتِ، ولا صفةً ولا جزءًا منها، فإنَّ الخالقَ غيرُ المخلوقِ، وليسَ بداخلٍ فيها محصورًا، بل هي صريحةٌ في أنَّه مُبايِنٌ لها، وليس حالاً فيها، ولا مَحلاًّ لها سُبْحَانَهُ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ رحمه اللهُ تعالى.
قَولُهُ: (يَا عِيْسَى إِنَّي مُتوَفِّيكَ): أي قابِضُك من الأرضِ ورافعُك إليَّ من غيرِ موتٍ، من قَولِهِم توفَّيتُ الشَّيءَ واستوفيتُه إذا قبضتُه وأخذتُه تامًّا، انتهى. الخازِن.ُ والتَّوفِّي الاستيفاءُ، وهو يصلحُ لتوفِّي النَّومِ ولتوفِّي الموتِ الَّذي هو فراقُ الرُّوحِ البدنَ، ولم يذكرِ القبضَ الَّذي هو قبضُ الرُّوحِ والبدنِ جميعًا، والصَّوابُ الَّذي عليه المحقِّقون، أنَّ عيسى عليه السَّلامُ لم يمتْ بحيثُ فارقتْ روحُه بدنَه، بل هو حيٌّ مع كونِه تُوفِّي. انتهى. من اختياراتِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ): أي رفعَهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- إلى السَّماءِ وهو حيٌّ، كما قال: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ )، والضَّميرُ في قَولِهِ: (قَبْلَ مَوْتِهِ) عائدٌ إلى عيسى، وذلك حينَ ينزلُ إلى الأرضِ قبلَ يومِ القيامةِ، ونزولُ عيسى ثابتٌ وهو أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكبارِ، وفي الصَّحيحين عن أبي هريرةَ أنَّه قال: قالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً مُقْسِطًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الجِزْيَةَ وَيَفِيضُ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَه أَحَدٌ)). وفي روايةٍ: ((حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْراً مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) ثمَّ يقولُ: ((اِقرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) وفي هذه الآيةِ إثباتُ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ- والرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معناه المعنى النَّفسيُّ، وفيها دليلٌ أنَّ اللهَ رفَعَ عيسى إلى السَّماءِ وقبضَه إليه، وفيهما دليلٌ على علوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، إذ الرَّفعُ لا يكونُ إلا من أسفلَ إلى أعلى.
قَولُهُ: (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِليهِ): في هذه الآيةِ -كالآيةِ السَّابقةِ- دليلٌ على أنَّ اللهَ رفعَ عيسى عليه السَّلامُ إلى السَّماءِ وقبضَهُ إليه، وفيها دليلٌ على علوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وفي هذه الآيةِ والَّتي قبلَها الرَّدُّ على اليهودِ الَّذين تَنَقَّصُوهُ وجعلوه ابنَ زِنا، والرَّدُّ على النَّصارى الَّذين غلَوْا فيه ورفعُوه عن مَقَامِ النبوَّةِ إلى مقامِ الرَّبوبيَّةِ، تعالى اللهُ عَن قَولِهِم عُلُوًّا كبيرًا.(1/84)
وقوله: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). (1)
وقوله: (وَقَالَ فَرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فأَطَّلِعَ إِلى إَلَهِ مُوْسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً ). (2)
__________
(1) قَولُهُ: (إِلَيْهِ): أي إلى اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى. (يَصْعَدُ): أي يرتفعُ والصُّعودُ: الارتفاعُ، وأمَّا أصعدَ يُصعَدُ بالضَّمِّ فمعناه: أبعدُ في الهروبِِ، ومنه (إِذْ تُصْعِدُونَ).
وقَولُهُ: (الكَلِمُ الطَّيِّبُ): يعني الذِّكرَ والتِّلاوةَ والدُّعاءَ، قاله غيرُ واحدٍ من السَّلفِ، انتهى. من ابنِ كثيرٍ.
قَولُهُ: (وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ): قال مجاهدٌ: العملُ الصَّالِحُ يرفعُ الكلمَ الطَّيِّبَ. وقيل الرَّفعُ مِن صفةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، أي العملُ الصَّالحُ يرفعُه اللهُ، قال سفيانُ بنُ عيينةَ: العملُ الصَّالحُ هو الخالصُ، يعني أنَّ الإخلاصَ يسبِّبُ قبولَ العملِ، كما قالَ سُبْحَانَهُ: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا) الآيةَ. وقالَ ابنُ القيَّمِ: العملُ الصَّالحُ هو الخالي من الرِّياءِ المقيَّدِ بالسُّنَّةِ، في هذه الآيةِِ أيضًا دليلٌ على علوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى؛ لأنَّ الصُّعودَ والرَّفعَ لا يكونُ إلا من أسفلَ إلى أعلى.
(2) قَولُهُ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ): هو ملكُ القبطِ في الدِّيارِ المصريَّةِ، وفرعونُ لقبٌ لكلِّ مَنْ ملكَ مصرَ.
قَولُهُ: (يَا هَامَانُ): أي قالَ فرعونُ لوزيرهِ هامانَ (ابْنِ لِي صَرْحًا): أي قصرًا عاليًا منيفًا.
قَولُهُ: (لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ): أسبابَ: مفردُه سببٌ، والسَّببُ يأتي بمعنى الحبلِ كقَولِهِ: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ) والطَّريقِ ومنه قَولُهُ (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) والبابِ كقَولِهِ: (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ).
قَولُهُ: (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ): أي طُرقَها وأبوابَها وما يُؤدِّي إليها، وكلُّ ما أدى إلى شيءٍ فهو سببٌ إليه كالرِّشَا ونحوِه.
قَولُهُ: (فأَطَّلِعَ): بالنَّصبِ على جوابِ الشِّرطِ أي أصعدَ، والاطَّلاعُ هو الصُّعودُ.
قَولُهُ: (إِلى إَلَهِ مُوْسَى وَإِنَّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا): أي في دعواه أنَّ له إلهًا غيري، وأنَّه أرسلَه، ففي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ موسى عليه السَّلامُ كانَ يقولُ: ربُّه في السَّماءِ وفرعونُ يظنُّه كاذبًا، فمَن نفى العلوَّ من الجهميَّةِ فهو فرعونيٌّ، ومَن أثبتَهُ فهو مُوسَويٌّ محمَّديٌّ، ففيها دليلٌ على إثباتِ علوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وأنَّ موسى عليه السَّلامُ أخبَر أنَّ رَبَّه في السَّماءِ، وعلوُّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه ممَّا تواطأَ على إثباتِه العقلُ والنَّقلُ وفَطَرَ اللهُ عليه الخلقَ، وأدلَّةُ إثباتِ العلوِّ كثيرةٌ جدًّا تزيدُ على ألفِ دليلٍ، قيل لعبدِ اللهِ بنِ المباركِ كيفَ نعرفُ ربَّنا؟ فقال: بأنَّه فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ على العرشِ بائنٌ من خلقِه، وقال الأوزاعيُّ: كُنَّا والتَّابعونَ متوافِرون نقولُ: إنَّ اللهَ تعالى بائنٌ من خلقِه، ونؤمنُ بما وردتْ به السُّنَّةُ، وقال أبو عمرٍو الطلمنكيُّ في كتابِ (الأصولِ): أجمعَ المسلمون من أهلِ السُّنَّةِ على أنَّ اللهَ استوى على عرشِه على الحقيقةِ لا على المجازِ، ثمَّ ساقَ بسندِه عن مالكٍ قال: اللهُ في السَّماءِ وَعِلْمُهُ في كلِّ مكانٍ، ثمَّ قال في هذا الكتابِ: أجمعَ المسلمونَ من أهلِ السُّنَّةِ أنَّ معنى قَولِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) ونحوِ ذلك من القرآنِ أنَّ ذلك علمُه، وأنَّ اللهَ فوقَ السَّماواتِ بذاتِه مستوٍ على عرشِه كيف شاءَ، هذا لفظُه في كتابهِ، وهذا كَثيرٌ في كلامِ الصَّحابةِ والتَّابعين، والأئمَّةُ أثبتوا ما أثبتَهُ اللهُ في كتابِه على لسانِ رسولِه على الحقيقةِ فيما يليقُ بجلالِِه وعظمتِه، ونفَوا عنه مشابهةَ المخلوقِين ولم يُمَثِّلُوا أو يُعَطِّلُوا.(1/85)
وَقَوْلُهُ: ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبَاً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرٌ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (أَأَمِنْتُمْ): مِن الأمنِ وهو ضدُّ الخوفِ.
قَولُهُ: (مَنْ فِي السَّماء): أي أأمنتم عقابَ مَن في السَّماء، وهو اللهُ إنْ عصيتُموه، وهذا عندَ أَهلِ السُّنَّةِ على أحدِ وجهينِ.
الأوَّلِ: أن تكون ((في)) بمعنى على.
قَولُهُ: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ): أي كما خسفَ بقارونَ.
قَولُهُ: (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ): أي تضطربُ وتتحرَّكُ.
قَولُهُ: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا): أي ريحٌ شديدةٌ سُمِّيت بذلك لأنَّها ترمي الحصباءَ.
قَولُهُ: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرٌ): أي إذا رأيتُم ذلك عَلِمتم كيفَ إنذاري حين لا ينفعُكم العلمُ. في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى التَّحذيرِ مِن الأمنِ مِنْ مكرِ اللهِ، وفي هذهِ الآيةِ دلالةٌ واضحةٌ على علوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ- على خلقِه، وقد تواترتْ في ذلك الأدلَّةُ واتَّفقتْ على إثباتِ العلوِّ جميعُ الرُّسلِ، وذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ أدلَّةَ العلوِّ تزيدُ على ألفِ دليلٍ، وينقسمُ العلوُّ إلى ثلاثةِ أقسامٍ كما تقدَّمتِ الإشارةُ إلى ذلك: علوِّ القدرِ، علوِّ القهرِ، علوِّ الذاتِ، فله العلوُّ الكاملُ من جميعِ الوجوهِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):
إنَّ العلوَّ بمطلقِه على التَّعـ ميمِ والإطلاقِ بالبرهانِ
وله العلوُّ من الوجوهِ جميعِها ذاتًا وقهرًا مع علوِّ الشَّان
وعلوُّه فوقَ الخليقةِ كلِّها فُطرتْ عليه الخلقُ والثَّقلان
كلٌّ إذا ما نابَه أمرٌ يُرى متوجِّهًا بضرورةِ الإنسانِ
نحوَ العلوِّ فليسَ يطلبُ خلفَه وأمامَهُ أو جانبَ الإنسانِ
وكذلك الفوقيَّةُ فإنَّها ثَابِتَةٌ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، قال اللهُ تعالى: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ)، وقَولُهُ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) وهي من صفاتِ الذَّاتِ. وفوقَ وعلاَ بمعنًى واحدٍ، وفوقيَّتُه -سُبْحَانَهُ- ثابتةٌ كعلوِّه، تواطأتْ على إثباتِها أدلَّةُ العقلِ والنَّقلِ والفِطَرُ الَّتي لم تتغيَّرْ. وأقسامُ الفوقيَّةِ ثلاثةٌ:
فوقيَّةُ القدرِ. فوقيَّةُ القهرِ. فوقيَّةُ الذَّاتِ، خلافًا للجهميَّة والمعتزلةِ الَّذين يُنكرون فوقيَّةَ الذَّاتِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):
والفوقُ وصفٌ ثابتٌ بالذَّاتِ من كلِّ الوجوهِ لفاطِرِ الأكوانِ
لكنْ نفاةُ الفوقِ ما وافَوا به جحدُوا كمالَ الفوقِ للدَّيَّانِ
بل فسَّرُوه بأنَّ قدْر اللهِ أعـ ـلا لا بفوقِ الذَّاتِ للرَّحمنِ
قالوا وهذا مثلُ قولِ النَّاسِ في ذهبٍ يُرى من خالصِ العِقْيانِ
هو فوقَ جنسِ الفضَّةِ البيضاءِ لا بالذَّاتِ بل في مقتضى الأثمانِ
والفوقُ أنواعٌ ثلاثٌ كلُّها للهِ ثابتةٌ بلا نكرانِ
هذا الَّذي قالوا وفوقَ القهرِ والـ فوقيَّةِ العليا على الأكوانِ
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وممَّا ادَّعى المعطِّلةُ مَجازَهُ الفوقيَّةُ، وقد وردَ به القرآنُ مطلقًا بدون حرفٍ، ومقترنًا بحرفٍ.
فالأوَّلُ كقَولِهِ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) في موضِعين. والثَّاني: كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ) وفي حديثِ الأوعالِ: ((وَالعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ وَاللهُ فَوْقَ العَرْشِ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ)) وحقيقةُ الفوقيَّةِ علوُّ ذاتِ الشَّيءِ على غيرِه، فادَّعى الجهميُّ أنَّه مجازٌ في فوقيَّةِ الرُّتبةِ والقهرِ، كما يُقالُ الذَّهبُ فوقَ الفضَّةِ، وهذا وإنْ كانَ ثابتًا للرَّبِّ لكنَّ إنكارَ حقيقةِ فوقيَّتهِ -سُبْحَانَهُ- وحمْلَها على المجازِ باطِلٌ من وجوهٍ عديدةٍ: أحدُها: أنَّ الأصلَ الحقيقةُ والمجازُ خلافُ الأصلِ.
الثَّاني: أنَّ الظَّاهرَ خلافُ ذلك إلى أنْ قال.
الثَّالثُ: أنَّ الفِطَرَ والعقولَ والشَّرائعَ وجميعَ كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلةِ على خلافِ ذلك، وساقَ وجوهًا عديدةً في إبطالِ ما ذكروه والرَّدِّ عليهم في (الصَّواعقِ).(1/86)
وقوله تعالى( هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِن السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ) فيه إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ للرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وهي تنقسمُ إلى قسمين: لازمةٍ كالاستواءِ والمجيءِ والنُّزولِ، ومتعدِّيةٍ كالخلقِ والرِّزقِ والإحياءِ والإماتةِ ونحوِ ذلك، فهو -سُبْحَانَهُ- موصوفٌ بالنَّوعين وقد جمعهُما في هذهِ الآيةِ، وفيها بيانُ أنَّ الَخلقَ غيرُ المخلوقِ؛ لأنَّ نفسَ خلقِه السَّماواتِ والأرضَ غيرُ السَّماواتِ والأرضِ، وفيها دليلٌ على مُبايَنَةِ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ- لخلقِه، فإنَّه لم يخلقْه في ذاتِه، بل خلقَهم خارجًا عن ذاتِه، ثمَّ بانَ عنهم باستوائِه على عرشِه، وهو يعلمُ ما هم عليه فيراهُم وينفذُه بصرُه فيهم ويحيطُ بهم علمًا وقدرةً وإرادةً وسمعًا وبصرًا، وهذا معنى كونِه معهم أينما كانوا.
قَولُهُ: (وَهُوَ مَعَكُمْ): أي معكُم بعلمِه، وقد حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على أنَّ المرادَ بهذه: معيَّةُ العلمِ ولا شكَّ في إرادةِ ذلك، فعلمهُ بهم وبصرهُ نافِذٌ فيهم، فهو -سُبْحَانَهُ- مطَّلعٌ على خلقِه لا يغيبُ عنه من أمورِهم شيءٌ، فإنَّ ((معَ)) في لغةِ العربِ لا تقتضي أنْ يكونَ أحدُ الشَّيئينِ مختلطًا بالآخرِ، كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) وجاءت المعيَّةُ في القرآنِ عامَّةً وخاصَّةً، فالعامَّةُ كما في هذه الآيةِ، فافتتح الكلامَ بالعلمِ وختمَهُ بالعلمِ، فدلَّ على أنَّه معهم بالعلمِ، ولهذا قال ابنُ عبَّاسٍ والضَّحَّاكُ وسفيانُ وأحمدُ والثَّوريُّ: وهو معهم بعلمِه.
أمَّا المعيَّةُ الخاصَّةُ فكقَولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) فهو مع المتَّقينَ دونَ الظَّالمين، فلو كانَ معنى المعيَّةِ أنَّهُ في كلِّ مكانٍ بذاتِه لتناقضَ الخبرُ الخاصُّ والعامُّ، بل المعنى أنَّه معَ هؤلاءِ بنصْرِه وحفظِه وتأييده دونَ أولئك.
وقد أخبرَ في هذه الآيةِ وغيرِها: أنَّهُ -سُبْحَانَهُ- مع خلقِه مع كونِه مستويًا على عرشِه، وقَرَنَ بين الأمرين كما قالَ سُبْحَانَهُ: ((هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ) الآية، فأخبر أنَّه اسْتوى على عرشِه وأنَّه معَ خلقه، يُبصِرُ أعمالَهم من فوقِ عرشِه، كما في حديث الأوعالِ، فعلوُّه -سُبْحَانَهُ- لا يُناقِضُ معيَّتَه، ومعيَّتُه لا تُبطِلُ عُلُوَّهُ، فكلاهما حقٌّ، فهذه الآيةُ فيها إثباتُ صفةِ الخلقِ كما تقدَّمَ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعم قِدَمَ هذهِ المخلوقاتِ، وأنَّها لم تزلْ ولا تزالُ، وفيها إثباتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ، وفيها أنَّ هذه المخلوقاتِ خُلِقَت في ستَّةِ أيامٍ، وفيها إثباتُ الاستواءِ، وفيها إثباتُ العرشِ، وفيها دليلٌ على أنَّ الاستواءَ صفةُ فعلٍ، وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ العلمِ، ودليلٌ على شمولِ العلمِ لكلَّ شيءٍ مِن الكُلِّيَّاتِ والجزئيَّاتِ، وفيها إثباتُ معيَّتِه -سُبْحَانَهُ- لخلقِه وأنَّها لا تُناقضُ عُلوَّه واستواءَه على العرشِ، بل كلاهما حقٌّ.
وفيها إشارةٌ إلى النَّدبِ إلى استحضارِ قربِه واطَّلاعِه كما في الحديثِ: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).(1/87)
وقَوْلُهُ: ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَُهمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (مَا يَكُونُ): أي يوجدُ فكانَ تامَّةٌ.
قَولُهُ: (مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ): النَّجوى إسرارُ ثلاثةٍ، فالنَّجوى الإسرارُ.
قَولُهُ (رَابِعُهُمْ): لمَّا كان -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ليسَ من جنسِ خلْقهِ جعلَ نفسَهُ رابعَ الثَّلاثةِ وسادسَ الخمسةِ، إذ هو غيرُهم بالحقيقةِ، والعربُ تقولُ: رابعُ أربعةٍ وخامسُ خمسةٍ لِمَا يكونُ فيه المضافُ إليه من جنسِ المضافِ، فإذا كان المضافُ إليه من غيرِ جنسِه قالوا رابعُ ثلاثةٍ وسادسُ خمسةٍ ونحوُ ذلك، أفاده ابنُ القيِّم في (الصَّواعقِ).
قَولُهُ: (إِلاَّ هُوَ مَعَُهمْ): أي مُطَّلِعٌ عليهم يسمعُ كلامَهم ويعلمُ سرَّهُم ونَجْواهم، ورسلُه مع ذلك تكتبُ ما يتناجَونَ به مع علمِه وسمعِه، كما قال سُبْحَانَهُ: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) قال ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ: ولهذا حكى غيرُ واحدٍ الإجماعَ على أنَّ المرادَ بهذه الآيةِ مَعِيَّةُ علمِه سُبْحَانَهُ، ولا شكَّ في إرادةِ ذلك، ولكنَّ سمعَهُ أيضًا مع علمِهِ بهم، وبصرَهُ نافِذٌ فيهم، فهو -سُبْحَانَهُ- مُطَّلعٌ على خلقِه لا يغيبُ عنه من أمرِهم شيءٌ.
قَولُهُ: ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ): أي يخبرُهم يومَ القيامةِ بجميعِ أعمالِهم، قال تعالى: (وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
قَولُهُ: (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): قال الإمامُ أحمدُ: افتتحَ الآيةَ بالعلمِ واختَتمها بالعلم، وقال أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ رحمه اللهُ: أجمعَ العلماءُ من الصَّحابة والتَّابعين الَّذين حُملَ عنهم التَّأويلُ – أي تفسيرُ القرآنِ – قالوا في تأويلِ قَولِهِ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) الآيةَ هو على عرشِه وعلمُه بكلِّ مكانٍ، وما خالفَهُم في ذلك مَن يُحتجُّ بقَولِهِ.(1/88)
وقوله ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا )، وقَوْلُهُ: ( إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )، ( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): كانَ هذا القولُ عامَ الهجرةِ، لماَّ هَمَّ المشركونَ بقَتلِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أو حبسِه أو نفيِه فخرجَ منهم هاربًا صَحِبَهُ صَدِيقُهُ وَصَاحِبُهُ أَبُو بكرٍ، فلجأ إلى غارِ ثورٍ ثلاثةَ أيامٍ ليَرجعَ الطَّلبُ الَّذين خرجُوا في آثارِهم ثمَّ يسيرونَ نحوَ المدينةِ، فخافَ أبو بكرٍ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، فجعلَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يُسَكِّنُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَقُولُ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُما)) كما رَوى الإمامُ أحمدُ في مسندِه عن أنسٍ أنَّ أبا بكرٍ حدَّثَهُ قالَ: قلتُ للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ونحَنُ في الغارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلى قَدَمَيْهِ لأََبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُما)) أخرجَاه في الصَّحيحينِ، ولذلك قالَ العلماءُ: من أنكرَ صُحبةَ أبي بكرٍ فهو كافرٌ، لإنكارِه كلامَ اللهِ وليسَ ذلك لغيرِ أبي بكرٍ.
قَولُهُ: (لاَ تَحْزَنْ): الحزنُ هو ضدُّ السُّرورِ.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ مَعَنَا): أي بِنصرِه وحفظهِ وكلاءَتهِ، ومَن كان اللهُ معه فلا خوفَ عليه.
قَولُهُ: (إِنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) قد تقدَّم الكلامُ على هذهِ الآيةِ الكريمةِ فارجعْ إليه.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ): أي معهم بنصرِه وحفظِه وتأييدِه، وهذه معيَّةٌ خاصَّةٌ، وأمَّا المعيَّةُ العامَّةُ فبالسَّمعِ والبصَرِ والعلمِ كما تقدَّم في قَولِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) فهي مقتضيةٌ لتخويفِ العبادِ منه.(1/89)
وقوله ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )، وقوله تعالى ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقَوْلُهُ: (وهو الذى فى السماء إله وفى الأرض إله) وقَوْلُهُ: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ): في هذه الآيةِ الأمرُ بالصَّبرِ وهو دليلٌ على وجوبِه، وهو شاملٌ لأنواعِ الصَّبرِ الثَّلاثةِ، فإنَّ حذفَ المعمولِ يُؤذِنُ بالعمومِ.
وقَولُهُ: (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ): أي بحفظِه ونصرِه وتأييدِه، وهذه معيَّةٌ خاصَّةٌ.
قَولُهُ: (فِئَةٍ): أي جماعةٍ، وهي جمعٌ لا واحدَ له من لفظِه.
قَولُهُ: (بِإِذْنِ اللهِ): أي بقضائِه وإرادته ومشيئتِه.
أفادتْ هذه الآيةُ -كالآيةِ السَّابقةِ- الحثَّ على الصَّبرِ، وأنَّه أعظمُ سببٍ في تحصيلِ المقصودِ، وفيه أيضًا المعيَّةُ الخاصَّةُ للصَّابرين، وأنَّ اللهَ ضمنَ لهم النَّصرَ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ)) وفيها أنَّ النَّصرَ من عندِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، لا عن كثرةِ عددٍ ولا عُدَّةٍ، وإنَّما تلك أسبابٌ، وقد أمرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بتعاطِيها واتَّخاذِها كما قال سُبْحَانَهُ: (وَأَعِدَّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ) أفادتْ هذه الآياتُ المتقدِّمةُ إثباتَ المعيَّةِ، فالآيتانِ الأُوليانِ فيهما إثباتُ المعيَّةِ العامَّةِ، والخمسُ الآياتِ الأخيرةُ فيها إثباتُ المعيَّةِ الخاصَّةِ، ومعيَّتُه -سُبْحَانَهُ- لا تُنافي علوَّه على خلقِه واستوائِه على عرشِه، بل تجامعُه، فإنَّ قُربَه -سُبْحَانَهُ- ومعيَّتَه ليست كقربِ المخلوقِ ومعيَّتِهِ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
قَولُهُ: (وَهُوَ الَّذي فِي السَّماء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ): أي هو إلهُ ومعبودُ أهلِ السَّماواتِ والأرضِ، كما تقولُ فلانٌ أميرٌ في خُراسانَ وفي العراقِ، فلا يدلُّ على أنَّه فيهما جميعًا , وكذلك قَولُهُ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) فسَّرهُ أئمَّةُ العلمِ كالإمامِ أحمدَ وغيرِه أنَّه المعبودُ في السَّماواتِ والأرضِ، فهذه الآياتُ لا تُخالِفُ الآياتِ الَّتي فيها إثباتُ علوِّه -سُبْحَانَهُ- واستوائِه على عرشِه، بل تُجامعُها، فإنَّ قربَهُ ومعيَّته كما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ).
قَولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ): لفظةُ استفهامٍ، ومعناه لا أحدَ أصدقُ من اللهِ في حديثِه وخبرِه ووعدِه ووعيدِه، وكانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ في خُطبتِه: ((إِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-)).(1/90)
( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )، ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً): أي لا أحدَ أصدقُ مَن اللهِ قولاً ولا خبرًا.
قَولُهُ: (ابنَ مَرْيَمَ): أضافَه إلى أمِّه لأَنَّهُ لا أبَ له، فهو من أمٍّ بِلا أبٍ، ففي هذه الآياتِ إثباتُ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى- وأنَّهُ يقولُ متى شاءَ إذا شاءَ، وأنَّ الكلامَ والقولَ المضافَ إليه -سُبْحَانَهُ- قديمُ النَّوعِ حادثُ الأحادِ، وفيه دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ كما يليقُ بجلالِه سُبْحَانَهُ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ، إذ المعنى المجرَّدُ لا يُسمعُ.
قَولُهُ: (صِدْقًا): أي صدقًا في الإخبارِ، وعدلاً في الطَّلبِ، فكلُّ ما أخبرَ به -سُبْحَانَهُ- فهو حقٌّ لا مريةَ فيه ولا شكَّ، فكلُّ ما أمَرَ به فهو العدلُ الَّذي لا عدلَ سِواه، وكلُّ ما نهى عنه فباطلٌ؛ لأنَّه لا يَنهى إلا عن مفسدةٍ، والمرادُ بالكلمةِ: أمرُه ونهيهُ ووعدُه ووعيدُه، وكلماتُ اللهِ نوعان: كونيَّةٌ ودينيَّةٌ.
فكلماتُ اللهِ الكونيَّةُ: هي الَّتي استعاذَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بها في قَولِهِ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ))، وكقَولِهِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً).
النَّوعُ الثَّاني: الكلماتُ الدِّينيَّةُ: وهي القرآنُ وشرعُ اللهِ الَّذي بَعَثَ به رسولَه، وهي أمرُه ونهيهُ، انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): أي ليسَ أحدٌ يعقِّبُ حكمَه -سُبْحَانَهُ- لا في الدُّنْيَا ولا في الآخرةِ.
قَولُهُ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): الَّذي أحاطَ سمعُه بسائرِ الأصواتِ، وأحاطَ علمُه بالظَّواهرِ والخفيَّاتِ.
قَولُهُ: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيما): خصَّصَ اللهُ نبيَّه موسى عليه السَّلامُ بهذه الصِّفةِ تشريفًا له، ولذا يُقالُ لموسى عليه السَّلامُ الكليمُ، وهذا دليلٌ على أنَّ التَّكليمَ الَّذي حصلَ لموسى عليه السَّلامُ أخصُّ من مُطلقِ الوحيِ، ثم أكَّدَهُ بالمصدرِ الحقيقيِّ رفعًا لِمَا توهَّمه المعطِّلةُ من أنَّه إِلهامٌ أو إشارةٌ أو تعريفٌ للمعنى النَّفسيِّ بِشيءٍ غيرِ التَّكليمِ فأكَّدهُ بالمصدرِ المُفيدِ تحقَّقَ النَّسبةِ ورفعَ توهَّمَ المجازِ، قالَ الفرَّاءُ: إنَّ الكلامَ إذا أُكِّدَ بالمصدرِ ارتفعَ المجازُ وثبتتِ الحقيقةُ، ويُروى أنَّ رجلاً قال لأبي عمرِو بنِ العلاءِ أريدُ أن تَقْرأَ: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسى تَكْلِيما)، بنصبِ لفظِ الجلالةِ فقالَ له: هبْ أنَّي قرأتُ ذلك فما تقولُ في قَولِهِ: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فَبُهِتَ المعتزليُّ.(1/91)
( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )، ( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (مِنْهُم مَّنْ كَلَّمَ اللهُ): أي: كلَّمَهُ اللهُ، كموسى عليه السَّلامُ ومحمَّدٍ وكذلك آدمُ، كما وردَ به الحديثُ المرويُّ في صحيحِ ابنِ حِبَّانَ عن أبي ذرٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ.
قَولُهُ: (لِمِيْقاتِنا): أي للوقتِ الَّذي ضَرَبنا أن نُكَلِّمَه فيه.
قَولُهُ: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ): أي كلَّمهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بكلامٍ حقيقيٍّ يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وكلَّمهُ بلا واسطةٍ، فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ، وأَنَّه تكلَّمَ ويتكلَّمُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، والأدلَّةُ الدَّالَّةُ على أنَّه يتكلَّمُ أكثرُ من أَنْ تُحصرَ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنًى واحدٌ قائمٌ بالنَّفسِ لا يُتصوَّرُ أنْ يُسمعَ، وفيها دليلٌ على أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةٌ لا مجازٌ، لأنَّه أكَّده بالمصدرِ، فقال: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيما)، أكَّدَهُ بالمصدرِ لنفي المجازِ؛ لأنَّ العربَ لا تؤكِّدُ بالمصدرِ إلا إذا أرادتِ الحقيقةَ، وفيها دليلٌ على أنَّ اللهَ لم يَزل مُتَكَلِّما إذا شاءَ ومتى شاءَ وكيفَ شاءَ، وفيها دليلٌ على أَنَّ نوعَ الكلامِ قديمٌ، وإنْ لم يكنِ الصَّوتُ المعيَّنُ قديمًا، فكلامُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- قديمُ النَّوعِ حادثُ الآحادِ، وتقدَّمتِ الإشارةُ إلى أنَّ كلامَهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- نوعانِ: كونيٌَ قدريٌّ به توجدُ الأشياءُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ). الثَّاني: كلامٌ دينيٌّ شرعيٌّ، ومنه كُتُبُه المنَزَّلةُ على رُسلِه، فهو الَّذي تكلَّم بها حقًّا وليست مخلوقةً، بل هي من جُملةِ صفاتِه، وصفاتُه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقةٍ، كما تقدَّمَ في حديثِ خولةَ، وبه استدلَّ الإمامُ أحمدُ وغيرُه على أنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّه أمرَ بالاستعاذةِ بكلماتِ اللهِ، والاستعاذةُ بالمخلوقِ شركٌ، فدلَّ على أَنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وتكليمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لعبادِه نوعان:
الأوَّلُ: بلا واسطةٍ، كما كلَّم موسى بنَ عمرانَ، وكما كلَّمَ الأبويْنِ، وكذا نادى نبيَّنا ليلةَ الإسراءِ.
الثَّاني: تكليمُه -سُبْحَانَهُ- لعبادِه بواسطةٍ، إمَّا بالوحْيِ الخاصِّ للأنبياءِ، وإمَّا بإرسالِه إليهم رسُولا يكلِّمُهم من أمرِه بما شاءَ.
وفي الآياتِ المتقدِّمةِ أيضًا دليلٌ على أنَّ الكلامَ المضافَ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من صفاتِه الذَّاتيَّةِ من حيثُ تعلُّقُها بذاتِه واتَّصافُه بها، ومن صفاتِه الفعليَّةِ حيث كانت متعلِّقةً بقدرتِه ومشيئتِه.(1/92)
( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )، وقَوْلُهُ: ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ )، وقَوْلُهُ: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَنَادَيْنَاهُ): أي نادينَا موسى وكلَّمناه بقولِ: (يا موسى إِنَّي أَنَا اللَّهُ )، وقَولُهُ: (الطُّورِ): هو اسمُ جبلٍ بيَن مصرَ ومدينَ، وقَولُهُ: (الأَيْمَنِ): أي الَّذي يلي يمينَ موسى حين أقبلَ من مدينَ، قَولُهُ: (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا): أي مناجيًا.
وقَولُهُ: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقَولُهُ: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ): أي نادى آدمَ وحوَّاءَ.
وقَولُهُ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ): قالَ بعضُ السَّلفِ: ما من فعلةٍ وإنْ صغُرتْ إلا ويُنشرُ لها ديوانانِ لِمَ وكيف، أي لِم فعلتَ وكيفَ فعلتَ ؟، فالأوَّلُ سؤالٌ عن الإخلاصِ، والثَّاني سؤالٌ عن المتابعةِ. فإنَّ اللهَ لا يقبلُ عملاً إلا بهما، فطريقُ التَّخلُّصِ من السَّؤالِ الأوَّلِ: بتجريدِ الإخلاصِ، وطريقُ التَّخلُّصِ مِن السَّؤالِ الثَّاني: بتحقيقِ المتابعةِ. انتهى. من الإغاثةِ، وقال بعضُ السَّلفِ: كلمتانِ يُسأل عنهما الأوَّلونَ والآخِرونَ: ماذا كنتم تعبدونَ وماذا أجبتُم المُرسلينَ؟ فَيُسألُ عن المعبودِ وعن العبادةِ.
أفادتْ هذه الآياتُ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ، وأنَّه نادى وناجَى، وقد جاءَ النِّداءُ في تسعِ آياتٍ من القرآنِ، وكذلك النَّجاءُ جاء في عدَّةِ آياتٍ , والنِّداءُ هو الصَّوتُ الرَّفيعُ، وضدُّه النَّجاءُ، ففيها إثباتُ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ يليقُ بجلالِه، إذ لا يُعقلُ النِّداءُ والنجاءُ إلا ما كان حرفًا وصوتًا، وقد استفاضتِ الآثارُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والصَّحابةِ والتَّابعين ومَن بعدَهم من أئمَّةِ السُّنَّةِ بذلك، وقال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):
واللهُ قد نَادى الكليمَ وقبلَه سمعَ النِّدا في الجنَّةِ الأبوانِ
وأتى النِّدا في تسعِ آياتٍ له وصفًا فراجعْها من القرآنِ
أيصِحُّ في عقلٍ وفي نقلٍ ندا ءٌ ليس مسموعًا لنا بأذانِ
أم أجمعَ العلماءُ والعقلاءُ من أهلِ اللسانِ وأهلِ كُلِّ لسانِ
إنَّ النِّدا الصَّوتُ الرَّفيعُ وضدُّه فهو النَّجاءُ كلاهما صوتانِ
وفي هذه الآياتِ أيضًا الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللِه هو المعنى النَّفسيُّ، إذ المعنى المجرَّدُ لا يُسمعُ.
وقد ردَّ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ على مَن زعَم ذلك من تسعين وجهًا، قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
تِسعون وجهًا بيَّنتْ بطلانَه أعني كلامَ النَّفسِ ذي البُطلانِ
قال بعضُ العلماءِ: مَن زعَم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ فقد زعمَ أنَّ اللهَ لم يُرسِلْ رسولا ولم يُنزِلُ كتابًا، وقال: مَنْ زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ فقد زعَم أنَّ اللهَ أخرسَ، وقال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ البخاريِّ: ومَنْ نفى الصَّوتَ فقدْ زعمَ أنَّ اللهَ لم يُسمِعْ أحدًا من ملائكتِه ولا رُسلِه كلامًا بل ألهمَهم إيَّاه إلهامًا، وفيها الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو معنًى قائمٌ بذاتِه لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ، فإنَّ الأمرَ لو كانَ كما زَعَموا لكانَ موسى عليه السَّلامُ سَمِعَ جميعَ كلامِ اللهِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللِه مخلوقٌ، فإنَّ صفاتِ اللهِ داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه، فليسَ اللهُ اسمًا لذاتٍ لا سَمْعَ لها ولا بصرَ ولا حياةَ ولا كلامَ لها، فكلامُهُ وعلمُهُ وحياتُه وقُدرتُه داخلَةٌ في مُسمَّى اسمِه، فهو -سُبْحَانَهُ- بصفاتِه الخالقُ وما سواهُ المخلوقُ، وفي إثباتِ الكلامِ إثباتُ الرِّسالةِ، فإذا انتَفَت صفةُ الكلامِ انتفتْ صفةُ الرِّسالةِ، إذ حقيقةُ الرِّسالةِ تبليغُ كلامِ المرسلِ، ومِن ها هنا قال السَّلفُ: مَن أنكرَ كونَ اللهِ متكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ الرُّسلِ كلِّهم، والرَّبُّ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يخلقُ بقَولِهِ وبكلامِه كما قال: (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، فإذا انتفَتْ حقيقةُ الكلامِ عنه فقد انتفى الخلقُ.(1/93)
( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنهُ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَإِنْ أَحَدٌ): أحدٌ مرفوعٌ بفعلٍ يفسِّرهُ استجاركَ، وقَولُهُ: (فَأَجِرْهُ): أي أَمِّنْهُ، وقَولُهُ: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ): أي حتَّى يسمعَ القرآنَ مبلَّغًا إليه مِن قارئِه، كما قالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ حين قرأ على قريشٍ: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ ): فقالوا: هذا كلامُك أو كلامُ صاحبِك، فقال: ليس بكلامي ولا بكلامِ صاحبي ولكنَّهُ كلامُ اللهِ، وفي سُننِ أبي داودَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعْرِضُ نفسَه على النَّاسِ بالموسمِ فيقَولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبَّي)) فبيَّن أَنَّ ما يُبلغُه ويتلوه هو كلامُ اللهِ لا كلامُه، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّه إذا استَأْمَن مشركٌ ليسمعَ القرآنَ وجب تأمينُه ليُعَلَّمَ دينَ اللهِ وتنتشرَ الدَّعوةُ، ومنها أنَّ رسولَ اللهِ كان يُعطيِ الأمانَ لمَن جاءَه مُسترشدًا أو في رسالةٍ كما جاءَ في الحديبيةِ جماعةٌ من قريشٍ وكذلك مَن قدِمَ من دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ في أداءِ رسالةٍ أو تجارةٍ أو طلبِ صلحٍ أو مهادنةٍ أو حملِ جزيةٍ أو طلبٍ من الإمامِ أو نائبِه- أُعطيَ أمانًا ما دامَ متردِّدًا في دارِ الإسلامِ حتَّى يرجعَ إلى مأمنِه ووطنِه، وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ وأنَّه يتكلَّمُ وأنَّ القرآنَ كلامُهُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَنْ قاله ابتداءً لا إلى مَن قالَه مبلِّغًا مؤدِّيًا، فإنَّ القارئَ يُبلِّغُ كلامَ اللهِ، وكلامُه -سُبْحَانَهُ- صفةٌ من صفاتِه غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا صوتُ القارئِ وكذا المِدادُ والورقُ فهي مخلوقةٌ، لهذهِ الآيةِ ولحديثِ: ((بَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ))، فبَيَّنَ أنَّ الأصواتَ الَّتي يُقرأ بها القرآنُ أصواتُنا، والقرآنَ كلامُ اللهِ، فالقرآنُ كلامُ الباري والصَّوتُ صوتُ القارئِ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ الَّذي هو سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ هو عَيْنُ كلامهِ -سُبْحَانَهُ- حقًّا لا تَأْلِيفُ مَلَكٍ ولا بشرٍ، وأنَّ حروفَه ومعانيَه عَيْنُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- الَّذي تَكلَّمَ به -سُبْحَانَهُ- حقًّا، وبَلَّغه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَبَلَّغَهُ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فللرَّسولين منه مجرَّدُ التَّبليغِ والأداءِ لا الوضعِ والإنشاءِ، فإضافتُه إلى الرَّسولِ بقَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إضافةُ تبليغٍ وأداءٍ لا إضافةُ وضعٍ وإنشاءٍ، لا كما يقَولُهُ أهلُ الزَّيغِ والافتراءِ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أن َّ هذا الموجودَ بين أيدِينا هو عبارةٌ عن كلامِ اللهِ أو حكايةٍ له، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- أخبرَ أنَّ الَّذي يُسمعُ كلامُ اللهِ، وعندهم أنَّ الَّذي يُسمعُ ليسَ كلامَ اللهِ على الحقيقةِ، وإنَّما هو مخلوقٌ حُكِيَ به كلامُ اللهِ على أحدِ قَولِهِم، وعِبارةٌ عُبِّرَ بها عن كلامِ اللهِ على القولِ الآخرِ، وهي مخلوقةٌ على القوليْنِ، فالمقروءُ , المكتوبُ والمسموعُ والمحفوظُ ليسَ كلامَ اللهِ، وإنَّما هو عبارةٌ عُبِّرَ بها عنه، كما يُعَبَّرُ عن الَّذي لا ينطقُ ولا يتكلَّمُ مِن أخرسَ أو عاجزٍ، تعالى اللهُ عن قَولِهِم عُلوًّا كبيرًا، وفيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ وأنَّه يُسمعُ وأنَّه غيرُ مخلوقٍ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّه مخلوقٌ أو أنَّهُ كلامُ بشرٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلك، وفيها أنَّ مَن زعمَ أنَّه كلامُ غيرِ اللهِ فقد كفرَ أو زعمَ أنَّه مخلوقٌ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ: ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ إنَّه مخلوقٌ أو أنَّه قديمٌ، بل الآثارُ متواترةٌ عن السَّلفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسانٍ أنَّهم يقولونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ، وأوَّلُ مَن عُرفَ عنه أنَّه قال مخلوقٌ الجَعْدُ بِنْ دِرْهَمٍ، وصاحبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ من عُرِفَ عنه أنه قالَ: هو قَدِيمٌ عبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ كلابٍ، أمَّا السَّلفُ فلم يَقُل أحدٌ منهم بواحدٍ من القولينِ، ولم يقلْ أحدٌ مِن السَّلفِ: إنَّ القرآنَ عِبارةٌ عن كلامِ اللهِ وحِكايةٌ له، ولا قالَ منهم أحدٌ إنَّ لَفْظِي بالقرآنِ قديمٌ أو مخلوقٌ، بل كانوا يقولونَ بما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ من أنَّ هذا القرآنَ كلامُ اللهِ، والنَّاسُ يَقْرءُونه بأصواتِهم ويكتبونَه بِمِدَادِهِم وما بينَ اللوحَينِ كلامُ اللهِ وكلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، والمِدَادُ الَّذي يُكتب به القرآنُ مخلوقٌ، والصَّوتُ الَّذي يُقْرأ به هو صوتُ العبدِ، والعبدُ وصوتُه وحركاتُه وسائرُ صفاتِه مخلوقةٌ، فالقرآنُ الَّذي يَقْرؤه المسلمونَ كلامُ الباري، والصَّوتُ صوتُ القارئِ، انتهى.
قال البخاريُّ رحمه اللهُ في كتابِ (خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ) بعد ذكرِ هذه الآيةِ والآيةِ الَّتي بعدَها، أي قَولُهُ سُبْحَانَهُ: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجيد * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وقَولُهُ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ ) قال: ذكرَ اللهُ أنَّ القرآنَ يُحفظُ ويُسَطَرُ، والقرآنُ المُوعى في القلوبِ المَسْطورُ في المصاحفِ المَتْلوُّ بالألسنةِ كلامُ اللهِ ليس بمخلوقٍ، وأمَّا المِدادُ والورقُ والجلدُ فإنَّه مخلوقٌ، انتهى. من (فتحِ البارِي).(1/94)
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمونَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (فَرِيقٌ): أي طائفةٌ: (مِنْهُمْ): أي أَحْبَارِهِم (يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ): أي التَّوراةَ.
قَولُهُ: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ): أي يُغيِّرونه ويَتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه، (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ): أي فهمُوه (وَهُمْ يَعْلَمونَ): أي أنَّهم مُفترونَ، وإذ كانَ هذا حالُ علمائِهم فكيفَ بِجُهَّالِهِمْ.
في هذه الآيةِ التَّأيِيسُ من إيمانِ اليهودِ الَّذين شاهدَ آباؤُهم ما شاهدُوا، ثمَّ قستْ قلوبُهم ولم ينفعْهُم ما شاهدُوه، وفيها ذمٌّ للمُحَرِّفين للكَلِم عن مواضعِه، وأنَّ التَّحريفَ من صفاتِ اليهودِ، وأفادتْ هذه الآيةُ كغيرِها إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، والرَّدَّ على مَن زعمَ أنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ أو أنَّ كلامَه مخلوقٌ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَن قاله مُبتدءًا لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، فإنَّ قَولَهُ: (يَسْمُعونَ كَلاَمَ اللهِ ): أي مِنْ قَارئِه ومُبَلِّغِهِ.
قَولُهُ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ): أي مَواعيدَهُ بغنائمِ خَيْبَرَ، أهلُ الحديبيةِ خاصَّةً، لا يشارِكُهم فيها غيرُهم من الأعرابِ والمُتَخلِّفين، فلا يقعُ غيرُ ذلك شرْعا ولا قَدرًا، ولهذا قال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) وهو الوعدُ الَّذي وعدَ به أهلَ الحديبيةِ، اختاره ابنُ جريرٍ.
قَولُهُ: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا): أي في خيبرَ، وهذا خَبرٌ بمعنى النَّهْي.
قَولُهُ: (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ): أي مِنْ قَبْلِ عَوْدِنا مِن قبلِ انصرافِنا مِن مكَّةَ إلى المدينةِ أنَّ غَنيمةَ خيبرَ لِمَن شهدَ الحديبيةَ خاصَّةً دونَ غيرِهِم.
أفادتْ هذه الآيةُ –كغيرِها- إثباتَ صفةِ الكلامِ، وإثباتَ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه قالَ ويقولُ متى شاءَ إذا شاءَ.(1/95)
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ )، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مخْتَلِفونَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَاتْلُ): أي اتَّبِعْ، والتِّلاوةُ هي الاتَّباعُ، يُقالُ اتْلُ أَثَرَ فلانٍ وتَلَوْتُ أَثَرَه وقَفَوتُه وقَصَصْتُه بمعنى تَبِعْتُ خَلفهُ، ويُسمَّى تَالي الكلامِ تَالِيًا؛ لأَنَّه يُتبِعُ بعضَ الحروفِ بعضًا لا يُخرجُها جملةً واحدةً، وحقيقةُ التِّلاوةِ في هذا الموضعِ وغيرِه هي التِّلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى. انتهى. ملخَّصًا مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ): الوحيُ: لغةً: الإعلامُ في خفاءٍ، وفي الاصطلاحِ إعلامُ اللهِ أنبياءَه بالشَّيءِ، إمَّا بكتابٍ أو رسالةِ مَلَكٍ أو منامٍ أو إِلْهَامٍ.
قَولُهُ: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): أي القرآنِ بدليلِ قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) – إلى قَولِهِ – (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى) الآيةَ والمَسْمُوعُ واحدٌ، والكتابُ في الأصلِ جِنْسٌ، ثمَّ غَلَبَ على القرآنِ من بين الكُتبِ. انتهى، (الكَوْكَبُ المُنيرُ) ملخَّصًا.
قَولُهُ: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ): أي لا تُغيَّرُ ولا تُبَدَّلُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) في هذه الآيةِ -كغيرِها- دليلٌ على أنَّ الكتابَ هو القرآنُ، خلافًا للكُلاَّبِيَّة فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- سمَّى نفسَ مَجْموعِ اللفظِ والمعنى قرآنًا وكتابًا وكلامًا، كما تقدَّمَ في قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) الآيةَ فبيَّنَ أَنَّ الَّذي سَمِعوه هو القرآنُ، وهو الكتابُ، وقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) وفي الآيةِ المتقدِّمةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، وفيها الحثُّ على تلاوتِه، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- ضَمِنَ حفظَه من التَّغييرِ والتَّبديلِ.
قَولُهُ: (إِنَّ هَذا القُرْآنَ): مصدرُ قرأَ، أي جمعَ لِجِمْعِهِ السُّورَ أو ما في الكتبِ السَّابقةِ.
قَولُهُ (يَقُصُّ): أي يُبيِّنُ (عَلى بَني إِسْرَائيلَ) وهم حَمَلَةُ التَّوراةِ (أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مُخْتَلِفونَ) وذلك كاختلافِهم في أمرِ عيسى وَتَبَايُنِهم فيه، فجاءَ القرآنُ بالقولِ العَدْلِ الحقِّ أنَّه عبدٌ من عبادِ اللهِ ونبيٌّ مِن أنبيائِه، وفي الآيةِ دليلٌ على عظمةِ هذا الكتابِ وَهَيْمَنَتِه على الكتبِ السَّابقةِ، وتَوْضيحِه لما وَقَعَ فيها من اشتباهٍ، وإضافةِ القصصِ والتَّوضيحِ إليه وتضمُّنِ وجوبِ الرُّجوعِ إليه واتَّباعِه.(1/96)
( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )، ( لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )، (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ ). ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدَىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمينَ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وَهَذَا كِتَابٌ): أي القرآنُ (مُبَارَكٌ): أي كثيرُ المنافعِ والخيرِ.
قَولُهُ: (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا): أي مُتَذِلِّلاً (مُتَصَدِّعًا): أي مُتَشَقِّقًا، فإذا كان القرآنُ لو أُنْزلَ على جبلٍ لَخشع وتَصدَّعَ من خوفِ اللهِ فكيفَ يليقُ بكم أيُّها النَّاسُ أنْ لا تَلينَ قلوبُكُم وتخشعَ من خوفِ اللهِ، وقد فَهِمتم عن اللهِ أمرَه ونهيَهُ وتَدَبَّرتُم كتابَه، وفي الآيةِ دليلٌ على عَظَمةِ القرآنِ وأنَّه لو أُنزلَ على جبلٍ لخشعَ وتَصدَّعَ مِن خشيةِ اللهِ، وفيها دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- خلقَ في الجماداتِ إدراكًا بحيثُ تخشعُ وتُسبِّحُ، وهذا حقيقةٌ كما دلَّتْ على ذلك الأدلَّةُ ولا يَعلمُ كيفيَّةُ ذلك إلا هوَ سُبْحَانَهُ، وفيها حَثٌّ على الخوفِ من اللهِ والخشوعِ عندَ سماعِ كلامِه، وأنَّه ينبغي أن يُقرأ بتدبُّرٍ وخشوعٍ وإقبالِ قلبٍ وأنَّه ينبغي الرِّقَّةُ عند سماعِ كلامِ الله والبُكاءِ وتلاوتِه بحزنٍ.
قَولُهُ: (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ): أي نسخنَاها وأنزلنَا غيرَها لمصلحةِ العبادِ.
قَولُهُ: ( واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): أي هو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أعلمُ بما هو أصلحُ لخلقِه فيما يُغَيِّرُ ويَنْسَخُ من أَحكامِه، وفي الآيةِ دليلٌ على وقوعِ النَّسخِ في القرآنِ، وأنَّه لحكمةٍ ومصلحةٍ يعلمُها سُبْحَانَهُ، فهو أعلمُ بمصلحةِ عبادِه، وفيها دليلٌ على إحاطةِ علمِه -سُبْحَانَهُ- بكلِّ معلومٍ.
قَولُهُ: (قَالُوا): أي الكفَّارُ (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ): أي كذَّابٌ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ): أي لا يعلمونَ الحكمةَ في ذلك.
قَولُهُ: (قُلْ نَزَّلَهُ): أي القرآنَ، والتَّنزيلُ والإنزالُ هو مجيءُ الشَّيءِ من أعلى إلى أسفلَ، (رُوحُ القُدُسِ): أي جبريلُ عليه السَّلامُ، فجبريلُ سمعَهُ من اللهِ والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعه من جبريلَ، وهو الَّذي نَزَل بالقرآنِ على محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما نصَّ على ذلك أحمدُ وغيرُه من الأئمَّةِ، وجبريلُ هو الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ) الآيةَ.
ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ: إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَهُ من اللهِ، وإنَّما قال ذلك بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ تَرُدُّ عليه. قال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ (البخاريِّ): والمنقولُ عن السَّلفِ اتَّفاقُهم أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، تلقَّاهُ جبريلُ عن اللهِ، وبلَّغَه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وبلَّغه محمَّدٌ إلى أمَّتِه. انتهى.
ففي هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، بدأَ منه وظهرَ لا من غيرِه، وأنَّه الَّذي تكلَّم به لا غيرَه، وأمَّا إضافتُه إلى الرَّسولِ في قَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فإضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ، والرِّسالةُ تبليغُ كلامِ المُرْسِلِ، ولو لم يكنْ للمُرسلِ كلام يبلِّغُه الرَّسولُ لم يكنْ رسولاً، ولهذا قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ: مَن أَنْكرَ أن يكونَ اللهُ مُتكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ رسلِهِ، فإنَّ حقيقةَ رسالتِهم: تبليغُ كلامِ المرسِلِ، وفيها دليلٌ على علوِّ اللهِ على خلقِه، والتَّنزيلُ والإنزالُ المذكورُ في القرآنِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
إنزالٍ مُطلقٍ كقَولِهِ: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ).
الثَّاني: إنزالٍ مِن السَّماءِ كقَولِهِ: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُورًا).
الثَّالثِ: إنزالٍ منه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ).
فأخبرَ أَنَّ القرآنَ منَزَّلٌ منه، والمطرَ مُنَزَّلٌ من السَّماءِ، والحديدَ منَزَّلٌ نزولاً مطلقًا، ففرَّقَ -سُبْحَانَهُ- بين النُّزولِ منه والنُّزولِ من السَّماءِ، وحُكمُ المجرورِ بِمِنْ في هذا البابِ حكمُ المضافِ، والمضافُ ينقسمُ إلى قِسمين: إضافةِ أَعْيَانٍ وإضافةِ معانٍ، فإضافةُ الأعيانِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ونحوِ ذلك، أمَّا إضافةُ المعاني إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فهي من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كسمعِ اللهِ وبصرِه وعلمِه وقُدرتِه، فهذا يمتنعُ أنْ يكونَ المضافُ مخلوقًا، بل هو صفةٌ قائمةٌ به وهكذا حُكمُ المجرورِ بمن، فإضافةُ القرآنِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، لا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه خلافًا للمبتدعةِ من المعتزلةِ والجهميَّةِ وأشباههِم، وفي هذه الآيةِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، أو أنَّه كلامُ بشرٍ وغيرِه، فمَن زعمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذلك عن السَّلفِ، وفيها دليلٌ على أنَّ جبريلَ نَزَل به من عندِ الله، فإنَّه (رُوحُ الْقُدُسِ) وهو أيضا الرُّوحُ الأمينُ، وفي قَولِهِ: (الأَمِينُ) دليلٌ على أنَّه مُؤْتمنٌ على ما أُرْسلَ به، فلا يَزيدُ عليه ولا يُنقِصُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَهُ من جبريلَ وهو الَّذي نَزَل به عليه من عندِ اللهِ، وجبريلُ سمعَه من اللهِ، والصَّحابةُ سمعُوه من النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وفيها الرَّدُّ على مَن قالَ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَ القرآنَ من اللهِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قالَ إنَّه مخلوقٌ خلقَهُ اللهُ في جسمٍ من الأجسامِ المخلوقةِ، كما هو قولُ الجهميَّةِ القائِلين بخلقِ القرآنِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قال إنَّه فَاضَ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من العقلِ الفَعَّالِ أو غيرِه، كما يقَولُهُ طَوَائِفُ من الفلاسفةِ والصَّابئةِ، وهذا القولُ أشدُّ كفرًا من الَّذي قبلَه، وفيها الدَّليلُ على بُطلانِ قولِ مَن يقولُ: إنَّ القرآنَ العربيَّ ليس مُنزَّلاً مِن اللهِ بل مَخلوق، إمَّا في جبريلَ أو محمَّدٍ أو جُرْمٍ آخرَ كالهواءِ، كما يقولُ ذلك الكُلاَّبيَّةُ والأَشعريَّةُ القائلونَ بأنَّ القرآنَ العربيَّ ليسَ هو كلامَ اللهِ، وإنَّما كلامُه المعنى القائمُ بذاتِه، والقرآنُ العربيُّ خُلقَ ليدلَّ على ذلك المَعنى، وهذا يُوافقُ قولَ المعتزلةِ ونحوِهم في إثباتِ خلقِ القرآنِ، وفيها أنَّ السَّفيرَ بينَ اللهِ ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو جبريلُ عليه السَّلامُ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفْسيُّ، فإنَّ جبريلَ سَمِعه مِن اللهِ والمعنى المُجَرَّدُ لا يُسْمعُ، وفيها دليلٌ أنَّ القرآنَ نزلَ باللغةِ العربيَّةِ وتكلَّم اللهُ -سُبْحَانَهُ- بالقرآنِ بها، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه يجوزُ ترجمةُ القرآنِ باللغاتِ الأعجميَّةِ؛ لأنَّ القرآنَ مُعجزٌ بلفظِه ومعناه.
قَولُهُ: (بِالحَقِّ): أي بالصِّدقِ والعدلِ: (لِيُثَبَّتَ الَّذينَ آمَنُوا): أي يزيدَهم يقينًا وإيمانًا.
قَولُهُ: (وَهُدًى): أي بيانٌ ونورٌ وبصيرةٌ، ويُطلقُ الهُدى ويُرادُ به ما يَقِرُّ في القلبِ من الإيمانِ، وهذا لا يقدرُ على خَلْقِه في قلوبِ العبادِ إلا اللهُ، قال تعالى (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآيةَ، ويُطلقُ ويُرادُ به بيانُ الحقِّ وتوضيحُه والدَّلالةُ عليهِ والإرشادُ إليه قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). انتهى. من ابنِ كثيرٍ، وخُصِّصتِ الهدايةُ بالمسلمين لاختصاصِهم بالنَّفعِ بالقرآنِ؛ لأنَّه هو بنفسِه هُدًى، ولكن لا ينالُه إلا الأبرارُ كما قال تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ).
قَولُهُ: (وبُشْرَى): البُشرى والبِشارةُ هو أوَّلُ خَبَرٍ سَارٍّ، والبُشرى يرادُ بها أمرانِ:
أحدُهما بشارةُ المُخْبِرِ، والثَّاني سرورُ المُخْبَرِ، قال تعالى: (لَهُمُ البُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) فُسِّرتِ البُشرى بهذا وبهذا، قِيلَ وسُمِّيتْ بُشرى؛ لأنَّها تُؤثِّرُ في بَشَرَةِ الوجهِ، ولذلك كانَتْ نوعين: بُشرى سارَّةٌ تُؤَثِّرُ فيه نضارةً وبَهجةً، وبُشرى مُحزنةٌ تُؤَثِّرُ فيه سوءًا وعُبوسا، ولكن إذا أُطلقتْ كانت للسُّرورِ، وإذا قُيِّدتْ كانت بحسبِ ما قُيِّدت به، أمَّا البَشارةُ بالفتحِ فهي نضارةُ الوجهِ وحسنُه، وأمَّا البُشارة بالضَّمِّ فهو ما يُعطاه المبشَّرُ.(1/97)
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لَسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ).
وَقَوْلُه تَعَالَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ ). (1)
__________
(1) وقَولُهُ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولونَ): أي كُفَّارُ مكَّةَ: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) والبشرُ الإنسانُ ذكرًا كان أو أُنثى، وهو في الأصلِ جمعُ بَشَرةٍ، وهو ظاهرُ الجلدِ، سمَّوْه بشرًا لُظهورِ أَبْشَارِهم خلافًا لغيرِهم من الحيوانِ، أي إنَّ الَّذي يُعَلِّمُ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- آدمِيٌّ، وذلك أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يجلسُ إلى رجلٍ أعجميٍّ في مكَّةَ، وكان ذلك الرَّجلُ يقرأُ في الكُتبِ السَّابقةِ، فقالتْ قريشٌ: إنَّ هذا الرَّجلَ كان يُعلِّمُ محمَّدًا، فَأَكْذَبَهُمُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بقَولِهِ: (لِسَانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبينٌ).
قَولُهُ: (لسَانُ): أي لغةُ (الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ): أي يَميلون ويُشيرون إليه أنَّه يُعلِّمُ محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أعجميٌّ أي لا يتكلَّمُ بالعربيَّةِ، والعَجَمِيُّ المنسوبُ إلى العَجمِ وإن كان فصيحًا.
قَولُهُ: (لسانُ): أي لغةُ، كما في هذه الآيةِ، وفي قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) ويطلقُ اللسانُ ويرادُ به الذِّكرُ الحَسَنُ كما قال تعالى عن إبراهيمَ: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) ويُطلَقُ ويرادُ به الجَارِحَةُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) الآيةَ.
قَولُهُ: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبينٌ): أي وهذا القرآنُ لسانٌ عربيٌّ مبينٌ، أي بَيِّنٌ واضحٌ فكيفَ يكونُ الَّذي يقَولُهُ أعجميًّا؟!
قَولُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ): أي وجوهُ المؤمنينَ (يَوْمَئِذٍ): أي يومَ القيامةِ. (نَاضِرَةٌ): بالضَّادِ من النَّضَارة وهي البهاءُ والحسنُ، ومنه نَضْرَةُ النَّعيمِ، وروى ابنُ مَرْدَوَيهِ بسندٍ إلى ابنِ عمرٍو قال: قالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في قَولِهِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) قال: من الحُسنِ والبَهاءِ ( إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ) قال: في وجهِ اللهِ.
قَولُهُ: (إِلى رَبِّها نَاظِرَةٌ): مِن النَّظرِ بالعينِ، فَيَرَوْنَهُ -سُبْحَانَهُ- في عَرَصةِ القيامةِ، ويراه المؤمنونَ في الجنَّةِ، ولا يجوزُ حملُ النَّظرِ هنا بمعنى الانتظارِ إلى ثوابِ اللهِ، فإنَّه مُعَدَّى بِإِلى، ولا يُعَدَّى بإلي إلا إذا كانَ بمعنى النَّظرِ بالعينِ، وأيضًا فالانتظارُ لا يليقُ في دارِ القرارِ، فهذه الآيةُ صريحةٌ في أنَّ اللهَ يُرى عَيَانًا بالأبصارِ يومَ القيامةِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ معنى (نَاظِرَةٌ): أي مُنتظرةٌ ثوابَ ربِّها؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ التَّقديرِ، ولأنَّ النَّظرَ المُعَدَّى بإلى لا يكونُ إلا بمعنى النَّظرِ، لا سيَّما وقد ذُكرَ الوجهُ الَّذي هو محلُّ النَّظرِ، وقد تواترتِ الأدلَّةُ في إثباتِ النَّظرِ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):
وَيَرَوْنَهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ فَوْقِهِمْ نَظَر العَيَانِ كَمَا يُرى القَمَرَانِ
هَذَا تَوَاتَر عَنْ رَسُولِ اللهِ لَمْ يُنْكِرْه إلا فَاسِدُ الإِيمَانِ
وقال ابنُ حجرٍ:
مِمَّا تَوَاتَر حَديثُ مَن كَذَب وَمَنْ بَنى للهُ بَيْتًا وَاحْتَسَب
وَرُؤْيَةٌ شَفَاعَةٌ وَالحَوْضُ وَمَسْحُ خُفَّيْنِ وَهَذي بَعْض
وفي هذهِ الآيةِ دليلٌ على أنَّ هذه الرُّؤيةَ خاصَّةٌ بالمؤمنينَ، وفيها دليلٌ على أنَّ الرُّؤيَة تحصلُ للمؤمنينَ يومَ القيامةِ دونَ الدُّنْيَا، ولم يَثبتْ أنَّ أحدًا رآه -سُبْحَانَهُ- في الدُّنْيَا، قالَ اللهُ في حقِّ موسى عليه السَّلامُ: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) أي في الدُّنْيَا، وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا)). واخْتُلِفَ هل حصلتِ الرُّؤيةُ لنبيِّنا محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-؟ فالأكثرونَ على أنَّه لم يرهُ -سُبْحَانَهُ- وحكاهُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ بإجماعِ الصَّحابةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: والنَّاسُ في إثباتِ الرُّؤيةِ وعدمِها طَرفان ووسطٌ، فقِسمٌ غَلَوا في إثباتِها حتَّى أثبتُوها في الدُّنْيَا والآخرةِ، وهم الصُّوفيَّةُ وأَضْرابُهم، وقِسمٌ نَفوها في الدُّنْيَا والآخرةِ وهم الجهميَّةُ والمعتزلةُ، والوسطُ هم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ الَّذين أثبَتوها في الآخرةِ فقط حسبما تواترتْ به الأدلَّةُ. انتهى.(1/98)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( عَلَى الأَرَائِكَ يَنْظُرُونَ ). (1)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( لِلَّذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )،( لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيْدٌ )، وهذا البابُ في كِتابِ اللهِ كَثيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ القُرآنَ طالِباً للهُدى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لهُ طريقُ الحَقِّ. (2)
__________
(1) قَولُهُ: (عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ): الأرائكُ جمعُ أَرِيكَةٍ وهي: السُّرُرُ تَحْتَ الحجَالِ.
قَولُهُ: (يَنْظُرُونَ): أي ينظرونَ إلى وجهِ اللهِ، وهذا مقابلٌ لما وُصفَ به أولئك الفُجَّارُ في قَولِهِ: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) فذُكِرَ عن هؤلاءِ أنَّهم يُبَاحونَ النَّظرَ إلى اللهِ، وهم على سُررِهم وفُرُشِهِمْ وعن أولئكِ الفجَّارِ أنَّهم يُحجبَون عن رؤيتِه، وقد استدلَّ العلماءُ بهذه الآيةِ، أي قَولِهِ: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) على إثباتِ رؤيةِ اللهِ، قالوا: لأنَّه لمَّا حَجَبَ أعداءَه عن رُؤْيَته دلَّ على أنَّ أولياءَه يَرَوْنه.
(2) قَولُهُ: (أَحْسَنُوا): أي في أعمالِهم، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا الإحسانِ.
قَولُهُ: (الحُسْنَى): أي الجنَّةُ. (وَزِيَادَةٌ) وهي النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ، كما فسَّرها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والصَّحابةُ، ولمَّا عطفَ الزِّيادةَ على (الحُسْنَى) دلَّ على أنَّها جزاءٌ آخرُ وراءَ الجنَّةِ وقَدْرٌ زائدٌ عليها، وثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- تفسيرُ الزِّيادةِ بالنَّظرِ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ.
قال ابنُ رجبٍ رَحمه اللهُ: وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً لأهلِ الإحسانِ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعْبدَ المؤمنُ ربَّه على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ كأنَّه يراهُ بقلبِه وينظرُ إليه في حالِ عبادتِه، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عيانًا في الآخرةِ وعكسُ هذا ما أخبرَ به عن جزاءِ الكُفَّارِ أنَّهم عن ربِّهم محجوبونَ، وذلك جزاءٌ لحالِهم في الدُّنْيَا، وهو تَرَاكُمُ الرَّانِ على قلوبِهم حتَّى حجبتْ عن معرفتِه في الدُّنْيَا، فكانَ جزاؤُهم على ذلك أَنْ حُجِبوا عن رؤيتِه في الآخرةِ. انتهى.
قَولُهُ: (لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيها): أي في الجنَّةِ ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خَطَر على قَلبِ بَشَرٍ، كما في حديثِ أبي هريرةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِيِنَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) ثمَّ قرَأ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) رواه البخاريُّ.
قَولُهُ: (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ): وهو النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما قالَ ذلك عليُّ بنُ أبي طالبٍ وأنسٌ وغيرُهم: أفادت الآياتُ إثباتَ الرُّؤيةِ، وأنَّها خاصَّةٌ بيومِ القيامةِ، وأنَّ رؤيَةَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من أَجَلِّ نعيمِ الجنَّةِ وأعظمِه.اهـ.
قَولُهُ: (وهذا البابُ): أي بابُ معرفةِ اللهِ بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وما يستحقُّه -سُبْحَانَهُ- من إفرادِه بالعبادةِ وتركِ عبادةِ ما سواه.
قَولُهُ: (في كتابِ اللهِ كثيرٌ): فقد أفصحَ القرآنُ عنه كلَّ الإفصاحِ، وأغلبُ سورِ القرآنِ مُتضمِّنةٌ لذلك، بل كلُّ سورةٍ من القرآنِ، فإنَّ القرآنَ إمَّا خَبَرٌ عن اللهِ وأسمائِه وصفاتِه، وهو التَّوحيدُ العلميُّ الخَبَريُّ، وإمَّا دعوةٌ إلى عبادتِه وحدَه لا شريكَ له، وخَلْعِ ما يُعْبدُ من دونِه وهو التَّوحيدُ الطَلَبِيُّ، وإمَّا أمرٌ ونهيٌ وإلزامٌ بطاعتِه، فذلك من حقوقِ التَّوحيدِ ومُكَمِّلاتِه، وإمَّا خبرٌ عن إكرامِهِ لأهلِ توحيدِه وما فُعِل بهم في الدُّنْيَا وما يُكْرمُهم به في الآخرةِ، فهو جزاؤُه وتوحيدُه، وإمَّا خبرٌ عن أهلِ الشِّركِ وما فُعل بهم في العُقبى من العذابِ، فهو جزاءُ مَن خرجَ من توحيدِه، والقرآنُ كلُّه في التَّوحيدِ وحقوقهِ وجزائهِ وفي الشِّركِ وأهلِه وجزائِهم، فلا تجدُ كتابًا قد تضمَّنَ من البراهينِ والأدلَّةِ على هذه المطالبِ العاليةِ كما تضمَّنه القرآنُ بأسلوبٍ واضحٍ جَليٍّ، فألفاظُ القرآنِ أفصحُ الألفاظِ وأبينُها وأعظمُها مطابقةً لمعانيها المرادةِ منها، فلا تجدُ كلامًا أحسنَ تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا مِن كلامِه سُبْحَانَهُ، ولهذا سمَّاه بيانًا خلافًا لمَنْ زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ ورسولِه لا يفيدُ العلمَ بشيءٍ من أصولِ الدِّينِ ولا يجوزُ أن تُستفادَ معرفةُ اللهِ وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه منه، وعبَّرَ عن ذلك بقَولِهِ: الأدلَّةُ اللفظيَّةُ لا تُفيدُ اليقينَ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: وزعَم قومٌ من غَاليةِ أهلِ البدعِ أنَّه لا يَصحُّ الاستدلالُ بالقرآنِ أو الحديثِ على المسائلِ القطعيَّةِ، بناءً على أنَّ الدَّلالةَ اللفظيَّةَ لا تفيدُ اليقينَ، كما زعموا وزعمَ كثيرٌ من أهلِ البدعِ أنَّه لا يُسْتَدلُّ بالأحاديثِ المُتلقَّاةِ بالقبولِ على مسائلِ الصِّفاتِ والقدرِ ونحوِهِما ممَّا يُطْلبُ فيه القطعُ واليقينُ.اهـ.
قَولُهُ: (مَن تدبَّرَ القرآنَ): أي تَفكَّرَ فيه، والفكرُ: هو إِعْمَالُ النَّظرِ في الشَّيءِ، وقد جاءَ في الكتابِ والسُّنَّةِ الحثُّ على التَّدَبُّرِ والتَّفكُّرِ، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ )، وقال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الحَاثَّةِ على التَّدبُّرِ وتفهُّمِ معاني القرآنِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه لا وصولَ إلى ذلك، وأنَّ بابَ الفهمِ عن اللهِ وعن رسولِه قد أُغلقَ، وبابَ الاجتهادِ قد سُدَّ، وهذا قولٌ باطلٌ تَردُّه أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ.
قَولُهُ: (طالبًا للهُدى): أي الرَّشادِ (تبيَّنَ له): أي اتَّضَح (طريقُ): أي سبيلُ.
قَولُهُ: (الحقِّ): وهو ضدُّ الباطلِ.(1/99)
( فصلٌ في سنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ. (1)
__________
(1) (الفصلُ): لغةً الحاجزُ بين الشَّيئينِ، واصطلاحًا: هو اسمٌ لجملةٍ مِن العلمِ تحتَه فروعٌ ومسائلُ غالبًا، لمَّا ذكرَ لمؤلِّفُ أدلَّةَ الكتابِ أتبعها بأدلَّةِ السُّنَّةِ، جريًا على عادةِ السَّلفِ الصَّالحِ رحمهم اللهُ وأتباعِهِم، فإنَّهم كانوا يذكرونَ الآياتِ في البابِ ثمَّ يُتبعُونها بالأحاديثِ الموافِقةِ لها، كما فعلَ البخاريُّ ومَن قبلَه ومَن بعدَه مِن المصنِّفين في السُّنَّة يَحتَجُّونَ على أحاديثِ النُّزولِ والرَّؤيةِ والتَّكلُّمِ والوجهِ واليدينِ والإتيانِ ونحوِ ذلك بما في القرآنِ، ويُثبتونَ بذلك اتَّفاقَ دلالةِ القرآنِ والسُّنَّةِ عليها، وأنَّهما من مشكاةٍ واحدةٍ، ولا ينكرُ ذلك مَن له أدنى معرفةٍ وإيمانٍ، فإنَّ السُّنَّةَ كالكتابِ في إفادةِ العلمِ واليقينِ، وفي وجوبِ القبولِ واعتقادِ ما تضمَّنته، خلافًا لما عليه أهلُ البدعِ الَّذين قالوا: لا يُحتَجُّ بكلامِ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- على شيءٍ من الصِّفاتِ، وقالوا في تلك الأدلَّةِ: إنَّها ظواهرُ لفظيَّةٌ لا تفيدُ اليقينَ، وزعموا أنَّ الَّذي يفيدُ اليقينَ هو نُحاتةُ أفكارِهم وسفالةُ أذهانهِم، وهذا إبطالٌ لدينِ الإسلامِ رأسًا.
قَولُهُ: (سُنَّةِ رسولِ اللهِ): السُّنَّةُ لغةً: الطَّريقةُ، وعُرفًا: هي أقوالُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأفعالُه وتقريراتُهُ، وتُطَلقُ السُّنَّةُ تارةً على ما يُقابلُ القرآنَ، كما هنا وكما في حديثِ: ((يَؤُمُّ القَّوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإنْ كَانُوا فيِ القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ))، وتُطلقُ تارةً على ما يُقابِلُ الفرضَ وغيرَه من الأحكامِ الخمسةِ، وربما لا يُرادُ بها إلا ما يُقابلُ الفروضَ كفروضِ الوضوءِ وسُننِه، وتُطلقُ تارةً على ما يُقابلُ البدعةَ، فيُقالُ أهلُ السُّنَّةِ والبدعةِ.
قَولُهُ: (فالسُّنَّةُ تفسِّرُ القرآنَ): أي تُبيِّنُه وتوضِّحُه، والتَّفسيرُ في الأصلِ هو الكشفُ والإيضاحُ، وفي الاصطلاحِ: توضيحُ معنى الآيةِ وشأنِهَا والسَّببِ الَّذي أُنزلتْ فيه بلفظٍ يدلُّ عليه دلالةً ظاهرةً. انتهى. مِن التَّعريفاتِ.
فتفسيرُ اللفظِ تَبيينُ معناهُ وتوضيحُه، ويكونُ بذكرِ لفظٍ أوضحَ من المفسَّرِ، ويكونُ أيضًا بذكْرِ ضِدِّ الشَّيءِ كما قيل:
والضِّدُّ يُظهرُ حسنَهُ الضِّدُّ وَبِضِّدِها تتبيَّنُ الأشياءُ
فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بيَّن لأصحابِه القرآنَ، لفظَه ومعناه، فَبَلَّغهم معانيَه كما بلَّغَهم ألفاظَه، ولا يحصلُ البيانُ والبلاغُ المقصودُ إلا بذلك، كما قال -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
وأيضًا فإنَّ اللهَ أنزلَ على نبيِّهِ الحكمةَ كما أنزلَ القرآنَ، والحكمةُ هي: السُّنَّةُ كما قاله غيرُ واحدٍ من السَّلفِ، وقالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)) رواه أصحابُ السُّننِ من حديثِ المقدامِ بنِ مَعْدي كرِبَ، وقال سُبْحَانَهُ: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)، وإنَّما يحسنُ الاستدلالُ على معاني القرآنِ بما رواه الثِّقاتُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، ثمَّ يتبعُ ذلك بما قالَهُ الصَّحابةُ والتَّابعون وأئمَّةُ الهُدى، ولا شكَّ أنَّ تفسيرَ القرآنِ بهذه الطَّريقةِ خيرٌ ممَّا هو مأخوذٌ عن أئمَّةِ الضَّلالِ وشيوخِ التَّجهُّمِ والاعتزالِ، الَّذين أحدثوا في الإسلامِ بدعًا وضلالاتٍ وفَرَّقوا دينهَم وكانوا شيعًا، وَنَبذوا كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولهِ وراءَ ظهورِهم.(1/100)
وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ. (1) .
__________
(1) قَولُهُ: (وتُبيِّنُه): أي توضِّحُه وتكشفُ معناه، والبيانُ اصطلاحًا: قيل: هو إخراجُ المعنى من حَيِّزِ الإشكالِ إلى حيِّزِ التَّجلِّي والوضوحِ، فالسُّنَّةُ كما أشارَ إليها المؤلِّفُ تُبيِّنُ مجملَ الكتابِ، كما في الصَّلاةِ والصَّومِ والحجِّ والبيعِ، وغالبِ الأحكامِ الَّتي جاء تفصيلُها في السُّنَّةِ، والبيانِ يحصلُ بالقولِ وبالفعلِ وبالإقرارِ على الفعلِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وبيانُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أقسامٌ، بيانُه لألفاظِ الوحْيِ ومعانيه بقَولِهِ أو فعلِه أو إقرارِه، بيانٌ للقرآنِ، وبيانٌ ابتدائيٌّ يَبْتدئُ النَّاسُ أو يَسألُونه، وبيانُه بالقولِ والفعلِ لمُجْمَلاتِ القرآنِ. انتهى.
قَولُهُ: (وتَدلُّ عليه): من الدِّلالةِ بكسرِ الدَّالِ وفتحِها، وهو ما يقتَضِيه اللفظُ عند إطلاقِه، واسمُ الفاعلِ دَالٌّ ودليلٌ وهو المَبَيِّنُ والكاشفُ، ودلالةُ اللفظِ الوَضْعِيَّةُ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: دلالةٍ مُطابقةٍ، ودلالةِ تَضَمُّنٍ، ودلالةِ الْتِزَامٍ، فدلالةُ المطابقةِ: هي دلالةُ اللفظِ على تَمامِ المعنى الَّذي وُضِعَ له، كدلالةِ الرَّجلِ على الإنسانِ الذَّكرِ ودلالةِ المرأةِ على الإنسانِ الأنْثى، وسُمِّيتْ مطابقةً لِتَطَابُقِ الفَهمِ والوَضعِ فيها، ودلالةُ التَّضمُّنِ: هي دلالةُ اللفظِ على جزءِ مُسمَّاه، كدلالةِ لفظِ الأربعةِ على الواحدِ رُبْعِها، وسُمِّيت تضمُّنًا؛ لأنَّ بعضَ المعنى مفهومٌ من ضِمنِ كُلِّه ضَرورةً، ودلالةُ الالتزامِ: هي دلالةُ اللفظِ على خارجٍ من مُسمَّاه ولازمِ المعنى، كلزومِ الزوجيَّةِ للفظِ أربعةٌ.
قَولُهُ: (وتعبِّرُ عنه): أي تُبينُ وتُعربُ، ويُقالُ: هو عِبارةٌ عن كذا أي بمعناه ومُساوٍ له في الدَّلالةِ، فظهرَ ممَّا تقدَّمَ أنَّ السُّنَّةَ تُفسِّرُ القرآنَ وتُبيِّنُ مُجملَه وتُقيِّدُ مطلقَه إلى غيرِ ذلك.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: السُّنَّةُ مع القرآنِ على ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدِها: أنْ تكونَ موافقةً له من كلِّ وجهٍ، فيكونُ تَوارُدُ الكتابِ والسُّنَّةِ على الحكمِ من بابِ تَواردِ الأدلَّةِ وتَضَافرِها.
الثَّاني: أَنْ تكونَ بيانًا لما أُريدَ بالقرآنِ وتفسيرًا له.
الثَّالثِ: أنْ تكونَ مُوجِبةً لحكمٍ سَكتَ القرآنُ عن إيجابِه، أو تَحريمِ ما سَكتَ القرآنُ عن تحريمِه، ولا تَخْرجُ عن هذه الأقسامِ.(1/101)
ومَا وَصَفَ الرَّسُولُ بهِ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنَ الأحاديِثِ الصِّحَاحِ الَّتي تَلَقَّاها أَهْلُ المَعْرِفَةِ بالقَبُولِ؛ وَجَبَ الإِيمانُ بِها كَذلكَ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: (وما وصفَ الرَّسولُ به ربَّهُ عز وجل من الأحاديثِ): جَمعُ حديثٍ وهو لُغةً: ضِدُّ القديمِ، واصطلاحًا: ما أُضيفَ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قَوْلاً أو فِعلاً أو تَقريرًا.
قَولُهُ: (الصِّحاحِ): مِن الصِّحةِ هو لغةً: ضدُّ السَّقَمِ، واصطلاحًا: هو ما نَقَلَهُ العدْلُ الضَّابطُ عن مثلهِ مِن غيرِ شذوذٍ ولا علَّةٍ، فهو مَا جمعَ خمسةَ شروطٍ: عدالةِ الرُّواةِ وضبطِهمْ، واتصالِ السَّندِ، وأنْ لا يكونَ فيه شذوذٌ، وأن لا يكونَ فيه عِلَّةٌ، وهذه الشُّروطُ شروطُ الصحيحِ لذاته، أمَّا الصَّحيحُ لغيرِه، فهو ما اختلَّ فيه شرطٌ مِن هذه الشُّروطِ، ولكن انجبرَ بمجيئِهِ مِن طُرقٍ أخرى، وحُكْمُ الصَّحيحِ القبولُ.
قَولُهُ:( تلقَّاها): أيْ قَبِلَها وأَخَذَها، يقالُ تلقَّى القولَ وتلقَّنه وتلقَّفه.
قَولُهُ: (أهلُ المعرفةِ): أي أهلُ العلمِ بالحديثِ، وهم علماءُ الحديثِ العالِمُون بأحوالِ نبيِّهم الضَّابطون لأقوالِه وأفعالِه، والمُعتنُون بها، ولا عِبْرةَ بمَن عدَاهُم مِن المتكلِّمينَ وغيرِهِم، فإنَّ الاعتبارَ في كلِّ عِلْمٍ بأهلِ العِلْم بهِ دونَ غيرِهِم.
فهذه الأخبارُ تُفِيدُ العِلْمَ عند مَنْ له عنايةٌ بمعرفةِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ومعرفةِ أحوالِ دعوتِه على التَّفصيلِ، فإنَّ أهلَ الحديثِ لهمْ فِقهٌ خاصٌّ في الحديثِ مختصُّون بمعرفتِه، كما يختصُّ البصيرُ في معرفةِ النقودِ، جيِّدِها ورديئِها، خالِصِها ومشوبِهَا، وقد امْتحِنَ غَيرُ واحدٍ مِن هؤلاءِ العلماءِ في زمنِ أبي زُرْعةَ وأبي حاتمٍ فوجدَ الأمرُ على ذلك، فقال السائلُ: أشهدُ أنَّ هذا العلمَ إلهامٌ، قال الأعمشُ: كان إبراهيمُ النخعيُّ صيرفيًّا في الحديثِ، كنتُ أسمعُ مِن الرِّجالِ فأعرِضُ عليه ما سمِعْتُه، وقالَ الأوزاعيُّ: كنَّا نسمعُ الحديثَ فنعرضُهُ على أصحابِنَا كما نعرضُ الدرهمَ الزَّائفَ على الصيارفِ، فما عَرفوا أخذنَا ومَا أنكَروا تركنَا، وقدْ رُوِيَ مثلُ هذا عنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِه.
قَولُهُ: (المعرفةِ): المعرفةُ في اللُّغةِ: بمعنى العلمِ، قالَ في شرحِ (مختصرِ التَّحريرِ): يطلقُ العِلْمُ ويرادُ به معنى المعرفَةِ، ويرادُ بها العلمُ، وذكرَ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ فروقًا بينَ العلمِ والمعرفةِ لفظيَّةً ومعنويةً، فاللَّفظيةُ أنَّ فعلَ المعرفةِ يقعُ على مفعولٍ واحدٍ، تقولُ عرفتُ الدَّارَ، وفعلُ العلمِ يقتضي مَفعولينِ، كقَولِهِ: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) الآيةَ، وإنْ وقعَ على مفعولٍ كان بمعنى المعرفةِ كقَولِهِ: (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) وأمَّا الفروقُ المعنويَّةُ فذكرَ عدَّةَ فروقٍ، منها أنَّ المعرفَةَ تتعلَّقُ بذاتِ الشَّيءِ، والعلمُ يتعلَّقُ بأحوالِه، فتقولُ عَرَفْتُ أباكَ وعَلِمْتُه صالحًا، وساقَ عدَّةَ فروقٍ في (المدَارجِ).
قَولُهُ: (بالقبولِ وجبَ الإيمانُ بها كذلك): أي كما يجبُ الإيمانُ بالقرآنِ، فإنَّ اللهَ أنْزَلَ على رسولِه وحيَيْنِ، فأوجبَ على عبادِه الإيمانَ بهما والعملَ بما فيهما وهما الكتابُ والسُّنَّةُ، قال تعالى: (وَأَنزَلَ عليك الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) والحكمَةُ هي السُّنَّةُ باتفاقِ السَّلَفِ، وما أخبرَ به الرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عَنِ اللهِ فهو في وجوبِ تصديقِه والإيمانِ به كمَا أخبَر بهِ الرَّبُ على لسانِ رسولِه، وهذا أصلٌ متفقٌ عليهِ بينَ عُلماءِ الإسلامِ لا ينُكرُه إلا مَن ليسَ منهم.
وفي السُّنَنِ مِن حديثِ المِقْدَامِ بنِ معدِي كَرِبَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)) فهذه الأخبارُ الَّتي زعمَ هؤلاءِ أنَّه لاَ يستفادُ منها علمٌ نزَلَ بها جبريلُ مِن عندِ اللهِ كمَا نزلَ بالقرآنِ، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ). انتهى. مِن (الصَّواعقِ) باختصارٍ.
والمقبولُ في هذا البابِ مِن أنواعِ السُّنَّة أربعةُ أنواعٍ، كما أشارَ إلى ذلكَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في (الصَّواعقِ): (الأوَّلُ) ما تواترَ لفظًا ومعنًى. (الثَّاني) ما تواترَ معنًى. (الثَّالثُ): أخبارٌ مستفيضَةٌ متلقَّاةٌ بالقبولِ. (الرَّابعُ) أخبارُ آحادٍ ثبتتْ بنقلِ الْعَدْلِ الضَّابطِ عن مثلِه، فهذهِ الأنواعُ هي المقبولَةُ في بابِ العِلميَّاتِ، فإنَّ هذا البابَ لا يُبْنى إلاَّ على ما ثبتَ بطريقٍ لا كلامَ فيهِ، فهذه الأنواعُ الأربعةُ مفيدةٌ للعلمِ واليقينِ موجبةٌ للعلمِ والعملِ جميعًا.
قالَ الشَّيخُ تقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: الَّذي عليه الأُصُولِيِّون مِن أصحابِ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ أنَّ خبَرَ الواحدِ إذا تلقَّته الأمَّةُ بالقبولِ تصْدِيقاً له وعملاً به يوجبُ العلمَ، إلاَّ فرقةً قليلةً اتَّبعوا طائفةً مِن أهلِ الكلامِ أنكرُوا ذلك، وقال في (الكوكبِ المنيرِ): ويُعملُ بآحادِ الأحاديثِ في أصولِ الدِّياناتِ، وحكى ذلك ابنُ عبدِ البرِّ رحمه اللهُ إجماعًا، قالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله: لا تتعدَّى القرآنَ والحديثَ، وقال العلاَّمةُ ابنُ قاضِي الجبلِ: مذهبُ الحنابلةِ أنَّ أخبَارَ الآحادِ المتلقَّاةِ بالقبولِ تصلُحُ لإثباتِ أصولِ الدِّياناتِ، ذكرَه أبو يَعْلى والشيخُ تقيُّ الدِّينِ في عقيدَتِه، والأدلَّةُ على قبولِ خبرِ الآحادِ كثيرةٌ جدًّا، وقدْ ذكرَ ابنُ القيِّمِ هذا القولَ في كتابِه (الصَّواعقِ) وأفاضَ في ذكرِ الأدلَّةِ على ذلك، وكذلكَ ذكرَهُ في (النُّونيَّةِ)، وقالَ ابنُ القاصِّ: لا خلافَ بينَ أهلِ الفقهِ في قَبُولِ خَبَرِ الآحادِ، انتهى.(1/102)
((مثلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَنْزِلُ رَبُّنا إِلى السَّماءِ الدُّنيا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَن يَدْعوني فَأَسْتَجيبَ لَهُ؟ مَن يَسْأَلُني فَأُعطِيَهُ، مَن يستَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَهُ؟ )). متَّفَقٌ عليه. (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)): الحديثَ، هذا الحديثُ رواه البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ أبي هريرةَ.
هذا ممَّا تواترتْ فيه الأدلَّةُ عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، فرواه نحوٌ مِن ثمانيةٍ وعشرينَ نَفْسًا مِن الصَّحابةِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فينزلُ -سُبْحَانَهُ- نزولاً يليقُ بجلالِه وعظمتِه، لا نعطِّلُهُ ولا نشبِّهُهُ بنُزولِ خلقِه، ليسَ كمثلِه شيءٌ، فيجبُ الإيمانُ بذلك إيمانًا خاليًا مِن التَّعطيلِ والتَّمثيلِ.
قَولُهُ: ((فَأَسْتَجِيبَ لَهُ)): بالنَّصبِ على جوابِ الاستفهامِ، وقيلَ: بالرَّفع ِعلى الاستئنافِ، وكذا مَا بعدَه، أفادَ هذا الحديثُ فوائدَ:
الأولى: فيه إثباتُ نزولِ الرَّبِّ إلى السَّماءِ الدُّنْيَا كلَّ ليلةٍ كما يليقُ بجلالِه وعظمَتِه، فنُثبِتُ النُّزولَ للهِ حقيقةً، وأمَّا كُنْهُ نزولِه وكيفيَّتِه فلا يعلمُها إلا هو -سُبْحَانَهُ- كما قال مالكٌ: الاستواءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ، وكذلِكَ يُقالُ في النُّزولِ والإتيانِ والمجيءِ وغيرِ ذلكَ مِن صفاتِه الفعليَّةِ والذاتيَّةِ.
ثانيًا: فيه إثباتُ العلوِّ للهِ سُبْحَانَهُ، فإنَّ النُّزولَ والتَّنزيلَ والإنزالَ هو مجيءُ الشَّيءِ والإتيانِ بهِ مِن علوٍّ إلى أسْفَلَ، هذا هو المفهومُ مِن لُغةِ العَرَبِ، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا).
ثالثًا: فيه الرَّدُ على الجهميَّةِ والمعتزلَةِ المُنكرينَ لنُزولِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- زعمًا منهم أنَّ هذا مِن مجازِ الحذفِ، والتَّقديرِ ينزلُ أمرُه أو رحمتُه، وهذا باطلٌ مِن وجوهٍ عديدةٍ:
(الأوَّلِ): أنَّ الأصْلَ عدمُ الحذفِ.
(الثاني): أنَّه قال مَن يدعوني فأستجيبَ له، فهلْ أمْرُه أو رحمتُه تقولُ مَن يَدعوني، هذا ممَّا لا يُعْقَلُ أنْ يكونَ القائِلُ له غيرَ اللهِ، فلم يكنْ إلاَّ نزولَه -سُبْحَانَهُ- بذاتِه، هذا هو صريحُ الأدلَّةِ والمعقولِ.
(الثَّالثِ): أنه حدَّدَ لنُزولِه ثُلثَ اللَّيلِ الآخِرَ، ولوْ كانَ أمرَه أو رحمَتَه لم يحدِّدْ ذلكَ بثلثِ الليلِ، فإنَّ أمْرَه ورحمتَه ينزلانِ في كلِّ وقتٍ.
(الرَّابعِ): فيه إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ.
(الخامِسِ): فيه إثباتُ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى-.
(السَّادسِ): فيه إثباتُ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- بحرفٍ وصوتٍ، إذْ لا يُعْقَلُ النِّدَاءُ إلا مَا كان حرفًا وصوتًا.
قال الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ رحمه اللهُ: ومِن البِدَعِ الَّتي أنْكرَها أحمدُ في القرآنِ قولُ مَن قال: إنَّ اللهَ تكلَّم بغيرِ صوتٍ، وأنكرَ هذا القولَ وبدَّعَ قائلَه، وقدْ قيلَ: إنَّ الحارِثَ المحاسبيَّ إنَّما هَجَرَهُ أحمدُ لأجلِ ذلكَ. انتهى.
(السَّابعِ): فيه إثباتُ أنَّ صِفَةَ الكلامِ صفةٌ فعليةٌ، كما أنَّها مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ أيضًا.
(الثَّامِنِ): فيه الرَّدُّ على الجهميَّةِ وأضرابِهِمْ القائلينَ: بأنَّه -سُبْحَانَهُ- في كلِّ مكانٍ بذاتِه، فَلَوْ كانَ في كلِّ مكانٍ لم يقلْ ينزلُ ربُّنَا.
(التَّاسِعِ): أن صفةَ النُّزولِ مِنْ الصِّفاتِ الفعليَّةِ، ودليلُه النَّقلُ كما تقدَّمَ.
(العاشرِ): فيهِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ الَّذي ينزلُ مَلَكٌ مِن الملائكةِ، فإنَّ المَلَكَ لاَ يقولُ: مَن يسألُني فأعطيَه، فإنَّ هؤلاءِ الجهميَّةَ المعطِّلةَ الَّذين ينفونَ نزولَه -سُبْحَانَهُ- وينفونَ كلامَه يقولونَ زعمًا منهم إن هذا مجازٌ، والتَّقديرُ في قَولِهِ: فيقولُ أي فيأمُرُ مَلَكًا يقولُ ذلك عنه، كما يُقالُ: نادى السُّلطانُ، أي أنه أَمَر مُناديًا، ويقولونَ فيما ثبَتَ أنه قالَ ويقولُ وتكلَّم ويُكَلِّمُ ممَّا لا حصْرَ له، كلُّ هذا مجازٌ، وقَولُهُم باطلٌ مِن وجوهٍ، منها: أنَّ المنادِيَ عنه غيرُه، كمنادِي السُّلطانِ يقولُ: أمَرَ السُّلطانُ بكذا، لا يقولُ إني آمُركم بكذا وأنهاكُم عَنْ كذا، واللهُ -سُبْحَانَهُ- يقولُ في تكليمه موسى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا) والحديثُ فيقولُ: ((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ)) وإذا كانَ القائِلُ مَلَكًا قالَ -كَمَا في الصَّحِيحين-: ((إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ وَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأرْضِ)). فقالَ في ندائِه عن اللهِ إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، وفي نداءِ الرَّبِّ يقولُ: مَن يدعوني فأستجيبَ لهُ ؟
(فإنْ قيلَ): فقد رُوِيَ أنَّه يأمرُ مناديًا فينادِي، قيلَ هذا ليسَ في الصَّحيحِ، فإنْ صحَّ أمكنَ الجمعُ بين الخبرينِ بأنْ يُناديَ هو ويأمرَ مناديًا ينادي، أمَّا أنْ يُعارضَ بهذا النَّقلِ الصَّحيحِ المستفيضِ الَّذي اتَّفق أهلُ العلمِ على صحَّتِه وتلقِّيهِ بالقبولِ مع أنَّه صريحٌ بأنَّ اللهَ هو الَّذي يقولُ:((مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟)) فلا يجوزُ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ تقيِّ الدِّينِ بتصرُّفٍ.
(الحاديَ عشرَ): فيه دليلٌ على امتدادِ هذا الوقتِ أيْ وقتِ النُّزولِ الإلهيِّ إلى إضاءَةِ الفجرِ.
(الثَّانيَ عشرَ): فيه الحثُّ على الدُّعاءِ والاستغفارِ في جميعِ الوقتِ المذكورِ.
(الثَّالثَ عشرَ): فيه دليلٌ على فضْلِ الدُّعاءِ.
(الرَّابعَ عشرَ): فيه دليلٌ على نفعِ الدُّعاءِ، والرَّدِّ على جهلةِ المتصوِّفةِ القائلين بأنَّ الدُّعاءَ لا ينفعُ، وهو قولٌ مردودٌ بأدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ مع أدلَّةِ العقلِ، فإنَّ المُشركين كانوا يعرفونَ نفْعَ الدُّعاءِ، قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الآيةَ. فضلاً عن غيرِهِمْ.
(الخامسَ عشرَ): فيه أنَّ الدُّعاءَ مِن أفضلِ الطَّاعاتِ، فلا يجوزُ صرفُه لغيرِ اللهِ، ومَن دعا غيرَ اللهِ فهو مشركٌ كافرٌ.
(السَّادسَ عشرَ): الدُّعاءُ لغةً: السُّؤالُ والطَّلبُ. سواءً كانَ بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقالِ، فالدُّعاءُ ينقسمُ إلى قسمينِ: دعاءِ عبادةٍ ودعاءِ مسألةٍ. فالأوَّلُ: هو سائرُ الطَّاعاتِ مِن تسبيحٍ وتكبيرٍِ وتهليلٍ وغيرِ ذلك؛ لأنَّ عامِلَ ذلك هو سائلٌ في المعنى، والثاني: هو دعاءُ المسألَةِ، وهو طلبُ ما ينفعُ الدَّاعي مِن جلبِ نفعٍ أو دفعِ ضرٍّ.
(السَّابعَ عشرَ): إنَّ الدعاءَ والاستغفارَ وغيرَهما مِن أنواعِ العباداتِ يختلفُ فضلُها بحسبِ الزَّمانِ والمكانِ.
(الثَّامنَ عشرَ): إنَّ ثلثَ اللَّيلِ الآخِرَ مظنَّةُ الإجابَةِ وإنَّ آخِرَ اللَّيلِ أفضلُ للدُّعاءِ والاستغفارِ، ويشهدُ لَهُ قَولُهُ تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ)، وقال: (كَانُواْ قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) وفيه أنَّ الدُّعاءَ في ذلكَ الوقتِ مجابٌ، وتخلُّفَ الإجابةِ عن بعضِ الدَّاعينَ قد يكونُ بسببِ إخلالٍ ببعضِ شروطِ الدُّعاءِ.
(التَّاسعَ عشرَ): فيهِ تفضيلُ صلاةِ الوترِ آخرَ اللَّيلِ، لكنَّ ذلكَ في حقِّ مَنْ طمعَ أنْْ يقومَ آخِرَ اللَّيلِ، وفيه تفضيلُ صلاةِ آخِرِ اللَّيلِ.
(العشرونَ): فيه تلطُّفه -سُبْحَانَهُ- بعبادِه ورحمتُه بهم وكونُه -سُبْحَانَهُ- يأمرهُمْ بدعائِه واستغفارِه.
قَولُهُ: (الحديثَ): أي اقرأإِ الحديثَ على النَّصبِ، والمصنِّفُ رحمهُ اللهُ ذكرَ الشَّاهدَ مِن هذا الحديثِ، ففيه إشارةٌ إلى أنَّهُ لا يَرى بأسًا باختصارِ الحديثِ، وقد صرَّحَ علماءُ الفقهِ بجوازِه بشروطٍ ذكرَها علماءُ الفنِّ في كُتبِهمْ.
قَولُهُ: (متَّفقٌ عليه): أي رواه البخاريُّ ومسلمٌ، وهذا مِن حديثِ أبي هريرةَ وأنسٍ رضي اللهُ عنهما، وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)). انتهى.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: الفرحُ لذَّةٌ تقعُ في القلبِ بإدراكِ المحبوبِ ونيلِ المُشْتَهى، فيتولَّدُ مِن إدراكِه حالةٌ تُسمَّى الفرحَ والسرورَ، قال: والفرحُ صفةُ كمالٍ، ولهذا يوصفُ -سُبْحَانَهُ- بأعلى أنواعِه وأكمَلِهَا، كَفَرَحِه -سُبْحَانَهُ- بتوبةِ عبدِه، إلى أن قالَ: والفرحُ بالشَّيءِ فوقَ الرِّضَا به، فإنَّ الرِّضا طمأنينةٌ وسكونٌ وانشراحٌ، والفرحُ لذَّةٌ وبهجةٌ وسرورٌ، فكلُّ فرحٍ راضٍ، وليسَ كلُّ راضٍ فرحًا، انتهى. (مدارجُ).(1/103)
( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبِدِهِ المُؤِمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ )). مُتَّفَقٌ عليِه). (1)
__________
(1) وقَولُهُ: (بِرَاحِلَتِهِ): الرَّاحلةُ مِنْ الإبلِ ما كان صالحًا لأنْ يُرحلَ.
وقَولُهُ: (لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا): اللاَّمُ لامُ الابتداءِ والفرحُ تقدَّم كلامُ ابنِ القيِّمِ فيهِ، في هذا الحديثِ فوائدُ. منها إثباتُ الفرحِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، كما يليقُ بجلالهِ وعظمَتِه، وهذه الفرحةُ منهُ فرحةُ إحسانٍ وبِرٍّ ولطفٍ، لا فرحةُ محتاجٍ إلى توبةِ عبدِه منتفعًا بها، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا تنفَعُه الطَّاعةُ ولا تضرُّه المعصيةُ.
ثانيًا: أَنَّ فرحَه -سُبْحَانَهُ- بتفاضلٍ. ثالثًا: فيه فضلُ التوبةِ إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى. رابعًا: أنه -سُبْحَانَهُ- يقبلُ توبَةَ عبدِهِ ويفرحُ بها إذا وقعتْ على الوجهِ المعتَبَرِ شرعًا، خامِسًا: فيه دليلٌ على أنَّ الإنسانَ إذا جَرى على لسانِهِ كلمةُ كفرٍ مِنْ شدَّةِ دهشٍ ونحوِ ذلكَ أو حَكى كُفرًا أنَّهُ لا يُكَفَّرُ بذلِكَ ولا يؤاخَذُ بهِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: وفي الحديثِ مِنْ قواعدِ العلمِ "أنَّ اللَّفظَ الَّذي يجري على لسانِ العبدِ خطأً مِن فَرَحٍ شديدٍ أو غيظٍ شديدٍ ونحوِه لا يؤاخَذُ بهِ"، ولهذا لم يكنْ كافرًا بقَولِهِ: أنتَ عبدي وأنَا ربُّكَ.(1/104)
( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَضْحَكُ اللهُ إِلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُما الآخَرَ؛ كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ )). مُتَّقَقٌ عليهِ). (1)
( وقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)). حديثٌ حسنٌ ). (2)
__________
(1) وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرُ كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)) مُتَّفَقٌ عليه، أيْ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ، وتمامُه (يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ)). انتهى. وروى هذا الحديثَ أحمدُ ومالكٌ والنسائيُّ وابنُ ماجةَ وابنُ حبَّانَ ورواه البيهقيُّ في (الأسماءِ والصِّفاتِ).
في هذا الحديثِ فوائدُ:
أولاً: إثباتُ الضحكِ لله -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالهِ وعظمتِه.
ثانيًا: فيه فضلُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وعظمِ أجرِ المجاهِدِ، وقدْ تكاثرتِ الأدلةُ في الحثِّ على الجهادِ في سبيلِ اللهِ.
ثالثًا: فيه فضلُ القتلِ في سبيلِ اللهِ، وأنَّ المقتولَ في سبيلِ اللهِ يدخلُ الجنةَ قالَ ابنُ عبدِ البَرِّ: يستفادُ منْ الحديثِ أنَّ كلَّ مَنْ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ يدخلُ الجنَّةَ.
رابعًا: فيه أنَّ القتلَ في سبيلِ اللهِ يكفِّرُ الذُّنوبَ.
خامساً: فيه أنَّ التوبةَ تأتي على سائرِ الذُّنوبِ حتى ذنبِ القتلِ.
(2) قَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((عَجِبَ رَبُّنَا)) إلخ: هذا الحديثُ رواهُ أحمدُ، وابنُهُ عبدُ اللهِ في حديثٍ طويلٍ ولفظهُ ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ)) إلخ.
قَولُهُ: ((عَجِبَ)) العَجَبُ لغةً: استحسانُ الشَّيءِ ويكونُ لاستقباحِ الشَّيءِ.
قَولُهُ: ((مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ)): القنوطُ هوَ شدَّةُ اليأسِ.
قَولُهُ: ((وَقُرْبِ خَيْرِهِ)): أيّ تَغيِيرهِ الحالَ مْن حالِ شدةٍ إلى حالِ رخاءٍ.
قَولُهُ: ((أَزَلِينَ)): الأزلُ بالسكونِ: الشدّةُ والضِّيقُ، والأزِلُ على وزنِ كَتفٍ: هو الَّذي أصابهُ الأزلُ واشتدَّ بهِ الحالُ حتى كادَ يقنَطُ، وهذا الحديثُ كقَولِهِ –سُبْحَانَهُ وتعالى: (وَهُوَ الَّذي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ) والمعنى أنَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يعجبُ مِنْ قنوطِ عبادهِ عندَ احتباسِ القطرِ عنهمْ، وقنوطِهمْ ويأْسِهمْ مِن الرَّحمةِ، وقد اقتربَ وقتُ فرجهِ ورحمتِهِ لعبادهِ بإنزالِ الغيثِ عليهمْ، وتغييرهِ لحالِهمْ وهم لا يَشعرونَ فعندَ تَناهي الكرْبِ يكونُ الفرجُ كما قيلَ: ((اشتدِّي أزمةُ تَنفرجِي)) وكما في الحديثِ: ((وَإِنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)) ففي هذا الحديثِ كغيرهِ مِن الأحاديثِ المتكاثرةِ جدًّا إثباتُ الضَّحكِ والعجبِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةً كما يليقُ بجلالهِ وعظمتِه، والأحاديثُ في إثباتِ الضَّحكِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- متواترَةٌ، وفيه الردُّ على المعطِّلةِ من الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهم الذينَ ينفونَ الضَّحكَ والعجبَ ويؤولونَ ذلكَ بتأويلاتٍ فاسدةٍ، وفيه إثباتُ النظرِ للهِ –سُبْحَانَهُ وتعالى- وكلُّ هذه مِن الصِّفاتِ الفعليَّةِ فنثْبتُها للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حسبَ ما جاءت بذلكَ الأدلَّةُ المتكاثرَةُ، وليسَ في إثباتِ هذه الصِّفاتِ محذورٌ ألبتَّةَ، فإنه ضحكٌ ليسَ كمثلهِ شيءٌ، وعجبٌ ليسَ كمثلهِ شيءٌ، وحكمهُ حكمُ رضاهُ ومحبَّتُهُ وإرادتهُ وسمْعُهُ وبصرُهُ وسائرُ صفاتِه، فالبابُ واحدٌ لا تمثيلَ ولا تعطيلَ، فالقولُ في الصِّفاتِ كالقولِ في الذَّاتِ، فكما أنَّنا نعتقدُ أنَّ للهِ ذاتًا لا تشبهُ الذَّواتَ فالصِّفاتُ يُحذى فيها حذوَ الذَّاتِ، والصِّفاتِ حُكمُها واحدٌ، وبابُها واحدٌ، فإذا أَثبتْنا بعضًا ونفيْنَا البعضَ الآخرَ تناقضْنَا؛ لأنَّ الأدلَّةَ التي أثبتتْ تلك الصفةَ هي التي ثبتَ بها النوعُ الآخرُ مِن الصِّفاتِ، فإثباتُ بعضٍ ونفيُ بعضٍ تناقُضٌ.
قَولُهُ: ((حديثٌ حسنٌ)): الحسنُ اصطلاحًا: هو ما عُرِفَ مخرجهُ واشتهرتْ رجالُه، وشروطهُ شروطُ الصَّحيحِ، إلاَّ أنَّ الضَّبطَ يكونُ أقَلَّ وأخفَّ مِنَ الصَّحيحِ، وهذا هو الحسنُ لذاتِه، وأمَّا الحسنُ لغيرِه فهو ما اختلَّتْ فيه شروطُ الصَّحيحِ لكن انجَبَرَ بمجيئِه مِن طُرقٍ أخرَى، والحسنُ يشارِكُ الصَّحيحَ في الاحتجاجِ بهِ.(1/105)
( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيْدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيها رِجْلَهُ [ وفي روايةٍ: قَدَمَهُ ] فَيَنْزَوِي بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَط قَط )) متَّفق عليه ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ)): إلخ هذا الحديثُ، رواه البخاريُّ ومسلِمٌ مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ، وتمامُهُ ((وَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ وَلاَ يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ لَهَا خَلْقًا آخَرَ فَيُسْكِنَهُمُ اللهُ فِي فُضُولِ الْجَنَّةِ)).
قَولُهُ: ((جَهَنَّمُ)): هو عَلمٌ على طبقةٍ مِن طبقاتِ النَّارِ، أعاذَنا اللهُ منها، قالَ يونسُ أوْ أكثرُ النحويِّين: هِي أعجميَّةٌ لاَ تنصرفُ للعُجمَةِ والتَّعريفِ، قيلَ: سُمِّيت بذلك لبُعدِ قَعْرِها.
قَولُهُ: ((يُلْقَى فِيها)): أي يُطرحُ ((وَهِيَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) أيْ هل مِن زيادةٍ تطلبُ الزيادةَ لسعتِهَا وبُعْدِ قَعْرِهَا.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وأخطأَ مَنْ قال إنَّ ذلكَ للنَّفْيِ، أيْ ليس منْ مزيدٍ، فإنَّ الحديثَ الصحيحَ يردُّ هذا التأويلَ. انتهى.
قَولُهُ: ((فَيَنْزَوِي)): أي ينضمُّ بعضُها إلى بعضٍ، قال في المصباحِ زَوَيْتُه أيْ جمعْتُه.
قَولُهُ: ((فَتَقُولُ قَطْ قَطْ)): هو اسمُ فعلٍ بمعنى حسبي أي يكْفِي، هذا الحديثُ فيه دليلٌ على إثباتِ النَّارِ وأنَّها مخلوقَةٌ، وفيه إثباتُ كلامِ النَّارِ وأنَّها تتكلَّمُ، وهلْ هذا الكلامُ بلسانِ المقالِ أم بلسانِ الحالِ، فيه قولانِ أصحُّهُما الأوَّلُ، للحديثِ ولأنَّ الأصْلَ الحقيقةُ، فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يخلقُ فيها إدراكًا، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وفيه دلالَةٌ على عِظَمِ سِعَةِ النَّارِ وعمقِ قعرِها بحيثُ تسعُ كلَّ عاصٍ للهِ مِن حينِ خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ وتَطْلُبُ الزيادةَ.
ولمَّا كان مِن مُقتضى رحمتِه أنْ لا يعذِّبَ أحدًا بغيرِ جُرْمٍ وكانت النَّارُ في غايةِ السِّعَةِ حقَّقَ وعدَه، فيضعُ عليها قَدَمه، فيتلاقَى طرفَاها ولا يبْقَى فيها فضلٌ عن أهْلِهَا، وأمَّا الجنَّةُ فيبقى فيها فضلٌ عن أهْلِها فينشئُُ اللهُ لها خلقًا آخرينَ، كما ثبتَ ذلك في الحديثِ، وفي الحديثِ دليلٌ على إثباتِ القَدَمِ والرِّجلِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه وعظمَتِه.
قال مُحيي السُّنَّةِ: القَدَمُ والرِّجلُ في الحديثِ مِن صفاتِ اللهِ المنزَّهةِ عن التَّكْييفِ، فالإيمانُ بها فرضٌ، والامتناعُ عن الخوضِ بها واجبٌ، فالمُهتدي مَن سلكَ طريقَ التَّسليمِ، والخائضُ فيها زائغٌ، والمنكِرُ معطِّلٌ، والمكيِّفُ مشبِّهٌ، ليسَ كمثْلِهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ. انتهى، وفي الحديثِ الرَّدُّ على المعطِّلَةِ الَّذين نَفَوْا صفةَ القَدَمِ للهِ وأوَّلوا ذلك بنوعٍ مِن الخلقِ، وأوَّلوا قَولَهُ في الرِّوايةِ الثَّانيةِ التي فيها إثباتُ الرِّجلِ للهِ، وقالوا هذا كما يقالُ رِجلٌ مِن جَرادٍ، وما زَعموه مِن هذه التَّأويلاتِ الفاسدةِ مردودةٌ مِن وجوهٍ:
أوَّلاً: أنَّ الأصْلَ الحقيقةُ.
ثانيًا: أَنَّه قال: حتى يَضعَ ولم يقلْ حتى يُلْقي، كما قال في قَولِهِ: ((وَلاَ يَزَالُ يُلْقِي فِيهَا)).
ثالثًا: أَنَّ قَولَهُ قَدَمَه لا يُفهم منه هذا لا حقيقَةً ولا مجازًا، إلى غيرِ ذلك مِن الوجوهِ الَّتي ذكرَها الشيخُ تَقِيُّ الدِّين وغيرُه في إثباتِ صِفَةِ القَدَمِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةً، كما يليقُ بجلالِه وعظمَتِه، والرَّدِّ على مَن زَعَم غيرَ ذلكَ.(1/106)
( وقَوْلُهُ: (( يَقُولُ الله تَعَالى يَا آدَمُ! فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنادي بصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثاً إِلى النَّارِ )). متَّفق عليه. (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((يَقُولُ اللهُ)): إلخ هذا الحديثُ رواه البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحهِمَا، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، وتمامُه: ((قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)) فاشتدَّ ذلكَ عليهمْ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أيُّنا ذَلكَ الرَّجُلُ؟ قال: ((أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، أَنْتُمْ فِي الأرْضِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأسْوَدِ، إِنِّي لاَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) فكبَّرْنَا، ثم قال ((ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) فكبَّرنا، ثم قال: ((شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) فكبَّرنا، وروى هذا المعنى جماعةٌ مِن الصَّحابَةِ.
قَولُهُ: ((لَبَّيْكَ)): لبيكَ من ألبَّ بالمكانِ إذا أقامَ به، أي أنا مقيمٌ على طاعتِكَ.
قَولُهُ: ((وَسَعْدَيْكَ)): مِن المُساعدةِ وهي المُطاوعةُ، ومعناها إسعادٌ بعدَ إسعادٍ، قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وقد اشتملَتْ كلماتُ التلبيةِ على فوائدَ عظيمةٍ:
أوَّلاً: أنَّ قَولَهُ لبَّيْكَ يتضَّمنُ إجَابَةَ داعٍ دعاكَ ومنادٍ نادَاكَ، ولا يصحُّ في لغةٍ ولا عَقْلٍ إجابَةُ مَن لا يتكلَّمُ ولا يدعُو مَن أجابَه.
ثانيًا: أنها تتضمنُ المحبةَ، ولا يُقالُ لبَّيكَ إلا لمنْ تُحِبُّهُ وتُعظِّمُه.
ثالثًا: إنها تَتضمَّنُ التزامَ دوامِ العُبوديَّةِ، ولهذا قيلَ مِن الإقامَةِ، أي أنا مقيمٌ على طاعتِكَ.
رابعًا: أنها تَتضمَّنُ الخضوعَ والذُّلَّ، أي خضوعًا بعدَ خُضوعٍ مِن قَولِهِم: أنا مُلبٍّ بينَ يديكَ، أي خاضِعٌ ذليلٌ.
خامسًا: أنها تتضمَّنُ الإخلاصَ، ولهذا قيلَ: إنها مِنَ اللَّبِّ وهو الخالصُ.
سادسًا: أنها تتضمَّنُ الإقرارَ بسمعِ الرَّبِّ إذ يستحيلُ أن يقولَ الرَّجُلُ لمَنْ لا يُسمعُ دَعاؤه لبَّيكَ.
سابعًا: أنها تتضمَّنُ التقرُّبَ مِن اللهِ، ولهذا قيلَ: إنها مِن الألبابِ وهو التقرُّبُ، انتهى.
قَولُهُ: ((فَيُنَادِي)): بكسرِ الدَّالِ، أي اللهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
قَولُهُ: ((بِصَوْتٍ)): فيه إثباتُ الصَّوتِ حقيقةً كما يليقُ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وصوتُه مِن صفاتِ ذاتِه لا يشبِهُ خَلْقَهُ ولاَ حاجةَ أن يقيَّدَ النِّداءُ بصوتٍ، فإنَّه بمعناهُ، فإذا انتفى الصوتُ انْتَفى النِّداءُ، ولهذا قيَّده بالصوتِ إيضاحًا وتأكيدًا كما قيَّدَ التَّكْلِيمَ بالمصدرِ في قَولِهِ: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
قَولُهُ: ((بَعْثًا إِلَى النَّارِ)): البعثُ هنا هو بمعنى المبعوثِ الموجَّهِ إليها، ومعناه ميَّزَ أهْلَ النَّارِ مِن غيرِهم، انتهى، وإنما خصَّ آدمَ بذلِكَ لكونِه والدَ الجميعِ، ولِكَوْنِه كان قد عَرف أهلَ السَّعَادةِ مِن أهْلِ الشَّقاءِ، فقد رآه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ليلةَ الإسراءِ، وعن يمينِه أسودةٌ وعن يسارِه أسودَةٌ، الحديثَ. انتهى. مِن (فتحِِ البَارِي)، أفادَ هذا الحديثُ إثباتَ صفةِ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنه قال ويقولُ متى شاءَ إذا شاءَ كما يليقُ بجلالِه وأفادَ إثباتَ النِّدَاء للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وأنَّه نداءُ حقيقَةٍ بصوتٍ.
وفيه أنَّ النِّداءَ والقَوْلَ يكونُ يومَ القيامَةِ، فهذا مِن أدلَّةِ الأفعالِ الاختياريَّةِ، وأفادَ إثباتَ صفةِ الكلامِ، وأنها صفةُ ذاتٍ وفعلٍ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- متَّصفٌ بهذه الصِّفةِ ويتكلَّمُ متى شاءَ إذا شاءَ كيفَ شاءَ، فكلامُه -سُبْحَانَهُ- قديمُ النَّوعِ حادثُ الآحادِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: وقد دلَّ القرآنُ وصريحُ السُّنَّةِ والمعقولُ وكلامُ السَّلَفِ على أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بمشيئَتِهِ، كمَا دلَّ على أنَّ كلامَه صفةٌ قائمةٌ بذاتِه، وهي صفةُ ذاتٍ وفعلٍ، كما قال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). انتهى، وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ يتكلمُ بحرفٍ وصوتٍ، ولأنَّ النداءَ لا يكونُ إلا بحرفٍ وصوتٍ بإجماعِ أهلِ اللغةِ، وكانَ أئمةُ السُّنَّةِ يعدُّونَ مَن أنْكَر تكلُّمَه بصوتٍ مِن الجهميَّةِ، كما قال الإمامُ أحمدُ لمَّا سُئِلَ عمَّن قالَ إنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ بصوتٍ؟ فقال: هؤلاءِ إنما يَدوُرون على التَّعْطِيلِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميَةَ: أوَّلُ ما ظهرَ إنكارُ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بصوتٍ في أثناءِ المائةِ الثَّالثةِ لَمَّا ظهرتِ الجهميَّةُ والمعطِّلَةُ، وقالَ عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ في كتابِ (السُّنَّةِ): قلتُ لأبي: يا أبتي، إنهم يقولون: إنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ بصوتٍ! فقالَ: بلى يتكلَّمُ بصوتٍ. وقال البخاريُّ رحمه اللهُ في كتابِ (خلقِ أفعالِ العبادِ): ويذكرُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنه كانَ يحبُّ أنْ يكونَ الرجلُ خافِضًا مِن الصوتِ، ويكرهُ أن يكونَ رفيعَ الصوتِ، وأنَّ اللهَ يُنادي بصوتٍ يسمعهُ مَن بَعُدَ، كما يسمعُهُ مَنْ قَرُبَ، وليس هذا لغيرِ اللهِ، قال: وفي هذا دليلٌ على أنَّ صوتَهُ لا يُشبهُ أصواتَ الخلقِ؛ لأنَّ صوتَ اللهِ يسمَعُهُ مَن بعُدَ كما يسمَعُه مَن قربَ وأنَّ الملائكةَ يصعقونَ مِن صوتِه، وساقَ حديثَ جابرٍ أنَّه سَمِعَ عبدَ اللهِ بنَ أنيسٍ يقولُ: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((يَحْشُرُ اللهَ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ)) الحديثَ، ثمَّ احتجَّ بحديثِ أبي سعيدٍ المتقدِّمِ، فهذانِ إِماما أهلِ السُّنَّةِ على الإطلاقِ، أحمدُ بنُ حنبلٍ، والبخاريُّ وكلُّ أهْلِ السُّنَّةِ على قَولِهِمَا وقَدْ صرَّح بذلِكَ وحكاهُ إجماعًا حربُ بنُ إسماعيلَ، صاحبُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وإسحاقَ، وصرَّح بهِ غيرُه، وقد احتجَّ بحديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِه، وأخبرَ أنَّ المُنكرِين لِذَلك هُمْ الجهميَّةُ، وقدْ روى في إثباتِ الحرفِ والصَّوتِ في كلامِ اللهِ أكْثَرَ مِن أربعينَ حديثًا، بعضُها صِحاحٌ وبعضُها حِسانٌ ويُحتجُّ بها، أخرجَهَا الضِّياءُ المقدِسيُّ وغيرُه، وأخرجَ أحمدُ غالِبَها واحتجَّ بهِ، واحتجَّ بها البخاريُّ وغيرُه مِن أئمَّةِ الحديثِ، فقد صحَّحوا رحمَهُم اللهُ هذه الأحاديثَ واعتقدوهَا واعتمدُوا عليها مُنَزِّهِينَ اللهَ عمَّا لا يليقُ بجلالِه، كما قالُوا في سائرِ الصِّفاتِ مِن النزولِ والاستواءِ والمجيءِ والسَّمعِ والبصرِ والعينِ وغيرِها، فأثْبَتُوا هذه الصِّفاتِ كمَا يليقُ باللهِ إثباتًا بِلا تمثيلٍ وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ اللهَ نادى آدَمَ وكلَّمه، وفيها الرَّدُ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ، فإنَّ آدمَ عليه السلامُ سمعَ كلامَ اللهِ، والمعنى المجرَّدُ لا يُسْمَعُ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أن كلامَ اللهِ شيءٌ واحدٌ لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ.(1/107)
وقوله:صلى الله عليه وسلم (( ما مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمانٌ )) ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)): إلخ هذا الحديثُ رواه البخارِيُّ ومسلِمٌ مِن حديثِ عديِّ بنِ حاتِمٍ، قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) هذا لفظُ البخاريِّ، وفي روايةٍ لهما قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اتَّقُوا النَّارَ))، ثم أعرضَ وأشاحَ، ثم قال: ((اتَّقُوا النَّارَ)) ثم أعرضَ وأشاحَ ثلاثًا حتى ظننَّا أنَّه ينظرُ إليها، ثم قال: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)).
قَولُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)): الحديثُ ظاهِرُ الخطابِ للصَّحابةِ، ويلتحقُ بهم المؤمنونَ كلُّهم سابِقُهُمْ ومُقَصِّرُهُم، انتهى. والمرادُ أنَّه يكلِّمُهم بِلا واسِطَةٍ، فتكليمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- نوعانِ:
الأوَّلُ: بِلا واسطةٍ، كما في هذا الحديثِ.
الثَّاني: بواسطةٍ وقدْ تقدَّمتِ الإشارةُ إليهِ.
قَولُهُ: ((تُرْجُمَانٌ)): هو مَن يعبِّرُ بلغةٍ عن لغةٍ كما قال بعضُهم:
ومَنْ يفسِّرْ لغةً بلغةٍ مترجمٌ عندَ أهيلِ اللُّغَةِ
أفاد هذا الحديثُ إثباتَ صفةِ الكلامِ لله -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، والرَّدِّ على الجهميةِ والأشاعرَةِ مِن نُفاةِ صفةِ الكلامِ، فإنَّ الكلامَ صفةُ كمالٍ، وأدلَّةُ ذلكَ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ أظهرُ شيءٍ وأبْيَنْهُ، وأفادَ هذا الحديثُ: أنَّه يكلِّمُ جميعَ النَّاسِ، وأمَّا قَولُهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (لاَ يُكَلِّمُهُم وَلاَ يُزَكِّيِهمْ) الآيةَ، فالمرادُ لا يكلِّمُهمْ كلامًا يسرُّهم.(1/108)
( وقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم في رُقْيَةِ المريضِ: (( رَبَّنا اللهَ الَّذي في السَّماءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ في السَّماءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ في السَّماءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضِ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنَا وخَطَايَانا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلى هذا الوَجِعِ؛ [ فَيَبْرَأَ ] [ حديث حسن ]، رواه أبو داود [ وغيره. (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)): إلخ. هذا الحديثُ، رواه أبو داودَ مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا فَلْيَقُلْ رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)) الحديثَ، وأخرجَه النَّسائيُّ أيضًا مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ أنَّه أتاهُ رجلٌ يذكُرُ أنَّ أبَاه احتبس بولُه وأصابَتْه حصاةٌ فعلَّمه هذا فرقَاهُ بِها فَبَرَأ، هذا لفظُ النَّسائيِّ وقد رواهُ البيهقيُّ والحاكمُ والطبرانيُّ.
قَولُهُ: ((فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ)): أَي القراءةُ على المريضِ مَن رقاهُ برقيةٍ إذا قَرأ عليهِ، ففيهِ دليلٌ على إِباحَةِ الرُّقْيَةِ لهذا الحديثِ وغيرِه، كمَا روى مسلمٌ وأبو داودَ مِن حديثِ عوفِ بنِ مالكٍ أنَّ رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا))، وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد سُئِلَ عن الرُّقَى: ((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعَهُ)) رواه مسلمٌ وأحمدُ وابنُ ماجةَ مِن حديثِ جابرٍ، وأمَّا ما رواه مسلمٌ في صحيحهِ من حديثِ جابرٍ أنَّ رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- نَهَى عنِ الرُّقَى، فالمرادُ بها الرُّقَى الَّتي تتضمَّنُ الشركَ وتعظيمَ غيرِ اللهِ، كغالبِ رُقَى الجاهليةِ، فلا يعارِضُ ما تقدَّم مِن الأحاديثِ في إباحَةِ الرُّقى، وقال السُّيوطيُّ: قد أجمعَ العلماءُ على جوازِ الرُّقَى عند اجتماعِ ثلاثةِ شروطٍ:
(1) ... أنْ تكونَ بكلامِ اللهِ أوْ بأسمائِهِ وصفاتِه.
(2) ... أنْ تكونَ باللِّسَانِ العربيِّ وما يُعْرَف معناهُ.
(3) ... أنْ يعتقدَ أنَّ الرُّقْيَةَ لا تؤثِّرُ بذاتها بل بتقديرِ اللهِ. انتهى.
قَولُهُ: ((رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)): فيه إثباتُ العلوِّ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على الخَلْقِ، وفسَّرَ قَولَهُ سُبْحَانَهُ: ((فِي السَّمَاءِ)) بتفسيرينِ:
الأوَّلِ: أنَّ في بمعنى على، فقَولُهُ في السَّمَاءِ، أي على السَّمَاءِ، كقَولِهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، وقَولُهُ: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ) أي عليها.
الثَّاني: أنَّ المرادَ بالسَّمَاءِ: العلوُّ، فقَولُهُ: ((في السَّمَاءِ))، أي العلوُّ، والسَّمَاءُ كلُّ ما علاَكَ وأظلَّك، فهو -سُبْحَانَهُ- في جِهَةِ العلوِّ.
قَولُهُ: ((تَقَدَّسَ اسْمُكَ)): أي تنَزَّه مِن التَّقْدِيسِ، وهو التَّنزيهُ عما لا يليقُ، فأسماؤه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مُنَزَّهَةٌ عنِ العيوبِ والنقائِصِ، وعنْ تأويلِ المحرِّفين وتشبيهِ الممثِّلين.
قَولُهُ: ((أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ)): أي أمْرُك الكونيُّ الْقَدَرِيُّ، وأمرُكَ الدينيُّ الشِّرعِيُّ، فأمرُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ينقسمُ إلى قِسمينِ:
الأوَّلِ: أمرٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، وقَولُهُ سُبْحَانَهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) الآيةَ.
الثَّاني: الأمرُ الدِّينيُّ الشَّرعيُّ كقَولِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) الآيةَ، فأمرُه -سُبْحَانَهُ- الكونيُّ نافِذٌ لا رادَّ له، في السَّمَاءِ والأرضِ فلا رادَّ لأمرِه ولا معقِّبَ لحُكْمِه.
قَولُهُ: ((كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ)): فيه إثباتُ صفةِ الرَّحمةِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- كما يليقُ بجلالِه.
قَولُهُ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِن رَحْمَتِكَ)): فيه إثباتُ العلوِّ، وهذه الرَّحْمَةُ مخلوقَةٌ، فإنَّ الرَّحْمَةَ المضافةَ إليهِ تنقسِمُ إلى قسمين: الأوَّلِ: رحمةٌ تضافُ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- مِن بابِ إضافَةِ الصِّفَةِ إلى الموصوفِ، كقَولِهِ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقَولِهُ في الحديثِ: ((بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)). الثَّاني: رحمةٌ تضافُ إليهِ -سُبْحَانَهُ- مِن بابِ إضافَةِ المخلوقِ إلى خَالِقِه، كَمَا قال في هذَا الحديثِ: ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ)) وكما في حديثِ: ((خَلَقَ اللهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ)) وقَولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((قَالَ -سُبْحَانَهُ- لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ)) وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذا البحثِ في الكلامِ على الآياتِ.
قَولُهُ: ((اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا)): هذا فعلُ دعاءٍ مِن الغَفْرِ، وهو السَّتْرُ ووقايةُ الأثَرِ، ومنه المغْفَرُ والجمعُ الغَفِيرُ.
قَولُهُ: ((حُوبَنَا)): الحُوبُ هو الإثمُ، ومنه قَولُهُ: (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ).
قَولُهُ: ((وخطايانَا)): الخطايَا هي الذُّنوبُ والآثَامُ.
قَولُهُ: ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)): جمْعُ طيِّبٍ، وخصَّهُمْ بالذِّكْرِ لما اتَّصفُوا بهِ مِن الطَّيبِ، ومعلومٌ أنَّه ربُّ كلِّ شيءٍ، ما يتَّصِفُ بالطِّيبِ والخُبْثِ وغيرِها، ولكنْ هذه ربوبيةٌ خاصَّةٌ بأنبيائِهِ وعبادِه الصَّالحينَ، لها اختصاصٌ على الرُّبُوبيَّةِ العامَّةِ للخلْقِ، فإنَّ مَن أعطاهُ اللهُ مِنَ الكَمَالِ أكثرَ مما أعطى غيرَه، فقد رَبَّهُ وربَّاه رُبُوبيَّةً وتربيةً أكملَ مِن غيرِه، فالرُّبوبيَّةُ تنقسم إلى قسمينِ:
الأوَّلِ: ربوبيةٌ عامَّةٌ، وهي لسائِرِ الخَلْقِ.
الثَّانِي: ربوبيةٌ خاصَّةٌ، وهي ربوبيةٌ لأنبيائِه وعبادِه الصَّالِحِين. وفي هذا الحديثِ إشارةٌ إلى التَّوَسُّلِ بربوبيَّتِه -سُبْحَانَهُ- للطَّيِّبينَ، وهذا التَّوسُّلُ الشرعيُّ، وهو التَّوسُّلُ بربوبيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ- وأسمائِه وصفاتِه، وهذا التَّوسُّلُ مِن أعظمِ الوسائلِ للحصولِ على المقصودِ، ولاَ يكادُ يردُّ دعاءَ مَن توسَّلَ بها، فلهذا دعا اللهَ بعدَها بالشِّفاءِ الَّذي هو شفاءُ اللهِ الَّذي لا يدعُ مرضًا إلاَ أزَالَه، وفيه أنَّهُ ينبغي أن يأتيَ مِن صفاتِه في كلِّ مقامٍ بما يناسِبُه، كلفظِ الغفورِ عندَ طلبِ المغفرةِ، والرَّازِقِ عندَ طلَبِ الرِّزْقِ ونحوِ ذَلِكَ، والقرآنُ والأدعيةُ النبويَّةُ مملوءَةٌ بذلكَ.
قَولُهُ: ((عَلَى هَذَا الْوَجَعِ)): بكسرِ الجيمِ أي المصابُ بالمرضِ.(1/109)
وَقَوْلُهُ: (( أَلاَ تَأْمَنُوني وَأَنَا أَمِيْنُ مَنْ فِي السَّمَاءِ )). [ حديثٌ صحيحٌ )). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي)): إلخ هذا الحديثُ أخرجَه في الصَّحِيحينِ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: بعثَ عَلِيٌّ مِن اليمنِ بِذُهيبةٍ في أديٍم مقروظٍ لم تحصلْ مِن ترابِها، فقسَّمَها رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بين أربعةٍ: زيدِ الخيرِ، والأقرعِ بنِ حابسٍ، وعُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، وعلقمةَ بنِ علاثةَ أو عامِرِ بنِ الطُّفَيلِ (شكَّ عِمَارةُ) فوجَدَ مِن ذلكَ بعض الصَّحابةِ مِن الأنْصَارِ وغيرِهم، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً)) أخرجَه البخاريُّ ومُسْلِمٌ.
قَولُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي)): ألاَ: أداةُ استفتاحٍ.
قَولُهُ: ((وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)): أي أمينُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الَّذي في السَّمَاءِ على تبليغِ شرعِه ودينِه، قيلَ إنَّ القائِلَ للنَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو ذو الخويصرةِ اليمَنِيُّ، فاستأذنَه بعضُ الصَّحابة في قتلِه، فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((دَعْهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، - أي مِن جنسِه – قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَقِرَاءَتَكُمْ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ)) الحديثَ، فأوَّلُ بدعَةٍ وقعت في الإسلامِ فتنةُ الخوارِجِ، وكانَ مبدؤُهم بسببِ الدُّنْيَا حين قَسَّم النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- غنائمَ حُنينٍ، فكأنَّهم رأوا في عقَولِهِم الفاسدةِ أنَّه لم يعْدِلْ في القِسْمَةِ، ففاجَئوه بهذهِ المقالَةِ، ثمَّ كانَ ظهورُهُمْ فِي أيَّامِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ فقتلَهُم في النَّهْرَوانِ، ثمَّ تشعَّبَتْ منهمْ شعوبٌ وآراءٌ وأهواءٌ ومقالاتٌ ونِحَلٌ كثيرةٌ منتشرةٌ، ثم حدَثتْ بعدَهم بدعةُ القَدَرِيَّةِ، ثم المعتزلةِ، ثم الجهميَّةِ، وغيرِ ذلكَ مِن البِدَعِ التي أخبرَ عنها الصَّادقُ المصدوقُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في قَولِهِ: ((وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأمَّةُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَ وَاحِدَةً)) قَالُوا: وَمَا هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) أخرجَهُ الحاكمُ في مستدرَكِهِ، أفادَ هذا الحديثُ فوائِدَ:
أوَّلاً: ما كان عليه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِنَ الصَّبرِ والتَّحَمُّلِ لأذى المُنافقين.
ثانيًا: تركُ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هذا المنافِقَ وغيرَه استبقاءً لانقيادِهم وتأليفًا لقلوبِهم، فإنَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- لمَّا استأذنَه بعضُ الصَّحابةِ في قتلِ بعضِ المنافقينَ قال: ((مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).
ثالثًا: فيهِ دليلٌ لِمَنْ لم يُكَفِّرُ الخوارِجَ، قال النَّوويُّ: ومذهبُ الشَّافِعيِّ وجماهيرِ أصحابِه وجماهيرِ العلماءِ أنَّ الخوارِجَ لا يُكَفَّرون، وكذلِكَ الْقَدَرِيَّةُ والمعتزِلَةُ وسائِرِ أَهْلِ الأهْوَاءِ. انتهى.
رابعًا: فيه دليلٌ على علوِّ اللهِ على خَلْقِه، فقَولُهُ: ((فِي السَّمَاءِ)) فُسِّرت "في" بمعنى على، أو أنَّ المرادَ بالسَّماءِ العلوُّ، ولا تنافِيَ بين التفسيرين، وقد تقدَّمَ، فليس معنى قَولِهِ ((فِي السَّمَاءِ)) أنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّه أو تُقلُّه أو تحيطُ به أو تَحويهِ، فإنَّ هذا ما لا تُوجِبُه اللُّغةُ، وخلافُ ما فَطَر اللهُ عليهِ الخَلْقَ.
قالَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ في (الرِّسالَةِ الحمويَّةِ): ثم مَن توهَّم أنَّ كونَ اللهِ في السَّمَاءِ تحيطُ بِه وتحويهِ فهوَ كاذبٌ إنْ نقلَه عنْ غيرِه وضالٌّ إنِ اعتقَدَه في ربِّه، ومَا سمعنَا أحدًا يفهمُه مِن اللَّفْظِ، ولا رأيْنا أحدًا نَقَلَه عَن أحدٍ، ولو سُئِلَ سائرُ المسلمينَ هل يَفهمونَ مِن قولِ اللهِ ورسولِه أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ أنَّ السَّمَاءَ تحويِه لبادَر كلُّ أحدٍ أنْ يقولَ هذا شيءٌ لعلَّه لم يخطُرْ ببالِنَا، وإذا كانَ الأمرُ هكذا فمِنَ التَّكلُّفِ أنْ يُجعل ظاهرُ اللَّفْظِ شيئا مُحَالاً لا يفهمُهُ النَّاسُ منه ثم يريدُ أنْ يتأوَّلَه، بلْ عندَ المسلمينَ أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ وهو على العرْشِ شيءٌ واحدٌ، إذ السَّماءُ إنَّما يُراد بِه العلوُّ، فالمعنى أن اللهَ في العلوِّ لا في السُّفْلِ، وقد عَلِمَ المسلمونَ أنَّ كرسيَّه -سُبْحَانَهُ- وسِعَ السَّمَاواتِ والأرضَ، وأنَّ الكرسيَّ في العرشِ كحَلَقَةٍ ملقاةٍ في أرضٍ فلاةٍ، وأنَّ العرشَ خَلْقٌ مِن مخلوق اللهِ لا نسبةَ له إلى قُدْرَةِ اللهِ وعظمَتِه، فكيفَ يتوهَّمُ متوهِّمٌ بعدَ ذلِكَ أنَّ خلقًا يحصرُه أو يَحويِه، وقال اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- عن فرعونَ: (لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، وقال: (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) بمعنى على، ونحوِ ذلكَ، وهو كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مجازًا. انتهى.(1/110)
وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( وَالعَرْشُ فَوْقَ [ المَاءِ ]، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )). [حديثٌ حسنٌ، رواهُ أَبو دَاودَ وغَيْرُهُ ]. (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)): إلخ: هذا الحديثُ رواهُ أبو داودَ وغيرُه مِن حديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ، ولفظُ أبي داودَ عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ قال: كنتُ في البطحاءِ في عصابَةٍ فيهم رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فمرَّت بهم سحابةٌ فنظرَ إليها فقال: ((مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ؟)) قالوا: السَّحابَ، قال: ((وَالْمُزْنَ))، وقالوا: والمزنَ، قال: ((وَالْعَنَانَ))، قالوا: والعنانَ. قال أبو داودَ: لم أتقنْ جيِّدًا، قال: ((هَلْ تَدْرُون بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ؟)) قالوا لا ندري، قال: ((إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلاَثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً ثُمَّ السَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلاَفِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِمُ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاَهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ اللهُ فَوْقَ ذَلِكَ)). ورواه أيضًا ابنُ ماجةَ والتِّرمذِيُّ وحسَّنَه، ورواهُ الحافِظُ ضياءُ الدِّينِ المقدسيُّ في المختارةِ.
قَولُهُ ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)): تقدَّم الكلامُ على العرشِ، أفادَ هذا الحديثُ عدَّةَ فوائدَ.
الأوَّلَ: إثباتُ العرشِ، وقدْ تكاثَرتِ الأدلَّةُ مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِه، وفيها الرَّدُّ على مَن نَفَى العَرْشَ وزعَمَ أنَّ معنى عرْشِهِ مُلْكُه وقُدرَتُه، ولا شكَّ في بُطلانِ ذلك، وفيه دليلٌ على أنَّ الْعَرْشَ فوقَ المخلوقَاتِ، وأنَّه ليسَ فوقَهُ مِن المخلوقاتِ شيءٌ، وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ في السَّمَاءِ مستوٍ على العرشِ، فلو كانَ في كلِّ مكانٍ لم يكنْ لهذا التَّخْصِيصِ معنًى، ولا فيه فائدةٌ، وفيه تفسيرُ الاستواءِ بالعلوِّ، كما فسَّره الصَّحابةُ والتابعونَ والأئمَّةُ، خلافًا للمعطِّلَةِ مِن الجهميَّةِ والمعتزِلَةِ ومَنْ أخَذَ عنهم مِن الأشَاعِرَةِ وغيرِهم ممَّن ألحْدَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه، وصرفَها عن المعنى التي وُضِعتْ له، ودلَّت عليه مِن إثباتِ صفاتِ اللهِ التي دلَّت على كلامِه جلَّ وعلا، وفيها إثباتُ فوقيَّتِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وعلوِّه على خلْقِه، وهذا الحديثُ صريحٌ في فوقيَّةِ الذَّاتِ، ففيه الردُّ على مَن زعم أن الفوقيَّةَ فوقيَّةُ رتبةٍ وشرفٍ، فإنَّ حقيقةَ الفوقيَّةِ علوُّ ذاتِ الشَّيءِ على غيرِه، وقد تقدَّم ذِكْرُ أنواعِ الفوقيَّةِ، فله -سُبْحَانَهُ- الفوقيَّةُ التَّامَّةُ والعلوُّ الكامِلُ المطلَقُ، هذا مذهبُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وبدَّعُوا وضلَّلوا مَن خالَفَهُ مِن الجهميَّةِ والمعتَزِلَةِ، وفي هذا الحديثِ إثباتُ علمِه المحيطِ بكلِّ معلومٍ، فلا تَخفى عليه خافيةٌ، وفيه الجمْعُ بينَ الإيمانِ بعلوِّه على خَلْقِه واستوائِه على عرْشِه وبين الإيمانِ بإحاطَةِ عِلْمِه بالموجوداتِ كلِّها، وقد جمعَ بين الأمرين في عدَّةِ مواضِعَ.(1/111)
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم للِجَارِيَةِ: (( أَيْنَ اللهُ )). قالَتْ: في السَّمَاءِ. قالَ: (( مَنْ أَنا؟. قالَتْ: أَنْتَ رَسولُ اللهِ. قالَ: (( أَعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤِمِنَةٌ )). رواهُ مسلمٌ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ للجارية ((أَيْنَ اللهُ)): إلخ هذا الحديثُ رواه مسلمٌ مِن حديثِ معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ، وأخرجَه أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، وروى سببَه بألفاظٍ متعدِّدةٍ، وفي بعضِ ألفاظِه عن الحكمِ بنِ معاوِيَةَ السُّلَمِيِّ قال: اطَّلَعْتُ على غُنيمةٍ ترعَاها جاريةٌ لي قبلَ أُحُدٍ والجوَّانِيَّةِ فوجدتُ الذِّئبَ قد أصابَ منها شاةً وأنا مِن بني آدمَ آسَفُ كما يأسفونَ فصككتُها صكَّةً ثم انصرفتُ إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فأخبرتُه فعظَّم ذلكَ علَيَّ، قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ: أفَلا أَعْتِقُهَا؟ قال: ((بَلَى جِئْنِي بِهَا)) قال: فجئتُ بها رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقالَ لها: ((أَيْنَ اللهُ؟)) قالت: في السماءِ، قال: ((مَنْ أَنَا؟)) قالت: أنتَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، قال: ((اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).
قال الحافظُ الذَّهَبيُّ في كتابِ (العُلُوِّ): هذا حديثٌ صحيحٌ رواهُ جماعةٌ مِن الثِّقَاتِ، قالَ: وأخْرَجَه مسلمٌ، وأبو داودَ، والنَّسائيُّ، وغيرُ واحدٍ منَ الأئمةِ في تصانِيفهمْ، يَرُوونه كما جاءَ ولا يَتعرَّضونَ له بتأويلٍ ولا تحريفٍ، ثم بيَّنَ الذهبيُّ طُرَقهُ واختلافَ ألفاظِهِ.
هذا الحديثُ فيه فوائدُ:
أولاً: فيه جوازُ السُّؤالِ عن اللهِ بأينَ خلافًا للمبتدِعَةِ.
ثانيًا: فيه جوازُ الإشارةِ إلى العلوِّ، كما جاءَ صريحًا في حديثِ أبي هريرةَ الَّذي أخرجَه أبو داودَ في بابِ الأيمانِ والنُّذورِ فأشارتْ بأصبُعِهَا إلى السَّماءِ.
ثالثًا: فيه إثباتُ العلوِّ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى، فإنَّ معنى قَولِهِ: ((فِي السَّمَاءِ)): أي على السَّماءِ، يعني على العرشِ، وقد تقدَّم الكلامُ.
رابعًا: فيه الدَّليلُ على أنَّ مَن شَهِدَ هذه الشهادةَ أنَّه مؤمنٌ.
خامسًا: فيه دليلٌ على أنَّه يُشترطُ في صحَّةِ العتقِ الإيمانُ.
سادسًا: فيه دليلٌ على أنَّ مَن شَهِدَ هذه الشَّهادةَ يُكتفَى في ذلكَ بإيمانِه ويُقبلُ منه ذلكَ، ولو لم يُذْكَرْ دليلٌ، فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قَبِلَ منها مجرَّدَ الشَّهادةِ بعلوِّ اللهِ ورسالَةِ رسولِه، خلافًا للمتكلِّمينَ الَّذين يقولونَ: لا بُدَّ مِن النَّظرِ والقصدِ إلى النَّظرِ أو الشَّكِّ، فإنَّ هذه أقوالٌ باطلةٌ، فإنَّ معرِفَة اللهِ -سُبْحَانَهُ- فِطريَّةٌ فَطَرَ اللهُ عليهَا عِبَادَه، كما في الحديثِ قال: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ)). الحديثَ.
سابعًا: فيه دليلٌ عَلى أنَّ الاعترافَ بعلوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وفوقيَّتِه مفطورٌ عليهِ الخَلْقُ مغروزٌ في نفوسِهمْ، وقدْ جرتْ عادَةُ المسلمينَ عامَّتِهم وخاصَّتِهم بأنْ يَدعوا ربَّهم عندَ الابتهالِ والرَّغبَةِ إليه، فيرفَعوا أيديَهُم إلى السَّماءِ وذلك لاستفاضَةِ العِلْمِ عندَهم بأنَّ ربَّهُم المدعوُّ في السَّماءِ، وقدْ تطابقَ أدلَّةُ العَقْلِ والنَّقلِ على إثباتِه.(1/112)
( وقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم (( أَفْضَلُ الإِيمانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُما كُنْتَ )) حديثٌ حسنٌ. (1)
__________
(1) قَولُهُ: (أَفْضَلُ الأيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ)) إلخ، في هذا الحديثِ دليلٌ على إثباتِ معيَّتِه -سُبْحَانَهُ وتعالى- والمعيَّةُ تنقسمُ إلى قِسمينِ وقدْ تقدَّمَ الكلامُ عليها. وهذا الحديثُ فيهِ ذِكْرُ المعيَّةِ العامَّةِ، وهي معيةُ العِلْمِ والاطِّلاعِ، وقدْ تكاثرتِ الأدلَّةُ بالنَّدبِ إلى استحضارِ قُربِه -سُبْحَانَهُ- في حالِ العباداتِ، كقَولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ)) وقَولِهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ)) قالَ ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ: ومَن فهمَ مِن هذه الأحاديثِ تشبيهًا أو حلولاً أو اتِّحادًا فإنما أُتِيَ مِن جهلِه وسوءِ فهمِه عن اللهِ ورسولِه، واللهُ ورسولُه بريئانِ مِن ذلك كلِّه، فسبحان مَن ليس كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ. انتهى.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ الإيمانَ يتفاضلُ، ودليلٌ على أنَّ بعضَ خصالِ الإيمانِ أفضلُ مِن بعضٍ، وفيه دليلٌ على أفضلِيَّةِ عملِ القلبِ، ودليلٌ على أنَّ أعمالَ القلوبِ داخلةٌ في مُسمَّى الإيمانِ، وفيه الردُّ على مَن زعمَ أنَّ الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينقصُ، وفيه دليلٌ على أنَّ الإحسانَ أكملُ مراتبِ الدِّينِ، وهو أنْ يعبدَ العبدُ ربَّهُ كأنَّه يراهُ فيستحضرُ قُربَ اللهِ واطِّلاعَهُ وأنَّه بينَ يدَيهِ وذلكَ يوجبُ الخشيةَ والخوفَ والتعظيمَ، ويوجبُ النُّصحَ في العبادةِ وبذلَ الجهدِ في تحسينها وإتمامِهَا، فيجمعُ العبدُ بينَ الإيمانِ بعلوِّ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- واستحضارِ قربهِ، ولا منافاةَ بينَ الأمرينِ.(1/113)
وقَوْلُهُ: (( إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلى الصَّلاةِ؛ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلا عَنْ يَمِيْنِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَو تَحْتَ قَدَمِهِ )). متَّفقٌ عليهِ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ)) إلخ: هذا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، وغيرُهما عن جماعةٍ مِن الصَّحابَةِ، منهم أنسٌ وأبو هريرةَ وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ وابنُ عمرَ وغيرُهُم.
قَولُهُ: ((يَبْصُقُ)): أي يَتفلُ والبصاقُ والبزاقُ لغتانِ، والبصاقُ لغةٌ قليلةٌ.
قَولُهُ: ((قِبَلَ)) بكسرِ القافِ وفتحِ الباءِ، أي مواجِهَ، في هذا الحديثِ فوائِدُ، فيه دليلٌ على قُربِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- وإحاطتهِ كما يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ كما قالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) فإذا كانَ محيطًا بالعالمِ فهوَ فوقهُ بالذَّاتِ عالٍ عليهِ مِن كلِّ وجهٍ وبكلِّ معنًى، فالإحاطةُ تتضمَّنُ العلوَّ والسعةَ والعظمَةَ، وإحاطتُهُ -سُبْحَانَهُ- بخلقهِ لا تَنفيِ مباينتَهُ ولا علوَّهُ على مخلوقاتهِ بلْ هو -سُبْحَانَهُ- فوقَ خلقهِ محيطٌ بهمْ مُباينٌ لهم. انتهى مِن (الصَّواعقِ) باختصارٍ.
قالَ الشيخُ تقيُّ الدينِ رحمهُ اللهُ في (الحمويةِ): وكذلكَ العبدُ إذا قامَ يُصلِّي فإنهُ يستقبلُ ربَّهُ وهوَ فوقهُ، فيدعوهُ مِن تلقائِه لا عن يمينِهِ ولا عن شمالِه، ويدعوهُ مِن العلوِّ لا مِن السفلِ، كما إذا قُدِّرَ أنَّه يخاطبُ القمرَ فإنَّه لا يَتوجَّهُ إليه إلاَّ بوجههِ مع كونهِ فوقَه، ا هـ. وقدْ نَزَع بهذا الحديثِ بعضُ المعتزلةِ إلى أنَّ اللهَ في كلِّ مكانٍ بذاتِه، وهذا جهْلٌ فاضحٌ، والأدلةُ المتواترةُ تردُّ ذلكَ، وتفيدُ علوَّ اللهِ واستواءَهُ على عرشِه، وأيضاً فإنَّ آخرَ الحديثِ ينقضُ قَولَهُمْ وهو قَولُهُ: ((أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)) وفي الحديثِ إشارةٌ للندبِ إلى استحضارِ قُرْبِه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ومَعيَّتِهِ في حالِ العبادةِ، فإنَّ ذلكَ يوجبُ الخشيةَ والخوفَ مِن اللهِ، ويدعو إلى إتمامِ العبادةِ على الوجهِ اللائِقِ، وفيه دليلٌ على القيامِ في الصَّلاةِ وأنَّ العملَ اليسيرَ لا يُبطلُ الصلاةَ، وفيه دليلٌ على جوازِ البصاقِ وهو يُصلِّي، وفيه دليلٌ على النَّدبِ إلى إزالَةِ المستقذَرِ أو ما يتنزَّهُ عنه مِن المسجدِ، وفيها أنَّ النفخَ والتنحنحَ في الصَّلاة جائزان؛ لأنَّ النُّخَامةَ لا بُدَّ أن يقعَ معها شيءٌ مِن ذلك، وفيه النَّهيُ عنِ البُصَاقِ قبَِلَ وجهِهِ والنَّهيُ عن البصاقِ عن يمينِه تشريفًا لها، وفي روايةِ البخارِيِّ ((ولا عن يمينه فإنَّ عن يمينِه مَلَكَين))، وفيه جوازُ البصاقِ تحتَ قدمِه وعن يسارِه، والمرادُ إذا كان خارجَ المسجِد، فأمَّا في المسجِد فلا يجوزُ البصاقُ في أرضِ المسجدِ مطلقًا، لحديثِ ((الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا)) فهذا مخصِّصٌ للحديثِ المتقدِّم، فإذَا بَدرَه البُصاقُ في المسجدِ بصقَ في ثوبِه ودلَّك بعضَها في بعضٍ كما دلَّت على ذلكَ الأحاديثُ المخصِّصَةُ لما تقدَّم، واستفيدَ مِن الحديثِ تحريمُ البُصاقِ إلى القِبلَة، سواءٌ كان في المسجدِ أو لاَ، وفي صَحيحَي ابنِ خُزيمَةَ وابنِ حبَّانَ من حديثِ حذيفةَ رضي اللهُ عنه مرفوعًا (( مَن تَفَلَ تجاهَ القبلَةِ جاءَ يومَ القيامةِ وتفلُه بينَ عينيِه))، ولأبي داودَ وابنِ حبَّانَ مِن حديثِ السَّائبِ بن خلاَّدٍ أنَّ رجلاً أمَّ قومًا فبصَقَ في القِبْلةِ فلما فرغَ قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ يُصَلِّي لَكُمْ)) الحديثَ، وفيه أَنَّكَ قد آذيتَ اللهَ ورسولَه، وفي هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ النُّخَامةَ والبُصَاقَ طَاهرانِ، ودليلٌ على صيانةِ المساجدِ وتَعظيمِها.(1/114)
( وقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاواتِ السَّبْعِ [ وَالأَرْضِ ] وَرَبَّ العَرْشِ العَظيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ ] كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِني مِنَ الفَقْرِ )). [روايةُ] مُسْلِمٍ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ)) إلخ: هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ مِن حديثِ سهيلٍ قال: كان أبو صالحٍ يأمُرُنَا إذا أرادَ أحدُنَا أنْ ينامَ أن يضْطَجِعَ على شِقِّه الأيمنِ ثم يقولُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ)) الحديثَ، قال: وكان يَروي ذلك عن أبي هريرةَ وأخرجَه أيضًا أهلُ السُّنَنِ.
قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ)): أصلُه يا اللهُ، فالميمُ عِوَضٌ عن ياءٍ، ولذلكَ لا يُجمعُ بينهُمَا، وشذَّ قولُ بعضِ العربِ
إنِّي إذَا ما حَدَثٌ ألَمَّا أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يا اللَّهمَّا
قال الحسنُ البصريُّ: اللهمَّ مجمَعُ الدُّعاءِ، وقال النَّضرُ بن الشُّمَيْلٍ: مَن قال اللهمَّ فقد دعا اللهَ بجميعِ أسمائِه.
قَولُهُ: ((رَبَّ)): تأتي لفظةُ ربَّ بمعنى المُربِّي والمالِكِ والخالِقِ.
وقَولُهُ: ((رَبَّ السَّماواتِ السَّبْعِ)): أي هو خالِقُ العالَمِ العلويِّ.
قَولُهُ: ((وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)): أي الكبيِرُ، في الحديثِ: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا فِيهِنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلاَةٍ وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ بِمَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كَتِلْكَ الْحَلَقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلاَةِ)) وقال الضحَّاكُ عن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما: إنما سُمِّي عرشًا لارتفاعِه. وعن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنه: العرشُ لا يقدرُ قدْرَه إلاَّ اللهُ، فيه إثباتُ عظمَةِ العرشِ، وأنَّه أعظمُ المخلوقاتِ، وأنَّه مخلوقٌ، ومنه يُستفادُ عظمةُ الباري بعظمَةِ مخلوقَاتِه، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ العرشَ ليسَ بمخلوقٍ، أو أنَّ عرشَهُ مُلكُه، أو قُدرَتُه، وقدْ تقدَّم الكلامُ على هذا.
قَولُهُ: ((رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ)): فيه إثباتُ عمومِ ربوبيَّتِه ومُلكِه، وأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّه المنعِمُ الحقيقيُّ على سائِرِ الخلقِ، وفيها الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ الذين يزعُمون أن العبدَ يخلقُ فِعلَ نفسِه، فإنَّ ربوبيَّته العامَّةَ وقدرتَه التَّامَّةَ تشملُ أفعالَ خلقِه، فمَن زعَمَ أنَّ العبدَ يخلقُ فعلَ نفسِه فقدْ أثبتَ خالِقًا مع اللهِ، ولم يُدخلْ أفعالَ خلقهِ في عمومِ قُدرتهِ وربوبيَّتِهِ.
قَولُهُ: ((فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى)): أي شاقُّ، والفلقُ الشَّقُّ، أي الَّذي يشقُّ حبَّ الطعامِ ونوى التمرِ ونحوَهما للإنباتِ، والنَّوى عجمُ التمرِ ونحوِه.
قَولُهُ: ((مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)): أي مُنزلُ التوراةِ على موسى، والإنجيلِ على عيسى، والقرآنِ على محمَّدٍ، فيهِ دليلٌ على أنَّ هذه الكتبَ مِن كلامِ اللهِ، وأنها منزَّلةٌ مِن عندِ اللهِ، وأنها غيرُ مخلوقَةٍ، خلافًا لأهلِ البدعِ الذينَ يزعمونَ أنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ، أو أنها كلامُ غيرِه، وفيه دليلٌ على علوِّ اللهِ سُبْحَانَهُ؛ لأنَّ الإنزالَ والنزولَ والتنزيلَ المعقولَ عندَ العربِ لا يكونُ إلاَّ مِن أعلى إلى أسفَلَ.
قَولُهُ: ((أَعُوذُ)): أي ألتجئُ وأعتصمُ وألتصقُ بجنابِ اللهِ مِن شرِّ كلِّ ذي شرٍّ، والعياذُ يكونُ لدفعِ الشَّرِّ، واللِّياذُ يكونُ لطلبِ الخيرِ كما قال المُتنبِّي:
يا مَن ألوذُ بهِ فيما أؤمله ومَن أعوذُ بهِ ممَّا أحاذرُهُ
لا يجبرُ الناسَ عظماً أنتَ كاسرُه ولا يهيضونَ عظماً أنتَ جابرُه
قَولُهُ: ((دَابَّةٍ)): الدابَّةُ لغَةً: كل ما دبَّ على وجهِ الأرضِ، وأُطلقَ عرفًا على ذواتِ الأربَعِ.
قَولُهُ: ((بِنَاصِيَتِهَا)): أي تحتَ قهرهِ وسلطانهِ سُبْحَانَهُ، أي أعوذُ بكَ مِن شرِّ كلِّ شيءٍ مِن المخلوقاتِ؛ لأَنها كلَّها في سُلطانهِ وهوَ آخذٌ بنواصيها متصرِّفٌ فيها يصرِّفُها كيفَ يشاءُ، والنَّاصيةُ مقدَّمُ الرَّأسِ.
قَولُهُ: ((أَنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ)): هذا تفسيرُ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فلا تفسيرَ أكمَلُ مِن تفسيرِه، ففيه دليلٌ على أوَّلِيَّتِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّه قَبْلَ كلِّ شيءٍ، ففيه الردُّ على مَن زَعَم قِدَمَ هذه المخلوقاتِ، وفيه دليلٌ على أبديَّتِه -سُبْحَانَهُ- وبقائِه بعدَ كلِّ شيءٍ، وفيه دليلٌ على عُلوِّه -سُبْحَانَهُ- على خلقِه وفوقيَّتِه واستوائِه على عرشِه، فإنَّ الظَّاهِرَ هو العالي المرتفعُ.
قَولُهُ: ((وَأَنْتَ الْبَاطِنُ)): فيه دليلٌ على قُربِه -سُبْحَانَهُ- وإحاطتِه وأنَّه أقربُ إلى كلِّ شيءٍ مِن نفسِه، وقُربُه -سُبْحَانَهُ- لا يُنافي ما ذُكِرَ مِن علوِّه وفوقِيَّتِه، فإنه ليسَ كمثلهِ شيءٌ، وليسَ قربهُ كقربِ الأجسامِ بعضِها منْ بعضٍ – تعالى اللهُ أنْ يُشبهَه شيءٌ منْ خلقهِ – فهذهِ الأسماءُ الأربعةُ متقابلةٌ، اسمانِ منها لأزليَّةِ الربِّ وأبديَّتهِ، واسمانِ لعلوهِ وقربِهِ.
وقَولُهُ: ((اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ)): هذا فعلُ دعاءٍ، أي أدِّ، قَولُهُ: ((الدَّيْنَ)): أي واحدُ الدُّيونِ، والمرادُ بهِ حقوقُ اللهِ وحقوقُ عبادهِ كلُّها من جميعِ الأنواعِ.
قَولُهُ: ((اغْنِني)): الغِنى بالكسرِ والقصرِ هو عدمُ الحاجةِ، وبفتحِ الغينِ النفعُ وبالكسرِ مع المدِّ الأصواتُ المُطربةُ، كما قال بعضُهم:
غناءُ الصوتِ ممدودٌ بما يستجلبُ الطربَ وكلُّ غِنًى فمقصورٌ كذا نطقتْ به العرَبُ
والفقرَ بالفتحِ ضدُّ الغِنى، وهو في اصطلاحِ الفقهاءِ: من وجدَ أقلَّ من نصفِ كفايتهِ أو لم يجدْ شيئًا أصلاً، وأمَّا المسكينُ فهو: منْ وجدَ نصفَ كفايتهِ فأكثَرَ، فالفقيرُ أشدُّ حاجةً من المسكينِ، لكنْ إذا أُطلقَ الفقيرُ دخلَ فيه المسكينُ وبالعكسِ، وإذا ذُكرا معًا فُسِّرَ كلُّ واحدٍ منهما بتفسيرٍ، كالإسلامِ والإيمانِ إذا اجتمعا افترَقا، وإذا افترقا اجتمعَا، وفي الحديثِ من الفوائدِ غيرِ ما تقدَّمَ: دعاءُ اللهِ بأسمائهِ وصفاتِه، وهذا مما تكرَّرَ في الأحاديثِ، وهذا هو التوسلُ الشرعيُّ والمتوسلُ بهذه الوسيلةِ جديرٌ بالإجابَةِ.(1/115)
( قولُهُ: (( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا تُضَامُونَ في رُؤيَتِهِ، فإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِها؛ فافْعَلُوا )). مُتَّفَقٌ عليهِ ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ)): إلخ: هذا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما من حديثِ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ البجليِّ قال: كنا جلوسًا عند النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فنظر إلى القمرِ ليلةَ أربعَ عشْرَةَ، وقالَ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْبَلَ الْغُرُوبِ فَافْعَلُوا، ثم قرَأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) وفي بعضِ ألفاظِه: ((سَتُعَايِنُونَ رَبَّكُمْ كَمَا تُعَايِنُونَ الْقَمَرَ)).
وفي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ ناسًا قالوا: يا رسولَ اللهِ، هل نرى ربَّنا يومَ القيامَةِ؟ فقالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((هَلْ تضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟)) قالوا: لا يا رسول اللهِ، قال: ((هَلْ تضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ؟)) قالوا: لا يا رسولَ الله، قال: ((إِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ)). إلى غيرِ ذلكَ منَ الأحاديثِ التي بلغتْ حدَّ التواتُرِ، قال يحيى بنُ معينٍ: عندي سبعةَ عشرَ حديثًا في الرؤيَةِ، كُلُّها صحاحٌ، وقال أحمدُ: والأحاديثُ التي رُوِيتْ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- ((إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ)) صحيحةٌ، وأسانيدُها غيرُ مدفوعةٍ، والقرآنُ شاهدٌ أنَّ اللهَ يُرى في الآخرةِ، انتهى.
وقد تَواطأَ على إثباتِ ذلكَ أدلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ المتواترَةِ وإجماعُ الصَّحابةِ وأئمةِ الإسلامِ وأهلِ الحديثِ، وقد أنكرَ الرؤيةَ الجهميةُ والمعتزلةُ وأضرابُهم، اعتمادًا على عقَولِهِم الفاسدةِ وتقليدًا لأعداءِ الدِّينِ الذين نَبذوا كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولِهِ وراءَهم ظِهريًّا.
قَولُهُ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ)): السينُ فيه لتأكيدِ الوعدِ وتحقيقِ الأمْرِ.
قَولُهُ: ((سَتَرَوْنَ)): أي رؤيةً بصريةً، والمخاطبُ بذلكَ المؤمنونَ، فالكفارُ محجوبونَ عن رؤيتهِ كما قالَ تعالى (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ).
قَولُهُ: ((كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ الَبدْرِ)): القمرُ بعدَ ثلاثٍ منَ الشهرِ إلى آخرِ الشهرِ، سُمِّيَ قمرًا لبياضِه. والبدرُ: القمرُ ليلةَ كمالهِ وهو الممتلئُ نورًا، وهي ليلةُ الرابعةَ عشرَ مِن الشهرِ، سُمِّي بذلك لمبادرةِ طلوعِهِ قبلَ غروبِ الشمسِ، وطلوعِها قبلَ غروبِه.
قَولُهُ: ((كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ)): تحقيقاً للرؤيةِ ونفيًا لتوهُّمِ المجازِ الَّذي يظنهُ المعطِّلون فترونهُ رؤيةً حقيقيةً بالعينِ البصريةِ، والتشبيهُ في قَولِهِ: ((كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ)) تشبيهٌ للرؤيةِ بالرؤيةِ، لا للمرئيِّ بالمرئيِّ فإنه -سُبْحَانَهُ- لا شبيهَ ولا نظيرَ.
قَولُهُ: ((لا تُضَامُون ِفي رُؤْيَتِهِ)): بضمِّ الفوقيةِ وتخفيفِ الميمِ، أي لاَ يَلْحقُكم ضَيْمٌ، ورُوِي بالفتحِ وتشديدِ الميمِ منَ التضامِّ والازدحامِ، كما ينضمُّ بعضٌ إلى بعضٍ في رؤيةِ الشَّيءِ الخفيِّ، كالهلالِ، يعني إنكمْ ترونه رؤيةً محقَّقةً كلٌّ منكم يراهُ في مكانِه، فهذا الحديثُ أفادَ إثباتَ رؤيةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في الآخرَةِ.
قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: دلَّ الكتابُ والسُّنَّةُ المتواترةُ وإجماعُ الصَّحابةِ وأئمةُ الإسلامِ وأهلُ الحديثِ على أنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- يُرَى بالأبصارِ عيانًا، كما يُرَى القمرُ ليلةَ البدرِ صَحْوًا، وكما تُرَى الشمسُ في الظهيرةِ، فإنْ كان لذلكَ حقيقةٌ وأنَّ الرؤيةَ حقٌّ فلا يمكنُ أنْ يروهُ إلاَّ منْ فوقِهم لاستحالةِ أنْ يَروه مِنْ أسفلَ منهمْ أوْ خلفهمْ أوْ أمامِهم، وإنْ لمْ يكنْ لذلكَ حقيقةٌ كما يقَولُهُ أفراخُ الصابئةِ والفلاسفةِ والمجوسِ والفرعونيةِ بطلَ الشرعُ والقرآنُ. انتهى.
وفيه الردُّ على مَن زعمَ أنَّ المرادَ بالرؤيةِ العلمُ؛ لأنَّ رأى بمعنى علمَ تتعدَّى إلى مفعوليْن، تقولُ رأيتُ زيدًا فقيهًا، أي علمتُه، فإنْ قلتَ: رأيتُ زيدًا، لم يُفهمْ منهُ إلا رؤيةُ البصرِ، ويزيدهُ تحقيقاً قَولُهُ في الحديثِ: ((إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَياَنَا)) لأنَّ اقترانَ الرؤيةِ بالعيانِ لاَ يحْتمِلُ أن يكونَ بمعنى العلمِ، وفي الحديثِ -كما تقدَّمَ- دليلٌ على إثباتِ علوِِّ اللهِ، وأنهمْ يرونهُ منْ فوقِهمْ كما في حديثِ جابرٍ الَّذي رواهُ أحمدُ وغيرُه.
قَولُهُ: ((فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا)): معناهُ: لا تَصيروا مغلوبينَ بالاشتغالِ عن صلاتيِ الصبحِ والعصرِ، فهي المرادةُ في الحديثِ كما في صحيحِ مسلِمٍ، ففي هذا الحديثِ دليلٌ على فضلِ هاتين الصلاتينِ، وأنَّ المحافِظَ عليهما حقيقٌ بأن يَرَى ربَّه يومَ القيامَةِ، قال بعضُ العلماءِ: ووجهُ مناسبةِ ذكرِ هاتينِ الصلاتينِ عندَ ذكرِ الرؤيةِ أنَّ الصلاةَ أفضلُ الطاعاتِ، وقدْ ثبتَ أن لهاتين الصلاتيْنِ منَ الفضلِ على غيرِهما، ما ذُكِر من اجتماعِ الملائكةِ فيهما، ورفعِ الأعمالِ وغيرِ ذلكَ، فهما أفضلُ الصلواتِ، فناسبَ أن يجازىَ عليهما بأفضلِ العطايَا. وهو النظرُ إلى وجهِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-. اهـ.(1/116)
( ... إِلى أَمْثالِ هذه الأحاديثِ الَّتي يُخْبِرُ فيها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ رَبِّهِ بِما يُخْبِرُ بِه؛ فإِنَّ الفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السنَّةِ والجَماعةِ يُؤمِنونَ بذلك؛ كما يُؤمِنونَ بما أَخْبَرَ اللهُ بِهِ في كِتابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِنْ غيْرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ. (1)
__________
(1) قَولُهُ: إلى أمثالِ: أي أشباهِ هذهِ الأحاديثِ التي أوردها المصنفُ رحمه اللهُ، فإنَّ أهلَ السنَّةِ يؤمنونَ بذلكَ، كما يؤمنونَ بما جاءَ في القرآنِ، فإنَّ السنَّةَ كالقرآنِ في وجوبِ القبولِ وإفادةِ العلمِ واليقينِ.
قَولُهُ: إلى أمثالِ هذه الأحاديثِ إلخ: إشارةٌ إلى الردِّ على الجهْميةِ والمعتزِلَةِ وِالرافضةِ الذين نَبذوا كتابَ اللهِ وسنةَ رسولهِ وراءَ ظهورِهمْ وقَدحوا في دِلاَلَتِهما على الصفاتِ، وقالوا: الكتابُ والسنةُ ظواهرُ لفظيةٌ لا تفيدُ اليقينَ، وأنَّ القواطعَ العقليةَ والبراهينَ اليقينيةَ في المناهجِ الفلسفيةِ والطرقِ الكلاميةِ، فانظرْ كيفَ لعبَ بهمُ الشيطانُ حتى أخرجَهمْ مِن الإيمانِ، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) الآيةَ. وفي الحديثِ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أحدُكمْ حتىَّ يَكُونَ هَوَاه تَبَعًا لما جِئْتُ به)). وطريقُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ هو التمسكُ بالنصِّ الصحيحِ، ولا يعارضونه بمعقولٍ ولا بقولِ فلانٍ، فكتابُ اللهِ وسنَّةُ رسولِه هما المعيارُ، فما طابَقهما قُبِلَ، وما خالفَهما رُدَّ على مَنْ قالهُ كائنًا مَن كانَ.
قالَ الإمامُ أحمدُ رحمهُ الله: عجِبْتُ لقومٍ يعرفونَ الإسنادَ وصحَّتهُ ويذهبونَ إلى رأيِ سفيانَ، واللهُ -سُبْحَانَهُ- يقولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أتدري ما الفتنةُ؟ الفتنةُ: الشركُ، لعلَّهُ إذا رَدَّ بعضَ قَولِهِ أن يقعَ في قلبهِ شيءٌ مِنَ الزيْغ فيهلِكَ. وقالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ: أجمعَ العلماءُ على أنَّ من استبانتْ لهُ سُنَّةُ رسولِ اللهِ لم يكنْ لهُ أنْ يدعَهَا لقولِ أحدٍ كائنًا مَن كانَ، ونظائرُ ذلكَ كثيرٌ في كلامِ السَّلفِ.
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُُ في (النُّونيَّةِ):
مَن قالَ قولاً غيرَه قمنا على أقوالهِ بالسبْرِ والميزانِ
إنْ وافَقتْ قولَ الرَّسولِ وحكمهُ فعلى الرؤوسِ تُشَالُ كالتيجانِ
أو خالفتْ هذا رَدَدنَاها على مَنْ قالها مَنْ كان مِنْ إنسانِ
أو أَُشْكِلَتْ عنَّا توقفنا ولمْ نجزمْ بلا علمٍ ولا برهانِ
هذا الَّذي أَدَّى إليه علمُنا وبه نَدِينُ اللهَ كلَّ أوانِ
فالذي عليه أهلُ السنَّةِ والجماعةِ أن السُّنةَ كالقرآنِ في وجوبِ القبولِ وإفادةِ العلمِ وِاليقينِ خِلاَفًا لما عليه أهلُ البدعِ والضَّلالِ، وتقدَّمَ الكلامُ على أنَّ خبرَ الواحدِ إذا تلقَّته الأمَّةُ بالقبولِ عملاً به وتصديقًا له يفيدُ العلمَ اليقينيَّ عندَ جماهيرِ الأمَّةِ، ولم يكن بينَ سلفِ الأمَّةِ في ذلكَ نِزَاعٌ، وهو الحقُّ الَّذي تشهدُ له الأدلَّةُ، كخبرِ عمَرَ: ((إِنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ)) وكقَولِهِ: ((يِحْرُمُ مِنَ الرِّضاعِ مِا يُحَرِّمُ النَّسَبُ)) إلى أمثالِ ذلك، وهو نظيرُ خبرِ الَّذي أتى مسجدَ قباءَ وهمْ يصلونَ وأخبرَ أنَّ القبلةَ تحوَّلتْ، فاستداروا إلى القبلةِ، وكانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يُْرسِلُ رسلَهُ آحادًا، ويرسلُ كتبهُ مع الآحادِ، والأدلةُ على ذلكَ كثيرةٌ، وقد حقَّقَ ذلكَ الشيخُ تقيُّ الدينِ بنُ تيميةَ وتلميذهُ ابنُ القيِّمِ، وأطالَ عليهِ في (الصَّواعقِ)، وذكرَ الأدلةَ وردَّ على المخالفينَ ردًّا وافيًا، وكذلكَ في (النُّونيَّةِ)، وأشارَ إلى ذلكَ في (فتحِ المجيدِ)، وذهبَ غيرُ واحدٍ إلى أنَّ خبرَ الصحيحينِ يفيدُ العلمَ اليقينيَّ وهوَ الحقُّ.(1/117)
بلْ هُمُ الوَسَطُ في فِرَقِ الأمَّةِ؛ (1)
__________
(1) قَولُهُ: وسَطٌ: يأتي بمعنى التَّوَسطِ بينَ الشيئيْنِ، ويأتي بمعنى العدلِ الخيارِ، فأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ، أي عدولٌ خيارٌ معتدلونَ بين الطرفيْنِ المنحَرِفَيْنِ في جميعِ أمورهِم، وفي الحديثِ: ((خَيْرُ الأمورِ أَوْسَاطُهَا)).
قال عليٌّ رضي اللهُ عنه: خيرُ الناسِ النمطُ الأوسطُ الَّذي يرجعُ إليهم الغالي ويلحقُ بهم التالي، ذكرهُ ابنُ المباركِ عن محمدِ بنِ طلحةَ عن عليٍّ، وقد مدحَ اللهُ أهلَ التوسطِ بينَ الطرفينِ المنحرفيْن، ونهى اللهُ عن الإفراطِ والتفريطِ والغلوِ والتقصيرِ في غيرِ موضعٍ مِن كتابِه، قال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ )، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا). وقال بعضُ السلَفِ: دينُ اللهِ بينَ المُغالي فيه والمُجافي عنْه. وفي حديثِ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) أخرجهُ النسائيُّ وابنُ ماجةَ وصححهُ ابنُ خزيمةَ، وابنُ حبانَ، وصححهُ الحاكِمُ.
والغلوُّ: هوَ المبالغةُ في الشَّيءِ والتشديدُ فيه بتجاوزِ الحدِّ، قالَ الشاعِرُ:
ولا تغلُ في شيءٍ مِن الأمرِ واقتصد كلا طرفي قصدِ الأمورِ ذميم
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قالها ثلاثاً،
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ: ومِن كيدِ عدوِّ اللهِ إبليسَ أن يشمَّ قلبَ العبدِ، فإنْ رأى عندهُ قوةَ إقدامٍ وعلوَّ همةٍ قلَّلَ عندهُ المأمورَ وأوهمهُ أنَّه لا يكفي، وأنهُ يحتاجُ معهُ إلى مبالغَةٍ، وإنْ رأى الغالبَ عندهُ الانكفافَ والإحجامَ ثبَّطهُ عنِ المأمورِ وثقَّلهُ عليه، حتى يتركَهُ أو بعضَه، كما قال بعضُهم: ما أمرَ اللهُ بأمرٍ إلاَّ وللشيطانِ فيهِ نزغتانِ، إمَّا إلى إفراطٍ وتقصيٍر، وإمَّا إلى مجاوزةٍ وغلوٍّ، ولا يبالي بأيِّهما ظفَرَ، وقد اقتطعَ أكثرُ الناسِ إلاَّ القليلَ في هذين الوادِيينِ، انتهى.(1/118)
كَما أنَّ الأمَّةَ هِيَ الوَسَطُ في الأمَمِ. (1)
__________
(1) قَولُهُ: كما أنَّ هذه الأمَّةَ هي الوسطُ في الأممِ قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، أي: عَدلاً خيارًا، لتوسُّطِها بين الطَّرفين المذمُومينِ، فلم يَغلوا غلوَّ النَّصارى، ولم يُقَصِّروا كتقصيرِ اليهودِ، ولكنَّهم أهلُ وسطٍ واعتدالٍ، فهم مُعتدلون في بابِ توحيدِ اللهِ إذ كان اليهودُ يصفونَ اللهَ بالنقائِصِ ويشبِّهونه بالمخلوقِ، كما أخبرَ اللهُ عنهمْ أنهم: (قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) ونَفى عنْ نفسهِ اللغوبَ الَّذي وصفوهُ بِه، والنصارى يصفونَ المخلوقَ بصفاتِ الخالقِ التي اختصَّ بها، فلا يشركهُ فيها غيرُهُ كالإلهيةِ وغيرِهَا، وقالوا بأنَّ المسيحَ هوَ اللهُ، وقالوا: ابنُ اللهِ وثالثُ ثلاثَةٍ، وأمَّةُ محمدٍ وسطٌ يعبدونَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- ويصفونَه بما وصفَ بهِ نفسَه ووصفهُ بهِ رسولُهُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فوصفوهُ بصفاتِ الكمالِ ونزَّهوهُ عنْ صفاتِ النَّقصِ والعيبِ، وكذلكَ في النبوَّاتِ، فاليهودُ تقتلُ الأنبياءَ، وتستكبرُ على أتباعهِم، والنَّصارى يجعلونَ مَن ليس بنبيٍّ ولا رسولٍ نبيًّا ورسولاً، وهذه الأمَّةُ تؤمنُ بجميعِ أنبياءِ اللهِ ورسلِه، وأمَّا الشرائعُ فاليهودُ منعوا الخالقَ أنْ يبعثَ رسولاً بغيرِ شريعةِ الرَّسولِ الأوَّلِ، والنصارى جوَّزوا لأحبارهمْ أنْ يُغيروا مِن الشرائعِ ما بعثَ اللهُ بهِ رُسُلَهُ، وكذلكَ في العباداتِ النصارى يعبدونهُ ببدعٍ ما أنزلَ اللهُ بها مِن سلطانٍ، واليهودُ معرضونَ عن العباداتِ، والمسلمونَ عبدوهُ بما شرعَ ولم يعبدوهُ بالبدَعِ.
وكذلكَ في حقِّ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، فلم يَغلوا فيهم كما غلتِ النَّصارى في المسيحِ، ولا جَفوهم كما جفتْ فيهم اليهودُ، فالنَّصارى عبدوهم واليهودُ قتلوهمْ وكذَّبوهم، والأمَّةُ الوسطى هي هذه الأمَّةُ، آمنوا بهمْ وعزَّروهم ونَصروهم، فهذهِ الأمَّةُ أفضلُ الأممِ على الإطلاقِ، قالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) الآيةَ – وفي حديثِ أبي هريرةَ: ((أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ)، وأمَّا قَولُهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- في بني إسرائيلَ: (وَفَضَّلْنَاكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) فالمرادُ أنه -سُبْحَانَهُ- فضَّلهمْ على عالمي زَمانِهمْ، كشعبِ بُخْتَنَصَّرَ وغيرهِمْ.(1/119)
( فهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطيلِ الجَهْمِيَّةِ. (1)
__________
(1) قَولُهُ: فهمْ وسطٌ في بابِ صفاتِ اللهِ: أي أهلُ السُّنَّةِ وسطٌ، أيْ عدلٌ خيارٌ معتدلونَ بينَ الطرفينِ المنحرفيْنِ، فهم معتدلونَ في بابِ توحيدِ اللهِ، يصفونهُ -سُبْحَانَهُ- بما وصفَ بهِ نفسهُ وبما وصفهُ بهِ رسولهُ أعرفُ الناسِ بربهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِنْ غيرِ تعطيلٍ فلا ينْفي عنهُ ما وصفَ بهِ نفسهُ أوْ وصفهُ بهِ رسولُهُ، ولا تشبيهَ فلا يقالُ لهُ سمعٌ كأسماعِنا، ولا بصرٌ كأبصارِنا ونحوُ ذلكَ، كما قال سُبْحَانَهُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فقَولُهُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ردٌّ على المشبِّهَةِ، وقَولُهُ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ردٌّ على المعطلَةِ.
قَولُهُ: أهلُ التعطيلِ: أي الذين نَفوا حقائقَ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ وعطلوهُ منها، مِن الجهميةِ والمعتزلةِ والأشاعرةِ وأشباههِم، فالجهميةُ نفَوا صفاتِ اللهِ لَفظَها ومعناها، وزعموا أنَّ إثباتَها يفضيِ إلى التشبيهِ فعطَّلوهَا، فرُّوا مِن شيءٍ ووقعوا في أشدَّ منْهُ، فإنهم لم يعطِّلوها حتى شَبَّهوا اللهَ -سُبْحَانَهُ- بخلقهِ، واعتقدوا أنَّ صفاتِ اللهِ كصفاتِ المخلوقِ، فعطلوها فرارًا منَ التشبيهِ بزعمِهِم، فوقَعوا في أشدَّ مِن ذلكَ، وهو تشبيهُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بالمعدوماتِ والناقصاتِ، فشبَّهوا أوَّلاً وعطلوا ثانيًا، ثم شَبَّهوا ثالثًا، فإنَّ مَن لا صفاتَ لهُ بالكليَّةِ لا وجودَ لَهُ، فإنَّ مَن ليسَ لهُ سمعٌ ولا بصرٌ ولا قدرةٌ، ولا إرادةٌ ولا هو فوقَ ولا أسفلَ ولا يمينَ ولا شمالَ إلى آخرِ ما هوَ موجودٌ في كُتبهم ليسَ لهُ وجودٌ بالكليةِ، بلْ هوَ مقدَّرٌ في الأذهانِ لا وجودَ له في الأعيانِ، تعالى اللهُ عنْ قَولِهِمْ علوًّا كبيرًا، وكلامُ العلماءِ في ذمِّهمْ وأنهم يدورونَ على أنْ يقولوا ليسَ ثمَّ إلاَّ العدمُ المحضُ كثيرٌ، وأمَّا المعتزلةُ فأثبتوا الأسماءَ ونَفَوا المعانيَ، فيقولون إنُّهُ -سُبْحَانَهُ- سميعٌ بلا سمعٍ، بصيرٌ بلا بصرٍ، عليمٌ بلا علمٍ إلى غيرِ ذلك مما يقولونه، وتصوُرَ هذا المذهبِ كافٍ في ردِّه وإبطالِه، وأمَّا الأشاعرةُ فأثبتوا للهِ بعضَ الصفاتِ ونفَوا البعضَ، فاضطربوا وتناقَضُوا.
قَولُهُ: الجهميةُ: نسبةً إلى الجهمِ بنِ صفوانَ التِّرمذيِّ الضَّالِّ، والنسبةُ إليهِ جَهميٌّ بفتحِ الجيمِ، والجهمُ أخذَ بدعتهُ هذه، أي بدعةُ تعطيلِ الصفاتِ مِن الجعدِ بنِ درهَمٍ، فهو أولُ مَنْ تكلمَ في التعطيلِ في الإسلامِ، فقتلهُ خالدُ بنُ عبدِ الله القسريُّ بعدَ أنْ استشارَ علماءَ التابِعين فأفتَوْا بقتلِه، فخطبَ في يومِ عيدِ الأضحى فقالَ: يا أيها الناسُ ضحُّوا تقبَّلَ اللهُ ضحاياكمْ فإني مُضَحٍّ بالجعدِ بنِ درهَمٍ، فإنه زعمَ أنَّ اللهَ لم يتخذْ إبراهيمَ خليلاً ولمْ يكلمْ موسى تكليمًا، فنَزلَ فذبحهُ في أصلِ المنبرِ، قال ابن القيِّمِ رحمهُ اللهُ.
ولذا ضَحَّى بجعدٍ خالدٌ الـ قسريُّ يومَ ذبائحِ القربانِ
إذْ قالَ إبراهيمُ ليسَ خليلَه كلاَّ ولا موسى الكليمُ الدَّاني
شكرَ الضَّحيةَ كلُّ صاحبِ سُنَّةٍ لله درُّكَ من أخي قربانِ
والجعدُ بنُ درهمٍ أوَّلُ مَن قال بخلقِ القرآنِ، أخذَ بدعتَه عن أبانَ بنِ سمعانَ، وأخذها أبانُ عن طالوتَ بنِ أختِ لبيدِ بنِ الأعصمِ زوجِ بنْتِه، وأخذَها لبيدُ عن يهوديٍّ باليمنِ، وأخذَ هذه البدعةَ عنِ الجعدِ الجهمُ بنُ صفوانَ التِّرمذيُّ، وأخذَ عن الجهمِ بِشرٌ المَرِّيسيُّ، وأخذها عن بشرٍ أحمدُ بنُ أبي داودَ، وأما الجهمُ بنُ صفوانَ فقتلهُ سلمُ بنُ أحوزَ أميرُ خراسانَ سنةَ مائةٍ وثمانيةٍ وستينَ، ونُسبت الطائفةُ إلى الجهْمِ؛ لأنَّه الَّذي ناضلَ عن هذا المذهبِ الخبيثِ وأظهرهُ ودعا إليهِ، وتقلدَ هذا المذهبَ الخبيثَ بعدهُ المعتزلَةُ، ولكنْ كانَ الجهمُ أدخلَ في التعطيلِ مِنهم؛ لأنَّهُ ينكرُ الأسماءَ حقيقةً وهمْ لا ينكرونَ الأسماءَ بل الصفاتِ، قال جمعٌ مِن العلماءِ في الجهميةِ: إنهم ليسوا مِن فرقِ هذهِ الأمَّةِ الثنتينِ والسبعينَ فرقَةً، منهم عبدُ اللهِ بنُ المباركِ ويوسفُ بنُ أسباطٍ وغيرُهم.
قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ في (النُّونيَّةِ):
ولقدْ تقلدَ كُفرَهمْ خمسونَ في عشرٍ منَ العلماءِ في البلدانِ
واللالكائيِّ الإمامُ حكاهُ عنهم بلْ قدْ حكاهُ قبلهُ الطبرانيِ
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: المشهورُ مِن مذهبِ الإمامِ أحمدَ وعامَّةِ أئمَّةِ السنةِ تكفيرُ الجهميةِ، وهم المعطلةُ لصفاتِ الرحمنِ، فإنَّ قَولَهُمْ صريحٌ في مناقضةِ ما جاءتْ بهِ الرسلُ من الكتابِ والسنَّةِ، وحقيقةُ قَولِهِمْ جحودُ الصانعِ وجحودُ ما أخبرَ بهِ على لسانِ رسولهِ بلْ وجميعِ الرسُلِ، ولهذا قال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ: إنا لنحكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى ولا نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجهميَّةِ، وقال غيرُ واحدٍ من الأئمَّةِ: إنهم أكفرُ مِن اليهودِ والنصارَى.(1/120)
وأَهْلِ التَّمْثيلِ المُشَبِّهَةِ، وهُمْ وَسَطٌ في بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بينَ الجَبْرِيَّةِ والقَدَرِيَّةِ، [ وغيْرِهِم ] ). (1)
__________
(1) قَولُهُ: وأهلُ التمثيلِ المشبهةُ: أهلُ التمثيلِ المشبهةُ الذينَ شبَّهوا اللهَ بخلقهِ ومثَّلوه بهم – تعالى اللهُ عنْ قَولِهِمْ علوًّا كبيرًا – والتشبيهُ ينقسمُ إلى قسمينِ كما تقدَّمَ:
الأوَّلِ: تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، كما تقولُ: للهِ يدٌ كأيدينا، وعينٌ كأعيننا، وقدمٌ كأقدامنَا.
الثاني: تشبيهُ المخلوقِ بالخالقِ كتشبيهِ الأصنامِ والأوثانِ باللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى عنْ ذلكَ- فإنهُ -سُبْحَانَهُ- لا شبيهَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا نظيرَ، قال تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) – (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) – (فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ) – (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فالمعطِّلةُ غَلوا في النَّفيِ حتى شبَّهوه بالمعدوماتِ والناقصاتِ، والمشبهةُ غَلوا في الإثباتِ حتى شَبهوهُ بالمخلوقاتِ، وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أثبتوا للهِ الأسماءَ والصفاتِ ونفَوا عنه مشابهةَ المخلوقاتِ.
قَولُهُ: وهم وسطٌ في أفعالِ اللهِ بينَ الجبريةِ والقدريَّةِ: فالجبريةُ نفوا أفعالَ العبادِ، وزعموا أنهمْ لا يفعلونَ شيئًا ألبتَّةَ، وإنَّما اللهُ هو فاعلُ تلكَ الأفْعَالَ حقيقةً، فهي نفسُ فعلِه لا أفعَالِهم، والعبيدُ ليس لهم القدرةُ ولا إرادةٌ ولا فعلٌ ألبتَّةَ، وإنَّما أفعالُ العبادِ كحفيفِ الأشجارِ أو كحركةِ المرتعشِ والكلُّ فعلُ اللهِ، وعليهِ فسائرُ الأفعالِ طاعةٌ؛ لأنَّها موافِقةٌ لإرادَةِ اللهِ الكونيَّةِ القَدَرِيَّةِ، فالزِّنا واللِّواطُ والقتلُ وشربُ الخمرِ على هذا القولِ طاعاتٌ، وقدْ قالَ بعضُ غلاتِهمْ:
أصبحتُ منفعلاً لما يختارُهُ ربِّي ففعلِي كلُّه طاعاتُ
ولا شكَّ في فسادِ هذا المذهبِ، وأدلَّةُ الكتابِ والسنَّةِ بل والعقلُ متواطِئةٌ على ردِّه وإبطالِه، بلْ لا يمكنُ أن تعيشَ أمَّةٌ على هذا المذهبِ الخبيثِ، أو تَنْتَظمَ أمورُها، ولاَ شكَّ أنَّ هذا المذهبَ مخالفٌ لجميعِ أديانِ الأنبياءِ، والجبريَّةُ سمُّوا بذلكَ لأنَّهم يقولونَ: إنَّا مجبورونَ على أفعالِنَا، فَغلوا في إثباتِ القَدَرِ، وزعموا أنَّ العبدَ لا فِعلَ له ألبتَّة، قال في التعريفاتِ: الجبريَّةُ مِن الجبرِ، وهوَ إسنادُ فعلِ العبدِ إلى اللهِ، والجبريَّةُ اثنانِ متوسطةٌ تثبتُ للعبدِ كسبًا في الفعلِ كالأشعريَّةِ، وخالصةٌ لا تثبتُ كالجهميَّةِ، انتهى.
ولفظُ جبرٍ لفظٌ مبتدعٌ أنكرهُ السَّلفُ، كالثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ، وغيرهِم، وقالوا: الجبرُ لا يكونُ إلاَّ مِن عاجِزٍ، فيقالُ جَبر كما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ، أشارَ إلى ذلكَ الشيخُ تقيُّ الدينِ وابنُ القيِّمِ رحمهما اللهُ، وأصلُ قولِ الجبريةِ مأخوذٌ عن الجهمِ بنِ صفوانَ، فهو إمامُ المجبِّرَةِ، والجبريَّةُ عكسُ القَدَرِيَّةِ نفاةِ القَدَرِ، فإنَّ القَدَرِيَّةَ نُسبوا إلى القدرِ لنفيهمْ إياهُ، وقدْ تُسمَّى الجبريَّةُ قَدَريَّةً؛ لأنهم غَلوا في إثباتِ القَدَرِ، والتَّسميةُ على النَّافين أغلبُ: قال الشيخُ تقيُّ الدينِ في (تائيَّتهِ):
ويُدْعَى خصومُ اللهِ يومَ معادِهِمْ إلى النَّارِ طُرًّا فرقةَ القَدَريَّةِ
سواءٌ نَفَوْا أو قد سَعَوْا ليُخَاصِمُوا بهِ اللهَ أو مَاروا بِه للشَّريعَةِ
فالقَدَرِيَّةُ النُّفاةُ همُ الَّذين وَرَدَ فيهم الحديثُ الَّذي في السُّنَنِ أنَّهم مجوسُ هذهِ الأمَّةِ، وأكثرُ المعتزلَةِ على هذا المذهبِ الباطِلِ، فإنهم يقولونَ: إنَّ أفعالَ العبادِ وطاعتِهِمْ ومعاصيهِمْ لم تدخلْ تحتَ قضاءِ اللهِ وقدَرِه، فاللهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على زعمِهمْ لا يَقْدِرُ على أفعالِ العبادِ ولا شاءَها منهمْ، ولكنَّهم يعملونَها دونَ مشيئةِ اللَّهِ وقدرتِه، وأنَّ اللَّهَ لا يَقدِرُ أنْ يَهدِيَ ضالاً ولا يُضِلَّ مهتديًا، فأثبتوا خالِقًا مع اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وهذا إشراكٌ مع اللَّهِ في توحيدِ الرُّبُوبيَّةِ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: "وقَولُ القدريَّةِ يتضمَّنُ الإشراكَ والتَّعطِيلَ، فإنَّه يتضمَّنُ إِخْراجَ بَعضِ الحوادثِ عن أنْ يكونَ لها فاعِلٌ، ويتضمَّنُ إثباتَ فاعِلٍ مستقِلٍّ غيرِ اللَّهِ، وهاتان شُعبتانِ مِن شُعَبِ الكُفرِ، فإنَّ أَصْلَ كُلِّ كُفرٍ هو التَّعطيلُ والشِّركُ". انتهى. (منهاج).وقد وَرَدَتْ أحاديثُ في ذمِّ القدريَّةِ وأنَّهم مجوسُ هذه الأمَّةِ، وذلك لمضُاهاةِ قولِهم لقولِ المجوسِ، فإنَّ المجوسَ يُثبِتونَ خالِقَيْنِ، خالِقِ الخيرِ وخالِقِ الشَّرِّ، وهما النُّورُ والظُّلمةُ، فالنُّورُ خالِقُ الخيرِ، والظُّلمةُ خالِقَةُ الشَّرِّ، وكذلك القدريَّةُ أَثْبَتوا خالِقَيْنِ: أَثْبَتوا أنَّ اللَّهَ خالِقُ الحيوانِ وأنَّ الحيوانَ يَخْلُقُ فِعلَ نَفْسِه، فمِمَّا ورَدَ في ذَمِّهِم ما رواه أبو داودَ في "سننِه" مِن حديثِ ابنِ عمرَ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُمْ)). ورُوِيَ في ذمِّ القَدَرِيَّةِ أحاديثُ أُخَرُ، تكلَّمَ أهلُ الحديثِ في صِحَّةِ رَفْعِها، والصَّحيحُ أنَّها موقوفةٌ، وأوَّلُ مِن تكلَّمَ في القَدرِ معبدٌ الجهنيُّ، ثمَّ غيلانُ الدِّمشقيُّ، وكانَ ذلكَ في آخرِ عصرِ الصَّحابَةِ، وأنكرَ عليهمُ الصَّحابةُ وتبرَّءوا منهم وبَدَّعُوهم، فالجبريَّةُ غَلَوْا في إثباتِ القدَرِ، والمعتزِلَةُ غَلَوْا في نَفْيِه، وهَدى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسَطِ الَّذي تؤيِّدُه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فأَثْبَتوا أنَّ العِبادَ فاعِلون حقيقةً، وأنَّ أفعالَهم تُنْسَبُ إليهم على جِهةِ الحقيقةِ لا على جِهةِ المجازِ، وأنَّ اللَّهَ خالِقُهم وخالِقُ أفعالِهم، كما قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) وأثبتوا للعبدِ مَشيئةً واختيارًا تابِعَيْنِ لمشيئةِ اللَّهِ، كما قال –سبحانه-: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وسيأتي الكلامُ على هَذِهِ المباحِثِ إنْ شاءَ اللَّهُ.(1/121)
التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية
الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد
الجزء الثاني
( وفي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بينَ المُرْجِئةِ و [ بين ] الوَعيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وغَيْرِهِم ). (1)
__________
(1) قولُه: وفي بابِ وعيدِ اللَّهِ: الوعيدُ: التَّخوِيفُ و التَّهديدُ، فالوعيدُ والإيعادُ في الشَّرِّ، وأمَّا الوَعْدُ والعِدَةُ ففي الخيرِ، كما قال الشَّاعرُ:
وإنِّي وإنْ أوْعدتُه أوْ وعَدْتُه لمُخْلِفُ إِيعَادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدي
قولُه: المُرْجِئةُ: المُرْجِئةُ نسبةٌ إلى الإرجاءِ، أيْ: التَّأخيرِ؛ لأنَّهم أخَّروا الأعمالَ عن الإيمانِ، حَيْثُ زَعَموا أنَّ مرتكبَ الكبيرةِ غيرُ فاسقٍ، وأنَّ النَّاسَ في الإيمانِ سواءٌ، فإيمانُ أفْسَقِ النَّاسِ كإيمانِ الأنبياءِ، وأنَّ الأعمالَ الصَّالِحةَ ليست مِن الإيمانِ، ويكذِّبون بالوعيدِ والعِقابِ بالكُلِّيَّةِ، ومذهبُهم باطلٌ تردُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولا شكَّ أنَّ هذا المذهبَ مِن أخبثِ المذاهبِ وأفسدِها؛ إذ يدعو إلى الانسلاخِ مِن الدِّينِ وإهمالِ جميعِ الأعمالِ، واستباحةِ جميعِ المنكَراتِ، وهؤلاء أَحدُ فِرَقِ المبتَدِعةِ، قال الشَّيخ تقيُّ الدِّينِ: "لا تختلفُ نصوصُ أحمدَ أنَّه لا يكفِّرُ المُرْجِئةَ، فإنَّ بِدعَتَهم مِن جِنسِ اختلافِ الفقهاءِ في الفروعِ" والمُرْجِئةُ فِرقتانِ:
الأُولى: الذين قالوا: إنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ، وهُم مع كونِهم مبتدعةً في هَذَا القولِ فقد وافَقوا أهلَ السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ يعذِّبُ مَن يعذِّبُه مِن أهلِ الكبائرِ بالنَّارِ، ثم يخرِجُهم بالشَّفاعةِ، كما جاءتْ به الأحاديثُ الصَّحيحةُ، وعلى أنَّه لا بُدَّ في الإيمانِ أنْ يتكلَّمَ به بلسانِه، وعلى أنَّ الأعمالَ المفروضةَ واجبةٌ وتارِكُها مستحِقُّ للذَّمِّ والعِقابِ، وقد أُضِيفَ هَذَا القولُ إلى بعضِ الأئِمَّةِ مِن أهلِ الكوفةِ.
أما الفِرقةُ الثَّانيةُ: فهم الذين قالوا: إنَّ الإيمانَ هُوَ مجرَّدُ التَّصدِيقِ بالقلبِ، وإنْ لم يَتكلَّمْ به، ولا شكَّ في فسادِ هَذَا القولِ، ومصادمَتِه لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ الإيمانَ قولٌ باللِّسانِ، وعملٌ بالأركانِ، واعتقادٌ بالجَنَانِ، فإذا اخْتَلَّ واحدٌ مِن هَذِهِ الأركانِ لم يكُن الرَّجُلُ مؤمِنا، وعلى هَذَا أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ودَرَج على هَذَا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بعدَهم مِن أئِمَّةِ المسلِمِينَ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بتصرُّفٍ.
قولُه: الوعيديَّةُ: وهُم القائِلون بالوعيدِ، وهُوَ أصْلٌ مِن أصولِ المعتزِلة، وهُوَ أنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ لمرتكبِ الكبيرةِ إلاَّ بالتَّوبةِ، وأنَّ أهلَ الكبائرِ مخلَّدون في النَّارِ، ويخرِجُونهم مِن الإيمانِ بالكُلِّيَّةِ، ويكذِّبون بشفاعةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وغيرِه زعْمًا منهم أنَّه إذا أوْعَدَ عبيدَه فلا يجوزُ أنْ يعذِّبَهم ويُخلِفَ وعيدَه، وهَذَا المذهبُ يقولُ به المعتزِلةُ والخوارجُ، وهُوَ باطلٌ تردُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ المتواترةُ والإجماعُ، قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قال في (فَتحِ المَجِيدِ): وفي الآيةِ ردٌّ على الخوارجِ المكفرِّين بالذُّنوبِ، وعلى المعتزِلةِ القائِلينَ بأنَّ أصحابَ الكبائرِ يخلَّدون في النَّار، وليسوا عندهم بمؤمِنين ولا كفارٍ، ولا يجوزُ أنْ يُحمَلَ قولُه سبحانه: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) على التَّائبِ، فإنَّ التَّائبَ مِن الشِّركِ مغفورٌ له، كما قال تعالى: (قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذَّنُوبَ جَمِيعًا) فهُنا عَمَّمَ وأَطْلَقَ؛ لأنَّ المرادَ هنا التَّائبُ، وهناك خصَّ وعلَّقَ؛ لأنَّ المرادَ به مَن لم يَتُبْ، هَذَا ملخَّصُ كلامِ شيخِ الإسلامِ تقيِّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
أمَّا القولُ الوسَطُ الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فهُوَ أنَّ الفاسِقَ معه بعضُ الإيمانِ، وأصلُه معه جميعُ الإيمانِ الواجبِ الذي يستوجِبُ به الجَنَّةَ، فهُوَ تحت مشيئةِ اللَّهِ إنْ عفى عنه أدخَلَه الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهلةٍ، وإلاَّ عذَّبه بقدْرِ ذُنوبِه، ثم أدخَلَه الجَنَّةَ، فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، فلا يُعطَى الإيمانَ المطلَقَ، ولا يُسلَبُ عنه مُطلَقُ الإيمانِ، بل يُقالُ مؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، أو يقالُ مؤمِنٌ ناقصُ الإيمانِ، وهَذَا هُوَ الحقُّ الذي دلَّتْ عليه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ودَرَج عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، عَكْسَ ما عليه الخوارجُ والمعتزِلةُ والمُرْجِئةُ، فالمُرْجِئةُ في طرَفٍ، والخوارجُ والمعتزِلةُ في طرَفٍ آخَرَ، فالخوارجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ جَفَوْا، فالمُرْجِئةُ يقولونَ: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذنبٌ، والخوارجُ يقولون: يكفَّرُ المسلمُ بكُلِّ ذنبٍ. وَكَذَلِكَ المعتزِلةُ يقولون: يَحبَطُ إيمانُه كُلُّه بالكبيرةِ فلا يبقى معه شيءٌ مِن الإيمانِ، لكنَّ الخوارجَ يقولون: يَخرجُ مِن الإيمانِ، ويدخُلُ في الكُفْرِ، والمعتزِلةُ يقولون: يخرجُ مِن الإيمانِ، ولا يدخُلُ في الكُفرِ، بل يكونُ في منزِلةٍ بَيْنَ مَنزِلتَيْنِ، وبقولِهم بخروجِه مِن الإيمانِ أوْجَبوا له الخلودَ في النَّارِ، وكِلاهما مخالِفٌ للسُّنَّةِ المتواترةِ ولإجماعِ سلَفِ الأمَّةِ وَأئِمَّتِها.
وأمَّا استدلالُهم بقولِه سبحانه: (لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى) فقدْ بَيَّنَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّ هَذَا الصِّلِيَّ لأهلِ النَّارِ الذين هم أهلُها، كما في حديثِ أبي سعيدٍ، وأنَّ الذين ليسوا هُم مِن أهلِها، فإنِّها تُصيبُهم بذُنوبِهم، وأنَّ اللَّهَ يُميتُهم فيها حتَّى يصيروا فَحْما، ثم يُشَفَّعُ فيهم فيخرجون، ويؤتَى بهم إلى نَهرِ الحياةِ فيَنبُتون كما تَنْبُتُ الحبَّةُ في حميلِ السَّيلِ، وهَذَا المعنى مستفِيضٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بل متواتِرٌ في أحاديثَ كثيرةٍ في الصَّحيحَيْنِ وغيرِهما مِن حديثِ أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ وغيرِهما، قال والصِّلِيُّ المذكورُ في الآيةِ هُوَ الصِّلِيُّ المطلَقُ، وهُوَ المُكْثُ فيها والخلودُ على وجهٍ يَصِلُ العذابُ إليهم دائما، فأمَّا مَن دخَلَ وخَرَجَ فإنَّه نوعٌ مِن الصِّلِيِّ المطلَقِ. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بتصرُّفٍ.(1/1)
( وَفي بَابِ [ أَسْماءِ ] الإِيْمانِ والدِّينِ بينَ الحَرُورِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ، وبَيْنَ المُرْجِئةِ والجَهْمِيَّةِ، وَفي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ [ الرَّافِضَةِ و [ بين ] الخَوَارِجِ ). (1)
__________
(1) قولُه: وفي بابِ أسماءِ الإيمانِ والدِّينِ: أيْ أنَّ هؤلاء تَنازعوا في الأسماءِ والأحكامِ أيْ: أسماءِ الدِّينِ: مِثلَ مسلمٍ وكافرٍ وفاسقٍ، وَكَذَلِكَ في أحكامِ هؤلاء في الدُّنْيَا والآخرةِ، فالخوارجُ والمعتزِلةُ متَّفِقونَ في اسمِ الدِّينِ مِثلَ مؤمنٍ ومسلمٍ وفاسقٍ وكافرٍ، إلاَّ أنَّ المعتزِلةَ أحْدَثوا المنزِلةَ بَيْنَ المنزِلتَيْنِ، وَهَذِهِ خاصَّةُ المعتزِلةِ التي اختُصُّوا بها دونَ غيرِهم دونَ سائرِ أقوالِهم، فقد شارَكهم فيها غيرُهم، فالخوارجُ والمعتزِلةُ يقولون: إنَّ الدِّينَ والإيمانَ قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، ولكنْ لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ، ومَن أتى كبيرةً كفَرَ عندَ الحَروريَّةِ، وصار فاسقًا عندَ المعتزِلةِ في منزلةٍ بَيْنَ المنزِلتَيْنِ، لا مؤمِنٌ ولا كافرٌ..وأمَّا الحُكمُ، فالمعتزِلةُ وافَقوا الخوارجَ على حُكمِهم في الآخرةِ، فعندَهم أنَّ مَن أتى كبيرةً فهُوَ خالدٌ مخلَّدٌ في النَّارِ لا يَخرجُ منها لا بشفاعةٍ ولا بغيرِ شفاعةٍ، أمَّا في الدُّنْيَا فالخوارجُ حَكَموا بكفرِ العاصي واستحَلُّوا دَمَه ومالَه، وأمَّا المعتزِلةُ فحَكَموا بخروجِه مِن الإيمانِ ولم يُدخِلُوه في الكفرِ، ولم يستحِلُّوا منه ما استحلَّتْهُ الخوارجُ، وقابَلتُهم المُرْجِئةُ والجهميَّةُ ومَن اتَّبعَهُم، فقالوا: ليس مِن الإيمانِ فِعلُ الأعمالِ الواجبةِ، ولا تَرْكُ المحظوراتِ البَدَنيَّةِ، فإنَّ الإيمانَ لا يَقبلُ الزِّيادةَ ولا النُّقصانَ، بل هُوَ شيءٌ واحدٌ يَستوي فيه جميعُ المؤمنينَ مِن الملائكةِ والمقتَصِدينَ والمُقرَّبِينَ والظَّالِمينَ، فالمُرْجِئةُ يقولون: الإيمانُ مجرَّدُ التَّصديقِ، والجهميَّةُ يقولون: مجرَّدُ المعرفةِ، والأعمالُ ليست مِن الإيمانِ، فإيمانُ أفسقِ النَّاسِ كإيمانِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وقالوا: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذنْبٌ، فالخوارِجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ والجهميَّةُ جَفَوا، وهَدى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوَسَطِ، وهُوَ كما تَقدَّمَ أنَّ الإيمانَ والدِّينَ قولٌ وعملٌ واعتقادٌ، وأنَّه يَزيدُ ويَنقُصُ، وأنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ بإيمانِه، فاسقٌ بكبيرتِه، أو مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، وأمَّا حُكمُه في الآخرةِ، فهُوَ تحتَ مشيئةِ اللَّهِ، إنْ شاءَ عفا عنه، وأدخَلَه الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهلةٍ، وإلاَّ عذِّبَ بقَدْرِ ذُنوبهِ ثم دخَلَ الجَنَّةَ، فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، هَذَا هُوَ القولُ الحقُّ الذي تدلُّ عليه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وعليه السَّلَفُ الصَّالِحُ والأئِمَّةُ.
قولُه: الحروريَّةُ: هم الخوارجُ، سُمُّوا حروريَّةً نسبةً إلى قريةِ حَروراءَ بالفتحِ والمَدِّ، قريةٌ بالعراقِ قريبةٌ مِن الكوفةِ اجتمعوا فيها حين خرجُوا على عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- فسُمِّيَ الخوارجُ حَروريَّةً.
وأمَّا المعتزِلةُ فهم أصحابُ واصلِ بنِ عطاءٍ الغزَّالِ، اعتزلَ عن مجلِسِ الحسَنِ البصريِّ، وأخَذَ يقرِّرُ أنَّ مرتكبَ الكبيرةِ لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، ويُثبِتُ له المنزِلةَ بَيْنَ المنزِلتَيْن. فقال الحسَنُ: قد اعتزلَ عنَّا واصِلٌ، ويُلقَّبُون بالقَدَريَّةِ لإسنادِهم أفعالَ العِبادِ إلى قُدْرتِهم، وقالوا: إنَّ مَن يقولُ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه مِن اللَّهِ أولى باسمِ القَدَريَّةِ، ويردُّه قولُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((القَدَريَّةُ مَجوسُ هَذِهِ الأمَّةِ)). ولَقَّبوا أنْفُسَهم بأصحابِ العدلِ والتَّوحيدِ، لقولِهم بوُجوبِ الأصلحِ على اللَّهِ، وقولِهم بنَفْي الصِّفاتِ، وبأنَّ كلامَه مخلوقٌ مُحدَثٌ، وبأنَّه غيرُ مَرئيٍّ في الآخرةِ، ويجِبُ عليه رعايةُ الحكمةِ في أفعالِه، وثوابُ المطيعِ والتَّائبِ، وعِقابُ صاحبِ الكبيرةِ، ثم افترَقوا عشرين فِرقةً يكفِّر بعضُهم بعضا.
قولُه: الرَّافضةُ: من الرَّفْضِ وهُوَ التَّرْكُ، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لأنَّهم قالوا لِزَيدِ بنِ عليِّ بنِ الحُسينِ بنِ أبي طالِبٍ: "تبرَّأْ مِن الشَّيخَيْنِ أبي بكرٍ وعُمرَ –رضي اللَّهُ عنهما-" فقال: "معاذَ اللَّهِ، وَزِيرا جَدِّي" فتركوه ورَفضوه، فسُمُّوا رافِضةً، والنِّسبةُ رافضيٌّ، والرَّافِضةُ فِرقٌ شتَّى، قد تكفَّلَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميَةَ ببَيانِ مذهبِهم والردِّ عليهم في كتابِه (منهاجِ السُّنَّةِ) ويُلقَّبون بالشِّيعةِ، وكان هَذَا اللَّقَبُ في الأصلِ للذين ألَّفُوه في حياتِه كسلْمانَ وأبي ذَرٍّ والمقدادِ وعمارٍ وغيرِهم، ثم صار بعد ذلك لقبًا على مَن يَرى تفضيلَه على كُلِّ الصَّحابةِ، ويرى أمورًا أُخْرى لا يَرضاها عليٌّ ولا أَحدٌ مِن ذُرِّيَّتِه ولا غيِرهم ممَّن يُقتدَى به، قال في (المنهاجِ): سُمُّوا بالشِّيعةِ لمَّا افْترَقَ النَّاسُ فِرقتَيْنِ: فرقةٌ شايَعتْ أولياءَ عثمانَ، وفرقةٌ شايَعتْ عليًّا –رضي اللَّهُ عنه-. ولم يكونوا يُسَمَّوْن رافضةً في ذلك الوقتِ، وإنَّما سُمُّوا رافضةً لمَّا خرجَ زيدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ في الكوفةِ في خلافةِ هشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ، فسألَتْهُ الشِّيعةُ عن أبي بكرٍ وعُمرَ فتَرَحَّم عليهما فرَفَضَه قومٌ. فقال: رفضتموني فسُمُّوا رافضةً، وتولاَّه قومٌ فسُمُّوا زَيْديَّةً لانتسابِهم إليه. انتهى.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "أوَّلُ مَن ابتدعَ الرَّفضَ عبدُ اللَّهِ بنُ سبأٍ، وكان منافقًا زِنديقًا أرادَ إفسادَ دينِ الإسلامِ، كما فَعلَ بولس صاحبُ الرسائلِ التي بأيدي النَّصارى، حَيْثُ ابتدعَ لهم بِدعًا أفسَدَ بها دِينَهم –وكان يهوديًّا – فأظْهَرَ النَّصرانيَّةَ نفاقًا لقَصدِ إفسادِ مِلَّتهِم، وَكَذَلِكَ كانَ ابنُ سبأٍ يهوديًّا فأظْهرَ الإسلامَ والتَّنسُّكَ والأمرَ بالمعروفِ والنَّهْيَ عن المنكَرِ، ليتمكَّنَ بِذَلِكَ مِن أغراضِه الفاسدةِ، فسعى في فتنةِ عثمانَ بنِ عفَّانَ وقتْلِه، ثم لما قَدِمَ الكوفةَ أظْهَرَ الغُلُوَّ في عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فبَلَغ ذلك علِياًّ فطلَبه ليَقتُلَه فهرب إلى قرقيسا". انتهى.
والرَّافضةُ مِن أخبثِ الطَّوائِفِ حتى أخْرجَهُم بعضُ العلماءِ مِن فِرقِ الأُمَّةِ، ورُوِيَ عن الشَّعْبيِّ أنَّه قال: أحذِّرُكم هَذِهِ الأهواءَ المُضِلَّةَ وشَرُّها الرَّافِضةُ، لم يدخلوا في الإسلامِ رغبةً ولا رهبةً، ولكنْ مَقْتاً لأهلِ الإسلامِ، وبَغْياً عليهم، قد حرَّقَهُم عليُّ بنُ أبي طالبٍ ونفاهُم إلى البُلدانِ، منهم عبدُ اللَّهِ بنُ سبأٍ – يهوديٌّ مِن أهلِ صنعاءَ نفاه إلى ساباط – وعبدُ اللَّهِ بنُ يسارٍ – نَفاهُ إلى خازر – وكلامُ أهلِ العِلمِ في ذمِّهِم كثيرٌ جداًّ.
وأمَّا الخوارجُ فسُمُّوا بِذَلِكَ لخُروجِهم على عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- ومفارقَتِهم له، وقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((تمرُقُ مارِقةٌ على حينِ فُرْقةٍ مِن النَّاسِ، تقتُلُهم أوْلى الطَّائفتَيْنِ بالحَقِّ)) فخَرجوا في زَمَنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- فقتَلَهُم عليٌّ وطائفتُه. وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في حقِّهم: ((يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَؤونَ الْقُرآنَ لاَ يُجاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْراً عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ)). وقد روى مسلمٌ أحادِيثَهم في "صحيحِه" مِن عشَرةِ أوجُهٍ، واتَّفقَ الصَّحابةُ على قِتالِهم، وفي التِّرْمِذِيِّ عن أبي أمامةَ الباهِليِّ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في الخوارجِ: ((إِنَّهُمْ كِلاَبُ أَهْلِ النَّارِ)). وقرأ هَذِهِ الآيةَ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). وقال الإمامُ أحمدُ: "صحَّ الحديثُ في الخوارجِ مِن عشَرةِ أوجُهٍ". وقد خرجَّها مسلمٌ في "صحيحِه"، وخرَّجَ البخاريُّ طائفةً منها، وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الخوارجُ هم أوَّلُ مَن كفَّرَ المسلِمِينَ بالذُّنوبِ، ويكفِّرونَ مَن خالَفهم في بِدْعَتِهم، ويَستحِلُّون دمَه ومالَه، وأوَّلُ بدعةٍ حَدَثتْ في الإسلامِ بدعةُ الخوارجِ والشِّيعةِ حديثًا في أثناءِ خلافةِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فعاقَبَ الطَّائفتَيْنِ، أمَّا الخوارجُ فقاتَلُوه فقتَلَهم، وأمَّا الشِّيعةُ فحرَّقَ غالبيتَهُم بالنَّارِ، وطلبَ قتْلَ عبدِ اللَّهِ بنِ سبأٍ فهرَبَ منه، وأمَرَ بجَلْدِ مَن يُفضِّلُه على أبي بكرٍ وعمَرَ، وروي عنه من وُجوهٍ كثيرةٍ، أنَّه قال: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد نبِّيها أبو بكرٍ وعمرُ. ورواهُ عنه البخاريُّ في "صحيحِه". انتهى.
فالخوارجُ والرَّافضةُ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في طرَفَيْ نَقيضٍ، فالرَّافضةُ غَلَوْا في عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ، وكفَّروا جميعَ الصَّحابةِ كالثَّلاثةِ، ومَن وَالاهُم وفسَّقُوهم، ويكفِّرون مَن قاتلَ علِياًّ، ويقولون إنَّ علياًّ إمامٌ معصومٌ، وقالوا: لا ولاءَ إلا ببراءٍ، أيْ لا يتولَّى أحدٌ علياًّ حتى يتبرَّأَ مِن أبي بكرٍ وعمرَ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ عليهم.
وأمَّا الخوارجُ فإنهم يكفِّرون علياًّ وعثمانَ ومَن وَالاهُما، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فقولُهم في الصَّحابةِ وسَطٌ لم يَغْلُوا غُلُوَّ الرَّافضةِ، ولم يَجْفُوا كالخوارجِ، بل وَالَوْا جميعَ الصَّحابةِ وأَحَبُّوهم وعرَفُوا فضْلَهُم وأنْزَلُوهم مَنازِلَهُم التي يستحِقُّونها، فلم يَغمِطوهم حقَّهُم، ولم يَغْلُوا فيهم واعتقدوا أنَّهم أفْضلُ هَذِهِ الأمَّةِ عِلماً وعَملاً، فرِضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين.(1/2)
( فَصْلٌ: وقَدْ دَخَلَ فيما ذَكَرْنَاهُ مِن الإِيمانِ باللهِ الإِيْمانُ بِما أَخْبَرَ اللهُ بهِ في كِتابِهِ، وتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ، وأَجْمَعَ عليِه سَلَفُ الأمَّةِ؛ (1)
__________
(1) قولُه: (تَواتَرَ): التَّواتُرُ لغةً: التَّتابُع بِعُلُوٍّ. واصطلاحًا خبرُ عددٍ يمتَنِعُ معه لكَثرَتِه تواطءٌ على الكَذِبِ عن محسوسٍ، ويَنقسِمُ إلى قِسمَيْنِ: (الأوَّلُ): لفظيٌّ، وهُوَ ما اشْتركَ عدُده في لفظٍ بعَيْنِه، وَذَلِكَ كحديثِ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). رواه نيِّفٌ وستُّون منهم العشَرةُ. (الثَّاني): معنويٌّ، بأنْ يتواتَرَ معنًى في ضِمنِ أحاديثَ مختلفةِ الألفاظِ متَّحِدةِ المعنى.
قولُه: (سَلَفُ الأُمَّةِ): أيْ متقَدِّمُوهم، والمرادُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وهم الصَّدْرُ الأوَّلُ مِن التَّابِعينَ وغيرِهم، الذين هُم حَمَلةُ الشَّريعةِ، ونَقَلَةُ الدِّينِ على التَّحقيقِ.
قولُه: (وقد دخل). إلخ، أي وقد دخَلَ في الإيمانِ باللَّهِ الإيمانُ بعُلُوِّه -سبحانه- وفوقِيَّتِه واستوائِه على العرشِ، فمَن لم يؤمِنْ بعُلُوِّه وفوقِيَّتِه لم يؤمِنْ به، ولم يُصَدِّقْ رُسلَه، ولم يؤمِنْ بكتابِه، وبما جاء به رسولُه مُحَمَّدٌ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-. قال إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خزيمةَ: مَن لم يُقِرَّ بأنَّ اللَّهَ على عرشِه استوى فوقَ سبعِ سماواتٍ، وأنَّه بائِنٌ مِن خَلقِه، فهُوَ كافِرٌ يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُه، وأُلْقِيَ على مِزْبلةٍ لئلاَّ يتأذَّى بِريحِه أهلُ القِبلةِ وأهلُ الذِّمَّةِ.
قولُه: (بما أخبرَ اللَّهُ في كتابِه وتواتَرَ عن رسولِه): كما قال سبحانه: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ). وقولُه: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِن فَوْقِهِمْ) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ الصَّريحةِ في إثباتِ العُلُوِّ التَّامِ بجميعِ أنواعِه والفَوقِيَّةِ، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ أنواعِ العُلُوِّ والفَوقِيَّةِ، وتَقدَّمَ حديثُ الأوعالِ وغيرُه مِن الأحاديثِ الصَّريحةِ في إثباتِ العُلُوِّ والفوقِيَّةِ، وأدلَّةُ إثباتِ العُلُوِّ والفوقيَّةِ متواتِرةٌ، وانضمَّ إلى ذَلِكَ شهادةُ الفِطَرِ والعُقولِ المستقيمةِ والنُّصوصِ الواردةِ الدَّالَّةِ على عُلُوِّ اللَّهِ، وكَونِه فوقَ عِبادِه تَقْرُبُ مِن عشرين نوعًا، وإفرادُ هَذِهِ الأنواعِ لو بُسِطَتْ لبَلَغَتْ نحوَ ألْفِ دليلٍ كما ذَكَرَه ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- وغيرُه.
قولُه: (وأجمع عليه سَلَفُ الأمَّةِ): قال أبو عُمرَ الطلمنكيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أجمعَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ على عرشِه على الحقيقةِ لا على المجازِ، ثم ساقَ بِسَنَدِه عن مالِكٍ قولَه: اللَّهُ في السَّماءِ وعِلمُه في كُلِّ مكانٍ، ثم قال: أجمعَ المسلِمونَ مِن أهلِ السُّنَّةِ أنَّ معنى قولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) ونحوِ ذَلِكَ مِن القرآنِ: أنَّ ذَلِكَ عِلمُه، وأنَّ اللَّهَ فوقَ السَّماواتِ بِذاتِه مُسْتوٍ على عرشِه، وهَذَا كثيرٌ في كلامِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ والأئمَّةِ، فأثبَتُوا ما أثْبَتَهُ اللَّهُ في كتابِه وعلى لِسانِ رسولِه على الحقيقةِ على ما يَلِيقُ بجلالِ اللَّهِ وعظَمَتِه.(1/3)
مِنْ أَنَّهُ سُبْحانَهُ فَوْقَ سَماواتِهِ؛ عَلى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ على خَلْقِهِ، وهُو سُبحانَهُ معهُمْ أَيْنما كَانُوا، يَعْلَمُ ما هُم عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذلكَ في قَوْلِهِ:
( هُوَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْملَونَ بَصِيرٌ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وهُوَ -سُبْحَانَهُ- معهم أيْنما كانوا يَعلَمُ ما هم عامِلون). أيْ -سُبْحَانَهُ- مع عِبادِه بعِلمِه وإحاطَتِه واطِّلاعِه ومُشاهَدَتِه، لا يَخفَى عليه منهم شيءٌ، ومَعيَّتُه -سُبْحَانَهُ- لعِبادِه لا تُنافي عُلُوَّه وفوقِيَّتَه، فإنَّه جَمَعَ بينهما في قولِه: (وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ) الآيةَ، كما أشارَ إلى ذَلِكَ المصنِّفُ بقولِه:
(كما جَمعَ بين ذَلِكَ في قولِه: (وهُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ) إلخ. فأخبر -سُبْحَانَهُ- أنَّه خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ، وأنَّه استَوى على عرشِه، وأنَّه مع خَلقِه يُبصِرُ أعمالَهم مِن فوقِ عرشِه، فعُلُوُّه -سبحانَهُ وتعالَى- لا يُناقِضُ معيتَّه، ومعيتُّه لا تُبطِلُ عُلُوَّه بل كِلاهما حَقٌّ، وَهَذِهِ الآيةُ مِن أدلِّ شيءٍ على مُبايَنةِ الرَّبِّ لخَلقِه، فإنَّه لم يخلُقْهم في ذاتِه، بل خَلقَهُم خارجًا عن ذاتِه، ثم بانَ عنهم باستوائِه على عرشِه، وهُوَ يَعلمُ ما هم عليه ويَنفُذُ بَصرُه فيهم، ويُحيطُ بهم عِلمًا وقُدرةً وسمعًا وبَصرًا، وفي هَذِهِ الآيةِ إثباتُ عُلُّوِه -سبحانَهُ وتعالَى- واستوائِه على عرشِه، وفيها إثباتُ عِلمِه، وإحاطةُ عِلمِه بالكُلِّيَّاتِ والجُزئَّياتِ، وبما كان وما يكونُ، وما لم يَكنْ، ولو كان كيف يكونُ، وفيها إثباتُ معيَّتِه -سُبْحَانَهُ- لخَلقِه وأنَّ معيتَّه -سبحانَهُ وتعالَى- لا تُنافى عُلُوَّه وفوقيَّتَه، فإنَّه جَمَع بينهما، وفيها الرَّدُّ على مَن زَعَم أنَّ الاستواءَ مجازٌ، وأنَّ معنى استوى استولى؛ لأنَّ اللَّهَ قال: استوى في عِدَّةِ مواضِعَ، والاستواءُ غيرُ الاستيلاءِ، فإنَّ الاستواءَ معناه العُلُوُّ والارتفاعُ، وأمَّا الاستيلاءُ فلا يكونُ إلا بعدَ مغالَبةٍ، ولأنَّه –سُبْحَانَهُ- خَصَّ العرشَ بالاستواءِ، ولو كان المرادُ الاستيلاءُ لم يَخُصَّه؛ لأنَّه مستولٍ على الخلقِ جميعِهم، وقد رُدَّ تأويلُ الاستواءِ بالاستيلاءِ مِن وجوهٍ عديدةٍ أَنْهاهَا ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إلى اثنَيْنِ وأربعينَ وجْهًا، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ بعضِها، وفي الآيةِ فوائدُ غيرُ ما ذُكِرَ، قد تَقدَّمَت الإشارةُ إليها في الكلامِ على الآياتِ.(1/4)
ولَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ( وَهُوَ مَعَكُمْ ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بالخَلْقِ؛ فإِنَّ هذا لاتُوجِبُهُ اللُّغَةُ، [ وهُو خِلافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأمَّةِ، وخِلافُ مَا فَطَرَ اللهُ عليهِ الخَلْقَ، (1)
__________
(1) قولُه: (وليس معنى قولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أنَّه مختلِطٌ بالخَلقِ): بل المعنى أنَّه معهم بعِلمِه واطِّلاعِه ومشاهَدَتِه، وقد تَقدَّمَ طرَفٌ مِن الكلامِ في هَذَا الموضوعِ.
قولُه: (فإنَّ هَذَا لا تُوجِبُه اللُّغةُ). أي لُغةُ العربِ لا تُوجِبُ أنَّ (مع) تفيد اختلاطا أو امتزاجًا أو مجاورة، فإنَّ مع في كلامِ العربِ للصُّحبةِ اللاَّئِقةِ لا تُشْعِرُ بامتزاجٍ، ولا اختلاطٍ، ولا مماسَّةٍ، ولا مجاورةٍ، فتقولُ: زوجتي معي، وهي في مكانٍ وأنتَ في مكانٍ، ويقولونَ: ما زِلْنا نَسيرُ والقمرُ معنا، وقال تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). فليس في هَذَا ما يَدُلُّ على الاختلاطِ والامتزاجِ، فكيف تكونُ حقيقةُ المعيَّةِ في حَقِّ الرَّبِ ذَلِكَ، فليس في ذَلِكَ ما يَدلُّ على أنَّ ذاتَه فيهم، ولا مُلاصِقةً لهم ولا مُجاوِرةً بوجهٍ مِن الوُجوهِ، وغايةُ ما تَدلُّ عليه المصاحَبةُ، وهي في كُلِّ موضعٍ بحسَبِه.
قولُه: (وهُوَ خلافُ ما أَجمعَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ): أيْ: أنَّ ما زَعَمه أهلُ البِدعِ أنَّه -سُبْحَانَهُ- في كُلِّ مكانٍ بذاتِه أو أنَّه مختلِطٌ بالخَلقِ ممتزِجٌ بهم، أو حالٌّ فيهم، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ مبتدَعةٌ مخالِفةٌ ما عليهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فإنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ أجمعوا على أنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- مُستوٍ على عرشِه، عالٍ على خَلقِه، بائنٌ منهم ليس في ذاتِه شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ولا في مخلوقاتِه شيءٌ مِن ذاتِه، كما تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ، وقد تَقدَّمَ أيضًا ذِكرُ إجماعِ السَّلَفِ على معنى قولِه: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أنَّه معهم بعِلمِه، وقال أبو بكرٍ الآجُرِيُّ إمامُ عصرِه في الحديثِ والفقهِ في كتابِه: فإنْ قال قائِلٌ فما معنى قولِه: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) الآيةُ، قِيل له: عِلمُه معهم، واللَّهُ على عرشِه، وعِلمُه محيطٌ بهم، كذا فسَّرَهُ أهلُ العِلمِ، والآيةُ تدلُّ أوَّلُها وآخِرُها على أنَّه العِلمُ، وهُوَ على عرشِه، هَذَا قولُ المسلِمِينَ. انتهى.
قولُه: (فَطَرَ) أيْ: خَلَقَ ابتداءً، ومنه (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ) الآيةَ، أي أنَّ ما زَعَموه مِن أنَّه -سُبْحَانَهُ- مختلِطٌ بالخَلقِ أو حالٌّ فيهم خِلافُ ما فَطَرَ اللَّهُ عليه الخَلقَ، فإنَّ الخَلقَ فُطِروا على الإقرارِ بعُلُوِّه -سُبْحَانَهُ- على خَلقِه، وإنما جاءتْ الرُّسلُ بتقريرِ ما في الفِطَرِ والعُقولِ، فالعقلُ الصَّحيحُ لا يُخالِفُ النَّقلَ الصَّريحَ، ولمَّا سألَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الجاريةَ: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) قالت: في السَّماءِ. وقال يزيدُ بنُ هارونَ: مَن زعَم أنَّ الرَّحمنَ على العرشِ استوى على خلافِ ما تَقرَّرَ في قلوبِ العامَّةِ فهُوَ جَهْمِيٌّ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والذي تَقرَّرَ في قلوبِ العامَّةِ هُوَ ما فَطَرَ اللَّهُ عليه الخليقَةَ مِن تَوجُّهِها إلى رَبِّها عندَ النَّوازِلِ والشَّدائدِ إليه تعالى نحوَ العُلُوِّ، لا تَلْتَفِتُ يَمْنةً ولا يَسْرةً، مِن غيرِ مُوقِفٍ وقَفَهم عليه، ولكنَّ فِطرةَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عليها، وما مِن مولودٍ إلاَّ وهُوَ يُولدُ على هَذِهِ الفِطرةِ حتى يُجهِّمَهُ ويَنقُلَهُ إلى التَّعطيلِ مَن يُقيَّضُ له. انتهى.(1/5)
بلِ القَمَرُ آيةٌ مِنْ آياتِ اللهِ مِن أَصْغَرِ مَخْلوقاتِهِ، وهُو مَوْضوعٌ في السَّماءِ، وهُوَ مَعَ المُسافِرِ وغَيْرِ المُسافِرِ أَيْنما كَانَ. (1)
__________
(1) قولُه: (بل القمرُ آيةٌ) الآيةُ لغةً: العلامَةُ. والآيةُ، والدَّليلُ، والبُرهانُ، والسُّلطانُ، والحُجَّةُ، ألفاظٌ متقارِبةٌ، أيْ أنَّ القمرَ مِن الآياتِ الدالَّةِ على وُجودِه -سُبْحَانَهُ- وعظيمِ قُدرتِه، وأنَّه المستحِقُّ للعِبادةِ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) الآيةَ، وقد أَقسَمَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- بالقمرِ الذي هُوَ آيةُ اللَّيلِ، وفيه مِن الآياتِ الباهرةِ الدَّالَّةِ على رُبوبِيَّةِ خالِقه وبارئِه، وحِكمتِه وعِلمِه ما هُوَ معلومٌ بالمشاهَدةِ.
والآياتُ تَنقسِمُ إلى قِسمَيْنِ: آياتٌ مشاهَدةٌ مَرئيَّةٌ، كالسَّماواتِ والأرضِ والشَّمسِ والقمرِ ونحوِ ذَلِكَ، وآياتٌ مسموعةٌ متلُوَّةٌ كالقرآنِ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ فإنَّها مُبَيِّنَةٌ ومقرِّرةٌ لما دَلَّ عليه القرآنُ، فآياتُه العَيانِيَّةُ في خَلقِه تدلُّ علىصِدقِ آياتِه المسموعةِ المتلُوَّةِ، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، أيْ أنَّ القرآنَ حقٌّ، فأخبَرَ أنَّه يدلُّ بآياتِه المرئيَّةِ على صِدقِ آياتِه المتلُوَّةِ المسموعةِ.
قولُه: (وهُوَ موضوعٌ في السَّماءِ): أي القمرُ موضوعٌ في السَّماءِ الدُّنْيَا.
قولُه: (وهُوَ مع المسافِرِ): مِن السَّفَرِ، وهُوَ لغةً: قَطعُ المسافةِ مِن أَسْفَرَ إذا بَرَزَ، ومنه السِّفْرُ وَهِيَ الكُتبُ؛ لأنَّه يُسفِرُ عمَّا فيه، قيل سُمِّيَ السَّفَرُ بالفتحِ سَفَرًا؛ لأنَّه يُسفِرُ عن أخلاقِ الرِّجالِ.
قولُه: (وهُوَ مع المسافِرِ وغيرِ المسافرِ أينما كان) أي: القمرُ مع المسافِرِ وغيرِ المسافِرِ، فإنَّه يُقالُ ما زِلْنَا نَسيرُ والقمرُ معنا أو النَّجْمُ والقمرُ في مكانِه غيرُ مختلِطٍ بهم، ولا مُحاذٍ ولا مماسٍّ ولا مُجاوِرٍ، ولا يَفهَمُ أحدٌ مِنه هَذَا، هَذِهِ لغةُ العَربِ المعروفةُ لَديْهِم، فإذا كان هَذَا القمرُ الذي هُوَ مِن أصغرِ مخلوقاتِ اللَّهِ فكيفَ تكونُ حقيقةُ المعِيَّةِ في حقِّ الرَّبِ ذَلِكَ، فإنَّ غايةَ ما تَدلُّ عليه (مع) المصاحَبةُ، وَهِيَ في كُلِّ موضعٍ بحسَبِه، وقد ضَرَبَ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مَثَلاً بِذَلِكَ بالقمرِ –وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى- ولكنَّ المقصودَ بالتَّمثيلِ بيانُ جوازِ هَذَا وإمكانِه، لا تَشبِيهُ الخالِقِ بالمخلوقِ، فقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيَرَى رَبَّهُ مُخْلِياً بِهِ)). فقال له أبو رَزينٍ العُقيليُّ: كَيْفَ يا رسولَ اللَّهِ وهُوَ واحدٌ ونحن جَمعٌ؟ فقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((سَأُنَبِّئُكَ بِمَثَلِ هَذَا فِي آلاَءِ اللَّهِ، هَذَا الْقَمَرُ كُلُّكُمْ رَآهُ مُخْلِياً بِهِ، وهُوَ آيةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَكْبَرُ)) أوْ كما قال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فشَبَّهَ الرُّؤيَة بالرُّؤيةِ، وإنْ لم يكُن المرئيُّ مُشابِهًا للمَرئيِّ، فالمؤمِنونَ إذا رَأَوْا ربَّهُم يومَ القيامةِ وناجَوْه كُلٌّ يَراهُ فوقَه قِبلَ وجْهِهِ، كما يرى الشَّمسَ والقمرَ، ولا مُنافاةَ أصلاً. انتهى. مِن (الحَمويَّةِ) باختصارٍ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على حديثِ أبي رزينٍ: وفيه القياسُ في أدلَّةِ التَّوحيدِ والمَعادِ، والقرآنُ مملوءٌ منه، وفيه أنَّ حُكمَ الشَّيءِ حُكمُ نَظيرِه. انتهى.(1/6)
وهُو سُبْحانَهُ فوقَ عَرْشِهِ، رَقيبٌ على خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عليِهمْ، مُطَّلعٌ [ عليهِمْ ] ... إِلى غَيْرِ ذلك مِنْ مَعاني رُبُوبِيَّتِهِ. (1)
__________
(1) قولُه: (فوقَ العرشِ) كما قال سُبْحَانَهُ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) في سبعِ مواضعَ مِن القرآنِ، وقال تعالى: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على هَذَا الموضوعِ والإشارةُ إلى أنَّ الأدلَّةَ على عُلُوِّ اللَّهِ وفوقِيَّتِه بَلَغَتْ حَدَّ التَّواتُرِ، وتَواطأَ على ذَلِكَ دليلُ العقلِ والفِطرةِ.
قولُه: (رَقيبٌ على خَلقِه): قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) أي: أنَّه -سُبْحَانَهُ- مُراقِبٌ لأحوالِكُمْ وأعمالِكُم لا يَخفَى عليه خافيةٌ، وفيها إرشادٌ وحثٌّ على مراقَبةِ اللَّهِ، واستحضارِ قُربِه، كما في الحديثِ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)).
قولُه: (مُهيمِنٌ عليهم). قال ابنُ عباسٍ وغيرُ واحدٍ: المهيمِنُ أيْ الشَّاهِدُ على خَلقِه بأعمالِهم، بمعنى هُوَ رقيبٌ عليهم، كقولِه سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهيمِنٌ، إذا كان رَقِيبًا على الشَّيءِ.
قولُه: (إلى غيرِ ذَلِكَ مِن معاني رُبوبِيَّتِه): فإن رُبُوبِيَّتَه -سُبْحَانَهُ- إنَّما تَتحقَّقُ بكونِه فَعَّالا مُدَبِّراً متصرِّفاً في خَلقِه، يَعلَمُ ويُقدِّرُ، ويَسمعُ ويُبصِرُ، فإذا انْتفَتْ أفعالُه وصِفاتُه انتفَتْ ربُوبِيَّتُه.(1/7)
وكُلُّ هذا الكَلامِ الَّذي ذَكَرَهُ اللهُ – مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ وأَنَّهُ مَعَنا – حَقٌّ على حَقيقَتِهِ، لا يَحْتاجُ إِلى تَحْريفٍ، ولكنْ يُصانُ عَنِ الظُّنُونِ الكاذِبةِ (1)
__________
(1) قولُه: (حقٌّ على حقيقَتِه): فيَجِبُ اعتقادُه والإيمانُ به لِتَواطُؤِ الأدلَّةِ على إثباتِه، والحقُّ في اللُّغةِ: هُوَ الثَّابِتُ الذي لا يُسَوَّغُ إنكارُه، وفي اصطلاحِ أهلِ المعاني: هُوَ الحُكمُ المطابِقُ للواقِعِ، يُطلَقُ على الأقوالِ والأديانِ والعقائدِ والمذاهِبِ باعتبارِ اشتِمالِها على ذَلِكَ، ويُقابِلُه الباطلُ، انتهى، تعريفاتٌ.
قولُه: (حقيقتِه) الحقيقةُ اسمٌ لما أُريدَ به ما وُضِعَ له، فعيلةٌ مِن حَقَّ الشَّيءُ إذا ثَبَتَ، بمعنى فاعِلِه، وفي الاصطلاحِ: هُوَ كلمةٌ مستعمَلةٌ فيما وُضِعَتْ له في اصطلاحِ التَّخاطُبِ به.
قولُه: (ولكنْ) حرفُ استدراكٍ.
قولُه: (يُصانُ) أي: يُحفَظُ، يقالُ صَانَه يَصُونُه صِيانةً أي حَفِظَه.
قولُه: (مِن الظُّنونِ الكاذبةِ) الظَّنُّ مَصْدرٌ مِن بابِ قَتَلَ، وهُوَ خلافُ اليَقِينِ، قاله الأزهريُّ وغيرُه، وقد يُستعمَلُ بمعنى اليَقِينِ كقولِه سبحانَه: (الَّذِينَ يَظُنَّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ) الآيةَ.
قولُه: (وكُلُّ هَذَا الكَلامِ حَقٌّ على حقيقتِه) إلخ. هَذَا إشارةٌ للردِّ على المعطِّلةِ مِن الجهميَّةِ والمعتزِلةِ وأشباهِهم الذين يَزعمُونَ أنَّ ما جاءَ مِن ذِكرِ فَوقِيَّتِه وعُلُوِّه واستوائِه على عرشِه ليس بحقيقةٍ، وإنَّما هُوَ مجازٌ، وما زَعموه باطلٌ مصادِمٌ لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ، وإجماعِ السَّلَفِ على أنَّ ذَلِكَ حقيقةٌ كما يَلِيقُ بجلالِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وعظَمَتِه.
قال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "الصَّواعِقِ": وممَّا ادَّعَوْا فيه أنَّه مجازٌ (الفَوقِيَّةُ) وساقَ أدلَّةً كثيرةً في إثباتِ الفَوْقيَّةِ الكاملةِ مع جميعِ الوجوهِ، منها أنَّ الأصلَ الحقيقةُ، والمجازُ على خلافِ الأصلِ، ومنها أنَّ الظَّاهِرَ خلافُ ذَلِكَ، ومنها أنَّ الاستعمالَ المجازِيَّ لا بدَّ فيه مِن قرينةٍ تُخرجُه عن حقيقتِه فأَيْنَ القَرينةُ في فوقيَّةِ الرَّبِّ؟ وقال أبو عُمرَ الطلمنكيُّ: أَجْمعَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ اللَّهَ استوى على عَرشِه على الحقيقةِ لا على المجازِ.
وقالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رحمَه اللَّهُ-: وهَذَا كتابُ اللَّهِ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه وسُنَّةُ رسولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وكلامُ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وسائرِ الأئمَّةِ مملوءٌ بما هُوَ نَصٌّ أو ظاهرٌ أنَّ اللَّهَ فوقَ كُلِّ شيءٍ، وأنَّه فوقَ العرشِ، وأنَّه العَليُّ الأعلى، وأنَّه مستوٍ على عرشِه، وساقَ أدلَّةً كثيرةً في إثباتِ ما ذُكِرَ وأنَّه حقيقةٌ، وإبطالِ ما زَعَموه مِن المجازِ، وقد تكاثَرَت الأدلَّةُ في ذَلِكَ، وأَجْمعَ على ذَلِكَ السَّلَفُ، ودلَّ على ذَلِكَ أيضًا دَليلُ العقلِ، وليس مع مَن خالَفَ سِوى الظُّنونِ الكاذبةِ والشُّبَهِ الفاسدةِ التي لا يُعارَضُ بها ما دلَّ عليه نصوصُ الوحيِ والأدلَّةِ العقليَّةِ، وقد ذَمَّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- الظَّنَّ المجرَّدَ وأهلَه فقال: (إنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) (وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِن الْحَقِّ شَيْئاً) وفي الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)).
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: النُّفاةُ للعُلُوِّ ونحوِه مِن الصِّفاتِ مُعترِفون بأنَّه ليس مستَنَدَهم خبرُ الأنبياءِ، ولا الكتابُ، ولا السُّنَّةُ، ولا أقوالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ولا مستَنَدَهُمْ فِطرةُ العقلِ وضرورتُه، ولكنْ يقولون معنا النَّظَرُ العقليُّ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ المُثبِتون للعُلُوِّ فيقولون: إنَّ ذَلِكَ ثابتٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، مع فِطرةِ اللَّهِ التي فَطَرَ العِبادَ عليها، وضرورةِ العقلِ مع نَظرِ العقلِ واستدلالِه. انتهى.
وقولُه: (لا يحتاجُ إلى تحريفٍ): إشارةٌ للرَّدِّ على المُعطِّلةِ الذين حرَّفُوا الأدلَّة وسَمَّوْا تحريفَهم تأوِيلا، تَرْوِيجاً على الجُهَّالِ، وهُوَ في الحقيقةِ تبديلٌ وتغييرٌ لكلامِ اللَّهِ ورسولِه، فإنَّ ما جاء مِن الأدلَّةِ في إثباتِ العُلُوِّ والفَوقِيَّةِ وغيرِ ذَلِكَ مِن الصِّفاتِ صريحُ اللَّفظِ، واضِحُ المعنى، نَصٌّ في معناه لا يَحتمِلُ التَّأويلَ.(1/8)
مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظاهِرَ قولِهِ: ( فِي السَّماءِ )؛ أَنَّ السَّمَاء تُظِلُّهُ أَو تُقِلُّهُ، وهذا باطِلٌ بإِجْماعِ أَهْلِ العِلْمِ والإِيْمانِ. (1)
__________
(1) قولُه: (تُقِلُّه) أي: تحمِلُه وتَرفَعُه.
قولُه: (أو تُظِلُّه) أي تَستُره والظُّلَّةُ الشَّيءُ الذي يُظِلُّكَ مِن فوقُ.
قولُه (مِثل أنْ يَظُنَّ أنَّ ظاهِرَ قولِه: (فِي السَّماءِ) إلخ. أيْ: في مِثلِ قولِه سُبْحَانَهُ: (أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّماءِ) وقولِ الجاريةِ لمَّا سألَها النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قالت: ((في السَّماءِ)). وهَذَا ظَنٌّ فاسدٌ مصادِمٌ لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّريحةِ الدَّالَّةِ على عُلُوِّ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وفَوقِيَّتِه، وعلى أنَّه فوقَ عرشِه حقيقةً، بائنٌ مِن خَلقِه لا يَحِلُّ فيهم ولا يَختلِطُ، فليس في ذاتِه شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ولا في مخلوقاتِه شيءٌ مِن ذاتِه، مَن زعَم غيرَ ذَلِكَ فقد ظَنَّ به ظَنَّ السَّوْءِ وتَنَقَّصَه غايةَ التَّنقُّصِ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فأهلُ السُّنَّةِ إذا قالوا: إنَّه فوقَ العرشِ، أو أنَّه في السَّماءِ لا يقولون: إنَّ هناكَ شيءٌ يحويه أو يَحصُرُه ويكونُ مَحلاًّ له أو ظَرْفا أو وِعاءً، تعالى اللَّهُ عن ذَلِكَ، بل هُوَ فوقَ كُلِّ شيءٍ، وهُوَ مُستغْنٍ عن كُلِّ شيءٍ، وكُلُّ شيءٍ مفتقِرٌ إليه، وهُوَ عالٍ على كُلِّ شيءٍ، وهُوَ الحامِلُ للعرشِ ولحمَلَةِ العرشِ بقُوَّتِه وقُدرتِه، وهُوَ غَنِيٌّ عن العرشِ وعن كُلِّ مخلوقٍ ... قال: وما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن قولِه: ((في السَّماءِ)) قد يَفهَمُ منه بعضُهم أنَّ السَّماءَ نَفْسُ المخلوقِ العالي العرشَ فما دونَه، فيقولون إنَّ قولَه: ((في السَّماءِ))، كما قال: (لأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ولا حاجةَ لهَذَا، بل السَّماءُ جِنسٌ للعالي لا يَخصُّ شيئا، فقولُه: ((في السَّماءِ))، أي العُلُوُّ دُون السُّفْلِ، وهُوَ العليُّ الأعلى، فله أَعْلى العُلُوِّ، وهُوَ ما فوقَ العرشِ، وليس هناك غيرُ العليِّ الأعلى سُبْحَانَهُ. انتهى.
قال: فالجهميَّةُ وأشباهُهم لا يَصِفونه -سُبْحَانَهُ- بالعُلُوِّ، بل إمَّا أنْ يَصِفُوه بالعُلُوِّ والسُّفولِ، وإمَّا أنْ يَنْفُو عنه العُلُوَّ والسُّفولَ، فهُم نوعانِ: قِسمٌ يقولون: إنَّه في كُلِّ مكانٍ بذاتِه. والقِسمُ الآخَرُ يقولون: إنَّه لا داخِلَ العالَمِ ولا خَارِجَه، فالقِسمُ الأوَّلُ وَصَفُوه بالحُلولِ في الأمكِنةِ ولم يُنَزِّهُوه عن المَحالِّ المستَقْذَرةِ، والقِسمُ الثَّاني وَصَفوهُ بالعَدمِ – تعالى اللَّهُ عن قولِهم عُلُواًّ كبيرًا.(1/9)
فإِنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاواتِ والأرْضَ، وهُوَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ والأرْضَ أَنْ تَزُولا، ويُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ على الأرْضِ؛ إِلاَّ بإِذْنِهِ، ( ومِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرْضُ بأَمْرِهِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (فإنَّه قد وَسِعَ كرسِيُّه السَّماواتِ والأرضَ) لمَّا ذَكَرَ المصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- العُلُوَّ والفَوقِيَّةَ، وأنَّهما حقيقةٌ ثابتةٌ لِلَّهِ على ما يَليقُ بجلالِه وعظَمَتِه أَوْرَدَ بعد ذَلِكَ بعضَ الأدلَّةِ النَّقْلِيَّةِ والعقليَّةِ في إثباتِ ذَلِكَ فقال: (فإنَّ اللَّهَ قد وَسِعَ كرسِيُّه السَّماواتِ والأرضَ) أي: مَلأَ وأحاطَ، والكرسيُّ مخلوقٌ عظيمٌ بين يَدَيِ العرشِ، وهُوَ أعظمُ مِن السَّماواتِ والأرضِ، وهُوَ بالنِّسبةِ إلى العرشِ كأصغرِ شيءٍ، وقد ذُكِرَ ذَلِكَ، فإذا كانت السَّماواتُ والأرضُ بالنِّسبةِ للكرسِيِّ الذي هُوَ بالنِّسبةِ إلى العرشِ شيءٌ صغيرٌ واللَّهُ -سبحانَهُ وتعالَى- العظيمُ الأعظَمُ الذي لا أجلَّ مِنه ولا أَعْظَمَ، فكَيْفَ تحويه السَّماواتُ والأرضُ، أو تَحوطُه أو تُقِلُّه أو تُظِلُّه؟! فَهِذِهِ الآيةُ صريحةٌ في عُلُوِّ اللَّهِ ومُبايَنَتِه لخَلقِه، وأنَّه غيرُ مختلِطٍ بهم، ولا مُمازِجٍ لهم، ولا حالٍّ فيهم – تعالى اللَّه عمَّا يقولُ المتبدِعةُ عُلُواًّ كبيرًا.
قولُه: (وهُوَ يُمسِكُ السَّماواتِ والأرضَ أنْ تَزُولا) أيْ: أنْ تَضطرِبا عَن أماكِنِهما.
قولُه: (ويُمسِكُ السَّماواتِ أنْ تَقَعَ على الأرضِ إلا بإِذْنِه) أيْ: إلاَّ بأمْرِه ومشيئَتِه. وفي الصَّحيحَيْنِ عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يومَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثم يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟)).
قولُه: (ومِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ والأرْضُ بأَمْرِهِ) أي: مِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على وُجودِه –سُبْحَانَهُ- وعظيمِ قُدرتِه وقيامِ كُلِّ شيءٍ به، قال سُبْحَانَهُ: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بما كسَبَتْ)، وقال: (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيَّومُ) أي القائمُ لنَفْسِه المُقيمُ لِغَيرِه، القائمُ بتَدبيرِ خَلقِه وأرزاقِهم وجميعِ أحوالِهم. وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ أبي موسى الأشعريِّ ((إنَّ اللَّهَ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) رواهُ مسلمٌ.
فَهِذِهِ الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الرَّبَّ -سُبْحَانَهُ- ليس هُوَ عَينَ هَذِهِ المخلوقاتِ ولا صفةً ولا جُزءًا منها، فإنَّ الخالِقَ غيرُ المخلوقِ وليس بداخِلٍ فيها محصورٌ، بل هي صريحةٌ في أنَّه مُباينٌ لها، وأنَّه ليس حالاًّ فيها، ولا مَحلاًّ لها، فإنَّ الكرسيَّ في العرشِ كحَلْقةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، والعرشُ مِن مخلوقاتِ اللَّهِ، لا نِسبةَ له إلى قدرةِ اللَّهِ وعظَمَتِه، فكَيْفَ يُتَوهَّمُ بعدَ هَذَا أنَّ خَلْقاً يَحصُرُه ويَحويهِ؟ وفيها دلالةٌ على عظَمَتِه -سُبْحَانَهُ- وعظيمِ قُدرَتِه وعِظَمِ مخلوقاتِه، وقد تَعرَّفَ -سُبْحَانَهُ- إلى عِبادِه بصفاتِه وعجائبِ مخلوقاتِه، وكُلُّها تَدلُّ على كمالِهِ، وأنَّه المعبودُ الحقُّ وحْدَه ولا شريكَ له في رُبُوبيَّتِه وإلهِيَّتِه، وأنَّ العِبادةَ لا تَصلُحُ إلاَّ له، ولا يَصلحُ منها شيءٌ لِمَلَكٍ مُقرَّبٍ، ولا نَبيٍّ مُرسلٍ، فضلا عن غيرِهما، وتدلُّ أيضًا على إثباتِ الصِّفاتِ لِلَّهِ على ما يَليقُ بجلالِه إثباتًا بلا تَمثيلٍ، وتَنْزِيهاً بلا تعطيلٍ، وعلى هَذَا سَلَفُ الأمَّةِ ومَن تَبِعهم بإحسانٍ. وهُوَ الذي دَلَّتْ عليه أدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ.(1/10)
( فصلٌ: وقَدْ دَخَلَ في ذلكَ الإِيمَانُ بأَنَّهُ قَريبٌ [ من خلقهِ ] مُجيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذلكَ في قَوْلِهِ: ( وإِذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإِنِّي قَرِيبٌ ... ) الآية. (1)
__________
(1) فَصلٌ
قولُه: (وقد دَخلَ في ذَلِكَ) أيْ: في الإيمانِ باللَّهِ بأنَّه قريبٌ مجيبٌ كما جمعَ بين ذَلِكَ في الآيةِ والحديثِ. وسببُ نزولِ الآيةِ أنَّ أعرابِيًّا قال: يا رسولَ اللَّهِ، أقريبٌ ربُّنا فنُناجِيه أَمْ بعيدٌ فنُنادِيه؟ فسَكَتَ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيةَ. رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ جريرٍ، وروى الإمامُ أحمدُ عن أبي موسى قال: كُنَّا مع رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في غزوةٍ، فجَعَلْنا لا نَصْعَدُ شَرَفاً ولا نَعْلُو شَرَفاً ولا نَهبِطُ واديًا إلا رَفَعْنا أصواتَنا بالتَّكبيرِ، قال: فدَنَا منا فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِباً، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، إنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةَ كُنُوزِ الجَنَّةِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ)) خَرَّجاهُ في "الصَّحيحَيْنِ" وبقيَّةُ الجماعةِ.
قولُه: (ارْبَعُوا) بهمزةِ وصْلٍ وبفتحِ الباءِ الموحَّدةِ، معناه ارْفُقوا بأنْفُسِكم، واخفِضوا أصواتَكم، فإنَّ رَفعَ الصَّوتِ إِنَّما يَفعَلُه الإنسانُ لبُعدِ مَن يخاطِبُه ليَسمَعُه، وأنتم تَدْعُونَ اللَّهَ، وليس هُوَ بأصمَّ ولا غائبا، بل هُوَ سميعٌ قريبٌ. ففيه النَّدبُ إلى خفضِ الصَّوتِ بالذِّكْرِ إذا لم تَدْعُ حاجةٌ إلى رَفعِه، فإنَّه إذا خفَضَه كان أبلغَ في تَوقِيرِه وتعظيمِه، فإنْ دَعَت الحاجَةُ إلى الرَّفعِ رَفَعَ كما جاءتْ به أحاديثُ، كما في التَّلبِيةِ وغيرِها، فقد وَرَدَ الشَّرْعُ برَفعِه فيها.
قولُه: (هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) المرادُ به قُربُ الإحاطةِ والعِلمِ، كما في قولِه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) انتهى. نَووِيٌّ.
ومِن أسمائِه -سُبْحَانَهُ- القريبُ، وقُربُه -سُبْحَانَهُ- نوعانِ:
قُربٌ عامٌّ، وهُوَ إحاطةُ عِلمِه بجميعِ الأشياءِ كما في الحديثِ المتقَدِّمِ، وقولُه سُبْحَانَهُ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقيل: إنَّ المرادَ قُربُ ملائكَتِه منه، وأضافَ ذَلِكَ إلى نَفْسِه بِصيغةِ الجمعِ على عادةِ العظماءِ في إضافةِ أفعالِ عَبيدِها إليها، ورَجَّحَه ابنُ القيِّمِ، واختارَه الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ.
الثَّاني: قُرْبٌ خاصٌّ، ويَنقَسِمُ إلى قِسمَيْنِ: قُربُه مِن داعِيه بالإجابةِ، وقُرْبُه مِن عابِدِه بالإثابةِ، فالأوَّلُ: كقولِه: (وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) الآيةَ. ولهَذَا نَزَلَتْ جوابًا للصَّحابةِ، وقد سألوا رسولَ اللَّهِ: أقريبٌ ربُّنا فنُناجيهِ أَمْ بعيدٌ فنُناديه؟ والثَّاني: كقولِه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)). فهَذَا قُربُه مِن أهلِ طاعَتِه، وأمَّا حديثُ أبي موسى المتقدِّمِ ففيه القُربُ الخاصُّ بالدَّاعِينَ دعاءَ العِبادةِ والثَّناءِ، وهَذَا القُربُ لا يُنافي كمالَ مبايَنَتِه –سُبْحَانَهُ- لخَلقِه واستوائِه على عرشِه، بل يجامِعُه ويُلازِمُه، فإنَّه ليس كقُربِ الأجسامِ بعضِها مِن بعضٍ، تعالى اللَّه عن ذَلِكَ عُلُواًّ كبيرًا، ولكنَّه نوعٌ آخَرُ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في (المدَارجِ) على قولِه: وأنتَ الباطنُ فليسَ دُونَكَ شَيءٌ، قال: فهَذَا قُربُ الإحاطةِ العامَّةِ، وأمَّا القُربُ المذكورُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ فقُربٌ خاصٌّ مِن عابِديه وسائلِيه وداعِيه، وهُوَ مِن ثمرةِ التَّعبُّدِ باسِمه الباطنِ، قال تعالى: (وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإِنَّي قَرِيبٌ) الآيةَ، وفي الصَّحيحِ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وهُوَ سَاجِدٌ)). فهَذَا قُربٌ خاصٌّ غيرُ قُربِ الإحاطةِ وقُربِ البُطونِ. انتهى.
قولُه: (مجيبٌ) أي: المجيبُ لدُعاءِ الدَّاعِينَ وسؤالِ السَّائلِينَ، وإجابَتُه -سبحانَهُ وتعالَى- نوعانِ:
(الأوَّلُ) إجابةٌ عامَّةٌ لِكُلِّ مَن دَعاه دُعاءَ عِبادةٍ أو دُعاءَ مسألةٍ، كما قال: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). فهَذَا يَقعُ مِن البَرِّ والفاجرِ، ويَستجيبُ اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- لِكُلِّ مَن دعاهُ بحسَبِ الحالِ المقتضِيَةِ، وبحسَبِ ما تقتضيه حِكمتُه سُبْحَانَهُ، وهَذَا مما يُستَدَلُّ به على كَرَمِ المَوْلَى –سُبْحَانَهُ- وشُمولِ إحسانِه، ولا يَدلُّ على حُسْنِ حالِ الدَّاعي إنْ لم يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ ما يَدلُّ عليه، كسؤالِ الأنبياءِ ودُعائِهم على قَومِهم ولِقومِهم فيجيبُ –سُبْحَانَهُ- فإنَّه يدلُّ على صِدقِهم فيما أخَبْروا به، وكرامِتهم على اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى.
(الثَّاني) إجابةٌ خاصَّةٌ، ولها أسبابٌ عديدةٌ، منها دعوةُ المضْطرِّ، قال اللَّهُ –سُبْحَانَهُ-: (أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) ومِن أسبابِها: طُولُ السَّفَرِ والتَّوسُّلُ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- بأَحَبِّ أسمائِه وصِفاتِه ونِعَمِه، وَكَذَلِكَ دَعوةُ المريضِ والمظلومِ والصَّائمِ والوالدِ على ولَدِه أو له، وفي الأوقاتِ والأحوالِ الفاضِلةِ، وفيما تَقدَّمَ دليلٌ على أنَّ الدُّعاءَ مِن أقوى الأسبابِ في جَلْبِ المنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ، وفيه الرَّدُّ على مَنْ زَعَم مِن المتصوِّفَةِ وأتباعِهم أنَّ الدُّعاءَ لا يَنفعُ، وقولُهم باطلٌ مردودٌ بأدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ المتواتِرةِ، والعقلِ، وتجاربِ الأُمَمِ، وفيه أنَّ الدُّعاءَ يُطلَقُ على السُّؤالِ والطَّلَبِ، ويُطلَقُ على العِبادةِ، فالدُّعاء معناه لغةً: السُّؤالُ والطَّلَبُ، وينقسِمُ إلى قسمينِ: دُعاءُ عبادةٍ ودُعاءُ مسألةٍ، فدُعاءُ المسألةِ "هُوَ طَلَبٌ ما يَنفعُ الدَّاعي مِن جَلْبِ نفعٍ أو دَفعِ ضُرٍّ، وأمَّا دعاءُ العبادةِ فهُوَ سائرُ العباداتِ مِن تسبيحٍ وتهليلٍ وتكبيرٍ وصلاةٍ وغيرِ ذَلِكَ؛ لأنَّ العابِدَ سائلٌ في المعنى، فيكونُ داعيًا عابدًا.(1/11)
وقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ الَّذي تَدْعونَهُ أَقْرَبُ إِلى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ راحِلَتِه)).
وَمَا ذُكِرَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِنْ قُرْبهِ ومعيَّتِه لا يُنافي ما ذُكِرِ مِن عُلوِّهِ وفوقيَّتِه؛ فإِنَّهُ سبحانَهُ ليسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ في جَميعِ نُعوتِه، وهُو عَليٌّ في دُنُوِّهِ، قريبٌ في عُلُوِّه ). (1)
( ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ. (2)
__________
(1) قولُه: (وما ذُكِرَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن قُربِه لا يُنافي ما ذُكِرَ مِن عُلُوِّه وفوقِيَّتِه). فإنَّ عُلُوَّه -سُبْحَانَهُ- مِن لوازِمِ ذاتِه، فلا يكونُ قطُّ إلا عاليًا، ولا يكونُ فوقَه شيءٌ ألْبتَّة، كما قال أَعْلمُ الخَلقِ بربِّه: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)). فهُوَ -سُبْحَانَهُ- قريبٌ في عُلُوِّه عالٍ في قُربِه، فأخبَرَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه أَقْربُ إلى أحِدِهم مِن عُنُقِ راحلِتِه، وأخبَرَ أنَّه فوقَ سماواتِه على عرشِه مطَّلِعٌ على خَلقِه يرى أعمالَهم، وهَذَا حقٌّ لا يُناقِضُ أحدُهما الآخَرَ، والذي يُسَهِّلُ عليكَ فَهْمَ هَذَا معرفةُ عظمَتِه -سُبْحَانَهُ- وإحاطتِه بخَلقِه، وأنَّ السَّماواتِ السَّبعِ في يدِه كخَردلَةٍ في يدِ العبدِ، فكَيْفَ يَستحِيلُ في حقِّ مَن هَذَا بعضُ عظمَتِه أنْ يكونَ فوقَ عرشِه، ويَقُربُ مِن خَلقِه كَيْفَ شاءَ وهُوَ على العرشِ. انتهى. مِن "الصَّواعِقِ".
قولُه: (في دُنُوِّه) أي: قُرْبِهِ.
قولُه: (في نُعوتِه) أي: في صفاتِه، فالوصْفُ والنَّعتُ مترادِفانِ، وقيل متقارِبانِ، فالوصفُ للذَّاتِ والنَّعتُ للفِعِل.
(2) فَصلٌ
قولُه: (ومِنَ الإيمانِ باللَّهِ وكُتُبهِ الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ) فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لم يؤمِنْ باللَّهِ وكُتُبه. قال عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ: مَن كَفَرَ بحرفٍ مِن القرآنِ فقد كفَرَ بالقرآنِ، ومَن قال لا أؤمِنُ بهَذَا الكلامِ فقد كَفَرَ.
قولُه: (كلامُ اللَّهِ) قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ). وقال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) الآيةَ. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعرْضُ نَفْسَه في الموْسِمِ فيقولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي)). رواه أبو داودَ. فاتَّضحَ بهَذَا أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لا كلامُ غيرِه، فمَن زعم أنَّه كلامُ غيرِه فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
وقال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: مَن أنْكَرَ أنْ يكونَ اللَّهُ متكلِّماً أو يكونَ القرآنُ كَلامَه فقد أَنكَرَ رسالةَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، بل ورسالةَ جميعِ الرُّسلِ التي حقيقَتُها: تبليغُ كلامِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فإذا لم يكُنْ ثَمَّ كلامٌ فماذا يُبلِّغُ الرَّسولُ، بل كَيْفَ يُعقلُ كونُه رسولا؟ ولهَذَا قال مُنكِروا رسالَتِه عن القرآنِ: (إنْ هَذَا إلاَّ قولُ البَشَرِ) فمَن قال: إنَّ اللَّهَ لم يتكلَّمْ به – أي: القرآنِ – فقد ضاهَى قولُه قولَهم – تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون عُلُواًّ كبيرًا.
قولُه: (مُنَزَّلٌ) هَذَا ردٌّ لكلامِ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ ممَّن يقولُ: إنَّه لم يُنَزَّلْ مِنه، فبيَّنَ في غيرِ موضعٍ أنَّه مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ، فمَن قال إنَّه مُنَزَّلٌ مِن بعضِ المخلوقاتِ كاللَّوْحِ والهواءِ فهُوَ مُفترٍ على اللَّهِ مكذِّبٌ لكتابِه، قال تعالى: (تَنزِيلٌ مَّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ) وروحُ القُدُسِ جبريلُ، وهُوَ الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قولِه: (نَزَلَ بِهِ الرَُوحُ الأَمِينُ) فجبريلُ -عليه السَّلامُ- سَمِعَه مِن اللَّهِ، والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن جبريلَ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن اللَّهِ، وإنَّما قاله بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ صريحةٌ في الردِّ عليهم، وصريحةٌ في أنَّه المتكلِّمُ به، وأنَّه مِنه نزَلَ، ومنه بَدَأ, وهُوَ الذي تكلَّمَ به، ومنِ هنا قال السَّلَفُ مِن اللَّهِ بدأَ، فأخبرَ في الآياتِ المتقدِّمةِ أنَّه مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ ولم يُخبِرْ عن شيءٍ أنَّه منَزَّلٌ مِن اللَّهِ إلا كلامَه، بخلافِ نُزولِ الملائكةِ والمطرِ والحديدِ وغيرِ ذَلِكَ، وقد تَقدَّمَ ذِكرُ أقسامِ الإنزالِ في الكلامِ على الآياتِ.
قولُه: (غير مخلوقٍ). هَذَا ردٌّ لكلامِ الجهميَّةِ والمعتزِلةِ وغيرِهم ممَّن يقولُ: كلامُ اللَّهِ مخلوقٌ، فالجهميَّة يقولون: إنَّ اللَّهَ لا يتكلَّمُ، بل خَلقَ كلاماً في غيرِه وجَعلَ غيرَه يُعبِّرُ عنه، وما جاء مِن الأدلَّة أنَّ اللَّهَ تكلَّم أو يُكلِّمُ أو نادى أو نحوَ ذَلِكَ، قالوا هَذَا مجازٌ، وأمَّا المعتزِلةُ فيقولون: إنَّ اللَّهَ متكَلِّمٌ حقيقةً لكنْ معنى ذَلِكَ أنَّه خَلقَ الكلامَ في غيرِه، فمذَهبُهم ومَذهبُ الجهميَّةِ في المعنى سواءٌ، وحقيقةُ قولِ الطَّائفتَيْنِ أنَّه غيرُ متكلِّمٍ، وهَذَا باطلٌ مخالفٌ لقولِ السَّلَفِ والأئمَّةِ ومخالفٌ للأدلَّةِ العقليَّةِ والسَّمعِيَّة، فإنَّه لا يُعْقَلُ متكلِّمٌ إلاَّ مَن قامَ به الكلامُ، ولا مُريدٌ إلاَّ مَن قامتْ به الإرادةُ، ولا محِبٌّ ولا راضٍ إلاَّ مَن قام به ذَلِكَ، ولأنَّ كلامَ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِن صفاتِه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقةٍ، كما في الصَّحيحِ عن خَوْلةَ بنتِ حكيمٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ)) فاستدلَّ العلماءُ بِذَلِكَ على أنَّ كلامَ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ. قالوا لأنَّ الاستعاذةَ بالمخلوقِ شِركٌ، وقال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) الآيةَ، فهَذَا دليلٌ على أنَّ كلامَ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ كُلَّ مخلوقٍ يَنْفَدُ ويَبِيدُ، وكلماتُه لا تَنفَدُ ولا تَبيدُ، وهَذَا الوصفُ لا يكونُ لمخلوقٍ، فالقُرآنُ كلامُ اللَّهِ ووحْيُه وتنَزْيلُه، فهُوَ غيرُ مخلوقٍ، فمَن زَعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذَلِكَ عن السَّلَفِ.
وذَكَرَ الشَّيخُ أبو الحسَنِ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ المَلِكِ الكرخيُّ في كتابِه (الأُصولُ) قال: سمعتُ الإمامَ أبا منصورٍ مُحَمَّدَ بنَ أحمدَ، يقولُ: سمعتُ أبا حامدٍ الإسْفرَايينيَّ، يقولُ: ومذهبي ومذهبُ الشَّافعيِّ وفقهاءِ الأمصارِ: أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال: مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ، والقرآنُ حَمَلَهُ جبريلُ مسموعًا مِن اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَه مِن جبريلَ، والصَّحابةُ سَمِعوه مِن رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهُوَ الذي نَتلُوه بألْسِنَتِنا، وفيما بين الدَّفتَيْنِ، وما في صُدورِنا مسموعًا ومَكتوبًا ومحفوظًا، وكُلُّ حرفٍ منه كالباءِ والتَّاءِ كُلُّه كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال مخلوقٌ فهُوَ كافرٌ عليه لعائِنُ اللَّهِ والنَّاسِ أجمعينَ.
وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ أو قديمٌ، بل الآثارُ متواتِرةٌ عنهم بأنَّهم يقولون: القرآنُ كلامُ اللَّهِ، ولمَّا ظَهَرَ مَن قال: إنَّه مخلوقٌ، قالوا رداًّ لكلامِه: إنَّه غيرُ مخلوقٍ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: القرآنُ مخلوقٌ الجعدُ بنُ دِرْهمٍ، وصاحِبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: إنَّه قديمٌ هُوَ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ بنِ كِلابٍ. انتهى.
وأمَّا أفعالُ العِبادِ كأصواتِهم ومِدادِهم الذي يَكتُبون به القرآنَ، والوَرَقِ الذي يَكتُبون عليه، فإنَّ ذَلِكَ مِن جُملةِ المخلوقِ، ولذَلِكَ يقولونَ: الكلامُ كلامُ البارِئِ والصَّوتُ صوتُ القَارِئِ، وفي الحديثِ: ((زَيِّنُوا الْقُرَآنَ بَأَصْوَاتِكُمْ)). قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
وَكَذَلِكَ القرآنُ عينُ كلامِه الْـ ... مسموعِ مِنه حقيقةً بَبَيانِ
هُوَ قولُ ربِّي كُلُّه لا بَعْضُه ... ... لفظاً ومعنًى ما هُما خَلْقانِ
تَنْزيلُ رَبِّ العالَمِينَ وقولُه ... ... اللَّفظُ والمعنى بِلا رَوَغانِ
لكنَّ أصواتَ العِبادِ وفِعلَهم ... ... كمِدادِهِم والرَّقِّ مخلوقانِ
فالصَّوتُ للقَاري ولكنَّ الكَلا ... م كلامُ ربِّ العرشِ ذي الإحسانِ(1/12)
منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ. (1)
__________
(1) قولُه: (منه بَدَا) أي: ظَهَر وخَرجَ منه -سُبْحَانَهُ- أي: هُوَ المتكلِّمُ به، وهُوَ الذي أنْزَلَه مِن لَدُنْه، فمَن قال: إنَّه مخلوقٌ يقولُ: إنَّه خُلِقَ في بعضِ المخلوقاتِ القائمةِ بنَفْسِها، فمْن ذَلِكَ المخلوقِ نَزَلَ وبَدَأَ، ولم يَنْزِلْ مِن اللَّهِ، فإخبارُ اللَّهِ أنَّه مَنَزَّلٌ مِن اللَّهِ يُناقِضُ أنْ يكونَ قد نَزَلَ مِن غيرِه، قال تعالى: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي) وقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ).
وروى أحمدُ وغيرُه عن جُبيرِ بنِ نُفيرٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ)) وقال خبَّابُ بنُ الأرتِّ: يا هِنتاه، تَقرَّبْ إلى اللَّهِ بما استطعْتَ فلن تَتَقرَّبَ إلى اللَّهِ بشيءٍ أحَبَّ إليه مما خَرجَ منه وقال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لأصحابِ مسيلمةَ الكذَّابِ لمَّا سَمِعَ قرآنَ مسيلِمةَ: ويحكم أَيْنَ يذهبُ بعُقولِكم إنَّ هَذَا كلامٌ لم يَخُرجْ مِن إلْ، أيْ: مِن ربٍّ. وقال أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كلامُ اللَّهِ مِن اللَّهِ ليس بِبايِنٍ منه، وهَذَا معنى قولِ السَّلَفِ: ((القرآنُ كلامُ اللَّهِ منه بَدا وإليه يعودُ)). ومقصودُ السَّلَفِ الرَّدُّ على الجهميَّةِ، فإنَّهم زَعَموا أنَّ القرآنَ خَلقَهُ اللَّهُ في غيرِه، فيكونُ قد بدا وخَرجَ مِن ذَلِكَ المَحلِّ الذي خُلِقَ فيه لا مِن اللَّهِ، كما يقولونَ كَلامُه لمُوسى خَرَجَ مِن الشَّجرةِ، فبيَّنَ السَّلَفُ والأئمَّةُ أنَّ القرآنَ مِن اللَّهِ بدا وخَرجَ، وذكروا قولَه سُبْحَانَهُ: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي) فأخبَرَ أنَّ القولَ منه لا مِن غيرِه مِن المخلوقاتِ، و (مِن) لابتداءِ الغايةِ، فإنْ كان المجرورُ بها عَيْناً يقومُ بنَفْسِه لم يكنْ صفةَ اللَّهِ، كقولِه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّنْهُ). وأمَّا إذا كان المجرورُ بها صفةً ولم يُذكَرْ لها مَحلٌّ كان صفةً لِلَّهِ، كقولِه: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنَّي).
قولُه: (وإليه يعودُ) أي: يَرجِعُ، بأنْ يُسْرَى به في آخرِ الزَّمانِ، ويُرفَعُ فلا يَبْقى في الصُّدورِ مِنه ولا في المصاحِفِ منه آيةٌ، كما جاء ذَلِكَ في عِدَّةِ آثارٍ، وهُوَ أحدُ أشراطِ السَّاعةِ الكِبارِ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ وغيرِه أنَّه قال: "يُسْرَى على القرآنِ فلا يبقى في المصاحفِ منه آيةٌ ولا في الصُّدورِ آيةٌ". أخْرَجه الطَّبرانيُّ وأخْرَجه ابنُ ماجهْ عن حُذيفةَ وأخْرَجه الدَّيلميُّ عن مُعاذٍ.(1/13)
وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً. (1)
__________
(1) قولُه: (وإنَّ اللَّهَ تكلَّمَ به حقيقةً) قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) والآياتُ والأحاديثُ - في إثباتِ كلامِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّه تكلَّمَ بالقرآنِ - كثيرةٌ جِداًّ، وكُلُّها دالَّةٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، بل حقيقةُ الإرسالِ تَبليغُ كلامِ المُرسَلِ، وإذا انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ، انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، والرَّبُّ يَخلُقُ بقولِه وكلامِه، فإذا انتفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ انتفى عنه الخلقُ، وقد عابَ اللَّهُ آلهةَ المشركِين بأنَّها لا تتكلَّمُ ولا تُكلِّمُ عابدِيها، والجهميَّةُ وَصَفوا الرَّبَ بصفةِ هَذِهِ الآلهةِ، وقد تكاثَرَت الأدلَّةُ على أنَّ اللَّهَ نادَى وناجَى وأمَرَ ونَهى، وكُلُّ هَذَا دالٌّ أنَّه تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، فاتَّضح بما ذكرناه أنَّ اللَّهَ يتكلَّمُ حقيقةً، وأمَّا مَن ادَّعى المجازَ بعدَ هَذَا البيانِ فقد شاقَّ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانيه، هَذَا قولُ السَّلَفِ.
وفي قولِه: (حقيقةً) رَدٌّ على مَن زعم أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنى واحدٌ قام بذاتِ الباري لم يُسمَعْ منه، وإنَّما هُوَ الكلامُ النَّفْسانِيُّ ولم يتكلَّمْ بِهِ حقيقةً؛ لأنْ لا يُقالَ لمَن قامَ بِهِ الكلامُ النَّفْسانيُّ ولم يَتكلَّمْ بِهِ إنَّ هَذَا كلامٌ حقيقةً، وإلاَّ يلْزَمُ أنْ يكونَ الأخرسُ متكلِّما، ولَزِمَ أنْ لا يكونَ الذي في المصحَفِ عندَ الإطلاقِ هُوَ القرآنُ، ولا كلامُ اللَّهِ، ولكنَّه عبارةٌ عنه، ليست كلامَ اللَّهِ، كما لو أشار إلى شخصٍ بإشارةٍ مفهومةٍ فكَتَب ذَلِكَ الشَّخصُ عبارةً عن المعنى الذي أَوحاهُ إليه ذَلِكَ الأخرسُ، فالمكتوبُ هُوَ عبارةُ ذَلِكَ الشَّخصِ عن ذَلِكَ المعنى، فعندهم أنَّ المَلَكَ فَهِمَ منه معنى قائِماً بنَفْسِه، لم يَسمَعْ منه حرفاً ولا صوتاً، بل فَهِمَ معنًى مجرَّدا ثم عبَّرَ عنه، فهُوَ الذي أحْدَثَ نَظْمَ القرآنِ وتأليفَه، وقد تَقدَّمَ الكلامُ في الرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّ كلامَ اللَّهِ المعنى النَّفْسيُّ، وأنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدِّينِ ردَّ ذَلِكَ مِن تِسعين وجهًا، كُلُّ واحدٍ يَدلُّ على بطلانِه بأدلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وعقليَّةٍ، وقال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ)
تِسعونَ وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطلانَه ... ... أَعْنِي كلامَ النَّفْسِ ذا البُطلانِ(1/14)
وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.
ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ، (1)
__________
(1) قولُه: (وأنَّ هَذَا القرآنَ) إلخ، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) الآيةَ. وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وقال: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) والأدلَّةُ على إثباتِ صفةِ الكلامِ كثيرةٌ لا تَنحصِرُ، والوصفُ بالتكلُّمِ مِن أوصافِ الكمالِ، وضِدُّهُ مِن أوصافِ النَّقْصِ، قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) الآيةَ. فعُلمَ أنَّ عَدمَ التَّكلُّم نقصٌ يُستدلُّ بِهِ على عَدمِ ألوهيةِ العِجلِ.
قال البخاريُّ في صحيحِه: ((بابُ كلامِ الرَّبِّ تبارَك وتعالى مع أهلِ الجَنَّةِ)) وساقَ فيه عدَّةَ أحاديثَ، فأفضلُ نعيمِ الجَنَّةِ رُؤيةُ وجْهِه -سُبْحَانَهُ- وتكليمُه، وكم في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن دليلٍ على تكلُّمِ اللَّهِ لأهلِ الجَنَّةِ وغيرِهم، قال تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) وعن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَمَا أَهْلُ الجَنَّة فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ)). وهُوَ قولُه -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) الحديثَ، ويأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
ققولُه: (ولا يجوزُ إطلاقُ القولِ بأنَّه حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو عبارةٌ) كما تقولُه الأشاعرةُ والكلابيَّةُ، فالأشاعرةُ يقولون: إنَّ هَذَا الموجودَ المقروءَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ، والكلابيَّةُ يقولون: حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ، وبعضُ هؤلاء يقولُ: الخلافُ لفظيٌّ لا طائلَ تحتَه، فالأشاعرةُ والكلابيَّةُ يقولون: القرآنُ نوعانِ ألفاظٌ ومعاني، فالألفاظُ مخلوقةٌ وَهِيَ هَذِهِ الألفاظُ الموجودةُ، والمعاني قديمةٌ قائمةٌ بالنَّفْسِ، وَهِيَ معنى واحدٌ لا تَبَعُّضَ فيه ولا تَعدُّدَ، إنْ عُبِّرَ عنه بالعربيَّةِ كان قرآنا، وإنْ عُبِّرَ عنه بالعبرانيَّةِ كان توراةً، أو بالسُّرْيانيَّةِ كان إنجيلاً، وهَذَا القولُ تصوُّرُهُ كافٍ بمعرفةِ بُطلانِه، وليس لهم دليلٌ ولا شبهةٌ إلا بيتٌ يُنسَبُ للأخطلِ النَّصرانيِّ وهُوَ قولُه:
إنَّ الكلامَ لَفِي الفُؤادِ وإنَّما ... ... جُعِلَ اللِّسانُ على الفؤادِ دَليلا
وهَذَا البيتُ إنْ ثَبَتَ فمعناه: إنَّ الكلامَ يَخرجُ مِن القلبِ ويُعَبِّرُ عنه اللِّسانُ، وأمَّا الكلامُ الذي في اللِّسانِ فقط فهُوَ يُشبِهُ كلامَ النائمِ والهاذي ونحوِهما، وأدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ تَرُدُّ هَذَا القولَ، والذي يَعقلُه العقلاءُ أنَّ الكلامَ صفةُ المتكلِّمِ المسموعِ منه، وأنَّ ما في النَّفْسِ لا يُسمَّى كلامًا بوجهٍ مِن الوجوهِ، كما في حديثِ: ((عُفِيَ لأُمَّتِي عَنِ الخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لم تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ)) فهَذَا صريحٌ بأنَّ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ليس بكلامٍ.
إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على بطلانِه، وأيضًا فإنَّ الحكايةَ تُماثِلُ المَحْكِيَّ، فمَن قال: إنَّ القرآنَ حكايةُ كلامِ اللَّهِ بهَذَا المعنى فقد ضَلَّ ضلالاً مُبِينًا، فإنَّ القرآنَ لا يَقدِرُ أحدٌ على أنْ يأتيَ بمِثلِه، ولا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يأتيَ بما يَحكِيه، وأوَّلُ مَن قال إنَّه حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ بنِ كِلابٍ. وأمَّا القولُ: بأنَّه عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ فإنَّه يَلزَمُ عليه أنَّ كُلَّ تالٍ مُعبِّرا عمَّا في نَفْسِ اللَّهِ، والمعبِّرُ عن غيرِه هُوَ المُنْشِئ للعبارةِ، فيكونُ كُلُّ قارئٍ هُوَ المُنْشِئُ لعبارةِ القرآنِ، وهَذَا معلومُ الفسادِ بالضَّرورةِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في "الصَّواعقِ" وهَذَا المذهبُ مبنيٌّ على مسألةِ إنكارِ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللَّهِ، ويُسمُّونَها مسألةَ حلولِ الحوادثِ، وحقيقتُها إنكارُ أفعالِه -سبحانَهُ وتعالَى- ورُبُوبِيَّتِه ومَشيئَتِه. انتهى. وأوَّلُ مَن قال بالعبارةِ هُوَ الأشعريٌّ، وهُوَ قولٌ باطلٌ كالقولِ بالحكايةِ، فإنَّ الأدلَّةَ دلَّتْ على أنَّ القرآنَ لفظُه ومعناه كلامُ اللَّهِ.
وأمَّا القولُ بأنَّ القرآنَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ فهُوَ قولٌ مبتدَعٌ باطلٌ تَردُّهُ الأدلَّةُ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ بِذَلِكَ. قال الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: القرآنُ كَيْفَ تُصُرِّفَ فيه، فهُوَ غيرُ مخلوقٍ ولا نرى القولَ بالحكايةِ والعبارةِ، وغَلَّطَ مَن قال بهما وجَهَّلَه، وقال: هَذِهِ بدعةٌ لم يَقُلْ بها السَّلَفُ.
قال الحافظُ ابنُ حجَرٍ العسقلانيُّ في "الفتحِ" المنقولُ عن السَّلَفِ اتِّفاقُهم على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، تَلقَّاهُ جبريلُ عن اللَّهِ وبلَّغهُ جبريلُ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وبلَّغَه مُحَمَّدٌ إلى أُمَّتِه، انتهى. قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) ولم يَقُلْ ما هُوَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ والأصلُ الحقيقةُ، ومَن قال إنَّ المكتوبَ في الصُّحفِ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ وليس فيها كلامُ اللَّهِ، فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وسلَفَ الأمَّةِ، وكفى بِذَلِكَ ضلالاً. قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ)
زَعَمُوا القُرآنَ عبارةً وحكايةً ... قُلنا كما زَعَموه قرآنانِ
هَذَا الذي نَتلُوه مخلوقٌ كما ... ... قال الوليدُ وبعدَه الفِئَتانِ
والآخرُ المعنى القديمُ فقائمٌ ... ... بالنَّفسِ لم يُسمعْ مِن الدَّيَّانِ
ودَليلُهم في ذَاكَ بيتٌ قالَه ... ... فيما يُقالُ الأخطلُ النَّصراني.
ولو كان ما في المصحفِ عبارةً عن كلامِ اللَّهِ، وليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لِمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ والمُحْدِثِ مَسُّهُ؟ ولو كان ما يَقرأُ القارئُ ليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لَمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ؟ بل القرآنُ كلامُ اللَّهِ محفوظٌ في الصُّدورِ، ومقروءٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ كما قال أبو حنيفةَ في "الفِقهِ الأكبرِ" وغيرُه: وهُوَ في هَذِهِ المواضِع كُلِّها حقيقةٌ لا يَصِحُّ نفيُه، والمجازُ يَصِحُّ نفْيُه، فلا يجوزُ أنْ يُقالَ ليس في المصحفِ كلامُ اللَّهِ ولا ما قَرأَ القارئُ كلامَ اللَّهِ.(1/15)
بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً. (1)
__________
(1) قولُه: (بل إذا قرأه النَّاسُ) إلخ. قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ)، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ) وقال تعالى: (يَتْلُو صُحُفًا مَّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وفي حديثِ ابنِ عمرَ قال: نَهى رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ يُسافَرَ بالقرآنِ إلى أرضِ العدوِّ مخافةَ أنْ يُنالَ بِسُوءٍ، وهَذَا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ حقاًّ حَيْثُ تَلاهُ التَّالُونَ أو حَفِظَهُ الحافِظون أو كتَبَه الكاتِبونَ، وهُوَ المعجزةُ بلَفْظِه ومعناه.
قولُه: (فانَّ الكلامَ إنما يُضافُ) إلخ. قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) أي: مِن مُبَلِّغِه، فسماعُ كلامِ الرَّبِ وغيرِه يَنقسِمُ إلى قسمَيْنِ: مُطلَقٌ ومَقيَّدٌ. فالمُطلَقُ ما كان بغيرِ واسطةٍ، كما سَمِعَ موسى بنُ عِمرانَ كلامَ الرَّبِّ، وكما يَسمعُ جبريلُ وغيرُه كلامَه -سُبْحَانَهُ- وتكلِيمَه، ومنه قولُ الرَّسولِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ)).
وأمَّا المُقيَّدُ: فالسَّمعُ بواسطةِ المبلِّغِ كسَماعِ الصَّحابةِ، وسماعِنا لكلامِ اللَّهِ حقيقةً بواسطةِ المبلِّغِ عنه، ومنه قولُه: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) وكما في الحديثِ المتقدِّمِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي)) وكما قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا خَرجَ على قريشٍ فقرأَ: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ) الآيةَ، فقالوا: هَذَا كلامُكَ أو كلامُ صاحبِكَ، فقال: ليس بكلامِي ولا بكلامِ صاحِبي، وإنما هُوَ كلامُ اللَّهِ، فبَيَّنَ أنَّ ما يُبلِّغُه ويتلوهُ هُوَ كلامُ اللَّهِ، وإنْ كان يبلِّغُه بأفعالِه وصَوتِه، والنَّاسُ إذا سمعوا مَن يروي قصيدةً أو كلاماً أو قرآناً قالوا: هَذَا كلامُ فلانٍ.(1/16)
وهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ، ومَعانيهِ (1) .
__________
(1) قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ) لأنَّه هُوَ الذي ألَّفَه وأنشأَهُ، وأمَّا قولُه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الآيةَ، فإضافَتُه إليه إضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ وابتداءٍ، فإنَّه قال: قولُ رَسولٍ، ولم يَقُلْ: قَولُ مَلَكٍ ولا نَبيٍّ، فإنَّ الرَّسولَ يُبلِّغُ كلامَ مُرسِلِه، وأيضًا فقولُه: أمينٌ دليلٌ على أنَّه لا يَزيدُ ولا يُنقِصُ، بل هُوَ أمينٌ على ما أُرِسلَ بِهِ يبلِّغُه عن مُرسِلِه، وأيضًا فإنَّ اللَّهَ كفَّرَ مَن جعَلَه قولَ البَشَرِ، ومُحَمَّدٌ بَشرٌ، فمَن جعَلَه قولَ مُحَمَّدٍ بمعنى أنَّ مُحَمَّداً أو غيرَه أنشأَهُ فقد كفَرَ، وما ذَكَرَ اللَّهُ في القرآنِ عن موسى -عليه السَّلامُ- وغيرِه وعن فرعونَ وإبليسَ، فإنَّ ذَلِكَ الكلامَ كلامُ اللَّهِ إخباراً عنهم، وكلامُ موسى وغيرِه مِن المخلوقينَ مخلوقٌ، والقرآنُ كلامُ اللَّهِ لا كلامُهم.
قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانِيه) ليس شَيْءٌ مِنه كلاماً لغيرِه، لا لجبريلَ، ولا لمُحَمَّدٍ، ولا لغيرِهما، بل قد كفَّرَ اللَّهُ مَن جعَلَه قولَ البَشرِ، ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ إنَّ جبريلَ أَحْدَثَ ألفاظَه، ولا مُحَمَّدٌ، ولا أنَّ اللَّهَ خلَقَها في الهواءِ أو غيرِه مِن المخلوقاتِ، ولا أنَّ جبريلَ أخَذَها مِن اللَّوحِ المحفوظِ إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ المبتدَعةِ، بل أهلُ السُّنَّةِ يقولون: إنَّ القرآنَ عينُ كلامِ اللَّهِ، حُروفُه ومعانِيهِ، ليس كلامُ اللَّهِ الحروفَ دُونَ المعاني، ولا المعاني دُونَ الحروفِ، عَكْسُ ما عليه أهلُ البِدَعِ مِن المعتزِلةِ والأشاعرةِ والكلابِيَّةِ وغيرِهم؛ لأنَّ كلامَ المتكلِّم هُوَ عبارةٌ عن ألفاظِه ومعانيه، وعامَّةُ ما يُوجَدُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وكلامِ السَّلَفِ فإنَّه عندَ إطلاقِه يَتناوَلُ اللَّفظَ والمعنى جميعًا لِشُمولِه لهما، فلفظُ القولِ والكلامِ وما تَصرَّفَ منهما مِن فِعلٍ ماضٍ ومضارعٍ وأمْرٍ ونحوِ ذَلِكَ إنَّما يُعرَفُ في القرآنِ وسائرِ كلامِ العربِ إذا كان لَفظًا ومعنًى.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والصَّوابُ الذي عليه السَّلَفُ والأئمَّةُ: أنَّ الكلامَ حقيقةٌ في اللَّفظِ والمعنى، كما أنَّ الإنسانَ حقيقةٌ في البَدنِ والرُّوحِ، فالنِّزاعُ في النَّاطِقِ كالنِّزاعِ في مَنطِقِه. انتهى. والدَّليلُ على أنَّه حروفٌ حديثُ ابنِ مسعودٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرَآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ)) وقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اقْرَؤوا القرآنَ قَبلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ آخِرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)) رواهُ بنحوِه أحمدُ، وأبو داودَ، والبيهقيُّ في "سُننِه" والضياءُ المقدسيُّ في "المختارةِ عن جابرٍ" وقال أبو بكرٍ وعمرُ -رضي اللَّهُ عنهما-: إعرابُ القرآنِ أحبُّ إلينا مِن حِفظِ بعضِ حُروفِه، وقال عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-: مَن كفَرَ بحرفٍ منه فقد كفَرَ بِهِ كُلِّهِ، واتَّفقَ المسلمونُ على عددِ سُورِ القُرآنِ وآياتِه وكلماتِه وحروفِه، ولا خلافَ بين المسلِمِينَ في أنَّ مَن جحَدَ مِن القرآنِ سورةً أو آيةً أو كلمةً أو حرفاً، مُتَّفَقٌ عليه أنَّه كافرٌ، وفي هَذَا حُجَّةٌ قاطعةٌ على أنَّه حروفٌ. انتهى.(1/17)
ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (ليس كلامُ اللَّهِ الحروفُ) إلخ. فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ، حروفُه ومعانِيه، ليس كلامُ اللَّهِ الحُروفَ دُون المعاني كما يقولُه بعضُ المعتزِلَةِ، ولا المعاني فقط دُونَ الحروفِ، كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ ومَن شابَهَهُم، وكِلا القولَيْنِ باطلٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وما عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، فإنَّ الأدلَّةَ دَلَّتْ على أنَّ القرآنَ العزيزَ الذي هُوَ سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ عَينُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- لا تَألِيفَ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ، وأنَّ القرآنَ جميعَه حروفَه ومَعانِيَهُ نَفْسُ كلامِه، والذي تكلَّمَ به، وليس بمخلوقٍ ولا بعضِه قديمٌ وهُوَ المعنى وبعضُه مخلوقٌ وهُوَ الكلماتُ والحروفُ، بل القرآنُ جميعُه حروفُه ومعانِيه تكلَّمَ اللَّهُ بِهِ حقيقةً، والقرآنُ اسمٌ لهَذَا النَّظْمِ العربيِّ الذي بلَّغَه الرَّسولُ عن جبريلَ عن رَبِّ العالَمِين، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) وإنَّما يَقرأُ القرآنَ العربيَّ لا يَقرأُ معانيَه المحدَّدَةَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الآيةَ، فأَبْطلَ -سُبْحَانَهُ- قولَ الكفَّارِ بأنَّ لسانَ الذي يُلْحِدونَ إليه أعجميٌّ والقرآنُ لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ، فلو كان الكفارُ قالوا يعلِّمُه معانِيه فقط لم يكُنْ هَذَا رداًّ لقولِهم، فإنَّ الإنسانَ قد يتعلمُ من الأعجميِّ شيئاً بِلُغةِ ذلك العجميِّ ويُعبِّرُ عنه بِعباراتِهِ، وإذا كان الكفَّارُ جعلوا الذي يُعلِّمُه بَشرٌ؛ فأبطلَ اللَّهُ ذَلِكَ بأنَّ لسانَ ذَلِكَ أعجميٌّ، وهَذَا لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ على أنَّ رُوحَ القُدُسِ نَزَلَ باللِّسانِ العربيِّ المُبِينِ وأنَّ محمَّداً لم يؤَلِّفْ نَظْمَ القرآنِ، بل سَمِعَه مِن رُوحِ القُدُسِ، وإذا كان رُوحُ القُدُسِ نَزَلَ مِن اللَّهِ عُلِمَ أنَّه سَمِعَه ولم يؤَلِّفْه هو. انتهى.(1/18)
فصل: ( وقَدْ دَخَلَ أَيضاً فيما ذَكَرْناهُ مِن الإِيمانِ بهِ وبِكُتُبِهِ وبملائِكَتِهِ وبِرُسُلِهِ: الإِيمانُ بأَنَّ المؤمِنينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ عياناً بأَبصارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صحواً ليسَ [ بها ] سحابٌ، وكَما يَرَوْنَ القَمَرَ ليلَةَ البَدْرِ لا يضامونَ في رُؤيَتِهِ. (1)
__________
(1) فصلٌ: قولُه: (وقد دخَلَ فيما ذكرناه) إلخ. أي قد دَخلَ في الإيمانِ باللَّهِ وبكتُبِه وملائكِتِه ورُسلِه الإيمانُ بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه -سُبْحَانَهُ- يومَ القيامةِ، فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّه -سُبْحَانَهُ- يُرى يومَ القيامةِ فقد ردَّ أدلَّةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وخالَفَ ما عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها، ولم يؤمِنْ باللَّهِ وملائكتِه وكتُبِه ورُسلِه.
قال أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَن لم يَقُلْ بالرُّؤيةِ فهُوَ جهميٌّ، وقال أبو داودَ: سمعتُ الإمامَ أحمدَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقولُ: مَن قال: إنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ فهُوَ كافرٌ، وقال: مَن زَعَم أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ فقد كفَرَ باللَّهِ وكذَّبَ بالقرآنِ، وردَّ على اللَّهِ أمْرَه يُستتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ قُتِلَ، وقال ابنُ خزيمةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ ربَّهم خالَقهم يومَ المَعادِ، ومَن أَنكَرَ ذَلِكَ فليس بمؤمنٍ عندَ المؤمنين.
وقال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: دلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ المتواتِرةُ وإجماعُ الصَّحابةِ وأئمَّةِ أهلِ الإسلامِ والحديثِ على أنَّ اللَّهَ يُرى يومَ القيامةِ بالأبصارِ عِياناً كما يُرى القمرُ ليلةَ البدْرِ، وكما تُرى الشَّمسُ صَحْوًا، فإنْ كان لِمَا أخبَرَ اللَّهُ بِهِ ورسولُه حقيقةً – وأنَّ له واللَّهِ حقُّ الحقيقةِ – فلا يُمْكِنُ أنْ يَرَوْهُ إلاَّ مِن فَوقِها لاستحالةِ أنْ يَرَوْهُ مِن أسفلَ منهم أو وراءَهم أو قُدَّامَهم ونحوُ ذَلِكَ، ولا يجتمعُ في قلبِ عبدٍ اطَّلعَ على هَذِهِ الأحاديثِ وفَهِمَ معناها إنكارُها والشَّهادةُ بأنَّ محمَّداً رسولُ اللَّهِ أبدًا، ا.هـ.
قولُه: (بأنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَه) كما تواترتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ، وهَذَا بخلافِ الكفارِ، فإنَّهم لا يَرَوْنَه –سُبْحَانَهُ- قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبَّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) قال الشَّافعيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: لمَّا أنْ حُجِبَ هؤلاء في السَّخَطِ كان في هَذَا دَليلٌ على أنَّ أولياءَه يَرَوْنَه في حالِ الرِّضا، قال ابنُ كثيرٍ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا الذي قالَه الإمامُ الشَّافِعيُّ في غايةِ الحُسْن، وهُوَ استدلالٌ بمفهومِ هَذِهِ الآيةِ، كما دَلَّ عليه منطوقُ قولِه تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) وكما دَلَّتْ على ذَلِكَ الأحاديثُ المتواتِرةُ في رؤيةِ المؤمنينَ لِربِّهم في الدَّارِ الآخرةِ بالأبصارِ في عَرَصاتِ القيامةِ، وفي رَوضاتِ الجنَّاتِ الفاخِرةِ. ا. هـ.
قولُه: (يومَ القيامةِ) إشارةٌ للرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّه –سُبْحَانَهُ- يُرى في الدُّنْيَا، كما يقولُه بعضُ المتَصوِّفةِ، وهَذَا باطلٌ تَردُّه الأدِلَّةُ كما في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه سألَ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: هل رأى رَبَّهُ؟ فقال: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)) أيْ: حالتْ بيني وبينَ رؤيَتِه الأنوارُ، وقالتْ عائشةُ -رضي اللَّهُ عنها: مَنْ حدَّثَكَ أنَّ محمَّدا رأى ربَّه فقد كَذَبَ، وفي صحيحِ مسلمٍ مرفوعًا: ((وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا)) وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أهلُ السُّنَّةِ متَّفِقونَ على أنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- لا يَراهُ أحدٌ بعينهِ في الدُّنْيَا، لا نَبِيٌّ ولا غيرُ نَبِيٍّ، وإنَّما يُروى ذَلِكَ بإسنادٍ موضوعٍ باتِّفاقِ أهلِ المعرفةِ.
قولُه: (عِيانًا بأبصارِهم)، كما في حديثِ جريرٍ وغيرِه، وقولُه: (عِياناً) بكَسْرِ العَينِ مِن قولِكَ: عايَنْتُ الشَّيءَ عِيانا، إذا رأَيْتَه بعينَيْكَ، أيْ: تَرَوْنَه رؤيةً محققَّةً لا خفاءَ فيها، قال ابنُ القَيِّمِ: وقولُه (عيانًا) تحقيقًا للرُّؤيةِ ونَفْيا لتَوهُّمِ المجازِ الذي يَظُنُّه المعطِّلون. ا. هـ.
قولُه: (كما يَرَوْنَ الشَّمَس صَحْوًا) إلخ. كما في الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أبي هريرةَ أنَّ أناسًا قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، هل نَرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فقال رسولُ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟)) قالوا: لا يا رسولَ اللَّهِ، قال: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسَ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟)) قالوا: لا، قال: ((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كذَلِكَ)) وتَقدَّمَ حديثُ جريرٍ، إلى غيرِ هَذِهِ الأحاديثِ التي بَلَغَتْ حَدَّ التَّواتُرِ، والتي يَجزِمُ مَن أحاطَ بها عِلماً أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قالها، فَهِذِهِ الأحاديثُ فيها إثباتُ الرُّؤْيةِ، وَالرَّدُّ على الأشاعرةِ والقائِلينَ بأنَّه -سُبْحَانَهُ- يُرى مِن غيرِ مُواجَهةٍ ومعايَنةٍ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا قولٌ انفَرَدوا بِهِ دُون سائرِ طوائفِ الأمَّةِ وجمهورِ العُقلاءِ على أنَّ فسادَ هَذَا معلومٌ بالضَّرورةِ.
وقولُه: (صَحْواً) أي: ذاتُ صَحْوٍ، أيْ: انْقْشَعَ عنها الغَيْمُ.
وقولُه: (كما تَرَوْن) إلخ، هَذَا تَشبيهٌ للرُّؤْيَةِ بالرُّؤيةِ، فإنَّ الكافَ حرفُ تشبيهٍ دخَلَ على الرُّؤْيَةِ ولم يُشَبِّه المَرْئيَّ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- لا شَبِيهَ له ولا مَثِيلَ ولا نَظِيرَ.
وقولُه: (لا تُضَارُّونَ في رُؤْيَتِه) قال في النِّهايةِ: يُروى بالتَّشديدِ والتَّخفيفِ، فالتَّشديدُ معناه لا يَنْضَمُّ بعضُكم إلى بعضٍ، وتتزاحَمُون وقتَ النَّظرِ إليه، ويجوزُ ضَمُّ التَّاِء وفتْحُها، ومعنى التَّخفيفِ لا يَنالُكمْ ضَيمٌ في رُؤْيَتِه، فيَراهُ بعضُكم دُونَ بعضٍ، والضَّيْمُ الظُّلمُ، وأمَّا مَن زَعَم أنَّ الخبرَ يدلُّ على أنَّهم يَرَوْنَه لا في جهةٍ، هَذَا تفسيرٌ باطلٌ لم يَقُلْه أحدٌ مِن أئمَّةِ أهلِ العِلمِ، بل هُوَ تفسيرٌ منكَرٌ، فإنَّ الحديثَ يدلُّ صراحةً على أنَّه -سُبْحَانَهُ- يَتجلَّى تجليًا ظاهرًا، فيَرَوْنه كما تُرى الشَّمسُ والقمرُ بلا ضَيمٍ يَلْحقُهم في رُؤيتِه على هَذِهِ الرِّوايةِ، وعلى الرِّوايةِ الأخرى معناه لا يَنْضمُّ بعضُكم إلى بعضٍ، كما يَتضامُّ النَّاسُ عندَ رُؤيةِ الشَّيءِ الخفيِّ كالهلالِ. انتهى مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَةَ.(1/19)
يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وهُمْ في عَرَصَاتِ القِيامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بعْدَ دُخولِ الجَنَّةِ؛ (1)
__________
(1) قولُه: (يَرَوْنَه في عَرَصاتِ القيامةِ) كما في الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنهما-، وفي أفرادِ مسلمٍ عن جابرٍ في حديثِه: ((إنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني في العَرَصاتِ.
قولُه: (العَرَصاتِ) جَمْعُ عَرَصةٍ، وَهِيَ كُلُّ موضعٍ واسعٍ لا بناءَ فيه، وعَرَصةُ الدَّارِ وسَطُها، وعَرَصاتُ القيامةِ مواقِفُ الحسابِ والعَرْضِ وغيرِ ذَلِكَ، ويَرَوْنه بعد دُخولِ الجَنَّةِ، كما في حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ)) وهُوَ قولُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) فلا يَلتفِتون إلى شيءٍ ممَّا هُم فيه مِن النَّعيمِ ما دامُوا يَنظُرون إليه حتى يَحتجِبَ عنهم، وتَبْقى بركتُه ونُورُه، رواه ابنُ ماجهْ وغيرُه، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ففي هَذَا الحديثِ إثباتُ صفةِ الكلامِ، وإثباتُ الرُّؤْيةِ، وإثباتُ العُلُوِّ، والمُعطِّلةُ تُنكِرُ هَذِهِ الثَّلاثةَ وتكفِّرُ القائلَ بها، ا. هـ.
وأمَّا ما استدَلَّ بِهِ المعتزِلةُ وغيرُهم مِن نُفاةِ الرُّؤْيَةِ مِن قولِه –سُبْحَانَهُ وتعالى-: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، وقولِه لموسى: (لَنْ تَرَانِي) فالجوابُ: أنَّ الآيةَ الأُولى هي على جوازِ الرُّؤْيَةِ أَدَلُّ منها على امتناعِها، فإنَّ اللَّهَ –سُبْحَانَهُ- إنَّما ذَكَرَها في سياقِ التَّمدُّحِ، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصافِ الثُّبوتِيَّةِ، وأمَّا العدَمُ المحْضُ فليس بكمالٍ ولا يُمدَحُ به، فلو كان المرادُ بكونِه: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أنَّه لا يُرى بحالٍ لم يَكُنْ في ذَلِكَ مدحٌ ولا كمالٌ لمُشاركةِ المعدومِ له في ذَلِكَ، فإنَّ العدَمَ الصِّرْفَ لا يُرى ولا تُدرِكُه الأبصارُ، والرَّبُّ –سبحانَهُ وتعالَى- جَلَّ جَلالُهُ- يتعالى أنْ يُمدَحَ بما يُشارِكُه فيه العَدمُ المحضُ، فإذًا المعنى أنَّه يُرى ولا يُدْرَكُ ولا يُحاطُ، فقولُه: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) يَدلُّ على غايةِ عظمَتِه، وأنَّه أكبرُ مِن كُلِّ شيءٍ، وأنَّه لعظَمَتِه لا يُدْرَكُ بحَيْثُ يُحاطُ به، فإنَّ الإدْراكَ هُوَ الإحاطةُ بالشيءِ، وهُوَ قَدْرٌ زائدٌ على الرُّؤْيَةِ، كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ) فلَمْ يَنْفِ موسى الرُّؤْيَةَ، ولم يُريدوا بقولِهم: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) إنَّا لمرئِيُّونَ، فإنَّ موسى -عليه السَّلامُ- نَفَى إدراكَهُم إيَّاهُم بقولِه: كلاَّ، وأخبَرَ أنَّه لا يخافُ دَركَهُم بقولِه (لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى) فالرُّؤْيَةُ والإدراكُ كُلٌّ منهما يُوجَدُ مع الآخَرِ وبدُونه، فالرَّبُّ يُرى ولا يُدركُ، كما يُعلمُ ولا يُحاطُ به، وهَذَا الذي فَهِمَه الصَّحابةُ والأئمَّةُ مِن الآيةِ. قال ابنُ عباسٍ: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لا تُحيطُ به، وقال قتادةُ: هُوَ أَعْظمُ مِن أنْ تُدرِكَه الأبصارُ. انتهى. مُلخَّصاً، مِن حادى الأرواحِ.
وأجابَ بعضُهم بقولِه: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: في الدُّنْيَا، وبأنَّ نفْيَ الإدراكِ لا يَستلزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ، لإمكانِ رُؤيةِ الشَّيءِ مِن غيرِ إحاطةٍ بحقيقَتِه، والجوابُ عن الاستدلالِ بقولِه لموسى: (لَنْ تَرَانِي) استدلالٌ فاسدٌ، والآيةُ حُجَّةٌ عليهم، فإنَّها دالَّةٌ على الرُّؤْيَةِ مِن وجوهٍ (أحدُها) أنَّه لا يُظَنُّ بموسى -عليه السَّلامُ- أنْ يسألَ ربَّه مَا لا يجوزُ عليه. (الثَّاني) أنَّه لم يُنكِرْ عليه سؤالَه، ولو كان مُحالاً لأنكَره عليه. (الثَّالثُ) أنَّه أجابَه بقولِه: (لَن تَرَانِي) ولم يَقُلْ إنِّي لا أُرَى، أو لا تَجوزُ رُؤيتي، فهَذَا يدلُّ على أنَّه يُرى ولكنَّ موسى لا تَحتمِلُ قُواه رُؤيتَه في هَذِهِ الدَّارِ لِضَعْفِ قوَّةِ البَشرِ فيها عن رُؤيتِه تعالى، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الوجوهِ الدَّالَّةِ على أنَّ الآيةَ فيها إثباتُ الرُّؤْيَةِ، وليست دالَّةً على نَفْيِها، كما يقولُه المعتزِلةُ وأشباهُهم في إثباتِ الرُّؤيةِ، هَذَا مع ما جاء من الأحاديث الدَّالَّةِ على إثباتِ الرُّؤْيَةِ، والتي تلقَّاها المسلمون بالقَبولِ مِن لَدُن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، حتى حَدَثَ مَن أَنكَرَ الرُّؤْيَةَ وخَالَفَ السَّلَفَ.(1/20)
كَمَا يَشاءُ اللهُ تَعالى). (1)
( فصلٌ: ومِن الإِيمانِ باليومِ الآخِرِ الإِيمانُ بكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَكُونُ بعدَ المَوْتِ، فيؤِمنُونَ بفِتْنَةِ القَبْرِ، وبِعذابِ القَبْرِ ونَعيِمهِ. (2)
__________
(1) قولُه: (كما يشاءُ اللَّهُ) أي: مِن غيرِ إحاطةٍ ولا تَكييفٍ، كما نَطَقَ بِذَلِكَ الكتابُ وفسَّرَتْه السُّنَّةُ على ما أرادَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وعَلِمَه، وكُلُّ ما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ فهُوَ كما قال معناه على ما أراد، ولا نَدخُلُ في ذَلِكَ متأوِّلِيَن بآرائِنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهوائِنا، كما قال الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: آمنتُ باللَّهِ على ما جاءَ مِن عندِ اللَّهِ على مُرادِ اللَّهِ، وآمنتُ برسولِ اللَّهِ وبما جاءَ عن رسولِ اللَّهِ على مُرادِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.
(2) فَصلٌ: قولُه: (الإيمانُ باليومِ الآخِرِ) الذي هُوَ أحدُ أُصولِ الإيمانِ السِّتَّةِ المذكورةِ في حديثِ عُمرَ وغيرِه، والمرادُ بالإيمانِ بِهِ التَّصدِيقُ بما يَقعُ مِن الحسابِ، والميزانِ، والجَنَّةِ، والنَّارِ، وغيرِ ذَلِكَ، وسُمِّيَ باليومِ الآخِرِ لتأخُّرِه عن الدُّنْيَا.
قولُه: (الإيمانُ بكُلِّ ما أخبَرَ بِهِ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مما يكونُ بعدَ الموتِ) أيْ: مِن فِتنةِ القبرِ وعذابِه ونَعيمِه، وكونِه حُفرةً مِن حُفَرِ النَّارِ، أو رَوْضةً مِن رياضِ الجَنَّةِ، وتوسِيعِه على بعضٍ وتَضييقِه على بعضٍ، وضَغْطِه، ونحوِ ذَلِكَ، وإعادةِ الرُّوحِ إلى الميِّتِ، فيؤمنون بما يَقعُ في البَرْزَخِ ممَّا وَرَدَتْ بِهِ الأدلَّةُ، والبَرزخُ لُغةً: الحاجِزُ بين الشَّيْئَيْنِ، كما قال -سُبْحَانَهُ وتعالى-: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ) أي حاجزٌ، وفي الشَّرعِ: البَرزخُ مِن وقتِ الموتِ إلى القيامةِ مَن ماتَ دَخَلَه، وسُمِّيَ بَرزخًا لكونِه يَحجِزُ بين الدُّنْيَا والآخرةِ.
قولُه: (فِتنةِ القبرِ) الفتنةُ لغةً: الامتحانُ والاختبارُ، والفَتَّانانِ منكرٌ ونكيرٌ، ويُريدُ بفتنةِ القبرِ مسألةَ مُنكرٍ ونكيرٍ، ويجبُ الإيمانُ بِذَلِكَ لثُبوتِه عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِدَّةِ أخبارٍ يَبلُغُ مجموعُها حَدَّ التَّواتُرِ.
قولُه: (وبعذابِ القبرِ ونَعِيمِه) تَواتَرَت الأخبارُ عن رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في ثُبوتِ عذابِ القبرِ، ولمَن كان أهلاً لذَلِكَ، فيَجبُ اعتقادُ ذَلِكَ والإيمانُ به، ولا يُتكَلَّمُ في كَيفيَّتِه، إذْ ليس للعقلِ وقوفٌ على كيفيَّتِه؛ لكونِه لا عَهْدَ له بِهِ في هَذِهِ الدَّارِ، وعلى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وأَنْكَرَ الخوارجُ والمعتزِلةُ وبعضُ المُرْجِئةِ.
قال ابنُ رجبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: تَواتَرَت الأحاديثُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عذابِ القبرِ، ففي الصَّحيحَيْنِ عن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أنها قالت: سألتُ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عن عذابِ القبرِ قال: ((نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ)) وفي صحيحِ مسلمٍ عن ابنِ عباسٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه كان يُعلِّمُهم هَذَا الدُّعاءَ كما يُعلِّمُهم السُّوَرَ مِن القرآنِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ،وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)) وفي الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ ابن عباسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: مَرَّ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بقبرَيْنِ فقال: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ)) ثم قال: ((بَلَى إِنَّهُ كَبِيرٌ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)).
وقال المرُّوذِيُّ: قال أبو عبدِ اللَّهِ أحمدُ بنُ حنبلٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: عذابُ القبرِ حَقُّ لا يُنكِرُه إلا ضالٌّ مُضِلٌّ. ا.هـ. وعذابُ القبرِ على الرُّوحِ والبَدَنِ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: العذابُ والنَّعيمُ على النَّفْسِ والبَدنِ جميعًا باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.(1/21)
فأَمَّا الفِتْنَةُ؛ فإِنَّ النَّاسَ [ يُمْتَحَنونَ ] في قُبُورِهِمْ، فَيُقالُ للرَّجُل: مَنْ رَبُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ و [ من ] نبيُّكَ؟ (1)
__________
(1) قولُه: (فإنَّ النَّاسَ يُفتَنُون في قُبورِهم) أي: بأنْ تُعادَ إليهم أرواحُهم، كما في حديثِ البراءِ وغيرِه، فتُعادُ إليه رُوحُه إعادةً غيرَ الإعادةِ المألوفةِ في الدُّنْيَا، لِيُسألَ ويُمتَحنَ في قبرِه. انتهى. وهَذَا الرَّدُّ إعادةٌ خاصَّةٌ تُوجِبُ حياةَ البَدنِ قبلَ يومِ القيامةِ، فإنَّ الرُّوحَ لها بالبَدَنِ خمسةُ أنواعٍ مِن التَّعلُّقِ متغايرةُ الأحكامِ: أحدُها: تَعلُّقُها بِهِ في بَطنِ الأُمِّ جَنِينًا. الثَّاني: تعلقها بِهِ بعدَ خُروجِه إلى الأرضِ. الثَّالثُ: تَعلُّقُها بِهِ حالَ النَّومِ، فلها تَعلُّقٌ بِهِ مِن وجهٍ ومُفارَقةٌ مِن وجهٍ. الرَّابعُ: تعلُّقُها بِهِ في البَرزخِ، فإنَّها وإنْ فارَقتْه وتجرَّدَتْ عنه فإنَّها لم تُفارِقْه فِراقًا كُلِّيا. الخامِسُ: تعلُّقُها بِهِ يومَ بَعثِ الأجسادِ، وهَذَا أَكْملُ أنواعِ تعلُّقِها بالبَدنِ، ا. هـ. مِن كتابِ الرُّوحِ.
قولُه: (فيُقالُ للرَّجُلِ) أيْ: للإنسانِ مِن رُجُلٍ وامرأةٍ وغيرِهما ممَّن ورَدَت الأدِلَّةُ أنَّه يُمتَحنُ في قبرِه، أي يقولُه له المَلَكانِ، واسمُهما (المُنكَرُ والنَّكيرُ) نَصَّ على ذَلِكَ أحمدُ، وفي حديثِ أبي هريرةَ: ((يَأْتِيهِ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَلِلآخَرِ النَّكِيرُ)) رواه ابنُ حِبَّانَ والتَّرمذِيُّ، وفي روايةِ ابنِ حِبَّانَ: ((يُقالُ لَهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ)) وقولُه منكرٌ مُفْعلٌ، ونَكيرٌ فَعِيلٌ بمعنى مفعولٍ مِن أَنْكَرَ، وكِلاهما ضِدُّ المعروفِ، وسُمِّيا به؛ لأنَّ الميِّتَ لم يَعرِفْهُما ولم يَرَ صورةً مِثلَ صورَتِهما، وظاهرُ هَذَا ومقتضَى الأحاديثِ استواءُ النَّاسِ في اسمِهما، وذَكَر بعضُ العلماءِ أنَّ اللذَيْنِ يسألانِ المؤمِنَ اسمُهما البَشيرُ والمُبَشِّرُ، والأوَّلُ هُوَ الصَّحيحُ.
قولُه: (فيُقالُ للرَّجُلِ مَن رَبُّكَ) إلخ. كما أَخرجَ الشَّيخانِ مِن حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في قولِه: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآيةَ، نَزَلَتْ في عذابِ القبرِ، زادَ مسلمٌ: ((فَيُقَالُ لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ)) فذَلِكَ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآيةَ.
وفي الصَّحيحَيْنِ مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟)) لمُحَمَّدٍ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ((فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ وَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ: فَيَرَاهُمَا جَميعاً – يعني الْمَقْعَدَيْنِ)).
قال قتادةُ: ذُكِرَ لنا أنَّه يُفسَحُ له في قبرِه، وأمَّا المنافِقُ والكافرُ فَيُقالُ له: ما تقولُ في هَذَا الرَّجُلِ؟ فيقولُ: لا أدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ النَّاسُ، فيقال: لا دَرَيْتَ، ولا تَلَيْتَ، ويُضْرَبُ بِمِطْرَاقٍ مِن حديدٍ ضَربةً فيَصِيحُ صيحةً يَسمَعُه مَن يَلِيه غيرُ الثَّقلَيْنِ.
قولُه: (فإنَّ النَّاسَ يُفتنون) إلخ، ظاهرُه أنَّ السُّؤالَ في القبرِ عامٌّ للمؤمِنِ والفاسِقِ والكافرِ، كما اختاره الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ وابنُ القيِّمِ وجمهورُ العلماءِ، خِلافاً لابنِ عبدِ البَرِّ، حَيْثُ قال: لا يُسألُ إلا مؤمِنٌ أو مُنافِقٌ كان مَنسوباً لِدِينِ الإسلامِ بظاهرِ الشَّهادةِ، بخلافِ الكافرِ، والكِتابُ والسُّنَّةُ تدلُّ على خلافِ هَذَا القولِ، قال اللَّهُ تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) وفي البخاريِّ: ((وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي) بالواو، ورَجَّحَه أيضًا ابنُ حجَرٍ، ويفيدُ أيضًا أنَّ السُّؤالَ عامٌّ للأُمَمِ كُلِّها، ليس خاصًّا بهذهِ الأمَّةِ، كما اختاره ابنُ القيِّمِ وعبدُ الحقِّ الإشبيليُّ وغيرُهم، وجَزَم بِهِ القرطبيُّ، وقال الحكيمُ التِّرمذيُّ: إنَّه خاصٌّ بهذه الأمَّةِ، وتَوقَّفَ ابنُ عبدِ البَرِّ، ويُستثنَى ممَّا تقدَّمَ المرابِطُ في سبيلِ اللَّهِ، فقد صَحَّ أنَّه لا يُفْتَنُ في قبرِه، كما في صحيحِ مسلمٍ وغيرِه، وكشهيدِ المعركةِ، والصَّابرِ في الطَّاعونِ، وغيرِ هؤلاء ممَّا جاءَ في الأحاديثِ.
قولُه: (في قبورِهم) وكذا مَن لم يُدْفَنْ مِن مصلوبٍ ونحوِه ينالُه نصيبُه مِن فتنةِ السُّؤالِ وضغطةِ القبرِ. قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في كتابِ (الرُّوحِ) وممَّا ينبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ عذابَ القبرِ هُوَ عذابُ البَرزخِ، فكُلُّ مَن ماتَ، وهُوَ مستحِقٌّ للعذابِ نالَه نصيبُه مِن ذَلِكَ قُبِرَ أو لم يُقْبَرْ، فلو أَكَلتْهُ السِّباعُ أو أُحرِقَ حتى صار رماداً أو نُسِفَ في الهواءِ أو غَرِقَ في البَحرِ، وصَلَ إلى رُوحِه وبَدنِه مِن العذابِ ما يَصِلُ إلى المقبورِ. ا.هـ.
وقولُه: (فيُقالُ للرَّجُلِ) ظاهرُه اختصاصُ السُّؤالِ بالمكلَّفِ، أمَّا الصَّغيرُ فجَزَم غيرُ واحدٍ مِن الشَّافعيَّةِ أنَّه لا يُسألُ، وجَزَم القرطبيُّ في التَّذكِرةِ بأنَّه يُسألُ، وهُوَ منقولٌ عن الحَنفِيَّةِ.
وأفادَ قولُه: (فيُقالُ للرَّجُلِ) إلى آخرِه أنَّ السُّؤالَ والجوابَ يكونُ باللُّغةِ العربيَّةِ، خِلافا لما ذُكِرَ عن البَلقينيِّ أنَّه يُجِيبُ باللُّغةِ السُّريانِيَّةِ؛ إذْ لا دليلَ عليه، وأفادَ أيضًا أنَّ السُّؤالَ في القَبرِ للرُّوحِ والبَدنِ، وَكَذَلِكَ عذابُ القبرِ ونَعيمُه، والأدلَّةُ صريحةٌ بِذَلِكَ، وعليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وأفاد قولُه: (فيَقولانِ له) أنَّ الملائكةَ الذين يسألُونَ في القَبرِ اثنانِ، وزَعَم بعضُهم أنَّهم أربعةٌ، والصَّحيحُ الأوَّلُ للأدلَّةِ الصَّحيحةِ في ذَلِكَ، وأفاد أيضًا أنَّ السُّؤالَ مَرَّةٌ واحدةٌ.
وقال القسطلانيُّ: وذَكَر ابنُ رجبٍ عن بعضِهم أنَّ المؤمِنَ يُفتَنُ سَبعًا والكافِرُ أربعين صباحًا، ومِن ذَلِكَ كانوا يَستحِبُّون أنْ يُطعَمَ عن المؤمنِ سبعةَ أيامٍ مِن يومِ دَفْنِه. قال: وهَذَا مما انفرَدَ بِهِ، ولا أَعْلَمُ أنَّ أحدًا قالَه غيرَه. انتهى.
وأفاد أيضًا أنَّ عذابَ القبرِ واقعٌ على الكفارِ، ومنْ شاءَ اللَّهُ مِن الموحِّدِينَ، وأفاد ذَمَّ التَّقليدِ في الاعتقاداتِ لمُعاقَبةِ مَن قال سمعتُ النَّاسَ يقولون شيئا فقُلْتُه، وأفاد أيضًا أنَّ الميِّتَ يُحْيَا في قبرِه للمسألةِ، خلافا لابنِ حَزْمٍ، وقد سَبَقَت الإشارةُ إلى ذَلِكَ.(1/22)
فيُثَبِّتُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ، فيقولُ المؤمِنُ: [ رَبِّيَ اللهُ ]، والإِسلامُ دِيني، ومحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّي. (1)
وأَمَّا المُرْتَابُ؛ فَيقولُ: هاه هاه، لا أَدْري، سمعتُ النَّاسَ يَقولُونَ شَيْئاً فقُلْتُهُ؛ فَيُضْرَبُ بمِرْزَبَةٍ مِنْ حَديدٍ، فيَصيحُ صيحَةً يَسْمَعُها كُلُّ شيءٍ؛ إِلا الإِنسانَ، ولَوْ سَمِعَها الإِنْسانُ؛ لَصَعِقَ ثمَّ بعدَ هذه الفِتنةِ إِمَّا نعيمٌ وإِمَّا عذابٌ، إِلى أَنْ تَقومَ القِيامَةُ الكُبْرى (2)
__________
(1) قولُه: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ في سؤالِ المكلَّفِينَ في القبرِ، كما قالَه الجمهورُ، قال الطبريُّ: يُثَبِّتُهم في الدُّنْيَا على الإيمانِ حتى يَمُوتوا، وفي الآخرةِ عند المسألةِ. انتهى.
وقولُه: (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أي: الذي ثَبَتَ عندَهم بالحُجَّةِ، وَهِيَ كلمةُ التَّوحيدِ، وثُبوتُها تَمكُّنُها في القلبِ، واعتقادُ حقيقَتِها، واطمئنانُ القلبِ بها، وتَثْبيتُهم في الدُّنْيَا أنَّهم إذا فُتِنوا لم يُزالوا عنها، وإنْ أُلْقوا في النَّارِ ولم يَرتابوا، وتَثْبيتُهم في الآخرةِ أنَّهم إذا سُئِلوا في القبرِ لم يَتَوقَّفوا في الجوابِ، وَكَذَلِكَ إذا سُئِلوا في الحشْرِ، وعِندَ مَوقِفِ الأشهادِ عن مُعتقَدِهم ودِينِهم لم تُدْهِشْهُم أحوالُ يومِ القيامةِ، وبالجُملةِ فالمرءُ على قَدْرِ ثَباتِه في الدُّنْيَا يكونُ ثباتُه في القبرِ وما بعدَه.
(2) قولُه: (وأمَّا المُرتابُ) أي: الشَّاكُّ (فيقولُ: هاه هاه) هي كلمةُ توجُّعٍ، والهاءُ الأُولى مُبْدَلةٌ مِن همزةِ آه، وهُوَ الأليقُ بمعنى هَذَا الحديثِ، ا.هـ.
قولُه: (فيُضرَبُ بِمَرْزَبَةٍ مِن حديدٍ) قال في النِّهايةِ: المَرْزَبَةُ بالتَّخفيفِ: المَطْرَقةُ الكبيرةُ التي للحدَّادِ.
قولُه: (يَسْمَعُها كُلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسانَ) وفي حديثٍ آخرَ (فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ) أي الجِنِّ والإنْسِ، قيلَ لهم ذَلِكَ؛ لأنَّهم كالثِّقَلِ على وجْهِ الأرضِ. انتهى. فتحُ الباري.
قولُه: (لَصَعِقَ) أي: خرَّ مَيِّتا، وصَعِقَ أيضًا إذا غُشِيَ عليه.
قولُه: (ثم بعد هَذِهِ الفتنةِ إمَّا نعيمٌ وإمَّا عذابٌ) المرادُ أنَّه لا بدَّ مِن أحدِ الأمرَيْنِ، ولا يُفْهَمُ منه دَوامُ العذابِ، فإنَّ النَّاسَ بالنِّسبةِ لدوامِ عذابِ القبرِ وعَدمِه يَنقسِمونَ إلى قِسمَيْنِ: قِسمٌ عذابُه دائمٌ لا يَنقطِعُ، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًَّا وَعَشِياًّ..) الآيةَ، وكما في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ في قصَّةِ الكافرِ: (ثم يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَى مَقْعَدِه فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ). رواه أحمدُ في بعضِ طُرُقِه.
النَّوعُ الثَّاني: إلى مِدَّةٍ ينقطِعُ، وهُوَ عذابُ بعضِ العُصاةِ الذين خَفَّتْ جَرائِمُهم، فيُعذَّبُ بحسَبِ جُرْمِه، ثم يُخفَّفُ عنه، وقد يَنقطِعُ عنه العذابُ بدُعاءٍ أو صدقةٍ أو استغفارٍ أو ثوابٍ حَجٍّ أو غيرِ ذَلِكَ مِن الأسبابِ.
قولُه: (إلى أنْ تقومَ القيامةُ الكُبرى) بعد ما يُنفَخُ في الصُّورِ نَفخةُ البَعثِ، فإنَّ يومَ القيامةِ يقع على ما بعدَ نفخةِ البَعثِ مِن أهوالٍ وزلزلةٍ وغيرِ ذَلِكَ إلى آخرِ الاستقرارِ في الجَنَّةِ أو النَّارِ.
قولُه: (الكُبرى) إشارةٌ إلى أنَّ فيه قيامةً صُغرى، وهُوَ الموتُ كما قيل:
خَرَجْتُ مِن الدُّنْيَا وقامتْ قِيامَتي ... ... غَداةَ أَقَلَّ الحامِلون جِنازَتي
قال القرطبيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: القيامةُ قيامتانِ: صُغرى وكُبرى، فالصُّغرى: ما تقومُ على كُلِّ إنسانٍ في خاصَّتِه مِن خُروجِ رُوحِه وانقطاعِ سَعْيِه وحُصولِه على عِلمِه، وأمَّا الكُبرى: فهي التي تَعُمُّ النَّاسَ وتأخُذُهم أخْذةً واحدةً، قيل: سُمِّيَ ذَلِكَ اليومُ يومَ القيامةِ؛ لكونِ النَّاسِ يَقُومون مِن قُبورِهم، قال تعالى: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مَّنتَشِرٌ) وقال: (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا) وروى مسلمٌ في "صحيحِه" مرفوعا: (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، قال: يقومُ أحدُهم في رَشْحِه إلى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ))، قال ابنُ عمرَ: يقومونَ مائةَ سَنةٍ.(1/23)
فُتعادُ الأرواحُ إِلى الأجْسادِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (فتُعادُ الأرواحُ إلى الأجسادِ) وَذَلِكَ حين يَنفُخُ إسرافيلُ في الصُّورِ نفخةَ البَعثِ والنُّشورِ، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) وإذا أُطلِقَ النَّفخُ في الصُّورِ فالمرادُ بِهِ نفخةُ البَعثِ، والأرواحُ جمعُ رُوحٍ وهُوَ ما يَحيا بِهِ الإنسانُ، وهُوَ مِن أمرِ اللَّهِ، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
قال شيخُ الإسلامِ تَقيُّ الدِّينِ: ورُوحُ الآدميِّ مخلوقةٌ مُبدَعةٌ باتِّفاقِ سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها وسائرِ أهلِ الحديثِ، وقد حَكىَ إجماعَ الأمَّةِ على أنَّها مخلوقةٌ غيرُ واحدٍ مِن أئمَّةِ السَّلَفِ، ويَجبُ الإيمانُ بالبعثِ والنُّشورِ، ويَكْفُرُ الإنسانُ بإنكارِه، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) والبعثُ لغةً: إثارةُ الشَّيءِ، والمرادُ بِهِ هنا إحياءُ الأمواتِ وخُروجُهم مِن قُبورِهم ونحوُها إلى حُكمِ يومِ القيامةِ، والبعثُ والنُّشورُ مترادفانِ، وهما بمعنى إعادةِ الأبدانِ وإدخالِ الأرواحِ فيها، يُقالُ: نَشَرَ الميِّتَ وأَنْشَرَهُ بمعنى أَحْيَاه، وأمَّا الحشْرُ فهُوَ لغةً: الجمْعُ، تقولُ: حشَرْتُ النَّاسَ إذا جَمعْتُهم، والمرادُ جَمعُ أجزاءِ الإنسانِ بعد تَفرُّقِها ثم إحياءُ الأبدانِ بعد مَوْتِها، فيَبعثُ اللَّهُ جميعَ العِبادِ ويُعيدُهم بعد موتِهم، ويَسوقُهم إلى مَحْشَرِهم لفَصْلِ القضاءِ بينهم، وأدِلَّةُ ذَلِكَ في الكِتاب والسُّنَّةِ والإجماعِ.
قال ابنُ القيِّمِ وغيرُه: معادُ الأبدانِ متَّفقٌ عليه بين المسلِمِينَ واليهودِ والنَّصارى، قال جَلالُ الدِّينِ الدَّارنيُّ: هُوَ بإجماعِ أهلِ المِلَلِ، وبِشَهادَةِ نُصوصِ القرآنِ الذي لا يَقبَلُ التَّأويلَ، كقوله -سُبْحَانَهُ-: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)، وقد أَخْرَجَ ابنُ جريرٍ، وابنُ المنذِرِ، وأبو حاتمٍ، والضِّياءُ في المختارةِ، وابنُ مردوَيْهِ، والبيهقيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: جاءَ العاصُ بنُ وائلٍ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بعَظمٍ حائِلٍ ففَتَّه بيدِه، فقال يا مُحَمَّدُ: يُحْيِي اللَّهُ هَذَا بعدَ ما أَرِمَ؟ قال: ((نَعَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، ثُمَّ يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ))، فنَزَلَت الآياتُ مِن آخرِ سورةِ يس: (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ) الآياتِ، فهَذَا نصٌّ صريحٌ في الحشْرِ الجُسمانيِّ، وقد وَردَ في عِدَّةِ مواضعَ مِن القرآنِ التَّصريحُ بِهِ بحَيْثُ لا يَقبلُ التَّأويلَ، فيجبُ الإيمانُ به، واعتقادُه، ويَكْفُرُ مُنكِرُه كما تَقدَّمَ.
وأمَّا النَّفخُ في الصُّورِ فيُنفخُ فيه ثلاثُ نفَخاتٍ: نفخةُ الفَزَعِ وَهِيَ التي يَتغَيَّرُ بها العالَمُ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَهَا مِن فَوَاقٍ) أي رجوعٍ ومَرَدٍّ، وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ) سُمِّيتْ نفخةَ الفَزَعِ لِما يَقعُ مِن هولِ تِلْكَ النَّفْخَةِ، والنَّفخةُ الثَّانيةُ: نَفخةُ الصَّعقِ، وفيها هلاكُ كُلِّ شيءٍ قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ) الآيةُ.
وفُسِّرَ الصَّعقُ بالموتِ وهُوَ متناوِلٌ حتى الملائكةَ، والاستثناءُ متناوِلٌ لمَن في الجَنَّةِ مِن الحُورِ العِين وغيرِهم، الثَّالثُ: نفخةُ البَعثِ والنُّشورِ، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) وقال: (ونُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) وأَخرجَ ابنُ جريرٍ والبيهقيُّ وغيرُهما مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ: وما الصُّورُ؟ قال: ((عَظِيمٌ إِنَّ عِظَمَ دَارِهِ فِيهِ كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ، فَيُنْفَخُ فِيهِ ثَلاَثَ نَفَخَاتٍ: الأُولى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)). انتهى.(1/24)
( وتَقومُ القِيامَةُ التي أَخْبَرَ اللهُ بها في كِتابِهِ، وعلى لِسانِ رسولِهِ، وأَجْمَعَ عليها المُسْلِمُونَ.
فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ العَالَمينَ. (1)
حُفَاةً عُراةً غُرْلاً، وتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، ويُلْجِمُهُمُ العَرَقُ. (2)
__________
(1) قولُه: (فيَقومُ النَّاسُ مِن قُبورِهم) إلخ. قال -سُبْحَانَهُ-: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وروى مسلمٌ في "صحيحِه" عن ابنِ عُمرَ مرفوعًا: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: يقومُ النَّاسُ حتى يَغِيبَ أحدُهم في رَشْحِه إلى نِصفِ أُذُنِه، وفي البخاريِّ ومسلمٍ وغيرِهما عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يَخْطُبُ على المِنبرِ يقولُ: ((إِنَّكُمْ مُلاَقُو رَبِّكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً) وزادَ في روايةٍ ((مُشَاةً)). وفي روايةٍ فيهما قال: قام رسولُ اللَّهِ فِينا بموعظةٍ، فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إلى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نَّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
(2) قولُه: (حُفاةً) جمعُ حافٍ: وهُوَ الذي ليس عليه نَعلٌ ولا خُفٌّ.
قولُه: (عُراةً) جمعُ عارٍ: وهُوَ الذي ليس عليه لِباسٌ، وقولُه: (غُرْلاً) بِضَمِّ الغَيْنِ المعجمةِ، وإسكانِ الرَّاءِ جمعُ أَغْرَلَ: وهُوَ الأقلفُ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- قالتْ: قلتُ: يارسولَ اللَّهِ، الرِّجالُ والنِّساءُ جميعا يَنْظُرُ بعضُهم إلى بعضٍ؟ قال: ((الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ)). قال العلماءُ رَحِمَهُم اللَّهُ: مراتبُ المعادِ: البَعثُ والنُّشورُ، ثم المَحْشَرُ، ثم القِيامُ لربِّ العالَمِينَ، ثم العَرْضُ، ثم تطايُرُ الصُّحُفِ، وأَخْذِها باليمينِ والشِّمالِ، ثم السُّؤالُ والحِسابُ ثم الميزانُ. انتهى.
قولُه: (تَدْنُو مِنهم الشَّمسُ ويُلْجِمُهم العَرَقُ) أي: تَقْرُبُ منهم الشَّمسُ حتى تكونَ قَدْرَ مِيلٍ أو ميلَيْنِ، كما روى مسلمٌ عن المقدادِ -رضي اللَّهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((إذا كان يومُ القيامةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ العِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ))، قال: ((فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إلجامًا)).
قولُه: (عَقِبيْهِ) هُوَ مؤخَّرُ القَدمِ، وقولُه: (حَقويهِ) الحَقْوُ مَعْقِدُ الإزارِ.
قولُه: (يُلجِمُهم العَرَقُ) أي: يَصِلُ إلى أفواهِهم فيصيرُ لهم بمنزلةِ اللِّجامِ يَمنعُهم عن الكلامِ. انتهى. نهاية.
وقولُه: ((يُلجِمُهم العرق)) ظاهرُه التَّعميمُ، لكنْ دَلَّتْ أحاديثُ على أنَّه مخصوصٌ بالبعضِ، وهُم الأكثُرُ، ويُستثنى مِن ذَلِكَ الأنبياءُ والشُّهداءُ ومَنْ شاءَ اللَّهُ. انتهى.
وأَخرجَ الشَّيخانِ عن أبي هريرةَ مرفوعًا: ((يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ، فهَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمُ، فِيهِ مِنَ الأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ وَالشَّدَائِدِ الَجَسِيمَةِ مَا يُذِيبُ الأَكْبَادَ، وَيُذْهِلُ الْمَرَاضِعَ، وَيُشِيبُ الأوْلادَ، قال اللَّهُ تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ). قولُه: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) وَذَلِكَ يومَ القيامةِ، وهُوَ حقٌّ ثابتٌ، وَرَدَ بِهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ.(1/25)
فتُنْصَبُ المَوَازِيْنُ، فتُوزَنُ بِها أَعْمالُ العِبادِ، ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ فأُؤُلئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ. ومَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُولئكَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وتُنْصَبُ الموازينُ، وتُوزنُ فيها أعمالُ العِبادِ، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ فأُؤُلئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ. ومَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُولَئِكَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) تكاثَرتْ أدلَّةُ الكتابِ في إثباتِ الميزانِ، كما تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأحاديثُ، وأجْمعَ أهلُ الحقِّ على ثُبوتِه ووجوبِ الإيمانِ به، وأنَّه ميزانٌ حقيقيٌّ حِسِّيٌّ له لِسانٌ وكَفَّانِ، كما هُوَ صريحُ الأدلَّةِ، فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ يَا رَبِّ: عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ به، قَالَ: قُلْ يا مُوسَى لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ، قَالَ يَا رَبِّ: كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا؟ قال يا مُوسَى: لو أنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرُهُنَّ غَيْرِي فِي كِفَّةٍ ولاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ في كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إلا اللَّهُ)) الحديثَ، ورَوى الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو في حديثِ البِطاقةِ، وفيه (( ... فَيُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلاَّتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ ... )) الحديثَ، إلىِ غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الكثيرةِ التي بلَغَتْ حَدَّ التَّواتُرِ، وجَمعَ المصنِّفُ الموازينَ ظاهِرُه تَعدُّدُها، والصَّحيحُ أنَّه ميزانٌ واحدٌ، وجَمَعَه..قيل: لأنَّ الميزانَ يَشتمِلُ على الكِفَّتَيْنِ والشَّاهِدَيْنِ واللِّسانِ، ولا يَتِمُّ الوزنُ إلا باجتماعِها، ويَحتمِلُ أنَّ الجَمعَ للتَّفخيمِ، كما في قولِه: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) مع أنَّه لم يُرسَلْ إليهم إلاَّ واحدٌ، وقيل: يجوزُ أنْ يكونَ لفظُه جمعًا ومعناه واحِداً، كقولِه: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) وأمَّا الوزنُ فهُوَ للأعمالِ كما أشار إليه المصنِّفُ، واستدلَّ بالآيةِ المذكورةِ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ ... )) الحديثَ.
وأَخرجَ أبو داودَ والتِّرمذيُّ وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ عن أبي الدَّرداءِ عنه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ))، وفي الصَّحيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه-، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: ((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ في الْمِيزَانِ: سبحانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الدَّالَّةِ على أنَّ الوزنَ للأعمالِ، وإلى هَذَا ذَهَب أهلُ الحديثِ، وقيل: الوزنُ لصحائفِ الأعمالِ، كما في حديثِ صاحبِ البطاقةِ، وصوَّبَهُ مَرْعِيٌّ في بَهجَتِه، وذَهبَ إليه جمهورٌ مِن المفَسِّرينَ، وصحَّحه ابنُ عبدِ البَرِّ والقرطبيُّ وغيرُهما، وقيل يُوزَنُ صاحِبُ العَملِ، كما في الحديثِ: ((يُؤْتَى يَوْمَ القِيامَةِ بِالرَّجُلِ السَّمِينِ فَلاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، ثم قرأ قولَه -سُبْحَانَهُ-: (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) الآيةَ.
وقال ابنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد يُمكِنُ الجمعُ بين هَذِهِ الآثارِ بأنْ يكونَ ذَلِكَ كلُّه صحيحاً، فتارةً تُوزنُ الأعمالُ، وتارةً تُوزنُ مَحالُّها، وتارةً يُوزنُ فاعِلُها، واللَّهُ أَعْلمُ.
قال الغزاليُّ والقرطبيُّ: ولا يكونُ الميزانُ في حقِّ كُلِّ أحدٍ، فالسَّبْعون ألفًا الذين يَدْخلون الجَنَّةَ بغيرِ حسابٍ لا يُرفَعُ لهم ميزانٌ ولا يأخُذونَ صُحُفا، اهـ.
وقال القرطبيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قال العلماءُ: إذا انْقَضَى الحسابُ كان بعدَه وزنُ الأعمالِ؛ لأنَّ الوزنَ للجزاءِ، فينبغي أنْ يكونَ بعدَ المحاسَبةِ، فإنَّ المحاسَبةَ لتقريرِ الأعمالِ، والوزنَ لإظهارِ مَقاديرِها؛ ليكونَ الجزاءُ بحسَبِها، قال الشَّيخُ مرعيٌّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والحِكمةُ في الوَزْنِ مَع أنَّ اللَّهَ عالِمٌ بكُلِّ شيءٍ إظهارُ العَدْلِ، وبيانُ الفَضلِ، حَيْثُ يَزِنُ مَثاقِيلَ الذَّرِّ مِن خيرٍ وشرٍّ. انتهى. ومِن المقرَّرِ أنَّ أحوالَ البرزخِ وأحوالَ الآخرةِ لا تُقاسُ على ما في الدُّنْيَا، وإن اتَّفقَت الأسماءُ، فنؤمِن بها كما وَرَد مِن غيرِ بحثٍ عن كَتْمِها وحقيقِتها، كما أخبَرَ الصَّادِقُ المصْدُوقُ مِن غيرِ زيادةٍ ولا نُقصانٍ.
قولُه: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيْنُهُ) أي: رَجَحَتْ حسَناتُه على سَيِّئاتِه ولو بواحدةٍ قاله ابنُ عبَّاسٍ.
قولُه: (فأُؤُلئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ) أي: الذين فازُوا فنَجَوْا مِن النَّارِ وأُدْخِلُوا الجَنَّةَ، والفلاحُ هُوَ الفَوزُ والظَّفَرُ، والحُصولُ على المطلوبِ.
قولُه: (ومَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي: ثقُلَتْ سيِّئاتُه على حسَناتِه (فأُولئكَ الَّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي: خَابوا وفازوا بالصَّفقةِ الخاسِرةِ، وقولُه: (في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) أي مَاكِثُون فيها دائِمون، والخُلودُ هُوَ المُكْثُ الطَّوِيلُ.
أفادتْ هَذِهِ الآيةُ إثباتَ الميزانِ والرَّدَّ على المعتزِلةِ الذين أَنْكَروه، وقالوا: الميزانُ عبارةٌ عن العدلِ، وهَذَا تأويلٌ فاسدٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، وأفادتْ أنَّ الوزنَ للأعمالِ، وأمَّا جمعُ الموازينِ مع أنَّه ميزانٌ واحدٌ فقد تَقدَّمَ الجوابُ عنه.(1/26)
وتُنْشَرُ الدَّوَاوِيْنُ، وهِيَ صَحائِفُ الأعْمَالِ، فآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَميِنهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمالِهِ أَوْ مِنْ وَراءِ ظهْرِهِ؛ كَما قالَ سُبحانَهُ وتَعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ). (1)
__________
(1) قولُه: (وتُنشَرُ الدَّواوينُ) جمعُ دِيوانٍ: وهُوَ الدَّفْتَرُ الذي تُكتَبُ فيه أعمالُ العِبادِ، والصَّحائفُ جمعُ صحيفةٍ: وَهِيَ الورقةُ يُكْتَبُ فيها مِن الرَّقِّ والقِرطاسِ، والمرادُ بها هنا: الكُتُبُ التي كتَبَتْهَا الملائكةُ وَأحْصَوْا ما فَعلَه كُلُّ إنسانٍ مِن سائرِ أعمالِه القولِيَّةِ والفعِليَّةِ، قال تعالى: (وَإِذَا الصَّحُفُ نُشِرَتْ) قال الثَّعلِبيُّ أي: التي فيها أعمالُ العِبادِ نُشِرَتْ للحسابِ، فيجبُ الإيمانُ بِنَشْرِ الصُّحفِ وأَخْذِها بالأيمانِ أو بالشَّمائِلِ، لثُبوتِ ذَلِكَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا).
وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مَرفوعًا قال: ((يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالُ مَعَاذِيرٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الأَيْدِي فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ))، رواه الترمذيُّ. وقال الترمذيُّ: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الحسَنَ لم يَسمعْ مِن أبي هريرةَ، وهُوَ عندَ أحمدَ وابنِ ماجهْ مِن هَذَا الوجْهِ مرفوعا، وأَخرجَه البيهقيُّ في البعثِ بسَنَدٍ حسَنٍ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ مرفوعا.
وروى أحمدُ والترمذيُّ وأبو بكرِ بنُ أبي الدُّنْيَا، عن أبي موسى الأشعريِّ قال، قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((يُعْرَضُ النَّاسُ يومَ القيامةِ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ: فَعَرْضَتَانِ جِدَالٌ وَمَعَاذِيرٌ، وَعَرْضَةُ تَطَايُرِ الصُّحُفِ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَحُوسِبَ حِسَاباً يَسِيراً دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ دَخَلَ النَّارَ)).
قولُه: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) الآيةَ، قال مجاهدٌ: تُجعلُ شِمالُه وراءَ ظَهْرِه فيأخذُ بها كتابَه، وقال سعيدُ بنُ المسيِّبِ: الذي يأخُذُه بشِمالِه تُلوى يدُه خَلْفَ ظَهرِه ثم يُعطَى كتابَه.
وقولُه -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ) انْتَصَبَ كُلَّ بفِعلٍ مضمَرٍ، وقولُه: (طَائِرَهُ) هُوَ ما طار عنه مِن عَملِه مِن خيرٍ وشرٍّ. قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وغيرُهما: والمعنى أنَّ عَملَه لازمٌ له، والمقصودُ أنَّ عَملَ الإنسانِ محفوظٌ عليه قليلُه وكثيرُه، ويُكتبُ عليه ليلاً ونهارًا، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) وقولُه: (في عُنُقِهِ) خَصَّ العُنُقَ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ اللُّزومَ فيه أَشَدُّ، ومَن أُلزِمَ شيئاً فيه فلا مَحيدَ له عنه، والمعنى أنَّ عمَلَه لازمٌ له لُزومَ القِلادةِ، أو لَعلَّهُ في العُنُقِ لا يَنفكُّ عنه.
قولُه: (ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) أي: صحيفةَ أعمالِه بالحسَناتِ والسَّيِّئاتِ، يُعطاهُ بيَمينِه إنْ كان سعيدًا وبشِمالِه إنْ كان شَقِياًّ.
قولُه: (يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) أي: يَلْقى الإنسانُ ذَلِكَ الكتابَ، أي يَراهُ مَنشوراً، أي مَفتوحاً يَقرؤُه هُوَ وغيرُه، فيه جميعُ عَملِه مِن أوَّلِ عُمرِه إلى آخِرِه، كما قال تعالى: (يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ).
قولُه: (اقْرَأْ كِتَابَكَ) تقديرُه: يقالُ له اقرأْ كتابَك، أيْ: كِتابَ أعمالِكَ وما كان منكَ. قولُه: (كَفَى بِنَفْسِكَ) الباءُ زائدةٌ في الفاعِلِ، قولُه: (اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) أي محاسِباً، لأنَّكَ ذَكَرْتَ جميعَ ما كان منكَ وعَرفْتَه، ولا يَنْسى أحدٌ ما كان منه، وكُلُّ أحدٍ يقرأُ كتابَه مِن كاتبٍ وأُمِّيٍّ.
الحسابُ مصدرُ حاسَبَ وحَسَبَ الشَّيءَ يَحْسِبُه إذا عَدَّهُ فهُوَ لغةً: العددُ، واصطلاحا: هُوَ توقيفُ اللَّهِ العِبادَ قبل الانصرافِ مِن المحْشَرِ على أعمالِهم خيرًا كانت أو شراًّ إلاَّ مَن استثنى منهم، وهُوَ ثابتٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ أهلِ الحقِّ، فيجبُ الإيمانُ بِهِ واعتقادُ ثُبوتِه، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) الآيةَ، وقال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) وقولُه: (مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) أي عدَّها وكتَبَها وأَثْبَتَها فيه، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على إثباتِ الحسابِ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- قالتْ: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ))، قالت: فقلتُ: أليس يقولُ اللَّهُ: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) الآيةَ، فقال: ((إنَّمَا ذَلِكَ العَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ))، والمعنى: أنَّه لو نَاقَشَ في حسابِه لعَبيدِه لعَذَّبَهم ولكنَّه يَعفو ويَصفَحُ.(1/27)
( ويُحاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، ويَخْلُو بعَبْدِهِ المُؤمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذلكَ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ.
وأَمَّا الكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وسَيِّئاتُهُ؛ فإِنَّهُ لا حَسَنات لهُمْ، (1)
__________
(1) قولُه: (ويحاسِبُ اللَّهُ الخلائقَ) ... إلخ، ظاهرُه العمومُ ولكنْ دلَّت الأدِلَّةُ أنَّه يُستثنَى مِن ذَلِكَ مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ بغيرِ حسابٍ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ في السَّبعِينَ ألْفًا الذين يَدخلون الجَنَّةَ مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ.
قولُه: (ويَخلُو بعبدِه المؤمِنِ فيُقرِّرُه بذُنوبِه) أي: ينفرِدُ -سُبْحَانَهُ- بَعبدِه ويُقرِّرُه بذُنوبِه، فيقول: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتَعْرِفُ ذنبَ كذا؟، يقالُ: قرَّرَه بكذا أي جَعَلَه يَعترفُ بِهِ كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ ابنِ عمرَ، وفيه ((يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلْيَكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لِكَ الْيَوْمَ)) ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حِسَابِهِ، وَأَمَّا الآخَرُونَ وهُم الكفارُ والمنافِقون فيُنادَى بِهم على رُءوسِ الخلائقِ: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). قال المهلَّبُ في الحديثِ: تَفضُّلُ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- على عِبادِه وسَتْرُه لذُنُوبِهم يومَ القيامةِ، وأنَّه يَغفِرُ ذُنوبَ مَن شاءَ منهم، بخلافِ قولِ مَن أنفذَ الوَعيدَ على أهلِ الإيمانِ. ا. هـ.
قولُه: (وأمَّا الكفارُ ... ) إلخ أي: لأنَّه إنَّما يُحاسَبُ مَن له حسناتٌ وسيِّئاتٌ، والكافرُ ليس له في الآخرةِ حسناتٌ تُوزنُ، فإنَّ أعمالَهم حابطةٌ باطلةٌ؛ لأنَّها فاقدةٌ لشروطِ العبادةِ التي هي الإخلاصُ والمتابعةُ، فكُلُّ عَملٍ لا يكونُ خالِصاً وعلى الشَّريعةِ المرضِيَّةِ فهُوَ باطلٌ، وأعمالُ الكفارِ لا تخلو مِن ذَلِكَ فلا يَحصُلُ لهم مِن أعمالهم التي عَمِلُوها فائدةٌ، كما قال –سُبْحَانَهُ- وتعالى: (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) ففيها دليلٌ على أنَّ الكافرَ لا تُوزنُ أعمالُه؛ إذْ لا ثوابَ له في الآخرةِ، ولا يجازَى فيها بشيءٍ مِن عملِه في الدُّنْيَا، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) وإنْ عَمِلَ كافرٌ مِن نحوِ عِتقٍ أو صدقةٍ أو عملٍ حَسنٍ وُفِّي له في حياتِه الدُّنْيَا، فليس له في الآخرةِ جزاءُ عملٍ، لكنْ يُرْجىَ أنْ يَخفَّفَ عنه مِن عذابِ مَعاصِيه لحديثِ ثُويْبَةَ حين أعْتَقَها أبو طالبٍ. وفي "صحيحِ مسلمٍ" عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسول اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مؤمنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا في الدُّنْيَا ويُجْزَى بِهَا في الآَخِرَةِ، وأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ في الدُّنْيَا، حتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآَخِرَةِ لم تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا )).قال النوويُّ في شرحِ صحيحِ مسلمٍ: أَجْمعَ العلماءُ على أنَّ الكافرَ الذي ماتَ على كُفرِه لا ثوابَ له في الآخرةِ، ولا يُجازَى فيها بشيءٍ مِن عملِه في الدُّنْيَا متقرِّبًا بِهِ إلى اللَّهِ، وصرَّحَ في هَذَا الحديثِ بأنَّه يُطْعَمُ في الدُّنْيَا بما عَمِلَه مِن الحسناتِ، أي بما فَعلَه متقرِّبا بِهِ إلى اللَّهِ ممَّا لا تفتقِرُ صحَّتُه إلى النيَّةِ، كصِلةِ الرَّحمِ والصَّدقةِ والعِتقِ والضيافةِ وتسهيلِ الخيراتِ ونحوِها، وأمَّا المؤمنُ فيُدَّخَرُ له أيضًا حسناتُه وثوابُ أعمالِه إلى الآخَرَةِ ويُجزى بها مع ذَلِكَ في الدُّنْيَا، ولا مانِع من جزائِه بها في الدُّنْيَا والآخرةِ، وقد وردَ الشَّرعُ بِهِ فيَجِبُ اعتقادُه.(1/28)
ولكِنْ تُعَدُّ أَعمالُهُمْ، فَتُحْصى، فَيُوقَفُونَ عَليها، ويُقَرَّرونَ بِها، [ ويُخْزَوْنَ بها ]).
(( وفي [ عَرَصَاتِ ] القِيامَةِ الحَوْضُ المَوْرُودُ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماؤه أَشَدُّ بَياضَاً مِنَ اللَّبَنِ، وأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نجومِ السَّماءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبُ مِنْهُ شَربَةً؛ لا يَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً )). (1)
__________
(1) وقولُه: (ولكنْ تُعَدُّ أعمالُهم وتُحْصَى ويُوقَفُون عليها ... ) إلخ أي: تُحسَبُ أعمالُهم ويُخبَرون بها ويُقرَّرونَ بها، كقولِه: (يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) وقال: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) الآية، إلى غير ذَلِكَ مِن الآياتِ.
قولُه: (عَرْصَة) بِوَزْن ضَرْبةٍ لغةً: كُلُّ بُقعةٍ بين الدُّورِ واسِعةٌ ليس فيها بناءٌ، وعَرَصَاتِ القيامةِ مواقِفُها مِن العَرْضِ والحِسابِ وغيرِ ذَلِكَ، والحَوْضُ لغةً: مَجمَعُ الماءِ، والمرادُ بِهِ هنا هُوَ ما ذَكَرَه المصنِّفُ، وهُوَ حقٌّ ثابتٌ بإجماعِ أهلِ الحقِّ، وأنْكَرَه الخوارِجُ وبعضُ المعتزِلةِ، وقد تَوَاتَرَت الأحاديثُ في إثباتِ الحوْضِ. قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد رَوى أحاديثَ الحوضِ أربعون مِن الصَّحابةِ، وكثيرٌ منها أو أكثرُها في الصَّحيحِ، اهـ.
وقال الحافِظُ جلالُ الدِّينِ السيوطيُّ في كتابِه البُدورُ السَّافِرةُ: وَرَدَ ذِكْرُ الحوْضِ مِن روايةِ بضعةٍ وخمسين صحابِياًّ، منهم الخلفاءُ الأربعةُ الرَّاشِدون، وحفَّاظُ الصَّحابةِ المكْثِرون -رضي اللَّهُ عنهم-، ثم ذَكَرَ الأحاديثَ واحداً واحداً. انتهى. فمنها ما رَواهُ البخاريُّ عن أنسٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: (إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ)).
وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن جُندُبِ بنِ عبدِ اللَّهِ البَجليِّ -رضي اللَّهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ... )) والفَرَطُ الذي سَبَقَ إلى الماءِ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" وغيرِهما مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لاَ يَظْمَأُ أَبَداً))، وفي روايةٍ: ((حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ)) وَهِيَ عندَهما أيضاً، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ المتَواتِرةِ في إثباتِ الحوْضِ، فيجبُ الإيمانُ بِذَلِكَ واعتقادُ ثُبوتِه.
قولُه: (وفي عَرْصةِ القيامةِ) ظاهرُه أنَّ الحوْضَ قَبْلَ الصِّراطِ؛ لأنَّه يَختلِجُ ويُمنعُ منهُ أقوامٌ قد ارتَدُّوا على أعقابِهم، ومِثلُ هؤلاء لا يُجاوِزون الصِّراطَ، وروى البخاريُّ عن سهلِ بنِ سعدٍ الأنصاريِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَداً، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي، ثُمَّ يُحَالُ بِيْنِي وَبَيْنَهُمْ)).
قولُه: (الحوضُ المورودُ للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) ظاهرُه أنَّ الحوضَ خاصٌّ بِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- دُونَ غيرِه مِن الأنبياءِ والمُرسَلِينَ، ولكنْ جاءَ في عِدَّةِ أحاديثَ أنَّ لِكُلِّ نبيٍّ حوضًا تَرِدُ عليه أُمَّتُه، وإنَّما الحوضُ الأعظمُ مختصٌّ بِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لا يَشْرَكُه فيه غيرُه، فحوْضُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- هُوَ أعظمُ الحياضِ وأحْلاها وأكثرُها وَارِداً، كما أَخْرجَ التِّرمذيُّ مِن حديثِ سَمُرةَ رَفَعَه: ((إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضاً وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى حَوضِهِ بِيَدِهِ عَصاً يَدْعُو مَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَتَبَاهُوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ تَبَعاً، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَبَعاً))، واختُلِفَ في الميزانِ والحوضِ أيُّهما يكونُ قَبلَ الآخرِ، فقيل: الميزانُ، وقيل: الحوضُ. قال أبو الحسَنِ القابسيُّ: والصَّحيحُ أنَّ الحوضَ قَبلُ. قال القرطبيُّ: والمعنى يَقتضِيه، فإنَّ النَّاسَ يَخرجون عِطاشا مِن قُبورِهم فيُقدَّم قَبلَ الميزانِ والصِّراطِ. قال القرطبيُّ: هُما حوضانِ الأوَّلُ قَبلَ الصِّراطِ وقَبلَ الميزانِ على الأصحِّ، فإنَّ النَّاسَ يَخرجون عِطاشاً مِن قُبورهِم، فيَرِدُونه قَبلَ الميزانِ، والثَّاني: في الجَنَّةِ، وكِلاهما يُسمَّى كَوْثرا، كما روى مسلمٌ في "صحيحهِ" عن أنسٍ قال: بَيْنَا رسولُ اللَّهِ بين أظْهُرِنا إذْ أغْفَى إغفاءةً ثم رَفعَ رأسَه مُبتسِما، فقلنا: ما أَضحككَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ، فقرأ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، ثم قال: ((أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ))؟ قلنا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ، قال: ((فِإنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ حَوْضِي، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ يُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَمَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)).(1/29)
(( والصِّراطُ مَنْصُوبٌ عَلى مَتْنِ جهَنَّمَ، وهُو الجِسْرُ الَّذي بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ [ عليه ] على قَدْرِ أَعْمالِهِمْ. (1)
__________
(1) قولُه: (الصِّراطُ) لغةً: الطَّريقُ الواضِحُ، وفي الشَّرعِ: جِسْرٌ منصوبٌ على مَتْنِ جَهَنَّمَ، وهُوَ الجِسرُ الذي بين الجَنَّةِ والنَّارِ، يَرِدُه الأوَّلونَ والآخِرون، فيَمُرَّون عليه على قَدْرِ أعمالِهم، وَذَلِكَ بعدَ مُفارَقةِ النَّاسِ للمَوْقِفِ وحَشرِهم وحسابِهم، فإنَّ الصِّراطَ عليه يَنْجُون إلى الجَنَّةِ ويَسقطُ أهلُ النَّارِ فيها، كما ثَبَتَ ذَلِكَ في الأحاديثِ.
قولُه: ((يَمُرُّ النَّاسُ عليه على قَدْرِ أعمالِهم)) أي: أنَّهم يَكونون في سرعةِ المرورِ على حسَبِ مَراتِبِهم وأعمالِهم، فبحسَبِ استقامةِ الإنسانِ وثباتِه على دِينِ الإسلامِ يكونُ ثباتُه واستقامَتُه على الصِّراطِ، فمَن ثَبَتَ على الصِّراطِ المعنويِّ الذي هُوَ دِينُ الإسلامِ ثَبتَ على الصِّراطِ الحِسِّيِّ المنصوبِ على مَتْنِ جَهَنَّمَ، ومَن زَلَّ عن الصِّراطِ المعنويِّ زَلَّ عَن الصِّراطِ الحسِّيِّ جزاءً وِفاقا، وما ربُّكَ بظلاَّمٍ للعَبيدِ، وقد تكاثَرت الأحاديثُ في إثباتِ الصِّراطِ، فيَجبُ الإيمانُ بِهِ واعتقادُ ثُبوتِه.
في الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((يُضْرَبُ الصِّراطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ فِرَقاً، فَمِنْهُمْ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَأَشَدِّ الرِّجَالِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ وَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفاً، وَفِي حَافَّتَيْهِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِأَخْذِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ))، ووقعَ في حديثِ أبي سعيدٍ: قلنا وما الجسرُ؟ قال ((مَدْحَضَةٌ مَزَلَّةٌ)) أي زَلِقٌ تَزلَقُ فيه الأقدامُ، ووقعَ عند مسلمٍ، قال: قال أبو سعيدٍ: بلغني أنَّ الصِّراطَ أحدُّ مِن السَّيفِ، وأدقُّ مِن الشَّعرةِ، وعن سعيدِ بنِ هلالٍ، قال: بَلَغَنا أنَّ الصِّراطَ أدَقُّ مِن الشَّعرِ على بعضِ الناسِ، ولِبَعضِ النَّاسِ مِثلُ الوادي الواِسعِ، أخرجَه ابنُ المباركِ وابنُ أبي الدُّنْيَا، وهُوَ حديثٌ مُعضلٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الثَّابتةِ في الصِّحاحِ والمسانيدِ والسُّنَنِ ما لا يُحصَى إلا بكُلفةٍ، وقد أَجمعَ السَّلَفُ على إثباتِه.(1/30)
فمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَلَمْحِ البَصَرِ، ومنهُمْ مَنْ يَمُرُّ كالبَرْقِ، ومنهُمْ مَنْ يَمُرُّ كالريِّح، ومنهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالفَرَسِ الجَوادِ، ومِنْهُم مَنْ يمرُّ كرِكَابِ الإِبِلِ، ومنهُمْ مَنْ يَعْدو عَدْواً، ومنهُمْ مَنْ يَمْشي مَشْياً، ومنهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفاً، ومنهُمْ مَن يُخْطَفُ خَطْفاً ويُلْقى في جَهَنَّمَ؛ فإِنَّ الجِسْرَ عليهِ كَلاليبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بأَعْمالِهِم، فمَنْ مَرَّ على الصِّراطِ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ.
فإِذا عَبَروا عَلَيْهِ؛ وَقَفوا عَلى قَنْطَرَةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقْتَصَّ لبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فإِذا هُذِّبُوا ونُقُّوا؛ أُذِنَ لهُمْ في دُخولِ الجَنَّةِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وهُوَ الجسرُ) بفتحِ الجيمِ وكسرِها لُغتانِ وهُوَ الصِّراطُ.
قولُه: (يمرُّ النَّاسُ على قَدْرِ أعمالِهم) أي: أنَّهم يَكونون في سرعةِ المرورِ على حسَبِ مَراتِبهم وأعمالِهم. قولُه: (يَعْدُو عَدْوا) أي يَجري أو يَركُضُ.
قولُه: (يزحَفُ زَحْفا) قال ابنُ دُرَيدٍ: الزَّحفُ: هُوَ المشيُ على الاسْتِ مع إشرافِه بصَدْرِه.
قولُه: (فإنَّ الجِسْرَ عليه كُلاليبُ) جمعُ كَلُّوبٍ بفتحِ الكافِ وضَمِّ اللامِ المشدَّدةِ، وَهِيَ حديدةٌ معطوفةُ الرَّأسِ يُعلَّقُ فيها اللَّحمُ ويُرسلُ إلى التَّنُّورِ.
قولُه: (تَخطَفُ) هي بفتحِ الطَّاءِ ويجوزُ كَسرُها، أي يَختلِسُها، والخطْفُ: هُوَ استلابُ الشَّيءِ وأخْذُه بسرعةٍ. قولُه: (بأعمالِهم) أي: تخطَفُهم بسببِ أعمالِهم القبيحةِ.
قولُه: (فإذا عَبَروا عليه وُقِفوا) إلخ وَذَلِكَ لِما في الصَّحيحِ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال:
((يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا)). وأَخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ بسندٍ صحيحٍ عن الحسَنِ قال: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا يَجُوزُونَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ظَلامَاتُ الدُّنْيَا وَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئاً)).
قولُه: (عَبَروا) أي: مَضَوْا ونَجُوا مِن السُّقوطِ في النَّارِ بعدَ ما جازوا على الصِّراطِ، قال القرطبيُّ: هؤلاء المؤمِنونَ هُم الذين عَلِمَ اللَّهُ أنَّ القِصاصَ لا يَسْتَنْفِدُ حسناتِهم. اهـ.
وخَرَجَ مِن هَذَا صِنفانِ: مَن دَخَلَ الجَنَّةَ بغيرِ حسابٍ، ومَن أَوْبَقَه عملُه.
قولُه: (على قَنطرةٍ) القَنطرةُ الجسرُ وما ارتفَعَ مِن البُنيانِ، قاله في القاموسِ، وَهَذِهِ القنطرةُ المذكورةُ في الحديثِ قيل: هي مِن تَتِمَّةِ الصِّراطِ، وَهِيَ طرَفُه الذي يَلِي الجَنَّةَ، وقيل: إنَّهما صِراطانِ، وبهَذَا جَزَم القرطبيُّ، ولكنَّ القنطرةَ صراطٌ خاصٌّ بالمؤمِنين، وليس يَسقُطُ أحدٌ مِنهم في النَّارِ. اهـ.
قولُه: (فيُقتصُّ لِبَعضٍ مِن بعضٍ) أي: يُستوفَى لكُلِّ واحِدٍ ما لَهُ عندَ الآخَرِ.
قولُه: (فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا) بضمِّ الهاءِ والنُّونِ، وهما بمعنى التَّمييزِ والتَّخليصِ مِن التَّبِعاتِ، انتهى، فتحٌ.
وقولُه: (أُذِنَ لهم في دخولِ الجَنَّةِ) أي: بعدَ اقتصاصِ بعضِهم مِن بعضٍ وخلاصِهم مِن التَّبِعاتِ التي بينهم فلا يَبْقَى في قلوبِ بعضِهم على بعضٍ شيءٌ، فيدخلونَ الجَنَّةَ وقد ذَهَبَ ما في قُلوبِ بعضِهم على بعضٍ مِن الغِلَّ والحِقدِ وغيرِ ذَلِكَ، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مَّنْ غِلٍّ..) الآيةَ.(1/31)
( وأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتحُ بابَ الجنَّةِ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَوَّلُ مَن يدْخُلُ الجنَّةَ مِن الأمَمِ أمَّتُه ). (1)
__________
(1) قولُه: (وأوَّلُ مَن يَستفتِحُ بابَ الجَنَّةِ مُحَمَّدٌ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) أي: يَطلُبُ الفتحَ للجنَّةِ بالقَرْعِ فيُفتحُ له -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-كما في الصَّحيحِ عن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((آتِى بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ يَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ أَنْ لاَ أَفْتَحَ لأَحَدٍ قَبْلَكَ)) وفي روايةٍ: ((وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ ... )) الحديثَ.
قولُه: (وأوَّل مَن يدخُلُ الجَنَّةَ مِن الأُممِ أُمَّتُه) وَذَلِكَ لفَضلِها على الأُممِ، قال اللَّهُ تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لَّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الآيةَ، وفي المسنَدِ عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)) وَأَمَّا قولُه -سُبْحَانَهُ- في بني إسرائيلَ: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) فالمرادُ – واللَّهُ أَعلمُ – على عالَمي زمانِهم، كشَعْبِ بُخْتنَصَّرَ وغيرِهم.
وفي الصَّحيحِ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((نَحْنُ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ)) أي لم يَسبِقونا إلاَّ بهَذَا القَدْرِ، فمعنى (بَيْدَ) معنى سِوى وغيرِ وإلاَّ ونحوِها، وفي صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ)).
وروى الدَّارَقُطنيُّ مِن حديثِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((إنَّ الجَنَّةَ حُرِّمَتْ على الأنبياءِ كُلِّهِمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتِي)) قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَهِذِهِ الأمَّةُ أَسْبَقُ الأُممِ خُروجًا مِن الأرضِ، وأَسْبَقُهم إلى أعلى مكانٍ في الموقِفِ، وأسبَقُهم إلى ظِلِّ العرشِ، وأسبَقُهم إلى الفَصْلِ والقضاءِ بينهم، وأسبَقُهم إلى الجوازِ على الصِّراطِ، وأسبَقُهم إلى دخولِ الجَنَّةِ، فالجَنَّةُ محرَّمةٌ على الأنبياءِ حتى يدخُلَها مُحَمَّدٌ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ومحرَّمةٌ على الأُممِ حتى تدَخُلَها أَمَّتُه، وأمَّا أوَّلُ الأمَّةِ دُخولاً فأبو بكرٍ الصِّدِّيقُ كما رواه أبو داودَ في السُّننِ عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، اهـ.
الشَّفاعةُ هي السُّؤالُ في التجاوُزِ عن الذُّنوبِ والجرائمِ، وعَرَّفَها بعضُهم بقولِه: هي سؤالُ الخيرِ للغيرِ، وَهِيَ مُشتقَّةٌ مِن الشَّفعِ، وهُوَ ضِدُّ الوَتْرِ، فكأنَّ الشَّافِعَ ضَمَّ سُؤالَه إلى سؤالِ المشفوعِ، والشَّفاعةُ ثابتةٌ تواتَرَت الأدِلَّة في إثباتِها، فمنها ما في صحيحِ مسلمٍ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوةٌ يَدْعُوهَا فَأُرِيدُ أَنْ أُخَبِّئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وعنه قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي، لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا)) متَّفقٌ عليه.
وفي الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ)) وأنَّه ذُكِرَ عندَه عمُّه أبو طالِبٍ فقال: ((لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ)) وروى البيهقيُّ حديثَ: ((خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ شَطْرَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى، أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ؟ لاَ وَلِكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الَمُتَلَوِّثِينَ الْخَطَّائِينَ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ التي بلغَتْ حدَّ التَّواتُرِ، فيجبُ الإيمانُ بها واعتقادُ مَضمونِها، عَكْسُ ما عليه الخوارجُ والمعتزِلةُ الذين أنْكروا شفاعةَ النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أهلِ الكبائرِ مِن أمَّتِه، فالنَّاسُ في إثباتِ شفاعةِ الأصنامِ والأوثانِ، وهم المشرِكون، ومَن وافَقَهم مِن مبتدِعةِ هَذِهِ الأمَّةِ، فأثْبَتوا الشَّفاعةَ التي نفاها القرآنُ، كما ذَكَرَ اللَّهُ عنهم في قولِه: ويقولُون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
القِسمُ الثَّاني: غَلَوْا في نَفْي الشَّفاعةِ، وهُم الخوارجُ والمعتزِلةُ، فأنكروا شَفاعةَ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أهلِ الكبائرِ مِن أمَّتِه.
القِسمُ الثَّالثُ: أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ أثْبَتوا الشَّفاعةَ للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ولغيرِه مِن النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ وغيرِهم بقُيودِها حسَبَ ما جاءتْ بِذَلِكَ الأدلَّةُ وتَواتَرَت الأحاديثُ في إثباتِ شفاعَتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وأمَّا ما احتجَّتْ بِهِ المعتزِلةُ لمذهَبِهم الفاسدِ في نَفْي الشَّفاعةِ مِن قولِه -سُبْحَانَهُ-: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) وقولِه -سُبْحَانَهُ-: (لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) فاستدلالٌ فاسدٌ، فإنَّ الآياتِ المذكورةِ مخصوصةٌ بالكفارِ، ويُؤَيِّدُ هَذَا أنَّ مَسَاقَ الخِطابِ معهم، وأيضًا فالشَّفاعةُ المذكورةُ في القُرآنِ تَنقسِمُ إلى قِسمَيْنِ: شفاعةٌ مَنفيَّةٌ وشفاعةٌ مُثبتَةٌ، فالمنفيَّةُ هي الشَّفاعةُ للكافرِ والمشرِكِ، كما قال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) وقولُه: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ – إلى قولِه – عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فنَفَى وقوعَ شفاعةِ هؤلاء وأخبرَ أنَّها شِركٌ بقولِه: (عَمَّا يُشْرِكُونَ).
النَّوعُ الثَّاني: مِن الشَّفاعةِ المثبتَةِ وَهِيَ التي أثْبَتَها القرآنُ، وَهِيَ خالِصةٌ لأهلِ الإخلاصِ، وقيَّدَها بأمرَيْنِ: إِذْنُ اللَّهِ للشَّافِعِ أنْ يَشفَعَ، ورِضاه عن المشفوعِ له، كما قال تعالى: (مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) وقولُه: (وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) الآيةَ، وهُوَ -سُبْحَانَهُ- لا يَرْضَى إلا التَّوحيدَ، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: مَن أَسْعدُ النَّاسِ بشَفاعَتِكَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: ((مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ))، اهـ.(1/32)
( ولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القيامَةِ شَفاعَاتٌ:
أَمَّا الشَّفاعَةُ الأوْلى؛ فيشفَعُ في أَهْلِ المَوْقِفِ حَتى يُقْضَى بينَهُمْ بعدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأنْبياءُ: آدَمُ، ونوحٌ، وإِبراهيمُ، ومُوسى، وعِيسى ابنُ مَرْيَمَ عن الشَّفاعَةِ حتى تَنْتَهِيَ إِليهِ، وأمَّا الشَّفاعَةُ الثَّانيةُ؛ فيشْفَعُ في أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلوا الجَنَّةَ، وهاتانِ الشَّفاعَتانِ خاصَّتانِ لَهُ، وأَمَّا الشَّفاعةُ الثَّالِثَةُ؛ فيشفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارِ، وهذهِ الشَّفاعَةُ لهُ ولِسائِرِ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقينَ وغيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارَ أَنْ لا يَدْخُلَها، ويَشْفَعُ فيمَنْ دَخَلَها أَنْ يَخْرُجَ مِنْها. (1)
__________
(1) قولُه: (ولَهُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ثلاثُ شَفاعاتٍ) الشَّفاعةُ الأولى في أهلِ الموقِفِ حتى يُقضى بينهم بعدَ أنْ يتدافَعَها الأنبياءُ أصحابُ الشرائعِ: آدمُ، ونوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى -عليهم السَّلامُ-، وقد تكاثَرت الأحاديثُ في إثباتِها، فورَدَتْ مِن حديثِ أبي بكرٍ الصِّديقِ، وأنسٍ، وأبي هريرةَ، وابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عُمرَ، وحذيفةَ، وعقبةَ بنِ عامرٍ، وأبي سعيدٍ الخدريِّ، وسلمانَ، وغيرِهم، وَهِيَ المرادةُ بقولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ)) الحديثَ، وهَذَا الحديثُ ذَكَرَ السيوطيُّ أنَّه مُتواتِرٌ، وَهَذِهِ الشَّفاعةُ خاصَّةٌ بِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وَهِيَ مُجمَعٌ عليها لم يُنْكِرْها أحدٌ.
قولُه: (وأما الشَّفاعةُ الثَّانِيةُ فيَشْفَعُ في أهلِ الجَنَّةِ أنْ يدخُلوا الجَنَّةَ) وقد ذَكَرها أبو هريرةَ في حديثِه الطَّويلِ المتَّفَقِ عليه، وفي صحيحِ مسلمٍ عن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنَا أَوَّلُ شَفيِعٍ فِي الجَنَّةِ))، وَهَذِهِ الشَّفاعةُ كالتي قَبلَها خاصَّتانِ له -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.
قولُه: (الثَّالثةُ فيَشْفَعُ فيمَنْ استحَقَّ النَّارَ أنْ لا يدخُلَها) إلخ: فَهِذِهِ الشَّفاعةُ في عُصاةِ الموحِّدين الذين يَدخُلون النَّارَ بِذُنوبِهم، والأحاديثُ بها متواتِرةٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد أَجْمعَ عليها الصَّحابةُ وأهلُ السُّنَّةِ قَاطِبةً، وبدَّعوا مَن أنْكَرها وصاحُوا بِهِ مِن كُلِّ جانبٍ ونادَوْا عليه بالضَّلالِ.
قولُه: (ولِسائِرِ) أي: باقِي وجميعِ، وَذَلِكَ لِما روى ابنُ ماجهْ في حديثِ عثمانَ: يَشفَعُ يومَ القيامةِ ثلاثةٌ: الأنبياءُ، ثم العلماءُ، ثم الشُّهداءُ. وفي الصَّحيحِ عن أبي سعيدٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)) الحديثَ، ذَكَر المصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذِهِ الأنواعَ الأربعةَ، وزادَ في شَرحِ الطَّحاويَّةِ وغيرِه أربعةَ أنواعٍ أُخَرَ، فيكونُ الجميعُ ثمانيةً بالأربعةِ التي ذَكَرها المصنِّفُ.
والخامِس: شفاعَتُه لقومٍ مِن أهلِ الجَنَّةِ في زيادةِ ثوابِهم ورِفعةِ دَرجاتِهم، وَهَذِهِ مما لم ينُازِعْ فيه أحدٌ.
السَّادسُ: شَفاعَتُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في قومٍ تَساوَتْ حَسناتُهم وسيِّئاتُهم، فيَشفَعُ فيهم ليَدخُلوا الجَنَّةَ.
السَّابِعُ: شفاعَتُه في أقوامٍ أنْ يَدخلوا الجَنَّةَ مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، ويَحْسُنُ أنْ يُستشْهَدَ لهَذَا النَّوعِ بما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عُكَّاشةَ بنِ مِحصنٍ حين دعا له النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ يَجعَلَه مِن السَّبْعِينَ ألْفا الذين يَدخلون الجَنَّةَ مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ.
الثَّامِنُ: شفاعَتُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في بعضِ أهلِه الكفَّارِ مِن أهلِ النَّارِ، حتى يُخفَّفَ عذابُه وَهَذِهِ خاصَّةٌ بأبي طالبٍ، فإن قيل إنَّ أبا طالبٍ مات كافرًا وقد قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) فأجابَ بعضُ العلماءِ بقولِه: إنَّ شفاعةَ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لأبي طالبٍ شفاعةُ تخفيفٍ لا شفاعةُ إخراجٍ، والمقصودُ في الآيةِ أنها لا تَنفعُهم في الإخراجِ مِن النَّارِ.(1/33)
ويُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْواماً بغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ. (1)
ويَبْقى في الجَنَّةِ فضلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، فيُنْشِيءُ اللهُ لَها أقواماً، فيُدْخِلُهُمُ الجنة ).
( وأَصنافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الحِسَابِ والثَّوابِ والعِقابِ والجَنَّةِ والنَّارِ. (2)
__________
(1) وقولُه: ((ويُخرِجُ اللَّهُ أقواماً مِن النَّارِ)) إلخ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) وقال: (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) وفي "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- في حديثِه الطَّويلِ قال: فيقولُ اللَّهُ: ((شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ)).
قولُه: (بل بفَضلِه ورَحْمتِه) يفيدُ أنَّ دخولَ الجَنَّةِ والنَّجاةَ مِن النَّارِ بفَضلِه -سُبْحَانَهُ- ورَحمتِه، لا بمجرَّدِ العملِ، كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) الحديثَ، وإنَّما العملُ سببٌ لدُخولِ الجَنَّةِ، كما قال تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) واللَّهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ خالِقُ السَّببِ والمُسبِّبِ، فرَجَعَ الكُلُّ إلى محضِ فَضلِه وإحسانِه ورَحمتِه.
(2) قولُه: (ويَبقَى في الجَنَّةِ فَضْلٌ) إلخ، أي زيادةٌ في الجَنَّةِ عمَّن دَخَلها مِن أهلِها، وَذَلِكَ لسِعَتِها العظيمةِ، فإنَّها كما وَصَفها في كتابِه: (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ).
قوله (فيُنْشِئُ اللَّهُ) أي يَخلُقُ ويُحْدِثُ -سُبْحَانَهُ- أقواماً فيُدخِلُهم الجَنَّةَ بفَضلِه ورحمتِه، كما في "الصَّحيحَيْنِ" عن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلاَ يَزَالُ فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ)) وفي لفظِ مسلمٍ: ((يَبْقَى مِنَ الجَنَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْقَى، ثُمَّ يُنْشِئُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَهَا خَلْقاً فَيُسْكِنُهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ))، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأمَّا اللَّفظُ الذي في البخاريِّ مِن حديثِ أبي هريرةَ أنَّه يُنْشَأُ للنَّارِ مَن يشاءُ فيُلْقَى فيها، فتَقولُ هل مِن مَزيدٍ، فغَلَطٌ مِن بعضِ الرُّواةِ انْقَلَب عليه لَفظُه، والرِّوَاياتُ الصَّحيحةُ، ونَصُّ القُرآنِ يَرُدُّه، فإنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- أَخْبَرَ أنَّه يَملأُ النَّارَ مِن إبليسَ وأتباعِه، فإنَّه لا يُعذِّبُ إلا مَن قامتْ عليه حُجَّتُه وَكَذَّبَ رُسلَه، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ..) الآيتَيْنِ.
قولُه: (وأصنافٌ) جَمعُ صِنفٍ، وهُوَ النَّوعُ، والصِّنفُ والنَّوعُ والضَّرْبُ بمعنًى واحدٍ.
قولُه: (تضمَّنتْه) أي: اشتَملَتْ عليه.
قولُه: (الدَّارُ الآخرةُ) سُمِّيَتْ آخِرةً لتأَخُّرِها عن الدُّنْيَا، وكَوْنِها بَعْدَها.
قولُه: (والثَّوابِ والعقابِ) الثَّوابُ والمَثُوبةُ جزاءُ الطَّاعةِ، وهُوَ مِن ثابَ يَثُوبُ إذا رَجعَ، ويكونُ الثَّوابُ في الخيرِ والشَّرِّ إلاَّ أنَّه في الخيرِ أخصُّ وأكثَرُ استِعمالا، وهُوَ المرادُ هنا، والعِقابُ: العُقوبةُ. قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًَّا يَرَهُ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) الآيةَ، وقال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى)، وفي حَديثِ أبي ذَرٍّ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فيما يَرْويهِ عَن رَبِّه أنَّه يقولُ: ((يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الجزاءَ مُرتَّبٌ على الأعمالِ، قال تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أي بسببِ أعمالِكم، فالباءُ باءُ السَّببِيَّةِ، وأمَّا قولُه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)) الحديثَ، فالباءُ المنْفِيَّةُ باءُ العِوَضِ، وهُوَ أنْ يكونَ العملُ كالثَّمنِ لدُخولِ الجَنَّةِ كما زَعَمَتِ المعتزِلةُ أَنَّ العامِلَ يَستحِقُّ دخولَ الجَنَّةِ على ربِّه بعَملِه، وقولُهم باطلٌ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على هَذَا البحثِ.
قولُه: (الجَنَّةُ والنَّارُ) الجَنَّةُ لغةً: البُستانُ الذي فيه أشجارٌ مثمِرةٌ، سمِّيت جنَّةً؛ لاجْتِنانِها وَتستُّرِها بالأشجارِ، والمرادُ هنا الدَّارُ التي أعدَّها اللَّهُ لأوليائِه وعِبادِه الصَّالِحِينَ، وأمَّا النَّارُ فأعدَّها اللَّهُ –سبحانَهُ وتعالَى- لأعدائِه – أعاذَنا اللَّهُ منها – فيَجِبُ الإيمانُ بهما واعتقادُ أنهما حَقٌّ موجودتانِ الآنَ لثُبوتِ ذَلِكَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ، قال اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- عن الجَنَّةِ: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، وعن النَّارِ: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لَّلطَّاغِينَ مَآباً) وأمَّا الأحاديثُ فعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لِمَّا خَلَقَ اللَّهُ الجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ لَقْدِ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، فلمَّا خَلَقَ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ لاَ يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، قال: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إلاَّ دَخَلَهَا)) رواه أبو داودَ والتِّرمذيُّ والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ: حسَنٌ صحيحٌ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنه-، قال: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقالُ هَذَا مَقْعَدُكَ، حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" واللَّفظُ للبخاريِّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ قال: انْخسَفَت الشَّمسُ على عهدِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فذَكَر الحديثَ، وفيه فقالوا: رَأَيناكَ تناولْتَ شيئاً في مَقامِكَ ثم رأيناكَ تكَعْكعْتَ، فقال: ((إنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، وَتَنَاوَلْتُ عُنْقُوداً لَوْ أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَراً كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ ... )) الحديثَ.
وفي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((وَايْمُ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاَ وَلَبَكَيْتُمْ كثيرًا))، قالوا: وما رأيتَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: ((أَعَدَّ اللَّهُ الجَنَّةَ لأَوْلِيَائِهِ وَأَعَدَّ النَّارَ لأَعْدَائِهِ))، ولم يَزلْ على ذَلِكَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ حتى نَبَغَتْ نابِغةٌ مِن المعتزِلةِ والقَدَريَّةِ، فأنكَرتْ ذَلِكَ وزَعَمَتْ أَنَّ اللَّهَ يُنْشِئُهما يومَ القيامةِ، وأنَّ إيجادَهما الآنَ عَبَثٌ، وحَمَلَهم على ذَلِكَ أَصْلُهم الفاسدُ الذي وَضَعوا بِهِ شريعةً لِما يَفعَلُه اللَّهُ، وأنَّه ينبغي أنْ يَفعَلَ كذا، ولا يَنبغِي له أنْ يَفعَلَ كذا، وقَاسُوه على خَلقِه في أفْعالِهم، فهُم مُشبِّهةٌ في الأفعالِ، معطِّلةُ في الصِّفاتِ، والأدلَّةُ على بطلانِ هَذَا القولِ أكثرُ مِن أنْ تُحصى، كما تكاثرتْ أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ على دوامِ الجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما لا تَفنيانِ أبدًا ولا تَبيدانِ، قال تعالى: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) وقال: (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) وقال: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) وقال في النَّارِ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) وقال: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) إلى غير ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ التي لا تُحصرُ.(1/34)
وتَفاصيلُ ذلك مَذْكورةٌ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن السَّماءِ، والآثارِ مِنَ العِلْمِ المَأْثورِ عَنِ الأنْبياءِ.عليهم السلام (1)
__________
(1) قولُه: وتفاصيلُ ذَلِكَ أي: تَبْيينُ ذَلِكَ وتوضيحُه (مذكورةٌ في الكُتبِ المنَزَّلَةِ مِن السَّماءِ)، فإنَّ يومَ القيامةِ وما اشتَملَ عليه معروفٌ عندَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مِن آدمَ إلى نوحٍ إلى إبراهيمَ وموسى وعيسى وغيرِهم مِن حِينِ أُهبطَ آدمُ، قال تعالى: (اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) ولما قال إبليس: أَنْظرني إلى يومِ يُبعثون، قال: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وأمَّا نوحٌ فقال -سُبْحَانَهُ- حكايةً عنه: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) وقال إبراهيمُ: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) وقال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) وقال عن موسى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) ومؤمِنُ آلِ فرعونَ كان يَعلمُ المَعادَ، وإنَّما آمَنَ بموسى وحذَّرَ قومَه مما يَقعُ يومَ القيامةِ، فقال تعالى حكايةً عنه: (ويَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) إلى قولِه: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) إلى غيرِ ذَلِكَ مما هُوَ مذكورٌ في الكُتبِ السَّابقةِ وعن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ.
قولُه: (المأثورِ) أي: المنقولُ المذكورُ، تقولُ: أثَرْتُ الحديثَ إذا نَقلْتَه مِن غيرِكَ، واصطلاحًا: الأَثَرُ يُطْلَقُ على المَرْويِّ مُطلَقًا سواءٌ كان عن رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو عن صحابيٍّ، وهُوَ قولُ الجمهورِ.
قولُه: (العِلمِ) أي: العِلمِ الشَّرعيِّ النَّافعِ، وهُوَ ما جاء عن الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "العِلمُ ما قام عليه الدَّليلُ، والنَّافعُ ما جاء عن الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-"وفي حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْعِلْمُ ثَلاَثَةٌ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فهُوَ فَضْلُ عِلْمٍ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ))، قال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في النُّونيَّةِ:
العِلمُ قال اللَّهُ قال رسولُه ... ... قال الصَّحابةُ هم أُولو العِرفانِ
ما الِعلمُ نَصْبُكَ للخلافِ سَفاهةً ... ... بين الرَّسولِ وبين رأْيِ فُلانِ
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: العِلمُ الممدوحُ هُوَ الذي وَرِثَه الأنبياءُ، وهَذَا العِلمُ أقسامٌ ثلاثةٌ:
الأوَّلُ: عِلمٌ باللَّهِ وأسمائِه وصفاتِه وما يَتْبَعُ ذَلِكَ، وفي مِثلِه أَنزلَ اللَّهُ سورةَ الإخلاصِ وآيةَ الكرسيِّ ونحوِهما.
الثَّاني: العِلمُ بما أخبَرَ اللَّهُ بِهِ مما كان مِن الأمورِ الماضيةِ، ومما يكونُ مِن المستقبَلةِ، ومما هُوَ كائنٌ من الأمورِ الحاضرةِ، وفي مِثلِه أَنزلَ اللَّهُ القَصصَ والوَعْدَ والوعيدَ وصِفةَ الجَنَّةِ والنَّارِ.
الثَّالثُ: العِلمُ بما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن الأمورِ المتعلِّقةِ بالقلوبِ والجوارحِ مِن الإيمانِ باللَّهِ ومِن معارِفِ القلوبِ وأحوالِها وأحوالِ الجوارحِ وأعمالها، وهَذَا يَندرِجُ فيه العِلمُ بأصولِ الدِّينِ وقواعدِ الإسلامِ، والعِلمُ بالأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ مما هُوَ مذكورٌ في كُتبِ الفِقهِ. انتهى.
وقال ابنُ القَيِّمِ:
والعِلمُ أقسامٌ ثلاثٌ ما لَها ... ... مِن رابعٍ والحقُّ ذو تِبيانِ
عِلمٌ بأوصافِ الإلَهِ وفِعلِه ... ... وَكَذَلِكَ الأسماءُ للرَّحمنِ
والأمرُ والنَّهيُ الذي هُوَ دِينُه ... وجزاؤُه يومَ المَعادِ الثَّاني(1/35)
وفي العِلْمِ المَوْروثِ عنْ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن ذلكَ مَا يَشْفي ويَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغاهُ وَجَدَهُ ). (1)
__________
(1) قولُه: (الموروثِ عن مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) الموروثُ مِن الإرْثِ، وهُوَ لغةً: البقيَّةُ وانتقالُ الشَّيءِ مِن قومٍ إلى قومٍ آخرين، والمرادُ بِهِ هنا إرثُ العِلمِ والحِكمةِ، كما قال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في حديثِ أبي الدَّرداءِ: ((وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))، ولهَذَا قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: إنَّما تَرَكَ ما بين الدَّفتَيْنِ، يعني القرآنَ، والسُّنَّةُ مُفسِّرةٌ له ومبيِّنَةٌ وموضِّحةٌ، أي تابعةٌ له، والمقصودُ الأعظمُ كتابُ اللَّهِ.
قولُه: (يكفي) أي: يُغْني: قولُه: (يَشْفِي) مأخوذٌ مِن شَفى يَشْفِي، أي يُبرئُ، فالكِتابُ والسُّنَّةُ بهما غايةُ الشِّفاءِ والكفايةِ، فقد أَنزلَ اللَّهُ على نبِيِّهِ القرآنَ العظيمَ الذي شَرَّفه اللَّهُ على كُلِّ كتابٍ أَنزلَه وجعلَه مُهيمِناً عليها، وناسِخاً لها.
والسُّنَّةُ مفسِّرةٌ للقرآنِ ومُبيِّنةٌ له وموضِّحةٌ له، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)، وقال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ) ففي كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِه غايةُ الشِّفاءِ لجميعِ الأدواءِ القَلبيَّةِ والبَدنيَّةِ، وأدواءِ الدُّنْيَا والآخرةِ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرَآنِ)) ولما رأى مع عُمَرَ ورقةً مِن التَّوراةِ غَضِبَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقال: ((أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، لَوْ كانَ مُوسَى حيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي)).
ورُوِيَ عن عمرَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه حينما سَمِعَ رجُلا مِن قيسٍ كتَبَ كتابَ دَانيالَ غَضِبَ عليه وأمَرَه فمَحاه، وساقَ ما عَمِلَ معه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ولم يَمُتْ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- حتى أكْملَ اللَّهُ له الدِّينَ، فلا خَيرَ إلا دَلَّ الأمَّةَ عليه، ولا شَرَّ إلاَّ حَذَّرَها عنه، وقد أُعطِيَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- جوامِعَ الكَلِمِ وخواتِمَه، وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ)) وقال أبو ذرٍّ -رضي اللَّهُ عنه-: تُوِفِّيَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وما طائِرٌ يُقلِّبُ جناحَيْهِ في السَّماءِ إلا وذَكَرَ لنا منه عِلماً.
قولُه: (فمَنِ ابتَغاه) أي: طَلَبه، قولُه: (وَجَدَه) أي: حَصَّلَه وأدركَه، فهُوَ سَهلُ اللَّفظِ، قريبُ المعنى، واضِحُ الأسلوبِ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).(1/36)
( وتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وتُؤمِنُ الفِرقةُ النَّاجيَةُ) إلخ (القَدَرِ) بالفتحِ والسُّكونِ لغةً: مصدْرُ قَدَرْتُ الشَّيءَ إذا أحطْتُ بمقدارِه، وعرَّفه بعضُهم بقولُه: هُوَ تعلُّقُ عِلمِ اللَّهِ وإرادَتِه أزلاً بالكائناتِ قَبلَ وجودِها، فلا حادِثَ إلاَّ وقد قدَّرَه اللَّهُ أزلاً أي سَبَق بِهِ عِلمُه، وتعلَّقتْ بِهِ إرادَتُه، والإيمانُ بالقدَرِ هُوَ أَحدُ أصولِ الإيمانِ السِّتَّةِ المذكورةِ في حديثِ جبريلَ وغيرِه، وأَجمعَ عليها أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ ولم يخالِفْ في ذَلِكَ إلا مَجوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ القدَريَّةُ، وقد خرجوا في أواخِرِ عهدِ الصَّحابةِ، وأنكَرَ عليهم الصَّحابةُ الموجودُونَ إذْ ذاك، وأوَّلُ مَن قال ذَلِكَ مَعبدٌ الجُهنيُّ بالبصرةِ، كما روى مسلمٌ في "صحيحِه" عن ابنِ عمرَ أنَّه قال: والذي نَفْسي بِيدِه لو كان لأحَدِهم مِثلُ أُحُدٍ ذهبًا ما قَبِلَه اللَّهُ منه حتى يُؤْمِنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه، ثم اسْتدَلَّ بقولِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الإِيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) فجَعلَ الإيمانَ بالقدَرِ سادِسَ أصولِ الإيمانِ، فمَن أنْكَرَه فليس بمؤمنٍ، بل ولا مسلمٍ فلا يُقبلُ عملُه، وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد ذِكرِ آثارٍ في الإيمانِ بالقدَرِ، قال: وَهَذِهِ الآثارُ كُلُّها تُحقِّقُ هَذَا المَقامَ، وتُبيِّنُ أنَّ مَن لم يؤمنْ بالقدَرِ فقد انْسلَخَ مِن التَّوحيدِ وَلَبِسَ جِلبابَ الشِّركِ، بل لم يُؤمنْ باللَّهِ ولم يعرِفْه، وهَذَا في كُلِّ كتابٍ أنزلَه اللَّهُ على رُسلِه. انتهى.
وقال طاوُسٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أدركتُ ثلاثَمائةٍ مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولون كُلُّ شيءٍ بقدَرٍ. وقال أيوبُ السِّخْتِيَانيُّ: أدركتُ النَّاسَ وما كلامُهم إلا أنْ قَضى وقَدَّرَ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن طاوسٍ: أدركتُ أناسًا من أصحابِ رسولِ اللَّهِ يقولون: كُلُّ شيءٍ بقدَرٍ، وسمعتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عمرَ يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيَسَ)).
قولُه: (خيرِه وشرِّه) فلا كائنٌ إلا بإرادتِه ومشيئتِه، فهُوَ الخالقُ لكُلِّ شيءٍ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إثباتُ الشَّرِّ في القضاءِ إنَّما هُوَ بالإضافةِ إلى العبدِ والمفعولِ إذا كان يَقْدِرُ عليه بسببِ جَهلِه وظُلمِه وذُنوبِه لا إلى الخالِقِ، فَلَهُ في ذَلِكَ مِن الحِكَمِ ما تَقْصُرُ عنه أفهامُ البَشرِ، فهُوَ شَرٌّ بالإضافةِ إلى العبدِ، وأمَّا بالإضافةِ إلى الخالِقِ فكُلُّهُ خيرٌ وحِكمةٌ، فإنَّه صادِرٌ عن حِكمةٍ وعِلمٍ، وما كان كذَلِكَ فهُوَ خيرٌ محْضٌ بالنِّسبةِ إلى الرَّبِّ؛ إذْ هُوَ موجبُ أسمائِه وصفاتِه، ولا تعارُضَ بينه وبين قولِه: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) لأنَّ معناه أنَّه يُمنعُ إضافةُ الشَّرِّ إليكَ بوَجهٍ مِن الوجوهِ، فلا يُضافُ الشَّرُّ إلى ذاتِه ولا إلى أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، فإنَّ ذاتَه مُنَزَّهَةٌ عن كُلِّ شرٍّ، وصفاتُه كذَلِكَ؛ إذْ كُلُّها صفاتُ كمالٍ ونُعوتُ جلالٍ لا نَقْصَ فيها بوجهٍ مِن الوجوهِ. انتهى. بتصرُّفٍ.(1/37)
والإِيمانُ بالقَدَرِ عَلى دَرَجَتينِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئينِ ).
( فالدَّرَجَةُ الأوْلى: الإِيمانُ بأَنَّ اللهَ تَعَالى [ عليمٌ بالخَلْقِ وهُمْ ] عَامِلُونَ بعِلْمِهِ القَديمِ الذي هُوَ مَوْصوفٌ بهِ أَزَلاً وأَبداً، وَعَلِمَ جَميعَ أَحوالِهِمْ مِن الطَّاعاتِ والمَعاصي والأرْزاقِ والآجالِ. (1)
__________
(1) قولُه: (والإيمانُ بالقدَرِ على دَرجتَيْنِ) الخ ذَكرَ المصنِّفُ مَراتبَ الإيمانِ بالقدَرِ فبدأَ بمرتبةِ العِلمِ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على صِفةِ العِلمِ وأنها مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، وأنَّها متناوِلةٌ الموجودَ والمعدومَ والواجبَ والممْكِنَ والممْتنِعَ، قال شيخُ الإسلامِ: إنَّ عِلمَ اللَّهِ السَّابقَ مُحيطٌ بالأشياءِ على ما هي عليه لا مَحْوٌ فيه ولا تَغييرٌ ولا زيادةٌ ولا نقصٌ، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- يَعلَمُ ما كان وما يكونُ وما لا يكونُ ولو كان كَيْفَ يكونُ، انتهى، والأدِلَّةُ على إثباتِها مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ أكثرُ مِن أنْ تُحصرَ، واتَّفقَ عليها الصَّحابةُ والتَّابِعون ومَن تَبِعَهم، ولم يُخالِفْ فيها إلاَّ مَجوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
قولُه: (الأولى الإيمانُ بأَنَّ اللَّهَ) إلخ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فهُوَ -سُبْحَانَهُ- موصوفٌ بالعِلمِ، وبأنَّهُ بكُلِّ شيءٍ عليمٌ أزلاً وأبداً، فلم يتَقدَّمْ عِلمَه جهالةٌ، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ)، فيَعلَمُ -سُبْحَانَهُ- ما كان وما يكونُ، وما لم يكنْ لو كان كَيْفَ يكونُ، كما قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) وأشار بما تَقدَّمَ للرَّدِّ على غُلاةِ المعتزِلةِ والرَّافِضةِ الذين أنْكَروا أَنَّ اللَّهَ عالِمٌ بالأزلِ، وقالوا: إنَّ اللَّهَ لا يَعلَمُ أفعالَ العِبادِ حتى يَفعلُوها – تعالى اللَّهُ عن قولِهم عُلُواًّ كبيراً – قال تعالى: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
قولُه: (أزلاً وأبدًا) الأزلُ القِدمُ الذي لا نهايةَ له، فالأزلُ هُوَ الدَّوامُ في الماضي، والأبَدُ ما ليس له آخِرٌ، فهُوَ الدَّوامُ في المستقبَلِ، فالأزليُّ: هُوَ الذي لم يَزلْ كائِنًا، والأبَديُّ: هُوَ الذي لا يَزالُ كائنًا، وكونُه لم يَزَلْ ولا يَزالُ معناه دَوامُه وبقاؤُه الذي ليس مُبتَدأً ولا مُنْتَهًى. انتهى. مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ.
قولُه: (مِن الطَّاعاتِ) جَمعُ طاعةٍ، مأخوذةٌ مِن طَاعَ يَطُوعُ، واصطلاحًا: الطَّاعةُ: هي مُوافَقةُ الأمرِ، وكُلُّ قُربةٍ طاعةٌ ولا عَكْسَ، والمعاصي: جَمعُ معصيةٍ وَهِيَ ضِدُّ الطَّاعةِ، والمعصيةُ: هُوَ الذَّنْبُ والإثمُ ألفاظٌ مترادِفةٌ، والمعصيةُ اصطلاحًا: مخالَفةُ الأمرِ.
قولُه: (والأرزاقُ والآجالُ) الأرزاقُ جَمعُ رِزقٍ، وهُوَ لغةً: الحظُّ والنَّصيبُ، وشَرْعًا: هُوَ ما يَنفَعُ مِن حلالٍ وحرامٍ، قال اللَّهُ تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) فلا بدَّ لكُلِّ مخلوقٍ مِن استكمالِ رِزقِه، كما في حديثِ حذيفةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَفَثَ فِي رُوعِى أنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا)) رَواهُ البَزَّارُ، وفي المتَّفقِ عليه مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ قال: ((يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعيِدٌ)) الحديثَ، وزعَمَت المعتزِلةُ أَنَّ الحرامَ ليس برِزقٍ، فعلى قولِهم يكونُ مَن أكَلَ الحرامَ طُولَ عُمرِه لم يَرْزقْه اللَّهُ، وهَذَا باطِلٌ مخالِفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، فإنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- رازِقُ كُلِّ الخَلْقِ، وليس مخلوقٌ بغيرِ رِزقٍ، ومعلومٌ أَنَّ الحرامَ مَعيشةٌ لبعضِ النَّاسِ، وقد قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) وقد قَسَمَ -سُبْحَانَهُ- معايِشَهم في الحياةِ الدُّنْيَا قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وفي الحديثِ: ((إنَّ اللَّهَ قَسَمَ بِيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ.
قولُه: (والآجالَ) أي: أنَّه -سُبْحَانَهُ- قد عَلِمَ رِزقَه وأَجَلَه قَبلَ خَلقِه وإيجادِه، قال تعالى: (إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) والأجَلُ هُوَ غايةُ الوقتِ في الموتِ، ومُدَّةُ الشَّيءِ. وفي صحيحِ مسلمٍ عن عبدِ اللَّهِ قال: قالتْ أُمُّ حبيبةَ زَوجُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: اللَّهم أَمْتِعْني بِزَوْجِي رسولِ اللَّهِ، وبأبي أبي سفيانَ، وبأخي مُعاوِيةَ)) قال فقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَقَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئاً قَبْلَ أَجَلِهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ أَجَلِهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْراً أَوْ أَفْضَلَ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الميِّتَ ماتَ بعد استيفاءِ أجَلِه واستكمالِ رِزقِه، سواءٌ ماتَ حتْفَ أنْفِه أو ماتَ بالقتلِ، خلافًا للمعتزِلةِ القائِلينَ بأَنَّ المقتولَ قُطِعَ عليه أَجَلُه، وقولُهم باطِلٌ تَردُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ.(1/38)
ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ، فأَوَّل مَا خَلَقَ اللهُ القَلَم قالَ لهُ: اكْتُبْ. قالَ: ما أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَا هُو كَائِنٌ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ. فمَا أَصَابَ الإِنْسانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ، جَفَّتِ الأْقلامُ، وطُوِيَتِ الصُّحُفُ. (1)
__________
(1) قولُه: (ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ في اللَّوحِ) إلخ هَذِهِ المرتبةُ الثَّانيةُ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقدَرِ، وَهِيَ مرتبةُ الكتابةِ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ كتَبَ مقادِيرَ الخلائقِ وما هُوَ كائنٌ إلى يومِ القيامةِ في اللَّوحِ المحفوظِ، فأعمالُ العِبادِ تَجري على ما سَبَقَ في عِلمِه وكتابَتِه، والأدِلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ على إثباتِ هَذِهِ المرتبةِ كثيرةٌ جِداًّ، وأَجمعَ على إثباتِها الصَّحابةُ والتَّابعونَ وجميعُ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ، قال اللَّهُ تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ) الآيةَ، وفي سُننِ أبي داودَ عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: ومَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: قال رسولُ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِين أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)). وأفادَ هَذَا الحديثُ أَنَّ التَّقديرَ وَقَعَ بعد خَلقِ العرشِ، فدلَّ على أَنَّ العرشَ مخلوقٌ قبلَ القَلمِ.
ققولُه: (فما أصابَ الإنسانَ) إلخ هَذَا هُوَ حقيقةُ الإيمانِ بالقدَرِ فما يُصيبُ الإنسانَ ممَّا يَضُرُّه ويَنفَعُه فكُلُّه مُقدَّرٌ عليه، ولا يُصِيبُ العبدَ إلاَّ ما كُتِبَ له مِن مقاديرَ ذَلِكَ في الكتابِ السَّابقِ، كما قال -سُبْحَانَهُ-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له: ((وَاعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ ... )) الحديثَ.
قولُه: (جَفَّتِ الْأَقْلاَمُ وَطُوِيتِ الصُّحُفُ) هَذَا كنايةٌ عن تَقدُّمِ كتابةِ المقاديرِ كُلِّها، والفَراغِ منها مِن أمدٍ بعيدٍ، وقد دلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ على مِثلِ هَذَا المعنى، كما في حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ المتقدِّمِ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الأمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)) رواه التِّرمذيُّ وقال: حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له: ((جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ)). وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رَجُلاً قال: يا رسولَ اللَّهِ: فِيمَ العَملُ؟ أفيما جَفَّتْ بِهِ الأقلامُ وجَرتٍ بِهِ المقاديرُ؟أَمْ فيما يُستقبَلُ؟ قال: ((فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأقلامُ وَجَرَتْ بِهِ المقاديرُ))، قال: فَفِيمَ العملُ؟ قال: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)). قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد تَضَمَّنَ هَذَا الحديثُ الرَّدَّ على القدَريَّةِ والجبريَّةِ، وإثباتَ القدَرِ والشَّرعِ، وإثباتَ الكتابِ الأوَّلِ المتضمِّنِ لعِلمِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- الأشياءَ قَبلَ كونِها، وإثباتَ خَلقِ الفِعلِ الجَزائيِّ، وهُوَ يُبطِلُ أُصولَ القدَريَّةِ الذين يَنفونَ خَلقَ الفِعلِ مُطلقًا، ومَن أَقَرَّ مِنهم بِخَلقِ الفِعلِ الجَزائيِّ دُونَ الابتداءِ هَدَمَ أَصْلَه ونقَضَ قاعدتَه، والنَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أخبَرَ بِمِثلِ ما أخبَرَ بِهِ الرَّبُّ أَنَّ العبدَ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له لا مجبورٌ، فالجَبْرُ لفظٌ بِدْعيٌّ، والتَّيسِيرُ لفظُ القرآنِ والسُّنَّةِ. ا.هـ.
قولُه: (الأقلامُ) ذِكرُ الأقلامِ في هَذِهِ الأحاديثِ وغيرِها مجموعةً، دليلٌ على أنَّ للمقاديرِ أقلاماً غيرَ القَلَمِ الأوَّلِ الذي تَقدَّمَ ذِكْرُه مع اللَّوحِ المحفوظِ، والذي دَلَّتْ عليه السُّنَّةُ أَنَّ الأقلامَ أربعةٌ.
الأوَّلُ: القَلَمُ العَامُّ الشَّامِلُ لجميعِ المخلوقاتِ، وهُوَ الذي كُتِبَ بِهِ مقاديرُ كُلِّ شيءٍ.
الثَّاني: خبَرُ خَلقِ آدمَ، وهُوَ قَلمٌ عامٌّ أيضًا لكنْ لبَنِي آدمَ، وورَدَ في هَذِهِ آياتٌ تَدلُّ على أَنَّ اللَّهَ قدَّرَ أعمالَ بني آدمَ وأرْزَاقَهم وآجالَهم وسعادَتهم عَقِيبَ خَلقِ أَبيهِم.
الثَّالثُ: حين يُرسَلُ المَلَكُ إلى الجنينِ في بطنِ أُمِّهِ فيَنفُخُ فيه الرُّوحَ ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ: بكَتْبِ رِزْقِه، وأجَلِه، وعَمَلِه، وشَقِيٌّ أو سعيدٌ.
الرَّابعُ: الموضوعُ على العبدِ عندَ بُلوغِه، الذي بأيدِي الكِرامِ الكاتِبينَ الذين يَكتبون ما يَفعلُه بنو آدمَ، كما وَرَدَ ذَلِكَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ. انتهى. مِن كلامِ ابنِ القَيِّمِ.(1/39)
كَما قالَ تَعالى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ )، وقالَ: ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ )، وهذا التَّقْديرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ يَكُونُ في مَواضِعَ جُمْلَةً وتَفْصيلاً فقدْ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَا شَاءَ. وإِذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ؛ بَعَثَ إِليهِ مَلَكاً، فيُؤمَرُ بأَرْبِعِ كَلِماتٍ، فيُقالُ لهُ: اكْتُبْ: رِزْقَةُ، وأَجَلَهُ، وعَمَلَهُ، وشَقِيٌّ أَمْ سَعيدٌ. ونحوَ ذلك. (1)
__________
(1) قولُه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ) أيْ: مِن قَحْطٍ وقِلَّةِ نباتٍ وقِلَّةِ ثِمارٍ.
قولُه: (ولا في أَنْفُسِكُمْ) مِن أمراضٍ وفَقْدِ أولادٍ ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (إِلاَّ فِي كِتابٍ) وهُوَ اللَّوحُ المحفوظُ.
قولُه: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي: مِن قَبلِ أنْ نَخلُقَ الأرضَ والأنْفُسَ.
قولُه: (إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسيرٌ) أي: إنَّ عِلْمَه الأشياءَ قَبلَ كَوْنِها وكتابَتَه لها طِبقَ ما يُوجَدُ في حِينِها سَهْلٌ على اللَّهِ، لأنَّه -سُبْحَانَهُ- يَعلَمُ ما كان وما يكونُ وما لم يكن لو كان كَيْفَ يكونُ، ففي هَذِهِ الآياتِ أخْبَرَ -سُبْحَانَهُ- عن قَدَرِه السَّابِقِ في خَلْقِه قَبْلَ أنْ يَبْرَأَ البَريَّةَ، فما أصابَهُم مِن خيرٍ وشرٍّ قد كُتِبَ عليهم، وقُدِّرَ ولا بُدَّ مِن وقوعِه، وَهَذِهِ الآياتُ فيها الرَّدُّ على القَدريَّةِ نفاةِ العِلمِ السَّابِقِ.
قال النَّوويُّ في شرحِ مسلمٍ: قال العلماءُ رَحِمَهم اللَّهُ: وكتابُ اللَّهِ وَلَوْحُه وقَلَمُه والصُّحُفُ المذكورةُ في الأحاديثِ، كُلُّ ذَلِكَ مما يَجِبُ الإيمانُ به، وأمَّا كيفيَّةُ ذَلِكَ وصِفَتُه فعِلمُه إلى اللَّهِ (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مَّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ)، اهـ.
قولُه: (وهَذَا التَّقديرُ) إلخ، أي المتقدِّمُ ذِكرُه، وهُوَ تقديرُ اللَّهِ –سبحانَهُ وتعالَى- لمقاديرِ الخَلْقِ في عِلمِه وكِتابِه قبلَ تكوينِها وإيجادِها يكونُ في مواضِعَ جملةً وتفصيلا، فمِنها ما هُوَ عامٌّ شامِلٌ لكُلِّ كائنٍ، كما في حديثِ: لماَّ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَال له اكتبْ فجَرى بما هُوَ كائنٌ إلى يومِ القيامةِ، ومنها ما هُوَ كالتَّفصيلِ مِن القدَرِ السَّابقِ، وبعضُها أخَصُّ مِن بعضٍ، فما في الحديثِ المتقدِّمِ تقديرٌ شامِلٌ، وأخَصُّ مِنه ما في حديثِ ابنِ مسعودٍ: ((يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ ... ))، الحديثَ، وأخصُّ منهما ما وَرَدَ أنَّه يُقدِّرُ في ليلةِ القَدْرِ ما يَلْقَاه في تِلْكَ السَّنَةِ إلى السَّنَةِ الأُخرى، فقولُه: (فقد كتبَ اللَّهُ في اللَّوحِ المحفوظِ) إلى آخِرِه، هَذَا هُوَ التَّقديرُ العامُّ قبلَ خَلقِ السَّماواتِ والأرضِ، وما ذَكَرَه في حديثِ ابنِ مسعودٍ: ((يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يومًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يومًا عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَرْبَعِينَ يومًا مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فيُؤْمَرُ بَأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وَشَقيٌّ أَمْ سَعِيدٌ))، الحديثَ، فهَذَا تقديرٌ عُمْريٌّ، وما رواه عبدُ الرَّزَّاقِ وابنُ جريرٍ عن قتادةَ -رضي اللَّهُ عنه- في قولِه تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ) الآيةَ. قال: يُقضَى ما يكونُ في السَّنَةِ إلى مِثلِها، فهَذَا التَّقديرُ تَقديرٌ حَوْليٌّ، وما في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِن دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ ويَفْعَلُ ما يَشَاءُ، فكذَلِكَ قولُه -سُبْحَانَهُ-: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) رواه عبدُ الرَّزَّاقِ، وابنُ المنذرِ، والطَّبرانيُّ، والحاكِمُ، فهَذَا التَّقديرُ المذكورُ في هَذَا الحديثِ تقديرٌ يوميٌّ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وكُلُّ واحدٍ مِن هَذِهِ التَّقاديرِ كالتَّفصيلِ مِن القدَرِ السَّابقِ، وفي ذَلِكَ دليلٌ على كمالِ عِلمِه -سُبْحَانَهُ- وقُدرَتِه وحِكمَتِه، وزيادةِ تعريفِه الملائكةَ وعبادَه المؤمنين بنَفْسِه وأسمائِه، قال: فاتَّفقتْ هَذِهِ الأحاديثُ ونظائِرُها على أَنَّ القدَرَ السَّابقَ لا يَمنَعُ العَملَ ولا يُوجِبُ الاتِّكالَ عليه، بل يُوجِبُ الجِدَّ والاجتهادَ. اهـ.(1/40)
فهذا التَّقديرُ قَدْ كانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ القَدَرِيَّةِ قديماً، ومُنْكِروهُ اليَوْمَ قليلٌ ). (1)
__________
(1) قولُه: (فهَذَا القدَرُ) أي: المذكورُ فيما تقدَّمَ وهُوَ عِلمُه الأشياءَ قَبلَ كونِها، وكتابَتُه لها طِبقَ ما يُوجَدُ في حِينِها، قد كان يُنكِرُه غُلاةُ القدريَّةِ، كمَعبدِ الجُهنيِّ الذي سأل ابنُ عمرَ عن مقالَتِه، وكعمرِو بنِ عُبَيدٍ وغيرِه، فيُنكِرون عِلمَه المتقدِّمَ، وكِتابَتَه السَّابقةَ، ويَزعُمون أنَّه أمَرَ ونَهَى وهُوَ لا يَعلَمُ مَن يُطيعُه ممَّن يَعصِيهِ، بل الأمْرُ أُنُفٌ أي مُستأنَفٌ، وهَذَا القولُ أوَّلُ ما حَدَثَ في الإسلامِ بعدَ انْقِراضِ عَصْرِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ، وكان أوَّلَ مَن أَظهَرَ ذَلِكَ بالبصرةِ معبدٌ الجهنيُّ، وأخَذَ عنه هَذَا المذهبَ غَيلانُ الدِّمشقيُّ، فلمَّا ابتدعَ هؤلاء التَّكذيبَ بالقدَرِ رَدَّ عليهم مَن بَقِي مِن الصَّحابةِ، كعبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ، وعبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ، وواثِلةَ بنِ الأسقعِ وغيرِهم، والقدريَّةُ يَنقسمونَ إلى فِرْقتَيْنِ:
الأُولى: تُنكِرُ أَنَّ اللَّهَ سَبقَ عِلمُه بالأشياءِ قَبلَ وُجودِها، وتزعُم أَنَّ اللَّهَ لم يُقدِّر الأمورَ أزلاً ولم يتقدَّمْ عِلمُه بها، وإنَّما يَعلَمُها إذا وَقَعتْ، قال العلماءُ: والمنكِرونَ لهَذَا انْقَرضُوا وهم الذين كفَّرهم الأئمَّةُ مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ، وهم الذين قال فيهم الشَّافعيُّ ناظِروا القدريَّةَ بالعِلمِ، فإنْ أقرُّوا بِهِ خُصِموا، وإنْ أَنكَروه كَفُروا.
الفِرقةُ الثَّانيةُ: المُقِرُّونَ بالعِلمِ وإنَّما خَالَفوا السَّلَفَ في زَعْمِهم بأنَّ أفعالَ العِبادِ مَقدورةٌ لهم وواقِعةٌ منهم على جِهةِ الاستقلالِ، وهُوَ مع كَونِه مذهباً باطِلاً أخَفُّ مِن المذهبِ الأوَّل: قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأمَّا هؤلاء – يعني الفِرقةَ الثَّانيةَ – فإنهم مُبتدِعون ضالُّون لكنَّهم ليسوا بمنزلةِ أولئكَ، قال: وفي هؤلاء خَلْقٌ كَثيرٌ مِن العلماءِ والعُبَّادِ وكُتِبَ عنهم وأَخرجَ البخاريُّ ومُسلمٌ لِجماعةٍ منهم، لكنْ مَن كان داعيةً لم يُخَرِّجوا له، وهَذَا مذهبُ فقهاءِ الحديثِ كأحمدَ وغيرِه، ومَن كان داعيةً إلى بِدْعةٍ فإنَّه يَسْتَحقُّ العقوبةَ لدَفعِ ضررِه عن النَّاسِ وإنْ كان في الباطنِ مجتهِداً، فأقَلُّ عُقوبَتِه أنْ يُهجَرَ فلا يكونُ له رتبةٌ في الدِّينِ، فلا يُستقضَى ولا تُقبلُ شهادَته ونحوُ ذَلِكَ. اهـ.(1/41)
( وأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشيئةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وهُو: الإِيمانُ بأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وأَنَّهُ ما في السَّماواتِ ومَا في الأرْض مِنْ حَرَكَةٍ ولا سُكونٍ؛ إِلا بِمشيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ، [ لا يَكونُ في مُلْكِهِ مَا لاَ يُريدُ ]. (1)
__________
(1) قولُه: (وأمَّا الدَّرجةُ الثَّانيةُ ... ) إلخ هَذِهِ المرتبةُ الثَّالثةُ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقدَرِ، وهُوَ إثباتُ مشيئةِ اللَّهِ النَّافذةِ، أي الماضيةِ التي لا رَادَّ لها، مِن نَفَذَ السَّهمُ نُفوذًا إذا خَرَقَ الرَّميَّةَ، ونَفَذَ الأمرُ مَضى، هَذِهِ المرتبةُ الثَّالثةُ مِن مراتبِ الإيمانِ بالقدَرِ، وهُوَ إثباتُ نُفوذِ قُدرتِه ومشيئتِه، وشُمولِ قُدرَتِه، قد دَلَّ عليها الكِتابُ والسُّنَّةُ وأجمعَ عليها سَلَفُ الأمَّة، قال اللَّهُ تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ) وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على نُفوذِ مَشيئَتِه فلا خُروجَ لكائِنٍ عن مشيئَتِه كما لا خُروجَ له عَن عِلمِه، وفي هَذِهِ الآياتِ وغيرِها الرَّدُّ على القدريَّة والمعتزِلةِ نُفاةِ القدَرِ الذين يُثبتون للعبدِ مشيئةً تخالِفُ ما أرادَه اللَّهُ مِن العبدِ وشاءه، وأما أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فتمسَّكوا بالكِتابِ والسُّنَّةِ في هَذَا البابِ وغيرِه، واعتقَدوا أنَّ مشيئةَ العبدِ تابعةٌ لمشيئةِ اللَّهِ في كُلِّ شيءٍ مما يوافِقُ ما شَرعَه وما يخالِفُه مِن أفعالِ العبدِ وأقوالِه، فالكُلُّ بمشيئةِ اللَّهِ، فما وافَقَ ما شَرَعَه رَضِيَه وأحَبَّه، وما خالَفه كَرِهَه، كما قال -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) الآيةَ.
قولُه: (وهُوَ الإيمانُ بأنَّ ما شاءَ اللَّهُ كان ... ) إلخ فسَّرَ المصنِّفُ معنى الإيمانِ بهذه المرتبةِ، وأشار بهَذَا إلى الرَّدِّ على القدَريَّةِ والمعتزِلةِ الذين يُثبتون للعبدِ مشيئةً تخالِفُ مشيئةَ اللَّهِ، وتقدَّمَ ذِكرُ الأدلَّةِ على بطلانِ قولِهم، وهل أضَلُّ ممَّن يَزعُمُ أَنَّ اللَّهَ شاء الإيمانَ مِن الكافرِ والكافرُ شاءَ الكفرَ، فغلبَتْ مشيئةُ الكافرِ مشيئةَ اللَّهِ؟! – تعالى اللَّه عَن قولِهم – وقد تقدَّمَ ذِكرُ أقسامِ الإرادةِ والمشيئةِ، والفَرْقُ بينهما وبين المحبَّةِ والرِّضا.(1/42)
وأنَّهُ سُبحانَهُ عَلى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ مِنَ المُوْجودَاتِ والمَعْدوماتِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وأنَّه -سُبْحَانَهُ- على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ... ) إلخ قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ففيها دليلٌ على شمولِ قُدرتِه، فكُلُّ ممكنٍ فهُوَ مُندَرِجٌ فيها، وفيها الرَّدُّ على القدَريَّةِ فإنَّ مذهبَهم أنَّه -سُبْحَانَهُ- ليس على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأَنَّ العِبادَ يَقْدِرونَ على ما لا يَقدِرُ عليه، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- لا يَقدِرُ أنْ يَهْدِي ضالاًّ ولا يُضِلُّ مُهْتدِيا، وهَذَا المذهبُ باطلٌ تَرُدُّه أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وهُوَ كما قال بعضُ العلماءِ شِركٌ في الرُّبوبِيَّةِ مختصَرٌ، ولذَلِكَ ورَدَ أنَّ ((القدَريَّةَ مَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ)) لمُشابَهةِ قولِهم لقولِ المجوسِ، وأما أهلُ السُّنَّةِ فيُثبتون أَنَّ العبدَ فاعِلٌ حقيقةً، ولكنَّه مخلوقٌ لِلَّهِ ومَفعولٌ، ولا يقولون هُوَ نَفْسُ فِعلِ اللَّهِ، ويُفرِّقون بين الخَلقِ والمخلوقِ والفِعلِ والمفعولِ.
قولُه: (مِن الموجوداتِ) كأفعالِ خَلْقِه مِن الملائكةِ والنَّبيِّينَ وسائرِ حركاتِ العِبادِ فلا يَخرُجُ عن خَلقِه ومُلكِه شيءٌ.
قولُه: (والمعدوماتِ) كما قال -سُبْحَانَهُ-: (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) وقال: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ
شَيْئًا) أي شيئاً في الخارِجِ، وإن كان شيئاً في عِلمِه -سُبْحَانَهُ- وأما المُحالُ لِذاتِه فلا حقيقةَ له ولا يُتصوَّرُ وُجودُه، فلا يُسمَّى شيئاً باتِّفاقِ العقلاءِ، وَذَلِكَ مِثلُ كونِ الشَّيءِ الواحدِ موجودًا معدومًا، ومِن هَذَا البابِ خَلقَ مِثلَ نَفْسِه.(1/43)
فمَا مِنْ مَخْلوقٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ سبحانَهُ، لا خَالِقَ غيرُهُ، ولا رَبَّ سِواهُ. (1)
__________
(1) قولُه: (فما مِن مخلوقٍ ... ) إلخ قال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وقال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فامْتدَحَ بأَنَّ اللَّهَ خَلقَ كُلَّ شيءٍ، وبأنَّه يَعلَمُ كُلَّ شيءٍ، فكما أنَّه لا يَخرُجُ عن عِلمِه شيءٌ فكذا لا يَخرُجُ عن خَلقِه شيءٌ، فثَبتَ أَنَّ الأفعالَ خيرَها وشرَّها كُلَّها صادرةٌ عن خَلقِه وإحداثِه إيَّاها. ا.هـ.
وفي هَذِهِ الآياتِ الرَّدُّ على القدَريَّةِ الذين يَزعُمونَ أَنَّ العبدَ يَخلُقُ فِعلَ نَفْسِه استقلالا بِدُونِ مشيئةِ اللَّهِ وإرادَتِه، ولا شكَّ في بُطلانِ هَذَا المذهبِ وفسادِه ومصادمَتِه لأدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ قولَه -سُبْحَانَهُ-: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) شاملٌ لأفعالِ العِبادِ، لدُخولِها في عُمومِ كُلِّ، ولا يَدخلُ في ذَلِكَ أسماءُ اللَّهِ وصفاتُه، كما أنَّه -سُبْحَانَهُ- لم يَدخُلْ في عُمومِ كُلِّ، فكذَلِكَ أسماؤه وصفاتُه.
قال ابنُ القيِّمِ ما معناه: في هَذِهِ الآياتِ دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- خالِقُ أفعالِ العِبادِ، كما أنَّه خالِقُ ذواتِهم وصفاتِهم، فالعبدُ كُلُّه مخلوقٌ: صفاتُه وذاتُه وأفعالُه، ومَن أَخْرَجَ أفعالَه عن خَلقِ اللَّهِ فقد جَعلَ فيه خالِقًا مع اللَّهِ، ولهَذَا شبَّهَ السَّلَفُ القدَريَّةَ النُّفاةَ بالمجوسِ، وقالوا: هُم مجوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ، صح ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ. ا. هـ.
قولُه: (لا خالِقَ غيرُه ولا رَبَّ سِواهُ) إشارةٌ إلى الرَّدِّ على القدَريَّةِ المجوسيَّةِ الذين يُثبتون مع اللَّهِ خالِقينَ للأفعالِ ليست أفعالُهم مَقدُورةً له، وَهِيَ صادرةٌ بغيرِ مشيئَتِه وإرادَتِه، ولا قُدرةَ له عليها، فرُبوبِيَّتُه -سُبْحَانَهُ- الكامِلةُ المطلَقَةُ تُبطِلُ أقوالَ هؤلاءِ كُلِّهم؛ لأنها تَقْتَضِي ربوبيَّتَه لجميعِ ما فيه مِن الذَّواتِ والصِّفاتِ والحركاتِ والأفعالِ، وحقيقةُ قولِ هؤلاء أنَّه ليس رباًّ لأفعالِ الحيوانِ ولا تَناوَلَتْها رُبوبِيَّتُه، وكَيْفَ تتناولُ ما لا يَدخُلُ تحتَ قُدرتِه ومشيئَتِه وخَلقِه، أما أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ فيؤمنون بأَنَّ اللَّهَ خالقُ كُلِّ شيءٍ لا خالِقَ غيرُه، وأنَّه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وبشمولِ مشيئَتِه لكُلِّ ما كان، وأنَّه بكُلِّ شيءٍ عليمٌ، فيؤمنون بعمومِ خَلقِه، وشمولِ قُدرتِه، ونفوذِ مشيئَتِه، وعِلمِه بالأشياءِ قبلَ أنْ تكونَ، تقديرُه لها وكتابَتُه إيَّاها قَبلَ أنْ تكونَ، فعندَهم مراتبُ الإيمانِ بالقضاءِ والقَدَرِ أربعٌ كما سَبَقَتْ إشارةُ المصنِّفِ إليها.
الأولى: عِلْمُه السَّابقُ بما هم عامِلون قبلَ إيجادِهم. الثَّانيةُ: كتابَتُه لذَلِكَ في الذِّكْرِ عندَه قَبلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ. الثَّالثةُ: مَشيئَتُه المتناوِلَةُ لكُلِّ مَوجودٍ، فلا خُروجَ لكائنٍ عن مشيئَتِه، كما لا خُروجَ له عَن عِلمِه. الرَّابعةُ: خَلْقُه له وإيجادُه وتَكوينُه، فإنَّه لا خَالِقَ غيرُه ونَظَمَ ذَلِكَ بعضُهم بقولِه:
عِلمٌ كتابةُ مولانا مَشيئتُه ... ... وخَلقُه وهُوَ إيجادٌ وتَكْوينُ
فيجبُ الإيمانُ بالقضاءِ والقدَرِ، ولا يجوزُ الاحتجاجُ بِهِ في تَرْكِ أوامِرِ اللَّهِ، وفِعلِ نَواهِيهِ، بل يجبُ أنْ نؤمِنَ بِذَلِكَ، ونَعلَمَ أنَّ لِلَّهِ الحُجَّةَ علينا بإنزالِ الكُتُبِ وبَعثِ الرُّسلِ.(1/44)
ومَعَ ذلك؛ فقدْ أَمَرَ العِبَادَ بطاعَتِهِ وطاعَةِ رسوله، ونَهاهُمْ عن مَعْصِيَتِهِ.
وهُو سُبحانَهُ يُحِبُّ المُتَّقينَ والمُحْسِنينَ والمُقْسِطينَ، ويَرْضى عَنِ الَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ولا يُحِبُّ الكَافِرينَ، ولا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقينَ، ولا يَأْمُرُ بالفَحْشاءِ، ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ، ولا يُحِبُّ الفَسادَ ). (1)
__________
(1) قولُه: (ومع ذَلِكَ فقد أمَرَ العِبادَ) إلخ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، وقال: (مُنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) الآيةَ، والإيمانُ بالقدَرِ مِن تمامِ طاعةِ اللَّهِ وطاعةِ رسولِه، ومَن أَثبتَ القَدَرَ وجعلَ ذَلِكَ معارِضًا للأمْرِ فقدْ أَذْهَبَ الأصلَ، فقولُ المصنِّفِ: ومع ذَلِكَ فقد أَمَرَ العِبادَ بطاعَتِه إلخ، إشارةٌ للرَّدِّ على مَن عارَضَ شَرْعَه وأمْرَه بقضائِه وقدَرِه، وجَعلَ مشيئتَه العامَّةَ دَافِعةً للأمْرِ كفِعلِ الزَّنادِقَةِ إذا أُمِروا أو نُهوا احتجُّوا بالقدَرِ، وقد احتجَّ سارقٌ على عُمرَ بالقَدرِ فقال: وأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بقَضاءِ اللَّهِ وقدَرِه، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى-: مَن ادَّعى أَنَّ العارِفَ إذا شَهِدَ الإرادةَ سَقطَ عنه الأمرُ كان هَذَا مِن الكُفرِ الذي لا يَرضاهُ أحدٌ، بل هَذَا ممتنِعٌ في العقلِ مُحالٌ في الشَّرعِ، انتهى، وقال ابنُ القيِّمِ بعد كلامٍ: والمقصودُ أنَّه لم يُؤمِنْ بالقضاءِ والقدَرِ والحِكمةِ والأمرِ والنَّهيِ والوعدِ والوعيدِ حقيقةَ الإيمانِ إلاَّ أَتباعُ الرُّسلِ وورَثَتُهم.
قولُه: (وهُوَ يُحِبُّ المتَّقينَ) إلخ، هَذَا رَدٌّ عَلَى مَن زَعَم أَنَّ المشيئةَ والمحبَّةَ سواءٌ أو مُتَلازمانِ، كما يقولُه الجبريَّةُ والقدَريَّةُ، وقد دلَّ على الفَرْقِ بينهما الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والفِطرةُ، قال اللَّهُ تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) مع أنَّ ذَلِكَ كُلَّه بمشيئَتِه، قال تعالى: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبَّ الفَسَادَ) مع أنَّه واقعٌ بمشيئَتِه وقَضائِه وقَدرِه، وفي المسنَدِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ))، فَهِذِهِ المحبَّةُ والكَراهةُ لأمرين اجْتمعا في المشيئةِ وافترَقا في المحبَّةِ والكراهةِ، وهَذَا أكثرُ مِن أنْ يُحصرَ، فالمشيئةُ والمحبَّةُ ليس مدلولُهما واحدًا، ولا هُما متلازِمان، بل قد يشاءُ اللَّهُ ما لا يُحبُّه ويُحِبُّ ما لا يشاءُ كونَه، فالأول: كمشيئَتِه لوجودِ إبليسَ وجنودِه، ومشيئتِه العامَّةِ لجميعِ ما في الكونِ مع بُغضِه لبَعْضِه. الثَّاني: كمحبَّتِه لإيمانِ الكفارِ والفجارِ، ولو شاءَ ذَلِكَ لوُجِدَ كُلُّه، فإنَّ ما شاءَ اللَّهُ كان وما لم يشأْ لم يكن، فأهلُ الكِتابِ والسُّنَّةِ يقولون: الإرادةُ في كتابِ اللَّهِ نوعانِ:
الأوَّلُ: إرادةٌ كونيَّةٌ قدَريَّةٌ، والثَّاني: إرادةٌ دِينيَّةٌ شَرعيَّةٌ.
فالإرادةُ الشرعيَّةُ هي المتضمِّنةُ للمحبَّة والرِّضا، والكونيَّةُ هي المشيئةُ الشَّاملةُ لجميعِ الحوادثِ، وقد تقدَّمتِ الإشارةُ إلى ذَلِكَ في الكلامِ على الآياتِ بما فيه الكفايةُ إنْ شاءَ اللَّهُ.(1/45)
( والعِبَادُ فاعِلُونَ حَقيقةً، واللهُ [ خَلَقَ ] أَفْعالَهُمْ، والعَبْدُ هُو: المُؤِمنُ، والكافِرُ، والبَرُّ، والفاجِرُ، والمُصلِّي، والصَّائِمُ. (1)
__________
(1) قولُه: (والعِبادُ فاعِلُون ... ) إلخ قال اللَّهُ تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أيْ: خَلَقَكم والذي تَعمَلُونه، فدلَّتْ على أنَّ أفعالَ العبدِ مخلوقةٌ لِلَّهِ، وعلى أنَّها أفعالٌ لهم حقيقةً، ففيها الرَّدِّ على الجَبْريَّةِ الذين يقولون: إنَّ العبدَ لا فِعلَ له، وفيها الرَّدُّ على القدَريَّةِ الذين يقولون: إنَّ العبدَ يَخلُقُ فِعلَ نَفْسِه استقلالا، وفي حديثِ حذيفةَ: ((إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ))، فاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- خَلَقَ الإنسانَ بجميعِ أغراضِه وحركاتِه، والآياتُ الدَّالَّةُ على خَلقِ أفعالِ العِبادِ كثيرةٌ، فقولُ المصنِّفِ: (والعِبادُ فاعِلونُ حقيقةً) رَدٌّ على الجَبْريَّةِ الذين يقولون: إنَّ العبدَ ليس بفاعِلٍ أصلا، بل هُوَ مجبورٌ على أفعالِه وواقِعةٌ بغيرِ اختيارِه، وأَنَّ الفاعِلَ فيه سِواهُ والمُحرِّكُ له غيرُه، فهُوَ آلةٌ محضْةٌ، وحركاتُه بمنزلةِ هُبوبِ الرِّياحِ وحركاتِ المُرتَعِشِ، وقد يَغْلُون في ذَلِكَ حتى يَرَوْا أفعالَهم كُلَّها طاعاتٌ خيرُها وشرُّها، لموافَقتِها للمشيئةِ والقَدَرِ، وهؤلاء شرٌّ مِن القدَريَّةِ النُّفاةِ، وأشدُّ عداوةً لِلَّهِ ومناقضةً لكِتابِه ورُسلِه ودِينِه.
قولُه: (واللَّهُ خالِقُ أفعالِهم) ردٌّ على القدَريَّةِ النُّفاةِ الذين يقولون: إنَّ اللَّهَ لم يَخلُقْ أفعالَهم، وأنَّها واقِعةٌ بمشيئَتِهم وقُدْرَتِهم دُونَ مشيئةِ اللَّهِ، وأَنَّ اللَّهَ لم يُقَدِّرْ ذَلِكَ عليهم ولم يَكْتُبْه ولا شاءه، وأَنَّ اللَّهَ لا يَقْدِرُ أنْ يَهدِيَ ضالاً ولا يُضِلَّ مهتديًا، وأَنَّ العِبادَ خالِقون لأفعالِهم بدُونِ مشيئةِ اللَّهِ، فشابَهوا المجوسَ في كونِهم أثْبَتوا خالِقاً مع اللَّهِ، ولِذا سُمُّوا مجوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ، والأدلَّةُ على فسادِ قَولِهم وبطلانِه كثيرةٌ جِداًّ، وقد أطبقَ الصَّحابةُ والتَّابِعونُ على ذَمِّهم وتبدِيعِهم وتضليلِهم، وبَيَّنَ أئمَّةُ الإسلامِ أنَّهم أشباهُ المجوسِ، وأنَّهم قد خالَفوا أدِلَّةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، بل وخالفوا العقلَ والفطرةَ..
قولُه: (والعبدُ هُوَ المؤمِنُ والكافرُ ... ) إلخ قال تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا)، وقال: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)، وقال: (فَمَنْ شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على نسبةِ أفعالِ العبدِ إليه مِن أفعالِ عَبيدِه، بل العبدُ حقيقةً هُوَ المُصلِّي والصَّائِمُ، وهل يَليقُ باللَّهِ -سُبْحَانَهُ- أنْ يعاقِبَهم على نَفْسِ فِعلِه، بل إنَّما يُعاقِبُهم على أفعالِهم التي فَعَلُوها حقيقةً، كما قال تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ) فالعبدُ هُوَ الذي صامَ وصلَّى وأسْلَمَ، وهُوَ الفاعِلُ حقيقةً، يَجعلِ اللَّهِ له فاعِلاً، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وقال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ إِلَى النَّارِ) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ العبدَ فاعِلٌ حقيقةً: وأنَّ فِعلَه يُنسَبُ إليه، وأنَّه يُثابُ على حَسنَتِه ويجازَى على سيِّئَتِه، قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًَّا يَرَهُ).(1/46)
ولِلْعِباد قُدْرَةٌ على أَعْمالِهِمْ، [ ولَهُمْ إِرَادَةٌ، واللهُ خَالِقُهُم وقُدْرَتَهُم وإِرادَتَهُم ]؛ كَما قالَ تعالى: ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقيمَ. ومَا تَشاؤونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمينَ )، ( وهذه الدَّرَجَةُ مِنَ القدَرِ يُكَذِّبُ بها عَامَّةُ القَدَرِيَّةِ الَّذينَ سَمَّاهُم النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَجُوسَ هذه الأمَّةِ. (1)
__________
(1) وقولُه: ((وللعِبادِ قُدرةٌ على أعمالِهم ولهم إرادةٌ)) إشارةٌ للرَّدِّ على الجبريَّةِ.
قولُه: (واللَّهُ خَالِقُهم وخالِقُ قُدرتِهم..) إلخ إشارةٌ للرَّدِّ على القدريَّةِ، فالجَبْريَّةُ والقدَريَّةُ في طَرَفَيْ نَقيضٍ، فالجَبْريَّةُ غَلَوْا في الإثباتِ، والقدَريَّةُ غَلَوْا في النَّفْيِ، وهدى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسطِ، فأَثبَتُوا أَنَّ العِبادَ فاعلون ولهم قُدرةٌ على أعمالِهم ولهم إرادةٌ ومشيئةٌ، وأَنَّ اللَّهَ -سبحانَهُ وتعالَى- خَالِقُهم وخالِقُ قُدْرَتِهم ومَشيئَتِهم، قال اللَّهُ تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فَأَثْبَتَ مَشيئةً للعبدِ، وأخبَرَ أنَّها لا تكونُ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، فأفعالُ العبدِ تُضافُ إليه على جهةِ الحقيقةِ، واللَّهُ خَلقَه وخَلقَ فِعلَه، كما قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فأخبَرَ أَنَّ العِبادَ يَعملُون ويَصنعون ويُؤمِنون ويَكْفرون ويَفْسُقون ويُكذِّبون، والأدِلَّةُ على إثباتِ أفعالِ العِبادِ كثيرةٌ جِداًّ.
قولُه: (وَهَذِهِ الدَّرجَةُ مِن القَدَرِ) وَهِيَ إثباتُ أَنَّ العبدَ فاعلٌ حقيقةً، وأَنَّ اللَّهَ خَلقَه وخَلقَ فِعلَه يُكذِّبُ بها عامَّةُ القدريَّةِ، أي جميعُ القدَريَّةِ أو أكثرُهم، فيَزعُمون أَنَّ العبدَ يَخلُقَ فِعلَ نَفْسِه استقلالاً بدُونِ مشيئةِ اللَّهِ وإرادتِه، وسُمُّوا قَدريَّةً لإنكارِهم القَدَرَ، وَكَذَلِكَ تسمَّى الجَبْريَّةُ المحتجُّون بالقَدَرِ قدريَّةً لخوضِهم في القَدَرِ، والتَّسمِيةُ على الطَّائِفةِ الأُولى أغلَبُ، قال ابنُ تيميَةَ في تَائِيَّتِه:
ويُدْعَى خُصومُ اللَّهِ يَومَ مَعادِهم ... ... إلى النَّارِ طُراًّ فِرقةَ القَدريَّةِ
سواءٌ نَفُوه أو سَعَوْا ليُخاصِمُوا ... ... بِهِ اللَّهَ أو مَارَوْا بِهِ الشَّريعَةِ
قولُه: (مجوسُ هَذِهِ الأمَّةِ) سُمُّوا بِذَلِكَ لمُضاهاةِ قولِهم لقولِ المجوسِ، فإنَّ المجوسَ يُثبِتون خالِقَيْنِ، وَكَذَلِكَ القدَريَّةُ أثْبَتُوا أَنَّ اللَّهَ خَلقَهم وأنَّهم خَلقوا أفْعالَهُم استقلالاً، كما روى أبو داودَ في سُننِه عن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّهُ قال: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ إِنْ مَرِضُوا فلا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُمْ)) وروى أبو داودَ أيضًا عن حذيفةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأمَّةِ الذين يَقُولُونَ لاَ قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلاَ تَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ، ومَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلاَ تَعُودُوهُ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ)) وأحاديثُ القدَريَّةِ المرفوعةُ كُلُّها ضعيفةٌ، وإنَّما يَصِحُّ منها الموقوفُ، وقد تَقدَّمَ الكلامُ على هَذَا الموضوعِ، وقد اختَلَفَ العلماءُ في تكفيرِ هؤلاء، وأمَّا مَن أَنْكَرَ العِلمَ القَديمَ فنَصَّ الشَّافِعيُّ وأحمدُ وغيرُهما مِن أئمَّةِ الإسلامِ على تكفيرِه، وقد تَقدَّمت الإشارةُ إلى ذَلِكَ.(1/47)
ويَغْلُو فيها قومٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْباتِ، حَتَّى سَلَبُوا العَبْدَ قُدْرَتَهُ واخْتِيارَهُ، ويُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وأَحْكامِهِ حُكْمَهَا ومَصالِحَها). (1)
__________
(1) قولُه: (ويَغْلو فيها قومٌ ... ) إلخ أشارَ المصنِّفُ بقولِه هَذَا إلى المجبِّرةِ، فإنَّهم غَلَوْا في نَفْيِ أفعالِ العِبادِ حتى سَلَبوا العِبادَ قُدْرتَهم واختيارَهم، وزعموا أنَّهم لا يَفعلون شيئًا ألبتَّةَ، وإنَّما اللَّهُ هُوَ فاعِلُ تِلْكَ الأفعالِ حقيقةً، فَهِيَ نَفْسُ فِعلِه لا أفعالِهم، والعبيدُ ليس لهم قُدرةٌ ولا إرادةٌ ولا فعلٌ ألبتَّةَ، وأنَّ أفعالَهم بمنزلةِ حركةِ الجماداتِ لا قدرةَ له عليها، وإمامُ هؤلاء الجهمُ بنُ صفوانَ التِّرمذيُّ، وقولُهم باطِلٌ؛ لأنَّنا نُفرِّقُ بالضَّرورةِ بين حَركَةِ البَطْشِ وحَركَةِ المرتَعِشِ، ونعلمُ بأَنَّ الأوَّلَ باختيارِه دُونَ الثَّاني، ولأنَّه لو لم يكنْ للعَبْدِ فِعلٌ أصلاً لما صَحَّ تَكْلِيفُه، ولا تَرتَّبَ استحقاقُ الثَّوابِ والعقابِ على أفعالِه، ولا إسنادُ الأفعالِ التي تقتضي سابقةَ قَصْدٍ إليه على سبيلِ الحقيقةِ، مِثلُ صلَّى وصامَ وكَتَبَ، بخلافِ مِثلِ طالَ واسودَّ لونُه، والنُّصوصُ القَطْعيَّةُ تَنْفى ذَلِكَ، قال اللَّهُ تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقال: (مَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) إلى غيرِ ذَلِكَ.
قال ابنُ القَيِّمِ: وهؤلاءِ خُصماءُ اللَّهِ الذين جاء فيهم الحديثُ: ((يُقَالُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ)) وتَقَدَّمَ ما ذَكَرَهُ الشَّيخُ في تَائِيَّتِه، وقال ابنُ القيِّمِ:
سمعتُ الشَّيخَ تقيَّ الدِّينِ يقوُل: القدَريَّةُ المذمومون في السُّنَّةِ وعلى لِسانِ السَّلَفِ هم هؤلاء الفِرَقُ الثَّلاثةُ نُفاتُه وهم: القدَريَّةُ المجوسيَّةُ، والمعارضون بِهِ للشَّريعةِ الذين قالوا: لو شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنَا، وهم القدَريَّةُ المشركيَّةُ، والمخاصِمُونَ بِهِ للرَّبِ وهم أعداءُ اللَّهِ وخُصومُه، وهُم القدَريَّةُ الإبليسيَّةُ وشَيْخُهُم إبليسُ، وهُوَ أوَّلُ مَن احْتَجَّ على اللَّهِ بالقَدَرِ فقال: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي) ولم يَعترِفْ بالذَّنْبِ ويَبوءُ بِهِ، كما اعْتَرَفَ بِهِ آدمُ، فمَنْ أقرَّ بالذَّنْبِ وباءَ بِهِ ونَزَّه ربَّه فقد أشْبَه أباه آدمَ، ومَن أشْبهَ أباهُ فما ظَلَمَ، ومَن بَرَّأ نَفْسَه واحتجَّ على ربِّه بالقدَرِ فقد أَشْبهَ إبليسَ، ولا رَيْبَ أنَّ هؤلاء القدَريَّةَ الإبليسيَّةَ والمُشْرِكيَّةَ شرٌّ مِن القدَريَّةِ النُّفاةِ، والذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ ما تَقدَّمَ الإيمانُ بِأنَّ أفعالَ العِبادِ مخلوقةٌ لِلَّهِ، صادرةٌ عَن مشيئَتِه وإرادَتِه، وَهِيَ أفعالٌ لهم، وكَسْبٌ لهم باختيارِهم، فلذا تَرتَّبَ عليها الثَّوابُ والعِقابُ، كما تكاثَرَتْ بِذَلِكَ الأدِلَّةُ.
قولُه: (ويُخرجِونَ عن أفعالِ اللَّهِ ... ) إلخ، أي أنَّ هؤلاء الجهميَّةَ يَزعُمون أَنَّ اللَّه تعالى لا يَفعلُ لعِلَّةٍ ولا حِكمةٍ، وإنَّما هُوَ محْضُ مشيئةٍ وصَرْفُ إرادةٍ مجردَّةٍ عن الحكمةِ والرَّحمةِ، وكان شيخُهم الجهمُ بنُ صفوانَ يَقِفُ على الجذماءِ فيقولُ: أَرْحمُ الرَّاحِمِين يفعلُ مِثلَ هَذَا؟ إنكارا للرَّحْمةِ والحكمةِ، وأدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ تُبطِلُ هَذَا المذهبَ. قال ابنُ القيِّمِ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولِهَذَا الأصلِ لوازمُ وفروعٌ كثيرةٌ فاسدةٌ، وذَكَرها ورَدَّهَا مِن تِسْعينَ وَجْهًا، اهـ.
والذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ إثباتُ العِلَّةِ والحكمةِ في أفعالِه –سُبْحَانَهُ- وشَرعِه وقدَرِه، فما خَلقَ شيئًا ولا قضاهُ ولا شَرَعَهُ إلا لحكمةٍ بالغةٍ، وإنْ تقاصَرَتْ عنها عقولُ البَشرِ، والأدِلَّةُ في إثباتِ ذَلِكَ كثيرةٌ جِداًّ، فإنَّه –سُبْحَانَهُ- حكيمٌ شَرَعَ الأحكامَ لِحكمةٍ ومصلحةٍ، فما خَلقَ شيئًا عَبَثًا ولا خَلقَه سُدًى كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، وقال: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، وقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ) وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وقال: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ على إثباتِ هَذَا الأصلِ.(1/48)
(فَصْلٌ: ومِنْ أُصُولِ [ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ ] أَنَّ الدِّينَ والإِيْمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، قَوْلُ القَلْبِ واللِّسانِ، وعَمَلُ القَلْبِ واللِّسانِ والجَوَارِحِ. (1)
__________
(1) فَصْلٌ قولُه: (أنَّ الدِّينَ) معناه لغةً: الذُّلُّ، يُقالُ دِنْتُه فَدانَ، أي أَذْلَلْتُه فَذَلَّ، وشَرْعا: هُوَ ما أمَرَ اللَّهُ بهِ على أَلْسِنةِ رُسلِه، والإيمانُ لغةً: التَّصدِيقُ كما قال تعالى: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا) أي بمُصدِّقٍ، وشَرْعا: الإيمانُ هُوَ ما ذكَرَه المصنِّفُ.
قال الشَّيخ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: لفظُ الإيمانِ إذا أُطلِقَ يُرادُ بِهِ ما يُرادُ بلفظِ البِرِّ وبِلَفْظِ التَّقوى وبلفظِ الدِّينِ، فكُلُّ ما يُحِبُّه اللَّهُ ورسولُه يَدْخُلُ في اسمِ الإيمانِ. انتهى. وفي حديثِ جبريلَ: سَمَّى النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ دِينًا.
قولُه: (قولُ القلبِ) وهُوَ الاعتقادُ، كاعتقادِ ما أخبَرَ اللَّهُ بِهِ عَن نَفْسِه وأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وملائكتِه وكتُبِه ورُسلِه.
قولُه: (قولُ اللِّسانِ) وهُوَ التَّكلُّمُ بالشَّهادَتَيْنِ، والقيامُ بذِكْرِه -سُبْحَانَهُ- وتبليغِ أوامرِه والدَّعوةِ إليهِ والذَّبِّ عن دِينِه ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (وعملُ القلبِ) وهُوَ نِيَّتُه وإخلاصُه والتَّوكُّلُ والإنابَةُ والمحبَّةُ والانقيادُ والخوفُ منه -سُبْحَانَهُ- والرَّجاءُ وإخلاصُ الدِّينِ له والصَّبْرُ ونحوُ ذَلِكَ مِن أعمالِ القلوبِ.
قولُه: (وعَملُ اللِّسانِ والجوارحِ) كالصَّلاةِ والحجِّ والجهادِ ونحوِ ذَلِكَ، فالإيمانُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هُوَ ما تَقدَّمَ أنَّه قولٌ واعتقادٌ، وحكى الشَّافِعيُّ على ذَلِكَ إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ ومَن بَعْدَهم ممَّن أدْرَكَهم، وأنْكَرَ السَّلَفُ على مَن أخرجَ الأعمالَ مِن الإيمانِ إنكاراً شديداً.
روى اللاَّلَكائِيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن البخاريِّ قال: لقيتُ أكثرَ مِن ألْفِ رجُلٍ مِن العلماءِ بالأمصارِ، فما رأيتُ أحدًا منهم يختلِفُ في أَنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ ويَزيدُ ويَنْقُصُ، وقال الأوْزاعِيُّ: كان مَن مَضَى مِن السَّلَفِ لا يُفَرِّقُون بين العَملِ والإيمانِ، وفي صحيحِ البخاريِّ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كتَبَ إلى عَدِيِّ بنِ عَدِيٍّ أنَّ للإيمانِ فرائضَ وشرائعَ وحُدودًا وسُنناً، فمَن استكمَلَها فقد استكْمَلَ الإيمانَ، ومَن لم يستكمِلْها لم يستكْمِل الإيمانَ، فإنْ أَعِشْ فسأُبَيِّنُه لكم، وإنْ أَمُتْ فما أنا على صُحبتِكُم بحريصٍ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال لوفْدِ عبدِ القَيْسِ: ((آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ: الإِيمَانُ باللَّهِ وَحْدَهُ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ باللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ)). قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه أَنَّ الإيمانَ باللَّهِ هُوَ مجموعُ هَذِهِ الخِصالِ مِن القولِ والعملِ، كما عَلِمَ ذَلِكَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- والتَّابِعون وتابِعُوهم، وعلى ذَلِكَ ما يُقارِبُ مِن مائةِ دليلٍ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ. اهـ.(1/49)
وأَنَّ الإِيْمانَ يَزيدُ بالطَّاعَةِ، ويَنْقُصُ بالمَعْصِيَةِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وأنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ) كما قال –سُبْحَانَهُ-: (لِيَزْدَادُواْ إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ)، وقال تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وتسليمًا) وقولُه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقًا))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ –رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ مِنَ الإيمانِ)) وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أَنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ، وعلى أَنَّ المؤمنينَ يَتفاضَلون في الإيمانِ، فبعضُهم أكْملُ إيمانًا مِن بعضٍ، كما قال -سُبْحَانَهُ وتعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذنِ اللَّهِ) فدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ أَنَّ المؤمنينَ يَنْقسمون إلى ثلاثةِ أقسامٍ: سابِقون، ومُقتَصِدُونَ، وظالِمون لأنْفُسِهم، فالسَّابِقُ إلى الخيراتِ: هُوَ الذي عَمِلَ الواجباتِ والمُسْتَحبَّاتِ، واجْتَنَبَ المحرَّماتِ والمكروهاتِ، والمقتَصِدُ: هُوَ مَن اقتصَرَ على فِعلِ الواجباتِ واجتنابِ المحرَّماتِ، والظَّالِمُ لنَفْسِه: هُوَ مَن أخلَّ ببعضِ الواجباتِ وانْتَهكَ بعضَ المحرَّماتِ، فكُلُّ واحدٍ مِن هَذِهِ الأقسامِ يُطلَقُ عليه أنَّه مؤمِنٌ.
أمَّا أصولُ الإيمانِ فسِتَّةٌ كما في حديثِ جبريلَ وهي: ((أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وفي الحديثِ المذكورِ جعلَ مراتِبَ الدِّينِ ثلاثةً: الإيمانُ، والإسلامُ، والإحسانُ، فأَعْلاها الإحسانُ، ثم الإيمانُ، ثم الإسلامُ، فكُلُّ مُحْسنٍ مؤمِنٍ مُسلِمٌ ولا ينعَكِسُ، وكُلُّ مؤمنٍ مُسلِمٌ لا العكس، فالمرتبةُ الأولى الإسلامُ، وَهِيَ التي يَدخُلُ فيها الكافِرُ أوَّلَ ما يَتكلَّمُ بإسلامٍ، وأعلى منها مرتبةً الإيمانُ، لأَنَّ اللَّهَ نفى عمَّن ادَّعى الإيمانَ مِن أوَّلِ وهْلةٍ الإيمانَ، وأثْبَتَ لهم الإسلامَ، كما قال تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُوُلُوا أَسْلَمْنَا).
المرتبةُ الثَّالثةُ: الإحسانُ، وَهِيَ أعْلَى مِن المرتبتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فقد يُنفى عن الرَّجُلِ الإحسانُ ويُثبَتُ له الإيمانُ، ويُنفى عنه الإيمانُ ويُثبَتُ له الإسلامُ، كما في حديثِ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ)) ولا يُخرِجُه عن مرتبةِ الإسلامِ إلاَّ الكفرُ باللَّهِ والشِّركُ المخُرِجُ عن المِلَّةِ.
وأمَّا المعاصي والكبائرِ كالزِّنا وشُربِ الخمرِ ونحوِ ذَلِكَ فلا يُخرِجُه عن دائرةِ الإسلامِ، والإسلام والإيمانِ إِذَا ذُكِرَا جميعًا، فإنَّ الإسلامَ يُفَسَّرُ بالانقيادِ للأعمالِ الظَّاهرةِ، والإيمانُ يُفَسَّرُ بالأعمالِ الباطنةِ، كما فُرِّقَ بينهما في حديثِ جبريلَ فقال: ((الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وَالإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
وروى الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الإِسْلامُ عَلانِيَةً، وَالإِيمَانُ بِالْقَلْبِ)) وهَذَا إِذَا ذُكِرَا معًا، أمَّا إِذَا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخَرِ كقولِه تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) فإنَّه يَدْخُلُ فيه الآخَرُ، فإِذَا أُفْرِدَ الإيمَانُ دَخَلَ فيه الإسلامُ وبالعكس، ففيهما دلالةُ الاقترانِ والانفرادِ، كالفقيرِ والمسكينِ ونحوِ ذَلِكَ.(1/50)
( وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يُكَفِّرونَ أَهْلَ القِبْلَةِ بمُطْلَقِ المَعَاصِي والكَبائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الخَوَارِجُ. (1)
__________
(1) قولُه: (وهم مع ذَلِكَ لا يُكفِّرون) أي: لا يَنسِبونَهم للكفرِ ويَحْكمون عليهم به.
قولُه: (أهلَ القِبلةِ) أي: مَن يدَّعِي الإسلامَ ويستقبِلُ الكعبةَ، وإنْ كان عليه ذُنوبٌ ومعاصٍ عَدَا الشِّرْكَ باللَّهِ، والكفرَ المُخرِجَ عن المِلَّةِ الإسلاميَّةِ، كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا)) فَأَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ لا يكفِّرون أهلَ القبلةِ بمطلَقِ المعاصي والكبائرِ، كما يَفعَلُه الخوارجُ والمعتزِلةُ، فإنَّ الخوارِجَ يقولون: مَن فَعلَ كبيرةً فَهُوَ في الدُّنْيَا كافرٌ وفي الآخرةِ مُخَلَّدٌ في النَّارِ لا يَخرُجُ منها لا بشفاعةٍ ولا بغيرِ شفاعةٍ، والمعتزِلةُ يقولون: مَن فَعلَ كبيرةً فهُوَ في الدُّنْيَا لا مُؤمِنٌ ولا كافرٌ، بل في منزلةٍ بين المنزِلَتَيْنِ، وفي الآخرةِ خالِدٌ مخلَّدٌ في النَّارِ، كقول الخوارجِ، وقابَلَتْهم المُرْجِئةُ فقالوا: إنَّه لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنْبٌ كما لا يَنْفَعُ مع الكفرِ طاعةٌ، وقالوا إِيمانُ أَفْسَقِ النَّاسِ كإيمانِ أبىِ بكرٍ وعمرَ، فالخوارِجُ والمعتزِلةُ غَلَوْا، والمُرْجِئةُ جَفَوْا، أولئكَ تعلَّقُوا بأحاديثِ الوعيدِ، وهؤلاء تعلَّقوا بأحاديثِ الوعدِ فقط، وهَدَى اللَّهُ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ للقولِ الوسَطِ الذي تَدُلُّ عليه أدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فقالوا: إنَّ الفاسِقَ لا يَخْرُجُ مِن الإيمانِ بمجرَّدِ فِسقِه، ولا يخلَّدُ في النَّارِ في الآخرةِ، بل هُوَ تحت مشيئةِ اللَّهِ إنْ عَفى عنه دخَلَ الجَنَّةَ مِن أوَّلِ وهْلةٍ، وإنْ لم يَعْفُ عنه عُذِّبِ بقدْرِ ذُنوبِه، ثم دخَلَ الجَنَّةَ، فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، فالعاصي مُعرَّضٌ لعقوبةِ اللَّهِ وعذابِه، قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) فَهِذِهِ الآيةُ صريحةٌ في أنَّ مَن مَاتَ غيَر مُشرِكٍ فهُوَ تحت مشيئةِ اللَّهِ، ففيها الرَّدُّ على الخوارجِ المكفِّرينَ بالذُّنوبِ، وعلى المُرْجِئةِ القائِلِينَ بأَنَّ الذُّنوبَ لا تَضُرُّ، وأَنَّ النَّاسَ في الإيمانِ سواءٌ لا تفاضُلَ بينهم، وعن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((ثَلاثٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ: الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، لاَ نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ، وَلاَ نُخْرِجُهُ مِن الإِسْلامِ بِعَمَلٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لاَ يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ، وَالإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ))، رَواهُ أَبُو دُاوُدَ، وفي الصَّحيحِ: ((يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، فَفِيهِ دَلِيلٌ على زيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِهِ، وعَلَى دُخولِ طائِفةٍ مِن المُوحِّدينَ النَّارَ، وأنَّ الكبائرَ لا يُكفَّرُ فاعِلُها، ولا يخلَّدُ في النَّارِ، وقال البخاريُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: بابُ خوفِ المؤمنِ أنْ يَحبَطَ عَملُه وهُوَ لا يَشعُرُ، قال إبراهيمُ التَّيميُّ: ما عَرَضْتُ قَوْلي على عَملِي إلاَّ خَشِيتُ أنْ أكونَ مُكذِّبا، وقال ابنُ أبي مُلَيْكةَ: أَدْركْتُ ثلاثين مِن أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفاقَ على نَفْسِه، ما منهم أَحدٌ يقول: إنَّه على إيمانِ جبريلَ وميكائيلَ، ويُذكَرُ عن الحسَنِ: ما خَافَه إلاَّ مؤمِنٌ ولا أَمِنَه إلاَّ منافِقٌ.(1/51)
بلِ الأخُوَّةُ الإِيْمَانِيَّةُ ثابِتَةٌ مَعَ المَعَاصي؛ كَمَا قَالَ سُبْحانَهُ [ في آيةِ القِصاصِ ]: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ ). (1)
وقالَ: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا فأَصِلْحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ. إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ فأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ). (2)
__________
(1) قولُه: (بل الأُخوَّةُ الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي)، كما قال تعالى في آيةِ القِصاصِ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) فسمَّاه أخاً مع وُجودِ القَتْلِ. منه، ففيهِ دليلٌ على أَنَّ العاصِيَ لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ بمجرَّدِ الذُّنوبِ والمعاصي.
(2) قولُه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا) الآيةَ. الطَّائفةُ: القِطعةُ مِن الشَّيءِ، ويُطلَقُ على الواحدِ فما فَوْقَه عندَ الجمهورِ. وقولُه: (مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا) فسمَّاهُمْ مُؤمِنينَ مع الاقتتالِ، وبهَذَا استدلَّ البخاريُّ وغيرُه على أنَّه لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ بالمعصيةِ، لا كما يقولُ الخوارِجُ والمعتزِلةُ ومَن تابَعَهُم.
وفي صحيحِ البخاريِّ مِن حديثِ الحسَنِ عن أبي بكرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فَئِتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) فكان كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أصْلحَ اللَّهُ بين أهلِ الشَّامِ والعراقِ بعد الحروبِ الطَّويلةِ.
قولُه: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُمَا عَلَى الأُخْرَى) أي: تَعدَّتْ إحداهُما على الأخرى وَأَبَت الإجابةَ إلى حُكمِ كتابِ اللَّهِ، قولُه: (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) أي: ترجِعَ إلى أمرِ اللَّهِ ورسولِه، وتَسمَعَ للحِقِّ وتُطيعَهُ، كما في الصَّحيحِ عن أنسٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً))، قلت:ُ يا رسولَ اللَّهِ، هَذَا نَصَرْتُه مظلومًا كَيْفَ أنْصُرُه ظالِما؟ قال: ((تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)).
قولُه: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ) فيه إثباتُ المحبَّةِ لِلَّهِ كما يَليقُ بجَلالِه وعظَمَتِه، وفيه فضلُ الإصلاحِ بين النَّاسِ، وفيه مَدْحُ العَدْلِ والإنصافِ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو -رضي اللَّهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا)) رواه مسلمٌ والنَّسائيُّ، وفيه أنَّه لم يَخرُجوا بالبَغي مِن الإيمانِ، وفيه أنَّه أوجَبَ قتالَهم وأنَّه أَسْقطَ عنهم التَّبِعةَ فيما أَتْلَفوه في قِتالِهم، وفيه إجازةُ قِتالِ كُلِّ مَن مَنَع حقاًّ عليه، والأحاديثُ بِذَلِكَ مشهورةٌ.
قولُه: (إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي: إخوةٌ في الدِّينِ، سمَّاهُم مؤمنين مع وجودِ الاقتتالِ بينهم، وجَعلَهم إخوةً في الدِّينِ مع وجودِ الاقتتالِ بينهم، فدَلَّ على أنَّهم لا يَخرُجونَ من الإيمانِ بالمعصيةِ.
قولُه: (والكبائرُ) هي جمعُ كبيرةٍ، وَهِيَ الفِعلةُ القبيحةُ مِن الذُّنوبِ العظيمِ أَمْرُها، والكبيرةُ كُلُّ معصيةٍ فيها حَدٌّ في الدُّنْيَا أو وعيدٌ في الآخرةِ، وزاد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ: أو وَرَدَ فيها وعيدٌ يَنْفِي إيمانا، أو لَعْنٌ أو غَضَبٌ ونحوُهما، في قولِه: والكبائرُ أشارةٌ إلى أَنَّ الذُّنوبَ تَنقسِمُ إلى كبائرَ وصغائرَ، وهُوَ الصَّوابُ الذي تَدُلُّ عليه الأدِلَّةُ.
وأمَّا عددُ الكبائرِ فعندَ سعيدِ بنِ جبيرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رجُلٌ لابنِ عبَّاسٍ: الكبائرُ سبعٌ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: هي إلى السَّبْعِمِائةِ أَقربُ منها إلى السَّبْعِ، غير أنَّه لا كبيرةَ مع استغفارٍ ولا صغيرةَ مع إصرارٍ، وقد أَوْصلَها عُلماؤنا إلى أكثرَ مِن السَّبعِين؛ كما في الإقناعِ، قال في شَرحِ الطَّحاويَّةِ: وقد يَقْتَرِنُ بالصَّغِيرةِ مِن قلَّةِ الحياءِ وعَدمِ المبالاةِ وتَركِ الخوفِ ما يُلحِقُها بالكبائرِ، وقد يَقترِنُ بالكبيرةِ مِن الحياءِ والخوفِ والوَجَلِ ما يُلحِقُها بالصَّغائرِ، وهَذَا أمْرٌ مَرْجِعُه إلى ما يقومُ بالقَلْبِ، وقد يُعْفَى لصاحِبِ الإحسانِ العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِه، فإنَّ فاعِلَ السَّيِّئاتِ تَسْقطُ عنه عُقوبةُ جَهنَّمَ بنحوِ عشَرةِ أسبابٍ، عُرِفَتْ بالاستقراءِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
الأوَّل: التَّوبةُ، الثَّاني: الاستغفارُ، الثَّالِثُ: الحسناتُ الماحيةُ، الرَّابعُ: المصائِبُ الدُّنْيَويَّةُ، الخامِسُ: عذابُ القبرِ، السَّادِسُ: دُعاءُ المؤمنينَ واستغفارُهم، السَّابِعُ: ما يُهْدَى إليه بعد الموتِ مِن ثوابِ صدقَةٍ أو قراءةٍ أوحَجٍّ ونحوِ ذَلِكَ، الثَّامنُ: أهوالُ يومِ القِيامَةِ وشدائِدُه، التَّاسِعُ: ما ثَبَتَ أَنَّ المؤمنين إذا عَبَروا الصِّراطَ وُقِفوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ ليُقْتَصَّ لبعضِهم مِن بعضٍ، العاشِرُ: شفاعةُ الشَّافِعِينَ، الحادي عَشَرَ: عَفْو أرحمِ الراحمينَ مِن غيرِ شفاعةٍ كما تَقَدَّمَ. انتهى. باختصارٍ.
إذا عُرِفَ ما تقدَّمَ فينبغي أنْ يكونَ المؤمنُ خائفًا راجياً، ويكونُ خَوفُه ورجاؤه سَواءً، فإنَّه إذا رَجَحَ الخوفُ حَمَلَهُ على القُنوطِ مِن رحمةِ اللَّهِ، وإذا رَجَحَ الرَّجاءُ حَمَلَه على الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ، وكِلاهما مِن كبائرِ الذُّنوبِ.(1/52)
( وَلاَ يَسْلُبُونَ الفَاسِقَ المِلِّيَّ [ الإِسْلاَمَ ] بالكُلِّيَّةِ، ولا يُخَلِّدونَهُ في النَّارِ؛ كَما تَقُولُ المُعْتَزِلَةُ. (1)
__________
(1) قولُه: (الفاسِقَ) الفِسقُ لغةً: الخروجُ عن الاستقامةِ والجَوْرُ، وبِهِ سُمِّيَ الفاسِقُ فاسِقاً، وشَرْعا: الفاسِقُ مَن فَعَلَ كبيرةً أوْ أَصرَّ على صغيرةٍ ويَنْقَسِمُ إلى قسمَيْنِ:
الأوَّلُ: فِسقُ اعتقادٍ كالرَّفضِ والاعتزالِ ونحوِهما.
الثَّاني: فِسقُ عملٍ كالزِّنا واللُّواطِ وشُربِ الخمرِ ونحوِ ذَلِكَ.
قولُه: (المِلِّيَّ) أي: الذي على مِلَّةِ الإسلامِ ولم يرتكِبْ مِن الذُّنوبِ ما يُوجِبُ كُفرَه، فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ متَّفِقون كُلُّهم على أنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ لا يُكفَّرُ كُفْراً يَنْقُلُ عن المِلَّةِ بالكُلِّيَّةِ، وعلى أنَّه لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ والإسلامِ، ويَدخُلُ في الكُفرِ، ومتَّفِقون على أنَّه لا يستحِقُّ الخلودَ مع الكافرين، وأنَّ مَن ماتَ على التَّوحيدِ فلا بدَّ له مِن دخولِ الجَنَّةِ، خِلافًا للخَوارِجِ والمعتزِلةِ، فإنَّ الخوارجَ أَخرجوهم مِن الإيمانِ وحَكموا عليهم بالخلودِ في النَّارِ، والمعتزِلةُ وافَقوا الخوارجَ في الحُكمِ عليهم في الآخرةِ دُونَ الدُّنْيَا، فلم يَستَحِلُّوا منهم ما استحَلَّتْه الخوارجُ، وأمَّا في الأسماءِ فأَحدَثوا المنزلةَ بين المنزلتَيْنِ، وَهَذِهِ خاصيَّةُ المعتزِلةِ التي انْفَرَدوا بها، وسائرُ أقوالِهم قد شارَكهم فيها غيرُهم، وهَذَا الخلافُ فيما ذُكِرَ أوَّلُ خلافٍ حَدَثَ في المِلَّةِ.
قال ابنُ عبدِ الهادي في مَناقِبِ الشَّيخ تَقيِّ الدِّينِ: أوَّلُ خلافٍ حَدَثَ في المِلَّةِ في الفاسِقِ المِلِّيِّ هَلْ هُوَ كافرٌ أو مؤمنٌ، فقالت الخوارجُ: إنه كافرٌ، وقالت الجماعةُ: إنَّه مؤمنٌ، وقالت طائفةُ المعتزِلةِ: هُوَ لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، منْزِلةٌ بين المَنْزِلتَيْنِ وخلَّدُوه في النَّارِ، واعتزلوا حَلْقةَ الحسَنِ البَصْريِّ فسُمُّوا معتزلةً. اهـ.
والأدِلَّةُ على بطلانِ مذهبِ الخوارجِ والمعتزِلةِ كثيرةٌ جِداًّ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ بعضِها كقولِه تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ)، وكقولِه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ) فسمَّاهُم مؤمِنيَن مع وجودِ القتلِ والاقتتالِ، وسمَّاهم إخوةً مع وجودِ ذَلِكَ، والمرادُ إخوةُ الدِّينِ كما تقدَّمَ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ انقسامِ المؤمنينَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ سابِقِينَ ومقتَصِدِينَ وظالِمينَ لأنْفُسِهم.
وقد تواتَرَ في الأحاديثِ: ((أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ))، وحديثِ ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))، فعُلِمَ أَنَّ الإيمانَ يَقبلُ التَّبعِيضَ والتَّجزِئةَ، وأنَّ قليلَه يَخرُجُ بِهِ صاحبُه مِن النَّارِ إنْ دَخَلَها، وأيضاً فلو كانَ العاصِي كافِراً كفراً يَنْقُلُ عن الملَّةِ بالكُلِّيَّةِ لكان مُرتداًّ ولا يُقبلُ عَفْوُ وليِّ القِصاصِ، ولا تُجرى الحُدودُ في الزِّنا وَالسَّرِقَةِ وشُربِ الخمرِ، وهَذَا القولُ معلومٌ بطلانُه وفسادُه بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسلامِ، ونُصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ تدلُّ على أَنَّ الزَّانِيَ والسَّارِقَ وشارِبَ الخمرِ والقاذِفَ لايُقتلُ بل يُقامُ عليه الحدُّ، فدلَّ على أنَّه ليس بمرتَدٍّ.
وقال ابنُ القيِّمِ في المدارِجِ: والفُسوقُ أيضًا يَنْقسِمُ إلى قسمَيْنِ: فُسوقٌ مِن جهةِ العملِ وفِسقٌ مِن جهةِ الاعتقادِ – إلى أنْ قال – وفِسقُ الاعتقادِ كفِسقِ أهلِ البِدَعِ الذين يؤمنون باللَّهِ ورسولِه ويُحرِّمونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورسولُه ويُوجِبون ما أوجَبَه ولكنْ يَنْفُون كثيرًا ممَّا أَثْبَت اللَّهُ ورسولُه جَهْلاً وتأويلاً وتَقْليدًا للشُّيوخِ، ويُثبِتون ما لم يُثْبِتْه اللَّهُ ورسولُه كذَلِكَ، وهؤلاء كالخوارجِ المارقةِ وكثيرٍ مِن الرَّوافضِ والقدَريَّةِ والمعتزِلةِ، وكثيرٍ من الجهميَّةِ الذين ليسوا غُلاةً في التَّجهُّمِ.
وأمَّا غَاليةُ الجهميَّةِ وغُلاةُ الرَّافِضةِ فليس للطَّائفتَيْنِ في الإسلامِ نَصيبٌ، ولذَلِكَ أَخْرجَهُم جماعةٌ مِن السَّلَفِ مِن الثِّنْتَيْنِ والسَّبعِيَن فِرقةً، وقالوا: هم مُبايِنونَ للمِلَّةِ، فالتَّوبةُ مِن هَذَا الفُسوقِ بإثباتِ ما أَثْبَتَه اللَّهُ ورسولُه مِن غيرِ تَشبيهٍ ولا تعطيلٍ، وتَنْزيهُه عمَّا نَزَّهَ بِهِ نَفْسَه ونَزَّهَه بِهِ رسولُه مِن غير تشبيهٍ ولا تعطيلٍ، وتَلَقِّي الإثباتِ والنَّفْيِ من مِشكاةِ الوحيِ لا مِن آراءِ الرِّجالِ ونتائجِ أفكارِهم، فتوبةُ هؤلاء الفُسَّاقِ مِن جهةِ الاعتقاداتِ الفاسدةِ بمحْضِ اتِّباعِ السُّنَّةِ، ولا يُكتفى أيضًا منهم حتى يُبَيِّنُوا فسادَ ما كانوا عليه مِن البِدعةِ.(1/53)
بَلِ الفَاسِقُ يَدْخُلُ في اسْمِ الإِيمانِ المطلق؛ كَما في قَوْلِهِ: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ ) وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ في اسْمِ الإِيمانِ المُطْلَقِ؛ كَمَا في قَولِهِ تَعالى: ( إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتَهُمْ إِيْماناً ). (1)
__________
(1) قولُه: (بل الفاسِقُ يَدخُلُ) ... إلخ فإنْ أَعْتقَ رقبةً مؤمنةً فيما يُشترَطُ في العِتقِ إيمانُ الرَّقبةِ، أَجْزأَت الرَّقبةُ الفاسقةُ، فقد دخَلَتْ في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ، وإنْ لم تكن مِن أهلِ الإيمانِ الكاملِ، فالفاسِقُ يَدخُلُ في جملةِ أهلِ الإيمانِ على سَبيلِ إطلاقِ أهلِ الإيمانِ، وقد لا يَدخُلُ في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ، كما في قولِه: (إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآيةَ، فالفاسِقُ لا يُسلَبُ عنه اسمُ الإيمانِ على الإطلاقِ ولا يُثبَتُ له على الإطلاقِ، بل يقالُ مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، أو مؤمنٌ بإيمانِه فاسِقٌ بكبيرتِه، وحقيقةُ الأمرِ أنَّ مَن لم يكُنْ مِن المؤمِنيَن حقاًّ يقالُ فيه إنَّه مسلمٌ ومعه إيمانٌ يَمنَعُه مِن الخلودِ في النَّارِ.
قولُه: (إِنَّمَا) أداةُ حصرٍ تُثْبِتُ المذكورَ وتَنْفى ما عَداهُ.
قولُه: (المُؤمِنُونَ) أي: الإيمانَ الكاملَ المأمورَ به.
قولُه: (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: خافَتْ. قولُه: (زَادَتْهُمْ إِيْمانًا) فيها دليلٌ على أَنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنْقُصُ.
قولُه: (يَتوكَّلُون) أي: يُفوِّضون أمْرَهم إلى اللَّهِ، ففيها فَضْلُ التَّوكُّلِ، وأنَّه مِن أجلِّ أعمالِ القلوبِ، وفيها دليلٌ على أَنَّ الأعمالَ الظَّاهِرةَ والباطنةَ داخلةٌ في مسمَّى الإيمانِ شَرْعا، فكُلُّ ما نَقَصَ مِن الأعمالِ التي لا يُخرِجُ نَقْصُها مِن الإسلامِ فهُوَ نَقْصٌ في كمالِ الإيمانِ الواجِبِ، كما في حديثِ أبي هريرةَ المتَّفَقِ عليه: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ)) الحديثَ، فالمنفيُّ في هَذَا الحديثِ كمالُ الإيمانِ الواجبِ، فلا يُطلَقُ الإيمانُ على مِثلِ أهلِ هَذِهِ الأعمالِ إلاَّ مقيَّدًا بالمعصيةِ أو الفسوقِ، فيقالُ مؤمنٌ بإيمانِه فاسِقٌ بكبيرتِه، فيكونُ معه مِن الإيمانِ بقَدْرِ ما معه مِن الأعمالِ الباطنةِ والظَّاهرةِ، فيَدخُلُ في أهلِ الإيمانِ على سبيلِ إطلاقِ أهلِ الإيمانِ، كما تقدَّمَ في قولِه: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ).
وأمَّا المؤمِنُ الإيمانَ المطلَقَ الذي لا يَتقَيَّدُ بمعصيةٍ ولا فسوقٍ ونحوِ ذَلِكَ فهُوَ الذي أَتَى بما يَستطِيعُه مِن الواجِباتِ مَع تَرْكِه لجميعِ المحرَّماتِ، فهُوَ الذي يُطْلَقُ عليه اسْمُ الإيمانِ مِن غيرِ تَقْييدٍ، فهَذَا هُوَ الفَرْقُ بين مُطلَقِ الإيمانِ والإيمانِ المطلَقِ.
الثَّاني: هُوَ الذي لا يُصِرُّ صاحبُه على ذَنْبٍ، والأوَّل: هُوَ المُصِرُّ على بعضِ الذُّنوبِ، فمُطلَقُ الإيمانِ هُوَ وَصْفُ المسلمِ الذي معه أصلُ الإيمانِ الذي لا يَتِمُّ الإسلامُ إلاَّ بِهِ فلا يَصِحُّ إلاَّ به.
والمرتبةُ الثَّانيةُ: مرتبةُ أهلِ الإيمانِ المطلَقِ الذين كَمُلَ إسلامُهم وإيمانُهم بإتيانِهم بما وَجَبَ عليهم، وتَرْكِهم ما حرَّمَ اللَّهُ عليهم، وعَدَمِ إصرارِهم على الذُّنوبِ، فَهِذِهِ المرتبةُ الثَّانيةُ الذي وعدَ اللَّهُ أهلَها بدخولِ الجَنَّةِ والنَّجاةِ مِن النَّارِ. انتهى.(1/54)
وقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لاَ يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهُو مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، (1)
ولا يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِليهِ فِيها أَبْصارَهُمْ حِيْنَ يَنْتَهِبُها وَهُوَ مُؤمِنٌ )).
__________
(1) وفي قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لا يَزْنِى الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) الحديثُ دليلٌ على دخولِ الأعمالِ في مسمَّى الإيمانِ، فلولا أنَّ تَرْكَ هَذِهِ الكبائرِ مِن مسمَّى الإيمانِ لَمَا انْتَفَى اسمُ الإيمانِ عن مرتكِبِ شيءٍ منها؛ لأَنَّ الاسمَ لا يَنْتَفِى إلا بانتفاءِ بعضِ أركانِ المسمَّى أو واجباتِه، والمرادُ بنَفْيِ الإيمانِ نَفْيُ بلوغِ حقيقتِه ونهايتِه، وفي هَذَا الحديثِ الرَّدُّ على المُرْجِئةِ والجهميَّةِ ومَن اتَّبَعَهم الذين يقولون إنَّ مرتكِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ كاملُ الإيمانِ، ويَزْعُمون أَنَّ الإيمانَ لا يَتفاضَلُ، وهُوَ إمَّا أنْ يَزُولَ بالكُلِّيَّةِ أو يَبْقَى كامِلا، وقولُهم ظاهرُ البطلانِ، فقد دلَّ الحديثُ على أَنَّ الزَّانِيَ وشارِبَ الخمرِ ونحوَهم حين فِعلِهم المعصيةَ قد انْتَفَى الإيمانُ عنهم، وقد دلَّت النُّصوصُ الكثيرةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ على أنَّهمْ غيرُ مُرْتَدِّين بِذَلِكَ، فعُلِمَ أَنَّ الإيمانَ المَنْفِيَّ في هَذَا الحديثِ وغيرِه إنَّما هُوَ كمالُ الإيمانِ الواجِبِ، فإنَّ اللَّهَ ورسولَه لا يَنْفِي اسْمَ مُسمًّى شَرْعيٍّ إلاَّ بانتفاءِ بعضِ أركانِه أو واجباتِه.(1/55)
[ ونقولُ ]: هو مؤمِنٌ ناقِصُ الإِيمانِ، أَو مؤمِنٌ بإِيمانِهِ فَاسِقٌ بِكَبيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ المُطْلَقَ، ولا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسمِ). (1)
__________
(1) قولُه: (نُهبةً) بضمِّ النُّونِ هُوَ ما يُنْهَبُ، والمرادُ: المأخوذُ جَهْراً قَهْرا.
قولُه: (ذاتَ شَرَفٍ) أي: ذاتَ قدْرٍ عظيمٍ.
قولُه: (يَرفَعُ النَّاسُ إليها أبصارَهم) أي: يَنْظُرونها لعِظَمِ قدْرِها.
قولُه: (ونقولُ هُوَ مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ) فإنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أطْلَقَ عليه الإيمانَ، كما تقدَّمَ مِن قولِه: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآيةَ، وقولُه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ) الآيةَ، وَكَذَلِكَ الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَطلَقَ عليه الإيمانَ، كما ثَبَتَ في الصَّحيحِ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ أَخِيهِ مَظْلِمَةٌ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ... ))، الحديثَ إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على إطلاقِ الإيمانِ على الفاسِقِ.
قولُه: (ونقولُ هُوَ مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ) إلخ: خِلافاً للمُرجِئَةِ والجهميَّةِ ومَن اتَّبعَهم، فإنَّ الإيمانَ عندهم لا يَقْبَلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، بل هُوَ شيءٌ واحدٌ يَستوي فيه جميعُ المؤمنينَ مِن الملائكةِ والمقتَصِدِينَ والمقرَّبِينَ والظالِمينَ، وقد سَبَقَ ذِكْرُ مَذهبِهم والرَّدُّ عليه.
قولُه: (فلا يُعْطَى الاسمَ المطلَقَ) أي: لا يُعْطَى الفاسِقَ اسمَ الإيمانِ المطلَقِ، أي الكامِلِ الذي صاحِبُه يَستحِقُّ عليه دخولَ الجَنَّة والنَّجاةَ مِن النَّارِ، وهُوَ فِعلُ الواجباتِ وتَرْكُ المحرَّماتِ، وهُوَ الذي يُطلَقُ على مَن كان كذَلِكَ بلا قَيْدٍ فلا يُطلَقُ على الفاسِقِ: الإيمانُ إلاَّ مُقيَّدا، فيقالُ: مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرتِه، أو يقالُ: مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، فلا يُسمَّى مؤمِنا إلا بِقَيْدٍ، وهَذَا الذي يُسمِّيهِ العلماءُ مُطلَقَ الإيمانِ.
وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والتَّحقيقُ أنْ يقالَ: إنَّه مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرتِه، فلا يُعْطَى الاسمَ المطلَقَ، فإنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ نَفَيَا عنه الاسمَ المطلَقَ، واسمَ الإيمانِ يتناولُه فيما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ورسولُه؛ لأنَّ ذَلِكَ إيجابٌ عليه وتحريمٌ عليه، وهُوَ لازمٌ له كما يَلزَمُ غيرَه، وإنَّما الكلامُ في المدحِ المطلَقِ، اهـ.
قولُه: (ولا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسمِ) كما تقدَّمَ إطلاقُ الإيمانِ في الآياتِ عليه، وَكَذَلِكَ رسولُه، فيُطلِقُ عليه الإيمانُ مُقيَّداً كما تقدَّمَ، فيُقالُ: مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرتِه، ويقالُ: مؤمنٌ ناقِصُ الإيمانِ، وعلى هَذَا يَدُلُّ الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ سَلَفِ الأمَّةِ خِلافا للخَوارجِ والمعتزِلةِ. أمَّا ما جاءَ في بعضِ الأحاديثِ مِن نَفْيِ الإيمانِ عن بعضِ العُصاةِ فالمرادُ بِهِ نَفْيُ الإيمانِ المُطْلَقِ لاَ مُطلَقَ الإيمانِ كما تقدَّمَ.
قال الشَّيخ تَقِيُّ الدِّينِ في كتابِ الإيمانِ: الإيمانُ إذا أُطْلِقَ في كلامِ اللَّهِ ورسولِه يَتَناوَلُ فِعلَ الواجباتِ وتَرْكَ المحرَّماتِ، ومَنْ نَفَى اللَّهُ ورسولُه عنه الإيمانَ فلا بدَّ أنْ يكونَ تَرَكَ واجِباً أو فَعَلَ محرَّما، فلا يَدخُلُ في الاسمِ الذي يستحِقُّ أهلُه الوَعْدَ دُونَ الوعيدِ. انتهى.
قال ابنُ القيِّم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في بدائعِ الفوائدِ: الإيمانُ المطلَقُ لا يُطلَقُ إلا على الكامِلِ الكَمالَ المأمورَ به، ومُطلَقُ الإيمانِ يُطلَقُ على الكامِلِ والنَّاقِصِ، ولهَذَا نُفِيَ الإيمانُ المطلَقُ عن الزَّانِي وشاربِ الخمرِ والسَّارِقِ، ولم يُنْفَ عنه مُطلَقُ الإيمانِ، لئلا يَدخُلَ في قولِه: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ولا في قولِه: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ولا في قولِه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية، ويَدخُلُ في قولِه: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وفي قولِه: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ) الآيةَ، فلهَذَا كان قولُه: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا) نَفْيا للإيمانِ المطلَقِ لا لمطلَقِ الإيمانِ لوُجوهٍ ساقَها، فالإيمانُ المطلَقُ يَمنَعُ دخولَ النَّارِ، ومُطلَقُ الإيمانِ يَمنعُ الخلودَ فيها، فإذا قيل الفاسِقُ: مؤمنٌ فهُوَ على هَذَا التَّفصيلِ. انتهى.(1/56)
( فَصْلٌ: ومِنْ أُصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وأَلْسِنَتِهمْ لأصْحابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
__________
(1) فَصلٌ قولُه: (ومِن أصولِ) جَمعُ أصلٍ وهُوَ لغةً: ما يُبْنَى عليه غيرُه، واصطِلاحا: ما له فرعٌ، ويُطلَقُ الأصلُ على أربعةِ أشياءَ: على الدَّليلِ غالِبا، كقولِهم: أصلُ هَذِهِ المسألَةِ الكِتابُ والسُّنَّةُ، أي دَليلُه، الثَّاني: على الرَّاجِحِ مِن الأمرَيْنِ كقولِهم: الأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ دُونَ المجازِ. الثَّالِثُ: القاعِدةُ المستمِرَّةُ كقولِهم: أكْلُ الميْتَةِ على خلافِ الأصلِ. الرَّابعُ: المَقِيسُ عليه، وهُوَ ما يُقابِلُ الفَرْعَ في بابِ القياسِ، انتهى، مِن الكوكبِ المُنِيرِ.
قولُه: (سَلامَةُ قُلوبِهم) أي: مِن الغِلِّ والحِقدِ والبُغضِ والعَداوةِ لأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وسلامةُ ألسنَتِهم مِن الطَّعنِ فيهم، واللَّعنِ، والوقيعةِ فيهم، كما يَفعَلُه الرَّافِضةُ والخوارِجُ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ اعتقادُ فَضْلهِم رِضوانُ اللَّهِ عليهم، ومعرِفةُ سابِقَتِهم وذِكرُ محاسِنهِم والتَّرَحُّمُ عليهم، والاستغفارُ لهم، والكَفُّ عمَّا شَجَرَ بينهم، فإنَّهم خَيرُ القُرونِ وهم السَّابِقون الأوَّلون، وفي الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن ذِكرِ فَضائِلِهم ومناقِبِهم ومَقاماتِهم الحميدةِ ما لا يَتَّسِعُ لذِكْرِه هَذَا المختصَرُ، فلا مَقامَ بعد مَقامِ النُّبوَّةِ أَعْظمُ مِن مقامِ قومٍ ارتضاهُم اللَّهُ لصُحبةِ نبِيِّه ونُصرةِ دِينِه، فهم أَسْعدُ الأمَّةِ بإصابةِ الصَّوابِ، وأجْدَرُ بفِقهِ السُّنَّةِ والكتابِ لفَوزِهم بصُحبةِ نَبِيِّه، فلا يُبارَوْن في فَهمِهم، ولا يُجارَوْن في عِلمِهم، فكُلُّ عِلمٍ وخيرٍ وصلَ فبِسبَبِهم، قال اللَّهُ تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الآيةَ، وفي هَذِهِ الآيةِ أَعْظَمُ رَدٍّ على الرَّافِضَةِ والخوارجِ.
قولُه: (لأصحابِ ... ) إلخ، جَمعُ صَاحبٍ والصَّحابِيُّ هُوَ مَنِ اجتمعَ بالنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مُؤْمِناً بِهِ وماتَ على ذَلِكَ، قيل: ولو تخللته رِدَّةٌ، وقال البخاريُّ: مَن صَحِبَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو رآه مِن المسلِمِينَ فَهُوَ مِن أصحابِه. انتهى. وآخِرُ مَن ماتَ منهم -رضي اللَّهُ عنهم- هُوَ أبو الطُّفَيْلِ عامِرُ بنُ وِائلَةَ اللَّيْثِيُّ كما جَزَمَ بِهِ مُسْلِمٌ في "صحيحِه"، وكان مَوْتُه سَنةَ مائةٍ، وقيل: سَنَةَ مائةٍ وعشَرةَ، وأمَّا عددُ الصَّحابةِ فقيل مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعِشرون ألْفًا، كما قال السيوطيُّ:
والفَضْلُ فيما بينهم مَراتِبُ ... ... وَعَدُّهُمْ للأنْبِيا يُقارِبُ
وكُلُّهم عُدولٌ ثِقاتٌ لا يُفَتَّشُ عن عدالةِ أحدٍ منهم بالإجماعِ، وحكى الإجماعَ ابنُ الصَّلاحِ وابنُ عبدِ البَرِّ، وحكاه إمامُ الحرمَيْنِ، وقال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ: الذي عليه جمهورُ سَلَفِ الأمَّةِ وجمهورُ الخلَفِ أَنَّ الصَّحابةَ كُلُّهم عُدولٌ بتعديلِ اللَّهِ لهم فيما أَنْزَلَه على رسولِه بقولِه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُواْ عَنْهُ)، اهـ.(1/57)
كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بهِ في قَوْلِهِ تَعَالى: ( وَالَّذِينَ جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمانِ وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ ). (1)
__________
(1) قولُه: كما وَصَفَهم اللَّهُ في قولِه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) الآيةَ، أي كما وَصَفَ أتباعَهم بإحسانٍ بقولِه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم التَّابِعُونَ الذين يَجيئون بعد المهاجِرينَ والأنصارِ إلى يومِ القِيامةِ.
قولُه: (يَقُولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا) أي: يَسأَلُونَ اللَّهَ المغفِرةَ لهم ولإِخْوانِهم في الدِّينِ الذين سَبَقُوهم بالإيمانِ، وهم أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.
قولُه: (وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أيْ: ولا تَجعَلْ في قلوبِنا بُغْضاً وحَسَداً وغِشًّاللذين آمَنوا، وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي رواه الترمذيُّ: ((ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ))، أي أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَ تَنْفِي الغِلَّ عن القلبِ، فلا يَبْقَى فيه معها غِلٌّ ولا غِشٌّ، فالإخلاصُ يَمنَعُ غِلَّ القلبِ وفسادَه، وَكَذَلِكَ النَّصيحةُ فإنَّها لا تُجامِعُ الغِلَّ، فمَن نَصحَ الأئِمَّةَ والأُمَّةَ فقد بَرِئَ مِن الغِلِّ، وهَذَا بخلافِ أهلِ البِدَعِ مِن الرَّافضةِ والخوارجِ والمعتزِلةِ وغيرِهم، فإنَّ قُلوبَهم ممتلئةٌ غِلاًّ وغِشاًّ، ولهَذَا تَجدُ الرَّافِضةَ أبعدَ النَّاسِ مِن الإخلاصِ، وأغَشَّهم للأئِمَّةِ والأُمَّةِ، وأشدَّهُم بُعداً عن جماعةِ المسلِمِينَ، وفي هَذِهِ الآيةِ الحثُّ على مَحبَّةِ جميعِ المؤمنينَ ومَوَدَّتِهم والدُّعاءِ لهم والاستغفارِ، وأنَّ مِن صفاتِ المؤمنينَ سلامةَ قلوبِهم مِن الغِلِّ والحِقدِ والبُغضِ لإخوانهم المؤمنينَ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سِائِرُ الأَعْضَاءِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)). وعن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ)). متَّفقٌ عليه.
قولُه: (رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) رَءُوفٌ أي: ذو رَأْفةٍ وَهِيَ أشدُّ الرَّحمةِ، وهُوَ أبلَغُ مِن الرَّحيمِ، تَضمَّنَتْ هَذِهِ الآيةُ الثَّناءَ على المهاجِرينَ والأنصارِ، وعلى الذين جَاءُوا مِن بعدِهم يَستغفِرون لهم ويَسألُونَ اللَّهَ أنْ لا يَجعَلَ في قُلوبِهم غِلاًّ لهم، وتضمَّنَتْ أنَّ هؤلاء الأصنافَ هم المستحِقُّون للفَيْءِ، ولا رَيْبَ أَنَّ الرَّافضةَ خارِجون مِن الأصنافِ الثَّلاثةِ فإنَّهم لم يَسْتَغفِروا للسَّابِقِينَ، وفي قُلوبِهم غِلٌّ عليهم، ففيها الثَّناءُ على الصَّحابةِ وعلى أهلِ السُّنَّةِ الذين يَتَوَلَّوْنَهم، وإخراجُ الرَّافِضةِ مِن ذَلِكَ، وروى ابنُ بَطَّةَ وغيرُه عن مالكِ بنِ أَنسٍ، قال: مَن سَبَّ السَّلَفَ فليس له منِ الفيءِ مِن نصيبٍ، واستدلَّ بالآية، ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: أَمَرَ اللَّهُ بالاستغفارِ لأصحابِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وهُوَ يَعلَمُ أنَّهم يَقْتَتِلون.
وعن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها-: أُمِرْتُمْ بالاستغفارِ لأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فسَببْتُموهُم، سَمِعْتُ نبيَّكُم يقولُ: ((لاَ تَذْهَبُ هَذِهِ الأمَّةُ حَتَّى يَلْعَنَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا))، ورواهُ البَغَويُّ. قال العِمادُ بنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيا وَيْلَ مَن سَبَّهم أو أبْغَضَهم أو أبْغَضَ أو سَبَّ بَعْضَهم، ولا سِيَّما سِيِّدُ الصَّحابةِ بعدَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وخَيْرُهم وأَفْضَلُهم – أعني الصِّدِّيقَ الأكبرَ والخليفةَ الأعظمَ أبا بكرِ بنَ قُحافةَ -رضي اللَّهُ عنه-، فإنَّ الطَّائفةَ المخذولةَ مِن الرَّافِضةِ يعادُونَ أفضلَ الصَّحابةِ ويُبغِضونهم ويَسُبُّونهم – عِياذا باللَّهِ مِن ذَلِكَ –، وهَذَا يَدُلُّ على أنَّ عُقولَهم مَعكوسةٌ وقُلوبَهم مَنكُوسةٌ، فأَيْنَ هؤلاء مِن الإيمانِ بالقرآنِ؛ إذْ يَسبُّون مَن -رضي اللَّهُ عنهم-، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فإنَّهم يَتَرَضَّوْن عمَّن رضي اللَّهُ عنه، ويَسبُّون مَن سبَّهُ اللَّهُ ورسولُه، ويُوالُون مَن يُوالِي اللَّهَ، ويُعادُونَ مَن يُعادِي اللَّهَ، وهم متَّبِعون لا مُبتَدِعون، ومُقْتَدُونَ لا مُبتَدُونَ، ولهَذَا هُم حِزبُ اللَّهِ المفلِحونَ وعِبادُه المؤمنون. اهـ.
وقال مالكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَن أصبحَ وفي قَلبِه بُغضٌ لأحدٍ مِن الصَّحابةِ فقد أصابَتْه هَذِهِ الآيةُ، يعني قولَه: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) الآيةَ، وقد ذَكَرَ بعضُ العلماءِ: أَنَّ الرَّافِضةَ ليسوا مِن فِرَقِ الأمَّةِ المحمَّدِيَّةِ، وباستقراءِ ما هم عليه الآنَ مِن الغُلُوِّ في أهلِ البَيْتِ، والبناءِ على قُبورِهم، وإظهارِ اللَّعْنِ والسَّبِّ لأصحابِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وسَفاهاتٍ أخرى يَمُجُّها العقلُ والدِّينُ، يَعلَمُ أنَّ هَذِهِ الطَّائِفةَ ليستْ مِن الإسلامِ في شيءٍ، ولذَلِكَ صَرَّحَ بعضُ العُلماءِ بتَكفيرِهم لسَبِّهم الصَّحابةَ، فقال صاحِبُ تبيينِ المحارمِ: واعلمْ أَنَّ الرَّوافِضَ كفارٌ عندنا؛ لأنَّهم يَسُبُّونَ أبا بكرٍ وعمرَ -رضي اللَّهُ عنهما-، وَكَذَلِكَ مَن أنْكَرَ خِلافَتَهُما يُكفَّرُ عندنا على الأصَحِّ، وإمامُ هَذِهِ الطَّائفةِ الخبيثةِ منافِقٌ معروفٌ يَهودِيُّ الأصلِ، وهُوَ عبدُ اللَّهِ بنُ سبأٍ ادَّعى الإسلامَ حِيلةً وسَعَى جَهدَه لتفريقِ وتشتيتِ الكلمةِ، وأَدْرَكَ بعضَ قَصدِه بقَتْلِ عثمانَ -رضي اللَّهُ عنه-، ثم أظْهَرَ الغُلُوَّ في عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وقِصَّتُه مشهورةٌ.(1/58)
وطاعةالنبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: (( لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ )). (1)
__________
(1) حديثُ ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي)) رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كان بين خالدِ بنِ الوليدِ وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ شيءٌ فسَبَّهُ خالدٌ. فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ)) انفردَ مسلمٌ بذِكرِ سَبِّ خالدٍ لعبدِ الرحمنِ دُونَ البخاريِّ، فقولُه: ((لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي)) يعني عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ وأمثالَه مِن السَّابِقين الأوَّلِين، فَهُم أَفْضلُ وأخصُّ بصُحْبَتِه ممَّن أَسْلَم بعدَ بيعةِ الرِّضوانِ، وبعدَ مُصالحةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أهلَ مكةَ، ومنهم خالدُ بنُ الوليدِ، فنَهْيُ مَن له صحبةٌ أنْ يَسُبَّ مَن له صحبةٌ أَوْلى، لامتيازِهم عنهم مِن الصُّحبةِ بما لا يمكنُ أنْ يُشَارِكوُهم فيه، حتَّى لو أَنْفَقَ مِثلَ أُحدٍ ذَهباً مَا بَلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه، فإذا كان هَذَا حالُ الذين أَسْلَموا بعدَ الحديبيةِ فكَيْفَ حالُ مَن ليس مِن الصَّحابةِ بحالٍ.
قولُه: ((لا تَسُبُّوا)) أي: لا تَشْتُموا.
قولُه: ((أُحُدٍ)) هو جَبلٌ معروفٌ في المدينةِ سُمِّيَ بذلك لتَوحُّدِه مِن الجبالِ كما ذَكَره السُّهيليُّ.
قولُه: ((مُدَّ)) المُدُّ مِكيالٌ معروفٌ، وهو رطْلٌ وثُلُثٌ بالعِراقيِّ، والنَّصيفُ النِّصْفُ، والمعنى أنَّ غيرَ الصَّحابةِ لو أَنْفَقَ في سَبيلِ اللَّهِ جَبلَ أُحدٍ ذَهَباً ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه في الثَّوابِ، وفي هذا دليلٌ على تحريمِ سبِّ أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وأنَّه مِن كبائرِ الذُنوبِ، وفيه دليلٌ على تحريمِ لعنِ أصحابِ رسولِ اللَّه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن بابِ أَوْلى، وأنَّه مِن كبائرِ الذُّنوبِ، فإنَّ الحديثَ صريحٌ في تحريمِ السَّبِّ، واللَّعنُ أَعظمُ مِن السَّبِّ، وفي الحديث أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) وأصحابُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خِيارُ المؤمنينَ، كما قال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى)) الحديثَ، وروى الترمذيُّ عن عبدِ اللَّه بنِ مغفَّلٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضاً، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبُحِبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبُبْغِضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوِشُكُ أَنْ يَأْخُذَهُ)) قال الترمذيُّ: حديثٌ غريبٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأحاديثِ الدَّالَّةِ على وجوبِ احترامِهم وحِفظِ كرامَتِهم، وتحريمِ سَبِّهم والطَّعنِ فيهم ولَعْنِهم.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَن لَعَنَ أحدًا مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فإنَّه يستحِقُّ العقوبةَ البالغةَ باتِّفاقِ المسلِمِينَ، وقد تَنازَعُوا هل يُعاقَبُ بالقَتلِ أوْ ما دُونَ القَتلِ، واستدلَّ بهَذَا الحديثِ على عدالةِ جميعِ الصَّحابةِ لِثَناءِ النَّبيِّ هَذَا الثَّناءَ العظيمَ الدَّالَّ على فَضلِهم وعدالَتِهم، وفيه دليلٌ على تَفضيلِ الصَّحابةِ كُلِّهم على جميعِ مَن بعدَهم، وهُوَ قولُ الجمهورِ.
قال بعضُ السَّلَفِ: - لَمَّا سُئِلَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ ومعاويةَ أيُّهما أَفْضَلُ؟ قال: غُبارٌ في أَنْفِ معاويةَ مع رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَفْضلُ مِن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وسَببُ تفضيلِ نفقَتِهم أنَّها كانتْ في وقتِ الضَّنْكِ، والضِّيقِ بخلافِ غيرِهم، ولأنَّ إنفاقَهم كان في نُصرَتِه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وحمايَتِه، وَذَلِكَ معدومٌ بعدَه، وكذا جهادُهم وسائرُ طاعاتِهم كما قال تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).(1/59)
ويَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ (1)
__________
(1) قولُه: (ويقبلونَ ما جاءَ بِهِ الكتابُ) هَذَا فيه الرَّدُّ على الرَّوافِضِ والنَّواصِبِ، فقد أَثنى اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- على أصحابِ رسولِ اللَّهِ -رضي اللَّهُ عنهم- ووَعَدَهُم بالجَنَّةِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الآيةَ، وقال: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وقال: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) والآياتُ والأحاديثُ في فضلِ الصَّحابةِ كثيرةٌ جِداًّ، منها ما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عِمرانَ وغيرِه: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي)) الحديثَ.
وروى ابنُ بطَّةَ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- أنَّه قال: ((لا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً – يعني مع النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- – خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) وفي روايةِ وكيعٍ: ((خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ)) والأدِلَّةُ في فَضْلِ الصَّحابةِ كَثِيرةٌ لا يَرتابُ فيها إلا زائغٌ، فلا شَكَّ أنَّهم حَازُوا قَصباتِ السَّبقِ واسْتَولوا على الأَمدِ وبَلَغوا في الفَضلِ والمعروفِ والعِلمِ وجميعِ خصالِ الخيرِ ما لم يَبلُغُه أحدٌ، فالسَّعيدُ مَن اتَّبعَ صِراطَهم واقْتَفى آثارَهم، تاللَّهِ لقد نَصَروا الدِّين، ووطَّدُوا قواعِدَ المِلَّةِ، وفَتَحوا القلوبَ والأوطانَ، وجاهَدوا في اللَّهِ حقَّ جهادِه، فرَضِيَ عنهم وأَرْضاهم.(1/60)
مِنْ فَضائِلِهِمْ ومَراتِبِهِمْ ويُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ – وهُو صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ – وقاتَلَ عَلى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وقَاتَلَ، ويُقَدِّمُونَ المُهَاجِرينَ عَلى الأنْصارِ، ويُؤمِنُونَ بأَنَّ اللهَ قالَ لأهْلِ بَدْرٍ – وكَانُوا ثَلاثَ مئةٍ وبِضْعَةَ عَشَرَ -: (( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )). (1)
__________
(1) قولُه: (مِن فضائِلِهم) هُوَ جمعُ فضيلةٍ وهُوَ الخَصلةُ الجميلةُ التي يَحصُلُ لصاحِبِها بَسبَبِها شَرَفٌ وعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ. انتهى.
قولُه: (ومَراتِبِهم) جمعُ مرتبةٍ، والمرتبةُ بالضمِّ هي المنْزِلةُ والمكان، وفيه جوازُ المفاضَلةِ بين الصَّحابةِ، وهُوَ الذي تَدُلُّ عليه الأدِلَّةُ، وبِهِ قال الجمهورُ، فعندَ أهلِ السُّنَّةِ أَفْضلُ الصَّحابةِ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، ثم عُمرُ الفاروقُ، ثم عثمانُ ذو النُّورَيْنِ، ثم عَلِيٌّ المُرْتَضَى، ثم بقيَّةُ العشَرةِ المشهودِ لهم بالجَنَّةِ، ثم أهلُ بدرٍ، ثم بيعةُ الرِّضوانِ، ثم أُحدٌ، ثم بقيَّةُ الصَّحابةِ، ثم باقي الأمَّةِ أفضلُ مِن سائرِ الأممِ، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآيةَ، وفي السُّننِ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه-: ((أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)).
قولُه: (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ) وهؤلاء هم السَّابِقون مِن المهاجِرينَ والأنصارِ، والمذكورونَ في قولِه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ..) الآيةَ، فالسَّابِقونَ: هم الذين أنْفقُوا مِن قَبلِ الفتحِ وقاتَلُوا، وأهلُ بيعةِ الرِّضوانِ كُلُّهم منهم، قال تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى). أي لا يَستوي في الأجرِ والثَّوابِ مَن أنْفقَ مالَه في سبيلِ اللَّهِ ونُصرةِ رسولِه قَبلَ الفتحِ ومَن أنْفقَ بعدَه، وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْفاقَ قَبلَ الفتحِ في حالِ شِدَّةٍ وضَعفٍ، فلم يَكُنْ يُؤمِنُ حينئذٍ إلا الصِّدِّيقونَ، أمَّا بعد الفتحِ فإنَّه ظَهَرَ الإسلامُ ظُهوراً عظيماً ودخَلَ النَّاسُ في دينِ اللَّهِ أفْواجًا، والمرادُ هنا بالفتحِ هو: صلحُ الحديبيةِ كما أشارَ إليه المصنِّفُ.
وفي صحيحِ البخاريِّ عن أنسٍ في قولِه تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) هُوَ صُلْحُ الحديبيةِ. وعن البراءِ: ((أنتم تَعُدُّونَ الفتحَ فتحَ مكةَ، وقد كان فتحُ مكةَ فتحًا، ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرِّضوانِ يومَ الحديبيةِ)) ذَكَرَه البخاريُّ، وسُئِلَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عن صُلحِ الحديبيةِ أفتحٌ هو؟ قال: ((نَعَمْ)). قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأهلُ العِلمِ على أنَّه أُنْزِلَ فيه – أي صُلحِ الحديبيةِ – (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، قال وَهَذِهِ الآيةُ نصٌّ على تَفضيلِ المُنْفِقينَ المقاتِلينَ قبلَ الفتحِ على المنفِقينَ بعدَه، ولهَذَا ذَهَبَ جمهورُ العلماءِ إلى أَنَّ السَّابِقِين في قولِه، والسَّابقون الأوَّلون، هم الذين أنْفَقُوا مِن قبلِ الفتحِ وقاتَلوا وأهلُ بيعةِ الرِّضوان كُلُّهم منهم، وذَهَبَ بعضُهم إلى أَنَّ السَّابِقِينَ مَن صلَّى إلى القِبلتَيْنِ وهَذَا ضعيفٌ، وأطالَ الكلامَ في رَدِّ هَذَا القولِ في كتابِه المنهاجِ. انتهى. وكانتْ بيعةُ الرِّضوانِ عامَ الحديبيةِ سَنةَ سِتٍّ مِن الهجرةِ، وبِذَلِكَ الصُّلْحِ حَصَلَ مِن الفتحِ والخيرِ ما لا يَعلَمُه إلاَّ اللَّهُ، مع أنَّه كَرِهَه خَلْقٌ كثيرٌ مِن المسلِمِينَ، ولم يَعلَموا ما فيه مِن حُسنِ العاقبةِ، وكان عددُ الصَّحابةِ الذين بايعوا النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- تحت الشَّجرةِ أكثرَ مِن ألْفٍ وأربعِمائةٍ، وهم الذين فتَحوا خَيْبَرَ، وسورةُ الفتحِ أَنْزَلها اللَّهُ قبلَ فتحِ مكةَ، إنَّما سمِّي صلحُ الحديبيةِ فتحًا؛ لِمَا حَصلَ فيه مِن الخيرِ الكثيرِ الذي لا يَعلَمُه إلاَّ اللَّهُ. قال في الهدى: وسمِّي صلحُ الحديبيةِ فتحًا، في اللغةِ عبارةٌ عن فتحِ المُغلَقِ، والصُّلحُ الذي حَصلَ مع المشركين في الحديبيةِ كان بابُه مَسدوداً مُغلَقاً، حتى فَتحَه اللَّهُ. انتهى. وقال ابنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والجمهورُ على أَنَّ المرادَ بالفتحِ ها هنا: فتحُ مكةَ. ا.هـ.
قولُه: (الحديبيةُ) كدُوَيْهِيَةَ، وقدْ تشَدَّدُ، بئرٌ قُرْبَ مكةَ انتهى. قاموسٌ، في هَذِهِ الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الصَّدقةَ – وَكَذَلِكَ سائرُ الأعمالِ – تَتفاضَلُ بحسَبِ الزَّمانِ والمكانِ، وفيها دليلٌ على فَضْلِ النَّفقةِ في سبيلِ اللَّهِ، وفَضلِ الجِهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وفيها دليلٌ على تفاضُلِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللَّهِ عليهم، واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على أَنَّ الصَّحابةَ كُلَّهُم مِن أهلِ الجَنَّةِ، قال ابنُ حزمٍ: الصَّحابةُ مِن أهلِ الجَنَّةِ قَطْعًا واستدَلَّ بهذه الآيةِ.
قولُه: (ويقدِّمون المهاجِرَين على الأنصارِ) وَذَلِكَ لِمَا فَضَّلُهم اللَّهُ بِهِ مِن المنْزِلةِ والشَّرفِ، والتَّقديمِ في الذِّكْرِ والرُّتبةِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)، وقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) الآيةَ.
قولُه: (والمهاجِرين) وهم الذين هاجَروا مِن مكةَ إلى المدينةِ. انتهى. قَسطلانيٌّ، وقال في الفتحِ: والمرادُ بالمهاجرينَ مَن عَدا الأنصارِ، ومَن أَسلمَ يَومَ الفتحِ وهلمَّ جرَّا. اهـ.
والهجرةُ هنا لغةً: التَّرْكُ، وشَرْعا: هُوَ الانتقالُ مِن بلدِ الشِّركِ أو بلدٍ تَغْلُبُ فيه أحكامُ البِدَعِ المُضِلَّةِ إلى بلدِ الإسلامِ أو السُّنَّةِ.
قولُه: (الأنصارُ) أي: أنصارُ رَسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، المرادُ بهم الأوسُ والخزرجُ، وكانوا يُعرفون قبل ذَلِكَ ببني قيلةَ، وَهِيَ الأُمُّ التي تَجمعُ القَبيلتَيْنِ، فسمَّاهم الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الأنصارَ، فصار ذَلِكَ عَلَماً عليهم، وخُصُّوا بهذه المنْقَبةِ العُظمى دُونَ غيرِهم مِن القبائلِ، لِما فَازُوا بِهِ مِن إيواءِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ومَن معه، والقيامِ بأَمْرِهم ومُواساتِهم بأنْفُسِهم وأموالِهم، والأحاديثُ في فضلِ الأنصارِ كثيرةٌ، كحديثِ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ)).
قولُه: (ويُؤمِنون بأَنَّ اللَّهَ ... ) إلخ: كما روى الحاكِمُ في المستدرَكِ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))، وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ غلامًا لحاطِبٍ، قال: ليَدخُلَّنَ حاطِبٌ النَّارَ، فقال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كَذَبْتَ إِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَالْحُدَيْبِيَةَ))، وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- في قِصَّةِ كتابِ حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ لقريشٍ يُخبِرُهم بخروجِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فقال عُمرُ -رضي اللَّهُ عنه-: دَعْني أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا المنافِقِ، فقال: ((إِنَّهُ شَهِدَ بَدْراً وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوْا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )) رواهُ الإمامُ أحمدُ.
قولُه: ((لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ)) الحديثَ، صرَّحَ العلماءُ بأَنَّ التَّرَجِّيَ المذكورَ في كلامِ اللَّهِ وكلامِ رسولِه للوُقوعِ، وقد وقع عندَ أحمدَ وأبي داودَ وغيرِهم في حديثِ أبي هريرةَ بالجزمِ، ولَفظُه: ((إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ... )) الحديثَ، وفي هَذِهِ الأحاديثِ دليلٌ على فضيلةِ أهلِ بدْرٍ، وبِشارةٌ عظيمةٍ لهم، قال النَّوويُّ في شَرحِ مسلمٍ، قال العلماءُ رَحِمَهُم اللَّهُ: معناهُ الغفرانُ لهم في الآخرةِ، فإنْ تَوَجَّهَ على أَحَدٍ منهم حَدٌّ أو غيرُه أُقِيمَ عليه في الدُّنْيَا. ونَقَلَ القاضي عياضٌ الإجماعَ على إقامةِ الحَدِّ، وأقامَه عُمرُ على بعضِهم، وقال وضَرَبَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِسْطحاً وكان بَدْرياًّ. انتهى.
قولُه: (وكانوا ثَلاثَمائةٍ وبِضعةَ عَشَرَ) أي: عِدَّةَ أهلِ بدْرٍ، كما روى البخاريُّ عن البراءِ بنِ عازبٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كُنَّا أصحابَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- نتحدَّثُ أنَّ عِدَّةَ أصحابِ بدرٍ على عِدَّةِ أصحابِ طَالوتَ الذين عَبَروا معه النَّهَرَ، ولم يجاوِزُه معه إلاَّ مؤمنٌ بِضعةَ عشَرَ وثلاثُمائةٍ، وبدرٌ قريةٌ مشهورةٌ على نحو أربعِ مراحِلَ مِن المدينةِ المنوَّرةِ، وسمِّيت الوقعةُ باسِمِ مَوْضِعها الذي وَقَعت فيه، ووقعةُ بدرٍ من أشهرِ الوقائعِ التي أَعَزَّ اللَّهُ بها الإسلامَ وقمَعَ بها عَبَدَةَ الأصنامِ.
وكانت وقعةُ بدرٍ نَهارَ الجمعةِ لِسبعَ عشْرةَ خلَتْ مِن رمضانَ مِن السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، واستُشِهدَ فيها مِن المسلِمِينَ أربعةَ عَشَرَ نَفْسا سِتَّةٌ مِن المهاجِرينَ وثمانيةٌ مِن الأنصارِ، وقُتِلَ مِن الكفَّارِ سَبْعونَ.(1/61)
وبأَنَّهُ لا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تحتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ، وكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وأَرْبَعِ مِئَةٍ، ويَشْهَدُونَ بالجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كالعَشَرَةِ.(1/62)
(1)
__________
(1) قولُه: (وبأنَّه لا يَدْخُلُ النَّارَ) إلخ: قال اللَّهُ تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّه عَلَى النَّبيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) وقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الآيةَ، وفي صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" وغيرِهما مِن حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كنَّا في الحديبيةِ ألْفًا وأربعَمائةٍ، فقال لنا رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ)) أفادَ هَذَا الحديثُ أنَّ عَدَدَ مَن بايعَ تحتَ الشَّجرةِ ألْفٌ وأربعُمائةٍ، وفي روايةٍ مِن حديثِ جابرٍ أنَّهم ألْفٌ وخمسُمائةٍ، وفي حديثِ البراءِ أنَّهم ألْفٌ وأربعُمائةٍ أو أكثرُ، وجُمِعَ بين هَذِهِ الرِّواياتِ بأنَّ مَن قال ألْفٌ وخمسُمائةٍ جَبَرَ الكَسْرَ، ومَن قال ألْفٌ وأربعُمائةٍ ألْغَاه، وكان سببُ هَذِهِ البَيعةِ أنَّهُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قَصَدَ مكَّةَ ليَعتَمِرَ فصدَّهُ المشركونَ، وكان قد بَعثَ عثمانَ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- إلى مكةَ فشاع أنَّ عثمانَ قُتِلَ، فطَلَبَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- البيعةَ فبايَعوه تحت الشَّجرةِ، ثم صالَحَ المشركين صُلحَ الحديبيةِ المعروفِ، وَذَلِكَ في سَنةِ سِتٍّ مِن الهجرةِ في ذي القَعدةِ، ثم رجع بهم إلى المدينةِ وغَزا بهم خيبرَ ففَتحَ اللَّهُ عليهم في أوَّلِ سَنةِ سبعٍ وقَسَمها بينهم.
قولُه: (شجرةٌ) هي شجرةٌ خضراءُ مِن سِدرٍ، كانت البيعةُ تحتها، ويقالُ لها شَجرةُ البيعةِ، ولما كان في خِلافةِ عُمرَ، رأى أناسًا يَذْهَبون إليها فيُصلُّون تحتها، فقَطَعَها -رضي اللَّهُ عنه- مخافةَ الفِتنةِ بها، واختَفى مكانُها. وأمَّا الحديبيةُ فهي قريبةٌ مِن مكَّةَ أكثرُها في الحَرمِ، والحديبيةُ بئرٌ كانت هناكَ وسُمِّيَ المكانُ بها، بينها وبين مكةَ نحوُ مرحلةٍ واحدةٍ، ومِن المدينةِ تِسعُ مراحِلَ.
قولُه: (ونَشهَدُ بالجَنَّةِ ... ) إلخ، أي ويَشهَدُ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بالجَنَّةِ لِمَن شَهِدَ له الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كالعشَرةِ، وهم: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ، والزُّبيرُ بنُ العوَّامِ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وسعيدُ بنُ زيدٍ، وأبو عُبيدةَ بنُ الجرَّاحِ، وطلحةُ، كما روى الترمذيُّ في جامِعه عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ في الجَنَّةِ، وعَلِيٌّ في الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ في الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ في الجَنَّةِ، وَسَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ في الجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ في الجَنَّةِ، وأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ في الجَنَّةِ))، ورواه أحمدُ في مسنَدِه، والضِّياءُ عن سعيدِ بنِ زيدٍ، وتبشيرُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- العشَرةَ بالجَنَّةِ لا يُنافي مَجِيءَ تبشيرِ غيرِهم في أخبارٍ أخرى؛ لأنَّ العَدَدَ لا ينفي الزَّائِدَ.
وعن عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ إِلاَّ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ))، أَخرجَه أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجهْ، وأَخرجَه أبو يعلى والضِّياءُ في المختارةِ عن أنسٍ، وأَخرجَه الطَّبرانيُّ في الأوسطِ عن جابرٍ وأبي سعيدٍ، وقد اتَّفقَ أهلُ السُّنَّةِ على تعظيمِ هؤلاءِ العشَرةِ وتقديمِهم، لِمَا اشتُهِرَ مِن فضائِلهم ومناقِبهم، خِلافًا للرَّافِضَةِ الذين يُبْغِضُونَهم ويَسُبُّونَهم، بل يَكرهون لفظَ العَشَرةِ أو فِعلَ شيءٍ يكونُ فيه عشَرةٌ، ويتشاءَمون بِهِ لموافَقَتِه لاسمِ العشَرةِ المبشَّرةِ بالجَنَّةِ، لكنَّهم يَسْتَثْنُون عَلياًّ -رضي اللَّهُ عنه-، ولَدَيهِم مِن الجهالاتِ والعوائدِ الذَّميمةِ وسَفاهَةِ العُقولِ ما يَقْضِى بعَزلِهم عن زُمرةِ العقلاءِ، وإلا فما ذَنْبُ هَذَا النَّوعِ من العدَدِ؟! لكنَّه البُغضُ المتأصِّلُ والعداوةُ البالِغةُ لخيارِ المؤمنينَ وساداتِهم، وأفضْلُ قُرونِهم رِضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين.(1/63)
وثابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وغيْرِهِمْ مِنَ الصَّحابَةِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وثابتُ بنُ قَيْسٍ) هُوَ خَطيبُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما رواه البخاريُّ في "صحيحِه" عن أنسٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- افْتقدَ ثابتَ بنَ قيسٍ، فقال رجُلٌ يا رسولَ اللَّهِ أنا أَعْلمُ لَكَ عِلْمَهُ، فأَتاه فوَجَدَه في بَيتِه منَكِّسا رأسَه، فقال له: ما شأنُكَ؟ قال: شرٌّ، كان يَرفَعُ صوْتَه فوقَ صوتِ النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فقد حَبِطَ عَملُه فهُوَ مِن أهلِ النَّارِ، فأتى الرَّجُلُ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فأخبَرَه أنَّهُ قال كذا وكذا، قال فرَجعَ إليه المرَّةَ الأخيرةَ فأخبَرَه ببشارةٍ عظيمةٍ، فقال: ((اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلِكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ))، تفرَّدَ بِهِ البخاريُّ مِن هَذَا الوجهِ، وفي روايةِ أحمدَ عن أنسٍ: فكنَّا نَراهُ يَمشِي بين أظْهُرِنا ونحن نَعلَمُ أنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ، ورواه مسلمٌ بلفظٍ آخَرَ، ورواهُ ابنُ جريرٍ وغيرُه، ورَوَى ابنُ أبي حاتمٍ عن ثابتٍ عن أنسٍ في قصَّةِ ثابتِ بنِ قيسٍ، فقال في آخرِها: فكُنَّا نراهُ يمشي بين أظْهُرِنا ونحن نَعلَمُ أنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ، فلمَّا كان يومَ اليَمامَةِ كان في بَعْضِنا بَعضُ الانكِشافِ، فأَقبلَ قد تَكفَّنَ وتحنَّطَ، فقاتَلَ حتى قُتِلَ -رضي اللَّهُ عنه-.
قولُه: (وغيرُهم مِن الصَّحابةِ) وَذَلِكَ كَعَبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ والحسَنِ، فقد شَهِدَ النَّبيُّ للمذكورَيْنِ، كما روى البخاريُّ في "صحيحِه" عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، قال: ما سمعتُ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ لأحدٍ يَمْشِي إنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ إلا لعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَمٍ، وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ))، وفي حديثِ عُكَّاشَةَ بنِ مِحصنٍ: لمَّا ذَكَرَ السَّبعِينَ ألْفًا الذين يَدخُلونَ الجَنَّة مِن غيرِ حسابٍ ولا عذابٍ، فقال: ادْعُ اللَّهَ أنْ يجعلَني منهم، فقال: ((أَنْتَ مِنْهُمْ ... )) الحديثَ، ولا يُشْهَدُ لغيرِ مَن شَهِدَ لهُ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بجنَّةٍ ولا نارٍ؛ لأنَّه لا يُعلَمُ ماذا يُختَمُ له به، وأَلْحَقَ بعضُ العلماءِ بمَنْ تَقدَّمَ مَن اتَّفَقَتِ الأمَّةُ على الثَّناءِ عليه، كعُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ والحسَنِ البصريِّ وغيرِهما، وكان أبو ثورٍ يَشْهَدُ لأحمدَ بنِ حنبلٍ بالجَنَّةِ، وفي المسنَدِ: ((يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِن أَهْلِ النَّارِ))، قالوا: بماذا يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((بالثَّناءِ الحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ)).
وفي "الصَّحيحَيْنِ" أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مُرَّ عليه بجنازةٍ فأَثنَوْا عليها خيرًا، فقال: ((وَجَبَتْ))، ومُرَّ عليه بجنازةٍ فأَثْنَوْا عليها شَراًّ فقال: ((وَجَبَتْ))، فقيل يا رسولَ اللَّهِ ما قَوْلُكَ وجَبَتْ؟ فقال: ((هَذِهِ الجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا بِالْخَيْرِ فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا الجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَراًّ فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ)).(1/64)
( وَيُقِرُّونَ بِمَا تَواَتَرَ بهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيْرِ المُؤمِنينَ عليِّ بنِ أَبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيْرِهِ مِن أَنَّ خَيْرَ هذِهِ الأمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّها أَبو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ويُثَلِّثُونَ بِعُثْمانَ، ويُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثارُ، وكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلى تَقْدِيمِ عُثْمانَ في البَيْعَةِ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويقِرُّونَ) الإشارةُ للرَّدِّ على الرَّافِضةِ الذين يُفضِّلونَ عَلياًّ على أبي بكرٍ وعُمرَ، ويَطعَنونَ في خِلافَتِهِما، ويَزْعُمونَ أنَّ عَلياًّ أفْضَلُ منهما، وأَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَوْصَى إليه، وقد سُئِلَ عليٌّ عن ذَلِكَ فأنْكَرَ ذَلِكَ، كما روى الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضيَ اللَّهُ عنه- أنَّه قال: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها أبو بكرٍ وعُمرُ. قال الحافِظُ الذَّهبيُّ: هَذَا متواتِرٌ، والرَّوافِضُ تكذِّبُ هَذِهِ الأخبارَ – لَعَنَهُم اللَّهُ – ما أَجْهلَهم وأضَلَّهُم.
وقال في الفتاوى للشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد رُوِيَ عن عَلِيٍّ مِن نحوٍ مِن ثمانين وَجْها أو أكثرَ أنَّه قال على مِنْبِر الكوفةِ: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد نَبِيِّها أبو بكرٍ وعُمرُ، وقال في المنهاجِ: وروى الترمذيُّ عنه أنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ولا رَيْبَ أنَّ عَلياًّ لا يَقْطَعُ بِذَلِكَ إلاَّ عَنْ عِلْمٍ، وروى عنه أنَّه قال: لا أُوتَى بمَن يُفضِّلُني على أبي بكرٍ وعُمرَ إلاَّ جَلدْتُه جَلْدَ المُفْتَرِي.
وروى الشَّيخانِ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كان أبو بكرٍ أعْلمَنا برسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وروى الترمذيُّ عن أنسِ بنِ مالِكٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لأبي بكرٍ وعمرَ: ((هَذَانِ سَيِّدَا كُهولِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِن الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ إِلا الأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ))، وروى أبو الدَّرداءِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلاَ غَرَبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ والْمُرْسَلِينَ على أَفْضَلَ مِن أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ))، وذكر الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ في غيرِ موضعٍ مِن كتُبِه اتَّفاقَ العلماءِ على أنَّ أَعْلَمَ الصَّحابةِ أبو بكرٍ ثم عُمرُ.
وذكر الإمامُ السَّمعانيُّ أَحدُ الأئمَّةِ السِّتَّةِ في كتابِ (تقويمِ الأدِلَّةِ) أجْمَعَ علماءُ السُّنَّةِ على أنَّ أبا بكرٍ أَعلَمُ مِن عَليٍّ، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: وما علمتُ أحدًا مِن الأئمَّةِ المشهورِينَ يُنازِعُ في ذَلِكَ. اهـ.
قولُه: (ويُثَلِّثُونَ بعثمانَ ويُرَبِّعون بِعَليٍّ) أي: يُكْمِلون بعثمانَ ثلاثةً ويُكْمِلون بعليٍّ أربعةً، فالخلفاءُ الأربعةُ على هَذَا التَّرتيبِ في الفَضْلِ والخلافةِ، كما روى الشَّيخانِ عن ابنِ عُمرَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كنَّا نُفاضِلُ على عهدِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أبو بكرٍ ثم عُمرُ ثم عثمانُ، وفي لفظٍ: يَبْلُغَ ذَلِكَ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ- وَلا يُنْكِرُهُ، وقال أبو أيوبَ السِّخْتِيانيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ والدَّارَقُطنيُّ وغيرُهم: مَن قدَّمَ علياًّ على عثمانَ فقدْ أَرْزَى بالمهاجِرينَ والأنصارِ، فهؤلاء الأربعةُ هم الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ والأئمَّةُ المهْدِيُّون، كما في حديثِ العِرباضِ بنِ سارِيةَ -رضي اللَّهُ عنه-: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ... )) الحديثَ.
قولُه: (وكما أَجْمعَ الصَّحابةُ على تقديمِ عثمانَ في البيعةِ) فإنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللَّهِ عليهم اختارُوه وأَجْمَعوا على بَيْعتِه، كما في حديثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ أنَّه قام ثلاثًا لم يَغْتَمِضْ فيها بِنَوْمٍ يُشاوِرُ الأوَّلِينَ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، وشَاوَرُوا أمراءَ الأنصارِ، فأشارَ عليه المسلمونَ بولايةِ عثمانَ -رضي اللَّهُ عنه-، وهَذَا مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على أنَّ عثمانَ أَفْضلُ؛ لأنَّهم قَدَّموه باختيارِهم، وأجمعوا عليه، كما تَقدَّمَ مِن قولِ أبي أيوبَ وأحمدَ والدَّارقطنيِّ وغيرِهم مِن الأئمَّةِ: مَن قدَّمَ علياًّ على عثمانَ فقد أَرْزَى بالمهاجِرينَ والأنصارِ، فأفضلُ الأمَّةِ أبو بكرٍ بإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ، ولا يُنازِعُ في ذَلِكَ إلا زائغٌ، واسمُه عبدُ اللَّهِ بنُ عثمانَ بنِ عامرِ بنِ عمرِو بنِ كعبِ بنِ سعدِ بنِ تميمِ بنِ مُرَّةَ، الصِّدِّيقُ لَقَّبَهُ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بِذَلِكَ، وهُوَ أوَّلُ النَّاسِ إيماناً وتَصدِيقا للنَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عَلَى المشهورِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ، وقيل: أوَّلُ النَّاسِ إسلاماً عليٌّ وقيل غيرُ ذَلِكَ.
ورُوِيَ عن الإمامِ أبي حنيفةَ أنَّه قال: الأَوْرَعُ أنْ يقالَ أوَّلُ مَن أَسْلَمَ مِن الرِّجالِ الأحرارِ أبو بكرٍ الصِّديقُ، ومِن الصِّبيانِ عليٌّ، ومِن النِّساءِ خديجةُ، ومِن الموالي زَيدُ بنُ حارثةَ، ومِن العبيدِ بلالٌ، وهكذا رُوِيَ عن إسحاقَ بنِ رَاهُوَيْهِ، وهَذَا مِن أحسَنِ ما قيل لجَمْعِه الأقوالَ، وأبو بكرٍ أوَّلُ مَن وَلِيَ الخلافةَ وأحَقُّ النَّاسِ بها، وأوَّلُ مَن سُمِّيَ خليفةً.
قال الإمامُ الشَّافعيُّ: خلافةُ أبي بكرٍ قَضاهَا اللَّهُ في سمائِه، وَجَمعَ عليها قَلْبَ نَبِيِّه، وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الأعلامِ: ولا يُحْفَظُ لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ خلافُ نَصٍّ واحِدٍ أبدًا، ولا يُحْفَظُ له فَتْوى ولا حُكمٌ مأْخَذُها ضعيفٌ، وهُوَ تحقيقٌ في كونِ خِلافَتِه خلافةُ نُبُوَّةِ. انتهى.
صَحِبَ أبو بكرٍ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن حينِ أَسْلَمَ إلى أنْ تُوُفِّي، وَشَهِدَ معه المَشَاهِدَ كُلَّهَا، ومناقِبُه أشهرُ مِن أنْ تُذْكَرَ، تُوُفِّيَ وله ثلاثٌ وسِتُّونَ سَنةً، وكانتْ خِلافَتُه سَنَتَيْنِ وأشْهُرٍ، ودُفِنَ بجنْبِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-. ثم بَعدَ أبي بكرٍ عمرُ في الفَضْلِ، وهُوَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ بنِ نُفيلِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ رباحِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ قُرطِ بنِ رَزاحِ بنِ عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ يجتمِعُ مع النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، سمَّاه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الفارُوقَ، لفَرْقِه بين الحقِّ والباطلِ، أَسلَمَ في السَّنةِ السَّادسةِ مِن البِعْثةِ، وعُمْرُه سبعٌ وعِشرونَ سَنةً، ومناقِبُه أشْهَرُ مِن أنْ تُذكَرَ، وكنَّاه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بأبي حفصٍ، وهُوَ لغةُ الأسدِ، وهُوَ أوَّلُ مَن سُمِّيَ أميرَ المؤمنينَ لاستِثْقالِهِم خليفةَ خليفةِ رسولِ اللَّهِ، وَلِيَ الخلافةَ بعدَ الصِّدِّيقِ سنةَ ثلاثةَ عشَرَ، وقامَ بها أَتَمَّ قيامٍ، وكثُرت الفتوحُ في مدَّةِ خلافَتِه -رضي اللَّهُ عنه-، وهُوَ أفْضلُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد أبي بكرٍ -رضي اللَّهُ عنه- بإجما عِ السَّلَفِ، وسيرةُ عُمرَ قد أَفْرَدَها بعضُ العلماءِ بالتَّأليفِ وبَلَغتْ مجلَّداتٍ، وعَدْلُه يُضربُ بِهِ المثَلُ، فيُقالُ سيرةُ العُمرَيْنِ، والعُمرانِ أبو بكرٍ وعمرُ، وقيل لهما العمرانِ تغلِيباً مِثلَ ما يقالُ القَمرانِ للشَّمسِ والقمرِ، والأبوانِ للأبِ والأُمِّ، ماتَ -رضي اللَّهُ عنه- شَهِيدًا، طَعنَه أبو لؤلؤةَ في المسجدِ سنةَ ثلاثةٍ وعشرين، ودُفِنَ بالحجرةِ النَّبويَّةِ بجنْبِ أبي بكرٍ مع النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.
ثم بعدَ عمرَ في الفضلِ عثمانُ بنُ عفانَ بنِ الحارثِ بنِ أميَّةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ مَنافٍ، وُلِدَ في السَّنةِ السَّادِسةِ مِن الفيلِ، وأَسلَمَ قَديماً، وهاجَرَ الهِجرتَيْنِ، وتَزوَّجَ بِنْتَيِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فسُمِّي ذا النُّورَيْنِ، وَجَمعَ -رضي اللَّهُ عنه- القرآنَ، وجَهَّزَ جيشَ العُسرةِ، وَلِيَ الخلافةَ بعدَ عُمرَ بإجماعِ الصَّحابةِ -رضي اللَّهُ عنهم- وفَضائِلُه كثيرةٌ، استُشْهِدَ في دارِه سنةَ خمسٍ وثلاثينَ وله بِضعٌ وثمانونَ سَنةً، تجمَّعَتْ أوباشٌ وأنذالٌ مِن أوباشِ العراقِ ومِصرَ والشَّامِ فحاصَرُوه في بيتِه، وأخيرًا اقْتَحَمُوا عليه وقَتَلُوه شَهِيدًا -رضي اللَّهُ عنه-.
ثم بعدَ عثمانَ في الفَضلِ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- ابنُ عَمِّ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وزَوجُ بِنْتِه فاطمةَ الزَّهراءِ، ومناقِبُه كثيرةٌ، بايَعهُ النَّاسُ بعد قَتلِ عُثمانَ -رضي اللَّهُ عنهما-، واتَّفقَ السَّلَفُ على فَضلِه وخِلافَتِه بعد عثمانَ.
قال الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: عليٌّ رابِعُهم في الخلافةِ والتَّفضيلِ، وهُوَ أوَّلُ خليفةٍ مِن بني هاشِمٍ، وقيلَ: إنَّه أوَّلُ مَن أَسْلَمَ، ونَقَل بَعضُهم الإجماعَ عليه، وتقدَّمَ الكلامُ في أوَّلِ مَن أَسلَمَ في مناقِبِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، ومناقِبُه كثيرةٌ وفضائِلُه شهيرةٌ، حتى قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: ما جاء لأحدٍ مِن الفضائلِ ما جاءَ لِعَليٍّ -رضي اللَّهُ عنه-، ماتَ ليلةَ الأحدِ لتِسعَ عشْرةَ مضتْ مِن رمضانَ سنةَ أربعينَ، قتَلَه عبدُ الرحمنِ بنُ مُلجِمٍ قبَّحه اللَّهُ، وعُمرُه ثلاثةٌ وستونَ سَنةً، وخلافَتُه خمسُ سِنينَ إلا نحوَ أربعةِ أشهرٍ.(1/65)
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفوا في عُثْمانَ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما – بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى تَقْدِيمِ أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ – أَيُّهُما أَفْضَلُ؟ فقدَّمَ قومٌ عُثْمانَ: وسَكَتُوا، أَو رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وقَدَّمَ قَوْمٌ عَلِيّاً، وقَوْمٌ تَوَقَّفُوا.
لكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلى تَقْدِيمِ عُثْمانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ. (1)
__________
(1) قولُه: (مع أنَّ بعضَ أهلِ السُّنَّةِ) إلخ: فرُوِيَ عن أبي حنيفةَ تقديمُ عليٍّ على عثمانَ، ولكن ظاهِرُ مذهَبِه تقديمُ عثمانَ، وَكَذَلِكَ رُوِي عن سفيانَ الثَّورِيِّ تقديمُ عليٍّ على عثمانَ، ويُقالُ إنَّه رَجَعَ عنه لما اجْتَمَعَ بِهِ أبو أيوبَ السِّختيانيُّ، وقال: مَن قدَّمَ علياًّ على عثمانَ فقد أَرْزَى بالمهاجِرينَ والأنصارِ، وقِيلَ لا يُفضَّلُ أحدُهما على الآخَرِ، قال مالكٌ في المدوَّنةِ وتَبِعَه جماعةٌ منهم يحيى القَطَّانُ، ومِن المتأخِّرينَ ابنُ حزمٍ،: والذي عليه جمهورُ أهلِ السُّنَّةِ، بل استقَرَّ أمرُ أهلِ السُّنَّةِ عليه تقديمُ عثمانَ علي عليٍّ -رضي اللَّهُ عنهما-، كما أشارَ إليه المصنِّفُ، قال في المنهاجِ: وسائِرُ أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ على تقديمِ عثمانَ، وهُوَ مذهبُ جماهيرِ أهلِ الحديثِ، وعليه يَدُلُّ النَّصُّ والإجماعُ والاعتبارُ. انتهى.
وفي الصَّحيحِ عنِ ابنِ عمرَ قال: كنا نقولُ -ورسولُ اللَّهِ حَيٌّ-: أفضلُ أمَّةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بعدَه أبو بكرٍ ثم عَمرُ ثم عثمانُ ثم عليٌّ، وفي لفظٍ: يَبلُغُ ذَلِكَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ولا يُنْكِرُه، وقال عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ] لِعليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- إني نَظَرْتُ أمرَ النَّاسِ فلم أَرَهُمْ يَعدِلون بعثمانَ، وقال أبو أيوبَ: مَن لم يقدِّمْ عثمانَ على عَليٍّ فقد أَرْزَى بالمهاجِرين والأنصارِ.وقد تقدَّمَ، وهَذَا دليلٌ على أنَّ عثمانَ أَفْضلُ؛ لأنَّهم قدَّمُوه باختيارِهم واشتوارِهم، وعليٌّ -رضي اللَّهُ عنه- مِن جُملةِ مَن بايعَ عثمانَ وغزا معه، وكان يُقيمُ الحدودَ بين يَدَيْهِ.
قولُه: (بعد اتِّفاقِهم) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ متَّفِقون على تقديمِ أبي بكرٍ وعمرَ على عثمانَ، وَذَلِكَ لما لأبي بكرٍ وعُمرَ مِن الفضائلِ التي لم يُشارِكْهُما فيها أحدٌ مِن الصَّحابةِ لا عثمانُ ولا عليٌّ ولا غيرُهما، وهَذَا كان متَّفقاً عليه في الصَّدْرِ الأوَّلِ إلاَّ أنْ يكونَ خِلافا شاذاًّ لا يُعْبَأُ به.(1/66)
وإِنْ كَانَتْ هذه المَسْأَلَةُ – مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وعَلِيٍّ – لَيْسَتْ مِنَ الأصُولِ الَّتي يُضَلَّلُ المُخَالِفُ فيها عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السٌّنَّةِ، [ لكِنِ الَّتي يُضَلَّلُ فيها، مَسْأَلَهُ ] الخِلافَةِ، وذلك أنَّهُمْ يُؤمِنُونَ أَنَّ الخَلِيفةَ بعدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، ثُمَّ عُثمانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ومَنْ طَعَنَ في خِلافَةِ أَحَدٍ مِن هؤلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمارِ أَهْلِهِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وإنْ كانتْ هَذِهِ المسألةُ مسألةُ عثمانَ) إلخ أي: مسألةُ التَّفضِيلِ بينهما لوجودِ الخلافِ، فقد قال بعضُ أهلِ السُّنَّةِ بتقديمِ عليٍّ، والبعضُ تَوقَّفَ، وأمَّا مَن حَكى الإجماعَ على تفضيلِ عثمانَ فقد غَلِطَ، فالخلافُ موجودٌ، فَلِذا لا يُضلَّلُ المخالِفُ.
قولُه: (التي يُضلَّلُ فيها) إلخ أي: يُنسَبُ إلى الضَّلالِ هي مسألةُ الخلافةِ، فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يؤمنون بأنَّ بعدَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لفضلِه وسابِقَته، وتقديمِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- له على جميع الصَّحابةِ، وإجماعِ الصَّحابةِ على ذَلِكَ، ولم يكُن اللَّهُ لِيَجْمَعُهم على ضلالةٍ.
ثم أحقُّهُم بالخلافةِ بعدَ أبي بكرٍ عمرُ -رضيَ اللَّهُ عنهما-، وَذَلِكَ لِفَضْلِه وعَهدِ أبي بكرٍ إليه، واتِّفاقِ الأمَّةِ بعدَه عليه، ثم عثمانُ -رضي اللَّهُ عنه- لتقديمِ أهلِ الشُّورَى له واتِّفاقِ الأمَّةِ عليه. قال الإمامُ أحمدُ: ما اجْتَمَعوا على بيعةٍ ما اجْتَمَعوا على بيعةِ عثمانَ -رضي اللَّهُ عنه-، ثم عليٌّ لِفَضْلِه وإجماعِ أهلِ عَصرِه عليه، ولا شَكَّ أنَّ عَلِياًّ هُوَ الخليفةُ في زَمانِه خِلافةَ نبوَّةٍ، كما دَلَّ على ذَلِكَ حديثُ سَفينةَ الذي سيأتي.
وقال الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عليٌّ رابِعُهم في الخلافةِ والتَّفضِيلِ، وأمَّا معاويةُ فهُوَ مِن العُدولِ الفُضلاءِ والصَّحابةِ النُّجباءِ -رضي اللَّهُ عنهم-، فهؤلاء هُم الخلفاءُ الأربعةُ المشارُ إليهم في حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي ... )) الحديثَ.
قولُه: (مَنْ طَعَن في خلافةِ واحدٍ منهم)) إلخ: لمخالَفَتِه النُّصوصَ الصَّريحةَ والإجماعَ، ولم يخالِفْ في ذَلِكَ إلا ضالٌّ زائغٌ.
قال الإمامُ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَن فضَّلَ علياًّ على أبي بكرٍ وعمرَ وقدَّمَه عليهما في الفَضيلةِ والإمامةِ دُونَ النَّسبِ فهُوَ رافِضيٌّ مبتدعٌ فاسِقٌ، ذَكَره القاضي أبو يَعْلَى وتَبَرَّأَ الإمامُ أحمدُ ممَّن ضَللَّهم أو أَحداً منهم، وقال الإمامُ أحمدُ: مَن لم يُرَبِّعْ بعليٍّ في الخلافةِ فهُوَ أضَلُّ مِن حمارِ أهلِه، واحتجَّ الإمامُ أحمدُ بحديثِ سَفِينةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((تَكُونُ خِلاَفَةُ النُّبُوَّةِ ثَلاَثِينَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا))، وآخِرُ الثَّلاثينَ خلافةُ عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- مع أيَّامِ ابنِه الحسَنِ، وكانتْ سِتَّةَ أشْهُرٍ وشيئًا، وروى حديثَ سفينةَ أصحابُ السُّنَنِ وصحَّحَه ابنُ حِبَّانَ وغيرُه، فترتيبُ الخلفاءِ في التَّفضيلِ والخلافةِ كما ذَكَرَه المصنِّفُ خلافًا للرَّافضةِ مِن الشِّيعةِ وغيرِهم الذين يَزعُمون أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قد نَصَّ على خلافةِ عليٍّ، وهَذَا مِن أَعْظمِ الكذِبِ والافتراءِ، والأدِلَّةُ على بُطلانِ هَذِهِ الدَعْوى لا تُحصى، بل قد سُئِلَ عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه- عن ذَلِكَ فأنْكَرَه، قال النَّوويُّ: وأمَّا ما تدَّعِيه الشِّيعةُ مِن النَّصِّ على عليٍّ والوصيةِ إليه فباطِلٌ لا أصلَ له باتِّفاقِ المسلِمِينَ، وأوَّل مَن كذَّبَهم عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-، ثم ذَكَرَ ما روى البخاريُّ عن أبي جُحيفةَ، قال: قلتُ لعليٍّ -رضي اللَّهُ عنه-: هل عندكم مِن الوَحْيِ شيءٌ غيرُ القرآنِ؟ قال: لا والذي فَلَق الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمةَ إلا فَهْماً يُعطِيهِ اللَّهُ رجُلاً في القرآنِ، وما في هَذِهِ الصَّحيفةِ، قلتُ: وما في هَذِهِ الصَّحيفةِ؟ قال: العَقلُ وفكاكُ الأسيرِ، وأنْ لا يُقْتَلَ مُسلِمٌ بكافرٍ، وروى مسلمٌ عن الأسودِ بنِ يزيدَ، قال: ذَكروا عند عائشةَ أنَّ علياًّ كان وصِياًّ، فقالت: مَتى أُوصِيَ إليه فقد كُنْتُ مُسنِدَتَه – تعني النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- – إلى صَدْرِي فدَعَى بالطَّسْتِ فلقد انْخَنَثَ في حِجري وما شَعرتُ أنه ماتَ، فمتى أَوصَى إليه؟ إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على بطلانِ ما تَزعُمُه الشِّيعةُ مِن أنَّه أَوصَى إليه، أو أنَّ لدى أهلِ البيتِ شيءٌ من العِلمِ، لا سيَّما عليٌّ لم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ غيرُه، وقد أطالَ في المنهاجِ في ردِّ هَذَا وإبطالِه بأدِلَّةٍ واضحةٍ صريحةٍ – إلى أنْ قال – وأما النَّصُّ الذي تَدَّعِيه الرَّافِضةُ فهُوَ كالنَّصِّ الذي تَدَّعِيه الرَّاونديةُ على العبَّاسِ، وكِلاهما معلومُ الفسادِ بالضَّرورةِ عندَ أهلِ العلمِ، ولو لم يكُنْ في إثباتِ خلافةِ عليٍّ إلاَّ هَذَا لم تَثْبُتْ له إمامةٌ، كما لم تَثْبُتْ للعبَّاسِ إمامةٌ بنَظيرِه. اهـ.(1/67)
( وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويَتَوَلَّوْنَهُمْ، ويَحْفَظُونَ فيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: (( [ أُذَكِّرُكُمُ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي ])). (1)
__________
(1) قولُه: (ويُحِبُّونَ أهلَ بيتِ رسولِ اللَّهِ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يُحِبُّونَ أهلَ بيتِ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ويَتَولَّوْنَهُم ويَحتَرِمُونهم ويُكْرِمونهم لِقَرابَتِهم مِن رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فاحْتِرَامُهم ومحبَّتُهم والبِرُّ بهم مِن توقيرِه واحترامِه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وامتِثالاً لما جاءَ بِهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن الحثِّ على ذَلِكَ، قال تعالى: (قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وقد تكاثَرَت الأحاديثُ بالأمرِ بِذَلِكَ والحثِّ عليه، قال ابنُ كثيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعدَ كلامٍ: ولا نُنْكِرُ الوِصايةَ بأهلِ البيتِ والأمرِ بالإحسانِ إليهم واحترامِهم وإكرامهم، فإنَّهم مِن ذرِّيَّةٍ طاهرةٍ وأشرفِ بيتٍ وُجِدَ على وَجْهِ الأرضِ فَخْراً وحَسَباً ونَسَباً، ولا سيِّما إذا كانوا متَّبِعينَ للسُّنَّةِ النَّبوِيَّةِ الصَّحيحةِ الواضحةِ الجليةِ، كما كان عليه سَلَفُهم كالعبَّاسِ وبَنِيه وعليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- وأهلِ بَيْتِه وذَويهِ، وأهلُ البيتِ همْ آلُ النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الذين حُرِّمَتْ عليهم الصَّدَقةُ، كما فَسَّرَ ذَلِكَ راوي الحديثِ، وهم آلُ عليٍّ، وآلُ جعفرٍ، وآلُ عَقيلٍ، وآلُ العبَّاسِ، وبنو الحارِثِ بنِ عبدِ المطلبِ، كما جاء تَفْسِيرُه في صحيحِ مسلمٍ، وَكَذَلِكَ أزواجُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن أهلِ بَيْتِه كما دَلَّ عليه سياقُ آيةِ الأحزابِ، كما قرَّرَ ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ وابنُ القيِّمِ وغيرُهما، انتهى، وأَفْضلُ أهلِ بَيتِه عليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ الذي أَدارَ عليهم الكِساءَ وخَصَّهم بالدُّعاءِ، ذَكَرَه الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى.
قولُه: (ويَحفَظون فيهم وصيَّةَ رسولِ اللَّهِ) إلخ أي: أَنَّ الرَّسولَ أَوْصى باحترامِهم والإحسانِ إليهمْ وإكرامِهم، كما في الحديثِ الذي ذَكَره المصنِّفُ.
قوله (حَيْثُ قال يومَ غَدِيرِ خُمٍّ) الحديثَ. قولُه (خُمٍّ) بِضمٍّ الخاءِ وتشديدِ الميمِ هُوَ اسمٌ لغَيْضةٍ على ثلاثةِ أميالٍ مِن الجُحفةِ، وهُوَ غَديرٌ مشهورٌ يضافُ إلى الغيضةِ، فيُقالُ غَديرُ خُمٍّ، والغَيضةُ الشَّجرُ الملتَّفُّ، والحديثُ رواه مسلمٌ في "صحيحِه" عن زيدِ بنِ أرقمَ، قال: قام فينا رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خَطِيباً بماءٍ يُدْعى خُماًّ بين مكةَ والمدينةِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ووَعَظ وذَكَّر، ثم قال: ((أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ) فحَثَّ على كتابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ورَغَّبَ فيه ثم قال: ((وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي))، فقال حُصينٌ: ومَن أهلُ بيتِه يا زيدُ أليس نِساؤُه مِن أهلِ بَيْتِه؟ قال: نساؤه مِن أهلِ بيتِه، ولكن أَهْلُ بَيْتِه مَن حُرِمَ الصَّدقةَ بعدَه، قال مَنْ هم؟ قال: هم آلُ عليٍّ، وآلُ عَقيلٍ، وآلُ جعفرٍ، وآلُ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهم-، قال: كُلُّ هؤلاء حُرِمَ الصَّدَقةَ؟ قال: نعم، وروى هَذَا الحديثَ أحمدُ وغيرُه، وقدْ رَوَاهُ التِّرمذِيُّ وزَادَ فيه وإنَّهما لم يَفْتَرِقا حتى يَرِدَا على الحوضِ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد طَعَنَ غيرُ واحدٍ مِن الحُفَّاظِ في هَذِهِ الزيادةِ، وقالَ: إنَّها ليستْ مِن الحديثِ، فهَذَا الحديثُ فيه الوَصِيَّةُ بأهلِ البيتِ والحثُّ على احترامِهم وإكرامِهم.
قولُه: (أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) أي: أُذَكِّرُكُم اللَّهَ، أي ما أمَرَ بِهِ مِن احترامِهم، وإكرامِهم، والقيامِ بحقِّهِم، قولُه ثلاثًا: مبالغةٌ في الحثِّ على ذَلِكَ، وكرَّرَه للتَّأكيدِ، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا اليومُ الذي خطبَ النَّبيّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في هَذَا الغديرِ المشهورِ هُوَ ثامِنَ عَشَرَ ذي الحجَّةِ، مَرجِعَه مِن حجَّةِ الوداعِ، وقد زاد أهلُ الأهواءِ في ذَلِكَ وزَعَموا أنَّه عَهِدَ إلى عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- بالخلافةِ، وذَكَرُوا كلاماً طويلاً باطِلاً، وزَعَموا أَنَّ الصَّحابةَ تَمَالَئُوا على كِتمانِ هَذَا النَّصِّ وغَصَبُوا الوَصِيَّ حقَّه، وفَسَقُوا وكَفُروا إلاَّ نَفَراً قليلاً، وقد جَعلَ أهلُ البِدَعِ هَذَا اليومَ عِيدًا، وهَذَا ابْتِداعٌ في الدِّينِ؛ إذ الأعيادُ شَريعةٌ مِن الشَّرائعِ، فيَجِبُ فيها الاتِّباعُ لا الابتِداعُ، ولم يكُنْ في السَّلَفِ، لا مِن أهلِ البيتِ ولا مِن غيرِهم مَن اتَّخَذَ ذَلِكَ عِيدًا، انتهى مِن الاقتِضاءِ.(1/68)
وقالَ أَيْضاً للعَبَّاسِ عَمِّهِ – وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرِيْشٍ يَجْفُو بَني هَاشِمٍ – فقالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وِلقَرابَتي )). (1)
__________
(1) قولُه: (وقال أيضًا للعبَّاسِ) إلخ: هَذَا الحديثُ رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطلبِ، قال: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ إنَّ قُريشاً إذا لَقِيَ بعضُهم بعضاً لَقُوهُم بِبِشْرٍ حَسَنٍ، وإذا لَقُونا لَقُونا بوُجوهٍ لا نَعرِفُها، فغَضِبَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- غضباً شديداً وقال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الإِيمَانَ حتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِه)) رواه أحمدُ وفي لفظٍ ثم قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ آذى عَمِّي فَقَدْ آذَانِي، فَإِنَّمَا عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ)). رواه الترمذيُّ وقال حسنٌ صحيحٌ.
قولُه: (العبَّاس) هُوَ ابنُ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ منافٍ، عَمُّ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ووالِدُ الخلفاءِ العبَّاسيِّينَ، وكان أسنَّ مِن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بِسنَتَيْنِ أو ثلاثٍ وكان إسلامُه على المشهورِ قبلَ فَتحِ مكةَ، وكنيتُه أبو الفضلِ، وماتَ في خلافةِ عثمانَ سنةَ اثنتين وثلاثين، وله بضعٌ وثمانونَ سنةً، وصلى عليه عثمانُ، ودُفِن بالبَقِيعِ -رضي اللَّهُ عنه-.
قولُه: (وقد اشتكى إليه) مِن الشَّكْوى، وهُوَ أنْ تُخْبِرَ عن مَكروهٍ أصابَكَ. انتهى، نهايةٌ. قولُه: يَجْفُوا: الجفاءُ: تَرْكُ البِرِّ والصِّلَةِ، انتهى، نهايةٌ.
قولُه: (والذي نَفْسِي بِيَدِه) فيه الحَلِفُ على الفُتْيا، وفيه دليلٌ على دخولِ الأعمالِ في مسمَّى الإيمانِ، وهَذَا قولُ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ. قولُه: (لا يؤمنون) الحديثَ، هَذَا نَفْيٌ لكمالِ الإيمانِ الواجِبِ، ففيه دليلٌ على عَظِيمِ حقِّهم، ووُجوبِ احترامِهم، والتحذيرِ مِن بُغْضِهم، والتَّرغيبِ في حبِّهِم حتى نَفَى الإيمانَ عمَّن لا يحبُّهم، وفيه أنَّ محبَّةَ أهلِ البيتِ وقرابةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن محبَّتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- واحترامِه وإكرامِه، وفيه دليلٌ على فَضْلِ قَرابةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.
قولُه: (ولِقَرابَتِي) قرابةُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مَن يُنْسَبُ إلى جَدِّه الأقربِ، وهُوَ عبدُ المطَّلِبِ ممَّن صَحِبَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو رآه مِن ذَكَرٍ أو أُنْثى، انتهى (فتحُ الباري). وروى البخاريُّ عن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: ارْقُبوا محمَّداً في أهلِ بَيتِه. وفي الصَّحيحِ أَنَّ الصِّدِّيقَ قال لعليٍّ -رضي اللَّهُ عنه-: واللَّهِ لَقَرابةُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أحبُّ إليَّ أنْ أَصِلَ مِن قَرابَتي، وقال عمرُ بنُ الخطَّابِ للعبَّاسِ: واللَّهِ لاَسْلامُكَ يومَ أَسْلَمْتَ كان أحبَّ إليَّ مِن إسلامِ الخطَّابِ لو أَسْلَم؛ لأنَّ إِسلامَكَ كان أحبَّ إلى رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن إسلامِ الخطَّابِ.(1/69)
وقَالَ: (( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيْلَ، واصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعيلَ كِنَانَةَ، واصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشاً، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَني هَاشِمٍ، وَاصْطَفَاني مِنْ بَني هَاشِمٍ )). (1)
__________
(1) قولُه: (إنَّ اللَّهَ) إلخ: هَذَا الحديثُ رواه أحمدُ ومسلمٌ عن واثلةَ بنِ الأسقعِ بلفظِ: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)) ورواه أيضًا الترمذيُّ بلفظِ ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ)) الحديثَ، قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.
قولُه: (اصْطَفى) أي: اختَارَه، والصَّفوةُ الخيارُ، في هَذَا الحديثِ دليلٌ على شَرَفِ نَسَبِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ودليلٌ على فَضْلِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وأنَّه أَفْضَلُ الخَلْقِ على الإطلاقِ، وروى مسلمٌ في "صحيحِه" أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ))، وقال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّداً عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَعَلَى الأَنْبِيَاءِ)) رواه البيهقيُّ، وفي هَذَا الحديثِ إشارةٌ إلى فَضْلِ إسماعيلَ على سائِرِ إخوتِه، وهَذَا الحديثُ صريحٌ في أنَّه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن ذُرِّيَّةِ إسماعيلَ، ولا خلافَ في ذَلِكَ، فَهُوَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصَيِّ بنِ كلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غالِبِ بنِ فِهرِ بنِ مالكِ بنِ النَّضرِ بنِ كِنانةَ بنِ خُزيمةَ بنِ مُدرِكةَ بنِ إلياسَ بنِ مُضرَ بنِ نزارِ بنِ مَعْدِ بنِ عدنانَ، وفيه دليلٌ على فضلِ العربِ وأنَّهم أفضلُ مِن غيرهم، وفيه أنَّ محبَّتهم دِينٌ؛ لأَنَّ الحُبَّ والبُغضَ يَتْبعُ الفَضْلَ، وقد رُوِيَ:حبُّ العربِ إيمانٌ وبُغْضُهم نفاقٌ وكفرٌ، وقد احتجَّ بهَذَا الحديثِ حربٌ الكَرْمانيُّ وغيرُه، فقال حربٌ في وَصْفِه للسُّنَّةِ التي قال فيها: هَذَا مذهبُ أئمَّةِ العِلمِ وأصحابِ الأَثَرِ وأهلِ السُّنَّةِ المعروفِينَ بها المقتدَى بهم فيها، وساقَ كلامًا طويلاً إلى أنْ قال: ونَعرِفُ للعربِ حقَّهَا وفَضْلَها وسابِقَتِها، ونحبُّهم لحديثِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: (حُبُّ الْعَرَبِ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ)) ولا نقولُ بقولِ الشُّعوبيَّةِ وأَرَاذِلِ الموالي الذين لا يحبُّونَ العربَ ولا يُقِرُّون بفَضْلِهم، فإنَّ قولَهم بدعةٌ وخلافٌ، انتهى مِن اقتضاءِ الصِّراطِ المستقيمِ مُلخَّصاً.
وقال الشَّيخ تَقِيُّ الدِّينِ أيضًا: الذي عليه أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ اعتقادُ أنَّ جِنْسَ العَربِ أفضلُ مِن جِنسِ العَجمِ، عِبرانِيِّهم وسُريانِيِّهم، رُومِهم وفُرْسِهم وغيرِهم، وأنَّ قريشاً أفضلُ العربِ، وأنَّ بني هاشِمٍ أفضلُ قريشٍ، وأنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أفضلُ بني هاشمٍ، فَهُوَ أفضلُ الخَلْقِ نَفْساً وأَفْضَلُهم نَسباً، انتهى مِن اقتضاءِ الصِّراطِ المستقيمِ. قال النَّوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: واستدلَّ بِهِ أصحابُنا على أنَّ غيرَ قريشٍ مِن العربِ ليس بكُفْءٍ لهم، ولا غيرَ بني هاشمٍ كُفْؤٌ لهم، إلاَّ بني المطلبِ، فإنَّهم هم وبنو هاشمٍ شيءٌ واحدٌ، كما صرَّحَ بِهِ الحديثُ.ا.هـ.(1/70)
( وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْواجَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ المُؤمِنينَ، ويُؤمِنُونَ بأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ في الآخِرَةِ: (1)
__________
(1) قولُه: (ويَتولَّوْن أزواجَ رسولِ اللَّهِ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يتولَّون جميعَ أزواجِ رسولِ اللَّهِ الطَّاهِراتِ المُبَرَّءاتِ مِن كُلِّ سوءٍ، ويَتَرضَّوْن عنهن، ويُعظِّمون قَدْرَهُنَّ، ويعرِفون فَضلَهُنَّ، ويَتبرَّءونَ ممَّن آذاهُنَّ أو سَبَّهُنَّ.
قولُه: (أزواجَ) جَمعُ زوجٍ، وقد يقالُ: زوجته والأوَّلُ أَفْصَحُ، كما قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الآيةَ.
قولُه: (أُمَّهاتِ المؤمنين) أي: في الاحترامِ والتَّعظيمِ، وتحريمِ نكاحِهِنَّ على التَّأبيدِ، لا في النَّظرِ والخَلوةِ بهنَّ، فإنَّه يَحرُمُ في حقِّهِنَّ كالأجانبِ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) أي في الاحترامِ والتَّعظيمِ، فيَجِبُ احترامُهُنَّ وتعظيمُهنَّ، ويَحرُمُ الطَّعنُ فيهنَّ وقذْفُهنَّ لا سِيَّما عائشةُ أمُّ المؤمنين، فمَنْ قَذَفَها بما برَّأَها اللَّهُ منه فَهُوَ كافرٌ، وأمَّا مَن قَذَفَ غيرَها مِن نِساءِ النَّبيِّ ففيه قولان: قال ابنُ كثيرٍ: والأصحُّ أنَّهنَّ كعائِشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهن أجمعينَ.
قولُه: (ويؤمِنون بأنَّهنَّ أزواجُه في الآخِرةِ) وَذَلِكَ لِمَا في صحيحِ البُّخاريِّ وغيرِه: لما بَعثَ عليٌّ عمَّارا والحسَنَ إلى الكوفةِ ليَستَنْفِرَهم خطَبَ عمَّارٌ فقال: إِنِّي لأَعلَمُ أنَّها زَوجَتُه – أي عائشةُ – في الدُّنْيَا والآخرةِ، ولكنَّ اللَّهَ ابْتَلاكُم لتَتَّبِعُوه أو إيَّاها، وعندَ ابنِ حِبَّانَ مِن طريقِ سعيدِ بنِ كثيرٍ عن أبيه حدَّثَتْنا عائشةُ -رضي اللَّهُ عنها- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لها: ((تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) وفي حديثِ سَودةَ لمَّا أرادَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فِراقَها أنها قالت: يا رسولَ اللَّهِ، واللَّهِ مَا لِي بِالرِّجالِ مِن حاجةٍ، ولكن أُحِبُّ أنْ أُبعثَ مع نسائِكَ يومَ القِيامةِ، الحديثَ.
وأوَّلُ زوجاتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خَديجةُ بنتُ خويلدِ بنِ أسدٍ، تَزوَّجَها رسولُ اللَّهِ بمكةَ، وهُوَ ابنُ خمسٍ وعشرينَ سنةً، وبَقِيَتْ معه إلى أنْ أَكرمَه اللَّهُ برسالَتِه، فآمَنَتْ بهِ ونَصَرَتْهُ، وماتتْ قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنينَ، ومِن خصائِصها -رضي اللَّهُ عنها- أنَّه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لم يَتزوَّجْ عليها غيرَها، وأولادُه كُلُّهم منها إلا إبراهيمُ فإنَّهُ مِن سَريَّتِه ماريةَ، ومنها أنها خيرُ نساءِ الأُمَّةِ، واختُلِفَ في تَفضِيلِها على عائشةَ على ثلاثةِ أقوالٍ: منها: أَنَّ اللَّهَ بَعثَ إليها السَّلامَ مع جبريلَ فبَلَّغَها النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ذَلِكَ، ومنها: أنَّها لم تَسُؤْه قطُّ، ولم تُغاضِبْه، ولم يَنَلْها منه إيلاءٌ ولا عُتبٌ قطُّ ولا هَجْرٌ، ومنها: أنَّها أوَّلُ امرأةٍ آمَنَتْ باللَّهِ ورَسولِه مِن هَذِهِ الأمَّةِ، فلمَّا توفَّاها اللَّهُ تزوَّجَ بعدها سودةَ بنتَ زمعةٍ، وكَبِرَت عنده وأرادَ طَلاقَها فوهَبَتْ يومَها لعائشةَ، وَهَذِهِ مِن خصائِصها، وتزوَّجَ الصِّدِّيقةَ بنتَ الصِّدِّيقِ عائشةَ بنتَ أبي بكرٍ -رضي اللَّهُ عنها- وَهِيَ بنتُ سِتٍّ قبلَ الهجرةِ بسنتين، وبَنَى بها الرَّسولُ أوَّلَ مَقْدَمِه في السَّنَةِ الأولى وَهِيَ بنتُ تسعٍ، وماتَ عنها وَهِيَ بنتُ ثمانيةَ عَشَرَ سَنةً، وتُوفِّيَتْ بالمدينةِ ودُفِنَتْ بالبقيعِ، وأَوْصَتْ أنْ يُصلِّيَ عليها أبو هريرةَ سنةَ ثمانيةٍ وخمسيَن، ومِن خصائِصها أنَّها أحبُّ أزواجِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إليه، وأنَّه لم يَتزوَّجْ بكرًا غيرَها، وأنَّه كان يَنْزِلُ عليه الوحيُ في لِحافِها، وأَنَّ اللَّهَ لما أَنْزَلَ آيةَ التَّخييرِ بَدَأَ بِها فخيَّرَها، وأَنَّ اللَّهَ برَّأَها مما رَماها بهِ أهلُ الإفكِ، وأنَّ أكابِرَ الصَّحابةِ كان إذا أَشْكَلَ عليهم الأمرُ استَفْتَوْها فيَجِدُونَ عِلمَه عندها، وأنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- تُوفِّيَ في بيتِها وفي يومِها وبين سَحْرِها ونَحْرِها، ودُفِنَ في بَيْتِها، وأَنَّ المَلَكَ أَرَى صُورتَها للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قبل أنْ يَتزوَّجَها في سَرقةِ حريرٍ، وأَنَّ النَّاسَ كانوا يَتحرَّوْن بهداياهُم يومَها مِن رسولِ اللَّهِ تَقرُّباً إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: وتزوَّجَ رسولُ اللَّهِ حفصةَ بنتَ عمرَ بنِ الخطَّابِ، وتُوفِّيتْ قبل سنةَ سبعٍ، وقيل: ثمانيةٍ وعشرين، وتزوَّجَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أُمَّ حبيبةَ بنتَ أبي سفيانَ، واسْمُها رَملَةُ، وتزوَّجَها رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وَهِيَ بأرضِ الحَبشةِ وأَصْدَقَها عنه النَّجاشيُّ أربعَمائةِ دينارٍ، ووَلِيَ نِكاحَها عثمانُ بنُ عفَّانَ، وتزوَّجَ الرَّسولُ أُمَّ سَلَمةَ واسْمُها هندُ بنتُ أبي أُميَّةَ، وتُوفِّيتْ قبلَ سنةِ اثنين وخَمْسينَ، ودُفِنَتْ بالبَقيعِ، وَهِيَ آخِرُ أزواجِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- موتاً، وقيل: ميمونةُ، وتزوَّجَ الرَّسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنبَ بنتَ جحْشٍ، وكانت قَبلُ عندَ مَولاه زيدُ بنُ حارِثةَ فطَلَّقَها، فزوَّجَها اللَّهُ إياهُ مِن فوقِ سبعِ سماواتٍ، وأَنْزَلَ اللَّهُ عليه: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مَّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) وهَذَا مِن خصائِصها، وتُوفِّيتْ بالمدينةِ سنةَ عِشرينَ، ودُفِنَت بالبقيعِ.
وتزوَّجَ الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- زينبَ بنتَ خزيمةَ الهِلاليَّةَ، تزوَّجها الرَّسولُ سنةَ ثلاثٍ مِن الهجرةِ، وكانتْ تُسمَّى أُمَّ المساكِينِ، ولَمْ تلبَثْ عند رسولِ اللَّهِ إلاَّ يسيراً شهرين أو ثلاثةً وتُوفِّيتْ، وتزوَّج رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- جويريةَ ابنةَ الحارثِ مِن بني المُصْطَلِقِ، وكانتْ سُبِيَتْ في غزوةِ بني المصطلِقِ، فوقَعَتْ في سَهمِ ثابتِ بنِ قيسٍ، فكاتَبَها فقضى رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كِتابَتَها، وتَزوَّجَها سنةَ ستٍّ مِن الهجرةِ، وتُوفِّيَتْ سنةَ سِتٍّ وخمسينَ، وتزوَّجَ رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- صفيةَ بنتَ حُيَيٍّ مِن وَلَدِ هارونَ بنِ عمرانَ أخي موسى سنةَ سبعٍ، فإنَّها سُبِيَتْ مِن خيبرَ، تُوفِّيتْ سنةَ ستٍّ وثلاثين، وقيل: سنةَ خمسينَ، ومِن خصائِصها أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أعْتقَها وجَعلَ عِتقَها صداقَها، وتزوَّج رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ميمونةَ بنتَ الحارثِ الهلاليَّةَ، تزوَّج بها في سَرِفَ، وبَنَى بها بسَرِفَ، وماتتْ بسرِفَ، وسَرِفُ على سبعةِ أميالٍ مِن مكةَ، وميمونةُ آخِرُ مَن تزوَّجَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن أمَّهاتِ المؤمنين، توفِّيتْ سنةَ ثلاثٍ وستين، فهؤلاء جُملةُ مَن دَخلَ بهنَّ مِن النِّساءِ، وهُنَّ إحدى عَشْرَةَ.
قال الحافظُ المقدسيِّ: وعَقدَ على سَبعٍ ولم يَدْخُلْ بهنَّ، ولا خِلافَ أنَّه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- تُوفِّيَ عن تسعٍ كان يَقْسِمُ منهنَّ لثمانٍ وهُنَّ: عائشةُ، وحفصةُ، وزينبُ بنتُ جحشٍ، وأمُّ سلمةَ، وصفيَّةُ، وأُمُّ حبيبةَ، وميمونةُ، وسودةُ، وجويريةُ، وأوَّلُ نِسائِه لُحوقًا بِهِ زينبُ بنتُ جحشٍ سنةَ عشرينَ، وآخِرُهنَّ موتًا أمُّ سلمةَ سَنةَ اثنتين وستين في خلافةِ يزيدَ، انتهى مِن كلامِ ابنِ القَيِّمِ.(1/71)
خُصوصاً خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلادِهِ، وأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاضَدَهُ عَلى أَمْرِهِ، وكَانَ لَهَا مِنْهُ المَنْزِلَةُ العَالِيَةُ. (1)
__________
(1) قولُه: (خُصوصا) أي: ولا سِيَّما خديجةُ وعائشةُ، فلهُنَّ مِن المزايا والخصائصِ ما ليس لغيرِهِنَّ مِن أزواجِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، والخصوصُ: الإفرادُ، يُقالُ: خُصَّ فلانٌ بكذا، أي أُفْرِدَ بِهِ، ولا شَرِكةَ للغيرِ فيه، وقد تقدَّمَ ذِكْرُ بعضِ خصائِصهِنَّ -رضي اللَّهُ عنهن-.
قولُه: (أمُّ أكثرِ أولادِه) بل هي أُمُّ أولادِه كُلِّهم سِوى إبراهيمَ، فإنَّه مِن سَرِيَّتِه ماريةَ، ويُروى أنَّ عائشةَ أَتَتْ بسِقْطٍ ولم يَصِحَّ ذَلِكَ، والمتَّفَقُ عليه مِن أولادِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- منها: القاسمُ، وبِهِ كان يُكنى، ماتَ صغيرًا قَبلَ بِعثَتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو بعدَها، وبناتُه الأربعُ: زينبُ، ثم رُقَيَّةُ، ثم أُمُّ كُلثومٍ، ثم فَاطِمةُ، وعبدُ اللَّهِ وُلِدَ بَعدَ المَبْعَثِ، فكان يقالُ له: الطَّاهِرُ والطَّيِّبُ، وقيل: هما أَخوانِ له، وماتَ الذُّكورُ صِغارًا باتِّفاقٍ، انتهى مِن فتحِ الباري.
قولُه: (وأوَّلُ مَنْ آمَنَ به) أي: مِن النِّساءِ لا مُطْلَقاً كما تقدَّمَ كلامٌ لأبي حنيفةَ وغيرِه أنَّ أوَّلَ مَن آمَنَ مِن الرِّجالِ أبو بكٍر، ومِن الصِّبْيانِ عليٌّ، ومِن النِّساءِ خديجةُ ... إلخ، وقيل: إنَّها أَوَّلُ مَن آمَن بِهِ على الإطلاقِ، كما ذَكَرَهُ المصنِّفُ.
قولُه: (وعاضَدَه) أي: أَعانَه ونَصرَه، فإنَّ خديجةَ -رضي اللَّهُ عنها- عاضَدَتْهُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أَوَّلِ أَمْرِه، ونَصَرَتْهُ واحتَمَلَتْ مِن الأذى مالم يَحْتَمِلْه غيرُها، وكانت نُصْرَتُها للرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أعظمِ أوقاتِ الحاجَةِ.
قولُه: (وكان لها مِنه المنزلةُ العالِيَةُ) أي: الرَّفيعةُ؛ لأنَّها مِن أوَّلِ مَن آمَنَ بِهِ وعاضَدَه، وكانتْ له وَزيرَ صِدقٍ، وكانَ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يُحِبُّها كَثِيرًا ويَذْكُرُها، كما رَوى أحمدُ مِن حديثِ مسروقٍ عن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ)).
وفي صحيحِ البخاريِّ عن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- قالت: ما غِرتُ على امرأةٍ للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ما غِرْتُ على خديجةَ لِمَا كنتُ أسْمَعُه يَذْكُرُها، وأَمَرَهُ اللَّهُ أنْ يُبشِّرَها بقصرٍ من قصَبٍ، وإنْ كان لَيذْبَحُ الشَّاةَ فيُهدِي في خَلائِلِها منها ما يَسعُهُنَّ، فهَذَا الحديثُ وغيرُه دليلٌ على محبَّةِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لها، وعلى عِظَمِ قَدْرِها عنده، ومَزيدِ فَضْلِها.
قولُه: (والصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ ) أي: عائشةُ رضيَ اللهُ عنهَا, حبيبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ, بنتُ الصدِّيقِ الأكبرِ, أبوها أبوبكرٍ الصديقُ لقَّبَهُ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ بذلك، وأنزلَ اللهُ براءتَها من فوقِ سبعِ سماواتٍ، واتَّفقَت الأمَّةُ على كُفرِ قاذِفِها, وأفتى غيرُ واحدٍ بقتلِ سابِّها, رضيَ اللهُ عنها, وتقدَّمَ ذِكرُ خصَائِصِها.(1/72)
والصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتي قَالَ فِيها النِّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيْدِ عَلى سَائِرِ الطَّعَامِ )). (1)
__________
(1) قولُه: ((فَضْلُ عائشةَ على النِّساءِ ... )) إلخ: هَذَا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما، عن أبي مُوسى الأشعريِّ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- قال: قال رَسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إِلا مَرْيَمُ بَنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)) فهَذَا الحديثُ فيه دليلٌ على فضلِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها-، واستدلَّ بِهِ كثيرٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ على أنَّ عائشةَ أفضلُ نسائِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وذَهبَ بعضُ العلماءِ كالموفَّقِ وابنِ حجَرٍ وغيرِهما إلى أنَّ خديجةَ -رضي اللَّهُ عنها- أفْضلُ من عائشةَ، لأدِلَّةٍ ذَكَروها، قالوا: والحديثُ المتقدِّمُ ليس صريحاً في تفضيلِ عائشةَ على خديجةَ -رضي اللَّهُ عنهما-، والذي يُفهَمُ مِن كلامِ المصنِّفِ توقُّفُه عن التَّفضيلِ، لتَقارُبِ جِهاتِ التَّفضيلِ بينهنَّ، وقال في موضعٍ آخَرَ: اختُصَّتْ كُلُّ واحدةٍ منهنَّ بخصائِصَ، فخديجةُ كان تأثيرُها في أوَّلِ الإسلامِ، وبَذَلَتْ نَفْسَها في نُصرةِ الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ومالَها، واحتَمَلَتْ مِن الأذى ما لم يَحْتمِلْه غيرُها، وكانت نُصرَتُها للرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أعظمِ أوقاتِ الحاجَةِ، فلها مِن النُّصرةِ والبذْلِ والتأثيرِ في الإسلامِ ما ليس لغيرِها، وعائشةُ -رضي اللَّهُ عنها- تأثيرُها في آخِرِ الإسلامِ، فَلَها مِن الفِقهِ والعِلمِ ما ليس لغَيرِها. اهـ.
قولُه: (كفَضلِ الثَّريدِ على سائرِ الطعامِ) الثَّريدُ هُوَ الخبزُ إذا أُدِمَ بلحْمٍ كما قال الشَّاعرُ:
إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلحمٍ ... ... فذاكَ أمانةُ اللَّهِ الثَّريدُ
قولُه: (على سائرِ الطَّعامِ) أي: جميعِه، انتهى، والثَّريدُ هُوَ أفضلُ الأطعمةِ؛ لأنَّه خبزٌ ولحمٌ، والبُرُّ أفضلُ الأقواتِ، واللَّحمُ أفضلُ الإدامِ، كما في الحديثِ الذي رواه ابنُ قتيبةَ وغيرُه عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((سَيِّدُ إِدَامِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّحْمُ)) فإذا كان اللَّحمُ سيِّدَ الإدامِ والبُرُّ سَيِّدَ الأقواتِ ومجموعُها الثَّريدُ؛ كان الثَّريدُ أفضلَ الطَّعامِ، وقد صَحَّ مِن غيرِ وجهٍ عن الصَّادِقِ المصدوقِ أنَّه قال: ((فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)). وفي الصَّحيحِ عن عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النِّساءِ أحبُّ إليكَ؟ قال: ((عائشةُ))، قلت: ومِن الرِّجالِ؟ قَالَ:
((أَبُوهَا))، قلتُ: ثم مَنْ؟ قال: ((عُمرُ))، وَسَمَّى رِجالاً، انتهى منهاجٌ.(1/73)
( وَيَتَبَرَّؤونَ مِن طَريقَةِ الرَّوافِضِ الَّذينَ يُبْغِضُونَ الصَّحابَةَ ويَسُبُّونَهُمْ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويتبرَّءُونَ مِن طريقةِ الرَّوافِضِ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ وسَطٌ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ويتَرضَّوْنَ عنهم جميعًا، ويُحبُّونَهم ويتبرَّءُونَ مِن طريقةِ الرَّافِضةِ الذين يَسبُّونَ الصَّحابةَ ويَطْعَنونَ فيهم، ويَزْعُمونَ أنَّهم عَصَوُا الرَّسولَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وارْتَدُّوا بعدَه إلا بضعةَ عَشَرَ منهم، ويُغلُونَ في عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ، فالرَّافِضةُ يَنقسِمون إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قِسمٌ غُلاةٌ غُلُواًّ في عليِّ بن أبي طالِبٍ -رضي اللَّهُ عنه- حتى زَعَموا أنَّه إِلهٌ، أوْ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فيه، أو أنَّه الرَّسولُ، ولكنَّ جبريلَ غَلِطَ، أو أَخْطأَ في إعطاءِ الرِّسالةِ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى غيرِ ذَلِكَ من أنواعِ الغُلُوِّ، وقِسمٌ مُفضِّلةٌ، يُفضِّلونَ علياًّ على أبي بكرٍ وعمرَ وغيرِهما مِن الصَّحابةِ، والقِسمُ الثَّالثُ سبَّابَةٌ يَسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ وغيرَهما مِن الصَّحابةِ، ويَزْعُمون أنَّ علياًّ هُوَ الوَصِيُّ، وأَنَّ الصَّحابةَ غَصَبُوه حقَّهُ وظَلَموه بتقديمِ أبى بكرٍ وعُمرَ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فعاقَبَ أميرُ المؤمِنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه- الطَّوائِفَ الثَّلاثَ، فأَمَرَ بإحراقِ أولئكَ الذين ادَّعَوْا فيه الإِلَهِيَّةَ، فإنَّه خَرجَ ذاتَ يومٍ فسَجدُوا له، فقال لهم ما هَذَا؟ فقالوا: أنتَ هُوَ، قال: مَنْ أَنَا؟ قالوا: أنتَ اللَّهُ الذي لا إلهَ إلا هُوَ، فقال وَيْحَكُمْ هَذَا كفرٌ ارْجِعوا عنه وإلاَّ ضَرَبْتُ أعناقَكُم، فصَنَعُوا بِهِ في اليومِ الثَّاني والثَّالِثِ، وأخَّرَهُم ثلاثةَ أيامٍ؛ لأَنَّ المُرتَدَّ يُستتابُ ثلاثةَ أيامٍ، فلمَّا لم يَرجِعوا أَمَرَ بأخادِيدَ مِن نارٍ فحَدَثَ أنَّه قال:
لما رأيتُ الأمرَ أمْراً مُنْكراً ... ... أجَّجْتُ ناري ودَعَوْتُ قنبرا
وقَتلُ هؤلاءِ واجبٌ بالاتِّفاقِ، لكن في جَوازِ تَحريقِهم نِزاعٌ، وأمَّا السَّبَّابةُ الذين يَسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ، فإنَّ علياًّ -رضي اللَّهُ عنه- لما بَلَغَه ذَلِكَ طَلَب ابنَ السَّوداءِ الذي بَلَغَه ذَلِكَ عنه، وقيل إنَّه أَرادَ قَتلَه فهَربَ منه إلى قرقيسا.
وأمَّا المفضِّلةُ الذين يُفضِّلونَه على أبي بكرٍ وعمرَ فرُوِي عنه أنَّه قال: لا أُوتَى بأحدٍ يُفضِّلُني على أبي بكرٍ وعُمرَ إلاَّ ضَرَبْتُه حدَّ المفترِي، وقد تَواتَرَ عنه أنَّه كان يقولُ على مِنبرِ الكوفةِ: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعد نبِيِّها أبو بكرٍ ثم عمرُ، ورُوِيَ عنه هَذَا مِن أكثرَ مِن ثمانين وجْها، ورواهُ البخاريُّ وغيرُه، انتهى مِن كلامِ الشَّيخِ باختصارٍ.(1/74)
وطَريقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذينَ يُؤذُونَ أَهْلَ البَيْتِ بِقَوْلٍ [ أَوْ ] عَمَلٍ. (1)
__________
(1) قولُه: (وطريقةُ النَّواصِبِ) جمعُ ناصبٍ، يقالُ: نَاصَبَه مناصَبةً، أي عاداه وقاوَمَه، وهم الذين يَنْصبُونَ العداوةَ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ وأهلِ البيتِ ويَتبرَّءون منهم ولا يُحبِّونَهم، بل يكفِّرونَهم أو يُفسِّقونهم كالخوارجِ، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بعدَ كلامٍ: فأهلُ السُّنَّةِ وسطٌ في جميعِ أُمورِهم، فهم في عليٍّ وسَطٌ بين الخوارجِ والرَّوافضِ، وفي عُثمانَ وَسَطٌ بين المَرْوانيَّةِ والزَّيدِيَّةِ، وفي سائرِ الصَّحابةِ بين الغُلاةِ فيهم والطَّاعِنينَ عليهم، وقال أيضًا: والرَّوافِضُ شرٌّ مِن النَّواصِبِ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فيتولَّوْن جميعَ المؤمنينَ، ويتكلَّمون فيهم بعِلمٍ وعَدلٍ، ليسوا مِن أهلِ الجهلِ ولا مِن أهلِ الأهواءِ، ويَتبرَّءُون مِن طريقةِ الرَّوافِضِ والنَّواصِبِ جميعا، ويتولَّون السَّابِقينَ الأوَّلين كُلَّهم، ويعرِفون قدْرَ الصَّحابةِ وفضْلَهم ومناقِبَهم، ويَرْعَوْن حقوقَ أهلِ البيتِ التي شَرعها اللَّهُ لهم، ولا يَرضونَ بما فعَلَه المختارُ ونحوه مِن الكذَّابِينَ، ولا ما فَعَلَه الحجَّاجُ ونحوُه مِن الظَّالِمينَ، ويعلمون مِن هَذَا مِراتبَ السَّابِقينَ الأوَّلين، ويعرِفون ما لأبي بكرٍ وعمرَ مِن التَّقدُّمِ والفضائلِ ما لم يُشارِكْهما فيها أحدٌ مِن الصَّحابةِ، لا عثمانُ ولا عليٌّ ولا غيرُهما، كان هَذَا متَّفقاً عليه في الصَّدرِ الأوَّلِ، إلاَّ أنْ يكونَ خلافٌ شاذٌّ لا يُعبأُ بِهِ، حتى إَنَّ الشِّيعةَ الأولى مِن أصحابِ عليٍّ لم يكونوا يَرتابون في تقديمِ أبي بكرٍ وعمرَ، كَيْفَ وقد ثَبَتَ عنه مِن وجوهٍ متواترةٍ أنَّه كان يقول: خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ بعدَ نبِيِّها أبو بكرٍ وعمرُ انتهى، ومِن كَذِبِ الرَّافِضةِ وضَلالِهم تسمِيتُهم أهلَ السُّنَّةِ ناصبةً حَيْثُ لم يُوافِقوهم على بِدْعتِهم وظُلمِهم، فإنَّ الرَّافِضةَ يزعمون أنَّ مَن تولَّى الصَّحابةَ لم يتولَّ القَرابةَ، ويقولون: لا ولاءَ إلا ببراءٍ، فمَن لم يتبرَّأْ مِن الصَّحابةِ لم يتولَّ القرابةَ، ويُقابِلُهم الخوارجُ وأشباهُهم مِن النَّواصبِ الذين يزعمون أَنَّ الرَّفضَ هُوَ محبَّةُ أهلِ البيتِ، ويذُمُّون الرَّفضَ بهَذَا المعنى، وهَذَا كُلُّه كَذِبٌ وضَلالٌ، فلا دليلَ على ذمِّ النَّصْبِ بالتَّفسيرِ الذي زَعَمه الرَّافِضةُ، كما لا دليلَ على ذمِّ الرَّفضِ بمعنى موالاةِ أهلِ البيتِ، ولكنَّ المبتَدِعةَ يُلقِّبونَ أهلَ السُّنَّةِ بألقابٍ يَتَنقَّصون بها، فيُسمُّونهم رافضةً وناصِبةً، فهم كما قيل: ((رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ)) وقد تقدَّمَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم يُوالُون جميعَ الصَّحابةِ والقَرابةِ، ويَترضَّوْن عنهم، ويُنْزِلُونهم منازِلهم التي يستحِقُّونها، فلا يَغْمطُونَهُم حَقَّهم، ولا يُغلونَ فيهم، وقد قال الإمامُ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على النَّاصِبةِ:
يا راكِباً قِفْ بالمحصِّبِ مِن مِنًى ... ... واهْتِفْ بقاعدِ خَيْفِها والنَّاهِضِ
إنْ كان رَفْضا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... ... فليَشْهدِ الثَّقلانِ أنِّيَ رافِضي
وقال غيره:
إنْ كان نَصْبا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ ... ... فَليشْهَد الثَّقلانِ أنِّيَ ناصِبي
وقال غيره:
إنْ كان نَصْبٌ وَلاءَ الصِّحابِ ... ... فإنِّي كما زَعَموا ناصِبي
وإنْ كان رَفْضا وَلاءُ الجميعِ ... ... فلا بَرَحَ الرَّفضُ مِن جانِبي(1/75)
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحابَةِ، (1)
__________
(1) قولُه: (ويُمْسِكون عمَّا شَجَرَ بين الصَّحابةِ) أي: يَقِفون عن الخَوْضِ عمَّا وَقَع بين الصَّحابةِ مِن اختلافٍ ومنازَعةٍ، مِثلُ ما وقع بين عليٍّ ومعاويةَ، وما وقع بين طلحةَ والزُّبيرِ وعليٍّ وغيرِ ذَلِكَ.
قولُه: (شَجَرَ) أي: اضْطَرَب، واختلَفَ الأمرُ بينهم، واشْتَجَرَ القومُ وتَشاجَرُوا: تَنازَعوا، والمُشاجرةُ المنازَعةُ، فمذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الكَفُّ عمَّا جرى بين أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، والإمساكُ عمَّا شَجَرَ بينهم، لما في الخَوْضِ في ذَلِكَ مِن توليدِ الإِحَنِ والحزازاتِ والحِقدِ علي أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَذَلِكَ مِن أعظمِ الذُّنوبِ، فإنَّهم خيرُ القُرونِ والسَّابقونَ الأوَّلونَ، فتجِبُ محبَّتُهم جميعاً والتَّرضِّي عنهم، والكَفُّ عمَّا جرى بينهم ممَّا لَعلَّه لم يَصِحَّ، وما صَحَّ فله تأويلاتٌ سائغةٌ، ثم هُوَ قليلٌ مغمورٌ في جانبِ فضائِلِهم.
قال ابنُ حمدانَ مِن أصحابِنا في نهايةِ المبتدئِين: يَجِبُ حبُّ كُلِّ الصَّحابةِ والكَفُّ عمَّا جرى بينهم كتابةً وقراءةً وإقراءً وسَماعاً وإِسْماعا، ويَجِبُ ذِكْرُ محاسِنِهم، والتَّرضِّي عنهم، والمحبَّةُ لهم، وتَرْكُ التَّحامُلِ عليهم، واعتقادُ العُذْرِ لهم، وأنَّهم فَعلَوا ما فَعلَوا باجتهادٍ سائغٍ لا يُوجِبُ كُفراً ولا فِسْقاً، بل ربَّما يُثابُون عليه لأنَّه اجتهادٌ سائغٌ. انتهى.
وأمَّا الحروبُ التي كانت بينهم فكانتْ لكُلِّ طائفةٍ شُبهةٌ اعتقدَتْ تَصويبَ أنْفُسِها بِسَببِها، وكُلُّهم عدولٌ ومتأوِّلُون في حُروبِهم وغيرِها، ولم يُخْرِجْ شيءٌ مِن ذَلِكَ أحدًا منهم عن العَدالةِ؛ لأنَّهم مجتهِدُونَ اختلَفُوا في مسائلَ مِن مَحَلِّ الاجتهادِ كما يَخْتلِفُ المجتهِدُونَ، ولا يلزَمُ مِن ذَلِكَ نَقصُ أحدٍ منهم، بل يَجِبُ التَّرضِّي عنهم واعتقادُ عَدالَتِهم، وأنَّ ما وقعَ منهم هم فيه مَعذُورون ومأْجُورون، وأمَّا معاويةُ -رضي اللَّهُ عنه- فهُوَ مِن العُدولِ الفُضلاءِ، وهُوَ مجتهِدٌ مخطِئٌ، والحقُّ في جانبِ عليٍّ، وعليٌّ هُوَ الخليفةُ في وَقْتِه بالإجماعِ لا خِلافةَ لغيرِه، وقد تقدَّمَ الكلامُ على ذَلِكَ، والنَّاسُ انْقَسَمُوا في ذَلِكَ الزَّمانِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
قِسمٌ: رأى الحقَّ مع أحدِ الطَّرَفَيْنِ، فوجبَ عليه اتِّباعُه بُموجِبِ اعتقادِه والقتالُ معه، وقِسمٌ: توقَّفَ ولم يَظْهَرْ له شيءٌ فاعْتزلَ، وهَذَا هُوَ الواجِبُ عليه، وكُلُّهم مَعذورون ومَأجورون، رضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعينَ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ: وأمَّا الصَّحابةُ فجُمهورُهم وجمهورُ أفاضِلِهم لم يَدْخُلوا في فتنةٍ، ثم ساقَ عن ابنِ سيرينَ قال: هَاجَت الفِتنةُ وأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عَشْرةُ آلافٍ، فما حَضَرَها منهم مائةٌ، بل لم يَبْلُغوا ثلاثين، وهَذَا أصحُّ إسنادٍ على وجْهِ الأرضِ، وساق كَلاماً طويلاً يَدُلُّ على أنَّ أكثرَ الصَّحابةِ اعْتَزَلَ الفَرِيقَيْنِ، إذا عرَفْتَ ما تقدَّمَ عَلمْتَ أنَّ طريقَ السَّلامةِ هُوَ الكفُّ عمَّا شَجرَ بينهم، والتَّرضِّي عن الجميعِ، ونقولُ كما قال اللَّهُ تعالى عن التَّابِعينَ بإحسانٍ: إنهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) وما شَجَرَ بينهم وتَنازَعوا فيه أمْرُه إلى اللَّهِ لا تَسألْ عن ذَلِكَ، قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وما أحسَنَ ما روى عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: لمَّا سُئِلَ عمَّا وقع بين الصَّحابةِ: تِلْكَ دماءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنها يَدِي فلا أُحِبُّ أنْ أُخَضِّبَ بها لِساني.(1/76)
ويَقُولونَ: إِنَّ هذه الآثارَ المَرْويَّةَ في مَساويِهْم مِنْها مَا هُو كَذِبٌ، ومِنْها مَا قَدْ زِيْدِ فيهِ ونُقِصَ وغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، والصَّحِيْحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورونَ: إِمَّا مُجتَهِدُونَ مُصِيْبُونَ، وإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئونَ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويقولونَ إنَّ هَذِهِ الآثارَ المَرْوِيَّةَ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ متَّفِقون على محبَّةِ الصَّحابةِ والتَّرضِّي عنهم؛ وأنَّهم خيرُ الأمَّةِ بعد نَبيِّهم لِما تَواتَرَ مِن الأدِلَّةِ في فَضْلِهم، ولِما اشْتُهِرَ عنهم مِن الأعمالِ الفَاضِلَةِ ومُسابَقَتِهم إلى طاعةِ اللَّهِ وطاعةِ رسولِه، وبَذْلِ نُفُوسِهم وأموالِهم في سبيلِ اللَّهِ، كما أنَّهم متَّفِقون على أَنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ ثِقاتٌ لا يُفتَّشُ عن عدالةِ أحدٍ منهم، فلا يُتْرَكُ هَذَا العلمُ المتيقَّنُ المتحقِّقُ الثَّابِتُ لِمَشْكوكٍ فيه، بل مقطوعٍ بكَذِبِه، فما يُرْوى في حقِّهم مِن المثالِبِ إمَّا أنْ يكونَ كَذِبا محْضاً، وإمَّا أنْ يكونَ مُحرَّفاً قد دَخلَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ ما يُخْرِجُه إلى الذَّمِّ والطَّعنِ، والصَّحيحُ مِن ذَلِكَ هُوَ مِن مواردِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهِدُ فله أَجْرانِ، وإنْ أخطأَ فله أَجْرٌ واحِدٌ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) فما وَقَع منهم -رضي اللَّهُ عنهم- إنْ ثَبَتَ فهُوَ عَن اجتهادٍ، فَهُم مَعذورون ومأجورون على كِلا الحالَيْنِ، ولهَذَا اتَّفقَ أهلُ الحقِّ ممَّن يُعتَدُّ بِهِ في الإجماعِ على قَبولِ شهادَتِهم ورِوايَتِهم وثبوتِ عدالَتِهم، وأنَّه يَجِبُ تَزكِيةُ جَمِيعِهم، ويَحْرُمُ الطَّعنُ فيهم، ويَجِبُ اعتقادُ أنَّهم أَفْضَلُ جميعِ الأمَّةِ بعدَ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال أبو زُرعةَ: إذا رأيتَ الرَّجُلَ يَنتقِصُ أحداً مِن أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فاعلم أنَّه زِنديقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ القرآنَ حقٌّ والرسولُ حقٌّ، وما جاء بِهِ حقٌّ، وما أدى ذَلِكَ النَّبأَ كُلَّه إلاَّ الصَّحابةُ، فمَن جَرحَهم فإنَّما أراد إبطالَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. اهـ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ بعد كلامٍ: ما يُنقَلُ عن الصَّحابةِ مِن المثالبِ فهُوَ نوعانِ: أحدُهما: ما هُوَ كَذِبٌ كُلُّه، وإمَّا محرَّفٌ قد دخَلَه مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ ما يُخرِجُه إلى الذَّمِّ والطَعْنِ، وأكثرُ المنقولِ مِن المطاعِنِ الصَّريحةِ هُوَ من هَذَا البابِ، يَرويها الكَذَّابونَ المَعرُوفون بالكَذِبِ، مِثلُ أبي مِخْنَفٍ لوطُ بنُ يحيى، ومِثلُ هِشامِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ السَّائبِ الكَلْبِيِّ، وأمثالُهما مِن الكذَّابينَ، والنَّوعُ الثَّاني: ما هُوَ صِدقٌ، وأكثرُ هَذِهِ الأمورِ لهم فيها معاذِيرُ تُخرِجُها مِن أنْ تكونَ ذُنوبًا، وتَجعلُها مِن مواردِ الاجتهادِ التي إنْ أصابَ المجتهِدُ فيها فَلَه أجْرانِ، وإنْ أخطأَ فله أجرٌ واحدٌ، وعامَّةُ المنقولِ الثَّابتِ عن الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن هَذَا البابِ، وما قُدِّرَ مِن هَذِهِ الأمورِ ذَنباً محقَّقاً، فإنَّ ذَلِكَ لا يَقدَحُ فيما عُلِمَ مِن فضائلِهم وسوابِقهم، وكونِهم أهلَ الجَنَّةِ؛ لأَنَّ الذَّنْبَ المحقَّقَ يرتفعُ عقابُه في الآخرةِ بأسبابٍ متعدِّدةٍ، منها: التَّوبةُ والحسناتُ الماحيةُ، ومنها المصائبُ المكفِّرةُ، ومنها دُعاءُ المؤمنين بعضِهم لبعضٍ، وشفاعةُ نبِيِّهم، فما مِن سببٍ يسَقُطُ بِهِ الذَّمُّ والعقابُ عن أحدٍ مِن الأمَّةِ إلاَّ والصَّحابةُ أحقُّ بِذَلِكَ، فهم أحقُّ بكُلِّ مدْحٍ، ونَفْيِّ كُلِّ ذَمٍّ ممَّن بعدهم مِن الأمَّة.(1/77)
وهُمْ مَعَ ذلكَ لا يَعْتَقِدونَ أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابَةِ مَعْصومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ في الجُمْلَةِ. (1)
__________
(1) قولُه: (مَعصومٌ) مِن العِصْمَةِ وهي: الحمايةُ والحِفظُ. قولُه: (بل يَجوزُ) أي: يُمْكِنُ، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يعرِفون قَدْرَ أصحابِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقَرابَتِه، فيُنْزِلُونَهم مَنازِلَهم، كما وَردَ في الحديثِ: ((وَنَزِّلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ)) فلا يَغلُون فيهم بحَيْثُ يَرْفَعُونَهم عن مَنْزِلَتِهم التي أَنْزَلَهُم اللَّهُ بها، فلا يَعتقدُونَ أنَّهم مَعصومُون عَن الذُّنوبِ والخطايا، بل يَجوزُ عليهم ما يَجوزُ على غيرِهم مِن الذُّنوبِ والخطايا، وفي الحديثِ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) وفي حديثِ أبي ذرٍّ: ((إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) وقالَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ: ولم يَقُلْ أحدٌ يُعتدُّ بِهِ: إنَّ الصَّحابةَ -رضي اللَّهُ عنهم- أو غيرُهم مِن الأولياءِ أو القَرابةِ مَعصومٌ مِن كبائرِ الذُّنوبِ أو مِن الصَّغائِرِ، بل يجوزُ عليه وُقوعُ الذَّنْبِ، واللَّهُ يَغْفِرُ لهم، وقِصَّةُ حاطِبٍ في الصَّحيحِ، فقد غَفَرَ له الذَّنْبَ العظيمَ بِشُهودِه بَدْرا. اهـ.
فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ لا يَرَوْنَ عصمةَ أحدٍ لا مِن الصَّحابةِ ولا مِن القرابةِ، ولا يُؤَثِّمُونهم باجتهادِهم، بخلافِ أهلِ البِدَعِ الذين غَلَوْا مِن الجانِبَيْنِ: طائفةٌ عَصَّمَتْهم وطائفةٌ أَثَّمَتْهُم. قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: ولم يَقُلْ أَحدٌ مِن الأئمَّة إلاَّ الإماميَّةُ والإسماعيليَّةُ. وقولُ بعضِهم: إنَّ النَّبيَّ معصومٌ، والوَلِيَّ محفوظٌ، إنْ أرادَ بالحِفظِ ما يُشْبِهُ العِصمةَ فباطِلٌ. انتهى.
أمَّا الأنبياءُ عليهم السَّلامُ فاتَّفَقَ العلماءُ على أنَّهم مَعصومُون في تبليغِ الرِّسالةِ، لا يَجوزُ أنْ يَستقِرَّ في ذَلِكَ شيءٌ مِن الخطأِ، وَكَذَلِكَ معصومونَ مِن الكبائرِ، أمَّا الصَّغائرُ فقد تَقَعُ منهم ولكنْ لا يُقِرُّونَ عليها، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد كلامٍ: فالعلماءُ متَّفِقونَ على أنَّهم لا يُقِرُّون على خطأٍ في الدِّين أَصٍلا، ولا على فِسْقٍ أو كذبٍ في الجملةِ، كُلُّ ما يَقدَحُ في نُبُوَّتِهم وتَبْلِيغِهم عن اللَّهِ فَهُم متَّفِقون على تَنْزِيهِهم عنه، وعامَّةُ الجمهورِ الذين يُجَوِّزُون عليهم الصَّغائرَ يقولون: إنَّهم مَعصومُون مِن الإقرارِ عليها، فلا يَصْدُرُ منهم ما يَضرُّهُم، كما جاء في الأثرِ: كان دَاودُ بعدَ التَّوبةِ خيرًا منه قبلَ الخطيئةِ، واللَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ التَّوابِينَ، ويُحِبُّ المتطَهِّرين، وإنَّ العبدَ يفعلُ السِّيِّئَةَ يَدخُلُ بها الجَنَّةَ، وأمَّا النِّسيانُ والسَّهْوُ في الصَّلاةِ فذَلِكَ واقِعٌ منهم، وفي وقوعِه حِكمةُ اسْتِنانِ المسلِمِينَ بهم، كما رُوِيَ في موطأِ مالِكٍ: إِنَّمَا أَنْسَى أَوْ أُنْسَى لأَسُنَّ. اهـ.(1/78)
ولَهُمْ مِنَ السَّوابِقِ والفَضائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ – إِنْ صَدَرَ -، [ حَتَّى إِنَّهُمْ ] يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأنَّ لَهُمْ مِنَ الحَسَنَاتِ الَّتي تَمْحُو السَّيِّئاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. (1)
__________
(1) قولُه: (ولهم مِن السَّوابِقِ والفضائِلِ) إلخ أي: حَدَثَ، فما يَقعُ منهم -رضي اللَّهُ عنهم- يُغْتَفَرُ في جانِبِ ما لهم مِن الحسناتِ العظيمةِ، كما في قِصَّةِ حاطبٍ: فقد غُفِرَ له الذَّنْبُ العظيمُ بِشُهودِه بدراً (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى). وفي جامعِ الترمذيِّ أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لَمَّا جاءَهُ عثمانُ لِتَجْهيزِ جَيشِ العُسْرَةِ: ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ)) مَرَّتَيْنِ، رواه الترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ، وروى أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ عن جابرٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، وأَخْرَجَ أحمدُ بِسَندٍ رجالُه ثِقاتٌ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أَنَّ النَّبيَّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال لأهلِ الحديبيةِ: ((لاَ يُدْرِكَنَّ قَوْمٌ بَعْدَكُمْ صَاعَكُمْ وَلاَ مُدَّكُمْ)).
قولُه: (حتى إنَّهم يُغفَرُ لهم مِن السَّيِّئاتِ) إلخ: وَذَلِكَ لما لهم مِن الفَضائِلِ والسَّوابقِ والوَعْدِ بالمغفرةِ، قال تعالى: (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) فلأصحابِ رسولِ اللَّهِ من الحسناتِ والأسبابِ التي تَمْحُو السَّيِّئاتِ أعظمُ نَصيبٍ، قال: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ) والحبيبُ يسامِحُ بما لا يُسامِحُ بِهِ غيرُه؛ لأَنَّ المحبَّةَ أكبرُ شُفعائِه كما قِيلَ:
وإذا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ واحدٍ ... ... جاءتْ محاسِنُه بألْفِ شَفيعِ
فلِمَقامَاِتهم العظيمةِ وجهادِهم في اللَّهِ أعداءَه حقَّ الجهادِ يُحتمَلُ لهم ما لا يُحتَمَلُ لغيرِهم، وذَكَر ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارجِ في أثناءِ كلامٍ له: أِنَّه يُعفَى للمحِبِّ ولِصاحِبِ الإحسانِ العظيمِ ما لا يُعْفَى لغيرِه، ويُسامَحُ بما لا يُسامَحُ بِهِ غيرُه، قال: وقد استدلَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ- على ذَلِكَ بقصَّةِ سليمانَ حين أَلْهَتْهُ الخيلُ عن صلاةِ العصرِ، فأَتْلَفَها فعوَّضَه اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- الرِّيحَ، وَكَذَلِكَ لَطَم مُوسى عَيْنَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَها ولم يَعْتَبْ عليه رَبُّه، وفي ليلةِ الإسراءِ عاتَبَ رَبَّهِ في النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه رُفِعَ فوقَه، ولم يُعاتِبْهُ اللَّهُ على ذَلِكَ، لِما له مِن المقاماتِ العظيمةِ. وكان شديدَ الغضبِ لرَبِّه، فاحتَمَلَ له مالم يَحتَمِلْه لغيرِه، وذو النُّونِ لمَّا لم يكُنْ له هَذَا المقامَ سَجَنَهُ في بطنِ الحوتِ مِن أجلِ غَضَبِه (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) انتهى بتصرُّفٍ.(1/79)
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. (1)
__________
(1) قولُه: ((وقد ثَبَتَ بقولِ الرَّسولِ)) -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلخ: أَخرجَه مسلمٌ في الفضائلِ مِن حديثِ أبي هريرةَ، وأَخرَجَه أبو داودَ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ، وأَخرجَه البُخاريُّ ومِسلمٌ والنَّسائيُّ مِن حديثِ عمرانَ بنِ حُصَينٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) قال عِمرانُ بنُ حصينٍ: ((فلا أَدْرِي أَذَكَر بعدَ قَرْنِه مَرَّتِين أو ثلاثًا، وعنِ ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَومٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)).
قولُه: (قَرْنِي) القَرْنُ أهلُ زمانٍ واحدٍ متقارِبٍ اشتركُوا في أمرٍ مِن الأمورِ المقصودةِ، ويُطلَقُ القَرْنُ على مُدَّةٍ من الزَّمانِ اختلفوا في تَحديدِها، ووقع في حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ بُسرٍ عندَ مُسلِمٍ ما يَدلُّ على أَنَّ القرنَ مائةُ عامٍ، وهُوَ المشهورُ، انتهي مِن فتحِ الباري، والمرادُ بقَرْنِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: الصَّحابةُ، واتَّفقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القُرونِ قَرْنُه.
قولُه: ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) يعني التَّابِعينَ ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) يعني أَتْباعَ التَّابِعينَ، واقْتضَى هَذَا الحديثُ أنْ تكونَ الصَّحابةُ أَفْضلَ مِن التَّابِعِينَ، والتَّابِعينَ أَفْضلَ مِن أَتباعِ التَّابِعينَ، واستُدِلَّ بهَذَا على تعديلِ القرونِ الثَّلاثة وإنْ تَفاوتَتْ منازِلُهم في الفَضْلِ، واستُدِلَّ على جوازِ المفاضَلَةِ بين الصَّحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم.(1/80)
وأَنَّ المُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذا تَصَدَّقَ بهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَباً مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إِذا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكونُ قَدْ تَابَ منهُ، أَو أَتَى بحَسَناتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سابِقَتِهِ، أَو بِشفاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفاعَتِهِ، أَو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيا كُفِّرَ بهِ عَنْهُ. (1)
__________
(1) قولُه: (وإنَّ المُدَّ مِن أحدِهم). إلخ: كما في "الصَّحيحَيْنِ" عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ))، وقد تقدَّم الكلامُ عن هَذَا الحديثِ.
قولُه: (ثم إذا كان قد صَدَرَ) إلخ: والتَّوبةُ تَجُبُّ ما قَبلَها، كما في الحديثِ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)) والتَّوبةُ مَقبولةٌ مِن جميعِ الذُّنوبِ، قال تعالى: (إِلاَّ مَنْ تَابَ)، وقال: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ)، وقال: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وقد أخبَرَ اللَّهُ في كتابِه عن تَوبةِ أنبيائِهِ ودُعائِهم بالتَّوبةِ، قال تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وقال عن موسى -عليه السَّلامُ- إنَّه قال: (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) إلى غيرِ ذَلِكَ من الآياتِ، وأمَّا المأثورُ عنِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فكثيرٌ جِداًّ، وأصحابُه كانوا أفْضَلَ قُرونِ الأمَّة، فهم أعْرَفُ القرونِ باللَّهِ، وأشدُّهم له خَشْيةً، وقد وَقَع مِن بعضِهم أشياءُ نَدِمُوا عليها وتابوا منها، وهَذَا مشهورٌ.
قولُه: (أو أَتَى بحسناتٍ تَمْحُوه) قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيَّئَاتِ) وقال النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَأَتْبِعِ السِّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا)) وقال –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- للرَّجُلِ الذي قال أصبتُ حداًّ فَأَقِمْه عليَّ، فقال: ((هَلْ صَلَّيْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاةَ؟)) قال: نَعَمْ، قال: ((اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ)) الحديثَ، والحسناتُ تَتَفاضَلُ بحسَبِ ما في القُلوبِ مِن الإيمانِ والتَّقوى، وحينئذٍ فيُعرَفُ أنَّ مَن هُوَ دُونَ الصَّحابةِ قد تكونُ له حسناتٌ تَمْحُو ما يُذَمُّ مِن أحدِهم، فكَيْفَ بالصَّحابَةِ -رضي اللَّهُ عنهم-.
قولُه: (أو غُفِرَ له لفَضلِ سابِقَتِه) كما تقدَّمَ مِن الأدِلَّةِ على ذَلِكَ، ومنها قولُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))، وكما في قِصَّةِ حاطِب بنِ أبي بَلْتَعَةَ فقد غَفَرَ له ذَلِكَ الذَّنْبَ العظيمَ بشُهودِه بَدْرا، وقد بَرِئَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مما صَنَعَ خَالِدٌ ببني جذيمةَ وقال: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مَمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)) ولم يُؤاخِذْه له لِحُسْنِ بلائِه ونَصْرِه للإسلامِ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الكثيرةِ.
قولُه: (أو بِشفاعةِ محمَّدٍ) إلخ: فإنَّهم أخَصُّ النَّاسِ بِدُعائِه وشَفاعَتِه.
قولُه: (أو ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ في الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عنه) أي: امْتُحِنَ وَأُصِيبَ بمُصيبةٍ كَفَّرَ اللَّهُ بها عنه، أي مُحِيَ عنه ذَلِكَ الذَّنْبُ، لأنها تُكَفِّرُ الذَّنْبَ، كما في الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبْ وَلاَ غَمٍّ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)) متَّفقٌ عليه، ذَكَرَ المصنِّفُ هنا بعضَ الأسبابِ المسقِطةِ للعقوبةِ، وقد استَوْفاها في المنهاجِ وشَرَحَها شَرْحاً وافِياً، ثم قال: فَهِذِهِ الأسبابُ لا تفوتُ كُلُّها من المؤمنين إلاَّ القليلَ، فكَيْفَ بالصَّحابةِ رضوانُ اللَّهِ عليهم الذين هم خيرُ قُرونِ هَذِهِ الأمَّةِ، فإذا كان الذَّنْبُ الُمحَقَّقُ تَسقُطُ عقوبَتُه بِعدَّةِ أسبابٍ في حقِّ آحادِ النَّاسِ فكَيْفَ في أصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فما مِن ذنبٍ يَسقطُ بِهِ الذَّمُّ والعقابُ عن أحدٍ مِن الأمَّةِ إلاَّ والصَّحابةُ أحقُّ بِذَلِكَ، فَهُم أحقُّ بكُلِّ مدحٍ ونَفْيِ كُلِّ ذَمٍّ ممَّن بعدَهم مِن الأمَّة. انتهى.(1/81)
فإَذا كَانَ هذا في الذُّنُوبِ المُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ [ الأمُورُ ] الَّتي كَانُوا فِيها مُجْتهِدينَ: إِنْ أَصابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرانِ، وإِنْ أَخْطَؤوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ واحِدٌ، والخَطَأُ مَغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ القَدْرَ الَّذي يُنْكَرُ مِنْ فَعْلِ بَعْضِهِمْ قَليلٌ نَزْرٌ [ مَغْفُورٌ ] في جَنْبِ فَضائِلِ القَوْمِ ومَحاسِنِهِمْ؛ مِن الإِيْمانِ باللهِ، ورَسُولِهِ، والجِهَادِ في سَبيلِهِ، والهِجْرَةِ، والنُّصْرَةِ، والعِلْمِ النَّافعِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ. (1)
__________
(1) قولُه: (فإذا كان هَذَا في الذُّنوبِ المحققَّةِ) تَسقُطُ عقوبَتُها عن آحادِ الأمَّةِ بأسبابٍ عديدةٍ فكَيْفَ بأصحابِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فهم أحَقُّ بِذَلِكَ لِما لهم مِن الفَضائِلِ والسَّوابِقِ والوَعْدِ بالمغفرةِ، إلي غيرِ ذَلِكَ ممَّا لا يُمْكِنُ أنْ يَلْحَقَهُم فيه مَن بَعْدَهم، فإذا كان ما تَقدَّمَ في الذُّنوبِ المحققَّةِ فكَيْفَ الأمورُ التي كانوا فيها مُجْتَهِدِين إنْ أصابوا فلَهُم أَجْرَانِ وإنْ أَخْطَئُوا فَلَهُم أجرٌ واحدٌ، والخطأُ مَغفورٌ، فَهُم مأجورونَ على كِلا الحالَيْن، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هريرةَ وعمرِو بنِ العاصِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))، وقد تقدَّمَ، فما صدَرَ منهم فَهُم فيه مَعذورون ومأجورونَ، ولم يُخرِجْ ذَلِكَ أحدًا منهم عن العَدالةِ؛ لأنَّهم مجتهدُونَ اختلَفوا في مسائِلَ مِن مَحَلِّ الاجتهادِ كما يَختلِفُ المجتهِدونَ.
قولُه: (ثم القَدْرُ) إلخ: ثم حرفُ عطفٍ. قولُه: (جَانِبِ) أي: جِهَةٍ وناحيةٍ.
قولُه: (نَزْرٌ) أي: قليلٌ تَافِهٌ. قولُه: (مغمورٌ) أي: مُغطًّى مِن غَمَره إذا غطَّاهُ، وعَلاه أي: إِنَّ ما أَتَوْا بِهِ مِن الحسناتِ وما لَهُم مِن الفضائلِ والسَّوابِقِ غَمَرَ ما وقع منهم وغطَّاه وجَعَلَه كَلا شَيْءٍ، أو كقَطْرةِ نجاسةٍ وقَعَتْ في بحرٍ، هَذَا على فَرضِ ثبوتِ ذَلِكَ عنهم ووقُوعِه منهم، وإلاَّ فغالِبُ ما يُنقَلُ عنهم مِن المساوئِ إمَّا كَذِبٌ محْضٌ، وإمَّا محرَّفٌ كما تقدَّمَ؛ لأنَّ غالِبَ ما ذُكِرَ عنهم ذَكَرَهُ المؤرِّخون الذين يَكثُرُ الكَذِبُ فيما يَرْوونَه، وقَلَّ أنْ يَسْلَمَ نَقْلُهُم مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ، وأيضًا إذا ثَبَتَ صدُورُه عنهم فهُوَ صادِرٌ عن اجتهادٍ سائغٍ هُم مأجورونَ فيه على كِلا الحالَيْنِ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن عَلِمَ ما دلَّ عليه القرآنُ والسُّنَّةُ مِن الثَّناءِ على القومِ -رضي اللَّهُ عنهم- واستحقاقَهُم الجَنَّةَ؛ وأنَّهم خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ التي أُخرِجَتْ للنَّاسِ لم يُعارِضْ هَذَا المتيقَّنَ المعلومَ بأمورٍ مُشتَبِهَةٍ، منها ما لا يُعلمُ صحَّتُه، ومنها ما يَتَبَيَّنُ كذِبُه، ومنها ما لا يُعلمُ كَيْفَ وَقَعَ، ومنها ما يُعلمُ عُذرُ القومِ فيه، ومنها ما يُعلمُ تُوبَتُهم منه، ومنها ما يُعْلَمُ أنَّ له مِن الحسناتِ ما يَغْمُرُه، فمَن سَلَكَ سبيلَ أهلِ السُّنَّةِ استقام قولُه، وكان مِن أهلِ الحقِّ والاستقامةِ والاعتدالِ، وإلاَّ حَصلَ في جهلٍ ونقصٍ وتناقُضٍ كحالِ هؤلاء الرَّفَضةِ الضُّلاَّلِ.(1/82)
ومَنْ نَظَرَ في سيرةِ القَوْمِ بِعلْمٍ وبَصيرةٍ، ومَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بهِ مِن الفَضائِلِ عَلِمَ يَقيناً أَنَّهُم خَيْرُ الخَلْقِ بعدَ الأنبياءِ، لا كَانَ ولا يَكونُ مِثْلُهُم، وأَنَّهُم الصَّفْوَةُ مِن قُرونِ هذهِ الأمَّةِ التَّي هِيَ خَيْرُ الأمَمِ وأَكْرَمُها عَلى اللهِ ). (1)
__________
(1) قولُه: (ومَن نَظَرَ) أي: تدبَّرَ وتفكَّرَ فيها، قولُه: (في سيرةِ القومِ) أي: خِطَّتِهم وعادَتِهم، وما كانوا عليه مِن الأحوالِ الفاضِلةِ والسِّيرةِ العادِلةِ، وجُمعُها سِيَرٌ، وهُوَ ما يعامَلُ بِهِ النَّاسُ مِن خيرٍ وشرٍّ، وأصلُ السِّيرةِ: هيئةُ فِعلِ السَّيْرِ وسَيْرُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- هيئةُ أفعالِه حَيْثُ كانت.
قولُه: (بِعِلمٍ) العِلمُ هُوَ حصولُ صورةِ المعلومِ في الذِّهْنِ. قولُه: (وبصيرةٍ) أي: معرفةٍ ويَقِينٍ، والبصيرةُ للقلبِ والبَصَرُ للعينِ، قال ابنُ القيِّمِ في المدارجِ بعد كلامٍ على قولِه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) قال: يريدُ أنْ تَصِلَ باستدلالِكَ إلى أعلى درجاتِ العِلمِ، وَهِيَ البصيرةُ التي تكونُ نسبةُ المعلومِ فيها إلى القلبِ كنِسْبةِ المرئيِّ إلى البَصرِ، وَهَذِهِ الخِصِّيصةُ التي اختُصَّ بها الصَّحابةُ عن سائرِ الأمَّةِ، وَهِيَ أعلا درجاتِ العلماءِ. انتهى.
قولُه: (عَلِمَ يَقِيناً) أي: عِلماً لازماً لا يَدخُلُه شَكٌّ ولا شبهةٌ، فاليَقِينُ لغةً، طُمَأنِينَةُ القَلْبِ على حَقِيقةِ الشَّيءِ، يقالُ: يَقَنَ الماءُ في الحوضِ إذا استقرَّ فيه واصِطلاحًا هو: اعتقادٌ جازمٌ لا يَقْبَلُ التَّغييرَ، ومراتبُ اليقينِ ثلاثةٌ: حقُّ اليَقينِ، وعِلمُ اليَقينِ، وعَينُ اليَقينِ، فعِلمُ اليقينِ هُوَ التَّصديقُ التَّامُّ بِهِ بحَيْثُ لا يَعرِضُ له شكٌّ ولا شبهةٌ تَقدَحُ في تَصديقِه، وعينُ اليقينِ هي مرتبةُ الرُّؤْيَةِ والمشَّاهَدَةِ، وحقُّ اليقينِ هي مباشرةُ الشَّيءِ والإحساسُ به، قولُه: (لا كان ولا يكونُ مِثْلُهم) كان تامَّةٌ.
قولُه: (الصَّفوةُ) أي: الخيارُ، والصَّفوةُ مِن كُلِّ شيءٍ خالِصُه وخيارُه، فأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- همُ خيرُ الخلقِ بعدَ الأنبياءِ، ومَن نَظَرَ في سِيرتِهم وتأمَّلَ أحوالَهم وما هم عليه مِن الدَّعوةِ إلى اللَّهِ والجهادِ في سبيلِه وبَذْلِ النَّفْسِ والنَّفِيسِ في سبيلِ إعلاءِ كلمتِه مع ما هم عليه مِن الصِّدقِ مع اللَّهِ والمسارَعةِ إلى الخيرِ مع العِلمِ النَّافِعِ – إلى غيرِ ذَلِكَ مِن صفاتِهم الفاضِلةِ عَلِمَ يقيناً أنَّهم خَيرُ الخَلقِ بعد الأنبياءِ، وأنَّهم أَكْملُ هَذِهِ الأمَّةِ عقلاً وعِلماً ودِيناً، كما قال فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: مَن كان منكم مُسْتَناًّ فَليَسْتَنَّ بمَن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئكَ أصحابُ مُحَمَّدٍ كانوا خيرَ هَذِهِ الأمَّةِ، وأَبَرَّها قُلُوبًا وأعْمَقَها عِلماً وأقَلَّها تَكلُّفا، قومٌ اختارَهم اللَّهُ لنَبِيِّه وإقامةِ دِينِه، فاعْرِفوا لهم فَضْلَهم واتَّبِعُوهم في آثارِهم، وتَمسَّكُوا بما استطعْتُم مِن أخلاقِهم ودينِهم، فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيمِ، رواه غيرُ واحدٍ، منهم ابنُ بطَّةَ عن قتادةَ، وروى هُوَ وغيرُه بالأسانيدِ إلى زِرِّ بنِ حُبيشٍ قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((إنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- نَظَرَ في قلوبِ العِبادِ بعد قلبِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فوجَدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العِبادِ، فجَعلهَم وراءَ نِبيِّه يقاتِلون على دِينِه، فما رآه المسلمونَ حَسَناً فهُوَ عندَ اللَّهِ حسَنٌ، وما رآه المسلمونَ سيِّئاً فهُوَ عندَ اللَّهِ سيِّئٌ)) رواه أحمدُ وأبو داودَ الطَّيالسيُّ، وما قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- فيهم حقٌّ، كما تواتَرَتْ بِذَلِكَ الأحاديثُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي)) الحديثَ، وهُمْ أفضلُ الأمَّةِ الوسَطِ الشُّهداءِ على النَّاسِ، وهم الصَّفوةُ مِن قرونِ هَذِهِ الأمَّةِ وأَكْرَمِها على اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- قال تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) قال طائفةٌ مِن السَّلَفِ هُم أصحابُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ولا رَيْبَ أنَّهم أفضلُ المُصْطَفَيْنَ مِن هَذِهِ الأمَّةِ التي قال اللَّهُ فيها (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لَّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ) فأمَّةُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الذين أُورِثوا الكتابَ بعدَ الأمَّتَيْنِ قَبلَهم اليهودُ والنَّصارى، وقد أخبَرَ أنَّهم الذين اصْطَفى، فأصحابُ مُحَمَّدٍ هم المصطفَيْنَ مِن المصطفَيْنَ مِن عِبادِ اللَّهِ، فهم صَفوةُ الصَّفوةِ، رضوانُ اللَّهِ عليهم أجمعين، فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ خيرُ الأممِ وأكْرَمُها على اللَّهِ كما قال -سُبْحَانَهُ-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وروى الإمامُ أحمدُ عن حكيمِ بنِ معاويةَ عن أبيه -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-)) رواه الترمذيُّ وابنُ ماجهْ والحاكِمُ في مستدرَكِه، وأصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- خيرُ هَذِهِ الأمَّةِ، فهُمْ أفضلُ الخلقِ على الإطلاقِ بعد النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ.(1/83)
( ومِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّصْدِيقُ بِكَراماتِ الأوْلِياءِ، ومَا يُجْري اللهُ عَلى أَيْديهِمْ مِنْ خَوارِقِ العَادَاتِ في أَنْواعِ العُلومِ والمُكاشَفاتِ، وأَنْواعِ القُدْرَةِ والتَّأْثيراتِ. (1)
__________
(1) فَصْلٌ قولُه: (التَّصدِيقُ بكراماتِ الأولياءِ) إلخ أي: مِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ التَّصديقُ بكراماتِ أوليائِه، كما دلَّ على ذَلِكَ القرآنُ والأحاديثُ الصَّحيحةُ والآثارُ المتَواتِرةُ عن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وغيرِهم، وإنَّما أنْكرَها أهلُ البِدَعِ من الجهميَّةِ والمعتزِلةِ ومَن تابَعُهم، والكرامةُ هُوَ ما يُجرِي اللَّهُ على أيدي أوليائِه مِن المؤمنين مِن خوارقِ العاداتِ، كما جَرى لأُسيدِ بنِ حُضيرٍ في نُزولِ الظُّلَّةِ عليه باللَّيلِ فيها مِثلُ السَّرْجِ، فأخبَرَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بِذَلِكَ فقال: ((تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ نَزَلَتْ لِسَمَاعِ قِرَاءَتِكَ)) ومِثلُ ما جرى لسَعدِ بن أبي وقَّاصٍ في القادسِيَّةِ، ومُرورِهم على الماءِ بجُنودِهم، وقد جرى قبل ذَلِكَ نحوُه للعلاءِ بنِ الحَضْرَمِيِّ.
قولُه: (مِن خوارقِ العاداتِ) إلخ أي: أنَّها خَرَقَت العادَةَ وخالَفَتْ مُقتضاها، وجاءتْ على خِلافِ مألوفِ الآدَمِيِّينَ، كإحياءِ ميِّتٍ، وانفجارِ الماءِ مِن بين الأصابعِ.
قولُه: (في العلومِ والمُكاشَفاتِ وأنواعِ القدرةِ والتَّأثيراتِ) إلخ أي: أَنَّ الكرامةَ تَنْقَسِمُ إلى أقسامٍ: منها ما يكونُ في الكَشْفِ والعِلمِ، ومنها ما يكونُ في القُدرةِ والتَّأثِيرِ، فما كان مِن بابِ العِلمِ والَكَشْفِ، فتارةً يَسمعُ ما لا يَسمَعُه غيرُه، أو يَرى ما لا يَراهُ غيرُه يقظةً أو مَناماً أو نحوَ ذَلِكَ، ويُسمَّى كَشْفاً، ومشاهداتٍ، ومكاشَفاتٍ، ومخاطَباتٍ، فالسَّماعُ مخاطَباتٌ، والرُّؤيا مشاهداتٌ، والعِلمُ مكاشَفةٌ، ويُسمَّى ذَلِكَ كُلُّه كَشْفًا ومكاشَفةً، أي كَشَفَ له عنه وأَطْلَعَه على ما لم يُطْلِعْ عليه غيرَه، فحَصَلَ لقَلْبِه مِن انكشافِ الحقائقِ التي لا تَخْطُرُ ببالِ غيرِه ما خصَّهُ اللَّهُ به، فمِن بابِ الكَشفِ والعِلمِ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ إخبارُ نَبِيِّنا عن أخبارِ الأنبياءِ المتقدِّمِين وأُمَمِهم، وَكَذَلِكَ عن الأمورِ المستقبَلَةِ كمَمْلَكةِ أُمَّتِه وزوالِ مملكةِ فارسَ والرُّومِ، وقتِالِ التُّرْكِ ونحوِ ذَلِكَ ممَّا لا يُحْصَى، وأمَّا القُدرةُ والتَّأثيرُ فكانشِقاقِ القَمرِ، وَرَدِّ الشَّمسِ ليُوشعَ بنِ نوٍن، وإسرائِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- من المسجِدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى، ونَبْعِ الماءِ بين أصابِعِه غيرَ مرَّةٍ، إلى غيرِ ذَلِكَ ممَّا لا يُحصى، وأمَّا الخوارِقُ لغيرِ الأنبياءِ مِن بابِ الكَشفِ والعِلمِ، فمِثلُ قولِ عُمرَ في قصَّةِ ساريةَ، ومِثلِ إخبارِ عُمرَ بمَن يَخْرُجُ مِن وَلَدِه فيكونُ عادلاً، وقِصَّةُ صاحِبِ مُوسى في عِلمِه بحالِ الغُلامِ، وأمَّا مِن بابِ القُدرةِ والتَّأثيرِ فمِثلُ قصَّةِ الذي عندَه عِلمٌ مِن الكتابِ، وقصةِ أهلِ الكهفِ وقصةِ مريمَ ونحو ذَلِكَ، انتهى، مُلخَّصاً مِن كلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ، وشرْطُ كونِ الخارِقِ كرامةً أنْ يكونَ مَن جَرَى على يديْهِ صالِحاً مُتَّبِعا للسُّنَّةِ، فمَن ادَّعى محبَّةَ اللَّهِ وولايَتِه ولم يَتَّبِعْ محمَّدًا -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فليس مِن أوليائِه، بل مِن أعدائِه وأولياءِ الشَّيطانِ، كما قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).
قال الحَسَنُ: ادَّعى قومٌ محبَّةَ اللَّهِ فامتَحَنَهُم اللَّهُ بهذه الآيةِ، ولهَذَا اتَّفقَ أئمَّةُ الدِّينِ على أَنَّ الرَّجُلَ لو طارَ في الهواءِ ومَشى على الماءِ لم يَثْبُتْ له ولايةٌ، بل ولا إسلامٌ حتى يُنْظَرَ وُقُوفُه عندَ الأمرِ والنَّهْيِ الذي بَعثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَه، فولِيُّ اللَّهِ هُوَ المؤمِنُ المتَّقِي كما قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) وسُمِّي وَلِياًّ لموالاتِه لِطاعةِ اللَّهِ، والوليُّ خلافُ العدوِّ، وهُوَ مُشتَقٌّ مِن الولاءِ، وهُوَ الدُّنُوُّ والقُربُ، فَوَلِيُّ اللَّهِ مَن والَى اللَّهَ بموافَقَتِه في محبوباتِه والتَّقرُّبِ إليه بمرضاتِه، والأولياءُ على قِسمَيْنِ: مقتَصِدُونَ ومُقَرَّبونَ، فالمقتَصِدُونَ الذين يتقرَّبُون إلى اللَّهِ بالفرائضِ مِن أعمالِ القُلوبِ والجوارحِ، والسَّابِقُون الذين يَتقرَّبونَ إلى اللَّهِ بالنَّوافِلِ بعدَ الفرائضِ، وأفضلُ أولياءِ اللَّهِ هم أنبياؤه، وأَفضلُ أنبيائِه هُم المرسَلونُ منهم، وأَفضلُ المرسَلينَ هم أُولو العزْمِ، وهم: إبراهيمُ، ونوحٌ، وموسى، وعيسى، ومحمَّدٌ، قيل: وأَفْضَلُهم مُحَمَّدٌ، ثم إبراهيمُ، ثم موسى، ثم عيسى، ثم نوحٌ، ونَظَمَهُم بعضُهم على هَذَا التَّرتِيبِ فقال:
مُحَمَّدٌ إبراهيمُ موسى كَلِيمُه فعِيسى فنُوحٌ هم أُولو العَزْمِ فَاعْلَمِ
ولا يُشترَطُ في الوليِّ أنْ يكونَ مَعصومًا، بل مَن ادَّعى العِصمةَ لأحدٍ مِن الأولياءِ فقد كَذَبَ، ولا يُمكِنُ أنْ يَصِلَ الوليُّ مهما عَلَتْ رُتْبَتُه وبَلغَ في الجِدِّ والاجتهادِ ما بَلغَ إلى مراتِبِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وليس للوَلِيِّ زِيٌّ خاصٌّ ولا لِباسٌ خاصٌّ، وأمَّا ما يُجْري اللَّهُ على أيدي الأنبياءِ والرُّسُلِ مِن خوارقِ العاداتِ يَدُلُّ بها عبادَه على صِدقِ ما ادَّعَوْه مِن النُّبوَّةِ والرِّسالَةِ، فيُقالُ له معجزةٌ، أمَّا إذا كانتْ حالُ مَن ظَهرَت الخارِقةُ على يَدَيهِ غيرَ مُرْضِيَةٍ فليست بكرامَةٍ، بل هُوَ استدراجٌ وخيالٌ شَيطانيٌّ، ليس مِن حالِ أولياءِ اللَّهِ وكرامَتِهم، فمَن زَعَمَ أنَّه يَصِلُ إلى حدٍّ تَسقُطُ عنه التَّكالِيفُ الشَّرْعيَّةُ أو زَعَمَ أنَّه يَسَعُه الخروجُ مِن شريعةِ محمَّدٍ، كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو زَعَم أنَّه محتاجٌ للنَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِلمِ الظَّاهرِ دُونَ عِلمِ الباطِنِ، أو في عِلمِ الشَّريعةِ دُونَ عِلمِ الحقيقةِ، فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ مِن أولياءِ الشَّيطانِ ليسَ مِن أولياءِ الرَّحمنِ، كما ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ وغيرُه، إذ قد أَجمعَ العلماءُ على أنَّ شَرْطَ الكرامَةِ كونُها على يَدِ متَّبِعٍ للشَّرعِ المُطهَّرِ، وبهَذَا التَّفصيلِ يَظهَرُ الفَرْقُ بينَ المعجزةِ والكرامةِ والأحوالِ الشَّيطانيَّةِ، فالثَّلاثُ تَجتمِعُ في كونِها خارقةً للعادةِ، وتمتازُ المعجزةُ في كونِها على يَدِ مُدَّعِي الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، فيُؤيِّدُ اللَّهُ الصَّادِقينَ بأنواعِ المعجزاتِ والأخلاقِ والأعمالِ التي تَدُلُّ على صدقِهم، وقد يكونُ منها ما لا يَستطِيعُ المخلوقُ مِثلَه، كإنزالِ القرآنِ، ونُبوعِ الماءِ مِن بين أصابِعِه، وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ، وإحياءِ الموتى في حقِّ عيسى، وكعَصا موسى ويدِه، أمَّا الكرامةُ فهي الخارِقةُ الحاصِلةُ على يدِ المؤمنِ التَّقيِّ التَّابعِ لشَرعِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ودِينِه، إمَّا لتقويةِ إيمانِه أو لحاجةٍ أو لإقامةِ حُجَّةٍ على خَصْمِه المعارِضِ له في الحقِّ، كما جَرى لسعيدِ بنِ زيدٍ وسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ لمَّا دَعَوَا على مَن رَماهُما بِخلافِ الحقِّ، فأجابَ اللَّهُ دَعْوَتَهما، والكرامةُ في الحقيقةِ مِن معجزاتِ ذَلِكَ النَّبيِّ الذي اتَّبعَهُ ذَلِكَ المؤمنُ الذي وقعتْ له تِلكَ الكرامةُ، كما قال بعضُ العلماءِ: كُلُّ كرامةٍ لوليٍّ فهي معجزةٌ لنَبِيِّه؛ لأنها لم تَقَعْ له إلاَّ بسببِ اتِّباعِه له، أمَّا إذا وَقَعت الخارِقةُ على يدٍ مُعرضٍ عن الشَّرعِ صادٍّ عن الحقِّ مُتلَبِّسٍ بالمعاصي فما وقَعَ مِن الأحوالِ الشَّيطانِيَّةِ التي تَصُدُّ بها الشَّياطِينُ النَّاسَ عن اتِّباعِ الحقِّ، فإنَّ الشَّياطِينَ تَعملُ كُلَّ حيلةٍ لإضلالِ النَّاسِ وصَدِّهم عن الحقِّ، وتَدخُلُ الأصنامَ وتُكَلِّمُ عُبَّادَها وتَحْكُم بينهم، وقد تَقْضِي لأوليائِها بعضَ الحاجاتِ، وقد تَرفَعُ بعضَهم في الهواءِ ثم تُعيدُه، ولا سيِّما في الرَّقْصِ واللَّعِبِ، وقد تَنْقُلُ بعضَ عُبَّادِها إلى بلدةٍ بعيدةٍ ثم تُرْجِعُه، أو إلى عرفاتٍ وقتَ الحجِّ ثم تُعيدُه، كما ذَكَرَ ذَلِكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في كتابِ الفُرقانِ بين أولياءِ الرَّحمنِ وأولياءِ الشَّيطانِ.(1/84)
[ والمأْثُوِرِ ] عنْ سَالِفِ الأمَمِ في سُورَةِ الكَهْفِ وغَيْرِها، وعَنْ صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِن الصَّحابَةِ والتَّابِعِينَ وسائِرِ [ فِرَقِ ] الأمَّةِ، وهِيَ مَوْجودَةٌ فيها إِلى يَوْمِ القِيامَةِ). (1)
__________
(1) قولُه: (كالمأثورِ عن سالِفِ الأُمَمِ) أي: كالمنقولِ عن سالفِ الأمَمِ، أي متقدِّمِها، كما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في كتابِه عن حَمْلِ مَريمَ بلا زوجٍ، ووجودِ فاكهةِ الشِّتاءِ عندَها في الصَّيفِ وبالعكس، وإحضارِ آصفِ بنِ برخيا عَرشَ بَلقِيسَ في لحظةٍ مِن مسيرةِ شهرٍ، وكما ذَكَرَ -سُبْحَانَهُ- في سورةِ الكهفِ عن أصحابِ الكهفِ أنَّهم بَقُوا ثلاثَمائةِ سَنةٍ، فإنَّ بقاءَهُم ثلاثَمائةِ سَنةٍ بلا آفةٍ مِن أعظمِ الخوارقِ، وكالمأثورِ عن صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، أي أوَّلِها، وصَدْرُ كُلِّ شيءٍ أوَّلُه، أي أوَّلُ هَذِهِ الأمَّةِ مِن الصَّحابةِ، كما في قصةِ العلاءِ بنِ الحضرمِيِّ وأصحابِه حين مَشَوْا على الماءِ، وكرُؤيةِ عُمرَ لجيشِ ساريةَ وهُوَ على المنبرِ في المدينةِ وندائِه لأميرِ الجيشِ وهُوَ بنَهاوندَ: يا ساريةَ الجبلَ، تحذيراً له مِن العدوِّ مع بُعدِ المسافةِ، وكشُربِ خالدِ بنِ الوليدِ السُّمَّ مِن غيرِ أنْ يَحصُلَ له منه تَضرُّرٌ به، وكجَريانِ النِّيلِ بكتابِ أميرِ المؤمنينَ عُمرَ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن كراماتِ الصَّحابةِ التي لا تُحصى.
قولُه: (مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ) التَّابِعُ لُغةً: التَّالي، وفي عُرفِ الفُقهاءِ: مَن اجتمَعَ بالصَّحابِيِّ، أي أنَّ كَراماتِ الأولياءِ لا تَزالُ موجودةً إلى يومِ القيامةِ في جَميعِ أصنافِ أمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بِشَرْطِها المتقدِّم، كما رُوِي أَنَّ الحسَنَ تَغَيَّبَ عن الحجَّاجِ فدَخَلُوا عليه سِتَّ مَرَّاتٍ فدعا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فلم يَرَوْه، ودعا على بعضِ الخوارجِ كان يُؤذِيه فخَرَّ ميِّتا، وصِلةُ بنُ أشيمَ مات فَرَسُه وهُوَ في الغَزْوِ، فقال: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لمخلوقٍ عليَّ مِنَّةً، ودعا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فأَحْيا له فَرَسَهُ، فلمَّا وَصلَ إلى بَيْتِه قال: يا بُنَيَّ خُذِ سَرْجَ الفَرسِ فإنَّه عاريةٌ، فَأَخَذَ سَرْجَه فماتَ الفَرسُ، وجاعَ مرَّةً بالأحوازِ فدعا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ واستطعَمَه فوقَعَتْ خَلفَه دُوْخلةُ رُطبٍ في ثوبِ حريرٍ فأكَلَ التَّمَرَ وبَقِيَ الثَّوبُ عند زَوجتِه زمانًا، وجاءَه الأسدُ وهُوَ يُصلِّي في غَيضةٍ باللَّيلٍ، فلمَّا سَلَّمَ قال له اطُلبِ الرِّزْقَ مِن غيرَ هَذَا الموضِعِ، فولَّى الأسدَ وله زئيرٌ، وكان سعيدُ بنُ المسيِّبِ في أيامِ الحرَّةِ يسمعُ الأذانَ مِن قبرِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في أوقاتِ الصَّلواتِ، وكان المسجدُ قد خَلَى فلم يَبْقَ غيرُه، ولما ماتَ أُويسٌ القرنيِّ وجدوا في ثيابِه أكفانًا لم تكُنْ معه قبلُ، ووَجَدوا له قَبرًا محفورًا فيه لحْدٌ في صخرةٍ فدَفَنوهُ فيه وكفَّنُوه في تلكَ الأثوابِ، وكان عمرُو بنُ عقبةَ بنِ فَرْقدٍ يصلِّي يومًا في شدَّةِ الحرِّ فأظلَّتْه غمامةٌ، وكان السَّبْعُ يَحمِيه وهُوَ يَرعى ركابَ أصحابِه؛ لأنَّه كان يَشترِطُ على أصحابِه في الغزوِ أنَّه يَخدُمُهم، وكان مُطرِّفُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ إذا دخَلَ بيتَهُ سبَّحتْ معه آنِيتُه، وكان هُوَ وصاحبٌ له يسيرانِ في ظُلمةٍ فأضاء لهما طَرَفُ السَّوْطِ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن كراماتِ أولياءِ اللَّهِ التي لا تحصى، ذكر ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين في كتابِه الفرقانُ قال: وأمَّا ما نَعْرِفُه نحن عَيانًا ونَعرِفُه في هَذَا الزَّمانِ فكثيرٌ. انتهى.
قولُه: (وسائِرُ) أي: باقي أو جميعُ فِرَقِ الأمَّةِ، ولا يَخْتَصُّ ذَلِكَ في صِنفٍ مُعيَّنٍ، بل تُوجَدُ الكراماتِ وخوارقُ العاداتِ في جميعِ أصنافِ أمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إذا لم يكونوا مِن أهلِ البِدعِ الظَّاهِرةِ والفُجورِ، فيُوجدُ ذَلِكَ في أهلِ القرآنِ وأهلِ العِلمِ، وفي أهلِ الجِهادِ، وفي التُّجَّارِ والصُّنَّاعِ والزُّرَّاعِ وغيرِهم ممَّن كان صالِحا مُتَّبِعاً لسُنَّةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-.(1/85)
( فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَريقةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ اتِّباعُ آثارِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
__________
(1) فَصْلٌ، قولُه: (طريقةِ) أي: سبيلٌ ومنهاجٌ. قولُه: (السُّنَّةِ) لغةً: الطَّريقةُ. وشَرْعا: هي أقوالُ النَّبيِّ وأفعالُه وتقريراتُه، وقد تقدَّمَ، وهَذَا معناها باعتبارِ العُرفِ الخاصِّ، وأمَّا معناها باعتبارِ العُرفِ العامِّ فهُوَ ما نُقِلَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو عن السَّلَفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وغيرِهم مِن الأئمَّةِ المُقتَدى بهم، قال ابنُ رجبٍ: وكثيرٌ مِن المتأخِّرينَ يَخصُّون السُّنَّةَ بما يَتعلَّقُ بالاعتقادِ؛ لأنَّها أصلُ الدِّينِ، والمُخالِفُ فيها على خَطرٍ عظيمٍ، انتهى، وقد اتَّفقَ مَن يُعتدُّ بِهِ مِن أهلِ العِلمِ على أَنَّ السُّنَّةَ المُطَهَّرةَ مُستقِلَّةٌ بتشريعِ الأحكامِ، وأنَّها كالقرآنِ في التَّحليلِ والتَّحريمِ وغيرِ ذَلِكَ، وقد ثَبَتَ عنه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ))، وما رُوِي مِن الأمرِ بعَرْضِ الأحاديثِ على القرآنِ، فقال يحيى بنُ مَعينٍ: إنَّه موضوعٌ وَضَعَتْهُ الزَّنادِقةُ، وهُوَ مخالِفٌ لقولِه تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ) الآيةَ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هَذَا الحديثِ بأكملَ مِن هَذَا فارجِعْ إليه.
قولُه: (اتِّباعُ آثارِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) أي: سُلوكُ طريقِهِ والسَّيْرُ على مِنهاجِهِ، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الاتِّباعُ سُلوكُ طَريقِ المتَّبَعِ والإتيانُ بمِثلِ ما أتى به. انتهى.
قال اللَّهُ تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسول فَخُذُوهُ) وقال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مَّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) وعن أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَ جِئْتُ بِهِ))، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ والأحاديثِ التي فيها الأمرُ باتِّباعِ الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- والوعيدِ الشَّديدِ في الإعراضِ عن هَدْيِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فاتِّباعُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأمتثالُ أمْرِه مِن أعظمِ الفُروضِ، بل كُلُّ قولٍ أو عَملٍ يُخالِفُ ما عليه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه فهُوَ باطلٌ مردودٌ على فاعلِه كائِناً مَن كان، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) فاتِّباعُ الرَّسولِ شَرطٌ لصحَّةِ العملِ، كما قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) وقال: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال الفُضيلُ بنُ عياضٍ: أي: أَخْلُصَهُ وأَصْوَبُه، قيل: يا أبا عليٍّ ما أخْلَصُه وأصوبُه؟ قال: إنَّ العَملَ إذا كان خَالِصاً ولم يكُنْ صَواباً لم يُقبلْ، وإذا كان صَواباً ولم يكُنْ خالِصاً لم يُقْبلْ، حتى يكونَ خالِصاً صواباً، والخالِصُ أنْ يكونَ لِلَّهِ، والصَّوابُ أنْ يكونَ على سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أنَّ حُبَّ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فرضٌ بل لا يَتِمُّ الإيمانُ والإسلامُ إلا بكونِه أحبَّ إلى العبدِ مِن نَفْسِه فَضْلا عن غيرِه، واتَّفقوا على أنَّ حبَّه لا يتحقَّقُ إلاَّ باتِّباعِ آثارِه، والتَّسليمِ لما جاء به، والعملِ على سُنَّتِه وتَرْكِ ما خَالَفَ قوْلَه، كما قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وقال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... ) الآيةَ، فمَن زعَمَ أنَّ أدلَّةَ القرآنِ والسُّنَّةِ لا تُفيدُ اليقينَ، وأنَّ أحاديثَ الأسماءِ والصِّفاتِ أخبارُ آحادٍ لا تُفيدُ العِلمَ فهُوَ بعيدٌ عن هَذَا التَّحكيمِ، فيَجِبُ اعتقادُ أنَّه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الواسِطةُ في التَّبليغِ عن اللَّهِ شَرْعَهُ ودِينَهُ، فاللَّهُ –سُبْحَانَهُ- المشرِّعُ ورسولُه المبلِّغُ، فالحلالُ ما أحلَّه اللَّهُ، والحرامُ ما حرَّمَه، والدِّيُن ما شَرَعَه، فاتِّخاذُ الواسطةِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ: الأوَّلُ: اتِّخاذُ واسطةٍ بينكَ وبين اللَّهِ على أنَّها تَنفعُ وتضُرُّ، فاتِّخاذُ هَذِهِ الواسطةِ شِرْكٌ وكُفرٌ بالإجماعِ، كما ذكر ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ، الثَّاني: اتِّخاذُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واسطةً في التَّبليغِ عن اللَّهِ شَرْعَهُ ودِينَهُ، فإسقاطُ هَذِهِ الواسطةِ كُفرٌ باللَّهِ، فمَنْ زعم أنَّه يَأخُذُ عن اللَّهِ بدُونِ واسطةِ رُسلِه وأنبيائِه فهُوَ كافرٌ، أو زعم أنَّه يَصِلُ إلى حدٍّ تَسقُطُ عنه التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ، أو أنَّه يَسَعُه الخروجُ عن شريعةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو أنَّه مُحتاجٌ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِلمِ الظَّاهرِ دُونَ عِلمِ الباطنِ، أو في عِلمِ الشَّريعةِ دُونَ عِلمِ الحقيقةِ، أو أنَّ هَدْيَ غيرِ مُحَمَّدٍ أحْسنُ مَن هَدْيهِ فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
قولُه: (آثارِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) أي: ما أُثِرَ عنه ورُوِي عنه مِن قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وليس المرادُ آثارُه الحسِّيَّةُ كمواضعِ نومِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وجُلوسِه وقيامِه ونحوِ ذَلِكَ، فلا ينبغي تَتَبُّعُ ذَلِكَ؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى الفِتنةِ بتِلكَ المواضعِ، وربما آلَ إلى جَعلِها مَعَابِدَ، ولذَلِكَ قَطعَ عمرُ بنُ الخطابِ الشَّجرَةَ التي بايعَ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- تحتها الصَّحابةَ لمَّا بَلَغَه أنَّ أُناسًا يَذْهَبون إلى شجرةٍ فيُصلُّون تحتَها، ونَهَى عن اتِّباعِ آثارِه الحسِّيَّةِ، وقال: إنَّما هَلَكَ مَن كان قَبلَكُم باتِّباعِ آثَارِ أنبيائِهم، وأمَّا ما كان يَفعلُه ابنُ عمرَ مِن تَتبُّعِ آثارِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- حتى إنَّه بَالَ في الموضِعِ الذي بالَ فيه رسولُ اللَّهِ، فقد خَالَفُه أبوه وجمهورُ الصَّحابةِ، والصَّوابُ معهم حَسْما لموادِّ الشِّرْكِ، وسَداًّ للذَّرائِعِ التي تُوصِلُ إليه، والإسلامُ مَبْنِيٌّ على أصْلَيْنِ: أنْ لا نَعبُدَ إلاَّ اللَّهَ، وأنْ نعبدَه بما شَرَعَ لا نَعبدُه بالبِدَعِ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ ذَلِكَ.(1/86)
باطِناً وظاهِراً، واتِّباعُ سَبِيلِ السَّابِقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرينَ والأنْصارِ. (1)
__________
(1) قوله: (باطِناً وظاهرًا) إشارةٌ إلى أنَّه لا بدَّ مِن الإخلاصِ في العَملِ، وأنَّ كُلَّ عملٍ لا يُرادُ بهِ وجْهُ اللَّهِ فليس لعامِلِه فيه ثوابٌ، كما أنَّ كُلَّ عَملٍ لا يكونُ عليهِ أمرُ اللَّهِ ورسولِه فهو مردودٌ على عامِلِه.
قوله: (واتِّباعُ سبيلِ السَّابِقينَ) إلخ أي: سلوكُ طريقِهم والسَّيْرُ على منهاجِهم، والسَّبيلُ في الأصلِ الطَّريقُ، فمِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ اتِّباعُ سبيلِ السَّابِقينَ، وذلك لما خَصَّهُم اللَّهُ بِهِ مِن العِلمِ والفَضلِ والفِقهِ عن اللَّهِ ورسولِه، فقد شَاهدوا التَّنزيلَ وسَمِعوا التَّأويلَ وتَلَقَّوْا عن الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بلا واسطةِ أحدٍ، فهم أحقُّ بإصابةِ الصَّوابِ وأَجْدَرُ باتِّباعِ السُّنَّةِ والكتابِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في أعلامِ الموقِّعين: ومِن المُحالِ أنْ يكونَ الصَّوابُ في غيرِ طريقِ مَن سَبَقَ إلى كُلِّ خيرٍ على الإطلاقِ، انتهى، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) وَذَلِكَ مُتَناوِلٌ لكُلِّ مَن اتَّبعَهم إلى يومِ القيامةِ، كما ذَكرَ ذَلِكَ أهلُ العِلمِ، قال الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: للصَّحابةِ سُنَّةُ يُعملُ عليها ويُرجَعُ إليها، ومِن الدَّليلِ على ذَلِكَ أمورٌ ثم ساقَها، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: مَن كان منكم مُسْتناً فَلْيَسْتَنَّ بمَن قد ماتَ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئكَ أصحابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الأمَّةِ قُلوباً وأَعْمقُها عِلْماً وأقَلُّها تَكلُّفا، قومٌ اختارَهُم اللَّهُ لصُحبةِ نبِّيِه وإقامةِ دِينِهِ، فاعْرِفُوا لهم حقَّهم وتَمسَّكُوا بِهَدْيِهِم، فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيمِ، انتهى. فخيرُ قلوبِ العِبادِ أحقُّ الخَلقِ بإصابةِ الصَّوابِ، فكُلُّ خيرٍ وإصابةٍ ومعارِفَ ومكارِمَ إنَّما عُرِفَت فَوَصَلتْ إلينا منهم -رضي اللَّهُ عنهم-.
وقال الإمامُ أحمدُ: أصولُ السُّنَّةِ عندنا التَّمَسُكُ بما كان عليه أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ولهَذَا كانَ اعتقادُ الفِرقةِ النَّاجيةِ هُوَ ما كان عليه رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما شَهِدَ لهم بِذَلِكَ في قولِه: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)). وأكثرُ العلماءِ على أنَّ أقوالَ الصَّحابةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّباعُها، ويَحرُمُ الخُروجُ عليها حَيْثُ لا نَصَّ نَبويٌّ، وقد غَلِطَ مَن زَعَم أنَّ طريقةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ وطَريقةُ الخلَفِ أَعْلمُ وأَحْكمُ، فإنَّ هَذَا القائلَ لم يَعْرِفْ قَدرَ السَّلَفِ، بل ولا عَرفَ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين حقَّ المعرفةِ، كَيْفَ يكونُ هؤلاء الْمَحْجُوبونَ الْمَنْقُوصونَ الحَيَارى أَعْلَمَ باللَّهِ وأسمائِه وصِفاتِه وأحكامِه مِن السَّابِقينَ الأوَّلين والأنصارِ، والذين اتَّبعُوهم بإحسانٍ مِن وَرَثةِ الأنبياءِ الذين وَهَبهُم اللَّهُ عِلمَ الكِتابِ والحكمةِ وأَحاطوا مِن حقائِقِه ومعارِفه ما عَجَزَ أولئكَ عَن فَهْمِ مَعانِيه وإدراكِه، ثم كَيْفَ يكونُ خيرُ قرونِ هَذِهِ الأمَّةِ أَنْقَصَ في العِلمِ والحكمةِ لا سيَّما العِلمُ باللَّهِ وأحكامِ أسمائِه وصفاتِه وآياتِه مِن هؤلاء الأصاغرِ المنقُوصِين الحيَارى المتَهَوِّكِين؟! ولا شكَّ أنَّ هَذَا القولَ إذا تدبَّرَه الإنسانُ وجَدَه في غايةِ الجهالةِ، بل في غايةِ الضَّلالةِ.(1/87)
واتِّباعُ وَصِيَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيثُ قال: (( عَلَيْكُمْ بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدي، تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيها بِالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُورِ؛ فإِنَّ كُلَّ [مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ]. (1)
__________
(1) قولُه: (حَيْثُ قال) أي: في حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ... )) الحديثُ رواهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرمذيُّ، وابنُ ماجهْ، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وقال الحافظُ أبو نُعيمٍ: جيِّدٌ صحيحٌ، وفي هَذَا الحديثِ: الحثُّ على التَّمَسُّكِ بسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ووجوبُ اتِّباعِها، وفيه قَرْنُ سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ بِسُنَّتِه، ووجوبُ اتِّباعِها مع عَدمِ وجودِ سُنَّتِه، وفيه أنَّ للخلفاءِ سُنَّةً، وأَنَّ الأخْذَ بها واتِّباعَها رشادٌ وهٌدًى، وفيه أنَّ ما سَنَّهُ الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ أوْ أحَدُهُم حُجَّةٌ لا يَجوزُ العُدولُ عنها، بخلافِ غيرِهم مِن ولاةِ الأمورِ، ولحديثِ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)) ولو لم تَقُم الحُجَّةُ بقولِهم لَمَا أُمِرْنَا باتِّباعِهم، وهَذَا القولُ هُوَ الحقُّ.
قولُه: (وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدِينَ) وهم الخلفاءُ الأربعةُ: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، كما في حديثِ سَفينةَ: ((الْخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكاً)) رواه أحمدُ وصحَّحهُ ورواه غيرُه، وإنَّما وُصِفَ الخلفاءُ بالرَّاشدِينَ؛ لأنَّهم عَرَفوا الحقَّ وقَضَوْا به، والرَّاشِدُ ضِدُّ الغاوي، والغاوي مَن عَرَفَ الحقَّ وعَمِلَ بِخِلافِه.
قولُه: (المَهْدِيِّينَ) يعني أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- يَهدِيهم إلى الحقِّ ولا يُضِلُّهُم عنه، فالأقسامُ ثلاثةٌ: رَاشِدٌ وغاوٍ وضالٌّ، فالرَّاشِدُ عَرَف الحقَّ واتَّبعَه، والغاوي عَرَفه ولم يَتَّبِعْه، والضَّالُّ لم يَعْرِفْه بالكُلِّيَّةِ، انتهى مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
قولُه: (تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) هَذَا كنايةٌ عن شِدَّةِ التَّمَسُّكِ بها، والنَّواجِذُ: آخِرُ الأضراسِ.
قولُه: (مُحْدَثَاتِ) بضمِّ الميمِ وسكونِ الحاءِ جمعُ مُحْدَثةٍ، والمرادُ بها البِدعُ، والبِدعةُ لغةً: كُلُّ شيءٍ عُمِلَ على غيرِ مِثالٍ سابِقٍ، وأمَّا البِدعةُ الشَّرعِيَّةُ فهي ما لم يَدُلَّ عليه دليلٌ شرعيٌّ، فلفظُ البدعةِ في اللُّغةِ أعمُّ مِن لفظِ البدعةِ في الشَّريعةِ، وهَذَا الحديثُ دلَّ على التَّحذيرِ مِن البدعِ، والرَّدِ على مَن زَعَم تقسيمَ البدعةِ إلى حسنةٍ وقبيحةٍ، وأما قولُ عُمرَ (نِعْمَتْ البِدْعَةُ) فالمرادُ بها البدعةُ اللُّغويةُ؛ إذْ أَصْلُ صلاةِ التَّراويحِ مشروعةٌ: فقد صَلاَّهَا الرَّسولُ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بأصحابِه ثم تَرَكَها لمَّا خَشِيَ أنْ تُفْرَضَ عليهم، وتَنقسِمُ البدعةُ إلى قسمَيْنِ: بدعةُ اعتقادٍ، وهُوَ اعتقادُ خلافِ ما أخبَرَ بِهِ الرَّسولُ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كقولُه: ((سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثِلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ)) قالوا: مَن هي يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)) الثَّانيةُ: بدعةٌ عمليَّةٌ، وهُوَ التَّعبُّدُ بغيرِ ما شَرعَ اللَّهُ ورسولُه، فمَن تَعبَّدَ بغيرِ الشَّرعِ أو حَرَّمَ ما لم يُحرِّمْه الشَّارِعُ فهُوَ مبتدِعٌ، والبِدعتانِ غالباً متلازِمتانِ، قلَّ أنْ تَنفكَّ إحداهما عن الأُخرى.
قال ابنُ دقيقِ العِيدِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اعلمْ أَنَّ المُحْدَثَ على قسمين: مُحْدَثٌ ليس له أصلٌ مِن الشَّريعةِ فهَذَا باطلٌ مذمومٌ، ومُحْدَثٌ يَحْمِلُ النَّظِيرَ على النَّظِيرِ فهَذَا ليس بمذمومٍ؛ لأنَّ البِدعةَ ولفظَ المُحْدَثِ لا يُذَّمانِ لمجرَّدِ الاسمِ، بل لمعنى مخالَفةِ السُّنَّةِ، والدَّاعي إلى الضَّلالةِ، ولا يُذَّمُ ذَلِكَ مُطلَقا، فقد قال -سُبْحَانَهُ-: (مَا يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ) الآيةَ، وقال عُمرُ: نِعْمَت البِدعةُ هَذِهِ – يعني التَّراويحَ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأَصْلُ ضَلالِ أهلِ الأرضِ إنَّما تَنْشَأُ مِن هذين: إمَّا اتِّخاذُ دِينٍ لم يُشَرِّعْه اللَّهُ، أو تَحريمُ مالم يُحَرِّمْه اللَّهُ، ولهَذَا كان الأصلُ الذي بَنَى عليه الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن الأئمَّةِ مَذَاهِبَهم أنَّ أعمالَ الخَلقِ تَنقسِمُ إلى عِباداتٍ يتَّخِذُونها، وإلى عاداتٍ يَنْتَفِعون بها في معائِشِهم، فالأصلُ في العباداتِ أنْ لا يُشْرَعَ إلا ما شَرَعَه اللَّه ورسولُه، والأصلُ في العاداتِ أنْ لا يُحْظَرَ منها إلاَّ ما حَظَرَه اللَّهُ اهـ.
قال العلماءُ رَحِمَهُم اللَّهُ: العباداتُ مَبناهَا على التَّوقِيفِ والاتِّباعِ لا على الاختراعِ والابتداعِ، فالأصلُ في العباداتِ التَّحريمُ إلاَّ ما شَرَعَه اللَّهُ ورسولُه، ولهَذَا يُشترَطُ للعبادةِ شَرطانِ: الإخلاصُ والمتابعةُ، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) أيْ: مَرْدُودٌ كائِنا ما كان، وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه كان يقولُ في خُطبتِه: ((إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) وفي روايةِ النَّسائيِّ: ((وكُلَّ ضَلاَلَةٍ في النَّارِ)) وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعوا فقد كُفِيتُم))، وقال الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ((عليكَ بآثارِ مَن سَلَفَ وإنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وإيَّاكَ وآراءَ الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفُوه لكَ بالقولِ)) إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ على تحذيرِ الأمَّةِ مِن اتِّباعِ الأمورِ المُحْدَثةِ المبتدَعَةِ، وتقدَّمَ أَنَّ المرادَ بالبِدعةِ ما أُحدِثَ ممَّا لا أصلَ له مِن الشَّرعِ يدلُّ عليه، وأمَّا ما كان له أصلٌ مِن الشَّرعِ يدلُّ عليه فليس ببدعةٍ شَرعا، وإنْ كان بدعةً لغةً.(1/88)
ويَعْلَمونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلامِ كَلامُ اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويَعلمون أنَّ أصْدَقَ) إلخ: فلا أحدٌ أَصْدقُ منه قُولا ولا خَبَرا، فكُلُّ ما أَخْبَرَ بِهِ -سُبْحَانَهُ- فهُوَ صِدقٌ وحَقٌّ لا مِرْيةَ فيه ولا شكَّ، قال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) وقال: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً) وعن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إذا خَطبَ احمرَّتْ عيناهُ وعلا صَوتُه واشتدَّ غَضَبُه حتى كأنَّه مُنذِرُ جيشٍ يقولُ: ((صبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، ويقولُ: أَمَّا بَعْدُ فِإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) رواه مسلمٌ.
قولُه: (وخيرَ الهدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ) الهَدْيُ بفتحِ الهاءِ وسُكونِ الدَّالِ: السَّمتُ والطريقةُ والسِّيرةُ، وقُرِئَ بالضَّمِّ أي: الدلالةُ والإرشادُ، والمرادُ تفضيلُ دِينِه وسُنَّتِه على سائرِ الأديانِ والسُّنَنِ، فدِينُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَكْملُ الأديانِ على الإطلاقِ، وشريعَتُه أفضلُ الشَّرائعِ اختارَها اللَّهُ لخِيرتِه مِن خَلقِه، ولأُمَّتِه خيرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، وجَعلَها حُجَّةً باقيةً إلى يومِ القيامةِ، لا يَتطرَّقُ إليها النَّسخُ، ولا يَعْترِيها التَّبدِيلُ والتَّغييرُ الذي وَقَعَ في الشرائعِ قَبْلَها، ولهَذَا المعنى الذي ذَكَرْناهُ كان كُلُّ عاقلٍ مِن اليهودِ والنَّصارى -كما قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ-: يَعترِفُ بأنَّ دِينَ الإسلامِ حقٌّ، وأنَّ محمَّداً رسولُ اللَّهِ، وأنَّ مَن أطاعَه منهم دخَلَ الجَنَّةَ، بل كثيرٌ منهم يَعترِفون بأنَّ دِينَ الإسلامِ خيرٌ مِن دِينِهم كما أطبقَتْ على ذَلِكَ الفلاسفةُ، كما قال ابنُ سِينا: أَجْمعَ فلاسِفةُ العالِمِ على أنَّه لم يَطْرُق العالَمَ ناموسٌ أَعْظمُ مِن هَذَا النَّاموسِ، ولا شكَّ أنَّ هَذِهِ الشَّريعةَ العظيمةَ الكامِلةَ مِن دلائلِ نُبوَّتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَكَذَلِكَ أخلاقُه وأقوالُه وأفعالُه وسِيرتُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلُّها مِن آياتِه ودلائلِ نبوَّتِه، كما أشار إلى ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فقد جَبَلَه اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على أجملِ الأخلاقِ وأَزْكاها، واختارَ له أَفْضَلَها وأَوْلاَها، وأخلاقُه مُقتَبَسةٌ مِن القرآنِ، كما قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال العَوفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ: وإنَّكَ لعَلَى دِينٍ عظيمٍ وهُوَ دينُ الإسلامِ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن سعيدِ بنِ هشامٍ قال: ((سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيُ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فَقَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ)) ومعنى هَذَا أنَّه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مَهْمَا أَمَرَهُ اللَّهِ بِهِ في القرآنِ امْتَثَلَه، ومَهْمَا نَهَاهُ عنه اجْتَنَبَه، هَذَا ما جَبَلَه اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- عليه مِن الأخلاقِ الجِبِلِّيَّةِ الأصليَّةِ العظيمةِ، التي لم يكُنْ أحدٌ مِن البشرِ ولا يكونُ على أجملَ منها، فكانَ فيه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن الحياءِ والكَرَمِ، والشَّجاعةِ، والحِلْمِ، والصَّفِحِ، وسائرِ الأخلاقِ الكاملةِ ما لا يُحَدُّ ولا يُمكِنُ وَصْفُه، وقد خرَّجَ الإمامُ أحمدُ في مسنَدِه مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)).(1/89)
ويُؤثِرونَ كَلامَ اللهِ على غَيْرِهِ مِن كَلامِ أَصنافِ النَّاسِ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويُؤْثِرونَ كلامَ اللَّهِ) إلخ أي: يُقدِّمونَ كلامَ اللَّهِ على كلامِ غيرِه مِن خَلقِه كائِنا مَن كان، ولا يَعدِلون عنه ولا يُعارِضُونه بمعقولٍ ولا قولِ فلانٍ، فإنَّه الفُرْقانُ، المفَرِّقُ بين الحقِّ والباطِلِ، والنَّافعِ والضَّارِّ، وهُوَ الإمامُ الذي يَجِبُ اتِّباعُه والرُّجوعُ إليه عند التَّنازُعِ؛ إذْ لا سعادةَ في الدُّنْيَا والآخرةِ إلاَّ بالاعتصامِ بحَبْلِ اللَّهِ، ولا نجاةَ إلاَّ بالتَّمَسُّكِ بما جاء في كتابِه، فإنَّه الشِّفاءُ والنُّورُ والحياةُ الحقيقيَّةُ، قال اللَّهُ تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) قال قتادةُ والسُّدِّيُّ وكثيرٌ مِن أهلِ التَّفسيرِ: هُوَ القرآنُ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهَ، وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في القرآنِ: هُوَ حَبلُ اللَّهِ المَتِينُ،، وهُوَ الذِّكرُ الحكيمُ، وهُوَ الصِّراطُ المستقيمُ، وهُوَ الذي لا تَزِيغُ بِهِ الأهواءُ، ولا تَختلِفُ بِهِ الألسِنةُ، ولا يَشبَعُ منه العُلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كثرةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقضِي عجائِبُه، مَن قال بِهِ صَدَقَ، ومَن عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، ومَن حَكمَ بِهِ عَدَلَ، ومَن دَعى إليه هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ، وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: جَمعَ اللَّهُ في هَذَا الكتابِ عِلمَ الأوَّلِين والآخِرين، وعِلمَ ما كان، وعِلمَ ما يكونُ، والعِلمَ بالخالِقِ أمْرَه وخَلْقَه..أَخرَجَه ابنُ رزينٍ، انتهى، وقد سمَّاه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- رُوحًا لتَوَقُّفِ الحياةِ الحقيقيَّةِ عليه، ونُوراً لِتوقُّفِ الهدايةِ عليه، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنواْ هُدًى وَشِفَاءٌ)، وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) وقال: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، والرَّدُ إليه هُوَ الرَّدُ إلى كتابِه، والرَّدُ إلى الرَّسولِ هُوَ الرَّدُ إليه في حياتِه، والرُّجوعُ إلى سُنَّتِه بعد وفاتِه، هَذَا معناهُ بإجماعِ المفسِّرين، فيجِبُ الرُّجوعُ إلى كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِه، ولا يجوزُ العُدولُ عنهما ولا مُعارَضتُها ولا الاعتراضُ عليهما، ففيهما غايةُ البُغيَةِ وفَصْلُ النِّزاعِ، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ).(1/90)
ويُقَدِّمونَ هَدْيَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ، ولهذا سُمُّوا أَهْلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وسُمُّوا أَهْلَ الجَماعَةِ؛ لأنَّ الجَماعَةَ هِيَ [ الإِجماعُ ]، وضِدُّها الفُرْقَةُ، وإِنْ كَانَ لفظُ الجَماعَةِ قَدْ صارَ اسماً لَنفْسِ القَوْمِ المُجْتَمِعينَ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويُقدِّمونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ أي: يقدِّمونَ شَرْعَه ودِينَه، فدينُه أكملُ الأديانِ على الإطلاقِ، وشريعتُه أفضلُ الشَّرائعِ، فمَنِ ادَّعى أنَّ هَدْي غيرِ مُحَمَّدٍ أَفْضلُ مِن هدْيهِ، أو ادَّعى غِناهُ عن الرِّسالةِ بمُكاشفةٍ أو مخاطَبةٍ أو عِصمةٍ، سواءٌ ادَّعى ذَلِكَ لنَفْسِه أو لغيرِه فهُوَ مِن أضلِّ النَّاسِ، بل مَن اعتقد أنَّه يَجوزُ له أن يَخرُجَ عن طاعةِ الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وتصديقِه في شيءٍ مِن أمورِه الباطِنةِ والظَّاهرةِ فإنَّه يَجِبُ أنْ يُستتابَ، فإنْ تَابَ وإلاَّ قُتِلَ، كائناً مَن كان.
ذَكرَ ذَلِكَ شيخُ الإسلامِ تَقِيُّ الدِّينِ في كِتابِه الفُرقانُ، وَكَذَلِكَ مَن زَعَمَ أَنَّ الشَّريعةَ قاصِرةٌ، وأنَّها لا تُسايِرُ الزَّمَنَ، وأنَّه يُسَوَّغُ له سَنُّ النُّظُمِ والتَّعليماتِ لكُلِّ زمانٍ بما يُناسِبُه على زَعْمِه، أو زعَمِ أَنَّ النُّظُمَ الأفرنجيَّةَ أَحْسَنُ مِن نظامِ الشَّريعةِ، أو نحوِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ فهُوَ زِنديقٌ.
قولُه: (ولهَذَا سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) وَذَلِكَ لاتِّباعِهم للكتابِ والسُّنَّةِ الثَّابتةِ عن نَبِيِّهم في الأصولِ والفُروعِ، والأخْذِ بهما وتَحكِيمِهما في القليلِ والكثيرِ، والاستغناءِ بهما، وتقديمِهما على قولِ كُلِّ أحدٍ كائنا مَن كان، بخلافِ الخوارجِ والمعتزِلةِ والرَّوافضِ ومَن وافَقَهم في بعضِ أقوالِهم، فإنَّهم لا يَتَّبِعونَ الأحاديثَ التي رَواها الثِّقاتُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فالمعتزِلَة يقولون هَذِهِ أخبارُ آحادٍ، والرَّافِضةُ يَطعَنونَ في الصَّحابةِ ونَقْلِهم، والخوارجُ يقولُ قائِلُهم: اعْدِلْ يا مُحَمَّدُ فِإنَّكَ لم تَعدِلْ، فيُجوِّزون على النَّبيِّ أنَّه يَظْلِمُ، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: السُّنَّةُ ما كان عليه رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصْحَابُه في عَهدِه ممَّا أَمَرَهم بِهِ أو أَقَرَّهُم عليه أو فَعلَه هو.
قولُه: (وسُمُّوا أهلَ الجماعةِ) إلخ: لاجتماعِهم على آثارِ الرَّسولِ، والاستضاءةِ بأنوارِه وتَحكِيمِه في القليلِ والكثيرِ، فالجماعةُ هم المجتمِعون الذين ما فَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيعا، والذين فَرَّقُوا دِينَهم خارِجون عن الفِرقةِ النَّاجِيةِ، وقد برَّأَ اللَّهُ نبِيَّه منهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) الآيةَ، قال في المِرقاةِ: المرادُ بالجماعةِ أهلُ الفِقهِ والعِلمِ الذين اجتمَعُوا على اتِّباعِ آثارِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في النَّقِيرِ والقِطْميرِ، ولم يَبتدِعوا بالتَّحريفِ والتَّغييرِ، وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بالجماعةِ مَن كان على الحقِّ وَلَوْ واحدًا، وَذَلِكَ لأنَّ الحقَّ هُوَ ما كان عليه الجماعةُ في الصَّدْرِ الأوَّلِ، وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على الاجتماعِ والنَّهْيِ عن التَّفرُّقِ والاختلافِ، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) وقال تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قال ابنُ عبَّاسٍ: تَبيضُّ وجوهُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، وتَسودُّ وجوهُ أهلِ البِدعةِ والفُرقةِ، وروى الإمامُ أحمدُ عن مُعاذِ بنِ جبلٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ ذِئْبَ الإِنْسَانِ كِذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّارِدَةَ الْقَاصِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ)) وورَدَ: ((الجَماعةُ رحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ)) وورَدَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: ((الخِلافُ شَرٌّ)) وحديثُ: ((إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثَةٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ... ))، يعني: الأهواءَ كُلَّها في النَّارِ إلا واحدةً، وَهِيَ الجماعةُ، إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ في الحثِّ على الاجتماعِ وذمِّ الاختلافِ والتَّفرُّقِ، وينقسمُ الاختلافُ إلى قسمين: اختلافُ تَنَوُّعٍ، واخِتلافُ تضادٍّ، فالأوَّلُ هُوَ ما يكونُ القَوْلانِ أو الفِعْلانِ مَشْروعينِ كما في أَنواعِ الاستفتاحاتِ، وأنواعِ القِراءاتِ، والأذانِ، ونحوِ ذَلِكَ ممَّا قد شُرِعَ جَميعُه، وأمَّا اختلافُ التَّضادِّ فهما القولانِ المتنافِيانِ إمَّا في الأصولِ أو في الفُروعِ.(1/91)
والإِجْماعُ هُو الأصْلُ الثَّالِثُ الَّذي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في العِلْمِ والدِّيِن، وهُمْ يَزِنُونَ بهذه الأصولِ الثَّلاثَةِ جَميعَ ما عليهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوالٍ وأَعْمالٍ باطنةٍ أَوْ ظاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تعلُّقٌ بالدِّينِ. (1)
__________
(1) قولُه: (والإجماعُ) الإجماعُ يُطلَقُ لغةً: على العَزمِ، كما قال -سُبْحَانَهُ- (فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ) وقال -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيلِ)) وهَذَا يَتأتَّى مِن الواحدِ والجماعةِ، ويُرادُ بِهِ أيضًا الاتِّفاقُ، واصطلاحًا: "هُوَ اتِّفاقُ علماءِ العصرِ مِن الأمَّةِ على أمْرٍ دِينيٍّ" وهُوَ حُجَّةٌ قاطِعةٌ يَجِبُ العَملُ بِهِ عندَ الجمهورِ، وأنْكرَه بعضُ المبتدِعَةِ مِن المعتزِلةِ والشِّيعةِ، والدَّليلُ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ قولُه تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) وعن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- مرفوعا: ((لاَ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ على ضَلاَلَةٍ أَبَداً)) رواه الترمذيُّ، وعن أنسٍ رضي اللَّهُ عنه مرفوعا: ((لاَ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، فِإِنْ رَأَيْتُمُ الاخِتْلاَفَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ الحَقِّ وَأَهْلِهِ)) رواه ابنُ ماجهْ، وعن أبي ذَرٍّ مرفوعا: ((عَلَيْكُمْ باِلْجَمَاعَةِ، فِإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْمَعْ أُمَّتِي إِلاَّ عَلَى هُدًى)) رواه أحمدُ.
وعن أبي ذَرٍّ مرفوعا: ((مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ)) رواهُ أحمدُ، وأبو داودَ، وعن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: ((مَا رآهُ المسلمونَ حَسَناً فهُوَ عندَ اللَّهِ حَسنٌ، وما رآه المسلمونَ سَيِّئاً فهُوَ عندَ اللَّهِ سَيِّئٌ)) رواه أبو داودَ الطيالسيُّ، وأَخرَجَه البزَّارُ، وأبو نُعيمٍ في ترجمةِ ابنِ مسعودٍ.
قولُه: (وهُوَ الأصلُ الثَّالِثُ) الأصْلُ لغةً: أَسْفلُ الشَّيءِ وأساسُه، واصطلاحا: ما بُنِيَ عليه غيرُه. قولُه: (الثَّالِثُ) أي مِن الأدِلَّةِ التي هي الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والثَّالِثُ هُوَ الإجماعُ، ولم يَزلْ أئمَّةُ الإسلامِ على تقديمِ الكتابِ على السُّنَّةِ، والسُّنَّةِ على الإجماعِ، وجَعلِ الإجماعِ في المرتبةِ الثَّالثةِ، قال الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الحُجَّةُ كتابُ اللَّهِ وسُنَّةُ رَسولِه واتِّفاقُ الأئمَّةِ، وروى الترمذيُّ في جامِعِه عن مُعاذٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال له لما بَعَثَه إلى اليَمنِ: ((كَيْفَ تَقْضي))؟ قال: أَقْضي بما في كتابِ اللَّهِ، قال: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ))؟ قال: بِسُنَّةِ رَسولِ اللَّهِ، قال: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ)) قال: أَجْتهِدُ برأيي، قال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ)) اهـ.
قولُه: (الذي يُعتمدُ عليه في العِلمِ والدِّينِ) أي: يُستنَدُ ويُرْكَنُ إليه، للأدلَّةِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على عِصمةِ هَذِهِ الأمَّةِ مِن الاجتماعِ على ضلالةٍ، وأنَّ الإجماعَ كما تقدَّمَ حُجَّةٌ قاطِعةٌ يَجِبُ العملُ بِهِ لما تقدَّمَ.
قولُه: (وهم يَزنِونَ) إلخ أي: أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يَعْرِضُونَ جميعَ الأقوالِ والاعتقاداتِ على هَذِهِ الأصولِ الثَّلاثةِ، – وَهِيَ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ – ويَجعلون هَذِهِ الأصولَ الثَّلاثةَ هي المعيارُ التي تُوزنُ بِهِ الأعمالُ؛ إذْ لا حُجَّةَ إلاَّ في هَذِهِ الأصولِ المتقدِّمةِ، وأمَّا القِياسُ ففيه خلافٌ معروفٌ.
قولُه: (ممَّا له تعلُّق بالدِّينِ) أي: كصلاةٍ وصيامٍ وحَجٍّ وزكاةٍ ومُعامَلاتٍ ونَحوِ ذَلِكَ، أمَّا ما لا تَعلُّق له بالدِّينِ كأمورِ المعائِشِ والعاداتِ، فالأصلُ فيه الإباحةُ فالإجماعُ ليس بحُجَّةٍ فيها، قال الكورانيُّ: لا معنى للإجماعِ في ذَلِكَ لأنَّه ليس أَقْوى مِن قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وهُوَ ليس دليلا لا يُخالَفُ فيه، واستدلَّ على ذَلِكَ بما رَوى مسلمٌ في "صحيحِه" عن أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)).(1/92)
والإِجماع الَّذي يَنْضَبِطُ هُو مَا كانَ عَلَيْه السَّلَفُ الصَّالحُ، إِذْ بَعْدَهُم كَثُرَ الاخْتِلافُ، [ وانْتَشَر في الأمَّةِ ] ). (1)
__________
(1) قولُه: (والإجماعُ جميعُ ما عليه النَّاسُ) إلخ أي: مِن عباداتٍ ومعاملاتٍ وغيرِ ذَلِكَ. قولُه: (مما له تعلُّق بالدِّينِ) احتُرِزَ مِن اتِّفاقِهم على أمْرٍ دُنيويٍّ، كإقامةِ مصنعٍ أو حِرفةٍ أو مَتْجرٍ أو نحوِ ذَلِكَ، فإنَّ ذَلِكَ ليس إجماعًا شَرعياًّ: قال في اللُّمَعِ: أمَّا أمورُ الدُّنْيَا كتَجْهِيزِ الجُيوشِ وتدبيرِ الحروبِ والعِمارةِ والزِّراعةِ وغيرِها مِن مصالحِ الدُّنْيَا، فالإجماعُ ليس بحُجَّةٍ فيها؛ لأنَّ الإجماعَ فيها ليس بأكثرَ مِن قولِ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وقد ثَبَتَ أنَّ قولَه إنَّما هُوَ حُجَّةٌ في أحكامِ الشَّرْعِ دُونَ مصالِحِ الدُّنْيَا، ولهَذَا رُوِيَ أنَّه نَزَلَ مَنْزِلاً فقِيلَ له إنَّه ليس برأيٍ فتَرَكَهُ.
قولُه: (والإجماعُ الذي يَنضبِطُ) إلخ أي: الإجماعُ الذي يَنضبِطُ، أي يُحفَظُ ويُضبطُ ضَبْطا تاماًّ بِدُونَ نقصٍ، ويُمكِنُ العِلمُ بِهِ هُوَ ما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، لا ما بعدَ ذَلِكَ، فتَعذَّرَ العِلمُ بِهِ غالبًا لانتِشارِ الإسلامِ وكَثرةِ العلماءِ وتفرُّقِهم في البلادِ، فالعِلمُ بحادثةٍ واحدةٍ انتشَرَتْ في جميعِ الأقطارِ، ووَقَفَ كُلُّ مجتهدٍ عليها ثم أطْبَقُوا فيها على قولٍ واحدٍ، هَذَا مما لا تُساعِدُ العادةُ على وُقوعِه، فَضلاً عن العِلمِ به، وهَذَا هُوَ الذي أَنْكَره أحمدُ وغيرُه، لا وقوعَ الإجماعِ.
قال الإسنويُّ: ولأجْلِ هَذِهِ الاحتمالاتِ قال الإمامُ أحمدُ: مَن ادَّعى الإجماعَ فهُوَ كاذِبٌ، قال أبو المعالي: والإنصافُ أنَّه لا طَرِيقَ لنا إلى معرفةِ الإجماعِ إلا في زَمَنِ الصَّحابةِ، وقال البيضاويُّ: إنَّ الوقوفَ عليه لا يَتعذَّرُ في أيامِ الصَّحابةِ، فإنَّهم كانوا قَليلِينَ مَحْصورِين ومُجتِمعِين في الحِجازِ، ومَن خَرجَ منهم بَعدَ فتحِ البلادِ كان مَعروفًا في مَوضِعِه، وقال ابنُ بَدْرانَ في شرحِ رَوضةِ النَّاظرِ بعد ذِكْرِ ما تقدَّمَ. قلتُ: وهُوَ الحقُّ البَيِّنُ. انتهى. وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الإعلامِ: وليس عَدمُ عِلمِه بالمخالِفِ إجماعا، وقد كذَّبَ أحمدُ مَن ادَّعى الإجماعَ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعيُّ في رِسالِته الجديدةِ، على أنَّ ما لا يُعلَمْ فيه بخلافٍ لا يُقالُ له إجماعٌ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ: سمعتُ أبي يقولُ: ما يَدَّعِي فيه الرَّجُلُ الإجماعَ فهُوَ كَذِبٌ، لعلَّ النَّاسَ اختلَفوا، هَذِهِ دَعْوى بِشْرٍ المَرِيسِيِّ والأصَمِّ، فهَذَا هُوَ الذي أنكرَه أحمدُ والشَّافِعيُّ لا ما يَظُنُّه بعضُ النَّاسِ أنَّه استبِعادٌ لوُجودِه.(1/93)
( فَصْلٌ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هذه الأصولِ يَأْمُرونَ بالمَعْروفِ، ويَنْهَوْنَ عنِ المُنْكَرِ على مَا توجِبُهُ الشَّريعَةُ. (1)
__________
(1) فصل قولُه: (ثم هُمْ) أي: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ. قولُه: (مع هَذِهِ الأصولِ المتقدِّمةِ يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهوْن عن
المُنْكَرِ) كما وَصَفَهم اللَّهُ بِذَلِكَ فقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وقال تعالى: (وَلْتَكُن مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وفي صحيحِ مسلمٍ والترمذيِّ وغيرِهما عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)) فما تقدَّمَ دَليلٌ على عِظَمِ شأْنِ الدَّعوةِ إلى اللَّهِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وأنَّهما مِن أعظمِ الواجباتِ، وأصلٌ عظيمٌ مِن أصولِ الشَّريعةِ، ولولا الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ لهُدِمَ بُنْيانُ الشَّريعةِ وتداعَى، وعمَّت الفَوْضى وساءت البلادُ، نسألُ اللَّهَ العافيةَ، والأدِلَّةُ على الحثِّ على الأمرِ بالمعروفِ والتَّرغيبِ فيه والوعيدِ الشَّديدِ في إهمالِه والتَّساهُلِ فيه كثيرةٌ جِداًّ. انتهى..والمعروفُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما يُحبُّه اللَّهُ مِن الإيمانِ والعَملِ الصَّالِحِ، والمنكَرُ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يَكرهُه اللَّهُ ونَهى عنه، انْتَهى اقتضاءُ الصِّراطِ المستقيمِ،وقد تطابَقَ على وجوبِهما الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ، وهما أيضًا مِن النَّصيحةِ، ولم يُخالِفْ في ذَلِكَ إلاَّ بعضُ الرَّافِضةِ، كما ذَكرَه إمامُ الحرمَيْنِ، والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ فَرْضُ كفايةٍ مُخْتصَّانِ بأهلِ العِلمِ والدِّينِ يَعرفِونَ كونَ ما يأَمُرونَ بِهِ وما يَنْهَوْن عنه مِن الدِّينِ، فإنْ كان الذي عَلِمَ بالمنكَرِ واحداً تَعيَّنَ عليه الإنكارُ، أو كانوا جماعةً لكن لا يَحصُلُ المقصودُ إلا بهم جميعًا تَعيَّنَ عليهم.
ويُشترَطُ في وجوبِ الإنكارِ أنْ يَأْمَنَ المنكِرُ على نَفْسِه وأهلِه ومالِه، فإنْ خافَ على نَفسِه السَّيْفَ أو السَّوْطَ أو النَّفْيَ أو نحوَ ذَلِكَ مِن الأذى سَقَطَ عنه أَمْرُهم ونَهْيُهم، فإنْ خافَ السَّبَّ أو سماعَ الكلامِ السَّيِّئِ لم يَسقُطْ عنه الإنكارُ بِذَلِكَ، نصَّ عليه أحمدُ، فإنِ احتمَلَ الأذى وقَوِيَ عليه فَهُوَ أفضلُ، نصَّ عليه أحمدُ أيضًا، وقيل له: أليس قد جاءَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) أي يُعرِّضَها مِن البلاءِ ما لا طاقةَ له به، قال: ليس هَذَا مِن ذَلِكَ، وهل يَجِبُ إنكارُ المنكَرِ على مَن عَلِمَ أنَّه لا يُقبلُ منه؟ فيه روايتانِ عن أحمدَ، وصحَّحَ القولَ بوجوبِه، وهُوَ قولُ أكثرِ الصَّحابةِ كما ذَكَرَه ابنُ رجبٍ، والمنكَرُ الذي يجبُ إنكارُه ما كان مُجْمَعاً عليه، أمَّا المختلَفُ فيه، فمِن أصحابِنا مَن قال: لا يجبُ إنكارُه على مَن فعلَه مجتهِدا أو مقلِّدا لمجتهدٍ تقليداً سابِقا،واسْتَثْنَى القاضي في الأحكامِ السُّلْطانِيَّةِ ما ضَعُفَ فيه الخلافُ، ومَرَاتِبُ الإنكارِ ثلاثٌ كما تقدَّمَ مِن حديثِ أبي سعيدٍ، وفيه دليلٌ على أنَّ إنكارَ المنكَرِ يجِبُ بحسَبِ القُدرةِ عليه، وأنَّ إنكارَه بالقَلبِ لا بُدَّ منه بخلافِ الذي قَبْلَه، وأفادَ وُجوبَ تَغْييرِ المنكَرِ بكُلِّ طريقٍ، فلا يَكْفِي الوعظُ إنْ أَمْكَنَه إزالةُ المُنكَرِ باليَدِ، ولا يكفي بالقلبِ إذا أمْكنَ باللِّسانِ.
قولُه: (على ما تُوجِبُه الشَّريعةُ) أي: أنَّه يجبُ أنْ يكونَ الآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهِي عن المنكَرِ مَتَبَصِّرا عالِما بما يأمُرُ به، وأنَّه مُطابِقٌ للأمْرِ، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في المنهاجِ: ولا بدَّ مِن العِلمِ بالمعروفِ والمنكَرِ والتَّمييزِ بينهما، ولا بدَّ مِن العِلمِ بحالِ المأمورِ والمنْهِيِّ، ولا بدَّ في ذَلِكَ مِن الرِّفْقِ، ولا بدَّ أنْ يكونَ حَلِيماً صَبوراً على الأَذَى، فإنَّه لا بدَّ أنْ يَحصُلَ له أذًى، فإنْ لم يَحلُمْ وَيَصْبِرْ كان ما يُفِسدُ أكثرَ ممَّا يُصلِحُ، فلا بُدَّ مِن هَذِهِ الثلاثةِ: العِلمُ، والرِّفقُ، والصَّبرُ، العِلمُ قبلَ الأمْرِ والنَّهْيِ، والرِّفقُ معه، والصَّبرُ بعدَه، اهـ. وقال سفيانُ الثَّوريُّ: لا يأمُرُ بالمعروفِ ولا يَنْهَى عن المنكَرِ إلاَّ مَن كان فيه ثلاثُ خصالٍ: رَفيقٌ بما يأمُرُ رَفيقٌ بما يَنْهى، عَدلٌ فيما يأمُرُ، عَدلٌ فيما يَنْهى، عالِمٌ بما يأمُرُ عالِمٌ بما يَنْهى. انتهى.
وقال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الأعلامِ: وقد شَرَعَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لأُمَّتِه إيجابَ إنكارِ المنكَرِ ليَحصُلَ بإنكارِه ما يُحبُّه اللَّهُ ورسولُه، فإذا كان إنكارُ المنكَرِ يَستلزِمُ ما هُوَ أنكَرُ مِنه وأَبْغضُ إلى اللَّهِ ورسولِه فإنَّه لا يُسوَّغُ إنكارُه، وإنْ كان اللَّهُ يُبغِضُه ويَمقُت أهلَه، وهَذَا كالإنكارِ على الملوكِ والولاةِ بالخروجِ عليهم فإنَّه أسبابُ كُلِّ شرٍّ وفِتنةٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ، وقد استأْذَنَ الصَّحابةُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في قتالِ الأُمراءِ الذين يؤخِّرونَ الصلاةَ عن وَقْتِها فقالوا: أفلا نقاتِلُهم؟ قال: ((لاَ مَا أَقَامُوا الصَّلاَةَ))،، وقال: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَداً مِنْ طَاعَةٍ)) إلى أنْ قال: فَإِنْكَارُ المنكَرِ أربعُ درجاتٍ:
الأُولى: أنْ يَزولَ ويخلُفُه ضِدُّه. الثَّانيةُ: أنْ يَقِلَّ وإنْ لم يَزُلْ بجُملَتِه.الثَّالثةُ: أن يَخْلُفُه ما هُوَ مِثلُه. الرَّابعةُ: أنْ يَخلُفُه ما هُوَ شَرٌّ مِنه فالدَّرجتانِ الأُولَيانِ مَشروعَتانِ، والثالثةُ موضعُ اجتهادٍ. والرَّابِعةُ محرَّمةٌ، فإذا رأيتَ أهلَ الفُجورِ والفُسوقِ يَلعبونَ بالشَّطَرَنْجِ كان إنكارُها عليهم مِن عَدمِ الفِقهِ والبصيرةِ، إلاَّ إذا نَقَلْتَهُم مِنه إلى ما هُوَ أحبُّ إلى اللَّهِ ورسولِه، كرَمْيِ النشابِ، وسَبْقِ الخيلِ ونحوِ ذَلِكَ، انتهى مُلخَّصا، وقال بعضُهم:
ومَن أزالَ منكَرا بأنْكَرا ... ... كغاسِلِ الحيْضِ ببولٍ أَغْيَرا
وقال النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ثم إنَّه يَأْمُر ويَنهى مَن كان عالِما بما يأمُرُ بِهِ ويَنْهَى عنه، وَذَلِكَ يَختلِفُ باختلافِ الشَّيءِ، فإنْ كان مِن الواجباتِ الظَّاهرةِ والمحرَّماتِ المشهورةِ كالصَّلاةِ والصِّيامِ والزِّنا ونحوِها فكُلُّ المسلِمِينَ عُلماءُ بها، وإنْ كان مِن دقائقِ الأفعالِ والأقوالِ، وما يَتعلَّقُ بالاجتهادِ لم يكُنْ للعَوامِّ مَدخَلٌ فيه، ولا لَهُم إنكارُه بل ذَلِكَ للعُلماءِ. انتهى.(1/94)
وَيَرَوْنَ إِقامَةَ الحَجِّ والجِهَادِ والجُمَعِ والأعْيادِ معَ الأمَراءِ أَبْراراً كانُوا أَو فُجَّاراً. (1)
__________
(1) قولُه: (ويَرَوْنَ) أي: ويَعتقِدون، مَن رآه وارْتآه إذا اعْتقَدَه، أي مِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ أَنَّ الصَّلاةَ التي تُقيمُها ولاةُ الأمورِ تُصلَّى خَلفَهم على أيِّ حالةٍ كانوا، كما يُحَجُّ معهم ويُغْزَى، ولا يَرَوْنَ الخروجَ عليهم وقتالَهم بالسَّيفِ إذا كان فيهم ظُلْمٌ، خِلافا للمُبتدِعَةِ مِن الخوارجِ والمعتزِلةِ والرَّافِضةِ الذين يَرَوْنَ جَوازَ الخُروجِ على وُلاةِ الأمورِ إذا فَعَلُوا ما هُوَ ظُلمٌ أو ما ظَنُّوه هم ظُلْما، ويَرَوْن ذَلِكَ مِن بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، وقولُهم باطلٌ تردُّهُ أدلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ – قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) الآية، وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُوراً تُنْكِرُونَهَا)، قالوا: فما تأمُرُنا؟ قال: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)). وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، ومَنْ عَصانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن يُطِعِ الأميرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي)). وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا ((الجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَراًّ كَانَ أَوْ فَاجِراً)) رواه أبو داودَ..وفي الصَّحيحِ: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ))، وعن أبي ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- قال: ((إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِياً مُجْدَعَ الأَطْرَافِ))، وروى مسلمٌ في "صحيحِه" عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ)) وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) رواه مسلمٌ، وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن ابن عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْراً مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على وجوبِ طاعةِ ولاةِ الأمورِ، فإذا أَمَرُوا بطاعةِ اللَّهِ وَجَبَتْ طاعَتُهم، وإذا أَمَرُوا بمعصيةِ اللَّهِ فَلا سَمْعَ ولا طَاعةَ، كما في الصَّحيحِ أنَّه قال: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ))، وَصَحَّ عنه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ)) إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على الحثِّ على السَّمْعِ والطَّاعةِ لِولاةِ الأُمورِ إذا أَمَرُوا بطاعةِ اللَّهِ، فإنَّ في طاعةِ ولاةِ الأمورِ مِن المنافعِ والمصالِحِ ما لا يُحصى، ففيها سعادةُ الدِّينِ وانتظامُ مصالِحِ العِبادِ في معاشِهم، ويَستعِينون بها على إظهارِ دِينهِم وطاعةِ رَبِّهم، كما قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللَّهُ عنه-: إنَّ النَّاسَ لا يُصلِحُهم إلاَّ إمامٌ بَرٌّ أو فاجِرٌ، إنْ كان فاجِراً عَبَدَ المؤمنُ رَبَّه، وحُمِلَ الفاجِرُ فيها إلى أجَلِه.
وقال الحسَنُ في الأُمراءِ: هم يَلُونَ مِن أُمُورِنا خَمسا: الجمُعةُ والجماعةُ والعِيدُ والثُّغورُ والحُدودُ، واللَّهِ ما يَستقِيمُ الدِّينُ إلا بِهم، وإنْ جَارُوا أو ظَلَمُوا، واللَّهِ لَمَا يُصلِحُ اللَّهُ بهم أكثرَ مما يُفسِدون، ورُوِيَ: ((سِتُّونَ سنةً مع إمامٍ جائرٍ خيرٌ من ليلةٍ واحدةٍ بلا إمامٍ)) ورُوِيَ أنَّ عمرَو بنَ العاصِ أوْصى ابنَه فقال: إمامٌ عادلٌ خيرٌ مِن مَطرٍ وابلٍ، وأَسدٌ خَطومٌ خيرٌ مِن إمامٍ ظَلومٍ، وإمامٌ ظَلومٌ غَشومٌ خيرٌ مِن فتنةٍ تَدومٌ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ:
إنَّ الخلافةَ حبلُ اللَّهِ فاعتصِمُوا ... ... مِنه بعُروتِه الوُثْقى لمَن كَانَ
كم يَدفعُ اللَّهُ بالسُّلطانِ مُعضِلَةً ... ... عن دِينِنا رَحمةً مِنه ودُنيانَا
لولا الخلافةُ لم تُؤمَنْ لنا سُبُلٌ ... ... وكان أَضْعفُنا نَهْباً لأَقْوانَا
وأجمعَ العلماءُ على أنَّه يَجِبُ على المسلِمِينَ نَصْبُ خليفةٍ ووجوبُهُ في الشَّرعِ، وأدلَّةُ ذَلِكَ كثيرةٌ، ونَصْبُه يكونُ بأحدِ أمورٍ: إمَّا باستخلافِ مَن قَبلَه له، كما فَعلَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ في استخلافِه عُمرَ -رضي اللَّهُ عنهما-، أو باتِّفاقِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ على عَقدِها لصالِحٍ، أو بِجَعْلِها شورى بين جماعةٍ، كما فَعلَ عمرُ -رضي اللَّهُ عنه-، أو قَهرَ النَّاسَ حتى دَانوا له ودَعوه، أمَّا ما قال أحمدُ في روايةِ عبدوسِ بنِ مالكٍ العطَّارِ: ومَن غَلبَ عليهم بالسَّيفِ حتى صارَ خليفةً، وسُمِّيَ أميرَ المؤمنين فلا يَحِلُّ لأحدٍ يُؤمِنُ باللَّهِ يَبِيتُ ولا يَراهُ إمامًا بَراًّ كان أو فاجِراً، وقد أُفْرِدَتْ أحكامُ الإمامةِ بمصنَّفاتٍ فارِجعْ إليها.
قولُه: (أبراراً كانوا أو فُجَّارا) البِرُّ بكَسْرِ الباءِ أصلُه: التَّوسُّعُ في فِعلِ الخيرِ، وهُوَ اسمُ جَمْعٍ للخيراتِ كُلِّها، ويُطْلَقُ على العَملِ الصَّالِحِ الدَّائِمِ، والفُجورُ يُطلَقُ على المَيْلِ إلى الفسادِ والانبعاثِ في المعاصي، وهُوَ اسمٌ جامعٌ للشَّرِّ، فتَجبُ طاعةُ ولاةِ الأمورِ في الطَّاعةِ، وتَحرُمُ مخالَفَتُهم والخروجُ عليهم، سواءً كانوا أبراراً أو فُجَّاراً، فلا يَنعزِلُ الإمامُ بالفِسقِ والظُّلمِ وتَعطيلِ الحقوقِ، ولا يُخلَعُ، ولا يَجُوزُ الخُروجُ عليه بل يَجِبُ وَعْظُه، وَذَلِكَ لما يَترتَّبُ على ذَلِكَ مِن الفِتنِ وإراقةِ الدِّماءِ وفسادِ ذاتِ البَيْنِ، فتكونُ المفسدَةُ في عَزلِه أكثرَ مِنها في بقائِه، والشَّريعةُ جاءتْ بِجَلْبِ المصالِحِ ودَفعِ المضارِّ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولعلَّه لا يَكادُ يُعرفُ طائفةٌ خَرَجَتْ على ذي سُلطانٍ إلاَّ وكان في خُروجِها مِن الفسادِ أكثرُ مِن الذي في إزالَتِه، وقال أيضًا في أثناءِ كلامٍ له: ونَهَى الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- عن قِتالِ أئمَّةِ الجَوْرِ، وأَمَرَ بالصَّبْرِ على جَوْرِهم، ونَهَى عن القِتالِ في الفِتنةِ، فأهلُ البِدعِ مِن الخَوارِجِ والشِّيعةِ والمعتزِلةِ وغيرِهم، يَرَوْنَ قِتالَهم والخروجَ عليهم إذا فَعلُوا ما هُوَ ظُلْمٌ أو ظَنُّوه هم ظُلْما، ويَرَوْن ذَلِكَ مِن بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المنكَرِ. اهـ.
وقال النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في شرحِ مسلمٍ: وأمَّا الخروجُ عليهم وقتالُهم فحرامٌ بإجماعِ المسلِمِينَ، وإنْ كانوا فَسقةً ظالِمينَ، وقد تَظاهَرَتْ الأحاديثُ بمعنى ما ذَكَرْتُه، وأجمعَ أهلُ السُّنَّةِ على أَنَّ الإمامَ لا يَنْعَزِلُ بالفِسقِ، وقال العلماءُ: وسببُ عَدمِ انعزالِه وتحريمِ الخروجِ عليه ما يَترتَّبُ على ذَلِكَ مِن الفتنةِ وإراقةِ الدِّماءِ وإفسادِ ذاتِ البَيْنِ، فتكونُ المفسدةُ أكثرَ مِن المفسدةِ في بقائِه. انتهى.(1/95)
ويُحافِظونَ عَلى الجُمَعِ الجَماعاتِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وَيحافِظُون على الجُمَعِ والجَماعَاتِ) لأنَّها مِن أَوْكَدِ العِباداتِ، ومِن أجلِّ الطَّاعاتِ، ومِن أَعظمِ شَعائرِ الإسلامِ الظَّاهرةِ، وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على حُضورِ الجُمعُ والجماعاتِ والتَّرغيبِ في ذَلِكَ؛ وتحريمِ التَّخلُّفِ عنهما إلاَّ لِعذُرٍ، هَذَا ما عليه أهلُ السُّنَّةِ خِلافًا للمبتدِعَةِ مِن الرَّافِضةِ وغيرِهم، الذين لا يَرَوْن الجهادَ ولا حضورَ الجماعةِ إلاَّ مع الإمامِ المعصومِ، وإمامُهم هَذَا الذي يَزْعُمون هُوَ معدومٌ، وهم يَنْتَظِرونه مِن مدَّةٍ طويلةٍ، ولم يَقِفُوا على عَينٍ ولا أَثرٍ، إنْ هي إلا مجرَّدُ أوهامٍ وأمانيَّ وظُنونٍ كاذبةٍ، وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي عن الحقِّ شيئًا (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن ظَنَّ أنَّ صلاتَه وَحْدَه أفضلُ مِن أجْلِ خَلوتِه، أو غيرِ ذَلِكَ فهُوَ مُخطِئٌ ضالٌّ، وأضلُّ مِنه مَن لم يَرَ الجماعةَ إلاَّ خَلفَ معصومٍ، فعطَّلَ المساجِدَ وعَمَّرَ المشَّاهِدَ. انتهى. وصلاةُ الجماعةِ فَرْضُ عَيْنٍ، وهَذَا هُوَ المشهورُ عن أحمدَ وغيرِه مِن أئمَّةِ السَّلَفِ وعلماءِ الحديثِ، وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ صلاةَ الجماعةِ شرطٌ لحديثِ ((لا صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ)) واختارَهُ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ وابنُ عقيلٍ وغيرُهم، وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومَن قال لا تَجوزُ خَلْفَ مَن لا تُعرفُ عقيدَتُه، وما هُوَ عليه فَهُوَ قولٌ لم يَقُلْه أحدٌ مِن المسلِمِينَ، فإنَّ أهلَ الحديثِ والسُّنَّةِ كالشَّافِعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وغيرِهم متَّفِقون على أنَّ صلاةَ الجمعةِ تُصلَّى خَلفَ البَرِّ والفاجِرِ، حتى إنَّ أَكْثَرَ أهلِ البِدَعِ كالجهميَّةِ الذين يَقولون بخَلْقِ القُرآنِ، وأَنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرةِ، ومع أنَّ أحمدَ ابْتُلِي بهم وهُوَ أشهرُ الأئمَّةِ بالإمامةِ في السُّنَّةِ، ومع هَذَا لم تَخْتَلِفْ نُصوصُه أنَّه تُصلَّى الجمعةُ خَلفَ الجهميِّ والقدَريِّ والرَّافِضيِّ، وليس لأحدٍ أنْ يَدَعَ الجمعةَ لبِدعةٍ في الإمامِ، لكن تَنازَعوا هل تُعادُ؟ على قولَيْنِ: هما روايتانِ عن الإمامِ أحمَد، قيل: تُعادُ خَلفَ الفاسِقِ، ومذهبُ الشَّافِعيِّ وأبي حنيفةَ لا تُعادُ. ا.هـ.
وهَذَا هُوَ الصَّحيحُ فإنَّ الصَّحابةَ كانوا يُصَلُّونَ الجمعةَ والجماعةَ خَلْفَ الأئمَّةِ والفُجَّارِ ولا يُعيدونَ، كما كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ يُصلِّي خَلْفَ الحجَّاجِ بنِ يوسفَ، وَكَذَلِكَ أنسٌ وَكَذَلِكَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنهم-، وغيرُهم يُصلُّونَ خلفَ الوليدِ بنِ عقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، وكان يَشربُ الخمرَ.
وأخرجَ الدَّارقُطنيُّ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ))، وقال: لم يَلْقَ مَكحولٌ أبا هريرةَ، وفي إسنادِه معاويةُ بنُ صالِحٍ مُتكلَّمٌ فيه، وقد احتجَّ بِهِ مُسلمٌ في "صحيحِه"، وخرَّجَ الدَّارقُطنيُّ أيضًا وأبو داودَ عن مكحولٍ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الصَّلاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَراًّ كَانَ أَوْ فَاجِراً، وَإِنْ عَمِلَ بِالْكَبَائِرِ، وَالْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَراًّ كَانَ أَوْ فَاجِراً وَإِنْ عَمِلَ بِالْكَبَائِرِ)) انتهى.(1/96)
ويَدِينُونَ بالنَّصِيحَةِ للأمَّةِ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويَدِينونَ بالنَّصيحَةِ للأمَّةِ) أي: يَتعبَّدُونَ، يقالُ: دانَ بالإسلامِ دِينا بالكسْرِ تعبَّدَ بِهِ، وتَدَّينَ بِهِ كذَلِكَ، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَدِينونَ أي يتعبَّدُونَ بالنَّصيحةِ لجميعِ الأُمَّةِ، كما تكاثَرَت الأخبارُ في الحثِّ عليها والتَّرغيبِ فيها، ولأنَّ عليها مَدارَ الدِّينِ كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ تميمٍ الدَّاريِّ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قالها ثلاثًا، قُلنا: لمَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟قال: (لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ المسلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) فقد حَصرَ الدِّينَ فيها.
قال الخطَّابيُّ: النَّصيحةُ كلمةٌ جامعةٌ، معناها حِيازةُ الحظِّ للمَنْصوحِ له، وقال ابنُ بَطَّالٍ: والنَّصيحةُ تُسمَّى دِيناً وإسلامًا، والدِّينُ يَقعُ على العَملِ، كما يَقَعُ على القولِ، وقال: وَهِيَ فَرْضُ كفايةٍ يُجزئُ فيه مَن قام بِهِ ويَسْقُطُ عن البَاقِينَ، وقال: والنَّصيحةُ لازِمةٌ على قَدْرِ الطَّاقةِ إذا عَلِمَ النَّاصِحُ أنَّه يَقْبَلُ منه، وأَمِنَ على نَفسِه المكروهَ، فإنْ خَشِيَ على نَفْسِه أذًى فهُوَ في سَعةٍ. انتهى.
وأَخرجَ الطَّبرانيُّ مِن حديثِ حذيفةَ بنِ اليمانِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ المسلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُمْسِ وَيُصْبِحْ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ)) قال الخطَّابيُّ: فمعنى النَّصيحةِ لِلَّهِ: صحَّةُ الاعتقادِ في وحدانِيَّتِه، وإخلاصُ النِيَّةِ في عبادتِه، والنَّصيحةُ لكتابِه الإيمانُ بِهِ والعملُ بما فيه، والنَّصيحةُ لِرَسولِه التَّصديقُ بنبوَّتِه وبذلُ الطَّاعةِ فيما أَمَرَ بِهِ ونَهى، والنَّصيحةُ لعامَّةِ المسلِمِينَ إرِشادُهم إلى مصالِحِهم.
وفي صحيحِ مسلمٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ)) فذَكَر منها: ((وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)) وفي المسنَدِ عن حكيمِ بنِ أبي يَزيدَ عن أبيه عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدَكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ)).(1/97)
ويَعْتَقِدونَ معنى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( المُؤْمِنُ لِلْمُؤِمِنِ كَالبُنْيانِ المَرْصوصِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً ))، وشَبكَ بينَ أَصابِعِهِ. (1)
وقوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَراحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ: إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى وَالسَّهَرِ )). (2)
__________
(1) قولُه: (ويَعتقِدُونَ معنى قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ: هَذَا الحديثُ رواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ أبي موسى الأشعريِّ.
قولُه: (الْمُؤمِنُ لِلْمُؤْمِنِ) الحديثَ أي: المؤمنُ الإيمانَ الكامِلَ، في هَذَا الحديثِ الحثُّ على التَّناصُرِ والتَّناصُحِ والتَّعاوُنِ، وقد تكاثَرَت الأحاديثُ بمعنى هَذَا الحديثِ، وقال القاضي -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هُوَ تمثيلٌ وتقريبٌ للفَهْمِ، يُريدُ الحثَّ على التَّعاوُنِ والتَّناصُرِ، فيَجِبُ امتثالُ ما حثَّ عليه، وقال ابنُ بطَّالٍ: والمعاوَنةُ في أمورِ الآخرةِ، وكذا في الأمورِ المباحَةِ مِن الدُّنْيَا مَندوبٌ إليها، وقد ثَبتَ في حديثِ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((واللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).
قولُه: (وَشَبَّكَ بين أصابِعِه) يُستفادُ منه أَنَّ الذي يُريدُ المبالغةَ في بيانِ أقوالِه يُمثِّلُها في حركاتِه، وليكونَ أَوْقَع في النَّفْسِ. ذَكَره في الفَتحِ.
(2) قولُه: (مَثلُ المؤمنينَ) هَذَا الحديثُ أَخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهما مِن حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، وفي روايةٍ لمسلمٍ: ((الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِذَا اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ))، والمرادُ بـ (المؤمنين) الإيمانَ الكامِلَ.
قولُه: (كمَثلِ الجسَدِ الواحِدِ) أي: بالنِّسبةِ إلى جميعِ أعضائِه، ووَجْهُ التَّشبِيهِ فيه: التَّوافُقُ في التَّعبِ والرَّاحةِ.
قولُه: (في تَوادِّهِم) بتشديدِ الدَّالِ، مَصْدرُ تَوادَدَ أي تَحابَبَ وتَراحَمَ، أي تَلاطُفِهم.
قولُه: (تعاطُفِهم) عَطفُ بعضِهم على بعضٍ.
قولُه: (إذا اشْتَكى) أي: تَأَلَّمَ عُضوٌ مِن أعضاءِ جسَدِه (تداعى) أي دَعَى بعضُه بعضاً إلى المشارَكَةِ في الأَلَمِ.
قولُه: (سائِرُ) أي: باقي (والحمَّى) هي المرَضُ المعروفُ (والسَّهَرِ) عَدمُ النَّومِ في اللَّيلِ، قاله في القاموسِ، فهَذَانِ الحديثانِ دَلاَّ على أنَّ مِن صفاتِ المؤمنينَ التَّعاطُفُ فيما بينهم والتَّراحُمُ، ومحبَّةُ بعضِهم لبعضٍ الخيَر، وفي حديثِ أبي هريرةَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ)).
رواه أبو داودَ، وخَرَّجَه الترمذيُّ بلفظِ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ مِرَآةُ أَخِيهِ، فَمَنْ رَأَى بِهِ أَذًى فَلْيُمِطْهُ عَنْهَ)) وفيهما دليلٌ على أَنَّ المؤمِنَ يَسُرُّه ما يَسُرُّ أخاه المؤمنَ، ويَسُوؤهُ ما يَسوؤُه، ويُحِبُّ له ما يُحِبُّ لنَفْسِه مِن الخيرِ، وهَذَا كُلُّه ممَّا يدلُّ على سلامةِ القلبِ مِن الغِشِّ والحَسَدِ والحِقْدِ، وفيها أنَّ مِن صفاتِ المؤمنينَ الاجتماعُ والاتِّفاقُ والتَّعاضُدُ ومُساندَةُ بعضِهم لبعضٍ في غيرِ إثمٍ ولا مكروهٍ، قال النَّوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذِهِ الأحاديثُ صريحةٌ في تعظيمِ حقوقِ المسلِمِينَ بعضِهم على بعضٍ، وحثِّهِم على التَّراحُمِ والملاطَفةِ والتَّعاضُدِ في غيرِ إثمٍ ولا مكروهٍ، وفيه جوازُ التَّشبِيهِ وضَرْبُ الأمثالِ لتقريبِ المعاني إلى الأفهامِ.(1/98)
ويَأْمُرونَ بالصَّبْرِ عِنْدَ البَلاءِ، والشُّكْرِ [ عند الرَّخاءِ ] والرِّضا بمُرِّ القَضاءِ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويأمُرون بالصَّبْرِ) الأمْرُ استدعاءُ الفِعلِ بالقولِ على وَجْه الاستعلاءِ، قال بَعضُهم:
أَمْرٌ مع استعلا وعَكْسُه دَعَا ... ... وفي التَّساوِي فَالتْماسٌ وَقَعا،
وَهَذِهِ الثلاثةُ المذكورةُ في المَتْنِ مِن صفاتِ المؤمنين، وَهِيَ عُنوانُ السَّعادةِ وعلامةُ الفَلاحِ، أَخْرَجَ الطَّبرانيُّ بسنَدٍ حَسنٍ عن سنجرة مرفوعا: ((مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرْ، وَظُلِمَ فَنَفَرَ، أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) والصَّبرُ معناه لغةً: الحبْسُ. قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عن الجَزَعِ، وحَبسُ اللِّسانِ عن التَّشكِّي والتَّسخُّطِ، وحَبسُ الجوارِحِ عن لَطْمِ الخُدودِ وشَقِّ الجيوبِ، وقد تكاثَرَتِ الأدِلَّةُ في الأمْرِ بالصَّبرِ والحثِّ عليه، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((الصَّبْرُ ضِياءٌ))، وقال عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-: إنَّ الصَّبْرَ مِن الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ مِن الجسَدِ، ثم رَفَعَ صوتَه فقال: أَلاَ إِنَّهُ لاَ إيمانَ لمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في الصَّبرِ فلا نُطيلُ بإعادتِه.
أمَّا الرِّضَا فهُوَ مِن أَجَلِّ الطَّاعاتِ وأَشْرَفِ منازِلِ السَّائرِينَ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-، وهُوَ مُسْتَحبٌّ بالإجماعِ، وقال بعضُ العُلماءِ بوُجوبِه لقولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((فَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَعَلَيْهُ السَّخَطُ))، والأدِلَّةُ على فَضْلِه والحثِّ عليه كثيرةٌ جِداًّ قال اللَّهُ تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) وكان مِن دعاءِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ)) وجاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فسألَه أنْ يُوصِيَهُ وصيَّةً جامِعةً مُوجَزةً، فقال: ((لا تَتَّهِمِ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ))، وفي صحيحِ مسلمٍ عن العبَّاسِ بنِ عبدِ المطلبِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ باللَّهِ رَباًّ وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وبمُحَمَّدٍ رَسُولاً)) فَالرِّضَا بربُوبِيَّتِه يَتَضَّمَنُ الرِّضَا بعبادَتِه وَحْدَه لا شريكَ له، والرِّضا بتدبيرِه العبدَ واختيارِه له، وقد تقدَّمَ الكلامُ على الرِّضا على قولِه: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ)، والشُّكْرُ هُوَ فِعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ المُنْعِمِ لكونِه مُنْعِما، وهُوَ شَرْعا صَرفُ العبدِ جميعَ ما أَنْعمَ اللَّهُ بِهِ عليه لِمَا خُلِقَ لأجْلِه، ويتعلَّقُ بالقلبِ واللِّسانِ والجوارحِ كما قيل:
أَفادَتْكُمُ النَّعماءُ مِنِّي ثلاثةً ... ... يَدِي ولِساني والضَّمِيرَ المُحْجَبَا
والشُّكرُ مِن أجلِّ الطَّاعاتِ وأفْضلِها، ومِن أَشْرفِ منازِلِ السَّائِرينَ إلى اللَّهِ وأرْفَعِها، وهُوَ مُؤْذِنٌ بالمزيدِ، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: مَنزلةُ الشُّكرِ أعلى المنازِلِ، وهُوَ فَوقَ منزلَةِ الرِّضا، فالرِّضا مُندرِجٌ في الشُّكرِ؛ إذْ يَستحِيلُ وُجودُ الشُّكرِ بِدُونِه وهُوَ نِصفُ الإيمانِ، والإيمانُ نِصفانِ نِصفُ شكرٍ ونِصفُ صبرٍ، إلى أنْ قال: وأهلُه هم القليلُ، قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، وقال: (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) انتهى، والتَّحدُّثُ بالنِّعمةِ شُكرٌ، كما قال تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وأمَّا حُكمُ الشُّكرِ فواجِبٌ لما تَقدَّمَ، وهُوَ مَبنيٌّ على ثلاثةِ أركانٍ: التَّحدُّثُ بالنِّعمةِ ظاهراً، والاعترافُ بها باطِنا، وصَرْفُها في طاعةِ مُولِيها ومُسْدِيها وهُوَ اللَّهُ. ذَكَرَه ابنُ القيِّمِ بتصرٌّفٍ.(1/99)
ويَدْعونَ إِلى مَكارِمِ الأَخلاقِ، ومَحَاسِنِ الأعْمالِ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويَدعونَ إلى مكارِمِ الأخلاقِ) المكارِمُ جمعُ مَكْرُمَةٍ بضمِّ الرَّاءِ، وَهِيَ مِن الكرَمِ، وكُلُّ فائِقٍ في بابِه يقال له كُريمٌ.
قولُه: (ومَحاسِنِ الأعمالِ) أي: جَميلِها، وقال الرَّاغبُ: الحُسْنُ عِبارةٌ عن كُلِّ مَرغوبٍ فيه، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ يَحثُّون ويُرَغِّبون في مكارِمِ الأخلاقِ ومحاسِنِ الأعمالِ، كالكَرَمِ والشَّجاعةِ والصِّدْقِ والأمانةِ ونحوِ ذَلِكَ؛ لِما تكاثَرَتْ بِهِ الأدِلَّةُ مِن الحثِّ على ذَلِكَ والتَّرغيبِ فيه، وأنَّ ذَلِكَ مِن صفاتِ المؤمنين، بل مِن أخصِّ علاماتِ الإيمانِ، كما في حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((خَصْلَتَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِقٍ، حُسْنُ سَمْتٍ وَفِقْهٌ فِي الدِّينِ)) رواه الترمذيُّ، قال تعالى في نَبِيِّه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قالتْ عائشةُ -رضي اللَّهُ عنها-: كانَ خُلُقُه القرآنَ، يَأْتَمِرُ بأوامِرِه، وَيَنْزَجِرُ عن زَواجِرِه، ويَرْضَى لِرِضَاه ويَغْضَبُ لِغَضبِه، أي كان متُمَسِّكاً بآدابِه وأوامِرِه ونواهِيه، وما يَشتَمِلُ عليه مِن المكارِمِ والمحاسِنِ والألطافِ، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارِجِ: وقد جَمعَ اللَّهُ له مَكارِمَ الأخلاقِ في قولِه: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال جعفرُ بنُ محمَّدٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّه بمكارِمِ الأخلاقِ، وليس في القرآنِ آيةٌ أجْمَعُ لمكارِمِ الأخلاقِ مِن هَذِهِ الآيةِ انتهى.
وفي الصَّحيحِ أنَّ أبا ذَرٍّ -رضي اللَّهُ عنه- قال لأخِيهِ لما بَلَغَه مَبْعَثُ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ارْكَبْ إلى هَذَا الوادِي فاسْمَعْ مِن قَولِه، فرَجَعَ فقال: رأيتُه يَأمُرُ بمكارِمِ الأخلاقِ، وفي الحديثِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكاَرِمَ الأَخْلاَقِ)) رواه أحمدُ والبزَّارُ، ورواه مالِكٌ في الموطَّأِ، ولفظُه: قال: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخلاقِ)) قال القرطبيُّ في المفهمِ: الأخلاقُ أوصافُ الإنسانِ التي يُعامِلُ فيها غيرَه، وَهِيَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فالمحمودةُ على الإجمالِ: أنْ تكون مع غَيرِكَ على نَفْسِكَ، فَتُنْصِفُ مِنها ولا تُنْصِفُ لها، وعلى التَّفِصيلِ العفوُ والحِلمُ والجُودُ والصَّبرُ وتَحمُّلُ الأذَى والرَّحمةُ والشَّفقةُ وقَضاءُ الحوائجِ ونحوُ ذَلِكَ، والمذمومُ ضِدُ ذَلِكَ. انتهى.
وقال الحسَنُ: حقيقةُ حُسنِ الخُلقِ بَذلُ المعروفِ وكَفُّ الأذَى وطَلاقةُ الوجْهِ، رواه الترمذيُّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ المبارَكِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارِجِ: الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فمَن زاد عليك في الخُلقِ زادَ عليكَ في الدِّينِ، وحُسنُ الخُلقِ يقومُ على أربعةِ أركانٍ: الصَّبرُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعةُ، والعَدلُ، فالصَّبرُ يَحمِلُه على الاحتمالِ وكَظْمِ الغيظِ، والحِلمُ والأناةُ والرِّفقُ وعَدمُ الطَّيْشِ، والعِفَّةُ تَحملُه على اجتنابِ الرَّذائلِ والقَبائِحِ مِن القولِ والفِعلِ، والشَّجاعةُ تحملُه على عِزَّةِ النَّفْسِ وقُوَّتِها على إخراجِ المحبوبِ وتَحمِلُه على كَظْمِ الغَيظِ، والحِلمُ والعَدلُ يَحملُه على اعتدالِ أخلاقِه وتوسُّطِه بين طرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ، فمَنْشأُ جميعِ الأخلاقِ الفاضِلةِ مِن هَذِهِ الأربعةِ، ومَنْشأُ جميعِ الأخلاقِ السَّافلةِ وبناؤها على أربعةِ أركانٍ: الجهلُ، والظُّلمُ، والشَّهوةُ، والغَضبُ. انتهى.(1/100)
ويَعْتَقِدونَ مَعْنى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( أَكْمَلُ المُؤمِنينَ إِيْماناً أَحْسَنُهُم خُلُقاً )). (1)
__________
(1) قولُه: (ويعتقدُونَ معنى قولِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ: هَذَا الحديثُ رواه أحمدُ والترمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ، مِن حديثِ أبي هريرةَ وتمامُه: ((وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ)) وَاقْتَصَرَ أبو دَاودَ على قولِهِ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً))، وأخْرَجَه أبو يعلى عن أنسٍ، فهَذَا الحديثُ كغيرِه فيه: الحثُّ على حُسنِ الخُلقِ، وأنَّه مِن صفاتِ المؤمنين، فحُسنُ الخُلقِ هُوَ احتيازُ الفضائلِ واجتنابُ الرَّذائلِ، وقال النوويُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حُسنُ الخُلقِ كلمةٌ جامعةٌ للإحسانِ إلى النَّاسِ وكَفِّ الأذَى عنهم. انتهى، وتقدَّمَ كلامُ الحسَنِ في حقيقةِ حُسنِ الخُلقِ.
والخُلقُ بالضَّمِّ صورةُ الإنسانِ الباطنةِ، وبالفَتحِ صورَتُه الظَّاهِرةُ، وقد تكاثَرَت الأحاديثُ في مَدحِ حُسنِ الخُلقِ وذَمِّ سوءِ الخُلقِ، فعَنْ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعاً أنَّه سُئِلَ عن أكثرِ ما يُدخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ فقال: ((تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلقِ)) رواه جماعةٌ منهم الترمذيُّ وصححَّه، ولأبي داودَ مِن حديثِ عائشةَ مرفوعًا: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ سَعُوهُمْ بَبَسْطِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الخُلُقِ)) أَخْرَجَه أبو يَعلَى وصحَّحه الحاكِمُ.
وأَخبَرَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مَجْلِساً)) فَخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ مَن حديثِ أبي الدَّرداءِ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وإَِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةٍ)).
وأَخرَجَ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحِه" مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟)) قالوا: بلى قال: ((أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقاً)) انتهى، وفي الحديثِ المذكورِ فوائدُ، منها: مَدحُ حُسنِ الخُلقِ والثَّناءِ على أهلِه والحثِّ على التَّخلُّقِ بأحسنِ الأخلاقِ، وفيه أنَّ حُسنَ الخُلقِ مِن خِصالِ الإيمانِ، وفيه: دليلٌ على أَنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في مسمَّى الإيمانِ، وفيه تَفاضُلُ النَّاسِ في الإيمانِ، والرَّدُّ على مَن زَعَم أَنَّ الإيمانَ لا يَتَفاضَلُ، وأَنَّ النَّاسَ فيه سواءٌ.(1/101)
وَيَنْدُبُونَ إِلى أَنْ تَصِلِ مَنْ قَطَعَكَ، وتُعْطيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويَندُبون إلى أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ) أي: يَدعُون ويَحثُّونَ ويُرغِّبون في صِلةِ مَن قَطَعكَ، والنَّدْبُ لغةً: الدُّعاءُ وَالمنتدَبُ المَدْعُو، كما قيل:
لاَ يَسْأَلُون أَخاهُمْ حِينَ يَندُبُهم ... ... في النَّائِباتِ على ما قال بُرْهانا
واصْطِلاحًا المندوبُ: هُوَ ما أُثِيبَ فاعِلُه ولم يُعاقَبْ تَارِكُه، ويُسمَّى المندوبُ سُنَّةً وتطوُّعا ومُسْتَحباًّ ونَفْلا، وقُربةً ومُرَغَّبا فيه وإحسانًا، أي أنَّ أهلَ السُّنَّةِ يَندبُون إلى أنْ تَصِلَ مَن قَطَعكَ إلخ: لِمَا رَوى الإمامُ أحمدُ في مسنَدِه مِن حَديثِ معاذِ بنِ أنسٍ الجُهَنِيِّ -رضي اللَّهُ عنه- قال، قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصْفَحُ عَمَّنْ شَتَمَكَ)).
وخرَّج الحاكِمُ مِن حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ الجهنيِّ قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((يَا عُقْبَةُ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلاَقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ)) وروى أنَّ جبريلَ قال للنبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- حينَ نَزَّلَ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال في تفسيرِ ذَلِكَ: أنْ تَعْفُوَ عمَّن ظَلَمَك، وتَصِلَ مَن قَطَعكَ، وتُعطِي مَن حَرَمَك".
قولُه: (تَعفُو عمَّنْ ظَلمَكَ) العَفْوُ: هُوَ الصَّفحُ والتَّجاوُزُ عن الذَّنْبِ، أيْ: تَصفَحُ عمَّن ظَلَمَكَ وتَتجاوَزُ عن ذَنْبِه، ولا تُؤاخِذُه بما نَالَ مِنْكَ، فإنَّ ذَلِكَ مِن خصالِ الإيمانِ، وسببٌ للرِّفعةِ والعِزَّةِ، كما روى ابنُ عمرَ مرفوعًا ((ابْتَغُوا الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَحْلُمُ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْكَ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ)) أَخْرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ. وعن أنسٍ الجُهنيِّ عن أبيه أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أيِّ الْحُورِ شَاءَ)) رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ.
قولُه: (وتَصِلَ مَن قَطَعكَ) أي: تَصِلَ رَحِمَكَ وإنْ قَطَعَكَ، كما في الصَّحيحِ: ((لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)) وروى عبدُ الرَّزَّاقِ عن عُمرَ مَوقوفا: ((ليس الوَصْلُ أنْ تَصِلَ مَن وَصَلَكَ، ذَلِكَ القِصاصُ، ولكنَّ الوَصْلَ أنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ)) وفي حديثِ أبي ذَرٍّ: ((وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمي وإنْ أدْبَرَتْ)).
قولُه: (وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ) أي: مَنَعَكَ ما هُوَ لكَ؛ لأنَّ مَقامَ الإحسانِ إلى المُسِيءِ ومقابلةَ إساءَتِه بإحسانٍ مِن كمالِ الإيمانِ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وجِماعُ حُسنِ الخُلقِ مع النَّاسِ أنْ تَصِلَ مَن قَطعكَ بِالسَّلامِ والإكرامِ، والدُّعاءِ له، والاستغفارِ، والثَّناءِ عليه، والزِّيارةِ له، وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ مِن التَّعليمِ والمنْفَعةِ والمالِ، وتَعفُوَ عمَّن ظَلَمكَ في دَمٍ أو مالٍ أو عِرضٍ، وبعضُ هَذَا واجِبٌ وبَعْضُه مُستحَبٌّ. انتهى. ففي هَذِهِ الأحاديثِ الحثُّ على العَفوِ والصَّفحِ، وأنَّ ذَلِكَ مِن أَفْضَلِ الأعمالِ وأَشْرَفِ الأخلاقِ، قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) وقال: (وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ).
وروى الحاكِمُ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ مرفوعا: ((إنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ)) وفِي حديثِ أبي هُريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالِكَ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزاًّ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ)) أَخْرجَه مسلمٌ، وفيها الحثُّ على الصِّلةِ للأقارِبِ والأرحامِ، وإنْ عَامَلُوك بالقطيعةِ فلا تَقطَعْ عنهم الصِّلةَ مُجازاةً لهم للأدِلَّةِ الحاثَّةِ على ذَلِكَ، والمصَرِّحةِ بتحريمِ القطيعةِ، وأنها مِن كبائرِ الذُّنوبِ، وأنَّ هَذَا مِن أَشْرَفِ أَخلاقِ المؤمِنِ.(1/102)
ويَأْمُرونَ بِبِرِّ الوَالِديْنِ، وصِلَةِ الأرْحامِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وَيأمُرونَ بِبِرِّ الوالدَيْنِ) أي: طاعَتِهِما والإحسانِ إليهما بما لا يُخالِفُ الشَّرْعَ، وخَفْضِ الجَناحِ لهما، والشَّفَقةِ عليهما، والتَّلطُّفِ بهما، وَذَلِكَ لِعِظَمِ حَقِّهِما، ولذَلِكَ قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- حَقَّهُ بحقِّهِما، قال اللَّهُ تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقال: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ).
وفي "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ أنَّهُ قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ العملِ أفْضلُ؟ قال: ((الصَّلاَةُ فِي أَوَّلِ
وَقْتِهَا))، قال: قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) قال: قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: ((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)) والبِرُّ بِكسْرِ الرَّاءِ هُوَ التَّوسُّعُ في فِعلِ الخيرِ.
وروى الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الجَنَّةَ)).
وعن أبي بكرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبِرِ الْكَبَائِرِ))؟ قال: قلنا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قال: ((الإِشْرَاكُ باللَّهِ وَحْدَهُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ))، وكان مُتَّكِئا ثم جَلَسَ فقال: ((أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ))، فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قلنا لَيْتَهُ سَكَتَ. رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
قولُه: ((وعُقوقُ الْوَالِدَيْنِ) قال العَلقميُّ: يقالُ عَقَّ والِدَه عُقوقاً فهُوَ عاقٌّ إذا آذاه وعَصاهُ وخَرَج عليه، وهُوَ ضِدُّ البِرِّ بِهِما، والآياتُ والأحاديثُ في الأمْرِ بِبِرِّ الوالدَيْنِ وتحريمِ عُقُوقِهما كثيرةٌ جداًّ.
قولُه: (وصِلةُ الأرحامِ) أي: الإحسانُ إلى الأقْرَبِينَ مِن ذويِ النَّسَبِ والأصهارِ، والتَّعَطُّفِ عليهم والرِّفِقُ بهم ورِعايَةِ أَحْوالِهم، وضِدُّ ذَلِكَ قَطيعةُ الرَّحِمِ، والأرحامُ جَمعُ رَحِمٍ، وهُوَ مِن المرأةِ الفَرْجُ، قال الرَّاغِبُ: ومنه استُعِيرَ الرَّحِمُ للقَرابَةِ، لِكونِهِم خَارِجَيْنِ مِن رَحِمٍ واحدَةٍ، وصِلةُ الأرحامِ واجبةٌ وقطيعَتُها حرامٌ، والأدِلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ تَشهَدُ لذَلِكَ، قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، وفي هَذِهِ الآيةِ وأشباهِها أعظمُ وَعيدٍ في قطيعةِ الرَّحمِ، وفيها أَصْرحُ دلالةٍ على حُرمةِ قطيعةِ الرَّحمِ، وأنَّها كبيرةٌ مِن الكبائرِ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ جبيرِ بنِ مُطعمٍ عن أبيهِ مَرفوعا: ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ)) يعني قاطِعَ رَحِمٍ، انتهى، والقطيعةُ: الهَجْرُ والصَّدُّ، والرَّحِمُ الأقاربُ كما تقدَّمَ.
وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)) يقالُ وَصلَ رَحِمَه يَصِلُها وَصْلا، كأنَّه بالإحسانِ إليهمْ وَصَلَ ما بينه وبينهم مِن علاقةِ القرابةِ. قال في فتحِ الباري: قال القرطبيُّ: الرَّحِمُ التي تُوصلُ خَاصَّةٌ وعامَّةٌ، فالعامَّةُ رَحِمُ الدِّينِ، وتَجِبُ مواصَلَتُها بالتَّوَدُّدِ والتَّناصُحِ والعَدلِ والإنصافِ والقيامِ بالحقوقِ الواجبةِ والمستحبَّةِ، وأمَّا الرَّحِمُ الخاصَّةُ فبِمَزيدِ النَّفقةِ على القريبِ وتَفقُّدِ أحوالِهم والتَّغافُلِ عن زلاَّتِهم، وتتفاوتُ مَراتِبُ استحقاقِهم في ذَلِكَ. انتهى.(1/103)
وحُسْنِ الجِوارِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وحُسنِ الجوارِ) بإيصالِ ضُروبِ الإحسانِ إليهم بحسَبِ الطَّاقَةِ، كالهديةِ والسَّلامِ وطلاقَهِ الوَجْهِ عِندَ لِقائِه ومعاوَنَتِه فيما يَحتاجُ إليه إلى غيرِ ذَلِكَ، وكفِّ أسبابِ الأَذَى عنه على اختلافِ أنواعِه، وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في تعظيمِ حقِّ الجارِ، وأنَّ حِفظَ الجارِ مِن كمالِ الإيمانِ، ومِن أعظمِ مكارِمِ الأخلاقِ، قال تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ).
وفي الصَّحيحِ مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ))، وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أنَّها سَمِعَتْ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
وأَخْرجَ الترمذيُّ بسندٍ صحيحٍ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ))، وَفِي صَحيحِ البُخارِيِّ عن أبي شُريحٍ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((واللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، واللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، واللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ)) قيل مِن يا رسولَ اللَّهِ: قال: ((مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على عِظَمِ حقِّ الجارِ، والحثِّ على إكرامِه واحتمالِ أَذاهُ، وأنَّ ذَلِكَ مِن صفاتِ المؤمنينَ، وفيه النَّهْيُ عن أَذَى الجارِ والدَّلالَةُ على تحريمِه، وأنَّه مِن كبائرِ الذُّنوبِ، فإنَّ الأذَى بغيرِ حقٍّ حرامٌ لكُلِّ أَحدٍ، ولكن في حقِّ الجارِ أشدُّ تحريماً، كما في "الصَّحيحَيْنِ" مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه سألَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، أيُّ الذَّنْبِ أَعْظمُ؟. قال: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِداًّ وهُوَ خَلَقَكَ))، قال: قلتُ ثُمَّ أيُّ؟ قال: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ))، قال: قلتُ ثُمَّ أيُّ؟ قال: ((أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ))، والجارُ له مراتبُ بعضُها أعلى مِن بعضٍ، فيُعْطَى كُلٌّ بحسَبِ حالِه، كما وَرَدَت الإشارةُ إلى ذَلِكَ في الحديثِ المرفوعِ الذي أَخْرَجه الطَّبرانيُّ مِن حديثِ جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((الجيرانُ ثَلاثةٌ: جارٌ له حقٌّ واحدٌ، وهُوَ المشرِكُ، له حقُّ الجِوارِ، وجارٌ له حقَّانِ، وهُوَ المسلِمُ، له حَقُّ الجِوارِ وحقُّ الإسلامِ، وجارٌ له ثلاثةُ حُقوقٍ، وهُوَ المسلِمُ القَريبُ، له حقُّ الجوارِ وحقُّ الإسلامِ وحَقُّ الرَّحِمِ)).
وقال النَّوويُّ وغيرُه: الجارُ يقعُ على أربعةٍ: السَّاكِنُ مَعَكَ في البيتِ، قال الشاَّعِرُ:
أَجَارَتَنَا فِي البَيتِ إنَّكِ طالِقٌ
ويقع على مَن لاصَقَ بيتَكَ، ويَقعُ علي أربعين دارًا مِن كُلِّ جانبٍ، ويَقعُ على السَّاكِنِ في البلدِ، قال اللَّهُ تعالى (لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً).(1/104)
والإِحسانِ إِلى اليَتَامى والمَساكِينِ وابنِ السَّبيلِ، والرِّفْقِ بالمَمْلوكِ. (1)
__________
(1) قولُه: (والإحسانِ إلى اليَتامَى) اليَتِيمُ لُغةً: المنفرِدُ. وشَرْعًا: مَن ماتَ أبوه قِبلَ بُلوغِه، والإحسانُ إلى اليَتامَى رعايةُ أحوالِهم والتَّلطُّفُ بِهم وإكرامُهم والشَّفقةُ عليهم، وفيه فَضْلٌ عظيمٌ، كما في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ -رضي اللَّهُ عنه-، عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا)) وقال بأُصْبُعَيهِ السَّبابةِ والوُسْطى. وفي حديثٍ آخرَ: ((مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتيِمٍ وَلَمْ يَمْسَحْ إِلاَّ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا يَدَيْهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ أَحَسْنَ فِي يَتِيمٍ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ في الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ))، وقَرَنَ بين أُصبعَيْه، ورُويَ أنَّه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ عَلَى رَأْسِ اليَتِيمِ)).
قولُه: (والمساكينِ) جمعُ مِسكينٍ، وهُوَ الذي يَرْكَبُه ذُلُّ الفاقَةِ والفَقْرُ، فتَمَسْكَنَ لذَلِكَ، وإذا أُطلِقَ المِسكيُن دَخلَ فيه الفقيرُ وبالعكس، وإذا ذُكِرَا معا فُسِّرَ كُلُّ واحدٍ منهما بتفسيرٍ، كالإسلامِ والإيمانِ إذا اجتَمَعا افْترَقا، وإذا افْتَرَقا اجتمعا، والفقيرُ في الاصطلاحِ: مَن وَجَدَ أَقَلَّ مِن نِصْفِ كِفَايَتِه، أو لم يَجِدْ شيئًا أصلا، والمِسكينُ مَن وَجَدَ نِصْفَ كِفايَتِه فأكثرُ، فالفَقيرُ أشدُّ حاجةً مِن المسكينِ عندنا، خِلافًا لأبي حنيفةَ ومالِكٍ، والمرادُ بالإحسانِ إلى المساكينِ: رعايةُ أحوالِهم، وتَقريبُهم، والتَّطلُّفُ بهم، وإكرامُهم، قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) ورويَ عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ((السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) وَأَحْسِبُه قال – يِشكُّ القعنبيُّ – ((كَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ وَالصَّائِمِ لاَ يَفْطُرُ)) رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
قولُه: (وابنُ السَّبيلِ) وهُوَ المسافِرُ المنقطَعُ به، والسَّبيلُ الطَّريقُ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ لملازَمَتِه السَّفرَ، كما يقالُ: ابنُ اللَّيلِ لمَنْ يُكثِرُ الخُروجَ في اللَّيلِ، وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بابنِ السَّبيلِ الضَّيفُ يَمُرُّ بك فتُكْرِمُه وتُحسِنُ ضيافَتَهُ. وفي "الصَّحيحَيْنِ" عن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ))، وفيهما عن أبي شُريحٍ العدويِّ قال: سَمِعَتْ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أُذُنايَ، وأَبْصَرتْ عَينايَ حِين تكلَّمَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فقال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْم الآخِر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن باللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ))، قالوا: وما جائزُته؟ قال: ((يَوْمٌ وليلةٌ، والضِّيافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ)).
قولُه: (والرِّفقِ بالمملوكِ) الرِّفقُ بكسرِ الرَّاءِ وسُكونُ الفاءِ وهو: لِينُ الجانبِ بالقولِ والفِعلِ والأخذِ بالأسهَلِ، وهُوَ ضِدُّ العُنفِ، وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على ذَلِكَ، كما أَوْصَى -سُبْحَانَهُ- بِذَلِكَ، قال تعالى: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، وَكَذَلِكَ أَوْصَى النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بِهِمْ كَثِيراً وأَمَرَ بالإحسانِ إليهم، ورُوِيَ أنَّ آخِرَ ما أَوْصَى بِهِ عندَ مَوتِه: ((الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فروى الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُّ وابنُ ماجهْ وابنُ حِبَّانَ عن أنسٍ، ومالِكٍ وأحمدَ وابنِ ماجهْ عن أُمِّ سَلمةَ زوجٍ النَّبيِّ، والطَّبرانيُّ عن ابنِ عمرَ بأسانيدَ صحيحةٍ مرفوعةٍ، أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فجَعلَ يُرددِّها في مَرَضِ مَوتِه حتى ما يَفِيضُ بها لسانُه، وعن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَدْخُلُ الجَنَّة سَيِّئُ الْمَلَكَةِ))، أَخرجه الترمذيُّ.(1/105)
ويَنْهَوْنَ عَنِ الفَخْرِ، والخُيَلاءِ، والبَغْيِ، والاسِتطالَةِ عَلى الخَلْقِ بَحَقٍّ أَو بغيرِ حَقٍّ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويَنهوْن عن الفَخْرِ) أي: المباهاةِ بالمكارِمِ والمناقِبِ، مِن حسَبٍ ونَسَبٍ وغيرِ ذَلِكَ، سواءً كان فيه أو في آبائِه، ذَكَرَه في المصباحِ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) المُختالُ: هُوَ المتكبِّرُ العظيمُ في نَفْسِه الذي لا يَقومُ بحقوقِ النَّاسِ، والفَخورُ: هُوَ الذي يَفخَرُ كُلَّ النَّاسِ، وَيُعدِّدُ مَناقِبَه تَكَبُّرًا وتَطاوُلا على مَن دُونَه، ويَنْظُرُ إلى غيِره نَظَرَ ازْدِرَاءٍ وَاحتقارٍ، قال تعالى: (فَلاَ تُزَكَّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
وروى مسلمٌ في "صحيحِه" مِن حديثِ عياضِ بنِ حمارٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إليَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدْ، وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)).
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ في اقتضاءِ الصِّراطِ الْمُسْتِقِيمِ عَلَى هَذَا الحديثِ: فنَهَى -سُبْحَانَهُ- عَن نَوْعَيِ الاستطالَةِ على الخَلقِ، وهُوَ الفَخرُ والبَغيُّ؛ لأنَّ المستطِيلَ إنِ استطالَ بِحَقٍّ فقد افْتَخَرَ، وإنْ كان بِغَيرِ حَقٍّ فقد بَغَى. قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المَدارِجِ: والافتخارُ نوعانِ: محمودٌ ومذمومٌ، فالمذْمومُ إظهارُ مَرتَبَتِه على أبناءِ جِنْسِه تَرَفُّعًا عليهم، والمحمودُ إظهارُ الأحوالِ السُّنِّيَّةِ والمَقَامَاتِ الرَّفيعةِ لا عَلَى وَجْهِ الفَخْرِ بل على وَجْهِ التَّعظِيمِ للنِّعْمةِ والفَرحِ بها، وذِكْرِها وَالتَّحَدُّثِ بها والتَّرْغِيبِ فيها، وَذَلِكَ مِن المقاصِدِ في إظهارِها، كما قال –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأَرْضُ يَوْمَ القِيامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلاَ فَخْرَ))، وقال سعدٌ: ((أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبيِلِ اللَّهِ)) انتهى.
قولُه: (والخيلاءُ) قال تعالى: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) قولُه: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ) أي تُمِيلُه وتُعرِضُ عَن النَّاسِ تَكَبُّرًا، وقولُه: (مُخْتَالٍ فَخُورٍ) أي ذي خُيلاءَ يَفْخَرُ على النَّاسِ ولا يَتَواضَعُ لهم.
قال المنذريُّ: الخُيلاءُ بِضمِّ الخاءِ المعجَمةِ وكَسرِها: الكِبْرُ والعُجْبُ، والمَخِيلَةُ بفتحِ الميمِ وكسرِ المعجَمةِ مِن الاختيالِ، وهُوَ الكِبرُ واستحقارُ النَّاسِ. انتهى. وعن ابنِ عمرَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى عليه وسلم: ((لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيلاَءَ))، متَّفقٌ عليه، وفي البخاريِّ معلَّقاً عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما-: ((كُلْ مَا شِئْتَ وَاشْرَبْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ)) وعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَراً)) متَّفقٌ عليه، وعنه أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ يَخْتَالُ في مِشْيَتِه إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
قولُه: (والبَغْيِ) وهُوَ العُدوانُ على النَّاسِ، قال العلقميُّ: أَصْلُ البَغْيِ مجاوزَةُ الحدِّ، قال اللَّهُ تعالى: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ) أي أنَّ إِثْمَ البَغْيِ وعُقوبةُ البَغْيِ على الباغِي إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلاً، وفي هَذِهِ الآيةِ شُؤمُ البَغْيِ، وسُوءُ مَصْرَعِ الباغِي، قال تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) والفَخرُ والخيلاءُ كُلُّها خِصالٌ مَذمومةٌ، وَرَدَت الأحاديثُ بالنَّهيِ عنها والتَّحذيرِ مِنها، ووَرَدَتْ أَحَادِيثُ في سُرعةِ عُقوبةِ الباغِي، فعَنْ أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَوْ أَحَقُّ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ اللَّهُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) رواه الترمذيُّ والحاكِمُ وصحَّحاه.
قولُه: (والاستطالةِ على الخَلقِ بِحقٍّ وبغيرِ حقٍّ) أي: التَّرفُّعُ عليهم واحتقارُهُم والوقيعةُ فيهم، قال العلقميُّ: يُقالُ طَالَ عليه واستطالَ وتطاوَلَ إذا علاهُ وتَرفَّعَ عليه.(1/106)
ويَأْمُرونَ بِمَعالي الأخْلاَقِ، ويَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسافِها،وكُلُّ مَا يَقُولونَهُ وَيَفْعَلونَهُ مِنْ هذا وَغَيْرِهِ؛ فإِنَّما هُمْ فيهِ مُتَّبِعونَ للكِتابِ والسُّنَّةِ. (1)
__________
(1) قولُه: (ويأمُرونَ بمكارِمِ الأخلاقِ ويَنهوْنَ عن سَفْسافِها) أي: يأمُرُ أهلُ السُّنَّةِ بمعالي الأخلاقِ؛ لأنَّها مِن أخلاقِ المؤمنينَ، بل مِن أخصِّ علاماتِ الإيمانِ، كما تقدَّمَ حديثُ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقاً)) الحديثَ، أي يأمُرُونَ بأعالي مَراتبِ الخُلُقِ الحَسَنِ، كَالسَّخاءِ والصِّدْقِ والأمانةِ والشَّجاعةِ والحِلمِ، ونحوِ ذَلِكَ، مُشتَقٌّ مِن عَلَى في المكانِ يَعلُو مِن بابِ قَعَدَ، علاءً بالفتحِ والمَدِّ، (ويَنهوْن عن سَفْسافِها) أي رَدِيئِها وحَقيرِها، كالبُخلِ والجُبْنِ والكَذِبِ والغِيبةِ والنَّميمةِ ونحوِ ذَلِكَ، كما روى الخلاَّلُ عن سهيلِ بنِ سعدٍ مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرِيمَ وَمَعَالِي الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)) وروى أيضًا عن جابرٍ مرفوعًا: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)) وأَخرَج البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عن طلحةَ بنِ عُبيدِ اللَّهِ مرفوعا ((إِنَّ اللَّهَ جَوادٌ يُحِبُّ الجُودَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الأَخْلاَقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)) وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَن ابْنِ عبَّاسٍ. قَالَ في النِّهَايَةِ: السَّفْسَافُ: الأَمْرُ الْحَقِيرُ وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وهُوَ ضِدُّ المعالي والمكارِمِ، وأصْلُه ما يَطِيرُ مِن غُبارِ الدَّقيقِ إذا نُخِلَ، والتَّرابِ إذا أُثِيرَ، وفي الحديثِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا)) انتهى.
قولُه: (وكُلُّ ما يَقولونه ويَفْعَلونه) إلخ أي: كُلُّ ما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ ويَفعلونه ويأمُرون بِهِ ويَنهوْن عنه ممَّا تقدَّمَ ذِكرُه في هَذِهِ الرِّسالَةِ وغيرُه، فإنَّما هم فيه متَّبِعونَ للكِتابِ والسُّنَّةِ، فهم متَّبِعونَ لا مُبْتدِعون، مُقتَدُونَ لا مُبْتَدُون، فأقوالُهم وأفعالُهم واعتقاداتُهم كُلُّها مُقَيَّدةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ولذا سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، لاتِّباعِهم للكتابِ والسُّنَّةِ، وتقيُّدِهم بما جاء فيهما، وتُحكِيمِهما في الكثيرِ والقليلِ، ونَبذِهِم كُلَّ ماخالَفَهُما، فهم يَزِنُون أقْوالَهم وأعمالَهم واعتقادَهم بالكِتابِ والسُّنَّةِ، إذْ لا نجاةَ إلا باتِّباعِهما، ولا طريقَ مُوصِّلٌ إلى السعادةِ في الدُّنْيَا والآخرةِ إلا بسُلوكِ الصِّراطِ المستقيمِ الذي أوصانا اللَّهُ بسُلوكِه، وهُوَ ما كان عليه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه، قال اللَّهُ تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ) فأهلُ السُّنَّةِ يَجعلونَ كلامَ اللَّهِ وكلامَ رسولِه هُوَ الإمامَ الذي يَجِبُ اتِّباعُه والرُّجوعُ إليه عندَ التَّنازُعِ، قال اللَّهُ تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدَّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) الآيةَ، فكما يَجِبُ إفرادُ اللَّهِ –سُبْحَانَهُ- بالعبادةِ يَجِبُ توحيدُ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بالتَّحكيِمِ، فَهُما توحيدانِ لا نجاةَ للعبدِ مِن عذابِ اللَّهِ إلاَّ بهما، توحيدُ المُرسِلِ وتوحيدُ متابَعةِ الرَّسولِ، فلا يُحاكَمُ إلى غيرِه، ولا يُرْضَى بِحُكمِ غيرِه، فمَن أَعْرضَ عن الكِتابِ والسُّنَّةِ ورَغِبَ عن تَحكيمِهما أو زَعَم حصولَ السَّعادةِ والفلاحِ بالاستغناءِ عنهما، والتَّحاكُمِ إلى غيرِهما كائِنا مَن كانَ فقد نَبذَ الإسلامَ وراءَ ظَهرِه، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآيةَ.
وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللَّهُ عنهما- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) قال النَّوويُّ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ رُوِّيناهُ في كتابِ الحُجَّةِ بإسنادٍ صحيحٍ، وتقدَّمَ ذِكرُ معنى الاتِّباعِ، وهُوَ الاقتفاءُ والاسْتِنانُ، وذَكَر ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- الفَرْقَ بين الاتِّباعِ والتَّقليدِ، وذَكَرَ الأدِلَّةَ في ذَمِّ التَّقليدِ، وذَكَرَ الإجماعَ الذي ذَكَرَه ابنُ عبدِ البَرِّ أَنَّ المقلِّدَ ليس مَعدودًا مِن أهلِ العِلمِ، ثم قال بعدَ كلامٍ: فإنَّ الاتِّباعَ سُلوكُ طريقِ المتَّبَعِ، والإتيانُ بمِثلِ ما أَتَى به، وذَكَرَ كَلامَ ابنَ خريز أَنَّ التقليدَ معناه في الشَّرعِ: الرُّجوعُ إلى قولٍ لا حُجَّةَ لقائِلِه، وَذَلِكَ ممنوعٌ في الشَّريعةِ، والاتِّباعُ ما ثَبتَ عليه حُجَّةٌ، وذَكَرَ في الكوكبِ المُنِيرِ شَرْحُ مختصَرِ التَّحريرِ الفَرقَ بين التأَّسِي والموافَقةِ، فقال: (التَّأسِّي) برسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- (فِعلُكَ) أي أن تفعلَ (كما فَعلَ لأجلِ أنَّه فَعلَ)، وأمَّا التَّأسِّي في التَّرْكِ: فهُوَ أنْ تَتْرُكَ ما تَرَكَهُ لأجلِ أنَّه تَرَكَهُ، (و) أمَّا التَّأسِّي (في القولِ فـ) هُوَ (امتثالُه على الوجْه الذي اقْتضاهُ)، (وإلاَّ) أيْ وإنْ لم يكُنْ كذَلِكَ في الكُلِّ (فـ) هُوَ (مُوافَقةٌ لا مُتابَعَةٌ) لأنَّ الموافقةَ المشارَكةُ في الأمْرِ، وإنْ لم يكن لأَجْلِه فالموافقةُ أعمُّ مِن التَّأسِّي؛ لأنَّ الموافقةَ قد تكونُ مِن غيرِ تأسٍّ. انتهى.(1/107)
وطريقتُهُمْ هِيَ دينُ الإِسْلامِ الَّذي بَعَثَ اللهُ بهِ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ). (1)
__________
(1) قولُه: (وطريقَتُهم هي دينُ الإسلامِ) إلخ أي: سبيلُهم ومذهبُهم وصراطُهم المستقيمُ الذي لا طريقَ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- إلاَّ هُوَ ولا نجاةَ إلا بسُلوكِه، قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) هُوَ دينُ الإسلامِ الذي بَعثَ اللَّهُ بِهِ محمَّدا، وهُوَ دِينهُ –سُبْحَانَهُ- الذي لا يَقبلُ دينًا سِواهُ، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
قولُه: (لكن ما أخبَرَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ: هَذَا الافتراقُ مَشهورٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن حديثِ أبي هريرةَ ومعاويةَ وعمرِو بنِ عوفٍ وغيرِهم، فعن أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَىَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً)) رواه أبو داودَ والترمذيُّ وابنُ ماجهْ مختصَرا: وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.
وعن معاويةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قام فقال: إنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قام فينا فقال: ((أَلاَ إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ وَهِيَ الجَمَاعَةُ)) رواهُ أبو داودَ، وفي روايةِ الترمذيِّ: ((كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً))، قالوا: مَنْ هي يارسولَ اللَّهِ؟ قال: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الَيْوَمَ وَأَصْحَابِي)) وقال: هَذَا حديثٌ غريبٌ مفسِّرٌ لا نَعرِفُه إلاَّ مِن هَذَا الوجهِ، والأُمَّةُ هي الجماعةُ، قال الأخفشُ: هي في اللَّفظِ واحدٌ وفي المعنى جَمعٌ، والمرادُ هنا أُمَّةُ الإجابةِ لا الدَّعوةِ.
قولُه: (ستَفتَرِقُ أُمَّتِي) إلخ أي: أُمَّةُ الإجابَةِ، وقد وَقَع هَذَا الافتراقُ كما أخبرَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فافترَقَتْ هَذِهِ الأمَّةُ إلى ثلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً، كُلُّ فرقةٍ تُضلِّلُ الأخرى، وأصولُ هَذِهِ الفِرَقِ قيل: خَمسٌ، وقيل: سِتٌّ، وقيل: غيرُ ذَلِكَ، وهم المعتزِلةُ، وهم عِشرونَ فِرقةً، الثَّانيةُ: الشِّيعةُ وَهِيَ اثنتانِ وعِشرونَ فِرقةً، الثَّالثةُ: الخوارجُ افتَرَقوا إلى سبعِ فِرَقٍ، الرَّابعةُ: المُرْجِئةُ، وَهِيَ خمسُ فِرَقٍ، الخامِسةُ: الجَبْريَّةُ الذين يقولون إنَّا مَجبُورون على أعمالِنَا، ويُسنِدُونَ الأعمالَ إلى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- وتعالى. السَّادسِةُ: المشَبِّهةُ الذين شَبَّهوا اللَّهَ بِخَلْقِه، وَهَذِهِ الأحاديثُ فيها إخبارٌ منه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بما يَقعُ في أُمَّتِه مِن الافتراقِ في أصولِ الدِّينِ وفُروعِه، فوقع كما أَخبرَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وهَذَا عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبوَّتِه، وفيه ذمُّ التَّفرُّقِ، فإنَّ الخبرَ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ للاختلافِ، والأدِلَّةُ على ذَمِّه مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ، كما قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وقولُه: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) الآيةَ، وفيه عامَّةً أَنَّ المختلِفِينَ هالِكونَ إلاَّ فِرقةً واحدةً، وهم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا الحديثُ وما قَبلَه يُفيدُ أَنَّ الفُرقةَ والاختلافَ لا بدَّ مِن وُقوعِهما في هَذِهِ الأُمَّةِ، وتحذيرَ أُمَّتِه مِن الخلافِ، إلى أنْ قال: فأفادَ من ذَلِكَ شيئَيْنِ: أحدُهما: تحريمُ الاختلافِ في مِثلِ هَذَا. الثَّاني: الاعتبارُ بمَن كان قَبْلَنا والحذَرُ مِن مشابَهَتِهِم. انتهى.
قال الخطَّابيُّ في معالِمِ السُّنَنِ: فيه دلالةٌ على أنَّ هَذِهِ الفِرَقَ كُلَّها غيرُ خارجِةٍ مِن الدِّينِ؛ إذْ جَعلَهم النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلَّهم مِن أُمَّتِه، وفيه أَنَّ المتأوِّلَ لا يَخْرُجُ مِن الملَّةِ وإنْ أَخْطَأَ. انتهى.
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعدَ كلامٍ: والنبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لم يُخْرِج الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِين فِرقةً مِن الإسلامِ، بل جَعلَهم مِن أُمَّتِه، ولم يَقُلْ إنَّهم يخلَّدُونَ في النَّارِ، فمَن كَفَّرَ الثِّنْتَيْنِ والسَّبْعِينَ فِرقةً كُلَّهم فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وإجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، انتهى، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أَنَّ الفِرقةَ النَّاجِيةَ هم الأشعريَّةُ والماتُريديَّةُ وأهلُ الحديثِ، فإنَّ الحديثَ ليس فيه فِرقةٌ ناجيةٌ إلاَّ واحدةٌ، فهُوَ يُنافِي التَّعدُّدَ، وفيه وَصْفُ الفرقةِ النَّاجيةِ بأنَّها المتَّبعةُ للكِتابِ والسُّنَّةِ، وأنَّها مَن كان على مِثلِ ما عليه النَّبيُّ –صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- وأصحابُه، وفي روايةٍ فسَّرَ الفِرقةَ النَّاجيةَ بأنَّهم الجماعةُ، وهم المجتمِعون الذين ما فَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيعا، وبهَذَا يُعلمُ أنَّه وصَفَ الفِرقةَ النَّاجيةَ باتباعِ سُنَّتِه التي كان عليها هُوَ وأصحابُه، وبلُزومِ جماعةِ المسلِمِينَ، فمَن عَدَا هؤلاء فليس مِن الفرقةِ النَّاجيةِ.(1/108)
ولكن لما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحده وهي الجماعة، وفي حديثٍ عنه أنه قال: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
صارَ المتمسِّكونَ بالإِسلامِ المَحْضِ الخالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ. (1)
__________
(1) قولُه (بالإسلامِ) أي الاستسلامِ لِلَّهِ وحْدَه بطاعتِه والانقيادِ لأمْرِه، والمرادُ هنا: الإسلامُ والإيمانُ؛ لأنَّه كما تقدَّمَ إذا أُطلِقَ أحدُهما دَخَلَ فيه الآخرُ، والمحْضُ هُوَ الخالِصُ الذي لم يخالِطْه غيرُه، والخالِصُ هُوَ السَّالِمُ، يقال خَلَّصَ الشَّيءَ: صفَّاه ومَيَّزَه عن غيرِه، والشَّوائِبُ هي الأقذارُ والأدناسُ، وأصلُ الشَّوْبِ الخَلْطُ،
لمَّا ذَكَرَ المصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ما تقدَّمَ مِن الأحاديثِ التي فيها ذِكْرُ افتراقِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وفيها ذِكرُ الفِرقةِ النَّاجيةِ، وأنَّهم الجماعةُ ومَن كان على مِثلِ ما كان عليه الرَّسولُ –صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم- وأصحابُه، فاتَّضحَ ممَّا تقدَّمَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجَماعَةِ هم المتمسِّكونَ بالإسلامِ المحْضِ الخالِصِ عن الشَّوائِبِ البِدعيَّةِ، والطُّرقِ المخالِفَةِ لِما كان عليه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فهم المعْتَصِمونَ بالإسلامِ، المتمَسِّكون بِهِ بالأقوالِ والأعمالِ والاعتقاداتِ، الذين لم يَشُوبُوه بالبِدَعِ والخُرافاتِ، فهؤلاء هم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الذين انْطَبَقَتْ عليهم الصِّفاتُ المذكورةُ في الأحاديثِ المتقدِّمَةِ، وأمَّا مَن عَداهُم مِن سائرِ الفِرَقِ فقد حَكَّمُوا المعقولَ وخالَفوا المنقولَ عن رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، فسَطَوْا على النُّصوصِ بتَخْطِئةِ الرِّواياتِ وتكذِيبِهم، فإنْ لم يَجِدُوا سبيلاً إلى ذَلِكَ سَطَوْا على معانِيها بالتَّحريفِ والتَّأويلِ، وأصلُ فسادِ هَذَا العالَمِ وخَرابِه إنَّما نَشَأ مِن تقديمِ الرَّأيِ على الوحيِ، والهَوَى على النَّقلِ، وما استحْكَم هَذَانِ الأصلانِ الفاسدانِ في قلبٍ إلاَّ استَحْكَم هلاكُه، ولا في أُمَّةٍ إلا مَرَجَ أَمْرُها، واختلَّ نِظامُها، وانعقدَ سَببُ هلاكِها، وبسببِ ذَلِكَ انفتحَ بابُ الجَدَلِ واتَّسعَتْ شُقَّةُ الخلافِ، فكُلُّ فريقٍ يرى أنَّه على الحقِّ وأنَّ غيرَه ضالٌّ، فهم كما قال اللَّهُ تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) قال الشَّاعِرُ:
وكُلاًّ يدَّعِي وَصْلاً لِليْلَى ... ... ولَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاكَا
إذا اشْتَبَكتْ دُموعٌ في خُدودٍ ... تَبَيَّنَ مَنْ بَكى ممَّن تَباكَى
وكُلُّ ما وَقَع هُوَ سَببُ إعراضِهم عن الكِتابِ والسُّنَّةِ، وما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، فلا نجاةَ إلاَّ باتِّباعِ ذَلِكَ، كما قال بعضُهم:
تَخالَفَ النَّاسُ فيها قد رَأَوْا وَرَوَوْا ... ... وكُلُّهم يَدَّعُونَ الفَوزَ بالظَّفَرِ
فخُذْ بقولٍ يكونُ النَّصُّ بنَصْرِه ... ... إمَّا عن اللَّهِ وإمَّا عن سيِّدِ البَشرِ
وقال آخر:
فخيرُ الأمورِ السَّالِفاتُ على الهُدى ... ... وشَرُّ الأمورِ المُحْدَثاتُ البدائِعُ.
ولا شكَّ أنَّ مَن لم يَعتصِمْ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ فمَآلُه إلى الحَيْرَةِ والاضطرابِ، وعدمِ الوصولِ إلى نتيجةٍ كما قال الرَّازيُّ:
نهايةُ إقدامِ العقولِ عِقالُ ... ... وأكثرُ سَعْي العالَمِينَ ضَلالُ
ولم نَسْتَفِدْ مِن بَحثِنا طُولَ عُمْرِنا ... ... سوى أنْ جَمَعْنا فيه قِيلَ وقالوا
وأَرْواحُنا في وحشةٍ مِن جُسومِنا ... ... وغايةُ دُنيانا أَذًى ووبالُ
وقال الشَّهرسْتانيُّ:
لَعَمْري لقد طُفْتُ المعاهِدَ كُلَّها ... ... وسيَّرْتُ طَرْفي بين تِلكَ المعالِمِ
فلم أَرَ إلاَّ واضِعًا كَفَّ حائرٍ ... ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادِمِ
إذا عَرَفْتَ ما وَصلَ إليه هؤلاءِ مع ما لديْهِم مِن الذَّكاءِ والعِلمِ عَرفْتَ أَنَّ النَّجاةَ والسَّعادةَ هُوَ بالاعتصامِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وما كان عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى).
قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنه-: تكفَّلَ اللَّهُ لمَنْ قَرَأ القُرآنَ وعَمِلَ بما فيه أنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيَا ولا يَشقَى في الآخرةِ، ثم قرأ هَذِهِ الآيةَ.(1/109)
وفيهِمُ الصِّدِّيقونَ؛ والشُّهَداءُ، والصَّالِحونَ؛ ومنهُمْ أَعلامُ الهُدَى، ومَصابيحُ الدُّجَى، أُولو المَناقِب المَأْثُورَةِ، والفَضائِلِ المَذْكورَةِ. (1)
__________
(1) قولُه: (وفيهم الصِّدِّيقونَ والشُّهداءُ) إلخ: الصِّدِّيقونَ: الذين صَدَّقوا أقوالَهم بأفعالِهم، المبالِغونَ في الصِّدْقِ والتَّصديقِ، قال في المختارِ: الصِّدِّيقُ بِوَزْن السِّكِّيتِ: الدَّائمُ التَّصديقِ، وهُوَ أيضًا الذي يُصَدِّقُ قولَه بالعَملِ، انتهى، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هَذَا.
قولُه: (أعلامُ) جَمعُ عَلَمٍ، بفتحتَيْنِ العَلامةُ وهُوَ ما يُهتَدى بِهِ إلى الطَّريقِ مِن جَبلٍ أو غيرِه، على قَولِ الخنساءِ في أخيها صَخْرٍ.
وإنَّ صَخْرا لتأْتَمُّ الهُداةُ بِهِ ... ... كأنَّه عَلَمٌ في رَأْسِه نَارُ
وسُمِّي العالِمُ عَلَمًا: لأنَّه يَهتَدِي النَّاسُ بعِلمِه، كما يقال: فلانٌ جبلٌ في العِلمِ، والهُدَى وهُوَ الدَّلالةُ والإرشادُ، والهادِي هُوَ الدَّالُّ والمُرشِدُ، فالعلماءُ هم الهُداةُ، أي المُرْشِدُونَ إلى طريقِ الخيرِ، هدايةَ دلالةٍ وإرشادٍ وتوضيحٍ وبَيانٍ، وأمَّا الهدايةُ المذكورةُ في قولِه -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فالمرادُ بها هدايةُ التوفيقِ والإلهامِ، فالرُّسُلُ وأتْباعُهم هم الأدِلَّةُ حقاًّ، واللَّهُ هُوَ الموَفِّقُ المُلْهِمُ الخالِقُ للهُدى في القلوبِ.
قولُه: (مصابيحُ) جمع مِصباحٍ وهُوَ السِّراجُ، والدُّجَى الظُّلمةُ، أي يُستضاءُ بهم في ظُلماتِ الجهلِ، كما يُجلى ظلامُ اللَّيلِ بالسِّراجِ المنيرِ ويُهتدَى بِهِ فيه، أي مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ أئمَّةُ الإسلامِ وهُداةُ الأنامِ، والدَّالُّون للأُمَّةِ على نَهْجِ الرَّسولِ، والكاشِفونَ لهم عن معاني الكِتابِ والسُّنَّةِ، والمستضاءُ بهم في ظُلماتِ الجهلِ وسَوادِ الشِّركِ والخُرافاتِ والوَثَنِيَّةِ، والذَّابُّونَ عن الشَّريعةِ، المدافِعون عنها تحريفَ الغالِينَ وانتحالَ المُبْطِلينَ وتأويلَ الظَّالِمينَ، الذين بهم قام الكتابُ وبِهِ قامُوا.
وعن أنسٍ مرفوعا: اتَّبِعُوا العلماءَ فإنَّهم سُرُجُ الدُّنْيَا ومصابيحُ الآخرةِ، أَخرجَه في مسنَدِ الفِرْدَوسِ بسندٍ ضعيفٍ، وفي مسنَدِ أحمدَ -رضي اللَّهُ عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ)).
قولُه: (أُولو المناقِبِ المأثورةِ والفضائلِ المذكورةِ) أي: أصحابُ المناقِبِ، وَهِيَ جَمعُ مَنْقَبةٍ ضِدُّ المَثْلَبةِ، قال في القاموسِ: المَنْقَبةُ: المَفْخَرةُ، والمأثورةُ أي المذكورةُ، ومنه أَثَرَ الحديثَ، أي نَقَلَه عن غيرِه، والفضائِلُ جَمعُ فضيلةٍ، وَهِيَ ضِدُّ النَّقيصةِ، والفَضلُ: الخيرُ، (المذكورةِ)، أي الذَّائعةِ الصِّيتِ المتردِّدةِ على الألْسُنِ، والذِّكْرُ: هُوَ الصِّيتُ والشَّرفُ، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) وهَذَا الذِّكْرُ عُمْرٌ ثانٍ وحياةٌ أخرى، وَذَلِكَ أحقُّ ما تَنافَسَ بِهِ المتنافِسون ورَغِبَ بِهِ الرَّاغِبون، ومَن تأمَّلَ أحوالَ أئِمَّةِ الإسلامِ كَيْفَ هم تحتَ التُّرابِ، وهم في العالَمِين كأنَّهم أحياءُ بينهم لم يَفْقَدوا منهم إلا صُوَرَهم، وإلاَّ فَذِكْرُهم والثَّناءُ عليهم غيرُ منقطِعٍ، عَلِمَ أنَّ هَذِهِ الحياةُ حقاًّ كما قال المتَنَبِي:
ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُه الثَّاني وحاجَتُه ... ... مافاتَه وفُضولُ العَيشِ إِشغالُ
وقال ابنُ دُريدٍ:
وإنَّما المرءُ حديثٌ بعده ... ... فكُنْ حَدِيثا حَسَنا لمَنْ وَعَى
وقال آخَرُ:
وفي الجَهلِ قبلَ الموتِ موتٌ لأهلِه ... ... فأجْسامُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ
وأرْواحُهُم في وَحشةٍ مِن جُسومِهم ... ... وليس لَهُم حتَّى النُّشورِ نُشورُ
وقال آخر:
أخو العِلمِ حَيٌّ خالدٌ بعد مَوْتِه ... ... وأوصالُه تحت التُّرابِ رَميمُ
وذو الجهلِ مَيْتٌ وهُوَ يَمْشِي على الثَّرى يُعَدُّ مِن الأحياءِ وهُوَ عَديمُ
وفي حديثِ عليٍّ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه قال: ماتَ خُزَّانُ الأموالِ وهم أحياءُ، والعلماءُ باقونَ ما بَقِيَ الدَّهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ وأمثالُهم في القلوبِ مَوجودةٌ.
قولُه: (وفيهم الأبدالُ) أي: في أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الأبدالُ، قال في النِّهايةِ: هم الأولياءُ والعُبَّادُ، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لأنَّهم كُلَّ ما ماتَ مِنهم واحدٌ أُبْدِلَ بآخَرَ. انتهى.
قال في الآدابِ الشَّرعيَّةِ: ونَصَّ أحمدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- على أنَّ لِلَّهِ أَبْدالاً في الأرضِ، قيل مَن هُم؟ قال: إن لم يكونوا أصحابَ الحديثِ فلا أَعْرِفُ لِلَّهِ أبدالا. وقال أيضًا عنهم: إن لم يكونوا هؤلاءِ فلا أَدْرِي مَن النَّاسُ. انتهى.
وقد ورد في الأبدالِ عِدَّةُ أحاديثَ، وكُلُّها متكلَّمٌ فيها، وصَنَّفَ السيوطيُّ مُصَنَّفا في الأبدالِ وذَكَرَ الأحاديثَ الواردةَ فيهم، وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: كُلُّ حديثٍ يُروى عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِدَّةِ الأولياءِ والأبدالِ والنُّقباءِ والنُّجباءِ والأَوْتادِ والأقطابِ ونحوِ ذَلِكَ فليس في ذَلِكَ شيءٌ صحيحٌ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ولم يَنْطِق السَّلَفُ بشيءٍ من هَذِهِ الألفاظِ إلاَّ بلفظِ الأبدالِ، رُوِي فيهم حديثٌ أنَّهم أربعون وأنَّهم في الشَّامِ، وهُوَ في المسنَدِ مِن حديثِ عليٍّ، وهُوَ حديثٌ منقطعٌ ليس بثَابتٍ. انتهى. إذا عرفْتَ ما تقدَّمَ فما يَزْعُمُه المُخَرِّفون مِن أنَّ مَدَدَ الخلائِقِ ونَصْرَهُم ورِزْقَهُم يكونُ بواسطةِ هؤلاءِ لا شكَّ في بُطلانِه، وأنَّه ليس مِن دِينِ المسلِمِينَ، بل مِن دينِ المشركين، وقد ذَكَرَ الشَّيخُ الإجماعَ على أنَّ مَن جَعلَ بَيْنَه وبين اللَّهِ واسطةً يَدعُوه ويتوكُلُّ عليه أنَّه كافِرٌ، قال اللَّهُ تعالى حاكِيًا عن المشركِين أنَّهم يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقال عنهم إنَّهم يقولون: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ).
قال ابنُ القيِّمِ في النُّونيَّةِ:
والشِّركُ فهُوَ تَوسُّلٌ مقصودُه ... الزُّلْفَى إلى الرَّبِ العظيمِ الشَّانِ
وقال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد كلامٍ: والذين تكلَّمُوا باسِمِ البَدَلِ أَفْردُوه بمعانٍ، منها أنَّهم كُلَّ ما ماتَ منهم رجُلٌ أُبْدِلَ بآخَرَ، ومنها أنَّهم أَبْدَلوا السِّيَّئاتِ بأخلاقِهم وأعمالِهم وعقائدِهم بالحسناتِ، وَهَذِهِ الصِّفاتُ كُلُّها لا تختصُّ بأربعين ولا بأقَلَّ ولا أَكْثَرَ، ولا تُحْصَرُ بأهلِ بقعةٍ مِن الأرضِ، إلى أنْ قال: فالغَرضُ أنَّ هَذِهِ الأسماءَ تارةً تُفَسَّرُ بمعاني باطِلةٍ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، مِثلُ تفسيرِ بعضِهم بأَنَّ الغَوْثَ هُوَ الذي يُغِيثُ اللَّهُ بِهِ أهلَ الأرضِ مِن رِزقِهم ونَصْرِهم، فإنَّ هَذَا نَظيرُ ما تَعتقِدُه النَّصارى في البابِ، وهُوَ معدومُ العينِ والأثرِ وتشبيهٌ بحال المنْتَظَرِ، وَكَذَلِكَ مَن فسَّرَ الأربعين الأبدالَ بأَنَّ النَّاسَ إنَّما يُنْصرُونَ ويُرْزقونَ بهم فذَلِكَ باطلٌ، بل النَّصرُ والرِّزقُ يَحصلُ بأسبابِ مِن أَوْكدِها دعاءُ المسلِمِينَ والمؤمنين، وَصَلاتُهم وإخلاصُهم، ولا يتقيَّدُ ذَلِكَ بأربعين ولا بأقلَّ، وقد يكونُ للنَّصرِ والرِّزقِ أسبابٌ أُخرُ، انتهى بتلخيص.(1/110)
وفيهِمُ الأبْدالُ، وفيهِم [ أَئِمَّةُ الدِّينِ ]، الَّذينَ أَجْمَعَ المُسْلِمونَ على هِدايَتِهِمْ [ ودِرايَتِهم ]. (1)
__________
(1) قولُه: (وفيهم أئمَّةُ الدِّينِ) إلخ أي: في أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ أئمَّةُ الدِّينِ، أي المُقْتَدى بهم فيه، كالإمامِ أبِي حنيفةَ، ومالِكٍ، والشَّافِعيِّ، وأحمدَ، وسفيانَ الثَّوريِّ، وغيرِهم، كالشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ وابنِ القيِّمِ، وكإمامِ هَذِهِ الدَّعْوةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ، وغيرِهم مِن أئمَّة الهُدى الذين اشتَهَرت إمامَتُهم، وأَجْمعَ المسلمونَ على هِدايَتِهم ودِرَايَتِهِم، فلا يُقبلُ فيهم قولُ جارحٍ ولا طَعنُ طاعِنٍ؛ إذْ مَن ظَهَرتْ عَدَالَتُه واشتهَرَتْ إمامَتُه فلا يُلْتَفَتُ فيه إلى قولِ قائلٍ.
وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بأنَّه قال: ((يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِيَن)). قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وهَذَا يتضمَّنُ تعديلَه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لحَمَلةِ العِلمِ الذي بُعِثَ به، فلهَذَا اشتُهِرَ عند الأمَّةِ عَدالَةُ نَقَلَتِه اشْتِهارًا لا يَقْبلُ شَكاًّ ولا امْتِراءً، ولا ريبَ أنَّ مَن عدَّلَه الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لا يُسمعُ فيه جرحُ جارحٍ، فلهَذَا لا يُقبلُ قَدْحُ بعضِهم في بعضٍ، وهَذَا بخلافِ مَن اشتُهِرَ عندَ الأمَّةِ جَرحُه والقَدحُ فيه، كأئمَّةِ البدعِ، ومَن جَرى مجراهم مِن المتَّهَمِين، فإنَّهم ليسوا عند الأمَّةِ مِن حَملةِ العِلمِ، انتهى بتصرفٍ،وقد اشتُهِرَ عن هؤلاء الأئمَّةِ النَّهْيُ عن التَّقليدِ والحثِّ على اتِّباعِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، كما رُويَ عن الإمامِ أحمدَ أنَّه قال: عَجِبْتُ لقومٍ عَرَفوا الإسنادَ وصِحَّتَه يَذْهَبونُ إلى رأى سُفيانَ، واللَّهُ تعالى يقولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أتدري ما الفِتنةُ؟ الفتنةُ: الشِّركُ، لعلَّه إذا رَدَّ قولَه أو بعضَ قولِه أنْ يَقعَ في قَلبِه شيءٌ مِن الزَّيغِ فيَهلَكُ.
وقال مالكٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كُلٌّ يُؤخَذُ مِن قولِه ويُترَكُ إلاَّ صاحِبَ هَذَا القَبرِ. وقال الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أَجمعَ العلماءُ على أنَّ مَن استَبَانَتْ له سُنَّةُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- لم يكُنْ له أنْ يَدَعَها لقولِ أحدٍ. إلى غيرِ ذَلِكَ مِن كلامِ الأئمَّةِ في الحثِّ على الاتِّباعِ وذَمِّ التَّقليدِ، قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قد اتَّفَق الأئمَّةُ اتِّفاقًا يَقِيناً على وُجوبِ اتِّباعِ الرَّسولِ –صلى الله عليه وسلم- وعلى أنَّ كُلَّ أحدٍ يُؤخَذُ مِن قَولِه ويُتْرَكُ إلاَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وإذا وُجِدَ لواحدٍ منهم قولٌ قد جاء الحديثُ الصَّحيحُ بخلافِه فلا بدَّ له مِن عُذْرٍ في تَرْكِه، وجميعُ الأعذارِ ثلاثةُ أصنافٍ: أحدُها: عدمُ اعتقادِ أَنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قاله. والثَّاني: عدمُ اعتقادِه إرادةُ تلكَ المسألةِ بِذَلِكَ القولِ. الثَّالثُ: أنَّ ذَلِكَ الحُكمَ مَنسوخٌ، انتهى مِن كتابِ رَفعِ المَلامِ عن الأئمَّةِ الأعلامِ.(1/111)
وهُمُ الطَّائِفَةُ المَنْصورَةُ الَّذينَ قالَ فيهمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لا تَزالُ طائِفةٌ مِنْ أُمَّتي عَلى الحَقِّ ظاهرين، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، ولا مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى تَقومَ السَّاعَةُ )).
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنا مِنْهُمْ وأَنْ لا يُزيغَ قُلوبَنَا بعْدَ إِذْ هَدَانا، وأَنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
واللهُ أَعْلَمُ.
وصلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً ). (1)
__________
(1) قولُه: (المَنْصورَةُ) أي: بالحُجَّةِ والبَيانِ أو بالسَّيْفِ والسِّنانِ، فعلى الأوَّلِ هم أهلُ العِلمِ، وبِهِ قال البخاريُّ وغيرُه، وقال ابنُ القَيِّمِ: هم أهلُ العِلمِ والمعرفةِ بما بَعثَ اللَّهُ بِهِ رَسولَه.
قولُه: (الذين قال فيهم النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) الحديثُ رواه مسلمٌ من حديثِ جابرِ بنِ سَلمةَ، وجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وثوبانَ، وأَخْرجاه في "الصَّحيحَيْنِ" من حديثِ المغيرةِ بنِ شعبةَ ومعاويةَ بنِ أبي سفيانَ.
قولُه (ظَاهِرين) أي: غَالِبين، والظُّهورُ: الغَلَبةُ. وقولُه: (حتى تَقُومَ السَّاعةُ) أي ساعةُ مَوْتِهم بهُبوبِ الرِّيحِ، تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مؤمِنٍ، وَهِيَ السَّاعةُ في حقِّ المؤمنين، وإلاَّ فالسَّاعةُ لا تَقومُ إلاَّ على شِرارِ الخَلقِ، وقد تقدَّمَ ذَلِكَ، وفي هَذَا الحديثِ فوائدُ: منها أنَّ فيه عَلمًا مِن أعلامِ نُبوَّتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، ومعجزةً ظاهرةً للنَّبيِّ، فإنَّ هَذَا الوَصْفَ ما زَالَ بحمدِ اللَّهِ مِن زَمَنِ النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إلى الآنَ ولا يَزالُ، وفيه دليلٌ لكونِ الإجماعِ حُجَّةً، وقال القرطبيُّ: وهُوَ أَفْصَحُ ما استُدِلَّ بِهِ مِن الحديثِ، أمَّا حديثُ: ((لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ)) فضعيفٌ، وفيه الآيةُ العظيمةُ أنَّهم مع قِلَّتِهم لا يَضرُّهُم مَن خَذَلَهم ولا مَن خالَفَهم، وفيها البِشارةُ أَنَّ الحقَّ لا يَزولُ بالكُلِّيَّةِ، قالَه الشَّيخُ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ في كتابِ التَّوحيدِ، واحتجَّ بِهِ أحمدُ على أَنَّ الاجتهادَ لا يَنقطِعُ، وأنَّ هَذِهِ الطائفةَ موجودةٌ، واستُدِلَّ بِهِ أيضًا على أَنَّ الأمَّةَ لا تَجتمِعُ على ضلالةٍ، ولا تَرتدُّ جميعُها، بل لا بدَّ أن يُبقِيَ اللَّهُ مِن المؤمنينَ مَن هُوَ ظاهرٌ إلى قيامِ السَّاعةِ، فإذا ماتَ كُلُّ مؤمنٍ فقد جاءت السَّاعةُ.
قولُه: (فنسألُ اللَّهَ) أي: نَطلُبُه ونُفرِدُه بالمسألةِ -سُبْحَانَهُ- قال تعالى: (وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ) وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللَّهِ)).
وعن أبي هُريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)). رواه الترمذيُّ، وعن ابنِ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه- مرفوعًا: ((سَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ)) رواه الترمذيُّ، وقد وَرَدتْ أحاديثُ كثيرةٌ في النَّهيِ عن مسألةِ المخلوقِينَ، وقد بايع النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- جماعةً مِن أصحابِه على أنْ لا يَسْألُوا النَّاسَ شيئًا، منهم أبو بكرٍ وأبو ذَرٍّ وثوبانُ، وكان أحدُهم يَسْقُطُ سَوْطُه فلا يَسألُ أحداً أنْ يُناوِلَه إيَّاهُ.
قولُه: (أنْ يَجعَلَنا منهم) أي: مِن الفِرقةِ النَّاجيةِ المتَمَسِّكةِ بما كان عليه الرَّسولُ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه، وَهِيَ الطَّائفةُ المنصورةُ إلى قيامِ السَّاعةِ.
قولُه: (أنْ لا يُزيغَ قُلوبَنا) أي: يُميلُها عن الحقِّ والهُدى (بعد إِذْ هَدَانا)، أي وَفَّقَنَا وَأَلْهَمَنَا، فإنَّهُ -سُبْحَانَهُ- الهادِي، (مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ له) وقد وَرَدَ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كان أكثرُ يَمِينِه ((لاَ وَمُقَلِّبَ القُلُوبِ))، وكان -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ في دعائِه: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) فقيل: يا نبيَّ اللَّهِ آمنَّا بِكَ وبما جئتَ بِهِ فهلْ تَخافُ علينا؟ فقال: ((نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبِعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ)) أَخرجَه أحمدُ والترمذيُّ مِن حديثِ أنسٍ، ووَرَدَ أنَّ قَلبَ ابنِ آدَمَ كَرِيشةٍ مُلْقاةٍ في فلاةٍ تُفيئُها الرِّياحُ، ولذا قيل: إنَّ القَلبَ سُمِّي قَلْباً لتَقَلُّبِه، كما قال بعضُهم:
مَا سُمِّي القَلبُ إلاَّ مِن تقلُّبِه ... ... فاحذَرْ على القلبِ مِن قَلبٍ وتَحويلِ
وقال آخرُ:
وما سُمِّيَ الإنسانُ إلا لنَسْيهِ ... ... وما سُمِّيَ القَلبُ إلاَّ أنَّه يَتَقلَّبُ
قولُه: (وأنْ يَهَبَ لنا) أي: يُعطِيَنا.
قولُه: (مِن لَدُنْه) أي: مِن عندِه.
قولُه: (الوهَّابُ) أي: كَثيرُ الهِباتِ والعطايا، فلا خيرَ إلا خيرُه ولا إلهَ غيرُه.
قد تَمَّ ما أَرَدْنا إيرادَه في هَذِهِ العُجالةِ، والحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وصلَّى اللَّهُ على سيِّدِ المُرسَلين وآلِهِ وصَحبِه أجمعين، وكان الفراغُ مِن تعليقِه على يدِ جامِعِه الفقيرِ إلى اللَّهِ عبدِ العزيزِ بنِ ناصرِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ العزيزِ الرَّشيدِ سنة 1377 في أوَّلٍ مِن ذي الحجَّةِ، والعصمةُ لِلَّهِ ولكتابِه، والعاقِلُ مَن اغتَفَر قليلَ خطأِ المرءِ في كَثيرِ صَوابِه.(1/112)